You are on page 1of 433

‫سافرة‬

‫كيف َه َجرت الحياة الحسيدية‬


‫وعدت أخيرا ً إلى الوطن‬

‫مذكرات‬

‫بقلم‬
‫ليا الكس‬
‫إلى أمي‬

‫التي لم أدعها تقرأ هذه المذكرات‬

‫وإلى النساء المحجوبات أينما وجدن‬


‫بالعودة لذكرياتي في العام ‪ ،2006‬حينها كنت ما أزال أحتفل بحريتي التي‬
‫نلتها حديثًا‪ ،‬سافرت بصحبة سوزان إلى نيو أورليانز لحضور أول مهرجان‬
‫"ماردي غرا" (‪ )Mardi Gras‬يقام بعد إعصار كاترينا‪ .‬كانت تلك المسيرة بوجه‬
‫مؤخرا‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫خاص صاخبة على نحو ملؤه التحدي‪ .‬وتعقيبًا على الدمار الذي َح َّل‬
‫أحد المحتفلين العابرين يقوم بتوزيع ألعاب على هيئة قوارض‪ .‬فقام بإعطائي جرذًا‬
‫مطاطيًا متفر ًدا بقباحة هيئته‪ ،‬وقد كتبت عليه بطالء بخاخ أخضر اللون عبارة‬
‫"الجرذ الكاذب"‪ .‬لقد أبقيت ذلك الجرذ بجانبي َ‬
‫ط َوال فترة كتابة هذه المذكرات كما‬
‫دون باالستعانة بالذاكرة‪ ،‬تلك الوسيلة‬
‫تحذيرا‪ .‬أجل‪ ،‬أعلم بأن المذكرات ت ّ‬
‫ً‬ ‫لو كان‬
‫عرضة للزلل‪ ،‬كما أن التجربة الشخصية تخل بالرؤية‪ ،‬وأجل‪ ،‬لقد وجدت بأن‬
‫الم ّ‬
‫من الضروري أن أقوم بتغيير األسماء ومقاربة الحوارات وجمع األحداث المتكررة‬
‫بمشاهد مفردة‪ ،‬لكنني أشهد باعترافي هذا على أنني تغلغلت إلى أعماقي في كل‬
‫صفحة محا ِولةً أن ألتقط الحقيقة بأقصى ما استطعته‪ .‬بأقصى قدر استطعته‪.‬‬
‫لكن األمل المؤجل يبقى ً‬
‫أمال‪".‬‬ ‫" ّ‬
‫مارلين روبنسون‪ِ ،‬جلعاد‬
‫‪MARILYNNE ROBINSON, GILEAD‬‬
‫الفصل األول‬

‫‪Ya’ancha adonoi b’yom tsarah y’sagev’cha shem‬‬


‫‪elohei ya’akov.‬‬
‫من واجب العروس أن تصوم وترتل ِسفر المزامير بكامله في يوم زفافها‪،‬‬
‫ي األنيق في داالس في‬
‫ولهذا أقف بوضع التأهب في الحجرة الخلفية من منزل جد ّ‬
‫أحد أيام شهر آب من العام ‪ 1975‬مرتديةً فستانَ زفاف يغطيني من الذقن حتى‬
‫ي‪ ،‬وأتلفظ بكلمات ِعبرية ال أفهمها من‬
‫يالمس األرض وال يكشف حتى عن معصم ّ‬
‫كتاب صالة ذي غالف َم ِرن‪ ،‬وذيل الفستان البراق المصنوع من القماش الرقيق‬
‫مفروش من خلفي على السجادة الخالية من األتربة بفضل المكنسة الكهربائية‪ .‬أما‬
‫أمي وأختاي فيقمن بإصالح زينتهن أمام مرآة التجميل‪ .‬كانت أمي وجدتي ترفعان‬
‫ّ‬
‫شفاههن‪،‬‬ ‫َّ‬
‫يتمرن من أجل هذه الليلة‪ ،‬يزممن‬ ‫ذقنيهما عاليًا كل النهار كما لو أنهن‬
‫يتصنعن غياب اإلحراج الذي سببّته لهن متطلباتي الدينية الجديدة‪ .‬وهما مصممتان‬
‫رغم ذلك على إقامة زفافهن الالئق بمجتمع داالس حتى لو كان وجود الرجال‬
‫عوتهم سيوصمهما بالجهل الذي تتسم به خرافات الريف‬
‫الحسيديين الملتحين الذين َد َ‬
‫القديم‪.‬‬
‫أبتسم وأهمس بالكلمات العبرية‪ ،‬مدركة تما ًما بأنهما تشعران كما لو أن‬
‫األقارب المتخلفين أتوا من غير دعوة فقط من أجل أن يسيطروا على مناسبتهن‬
‫التي تجمع األثرياء الجدد‪ .‬تنفصل المقاطع الصوتية وتنتظم‪ ،‬وكل واحدة منها‬
‫تساوي األخرى في الوزن والغموض‪ ،‬كما لو أنها طبل متناغم يعلو صوته على‬
‫ّ‬
‫ماديتهن الوضيعة‪.‬‬
‫‪Yish’lach ez’r’cha mikodesh umitsion yis’adecha‬‬
‫لقد بلغت للتو سن التاسعة عشرة‪ ،‬وأنا فخورة وعازمة على إتمام هذا الخروج من‬
‫عائلتي بالتغلب عليهم جميعًا بالرب‪ .‬إن مزاميري ستنزل نِ َعم الرب لتحل على‬
‫مناسبتنا الميمونة وستغمرنا جميعًا بالنور المقدس في يوم زفافي الحسيدي هذا‪.‬‬

‫براقة فوق أحد أحياء شمال‬


‫في الخارج‪ ،‬تعلو السماء ذات الزرقة السماوية ال ّ‬
‫داالس والذي َيضم مرو ًجا مشذبة وجدرانًا تحمي الخصوصية‪ ،‬وهو على مقربة‬
‫مؤخرا‪ .‬إنه‬
‫ً‬ ‫من نادي البلدة الذي لم يسمح ألوالد عمي اليهود باالنضمام إليه إال‬
‫يوم آخر في سلسلة أيام آب التي تبلغ درجة حرارتها خمسا وتسعين درجة‬
‫فهرنهايت‪ .‬تضاءلت الخشخشة واألصوات الخافتة التي تصدر من الحجرة‬
‫كونة‬
‫األمامية‪ .‬تم إخالء مقدمة البيت من معظم األثاث‪ ،‬أما الرائحة الزكية للمأدبة الم ّ‬
‫من أطعمة الكوشر الحالل الموافقة للشريعة اليهودية والمصفوفة على طاوالت‬
‫ممتدة مغطاة تنبعث في المكان حتى تبلغ أنوفنا‪ .‬ومن خالل الستائر الطويلة التي‬
‫تالمس األرض يتراءى جزئيًا خيال قبة الزفاف التي يلتف عليها اللبالب والتي‬
‫نصبّت خار ًجا في الفناء‪ .‬توزعت المصابيح على ركائز مثبتة على طول الحديقة‬
‫الواسعة تحت األشجار المع ّمرة الظليلة من أنواع الميموزا وجوز البيكان والمران‬
‫التكساسي‪ .‬بعد قليل‪ ،‬ستغرب الشمس وسأوهب تحت النجوم لليفي ذي الّ ِلحية‬
‫الطويلة بمعطفه االسود الطويل‪ .‬ثم ستظهر صورتي على صفحة المجتمع في‬
‫صحيفة أخبار داالس الصباحية يوم السبت المقبل‪ ،‬في عدد السابع عشر من آب‪،‬‬
‫‪ :1975‬ارتدت العروس الساتان مع طرحة جدتها المصنوعة من الدانتيل المصنوع‬
‫يدويًا‪.‬‬
‫"أمي‪ً .‬‬
‫قليال من االحتشام‪ ،‬من فضلك؟" قلت لها‪ ،‬موبخة إياها على فستانها‬
‫الذي كان من دون أكمام‪ .‬ثم اكمل قولي بهمس مسرحي‪"،‬الحاخام فرومان في‬
‫الحجرة المجاورة‪ .‬ارتدي البوليرو!" الحاخام يوسف يتزاك فرومان هو " شالياك"‬
‫أي مبعوث َحبر لوبافيتشر‪ ،‬زعيمنا الحسيدي‪ ،‬لكل والية تكساس‪ " .‬إنه يقوم‬
‫بالكيتوباه في هذه اللحظات!"‬
‫"الـ‪ ..‬ماذا؟" قالت أمي‪.‬‬
‫ي‪" .‬عقد الزواج‪".‬‬
‫فأدير عين ّ‬
‫ت؟" أردفت قائلةً‪" .‬تعالي‬ ‫قليال‪" .‬ضعي الكتاب جانبًا لدقيقة‪ّ ،‬‬
‫هال فعل ِ‬ ‫تتأفف ً‬
‫هنا‪ .‬تعالي وقِفي أمام المرآة‪ .‬أريد أن ألبسك ال َ‬
‫طرحة‪ ".‬تقوم بالتقاط التاج المصنوع‬
‫من الدانتيل وت َبتل عيناها بالدموع‪ .‬لقد إرتدت ذلك التاج‪ ،‬تلك الطرحة‪ ،‬ذات مرة‪.‬‬
‫وكذلك فعلت والدتها‪.‬‬
‫ال أرغب برؤية عينيها‪ .‬أفكر بسر فوضى مكتنزاتها‪ ،‬كيف ترفض والدتها‬
‫األنيقة المجىء إلى منزلنا‪ ،‬كيف تم إهمالنا فيه لوحدنا خالل نشأتنا‪ ،‬كم مرة نَ ِسيت‬
‫ت‬
‫ت تهتمين اآلن؟ كم أن ِ‬ ‫فيها أن تع ّد وجبات الطعام‪ .‬أفكر‪ ،‬أتلبسيني ال َ‬
‫طرحة؟ بِ ّ ِ‬
‫محظوظة‪ ،‬أماه‪ ،‬الفستان ليس بلون حياتنا الرمادية المتسخة‪ .‬الفستان األبيض يغطي‬
‫ي المساعدة كي أختفي‪.‬‬
‫ت ذا اآلن‪ ،‬تعرضين عل ّ‬
‫كل ذلك‪ ،‬وها أن ِ‬
‫أذكر ذات مرة‪ ،‬حينما كنت طفلةً صغيرة ً‪ ،‬بحثت عن أمي ووجدتها في‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مرسمها تقف أمام لوحة كانفاس عالية مثبّتة على حامل كان يعلو رأسي‬
‫وبالقرب منه وعلى طاولة مربعة الشكل القيت مجموعة كبيرة من أنابيب الطالء‬
‫براقة من البرتقالي‬
‫المعصورة إلى منتصفها والتي انتزعت أغطيتها‪ ،‬دوائر صغيرة ّ‬
‫واألخضر واألحمر واألبيض‪ ،‬تتألأل تحت إضاءة الفلورسنت‪ .‬بيدها أمسكت لو َح‬
‫ألوان معَلَّم بضربات سريعة‪ ،‬وفوقه خط منحن من أكوام لونية صغيرة‪ .‬كان الهواء‬
‫معبأ بالروائح المألوفة لزيت التربنتين وزيت بذور الكتان‪ ،‬التسميات التي كنت‬
‫أعرفها سلفًا‪ .‬كانت تٌطبّق اللون بفرشاة‪ ،‬وتبدو تائهةً في اللوحة‪.‬‬
‫لم تنظر أمي لألسفل أو تعرنى انتباها ً‪ ،‬لذا فقد بقيت واقفة اشاهد‪ .‬وسرعان‬
‫ما داهمني شعور ال يمكن تفسيره بأنها ستذهب وتهجرني‪ .‬حدّقت عاليًا في لوحتها‬
‫الم ِعن النظر في تلك المساحات الشاسعة واأللوان الزاهية كما لو أن باستطاعتي‬
‫العثور عليها هناك‪ ،‬لكنني َو َجدت الكثير والكثير من األماكن التي كانت تستطيع‬
‫االختباء فيها‪ .‬لقد احتجت التسلق لبلوغ اللوحة لكي أج َد أمي‪ ،‬لكنني حينها كنت‬
‫سأتوه في أرض غريبة‪ ،‬وكان من شأن هذا أن يثبت لي بأنها شخصية هاربة على‬
‫الدوام‪.‬‬
‫كانت منشغلة بفرشاتها وغير آبهة بشأن إهمالها لي‪ ،‬وكانت تستخدم لغة‬
‫لونية ال أفهمها كوسيلة هروب‪ .‬لقد شعرت حينها‪ ،‬وأعتقد اآلن كذلك‪ ،‬بأن اللوحة‪،‬‬
‫على نحو ما‪ ،‬كانت بمثابة شكلها من الداخل‪ .‬فلربما استطعت فهمها وتتبعها لو أنني‬
‫تمكنّت فقط من تفكيك لغتها اللونية‪.‬‬
‫سوف أظل مهووسة بفهم اللغة الغريبة لألشياء غير الناطقة‪ .‬وحتى بعد وقت‬
‫طويل سأظل أشعر كما لو أنها هجرتني‪ ،‬ألغدو تائهةً احدّق في المناظر الغريبة‪،‬‬
‫في بحث دائم عنها‪ .‬عن الوطن‪.‬‬
‫أتوجه إليها‬ ‫تمسك امي بال َ‬
‫طرحة وعيناها دامعتان‪ .‬مغلوبة على أمري‪ّ ،‬‬
‫وأجلس أمام مرآة التجميل‪ .‬تلتقط امي دبابيس الشعر من علبة جدتي المو ّ‬
‫شاة وتثبّت‬
‫الدانتيل الثقيل المشبّك الى شعري بيديها الرقيقتين ذواتي األصابع المستدقة‪ .‬وكلما‬
‫ي‪ ،‬آمي وديبي‪،‬‬
‫انحنت فوقي‪ ،‬تبرز فوق صورتها في المرآة إنعكاسات صورة اخت ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ينظرن إل ّ‬ ‫وهن‬
‫يجيء توفيا‪ .‬إنه من يتزعم مجموعتنا الحسيدية اآلخذة بالتزايد في جامعة‬
‫تكساس‪ .‬إذ إن هنالك الكثير ممن يشابهوننا من الذين يستكشفون الديانة‬
‫األرثودوكسية بين أروقة الجامعة‪ ،‬ونش ّكل جميعنا جز ًءا من موجة تجتاح الجامعات‬
‫في جميع أنحاء البالد‪ .‬فيتج ّمع ما يسمى بمجانين المسيح (‪)Jesus freaks‬‬
‫بشعورهم الهيبية الطويلة ويغنون في أركان ال َح َرم الجامعي‪ ،‬يقتربون ِمنّا بعيون‬
‫يظهر عليها تأثير المخدرات وبأيديهم كتيّبات مسيحية بينما نحن نسير في طريقنا‬
‫الى الصفوف‪ .‬كما تزدهر المزيد من اتحادات الطلبة المسيحيين التقليديين‪ .‬ويتجمع‬
‫الطلبة المسلمون ضمن احتجاجات صاخبة للتنديد بالشاه‪ .‬تعد مجموعتنا الحسيدية‬
‫واحدة من كثير من المجموعات التي تعدّنا للخروج بديننا المحافظ للعالم‪ .‬تلتقي‬
‫المجموعة في مقر تشاباد هاوس الكائن في أوستن‪ ،‬على مقربة من الشارع الرئيسي‬
‫الممتد على الجانب الشمالي من الجامعة‪ ،‬ويتزعمنا الحاخام فرومان بلحيته الكثَّة‬
‫الدالّة على َ‬
‫الو َرع‪.‬‬
‫تحت توجيه الحاخام فرومان‪ ،‬صرف أغلبنا أهتمامه عن دراسته الجامعية‬
‫لنوجهه الى الحياة الربانيّة التي نخطط للمضي فيها حالما نتزوج والى العائالت‬
‫الحسيدية الكبيرة التي سوف نقوم بتنشئتها‪ .‬إال أن معظم أولياء أمورنا لم يكونوا‬
‫مسرورين للغاية بخططنا هذه‪.‬‬
‫يرتدي توفيا بدلة زرقاء على جسده النحيل‪ .‬لحيته الفاتحة بلون الرمل ممشطة‬
‫طرقتان‪" .‬سيدة ماليت" ينادي امي‪ ،‬ثم‬
‫بعناية‪ ،‬وهيئته تجلب االحترام‪ ،‬وعيناه م َ‬
‫يشير من خالل إيماءة وذراع مفتوح بأن تنضم إليه في الحجرة المجاورة‪ ،‬مكتب‬
‫جدي‪ ،‬حيث ت َج ّمع الرجال‪ .‬تترك أمي دبوس الشعر وتقف كظبي مذعور‪.‬‬
‫في غرفة المكتب‪ ،‬سوف تجد روث‪ ،‬والدة ليفي‪ ،‬عريسي‪ ،‬نصف روحي‬
‫اآلخر‪ ،‬والمقدّر له االرتباط بي منذ بدء الخليقة‪ .‬تدعو روث ابنها باسم يوجين‪.‬‬
‫سيطلّب من الوالدتين الوقوف على الجانب من تلك الغرفة المليئة بالرجال‪ ،‬ذات‬
‫صل بَعد أغلب‬
‫الجدران الخشبية الداكنة واألثاث ذي الطابع المثقل بالذكورية‪ .‬لم ي ّ‬
‫أصدقاء العائلة‪ ،‬إال أن الحاخام فرومان متواجد هناك في تلك الغرفة‪ ،‬وكذلك الحال‬
‫مع زمالئنا الطالب توفيا ودوفد وفلف ومندل‪ .‬أتخيل الوالدتين بفساتيهن الطويلة‪،‬‬
‫صفًّا من الشبّان ذوي اللحى الناعمة حديثة المنبت‪ ،‬ليفي عند الطاولة المحفورة‬
‫ً‬
‫جليال وهو يمسك نسخة من النص المقدس‪ .‬سوف يزيد الصمت في‬ ‫والمل ّمعة‪ ،‬يبدو‬
‫الغرفة‪ .‬وسيبدو والد ليفي مرتب ًكا ً‬
‫قليال‪ ،‬أما والدي الذي كان مهند ًما فيما مضى‬
‫خائف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فسيبدو أخرقَ وث َ ِمل العينين ً‬
‫قليال بسبب أدويته‪ ،‬إنه ببساطة‬
‫سيخوض ليفي في تحليل االتحاد الرباني الروحي الذي يسمو الى مدى أكثر‬
‫تعاليًا باإلتحاد المطلق للعروسين؛ إذ دائ ًما ما يكون هناك مقطع من النص المقدس‬
‫ي‬
‫ليضفي صبغة طقسية على اللحظة‪ .‬سيشرع الشبّان باندفاع في غناء حيو ّ‬
‫مصطنع‪ .‬سيتلعثمون بالكلمات العبريّة‪ ،‬منخرطين في ذات الوقت في تصفيق‬
‫ورقص وهم في َمواض ِعهم‪ ،‬تتبّعًا لتوجيه الحاخام فرومان‪ .‬ثم يقوم الحاخام بفَرد‬
‫الكتوباه‪ ،‬عقد الزواج القديم باللغة اآلرامية‪ ،‬الذي سيوقّعه ليفي‪ .‬ومعه سيوقع‬
‫رجاال ولكونهم ّ‬
‫يعظمون‬ ‫ً‬ ‫شاهدان من الرجال‪ ،‬من الموثوق بهم وفق الشريعة لكونهم‬
‫الساباث (السبت اليهودي)‪.‬‬
‫أنا من تكون موضوع ذلك العقد‪ .‬أنا من سأوهب له‪ .‬لكن في الختام سيدعى‬
‫والدي لتوقيع الكتوباه‪ً ،‬‬
‫بدال مني‪.‬‬
‫يرتدي والدي بدلة صيفية من الكتان ذات لون بني فاتح ووضع في طيّها‬
‫قرنفلة بيضاء كبياض شعره الكثيف‪ .‬لكن في الداخل لم يكن هو هيرب ولم أكن أنا‬
‫ليزا‪ .‬سيكتب الحاخام اسمي على العقد على أنه ليا‪ ،‬لي‪-‬يا‪ ،‬إبنة يهوشواع‪ ،‬إبن‬
‫ياكوف‪ -‬إسم والدي العبري‪ ،‬الذي يعني بأن الرب سوف يمنح الخالص‪ .‬وعلى هذه‬
‫الصيغة سيتم إبالغه حتى يوقع‪.‬‬
‫من أجل إحياء ذكرى المعبد القديم في القدس‪ ،‬سيو ّجه أحد األشخاص‬
‫االمهات لإلمساك بأحد األطباق الصينية ومن ثم يقمن سوية عند إشارة الحاخام‬
‫بتحطيمه على األرضية الملمعّة‪ .‬وبينما أجلس وحيدة مع مزاميري‪ ،‬أنصت لصوت‬
‫التحطم الخافت الذي يضيف نكهة الفقدان للفرحة اليهودية وأتخيل االبتسامات‬
‫الخجولة للوالدتين‪ ،‬السرعة الخاطفة لحركة أيديهن المندفعة بقوة‪ .‬ثم حين يقع‬
‫التحطم‪ ،‬تتعالى صرخات "مازل توف"‪ ،‬ومن ثم تتناهى الى سمعي أصوات تصفيق‬
‫ورقص بعيدة‪ .‬لكن أال تعرفين يا اماه بأن الطبق لم يكن المعبد ح ًقا؛ إنه ماضي ّ‬
‫ي‪،‬‬
‫أخيرا‪ ،‬أليس هو مجرد شيء مكسور آخر؟ بعدها‬
‫ً‬ ‫إنه نهاية سنواتي معك التي حانت‬
‫سأسمع عن مدى ض ِيق والد ليفي عند رؤيته الشظايا وهي تتطاير‪ .‬وسأسمع كيف‬
‫اندفع ليجوب الغرفة‪ ،‬ليلّم األجزاء‪ ،‬لكنها تناثرت إلى قطع كثيرة جدًا‪.‬‬

‫عند العودة بالزمن الى شهر فبراير‪ ،‬ستة أشهر قبل الزفاف‪ ،‬أذكر أن الحاخام‬
‫فرومان اتصل بي من مقر تشاباد هاوس في أوستن‪ .‬كان قد قاد سيارته من منزله‬
‫في هيوستن لكي يلقي دروسه األسبوعية‪ .‬كان تشاباد هاوس مكان لقائنا‪ ،‬وهو في‬
‫حقيقته عبارة ٌ عن مساحة تخزين فارغة في مجمع سكني للطالب‪ .‬وقد كان‬
‫األعضاء أصدقائي الوحيدين‪ .‬إذ كنا وقتها قد انسحبنا تما ًما من المجتمع الجامعي‬
‫العام‪.‬‬
‫ينتهج الحاخام فرومان أسلوبًا غلي ً‬
‫ظا وسلو ًكا ازدرائيًا في تعامله مع النساء‪.‬‬
‫أما األوالد‪ ،‬ورغم الشعور بغياب األمان في حضوره‪ ،‬فقد كانوا يبجلّونه‪ ،‬لكنني‬
‫كنت خائفة ببساطة‪ ،‬أهابه فال أقوى على الكالم حالما يدخل إلى الغرفة‪ .‬ورغم ذلك‬
‫ففي عقلي أصبحت جندية حسيدية متأهبة لتنفيذ األوامر التي تصدر من مبعوث‬
‫َحبرنا‪ .‬كان بديهى أحيانا ً أن يقوم الحاخام فرومان بتعطيلي عن دراستي من أجل‬
‫التمرن‬
‫ّ‬ ‫اختبار في مادة الحكومة أو إلغاء خططي لقضاء فترة ما بعد الظهر في‬
‫على آلة التشيلو‪" .‬سآتي على الفور" أجبت قائلة‪ ،‬تركت واجبي الدراسي واندفعت‬
‫يتجول الطالب‪ ،‬وسط رائحة الديزل‬
‫ّ‬ ‫مسرعة عبر ال َح َرم الجامعي الفسيح‪ ،‬حيث‬
‫المنبعثة من حافلة الحرم الجامعي‪ ،‬أجتاز ’إيست مول‘ وأدور حول مكتبة ’تاور‘‪،‬‬
‫ي بينما أسير في الرياح الباردة‪.‬‬
‫ي ساقي ّ‬
‫التنورة الطويلة تصفع ربلت ّ‬
‫ثم جلسنا في تشاباد هاوس وج ًها لوجه‪ .‬كانت طاوالت الساباث مطوية‬
‫ومرصوصة على الجدار‪ ،‬ملصق لوجه ال َحبر الضاحك مثب ٌ‬
‫ّت أعلى رؤوسنا‪.‬‬
‫ي بشدة نحو الحافة المعدنية الباردة للكرسي القابل‬
‫سحبت الجزء الخلفي من ركبت ّ‬
‫ي‪ .‬جلست ساكنة من دون أدنى حركة‪ ،‬وشرعت‬
‫ي وقلبي ينبض بقوة في اذن ّ‬
‫للط ّ‬
‫أخمن األسباب خلف استدعائه لي‪.‬‬
‫عندما ابتسم الحاخام فرومان‪ ،‬انحسرت شفته لتظهر أسنانه السفلية المحاطة‬
‫بلحيته الداكنة‪" .‬كيف تسير حياتك؟" قال بلكنته الروسية‪-‬اليديشية‪.‬‬
‫فأجبته‪ ،"Baruch hashem":‬أي فليتبارك الرب‪.‬‬
‫فتح أحدهم جهاز اإلستريو في الشقة الواقعة تحتنا‪ ،‬يصعد طنين الباس‬
‫ي‪.‬‬ ‫لموسيقى الروك فيدخل جسدي عبر أقدامي‪ ،‬مختل ً‬
‫طا مع النبض في اذن ّ‬
‫"وكيف َج ّد ِ‬
‫اك؟"‬
‫هل يريد تبرعا ً؟ "‪ "Baruch hashem‬قلت ثانيةً‪.‬‬
‫الفضل للرب‪ .‬على كل شيء‪.‬‬
‫كنت ّأود سؤالك‪ ،‬هل فكرت بأي أحد من األوالد؟ كزوج؟‬
‫لقد كنت محقّة‪ .‬اٌصبت بالذعر‪ .‬خطر في بالي وجه آنا الدافيء‪ ،‬الذي استحوذ‬
‫على أحالمي فيما مضى‪ .‬ذات مرة خربشت رسائ َل بطول بوصتين على يومياتي‬
‫في المدرسة الثانوية‪ :‬وحيدة‪ .‬آنا‪ .‬آنا‪" .‬اماه‪ "،‬قلت‪ ،‬وأنا أضع يدي على صدري‬
‫كما لو إنها قد تستطيع رؤية الوجع‪" .‬أعتقد بأنني أمتلك رو ًحا‪".‬‬
‫ي الحاخام فرومان‪ ،‬ثم تساءلت فيما لو كان يحاول أن يبحث‬
‫ي بعين ّ‬
‫التقت عينا ّ‬
‫في داخلي عن بعض التخيالت المخبوءة التي تخص أحد األوالد الحسيدين‬
‫ضا‪ ،‬مته ّد ًجا ألجل أ ّ‬
‫ي منهم‪ .‬لقد فكرت‬ ‫ً‬
‫خجوال خفي ً‬ ‫المستجدين‪ .‬لكني لم اص ِدر صوتًا‬
‫بالحاخام‪ ،‬بالطريقة التي خلع بها نظارته البالستيكية البيضاء ووضعها على‬
‫طاولته‪" .‬سوف تشيّدين بنيانًا أبديًا لبيت يهودي‪ "،‬قال لي مع تلك النظرة الثاقبة‪،‬‬
‫لقد تحدد مستقبلي اآلن‪ .‬وعلى ما يبدو‪ ،‬فإنه ت َ َحد َد هاهنا‪.‬‬
‫" ليفي الكس يريد الزواج منك" قال الحاخام فرومان‪.‬‬
‫رفعت ذقني لألعلى َبغتَةً من وقع ما سمعت‪ ،‬ثم كبحت نفسي من فتح عين ّ‬
‫ي‬
‫بسبع سنين‪ ،‬لكن عائالتنا في داالس تعرف بعضها‬
‫ِ‬ ‫على وسعهما‪ .‬ليفي كان يكبرني‬
‫ضا‪ ،‬لقد استحق ِسنّه الزواج منذ أمد طويل‪ .‬فكرت‪ ،‬كان عل ّ‬
‫ي أن أتوقع هذا‪.‬‬ ‫بع ً‬
‫وكان هذا كل شيء‪.‬‬

‫"فلنتوقف هنا ونتحدث‪ ".‬كان هذا قول ليفي بعد يومين في أول وآخر موعد‬
‫غرامي لنا‪ ،‬في سيارته الدودج دارت في ليلة باردة ومظلمة‪ .‬لكنه لم يكن موعدًا‬
‫غراميًا فعليًا؛ لقد كان فقط قيامنا نحن االثنين بإلقاء أنفسنا الى ما قد علّمنا أن نؤمن‬
‫بأنه قدرنا‪.‬‬
‫كان ليفي وهو خريج واحدة من أعرق ثمان جامعات فى الواليات المتحدة‬
‫تسمى (‪ ،)Ivy League‬في أوستن من أجل إكمال الدراسات العليا‪ .‬لقد عرفته‬
‫من النوع الماهر‪ ،‬فوضوى قليالً‪ ،‬مع قدر من الذكاء‪ .‬لقد أحبه الناس‪ ،‬لكن رغم‬
‫ذلك‪ ،‬لقد رأيته ينفجر غاضبًا من تفصيلة ما وقد أصابني ال َح َرج حينها‪ .‬مع ذلك‪،‬‬
‫ع ِلمت بأنه يستطيع الحصول على وظيفة جيدة‪ ،‬وأنه‪ ،‬ببن َيته الطويلة والمتناسقة‬
‫لقد َ‬
‫ووجهه الوسيم‪ ،‬يستطيع إنجاب أطفال جميلين‪.‬‬
‫سا بجانبي‬
‫لم أكن أرى سوى نصف ليفي الجانبي المظلم وهو يرتدي قبعته جال ً‬
‫في السيارة‪ ،‬وذلك الصف األبيض من األضواء ال ِعلوية المثبتة على طول الطريق‬
‫الفارغ‪ .‬كان يرتدي الجينز‪ ،‬إذ إنه لم يزل في مرحلة التحول إلى رجل حسيدي‪،‬‬
‫وما زال يتعلم القواعد‪ ،‬لكنني أعرف بأننا لن نتالمس‪ .‬أدركت ذلك‪ .‬أجثم في‬
‫موضعي بمعطفي الصوفي األسود‪ ،‬مغلوبة على أمري‪ ،‬حازمة أمري‪ ،‬قدماي ال‬
‫تالمسان األرض كليًا بينما نحن نسير بأقصى سرعة نحو الكون المسرع‪ .‬تستقر‬
‫يدي قرب مقبض الباب‪ ،‬مقبوضة كيد طفل‪.‬‬
‫لم أكن أعرف بأنني ثالث فتاة طلبها الحاخام فرومان لليفي‪ .‬لم أكن أعرف‬
‫أنني بموضع السلعة‪ ،‬ولم أكن أعرف حتى أن أسأل عن السبب وراء رفض الفتاتين‬
‫ً‬
‫فضال عن مكافأته الروحية‪،‬‬ ‫سلّمت بأن التكليف االمتيازي بالزواج‪،‬‬
‫األخريين‪ .‬فقد َ‬
‫كان للرجال‪ .‬بينما كان من واجبنا كنساء أن نساعدهم في تنفيذ ذلك التكليف‪ .‬لم‬
‫أكن أرى شيئًا يستحق المالحظة في الخواء الناتج عن غياب شهوتي‪ .‬فالخواء ال‬
‫يصدر صوتًا‪.‬‬
‫كنت قد عرفت حينها كيف يتصرف الحسيديم عند التوفيق بين طرفي‬
‫الزيجة‪ ،‬كيف ينبغي على األهل البحث عن القرين المستقبلي‪ ،‬ومن ثم يستعلمون‬
‫بو ّد من أبنائهم أو بناتهم عن المواصفات التي يرغبون بها في الشريك ويش ّجعون‬
‫الطرفين على الخروج لبعض األماكن العامة من أجل التحدث‪ ،‬طالما يخلو األمر‬
‫من التالمس‪.‬‬
‫يراد من االثنين أن يتشاركا قلبيهما‪ ،‬أهدافهما‪ .‬يراد منهما أن يقررا‪ ،‬سوية‪،‬‬
‫إن كانا سيتزوجان‪ ،‬وسيمضي اإلثنان قد ًما فقط إن بدأت الشرارة في روحيهما‬
‫باالشتعال‪ .‬سوف تعرفون ذلك‪ ،‬يقول الوالدان الحسيديان المحبان اللذان أتخيلهما‬
‫ضا‪ ،‬كنا‬
‫ألطفالهما عديمي الخبرة‪ .‬الشريعة والرب سيحبانكما ويحميانكما‪ .‬نحن‪ ،‬أي ً‬
‫في هذا الموقف‪ ،‬ذات مرة‪.‬‬
‫ضا عن ذلك كان لدينا والد ليفي المحاسب‪ ،‬والمنغمس في المجتمع‬
‫وعو ً‬
‫اليهودي المحاكي لمجتمع داالس‪ ،‬ووالدة ليفي‪ ،‬التي لم تفتها لعبة رعاةِ بقر البتّة‪.‬‬
‫لدينا والدتي الفنانة المصابة بهوس االكتناز ووالدي المريض عقليًا‪ ،‬وجداي مح َدثا‬
‫النعمة‪ ،‬اللذان تناوال الرنجة المخللة وارتديا المالبس الراقية‪.‬‬

‫صى دواخلنا للعثور على مشاعر‬


‫ربما كان اآلباء الحسيديون سيوجهوننا لتق ّ‬
‫ٌ‬
‫أقران‬ ‫حقيقية تجاه بعضنا البعض‪ ،‬أو يقدمون لنا حدسهم بشأن العالقة‪ .‬لو كان لدينا‬
‫سرا‪ ،‬أو نقارن‬
‫ضا‪ ،‬لربما كنا سنشاركهم مخاوفنا ً‬
‫حسيديون يستعدون للزواج أي ً‬
‫النصح الذي تلقيناه‪ .‬ولربما كنا قد عثرنا على شباب حسيديم قد قرروا أن يقولوا‬
‫"ال"‪ .‬لكنّنا و ً‬
‫بدال عن اآلباء الحسيدين‪ ،‬حظينا بالحاخام فرومان بلحيته اإليمانية‬
‫الكثّة‪ .‬وعو ً‬
‫ضا عن األقران الذين قد يشقّون الطريق أمامنا‪ ،‬حظينا بصداقات مؤقتة‬
‫ضا على‬
‫من خالل تشاباد هاوس مع شباب من خلفيات علمانية كانوا يتدربون أي ً‬
‫الحياة الحسيدية باتّباع أدلة إرشادية مطبوعة‪ .‬كان الزواج واجبًا‪ ،‬فقرة على الالئحة‬
‫ضا عن المغازلة‪ ،‬فقد حظيت بعشرين دقيقة أمام الحاخام‬
‫تنتظر إنجازها‪ .‬وعو ً‬
‫فرومان على كرسي مطوي في غرفة تخزين فارغة تحت صورة معلقة لل َحبر‪.‬‬
‫توقف ليفي عند ساحة سيرز لوقوف السيارات التي كانت فسيحة ومبلطة‬
‫ور َكنَ سيارته‪ .‬ترجلّنا من السيارة‪ .‬وقفنا هناك ينظر أحدنا لآلخر‪،‬‬
‫بالقار األسود َ‬
‫وحيدين في أرض مظلمة يحدّها إسفلت مشبّك عليه خطوط بيضاء لركن السيارات‬
‫ونفايات‪ .‬كان من المفترض أن نتحدث‪ ،‬لكن لم يبد ّ‬
‫أن هناك أهمية لما قلناه‪ .‬كنا‬
‫رر قَدرنا‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فقد اختارني ليفي سلفًا‪" .‬حسنًا"‬
‫نَعلم بأننا لسنا من َق َ‬
‫رأيك؟"‬
‫ِ‬ ‫قال ليفي‪ .‬نظر إلى حذائه‪" .‬ما‬
‫كان هذا عرضه للزواج‪.‬‬
‫ٌ‬
‫منبعث من أضواء مصابيح الزئبق العالية كان أرق بكثير من‬ ‫ٌ‬
‫متفرق‬ ‫ضو ٌء‬
‫أن يبعث الدفء في المكان‪ .‬كان وجهه مخفيًا تحت ظل حافة القبعة‪ -‬حتى إنني لم‬
‫أستطع أن اميّز تجعدات لحيته السوداء‪ ،‬عينيه البنيتيّن‪ ،‬جبهته العالية‪ ،‬حاجبيه‬
‫الكثيفين‪ .‬لكن شيئًا ما في بنيته الطويلة بانَ غريبًا‪َ ،‬‬
‫غير جذاب‪ .‬أو هل كنت أنا‬
‫الغريبة؟‬
‫ي أن أجبر نفسي على التوقف واألخذ بزمام‬
‫تراجعت للخلف بغتة‪ ،‬كان عل ّ‬
‫أزهارا" قلت‪ ،‬شبه مذعورة‪.‬‬
‫ً‬ ‫المبادرة‪" .‬اريد‬
‫’"ماذا؟"‬
‫"ألوانًا‪ .‬في كل حجرة " أردفت قائلة‪ " .‬أريد منك أن تجلب لي الزهور"‬
‫نداء أخير للجمال في عالم أركانه األسود واألبيض‪" .‬كما وأريد غرفة تمرين‬
‫أستطيع فيها أن أعزف التشيلو‪".‬‬
‫"أو ّد ذلك" أجاب‪ .‬كان صوته ناع ًما ودافئًا‪ .‬لقد بدا بأنه ال مجال للعودة‪-‬لن‬
‫أكون قادرة ً على مواجهة الحاخام أو أصدقائي الحسيدين‪ ،‬هذا إن قررت العودة‪.‬‬
‫ي حينما سمعت هذا الحن ّو في صوته‪ ،‬غمرني األمل‪" .‬أو ّد ذلك"أعاد قوله مرة‬ ‫لكن ّ‬
‫ثانية‪ .‬لعل الوضع سيكون على ما يرام‪ .‬فأجبته "حقاً؟"‬
‫ثم أخذت أبتسم وأبتسم‪ ،‬وكذلك فَع َل هو‪ ،‬في ساحة وقوف السيارات المق ِفرة‪،‬‬
‫والخجل يفصل بيننا بمسافة ثابتة على أرض الساحة السوداء‪ .‬أخذ قطار أحالمنا‬
‫ظا لكبرياء الجندي‪ ،‬إذ إنني كنت أتطلّع الى‬
‫سحقت المشاعر‪ ،‬حف ً‬
‫بالتسارع‪َ .‬‬
‫المستقبل‪ .‬سأحظى بزهور وألوان وببيت نظيف وآمن ورجل مخلص ومتفان يمكن‬
‫التنبؤ بسلوكه‪ .‬بمنأى عن فوضى الحاجيات المكدسة التي تكتنزها أمي وسوداوية‬
‫أبي االكتئابية ومطارداته الليلية‪ .‬قدّم ليفي المنز َل‪ ،‬األمان‪ ،‬النظام‪ ،‬القداسة‪ .‬اإليمان‬
‫المشترك بشيء بعيد عن حياة عائلتنا المبعثرة‪ .‬هذا ما جذبني للحسيدية‪.‬‬
‫لقد اعتقدت ً‬
‫فعال بأن الزواج كان هروبًا من الوحدة‪ .‬واعتقدت بأن الهروب‬
‫من الوحدة كان مرادفًا للقداسة‪.‬‬
‫براقتان‪ ،‬ونظرته‬
‫خرج ليفي من الظل حينها‪ .‬تمعّنت في وجهه‪ .‬كانت عيناه ّ‬
‫عميقة‪ .‬صدرت عنه حركة صغيرة مر ِبكة بتوجيه إحدى يديه صوب خصري‪ ،‬ثم‬
‫ي ً‬
‫ظال منحنيًا على‬ ‫كب َح نفسه‪ .‬وتحت اإلضاءة المنبعثة من فوق‪ ،‬ألقى رأسه ال َمحن ّ‬
‫وجهي‪ ،‬على شكل نصف قلب‪.‬‬

‫تم توقيع العقد‪ ،‬ت َ َحد َد مستقبلي‪ ،‬والزفاف على وشك أن يبدأ‪ .‬ما زلت ارتّل‬
‫المزامير بالعبرية في غرفة نوم جدتي ريثما تعود أمي مع روث من المكتب ذي‬
‫َص وأرفع‬
‫الجدران الخشبية‪ .‬أضع إصبعي على المكان الذي توقفت عنده في الن ِ ّ‬
‫بصري‪ ،‬والترقب يعتريني‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬تمتليء الحجرة الكبيرة التي تقع في مقدمة المنزل بالضيوف‬
‫المنشغلين بالمحادثات والتهام الطعام‪ .‬وأنا محور كل هذا أنتقل للجلوس على كرسي‬
‫ي تقف كل من أمي وروث‪.‬‬
‫من كراسي غرفة الطعام كما لو أنه عرش‪ ،‬وعلى جانب ّ‬
‫نحيّت الستائر الطويلة وفتحت األبواب الزجاجية المنزلقة على مصراعيها‪ .‬في‬
‫مكونة من كالرنيت واحد وآلة كمان وساكسفون أكثر‬
‫الخارج‪ ،‬فرقة من تكساس‪ّ -‬‬
‫اعتيا ًدا على عزف موسيقى الحانات منها على الموسيقى اليهودية‪ -‬تعزف ألحانًا‬
‫ضا عن الشعور بالبهجة‪ ،‬أحاول أن أتيقن من أننا بالفعل‬
‫حسيدية بحماسة‪ .‬وعو ً‬
‫اخترنا طريقا ً مثاليا ً‪ .‬لكن ينبغي أن يسير كل شيء باالتجاه الصحيح في هذه الرقصة‬
‫قديمة التصميم‪ ،‬وفي هذا الزفاف الحسيدي‪ .‬القي نظرة على ما حولي ل ألتأكد من‬
‫أن كل فرد قد اتخذ مكانه المناسب‪ .‬ثم اخبر نفسي بأن أبدو سعيدة‪.‬‬
‫ليفي في غرفة اخرى حيث يجهزه مرافقوه من أجل ممشاه لقبّة الزفاف‪ .‬لم‬
‫يكن مسمو ًحا لنا برؤية بعضنا لسبعة أيام‪ .‬عندما يدخل‪ ،‬سيف ّكر الضيوف بفراقنا‬
‫الطويل وتراكم الشوق ويتخيّلوننا في حالة إغماء من فرط ترقب ذلك العناق األول‪.‬‬
‫باكرا‪ ،‬األمر الذي‬
‫لكن‪ ،‬وهذا سر بيننا (ربما بسبب التوتر)‪ :‬أتتني دورتي الشهرية ً‬
‫أمر‬
‫عا بحكم الشريعة اليهودية طيلة عشرة أيام‪ .‬يقول ليفي إنه ٌ‬
‫سي ممنو ً‬
‫يجعل َم ّ‬
‫من الرب‪ .‬لكن حتى اآلن لم يكن الحيض يمثل لي أكثر من مجرد إزعاج طفيف‪.‬‬
‫لكن هذه تجربة جديدة‪ ،‬هذا العار السري المخبوء‪.‬‬
‫في الغرفة المجاورة‪ ،‬فوق قميص التوكسيدو المزركش الذي يرتديه ليفي‪،‬‬
‫جلّل الحاخام فرومان ليفي بقميص فضفاض كان قد ارتداه ال َحبر بنفسه‪ ،‬ما أحاطه‬
‫بهالة من القداسة‪ .‬ثم ساعد ليفي على إرتداء أولى معاطفه الحسيدية السوداء‬
‫الطويلة‪ ،‬عالمة الرجل المتزوج‪.‬‬
‫سرا آخ َر‪ .‬المعطف‬
‫حينما كنا نتحدث على الهاتف قبل أسبوع‪ ،‬أخبرني ليفي ً‬
‫الخاص ال يالئمه‪ ،‬رغم أنه كان قد طلَبه خصي ً‬
‫صا حسب قياساته‪ .‬وفي اليوم التالي‪،‬‬
‫أصاب التشنج ظهره‪ .‬وما يزال يشعر باأللم‪ .‬أتخيله يَحني كتفيه ويسحب َم ِعدته‬
‫للخلف حتى يرتدي المعطف الحسيدي‪ ،‬مصم ًما على إغالق الزر وإجبار نفسه على‬
‫الدخول في هذا القالب الجديد‪ .‬الحاخام فرومان ينتظر‪ ،‬يستعد ليكسوه بقميص‬
‫ال َحبر‪.‬‬
‫تتوقف الموسيقى؛ وقفة تحبس خاللها األنفاس‪ .‬نظرت من األعلى من على‬
‫طوقا بآبائنا االثنين‪،‬‬
‫عرشي الذي هو كرسي الطعام‪ ،‬ولمحت ليفي عند المدخل‪ ،‬م ّ‬
‫بلحيته السوداء ووجهه الوسيم ورموشه الكثيفة وعينيه الداكنتين‪ ،‬وبالتوتر الحاد‬
‫الذي يحمله والذي سأعرف عنه الحقًا‪ ،‬وباإلجهاد البادي على محيّاه‪.‬‬
‫يقف الحاخام فرومان خلف ليفي تما ًما‪ ،‬ويده على كوع ليفي‪ .‬يتقدم ليفي‬
‫خطوة لألمام لكنه يبدو غير متيقن‪ ،‬رافعًا كتفيه لألعلى‪ .‬وأنا أرجو بأال يالحظ أح ٌد‬
‫عدم مالءمة المعطف له‪.‬‬

‫ها قد حانت اللحظة‪ .‬هذه اللحظة التي قرأت عنها‪ ،‬اللحظة التي يفترض أن‬
‫تتطلع فيها العروس بشوق عارم من عرشها لترى عريسها يخطو باتجاهها‪ ،‬اللحظة‬
‫التي من المفترض أن تغمرها فيها بهجةَ رؤية محبوبها‪ .‬الحقًا سيكون على العروس‬
‫والعريس التوجه سوية صوب قبة الزفاف المرتجى منذ زمن بعيد حيث سيجري‬
‫إضفاء الشرعية على اتحادهم واالحتفاء به وإتمامه‪ .‬لكن من المفروض أن تكون‬
‫اللحظة الحاضرة هي لحظة االعتراف العجائبية‪ ،‬حيث ينبغي أن تتالقى أعيننا عبر‬
‫الغرفة وهي مح ّملة برغبة ال ح َّد لها‪.‬‬
‫إنني أحاول‪ .‬صدقًا إنني أحاول وأحاول أن أشعر بذلك‪ .‬ليفي يتقدّم إل ّ‬
‫ي‪ ،‬وهو‬
‫اآلن محاط بمجموعة من الرجال الذين يترنمون جميعهم بأغنية شعبية كئيبة‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬سأستعيد اللحظة وأتساءل فيما لو كان ليفي يجول بعينيه عبر الحجرة‬
‫ي‪ ،‬وأنّه لم يكن يحاول فقط تجاهل ألم ظهره‪ .‬سأتساءل‪ ،‬بينما هو‬
‫جراء رغبته ف ّ‬
‫ّ‬
‫يسير صوبي بمهابة بين أبوينا وسط تزاحم الرجال الذين يقومون بالترنيم‪ ،‬فيما لو‬
‫كان يخبر نفسه العبارات المبتذلة على شاكلة "رفيقتي" و"سوف نشيّد بنيانًا أبديًا"‬
‫"‪ ،"ezer kenegdo, binyan adei ad‬أو هل كان يشعر بشيء حقيقي‪،‬‬
‫نابع من داخله؟ لكنني سأتمسك بأمل أنه شعر حقًا بومضة من الرغبة‪ ،‬وبأن واحدنا‬
‫فعل ذلك على األقل‪.‬‬
‫وبينما يخطو الرجال نحونا على أنغام أغنيتهم البطيئة‪ ،‬أنظر الى والدي‪،‬‬
‫بجانب ليفي‪ .‬جرت العادة أن يتقدم والدي ً‬
‫أوال‪ ،‬يضع يديّه االثنتين على رأسي‪،‬‬
‫ويباركني‪ً ،‬‬
‫قائال‪"،‬لعل الرب يجعلك مثل سارة وريبيكا وراشيل وليا"‪ ،‬أمهات‬
‫الشعب اليهودي األربع المحبوبات‪ -‬وبهذا يحدد قدري كمنجبة لجيل جديد صالح‪.‬‬
‫إنني أخشى أن يخفق والدي في هذا‪ .‬ولن يمنحني بركاته‪.‬‬
‫تتوقف الموسيقى‪ .‬يقف الثالثة أمامي‪ ،‬ليفي ووالده ووالدي‪ ،‬ثالوثي‪ .‬يحتشد‬
‫ي‪ .‬إنه مستعد اللتقاط‬
‫المدعوون‪ .‬يبدو ليفي مرتبكا‪ ،‬إنه يصارع لكي ينظر في عين ّ‬
‫الطرحة من خلفي وإسدالها على وجهي‪ ،‬لكنني انظر لوالدي‪ .‬إنني أحتاج لبركاته‬
‫قبل كل شيء‪ ،‬إنها امنية قديمة‪ .‬أرغب أن يحقق لي والدي هذه الرغبة‪ ،‬والكثير‬
‫غيرها‪ .‬حاولت أن اعلّمه الكلمات العبرية قبل الزفاف‪ ،‬لكنه خضع لعالج الصدمة‬
‫الكهربائية‪ ،‬ويعيش على األدوية‪ .‬ينحني أبي فوقي‪ ،‬وفجأة أغرق في دوامة من‬
‫ذكريات الطفولة تعلوها مشاعر مختلطة يمتزج فيها الحب والنفور‪ ،‬الحنين‬
‫واالستياء‪ .‬وكما كنت دائ ًما‪ ،‬أحس بمشاعره كما لو أنني أشعر بها من أجله‪ ،‬ترتسم‬
‫على وجهي نظرة توسل‪ :‬باركني‪ ،‬احمني‪ ،‬ارتفع حاجباي‪ّ ،‬‬
‫تقطب َجبيني‪" .‬أبي؟"‬
‫همست له‪ ،‬يائسةً‪ " .‬الكلمات؟"‬
‫لم يتذكر أبي كلمات المباركة السحرية‪ ،‬فليس هناك من سحر‪ ،‬حتى لو كان‬
‫قد نهض من كرسيه الرمادي المريح حيث يقضي أيا ًما بكاملها في قراءة الصحيفة‬
‫و َج ّرش أسنانه‪ ،‬وحتى لو تح ّم َم و َحلَقَ ذقنَه وارتدى بدلة‪ ،‬ووضع قرنفلة على‬
‫ضا عن ذلك‪ ،‬يضع والدي إحدى يديّه المرتجفتين على رأسي بحركة‬
‫صدره‪ .‬عو ً‬
‫ضا عن المباركة‪ ،‬يقبّل‬
‫تدل على الحيرة المطلقة‪ .‬بحركة مرتبكة خاطفة‪ ،‬وعو ً‬
‫جبهتي‪ ،‬ليتركها مبتلة‪ .‬ليس لديه لي أي مباركة‪ .‬يهب الهواء باردًا على المكان‬
‫الذي طبع قبلته عليه‪.‬‬
‫سأحوله‬
‫ّ‬ ‫أشيح بنظري‪ ،‬أشعر بالعار‪ .‬مات شيء حينذاك‪ ،‬وأنا أردت له ذلك‪.‬‬
‫سرا قدي ًما سأصونه‬
‫إلى كتلة ميتة وقديمة‪ ،‬وستكون حماقاته ومرضه وإخفاقاته ً‬
‫ضا‪ .‬بفستان زفافي‬
‫طيلة حياتي الزوجية‪ .‬لذا‪ ،‬سيشهد هذا اليوم زفافي وجنازته أي ً‬
‫سأحفر قبره وأتخلص فيه من جسده السقيم‪ ،‬والخصالت البيضاء من شعره‬
‫والمتوائمة مع القرنفل حينما يهوي أمامي للداخل‪ .‬سأغرف القذارة بالمجرفة ألهيلها‬
‫ط العرق والقذارة فستاني الساتان األبيض‬ ‫ّ‬
‫يخط َ‬ ‫عليه‪ ،‬غرفَة بعد أخرى ألقيها بحنق‪.‬‬
‫وي ّ‬
‫لطخان حاشيته‪ .‬وتحتي‪ ،‬يفتح فمه‪ ،‬كالسمكة‪ ،‬من أجل استنشاق بعض الهواء‪.‬‬

‫يعلو صوت الموسيقى‪ .‬بمزيد من الجرأة‪ ،‬ينظر ليفي الى وجه امرأته‬
‫الحسيدية ليا‪ .‬لكنه حين يفعل ذلك‪ ،‬ال يرى ليزا‪ ،‬إبنة ريتا وهيرب‪ ،‬الفتاة التي كانت‬
‫في ما مضى تتسلق أسطح المنازل وتحلم بأنها فتى‪ .‬إنه يعتقد بأنني ليا حقًا وبأنه‬
‫استلم البضاعة الصحيحة‪ .‬لم تكن هناك خدعة تضاهي خدعة ليا التوراتية‪ ،‬التي‬
‫اتخذت مكان أختها تحت ال َ‬
‫طرحة‪ .‬إنها أنا‪ ،‬ومن الواضح بأنه يصدق ذلك‪ .‬مبته ًجا‪،‬‬
‫يرفع الطرحة من خلفي ويسدلها على وجهي‪.‬‬
‫ضا‪ .‬أنا ليا‪.‬‬
‫تموت ليزا أي ً‬
‫وبابتسامة المنتصر على محيّاه‪ ،‬يستدير ليفي‪ ،‬وهو ما يزال بصحبة األبوين‪،‬‬
‫ويتمشى إلى فناء المنزل المفتوح لكي ينتظر الى حين إتخاذ الضيوف أماكنهم في‬
‫الخارج‪ .‬ثم‪ ،‬وعند تشغيل الموسيقى التي تعطي إشارة قيام العروسان نحو قدرهما‬
‫المقدس‪ ،‬يسير الثالثة إلى قبة الزفاف‪.‬‬
‫لقد حان الوقت‪ .‬أقف‪ .‬يجب أن أذهب لزوجي‪ .‬يناول أحدهم كالّ من الوالدتين‬
‫ي‪ .‬خلفي‪،‬‬
‫عا رفيعة ومشتعلة‪ ،‬وتضع كل منهما يدها األخرى على إحدى مرفق ّ‬
‫شمو ً‬
‫ضا‪ .‬تبدأ‬
‫تسير اختاي‪ ،‬آمي وديبي‪ ،‬بخطوات متناغمة وهما تحمالن الشمع أي ً‬
‫موسيقى جديدة‪ .‬تخلو الليلة الدافئة من النسيم بينما نخطو لنهاية الممشى بين‬
‫الضيوف الجالسين‪ .‬اللهب الضئيل يتصاعد ً‬
‫قليال ويقوى بثبات‪.‬‬
‫تحت قبة الزفاف‪ ،‬أدور حول ليفي سبع مرات‪ ،‬وتتبعنا األمهات‪ ،‬دورة بعد‬
‫أخرى‪ .‬تمسك والدة ليفي بذيل فستاني حتى ال يتعثر به ولدها‪ .‬أنسى العدّ‪ ،‬أعلَق‬
‫في دورات من دون نهاية‪ ،‬لكن الحاخام فرومان ينطق بصوت منخفض "إثنان‪،‬‬
‫ثالثة‪ ،‬أربعة‪ ".‬سبع دورات ترمز للسماوات السبع‪ ،‬وليفي في مركز الكون‪ ،‬وترمز‬
‫ّ‬
‫ستنظم حياتنا‪ .‬ثم أقف بجانبه‪ ،‬أكتافنا متباعدة‪ ،‬بينما يعلن‬ ‫ضا أليام الساباث التي‬
‫أي ً‬
‫الرجال صفقة اقتنائي‪ ،‬العقد‪ ،‬ثمن العروس‪ -‬خاتم من الذهب‪ ،‬ويمنحون السبع‬
‫بركات‪ .‬ترفع الطرحة إلعطائي رشفة من نبيذ االتفاق‪ ،‬نبيذ النوم‪ .‬يضع ليفي خات ًما‬
‫على سبابتي اليمنى بينما يظل هو بال قيد‪ .‬ثم يدوس على كأس فتنطلق الصيحات‬
‫بـ"مازل توف!"‪.‬‬
‫يطلق للفرقة العنان‪ .‬نرقص ضمن دوائر رقص مجنونة حتى لما بعد‬
‫منتصف الليل‪ ،‬ندور وندور‪ ،‬النساء في داخل المنزل‪ ،‬والرجال خار ًجا في الفناء‪.‬‬
‫عا‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫حلقات أكثر اتسا ً‬ ‫أدور مع كل ضيفة على حدة‪ ،‬أبتسم وأبتسم‪ ،‬بينما تدور حولنا‬
‫يا لفرحي بالحياة الربانية الجديدة التي سوف نشيّدها! فأرقص حتى تتقطع أنفاسي‪.‬‬
‫يجلب أحدهم كرسيًا ألنهار عليه‪ ،‬مع ذلك ما تزال الموسيقى المبهجة مستمرة وما‬
‫تزال النساء المتبسمات يرقصنَ حولي‪.‬‬
‫ثم تصطف مجموعة صغيرة من النساء من أجل تشكيل الميتزفاه تانتز ( ‪the‬‬
‫‪ .)mitzvah tantz‬تستمر الدائرة األكبر حولنا كخلفية تصفق وتتقافز‪ .‬يرقص‬
‫صف النسوة ناحيتي‪ .‬وأيديهن تحاكي حركة البطون المستديرة وأقدامهن ترفع من‬
‫وتيرة اإليقاع‪ .‬يرقصن للخلف‪ ،‬ثم يتقدمن لألمام‪ ،‬هذه المرة يتظاهرن بأنهن يقمن‬
‫ّ‬
‫بهز رضيع‪ .‬في المرة الالحقة التي يتقدمن فيها لألمام‪ ،‬تتظاهر كل واحدة منهن‬
‫بدفع عربة أطفال‪ .‬ومع كل خطوة متقدمة‪ ،‬يمسحن األرض‪ ،‬يربّتن على بطون‬
‫قدرا‪ ،‬وآخر‪ ،‬ثم يلقين‬
‫يحركن ً‬
‫مستديرة متخيَلة مرة اخرى‪ ،‬يهززن رضيعًا آخر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫جباههن متظاهرات باأللم‪ ،‬ونحن نضحك‪ .‬ونضحك‪.‬‬ ‫بمؤخرة معاصمهم على‬
‫يدندن الضيوف بحماسة‪ .‬ها هى انا حبيبتى تعبر راقصةً‪ .‬تبّرق عيناي؛ كم‬
‫أحببتها‪ .‬لقد أتت مع الرجل الذي سيصبح زوجها‪ .‬وهاهي رفيقة غرفتي في أوستن‬
‫أندريا‪ ،‬وهي ستتزوج من ڤولف‪ ،‬أو وارن‪ ،‬وسيكفّون عن مغازالتهم عند التزام‬
‫الحياة الحسيدية‪ .‬وهنا أول أصدقاء طفولتي المحبوبين‪ ،‬جين‪ ،‬مع أصدقاء آخرين‬
‫من المدرسة الثانوية وماقبلها‪ ،‬أندريا وشارون‪ ،‬وكذلك برت وديفيد اللذان يتواجدان‬
‫في الخارج مع الرجال‪ .‬حبي األول‪ ،‬صديقاتي‪ :‬لقد دعوتكم لزفافي لكي أودّعكم‪.‬‬
‫النجوم عالية في السماء‪ ،‬والليلة حارة‪ .‬الموسيقى الصاخبة تتحدّى الليل‪،‬‬
‫اإليقاعات الجامحة تنحفر في أدمغتنا‪ .‬وعبر األبواب الزجاجية يبدو الرجال‬
‫المنهمكون بالرقص منهكين ومتألقين‪ .‬نراهم وقد تدلّت حواف قمصانهم خارج‬
‫سراويلهم‪ ،‬يمررون زجاجات الفودكا‪ .‬إنهم يغنون‪ ،‬بأصوات مبحوحة‪ ،‬يلوحون‬
‫بالزجاجات عاليًا‪ ،‬يدًا بيد‪ .‬ثالثة منهم يرفعون ليفي على كرسي‪ ،‬يدورون به‬
‫ويلوح االثنان لليفي‪.‬‬
‫ويدورون‪ .‬يرفع ڤولف توڤيا على كتفيه‪ّ ،‬‬

‫ما أزال أرتدي الخاتم في سبابتي حيث وضعه ليفي‪ ،‬رغم أنه ال يتعدى‬
‫مفصل ذلك اإلصبع‪ .‬أدفع بالخاتم لألسفل حتى يصبح في موضع مريح إلصبعي‪-‬‬
‫وسأنقله لإلصبع الرابع بعد انتهاء الزفاف‪ -‬لكن النساء يسحبنني للرقص خار ًجا‬
‫على المرج وسط المصابيح‪ ،‬تحت األشجار القديمة‪ ،‬تحت النجوم‪ .‬نتماسك بإاليدي‪،‬‬
‫مبتهجات‪ ،‬نقفز ونرقص على العشب الناعم‪ ،‬ثمالت مع الغناء والضحك‪ .‬أرفع يدي‬
‫اليمنى وأقذف ذراعي في الهواء أثناء الرقصة‪.‬‬
‫يطير الخاتم بعيدًا‪ ،‬يحتجب في مكان ما في العشب‪ .‬الوقت لي ٌل‪ .‬ما الذي‬
‫بمقدورنا فعله سوى انتظار الغد للبحث عنه؟ أيًا كان؛ إنه وقت الرقص!‬

‫في نهاية المطاف‪ ،‬أتوقف أللتقط أنفاسي‪ .‬أدخل للمنزل‪ ،‬أعود لحجرة جدتي‪،‬‬
‫حيث تساعدني في نزع الطرحة وذيل الدانتيل الطويل‪ .‬يتبعني ك ٌّل من أمي وأبي‬
‫ت على الخاتم؟"‬
‫وليفي‪ .‬يقترب والدي مني‪ .‬فيقول‪ " ،‬ليزا‪ .‬هل عثر ِ‬
‫سا‪.‬‬
‫لقد سمع باألمر‪ .‬أرفع ناظري‪ ،‬مشدوهة‪ ،‬وخلفه ليفي يبدو عاب ً‬
‫لكننا نعود للزفاف‪ ،‬وهاهي السيدة فرومان الشابة‪ ،‬زوجة الحاخام‪ ،‬برأس‬
‫مرفوع‪ ،‬وزهور وردية وخضراء مطبوعة على فستانها الضيق‪ ،‬وهي تدور‬
‫وتخطو في رقصة حسيدية بارعة‪ .‬وها هي اختي آمي‪ ،‬ذات الستة عشر عا ًما‪،‬‬
‫بعينيها البراقتين وابتسامتها الرائعة‪ ،‬مع أختي األكبر سنًا ديبي‪ ،‬التي أمسكت بباقة‬
‫الورد المقذوفة في الهواء؛ إنها ستتزوج من حبيبها الذي تسكن معه قبل انتهاء‬
‫العام‪ ،‬وسيكون الفرد الوحيد غير اليهودي في العائلة‪ .‬ها هو الحاخام فرومان؛‬
‫تتطاير اللحية والشراشيب الطقسية‪ ،‬األذرع في األعلى‪ ،‬إنه رجل كبير‪ ،‬لكن قَ َد َميه‪،‬‬
‫بإمكانهما فعل الكثير‪ .‬إنه يرقص مع شريك جدي في العمل‪ ،‬وهو رجل معمداني‬
‫طوال‪ ،‬والمصور يوثّق هذا االندماج‬
‫ً‬ ‫منتصب القامة من تكساس يفوق الحاخام‬
‫الغريب بينهما‪ .‬أعلم بأن كل الحاضرين سوف يتذكرون هذه الليلة والمتعة‬
‫والموسيقى والرقص‪ .‬سيتذكرون البهجة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫في الصباح التالي أستيقظ برداء نوم طويل أبيض ملموم عند المعصمين مع‬
‫أنشوطة صغيرة وردية معقودة عند الرقبة‪ ،‬وحيدة على فراش غرفة الفندق‪ .‬أستفيق‬
‫ي‬
‫من الرقصات الدورانية وصوت الكالرنيت الضاحك في أحالمي‪ .‬أفتح عين ّ‬
‫وأصطدم بصمت مجدِب‪ ،‬ما أزال عذراء رسميًا‪ .‬وألنني في فترة الحيض‪ ،‬فقد‬
‫أرسل الحاخام فرومان معنا الى الفندق اثنين من المرافقين‪ .‬إذ ليس من المسموح‬
‫بَعد أن نختلي أنا وليفي ببعضنا‪ .‬ما تزال مرافقتي مستغرقة في النوم على السرير‬
‫اآلخر‪ .‬أما ليفي وزوج المرأة فقد خصص لهما سريران في الغرفة الثانية بجناح‬
‫الزفاف الفندقي‪ .‬لقد تمنّى لي ليفي ليلة هانئة باقتضاب وخجل بعد أن حاصرتنا‬
‫نظراتهما المبتسمة‪ ،‬وقد بادلته االمنية باإلحراج واالقتضاب ذاتهما‪.‬‬
‫احدّق فيما حولي‪ ،‬ما يزال صدى الكالرنيت الذي سمعته في الحلم يتردد‬
‫عبر الجدران البيضاء‪ .‬أفكر بموعدنا األول قبل شهور‪ ،‬كم كنا حذرين‪ ،‬كم كنا‬
‫عرض ليفي الزواج في تلك الليلة الظلماء تحت قمر الشتاء الفضي‪.‬‬
‫مهذبين‪ ،‬وكيف َ‬
‫أتساءل كيف سيكون الشعور وأنا أستيقظ في الصباح‪ ،‬إلى جانبه‪ .‬وأنا أض ّمه‪ .‬لكن‬
‫ال ينبغي لي أن افكر بذلك مع وجود المرافقين قربنا‪.‬‬
‫أقوم‪ ،‬وبداخلي فضول الكتشاف ما الذي باستطاعتي فعله‪ .‬ألمح على‬
‫المنضدة شعري المستعار الجديد مع تشكيلة من األوشحة الجديدة الملونة‪ .‬أرغب‬
‫بتجربتها كلها‪ .‬أوه‪ ،‬لقد تغير كل شيء بليلة رقص! أنا امرأة متزوجة‪ ،‬هكذا أفكر‪،‬‬
‫ألف وشا ًحا حول رأسي‪ .‬ال يجب أن يرى أحد شعري‪ ،‬وال حتى ليفي‪ -‬على األقل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ليس قبل أن أنغَمر في مياه الميكفاه‪ .‬حافية القدمين برداء النوم أقف أمام مرآة‬
‫التزيين‪ ،‬أتحسس األوشحة األخرى‪ ،‬ألتقط الشعر المستعار‪ ،‬ثم أقف هناك‪ ،‬والشعر‬
‫المستعار في يدي‪ .‬تتقلب المرافقة في نومها وتتنهد‪ .‬يتحرك الرجال في الغرفة‬
‫المجاورة‪.‬‬
‫ومبعثر من أثر‬
‫ٌ‬ ‫أسحب الوشاح الجديد‪ .‬شعري‪ ،‬المقصوص حديثًا‪ ،‬قص ٌ‬
‫ير‬
‫النوم‬
‫كومة من خصل مموجة يهودية طالما قاومت التمليس‪ ،‬لكنني ال أمد يدي‬
‫تلقائيًا لفرشاة‪ ،‬وال أتوقف لحظة عند الحرية التي تمتعت بها لحين األمس بأن أخرج‬
‫به للشارع كما هو‪ ،‬بال غطاء‪ .‬لقد مضى ذلك الوقت‪ .‬أجمع الشعر وان ّحيه عن‬
‫ي‪ .‬أحني رأسي وأش ّد الجوانب المطاطية للشعر‬
‫وجهي بأصابعي وأدفعه خلف اذن ّ‬
‫المستعار لألسفل فيغطي رأسي حتى يصبح ضغط الكبس متساويًا على جوانب‬
‫وقمة الرأس ومري ًحا عند مؤخرة عنقي‪ّ .‬‬
‫لكن هناك بضع خصالت من شعري‬
‫الحقيقي ما تزال طليقة تتدلى‪ .‬ألتقطها وأدفع بها تحت الشعر المستعار‪.‬‬

‫المرأة التي في المرآة ال تشبهني تما ًما‪ .‬فهي تبدو وقورة وأكبر سنًا‪ ،‬وكل‬
‫خصالت شعرها المستعار تتخذ مكانها الصحيح‪ .‬إنني مبتهجة‪ .‬لكوني أصبحت‬
‫امرأة حسيدية! ثم‪ ،‬وكأن بابًا قد اغلق للتو‪ ،‬وكأنني سمعت الطقطقة للتو ولم أكن‬
‫أعلم حتى هذه اللحظة بأنه سوف يقفل ورائي‪ ،‬أحبس أنفاسي‪ ،‬أهز برأسي وأفكر‪،‬‬
‫ال أستطيع التراجع‪ .‬إنني متزوجة‪ ،‬وال مجال للعودة‪.‬‬

‫ستأتي االخريات‪ .‬أمامي‪ -‬امرأة بالغة في المرآة‪ ،‬بوقارها الذي يضفيه الشعر‬
‫المصفف‪ .‬عارية القدمين بالرداء األنثوي‪ ،‬أقابل عينيها‪ ،‬أرفع مؤخرة رأسي وأفرد‬
‫ضا الئقة بسيدة‪ .‬أوه‪ ،‬نعم‪ ،‬ترتسم ابتسامة‬
‫ي بوقفة ملؤها التصميم ولكنها أي ً‬
‫كتف ّ‬
‫متوترة على وجهي‪ .‬إنها أنا‪.‬‬

‫هناك قلة من البيوت الحسيدية في أوستن التي تستضيف احتفاالت شيفا‬


‫براكوس (‪ )sheva brachos‬بعد الزفاف والتي من المفترض أن تقام من أجل‬
‫العروسين‪-‬وهي عبارة عن أسبوع حافل بوالئم عشاء رسمية تتخللها أنخاب‬
‫ع ّد لها‪ .‬وهكذا نقوم ب ّجر شاحنة مألى بالهدايا عبر مروج تكساس‬
‫ومباركات ال َ‬
‫ونلحق بجدول مواعيدنا المدرسية المعتاد‪ ،‬نصل في الوقت المناسب تما ًما للتسجيل‬
‫من أجل الفصل الدراسي الجديد‪ .‬نركن السيارة خلف مجمع ليفي السكني تحت‬
‫شجرة تين برية مح ّملة‪.‬‬
‫"تفضلي بالدخول" يقول ليفي عند باب شقته‪ .‬يداه ممتلئتان‪ ،‬لكنّه يتدبر أمر‬
‫فتح الباب‪ ،‬ثم يسبقني بالدخول‪ .‬أتنفس بصعوبة ً‬
‫قليال بسبب ِحملي‪ ،‬لكنني أتوقف‬
‫عند العتبة حتى اعاين المكان‪ :‬سجا ٌد خشن الوبر بلون ثمرة األفوكادو‪ ،‬ستائر فينيل‬
‫برتقالية‪ ،‬كنبة رثة تنبعث منها إلى حيث أقف رائحة سجائر‪ ،‬وليفي ليس مدخنًا‪.‬‬
‫صا بي" قلت‪.‬‬
‫"سأحتاج مفتا ًحا خا ً‬
‫وعدا األثاث الطالبي المستأجر‪ ،‬فال شيء يَ ِشي بأن الشقة مسكونة‪ .‬فالجدران‬
‫نظيف‪ ،‬مبدئيًا‪ ،‬لكن حالما أرتب أطباق العرس‬
‫ٌ‬ ‫خالية والخزائن خاوية‪ .‬لكنه‬
‫والمناشف الجديدة في المطبخ والحمام‪ ،‬وأوزع الهدايا الفنية على الجدران‪ ،‬وحالما‬
‫افرغ حقيبتي الوحيدة وأضع مالبسي في درج خزانة الثياب الفارغ وأقوم بتعليق‬
‫صف من التنورات في الخزانة فوق سراويل ليفي الجينز‪ ،‬سيصبح المكان أكثر‬
‫الخاص بي في الزاوية‪ ،‬قرب السرير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شب ًها بمنزل‪ .‬ثم أضع التشيلو‬
‫من وجهة نظر ليفي ّ‬
‫فإن لمسي أثناء الحيض هو لمس للموت الروحي المعدي‬
‫الذي ال تطهره إال ميكفاه‪ .‬وعلى مدى العشرة أيام الالحقة‪ ،‬لم يكن هناك من أحد‬
‫يرافقنا‪ ،‬لكننا حريصان على عدم التالمس‪ ،‬ودافعنا هو الخوف الحسيدي من دماء‬
‫حيضي وأسراره‪ .‬إننا نعلم بأن البعض قد يعايروننا بكوننا بدائيين أو العقالنيين‪،‬‬
‫لكننا نعتقد بأن "خوفنا" أمر روحي‪ ،‬يتعالى على المنطق البسيط‪.‬‬
‫فخوفنا‪ ،‬هكذا نخبر أنفسنا‪ ،‬هو خوف مقدس‪ ،‬ليس خوفًا من الدم‪ ،‬لكنه خوف‬
‫من الرب وكلمته‪ ،‬الشريعة‪ .‬في صباحنا األول في أوستن‪ ،‬يمد ليفي يده من فوق‬
‫رأسي ل َيبلغ إحدى الخزانات من أجل طبق في المطبخ الصغير‪ .‬فيحتّك خَمل ثيابه‬
‫بثيابي‪ ،‬أحس بنفحة شهيقه وأشم رائحة جسده النظيف‪ .‬نتراجع كالنا‪ ،‬ويعتذر كل‬
‫منا لآلخر‪.‬‬

‫أحد األيام بعدها‪ ،‬حين كنت في الشقة لوحدي‪ ،‬التمست طريقي لغرفة النوم‬
‫الثانية الغارقة في الفوضى لكي أعاين ما يدعوه ليفي بـ"المكتب" الخاص به‪ .‬أفكر‬
‫ي فيها الزواج‪" .‬أريد غرفة لموسيقاي" قلت لهيئته ذات الظل‪.‬‬
‫ع َرض عل ّ‬
‫بالليلة التي َ‬
‫"أو ّد ذلك" قال حينها‪ ،‬مان ًحا إياي األمل‪ .‬لكن هذه الغرفة اإلضافية الوحيدة التي‬
‫نمتلكها‪ .‬أرفف الكتب مليئةٌ بكتب ليفي‪ ،‬وهناك الكثير غيرها على األرض بأكوام‬
‫متأرجحة‪ ،‬وسط رزم من المجلدات وأغراض مبعثرة بال حاوية وصناديق تعود‬
‫لوقت انتقاله للشقة قبل زمن طويل‪ .‬أتعثر أثناء سيري بحذاء تنس قديم مقلوب على‬
‫جانبه ومضرب خاص بكرة المضرب‪ ،‬شريط الصق أسود غير مثبّت ويتدلى من‬
‫مقبض المضرب‪ ،‬صندوق تسجيالت ذي بكرات‪ ،‬سروال ممزق من الجينز‪ .‬قبعة‬
‫بيسبول‪ .‬كما أن هناك مكتب كبير بجانب الجدار مغطي باألوراق‪ ،‬ودفاتر‬
‫المالحظات المغبّرة والمجلدات وعلب األقالم الرخيصة‪.‬‬
‫الحاجيات التي كدّستها أمي مألت طفولتي‪ :‬الكثير من علب التونا غير‬
‫المفتوحة‪ ،‬علب تونا خالية‪ ،‬كؤوس زجاجية (دائ ًما ما تنفع لغرض ما)‪ ،‬صحيفة‬
‫األمس وصحيفة اليوم‪ .‬كتب ونباتات وأنابيب من كريم اليد وكريم الوجه وكريم‬
‫الساق وكريم العيون‪ ،‬وأحمر شفاه وكريم أساس وباودر عيون بتدرجات األزرق‬
‫والبني‪ .‬فقد اشترت أحدث العروض من ماركة أفون ومألت بها مناضد وأدراج‬
‫عجبت بها‪ .‬كما َجمعت‬
‫وخزائن الحمام حتى فاض بعلب مختلفة األشكال من أنواع ا ِ‬
‫المجالت والبريد غير المرغوب فيه‪ ،‬مع أنه لم يكن غير مرغوب فيه حقًا‪ ،‬وأطباقًا‬
‫اقتنتها من آخر عروض متاجر البقالة‪ ،‬وعلَّبًا فارغةً وأجزا ًءا وقطعًا من أشياء‪،‬‬
‫ألنها قالت بأنها سوف تكون بحاجة إليها‪ .‬وكذلك أحذيةً وسراوي َل وفساتينَ‬
‫وحقائب‪ .‬فهي تحب الحقائب‪ .‬عشرات الحقائب‪ .‬أكوام من الحقائب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ومعاطف‪،‬‬
‫َ‬
‫أنابيب من األصباغ ولوحات قماشية وحافظات أوراق والعشرات العشرات من‬
‫ف َرش الرسم‪ .‬لقد كنت محاصرة بأكوامها وم ّدخراتها وأكداسها‪ .‬ورغم كوني طفلة‬
‫صغيرة‪ ،‬إال أنني عرفت القواعد‪ :‬ال يجوز لي تحريك حاجياتها‪ ،‬وإال فإنها سوف‬
‫ً‬
‫جائزا لي أن أقول"تخلصي منها" ألنها ستشرع‬ ‫تلّوح بذراعيها وتصرخ‪ .‬ولم يكن‬
‫باالنتقاد الالذع لشخصيتي‪.‬‬
‫اغادر غرفة مكتب ليفي ألعود ببخاخ ليسول المنظف وقماشة تنظيف للغبار‬
‫وخرقة مبللة‪ .‬أعيد وضع الكتب على الرف وارتّب الباقي ضمن أكوام منظمة‬
‫بمواجهة الجدار‪ ،‬وأمسح الغبار عن كل شيء‪ .‬أجمع مجلدات الملفات في موضع‬
‫واحد عند الزاوية‪ .‬أضع لوازم الرياضة واألحذية في الخزانة‪ .‬أنفض الغبار عن‬
‫المنضدة وأرزم األوراق وأرش المنظف وأمسح السطح وأنا أردد مع نفسي‬
‫‪ - seder iz kedusha‬النظام قداسة‪ .‬سوف أجلب النظام والقداسة لمنزلنا‪ .‬شيئًا‬
‫فشيئًا‪ ،‬يفسح مجال من أجل كرسي سأستخدمه لغرض التمرن على التشيلو وحامل‬
‫للنوتات الموسيقية وتخلو بضع إنشات على رف الكتب اللوحي المثبت على الجدار‬
‫من أجل وضع كتب الموسيقى‪ .‬وبهذا لن أكون مضطرة لحمل التشيلو لغرفة‬
‫التمرين في بناية الموسيقى‪ .‬سأمأل بيتنا بالموسيقى‪ .‬ستكون الموسيقى صوت بيتنا‪.‬‬
‫لقد كنت منشغلة للغاية لدرجة صرفتني عن عدم مالحظة الباب األمامي وهو‬
‫يفتح‪ ،‬ويدخل منه ليفي‪ .‬ثم انطلقت‪ ،‬من خلفي‪ ،‬صيحة "ال!" ووسط هذا الغضب‬
‫واالستياء استدرت‪ ،‬ومضربه القديم في يدي‪ ،‬يتدلى منه الالصق األسود الجاف‪.‬‬
‫إنه يلّوح بذراعه‪ ،‬ويصرخ‪" ،‬ما الذي فعلتيه؟ ألقي ذلك من يدك!" ورذاذ اللعاب‬
‫يتطاير من فمه‪" .‬ال تلمسي ذلك‪ ".‬إنني متأكدة بأن الصوت قد بلغ الجيران‪" .‬أي‬
‫ت؟"يقول لي‪.‬‬
‫نوع من الناس أن ِ‬
‫ي وأنا أخرج من الغرفة‪ .‬لست‬
‫ضا‪ ،‬وأضرب األرض بقدم ّ‬
‫ألقي بالمضرب أر ً‬
‫ي أن أتحمل ذلك‪.‬‬
‫بطفلة‪ ،‬أنا ال أعيش مع امي‪ ،‬وليس عل ّ‬
‫وفيما عدا أن مغادرتي للغرفة يع ّد إستسال ًما‪ ،‬ماعدا ذلك‪ ،‬حتى بينما أبتعد‪،‬‬
‫دور المتطلبات الحسيدية‬
‫وقلبي المعتمل بالغضب يمأل صدري بالكالم‪ ،‬أظل ا ّ‬
‫زوجك‪ .‬ال يجب أن ألمس‬
‫ِ‬ ‫المغروسة في رأسي وأحاول أن أوقف مسيري‪ .‬إنه‬
‫أخضعي إرادتك‬
‫ِ‬ ‫إنك مجرد امرأة‪.‬‬
‫حاجياته‪ .‬لقد أوصانا ال َحبر بتشييد بنيان أبدي‪ِ .‬‬
‫لمشيئة الرب‪.‬‬
‫تفصل بيننا هدنة محبطة غير معلنة لبقية النهار‪ .‬الحقًا اخبر ليفي أنني "ال‬
‫الخاص بي في بناية‬
‫ّ‬ ‫أحتاج لغرفة موسيقى‪ .‬سأذهب ألتمرن على التشيلو‬
‫الموسيقى‪".‬‬

‫يتخرج‬
‫ّ‬ ‫يبدو بأن زفافنا كان الوداع األخير لمعظم أصدقائنا في تشاباد هاوس‪.‬‬
‫توفيا ومعظم اآلخرين وينتقلون بعي ًدا‪ ،‬حاملين معهم للعالم ثورتهم الدينية‪ .‬من تبقّى‬
‫هم بضعة شبّان يتجمعون إلقامة طقس المنيان اليومي‪ ،‬وهم ليسوا كافين حتى‬
‫لتحقيق النصاب‪ ،‬فغابت وجبات الساباث الجماعية الصاخبة ومجموعات الدرس‪.‬‬
‫سيبدأ الفصل الدراسي قريبًا‪ ،‬وسيكون ليفي رفيقي الوحيد‪.‬‬
‫نتسوق ونطهو سوية‪ .‬وبعد السنوات التي قضيتها‬
‫ّ‬ ‫إننا ننحو نَحو الصداقة‪.‬‬
‫وحدي بقليل من المال أو بدونه‪ ،‬أنظر ذات يوم ألسعار الفراولة المرتفعة في متجر‬
‫البقالة وأتجاوزها‪ّ ،‬‬
‫لكن ليفي يتوقف‪ ،‬ثم يضع علبتين فاخرتين من الفاكهة الشهية‬
‫في عربة التسوق ويقول لي‪" :‬من اللطيف أن نفعل أشيا َء صغيرة ً‪".‬‬
‫تلك الليلة‪ ،‬وخالل تناولنا العشاء النباتي‪ ،‬نتبادل أطراف الحديث المهذب‬
‫كشخصين في موعد مدبّر‪ .‬يقوم ليفي من على الطاولة ويشغّل المذياع‪ .‬إنها المحطة‬
‫الكالسيكية‪ ،‬تذيع شيئًا غنائيًا وعاطفيًا‪" .‬ما هذا؟" أسأله‪.‬‬
‫يجيبني ً‬
‫قائال "إنه برامس"‪" ،‬إنها مقطوعته اإلولى‪ ،‬لكنها على وشك االنتهاء‪.‬‬
‫إنها الخاتمة‪".‬‬
‫هذه ليست المرة األولى التي أسمع فيها ليفي يميّز مقطوعة موسيقية‬
‫كالسيكية على المذياع‪ .‬إنني مندهشة‪ .‬أنا التي أرغب بأن اصبح موسيقية‪ ،‬لكنه‬
‫يستطيع تمييز الموسيقى أكثر مما أستطيع‪" .‬لقد سمعت هذا من قَبل" أقول هذا بقليل‬
‫من ال َح َرج‪.‬‬
‫يأخذ شوكة مليئة بالسمك‪ ،‬ثم يمضغ بفم مفتوح ويريح كوعيه على الطاولة‪.‬‬
‫أشيح بنظري وأبتلع بصعوبة‪ ،‬وأسأله‪" :‬إمم‪ ،‬أين تعلمت تمييز كل تلك الموسيقى؟"‬
‫يجيبني‪" :‬في بنسلفانيا" ينقل رواية عن سنواته في جامعة بنسلفانيا قبل أن‬
‫يحول اهتمامه للدين‪ .‬إنه متلهف وسعيد‪ .‬يبدو عليه كما لو أنه رجع إلى هناك مرة‬
‫أخرى‪ .‬يبقي أحد كوعيه على الطاولة‪ ،‬ويده في الهواء‪ ،‬بينما ينحني على طبقه‬
‫ويجرف الطعام بيده االخرى‪ ،‬ث ّم يخبرني‪" :‬حصلت على عمل في مشروع خاص‬
‫ً‬
‫جهازا جدي ًدا‬ ‫بالحيوانات األليفة ألحد أساتذتي الجامعيين في الفيزياء‪ ،‬وهو يخص‬
‫صورا لداخل الجسم باستخدام الموجات الصوتية‪ ،‬إنه يدعى بالسونوغرام‪".‬‬
‫ً‬ ‫يلتقط‬

‫أجيبه‪" :‬فكرة مثيرة لالهتمام"‪ .‬أتمنى فقط لو أنه يقوم بإغالق فمه عندما‬
‫يمضغ الطعام‪" .‬وهل هي آمنة؟ أكثر من أشعة أكس؟"‬
‫"بالتأكيد‪ .‬ويمكنك رؤية األعضاء!" ويمأل شوكة اخرى‪.‬‬
‫"في المساءات‪ ،‬كنت أذهب لمشاهدة يوجين أورماندي وهو يقود أوركسترا‬
‫فوت أي‬
‫فيالدلفيا‪ .‬كنت أجلس في الشرفة الثالثة بتذكرة طالب‪ ،‬وقد حاولت أال أ ّ‬
‫حفلة موسيقية‪ .‬كنت واثقًا بأنني أشاهد شيئًا عظي ًما‪".‬‬
‫أتناول طعامي مثل مربية صارمة‪ .‬لكن‪ ،‬انظري ما الذي يتكشف‪ ،‬أفكر‪.‬‬
‫انظري ما الذي يحبه‪ .‬تتغير الموسيقى لكونشرتو بيانو‪" .‬إنه ِلست" يقول ليفي‪.‬‬
‫نعود للصمت‪ .‬تتراكم النوتات فوق بعضها وتتصاعد‪ ،‬تنثال علينا‪ ،‬ترتفع‬
‫وترتفع حتى تصل للذروة‪ .‬أحاول أن أتخيله طالبًا جامعيًا حليق الذقن‪ ،‬وحيدًا وسط‬
‫الحشود في شرفة علوية خافتة اإلضاءة‪ ،‬وهو يركز انتباهه على قائد األوركسترا‬
‫األسطوري‪.‬‬
‫ثم أقول له‪" :‬أخبرني عن ريتشي‪".‬‬
‫ينطفيء النور في وجهه‪ ،‬ويضع شوكته جانبًا‪ ،‬ويقول لي‪" :‬ما الذي يمكن‬
‫قوله؟"‬
‫"هل كنت قريبًا منه؟"‬
‫"أجل‪".‬‬
‫هناك صورة على رف الموقد في بيت والدي ليفي تعود ألخيه األصغر الذي‬
‫ً‬
‫طويال ونحيفًا وذا شعر طويل وشارب‪ .‬لقد أخبرتني أمي بقصة ريتشي‬ ‫يظهر فيها‬
‫تعرف ريتشي على توفيا منذ الطفولة‪ ،‬توفيا الذي كان يدير‬
‫قبل الزواج‪ :‬كيف ّ‬
‫قرر ريتشي‪ ،‬بتأثير من توفيا‪ ،‬أن ينض َّم‬
‫تشاباد هاوس قبل أن يتخرج وينتقل‪ .‬وكيف َ‬
‫لمؤسسة نيوجيرسي الحسيدية للرجال التي تشبه مؤسسة النساء التي أرتادها في‬
‫درا ًجا مليئًا بالحماس طالما تمنّى أن يقطع البالد‬
‫سانت بول‪ .‬وكيف كان ريتشي ّ‬
‫على دراجته الثمينة‪.‬‬
‫يضيف ليفي‪ ":‬لقد جئت الى هنا قاصدًا مدرسة الدراسات العليا بسبب أخي"‬
‫ً‬
‫أطفاال‪ .‬أردت أن أتعرف عليه‪ .‬كرجل‬ ‫كثيرا عندما كنا‬
‫ثم يضيف‪ " :‬لقد كنا نتشاجر ً‬
‫بالغ‪".‬‬
‫النافذة عبر الفناء مفتوحة‪ ،‬وأحد الطالب يتمرن على الفلوت‪ .‬النغمات‬
‫الهوائية المتتابعة تطفو فوق المرج ذي العشب وتتداخل مع موسيقى ِلست‪ " .‬لقد‬
‫كثيرا عن‬
‫ً‬ ‫اكتشفت بأنني أحببت أخي" يقول ليفي‪ " .‬كان هذا جديدًا‪ .‬لقد تحدث‬
‫رغبته بأن يصبح محاميًا‪ ،‬لقد لعبنا الشطرنج كل يوم تقريبًا‪ ،‬وكذلك كرة المضرب‪".‬‬
‫أتساءل‪" :‬بذلك المضرب الذي في المكتب؟ المضرب الذي كنت أمسكه حين‬
‫دخلت؟"‬
‫"أجل‪".‬‬
‫يتخطى الباقي‪ ،‬سائق الشاحنة المخمور الذي صدم ريتشي في منطقة ما في‬
‫لويزيانا‪ ،‬الدراجة المسحوقة‪ ،‬الجثة التي بقيت مجهولةً لعدةِ أيام في أحد مشارح‬
‫البلدة‪ .‬الصوت المقتضب الذي اتصل ً‬
‫ليال عبر الهاتف بوالديه المذعورين اللذين‬
‫انقطعت عنهما أخباره‪ " :‬إمم‪ ،‬آسفون ألننا لم نستطع االتصال بكم في وقت أبكر‪.‬‬
‫لدينا ابنكم‪ .‬أين؟ أوه‪ .‬هنا في المشرحة‪".‬‬
‫بعد الجنازة‪ ،‬واصل توفيا االتصال بي من أجل القدوم إلى تشاباد هاوس‪.‬‬
‫حتى فعلت ذلك في نهاية المطاف‪ ،‬ثم توقف‪ .‬لم يقل أي شيء عن الكيفية التي قَد َّم‬
‫األساس واألجوبةَ لألسئلة الكونية في زمن لم يبد فيه أي شيء ذا معنى‪.‬‬
‫َ‬ ‫الدين بها‬
‫ولم يتحدث عن الكيفية التي تستطيع بها الضرورة خلقَ "برهان" غير ذي صلة‬
‫بالمقصد حيث قد ال تكون راغبًا بالبرهان حتى‪ .‬لكن حينذاك‪ ،‬لم يستطع أحد منا‬
‫التعبير عن هذه األشياء‪ .‬على المذياع‪ ،‬يتباطأ الكونشرتو إلى األداجيو‪ ،‬الكمنجات‬
‫تش ّكل النغم‪ .‬تستولي الموسيقى على أسماعنا‪ ،‬أنا وزوجي‪ ،‬فيدّب الصمت‪.‬‬

‫الباب المعدني القديم المؤدي الى الميكفاه التي تقع في مؤخرة كنيس‬
‫‪ Tiferet Israe‬في داالس يغلق خلفي مخلّفًا صوت قرقعة‪" .‬الميكفاه هناك في‬
‫الداخل" تقول سيما راكوفسكي‪ ،‬وهي توميء برأسها مشيرة الى الداخل المعتِم‪ .‬ثم‬
‫تشغل األنوار‪.‬‬
‫لقد مر زمن االنتظار الطويل‪ .‬ليفي بانتظاري في النزل رقم ثمانية‪ّ .‬‬
‫لكن‬
‫والديه يتوقعان وصولنا إلى داالس في الغد‪ ،‬مع عربة يو هول ربطناها بسيارة‬
‫ليفي لكي ننقل بقية هدايا الزفاف والطقم القديم لغرفة الطعام معنا ألوستن‪ .‬لكننا‬
‫باكرا من أجل هذا‪.‬‬
‫أتينا ً‬
‫سألته‪ ،‬حينما كنا ما نزال في النزل‪" :‬هل تظن بأنهم سيكتشفون بأننا اآلن‬
‫في المدينة؟" كان ليفي يضع حقيبتنا في األعلى على حمالة األمتعة‪ .‬يستدير‪،‬‬
‫وعيونه تلمع‪ ،‬ثم يجيبني‪" :‬فليكن هذا سرنا "‪ .‬ثم خطا باتجاهي‪ ،‬أقرب مما يمكن‬
‫ألي غريب أن يقترب‪ ،‬قريب جدًا مني حتى شعرت بدفئه‪ .‬فالتقطت مفاتيح سيارته‪،‬‬
‫وأشحت بنظري‪ .‬وقلت له‪ " :‬سيما تنتظر‪".‬‬
‫نتظارك هنا‪".‬‬
‫ِ‬ ‫"قريبًا…" قال وهو يرمقني بنظراته من علو‪" .‬سأكون با‬
‫انحنى فوقي‪ ،‬وعيناه تخترقني‪ ،‬أنفاسه تصلني‪ ،‬وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيه‪.‬‬
‫ابتلعت األمر وتصنّعت التطلع الى وجهه‪.‬‬
‫ي بالذهاب عبر ممر داخلي يفضي‬
‫"تفضلي بالدخول" تقول سيما‪ ،‬مشيرة عل ّ‬
‫مكسوة بالقرميد ومحاطة بدرابزين‪ .‬ترفرف عثةٌ أمام النور‬
‫ّ‬ ‫إلى بركة صغيرة‬
‫األصفر الباهت المنبعث من اإلضاءة السقفية‪.‬‬
‫"جهزي نفسك هناك" تقول لي‪ ،‬وهي تشير إلى حمام بجانب البركة‪ " .‬نادِني‬
‫عندما تنتهين‪".‬‬

‫ألقي بحقيبتي في الداخل‪ ،‬اغ ِلق الباب ومن ثم أقف تحت ماء الدش الساخن‪،‬‬
‫أنهارا على ظهري‪ .‬أعود بذاكرتي للمرة األولى التي‬
‫ً‬ ‫فتنهمر الحرارة الرطبة‬
‫جلست فيها مع سيما لكي أدرس معها على منضدة الطعام في بيتها‪ .‬كنت ما أزال‬
‫حينذاك طالبة في المدرسة الثانوية أرتدي" األفرول" األحمر وحذا ًء من نوع "سادل‬
‫ي أي فكرة عن ّ‬
‫أن المطاف سينتهي‬ ‫أكسفورد" وكنت مغرمة بصديقتي‪ .‬لم تكن لد ّ‬
‫بي وأنا أدرس في المؤسسة الحسيدية للنساء‪ ،‬أو بأنني خالل ثالث سنوات سأحظى‬
‫بزواج مدبّر وأن أجد نفسي هنا في ميكفاه‪ .‬رفعت وجهي أمام شالل الماء الساخن‪.‬‬
‫أوه‪ ،‬لكم كانت مذهلة تلك الطريقة التي تترجم بها سيما الكلمات والحروف العبرية‪،‬‬
‫والشروحات القديمة تتكشف في النص مثل محادثة غامضة عبر القرون‪ .‬أقوم‬
‫بتدليك فروة رأسي بالشامبو وأعيد رأسي ثانية من أجل أن يتدفق الماء خالل‬
‫خصالت شعري‪.‬‬
‫قالت سيما‪ " :‬تبدأ التوراة قصةَ الخلق بالحرف "بيت" والذي يعني أي ً‬
‫ضا‬
‫الرقم اثنين؛ ّ‬
‫ألن الرب خلق العالم بهيئة أزواج‪ :‬الظلمة والنور‪ ،‬الخير والشر‪ ،‬الذكر‬
‫واألنثى‪ .‬لقد اختلطت أزواج األضداد كلها اآلن" ث ّم أضافت قائلة‪ّ " :‬‬
‫لكن الحياة التي‬
‫تحكمها الشريعة اليهودية تكشف حقيقة الرب األصلية‪ .‬فيصبح الخير والشر‬
‫واضحين‪ ،‬لذا فإننا نستطيع االختيار بصورة صائبة‪ ،‬ونعيش في عالم يسوده‬
‫الصفاء‪ .‬وهذا ما يريده الرب‪".‬‬
‫ارتبكت آنذاك‪-‬الخير والشر‪ ،‬الذكر واألنثى‪-‬أفكر بأطياف الرمادي وال أفهم‬
‫أين بإمكاني أن أضع نفسي في تلك الصورة‪ .‬لكن أمام التوراة العبرية المفتوحة‬
‫والمشفوعة بشبكة من الشروحات المتعلقة بها‪ ،‬كنت أنا الجاهلة‪ .‬حوصرت‪ .‬فإذا‬
‫قالت سيما بأن الشريعة اليهودية هي حقيقة الرب‪ ،‬فمن أنا ألشكك بذلك؟‬
‫وبدأت أحتاج لتلك الحقيقة‪.‬‬

‫بعد شطف جسمي بدوت مشرقة من شدة النظافة‪ ،‬عبرت حافة الحوض‬
‫الوردي إلى حياتي الزوجية‪ .‬ستكون الميكفاه جز ًءا من تلك الحياة‪ ،‬كل شهر‪ .‬تلَفّت‬
‫حولي وأخذت منشفة وردية منقوشة باألزهار من رف وردي مصنوع من‬
‫الخيزران موضوع فوق المرحاض الوردي ولففت بها بدني‪ ،‬وأنا أرتجف‪ .‬يبدو‬
‫المكان بكامله مثل كليشيه انثوية صارمة‪".‬إنني جاهزة" ناديت عليها‪.‬‬
‫كانت غرفة الميكفاه صغيرة ومربعة ومغطاة بالقرميد الوردي‪ .‬نلتقي قرب‬
‫البركة عند الدرابزين‪ .‬توصد سيما الباب خلفنا‪ .‬اإلضاءة فوق البركة منخفضة‪ ،‬أما‬
‫الهواء فدافيء ورطب وممزوج برائحة الكلورين‪" .‬حسنًا‪ ،‬اآلن!" تقول سيما‪،‬‬
‫والفخر باد عليها‪ ،‬كما لو أنها تلخص المسافة التي قطعتها‪ .‬ترتسم على وجهها‬
‫ابتسامة وتمد ذراعيها‪.‬‬
‫إنها تعاملني كملكة‪ .‬وهذه هي الكناية الحسيدية عن العروس الجديدة‪ .‬أشعر‬
‫ي‪ ،‬وأنظر لألسفل‪.‬‬
‫حرك قدم ّ‬
‫بمعدتي وهي تعتصر‪ .‬ا ّ‬
‫ستزيل مياه الميكفاه ذلك‪ .‬أرجو بأن تزيل الميكفاه ذلك المغص‪.‬‬
‫أوال أن تعاين خلّو ظهري من الشعيرات المتناثرة‪ ،‬وهذا ما‬
‫لكن على سيما ً‬
‫ّ‬
‫تفعله بتمرير أطراف أناملها على بشرتي المبللة‪ .‬أجفل عندما تلمسني‪ .‬يبدو من‬
‫غير الالئق على اإلطالق أن تكون م ً‬
‫بلال وعاريًا أمام هذه المرأة الرائعة والحنونة‬
‫التي‪...‬التي تلمس جسدي العاري‪ .‬األسوأ‪ ،‬أفهم ذلك‪ ،‬لكنني ال أفهم كيف أو لماذا‪،‬‬
‫ٌ‬
‫نتهاك‪ .‬ال أستطيع تمييز الخطأ بعينه‪ ،‬وهذا ما يضاعف َح َرجي‬ ‫هو أن لمستها ا‬
‫ويجعل الكالم يخرج مني بمشقّة‪ .‬ثم ينبغي عل ّ‬
‫ي أن أنزع المنشفة أمامها وأن أنزل‬
‫ي بينما أنزل ساللم البركة‪،‬‬
‫ي بذراع ّ‬
‫الساللم ألدخل في المياه‪ .‬أحاول أن اغطي نهد ّ‬
‫تشف عن القرميد الوردي الذي يغطي القاع‪ .‬إحساس‬
‫لكن المياه ساكنة وصافية‪ ،‬و ّ‬
‫بشع بالهتك يطغى على أي إحساس باالحتفاء أوالمباركة في المياه‪ ،‬كما ويمحي‬
‫أمرا شاقًا في هذه اللحظة‪.‬‬
‫نتظر ما جعل من إقامة الصالة ً‬
‫إحساسي بزوجي الم ِ‬
‫ي أن اغطي‬
‫ي سيما الهادئة الفخورة الصالحة بقماشة للغسل‪ .‬يتعيّن عل ّ‬
‫تلقي إل ّ‬
‫شعري قبل أن أتلفظ باسم الرب‪ .‬أحاول أن أفكر كيف ينتظر الرب هذا اإلنغمار‪،‬‬
‫الذي سيجعل أصناف النقائض تتضح مجددًا ويضع عال ًما يتألف من الثنائيات في‬
‫ترتيبه الصحيح‪.‬‬
‫ى‬
‫ي صد ً‬
‫وبينما أفرد القماشة على رأسي‪ ،‬تخلق القطرات المتساقطة من يد ّ‬
‫ي وانزل بدني حتى تلمس المياه الدافئة ذقني‪ .‬أنثني‬
‫مائيًا في الحجرة‪ .‬أمد ذراع ّ‬
‫لمسافة أكثر عمقًا وأحني رأسي‪ ،‬ثم أغطس تحت سطح الماء‪ .‬ألبث تحت الماء‪،‬‬
‫راجيةً الخشوع‪ ،‬ثم أخرج‪ .‬تقول سيما‪ ،‬بصوت ممزوج بفخر وحب أمومي‪ّ ،‬‬
‫كرري‬
‫من بعدي‪" :‬مبارك" ‪Baruch‬‬
‫فأردد‪" :‬مبارك"‬
‫أنت‪ ،‬يا موالي‪Atah adonoi eloheinu ".‬‬
‫" َ‬
‫أنت‪ ،‬يا موالي‪".‬‬
‫" َ‬
‫ثالث كلمات في آن واحد‪ .‬إنها تقودني خالل المباركات‪al mitzvas ،‬‬
‫‪ .tvila‬ثم أغطس مجددًا تحت السطح نحو موضع يخلو من الهواء بعيد عن العالم‬
‫ي‪ ،‬التي أنتظر‬
‫ي وظالل والد ّ‬
‫وأبدأ عو ًما جنينيًا‪ .‬تحت الماء‪ ،‬أشعر بظالل ماض ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫المياه المقدسة لكي تذيبها وتزيلها‪ .‬هذه هي صالتي‪ ،‬أن تذيب مياه الميكفاه ماض ّ‬
‫أن أخرج كصفحة بيضاء أستطيع عليها أن اش ّكل ذاتًا جديدة‪ .‬أركز بكل قواي على‬
‫هذا الواجب‪ ،‬على ما يجب أن أكونه‪ ،‬ما سأكونه‪ ،‬أمام الرب‪.‬‬
‫ّ‬
‫أغط في الماء مجددًا‪ ،‬سبع مرات تحت الماء‪،‬‬ ‫سا‪،‬‬
‫أصعد لسطح الماء‪ ،‬آخذ نف ً‬
‫ً‬
‫ونزوال‪ .‬افكر بالسبع دورات التي درتها حول ليفي تحت قبة الزفاف‪،‬‬ ‫صعودًا‬
‫بصوت الحاخام فرومان وهو يع ّد " خمس‪ ،‬ست‪ ،‬سبع" وبالسماوات السبع التي‬
‫تؤدي إلى للا‪ .‬أخرج حينها‪ ،‬واقفةً على أطراف أصابعي كي ابقي رأسي فوق‬
‫آخرا‪ ،‬وأغطس للمرة األخيرة‪ ،‬وأنا اردد مع نفسي‪ ،‬إلى مياه‬
‫سا ً‬‫الماء‪ .‬ألتقط نف ً‬
‫البركة‪ ،‬إلى الزواج‪ .‬عندما أصعد للمياه في المرة األخيرة‪ ،‬يتعين أن تكون هذه‬
‫والدة جديدة‪ .‬يجب أن أكون نقية كالمولود الجديد‪.‬‬
‫أتأهب اآلن لزوجي‪ .‬لكن حالما اشاهد سيما وهي تمسك منشفة حمام فاردة ً‬
‫إياها مثل ستارة وتشيح بنظرها بداعي االحترام‪ ،‬يعاودني ذات اإلحساس غير‬
‫الالئق بالهتك‪ ،‬ولكنه بصورة فجة هذه المرة؛ أتمنى لو أنها تغادر وت َ َدعني أدخل‬
‫الحمام كي أرتدي ما يكسو بدني‪ .‬أخفض رأسي‪ ،‬غير قادرة على النظر في عينيها‪،‬‬
‫وألف بدني العاري من دون أن أقطع خطاي‪ .‬وبينما‬
‫ّ‬ ‫ألتقط منها المنشفة بسرعة‬
‫أثرا من طبعات األقدام المبللة خلفي على األرضية‬
‫أتع ّجل بخطاي بعيدًا‪ ،‬أترك ً‬
‫الرخامية‪ .‬هذا األثر من الماء‪ ،‬الذي يبدأ بالتبخر‪ ،‬هو ذيل فستان زفافي‪.‬‬

‫في موتيل ‪ ،8‬يسطع ضوء نيون برتقالي وامض من خالل الستائر بينما‬
‫تهدر الطريق السريع بحركة المرور القادم من محور الطريق السريع رقم ‪.635‬‬
‫الشعر المستعار موضوعٌ على حامل بجانب علبة قبعة ليفي‪ ،‬حقيبتنا الوحيدة‬
‫مفتوحة على الخزانة ذات األدراج‪ ،‬تنورتي الطويلة معلقة على كرسي‪ ،‬شال الرأس‬
‫على األرض‪ .‬أما جسدي المرتجف فتغطيه مالءة وبطانية ومفرش السرير‪ .‬مكيف‬
‫الهواء ذو الصوت الهادر مضبوط على البارد‪.‬‬
‫أرى جسدي الخامد ك َمثلبة‪ .‬إنني ال أعرف ما معنى أن أشتهيه‪ .‬أعرف بأنه‬
‫ي ذلك‪ ،‬أعرف بأنني يجب أن أتوق له‪.‬‬
‫يجب عل ّ‬
‫متلهف‪ .‬ليفي طويل جدًا وأكبر سنًا وأكثر حكمة‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حنون وجه ليفي وخطوه‬
‫مني‪ .‬يخفض عينيه بما يكفي للتحديق بي‪ ،‬وعلى وجهة ابتسامة صغيرة‪.‬‬
‫انتابتني وخزة صغيرة من الخوف عندما تسلّ َ‬
‫ط ثقله المفاجيء على السرير‪،‬‬
‫تسارعٌ يأخذ بأنفاسي‪ ،‬كمية متناثرة من الشعيرات السوداء على صدره‪ .‬عندما‬
‫أتقرب إليه‪ ،‬فإنني أسعى لألمل بأن يمسك بي ليفي ويبقيني معه ويحميني‪ ،‬وبأن‬
‫أتمكن من الوثوق به لفعل ذلك وأن أتعلم أن أحبه ألجل ذلك‪ .‬بمقدوري أن اسلّم له‬
‫نفسي من أجل ذلك‪ ،‬حتى لو لم يكن في داخلي أي ارتعاشة لرجل‪.‬‬
‫ي للمرة األولى‪ ،‬لزوجته‪ ،‬التي ما‬
‫يسحب ليفي األغطية عني لكي ينظر إل ّ‬
‫يزال ال يعرفها إال كهيئة من االنحناءات المخبئة تحت طبقات من الثياب‪.‬‬
‫نك‬
‫وباستحياء‪ ،‬وفي عجب‪ ،‬يمرر أصابعه على ذراعي حتى نهايتها‪ ،‬ث ّم يقول لي‪" :‬إ ِ‬
‫المرأة األولى في حياتي‪".‬‬
‫ّ‬
‫أفز مرتعشة‪" .‬وأنت لي" أقول له‪.‬‬
‫يمرر يده ببطء‪ ،‬وبتوقير‪.‬‬
‫ي أن أنظر‪-‬‬
‫احافظ على سكوني التام‪ ،‬أنفاسي ضحلة‪ ،‬وجسدي بارد‪ .‬ليس عل ّ‬
‫ليطوق س ّرته ويتوسع عند‬
‫ّ‬ ‫للشعر المتناثر على صدره أو للخط الداكن الذي ينحدر‬
‫ي أن أفكر كم أن يديه كبيرتان وخشنتان‪ ،‬وكم أتمنى لو كانتا‬
‫أسفل بطنه‪ .‬ليس عل ّ‬
‫رقيقتين وناعمتين‪ ،‬وكم أن بدنه كان ضخ ًما وعوده صلب‪ ،‬بل ويكاد يكون مخيفًا‪،‬‬
‫بينما سيكون من اللطيف لو كان جسده الئق الهيئة من حيث الرقة والنعومة مع‬
‫جسدي‪ .‬اردد مع نفسي‪ ،‬إنه زوجي‪ .‬يَ ّ‬
‫قطب جبينه‪ ،‬حدة التركيز تظهر على وجهه‬
‫الذي سأتعرف عليه‪ .‬تختلج بعض الذكريات الحاسيس ماضية عبر جلدي‪ :‬ألمرأة‬
‫تحتضنني‪ ،‬وتدندن لي كطفلة‪ .‬تناديني ليزا‪ .‬اإلرجوحة العالية في المتنزه القريب‬
‫حيث كنت أذهب هناك وحدي‪ ،‬الجهد‪ ،‬التسارع‪ ،‬التحليق ثم السقوط والحرية‪.‬‬
‫يت ّسع منخراه‪ .‬يتحسس ردف ّ‬
‫ي‪ ،‬مترد ًدا و َحذ ًِرا‪ ،‬ينقلب التعبير على وجهه الى‬
‫ي‪ .‬على مهل‪ ،‬اخبر نفسي‪ ،‬وأبدأ السقوط في دوامة‬
‫تعبير تعجب‪ .‬تنزلق يده بين ساق ّ‬
‫من الماضي والحاضر‪ ،‬أحلم وأتنفس‪ ،‬أرتجف‪ ،‬خوف بعيد ال أدرك له نقطة تراجع‬
‫ي على إرتياح هائل حين يجرف اإلحساس ك َل شيء‪.‬‬
‫يَلوح في األفق‪ .‬ثم أفتح عين ّ‬
‫ي‪ .‬أحس بالجوع‪ ،‬ثم بالنهم‪ .‬إنها حقيقة‪ ،‬أفكر‪ ،‬أستطيع أن أجبر نفسي على‬
‫أجذبه إل ّ‬
‫االنغماس في هذا قبل أن اقذف عبر الهواء لق ّم ِة جبل تحت نجوم شاهقة‪.‬‬
‫ً‬
‫منذهال‪ ،‬لكنه يندفع بعدها‪ ،‬يلهث‪ ،‬وأنا محاصرة‪،‬‬ ‫يبقي فكه مفتو ًحا فوقي‪،‬‬
‫يداه مثنيتان وقويتان وكذلك ركبتاه بينما يشق طريقه لداخل جسدي بقوة‪ .‬يصيبني‬
‫الذعر‪ ،‬أكز على أسناني‪ -‬ال تتحركي‪ ،‬سيكون كل شيء على ما يرام‪ -‬حتى أتيقّن‬
‫بأنني ال أستطيع تحمل لحظة اخرى‪ ،‬حتى يبلغ إرتعاشه‪ ،‬ويطلق تأوهه‪.‬‬
‫اكتمل شرائي المختوم بعقد الزواج الموقّع‪ ،‬والمبارك سلفًا بمياه الميكفاه‪.‬‬
‫ينهار ليفي إلى جانبي‪ ،‬يرمي برأسه على الوسادة‪ ،‬ويقول‪" :‬يا للروعة"‬
‫ألف ذراعيه حولي وأغرق‬ ‫ياللروعة! ويجذبني قربه‪ .‬ال أزال مصدومة ً‬
‫قليال‪ّ ،‬‬
‫فيهما‪ .‬أحاول نسيان لحظة الشعور بالمحاصرة‪ ،‬وبالنفور بعد أن اقتحمنى‪ ،‬ال داعي‬
‫جردة‪ ،‬وقد تعهد هذا الرجل‬
‫للفهم اآلن إنني بين ذراعيه في هذه اللحظة الهشة والم ّ‬
‫بحياته ليكون ملجأي‪ .‬بعد كل الوحدة‪ ،‬إنه لشيء عجائبي أن أسند ظهري للخلف‬
‫وأن أجد من يسندني‪ ،‬وأن أثق بأحد ثقة كافية تجعلني أفعل ذلك‪ .‬ال تبدو الرغبات‬
‫غير التقليدية ذات أهمية في مقابل هذا األمان‪ ،‬هذا الملجأ‪ .‬أتنفس بعمق‪ .‬ينفرد‬
‫جسدي‪ .‬وقلت‪" :‬لم أكن أعلم كم كنت وحيدة‪ ،‬إال حين لم أعد كذلك‪".‬‬
‫ت وحيدة ً " قال لي‪ .‬يدس أنفه في شعري‪ ،‬يش ّد ذراعيه‪.‬‬
‫"لس ِ‬
‫"إنك تتمتع بلمسة شافية" خرج مني الكالم وفي حلقي غصة‪ .‬وضعت يدي‬
‫على يده وأرحت رأسي على صدره‪ ،‬مكان جديد وصلب وغريب‪ ،‬وقلت له‪" :‬‬
‫يمكنني أن أحبك من أجل هذا‪".‬‬
‫لكن حينها تما ًما‪ ،‬ينسحب ليفي‪ ،‬على نحو فجائي‪ ،‬ويقول لي‪" :‬علينا أن نفترق‬
‫اآلن‪".‬‬
‫"ماذا؟"‬
‫ينهض من السرير‪.‬‬
‫أقول له‪":‬كال!"‬
‫بدا متأسفًا وهو يقول لي‪ Dam niddah" :‬دماء العذرية‪ ،‬إنها الشريعة‪".‬‬
‫ها هو السبب‪ ،‬ذلك الخوف القديم الذي زرعوه في كلينا‪ .‬ينتصب التهديد‬
‫الغامض الذي تش ّكله دماء النساء كجدار بينا‪.‬‬
‫نفسك" يقول ليفي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫"وغطي‬
‫أسحب المالءة الى صدري‪ ،‬أعثر على الشال‪ ،‬وأعقده خلف رقبتي وأقول‬
‫له‪" :‬لكنّني ال أنزف"‬
‫لقد تسلّق شبح والدي لهذا السرير‪.‬‬
‫أراك بعدها‪".‬‬
‫ِ‬ ‫فيجيبني ليفي‪" :‬ال يه ّم ذلك‪ ،‬فما يزال من غير المسموح لي أن‬
‫ث ّم ّ‬
‫يهز كتفيه قائال‪" :‬هناك الكثير من النساء اللواتي ال ينزفن في المرة األولى‪ ،‬لقد‬
‫قرأت ذلك‪ ،‬لكنّنا رغم ذلك‪ ،‬ال نستطيع التالمس الثني عشر يو ًما أخرى‪".‬‬
‫فأجيبه قائلة‪" :‬أنا أعرف الشريعة"‬
‫قرب ضوء الحمام‪ ،‬يلتقط ليفي منشفة يد ليمسح بها بدنه مني‪ .‬يعاين المنشفة‬
‫مليًا بحثًا عن الدم‪ ،‬وال يجد شيئًا‪" .‬إرتدي مالبسك" يقول بنبرة أكثر صرامة‪ .‬أتناول‬
‫قميص نومي من على األرض‪ .‬يرتدي ليفي بجامته ويريح نفسه على السرير‬
‫شخيرا خفيفًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اآلخر‪ ،‬يدير ظهره‪ ،‬ويغط سريعًا في النوم مط ِلقًا‬
‫حتى وقت متأخر من الليل‪ ،‬أظل مستيقظة على فراشي أتساءل كيف كان‬
‫الشعور الرائع بإيجاد المنزل بين ذراعيه خاطفًا كالبرق‪ .‬أوصي نفسي فقط‬
‫باالنتظار حتى موعد ليلة الميكفاه التالية حين نستطيع النوم سوية مجددًا‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫طفولتي تداهمني مجددًا‪ ،‬بخردتها وفوضاها وخياناتها السرية غير المعلنة‪ .‬أفكر‪،‬‬
‫ً‬
‫أطفاال سيشعرون باألمان ألن‬ ‫سنبني بيتًا م ّ‬
‫نظ ًما أساسه الشريعة الطاهرة وسنلد‬
‫قواعد الرب تكفل السلوك الحسن‪ .‬شبكة أمان الرب‪ .‬اوصي نفسي بنسيان عائلتي‬
‫المهاجرة‪ ،‬لم أشعر أبدًا باالنتماء في داالس المعمدانية الشقراء؛ أوصي نفسي‬
‫بنسيان اختالفي الذي يدفع للفضول‪ ،‬وحدتي وحاجتي غير المحددة المعالم‪.‬‬
‫صين‪ ،‬بمباركة الرب‪.‬‬
‫سنكون المنزل واالنتماء الخا ّ‬
‫ّ‬ ‫انضجي‪ ،‬تحلّي بصبر النساء‪.‬‬
‫دفء ليفي وأنفاسه ما زاال عالقين في المالءات‪ ،‬وببطء يغشاني النوم وأنا‬
‫أفكر‪ ،‬هذه هي ليلة زفافنا‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫في أوستن‪ .‬نستحدث عادات لحياتنا‪ .‬نغادر في الصباح الباكر من أجل‬


‫حضور الصفوف‪ .‬تفصلني عن الجامعة مسافةٌ قصيرة ٌ عند قطعها ً‬
‫سيرا عبر شارع‬
‫مانور‪ ،‬أرصفة متصدعة‪ ،‬سيارات مصطفة تطلق مزاميرها تحت جسر آي‪35-‬‬
‫ثم أمر بين ملعب كرة القدم ومكتبة ليندون بنز جونسون (‪ -)LBJ‬ألذهب من أجل‬
‫تمرين التشيلو اليومي في بناية الموسيقى العتيقة التي تفوح منها رائحة الرطوبة‪،‬‬
‫ثم أمضي لحضور الصفوف في الحرم الجامعي المترامي األطراف‪ .‬حولي‪ ،‬تضج‬
‫الساحات بأربعة اآلف طالب يتمشون ويضحكون ويتحدثون ويقودون الدراجات‬
‫ويتسكعون على المساحات العشبية الخضراء وعلى التماثيل القديمة والنافورة وما‬
‫حولهما‪ ،‬يدخلون ويخرجون من البنايات الضخمة بينما أشق طريقي حولهم‪ .‬اتبادل‬
‫التحية مع أحد الوجوه المألوفة‪ ،‬ثم مع شخص آخر أو اثنين من الذين أتحادث معهما‬
‫قبل الدرس‪ّ .‬‬
‫لكن حياتنا ليست ضمن نطاق شؤونهم‪.‬‬
‫في المنزل‪ ،‬نغوص يوميًا في الكتب الحسيدية‪ ،‬نَجهد بفهم العبرية واليديشية‪،‬‬
‫نتشارك كلمة الفكر الحسيدي على طاولة الساباث‪ .‬نمارس تزويق حديثنا بالتعابير‬
‫الحسيدية التي تتعلق باإليمان ونكران الذات‪Baruch hashem. Hakol .‬‬
‫‪ .bidei shamayim‬فليتبارك الرب! كل شيء في يد السماء‪.‬‬
‫يعودني على دوري‪ ،‬مثل ِمب َرد مسلّط‬
‫الهذر المتزايد بالذنب للتربية الحسيدية ّ‬
‫لتشذيب حوافي الخشنة على نحو منتظم‪ .‬عندما أحتاج ً‬
‫ماال‪ ،‬أطلبه بكل تواضع من‬
‫ّ‬
‫وأحث‬ ‫ليفي‪ .‬لقد تركته يقرر الوقت الذي سنأكل فيه أو نوعية الطعام الذي سنتناوله‪،‬‬
‫فالمب َرد في يدي أنا‪.‬‬
‫نفسي على استخدام نبرة تتسم باالحترام‪ .‬لم يطالبني هو بذلك‪ِ ،‬‬
‫أما حين يتعلق األمر بليفي‪ ،‬فثمة أوقات‪ ،‬حين أترك له فيها القرار‪ ،‬يبدو فيها‬
‫مترددًا ومرتابًا وم ً‬
‫ثقال‪ .‬لعله يشعر بالخوف أو بالوحدة‪ ،‬لكنه على نحو مفاجيء‬
‫ي بعض العون‪ ،‬لكنني‬
‫يحمل هذا الثقل الجديد باتخاذ القرار لوحده‪ .‬يتأمل أن يجد ف ّ‬
‫ال أمد له يدًا وال أعطيه كلمة بالنصح أو بالدعم‪ .‬أنتظر‪ ،‬ثم يسحب نَفَسه لألعلى‬
‫سحبًا كما لو كان األمر يتطلب مجهودًا عظي ًما ثم يصدر كلمته الفصل‪.‬‬
‫أستفيق وأنا أشعر بثقل في صدري‪ ،‬أستفيق كل صباح في مواجهة الجدران‬
‫البيضاء الفارغة‪ .‬يغادر ليفي سريره بعجالة بعد ساعات قليلة من النوم‪ ،‬يغتسل‪،‬‬
‫كبيرا من الصلوات‬
‫ويرتدي مالبسه‪ .‬ثم سرعان ما يلقي عليه شال الصالة ويتلو ك ًّما ً‬
‫والمزاميز العبرية التي يجب أن يغطيها يوميًا‪ .‬تظل اللغة عصيّةً عليه‪ ،‬ونطقه ًشاقًا‬
‫وبطيئًا‪ ،‬ولذا فإنه يحني رأسه على الكتاب‪ّ ،‬‬
‫يقطب جبهته‪ ،‬في صورة عن العزم‬
‫المرهق المبذول طوال ساعات مضجرة وال يبدو بأن هذه الصورة ستصبح أكثر‬
‫سرا‪ .‬سيبقى كتاب الصالة معه عندما يغادر لحضور الصفوف‪ ،‬وسيختلي به أكثر‬
‫ي ً‬
‫عند كل فرصة تسنح له خالل يومه‪ ،‬وكل هذا من أجل أن يجد نفسه يحيا خلف‬
‫جدار من الصالة‪.‬‬
‫وألننا منفصالن في أدوارنا المحددة سلفًا‪ ،‬أبدأ باإلحساس بغياب العفوية‬
‫والتقييد وثقل الخطى والوحدة‪ .‬يزداد هدوئي‪ ،‬وأصير مترددة‪ .‬ال نتبادل أنا وليفي‬
‫مع بعضنا سوى بضع كلمات‪ ،‬وكل منا يندفع الى عاداته اليومية المستقلة‪ .‬ويبدو‬
‫أن كلينا غير مدركين لعلّ ِة حدوث ذلك‪.‬‬
‫في المنزل‪ ،‬يكون خيار الموسيقى‪ ،‬عندما نحظى برفاهية هذا الخيار‪ ،‬في‬
‫الخاص بي لبناية الموسيقى وأغلق على نفسي في واحدة‬
‫ّ‬ ‫يَ ِده‪ .‬كل يوم أحمل التشيللو‬
‫من غرف التمرين‪ .‬هناك حيث أستطيع قضاء الساعات في جعل كل وتر يهتز‪،‬‬
‫والقوس الممسوح بصمغ الصنوبر "الروزن" يطلق نوتات رنانة طويلة وحرة‪.‬‬
‫وسحرا‪ .‬فقط عندما‬
‫ً‬ ‫تصبح كل سلمة في أي سلّم موسيقي بسيط َ‬
‫أكثر تعقيدًا وإمتال ًء‬
‫أكون وحيدة في تلك الغرفة الصغيرة المقفرة أجعل التشيللو يغني‪.‬‬

‫أع ّد األيام حتى موعد الميكفاه‪ ،‬لكن وقبل أن أتمكن من العودة إليها‪ ،‬عاودتني‬
‫دورتي الشهرية‪ .‬تنبض أيامي بإيقاع الع ّد الذي فرضته علينا الشريعة‪ ،‬وبذكرى‬
‫ي ليفي‪.‬‬
‫اضطجاعي بين ذراع ّ‬
‫ليال على الطريق السريع لمسافة تسعين ً‬
‫ميال على آي‪35 -‬‬ ‫نقود السيارة ً‬
‫جنوبًا نحو سان انتونيو من أجل استعمال الميكفاه األقرب إلى منزلنا‪ ،‬حيث توجد‬
‫واحدة صغيرة في منطقة خ َِربة من البلدة التي تقع خلف َمجمع رودفي شالوم‪،‬‬
‫الكنيس األرثودوكسي القديم‪ .‬يفترض أن يكون المشرفون على الميكفاه من النساء‪،‬‬
‫ّ‬
‫لكن حاخام سان أنتونيو‪ ،‬الحاخام كورنبلث‪ ،‬ارتأى أن يصحبني ليفي ألن المنطقة‬
‫غير آمنة في الليل‪ .‬كما ّ‬
‫أن زوجته‪ ،‬يقول الحاخام وهو يكتم ضحكته‪ ،‬قد أعلنت قبل‬
‫وقت طويل بأنها ليست حارسة للميكفاه‪.‬‬
‫نتوقف أنا وليفي عند منزل كورنبلث حتى نأخذ المفتاح‪ .‬كالنا يشعر بالضيق‬
‫من هذا التصريح الفاضح الذي يعلن بأن هذه الليلة هي ليلة الميكفاه‪ ،‬كما لو أننا‬
‫نتوقف لنعلن بأننا سنمارس الجنس هذه الليلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫فيطل‬ ‫نقابل الحاخام كورنبلث وزوجته على باب دارهم المفتوح جزئيًا‪،‬‬
‫وجهاهما مثل قمرين متجاورين‪ .‬أقف خلف ليفي مخفيةً نصف بدني‪" .‬لقد أتينا فقط‬
‫من أجل المفتاح" يقول ليفي‪ ،‬لكنهما يفتحان الباب على مصراعيه ليقوال‪ ":‬تفضّال‬
‫بالدخول‪ ،‬ادخال!" وسرعان ما نجد أنفسنا جالسين على أريكتهم التقليدية‪ ،‬ونضع‬
‫األكواب الصينية الرقيقة التي قدم لنا فيها الشاي الخفيف على الصحون ذات‬
‫الحافات الذهبية‪.‬‬
‫كان الزوجان كورنبلث كبيري السن‪ ،‬في الخمسينيات من عمرهما على أقل‬
‫تقدير‪ .‬وعلى عكس الذقون الحسيدية التي ال تمسها شفرة الحالقة‪ ،‬قام الحاخام‬
‫بتشذيب لحيته الى حد قصير‪ .‬يتطلّع االثنان في ليفي فحسب ويخاطبانه هو فقط‪،‬‬
‫حتى السيدة كورنبلث بسروالها الفضفاض تسأله‪" :‬ماذا تدرس؟"‬
‫يجيبها‪" :‬المحاسبة‪ ،‬وأعد لرسالة الماجستير في إدارة األعمال‪".‬‬
‫على نحو ما‪ ،‬افضل كوني انثى غير مرئية‪ ،‬وأال تلمحني أي عين‪ .‬إذ يتوارى‬
‫ب وجودنا هنا‪ ،‬والمتمثل برغبتي في الغطس‬
‫خلف جلسة الشاي هذه فه ٌم مضم ٌر لسب ِ‬
‫في الميكفاه‪ .‬إنني متأكدة بأن ذلك يخلق على نحو محتَّم صورة ً مشتركةً في ذهن‬
‫ك ِل َمن في الغرفة‪ ،‬أقف فيها عارية أمامهم هناك على السجادة الفارسية‪" .‬أترغب‬
‫ببعض السكر؟" تسأل زوجة الحاخام ليفي‪.‬‬

‫نصل للكنيس بعد حلول الظالم بفترة‪ .‬البناية القديمة المزخرفة ماثلةٌ في‬
‫الظل‪ ،‬وهي كبيرة للغاية‪ ،‬هذا ما قيل لنا‪ ،‬بالنسبة لرعيتها المسنّين اآلخذين‬
‫بالتناقص‪.‬‬
‫المنطقة التي تحيط بالبناية رديئة اإلضاءة‪ ،‬وكذلك هو الحال مع الشرفة‬
‫الواسعة المتصدعة‪ .‬يتج ّهم ليفي ويقلقل المفتاح في القفل القديم‪" .‬سنتعرض للسرقة"‬
‫أهمس‪ ،‬وأنا أراقب الشارع الفارغ‪ ،‬فيجيبني‪ "Shluchei mitzvah" :‬أي ال‬
‫تقلقي‪ .‬كتفاه مشدودتان‪ ،‬لكن ليس هناك خطر على أولئك المنخرطين في تنفيذ أحد‬
‫وصايا الرب‬
‫أخيرا‪ ،‬نمشي على أطراف أصابعنا عبر البهو الخالي‪،‬‬
‫ً‬ ‫تمكنّا من الدخول‬
‫حيث تتدلى شاالت الصالة من على الجدار كما لو أنها أكياس نوم‪ ،‬وعبر البهو‬
‫نصل الى الباب المفضي الى حمام النساء‪ .‬ينظر أحدنا الى‬
‫الذي يتردد فيه الصدى ِ‬
‫باب آخر يقع على يمين الميكفاه‪ " .‬يا إلهي" يقول‪.‬‬
‫اآلخر‪ .‬يفتح ليفي الباب‪ ،‬ث ّمة ٌ‬
‫ال بد أن أحدًا كان قبلنا هنا‪ ،‬األرضية مبللةٌ‪ ،‬وقد تٌركت المدفأة الكهربائية‬
‫مشتغلة‪ ،‬الملفات ذات التوهج الضعيف والسلك المهتريء في بركة من الماء‪.‬‬
‫فينتزع ليفي السلك من المقبس‪.‬‬
‫لم يكن وجود المدفأة فارقًا على كل حال‪ .‬الحجرة الباردة‪ ،‬والتي ال تتسع‬
‫سوى للحوض الصغير‪ ،‬ضيقة وشديدة الرطوبة‪ ،‬ويغطي جدرانها المكسوة بالقرميد‬
‫بريق الرطوبة‪ .‬أنحني أللمس الماء فأجفل‪ .‬ثم أقف‪ ،‬ثابتة العزم‪" .‬استدر" أطلب‬
‫من ليفي‪ .‬ربما قد قضى الحاخام بأن يكون ليفي مرافقي‪ ،‬حتى لو كان ذلك يعني‬
‫بأنه سيراني متجردة من ثيابي قبل الغطس‪ ،‬لكننا نستطيع الحد من انكشافي أمام‬
‫ليفي‪ .‬أدرت ظهري ألتجرد من مالبسي‪ ،‬أنزع عني غطاء الرأس وأمرر أصابعي‬
‫في شعري القصير‪.‬‬
‫فاترا‪ ،‬بل باردًا‪ .‬ارغم نفسي على النزول للماء‪ ،‬وليفي يشاهدني‬
‫لم يكن الماء ً‬
‫من على القاطع الداخلي‪.‬‬
‫تحت الماء‪ ،‬تمنعني شدة البرودة من التفكير برمزية هذا الطقس ومحاولة‬
‫تحويل القانون إلى حالة خشوع وتالوة صالوات‪ .‬الوالدة الجديدة كل شهر‪ ،‬والسماء‬
‫السابعة والخروج من الماء المقدس إلى الطهارة‪ ،‬كل األفكار الحالمة التي كانت‬
‫تحلّق خالل تجربتي اإلولى في الميكفاه‪ ،‬كلها تبدو غير ضرورية في ظل الوضوح‬
‫الشديد لطقس الغطس البارد هذا‪ .‬فال مجال هنا لألحالم واألفكار‪ .‬فما يبقى هو‬
‫الطاعة السريعة‪ .‬وصية الرب‪ .‬لماذا‪ ،‬أفكر‪ ،‬إنه القانون‪ ،‬هذا الغطس في المياه‬
‫الباردة؛ هو المطلوب‪ .‬الطاعة المقدسة‪ .‬التضحية‪ .‬ال أبذل جهدًا في الخشوع‪ .‬أصعد‬
‫لألعلى اآلن‪ ،‬فوق سطح الماء من أجل التنفس‪ ،‬مبتلّة وأرتجف‪ ،‬أدمدم كلمات‬
‫المباركة في الهواء الرطب‪ ،‬فيردد ليفي ورائي من األعلى‪" :‬آمين" بما يشبه التأييد‪،‬‬
‫لكنه يلفظها آو َمين‪.‬‬
‫أف ّكر‪ ،‬ل ّكنه يشعر بالدفء بالمالبس التي تكسوه‪ .‬أحمل نفسي على النزول‬
‫أسفل الماء‪ .‬المجهود الذي أبذله في االرتعاش الشديد يملؤني بعنفوان ديني‪ .‬إلى‬
‫ي وأتفوه من غير تفكير بلسان‬
‫األعلى مجددًا‪ ،‬تصطك أسناني‪ ،‬ألزيح الماء عن عين ّ‬
‫عبري سريع‪":‬لتكن مشيئتك إلهي في إعادة بناء الهيكل" ‪bimheirah‬‬
‫‪ ،beyameinu‬ويستجيب ليفي بالرد السريع والتلقائي"آمين‪".‬‬
‫نحن آالت الرب‪ ،‬نعمل بأمر الرب‪ .‬أنزل مجددًا تحت الماء بقوة جديدة‪ ،‬ثم‬
‫أصعد‪ ،‬وأنزل‪ ،‬سبع مرات كاملة‪ ،‬اخبر نفسي‪ ،‬سأكتسب قوة من هذا‪ .‬ثم أقف للمرة‬
‫األخيرة‪ ،‬ورأسي مرفوع فوق الماء‪ ،‬أرتجف بشدة ال أستطيع معها الكالم‪.‬‬
‫طاهرا من أجل زوجي‪ .‬يفرد ليفي المنشفة ويرفعها‪ ،‬كما فعلت‬
‫ً‬ ‫يعود جسدي‬
‫سيما ذات مرة‪ .‬أصعد درجات السلّم‪ ،‬وقطرات الماء تتساقط مجددًا من جسدي‬
‫المبلل‪ ،‬أسحب منه المنشفة‪ ،‬وأرتدي مالبسي‪ ،‬ونخرج إلى السيارة‪ .‬نتوقف لن ّدس‬
‫المفتاح في صندوق بريد آل كورنبلث‪ ،‬ثم نقود السيارة لمسافة تسعين ً‬
‫ميال على‬
‫الطريق السريع ً‬
‫ليال‪ .‬غريبين نمر‪ ،‬قاطعين تكساس كانتري َه ّل‪ ،‬بسكانها شحيحي‬
‫الكالم‪ ،‬وأراضيها الوفيرة باألنهار‪.‬‬
‫يحدث شيء خالل ممارستنا للجنس تلك الليلة في شقتنا الطالبية الصغيرة‬
‫التي تقع قرب حرم جامعة تكساس‪ ،‬وهي المرة الثانية التي نمارس فيها الجنس‪ .‬إذ‬
‫يبدو بأنني ال أستطيع أن أتجرد من طبعي المذعن المستسلم‪ ،‬وال أستطيع أن أتحرر‬
‫من الوضعية التلقائية لألنثى المتدينة‪ .‬أشعر بأنني هامدة ٌ وفاترة العاطفة‪ ،‬رغم‬
‫استجابة جسدي‪ ،‬وطيلة الوقت أشعر بغصة فقدان في حلقي كما لو أنني ابتلعت‬
‫شيئًا ما‪ .‬ولكن في النهاية عندما يعتليني ليفي‪ ،‬عندما تسيّجني ركبتاه ويداه القويتان‪،‬‬
‫ال أشعر بأنني محاصرة هذه المرة‪ ،‬ال أشعر بالكثير من أي شيء‪ .‬لكن في وقت‬
‫متأخر من تلك الليلة في فراش ليفي‪ ،‬وبينما أشرع في الخلود إلى النوم الى جانبه‪،‬‬
‫يجذبني قربه ويطوقني بذراعيه مجددًا‪ .‬استكين على الوسادة التي يحل لنا اآلن أن‬
‫نتشاركها ونتنفس الصعداء‪ .‬تهدأ األنفاس‪ ،‬تنتهي الوحدة الطويلة‪ .‬كم من الوقت‬
‫انتظرت ألعود الى هذا‪ ،‬أفكر‪ ،‬هذا الملجأ اآلمن‪ .‬يغشى النوم ليفي حينها‪ ،‬وهو‬
‫يطوقني بذراعيه‪ ،‬وصدره في صعود وهبوط بطيء‪ ،‬وأنا أشكر الرب على انقضاء‬
‫أيام االنفصال‪ .‬يخطر لي‪ ،‬هل هذا هو الحب؟ أرغب أن يكون هذا هو الحب‪ .‬أخبر‬
‫أخيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نفسي‪ ،‬أنا في المنزل‬
‫صفرة‪.‬‬
‫يتسلل ضوء الشمس الصباحية عبر األلواح الخشبية للستائر الم ّ‬
‫أستيقظ وبداخلي إحساس بأنني متورطة في أمر ما‪ .‬ثم أعتدل جالسة وأنا في حالة‬
‫هلع تام‪ .‬فم ليفي مفتوح أثناء نومه‪ ،‬وقد سقطت يارمولكته الليلية من على رأسه‪.‬‬
‫أستدير‪ ،‬تتسارع نبضات قلبي‪ ،‬أحاول أن ألتقط أنفاسي‪ .‬ما هذا الصندوق؟ ال يبدو‬
‫بأنني قادرة على الخروج من هذا الصندوق‪ .‬طوفان من كل شيء كنت قد رصصته‬
‫يتصاعد من حولي‪ ،‬ويجتاحني‪ .‬اهمهم‪ِ " :‬ل َم لَم افكر؟" ألهث وأقفز من السرير‪.‬‬
‫ألتف وأسحب ذراع ليفي‪ ،‬أهز كتفه وأقول له‪" :‬هيا استقيظ!"‬
‫"مـه‪ -‬ماذا؟" يسألني‪ ،‬وهو يغالب النوم‪ ،‬وقد اخشوشن صوته من أثره‪.‬‬
‫"ما األمر؟"‬
‫" ِل َم لَم افكر؟ ِل َم لَم أعرف؟" أقول‪" .‬لكنني عرفت‪ .‬بالطبع كنا نعرف‪".‬‬
‫يسألني وهو يرفع جسده مستندًا إلى أحد مرفقيه‪" :‬ماذا نعرف؟ ماذا؟"‬
‫أقف أمامه‪ ،‬أهز كتفه قائلة‪":‬لقد مارسنا الجنس ليلة أمس!"‬
‫يسألني‪" :‬ث ّم ماذا؟"‬
‫"ولم نقم…‪ .‬لسنا قادرين على استعمال وسائل منع الحمل!"‬
‫"ثم ماذا؟"‬
‫" ِب َم كنت افكر؟ ال يمكنني إنجاب طفل!"‬
‫"ال أعتقد…" يقول لي‪" :‬ولكنك تعرفين ذلك تمام المعرفة‪".‬‬
‫"لقد كنت منهمكة بأمور الزفاف!" أقول‪.‬‬
‫لقد كنت منساقةً مع حلم الزفاف ومع مباركة الحاخام ووصيته‪ :‬تزوجي‪،‬‬
‫كوني فتاة حسيدية صالحة‪ ،‬افعلي الصواب‪ .‬لن يقرب األذى أولئك الذين ينفذون‬
‫أي ميتزفاه (الواجب الديني)‪ .‬البهجة في جو الزفاف‪ ،‬صورة غبشاء لعائالت‬
‫سعيدة‪ ،‬العائلة التي سنحظى بها والتي ستكون لي كل شيء لم أمتلكه‪ .‬لكن هذا كلَّه‬
‫يبدو مختلفًا على حين غ َّرة‪ ،‬مختلفًا للغاية‪ ،‬عن األطفال الحقيقيين الذين من الممكن‬
‫أن يتش ّكلوا داخل أحشاء فتاة ذات تسعة عشر ربيعًا مثلي‪ ،‬طالبة جامعية مثلي‪ ،‬بل‬
‫ربما قد تش ّكل أحدهم بالفعل في داخلي‪ً ،‬‬
‫طفال سيستحوذ على حياتي‪ ،‬ويعطلني عن‬
‫طفال لن أعرف كيف أعتني به‪ً ،‬‬
‫طفال قد أسبب له األذى‪ .‬أؤذيه كما اوذيت‬ ‫الدراسة‪ً ،‬‬
‫أنا من قبل‪ .‬سأرتكب كل أخطاء أمي‪ ،‬وأضيف‪ " :‬ال يمكنني فعل هذا!" إنني‬
‫أرتجف‪ .‬أهز ليفي بكلتا يدي وأقول‪ " :‬ال يمكن!" ث ّم أجلس وأبدأ بالنشيج‪ " .‬ال طاقة‬
‫لي على ال َحمل‪ ،‬األمر يفوق احتمالي بكثير‪ .‬ما الذي فعلناه؟"‬
‫يجلس ليفي‪ ،‬يحاول أن يهتدي ليامورلكته‪ ،‬ثم يلهث ً‬
‫قليال‪ ،‬وتتسع عيناه‪ .‬يضع‬
‫يده على ذراعي ويهمس‪ " :‬أتعتقدين بأنك حبلى؟ بالفعل؟"‬
‫فأجيبه نادبةً‪" :‬ال أعلم"‬
‫ي صوتها وهو‬
‫خيّل لي بأنني أسمع أمي تنادي‪ :‬ليزا‪ .‬ليزا! يتردد في أذن ّ‬
‫تقول‪ :‬ليزا‪ ،‬تعالي للمنزل‪ .‬أنصتي إلي‪.‬‬
‫لم أعد ليزا‪ ،‬اخبرها‪ .‬ف ِل َم إذن أشعر بأنني عالقة داخل "ليا" هذه‪ ،‬كما لو أنني‬
‫ال أعرف حتى من هي أو أين أنا؟‬
‫ليزا‪ ،‬تهمس لي أمي‪.‬‬
‫أحاول أن اف ّكر مع نفسي بمنطقية‪ّ .‬‬
‫إن كوني ليا يعني بأن أصبح أ ًما‪ .‬ولقد‬
‫كنت على علم بذلك منذ البداية‪.‬‬
‫ت حبلى‪ ،‬فلن تستطيعي المغادرة‪ .‬ال يمكنك العودة للمنزل‪.‬‬
‫إن أصبح ِ‬
‫نك لم تعودي لي " ً‬
‫منزال" ليفي هو‬ ‫ال يمكن أن يكون ذلك صحي ًحا‪ ،‬أخبرها‪ .‬إ ِ‬
‫منزلي‪.‬‬
‫أضع خاتمي‪ .‬لكني لم أعد أتأرجح بين األمس واليوم‪ ،‬بين ليزا وليا‪ .‬إنني‬
‫أعرف من أنا‪ .‬ف ِلم ينتابني الهلع؟ (تعالي للمنزل!) حينما أفكر بكوني حبلى‪ِ ،‬ل َم أرى‬
‫نفسي أندفع بهذا الطريق عبر متاهة الشريعة اليهودية التي ال مخرج لها؟ (ليزا!‬
‫أنصتي! تعالي!) أين المنزل؟ (لقد أخبرتك بذلك‪ ،‬تهمس لي‪).‬‬
‫وحتى لو كنت بعيدة عنها‪ ،‬فإنجاب طفل قد يجعلني نسخة عنها‪.‬‬
‫ال بد أن يكون هناك مخرج من هذا‪.‬‬
‫يقول ليفي بنبرة متّزنة‪" :‬كان عل ّ‬
‫ي أن أتدارس أحكام الزواج قبل زفافنا‪،‬‬
‫الشريعة ليست صارمة للغاية حقًا‪ .‬ففي بعض األحيان تجاز موانع الحمل إن كن ِ‬
‫ت‬
‫ضارا بك‪".‬‬
‫ًّ‬ ‫مريضة والحمل قد يكون‬
‫ً‬
‫حامال" أقول‪" .‬أموت من الداخل‪".‬‬ ‫"سأموت لو أصبحت‬
‫يحاول ليفي استرضائي بإظهار التساهل‪ " :‬إن كانت الشريعة تقدم رخصةً‪،‬‬
‫فليس في هذا مخالفةً للشريعة‪ ،‬إن كن ِ‬
‫ت مريضة" ث ّم يطرح هذا مجددًا‪ " :‬كما تعرفين‬
‫هناك الـ "‪" v’chai bahem‬‬
‫إن الـ"‪ "v’chai bahem‬هو بمثابة وعد ووصية‪ ،‬ستعيش تحت ظل‬
‫األحكام‪ ،‬وستساعدك الشريعة على العيش‪ .‬هذا ما تعلمناه‪ ،‬إن الشريعة اليهودية‬
‫قاسيةٌ وعطوفةٌ‪ ،‬صارمة ومرنةٌ‪ .‬الشريعة بمثابة والد صالح‪.‬‬
‫يبدو واض ًحا بأن ليفي يرغب بالبحث عن رخصة شرعية‪ .‬ولديه إيمان‬
‫بوجود واحدة مناسبة لنا ضمن حدود الشريعة‪ .‬أفكر‪ ،‬إنه يتخذ صفي في هذه‬
‫المسألة‪ .‬في ّخف هلعي ً‬
‫قليال‪.‬‬
‫صرح ليفي فيما لو كان يريد ً‬
‫طفال أم ال‪ ،‬لكنني ال أتوقع أنه يرغب بذلك‪.‬‬ ‫لم ي ّ‬
‫إذ إن رغبته من عدمها ليست بذات أهمية‪ ،‬بل وإنها غير الئقة حتى‪ .‬فاألطفال‬
‫ليسوا محل اختيار‪ ،‬إنهم عطايا الرب‪ .‬أف ّكر‪ :‬لكنّه قد يكون خائفًا أي ً‬
‫ضا‪ ،‬فنحن ال‬
‫نملك المال‪ ،‬وزوجته ليست مستعدة إلنجاب طفل ورعايته‪ .‬ثمة دوامة أخرى‪.‬‬
‫"ماذا؟ الشريعة تعطي رخصةً للمرضى؟ ولكنني لست مريضةً" أقول له‪" :‬إنني ال‬
‫أستطيع أن أطيق الفكرة ليس إال‪ .‬فما النفع الذي يمكن أن أجنيه من رخصة تمنح‬
‫للمرضى؟"‬
‫ينهض ليفي‪ ،‬حافيًا يرتدي بجامة النوم وقميصه الداخلي الذي نام فيه‪ ،‬ويضع‬
‫عليهما صدرية التزيتزيت‪ ،‬التي تتدلى خيوطها البيضاء حتى ركبتيه‪ ،‬ويعاود ارتداء‬
‫يارموكة النوم المحاكة على رأسه‪ .‬يتراءى لي خياله العاري وهو يعتليني في الليل‪.‬‬
‫ي كتاب" يقول لي‪" .‬أتذكر شيئًا قرأته فيه‪ ".‬يذهب إلى مكتبته ويلتقط‬
‫"إنتظري‪ .‬لد ّ‬
‫عا بالعبرية‬
‫مجلدًا من على رف الكتب المثبت على الجدار‪ ،‬كان عنوان غالفه مطبو ً‬
‫واإلنكليزية‪ .‬يخلي موضعًا على منضدته ويجلس ليقرأ‪.‬‬
‫أفرش أسناني‪ّ .‬‬
‫لكن‬ ‫ألرش بعض الماء على وجهي‪ ،‬أحاول أن أتنفس‪ّ ،‬‬
‫أذهب ّ‬
‫ي ثقيلة‪.‬‬
‫الدقائق تمر عل ّ‬
‫وسرعان ما يخرج من المكتبة والكتاب مفتوح بين يديه‪ ،‬ويقول لي‪" :‬انظري‬
‫لهذا‪ ،‬يستلزم الحمل عالقة روحانية بين األب واألم والرب‪ .‬إن عرقلة تلك العالقة‬
‫بإيقاف العملية الطبيعية هو معارضة لمشيئة الرب‪ ،‬وهو إث ٌم عظي ٌم‪".‬‬
‫"يا للهول!" أرد قائلة‪.‬‬
‫"انتظري" يقول ليفي وهو يقلب الكتاب على صفحة اخرى‪" :‬يبدو بأن هناك‬
‫أوقات ًا أجاز فيها الراف موشيه موان َع الحمل‪ .‬أنصتي‪ ،‬يقرأ لي‪" :‬على الرغم من‬
‫تحريم الواقي الذكري‪ ،‬فقد قضى الحاخام موشيه فينشتاين بأن األنواع األخرى من‬
‫موانع الحمل التي تش ّكل عائقًا بسي ً‬
‫طا وال تعرقل العملية الطبيعية عن طريق قتل‬
‫النطف أو منع اإلباضة يمكن السماح بها إذا كان هذا ضروريًا من أجل سالمة‬
‫األم" يتمعّن في الكتاب‪ ،‬ويضيف‪" :‬مثل الغشاء العازل لمنع الحمل‪".‬‬
‫يبزغ أمامي بصيص من األمل‪ ،‬فأقول‪" :‬من أجل سالمة األم‪ .‬هل سالمة‬
‫األم العقلية جزء من هذا؟" وحينها أدرك ممن يقتبس ليفي‪ .‬لحظة!‪" :‬هل يجيز راف‬
‫موشيه هذا؟" أقول وينتابني الهلع مجددًا‪.‬‬
‫لقد استغرق األمر لحظات حتى أعي هرم التراتبية‪ ،‬فهناك الحاخامات‬
‫العاديون‪ ،‬مثل الحاخام فرومان‪ ،‬الذين يقودون المحافل الفردانية كرعاة روحانيين‪.‬‬
‫ضا‬
‫وهم أشبه بمحامين مؤهلين بنقل معرفة الخبراء في الشريعة ألتباعهم‪ .‬لكنهم أي ً‬
‫يحتكمون إلى راف‪ ،‬وهو حاخام أقرب ما يكون لقاض‪ .‬فبإمكان الراف الحكم في‬
‫التطبيقات المستجدة للشريعة أو تفكيك النزاعات الشائكة بين الناس‪ ،‬أو منح‬
‫اإلعفاءات‪.‬‬
‫أما بالنسبة لل َحبر فهو حاخام وراف في ذات الوقت‪ّ ،‬‬
‫لكن ال َحبر يختار النأي‬
‫بنفسه عن كل هذا‪ .‬فهو مرشدنا ومصدر إلهامنا‪ ،‬لكن حينما يكتب له الناس عن‬
‫مشاكلهم التي يمكن معالجتها ضمن نطاق الشريعة‪ ،‬فإنه يرد عليهم بجملة‪" :‬اسألوا‬
‫رافًا"‬
‫الراف موشيه فينشتاين‪ ،‬الذي استعان ليفي بكتابه‪ ،‬هو شخصية مب ّجلة بين‬
‫لكن الحسيديين الذين ال يتّبعون لوبافيتشر ال‬
‫ّ‬ ‫األرثودوكس غير الحسيديين‪،‬‬
‫يمتدحون تساهالت الراف موشيه ورأفته‪ ،‬رغم أنه من المعروف عن ال َحبر ذاته‬
‫قيامه بإرسال الناس إلى الراف موشيه للحصول على أحكامه الليّنة‪ .‬ال َحبر فقط من‬
‫بإمكانه تطويع الشريعة بتلك الطريقة‪ .‬وفيما عدا ذلك‪ ،‬يجب أن نلجأ الى أحكامنا‪.‬‬
‫يعبس ليفي قائال‪ " :‬ربما علينا أن نسأل رافًا من لوبافيتشر ً‬
‫أوال"‬
‫فأسأله‪" :‬هل بإمكاننا أن نعثر على من يتفهم؟"‬
‫يجيب ليفي‪":‬سنذهب الى الصفوة وسنسأل الراف األعلى للوبافيتش‪ .‬فنحن‬
‫ضا من الحسيدية التي تتبع لوبافيتشر‪ .‬سيقوم باإلهتمام بأمرنا‪".‬‬
‫أي ً‬
‫من المؤكد أن ليفي هو من سيقوم باالتصال ويطلب المشاورة‪ .‬كما أن ليفي‬
‫هو من يخبر الراف‪ ،‬بعد انتظار عصيب من كلينا‪ّ " :‬‬
‫إن زوجتي غير قادرة على‬
‫إنجاب طفل‪ ".‬ليفي هو من يشرح المشكلة‪ ،‬مشكلتي‪ .‬وأنا أنصت في صمت خجول‬
‫بانتظار قرار الحاخام بخصوص جسدي وحياتي‪.‬‬
‫فير ّد عليه الراف‪" :‬إذن ما الذي تريده؟"‬
‫يجيب ليفي متسائال‪ ":‬هل بإمكاننا استخدام بعض أنواع موانع الحمل؟"‬
‫"نحن ال نفعل ذلك" يجبيه الراف بنبرة مزردية‪ ،‬يتبعها صمت دال على‬
‫االستخفاف‪.‬‬
‫يفقد ليفي قدرته على الكالم ويسطو عليه ذلك الصمت المعهود‪ ،‬فال يجادل‪،‬‬
‫وال يدافع عني‪.‬‬
‫سا عميقًا وأسمح‬
‫نختبر وقفة محرجة‪ ،‬قلبي يخفق‪ ،‬أنتظر فَ َر ًجا‪ .‬ثم أسحب نفَ ً‬
‫وغرا‪ ،‬وكل كلمة ممزوجة بمعصية قلة‬
‫ًّ‬ ‫لنفسي بالكالم‪ ،‬فيبدو صوتي غير طبيعي‬
‫حيائي المتمثل بالجهر برأيي‪ّ .‬‬
‫لكن كل كلمة هي خطوة اخرى لألمام عبر درب‬
‫غير مألوف‪ .‬ويو ًما ما‪ ،‬سأتذكر ذلك‪ ،‬وأتذكر كيف حدث‪ ،‬أقول للراف‪ " :‬لحظة‪،‬‬
‫ماذا لو كان هناك احتمال بتعرض المرأة لألذى؟"‬
‫فيجيب الحاخام‪" :‬ذلك أمر مختلف‪ ،‬لكنني حينها سأحتاج لرسالة من طبيب‪".‬‬
‫ّ‬
‫وكأن رأيي عن جسدي غير كاف‪ " .‬ماذا لو كانت (المرأة) سليمة‬ ‫طبيب!‬
‫جسديًا" لكن ال قدرة لها على احتمال الـ… الـ؟"‬
‫" هل تتحدثين عن الضرر النفسي؟" يقول الراف‪.‬‬
‫اجيبه‪ّ " :‬‬
‫أظن ذلك"‬
‫فيضحك متسائال‪" :‬هل تريدين رخصة لمخالفة الشريعة ألن األمومة شاقة؟"‬
‫ال ينطق كالنا‪ ،‬يفيض الصمت بعدم جاهزيتي كزوجة وكامرأة متدينة وكأم‬
‫أخيرا‪" :‬لكنّني قرأت ‪-‬لكننا قرأنا‪ّ -‬‬
‫بأن الراف‬ ‫ً‬ ‫بالضعة‪ .‬أنطق‬
‫ِّ‬ ‫مستقبلية‪ ،‬أشعر‬
‫موشيه…"‬
‫"حسنًا إذن‪ ،‬فلتتصلي بالراف موشيه‪ ".‬يجيبني الحاخام واالنزعاج واضح‬
‫في نبرة صوته‪.‬‬
‫ي باب الحمام وأتخذ موضعًا في‬
‫أوصد عل ّ‬
‫ِ‬ ‫في إحدى الليالي بعد شهرين‪،‬‬
‫المساحة بين المرحاض وحوض االستحمام‪ ،‬وخلفي‪ ،‬الستارة النايلون المبللة والتي‬
‫ما تزال قطرات الماء تتساقط منها إثر االستحمام الصباحي‪ .‬لقد اتصلنا بالراف‬
‫موشيه في المساء الذي تال ذلك اليوم‪ .‬لم يكن من المسموح لنا التحدث مباشرة ً‬
‫معه‪ ،‬لكننا تحدثنا مع ابنه‪ ،‬ووكيله‪ ،‬بينما كان الراف الكبير يصدر األحكام بجانبه‪.‬‬
‫ً‬
‫أطفاال يهودًا في بهجة‪...‬‬ ‫يتحدّث إلينا االبن‪" :‬يقول والدي بأنك ستنجبين‬
‫ويقول إن بوسعك استخدام الغشاء العازل لمنع الحمل لمدة عام إبتدا ًء من تاريخ‬
‫ّ‬
‫وأهز شعري‬ ‫اليوم‪ ".‬واآلن‪ ،‬وبعد شهرين‪ ،‬انزل غطاء المرحاض‪ ،‬أخلع شالي‪،‬‬
‫اآلخذ في النمو إلى الخلف وأبعده عن وجهي‪ .‬ينتظر ليفي في الغرفة االٌخرى‪.‬‬
‫كوة‬
‫منذ أن حصلنا على رخصة الراف موشيه‪ ،‬دأب كالنا على البحث عن ّ‬
‫ينفذ منها ضوء الحرية‪ ،‬وكان أحدنا يبيح ذلك لآلخر‪ .‬فيرتدي ليفي سرواله الجينز‬
‫ويذهب الى السمفونية‪ ،‬وينغمس في مشاهدة األفالم القديمة التي يحبها‪ ،‬حتى وإن‬
‫كانت الحسيدية ترى بأن مثل هذه األشياء العلمانية عديمة الروح‪ .‬كما تجدد اهتمامي‬
‫ي في‬
‫بدراستي الجامعية‪ .‬وقد عرض أحد أساتذتي في تاريخ الفن أن يشرف عل ّ‬
‫عمارة غاودي‪ .‬كما أنني توقفت عن إرتداء الشعر‬ ‫مشروع مستقل عن هندسة َ‬
‫المستعار في الحرم الجامعي وتعلمت طرقًا تزينية معقدة لترتيب أوشحتي‪ .‬واآلن‬
‫يرتخي شعري اآلخذ بالنمو وينسدل بكل جرأة تحت الوشاح‪.‬‬
‫لكن تحت سقف المنزل‪ ،‬وحتى مع شعري المكشوف جزئيًا والجينز األزرق‬
‫الذي يرتديه ليفي‪ ،‬فما زلنا محددين بأدوارنا‪ .‬إذ إن ليفي هو من يتحكم بالمال ويتخذ‬
‫القرارات‪ .‬إنني أتعرف عليه‪ :‬فحاجته قليلة لللمس العفوي وقلقه بالغ من التزاماته‬
‫خارج منزلنا‪ .‬أحيانًا يفاجئني بهدية أو بكلمة لطيفة‪ ،‬لكنه عمو ًما غير بارع بالتعامل‬
‫مع احتياجاتي‪ ،‬وفي أغلب األحايين ال يبدو مدر ًكا لها‪.‬‬
‫ويبدو بأن أدوارنا المنفصلة هي ما يرسخ جهله‪ ،‬كما لو أنه‪ ،‬بموقعه المحدد‬
‫بوضوح‪ ،‬يواجه صعوبة بتنمية تشارك وجداني جديد معي‪ .‬فذلك سيكون بمثابة‬
‫عبور خط ال يبدو بأنه يعرف كيف يعبره بعد‪ .‬وربما لم يجرب ذلك قط‪.‬‬
‫لكن الراف موشيه منحني شيئًا‪ .‬ألتقط الحافظة البالستيكية الصفراء من‬
‫الدرج واخرج الكوب المطاطي الرقيق الذي ينتهي بحافة دائرية مرنة‪ .‬لقد تعلمت‬
‫ي أن أضيّق‬
‫االستمتاع بالكريم الناعم في الوعاء المطاطى المرن‪ ،‬الطريقة التي عل ّ‬
‫وأطوي فيها الحافة المرنة من أجل إدخاله في داخلي حتى يصبح خلف العظم‬
‫عرفني العازل األنثوي على طيات جسدي الداخلية وتجاويفه السرية‪،‬‬
‫المكسو برقة‪ .‬ي ّ‬
‫ويمنحني وقتًا من دون أطفال لكي أتعلم‪ .‬أضع قدمي اليمنى فوق غطاء المرحاض‬
‫ي‪ .‬هذه هي‬
‫المغلق‪ ،‬والقدم اليسرى على األرض‪ ،‬وأرفع تنورتي الطويلة الى فخذ ّ‬
‫هدية الراف موشيه‪ :‬جرأة محلّلة أكتسبها من هذه المعرفة الجديدة بجسدي‪.‬‬
‫أصبح اآلن بإمكاني وبال عواقب تجاوز الخط الذي اليبدو بأن ليفي قادر‬
‫على تجاوزه داخل سريره‪ .‬وهذا ما أفعله‪ ،‬فأطلب منه المضاجعة مرة تلو االخرى‪.‬‬
‫حتى مع أنني ال أكن سوى القليل من الرغبة الجسدية‪ ،‬لكنني أفعلها على أية حال‪،‬‬
‫ودائ ًما ما اسر بالسعادة التي يبديها في المقابل‪ .‬إنني أمارس معه الجنس من أجل‬
‫التواصل ومن أجل مكافأة االستلقاء بين ذراعيه بعدها‪ .‬فالجنس هو الطريق الوحيد‬
‫الذي يبدو لي من أجل الوصول إلى ذلك المكان اآلمن والدافيء‪ .‬فالبديل المتمثل‬
‫بالبقاء على الجانب الذي وضعني فيه الجدار الحسيدي‪ ،‬دائ ًما بقربه ومنفصلة عنه‬
‫بذات الوقت‪ ،‬يشعرني بالوحدة أكثر مما لو كنت وحيدة‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإننى‬
‫أسعى بكل وسيلة متاحة لكي أضمن بأن البقاء بين ذراعيه يمدني بشعور العودة‬
‫وتكرارا‪ ،‬ألنه بكثرة ممارسته ال يعود يشعرني بذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫للمنزل‪ .‬ثم أختبر األمر‬
‫أفتح باب الحمام وأذهب إليه‪.‬‬
‫الحقًا في تلك الليلة‪ ،‬تبدأ تلك األحالم اآل ِسرة التي لم‪ ،‬ولن أستطيع‪ ،‬االعتراف‬
‫بها في النهار‪ .‬في حلمي‪ ،‬كانت معشوقتي األكثر شغفًا وفتنةً إمرأة ً ذات شعر مجعّد‬
‫ويدين رقيقتين بأصابع دقيقة‪.‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫حســــــنًا!" كان هذا حاخا ًما ملتحيًا في العشرينات من عمره في محاضرة‬


‫التوجيه من أجل تجربة عيش وتعلّم الساباث‪ .‬كان يفرك يديه ببعضهما أثناء‬
‫مخاطبته للحشد‪ .‬كان كنيس "‪ " Shearith Israel‬في داالس يستضيف يهودًا‬
‫من الحسيدم اللوبافيتشر من بروكلين‪ ،‬وهم من اليهود الذين ما يزالون يعيشون وفقًا‬
‫للمدونة القديمة للشريعة اليهودية‪ .‬كان الرجال الملتحون يعتمرون اليارمولكات‬
‫والمالبس السوداء والبيضاء‪ ،‬بينما ارتدت زوجاتهم‪ ،‬اللواتي ك َّن في الصفوف‬
‫الخلفية‪ ،‬تنورات وأكما ًما طويلة‪ ،‬وقد غَطيَّنَ رؤوسهن بالشعور المستعارة أو‬
‫بالشاالت‪ .‬كنت وآنا من ضمن الحضور‪ .‬كان ذلك في العام ‪ .1972‬وقد كنت أبلغ‬
‫من العمر ستة عشر عا ًما‪ ،‬وكنت حينها غارقةً في مخططات للجامعة‪ ،‬وعازمةً‬
‫على االنتقال لوضع بَص َمتي في العالم‪.‬‬
‫لقد حضر حوالي خمسين فردًا منا للبرنامج الذي كان يعقد طيلة عطلة نهاية‬
‫ي قابلة للطي في أحد أطراف القاعة المخصصة‬
‫األسبوع وكنا نجلس على كراس َّ‬
‫للتجمعات االجتماعية‪ .‬لقد أدركت بأن معظم الحاضرين هناك‪ ،‬ومن ضمنهم أنا‬
‫وآنا‪ ،‬كانوا كالسيّاح الذي يأتون لمشاهدة هؤالء الحسيديم المختلفين وهم يمارسون‬
‫طقوسهم بجرأة‪ .‬لقد كان علينا أن نبيت في المكان ونختبر ممارسة ساباث‬
‫أرثودوكسي ونتبّع القواعد‪ .‬وهذا ما يفسر السبب وراء قدومنا بأزيائهم التي كانت‪،‬‬
‫حسب قانون مالبس النساء الذي أبلغنا به عند تسجيلنا‪ ،‬تنورة يبلغ طولها حتى ربلة‬
‫وجوارب نسائية‪ .‬كنت‬
‫َ‬ ‫الساق‪ ،‬وأكما ًما تصل لمنتصف الذراع وقبة عنق مغلقة‬
‫ادرا ما أرتدي التنورة‪ ،‬وافضّل عليها البنطال الجينز أو االفروالت الحمراء‪ .‬لكن‬
‫ن ً‬
‫نظرا ألن عائالتنا كانت قد سعت بجهد إلبعاد ذاتها عن " األساليب القديمة "‬
‫ً‬
‫ولالندماج في محيطها‪ ،‬فقد بدا لي الذهاب لتجربة التظاهر العلني باألرثودكسية مع‬
‫آنا في عطلة نهاية األسبوع بمثابة لعبة تمرد متهورة‪ .‬على أيّة حال‪ ،‬كان ما يدفعني‬
‫ضا رغبتي بالشعور بالروح المتسامية الذي يمنحني إياه ٌ‬
‫دين تخيّلت بأنني قادرة‬ ‫أي ً‬
‫على العثور عليه في مكان ما‪ ،‬واعتقدت بأن الحسيدية بمجملها كانت تتمحور حول‬
‫تلك الروح‪ .‬لقد اعتقدت بأن أولئك الذين يدعون أنهم عائلتي قاموا بحرماني من‬
‫ذلك‪ .‬التسامي‪ ،‬حسب تعبير آنا‪ .‬قفزة لألعلى‪ ،‬إلى الرب مباشرة ً‪.‬‬
‫كانت آنا أكبر مني بسنتين‪ ،‬ورغبت باتّباعها‪ ،‬وقد قمت بذلك‪ ،‬أتبع خطوها‬
‫إلى أي مكان‪ .‬قابلت آنا ألول مرة في أحد أيام اآلحاد قبل عامين عندما كنت أتغيب‬
‫عن حضور صف مدرسة األحد الذي يعقد في معبد اإلصالح الليبرالي الخاص‬
‫ي كل أسبوع للجلوس بين أطفال زميالتها لنعطي‬
‫بنا‪ ،‬حيث ترسلني أمي مع أخت ّ‬
‫االنطباع بكوننا عائلة "اعتيادية" رغم أن الصراصير كانت تغزو جدران المنزل‪،‬‬
‫وأمنا تنام أليام بتأثير الحبوب المنومة‪ ،‬ووالدنا المضطرب عقليًا كان يجلس في‬
‫غرفة المعيشة‪ ،‬يجز على أسنانه حتى يظهر اللب وهو يقرأ كل كلمة في الصحيفة‪،‬‬
‫وال يهمل حتى اإلعالنات المبوبة‪ .‬لم أكن مهتمة بالهوت فعل الخير الذي يعلمنا‬
‫إياه المعلم‪ .‬فشرعت بالتغيّب عن الدروس‪.‬‬
‫في ذلك األحد‪ ،‬رأيت آنا تقود جوقة من األطفال الذين كانوا يغنون مع عزف‬
‫الغيتار‪ ،‬كان صوتها السوبرانو يتميز بتهدج إيقاعي جميل‪ .‬لم يستغرقني التفكير‬
‫ً‬
‫طويال حتى انضممت إليهم‪ .‬لقد كنا ثنائيًا غريبًا‪ّ ،‬‬
‫لكن آنا قالت بأنني كنت عميقة‬
‫وجسورة‪ ،‬لكني كنت مغرمة ببساطة‪ .‬لم يبد بأنها كانت تالحظ األمر‪ ،‬ورغم هذا‬
‫فقد كنت أجدها تنتظر قرب حافلتي المدرسية في الصباح بنظارتها الشمسية‬
‫ي الطويل الذي كان يتطاير مع الريح‪ ،‬تجلس في سيارتها المكشوفة‬
‫وشعرها البن ّ‬
‫التي أنزلت غطاءها لإلسفل‪ ،‬بينما يصدح صوت المذياع عاليًا‪ .‬لقد جع َلت من‬
‫يسيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫قرارا‬
‫ً‬ ‫التغيّب عن المدرسة‬
‫سويةً كنا نتطلع لليهودية من زاوية مختلفة‪ ،‬نقرأ الكتب ون ّ‬
‫جرب الطقوس‬
‫ترف َع عنها َكنيسنا العصري‪ .‬أما اآلخرون من أصدقائنا فقد كانوا تحت‬
‫القديمة التي ّ‬
‫تأثير الموجة الهيبية أو كانوا يتناقلون االقتباسات عن الرئيس ماو أو المقتطفات‬
‫جرب ويستبدل الهويات‬
‫من البيان الشيوعي أو السيدهارتا أو رواية كثيب‪ ،‬فجميعنا ي ّ‬
‫وكأنه يستبدل األزياء في غرفة خلف الكواليس لتبديل الثياب‪ .‬وقد كان قضاء نهاية‬
‫األسبوع مع الحسيديم مجرد زي آخر يفترض بأنه مناوئ للمادية رغبنا بتجربته‪،‬‬
‫إال أن ما زاد جاذبيته كان ألننا جربنا األمر سويةً‪ ،‬وألن أولياء امورنا يكرهونه‪.‬‬
‫إضافة لما سبق من األسباب‪ ،‬فقد كنا قد خططنا للذهاب للتخييم‪ ،‬لكن بدا لنا بأن‬
‫المطر على وشك التساقط‪.‬‬
‫كان لثياب الحاخام الشاب الذي يخطب بنا خيو ً‬
‫طا طويلة بيضاء تتدلى فوق‬
‫حزامه لتبلغ ِكال وركيه‪ ،‬وقد أثارت رؤيتها فضولي‪ .‬كان يمتلك لحية حمراء كاملة‬
‫وبشرة شاحبة‪ ،‬وقد اعتلت رأسه األصلع يارمولكة سوداء كبيرة‪ .‬وخلفه وقف ثالثة‬
‫مره‪ ،‬وقد ارتدى جميعهم زيًّا من األسود واألبيض‪ ،‬وبدا‬
‫آخرون تقارب أعمارهم ع َ‬
‫أنهم يشعرون بأنهم يقدمون عرضا ً للجميع مما جعلهم يشعرون بالحرج قليالً‬
‫ويشبكون أذرعهم خلف ظهورهم‪ ،‬بينما يتطلعون على حشد الحاضرين‪.‬‬
‫يعلن الحاخام‪" :‬قبل أن نبدأ‪ ،‬فلتعلموا قواعد الساباث‪".‬‬
‫ترتسم ضحكةٌ على وجه آنا وتقول بهمس‪" :‬هيا"‪.‬‬
‫كانت لديه قائمة‪ :‬يبدأ الساباث منذ الليلة عند زوال الشمس‪ ،‬وسينتهي ليلة غد‬
‫بعد زوال الشمس‪ .‬افصلوا األنوار في غرف المنزل قبل غروب الشمس‪ ،‬وال‬
‫تلمسوا مفتاح الكهرباء‪ .‬ال تستخدموا أو تلمسوا أي شيء يتطلب استخدام الكهرباء‪.‬‬
‫تمنع الكتابة‪ ،‬ويمنع استخدام السيارة أو الهاتف‪ .‬ال تمزقوا أي شيء‪ .‬ال تقوموا‬
‫بالحك أو الغسل‪ ،‬سواء أكان غسل الثياب أوغسل البدن‪ ،‬والمستحب عدم تفريش‬
‫األسنان‪ ،‬يمنع االستحمام‪ ،‬فال يجوز استعمال الماء الساخن أو الصابون‪ ،‬لكن من‬
‫الجائز االغتسال بالماء البارد إن كان ذلك ضروريًا‪.‬‬
‫ارتفعت الهمهمات‪ّ ،‬‬
‫لكن القليل من الدهشة البادية كانت هناك‪ ،‬لم يكن ث ّمة‬
‫ضحكات أو عالمات رفض‪ .‬ثم طرحوا أسئلة استعالمية من قبيل‪ :‬أال تسمح‬
‫الشريعة اليهودية لك بتكليف طفل إلطفاء الضوء من أجلك في الساباث؟ أو أنا‬
‫طبيب‪ ،‬لذا فإن بإمكاني استخدام الهاتف من أجل عملي‪ ،‬صحيح؟ لقد بدا أن كثيرين‬
‫كانوا على معرفة جيدة بقوانين الساباث‪ .‬همست آلنا‪ " :‬لكنّني ال أعلم أيًا من هذه‬
‫األشياء‪".‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬بدا الناس الذين يطرحون األسئلة خانعين ً‬
‫قليال أمام سلطة الحاخام‪،‬‬
‫كما لو أن الحاخام هو مالك الشريعة‪ .‬لقد فهمت‪ .‬إنه يتملّكنا في الوقت الراهن‪ّ .‬‬
‫لكن‬
‫ّ‬
‫بالشك سألته امرأة‪" :‬ليس بإمكاننا تمزيق أي شيء‪،‬‬ ‫ً‬
‫سؤاال واحدًا فقط بدا ناض ًحا‬
‫لكن بالتأكيد يمكنك تمزيق ورق الحمام؟"‬
‫كال‪ ،‬ال يمكننا ذلك‪ .‬يجب علينا التحضير لذلك مسبقًا‪.‬‬
‫كانت عالقتي مع القواعد تتأرجح بين االرتياب واالنجذاب‪ .‬إذ إن أمي كانت‬
‫تقرر بغتة بأن لديها قواع َد لم تع ِل َمنا بها قَ ً‬
‫بال‪ ،‬فيصيبنا غضبها لعدم اتّباعنا لتلك‬
‫القواعد كرصاصة تأتي من حيث ال ندري‪ .‬ولطالما كنت غير متيقنة بشأنها‪ ،‬وال‬
‫أفهم ما تصبو إليه‪ .‬لقد كان الحب على المحك‪ ،‬مرتب ً‬
‫طا بقواعدها المجهولة‪ .‬في‬
‫ضا‪ ،‬ساهمت القواعد غير المدونة في اخفاقي االجتماعي األبدي في أن‬
‫المدرسة أي ً‬
‫أكون واحدة من الفتيات‪ .‬هناك حيث كنت أرتدي السراويل ذات العَ ّالقات‪ ،‬أتوق‬
‫ي‪ ،‬أنظر ب َحيرة للفتيات االخريات وهن‬‫لحبيبتي وأحلم أثناء الليل بأنني صب ٌ‬
‫يتظاهرن بكونهن "نسا ًء"‪ ،‬فتيات لم يعدن أنفسهن قط بعد أن تجملّ ّن بمساحيق‬
‫التجميل وأخذنَ بالحوم حول الفتيان‪.‬‬
‫قال الحاخام‪" :‬خالل دقائق معدودة‪ ،‬ستقوم النساء بإيقاد شموع الساباث‪.‬‬
‫نساؤنا هن من يفتتحنَ الساباث المقدس‪".‬‬
‫نساؤنا‪ .‬جرفني التعبير بقوة نحو المجموعة‪ ،‬إحساس م َ‬
‫طمئِن باالنتماء‪ .‬لكنّه‬
‫ضا بأن هؤالء الغرباء يتملكوننا اآلن‪ .‬كنت مرتبكة ومضطربة‪ .‬نساؤنا‪.‬‬
‫يؤكد أي ً‬
‫آخر أود إخباركم به" قال الحاخام‪ .‬ثم رمقنا بنظرة جانبية وابتلع‬
‫"أوه‪ ،‬هناك أمر ٌ‬
‫ريقه‪" .‬أثناء الساباث‪ ،‬سيشارك النسوة والرجال بصورة منفصلة‪".‬‬
‫تحسنّت حالتي‪.‬‬
‫وأضاف الحاخام‪ّ " :‬‬
‫إن هذا من االحتشام‪ ،‬الفصل بين الرجال والنساء من‬
‫تقوى الرب‪".‬‬
‫طيلة هذا الساباث األزلي‪ ،‬يفرض على النساء فَصل جلوسهن عن الرجال‬
‫أثناء وجبات الطعام‪ ،‬وأن يحتجبن خلف حاجز أثناء أداء الصلوات‪ .‬سوف تجتمع‬
‫النسوة بصورة منفصلة عن الرجال‪ ،‬ويصلينَ بمعزل عنهم‪ ،‬بأصوات خفيضة‪،‬‬
‫ويأكلن على حدة‪ .‬أما في المنزل فقد كانت امي تهلّل للحركة النسوية الناشئة‬
‫(الوليدة)‪ ،‬ولبيال أبزوغ في الكونغرس بقبعاتها الحمر‪ ،‬حين كان الحراك المطالب‬
‫بتعديل الحقوق المتساوية يزحف من والية الخرى‪ ،‬وكانت النسوة تحرقنَ حماالت‬
‫صدورهن على التلفاز‪ .‬في حين كنت وآنا نخطو نحو واقع مختلف‪.‬‬
‫لقد ظننت بأن هذا الفصل لم يكن أغرب من القوانين الجديدة األخرى‪،‬‬
‫خاص بمخيم صيفي‪ ،‬وهذا ما بدا لي مسو ً‬
‫غا‬ ‫ٌ‬ ‫فقررت التعامل مع األمر وكأنه توجيهٌ‬
‫ً‬
‫معقوال بما يكفي لتبرير فصلنا إلى مجاميع‪ ،‬كل مجموعة تمارس أنشطة مختلفة‪.‬‬
‫عدّي كامرأة‪ ،‬وبالتالي أصبحت محسوبة على البالغين‪.‬‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬لقد تم َ‬
‫ثم استرسل الحاخام في حديثه عن كيفية التزام النسوة اليهوديات المخلصات‬
‫والنبيالت بتأدية طقس الشمع في ليالي الج َمع طيلة آالف السنين‪ .‬فبزغت في خيالي‬
‫صور الممارسة البسيطة المتزامنة في كل بقاع العالم‪ :‬ألسنة لهب صغيرة وظاللها‬
‫المرتعشة على الجدران في كل قارة من العالم‪ ،‬ونساء يغطين شعورهن‪ ،‬راضخات‬
‫عبر القرون‪ .‬ذلك هو االنتماء الحقيقي‪ ،‬عالمي وتاريخي‪ .‬لقد قال الحاخام بأننا نحن‬
‫النساء من جلبنا النور للعالم‪ .‬ثم سكت ليستقر المعنى‪ ،‬حدّق فينا لبرهة‪ ،‬ثم رفع‬
‫صوته ً‬
‫قائال‪" :‬لقد حان الوقت لكي تقوم نساؤنا بافتتاح الساباث المقدس‪".‬‬
‫ثم أومأ بيده نحو طاولة طويلة في الطرف اآلخر من القاعة‪ ،‬مغطاة بشموع‬
‫غير موقدة‪ .‬فاستدار و َم َّد إحدى ذراعيه كما لو كنا ضيوفًا م ّ‬
‫كرمين يدعوهم بحفاوة‬
‫للدخول إلى بيته‪ .‬ولم يبد أمامنا من خيار سوى الرضوخ‪.‬‬
‫أكداس من الحقائب النسائية‪ ،‬همهمات‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫حفيف وحركةٌ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫حولنا نساء ينهضنَ ‪،‬‬
‫نقر كعوب أحذية‪ .‬لدينا مهمة جديدة‪ ،‬أن نوقد تلك الشموع ونخلق جزيرة في الوقت‬
‫المحدد‪ ،‬جزيرة ساباث هادئة لقومنا‪ .‬وهكذا تسللنا بين النسوة‪ ،‬تاركين الرجال‬
‫خلفنا‪" .‬أشعر بالغرابة" تمتمت آلنا أثناء تحركنا‪ .‬أصبحت اآلن امرأة‪ّ ،‬‬
‫لكن هذه‬
‫ي أتت من مجموعة قواعد أخرى لم أستطع إدراكها‬
‫األنوثة المزيفة التي أمليت عل ّ‬
‫ي الخجل كوشاح‪.‬‬
‫بالحدس‪ .‬لقد هبط عل ّ‬
‫احتشدت ما يقارب عشرين امرأة منا حول المنضدة المغطاة بالشموع‪" .‬‬
‫بإمكاني ممارسة هذا الفعل‪ .‬إنه من أساسيات صف األحد" قالت آنا‪ .‬ثم تناولت علبة‬
‫ثقاب من الكومة وأشعلت اثنين من الشموع‪ ،‬وغطت عينيها بيديها‪ ،‬ورتلت المباركة‬
‫العبرية على أتم وجه‪.‬‬
‫تساءلت أين ذهب كل أولئك الرجال‪.‬‬
‫ضا بالتقاط علبة ثقاب‪ .‬أشعلت عود ثقاب‪ ،‬تقدح الشرارة‪ ،‬ثم يعلو‬
‫فقمت أي ً‬
‫لهب أصفر وأزرق‪ .‬لقد أصبحت ممتنة فجأة لهذا اإلحساس النادر باالنتماء‪ .‬وها‬
‫نحن ذا‪ ،‬جميعنا منغمسون في ذات اللحظة بالطقس ذاته‪ .‬اح ِم لهب الفتيل حتى يبدأ‬
‫باالشتعال والثباث‪ .‬رتّل كلمات المباركة القديمة‪ ،‬مع وضع األيدي على األعين‪. .‬‬
‫‪ .Baruch atah adonoi‬لقد كنت محاطة بالهمسات‪ ،‬منجذبة لرفيقاتي‬
‫الجديدات وسط نسمات العطر‪ .‬خطوات صغيرة متمايلة‪ ،‬ك ّم آنا يحتك بذراعي‪.‬‬
‫ماوج صف من ألسنة اللهب المتضائلة‪ .‬لعلني كنت اخطط‬
‫على مد بصري ي َ‬
‫ضا كنت في اآلونة األخيرة‬
‫لمغادرة المنزل وترك بصمتي في العالم‪ ،‬لكنني أي ً‬
‫مهووسة بالهولوكوست‪ ،‬وطالما كنت أتخيل نفسي وأنا أشهد رعب األجواء القوطية‬
‫ثم أسقط في غياهب النسيان‪ ،‬ما جعلني أحتضن خوفًا خفيًا غير محدد المعالم‪ .‬في‬
‫لحظاتي األكثر حلكة‪ ،‬كنت أصبو ببساطة الى عدم التحول الى رقم بإحصائية‪.‬‬
‫فكرت‪ :‬لعلنا كنا أكثر من مجرد بثور تظهر على وجه التاريخ‪ ،‬وأكثر من مجرد‬
‫غيرن العالم‬
‫إحصاءات‪ .‬وكما قال الحاخام‪ ،‬فإن بمقدورنا أن نكون النساء اللواتي قد ّ‬
‫بقَدحة عود ثقاب‪ .‬بمقدورنا أن نترك ً‬
‫أثرا ما‪ .‬ألننا‪ ،‬كالرب‪ ،‬قادرات على خلق يوم‪.‬‬
‫حين كنت صغيرة‪ ،‬كنت أخشى الظالم‪ .‬وفي إحدى الليالي‪ ،‬أفقت مرتعبة في‬
‫ي المرتعشتين‬
‫الليلة الحالكة السواد‪ .‬أردت امي‪ ،‬قفزت من فراشي‪ّ ،‬لوحت بيد ّ‬
‫والمتحركتين بعشوائية لتحسس العوائق ووجدت الطريق للصالة‪ .‬وعلى امتداد‬
‫الجدار‪ ،‬كنت أعرف‪ ،‬كانت هناك لوحات امي الزيتية الضخمة‪ ،‬فقد عشنا في‬
‫مساحات ضيقة وفوضوية تحيطها جدرانها المفروشة باأللوان‪ ،‬رغم أن األلوان‬
‫ي‪ ،‬أتلمس الطريق بعد غرفتي‬
‫في الظالم كانت مجرد ذكرى‪ .‬أعقف أصابع قدم ّ‬
‫اختي‪ .‬ترنّ ٌح فوقفةٌ‪ ،‬أنامل تمرعلى امتداد الجدار المحبّب‪.‬‬
‫ي‪ .‬من دون ذلك الدليل كنت أشعر بأنني‬
‫انتهى الجدار عند مدخل غرفة والد ّ‬
‫كنت أسير في قَفر‪ ،‬ما جعلني أتنفس بصعوبة بالغة‪ .‬سقطت على ركبت ّ‬
‫ي وشرعت‬
‫ي‪.‬‬
‫بالزحف مثل رضيع أعمى؛ فالتصقت الحبيبات التي مألت السجادة النتنة بكف ّ‬
‫وفي نهاية هذه الرحلة الطويلة‪ ،‬أصل للحافة المتدلية من غطاء سرير امي‪ .‬قمت‪،‬‬
‫وكأننى طفلة تتهادى‪ ،‬خطوة فخطوة‪ ،‬حول سريرها‪.‬‬
‫كنت أظن بأن أمي سترجعني إلى غرفتي‪ ،‬إال أنها تمتمت وأفسحت لي‬
‫ً‬
‫مجاال‪ ،‬بال أحضان مفتوحة أو عناق‪ ،‬لكنني استطعت البقاء‪ .‬لقد نمت وحلمت‬
‫حينها‪ ،‬لكن على الرغم من أنني قد وضعت نفسي حيث أردت أن أكون‪ ،‬إال أن‬
‫الصبي الذي كنته في حلمي كان ما يزال يبحث عن أمه‪ .‬وفي الصباح‪ ،‬استيقظت‬
‫صةً في حلقي‪ .‬أعتقد بأنني دائ ًما ما كنت مجبرة على البحث‬
‫والحاجة لها كانت غ ّ‬
‫بال دليل في الظالم عن أماكن جديدة وفي ذات الوقت أبحث عن األمان‪ ،‬ودائ ًما ما‬
‫كنت أتجه بعيدًا ومع ذلك آمل بأنني في النهاية سأكتشف بأني بلغت المنزل‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬عدنا لقاعة االجتماع‪ ،‬حيث وضعوا المزيد من الكراسي في قسمين‬
‫ٌ‬
‫حاجز‪ ،‬من أجل خدمات الساباث‪ .‬وقد فرض على النساء الجلوس‬ ‫انتصب وسطهما‬
‫على جهة اليسار‪.‬‬
‫ً‬
‫مسؤوال عن فعالية نهاية‬ ‫حاخام آخر قدّم نفسه باسم الحاخام غيلر‪ ،‬بصفته‬
‫األسبوع‪ .‬كان قصيرا ً ذو شعر داكن‪ ،‬وكان ينتفض كلما أراد الكالم‪ .‬لقد ات ّخذ‬
‫موضعه أمام الرجال مباشرة ً‪ .‬وسرعان ما قام الرجال بتالوة الصلوات العبرية‬
‫عاليًا وبسرعة شديدة‪ ،‬لكنها متفاوتة‪ ،‬مع شروعهم أحيانًا بالغناء البهيج ذي النغمة‬
‫المنخفضة‪.‬‬
‫كان وقع نشاز األصوات علينا كزخات مطر مفاجئة‪ .‬فقد تعلمت من األبجدية‬
‫العبرية ما هو كاف ألعرف أن بمقدور الشخص لفظ الكلمات من دون فهم‪ ،‬لكني‬
‫لم أزل متفاجئة بالعدد الكبير من الرجال الذين استطاعوا القراءة‪ .‬همست آلنا‪ " :‬يا‬
‫للروعة إنهم سريعون حقًا بالقراءة‪".‬‬
‫فجاوبتني متسائلة‪":‬أتظنين أيا ً منهم يستطيع فهم ما يقولون؟"‬
‫أجبتها‪" :‬بتلك السرعة فلن أفهم حتى اإلنجليزية‪".‬‬
‫صة بهن‪ .‬بينما جلست البقية‬
‫القليل من النساء كن يقرأن في كتب الصالة الخا ّ‬
‫منا بهدوء وانتظرن حتى تنتهي الخدمة‪ .‬وقد كان من غير الجائز لنا رفع أصواتنا‬
‫في الصالة مع الرجال‪.‬‬
‫أصابني الملل‪ ،‬فرحت أحدق في امرأتين حسيديتين في الصف الذي أمامنا‪،‬‬
‫كانت كلتاهما ترتديان الشعر المستعار والثياب المحتشمة‪ .‬إحداهن كانت أكبر سنًا‪،‬‬
‫وكانت ترتدي باروكة شقراء من النايلون‪ .‬أما األخرى فكانت تحمل ً‬
‫طفال رضيعًا‬
‫نائ ًما يمص إبهامه‪ .‬لقد بدا كما لو أنهن في مسرحية‪ ،‬يرتدين األزياء التي تتطلبها‬
‫أدوارهن كنساء‪ .‬جلست االمرأتان باحتشام يغلفه الحياء‪ ،‬وتَلَون صالوتهن بهمس‪.‬‬
‫وفي األجواء‪ ،‬كانت تيارات الصفير الهوائية من صالوات اإلناث المهموسة‬
‫مسموعة في اللحظات القليلة الفاصلة بين أغاني الرجال‪.‬‬
‫ضجرة‪ ،‬وأشعر بأنني كالدخيلة‪ .‬بدأت أتململ في جلوسي‪ ،‬وأش ّد‬
‫كنت َ‬
‫تنورتي‪ ،‬ثم قمت‪ .‬كانت آنا ما تزال تستمتع باأللحان القديمة حينما انسللت للخارج‪.‬‬
‫قبل ستة شهور‪ ،‬كنت قد قابلت الحاخام غولدنبرغ‪ ،‬الحاخام المسؤول عن‬
‫الشباب في معبد إيمانويل‪ ،‬بعد أن قدت سيارة أمي اإلمباال المحملة باألتربة إلى‬
‫هناك‪ .‬إذ كنت بدأت أعاني من ألم في صدري‪ ،‬يشبه األزيز‪ .‬كنت أشعر بذلك األلم‬
‫سا ما حدا بي إلى االعتقاد ّ‬
‫بأن روحي هي مصدر هذا األلم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وكأن له وجودًا محسو ً‬
‫وإن كانت الروح موجودة حقًا‪ ،‬فال ب ّد أن يكون الرب موجودًا‪.‬‬
‫كانت سالي بريساند تتصدر األخبار القومية في ذلك الوقت‪ ،‬حيث عينتها‬
‫حركة اإلصالح اليهودية‪ ،‬وأشادت بها كأول أمرأة حاخام‪ .‬لقد شاهدتها على التلفاز‬
‫وكانت مالمح الفخر والثقة بالنفس تبدو على وجهها المبتسم‪ ،‬وهي تضع على ثوبها‬
‫ً‬
‫مذهال‬ ‫شال صالة طويال وضيقًا ليبدو مثل روب قس‪ -‬وهو ما كان يع ّد مشهدًا‬
‫سا إيمانيًا‪ّ ،‬‬
‫لكن‬ ‫المرأة حينئذ‪ .‬لم تكن أمي تمارس الدين ولم أعرف عنها أنها تكن ح ً‬
‫بريساند كانت امرأة يهودية كسرت الحدود‪ّ " .‬‬
‫هال تنظرين لهذا المشهد!" قالت أ ّمي‬
‫ثم نهضت وكان وجهها يشع بالحيوية‪ .‬فاختلط مشهد بريساند بطريقة ما مع األلم‬
‫في صدري وصورة وجه أمي المبتهج‪ ،‬ما أوحى لي بفكرة جديدة تخص مهنتي‬
‫المستقبلية‪.‬‬
‫كنت أنتظر الحاخام غولدنبرغ على أحد مقاعد االنتظار خارج مكتبه حينما‬
‫خرج من الغرفة رجل كبير السن ذو لحية بيضاء‪ .‬أول مشهد حسيدي أراه‪ .‬كان‬
‫يرتدي معطفًا أسو َد بصفين من األزرار أشبه ما يكون بسترةِ البدالت‪ ،‬باستثناء أنها‬
‫تصل حتى ركبتيه‪ ،‬كما كان يعتمر قبعة سوداء داخل البناية‪ ،‬ويدّس خلف أذنيه‬
‫فمر أمامي بمظهري الوضيع‪ ،‬وكان قريبًا بما يكفي ألتمعن‬
‫ضفائر جانبية بيضاء‪َّ .‬‬
‫في قسمات وجهه اللطيف الحاني وعينيه الرماديتين اللتين أثقلتهما الترهالت‪.‬‬

‫لقد أصابتني رؤياه بالصدمة‪ .‬وغلبني اإلحراج التام على الفور‪ .‬إذ شعرت‬
‫بأنه كان حالة شاذة تما ًما في المكان‪ ،‬وبدا كما لو أنني قد اكتشفت فردًا من أفراد‬
‫ومثارا للسخرية‪ ،‬في‬
‫ً‬ ‫لحس الموضة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العائلة كان متخلفًا عن النسق الجمعي وفاقدًا‬
‫ذات الوقت الذي كنت أسعى فيه جاهدة ً لالنطالق في عالم كنت عازمة على‬
‫االندماج فيه (وكنت قلقة بعض الشيء من أنني لن أحقق ذلك)‪ .‬كنت ما أزال‬
‫أرتجف عندما دعاني سكرتير الحاخام للدخول‪ .‬فلمحت عبر الزجاج األخضر‬
‫صورة غبشاء للرجل العجوز‪ ،‬وقامته المنحنية وهو يغادر عبر أحد األبواب‬
‫الخارجية‪.‬‬
‫على خالف الرجل العجوز‪ ،‬كان الحاخام غولدنبرغ حليق الذَقن‪ ،‬حاسر‬
‫أدار كرسيه‪ ،‬ثم أراح ذقنه على يده كما لو أنه يتأملني‪ ،‬مثبتًا أصبعه ذي‬
‫الرأس‪َ .‬‬
‫طويال ومغطى بندوب حب الشباب‬ ‫ً‬ ‫المفصل الناتئ على جانب وجهه‪ ،‬الذي كان‬
‫مع مسحة من اللطف‪ .‬وبعد أن أطال النظر بي‪ ،‬خاطبني ً‬
‫قائال‪" :‬كيف لي أن‬
‫أساعدك؟"‬
‫بخجل شرعت أطرح إثباتات بأسلوب متلكئ وميلودرامي عن إيماني الذي‬
‫اكتشفته حديثًا‪ ،‬آملة بأنني سأحصل على تعاطفه ودعمه‪ .‬قلت له‪" :‬أعتقد بأنني أريد‬
‫أن أصبح حاخامة‪".‬‬
‫"و ِل َم ذلك؟" سألني‪ ،‬وذقنه ال زالت مستقرة على يده‪ ،‬مع ابتسامة عطوفة‪.‬‬
‫لكنني لم أكن أعرف حقًا السبب وراء رغبتي تلك‪ ،‬ناهيك عن عدم معرفتي‬
‫بما قد يتطلب أمر أن تصبح حاخا ًما‪ .‬كما أنني لم أعِ حينها كم كان للمديح الذي‬
‫لنر" قال الحاخام‪ ،‬مضيفا‪:‬‬
‫ي‪َ " .‬‬
‫تتلقاه بيرساند وتفاخر أمي بها من سطوة وقتية عل ّ‬
‫"إ ّن التدريب الحاخامي يبدأ في مرحلة الدراسات العليا‪ ،‬أمامك درب طويل لبلوغ‬
‫ذلك‪ّ .‬‬
‫لكن عليك البدء من مكان ما‪".‬‬
‫وبهذه الطريقة انتهى بي المطاف وأنا أحضر صفوف االنتقال للحاخام‬
‫غولدنبرغ‪ -‬بوصفها مكانًا‪ ،‬حسب قوله‪ ،‬أستطيع فيه بد َء مسيرتي عن طريق إلقاء‬
‫نظرة عامة جيدة على الفلسفة الليبرالية إلصالح اليهودية‪ .‬ففي صفوفه‪ ،‬شرح لنا‬
‫الحاخام كيف رفضت حركة اإلصالح أن تفرض خصوصيات العقيدة وكيف‬
‫صى‬
‫رفضت المفاهيم القائلة بأن الرب هو من قد أملى الكتاب المقدس‪ .‬كما تق ّ‬
‫افتراضهم القائل بأن الكتاب المقدس هو عبارة ٌ عن منتخبات من نصوص مختلفة‬
‫اختارتها أيد مختلفة‪ .‬كما رفضت حركة اإلصالح سلطةَ المدونة القديمة للشريعة‬
‫اليهودية‪ ،‬والذي وصفها بأنها تحاول أن ّ‬
‫تسن التشريعات للحياة حتى أدق تفاصيلها‪،‬‬
‫قائال‪" :‬ارسموا طرقًا روحانيةً متفردة ً‬
‫وأنها تسرق حياة حرية الخيار‪ .‬ثم تحدانا ً‬
‫وخاصةً بكم‪".‬‬
‫ضا وغير‬
‫لقد بقي األلم‪ ،‬ولم يكتم صوته حتى‪ .‬فوجدت كل هذا متعاليًا وغام ً‬
‫محدد المعالم على نحو يبعث على القنوط بعد أن كنت قد أملت بالحصول على‬
‫ي االعتقاد به وفعله‪ .‬كما كنت‬
‫قواعد مثل قواعد النادي وعلى الئحة بما يفترض عل ّ‬
‫ي برضاه‪ ،‬في نهاية الطريق‪ .‬هذا ما ظننت‬ ‫قد تمنيت ضمانًا ّ‬
‫بأن الرب سيوحي إل ّ‬
‫بأن يكون عليه الدين‪ .‬وباضطرابي هذا‪ ،‬تابعت حياتي‪ ،‬تاركةً خلفي مداعبة فكرة‬
‫أن أصبح حاخامة‪ .‬وبعد فترة وجيزة‪ ،‬حضرت ما حسبت بأنه كان يوم تعلم حر‬
‫بكنيس (‪ ،)Shearith Israel‬حيث صادف أن رأيت إعالن قضاء عطلة الساباث‬
‫مع الحسيدم‪.‬‬
‫عند العشاء‪ ،‬جلس الرجال والنساء على جوانب متقابلة من الغرفة على‬
‫طاوالت مغطاة باألبيض ومحملة بصوان كبيرة من الكوجيل والسلطات والبابا‬
‫صلت‬
‫غنوج والجزر المنقوع والبيض والمخلالت وشرائح خبز الشااله السميكة‪ .‬و ِ‬
‫بين الطاولتين من األمام طاولةٌ شغلت المقدمة‪ ،‬حيث تجمع الحاخام غيلر وجماعته‬
‫ليشكلّوا صفًا من المعاطف السوداء واللحى الطويلة والقبعات‪ .‬ربما كان المنظر‬
‫وتكرارا‪ ،‬لكن‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫كالتكرار‪ ،‬فكل واحد منهم يشبه اآلخر‪ ،‬الرسالة التي تصلني‬
‫ظهور هؤالء الحاخامات بدأ يصبح مفهو ًما‪ .‬كانت حرب فيتنام الطاحنة قائمة‪ .‬وفي‬
‫كل ليلة كان رجا ٌل بالزي الرسمي تبدو عليهم مالمح الجديّة والعزيمة يظهرون‬
‫على التلفاز‪" .‬انظري إلى أولئك الرجال في المقدمة"‪ ،‬قلت آلنا‪.‬‬
‫أدارت عينيها قائلة‪" :‬يا لألناقة‪".‬‬
‫ّ‬
‫لكن زيهم اآلن يستعرض بيان َمه ّمة‪ .‬كتيبة الرب التي قوامها الصفوة‪ .‬فقلت‬
‫لها‪" :‬ال يتعلق األمر بالموضة‪" ".‬كما أن هذا ليس زيًا‪".‬‬
‫"حقًّا؟" قالت لي‪.‬‬
‫فأجبتها‪" :‬إنها حلَّة نظامية‪ ،‬فهم جنود بخدمة الرب‪".‬‬
‫ضحكت عيناها‪.‬‬
‫كنت قد بدأت أشعر بالثقة بالنفس التي ربما استمددتها من قواعدهم ونبل‬
‫الغاية منها وكذلك اإلحساس بروح ال َم َه ّمة‪ .‬فباإلضافة إلى الرسالة الواضحة التي‬
‫تحملها الحلّة النظامية‪ ،‬كانت القواعد الحسيدية واضحة ومحددةً‪ ،‬حتى إنها م ّ‬
‫دونة‪،‬‬
‫وبدا أنها ت َ ِعد بما يكاد أن يكون حبًا ربانيًا أموميًا‪ ،‬لذا فقد كانت على عكس القواعد‬
‫أمرا داعب شعوري‬
‫التي واجهتها لغاية اليوم‪ .‬وهكذا فقد كان الجلوس إلى مائدتهم ً‬
‫أكثر مما داعب تفكيري‪ :‬وخالفًا لعالقتي مع أمي‪ ،‬وما يحدث لي في المدرسة‪،‬‬
‫حيث ال أعرف السبيل الذي يجعلني أكون "إمرأة"‪ ،‬أما هنا‪ ،‬فربما أكون قد تمكنت‬
‫من فهم القواعد بصورة صحيحة‪.‬‬
‫سا فضيّةً من النبيذ‪ ،‬وأخذ بترتيل صالة‬
‫وقف الحاخام غيلر‪ ،‬وهو يرفع كأ ً‬
‫عا ما من تمييز اللحن الذي سمعته على‬
‫الكيدش على خمر الساباث‪ .‬لقد تمكنت نو ً‬
‫لسان أبي الفاقد لألذن الموسيقية‪ .‬فحينما كنت صغيرة وكان هو بصحة جيدة‪ ،‬كنا‬
‫نستمتع بالوقت الهاديء الذي يسبق النوم تحت الضوء الخافت والذي يدفعه للتحدث‬
‫عن والديه المهاجرين الى بروكلين والتقاليد اليهودية القديمة التي َجلَباها معهما من‬
‫روسيا‪ .‬لقد أخبرني كيف كانت والدته تل ّمع كأس النبيذ والشمعدانات في يوم الجمعة‬
‫وكيف تضع خبر الشااله تحت قماشة بيضاء‪ ،‬وكيف كانت تحافظ على االستقرار‬
‫والنظام طيلة حياتها وهو ما كان مفقودًا في عائلتنا من قَبل أن ندركه‪ .‬ثم كان يتمدد‬
‫ت بطاطا‪ ،‬وأنا قلت بطاطس‪ .‬فلنقع في‬
‫بجانبي ويغني األغاني القديمة‪" :‬لقد قل ِ‬
‫الحب‪".‬‬
‫ضا‪ .‬رفعت ذقني ورتلّت الكيدش‬
‫ي‪ .‬وعلى نحو ما‪ ،‬رحل أبي أي ً‬
‫رحل جدا ّ‬
‫مع الحاخام غيلر‪ .‬ثم قدمت لنا وجبة كبيرة من الطعام‪.‬‬
‫ع‬
‫بعد مضي بعض الوقت على شعوري بالشبع والخمود والنعاس‪ ،‬ش ََر َ‬
‫الحاخام غيلر بغناء اغنية إيقاعية تأملية بال كلمات على السلّم اللحني الصغير‪،‬‬
‫بصوته الباريتون الفخم والذي جعلني اٌفكر بالتشيلو‪ .‬كان يغني وهو مغمض‬
‫العينين‪ .‬نا ننا نا‪ .‬وشيئًا فشيئًا‪ ،‬اتكأ الحاضرون للخلف على مقاعدهم وشاركوه‬
‫الغناء‪ .‬أمال الحاضرون رؤوسهم للخلف حين كانوا يغنون ومنهم من أغلق عينيه‪.‬‬
‫فعلت آنا ذات الشيء‪ .‬كانت األغنية تنساب حولنا‪ ،‬تتباطأ‪ ،‬حزينة وتائهة‪ .‬ممزوجة‬
‫بصوت آنا السوبرانو‪ ،‬تعالت األصوات ومألت القاعة‪ ،‬تنحسر وترتفع فوقنا على‬
‫ي وبدأت الغناء‪،‬‬ ‫س َ‬
‫ط أناملي‪ .‬أغلقت عين ّ‬ ‫شكل موجات‪ .‬التوتر الذي عادة ً ما أحمله بَ َ‬
‫واصلت وواصلت‪ ،‬تاركة جسدي للتمايل‪ .‬التفّت األغنية الجماعية حولنا كشال‬
‫ي ألراه وقد رفع‬
‫صالة بشري‪ .‬ثم‪ ،‬وعلى نحو مفاجيء‪ ،‬توقف الحاخام‪ .‬فتحت عين ّ‬
‫كفه مثل إشارة توقف‪ .‬فسكت الجميع‪" .‬إن صوت المرأة جوهرة ثمينة" أعلن‬
‫الحاخام بصوت متمهل ومتحفظ‪ ،‬وأكمل‪" :‬وقطعًا‪ ،‬ال يجب أن تكون الجوهرة‬
‫معروضة أمام الناس‪ .‬وإنما يجب أن تصان في مكان آمن وبعيد عن األعين‪ .‬ولهذا‬
‫السبب ال يسمح لنسائنا بالغناء في العلن‪".‬‬
‫إثر غنائي‬
‫فأفقت حينها‪ ،‬ألجد نفسي مجرد امرأة‪ ،‬وقد غطاني حرج شديد َ‬
‫بصوت عال‪ّ .‬‬
‫هزت آنا برأسها‪ .‬حاولت إخبار نفسي‪ :‬لكننا كرمنا بهذا الصمت‬
‫القسري‪ ،‬إذ كان من المفترض أن يكون هذا تكري ًما‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬خفضت نظري‬
‫ي‪.‬‬
‫ليقع على يد ّ‬
‫ً‬
‫رجال فقط‪ .‬أما النساء‬ ‫استأنف الحاخام غيلر الغناء مجددًا‪ ،‬لينضم إليه من كان‬
‫فقد نظرنَ لبعضهن‪ ،‬وخفّضنَ أبصارهن‪ .‬ارتفع غناء الرجال حتى ّلوح الحاخام‬
‫فنهض جميع‬
‫َ‬ ‫بذراعيه ليحثهم على الخروج والتحرر من ذواتهم الدنيوية المتشنجة‪،‬‬
‫الرجال‪ ،‬وهم مألى بالطاقة الروحانية الصالحة واالستعداد واللهفة لكي يطلقوا‬
‫العنان ألنفسهم‪ .‬من أجل الرب‪ .‬فتسارعوا إلى أرضية الغرفة المفتوحة وشرعوا‬
‫ً‬
‫جميال! لقد رقصوا بوتيرة واحدة‪ ،‬وسرعان ما أصبحوا‬ ‫بالرقص‪ .‬كم كان رقصهم‬
‫كيانًا واحدًا‪ ،‬فضّجت القاعة بالرجال الراقصين واألقدام الضاربة على األرض‬
‫واإليقاع الصالح‪ .‬وبينما كانوا يقفزون ويرقصون‪ ،‬وأيديهم على أكتاف وظهور‬
‫بعضهم‪ ،‬وقفنا على الجانب من حلقتهم المغلقة المتقدة بالحيوية‪ .‬ثم زادوا وزادوا‬
‫من سرعتهم‪ ،‬فتدلت حواف قمصانهم خار ًجا‪ ،‬وخ ِلعت ربطات العنق‪ .‬يا لروعة‬
‫رقصهم! واحدًا تلو اآلخر‪ ،‬بدأ الرجال الحسيديون بخلع معاطفهم السوداء الطويلة‪،‬‬
‫وإلقائها جانبًا‪ ،‬وانض ّموا مجددًا لحلقة الرجال المفعمة بالحماسة‪ ،‬والخيوط تتطاير‬
‫حمرة‬
‫وتحط على أوراكهم‪ .‬أفواه مفتوحة‪ ،‬تغني وتغني‪ ،‬أصوات مبحوحة‪ ،‬وجوه م ّ‬
‫تدوي بصوت الغناء‬
‫ومرصعة بقطرات العرق المتقافزة ابتها ًجا‪ .‬والقاعة بكاملها ّ‬
‫الذي يص ّم اآلذان‪.‬‬
‫نسيت كل ما يتعلق بأمر التزام الصمت‪ .‬كان وجه آنا مضيئًا وعيناها‬
‫المعتين‪ .‬لمست ذراعها برقة وأومئت للرجال الراقصين وأنا أهز بذقني معهم‪ ،‬وأنا‬
‫أبتسم وأبتسم على المشهد والحماسة المتأججة‪ ،‬مأخوذة ً بالثقة الحسيدية في صالحهم‬
‫وصوابهم والتي ال سبيل الى مقاومتها‪ ،‬وبتظاهرة السعادة الربانية هذه‪ .‬أما في‬
‫خيالي‪ ،‬فقد كنت في وسط هؤالء الرجال الراقصين‪ ،‬ويدي على ظهر أحدهم‬
‫المتعرق‪ ،‬تتساوق قدمي مع إيقاع األقدام‪ ،‬وصوتي يصدح بالغناء وسطهم‪ ،‬وجميعنا‬
‫مرتبطون سوية بإيقاع اإليمان النابض وال شيء غيره في حميمية مقدسة خالصة‪.‬‬
‫إلى هذا المكان أنتمي‪ .‬بالطبع! لقد كنت واحدة منهم‪ ،‬وبينهم‪ ،‬ولست امرأة تقف الى‬
‫جانب المتفرجات‪ .‬لقد تمكنت من الفرار من كل شيء‪ .‬إنه أمر حقيقي‪ .‬ثم أفكر‪،‬‬
‫مبتهجة‪ ،‬يمكنك أن تسلم نفسك للرب‪.‬‬
‫الحقًا في تلك الليلة‪ ،‬ورغم القواعد التي ّ‬
‫حرمت استخدام اآلالت الموسيقية‬
‫في الساباث‪ ،‬فَ َر َدت آنا فراشها المطوي على األرضية وجلست عليه متربّعة‪،‬‬
‫وشرعت تعزف الغيتار وتغنّي بصوت خافت مع نفسها‪ .‬خلف بابنا الموصد‪،‬‬
‫فكرت‪ ،‬لم نكن نغني في العلن تما ًما‪ ،‬لذا فقد شاركتها الغناء‪ .‬وسرعان ما أصبحنا‬
‫أكثر جسارة بقليل‪ ،‬فرفعنا أصواتنا بصورة متناغمة‪ .‬ثم جاء صوت َ‬
‫طرقة على‬
‫الباب‪ .‬فأرخَت آنا يدها عن األوتار‪ ،‬ونظرت إحدانا لألخرى‪ .‬لكن لم يك من وجود‬
‫لشرطة الساباث‪ .‬لقد كانت الطارقة فتاة بذات عمري تقريبًا قدمت نفسها باسم‬
‫جانيس‪ ،‬كانت نحيلة وذات شعر داكن أملس وجميل‪ .‬قَ ِد َمت الفتاة مع والدتها من‬
‫فورت وورث لحضور التجمع‪ ،‬وقد طرقت الباب ألنها سمعت صوت غنائنا‪.‬‬
‫دعوتها للدخول‪ ،‬وحالما أوصدت الباب‪ ،‬استَعَدنا أصواتنا ثانيةً‪ .‬كان صوت جانيس‬
‫صافيًا وقويًا‪ .‬وغنينا ثالثتنا على نحو متناغم‪ ،‬وجمعينا نجلس متربّعات على الفراش‬
‫الممدود‪ .‬كانت آنا تنحني على الغيتار بينما كنت أميل في جلوسي نحوها‪ ،‬وعيوننا‬
‫مأسورة باللحن‪.‬‬
‫مبكرا لكني فَ ّوت عل ّ‬
‫ي خدمات الصباح‪ .‬كانت آنا ما تزال نائمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫استيقظت‬
‫قرب وعاء حفظ القهوة التقيت بسيما‪ ،‬المرأة الحسيدية ذات الباروكة الشقراء التي‬
‫اسمك؟" سألتني بنبرة رسمية‪ ،‬كما لو أنها‬
‫ِ‬ ‫وقت الصالة الليلة الماضية‪" .‬ما‬
‫َ‬ ‫رأيتها‬
‫أحد المتحدثين الرسميين‪.‬‬
‫أجبتها‪" :‬ليزا"‬
‫"واسمك العبري؟"‬
‫مؤخرا ألنني تركت جوابه فار ً‬
‫غا في‬ ‫ً‬ ‫كنت قد طرحت هذا السؤال على أمي‬
‫استمارة التسجيل لتج ّمع الساباث هذا‪ .‬فأدارت عينيها‪ ،‬وأجابتني بنبرة تغلّفها ِ‬
‫الحدّة‬
‫والعصبية كما لو كانت هي نفسها المهاجرة‪ " :‬نحن أمريكيون"‪ ،‬فاألسماء العبرية‬
‫التي تنحدر من البلد القديم لم تكن تصلح مع رؤيتها‪ .‬لكنني نجحت في الحصول‬
‫على القصة من لسانها‪ :‬كيف أرادت بعد والدتها لي إعالن اسمي في المعبد‪ ،‬كيف‬
‫ي‪،‬‬
‫جرى إخبارها بأن تقوم بفعل ذلك‪ ،‬فقد كان الحصول على اسم عبري ِلزا ًما عل ّ‬
‫تقول لي‪ " :‬لذا فقد َمنَحك الحاخام واحدًا‪ ،‬لكن لم يكن بنيّتنا استخدامه بكل األحوال‪".‬‬
‫"ث ّم ماذا؟"‬
‫"إنّه ليا" أجابتني بنفور بيّن‪.‬‬
‫" لي‪-‬يا؟" تساءلت‪.‬‬
‫"هكذا لفظه الحاخام‪".‬‬
‫"ليا" أخبرت سيما‪ ،‬وفخورة بأنني قد عرفته‪" .‬لكن لماذا؟"‬
‫فردّت سيما‪" :‬هذا اسم روحك اليهودية‪".‬‬
‫ثم أخذَت فطيرة توت من طبق كبير موضوع بجانب وعاء القهوة‪ ،‬ووضعته‬
‫على طبق ورقي وقَدّمته لي‪ .‬وبيدها األخرى‪ ،‬لَ َمست كتفي‪ ،‬كما لو أنها تعرفني منذ‬
‫أتودين أن تتناولي بعضها؟"‬
‫سنوات‪ ،‬وقالت‪ّ " :‬‬
‫ي كما لو ّ‬
‫أن الطبق دعوة لناد من نوادي النخبة‪ .‬وكيف‬ ‫فقَبلت ما َ‬
‫ع َرضت عل ّ‬
‫ال أقبل؟ لقد َخ َ‬
‫طرت على بالي سريعًا فكرة استبعاد أصدقائي من غير اليهود ممن‬
‫ي رغم ذلك قَ َ‬
‫ضمت الفطيرة الحلوة‪ .‬وقبل أن‬ ‫ليس لديهم اسم ونسب يهوديان‪ ،‬لكن ّ‬
‫نفترق أنا وسيما‪ ،‬قبلت عرضها بتعليمي المزيد‪ .‬فهي ستتصل بي من أجل قضاء‬
‫الساباث في منزلها‪ .‬لقد كان الوضع كالتالي‪ :‬سيما‪ ،‬والدة األطفال الستّة‪ ،‬أطعمتني‬
‫وابتسمت لي ولمست كتفي‪ .‬لقد قالت لي بأنني أنتمي إليهم‪.‬‬
‫تلك الليلة‪ ،‬وبعد أن هبط الظالم و َ‬
‫طلَعت النجوم‪ ،‬تجمعنا في القاعة الرئيسية‬
‫مع الحاخام غيلر‪ .‬أحدهم قام بخفض األضواء‪ .‬وقام أحد الرجال الملتحين بإشعال‬
‫ً‬
‫أزيزا‬ ‫عود ثقاب وإيقاد شمعة طويلة ومضفورة ذات ألوان كثيرة‪ .‬أصدر اللهب‬
‫وتعالى‪ .‬ثم حمل الشعلة عاليًا‪ ،‬والنار تتراقص في الظالم‪ .‬فأعلن الحاخام غيلر بأن‬
‫الشمعة هي رمز الساباث المقدس الموثَق وسط األيام الدنيوية الحالكة‪ .‬ورفع كأسه‬
‫الفضية وأخذ يصدح بالغناء‪"Hinei el yeshuasi evtach v’lo efchad" :‬‬
‫"نحن نؤمن بأن الساباث سيعود‪ ".‬ورتّل الحاخام‪" :‬الرب سيحمينا‪ .‬ال ولن نخاف‪".‬‬
‫ثم تقوم أيد كثيرة بتمرير أكياس مشبّكة صغيرة من القرنقل لكل واحد منا من أجل‬
‫ارتشف‬
‫َ‬ ‫تنشقها إلنعاش الروح حالما نعود لدخول األيام الحالكة بعد الساباث‪.‬‬
‫س َك َ‬
‫ب بقيته في طبق على الشمعة المائلة حتى طفت آخر جمرة‬ ‫الحاخام من النبيذ و َ‬
‫على السطح األحمر الغامق‪ .‬يحط ترقّب اللحظة القادمة َوق َعه على الحشد‪ ،‬ظالم‪،‬‬
‫شهيق هاديء‪ ،‬تلك الجمرة الوحيدة‪ ،‬نفحات النبيذ والقرنفل‪ ،‬شعور بالمودة والحسرة‬
‫يجتاح الغرفة قبل أن يضيء أحدهم األنوار‪ .‬لقد َر َمشت عيناي كما لو أنني أستيقظ‬
‫توا‪" .‬إيليا‪ "،‬غنّى الرجل‪ ،‬أغنية اخرى أعتاد أبي على غنائها لي في‬
‫من النوم ً‬
‫الظالم‪" Eliyahu hanavee .‬إيليا النبي‪ ،‬ابن تيشبة‪ ،‬ابن جلعاد‪ ".‬المب ّ‬
‫شر‬
‫بالمسيا‪ ،‬حينما سيكون كل يوم من األسبوع ساباثًا‪.‬‬

‫انتهت تلك الليلة التي أعقبت الساباث‪ ،‬تنّحى الحاخامات وتولى طاق ٌم محل ٌ‬
‫ي‬
‫زوار‬
‫تنظيم األمور بعد أن وصلت القناة الثامنة لألخبار للمكان من أجل تصوير ّ‬
‫تكساس المنتمين الى أزمنة عتيقة‪.‬‬
‫ارتفع عدد الحضور اآلتين من غير الحسيديم وشكلّوا حلقة على األرض‬
‫أحاطت باثنين من الحسيديم اللذين كانا يؤديان رقصة الكازاتشاك لحشد من‬
‫المصفقين‪ .‬كنت أنا وجانيس وآنا جز ًءا من ذلك الحشد‪ ،‬وآنا تحمل حقيبة غيتارها‪.‬‬
‫ي‪ .‬ض ّمت آنا إحدى يديها حول فمها‪،‬‬
‫نظرت آلنا وأشَرت للحقيبة ورفعت حاجب ّ‬
‫قربت شفتيها من اذني وقالت‪ " :‬لقد سمعنا أحدهم ونحن نغني" لكن الساباث‬
‫ّ‬
‫السحري انقضى وسنعود من حيث أتينا‪ ،‬فقد عادت آنا حرة لتعزف على غيتارها‪.‬‬
‫أحرارا من قيود األرض الحسيدية لنعود إلى العالم الذي‬
‫ً‬ ‫أحرارا لنغني‪،‬‬
‫ً‬ ‫وعدنا‬
‫ضا للزوار الذين لم يكونوا مثلنا‪ ،‬وعلى‬
‫يضج بأصوات النساء‪ .‬لقد رأينا للتو عر ً‬
‫الرغم من أنني قد رغبت بمعرفة المزيد عن قواعدهم‪ ،‬إال أنني أردت التمتع بهذه‬
‫الحرية كذلك‪.‬‬
‫وج ّهت المرأة التي كانت تدير مكتب الكنيس اثنين من الرجال لنصب المنصة‬
‫المؤقتة أمام الكاميرا التلفزيونية الضخمة‪ .‬حش ٌد متداف ٌع‪ ،‬أضوا ٌء مشتعلة‪ ،‬والمرأة‬
‫تشير إلينا‪ :‬جانيس وآنا وأنا‪ .‬نظرت آلنا ثم نقلت بصري لجانيس‪ ،‬مذهولةً بعض‬
‫الشيء‪ ،‬وأنا أصعد إلى المنصة خلفهن‪ .‬نغمةٌ على وتر الغيتار‪ ،‬ابتسامةٌ نتشاركها‬
‫إحدانا مع االخرى‪ ،‬فاألمر سيّان سواء أكنا نغني لجدران صف مدرسة األحد أو‬
‫لهذه األنوار العمياء‪ .‬أرجع رأسي للوراء‪ ،‬وأرفع صوتي ليكون جز ًءا من تناغم‬
‫طوقة بأصدقائي وبالموسيقى‪ .‬لم أعرف بأن آنا ستختفي من‬
‫ثالثي‪ ،‬وأشعر بأنني م ّ‬
‫حياتي‪ ،‬وال ّ‬
‫أن جانيس ستعاود الظهور بعد سنوات‪ .‬لقد غنيّنا‪ ،‬وكم كنا بريئات!‬
‫لم أعرف ّ‬
‫بأن هذه اللحظة من الصداقة‪ ،‬والصدق‪ ،‬والصوت الكامل غير‬
‫المنقوص‪ ،‬ستغادرني لزمن طويل‪.‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫اإلجهاض‪ .‬سا َد في‬


‫َ‬ ‫في يناير الذي ت َلّى تجربة الساباث‪ ،‬ش َّرعت المحكمة العليا‬
‫انتصارا تحقّق لصالح النساء‪.‬‬
‫ً‬ ‫إحساس ّ‬
‫بأن ث ّمة‬ ‫ٌ‬ ‫األخبار‪ ،‬وفي الجامعة‪ ،‬وفي منزلنا‬
‫ِ‬
‫نصرا لوالدتي‪ ،‬إذ إنني لم أستطع تخيل نفسي امرأة ً‬
‫ً‬ ‫أما أنا فشعرت به كما لو كان‬
‫النفور‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ولكن الفكرة َ أثارت في نفسي‬ ‫حبلى‪ .‬لقد حاولت‪،‬‬
‫خَرجت ذات ليلة برفقة أصدقائي التوأم‪ ،‬تيم وتيري‪ ،‬والصبية بات‪ .‬كان التوأم‬
‫مالبس نسائية قديمة الطراز‬
‫َ‬ ‫يتحدثان بلهجة أهل ريف تكساس‪ ،‬وقد أحبّا ابتياع‬
‫وألبساها لبات‪ ،‬التي بدت بشعرها األحمر الطويل حتى الخصر‪ ،‬كما لو أنها دمية‬
‫الباربي الخاصة بهما‪َ .‬جلَس تيري في الخلف مع بات بينما كان تيم يقود سيارتهما‬
‫الفولكسفاغن المتهالكة‪ .‬وكان تيم ينتعل حذاءه المفضل العالي‪ ،‬وقد غطى بثور‬
‫بشرته بالماكياج‪ .‬لم يكن في السيارة أحزمة أمان‪ ،‬كما كان البرغي الذي يفترض‬
‫أن يثبّت مقعد الراكب األمامي‪ ،‬حيث كنت أجلس‪ ،‬مفقودًا‪ .‬وحينما كان تيم يضغط‬
‫على المكابح التي اعتاد أن يدوسها بقوة‪ ،‬كان مقعدي ينقلب ويلقى بي إلى أرضية‬
‫السيارة‪ ،‬وقد حدث هذا مرات كثيرة‪ ،‬لذا فقد كنت أحاول أن أتشبث جيدًا‪.‬‬
‫َطرة والمبهجة بنفس الوقت‪ ،‬بكون تيم وبيري مثليي الجنس كانت‬
‫إن االحتمالية الخ ِ‬
‫بال شك تمثّل جز ًءا من جاذبيتهما‪ّ ،‬‬
‫لكن هذه الصفة ال تستعمل إال لوصف اآلخرين‬
‫سا ال جهراً‪ ،‬وال يجرؤ أحد عل تعريف نفسه بها‪ ،‬ولهذا لم يكن بنيّة أحدهما‬
‫هم ً‬
‫تأكيد هذا األمر‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬لم يكن يبدو انهما على يقين بكونهما مثليين‪.‬‬
‫ولكن في تلك الليلة بالخصوص‪ ،‬كان هناك ما يشغل بال تيم وهو يقود السيارة‪،‬‬
‫فاقدا ً لحيويته المعتادة‪ ،‬فسألته‪" :‬أهناك ما يشغل بالك؟"‪.‬‬
‫"تيم!" خاطبه تيري من الخلف بنبرة تحذيرية‪.‬‬
‫وعلى نحو مفاجيء قاد تيم السيارة إلى جانب الطريق ثم توقف‪.‬‬
‫"ما الخطب؟" تساءلت‪.‬‬

‫التفت تيم لالثنين الجالسين في الخلف ونحوي‪ ،‬ثم قال‪" :‬أريد أن نعقد ميثاقًا‪".‬‬
‫"ماذا؟" قال تيري‪.‬‬
‫"ميثاقًا بأننا سنظل منفتحين أمام كل فرصة للحب‪ ".‬قالها بصوت درامي‪ ،‬ثم بَسط‬
‫كفه‪ ،‬متحديًا أخيه‪ .‬ارتعشت يده‪ ،‬وبتأن‪ ،‬وضع تيري َكفَّه على ّ ِ‬
‫كف أخيه‪ ،‬ثم وضعت‬
‫بات يدها فوق يديهما‪.‬‬
‫لم أستطع التصديق بأنهما قد تجرءا على قول ذلك‪ .‬بأنهما لن يختبئا من َبحلَقات‬
‫اآلخرين واستهزائهم الذي ال مناص من التعرض له في الجامعة‪ .‬حسنًا‪ ،‬فكرت‪،‬‬
‫لن تكون تلك النظرات المبحلقة موجهة نحوي‪ .‬يخفق قلبي‪ ،‬وأبقي يدي الى جانبي‪.‬‬
‫صا بكلية‬ ‫وفي ليلة أخرى‪ ،‬بقيت فيها مستيقظة حتى وقت متأخر‪ ،‬أطالع ً‬
‫دليال خا ً‬
‫أوبرلين‪ ،‬إذ كنت قد أرسلت في طلب دزينة أو نحو ذلك من تلك الكتيبات الخاصة‬
‫بمختلف الكليات من أجل أن أطلّع عليها وأحلم بها‪ ،‬وقد كانت جميعها متناثرة على‬
‫ي‬
‫سريري‪ .‬أما تحت السرير فقد تج ّمعت أكوام من الغبار المتطاير‪ ،‬فيما بدا كرس ّ‬
‫المكتب مثقال بكومة من سراويل الجينز والتيشرتات واألفروالت حتى كاد أن‬
‫يترنح‪ .‬وعلى الجدار علّقت صورة ٌ بحجم بوستر لكارول كنغ‪ ،‬من ألبومها (امرأة‬
‫طبيعية)‪ .‬كانت خصل شعرها المجعّدة تؤطر وجهها‪ ،‬وكان فمها مفتو ًحا‪ ،‬كأنها‬
‫تغني لألبد‪ .‬وعند طرف السرير وضعت التشيلو الذي اشتريته من النقود التي‬
‫ادّخرتها حينما كنت أعمل جليسةً ألطفال الح ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫كنت أقلّب صفحات كتاب "أجسامنا‪ ،‬ذواتنا"‪ ،‬وهو هدية من والدتي‪ ،‬التي كانت قد‬
‫ظهرت عند باب غرفتي لتسلمني إياه على استحياء‪ .‬حينها وجدت الفصل المعنون‬
‫يسموننا سحاقيات‪ ".‬وتحت العنوان تموضعت صورة لثالث فتيات‬
‫ّ‬ ‫بـ "في أمريكا‪،‬‬
‫كورت إحداهن يدها حول‬
‫يمسكنَ بأيادي بعضهن وهن يعتمرنَ قبعات رجالية‪ ،‬وقد ّ‬
‫نارا‬
‫أن ً‬‫نهد األخرى والضحكات ترتسم على شفاههن‪ .‬فصفقت الكتاب بقوة كما لو ّ‬
‫ستني‪.‬‬
‫قد م ّ‬
‫عقدت العزم على التقديم على كل منحة دراسية أصادفها‪ ،‬وقررت أن أحصل على‬
‫شهادة جامعية في الفنون وأنتقل بعيدًا عن المنزل لدراسة التشيلو‪ .‬سأسعى للحصول‬
‫أجرا مقابل االعتناء باألشياء الجميلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫على عمل في أحد المتاحف وأتقاضى‬
‫سأجرب أطعمة الكوشر المحلّلة وأمأل حياتي الجديدة بأمثال من ينتمون لتلك الطائفة‬
‫التي وجدتها في تجربة الساباث‪.‬‬
‫مددت يدي لبروشور خاص بمؤسسة نساء لوبافيتش التي يديرها الحاخام غيلر في‬
‫صور ملونةٌ لنساء‬
‫ٌ‬ ‫مينابوليس كان قد أعطانيه في وقت سابق‪ ،‬كانت تملؤه‬
‫سم يقمنَ بالطبخ والدراسة والصالة‪ .‬إنني واثقة من قدرتي‬
‫محتشمات ودائمات التب ّ‬
‫على إقناع آنا بمرافقتي في مغامرة هروب قصيرة قبل االلتحاق بالجامعة‪.‬‬
‫كانت ديبي قد غادرت للتو لحياة الجامعة والحرية‪ ،‬أما في الغرفة المجاورة فقد‬
‫كانت آمي‪ ،‬ذات األربعة عشر ربيعًا‪ ،‬تشغّل ألبومي المفضل لكارول كنغ‬
‫وتكرارا‪ .‬وقد كانت آمي تتردد على منزل أحد الجيران‪ ،‬الذي‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫(تابستري)‬
‫كانت تدخل إليه وتخرج منه شخصيات مريبة‪ ،‬حيث كانت تلتقي هناك بحبيبها الذي‬
‫قالت بأنها سوف تتزوجه‪ ،‬والذي لطالما صارعت من أجل أن تقضي الليالي معه‪.‬‬
‫وفي بعض األحيان لم تكن تعود لتبات في المنزل‪ .‬ثم توقفت الموسيقى‪ ،‬وعقب‬
‫ذلك سمعت صوت صفق الباب‪ ،‬ثم تعالت األصوات‪.‬‬
‫وجدتهم في غرفة الجلوس‪ ،‬أمي شعثاء الشعر بقميص نصف مزرر‪ ،‬وأختي آمي‬
‫مكورتين وعيناه خاملتين‪ .‬فيما كانت آمي‬ ‫وأبي‪ .‬كان وجه أبي م ً‬
‫ثقال بالتعب‪ ،‬وكتفاه ّ‬
‫تقول‪" :‬سأخرج ولن يقف أحد في طريقي!"‪ .‬كانت ترتدي سترتها ذات الشراشيب‬
‫وتقبض على حقيبتها اليدوية المشرشبة‪.‬‬
‫ردّت أمي‪" :‬ماذا؟ كال‪ ،‬لن تفعلي‪".‬‬
‫ّ‬
‫لكن الحجرة كتمت األصوات‬ ‫ثم انفجرت كلتاهما بالصراخ على اآلخرى‪،‬‬
‫المتعالية‪ .‬ك َّن كالدمى المتحركة بين أكوام الجرائد الم ّ‬
‫صفرة والبريد غير المفتوح‬
‫صت‬
‫والكتب المنسية التي تغطي طاولة القهوة وتفترش األرضية‪ .‬وعلى الجدار ر ّ‬
‫علَتها األتربة‪ .‬كل هذا المشهد‪ -‬بأبطاله‬
‫ست لوحات كانفاس ضخمة بألوان متراقصة َ‬
‫مكتومي األصوات وديكوره المهمل‪ -‬يمثل شاهدًا صامتًا على االثاث المخزي المع ّد‬
‫ّ‬
‫خلفهن‪ ،‬فكانت عتمة الليل تط ّل على الغرفة من‬ ‫من أجل ضيوف لم يأتوا أبدًا‪ .‬أما‬
‫صفرة المفتوحة‪.‬‬
‫خالل الستائر الم ّ‬
‫كان والدي‪ ،‬الذي يبدو شبحا بسبب كثرة تناول األدوية النفسية‪ ،‬يترنح في وقوفه‪.‬‬
‫"أطيعي والدتك" زمجر في وجه آمي بصوت متوتّر محاوال اإلمساك بذراعها‪،‬‬
‫لكنها ن َّحته جانبًا‪ ،‬فتعثّر للخلف‪.‬‬
‫"أمي‪ ،‬أظن بأنني سأذهب لمنزل سيما هذه الليلة" قلت بذلك الصوت اإليقاعي‬
‫ضيوف إلى‬
‫ٌ‬ ‫المتروي الذي قد يدّخره أحدهم من أجل خادم غبي بعد أن وصل‬
‫ّ‬
‫منزله‪.‬‬
‫فغرت أمي فاها‪ ،‬وأح ّمر وجهها‪ .‬لقد بدت كمن تلّقى صفعة على وجهه‪ .‬فقد رحلت‬
‫َ‬
‫ديبي‪ ،‬وأنا وآمي في نوبة تمرد‪ ،‬وكالنا متأهبتان للهروب‪.‬‬
‫لقد تمنيت بأنني لم أبح لها بشيء عن تجربة الساباث أو عن سيما‪ .‬فقد كنت ال‬
‫أسيطر عل نفسي‪ ،‬ودائ ًما ما كنت أفشي لها ك ّل شيء‪ ،‬متمنية كل مرة أن تقوم‬
‫بحفظ ما شاركتها إياه تلك المرة‪ .‬لكنّها ردت‪ " :‬األرثودوكسية هي تالعب بالعقول‪".‬‬
‫بردّي‪" :‬األرثودكسية تعني األمهات الالتي هن أمهات‬
‫فما كان مني إال أن رشقتها َ‬
‫حقًا واآلباء الذين هم آباء حقًا‪ ".‬فبَ َدت مصعوقة إلى حد جعلني أرغب بأن أركع‬
‫متأسفة عند قدميها‪ ،‬لكنني ً‬
‫بدال من القيام بذلك أكملت ما بدأت قوله‪" :‬أوه‪ ،‬إنها تعني‬
‫ضا بيوتًا نظيفة‪".‬‬
‫أي ً‬
‫استدارت أمي نحو آمي ثم نحوي‪ ،‬ثم التفتت مجددًا نحو آمي‪ ،‬ما جعل كلينا أكثر‬
‫عرا‪ .‬كانت آمي تمسك بحقيبتها اليدوية‪ .‬وبعينين المعتين‪ ،‬رفعت أمي ذراعيها‬
‫ذ ً‬
‫وخرت على األرض‪ ،‬حيث ثنت جسدها‬
‫ّ‬ ‫كما لو أنها تصد شيئًا‪ ،‬ثم انفجرت باكية‪،‬‬
‫وجلست القرفصاء‪ ،‬ثم شرعت بالعويل‪ .‬كان صوتها ثاقبًا‪ ،‬وبدائيًا‪.‬‬
‫ي وخوف طفولي‬ ‫أفلتت آمي جزدانها من يدها‪ ،‬فاغرة ً فاها اندها ً‬
‫شا‪ .‬ث ّم نظرت إل ّ‬
‫يمأل عينيها‪ ،‬لكني لم أستطع توجيهها‪ ،‬ولم أستطع منحها أي مساعدة‪" .‬ساعديها"‬
‫ّ‬
‫كخط على ذقنه‪.‬‬ ‫قال أبي‪ ،‬لكنه كان يعني والدتي‪ ،‬فيما كان لعابه يسيل‬
‫جثمت إلى جانب أمي‪ ،‬بجسدها المطوي ونشيجها المضطرب‪ .‬كم وددت أن أقول‬
‫بأسلوبك الدرامي‪ ،‬لكنني لم أتمكن من‬
‫ِ‬ ‫ت الرابحة‪ .‬لقد تغلّب ِ‬
‫ت علينا‬ ‫لها‪ ،‬حسنًا‪ ،‬أن ِ‬
‫إنك تغادرين‪ ،‬قال جسدها‪ .‬كانت تنوح وتولول‪" :‬لقد فشلت‪ .‬لقد خَذلتِني"‪.‬‬
‫قول ذلك‪ِ .‬‬
‫"أماه؟" قالت آمي الصغيرة وهي غير مصدقة‪.‬‬
‫ثم لمحت نظرة ً جانبيةً ماكرة ً ألمي‪ .‬أو هل خيّل ذلك لي؟ تلك الصرخات‪ .‬ووسط‬
‫دوامة من الحاجة والشك والخوف أقول‪" :‬أمي‪ ،‬حاولي أن تهدأي‪ ".‬رغبت بأن‬
‫ّ‬
‫وتئن مثل حيوان جريح‪.‬‬ ‫ي‪ .‬رغبت بأن أدفعها وأهرب‪ .‬كانت تنود‬
‫أضمها بين ذراع ّ‬
‫"أبي‪ ،‬أحضر رقم الدكتور بالك‪ ".‬قلت له‪.‬‬
‫عاد أبي كطفل مطيع وبحوزته دليل الهاتف‪ .‬فتحدثت لعامل النوبة الليلية في عيادة‬
‫الطبيب النفسي لوالدتي‪ ،‬وصوت نشيجها وعويلها ال يهدآن خلفي‪ ،‬فقال لي العامل‪:‬‬
‫ي إيصالها له؟"‬
‫"هل لي أن أعرف ما المشكلة التي عل ّ‬
‫أمامي كان يقف أبي بف ّكه المرتخي‪ ،‬وآمي وهي تقبض على جزدانها وتنظر نحو‬
‫الباب‪ ،‬وأمي التي تجلس منتحبةً على األرض‪ .‬وقد كان معهم ضمن المشهد الفتاة‬
‫التي تحمل سماعة الهاتف‪ ،‬أال وهي أنا‪ ،‬بذاتها غير المتبلورة ورغباتها المخبوءة‪.‬‬
‫كان الذنب هو الشبكة الحديدية التي تربطنا جميعًا‪ .‬قلت للعامل‪" :‬فقط… دعه‬
‫يهاتفنا‪".‬‬
‫عندما اتصل الدكتور بالك‪ ،‬فتحت أمي راحة يدها للحظة ألضع فيها سماعة الهاتف‬
‫فقبضت عليها بيدها حتى ابيّضت براجم أصابعها وهي رابضة على األرض‪ ،‬تنود‬
‫وتنتحب‪.‬‬
‫إن كانت المغادرة تعني خذالنها‪ ،‬فلسوف أخذلها‪ .‬في المطبخ‪ ،‬سرقت المفاتيح من‬
‫حقيبتها وتسللت خارج المنزل‪.‬‬

‫ت فاعلة؟" قلت لنفسي‪ ،‬فقد عدت للمنزل في ذات الليلة‪ .‬لم تكن‬
‫"يا إلهي‪ .‬ماذا أن ِ‬
‫المرة األولى التي أخرج فيها من الباب ألعود متسللة الحقاً‪ .‬لقد استمررت في‬
‫محاوالت المغادرة ومن ثم العودة في كل مرة‪ ،‬إنها قوة جاذبية المنزل التي ال‬
‫ً‬
‫سبيال لفهمها‪ .‬هذه المرة عدت ألجد آمي في غرفتها‪ ،‬تمسك‬ ‫تضعف والتي ال أجد‬
‫بشفرة حالقة على معصمها المقلوب‪ .‬كانت الشفرة تلمع في الغرفة المظلمة‪ ،‬وكان‬
‫الشحوب يطلي وجهها بألوانه الخضراء والرمادية الباهتة‪" .‬ماذا تريدين" قالت لي‪،‬‬
‫بصوت بارد‪ ،‬ومن دون أن تنظر نحوي‪.‬‬
‫تقدمت نحوها خطوة حذرة‪ ،‬ثم أعقبتها بأخرى‪ ،‬والخوف يتملكني خشيةَ أن أقول‬
‫أي كلمة في غير محلها‪" .‬ال تفعليها" خاطبتها‪ ،‬ثم غمرني شعور بالذنب‪ .‬لم أتمكن‬
‫من استجماع كلماتي ألقول لها‪" :‬أختاه‪ ،‬إنني أتفهم األمر‪ .‬نحن سويًا في هذا‬
‫الوضع" ‪ ،‬لكنني لم أستطع أن أقول "نحن‪ ".‬كان األمر كما لو أنني أردت إبقاء‬
‫نفسي في فئة مختلفة‪ ،‬لسنا "نحن"‪ ،‬بل إنني أعزل نفسي عنها‪ ،‬من أجل أن أبعد‬
‫يأسها من التسرب لداخلي‪ ،‬كما لو أنني احتجت الدّخار القوة من أجل مواجهة‬
‫الخطر الذي كان مح ّدقًا‪ .‬كان شعرها ينسدل على وجهها مثل ِستارة مغلقة‪.‬‬
‫لفّني الصمت والعجز‪ ،‬ولكن كان عل ّ‬
‫ي أن أفعل شيئًا فقلت لها‪" :‬سوف‪...‬أعود‬
‫ً‬
‫حاال‪ ".‬لم يكن هناك سوى مكان وحيد أتوجه إليه‪ ،‬هرعت إلى أمي‪ .‬كانت تستلقي‬
‫على السرير‪ ،‬وعلى المنضدة التي بجانبها رأيت علبةَ حبوب فارغة ملقاة على‬
‫جانبها‪ .‬لقد بدت كما لو أنها مدفونة تحت جبل من الرمال المتحركة التي سيكون‬
‫ي المجردتين‪ّ ،‬‬
‫لكن الرمال ستعود حت ًما لملء كل حفرة‬ ‫ي غرفها وحملها بعيدًا بيد ّ‬
‫عل ّ‬
‫استطعت تفريغها‪ .‬هززت السرير‪ ،‬وجذبتها من ذراعها‪ .‬لقد كانت هناك في مكان‬
‫ما‪ .‬كان يتحتم أن تكون‪ .‬قلت لها‪" :‬أفيقي!‪ ،‬آمي تريد قطع رسغها‪ ".‬أصدرت بعض‬
‫األنين‪ ،‬ولوحت بيد واهنة سرعان ما تهاوت مرة أخرى‪.‬‬
‫أرجوك!"‬
‫ِ‬ ‫"أمي‪.‬‬
‫"آه هاه‪ "،‬تمتمت قائلة‪.‬‬
‫أطبق الصمت على كل ما حولنا في الغرفة والمنزل‪ .‬كان شعرها أسو َد ناع ًما‪،‬‬
‫بتالفيف سوداء وبيضاء غير مألوفة وتلتحف بطانيتها الناعمة العتيقة التي تفوح‬
‫منها رائحة الدفء‪ .‬أناديها‪" :‬أمي‪ ،‬أمي‪ ".‬وفي الجانب اآلخر للغرفة‪ ،‬تكدست على‬
‫خزانة األدراج كومة يربو ارتفاعها على أكثر من قدم من الحقائب والشاالت‬
‫وطبقات من القمصان والفساتين والتنورات التي لم أتذكر بأنها قد ارتدتها يو ًما‪.‬‬
‫صف من علب وعصارات الماكياج‪ ،‬وكان بريقها خافتًا‬
‫ٌ‬ ‫كما انتصب على الواجهة‬
‫غبرا‪ .‬كانت مفاتيحها في المكان الذي ألقتها فيه تدعوني للتفكير في المغادرة‪.‬‬
‫وم ً‬
‫لكنني لم أستطع أن أتخيل مكانًا َ‬
‫آخر ألجأ إليه لطلب المساعدة‪ ،‬فأمي كانت بمثابة‬
‫العالم كله لنا‪.‬‬
‫في الصباح التالي‪ ،‬استيقظت على شعور بالمسؤولية تجاه آمي كما لو ّ‬
‫أن كومة‬
‫أحجار كانت في حنجرتي‪ .‬وجدتها في الحمام‪ ،‬تستعد للذهاب إلى المدرسة‪ ،‬بتنورة‬
‫قصيرة وحذاء ذي كعب عريض‪ ،‬تميل على المرآة المثبتة فوق الخزانة وتضع‬
‫الكحل لتحديد عينيها‪" .‬مرحبًا" حيّتني بنبرة ملؤها الحيوية والنشاط‪ ،‬وبنظرة سريعة‬
‫إلى وجهي الذي يعلو وجهها في المرآة‪.‬‬
‫قلت لها‪" :‬ألم تتأخري؟"‬
‫فأجابتني‪":‬بالكاد"‪ .‬كان معصماها سليمين ونظيفين‪ ،‬وال أثر للدماء عليهما‪.‬‬

‫في وقت الحق من ذلك األسبوع وصلت مع آنا لحضور وجبة الساباث الدسمة‬
‫والمتأخرة في الوقت في بيت سيما‪ .‬كانت الحجرة تتسع بالكاد لمائدة العشاء الكبيرة‬
‫التي تجمعنا حولها‪ ،‬أنا وآنا وعائلة راكوفسكي ‪-‬سيما والحاخام وأطفالهما األربعة‪-‬‬
‫وهم متأنقون بحلّة الساباث‪ .‬كنا قد وصلنا قبل َجلَبَة الساباث‪ ،‬وكانت اإلبنة رينا‬
‫حينها تقوم بتثبيت الشموع أمامنا في الشمعدان المتشعب‪ ،‬وسيما تخرج صواني‬
‫الكوجيل من الفرن‪ ،‬لوبا تشد رباط حذاء شيمي‪ ،‬وكان الحاخام راكوفسكي ينزل‬
‫عا وهو منهمك بعقد ربطة عنقه‪ .‬بدأت الشموع حينذاك باالحتراق‪،‬‬
‫الساللم مسر ً‬
‫لهيبها المرتعش ببطء يرسم خياالت راقصة‪ ،‬الهواء ساكن ودافئ‪ .‬وقد بدا َحبر‬
‫لوبافيتشر‪ ،‬الزعيم المقدس لحركتهم‪ ،‬وكأنه يلقي علينا نظرة حانية من صورته‬
‫متأخرا‪ ،‬ولم يكن العشاء لينتهي‪ .‬أثق َل النعاس‬
‫ً‬ ‫المكبّرة على الجدار‪ .‬كان الوقت‬
‫ي‪ .‬وبين األجساد المتراخية كان األطفال المتعبون‪ :‬رينا ولوبا‪ ،‬وناتشوم بوجهه‬
‫عين ّ‬
‫النحيل الشاحب ونظارته التي تنزلق على أنفه‪ ،‬وشيمي الناعس ذو الثالثة أعوام‬
‫والذي كان يرتدي منامته‪ .‬جلس الحاخام في مقدمة المائدة مرتديًا معطفه األسود‪،‬‬
‫وجلست سيما بجانبي بثوب أنيق وشعر مستعار وحذاء ذي كعب‪ ،‬إذ كانت قد‬
‫خلعت المئزر‪.‬‬
‫سا عميقًا‪ ،‬ثم قالت‪ ،‬مع حدة في نبرة صوتها‪" :‬أتعلمون‪ ،‬لقد تحول‬
‫أخذت آنا نف ً‬
‫حبيبي ريتشارد لليهودية في معبد إيمانويل‪ .‬وبات يهوديًا اآلن‪".‬‬
‫ي‪ .‬وهم ال يتّبعون فيه الشريعة‪،‬‬
‫"معبد إيمانويل؟" قال الحاخام‪" .‬ذلك المكان إصالح ٌ‬
‫ّ‬
‫إن تحوله ال قيمة له"‬
‫في تلك اللحظة انقسم العالم إلى "نحن" و"هم"‪ .‬وقد صادف بأن هبطنا أنا وآنا على‬
‫جراء الصدفة التي جعلت والدتنا هناك‪ .‬خفضت آنا‬
‫الجانب الصحيح من الطريق‪ّ ،‬‬
‫بصرها‪ ،‬وهزت برأسها‪.‬‬
‫في وقت مبكر من الصباح التالي‪ ،‬استيقظت على صوت نشيج شيمي في الممر‪.‬‬
‫قمت من الفراش‪" .‬ششش" همست له‪" .‬والداك نائمان‪ ،‬أخبرني ماذا تريد‪".‬‬
‫تبول‪ ،‬تبعت تعليماته اللثغاء بصب الماء من إبريق ذي‬
‫فتمشى إلى الحمام‪ .‬وبعد أن ّ‬
‫مقبضين على يده اليمنى ً‬
‫أوال‪ ،‬ثم على يده اليسرى‪ ،‬وسمعته يردد صالة‬
‫"‪ "Modeh ani‬الصباحية‪ .‬وفي غرف ِة نومه‪ ،‬ساعدته على ارتداء رداء قطني‬
‫مربع يحتوي على فتحة‪ ،‬ومشرشب بحبال بيضاء طويلة تتدلى من كل زاوية‪.‬‬
‫فكرت‪ ،‬إنه بمثابة شال صالة صغير دائ ًما ما يرتديه‪ ،‬فزررت له القميص فوق‬
‫الشال‪ .‬أخذ شيمي إحدى الشراشيب ولَفها حول سبابته‪ .‬ثم رتّل مباركة عبرية وقبّ َل‬
‫الحبا َل‪.‬‬
‫تناولت معه حبوب الفطور مع الحليب‪ ،‬ثم ذهبنا في نزهة صباحية على األقدام بين‬
‫المروج المشذبة وأشجار القرانيا المزهرة وزهور الثالوث الجديدة التي تحيط‬
‫باألشجار اليافعة‪ .‬براءة شيمي المحمية والشعور بيده الصغيرة في يدي‪ ،‬توسال‬
‫معاملة رقيقة‪ .‬لقد رأيت به أنموذ ًجا قيّ ًما للحياة الحسيدية‪ ،‬النقاء مجسدًا‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬ذهبت برفقة آنا مع العائلة إلى الكنيس‪ .‬لقد شعرت بالغرابة حين ارتديت‬
‫أفضل مالبسي من دون غسل‪ ،‬لكنها كانت البداية للمزيد من هذا‪ ،‬عائلة مترابطة‬
‫بفضل بنية الشريعة وسلطتها الراسختين‪ ،‬اإليقاع المستقر في أيامهم المكتوبة‬
‫والمختومة بقبول الرب‪ .‬أظهرت آنا كراهتها لعدم االغتسال‪ ،‬لكنني بدأت أفهم مدى‬
‫ض َعة وتفاهة اعتراضاتنا وراحتنا أمام الشريعة الضخمة العتيقة‪.‬‬
‫ِ‬
‫لم تكن هناك أرصفة على جانب الطريق‪ ،‬لذا فقد ِسرنا في الشارع‪" .‬صبا ٌح جميل"‬
‫قلت لسيما‪.‬‬
‫ي‪ "Baruch hashem" :‬أي الشكر للرب‪.‬‬
‫فردت عل ّ‬
‫فرددت عليها‪ ،Baruch hashem" :‬إذن… يعود الفضل للرب؟"‬
‫"تما ًما‪ "،‬أجابتني‪.‬‬
‫متظاهرا بكونه جنديًا‪ ،‬أما شيمي فكان يتهادى‬
‫ً‬ ‫ناتشوم كان يلقي التحيّة ويسير‪،‬‬
‫سعيدًا أثناء سيره‪ ،‬وهو يحاول تقليد أخيه‪ ،‬فحذرت سيما ناتشوم‪ ،‬وهي تشير برأسها‬
‫المارة‪" :‬انتبه ألخيك"‬
‫ّ‬ ‫للسيارات‬
‫قلت لناتشوم‪" :‬إنك جندي الرب‪ ".‬فجعله ذلك يبتسم‪.‬‬
‫في تلك الظهيرة‪ ،‬سحبتني آنا جانبًا‪ ،‬وقالت لي‪" :‬لقد اكتفيت‪ ،‬ما شأن هؤالء الناس‬
‫وعدم تفريش أسنانك؟" ثم قامت بتمرير لسانها فوق أسنانها العلوية ورسمت‬
‫بمالمحها تكشيرة‪" .‬أحتاج حما ًما‪ ".‬رمت بأشيائها في حقيبتها المخصصة للرحالت‪،‬‬
‫ومن ثم رفعتها على إحدى كتفيها‪.‬‬
‫تبعتها في نزول الساللم المفروشة بالسجاد‪" .‬لكن‪ ،‬آنا‪"،‬خاطبتها‪ .‬أجابتني‪" :‬محال‪،‬‬
‫إنني راحلة" ثم توقفت‪ .‬ارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة‪ ،‬وقالت‪" :‬اتصلي بي‬
‫الحقًا‪".‬‬
‫ثبت مكاني لبرهة ويدي على مقبض الباب وصمت الساباث الثقيل يخيم على‬
‫المكان‪.‬‬
‫وجدت أطفال راكوفسكي يرتاحون في الحجرة‪ ،‬كان شيمي منبط ًحا على السجادة‪،‬‬
‫ذقنه تستقر على راحتيه‪ ،‬ويشاهد لعبة ورق بين ناتشوم ولوبا‪ .‬وعلى األريكة‬
‫استلقت رينا‪ ،‬تقرأ كتابًا عن الفتيات اليهوديات األرثودكسيات‪ .‬كان هنالك شي ٌء‬
‫جي ٌد وقدي ٌم وهادئ أكثر من العادة يتعلق بهؤالء األطفال‪ .‬إذ بجانب عدم وجود‬
‫التلفاز‪ ،‬لم تكن على مرأى بصري أي صحف أو كتب علمانية‪ .‬قلت‪" :‬إنه عصر‬
‫السبت‪ ،‬أال يزوركم أصدقاؤكم؟ هل تستطيعون الخروج؟"‬
‫نظر أحدهم لآلخر‪ ،‬وهزوا برؤوسهم‪.‬‬
‫َ‬
‫"أوه" قلت‪ ،‬ثم توجهت بالسؤال الى رينا‪" :‬أليس هناك أطفال آخرون من‬
‫األرثدوكس في المدرسة اليهودية؟"‬
‫عا ما‪ ،‬لدينا بضعة أصدقاء في المدرسة‪ ،‬لكن…"‬
‫فأجابتني‪" :‬نو ً‬
‫"هل بمقدورك تناول الطعام في منازلهم؟"‬
‫"كال‪".‬‬
‫ً‬
‫حالال كفاية‪ ،‬أليس كذلك؟"‬ ‫"ليس‬
‫هز األوالد برؤوسهم‪.‬‬
‫"كما أنهم يشاهدون التلفاز ولربما حتى يستمعون لموسيقى الروك‪ ،‬صحيح؟"‬
‫"بلى‪ ".‬ثم تبادلت مع أختها النظرات وانتقلت للجلوس على السجادة‪.‬‬
‫حالل أكثر‪ ،‬حالل أقل‪ .‬كنت أتعلم وجود درجات من الحر َمة‪ ،‬وأن باإلمكان وزن‬
‫هذه الحر َمة وقياسها‪ .‬تخيّلت وجود مكان ما‪ ،‬بروكلين على األرجح‪ ،‬حيث ال بد‬
‫أن تكون هناك مدارس مليئة باألطفال الحسيديين الذي ينتمون لعوائل متدينة بما‬
‫فيه الكفاية‪ ،‬وحيث يكون كل األفراد متشابهين‪ ،‬حينها ال بد من أن يحصل هؤالء‬
‫األطفال على رفاق لعب لن يضلوهم عن الطريق المرسوم لهم أو يقلقوا والديهم‪.‬‬
‫تخيلت مدارس الفتيات المألى بالفتيات الالتي يرتدين التنورات الطويلة ويقفزن‬
‫سوالفهم وهم‬
‫على الحبل‪ ،‬ومدارس الفتيان التي تحتضن الفتيان بيارمولكاتهم وب َ‬
‫يتسلقون الساللم أثناء الفسحة‪ ،‬لكن ذلك ليس هنا في داالس‪.‬‬
‫أثناء دراستي الثانوية‪ ،‬كانت داالس قد تخلصت للتو من الفصل العنصري‪ .‬فحشرنا‬
‫سوية من غير سابق خبرة بجميع اختالفاتنا ومن دون إرشاد‪ ،‬وكنا نحاول أن نتعلم‬
‫كيفية التعايش‪ .‬فحدثت خالل سنوات دراستي الثانوية أعمال شغب بين الطالب‪،‬‬
‫اصطف على إثرها رجال الشرطة في الممرات أليام‪ّ .‬‬
‫لكن االندماج‪ ،‬من منظور‬
‫قادرا على أن ينتقل في‬
‫عائلتي‪ ،‬كان بمثابة فرصة‪ ،‬إذ ينبغي أن يكون كل شخص ً‬
‫العالم ويتكيّف‪ ،‬وأن يعمل وتتم مكافأته‪ ،‬وأن يكون ممتنًا لذلك‪ .‬فإن قيّد اآلخرون‪،‬‬
‫فقد يأتينا الدور بعدهم‪ .‬أما هنا فقد كان أفراد عائلة راكوفسكي يختارون الفصل‬
‫ويطبقونه على أنفسهم‪ ،‬فيعزلون أنفسهم حتى عن بقية مجتمعهم‪ .‬كان أطفالهم‬
‫ٌ‬
‫أقران سوى أشقائهم‪.‬‬ ‫معزولين أش َّد درجا ِ‬
‫ت العزلة‪ ،‬إذ لم يكن لديهم‬
‫ً‬
‫مشتغال كل مساء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫لكن السالم كان يخيّم على ذلك المنزل‪ ،‬بينما كان تلفاز أمي‬
‫وهناك في الخارج‪ ،‬كان الجميع يتقاتلون حول اختالفاتهم أو يهددون باالقتتال‪:‬‬
‫عائلتي‪ ،‬السود والبيض في المدرسة وفي األخبار‪ ،‬الطالب والشرطة في الجامعات‪،‬‬
‫البريطانيون واإليرلنديون‪ ،‬الكاثوليك والبروتستانت‪ ،‬الهنود والباكستانيون‪ ،‬العرب‬
‫واإلسرائيليون‪ .‬كما كان الفيتناميون الشماليون قد عبروا للتو المنطقة منزوعة‬
‫السالح‪ .‬أما في فقاعة الساباث تلك التي ال وجود فيها للتلفاز‪ ،‬فقد تم الحفاظ على‬
‫مسافة آمنة مع العالم‪.‬‬
‫"من هم أصدقاؤكم الحقيقيون؟" سألت أطفال راكوفسكي‪ ،‬فضحكوا وأشار كل واحد‬
‫منهم الى اآلخر‪ .‬بالنسبة لهم‪ ،‬كان اي مكان خارج المنزل مكانًا غير يهودي‪ ،‬وهو‬
‫ما يعني بأنه مدنّس ومشبوه‪ .‬لكننا كنا مطمئنين وآمنين‪ ،‬هنا على جزيرة الساباث‬
‫الصغيرة الخاصة بنا‪.‬‬
‫بعد وقت ليس بالطويل‪ ،‬وجدت الحاخام راكوفسكي على طاولة الطعام يقرأ‬
‫بالعبرية‪ ،‬سألني‪" :‬أين آنا؟"‪.‬‬
‫أجبته‪" :‬لقد اضطرت للرحيل"‪ .‬ثم قلت‪" :‬هالّ تقرأ لي ذلك؟"‬
‫أجابني‪" :‬ليس من الالئق لي أن أدرس مع امرأة‪".‬‬
‫فقلت له‪":‬إنني في السادسة عشرة‪ ،‬أال يمكنك أن تحسبني واحدة ً من أطفالك؟"‬
‫ف ّكر لوهلة مع تحديقة طويلة وشفاه مضمومة‪ ،‬وقال‪" :‬ربما"‪ .‬ث ّم قلّب عدة صفحات‪،‬‬
‫سطرا آخ ََر‪،‬‬
‫ً‬ ‫ارتشف شرابًا‪ ،‬وتنهد وبدأ يقرأ‪ Basi l’gani" :‬أتيت لجنتي"‪ .‬ثم قرأ‬
‫َ‬
‫ثم ترجمه واستمر على نفس المنوال‪ ،‬يجيء ويذهب بين اللغات بصوته الرخيم‬
‫األلثغ ولهجته اليديشية‪ .‬لم أفهم الكثير‪ ،‬كان هناك اقتباسات بالعبرية واآلرامية‬
‫لكن حقيقة ّ‬
‫أن هذه اللغات ساحقة ال ِق َدم جعلتني أفكر‬ ‫انتثرت بين السطور اليديشية‪ّ .‬‬
‫بأنها ال بد أن تحمل شيئًا من حقيقة أصلية تعود لبداية البشرية‪ .‬نحن تدفقنا من‬
‫المنبع‪ .‬استخدم الحاخام كلمات لم أفهمها مثل "الفيض" و"الملكوت" و"العرش"‬
‫لوصف سمات الرب‪ ،‬وبدت جميعها أجزاء من أحجية يقوم برسمها من دون تقديم‬
‫مفتاح اللغز‪ ،‬فهناك عوالم للوجود تدعى الخلق والتكوين والفعل‪ .‬وهناك "‬
‫‪ "sovev‬الرب الذي يحيط بالعوالم جميعها‪ ،‬و"‪ "memaleh‬الرب الذي يمأل‬
‫العوالم‪ ،‬و"‪ "shechina‬الحضور األمومي الحائم‪ .‬أربعة عوالم؟ ثالثة آلهة؟‬
‫فتساءلت‪" :‬ما هذا؟"‬
‫قال لي‪" :‬سأبدأ مجددًا‪ ".‬هذه المرة‪ ،‬أوجز وشرح المصطلحات بتأن‪ .‬استم َع‬
‫ألسئلتي‪ ،‬مستجيبًا لها بإيضاح األفكار التجريدية الغريبة والعسيرة على الفهم ومن‬
‫ثم تحريك كل فكرة ووضعها ضمن صورتها الواضحة‪ :‬جنة الحميمي ِة مع الرب‪،‬‬
‫نور الفيض على يمينه‪ ،‬والظالم على يساره‪ ،‬القرب التواق للرب يتراجع بمراحل‬
‫متتالية بمواجهة الخطيئة‪ .‬وفوق هذا كله يكون العرش ‪ -‬نقيا ومسببا للعمى وماحقا‪،‬‬
‫ضوء إلهي ليس بوسعنا إال السعي إليه‪ ،‬وهو مستوى يستحيل بلوغه ثم البقاء على‬
‫قيد الحياة بعدها‪ .‬ورويدًا بدأت تحوم في الجو بنية لعوالم روحية أصر الحاخام‬
‫راكوفسكي على أنها دائ ًما ما كانت حاضرة هناك‪.‬‬
‫صورا توراتية‪ ،‬تشكيل الرب‬
‫ً‬ ‫حينذاك خرج عن النص وبدأ يستحضر ويجمع‬
‫لإلنسان من الطين‪ ،‬وعصا هارون التي تفجرت بأزهار اللوز وفواكه ناضجة‪،‬‬
‫الحمار الذي تكلم‪ ،‬ومعاقبة بلعم‪ .‬وقال بأنه رغم حدوث كل هذه األشياء في الحقيقة‪،‬‬
‫ضا على مقاصد تتعلق بما هو باطني‬
‫إال أن كل واحدة من هذه القصص احتوت أي ً‬
‫وقد علمتنا كيفية كشف النور الروحاني الباطني في العالم‪.‬‬
‫توقفت الستنشاق بعض الهواء حينها‪ .‬فكرت‪ ،‬هل حدثت تلك األشياء حقًا؟ هل عل ّ‬
‫ي‬
‫أن أقبل بقصص الكتاب المقدس؟ إنه لن يكذب‪ .‬لكن برزت هناك مفارقة أال وهي‬
‫السذاجة في لب االدعاءات الفكرية العميقة عن المتعالي‪ .‬فبالنسبة إلي‪ ،‬لم تكن‬
‫قصص الكتاب المقدس سوى رسومات طفولية بسيطة‪ -‬ألسود وحمالن‪ ،‬وفيلة‬
‫وزرافات تنتظر لتدخل السفينة مع نوح ذي الرداء وعائلته السعيدة‪ ،‬وموسى رافعًا‬
‫عصاه عاليًا تجاه امواج البحر األحمر أمامه‪ -‬رسومات قمت بتلوينها ذات مرة‬
‫صا لألطفال‪،‬‬
‫صا خيالية‪ ،‬قص ً‬
‫بأقالم تلوين مكسورة في مدرسة األحد‪ .‬كانت قص ً‬
‫لكن هنا كان الحاخام الحكيم راكوفسكي‪ ،‬الملّم باللغات القديمة‪ ،‬والرجل القارئ‪،‬‬
‫الذي يستخلص المعاني بحذق من نسيج األفكار التجريدية العميقة والعبارات‬
‫المبهمة‪ ،‬يقول بحدوث هذه القصص في الواقع‪ .‬كما إنه كان أبًا عطوفًا ‪ -‬فقد رأيت‬
‫كيف أخذ بيد (يوسي) عندما غادروا للكنيس‪ .‬ينبغي أن أثق به وأن أصدقه‪.‬‬
‫بإمكانك أن تصدق تلك األشياء؟" تسائلت‪ ،‬بالرغم من أن وجهي‬
‫َ‬ ‫ولكن…"كيف‬
‫كان ما يزال مشرقًا من نور عوالمه الروحانية‪.‬‬
‫أجابني‪" :‬األمر بسيط‪ .‬إن كان الرب كلّي القدرة‪ ،‬فإن باستطاعته إحداث فيضان أو‬
‫شق بحر‪".‬‬
‫ّ‬
‫قطبت جبيني‪ ،‬محتارةً‪ ،‬يتنازعني اإليمان والمنطق‪" .‬دعنا… نحاول مجددًا‪ "،‬قلت‬
‫حرج لكنه مغرم‪.‬‬
‫له‪ ،‬مثل شخص م َ‬
‫ال أعرف متى بلغت لحظة الوصول‪ .‬لعلها كانت عندما تحدث عن آدم‪ ،‬الذي سمع‬
‫اقتراب الرب فهرب في الجنة‪ ،‬والرب الذي تحول إلى فكرة بعيدة وبقي آدم يتوق‬
‫إليه‪" .‬إذا استطعنا تحويل ذواتنا المادية‪ ،‬فإن الظالم سيتحول إلى نور" قال الحاخام‬
‫راكوفسكي‪ ،‬وحينها سيملئ الورع أكثر ما في أنفسنا من حميمة‪.‬‬
‫أردت أن أصدق أنه كان بإمكاني تحويل جسدي ورغباته الغريبة‪ .‬وفوق ذلك‪ ،‬كنت‬
‫ابذل جهدي آنذاك لكي أفهم استعاراته وصوره التي احتجت آنئذ ألن أؤكد في قلبي‬
‫جميع ما قد تمكنت في النهاية من فهمه في عقلي‪ -‬قفزة من نوع مختلف تتجاوز‬
‫ذاتي الغريبة‪.‬‬
‫وبمرور فترة العصر‪ ،‬أصبحت قصص المعجزات والمزاعم الساذجة طرقًا لتفسير‬
‫رغبة الرب إليجاد مكان لالمحدوديته في عالم محدود‪ .‬وتدريجيًا‪ ،‬حدث ذلك‪ :‬عوالم‬
‫روحية آسرة انبثقت من الكتاب‪ ،‬وانبسطت أمامنا فوق فتات الخبز على طاولة‬
‫الطعام‪ .‬هنا وجدت قيثارة داوود بسلم موسيقي يتكون من ثمان درجات‪ً ،‬‬
‫بدال من‬
‫سبع‪ ،‬والحروف العبرية المشربة بالربانية وأصولها في النار الساحرة‪ ،‬ذات القدرة‬
‫على خلق العالم‪ .‬كان هناك مالئكة واوعية متوهجة بالنور السماوي‪ ،‬وشرارات‬
‫من الرب في المنفى تنتظرني لكي أخلصها‪ .‬كانت هناك األشياء التي خلقها الرب‬
‫في الغسق األول‪ :‬قوس قزح نوح‪ ،‬وعصا موسى‪ ،‬وفم األرض المظلم الذي يبتلع‬
‫المتمردين‪.‬‬
‫باإلصرار على ما ال يمكن إثباته‪ ،‬جعل الحاخام من البرهان شيئًا ال أهمية له‪.‬‬

‫قال الحاخام بأن الحياة األرضية ليست إال حجابًا زائفًا يخفي العالم الروحاني‬
‫الحقيقي‪ .‬فأمي التي تستلقي على السرير بجانب علب حبوبها الخالية‪ ،‬وأبي‬
‫المضطرب‪ ،‬وآمي التي تحمل الشفرة كانوا ذلك الستار الزائف‪ّ .‬‬
‫لكن الجانب‬
‫الروحاني خلف جميع ذلك هو الحقيقي‪ ،‬وقد خ ِلقَ من أجلى‪ .‬لقد أحسست بأن‬
‫الحاخام راكوفسكي كان بمثابة قناة موصلة للحكمة اإللهية التي تعود جذورها لبداية‬
‫الزمان‪ .‬كان راسخ االعتقاد‪ ،‬طليق اللسان إلى‪ ،‬وصوته األجش يقودني إلى مكان‬
‫يخلص فيه كل فعل أفعله هذا العالم الدنس‪ .‬لم أكن عاجزة‪ ،‬فكل فعل من أفعالي‬
‫ً‬
‫جباال‪ .‬إن باستطاعتي أن أضع بصمتي في الملكوت‬ ‫الممتثلة إلرادة الرب حركت‬
‫األعلى‪.‬‬
‫إذا كانت أ تساوي ب وكانت ب تساوي ج‪" :‬فإن الرب وإرادته واحدٌ‪ ،‬والشريعة‬
‫هي إرادته‪ .‬ولهذا فإن الرب والشريعة واحدٌ‪ .‬وبهذا فإن الشريعة تصبح بمثابة‬
‫الرب‪ .‬فإن وهبت نفسك للشريعة‪ ،‬فستندمج الروح مع الرب‪ "،‬قال الحاخام‪.‬‬
‫عندما غادرت منزل الحاخام راكوفسكي ذلك المساء بعد أن تم إطفاء شمعة الهافداال‬
‫المضفورة في صحن نبيذ أحمر‪ ،‬عدت إلى خططي وأصدقائي‪ .‬عدت إلى منزلي‪،‬‬
‫ووالدي الذي كان كصدفة مثيرة للغثيان خاوية‪ ،‬لكني حملت معي صورة الحاخام‬
‫ركوفسكي‪ ،‬المعلم‪ ،‬األب والحكيم الحنون‪ .‬لقد أصبح منزلهم في ذهني مكانًا مصونًا‬
‫وراس ًخا وآمنًا‪ .‬وعرفت حينها بأنني سأعود إليه‪.‬‬
‫في ذلك المساء‪ ،‬وفي جوف حجرتي‪ ،‬وبعد أن أقفلت الباب لكي أمنع دخول شبح‬
‫أبي‪ ،‬قمت بفتح حقيبة التشيلو واخرجت دبوس الطرف‪ ،‬ودهنت القوس بصمغ‬
‫الروزن‪ .‬كان داخلي يتفجر بألحان غير مغناة‪ ،‬على ساللم موسيقية قصيرة‬
‫وبتناغمات جوفاء‪ .‬قال الحاخام راكوفسكي بأن واحدة من األغاني التي ترنّم بها‬
‫على مائدة الساباث كانت عن رحل ِة روح في العالم‪ .‬وقال بأن الروح طردت من‬
‫نعيم التواجد مع الرب لتولد في هذا العالم القاسي ذي الوجود الرباني المخفي وتترك‬
‫مع والدين جاهلين‪ .‬كما وقال بأن الروح تتوق للهرب‪ ،‬والعودة إلى الرب‪ .‬لكن إذا‬
‫كان هذا العالم حجابًا والوصايا هي الحقيقة الوحيدة‪ ،‬فما الذي تبقى ألكتشفه؟ ميّزت‬
‫اللحن الحزين حتى أحسست بأنني متيقنة منه‪ ،‬ثم سحبت القوس سحبة كاملة‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬حلمت بأنني كنت طالبة في إحدى قاعات اليشيفا الدراسية‪ ،‬أتجادل مع‬
‫زميل حول أحد النصوص التلمودية‪ .‬وكانت القاعة ممتلئة بطالب آخرين يخوضون‬
‫في الجداالت واألسئلة أزوا ًجا‪ ،‬فتشابكت أصواتنا الذكورية وتعالت إلى الرب‪.‬‬
‫الفصل السادس‬

‫ت هنا للتو؟" سألتني فتاة التقت بي في مدخل مؤسسة‬


‫اسمك؟ هل وصل ِ‬
‫ِ‬ ‫"ما‬
‫‪ Beis Chanah Lubavitch‬للنساء التي يديرها الحاخام غيلر‪ ،‬وهي عبارة‬
‫طا بسلّمين‬
‫عن قصر قديم متهالك يقع في سانت بول في مينيسوتا‪ .‬كان المدخل محا ً‬
‫يحف الدرابزين ً‬
‫كال منهما‪ .‬وكالهما ينعطفان نحو شرفة رئيسية تقع في‬ ‫ّ‬ ‫واسعين‬
‫األعلى‪ .‬كنت قد وصلت قبل أسبوع من أجل البرنامج الصيفي المكثف للتعريف‬
‫بالحياة الحسيدية‪ ،‬وفيه يعيش الطالب سويةً صفوفا دراسية‪ ،‬دراسةً وتوجي ًها‪،‬‬
‫وجبات جماعية‪ ،‬تحت مظلة الشريعة‪ .‬وستصبح معظم الفتيات طالبات جامعيات‬
‫في العطلة الصيفية‪ .‬كان البروشور معي في حقيبة السفر‪ ،‬مجعدًا ومطويًا‪.‬‬
‫كانت الفتاة التي سألتني ترتدي الزي الموصى به من أكمام طويلة وتنورة وقَبّة‬
‫عالية‪ ،‬لكنها‪ ،‬خالفا لفتيات سيما‪ ،‬كانت ترتدي القطن ذي النقش الهندي الدارج‬
‫والحزام الجلدي المشرشب فوق قميصها الطويل‪ ،‬أما شعرها فقد كان طويالً كشعر‬
‫مرت أمامي فتيات أخريات‪ ،‬والحظت مزيدًا‬ ‫الهيبين ومربو ً‬
‫طا عند مؤخرة عنقها‪ّ .‬‬
‫من الطرق اإلبداعية في التعامل مع قيود الملبس مثل الشاالت ونقوش البيزلي‬
‫واأللوان البراقة‪ .‬كنت ال أزال في السادسة عشرة‪ ،‬لكنني كنت قد تخرجت وقَدِمت‬
‫إلى هنا في أولى عطالتي الفردية قبل االلتحاق بالجامعة‪ .‬نزلت للتو من أول طائرة‬
‫أركبها في حياتي‪ ،‬واستأجرت سيارة أجرة‪ ،‬دفعت ثمنهما من النقود التي كنت قد‬
‫كسبتها من مجالسة األطفال في كل ليلة طلبني فيها أحد للعمل منذ أن التقيت‬
‫بالحاخام في تجربة الساباث‪" .‬اسمي ليزا!" أخبرت الفتاة‪ ،‬ومددت يدًا‪ ،‬مستعدة ً‬
‫لمصافحة يدها‪" .‬أهال!"‬
‫اسمي "رفقة" عرفتني بنفسها‪.‬‬
‫التقطت حقيبتي من على األرض‪.‬‬
‫"بوسعك أن تتركيها هنا‪".‬‬
‫فأعدت الحقيبة لألرض‪ ،‬وتأهبت للّحاق بها‪ .‬كانت غرفة الطعام الكبيرة أمام أعيننا‪،‬‬
‫إزار حائط مخدشة وجدران بحاجة‬
‫ِ‬ ‫طاوالت مطوية وكراس مرصوصة وألواح‬
‫رقص‪ ".‬وهكذا بدأت جولتي‬
‫َ‬ ‫لطالء جديد‪" .‬لقد كانت هذه القاعة في السابق صالةَ‬
‫في المؤسسة‪.‬‬
‫كانت مؤسسة لوبافيتش مملوكة في السابق‪ ،‬في فترة العصر المذهب‪ ،‬لصاحبة‬
‫مصنع خمور ثرية أحبت التسلية‪ .‬فتخيّلت القبعات ونظارات األوبرا ذات المقبض‪.‬‬
‫في الجانب اآلخر من صالة الرقص كانت هناك نوافذ ناتئة للخارج تقابل شرفة‬
‫واسعة تطل على أشجار وجدول ملتو‪ .‬جعلني المكان بأكمله أتخيل إمرأة من الطبقة‬
‫الراقية اآلفلة‪ ،‬متعبة بعض الشيء وذاوية الجمال‪ .‬قلت‪" :‬ماذا حدث بعد مالكة‬
‫مصنع الخمور؟"‬
‫"للمنزل؟ تحول إلى دير‪".‬‬
‫"إلى ماذا؟"‬
‫لكني سمعت طقطقة أقدامها وهي تنزل الساللم الضيقة المفضية الى الطابق السفلي‪،‬‬
‫فتبعتها عبر األرضيات األسمنتية المكشوفة‪ ،‬وتخطينا ما قالت إنه مكتب الحاخام‬
‫أسرة‬ ‫غيلر الذي كان فار ً‬
‫غا حينذاك‪ ،‬لنصل إلى غرفة مهجع طويلة تحوي صف ّ‬
‫منفردة أحالتني لحلم من أحالم اليقظة حول دير يلفه سحر األجواء القروسطية‪ .‬وقد‬
‫احتوى المهجع على تشكيلة مختلفة من خزانات تتدلى منها بعض المالبس‪ ،‬كما‬
‫األسرة غير المرتبة‪ ،‬أحذية مبعثرة‪ ،‬حقائب‬
‫ّ‬ ‫انتثرت المزيد من المالبس على‬
‫األسرة‬
‫ّ‬ ‫مفتوحة‪ ،‬صور وملحوظات مثبتة على الجدران‪ ،‬لكني رأيت صفًا من‬
‫الحديدية شديدة البساطة في حجرة تحت األرض يضيئها مصبا ٌح متدل خافت‬
‫ٌ‬
‫فرشات مضغوطة ومتماثلة‪ ،‬ولم يكن يملؤها غير ذلك‪ .‬رأيت‬ ‫اإلضاءة‪ ،‬وفيها‬
‫رهبانًا ينهضون قبل الفجر‪ ،‬يرتدون مالبسهم ويرتّبون ّ‬
‫أسرتهم في رقصة جماعية‬
‫صامتة‪ ،‬المشهد الذي ينضح برهبة المقدّس‪ ،‬وبانضباط غامض الدافع‪ ،‬قبل المضي‬
‫إلى المصلّى من أجل الترانيم الصباحية اآلسرة التي ال تنسى‪.‬‬
‫تبعت رفقة إلى المنطقة المفتوحة‪ ،‬حيث األنابيب المكشوفة وجدران الطوب‬
‫الخراساني‪ ،‬والهواء المنعش الرطب‪ ،‬حيث كان يبرز على أح ِد أجزاء الجدار‬
‫طوقَ بين حدوده مساحةً امتأل سطحها بآثار‬
‫إطار فارغٌ من القرميد األزرق ّ‬
‫ٌ‬ ‫الخلفي‬
‫التشوهات‪ .‬تساءلت‪" :‬ما ذلك الشيء؟"‬
‫قالت رفقة‪ ،‬وهي تدير عينيها‪" :‬إنه ما كان في السابق مذب ًحا لـ"العذراء" الخاصة‬
‫بهم‪ّ .‬‬
‫لكن الكتاب المقدس وتحديدًا في سفر التثنية يقول‪" :‬سوف تدمر مذابحهم‬
‫وتحطم تماثيلهم‪".‬‬
‫"إنك ال تعنين…"‬
‫قالت بصوت مبتهج‪" :‬بلى‪ .‬إنها وصية ال يتسنى لك تنفيذها في أغلب األحيان‪ .‬لذا‬
‫فقد قام الحاخامات بتحطيم واقتالع المذبح بأنفسهم‪ .‬باستخدام ال َمطارق‪".‬‬
‫"عجبًا‪ "،‬قلت‪ .‬استحضرت هذه الجملة في ذهني صورة الناس البدائيين الذين ح ِ ّرم‬
‫عليهم االنحناء أمام الجمادات أو تقديم األضاحي البشرية‪ ،‬ولم تستحضر صورة‬
‫سري على‬
‫الكنيسة الكاثوليكية التي تقع في نهاية الشارع‪ .‬ولكنني كنت مبتهجة في ّ‬
‫نحو صادم بشكل من األشكال‪ .‬بتحطيم المذبح‪ ،‬قام الحاخامات الملتحون بإعالن‬
‫أمرا غاية في الروعة‪ .‬في‬
‫ازدرائهم ألمر مقدس في حياة األمريكيين‪ .‬كان هذا ً‬
‫المدرسة الثانوية‪ ،‬وفي صالة الطعام اآلمنة األنيقة‪ ،‬كنا نذ ّم نيكسون‪ ،‬وندعو رجال‬
‫يرن الجرس‪ ،‬كنا‬
‫الشرطة بالخنازير‪ ،‬ونهزأ بـ "المؤسسة الحاكمة" ولكن حين ّ‬
‫نذهب إلى الصفوف‪ ،‬بينما كان هؤالء الناس مناهضين للمؤسسة بصورة حقيقية‪.‬‬
‫وهذا ما كان يمثل بحق مبدأ تدمير األيقونات‪ .‬بإمكاني أن أتخيل أكمامهم المنشاة‬
‫وهي مطوية‪ ،‬المطارق في أيديهم الناعمة‪ ،‬وك ٌل منهم يخبر اآلخر بأن هذه المهمة‬
‫هي امتياز رباني‪ .‬هل يا ترى حملوا األنقاض للخارج في حقائب مغلقة لدرء‬
‫انتقادات العالم الضال عن أنفسهم؟ همست‪" :‬أراهن على أن الحاخامات ال يدفعون‬
‫حتى غرامات مخالفات وقوف سيارتهم‪".‬‬
‫ضحكت رفقة‪ .‬وقالت‪" :‬أوه‪ ،‬كال‪ .‬هذا ليس صحي ًحا‪ .‬فالشريعة تأمرنا باتّباع قوانين‬
‫البلدان التي نعيش بها‪" .‬ثم لحقت بها لنصعد ساللم الطابق األرضي‪ .‬ثم التفتت‬
‫نحوي وعلى وجهها ابتسامة هازئة‪" .‬لكن أال تعتقدين بأن ستمئة وثالث عشرة‬
‫وصية كافيةٌ؟"‬
‫فتساءلت‪" :‬ستمئة وثالث عشرة؟"‬
‫ي كما لو إنني ال أعرف أبجدية لغتي‪ .‬وقالت‪" :‬إنه عدد الوصايا في‬
‫فنظرت إل ّ‬
‫التوراة‪".‬‬
‫ي أن أكون حذرة ً بأال أرفع لواء الجهل الصغير ذاك مرة أخرى‪" .‬أوه‪،‬‬
‫سيكون عل ّ‬
‫أجل‪ ،‬ربما يكون كافيًا‪ ".‬لكنني لم أفكر‪ ..‬كافيًا من أجل ماذا؟ أهو كاف من أج ِل‬
‫إبطال القانون األمريكي؟‬
‫توجهنا إلى المطبخ‪ ،‬حيث رأينا فتاتين أكبر منا سنًا ‪-‬في الحادية والعشرين من‬
‫مآزر بيضاء وي ّ‬
‫قطعنَ الخضروات‪ .‬رفعنَ رؤوسهن وتبسّمنَ ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫العمر تقريبًا‪ -‬يرتدينَ‬
‫بعد أن وضعن السكاكين على لوح التقطيع‪ ،‬تما ًما كما في الصورة التي تظهر في‬
‫البروشور‪ .‬خارج المطبخ كانت هناك سبورة خربش عليها جدو ٌل بمهام وأسماء‪.‬‬
‫قالت رفقة‪" :‬إننا ندير هذا المكان بأنفسنا‪ ،‬وكل َمن هنا يعملون‪ ".‬أجبتها‪:‬‬
‫"أمر رائع‪ ".‬علينا أن نكون بالغين على قدر المسؤولية‪.‬‬
‫نصعد الساللم نحو الشرفة‪ ،‬وتفتح رفقة أبوابًا مزدوجة على ترنيمة صالة تشدوها‬
‫أصوات أنثوية‪ .‬فانساب علينا الترتيل العبري‪ .‬فأخبرتني‪" :‬إنها المنشا ‪،mincha‬‬
‫خدمة العصر‪ ".‬في تجربة الساباث‪ ،‬صدحت أصوات الرجال بالصلوات بأسرع ما‬
‫ً‬
‫مستحيال بينما كنا نحن النساء نجلس‬ ‫أمرا‬
‫استطاعوا في نشاز جعل من الفهم ً‬
‫صامتات‪ .‬أما هؤالء الفتيات ّ‬
‫فكن يغنين معًا بانسجام عبر ترديد مقدس ومنتظم‬
‫وموزون وهادئ‪ .‬همست رفقة‪" :‬يقدر عددنا نحن الفتيات المتواجدات هنا بحوالي‬
‫خمسين فتاة‪".‬‬
‫ً‬
‫بنطاال‪ .‬لكن على الهاتف‪،‬‬ ‫لم أر إال فتاة واحدة ترتدي الجينز مثلي‪ ،‬وأخرى ترتدي‬
‫فقدم كل شخص من‬
‫َ‬ ‫كان الحاخام غيلر قد قال بأنه ال بأس بالقدوم بالسراويل‪،‬‬
‫الجامعة وأحضر ما عنده‪ .‬همست‪":‬هل السراويل ممنوعة؟"‬
‫أجابتني‪" :‬لم يمر على معظمنا في هذا المكان سوى بضعة أسابيع‪ ،‬وقد تأقلمت‬
‫الوافدات الجديدات‪ ".‬وأغلقت الباب‪.‬‬

‫ح َّل العصر‪ .‬كانت غرفة نومي في الطابق الرئيسي في كوة جدارية متصلة بغرفة‬
‫أسرة أخرى‪ ،‬ما يعني بأن غرفتي ليس بها باب وأنها بمثابة‬
‫كبيرة تحوي ثمانية ّ‬
‫خزانة ضخمة للجميع‪ ،‬كما أنها المدخل الوحيد للحمام المشترك‪.‬‬
‫حجزت السرير الثاني في الكوة آلنا‪ ،‬وما زالت البهجة تتملّكني ألنها وافقت على‬
‫القدوم‪ .‬قالت آنا بأنها ستدمج الرحلة مع زيارة لعمها المفضل وأبناء عمومتها‬
‫القاطنين في سانت بول‪ ،‬وبهذه الطريقة سيدفع والداها ثمن الرحلة‪.‬‬
‫توجهت للحجرة الرئيسية األمامية‪ ،‬صالة الرقص‪ .‬كان الحاخام غيلر قد قال بأنني‬
‫سأكلَّف بمجالسة األطفال عو ً‬
‫ضا عن التدريس‪ .‬فوجدت فريمي تنتظر في الصالة‬
‫األمامية‪.‬‬
‫كثيرا مع النساء الحوامل‪ ،‬لكنني دائ ًما‬
‫فوجئت فلم أنبس ببنت شفة‪ .‬لم أكن أتواصل ً‬
‫ما الحظت هالةً عاطفيةً غير مفهومة تحيط بهن‪ .‬إنهن يجعلنني متوترة على نحو‬
‫صورا كانت تومض على شاشة خفية من نوع ما‪،‬‬
‫ً‬ ‫غير قابل للتفسير‪ ،‬كما لو أن‬
‫صورا ألجساد نساء شوهها العنف‪ ،‬وألطفال مستضعفين‬
‫ً‬ ‫عندما أرى إحداهن‪،‬‬
‫ولألشياء التي فعلها الناس لهم‪ ،‬ولألسرار التي عليهم حملها‪ ،‬وللخيانات الحتمية‬
‫الشنيعة‪ .‬كنت أعاني هلعًا شعوريًا من أن أصبح حبلى‪ .‬إذ حالما يبدأ الحمل‪ ،‬فلن‬
‫أكون قادرة على إيقاف ذلك الطفل من االنطالق نحو الخطر‪ .‬وبالنسبة لي‪ ،‬كان‬
‫الطفل بمثابة حفرة ال قرار لها دائ ًما ما سأكون مهووسة لملئها‪ ،‬وال أكتفي حتى‬
‫أقفز فيها أنا نفسي‪ .‬وهنا ظهرت أمامي فريمي‪ ،‬بوجه شاحب ومهموم‪ ،‬مرتديةً‬
‫فستانًا باهتًا ورقيقًا بحاشية غير متساوية ضاق عند بطنها المدورة الضخمة‪ .‬كانت‬
‫تقف على قدميها المسطحتين‪ ،‬المعو َّجتين نحو الخارج‪ ،‬غير مكترثة لزيادة الحجم‬
‫ت‬
‫ومباشرا‪ .‬سألتني‪" :‬أأن ِ‬
‫ً‬ ‫الذي يثقل حركتها‪ .‬كنت مرتعبةً‪ ،‬لكن أسلوبها كان صري ًحا‬
‫ليزا؟"‬
‫في السيارة‪ ،‬كنت أسترق النظرات إليها وهي تقود‪ ،‬ولم أنطق بكلمة‪ .‬توقفنا عند‬
‫منزل حجري صغير تفضي إليه ساللم شقّت طريقها عبر فناء منحدر‪ .‬قالت لي‪:‬‬
‫"لن أتأخر‪ .‬سأذهب لمتجر البقالة فقط‪ .‬زوجي بالداخل ولكنه سيغادر عما قريب‪".‬‬
‫كان إيسر‪ ،‬ذو اللحية الطويلة وخفيفة الشَعر‪ ،‬هو َمن فتح الباب‪ .‬في الداخل كان‬
‫ّ‬
‫مكتظة‬ ‫هناك أربعة أطفال صغار‪ .‬وكانت األرض مغطاة باأللعاب‪ ،‬والجدران‬
‫برفوف ممتلئة بالكتب العبرية‪ .‬رتّب إيسر أوراقًا في حافظة وغادر من دون توجيه‬
‫ي كلمة لي أو لألطفال‪ .‬ثم سمعت قلقلة القفل‪ .‬حسنًا‪ ،‬على األقل لد ّ‬
‫ي خبرة في‬ ‫أ ّ‬
‫مجالسة األطفال‪ ،‬هكذا فكرت‪.‬‬
‫ي كما لو كنت كائنًا بثالث أعين‪ .‬فقلت في نفسي بأنهم ربما‬ ‫ّ‬
‫لكن األطفال نظروا إل ّ‬
‫اسمك‪".‬‬
‫ِ‬ ‫ليسوا معتادين على الغرباء‪ .‬فسألت الطفلة الكبرى‪" :‬أخبريني ما‬
‫صا على طريقة األوالد‪ .‬وكانت هناك‬
‫قالت‪" :‬زيسيل‪ ".‬كان شعرها األسود مقصو ً‬
‫تمص إبهامها‪ ،‬وهناك يوسي ذو السنتين‪ ،‬صاحب‬
‫ّ‬ ‫ضا دينا ذات الثالث سنوات‪،‬‬
‫أي ً‬
‫األنف الجاف المتقشر‪ ،‬وكان الطفل الجميل المكتنز يوناسان‪ ،‬يزحف بالقرب منا‪.‬‬
‫حملت يوناسان‪ ،‬وكنت أترنح للخلف‪ ،‬ثم توجهت للفناء الخلفي في ذلك اليوم‬
‫الجميل‪ .‬لكنني وجدته خاليًا تملؤه الحشائش فقط‪.‬‬
‫ي‬
‫واجب بيت ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫كتاب ألقرأه أو‬
‫ٌ‬ ‫وعلى خالف الوضع في الديار‪ ،‬لم يكن بحوزتي‬
‫ألنجزه‪ ،‬كما لم يكن هناك تلفاز أو شخص للتحدث معه على الهاتف‪ .‬ضربت دينا‬
‫زيسيل وانتزعت لعبتها‪ ،‬فحاولت وضع الطفل على األرض ألح ّل النزاع بينهما‪،‬‬
‫قوس ظهره وأخذ بالبكاء‪ .‬أراد يوسي عصير تفاح‪ ،‬ولكنني حين تدبّرت أمر‬
‫لكنه ّ‬
‫سكبه له‪ ،‬إذ كنت ما أزال أحمل الطفل السمين الباكي على خصري‪َ ،‬دلَقَ العصير‬
‫على األرض‪ .‬آنذاك‪ ،‬كان الثالثة ينوحون‪ ،‬وشعرت بأن البيت أشبه ما يكون‬
‫المشوهة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فرغ من الهواء‪ ،‬وفي كل مكان كانت تظهر صورة األم‬
‫بصندوق م ّ‬
‫لم أستنتج من هذه التجربة األولى أن هذه هي حياة المرأة الحسيدية‪ ،‬ولم أقرأ أي‬
‫تحذير في هذه التجربة الوجيزة‪ .‬لم أعلم بأن الحمل المتتابع لفريمي وعنايتها الخانقة‬
‫بالكثير من األطفال الصغار في آن واحد قد تدل على شيء آخر غير أن هذه حالة‬
‫فردية لهذه العائلة‪ .‬نحيّت ردة فعلي الفطرية على الحمل‪ .‬كال‪ ،‬فكرت‪ ،‬ال أريد أن‬
‫أعمل في مجالسة األطفال اآلن‪ .‬لقد أتيت من أجل قضاء عطلة يهودية‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫ّ‬
‫وكن جميعهن‬ ‫سير مع سالي وميشيل وروثي‪،‬‬
‫عند بداية المساء‪ ،‬ذهبت في نزهة َ‬
‫ً‬
‫عليال‪،‬‬ ‫يرتدينَ تنورات طويلة بينما كنت ما أزال أرتدي الجينز بينهن‪ .‬كان النسيم‬
‫والشعر يرفرف مع الهواء‪ ،‬والضحكات سلسة مسترسلة‪ّ .‬‬
‫كن جميعهن فوق سن‬
‫الثامنة عشرة‪ ،‬لذا فقد كان ض ّمي بينهن سببًا لشعوري بالسعادة‪ .‬قلنَ بأنهن َّ‬
‫كن‬
‫يجربنَ اسماءهن العبرية‪ ،‬لذا فإن سالي وميشيل وروثي أصبحن على التوالي سورا‬
‫وميا وروس‪ .‬وحينها أصب َح اسم ليا‪ ،‬االسم الذي سمحت أمي للحاخام أن يقلدني‬
‫إياه‪ ،‬اسم شهرتي‪ ،‬وهو "أنا" أخرى أجربها‪ .‬كنت استمتع بالتنزه‪ ،‬وبغياب الفتيان‬
‫الذي يعقد األمور‪ .‬ذكرت ك ٌل من ميا وروس بأنهن قد التقينَ حسيديم من اللوبافيتش‬
‫في أروقة جامعاتهن‪ ،‬ميا في فلوريدا وروس في لوس أنجلوس‪ .‬وقد حضرت‬
‫االثنتان وجبات الساباث والخدمات ومجاميع الدرس مجانًا قبل أن يتفقن على‬
‫الحضور إلى المؤسسة لتجربة "االنغماس الكلي‪ ".‬ميا لم ترغب لهذه التجربة أن‬
‫تنتهي‪ .‬وقالت‪" :‬سأترك الجامعة وأنتقل إلى كراون هايتس‪-‬حي ال َحبر‪ -‬في بروكلين!‬
‫هناك يوجد عالم متكامل من الحسيديم‪ ".‬ورفعت قبضة المنتصر‪.‬‬
‫قالت روس بعد أن تمشينا ً‬
‫قليال‪" :‬بعض األحيان أسأم من االلتزام بأطعمة الكوشر‪.‬‬
‫وأشتهي تناول التشيزبرغر فقط‪".‬‬
‫ضا كنت‬
‫لم أقل الكثير‪ .‬ولم أكن أعرف الكثير عن قيود نظام أطعمة الكوشر‪ .‬أنا أي ً‬
‫أحب التشيزبرغر‪.‬‬
‫أخرجت سورا علبةَ سجائر ‪-‬التصريح الشهير بالعصيان والحرية‪ -‬وتوقفت من‬
‫كورت يدها حول اللهب‪ ،‬ومن ثم ّلوحت بيدها التي تحمل‬
‫أجل إشعال سيجارتها‪ّ ،‬‬
‫السيجارة تلويحةَ طرد‪ .‬وقالت‪" :‬فلتأكلي التشيزبرغر‪".‬‬
‫إنك ال تعرفين حتى ما هو‬
‫ت بالكوشر طيلة حياتك‪ِ .‬‬
‫قالت روس‪" :‬هاه‪ ،‬لقد التزم ِ‬
‫مذاق التشيزبرغر‪".‬‬
‫ي المتقيدين بأطعمة‬
‫قالت سورا‪" :‬ولم تتسنَ لي تجربته قط‪ ،‬فقد بقيت في منزل والد ّ‬
‫الكوشر أثناء دراستي الجامعية كي أدّخر النقود‪ .‬ثم وقع والداي في غرام اللوبافيتشر‬
‫الجديد في البلدة ودفعاني ألكون هنا‪".‬‬
‫فقالت ميا‪" :‬ال تنصتي لها‪ ،‬فسورا راضية تمام الرضا بالقواعد‪".‬‬
‫وهكذا جرت األمور‪ ،‬وبدأت كل واحدة منهن تصارحنا بلمحة عن مشاكساتها‬
‫ّ‬
‫قبولهن السهل‬ ‫فتضحك األخريات ويحضضنَها للعودة إلى الطريق الصحيح‪ّ .‬‬
‫لكن‬
‫ي البهجة‪ .‬شاركتني سورا سيجارتها‪ ،‬وتمشينا‪،‬‬ ‫لي ضمن المجموعة أدخل عل ّ‬
‫ً‬
‫عليال‪ ،‬في‬ ‫نستنشق تلك المتعة السيئة‪ ،‬بينما طال بقاء أشعة الشمس‪ ،‬وكان الهواء‬
‫الوقت الذي كانت فيه ألوان الشمس ترسم أفقا جديدًا‪ .‬س ِهرت معهن في تلك الليلة‬
‫إلى وقت متأخر‪ .‬ومتى ما شكت إحداهن من اعتراضات والديها على تديّنها المتزايد‬
‫أو من االشتياق لحبيبها أو من النشاطات المفضلة التي تتعارض مع الشريعة‪ ،‬تبادر‬
‫يمكنك التعامل مع ذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫إحداهن دائ ًما بطمأنتها بـ"ال تقلقي" مع عناق‪.‬‬

‫ث ساعات من‬
‫استيقظت على صوت المنبه عند الساعة السابعة إال ربعًا بعد ثال ِ‬
‫أفوت الصلوات وبأن ذلك اليوم كان مزدح ًما بجدول تام‬
‫النوم‪ ،‬وأدركت بأنني كنت ّ‬
‫من الدروس‪ .‬انتزعت جسمي المنهك من السرير وتوجهت للحمام‪ ،‬لكنني وجدت‬
‫ش‪ ،‬ففتحت صنبور المغسلة لكي‬
‫أن إحدى الفتيات قد سبقتني لالستحمام تحت الد ّ‬
‫أفرش أسناني‪ .‬فجأة‪ ،‬أطلقت الفتاة التي كانت في الحمام صرخةً عاليةً‪ .‬هل فعلت‬
‫شيئًا؟ هل أصيبت بأذى؟ هرعت خارجة من الحمام ووقفت أرتجف خار ًجا‪،‬‬
‫ي أن أطلب المساعدة؟ أو أن أعود‬
‫ونظري مشتت في كل االتجاهات‪ .‬ربما عل ّ‬
‫للداخل؟‬
‫وقبل أن أعرف الجواب‪ ،‬خرجت الفتاة‪ ،‬ملفوفة بمنشفة حتى ركبتيها‪ ،‬مح ّمرة الوجه‬
‫تزمجر‪ ،‬ووقع قدميها المبللتين يترك آثاره على األرضية الخشبية‪ ،‬وقالت‪" :‬كيف‬
‫تجرئين!"‬
‫لقد عرفت‪ ،‬لقد عرفت بأنني فعلت شيئًا خاطئًا‪ .‬لكنني قلت‪" :‬ماذا في األمر؟"‬
‫"أال تملكين أي حياء؟"‬
‫أجبتها‪" :‬ماذا! كالنا فتيات!"‬
‫لقد نشأت أنا وأختاي من دون إقفال األبواب‪ ،‬ولم تكن إحدانا تتحفظ حيال خلع‬
‫ي‬
‫ثيابها أمام األخرى‪ .‬لذا لم أفكر بشيء عند دخولي إلى الحمام الكبير الذي كان عل ّ‬
‫ش‪.‬‬
‫تشاركه مع تسع فتيات أخريات‪ ،‬أو عند إيجاد إحداهن تحت الد ّ‬
‫أوه‪ ،‬لكن الفتاة كانت مفعمة بالغضب على نحو جميل‪ ،‬كان ذراعاها وربلتا ساقيها‬
‫الرشيقتان مبللتين وعاريتين‪ .‬كان الماء يسيل كجداول على بشرتها بين شعيراتها‬
‫المبللة المتناثرة‪ .‬اعتذرت منها‪" :‬أنا آسفة‪ .‬لم أقصد النظر…" لكني لم أكن أنظر‬
‫ولم أفهم ِل َم شعرت وكأنني كنت أكذب‪.‬‬
‫بك‪ ،‬إنه الحياء أمام‬
‫قالت الفتاة منتقدة‪" :‬إن حيائي ال يتعلق بمن ينظر‪ .‬إنه ال يتعلق ِ‬
‫الرب‪ ".‬ثم عادت أدراجها إلى الحمام‪ ،‬تاركة خلفها آثار أقدامها المبللة‪.‬‬
‫ناديت خلفها بصوت خفيض‪" :‬في المرة القادمة‪ ،‬أقفلي الباب!" كنت أرتعش‪ ،‬مثقلة‬
‫ي الهائمتين‪ .‬هل نظرت إليها ولم‬
‫باإلرهاق‪ ،‬وقلبي يخفق والخجل باد على عين ّ‬
‫ي أن أنظر إليها! هل ستحدّث األخريات‬
‫أدرك؟ لقد نظرت إليها‪ .‬أوه‪ ،‬ما كان عل ّ‬
‫عني؟ هل سأغدو منبوذة في المؤسسة؟ لكنني قد قبلت للتو‪ .‬ربما كنت معروفة‬
‫حتى‪ ،‬وما الذي كانت تعنيه بشأن الحياء والرب؟‬
‫ي معرفة القواعد‪ .‬لذا قررت‬
‫لم أستطع تح ّمل فكرة أن أصبح منبوذة‪ ،‬كان ينبغي عل ّ‬
‫بأنني يجب أن أحرص على تغطية جسمي وأن أقفل باب الحمام خلفي دائ ًما‪ .‬كان‬
‫ي‪ .‬فال نظرات طائشة‪ .‬لكن صورة تلك الفتاة وضراوتها الزماني‪،‬‬
‫ي مراقبة عين ّ‬
‫عل ّ‬
‫الطريقة التي هزت بها رأسها وتناثر قطرات الماء‪.‬‬

‫الحقًا في ذلك اليوم األول لي‪ ،‬وفي الحجرة الكبيرة ذات األبواب المزدوجة التي‬
‫تقع في الطابق العلوي والتي رأيت فيها أول مرة أولئك الفتيات اللواتي يرتلّن خدمة‬
‫المينشا (‪ )mincha‬لما بعد العصر‪ ،‬كان الحاخام غيلر يسهب في الحديث عن‬
‫كتاب الوصايا لميمونديس‪ ،‬وبينما كان يذرع الصالة جيئة وذهابًا‪ ،‬وهو منهمك‬
‫بالقراءة والشرح‪ ،‬وقعت نظراتي الجانبية غير المتعمدة على الفتاة من الحمام‪ .‬كنت‬
‫ي أن أحاول بجهد أكبر‪ .‬الحقًا‪،‬‬
‫قد وعدت نفسي بأال أنظر‪ ،‬ولكني قد فشلت‪ .‬عل ّ‬
‫حين حان وقت مصاحبة إحداهن لدراسة القسم اليومي من الكتاب المقدس بالعبرية‪،‬‬
‫ظهرت رفقة‪ ،‬دليلتي‪ ،‬إلى جواري‪ .‬قالت‪" :‬تعالي"وقادتني خار ًجا للشرفة لحجز‬
‫عا جراء النسيم العليل الذي‬
‫المقعدين األخيرين فيها‪ .‬كان حفيف األشجار مسمو ً‬
‫يحرك األشجار الضليلة المعمرة تحت السماء الصافية‪ .‬اتكأت للخلف وأغلقت‬
‫ي‪.‬‬
‫عين ّ‬
‫ش ََرعت رفقة بالحديث‪" :‬إن العبرية هي لغة ركائز‪ .‬فكل حرف فيها هو عبارة وكل‬
‫كلمة هي حزمة من العبارات‪".‬‬
‫لكني كنت متعبة‪ .‬وقلت‪ِ " :‬ل َم يولي كل شخص هنا الحيا َء كل هذه األهمية الكبيرة؟"‬
‫فاتّكأت إلى الخلف أي ً‬
‫ضا‪ ،‬وأغلقت الكتاب‪ .‬ثم قالت‪" :‬كان للعظيمة حنة سبعة أبناء‪.‬‬
‫وقد كتب على كل واحد منهم أن يموت ميتة الشهداء‪".‬‬
‫"هل كان هذا يعد مكافأةً؟"‬
‫أجابت‪" :‬لقد ذهب أوالد حنة مباشرة إلى الجنة‪ .‬ماذا تظنين؟ هل تعرفين لماذا نالت‬
‫حنة مثل هذا الشرف؟"‬
‫"كال‪".‬‬
‫"لقد أحبها الرب ألن "جدران منزلها لم تشهد قط رؤية شعرة من شعررأسها‪".‬هذا‬
‫هو الحياء الحقيقي‪ .‬تزنوس "‪ "Tznius‬حتى إنها حين كانت تستحم‪ ،‬كانت تجعل‬
‫الخادمات يرفعن األغطية من حولها‪".‬‬
‫"والعبرة…"‬
‫ي ِ رجال حين كانت تستحم‪ .‬لقد كانت‬
‫" ممن كانت تختبئ؟ فلم يكن هناك وجود أل ّ‬
‫تلتزم بالحشمة من أجل إرضاء الرب فقط ال غير‪ .‬هذا هو الحياء‪ .‬إذ إن المرأة‬
‫التي دائ ًما ما تكون محتشمة حييّة أمام الرب هي بمثابة امرأة منخرطة في صالة‬
‫مستمرة ‪ .Hatznea leches‬حنة هي قدوتنا‪".‬‬

‫أبيض‪ .‬ض ّمت إحدانا األخرى‬


‫َ‬ ‫ً‬
‫بنطاال‬ ‫في اليوم التالي وصلت آنا‪ ،‬وهي ترتدي‬
‫بعناقات تخللتها الصيحات‪ .‬وبينما كانت تف ِرغ حقيبتها‪ ،‬جلست على السرير‪ ،‬أصف‬
‫لها الفتيات ويومي األول من الدروس بلهفة‪ .‬وقلت‪" :‬إن األمور رائعة هنا حقًا‪".‬‬
‫"إذن لماذا تظهر تلك الحلقات الداكنة تحت عينيك؟"‬
‫"لقد عقدت الكثير من الصداقات!"‬
‫كانت الخزانة الكبيرة مكتظةً عن آخرها‪ ،‬لذا فقد ّ‬
‫كومت آنا تنوراتها و َكنزاتها على‬
‫ذراعها وذهبت لتعلقها على حمالة األلومنيوم الموضوعة في الغرفة الخارجية‬
‫الكبيرة‪ .‬تبعتها‪" .‬هل ستقومين بارتداء هذه التنورات؟" قلت‪ .‬ثم ابتلعت ريقي‪" .‬هل‬
‫أستطيع أن أستعير إحداها؟"‬
‫منذ حادثة الحمام‪ ،‬عملت جاهدة على تقليد الفتيات األخريات‪ ،‬وبكيفية ما‪ ،‬أصبح‬
‫حب الرب وحب الجماعة الشيء نفسه‪ ،‬واتخذت رغبتي بقبولهن لي شكل حاجة‬
‫سة‪ .‬فراقبت السلوكيات وأنصت إلى العبارات‪ .‬وفي الصلوات‪ ،‬قلدت‬
‫روحية ما ّ‬
‫وجوههن الساكنة وأجسادهن المتمايلة وشفاههن في حركتها المنتظمة‪.‬‬
‫وخالل األسبوعين اللذين قضيتهما في المكان‪ ،‬كنت قد تعلمت بأن أفقد كامل‬
‫إحساسي بالوقت في الصلوات‪ ،‬أن ينتابني شعور خاو منعدم التفكير‪ .‬خالل‬
‫الصلوات‪ ،‬كنت أنصهر في المجموعة وفي تكرار الكلمات‪ ،‬األجساد المتمايلة تحيط‬
‫بي‪ ،‬الصالة ممتلئة بالهمس المشابه لصوت أوم والذي يس ّكن المخاوف المخبوءة‪.‬‬
‫وبصفتنا مجموعةً‪ ،‬كانت كل واحدة منا جز ًءا من جسم واحد‪ ،‬بنَفَس واحد‪ .‬فلم أكن‬
‫مختلفة رغم كل شيء‪ .‬هنا رفقة على جانبي‪ ،‬تتمتم كلمات من كتاب الصالة الخاص‬
‫فرقة من فرط االستخدام‪،‬‬
‫ي الحافات‪ ،‬وكانت صفحاته م ّ‬
‫بها‪ .‬كان الكتاب الصغير مثن َّ‬
‫وزواياه داكنة اللون‪ ،‬كما لو أن سنينَ من التعبد قد استه ِلكت فيه‪ .‬كانت تحمله أمام‬
‫وجهها‪ ،‬وتنود كما لو كان كل جسدها يصلي‪ .‬لقد رغبت بما صفّته رفقة بين تلك‬
‫الصفحات‪ .‬أردت أن أشعر بذلك الجذع وبأوراق الشجر الخفيفة تلك‪ .‬ثم تنقلب‬
‫ي وسقطت في أحضان‬
‫الصفحة‪ .‬تنهدات‪ .‬كنت معلقة أتدلى‪ ،‬ساكنة‪ .‬أغلقت عين ّ‬
‫أعظم‪.‬‬
‫داومت على ارتداء إحدى تنورات آنا أليام‪ ،‬ولم آبه للضيق الذي يسببه لي ارتداء‬
‫التنورة‪ .‬وقد اعتقدت أنني ما أزال قادرة على الجلوس بالطريقة التي أفضّلها‪ ،‬أباعد‬
‫لكن طريقة الجلوس هذه لم تعد‬ ‫ي‪ ،‬وقدماي مستقرتان على األرض‪ّ ،‬‬ ‫بين ركبت ّ‬
‫تناسبني في كل األوقات‪ً .‬‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬كان ارتداء التنورة يعني بأنني أدلي ببيان‬
‫عن حياء األنثى‪ ،‬فشعرت بأنني أنثى بالمطلق وعلى نحو غريب‪ ،‬كما لو أن التنورة‬
‫كانت يافطة بحجم جسمي ملفوفة حولي وتقول "هاهنا أنثى" فتختزلني بهذا‬
‫الوصف‪ ،‬وال شيء سواه‪ .‬لكنني حتى في المؤسسة‪ ،‬كنت ما أزال أحلم بأنني صبي‪.‬‬
‫خلف حاجز ما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫واآلن كان يجري الدفع بهذا الصبي الذي هو جزء منى إلخفائه‬
‫ٌ‬
‫خطط‪ ،‬إذ كنت قد توليت أمر التقديم للجامعات بنفسي‬ ‫إلى جانب ذلك‪ ،‬كانت لدي‬
‫وقبلت في برنامج الشرف في جامعة شمال تكساس بمنحة دراسية كاملة‪ .‬وسوف‬
‫أخيرا‪ .‬كنت أخطط ألن أصبح أشيا َء‬
‫ً‬ ‫أبدأ الدراسة في الخريف‪ ،‬وأتحرر من عائلتي‬
‫كثيرةً‪ ،‬لكن هنا في المؤسسة‪ ،‬وفي التنورة‪ ،‬أشعر بأنني مختزلة في تصنيف ضيق‬
‫أكون فيه فتاة فقط‪ ،‬وال شيء سوى فتاة‪ ،‬ولكن فوق كل شيء فكرت بأنني قد أكونه‪،‬‬
‫مزدهر يجعلني خانعة‪ .‬لقد كان من المحيّر كيف قلّص‬
‫ٌ‬ ‫ي‬ ‫ٌ‬
‫صوت حاخام ٌّ‬ ‫كان هناك‬
‫ذلك االنتقاص صوتي‪ ،‬فلم أكن أجادل أو أطرح األسئلة في الصفوف‪ ،‬كما كنت‬
‫ي أن أتذكر أن أخفض صوتي وألتزم الصمت قرب‬
‫أفعل في الثانوية‪ .‬كان عل ّ‬
‫ي‬
‫الرجال‪ .‬تدربّت على جعل خطواتي أصغر‪ .‬وعندما كنت أجلس‪ ،‬كنت أضم ركبت ّ‬
‫ي على بعضهما‬
‫سوية على نحو أخرق وأميلهما إلى أحد الجانبين‪ ،‬أعكس كاحل ّ‬
‫وأدسهما تحت مقعدي‪ ،‬ويداي مضمومتان في حجري‪.‬‬
‫كنت أنا وآنا قد اخترنا صفًا يقوم إيسر بتدريسه‪ ،‬الرجل ذو اللحية التي بلغ طولها‬
‫حتى صدره‪ ،‬صاحب الصوت العذب والتصريحات الرصينة‪ ،‬والذي قمت بمجالسة‬
‫أطفاله‪ .‬كان الصف يعقد حول طاولة نزهات في الجزء الخلفي من القصر تحت‬
‫مجموعة من األشجار‪.‬‬
‫كانت الفتيات جميعهن مفتونات بإيسر‪ّ ،‬‬
‫وكن في المساءات ينتظرنَ في طابور حتى‬
‫منتصف الليل من أجل أن يلتقينَ به ويسردنَ ‪ ،‬مع ذرف الدموع‪ ،‬تفاصي َل تخص‬
‫صراعاتهن مع أولياء أمورهن الذين ال يحبون توجهاتهن الدينية؛ يبكينَ بسبب‬
‫أحبابهن أو معلميهن أو وظائفهن‪ ،‬ويسألنَ عن كيفية التخطيط لمستقبلهن أو عن‬
‫كيفية إيجاد أزواج ملتزمين أو عن كيفية تحديد األجزاء المباحة ضمن حياتهن‬
‫العلمانية السابقة‪ .‬فكان إيسر يعطيهن النصائح المطرزة باالستشهادات التي تهدف‬
‫لتسوية طريقهن إلى الرب‪ .‬فتخرج الفتيات بعيون حالمة ويشاركنَ كلماته مع بقيتنا‬
‫ّ‬
‫أسمعهن يرددن‪" :‬يقول إيسر كذا أو يقول كذا"‬ ‫وكأنها جواهر‪ .‬وطيلة اليوم كنت‬
‫حتى إنهن َدعونه بالماشبيا "‪ "mashpiah‬وقد أخبرتني رفقة بأن الكلمة تعني‬
‫"عين الماء المدرارة"‪ .‬وقد قالتها بهيام واضح‪.‬‬
‫حاولت أن أحاكي سلوك الفتيات تجاه إيسر‪ ،‬رغم أني لم أقف في تلك الطوابير‬
‫نطقه ضايقتني وكدّرتني‬
‫المسائية أو ألتمس مشورته‪ .‬فقد الحظت هفوات في َم ِ‬
‫أحيانًا‪ ،‬لكني أي ً‬
‫ضا شعرت بضآلتي أمام الشريعة وصوت الرب الهادر الذي يسري‬
‫س ِكينة‪ ،‬يسري عبر‬
‫من خاللها‪ .‬كان إيسر يمثل هذا الصوت‪ .‬كان صوته‪ ،‬المشبع بال َ‬
‫حيرتي‪ ،‬فيطمئننا ويأمرنا‪.‬‬
‫"‪"Kadesh atzm’cha bemutar loch‬‬
‫تال إيسر بلهجة شتيتل اليديشية رغم أن لغته اإلنكليزية كانت سليمة من أي لكنة‪.‬‬
‫أي‪" :‬ط ّهر نفسك بما هو مباح لك"‪ .‬وقال‪" :‬إن هذا يعني بأن عليك أن تجعل نفسك‬
‫سا باالمتناع‪ ،‬ليس فقط عما هو محرم‪ ،‬بل عن أي شيء ال تحتاجه ً‬
‫فعال‪".‬‬ ‫مقد ً‬
‫صا عن االنغماس غير الضروري‪ ،‬ولفعل ذلك‪ ،‬ينبغي علينا أن نعرف‬
‫"وخصو ً‬
‫الفرق بين الحاجة والرغبة" أضاف‪ ،‬بنبرة آسرة‪ .‬وواصل كالمه‪" :‬فالحاجات‬
‫تتضاءل حينما تشبعها‪ ،‬مثل الجوع فإنه يختفي بعد أن تأكل‪ .‬لكنك إذا أشبعت‬
‫الرغبة‪ ،‬فإنها ستتعاظم‪ .‬وبهذه الكيفية ستعرف الفرق بينهما‪".‬‬
‫ال تشبع الرغبة أبدًا؟ ً‬
‫مهال‪ ،‬فكرت‪ّ :‬‬
‫إن حاجتي للطعام ال تتضاءل حتى بعد األكل‪،‬‬
‫إذ ال أزال مخلوقا ماديا له احتياجات‪ .‬وجوعي هو فقط ما يغدو ويروح‪ .‬بدأت‬
‫بالتلويح بيدي بغية جذب انتباه إيسر لكي أتمكن من التعبير عن اعتراضي على‬
‫نط ِقه‪ ،‬وكيف أن الحاجات ال تتضاءل عندما تشبعها‪ ،‬ولكنني لمحت األخريات‬
‫َم ِ‬
‫وأنزلت يدي‪ .‬إن الرغبة تتعاظم كلما أشبعتها أكثر‪ ،‬فرغباتي المخبوءة يمكنها أن‬
‫تتعاظم وتتحول إلى وحش يمزق هذه التنورة‪ ،‬يفضحني ويتسبب بطردي من هنا‪،‬‬
‫المكان الوحيد الذي أصبحت أشعر بأنني أنتمي إليه‪ .‬فلم تعد داالس بطريقة أو‬
‫بأخرى تمنحني شعور الديار‪ .‬لقد بدت لي بعيدة وغير حقيقية‪ .‬وإن قمت بمجادلة‬
‫شردة ً في الخارج‪ ،‬على حافة العالم‪ .‬ربما كان على حق‪ .‬يجب‬
‫إيسر‪ ،‬فقد أصبح م ّ‬
‫أن تل َجم حتى الرغبة في قول رأيي‪.‬‬
‫وأردف إيسر ً‬
‫قائال‪" :‬إن إشباع الرغبة الجسدية يروي الحيوان الذي في دواخلنا‬
‫فقط وليس الروح اإللهية‪ ".‬في تلك اللحظة‪ ،‬أصبحت كل متعة جسدية بسيطة ال‬
‫أمرا م ً‬
‫خجال ومشينًا‪.‬‬ ‫يلحقها هدف رباني على وجه خاص ً‬

‫تنهدت آنا‪ ،‬وعندما تحركت على المصطبة التي كنا نجلس عليها‪ ،‬التصق فخذها‬
‫بفخذي حتى أنني أحسست بدفئه‪.‬‬
‫بدأت أجلس بعيدًا عن آنا أثناء وجبات الطعام‪ ،‬وأخذت أفضّل فقط مقادير الطعام‬
‫التي أحتاجها بكل ما لكلمة احتياج من معنى‪ .‬وفي ختام كل وجبة‪ ،‬تقوم المكرسات‬
‫للخدمة الالتي قلدنَ وسطنا كقدوات‪ ،‬مثل رفقة‪ ،‬بقيادة أغنية الشكر على نعمة‬
‫عا مفع ًما بالحيوية حين يغنينَ ‪ ،‬تدق أكفهن سطح‬
‫الطعام‪ .‬كانت الفتيات تصدرنَ إيقا ً‬
‫المنضدة بسعادة وصوت صادح‪ .‬لكن في رأسي كان صوت إيسر يتردّد‪:‬‬
‫"‪ ،kodesh‬أي مقدس‪ ،‬وهو ما يعني منعزال لهدف التضحية‪ ".‬فجلست وحيدة‬
‫والتزمت الهدوء‪.‬‬
‫أرسلت لي أمي رسالة من لوال‪ ،‬التي كانت تجلس إلى جانبي في صفوف الجبر‪،‬‬
‫وهي أول صديقة سوداء لي بعد اندماج مدارس داالس‪ .‬كنا قد تواعدنا على أن‬
‫تنوعه‪ ،‬وأصبح‬
‫نبقى على تواصل‪ .‬لكن الحاجز أقيم اآلن بيني وبين العالم بكل ّ‬
‫"نحن" و"هم"‪ .‬لم أستطع أن أنتمي إلى هنا وأن احتفظ بلوال كصديقة بنفس الوقت‪،‬‬
‫فوضعت الرسالة داخل دفتر يومياتي‪ ،‬وأنا أتمنى أن يكون بإمكاني جعلها تتفهم‪.‬‬
‫في كل ليلة في المؤسسة كنا نعقد نفس جلسات الصداقة التي تمتد حتى وقت متأخر‬
‫من الليل‪ ،‬وفي كل صباح نطلق نفس أنَّات اإلرهاق‪ ،‬ونبذل نفس الجهد المكثف‬
‫الستيعاب التعاليم الباطنية والتشريعات المعقدة‪ .‬كان كل يوم ينتهي بنفس االستسالم‬
‫للتعب‪ .‬في أحد األيام وجدت آنا تخرج تنوراتها من خزانة األلومنيوم‪ .‬وهي تقول‪:‬‬
‫"يا للقرف‪ ،‬إنها تفوح برائحة دخان السجائر‪".‬‬
‫فقلت‪ " :‬أنا آسفة‪ ،‬لكن هل بإمكاني استعارة واحدة أخرى؟"‬
‫فقالت‪" :‬إنك ال تدخنين‪ ".‬ناولتني تنورة زرقاء داكنة‪ .‬وقالت‪" :‬تفضلي‪ ،‬لكن من‬
‫غير المسموح لك أن تتناولي السجائر وأنت ترتدينها‪ .‬وسيكون عليك أن تعيديها‬
‫ي حين ترجعين إلى داالس‪".‬‬
‫إل ّ‬
‫"هل سترحلين؟"‬
‫حالك‬
‫ِ‬ ‫"ليزا‪ "...‬خاطبتني‪ ،‬ثم أمالت رأسها إلى الجانب مثل ببغاء وقالت‪" :‬كيف‬
‫اليوم؟ ‪ .Baruch hashem‬كيف حال نومك؟ ‪ .Baruch hashem‬كيف هي‬
‫دراستك؟ ‪ .Baruch hashem‬إنني أكره عبارات "‪"Baruch hashem‬‬
‫التي تتفوهين بها‪.‬‬
‫ّ‬
‫"لكن‬ ‫تعني العبارة فليتبارك الرب‪ ،‬إنها تعني "أنا أقبل مشيئة الرب‪ ".‬قلت لها‪:‬‬
‫الجميع يقولونها حقًا‪ ،‬الجميع‪".‬‬
‫ت لست الجميع‪".‬‬
‫فردّت‪" :‬أن ِ‬
‫بدوت كببغاء في عيون آنا‪ .‬أردت إخبارها بأنني كنت أتعلم فقط‪.‬‬
‫أعلم بأنني قد ّ‬
‫ضا عن ذلك قلت لها‪" :‬هناك سبب لقول هذه‬
‫أردت أن أقول إنني أحببتها‪ ،‬لكن عو ً‬
‫العبارة‪ ،‬كما تعلمين‪".‬‬
‫فقالت‪" :‬هل هناك سبب ما حقًا‪ ،‬اآلن؟"‪ .‬ثم عادت لتوضيب حقيبتها‪ ،‬وفي عصر‬
‫ذلك اليوم غادرت المؤسسة‪.‬‬

‫في الليلة التي أعقبت رحيل آنا‪ ،‬اضطجعت وحيدة قبالة سريرها الفارغ وعانيت‬
‫ٌ‬
‫حنين لالتحاد النهائي مع الرب الذي كان إيسر‬ ‫نوبات من الحنين كنت أعتقد بأنها‬
‫قد وصفه في الدرس بأنه "حتى إلى حين الموت"‪ .‬تخيلت روحي وهي تسعى جاهدة‬
‫للطيران بعيدًا عن جسدي المتطلب لتبلغ ذلك االتحاد الصوفي الوجودي‪.‬‬
‫كان الرب بمثابة شاشة عمالقة‪ ،‬وكل من أحببته يو ًما كان جز ًءا من صورة الرب‬
‫التي تظهر عليها‪ .‬وقد كانت آنا على تلك الشاشة‪ ،‬تفتح لي ذراعيها على وسعهما‪.‬‬
‫"إنك الحب الدائم"‪ .‬وكانت هناك أمي بيديها الرقيقتين وعينيها اللوزيتين‪ّ ،‬‬
‫لكن‬ ‫َ‬
‫صورتها تغيرت إلى أخرى ذات حضن مؤتمن‪ ،‬تومئ لي باالقتراب‪ ،‬وترغب‬
‫"إنك تمنح القوة للمضنى"‪ .‬كما كان هناك أبي بشعره األبيض وابتسامته‬
‫باحتضاني‪َ .‬‬
‫المائلة‪ ،‬لكنه كان معافى‪ ،‬وعيناه تشعان بالحيوية‪ ،‬وقد أصبح درعي الذي لم يسبب‬
‫ضا كل ألم‬
‫لي األذى ولم يمت من الداخل يو ًما‪ .‬وبكيفية ما‪ ،‬كان على تلك الشاشة أي ً‬
‫ألَ ّم بي ذات يوم‪ ،‬وقد ص ِف َّ‬
‫ي حتى أصبح نقطة المعة من النور المؤلم‪.‬‬
‫تحول وجه أبي إلى وجه حاخام ملتح؛ وتحولت أمي‬
‫رحلت آنا ولم تخبرني‪ ،‬وقد ّ‬
‫إلى ربّ محتضن‪ .‬وأنا قد أكون‪ ،‬بل سوف أكون‪ ،‬أنا أشعر بأني سأكون قديسة‬
‫صالحة (‪ .)tzaddik‬وسوف أتعالى على جسدي المتعنت ومتطلباته الجامحة‪ ،‬وقد‬
‫أتمكن من رؤية الرب‪ ،‬فقد كنت غارقة بالحنين الموجع‪ .‬سألمس الرب وأهرب من‬
‫عالم الخيانة هذا‪.‬‬
‫قمت من سريري‪ ،‬وتحت تأثير نوبة اجتاحتني من تأجج العاطفة والحاجة‪ ،‬انتزعت‬
‫الغطاء عن السرير الذي كانت تنام عليه آنا ولففت نفسي بدفئها‪ ،‬ثم عدت إلى‬
‫االستلقاء‪ ،‬متل ّحفةً بها‪ ،‬أحلم بالهروب وأستنشق رائحتها‪ ،‬حتى غلبني النوم‪.‬‬
‫الفصل السابع‬

‫كانت السماء صافيةً في الخارج وأنا أراها من على ساللم المدخل األمامي للمؤسسة‬
‫في ليلة عيد مولدي السابع عشر‪ ،‬الذي صادف التاسع والعشرين من شهر حزيران‬
‫عام ‪ .1973‬كانت الفتيات قد غنيّن لي على مائدة العشاء‪ ،‬والسماء المرصعة‬
‫بالنجوم تمنيني بوعودها‪ .‬فاتكأت إلى لوراء‪ ،‬ووجهي نحو السماء‪ ،‬أم ّد يد ّ‬
‫ي لبلوغ‬
‫تلك النجوم‪.‬‬
‫أجوف وخطير‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كانت رفقة‪ ،‬أثناء دروسي معها‪ ،‬قد أخبرتني أن كل الفن الدنيوي‬
‫يكرسوا فنهم للرب وللشريعة‪ .‬فتدفقت عبر السماء حالكة‬
‫ألن الفنانين يجب أن ّ‬
‫صور من كتب الرسم التي تعود ألمي‪ ،‬والتي كانت بمثابة أصدقاء طفولتي‬
‫ٌ‬ ‫السواد‬
‫وإلهام مراهقتي‪ ،‬الكاتدرائيات في ريمس ونوتردام‪ ،‬تمثال بيتتا لمايكل أنجلو‪،‬‬
‫مادونات ليوناردو دافنشي الحالمات‪ ،‬وقوة اللون األسود في ضربات فرشاة كالين‪،‬‬
‫وغيوم روثكو ذات اللون الحالم‪ ،‬وكل هذه األعمال تتصادم على خلفية مقطوعة‬
‫غروس فيوج لبيتهوفن‪ .‬هل كان الجمال الرفيع مجرد هراء يفتقر ألي معنى‬
‫روحاني؟ لكنني كنت قد ّ‬
‫خططت للعودة للمنزل حين أنتهي من هنا‪ ،‬ألتو ّجه لدراسة‬
‫الفن والموسيقى في الجامعة‪ .‬هل اختزلت خططي بممارسة جوفاء خاوية هزأت‬
‫صا‬ ‫ً‬
‫مستقبال‪ ،‬وال شخ ً‬ ‫بالوصايا؟ إن كان األمر كذلك‪ ،‬ففي زيي الجديد‪ ،‬لم أكن أمتلك‬
‫ألكونه‪.‬‬
‫ماذا لو أنني أنزل ساللم المدخل هذه‪ ،‬ثم أجتاز الشارع وال أعود إلى هنا ثانية؟‬
‫ربما أستطيع أن أطرق على أي باب وأطلب منه استخدام الهاتف من أجل أن أتصل‬
‫بوالدتي‪ ،‬فهي ستساعدني على العودة للمنزل‪ّ .‬‬
‫لكن تلك النجوم كانت بعيدة المنال‪،‬‬
‫والسماء شاسعة‪ ،‬والشارع الضيق كان أوسع مما أستطيع عبوره‪ ،‬وقد كان التشيلو‬
‫الخاص بي بعيدًا للغاية‪ ،‬وأمي قد رحلت‪ .‬كان ك ّل من الخمول والخوف والشك‬
‫يثقلني ويشدني إلى األرض‪ .‬من كنت أنا؟ لقد رحلت الفتاة التي كنتها‪ .‬فكيف لي أن‬
‫أعود للمنزل؟ إذا تخليت عن المرأة ذات التنورة التي كنت في طور التحول إليها‪،‬‬
‫فماذا يتبقى؟ سأصبح صفحة فارغة‪ ،‬بدون تعريف أو محتوى وسيكون الالمكان‬
‫منزلي‪ .‬سأخرج إلى العالم بال طريق‪ ،‬أهيم في الخواء‪ .‬لكنني لن أخاطر بأن أتحول‬
‫إلى وجه تائه وخاو مثل والدي‪.‬‬
‫ي‪" :‬لقد غيّرت حياتي وأصبحت امرأة‬
‫في وقت متأخر من تلك الليلة‪ ،‬كتبت لوالد ّ‬
‫حسيدية‪ .‬إن كل دقيقة من يومي مكرسةٌ حاليًا لكي أصبح شخ ً‬
‫صا أفضل وأكثر‬
‫ي‬ ‫اتصافًا باألخالق‪ .‬إنكم َمن بدأ بتشكيلي‪ ،‬ولكن‪ ،‬بقدر ما أحبكم واحترمكم‪ّ ،‬‬
‫فإن عل ّ‬
‫أن أتولى زمام األمر اآلن‪ .‬أعدكم بأن أبقى معكم على تواصل‪ ،‬لكنني لن أعود‬
‫للمنزل‪ ".‬بهذه الطريقة قمت بتوديعهم‪ ،‬بهذه األكاذيب‪.‬‬

‫عصرا ككل عصر في المؤسسة‪ :‬تقطع الفتيات الرواق‬


‫ً‬ ‫بعد مرور عدة أسابيع‪ ،‬كان‬
‫إلى الطابق السفلى من أجل القيام بأعمال الغسيل أو لالستراحة‪ ،‬بعضهن يترافقن‬
‫لتدارس النصوص أو للدردشة على الشرفة‪ ،‬والكثيرات منهن يصطففنَ عند كابينة‬
‫أتكور على أحد المقاعد‬
‫الهاتف‪ ،‬فيما كانت إحداهن نائمة على األرض‪ .‬أ ّما أنا فكنت ّ‬
‫في المساحة الحجرية التي تقع في أقصى الرواق وأقرأ عن الميكفاه‪ ،‬سعيدة بتم ّكني‬
‫من اإلفالت مما وقع على عاتقي من عمل المطبخ‪ .‬لم أكن أعلم بعد بما سوف‬
‫تنطوي عليه الميكفاه‪ ،‬إال أنني كنت مأخوذة بادّعاء مؤلف الكتاب الذي يؤكد بأن‬
‫الدراسات قد أثبتت أن الميكفاه تحمي النساء من سرطان عنق الرحم‪ ،‬إال أنني‬
‫تساءلت‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬لماذا تملك الراهبات نفس المعدل المنخفض من اإلصابات‪.‬‬
‫قمت وتجولت في صالة الرقص‪ ،‬حيث كان هناك‪ ،‬حسبما أتذكر‪ ،‬كتاب آخر عن‬
‫الميكفاه‪ .‬قلّبت الكتاب وصوال إلى صفحة المحتويات‪ ،‬آملة بأنه يورد التفاصيل‬
‫بوضوح أكبر‪ ،‬فيما يصعد الحاخام غيلر ساللم الطابق األرضي مع زائر آخر‪.‬‬
‫هدرت داخلي موجةٌ‪ ،‬خليط من الحب والخوف والحاجة والغضب‪ ،‬إذ كانت أمي‬
‫هي الزائرة‪ ،‬وقد رأيتها مع الحاخام غيلر‪ .‬حاولت أن أبتلع ريقي‪ ،‬ساويت تنورتي‪،‬‬
‫تشبثت بالكتاب‪ ،‬إال أن أيًا من ذلك لم ينفع‪ .‬كانت تتحدث مع الحاخام‪ ،‬بوجه يخلو‬
‫من التعابير‪ ،‬أما جسدها فقد كان لوحة ضربتها فرشاة تحت تأثير الخوف‪.‬‬
‫بعد ساعة‪ ،‬أحسست بشخص يربت على كتفي‪ ،‬كانت رفقة تخاطبي‪" :‬الحاخام غيلر‬
‫يطلب منك النزول إلى مكتبه" قالت وهي تحاول أن تتخذ نبرة ً رسميةً‪ .‬وبينما كنت‬
‫أغادر كانت تنظر نحو قدميها‪.‬‬
‫ي بضرورة الجلوس‬
‫كانت أمي قد عادت إلى الفندق الذي تمكث فيه‪ .‬أشار الحاخام إل ّ‬
‫على الكرسي الوحيد الذي يصدر صريرا من عجالته األسطوانية‪ ،‬كان المقعد عاليًا‬
‫متوترا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومائال لذا فقد حاولت أال أنزلق عنه‪ .‬بقي باب المكتب مفتو ًحا‪ ،‬وبدا الحاخام‬
‫ً‬
‫قليال‪ ،‬متأرج ًحا على أطراف قدميه‪ ،‬واضعًا يديه خلف ظهره‪ ،‬ثم قال‪" :‬لم نكن نعلم‬
‫قاصر‪".‬‬
‫ٌ‬ ‫بأنك‬
‫ِ‬
‫حزام أدوات وينتعل حذاء تنس‪ ،‬فقد كانوا‬
‫َ‬ ‫مر أمامنا أحد الحاخامات وهو يرتدي‬
‫َّ‬
‫األسرة‪ ،‬وكنا نسمع صوت ضجيج مسدس المسامير‬ ‫ّ‬ ‫يهيئون مساحةً للمزيد من‬
‫وأزيز منشار طنّان‪.‬‬
‫قلت‪ " :‬لقد كتبت عمري على استمارة التقديم‪ ،‬أنا لم أكذب‪".‬‬
‫والدتك أن تجعل أجواء المنزل شرعية من أجلك‪ ،‬وقد وافقت‪".‬‬
‫ِ‬ ‫"لقد طلبت من‬
‫"ماذا؟"‬
‫"عليك أن تذهبي للمنزل‪".‬‬
‫ِ‬
‫فقلت وأنا أهز برأسي‪" :‬لكنني ال أعرف كيف أذهب‪".‬‬

‫صوت تشويش ينبعث من نظام االتصال الداخلي للطائرة‪ ،‬هدير المحرك يسري‬
‫إلى المقاعد على هيئة اهتزاز‪ ،‬حركة اإلقالع تشدّنا للخلف‪ .‬العالم مكان مليء‬
‫بالمشقة‪ّ ،‬‬
‫لكن الصالة وتأدية الوصايا هما الواقع الوحيد‪ .‬وترتيل المزامير يعيد‬
‫توجيه الطاقة الربانية‪ ،‬ويدرأ العقاب‪ .‬كنت أرتدي تنورة آنا ذات اللون األزرق‬
‫الداكن‪ .‬وبجانبي‪ ،‬كانت أمي بشفتين مستويتين تعكسان وجو َمها‪ .‬أشبع ِ الحاجة‪،‬‬
‫جوع ِ الرغبة‪ ،‬فالطهارة هي الدرب إلى الرب‪ .‬ومن األرض نرتفع إلى السماء‬ ‫ّ‬
‫الزرقاء حتى ت َصغر المنازل لتبدو ألعابًا‪ ،‬وث ّمة سحب ملتفة في مشهد أخروي يفتقر‬
‫للحب‪ .‬طوبى لمن يسكن في منزلك‪ .‬طلبت أمي بطانيةً من المضيّف ِة‪ّ ،‬‬
‫لكن صوتها‬
‫بدا غريبًا عن صوتها‪ .‬غَطت كتفيها‪ ،‬ثم أطبقت عينيها‪.‬‬

‫في مكان ما فوق الغيوم‪ ،‬مددت يدي في حقيبتي فعثرت على كتاب الصلوات‬
‫الخاص برفقة‪ ،‬هديتها السرية األخيرة‪ .‬سحبته في دهشة‪ ،‬تشكيلة من األدعية في‬
‫يدي مثل كوب مملوء باألمل‪ .‬في الجهة الداخلية من الغالف األمامي المهترئ‬
‫وجدت كتابة عبرية بخط يد رفقة ذي الحروف الملتفة بهيئة األنشوطات‪ :‬الرب‬
‫قريب إلى َمن يدعوه‪ .‬ذيلت الكتابة باسمها الذي وقعته برسم حلقة فوق النقطة‪.‬‬

‫ٌ‬
‫وأطباق وقوارير فارغة على المنضدة‪ ،‬كتل الغبار المتكومة على خيوط‬ ‫علب‬
‫ٌ‬
‫ٌ‬
‫ونباتات مبثوثة‬ ‫وثياب‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ولوحات وبري ٌد‬ ‫صحف‬
‫ٌ‬ ‫العنكبوت في األركان‪ ،‬ال شيء تغير‪.‬‬
‫س َّجاد‪ ،‬صراصير تتسلق الجدران‪ ،‬تلفاز أمي‬
‫في كل مكان‪ ،‬براغيث تستوطن ال َ‬
‫مشتغ ٌل منذ أن غادرت‪ .‬وأبي يحوم في أرجاء المنزل بال وجهة‪ ،‬برأس خفيض‪،‬‬
‫كأنه شب ٌح متجه ٌم‪ .‬استجمعت أمي من الطاقة ما يكفيها للقدوم والعودة بي للمنزل‪،‬‬
‫ثم اعتلت سريرها ثانية‪ .‬عند منتصف الليل‪ ،‬سمعت آمي تدخل من الباب األمامي‬
‫وتتسلل إلى غرفتها‪.‬‬
‫لم أستبدل تنورة آنا‪ .‬بدا التشيلو الذي يقبع في الزاوية داخل حقيبته القماشية مغلقة‬
‫السحاب مثل أثر من ماضي شخص آخر‪ .‬كارول كنغ على البيانو كانت ما تزال‬
‫معلّقة على الجدار‪ ،‬وهي تغنّي‪ ،‬وبجانبها قصاصة م ّ‬
‫صفرة من صحيفة قمت بتعليقها‬
‫ذات مرة‪ ،‬وكانت عبارة عن افتتاحية رأس السنة لعام ‪ .1970‬كتب عليها‪ :‬لقد‬
‫فقدنا براءتنا وتعلمنا التشكيك‪.‬‬
‫في الليل‪ ،‬ومن غرفتي التي تقع على مقربة من الصالة‪ ،‬سمعت أمي تقرأ في‬
‫مدونتي الموجزة للشريعة اليهودية بصوت عال لوالدي‪ .‬فتقرأ‪" :‬ال يجوز لليهودي‬
‫مشابهة الوثنيين‪ ،‬حتى في أربطة أحذيتهم‪ ".‬أخذت تنتحب قائلة‪" :‬هذا الشيء‬
‫ي للغاية! لن يسمحوا لها باتّباع الموضة‪ .‬وال يمكنها الذهاب للمطاعم‬
‫ي وبدائ ٌ‬
‫انعزال ٌ‬
‫أو مشاهدة األفالم أو التلفاز أو قراءة كتاب‪ ،‬ال بل سيحرمونها حتى من المواعدة‪".‬‬
‫ثم سمعت والدي يقول‪" :‬ريتا‪ ،‬انظري إلى هذا‪ ،‬إنهم يخبرونها حتى كيفية ربط‬
‫حذائها‪ ،‬إنها مغسولة الدماغ‪".‬‬
‫تحول نحيب أمي إلى سيل من الشك تدفق باردًا عبر شراييني‪ ،‬فتقلّبت على سريري‬
‫ّ‬
‫يمنة ويسرة‪ .‬أردت أن أهرع إليها وأمسك بها وأعدها بأي شيء‪ ،‬بكل شيء‪ .‬ثم‬
‫نهضت‪ ،‬وبحذر‪ ،‬أحضرت الحوض البالستيكي إلى جانبي‪ ،‬ووضعت فيه كوبًا مليئًا‬
‫بالماء من أجل غسل اليدين صبا ًحا‪ .‬ثم صعدت إلى سريري وهمست بصالة‬
‫الهمابيل لما قبل النوم‪ ،‬تلوت المقاطع ببطء ودقة‪ .‬ذكرى موجة الهمسات األنثوية‬
‫آزرت صالتي‪ ،‬الحاخام غيلر وإيسر ينتصبان برؤوس تشمخ بالرضا وأذرع‬
‫ي‪.‬‬
‫إنك تجعل أواصر النوم تغشى عين ّ‬
‫مضمومة‪َ ،‬‬
‫وبأمر الشريعة‪ ،‬اضطجعت على جانبي األيسر‪ ،‬صامتةً حتى الصباح بفعل الصالة‬
‫األخيرة‪.‬‬
‫لكن في عقلي تواص َل الهمس‪:‬‬
‫ها هي السطور‪.‬‬
‫ها هي الجدران‪.‬‬
‫هكذا تسير المرأة‪ .‬هكذا تسير إحدى النساء الموسومات‪.‬‬
‫هكذا تلبس المرأة‪ .‬هكذا تلبس السيدة الحسيدية؟‬
‫هكذا كيف لها أن تجلس‪ ،‬كيف لها أن تجلس‪.‬‬
‫وكيف لها أن تغني وأال تغني‪.‬‬
‫هكذا تصلي المرأة‪ .‬هكذا تصلي السيدة الحسيدية‪.‬‬
‫تصل المرأة‪ ،‬حتى المرأة‪ ،‬للرب‪.‬‬
‫وبهذه الكيفية ِ‬
‫انزلقت في األحالم التي رأيت فيها إيسر متو ًجا مثل منقذ ومحا ً‬
‫طا بالفتيات‬
‫الصاخبات‪ ،‬لكنه وعلى نحو غريب كان يرتدي األحمر واألسود فبدا شكله شيطانيًا‪.‬‬
‫استيقظت وما ازال أرتدي تنورة آنا‪ ،‬استيقظت وأنا أحس بندم شديد وشعور بغيض‬
‫ي في الحوض‬
‫لتسببي بااللم ألمي‪ .‬سكبت الماء الذي كنت قد حضّرته بحذر على يد ّ‬
‫‪ -‬يمين ثم يسار ثم يمين ويسار‪ -‬صدمة صباحية مبللة وباردة‪ .‬انتعلت فردة حذائي‬
‫أوال‪ ،‬ثم اليسرى‪ ،‬ألستحضر لطف الرب‪ً ،‬‬
‫بدال عن حكمه علي‪ .‬أقدم شكري‬ ‫اليمنى ً‬
‫ي روحي‪ .‬عظي ٌم هو إخالصك‪.‬‬
‫أمامك أيها الملك الذي يعيش لألبد‪ ،‬لقد أعدت إل ّ‬
‫بعد فترة وجيزة‪ ،‬قمت في أحد األيام بفتح سحاب حقيبة سفري القديمة وطويت‬
‫بداخلها تنورة واحدة‪ ،‬حمراء بنقشة البيزلي على طراز الجدات‪ ،‬وتنورة آنا الزرقاء‬
‫الداكنة وثالثة قمصان ذات أكمام طويلة وستة أزواج من الجوارب الطويلة‬
‫(الكيلونات)‪ .‬رفعت بصري حين مرت آمي أمام باب غرفتي المفتوح‪ .‬مالبس‬
‫داخلية وحماالت صدر وثوب نوم طويل األكمام‪ .‬استعدت كتاب المدونة الموجزة‬
‫للشريعة اليهودية من على منضدة سرير أمي التي كان تلفازها ما يزال يومض في‬
‫الصالة‪ .‬أغلقت حقيبة السفر وجررتها على األرض‪ ،‬ث ّم علقت حقيبتي على‬
‫خصري‪ ،‬ووضعت كتاب ِرفقة للصلوات فيها‪ .‬ومن خزانة المطبخ‪ ،‬أخذت ما تبّقى‬
‫ضا‪.‬‬
‫من رغيفي الذي جلب من المخبز الحالل ودسسته في حقيبتي أي ً‬
‫على سطح خزانة المطبخ‪ ،‬بين أكوام الصفائح الفارغة والصناديق غير الممسوسة‬
‫من األطباق والكؤوس الجديدة وأكوام البريد والمجالت‪ ،‬صفّت علب حبوب أمي‬
‫في أحد الجوانب‪ .‬كان صفًا من األغطية كهرمانية اللون‪ ،‬وجميعها مألى أو كانت‬
‫مألى بالفيتامينات وبأقراص الفاليوم والدارفون‪ ،‬والكلمتان األخيرتان كانتا من أول‬
‫الكلمات التي تعلّمت نطقها بطفولتي‪ .‬تراءت لي نفسي حين كنت في سن الخامسة‪،‬‬
‫وأنا أدفع الكرسي الى هذه الخزانة العالية وأصعد إليها‪ ،‬حيث كانت أمي قد تركت‬
‫أغطية العلب غير محكمة اإلغالق حتى يتسنّى لي أن أخرج لها أقراص دوائها‪.‬‬
‫كان هناك كرسي آخر مستند إلى حوض المغسلة لكي أمأل لها الكأس بالماء‪ ،‬ثم‬
‫أجلب لها األقراص التي تمأل قبضتي والكأس كنت أحاول الحفاظ على اتزانه وكأنه‬
‫جائزة‪ ،‬فيما أنا أخطو بحذر بالغ خشيةَ سكبه على األرض‪ .‬تنهدت أ ّمي عند ابتالع‬
‫أقراصها‪ ،‬وناولتني الكأس ثانيةً بعدم اتزان‪.‬‬
‫عند مدخل بيتنا‪ ،‬التقطت إحدى آخر نوتات صرير أسنان أبي‪ ،‬نغمة ’‪ ‘A‬خفيضة‪.‬‬
‫تركت التشيلو الخاص بي خلفي‪ ،‬تركت مالبسي غير المحتشمة ‪-‬شورتات‬
‫وسراويل وقمصان ذات أكمام قصيرة‪ -‬عالوة على الكتب التي كنت قد قرأتها أثناء‬
‫طفولتي وما بعدها‪ :‬شبكة شارلوت‪ ،‬والجاسوس هارييت‪ ،‬وآنا كارنينا‪ ،‬وكبرياء‬
‫وهوى‪ ،‬وكاتش‪ .22-‬لقد تركت بوستراتي‪ ،‬كارول كنغ لن تنهي تلك األغنية أبدًا‪.‬‬
‫تركت أختي‪ ،‬تركت طفولتي‪ ،‬تركت ألعابي على رفوفي‪ ،‬تلك العرائس التي لم‬
‫أعرف كيف ألعب بها‪ ،‬وتركت حصاالتي التي لم أنجح في ملئها أبدًا‪ .‬تركت ثيابًا‬
‫متسخة على كرسي مكتبتي و"كتالوجات" جامعية مبعثرة على أرضية الغرفة‪.‬‬
‫تركت أمي‪ ،‬تركت أبي‪ .‬تركت أفروالتي الحمراء التي تميزني‪ .‬تركت على‬
‫بروشورا مجعدًا ومطويًا لمؤسسة بيس تشانا‬
‫ً‬ ‫المنضدة التي بجانب سريري‬
‫لوبافيتش للنساء في سانت بول‪ ،‬مينسوتا‪ .‬تركت أصدقائي من غير اليهود ومعظم‬
‫أحالمي‪ .‬تركت كتابي "أجسامنا‪ ،‬ذواتنا" وتركت سريري من غير ترتيب‪.‬‬
‫كانت آمي مراهقة فتية‪ ،‬لكنها في نظري كانت فتاة صغيرة تقف ساكنة بوجه فارغ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ملتصق بالنافذة‪ ،‬تراقبني بينما أمضي بعيدًا‪.‬‬ ‫وأنفها‬
‫كانت الشمس ساطعة تعمي األبصار في السماء ذات الزرقة الداكنة‪ .‬توجهت‬
‫لموقف الحافالت‪ ،‬وفي نيتي أن أنتظر حتى أجد حافلة تتخذ الوجهة التي أريد‪.‬‬
‫سأذهب إلى جامعة نورث تكساس في شمال والية تكساس وأحصل على منحتها‬
‫وأعتاش عليها‪ .‬وصلت إلى الرصيف قبل أن أتذكر شيئًا‪ ،‬فهرولت عائدة للطريق‬
‫ومن ثم توجهت لغرفتي‪ .‬هذه المرة‪ ،‬أخذت التشيلو معي‪ .‬الحقيبة والتشيلو في يد‪،‬‬
‫والخبز وكتاب الصلوات في حقيبتي‪ ،‬وهكذا رحلت ليزا أو ليا‪ .‬وفي هذه المرة‬
‫حرصت على إغالق الباب خلفي‪.‬‬
‫في الخارج تحت شمس الصيف‪ ،‬وبينما أنا أسير عبر صف من المنازل الهادئة‬
‫التي أغلقت ستائرها على العيون النائمة‪ ،‬شعرت بحبّات العرق وقد بدأت تتجمع‬
‫ي خبز ومنحة‪ ،‬لكنني تخيلت نفسي مثل إبراهيم‪ .‬لقد أخبر‬
‫على حافة شفتي العليا‪ .‬لد ّ‬
‫الرب إبراهيم بأن يرحل عن مسقط رأسه‪ ،‬ثم لم يخبره إلى أين يذهب ولم يعطه‬
‫ع إبراهيم برحلته بال وجهة وال يقين‪ّ .‬‬
‫لكن الرب فعل ذلك به‬ ‫مؤونة للطريق‪ .‬شر َ‬
‫لسبب وجيه‪ ،‬لكي تكون كل خطوة يتخذها إبراهيم فعل إيمان‪ .‬أو هل كان ذلك‬
‫سلوكا من االعتماد على النفس؟‬
‫فعندما يجد إبراهيم منزله الجديد‪ ،‬عندما يجد مكانه الصحيح‪ ،‬سيعَ ِلم بذلك‪ .‬أخذت‬
‫ي‪ ،‬لكنني انطلقت‬ ‫سا عميقًا‪ .‬التشيلو في يدي‪ ،‬التنورة رطبة وتلتصق بربلت ّ‬
‫ي ساق ّ‬ ‫نف ً‬
‫بخطى متوثبة‪.‬‬
‫الفصل الثامن‬

‫كنت أسير عبر حرم دنتون في آخر أيام شهر آب وسط أوالد سعداء أحرار يرتدون‬
‫الجينز ويحملون الكتب المدرسية ومذياعات الترانزستور‪ ،‬وقد كان البعض منهم‬
‫تحت تأثير الماريغوانا‪ ،‬لكني كنت منعزلة عن مجتمعي الجديد كما لو كنت في‬
‫صندوق زجاجي متحرك‪ .‬كان الشباب والفتيات في مجاميع يلكز أحدهم األخر‬
‫ويعانقه‪ ،‬مرحين وعفويين ومفعمين بالحياة‪ .‬وآخرون يمرون بدراجاتهم بسرعة‬
‫ّ‬
‫تشق الهواء‪ .‬اثنان يقبّالن بعضهما على مصطبة خارج قاعة ماركيز‪.‬‬ ‫خاطفة‬
‫ضا‪ ،‬وأخذت أمعن النظر في لوحة‬
‫في اتحاد الطلبة‪ ،‬وضعت التشيلو والحقيبة أر ً‬
‫إعالنات مغطاة بملحوظات مكتوبة بخط يدوي‪ ،‬ثم انتزعت بطاقة مالحظات‪ ،‬كتب‬
‫عليها "شريك سكن‪ ،‬قرب الحرم الجامعي" بخط سريع مخربش بقلم الرصاص‪.‬‬
‫فقمت ذهنيًا باحتساب إعانتي المادية الضئيلة‪ .‬كان مجمعًا سكنيًا حديث اإلنشاء على‬
‫بع ِد بنايتين فقط من الحرم الجامعي‪ :‬طال ٌء جديد‪ ،‬أرضية مفروشة بسجاد أخضر‬
‫من الوبر الخشن‪ ،‬قسم للمطبخ في نهاية حجرة المعيشة‪ .‬بإمكاني تخطي األسبوع‬
‫باالعتماد على شوربة كامبيل والتونا المعلبة‪ ،‬إذ أستطيع شراء خمس منها بدوالر‬
‫واحد‪ .‬فأخبرت شريكة سكني الجديدة‪ ،‬هيلين‪ ،‬بقراري‪" :‬سآخذها‪".‬‬
‫كان لهيلين ذات العيون الخضراء أسلوب صفيق‪ ،‬وهي تتحدث بلهجة أهل غرب‬
‫تكساس المتميزة بنغمة خفيضة مستوية‪ ،‬والصفير المالزم لصوت نطق حرف‬
‫السين (‪ .)S‬فرشت غرفتي بأثاث غرفة نومها القديم‪ ،‬وهو من الطراز األمريكي‬
‫غص المكان‬
‫َّ‬ ‫التقليدي وقد جلبه والدها إلى هنا بمقطورة متنقلة‪ .‬في الليلة األولى‪،‬‬
‫بأصدقائها‪ .‬جرى تقديمي إليهم والحظت من بينهم ستيفو الذي كان يستريح على‬
‫األريكة بسروال رياضي‪ ،‬كان حوضه ناتئًا لألمام‪ ،‬وقد وضع إحدى ذراعيه على‬
‫ظهر األريكة‪ ،‬وحم َل باألخرى كأس بيرة‪ .‬في وقت الحق من الليلة وبعد مغادرتهم‪،‬‬
‫ت ستيفو؟ والطريقة التي‬
‫جاءتني هيلين من أجل الثرثرة عنهم‪ .‬قالت لي‪" :‬هل رأي ِ‬
‫كورت يدها في الهواء محركة‬
‫يجلس بها؟" كانت عيناها الخضراوان تتراقصان‪ .‬ثم ّ‬
‫لها وكأنها تحركها فوق الكتلة البارزة في مقدمة سرواله‪.‬‬

‫سجلت في ثمانية عشر ساعة من الصفوف في ذلك الفصل الدراسي‪ ،‬ومألت أيامي‬
‫ي باللوائح والصفوف والدراسة‪ ،‬مع حرصي الدائم على أن أبقي إلى جانبي‬
‫وليال ّ‬
‫كتاب الجيب الخاص بالصلوات الذي يعود لرفقة والذي لففته بقماش ذهبي ووضعته‬
‫في حقيبتي‪ .‬في بعض األحيان أعود بذكرياتي إلى المدرسة الثانوية‪ ،‬األصدقاء‪،‬‬
‫الهروب من المدرسة ضمن جمع من األصحاب‪ ،‬الحفالت‪ ،‬الرقص الهادئ مع أي‬
‫صبي على أنغام شيكاغو‪ ،‬فرقة ثري دوغ نايت‪ ،‬أنين جوبلين‪ ،‬رؤوسنا تميل‬
‫للوراء‪ ،‬ندندن ونضحك‪ .‬وفي أحد األيام‪ ،‬بعد حوالي أسبوع من التحاقي بالفصل‬
‫الدراسي‪ ،‬منحت الفتاة التي تجلس قبالتي في صف اإلنجليزية بضع ابتسامات‬
‫خجولة وحاولت أن أدخل معها في حديث قبل بدء الدرس‪ .‬كانت مهذبة على نحو‬
‫فاتر‪ ،‬فابتعدت‪ ،‬مغت ّمة‪ ،‬ثم لمحت عينيها وهي تحملق بغرابة في تنورتي التي ال‬
‫تواكب الموضة وجواربي وأكمامي الطويلة التي أرتديها في َح ِ ّر تكساس‪ ،‬وياقتي‬
‫العالية المحتشمة وكيلوني‪ .‬في تلك اللحظة‪ ،‬منعزلةً عن كل من كنت أعرفهم‬
‫أصبحت أشك بكل شيء‪ .‬في تلك اللحظة‪ ،‬كان من المستحيل أن يكون نوح قد أخذ‬
‫الحيوانات بسفينة‪ ،‬كما كان من المستحيل أن يكون موسى قد رفع عصاه ليشق‬
‫البحر بنا ًء على أوامر مسموعة من رب يتكلم العبرية‪ .‬تململت في مقعدي‪ ،‬خفضت‬
‫بصري‪ .‬وشعرت بأنني عالقة‪.‬‬
‫في المنزل عند منتصف اليوم‪ ،‬حاولت أن أدرس‪ ،‬لكن ذهني كان يقفز من شيء‬
‫آلخر‪ .‬أخذت استراحةً و َح ّما ًما وبعدها وقفت لدقائق شاقة طويلة أمام ماء الد ّ‬
‫ش‬
‫ي ممتلئين وناهدين‪،‬‬
‫الذي يتصاعد منه البخار‪ ،‬أتفحص جسدي العاري‪ .‬كان ثديا ّ‬
‫وبشرتي المشدودة صحية ونضرة‪ .‬ما الذي ينقصني؟ شيء ال يمكنني تحديده‪ .‬ما‬
‫العيب؟ شعرت بأنني غير مؤهلة للحب‪ .‬ثم أرتديت ثيابي‪ ،‬وذهبت لدرس الرسم‬
‫وبروية أرسم منحنيات‬
‫ّ‬ ‫الحي‪ ،‬حيث قضيت ساعات أحدّق في "المودل" العارية‪،‬‬
‫جسمها بخط رقيق بقلم فحم كونتيه على الورق الحريري الناعم‪.‬‬
‫في الحلقات الدراسية المخصصة لطالب الشرف‪ ،‬قرأنا عن ديكارت وبوبر وكافكا‬
‫وهيسه‪ ،‬ثم فيتزجيرالد وهيمنغواي‪ ،‬وكنت مندهشة من تلك الجاذبية والجمال‬
‫والتنوع والعمق‪ .‬هنا حيث أستطيع أن أضع طاقتي‪ ،‬شغفي الوحيد اليافع‪ .‬وفي‬
‫ّ‬
‫وألن الكثير من الطالب قد قدموا لدنتون من أجل قسم الموسيقى الشهير‪،‬‬ ‫العلوم‪،‬‬
‫فقد درسنا فيزياء األبواق‪ .‬ثم ذهبنا لمشاهدة ثاني جهاز مزج موسيقي لموغ في‬
‫العالم‪ ،‬في الحرم الجامعي‪ ،‬وقد صنعه روبرت موغ بنفسه لصديقه ميرل إليس‪،‬‬
‫مدير قسم الموسيقى اإللكترونية الجديد في الكلية‪ .‬كان الجهاز المبتكر بحجم غرفة‪،‬‬
‫مع صف طويل من األزرار والبكرات والشاشات‪ .‬كانت عينا الدكتور إليس‬
‫مضيئتين كالجهاز حين كان يؤشر ويشرح‪ ،‬ثم شغّله ومأل الغرفة بصوت جديد‪.‬‬
‫في الليل‪ ،‬كنت أتقلب في الفراش‪ ،‬يؤرقني التفكير بأنني لست حقًا جز ًءا من المجتمع‬
‫الجامعي أو المجتمع الحسيدي‪ .‬ليس لي منزل‪ ،‬ليس في الواقع‪ .‬فحلمت بمالئكة‬
‫سارافيم خارج جنة عدن يتحركون ذهابًا وإيابًا‪ ،‬ويحرسونَ مدخل الفردوس ولكن‬
‫ال يسمح لهم بالدخول أبدًا‪.‬‬
‫وفي أحد أيام شهر تشرين الثاني‪ ،‬توجهت ببساطة إلى إحدى آالت البيع في البناية‬
‫اإلنكليزية‪ ،‬أخرجت عمالت معدنية من حقيبتي وألقيت بها في فتحة اآللة‪ ،‬ثم‬
‫انتظرت حتى سقط في السلة ً‬
‫أوال لوح شوكوالته سنيكرز الذي يعد بصورة قطعية‬
‫من األطعمة غير الحالل‪ ،‬ثم تبعته علبة سجائر مارلبورو‪ .‬طويت أكمامي إلى ما‬
‫ي وهو مقدار ينتهك حدود الحشمة‪ ،‬ثم فتحت زرين ثم ثالثة من أزرار‬
‫فوق مرفق ّ‬
‫قميصي العلوية‪ ،‬ثم تسللت الى إحدى الحمامات ونزعت جواربي البغيضة‪ ،‬ولكنني‬
‫بقيت أرتدي التنورة‪.‬‬
‫ضا عنها‪ ،‬رحت أتمشى لفترة طويلة‬
‫وفي تلك الليلة تهربت من الصلوات‪ ،‬وعو ً‬
‫فوت الصلوات مرة أخرى‬
‫في هواء الليل‪ ،‬أنفث دخان السجائر صوب القمر‪ .‬ثم ّ‬
‫في الصباح التالي‪ ،‬وفي كثير من الصباحات التي تَلَته‪ .‬كما احتفظت بلوح حلوى‬
‫وعلبة سجائر إضافيتين في حقيبتي إلى جانب كتاب رفقة للصلوات‪ .‬كانت الشكوك‬
‫الدينية تفور وتضطرم في داخلي‪.‬‬
‫بعد انتهاء إحدى المحاضرات في يوم من أيام شهر كانون األول ونحن على أبواب‬
‫نهاية الفصل الدراسي األول‪ ،‬وما أن خرجت من إحدى محت َرفات الرسم في بناية‬
‫الفن حتى رأيتها‪ .‬كانت تقف على مبعدة‪ ،‬رشيقة وأنيقة وواثقة من نفسها‪ .‬كانت‬
‫لتطوق الخط المقوس لفكها المثالي‪ ،‬وتجعيدات شعرها‬
‫ّ‬ ‫ياقتها المكوية مقلوبة لألعلى‬
‫السوداء التي تبرز أحمر شفاهها القاني وسروالها القرمزي الرقيق لتجعلها مثل‬
‫وردة على قماش القطيفة‪ .‬كانت تحمل حافظة أوراق وتقف مع إمرأة أخرى‪،‬‬
‫تدردشان سوية‪ .‬ناديتها‪" :‬أمي؟" ثم كنت أتعثر واتخبط وأجري وسط الطالب على‬
‫نحو سمج يخلو من اللياقة‪ ،‬أهرع إليها‪ ،‬مندهشة من الراحة الهائلة التي أحسست‬
‫بها عند رؤيتها‪ ،‬من هذا الحنين الشديد الالمستحق‪ ،‬كما لو أن رؤيتها كانت تعني‬
‫أخيرا‪ ،‬في متناول‬
‫ً‬ ‫لي الحب دائ ًما‪ ،‬هذا الشعور المغري بالمنزل يوشك أن يكون‪،‬‬
‫يدي‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬امتأل صوتي بالغضب عندما قلت‪" :‬ماذا تفعلين هنا؟"‬
‫فقالت‪" :‬ليزا!"‬
‫أعرف تلك البهجة الزائفة وذلك التباهي الفارغ عندما كانت تريد أن تثير إعجاب‬
‫ي بحاجبين مرفوعين فوق عينيها‬
‫أحد ما‪ .‬رمقت المرأة بنظرات جانبية‪ ،‬ثم التفتت إل ّ‬
‫اللوزيتين ذواتي األجفان الواسعة واللذين سبرتهما بدقة متناهية خالل طفولتي‪.‬‬
‫خالل أيامها التي كانت تقضيها في الفراش لمشاهدة التلفاز‪ ،‬كانت عيناها فاترتين‬
‫وضحلتين‪ ،‬مكانًا ال أستطيع الولوج إليه‪ ،‬لكنهما كانتا تشعّان بالحيوية أينما كان‬
‫ي مثل نظرة‬
‫هناك حضور للفن‪ .‬ثم رمقتني أمي بنظرة من رأسي حتى أخمص قدم ّ‬
‫تلك الفتاة في صف اللغة اإلنجليزية‪ ،‬وفكرت‪ ،‬إنها خ َِجلة مني‪ .‬فتفجرت كل الشكوك‬
‫والمخاوف المضطرمة األخيرة والحنين القديم لها في شكل موجة عارمة‪ .‬وقالت‪:‬‬
‫"ماذا أفعل هنا؟" وبدا عليها االنزعاج‪ ،‬كما لو أنها توضح إحدى البديهيات لشخص‬
‫بطيء الفهم‪ .‬ارتسمت على وجهها تكشيرة خفيفة‪" .‬إنني آخذ دروسا في الرسم!"‬
‫قلت‪" :‬لقد اتصلت‪ ،‬حاولت أن أتصل‪".‬‬
‫فقالت‪" :‬هل فعلتِ؟"‬
‫أجل‪ .‬كل أسبوع‪ .‬وأحيانًا كل يوم‪" .‬أعلم بأننا على بعد ساعة‪ ،‬لكنني ال أمتلك سيارة‪.‬‬
‫هل‪ ..‬هل تريدين رقم هاتفي؟ لقد أوشك الفصل على اإلنتهاء…"‬
‫قالت‪" :‬أعلم ذلك‪".‬‬
‫ت تأتين إلى هنا كل أسبوع منذ بداية الفصل الدراسي؟"‬
‫"هل كن ِ‬
‫قالت‪ ،‬وبدا عليها االنزعاج ثانيةً‪" :‬بالطبع‪".‬‬
‫ت عني؟"‬
‫"هل بحث ِ‬
‫رسوماتك؟" ثم أمالته‬
‫ِ‬ ‫لكنها التقطت كراسة المانيال من يدي‪ .‬وقالت‪" :‬هل هذا دفتر‬
‫نحو صديقتها لتريها إياه‪ .‬ففكرت أنها كانت تنظر له كما لو أنه ملكها‪ ،‬وفجأة ً كنت‬
‫درسها‪ ،‬وأنتظر‬
‫تلك الطفلة الملتصقة بها‪ ،‬أتبعها الى دروس الرسم التي كانت ت ّ‬
‫رضاها وكأنني إحدى طالباتها‪ .‬قَلَبت الكراسة على إحدى الرسمات غير المكتملة‬
‫درستي تسير في ذلك اليوم وهي‬
‫التي تصور كومة من الدمى‪ ،‬إذ كنت قد لمحت م ّ‬
‫تحمل كيس قمامة مملو ًءا بتلك الدمى‪ ،‬ثم أفرغت الدمى على إحدى المصاطب‬
‫وغادرت‪ .‬في الرسمة‪ ،‬كانت األجساد الصغيرة سابلة تتدلى‪ ،‬مدفونة ضمن كومة‪،‬‬
‫متداخلة إلى أن أصبح من شبه المستحيل أن نميز أشكالها‪ ،‬أو أن نميّز أيًا منها من‬
‫األخرى‪ .‬بل أصبح من شبه المستحيل حتى أن تعرف كل واحدة منها نفسها‪ .‬أجساد‬
‫محشوة ممتلئة نصف مدفونة‪ ،‬رؤوس بالستيكية خالية‪ ،‬مغلوبة‪ ،‬عالقة في شبكة‬
‫وعاجزة عن تخليص نفسها‪ .‬كلها كانت باردة الملمس‪ ،‬ال دفء فيها‪ .‬شعر مغزول‬
‫من الخيوط الصفراء والبرتقالية‪ .‬وجوه عنيدة م ّ‬
‫قطبة‪ ،‬وعيون من األزرار السوداء‪.‬‬
‫قالت صديقتها‪" :‬يا إلهي‪".‬‬
‫قالت أمي‪" :‬إنها موهوبة للغاية‪".‬‬
‫قلت لها‪" :‬أمي‪ ،‬عندي فكرة!"‪ .‬فقد كان لدي في المنزل من الخبز الحالل ما يكفي‬
‫ً‬
‫طويال إلى حيث المخبز‬ ‫من أجل شطيرتين‪ ،‬اشتريته بعد أن قطعت بالحافلة طريقًا‬
‫ضا حبة طماطم كاملة في الثالجة‪ .‬وأكملت قولي‪:‬‬
‫ي أي ً‬
‫الحالل في داالس‪ ،‬ولد ّ‬
‫"بإمكانك المجيء لرؤية شقتي‪ .‬يمكننا أن نتناول الغداء سوية‪".‬‬
‫أغلقت الكراسة‪.‬‬
‫ي‪ .‬ضميني‪".‬‬
‫سري‪" :‬انظري إل ّ‬
‫أقول في ّ‬
‫"سنتأخر عن جلسة النقد‪ "،‬خاطبت صديقتها‪ ،‬فما كان مني إال أن تس ّمرت في‬
‫ّ‬
‫وهن يرحلن‪ .‬ابتعدت هيئتها‪ ،‬عبر فضاء مفتوح تحت المناور ومن‬ ‫ّ‬
‫أشاهدهن‬ ‫مكاني‬
‫عتمةً‪ .‬نظرت إلى شكل ظهرها وهي تحمل حافظة األوراق‬
‫ثَم إلى قاعة أكثر َ‬
‫الكبيرة المربعة وتنا ِغم مشيتها‪ ،‬البنطال القرمزي‪ ،‬ظلها‪ .‬ثم قعقعة باب المحت ََرف‬
‫الثقيل‪.‬‬
‫ال تبكي‪ .‬واسيت نفسي‪.‬‬

‫"لقد عدت للمنزل!" ناديت‪ ،‬ضاحكةً‪ ،‬وأنا أدخل إلى بيت راكوفسكي في عصر‬
‫الجمعة التي أعقبت ذلك اليوم‪ ،‬والذي صادف بأن يكون قبيل االمتحانات النهائية‪،‬‬
‫ألجد نفسي محاطة على الفور بروائح الدجاج المطهو في الفرن والكيك الطازج‪،‬‬
‫صفير اإلبريق‪ ،‬ضجيج العائلة المصاحب لتحضيرات الساباث‪ .‬ظهرت سيما‬
‫وفوطة الصحون في يدها وعلى جبهتها شال مشدود لألسفل وقد بهتت صدريتها‬
‫سبتك!" قالت سيما بابتسامة واسعة وعيون متعبة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫المنزلية من بخار المطبخ‪" .‬طاب‬
‫"شكرا على دعوتك لي‪".‬‬
‫ً‬ ‫ي‪ .‬وقلت لها‪:‬‬
‫فطوقتها بذراع ّ‬
‫ّ‬
‫فردّت‪" :‬بإمكانك المجيء كل أسبوع‪".‬‬
‫"كم أود ذلك‪".‬‬
‫ضا‪ ،‬في المطبخ الصغير‪ ،‬رجل حسيدي كبير السن‬
‫صا آخر كان هناك أي ً‬ ‫ّ‬
‫لكن شخ ً‬
‫ذو مظهر من عالم قديم‪ ،‬كانت لحيته بيضاء وناعمة وطويلة‪ ،‬وكان يرتدي معطفًا‬
‫أن يوم السبت لم يكن قد حان بعد‪ ،‬كما وانتعل حذا ًء أسو َد‪.‬‬ ‫ً‬
‫طويال‪ ،‬رغم ّ‬ ‫أسو َد‬
‫أخبرته سيما وهي تومئ برأسها نحوي‪ "،Zie iz an eigener" :‬وهي عبارة‬
‫يديشية بت أعرف معناها اآلن‪ :‬إنها من الداخل‪ .‬إنها واحدة منا‪ .‬ثم ضحكت سيما‪.‬‬
‫ً‬
‫خجال من ريائي في الفترة األخيرة‪ .‬إذ كنت أرتدي‬ ‫ضحكت سيما وأنا احمررت‬
‫الجوارب ألول مرة منذ أسابيع‪ ،‬وقد أنزلت أكمام قميصي الى الحد المحتشم‪،‬‬
‫وأعدت غلق أزراره العلوية‪.‬‬
‫فقال الرجل‪ ".Shalom aleichem" :‬كان الرجل يتحدث بلهجة يديشية روسية‬
‫أصيلة‪ ،‬على عكس لهجة سيما اليديشية المتأثرة باإلنجليزية برائها المدورة‪ .‬وكان‬
‫ً‬
‫"أهال ومرحبا‪".‬‬ ‫يعني‪:‬‬

‫بعد أن غادر الرجال لخدمة المعاريف المقامة في الكنيس بعد حلول ظالم ليلة‬
‫الجمعة‪ ،‬حان وقت النساء‪ .‬بعد أن اغتسلنا وارتدينا حلّة الساباث‪ ،‬تجمعنا نحن‬
‫اإلناث في غرفة الجلوس‪ ،‬جلست مع سيما‪ ،‬وبناتها لوبا ورينا‪ ،‬والصغير شيمي‪،‬‬
‫والذي كان ما يزال بعمر صغير ال يسمح له بالذهاب إلى الكنيس في الليل مع‬
‫الرجال‪ .‬صعد شيمي إلى األريكة ووضع رأسه على َحجر أمه‪ ،‬وأقدامه على‬
‫َحجري‪ ،‬وبينما كنا نتهامس أنا وأمه‪ ،‬سطا عليه النعاس‪ .‬وبالقرب منا‪ ،‬كانت الفتيات‬
‫يهمسن بصلوات الساباث‪ .‬أحد المصابيح ترك مفتو ًحا من أجل الساباث‪ ،‬فكان‬
‫الظالم يخيم على الزوايا‪ ،‬أما بقية المكان فمضا ٌء بإنارة هادئة مشتركة‪ .‬بعد قليل‬
‫سيكون علينا أن نقوم ونستعد من أجل عودة الرجال‪ .‬فعندما يعود الرجل من الكنيس‬
‫في الساباث ويجد المائدة مهيئة ومحملة بأطباق المعة مليئة بأطعمة الساباث‪ ،‬فإن‬
‫المالئكة ستبارك األسرة لعلها تكون هكذا دو ًما‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬أخبريني عن الرجل‪ ،‬الضيف‪ ".‬غفا شيمي‪ .‬قامت رينا وأتت إلينا‪،‬‬
‫فرفَعته وهي تهمس بأذنه همسات أمومية تحولت إلى لهاث بينما كانت تحمله على‬
‫جسدها الهزيل‪ ،‬فقد كانت في الرابعة عشرة‪ .‬وضعت رأسه على كتفها‪ ،‬وأخذت‬
‫حذاءه مني‪ ،‬ثم صعدت الساللم ببطء‪ .‬فأخبرتني سيما بأن الرجل كان ً‬
‫بطال في‬
‫حركة اللوبافيتش‪ .‬اسمه هو أفرام أيور‪ ،‬وقد اتخذ من داالس محطةَ توقف في‬
‫رحلته إلى كاليفورنيا من أجل زيارة ابنه‪ .‬كان لألحبار شبكة سرية من الحاسيديم‬
‫في روسيا السوفيتية‪ .‬وقد أداروا مؤسسات يشيفا في األقبية ونقلوا تقاليد الميزوزا‬
‫والتوراة والماتزو من أجل استمرار الروحانية اليهودية‪ ،‬رغم أن العقوبة السوفيتية‬
‫على مثل هذه الممارسات كانت قاسية‪ .‬العجوز أفرام أيور كان قد أسهم في تأسيس‬
‫الشبكة أيام ستالين وما بعده‪ .‬وقد تم اعتقال معظم زمالئه ليموتوا في مخيمات‬
‫االعتقال في سيبيريا‪ ،‬إال أنه تمكن من الهروب‪ .‬قالت عنه سيما بأنه بطل حقيقي‬
‫من أجل الرب‪.‬‬
‫تخيّلت نفسي واحدة من أولئك الرجال الشباب الذين كانوا يتسللون عبر االتحاد‬
‫السوفيتي ‪-‬الذي يكن للدين كراهيةً عمياء‪ -‬إلى اليشيفات السرية في األقبية والبنايات‬
‫المهجورة‪ ،‬يعانون الفقر والجوع الدائمين‪ ،‬ومتأهبين دو ًما للسلطات الفاسدة‪ ،‬يملؤهم‬
‫شعور النبل وتدفعهم القضية‪ .‬كم هي تافهة متاعبي الحالية مع الشريعة في ضوء‬
‫ذلك‪ ،‬وكم تبدو أفعال تمردي األخيرة مثيرة ً للشفقة‪ .‬فكرت‪ ،‬في أنني ال أستطيع أن‬
‫أضحي حتى بقطع الحلوى‪.‬‬
‫في الصباح التالي‪ ،‬وجدت الرجل العجوز يقف عند النافذة‪ .‬فيما يبدو أن الحاخام‬
‫راكوفسكي واألوالد قد غادروا إلى الكنيس‪ .‬وعندما صعدت سيما الى الطابق‬
‫العلوي بخطى ثقيلة‪ ،‬أخرج أفرام أيور شال تاليت مهترئًا من حقيبة مخملية ونفضه‬
‫حتى انفتح‪ .‬كنت أجلس قريبة منه‪ ،‬فحملت كتابًا وتظاهرت بالقراءة‪.‬‬
‫أغلق أفرام أيور عينيه وأسدل شال الصوف الواسع ذا الخطين األسودين على‬
‫رأسه وكتفيه‪ .‬فتدلى الشال من األمام والخلف حتى المست شراشيب زواياه‬
‫األرض‪ .‬ثم جلس تحت صورة ال َحبر وسحب الشال لألمام فوق رأسه حتى بانت‬
‫َ‬
‫عيناه وكأنهما تلمعان في نفق‪ ،‬وتراج َع وجهه بالزمن‪ .‬التقط كتاب الصالة وأمسك‬
‫به لكنه كان يرتّل الكلمات عن ظهر قلب‪ ،‬وهو يحدّق في نقطة بعيدة‪ .‬كان ترتيله‬
‫ذو النَّبر اليديشي منتظ ًما وسل ً‬
‫سا وأجنبيًا‪ّ ،‬‬
‫لكن من الواضح أنه كان يفهم ويستوعب‬
‫كل كلمة‪ .‬لم يكن في تالوته اندفاع طائش عبر المقاطع التي ال معنى لها‪ ،‬ولم يكن‬
‫هناك أداء أجوف متباه‪ً .‬‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬كان يقوم في بعض األحيان بإلقاء نظرات‬
‫على كتاب الصالة المهترئ الذي بين يديه‪ ،‬ثم يتوقف لدقائق طويلة من أجل التف ّكر‬
‫ضا وعميقًا وهادئًا‪ ،‬مثل قوس‬
‫الصامت‪ .‬وعندما يستأنف القراءة‪ ،‬يكون صوته خفي ً‬
‫يسحب بثبات على أخفض أوتار التشيلو‪ .‬كان يتمايل ً‬
‫قليال بينما يترنم‪ ،‬تقلَب صفحة‬
‫س هادئ‪ ،‬عبارة ٌ صغيرة خفيضة‪ ،‬ثم مجددًا الشعور الباطني الذي يسري‬
‫جديدة‪ ،‬نَفَ ٌ‬
‫مع الترنيمة‪.‬‬
‫من خلف كتابي‪ ،‬كان صوته المنساب‪ ،‬المتناوب مع السكون العميق‪ ،‬يتغلغل إلى‬
‫داخلي‪ .‬كانت صالته هادئة وفردانية‪ .‬كنت منبهرة من عمق السكينة التي بداخله‪.‬‬
‫س ّكنت رؤيتي له الصخب الذي في داخلي‪ ،‬وأخمدت شكي القديم بذاتي وشكي‬
‫لقد َ‬
‫الجديد بالدين‪ .‬ففكرت‪ :‬هذه صالة ٌ حقيقيةٌ‪.‬‬
‫وفكرت‪ :‬كان والد أمي روسيًا‪ ،‬كما كان والدا أبي ذوي تقاليد يهودية القديمة‪ .‬ربما‬
‫أكون هكذا من الداخل‪ ،‬ربما أنتمي إليهم‪ .‬وضع أفرام يده على عينيه من أجل صالة‬
‫الشيما‪ .‬إنه يعرف نفسه من يكون‪.‬‬
‫ثم عدت بذاكرتي إلى معبد إيمانويل‪ ،‬حيث كنت أنتظر خارج مكتب الحاخام‬
‫ٌ‬
‫عجوز يرتدي ردا ًء أسو َد‪ .‬كنت محرجة في‬ ‫غولدنبرغ‪ ،‬حين اعترض نظري رج ٌل‬
‫ذلك النهار أيّما إحراج وأنا أواجه ما حاولت عائلتي إبعاد نفسها عنه على مدى‬
‫جيلين‪ .‬كنت قد أدرت ظهري وابتعدت‪ ،‬لكن ربما كان ذلك الرجل هو أفرام أيور‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ومع اقتراب حلول الساباث‪ ،‬طلبت من الحاخام راكوفسكي أن يتكلم باليديشية مع‬
‫أفرام أيور من أجلي‪ .‬أخبرت الحاخام عما كنت قد شاهدته‪ ،‬عن الرجل الذي ظننت‬
‫بأنه ربما قد يكون أفرام أيور‪.‬‬
‫فقال الحاخام راكوفسكي‪" :‬محال‪ ،‬ألن الحسيدي ال يخطو إلى مكان مثل هذا‪ ".‬معبد‬
‫إصالحي‪ ،‬مكان يهودي في ظاهره لكنه يعصي شريعة الرب‪.‬‬
‫فقلت‪" :‬لكنني أظن… اسأله لو سمحت‪".‬انتظرت خارج سور اليديشية حتى أبرز‬
‫أفرام أيور شفته السفلية بطريقة مترويّة وهز برأسه كما لو إنه يعترف بأمر ما‪.‬‬
‫وقال‪ ".S'iz emes" :‬أي إنه صحيح‪ .‬إذ كان قد ذهب إلى المعبد والتقى الحاخام‬
‫هناك‪ .‬وقال بأنه حرص على الدخول إلى الجناح اإلداري فقط‪ .‬وقال بأن المظاهر‬
‫ليست مهمةً عندما تكون هنالك ضرورة لمساعدة أحد ما‪.‬‬
‫طوع قاعدة من أجل عمل صالح‪ ،‬فقد ذهب هناك لكي يساعد أحدهم‪ .‬وهناك‬
‫لقد ّ‬
‫فرق بين تطويع قاعدة ما وكسرها‪ .‬قلت‪" :‬أخبره‪ ،‬لطفًا أخبره عن الصدمة التي‬
‫شعرت بها عند رؤيته في ذلك الوقت‪".‬‬
‫لكني لم أل ّمح أبدًا كم أشعرتني رؤيته بأنني مختلفة وخَجلة على نحو ال مفر منه‪.‬‬
‫غير أنّي شعرت بأنني مخادعة إلخفاء هذا األمر‪ .‬قلت‪" :‬لم أكن قد رأيت أي رجل‬
‫من الحسيدم من قبل‪ ،‬لم أستطع التنفس حينها‪".‬‬
‫خاطبني الرجل العجوز بصورة مباشرة هذه المرة‪ ،‬رغم علمه بأنني ال أستطيع‬
‫فهم ما يقول‪ ،‬حواجب كثّة بيضاء‪ ،‬خطوط حول عينيه الغائرتين‪ ،‬وقد ترجم الحاخام‬
‫راكوفسكي‪" :‬إنه يقول بأنه عندما يرى اليهودية الحقيقة‪ ،‬فإنها توقظ فيه الروح‪".‬‬
‫بالنسبة لي‪ ،‬كان وجه أفرام أيور في تلك اللحظة وج ًها لإلخالص العميق والحكمة‬
‫القديمة‪ِ ،‬هبةٌ من نور‪ .‬فتوقدت بإيمان جديد وراسخ‪.‬‬
‫عند العودة الى دنتون‪ ،‬كنت ألقي بالمالبس التي ارتديتها في عطلة نهاية األسبوع‬
‫في سلة الغسيل عندما دخلت هيلين‪ .‬قالت‪" :‬لقد أقمنا حفلة في ليلة السبت وبطريقة‬
‫سريرك‪ ".‬ثم أشارت الى بقعة في منتصف المالءة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ما سمحت لحبيبين باستخدام‬
‫كشرت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثم رفعت المالءة العلوية المجعدة وتشممتها‪ .‬جعّدت أنفها ثم‬
‫قلت‪" :‬ياللقرف! لن أقوم…"‬
‫فقالت‪" :‬ربما ترغبين بتغيير هذه المالءات‪ "،‬وضحكت‪.‬‬

‫في الربيع‪ .‬انقضت سبعة أشهر على ابتعادي عن عائلتي‪ .‬كان اتصالي الوحيد‬
‫بالعالم عن طريق صحيفة الجامعة‪ ،‬نورث تكساس ديلي‪ ،‬بعناوينها البارزة باللون‬
‫األخضر اليانع‪ ،‬التي أسحبها كل يوم من األكداس التي تترك للطالب في بنايات‬
‫متعددة‪ .‬احتجاجات طالبية‪ ،‬حرب فيتنام الطاحنة‪ ،‬وجه نيكسون الذي بات مكرو ًها‪،‬‬
‫األصولية المتفاقمة‪ .‬في شباط‪ ،‬تم اختطاف حفيدة أحد أقطاب الصحافة وليام‬
‫راندولف هيرست والتي تبلغ من العمر تسعة عشر عا ًما على يد مجموعة متطرفة‬
‫تقاتل من أجل نظام عالمي جديد وتسمي نفسها جيش التحرير التكافلي‬
‫(‪ .)Symbionese Liberation Army‬أصبحت القضية محط اهتمام البالد‪.‬‬
‫وعلى مدى األسابيع الالحقة‪ ،‬غالبًا ما كان اسم باتي هيرست يتصدر الصفحة‬
‫األولى‪ .‬لكنها لم تستحوذ على اهتمامي إال بعد شهرين الحقين‪ ،‬بعد أن يئس والدها‬
‫من التفاوض مع خاطفيها ومطالبهم العصية على التحقيق‪ ،‬فيما أعلنت هي للعالم‬
‫بأنها قد انضمت لجيش التحرير التكافلي وأصبحت واحدة منهم واتخذت اس ًما جديدًا‬
‫هو تانيا‪.‬‬
‫غريب‪ ،‬هكذا خطر لي‪ .‬إذ إن تانيا كان اسم الكتاب المؤسس للفكر الحسيدي‬
‫ٌ‬ ‫كم هذا‬
‫للوبافيتش‪ ،‬وهو جوهر هذا كله‪ّ .‬‬
‫لكن والديها تخلوا عنها‪ ،‬وأصبح لها حياة جديدة‪،‬‬
‫صورا‬
‫ً‬ ‫فال عجب بأنها قد غيرت اسمها‪ .‬وبعد أسبوعين‪ ،‬التقطت الكاميرات‬
‫لهيرست وهي تحمل سالح أم ‪ 1‬كاربين‪ ،‬وترتدي مالبس تمويه عسكرية‪ ،‬في بهو‬
‫فندق هبيرنيا أثناء عملية سطو مصرفي‪ ،‬وتصدرت الصفحة األولى لكل صحيفة‬
‫في هذا البلد الذي كان تحت تأثير الصدمة‪ .‬كانت تقف بقدمين منفرجتين‪ ،‬وأكتاف‬
‫راجعة للخلف‪ ،‬وتمسك سالحها بكل أريحية‪ .‬كانت نحيفة وجريئة‪ ،‬كانت ذات‬
‫تحولت‪.‬‬
‫هدف‪ .‬لقد ّ‬

‫ضا عن السنيكرز والسجائر في حقيبتي‪ ،‬أصبحت أحمل كراريس تحمل عناوينَ‬


‫عو ً‬
‫على شاكلة "في تعاليم الحسيدية" التي غالبًا ما أخرجها وأتصفحها‪ .‬وأخذت أعمل‬
‫بك ّد لتغيير نفسي ألكون على وفق ما تفرض التعاليم‪ .‬أبعد الذهن عن كل شيء ما‬
‫عدا األفكار والمشاعر الصائبة‪ .‬أخمد الغريزة واالنجذاب الجسدي‪ .‬أنسى عائلتي‪.‬‬
‫أنسى األصدقاء غير المتدينين وغير اليهود‪.‬‬
‫حولوا المحدودية الكون‬
‫أشرارا ووثنيين جهلة‪ ،‬وكان خطؤهم‪ :‬أنهم ّ‬
‫ً‬ ‫كان القدماء‬
‫سد ربنا‬
‫واألنوثة المقدسة وقوة الحياة في الطبيعة مجتمعة إلى آلهة متفرقة‪ ،‬بينما يج ّ‬
‫الواحد الذكر الفرد كل تلك الصفات‪ .‬اإلله واحد‪ .‬والدنا‪َ ،‬م ِلكنا! نجده في كلمته‬
‫المدونة‪.‬‬
‫داومت على الذهاب إلى منزل عائلة راكوفسكي كل سبت‪ .‬وفي إحدى الزيارات‬
‫في أواخر الربيع‪ ،‬أخبرتني سيما عن تشاباد هاوس‪ ،‬مكان التجمع الحسيدي الجديد‬
‫للطالب اليهود في جامعة تكساس في أوستن‪ .‬تحدثت عن توفيا‪ ،‬طالب الصيدلية‬
‫الشاب الذي يعمل لتأسيس المكان‪ ،‬والذي وصل به الحال إلهمال دراسته في سبيل‬
‫هذا الهدف المقدس‪ .‬أما اآلن وفي ليالي الجمع فيمتلئ مقر تشاباد هاوس الجديد‬
‫بالطالب اليهود الذين يَ ِقدمون من أجل خدمات الساباث والوجبات المجانية‪.‬‬
‫تذكرت صديقاتي في مينيسوتا حينما كنا نتنزه بتنوراتنا الطويلة قبل زمن بعيد‪،‬‬
‫سورا وروس وميا وهن يتحدثنَ عن تشاباد هاوس الذي يقع قرب كلياتهن والذي‬
‫التقين فيه‪ .‬أردت أصدقا َء‪ .‬قالت سيما‪" :‬يجب أن تنتقلي إلى جامعة تكساس‪ ،‬اذهبي‬
‫في زيارة واستطلعي األمر‪ ".‬تقول سيما بأن األصدقاء المتدينين سيجلبون لي‬
‫سخون اإليمانَ في نفسي‪.‬‬
‫السكينة وير ّ‬
‫داخلك‪ ،‬فهو صوت طفل يقف على شفير الهاوية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تجاهلي صوت العصيان الذي في‬
‫وقد تسقطين‪.‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫طقَّة‪ .‬أقفل السائق أبواب السيارة‪ .‬انعطفت سيارة األجرة التي استقليتها من مطار‬
‫الغوارديا لتوها نحو طريق متنزة بروكلين الغربي‪ ،‬الذي يحاذي حي بيدفورد‬
‫خطرا‬
‫ً‬ ‫ستيفيسانت (‪ ،)Bedford Stuyvesant‬والذي كان في ذلك الوقت حيًا‬
‫وخ َِربًا‪ ،‬ويحاذي حي كراون هايتس الذي كان موطن حركة اللوبافيتش الحسيدية‪.‬‬
‫ً‬
‫فصال دراسيًا في جامعة تكساس في أوستن‪ ،‬قَ ِدمت في رحلة حج‬ ‫فبعد أن أنهيت‬
‫لرؤية ال َحبر‪.‬‬

‫كان توفيا قد نبهني أال أعبر إلى بيد‪ -‬ستي (‪ ،)Bed-Stuy‬لكن حتى على الجانب‬
‫عا ويع ّج بالنفايات‪ ،‬وفي‬
‫الذي كنا نسير فيه من طريق المتنزه‪ ،‬بدا الشارع متصد ً‬
‫كل مربع سكني انتصبت على األقل بناية واحدة مهجورة خربشت على واجهتها‬
‫صا يتسكعون فرادى‪ .‬نظراتهم‬
‫رسومات غرافيتي سوداء ضخمة‪ .‬رأيت أشخا ً‬
‫مريبة‪ .‬لكني أومأت للسائق أن يتوقف عند ركن كنغستون‪ ،‬فشكرته ودفعت له‬
‫بعجلة استحثت ّها اللهفة‪.‬‬
‫كان كنغستون هو الشارع الرئيسي لحي اللوبافيتش‪ ،‬وكان يهدر بصوت مزامير‬
‫السيارات العابرة ومئات المارة من الحسيديين‪ ،‬وبدا المنظر بمثابة لوحة لعائلتي‬
‫الجديدة‪ .‬كانت واجهات المحال التجارية مكتوبة باللغتين العبرية واإلنكليزية وتعلن‬
‫عن سلع طقسية يهودية و"فن يهودي" وزهور من أجل الساباث وبيتزا حالل‬
‫وحلوى حالل وكتب مقدسة‪ ،‬وفي كل متجر عرضت صورة لل َحبر على النافذة‪.‬‬
‫كان الرجال ملتحين‪ ،‬وقد توحدت ألبسة الرجال والصبيان على حد سواء باللونين‬
‫األسود واألبيض وتدلّت منها خيوط "التزتزت" على أوراكهم‪ .‬وبلغ الحال ببعض‬
‫الرجال المسنين ذوي اللحى الشائبة أنهم ارتدوا معطف الساباث الطويل في‬
‫منتصف األسبوع‪ ،‬مثلما كان يفعل أفرام أيور‪ .‬أما الفتيات والنساء فتقيدن جميعهن‬
‫بارتداء التنانير والفساتين ذات األكمام الطويلة تحت معاطفهن‪ ،‬وقد غطت النسوة‬
‫المتزوجات رؤوسهنَ بباروكات أو حجب‪ .‬كانت الكثيرات من أولئك النسوة‬
‫حوام َل‪ ،‬لكني تغاضيت عن ذلك‪.‬‬
‫صغار بما فيه الكفاية الرتداء‬
‫ٌ‬ ‫صغارا‪ ،‬ومنهم صبيا ٌن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أطفاال‬ ‫اقتادت الكثير منهن‬
‫األلوان البراقة‪ .‬كانت األمهات الالتي يدفعن بعربات األطفال التي وضعنَ فيها‬
‫حمرة والملفوفين باألقمطة ينبّهن صغارهن على‬
‫أطفالهن الرضع ذوي الوجوه الم ّ‬
‫البقاء بقربهن وعدم االبتعاد‪ .‬أما األطفال األكبر سنًا فقد كانوا في الخارج من غير‬
‫صحبة ذويهم‪ ،‬ضمن مجموعات من الصبيان أو الفتيات‪ ،‬فيما كان المارة يعبرون‬
‫الشارع مندفعين بين السيارات‪.‬‬
‫في هذا المكان لن تتعرض ثيابي للحملقات المحرجة‪ ،‬إلى هذا المكان أنتمي‪ ،‬وهذا‬
‫ما جعلني مغتبطة‪.‬‬
‫المارة المنهمكة تتوقف‬
‫ّ‬ ‫تخيّلت كل َمن أصادفه صديقًا أو قريبًا‪ ،‬تخيلت حشود‬
‫بأكملها في المكان وترفع أذرعها لتحملني عاليًا على تلك القوة الجماعية‪ ،‬تلك‬
‫األيادي المرفوعة‪.‬‬
‫كنت شابة غير ناضجة في الثامنة عشرة من عمري‪ .‬وأثناء دراستي في جامعة‬
‫تكساس‪ ،‬كنت أحث الخطى عبر الحرم الجامعي الفسيح ألذهب إلى تشاباد هاوس‬
‫عدة مرات في األسبوع‪ ،‬حيث كنت هناك أغسل األطباق وأ ّ‬
‫قطع مكونات السلطة‬
‫وأع ّد الطاوالت من أجل الخدمة أو من أجل االحتفاالت االخرى‪ ،‬ومن ثم أنضم‬
‫إلى جلسات الدراسة وخدمات الصلوات وموائد الساباث الطويلة الصاخبة‪ ،‬وأطرق‬
‫الطاولة بحماسة مع الفتيات األخريات محدثين إيقاع همهمات يصاحب إنشاد‬
‫الفتيان‪.‬‬
‫وتكرارا‪ ،‬في صفوف الحاخام فرومان‪،‬‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫وخالل هذا الوقت تلقيت الرسالة‬
‫وفي ال ِعظات‪ ،‬وفي أحاديث التوراة التي تشاركناها على مائدة الساباث‪ ،‬وفي‬
‫دراستنا مع الزمالء‪ ،‬وفي التعليقات التي أدلى بها زمالئي في تشاباد هاوس‪.‬‬
‫الرسالة التي تقول إن إنجازي الحقيقي يتمثل بالزواج من الرجل الذي قدِر لي‬
‫االرتباط به‪ ،‬وهذا هو ما أوجدني الربّ ألجله‪.‬‬
‫وعلى الرغم من كل ذلك‪ ،‬فقد كنت أستمتع بالدراسة‪ .‬وتحت اإلشراف الصارم‬
‫لألستاذ الهندي الزائر الذي كان يداوم على ارتداء البدالت البيضاء‪ ،‬ويدخن‬
‫السجائر غير المفلترة من ماركة كاميل في الصف‪ ،‬تعرفت على الشعراء كيتس‪،‬‬
‫ووردز وورث‪ ،‬وتينسون‪ ،‬وكولردج‪ .‬كما وجدت استاذ تشيلو يبعث التحدي في‬
‫النفس وبدأت أكتب الشعر‪ .‬وفي ظل انعدام رغبتي الجنسية وتغطية جسدي‪ ،‬ووعيي‬
‫الدائم بالمتطلبات الحسيدية التي تقضي بإخضاع جسدي اآلثم‪ ،‬تفحصت تماثيل‬
‫الرخام اإلغريقية العارية في دروس تاريخ الفن‪ ،‬وتعلمت عن معاملة اإلغريق‬
‫سد للجمال الروحي‪ ،‬والهيئة المثالية التي‬
‫للجسد البشري بوصفه المثال المج ِ ّ‬
‫استخدمت لتجسيد اآللهة‪ .‬عاودت أخذ دروس في الرسم الحي مع العارضين العراة‬
‫واقتفيت بنظراتي منحنيات أجسادهم التي تقت للمسها‪ .‬آنئذ أصبحت معاييري‬
‫الحسيدية واضحة المعالم‪ ،‬فكنت أمشي في أرجاء الحرم الجامعي وكأننى محاطةٌ‬
‫بصندوق زجاجي وبداخل ذلك الصندوق كنت قد شرعت بمد أغصاني التي أينعت‬
‫أوراقًا‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد أتيت لرؤية ال َحبر‪ .‬لقد أردت الحصول على جميع األشياء‪ ،‬فرغبت‬
‫بالروح الدينية وبالعبادة وبحس االنتماء‪ ،‬كما أردت الذات الوليدة التي أحبت التعلم‬
‫وصنع الموسيقى‪ ،‬والتي أرادت أن تجول العالم؛ لقد كنت مجرد مراهقة مليئة‬
‫دونت فيها ما يلي‪" :‬أعلم‬
‫بتناقضات نمطية‪ .‬حتى أنني قمت بكتابة رسالة إلى ال َحبر ّ‬
‫بأنني مأمورة بالزواج‪ ،‬لكنني لست مستعدة‪ .‬فهل هناك مشكلة في أن أسافر وأدرس‬
‫ي الزواج‪ ،‬لكني ال أشعر‪ ،‬وال أميّز‪ ،‬وال أعتقد بأنني‬ ‫ً‬
‫أوال؟" أيها ال َحبر‪ ،‬أعلم بأنه عل ّ‬
‫أريد ذلك‪...‬أيها الحبر‪ ،‬ساعدني على أن ألتزم وأصبح فتاة حسيدية‪ ،‬واسمح لي بأال‬
‫ألتزم‪ .‬ليس بعد‪.‬‬
‫عثرت على محل القرطاسية الصغير الذي يديره والد سيما‪ ،‬الحاخام رينر‪ .‬كانت‬
‫عيناه المترهلتان ذواتي لون أخضر تشوبه الزرقة‪ ،‬ووض َع على رأسه األصلع‬
‫ضا‬ ‫ً‬
‫بنطاال أسو َد فضفا ً‬ ‫يارمولكة سوداء من القماش تشبه الطاسة‪ ،‬وكان يرتدي‬
‫ي الحاخام‪ ،‬ثم قادني بخطى بطيئة من‬
‫بب ّ‬
‫رفعته حماالت البنطلون إلى األعلى‪َ .‬ر ّح َ‬
‫حول جانب المبنى إلى مدخل مسكن العائلة‪ ،‬حيث ساقيم‪.‬‬
‫كان حضور ال َحبر أشبه ما يكون بضباب دائم يخيّم على كراون هايتس‪ ،‬وبدا نفس‬
‫ذلك الضباب يخيم على غرفة الجلوس في منزل آل رينر‪ .‬جعل المكان كالمي‬
‫مقتصرا على الهمس‪ .‬وكان المكان ملمعًا ومكت ً‬
‫ظا باألثاث وبخزائن الكتب العبرية‪،‬‬
‫وعلى صدر الجدار احتلت صورة ال َحبر موضعًا شرفيًا‪.‬‬
‫كانت هناك طاولة مستديرة بجوار كرسي مزهر حملت على األقل ثالث دزينات‬
‫من صور العائلة المؤطرة‪ ،‬وظهر جميع من في تلك الصور‪ ،‬ومعظمهم صغار‬
‫السن‪ ،‬مرتدين ثيابًا على الطراز الحسيدي‪ ،‬ومن بينهم صغار راكوفسكي الذين‬
‫ظهروا في إحدى هذه الصور‪ .‬وفي القلب وضعت صورة مصغرة مبروزة لل َحبر‪،‬‬
‫تعبيرا يجسد الجحافل المؤمنة التي تناسلت من هذين‬
‫ً‬ ‫وبدا ترتيب الصور بأكمله‬
‫الزوجين العجوزين‪.‬‬
‫السيدة رينر التي ال يزيد طولها عن أربعة أقدام وثمانية إنشات رحبّت بي بابتسامة‬
‫قلّصت عينيها الالتي تحيطهما التجاعيد‪ .‬خاطبتني قائلة‪" :‬هكذا إذن‪ ،‬لقد أتي ِ‬
‫ت لرؤية‬
‫ال َحبر‪ ".‬كانت سيما قد أخبرتني بأن المجتمع بكامله يفتح أبواب منازله دائ ًما للناس‬
‫الذين على شاكلتي‪ "Baalei tshuvah" .‬هكذا يسموننا نحن األرواح األوابة‬
‫الباحثة عن طريق العودة إلى الرب‪ .‬ثم طلبت مني السيدة رينر أن أجلس إلى طاولة‬
‫مطبخها الصغيرة من أجل شرب الشاي العديم الطعم وتناول الكعك الذي بدا طعمه‬
‫ي أن أمكث هناك لثالثة أسابيع‪ ،‬وهي فترة االستراحة ما بين‬ ‫كالرمل‪ .‬كان عل ّ‬
‫الفصلين الدراسيين‪ .‬فأم َلت عل ّ‬
‫ي المواعيد التي ينبغي أن أصلي وآكل وأنام فيها‪،‬‬
‫وخرج كل هذا على هيئة تدليل على طريقة الجدات وهو ما جعلني أضحك‪ .‬دعوتها‬
‫'ببي' رينر‪ .‬أي الجدة رينر‪.‬‬
‫ي بين المالءات المكوية بالنشاء على وقع أجراس‬‫في الصباح التالي فتحت عين ّ‬
‫لكن المحال التجارية كانت مفتوحةً في جادة‬
‫يوم الكريسماس‪ّ ،‬‬
‫الكنيسة‪ .‬صادف ذلك َ‬
‫كنغستون اليهودية‪ ،‬ولم يطرأ أي تغيير على حركة المشاة‪ .‬وفي الخارج‪ ،‬رأيت‬
‫ثالث حافالت مدرسية مختلفة اصطفت على جانب الرصيف‪ ،‬طبع على كل واحدة‬
‫منها اسم مدرستها بحروف عبرية‪ ،‬وكان يصعد إليها أطفال حملوا حقائبهم‬
‫المدرسية وعلب غدائهم واعتلت اليارمولكات الملونة رؤوسهم التي تدلت منها‬
‫ضفائر جانبية صغيرة وانتعلوا أحذية تنس‪ .‬ومن كنيس يقع في زاوية الشارع تدفق‬
‫الرجال الملتحون بعد تأدية خدمات الصباح‪ ،‬ويع ّد هذا الكنيس واحدًا من عدة كنس‬
‫في المنطقة التي تحتضن الطائفة‪.‬‬
‫بدا المتبضعون واألسواق في كنغستون كمجموعة من الفرص‪ .‬لعلني هنا أستطيع‬
‫أن أكتشف كيف أندمج في هذا المجتمع‪ .‬هنا بإمكاني أن أستمع لحديث الناس مع‬
‫بعضهم‪ ،‬وأرى ما يتبضعون وما يأكلون‪ ،‬وأتعرف على الكتب والفن والحاجيات‬
‫اليومية التي يقتنونها لبيوتهم‪ .‬كل غرض تفحصته في محالتهم أصبح جز ًءا من‬
‫ديكور منزلي المتخيل‪ .‬وبحماسة العضوية الجديدة‪ ،‬تذوقت عينات من األطعمة‬
‫وتل ّمست شاالت التاليت المخصصة للصالة وأباريق غسل األيدي ذات المقبضين‬
‫والصور األيقونية لل َحبر وصناديق تسداكا ذات الشق المخصصة للصدقة والكتب‬
‫العبرية ذات الحافات المذهبة والتي تفتح من اليسار وكتب األطفال ذات األلوان‬
‫الزاهية حيث الحيوانات حالل واألطفال يهو ٌد متدينون يتعلمون دروسا ً عن الرب‬
‫والسلوك الصالح‪.‬‬
‫استدرت عند زاوية إيسترن باركوي (‪ )Eastern Parkway‬ألبلغ شارع ‪770‬‬
‫إيسترن باركوي الواسع‪ ،‬وهو المقر الرئيسي لحركة اللوبافيتش‪ ،‬حيث يقع مكتب‬
‫ال َحبر‪ .‬كان مدخل مترو األنفاق على مرمى النظر‪ ،‬لكن المشاة الخارجين منه بدوا‬
‫وكأنهم يتالشون في الشارع‪ .‬دقت أجراس الكريسماس عند الساعة العاشرة وعند‬
‫حلول الظهيرة‪ ،‬ولم يبد بأن أحدًا قد سمعها‪.‬‬
‫أمر على المقر الرئيسي للوبافيتش‪ ،‬وأسير بخطى سريعة على طول حدود حي‬
‫بيدفورد‪ -‬ستيفيسانت‪ ،‬وداخلي مليء بالسعادة والثقة‪ .‬وبينما أسير‪ ،‬حييّت مراهقًا‬
‫أسو َد كان يسير باتجاهي ويبدو سنه مقاربًا لسني قائلةً "مرحباً" بحماس أهل‬
‫تكساس‪ ...‬وفي غمار غبش الرؤية الناتج عن حركتي‪ ،‬لم ألحظ الغضب الذي كان‬
‫يظهر على وجهه المكفهر‪ ،‬وال أجفانه التي ضيّقها‪ .‬ولكن حالما أصبح أحدنا بجوار‬
‫االخر‪ ،‬نفخ من بين شفتيه نفخةً قوية أطلق بها على قدم ّ‬
‫ي كتلة من البصاق قائال‬
‫"يهودية!"‪ ،‬فتناثر البصاق على كاحلي‪.‬‬
‫قفزت من مكاني‪ ،‬ثم جمدت من الخوف‪ .‬رمقني بنظرة غاضبة وجعّد شفتيه مثل‬
‫شخص في فمه طع ٌم فاسد‪ ،‬وكما لو كنت أنا تلك القذارة التي بصقها لتوه من فمه‪.‬‬
‫نظر أحدنا إلى اآلخر‪ .‬فكرت بأنه كان يتحداني ألقول شيئًا ما‪ ،‬لكنني لم أتمكن من‬
‫َ‬
‫النطق‪ .‬كانت مشاعر الخوف والنفور والحزن تتملكني‪ ،‬وال شيء غيرها‪ ،‬لقد ش َّل‬
‫لساني‪ ،‬وشعرت بأنني قد تم وضعي في الخانة الخاطئة في دماغه‪ .‬رغبت في أن‬
‫أقول له إنك ال تفهم األمر‪.‬‬
‫في تلك اللحظة الوجيزة التي تقابل بها وجهانا‪ ،‬لم أكن ليا‪ ،‬ولم أكن امرأة حسيدية‬
‫أو جندية من جنود الرب أو حتى متمردة متسترة‪ .‬وإنما كنت مجرد فتاة يداها‬
‫مرتعشتان تعرف بأنها تمثل بالنسبة لذلك الفتى فئةً مكروهةً بال وجه‪ ،‬صنفًا غازيًا‬
‫أمرا خاطئًا جدًا يحدث هنا‪ ،‬هنا في كراون‬
‫بال روح‪ .‬راودتني فكرة أن هناك ً‬
‫هايتس‪ّ .‬‬
‫لكن الفكرة كانت مثل فقاعة هشة قبل أن تهبط وتغيب عني‪ ،‬مثلما غاب‬
‫الفتى‪.‬‬
‫أمام الميدان المكتظ الذي يقابل المقر الرئيسي لحركة اللوبافيتش‪ ،‬والذي‬
‫ثم وصلت َ‬
‫يفضي إلى المدخل الكبير ذي الباب المزدوج‪ .‬كان الحسيديم حينها يتوافدون منذ‬
‫أيام على كراون هايتس من جميع أنحاء العالم من أجل إحياء يود شفات (‪Yud‬‬
‫‪ ،)Shvat‬الذكرى السنوية لليوم الذي تسنم فيه ال َحبر مسؤولية القيادة‪ .‬كان التج ّمع‬
‫قررا في ذلك المساء‪ .‬أخبرتني السيدة‬
‫العام االحتفالي (‪ )farbrengen‬مع ال َحبر م ً‬
‫رينر بأن المنطقة هنا ال تخلو أبدًا من الناس الذين يتجولون فيها‪ ،‬سواء أكانوا من‬
‫السكان المحليين أو من الزوار من مختلف أنحاء العالم‪ ،‬بل وحتى من السياح‪،‬‬
‫ولكن‪ ،‬مع كل هذا العدد من الزوار في البلدة‪ّ ،‬‬
‫فإن الحشد يومها كان أضخم عددًا‪.‬‬
‫حاولت أن أتناسى مقابلة ذلك المراهق األسود‪ .‬أردت أن أتطلع بالميدان بنفس‬
‫الطريقة التي تطلعت بها للمشهد في كنغستون‪ ،‬كوسيلة العتناق ما يجري‪ .‬كان‬
‫ضا ومعديًا‪ ،‬داللة ذاتية تضج بالحماس‬
‫للصخب والحركة في المكان زخ ًما دينيًا ناب ً‬
‫وتصرح بأن نشاطات حيوية تجري هاهنا‪ ،‬من أجل الرب‪ .‬انتشر باعة األرصفة‬
‫الذين يعرضون كتب الفلسفة الحسيدية والشريعة اليهودية على امتداد محيط‬
‫الميدان‪ ،‬وكانوا يعرضون بوسترات الصلوات والمقوالت التوراتية‪ ،‬وميداليات‬
‫المفاتيح وأكواب القهوة والمفكرات التي تحمل صورة ال َحبر‪ ،‬وصناديق اإلحسان‬
‫المسماة بالبوشكا وتمائم الميزوزاه وأكداس من اليارمولكات ومناضد مكدسة‬
‫بشاالت الرأس الملونة وكتبًا قصصية تروي معجزات ال َحبر‪ .‬رأيت صبيًا مراهقًا‬
‫يعتمر قبعة سوداء واسعة وضع مقدمها على مؤخرة رأسه‪ ،‬بينما كان صديقه يمضع‬
‫ً‬
‫سرواال أسو َد يستقر على أسفل وركيه كما لو أنه بنطال من الجينز‪،‬‬ ‫علكةً ويرتدي‬
‫نبت لكليهما خ ً‬
‫ط من الشعيرات الداكنة على الشفة العليا والذقن‪ .‬وشاهدت امرأة‬ ‫وقد َ‬
‫ترتدي باروكة انسدلت حتى كتفيها‪ ،‬وتنتعل حذا ًء ذا كعب عال‪ ،‬وتلبس بدلة أنيقة‪،‬‬
‫تحاول أن تشق طريقًا لعربة أطفال مزدوجة تحمل طفلين كانت تدفع بها عبر‬
‫الميدان‪ ،‬وفتاتين ترتديان تنورتين مربعتي النقش بتصميم الثنيات مثل تنورات الزي‬
‫المدرسي كن يلقين نظرة على البضائع‪ .‬كما شاهدت رجال متسخا‪ ،‬بك ّم معطف‬
‫للمارة وينتحب ً‬
‫قائال "امنحوني‬ ‫ّ‬ ‫ممزق‪ ،‬مع انتفاخ في جيبه األيمن‪ ،‬وهويبسط كفّه‬
‫ّ‬
‫دوالرا‪ ،‬وامرأة ً متوسطة العمر تحمل علبة أمام‬
‫ً‬ ‫صدقة‪ ،‬أظ ِهروا الرحمة"‪ ،‬فناولته‬
‫المار ِة وتردد بإيقاع منتظم‪ ":‬تبرعوا من أجل مدرسة بيس ِرفكا‪ ".‬إذ كانوا ينوون‬
‫بناء يشيفا جديدة لتعليم الفتيات‪ ،‬فأخرجت ورقة نقدية أخرى‪.‬‬
‫أخيرا‪ ،‬عبرت الميدان و َخ َ‬
‫طوت عبر األبواب المزدوجة إلى داخل المقر الرئيسي‬ ‫ً‬
‫ى‬
‫لل َحبر‪ .‬وعلى الفور‪ ،‬وجدت نفسي في مكان ذي ثقل ومهابة ذكورية خالصة‪ ،‬لح ً‬
‫ومهمات مكرسة للرب‪ .‬لكن في كل ليلة ثالثاء‪ ،‬يلتقي ال َحبر بك ّل من الرجال والنساء‬
‫الذين يَ ِفدون كح ّجاج‪ .‬أردت أن أحجز موعدًا لمقابلته‪.‬‬
‫كانت البناية مكتظةً‪ ،‬وباإلضافة إلى مكتب ال َحبر ومدرج الكنيس الضخم الواقع في‬
‫الطابق السفلي‪ ،‬ضمت البناية دار نشر تطرح مطبوعات الرسالة بست لغات‪،‬‬
‫للرسامة‪ ،‬ومكتب شلوشيم وهو مقر الدعوة العالمية لمبعوثي‬
‫ويشيفا كبيرة ِ‬
‫الحسيدية‪ ،‬ويحتكر الرجال إدارة جميع هذه المفاصل كليًا‪ .‬وبصفتي أنثى‪ ،‬فقد‬
‫أصبحت تلقائيًا زائرة ودخيلة‪ .‬وكل واحد من أولئك الرجال الذين كانوا يروحون‬
‫ويجيئون احتاج لمساحة وقائية عازلة تحميه من االحتكاك العرضي مع امرأة‪.‬‬
‫كنت أتوجس خشية من أن أشكل تهديدًا‪ ،‬فلم أغامر بتجاوز الرواق‪ .‬ثم جاءت من‬
‫خلفي تلك المرأة التي رأيتها تدفع بعربة األطفال المزدوجة‪ ،‬وهي تحمل ظرفًا بنيًا‬
‫كبيرا من البريد‪ ،‬فانتظرت مع ساعي البريد‬
‫ً‬ ‫وخلفها ساعي البريد يحمل كيسا‬
‫والمرأة‪ .‬كان أحد صغيريها نائ ًما‪ ،‬بينما ينظر اآلخر بعينين كئيبتين‪ .‬تساءلت إن‬
‫كانت حقيبة ساعي البريد تحوي بداخلها الرسالة التي بعثتها للحبر في األسبوع‬
‫الماضي‪ ،‬إذ إنني عملت بنصيحة توفيا الذي قال لي‪" :‬افتحي قلبك وأخبري الحاخام‬
‫بكل ما يعتمل فيه‪".‬‬
‫ذات مرة‪ ،‬عندما كنت في دنتون‪ ،‬كتبت رسالة مختلفة إلى الحبر‪ ،‬اعترفت فيها‬
‫بشكوكي وبشعوري بالفتور تجاه الرب‪ ،‬ومقاومتي للتهذيب الحسيدي‪ ،‬وسألته‬
‫ً‬
‫وبدال‬ ‫النصيحة‪ّ .‬‬
‫لكن خجلي البالغ منعني من االعتراف بأنني كنت أفقد اإليمان‪ ،‬لذا‬
‫من إرسال تلك الرسالة‪ ،‬ألصقتها في دفتر مذكراتي‪.‬‬
‫أخيرا اقترب رجل ذو لحية شائبة وقبعة سوداء وسألنا بشكل مستعجل‪" :‬هل بإمكاني‬
‫ً‬
‫ساعي البريد إلى مكتب صغير وراءه‪ ،‬ث ّم قالت المرأة شيئًا‬
‫َ‬ ‫مساعدتكم؟" د َّل الرجل‬
‫باليديشية وسلّمته الظرف‪ ،‬أما أنا فكنت ما أزال في غمرة الشعور بوضعي الجديد‬
‫كامرأة مقابل لحية هذا الرجل وطوله في هذه البناية المكتظة بالرجال‪ ،‬فقلت شيئًا‬
‫من قبيل‪" :‬أوه‪ ،‬كنت أتفقد المكان فحسب‪ ".‬ثم تراجعت للوراء وتسللت خار ًجا‪.‬‬
‫حين أصبحت في الخارج‪ ،‬رجعت عبر باب مختلف غير معلّم بأية عالمة ألدخل‬
‫إلى صالة النساء التي وجدت فيها نسا ًء يتجمعن أمام نوافذ زجاجية ويوجهنَ‬
‫أنظارهن لألسفل حيث المدرج الذي سيو ّجه فيه ال َحبر بعد قليل خطابًا للرجال‪ .‬في‬
‫داخل هذا المكان امتزج األزيز العالي الناعم ألصوات النساء الخافتة مع أصوات‬
‫الفتيات وصراخ األطفال الصغار وروائح الشامبو ومزيالت العرق وبخاخ الشعر‬
‫والعطور والعرق األنثوي خفيف الرائحة وحليب األطفال المصنع ورائحة قيء‬
‫الصغار‪ .‬تكيفت عيناي مع الضوء الخافت وأنا أمر للداخل متجاوزة ً فتاتين غير‬
‫متزوجتين ثبّتنَ شعورهن المكشوفة الطويلة إلى خلف رؤوسهن على نحو يخلو من‬
‫التكلف‪ ،‬ويجلسن جنبًا إلى جنب ويتشاركن القراءة في كراس يحوي تعاليم ال َحبر‬
‫باستغراق تام كذلك الذي يمتاز به فتيان اليشيفا‪ .‬تمنيت أن أكون واحدة من تلك‬
‫الفتيات‪ .‬رغبت بأن أحوز على معرفتهن بالعبرية واليديشية‪ .‬أردت أن أؤمن مثلهن‬
‫بأن الحاخام يوجه حياتي من خالل الكراسة وأن العالم الذي حددت تلك الكراسة‬
‫معالمه كان عالمي‪ ،‬لقد رغبت باالنتماء‪.‬‬
‫ضا يصل حتى االلوح الخشبية التي‬
‫كان اللوح الزجاجي األخضر السميك منخف ً‬
‫تغطي أسفل الجدار‪ ،‬أما النسوة ّ‬
‫فكن محشورات على مقاعد طويلة تقابل الزجاج‪،‬‬
‫غير أن المكان األمثل للمشاهدة كان مسافة ضيقة أمام تلك المقاعد‪ ،‬وقد ازدحمت‬
‫باألجساد على الرغم من ضيقها‪ .‬انقطعت عن التفكير في الرجال الذين يحتشدون‬
‫في األسفل‪ ،‬جاهدت لشق طريقي للدخول‪ّ ،‬‬
‫لكن كل ما استطعت رؤيته كان ظهر‬
‫كتف إحداهن‪ .‬حاولت أن أتلوى أللج إلى الداخل أكثر لكني لم أستطع التقدم‪ .‬كانت‬
‫إحدى النساء تضغط على جانبي األيسر ثم أخذت تزفر ونزعت فردة حذاءها‪.‬‬
‫"أوه كال‪ .‬هكذا لن أتمكن أبدًا من الرؤية‪ ".‬أخذت بالشكوى‪.‬‬
‫قالت المرأة‪" :‬عودي إلى هنا في الشهر القادم‪ ،‬فالحشد سيكون أقل عددًا‪".‬‬
‫أجبت‪" :‬سأكون قد رحلت‪".‬‬
‫"من أين أنت؟"‬
‫"من تكساس‪".‬‬
‫وفجأة أصبحت مبعوثتي الشخصية‪ ،‬ونقرت بأصبعها على كتف المرأة التي تسد‬
‫الرؤية أمامي وقالت لها‪" :‬دعيها تمر‪ .‬إنها من تكساس!" أفسحت امرأتان مختلتفان‬
‫لي مسافة بوصة أو بوصتين‪ .‬تذمرت إحدى النساء‪ ،‬لكن صديقتي الجديدة أصرت‬
‫على ما طلبت‪" .‬دعيها تدخل!" ثم شعرت بيد تمسك بذراعي من مكان ما في‬
‫المقدمة وتسحبني عبر الزحمة ألجد نفسي أقف بعدها قرب الزجاج‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫ي‪ ".‬كانت ابنة أخت سيما‪.‬‬
‫صا من تكساس يقيم مع جد ّ‬
‫"تكساس؟ أعرف شخ ً‬
‫عندما اقتربت‪ ،‬وجدت فرجةً بين الزجاج األخضر المخدش واإلزارة الخشبية تتيح‬
‫لي أن أنظر من خاللها للمدرج إن قمت باالنحناء‪ .‬حتى أنها تتيح لي الحصول على‬
‫نسائ َم من الهواء المنعش‪.‬‬
‫في األسفل كان هناك بحر هائل يموج بالقبعات السوداء‪ ،‬هذا عدا عن آالف القبعات‬
‫األخرى التي كانت تتدفق إلى القاعة المفتوحة‪ .‬كنت أعرف بأنهم سينتظرون‬
‫لساعات إذا اقتضت الضرورة من أجل أن يستمعوا إلى خطابات ال َحبر المعقدة‬
‫ويشاركوا بغناء الترانيم الحسيدية التي بال كلمات‪".‬إن سماع ال َحبر يشبه الصالة‪"،‬‬
‫ي بنحو غريب ً‬
‫قليال‪.‬‬ ‫قلت للفتاة التي أنجدتني‪ .‬هزت برأسها ونظرت إل ّ‬

‫يتعين على أي شخص في ذلك الحشد أن يشغل مجلسه وأن يلزم مكانه‪ ،‬وكانت‬
‫ً‬
‫وصوال إلى السقف ممتلئة عن بكرة أبيها‪ ،‬وجميع الرجال‬ ‫جميع المدرجات الخلفية‬
‫على المدرجات حتى الصف العلوي واقفون‪ ،‬ويميلون بأجسامهم إلى نفس الناحية‬
‫ويقدمون أكتافهم العليا للخارج‪ .‬استدعى منظرهم في ذهني مشهد قطع الدومينو‬
‫وهي تتداعى‪" .‬كم يتراوح عدد الرجال الذين في األسفل؟" سألت الفتاة‪.‬‬
‫أجابت قائلة‪" :‬إممم‪ .‬سبعة أو ثمانية آالف‪".‬‬
‫والحت بعض االلوان بين كل ذلك البياض والسواد تعود أغلبها لثياب األطفال‬
‫الصغار‪ .‬انحنى أحد الصبيان الصغار لألسفل واختفى‪ ،‬ثم ظهر ثانيةً على بعد‬
‫بضعة أقدام‪ .‬قلت متسائلةً‪" :‬هل رأي ِ‬
‫ت ذلك الصبي؟ كيف تمكن من التحرك؟‬
‫أجابت الفتاة‪" :‬إنهم يزحفون بين األرجل‪ .‬فدورات المياه تقع في الخلف‪".‬‬
‫والح لون آخر‪ ،‬زهري هذه المرة‪ .‬قلت‪" :‬هل أرى فتاة ً هناك في األسفل؟"‬
‫"إنه أمر جائز حتى تبلغ الفتاة قرابة الرابعة من عمرها‪ .‬كنت أرافق والدي إلى هنا‬
‫حينما كنت صغيرة‪".‬‬
‫"إذن فهذا الرجل الذي بجانبها هو والدها؟"‬
‫"على األغلب‪".‬‬
‫كانت هناك يارمولكات ملونة واحدة منها برتقالية وثانية خضراء وأخرى زرقاء‬
‫مع بضع قبعات بيضاء أو بنية تناثرت عبر بحر القبعات السوداء‪ .‬وكانت هناك‬
‫قبعات بيسبول بألوان كثيرة‪ ،‬إحداها تعلو رأس رجل جم َع شعره على هيئة ذيل‬
‫زوار من محبي االستطالع أو الباحثين عن‬
‫ٌ‬ ‫حصان‪ .‬كان من الواضح أن جميعهم‬
‫ضيوف دعيوا من طرف أولئك‬
‫ٌ‬ ‫الروحانية ممن هم في بداية الدرب مثلي‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫وكأن كل شخص في كراون هايتس يعمل بالمجال‬ ‫العاملين في الدعوة‪ ،‬لكن بدا‬
‫الدعوي‪ ،‬فمبشرو ال َحبر ال ينفكون عن العمل أبدًا‪ ،‬وفتيات المدرسة الثانوية‬
‫الحسيدية يواظبن على حمل المطويات وعلب شموع الساباث في حقائبهن قبل‬
‫الخروج إلى التسوق في المدينة‪ ،‬تحسبًا للقائهن بيهودي ضال‪ ،‬وكان الرجال يدعون‬
‫زمالءهم في العمل والغرباء في الشارع‪ ،‬فيما ذهب بعضهم إلى مانهاتن ليسأل‬
‫المارة‪ :‬هل أنت يهودي؟ من فضلك‪ ،‬هل أنت يهودي؟ فيعجل معظم المارة سيرهم‬
‫ويكملون طريقهم‪ ،‬لكن في بعض األحيان يستجيب أحد اليهود بدافع الكبرياء أو‬
‫الفضول‪ ،‬ويوافق على السماح ألحد الحسيديين المخلصين بأن يربط صناديق صالة‬
‫تفيلن فوق ذراعه‪ ،‬وأن يلّف الشريط الطويل إلى أسفل ذراعه بالنمط الصحيح وأن‬
‫يثبت عقدة الجزء المخصص للرأس خلف رأسه ويساعده على تالوة صلواته‪ .‬لعل‬
‫هذا يجعل الرجل يتذكر والده وجده حين كانا يفعالن الشيء ذاته‪ .‬سيقدم الحسيدي‬
‫ضا من حكمة ال َحبر ويدعو المهدتي المستقبلي الذي اجتذبه إلى القدوم إلى هنا‪،‬‬
‫بع ً‬
‫إلى ال َحبر‪.‬‬
‫وبين الحشد الكثيف في األسفل‪ ،‬وضعت طاولة فارغة على منصة مرتفعة‪ ،‬فبدت‬
‫كأنها جزيرة قاحلة وسط البحر‪ .‬على الطاولة ثبت مايكروفون‪ ،‬وعند منتصفها‬
‫سي بالمخمل األحمر‪ .‬بدا أن المدرجات التي تقع خلف المنصة‬
‫وضع كرسي واحد ك َ‬
‫محجوزة للشيوخ؛ فانتصبت الطاولة أمام خلفية طويلة من اللحى البيضاء‪.‬‬
‫وسرعان ما انطلق نغم باريتوني بهيج فاض على الحشد ومأل القاعة وارتفع إلى‬
‫النسوة الهائمات الالتي يجلسن في األعلى‪ .‬كان الرجال يتمايلون وهم يغنون‪،‬‬
‫ودخلت مزيد من القبعات للقاعة‪ .‬لم تتسع مخيلتي ألستوعب كيف ستتسع القاعة‬
‫للمزيد من الحضور‪ .‬ثم‪ ،‬وبلحظة واحدة‪ ،‬توقف الغناء‪ .‬أنفاس جماعية متسارعة‪.‬‬
‫انتشر الهدوء مثل موجة‪ .‬رفع اآلباء أطفالهم إلى أكتافهم‪ .‬ومن خلفي‪ ،‬همست إحدى‬
‫النساء‪" :‬إنه هنا!" وقالت الفتاة التي سحبتي للداخل‪ ،‬بعد أن شدتني وأشارت بيدها‪:‬‬
‫"ال َحبر هنا!" فانثنيت ً‬
‫قليال لكي أرى‪ ،‬ناظرة الى االسفل‪.‬‬
‫وحال دخوله من األبواب إلى القاعة‪ ،‬وقف ال َحبر ال مباليًا أمام آالف الرجال‬
‫المنتظرين الذين تملكتهم الرهبة عند رؤياه‪َ .‬حبرنا هو الحاخام مناخيم منديل‬
‫شنيرسوهن (‪ ،)Menachem Mendel Shneersohn‬روسي المولد‪ ،‬وكان‬
‫ممن نجحوا بالفرار من أوروبا في ذروة االبادة‪ .‬إنه صورة ٌ للعزيمة والقوة‬
‫الروحانية‪ ،‬نظرته الهادئة رزينة وعميقة‪ ،‬عريض الصدر‪ ،‬ذو لحية بلون رمادي‬
‫فضي أطالها حتى منتصف صدره‪ ،‬واعتمر قبعة سوداء كبيرة بالها ال ِق َدم‪ .‬وتزنّر‬
‫بوشاح لفّه على سترته التي بلغت حد ركبتيه‪.‬‬
‫جمد الجميع بال حراك‪ ،‬ستة عشر ألف عين في األسفل‪ ،‬باإلضافة إلى عيون النساء‬
‫واألطفال الذين كانوا يراقبون من األعلى‪ ،‬تحدّق لتمتص شيئًا النهائيًا من هذا‬
‫الرجل‪ ،‬وقد كنت بينهم ومعهم‪ .‬كنا قد أظهرنا ال َحبر إلى الوجود بقوة األمل‬
‫الجماعي‪ .‬شعرنا بأنه كان يجسدنا نحن‪ ،‬يجسدنا جميعًا‪ .‬امتألت القاعة بالبكاء‬
‫الصامت‪ :‬أيها ال َحبر؛ ساعدني‪ ،‬أعطني‪ ،‬أرني‪ ،‬أخبرني‪ ،‬علمني‪ ،‬أنقذني‪ .‬أعطني‬
‫الرب‪ ،‬أعطني نفسي‪ ...‬أيها ال َحبر‪.‬‬
‫جال ال َحبر بنظره على الحشد‪ ،‬وبدا كما لو أنه يقول‪ ،‬دعوني أخفف عنكم‪.‬‬
‫كان هناك حشد متراص من القبعات ومسافة ليست بالقصيرة بين ال َحبر ومقعده‬
‫عند الطاولة‪" .‬راقبي هذا" همست الفتاة في أذني‪.‬‬
‫بدا المشهد من األعلى مثل شق في قماش أسود مهتز‪ .‬بدأ ال َحبر يشق طريقه إلى‬
‫األمام باستقامة بين الحشد الكثيف‪ ،‬وفي كل خطوة يخطوها يتسع الشق ً‬
‫قليال ثم‬
‫ينسد خلفه فيما يتنحى الرجال أو يتراجعون أمامه‪ ،‬مخلين مساحة للحبر لم تكن‬
‫ق ال َحبر ً‬
‫باال للناس الذي كانوا يتنحون من أمامه‪.‬‬ ‫موجودة قبل تلك اللحظة‪ .‬لم يل ِ‬
‫كان يسير لألمام فحسب‪ ،‬يوميء برأسه ويبتسم للناس الذين بدوا جميعًا مذهولين‬
‫من انتباهه لهم‪.‬‬
‫قالت الفتاة‪ ".Krias yam suf" :‬فالق البحر األحمر‪.‬‬
‫فقلت‪" :‬إذن‪ ،‬فالحبر هو موسى‪".‬‬
‫لكم رغبت بأن أكون في األسفل‪ ،‬أتنفس الهواء الذي يتنفسه الرجل‪ ،‬الهواء الذي‬
‫فيه وجود الرب‪ .‬بيد أني كنت ما أزال أسمع همس أمي الناضح باالزدراء‪ ،‬إنهم‬
‫ست في أذني‪ .‬ال بد أنها مخطئة‪ّ ،‬‬
‫ألن سيما أخبرتني بأن اليهودي ال‬ ‫يعبدونه! هس َه َ‬
‫ً‬
‫رجال‪ ،‬وال يحتاج لوساطة للوصول إلى الرب البتّة‪ .‬أخبرتني سيما أن "الرب‬ ‫يعبد‬
‫يلقي سمعه لكل أحد‪ ،‬لكنّه يلقي بسمعه أكثر ً‬
‫قليال لقديس مثل ال َحبر‪ ".‬فعاودت أمي‬
‫عليك أن تفكري بنفسك‪ .‬لكن ألم أكن أنا التي أش ّكل قناعتي‪ ،‬ولم أدعها‬
‫ِ‬ ‫الهسهسة‪:‬‬
‫تفكر عني؟ أنا من توصلت إلى قناعتي‪ .‬أدرت رأسي كما لو أنني كنت التفت تفاديا‬
‫لها ألغوص في التيار الجارف لتبجيل ال َحبر والثقة به‪.‬‬
‫درجتا سلّم تؤديان إلى المنصة‪ ،‬ثم استقر ال َحبر في كرسيه األحمر أمام المايكروفون‬
‫لكي يلقي خطابه الذي يستمر لساعات‪ .‬وحالما بدأ بالحديث‪ ،‬لم أفهم إال القليل وقد‬
‫تطلب األمر وقتًا قبل أن أدرك أن الصوت الذي يصل إلى صالة النساء كان مشو ًها‬
‫للغاية‪ ،‬وأن الكثير من أولئك النساء القادرات على فهم اليديشية بسهولة لم يستطعن‬
‫أن يسمعن بالمقدار الكافي لفهم الحديث‪ .‬لم يمكن أمامي ما أفعله سوى الوقوف‬
‫هناك‪ .‬بدأت الطاقة الروحانية العالية بالفتور‪ ،‬تنهدت‪ .‬همست الفتاة التي شدتني‬
‫للداخل‪" :‬أعلم بأنه يصعب عليك السماع‪ ،‬لكن دعي روحك تتشرب هذا كله‬
‫فحسب‪".‬‬
‫أخبرتني سيما مسبقًا بأن الحبر يتخم أحاديثه بشواهد من التوراة والتلمود والقباالة‬
‫والشروحات القديمة‪ ،‬وأخبرتني كيف أنه يستنبط المعنى من خالل االستدالالت‬
‫الحاذقة أو حتى من خالل الحذوفات التي انطوى عليها النص‪ .‬سيتم تسجيل أحاديث‬
‫اليوم وطباعتها‪ ،‬ومن ثم يتم نشرها بسرعة على النطاق العالمي من أجل تدارسها‪.‬‬
‫اختتم ال َحبر كل قول له ِبحثِ ّنا على إطاعة الشريعة بقدر أكبر‪ ،‬ودراسة الكتب‬
‫المقدسة بقدر أكبر‪ ،‬والصالة بقدر أكبر‪ ،‬وكذلك تمجيد األدوار المنفصلة المخصصة‬
‫للرجال والنساء على نحو أكبر‪ ،‬ونشر الكلمة بقدر أكبر‪ .‬وانتهى كل قول له بوعده‬
‫سرى ترقب قدوم المسيا عبر حشد الحضور‬
‫أن المسيا سيأتي من خالل جهودنا‪َ .‬‬
‫مثل تيار من الطاقة‪.‬‬
‫دوت القاعة بصيحة "آمين" مجلجلة‬
‫ما أن انتهى الحبر من خطابه (‪ ،)sicha‬حتى ّ‬
‫انطلقت من األسفل واألعلى‪ .‬مكثنا نترقب بأنفاس متباطئة‪ ،‬ولهنيهة تساءلت مع‬
‫نفسي ماذا سيقول الحبر عن رغبتي بتأجيل الزواج‪ .‬ثم ش ََرع بالغناء‪ ،‬فكان صوته‬
‫أجش وقويًا‪ ،‬واألغنية نقيّةً وثاقبةً مثل صرخة‪ ،‬كنا كما لو أننا نطلّع على‬
‫َّ‬ ‫المسن‬
‫محادثته الحميمة مع الرب‪ .Tzamah lecha nafshi :‬روحي متعطشة لك‪.‬‬
‫بدني متعطش لك‪ ،‬في أرض جافة‪ ،‬ناشفة بال ماء‪ .‬رد َد الحاسيدم غناء نفس األبيات‬
‫من ورائه‪ :‬روحي متعطشة لك‪ .‬بدني متعطش لك‪.Kamah lecha besari .‬‬
‫كان الحاسيدم وال َحبر عشاقًا تشاركوا نفس الضمأ للرب‪ ،‬فكل حسيدي يركز على‬
‫رغبته بالهروب من الهموم ويلقيها على رجل واحد مسن يجلس على كرسي ملفوف‬
‫بالمخمل األحمر‪ .‬لقد رغب كل حسيدي باحتضانه‪ ،‬ومن ثم اإلمساك بطرف معطفه‬
‫ي متزايد‬
‫وتكرارا في دو ّ‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫والتحليق معه إلى الرب‪ .‬ردد الحاسيدم أغنيتهم‬
‫الحماسة‪ .‬روحي متعطشة لك‪ ،‬بدني متعطش لك‪ .‬وضع الرجال أكفهم فوق‬
‫وجوههم‪ ،‬تمايلوا وبكوا‪ .‬الحشد‪ ،‬التيار‪ :‬كنت في تلك األغنية ومنها‪ ،‬امتألت بها‪،‬‬
‫ضا لكي انغمس في هذا‪ .‬وكان هذا يتحقق لي‪ .‬كنت‬
‫ي أنا أي ً‬
‫وانتقلت‪ .‬فأغلقت عين ّ‬
‫أحلق‪ ،‬وأعلو عن توافه اآلمال وصغائر األحالم‪ ،‬أطير بعيدًا عن عائلتي المشتتة‬
‫ملتحمةً بهذا المجتمع‪ ،‬مع الرب‪ ،‬مع الحبر‪ .‬كانت الزمة األغنية من دون كلمات‪،‬‬
‫ياماماماما‪ ،‬صرخةَ توسل ّ‬
‫مدوية‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬للحظة‪ ،‬استفقت مما أنا فيه‪ .‬للحظة‪ ،‬استطعت أن أرى بأنني في الحقيقة كنت‬
‫معزولة عن ذلك التيار الذي في األسفل‪ ،‬ولم أكن في وسطه البتّة‪ .‬كنت‪ ،‬في نهاية‬
‫األمر‪ ،‬أقف في األعلى‪ ،‬خلف الزجاج‪ .‬لكم رغبت أن أغوص إلى األسفل‪ ،‬أو‬
‫باألحرى أعوم في األسفل ألختلط وأنا غير مرئية مع الرجال وأصدح بالغناء بذات‬
‫الطريقة التي يغنون بها‪ .‬رغبت أن أكون واحدة منهم‪ ،‬معهم‪ ،‬وليس مجرد متفرجة‬
‫من المحيط الخارجي لتلك األجواء‪.‬‬
‫استأنف ال َحبر الغناء على نغم للسلم الموسيقي الصغير مرة أخرى‪Kain :‬‬
‫‪- bakoidesh chazisicha‬لذا فإنني في القداسة أبحث لكي أبصرك‪ -‬ورد َد‬
‫الرجال ثانيةً الزمة أغنيتهم التي بال كلمات‪ .‬وهكذا استمروا‪ ،‬يتبادلون الغناء‪ ،‬فكان‬
‫الحبر والحسيديون يملئون الكون ويمأل أحدهم اآلخر‪ ،‬يشدهم إلى بعضهم ِرباط‬
‫األغنية وسبيل الوصول إلى الرب‪ ،‬فيما أنظر إليهم من األعلى من وراء الزجاج‪.‬‬

‫بعد العودة إلى أوستن‪ ،‬رحت أشق طريقي بشكل يومي تقريبًا إلى بناية الموسيقى‪،‬‬
‫هناك حيث أجلس مع التشيلو في غرفة تمرين صغيرة وأدلك القوس بصمغ‬
‫الصنوبر‪ .‬ساللم موسيقية‪ ،‬فيفالدي‪ ،‬مقطوعات باخ الفخمة وبالغة البساطة‪ .‬انغمست‬
‫ويسارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫في بركة الصوت الصافي‪ .‬وبينما كانت يدي تهبط بالقوس وتصعد‪ ،‬يمينًا‬
‫كان وجع الوحدة يتجلى ويشتد‪ .‬كانت الرغبة تتدفق مني عبر يدي إلى التشيلو‪.‬‬
‫تالشت كل الكلمات التي دائ ًما ما كانت تحاوطني‪ ،‬كانت كلمات كثيرة‪ ،‬من أساتذة‬
‫وكتب دراسية وكتاب وفالسفة موتى‪ ،‬ومن سيما ومن الكتاب المقدس والخطابات‬
‫الحسيدية‪ ،‬ومن الحاخام راكوفسكي وتوفيا وال َحبر وإيسر والحاخام غيلر والحاخام‬
‫فرومان‪ ،‬ومن أصوات الماضي التي ما زالت حيّة في ذاكرتي‪ ،‬وما زالت تتحدث‬
‫ي وآنا‪ .‬كانت الموسيقى والغناء بمثابة منزل‪ ،‬ومتى ما أكون‬
‫ي وأخت ّ‬
‫إلي‪ ،‬ومن والد ّ‬
‫ي لإلحساس؛ في تلك البركة‬
‫وحيدة مع موسيقاي فإنني أحبس تلك الكلمات وأفتح أذن ّ‬
‫الدافئة‪ ،‬يبدو حتى ألمي شيئًا صائبًا وحسنًا‪ ،‬فسمحت للوجع القديم أن يزهر‪ .‬كانت‬
‫النوتات تلفني وتغذيني‪ ،‬وتمنحني الدفء حين تسري مهتزة عبر عظامي‪.‬‬

‫بعد مرور أسبوع على التجمع الحسيدي مع الحاخام (فاربرنغن)‪ ،‬عدت للخروج‬
‫في جادَّة كنغستون‪ ،‬متوجهة إلى بيت ابنة أخت سيما‪ .‬حينها غدا من الطبيعي أن‬
‫أمر على صور ال َحبر المعلقة على نافذة كل محل‪ .‬كانت السماء ذات زرقة رمادية‬
‫لكن الجو لم يبد باردًا جدًا على النسوة اللواتي ك ّن يعصرنَ‬
‫تميّز باكورة الشتاء‪ّ ،‬‬
‫الفاكهة في محل البقالة الذي يقع على الزاوية واللواتي كن يصحبن أطفالهن‬
‫بمالبسهم الثقيلة مع عربات أطفال مزدوجة‪ ،‬أو على األطفال المتوجهين إلى متجر‬
‫الحلوى‪ ،‬أو الرجال الذين يذرعون الشارع مثقلي الوعي‪ ،‬أو المراهقين الضاحكين‬
‫الواقفين في مجاميع ثالثية أو رباعية مفتعلين المشاجرات‪ .‬لكنني آنئذ‪ ،‬وللمرة‬
‫سا سودًا في الشارع‪ ،‬كما لو أن غشا ًء شفافًا قد نزل على‬
‫ضا أنا ً‬
‫األولى‪ ،‬أبصرت أي ً‬
‫العالم الذي تأتى لي أن اكتشفه‪ .‬لقد مكنّني الفتى الذي بصق على قدمي في شارع‬
‫سا حقيقيين‪ ،‬يرتدون السراويل أو الفساتين‪ ،‬القديمة‬
‫إيسترن باركوي أن أرى‪ :‬أنا ً‬
‫منها أو العصرية‪ ،‬مع سترات أو بدونها‪ ،‬ببزات رسمية أو بدالت من ثالث قطع‪،‬‬
‫ً‬
‫وأطفاال يحملون علب الغداء المدرسية‪ ،‬ومعاطفهم مفتوحة للهواء‪ ،‬ومراهقين‬
‫بتسريحات "األفرو"‪ ،‬أياديهم محشورة بالجيوب األمامية‪ ،‬وأمشاط أفرو كبيرة في‬
‫جيوبهم الخلفية‪ ،‬أو قبعات بيسبول مسحوبة لألسفل‪ .‬لكني لم أر أي نظرة أو حديث‬
‫بينهم وبين الحاسيدم‪ .‬كان الجيران السود غير مرئيين‪ ،‬وفي واقع األمر فقد كانت‬
‫كل مجموعة غير مرئية بالنسبة لألخرى‪ ،‬كل واحدة منهما تتحرك على مستوى‬
‫غير الذي تتحرك عليه األخرى‪ .‬حين مرت إحدى النساء من جانبي‪ ،‬حييّتها بقول‬
‫"مرحبا!" فشزرتني بنظرة غاضبة وأكملت طريقها‪ .‬انتابتني الصدمة حين كنت‬
‫أشاهد الناس الذين ال يرون أحدهم اآلخر‪ .‬وكرهت أن أكون موضع كراهية‪ ،‬وكما‬
‫لو أن قراري سيصنع فارقًا‪ ،‬قررت‪ :‬أنا أحبّ الحسيديم‪ ،‬لكنني سأعود للمنزل بعد‬
‫أن ألتقي بال َحبر‪.‬‬
‫"ليا! حان وقت دخولك‪ ".‬هكذا خاطبني السكرتير الشخصي لل َحبر‪ ،‬ذو اللحية‬
‫المختلطة األلوان والنظارات السميكة السوداء والوجه المتعب‪ ،‬نفس الرجل الذي‬
‫انسحبت متراجعة منه في مقر اللوبافيتش في ذلك اليوم الذي أعقب وصولي‪ .‬وها‬
‫قد عدت اآلن إلى نفس البناية أنتظر خارج مكتب الحبر بعد منتصف الليل‪.‬‬

‫قلت‪" :‬أوه!" ثم تبعته‪ ،‬تاركة خلفي عائلة تصحب ً‬


‫طفال نائ ًما‪ ،‬كما كان في غرفة‬
‫االنتظار فتى من فتيان اليشيفا يعتمر قبعة سوداء ومجموعة من الحاسيدم قدمت‬
‫من فرنسا‪ ،‬وأخرى قدمت من إسرائيل‪ ،‬وزوجان غير يهوديين أبدوا دماثة في‬
‫السلوك‪ ،‬وجميع هؤالء جاؤوا يبتغون بركات ال َحبر‪ .‬أعرف أن البعض قد ينتظر‬
‫مقابلته حتى طلوع الفجر‪.‬‬
‫بعد أسبوعين في كراون هايتس عدت إلى مقر الحاخام وطلبت‪ ،‬أو باألحرى‬
‫توسلت‪ ،‬موعدًا لمقابلته‪ ،‬ويعود الفضل جزئيًا للسيدة رينر‪ .‬علّمتني سيما جيدًا أن‬
‫ي ال َحبر‬
‫ي أن أقابل عين ّ‬
‫الوقوف أمام ال َحبر هي التجربة الحسيدية األكثر أهمية‪ .‬عل ّ‬
‫وأغوص في حكمته‪ .‬أوصتني السيدة رينر بأن أصلي وأرتّل المزامير كي أهيئ‬
‫نفسي‪ ،‬وأن أحاول أن أجعل من نفسي وعا ًء ألستوعب بركة ال َحبر‪.‬‬
‫مكثت أنتظر ألكثر من ثالث ساعات‪ ،‬وأنا محاطة بهمس المزامير كريح تعبث‬
‫بأوراق شجر يابسة‪ .‬كانت هناك أصوات أخرى‪ :‬جرجرة أقدام وتمتمات وأغنية‬
‫الحب بين الحاسيدم والحبر في تجمع "الفاربرنغن" والتي ما زالت تتردد في الجو‪،‬‬
‫وهمهمة الرهبة الجماعية وأصوات تأتي من ِشوال البريد الذي رأيت ساعي البريد‬
‫يحضره‪ :‬أيها ال َحبر! أرني ما تستطيع أن تراه ببصيرتك وأعجز أنا عنه‪ ،‬العالم‬
‫يعميني‪ ،‬وأنا خائفة من الغد‪ ،‬خائفة من نفسي‪ .‬كان كل حسيدي يسكب أكثر أمنياته‬
‫ومخاوفه سرية على صفحة الورق‪ ،‬راجيًا الشفاء والبركات وال ِهداية‪ .‬إلى زعيمنا‬
‫ي‬
‫عمرا مديدًا وطيبًا‪ .‬لكن السيدة رينر نبهتني بأن عل ّ‬
‫ً‬ ‫ومعلمنا ورافنا عساك تعيش‬
‫ألمر‪ ".‬سأخسر‬
‫ٌ‬ ‫ي شيء سيقوله ال َحبر‪" .‬إن بركة الحبر‬ ‫أن أكون مستعدة لتنفيذ أ ّ‬
‫ّ‬
‫والشك لن‬ ‫أمرا مخيفًا على أيّة حال‪ّ .‬‬
‫لكن القلق‬ ‫حرية االختيار‪ ،‬والتي كان امتالكها ً‬
‫يخطرا على بالك حالما يتخذ ال َحبر القرار عنك‪ .‬وهذه هي ِهبة الوثوق به‪.‬‬
‫رغم ذلك فإنني أفصحت في رسالتي عن خوفي من فعل ما ائتمرت بفعله‪ .‬فهل‬
‫كنت أتأمل أن يقوم بإزالة تلك المخاوف وأن يساعدني لكي أذعن أمام "قدري"؟‬
‫صا يمنحني إياه؟ هل فهمت بأنني كنت بالسؤال أتخلى‬ ‫هل كنت أتمنى ا ً‬
‫متيازا خا ً‬
‫عن سلطتي على حياتي؟ لم أعرف ذلك ولن يتسنى لي معرفته البتّة‪ .‬كتبت في‬
‫رسالتي‪" :‬إنني أعرف بأن من واجب الفتاة الحسيدية أن تتزوج‪ ،‬إال أنني ال أشعر‬
‫أنني مستعدة‪ ".‬ثم واصلت‪" :‬فأنا أرغب بالسفر وبالدراسة‪".‬‬
‫حين كان السكرتير يقبض على عروة باب مكتب ال َحبر إلدخالي داهمني ذلك‬
‫الشعور بالخوف الذي توقعته‪ .‬كانت الفكرة الوحيدة الواضحة في رأسي هي أنه‬
‫ت اللحظة‪،‬‬
‫ي تقمص سلوك الخشوع الالئق‪ .‬وحالما دخلت من الباب‪ ،‬تجمد ِ‬
‫كان عل ّ‬
‫رفع الحبر عينيه من فوق مكتبه فلمحت بهما شيئًا أشبه بصبر ّ‬
‫أبوي‪ .‬وربما هذا ما‬
‫ناظرا من فوق‬
‫ً‬ ‫منح نفسي بعض السكون‪ .‬كان يمسك برسالتي وكأنه قد قرأها للتو‪،‬‬
‫نظارته البالستيكية البيضاء التي خفضها على أنفه تحت عينيه الزرقاوين اللتين‬
‫كان ينظر إل ّي من خاللهما‪ .‬في تلك اللحظات‪ ،‬تكون أنت المح ّط الوحيد الهتمام‬
‫تركيزا فوق بشري‪ ،‬ونظرةً متكاملة تجعل الناس كاملين‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫إن للحبر‬‫ال َحبر‪ّ .‬‬
‫كبيرا وتغلب عليه البساطة‪ .‬اصطفت الكتب على الرفوف التي امتدت على‬
‫المكتب ً‬
‫علَتها أكوام من األوراق‪ .‬وبجانب‬
‫طول أحد الجدران‪ ،‬أما منضدته المخدشة فقد َ‬
‫المنضدة وضع كرسي خشبي قديم على نحو عكسي يشعر باأللفة‪ ،‬ليكون بمواجهته‪.‬‬
‫خطوت لألمام‪ ،‬توقفت واستجمعت نفسي‪ ،‬ثم وقفت منتصبة أمام ال َحبر مباشرة‪.‬‬
‫"‪ "!Zitz .Zitz‬خاطبني الحبر وأشار إلى الكرسي‪ .‬اجلسي‪ .‬اجلسي! إال أن السيدة‬
‫ي أن أتجاهل‬
‫رينر كانت قد نبهتني إلى أن الحاخام سيطلب مني الجلوس وأن عل ّ‬
‫ما قال‪ ،‬ألنه ينبغي على الحسيدي أن يقف في حضرة َحبره‪.‬‬
‫وهكذا انتصبت مثل جندي‪ .‬غير أنني عند وقوفي في حضرته لم أستطع أن أرى‬
‫ً‬
‫رمزا‪.‬‬ ‫ي بكل عطف‪ ،‬إنما رأيت‬
‫مجرد رجل مسن بشخصه‪ ،‬ينتظرني وينظر إل ّ‬
‫رأيت كل حركة اللوبافيتش بكامل تاريخها الممتد إلى شنيور زالمان‪ ،‬مؤسسها الذي‬
‫عاش في القرن الثامن عشر‪ .‬رأيت كل األحبار منذ ذلك الحين وكل الحاسيدم‪ .‬كان‬
‫ي ومن خاللي‪ ،‬عبر عيون ال َحبر‪ ،‬طالبًا مني أن أكون‬
‫كل عالم الحاسيدم ينظر إل ّ‬
‫على قدر تحديهم‪ ،‬وأن أرقى إلى مكانتهم وأمنح نفسي لل َحبر‪ ،‬وهم ما فتئوا يقدمون‬
‫ي الحب مع‬
‫لي االحتضان والدعم‪ .‬كان هناك سبعة أجيال من األحبار يعرضون عل ّ‬
‫بصيرتهم النافذة إلى الغيب في مقابل عمائي‪ -‬سيبيّنون لي غاية الرب التي وضعها‬
‫من أجلي‪ .‬سيبينون لي شكل الغد‪ ،‬ويوضحون لي ت َ ِبعات كل خطوة من خطواتي‬
‫المقبلة قبل أن أتخذها‪ ،‬وسينيرون دربي‪ .‬حينها لن أتعثر في خطوي‪ .‬أيها الحبر‪،‬‬
‫أيها األب‪ ،‬هاك مخاوفي‪ ،‬هاك رغباتي الغريزية‪ ،‬أزلها عن كاهلي وساعدني أال‬
‫أكون نفسي‪ ،‬اجعل الحسيدية منزلي‪.‬‬
‫ثم شرع بالتكلم‪ .‬فقال‪" :‬ستشيدين بنيان أداي آد" أي صر ًحا أبديًا من منزل وعائلة‬
‫يهودية‪.‬‬
‫أمرا‪.‬‬ ‫كان ’بنيان أداي آد‘ هو مباركة الحبر للزواج‪ .‬فغرت فمي‪ّ ،‬‬
‫إن المباركة تعني ً‬
‫أسافر‪ ،‬أدرس‪ .‬لست متهيئة‪ ،‬ليس لدي الشعور أو الرغبة‪ .‬كان عقلي يدور‪ .‬لقد‬
‫أمرني ال َحبر بالزواج‪ .‬إنني أحاكي الحسيديين منذ عامين وما تزال تداهمني‪ ،‬في‬
‫لحظات السكون‪ ،‬شكو ٌك حقيقية‪ ،‬لكنني في تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام ال َحبر‬
‫انصهرت ونسيت كل شيء‪ ،‬فقد كان أكثر من مجرد رجل‪ ،‬كان موجة جارفة‪.‬‬
‫إن مصيري كفتاة حسيدية بالزواج قد تقرر وتم ختمه‪ .‬ثم سيأتي دور الخاطب الذي‬
‫يوفق بين األقران‪ .‬سنبني بيتنا‪ ،‬أنا وزوجي‪ ،‬كدليل فخر بأمرال َحبر‪ .‬سنشيد صر ًحا‬
‫أبديًا‪ .‬لكن األمر كان ذا وجهين؛ إذ إن األمر كان بركة‪ .‬سنكون زو ًجا ناج ًحا ألن‬
‫ال َحبر قد باركنا‪ ،‬ويمكنني أن أستأصل لألبد الفتاة المتمردة الحسيدية التواقة‬
‫ورغباتها الشاذة‪.‬‬
‫س َعل الحبر في منديله‪ ،‬وبدا صوت السعال إشارة ً للسكرتير من أجل أن يفتح الباب‪.‬‬
‫خاطبني السكرتير‪" :‬ليا‪ ،‬حان وقت خروجك!"‬
‫نظرت لل َحبر من أجل أن يرخص لي بالمغادرة‪ ،‬كانت هناك لحظة بيني وبينه‪ ،‬ثم‬
‫أومأ برأسه‪ .‬فتراجعت للخلف كما يجدر بحسيدي أن يفعل‪ ،‬من دون أن أدير ظهري‬
‫لل َحبر‪ ،‬مثل جندي دائم االستعداد تخلى عن رغباته‪ ،‬ولم يبدأ حتى بتشكيل إرادته‬
‫الخاصة‪ .‬بهذه الطريقة تراجعت‪ ،‬ناسيةً صراعي مع هذا المجتمع وقطيعته مع‬
‫ي عن هسيس أمي‪ .‬وتحت أنظاره تراجعت للوراء وأنا أحمل‬
‫جيرانه‪ ،‬وصا ّمة أذن ّ‬
‫معي مهمتي‪ ،‬غايتي التي أبقتني ذاهلة‪ ،‬مستقبلي القريب‪.‬‬
‫الفصل العاشر‬

‫أوستن‪ .‬في الصباح يستيقظ ليفي ويجمع ثيابه ويتوجه إلى الحمام بمنامته ويقفل‬
‫الباب خلفه‪ .‬أتذكر تلك الفتاة المحتدة الملتفة بمنشفتها في مينيسوتا وبصرختها "إن‬
‫حيائي هو أمام الرب!" وال أحتج‪ .‬أنتظر خارج الباب المقفول‪ ،‬بيد أني أنشغل‬
‫بالتفكير بينما أنا واقفة هناك‪ :‬على الرغم من حضور الدين في حياتنا‪ ،‬فقد أصبحنا‬
‫أحرارا بقدر أكبر‪ .‬لكن خلفي‪ ،‬خلف هذا الباب المغلق‪ ،‬ما يزال هناك الصرير‬
‫ً‬
‫سك بالحياء ح ّد‬
‫لم هم شديدو التم ّ‬ ‫المكتوم لصنبور الدش‪ ،‬صوت المياه المندفعة‪َ .‬‬
‫ّ‬
‫التزمت؟ أتمنى لو ّ‬
‫أن بإمكاننا تفريش أسناننا وارتداء ثيابنا معًا‪ِ .‬ل َم ليس باستطاعتنا‬
‫للمس‬
‫ّ‬ ‫التصرف بحميمية غير متكلفة حين نكون سوية؟ ِلم يبدو أنه ليس بحاجة‬
‫العابر؟ أريده أن يعانقني‪ ،‬عناقات دافئة وقصيرة‪.‬‬
‫أخبر نفسي بأن وجودي مع ليفي يعطيني إحساس المنزل‪ ،‬إال أنني أحتاج أن أتيقن‬
‫من دوام هذا الشعور‪ .‬لكن كيف يمكنني تحقيق ذلك بينما ال يمكنني لمس خط عموده‬
‫فورا على التصور‬
‫الفقري عبر ثيابه متى ما شئت وأنا بتلك اللمسة سأكون قادرة ً‬
‫الدقيق للطريقة التي يدير بها ظهره تحت الدش‪ ،‬وسأتخيل كيف يغلق عينيه ويرفع‬
‫ي ساقيه المبللتين حافات‬
‫وجهه نحو رشاش الماء‪ ،‬وكيف ستشكل العضالت في ربلت ّ‬
‫بزوايا تحت تيار الماء الجاري؟ بعد أن نفترق كل صباح‪ ،‬أسير عبر الحرم الجامعي‬
‫وأحيانًا يقع نظري للحظات وجيزة على جسد ذي منحنيات‪ ،‬أو فتاة تقلب شعرها‬
‫خجال حين أفعل ذلك‪ .‬أستمر بالسير فحسب‪،‬‬‫ً‬ ‫تحت ضوء الشمس‪ .‬لم أعد أح ّمر‬
‫أحس أقلّه بذلك الشعور ناحية ليفي‪ ،‬لكن كيف أتمكن‬
‫ّ‬ ‫وتوق مبهم يغمرني‪ .‬أريد أن‬
‫من ذلك عندما ال تكون حتى رؤيته وهو يستبدل ثيابه في الصباح مشهدًا مألوفًا؟‬
‫شعورا ال أستطيع اإلمساك به‪ ،‬وحتى‬
‫ً‬ ‫إنه يصبح شخصية هاربة أخرى‪ .‬لقد أصبح‬
‫وآخر‪.‬‬
‫َ‬ ‫آخر‪،‬‬
‫لو استطعت فتح هذا الباب المقفول‪ ،‬فسأواجه بابًا َ‬
‫في إحدى الليالي‪ ،‬أعبر الخط الفاصل وأحشر جسدي إلى جانبه على السرير‬
‫الضيق‪ .‬أدس نفسي في حضنه وألّف يده النائمة حولي‪ ،‬ثم أرقد هناك وأجفاني‬
‫مسكونة باألرق‪ .‬أريد حضنًا دافئًا أكثر رقة ويناسب حجمي‪ ،‬فقد كان جسده متصلبًا‬
‫وضخ ًما وخشنًا‪ِ .‬ل َم ال يتالشى هذا الفراغ؟ أشبك أصابعي بأصابع يده الغافية‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫يده كبيرة وخشنة‪ ،‬وذراعه عريضة وثقيلة للغاية وتضغط على صدري‪ِ .‬ل َم أنا هنا؟‬
‫كوكب آخر‪ .‬أحاول أن أتنفس‪ .‬ال أستطيع الشعور بشيء سوى‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫كأن هذا السرير‬
‫الحاجة العميقة العميقة ألن أشعر‪ ،‬وها أنا بدأت ألومه على حاجتي هذه‪.‬‬
‫الثامن عشر من أيلول‪ .1975 ،‬خمسة أسابيع بعد زفافنا‪ .‬يرجع ليفي للمنزل من‬
‫الجامعة ويلقي على المنضدة بنسخة من صحيفة أوستن أمريكان ستيتسمان‪ .‬كان‬
‫عنوان الصحيفة الرئيسي‪ :‬إلقاء القبض على باتي هيرست‪ .‬اختطفت باتي قبل تسعة‬
‫شهرا‪ ،‬عقب تركي للمنزل مباشرة ً‪ .‬ثم اعتنقت قضية آسريها‪ ،‬وشاركتهم‬
‫ً‬ ‫عشر‬
‫جرائمهم‪ .‬تشغل باتي تفكيري طوال اليوم‪ ،‬وعلى مدار األشهر التالية ال تتالشى‬
‫صورتها العالقة في ذهني وهي مقيدة باألصفاد‪ .‬وفي لحظات تطغى عليها الغرابة‪،‬‬
‫أفكر‪ :‬يالها من فتاة مسكينة ومخدوعة‪ ،‬إنها تقبع في الحبس اآلن‪.‬‬
‫في الصيف التالي‪ ،‬حزيران ‪ ،1976‬وفي الذكرى المئوية الثانية الستقالل البالد‪.‬‬
‫في متجر البقالة وفي محطات الوقود المنتشرة على طول الطريق إلى داالس رأينا‬
‫مجسمات مصغرة لجنود المنتمان (‪ )minutemen‬وأعال ًما أمريكية صفّت على‬
‫طاوالت المحاسبة‪ .‬مكثنا مع والدي ليفي؛ إذ غالبًا ما يستشير ليفي والده على‬
‫وقدرا‬
‫ً‬ ‫الهاتف بشأن خططه الدراسية والمهنية‪ .‬اقتنت والدة ليفي من أجلنا صحونًا‬
‫جديدًا للطهي‪ ،‬ووضعتهم في صندوق مغلق لكي نستطيع أن نطهو طعامنا الحالل‬
‫ونتناول وجباتنا سوية‪ .‬كان منزلهم مرتبًا ويلمع من فرط النظافة‪ .‬لكن بدافع من‬
‫قوة اجتذاب غامضة تنبثق حالما نصل إلى داالس‪ ،‬وا ً‬
‫متثاال للشريعة‪ ،‬وبدافع الذنب‬
‫أيضاً‪ ،‬أتوجه لزيارة أمي حالما تطأ قدمي المدينة بعد أن أترك ليفي مع والديه‪ .‬إنها‬
‫تعيش بمفردها اآلن‪ ،‬فقد انتقلت آمي من المنزل وغادرت ديبي منذ أمد بعيد‪ .‬كما‬
‫مؤخرا بنقل أبي إلى شقة أخرى قريبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫قامت أمي‬
‫اتصلت بي أمي قبل بضعة أسابيع‪ ،‬وبصوت رتيب وقوي مثل مذيع نشرة جوية‪،‬‬
‫أبلغتني أخبار طالقها من أبي‪ .‬تنقشع السحب من السماء‪ .‬يغادر أبي‪ .‬كان حديثًا‬
‫ت فيه على ذكر انقضاضه عليها خالل حلقة عالج‬
‫مقتضبًا استمر لدقيقة لم تأ ِ‬
‫جماعي في المستشفى النهاري (‪ ،)the day hospital‬أو على ذكر الممرضين‬
‫الذين هرعوا لحمايتها‪ ،‬أو الطبيب الذي قال بأن على أبي أن يتعلم العيش في العالم‬
‫من جديد‪ ،‬وربما ينبغي عليه فعل ذلك من دون ضغوطات الحياة الزوجية‪ .‬كما لم‬
‫تذكر بأنها حصلت له على تمويل إعاقة‪ ،‬وجهزت شقته باألثاث‪ ،‬وساعدته على‬
‫االنتقال‪ .‬قالت بأنها لم تؤمن بالطالق‪ ،‬وأنها ستفعل ما بوسعها من أجل أن تتحسن‬
‫حالته‪ ،‬فقد عاشا معًا في زواج دام لسبعة وعشرين عا ًما‪.‬‬
‫أركن السيارة خلف سيارتها الماليبو الزرقاء القديمة‪ ،‬السيارة التي تعلمت فيها‬
‫القيادة‪ ،‬بجوار شجرة الحور التي كنت أتسلقها ألصعد على السطح حيث كنت أقرأ‬
‫وأحلم‪ .‬طالت الشجرة وازدهرت‪ ،‬غَز َرت أوراقها التي تتخذ شكل القلب‪ ،‬وغلظ‬
‫عا ومنزا ًحا‪،‬‬
‫جذعها الذي كان ناع ًما‪ .‬بيد أن البيت تقلص حجمه‪ .‬كان األساس متصد ً‬
‫سرة‪ .‬في الطرف البعيد من الرواق يجلس‬
‫أما سقيفة الرواق فقد كانت مائلة ومك ّ‬
‫ً‬
‫مقفال‪،‬‬ ‫حصاني الهزاز القديم المتسخ على زنبرك صدئ‪ .‬لم يكن الباب األمامي‬
‫فخطوت للداخل‪.‬‬
‫وفي محيط مجال رؤيتي‪ ،‬يصعد شبح الفتاة ذات األربع سنوات التي كنتها على‬
‫الخياطة وذا خصر‬
‫قصيرا منزلي ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سرواال‬ ‫الحصان الهزاز‪ .‬ترتدي الفتاة الصغيرة‬
‫مطاطي مع قميص بال أكمام‪ .‬إنها حافية‪ ،‬ويبدو شعرها الطويل ذو اللون الرملي‬
‫كما لو أنه لم يالمس فرشاة ً منذ مدة‪ .‬كانت ساقاها سمراوتين من أثر الشمس‬
‫وتغطيهما آثار لدغات البراغيث‪ .‬كانت أصغر بكثير من أن تصل أقدامها لمساند‬
‫األقدام الخشبية‪ ،‬لذا فإنها تتوازن على المساند بالوقوف على أطراف أصابعها‬
‫وتنحني لألمام من أجل أن تمسك بالمقابض المصبوغة باللون األحمر‪ .‬إنها تجد‬
‫بهجة في سماع الصرير الموسيقي الذي يصدر عن الزنبرك‪ ،‬فتهز نفسها حتى‬
‫تدخل في غشاوة بصرية من ألوان متأرجحة‪ .‬إنني أتذكر اآلن‪ ،‬كم كنت مطمئنة‬
‫حينها‪ ،‬على ذلك الحصان الهزاز‪ ،‬كنت أعدو بالحصان بسرعة مذهلة تصيبني‬
‫ي وهذا المنزل‪.‬‬
‫ي وأخت ّ‬
‫بالدِوار بعيدًا عن والد ّ‬
‫يبدو أن كل تراجع للخلف هو سقوط في الذاكرة‪ ،‬وكل عودة للوضع المستقيم هي‬
‫عودة إلى الحاضر‪ ،‬أما عندما تميل لألمام‪ ،‬فتلك غطسة في مستقبلها‪ ،‬تمنحها لمحةً‬
‫خاطفة عن حياتها المتخيلة التي ستكون حياتي‪ ،‬إن كانت ستواصل النظر والتشبث‪.‬‬
‫وعندما تصل إلى أقصى نقطة في األمام تفقد التوازن‪ ،‬وعندها تبتسم ابتسامة شبه‬
‫جامحة‪.‬‬
‫أتذكر إثارة ذلك التوقف المسبب للدوار عند نقطة النهاية‪ ،‬قبيل أن تجرني المقاومة‬
‫ألقف عائدة للحياة‪ ،‬كما كانت‪ .‬كنت متيقنة حينها من أنني أعرف حصاني‪ .‬كنت‬
‫أعرف موسيقاه‪ ،‬وأعرف الحياة المتخيلة أكثر مما أعرف الحياة الحقيقية‪.‬‬
‫و في داخل المنزل‪ ،‬في المدخل المظلم‪ ،‬يتسلل شبح الطفلة إلى الداخل قبلي‪ .‬تجلس‬
‫عند البيانو القديم المغبر في الغرفة األمامية‪ ،‬تفتح الغطاء وتعدل كتاب بيانو‬
‫صا للتالميذ‪ ،‬وببطء تنتقي لحن "ثالثة فئران عمياء" بعد جولة محيرة‪ .‬وهاهي‬
‫مخص ً‬
‫پنكي‪ ،‬مدبرة المنزل المحبوبة‪ ،‬تضع يدها على كتف الفتاة‪ ،‬وتستمع لجهودها‬
‫الخائبة‪ ،‬لكن التشجيع والدفء يسري للفتاة عبر تلك اليد‪ ،‬قبل أن تغادرنا‪ ،‬نحن‬
‫الطفالت الثالث الكفيفات‪.‬‬
‫لكن الفتاة تفلت اللحن في منتصفه‪ .‬تعبس وتتوجه إلى الرواق المظلم‪ .‬كانت باألصل‬
‫محاصرة ً بعاطفة مفزعة نحو أمها‪ .‬إنها تتعلم باألصل أن تحاول أال تشعر‪ ،‬ألن‬
‫عالم الشعور ينتمي إلى أمها‪ .‬إنها تريد باألصل ان تركض نحو أمها وأن تهرب‬
‫بعيدًا عنها في الوقت ذاته‪ .‬ليتني أستطيع أن أتذكر أمي وهي تضمني‪ .‬أهز رأسي‬
‫حتى أجعل شبح طفولتي يختفي‪.‬‬
‫مهجورا‪ ،‬بيد أن الغريب في األمر هو أن معظم األكوام قد اختفت‪.‬‬
‫ً‬ ‫يبدو المكان‬
‫يتناهى إلى سمعي صوت من الغرفة الخلفية فأنادي‪" :‬أماه؟" وعلى الفور أكره‬
‫النبرة الحزينة في صوتي‪" .‬أماه؟"‬
‫في نهاية الرواق‪ ،‬ادفع باب الغرفة فأجدها في سريرها‪ ،‬ترتجف من شدة األسى‪.‬‬
‫كان القنوط يستولي على كامل جسدها‪ ،‬فكانت تنتحب وسط مالءاتها وبطانياتها‬
‫وحشة‪ .‬تراني وتمد يدها‪.‬‬
‫تكومت حولها مثل تالل م ِ‬
‫التي ّ‬
‫أخاطبها‪" :‬أماه؟ ما األمر؟"‬
‫تقول وهي تنتحب‪" :‬إنني وحيدة‪ ".‬ليس من الصواب أن يتو ّجب عليها أن تصبح‬
‫وحيدة‪.‬‬
‫أقترب إليها‪ ،‬تمسك بي وتلوذ باكيةً إلى صدري‪ ،‬أشعر بخدها يالمس معدتي‪ .‬تبكي‬
‫وتصيح باسمي "ليزا‪ ،‬ليزا!" أقف عاجزة تما ًما‪ ،‬ال يدي تطاوعني على لمسها وال‬
‫أنا قادرة على االبتعاد عنها‪ ،‬تتنازعني حاجتان ماستان إحداهما تحثّني على المض ّ‬
‫ي‬
‫ي وأن أمنحها كل شيء‬
‫قد ًما‪ ،‬وأخرى على لرجوع‪ .‬أرغب أن أحتضنها بين ذراع ّ‬
‫ضا بأن أدفعها بعيدًا عني وأهرب‪.‬‬
‫احتجته منها يو ًما‪ ،‬لكنني أرغب أي ً‬
‫لكنني ال أستطيع المغادرة‪ .‬أتمتم بيأس كال ًما أخرقَ وعديم الجدوى‪" .‬ال بأس"‬
‫ي‪.‬‬
‫أقول لها‪ .‬ألمس كتفها بأطراف أنامل إحدى يد ّ‬
‫تتشبث بي وهي تنتحب‪.‬‬
‫أقول لها‪" :‬ال تبكي‪ .‬ال تبكي‪".‬‬
‫إنها تلطخ ثوبي بالدموع والمخاط‪ ،‬وتقول‪" :‬ليزا‪".‬‬
‫لكنني لست ليزا‪ .‬ليس بعد اآلن‪ .‬ال يمكنني فعل هذا‪.‬‬
‫ي مستسلمة‪ ،‬أتراجع‪ ،‬أقول‪" :‬كال‪ ،‬ال أستطيع‪ .‬كال‪.‬‬
‫أسحب نفسي بغتة وأسبل يد ّ‬
‫إنني آسفة‪ .‬كال‪".‬‬
‫أستدير وأهرب‪.‬‬
‫أخرج السيارة من موقف ركنها إلى الشارع بسرعة مجنونة‪ ،‬كما لو أن شب ًحا‬
‫يطاردني‪ ،‬وكما لو أن باستطاعتي اإلفالت منه‪ .‬سيزول المخاط من ثوبي بعد‬
‫غسله‪ ،‬لكن‪ ،‬وقبل أن أعود إلى ليفي‪ ،‬فقد تسربت دموع أمي من خالل الثوب ومن‬
‫خالل بشرتي واستقرت في داخلي‪ ،‬وأصبحت تلك الدموع وجعًا خياليًا ال يغادر‬
‫صدري‪ .‬ليزا!‬
‫أعود إلى أوستن‪ ،‬حيث األستديو الموسيقي للسيد بول أوليفسكي والذي كانت تغطيه‬
‫رفوف مكتظةً بالكتب الموسيقية‪ ،‬أما المساحة األرضية‬
‫ٌ‬ ‫من األرض وحتى السقف‬
‫فقد كان يشغلها بيانو صغير وحافظتا تشيلو وثالثة كراسي وأربعة حوامل نوتات‬
‫موسيقية‪ .‬يمتاز السيد أوليفسكي‪ ،‬قصير القامة وخشن األسلوب‪ ،‬بوقفته الصلبة التي‬
‫يباعد فيها بين قدميه‪ ،‬ووجهه الذي يشبه وجه كلب البلدغ‪ .‬ما أزال أجهل أنه درس‬
‫ضا بعزف‬
‫مع بياتيغورسكي وكاسالس‪ ،‬وعزف منفردًا مع يوجين أورماندي وقام أي ً‬
‫منفرد في قاعة كارنيجي‪ ،‬وأجهل بأن طالبه منتشرون على طول البالد وعرضها‬
‫كعازفي كمان محترفين وقادة أوركسترا وأساتذة موسيقى‪ .‬فهو بنظري لم يكن‬
‫سوى السيد أوليفسكي‪ .‬كان السيد أوليفسكي قد أوقف لتوه بندول اإليقاع‬
‫(المترونوم)‪ ،‬وأنا أتنفس بصعوبة‪ ،‬القوس في يدي‪ ،‬والتشيلو مستند على كتفي‪.‬‬
‫تخرجت في كانون األول الماضي‪ .‬لم أذهب إلى مراسم التخرج‪ ،‬ولم أقم بأي‬
‫شتَّتة والفاترة‪ .‬اختزلت دراستي‬
‫إعالن‪ ،‬عدا مكالمة واحدة ألمي ألجمع تهانيها الم َ‬
‫الجامعية في مجموعة من الكتب وضعت في ركن الرف السفلي من خزانة الكتب‬
‫الخشبية المثبتة على الجدار في مكتب ليفي‪ ،‬كتب عن تاريخ الفن والتشريح الفني‬
‫والتاريخ واألدب اإلنكليزي‪ ،‬وشهادتي التي بالكاد تصفحتها ثم حشرتها في أحد‬
‫أدراج الملفات‪ ،‬ورسوماتي التخطيطية الحيّة التي لففتها في أنبوبة ووضعتها في‬
‫الركن‪ .‬عثرت على وظيفة سكرتارية في قسم الهندسة تعيننا إلى حين انتهاء ليفي‬
‫من دراسته؛ فلم أكن أستطيع حتى أن أتخيل متابعة حياتي المهنية‪ .‬لكنني سجلت‬
‫في الدراسات ما بعد البكلوريوس فقط من أجل إكمال دراسة التشيلو‪ .‬تشبثت بهذا‬
‫الشيء وحده‪ .‬لقد مضت حتى اآلن سنتان على عملي مع السيد أوليفسكي‪ ،‬إال أن‬
‫األحاديث نادرة بيني وبينه‪ .‬فالموسيقى هي كل ما يشغل هذا المكان‪.‬‬
‫"أتعلمين‪ ،‬أود أن أراك تخضعين لتجربة أداء لسمفونية أوستن‪ ".‬يقول لي‪.‬‬
‫فنظرت له‪ ،‬مدهوشة‪ ،‬وأنا أقول‪" :‬ماذا؟"‬
‫فيجاوبني‪":‬يمكنك الحصول على مكان فيها‪ .‬ستكون تجربة جيدة‪".‬‬
‫أعلم‪ ،‬منذ أن كنت في المدرسة الثانوية‪ ،‬ماذا يعني أن تعزف في أوركسترا‪ ،‬أن‬
‫تتحرك يدي التي تحمل القوس كما لو أنها مربوطة بعصا المايسترو‪ .‬أتذكر ماذا‬
‫يعني أن تصبح جز ًءا من تلك الماكنة الموسيقية‪ ،‬حيث تتحرك جميع األجزاء مع‬
‫نفس اإليقاع الذي تفرضه عصا المايسترو‪ ،‬ومع نفس الضربة وبنفس االنغماس‬
‫في النغم المسيّر‪ .‬في ليلة السبت الماضي ذهبت إلى سيمفونية أوستن‪ .‬ارتدى ليفي‬
‫سترة فوق بنطلونه الجينز‪ .‬وعلى المنصة‪ ،‬بدا الرجال فخمين في بدالت التوكسيدو‪،‬‬
‫بينما ارتدت النسوة بناطي َل من الشيفون األسود‪ .‬عزفت الفرقة سيبيليوس‪ ،‬أو‬
‫ي اللتين يغطيهما‬
‫الساحر‪ .‬حاولت تخيل نفسي واحدة منهم‪ ،‬أثبّت التشيلو بين ركبت ّ‬
‫الشيفون‪.‬‬
‫بناطي ٌل‪ .‬ارتدت النسوة بناطيل‪ .‬كما إنهم يعزفون في ليلة الساباث‪ .‬تدركني البصيرة‬
‫بغتة‪ .‬فأهز رأسي‪.‬‬
‫ضا من الموسيقى ستكون صعبة‪ ،‬لكنك‬
‫يقول لي السيد أوليفسكي‪ِ " :‬ل َم ال؟ أعلم أن بع ً‬
‫ستبدأين في مؤخرة قسم التشيلو‪ ،‬وأعتقد بأنك تستطيعين فعل ذلك‪".‬‬
‫"ال أستطيع‪ "،‬أقول‪ ،‬وما أزال أهز برأسي‪.‬‬
‫يرفع أستاذي صوته‪ ،‬ويقول لي‪" :‬بإمكانك فعل هذا‪".‬‬
‫ألمس خاتم زواجي‪ .‬لقد وقّعت عقدًا من نوع مختلف‪ .‬أقول له‪" :‬إنك ال تفهم‪".‬‬
‫تجرفني الموسيقى بعيدًا‪ .‬أعجز عن إيقاف نفسي‪ ،‬أقول‪" :‬كال‪ .‬كال‪".‬‬
‫بعد مضي أسبوع واحد‪ ،‬وتحديدًا في الساعة الثالثة من يوم الثالثاء‪ ،‬يخطو السيد‬
‫أوليفكسي خارج االستوديو الخاص به الكائن في بناية الموسيقى ويجول بنظره في‬
‫الرواق‪ ،‬ثم ينظر إلى ساعته‪ .‬في المنزل في غرفتي‪ ،‬نثرت على السرير من حولي‬
‫أوراق النوتة الموسيقية مثنية األركان‪ ،‬وكتب التمرين المليئة بمالحظات كتبها بقلم‬
‫الرصاص معلمي بخط يده المستدق األطراف‪ .‬كنت أقرأ و"أستمع" للموسيقى‪.‬‬
‫أنهض واستل القوس من حقيبة التشيلو‪ ،‬أدير البرغي المعدني ثماني األضالع الذي‬
‫ً‬
‫مترهال‪ .‬ألملم أوراق النوتة‬ ‫في نهاية القوس‪ ،‬وأرخي شعر الحصان حتى يصبح‬
‫من السرير‪ ،‬وأقحمها جميعًا داخل الجيب الخارجي لحقيبة التشيلو‪ ،‬ثم أغلق عليها‬
‫السحاب‪ .‬ثم أفتح الحقيبة وأخرج التشيلو‪.‬‬
‫بروية في حضني‪ .‬تستقر‬
‫أجلس في الكرسي الذي يجاور السرير وأضع التشيلو ّ‬
‫قوقعة التشيلو في ثنية ذراعي‪ .‬أنحني لألمام فيصبح جسدي مثل قبة فوق منتصفه‬
‫ي وأخفض جبيني‪ ،‬ثم أمرر أناملي على امتداد الضلع‬
‫المفتوح والرنان‪ .‬أغلق عين ّ‬
‫ومصقوال‪ ،‬ومن عند الخصر تكمل أناملي تحسس‬‫ً‬ ‫ً‬
‫جميال وناع ًما‬ ‫المدور‪ ،‬كان‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫سنوات من الموسيقى‪ :‬فيفالدي وباخ‪ ،‬سان صانز‪ ،‬فوريه‪ ،‬برامز‪ ،‬فان‬ ‫الحوض‪.‬‬
‫جونز‪ ،‬فيبر‪ ،‬هايدن‪ ،‬موزارت‪ ،‬بيتهوفن‪ ،‬كل تلك األصوات دفعة واحدة تشتبك مع‬
‫أوركسترا متصاعدة ومع الدقات المنتظمة للمترونوم‪ .‬يصيح السيد أوليفسكي بحدّة‪:‬‬
‫مرة أخرى‪ .‬مرة أخرى‪ .‬لم يخبرني أحد بأن أفعل هذا‪ ،‬ال ليفي‪ ،‬وال أي راف‪ .‬وال‬
‫ينبغي على أحد أن يفعل ذلك‪.‬‬
‫انتصب في جلوسي‪ .‬أدير برغيًا يقع في أعلى عنق التشيلو الطويل واألملس وأرخي‬
‫وتر نغمة ‪ C‬خفيضة الحدة إلى الصمت‪ .‬أفعل األمر ذاته مع برغي النغمة الرنانة‬
‫‪G‬؛ والنغمة الدافئة المنسابة ‪D‬؛ والنغمة الصادحة ‪ ،A‬وهذا ما سمح لي أن أصعد‬
‫ش ِت ّتة‪ .‬ثم‬
‫الهواء المخلخل‪ ،‬حتى أفرغت جميعها من بكائها وصيحاتها وأغانيها الم َ‬
‫جلست‪ ،‬ويدي على الدفء المصقول‪ .‬تمر سيارة ٌ‪ .‬تتكتك الساعة‪ .‬لحظات مديدة‬
‫خالية من الموسيقى‪ .‬أنهض‪ ،‬متثاقلة‪ ،‬أدخل التشيلو في الحقيبة وأغلق سحابها‪.‬‬
‫أحشر الحقيبة في نهاية الخزانة خلف صف من التنورات الحسيدية المعلقة‪.‬‬
‫ّ‬
‫يحك رأسه‪ .‬ثم يعود‬ ‫يجول السيد أوليفسكي بنظره على الرواق ثم يحملق بساعته‪.‬‬
‫إلى االستوديو‪ ،‬ويحزم حقيبة أوراقه‪ ،‬ثم يغادر‪.‬‬
‫ولم أره مجددًا أبدًا‪.‬‬

‫أطفا ٌل‪ .‬أطفا ٌل في متجر البقالة وفي الصيدلية‪ ،‬وفي عربات األطفال التي تدفعها‬
‫األمهات في الشارع‪ .‬أطفال على صدور أمهاتهم‪ ،‬على المصاطب التي تنتشر في‬
‫أنحاء الحرم الجامعي‪ ،‬في اإلعالنات وعلى أغلفة المجالت عند طاولة الحسابات‪.‬‬
‫أطفال لطفاء‪ ،‬أطفال بشعون‪ ،‬أطفال فطنون وآخرون بليدون‪ ،‬منهم من يسيل لعابه‬
‫ومنهم النائمون‪ ،‬منهم من يتشبثون بأحضان أمهاتهم أو يناغون أو يصرخون‪ .‬إن‬
‫لقب نبي ٌل‪ ،‬غايةٌ‪،‬‬
‫هذا المنفذ الخالّق الوحيد المتروك لي كأمرأة حسيدية له َو إغرا ٌء‪ٌ ،‬‬
‫مستقب ٌل‪ ،‬حيّز االحتمال الوحيد المتاح لي‪ .‬من دون مهنة‪ ،‬من دون موسيقى‪ ،‬من‬
‫دون أصدقاء‪ ،‬وبال أطفال‪ ،‬ما هو زواجي‪ ،‬ما هي حياتي‪ ،‬ماذا تبقى لي‪ ،‬ما الذي‬
‫قمت بفعله؟ يتالشى خوفي من الحمل‪ ،‬كاشفًا عن فجوة عميقة فَ ّرت منها كل‬
‫األحالم‪ .‬إنني أرغب بطفل قوي نائم في تلك الفجوة‪ ،‬دافئ وناعم ومطيع ويمأل‬
‫الخواء‪ .‬في أحد الصباحات أسند رأسي الذي يغطيه الحجاب على الطاولة وأرفض‬
‫أن أقوم‪ .‬بيت وعمل ثم عمل وبيت‪ ،‬كل هذا يبدو باهتًا وذا بعدين‪" .‬إنني متعبة‪،‬‬
‫متعبة للغاية" أشكو لليفي‪.‬‬
‫في ظهيرة ذلك اليوم‪ ،‬يقرع الباب فتى التوصيل الذي يمتلئ وجهه بالبثور ويبدو‬
‫في الثانوية وبين يديه وردة حمراء تنتصب في مزهرية للبراعم‪ .‬وأرفق معها‬
‫أحبك‪".‬‬
‫ِ‬ ‫مالحظة تقول‪" :‬فلتبتهجي‪،‬‬
‫أتلقف مالحظته وكأنها وعد لشيء في المستقبل‪ ،‬وعد بأنه سيحبني‪ ،‬وحينها أفاقني‬
‫ذلك‪ .‬يمكنني أن أعيش من أجل وعود‪ .‬استجمعت نفسي وقمت من على الطاولة‪.‬‬
‫إننا نعيش من أجل المستقبل‪ .‬سيحبني الرب على اتّباعي للشريعة‪ ،‬سيأتي المسيا‪،‬‬
‫وستتالشى صراعاتنا‪ .‬يعدّني ليفي بأنه سيحبني‪ ،‬سيتحقق كل هذا‪ .‬أسير إلى المطبخ‬
‫ألطهو الطعام للساباث‪.‬‬
‫وعلى مدى األسبوع الذي أعقب ذلك اليوم‪ ،‬تأخذ بتالت الوردة بالجفاف والذبول‬
‫ويصبح لونها داكنًا‪ .‬ثم تتساقط من المزهرية البيضاء الرخيصة واحدة بعد أخرى‬
‫على الطاولة البيضاء الملمعة‪ ،‬بعدما اختلط لونها األحمر بالسواد وأصبحت سهلة‬
‫التفتت‪.‬‬

‫ً‬
‫نزوال إلى موقف‬ ‫في صباح آخر‪ ،‬يقطع ليفي الساللم اإلسمنتية من شرفة شقتنا‬
‫السيارات متوج ًها إلى الدروس والتعليم‪ .‬أسمع طقطقة أقدامه إلى حين اختفائها‪.‬‬
‫حينها أنزل الساللم وأتوجه إلى الساحة الخلفية‪ ،‬حيث توجد حاوية نفايات فوالذية‬
‫زرقاء اللون تحت شجرة التين‪ .‬أحمل معي في جيبي الحافظة البالستيكية الصفراء‬
‫التي تحوي بداخلها العازل األنثوي لمنع الحمل‪ .‬إنني ممتنة للسنة التي قضيتها مع‬
‫هذا العازل‪ ،‬ممتنة له على تعريفي بطيّات جسدي ومغاراته السرية‪.‬‬
‫سماء تكساس صافية وشمسها صغيرة وحادّة‪ ،‬ال تترك مهربًا منها‪ ،‬وال ظالالً‪،‬‬
‫وتنعكس لمعتها على الحافة الصدئة لحاوية النفايات‪ .‬أخرجت الحافظة البالستيكية‪،‬‬
‫ي بيدي من الضوء بينما أرفع بصري‪ ،‬أرجع يدي إلى الوراء وأقذف‬ ‫أقي عين ّ‬
‫سا هاب ً‬
‫طا‬ ‫بالحافظة عاليًا فوق الحافة‪ .‬تطير الحافظة الصفراء نحو األعلى وترسم قو ً‬
‫لتستقر في أسفل الحاوية‪ ،‬متبوعة بالصوت الخفيف للهبوط غير المرئي‪ .‬لم يتبقَ‬
‫لي شي ٌء اآلن‪ .‬فقط تلك الومضة األخيرة للون األصفر ولمعة ضوء الشمس‪.‬‬

‫بعد شهور‪ ،‬يحدق ليفي في مرآة الحمام وهو يرتدي بنطال بدلة رسمية مع قميص‬
‫داخي‪ ،‬وقد ترك باب الحمام مفتو ًحا‪ .‬يقترب ناحية المرآة‪ ،‬يدفع خده نحو الخارج‬
‫بلسانه م ً‬
‫شكال إنتفا ًخا‪ ،‬وينتف الشعيرات باستخدام ملقط‪ ،‬مرتبًا خط لحيته من دون‬
‫استخدام شفرة محرمة‪ .‬يأخذ بلحيته الطويلة والخفيفة ويفتلها حتى تصبح ً‬
‫حبال‬
‫ملفوفًا‪ ،‬ثم يلف الحبل على نفسه حتى يصبح كرة ملفوفة بإحكام‪ ،‬ويدسها بالشعر‬
‫الذي ينبت تحت ذقنه‪ .‬يثمر ذلك عن مظهر لحية قصيرة ومشذبة‪ ،‬ووجهه نظيف‪.‬‬
‫يرتدي بقية بدلته البنية التي تتألف من ثالث قطع‪ ،‬مع ربطة عنق جديدة‪ ،‬ثم يستبدل‬
‫يارمولكته السوداء الكبيرة التي تشبه الطاسة بأخرى صغيرة سوداء مصنوعة من‬
‫ً‬
‫بروزا‪ .‬فهو ذاهب إلى مكتب توظيف الجامعة‪ .‬يضع‬ ‫الجلد على أمل أن تكون أقل‬
‫نسخة من سيرته الذاتية في الحقيبة المعلقة على كتفه‪ .‬وما فتىء والده يعبر على‬
‫الهاتف عن قلقه من أال يحصل ليفي على وظيفة بسبب لحيته واليارمولكة‪ .‬أخبره‪:‬‬
‫صغ‪ ،‬وال تشغل بالك بذلك‪".‬‬
‫"ال ت ِ‬
‫يسألني ليفي‪" :‬كيف أبدو؟"‬
‫أجيب‪" :‬مثل من يذهب للحصول على وظيفة‪ .‬سيرتك الذاتية ممتازة‪ .‬كم مقابلة‬
‫ستجري اليوم؟"‬
‫يقول‪" :‬أربع"‬
‫سا محزونًا‪ .‬أع ّد المائدة وأضع عليها الطعام‪.‬‬
‫وفي نهاية النهار‪ ،‬يعود ليفي يائ ً‬
‫يحدثني‪" :‬إنهم يرون سيرتي الذاتية ويعطونني مواعي َد للمقابالت‪ ،‬لكن حالما أصل‬
‫ي‪".‬‬
‫إلى هناك‪ ،‬أرى الطريقة التي ينظرون بها إل ّ‬
‫أقول‪" :‬لماذا يتعاملون معنا وكأننا غرباء؟"‬
‫يهز ليفي برأسه‪.‬‬
‫"كم مقابلة بعد تنتظرك غدًا؟"‬
‫"اثنتان"‬
‫"اسمع‪ ،‬علينا أن نكون عمليين هذه المرحلة‪".‬‬
‫"لن أفعل"‬
‫" لن يكون ذلك بإفراط‪ ،‬شذّب لحيتك فقط‪ ،‬فقط لهذه الفترة‪ .‬وربما عليك أن تخلع‬
‫اليارمولكة عند إجراء المقابالت‪".‬‬
‫يقوم ليفي ً‬
‫قليال من مقعده‪ ،‬ويجيبني فيما يطغى االستخفاف على وجهه وصوته‪:‬‬
‫"ماذا؟ بالطبع ال‪".‬‬
‫إن أقل ما يتطلبه العيش تحت مظلة الشريعة يشعرني بالخجل‪ .‬فتلك المجموعة‬
‫ي تلبيتها على نحو تام‪،‬‬
‫الهائلة من المطالب تقف أمامي كل صباح‪ ،‬ويستعصي عل ّ‬
‫لذا يحمل كل يوم إخفاقاته‪ .‬وإخفاقة اليوم هي فقدان الثقة بعناية الرب بالمؤمن‪.‬‬
‫إنني ضعيفة وليفي قوي‪ .‬إنه جندي ال يرتدي حلّة نظامية‪ .‬إنه يمثل حلّته النظامية‪.‬‬
‫وهذا ما يكون عليه الحسيدي‪ ،‬جنديًا بال وجه في خدمة الرب‪ .‬دعك من الجينز؛‬
‫فخلف اللحية ما يزال ليفي جنديًا بال وجه‪ .‬أخفض رأسي وأغادر الحجرة وأذهب‬
‫إلى غرفة النوم‪ .‬وفيما أمر أمام المرآة‪ ،‬أرى وجهي ما يزال بمكانه بكل عناد‪.‬‬
‫الفصل الحادي عشر‬

‫هيوستن االستوائية الساحلية‪ .‬بعد أن طال سعي ليفي للبحث عن الوظيفة فترة تسعة‬
‫أشهر‪ ،‬أجرى والده عدة اتصاالت هاتفية‪ ،‬وها هو ليفي اآلن يحصل على وظيفة‬
‫جديدة في هيوستن‪ ،‬محل َل أنظمة يكتب برامج حاسوبية‪ .‬إنها أدنى بكثير من‬
‫مؤهالته‪ ،‬لكنها تظل وظيفة مع ذلك‪ .‬انضممنا لجماعة الحاخام فرومان الصغيرة‬
‫واآلخذة بالتزايد في جنوب غرب هيوستن‪ .‬إنها أواخر آب المشبعة بالرطوبة‪ ،‬إذ‬
‫ترتفع درجات الحرارة إلى التسعين فهرنهايت وتزيد الرطوبة عن ‪ 90‬بالمئة‪ ،‬لكن‬
‫وفي كل ساباث‪ ،‬يسير الناس في مجتمعنا الجديد من منازلهم إلى الكنيس‪ .‬كان‬
‫معظمنا من األتباع الجدد‪ ،‬لكن بعض الرجال‪ ،‬ومنهم ليفي‪ ،‬كانوا يسيرون وهم‬
‫حر هيوستن‪.‬‬
‫مرتدين معطف الساباث األسود الطويل حتى في ّ‬
‫باإلضافة إلى آل فرومان يوجد فقط زوجان آخران تربوا كحاسيدم وترعرعوا في‬
‫اليشيفات ويكنّون بآل زالمانوف‪ ،‬وتع ّد كلتا العائلتين بمثابة أسر َملَكية وسطنا‪ .‬إنهم‬
‫يستطيعون أن ينتقلوا بسهولة عبر نصوصنا الصعبة‪ ،‬وأن يتحدثوا بغير اكتراث‬
‫عن التعقيدات في الشريعة‪ ،‬وأن يتبادلوا األحاديث باليديشية والعبرية‪ ،‬فيما ينظر‬
‫إليهم بقيتنا بغيرة يولدها الكبرياء مثل أطفال مبهورين ونحاول أن نقلدهم‪ .‬من بين‬
‫البقية‪ ،‬لم يكن هناك أزواج من تكساس سوانا‪ ،‬أنا وليفي‪ ،‬وزوج من الموظفين‬
‫المحليين الناجحين نجح الحاخام فرومان في استقطابهم من أجل المساعدة في دعم‬
‫القضية‪ .‬كان الزوجان يوفي والزوجان باردن من إسرائيل‪ ،‬والزوجان ويززبيرغ‬
‫والزوجان باسيل من جنوب أفريقيا‪ ،‬والزوجان سيلغسون من أمريكا الجنوبية‬
‫ولكنهما ينحدران من مهاجرين أوروبيين‪ .‬وكان الزوجان غوردوديتسكي‬
‫والزوجان أبستين من االتحاد السوفيتي االشتراكي‪ .‬جميعنا شباب ومثاليون‬
‫وخريجو جامعات‪ ،‬وجميعنا حديثو عهد بالقضية‪ .‬جميعنا جديدون في هيوستن‪ ،‬من‬
‫دون روابط بالمكان‪ ،‬بال عائلة أو شبكة مستقرة من األصدقاء‪.‬‬
‫بعد سنوات من اآلن سأتذكر كيف امتلك األزواج المهاجرون في المجموعة رو ًحا‬
‫مغامرة جعلتهم مستعدين ألن ينصتوا لحاخام غريب ذي أسلوب حازم ولحية كثة‬
‫طويلة وابتسامة مهدئة‪ ،‬وسيبدو لي كما لو أن كل فرد من مجموعتي الجديدة عثر‬
‫على الحياة الحسيدية بصورة شبه عرضية وتحديدًا بسبب تفكيرهم المستقل حينما‬
‫صغارا‪ .‬كما سأتخيّل أن غالبية مجموعتنا أرادت في األصل أن تنتزع الجمال‬
‫ً‬ ‫كانوا‬
‫والروحانية من التربية الحسيدية من دون التضحية بإرادتها الحرة‪ .‬سوف أتذكر‬
‫أنني شاهدت كيف هيمنت جاذبية عميقة على كل فرد منهم‪ ،‬وكيف غلّف المجتمع‬
‫بأمس الحاجة إليها‪ .‬ورغم كوننا‬
‫ّ‬ ‫بشرنقته كل فرد منا‪ ،‬مان ًحا إيانا "العائلة" التي كنا‬
‫وافدين جد ًدا إلى مدينة جديدة‪ ،‬إال ّ‬
‫أن هواتفنا لم تكن صامتة‪ ،‬إذ كان األصدقاء‬
‫اللطفاء الجدد يهاتفوننا يوميًا من أجل أن نحضر خدمات الصالة ونستمع إلى‬
‫ضا بتعقيد بالغ يصعّب على الوافد‬
‫المحاضرات العاطفية الملهمة التي كانت تتسم أي ً‬
‫الجديد أن يفهمها فه ًما كافيًا يمكنه من التشكيك‪ .‬وحالما يتم تفكيك األفكار التجريدية‬
‫والمنطق‪ ،‬ترغب األنا أن تعتنق ما صارعت لفهمه‪ ،‬كما فعلت أنا ذات مرة على‬
‫مائدة الحاخام راكوفسكي‪ .‬وهكذا‪ ،‬تدريجيًا‪ ،‬فعل الجميع ذلك‪.‬‬
‫أنضم مع ليفي للمجتمع الجديد الناشئ‪ .‬أمام تلك العيون الجديدة‪ ،‬يحزم ليفي بناطيله‬
‫الجينز وأسطوانات الموسيقى الكالسيكية في مكان بعيد عن متناوله ويترك الستيريو‬
‫الخاص به صامتًا‪ .‬فيما أنا ال أقص شعري‪ ،‬لقد حاولت قصه ولم أفلح بذلك‪،‬‬
‫فأصبحت أربطه إلى األعلى وأخفيه تحت الشال‪ ،‬وأغطي حتى الخصلة القديمة‬
‫التي كانت تتدلى في المقدمة‪ .‬ورغم أن بعض النساء األخريات لم يشرعن بتغطية‬
‫شعورهن مطلقًا حتى اآلن‪ ،‬إال أنني أرتدي الشعر المستعار خارج المنزل يوميًا‪،‬‬
‫ألن هذا ما يمليه الصواب‪ .‬إنني متقدمة على غالبيتهن في هذه اللعبة‪ ،‬وأنا أطمح‬
‫لبلوغ القمة‪ ،‬إلى جانب السيدة فرومان التي أعدّها قدوتي‪ .‬وعما قريب‪ ،‬ستمتثل‬
‫األخريات‪ .‬لكن عقدة شعري الطويل تحت باروكتي تبرز كنتوء محرج يصرخ‬
‫باالحتجاج‪.‬‬

‫يستمر مجتمعنا بالتزايد‪ ،‬وغالبًا ما يجذب المهاجرين‪ .‬في التجمعات‪ ،‬يرمق‬


‫ضا‪ ،‬ويغمرهم شعور‬
‫الوافدون الجدد أحدهم اآلخر‪ ،‬ويرمقون أطفال بعضهم بع ً‬
‫بالحرج من اختالفاتهم‪ .‬فيما يجد األطفال أصدقا َء لهم‪ ،‬مجتذبين آباءهم وراءهم‪.‬‬
‫وشيئًا فشيئًا تنسجم العائالت‪ ،‬وحالما يح ّل االنسجام بينهم يستبدل انعدام األمان في‬
‫المكان الجديد أو البلد الجديد بمرساة اإليمان الجماعي واالنتماء‪ ،‬بقوة التكاتف‬
‫المطمئنة‪ ،‬باألصوات المتناغمة‪.‬‬
‫يقضي ليفي ساعات طويلة في العمل‪ ،‬ثم‪ ،‬حين يعود للمنزل‪ ،‬يقول بأنه ال يستطيع‬
‫أن يخلد إلى النوم لو نمنا سوية‪ .‬كان السرير ضيقًا للغاية‪ ،‬وال يسعه أن يذهب بال‬
‫نوم إلى األيام الحافلة بالعمل‪ ،‬ثم إننا ال نمتلك المال الالزم لشراء سرير أكبر‪ ،‬هذا‬
‫أسرة منفصلة حتى بعد‬
‫باإلضافة إلى أن أسلوب األحبار وزوجاتهم هو النوم في ّ‬
‫الميكفاه‪ ،‬وهو العذر الذي يع ّد الورقة الرابحة‪.‬‬
‫نقيض القداسة‪.‬‬
‫َ‬ ‫لذا فإن الهروب من الوحدة ينبغي أن يكون‬
‫في إحدى الليالي أحلم بأنني طفلة‪ ،‬أتجول في حجرة تحوي مرآة كبيرة علقت على‬
‫نحو منخفض بما فيه الكفاية ألنظر إليها حين أقف على أطراف أصابعي‪ ،‬وأفعل‬
‫ذلك ببراءة الطفل‪ ،‬لكنني ال أرى أية صورة في المرآة‪ ،‬لقد أضعت وجهي‪ ،‬وليس‬
‫لي انعكاس‪.‬‬
‫نخبئ كتبنا العلمانية ونغطي جدران شقتنا برفوف الكتب العبرية واليديشية التي‬
‫نأمل أن نقرأها‪ ،‬ونقوم بدعوة أصدقائنا الجدد‪ .‬ومع عمل ليفي الذي يستمر ألربع‬
‫عشرة ساعة يوميًا‪ ،‬تغيب عن أيامنا الروايات والفن وأنواع الموسيقى‪ ،‬أنقطع عن‬
‫دراساتي العلمانية وعن مشاهدة التلفاز‪ ،‬ال يتحقق الحمل المأمول‪ ،‬وليس عندي‬
‫صفوف أحضرها أو وظيفة أذهب إليها‪ ،‬وال أتمرن على التشيلو‪ ،‬فتصبح أيامي‬
‫ساكنة وخاوية مثل سكون شقتنا وخوائها‪ .‬في الساباث نذهب إلى الكنيس‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من أن النسوة قد جئن من خلفيات متنوعة ومثيرة لالهتمام‪ ،‬إال أنّهن قد بَ َدون‬
‫متشابهات‪ .‬إنهن يقلدن إحداهن األخرى‪ ،‬فتستعرض كل واحدة منهن تدينها‪ ،‬في‬
‫محاولة منهن للتماثل‪.‬‬
‫حسنًا‪ ،‬هكذا أفعل أنا أي ً‬
‫ضا‪ .‬لكني لست أدري كيف أشاركهم مكنونات قلبي‪ ،‬بينما‬
‫ً‬
‫رجال كان أو امرأة‪ ،‬مكنونات قلبه‪ .‬في عالم التماثل الخاص‬ ‫ال يشاركني أحد منهم‪،‬‬
‫بنا‪ ،‬ال يجرؤ أح ٌد منا على ائتمان سره‪ .‬أذهب مطيعةٌ إلى مجموعات الدرس النسوية‬
‫وإلى التجمعات التي نعمل فيها سويةً من أجل تحضير الطعام لالحتفاالت الجماعية‪.‬‬
‫نضحك ونتحدث عن الطهو أو التسوق ومواضيع اخرى قليلة‪ .‬أتعرف على النسوة‬
‫ي واحدة منهن على نحو حقيقي‪ ،‬وهن يفعلن معي الشيء ذاته‪.‬‬
‫من غير أن أعرف أ ّ‬
‫ي ِ من الصديقات اإلناث القالئل الالتي حظيت‬
‫وعلى نقيض ما كان يحصل مع أ ّ‬
‫بهن من قبل‪ ،‬ال تأتمن إحدانا األخرى على األسرار‪ ،‬وال نتبادل سوى تلميحات‬
‫بسيطة ونادرة عن همومنا واحتياجاتنا‪ .‬تعبّر كل واحدة منا لألخرى عن تقواها وال‬
‫نبدي معارضة أو نلمح إلى القيود المفرطة التي تفرضها الشريعة‪ ،‬ال نعبر عن‬
‫امتعاضنا من الفرائض الطقسية أو األعباء الملقاة على اإلناث‪ .‬إننا نخفي كل‬
‫صراعاتنا باإليمان‪ .‬وهذا يعني بأننا نتحدث عن األزواج واألطفال‪ ،‬وليس عن‬
‫صالت قليلة‪.‬‬ ‫أنفسنا‪ .‬إننا نعيش ضمن نفس الشبكة ّ‬
‫لكن ما يربط أحدنا باآلخر هي ِ‬
‫أقم سيا ًجا حول التوراة‪ ،‬هكذا تقول الشريعة‪ .‬فأقمنا األسوار حول قلوبنا‪.‬‬
‫يصبح صوت الجماعة المشترك الواحد جز ًءا مني‪ ،‬صوت الحكم والتماثل‪ ،‬صوت‬
‫الشريعة‪ .‬وفيه يذوب صوتي الخاص‪ .‬تصبح الجماعة عالمي‪ .‬تبتعد بقية البشرية‪،‬‬
‫تلوح على هامش الصورة في متجر البقالة أو في المول‪ ،‬فيما أمضي مسرعة‪.‬‬

‫ي‪ ،‬فيما مكيف هواء العيادة مضبوط على درجة‬


‫يسدل قماش أخضر على ركبت ّ‬
‫منخفضة جدًا‪ ،‬والهواء مشب ٌع برائحة الكحول‪ .‬يحوم وجه الطبيب بورووتز المبتسم‬
‫فوق الغطاء األخضر‪ ،‬وبجانبه تقف ممرضة مرا ِقبة‪ .‬لقد مرت شهو ٌر عديدة منذ‬
‫عليك أن تقومي بإجراء‬
‫ِ‬ ‫أن تخلصت من العازل األنثوي‪ .‬يقول الطبيب‪" :‬أقترح‬
‫اختبار حمل‪ ،‬من أجل التأكد فقط‪".‬‬
‫ي نصف إغماضة حين‬
‫أجري وأتعثر في طريقي للخروج من العيادة‪ ،‬أغمض عين ّ‬
‫يواجههما ضوء الشمس‪ ،‬وأنا شبه عاجزة عن فتح الباب المصنوع من الزجاج‬
‫ي المرتجفتين‪ ،‬إنني مألى‬
‫ي اللتين أصابهما الوهن ويد ّ‬
‫والمعدن بسبب ركبت ّ‬
‫بصيحات وقهقهات مكتومة‪ .‬أنسى ذكرياتي عن أختي الرضيعة التي كانت تبكي‬
‫في فراشها‪ ،‬أنسى الشعور الغريزي بالصدمة الذي داهمني عند رؤية فريمي‬
‫المتضخمة بسبب حملها في مينيسوتا‪ .‬أنسى وقت الحرية الذي حظيت به مع العازل‬
‫األنثوي‪ .‬لقد كنت خاوية منذ فترة طويلة‪ ،‬بال أهداف أو غاية‪ ،‬ماعدا كلمات ال َحبر‬
‫وأسر ذلك لي بنظرته الثاقبة‪ .‬لقد تغيرت‬
‫ّ‬ ‫حين قال "إنك ستشيدين صر ًحا أبديًا"‬
‫حياتي في ظرف لحظة‪ .‬سوف نجعل منزلنا وعائلتنا كل ما لم أكن أملكه‪ .‬إننا نخلق‬
‫العالم‪.‬‬
‫أسوي تنورتي وأعدّل شعري المستعار‪ ،‬ثم أتوجه عبر باحة وقوف السيارات التي‬
‫تصطلي من شدة الحرارة‪ .‬ليس من الحشمة أن يتحدث المرء عن جسده‪ ،‬وال بد أن‬
‫يعلن الحمل عن نفسه‪ .‬تطن حشرات زيز الحصاد في أشجار الباحة التي تتدلى‬
‫أغصانها على نحو منخفض‪ ،‬كان طنينها يص ّم اآلذان‪ ،‬وتحت األشجار ينتشر سرب‬
‫من الغربان تلتقط الغذاء بمناقيرها من األرض‪ ،‬وإذ أقترب من سيارتنا الدودج‬
‫القديمة‪ ،‬تمر سيارة شرطة تطلق صفارتها‪ .‬وبينما أتحسس مفاتيحي‪ ،‬يحلق السرب‬
‫وينعب‪ ،‬مرفرفًا بأجنحته السوداء المضطربة صوب السماء الالمعة‪ .‬يمتلئ العالم‬
‫باألصوات الصاخبة‪ ،‬إما بالنسبة لي‪ ،‬فقد كان هذا يو ًما عجيبًا لفرحة أنثوية حسيدية‬
‫صامتة‪.‬‬
‫بعد ذلك بفترة قصيرة‪ ،‬تطلب مني السيدة فرومان القيام بتعليم الدين في المدرسة‬
‫الجديدة‪ .‬وخالل الشهور المقبلة‪ ،‬سأحظى بغاية‪ ،‬مهمة مستحبة‪ ،‬تمأل أيامي الخاوية‪.‬‬

‫ّ‬
‫يرن جرس المدرسة‪ ،‬فتهرول إلى الصف فرقتي المؤلفة من تالميذ صغار ج ًدا في‬
‫السادسة والسابعة من أعمارهم‪ ،‬قادمين من ساحة اللعب وهم متعرقون ومشعثو‬
‫الشعر ومفعمون بالنشاط‪ .‬ترتدي الفتيات تنورات طويلة وكولونات‪ ،‬أما الفتيان‬
‫فيعتمرون اليارمولكات المطرزة بالشعارات أو األسماء العبرية‪ :‬مخيم جنة‬
‫قص الفتيان شعورهم بطريقة‬
‫إسرائيل‪ ،‬يهودا ليب‪ ،‬مناخيم آريه‪ ،‬نريد المسيا اآلن! َّ‬
‫سوالف‪ .‬يضع األطفال حقائبهم‬
‫تركت فيها خصل إضافية من الشعر تتدلى فوق ال َ‬
‫وستراتهم على خطافات مخصصة لكل منهم ومن ثم يتخذون مقاعدهم‪.‬‬
‫تمأل الدروس الدينية ‪-‬من صالة وكتاب مقدس وشريعة‪ -‬النصف األول من يومهم‪.‬‬
‫وكل هذه الدروس تتضمن تعلم قراءة العبرية بأبجديتين مختلفتين وكتابتها بأبجدية‬
‫ثالثة‪ .‬والحقًا‪ ،‬سيزيدون عليها اآلرامية واليديشية‪ .‬أقضي عشرين ساعة إسبوعيًا‬
‫بتعليم هؤالء األطفال أوليات دراسات الكتاب المقدس‪ ،‬باللغة العبرية‪ .‬وتتمثل‬
‫وظيفتي كمعلمة للصف األول‪ ،‬إلى جانب بدء تعليمهم القراءة والكتابة‪ ،‬في قولبتهم‬
‫إلى حسيديين صغار‪ ،‬وتخليصهم من جموحهم وجداالتهم وأسئلتهم وتحبيبهم‬
‫بالدراسة المقدسة‪ ،‬فالمعرفة تجلب الطاعة‪ّ ،‬‬
‫إن للمعرفة قوة اإلجبار‪ّ .‬‬
‫أدون بسرعة‬
‫مفردات اليوم على اللوح بحروف عبرية كبيرة‪ ،‬من السطور األولى للكتاب‬
‫المقدس‪ shamayim :‬و ‪ eretz‬و‪ ruach‬و‪ ،elokim‬وتعني‪ :‬الجنة واألرض‬
‫والروح والرب‪ .‬يهودا هو مراقب الصف وهو من يسلّم كتب الصالة فيما ينشغل‬
‫اآلخرون باألحاديث والضحك‪" .‬مورا ليا!" ينادي أحد األطفال‪ .‬وهذا هو اسمي‪،‬‬
‫المعلمة ليا‪ .‬فأستدير ألرى السيدة فرومان تظهر عند الباب‪.‬‬
‫يعتدل األطفال في جلوسهم على الفور ويضمون أيديهم‪ .‬أخبئ خصلة ضالة من‬
‫شعري‪ .‬وبشفاه مزمومة‪ ،‬تخطو السيدة فرومان إلى اللوح‪ ،‬وتلتقط قطعة من‬
‫الطباشير‪ ،‬ثم تصحح إمالئي‪ .‬ثم تقول‪ " :‬ال تحتوي هذه الكلمة على ‪ ".vav‬حين‬
‫تغادر حجرة الصف‪ ،‬أحدّق نحو الباب بانشداه‪ .‬بعدها ينطلق األطفال بالغناء عبر‬
‫الصلوات الصباحية‪ .‬إنهم يغنون كما لو أن جهارة الصوت تخلق الحماس‪Adon .‬‬
‫‪ !olam‬يا سيد العالم! إنه الملك‪ ،‬أعلن اسمه! يحني بعض األطفال ظهورهم‬
‫ويمعنون النظر بكتبهم بينما يغنون‪ ،‬مثل عجائز صغار‪ ،‬أنامل صغيرة تمر على‬
‫كل مقطع‪ .‬أطلب منهم أن يقرؤوا بذات الوقت الذي يغنون فيه‪ ،‬على الرغم من أنهم‬
‫كانوا يحفظون الكلمات عن ظهر قلب‪ .‬أسير عبر الصف‪ ،‬وبلطف أصحح موضع‬
‫إصبع أحدهم وأعيد توجيه نظراتهم التائهة‪ .‬يلقي آيتن ابتسامة خبيثة على يوفال‪،‬‬
‫الذي ير ّد بركله ّ‬
‫بودية عبر الممر‪ .‬ثم يالحظ االثنان اقترابي ويعودان للغناء‪Ash .‬‬
‫‪.rei yosh vei vay se cha‬‬
‫ي‪ .‬إنني أحب الحروف العبرية‬ ‫ٌ‬
‫مكان سحر ٌ‬ ‫أحب صفي‪ .‬إنه َح َر ٌم لوحده‪ ،‬إنه‬
‫الضخمة الملونة وبوسترات الصالة الملونة‪ ،‬أحب لوائح الوظائف على الجدران‬
‫وبطاقات األسماء المكتوبة بحروف كبيرة وألوان زاهية تحت كل خطاف مخصص‬
‫لتعليق المعاطف والرفوف المصنفة وصف الكتب المرتبة بصورة أنيقة‪ .‬النظام‬
‫قداسة‪ .‬إن هذا المكان المنظم المكرس للرب يشبه تما ًما المنزل الذي أريد أن أشيده‬
‫تكلم الرب وأتى العالم‬
‫من أجل أطفالنا‪ ،Baruch sheamar .‬يغني األطفال‪َ .‬‬
‫وصغارا‪ .‬كل يوم‪ ،‬أقدم لهم هذا المكان‬
‫ً‬ ‫للوجود‪ .‬كان األطفال حساسين وطيّعين‬
‫السحري الخالي من السخرية والشك‪ ،‬حيث يستطيع كل منهم أن يؤمن بسهولة‬
‫وببراءة مقدسة بأن الرب قد خلق العالم في ستة أيام‪ ،‬وبأن األفعى قد وقفت على‬
‫ساقين وتكلمت مع حواء‪ ،‬وبأن موسى قد صعد إلى الجنة ونقش وصايا الرب على‬
‫لوح من الياقوت األزرق‪ .‬في هذا الصف‪ ،‬يع ّد اإليمان ً‬
‫أمرا اعتياديًا وسهل المنال‪.‬‬
‫أريد أن أضع لبنات هذا اإليمان في بنيتهم العقلية لئال يواجهوا نفس الصراعات‬
‫التي واجهتها مع ذاتي ومع رغباتي‪.‬‬
‫في كل يوم‪ ،‬أوزع الجوائز والحلوى واألوشحة والملصقات‪ .‬وجميعها تمنح‬
‫كمكافآت عن الطاعة وإتقان المهارات‪ ،‬ولكن ليس لدينا مكافآت عن التفكير‬
‫اإلبداعي أو المبادرة أو القيادة‪.‬‬
‫إننا نعلم األطفال بم عليهم أن يفكروا بالضبط‪ .‬وفي بعض األحيان‪ ،‬أعطيهم أحجيات‬
‫كلمات متقاطعة ذات نسق منطقي من أجل تطوير مهارات التفكير لديهم‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫الحلول جميعها تحمل االستنتاج ذاته عن الرب والتوراة‪.‬‬
‫أروضهم على الطاعة‪ ،‬أمأل عقولهم باالستنتاجات المسبقة‪ .‬وليس األمر أنني ال‬
‫ّ‬
‫أدرك أن ما أفعله أشبه بالتلقين منه للتعليم‪ ،‬وإنما بما أصبحت تمثّله فكرة التلقين‬
‫بالنسبة لي‪ ،‬إذ فقدت كل آثارها الظالمية‪ ،‬وغدت هدفًا باعثًا على الفخر‪ .‬فأنا ّ‬
‫أدرب‬
‫مراتب الجنود المكرسين للرب‪.‬‬
‫وقريبًا سألد جنديًا آخر‪ .‬أخبرت ليفي باألمر في ذلك المساء نفسه‪ ،‬بجملة بسيطة‬
‫وبنبرة هادئة أثناء تناول العشاء‪" :‬إنني حبلى" تجمدت يد ليفي التي تحمل الشوكة‬
‫ي‪ ،‬لكنه‬
‫أطوق رقبته بذراع ّ‬
‫ف بعينيه‪ .‬أردت أن ّ‬ ‫في منتصف المسافة إلى فمه و َ‬
‫ط َر َ‬
‫ينكمش على نفسه كما لو كان عليه أن يستجمع شيئًا ما‪ .‬يستجمع عزيمته‪ .‬ثم ترتخي‬
‫عضالت وجهه‪ .‬ثم يقول مع ابتسامة تتجمد عند بدايتها‪".Baruch hashem" :‬‬
‫فليتبارك الرب‪ .‬أرى خوفًا في عينيه‪ .‬ومذاك‪ ،‬ضاعف ليفي جهوده ليصلي أكثر‬
‫وليدرس أكثر وليكسب أكثر وليكون حسيديًا أكثر إذعانًا‪ً ،‬‬
‫أمال منه أن يكتسب‬
‫الجدارة من السماء عن أطفاله‪ .‬وهذا‪ ،‬كما سيتأتى لي أن أفهم‪ ،‬هو شكل حبه لهم‪.‬‬
‫ينهي تالميذي غناءهم‪ .‬اليوم هو يوم ميمون‪ .‬إذ من المفترض أن يتسلم األطفال‬
‫كتبهم االولى في دراسة الكتاب المقدس‪ .‬كنا نتحضر من أجل الوصول لهذا‪ .‬فتعلموا‬
‫ترجمة السطر األول‪ ،‬كما وتعلموا أغنية جديدة‪"Tov, tov lilmud Turah" :‬‬
‫إنهم يغنون معي‪ ،‬ألنني هنا أستطيع أن أغني‪ ،‬خلف األبواب المغلقة‪ ،‬وفي سبيل‬
‫تعليم األطفال‪ .‬إن من ال َح ِسن‪ ،‬بل ومن أفضل األعمال أن ندرس التوراة‪ .‬حتى‬
‫إيتان الصغير يغني‪ ،‬ويرفع جسده مع إيقاع األغنية‪ .‬وبينما هم منهمكون بالغناء‪،‬‬
‫أتذكر بدايتي مع الدراسة‪ ،‬وسيما التي تريني عالم الشريعة وهو يتدفق من شبكة‬
‫ي‪،‬‬
‫من الشروحات‪ ،‬والحاخام راكوفسكي وهو يصف العوالم الباطنية‪ ،‬ثم أرفع ذراع ّ‬
‫فينهض األطفال‪ ،‬وهم مستمرون بالغناء‪ .‬إنها التوراة‪ ،‬توراتنا الثمينة! وأسلّم الكتب‬
‫إلى األيدي المتلهفة‪ .‬كان األطفال قد صنعوا أغلفة للكتب وزخرفوها باألقالم الملونة‬
‫والبهارج اللّماعة والغراء‪ .‬أساعد كل واحد منهم على إدخال كتابه الجديد في‬
‫الغالف‪ .‬واحدًا تلو اآلخر‪ ،‬أكتب أسماءهم على الغالف بقلم سميك الخط‪ ،‬أسماء‬
‫أرواحهم اليهودية‪ :‬ناعومي ديفورا‪ ،‬يهودا ليب‪ .‬وعندما أنتهي‪ ،‬أرفع بصري ألرى‬
‫السيدة فرومان وقد عادت إلى الحجرة‪ ،‬إنها تقف قرب الباب لكي تشهد مراسم‬
‫البدء‪ ،‬وقد لفّت ذراعيها على صدرها‪ .‬ترتسم االبتسامة على وجهها‪.‬‬

‫الرابع عشر من آذار‪ .1979 ،‬يأتيني المخاض‪ ،‬عند الفجر‪ ،‬أنتظر في سيارتنا‬
‫الدودج دارت في باحة وقوف السيارات الخلفية التي تقع وراء مخبز ثري بروذرز‪.‬‬
‫كنا في طريقنا إلى المستشفى‪ّ ،‬‬
‫لكن ليفي يشغل الفرن هنا صباح كل أربعاء وذلك‬
‫من أجل أن يصنف الخبر والحلة (الشااله) الحالل الذي ينتجه هذا المخبر على أنه‬
‫"خبز مخبوز على يد يهودي‪ ".‬وفقًا للشريعة‪ ،‬فإن عبارة "مخبوز على يد يهودي"‬
‫تعني الخبز المخبوز تجاريًا على يد رجل يلتزم بالشريعة ولم ينتهك حرمة الساباث‬
‫أبدًا‪ .‬أو‪ ،‬إذا كان الخبازون الفعليون‪ ،‬مثل أولئك العاملين في مخبر ثري بروذرز‪،‬‬
‫حليقي اللحى وال يغطون أيديهم (أو حتى ليسوا من اليهود)‪ ،‬حينها تعني عبارة‬
‫دوارة‬ ‫"مخبوز على يد يهودي" ً‬
‫خبزا يتم صنعه في فرن تجاري ضخم ذي طوابق ّ‬
‫يأتي رجل يهودي أرثودكسي وقور وملتح وملتزم بإحياء الساباث ليقوم بإطفائه‬
‫وإعادة إشعاله في مراسم تقليدية ال تستغرق أكثر من دقيقة‪ ،‬حتى وإن كان هذا‬
‫الرجل في منزله يع ّد صناعة الخبزَ من مهمات النساء‪ .‬ال يهم هذا‪ .‬فليفي يفعل هذا‬
‫األمر خدمةً للمجتمع ومن باب االلتزام الديني‪.‬‬
‫ي أن أتنفس بصورة شديدة‬
‫ي‪ .‬ينبغي عل ّ‬
‫لذا فأنا أمكث في السيارة‪ ،‬أغمض عين ّ‬
‫البطء‪ .‬يعتريني إحساس بتماوج مضطرب‪ ،‬ث ّمة شعور بالضيق يسري بالتدريج‬
‫عبر جسدي‪ ،‬ويوهنني‪ .‬لكنني أرى وجه ليفي في نافذة السائق الجانبية‪ ،‬وهو يعتمر‬
‫قبعة على مؤخرة رأسه‪ ،‬كانت جبهته مجعدة وعيناه قلقتين‪ .‬وفي غضون لحظة‪،‬‬
‫نتحرك بالسيارة‪ .‬فتنقلني عبر الشوارع الفارغة ونصعد التلة فيما تشرق الشمس‪.‬‬
‫عبور سكك الحديد‪ .‬يموج السائل مرة أخرى‪ ،‬لكن‬
‫َ‬ ‫يتطلب الوصول إلى المستشفى‬
‫االضطراب هذا يتحول إلى ألم يجعلني ألقي برأسي للوراء وأميله إلى الجانب‪ ،‬فيما‬
‫يبقى فمي مفتو ًحا‪ .‬ينزاح الشال إلى هذا الجانب وذاك‪ّ .‬‬
‫أئن‪ .‬يوقف ليفي السيارة‬
‫على قمة التل‪ .‬هناك أضواء وامضة‪ ،‬بوق قطار وأذرع حواجز حمراء وبيضاء‬
‫تنزل لألسفل‪ .‬تمر عشرون دقيقة بينما يزحف قطار صاخب من جانب إلى آخر‬
‫أمام مرآنا‪ .‬أو هل هي عشرون عا ًما؟ نوبة أخرى من األلم‪ ،‬تعقبها أخرى‪ ،‬إال أنها‬
‫أخف هذه المرة‪ .‬يحاول ليفي أن يشغلني بالحديث‪ ،‬فأحاول أن أضحك‪.‬‬
‫تح ّملي‪ .‬بيد أنني وفي كل يوم أتحمل‪ :‬الوحدة‪ ،‬واألحالم الجنسية المحرجة التي‬
‫توقظني في الليل‪ ،‬وأغنية التشيلو المكتومة‪ ،‬والذكريات المكبوتة كاألصوات‬
‫المكتومة التي تحاول أن تزيحني عن طريقي العسير نحو الرب‪ .‬ما الذي ينبغي أن‬
‫يكون مختلفًا اآلن؟ في غرفة الوالدة في شاربستاون جينرال‪ ،‬كانت ِ‬
‫الركابات‬
‫المعدنية الباردة عالية جدًا على قامتي القصيرة‪ .‬ومن مكان بعيد يتناهى إلى سمعي‬
‫ي‪ .‬وفي الخلفية خلف األمواج‬
‫صوت امرأة تصرخ‪ .‬تقيّد إحدى الممرضات يد ّ‬
‫صوت ليفي المحت ّد يهمس بالمزامير‪ ،‬وكأنه صفير ينطلق نحو الرب‪.‬‬
‫تستبدل إحدى الممرضات باروكتي بغطاء الرأس األخضر المخصص للعمليات‬
‫ي فلن أرى إال‬ ‫ي‪ .‬لو قمت بفتح عين ّ‬
‫الجراحية‪ ،‬وتنزع عني نظارتي وتغطي فخذ ّ‬
‫حمر واألسو َد ضمن موجات متناغمة‪ .‬إنني أتنفّس وأع ّد‪،‬‬
‫األلم‪ ،‬واللون األصف َر واأل َ‬
‫أترقّب‪ ،‬رفس الطفل‪ ،‬وأوج االنفعال‪ ،‬ومزي ٌد من التنفس‪ .‬ثم مجددًا ومجد ًدا‪ ،‬حتى‬
‫يصدر صوت كالزمجرة من مكان ال أميزه‪ ،‬لكنها أنا‪ ،‬ثم تعقبه قوة لم أكن أعرف‬
‫بأنني أمتلكها تدفع الطفل للخارج بحركة اندفاع حيوانية‪ ،‬بسرعة تصادم‪.‬‬
‫هدوء‪ ،‬دثار فوق الهمهمات‪ ،‬حفيف أقدام الحاضرين‪ ،‬قرقعة المعدات‪ ،‬هواء بارد‬
‫يضرب بشرتي العارية المبللة‪ .‬أستدير نحو ليفي بنظرة ممتنة على الصرخة البدائية‬
‫التي آذنت بوصول الطفل‪ .‬ثم صوت يقول‪" :‬إنه صبي‪".‬‬
‫ي الممرضة‪ .‬فيما يداي ما‬
‫"أين نظارتي؟" أسأل‪ .‬وبجانبي دمية ملفوفة بين ذراع ّ‬
‫تزاالن مقيدتين‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال يأتي االحتجاج‪ .‬كيف تكون أيها الصغير بعيدًا هناك في حاضنتهم بينما أنت‬
‫تنتمي لما تحت قلبي‪ .‬ثم يأتي التساؤل‪ :‬متى سيحلّون وثاق يد ّ‬
‫ي ويتأتى لى أن‬
‫أضمك؟ أطراف أناملك نقاط مدورة‪ ،‬بشرة كالهمسة‪ ،‬شعر كزغب الطيور‪،‬‬
‫وحاجبك الصغير المجعد‪ .‬وبلمح البصر‪ ،‬تحول إليك أيها العاجز كل التوق للحب‬
‫ً‬
‫منزال أو‬ ‫وللمنزل اللذين ر ّكزتهما على ليفي‪ .‬أتذكر أن ال َحبر لم يعدني بأن أمتلك‬
‫ً‬
‫منزال‪ .‬أتخيّل شقتنا الصغيرة الجدباء‪،‬‬ ‫أن أعثر على واحد‪ .‬إنما قال لي بأن أشيّد‬
‫أنت الحلم‪،‬‬
‫صندوقا بال حلم‪ .‬أضمك بقوة إلى صدري وأسكب وعودًا صامتة‪َ .‬‬
‫ً‬
‫منزال تتمكن‬ ‫ويشمر ذهني عن ساعديه‪ .‬سأعمل جهدي ألجعل أي مكان نكون فيه‬
‫فيه من االزدهار‪ .‬تجد وجهي‪ ،‬تتالقى أعيننا وأسكب كل ذهبي فيه‪ ،‬شيء جديد‬
‫بالنسبة لي‪ ،‬وأصله حب جديد يستحوذ على كل شيء‪ .‬لن أتركك أبدًا‪.‬‬
‫في غضون بضعة أيام‪ ،‬استنزفني بكاؤه‪ .‬أنتظر قدوم ليفي للمنزل في يوم حمام‬
‫الطفل األول‪ .‬أخبره‪" :‬ال أستطيع تحميمه لوحدي‪ ،‬إنني خائفة بعض الشيء‪ ".‬ولكن‬
‫فاغرا عينيه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ما أن بدأت بملء الحوض الصغير بالماء‪ ،‬يتراجع ليفي نحو الجدار‬
‫لذا أحمم الطفل بمفردي فيما الطفل يتلوى ويبكي‪ .‬في الليل‪ ،‬يغطي ليفي رأسه أثناء‬
‫قادرا على العمل غدًا‪ .‬وإن خسرت عملي‪ ،‬فكيف سنأكل؟"‬
‫البكاء‪ .‬ويقول‪" :‬لن أكون ً‬
‫أنت التغيير‪ ،‬وها قد زال عبوس‬
‫بيد أنني حين أضمك بشدة‪ ،‬يا ابني‪ ،‬فإنك تتغير‪َ .‬‬
‫الوليد الجديد من على جبهتك‪ .‬وهاهي وجنتاك تبرزان اآلن! بينما أنت تغفو ثانية‬
‫ي‪ ،‬تتدلى قطرة حليبِ رضاعة من على زاوية فمك‪ ،‬عند الفجر‪.‬‬
‫بين ذراع ّ‬
‫بعدها بثمانية أيام‪ ،‬نتهيأ إلحضار ابننا غير المسمى بعد إلى الكنيس من أجل طقس‬
‫الختان‪ .‬والدا ليفي في طريقهما للوصول من الفندق‪ .‬في الحمام‪ ،‬أرتدي فستاني‪،‬‬
‫وأضع الشعر المستعار على رأسي‪ ،‬وأعاين نفسي في المرآة‪ .‬فأجد أمامي شبه‬
‫لكن شيئًا جديدًا وشر ً‬
‫سا تقدح شرارته من‬ ‫امرأة عديمة الشكل‪ ،‬محايدة جنسيًا‪ّ ،‬‬
‫وجهها‪ ،‬غايةٌ جديدة‪ .‬سأحمي ابني‪ .‬سأنميه وأطعمه وأرعاه وسأكفل له طريقًا سال ًكا‬
‫يخلو من الخطر أو التيه أو الوحدة‪ .‬إن حياتنا ستمنحه الرب‪ ،‬من دون ارتياب أو‬
‫شكوك‪.‬‬
‫أنزع الشعر المستعار عن رأسي‪ ،‬أح ّل شعري من ظفيرته الغريبة‪ ،‬وأفرده‪-‬السر‬
‫ً‬
‫منزال مسي ًجا من‬ ‫الصغير الذي يجعلني مختلفة‪ .‬هذا من أجلك‪ ،‬يا ولدي‪ .‬سأمنحك‬
‫دون ظالل‪ ،‬ال يقربك فيه شك من عروج موسى للسماء‪ ،‬ونقشه كلمات الرب على‬
‫الياقوت‪ ،‬وتكون فيه متيق ًنا من أن عالمك هو مكان آمن منظم بشريعتنا‪ .‬أخرج‬
‫صا وأمسك بخصلة سميكة‪ ،‬فيخرج الشعر من تحت المقص بحواف متعرجة‪.‬‬
‫مق ً‬
‫ومن الغرفة خار ًجا يبدأ الطفل بالبكاء‪ ،‬فيصبح صوته الصائح خلفيةً لهذا العمل‪،‬‬
‫عبر الباب الموصود‪ .‬أوقع الخصالت المقصوصة في حوض المغسلة‪ ،‬فتتجمع‬
‫فوق بعضها‪ ،‬مجعدة‪ ،‬مثل حيوان مذهول‪ .‬ثم أخرج آلة حالقة الشعر الكهربائية‬
‫التي أستخدمها لحالقة شعر ليفي‪ ،‬وأنحني‪ ،‬ثم أشغلها فتطلق أزيزها وأمررها فوق‬
‫فروة رأسي حتى يصبح رأسي مثل لحية خفيفة‪ .‬أترك خصلة طويلة واحدة من‬
‫ي‪.‬‬
‫ي بإمكاني أن أدسهما خلف أذن ّ‬
‫الشعر على كال صدغ ّ‬
‫تبدو المرأة عديمة الشكل في مرحلة ما بعد والدة الطفل التي هي أنا مثل رجل‬
‫ضئيل ذليل له جدائل جانبية‪ ،‬لكنه يفتقد ليارمولكته‪ .‬فهو رجل عبارة عن امرأة‪.‬‬
‫وامرأة عبارة عن رجل‪ .‬اآلن سيالئمني الشعر المستعار ويصونني‪ ،‬بال نتوء جانح‪.‬‬
‫ي أن‬
‫لن أقوم بمعاينة نفسي بالمرآة من دون شعر مستعار فحسب‪ .‬ال ينبغي عل ّ‬
‫أنظر‪ .‬ارتدي الجوارب والفستان بسرعة‪ .‬ينزلق الشعر المستعار بسهولة على‬
‫رأسي‪ .‬حان وقت المغادرة من أجل المراسيم‪.‬‬
‫في الكنيس‪ ،‬يقف والد ليفي إلى جانب ليفي الذي يبدو عليه زهو االنتصار وهو‬
‫يحمل ولده على وسادة من الدانتيل األبيض متوج ًها به نحو الحرم‪ .‬فيتلقاه الرجال‬
‫بصرخات "مازل توف" وبالتصفيق واألغاني‪ .‬لقد حضر المجتمع بأكمله الستقبال‬
‫هذا العضو الجديد‪ .‬فهذا الختان بمثابة والدة روحية البننا كفرد يهودي‪ .‬هنا في‬
‫الكنيس‪ ،‬يعد ليفي هو من أنجبه‪ ،‬وليفي هو من يحمله ويقدمه للحرم والمجتمع‪ ،‬أما‬
‫أنا فقد قمت بالجزء األقل أهميّة‪ .‬أشاهد المراسم من خالل الحاجز‪ ،‬وأنا مختبئة مع‬
‫روث‪ ،‬والدة ليفي‪ .‬وعندما يقوم الموهيل بعملية قص صغيرة وسريعة إلزالة غلفه‬
‫القضيب‪ ،‬وعندما يرتّل ال َبركة مان ًحا ابننا اس ًما بصوت يعلو على صراخه‬
‫والصرخات الترحيبية لحشد الحاضرين‪ ،‬تهبط رو ٌح يهودية من عند الرب وتلج‬
‫الطفل مع اسمه الجديد‪ ،‬اسم روحه‪ ،‬ليب‪ ،‬ابن ليفي‪.‬‬
‫كان "ليب" االسم العبري الذي تس ّمى به أخو ليفي المتوفى‪ .‬وحالما سمعت روث‬
‫باالسم‪ ،‬انفجرت بالبكاء‪ .‬وبدا االضطراب على السيدة فرومان‪ ،‬فمالت نحوي‬
‫وهمست‪" :‬أال تعلمين بأنك تجتذبين العين الحاسدة بتسميتك ً‬
‫طفال على اسم شخص‬
‫مات ميتة مأساوية؟"‬
‫أفكر الحقًا بأنه ربما كانت هذه التسمية بمثابة تمردنا الصغير‪ً ،‬‬
‫بدال عما يمثله‬
‫شعري الطويل من تمرد‪ ،‬ألننا كنا نعلم بالهواجس الحسيدية التي تحيط بمثل هذه‬
‫األمور إذ اخترنا نفس االسم‪ ،‬لكننا اخترناه رغم ذلك‪.‬‬
‫وتفوه‬
‫ّ‬ ‫وحالما ولد ليب‪ ،‬لم يستغرق األمر برمتّه من كلينا سوى إيماءة متبادلة‪،‬‬
‫نعلم بأن لفتة التأبين هذه أكثر‬
‫عفوي بنفس االسم من كلينا في ذات اللحظة‪ ،‬لكي َ‬
‫أهميةً لنا من المجتمع وآرائه‪ .‬وبهذا السهو قمنا‪ ،‬عن غير قصد‪ ،‬بتمرير ترخيص‬
‫مضمر البننا للتخلّي عن المتطلبات الحسيدية حين تكون الحاجة إلظهار إنسانيتك‬
‫أكثر إلحا ًحا من إظهار تديّنك‪.‬‬
‫َ‬
‫صر مستقبلنا في شقة صغيرة عندما ال نستخدم وسائل‬
‫وفي غضون شهور قليلة‪ ،‬نتب ّ‬
‫ٌ‬
‫متين‪،‬‬ ‫صغيرا لكنه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منزال‪ .‬كان المكان الجديد‬ ‫منع الحمل ونخلص إلى أننا نحتاج‬
‫ً‬
‫مستقبال‪ .‬يغمرنا توقيع‬ ‫وفيه باحة كبيرة حيث يستطيع األطفال أن يركضوا ويلعبوا‬
‫القرض العقاري بابتهاج هائل‪ .‬سيكون هذا مكان تنشئة عائلتنا الذي سأحوله بصفتي‬
‫أ ًما إلى منزل لنا‪ .‬وها قد وصلنا للمنزل‪.‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬

‫عا‪ .‬و ّ‬
‫تقطب لبي‪ ،‬االبنة التي تبلغ‬ ‫"ال!" أصرخ‪ ،‬منتحبةً‪ .‬يقفز ليبل ذو السنتين فَ ِز ً‬
‫سا‪ .‬وفي ستة أيام فقط أحشر مهام كل‬
‫من العمر اآلن سبعة شهور‪ ،‬وج َهها عبو ً‬
‫األسبوع من تدريس وعناية باألطفال وبالمنزل وطبخ وسهر مع األطفال‪ ،‬إذ تتوقف‬
‫كل األعمال من أجل الساباث‪ ،‬وألن ليبي طفل كثير التطلب فإنني ال أحظى بدقيقة‬
‫لنفسي‪ .‬تصبح األيام مثل آلة الركض‪ ،‬والليالي ممتزجة بالبكاء فيما ليفي يستغرق‬
‫يمكنك أن تعود للبيت وتتوارى‬
‫َ‬ ‫بالنوم‪ .‬يقع على عاتقي فعل كل شيء‪ .‬أقول‪" :‬ال‬
‫فحسب!"‬
‫إنه األحد ‪-‬وهو يوم عمل عادي بالنسبة لنا‪ -‬وليفي مجاز من العمل‪ ،‬والجريدة‬
‫اليومية‪ ،‬المتعة التي يفضل االنغماس فيها‪ ،‬مطوية تحت ذراعه‪ ،‬وكوب القهوة الذي‬
‫يتصاعد منه البخار في يده‪ .‬تضم غرفة العائلة أريكة قديمة‪ ،‬والبيانو الذي أمتلكه‬
‫منذ الطفولة‪ ،‬وأشياء قليلة أخرى‪ .‬ليبل يلعب على السجادة وحوله تتناثر ألعابه‪ .‬أما‬
‫لبي فنائمة على ظهرها‪ ،‬وتلوك عضاضة األسنان‪ .‬ينفتح الباب الزجاجي الجرار‬
‫على المرج الفسيح الفارغ‪ .‬عاد ليفي للتو من الصلوات الصباحية‪ .‬كان يتّجه نحو‬
‫غرفة الطعام مباشرة من أجل قراءة الجريدة ومن ثم قضاء وقت الصباح في دراسة‬
‫جزئه اليومي المخصص من الكتاب المقدس‪ ،‬يقول ليفي‪" :‬ليا!" وقلة الحيلة تبدو‬
‫على وجهه‪.‬‬
‫"إنك ال تتواجد في المنزل‪ ،‬حتى عندما تكون فيه‪ .‬أنت ال تساعد في االعتناء‬
‫باألطفال‪ .‬وطوال اليوم‪ ،‬في كل يوم تغرقنا بمخاوفك المادية" ليس كافيًا‪ ،‬يقول‪.‬‬
‫إنك ال تودعنا‪".‬‬
‫متوترا حتى َ‬
‫ً‬ ‫ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا‪" .‬إنك تغادر للعمل‬
‫يتطلع ليفي بلهفة نحو غرفة الطعام والكتب‪ ،‬ويتنهد‪.‬‬
‫"إنك تعود للمنزل بذات الحال‪ ،‬وتبلغ من االنهماك في شؤونك الخاصة مبلغًا لحد‬
‫أن ليبيل تعلم أن يخاف من إزعاجك‪".‬‬
‫مكفهرا‪ ،‬متح ِ ّم ًال‪ ،‬ال يظ ِهر‬
‫ً‬ ‫هذا صحيح‪ ،‬فعندما يدخل ليفي من الباب‪ ،‬يكون وجهه‬
‫ألم ظهره الذي يرفض اإلفصاح عنه‪ ،‬ويشرع بأداء وظيفته الثانية في إجراء‬
‫إنك تصرخ لو طلبت منك فعل شيء‪".‬‬
‫الحسابات الخاصة‪ .‬أقول‪َ ":‬‬
‫فيقول‪":‬إنني أقوم بعملي‪ ،‬ال أحتمل أن أعمل أكثر مما أقوم به اآلن‪".‬‬
‫ي! وال تلمس األطفال‪ ".‬وال يغسل أطباقه أو يلتقط جواربه من‬
‫"إنك ال تتحدث إل ّ‬
‫ً‬
‫مشغوال بعمله‪ ،‬فإنه يختبئ في كتاب الصالة والكتب‬ ‫األرض‪ ،‬وحين ال يكون‬
‫المقدسة‪ .‬يخر على الفراش في منتصف الليل ليبدأ مجددًا في الصباح‪" .‬إنك ال‬
‫تحضنني!"‬
‫وممارسة الجنس الشهرية بدافع الطاعة ال تحتسب شيئًا‪.‬‬
‫يهرع ليفي خار ًجا من الغرفة‪.‬‬
‫"لكن…" يقول ليفي‪.‬‬
‫فأقول‪" :‬لكن؟"‬
‫ً‬
‫أصال في األفق‪ .‬هذا هو وصف وظيفتي‪ ،‬أن أكون هذا الصنف من‬ ‫ل ّ‬
‫كن العار يلوح‬
‫النساء حتى يكون هو الرجل‪ .‬أحاول أن أتشبث بغضبي‪ ،‬بيد أن هذا يبدو كما لو‬
‫أنني أتحدى الرب‪.‬‬
‫صر ليفي على رأيه بأن أستمر بالتدريس ألننا بحاجة للمال‪ ،‬رغم أن المدرسة‬
‫ي ّ‬
‫كثيرا مما تدفعه للمعلمين الذكور‪ ،‬ومعظم ما أجنيه يذهب‬
‫تدفع للمعلمات اإلناث أقل ً‬
‫إلى جيب المربية‪ .‬وعندما أعود للمنزل‪ ،‬ينتظرني إعداد طعام العشاء وإطعام‬
‫األطفال وتهيئتهم للنوم‪ .‬كانت ليبي قد امتنعت للتو عن الرضاعة من ثديي‪ ،‬وأنا‬
‫أتساءل كل يوم متى سأصبح حبلى مرة أخرى‪.‬‬
‫تفتقر هيوستن إلى المطاعم التي تطهو األكل الحالل؛ لذا فال أحظى باستراحة من‬
‫الطبخ‪ .‬إنني أعرف كل المحاسبين في متجر البقالة باالسم‪ .‬وباإلضافة إلى العناية‬
‫باألطفال‪ ،‬يستغرق مني التسوق والطهي من أجل الساباث كام َل مسا َء الخميس‬
‫ومعظم يوم الجمعة‪ .‬فأفكر في سري‪ :‬كيف تكون حياة الروح هذه مادية بالكامل؟‬
‫ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا‪.‬‬
‫يفتح ليفي الباب الزجاجي الجرار ليتفحص اآللية التي يعمل بها‪ ،‬فيسحب الباب‪،‬‬
‫متحيرا ومنهمك البال‪.‬‬
‫ً‬ ‫صريرا‪ ،‬ويبدو ليفي‬
‫ً‬ ‫فينزلق ويصدر‬
‫ي" أقول وأنا أنشج‪ ،‬أخلع نظارتي وأرميها نحوه‪ّ ،‬‬
‫لكن تسديدتي تتجاوزه‬ ‫"انظر إل ّ‬
‫وتصيب اإلطار الخشبي لألريكة‪.‬‬
‫فتتطاير أجزاء النظارة‪ ،‬ويغدو ليفي شب ًحا‪ ،‬يده المغبشة تحرك الباب المغبش‪،‬‬
‫ووجهه المغبش بال تعابير‪.‬‬
‫سأنجز كل شيء بمفردي‪ .‬سأصطحب األطفال وأعود إلى داالس‪ ،‬وأطلب مساعدة‬
‫والدتي‪ .‬سأعثر على وظيفة‪ ،‬أيّا كانت‪ ،‬ومهما كانت‪ّ .‬‬
‫لكن الخوف يعتريني‪ .‬سيكون‬
‫أي شيء أفضل من العيش مع هذا الغريب المهووس الذي يصب علينا جميعًا‬
‫مخاوفه المتعلقة بالمال‪ ،‬وأفضل من العيش مع هذا العمل الالنهائي الذي يصنف‬
‫على أنه عمل خاص بالنساء لكيال يمد هو يد العون‪ ،‬وال يمنح عناقًا أو كلمة طيبة‪.‬‬
‫ضا‪ .‬إن الحياة َ مع شخص غريب‪ ،‬أشد وحدة ً من‬
‫ولكنني ال أحاول التواصل معه أي ً‬
‫حياتك بمفردك‪ .‬أليست مشاكلنا خطأي؟ ثم هناك تلك المشكلة‪ :‬أنا لم أعيل نفسي‬
‫ِ‬
‫من قبل‪ ،‬ولم أعش كإنسانة راشدة في العالم‪ ،‬بالخارج‪.‬‬
‫وعلى مدار أيام عديدة تدور الفكرة في رأسي‪ .‬سأفعلها وأغادر‪ّ ،‬‬
‫إن باستطاعتي‬
‫ذلك‪.‬‬
‫نذرا بالخطر‪ .‬إنني‬
‫لكن أن أعيش مع والدتي؟ ثم أتنبه إلى أن العالم يبدو ضخ ًما وم ً‬
‫أبدو مختلفة‪ ،‬وال أعرف طريقي كراشدة خارج المجتمع الحسيدي‪ .‬لم أعد أتحدث‬
‫تلك اللغة‪ .‬وال حتى أمتلك سيارة‪ ،‬وال أعرف كيف أوقّع عقد إيجار أو كيف أحصل‬
‫على تأمين‪.‬‬
‫لقد وعدت أطفالي بالرب‪ ،‬وعدتهم بالحماية والسالم‪ّ .‬‬
‫لكن المغادرة تعني خذالنهم‪،‬‬
‫كما لو أنني كذبت‪ .‬إنني خائفة من البقاء‪ ،‬مثلما أنا خائفة من المغادرة‪.‬‬
‫بعد ذلك بأيام‪ ،‬ما تزال الحيرة تتملكني‪ .‬وفي أحد األيام وبعد أن عدت من التدريس‪،‬‬
‫كان ليبل ولبي يغفيان عندما َّ‬
‫رن الهاتف‪ .‬أسارع ألرفع السماعة من المطبخ‪ ،‬لئال‬
‫يتسبب الصوت في إيقاظهما‪ .‬يتبيّن أن السيدة فرومان هي المتصلة‪ ،‬تقول‪":‬لقد‬
‫دعيت للتحدث في التجمع الذي تنظمه نشاي تشاباد (‪ )Nshei Chabad‬في‬
‫منتصف الشتاء‪.‬‬
‫أجيبها‪" :‬وهذا يعني؟"‪ ،‬فأنا ال أعرف ِل َم تتصل بي وتخبرني بهذا‪.‬‬
‫تقول‪" :‬إنه مؤتمر عالمي لنساء اللوبافيتش‪ ،‬إنه حدث ضخم‪".‬‬
‫أقول‪" :‬إذا… تهانينا‪".‬‬
‫" لقد اخترناك أنا وزوجي كموفدة عن هيوستن‪ ،‬وسيتكفل الكنيس بمصاريف قدومك‬
‫معي‪".‬‬
‫هل استشعرت تمردي؟ هل انتقتني لهذا السبب؟ هل األمر واضح؟ هل تحاول‬
‫يدعوك للعودة‪ ،‬فدعي الشريعة تضمك بين ذراعيها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جري للعودة؟ إن الرب‬
‫ّ‬
‫سأهرب لعدة أيام وسأهدأ ً‬
‫قليال‪ ،‬وسآخذ لبي معي‪ .‬سيضطر ليفي ألخذ إجازة لنصف‬
‫يوم الجمعة ويعتني بليبل خالل فترة نهاية األسبوع‪ ،‬إنه ال يستطيع أن يجادل في‬
‫ذلك ألن اجتماعات النساء هذه تحظى بمباركة ال َحبر‪ ،‬وهذا العمل من أجل الرب‪.‬‬
‫سا عميقًا وأقول‪" :‬هل يمكن ألحد هناك أن يساعدني بإيجاد جليسة أطفال إن‬
‫آخذ نف ً‬
‫جلبت لبي معي؟"‬

‫في قاعة شيكاغو الضخمة للمناسبات اجتمعت أكثر من ألف من النساء الحسيديات‬
‫واتخذن مقاعدهن حول عشرات الطاوالت المستديرة التي أسدلت عليها أغطية‬
‫بيضاء‪ ،‬وخضعت كل هؤالء النسوة في ملبسهن لإلمالءات الحسيدية‪ .‬أما "البنات"‪،‬‬
‫وهي لفظة تشمل كل من لم تتزوج بعد‪ ،‬فقد أحلن إلى غرفة أخرى وبرنامج مختلف‪.‬‬
‫هنا في القاعة‪ :‬ألف تنورة‪ ،‬ألف باروكة‪ .‬وعلى طاولتنا‪ ،‬تتجاذب السيدة فرومان‬
‫أطراف الحديث مع صديقة قديمة‪ .‬بعد أن ألقت في وقت سابق خطابًا عن الدعوة‬
‫أمام حشد كبير قالت فيه‪" :‬فقط اغرس بذرة‪ ،‬وسوف تستجيب الروح‪ ".‬أما أنا‬
‫فأجلس مرتبكة بين الغرباء‪.‬‬
‫كانت الزينة الوسطية لطاولتنا تضم دمية بالستيكية على هيئة امرأة ترتدي أكما ًما‬
‫طويلة وتنورة‪ ،‬وتقف باستقامة إلى جانب زوج من شموع الساباث يبلغ طولها‬
‫نصف حجم الدمية‪ .‬كما وتحوي قطعتين من خبز الشااله اللماع مع تقويم مصغر‬
‫يرمز إلى التعداد الرسمي لأليام التي تسبق الميكفاه‪ ،‬وكان نظر المرأة الدمية‬
‫صا إلى وصايا الرب العظيمة الثالثة للمرأة اليهودية‪.‬‬
‫المبتسمة شاخ ً‬
‫يجهز أحد الندالء الصحن الذي أمامي بالدجاج والكوجيل والجزر ويضع قرص‬
‫خبز‪ ،‬ويفعل الشيء نفسه لألخريات‪ ،‬فتقول إحدى النساء ضاحكةً‪" :‬ياللعجب! لم‬
‫ي أن أتكبد عناء طهيه!" وتضيف قائلةً‪" :‬أتعني بأنني أستطيع الجلوس‬
‫يكن عل ّ‬
‫واألكل؟"‪ .‬فأحسب أنه البد أن يكون لهؤالء النسوة العشر الالتي يجلسن حول‬
‫ً‬
‫طفال‪.‬‬ ‫المائدة عددًا من األطفال يتراوح بين الخمسة عشر إلى خمسة وسبعين‬
‫ضا‪ ،‬ثم يبدأنَ باألكل‪.‬‬
‫تضحك األخريات أي ً‬

‫سط الطاولة وضعت علبة تحتوي على شق في أعالها من‬


‫بجوار الزينة التي تتو ّ‬
‫أجل دس العمالت والنقود الورقية لتمويل دعوة اللوبافيتش‪ .‬إن التبرع للدعوة أفضل‬
‫حتى من إعطاء األموال للجائع أو المشرد‪ّ ،‬‬
‫ألن في األخيرة تغذية للبدن فحسب‪،‬‬
‫وهذا أمر مؤقت‪ ،‬بينما تغذي الدعوة الروح‪ .‬تضع إحدى النساء من خالل الشق‬
‫ورقة نقدية ومن ثم تمرر العلبة على األخريات‪ .‬ال بد أن تدرب اليد على العطاء‪.‬‬
‫وبهذه الطريقة المفضوحة‪ ،‬تسحب كل النسوة جزادينهن ويلقمن العلبة بالعمالت‬
‫المعدنية واألوراق النقدية‪.‬‬
‫"هذه ليا‪ ،‬من هيوستن" تصرح السيدة فرومان‪ .‬أعلم بأنها تتباهى بي كواحدة من‬
‫مجنداتها‪ ،‬وكأنني شارة نجاحها‪ .‬ثم تميل نحو صديقتها وتقول لها شيئًا لم أستطع‬
‫سماعة في ضجيج القاعة‪ ،‬وهي توميء نحوي بذقنها‪ .‬بينما أجلس مثل سلعة مقتناة‬
‫جديدة والمعة‪.‬‬
‫وسرعان ما أفرغت الصحون إلى نصف ما كانت تحتويه‪ ،‬وأعلن عن متحدث‪،‬‬
‫وهو حاخام‪ .‬وحالما ارتقى الحاخام المنصة‪ ،‬وقفت جميع النسوة في موجة مهيبة‬
‫تنم عن االحترام األنثوي‪ .‬يتطلع الحاخام إلى الحشد بنظرة ملؤها الجدية والحكمة‪،‬‬
‫ثم ينتظرنا حتى نعاود الجلوس بينما هو يحيقنا بتلك النظرة‪ .‬في طاولتنا‪ ،‬تظهر‬
‫السيدة فرومان بتباه احترامها الالئق لرجل حكيم من خالل وقفتها المنتصبة‬
‫وحاجبيها المرفوعين‪ .‬وواحدة تلو اآلخرى‪ ،‬أنزلت النساء األخريات ممن يجلسن‬
‫ي‬ ‫أشواكهن‪ ،‬واعتدلن في جلوسهن بوضعية انتباه‪ّ .‬‬
‫إن الخضوع األنثو ّ‬ ‫ّ‬ ‫على طاولتنا‬
‫يهيمن على القاعة‪.‬‬
‫في البداية‪ ،‬كنت نصف مصغية‪ .‬لكن بعدئذ‪ ،‬وبلكنته األلمانية‪ ،‬يأتي الحاخام على‬
‫ذكر الميكفاه‪ .‬فيقول‪" :‬إن ما تحت المياه في الميكفاه هو مكان انتقال بين الماضي‬
‫والمستقبل‪ ،‬بين هذا العالم والعالم اآلخر‪ .‬إنه مكان بين الزمان‪ .‬وحينئذ أجد نفسي‬
‫في ذلك المكان الذي تنقطع فيه األنفاس للحظات‪ ،‬المياه الزرقاء‪ ،‬القرميد األزرق‪،‬‬
‫الجدران الزرقاء‪ .‬يقول الحاخام‪" :‬تعوم المرأة تحت الماء مثل جنين‪ .‬هناك‪ ،‬تكون‬
‫نقية من الخطيئة‪ ،‬مثل جنين‪ .‬فهي تطلع للحياة متجددة ومطهرة من الشهر الماضي‪.‬‬
‫كل شهر سيكون فرصة أخرى‪".‬‬
‫فرصة أخرى‪ .‬يجدر بي أن أمنح ليفي فرصة أخرى‪ .‬ربما كنت أنا من يسبب له‬
‫التوتر‪ ،‬فأنا ال أحاول أن أجتذبه‪ ،‬وال أعرف كيف يتم ذلك‪ ،‬ال أعرف كيف أجذبه‬
‫ي أن أتعلم‪ .‬لماذا لم أفعل ذلك من‬
‫ي وكيف أخفف عنه وأقوم بتهدئته‪ .‬ينبغي عل ّ‬
‫إل ّ‬
‫ي فعله كزوجة‪ ،‬وال أحاول‬
‫قبل؟ إنني ال أحاول أن أجعله واعيًا لنفسه‪ ،‬وهو ما عل ّ‬
‫جعله يتغير‪ .‬أنا لم أؤ ِد وظيفتي‪.‬‬
‫تصفق النسوة‪ ،‬فيما ينزل الحاخام من المنصة‪ .‬وقبل أن يغادر‪ ،‬يشرع الجمهور‬
‫بغناء أغنية حسيدية مليئة بالحيوية والتحدي وذات إيقاع سريع وراقص‪ .‬أغنية‬
‫الدعوة‪ .‬فرصة أخرى‪ ،‬أفكر‪ ،‬وأنا أغني‪ ،‬وأضم صوتي إلى األصوات األنثوية‬
‫ونلوح بقبضاتنا في الهواء بوجه العالم العلماني الغريب المعمي عن‬
‫األلف‪ .‬نغني‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫شماال وجنوبًا‪ .‬سوف ننتشر! تعلو األغنية وتغدو‬ ‫الرب‪ .‬سوف ننتشر‪ ،‬شرقًا وغربًا‪،‬‬
‫أقوى بألف مرة‪ .‬إنني في بحر من النساء‪ ،‬جزء من صوت أنثوي واحد ضخم‬
‫وصادح‪ ،‬غاطسة في ميكفاه األغنية‪ .‬نقوم‪ ،‬وتضع كل واحدة منا يدها على كتف‬
‫من تقف أمامها‪ .‬نغني‪ .‬أرقص عابرة ً الفجوة العميقة التي بداخلي‪ ،‬ومتجاوزة ً‬
‫االحتجاج واإلنهاك‪ .‬دعوني أكون‪ .‬حملت على تلك األصوات‪ ،‬أمشي‪ ،‬أخطو‪،‬‬
‫أرقص على اإليقاع الذي يسري عبر القاعة وعبر جسدي‪ .‬تمتلئ القاعة الضخمة‬
‫بصفوف ملتوية وملتفة من النساء الراقصات المتصالت ببعضهن‪ ،‬وبأمواج من‬
‫الباروكات المتمايلة‪ .‬نغني حتى تبّح أصواتنا‪ ،‬وال نزال مستمرات بالغناء‪ .‬تحت‬
‫يدي محيط كتف المرأة الذي يهتز مع الدندنة‪ّ ،‬‬
‫لكن غناءنا يتفجر من مياه الميكفاه‪.‬‬
‫إننا متجددون‪ ،‬فرصة أخرى‪.‬‬

‫بعد خمسة شهور‪ ،‬وبعد انتصاف الليل بوقت طويل في غرفتنا المعتمة‪ ،‬وليفي نائم‬
‫في فراشه على الجانب اآلخر من الخط الفاصل‪ .‬أنا حبلى من جديد‪ .‬أستلقي على‬
‫فراشي وأنصت ألنفاسه المنتظمة‪.‬‬
‫يجب أن أحاول أن أنام في حياتي هذه التي تهب للرب حتى ساعات نومها‪ .‬يكتب‬
‫ي مثلما يكتب أيامي‪ :‬هيئي الماء بجانب السرير من أجل غسل اليد‬
‫الرب ليال ّ‬
‫الصباحي‪ .‬اذهبي للنوم في سرير منفصل أثناء فترة الحيض ولسبعة أيام بعدها‪ ،‬أو‬
‫في كل ليلة ولألبد‪ .‬اتلي عهد وحدانية الرب قبل النوم وصالة الشهداء‪ ،‬ثم صالة‬
‫حياتك‪ .‬نامي بشال ليلي ورداء طويل ذي‬
‫ِ‬ ‫منح الروح للرب لتلك الليلة‪ ،‬أو لبقية‬
‫أكمام وقبة عنق عالية‪ ،‬حتى في صيف تكساس‪ .‬ومن أجل الصحة‪ ،‬اضطجعي على‬
‫جانبك األيمن‪ .‬واآلن أغمضي عينيك‪ .‬تخيلي‬
‫ِ‬ ‫ت على‬
‫جانبك األيسر واستيقظي وأن ِ‬
‫ِ‬
‫صورته‪ .‬اشعري باالنجذاب لروحه المقدسة‪ ،‬من أجل ضمان أحالم‬
‫َ‬ ‫ال َحبر وتأملي‬
‫ميمونة‪ .‬امتنعي عن الكالم حتى الصباح‪ .‬وسيكتب الرب ما هو آت‪.‬‬
‫يغشاني النوم أحيانًا عند مطلع الصباح‪ ،‬لكنني أستيقظ بعد وقت قصير وأنا في حالة‬
‫ؤشرا على‬
‫من الهلع التام‪ .‬اختناق‪ ،‬تسارع في دقات القلب‪ ،‬وجه الساعة يتوهج م ً‬
‫وقت مبكر‪ .‬ألهث وأحاول أن أستجمع نفسي‪ .‬أتنفس وأهدئ من روعي‪ .‬أستنشق‬
‫الهواء‪ .‬أستنشقه مع‪ :‬الوحدة وضحكات األطفال ومشاغباتهم الصغيرة وكيفية حبي‬
‫لهم‪ .‬أستنشق القيود في حياتي والسخط المتأجج‪ ،‬بيد أنها تعلق جميعها داخل‬
‫صدري‪ .‬صدري يحترق‪ ،‬وحنجرتي تضيق‪ .‬يصفر الهواء خالل مروره عبر‬
‫ي التنفسية المتضيقة‪ .‬ال يعلم األطباء ماذا يفعلون‪ ،‬وال يجدي دواء الربو نفعًا‬
‫مجار ّ‬
‫ي أن أصمد يو ًما إضافيًا‪،‬‬ ‫زفيرا بيد أن الهواء ال يتحرر‪ّ ،‬‬
‫لكن عل ّ‬ ‫ً‬ ‫لفتح حياتي‪ .‬أصدر‬
‫ومن ثم يو ًما آخر‪ .‬أتشبث بشدة‪ .‬واآلن أحاول أن أتنفس‪.‬‬
‫في وقت الحق‪ ،‬أجد نفسي في فراش وأنا أعتلي إحدى النساء‪ .‬إنها صامتة لكنها‬
‫ليست ساكنة‪ ،‬وهي تستلقي على ظهرها فيما تحاوط ركبتاي فخذيها‪ .‬أوه‪ ،‬بيد أن‬
‫هذا مثير للدهشة‪ ،‬هذه النعومة الفاتنة‪ ،‬بشرة نهدها الرقيقة على لساني‪ ،‬احتكاك‬
‫أطرافها البطيء المغوي على أطرافي‪ .‬إنني أشعر‪ ،‬أكثر مما أرى‪ ،‬بيديها وهما‬
‫قشعرين‪ ،‬سائل االهتياج‪ ،‬شعور حاد يكاد يكون أل ًما‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سدان ذراعي وظهري الم‬
‫تم ّ‬
‫تتوه مني الكلمات‪ ،‬وأتدفق في موجة‪.‬‬
‫أنا الموجة‪.‬‬
‫ي وأنا أذوب في الدفء الرطب‪.‬‬
‫طوقها بذراع ّ‬
‫أنا غريزة‪ .‬أنا لمسة‪ .‬أ ّ‬
‫أنا أشتهي‪.‬‬
‫أنا رغبة‪.‬‬
‫أستيقظ‪ ،‬وهذه المرة يخفق قلبي بشدة وينضح جسدي بالعرق مرة أخرى‪ .‬ألبث‬
‫ساكنة في الظالم وأنا أرتدي شالي الليلي وردائي الليلي المحتشم‪ ،‬الربوة الصغيرة‬
‫للحمل فوق معدتي وأنا أستمع لخفقان قلبي مقابل شخير زوجي‪ .‬وبينما يتوهج وجه‬
‫الساعة في غرفة الظالل هذه‪ ،‬أتساءل ِلم َ أظل أحلم بأنني رجل؟ ألنني أرفض‬
‫االعتراف بأنني ربما كنت امرأة تمارس الحب مع امرأة أخرى في هذا الحلم الذي‬
‫هو أكثر أحالمي إثارة‪.‬‬

‫بعد ذلك بثالث سنوات وطفلين إضافيين‪ ،‬ما أزال أعاني من الربو‪ ،‬وأعاني األحالم‬
‫أمرا اعتياديًا‪ .‬في‬
‫سخ بعد المسافة بيني وبين ليفي وغدا ً‬
‫والليالي المؤرقة‪ ،‬فيما تر ّ‬
‫أحد أيام الساباث‪ ،‬أقطع مشيًا على األقدام مسافة الميل ألبلغ الكنيس ومعي لبي التي‬
‫تبلغ اآلن أرب َع سنوات‪.‬‬
‫يحوي الحاجز الذي يفصل الرجال عن النساء في الكنيس في قسمه العلوي جز ًءا‬
‫مثقبًا يمكننا عبره أن نرى ما إذا كنا نجلس على مقربة من بعضنا‪ .‬وعندما نصل‬
‫أنا ولبي تصيبنا السعادة حين نحصل على مقاعد في المقدمة‪ .‬كانت الخدمات قد‬
‫بدأت للتو‪ .‬مندل والصغير أفرامي في المنزل مع جليسة أطفال‪ .‬أسترق النظر عبر‬
‫الحاجز فأتأكد من جلوس ليبل مع ليفي في جهة الرجال‪ .‬تلتقط لبي كتاب صالة‪،‬‬
‫إذ إنها قد بدأت بنطق الكلمات العبرية‪ .‬أخاطبها‪" :‬إجلسي بأدب لثالثين دقيقة‪،‬‬
‫وبإمكانك بعدئذ أن تذهبي للعب في البهو مع أصدقائك‪ ".‬تهز رأسها‪ ،‬عيناها‬
‫كبيرتان ورزينتان‪.‬‬
‫تحت أفضل ثيابي المخصصة للساباث وباروكتي الجديدة المصنوعة من الشعر‬
‫الطبيعي‪ ،‬كان جسدي مشوه الشكل من الحمل المتكرر‪ ،‬ورأسي حليقًا تقريبًا‪ ،‬بيد‬
‫أن جميع من تواجدن هنا كن يتزييّن بمالبس جميلة وباروكات مثالية فوق أجساد‬
‫مترهلة ورؤوس حليقة وقلوب متعبة‪ .‬ربما كان صمتنا وإحساس القصور أمام‬
‫وظائفنا هما جزء مما يجمعنا سويةً‪.‬‬
‫ليبل وليفي يجلسان على مصطبة في جهة الرجال تقابل الجدار األمامي‪ .‬يجيد ليبل‬
‫وضج ًرا‪ ،‬وألنني ال أستطيع أن‬
‫ِ‬ ‫القراءة بالعبرية‪ ،‬لكنني قلقة ألنه يبدو مضطربًا‬
‫أتخيل أن هذا الطفل سيتالءم مع أي قالب‪ .‬عما قريب سأكون معلمته‪ ،‬لكنني في‬
‫سريرتي‪ ،‬ال أريد أن أقتلع تساؤالته وتمرداته الصغيرة‪ .‬يرخي ليبل يده ليسقط‬
‫كتاب صالته‪ ،‬ث ّم يقفز عن المصطبة‪ ،‬لكن ليفي يثبت كتفه بقبضة قوية‪ .‬يتلوى ليبل‬
‫ليفلت من تلك القبضة‪.‬‬
‫مبارك هو الذي تكلم فأتى العالم للوجود‪ .‬لم تعد فوضى اختالط األصوات الذكورية‬
‫جهارا‬
‫ً‬ ‫وهي تتسارع أثناء الصلوات تفقدني تركيزي‪ .‬ولكوني ال أستطيع المشاركة‬
‫ّ‬
‫فإن هذه األصوات تشكل اآلن ما يشبه الخلفية‪ ،‬فيما أكون حرة ألبدأ بالغناء من‬
‫أينما شئت وبسرعتي الخاصة‪ .‬لقد ّ‬
‫بت أفهم الكثير من العبرية القديمة‪ .‬أحب‬
‫إيقاعاتها وجناسها وكالمها الموزون‪ .‬الشعر‪ .‬أقرأ تلك األدعية التي تعود لقرون‬
‫مضت وأتامل فيها وأنجرف معها وأشعر بأنني حرة للغوص فيها‪ .‬يكاد صوتي أن‬
‫يكون غير محسوس في الصالة‪ ،‬تتحرك شفتاي بالمقاطع‪ .‬وببطء‪ ،‬يهدأ الصفير في‬
‫صدري‪ .‬ومن خالل الجزء المثقب أرى الرجا َل بعيدين‪ ،‬جباال غطت رؤوسها‬
‫بالشاالت تترنم للرب‪.‬‬
‫إننا نختبئ خلف الحاجز ألن ألجسادنا القدرة على إثارة الرجال وإلهائهم عن‬
‫التزاماتهم‪ .‬بعض صديقاتي هنا فخورات بهذه المكانة‪ ،‬فهن يشعرن بالقوة ويستمتعن‬
‫بهذا االعتراف بسطوتهن الجنسية‪ .‬في نهاية الصف تتهامس صديقتان مع بعضهما‪.‬‬
‫وأخرى تنحني على أطفالها الثالث‪ ،‬الذين كانوا يلمعون من النظافة‪ ،‬ويرتدون‬
‫أفضل حللهم المخصصة للساباث‪ .‬لكن عدم أدائهن للصالة ليس باألمر المهم‪.‬‬
‫‪Aino domeh metzuva v’oseh l’mi shelo metzuvah‬‬
‫‪ —v’oseh‬ألن النساء لسن ملزمات بالصالة‪ ،‬وال تتمتع صلواتهن بالقداسة التي‬
‫تأتي من تنفيذ وصية إلهية‪ ،‬والتي ال يستطيع بلوغها سوى الرجال‪ .‬عرفًا‪ ،‬يكفي‬
‫المرأة أن تقوم بجلب أطفالها للكنيس من أجل أن تنفذ الصلوات إلى أرواحهم‪.‬‬
‫لكنني اليوم لست راضية بما "يكفي"‪ .‬لقد بقيت طريقة أفرام أيور التأملية لبلوغ‬
‫بإمكانك الذهاب اآلن‪ "،‬أهمس للبي‪ ،‬التي تبدو سعيدة وتقفز عن‬
‫ِ‬ ‫الحقيقة تالزمني‪" .‬‬
‫مقعدها وتأخذ بالبحث عن أصدقائها‪ .‬يزداد هدوئي بالصالة‪ ،‬أستمع للكلمات القديمة‬
‫وهي تسري عبر عقلي كما لو أن صوتي ليس بصوتي بل صوت الرب‪ ،‬وهو‬
‫يهمس ب ِشعره إلي‪ .‬من خاللي‪ .‬السطور معبأة باستعارات عن حياتي‪ ،‬كل واحدة‬
‫منها عبارة عن مفتاح يفتح شيئًا ما‪.‬‬
‫واآلن يتجمع الرجال الذين يتحدرون من كهنة كوهين في المقدمة على جانب‬
‫الرجال لكي يباركوا المصلين‪ .‬يجر الكهنة شاالت الصالة من األمام حتى تبلغ‬
‫خصورهم من أجل إخفاء وجوههم‪ ،‬فيش ّكلون صفًا جديدًا من الجبال المغطاة‬
‫بالشاالت‪ .‬ويحتشد أبناء كوهين الصغار‪ ،‬ضخا ًما كانوا أم ضئيلي البنية‪ ،‬تحت‬
‫شاالت آبائهم فيظهر من تحت صف التالل تشكيلة من أكمام البناطيل وأحذية‬
‫بمختلف الحجوم‪ .‬تعلو أغنيتهم الخافتة بسبب غطاء الرأس‪.Y’varech’cha .‬‬
‫فليباركك الرب ويحفظك‪ ،‬ولعلّه يشرق بوجهه عليك‪.‬‬
‫نشيح جميعًا بأنظارنا عن القوة الكهنوتية للرجال المنخرطين بالغناء‪ .‬فيما تعود لبي‬
‫بعد أن طرد أحدهم األطفال إلعادتهم إلى الداخل من أجل البركة الكهنوتية‪ .‬أدير‬
‫رأسي‪ ،‬وأمنحها عناقًا سريعًا‪ .‬ثم أهمس بالرد المكتوب على البركة‪" .‬يا سيد العالم!‬
‫‪ -''Chalom chalamti ayni yodea‬لقد حلمت حل ًما ليس مألوفًا‪ :‬فجأةً‪،‬‬
‫توقظني في الليل رؤيا حبّ غريب‪ .‬أنظر حولي كما لو ّ‬
‫أن اآلخرين يستطيعون‬
‫رؤيتي‪ ،‬ثم أتطلع لألسفل نحو لبي‪ .‬تستمر الجبال الكهنوتية بالغناء‪" :‬لع ّل طلعة‬
‫الرب البهية تشرق عليك‪ ".‬أعود للهمسات المس ّكنة وللوصول للرب‪ ،‬وأحاول‬
‫التشبث‪ ،Chalom chalamti .‬لقد رأيت حل ًما‪ .‬تتعلق لبي بثوبي‪ ،‬ويعود إحساس‬
‫الحرقة إلى صدري‪ .‬وعلى الجانب اآلخر من الحاجز‪ ،‬يلقي ليبل بكتابه ويشد بك ّم‬
‫ليفي‪.‬‬

‫حمام ساخن‪ .‬عضالت متعبة تلبث تحت الماء الذي يتصاعد منه البخار‪ .‬أتمطى‪.‬‬
‫وبروية أستنشق الهواء الرطب الدافئ‪ .‬وحدها‬
‫ّ‬ ‫حرارة ٌ‪ ،‬وعينان نصف مغمضتين‪.‬‬
‫الشريعة باستطاعتها أن تجعلني أنغمس بهذه الكيفية‪ّ ،‬‬
‫لكن هذا الحمام الطويل‬
‫والساخن الز ٌم قبل الميكفاه‪ .‬لقد جربته لبضع مرات في السنوات األخيرة‪ ،‬خال‬
‫ي الحمل والرضاعة‪ ،‬لكنني انتهيت من األيام السبعة النظيفة وقد حان الوقت‬
‫فترت ّ‬
‫اآلن‪ .‬سيشرف ليفي الليلة على وضع األطفال في أسرتهم‪ ،‬إذ ال يجعلني القلق على‬
‫األطفال أحظى بحمام خاطف‪ .‬وعلى مهل أزيل قشرة جرح صغيرة طرية‪ ،‬وأنعّم‬
‫ي‪ ،‬أفرك المكياج عن‬
‫ي وقدم ّ‬
‫الجلد الميت في قاعدة كل أظفر من أظافر أصابع يد ّ‬
‫ي الخشنتين‪ ،‬لكيال يحجز شي ٌء مياه الميكفاه من التالمس مع‬
‫وجهي والبقع عن يد ّ‬
‫ي إلى وركي حتى أغدو‬ ‫جسدي الحي‪ .‬أمرر الليفة ذات الرغوة من أصابع قدم ّ‬
‫أخيرا وأرتدي روبًا باهتًا م ً‬
‫زررا من األمام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نظيفة وناعمة على نحو مثالي‪ .‬أخرج‬
‫ً‬
‫وشاال صوفيًا أحمر‪ .‬أضع منشفة جديدة داخل حقيبة الظهر‪ ،‬فيما مندل وأفرامي‬
‫نائمان‪" .‬ستخرج ماما لرؤية سيدة‪ "،‬أخبر لبي النائمة في فراشها ً‬
‫أوال وأقبلها‪ ،‬ثم‬
‫أخبر ليبل الذي كان مستيق ً‬
‫ظا يقرأ‪ ،‬وأش ّد على يده‪" :‬سأعود قريبًا‪".‬‬
‫كنت أعتقد قبل الزواج أن اإليقاع المتقطع للميكفاه يزيد الحميمية‪ .‬فقبل الميكفاه‪،‬‬
‫ال ب ّد أن يع ّمق الحوار والرفقة العذرية معرفة أحدنا باآلخر‪ ،‬ومن ث َ ّم فإنهما يمتّنان‬
‫الرابطة بيننا‪ .‬سيكبر الترقب اللذيذ‪ ،‬وسيقودنا إلى ليلة الميكفاه‪ .‬بيد أنني ال أعرف‬
‫كيف هو الشعور بذلك الترقب‪ .‬لقد فقدت كل الجرأة التي اكتسبتها بعد منح الراف‬
‫ً‬
‫كامال قبل زمن طويل‪ .‬فقد ازداد ليفي بعدًا‬ ‫موشيه إيّانا ذلك اإلرجاء الذي بلغ عا ًما‬
‫وبرودًا‪ .‬أتذكر اشتهاءه لي ذات مرة‪ .‬غير ّ‬
‫أن الجنس أصبح فع َل طاعة للشريعة‬
‫تتم ممارسته مرة شهريًا‪ .‬أتو ّجه نحو الخارج عبر الباب الخلفي‪ ،‬فيما ليفي يدرس‬
‫التلمود على منضدة غرفة الطعام‪ ،‬وال ينبس ببنت شفة حين أغادر المنزل‪.‬‬
‫خارج الميكفاه‪ ،‬في سيارة الفان التي تقودها عادة االمهات‪ ،‬مع رفيقة الميكفاه ميرا‪،‬‬
‫ً‬
‫وشاال صوفيًا‪ .‬لقد اصطحبت إحدانا األخرى للميكفاه‬ ‫ضا روبًا‬
‫والتي ترتدي أي ً‬
‫لسنوات‪ ،‬وباإلضافة إلى ليفي فهي الوحيدة التي تعرف بأن هذه الليلة هي موعد‬
‫ليلتي في الميكفاه‪ .‬تحب كالنا ركن السيارة ثم تبادل األحاديث‪ .‬نقبع في السيارة‬
‫المظلمة التي تلقي ظلها تحت الضوء الطويل المسلط فوق ساحة وقوف السيارات‪.‬‬
‫تتوقف سيارة أخرى‪ .‬تخرج منها امرأتان تتوجهان إلى باب الميكفاه‪ .‬وتنكب‬
‫إحداهما على فتح القفل التوافقي‪ .‬وإدرا ًكا لخصوصية الميكفاه‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫نصرح بهوياتهن‪ّ .‬‬
‫لكن وقتنا قد حان‪ ،‬وأنا وميرا لم‬ ‫ّ‬ ‫أننا نعرف كلتيهما‪ ،‬فنحن ال‬
‫نكن مستعجلتين للخروج من السيارة‪ .‬بيننا نحن االثنتان‪ ،‬هنالك تسعة أطفال‪ ،‬وكالنا‬
‫يعلم بأنه سيكون هناك المزيد منهم‪ ،‬لذا فإننا نتبادل أطراف الحديث‪ .‬إنه أحد األماكن‬
‫القليلة التي أتحدث فيها‪ ،‬وأنا محمية بحياء الميكفاه‪ .‬نتحدث عن أطفالنا وعن معاناتنا‬
‫في تربيتهم وعن المدرسة الحسيدية وعن الحاخامات‪ .‬وتتحدث هي عن شدة رغبتها‬
‫بغرس القيم الحسيدية في نفوس أطفالها‪ ،‬وأحيانًا‪ ،‬حينما تستشهد بدراساتها اليهودية‪،‬‬
‫يزداد صوتها حدّة‪ .‬وعندما تفعل ذلك أتراجع عن الحديث‪ ،‬إال إننا بعدها نتشارك‬
‫وصفات الطبخ ونتحدث عن أزواجنا وعن مهارتنا في المساومة وعن التعامل مع‬
‫مدبرات المنزل‪ .‬لقد كنت ذات مرة خجولة ومترددة في مثل هذه الخروجات‪ ،‬إال‬
‫أن ميرا أصبحت اآلن أكثر من مجرد صديقة ألتقي بها مرة في الشهر‪.‬‬

‫في غرفة االنتظار في الميكفاه‪ ،‬تتجاذب بضعة نساء‪ ،‬من اللواتي يجلسنَ على‬
‫أطراف الحديث مع بعضهن‪ ،‬بينما تقف األخريات‪ .‬ومن‬
‫َ‬ ‫المقاعد القليلة المتوافرة‪،‬‬
‫المتعارف عليه أن ما من امرأة ستبلّ ٌغ عن اللواتي رأت ّ‬
‫هن هنا‪ .‬تأتي النسوة جميعهن‬
‫أزوا ًجا‪ ،‬واحدة تغمر نفسها بمياه المكيفاه واألخرى تأتي من أجل اإلشراف عليها‪.‬‬
‫إحدى النسوة‪ ،‬وهي حديثة العهد بالزواج‪ ،‬ال تتكلم وال تنظر ألحد‪ ،‬بل تسلط نظرها‬
‫على قدميها‪ ،‬ويداها تمسك بمنشفتها الملفوفة في حضنها بينما تنتظر قدوم دورها‪.‬‬
‫فأتذكر كم شعرت بأنني منتهكةٌ في هذا المكان عندما كنت في بداية زواجي‪ .‬كنت‬
‫أشعر بالحرج ّ‬
‫ألن كل شخص هنا ال بد وأن يعرف بأنني كات من المفترض أن‬
‫أمارس الجنس مع زوجي تلك الليلة‪ ،‬أو ألن موعد الميكفاه يكون في وقت‬
‫خصوبتي‪ ،‬ما يجعلني عرضة للحمل في الليلة نفسها‪ .‬ولكنني تعلمت أن أحب هذه‬
‫المساحة النسائية الخاصة المفعمة بالطاقة حيث االعتراف المضمر بممارسة‬
‫الجنس‪ .‬إننا نتشارك التكتم على األسرار والترقب والتغييرات التي قد تحدث‪ .‬أنضم‬
‫للحديث‪.‬‬
‫أربعة أبواب متجاورة حول محيط غرفة االنتظار الرئيسية هذه‪ ،‬وهذه األبواب‬
‫األربعة تفضي إلى أربع غرف متصلة‪ .‬تحوي اثنتان منها على أحواض الميكفاه‪.‬‬
‫وكل واحدة منها مرتبط بحمام يتم فيه التهيؤ لالنغمار‪ .‬تطلع إحدى النساء من إحدى‬
‫الغرف بوجه ناضر وجسد مكتس بالثياب‪ ،‬ووجناتها متوردتان من أثر الماء الحار‪.‬‬
‫توميء لي ميرا أن حان وقت دخولي‪.‬‬
‫ألتف بمنشفة وأقف بجانب البركة‪ ،‬وميرا تقف خلفي‪ .‬الميكفاه مليئة بمياه حارة‬
‫تجعلها مثل حمام ساونا‪ ،‬وهي مبطنة بقرميد أزرق اللون‪ .‬وعلى الرغم من أن‬
‫المضخة المسؤولة عن تصفية الماء وإضافة الكلور مطفئة خالل وقت الميكفاه‪ ،‬إال‬
‫ّ‬
‫أن الهواء يعبق برائحة الكلور‪ ،‬إنها ميكفاه أمريكية عصرية‪ .‬هنا في الداخل يتردد‬
‫صدى كل األشياء‪ :‬المياه المتقاطرة‪ ،‬وقع حذاء ميرا على األرض الرخامية‪،‬‬
‫أصواتنا الخافتة‪ ،‬حماسة جميع النساء من الماضي والحاضر والمستقبل واللواتي‬
‫جلبن أو سوف يجلبن آمالهن إلى هنا‪ .‬أستدير وأدع المنشفة تنزل حتى خصري‬
‫ي من أي شعيرات متناثرة‪ .‬إذ ال ب ّد‬
‫لكي تستطيع ميرا أن تعاين خلو ظهري وكتف ّ‬
‫ي براحة‬
‫أن تمس المياه كل بوصة من بشرتي‪" .‬ال تتحركي‪ "،‬تقول ميرا وتمسح كتف ّ‬
‫باالنتهاك في الميكفاه ما يزال يراودني‪ ،‬فأجفل ال إراديًا‬
‫ِ‬ ‫يدها الدافئة‪ّ .‬‬
‫لكن الشعور‬
‫أعود نفسي على هذا‪ .‬أبقي ظهري بمواجهتها وأنزل‬
‫من لمستها الناعمة‪ .‬ولن ّ‬
‫الدرجة األولى وأناول المنشفة والنظارات من وراء ظهري إلى ميرا‪ ،‬ألدعها تظن‬
‫بأن حشمتي موجهة للرب‪.‬‬
‫تتوارى ميرا خلفي في األعلى‪.‬‬
‫ي‪ .‬هنا أنا متجردة من كل شيء‪ ،‬ومن‬
‫تصل المياه الدافئة إلى صدري‪ ،‬وأغلق عين ّ‬
‫كل شخص‪ ،‬من ليفي البعيد‪ ،‬وليبل الصغير العاطفي‪ ،‬ولبي الخجولة‪ ،‬ومندل‬
‫النشيط‪ ،‬والطفل الجميل أفرامي‪ .‬كما أنني متجردة من التظاهر‪ ،‬فهنا وهنا فقط أنا‬
‫ضا‪ ،‬حيث‬
‫ي وأنزل إلى المستوى األكثر انخفا ً‬
‫منكشفة على حقيقة نفسي‪ .‬أفتح عين ّ‬
‫ي من أجل إبقاء ذقني فوق سطح الماء‪.‬‬
‫أضطر إلى أن أتوازن على أصابع قدم ّ‬
‫تتدفق موجات المياه بعيدًا عني في خطوط رمادية متموجة‪ .‬لقد تغيّر معنى الميكفاه‬
‫متمحورا حول ليفي‪ ،‬أو حول الجنس الذي سوف يتبعها‪ .‬وبغض‬
‫ً‬ ‫عندي‪ ،‬ولم يعد‬
‫النظر عما ت ّم تلقيننا إياه‪ ،‬فإنني لم أعد أطهر نفسي ألجله هنا‪ ،‬مثل أعطية‪ .‬إذ أصبح‬
‫هذا الغطس المتجرد في المياه الدافئة صالتي األكثر خصوصية‪ ،‬صالة جسد‪ ،‬بيني‬
‫وبين الرب فقط‪.‬‬
‫ي إلى األمام‪ ،‬وال أتعجل‪ .‬فهذه ليست مثل الغطسات اإلجبارية المستعجلة‬
‫أرفع ذراع ّ‬
‫الكثيرة التي سبقت هذه المرة‪ ،‬والتي كانت مثقلة باإلرهاق وضعف البصيرة‪ .‬أرفع‬
‫ي عن القاع وأدس رأسي تحت الماء‪ .‬وتحت سطح الماء‪ ،‬أتمطى وأمد يدي‬
‫قدم ّ‬
‫للوصول لشيء ال أستطيع تحديده‪ .‬مغمورة وعارية ومعدومة الوزن‪ ،‬إنني محت َ َ‬
‫ضنة‬
‫أخيرا‪ .‬الماء يمثل عناقًا صامت ًا‪ .‬لكنني بعدها أنزل قدم ّ‬
‫ي إلى قاع المحيط وأرفع‬ ‫ً‬
‫رأسي ألجد عال ًما أرضيًا ما يزال ينتظرني‪ .‬أبزغ حينها فيما يبدو وكأنه والدة‪،‬‬
‫وما أزال أقف في الماء‪ .‬تهمس ميرا بكلمة "حالل'' أو "‪ "kosher‬وتنزل لألسفل‬
‫من الدرابزين عبر الهواء الرطب‪ .‬لكن ما هو‪ ،‬من هو‪ ،‬هذا (الحالل)؟ هل أنا‬
‫مط َّهرة‪ ،‬بعد كل شيء؟ وهل أطفالي كذلك؟ أتلو البركة بصوت مشوب باألمل‪.‬‬
‫وجل هذا األمل منصبٌّ على تحسين حيواتهم الثمينة‪ .‬ومن خلفي‪ ،‬تر ّد ميرا‪ :‬آمين‪.‬‬
‫ي لكي أغطس تحت الماء‪ .‬أموت هنا‪.‬‬ ‫أدس رأسي تحت الماء مجددًا وأرفع قدم ّ‬
‫أغدو قطرة في البركة الهائلة من النساء والتاريخ والرب‪ .‬تحت الماء‪ ،‬محاطةٌ أنا‬
‫بوجوه أنثوية عائمة من ماضي شعبي‪ ،‬يصلين و َيعمنَ ويتأ ّملن‪ .‬إنني أعوم على‬
‫قمة دوامة على هيئة قمع هائل‪ .‬أدرك أنني لست وحيدة‪ .‬أكرر فعل ذلك خمس‬
‫مرات أخرى‪ ،‬فيصبح مجموع الغطسات الكلي سبعة‪ ،‬أموت وأموت مجددًا‪ ،‬حتى‬
‫تدور اللحظات األزلية الخالية من الهواء جميعها سوية‪ .‬أقف اآلن‪ ،‬والشعر األملس‬
‫المبلل ملتصق على رأسي‪ ،‬أواجه الجدار المكسو بالقرميد في عقد حميمي مع‬
‫الرب‪ ،‬أسلمه ذاتي المخبوءة‪ .‬هنا‪ ،‬أهمس له‪ .‬خذ هذه‪.‬‬
‫الفصل الثالث عشر‬

‫‪ 28‬يناير‪ .1986 ،‬أدخل إلى غرفة المستشفى التي يمكث فيها ليفي وأنا‬
‫شهرا‬
‫ً‬ ‫أدفع العربة التي وضعت فيها مولودتنا الخامسة سارة التي تبلغ من العمر‬
‫واحدًا‪ ،‬ومعي ليبل الذي أصبح في سن السابعة يساعدني في دفع العربة‪ .‬فسنوات‬
‫االستقامة أثقلت ظهر ليفي الذي جاء هنا ليخضع لجراحة فيه‪ .‬وحالما نصبح داخل‬
‫يحرم ال َحبر‬
‫الغرفة نتوقف مع العربة‪ .‬يطالعنا مشهد غريب‪ :‬ليفي يشاهد التلفاز‪ّ .‬‬
‫التلفاز‪ ،‬لذا ال نمتلك واحدًا في المنزل‪ .‬وعلى الرغم من أنني أسمح لليبل أن يشاهده‬
‫أحيانا ً في منازل الجيران‪ ،‬إال أنه ً‬
‫نادرا ما رأى والده يشاهد التلفاز‪ ،‬هذا إن كان قد‬
‫رآه قط‪ .‬ال يلتفت إلينا ليفي وال يحيّينا بابتسامته الباهتة‪ .‬بل يس ّمر عينيه على‬
‫جارا‬
‫الشاشة‪ .‬كان صوت التلفاز عاليًا‪ ،‬والمذيع يتحدث بنبرة حميمية كما لو كان ً‬
‫أو صديقًا‪.‬‬
‫كنا قد اطلّعنا على آخر األخبار في نسخة ليفي من صحيفة هيوستن‬
‫كرونيكل‪ ،‬كما حدّثت معلمة اللغة اإلنكليزية للصف األول ليبل وزمالءه األطفال‬
‫عن كريستا ماك أوليف‪ ،‬معلمة الدراسات االجتماعية التي ستسافر إلى الفضاء‬
‫على متن مركبة فضائية تابعة لناسا حاملةً معها رسائ َل من تالميذ المدرسة‪ .‬كانت‬
‫ماك أوليف تخطط ّ‬
‫لبث دروس من الفضاء‪ ،‬فيما وصفتها بـ"الرحلة الميدانية‬
‫األعظم‪ ".‬ناسا هاهنا في هيوستن‪ ،‬فدبَّ الحماس في األطفال‪ .‬كانت المهمة تضم‬
‫سبعة أعضاء آخرين‪ ،‬من بينهم جوديث ريسنك‪ ،‬وهي امرأة يهودية سبق لها أن‬
‫ذهبت إلى الفضاء‪ ،‬لكن تبدو ماك أوليف‪ ،‬وهي أول شخص يسافر للفضاء من غير‬
‫س َرت مخيّلة األمة‪ .‬يوم أمس‪ ،‬حملت الصفحة األولى من‬
‫رواد الفضاء‪ ،‬هي من أ َ‬
‫الصحيفة صورة ً ملونة لطاقم ناسا المكون من ثمانية أعضاء وهم بكامل عدّتهم‪.‬‬
‫وطوال أسابيع‪ ،‬كانت ألعاب ليبل تدور حول الصواريخ والرحالت الفضائية‪.‬‬
‫ال ينظر ليفي إلينا‪ .‬وعلى شاشة التلفاز ظهرت هناك سحابة مخيفة‪ ،‬غيمة‬
‫كثيفة مترعة بالدخان في أعلى السماء الزرقاء‪" .‬ما هذا؟" أقول‪.‬‬
‫يقول ليفي‪":‬إنه المكوك تشالنجر‪".‬‬
‫أضع يدي بسرعة على كتف ليبل‪ ،‬كان صوت المذيع مغلفًا بهدوء حزين‬
‫ومنذر بالشؤم‪ ،‬كما لو كان شي ًخا ينصح برفق إنسانًا وحيدًا وضعيفًا خالل مأساة‬
‫أل ّمت به‪ .‬وتحت تأثير ذلك الصوت األبوي الحاني‪ ،‬أعي فجأة أن كل البالد قد‬
‫توقفت لتشاهد إقالع المكوك تشالنجر‪ ،‬إذ توقفت األعمال التجارية‪ ،‬وتج ّمع تالميذ‬
‫المدارس الصغار أمام الشاشات‪ .‬يعاد بث المشهد الغريب‪ ،‬تلك السحابة الدخانية‬
‫في السماء‪ ،‬والحشد المتفرج الصامت الذي كان منذ لحظات قليلة يهتف ويهلل عند‬
‫إطالق المكوك‪ .‬يرفرف العلم من أثر الرياح‪ .‬نشاهد العرض من البداية هذه المرة‪،‬‬
‫تصور األطفال‬
‫ّ‬ ‫اإلقالع المثير نحو االحتماليات الالنهائية‪ ،‬ثالث وسبعون ثانية‬
‫المبتسمين والحشود المهللة‪ ،‬ثم يع ّم الصمت‪ .‬تلك السحابة في السماء‪ .‬وجوه كئيبة‪.‬‬
‫الملوحة‪ ،‬ونَزلَت‪ ،‬فغرت األفواه‪ ،‬شخصت العيون إلى‬
‫ّ‬ ‫تجمدت الالفتات واأليدي‬
‫األعلى‪ .‬سوية مع الحشود‪ ،‬نشاهد أنا وليفي وليبل الدخان وهو ينقشع رويدًا رويدًا‪.‬‬
‫كنا جميعنا نقف وأكتافنا مرتخية‪ ،‬وعلى وجوهنا نفس الدهشة التي لم ترف بسببها‬
‫عيوننا‪ .‬يترك المذيع وقفات طويلة وكئيبة بين جمله بينما يعاد بث صورة اإلقالع‬
‫وتكرارا‪ ،‬لينتهي المشهد كل مرة بسماء خالية فيما نقيم وقفة حداد‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫واالنفجار‬
‫أمام هذا الصندوق الغريب‪.‬‬
‫في غضون هذه الدقائق القليلة‪ ،‬اقتلعني الحدث مع ليفي وليبل من صندوقنا‬
‫ورفعنا من فوق جدار الصندوق وأسقطنا في داخل المجتمع‬
‫الزجاجي الحسيدي َ‬
‫األمريكي‪ .‬تمسح الكاميرا وجوه الحشود وها نحن ذا بينهم‪ .‬وبينما يعاد بث مشهد‬
‫السحابة مرة أخرى‪ ،‬ننض ّم بعجزنا لتيار المشاعر الوطنية‪.‬‬
‫ينشج ليبل‪ ،‬عيناه واسعتان ومليئتان بالدموع‪ .‬إنه ليس معتادًا بتاتًا على العالم‬
‫الغريب لصور التلفزيون‪ .‬أضع يدي الثانية على كتفه اآلخر لمواساته وأفكر‪ ،‬ان‬
‫سماع هذه االخبار كان يكفي ليسبب له هذا االذى‪ ،‬ولكن رؤيتها بعينيهَ…حركت‬
‫يدي للحظة تجاه عينيه لتغطيتها‪ ،‬ولكني عدلت عن ذلك‪.‬‬
‫لقد خذلناه‪ .‬كنت أظن بأن الصندوق الزجاجي سيعزل أطفالي عن العالم‬
‫ي من كل ذلك‪ ،‬وها قد قطعت كل هذه المسافة‬
‫ومآسيه‪ ،‬كما وظننت أن مجتمعنا محم ٌّ‬
‫لكي أجلب ابني إلى هنا ليرى هذا الدمار الذي يفوق التصور‪ .‬أما األسوأ من ذلك‬
‫فهو تعليمنا إياه أن ما من شيء في العالم يحدث من قبيل المصادفة‪ .‬لقد علّمناه بأن‬
‫كل شيء يحدث تبعًا لخطة الرب الخيّرة‪ .‬ومجددًا تظهر تلك السحابة في السماء‪.‬‬
‫"ليفي" أقول وأنا أشير إلى ليبل‪" .‬أطفئ التلفاز‪".‬‬

‫"أمي‪ ،‬لماذا؟" يقول ليبل بصوت حزين من مقعده الخلفي في السيارة‪ .‬أعرف‬
‫أنه ال يستطيع أن يتخيل عدم وجود أي تفسير‪ ،‬فمن المفترض أن التوراة تجيب‬
‫عن كل شيء‪ .‬لكنني كنت خرقاء وافتقر لألجوبة‪ .‬وال يرجع هذا إلى ّ‬
‫أن ديننا‬
‫اليهودي ال يقدم اإلجابات‪ ،‬لكنه يعود إلى أن االجابات التي أعرفها لن تشعرني‬
‫بالنزاهة حين أقدمها له اآلن‪ .‬أعترف بهذا أمام نفسي‪.‬‬
‫وكأن التفسير الجيد بما فيه الكفاية كان ليزيل هذه الخسارة‪ .‬تخترقني صدمة‬
‫ليبل البريئة بينما أقود السيارة‪ .‬كان من المفترض أن أكون األم الدرع التي تحمي‬
‫أطفالها من التناقضات والصدف والخسارة‪ .‬لقد آذيته‪ ،‬ولم أمنحه الحماية من العالم‬
‫المحتوم‪" .‬لماذا؟" يسأل مجددًا ومجددًا‪.‬‬
‫أتمنى لو كنت حرة ألخبر ليبل بأن هناك الكثير والكثير في الخارج مما‬
‫يتحدى مفهوم وجود خطة إلهية خيّرة‪ .‬أردته أن يكون واثقًا بنفسه وسعيدًا حتى في‬
‫الخارج في ذلك العالم المتناقض والمفجع الذي رآه على التلفاز‪ ،‬لكن من أجل أن‬
‫يبلغ ذلك‪ ،‬سيكون عليه أن يخوض غمار معرفة ذلك العالم‪.‬‬
‫يستمر ليبل بتساؤله أليام عدة‪.‬‬

‫بعد نحو شهر في منزلنا الجديد‪ ،‬أجلس في مطبخي الجديد الواسع الذي يزينه‬
‫البالط المكسيكي األحمر‪ ،‬أرتشف الشاي وأستمتع بهدوء الوقت الباكر قبل ذروة‬
‫أخيرا الترميم‪ ،‬والجراحة التي أجراها ليفي‪ ،‬واالنتقال‪ ،‬وأنا‬
‫ً‬ ‫الصباح‪ .‬إذ تجاوزنا‬
‫مسرورة للغاية بقرار تأجيل عودتي للتدريس بعد والدة سارة‪ .‬يعد المنزل الجديد‬
‫ي‪،‬‬
‫فرصة جديدة لخلق مالذنا اآلمن‪ .‬سارة نائمة في كرسيها النطاط عند قدم ّ‬
‫وغالديس‪ ،‬مدبرة منزلنا الجديدة‪ ،‬توقظ األطفال وتنزع األغطية عن األسرة في‬
‫الجزء الخلفي من المنزل‪ .‬وعبر النافذة الناتئة إلى الخارج‪ ،‬تبدو سماء أواخر فبراير‬
‫منخفضة ورمادية‪ ،‬وأحد الطيور المحاكية يغرد على غصن سفلي من أغصان‬
‫تكتس باألوراق بعد‪ .‬تشكل أرضيتنا المصنوعة من الخشب‬
‫ِ‬ ‫شجرة الدردار التي لم‬
‫جسرا فوق بحيرة أسماك تتلوى في قاعها أسماك كوي‪ .‬البالط المكسيكي‪،‬‬
‫ً‬ ‫األحمر‬
‫حوض مغسلة مزدوج وأدوات مطبخية مزدوجة‪ ،‬إحداها للتعامل مع اللحم‬
‫واألخرى للتعامل مع الحليب‪ ،‬جميعها تلمع من فرط النظافة‪ .‬يندفع الطائر المحاكي‬
‫من الشجرة إلى درابزين الجسر‪ ،‬يجثم هناك‪ ،‬ويدير رأسه ليشاهد السمك‪ .‬سارة‬
‫شبعى وهادئة‪ .‬ويبدو عليها ذلك السكون المذهل الذي يميز نوم الرضيع‪.‬‬
‫لقد خفّضت الجدار الزجاجي بيننا وبين اآلخرين بمقدار قليل‪ .‬فانتقلت‬
‫غالديس للعيش معنا‪ .‬لقد دعوتها لالنتقال معنا رغم أنها ‪-‬لكونها الجئة من‬
‫السلفادور‪ ،‬وواحدة من جموع الناس اليائسين الذي تدفقوا على حدود تكساس‪-‬‬
‫تجلب العالم ومشاكله إلى داخل منزلنا‪ .‬أوصيها‪" :‬خاطبي األطفال باللغة اإلسبانية‬
‫فقط‪ ،‬وهم سيتعلمون بسرعة‪ ".‬بعد أن انفجر المكوك تشالينجر‪ ،‬ارتأيت أنه إذا‬
‫تمكنت من جعل األطفال أكثر تعودًا على القدر‪ ،‬فلربما لن يشعروا فيما بعد أن‬
‫إيمانهم خانهم أمام خطر وعبثية العالم‪ .‬ولعل غالديس تستطيع أن تساعدهم في أن‬
‫يصبحوا أقل ارتيابًا من الناس المختلفين عنا‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬يمنحني وجود‬
‫غالديس وقتًا ألتعافى من والدة سارة‪ ،‬حتى وإن كانت األعمال المنزلية تتطلب‬
‫جهود كلينا‪ ،‬كما يمنحني وقتًا ألرتشف كوبًا من الشاي‪.‬‬
‫ينادي أفرامي من مهده "ماما!"‪ ،‬ثم يتوقف عن مناداتي؛ ال بد أن غالديس‬
‫قد أخرجته من السرير‪ .‬وأمامي يظهر ليفي مرتديًا بزة وربطة عنق‪ ،‬وهو يسير‬
‫عا عبر المطبخ نحو الباب الخلفي‪ ،‬وما يزال يتحرك كما لو أن ظهره الذي‬
‫مسر ً‬
‫س َّحاب والتي‬
‫مؤخرا قد ينكسر‪ ،‬ويضع تحت ذراعه حقيبته المخملية ذات ال َّ‬
‫ً‬ ‫عالجه‬
‫تحتوي على شال الصالة الخاص به والتيفلين‪ .‬أعبس وأضع أصبعي على شفتي‪،‬‬
‫وثم أؤشر على الطفلة النائمة‪ .‬يقول ليفي "لقد تأخرت‪ .‬يجب أن أذهب‪ ،"،‬مثل‬
‫عا‪ .‬يصفق الباب‬
‫األرنب األبيض في أليس في بالد العجائب‪ ،‬دون أن يقول ودا ً‬
‫خلفه‪.‬‬
‫سرعان ما ستبدأ جلبة المنزل الصباحية‪ ،‬لكن ليفي على وشك أن يشهد‬
‫ابتداء خدمة الكنيس الصباحية المبكرة‪ .‬تتملكني بعض الغيرة‪ .‬أتخيل رجال مجتمعنا‬
‫متناثرين في أرجاء حرم الكنيس‪ ،‬ينفضون شاالت الصالة تحت السقف العالي‪،‬‬
‫والضوء الخافت‪ ،‬ثم يلفون أحزمة التيفلين السوداء حول أذرعهم‪ ،‬يتثائبون‪ ،‬وكل‬
‫واحد منهم محاط بقدسية تتأتى من االلتحاف بالشال الذي يصدر حفيفًا‪ .‬يبدؤون‬
‫الصالة واحدًا تلو اآلخر‪ ،‬يغوصون في الكلمات‪ ،‬يسهون عن مشاغلهم الراهنة‪،‬‬
‫عن وظائفهم والسيارة التي تحتاج إلى التصليح والطفل المشاغب والمرج غير‬
‫المشذب والصديق المحتاج والزوجة المتعبة‪ ،‬حتى تمتلئ الحجرة باألمل المتجمع‬
‫تحت ضوء الصباح الباكر‪ .‬أتذكر لحظات الهدوء التي كانت تتخلل كلمات أفرام‬
‫إيور حينما كنت أشاهده وهو يصلي‪ ،‬ذلك النوع الفريد من السكون‪ .‬يتسنى لليفي‬
‫أن ينغمس في تلك األجواء كل صباح‪ ،‬وهو محاط بالرب من كل جانب‪.‬‬
‫مدو في الكنيس الذي يصلي فيه ليفي‪ ،‬وأنا‬
‫لكن‪ ،‬صوت الرب الذكوري ّ‬
‫أجلس في جانب النساء من الحاجز الفاصل بين النساء والرجال‪ .‬ثم أفكر‪ ،‬حسنًا‪،‬‬
‫ربما ليفي يشعر بالغيرة هو اآلخر‪ ،‬الغيرة مما أبدو بأنني أحظى به من راحة في‬
‫الصباح الباكر بينما ينبغي عليه أن يسرع كل صباح إلى الكنيس‪ ،‬بغض النظر عما‬
‫يشعر به‪ .‬أتخيل ليفي بين الرجال اآلخرين‪ .‬يسدل الشال على كتفيه‪ ،‬صندوق‬
‫التيفلين على جبهته‪ ،‬ويردد البركات اليومية التي تنطوي على تقديم الشكر للرب‬
‫ألنه "لم يجعله امرأة‪ ".‬لقد فرغت قبل زمن طويل إلى أن الرجال مأمورون بترديد‬
‫عبارات الشكر كتهذيب يومي يبعد عنهم الشعور بالغيرة من النساء‪ ،‬اللواتي ال‬
‫يحملن على عاتقهن عبء أداء الطقوس اليومية والصلوات الذي يتحملونه هم‪.‬‬
‫تبخترا مقيتًا كما يظنها الغرباء من غير اليهود‪.‬‬
‫ً‬ ‫أفكر‪ ،‬ال يمكن أن تكون تلك الصالة‬
‫شعورا إزاء النساء‪ ،‬إنما هي صالة نابعة من االلتزام الناشئ عن كونك‬
‫ً‬ ‫إنها ليست‬
‫ً‬
‫رجال‪ .‬فنحن جميعًا ملزمون بشكر الرب على أعبائنا‪.‬‬
‫تدخل ليبي إلى المطبخ بخطوات هادئة‪ ،‬ناعسة وضئيلة‪ ،‬ويأتي خلفها ميندل‪.‬‬
‫أقوم من مقعدي‪ .‬ترفع ليبي ذراعيها فأرفعها على خصري‪ .‬أفكر بأنها أخذت تكبر‬
‫ولن يعود مناسبًا حملها بهذه الطريقة‪" .‬بوبا‪ ،‬هل رد ّد ِ‬
‫ت صالة (‪)modeh ani‬؟"‬
‫أقول بنبرة تفيض دفئًا بعد أن تركت لها ليلة البارحة طشت غسل بجانب سريرها‬
‫مع إبريق ماء ذي مقبضين لكي تجده حين تستيقظ في الصباح‪ ،‬فتقرفص على‬
‫األرض وتصبّ ماء الطقس على يديها‪ .‬ال بد أنها سكبت بعض الماء حين حملت‬
‫ً‬
‫مبلال‪ .‬تضع‬ ‫الحوض إلى الحمام مثل فتاة ناضجة‪ ،‬ألن طرف رداء نومها كان‬
‫رأسها على كتفي وتعانقني وهي ما تزال ناعسة‪ ،‬وأنا استمع لها وهي تلثغ بجملة‬
‫الشكر الصباحي للرب موديه آني (‪ .)modeh ani‬إن تدريبهم على الطقوس‬
‫عليك أن تتناولي الفطور وتستعدي للمدرسة‪"،‬‬
‫ِ‬ ‫واإليمان هو ما ميّز أمومتي‪" .‬يجب‬
‫أقول لها‪ .‬تهز ليبي برأسها على كتفي‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وليبل الذي يستيقظ من نومه‬
‫ثم يأتيني ميندل‪ ،‬الذي يريد الفطور أي ً‬
‫وأفرامي الذي تجلبه غالديس وأنا أمزج رقائق التشيريو والحليب في أطباق‬
‫ّ‬
‫وأحث األطفال على ترديد البركة قبل الطعام ‪-‬تناولوا‬ ‫وأحضّر كؤوس العصير‬
‫طعامكم‪ ،‬حان وقت الذهاب للمدرسة‪ -‬فيما تجهز غالديس أكياس وجبة الغداء‪ .‬حتى‬
‫أفرامي ذو العامين يذهب إلى المدرسة‪ .‬يستوجب هذا دفع المزيد من التكاليف‬
‫يصرون على بدء التعليم عند عمر السنتين‪ .‬أحزم حقائب‬
‫ّ‬ ‫للتعليم‪ ،‬لكن آل فرومان‬
‫أدس القمصان في بناطيلهم‪ ،‬وأساعدهم على ارتداء األحذية الرياضية‪ .‬ومع‬
‫الظهر‪ّ ،‬‬
‫هذا‪ ،‬مع هذا‪ ،‬أفكر‪ ،‬كما لو أن شعور لمس كل طفل ما يزال ملتصقًا على يد ّ‬
‫ي‪ ،‬إن‬
‫احتضان األطفال هذا ورعايتهم وتعريفهم على الرب لهو صالتي الصباحية‪.‬‬
‫إن تعليم األطفال ورعايتهم وترتيب حيواتهم التي تتخللها لحظات الحب‬
‫المباغتة لهو عندي بمثابة الـ "‪ "shechinah‬الهامسة‪ ،‬أي ما نعني به الجانب‬
‫األنثوي من الرب‪ .‬وهنا يلّح على التساؤل‪ :‬بالنسبة ألولئك الرجال في مجتمعنا‬
‫الذين‪ ،‬خالفا لليفي‪ ،‬يشاركون بعمل المنزل ورعاية األطفال (وهم كثر)‪ ،‬هل‬
‫ضا لحظات مع أطفالهم تبدو أشبه بالصالة؟‬
‫يختبرون أي ً‬
‫بعد ساعة‪ ،‬وبعد أن يغادر األطفال إلى المدرسة‪ ،‬أعود إلى طاولة المطبخ‬
‫ي‪.‬‬
‫مع كوب شاي طازج‪ ،‬تركل سارة قدميها في ذراع ّ‬
‫يبدو أن المنزل الجديد يحبس أنفاسه في انتظار عودة األطفال للتجمع فيه‬
‫الحقًا مع صيحاتهم وحقائبهم وجوعهم‪ ،‬لكن في اللحظات الراهنة ثمة استراحةٌ‪،‬‬
‫ترف يبعث على االمتنان‪ .‬أرتشف شايي‪ .‬لكن ما تزال أمامي الئحة مهام اليوم‪،‬‬
‫ٌ‬
‫والخطط‪ ،‬ووجبات الطعام‪ .‬يقول الحاخام فرومان أن كل حفاظة يتم تغييرها وكل‬
‫إناء يتم غسله‪ ،‬وكل مرة تحمل فيها امرأة ً‬
‫طفال لهي طقوس المرأة الخاصة التي‬
‫تؤديها من أجل الرب‪ .‬يقول الحاخام أن كل عمل من جنس هذه األعمال يحمل‬
‫للمرأة نفس الطاقة الروحية التي تحملها طقوس الرجل التقليدية‪ .‬لكن… كيف لليفي‬
‫أن يتخيل أن حياتي مألى بالراحة والحرية لمجرد أنني غير ملزمة بأداء طقوسه‬
‫ودراسته وصلواته؟ ال يمكنه أن يغار مني‪ .‬أي راحة؟ عندما أستيقظ قبل الفجر‪،‬‬
‫يكون ذهني منهم ًكا بالتفكير باألعمال غير المنجزة؟ أي راحة؟ عندما سيخيب أمل‬
‫أحد األطفال اليوم ألي أمر كان حينما ال يجد مني ما يكفيه؟ أي راحة عندما ال‬
‫نتعاون أنا وليفي في مسؤولياتنا المنفصلة وال حتى نتحدث عنها؟ فإذا كان كل ما‬
‫سا بحد ذاته‪ ،‬فأنا أؤدي طائفة من الطقوس أكبر بكثير‬
‫أفعله للمنزل واألطفال طق ً‬
‫مما يؤدي ليفي‪.‬‬
‫تأخذ سارة بالبكاء‪ .‬أرفع بلوزتي وألقمها ثديي‪ .‬أنتقل إلى حيث الكرسي‬
‫المنبسط في حجرة المعيشة وأجلس عليه‪ .‬يستقر ثقلها على معدتي‪ ،‬السحب‬
‫المنوم لشفتيها الراضعتين‪ ،‬األنفاس الدافئة المتواترة على البشرة‬
‫ِّ‬ ‫المتواصل‬
‫الناعمة‪ .‬وبينما ترضع‪ ،‬تتحسس بلوزتي بأصبعها‪ .‬تبدأ بإغماض عينيها‪ .‬أنحني‬
‫للخلف‪ ،‬ثم أمد يدي إلى منضدة جانبية أللتقط أحد كتب الصالة المهترئة الموزعة‬
‫في جميع أرجاء المنزل لتكون في متناول اليد وأقلب الصفحة على نفس البركات‬
‫التي يبدأ بها ليفي يومه‪ .‬وبينما ت َرضع سارة ويغلبها النوم‪ ،‬أهمس بنفس الكلمات‬
‫التي يرددها ليفي في الكنيس‪" :‬إن الرب يحرر األسرى‪ ،‬يرفع من يركعون‪ ،‬يشفي‬
‫المرضى‪ ".‬أقرأ الكلمات وكأنها وعود ّ‬
‫بأن األعباء سوف تخف عن كاهلي وبأنني‬
‫لست وحيدة في مواجهتها‪ ،‬ولكنني ال أستطيع حتى تخيّل نفسي وأنا أعبر عن هذه‬
‫األعباء بصوت عال‪.‬‬
‫لكن الئحة مهام اليوم تقتحم رأسي‪ ،‬فأبدأ باإلسراع في القراءة‪ ،‬متعجلةً‬
‫ّ‬
‫وغائبة الذهن‪ ،‬مهمة آخرى تحتاج ألن أتحقق منها‪ ،‬حتى أصل إلى المقطع "بوركت‬
‫أيها الرب‪ ،‬ألنك لم تخلقني امرأة‪ ".‬وهنا أقوم تلقائيًا باستبدال ما تستبدله النساء‬
‫بالعادة‪" :‬لك الشكر‪ ،‬ايها الرب‪ ،‬ألنك خلقتني وفقًا إلرادتك‪ ".‬إننا نقبل خيارات‬
‫ً‬
‫رجال وال أنتمي لجانب الكون الذي ينتمي إليه ليفي‪.‬‬ ‫الرب المجانبة للحظ‪ .‬لست‬
‫لكنني أتساءل ِل َم تقتصر بركة النساء على القول بأنني أقبل ارادة الرب‪ ،‬وال تقول‬
‫بأنني امرأة؟ أن ذلك ما أنا عليه‪ .‬ف ِل َم ال نقول في البركة‪" :‬الشكر لك‪ ،‬أيها الرب‪،‬‬
‫ألنك خلقتني امرأة"؟‬
‫لكن ِلم ال نقول ذلك حقًا‪ ،‬اخبر نفسي‪ .‬فليفي أي ً‬
‫ضا يقوم بنفس الصلوات‬
‫اليومية بنفس الخضوع الخاوي الذي أستجمعه كل يوم‪ ،‬أمام نفس الرب الحسيدي‪.‬‬
‫لكن ماذا لو كان بإمكاني التأرجح بين عناق األطفال الدافيء والروعة الهائلة‬
‫الغامرة لربنا التقليدي القديم في الكنيس عند شروق الشمس؟ وماذا لو أنني أحظى‬
‫بكليهما؟ وماذا لو كان بإمكان ليفي أن يحوز على نفس الغنى المتنوع ونفس التوازن‬
‫والحرية لتذوق كال النوعين من الصالة؟ ماذا لو كنا نتشارك ذلك؟ ولو لم أكن‬
‫شعورا‬
‫ً‬ ‫وحيدة على الدوام على جانبي اإلنثوي من الشريعة‪ ،‬فهل سأكون أقل‬
‫ً‬
‫عجزا؟ هل سيتحسن أمرنا إذا لم نكن نتحدث عن الرب بلغتين‬ ‫بالوحدة‪ ،‬أقل‬
‫مختلفتين تما ًما؟‬
‫ي وأنسل للغرفة التي تتشاركها مع‬
‫أقوم من مقعدي وسارة نائمة بين ذراع ّ‬
‫ليبي‪ ،‬وهي نفس الغرفة التي أخذت غالديس تفرد فيها سريرها كل ليلة‪ .‬أفصل‬
‫الطفلة عن ثديي وأنزلها في مهدها‪ ،‬وهي ماتزال نائمة وشفتاها تمص بفتور‪ .‬أتوقف‬
‫ي أن‬
‫وأراقبها‪ ،‬ويدي على ظهرها حتى تستقر في نومها‪ .‬لكن الساباث آت وعل ّ‬
‫أذهب إلى متجر البقالة‪.‬‬

‫تحل ليلة الجمعة‪ .‬وعند غروب الشمس كنت قد أرضعت الطفلة وتسوقت‬
‫وأرضعت وطهوت ورتبت المنزل وأرضعت ول ّمعت الفضيات وأرضعت‬
‫وتحممت وارتديت ثيابي وأجبت على الهاتف وأجبت عن مئات األسئلة التي طرحها‬
‫عا وغير ذلك كثير‪.‬‬
‫األطفال وأرضعت وفضضت ثالث شجارات وجففت دمو ً‬
‫الطعام ناضج‪ ،‬المنزل نظيف‪ ،‬الفضيات ملمعة‪ ،‬وكل شيء في مكانه‪ .‬تحمم األطفال‬
‫وارتدوا أو كادوا يكملون ارتداء ثياب الساباث‪ ،‬دسوا حواف قمصانهم بالبناطيل‬
‫وربطوا عقدها‪ ،‬ومشطوا شعورهم بطريقة احتفالية‪ .‬طاولة العشاء مفروشة بغطاء‬
‫من القماش األبيض‪ .‬وأنا وليبي على وشك أن نشعل الشموع‪.‬‬
‫اآلن تحين تلك اللحظة التي يفترض أن يدخل فيها "مقدار الروح األكبر"‬
‫للساباث أروا َحنا‪ ،‬اللحظة التي ننضم فيها إلى جحافل النساء عبر الزمن بقدحة‬
‫ثقاب‪ ،‬جوقة من جميع أنحاء العالم تقوم بقدح أعواد الثقاب وإطالق أزيز اللهب‪،‬‬
‫مثل الرب‪ ،‬لها القدرة على خلق يوم‪ .‬ولكن يومي كان بالفعل حافالً ومشحونا ً للغاية‪،‬‬
‫فكيف لقدحة عود ثقاب أن تجعلني أشعر بالقداسة؟ إن فكرة خلقنا لهذا الوقت المقدس‬
‫بإشعال شموع الساباث ليست حقيقية عندي بقدر ما يمثله البيت أو الطفل‪.‬‬
‫لم أعد أفكر باأللغاز الهائلة؛ لم أعد مفتونة بفكرة الرب الذي يحوم بين‬
‫سطور النص المقدس‪ .‬بيد أن الرغبة الروحية التي ساقتني إلى هذه الحياة تركت‬
‫بصمتها مثل همهمة تصاحبني‪ ،‬أو كدمة‪ .‬إن ما أملكه اآلن هو طاعة محضة‪ .‬فأنا‬
‫أحاول أن أرضي الرب بفعل ما قيل لي أنه يريده‪ ،‬كما لو إنني أستطيع حينها أن‬
‫أرنو لألعلى مثل طفل وأرى الرضى في عينيه‪.‬‬
‫ي ألقول بركة الساباث‪ ،‬وأومئ‬
‫ي بيد ّ‬
‫ي‪ .‬أغطي عين ّ‬
‫لكن ليبي ترنو بعينيها إل ّ‬
‫لها لكي تفعل الشيء ذاته‪ .‬أفكر أن هذا أفضل‪ ،‬أن يولد أطفالي في هذه الحياة فلن‬
‫يكونوا متزعزعين من الجذور‪ ،‬مثلي‪ .‬أقبّل جبين ليبي‪" .‬طاب سبتك!" نقول لبعضنا‬
‫لك‪.‬‬
‫ضا‪ .‬هذا ما أمنحه ِ‬
‫بع ً‬
‫الحقًا‪ ،‬نجتمع جميعنا حول مائدة الساباث‪ ،‬وهو الوقت الوحيد في األسبوع‬
‫الذي يتناول فيه ليفي وجبة الطعام مع العائلة‪ .‬لقد وضعت أمامه رغيفين مظفورين‬
‫طازجين من أرغفة الشااله السمراء الذهبية المحمصة‪ .‬أحضر أطباق الجزر‬
‫بالكمون وسلطة الحمص‪ ،‬والمعكرونة المبرومة مع البروكلي وسلطة الخضار‬
‫جالس‬
‫ٌ‬ ‫المخلوطة وكرات السمك مع الفجل الحار والشاي المثلج المحلى‪ .‬ليفي‬
‫معتمرا قبعته السوداء‪ .‬بينما يجلس ليبل ومندل على الجانب‬
‫ً‬ ‫بمعطفه األسود‬
‫المخصص لألوالد إلى جنب الصغير أفرامي الذي كان مرتديًا منامته‪ .‬أما أنا‬
‫فأجلس بجوار ليبي‪ ،‬وأطرافي ثقيلة جراء المجهود الذي بذلته في عمل اليوم‪ ،‬بينما‬
‫سارة نائمة في مهدها‪ .‬أقوم عن مقعدي مرة أخرى وأذهب لجلب أطباق الدجاج‬
‫والخضروات التي يتصاعد منها البخار فيما ينطلق ليفي بالغناء‪ .‬لكنه يغني بنشاز‬
‫ويطلب من األطفال أن يشاركوه الغناء‪ .‬وسرعان ما ينخرطون جميعهم بالغناء‬
‫والتطبيل على الطاولة في جلبة جماعية تن ّم عن ابتهاج متكلف بالساباث‪ .‬ثم يقرأ‬
‫بصوت عال قصة حسيدية تحمل معنى معقدًا يعجز األطفال عن استيعابه‪ .‬إنه‬
‫ضخ ٌم أمامهم‪ ،‬وصوته يجري بوتيرة تقرير إحصائي‪ .‬يبدو التوتر والملل على‬
‫األطفال‪ .‬تتثائب ليبي‪ .‬أفكر‪ ،‬إنني الموسيقية‪ ،‬والمعلمة‪ ،‬وراوية الحكايات‪ .‬أنا من‬
‫يجب أن تع ّلم األطفال األغاني القديمة‪ .‬أتنحنح‪ ،‬أقول‪" :‬ليفي؟"‬
‫يقول‪'' :‬هل حساء الدجاج قادم؟"‬
‫أنهض ثانية ألعود للمطبخ‪ .‬يتلوى ليبل في مقعده ويتشاجر مع مندل‪ .‬يلكمه‬
‫مندل‪ ،‬فيثب ليبل عليه‪ .‬يقف ليفي ويصرخ‪" :‬اجلسوا!"‬

‫أصبحت صحيفة هيوستن كرونيكل التي اعتاد ليفي أن يحملها إلى الغرفة‬
‫مصدرا ثابتًا ألخبار العالم الخارجي‪ .‬كل يوم‪ ،‬أبحث في الصحيفة عن‬
‫ً‬ ‫الخلفية‬
‫ً‬
‫مطوال‪:‬‬ ‫خبرا ها ًما‪ ،‬أتحدث عنه‬
‫األخبار التي سوف يفهمها األطفال‪ ،‬وعندما أجد ً‬
‫هناك شركة تأسست للتو اسمها مايكروسوفت‪( .‬يعمل والدهم على الحاسوب‬
‫سا‪ ،‬وهو أول‬
‫المركزي وقد سبق وأن اصطحب األطفال لمشاهدته)‪ .‬زار البابا كني ً‬
‫بابا يقوم بزيارة من هذا النوع! المحكمة العليا تسمح للقوة الجوية بحظر‬
‫اليارمولكات‪.‬‬
‫لكن في أحد أيام شهر آذار‪ ،‬ت َعن ِون الكرونيكل‪" :‬العثور على بقايا مقصورة‬
‫قيادة تشالينجر‪ ".‬إذ أخرج غواصو البحرية من المياه بقايا كريستينا ماك أوليف‬
‫بينما وقف الطاقم الحزين على متن السفينة الستالمها‪ .‬ثم عاد الغواصون للبحر‬
‫مرة أخرى للبحث عن الجثث األخرى‪ .‬كانت ماك أوليف ما تزال بزي الفضاء‬
‫األزرق‪.‬‬
‫أتطلع إلى ليبل وأثني الصحيفة ألخفي الخبر وأحملها إلى الغرفة الخلفية‪ .‬وأثناء‬
‫ذلك لم أنبس ببنت شفة‪.‬‬

‫تقلب غالديس عينيها ألنني أخبرتها في المطبخ أن أمامنا ثمانية أسابيع حتى‬
‫حلول الفصح اليهودي أو عيد العبور‪ ،‬وحتى ذلك الحين يجب أن يزال من المنزل‬
‫أي طعام مختمر حتى آخر فتات منه‪ .‬يجب إخراج الخبز والباستا والبسكويت‪،‬‬
‫واألغذية المخبوزة من أي نوع كانت وأي شيء مصنوع من الحبوب‪ ،‬وحتى‬
‫أصغر الفتات التي من الممكن أن تكون قد سقطت في أرجاء المنزل‪ .‬كنت قد عدت‬
‫إلى وظيفتي في التدريس‪ ،‬لكن الوقت قد حان لنشرع بطقس التنظيف للفصح‪.‬‬
‫‪ Shmutz al pi din iz chometz‬تعني ّ‬
‫أن الخميرة َ تع ّد في الفصح‬
‫من األمور النجسة‪ ،‬وأن عقوبة امتالك األطعمة المختمرة في الفصح هي الموت‬
‫الروحي‪ .‬تبدأ غالديس التنظيف من مؤخرة المنزل‪ ،‬من غرفة الفتيات‪ ،‬حينما أكون‬
‫في المدرسة‪ .‬وعندما أعود للمنزل‪ ،‬أجدها ما تزال في نفس المكان‪ .‬سويةً ننزع‬
‫األغطية عن المرتبات ونقلبها من أجل تنظيفها من كال الجانبين بالمكنسة‬
‫الكهربائية‪ .‬ليس بمقدوري االعتماد على غالديس لكي تحمينا من التأثير الروحي‬
‫إلغفال التقاط حتى الكسرة الواحدة‪ .‬لذا بعد أن تنتهي‪ ،‬أقوم بفحص نهائي ثم أمسح‪،‬‬
‫وأبدأ من عند إزار الجدار‪ .‬أفرك البقع الباقية‪ ،‬أمسح الزوايا‪ .‬إن حياة أوالدي‬
‫الروحية مرهونة بفوطتي‪.‬‬
‫يرمز العجين المختمر للكبرياء المنتفخ الزائف والذي يقود إلى الخطيئة‬
‫األكبر‪ :‬إنكار الرب‪ .‬ولذا تعد التشاميتز‪ ،‬كما يطلق حتى على الفتات المتبقية من‬
‫الكيك والخبز في هذا الوقت من السنة‪ ،‬كلمة قذرة‪ .‬بالنسبة لنا‪ ،‬يختفي الرمز‬
‫ويستحيل الشيء إلى ما يرمز إليه‪ .‬إذا كنا نحتفظ بما هو مختمر في يوم الفصح‪،‬‬
‫فنحن صفيقون ومتمردون وممتلئون بالكبرياء الزائف‪ .‬لذا ننظف بهوس ونحاول‬
‫التصديق ّ‬
‫بأن "تنظيف المنزل" الخارجي والباطني هما الشيء ذاته‪ .‬ينبغي أن يط ّهر‬
‫عملنا التظاهر والنفاق‪ ،‬والذي يحفّز بدوره على األعمال المنزلية‪ .‬فيصبح كل هذا‬
‫التنظيف طريقة الفتداء نفسي‪ .‬ومع هذا فإن تخليص المنزل من التشاميتز سيفعل‬
‫الشيء ذاته بطريقة أو بأخرى مع ليفي من دون أن يكون مشار ًكا فعليًا في عملية‬
‫التنظيف‪ .‬إن عمله هو أن يالحظ الرمزية القابعة في هذا العمل وأن يلهم ألداء‬
‫العمل المنوط به‪ ،‬أال وهو التنظيف الباطني عبر التأمل والدراسة‪.‬‬
‫إن القصة المأخوذة من سفر الخروج التي يحتفل الفصح بذكراها تتمحور‬
‫حول والدة شعبنا‪ .‬إنها عن الوالدة‪ .‬إنها تحكي عن الممر الضيق الذي انفتح خالل‬
‫قناة مائية عبر البحر األحمر‪ ،‬ومن ثَم وصولنا إلى الجانب اآلخر كأ َّمة جديدة‪ .‬إنها‬
‫لنكرس أنفسنا للرب‬
‫أحرارا ّ‬
‫ً‬ ‫عن افتدائنا من العبودية الروحية والجسدية‪ ،‬حتى نكون‬
‫المعشوق فقط‪ .‬ثم هناك الرحلة إلى سيناء التي تكللّت بتلقي الشريعة‪ ،‬والتي كانت‬
‫أشبه بتلقي وثيقة زواج‪ ،‬تبعها اتحاد مع المعشوق‪.‬‬
‫عبودية ثم حرية‪ ،‬والدة‪ ،‬افتداء‪ ،‬زواج واتحاد مع محبوب‪ .‬هذه هي الرموز‪.‬‬
‫أتوقف‪ ،‬وأمدّد ظهري‪ .‬إن المشكلة هي أن كل هذا العمل ليس رمزيًا‪ ،‬إنه جهد‬
‫حقيقي‪ .‬أضحك‪ ،‬ثم افرغ درج الخزانة وأمسح كل غرض كان فيه‪ .‬ليس لدي وقت‬
‫للرموز أو للفحص الذاتي العميق أو للتفاني المتجدد الباعث على التواضع‪ً .‬‬
‫بدال‬
‫من ذلك‪ ،‬في هذا الوقت من العام‪ ،‬نكون نحن النساء أعاصير من الطاقة‪ .‬نحن‬
‫جحافل اإلناث‪ .‬إننا قضايا تحترق بال ذات‪ .‬إننا نقوم بهذا العمل ألن هذا ما نحن‬
‫عليه‪ .‬في هذه العملية‪ ،‬سوف ننقذ اليهود والتقاليد اآلخذة بالتالشي من خالل‬
‫التضحية بذواتنا‪ .‬أقرفص داخل خزانة ليبي وأهز أحد األحذية‪ .‬تسقط منها قطعة‬
‫من التشيريو‪ ،‬الطعام المختمر البغيض‪ ،‬كما لو أنها تأتمر بإمرة شريعة متحكمة‪.‬‬
‫أرمي قطعة التشيريو في كيس النفايات البالستيكي‪.‬‬
‫بدأت سارة بالتسنين‪ ،‬فاستيقظت من النوم ليلة أمس ثالث مرات‪ .‬لكني‪،‬‬
‫على األقل‪ ،‬لست حبلى‪ .‬أحتاج للذهاب إلى مركز التسوق من أجل شراء بزات‬
‫جديدة لألوالد وأحذية للجميع استعدادًا للعيد‪ ،‬كما وهناك حزمة من أوراق العمل‬
‫تنتظر أن أعدّها من أجل الصف غدًا‪ .‬أمسح الحذاء من التشريو‪ ،‬ثم أقف‪ ،‬ولم أزل‬
‫داخل الخزانة‪ ،‬لكي أفرز ثياب ليبي وأنزل تلك التي لم تعد تناسب مقاسها‪ .‬سوف‬
‫أخزنها من أجل سارة كيال نضطر لشراء ثياب جديدة‪ .‬فكل سنت نكسبه يذهب إلى‬
‫أجور المدرسة الحسيدية والطعام الحالل وكلفة طقوسنا‪ .‬خلف اإلحساس بأن ما‬
‫أمرا فوق طاقتي حتى مع مساعدة غالديس تتوارى همهمة ليفي‬
‫أقوم به بدأ يصبح ً‬
‫المتواصلة وهو يدمدم‪ :‬ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا‪ .‬لكنني اآلن‬
‫أصبحت أشاركه تلك الهمهمة‪ .‬ليس هناك كفاية من الوقت أو المال أو النوم‪ .‬أغلق‬
‫ي وأتكئ على عضادة الباب‪ .‬تأتي غالديس بدلو من الماء المخلوط بالصابون‪،‬‬
‫عين ّ‬
‫ترفع النوافذ وتمسح عتبة النافذة لتزيل عنها أي فتات متبق‪.‬‬
‫ما يزال ليبل وليبي في المدرسة‪ّ ،‬‬
‫لكن مندل وأفرامي يدخالن الغرفة‪ ،‬إنهما‬
‫في الخامسة والثالثة تقريبًا من العمر‪ ،‬ويسحباني من الخزنة‪ .‬أعصر فوطتين في‬
‫الدلو وأعطي واحدة لكل منهما‪ .‬يرقصان حولي‪ ،‬يتظاهران بأنهما في عيد الفصح‬
‫عن طريق توجيه اللكمات للجدار ولبعضهما‪ .‬أخبرهما‪" :‬اذهبا واجلبا دماكما‪.‬‬
‫ستحظى دماكما بحمام في الحوض استعدادًا للفصح‪ ".‬يركض مندل إلى غرفة‬
‫اللعب‪ ،‬ويتبعه أفرامي‪.‬‬
‫ينقضي أسبوعٌ‪ ،‬ويتبعه آخر‪ ،‬بانتظار قدوم الفصح‪ .‬وكل يوم هنالك عمل‬
‫المدرسة‪ ،‬ومن ثم المنزل وما فيه من أعمال تنظيف‪ ،‬فضالً عن إعداد وجبات‬
‫الطعام ورعاية األطفال وتدبير شؤونهم‪ .‬في المنزل‪ ،‬أجعل ليبل وليبي‪ ،‬أكبر‬
‫ضا من مئات الكتب اليهودية‬
‫األوالد‪ ،‬ينخرطان في العمل معي‪ .‬يتفحصان بع ً‬
‫والعبرية التي نقتنيها ويهزانها إلخراج الفتات‪ ،‬تحسبًا لكون أحدها قد فتح على‬
‫مائدة الساباث‪ .‬نشرع بتنظيف غرفة أخرى كل يومين أو ثالثة أيام‪ .‬ننظف جيوب‬
‫المعاطف‪ .‬أبدأ التخطيط لعشاءات الفصح المسماة بـ’السيدر‘‪ ،‬أتسوق ما يكفي‬
‫لوجبات الفصح لثمانية أيام‪ ،‬أستبدل المنتجات المنزلية المعتادة بمنتجات الفصح‬
‫المعتمدة‪ .‬أع ّد باروكتي وأحاول أن أعلّم األطفال أدوارهم ألجل السيدر‪ .‬وفي الليل‪،‬‬
‫أظل مستيقظة‪ ،‬عيوني مفتوحة وذهني مشغول باللوائح والخطط‪.‬‬
‫ما يزال أمامنا أسبوعان‪ ،‬يأتي ليفي للمنزل في منتصف النهار فيما أنا أعمل‬
‫في في الممر في خزانة المفارش الواسعة‪ ،‬حيث يحب األطفال أن يتسلقوا ويلعبوا‬
‫كومت‬
‫لعبة الغ ّميضة‪ .‬أسمع الباب الخلفي وهو يفتح‪" .‬ليا؟" يناديني‪ .‬كنت قد ّ‬
‫المناشف والمفارش النظيفة المطوية على السجادة‪ .‬تجمعها غالديس بملء ذراعيها‪.‬‬
‫أقول لها "يجب أن يعاد غسل كل شيء من أجل العيد"‪ ،‬ثم أجيب ليفي‪" :‬أنا هنا!"‬
‫ضا ثمينًا‪ ،‬كان يحمل‬
‫كبيرا وكأنه يحمل غر ً‬
‫ً‬ ‫أجد ليفي يحمل صندوقًا‬
‫الصندوق الكرتوني بحذر‪ ،‬وعلى محيّاه عالمات التوتر واالستعجال‪ .‬طوال األيام‬
‫الثمانية للفصح‪ ،‬سيكون الماتزاه المصنوع يدويًا الذي يحمله ليفي ً‬
‫بديال ألي طعام‬
‫مصنوع من الحبوب التي نتناولها بالعادة‪ .‬لكن ال يجب أن تتلوث الماتزاه بوجود‬
‫التشوميتز في المنزل الذي لم يكتمل تنظيفه‪ .‬أقول له‪" :‬انتظر! الماتزاه هنا؟ ولم‬
‫أكن مستعدة!"‬
‫أهرع للمطبخ من أجل إحضار علبة األلمنيوم‪ .‬لقد رأيت صور البابوشكا‬
‫ّ‬
‫جبهن معقودة تحت‬‫الروسيات في معمل خَبز الماتزاه في نيويورك‪ ،‬كانت ح‬
‫ذقونهن‪ .‬تقف النسوة عند طاوالت طويلة عالية لفرد كرات العجين باليد بينما تأخذ‬
‫الطالبات الحاخاميات المتعرقات منهن دوائر العجين المسطحة ويضعنها على‬
‫مجاديف خشبية ذات مقابض طويلة‪ ،‬ثم يدخلنها في الفرن المشتعل بالحطب‪ .‬وهناك‬
‫شخص ينادي بانتظام "‪ "Leshem matzohs mitsvah‬أي‪ :‬نفعل هذا‬
‫بأمر الرب! في الفرن‪ ،‬يصبح العجين جافًا ومقرم ً‬
‫شا في ظرف ثوان‪ .‬تحرق النار‬
‫ً‬
‫رطال من الماتزاه المعمولة يدويًا‪ .‬كانت‬ ‫أطراف الخبز‪ .‬ابتاع ليفي للتو أربعة عشر‬
‫كلفتها تفوق المائتي دوالر‪ .‬ال يجوز أن تكون هناك ماتزاه مخبوزة آليًا من أجل‬
‫عيد فصحنا‪.‬‬
‫أحضر األلمنيوم وأتذكر صورة من أيام دراستي لتاريخ الفن‪ ،‬صورة للوحة‬
‫دافنشي العشاء األخير تالفة ومقشرة من أعلى مدخل مقوس في أحد األديرة‪.‬‬
‫ضا خبز المسيح في عشائه‬ ‫تذ ّكرني تلك المأدبة المقدّرة ّ‬
‫بأن الماتزاه كانت أي ً‬
‫األخير‪ ،‬والذي كان شعيرة عشاء الفصح‪ ،‬وأصبحت ً‬
‫رمزا لجسده‪ ،‬تضحيته ورسالة‬
‫للفداء‪ .‬إنها فكرة ال أتجرأ على البوح بها؛ فليس مسمو ًحا لنا حتى بذكر اسم المسيح‪،‬‬
‫بيد أنني فخورة في سري أن الماتزاه الخاصة بنا حملت رسالة الفداء التي تنطوي‬
‫عليها إلى العالم‪ .‬وبينما أحمل صندوق األلمنيوم وقطعة قماش مبللة‪ ،‬أهرع إلى‬
‫غرفة نومنا‪ ،‬حيث أكوام كتب ليفي وأكداس ملفاته ولوازمه المكتبية تحتل بقعة‬
‫كبيرة من األرضية المفروشة بالسجاد‪ .‬على عجل أزيل األغراض الموضوعة‬
‫على الجزء العلوي من خزانة الملفات‪ ،‬أمسح الموضع وأجففه وأغطيه بشرائط‬
‫يحول قمة الخزانة إلى عرش المع مع ّد من أجل صندوق‬
‫طويلة من األلمنيوم‪ ،‬ما ّ‬
‫الماتزاه ليحفظ عاليًا ال يطاله تهديد التشاميتز‪ .‬يتجهم ليفي‪ .‬ينبغي عليه أن يرجع‬
‫ممررا يده‬
‫ً‬ ‫إلى عمله‪ .‬يهز لي يده‪ ،‬مزدريًا‪ ،‬ثم يرفع األلمنيوم ليتفحص الموضع‪،‬‬
‫النظيفة على السطح المعدني‪ .‬ثم يضع الصندوق على عرشه بنفسه‪ .‬أقف هناك‪،‬‬
‫متعبة وصامتة‪ ،‬وفي تلك اللحظة‪ ،‬ينتابني شعور بالكراهية نحوه‪.‬‬

‫إنها ما بعد الثالثة في الصباح التالي‪ ،‬وأنا في المطبخ ّ‬


‫أحك ترسبات الطعام‬
‫المحروقة من داخل فرن اللحوم بحافة نصل السكين‪ ،‬وأتحدث على الهاتف مع‬
‫صديقتي شتيرنا‪ .‬يعود زوجها الملتحي للمنزل من عمله ويتوجه مباشرة للعمل‬
‫معها في تنظيف الفصح‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬تبدو كلتانا ثملتين من اإلرهاق‪ .‬ظل ليفي‬
‫مستيق ً‬
‫ظا يفرز وينظف أغراضه الشخصية‪ ،‬وهو اآلن جالس عند طاولة المطبخ‪،‬‬
‫يقرأ الوول ستريت جورنال‪" .‬لقد باع موشيه التشاميتز هذا الصباح‪ "،‬تخبرني‬
‫شتيرنا على الهاتف‪.‬‬
‫أقول‪" :‬لقد ذكرتني!‪ ،‬أمهليني دقيقة‪...‬ليفي‪ "،‬وأبعد سماعة الهاتف عن أذني‪.‬‬
‫"هل بعت التشاميتز؟"‬
‫قبل العيد‪ ،‬على ليفي أن يمأل عقدًا ينفّذ بموجبه بيعًا رمزيًا ألي طعام مختمر‬
‫ربما أكون قد غفلت عنه لشخص غير يهودي بال إسم ووجه‪ .‬يجمع الحاخام فرومان‬
‫االستمارات‪ .‬يصبح العقد الغيًا عند نهاية العيد‪ ،‬لكن حالما يبدأ العيد سيمتلك ذلك‬
‫الشخص غير اليهودي‪ ،‬كائنًا من كان‪ ،‬التشاميتز الخاص بنا‪ً ،‬‬
‫بدال عنا‪ ،‬وسينقذ‬
‫العائلة من خطيئة امتالكه في الفصح‪ ،‬أو من خطيئة سهوي‪.‬‬
‫يقول ليفي‪" :‬أجل‪ ،‬لقد بعتها‪ .‬وأعطيت االستمارة للحاخام فرومان هذا‬
‫الصباح‪ ".‬لم يرفع نظره عن الصحيفة‪.‬‬
‫ّ‬
‫بحك الفرن‪.‬‬ ‫أقول لشتيرنا‪" :‬لماذا نفعل هذا؟ ال ينبغي علينا أن نقوم‬
‫باستطاعتنا أن نترك نقاط الترسبات المحروقة‪ .‬فالشريعة تسمح بها‪ .‬وال تع ّد النقاط‬
‫المحروقة السوداء من التشاميتز‪".‬‬
‫لكننا نرشد ً‬
‫جيال جديدًا إلى نكران الذات‪ ،‬فنحن قدوات ألطفالنا‪ .‬ونحن‪ ،‬معشر‬
‫النساء‪ ،‬ال نقبل بالحد األدنى من الشريعة‪.‬‬
‫حينئذ يرفع ليفي الصحيفة ويناديني‪" :‬ليا‪ ،‬انظري إلى هذا‪ ".‬يلتفت وعلى‬
‫وجهه ابتسامة جانبية ومفاجئة تجعلني أخبر شتيرنا بأن تنتظر على السماعة‪.‬‬
‫يؤشر على الصحيفة ويقول لي‪" :‬انظري إلى العنوان‪ ".‬لكنها كانت بعيدة‬
‫جدًا ولم يكن يرفعها عاليًا بما يكفي كي أرى فأسأله‪" :‬ماذا يقول العنوان؟"‬
‫"هناك مقالة حول بيع التشاميتز!"‬
‫"في الوول ستريت جورنال؟" تتملكني الدهشة‪ ،‬وربما الفخر‪.‬‬
‫اليهود األرثودوكس يتركون بصمتهم على عالم األعمال!‬
‫سعرا أعلى من أجل نقاط سوداء"‬
‫ً‬ ‫"بلى‪ ،‬إنها تقول"غير اليهودي يدفع‬
‫أشهق بالضحك‪ .‬عندما أخبر شتيرنا‪ ،‬نضحك بشدة حتى تؤلمنا بطوننا‪ ،‬ننثني‬
‫على بطوننا ونتلعثم بالكالم ونحن نضحك على أنفسنا‪ .‬ثم نعود إلى الحديث حتى‬
‫ّ‬
‫بحك أفراننا‪.‬‬ ‫الفجر تقريبًا‪ .‬وفي ذات الوقت نستمر‬

‫لم يتبقَ على الفصح سوى يومان‪ .‬عندما تنساب أشعة الشمس من خالل‬
‫ي على لحظة من الصفاء بعد ثالث ساعات من النوم‪.‬‬
‫الفتحات في الستارة‪ ،‬أفتح عين ّ‬
‫ي‪ .‬أقفز خارج السرير تحت تأثير دفقة من األدرينالين‪ ،‬بعيدًا عن ليفي‬
‫أطرف بعين ّ‬
‫شخيرا خفيفًا أثناء نومه‪ ،‬وأخطو إلى داخل الحمام وأغلق الباب ورائي‪.‬‬
‫ً‬ ‫الذي يصدر‬
‫ي كما لو أن‬
‫كان جسدي يؤلمني وقلبي يخفق‪ ،‬كما أشعر بأن هناك حرقة في عين ّ‬
‫ً‬
‫رمال‪ .‬أمد يدي لمؤخرة الخزانة وأستل اختبار حمل منزلي‪ .‬عندما يتحول‬ ‫فيهما‬
‫الرأس‪ ،‬أشبك‬
‫ِ‬ ‫المؤشر للون الوردي الذي يشير لوجود الحمل‪ ،‬أجلس مطأطأة َ‬
‫ي‪ ،‬كثير‬
‫ي‪ ،‬وجبهتي على ذراعي ووجهي لألسفل‪ .‬هذا كثير عل ّ‬
‫ي على ركبت ّ‬
‫ذراع ّ‬
‫ي ال الوقت وال المكان من أجل ترف فهم تجربة‬
‫ي‪ .‬لكن ليس لد ّ‬
‫ي‪ ،‬كثير عل ّ‬
‫عل ّ‬
‫أمومة جديدة أو من أجل تخيّل نمو طفل جديد‪ .‬أستجمع نفسي وأمضي قد ًما إلى‬
‫يومي‪.‬‬
‫أرتدي ثياب الخروج وأذهب إلى المطبخ‪ ،‬ألتقط مفاتيحي وفي نيتي التسلل‬
‫خار ًجا إلى سوق المزارعين قبل أن يستفيق األطفال من نومهم‪ .‬لكنني أجد ليبي‬
‫أمامي وهي ترتدي ثياب الخروج وتبتسم خجالً بملء فمها على نحو يبدي عل ًما‬
‫بنيّتي؛ إذ إنها قفزت من سريرها ألنها سمعتني‪ .‬إنها تريد المجيء معي‪" .‬حسنًا‪"،‬‬
‫أقول بتنهد‪" .‬أذهبي لترتدي حذاءك‪ ".‬وبعد خمس دقائق‪ ،‬وبينما أنتظر ليبي‪ ،‬يدخل‬
‫ضا‪ -‬ثم تبعه مندل‪" .‬لكنك‬
‫توا وهو يترنح محت ًجا ‪-‬إنه يريد المجيء أي ً‬
‫ليبل المستيقظ ً‬
‫ال ترتدي ثياب الخروج" أقول لمندل‪ ،‬لذا فإنه يركض راجعًا لغرفته‪ .‬ثم يعود إلى‬
‫المطبخ في ظرف دقيقتين‪ ،‬كان بنطاله ملتفًا إلى الجانب وحذاؤه بالمقلوب‪ .‬أطلب‬
‫منهم الصمت ‪-‬فسارة وأفرامي ما زاال نائمين‪ -‬ثم اصطحبهم جميعًا للخارج‪.‬‬
‫في سيارة الفان‪ ،‬النوافذ مفتوحة‪ ،‬أشعر بسعادة أطفالي وهم يستنشقون نسيم‬
‫الصباح‪ ،‬وبالتضامن التي يمنحني إيّاه وجودهم معي‪ .‬إنها لمغامرة نادرة أن نبتعد‬
‫عن جنوب غرب هيوستن‪ ،‬ونتوجه إلى وسط هيوستن التي تحوطها الطرق‬
‫السريعة كحلقة مسماة ب ‪ Loop‬ونستمر حولها‪ ،‬ثم على طريق ‪ I-10‬السريع‬
‫ً‬
‫وصوال إلى طريق أيرالين‪ .‬عند وصولنا لسوق المزارعين المفتوح‪ ،‬أمسك بيد‬
‫ميندل وأحاول أن أبقي عيني على أخويه اآلخرين بينما نلتمس طريقنا من حول‬
‫صون صناديق‬
‫طابور طويل من الشاحنات‪ ،‬بين رجال يكدسون تالل البطيخ وير ّ‬
‫الطماطم والجريب فروت والشمام والموز‪ .‬نتجول عبر صفوف أكشاك البيع بين‬
‫صيحات الباعة والمحادثات المحمومة باللغة اإلسبانية والرائحة النقية للخضروات‬
‫الطازجة والرائحة العطنة للرجال المتعرقين في صبيحة تكساس الدافئة‪ .‬كانت‬
‫هناك صفوف من الفلفل المجفف معلقة فوق الرؤوس‪ ،‬وأكشاك مكتظة بسالت‬
‫حمراء وصفراء من الثمار الملونة‪.‬‬
‫أتوقف عند أحد أكشاك الباعة حيث يتدلى من األعلى ميزان قديم معلق‬
‫صريرا‪ .‬أناول ليبي قل ًما والئحة بكل شيء استهلكناه في‬
‫ً‬ ‫بسلسلة حديدية تصدر‬
‫فصح السنة الماضية‪ .‬إنها في الخامسة من العمر‪ ،‬إال أنها متمكنة من القراءة‪.‬‬
‫أقول لها‪" :‬كلما اشترينا أحد األشياء المدونة على هذه الالئحة قومي بشطبه‪".‬‬
‫كنت قد تعلمت القليل من اإلسبانية من غالديس "?‪ "Quanto, señor‬أسأل‬
‫البائع وأنا أؤشر على صندوق من الموز‪" .‬ال يمكن! مستحيل!" أقول له بعد أن‬
‫قال السعر "?‪"Pero por dos cajas‬‬
‫ً‬
‫رطال من الجزر‬ ‫ً‬
‫رطال من البطاطا وخمسة وثالثين‬ ‫أشتري خمسين‬
‫ً‬
‫رطال من البصل الحلو (من نوع يطلق عليه تكساس ‪ .)1015‬فنحن ال‬ ‫وعشرين‬
‫نستهلك في الفصح سوى الفواكه أو الخضروات التي يمكن تقشيرها‪ ،‬وهي حماية‬
‫أخرى من التشاميتز‪ ،‬لذا تمنع الفاصولياء الخضراء والخضار الورقية وأي شيء‬
‫يمكن تجفيفه وطحنه وتحويله إلى خبز (ال ذرة أو فاصولياء أو فستقا حلبيا أو‬
‫صويا) نشتري المانجا واألفوكادو وتشكيلة مختلفة األشكال واأللوان من القرع‬
‫وجوز الهند والتوماتيلو ونوعا جديدا من الخيار والكيوي وبطيخ الكاسابا والباذنجان‬
‫الياباني‪ .‬وقبل أن نغادر‪ ،‬نتوقف عند بيت البيض ونبتاع أرب َع عشرة دزينة من‬
‫البيض‪ .‬إن هذا الطعام سوف يش ِ ّكل حياتي خالل الفصح؛ سوف نقف أنا وغالديس‬
‫في المطبخ بمآزر المطبخ طوال نهارات ثمانية أيام‪ ،‬نقضيها في التقشير والتقطيع‬
‫والعصر والطهي‪" .‬ماما‪ ،‬ال تنسي برتقال العصير!" تقول ليبي‪.‬‬
‫نقود سيارة الفان التي ح ّمل ظهرها بأكداس المشتريات عائدين للمنزل‪.‬‬
‫نجر األغراض باستخدام عربة‪ .‬وحتى اآلن تجاوزت كلفة الطعام‬
‫وعند وصولنا ّ‬
‫المخصص أليام الفصح الثمانية والتي تشمل هذه الثمار إضافة إلى اللحم والدجاج‬
‫الحالل والسمك وعصير العنب والنبيذ والماتزاه مبلغ األلف دوالر‪ .‬لكن جهدي بال‬
‫مقابل‪.‬‬

‫تح ّل علينا الليلة األولى من الفصح ونحن جميعًا على مائدة السيدر‪ ،‬وهي‬
‫وجبة الفصح األولى الطقسية المس َهبة في التفاصيل التي يكون فيها الطعام هو‬
‫الصالة‪ .‬المائدة مفروشة بالقماش األبيض واألطفال في مقاعدهم يرتدون ثيابًا جديدة‬
‫ويشعون نظافةً‪ ،‬أما ليفي فمتألق على رآس المائدة‪ .‬وأنا أرتدي ثوبًا عثرت عليه‬
‫في عروض التخفيضات‪ ،‬مع الباروكة التي ساويتها حديثًا‪ .‬لكن‪ ،‬انظر إلى عائلتنا‪.‬‬
‫يا لمنظرهم! طفل بعد اآلخر يملئهم الترقب‪.‬‬

‫هذه هي ثمرة عملي‪ ،‬منزلنا‪ ،‬ديننا المالذ! على المائدة غطاء مخملي مشغول‬
‫يغطي أرغفة الماتزاه الثالثة المخبوزة يدوياً‪ ،‬صحن "السيدر" الالمع الذي يحتوي‬
‫مكون من الفاكهة‬
‫على بيضة‪ ،‬وهي رمز للوالدة‪ ،‬وبعض التشاروسيت‪ ،‬وهو طبق ّ‬
‫المفرومة والمكسرات والنبيذ فيبدو شكله مثل الصلصال‪ ،‬وهو يرمز لعمل العبيد‪،‬‬
‫المرة التي تمثّل البالء الذي يستحث األمل‪ .‬يقف ليفي ويرفع كأسه‬
‫ّ‬ ‫واألعشاب‬
‫سا فضيًا بجانب كل طبق‪ً ،‬‬
‫بدال من وضع كأس‬ ‫المليء بالنبيذ‪ .‬لقد وضعنا الليلة كأ ً‬
‫وحيد بجانب طبق ليفي ‪-‬وهذا داللة على الحرية‪ .‬يفخر األطفال بكؤوسهم وبتمكنهم‬
‫من غناء بركة النبيذ مثل أبيهم‪ ،‬حتى لو كان عليهم أن يتظاهروا بأن عصير العنب‬
‫الذي أمامهم هو نبيذ‪.‬‬
‫ال أستطيع أن أشرب كأس الحرية‪ .‬إنني محترسة للغاية كيال يراودني النوم‬
‫بينما هناك عمل ينبغي إنجازه‪ .‬أتصفح الهاكاداه‪ ،‬وهو دليل عتيق للسيدر‪ .‬دع كل‬
‫الجوعى يأتون ويأكلون! ِلم َ هذه الليلة مختلفة عن كل الليالي األخرى؟ ‪Avadim‬‬
‫‪- hayinu‬كنا عبيدًا‪ ،‬لكن ربنا أخذ أيدينا لسبيل الخروج بيده قوية‪ .‬يده الحكيمة‪.‬‬
‫ماذا يطلب الرب؟ إنها هناك جميعًا‪ ،‬الكلمات والرموز المحببة‪ ،‬كم كنت مفتونة بها‬
‫جميعًا ذات مرة‪ ،‬فيما أبتعد عن المائدة وأتوجه إلى المطبخ ألضع السمك في‬
‫األطباق وأغرف الشوربة بينما يبدأ ليفي بتوجيه األطفال خالل السيدر‪ .‬ومن‬
‫المطبخ‪ ،‬أسمع نبرته اآلمرة وأدرك أن األطفال سيضجرون قريبًا‪ .‬وعندما أستطيع‪،‬‬
‫أجلس وأهمس بالهاكاداه بنفس السرعة التي يؤدي بها الرجال صلواتهم األسبوعية‪،‬‬
‫بنفس النبرة الرتيبة التي تخلو من التف ّكر‪ ،‬ومن دون الطاقة المناسبة لهذه السطور‬
‫الجميلة‪ .‬ثم أبارك الماتزاه وأقضم حافة محروقة‪.‬‬
‫ي ذكريات السيدر األول‬
‫تتكسر الماتزاه في فمي‪ .‬وبتلك القضمة‪ ،‬تعود إل ّ‬
‫معًا حينما كنا طالبًا في أوستن‪ ،‬ثم السيدر األول مع الصغير ليبل بشقتنا الصغيرة‪،‬‬
‫ثم ليبي وهي تغني أغنية ‪ mah nishtana‬للمرة األولى‪ِ .‬ل َم هذه الليلة مختلفة؟‬
‫يركض مندل ليغسل ألعابه من أجل العيد‪ ،‬ويتهادى أفرامي وبيده فوطة صغيرة‬
‫للمساعدة‪ .‬لكن يحين وقت إلقاء األطفال لألسئلة األربعة‪ ،‬من األصغر سنًا إلى‬
‫تحضيرا لهذه الليلة‪ ،‬وجلست بجوار‬
‫ً‬ ‫األكبر‪ .‬دربّت كل طفل على هذا مرات عديدة‬
‫كل واحد منهم على حدة على الكرسي المنبسط‪ .‬يصدح مندل بغناء السؤالين األولين‬
‫بالعبرية بغناء مثالي‪ .‬تشرع ليبي بغناء خارج اللحن‪ .‬يتلوى ليبل ومن ثم يلقي‬
‫أسئلته‪ .‬يبدأ باليديشية‪" :‬أبتاه‪ ،‬أريد أن أسأل األسئلة األربعة‪ ".‬بحلول السنة القادمة‪،‬‬
‫قادرا على اإللقاء‪ ،‬وربما سارة‪ .‬بحلول السنة القادمة‪ ،‬سيكون قد‬
‫ً‬ ‫سيكون أفرامي‬
‫انض ّم إلينا طفل جديد‪.‬‬
‫أنصت إليهم ويتملكني إحساس يتأرجح بين البهجة والخسارة‪ ،‬مستذكرة ً‬
‫شغفي المبكر بالدراسة وأحالمي بأن أكون فتى يشيفا‪ .‬إن دليل السيدر العتيق مليء‬
‫بالقصص واالستعارات المحببة على مدى األجيال والتي أخذتني ذات مرة إلى‬
‫جسر؟ أو أن االستعارة تأخذ ذهنك عبر جسر‪ ،‬عبر‬
‫ٌ‬ ‫أماكن جديدة‪ .‬هل االستعارة‬
‫فجوة‪ ،‬إلى مكان غير متوقع يغيّر كل شيء؟ أيّا كان الجواب‪ّ ،‬‬
‫فإن حياتي اآلن‬
‫تتمحور حول ربط أشرطة األحذية وتقطيع الخضروات‪ .‬أو هل هي كذلك؟ يحين‬
‫دوري‪ ،mah nishtanah .‬أغني‪ .‬أبتاه‪ ،‬أخاطب الرب‪ ،‬ما يزال لدي أسئلة‪.‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬

‫تبقى األسئلة تراودني‪ ،‬لكنني أتجاهلها في معظم األوقات‪ .‬تتسم حياتي‬


‫بالركود؛ فال خط مختلف من الحركة يمكن رصده‪ ،‬وال تغيير تدريجي منتظم يطرأ‬
‫عليها‪.‬‬
‫أما حياتي كأنثى‪ :‬لحظات الخيبة أو السخط أو الفرح هي ذروة ٌ وقتية للنمو‬
‫الذي يتالشى أمام انقضاض األمومة‪ ،‬التفاصيل‪ ،‬االحتياجات اليومية التي تسحق‬
‫إحساسي بالذات وتجعل ذلك "النمو" غير ذي أهمية‪ .‬وفي الوقت الذي تأتي فيه‬
‫لحظة أخرى كهذه‪ ،‬تكون اللحظة السابقة قد أوشكت على االنتهاء‪ .‬ال نماء‪ .‬ال تغيير‬
‫تدريجي‪ .‬كيف تخبر قصة من دون ذات؟ إنني اتصرف وفقًا لسطور مكتوبة؛ ال‬
‫أتفاعل‪ .‬إنني االحظ مشاعر أطفالي؛ ال أشعر‪ .‬يمر المزيد من الوقت‪ّ .‬‬
‫لكن الشوق‬
‫القديم للمنزل يأتي بهيئة همهمة هلع قديم تعلو أحيانًا وتسلب نومي‪ ،‬ثم تختفي في‬
‫النهار‪ .‬حين أنام‪ ،‬تراودني احال ٌم أيروتيكية وأحال ٌم عن حياتي الماضية‪ .‬في بعض‬
‫األحيان أعترف بخيبة أملي بالطائفة أو بليفي‪ ،‬ثم أتغاضى عن ذلك‪ .‬أحيانا ً أصارحه‬
‫بذلك‪ ،‬غير أنه ال يقول إال القليل‪ .‬بعدها أعود للعمل‪ .‬وهكذا أتزحزح مع القليل من‬
‫التغيير‪ ،‬راسية وفي ذات الوقت أرفرف أمام الريح‪.‬‬
‫شهرا بعد الفصح األول في منزلنا الجديد‪ ،‬وفي ظهيرة‬
‫ً‬ ‫بعدها‪ ،‬سبعة عشر‬
‫يوم أحد صيفي‪ ،‬تأتي شقيقتي ديبي إلى منزلنا حاملة رضيعها ديفيد وإلى جانبها‬
‫ابنتها كاتي ذات الخمس سنوات‪ .‬لم نكن قد رأينا بعضنا منذ سنوات‪ .‬كان زوجها‬
‫قد حصل لتوه على وظيفة في أحد مصانع البتروكيماويات التي تحيط بمدينتنا‪،‬‬
‫وسينتقلون للسكن هنا‪.‬‬
‫أظن أنها شعرت بأنها ملزمة بزيارتي؛ إذ لكوننا أبناء عائلة مهاجرة‪ ،‬فقد‬
‫تعلّمنا أن نحافظ على ِ‬
‫صالتنا مهما يكن من أمر‪ .‬لكنني عندما أفتح الباب وأرى‬
‫تلك المجموعة الصغيرة‪ ،‬فإنني أسمح لماضينا المشترك بالعودة إلى حياتي‪ .‬تثير‬
‫صا بال أكمام دفقًا من‬
‫رؤية شقيقتي وطفليها اللذين يرتدي كل منهما الشورت وقمي ً‬
‫ي وتجعلني أفتح الباب على مصراعيه‪ .‬أعانقها وآخذ‬
‫مشاعر أسرية تسري ف ّ‬
‫ي‪" .‬انظري إليه!" أقول‪.‬‬
‫الرضيع ديفيد بين ذراع ّ‬
‫تقول ديبي‪" :‬رباه‪ ،‬الجو حار هنا‪".‬‬
‫"تفضلي بالدخول‪ ،‬تفضلي!"‬
‫كانت السجادة الزرقاء كبَحر من األلعاب‪ .‬يتراكض األطفال جيئة وذهابًا‪،‬‬
‫وهم مألى بالحماس‪ .‬وفي وسط هذا كله يحبو طفلنا الجديد والسادس‪ ،‬إيتزك‪ ،‬الذي‬
‫يبلغ من العمر ثمانية أشهر‪ .‬تسترق كاتي النظر لألطفال من خلف أمها‪ .‬أخاطب‬
‫ديبي‪" :‬انظري! يمتلك ديفيد غمازة على خده األيسر‪ ،‬مثل إيتزك تما ًما!" أجمع‬
‫وأعرفهم بأبناء خالتهم‪ .‬أنطق أسماءهم العبرية بتأن لكاتي‪ ،‬وأذكرهم جميعًا‬
‫ّ‬ ‫األطفال‬
‫ماعدا الطفل السابع الذي ينمو في أحشائي‪.‬‬
‫ال تحاول كاتي أن تكرر لفظ األسماء‪ .‬نجلس على األريكة المتهالكة‪ .‬يتحلق‬
‫األطفال حولنا‪ .‬صف من العيون‪" .‬اذهبي للعب‪ "،‬تخبر ديبي كاتي‪ ،‬بيد أن كاتي‬
‫تتشبث بأمها‪.‬‬
‫أسأل ديبي عن البحث الذي يقومون به عن المنازل‪ ،‬انتقالهم‪ ،‬إيجادهم‬
‫للمدارس المناسبة‪ .‬تتحدث ديبي وتضحك‪ ،‬وهذا يعني لي الكثير‪ .‬بعد قضائي سنينَ‬
‫في مجتمعنا المجدب‪ ،‬كان هذا التواصل العائلي السلس مثل الماء في الصحراء‪.‬‬
‫أفكر‪ ،‬متعجبةً‪ ،‬إذ لم أعتقد بأننا قد ننال فرصة ثانية‪ .‬لكن ليبل يحدق بكاتي‪ .‬تميل‬
‫كاتي نحو أمها وتؤشر على قلنسوة ليبل‪ .‬تسأله‪" :‬ما الذي ترتديه؟"‬
‫"ال شيء‪ "،‬يجيب ليبل‪ .‬ثم يستدير ويهرب من الغرفة‪ .‬بينما تظل ليبي مع‬
‫إنك لست يهودية‪".‬‬
‫مندل وأفرامي‪ .‬ذلك الصف من العيون‪ .‬يقول مندل‪ِ " :‬‬
‫أقول لديبي‪" :‬دعينا نجمع األطفال سوية كل أسبوع!"‬
‫تشد كاتي أمها‪ .‬وتقول‪" :‬ال يروقني المكان هنا‪ ،‬دعينا نذهب للمنزل!"‬

‫أصبحت ميرا‪ ،‬رفيقة الميكفاه‪ ،‬شغوفة بعض الشيء بالسياسة‪ .‬وما فتئت‬
‫ي إن أجدها‬
‫تقتبس عن شخصية إذاعية جديدة تدعى راش ليمبو‪ .‬إنه لمن الغريب عل ّ‬
‫تعتقد أن العالم يجب أن يسير وفقًا لقيمنا في الشريعة‪ ،‬أو أن تعتقد أن بإمكان رجل‬
‫مسيحي أن يجسد ما نؤمن به‪ .‬ال أعرف الكثير عن ليمبو‪ ،‬لكنني أستمع إليه في‬
‫ساخرا وباردًا‪ .‬وفي إحدى ليالي الميكفاه‬
‫ً‬ ‫أحد األيام أثناء قيادتي للسيارة وأجد صوته‬
‫فعليك أن تتعلمي أن هناك‬
‫ِ‬ ‫أخبر ميرا‪" :‬أوتعلمين‪ ،‬إننا مناسبتان إحدانا لألخرى‪.‬‬
‫ي أن أتذكر األسود واألبيض‪ .‬تحتاج كلتانا ً‬
‫قليال‬ ‫لونا رماديًا‪ ،‬وأنا كأمرأة متدينة‪ ،‬عل ّ‬
‫من العمل‪ ".‬لكنها ميرا الصريحة والمتحمسة‪ ،‬ميرا ذات التفكير األسود واألبيض‪،‬‬
‫علّي أن أكون من تتذكر الرمادي‪.‬‬
‫التي يحترمها مجتمعنا‪ .‬أعتقد أنه من الصب َ‬
‫ت َنفَسي‪ .‬بعد أربعة أشهر من زيارة ديبي‪ ،‬أنا في مستشفى الميثوديست في‬
‫إحدى غرف الوالدة البيضاء المعقمة موصولة بمحلول وريدي ّ‬
‫يقطر موا َّد كيميائية‬
‫في ذراعي في محاولة إليقاف المخاض المبكر قبل موعده بشهرين‪ .‬أحاول أن‬
‫أتنفس‪ّ ،‬‬
‫لكن كل سحبة نفس تكوي صدري أل ًما‪ .‬تصطك أسناني‪ ،‬أتعرق وأرتجف‬
‫مما ّ‬
‫يقطرونه في وريدي‪ .‬أما أطرافي ووجهي فقد كانا متورمين جراء شهور‬
‫تعاطي الكورتيزون‪ .‬أنظر إلى ليفي‪ .‬ثم تنفصل المشيمة متسببة بتدفق الدماء‪.‬‬
‫تجيء الدكتورة هينس‪ .‬يدعوها مرضاها باسم بيثاني‪".‬لن نوقف المخاض‬
‫بعد اآلن‪ .‬علينا أن نقوم بتحفيزك على الوالدة‪ ،‬علينا أن نخرج الطفل‪ "،‬تقول‬
‫الطبيبة‪.‬‬
‫أستجمع أنفاسي ألقول‪" :‬هل الطفل سليم‪ ،‬ولكن البيئة معادية؟"‬
‫تجيبني‪" :‬شي ٌء من هذا القبيل‪".‬‬
‫سا جديدًا من المحلول الوريدي وتحقن البيوتسين‬
‫تعلق إحدى الممرضات كي ً‬
‫في القثطرة‪ .‬أشعر بدفقة برودة تصعد عبر ذراعي‪.‬‬
‫عليك أن‬
‫إليك التحذيرات‪ِ ...‬‬
‫الوجوه‪ :‬وجه رجل يرتدي األخضر يقول‪ِ " :‬‬
‫ً‬
‫احتماال للوالدة القيصيرية‪...‬للسكتة الدماغية أو للسكتة القلبية أو‬ ‫تعلمي أن هناك‬
‫لتوقف التنفس‪ ،‬أو…"فقط أخرجوا الطفل‪ .".‬ووجه ليفي الطيب القلق‪ ،‬كما لو أن‬
‫عا قد ازيل عنه‪" .‬إن الحاخام يرسل مباركته‪ "،‬يهمس قرب أذني‪ ،‬ويضيف‬
‫قنا ً‬
‫"‪ ."Kol sh’vi’im chavivim‬أي أن كل "السبيعيين" محبوبون‪ .‬تخاطبني‬
‫بيثاني وأنا في تلك الحالة من التشوش الذهني‪" ،‬هذه الوالدة ستكون مختلفة عن‬
‫والداتك األخرى‪ .‬ال ينبغي أن تدفعي بشدة‪".‬‬
‫أواه‪ ،‬لكن هذه الوالدة اإلصطناعية مختلفة عن الوالدات األخر‪ .‬فاأللم‬
‫يضربني بال سابق إنذار‪ ،‬بال تدريج‪ ،‬بال مهارة طبيعية‪ .‬ليس لدي القوة ألدفع‬
‫ً‬
‫أصال‪ ،‬ويا إلهي…"الرأس" أصرخ مذعورة‪" .‬كم هو صغير! بإمكاني أن أشعر‬
‫ي وأرجع للوراء‬
‫بذلك‪ -‬سوف أهشمه!" أسحب نفسي لألعلى باالستناد على مرفق ّ‬
‫على السرير‪ ،‬كما لو أنني أبتعد عن الطفل الذي في أحشائي‪ .‬ثم يخر رأسي للخلف‬
‫وال أعود امتلك وزنًا وال مادة ً‪ .‬جسدي ليس ملكي‪ .‬أو هل كان ملكي يو ًما؟ أبي‪،‬‬
‫ليفي‪ ،‬الشريعة‪ ،‬ال َحبر‪ ،‬األطفال‪ ،‬إنهم يمتلكونني أكثر مما أمتلك نفسي‪ .‬إنهم‬
‫يرفعونني‪ .‬الطفل الضئيل يباعد بين عظامي‪.‬‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬أمشي على قدمين رخوتين إلى جانب ليفي‪ ،‬خطوة غير‬
‫متزنة بعد أخرى‪ ،‬إلى حاضنة الخداج ضمن وحدة العناية المركزة‪ .‬األضواء خافتة‪.‬‬
‫الحاضنات تصدر أصوات صفير وأزيز‪ ،‬أجساد صغيرة تتنفس وتحلم‪ .‬يرتدي ليفي‬
‫ردا ًء ورقيًا أخضر اللون وكمامة ال تغطي لحيته‪ .‬ال يكاد طفلنا يتجاوز الثالثة‬
‫أرطال‪ ،‬كان بال شعر‪ ،‬وجفناه مطبقان بإحكام‪ ،‬لكنه شيء صغير مزدهر‪ .‬تلتمع‬
‫عينا ليفي‪ .‬يحمل ابننا الذي يبلغ طوله خمسة عشر بوصة فتتسع له كلتا يديه‬
‫المكورتين‪.‬‬
‫يمر أسبوعان من أيام الوهن والغثيان وأنا مستلقية في سرير المستشفى‪.‬‬
‫أنهض‪ ،‬أتناول دواء الربو‪ ،‬أتناول الطعام‪ ،‬أتمشى إلى الحاضنة ألحمل صرة متلوية‬
‫وصغيرة على نحو ال يصدق وألقمها ثديي‪ ،‬ثم أرجع إلى سريري وأنام‪.‬‬
‫ونهارا‪ .‬تتصل شقيقتي ديبي كل يوم‪ .‬حتى أمي هي األخرى‬
‫ً‬ ‫أنام‪ً ،‬‬
‫ليال‬
‫ضا‪ .‬إنها غاضبة مني ألنني أفعل هذا بنفسي‪ ،‬لكنني أسمع في‬
‫تهاتفني‪ .‬وجدتي أي ً‬
‫صوتها "غضب" المحب القَ ِلق‪ .‬تقول لي‪" :‬عليك أن تعتني بنفسك"‪" .‬هكذا تكونين‬
‫لهم أ ًما"‪ .‬تقتبس جدتي هذا القول عن أمها‪ ،‬من اللغة اليديشية‪" .‬كوني لهم أ ًما" تعني‬
‫أن أصبح أ ًما صالحة من خالل االعتناء بنفسي‪ .‬افعلي هذا من أجل األطفال‪.‬‬
‫في أحد المساءات‪ ،‬يلقي ليفي بنفسه على الكرسي الذي بجانب السرير بحركة‬
‫دراماتيكية تنم عن اإلنهاك ويأخذ بترديد قائمة طويلة‪" .‬أوه‪ ،‬األطفال‪ ،‬المنزل‪،‬‬
‫توصيل األطفال‪ ،‬الشجارات‪ ،‬الفوضى‪ ،‬متى ستأتين للمنزل؟"‬
‫لكن شيئًا قد تغير‪ .‬فأسمع منه ما يقصده حقًا‪ :‬متى سوف تأتين لتقومي بكل‬
‫ّ‬
‫هذا العمل‪ً ،‬‬
‫بدال عني؟ أفكر بهذا‪ ،‬وال أجيب‪ .‬ما فتئت النسوة في مجتمعنا يقمن‬
‫بإرسال كسروالت الطعام ويأخذن األطفال لمواعيد اللعب‪ .‬كانت غالديس توقظ‬
‫األطفال كل يوم وتطعمهم وتجهزهم للمدرسة‪ .‬تعتني غالديس بالصغير إيتزك‪ .‬ال‬
‫أشعر باألسى حيال ليفي‪ ،‬وأقول‪" :‬أحتاج ألن أبقى هنا"‪.‬‬
‫في تلك الليلة‪ ،‬وبعد ساعات من مغادرة ليفي‪ ،‬تأتي الطبيبة بيثاني إلى جانب‬
‫سريري في نهاية جوالتها‪ ،‬مثلما فعلت في الليلة الماضية والليلة التي قبلها‪ .‬فبعد‬
‫أن تنهي نهارها‪ ،‬تجلس وتعودني‪ .‬ال أعرف ِل َم تفعل هذا‪ ،‬لكن‪ ،‬وعلى خالف غير‬
‫اليهود هنا‪ ،‬لم تعد بيثاني مجس ًما ورقيًا بالنسبة لي‪ ،‬ليس بعد اآلن‪ .‬ما أزال أسمع‬
‫تقرب كرسيها‬
‫صوتها في نهاية النفق المظلم أثناء المخاض‪ ،‬مثل حبل يسحبني‪ّ .‬‬
‫إلى سريري‪.‬‬
‫أتلعثم بحديث خجول مشوب بتوتر تسببه الحاجة والوحدة‪ .‬ليت باستطاعتي‬
‫سا مثل الذي أحظى به مع شقيقتي‪ ،‬غير‬ ‫ً‬
‫تواصال سل ً‬ ‫أن أعرب عن امتناني‪ .‬أتمنى‬
‫أنني لم أقم منذ زمن بحديث مع أي شخص من العالم‪ .‬أشعر وكأنني فضائية‪،‬‬
‫وعالوة على ذلك‪ ،‬تبدو حياة بيثاني ملكها إلى حد كبير‪ .‬أعتقد بأنها ال يمكنها بتاتًا‬
‫استيعاب سعة الحرية التي تتمتع بها‪.‬‬
‫تنحني بيثاني لألمام وتعقد حاجبيها‪ .‬ثم تقول‪" :‬ليا‪ ،‬لقد حان الوقت‪".‬‬
‫"الوقت؟" أستفهم‪ .‬لكنني أعرف قصدها‪.‬‬
‫اعليك أو على الطفل‪ ،‬أو على كليكما‪".‬‬
‫ِ‬ ‫َط ًر‬
‫آخرا قد يكون خ ِ‬ ‫"إن ً‬
‫حمال ً‬
‫حينئذ ترتفع أصوات الجماعة بهيئة معارضة صارخة بالتقوى تجتاحني‪،‬‬
‫داعيةً إياي للتضحية بالنفس من أجل الشريعة‪ ،‬لتمأل نفسي بالعار‪ .‬إن واجبي هو‬
‫إنجاب أرواح يهودية إلى هذا العالم‪ ،Mesiras nefesh .‬التضحية بالنفس‬
‫مؤخرا‪ ،‬تحدّت امرأة من اللوبافيتش تدعى روتشيل ليا أطباءها وأنجبت‬
‫ً‬ ‫تكرم الرب‪.‬‬
‫ّ‬
‫ي حاخام كان‬
‫جراء قصور في القلب‪ .‬ورغم أن أ ّ‬
‫طفلها الحادي عشر‪ ،‬ثم توفيت ّ‬
‫ليخبرها بأن تستمع لرأي طبيبها‪ ،‬إال أن روتشيل ليا كانت مصممة على أن تذهب‬
‫إلى أبعد مما يفرضه نص الشريعة‪ .‬لقد أصبحت قديسةً بيننا‪ ،‬شهيدة‪ .‬فسم ّ‬
‫ي المواليد‬
‫تيمنًا بها‪ ،‬وكرست ألجلها عظات مؤثرة‪ .‬امرأة باسلة‪ ،‬من ذا الذي قد يجد مثلها؟‬
‫إن تجاهلت نصيحة بيثاني‪ ،‬فسوف أحظى بإعجاب الطائفة‪ .‬يرتفع ضجيج‬
‫األصوات‪.‬‬
‫لكن هناك ليبل وليبي ومندل وأفرامي وسارة وإيتزك‪ ،‬وانضم إليهم اآلن ابننا‬
‫الجديد‪" .‬كوني لهم أ ًما"‪ .‬ذلك ما قالته جدتي‪ .‬ال يمكنني اإلصغاء لصوت الجماعة‪.‬‬
‫لن أصغي‪ .‬لن أموت‪ .‬لن أدع أطفالي بال أمهم‪.‬‬
‫ال أعرف هذا الصوت المتطلب الجديد في داخلي والذي يعلو صوته على‬
‫بم‬
‫صوت الجوقة‪ .‬لكنني أصغي‪" .‬أخبريني‪ ،‬أقول لبيثاني بصوت واهن‪" .‬أخبريني َ‬
‫يجب أن أفعله‪".‬‬
‫تتنهد بيثاني‪ .‬تتكئ للخلف وتبتسم‪.‬‬
‫في الصباح التالي حين يجيء ليفي‪ ،‬أخبره بما قالت الطبيبة‪ .‬أخبره أن بيثاني‬
‫خطيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تقول بأننا إذا لم نتبّع نصيحتها‪ ،‬فقد يصبح الوضع‬
‫يقول لي‪" :‬سوف نسأل رافًا‪".‬‬
‫" ِل َم نتكبد عناء استشارة راف ليخبرنا بما نعرفه؟" أقول‪" .‬فلو قال أحد األطباء‬
‫بأنها مسألة حياة أو موت‪ ،‬فعلينا أن نصغي له‪".‬‬
‫"صحيح‪ "،‬يقول‪ ،‬وعلى وجهه ارتياح خالص‪.‬‬

‫نخرج من المستشفى إلى المنزل‪ ،‬يصبح وزن إبننا الذي لم نسميه بعد أربعة‬
‫أرطال وهو يرضع كل ساعتين‪ .‬كما أن سارة وأفرامي ومندل وليبي وليبل‪ ،‬الذي‬
‫يبلغ العاشرة تقريبًا‪ ،‬يحتاجون للعناية‪ ،‬أما الصغير إيتزك فيصاب بالحمى مرة في‬
‫األسبوع وال نعرف سبب ذلك‪ .‬تمر األسابيع بلمح البصر‪ ،‬دون تمييز بين الليل‬
‫والنهار‪.‬‬
‫أخيرأ‬
‫ً‬ ‫شهرا ويصل وزنه لخمسة أرطال‪ ،‬نقيم له‬
‫ً‬ ‫عندما يبلغ عمر المولود‬
‫مراسم ختان‪ .‬نقيم االحتفال في المنزل بتحقق الحد األدنى من النصاب ليس إال‬
‫صغير للغاية‪ .‬يقوم‬
‫ٌ‬ ‫والبالغ عشرة رجال‪ ،‬ألنني لن أسمح بتعرضه لإلنكشاف وهو‬
‫الموهيل بحركة القص السريعة الماهرة‪ ،‬ينتحب الوليد‪ ،‬ثم ينادي الموهيل باسم ابننا‬
‫‪ :b’yisrael‬شالوم‪ ،‬سالم‪ .‬اسم شالوم يشبه شاليم‪ ،‬أي مكتمل‪ .‬أصبحت عائلتنا‬
‫مكتملة‪.‬‬
‫وتكرارا لوالدة شالوم وإلحساس‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫على مدار الشهور الالحقة‪ ،‬أعود‬
‫فقدان ذاتي في العائلة وال َحبر والرب كما لو أنهم قد حملوني أثناءها‪ .‬أسمع بيثاني‬
‫عليك أن تقومي بهذا‪ "،‬قاصدة ً تحديد النسل‪ ،‬وأستعيد دهشتي من موافقة‬
‫تقول‪ِ " :‬‬
‫أخيرا أن يسمع صوتي وحده‪ .‬لقد تبع مشورتي‪ .‬أبدأ بفهم‬
‫ً‬ ‫ليفي‪ ،‬كما لو أنه استطاع‬
‫هذا على أنه نقطة تحول وأتأقلم مع واقع جديد أكثر قوة‪.‬‬
‫ي أن أستسلم‬
‫اخترت أن أقول كال‪ .‬أعجب من كل يوم لن يكون فيه لزا ًما عل ّ‬
‫ثانية ألفعوانية الحمل‪ .‬جسدي هو ملكي‪ .‬لقد طالبت بأحقيته كملك لي‪ .‬إنني أقف‬
‫ضا مل ًكا لي على نحو أكبر؟ ولو‬
‫بثبات أكثر‪ .‬فهل يكون ممكنًا أن يصبح مستقبلي أي ً‬
‫ً‬
‫سؤاال‬ ‫صا أثق به‪ ،‬مثل بيثاني‪ -‬جاء ووجه لي‬
‫صا من خارج الطائفة ‪-‬شخ ً‬
‫أن شخ ً‬
‫حادًا‪ ،‬فلربما حتى أجد طريقة ألشير إلى ذاتي الجديدة المنبثقة‪ .‬لربما أقول‪ ،‬بصوت‬
‫خافت‪ ،‬إنني بدأت أستقل بذاتي‪.‬‬

‫يجيء موعد الفصح ثانية‪ .‬لكن احتياجات األطفال تبدو اآلن أكثر واقعية من‬
‫متطلبات الشريعة‪ .‬أوظف امرأتين لمعاونة غالديس (ليس كافيًا‪ ،‬يقول ليفي‪ ،‬لكنه‬
‫أفرغ جيوب المعاطف أو‬
‫يعني المال)‪ ،‬وأنا ال أبذل جهدًا ألتفحص عملهن وال ّ‬
‫أبحث عن رقائق التشيريو في زوايا الخزانة وال أسهر على كشط الفرن وال ينتابني‬
‫القلق من تقصيري‪ .‬قد ال تكون استعداداتنا مطابقة تما ًما للمعايير الحسيدية‬
‫النموذجية‪ ،‬لكنني أعرف الحد األدنى مما تتطلبه الشريعة‪ .‬أسمع صوتي الواضح‬
‫حينما أخبر ليفي‪" :‬أيا كان ما تنجزه المساعدة المستأجرة فهو كاف‪ ".‬بطريقة ما لم‬
‫يب ِد ليفي اعتراضه‪ ،‬على الرغم من أنه يغرق في ميلودراما عن التكاليف‪ .‬ثم أتمادى‬
‫وأصرح بأنني لن أعود للعمل‪ .‬ال مزيد من التدريس‪ .‬يستسلم ليفي ويتنهد‪ .‬فهو قلق‬
‫بشأن كيفية استطاعتنا تدبير شؤوننا؛ إذ كان راتبي يسدد أجر مدبرة المنزل على‬
‫األقل‪ .‬يقول لي‪" :‬أال تستطعين أخذ إجازة ثم العودة للعمل في الخريف؟"‪ .‬لكنني‬
‫أسمع جدتي وهي تردد "كوني لهم أ ًما"‪ .‬فأجيبه‪" :‬كال‪ ،‬لم يعد بوسعي التحمل‪".‬‬

‫تمر فترة رضاعة شالوم مثل غمضة عين‪ ،‬مثل أخذ نَفَس‪ ،‬وتنقضي أيامها‬
‫بسرعة‪ .‬أريد أن أحفر صورته السريعة الزوال في دماغي؛ إنه يكبر بسرعة كبيرة‪،‬‬
‫وكل لحظة معه هي لحظة لن اختبرها مجددًأ‪ .‬عندما أحتضنك‪ ،‬أيها الرجل الصغير‬
‫إنك تختم‬ ‫ً‬
‫رسوخا ووعيًا بسببك‪ ،‬ربما للمرة األولى‪َ .‬‬ ‫غير المكتمل‪ ،‬أصبح أكثر‬
‫إنك تجعلهم جميعًا أكثر حياةً ألنك األخير‪ .‬إنني َ‬
‫معك‪،‬‬ ‫أنت جميع أطفالي‪َ .‬‬
‫أمومتي‪َ .‬‬
‫في كل لحظة‪ ،‬في األيام وفي الليالي حينما تكون نائ ًما‪ ،‬حتى بعد أن أعود من‬
‫الميكفاه في بعض الليالي‪.‬‬
‫غريب كيف تستطيع قطعة مطاط صغيرة مشدودة على حلقة مرنة تغيير‬
‫ٌ‬
‫الكثير‪ .‬إنها لمفارقة عندي كيف أن تحديد النسل يمنحني القوة التي أحتاجها من‬
‫أجل األطفال‪ ،‬حيث تكمن المفارقة في أن منع األمومة يهبني األمومة‪ .‬تذكرني كل‬
‫مرة أحمل بها العازل األنثوي في يدي بأن عافيتي أولوية‪ .‬ومثلما حدث أثناء سنة‬
‫تأجيل الحمل التي منحنا إياها الراف موشيه قبل مدة طويلة‪ ،‬اآلن‪ ،‬وقد بلغت الثانية‬
‫والثالثين من عمري‪ ،‬ما زلت أحب رش الرغوة في الكوب المطاطي‪ ،‬وأحب‬
‫الوعي بالجسد الذي اكتسبته من وضع العازل في مكانه‪ .‬عدت من الميكفاه قبل‬
‫ساعة واحدة‪ .‬الوقت متأخر للغاية‪ .‬األطفال نائمون‪ .‬ليفي ينتظر‪ .‬أخلع الشال وألقيه‬
‫ً‬
‫طويال مرة أخرى‪ .‬أنتهي من‬ ‫على األرض‪ ،‬أهز للوراء بشعري الذي أدعه ينمو‬
‫وضع العازل ثم أدخل إلى غرفة النوم وأذهب إليه‪.‬‬
‫في وقت متأخر من إحدى ليالي الميكفاه عندما يبلغ شالوم من العمر ثالثة‬
‫أشهر ونصف‪ ،‬أجد نفسي أسحب جسدي في ذعر بعيدًا عن ليفي‪ .‬لم أكن أفكر حقّا‬
‫قبل أن نصعد إلى السرير معًا‪ .‬لقد كان ذهني في مكان آخر ‪-‬مع األطفال والوليد‬
‫الذي لم يكن يكتسب الوزن بشكل جيد كما ينبغي له أن يفعل‪ -‬واآلن قد فات األوان‪.‬‬
‫لقد نسيت البوابة‪ .‬لقد نسيت استخدام العازل األنثوي‪ .‬أقفز من السرير وأركض‬
‫للحمام واقفل الباب‪ .‬أندب‪" :‬يا رباه"‪.‬‬
‫يقول ليفي عبر الباب‪" :‬ليا! ما األمر؟ ما الخطب؟"‬
‫"لقد نسيت‪ "،‬أقول له‪ .‬آه كال‪ ،‬آه كال‪ ،‬آه كال‪ .‬كالمجنونة‪ ،‬أفتح المياه الحارة‬
‫في الحوض وأخطو إلى داخل الدوامة‪ .‬أقرفص هناك وأسعى ألن أزيله من داخلي‬
‫باالغتسال مرة بعد أخرى‪ .‬ثم أقفز إلى خارج الحوض‪ ،‬والمياه تتقاطر مني وأنا‬
‫ي المرتجفين‬
‫أرتجف‪ ،‬التقط أنبوبة مبيد النطاف واعتصرها بشدة‪ ،‬فألطخ إصبع ّ‬
‫على طولهما بالكريمة الدهنية سميكة القوام‪ ،‬ثم أمسح نفسي من الداخل‪ .‬تتملكني‬
‫الهواجس‪ .‬آخذ األنبوبة وأعصرها مباشرة في داخلي‪ .‬اقتله اقتله‪.‬‬
‫ال يرتفع صوت الجماعة في معارضة صالحة‪ .‬إنها أنا فقط من تصرخ‪:‬‬
‫"كال‪ ،‬كال‪".‬‬
‫في اليوم الالحق‪ ،‬أتحرك عبر المنزل وأنا في حالة من الذعر الصامت‪،‬‬
‫آخرا سوف يحطمني‪ .‬أنا لست قديسة مثل روتشيل ليا‪ .‬ال أريد أن‬ ‫أفكر‪ :‬إن ً‬
‫طفال ً‬
‫آخر إلى العالم‪ .‬ومرة تلو األخرى‪ ،‬تدور الفكرة في‬ ‫أموت لكي أنجب ً‬
‫طفال يهوديًا َ‬
‫ذهني مثلما يتقلب الزجاج في فرن التلدين‪ :‬كثير جدًا‪ ،‬كثير جدًا‪ ،‬كثير جدًا‪.‬‬
‫أحاول أن أفكر مع نفسي‪ِ .‬لمَ أنا خائفة‪ ،‬بينما ال أعرف حتى ما إذا كنت‬
‫حامال‪ .‬ربما سينقضي األمر على خير‪ .‬ربما‪ ،‬وعلى األرجح‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حامال؟ ربما لست‬
‫ليس هناك ما يستحق أن أقلق بشأنه‪ .‬أجبر نفسي على العناية باألطفال والمنزل‪.‬‬
‫لكنني كنت قد أكتشفت للتو ً‬
‫قليال من الحرية‪.‬‬
‫أحاول العودة إلى ذلك المكان‪ .‬وعلى مدى تسعة أيام‪ ،‬أحاول أن أعود إلى‬
‫ذلك المكان‪ .‬في اليوم العاشر‪ ،‬أستعين باختبار حمل منزلي وت َظهر نتيجته موجبة‪.‬‬
‫يجتاحني شعور بأن جسدي محاصر‪ .‬هناك صرخة في عقلي‪ :‬سوف يقتلني‬
‫هذا‪ .‬وعلى خالف السبع مرات التي سبقت هذا الحمل‪ ،‬فإنني ال أستطيع أن أشعر‬
‫بأي حس بالوعي يتش ّكل في أحشائي‪ .‬ال أستطيع أن أرى هذا الحمل كبشري‪ .‬إنه‬
‫ليس ً‬
‫طفال‪ ،‬أفكر‪ .‬إنه جسم دخيل‪ ،‬إنه سرطان‪.‬‬
‫تقوم الجماعة‪ ،‬الشريعة‪ ،‬ال َحبر بتوبيخي عبر صوت الجوقة المألوف‪ :‬أحبي‬
‫عليك ذلك!‬
‫ِ‬ ‫هذا الطفل الجديد ألنه ينبغي‬
‫يخطرني رد ال أستطيع كتمه‪ :‬إنه ليس ً‬
‫طفال‪.‬‬
‫اصرخي بذلك‪ ،‬إذًا!‬
‫ال أستطيع‪ .‬لن أنجب ذلك الطفل‪.‬‬
‫طفلتك‪ ،‬بين ذراعيك‪ ،‬ضعيفًا ومطمئنًا وناع ًما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تخيلي طفلك أو‬
‫كال! لست روتشيل ليا‪ .‬ال أريد أن أموت‪.‬‬
‫ال أعرف هذه المرأة المتمردة في داخلي‪ .‬ال أعرفها‪ ،‬وهي تنفرد بذاتها عن‬
‫الجماعة‪ ،‬ال أستوعب شجاعتها‪ .‬إنها تدّعي معرفة ال أملكها‪ -‬فليس هناك دليل على‬
‫خطورة هذا الحمل‪ .‬فكل حمل مختلف عن اآلخر‪ .‬ومن المفروض أن أكون أ ًما‪ ،‬أ ٌم‬
‫ي وأتهرب من التفكير‪.‬‬
‫بال توقف‪ .‬يحتدم الجدال بين العقل والقلب‪ .‬أغمض عين ّ‬
‫"ماما‪ ،‬ماذا هنالك؟" تقول ليبي ذات الثمانية أعوام‪ ،‬وتضع يدها على ذراعها‪.‬‬
‫سد شعرها‪ ،‬ألمس وجهها‪ .‬أذهب إلى حيث طاولة المطبخ‬
‫أجيبها‪" :‬ال شيء‪ ".‬أم ّ‬
‫وأجمع األطباق المتسخة‪.‬‬
‫ألف أرجاء المنزل شاردة الذهن‪ ،‬أدور مع الذنب‪ ،‬أصارع نفسي‬
‫ولعدة أيام ّ‬
‫بينما يستمر كل مسام من مسامات جسدي بالصراخ‪ ،‬أخرجي الطفل‪ .‬لن أسمح‬
‫بالتش ّكل الفعلي للصرخة ‪-‬ألتزم بالصمت‪ -‬لكني ال أنام وال أدنو من الطعام مع‬
‫الجهد الذي أبذله‪ .‬أنا مرعوبة من نفسي‪ ،‬خائفة من هذه الغريبة التي هي أنا‪ ،‬التي‬
‫تريد أن تقتل طفلها‪ .‬إلى َمن أتحول؟ أنا وحش‪ .‬باستطاعتي أن أقتل‪ .‬أنا قادرة على‬
‫ذلك‪ .‬أشعر باالشمئزاز‪.‬‬
‫ي أن أخرج الطفل خارج بدني‪.‬‬
‫عل ّ‬
‫تمر عدّة أيام قبل أن أتمكن حتى من لفظ كلمة "جهاض" أمام نفسي‪ ،‬بيد أنني‬
‫ّ‬
‫أخيرا‪ ،‬تختفي الجوقة الصالحة وأجد أن الكلمة ال تعني رذيلة‪ .‬إنها‬
‫ً‬ ‫عندما أقولها‬
‫مجردة من المشاعر‪ .‬ما زلت أعتقد بأنني وحش‪ ،‬غير‬
‫ّ‬ ‫تعني نجاة‪ .‬إنها تعني راحة‬
‫ي أن أكون لهم أ ًما‪ .‬أهاتف‬
‫أنني سأخاطر بكل شيء من أجل أطفالي‪ .‬ينبغي عل ّ‬
‫بيثاني‪" :‬إنني حامل‪ ،‬أعتقد بأنها ورطة‪ "،‬أقول لها‪.‬‬
‫كان صوتها رقيقًا‪ .‬تقول‪ً " :‬‬
‫أوال‪ ،‬تفضلي إلى العيادة وقومي بعمل تحليل للدم‪.‬‬
‫ً‬
‫حامال‪ -‬فتلك األجهزة المنزلية ليست دقيقة دائ ًما‪".‬‬ ‫ت‬
‫ربما لس ِ‬
‫في ذلك العصر أكون في عيادة بيثاني‪ ،‬مستخدمة صوتي الجديد الخافت‬
‫ألتفوه بطلبي البغيض متجاوزة ً حكم العار المتجدد للجماعة والرب‪ .‬يعطي فحص‬
‫الدم نتيجة إيجابية‪ .‬كانت الطاولة المكتبية الواسعة الالمعة التي تفصل بيننا تمنح‬
‫بيثاني مسافة مهنية‪ .‬تبدو رزينة‪ .‬أنا مذعورةٌ‪ ،‬لكنني من الداخل كنت بدائية إلى حد‬
‫ما‪ ،‬تسوقني الغريزة‪ ،‬ومستعدة للتضحية بالطفل‪.‬‬
‫كان على الرف الذي خلف الطبيبة صورة مؤطرة يظهر فيها ولداها وهما‬
‫يبتسمان ويضيّقان أعينهما من الشمس معتمرين قبعات بيسبول‪ .‬يحمل أحدهما قفاز‬
‫صائد كرات‪ ،‬فيما كان الفتى اآلخر ذا وجه منمش‪.‬‬
‫"كان والدي قسيساً‪ "،‬تقول بيثاني‪.‬‬
‫"حقًا؟" أقول‪ ،‬مع أنني ال أدرك مقصدها‪.‬‬
‫تقول بيثاني‪" :‬أنا ال أقوم بإجراء عمليات اإلجهاض‪".‬‬
‫ال أنبس ببنت شفة‪ .‬ال أعرف مكانًا آخر أذهب إليه‪.‬‬
‫"لكنني أنصحك بشدة بمكان آخر‪ "،‬تقول لي‪.‬‬
‫ي الذهاب‪ ،‬سأجد ً‬
‫حال‪".‬‬ ‫أقوم من مقعدي‪ .‬وأقول‪" :‬سأعرف إلى أين عل ّ‬
‫تقول‪" :‬لكنني سأقوم بإجراء العملية هذه المرة‪".‬‬
‫أعود للجلوس في مقعدي‪" .‬أستفعلين ذلك؟" أسألها‪.‬‬
‫ً‬
‫تنازال عن مبادئي‪".‬‬ ‫تقول‪" :‬ال أرى في فعلي هذا‬
‫"إنه ضروري للغاية‪".‬‬
‫أفكر‪ ،‬إن لديها قواع َد خاصة بها‪ .‬وبإمكانها أن تلتف حولها‪ .‬لماذا تكسر‬
‫قواعدها من أجلي‪ ،‬وتمد لي يد المساعدة‪" .‬إنك تفهمينني‪ ،‬أليس كذلك؟" أقول‬
‫مستفهمة‪.‬‬
‫عليك أن تقومي بالعملية‪ ".‬ثم تضيف‪" :‬هل يعلم زوجك أنك هنا؟"‬
‫تقول‪ِ " :‬‬
‫ي على وسعهما‪" .‬هل بوسعك أن‬
‫أقول‪" :‬كال‪ ،‬ليس لديه علم‪ ".‬أفتح عين ّ‬
‫تجريها هنا‪ ،‬في العيادة؟"‬
‫"هنا؟ كال؟"‬
‫"ال أريد لليفي أن يعلم‪ .‬إذا ذهبت للمستشفى‪ ،‬فستأتي الفواتير للمنزل‪،".‬‬
‫فتقول على مهل‪" :‬ال أستطيع أن أفعل ذلك‪ ".‬تقطب جبينها‪ ،‬تتكئ للوراء‪ ،‬تخفض‬
‫ذقنها‪" .‬ستكون هناك مشكلة في التخلص من … األنسجة البشرية‪".‬‬
‫ضا أن تمتثل للقوانين‪.‬‬
‫فثمة قوانين قبل كل شيء‪ .‬وينبغي على الطبيبة أي ً‬
‫ضا‪".‬‬
‫زوجك‪ ،‬فهذا الطفل طفله أي ً‬
‫ِ‬ ‫تخفض صوتها‪ .‬تقول‪" :‬تحدثي إلى‬
‫أقول‪" :‬ال تقولي ذلك‪ ،‬ال تقولي كلمة ’طفل‘‪".‬‬

‫بعد ذلك أكون لوحدي في مكتبها فيما هي تقوم بإجراء فحص روتيني في‬
‫غرفة أخرى‪ .‬أتساءل فيما إذا كانت مع المرأة التي رأيتها في غرفة االنتظار‪ ،‬تلك‬
‫المرأة الشابة الحامل ذات البطن المدورة‪ .‬رأيتها تلتقط مجلة (‪ )Parents‬وتقلب‬
‫صفحاتها المليئة بالنصائح المكتوبة بألوان زاهية وبأسلوب خال من التعقيد والتي‬
‫تروج ألسر صغيرة منتظمة اإلنجاب‪.‬‬
‫ّ‬
‫تريد مني بيثاني أن أخبر ليفي‪ ،‬لكن إخباره يعني االحتكام إليه وإلى الشريعة‪.‬‬
‫أنا من يجب أن تقرر هذا األمر من أجل نفسي‪ .‬لقد بدأت لتوي أشعر بأنني على‬
‫قيد الحياة‪.‬‬
‫عند الجلوس لوحدي في مكتب بيثاني‪ ،‬أعترف لنفسي بأنني لست خائفة حقًا‬
‫من المخاطر الجسدية‪ .‬فليس هذا ما قادني إلى القدوم هنا‪ .‬أوه‪ ،‬إن بيثاني محقة في‬
‫السر هو أنني ال أشعر حقًا‬
‫َّ‬ ‫ما قالته‪ ،‬إنني لست مستعدة إلنجاب طفل آخر‪ ،‬لكن‬
‫بأنني عرضة للموت‪ .‬أما الحقيقة ببساطة فهي أنني ال أستطيع أن أتدبر مسؤولية‬
‫طفل آخر‪ ،‬إلى حد يجعلني أشعر باليقين من التعرض لنوع مختلف من الموت‪ ،‬أال‬
‫وهو التحطم من الداخل‪ .‬هذا ما أنا متيقنة منه‪ ،‬مذعورة منه‪ .‬سأتحطم‪ ،‬وسيفقد‬
‫أطفالي أمهم بطريقة مختلفة‪ .‬وهي نفس الطريقة التي فقدت بها والدي‪ .‬إن الشريعة‬
‫تحلل اإلجهاض لحماية بدني‪ ،‬ولكن ليس لحماية روحي‪.‬‬
‫لقد طلبنا أنا وليفي اإلذن ذات مرة الستخدام موانع الحمل ألنني كنت متأكدة‬
‫ضا بأنني ال أستطيع أن أتدّبر مسؤولية طفل‪ .‬لكن المسألة اآلن ليست تحديد‬
‫حينها أي ً‬
‫ي باألساس‪.‬‬
‫النسل‪ .‬فهذا الطفل ح ّ‬
‫ال أعرف القانون األمريكي‪ ،‬وال أفكر حتى بنفقة الطفل‪ ،‬ال يمكنني النجاح‬
‫بتدبير مسؤولية األطفال لوحدي‪ ،‬يحب ليفي الربَّ والشريع َة أكثر مما يحبني‪ ،‬وكل‬
‫ي على الشريعة‪ ،‬فإذا قمت بخرق الشريعة‪ ،‬فسيفسد زواجنا‪.‬‬
‫جانب من حياتنا مبن ٌّ‬
‫ي أن أحاول أن أجد رافًا يوافق على هذا اإلجهاض‪ ،‬ألنه إن وافق على‬
‫ينبغي عل ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فسيقبل ليفي باإلجهاض كذلك‪ .‬سأجري العملية ألحافظ على شمل عائلتنا‪.‬‬
‫أما إذا لم يوافق الراف… فأنا مستعدة لتجاهل الشريعة لو اضطررت لذلك‪،‬‬
‫بغض النظر عن العواقب‪.‬‬
‫ي في حضني‪ .‬وأقول‪" :‬إذا‬
‫تعود بيثاني وتجلس ثانية خلف المكتب‪ .‬أضع يد ّ‬
‫أخبرت ليفي باألمر‪ ،‬فإنه سيدعمني فقط في حال طلبنا حك ًما من راف‪ ،‬وهو سلطة‬
‫حاخامية في الشريعة اليهودية‪ ،‬فهو بمثابة قاض‪ .‬إذ يفترض بنا أن نطلب مشورة‬
‫الراف في مثل هذه التفاصيل‪".‬‬
‫يبدو التعجب على بيثاني‪ .‬وتنتظرني‪.‬‬
‫أقول‪" :‬أعني أنني سوف أجري عملية اإلجهاض مهما يكن من أمر‪ ".‬يخفق‬
‫وأخيرا‪ .‬لقد قلتها‪ .‬وبصوت عال‪.‬‬
‫ً‬ ‫قلبي من الخوف‪ .‬أوه‬
‫بأنك مضطرة إلجرائها‪".‬‬
‫تقول‪" :‬أعتقد ِ‬
‫"لكنني أحتاج للحصول على حكم من أجل ليفي‪ ".‬يرتفع الصوت الجديد‪،‬‬
‫ي أن أحافظ على شمل عائلتي‪".‬‬ ‫غلي ً‬
‫ظا‪" .‬عل ّ‬
‫سيتركك بسبب هذا؟"‬
‫ِ‬ ‫"هل‬
‫"لو قمت بخرق القانون الذي تستند عليه حياتنا وقتلت طفله؟"‬
‫يخيّم الصمت ثم تقول‪" :‬حسنا‪ ،‬إن كنت ترين األمور بهذا الشكل‪".‬‬
‫راف بإباحة األمر‬
‫ٌ‬ ‫"ال أعتقد أنه يستطيع رؤية األمر بشكل آخر‪ .‬ما لم يقم‬
‫لنا‪".‬‬
‫ي قوله؟"‬
‫تبتلع ريقها‪" :‬ما الذي يجب عل ّ‬
‫"سيبيح الراف اإلجهاض فقط إن كان الحمل مهددًا للحياة بطريقة يفهمها‪"،‬‬
‫أقول‪" .‬سوف يصدق الطبيب‪ .‬هل تستطيعين استخدام تلك الكلمات؟ مهدد للحياة‘؟‬
‫أيمكنك أن تخبري الراف بأنني سأموت؟"‬
‫ال أستطيع أن أصدق ذلك‪ .‬إنني أحاول أن أتحايل على الشريعة‪ .‬وقد أقطع‬
‫جذور حياتي في خضم ذلك‪.‬‬
‫تقول بيثاني‪" :‬أنا طبيبة‪ .‬سأطلعه على المخاطر‪ ،‬لكنني ال أستطيع أن أقول‬
‫على وجه التأكيد بأن الحمل مهدّد للحياة‪".‬‬
‫"لكن تلكم الكلمات هي ما يجب أن يسمعه‪".‬‬
‫"إنك تعانين من الربو‪ ،‬وليس من مشكلة قلبية‪".‬‬
‫"أعرف ذلك‪".‬‬
‫"صحيح‪ ،‬أن ما حدث من قبل يمكن أن يحدث مجددًا وربما يصبح األمر‬
‫خطيرا‪ ،‬لكن كل حمل يختلف عن اآلخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫أسوأ في المرة القادمة‪ .‬قد يصبح وضعك‬
‫ربما تتجاوزين الوالدة بخير‪ .‬لست أدري‪ .‬فأنا لست الرب‪".‬‬
‫أقول‪" :‬كال‪".‬‬
‫"أن المشكلة هي أنني ال أعرف‪".‬‬
‫أهمس‪" :‬ال بأس‪ ،‬هذا ما يجب فعله‪".‬‬

‫بعد أن استغرق األطفال بنومهم‪ ،‬أطلب من ليفي أن يأتي للتحدث معي‪ .‬ينتابه‬
‫الفضول‪ ،‬وبعض القلق‪ ،‬ويتبعني إلى الفناء الخلفي‪ .‬نجلس على كراسي المرج‬
‫القديمة‪ ،‬عريشة من النجوم تحيط غرفتنا الخاصة‪ .‬وفي الجو صوت حفيف أجنحة‬
‫مر على زواجنا أكثر من خمسة عشر عا ًما‪ .‬أقول‪:‬‬
‫الجنادب وطنين البعوض‪ .‬لقد َّ‬
‫ي أن أخبرك شيئًا‪".‬‬
‫"عل ّ‬
‫"حسنًا؟"‬
‫"إنني حبلى مجددًا‪".‬‬
‫يتنهد ليفي‪ ،‬ثم ينتزع ابتسامة من شفتيه‪" .‬ما زلنا نستخدم الحبوب منذ والدة‬
‫شالوم‪ "،‬يقول‪" .‬لكن… ‪".baruch hashem‬‬
‫أقول‪" :‬كال‪".‬‬
‫"ماذا؟"‬
‫"ال باروخ هاشيم ‪ ،baruch hashem‬ال شكر للرب‪".‬‬
‫"ماذا تقولين؟"‬
‫ٌ‬
‫سرطان أو قنبلة‪".‬‬ ‫"أشعر وكأن هذا الطفل‬
‫"بربك!"‬
‫"إنه قنبلة مزروعة بداخلي‪".‬‬
‫ت األمور بخير‪".‬‬ ‫ً‬
‫متحايال إلقناعي‪ .‬ويقول لي‪" :‬دائ ًما ما اجتز ِ‬ ‫يرق صوته‪،‬‬
‫ّ‬
‫"لقد أصابني الخوف من اللحظة األولى التي عرفت فيها أنني حام ٌل‪".‬‬
‫كان ضوء القمر يلقي بظالله على وجه ليفي الم ّ‬
‫قطب‪ .‬يرفع يده‪ ،‬كما لو أنه‬
‫يريد أن يهش الخوف عنه كما لو أنه بعوضة‪ ،‬ثم يتوقف وينزل يده‪ .‬ثم يقول بنبرة‬
‫إنك تعلمين مقدار مبالغتهم‪".‬‬
‫متأنية‪" :‬يا لهؤالء األطباء‪ِ ،‬‬
‫"لكنها محقة‪ .‬أنا أعرف أنها على حق‪".‬‬
‫فيم هي على حق؟"‬
‫" َ‬
‫"باإلجهاض‪".‬‬
‫حالما يسمع بتلك الكلمة‪ ،‬يبدو كما لو أنه قد لدغ للتو‪ .‬يصرخ‪" :‬كال!" ويقفز‬
‫من كرسيه‪" .‬هل جننتي؟"‬
‫لكنني لم أعد أشعر بأنني وحش‪ .‬أستسلم ببساطة‪ .‬فالموت الجسدي والموت‬
‫ي أن أقوم باألمر من أجل أطفالي‪ "،‬أقول‪ .‬وأضيف‪:‬‬
‫الروحي سيّان عندي‪" .‬عل ّ‬
‫ي فعله‪".‬‬
‫عليك أن تفعل ذلك‪ .‬أنا من عل ّ‬
‫َ‬ ‫"ليس‬
‫يقف ويشير إلي بأصبعه ً‬
‫قائال‪" :‬إنها جريمة!"‬
‫"ليفي‪ "،‬أقول‪" .‬لقد قال األطباء…"‬
‫يقول‪" :‬لقد تماديتي هذه المرة‪ ".‬ثم يخطو مبتعدًا‪.‬‬
‫إنني أفقده‪ .‬هذا ما يحدث اآلن‪.‬‬
‫مارة على بركة السمك‪ ،‬ودكة الخشب األحمر‪ ،‬وأرجوحات األطفال‬
‫أتبعه‪ّ ،‬‬
‫المبتلة بقطرات الندى‪ .‬كان العشب عاليًا‪ ،‬وسماء الليل صافية مثل شاهد يقظ ال‬
‫أن ثمة شيئًا يتشظى في داخل كلينا‪ .‬ينتابني الغضب‪" .‬ستدعني أموت‪."،‬‬
‫يرمش‪ .‬بيد ّ‬
‫وفيما يدير ليفي ظهره إلي‪ ،‬بدأ كتفاه باالهتزاز من دون أن يصدر أي صوت‪.‬‬
‫إنه يبكي‪ .‬أضع يدي على ذراعه‪ ،‬وعلى هذه الحالة نقف تحت جنح الليل‪.‬‬
‫ثم يخطو مبتعدًا وأنا خائفة للغاية من تركه يذهب‪ .‬أصرخ‪" :‬أرجوك!"‬
‫وأمسك نفسي عن البكاء‪ .‬ألحق بزوجي عبر الباب الخلفي‪ ،‬وأمر على طاولة‬
‫المطبخ‪ ،‬حيث أجلس الرتشاف الشاي على ضوء الصباح‪ ،‬وأمر على غرفة اللعب‪،‬‬
‫حيث تركت المكعبات الخشبية على األرض‪" .‬كال‪ "،‬يقول‪ ،‬ويرفع ذراعه بينما‬
‫يمشي‪ .‬ما أزال أتبعه‪ .‬ما أزال أتوسل‪ّ ،‬‬
‫لكن عزيمتي تضعف‪ .‬هل يستطيع أن يحتفظ‬
‫باألطفال ويطردني؟ إذا كانت خسارته تعني خسارتي لهم‪ ،‬فإن فقدانه هو شكل‬
‫مؤكد من الموت‪.‬‬
‫نمر على غرفة الجلوس‪ ،‬حيث يتظاهر األطفال بالسباحة على السجادة ذات‬
‫اللون األزرق كزرقة البحر‪ .‬نمر على رفوف الكتب المليئة بكتب الشريعة‬
‫الضخمة‪ ،‬حيث تسمع همهمات الرب القديمة‪ .‬نمر على غرفة طعام الساباث ومنها‬
‫تنطلق أصداء صوت ليفي النشاز وهو يغني مع األطفال‪ ،‬ثم نتجاوز حجرات النوم‬
‫أخيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حيث ينام ليبل وليبي ومندل وأفرامي وسارة وإيتزك وشالوم المنضم إليهم‬
‫أجاري خطواته‪ .‬لكن ليفي يتوقف‪ ،‬ويستدير‪ .‬يمط شفتيه‪ ،‬مع نبرة اشمئزاز في‬
‫مزمجرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫صوته‪" :‬من أنتِ؟"يصيح‬
‫أتحطم حينئذ‪" .‬حسنًا‪ "،‬أقول وأنا أنتحب‪" .‬حسنًا حسنًا حسنًا حسنًا‪ .‬سأنجب‬
‫الطفل‪".‬‬
‫وعندئذ يبدو ليفي محدودبًا‪ ،‬مهزو ًما‪" .‬كال‪ "،‬يقول وهو يهز برأسه وينظر‬
‫إلى قدميه‪ ،‬و‪" ،‬ال أدري‪ ".‬ثم يضيف‪" :‬سنسأل رافًا‪".‬‬
‫ال نسأل رافًا‪ .‬أنا من أفعل ذلك‪ .‬أتصل بالحاخام بنفسي في اليوم التالي بعد‬
‫أن يغادر األطفال إلى المدرسة وأخبره عن كل شيء بينما يستمع إلينا ليفي عبر‬
‫سماعة الهاتف الملحق‪ .‬أعطي الراف رقم هاتف بيثاني‪ .‬يقول لي بأنه سيعاود‬
‫االتصال بعد التحدث معها‪ .‬ثم أصلي‪ ،‬للمرة األولى منذ زمن طويل‪.‬‬
‫يعاود الراف اإلتصال في غضون ساعة‪ .‬أجيبه من الغرفة‪ .‬يقول بأنه قد‬
‫تحدث مع الطبيبة‪ ،‬ويضيف قائال‪" :‬أحتاج ألن أتكلم مع كليكما‪ ."،‬أومأ لليفي‪ ،‬الذي‬
‫يذهب إلى المطبخ‪ .‬أسمعه يلتقط سماعة الهاتف الملحق‪ .‬ويقول‪" :‬أنا هنا‪".‬‬
‫عليك أن تقوم بهذا‪".‬‬
‫َ‬ ‫يقول الراف‪" :‬حسنًا‪،‬‬
‫لم يقم الحاخام بالتفوه بكلمة اإلجهاض‪ .‬فقمت أنا باألمر‪ .‬أقول‪" :‬نقوم‬
‫باإلجهاض؟"‬
‫"نعم‪ "،‬يجيب‪ .‬ثم تظهر في صوته نبرة اتهامية‪ .‬يقول‪" :‬كنتما تستخدمان‬
‫وسائل تحديد النسل‪ ،‬أليس كذلك؟" يقول‪.‬‬
‫يتنحنح ليفي ويقول‪" :‬نعم‪ .‬لقد قالت الطبيبة بأنها كانت ضرورية‪ ،‬أقله اآلن‪،‬‬
‫من أجل سالمة ليا‪ ".‬كان حريًّا بنا أن نطلب الرخصة‪.‬‬
‫"إذًا‪ "،‬يسأل الراف‪ ،‬ثم يتحول صوته فجأة إلى سؤال يغلّفه األسى‪ ،‬كأنه‬
‫سمحت لهذا بالحدوث؟"‬
‫َ‬ ‫يصرخ بنا‪" :‬كيف‬
‫يعم صمت من أثر الصدمة‪ .‬أسمع صرخته وكأنها صرخة والد‪ .‬ونحن أمامه‬
‫كاألطفال‪ ،‬وقد خذلناه‪ -‬لقد خذلناه‪.‬‬
‫ثم يقول‪" :‬واآلن‪ ،‬وبسبب خطئكم الشنيع‪ ،‬ينبغي أن أعطيكم األذن لكي تقتلوا‬
‫ً‬
‫طفال؟"‬
‫لم يتمكن أحدنا من الكالم‪ .‬أدرك حينئذ بأنني قد تنازلت عن أهم مسؤولية‬
‫وأكثرها جسامة بحياتي والتي كان حريًّا بي أن أمسك بزمامها بوصفي إنسانة‬
‫راشدة‪ :‬مسؤولية اتخاذ القرار بأن أنهي حياة طفلنا‪ .‬لم يكن علينا أن نضع تلك‬
‫المسؤولية على عاتق شخص آخر‪ .‬يجب أن تتخذ أي امرأة ناضجة قراراتها‬
‫ً‬
‫وبدال عن ذلك‪ ،‬نقف هنا كأطفال مذنبين أمام أب سيقرر عقابنا‪ ،‬عاقبتنا‪،‬‬ ‫الخاصة‪.‬‬
‫على خذالنه‪ .‬أفغر فاهي‪.‬‬

‫أف ّكر‪ :‬إننا‪ ،‬نحن الحاسيدم‪ ،‬من الناحية األخالقية‪ ،‬أطفال ال نكبر أبدًا‪ .‬نحن ال‬
‫كبارا بما فيه الكفاية لنميّز بين الصواب من الخطأ بأنفسنا‪ .‬ودائ ًما ما تشرف‬
‫نصبح ً‬
‫علينا الشريعة مثل أب يقوم باإلشراف على طفله‪ .‬إن الخيار الوحيد المتبقي لنا اآلن‬
‫هو القبول بقرار الراف‪ ،‬بفعل ما أخبرنا بفعله‪ .‬أو ال‪.‬‬
‫أمرا خاطئًا‪ .‬ال شك أن ليفي سوف‬
‫للمرة األولى‪ ،‬يبدو االعتماد على راف ً‬
‫يذعن‪ ،‬مطيعًا ألمره‪ .‬أحاول أن أخبر نفسي‪ ،‬لكن هذا ما أردت‪.‬‬
‫سيأتي الوقت الذي سوف أعيد النظر بما حدث وأتمنى لو أنني امتلكت القوة‬
‫ألتصرف بمفردي وأبلّغ ليفي في وجهه بما كنت سأفعله‪ً ،‬‬
‫بدال من محاولة إقناع‬
‫راف بإصدار قرار من أجلي‪ .‬سأتمنى لو كانت لدي الشجاعة ألحتفظ بتلك‬
‫أخيرا‪ً ،‬‬
‫بدال من تسليمها‬ ‫ً‬ ‫المسؤولية الجسيمة التي كنت مستعدة لالضطالع بها‬
‫للراف‪ ،‬ألن العيش مع تبعات ذلك الخيار‪ ،‬ومع اإلدراك الواضح لحقيقة أنني من‬
‫تسببت بها‪ ،‬هو جزء من كوني راشدة‪ .‬لكن في هذه اللحظة‪ ،‬فأن النضوج األخالقي‪،‬‬
‫ي‪ .‬وال‬
‫الذي يدفعنا من دون هداية نحو خيارات إشكالية مرعبة‪ ،‬هو أمر جديد عل ّ‬
‫أعرف لحد اآلن ك َّم الندم الكبير الذي سأشعر به على هذا‪.‬‬
‫ي أن أتيقن من عدم حصول هذا الوضع‬
‫أقول للراف‪" :‬هناك أمر آخر‪ ،‬عل ّ‬
‫مرة أخرى‪".‬‬
‫يقول الراف‪" :‬أجل‪ ،‬عليكم ذلك‪".‬‬
‫"لذا أريد أن أجري ربط أنابيب‪ .‬في نفس الوقت‪ .‬أثناء وجودي في غرفة‬
‫العمليات‪".‬‬
‫إنك تعرفين الشريعة‪ .‬أجسادنا تعود‬
‫"هذا أمر غير معتاد‪ "،‬يقول الراف‪ِ " .‬‬
‫للرب‪ .‬ومن المحرم أن نجري عليها تغييرات غير ضرورية‪".‬‬
‫أقول‪" :‬هل هذا رفض؟"‬
‫"لكن في ضوء هذه الظروف‪ ،‬قومي بإجرائها‪ ،‬اإلجهاض و‪...‬اآلخرى‪.‬‬
‫وبهذه الطريقة‪ ،‬لن تتصلوا بي مجددًا بسبب أخطاء وخيمة‪".‬‬
‫فجأة أصبح األمر يتعلق به‪ ،‬إذ يريد أن يتأكد بأننا لن نعرضه لمثل هذا‬
‫الموقف مجددًا‪.‬‬
‫شكرا لك‪ "،‬يقول ليفي بصوت ممتزج باالحترام والتذلل‪.‬‬
‫" ً‬
‫"أما بعد‪ ،‬أيها السيد والسيدة الكس؟ فإنني أريد التأكد من أمر واحد بعد‪"،‬‬
‫يقول الراف‪.‬‬
‫فنجيب‪ ،‬أنا وليفي‪ ،‬سوية بصوت واحد‪" .‬أجل؟"‬
‫ي ِ مما حدث اآلن‪ .‬ال ينبغي ألحد أن يعرف‪".‬‬
‫"ال تتكلموا عن أ ّ‬

‫ي شق جراحي بطول بوصة‬


‫أنا في المنزل اآلن بعد الجراحة القصيرة‪ .‬لد ّ‬
‫مغطى بقطعة من الشريط األبيض‪ ،‬وهذا كل شيء‪ .‬أثناء إجراء الجراحة‪ ،‬كان ليفي‬
‫يدمدم بالمزاميز في غرفة االنتظار ومن ثم أقلّنا للمنزل بوجه حزين متجهم‪ .‬لقد‬
‫قام الراف بإسكاته‪ .‬فلم يأت على ذكر الطفل‪ ،‬طفله الفقيد‪ ،‬وأنا أعرف بأنه لن يفعل‬
‫ذلك أبدًا‪.‬‬
‫أخبر ليفي األطفال بأنني لست بصحة جيدة وأن عليهم أن‬
‫َ‬ ‫في المنزل‪،‬‬
‫ي ويقول‪" :‬أماه‪ ،‬هناك من يطلبك على الهاتف‪".‬‬
‫يتركوني أرتاح‪ .‬لكن ليبل يجيء إل ّ‬
‫وعلى جانبي من السرير‪ ،‬يظل يفتل بالمالءة‪ ،‬مترد ًدا بمغادرة الغرفة‪ .‬أضع يدي‬
‫على يده‪ ،‬ثم ألتقط سماعة الهاتف من على الكومدينو‪ ،‬ثم يغادر‪.‬‬
‫"معك بيثاني‪ "،‬يقول الصوت الذي على الخط‪.‬‬
‫ي؟"‬
‫"هل اتصلتي لتطمئني عل ّ‬
‫تقول‪" :‬أجل‪".‬‬
‫أقول‪" :‬أنا على ما يرام‪".‬‬
‫ألول مرة‪ ،‬أتخيل بيثاني وهي تجري عملية اإلجهاض بينما أنام تحت تأثير‬
‫التخدير‪ ،‬أتخيل كمامتها الخضراء‪ ،‬وصوت الفراغ الكريه‪ .‬أخبرت بيثاني أنني‬
‫أردت أن أكون نائمة حتى ال أسمع صوت شفط الماكنة‪ ،‬أو أرى أي شيء‪ .‬أما هي‬
‫فقد كان عليها أن ترى العملية بأكملها‪" .‬إسمعيني‪ "،‬تقول لي‪" .‬ال أعرف حتى إن‬
‫إخبارك بأنني قد تلوت الصالة‬
‫ِ‬ ‫ت ستقبلين هذا من شخص غير يهودي‪ ،‬لكني أود‬
‫كن ِ‬
‫من أجل طفلك‪".‬‬
‫في البداية‪ ،‬لم يستهوني ما قالته‪ ،‬فاإليمان المسيحي‪ ،‬بالنسبة إلينا‪ ،‬يقع على‬
‫بعد خطوة واحدة عن الوثنية‪ ،‬دخيل وغير شرعي‪ ،‬مقيت من بعض النواحي‪ .‬لكنني‬
‫أفكر بعدئذ‪ ،‬أنا لم أفكر أن أصلي من أجل شيء ال يمكنني اإلحساس به ‪-‬من أجل‬
‫الطفل‪ -‬أما هي فقد فعلت‪ .‬لقد صليت من أجل راحتي فقط‪ .‬فجأة‪ ،‬يبدو لي أن صالة‬
‫سدت‪ ،‬في لحظة موت الطفل‪،‬‬
‫بيثاني هي الصالة الشرعية‪ ،‬صالة بيثاني التي ج ّ‬
‫إيمانًا حقيقيًا‪ .‬لو كانت تقف إلى جانبي اآلن‪ ،‬فسوف أنظر إليها بإمعان أكبر‪ ،‬ربما‬
‫للمرة األولى‪ ،‬وأجدها قصيرة‪ ،‬وجسمها مشدود وترتدي زي األطباء األخضر‪،‬‬
‫مقصوص والم ٌع‪ ،‬وعيونها خضراء‪ ،‬ذكية‬
‫ٌ‬ ‫وشعرها ذو خصل شقراء نحاسية‪،‬‬
‫ي أن أشكرك"‬
‫ونبيهة‪ .‬أقول لها بصوت منهك‪":‬عل ّ‬
‫فتجيبني‪" :‬على الرحب والسعة"‬
‫أقول‪" :‬قبل العملية لم أرد أن يكون الرب جز ًءا من التجربة‪ ،‬وإال سأفقد‬
‫نفسي‪ .‬مجددًا‪".‬‬
‫تقول‪" :‬أفهم ما تقولين"‬
‫لكنني ال أفهم‪ .‬وال أفهم ِل َم ال أشعر بأنني فقدت ً‬
‫طفال‪ ،‬و ِل َم ال أستطيع الحداد‬
‫عليه‪ .‬أفكر‪ :‬إنه لمن المحزن أن تنعدم لديك مشاعر الحزن‪.‬‬

‫يعود كال الصغيرين للنوم في منتصف الصباح بعد أن يغادر اآلخرون‬


‫للمدرسة‪ .‬يبدو المنزل وكأنه ينتظر نهاية اليوم‪ ،‬ينتظر صوت صفق الباب بعد‬
‫الدخول والخروج‪ ،‬ورائحة األطفال المتعرقين‪ ،‬واأللعاب والمشاجرات‪ ،‬وارتداد‬
‫كرة السلة على الممشى‪ ،‬وانطالق األطفال على الدراجات‪ ،‬واألعمال المنزلية‬
‫والعشاء‪ ،‬التحميم واالستعداد للنوم‪ .‬أما األمر الجديد فهو أن البيت في غضون هذه‬
‫الساعات القليلة يصبح خلوتي مع هذا الصوت الداخلي الجديد الخافت الذي‪ ،‬في‬
‫وقت الهدوء‪ ،‬ال أملك إال أن أستمع إليه‪ .‬لقد قال الراف بأن ما من أحد يجب أن‬
‫يعلم باألمر‪ .‬فأولئك الذين عرف بأنهم خرجوا عن دائرتنا يعدون تهديدًا للكل‪ .‬وربما‬
‫لهذا السبب يخشى الجميع في مجموعتنا من النميمة‪ ،‬وغالبًا هذا هو السبب خلف‬
‫امتناعنا عن النميمة عبر تمريرها‪ .‬ما من أحد يجب أن يعلم ‪ -‬ليس فقط لحماية‬
‫ضا ألننا قد نفقد المكانة أو األصدقاء ونرى أطفالنا منبوذين كذلك‪.‬‬
‫الجماعة‪ ،‬وإنما أي ً‬
‫لكن هناك الكثير من األسرار بيننا إلى جانب سري‪ .‬الكثير منها أسرار‬
‫مكشوفة‪ .‬لكننا جميعنا متواطئون بإخفائها‪.‬‬
‫السر كاهلي‪ .‬أظل مشتتة الذهن طوال‬
‫ّ‬ ‫وعلى مدار األسابيع التالية‪ ،‬يثقل عبء‬
‫النهار‪ ،‬ومستيقظة في الليل‪ .‬وفي نهاية المطاف أقرر بأنني سوف أكتب طالما ال‬
‫أستطيع الكالم‪ .‬سأكتب ما سأبوح به لصديق لو كنت أستطيع‪ .‬ولن أري كتابتي‬
‫ألي أحد‪.‬‬
‫وفي ليلة من الليالي أجلس في بقعة ضوء على مكتب غرفة النوم‪ ،‬على‬
‫الكومبيوتر‪ .‬أوراق ليفي مكدسة على جانب واحد من الغرفة‪ ،‬وجسده النائم على‬
‫يرا لخمس أو ست ساعات‬
‫السرير خلفي‪ .‬شالوم في المهد بعد أن أصبح ينام أخ ً‬
‫ي أن أكتب‬
‫متواصلة في المرة الواحدة‪ .‬ما من أحد يجب أن يعلم‪ .‬ال ينبغي عل ّ‬
‫القصة الحقيقية‪ .‬يجب أن أدون اإلحساس منها‪ ،‬وليس الحقائق‪ .‬لكن بعدئذ‪ ،‬حين تقع‬
‫أصابعي على لوحة المفاتيح‪ ،‬ال أجد الكلمات‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن سنينَ من ابتالع الكلمات‪ ،‬من االنتظار‬ ‫لذا فإنني أجلس وأنتظر‪،‬‬
‫واالستماع الدائمين مع فم مغلق‪ ،‬غطتني بالصمت‪ .‬ومن حولي تلقي صناديق‬
‫وأكداس الكتب الدينية وكتب األعمال بظلها‪ .‬وتلقي الشجرة الوحيدة المنتصبة في‬
‫ي ً‬
‫ظال أعمق على لوحة المفاتيح‪ .‬يشخر الطفل‪.‬‬ ‫الباحة من خالل الستائر عبر يد ّ‬
‫يتقلب ليفي في نومته‪ .‬أجلس في الظالم‪ .‬يئن شالوم‪ ،‬ثم يغرق مجددًا في النوم‬
‫صدرا أصوات مص خافتة‪.‬‬
‫ً‬ ‫م‬
‫يعاود شبح الفتاة الظهور وهي ترتدي سرواال منزلي الخياطة ذا خصر‬
‫مطاطي وقميصا من دون أكمام‪ ،‬وبشعرها الطويل ذي اللون الرملي‪ .‬تتراءى لي‬
‫الفتاة وهي تمد يدها لتتحسس طريقها كما لو أنها عمياء‪ ،‬تزحف إلى آخر الممر‬
‫لتحاول الوصول ألمها‪ .‬أتساءل كيف تجرأت أن أفكر في الكتابة‪ .‬من ظننت أنني‬
‫أكون؟‬
‫حسنًا‪ ،‬أفكر‪ ،‬مج ِهدة ً نفسي‪ ،‬أنا أم ذات نقائص‪ ،‬لكنني… أم‪ .‬أ ٌم تعلم طفلها‬
‫كيف يسمي العالم ‪ -‬فهي جسر لللغة‪ .‬هذا ما هي عليه‪ .‬ربما سوف أتعلم من األمومة‬
‫ماذا ينبغي أن أفعل‪ .‬أو على األقل سوف أتعلم بأال أستسلم‪.‬‬
‫لذا أكتب كلمة واحدة‪" .‬أنا"‪ .‬فتقف عارية ومكشوفة على الورقة‪ .‬بال غطاء‬
‫رأس‪.‬‬
‫وسرعان ما سوف أتذكر الفتاة الشبح وهي تتعلم تسلق شجرة الحور‬
‫سته بحزامها‪.‬‬
‫دفترا وقلم رصاص د ّ‬
‫ً‬ ‫المنتصبة أمام بيتنا‪ ،‬وكيف أخذت معها‬
‫سأراقبها بينما تتسلق بثقة وحيوية إلى سطح المنزل‪ ،‬حيث ستتكئ على المدخنة‬
‫الحجرية الدافئة لكي تكتب وتحلم وتتساءل‪ ،‬وهي تلوك قلمها الرصاص‪.‬‬
‫لكنها قبل وقت طويل أصبحت نقطة في مشهد واسع يتألف من السطوح‬
‫وقمم األشجار والسماء‪ .‬أفكر‪ ،‬كانت لها كلماتها الخاصة بها‪ .‬أما أنا فقد أضعت‬
‫ي لغة خاصة بي‪.‬‬
‫كلماتي‪ .‬ولم يعد لد ّ‬
‫ِل َم قد أقوم بهذا‪ ،‬حينما يكون فعل الكتابة مهددًا لما أنا عليه؟‬
‫ومع ذلك‪ ،‬يائسةً‪ ،‬أغوص‪ ،‬وأغوص‪ ،‬تحت الثوب الطويل المحتشم‪ ،‬ألنني‬
‫يجب أن أرى المزيد مما قد ال يزال موجودا هناك‪ .‬حتى تتمكن من الكتابة‪ .‬كلمة‬
‫واحدة‪ .‬ثم أخرى‪ .‬كل كلمة تقف لوحدها‪.‬‬
‫أنا‬
‫مخمل‪.‬‬
‫عميق‬
‫داكن‬
‫أزرق‪.‬‬
‫الفصل الخامس عشر‬

‫يخلع ليفي نظارته ويطوي ذراعيها إلى الداخل‪ ،‬الذراع األولى‪ ،‬ثم بعده‬
‫األخرى‪ ،‬ويضعها ووجهها لألعلى على المنضدة أمام المرآة بحركة دقيقة‬
‫ومحسوبة‪ ،‬ثم يحركها بدقة متناهية لمسافة بوصتين كاملتين بعيدًا عن الحافة‪ .‬أفكر‬
‫كيف يبقي أغراضه الثمينة على ظهر خزانة األدراج الخاصة به بترتيب ال يطاله‬
‫أي تغيير‪ :‬مشطه‪ ،‬ثم محفظته‪ ،‬ثم مفاتيحه‪.‬‬
‫نحن في حمامنا‪ .‬يجلس أمام مرآة التزيين‪ .‬يقول‪" :‬حسنًا‪ ،‬أنا مستعد‪".‬‬
‫أكور كفي وأحيط بها ذقنه وأدير وجهه إلى األعلى نحوي‪ ،‬في راحة يدي‬
‫ّ‬
‫محيط فكه الذي كان يغزوه الشيب على عكس لحيته السوداء الخشنة‪ .‬ما تزال‬
‫عيونه البنية الداكنة ورموشه الطويلة على نحو مبالغ به تظهر التزا ًما جديًا كان قد‬
‫أسرني تقريبًا ذات مرة‪ .‬ثم أدير مفتا ًحا فتدّب الطاقة في ماكينة الحالقة الكهربائية‬
‫مستمرا من الماكينة‪ّ ،‬‬
‫أجز الشعر‬ ‫ً‬ ‫في كفي اآلخر‪ .‬وصفًا بعد آخر واألزيز ينطلق‬
‫الداكن الذي لم يحلق منذ شهر‪ ،‬وأحرص على إبقاء خصلة زائدة فوق صدغيه كما‬
‫تأمر الشريعة‪ .‬أفكر كيف أنه يثق بي بينما أمرر الماكنة على انحناءة جمجمته‬
‫وجبينه المرتفع وخط شعره المنحسر واالستدارة البسيطة خلف أذنيه وفوق عنقه‬
‫ي‪.‬‬
‫الطويل‪ .‬أشذب حاجبيه المتلبّدين بمشط ومقص شعر‪ ،‬تسقط أنفاسه دافئة عل ّ‬
‫ليفي‪ ،‬الملتف بالعادة على نفسه مثل زنبرك الساعة‪ّ ،‬‬
‫يفك جسمه اآلن‪ ،‬عدا كتفيه‪،‬‬
‫فقد أحناهما‪ .‬أفكر‪ :‬إنه يتقلص‪ ،‬هذا الرجل الذي لديه خوف من السقوط‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن الترتيب على خزانة األدراج الخاصة بليفي وأكوام الحاجيات التي‬
‫يأمرنا بعدم لمسها ونمط عمله الذي يميّزه الهوس واالندفاع والساعات التي يقضيها‬
‫كل يوم في تمتمة الصلوات بنوع قسري آخر من الطاعة‪ ،‬تقع جميعها في الجانب‬
‫اآلخر من باب الحمام‪.‬‬
‫في هذه اللحظة‪ ،‬يتشارك كالنا الصمت‪ .‬في هذه اللحظة‪ ،‬ما بيننا فقط هو‬
‫صوت أزيز الماكينة‪ .‬أمرر يدي على رأسه‪ ،‬أنفض الشعر عن كتفيه العريضتين‪.‬‬
‫نرفع الشعر المقصوص عن األرض سوية‪ ،‬كأنه عشب أسود مجزوز حديثًا‪.‬‬
‫"ليا‪ "،‬يقول‪.‬‬
‫فأجيبه‪" :‬ماذا؟"‪ .‬ال أستطيع جعل نفسي ترغبه‪ .‬وال أعرف كيف أجعله‬
‫يرغب بي‪ .‬ال أعرف حتى ما إذا كنت أريده أن يرغب بي‪ .‬ولوهلة‪ ،‬أتوقف عن‬
‫لومه على وحدتي‪.‬‬
‫لك‪".‬‬ ‫يبدو خ َِج ًال‪ .‬يقول‪ً " :‬‬
‫شكرا ِ‬
‫"أوه‪ "،‬أقول‪" .‬قصة الشعر‪ .‬على الرحب والسعة‪".‬‬

‫غالبًا ما أجد نفسي منجذبة للكمبيوتر في الليل‪ ،‬رغم أنني أقضي معظم الوقت‬
‫في الجلوس ثم أكتب عبارات قصيرة معلقة‪ ،‬قصائد مشفرة غير منتهية‪ ،‬وال شيء‬
‫آخر‪ .‬ما أزال ال أعرف كيف أسحب الكلمات وأخرجها من سنين الصمت‪ ،‬وال‬
‫أعلم ِل َم أستمر بالمحاولة‪ .‬فذلك ال يمنحني أي راحة‪ .‬لكن في كل مرة أجلس بها‬
‫من أجل أن أكتب‪ ،‬يبدو كما لو أنني أتخذ خطوة صغيرة واحدة نحو فضاء واسع‪،‬‬
‫ظرا خاطفًا لألنفاس أمامي مباشرة إن استطعت فقط أن‬
‫نحو مكان أعرف أن فيه من ً‬
‫أتوغل بالدخول فيه وأشمله كله بنظري‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬وفي كل يوم‪ ،‬أصبح‬
‫أكثر شغفًا بمحاولة ربط الكلمات باالنطباعات التي يعجز الكالم عن التعبير عنها‪،‬‬
‫تصور ال َع َجب؟ عندما تتحقق‬
‫ّ‬ ‫بنطاق الخبرة‪ ،‬بالتغيير الحتمي‪ .‬ما الكلمات التي‬
‫االرتباطات‪ ،‬أكاد أندهش لرؤية الكلمات وهي تظهر أمامي‪ ،‬كما لو أنني ال أعرف‬
‫من ألّفها‪ ،‬كما لو أنني أسمعها من شخص غريب‪.‬‬

‫في إحدى الليالي‪ ،‬أحلم بأنني أجلس على الكمبيوتر حينما تظهر نساء‬
‫الجماعة فجأة في بث عبر شاشتي‪ .‬كان هناك الكثير منهن بأشكال وأحجام مختلفة‪،‬‬
‫كانت النساء األصغر سنًا ما يزلن يكشفن شعورهن‪ ،‬لكنهن جميعا ً يرتدين نفس‬
‫الثوب المحتشم عديم اللون‪ ،‬ويتحركن بنفس اإليقاع‪ ،‬وجميعهن يواجهن نفس اإلتجاه‬
‫ويمشين ضمن تيار صامت مستمر بال انقطاع‪.‬‬
‫حتى تتوقف إحدى تلك النسوة‪ .‬تتفصل األخريات من حولها فقط ويتحركن‬
‫لألمام‪ ،‬لكن هذه المرأة الواحدة تقف مثل جزيرة وسط تيار جار‪ .‬ثم تستدير وتنظر‬
‫من الشاشة نحوي مباشرة ً‪ .‬عيناها زرقاوان مثل زرقة السماء في النهار‪ ،‬كزرقة‬
‫ي‪.‬‬
‫عين ّ‬
‫أعجز عن التحرك‪ .‬وال أستطيع أن أحيد بنظري عنها‪ .‬تستمر األخريات من‬
‫حولها بالتحرك‪ ،‬لكنها ال تتحرك‪ .‬ثم ترفع يدها وتبتسم‪ .‬إنها تومئ لي‪ .‬إنها‬
‫تنتظرني‪ .‬إنني مشدودة شدة بالغة إليها وللنسوة األخريات‪ ،‬ولتدفقهن المستمر‬
‫الصامت إلى األمام‪ .‬أحتاج لالندماج بهن‪ ،‬أتقدم معهن‪ ،‬أطلق العنان لنفسي‪ .‬إلى‬
‫التيار‪ .‬أطفو فقط‪ .‬في التقدم إلى األمام تكمن التوليفة المثالية للنعمة والنسيان‪ .‬ال بد‬
‫ي وأمد يدي ليدها‪.‬‬
‫أن أفعل ذلك‪ .‬عيناها الزرقاوان…أقوم من كرسي ّ‬
‫إنها تبدو منتشية‪ .‬تفتح فمها وتبدأ بالغناء لي‪ .‬أنا مغتبطة‪ .‬من أجلي‪ .‬ثم يطلع‬
‫صوتها‪ ،‬مثل صوت خفيض عميق‪ .‬صوت رجل‪.‬‬
‫أتوقف مذعورة‪ .‬هذه المرأة مسكونة‪ ،‬لقد نزعت أحشاؤها؛ قشرة بال روح‬
‫ألمرأة مليئة بهذا الصوت العتيق الغريب‪ ،‬صوت الحاخامات‪ .‬لم يتبقَ لها من‬
‫روحها شي ٌء‪ ،Eishis chayil .‬تغني المرأة بتلك الطبقة المنخفضة المخيفة‬
‫تلك‪ .‬امرأة باسلة‪ ،‬من ذا الذي قد يجد مثلها؟‬
‫ما تزال تبتسم‪ ،‬وما تزال يدها ممدودة تدعوني‪ ،‬تومئ لي‪ .‬إنها تومئ لي‬
‫لكي أذهب إليها‪.‬‬
‫أستيقظ وأجلس في سريري بعجالة‪ ،‬وأنا ألهث‪ .‬تهزني الصدمة‪.‬‬

‫أقضي المزيد من األسابيع واألشهر والليالي على لوحة المفاتيح‪ .‬وفي نهاية‬
‫سطرا بعد آخر‪ .‬المرأة في القصة تدعى ِلبا‪ .‬ليست‬
‫ً‬ ‫المطاف‪ ،‬أكتب قصة مكتملة‪،‬‬
‫أنا‪ ،‬أنا متأكدة من ذلك؛ وهذا ما لن يكشف أي شيء‪ ،‬على الرغم من أنها حسيدية‬
‫عرف نفسها من خالل األمومة‪ ،‬وتصبح‬
‫ضا‪ ،‬ولديها الكثير من األطفال‪ ،‬كما أنها ت ّ‬
‫أي ً‬
‫ضا مندفعة بجنون إلجهاض حملها‪ .‬يكمن الفرق في أن زوجها هو حبها الكبير‪.‬‬
‫أي ً‬
‫ّ‬
‫لكن ِلبا ستكتشف كيف تأخذ بيده وتقوده خالل هذا االختبار‪ ،‬وسيخرجون منه سوية‪.‬‬
‫وفي مغادرة الشريعة‪ ،‬ستعثر على نفسها‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫كما أنها شغوفة بطفلها األصغر أي ً‬
‫في األسبوع الماضي اشتريت سلّة ذات عجالت‪ ،‬واسعة ومنخفضة بمستوى‬
‫األرض على نحو يسمح لي بتخبئتها تحت السرير‪ .‬أحيانًا بعد الساعة الرابعة ً‬
‫فجرا‪،‬‬
‫أطبع القصة الجديد ثم أحذفها من الكومبيوتر‪ .‬ألقي باألوراق إلى العربة‪ ،‬التي‬
‫أخ َّر على الفراش وأنام لبضع ساعات قبل أن يدق‬
‫أعيدها إلى الظالم اآلمن قبل أن ِ‬
‫منبه الساعة ليعلن بدء يوم جديد‪.‬‬
‫أستلقي في الفراش قبل النوم‪ ،‬وشعوري بالظفر إلنجازي قصة جديدة يخالطه‬
‫شعور بالخوف‪ ،‬فتفكيري مشغول بالجماعة‪ .‬إننا شعب الكلمات التي تخلق العوالم‪.‬‬
‫لكن كتّابَنا الشرعيين هم فقهاء ملتحون‪.‬‬
‫العالم بمثل هذه الكلمات‪ّ .‬‬
‫َ‬ ‫فقد خلق الرب‬
‫ً‬
‫أعماال هامشية موجهة‬ ‫َّ‬
‫يمتهن الكتابة فيخلقنَ‬ ‫أما أولئك النسوة الحسيديات اللواتي‬
‫حصرا لجمهور اإلناث المتدينات‪ ،‬وهن يكتبن بصوت الرجل ليحاضرن النساء‬
‫ً‬
‫ويحضّنهن على االلتزام يحدود الشريعة‪ .‬كلما واصلت القيام بهذا األمر الغريب‪،‬‬
‫ً‬
‫انفصاال عن الجماعة‪ .‬ال يسعني التراجع‬ ‫أي الكتابة بصوت المرأة‪ ،‬أصبح أكثر‬
‫عن الكتابة‪ ،‬وأبقى في خوف من النبذ الذي يتخذونه تجاه أي فرد يخرج عن الحدود‪.‬‬
‫لكن بطريقة ما‪ ،‬أفكر‪ ،‬وأنا مستلقية هناك‪ ،‬ليس هناك من جماعة‪ .‬نحن لسنا جماعة‬
‫حقًا‪ .‬فكل واحد منا وحيد مع أسراره‪ .‬أتخيل العزلة القاسية لمنحوتة جياكوميتي‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫كامال مملو ًءا بتلك الطواطم الوحيدة‪ .‬وأنا لست سوى واحدة‬ ‫أتخيل بعدها فضا ًء‬
‫منهن‪ ،‬معروضة على سطح مستو بال ألوان‪.‬‬

‫تشرين الثاني ‪ .1989‬يصبح شالوم في الشهر العاشر من العمر‪ .‬وبينما‬


‫ينهمك األطفال بتناول حبوب اإلفطار‪ ،‬أفتح الصحيفة ألجد جدار برلين على وشك‬
‫الهدم‪ .‬أفرد الصفحة أمامهم‪ .‬وأقول‪" :‬انظروا!" أحاول أن أجعلهم يفهمون عقود‬
‫ً‬
‫محتجزا‬ ‫الفصل والعزلة القاسيتين بنظر سكان غرب برلين‪ ،‬وما قد يعني أن تكون‬
‫في ذلك الصندوق‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فهذا االنفتاح‪ ،‬هذه الحرية‪.‬‬
‫يبدو الضجر على األطفال‪ ،‬كما لو كانوا عميًا عن حيواتهم‪ .‬ينظرون إلى‬
‫الصفحة من دون اهتمام‪ .‬وخالل أيام‪ ،‬سأقرأ عن روستروبوفيتش‪ ،‬الذي كان الجئًا‬
‫من الشيوعية‪ ،‬وهو يطير إلى برلين ليعزف معزوفة التشيلو لباخ عند الجدار قبيل‬
‫أن ينهار‪ .‬يجلس المايسترو مع التشيلو الخاص به أمام الجدار المزدان برسوم‬
‫الغرافيتي‪ ،‬بعد أن وضع كرسيه على الممشى الخرساني المتصدع‪ ،‬ويعزف‪.‬‬
‫يتوقف الناس ويتجمعون من حوله شيئًا فشيئًا‪ .‬يستمر بالعزف‪ .‬أستطيع أن أسمع‬
‫الموسيقى‪ .‬إنها هادئة‪ ،‬رثائية‪ ،‬ولكنها بذات الوقت تصدح بتناغم وبهجة مستترتين‪.‬‬

‫قصةٌ قصيرة واحدة ال تكفي‪ .‬أجلس أمام الكمبيوتر كل ليلة قرابة العاشرة‬
‫وال أتوقف حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صبا ًحا‪ ،‬وأحيانًا لما بعد هذا الوقت‪ .‬أكتب‬
‫وأكتب‪ ،‬مئات الصفحات‪ .‬وال أعرف ِل َم أقوم بذلك‪.‬‬
‫أسراري الخاصة ليست كافية‪ .‬ما أزال أنتمي للمجموعة؛ إذ تتسرب القليل‬
‫من أسرارهم إلى كتابتي كما لو أنها أسراري‪ ،‬تتسرب جروحهم المفتوحة‬
‫وقصصهم نصف المخفية‪ .‬كل قصة من قصصي الجديدة مترعة بالخطيئة والخشية‬
‫من النميمة والصراعات مع اإليمان‪.‬‬
‫في إحدى الصباحات‪ ،‬يالحظ ليفي السلة المعدنية‪ .‬فلم أقم بدفعها تحت السرير‬
‫لعمق كاف قبل أن أنصرف للنوم‪ .‬يسألني‪" :‬ما ذاك؟"‬
‫"أشياء كنت أكتبها‪ .‬أوراق شخصية‪".‬‬
‫"أوه‪ ،‬لقد سمعت صوت الطابعة في منتصف الليل‪ ".‬لكنه كان مشتت الذهن‬
‫ومتأخرا عن عمله‪ .‬فيرتدي سترة بذلته‪ ،‬ويتناول حقيبته‪.‬‬
‫ً‬
‫وطوال اليوم بعد أن يغادر إلى عمله‪ ،‬أنهمك بالتفكير‪ ،‬يا لي من أم سيئة‪ .‬إن‬
‫ظهر للعلن بأنني أكتب مثل هذه األشياء‪ ،‬فقد يتم وصم عائلتي ونبذها في الطائفة‪.‬‬
‫وما من أحد سيسمح ألبنائه بالزواج من أبنائنا‪.‬‬
‫واألسوأ حتى من الكتابة عن العصيان والخطيئة هو أنني ال أسعى إللهام‬
‫الناس بكتابتي‪ ،‬وال أحاول جعلهم يؤوبون إلى الرب‪ .‬وهذا هو أجدد أسراري‪ :‬أنا‬
‫أقرب الناس إلى للا‪ .‬ال أريد للرب أن يحوم بين سطور قصصي‪ ،‬مثل‬
‫ال أريد أن ّ‬
‫مسافر بالخلسة‪.‬‬

‫إن الجماعة هي جدار من العيون‪.‬‬


‫لن أشارك ما كتبته مع أي أحد‪.‬‬

‫لقد مضت اآلن ثالث سنوات من دون حمل أو تدريس‪ .‬شالوم في الثالثة من‬
‫ي للقراءة‬
‫العمر؛ وليبل‪ ،‬األكبر‪ ،‬في الثالثة عشرة‪ .‬أكرس نهاراتي لألطفال‪ ،‬وليال ّ‬
‫والكتابة‪ .‬لكنني اآلن متوجهة إلى الطريق ‪ I-45‬جنوبًا بسيارة الفان نحو‬
‫فريندزوود‪ ،‬وهي بلدة قديمة تقطنها طائفة الكويكر وتمتلئ بمهندسي وكالة الفضاء‬
‫ناسا‪ ،‬حيث تقع شقة شقيقتي ديبي‪ .‬أتحدث وإياها على الهاتف باستمرار لكننا ال‬
‫كثيرا‪ .‬ال تتحقق أمنيتنا بأن نربي أطفالنا سوية‪ .‬وعندما نجتمع معًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫نرى بعضنا‬
‫تجيء ديبي إلينا مع أطفالها من دون زوجها‪ ،‬إذ في المرات القليلة التي أتى بها‬
‫إلينا زوجها غير اليهودي‪ ،‬كان ليفي جافًا ومتشن ًجا معه لدرجة أنضبت الحديث‪.‬‬
‫أنا في عجلة من أمري‪ .‬عيد بلوغ ليبل (البار ميتزفاه) آت‪ ،‬وكذلك مراسم‬
‫حالقة شعر شالوم األولى المسماة (‪ .)upshernish‬ولكي أجد وقتًا للقدوم إلى‬
‫ي الترتيب لبقاء شالوم‬
‫هنا إلى جانب الذهاب للتبضع المقرر موعده اليوم‪ ،‬كان عل ّ‬
‫وإيتزك في المدرسة بعد انتهاء ساعات الدوام‪ .‬أحتاج لمقابلة متعهد الحفالت مرة‬
‫ثانية من أجل اإلعداد لحفلة البار ميتزفاه لليبل والذهاب لشراء المزيد من السلع‬
‫الورقية قبل أن يعود األطفال للمنزل عند الساعة الثالثة‪ .‬وبعد أن يصلوا للمنزل‪،‬‬
‫يدربه على إنشاد قراءته‬
‫ي أن أوصل ليفي لجلسته مع ابن الحاخام فرومان‪ ،‬الذي ّ‬
‫عل ّ‬
‫ي القدوم إلى منزلها في الحال ولم تقل لي سبب‬
‫التوراتية‪ .‬لكن ديبي قالت بأن عل ّ‬
‫دعوتي‪" .‬ال تجلبي األطفال‪ "،‬قالت لي‪ ،‬وكذلك‪" :‬تعالي قبل أن يعود أطفالي للمنزل‪.‬‬
‫أرغب أن نكون بمفردنا‪".‬‬
‫وعلى امتداد الشرفة الكبيرة في مجمع الشقق الذي تسكنه‪ ،‬أمر على أصص‬
‫نباتات‪ ،‬وشواية خارجية‪ ،‬وموقدي فحم‪ ،‬وأبواب مفتوحة‪ ،‬وصوت أخبار الصباح‬
‫على التلفاز‪ ،‬ورائحة لحم الخنزير المقدد‪ .‬أكرمش أنفي‪ .‬وها هي ديبي الرشيقة في‬
‫ً‬
‫مسترسال‬ ‫شقتها‪ ،‬عيناها بنيتان مثل لون عيني أمي وشعرها ما يزال داكنًا وناع ًما‬
‫صغارا‪ .‬على الجدار علقت ثالث قطع مطرزة باألزهار‬
‫ً‬ ‫مثلما كان عندما كنا‬
‫اشتغلتها بنفسها‪ ،‬وعلى منضدة العشاء المغطاة بالقرميد كانت هناك صورة داخل‬
‫إطار قائم بذاته لجدتي الكبرى إستير في ثوب فضفاض بال تفاصيل وشعر أبيض‬
‫مصفف بشكل الكعكة وفي حضنها الواسع تضع والدتنا التي كانت تشبه دمية‬
‫صينية‪ .‬تعود الصورة للعام ‪ .1927‬وإلى جانبهن تجثو جدتي النحيفة الشابة على‬
‫ركبتيها‪ ،‬وهي ترتدي لباس شابات العشرينيات العصريات‪ .‬وكما والدتي‪ ،‬تمتلك‬
‫كلتا المرأتين عيونًا كثيفة الرموش مثل عيوننا‪ .‬كلتاهما ينظران بفرح إلى الطفلة‪،‬‬
‫لكن الطفلة تنظر إلى األمام باتجاهنا بوجه كئيب‪.‬‬
‫تجلس ديبي عند الطاولة وتنحي الصورة جانبًا‪ ،‬ثم توميء لي بالجلوس‬
‫بحيث تواجه إحدانا األخرى‪ .‬تشبك يديها أمامها‪ .‬تتنحنح وتقول‪" :‬نحتاج للتحدث‬
‫عن أبي‪".‬‬
‫ي وأقول‪" :‬نحتاج للتحدث عنه؟!‪،‬‬ ‫أميل برأسي إلى الجانب ً‬
‫قليال‪ ،‬أضيّق عين ّ‬
‫من قال إنني أريد التحدث عنه؟"‬
‫لكنها تدخل في صلب الحديث‪ ،‬كما لو أن لديها ً‬
‫عمال تريد إنجازه‪ .‬تقول‪" :‬ال‬
‫أعلم كم كنت صغيرة حينما بدأ بفعلها أول مرة‪ .‬ال بد أنني كنت صغيرة جدًا‪".‬‬
‫لقد اختفى ظله في الليل من ذاكرتي منذ زمن طويل‪ .‬لكنني أشعر بالغثيان‪.‬‬
‫أشعر كما لو أن ً‬
‫ثقال يضغط بقوة على أطرافي وفمي‪" .‬ديبي‪ "،‬أقول‪ ،‬وأنا أهز‬
‫رأسي‪.‬‬
‫تثبّت ديبي عينيها على المربع األبيض الفارغ من القرميد في منتصف‬
‫الطاولة وال تطرف‪ .‬كتفاها مشدودتان‪ ،‬وصوتها متحشرج‪ .‬تقول‪" :‬عندما كنت‬
‫صغيرة‪ ،‬كنت أنام وأذني مفتوحة‪".‬‬
‫" ِل َم ذلك‪ "،‬أقول‪ ،‬لكن نبرتي ال تحمل استفها ًما في طياتها‪ .‬فأنا ال أريد أن‬
‫أعرف‪.‬‬
‫ت ّكف ديبي عن الكالم‪ ،‬تلتقط نف ً‬
‫سا‪ ،‬ثم تستأنف الحديث‪ .‬ولو كانت تمشي‪،‬‬
‫لكانت مشيتها تشبه تثاقل حصان برذون عجوز مصمم على السير‪" .‬لقد حاولت أن‬
‫أنهض في الليل عندما سمعت وقع خطواته في الممر‪".‬‬
‫أفكر‪ ،‬ال أستطيع أن أوقفها‪ .‬سأغادر‪ ،‬لكني أعجز عن النهوض‪.‬‬
‫عنك‪ .‬وعن آمي‪ .‬كنتما صغيرتين للغاية‪ .‬كنت أهرع‬
‫ِ‬ ‫تقول‪" :‬أردت أن أبعده‬
‫خارج الغرفة عندما أسمعه في الممر في الليل‪ ،‬أمسك يده وأسحبه إلى غرفتي‪".‬‬
‫ي على الفهم‪ ،‬وعيناها المعتان للغاية‪ .‬تفز دمعةٌ من عينيها‪ ،‬فتمسحها‬
‫وجهها عص ٌّ‬
‫بيدها مرتجفة‪ ،‬كما لو أنها منزعجة من نفسها‪.‬‬
‫ال أتذكر ما أتذكره‪ .‬ال أعلم ما أعلمه‪ .‬ال أفهم الذاكرة‪ ،‬أهي ذاكرتها أم‬
‫توقف؟"‪ .‬وال أسأل‪ ،‬متى بدأ؟ هل بدأ قبل أن أولد‪ ،‬ثم تأصلت‬
‫َ‬ ‫ذاكرتي‪ .‬أسأل‪" :‬متى‬
‫العادة وانتظرني أنا وآمي لكي نولد‪ ،‬أو عندما بدأتي دخول سنتك الخامسة وأنا‬
‫أتفرس في وجهه الحنون المشدوه مثل ذلك الذي يظهر‬
‫كنت رضيعة بين ذراعيه‪ّ ،‬‬
‫في الصورة التي أحتفظ بها‪ .‬أو عندما… لكني أريد أن تكون هذه القصة قصتك‬
‫وليست قصتي‪ .‬تميل بي الغرفة‪ ،‬فتنقلب األريكة والمشغوالت المطرزة باألزهار‬
‫والطاولة المغلفة بالقرميد والصورة التي تجمع األجيال الثالث من األمهات‪.‬‬
‫تقول ديبي‪" :‬كنت في السادسة عشرة حين توقف‪".‬‬
‫ض فيها‪".‬‬
‫مر َ‬
‫فأقول‪" :‬إنها تلك السنة التي َ‬
‫ت في الثانية عشرة‪".‬‬
‫تهز برأسها‪" .‬لقد كن ِ‬
‫أحاول أن أعي أن المستشفيات العقلية وعالج الصدمة كانت لها بمثابة‬
‫الهدية‪ .‬كم كرهت صورة الميت الحي التي أصب َح عليها أبي‪ ،‬ذلك اللص الذي سرق‬
‫والدي‪ .‬وللحظة تخطر ذكرى خاطفة‪ ،‬حينها كنت صغيرة وأركب معه‪ ،‬قبل أن‬
‫يتوقف بسيارته‪ ،‬في الطريق الذي يسلكه لبيع األثواب النسائية م ً‬
‫نتقال من منزل‬
‫آلخر‪ .‬النوافذ مغلقة ورياح داالس الحارة تتغلغل في شعري‪ .‬نتوقف عند كريستال‬
‫للوجبات السريعة‪ ،‬ويرفعني على مقعد عال من الكروم عند الطاولة‪ ،‬حيث نرتشف‬
‫مخفوق الحليب المثلج بالرغوة‪ .‬هذا هو األب الذي اغتصبها‪ .‬ثم أقول‪" :‬ستة عشر‬
‫ت كبيرة بما فيه الكفاية لكي تقولي له كال منذ أمد بعيد!"‬
‫عا ًما؟ لقد كن ِ‬
‫تبدو ديبي شبه خائفة‪" .‬أنا… لم أعرف كيف‪".‬‬
‫شعور بالغثيان‪ .‬ثقل يضغط على فمي وأطرافي‪ .‬شيء في الخفاء ال أستطيع‬
‫تمييزه‪" .‬ال أستطيع أن أفكر‪ "،‬أقول‪ ،‬وأنا أهز رأسي‪.‬‬
‫لكنها تواصل الكالم‪" :‬عندما كنت صغيرة‪ ،‬اعتدت أن أفكر أنني كنت في‬
‫األعلى على السقف‪ ،‬أنظر نحو األسفل إلى ظهره‪ ،‬وهو يعتلي فتاة صغيرة أخرى‪".‬‬
‫ت مصرة على إخباري؟ ِل َم اآلن؟"‬
‫أقول‪" :‬كفى‪ ".‬أرفع يدي‪ِ " .‬ل َم أن ِ‬
‫"هذا ما تذكرته ً‬
‫أوال‪ .‬النظر من السقف نحو األسفل‪".‬‬
‫ثمةٌ نوع من الذعر الخفي‪ .‬تتقاطر حبات العرق على جبيني‪ .‬أتوسل‪،‬‬
‫يتضاءل صوتي‪" :‬لقد حدث ذلك منذ زمن بعيد‪".‬‬
‫تقول‪" :‬لقد شاهدت تلك الفتاة الصغيرة بكل هدوء‪ ،‬لكنني شعرت بالسوء‬
‫ألجلها‪".‬‬
‫أنهض واقفة‪ ،‬دافعةً الطاولة‪ .‬تسقط الصورة‪ .‬يتوسع الصدع في الجدار‬
‫الحسيدي الزجاجي الذي يحيطني والذي سببّه اإلجهاض وتعلّم الكتابة‪ّ ،‬‬
‫لكن ما‬
‫يتدفق عبره هو الظالم فقط‪ ،‬وليس النور‪ .‬تصبح الغرفة المائلة معتمة‪ ،‬تتالشى‬
‫األلوان كلها‪ ،‬تتأرجح بي الغرفة وتنقلب‪ .‬تسقط القطع المطرزة باألزهار بإطاراتها‬
‫ووسائد الزينة عبر الهواء في ظالل رمادية‪.‬‬
‫ي أن أخبرك‪ "،‬تقول ديبي‪ ،‬وهي تقوم من كرسيها‪.‬‬
‫"عل ّ‬
‫عليك ذلك‪ ".‬أستدير للذهاب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أقول‪" :‬كال‪ ،‬ليس‬
‫ي أن أخبرك ألنني فشلت‪".‬‬
‫"عل ّ‬
‫أخر على الكرسي‪.‬‬ ‫ي ً‬
‫أوال؛ إذ ّ‬ ‫أثني ركبت ّ‬
‫نك‬
‫ت‪ .‬فشلتِ؟" يا لضآلة حجم ديبي‪ .‬كم يبلغ وزنها‪ ،‬ربما ‪ 90‬باوندًا؟ "لك ِ‬
‫"أن ِ‬
‫ت بيده في الممر…"‬
‫أمسك ِ‬
‫عنك وعن آمي‪ ".‬تقول‬
‫ِ‬ ‫"لكنني لم أكن أستيقظ دائ ًما‪ .‬ولم أب ِقه دو ًما بعيدًا‬
‫وتنساب الدموع على خديها‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عجز عن الكالم‪ ،‬اجتياح الذكرى‪ .‬أتمتم‪" :‬لكنك بطبيعة الحال‬ ‫دقات القلب‪،‬‬
‫ت ضئيلةً وهو كان وح ً‬
‫شا‪ ".‬تلتقي عيناي بعيني أختي‪ ،‬وأنا جالسة هناك‪" .‬لقد‬ ‫كن ِ‬
‫ت طبعًا‪ ".‬أمد يدي ليدها‪ .‬إنك فرقة عسكرية مكونة من طفلة واحدة‪ .‬فال شك‬
‫فشل ِ‬
‫ي‪.‬‬
‫أنه اخترق صفوفك المكونة من طفلة صغيرة وأتى إلينا‪ .‬أتى إل ّ‬
‫ال أتذكر ما أتذكره‪ .‬يده على فمي‪ِ .‬ل َم أستطيع الشعور بذلك؟ لقد فَ ِشلَت‪ .‬كانت‬
‫أمي تغط في النوم‪ ،‬أو هل فعلت ذلك؟ كنت أسمعها وهي تتسلل إلى المطبخ في‬
‫ي في‬ ‫ٌ‬
‫ضغط ساخن على ساق ّ‬ ‫الليل‪ ،‬أسمع الصنبور الجاري‪ ،‬وطقطقة الكأس‪.‬‬
‫الظالم‪ .‬أأنا أتخيل أم أتذكر؟ ألهذا السبب كنت أزحف إلى نهاية الممر في الليل‪ ،‬أو‬
‫لهذا كنت أتسلق إلى السطح؟ جدار خشن محبّب تحت أناملي في ممر معتم‪ ،‬أبحث‬
‫عن ملجأ األم‪.‬‬
‫ت جندية الجبهة األمامية التي تحميني‪ ".‬أتطلع‬
‫أشد على يدها وأقول‪" :‬لقد كن ِ‬
‫للحزن الذي يعلو وجهها وأفكر‪ ،‬ال بد أن يكون هذا حبًا‪ .‬لقد حظيت بحبك كل هذا‬
‫الوقت‪ ،‬أختاه‪ .‬تمنيت لو أنني أدركت هذا من قبل‪" .‬لم يكن الذنب ذنبك‪".‬‬
‫تقول‪" :‬لكن آمي‪ ."،‬األخت الصغيرة التي تركناها وراءنا‪ .‬تضغط أنفها على‬
‫النافذة بينما أسير بعيدًا‪.‬‬
‫أقول وأنا أربّت على يدها‪" :‬أنا أعلم‪ ،‬أعلم‪".‬‬
‫لن أتذكر بقية زيارتي‪ .‬ربما سكبت لي كوال فوق الثلج الذي أخرجته من‬
‫درج في ثالجتها‪ .‬ولكن سأتذكر كيف أن الغرفة تعود إلى وضعها تدريجيًا وكيف‬
‫يرجع اللون إلى األزهار الصغيرة المنمقة على الجدار‪ .‬سوف أتذكر كيف نتعانق‬
‫لوقت طويل‪ ،‬وكيف لم أعد أشعر بأنني وحيدة‪ .‬أنطلق بسرعة على طريق البيلتواي‬
‫ألبلغ المنزل في الوقت المناسب لكي أستقبل األطفال الذين قضيت حياتي أحميهم‬
‫من التعرض لمثل هذه األمور‪ .‬عندما أصل للمنزل‪ ،‬يخطو عتبة الدار معي كل من‬
‫ديبي وآمي وأمي و‪ ،‬طبعًا‪ ،‬أبي‪ ،‬كما لو أنها المرة األولى‪ .‬إنهم جزء مني على‬
‫نحو ال مفر منه‪ .‬أستشف ذلك اآلن‪ .‬ما من جدار بعد اآلن‪ .‬أصطحبهم لداخل المنزل‪.‬‬
‫الفصل السادس عشر‬

‫كان والد أمي ‪-‬الذي ندعوه بابا‪ -‬يمتلك مصنع ألبسة وفيه كان يعمل والدي‬
‫حينما كنت صغيرة‪ .‬غالبًا ما كان أبي يعود للمنزل في وقت متأخر‪ ،‬بعد أن أكون‬
‫قد ذهبت للفراش‪ .‬لقد أعتاد أن يأتيني بكأس من الحليب‪ ،‬فيجلس على حافة سريري‬
‫في غرفتي المعتمة وينتظر حتى أفرغ من شرب الكأس‪ .‬كان هذا طقس وقت النوم‬
‫الخاص بنا‪ .‬كان والدي ابنًا لمهاجرين‪ ،‬وكان عمره خمسة وثالثين عندما ولدت‪،‬‬
‫وقد تجاوز األربعين في هذه المرحلة من عمري‪ ،‬بشعر كثيف غزاه الشيب المبكر‪،‬‬
‫وابتسامة مائلة‪ ،‬ولهجة عالقة ليهودي منتقل لنيويوك منذ مدة طويلة‪ .‬فكان يناديني‬
‫"عزيزتي" بتلك اللكنة‪ .‬كانت آمي في مثل هذا الوقت تنام في غرفتها المجاورة‬
‫لغرفتي‪ ،‬أما ديبي فتقرأ كتابًا في غرفتها‪ .‬وثمة همهمة تأتي من نهاية الممر صادرة‬
‫عن تلفاز أمي الذي ال ينطفيء‪.‬‬
‫دربني أبي على غناء صالة شيما‪ ،‬كما علّمه والده اليهودي أن يفعل قبل‬
‫النوم‪ .‬أناوله كأس الحليب الفارغ‪ ،‬وأمسح شارب الحليب بك ّم منامتي‪ ،‬وأغني معه‬
‫نفس المقاطع العبرية التي تعلمتها في مدرسة األحد ‪shema yisrael‬‬
‫ي‪ ،‬تحدث عن طفولته التي‬
‫‪ .adonoi elohaynu‬وبينما أثقل النعاس عين ّ‬
‫قضاها في بروكلين ووالديه الناطقين باليديشية‪ ،‬وعن أرغفة الشااله المظفورة التي‬
‫كانت أمه تخبزها من أجل الساباث‪ ،‬وكيف كانت تقطع له شرائح سميكة من الخبز‬
‫المتبقي وتمسحها بدهن الدجاج وتسخنها في الفرن عندما كان يعود من المدرسة‪.‬‬
‫حاولت أن أتخيل الخبز وهو خارج من فرن وليس من كيس بالستيكي على شكل‬
‫مربعات منفوشة كالقطن‪ .‬ثم كان يتمدد بجانبي ويغني أغاني من عروض موسيقية‬
‫قديمة بنغمة رتيبة ذات نوتة واحدة‪ .‬لقد قلت بطاطا‪ ،‬وأنا قلت بطاطس‪ ،‬فلنقع في‬
‫الحب‪.‬‬
‫ثم وقف‪ ،‬وغطاني‪ ،‬فألقت قامته ً‬
‫ظال في الضوء الخافت‪ .‬رجوت أن يترك‬
‫انصرف‪،‬‬
‫َ‬ ‫ضوء الممر والباب مفتوحين‪ ،‬ألنني أخاف من الظالل من الليل‪ .‬وبعد أن‬
‫ي مثبتتين‬
‫ي‪ ،‬حتى أتمكن من إبقاء عين ّ‬
‫أنقلب على السرير‪ ،‬فيصير رأسي مكان قدم ّ‬
‫على اإلنارة المتوهجة المثبتة في الممر‪ ،‬قبل أن أزحف عائدة الى وسادتي واستسلم‬
‫للنوم‪ .‬ثم يلفني الظالم‪ ،‬العمق الكبير لنوم الطفل‪ ،‬عذوبة خاوية تخدّر أطرافي‪ .‬دافئة‬
‫وساكنة‪ ،‬يمضي وقت النوم بال حسبان‪ .‬كانت هناك فقط صور وأحالم طفولية‬
‫مشبعة‪ ،‬توقف فجائي في ذهن مزدحم‪ .‬لم أكن أعرف شيئًا‪ .‬حتى بدأ الصرير‬
‫الخافت لمقبض باب يدار‪.‬‬
‫إنه يطفو فوق سريري اآلن‪ ،‬ظل أش ّد ظلمةً محا ٌ‬
‫ط بالظالل‪ .‬حتى أثناء نومي‪،‬‬
‫كان حضوره مطمئنًا‪ .‬يجلس في نفس المكان على سريري‪ ،‬وأنا أتزحزح‪ ،‬أبتسم‬
‫وأعود ثانية لألحالم‪ .‬لكن رائحته الخفيفة وظالمه الحالك مثل أذرع تسحبني إلى‬
‫السطح‪ .‬ثم‪ :‬بشرة كفه الدافئة والخشنة على فمي‪ .‬ي ٌد تداعب رأسي‪.‬‬
‫ي مفتوحتان‪ ،‬عقلي ما يزال نائ ًما بمعظمه‪،‬‬
‫أبي هو أرق المغتصبين‪ .‬عينا ّ‬
‫ي‪ .‬حينئذ‪.‬‬
‫لكنني ال أرى سوى مخمل أسود‪ .‬اليد تضغط‪ ،‬يتسع منخر ّ‬
‫ي‬
‫انقباض باطن ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫اآلن‪ ،‬سخونة‪ ،‬ضغط‪ ،‬أنفاس ثقيلة متواترة على وجهي‪.‬‬
‫عميق يش ّد معدتي‪ ،‬ويفرد ورك ّ‬
‫ي الطفوليين إلى األمام‪ ،‬ورأسي الطفولي يتكئ‬
‫للخلف‪.‬‬
‫ي‪ .‬من بعيد‪ :‬صوت يشبه األنين‪.‬‬
‫أرفرف بذراع ّ‬
‫الهيئة‪ ،‬شكل ذاكرة الجسد التي تكونت‪ ،‬سوف تلين وتتمدد تحت السطح‬
‫وتحرر نفسها بفعل الزمن‪ .‬وسيساعدني وجه أمي الجاهل في النهار على فصل‬
‫الذكرى‪ّ ،‬‬
‫لكن أثره سيبقى على عضالتي وجلدي‪ .‬في آخر المطاف‪ ،‬ما عدت أتذكر‬
‫إن كان قد فعل فعلته مرة واحدة أم مرات كثيرة‪ ،‬ربما ألن كل مرة يكون وقعها‬
‫مثل كدمة كبيرة تتجمع فيها كل المرات‪ ،‬حتى ال أعود أتذكر إن كان قد فعلها في‬
‫األصل‪ ،‬ولن أكون متأكدة أبدًا‪ .‬لكن جسدي سيحتفظ بتلك الذاكرة‪ ،‬فجسدي يتذكر‪.‬‬
‫جسدي يتذكر‪.‬‬
‫ومن هنا بدأ الدافع ألن أجد مكانًا آمنًا أستطيع أن أحتمي فيه‪ ،‬الدافع الذي‬
‫سيحثني على الخروج من هذا المنزل‪.‬‬
‫لقد كبر خوفي من الظالم‪ .‬ثم وفي إحدى الليالي ّ‬
‫افز من النوم مذعورة‬
‫وأنهض عازمةً على بلوغ نهاية الممر حيث أمي‪ ،‬حيث األمان‪.‬‬

‫أحلم بأبي مرات ومرات‪ .‬يظهر في الرؤية على بابي ورأسه ثمرة جوز هند‪،‬‬
‫مرسوم عليها ابتسامة صارخة‪ ،‬فأضربها بمضرب البيسبول‪ .‬تنفتح الثمرة‬
‫وأشاهدها تدلق حليبها‪ ،‬وتتقاطر‪ ،‬وال يزال الجزء األمامي منها مطل َيا بتلك‬
‫االبتسامة الجامدة‪ .‬يسقط نصفا ثمرة الجوز على كال الجانبين‪ ،‬عقابًا على جميع‬
‫خياناته‪ّ ،‬‬
‫لكن الفم المرسوم يستمر باالبتسام ويستمر‪ .‬يسري حليب جوز الهند في‬
‫عروقي‪ ،‬وهو يعج بالبذور‪ ،‬كما يعج زَ بد بِرك الماء بالكائنات حين نضعه تحت‬
‫المجهر‪ ،‬وأنا ممتلئة به وفيه ومنه وبه‪ .‬أنظر في المرآة وأرى ابتسامته المائلة‪،‬‬
‫ليست ابتسامته‪ ،‬بل ابتسامي‪.‬‬
‫أضاعفه وأقسمه‪ ،‬أسحقه من كل زاوية على بطاقات صغيرة‪ ،‬ثم أغربل‬
‫وأغربل البطاقات بصورها المختلفة‪ ،‬في محاولة ألن أكتشف ما الذي سأحتفظ به‬
‫منها وما سأرميه‪ .‬أع ّد بطاقات الحلم بال توقف‪ .‬مثل بخيل شره منكبٌّ على حساب‬
‫أمواله في الخفاء‪.‬‬

‫يتصرف ليفي وكأنه ال يلحظ تقلبي في الليل أو اضطرابي في النهار‪ .‬فالحياة‬


‫بالنسبة له‪ :‬منزل‪ ،‬معبد‪ ،‬اعمل من أجل المال‪ ،‬عد للمنزل ثانية‪ ،‬اتل صلواتك‪،‬‬
‫ادرس الكتب المقدسة‪ ،‬ارت ِد ال ِغمامة وال ترفع نظرك‪ّ ،‬لوح بيديك إن اعترض أحد‬
‫طريقك‪ ،‬اصرخ إن اضطررت لكي تبقى على المسار‪ ،‬شد أزرك لتواصل المسير‪،‬‬
‫اذهب للنوم وكأنه واجب‪ ،‬وحيدًا‪ ،‬حتى تستطيع فعل األمر ذاته مجددًا غدًا‪.‬‬
‫ي‪ ،‬واألطفال محتشدون‬
‫الجدار الزجاجي مهشم بكامله اآلن‪ ،‬الشظايا عند قدم ّ‬
‫حولي‪ .‬أنا هي عائلتي التي قضيت معها طفولتي‪ ،‬جزء منهم على نحو ال رجعة‬
‫عنه‪ ،‬وعائلتي جزء مني‪ .‬تلك هي من أنا عليه‪ .‬ليس هناك من مكان آمن‪ .‬ولم يكن‬
‫هناك من مهرب‪ ،‬في حقيقة األمر‪.‬‬
‫أتوقف عن الكتابة‪ .‬أطوف ممرات المنزل في الليل‪.‬‬

‫"ينبغي أن أتحدث إليك‪ "،‬أخبر ليفي في أحد األيام في غرفة الطعام حيث‬
‫كان يدرس الـ’‪ ‘Likkutei Sichos‬وهي خطابات ال َحبر‪ .‬يضع إصبعه على‬
‫الموضع الذي وصل إليه ويرفع بصره‪.‬‬
‫بأمس الحاجة للحديث‪ ،‬إذ أحاول للمرة األولى منذ‬
‫ّ‬ ‫أعلم بأنني أقاطعه‪ ،‬لكنني‬
‫زمن طويل جدًا أن أعامله كصديق وقرين محل ثقة‪ .‬أجلس في مكاني على يمينه‪.‬‬
‫تصلنا أصوات األطفال من غرفة اللعب‪ .‬أقول‪" :‬لقد تحدثت مع ديبي‪ ،‬فقد ذهبت‬
‫إلى منزلها قبل أيام‪".‬‬
‫صبورا‪ ،‬كأنه يعمل على أن يكون منصتًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يبدو ليفي وكأنه يحاول أن يكون‬
‫وأصبعه باق على الصفحة‪.‬‬
‫أبوح له بكل شيء‪ .‬أخبره عن ديبي عند الطاولة المغلفة بالقرميد‪ ،‬عن‬
‫شجاعتها ويديها المرتجفتين‪ .‬أخبره عن ديبي الصغيرة في الممر‪ ،‬وهي تقود أبي‬
‫في الليل بعيدًا عني وعن آمي‪ .‬أخبره عن الطاولة المائلة‪ ،‬الصورة‪ ،‬الغثيان‪ ،‬وكيف‬
‫أن اعتراف ديبي كان بمثابة تأكيد ألمر كنت أعرفه مسبقًا لكنني نسيته‪ .‬عندما‬
‫أنتهي من الحديث‪ ،‬يضحك ليفي عاليًا بقهقهة هازئة‪" :‬هذا مستحيل‪ "،‬يقول‪ ،‬ثم يعود‬
‫إلى كتابه‪.‬‬
‫أفغر فاهي‪ .‬أحاول أن أقنع نفسي بأنه مصدوم وفاقد لتوازنه من األخبار‬
‫ليس إال‪ .‬فوالداه شخصان صالحان‪ ،‬لذا فهو ال يملك مثل هذه األشياء في قاموسه‪،‬‬
‫ً‬
‫مستحيال‪ ،‬إنها‬ ‫وال يعرف كيف يتعامل مع مثل هذه األنباء‪ .‬فأخبره‪" :‬كال ليس‬
‫الحقيقة‪".‬‬
‫يشخر‪ .‬يزم شفتيه مثل ليمون حامض‪ .‬يقول‪" :‬أنا ال أصدق هذا‪".‬‬
‫"ماذا؟" أقول له‪ .‬أفكر لنفسي‪ ،‬إنني أعرفك جيدًا‪ .‬أنا أعرف الرجل الكامن‬
‫وراء هذه ال ِغلظة‪ .‬أصبح نشطة ومصممة على الحسم‪ .‬أسحب الورقة الرابحة‪،‬‬
‫ورقة الشريعة‪ .‬وأقول‪" :‬انظر إلي! أنا زوجتك‪ .‬من األحرى أن تصدقني‪".‬‬
‫يلوح ليفي بظهر يده‪ ،‬وينفخ الهواء من بين شفتيه ويقول‪" :‬لقد قابلت والدك‬
‫ّ‬
‫ما يكفي من المرات‪ ،‬إنه رجل مسالم‪".‬‬
‫إزعاج تافه‪ .‬وكأن تلويحة يد ستجعل األمر كذلك‪.‬‬
‫"أهكذا تجري األمور؟" أقول‪" .‬أنا أعلم‪ .‬لقد فهمت! إن ما تريد أن تصدقه‬
‫هو حقيقي! وما ال تريد أن تصدقه ال وجود له فحسب‪ .‬أمر كالسحر! حسنا ً!" أقول‪،‬‬
‫ألوح بيدي جيئة وذهابًا أمام وجهه‪" .‬ذهبت بتلويحة!" أجعد جبيني‪ ،‬هازة راسي‬
‫وأنا ّ‬
‫تأسفًا على خيانته‪" .‬كان من المفترض أن تعاني األمر معي‪ ،‬ولكنك ال تعترف به‬
‫حتى‪".‬‬
‫يقول‪" :‬لكن‪ ،‬ليا‪"،‬‬
‫ما تزال تلك اليد تلتصق بالكتاب الذي كان يقرأ فيه‪ .‬فيما مضى‪ ،‬كنت أنهمك‬
‫بالبحث في تلك الكتب عن قصص لكي أعرف من يجب أن أكون‪ً ،‬‬
‫بدال من مجرد‬
‫النظر في المرآة لرؤية من أكون‪ّ .‬‬
‫لكن عائلتي كان لها دور في تشكيلي أكثر بكثير‬
‫كونت من أنا‬
‫من تلك الكتب‪ .‬وسواء أكانت صالحة أم سيئة‪ ،‬فإن قصصنا هي ما ّ‬
‫ي المبسطوتين على صدري‪ ،‬كما لو أنه‬
‫عليه اآلن‪" .‬هذه أنا!" أقول‪ ،‬وأنا أضع يد ّ‬
‫قد حاول لتوه أن يمحوني بتلك التلويحة‪.‬‬
‫أخيرا سوف أفهم بأنني لست قصص عائلتي فحسب‪ .‬لكن في هذه اللحظة‪،‬‬
‫ً‬
‫في َحنَقي‪ ،‬أنا أمي وأنا أختاي االثنتان‪ ،‬و‪ ،‬أجل‪ ،‬أنا أبي‪ .‬ألنني لم أفهم سوى اآلن‬
‫بأن أنقى شظايا الحب الحقيقي التي عرفتها كانت في عائلتي‪ ،‬على الرغم من أنها‬
‫كانت ممتزجة بالسوء‪.‬‬
‫ولن أتخلى عن ذلك بتلويحة من يد ليفي‪" .‬ال يمكن لك أن تفعل ذلك‪ "،‬أقول‬
‫واخطو مبتعدة عنه‪.‬‬
‫يناديني‪" :‬ليا‪ ،‬إنك تنخدعين برواية أختك!"‬
‫أتوقف وأنظر للوراء‪ ،‬إلى حاجبه المرفوع ولحيته السوداء غير المشذبة‬
‫ويارمولكته التي تشبه الطاسة على رأسه‪ ،‬وقميصه األبيض المكوي‪ ،‬وفي يده كتاب‬
‫مواعظ ال َحبر التي سيقتبس منها عند اجتماعنا على طاولة الساباث‪ .‬أقول‪" :‬من‬
‫وقع في خديعة ماذا؟" إن عائلتي بكل مثالبها ترافقني بينما أبتعد‪ ،‬وليس الرب‪ ،‬وال‬
‫الكتاب المقدس وال الشريعة‪ ،‬وال ال َحبر‪ ،‬أو الطائفة‪ .‬وال ليفي‪.‬‬
‫أحتفظ بذلك الغضب‪ ،‬وكأنه وقود‪ ،‬لكنني ما أزال جز ًءا من ماكينة المنزل‬
‫والعائلة والشريعة‪ .‬فهناك األطفال وثقتهم فيما وضعناه فيهم‪ ،‬والذين علمناهم بأنها‬
‫ثقة بالرب‪ .‬يبدو غضبي عديم القوة أمام هذا كله‪ .‬لكنه ما يزال غضبي‪.‬‬
‫ربما كان ذلك الغضب هو ما دفعني‪ ،‬في األسبوع التالي‪ ،‬ألن اصطحب‬
‫األطفال إلى المكتبة العامة وأعرض عليهم كل أنواع الكتب عن الفتيات‪ ،‬كما عن‬
‫الفتيان‪ ،‬الذين يمتلكون أصواتًا وأهدافًا‪ ،‬كتب يتكلم فيها الناس بكل صدق ويعترفون‬
‫فيها بأحالمهم ويحلمون ويكافحون‪ ،‬أناس يتحدرون من مختلف األديان واأللوان‬
‫والمجتمعات‪ ،‬رجال حليقو اللحى‪ ،‬نساء حاسرات الرؤوس ويرتدين السراويل‪،‬‬
‫حيوانات ال شرعية ومهن غير مألوفة‪ .‬أحاول أن أخبرهم أنه ال يوجد "آخر"‪ ،‬حتى‬
‫ولو كنت أشعر اآلن بأنني أنا "اآلخر" ضمن الطائفة‪ .‬آه‪ ،‬لم يكن بقصدي أن أضيّق‬
‫من قدرتهم على الحلم‪.‬‬
‫عند العودة‪ ،‬يتفرق األطفال في أرجاء المنزل حاملين كتبهم‪ ،‬وهم منبهرون‪.‬‬
‫ليبل مستلق على بطنه على الطابق األعلى من السرير ذي الدورين وبجانبه رزمة‬
‫كتب‪ ،‬مندل يجلس متربعًا في الزاوية ويضع كتابًا على حضنه‪ ،‬وليبي متكورة على‬
‫الكرسي المنبسط القديم‪ ،‬مستغرقة في إحدى القصص‪ .‬كل واحد منهم جاث ٌم على‬
‫السطح الخاص به‪ .‬إنهم يلتهمون الكتب مثل الجياع‪ ،‬يتبادلونها‪ ،‬يتحدثون عنها‪،‬‬
‫يعيدون قراءتها‪ ،‬ثم يتوسلون من أجل رحلة أخرى إلى المكتبة‪ .‬فاصطحبهم إليها‪.‬‬
‫أصبحنا نداوم على الذهاب إلى المكتبة كل أسبوع‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ما أزال أ ًما‬
‫حسيدية‪ :‬في أحد المساءات‪ ،‬أسمع ليبل يتقلب في فراشه وأذهب إلى غرفته‪ .‬إنه‬
‫في الطابق العلوي من السرير فوق مندل المستغرق في النوم‪ .‬أهمس‪" :‬هل أنت‬
‫مستيقظ؟"‪.‬‬
‫يجيب‪" :‬أجل‪ .‬ال أستطيع النوم‪".‬‬
‫"لماذا؟"‬
‫"ال أدري‪ .‬أعتقد إنه بسبب التفكير‪".‬‬
‫"ستكون رائعًا‪ "،‬اقول‪ ،‬مفترضة إنه يعاني من القلق بشأن حفل بلوغه ’البار‬
‫ميتزفاه‘ الوشيك‪.‬‬
‫ي من الباراشا والمامار‪ .‬باستطاعتي‬
‫"أماه‪ ،‬ليس ذلك السبب‪ .‬أنا أحفظ مقطع ّ‬
‫أن أرتّل كل ذلك‪".‬‬
‫أقول‪" :‬إذن لماذا؟"‬
‫يبوح لي في ما يشبه النشيج‪" ،‬سوف أصبح ’‪"‘chayav mitzvos‬‬
‫سوف أصبح بالغا ً ملز ًما بحفظ كل الوصايا‪ .‬إن ما يبقيه مستيق ً‬
‫ظا هذه الليلة هو ثقل‬
‫الشريعة‪ ،‬الذي سيوضع رسميًا على عاتقه في حفل بلوغه والذي سيحمله بعد ذلك‬
‫إلى األبد‪ ،‬هذا الثقل الذي سيصطحب معه كل توقعات الطائفة‪ .‬وكل تلك العيون‪.‬‬
‫هذا الصبي‪ ،‬إبني البكر‪ .‬عما قريب سوف نرسله بعيدًا ليصبح جنديًا حسيديًا‪.‬‬
‫ستحل اليشيفا محلنا كوالدين‪ .‬أمسك يده الناعمة والممتلئة ً‬
‫قليال وذات األصابع‬
‫الطويلة كيدي‪.‬‬
‫يقول‪" :‬شدي عليها‪ ،‬بقوة أكبر‪".‬‬
‫ي إفالتها‪.‬‬
‫أض ّم يده بكلتا يدي وأعصر يده كما لو أنه لن يكون عل ّ‬

‫عتمرا قبعته السوداء‬


‫فخورا في حفل بلوغه البار ميتزفاه م ً‬
‫ً‬ ‫ينتصب ليبل‬
‫الجديدة وهو يغني مقطعه من التوراة بصوت صبياني عذب وواضح‪ .‬يتلو خطابه‬
‫فسطرا بطريقة ت َدرج شروحات االستعارات المعقدة‬
‫ً‬ ‫سطرا‬
‫ً‬ ‫الحسيدي ويترجمه‬
‫الغامضة التي تشرح الرغبات الربانية‪ .‬كما وتحضر أمي وتجلس بلياقة خلف‬
‫الحاجز مع والدة ليفي ومعي‪ ،‬ثم تنضم االثنتان للعائلة للجلوس إلى مأدبة الساباث‬
‫التي أقمناها في الكنيس من أجل الطائفة‪ .‬فيلقي الرجال الخطابات ويغنون األغاني‪.‬‬
‫إذ إن المغزى من المناسبة بأكملها هو تبني الطائفة الواحدة الكبيرة لفرد آخر وصل‬
‫لتوه‪.‬‬

‫حين كنت طفلة‪ ،‬كنت ألحق والدتي كلما سمحت لي إلى المعارض وحفالت‬
‫افتتاح المعارض الفنية التي ترتادها‪ .‬وبمجرد أن نصل تطلب مني أن أنظر إلى‬
‫أصف ما رأيت‪ .‬وكلما كان جوابي أكثر تفصيالً وذكاء‪ ،‬التمعت‬
‫اللوحات وأن ِ‬
‫عيناها أكثر‪ .‬لقد روت تلك اللحظات ظمئ ًا مستعصيًا‪ .‬في أحد صباحات األسبوع‬
‫عندما كنت في الثامنة من العمر‪ ،‬صعدنا السلّم الرخامي في متحف داالس للفنون‬
‫الجميلة المؤدي إلى البهو العلوي الكبير‪ .‬كان المكان يبدو فار ً‬
‫غا‪ ،‬ولم يكن هناك‬
‫سوى الفنانة لويز نيفلسون‪ ،‬التي وقفت مثل أحد طواطمها بأوشحتها المتطايرة‬
‫وقميصها التونيك ورموشها االصطناعية الكبيرة التي تشتهر بها‪ .‬كان خلفها منصة‬
‫منخفضة وواسعة حملت اثنتين من منحوتاتها‪ .‬كان ثمة شيء في نيفلسون في غاية‬
‫ت حقًا من صنعت‬
‫الجمال والقوة حملني ألن أتوجه إليها مباشرة وأسالها‪" :‬هل أن ِ‬
‫هذه األشياء؟"‬
‫"أوه‪ ،‬أجل" تقول وهي جدية تما ًما وال تبدو متعالية على اإلطالق‪ .‬سألتني‬
‫عن نفسي‪ ،‬وبينما أجيب عن أسئلتها تهز أمي المنبهرة رأسها بالموافقة على ما‬
‫أقول من مسافة ال تالحظ منها‪ .‬قالت نيفلسون المزيد‪ ،‬لكنني كنت منشغلة بالنظر‬
‫إلى الطبقات الشفافة أللبستها ومكياجها‪.‬‬
‫بعدها‪ ،‬اجتزنا الحراس ودخلنا إلى المعرض األول‪ ،‬فرأينا غرفة كاملة مليئة‬
‫بتكوينات نيفلسون العالية المصنوعة من الخشب المقطوع حديثًا‪ ،‬وجميعها مطلية‬
‫باللون األبيض أو األسود‪ .‬لقد بدت األشكال والطبقات‪ ،‬والقناطر والحجرات‬
‫كونتها كأنها تخفي ما تحتوي عليه‪ ،‬وقد أذهلتني‪ .‬كانت مستوياتها‬
‫الصغيرة التي ّ‬
‫سا باالنبهار عقد‬
‫المتداخلة بمثابة عوالم داخل عوالم‪ .‬لقد منحني عمل نيفلسون إحسا ً‬
‫لساني‪ ،‬رغبة قوية بأن أرى ما كان مخفيًا في داخل تلك الفضاءات كما لو إنها‬
‫صا‪.‬‬ ‫كانت تحمل (كما سوف أتخيل الحقًا عند استرجاع الماضي) غمو ً‬
‫ضا وخال ً‬
‫واألفضل من كل هذا هو أنني تشاركت بهذا االنبهار مع أمي‪.‬‬
‫تقدمت لألمام ومددت يدي في أحد التجاويف السوداء‪ .‬لكن كان ثمة حارس‬
‫يقف خلفي‪" .‬من األفضل أن ال تلمسي ذلك‪ ،‬أيتها السيدة الصغيرة‪ "،‬قال‪ ،‬في اللحظة‬
‫التي رأيت فيها الزي الموحد‪ ،‬والشارة‪ ،‬والوجه ذا التعابير التحذيرية‪ .‬انسحبت‬
‫للخلف‪ ،‬كالملدوغة‪ ،‬وحينئذ ظهرت الفنانة خلفي‪ ،‬وخلفها وقفت أمي الخجولة‪.‬‬
‫بعملك في مكان آخر‪ "،‬أخبرته نيفلسون‪ ،‬ثم أخبرتني‪:‬‬
‫َ‬ ‫يمكنك التحرك والقيام‬
‫َ‬ ‫"‬
‫"المسي ما تريدين‪ ،‬ياحلوتي‪".‬‬
‫لم أتجرأ على لمس المنحوتات مجددًا‪ ،‬لكنني صعدت على المنصات ألحصل‬
‫على نظرة مقربة‪ .‬انفتحت المساحات المنحوتة أمامي مثل مرايا تقابل وجهي‬
‫فتعكس ممرات مكررة بال نهاية‪.‬‬
‫وفي أحد األيام‪ ،‬وأثناء توجهي للمنزل عائدة من مكتبة وسط المدينة مع‬
‫األطفال‪ ،‬أمر على مبنى إنرون الواقع في (‪ )Allen Place‬وألحظ منحوتة عالية‬
‫للويز نيفلسون منتصبة أمام المبنى‪ .‬أفكر‪ ،‬ال بد وأنها مصبوبة من المعدن‪ .‬أخفف‬
‫من سرعة السيارة وأشير للمنحوتة‪ .‬أخبر األطفال‪" :‬لقد قابلت تلك الفنانة ذات مرة"‬
‫وفي المرة التالية التي نزور فيها المكتبة‪ ،‬أجد سيرة ذاتية لنيفلسون مكتوبة‬
‫ّ‬
‫أحث األطفال على قراءتها‪ ،‬ثم أقضي معظم‬ ‫للشباب البالغين وأجلبها معي للمنزل‪.‬‬
‫الليل في قراءتها لنفسي‪ .‬أقرأ كيف استنزف فنها طاقتها حتى تخلت عن زواجها‬
‫وأرسلت ابنها ليعيش مع والديها‪ .‬لقد وضعت مقعدًا من طراز مقاعد الكنيسة محل‬
‫األريكة في غرفة جلوسها لكي تص ّد ضيوفها عن المكوث‪ .‬أضحك على فعلتها‬
‫سري‪ .‬فخالل تلك الليالي التي اعتدت فيها على الغوص‬
‫تلك‪ ،‬لكنها ضحكة تأييد َّ‬
‫في عملية العبث مع الكلمات‪ ،‬كنت أنسى اإلحساس بالوقت‪ ،‬ثم أرفع نظري بدهشة‬
‫إلى الشمس البازغة؛ فأنا أعرف كم يمكن أن تصبح صناعة الفن آسرة أكثر من‬
‫العالم الحقيقي‪ .‬أبدأ بالتفكير أن إطالق العنان لحافز إبداعي هو مثل إطالق ثور‬
‫من حظيرته؛ هدف يمكنه مالحقتك خالل النهار وجعل حتى من تحبهم يبدون مثل‬
‫متطفلين‪ .‬ثم أضحك على استغراق نفسي في العبث لمجرد تخيّل حياة مثل حياتها‪.‬‬
‫ورغم ذلك‪ ،‬أبدأ بالكتابة مجددًا‪ .‬وفي إحدى الليالي‪ ،‬يأتي الدور لديبي‬
‫الصغيرة بالظهور على الورق‪ .‬إنها تشاهد أبي من السقف‪ ،‬ثم حين يحل الصباح‬
‫يقوم بتحضير التوست والبيض لها‪ .‬يحل الصباح الحقيقي قبل أن أتوقعه‪ ،‬هدير‬
‫السيارات المارة الذي يحمله الهواء‪ ،‬عصافير تزقزق من شجرة الدردار التي‬
‫تنتصب في الفناء الخلفي‪ ،‬فيما ألقي بالصفحات على كدس األوراق في السلّة‬
‫المشبكة ذات العجالت وأدفعها إلى ما تحت منتصف السرير‪.‬‬

‫ثمة أمر يحدث لي‪ .‬إنها خسارة مقلقة ال أستطيع فهمها‪ .‬لقد اعتدت على‬
‫وجود الرب الدائم قريبًا مثل حبل الوريد‪ ،‬وكان حضوره شبه محسوس‪ .‬أما اآلن‪،‬‬
‫وبعد شهور من الكتابة المكثفة‪ ،‬يبدو بأنه قد انسحب إلى مكان بعيد‪ .‬لكنني أكتب‬
‫صا ليس إال‪.‬‬
‫قص ً‬
‫لقد فاضت مني األسئلة التي أخفيتها ليلة بعد أخرى‪ِ .‬لم يم ّثل التحدث عن‬
‫أمرا بالغ السوء؟ و ِلمَ تعج النصوص التي أحبها‬‫الحقيقة بشأن الخطايا والفشل ً‬
‫بكراهية النساء‪ ،‬و ِلمَ لم األحظ هذا األمر من قبل؟ ِلمَ يخبو سحر كلمة الرب الكاملة‬
‫والنقية أكثر كلما توغلت بالكتابة أكثر؟‬
‫أتوجه للمطبخ‪ ،‬وأثناء سيري أسوي الشال من أجل تغطية أمثل لشعري‬
‫النامي‪ .‬وأظن أن تغطيتي له ستغطي األسئلة المتزايدة واإلحساس المتنامي بأنني‬
‫أعيش في كذبة‪.‬‬
‫إنني كاذبة‪ ،‬ألنني مصممة على إخفاء قصصي وأسئلتي وشكوكي المتأججة‬
‫وأواصل حياتي كما لو أنها غير موجودة‪ .‬لكن بطريقة أو بأخرى‪ ،‬أليست كل أم‬
‫كاذبة؟ "إن األم لكاذبة"‪ ،‬لكنهن ال يكذبن سوى بداعي اإلغفال لحماية األطفال‪،‬‬
‫أليس ذلك صحي ًحا؟ إنه أمر شائع بما فيه الكفاية‪ .‬ال يحتاج األطفال أن يعرفوا‪ .‬إنهم‬
‫ليسوا بحاجة إلى حمل أسئلتي وشكوكي‪ .‬ذلك باإلضافة إلى أننا جميعًا‪ ،‬في داخل‬
‫الطائفة‪ ،‬نخفي المواضع المظلمة الصغيرة في أرواحنا‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن حقيقة جديدة ترن في رأسي مثل جرس متواصل الجلجلة‪ :‬ليس من‬
‫طبيعتي أن أكون امرأة محتشمة محجبة الرأس‪ .‬وهناك المزيد‪ :‬لم يكن أبي ً‬
‫رجال‬
‫ضا‪ :‬تراودني أحالمٌ عن النساء‪ .‬تلك الشجرة التي تسقط في‬ ‫صال ًحا‪ .‬والمزيد أي ً‬
‫الغابة‪ ،‬أتكون الكذبة كذبًة حقًا إذا لم ننطق بها؟‬

‫يمر يوليو وأبدو‪ ،‬من حيث الظاهر‪ ،‬أ ًما حسيدية حازمة لجنود الرب الناشئين‪،‬‬
‫ي الدليل على هذا‪ :‬سيغادر ليبل قريبًا لليشيفا‬
‫تدخل في عامها السادس والثالثين‪ .‬ولد ّ‬
‫في نيويورك‪ ،‬وفي ذلك برهان على أني أدعم الرتب الناشئة‪ .‬وها أنا ذا بشعري‬
‫المغطى‪ ،‬وزوجي ولحيته‪ ،‬وشوارع الحي التي تمتلئ بالعائالت الحسيدية التي تسير‬
‫إلى الكنيس وكأنها شوارع بريجادون في صباحات السبت‪ .‬أستمع للمصطلحات‬
‫العبرية واليديشية التي تطعّم كالمنا‪ .‬أجلس في مطبخنا ذي األدوات المزدوجة‬
‫الشرعية وأطقم األطباق المنفصلة‪ ،‬منها ما خصص للحليب ومنها للحم‪ ،‬فيما‬
‫يركض أطفالنا السبعة داخلين وخارجين مع أطفال حسيديين آخرين من الحي‪،‬‬
‫فتتطاير خيوط التزتزت من ثياب األوالد‪ ،‬واأليدي على اليارمولكات في حركة‬
‫تلقائية لإلمساك بها أثناء الركض‪ .‬أما الفتيات فيطاردنهم‪ ،‬ال تعيقهن التنورات‬
‫الطويالت وال الكولونات‪ ،‬بعد أن أصبحت تلك المالبس طبيعية كجلودهن‪ .‬أالحظ‬
‫الرفوف ورفوف المجلدات التي تصدح منها أصوات خفيضة والتي تحف غرفة‬
‫المعيشة وغرفة الطعام فتنبعث األحكام الحاخامية إلى هوائنا‪ ،‬أنظر إلى طاولة‬
‫الطعام التي يبلغ طولها إثنا عشر قد ًما والتي أغطيها باألطباق الساخنة استعدادًا‬
‫للساباث‪ ،‬كتب الصالة البالية الملقاة في أماكن عشوائية في أرجاء المنزل‪ ،‬حيثما‬
‫قرئت آخر مرة‪ .‬لو قمت بتقريب أذني من أي واحد من هذه الكتب‪ ،‬فسوف أسمع‬
‫اآلمال السرية المهموسة فيها والتي يستحيل سماعها بطريقة أخرى‪ .‬أغلق كتب‬
‫صها سوية‪ .‬زوجة حسيدية‪ ،‬هذا ما أنا عليه‪ ،‬وال‬
‫الصالة التي تركت مفتوحة‪ ،‬وأر ّ‬
‫أعرف كيف أتغير‪ ،‬حتى بينما أقف عند طاولة الطعام كامرأة مختلفة‪ ،‬وهناك‪،‬‬
‫أتصفح البريد الصباحي الذي جلبه أحد األطفال للتو‪.‬‬
‫بين الفواتير والمنشورات اإلعالنية لمحالت البقالة أجد مطوية بسيطة‬
‫التصميم من ثالث طيات باللونين األسود واألبيض‪ ،‬بال تعريف‪ .‬كان مكتوبًا عليها‪:‬‬
‫"مؤتمر تكساس األول عن النسوية واليهودية‪ ".‬أضحك وألقي بالمطوية مع كومة‬
‫البريد الدعائي‪ .‬لكن في تلك الظهيرة‪ ،‬وبينما أعمل في المطبخ‪ ،‬أتذكر األيام األولى‬
‫للحركة النسوية‪ ،‬حين كنت صبية يافعة‪ .‬أتذكر تلكم النساء الشابات المتقدات‬
‫بالحماسة وهن يهتفن على التلفاز‪ .‬أفكر‪ ،‬اليهودية مقرونة بالنسوية؟ بالنسبة لي‪،‬‬
‫فإن معنى هذا هو "قواعد‪ ،‬وفي نفس الوقت ليس هناك قواعد"‪ .‬إنه أمر مناف‬
‫للمنطق‪ .‬أال يدركون التناقض؟ أفكر‪ ،‬لقد تجاوزت تلكم النسوة الجريئات حدود‬
‫كثيرا‪ .‬أتذكر سالي بيرساند‪ ،‬أول حاخامة‪ ،‬قبل عشرين عا ًما‪ .‬أتذكر‬
‫ً‬ ‫المنطق‬
‫إفصاحي للحاخام غولدنبيرغ عن رغبتي أنا األخرى بأن أصبح حاخامة‪ .‬أفكر‪ ،‬كم‬
‫كنت خجولة وجسورة في اآلن ذاته‪ .‬كم كنت صغيرة‪ ،‬وكم كنت ساذجة‪.‬‬
‫ارتّب غرفة الطعام وأرمي بمنشورات الدعاية‪ ،‬سويةً مع المطوية‪ ،‬في سلة‬
‫المهمالت‪ .‬لكنني أتوقف وأنبش عن المنشور وأخرجه‪ .‬وال أعرف السبب الذي‬
‫دفعني إلخراجه‪ .‬ثم ألقيه على منضدتي في المطبخ‪ .‬والحقًا‪ ،‬أدسه في درج المكتب‪.‬‬
‫يقبع هناك لبضعة أيام قبل أن أعود وأخرجه في صبيحة هادئة‪ .‬أفكر‪ ،‬تلكم النسوة‬
‫يطلبن المستحيل‪ .‬فهن يردن أن ّ‬
‫يكن تلقائيات وأن يكن يهوديات ملتزمات في الحين‬
‫ذاته‪ ،‬في حين أنه ال يوجد أي مساحة للتلقائية تحت حكم الشريعة‪ .‬إنهن يردن إلههن‬
‫اليهودي من غير أن يخضعن أنفسهن للشريعة‪.‬‬
‫تلكم النسوة‪ .‬أتجول بناظري في أرجاء المطبخ وغرفة الطعام‪ ،‬تمائم‬
‫الميزوزاه على كل مدخل باب تحمل كتابات تحضّنا‪ ،‬بينما نمر من الباب‪ ،‬على أن‬
‫نحرص على التفكير بالرب ً‬
‫أوال‪ .‬أرى جدار الكتب‪ .‬أهمس‪" :‬إن حياتي مكتوبة‬
‫بالفعل‪".‬‬
‫رغم ذلك أفتح المطوية‪ .‬فأجد في داخلها الئحة بالفعاليات والمتحدثين‬
‫الرئيسيين‪ .‬ثم أدرك أن هذا أكثر من مجرد إعالن‪ .‬فما زال على انعقاد المؤتمر‬
‫بضعة شهور‪ .‬يبحث المنظمون عن متحدثين‪ ،‬وهم يدعون الناس إلرسال‬
‫عروضهم‪ .‬أضحك على تخيّل فكرة امرأة حسيدية تذهب إلى مؤتمر نسوي‪ ،‬لكن‪،‬‬
‫وللحظة مجنونة‪ ،‬أتساءل عما سيكون عليه اللقاء بكامل مجموعة النساء‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫انتشارا‬
‫ً‬ ‫الالمنطقيات تلك‪ .‬ستصل النميمة للطائفة بال أدنى شك‪ ،‬وستنشر‬
‫أمر محال‪ .‬أترك المطوية على المنضدة وأشرع بإعداد العشاء‪.‬‬
‫أفرم‪ ،‬أحرك ال ِقدر‪ ،‬وجهي في البخار‪ ،‬وهناك يداهمني فيض من الذكريات‬
‫ت‬
‫عن فتاة اعتقدت ذات مرة بأنها ستكتب مستقبلها وكذلك تحظى بدينها‪ .‬لقد كن ِ‬
‫ت محتاجة لنظام‪ ،‬أخبر نفسي‪ .‬لقد قم ِ‬
‫ت بفعل الصواب‪ .‬ثم يأتي الرد‪:‬‬ ‫طفلة‪ .‬كن ِ‬
‫لكنني أردت دي ًنا يكون صاريًا لشراعي أردت القدر الكافي من النظام ليدعمني‪.‬‬
‫لم يعد ذلك مه ًما‪ ،‬أخبر نفسي‪ .‬لم تعودي تلك الطفلة التي كانت تحضر صف‬
‫أنك لست تلك الفتاة المبهورة بالوصول إلى المؤسسة‪ ،‬ولم‬
‫الحاخام غولدبيرغ‪ .‬كما ِ‬
‫تعودي تلك الفتاة التي تمعن النظر من خالل الزجاج المخدش لتتمكن من رؤية‬
‫إنك هنا اآلن‪ ،‬إنسانة راشدة‪ .‬فكري باألطفال‪ .‬لن تخاطري‬
‫بحر القبعات السود‪ِ .‬‬
‫بالظهور في ذلك المؤتمر‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن بإمكاني أن أعرض عليهم أن أكون أحد المتحدثين‪ .‬فذلك لن يسبب لي‬
‫المشاكل‪.‬‬
‫إن لدى العديد من النساء في الطائفة خبرة في التحدث أمام الجمهور‪.‬‬
‫فمخاطبة الجمهور جزء من دعوتنا‪ ،‬ووظائفنا‪ ،‬لنعرض آراءنا عن اليهودية على‬
‫النساء غير الحسيديات في اجتماعات منظمة هاداسا‪ ،‬ومجموعات بناي بريث‪،‬‬
‫واألختيات‪ .‬أفكر بجحافل الشباب الحسيديين الواقفين على نواصي الشوارع في‬
‫تروج لطائفتنا‪،‬‬
‫مانهاتن الذين يسألون المارة عما إذا كانوا يهودًا ليعطوهم مطويات ّ‬
‫كما وأفكر بالمبعوثين من أمثال الحاخام فرومان الذين انتشروا في شتى أرجاء‬
‫العالم‪ .‬فإذا اختارني مؤتمر تكساس األول للنسوية واليهودية كإحدى المتحدثات‪،‬‬
‫فخورا بحملي لرسالة ال َحبر إلى مثل هذا المكان األجنبي‪ .‬وتحت هذا‬
‫ً‬ ‫فسيكون ليفي‬
‫الستار يمكنني الذهاب إلى هناك‪.‬‬
‫سيكون ذلك عندما تواتيني الشجاعة‪ .‬أعلم أنني لن أكون قادرة ً على قول ما‬
‫أرغب بقوله في الحقيقة‪ .‬فالحقيقة هي أنني ال أريد التحدث من األصل‪ ،‬ولم أرد‬
‫سوى رؤية تلكم النسوة‪ ،‬ولعلني أحظى بحديث واحد مرتجل‪ .‬ورغم ذلك أمسح‬
‫دفترا وقلم حبر‪.‬‬
‫ي بمئزري وأعود إلى المكتب‪ ،‬حيث أستل ً‬
‫يد ّ‬
‫لكن الجزء الذي لن أخبر به ليفي هو أنني في عرضي الذي سأرسله لن‬
‫أقترح عليهم أن أعلّم شيئًا‪ .‬فأنا ال أريد أن أترفع عن تلكم النسوة بغرور القداسة‬
‫ونصرة العقيدة‪ .‬لكني ببساطة سأعرض نفسي‪ ،‬كامرأة حسيدية‪ ،‬للحوار الحر‪.‬‬
‫وأدون على عجل الئحة من الكلمات في الهامش التأكد من أن تتضمن‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أتوقف‬
‫الحوار‪ ،‬اإلحترام المتبادل‪.‬‬

‫يحل أكتوبر‪ ،‬آخر أيام الصيف في هيوستن‪ .‬كان ليبل قد غادر لليشيفا في‬
‫بروكلين‪ ،‬وبدا كما لو أن المنزل قد أزداد سعةً‪ .‬حتى الصغير شالوم بدأ يرتاد‬
‫المدرسة لبضع ساعات يوميًا‪ ،‬لكنني ما أزال أرفض أن أعود إلى التدريس‪ .‬أنا في‬
‫فندق هيلتون الواقع في وسط المدينة أتبع مرافقتي إلى مساحة اعدّت من أجل‬
‫براقا‪ ،‬قابلتها عند طاولة الترحيب‪.‬‬
‫المتحدث‪ .‬إنها امرأة مبتسمة تضع أحمر شفاه ّ‬
‫اسأل‪" :‬كم عدد المتحدثين اآلخرين الذين تبقوا في هذه الفترة الزمنية؟"‬
‫تجيب‪" :‬أربعة‪".‬‬
‫أسأل‪" :‬المنافسة‪ ،‬هل سيأتي أحدهم من أجل ذلك؟"‬
‫تجيب‪" :‬سيكون هناك القليل‪"،‬‬
‫سعيت إلبراز اإلندماج من خالل انتقائي لثيابي‪ .‬فكانت الباروكة مصففة‬
‫حديثًا لكي تبدو طبيعية قدر المستطاع‪ ،‬ولم يراعِ طول تنورة طقمي الكحلي حد‬
‫ي‪ .‬لكن وبينما نسير‪ ،‬نمر على نساء يرتدين‬
‫الحشمة‪ .‬حتى إنها تكشف عن ركبت ّ‬
‫بناطي َل غير رسمية‪ ،‬كما أن بعضهن يرتدين الجينز أو البناطيل القصيرة‪ ،‬مع‬
‫قمصان قصيرة األكمام تظهر أكواعهن وذات قبات مفتوحة‪ ،‬وبشعورهن الحقيقية‬
‫التي تلمع تحت أضواء الفلورسنت‪ .‬فلم يلفت قصر تنورتي الجريء المتحدي‬
‫للشريعة انتباه أحد‪ .‬كانت مؤخرة هذه القاعة بكاملها مغطاة بستارة مخملية كستنائية‬
‫شقَّة واحدة‪ .‬يتحرك منسق الفندق برشاقة‪ ،‬فتختلط سترته‬
‫مهترئة الحافات ذات َ‬
‫الحمراء مع الستارة وتصيران وكأنهما شيئًا واح ًدا‪ .‬نطلع على منصة صغيرة‪ّ .‬‬
‫لكن‬
‫كل شيء مكتوم هنا‪ :‬خطوات سير االرجل على األرضية المفروشة بالسجاد‪،‬‬
‫هسهسة الجمهور الذي بدأ بالتجمع‪ .‬لكن تلكم النسوة يبدون منفتحات‪ ،‬إذ ّ‬
‫كن يضعن‬
‫ساقًا على ساق أو حتى يباعدن بين ركبهن‪ ،‬ويستخدمن حركات األيدي بينما يتحدثن‬
‫مع بعضهن‪ ،‬وكانت وجوههن على سجيتها تض ّج بالحيوية‪ .‬ال يمكنني حتى أن‬
‫كثيرا من النميمة أو يقلقن‬
‫أحزر كنه ما يدردشن حوله‪ .‬لكنني أظن بأنهن ال يخشين ً‬
‫حيال تزويج أطفالهن‪.‬‬
‫كثيرا‪ .‬تنظر مرافقتي إلى قامتي القصيرة‬
‫ً‬ ‫أجد أن منصة الحديث أعلى مني‬
‫وتقول‪" :‬أوه‪ ،‬إنك بحاجة للقليل من المساعدة‪ ".‬تسحب مقعدًا خشبيًا مسط ًحا‪،‬‬
‫فأرتقيه‪ ،‬فأصبح بمستوى أعلى بكثير من مستوى النظر الذي كنت أفضّل أن أكون‬
‫فيه‪.‬‬
‫ال أريد أن أمثّل حركة اللوبافيتش‪ .‬ال أريد هنا سوى أن أكون ذاتي‪ .‬أقول‬
‫ت‪".‬‬
‫لمرافقتي‪" :‬ال تقدميني‪ .‬أعني‪ ،‬اذكري اسمي فحسب‪ ،‬لو سمح ِ‬
‫تقول‪" :‬حسنًا‪".‬‬
‫عند وصولي‪ ،‬توقفت عند طاولة مليئة بالكتب‪ ،‬متوقعةً أن أجد الكتب اليهودية‬
‫الكالسيكية التي أعرفها‪ ،‬مثل إيجاد وجوه مألوفة في وسط حشد‪ ،‬لكني ً‬
‫بدأل من ذلك‬
‫وجدت كتبًا لكاتبات نسويات يهوديات لم أسمع باسمائهن من قبل‪ :‬جوديث بالسكو‪،‬‬
‫راتشيل آدلر‪ ،‬جوديث هوبتمان‪ ،‬غلوريا ستينم‪ ،‬بيتي فريدان‪ .‬نظرة خاطفة على‬
‫دواخل بعض هذه الكتب جعلتني أرى أن لغة هؤالء النساء هي لغة ال أعرفها‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬من منبري‪ ،‬أنظر إلى بحر النساء‪ ،‬وأفكر‪ ،‬ماذا فعلت؟ يجب أن أغادر‪ .‬لقد‬
‫خطوت إلى المنصة الخاطئة‪ ،‬وال أعرف الغاية من فعلي‪.‬‬
‫"أقدم لكم ليا الكس‪ "،‬تقول مرافقتي في المايكرفون‪ ،‬بصوت مرتفع مج ِفّل‪.‬‬
‫يخيّم الصمت على القاعة‪.‬‬
‫يا للمصيبة‪ .‬ال يمكنني فعل ذلك‪ ،‬وال أقوى حتى على أن أل ّمح بمعارضتي‬
‫في العلن‪ .‬يثب قلبي إلى حلقي‪ ،‬ألتقط المايكروفون وأقول‪" :‬مرحبا‪ .‬أنا ليا الكس‪.‬‬
‫امرأة حسيدية‪ ،‬امرأة ال تقبل المساومة‪".‬‬
‫علي العموم ليس من اليسير أن أخرج عن النص الذي تدربت عليه‪ .‬أتنحنح‬
‫وأتمكن من إضافة فقرة غير مخطط لها‪" .‬أنني أكن األحترام ألولئك الذين يختارون‬
‫مرت من دون‬
‫أن ينفكوا عن الشريعة عن وعي‪ ".‬لكن هذه اإلضافة العفوية الهامة ّ‬
‫أن تثير أي اهتمام كما كان الحال مع طرف تنورتي‪ .‬أقول‪" :‬أود أن أدعو إلى‬
‫حوار‪ .‬فلربما يمكنكن أن تريننا‪ ،‬نحن اليهود األرثودوكس مثل متحف حي نحافظ‬
‫على تقاليدنا القديمة ونتمسك بالدراسة الجادة لنصوصنا القديمة وقوانين شريعتنا‪،‬‬
‫بطريقة تحرر اآلخرين للذهاب إلى ما هو أبعد من الشريعة‪".‬‬
‫تباغتني يد مرفوعة‪ .‬وتقول‪" :‬أليس هذا نوعٌ من الغرور؟ لقد كانت هناك‬
‫الكثير من المنجزات المعرفية اليهودية خارج الطائفة األرثودكسية‪ ،‬وهناك حصة‬
‫كبيرة للنساء في تأليفها‪ ".‬تلك المنجزات المعرفية التي لم أكن على دراية بها‪ .‬تلك‬
‫الكتب التي وجدتها على المنضدة حين دخلت… أقول‪ً " :‬‬
‫شكرا على مداخلتك‪ .‬أعتقد‬
‫بأنني ربما كنت بحاجة لسماع هذا‪ ".‬لكن الشجاعة التي تطلبها قول هذا قوبلت‬
‫ضا بعدم االكتراث‪.‬‬
‫أي ً‬
‫ثم ترفع إحداهن صوتها من مقعدها‪" .‬كيف تستطيعين الوقوف خلف حاجز‬
‫الكنيس الذي يفصل بين الرجال والنساء؟ كيف تستطيعين فعل ذلك؟"‬
‫أبتلع ريقي‪ ،‬ثم أعود إلى ذلك المكان األنثوي اآلمن الذي تتردد فيه الهمسات‪.‬‬
‫ضا‬
‫أريدهن أن يرين ذلك المكان كما أراه أنا‪ .‬فأقول‪" :‬في قسم النساء نحن أي ً‬
‫معزوالت عن أي غواية من قبل الرجال الذين قد يتفحصوننا‪ .‬المكان أنثوي‬
‫وخصوصي‪ .‬إنه مكان آمن‪ .‬والصلوات العبرية؟ إنها تجعلني أنظر لنفسي‪.‬‬
‫فالكلمات مثل المرايا‪ ،‬حتى أن البكاء يغلبني أحيانًا‪ .‬فالمساحة تمنحني الخصوصية‬
‫الكافية ألن أفعل ذلك‪".‬‬
‫"لكنك ال تستطعين أن تحظي بأي دور قيادي في الخدمة‪ "،‬تقول المرأة‪.‬‬
‫ضا بين صفوف النساء في بعض‬
‫أقول‪" :‬أعلم ذلك‪ ،‬وربما يثير هذا امتعا ً‬
‫األحيان‪ .‬فأنا ال أستطيع التحدث بالنيابة عن كل النساء‪ .‬لكن بالنسبة لي‪ ،‬أنا ال‬
‫أرغب بتلك القيادة‪ ،‬لذا فإنني ال أفتقدها‪ .‬فالصالة عندي ممارسة بمنتهى السكون‬
‫والخصوصية‪.‬‬
‫لكنني لم أبح أمامهن بأنني لم أدخل الكنيس منذ أن هزئ ليفي من رواية‬
‫آخرا لمجموعة‬
‫سرا ً‬
‫ديبي‪ ،‬منذ أن تفاقم غضبي وفتر إيماني‪ ،‬ومنذ أن أضفت ً‬
‫أسراري‪ ،‬سر اعتداء والدي‪ .‬كما أنني لم أخبرهن بأنه ال داعي حتى أن تتجشم‬
‫نساؤنا عناء الذهاب للكنيس ألنهن يجلسن هناك كمتفرجات ال دور أساسي لهن‬
‫بالخدمة‪ .‬حتى أن ما من أحد قد علّق على انقطاعي عن الحضور‪ ،‬أقله ليس أمامي‪.‬‬
‫كما أنني أخفي عنهن أنني لم أعد أحسب القسم الخاص بالنساء مكانًا مري ًحا‪ ،‬ألن‬
‫خفوت الصالة والشعر في كتاب الصالة تجعلني بطريقة ما أنظر إلى كل شيء‬
‫أسعى إلخفائه‪ .‬لكن الكثير من األيدي ترفع اآلن‪ .‬إن الوقوف أمامهن لشعور غريب‪،‬‬
‫كما لو أنني أسمح لهن باختالس النظر إلى ما تحت باروكتي‪ .‬تعلق إحدى النساء‪:‬‬
‫"هناك فرق بين أن يختار المرء إنكار الذات وأن ينكرك األخرون‪".‬‬
‫أقول‪" :‬ال أظن بأنني فهمت قصدك‪ ".‬لكن امرأة أخرى ترفع يدها‪ ،‬فأؤشر‬
‫لها‪.‬‬
‫تقول‪" :‬ماذا لو أردتِ؟"‬
‫أسأل‪" :‬أردت ماذا؟"‬
‫ت أن تقودي خدمات الكنيس أو أن تغني بصوت مرتفع‬
‫تقول‪" :‬ماذا لو أرد ِ‬
‫هناك؟" ثم تشرح بتمهل‪" :‬إن المشكلة هي بالصمت القسري‪ .‬كيف تبررين لنفسك‬
‫إقصاءك خلف الحاجز؟"‬
‫ِ‬ ‫تجريدك من االختيار؟ كيف تبررين‬
‫"االختيار؟" ال أدري كيف اريها التيار القديم الهائل الذي ال أمثل فيه سوى‬
‫قطرة واحدة‪ .‬أقول‪" :‬ما من أحد في طائفة أرثودكسية لديه خيار حقيقي‪ .‬وهذا ليس‬
‫شأن النساء فحسب‪ .‬فالجميع في الطائفة يخضعون أنفسهم لحكم الشريعة‪ ".‬ثم‬
‫أضيف‪ ،‬وكأنني أقول فكرة جديدة‪ ،‬كما لو أنني أتحدث لنفسي‪" :‬لكن أال يمكنك‬
‫اختيار أال يكون لك خيار؟"‬
‫تجعلني الهمهات التي تتردد في القاعة بينما أقف محرجة أمام المنصة التي‬
‫تشرف عليهن أفكر بأنني ربما قد افسدت شيئًا ما وأضعت فرصة التواصل‬
‫ً‬
‫وجيزا‪ .‬لكن حينئذ ترتفع المزيد من األيدي‪ ،‬ثم تقف إحداهن‪.‬‬ ‫الحقيقي‪ ،‬مهما كان‬
‫أصفر بلون الزعفران بأكمام طويلة‬
‫َ‬ ‫صا‬
‫كانت ذات شعر أشقر طويل‪ ،‬وترتدي قمي ً‬
‫مع تنورة فضفاضة‪ ،‬فتبدو بهذه الهيئة مثل واحدة منا تقريبًا‪ .‬إنها تبدو شابة‪،‬‬
‫وبحركة خاطفة برأسها تنحي شعرها جانبًا‪ .‬تقول‪" :‬إنا زعيمة جمعية لمثليّي الجنس‬
‫ومثليات الجنس‪ ،‬كما أنني مثلية الجنس‪ .‬أخبريني‪ ،‬أين مكاني في صورتك التي‬
‫كونتها للدين؟"‬
‫ّ‬
‫أشعر أن صدري خاو تما ًما‪ .‬إرحلي من هنا‪ ،‬أقولها ولكن الكالم ال يخرج‬
‫من فمي‪" .‬أتمنى‪ "،‬أقول في المايكروفون‪ ،‬ثم اتلعثم‪" .‬ليس لدي إجابة‪ .‬أتمنى لو‬
‫أنني كنت أمتلك واحدة‪ .‬لكنني ال أعتقد بأن هناك إجابة‪ ".‬وهذا خرق آخر من‬
‫خروقاتي التي تجاسرت بها على الشريعة‪ ،‬تجاوز يمر من دون لفت أي نظر‪ .‬إذ‬
‫إن الشريعة تقول إنه دائ ًما ما يكون ثمة إجابة‪ .‬والتوراة تحوي جميع اإلجابات‪.‬‬
‫تسقط بقية تفاصيل الحدث من ذاكرتي‪ ،‬ربما ألنني مضطربة على نحو‬
‫منعني من استيعاب الباقي‪ ،‬حتى تصعد مرافقتي وتشكرني وتصفق النساء مجاملةً‪،‬‬
‫ثم يقمن‪ ،‬يراجعن برامج المؤتمر‪ ،‬يبدأن بالتحرك وتبادل األحاديث‪ .‬ثم أشق طريقي‬
‫بين الحشد‪ ،‬وأنا أشعر بأنني وحيدة وغريبة في مغادرتي كما عند وصولي‪ ،‬وربما‬
‫ً‬
‫انعزاال وغربة‪ .‬تبدأ رائحة حريتهن بالتالشي‪ ،‬وال تغيّر شيئًا من حالي‪.‬‬ ‫حتى أشد‬
‫حتى إنني ال أحاول أن أحضر بقية جلسات المؤتمر‪ .‬أنا ال أنتمي إلى هنا‪ .‬ليفي في‬
‫المنزل مع األطفال‪ ،‬ومن الضروري أن أعود إلى هناك‪ .‬أتوجه صوب الباب‪.‬‬
‫ي‪.‬‬
‫وبينما أمر تتفحصني إحدى النساء من رأسي إلى أخمص قدم ّ‬
‫وعند المخرج‪ ،‬توقفني إحداهن‪ .‬أقرأ بطاقة اسمها‪ :‬روزلين براون‪ .‬كنت قد‬
‫اعتدت على قراءة األخبار المتعلقة بالكتب في الصحيفة ‪-‬فأعرف أن روايتها‬
‫الجديدة‪ ،‬والتي عنوانها ’قبل وبعد‘‪ ،‬على قائمة النيويورك تايمز ألفضل الكتب‬
‫مبيعًا‪ .‬كانت قصيرة القامة بما فيه الكفاية ألتمكن من النظر في عينيها مباشرة‪ ،‬كان‬
‫وجهها عاطفيًا وحنونًا ومكترثًا ومنه ًكا بعض الشيء‪ .‬تتفرق النساء ويواصلن‬
‫كثيرا ما رأيته في حلمي‪ .‬تقول‬
‫ً‬ ‫المرور بجوارنا عبر أبواب أخرى في مشهد يشبه‬
‫بانتقادك في داخل القاعة‪ ،‬أليس كذلك؟"‬
‫ِ‬ ‫لي‪" :‬من المؤكد أنهن ّ‬
‫كن قاسيات‬
‫عا ما‪".‬‬
‫أتردد‪" .‬أظن بأنني َمن جلبت ذلك لنفسي نو ً‬
‫تنظر إلى بقليل من الريبة وفمها مفتوح‪ ،‬كما لو أنها تفكر‪ .‬ثم تقول لي هذه‬
‫الكاتبة الشهيرة‪" :‬أود أن أتناول معك الغداء في وقت ما‪".‬‬
‫أتلعثم قائلة‪" :‬أعتقد بأنني أرغب بذلك‪ ".‬لكنني ال أصدقها ً‬
‫فعال‪ .‬أفكر‪ ،‬سوف‬
‫تنساني بحلول الصباح‪ .‬ثم تتوقف بقربي أي ً‬
‫ضا تلك المرأة المثلية التي وقفت وتكلمت‬
‫أثناء حديثي‪ .‬كانت تنتظرني‪ .‬وسرعان ما تختفي المؤلفة الشهيرة بين الحشد‪.‬‬
‫"ماذا تريدين؟" أسأل المرأة المثلية‪ .‬نذهب لبهو الفندق ونجلس على كراس‬
‫ذهبية مجنحة‪ .‬يحمل الهواء إلى مسامعنا تصفيقا قادما من إحدى قاعات المؤتمرات‪.‬‬
‫أحاول أن أبدو مهذبة‪ ،‬ال أن أبدو متحدّيةً‪ .‬لكنني حقًا تورطت في أمر يصعب عل ّ‬
‫ي‬
‫التعامل معه وأعلم بذلك‪ .‬ال أستطيع أن أتخيل امرأة ً حسيدية في أي مكان تجلس‬
‫لتبادل الحوار مع امرأة مثلية‪ .‬لعلني أنا األولى التي تفعل ذلك‪.‬‬
‫تجيبني المرأة‪" :‬أنا ال أحتاج شيئًا‪ .‬لكن هناك الكثير من اليهود واليهوديات‬
‫المثليين الذين يحتاجون‪".‬‬
‫أجلس جلسة رسمية في وضعية التأهب والدفاع‪ .‬إنها ترغمني على أن أمثّل‬
‫طائفتي كلها وأنا ال أريد أن أفعل ذلك‪ .‬فقد جئت إلى هذا المكان ألتحدث نيابة عن‬
‫نفسي‪ .‬أصمت‪.‬‬
‫ثم تقول‪" :‬جميع الحركات اليهودية تج ّل الشريعة اليهودية إلى حد ما‪ ،‬وطالما‬
‫أن الشريعة اليهودية تنبذ الناس الذين على شاكلتي‪ ،‬فسيكون ثمة أصداء لهذا النبذ‬
‫في أماكن يهودية أخرى خارج نطاق األرثدوكسية‪ ".‬إنها هادئة وصريحة‪.‬‬
‫أصبح أكثر مرونة‪ ،‬وأقول‪" :‬ال يمكنني تغيير الشريعة‪".‬‬
‫"لكنك موافقة على الحديث معي‪".‬‬
‫أقول‪" :‬هذا صحيح‪ ".‬لكنها حينئذ كانت أول أمرأة مثلية قابلتها تكشف عن‬
‫توجهها عالنية‪ ،‬وكيف أستطيع أال أجلس معها‪ ،‬حتى لو أنني أحمي نفسي‪ ،‬وحتى‬
‫لو أنني خائفة من الطريقة التي تصنف بها نفسها كـ "مثلية" وكأن لديها حالة‬
‫مرضية ما؟ "وهل يكفي الحديث معك للتغيير؟"‬
‫تقول‪" :‬ربما الحديث‪ ،‬حديث النساء سوية‪ ،‬هو بداية التغيير‪".‬‬
‫أسئلتك‪".‬‬
‫ِ‬ ‫"لكنني ال أمتلك أي إجابات على‬
‫"ليس لبعض األشياء من إجابات‪ ".‬يسود بيننا صمت رائق‪ .‬أتنهد‪ ،‬ثم أخبرها‪:‬‬
‫ي زو ًجا‬
‫"إذن ليس هناك من مزيد ليقال‪ ".‬ولم يكن هناك المزيد‪ ،‬ما عدا أن لد ّ‬
‫ً‬
‫ومنزال وطائفة هائلة من التشريعات والتوقعات تحكم حياتي‪ ،‬وأن بشرتها‬ ‫وعائلةً‬
‫ي أال أسمح لها باالقتراب مني‪ .‬ليس هناك من شيء‬
‫تلمع وعينيها ال تكذب وأن عل ّ‬
‫ألقوله‪ ،‬سوى أن حياتي تبدو وأنا أغادر هذا المكان أكثر زيفًا مما كانت عليه حين‬
‫جئت‪ .‬أقف كما لو أنني أحمل ثِ ً‬
‫قال‪ .‬تميل لألمام‪ .‬تقول‪" :‬أنا موجودة‪ .‬ولن أختفي‪".‬‬
‫ثم أسير مبتعدة عنها‪ ،‬خطوة خفيفة‪ ،‬ثم أعقبها بأخرى‪ ،‬عبر السجادة‬
‫الكستنائية‪ ،‬حتى ال تصدر خطواتي وأنا أبتعد عنها أي صوت‪ ،‬خطوات بال وزن‪،‬‬
‫صف من المصاعد‪ .‬وأمامي تحوم صورة الغمازة الخفيفة‬
‫ٌ‬ ‫بال حقيقة‪ .‬إلى األمام‬
‫التي تقع على زاوية فمها اليمنى‪ ،‬وخلفي‪ ،‬دفق أصوات النساء وهن يخرجن بعد‬
‫ي‪ ،‬كتب ذات لغة‬
‫انتهاء أحد البرامج‪ ،‬وكذلك طاولة تغص بالكتب المحرمة عل ّ‬
‫جديدة‪ .‬ما يزال صوتها يتردد في أذني‪" :‬أنا موجودة"‪ .‬أضغط على زر المصعد‬
‫فيتوهج باللون األخضر‪ ،‬مثل اشارة أحاول أن أتجاهلها‪.‬‬
‫حالما أصل للمنزل‪ ،‬سيالحقني وجه رونا‪ ،‬وعبارتها "أنا موجودة"‪ .‬سوف‬
‫أتذكر الخوف العميق الذي انتابني عندما سمعتها تقف وتقدم نفسها كمثلية في مكان‬
‫قربني ليفي‬
‫عام‪ .‬سوف تجبرني على أن أنتبه لخيبة األمل التي أشعر بها عندما يَ َ‬
‫بعد الميكفاه‪ ،‬وإلحساس العزلة المؤلم الذي يعجز عن إزاحته‪ ،‬وكيف أنه ال يستطيع‬
‫أن يشبعني‪ .‬لن أكون قادرة بعد اآلن على تجاهل تلك األحالم األيروتيكية‪.‬‬
‫سأفعل ما بوسعي ألتجنب صورتها وصوتها‪ .‬سوف أخبر نفسي بأنني لست‬
‫عا من الحاالت المرضية‪،‬‬
‫حالة شاذة‪ ،‬وبأن ما أشعر به هو أمر اعتيادي وليس نو ً‬
‫ولذا فهو شيء ال يمكن أن يصنف‪ .‬ال أريد تصنيفًا‪ .‬لذا ماذا يعني لو أنني ال أشعر‬
‫بأي شيء ناحية ليفي‪ .‬ال يوجد تصنيف النعدام الشعور‪ ،‬لالشيء‪ّ .‬‬
‫لكن وجهها‬
‫وصوتها سيظالن يالحقاني‪.‬‬

‫في إحدى الليالي‪ ،‬يتصل ليبل بعد الساعة الحادية عشرة ً‬


‫ليال‪ ،‬بتوقيت‬
‫نيويورك‪ ،‬من هاتف عمومي يقع خارج سكن يشيفا كراون هايتس التي يدرس فيها‪.‬‬
‫أجيب الهاتف من سماعة المطبخ‪ ،‬حيث أعد طعام الساباث‪ .‬ولم يكن ليفي قد عاد‬
‫من العمل بعد‪ .‬من خالل الهاتف‪ ،‬أسمع حركة مرور السيارات وصفارة إنذار‬
‫بعيدة‪ .‬أقول‪" :‬ماذا تفعل في الخارج؟ ألم تتجاوز الوقت المحدد لعودتك؟"‬
‫يقول ليبل‪" :‬أريد أن أعود للمنزل‪".‬‬
‫أقول‪" :‬ال أظن‪ ".‬ال أريد ألطفالي أن يشعروا باالنفصال‪ ،‬مثلما أشعر‪ ،‬وأن‬
‫ينتهي بهم المطاف وهم يعيشون أكاذيب الروح‪ ،‬مثلما جرى لي‪" .‬ابقَ ‪ "،‬أقول‪.‬‬
‫"حتى تصبح حياتك طيبة‪".‬‬
‫"لقد ّ‬
‫مزق الحاخام فراشي في المهجع‪".‬‬
‫أقول‪" :‬فعل ماذا؟ بالتأكيد…‪".‬‬
‫"لقد دفعني على الحائط‪ .‬قال إنني لم أرتّب الفراش على نحو صحيح‪".‬‬
‫أقول‪" :‬فلترتبه على نحو صحيح‪ .‬اتبّع القواعد‪ ،‬وما من أحد سيسبب لك أي‬
‫مشكلة‪ ".‬ثمة حب في ذلك المكان لمن يتبعون األوامر‪ ،‬وحكمة فيما يعلمونك إياه‪.‬‬
‫يصيح‪" :‬أخرجيني من هنا‪".‬‬
‫أقول‪" :‬كال‪".‬‬
‫ى يتردد عبر جسدي‪ ،‬تصبح صوتًا في الليل‬
‫تصبح الـ "كال" التي قلتها صد ً‬
‫يبقيني مستقيظة‪ ،‬يلج في الماضي ويثب إلى المستقبل‪ ،‬ويغلف صيحة ليبل‪.‬‬

‫في أحد األيام‪ ،‬أذهب إلى فرع مكتبة موريس فرانك الذي يقع قرب منزلنا‪،‬‬
‫وهي المرة األولى التي أذهب فيها إلى هناك من دون اصطحاب األطفال‪ .‬أتخلص‬
‫من سطوع أشعة الشمس بالدخول عبر األبواب المزدوجة المنزلقة‪ ،‬عبر المدخل‬
‫الالمع‪ ،‬وأمر على أم التينية ذات عيون ناعسة تجلس على األرض مع اثنين من‬
‫أطفالها وكومة من الكتب المصورة‪ .‬إنني أكتب قصص الخيال لكني لم أعتقد لحد‬
‫اآلن بأنني قد أحتاج لقراءة األدب القصصي‪ ،‬فأنا لم أقرأ رواية واحدة منذ أن قابلت‬
‫الحاسيدم‪ .‬إنني ال أمتلك لحد اآلن فه ًما لقواعد الكتابة أو فه ًما لما قد يتطلبه صقل‬
‫قصص‪ .‬أنا أجمع شظايا‬
‫ٌ‬ ‫قصص؛ األحالم‬
‫ٌ‬ ‫الحرفة‪ .‬لكنني أعرف القصص‪ .‬فالحياة‬
‫ما أعرفه‪ .‬عالوة على أن شخصياتي في القصص هي شخصيات حقيقية للغاية‬
‫ي على لوحة المفاتيح ومشاهدتها‬
‫عندي لدرجة أن كل ما أحتاج لفعله هو وضع يد ّ‬
‫وهي تحاول أن تعيش‪ .‬لكنني أريد أن أكتب الشعر‪.‬‬

‫أعتقد أن كل كلمة في أي قصيدة يجب أن تنفذ إلى جوهر الشيء الذي‬


‫تصفه‪ .‬لكن كلما أحاول أن أكتب أكثر‪ ،‬يزداد سمعي لنبرة التضليل والوعظ‬
‫المتواصلين بين أوساط المؤمنين‪ .‬لكني ال أفهم الرابط بينهما‪.‬‬
‫عا‬ ‫فعال للصدق الخام‪ً ،‬‬
‫فعال شجا ً‬ ‫إنني أعتقد بأن كتابة القصيدة يجب أن تكون ً‬
‫وحقيقيًا‪ .‬وأظن أن القصيدة الحقيقية يجب أن تستأثر بانتباهي وشعوري من دون‬
‫ي كيف أصغي وماذا أشعر‪ .‬أنا ال أريد وعودًا بالخلود بعد اآلن؛ ال‬ ‫أن تملي عل ّ‬
‫أريد سوى أن أكتب قصائ َد تجعل ذاتي منفتحة لتكون إنسانًا‪ .‬لكن المشكلة هي أنني‬
‫أفشل رغم محاولتي‪ .‬وأظن بأنني ربما أحتاج إلى أن أقرأ الشعر المنشور ألرى‬
‫كيف يتم إنجازه‪.‬‬
‫ضا عن الباروكة‪ ،‬أرتدي ً‬
‫شاال يظل ينزلق للخلف‪ ،‬كاشفًا للضوء بوصات‬ ‫عو ً‬
‫من شعري‪ .‬من الغريب‪ ،‬أفكر‪ ،‬أن البوصتين المكشوفتين من شعري يعرضانني‬
‫في الطائفة لنميمة أشد خطورة مما يجلبه وجودي في المكتبة‪ .‬فقلة قليلة من الناس‬
‫من تهتم بالثرثرة عن امرأة تقرأ كتبًا علمانية‪ -‬الناس قليلو القيمة هم من يقرؤون‬
‫ي أطفالها على أن يكونوا حسيديين على النحو‬
‫األدب قليل القيمة‪ -‬ما دامت ترب ّ‬
‫الصحيح وتحرص على بقاء زوجها نقيًا من التأثير‪ .‬وهذا يعني‪ ،‬أفكر وابتسامة‬
‫ترتسم على وجهي‪ ،‬أنني أنتفع من "حرية" كوني أمرأة‪.‬‬
‫أجد مكان القسم الخاص بكتب الشعر‪-‬وهو يتألف من رفين مغبرين في نهاية‬
‫صف يقع في قاع الكومة‪ -‬ثم ألقي نظرة على الممر‪ .‬بجوار أكوام الكتب ثمة‬
‫عارضة دوارة للدوريات‪ ،‬وخلفها أربعة كراس من الفينيل يجلس على أحدها رجل‬
‫عجوز يضيّق أجفانه في صحيفته بمساعدة نظارة‪ .‬ومقابله يجلس رجل آخر‪ .‬يبدو‬
‫أشعث الشعر‪ ،‬ربما يكون منكوبًا‪ ،‬أو متشردًا‪ .‬كان نائ ًما وفمه مفتوح‪ ،‬والمكتبة له‬
‫بمثابة ملجأ‪ .‬تنتفخ تنورتي حولي بينما أنزل على األرض‪.‬‬
‫بعد نصف ساعة‪ ،‬أجدني قد نثرت الكتب حولي على أطراف تنورتي‪ ،‬وعلى‬
‫األرض‪ ،‬وعلى الرف السفلي‪ ،‬ولم يكن في ذلك مشكلة ألن ما من أحد سار عبر‬
‫الممر‪ .‬ال أعرف شيئًا عن الشعر الذي أختاره أو الشعراء الذين كتبوه‪ .‬فأقوم ببساطة‬
‫باختيار الكتب التي تخاطبني‪ :‬كتب إليزابيث بيشوب وغيرترود شتاين وآمي‬
‫كالمبت وماكسين كومن وتشارلز رايت وموريل روكيسر وروبرت لويل وسيلفيا‬
‫بالث وريتا دوف وأدريان ريتش‪ .‬أدرك أن ج َّل إختياراتي هي أصوات نسائية‪،‬‬
‫رغم إنني ال أستطيع أن أشرح سبب ذلك‪ .‬أعرف بأنني سوف أعود من أجل كتب‬
‫ي العودة لألطفال‪ .‬أستعير الكتب وأغادر المكتبة‬
‫أخرى‪ ،‬لكن لم يتبق لدي وقت وعل ّ‬
‫صوب سيارتي الفان وذراعاي محملتان بالكتب‪.‬‬
‫بعد أن يعود األطفال من المدرسة‪ ،‬تأتي ليبي لتراني فتجدني مستلقية على‬
‫أعوض كل السنوات التي‬
‫سريري‪ ،‬تائهة في أحد الكتب‪ .‬أتساءل كيف يمكنني أن ّ‬
‫لم أقرأ فيها‪ .‬أرفع بصري وأحدق بنظرة فارغة ال ترتكز إلى الزمان والمكان‪،‬‬
‫لكنها ما تزال ضمن محيط رؤيتي‪" .‬أمي؟" تقول ليبي‪ .‬عندما أسمعها بالفعل وأرفع‬
‫بصري‪ ،‬عندما أراها بالفعل‪ ،‬ينتابني شعور مؤلم بالندم مثل شعور الفراق‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬أقرأ في حوض االستحمام فيما يصبح الماء باردًا واألطفال يطرقون‬
‫على الباب‪ .‬أقرأ في السرير‪ ،‬لكنني أجد الكتاب ملقيًا على األرض‪ ،‬والصفحات‬
‫مثنية‪ ،‬عندما أستيقظ قبل حلول الصباح‪ .‬التقط الكتاب من على األرض‪ ،‬وأحاول‬
‫أن أعدّل الصفحات المتجعدة‪ .‬سوف أصبح آفة عديمة الوجه على أمناء المكتبات‪.‬‬
‫أنهض في البيت المعتم ألتجول‪ ،‬وأتساءل‪.‬‬

‫حب كاف‬
‫لقد ظننت أن األحالم‪ ،‬الرؤى‪ ،‬الشياطين‪ ،‬ستختفي إن كان هناك ٌ‬
‫يقضي عليها‪.‬‬
‫‪-‬سيلفيا بالث‬

‫دعها تكون‪ ،‬دعها تكون‪ ،‬دعها تكون‪ ،‬لتكون خجولة‪ ،‬دعها تكون‪ ،‬لتكون‪،‬‬
‫دعها تكون‪ ،‬لتكون‪ ،‬دعها تحاول‪.‬‬
‫دعها تحاول…‬
‫‪-‬غيرترود شتاين‬

‫لو كان الذهن صافيًا‬


‫ولو كان الذهن بسي ً‬
‫طا فيمكنك أن تأخذ هذا الذهن‬
‫هذه الحالة الخاصة وتقول‪:‬‬
‫هكذا سوف أعيش إن استطعت االختيار؛‬
‫ٌ‬
‫ممكن‬ ‫هذا ما هو‬
‫ّ‬
‫لكن ذهن المرأة التي تتخيل كل هذا‬
‫الذهن‬
‫الذي يسمح لكل هذا أن يكون ممكنًا‬
‫ال يعمل بمنأى عن الذنب بسهولة‪.‬‬
‫‪-‬أدريان ريتش‬

‫عندما ننتمي إلى العالم‬


‫نصبح ما نحن عليه‬
‫‪-‬آن ستفنسون‬
‫الفصل السابع عشر‬

‫يوليو ‪ .1993‬بعد شهور من اغتنام بعض األوقات التي سنحت لي بين‬


‫واجباتي األمومية‪ ،‬لقراءاتي وكتاباتي‪ ،‬ها أنا أقف إلى جانب والدي في وحدة‬
‫المصابين بالخرف في دار رعاية ’غولدين أيكر‪ .‘Golden Acres .‬اتصلت بي‬
‫أختي الصغيرة آمي للمجيء إلى هنا‪ ،‬آمي التي أصبحت امرأة متّزنة هي الوحيدة‬
‫من بيننا التي ما تزال في المدينة لتهتم بأبينا‪ .‬كانت الغرفة التي يرقد فيها ذات‬
‫ستائر من الفينيل األبيض وجدران بيضاء فارغة‪ ،‬واحتوت على خزانة أدراج‬
‫فارغة تجسد بتصميمها‪ ،‬بشكل ما‪ًّ ،‬‬
‫كال من السعّة العملية وحتمية الزوال‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى مصباح بجانب السرير ذي لمبة خافتة يتساوى وجوده مع عدمه‪ .‬وكانت الغرفة‬
‫بأثاثها باردة وتفتقر ألي لمسة تميّز وكأنها غرفة في نزل على جانب الطريق‪.‬‬
‫السرير خال‪ ،‬والبطانية مفروشةٌ على السرير‪ .‬أبي يرقد على فراش على األرض‬
‫بعد أن سقط عن سريره مرتين‪ .‬أنهم ال يؤمنون بفائدة استخدام درابزين السرير‬
‫في دار الرعاية هذا‪ .‬إنها سياسة المكان‪ ،‬وهذا ما يؤدي إلى تعريض النزالء لألذى‪.‬‬
‫يبلغ أبي من العمر واحدًا وسبعين عا ًما‪ ،‬لكنه يبدو في التسعين‪ .‬إنه يشخر‬
‫طوال إحدى نوبات فقدان الوعي القصيرة التي تغشاه‪ .‬كانت هناك كدمة خضراء‬
‫أرجوانية على وجهه وأخرى على ذراعه‪ ،‬وعلت الكدمات بق ٌع من الدم المتيبس‬
‫جف‪ ،‬فقد كان مرق ً‬
‫شا‬ ‫المتقشر‪ .‬يبدو جلده مثل منديل ورقي مبلل تمطط عليه ثم َّ‬
‫ببقع صفراء‪ ،‬رمادية‪ ،‬رقيقًا يشف عما تحته‪ ،‬ومجعدًا على نحو دقيق‪ .‬كان جلده‬
‫المكومة عليه بالكاد تغطيه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتشقق‪ ،‬فهو يعاني من قرح الفراش‪ .‬وكانت البطانية‬
‫صفرتين وحافيتين‪ ،‬متورمتين إلى حد ال‬
‫فتبرز قدماه خارج الغطاء‪ .‬كانت قدماه م ّ‬
‫يمكن معه ألي جورب أن يسعهما‪ .‬يبدو أن أقدامه تموت قبله‪ .‬إن أبي يموت على‬
‫دفعات‪.‬‬
‫في الحقيبة التي ألقيتها على أحد الكراسي ثمة مؤلَف لماكسين كومين‪ .‬وكم‬
‫كنت ألتفاجأ لو أنني سمعت أن شعر كومين يصنف على أنه شعر سياسي‪ ،‬هذا‬
‫شعرا شخصيًا إلى‬
‫ً‬ ‫ناهيك عن جهلي التام بسياستها النسوية‪-‬إذ إنني وجدت ما قرأته‬
‫حد عميق‪ .‬أقضي وقت االنتظار أثناء نوم أبي بالجلوس‪ ،‬أغتنم الوقت للقراءة‪ ،‬حتى‬
‫أصل إلى مقطع يقول "لقد أنهكني تاريخ الخسارة هذا"‪.‬‬
‫يغلبني اإلعياء‪ .‬أجلس وأشاهد جسده النائم وبداخلي غضب فاتر بال معالم‪،‬‬
‫ّ‬
‫لكن الوالد الذي كنت ألهجم عليه بتلك السطور قد رحل‪ .‬أستكمل القراءة‪ :‬أي طبل‬
‫أقرع لكي أصل إليك؟‬
‫يستيقظ أبي على حين غرة ويبدأ التمتمة التي تصلني بشكل همهمة خفيضة‬
‫وأقرب أذني من‬
‫ّ‬ ‫منتظمة ال تختلف عن صوت َجرش األسنان‪ .‬أقف‪ ،‬وأنحني فوقه‪،‬‬
‫فمه‪ ،‬ألكتشف أن ما ينساب من فمه هي عبارات بال معنى مستمدة من صور‬
‫الطفولة‪ ،‬كما لو أنه يقوم بتحميل فترة حياته‪ ،‬وتفريغها‪ ،‬كمن يقوم حقًا بتهيئة نفسه‬
‫للموت‪" .‬أيها اللص‪ "،‬أغمغم‪ ،‬فيما تنتابني نوبة من مشاعر الشفقة والحب القديم‪.‬‬
‫"لص" ألنه استحوذ علي األب الذي كان يمكن أن يكون وخبأه في داخله‪ ،‬األب‬
‫سرقت براءتي‪ ،‬وطفولتي والهواء الذي اتنفسه‪ .‬عندما تموت‪،‬‬
‫َ‬ ‫الذي سرقه منا‪ .‬لقد‬
‫هل سيختفي صوت جرش األسنان نهائيًأ؟ ورغم ذلك ارتأيت أن أبيت في وحدة‬
‫الرعاية ألكون بقربه عند حلول الساباث‪ ،‬والذي سيكون سبته األخير حسبما‬
‫أخبروني‪ .‬أضع راحتي برفق على جبهته‪.‬‬
‫من إحدى الغرف التي تقع على الجانب اآلخر من محطة الممرضات تطلق‬
‫إحدى النسوة صرخة عالية مج ِفلة‪ .‬وبعد بضعة دقائق‪ ،‬تعيد الكرة وتطلق صرخة‬
‫أخرى‪ .‬ثم أخرى‪ .‬تمتزج الصرخات المتواترة ضمن مشهد المكان‪ ،‬فتختلط بضجيج‬
‫التلفاز في بهو المستشفى وبصوت إحدى المعاونات التي تتحدث في نهاية الممر‬
‫إلى أحد المرضى الموجودين على مقربة من مصدر الصرخة‪ .‬أحضّر الشموع‬
‫على جانب سرير أبي‪ ،‬ثم أشعلها وأنا أردد بركة الساباث‪ .‬يغيب أبي عن الوعي‬
‫ويستردّه‪ ،‬لذا أستوي على المقعد الموجود إلى جانب سريره ألقرأ وأفكر على ضوء‬
‫الشموع‪ .‬يرتجف اللهب ويعلو‪.‬‬
‫تط ّل علينا إحدى الممرضات‪ .‬كانت ضئيلة البنية في منتصف العمر‪،‬‬
‫صبرا واستيا ًء في اآلن ذاته‪" .‬أوه يا عزيزتي!"‬
‫ً‬ ‫ووجهها األسمر المدّور يحمل‬
‫تقول وهي ت ِلج إلى الغرفة وتنفخ على الشموع إلطفائها‪.‬‬
‫تقول‪" :‬ال يمكنك أن تفعلي ذلك‪ .‬هكذا تقول القوانين‪".‬‬
‫أقول‪" :‬حسنًا‪ .‬أنا أعرف القوانين‪".‬‬
‫"هيرب!" تنادي‪ ،‬ثم تميل حتى تصبح قريبة من وجه والدي‪" .‬لقد حان وقت‬
‫تناول الطعام‪".‬‬
‫تأتي خلفها إحدى المعاونات وهي تدفع مقعدًا منبسطا ذا عجالت‪ ،‬ثم ترفع‬
‫االثنتان جسده الذي نتئت عظامه وتضعانه فيه‪ .‬نؤلف موكبًا غريبًا‪ ،‬أبي في مقعده‬
‫المنبسط كأنه عرش‪ ،‬والممرضة‪ ،‬وأنا في حلّة الساباث ومن ضمنها الباروكة التي‬
‫تقيني مثل درع‪ ،‬والمعاونة الحائمة حولنا ذات الوجه البشوش مثل بشاشة وجه‬
‫معلمة حضانة‪ .‬نجتاز محطة الممرضات ذات اإلضاءة الفلورية والمزيد من‬
‫البشاشة التلطيفية الزائفة ونمر على مساحة البهو المخصصة للزوار التي وضعت‬
‫نمر على الباب الفوالذي المزدوج‬
‫فيها أريكتان مغلفتان بالفينيل األحمر وتلفاز‪ ،‬ثم ّ‬
‫المقفل الذي لم يعد له أهمية لحبس والدي خلفه‪ ،‬وإنما أصبح مفيدًا في إبقاء العالم‬
‫بعيدًا‪ .‬نذهب إلى مؤخرة وحدة الرعاية‪ ،‬حيث تج ّمع المرضى اآلخرون في مساحة‬
‫مفتوحة وضعت فيها ثالجة‪ .‬كان هناك موظفان آخران‪ ،‬وامرأة تتحدث الروسية‬
‫بنبرة ناعمة هادئة إلى امرأة نحيفة محدودبة تتعهدها بالرعاية‪ .‬تناديها "أمي"‬
‫وتلقمها الطعام المهروس في فمها‪ ،‬وهي تقوم بذلك بحنان بالغ‪ ،‬كما لو أن قيامها‬
‫بهذا هو كفارة طوعية تؤديها بامتنان‪ ،‬أجر سداد زهيد تردّه ألمها يوميًا‪ .‬وبمقارنة‬
‫نفسي مع تلك المرأة‪ ،‬لست سوى محتالة بكل ما للكلمة من معنى‪ .‬فلماذا أحرص‬
‫أش ّد الحرص على إطعامك عندما ال ترغب بذلك‪ ،‬أبتاه‪ ،‬كما لو أنني أحتاج إلبقائك‬
‫على قيد الحياة؟ يتذوق الطعام المهروس بلسانه‪ ،‬يشيح بوجهه‪ .‬ال أمل يرتجى‪.‬‬
‫نعود إلى الغرفة‪ ،‬ويعود أبي إلى فراشه المفروش على األرض‪ ،‬وياقة منامته‬
‫ملطخة بآثار الطعام كاألطفال‪ ،‬أصبّ النبيذ األحمر الحلو في كوب ورقي‪ ،‬أرفع‬
‫الكوب أمامه‪ ،‬أقابله وأغني على الخمر صالة تقديس الساباث‪ .‬عندما يسمع غنائي‪،‬‬
‫يتقهقر إلى الطفولة‪ .‬يندمج الوعي بالذاكرة ويصيران شيئًا واحدًا‪ ،‬يجيء ويذهب‪،‬‬
‫بين الحاضر والماضي‪ ،‬على الرغم من أنهما يتالشيان‪ ،‬وعلى وشك الرحيل‪ .‬فتغدو‬
‫كأس والده‬
‫َ‬ ‫الشمعة المنطفئة خلفي شمعدانَ أ ِ ّمه الفضي‪ ،‬ويصبح كوبي الورقي‬
‫الالمع الموضوع على مائدة الساباث‪ .‬يتمتم معي بكلمات الساباث الذي يستقيها من‬
‫تلك الذاكرة‪ .‬في اليوم السادس أنجزَ الرب عم َله‪ ،‬واستراح في اليوم السابع من‬
‫جميع عمله الذي عمل‪ .‬من جميع عمله الذي عمل‪.‬‬
‫بعد منتصف الليل‪ ،‬يسود الغرفةَ المعتمة هدو ٌء غريب في هذا المكان الشبيه‬
‫بالمستشفى‪ ،‬فليس ثمة طنين يصدر عن شاشة مراقبة نبضات القلب وال من تفقد‬
‫ليلي إلعطائه األدوية أو لقياس حرارته‪ ،‬فما من جهود تبذل في سبيل إبقائه على‬
‫قيد الحياة‪ .‬أسير إلى محطة الممرضات‪ .‬تستلم ممرضات المناوبة الليلية أعمالهن‪.‬‬
‫"أنا ابنة هيرب‪ ،‬وأبيت الليلة هنا" أقول للممرضة الليلية‪ .‬كانت الممرضة ذات يدين‬
‫كبيرتين ماهرتين‪ ،‬وشعر قصير أصفر مصفف على هيئة تموجات مثبتة يبدو‬
‫مظهرها كحقل ذرة‪.‬‬
‫تقول‪" :‬أوه نعم‪ ،‬هيرب‪ ،‬لقد حلقت له حالقة جيدة قبل أن أنصرف‪ .‬ألم‬
‫تالحظي؟"‬
‫لك‪ .‬لم يكن يغيب عن الوعي على هذا‬
‫شكرا ِ‬
‫ً‬ ‫أقول‪" :‬أممم‪ ،‬نعم الحظت‪،‬‬
‫النحو منذ فترة طويلة‪ ،‬أليس كذلك؟"‬
‫تقول‪" :‬أوه‪ ،‬كال‪ .‬يبدو أن هذا الخرف قد داهمه على حين غرة‪ .‬لقد كنا نتبادل‬
‫َ‬
‫أحاديث طيبة‪".‬‬
‫كثيرا عن القدوم‪ ".‬ربما عن قصد‪" .‬هل قام ذات‬
‫ً‬ ‫اقول‪" :‬يبدو أنني تقاعست‬
‫بإخبارك بـ… ببعض القصص؟"‬
‫ِ‬ ‫مرة‬
‫ستبقى هذه اللحظة عالقةً في ذاكرتي‪ :‬نتطلع إلى بعضنا ونحن نتشارك التوقع‬
‫الف ّج بأنه سيموت قريبًا‪ .‬ثم تقول‪" :‬ربما من األفضل أن أخبرك‪".‬‬
‫"بِ َم ستخبرينني؟"‬
‫تقول‪" :‬حسنًا‪ ،‬في إحدى الليالي قبل أسبوعين تقريبًا‪ ،‬كان يعاني من األرق‪،‬‬
‫ي‪،‬‬
‫لذا فقد أخرجته بكرسيه المتحرك إلى هنا‪ ،‬حيث بإمكاني أن أبقيه تحت ناظر ّ‬
‫فقال لي‪’ :‬دارا؟‘ فقلت له‪’ :‬ماذا؟‘ فقال‪’ :‬ألديك أطفال؟‘‪ .‬فأجبته‪’ :‬طبعًا‪ ،‬هيرب‪ ،‬لدي‬
‫َ‬
‫ثالث فتيات جميالت‪ ،‬وأنا آذيتهن‪.‬‬ ‫طفالن‪ ،‬ماذا عنك؟‘ فقال لي‪’ :‬لقد منحني الرب‬
‫إياك وإلحاقَ األذى بأطفالك‪ ".‬تتوقف عن الكالم وتز ّم‬
‫آذيتهن على نحو بالغ السوء‪ِ .‬‬
‫مثيرا للفضول؟"‬
‫ً‬ ‫شفتيها ثم تردف قائلة‪" :‬حسنًا‪ ،‬ألم يكن ذلك ً‬
‫أمرا‬

‫تقول الشاعرة كومين‪" :‬أن تكون عقالنيًا يعني أن تطفئ النور‪" ".‬أال ترى‬
‫يا أبي" أتحدث مع جسده النائم حين أعود للغرفة‪" ،‬لقد محيتك منذ زمن طويل‪،‬‬
‫واآلن ال أستطيع البكاء على شي محيته" ّ‬
‫لكن الحقيقة هي أنني حاولت إطفاء الضوء‬
‫كثيرا من المرات‪ ،‬لكن صورته ظلت تتوهج في الظلمة‪ .‬ثم تضيف الشاعرة "أن‬
‫ً‬
‫تكون عقالنيًا يعني أن تنسى‪ ".‬أتساءل في سري‪ ،‬كم من الحب الذي سعيت ألن‬
‫لك‪ ،‬أبتاه؟ كما لو أنني‬
‫أستجمعه لل َحبر وللرب وحتى لليفي كان في الحقيقة مقد ًّرا َ‬
‫قد تركت مثقلة بالحب الذي لم يكن بوسعي حمله ورحت أبحث عن مكان آخر‬
‫ي ح ّد كانت الصورة التي ّ‬
‫كونتها لنفسي عن الربّ مؤلفة مما‬ ‫أضعه فيه‪ .‬إلى أ ّ‬
‫أنت عليه؟ لكن ما من إيمان مختلق وما من أب بديل يمكن أن يحل‬
‫تمنيت أن تكون َ‬
‫محل ما كنتَه أو ما كان يمكن أن تكونه‪ .‬حب أبيك‪ ،‬أفكر‪ .‬يا له من عبء غريب‬
‫الهيئة‪.‬‬
‫لكنني ال أستطيع أن أقول ذلك‪ .‬ال أستطيع أن أقول إنني "أحب" هذا الرجل‬
‫المتورم المجنون ذا الياقة الملطخة بالطعام كاألطفال‪ ،‬بأنفاسه ذات الرائحة الالذعة‪،‬‬
‫ورأسه الذي يترنح عن رقبته التي أصابها االرتخاء‪ ،‬وفمه المنفرج‪ .‬أقول له‪" :‬انظر‬
‫إلى حالك‪ ".‬ش َوا ٌل مفرغ‪.‬‬
‫يستيقظ‪ .‬يقول‪" :‬ليزا! ليزا!"‬
‫وعلى الفور‪ ،‬أصبح ليزا مجددًا‪ .‬طفلة مفعمة باألمل‪ .‬أتحرك من كرسيي‬
‫نحوه‪ ،‬وأقول ناشجةً‪" :‬أبي؟"‬
‫ي أن أذهب!‬
‫يهز ساقيه الواهنتين ويحاول أن يلوح بذراعيه‪ ،‬ويقول‪" :‬عل ّ‬
‫ي أن أصل في الساعة الثانية!"‬
‫عل ّ‬
‫ي‬
‫أمد يدي إليه ألسحبه من األمواج‪ ،‬لكنني ال أستطيع إيقافها أو إيقافه‪ .‬عل ّ‬
‫أن أشاهد‪ .‬ال أمل‪.‬‬
‫عة‪ .‬أضع يدي على‬
‫شر َ‬ ‫ً‬
‫بدال من سحبه‪ ،‬أرتمي مجددًا في أحضان الطقس الم َ‬
‫ذراعه كما يفعل الحسيديون عند التعاطف وأنشد صالة اسمع يا إسرائيل‬
‫"‪ "Shemaaa, yisraael,‬إنها نفس الصالة التي أنشدها معي ذات مرة قبل أن‬
‫ضا اعتراف ما قبل الموت‪ .‬أنحني عليه وأش ّم رائحة موته‬
‫أخلد للنوم‪ ،‬والتي تعد أي ً‬
‫وأغني في إذنه المحتضرة هذا االعتراف األخير‪-‬اعترافي‪ ،‬وليس اعترافه‪.‬‬
‫ومرة أخرى‪ ،‬تخرج الكلمات العبرية التي كان يرددها في أيام الطفولة مع‬
‫فقاعات من فمه‪ .‬يتمتم "‪."Adonoi, Echad‬‬
‫لكنني أعود إلى يوم زفافي‪ .‬تعلو الموسيقى‪ ،‬والعريس ليفي يقترب مني‬
‫سل وأرفع‬
‫ليسدل طرحتي‪ ،‬وعلى جانبيه يقف والدانا الشابّان‪" .‬أبي؟ الكلمات؟" أتو ّ‬
‫نظري إلى والدي وليس إلى العريس‪ ،‬مستجديةً مباركة أبي األخيرة قبل أن أدفن‬
‫كلينا‪ .‬يميل أبي نحوي ببدلته األنيقة وعطره المألوف‪ ،‬فتجتاحني موجةٌ من مشاعر‬
‫خائف‪ ،‬وال يتمكن من تذ ّكر الكلمات السحرية‪ .‬وعو ً‬
‫ضا عن‬ ‫ٌ‬ ‫الحاجة واألمل‪ .‬لكنه‬
‫الكلمات‪ ،‬يقبّل جبهتي‪ ،‬ويتركها مبتلة‪ .‬ثم يدنو ليفي ويغطي جرح قبلة والدي‬
‫بالطرحة‪ .‬هذه القبلة األخيرة من والدي التي تشعرني بالخزي ستكون المرة األخيرة‬
‫التي أنظر فيها إلى الجرح المسمى أبي‪ .‬لغاية اآلن‪ .‬لغاية لحظة التخلي هذه‪ ،‬أغني‬
‫لوالدي المحتضر‪ .‬اسمع‪ ،‬يا إسرائيل‪ ،‬الرب إلهنا‪ ،‬الرب واحد‪ .‬مبارك اسم مجد‬
‫مملكته دائ ًما وأبدًا‪.‬‬
‫هيوستن‪ ،‬الحادي والعشرون من يونيو‪ .1993 ،‬انتظرت رحيله‪ ،‬لكنني‬
‫ّ‬
‫يرن الهاتف‬ ‫اضطررت للعودة إلى المنزل‪ ،‬إلى أطفالي‪ .‬اآلن‪ ،‬وبعد ثالثة أيام‪،‬‬
‫إلبالغي بنبرة باردة بما هو مستحيل‪ ،‬وبديهي‪ ،‬مقرونًا بمجاملة تقديم العزاء‪ ،‬وبأن‬
‫والدي قد توفي‪ .‬أتلقى هذا التعقيد المفاجئ في حياتي كما لو كان غير متوقع‪ .‬كان‬
‫ليبل في المنزل متمتعًا بإجازة الصيف من اليشيفا‪ .‬أما الستة اآلخرون فيحومون‬
‫في أرجاء المنزل‪ .‬ثمة وجبات طعام وتنظيف وتنظيم سير األمور المنزلية‪ ،‬لكن‬
‫ي أن أعود إلى داالس حيث‬
‫ي أن أذهب إليه‪ .‬إنه يحتاجني‪ ،‬عل ّ‬
‫والدي قد توفي‪ ،‬وعل ّ‬
‫والدي‪.‬‬
‫أهرع إلى علبة المجوهرات في حمامي‪ ،‬نفس العلبة الزجاجية المطوقة‬
‫بالزخرفة الذهبية والتي كانت موضوعة ذات مرة على منضدة التزيين حين كانت‬
‫أمي تثبت طرحة الزفاف على رأسي‪ .‬أنقّب فيها عن سلسلة مصنوعة من أحجار‬
‫مصقولة متنوعة والمعة وذات أشكال صغيرة غير محددة‪ ،‬كانت تلك القالدة هدية‬
‫ي بعد سنوات من زفافي‪ ،‬بعد أن بدأ عالج الليثيوم بمنحه‬
‫من والدي أرسلها إل ّ‬
‫فرصة أخرى‪ .‬في ذلك الوقت ألقيت بالقالدة هنا باستهانة‪ .‬وفي هذه اللحظة أسحب‬
‫القالدة وأصبعي يالمس الحجر األول‪ ،‬وهو حجر باللون الوردي الضارب إلى‬
‫الرمادي‪ ،‬المع ويمنح األمل‪ ،‬ثم الحجر الالحق‪ ،‬وهو أبيض اللون مخلوط بشوائب‪،‬‬
‫ثم الحجر الذي يليه‪ .‬كل واحد من هذه األحجار بارد وناعم وذو أبعاد غير متناظرة‬
‫خاصة به‪ .‬اوقع السلسلة على راحتي‪ ،‬الحجارة الباردة مثقلة بالقصص المخبوءة‪،‬‬
‫ي‪ .‬أنتحب‪ .‬للحظة واحدة‪ ،‬يغمرني‬
‫ثم أشدد عليها قبضتي في نوبة من الحزن الجل ّ‬
‫وأخيرا ال أريد أن أتجنب الحزن‪ .‬أرتجف‪ ،‬يغمرني االحتياج اليه‪ ،‬فأضع‬
‫ً‬ ‫حبه لي‪،‬‬
‫القالدة حول عنقي وأقفل مشبكها‪.‬‬
‫ثم أختنق‪ ،‬فأتحسس قفل القالدة لفتحها وال أستطيع أن أخلعها سريعًا كما‬
‫يجب‪.‬‬

‫ما الذي كنت سأفقده لو ّ‬


‫أن والدي رحل منذ طفولتي؟ ال أدري كيف أقيم عليه‬
‫الحداد‪ ،‬إنه ثقب في حياتي‪ .‬وال يمكنك أن تردم ثقبًا‪.‬‬
‫ليت ديني وهبني مكانًا أضع فيه الحزن الذي ال يستحقه‪ً ،‬‬
‫بدال من التأكيد‬
‫على أنه لم يمت حقًا وأن المسيا سيجيئ‪ ،‬ووالدي سيعود‪ .‬ليتني أستطيع أن ألجأ‬
‫للرب وأقول له‪ ،‬أنك تتحمل المسؤولية عن موته‪ ،‬كما عن حياته‪ ،‬كيما أستطيع أن‬
‫بأنك تتحمل‬
‫أحاول فهم هذا الغضب الذي يعجزني‪ .‬هذا الحب المريع‪ .‬ثم سأؤمن َ‬
‫ضا‪ .‬لعلني حينها لن أحتاج ألن أتشبث بكل جزء من الحياة‬
‫المسؤولية عن موتي‪ ،‬أي ً‬
‫بمثل هذا الخوف‪ .‬ربما حينها سأكون قادرة على المضي قد ًما‪ .‬لكننا نصلي باستخدام‬
‫كلمات قديمة كتبت لنا‪ -‬وال أعرف كيف أستخدم كلمات خاصة بي ألتحدث إلى‬
‫ربنا الحسيدي‪.‬‬
‫ليتني أستطيع أن أرى طقوس الحداد القادمة كتعبير بليغ عن نحيبي الصامت‪،‬‬
‫وطريقة ألعرف حزني‪ً .‬‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬ستحاوطني الطائفة عما قريب باألطعمة‬
‫التي تنكر الموت وبالقناعات المهموسة‪ :‬بأننا سوف نجلب المسيا عبر التفاني‪ .‬وأن‬
‫الموت ليس أزليًا‪ .‬فال تحزني‪.‬‬
‫ليتني أحظى بالشجاعة ألتقبل بأنني أفتقد والدي المجرم‪.‬‬
‫أعيد القالدة إلى العلبة‪ ،‬غير أنني في هذه المرة ال أدفنها تحت باقي القطع‪.‬‬
‫أضع القالدة أعلى كل شيء كي يتسنى لي رؤيتها عبر زجاج العلبة‪.‬‬
‫أجري إلكمال الواجبات المنزلية وأسرع لمتجر البقالة‪ ،‬حيث أمأل ثالث‬
‫وتكرارا صدى رنة‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫عربات إلى آخرها‪ ،‬وفي غضون ذلك يتردد في رأسي‬
‫ً‬
‫جاعال كل ما حولي يبدو بعيدًا‪:‬‬ ‫صنج قديم‪ ،‬ومثل نداء كاهن للصالة‪،‬‬
‫مثل صوت َ‬
‫ي أن أذهب إلى داالس‪ .‬أنا في المطبخ‪ّ ،‬‬
‫أفرغ األكياس وأصف علب التشيريو‬ ‫عل ّ‬
‫ومعلبات التونا والذرة والبازالء في الخزانة‪ .‬وأضع التفاح والموز والخس‬
‫والطماطم والبصل األخضر والجبنة والبيض والزبادي والحليب في الثالجة‪ .‬بينما‬
‫تراود ذهني كلمات سيلفيا بالث‪ :‬أبي‪ ،‬لقد اضطررت إلى قتلك‪ .‬لقد َّ‬
‫مت قبل أوانك‪.‬‬
‫لطالما حميت أطفالي من والدي‪ .‬لن أجردهم اآلن من تلك الحماية‪ .‬إنني‬
‫أستطيع أن أخلق عالمهم بكلماتي‪ :‬تناولوا الطعام الحالل‪ ،‬وقولوا بركاتكم‪،‬‬
‫وستكونون محميّين من األذى‪ .‬اخدموا الرب ببهجة‪ .‬أمكم على ما يرام‪ .‬وجدكم‬
‫كان رج ًال صال ًحا‪.‬‬
‫أسرع نحو غرفة نومنا الواقعة في مؤخرة المنزل وأقفل الباب‪ ،‬أتشبث‬
‫بالطقوس‪ ،‬وما أرى من أرضية متينة سواها‪ .‬يقول متعهد الدفن عبر الهاتف‪،‬‬
‫بصوت موزون على التوليفة الصحيحة من التلطيف والتعاطف المتصنع‪" :‬أجل‪،‬‬
‫إننا ملّمون بطريقة الدفن اليهودية‪ .‬يوجد لدينا شومير متفرغ؛ لن يترك الجثمان‬
‫وحيدًا‪ ".‬وهو رجل مستأجر مجهول الهوية سيهمس بالمزامير طوال الليل قرب‬
‫جثمان أبي بدافع االحترام لحياته المقدسة‪.‬‬
‫"تابوت مصنوع من الصنوبر الخالص؟"‬
‫يقول‪" :‬أجل‪ .‬تابوت غير مصقول‪ ،‬مبطن بالقش‪ .‬سيلف الجثمان بكفن قطني‬
‫أبيض‪ ،‬بال تحنيط‪ ،‬كما هو معمول به بالطريقة اليهودية‪ .‬وبالطبع‪ ،‬سيبقى التابوت‬
‫موصودًا‪.‬‬
‫من التراب أنتم‪.‬‬
‫أقول بصوت خفيض لئال يصل أسماع اآلخرين‪" :‬سيّدي‪ ،‬هل لي بخدمة‬
‫أخرى؟"‬
‫"طبعًا يا سيدتي؟"‬
‫"احفر ثقوبًا في قاع التابوت‪".‬‬
‫"سيدتي؟"‬
‫"الطريقة التقليدية‪ .‬من أجل التحلل السريع‪".‬‬
‫يقول الرجل‪" :‬يمكننا القيام بهذا‪".‬‬
‫"أمر آخر‪ ،‬ال تخبر شقيقاتي بهذا األمر‪".‬‬
‫وإلى التراب تعودون‪.‬‬

‫بعد ثالثة أيام تتوجه األنظار إلى باطن قبر مفتوح في مقبرة إيمانويل في‬
‫معبد داالس القديم‪ .‬يحف الحفرة من الداخل طمي أسو ٌد مقطوعٌ حديثًا‪ ،‬طمي خصب‬
‫غني وثقيل نتيجة التشبّع باألمطار األخيرة‪ .‬لكن تلك الحفرة هي ملخص خساراتنا‪.‬‬
‫وأنا اآلن أعرف ما خسرناه‪ :‬ذلك األمل الذي لم نستطع أن نتخلى عنه يو ًما بأب‬
‫يمكننا أن نعرفه أو نثق به أو نفهمه‪ .‬وهذا ما دفناه نحن الثالثة هنا اليوم‪.‬‬
‫وأختاي على يساري‪ ،‬وإلى جانب ديبي يقف‬
‫َ‬ ‫يقف ليفي كتمثال على يميني‪،‬‬
‫زوجها روبرت‪ .‬يحضر الجيران القدامى واألصدقاء‪ ،‬وأمي بينهم في مكان ما‪.‬‬
‫أميل برأسي نحو ليفي حتى أصبح على بعد بوصة واحدة فحسب من التالمس‬
‫العلني المحرم‪ .‬أرغب باالتكاء عليه‪ .‬يبتعد خطوة عني‪ ،‬فأستقيم وأعتدل في وقفتي‪.‬‬
‫صا لديبي وآمي‬
‫يخيّم الصمت على الحضور المتناثرين حالما يسلم الحاخام مق ً‬
‫عا لكي تتم ّكنا من قص الشريط األسود المثبّت على ثيابهن‪ ،‬وهي نسخة منقحة‬
‫تبا ً‬
‫أجلك‪ ".‬عندما يناولني‬
‫َ‬ ‫ومهذبة من الشريعة‪ .‬تهمس ديبي‪":‬إننا نقوم بهذا الفعل من‬
‫الحاخام المقص‪ ،‬أحيد عن الشريط وأفتح شقًا في الشال الذي أضعه فوق ثوبي‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬
‫وأمزق القماش إلى شقين بالحركة األرثوذكسية العنيفة‪ ،‬التي‬ ‫ألتقط طرفي الشق‬
‫ترمز للقلب الممزق‪ .‬يتردد صوت التمزق الحاد عبر الشادر الذي يخيّم عليه‬
‫الصمت‪ .‬أسمع شهقة‪ .‬يتدلى القماش‪ .‬أمامي‪ ،‬الحفرة في األرض التي شقها في‬
‫دواخلنا‪ .‬الرائحة الغنية للتربة الرطبة‪ .‬أفكر بنماء الخضرة‪ .‬أفكر بالديدان‪.‬‬

‫عند العودة إلى منزلنا في هيوستن‪ ،‬يبقى الباب األمامي للدار مفتو ًحا لسبعة‬
‫أيام وأنا أظل بثوبي الذي يتدلى عليه الشال الممزق‪ .‬يغطي ليفي واألطفال الجدار‬
‫ذا المرايا في غرفة الطعام والمرآة الكبيرة في غرفة المعيشة بشراشف السرير‬
‫التي تتدلى طياتها‪ .‬أوقد شمعة طويلة في أسطوانة زجاجية‪ ،‬البصيص الضعيف‬
‫ٌ‬
‫رمز لروح أبي الحية خارج هذه الدنيا‪ .‬وقبل أن تنطفئ الشمعة‪ ،‬سأوقد‬ ‫المتواصل‬
‫أخرى‪ ،‬وأخرى‪ ،‬وأعتزم الحرص على إبقاء اللهب طوا َل سنة الحداد‪ .‬ينبّه ليفي‬
‫األطفال باالبتعاد عن جهاز الستيريو‪ .‬لن يكون هناك العم موشيه ورجال الميتزفاه‪،‬‬
‫ال أبراهام فرايد وال جوقة صبيان اللوبافيتش‪ ،‬لن يكون هناك موسيقى في منزلنا‬
‫حتى السنة القادمة‪.‬‬
‫يصل الزوار‪ ،‬وتبدأ الرقصة الحسيدية لمواساة المحزون‪ .‬يدخل الضيوف‬
‫ي مغمغَمة‪ .‬يجلسون وال‬ ‫من غير استئذان‪ ،‬حاملين معهم أطباقًا مغطاة وتعاز ّ‬
‫يبدؤون حديثًا‪ ،‬منتظرين توجيهي‪ ،‬حتى لو كان هذا يعني أال نتكلم‪ .‬وحينما أنطق‬
‫أخيرا‪ ،‬يبدؤون بطرح األسئلة عن والدي‪.‬‬
‫ً‬ ‫بشيء‬
‫لكن هذا المشهد المدبَّر‪ ،‬والذي يبعث توقعه على الراحة هو ما أردت‪ ،‬عطايا‬
‫محبة صادقة‪ ،‬حضور‪ ،‬أطعمة لم أطهها‪ ،‬كلمات مطمئنة‪ ،‬وأطفالي بقربي‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا يبعث الرهبة بعض الشيء‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن إتبّاع الشريعة مع‬
‫المفجوع وكأنه طقس تعني أن أبي لم يتعين عليه أن يستحق حزني كيما أحزن‬
‫عليه‪ ،‬وهذا ما يعني أن هويته أو ما كان عليه ليسا باألمر المهم‪ .‬تحضر الطائفة‪،‬‬
‫مهما يكن من أمر‪ ،‬ألنني هنا‪ ،‬لست ابنته ليزا‪ ،‬وإنما امرأة يهودية في حداد‪ ،‬فتصبح‬
‫خسارتي معممة ومنقحة‪ .‬إنهم يقدمون العزاء‪ ،‬باتبّاع الشريعة‪ .‬لكنهم يسألون عن‬
‫والدي‪.‬‬
‫أجلس على المقعد المنخفض المخصص لصاحب العزاء وأعرض على‬
‫ضيوفي صورة ألبي حينما كان في هيئة رجل شاب ووسيم‪ ،‬الوالد المحبوب الذي‬
‫يتالءم مع توقعاتهم‪ ،‬وأقول‪" :‬لقد علمني صالة الشيما‪ .‬وعادة ً ما كان يحدثني عن‬
‫ي وتقاليدهما اليهودية القديمة‪ ".‬أمسك بالصورة لتكون أمام أنظارهم‪ .‬لكنني‬
‫جد َّ‬
‫أحجب مغتصب األطفال بإبهامي‪ .‬أحجب سنواته في المصح العقلي‪ ،‬والتلف‬
‫الدماغي الذي ألحقه به عالج الصدمات الكهربائية وأيامه األخيرة التي قضاها وهو‬
‫عاجز عن قضاء حاجته ويغمغم من أثر العت َه‪ .‬يحجب إبهامي كل شيء عدا ابتسامته‬
‫المائلة‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬أعتقد بأنه ال بد وأن يكون ثمة أمر خاطئ يحدث معي لكي أحزن‬
‫على ذلك‪ .‬لكنني كنت طفلة يو ًما‪ ،‬وهو كان والدي ذات يوم‪.‬‬
‫في النهاية‪ ،‬أجد أن طقوس الحداد‪ ،‬من إيماءات الزوار المعبّرة عن االهتمام‬
‫وأوعية الطعام وصناديق الفاكهة‪ ،‬ألمر مرهق‪ .‬في النهاية‪ ،‬أريد أن أخبرهم كم‬
‫يبدو عزاؤهم الملقن مفتعالً وخاويًا‪ .‬أريد أن أشكرهم وأصرفهم‪.‬‬

‫وقت صلوات المينشا والمعاريف في الكنيس خالل‬


‫َ‬ ‫في أحد أيام األسبوع‪،‬‬
‫الساعة التي تتداخل مع حلول الظالم‪ ،‬يصل الرجال بأزياء العمل‪ ،‬أو ببدالت رجال‬
‫األعمال‪ّ ،‬‬
‫لكن ربطات العنق قد أرخيت اآلن‪ .‬في هذا الفضاء المقدس ذي السقف‬
‫المرتفع‪ ،‬يكون الحديث منخفض النبرة ممزو ًجا بضحك خفيض‪ ،‬وبضع‬
‫مصافحات‪ّ ،‬‬
‫لكن الصالة اليومية ليست إال َم َه ّمة عمل أخرى يؤدونها قبل أن يعودوا‬
‫إلى منازلهم‪ ،‬إلى زوجاتهم وأطفالهم‪ .‬وبعد دقيقة أو اثنتين من الوقوف بانتظار‬
‫اكتمال النصاب‪ ،‬يهز أحد الرجال كتفيه ويتقدم بخفة ليقود الخدمة‪ .‬يلّف الرجل حول‬
‫خصره وشا ًحا أسو َد نسميه غارتيل‪ ،‬يفصل الرأس والقلب عن الطرف السفلي اآلثم‬
‫من الجسد‪ ،‬ويربط الوشاح الطويل عند ردفيه على شكل عقد سوداء مرتخية‪ .‬ثم‬
‫يبدأ القراءة بنبرة رتيبة سريعة عبر صفحات مكتوبة بالعبرية‪ .‬لم يكن ثمة مسافة‬
‫بين الكلمات‪ ،‬وال التقاط لألنفاس‪ .‬سعيدون من يسكنون في منزلك‪ .‬إنهم مستمرون‬
‫بالثناء عليك‪.selah .‬‬
‫ً‬
‫مستعجال ومتعبًا‪ ،‬لكنه حينئذ يرخي كتفيه بتأثير ثقل‬ ‫متأخرا‪ ،‬يبدو‬
‫ً‬ ‫يصل ليفي‬
‫اإليقاع المنتظم لصالة األميدة التي تؤدى وقوفًا حينما تتحول نغمتها إلى همسات‪.‬‬
‫ينساب منه التوتر‪ ،‬وبالكاد يتحرك فمه عندما يواصل القراءة‪ .‬يكرر قائد فرقة‬
‫الترتيل (الذي ندعوه ‪ )hazan‬الصالة الصامتة بصوت عال‪ ،‬وتختتم الجماعة‬
‫صالتها بعبارة‪" :‬يجب أن نحمد الرب ّ‬
‫ألن مصيرنا ليس كمصير الشعوب األخرى‬
‫التي تعبد الخيالء والعدم‪ ".‬وحالما يقولون "الخيالء والعدم"‪ ،‬فإنهم يقومون بحركة‬
‫كما لو أنها بصاق على األرض‪ ،‬ثم يتبعونها بانحناءة لربنا‪ ،‬الرب الحقيقي‪ .‬ثم‬
‫الحداد قاديش التي تتطلب أن نم ّجد‬
‫يكون هناك وقفة مخصصة لليفي ليغني صالة ِ‬
‫الرب بعدما واجهنا الموت‪ .‬إن كل تالوة ترفع روح والدي مزيدًا من الدرجات نحو‬
‫عرش المجد‪ .‬يردد اآلخرون "آمين" بعد كل جزء‪ .‬ينشد ليفي "مقدّس ومم ّجد هو‬
‫الواحد الذي فوقنا‪ .‬يهب الرب الرضا‪ ،‬العونَ ‪ ،‬الراحةَ‪ ،‬المالذَ‪ ،‬الشفا َء‪ ،‬التوبةَ‪،‬‬
‫التكفير‪ ،‬والخالص‪".‬‬
‫َ‬ ‫الغفرانَ ‪،‬‬
‫الخالص‪.‬‬
‫من مرمى نظر ليفي‪ ،‬كان وجهي محجوبًا عبر الحاجز المثقّب‪ ،‬فيما يؤدي‬
‫الحداد بالنيابة عني‪ ،‬وهو ما يعد واجب الزوج على مدى العام‬
‫ليفي مهمة صاحب ِ‬
‫ي معه بالكلمات دون أن أنطقها‪ ،‬من‬‫الذي تقضيه زوجته في الحداد‪ .‬أحرك شفت ّ‬
‫لكن الصوت هو صوت‬ ‫أجل والدي‪ ،‬ومن أجل الحياة التي منحني إياها رغ ًما عنه‪ّ .‬‬
‫ليفي‪.‬‬

‫أثناء السنة التي قضيتها في الحداد‪ ،‬اجتاحت كراون هايتس ح ّمى مسيانية‬
‫تفشت عبر شبكة الحسيديم اللوبافيتش المنتشرين في أرجاء العالم‪ .‬إذ بدا لي ّ‬
‫أن كل‬
‫من أعرفه كان مقتنعًا بأن الحاخام سيعلن قريبًا أنه المسيا المنتظر‪ ،‬وقد أصبح ذلك‬
‫اإلعالن وشي ًكا جدًا‪ .‬أمتنع عن االنجرار وراء ذلك السعي للنسيان الذي يمنح‬
‫السرور‪ ،‬ذلك الحماس المتأجج المعدي‪ ،‬حتى عندما يقوم المئات‪ ،‬بل اآلالف من‬
‫أقراني باالنغماس في ذلك الحماس‪ ،‬ومن بينهم أناس أذكياء ومتعلمون‪ ،‬كنت قد‬
‫أعجبت بهم فيما مضى‪ .‬المسيا آت! يغلب التفاني على الجميع‪.‬‬

‫قررت أن أسحب "قصة ديبي" من السلّة المشبكة وأرسلها إلى روزلين‬


‫براون‪ ،‬المؤ ِلفة الشهيرة التي قابلتها في المؤتمر النسوي‪ .‬كنت أعتقد أن بإمكاني‬
‫مواصلةَ الكتابة وإخفاء ما أكتبه فحسب‪ ،‬لكنني‪ ،‬حالما قابلتها‪ ،‬لم يسعني إال أن أفكر‬
‫بالكتابة وكأنها حوار‪ ،‬وال أريد أن أواصل التحدث إلى الفراغ‪ ،‬لذا قمت بالبحث‬
‫عن عنوانها في جامعة هيوستن‪ .‬ولكن قبل أن أرسل لها القصة بالبريد‪ ،‬مسحت‬
‫اسمي ولم أترك عنوانًا للرد؛ إذ إنني كنت أخشى أن تكتشف َمن الذي أرسل لها‬
‫المكتوب ليس سوى وعظ‬
‫َ‬ ‫المسودة‪ ،‬ومن ث ّم تتذ ّكر هيئتي الحسيدية‪ ،‬وتتوقّع ّ‬
‫أن‬
‫مثالي‪ ،‬فتمتنع على إثر ذلك عن قراءته‪.‬‬
‫وشهورا‪ .‬وبينما أنتظر‪ ،‬أبدأ بقراءة‬
‫ً‬ ‫بعد ذلك ها أنذا أنتظر ردها أسابي َع‪،‬‬
‫روايتها "قبل وبعد" التي كانت أولى قراءاتي‪ ،‬كشخص بالغ‪ ،‬لرواية منشورة‪ .‬وقد‬
‫عا من أشعة إكس على شخصياتها‪ .‬أقرأ قصصها القصيرة‪،‬‬
‫بدا لي أنها تمرر نو ً‬
‫شعرها‪ ،‬وأقع في حب كورا فراي‪.‬‬
‫َ‬ ‫ومن ثم أقرأ‬
‫أخيرا لالتصال بها بعد شهور من االنتظار تخبرني‬
‫ً‬ ‫وعندما تواتيني الشجاعة‬
‫ً‬
‫أعماال مجهولة المصدر‪".‬‬ ‫روزلين‪" :‬إن من سياستي أال أقرأ‬
‫أرد‪" :‬أوه"‪ .‬وأتنفس الصعداء بعد أن كنت أحبس نَفَسي ك َّل تلك الشهور‪.‬‬
‫لك لقرأتها‪".‬‬
‫"لكن‪ ،‬يا ليا‪ ،‬لو كنت أعلم بأن القصة ِ‬
‫أقول‪" :‬أشك بذلك‪".‬‬
‫فترد قائلة‪" :‬كال‪ ،‬أنا أعني ما أقول‪".‬‬

‫جئت إلى حديقة روزلين‪ ،‬العابقة بروائح الورود واألعشاب‪ ،‬وقد تكون‬
‫األميال القليلة التي قطعتها ألصل إلى هنا مئة ميل‪ .‬تبدو الحديقة مثل ضريح لإلبداع‬
‫والجمال من أجل أن تبلغهما الحرية‪ ،‬أو على األقل أن تحاول‪ .‬وعلى الجهة المقابلة‬
‫لهذا المنزل الصغير عبر الشارع الضيق‪ ،‬تنتصب منحوتة بارنيت نيومان‬
‫"‪ "Broken Obelisk‬أو "المسلة المكسورة" في بركة عاكسة أمام كنيسة‬
‫مكسورا‪ ،‬وحيدًا وعاليًا وه ً‬
‫شا‪ .‬وبالقرب منها تقع‬ ‫ً‬ ‫روثكو‪ .‬تجسد المنحوتة طوط ًما‬
‫مجموعة مينيل الفنية (‪ )Menil Collection‬المليئة بأصوات فنية تصخب بمزيد‬
‫من الصدق‪ .‬يلف الدفء مقاعدنا المعدنية‪ ،‬تحوم نحلةٌ حول إحدى األزهار الحمراء‬
‫بحركات قوسية صغيرة‪ .‬ثمة نسيم خفيف‪ ،‬ونفثة من رائحة دخان السيارات في‬
‫الهواء‪.‬‬
‫أرتشف الشاي من المطبخ الذي ال يستند للضوابط الشرعية‪ ،‬وأضيف ذلك‬
‫إلى أسراري‪ .‬ينتابني ال َح َرج من زيي الحسيدي في هذا المكان الحر‪ .‬يَلوح لي أنه‬
‫كان ال ب ّد من حدوث كل ما جرى ً‬
‫أوال حتى أتمكن من القدوم إلى هنا‪ :‬اإلجهاض‪،‬‬
‫المؤتمر النسوي‪ ،‬إفشاء ديبي لألسرار المتعلقة بأبي‪ ،‬القصص واألشعار التي أكتبها‬
‫بالخفاء‪ .‬ال أجرؤ على أن أتغيّر‪ ،‬ورغم ذلك ها أنا هنا‪ ،‬شخص مختلف أبحث عن‬
‫مرشد من خارج طائفتي‪.‬‬
‫تتحدث روزلين عن تحرير الرواية من األحداث التي ولّدتها‪ ،‬وعن كيفية‬
‫خرج الصفحات‪ -‬كنت قد أرسلت لها‬
‫توصيل اإلحساس بالواقع‪ ،‬وعن بنية السرد‪ .‬ت ِ‬
‫المدونة بيديها‬
‫ّ‬ ‫ما يفوق المئة صفحة‪ -‬وألحظ إنها قد مألت الهوامش بالمالحظات‬
‫الثابتتين‪.‬‬
‫تقول روزلين‪" :‬انظري إلى هذا‪ ."،‬وتؤشر على أحد تعقيباتها وتقرأ السطر‪.‬‬
‫ثم تنطلق بشرح السبب وراء العيب الذي يكتنف المقطع وما الذي يتطلبه إصالحه‪.‬‬
‫أدافع عن قصتي كما لو أنها أحد أطفالي‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬هي ال تبدي تفه ًما لما‬
‫أقول فحسب‪.‬‬
‫ال تتراجع عن رأيها‪.‬‬
‫أبتلع الموقف وأحاول اإلنصات‪.‬‬
‫في النهاية‪ ،‬تناولني روزلين دليل حرفة كتابة الرواية‪ .‬وفي باطن الغالف‪،‬‬
‫أخيرا شعور‬
‫ً‬ ‫ي الصمت‪ ،‬وينتابني‬
‫أجد الدليل مكتوبًا بخط يدها‪ .‬يستحوذ عل ّ‬
‫بالتواضع واالمتنان‪.‬‬
‫"واآلن أخبريني‪ "،‬تقول بنبرة متزنة‪ ،‬وذلك الفم المفتوح والنظرة الجانبية‬
‫تعودان إلى وجهها‪" .‬إنك إنسانة مفكرة‪".‬‬
‫أقول‪" :‬ع َّم تسألين؟"‬
‫تشير إيماءاتها إلى ياقة مالبسي العالية‪ ،‬أكمامي الطويلة‪ ،‬التنورة‪ ،‬الشعر‬
‫المستعار‪ .‬تقول لي‪" :‬أريد أن أفهم كيف لشخص مفكر أن يتصالح مع كل هذا‪".‬‬
‫ال أجيبها‪ .‬أخبر نفسي بأنني أحتاج للتفكير بما سأقول‪.‬‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬أكتب لروزلين الرسالة األولى من سلسلة رسائل‪ .‬ربما‪ ،‬لو‬
‫استطعت أن أقنعها أن حياتنا المستندة للتعاليم الحسيدية هي حياة حقيقية وذات‬
‫مغزى‪ ،‬فسوف أتمكن من إقناع نفسي بذلك والتصالح مع الصدع المتنامي في‬
‫داخلي‪ ،‬ألنها جعلتني أسأل نفسي‪" :‬كيف لشخص مفكر أن يتصالح مع كل هذا؟"‬
‫ندرب أنفسنا على الوعي الثاقب بالرب‪ .‬إذ إن مهمتنا اليومية‬
‫أكتب‪" :‬إننا ّ‬
‫هي إيجاد الدليل على نيّة الرب الخيّرة في كل يوم‪ ،‬وقبول قيودنا وسلطة الرب‬
‫العليا‪ .‬فالحياة لدينا هي رموز‪".‬‬
‫رموزا‪ .‬فإذا لم تكن األحداث اليومية باألساس رم ً‬
‫وزا‬ ‫ً‬ ‫ينبغي أن تكون الحياة‬
‫يجب علينا أن نتعلم منها‪ ،‬هبات من الرب لذلك الغرض‪ ،‬إن كانت الحياة‬
‫ي أن أنظر لألحداث والتجربة بدقة وأقبل الحاضر‬
‫مجرد‪...‬حياة‪ -‬إن كان عل ّ‬
‫ال َعرضي الخام على إنه واقعي‪ ،‬من دون وعد بالتعويض‪ -‬حينها ال يمكنني أن‬
‫أواجه حياتي‪ .‬إنني بحاجة للمعنى‪ ،‬الذي هو بمثابة التبرير‪ .‬فمن دونه‪ ،‬ستكون‬
‫حياتي الحسيدية زيفًا‪ .‬وسيكون لزا ًما عل ّ‬
‫ي تركها‪.‬‬
‫س ِلموا من‬
‫ثم أكتب في يوم آخر‪" :‬أؤكد أن اليهود‪ ،‬وهم بقايا شعب قديم‪ ،‬قد َ‬
‫التغيير بسبب الجوهر الثابت للتعاليم وللقيم الروحانية واألخالقيات‪ ،‬وكذلك مراعاة‬
‫الطقوس التي ضخت تلك التعاليم في أكثر جوانب الحياة دنيوية‪ ".‬هذا هو صوت‬
‫الجماعة‪ .‬أحبوا الشريعة‪ .‬فالشريعة أبقتنا أحيا ًء‪ .‬الشريعة تجعل الحياة ربانيّة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أسطر بها مث ًال عليا رنانّة‪ .‬لم أعرف حقًا‬ ‫أكتب كل بضعة أيام رسالة أخرى‬
‫بأنني كنت أحاول أن أصالح نفسي مع حياتي‪ ،‬مثلما لم أكن أدرك حينها أن الصدع‬
‫في داخلي كان يكبر بسبب التواصل مع روزلين‪ .‬ما أعرفه فحسب هو أن هذا‬
‫الحوار الذي أعقده معها يشبه األوكسجين‪.‬‬
‫وبعد بضعة أيام‪ ،‬يصلني عبر البريد مغلف يحوي بقية مسودة قصتي‪ .‬مرفق‬
‫معه رسالة تعرض بسخاء استقبال روزلين للمزيد من كتاباتي‪ .‬وكانت مالحظاتها‬
‫تحتّل الهوامش على كل صفحة‪.‬‬
‫أتوجه إلى السلة المشبكة‪ ،‬أبتلع ريقي وأخرج قصة اإلجهاض‪ .‬أرسل القصة‬
‫إلى روزلين‪ ،‬وهكذا سيعلم أحدهم بقصتي‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬الهدوء يصاحب الساباث‪-‬فال كهرباء أو سيارة أو هاتفًا أو حاسوبًا‪ .‬في‬


‫المساء بعد عودة الجنود من الكنيس‪ ،‬بعد وجبة األطباق األربعة‪ ،‬والغناء النشاز‪،‬‬
‫ودروس ليفي المضجرة‪ ،‬يغادر الضيوف وأضع شالوم في مهده عندما يحين وقت‬
‫نومه‪ .‬ينثر إيتزك وسارة وأفرامي ومندل الكتب واأللعاب في أرجاء غرفة المعيشة‬
‫وغرفة اللعب وينشغلون بخططهم‪ .‬ومن غير أن ألفت االنتباه أراقبهم من المقعد‬
‫المنبسط البرتقالي القديم‪ ،‬متعبة ورأسي متكئ إلى الوراء‪ .‬وبوجود رفوف الكتب‬
‫مر‬ ‫في الخلفية ورائي‪ ،‬أشعر أن حنينًا مقلقًا لنصوصنا القديمة يستولي عل ّ‬
‫ي‪ .‬فقد َّ‬
‫زمن طويل منذ أن قرأت مقاطع الكتاب المقدس اليومية مع تفسير راشي‪ .‬ألتقط‬
‫توراة مكتوبة بالعبرية واإلنكليزية وأفتح سفر التكوين‪ ،‬الذي لطالما علّمته لألطفال‪.‬‬
‫لكن روزلين تعلّمني أن أقرأ بعين ناقدة‪ ،‬وأكتشف أنني ال‬
‫أشرع بالقراءة‪ّ ،‬‬
‫أستطيع ببساطة أن أغلق تلك العين الناقدة؛ فقد أميط ستار القداسة الذي كان سابقًا‬
‫يلطف ويبرر كل رسالة توراتية‪ .‬لكنَ التفاسير التي تراكمت عبر القرون‪ -‬تفاسير‬
‫راشي ورامبان وابن عزرا واآلخرين‪ -‬هي صوت الحكماء‪ .‬إنهم يس ّطرون قيمنا‪،‬‬
‫سطور أتذكرها من التفاسير‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وهم يقولون من نكون‪ .‬تتدفق من الصفحات‬
‫أقلّب الصفحات‪ ،‬والقلق يملؤني‪ .‬أتوقف عند التعليق الذي يح ّمل حواء‬
‫المسؤولية عن الخطيئة الكبرى التي شانت البشر‪ .‬أنتقل بسرعة إلى حيث ينتقدون‬
‫سارة على الضحك على نعمة الرب (ربما كان ذلك فر ًحا!)‪ ،‬ويعيبون على ليا‬
‫اشتهاءها لزوجها‪ ،‬ويلومون دينا على تعرضها لالغتصاب‪ .‬أسحب المجلد المجاور‬
‫يصرون‬
‫ّ‬ ‫من الرف‪ ،‬وهو سفر الخروج‪ ،‬وأقلّب الصفحات حتى أصل إلى حيث‬
‫على ّ‬
‫أن مريم قد عوقبت بالجذام ألنها كانت تبدي رأيها‪ .‬يقول الحكماء‪ :‬ال تتكلم‬
‫مع النساء بأكثر مما تقتضيه الضرورة‪ ،‬فالنساء هن مصدر الثرثرة الفارغة‪ .‬النساء‬
‫يسرقن من وقت الرجال المخصص لدراسة التوراة‪ .‬لكننا نتطلع لتلكم النسوة‬
‫بوصفهن مثلنا العليا كما تجسدهن الصورة الحاخامية‪ .‬ماذا فعل ذلك بنا؟‬
‫أجلس وألقي الكتاب على حجري‪ .‬إذا كانت قدواتنا ّ‬
‫هن صورهم المرسومة‬
‫لسارة ولليا وحتى لديانا‪ ،‬وهن كذلك حقًا‪ ،‬إذا كنا نلقن أن ما يقوله الحاخامات عن‬
‫جداتنا هو مقدس وصحيح‪ ،‬فيجب علينا إذن أن نغطي أنفسنا‪ .‬فذلك اإلرث يجعلنا‬
‫نريد أن نخفي أنفسنا‪ ،‬كما لو أننا نطهر أنفسنا من خطيئة حواء وضحكة سارة‬
‫وشهوة ليا وجمال دينا وعقل مريم عن طريق إطاعة أوامر الحاخامات بشأن‬
‫الحشمة والتي تقضي بتغطية أنفسنا‪.‬‬
‫ويبدو األمر كما لو ّ‬
‫أن معشر النساء يحتاج للفداء‪ ،‬في هذا العالم الذي يتشبث‬
‫بهذا الكتاب على أنه قصةٌ تروي من نكون‪.‬‬
‫عارا ليس عارنا‪.‬‬
‫أنظر لألسفل إلى التنورة الطويلة والجوارب‪ .‬لماذا نحمل ً‬
‫أطبق الكتاب‪ ،‬أهز رأسي‪ .‬ال أستطيع أن أفعلها‪ .‬لم أعد أستطيع أن أنخرط بخشوع‬
‫أمرا محببًا لي فيما مضى‪ .‬ال أستطيع العودة إلى حيثما كنت‪.‬‬
‫في الدرس‪ ،‬مهما كان ً‬
‫أنطلق من مقعدي‪ ،‬واألطفال ما يزالون منهمكين باللعب‪ ،‬وأتوجه إلى غرفة‬
‫نومي‪ ،‬وأعود بلمح البصر مع أول كتاب علماني اقتنيته وأنا بالغة‪ ،‬كتاب ألدريان‬
‫ريتش‪-‬وهو خالصة لكتاباتها‪ .‬كنت ذاهبة للتسوق في الطرف اآلخر من المدينة منذ‬
‫سا يتصفحون الكتب بال‬
‫بضعة أيام وتسللت إلى إحدى المكتبات‪ ،‬حيث وجدت أنا ً‬
‫ضا‪ ،‬كما لو أن‬
‫أي تحفظات‪ ،‬ومن دون وجود رقباء‪ .‬وهو ما حثني على التصفح أي ً‬
‫حرية التصفح هذه لم تكن شيئًا معدو ًما من قبل‪ .‬وبجانب مجموعة الكتب التي تضم‬
‫األعمال الجديدة‪ ،‬عثرت على هذا االسم الذي أصبح معروفًا لي اآلن‪ .‬سيكون هذا‬
‫الكتاب قراءتي ليوم الساباث‪.‬‬
‫ساهرا‬
‫ً‬ ‫يصعد إيتزك المقعد المنبسط معي ويضع رأسه في حجري‪ .‬لقد بقي‬
‫على مائدة الساباث وما يزال بحاجة إلى غفوة‪ .‬وعلى أمل أن يغفو‪ ،‬أجلس ساكنة‬
‫ي أنا‪ .‬وبعيون ناعسة‪ ،‬أقلّب‬
‫بال حراك وأربّت على كتفه‪ ،‬حتى يثقل النعاس عين ّ‬
‫الصفحات‪ ،‬وأنتقي بضعة سطور في كل مرة‪ ،‬فأستكشف منطقة جديدة من دون‬
‫تركيز كاف ألن أغوص في المقاالت‪ .‬يبدأ الشعر بالتسرب إلى مكان نصف واع‬
‫مثلما ينتشر حبر مسكوب ببطء وينفذ عميقًا‪.‬‬

‫تنكسر القوانين مثل محرار‬


‫ينسكب الزئبق على األنظمة المرسومة؛‬
‫ينقل أفرامي وسارة المكعبات الخشبية من غرفة اللعب‪.‬‬

‫صوت نسائي يغني أغاني قديمة…‬


‫تعزف موسيقاها نسا ٌء خارجات عن القانون‬

‫أهذا ما أفعله؟ غناء األغنيات القديمة لروزلين برسائلي‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫النساء الخارجات عن القانون يبعدنني عن القواعد؟‬
‫كبرت كومة المكعبات على األرض‪ .‬يقوم أفرامي ليجلب المزيد‪ .‬أؤشر على‬
‫التلة‪ ،‬ونظري مثبّت عليه‪ ،‬وأقول‪" :‬يمكنك أن تجلب المزيد إن قمت بتنظيف المكان‬
‫الحقًا"‪ .‬يتقلب إيتزك على حجري ويتنهد‪ .‬أقرأ‪.‬‬

‫هذا هو قانون البراكين‪ ،‬يجعل منهن إنا ًثا أبديات ومرئيات‪.‬‬


‫ال قمة بال قاع‪ ،‬بال نواة محترقة‬

‫ثمة شيء يوقظني‪ ،‬كما لو كنت باردة وميتة لزمن طويل‪.‬‬


‫تجيء ليبي من الباب األمامي مع صديقة لها‪ .‬وتتجهان إلى غرفتها‪.‬‬
‫أواصل القراءة‪ .‬ثمة كثير مما ال أفهمه‪ .‬أفكر‪ ،‬لكن يمكنني أن أقضي سنينَ‬
‫في االنكباب على فهم إن أردت‪ .‬هذا الكتاب لي‪ .‬أقلب الصفحة‪.‬‬

‫جسدك‬
‫سيالزم جسدي‪-‬رقيقة‪ ،‬مرهف ٌة‬
‫ممارستك للحب‬

‫أعتدل في جلوسي‪ .‬رقيقة‪ ،‬مرهفة‪-‬ال ب ّد وأنها تكتب المرأة‪ .‬أجزم بأنها تكتب‬
‫جهرا‪ .‬أتشبث بالصفحة‪.‬‬
‫ً‬ ‫عن امرأة‪ .‬لم أسمع في حياتي كائنًا تكلم عن هذه الصورة‬
‫يتورد وجهي‪.‬‬
‫يفرغ ميندل دلو قطع اللوغو على السجادة‪ .‬الغرفة مغطاة باأللعاب‪ ،‬غرفة‬
‫ّ‬
‫ي‪ .‬أقول‪" :‬نظفوا األرض من المكعبات قبل أن‬
‫اللعب فارغة‪ ،‬األطفال عند قدم ّ‬
‫تلمسوا قطع اللوغو تلك"‪.‬‬
‫يقول مندل‪" :‬كال‪ ،‬ماما! إننا منشغلون بصنع شيء‪ .‬سنقوم بالتنظيف الحقًا‪.‬‬
‫نعدك!" يهز أفرامي وسارة رأسيهما‪ .‬إيتزك نائم في حجري‪.‬‬

‫فخذاك المعطاءان المتمرسان‬


‫اللذان يتمرغ وجهي كله بينهما‪-‬‬
‫حيث البراءة والحكمة التي وجدها لساني هناك‬

‫يدخل ليفي‪ ،‬ووجهه منتفخ من أثر نوم الساباث‪ .‬يذهب إلى المطبخ ليحضر‬
‫كوب قهوة‪.‬‬

‫لسانك القوي وأصابعك الرفيعة‬


‫تصل إلى حيث كنت أنتظرك منذ سنين‬
‫في كهفي الزهري المبلل‬
‫سا‪ .‬أنسى أن أطلقه‪.‬‬
‫سا‪ .‬أزفر‪ .‬أسحب نف ً‬
‫ي وأسحب نف ً‬
‫أطبق الكتاب‪ .‬أغلق عين ّ‬
‫ترفع سارة نظرها‪ ،‬ترنو إلي لثانية‪ ،‬ثم تشيح ببصرها‪.‬‬

‫وجهي ساخن‪ ،‬أقف والكتاب المغلق معي وأحمل إيتزك النائم‪ ،‬واضعةً رأسه‬
‫على كتفي‪ .‬أحافظ على إخالء وجهي من أي تعبير بينما أتسلل إلى غرفته ألنزله‬
‫في سريره‪ .‬ستبقى الكلمتان األخيرتان من القصيدة معي وأنا أمشي إلى نهاية الممر‪:‬‬

‫مهما كان ما يحدث اآلن‪ ،‬فإنه يحدث‪.‬‬


‫الفصل الثامن عشر‬

‫واحدًا تلو اآلخر‪ ،‬كان آل فرومان يرسلون أطفالهم األحد عشر إلى اليشيفيات‬
‫حالما يبلغون سن المراهقة‪ ،‬وحت ًما تقتفي الطائفة خطاهم‪ ،‬وهذا ما يش ّكل أعبا ًء‬
‫مالية باهظة‪ .‬فأن تكون "منفيًا إلى مكان التوراة" ‪،goleh lemakom torah‬‬
‫وأن تختبر النزوح والتضحية في سبيل معرفة التوراة هما أمران مهمان لبناء‬
‫ويصر الحاخام فرومان على أال يشيد مدرسة ثانوية حسيدية‬
‫ّ‬ ‫الشخصية الحسيدية‪.‬‬
‫في هيوستن‪.‬‬
‫لقد كبرت ليبي وهي تترقب الرحيل‪ ،‬وها هي اآلن في الرابعة عشرة من‬
‫العمر‪ .‬وقد غادرت بالفعل بعض من أفضل صديقاتها‪ .‬إنها متلهفة لكي تشرع‬
‫بطقس العبور هذا‪ .‬سوف تقوم مدرسة اليشيفا الداخلية للبنات بكل إتقان بمساعدتها‬
‫على تخطي عمر التساؤل والبحث وتحدي القواعد المسمى بعمر المراهقة‪ .‬ستقوم‬
‫المدرسة بتشذيبها من األجزاء التي ال تالئم قالبها‪ ،‬وتثبيتها على الطريق الصحيح‪.‬‬
‫ستبقيها بمعزل عن الصبيان وتملؤها بالفلسفة الحسيدية وباللغة العبرية واليديشية‬
‫محصورا بحده األدنى الخاضع‬
‫ً‬ ‫والتوراة واألنبياء‪ .‬أما تعليمها العلماني فسيبقى‬
‫يعظم المعلمون من شأن الزواج واإلنجاب واالحتشام‪ ،‬مؤكدين لها‬‫ّ‬ ‫للرقابة‪ .‬سوف‬
‫ً‬
‫مستقبال‪.‬‬ ‫أنها عندما تمتثل بخضوع‪ ،‬فستقوم بمنح كامل األمة اليهودية‬
‫تخبرني جارتي الحسيدية‪" :‬اسمحي لها بالذهاب كي تعود إليك‪ "،‬إنني اليوم‬
‫أتصور أن هذه النصيحة قد تنطبق على شابة بالغة أفضل مما تنطبق على فتاة‬
‫بعمر الرابعة عشرة‪ .‬لكنني ال أريد أن أربك أبنتي‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬أنا ال أعرف كيف‬
‫أفعل أي شيء سوى ما يفترض بنا فعله‪.‬‬
‫إن تعليم اآلخرين على الخطيئة هو خطيئة ليس بإمكان أحد أن يكفّر عنها‪.‬‬
‫أد ّل ابنتي على طريق صمت المرأة المغطى‪ .‬أعرض لها طريق التضحية بالنفس‬
‫واألمومة الالنهائية وأرسلها في طريقها‪ .‬وهذا ما سيحدد‪ ،‬من ث َ َّم‪ ،‬من ستكون عليه‪،‬‬
‫من ستصبح عليه‪ .‬أرسلها‪ .‬أفعل ذلك‪.‬‬

‫أخيرا ألن أغوص في هدية روزلين‪ -‬كتابة‬


‫ً‬ ‫كانون األول‪ ،‬تتاح لي الفرصة‬
‫الرواية‪ :‬دليل إلى صياغة السرد‪ ،‬من تأليف جانيت بورواي‪ .‬لكن ثمة الكثير جدًا‬
‫ي فهمه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يشق عل ّ‬ ‫مما‬
‫تبدو كلمة "صراع" كلمة بسيطة‪ ،‬لكن عندما تقول بورواي بأن على أحدنا‬
‫أن يكتب عن الصراع‪ ،‬فإنها تشدد على الصراع المستعصي على الحل بوصفه‬
‫ً‬
‫تمثيال لواقعية الحياة‪ .‬لقد ش ّكلت القصص الحسيدية التي نرويها على موائد‬ ‫األكثر‬
‫الساباث وفي طقوس العبور مفهومي للقصة‪ .‬في تلك القصص‪ ،‬يقف البطل في‬
‫مواجهة قوى تعادي الرب‪ّ ،‬‬
‫لكن الصراع دائ ًما ما يح ّل خالل مجرى أحداث القصة‪،‬‬
‫سوا ًء أكان داخليًا أم خارجيًا‪ .‬كذلك في النصوص التي ندرسها‪ ،‬فإن الحقيقة مبدأ ٌ‬
‫أعلى واح ٌد وواض ٌح على المرء أن يسعى الكتشافه من خالل الخوض في المفاهيم‬
‫المتناقضة إلى أن يثبت صحة كل منها أو خطأه‪ .‬عندها تتالشى كل التناقضات‬
‫والصراعات‪ ،‬وتكون لحظة توضيح الحقيقة تلك تجليًا‪ .‬وهذا ما يعني أنني ال أفهم‬
‫نوع الصراع الذي تقصده بورواي عندما ألقاه فيما أقرأه اآلن من القصص الخيالية‬
‫التي جلبتها من المكتبة‪ .‬فأنزع إلى مراجعة ما قرأت‪ ،‬ظانّة بأنني ال بد وأنني قرأت‬
‫شيئًا ما بطريقة خاطئة‪ .‬إنني ال أفهم الصراع المستعصي على الحل الذي أقرأه‬
‫ً‬
‫حلوال بحق‪.‬‬ ‫على الورق‪ .‬وال أفهم الحلول التي ليست‬
‫بنا ًء على نصيحة روزلين‪ ،‬أستعير كتاب قصص من تأليف أليس مونرو‪،‬‬
‫فقط من أجل أن أكتشف أنني في كل مرة أظن بها أنني أفهم إحدى الشخصيات‪،‬‬
‫ّ‬
‫فإن تصرف تلك الشخصية يكون عكس ما توقعته منها‪ .‬فشخصياتها تتحور وتتقلب‪،‬‬
‫ونادرا ما تحل صراعاتها‪ .‬تعيش تلك الشخصيات من خالل‬
‫ً‬ ‫وتتأرجح بعواطفها‪،‬‬
‫صراعاتها‪ ،‬وهي تتغير بطريقة أو بأخرى وتواصل مسيرها‪ .‬ورغم ذلك تأسرني‬
‫تلك القصص‪ .‬أفكر‪ ،‬لكن الشخصيات تبدو حقيقية للغاية‪.‬‬

‫تحل سنة ‪ ،1992‬ويصاب ال َحبر بجلطة دماغية‪ .‬فتهز الصدمة كل‬


‫اللوبافيتشيين‪ .‬يرقد الحبر في مستشفى في مانهاتن مع كل تلك األنابيب وشاشات‬
‫ّ‬
‫تصطف جموع المؤمنين على‬ ‫مراقبة العمليات الحيوية وصوت التنفس الصعب‪.‬‬
‫رصيف المشاة تحت نافذة غرفته‪ ،‬مرتلّين المزامير‪ .‬أذهب إلى كراون هايتس‬
‫لزيارة ليبل‪.‬‬
‫في هذه األثناء ينعقد المؤتمر السنوي لنساء اللوبافيتش الحسيديات‪ .‬أسترد‬
‫ذكرى مؤتمر مشابه كنت قد حضرته ذات مرة في شيكاغو‪ ،‬وأنا أشق طريقي على‬
‫السجاد األحمر البالي إلى الجلسة الرئيسية التي تنعقد في صالة " ‪Oholei‬‬
‫‪ "Torah‬المزينة بالثريات الذهبية‪ ،‬ألجد نفسي مرة أخرى وسط حشد هائل من‬
‫النساء المؤمنات الالتي يغطين شعورهن بالباروكات‪ .‬أتخذ مقعدي بينهن من دون‬
‫لفت االنتباه‪ ،‬فيما تعتلي المنصة امرأة ٌ تلو األخرى ليعظننا ويلهمننا‪ .‬ثم يأتي دور‬
‫المتحدث الرئيسي‪ :‬الحاخام بن تزيون تيتل‪ .‬تنتشر همهمة عبر القاعة‪ .‬يع ّد الحاخام‬
‫تيتل شخصيةً مرموقة وذات صوت مهاب في الحركة‪ .‬وفيما يقف في األعلى‪ ،‬تبدو‬
‫نظرته الكاسحة المتفحصة منصبَّة على كشف كل حقائقنا‪ ،‬وكل خطايانا‪ .‬تعلو نبرة‬
‫مناجاته تدريجيًا‪ ،‬وفجأة يصرخ في المايكروفون‪" :‬أي أحد هنا‪ "...‬بنبرة اتهامية‬
‫عالية‪ ،‬ويترك العبارة معلقة‪.‬‬
‫ما من واحدة تستطيع االختباء‪ .‬يتعاظم الخضوع األنثوي في حضرة الحاخام‪.‬‬
‫"أي واحد يتخيل حتى ولو للحظة بأن ال َحبر ال يستطيع أو لن يقوم من سرير‬
‫المستشفى من تلقاء نفسه عندما يختار ذلك‪ ،‬وينزع األنابيب عن جسده بيديه‪،‬‬
‫ويقودنا إلى أورشليم بوصفه المسيا فهو "‪ - "chaser emunah‬االيمان"‬
‫لقد أتهمنا الحاخام بصفة بغيضة تطلق على الشخص فاقد اإليمان‪ .‬لقد شاننا‪.‬‬
‫سا في القاعة‪ ،‬كان خانقًا‪.‬‬
‫كان العار محسو ً‬
‫وأخيرا أستشيط غضبًا‪ ،‬فأوشك على الوثوب من مقعدي‪ ،‬ألتجرأ على فتح‬
‫ً‬
‫ٌ‬
‫عجوز ومريض عاش سنواته‬ ‫فمي النسائي في العلن‪ ،‬وأصرخ‪ :‬إن ال َحبر رج ٌل‬
‫ي‪ ،‬وال يعلم‬
‫إنك لست نب ً‬
‫كما يرغب‪ .‬كيف لك أن تعلم بأنه سيفعل الشيء الذي قلته؟ َ‬
‫تتحرك‪ ،‬فنحن معشر‬
‫ّ‬ ‫المستقبل إال الرب‪ ،‬بيد أنني لم أفعل ذلك‪ .‬وما من واحدة‬
‫النساء ال نتحرك إال بنظرات عيوننا الجانبية‪ .‬أنتظر‪ ،‬مثلما تنتظر النساء األخريات‪،‬‬
‫أصفق‪ ،‬مثل األخريات‪ ،‬أنصرف بتهذيب‪ ،‬مثل األخريات‪ .‬أسير نحو طريق‬
‫الخروج غير مرئية وسط الحشد‪ ،‬مستاءة من نفسي‪.‬‬
‫لم أتمكن بعد من رؤية الثغرات في المنطق الذي يحكم أحاديث الحبر التي‬
‫أبقتنا راضين بالرضوخ‪ ،‬بيد أنني عندما غادرت كراون هايتس‪ ،‬بعد أن عانقت‬
‫ليبل وودعته‪ ،‬تركت خلفي ال َحبر كعالم نابغة وصانع معجزات‪ ،‬وأخذت معي فقط‬
‫صورته كرجل عجوز لكنّه حقيقي للغاية‪ :‬عينان زرقاوان ثبتهما عل ّ‬
‫ي مرة حينما‬
‫كنت فتاة‪ ،‬نظارة قراءة بالستيكية بيضاء نازلة على أنفه‪ ،‬شعر يحتاج للحالقة‪،‬‬
‫عاداته المعروفة من كثرة أكواب الشاي التي يرتشفها‪ ،‬وكمية الملح الزائدة في‬
‫طعامه‪ .‬ذكي‪ ،‬عالم‪ ،‬لكنه رجل فحسب‪ .‬أف ّكر‪ ،‬سيموت قريبًا‪ ،‬مثلما سنموت جميعنا‪.‬‬

‫في مساء الثاني عشر من يوليو من عام ‪ ،1994‬اليوم الثالث من تموز‬


‫بحسب التقويم العبري‪ ،‬تح ّمم األطفال وارتدوا مناماتهم‪ ،‬في هذا المساء تنتهي مدة‬
‫الحداد على والدي‪ .‬آخذ صحنًا مستخد ًما من مجلى الصحون وأغطي األسطوانة‬
‫الزجاجية التي وضعت فيها شمعة الروح التي حرصت على إيقادها طيلة هذه‬
‫السنة‪ .‬يختنق اللهب ويتضاءل حتى يصبح جمرة برتقالية‪ ،‬ثم تنطفئ ببطء‪ .‬أرفع‬
‫الصحن‪ ،‬فيتصاعد شريط رمادي من الجمرة المنطفئة‪ .‬لقد راودتني الذكريات عن‬
‫أبي في أغرب األوقات خالل السنة‪ .‬إن من دواعي الراحة أن يمضي ك ٌل في سبيله‪.‬‬
‫أعلن قائلة‪" :‬اآلن يمكننا أن نشغل بعض الموسيقى!" وسرعان ما مألت موسيقى‬
‫كليزمر أجواء المنزل‪ .‬يرقص إيتزك وشالوم وأفرامي على السجادة الزرقاء بزرقة‬
‫البحر على أصوات الكالرنيت البهيجة‪ ،‬وأنا أرقص معهم فيما يتفرج علينا ميندل‬
‫وسارة ويدردشان ويضحكان‪ .‬ينطلق شالوم العنان لنفسه‪ ،‬يدور في دوائر‪ ،‬يقفز‬
‫على األريكة‪.‬‬
‫نادرا ما ذقت مثله‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أغط في نوم عميق ً‬ ‫في وقت متأخر من تلك الليلة‪ ،‬وبينما‬
‫يتوفى ال َحبر‪ .‬يطير جميع رجال الطائفة إلى نيويورك‪ ،‬ولذلك سوف تشيع الكثير‬
‫من الروايات المتشابكة بين أوساط طائفتنا‪ .‬يلتقي ليفي بليبل في الشارع في كراون‬
‫هايتس‪ ،‬وينضمان إلى المشيعين ذوي المعاطف السوداء‪ ،‬عشرة آالف رجل قوي‪،‬‬
‫يسيرون خلف عربة النعش في إيسترن باركوي‪ ،‬مؤدين لفتة االحترام األخيرة‬
‫لل َحبر بمرافقة جثمانه إلى المقبرة‪ .‬تط ّل الزوجات والصغار من شرفات المباني‬
‫المبنية بالحجارة البنية فيما يغص شارع إيسترن باركوي على امتداد أميال بحشد‬
‫هائل من القبعات السوداء‪.‬‬
‫ومع ذلك كانت هناك عائالت كثيرة بأكملها تسير ضمن الحشد‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى نساء وأطفال آخرين‪ .‬كانوا يسيرون متثاقلين جنبًا إلى جنب‪ ،‬مطأطئي‬
‫ضب لحاهم وتسقط على‬
‫الرؤوس‪ ،‬حزانى‪ .‬يبكي الرجال على المأل‪ ،‬والدموع تخ ِ ّ‬
‫ضا على حشود من األتباع المنهمكين في غناء‬ ‫معاطفهم‪ّ .‬‬
‫لكن ليفي وليبل يمران أي ً‬
‫ورقص احتفاليين جنونيين‪ ،‬أذرعهم على أكتاف بعضهم‪ ،‬ويدورون ويدورون‪ .‬لقد‬
‫جلبوا معهم آالت موسيقية ليعلنوا قيامة ال َحبر‪ .‬إنهم يغنون ويعزفون (المسيا هنا!)‪.‬‬
‫عاش ال َحبر‪ ،‬الملك! لقد مات من أجل خطايانا‪ .‬عاش سيدنا‪ ،‬معلّمنا‪َ ،‬حبرنا‪ ،‬المسيا‬
‫الملك لألبد! سيقوم مرة أخرى! تفيض الموسيقى على الحشد المتدفق الذي يطغى‬
‫عليه الحزن فيما يقف رجال الشرطة على جوانب الطريق للمشاهدة من غير‬
‫اكتراث‪.‬‬
‫تتصادف الذكرى السنوية لوفاة والدي (‪ )yartzeit‬مع وفاة الحبر‪ .‬لقد رحل‬
‫كالهما اآلن‪ ،‬والحسيدم الراقصون يشعرونني باالشمئزاز‪.‬‬

‫س الديني‬ ‫أواصل كتابتي الليلية بشكل محموم‪ ،‬لكنّني أبدأ بمالحظة أن ِ‬


‫الح َّ‬
‫مغروس في داخلي منذ أمد بعيد‪ .‬وفي وقت متأخر من إحدى الليالي‪ ،‬أتوقف وأطبع‬
‫ما كتبت‪ ،‬ثم أقرؤه بصوت عال في الضوء الخافت‪ .‬يتشكى ليفي بأنين خافت‬
‫ويتقلب في فراشه‪ .‬تبدو الكتابة جدليةً وغير صادقة‪ .‬أجعّد األوراق وألقي بها في‬
‫سلة المهمالت‪ .‬أكتب لروزلين في اليوم التالي‪" :‬إنني اغتاظ بصمت من التفاصيل‬
‫المضجرة التي تستأثر بكل دقيقة من وقتي وتحرمني مما أريد فعله حقًا‪ .‬مغتاظة‬
‫والتسوق والوقوف في الطوابير‪ .‬ثم أتحول إلى الحالة‬
‫ّ‬ ‫من األعمال المنزلية‬
‫المعاكسة وأنهمك بشؤون العائلة والبيت‪ ،‬حيث أرى تماثل األيام آمنًا ومطمئنًا‪-‬‬
‫ي حالة قلق م ِل ّح مرة أخرى‪".‬‬
‫لفترة من الوقت‪ .‬حتى تستحوذ عل ّ‬
‫إن االعتراف بالغيظ هو منطقة جديدة واسعة‪" .‬كل أولئك النسوة الحسيديات‬
‫الالتي يشعرن بأنهن مهمات عند الرب ألنهن يجلبن النظام إلى عائالتهن‪ -‬إنني‬
‫ألود أن أكون مثلهن‪ ،‬بيد أنني ال أستطيع‪ .‬النظام قداسة‪ ،‬هكذا يعلموننا‪ .‬لكنني‬
‫ّ‬
‫أحتاج لتشكي ِل صورتي الخاصة‪ ،‬وليس أن أجدها منعكسةً في عيونهم فحسب‪".‬‬
‫لقد كتبت لها عن صراع حقيقي مستعص على الح ّل في شخصية تشعر‬
‫بالصدق للمرة األولى‪ .‬أطبع الرسالة وأضعها في البريد‪.‬‬
‫تمر سنة أخرى‪ ،‬وينتقل ليبل‪ ،‬الذي ازداد طوله وأصبح ملتحيًا‪ ،‬إلى يشيفا‬
‫في صفد (‪ )tzfat‬الواقعة في إسرائيل‪ ،‬وهي بلدة المتصوفة العتيقة‪ .‬أما ليبي فقد‬
‫استقرت في يشيفا في شيكاغو‪ ،‬ويستعد اآلن ميندل للرحيل‪ .‬يأتي إيتزك وشالوم‬
‫وأفرامي وسارة مع للمطار‪ ،‬ونشاهد من صالة االنتظار الطائرة وهي تستعد‬
‫لإلقالع‪ .‬كان وجه مندل الناعم يطل من إحدى النوافذ‪ ،‬وكأنه النقيض لقوة الدفع‬
‫الذكورية للمحركات الدوارة الهادرة‪ ،‬ذلك الدفع الميكانيكي ذو السرعة الحثيثة‪.‬‬
‫ينفصل جسر اإلركاب وينطوي على بعضه مثل حبل سري َمرمي‪.‬‬
‫عا أكبر‬
‫بجوار النافذة‪ ،‬يحط أفرامي يده على كتف شالوم‪ .‬إنهما سيغدوان تبا ً‬
‫فتواقة للرحيل‪ ،‬وهي مسرورة لرؤية أخيها النشيط‬
‫األبناء في المنزل‪ .‬أما سارة ّ‬
‫مغادرا‪ ،‬لكنني ال أنفك عن مراقبة طفولة ميندل وهي تنتزع قبل أن‬
‫ً‬ ‫المشاكس‬
‫تنتهي‪ .‬تستدير الطائرة وتتوجه إلى نهاية مدرج اإلقالع‪ ،‬ونستمر في مراقبتها حتى‬
‫تصبح مثل نقطة في السماء‪.‬‬
‫عند حلول الليل‪ ،‬وبينما تنام عائلتي اآلخذة بالتناقص‪ ،‬أجول في غرفة‬
‫المعيشة‪ .‬أعلم أن مندل لن يصبح عال ًما بالتلمود‪-‬فهذه ليست ميوله‪ -‬لكنني أقنع نفسي‬
‫بأنه سيتمكن من االندماج مع جماعة من الفتيان المشاغبين هناك‪ ،‬وسيحظى على‬
‫األقل بفرصة العيش كمراهق‪ .‬سيتسللون ً‬
‫ليال إلى سطح المهجع من أجل تدخين‬
‫سرا‪ ،‬سيغيرون على المطبخ‪ ،‬ستتطاير شراشيب ثيابهم‬
‫ً‬ ‫بعض السجائر‬
‫ويارمولكاتهم وهم يلعبون كرة السلة‪ ،‬وفي غضون عامين‪ ،‬ستكون هناك في‬
‫المهجع مخابئ سرية للجعة‪ ،‬بل وحتى مكالمات سرية مع الفتيات اللواتي يتحدثن‬
‫إلى الفتيان‪ .‬فلماذا أقلق من ّ‬
‫أن هذه الحياة ستحرم أطفالي من فترة مراهقتهم؟‬
‫وألن من غير المسموح له‪ ،‬رسميًا‪ ،‬أن يتساءل‪ ،‬فإنهم لن يعززوا لديه خصلة‬
‫التساؤل‪ ،‬ولن يعلموه صياغة األسئلة‪ .‬أما تلك األسئلة التي تراود ذهنه‪ ،‬فال يمكنه‬
‫أن يطرحها إال على شخص يحترمه‪ ،‬وفي حال كان يبحث عن توضيح أمر ما‬
‫مرتبط بالشريعة‪ ،‬وليس في حال تشكيكه بالشريعة نفسها‪.‬‬
‫لعلنا جميعًا عالقون في مرحلة ما قبل المراهقة‪ .‬فغالبيتنا لم يتعلموا كيف‬
‫يتمردون أو يستكشفون‪ .‬انظر إلى حالنا‪ ،‬إننا مثل أطفال صغار بما فيه الكفاية‬
‫ليعتقدوا أن والديهم والشريعة وال َحبر كليّو القدرة‪ .‬لكنني أريد أن أصوغ األسئلة‪،‬‬
‫أريد أن أجادل وأمحص‪ ،‬وأن أختار ما أريد وأترك الباقي‪ ،‬مثلما خططت أن أفعل‬
‫ي أن أشاهد أطفالي مستلبين على‬
‫ذات مرة حينما كنت صبية مراهقة‪ .‬واآلن عل ّ‬
‫نحو مماثل‪.‬‬
‫تعرفت عليه ألول مرة على مائدة الساباث‬
‫أكتب لروزلين وأصف الرب الذي ّ‬
‫عند الحاخام راكوفسكي‪ ،‬والذي رأيته متعد َد الوجوه مثلما هي الروح البشرية‪،‬‬
‫ومتجسدًا في كل األشياء‪ ،‬و َحنّانا‪ ،‬وسماته غير محصورة بجنس‪ ،‬ومنها الشيكينة‬
‫(‪ )shechinah‬التي تمثّل األم الحنون دائمة الحضور‪ .‬هذا هو الرب الذي رعى‬
‫أحالمي الصغيرة‪ ،‬وليس سلطة الشريعة الصارمة‪ .‬ف ِل َم يكاد يندر وجود هذا الرب‬
‫اليهودي الروحاني في عالم الشريعة الذكوري الخاص بنا؟ ما كان من المفترض‬
‫أن يكون حالنا بهذه الصورة‪.‬‬
‫أكثر صراحةً في الحاضر‪:‬‬
‫ورغم ذلك ثمة شيء يجعلني َ‬

‫عزيزتي روزلين‪:‬‬

‫كانت أكبر أمنيات إيتزك لعيد ميالده السابع أن يحظى بدراجة هوائية جديدة‪،‬‬
‫وديك رومي على العشاء‪ .‬وبينما كان هو في المدرسة‪ ،‬وجدت دراجةً خضعت‬
‫لبعض التصليحات‪ ،‬ولكنها شبه جديدة‪ ،‬فنقلتها في سيارتي إلى محل الدراجات بعد‬
‫أن وضعت الديك الرومي في الفرن‪ ،‬وقضيت ساعة في المحل المكتظ حتى انتهوا‬
‫من خفض ارتفاع مقعد الدراجة والمقود وتبديل العجالت بأخرى تناسب الفرامل‬
‫ووضع إطارات جديدة وإضافة مسند‪ .‬هذا المسند ال يكلفني المزيد‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫أنطلق للمنزل والدراجة الحمراء الصغيرة في مؤخرة سيارة الفان‪ .‬وحالما‬
‫ظهر األطفال على الطريق قادمين من المدرسة‪ ،‬أوقفت السيارة‪ ،‬فأتوني راكضين‪.‬‬
‫لم تأخرت حتى طفلي السادس ألتم ّكن من رؤية ذلك؟ لطفلي السادس؟ إنها‬
‫َ‬
‫بهجة‪ ،‬نقية وبسيطة‪ ،‬بال وعظ‪ ،‬وما من حضور للمقدّس فيها‪ .‬ال شيء سوى دراجة‬
‫باكرا‬
‫ً‬ ‫جديدة حمراء ومنزل يعبق برائحة الديك الرومي‪ ،‬وليفي عائد للمنزل‬
‫عليك أن تري إيتزك وهو يرقص‪ .‬فيما أشقاؤه الثالثة‬
‫ِ‬ ‫ليشاركنا العشاء‪ .‬كان‬
‫يرقصون حوله‪ ،‬وهم يدورون على الديك الرومي‪ ،‬ثم يتناوبون على التسابق‬
‫وتكرارا‪ .‬يتسابق أفرامي وسارة وإيتزك‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫بالدراجة‪ .‬يطوقني إيتزك بذراعيه‬
‫على دراجاتهم بعد العشاء وهم يرتدون الخوذ والمعاطف‪ ،‬تتمايل الخوذ في الظالم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولكن مصباح الشارع يلقي عليهم بضوئه حيث يتوقفون تحته للدردشة أثناء‬
‫انتظاري عند كل ناصية بينما ألحق بهم مشيًا على األقدام ويد شالوم الصغيرة‬
‫الحلوة في يدي‪ .‬لقد كنت متأثرة طوال األسبوع ببساطة التجربة كلها‪.‬‬
‫األمر بيدي‪ ،‬فستكون هدية عيد ميالد إيتزك هي أن يحتفظ ببهجته‬
‫َ‬ ‫لو ّ‬
‫أن‬
‫الشعور بالبهجة الذي‬
‫َ‬ ‫باألشياء الصغيرة‪ ،‬وأن يحظى يو ًما ما بطفل مثله ليمنحه هذا‬
‫عشته أنا‪ ،‬إن كان ذلك ممكنًا‪.‬‬

‫مع الحب‪،‬‬
‫‪) Leah der Oysher‬الغنية)‬

‫لكنّني كذبت‪ ،‬إذ لم يأ ِ‬


‫ت ليفي للمنزل من أجل العشاء‪.‬‬

‫يتصل ليبل من هاتف عمومي في صفد‪ ،‬حيث اليشيفا التي مضى على وجوده‬
‫فيها نحو ستة أسابيع‪ .‬يتحدث عن التنزه مشيًا في الوادي الذي يقع أسفل سكنه‬
‫الجامعي مع مجموعة من أصدقائه‪ ،‬وعن رحلتهم جنوبًا إلى البحر الميت‪ .‬ولسبب‬
‫تحول إلى دراسة العبرية الحديثة‪ ،‬وهي مختلفة جدًا عن النصوص القديمة‪،‬‬
‫ما فقد ّ‬
‫ث ّم يضحك على برنامج إذاعي وينقل لي حديثًا سمعه على متن الباص‪ .‬لكنني أسمع‬
‫خلفه مكبر صوت وغنا ًء صاخبًا‪ ،‬فيما يبدو أنها مسيرة صاخبة‪ .‬عاش َحبرنا‪ ،‬ملكنا‬
‫المسيا لألبد‪ .‬اقول‪" :‬ما ذلك؟"‬
‫شباب تجمعوا ويقومون بمسيرة هنا‪".‬‬
‫ٌ‬ ‫يجيب‪" :‬‬
‫"هل‪ً ،‬‬
‫مثال‪ ،‬يحملون الالفتات؟"‬
‫"أجل‪ ،‬وهناك ملصقات على السيارات ولوحات منتشرة في البلدة‪ ".‬وصور‬
‫وجه ال َحبر إلى جانب عبارة "عاش الملك" ملصقة على جوانب البنايات وعلى‬
‫نوافذ المحالت والسيارات وأعمدة الهاتف وفي مداخل البنايات والمنازل الخاصة‪،‬‬
‫ويرفعها الرجال الصارخون في المسيرات العفوية‪ .‬يقول ليبل‪" :‬بدأت أسأم من تلك‬
‫األغنية‪ ".‬يتعالى الضجيج بينما يمر أفراد المسيرة بقربه‪ .‬يعيش سيدنا لألبد!‬

‫الرابع من نوفمبر‪ .1995 ،‬على مدار أسابيع‪ ،‬كانت حركات اليمين‬


‫اإلسرائيلي تخرج بتظاهرات مناهضة التفاق السالم الذي وقعه رئيس الوزراء‬
‫ومؤخرا‪ ،‬قامت‬
‫ً‬ ‫رابين في أوسلو‪ .‬وقد أثار حفيظتهم منحه جائزة نوبل للسالم‪.‬‬
‫منظمة يمينية تطلق على نفسها اسم ’إيال‘ بتوزيع صورة رابين بالزي الرسمي‬
‫النازي‪ :‬عيون رابين المعيوبة ووجهه اليهودي ذو التجاعيد وشعره الرمادي الكث‪،‬‬
‫مع عالمة الصليب المعقوف (صليب سويستيكا) على صدره‪ .‬انتشرت البوسترات‬
‫بطريقة غامضة في كل أنحاء البالد‪ ،‬ومن ثم في جميع أرجاء العالم‪ .‬هذا هو المناخ‬
‫الذي وصل فيه إسحاق رابين إلى ميدان ملوك إسرائيل "‪ "Kings of Israel‬في‬
‫تل أبيب‪ ،‬المدينة العلمانية إلى حد كبير‪ ،‬إللقاء خطاب في تجمع للسالم‪ .‬عندما‬
‫انتهى من خطابه‪ ،‬ووسط التصفيق والتهليل‪ ،‬ينزل من الساللم مع حمايته األمنية‬
‫شاب ملتح يرتدي اليارمولكة‬
‫ٌ‬ ‫متوج ًها نحو سيارة تنتظره‪ .‬وفي هذه األثناء يتقدم‬
‫ويطلق عليه الرصاص فيرديه ً‬
‫قتيال‪.‬‬
‫في تلك الليلة‪ ،‬في صفد‪ ،‬اجتمع أصحاب ليبل في المهجع‪ ،‬وزمالء الدراسة‪،‬‬
‫عام معهم في مياه البحر الميت‬ ‫ّ‬
‫التنزه مشيًا‪ ،‬واألصدقاء‪ ،‬مع أولئك الذين َ‬ ‫ورفاق‬
‫وتمازحوا برمي بعضهم بالطين‪ ،‬وقاموا بمسيرة احتفالية صاخبة‪ .‬يتفرج ابني عليهم‬
‫من نافذة مهجعه‪ .‬يجوب الفتيان الشوارع المرصوفة بالحجارة تحت أنوار مصابيح‬
‫الشارع‪ ،‬تحت النجوم‪ ،‬والجبال من خلفهم‪ ،‬وهم يغنون ويهتفون ويمررون قناني‬
‫ٌ‬
‫متحرك‪ ،‬ثم يلحق بهم إلى اليشيفا‪ ،‬حيث يقتحمون‬ ‫الفودكا بينهم‪ .‬يتبع الجم َع ظ ٌل هائ ٌل‬
‫الباب المؤدي إلى قاعة الدراسة‪ .‬وفي داخل القاعة‪ ،‬يمررون المزيد من قناني‬
‫الفودكا ويقفزون على الطاوالت ويرقصون‪ .‬كانوا يصرخون‪ ،‬مات النازي! لقد‬
‫خاننا مع األعداء! المسيا قادم! ال َحبر عائد إلينا‪ .‬يعيش ال َحبر!‬
‫يفتح الباب الثقيل‪ .‬يدخل الروش يشيفا‪ ،‬وهو لقب الحاخام عميد المدرسة‪،‬‬
‫بلحيته الطويلة الملمومة ومعطفه الطويل‪ ،‬وبصوته العميق يقول‪" :‬انزلوا عن‬
‫الطاوالت‪ .‬غادروا القاعة‪ .‬اآلن‪".‬‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬يعود الجميع إلى تهذيبهم في قاعة الدرس‪ .‬يتجمع الفتيان‬
‫حول طاولة طويلة أمام كتبهم المفتوحة‪ ،‬هادئين‪ ،‬بعضهم يعاني من صداع الثمالة‪،‬‬
‫والحاخام مستمر بالحديث‪ .‬وليبل بينهم‪ .‬لقد أصبح القاتل‪ ،‬إيجال عامير‪ ،‬العضو في‬
‫حركة إيال‪ ،‬في السجن‪ .‬وستكون محاكمته سريعة وتحصي َل حاصل‪ ،‬لكن ما لذلك‬
‫من أهمية؛ فالزمن قد توقف هنا‪ .‬في قاعة الدرس‪ ،‬ليس هناك رابين‪ ،‬وال سياسة‬
‫طا خي ً‬
‫طا‪ .‬يحك‬ ‫وال عالم‪ .‬كلمة الرب هي العدالة‪ .‬يفكك الحاخام المنطق التلمودي خي ً‬
‫أحد الفتيان أسفل عنقه‪ .‬ويفتل آخر بشراشيبه الطقسية‪ ،‬حواجب مقطبة‪ ،‬طنين‬
‫خفيض لذبابة كسولة‪ .‬يدخل ثالثة رجال شرطة‪.‬‬
‫ينادي أحد رجال الشرطة باسم الفتى الذي يجلس إلى جانب ليبل‪ .‬يقف الفتى‬
‫ببطء على ساقين مرتجفتين‪ .‬كان عمره ستة عشر عا ًما‪ .‬يخاطبه الشرطي ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫"أنت من صنعت البوستر"‬
‫‪ .‬يقول الحاخام‪" :‬ألديك أمر قضائي؟ ألديك إثبات؟"‬
‫يتحدث رجل الشرطة للصبي‪" :‬إن والدك في عهدتنا وسنطلق سراحه عندما‬
‫تسلم نفسك‪".‬‬
‫ي عبر الهاتف في اليوم التالي‪" :‬أتظنين أن هذه‬
‫يصرخ ليفي عل ّ‬
‫ديموقراطية؟" ويضيف‪" :‬قد يتم اعتقالك هنا على خلفية ما تعتقدين به‪ .‬إنهم يعتقلون‬
‫اليهود المتدينيين في كل أنحاء البالد‪".‬‬
‫ي جرم؟"‬
‫أقول‪" :‬هل أرتكب والد الفتى أ ّ‬
‫يجيب‪" :‬أبدًا‪ .‬لقد اعتقلوه من دون مذكرة قضائية‪ ،‬ثم استخدموه كمصيدة‪".‬‬
‫أقول‪" :‬لقد كان الفتيان مخطئين باالحتفال بذلك الشكل‪".‬‬
‫في ذلك الصباح وجد عميد اليشيفا سيارته وقد خ ّربت‪ .‬يقول ليبل‪" :‬إن األوالد‬
‫هنا ال يشبهونني‪ .‬أخرجيني من هنا‪".‬‬

‫مضت اآلن سنة ونصف‪ ،‬أبريل ‪ ،1997‬في اليوم األخير من الفصح‬


‫ي‪ ،‬عشية الغروب‪ .‬السماء مشوبة باأللوان‪ ،‬وأسراب الطيور الشمالية تتوقف‬
‫اليهود ّ‬
‫قبل حلول الليل في طريق هجرتها العكسية ألوطانها‪ .‬ترك ليبل التدريب الحاخامي‬
‫وانتقل إلى يشيفا في نيويورك تمنح فعليًا دبلوم ثانوية معترفًا به‪ .‬أصبح يقرأ الكتب‬
‫ضا‪.‬‬
‫العلمانية ويتابع السياسة ويرغب بمغادرة اليشيفا‪ .‬لقد تغيّر حيّنا في هيوستن أي ً‬
‫فحلت متاجر ‪ Dollar Store‬محل البوتيكات‪ .‬وتناثرت النفايات في مركز التسوق‬
‫القريب‪ ،‬وأصبح المراهقون المتجهمون يحومون حول الالفتات التي تحذر من‬
‫سرقة المتاجر‪ .‬نفس االنشقاق الحاد بين الحسيديين والسود الذي رأيته ذات مرة في‬
‫كراون هايتس آخذٌ في التطور هنا‪.‬‬
‫ضا تغيرت‪ ،‬غالبًا من خالل القراءة والكتابة إلى روزلين التي انتقلت‬
‫أنا أي ً‬
‫للسكن في شيكاغو‪ .‬لكنني أصمد من أجل األطفال‪ ،‬رغم الشرخ الطويل الذي يكبر‬
‫ببطء في داخلي‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مغتبط‪ ،‬فاليوم هو‬ ‫أما في الكنيس‪ ،‬فما من شيء قد تغيّر‪ .‬وأفرامي اليوم‬
‫األخير من عيد الفصح‪ ،‬وهو يصادف عيد ميالده الثالث عشر‪ .‬وسنقيم وليمة في‬
‫السبت المقبل لالحتفال ببلوغه (البار ميتزفاه)‪ .‬لكننا اليوم في القاعة المفتوحة أعددنا‬
‫موائد محملة بأكوام من خبز الميتزفاه المصنوع يدويًا‪-‬أقراص غير متساوية بحافات‬
‫حادة محروقة‪ ،‬وقناني النبيذ الحالل‪ ،‬وال شيء آخر‪ .‬هذه هي وجبة المسيا‪ .‬كنا قد‬
‫حجزنا تذاكر طيران لليبل وليبي ومندل كي يطيروا للمنزل من أجل هذه المناسبة‬
‫ومن أجل البار ميتزفاه‪-‬وهاهو أفرامي يجلس مع والده وإخوته‪ .‬يتجمع رجال‬
‫الطائفة ويتخذون مقاعدهم على الطاوالت‪ ،‬والحاخام فرومان هو الذي يرأس‬
‫التجمع‪ .‬قد َّم ليفي أفرامي بأول قبعة سوداء له على شرف بلوغه مرحلة الرجولة‪.‬‬
‫كانت القبعة جديدة وكبيرة على وجهه الصبياني‪.‬‬
‫أجلس خلف حاجز مع والدة ليفي‪ ،‬ومع ليبي وسارة‪ ،‬اإلناث الوحيدات هنا‪-‬‬
‫فالسيدة فرومان وكل النسوة األخريات مشغوالت في منازلهن بتحضيرات الفصح‪،‬‬
‫أن الطائفة تنظر إلى التج ّمع األخير من عيد الفصح نظرة ً خا ّ‬
‫صة‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى ّ‬
‫بوصفه طقسا ً خاصا بالرجال‪.‬‬
‫وبإشارة من الحاخام فرومان‪ ،‬يبدأ الرجال بغناء سلسلة مكونة من سبع أغان‬
‫ال تحتوي على كلمات تسمى النيغون ’‪ .‘nigun‬كل أغنية منها هي درجة أخرى‬
‫على سلم يؤدي إلى الجنة‪ .‬الحاخامات والحرفيون والعمال واألطباء والصغار‬
‫والكبار‪ -‬تعلو األغاني بنغمة خفيضة مكثفة‪ .‬تتآلف الطائفة والعائلة والرب لخلق‬
‫نوع من االنسجام الصامت‪ .‬يغلق أفرامي عينيه‪ ،‬يقبض على مقدمة كرسيه‪ ،‬وينود‬
‫بينما يغني‪ .‬كأس من النبيذ‪ ،‬قضمة من الماتزاه‪ ،‬أغنية أخرى‪ ،‬كأس أخرى‪ .‬الجماعة‬
‫تائهة في صميم اللحن الملتف‪ ،‬األجساد والقلوب مفتوحة‪ ،‬والرؤوس تميل للوراء‬
‫في الغناء‪ .‬يومئ الحاخام فرومان لولدنا‪.‬‬
‫هدوء‪ .‬عيون مفتوحة‪ ،‬يبدأ أفرامي بتالوة خطاب البار ميتزفاه‪ ،‬بالغ التعقيد‪،‬‬
‫عن ظهر قلب‪ ،‬بنمط غنائي‪ ،"Isa bemedrash tilim" .‬يرنّم بصوته‬
‫الصبياني‪.‬‬
‫بالعادة عندما يتلو الفتى الذي يبلغ البارميتزفاه هذا الخطاب الصعب‪ ،‬سرعان‬
‫ما يقاطعه الجمع بصرخات "مازل توف" لمنح الصبي استراحةً‪ ،‬بيد أن أفرامي‬
‫يستمر بال توقف‪ .‬وعلى مدى خمس وعشرين دقيقة ال يعلو صوت في القاعة إال‬
‫صوته‪ ،‬كان صوته الشاب مثل نوتة جديدة تتناغم مع أغنيتهم الطويلة‪ .‬عندما ينتهي‬
‫مزهو بالنصر‪ .‬ثم تعلو صرخات "مازل‬
‫ٌ‬ ‫من خطابه‪ ،‬يكون الهث األنفاس ولكنه‬
‫توف" ونغمة بهيجة جديدة‪ .‬الحمد للرب الذي اصطفانا خاص ًة له! يضحك الرجال‬
‫ويضربون الطاولة على إيقاع راقص‪ .‬في خضم ذلك‪ ،‬يثب أفرامي من مقعده‪،‬‬
‫ً‬
‫متجاوزا الحاجز إلى حيث نجلس‪ ،‬ويحيط جدته بذراعيه ثم يلفني بهما‪.‬‬ ‫وينطلق‬
‫ي‪ ،‬يقول في أذني‪" :‬هذا هو البارمتزفاه الحقيقي الخاص بي"‪.‬‬
‫وفيما هو بين ذراع ّ‬
‫لم يكن هناك سوى نبيذ‪ ،‬ماتزفاه جذابة قاسية محروقة األطراف‪ ،‬غناء‪ ،‬وبلوغ‪.‬‬

‫أخاطب ليفي‪" :‬سوف نساند ليبل‪ ،‬وإال سنفقده"‪ .‬أوقفت زوجي في غرفة‬
‫الجلوس وطالبته باإلصغاء إلي‪.‬‬
‫"ماذا تقولين؟"‬
‫"لن يبقى ليبل في اليشيفا‪ ،‬ولن يصبح حاخا ًما‪ .‬يقول بأنه سوف يلتحق‬
‫بالكلية‪".‬‬
‫وذاكر لوحده طيلة شهور‪ .‬ثم أدى اختبار سات ‪SAT‬‬
‫َ‬ ‫ابتاع ليبل كتبًا‬
‫واختبارات القدرة وأبلى فيهما بال ًء حسنًا‪.‬‬
‫يتكلم ليفي ً‬
‫قليال‪ ،‬لكنه يذعن على مضض‪.‬‬
‫في شهر مايو‪ ،‬يقبل ليبل في جامعة رايس في هيوستن‪ .‬وبعد سنوات من‬
‫البعد‪ ،‬يعود المتمرد المبجل الجديد في عائلتنا إلى المنزل‪ .‬في أحد األيام بعدئذ‪،‬‬
‫وبعد أن يعود للسكن في منزلنا‪ ،‬أجده منهم ًكا في حديث مع والده في غرفة المعيشة‪،‬‬
‫يتذكر ليفي سنواته السعيدة التي قضاها في دراسة الرياضيات والفيزياء في جامعة‬
‫بنسلفانيا‪ .‬يحن إلى الماضي‪ ،‬فتبسط أساريره‪ .‬يتكئ ليبل للوراء‪ ،‬متلهفًا للسماع‪.‬‬
‫أفرامي هو اآلخر‪ ،‬يغادر إلى يشيفا في شيكاغو‪ .‬أظل أفكر بأنني سوف أمر‬
‫على إحدى زوايا المنزل وألقاه منبط ًحا على بطنه‪ ،‬ورأسه مستند إلى قبضتي يديه‪،‬‬
‫وهو يلعب لعبة لوحية مع إيتزك‪ ،‬راس ًما على وجهه ابتسامة سريعة فتبين غمازاته‬
‫التي تسبب له اإلحراج‪ .‬أو أتخيله ينطلق في الشارع على دراجته الهوائية الصغيرة‬
‫جدًا‪ .‬أو يلقي نكاته الساخرة على مائدة الساباث‪.‬‬
‫على الرغم من أنه لم يبقَ في المنزل اآلن سوى أبنائي الثالثة األصغر سنًّا‪،‬‬
‫ي أن أبقى منغمسة في دراما األطفال وتنشئتهم‪ ،‬وما‬
‫إال أنه ما يزال من اليسير عل ّ‬
‫يزال من السهل أن أتجنب النظر إلى المرآة‪ ،‬ومن السهل أن أكرس نفسي للكتابة‬
‫ع المزيد من‬ ‫ليال ألتهرب ً‬
‫قليال من الحضور الذهني خالل النهار‪ .‬يمكنني أن أد َ‬ ‫ً‬
‫السنوات تمر بهذه الطريقة‪.‬‬
‫ثم في أحد األيام يتصل بي ميندل من أحد الهواتف العمومية ويذكر لي آخر‬
‫اإلشاعات التي تتحدث عن انتحار صبي مراهق في يشيفا اللوبافيتش في مانشستر‬
‫بإنجلترا بعد أن قفز من سطح مهجعه‪ .‬ليس هناك توضي ًحا رسميًا‪ ،‬لكن اإلشاعة‬
‫انتشرت بين أوساط الفتيان في يشيفات اللوبافيتش‪ .‬كانوا يقولون إن الصبي مثلي‬
‫الجنس وقد قتل نفسه ألنه كان ِمثليًا‪.‬‬
‫أقفل الخط وأنحني لألمام عاجزة ً عن التنفس‪ .‬أشعر بيأسه الغامر من عالم‬
‫يرفض قبوله كما هو عليه‪ .‬أراه يصعد الساللم الفارغة ويسير على السطح‪ ،‬أعصر‬
‫ي بعد إغماضهما لكنني ال أستطيع أن أدحر الصورة‪.‬‬
‫عين ّ‬
‫يجافيني النوم‪ .‬أحمل ذلك الصبي معي إلى اليوم التالي واليوم الذي يليه‪ .‬وال‬
‫أفهم ِل َم أفعل ذلك‪ .‬أفهم وال أفهم‪ّ ،‬‬
‫لكن الصبي يالزم تفكيري‪ .‬فما من مكان يلجأ‬
‫جبرا على‬
‫إليه‪ ،‬وال من سبيل لكي يكون نفسه من غير أن تتدمر حياته‪ .‬لقد كان م ً‬
‫االختيار بين حياته كما عرفها وإنهائها‪ .‬وقد اختار‪.‬‬

‫أنا "نحن‪ ".‬المجتمع‪ .‬نحن من جعلنا مأساة الفتى حتمي ًة‪ .‬لقد قتل الفتى نفسه‬
‫ألنه صدّق ما علّمناه إياه‪ ،‬ولذلك لم يستطع أن يتحمل نبضات قلبه‪.‬‬
‫إنه كأطفالي‪ .‬لقد أجبر على "بلوغ" كبلوغ الجندية الذي يتولى سحق أجزاء‬
‫من روحه‪.‬‬
‫ثم بدأت أشعر بتعاطف عميق غامض يهمس لي بأنني أعرف ذلك الفتى من‬
‫صا يجبرني على الدخول‬
‫الداخل‪ .‬إنني أعرفه وأحلم به‪ .‬أحلم بأنني هو‪ :‬أحلم بأن شخ ً‬
‫في قفص ذهبي‪ ،‬حيث أعيش يو ًما بعد آخر‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬أهرب وأتسلق إلى‬
‫أخيرا‬
‫ً‬ ‫السطح‪ .‬في الحلم‪ ،‬أنفذ قفزتي األخيرة باندفاع جامح‪ .‬فأصبح عديمة الوزن‬
‫وخلفي سماء غفورة‪.‬‬

‫أواخر يونيو‪ .‬أصطحب إيتزك وشالوم لدروس تنس مجانية في أحد مراكز‬
‫التنس القريبة‪ ،‬وقد أقنعت عائلة أخرى بأن ترسل ولديها معهما‪ .‬يثب األربعة من‬
‫السيارة ويندفعون نحو مالعب التنس‪ ،‬غير آبهين بالرطوبة والشمس وحشرات‬
‫ضا عن اليارمولكات وشعورهم القصيرة‬
‫الزيز التي تصم أصواتها اآلذان‪ ،‬ساهين أي ً‬
‫جدًا وعن حقيقة أنهم األطفال البيض الوحيدون في الصف‪ .‬أجلس في انتظارهم‬
‫على أريكة متهالكة من الفينيل في استراحة مركز التنس مع حاسوبي المحمول‬
‫المستعمل الذي اشتريته حديثًا‪ ،‬مرتاحةً لوجود مكيف الهواء البارد‪ .‬وبالطبع يعاود‬
‫الفتى المثلي في إنكلترا مجيئه إلي‪ ،‬فقد أصبح رفيقًا كثير الترداد‪ .‬أتخذ وضعية‬
‫جلوس مريحة‪ ،‬وأتنهد‪ .‬لكن ثمة إشاعة في الطائفة كل عام عن فتى آخر"على هذه‬
‫الشاكلة" مطرود من إحدى اليشيفات‪ ،‬ويتبع ذلك دائ ًما تعليقات تحمل ذعر قائليها‬
‫من حال عائلته التي سيصمها العار‪ ،‬وأشقائه الذين سيدفعون الثمن‪ .‬أف ّكر‪ :‬ما الذي‬
‫يعنيه هذا الشعور الذي يراودني بأنني أعرف شيئًا لم أختبره؟ أريد أن أكتب عما‬
‫كانت تبدو عليه الحياة لهذا الفتى يو ًما بيوم‪.‬‬
‫في كل صباح يؤخذ الفتيان في اليشيفات اليهودية إلى ميكفاه‪ ،‬حيث يتجردون‬
‫من ثيابهم ويقفزون في الماء سوية‪ ،‬كتحضير روحي للصلوات الصباحية‪ .‬بعد‬
‫ذلك‪ ،‬يستحم الفتيان جميعًا في وقت واحد‪ ،‬بحمام ذي غرفة تبديل واحدة‪ .‬وبين‬
‫جميع تلك األجساد الذكورية‪ ،‬ال بد أن الفتى الذي قفز من السطح قد شعر مثلما‬
‫سيشعر أي رجل شاب غيري الجنس لو طلب منه أن يندمج‪ ،‬بأريحية‪ ،‬وسط جوقة‬
‫ونهارا‪ ،‬تجمع المودة واألكل والشرب والملبس‬
‫ً‬ ‫محتشدة من النسوة العاريات‪ً .‬‬
‫ليال‬
‫والتعلم الفتيان سوية‪ .‬وهم يرقصون يدًا بيد‪.‬‬
‫كان فتى اليشيفا الذي يلحقني مثل ظلي غارقًا في هرموناته‪ ،‬يكابد األفكار‬
‫مؤرقًا من محط استقرار نظراته ومرعوبًا من‬
‫حرمة‪ .‬كان يعاني قلقًا ِ ّ‬
‫والخياالت الم ّ‬
‫خيانة نفسه باستراق نظرة إلى أحد الفتيان‪ .‬لكنّه يحب حياة اليشيفا‪ ،‬ويحب تفكيك‬
‫رموز تلك النصوص المقدسة المشفرة‪ ،‬واإلحساس بالوجود الدائم للرب قريبًا مثل‬
‫حبل الوريد‪ ،‬والصداقة الحميمية‪ ،‬ويحب الشعور باليقين مما هو صالح وصحيح‪.‬‬
‫كما أنه يحب والده‪ .‬ويحتاج رضاه‪.‬‬
‫أتوغل في حياة الفتى التي يتنازعها الصراع‪ ،‬شدة تفانيه المبكر‪ ،‬وارتباكه‬
‫عندما توصل لمعرفة نفسه‪ .‬إنني أشعر بما يشعره ذلك الفتى‪ ،‬وأريد ما يريده‪ .‬يتخذ‬
‫صة في حلقي‪ .‬وأطلق عليه اسم‬ ‫ً‬
‫شكال‪ ،‬ويتحول تعاطفي معه إلى غ ّ‬ ‫الشاب الخيالي‬
‫بركة‪.‬‬
‫في الميكفاه‪ ،‬لن يخلع بركة ثيابه مع اآلخرين‪ .‬ويبقى في مساحة االنتظار‪،‬‬
‫بينما يتجول الصبيان في المكان‪ ،‬عراة أو نصف عراة‪ ،‬بأجساد يافعة مفتولة‬
‫العضالت وشعور مبللة المعة‪ .‬وفيما هو جالس في مكان االنتظار‪ ،‬يقبض يده كما‬
‫لو أنه يمسك شيئًا فيها‪ .‬يحاول أن يوجه بصره إلى بالط األرضية األبيض‪ ،‬متمنيًا‬
‫لو ّ‬
‫أن هذا الفراغ األبيض نفسه موجود في ذهنه‪.‬‬
‫عندما ينتهي األوالد من درس التنس‪ ،‬يتكدسون في السيارة‪ ،‬ورائحة العرق‬
‫ي الوجوه ويتحدثون عن المدرب والنقاط واألوالد اآلخرين‬
‫تفوح منهم‪ ،‬كانوا محمر ّ‬
‫في الدرس‪ ،‬ال سيّما أولئك األوالد الذين ينظر إليهم أوالدنا بعين الحسد‪ .‬أقود السيارة‬
‫في طريق العودة للمنزل مستغرقة بالتفكير في بركة وأنا غير مدركة بعد للتشابهات‬
‫بين حياتينا‪.‬‬
‫وفي يوم آخر قضيته على األريكة الفينيل في بيت التنس‪ ،‬أقابل شلومو‪،‬‬
‫رفيق الدراسة لبركة‪ ،‬وصديقه منذ األيام التي قضياها معًا في مخيم الصيف‪ ،‬والذي‬
‫كان مغرما ً ببركة‪ .‬يبذل بركة جهدًا ليقاوم اهتمام شلومو‪ ،‬لكنه شديد التعلق بشلومو‪.‬‬
‫وفي ذات الوقت كان بركة طالبًا يحظى باإلعجاب في اليشيفا‪ ،‬وهذا يجعل الحاخام‪،‬‬
‫عميد اليشيفا‪ ،‬يز ّكيه أمام ممول اليشيفا الرئيسي لكي يخرج بموعد مع ابنة الرجل‬
‫بوصفه مرش ًحا للزواج‪ .‬وذلك شرف عظيم يبهج بركة‪ ،‬فهو يعرف أن والده سيكون‬
‫فخورا به‪ ،‬وستحتفي طائفته به‪ ،‬وبذلك سيكون ك َّل ما تربى أن يكون عليه‪.‬‬
‫ً‬
‫يخرج بموعد مع الفتاة التي تقول له‪" :‬إنك مختلف عن اآلخرين‪ ".‬تميل‬
‫وتقترب منه‪ ،‬وتكاد تضع يدها على وجهه‪ ،‬لكنها توقفها على بعد همسة من اللمسة‬
‫المحرمة‪ ،‬وأصابعها ترتجف‪.‬‬
‫عندما دعي ك ّل طالب اليشفيا لحضور زفاف أحد الطالب السابقين‪ ،‬ترك‬
‫بركة نفسه لالنغماس في االحتفال وهو يتخيل بلوغه الوشيك من نيل عضويته‬
‫أخيرا على أخذ مكانه بينهم كبالغ‪ .‬يرى‬
‫ً‬ ‫التامة في الطائفة كرجل متزوج‪ ،‬قادر‬
‫الفتاة التي واعدها ترقص في الطرف اآلخر من الحاجز الفاصل‪ ،‬ويرتمي في حلقة‬
‫الرجال الراقصين‪ .‬تمرر أكواب صغيرة من جرعات الفودكا بينما ينهمك الرجال‬
‫بالرقص‪ ،‬ويسلم بركة كل واحد من هذه األكواب بحماسة‪ .‬وسرعان ما تتشكل‬
‫حلقات داخل حلقات من الرجال الراقصين‪ .‬يترنح بركة من الكحول‪ ،‬والموسيقى‬
‫الصاخبة تدق في رأسه‪ .‬وفي كل مرة يبصر فيها شلومو يخطو مقتربًا من عمق‬
‫حلقات الرجال الراقصين‪ ،‬حتى يلقى به إلى قلب الرقصة ليرقص مع العريس‪.‬‬
‫ومرارا‪ ،‬وهما محاطان برجال يغنون ويضربون‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫فيرقص االثنان‪ ،‬بالدوران‬
‫األرض بأقدامهم ويهتفون لتشجعيهما‪ .‬ثم يفلته العريس ويرقص مع ضيف آخر‬
‫ضا‪ .‬ثم يترنح نحو شلومو‪ ،‬الذي يبدو بأنه‬
‫لتكريمه فيوشك بركة على السقوط أر ً‬
‫كان ينتظره‪ .‬وحينئذ يبدأ االثنان بالرقص‪ ،‬بطيئًا‪ ،‬ثم يزيدان سرعتهما‪ ،‬يدوران مع‬
‫الموسيقى‪ ،‬وهما يمسكان سواعد بعضهما‪ ،‬ويبدو لبركة أن الرجال قد شكلوا حلقة‬
‫حولهما‪ ،‬بدل االلتفاف حول العريس‪ .‬تص ّم الموسيقى المبهجة أذنيه‪ ،‬وتغمره‪ .‬يرى‬
‫ضا‪ .‬وبينما هما يرقصان لم يكن‬
‫الفتيان يضحكون ويشيرون إليهما‪ ،‬فيضحك هو أي ً‬
‫ي شلومو على راحتيه‬
‫هناك من شيء يحس به سوى الدقات النابضة لذراع ّ‬
‫والموسيقى التي تدق في رأسه‪ .‬تطير القاعة بهما‪ ،‬وتأخذ الوجوه الضاحكة المشوشة‬
‫بالتالشي‪ ،‬فيما تنساب الدموع على وجنات بركة‪.‬‬
‫لم أالحظ أن بركة كان في نفس عمري عندما تزوجت‪ ،‬رغم أنني أعلم أن‬
‫بركة كان سيتزوج بتلك الفتاة التي كادت تلمس وجهه لو أردت للقصة أن تكتمل‪.‬‬
‫كما أنني أعرف‪ ،‬وأرتعد من معرفتي‪ ،‬بأن أفضل نهاية للقصة هي حيثما توقفت‪،‬‬
‫وأنني لو نويت أن أدع القصة تستمر‪ ،‬فلربما سيقتل نفسه‪.‬‬
‫أوصل أصدقاء أطفالي إلى منازلهم ثم أنعطف إلى الممر المؤدي إلى منزلنا‪.‬‬
‫يركض إيتزك وشالوم إلى المنزل‪ ،‬فتهتز الجدران من طاقتهما الصبيانية بينما‬
‫يلتهمان الساندويشات وعصير التفاح ويعودان راكضين للخارج إلى دراجاتهما‬
‫الهوائية‪ .‬أخرج لمشاهدتهما‪ ،‬وبينما يتسابقان إلى نهاية الشارع‪ ،‬أشعر بأنني متيقنة‬
‫من أنه ما من حل للصراع بالنسبة لبركة‪.‬‬

‫تبعث روزلين ببطاقات بريدية‪ ،‬بمالحظات‪ ،‬بسطر عميق المعنى‪ ،‬لكنها‬


‫نادرا ما ترد على رسائلي بذات االلتزام الحقيقي التي أستمر بطلبه‪ .‬وأنا غير مدركة‬
‫ً‬
‫لسيل الرسائل المستمر منذ أربع سنوات الذي جعلتها تتحمله‪ ،‬ولم تكن لدي أدنى‬
‫فكرة عن االحتياج الجامح الذي كان ال بد وأنه يسترعي انتباهها حينما تفتح واحدة‬
‫أتبرم من مراسالتنا أحادية الجانب‪ ،‬وال أدرك بأنها استمرت بتقديم ما أريده‬
‫منها‪ّ .‬‬
‫وأحتاجه تما ًما‪ :‬تواصل صادق‪ ،‬تبادل‪ ،‬حرية نادرة ألعبر عما بداخلي‪.‬‬
‫ي‬
‫وفي أحد األيام‪ ،‬وفيما فوطة تنشيف األواني مرمية على كتفي‪ ،‬أمسح يد ّ‬
‫المبللتين بمئزري وأخرج ألجمع البريد‪ .‬وتحت حرارة الشمس الحارقة‪ ،‬أسحب‬
‫مظروفًا موقعًا بخط روزلين الموثوق‪ .‬كانت تعتذر في رسالتها عن عدم االلتزام‬
‫من جانبها بالرد على مراسالتي‪ .‬مرشدتي متعبة وتحثني على المضي قد ًما من‬
‫دونها‪ .‬أمسح العرق عن وجهي‪ .‬تقول في رسالتها‪" :‬أحيانًا‪ ،‬ألقي برسالتك على‬
‫ي أن أشعر‬
‫ستني‪ .‬إنه لمن الصعب جدًا عل ّ‬
‫نارا م ّ‬
‫أن ً‬‫كومة رسائلك السابقة كما لو ّ‬
‫ّ‬
‫أن بإمكاني أن أتجاوب مع شكك بذاتك عندما أفكر بالكتاب الذي يجب عليك أن‬
‫تكتبيه‪ ".‬أضحك عندما أتخيّل نفسي كاتبةً لها نتاج منشور في العالم العلماني‪ ،‬لكن‬
‫ضحكتي تخرج خاوية بال صوت‪.‬‬

‫يغوص ليبل في دراسات سيكولوجيا الدماغ وتاريخ الفن والمبارزة‪،‬‬


‫باإلضافة إلى دراسته للحاسبات والرياضيات في جامعة رايس‪ .‬يستكشف برام َج‬
‫ثقافية ومجموعات طالبية ورياضات وقضايا سياسية‪ ،‬ويجد أصدقا َء ستدوم‬
‫صداقته معهم لسنوات‪ .‬وسرعان ما تختفي لحيته ويارمولكته ويندمج في العالم بكل‬
‫حماسة ‪ -‬فيما أتشبث أنا بشدة أكبر بالستارة الخارجية لحياتي‪ ،‬وقد استحالت اآلن‬
‫إلى غاللة رقيقة وهشة‪ .‬أخبر نفسي بأنني أفعل ذلك من أجل األطفال‪ ،‬ألنني أخشى‬
‫أن تتداعى جدران منزلهم لو أنني تغيّرت‪ .‬وأثناء هذا‪ ،‬يختفي ليبل أحيانًا أليام‬
‫متواصلة‪ ،‬ينام على األرائك في غرف سكن أصدقائه‪ ،‬ويدرس في الصالة المشتركة‬
‫في كليته طوال ليال بأكملها‪ ،‬ثم فجأة يندفع بحيوية عبر الباب األمامي في أوقات‬
‫ً‬
‫حامال كومة من الغسيل وهو يصيح‪" :‬هل هناك طعام؟"‬ ‫غير متوقعة‬
‫ما تزال هناك لحظات حقيقية في أيامي اليهودية‪ :‬عندما يالمس عود ثقابي‬
‫المشتعل فتيل شموع الساباث‪ ،‬أزيز الثقاب‪ ،‬اشتعال الشمع‪ ،‬النار النامية‪-‬واللحظة‬
‫التي ينزلق فيها رأسي تحت مياه الميكفاه عندما أرى الفقاعات تحت سطح الماء‪،‬‬
‫يد منعدمة الوزن‪ ،‬ستار أزرق يحجب كل شيء في ذلك الممر الذي يقع تحت‬
‫المياه‪ .‬لقد مر الكثيرون من هنا وهم يأملون أن يخرجوا إلى حياة مختلفة‪ .‬ذات‬
‫مختلفة‪.‬‬
‫لقد بدأت رقصة الرغبة المتشابكة والشكوك الدينية في ذلك الساباث الذي لم‬
‫يمر عليه الكثير من الوقت ‪-‬حين أغلقت كتاب التوراة للمرة األخيرة‪ ،‬ألجد نفسي‬
‫فجأة مستثارة ً بالشعر المكتوب عن النساء المثليات فيما كان األطفال ّ‬
‫يكومون‬
‫األلعاب على السجادة‪ .‬أنجرف في تخيالت مبهجة أمارس فيها الحب مع أدريان‬
‫ً‬
‫رجال فحسب؛ ففي تلك‬ ‫ريتش‪ .‬ولم أعد أخبر نفسي بأنني كنت أحلم أنني كنت‬
‫األحالم كنت امرأة تمارس الحب مع امرأة أخرى‪ .‬ما أزال أرتعد من كلمة "مثلية"‪،‬‬
‫غير أنني ّ‬
‫بت أعرف نفسي اآلن‪.‬‬
‫بعد انقطاع دام عدة شهور أكتب إلى روزلين من انعدام حيلتي‪ .‬أخبرها بأال‬
‫تظن أنني أطلب ردًا على رسالتي‪ ،‬لكنني أحتاج ألن أكتب‪ ،‬أحتاج ألن أتحدث‪،‬‬
‫بدافع شيء من اليأس‪.‬‬
‫"أصبحت أجرؤ على القول بأنه عندما أقوم بقراءة التوراة اآلن أجد شبكة‬
‫من العقائد الفئوية الموضوعة‪ .‬لقد أنكرت لزمن طويل وجود أي حياة مختلقة في‬
‫التوراة‪ .‬لكن أهو التقدم في السن ذلك الذي يجعلنا ندرك أن البنى التي نبنيها حولنا‬
‫هي بنى مختلقة حتى وإن كنا ما نزال نرى الجمال الكامن فيها؟"‬
‫"ربما من الجيد أن يرث أطفالي ازدواجيتي‪ .‬إذا سلمتهم القناعة فقط‪ ،‬فقد‬
‫يحيدون عن سب ِلنا بنفس القوة التي تحولت بها ذات مرة نحو اإليمان‪ .‬لكن مع‬
‫االزدواجية‪ ،‬فما من شيء واضح يتمرد المرء عليه‪ ،‬ولعله من المفارقات أن يكون‬
‫هذا األمر هو سر النجاة اليهودية‪".‬‬
‫ثم يأتي االكتشاف‪:‬‬
‫"يجب أن تكون الشكوك والحاجة للتقييم النقدي جز ًءا من الشرط اإلنساني‪،‬‬
‫كبيرا من إيماننا هو إنكارنا لتلك الشكوك‪ .‬فهل نحن كحاسيدم ننكر‬
‫ً‬ ‫غير ّ‬
‫أن جز ًءا‬
‫إنسانيتنا؟"‬
‫"لقد بدأت ألمس التظاهر في تجمعاتنا الخاصة بالطائفة‪ ،‬وأصبح الطقس‬
‫ص َدفَة قديمة هشة‪ .‬وقد بت أفهم اآلن كيف يخلق‬
‫اليهودي في منزلنا يبدو مثل َ‬
‫اإلنكار ذاتًا مزيّفة؟ أأنا أعلم أطفالي كذبة؟"‬
‫ترد روزلين‪" :‬إنني مفجوعة حين أفكر بأنك تشعرين بالحاجة ألن تلتحقي‬
‫بي إلى أرض الشك‪".‬‬
‫فأرد عليها‪" :‬ربما ّ‬
‫أن جز ًءا صغي ًرا من روحي لم يغادر أبدًا‪".‬‬
‫لكن إيماننا قد َ‬
‫ط َب َع الكثير من أمومتي‪ .‬هل رددت البركة على التفاحة؟ عدّل‬ ‫ّ‬
‫تنس فعل ذلك‪ .‬ولمواجهة‬
‫قصرا‪ .‬اشكر الرب‪ -‬ال َ‬
‫ً‬ ‫يارمولكتك‪ .‬تلك التنورة تزداد‬
‫خيرا‬
‫خيبات أملهم وإحباطاتهم الطفولية أقول لهم‪ :‬هذا ما كان مقد ًّرا‪ .‬كما أن هناك ً‬
‫في هذا‪ .‬إنك جنديي الصغير‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فإنني ال أجد ما أقول إال بشق األنفس‪.‬‬
‫يصبح لساني منعقدًا وال أجد نفسي كفئا ً لهم‪ .‬ال ينبغي أن يكون األمر على هذه‬
‫الشاكلة‪ .‬أنا ما أزال أمهم‪ .‬ما أزال أبتدئ يومي بقوائم المهمات‪ ،‬أظفر بكل واحد‬
‫منهم على حدة ليخبرني عن مواعيد دخوله وخروجه ونشاطاته‪ ،‬وألطمئن ّ‬
‫أن كل‬
‫واحد منهم قد تناول طعامه وأكمل واجباته المنزلية‪ .‬أحل الخالفات‪ ،‬أو ال أتمكن‬
‫من حلها‪ ،‬أنفرد بكل واحد منهم كل مرة ألجلس معه أو معها ليخبروني كيف جرى‬
‫يومهم‪ .‬ليس من الصائب أن أشعر بأنني زائفة ال لشيء سوى ألنني أرتدي هذه‬
‫ي أكثر‪ ،‬لكي يبرز‬
‫التنورة والباروكة‪ ،‬بينما يصارع داخلي شخص مختلف‪ ،‬وحقيق ّ‬
‫إلى الوجود‪.‬‬
‫أريد أن أخبر أطفالي بأنني لم أعد أؤمن بالكثير من االعتقادات التي تخص‬
‫حياتنا‪ ،‬غير أنني ال أجرؤ على اإلفصاح بذلك‪ .‬لو أنني أستطيع البوح‪ ،‬لكنت قلت‪:‬‬
‫ليس من المهمّ عندي ما إذا كنتم ترددون الصالة َ الصحيحة أو تلبسون الثياب‬
‫المناسبة‪ ،‬اعرفوا أنفسكم فحسب‪ .‬ال تمضوا لألمام إذا لم تكونوا تعرفون أنفسكم‪،‬‬
‫مثلما فعلت أنا‪ .‬ال تكونوا مخادعين مع أنفسكم ومع الناس الذين تحبونهم‪ ،‬أو مع‬
‫الرب‪ ،‬مثلما كنت أنا‪.‬‬
‫فإن تغيّرت‪ ،‬إن أصبحت صادقةً‪ ،‬هل ستعرفونني؟‬

‫أوائل الربيع‪ ،‬بعد شهور من كتابتي لقصة بركة‪ .‬كان حينا الكائن في‬
‫الضاحية مزدانًا بزهور األزالية المتفتحة‪ ،‬وبالكركرديه المتبرعمة‪ ،‬وأزهار‬
‫الماغنوليا المتفتحة المبهرة التي تضاهي حجم طبق‪ .‬الشمس دافئةٌ ووادعةٌ في‬
‫ي تطير في السماء على شكل حرف ‪V‬‬ ‫ّ‬
‫اإلوز الكند ّ‬ ‫وأسراب من‬
‫ٌ‬ ‫السماء الصافية‪،‬‬
‫متّجهةً إلى الشمال مثل سهام مصوبة نحو الوطن‪ .‬أخرج السيارة من موقف سيارات‬
‫متجر البقالة‪ ،‬وذهني منشغل بالتفكير بالخسارات الضرورية‪ .‬ثم تداهمني لحظة‬
‫من الجنون االندفاعي‪ ،‬أخبر نفسي ّ‬
‫أن من األفضل أن أتحرك بأسرع مما يمكنني‬
‫التفكير‪ .‬أنعطف نحو االتجاه المعاكس للمنزل وأسير بسرعة نحو الجانب اآلخر‬
‫من البلدة إلى جامعة هيوستن‪ .‬أركن السيارة على نحو مخالف‪ ،‬وأوقف طالبين‬
‫محملين بالكتب من أجل السؤال عن الطريق‪ ،‬وأرفع تنورتي ألصعد ساللم‬
‫‪ Cullen Hall‬إلى حيث المكتب الفوضوي الخاص ببرنامج الكتابة اإلبداعية‬
‫للخريجين‪ .‬يسألني الموظف‪" :‬أتريدين استمارة تقديم؟ تنتهي مدة التقديم خالل‬
‫يومين‪".‬‬
‫في المنزل‪ ،‬أستل إحدى قصصي‪ ،‬تلك القصة التي تتحدث عن مونيا‪ ،‬وهي‬
‫مهاجرة روسية عجوز تعمل مشرفة على الميكفاه ً‬
‫ليال‪ .‬وفي إحدى الليالي تأتي‬
‫ً‬
‫بنطاال‪ ،‬وتريد الغطس في الميكفاه‪ .‬فهي‬ ‫امرأة غير متزوجة مكشوفة الشعر ترتدي‬
‫تأمل أن تطهرها الميكفاه من سرها المتمثّل باغتصابها وهي طفلة‪ .‬تشعر مونيا‬
‫بأنها مضطرة إلى مساعدة المرأة إلى الح ّد الذي يجعلها تتخطى الشريعة للمرة‬
‫األولى في حياتها‪ .‬عندما تقف المرأة أمامها عاريةً في المياه‪ ،‬تتلو مونيا صالتها‬
‫الخاصة‪ ،‬بكلماتها الخاصة‪" :‬اليوم سأسمح لنفسي أن أكون امرأة‪".‬‬
‫أرفق القصة باستمارة التقديم‪ّ .‬‬
‫لكن الصفحة الثانية من االستمارة مكتوب‬
‫فيها‪ :‬اذكر كل الجوائز التي حصلت عليها واإلصدارات التي نشرتها‪ .‬أترك‬
‫الصفحة فارغة‪ .‬ترسل لي روزلين خطاب توصية عن طريق الفاكس قبل ساعات‬
‫معدودة من انتهاء مهلة التقديم‪ .‬ثم أخبر ليفي عن األمر‪ .‬ال أطلب رأيه‪ ،‬أخبره‬
‫فحسب‪ .‬أقول‪" :‬لن أحصل على قبول في ذلك البرنامج‪ ،‬لكن إن حصلت عليه‪،‬‬
‫فسوف نتدبر األمر‪".‬‬
‫في مايو‪ ،‬تصلني رسالة بترويسة رسمية تقول‪" :‬نأسف إلبالغك …‪ "،‬أهمل‬
‫قراءة باقي الرسالة‪ .‬أمزق الورقة‪ ،‬فتتساقط مني أجزاؤها وأنصرف‪.‬‬
‫شهور دون أن نلمس أنا وليفي أحدنا اآلخر‪ ،‬وها هو هنا يقوم من‬
‫ٌ‬ ‫انقضت‬
‫كرسيه‪ ،‬ويلتقط أجزاء الورقة الممزقة من على األرض‪.‬‬
‫أقول له‪" :‬ال فائدة منها‪ .‬ال تزعج نفسك‪".‬‬
‫ير ّكب األجزاء الممزقة سوية‪ ،‬ثم يقرأ ما يستطيع قراءته‪ .‬يقول‪" :‬انتظري‪،‬‬
‫ليس األمر سيئًا للغاية‪".‬‬
‫أقول‪" :‬لم أعد أهتم‪".‬‬
‫إنك على قائمة االنتظار‪ ".‬ثم يأخذ بالقراءة بصوت‬
‫يجيبني‪" :‬كال‪ ،‬انظري‪ِ .‬‬
‫عال‪" :‬نرجو منك االتصال بنا حتى نعرف أفضل طريقة للوصول إليك‪ ".‬أرجع‬
‫للوراء‪ ،‬وأنا أخطو مقتربة من حرارته وثقله‪ .‬آخذ ما تبقى من الرسالة من بين‬
‫يديه‪ ،‬وأصابعي تالمس أصابعه التي كانت باردة وخشنة وجافة‪ .‬أتطلع إلى عينيه‪،‬‬
‫كنت؟ أقول‪" :‬أوه‪ .‬آوه‪".‬‬
‫وأفكر‪ :‬أين َ‬
‫أواخر أغسطس‪ ،‬وأنا أصعد ساللم بناية (‪ )Roy Cullen‬في جامعة‬
‫هيوستن تتعثر أقدامي بالتنورة وأكاد أسقط‪ .‬كنت متوترة للغاية‪ .‬ثم أصل إلى بسطة‬
‫الوصول‪ .‬كان المكان متسخا ً‬
‫قليال‪ ،‬لكنني وصلت‪ .‬أين األبواق؟‬
‫اقترب نحوي رجل عجوز بشعر قصير داكن وخدود مترهلة وعيون داكنة‬
‫ً‬
‫حامال في إحدى يديه‬ ‫صغيرة‪ ،‬وكانت تبدو عليه عالمات الصرامة واالنهماك‪،‬‬
‫حقيبة أوراق وفي األخرى حزمة غير مرتبة من األوراق‪ .‬قال‪" :‬وجهك ليس مألوفًا‬
‫لي‪".‬‬
‫عا لرجل ربما للمرة األولى في حياتي‬
‫فأجبته‪" :‬نعم‪ ".‬ثم مددت يدي طو ً‬
‫كراشدة‪ .‬لكن طبعًا كانت يداه مشغولتين‪ ،‬لقد كانت تلك لحظة محرجة‪.‬‬
‫سألني‪" :‬ما اسمك؟"‬
‫"ليا الكس‪".‬‬
‫"أوه‪ ،‬لدي قصتك القصيرة هنا في مكان ما بين األوراق‪ "،‬يقول ذلك وهو‬
‫يلقي نظرة خاطفة على األوراق التي على وشك السقوط‪" .‬لدينا برنامج إرشاد‬
‫جديد‪ .‬وأنا سأكون مرشدك‪ ".‬كان مرشدي هو الروائي دانييل ستيرن‪.‬‬
‫أبدأ الدراسة‪ ،‬ومن ضمنها الحلقات الدراسية لدان ستيرن عن كتابة الرواية‪،‬‬
‫فيأخذ المجتمع الحسيدي بالتنائي عني‪ .‬أتوقف عن ارتياد الكنيس وحضور تجمعات‬
‫الطائفة‪ .‬وعندما أصادف أيًّا من نساء الطائفة‪ ،‬فإنهن يبدون فخورات بي‪ ،‬لكن يبدو‬
‫أن هناك توقعًا واض ًحا منهن بأنني سوف أستخلص من الجامعة فقط تلك المعرفة‬
‫التي أحتاجها ألطور مهاراتي من دون الخضوع لألفكار غير المحلّلة‪ .‬فأنا سأكون‬
‫عنصر العرض للطائفة‪ ،‬ألري العالم كيف يستطيع الحاسيدم أن يكونوا متعلمين‬
‫ضا هو ما يثق به ليفي ويأمله ويتوقعه‬
‫من دون التفريط بديننا‪ .‬وأنا أتوقع أن هذا أي ً‬
‫مني‪.‬‬
‫أوه‪ّ ،‬‬
‫إن من المذهل أن تجابه نوعية الفكر واإلبداع التي تنشأ في ظ ّل عدم‬
‫ي رقابة‪ّ .‬‬
‫لكن هذا المكان فيه حرية جامحة‪ .‬لقد كنت أريد أن أترفع عن‬ ‫وجود أ ّ‬
‫حياتي إلى مكان من دون تضييق‪ ،‬لكن هذا المكان بمثابة الستراتوسفير‪.‬‬
‫وفي إحدى الليالي‪ ،‬أشتغل على مقالة نقدية لصف دان ستيرن‪ ،‬إذ ينبغي علينا‬
‫أن ننقد عمل أحدنا اآلخر كل سبوع‪ .‬لكن القصة التي أعمل عليها تكدّرني‪ .‬تجرح‬
‫الشخصية في القصة نفسها وتغوص في حالة حلم يكون األلم فيه نشوة‪ .‬أنا حانقة‪.‬‬
‫هذه هي القصة الرابعة التي أقرؤها عن إيذاء النفس في هذا الفصل الدراسي‪ .‬ال‬
‫أستطيع أن أفهم كيف يستخدم أحدهم األلم لمحاربة األلم‪ ،‬وال أستطيع تصور تشويه‬
‫المرء لذاته لتصبح عدوه‪ ،‬وال أستطيع أن أبصر حياتي الخاصة‪.‬‬
‫باكرا مثل عفريت‪ ،‬أخذت ورقة فارغة وكتبت‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬ذهبت للدرس ً‬
‫عليها بحروف كبيرة‪( :‬مرحبا بكم في ورشة عمل دان ستيرن إليذاء النفس)‪.‬‬
‫وقبل أن يصل أحد‪ ،‬أعلّق الالفتة على الجهة الخارجية للباب‪ .‬بفعلتي هذه‪ ،‬أقوم‬
‫سرا بتوبيخ الطالب بالطبع‪ ،‬لكنّني أي ً‬
‫ضا أواجه مشقة في التكيّف مع حالة انعدام‬ ‫ً‬
‫الرقابة‪ .‬الهواء متخلخل للغاية‪-‬وأنا أعاني من أعراض انخفاض الضغط الجوي‪.‬‬
‫الحقًا‪ ،‬لن أشعر بالفخر من تعليق تلك الالفتة‪ ،‬من فرض الرقابة على الطالب بهذا‬
‫الشكل‪ .‬يصل الطالب‪ ،‬ويضحكون على الالفتة ثم يتخذ كل منهم مكانه في مقعده‪.‬‬
‫أخيرا يصل دان‪ ،‬يبدو عليه الغضب ويمزق الالفتة وهو يقول‪" :‬من فعل‬
‫هذا؟" ال ينطق أحد بكلمة‪ .‬أفكر‪ ،‬لقد جعلتهم يضحكون على أنفسهم على األقل‪ .‬ما‬
‫من مشاهد تجريح تظهر في القصص المستقبلية‪.‬‬
‫يشمل البرنامج دراسات مكثفة في األدب والنقد‪ ،‬وأنا مبتدئة‪ ،‬غرة وطموحة‪،‬‬
‫ترتدي التنورة والشال‪ .‬أقرأ خمسين كتابًا في السنة األولى وأسجلها بقائمة‪ .‬أمأل‬
‫دفاتر المالحظات بخربشات في الهوامش‪ :‬اقرئي فوكو! ابحثي عن الهيمنة‬
‫‪ ،hegmony‬عن الفريد من نوعه ‪ ،sui generis‬عن نظرية المعرفة‬
‫‪ .epistemology‬تفتر عزيمتي أحيانًا‪ ،‬أتكدّر من حماسي ال ِغ ّر‪ ،‬لكن فتوري ال‬
‫يدوم‪ .‬فهناك الكثير ألتعلمه‪.‬‬
‫أحضر حلقات دراسية عن الرواية مع روبرت بوزويل (ندعوه بوز)‪ ،‬الذي‬
‫يتحدث أسبوعيا عن أهمية السخرية في كتابتنا‪ .‬في المرة األولى التي أسمعه فيها‬
‫يقول تلك الكلمة‪ ،‬سخرية‪ ،‬أذهب للمنزل وأحدق ببالهة في تعريف الكلمة الواضح‬
‫جدا ً في أحد القواميس‪ِ .‬لم ال أستطيع فهم هذا؟ ِلمَ ال يمكنني أن أتعرف على كلمة‬
‫السخرية المكتوبة على الورق أو أن أتخيل كيف أكتبها؟ يكرر بوز التطرق للمسألة‬
‫عا بعد آخر‪ ،‬وتستحيل مشكلتي مع السخرية إلى أزمة سرية صغيرة‪ .‬يقول إن‬
‫أسبو ً‬
‫السخرية هي صدام بين األضداد‪ ،‬عندما يقول شخص شيئًا ولكنه يعني شيئًا َ‬
‫آخر‪،‬‬
‫ضا صري ًحا مع األسلوب المحدد مسبقًا‪-‬‬
‫أو عندما يتعارض وقوع حدث ما تعار ً‬
‫حدث كوميدي في جنازة‪ ،‬ال مباالة بليدة وسط حشد صاخب‪ ،‬عبارة كراهية منطوقة‬
‫بصوت رقيق‪ .‬يحبطني ذلك‪ ،‬تحبطني الطريقة التي يطلب مني فيها أن أتبنى ضدين‬
‫في اآلن ذاته‪.‬‬
‫وكثيرا على سحق‬
‫ً‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫يحدث هذا عندما أبدأ بإدراك أن عقلي قد د ِ ّرب‬
‫ي أن أتعرف على مثل‬
‫األفكار أو المشاعر المتناقضة حتى أصبح من الصعب عل ّ‬
‫هذه التناقضات‪ .‬لقد علموني أن أعتقد بأنه إذا ما كان الخيار(أ) صحي ًحا‪ ،‬فيجب‬
‫بالضرورة أن يكون الخيار (ب) خطأ ً‪ .‬ال يوجد غير سبيل واحد‪ ،‬ويجب تصنيف‬
‫شرا‪ .‬أف ّكر‪ :‬هل يمكن أن يكون‬
‫خيرا أو ً‬
‫ً‬ ‫كل شيء ليكون إما صحيحا ً أو خطأ ً‪.‬‬
‫الخياران صائبين في ذات الوقت‪ ،‬من دون صراع أو أحكام أو تصنيفات؟ هل‬
‫أقر بذلك‪ ،‬أو أن أكتبه؟‬
‫يمكنني أن ّ‬
‫ي األبعاد‪ ،‬مثل‬
‫إن محاولة فهم كل هذا تجعلني أشعر أن عقلي بدأ يصبح ثالث ّ‬
‫شخصية كارتونية مرت فوقها مدحلة‪ ،‬ثم تهادت صوب العالم‪ ،‬مصدرة طقطقة‬
‫وهي تنتفخ لتصبح ثالثية االبعاد ثانية‪ .‬طق‪ .‬طق‪ .‬طق‪.‬‬
‫يتغير العالم‪ .‬يصبح الناس مجموعات مدهشة من التناقضات من دون‬
‫تصنيفات وال أحكام‪ .‬وكذا الحال مع األحداث‪ .‬لم أعد بحاجة إلى استخالص‬
‫االستنتاجات؛ ال أريد سوى أن أقترب وأتفحص كل الخيوط واأللوان والمفاجآت‪.‬‬

‫هناك الكثير جدًا من القواعد الجديدة في الكتابة‪ .‬وجريًا على العادة‪ ،‬أعمل‬
‫بدايةً على تعلم القواعد واتبّاعها‪ .‬ومع ذلك أبدأ تدريجيًا بفهم أن هذه القواعد مختلفة‬
‫عن تلك القواعد التي ما تزال تحكم حياتي‪ .‬أنا أمتلك هذه القواعد للكاتبة التي في‬
‫داخلي‪ ،‬وهي ال تمتلكني‪ .‬فأنا أستطيع أن أتالعب بهذه القواعد وأن أكسرها‪ .‬وذلك‬
‫يحدث عندما أصبح كاتبة‪ .‬وبالغة‪.‬‬
‫إنني أتغير من نواح أخرى‪ .‬ربما سبب ذلك التغيير هو قراءة كل تلك الكتب‬
‫التي يحمل كل واحد منها وجهة نظر أو فلسفة مختلفة‪ ،‬ولكل منها جوهر مختلف‪،‬‬
‫فتش ّكلت في عقلي مجموعة جديدة من األصوات‪ ،‬وليست أصوات مجموعة في‬
‫اتساق تام‪ .‬ربما السبب هو كل ذلك الوقت الذي أقضيه خارج المنطقة الحسيدية في‬
‫حرية أكاديمية غير مقيدة‪ .‬ال أعرف على وجه التحديد‪ ،‬لكنني اآلن أستطيع رؤية‬
‫أن الحياة الدينية قد مألتني بقناعات مبالغ في عظمتها‪ ،‬وجعلتني أعتقد بأنني كنت‬
‫أعرف كلمات الرب وأفكاره وأنني قد غيّرت العالم ً‬
‫فعال بقدحة عود ثقاب أو بعقد‬
‫أربطة األحذية بالطريقة الصحيحة‪ .‬واآلن ال أشعر إال بكوني ضئيلة وعديمة‬
‫التأثير‪ .‬أهذا ما يكون عليه العالم في الخارج؟ ما من سبيل واضح‪ ،‬وإنما خليط‬
‫هائل من االعتقادات واألحداث والشخصيات والرغبات المتعارضة فحسب‪ .‬وما‬
‫أثرا‬
‫من شيء أفعله سيغير هذا؟ سأموت‪ ،‬كأنني نقطة على شاشة رادار‪ ،‬ولن أترك ً‬
‫على اإلطالق‪ .‬وال يهم كيف أعقد رباط حذائي‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬بعد كل هذه السنوات التي عشتها في األسود واألبيض‪ ،‬ما أزال أجهل‬
‫تما ًما حتى ما هو اللون‪.‬‬
‫على الرغم من أنني أستطيع أن أرى التناقض والسخرية أينما ألتفت‪ ،‬فأنا‬
‫غير مهيئة للتعامل معهما‪ .‬في العالم العلماني‪ ،‬أنا طفلة‪ ،‬أو مهاجرة جديدة‪ ،‬من‬
‫دون بصيرة وال نقاط مرجعية‪.‬‬
‫في الصف وفي استراحة الطالب‪ ،‬أساير األحاديث‪ ،‬لكنهم يتحدثون عن‬
‫األفالم وبرامج التلفزيون والسياسة وأنا أجهل معظم ما يتحدثون عنه‪ .‬يلتقي الطالب‬
‫ويقضون أوقاتًا في البارات والمقاهي والمطاعم‪ ،‬حيث ال أعرف ما أطلب أو كيف‬
‫أحسب قيمة الضريبة واإلكرامية‪.‬‬
‫ألقي نفسي في الدراسة بينما أحاول أن أواكب متطلبات البيت واألطفال‪،‬‬
‫كثيرا‪ .‬ابحث عن علبتين من‬
‫ً‬ ‫وتوجيه أكبر األوالد عبر الهاتف‪ ،‬وهذا ما أقوم به‬
‫الهوت دوغ في الثالجة‪ .‬اضبط الفرن على درجة حرارة ‪ .350‬راقب الفرن‪ .‬وفي‬
‫ضا كما لو أنني قد‬
‫المنزل‪ ،‬أقوم بواجبي البيتي كما لو أنه أمر حيوي‪ ،‬لكن أي ً‬
‫تعرضت للسرقة‪.‬‬

‫الحوار الذي لم يحدث أبدًا مع الجماعة‪-‬الجوقة اإلغريقية ذات اللهجة اليديشية‬

‫أخيرا من الرد‬
‫ً‬ ‫الذي أتمكن فيه‬
‫أنا (مشيرة بإصبع اتهام)‪ :‬اآلن بت أعرف أنكم ما أريتموني من العالم إال ما‬
‫أردتم لي أن أراه‪ .‬لقد قلتم لي أن العالم مليء بالدنس واألكاذيب‪ .‬لقد جعلتموني‬
‫أضيّع الحياة‪.‬‬

‫أخبرناك‪ -‬عن‬
‫ِ‬ ‫الجوقة اإلغريقية ذات اللهجة اليديشية‪ :‬لقد أخبرناك ‪-‬لقد‬
‫الخنزير الذي يظ ِهر حافره المشقوق ليخدعنا كي نعتقد بأنه حالل‪ .‬ليست األشياء‬
‫على ما تبدو عليه‪ .‬نحن قلنا‪ ،‬الزمي الحذر‪ .‬الشر مختلط مع الخير‪ ،‬والخير مختلط‬
‫مع الشر‪ .‬ال تدّعي أننا قلنا لك عكس ذلك‪.‬‬

‫أنا‪ :‬ثم واسيتموني بالزعم أن الواقع كان مجرد حلم رديء‪ ،‬وأن حلمكم‬
‫بالكمال هو الواقع‪ .‬لقد فعلتم هذا بي لكي تجعلونني أدير ظهري للعالم وأعتنق‬
‫توراتكم‪ .‬وها أنا هنا قد فاتني الركب‪.‬‬

‫الجوقة اإلغريقية ذات اللهجة اليديشية‪ :‬لكننا قلنا إن للحقيقة مظاهر كثيرة‪.‬‬
‫ال تتهمينا باألفكار المب ّسطة‪.‬‬

‫أنا‪ :‬لم يج ِد ذلك نفعًا‪ .‬لقد شوهتم عقلي‪ ،‬وسحقتموه‪.‬‬

‫[تختفي الجماعة]‬

‫سا عندما فقد إيمانه‪ .‬أكتب لروزلين‪" :‬كان‬


‫في شعر روبرت لويل‪ ،‬أراه يائ ً‬
‫على أحدهم أن يحذّر لويل من أن تطوير نفسه ككاتب سوف يتطلّب منه ً‬
‫قدرا من‬
‫قادرا مجددًا على اعتناق‬
‫ً‬ ‫الصدق الموجع مع النفس لمواجهة حقيقة أنه لن يكون‬
‫الدين بإخالص تام‪ .‬ليتني استطعت تحذيره‪ ،‬لكنت أخبرته أن الرؤية التي تتطلبها‬
‫منك الكتابة هي السعي لتحطيم ك ّل أوهامك‪ ،‬ركائزك ض ّد الريح‪ .‬توقف! أريد أن‬
‫أخبره‪ ،‬ألن اإليمان هو أثمن أوهامنا‪ ،‬وهو بالغ الهشاشة عندما يزال الستار الذي‬
‫يكف لويل‬
‫َّ‬ ‫يحجب العالم‪ .‬توقف! ألنه ال يمكنك أن تظل سعيدًا إن لم تبقَ أعمى‪ .‬لم‬
‫عن اإليمان بالرب‪ .‬لكنه فقد قدرته على إيجاده‪".‬‬

‫كثيرا لشرب بعض‬


‫ً‬ ‫في الصف وخارجه‪ ،‬لم يكن زمالئي الطالب متاحين‬
‫القهوة‪ ،‬وأنا لم أدرك أن مظهري قد يكون سببًا بهذا‪ .‬ثم في أحد األيام وجدت طالبًا‬
‫مثليين صرحاء يتجمعون في صالة استراحة الطالب‪ ،‬وكانت األجواء مليئة‬
‫بالبساطة والدعابة الجريئة‪ .‬أجلس عند الطرف من تلك المجموعة المميزة بتنورتي‬
‫الطويلة وشالي‪ .‬يصمت الجميع ثم يتفرقون بهدوء‪.‬‬
‫أتحول إلى ارتداء تنورات أقصر‪ ،‬وينحسر الشال أكثر عن رأسي‪ .‬أتخلى‬
‫ّ‬
‫عن الجوارب الطويلة‪ .‬أصادف إحدى النساء الحسيديات في متجر البقالة‪ ،‬فتنظر‬
‫ي العاريتين وتخفض عينيها‪ .‬لم يعد أح ٌد يدعوني‬
‫إلى شعري المكشوف وساق ّ‬
‫لإلشراف على غطس في الميكفاه أو تدريس أحد الصفوف‪.‬‬
‫أحلم أنني أسير عبر كون مائي هو في حقيقته ميكفاه هائلة‪ .‬وكل الجماعة‬
‫حاضرة هنا تحت المياه‪ :‬ميرا رفيقة الميكفاه القديمة والتي بالكاد تتحدث معي اآلن‪.‬‬
‫ّ‬
‫تحث خطاها حين تقابلني‪ ،‬ولم يعد هناك من دردشات ليلية متأخرة‬ ‫شتيرنا‪ ،‬التي‬
‫بيننا‪ .‬الحاخام فرومان وزوجته الصالحة الغاضبة‪ ،‬بل وحتى ليفي‪ .‬ينتشر األطفال‬
‫في كل بقعة من هذا العالم المائي‪ ،‬ومن ضمنهم أطفالنا‪ ،‬يلعبون ويقفزون‪ ،‬وال يبدو‬
‫أن أحدًا يالحظ أنه ما من أحد يستطيع التنفس‪ ،‬أو أن الماء ملوث بالفضالت‬
‫البشرية‪ .‬لكنني مجرد زائرة وعابرة سبيل‪.‬‬
‫رغم ذلك أستمر بالذهاب إلى الميكفاه كل شهر‪ ،‬أفعل ذلك باستياء‪ ،‬وبشره‬
‫روحي‪ .‬أذهب على الرغم من وعيي المستجد بكراهية النساء‪ ،‬وبالخوف البدائي‬
‫من نزيف المرأة الذي بلور هذه القوانين ولوث حياتي‪ .‬وعلى مدى سبعة أيام بعد‬
‫صا داخليًا ألتأكد من انقطاع النزيف‪ .‬أعد األيام‬
‫انتهاء دورتي الشهرية‪ ،‬أجري فح ً‬
‫بدقة وأحرص على أال ألمس ليفي لما بعد انتهائي من الغطس‪ .‬أفعل ذلك ّ‬
‫ألن تلك‬
‫اللحظة‪ ،‬التي أخرج فيها من المياه التي تصل إلى مستوى صدري‪ ،‬وأقف منتصبة‬
‫مجددًا‪ ،‬ثم أستدير صوب الحائط ذي البالط المبلل ألنطق بكلمات عتيقة‪ ،‬هي‬
‫الطريقة الوحيدة المتبقية لي للصالة‪ .‬عاريةً في الميكفاه‪ ،‬أعرف من أنا‪ .‬يختفي‬
‫الحاخامات وتختفي كتبهم‪ .‬ما الذي سيحدث لي اآلن؟‬
‫الفصل التاسع عشر‬

‫مر أكثر من خمسة وعشرين عا ًما مذ قمت أنا وآنا ذات مرة بالغناء مع فتاة‬
‫ّ‬
‫تدعى جانيس كانت قد جاءت إلى تجربة معايشة الساباث‪ .‬تناغمنا الثالثي في تلك‬
‫الليلة‪ ،‬األصوات الممتزجة بالبراءة والثقة المشتركة‪ ،‬النفوس التي تض ّج بمخططات‬
‫شبابية‪ .‬كم كان لقاء الصدفة ذلك مقتضبًا‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬عندما ميّزت جانيس في‬
‫متجر البقالة‪ ،‬ناديت باسمها وأسرعت نحوها قائلة "مرحبا" مفخمة‪ .‬تبادلنا أرقام‬
‫الهواتف‪ ،‬وبعد عدة مكالمات تلفونية طيبة‪ ،‬لكن موجزة‪ ،‬أخذت "قصة مونيا" مرة‬
‫أخرى من الحافظة المشبكة وأرسلتها إليها‪ .‬التقينا لشرب القهوة بعد فترة ليست‬
‫بقي ليفي في المنزل مع األطفال‪ ،‬وانغمست في نوع‬
‫بالطويلة في أحد اآلحاد‪ ،‬بينما َ‬
‫من حديث الصديقات الذي لم أعهده مع أحد من قبل في الطائفة أو في الجامعة‪.‬‬
‫مجرد رغبة‪ ،‬أخبر نفسي‪ ،‬بعد أن شعرت باالنجذاب نحو الحرية‪ .‬ال تنسي من‬
‫إنها ّ‬
‫أنتِ‪.‬‬
‫اإلرهاق باد في عينيها‪ ،‬والتقطيب واض ٌح على جبينها‪ ،‬تبدو جانيس كما لو‬
‫ضا بحاجة لصديقة‪ .‬كم هي مختلفةٌ طرقنا التي سلكناها! لقد أصبحت جانيس‬‫أنها أي ً‬
‫مصورة صحفية تجوب العالم‪ ،‬متزوجة ولها ابن‪ .‬تشتغل في التصوير لصالح إحدى‬
‫المؤسسات‪ ،‬لكنها تعمل فنانةً أي ً‬
‫ضا‪ .‬نتحدث عن األطفال وصناعة الفن كما لو أننا‬
‫نستأنف صداقةً قديمة‪ ،‬صداقة لم نح َ‬
‫ظ بها يو ًما‪ .‬ال تفوتني هذه المفارقة‪.‬‬
‫تقول‪" :‬اسمعي‪ .‬لقد دعاني القائمون على ذلك الغاليري المسمى ‪Diverse‬‬
‫‪ Works‬إلقامة معرض لصوري‪".‬‬
‫أجيبها‪" :‬رائع!‪ "،‬لكنني‪ ،‬أتراجع للخلف ً‬
‫قليال‪ .‬أنا خجلة‪ ،‬وغيورة بعض‬
‫الشيء‪.‬‬
‫تقول‪" :‬إنه حدث مهم‪ .‬سيكون لدي حائطان ألمألهما بصوري‪ ".‬تميل لألمام‬
‫وتضيف قائلةً‪" :‬لقد قرأت قصة مونيا‪ ،‬لكن أتدرين‪ ،‬لطالما ظننت أن قوانين الميكفاه‬
‫بالية وتنضح بكراهية النساء‪ .‬لم أتخيّل أن احدًا قد يستخدم الميكفاه على طريقته‬
‫قصتك‪".‬‬
‫ِ‬ ‫الخاصة ‪-‬خارج نطاق الشريعة اليهودية‪ -‬مثل تلك المرأة في‬
‫"ماذا تريدين أن تقولي؟"‬
‫صورا في الميكفاه‪".‬‬
‫ً‬ ‫"أريد أن ألتقط‬
‫أمر شديد الخصوصية‪ .‬لن يسمح لك أحد‪"-‬‬ ‫أجيبها‪" :‬ماذا؟ ّ‬
‫لكن ذلك ٌ‬
‫"ال أريد أن أنتهك خصوصية أحد‪ ،‬سأجلب فتيات عارضات وأجعلهن‬
‫يحاكين العملية‪".‬‬
‫ٌ‬
‫عاريات في الميكفاه‪ ،‬لكن لماذا؟"‬ ‫ٌ‬
‫عارضات‬ ‫أقول متسائلة‪" :‬عارضات!‬
‫تزداد هدو ًءا وتجيب‪" :‬اللتقاط الصور‪ .‬تلك طريقتي في الفهم‪ ،‬وأنا أريد أن‬
‫أفهم‪".‬‬
‫فأجيب‪" :‬لكنك ستبللين كاميرتك!"‬
‫وترد ضاحكةً‪" :‬ستتبلّل بشدّة‪ ،‬ال سيّما أنني سأجلس تحت المياه‪".‬‬
‫فأجيبها‪" :‬حسنًا‪ ،‬وأي حاخام يحترم نفسه ذلك الذي سيسمح ِ‬
‫لك بأن تلتقطي‬
‫صورا عارية في ميكفاته؟" نضحك كلتانا‪ .‬ثم أعود في عقلي إلى الميكفاه‪ ،‬عينان‬
‫ً‬
‫أطراف وشعر طاف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مفتوحتان على الشقوق في تلك المساحة البينية الزرقاء؛‬
‫عليك أن تذهبي للميكفاه‬
‫ِ‬ ‫فقاعات‪ ،‬صوت دقات القلب‪ .‬أقول لها‪" :‬قبل كل شيء‪،‬‬
‫تتعرفي على المكان‪".‬‬
‫ّ‬ ‫بنفسك‪ .‬يجب أن‬
‫"أود ذلك‪".‬‬
‫ثم نتبادل األفكار‪ ،‬ونحن مفعمتان بالحيوية والحماس‪.‬‬
‫تسأل‪" :‬هل يمكنك أن تساعديني؟"‬
‫أتسائل‪ .‬يمكننا أن نذ ّكر الحاخام بأن صور الميكفاه الجميلة قد تمنحها سمعة‬
‫طيبة في العالم‪ ،‬فهم دائ ًما ما يبحثون عن أدوات جديدة للدعوة‪ .‬سيكون على جانيس‬
‫ي‪.‬‬
‫الحذر بالتعامل مع العر ّ‬
‫َ‬ ‫أن تتو ّخى‬
‫أقول‪" :‬لعلني ما أزال أحظى ببعض المصداقية‪ ،‬لذا فسأرتدي الباروكة‬
‫وأقدمك للحاخام فرومان‪".‬‬
‫ِ‬
‫ت‬ ‫طوال الطريق إلى المنزل‪ ،‬كنت مفعمةً بالحياة‪ ،‬وأف ّكر في ّ‬
‫أن الصديقا ِ‬
‫أفكارك جمو ًحا‪ .‬ال أعرف شيئًا عن النساء العظيمات الالتي‬
‫ِ‬ ‫جربين أكث َر‬
‫يجعلنك ت ّ‬
‫ِ‬
‫جراء حصولهن على القوة من الصداقات الصدوقة مع نساء أخريات‬
‫غيّرن العالم ّ‬
‫ي مثل هؤالء الصديقات‪ .‬لم أتصور بأن هذه الفرصة للعمل مع‬
‫فحسب؛ إذ ليس لد َّ‬
‫ضا بأنني أستطيع أن أخلق حياتي الخاصة‪ .‬أنا أعلم فقط ّ‬
‫أن هذه‬ ‫جانيس قد تشي أي ً‬
‫األفكار تتداعى بطريقة ما بينما أقود السيارة إلى المنزل‪ .‬أنزل نوافذ السيارة واشغّل‬
‫أغاني ريفية وغربية هادئة بصوت عال‪ .‬أقرر أن بمقدوري أن أتحدث إلى ليفي‪،‬‬ ‫َ‬
‫أن أتحدث معه حديثًا حقيقًا‪ .‬سوف أجعله يتغيّر! سأخبره بما أحتاجه‪ ،‬سأفتح فمي!‬
‫سأحمله على أن يض ّمني‪ ،‬ك ّل يوم‪ ،‬وأن يعينني أخيرا ً على شؤون المنزل واألطفال‪.‬‬
‫عليه أن يتغيّر‪ ،‬ألنني ال أستطيع أن أتغيّر‪ .‬يتعين عليه أن يساعدني على أن أتماسك‪،‬‬
‫ألنني بدأت أز ّل‪ .‬لكنه سيتغير‪ .‬عل ّ‬
‫ي أن أخبره فحسب‪ .‬سيفعل ذلك من أجلي‪ ،‬من‬
‫أجلنا‪.‬‬
‫أصل إلى المنزل وأتوجه إلى الغرفة الخلفية‪ ،‬حيث أصادف ليفي وهو في‬‫ِ‬
‫طريقه للخروج‪ .‬أسد مدخل الباب مباغتةً إياه بقولي‪" :‬انتظر دقيقة‪ ،‬علينا أن‬
‫نتحدث"‪ .‬بعدئذ‪ ،‬أنا وهو ما بين الطاولة التي أعمل عليها في الليل والسريرين‬
‫المنفصلين‪ ،‬ثرثرتي الالواعية المندفعة مقاب َل تململه الغريب‪ ،‬وأسكب سنوات‬
‫متراكمةً بجرة نفس واحدة‪" :‬أنا لست سعيدة‪ ،‬غاضبة‪ ،‬وحيدة‪ ،‬عليك أن تتغير‪،‬‬
‫أحضنّي ‪ ،‬ساعدني بشؤون المنزل واألطفال‪ ،‬أظهر لهم الحنان‪ ،‬ال تجعلهم يخافون‬
‫باكرا‪ ،‬اتصل ك ّل يوم‪ ،‬أخبرني أين‬
‫منك‪ ،‬أخبرني إنك تحبني‪ ،‬قم بدورك‪ ،‬عد للبيت ً‬
‫َ‬
‫نهر من الكلمات‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫سنوات من الكبت‪ٌ ،‬‬ ‫كنت‪ ".‬أواصل وأواصل‪،‬‬
‫عيناه تستقران على موضع ما أعلى رأسي‪ .‬يتجهم‪ ،‬يبدو مشتت الذهن‪ .‬يضع‬
‫يده على جانب عنقه‪.‬‬
‫إنك ال تصغي‪ ،‬هذا األمر مهم‪ .‬إنه جوهري‪ ،‬إنه يتعلق بزواجنا‪".‬‬
‫أقول‪َ " :‬‬
‫فيرد‪" :‬ليا"‪.‬‬
‫بإخبارك منذ سنين‪ ،‬شيئًا عنّا‪ ،‬عني‪ ،‬وال أعلم ِل َم لم أقم‬
‫َ‬ ‫"لطالما كنت أرغب‬
‫عة معك‪ّ ،‬‬
‫لكن‬ ‫بذلك‪ ،‬ال أعلم لم عجزت عن ذلك‪ّ ،‬‬
‫لكن هذا مهم‪ ،‬أعلم أنني كنت َج ِز َ‬
‫عليك أن تتغير‪ ،‬سأعمل معك على ذلك‪ ،‬هذا أمر مهم‪".‬‬
‫َ‬
‫يقول‪" :‬ليا‪ .‬توقفي‪".‬‬
‫يستدير ويذهب إلى الحمام‪ ،‬وأنا أتبعه‪ ،‬منزعجة‪ ،‬ألجده يحدّق برقبته في‬
‫المرآة التي فوق المغسلة‪ .‬أقول باستياء متزايد‪" :‬ال تتهرب من الرد"‪ .‬يحضرني‬
‫إدراك لحظي مح ِبط بأن المرء ال يتغير في دقيقة‪ .‬أقول له‪" :‬من فضلك" وبعدئذ‪:‬‬
‫"ما ذاك الذي على رقبتك؟ بثرة؟ أهي أهم من حياتنا؟"‬
‫ً‬
‫مركزا في المرآة وهو يقول لي‪" :‬إنه ور ٌم‪ ،‬وهو‬ ‫ي‪ ،‬وبقي‬
‫لم يتطلع إلى عين ّ‬
‫حر َجةً‪ ،‬خائفةً‪ ،‬عاجزة ً‪.‬‬
‫ي نظرة ً م َ‬
‫أكبر حج ًما من األمس بمرتين‪ ".‬ثم ينظر إل ّ‬
‫ي‪ ،‬أزيز مكيّف الهواء‪ ،‬خوفه‪.‬‬
‫يتوقف كل شيء‪ .‬بوسعي سماع الهواء في أذن ّ‬
‫أم ّد يدي أللمس ذراعه‪ ،‬لكنني لم أتطهر في الميكفاه بعد‪ ،‬فيتقهقر هو نتيجة‬
‫ذلك كر ّد فعل تلقائي‪ .‬سترتبط دائ ًما هذه الصعقة الحارقة للذنب‪ ،‬المنبثقة من لمستي‬
‫بم تحس؟"‬
‫المحرمة المدفوعة بالتعاطف‪ ،‬بلحظ ِة االكتشاف األولى هذه‪ .‬أهمس له‪َ " :‬‬
‫فيقول‪" :‬أظن أن هذا قد يودي بحياتي"‪.‬‬
‫الفصل العشرون‬

‫في البداية‪ ،‬أشعر باالنعتاق‪ .‬الـ"‪ " yene machla‬أو "ذلك المرض" في‬
‫اليديشية‪ ،‬الذي لن ينعم عليه الحسيدي الخائف باسم؛ ّ‬
‫ألن االسم قوة‪ .‬ينطقه األطباء‬
‫أتفوه بالكلمة المحرمة‪.‬‬
‫بصوت عال في وجوهنا‪ ،‬وأشعر باالنعتاق‪ .‬بإمكاني أن ّ‬
‫أريد أن أذرع المكان أمام الكنيس جيئة وذهابًا وأصرخ بالكلمة‪ :‬سرطان سرطان‬
‫سرطان سرطان سرطان سرطان سرطان‪ .‬لم يعد هناك من مجهول‪ ،‬لم يعد هناك‬
‫عدو خفي‪ .‬إنني أراك‪ ،‬أيها السرطان‪ .‬أعرف أين مخبؤك وما تفعل وإلى أين‬
‫من ّ‬
‫تذهب وكيف سننال منك‪ .‬أعرف اسمك‪ .‬نحن هنا اثنان مقابل واحد‪ ،‬أيها السرطان‪.‬‬
‫سوف نحاربك سوية‪ ،‬أنا وليفي‪ ،‬سنحاربك‪ ،‬سترى ذلك‪.‬‬
‫تنبض العقَد في عنق ليفي وكأنها قرقعة سيوف‪ .‬وبعد دقائق من تلك النظرة‬
‫المذعورة‪ ،‬اتصلت بطبيبنا المختص باألنف واألذن والحنجرة‪ ،‬وألححت عليه أن‬
‫يعاين ليفي‪ ،‬فرآنا في ساعته المخصصة للغداء‪ .‬وفي اليوم التالي أجرى ليفي‬
‫خزعةً‪ ،‬ث ّم‪ ،‬وخالل أسبوع‪ ،‬بدأ بعالج سرطان الغدد اللمفاوية في مستشفى أم دي‬
‫أندرسون في هيوستن‪ .‬كان السرطان قد انتشر‪ ،‬وال يمكن معرفة طول المدة التي‬
‫بقي فيها عدونا مترصدًا يدبّر مكيدته‪.‬‬
‫أنسى مواجهتي مع ليفي‪ ،‬أنسى حياتنا المجدبة‪ ،‬الوحدة والغضب اللذين‬
‫يالزماني وأنا أنام وحيدة في فراشي‪ .‬أنسى كلمة مثلية‪ ،‬وأنسى أن الحياة تجري‬
‫في ثالثة أبعاد‪ ،‬أنسى الدراسة وكل ما كنت أتعلمه‪ ،‬أنسى كل شيء خال أنني ال‬
‫أريده أن يموت‪ .‬اإليمان‪ ،‬عدم اإليمان‪ ،‬ما من شيء مهم‪ ،‬عدا أننا اآلن نواجه مهمة‬
‫شاقّة وأن حياتينا متشابكان‪ ،‬وأنا أظن بأن هذا هو المقصود بالحب‪.‬‬
‫يرغمني السرطان على أن أتخيّل الحياة بدونه‪ ،‬ترف يثير السخرية‪ ،‬وأنا‬
‫خائفة من أنني قد أضطر حقًا لعيش تلك الحياة‪ .‬يستتر عدونا الجديد في الظالل‪.‬‬
‫لقد تجاهلتك‪ ،‬يا ليفي‪ ،‬العائل الوحيد لتسعتنا‪ ،‬وماذا سأفعل إن َّ‬
‫مت؟ فأنا ال أعرف‬
‫البلد‪ ،‬ال أعرف كيف أعمل‪ ،‬أو في أي مجال‪ .‬سيلقى بي مع أوالدي إلى العالم‪،‬‬
‫عاريةً ووحيدة‪ .‬أقرفص‪ ،‬أجفل كلما لمحت حركة بطرف عيني‪ .‬سنجر معًا هذا‬
‫الخصم إلى حيث الضوء‪ ،‬ليفي‪ ،‬في الطليعة‪ .‬اجمعوا األسلحة‪ ،‬استعدوا اآلن‪،‬‬
‫تحركوا‪.‬‬
‫اللمفومة الالهودجكينية‪ ،‬نوع عنيف‪ ،‬خلية مختلطة‪ ،‬جريبية‪ ،‬وفي المرحلة‬
‫الثالثة‪ .‬يعاني ليفي من األلم في حنجرته وعينه منذ شهرين‪ ،‬هل وصل المرض إلى‬
‫دماغه؟‬
‫سهم حول طاولة غرفة الطعام‪ ،‬مكان‬
‫نجمع األطفال الذين في المنزل‪ ،‬ونج ِل َ‬
‫الساباث‪ .‬ماذا ستكون هذه المائدة من دون وجوده على رأسها؟ يقوم ليفي بإخبار‬
‫ليبل وأفرامي وسارة وإيتزك وشالوم بأنه مصاب بالسرطان‪ .‬يخبرهم بأنه ال يدري‬
‫ي وعود‪ .‬يجيب عن أسئلتهم التي تغلفها‬
‫إن كان سيعيش أو يموت‪ ،‬وال يقطع لهم أ َّ‬
‫صبورا وحنونًا‪ .‬ثم يتصل بليبي ومندل‪ ،‬اللذين كانا بعيدين في‬
‫ً‬ ‫الصدمة‪ .‬كان‬
‫مدرستيهما‪ ،‬ويبلغهما الخبر مع إرشاد حكيم وحنون‪ .‬أراقب وأتساءل‪ :‬أين كان‬
‫يختبئ هذا الوالد الحكيم والحنون كل هذه السنين! ّ‬
‫لكن هذا لم يعد مه ًما اآلن‪ ،‬إنهم‬
‫يتعلقون به‪ ،‬يتشبثون بكلماته‪.‬‬
‫أنا أ ٌّم‪ ،‬وال أستطيع أن أحمي أطفالي‪ .‬من المحتمل أن يموت والدكم‪.‬‬
‫نخبر عائلتنا وأصدقاءنا‪ ،‬فيتوافد علينا الناس زرافات‪ ،‬ومن ضمنهم األطباء‬
‫الذين يقولون‪" :‬أوه‪ ،‬لمفوما‪ ،‬إن نسبة الشفاء منه عالية‪ .‬وثمانون بالمئة من‬
‫المصابين به يتشافون!" لمفوما فقط؟ حسنًا‪ ،‬لقد أصاب عمتي صوفيا قبل ثالث‬
‫وعشرين سنة!‬
‫وفي غضون ذلك‪ ،‬في يومه األول من العالج‪ ،‬يحاول ليفي أال يصرخ عندما‬
‫يغرز األخصائي أنبوبًا من خالل وركه إلى عظمه‪ ،‬ثم إلى أعمق من ذلك لسحب‬
‫النخاع‪" .‬آسف جدًا‪ ،‬سيد الكس‪ .‬فالتخدير الموضعي ليس له تأثير كبير عند ذلك‬
‫العمق‪ ".‬أقف بجانبه وأنظر في عينيه‪ ،‬هذا الرجل الذي أحبّه في الوقت الراهن‪،‬‬
‫والذي هو زوجي‪ ،‬الذي ال أشتهيه لكنني أبدو بحاجته‪.‬‬
‫يقول‪" :‬أظن أن األلم يصبح نسبيًا مع مرور الوقت‪".‬‬
‫هذا هو ليفي‪ ،‬من طبعه التح ّمل‪ .‬أستشف اآلن أن السرطان سيقوي إيمانه‪،‬‬
‫إنه يصلي‪.‬‬
‫وفي المنزل‪ ،‬ألتقط ديوان ِشعر لروبرت لويل وأعثر على التالي‪" :‬يحيا‬
‫ٌ‬
‫إيمان يحاول أن يحيا من دون إيمان‪".‬‬ ‫األمل في الشك‪.‬‬
‫لكنني بحاجة ألصلي‪.‬‬
‫فَقَ َد لويل‪ ،‬الذي ترعرع في الكنيسة‪ ،‬إيمانه وعبّر عن حزنه "على التراتيل‬
‫التي تغني للسالم وت َعظ باليأس‪".‬‬
‫ضا أسمع التراتيل بنفس تلك الطريقة التي تراها مزدوجة النغمة‪،‬‬
‫إنني أي ً‬
‫لكنني ما أزال بحاجة للصالة‪.‬‬
‫ضا "مشدودًا إلى التراتيل…بسبب الطريقة التي ألجمت فيها‬
‫كان لويل أي ً‬
‫وفرت فيها "منفذًا للروح‪".‬‬
‫الظالم" الطريقة التي ّ‬
‫"استمع إلى األجراس!" كتب لويل قاصدًا بها أجراس الكنيسة التي تجتذب‬
‫المؤمن‪ .‬أعتقد أنه ليس بوسعي منع نفسي من سماع األجراس‪ ،‬بغض النظر عن‬
‫اإليمان من عدمه‪.‬‬
‫إن الرب الذي أريد أن أعصيه هو نفس الرب الذي ما أزال أعتقد بأنه‬
‫تلوح‬
‫المسيطر على زمام األمور‪ .‬كم أنا منافقة وسفيهة ونمطية‪ :‬اليهودية التي ّ‬
‫بقبضتها في وجه الرب‪ ،‬لكنها في ذات الوقت ال تشك بوجوده‪ ،‬اليهودية التي تعزو‬
‫الكثير الى سيطرة الرب‪ ،‬لدرجة أنه ال يتبقى من خيار سوى أن نجابه مدى ضآلة‬
‫َ‬
‫جهودنا وجنون خرافاتنا‪.‬‬
‫لكنني عشت فترة طويلة جدًا في ظل دين أرثودوكسي‪ ،‬وفي ظل التعقل الذي‬
‫يتبناه لويل بخداع النفس؛ فال يمكنني أن أتصور أن ربنا قد يكون مجر َد مفهوم‬
‫واحد من ضمن مفاهيم عديدة‪ .‬عالوة على أنني ال أعرف كيف أعيش لحظةً عصيبة‬
‫وأن أتقبلها فحسب‪ .‬وعلى األقل‪ ،‬فإنني ال أستطيع أن أتخلى عن احتمالية تحقّق‬
‫آمالي إذا رجوت تحقّقها برغبة وإلحاح شديدين‪ .‬لكنني في ذات الوقت لم أعد‬
‫أتفوه بكلمات الصالة المكررة مثلما يفعل ليفي‪ ،‬وال أستطيع أن أصدّق‬
‫أستطيع أن ّ‬
‫المرة‪.‬‬
‫أن مجرد تالوة الكلمات قد تغيّر الحقائق ّ‬
‫ومع ذلك ما أزال مشدودة إلى األجراس‪ ،‬وأحد هذه األجراس هو ليفي‪ .‬إنه‬
‫جز ٌء مما يبقيني صامدة متشبثة‪ .‬يرغمني السرطان على أن أعيد النظر في ديني‬
‫كتب‬
‫َ‬ ‫وزواجي ‪-‬إنهما شيء واح ٌد‪ -‬قبل أن أهجرهما‪ ،‬ورغم ذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك‪ ،‬كما‬
‫يجلب لي حنانًا حقيقيًا‪ ،‬وإنما القلق فقط‪".‬‬
‫َ‬ ‫لويل "لن‬
‫يشدّني اإليقاع والشعر المألوفين لكتاب الصالة العبري‪ ،‬النغمة التي تجلب‬
‫ّ‬
‫أنشق‪.‬‬ ‫البهجة ثم الحنين‪ .‬أبكي على الكلمات‪ّ ،‬‬
‫لكن البكاء ال ينفعني‪ ،‬إنني‬
‫تبقى الحاجة للصالة خالل تلك األيام األولى‪ ،‬خالل ساعات الجلوس الطويلة‬
‫في مستشفى السرطان‪ ،‬محاطة بآالف الناس المصابين بنفس المرض‪ ،‬خالل‬
‫الجوالت األولى من العالج الكيماوي ومحاوالت ليفي للتقيؤ‪ .‬تظل تلك الحاجة حتى‬
‫أذهب للميكفاه وأقف في الماء‪ ،‬بال حول وال قوة‪.‬‬
‫المكسوة بالبالط‪ ،‬صدى‬
‫ّ‬ ‫في الماء‪ ،‬ليس هناك من شيء متبق سوى الجدران‬
‫قطرات الماء المتساقطة‪ ،‬الصورة الغبشاء ألطرافي‪ .‬لن يكون هناك جنس بعد‬
‫الميكفاه‪ ،‬وال أم ٌل في ممارسته أي ً‬
‫ضا‪ .‬لم تبقَ عندي شهوة‪ ،‬عند كلينا‪ ،‬لكنني هاهنا‪،‬‬
‫مبللة وعارية‪ ،‬أنا ممتلئة بالحاجة لمواجهة إرادة غير مفهومة‪.‬‬
‫إنني بحاجة للصالة‪ .‬أحتاج لكلمات تضع نهاية لالنهاية‪ ،‬وتضع الهائل في‬
‫حجمه الطبيعي‪ ،‬كلمات تنتشلني من الغ ّم‪ .‬ليس مه ًما ّ‬
‫أن حاجتي للتواصل مع القوى‬
‫تهز حياتي ليست ً‬
‫دليال على وجود الرب أو على فاعلية الصالة‪ ،‬أو ّ‬
‫أن حاجتي‬ ‫التي ّ‬
‫تشهد على أنني مجرد إنسانة عارية وتعيسة ومبللة ال تتقبل الظروف الخارجة عن‬
‫ي من ذلك‪ .‬ال يهم أنني لم أعد أؤمن بالصالة‪ .‬أحتاج للصالة؛‬
‫سيطرتها‪ .‬ال يهم أ ٌّ‬
‫ألنني ضعيفة‪ ،‬ألنني حيّة‪ .‬أغطس في الماء وأستسلم‪.‬‬

‫إنني أم‪ .‬سأحافظ على سالمة الجميع‪ ،‬سأحافظ على بقاء كل شيء على حاله‪.‬‬
‫ثبات الحال أمان‪ .‬أصل إلى متجر البقالة في السابعة صبا ًحا‪ ،‬شاكرة ً الربّ على‬
‫متاجر البقالة التي تبقي أبوابها مفتوحة طيلة أربع وعشرين ساعة‪ ،‬وأغذّ السير‬
‫عبر ممرات المتجر حتى أمأل ثالث عربات‪ ،‬إذ سنقضي الكثير من الوقت في‬
‫ألوح‬
‫بقاء الجميع بحال جيدة‪ّ .‬‬
‫المستشفى بعيدًا عن المنزل‪ ،‬ويجب أن أتأكد من ِ‬
‫بقائمة التسوق بينما أسير‪ ،‬القائمة التي أعدّها ليبل وأفرامي في الليلة الماضية‪.‬‬
‫سنجتاز المحنة سوية‪ .‬تتعدى الفاتورة مبلغ األربعمائة دوالر‪ ،‬فيقول لي المدير‪:‬‬
‫"في المرة القادمة اتصلي بنا فقط ونحن سنقوم بالتوصيل بال مقابل‪".‬‬
‫أسرع بالعودة إلى المنزل ويلتقيني أفرامي خارجه‪ ،‬ينزل األغراض ويبدأ‬
‫بترتيبها‪ .‬إذا شغلت نفسي بإنجاز المهام اليومية بسرعة كافية‪ ،‬فإن األلم سيفارقني‪.‬‬
‫سارة مستعدة للمدرسة‪َّ ،‬‬
‫لكن الصغيرين يبددان الوقت‪ ،‬بال أحذية‪ ،‬بال فطور‪ ،‬لذا‬
‫أحضر وجبات الغداء‪ ،‬وأضع الفطور‪ ،‬لكننا نتلقى ثالث‬
‫ّ‬ ‫أحملهما على التحرك‪،‬‬
‫مكالمات هاتفية مختلفة من عيادات األطباء‪ .‬يغادر ليفي إلى المستشفى من دوني‪.‬‬
‫ي أن اتدبّر توصيل األطفال للمدرسة‪ ،‬وما يزال إيتزك لم يرتد حذاءه بعد‪ ،‬وأنا‬
‫عل ّ‬
‫متخلفة عن موعد قسطرة ليفي في المستشفى‪ ،‬وعن موع ِد محاضرة حول التعامل‬
‫مع أنبوب القسطرة أنا ملزمة بأخذها مرتين أن كنت سأتولى العناية به‪ .‬وأنا أتولى‬
‫العناية به‪.‬‬
‫أصل المستشفى فأجد أخصائيًا يصارع إلدخال أنبوب قسطرة من تحت عظم‬
‫ومباشرا إلى قلبه‪ ،‬فأف ّكر‪ :‬لكم هو عجيب‬
‫ً‬ ‫قصيرا‬
‫ً‬ ‫الترقوة إلى وريد يش ّكل طريقًا‬
‫إيجاد ذلك الطريق‪ .‬على الرجل أن يتخطى شريانًا من دون ثقبه‪ ،‬من دون التسبب‬
‫ي‪ .‬الرجل هادئ وواثق من نفسه ومراع ألسس النظافة‪ ،‬لكنه يواجه‬
‫بتسريب أو ل ّ‬
‫صعوبة‪ .‬يهتز ويسحب األنبوب‪ ،‬ويغدو ليفي شاحبًا‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬يتوجه ليفي إلى عيادة أخرى في المستشفى وأنا جالسةٌ في كرسي‬
‫كبير وناعم في صالة االستراحة‪ .‬أسند رأسي على المسند‪ ،‬يرتخي كتفاي‪ ،‬وأطلق‬
‫النفس الذي كنت أحبسه منذ الصباح الباكر ثم أتفقد هاتفي‪ .‬أجد أن جانيس قد اتصلت‬
‫بي‪ ،‬لكنني أزيح وجهها الصادق‪ ،‬محادثتنا عند تناول القهوة‪ ،‬قناعتي الجديدة‪ .‬ال‬
‫يوجد متسع سوى لليفي‪ .‬ال أعاود االتصال بها‪.‬‬
‫ً‬
‫بدال من ذلك رفعت حقيبتي القماشية وسحبت منها مسرحية حازت للتو على‬
‫جائزة البوليتزر‪ ،‬عنوانها "‪ ،"Wit‬وهي تحكي عن بروفيسورة إنكليزية تحتضر‬
‫جدارا من األفكار المعقدة‬
‫ً‬ ‫بسبب السرطان‪ .‬لقد قضت المرأة حياتها وهي تبني‬
‫حولها‪ ،‬وانخرطت في تحليالت قصائد التأمالت المعقدة لجون دون عن الموت وما‬
‫بعده‪ّ .‬‬
‫لكن السرطان الذي أصابها جعل الحاضر المادي حقيقيًا على نحو كاسح‪،‬‬
‫ولم تدرك إال اآلن‪ ،‬أن البساطة الدنيوية التي دائ ًما ما ازدرتها‪-‬والتي توشك أن‬
‫تفقدها‪-‬هي الحياة الحقيقية‪ .‬اآلن فقط‪ ،‬أدركت أنها لم تعش أبدًا‪.‬‬
‫تتشنج حنجرتي‪ .‬كيف ستكون الحياة من دون هروبي إلى الفلسفة والصالة؟‬
‫يبدو بأن الكلمات التي نسجتها في رأسي‪ ،‬وتلك األفكار الدينية التي ما زلت أتشبث‬
‫بها‪ ،‬كانت عوائقَ أمام العيش‪.‬‬

‫لكن حزنها يبقى عالقًا في حنجرتي‪ .‬أنطلق من مقعدي‬


‫أضع المسرحية جانبًا‪ّ ،‬‬
‫واتجه إلى مركز العالج الوريدي ألستلم األشعة السينية لصدر ليفي قبل أن التقي‬
‫به عند حلول موعدنا مع الطبيب‪ .‬عند االستعالمات يتقدم رجل عجوز أمامي‪ ،‬لكنه‬
‫يريد فقط أن يلقي التحية على الموظفة‪ .‬كانت الموظفة امرأة طويلة سوداء ذات‬
‫لكنة لويزيانية وصدر أم‪ .‬تراه‪ ،‬تقفز من مقعدها‪ ،‬وتخرج إليه من وراء المكتب‬
‫وتلف ذراعيها حوله‪ ،‬عيناها مغلقتان‪ ،‬جبهتها متجعدة‪ .‬ال أستطيع تحمل ذلك‪ .‬ثم‬
‫ي وعلى وجهها تعبير يقول‪:‬‬
‫تستأذن لتركه‪ ،‬تعاود الجلوس في مكانها‪ ،‬وتنظر إل ّ‬
‫التالي؟ كدت أال أتمكن من ّ‬
‫التفوه بطلبي‪ .‬شفتاي ترتجفان‪ ،‬عيناي مغرورقتان‪ ،‬وأنا‬
‫أقاوم ذلك‪ ،‬أقول‪" ،‬أشعة إكس ليفي الكس‪ ،‬من فضلك؟"‬
‫تأخذ رقم مريضي‪ ،‬تنزل بالشاشة إلى األسفل‪.‬‬
‫أضيف‪" :‬ذلك الرجل‪ ،‬ال بد وأنه قد نجا من شيء جسيم‪".‬‬
‫مر‬
‫ي وتقول‪" :‬لقد أعطاه األطباء مهلة بضعة أسابيع ليعيش‪ ،‬وها قد َّ‬
‫تتطلع ف ّ‬
‫عليه تسع سنوات"‪ .‬فيكسرني جوابها‪ .‬وأضطر إلى أن أشيح بوجهي‪ ،‬فتقوم من‬
‫مقعدها وتضمنّي بنفس ذلك الحضن‪ .‬وتقول‪" ،‬الرب خيّر‪ .‬الرب كثيييير الخير‪.‬‬
‫وكله محبة‪ .‬سترين ذلك‪".‬‬
‫لكنني لم أعد أصدّق ذلك‪ ،‬تصطدم كلماتها بجدار وال تنفذ منه‪ .‬لكن بطريقة‬
‫ما‪ ،‬وأنا أقف متلفّعة بذراعين حنونتين لغريبة‪ ،‬أدرك أنني لم يسبق لي أن أحببت‬
‫ليفي أكثر‪.‬‬
‫العناية المنزلية اليومية للقسطرة تحت الترقوية‪ :‬أزيلي الضمادة وامسحي‬
‫القسطرة بالكحول ثم البيتادين‪ .‬تخلصي من القفازات وارتدي زو ًجا نظيفًا َ‬
‫آخر‪.‬‬
‫شا والصقًا‪ .‬نظفي الالين بالمحلول الملحي‪ّ .‬‬
‫فرغي اإلنبوبة من فقاعات‬ ‫ضعي شا ً‬
‫الهواء‪ .‬احقني الالين مجد ًد بالهيبارين لكي تذيب خثراث الدم التي ربما قد تسدّه‪.‬‬
‫ال تنسي تعقيم الغطاء! وال تلمسي أنبوب القسطرة المفتوح‪ -‬فجرثومة واحدة أو‬
‫صلي‬
‫فقاعة هواء في الالين قد تذهب مباشرة إلى قلبه‪ ،‬وهذه طريقة مؤلمة للموت‪ِ .‬‬
‫مضخة العالج الكيمياوي‪ ،‬وال تنسي فك المشبك‪ .‬وابقي منتبهة! فإذا سهرتي حتى‬
‫ت تسكبين ثرثراتك في لوحة المفاتيح‪ ،‬فقد ترتكبين أخطا ًء‪ .‬أخطا ًء‬
‫فجرا وأن ِ‬
‫الرابعة ً‬
‫فادحة‪.‬‬

‫ستكون هناك تحاليل أسبوعية للدم خالل أشهر العالج الكيمياوي التسعة‪.‬‬
‫نتحرق سوية بانتظار استالم النتائج‪ .‬أراقب‬
‫ّ‬ ‫المسؤوليات المتعلقة بالمراقبة الشاملة‪:‬‬
‫تضاءل عدد خاليا الدم البيضاء حتى يصبح مثل فتى الفقاعة حين يترك خارج‬
‫تطرف‬
‫َ‬ ‫إياك أن‬
‫خيمته‪ ،‬حتى تظن بأن العالم سيقتله قبل أن يفعل السرطان ذلك‪ِ .‬‬
‫عينك للطبيب متبلّد العاطفة الذي يصرح بأريحية أن هذه ليست لمفوما اعتيادية‪.‬‬
‫أتساءل فقط‪ِ :‬ل َم ال يختفي هذا السرطان أمام السم الذي يتدفق المزيد والمزيد منه‬
‫إلى جسده‪ .‬و ِل َم تسبب القسطرة حكة؟ من األفضل فحصها للتحقق من االلتهاب‪.‬‬
‫آخر‪.‬‬
‫عندما تصيبه الحمى‪ ،‬يتوجه مباشرة لقضاء يوم في غرفة الطوارئ‪ .‬ثم يو ًما َ‬
‫أراقب مضخة العالج الكيمياوي‪ ،‬أتأكد من أن السائل البرتقالي مستمر بالتحرك‪،‬‬
‫أتأكد من أنه يحتفظ ببطارية احتياطية معه‪ِ .‬ل َم ال يتأثر السرطان؟ عش‪ ،‬اللعنة!‬
‫األطعمة التي يمكنه تحملها‪ :‬مسحوق البروتين‪ ،‬السموذي‪ ،‬البيض! يبدو مذاق‬
‫البيض له اعتياديًا تقريبًا‪ .‬ال طعام يحتوي على معجون الطماطم‪ ،‬وإال سيشعر بطعم‬
‫مر يمكث أليام‪.‬‬
‫معدني ّ‬
‫أشاهد بشرته تصبح صفراء بسبب تكدس خاليا الدم الميتة‪ .‬هناك أنبوب‬
‫مفتوح إلى قلبه يتأرجح في الهواء‪ ،‬وخلفه دم مخفف ذي دفاعات منخفضة‪ .‬أحلم‬
‫بذلك المايكروب المراوغ الذي يتمكن من الفتك به‪.‬‬
‫ً‬
‫أصأل‪ .‬لكنه مريض‬ ‫يتناقص وزنه بسرعة‪ ،‬وكان قد خسر عشرين باوندًا‬
‫سرطان؛ تنكمش تلك الباوندات قبل أن تختفي‪ .‬الخطوة األخيرة هي أن يجعله‬
‫المرض شفافًا‪ .‬أمسك صورة ليفي في الهواء‪ ،‬وتمر يدي من خاللها‪ .‬أمرر كلتا‬
‫يدي‪ ،‬وأقول‪" :‬كل!" لكي تبقى مرئيًا‪.‬‬
‫ي الخير؟ األصدقاء في الكنيس الذين يسلموه‬
‫ولكن ماذا نفعل بشأن متمن ّ‬
‫الموت بأيديهم غير المغسولة بينما يعانقونه‪ ،‬يلمسونه‪ ،‬يباركونه بحياة طويلة‪ .‬أتبعه‬
‫إلى الكنيس‪ ،‬أتجهم في وجوه الناس الذين يمدون له أيديهم‪ ،‬لماذا يصافحهم؟ أبقَ‬
‫ٌ‬
‫أطباق تناقلتها عشرات األيدي المختلفة‪ .‬يأكل منها ليفي‬ ‫سل إلى منزلنا‬
‫بعيدًا! تر َ‬
‫وتتدهور صحته‪ ،‬يصاب بالحمى‪ ،‬ويعود إلى المستشفى‪ .‬وبالنسبة لألطفال‪ :‬كال‪،‬‬
‫إن كان ثمة مريض في بيت صديقكم‪ ،‬فال يمكنكم أن تذهبوا إليه‪ .‬بإمكانكم معانقة‬
‫والدكم إن غسلتم أيديكم ً‬
‫أوال‪ ،‬لكن التقبيل ممنوع‪.‬‬
‫ق الدلو قريبًا من أجل التقيؤ‪ ،‬اطلب له العافية‪ ،‬اطلب أن يعيش‪ ،‬ابقه واقفًا‪،‬‬
‫اب ِ‬
‫يتحرك‪ ،‬حولنا‪ .‬في الليل‪ ،‬استمع إلى تنفسه‪.‬‬
‫هل يبقى المرء نفسه بعد السرطان؟ يزدهر أمل جديد بأنه سوف يتغيّر‪ .‬نعم‪،‬‬
‫أنا آمل أن تغيّره محنة السرطان‪ ،‬أن ترقق قلبه‪ ،‬أن تقربه مني‪ ،‬فلربما أستطيع‬
‫البقاء‪ .‬عليه أن يتغير‪ ،‬ألنه لم يعد بوسعي أن أكون ما لست عليه‪ ،‬أو أن أسايره أو‬
‫أتقلّب حسب أهوائه‪ .‬أطفالي المساكين‪ ،‬حالما يتحسن والدكم‪ ،‬سيكلف بقائي تغييره‪.‬‬
‫لكن إن مات‪ ،‬فهل سأبقى؟‬
‫وبينما أسعى للمحافظ ِة على سالمته‪ ،‬ثمة جزء ضئيل متنام في داخلي يهمس‪:‬‬
‫يمكن أن يموت‪ ،‬يجب أن تعرفي ذلك‪ ،‬يمكن أن يموت‪ ،‬ربما تريدين ذلك‪ ،‬يمكن‬
‫أن يموت‪ ،‬وعندئذ‪ ،‬وعندئذ… يمكنك أن تبقي‪.‬‬
‫ثم أعلم أنني أستطيع‪ ،‬أستطيع تدبر األمر‪ .‬عندما تنتهي المحنة‪ ،‬ويسترد‬
‫عافيته مرة أخرى‪ ،‬يمكنني أن أجد حياتي الحقيقية‪ ،‬سوف أعيش‪.‬‬

‫تتصل بي والدتي‪ .‬في هذا الوقت كانت لوحاتها قد عرضت في باريس وبكين‬
‫وموسكو وواشنطن‪ .‬تقول‪" :‬ليزا!"‬
‫"أمي!"‬
‫"اتصلت لكي أخبرك بأن تستمري في الدراسة"‪.‬‬
‫لقد ألقيت بكل ما عندي لكي أحارب سرطان ليفي‪ ،‬وهي تقول لي بأن أستمر‬
‫بالدراسة‪ .‬ما زالت مطالبها غير عملية‪ .‬أقول‪" :‬ال أستطيع أن أبقى بالدراسة"‪.‬‬
‫تقول‪" :‬ابقي لفصل واحد فقط‪ ،‬تمسكي بشيء ما‪".‬‬
‫وأنا أفعل ذلك‪ ،‬وأستمر بدراستي‪ .‬يخدمني قرب المستشفى من الجامعة‪ ،‬إذ‬
‫بإمكاني أن أذهب مباشرة إلى مركز العالج الوريدي من الجامعة‪ .‬أسجل في حلقة‬
‫صا سريعة عفوية نابعة من‬
‫دراسية أخرى للرواية مع دانيال ستيرن وأكتب قص ً‬
‫الغضب أثناء الليل‪ .‬كانت إحداها عن امرأة مكثت لسنوات مع زوج صعب العريكة‬
‫لكنه مخلص‪ .‬عندما تصاب بالسرطان‪ ،‬يكون لها ذلك بمثابة التجلّي وتهجره‪.‬‬
‫يحررها السرطان‪ .‬حتى إنها تهجر ابنها الذي يأتي باحثا ً عنها عندما يصبح على‬
‫أعتاب البلوغ‪ .‬تنتهي القصة باحتضانها لولدها الكبير بين ذراعيها كما لو أنه طف ٌل‪.‬‬

‫وكعادة حلقات دانيال ستيرن الدراسية‪ ،‬ينبغي علينا أن نكتب نقدًا منهجيًا‬
‫ي كيث قصتي عبر طاولة االجتماع‬
‫لكتابات أحدنا اآلخر‪ .‬في أحد األيام يعيد إل ّ‬
‫مشفوعة بتعليقاته المطبوعة ويقول‪" :‬ليا‪ ،‬ال أعرف ماذا يجري معك‪ ،‬لكن تابعي‬
‫على هذا المنوال‪".‬‬
‫تترك لي جانيس رسالة‪ ،‬فقد وجدت العارضة المناسبة وتريد أن تبدأ التقاط‬
‫الصور‪ .‬هل ستتمكن من أن تشرع بالتصوير في الميكفاه خاصتنا؟ هل تحدثت مع‬
‫الحاخام فرومان؟‬

‫بعد مرور شهر على بدء العالج الكيمياوي‪ ،‬ثالثة أيام بعد التسريب الوريدي‬
‫الثاني‪ ،‬يخرج ليفي من تحت الدش في أحد الصباحات بوجه حليق‪ ،‬وقد خلّف وراءه‬
‫فوق فتحة التصريف كتلة من شعر أسود مجعد متهالك‪ .‬يناديني من الحمام‪ ،‬وهو‬
‫ما يزال عاريًا‪" :‬ليا"‪ ،‬فأدخل‪ ،‬أتجمد في مكاني‪ ،‬وأحدّق‪ .‬لقد أصبح غير محتشم‬
‫على نحو غير معتاد‪ .‬وهناك غمازة في ذقنه‪ ،‬مثل غمازة إيتزك‪ .‬أجيبه‪" :‬حسنًا‪،‬‬
‫كنا نعرف بأن هذا سيحدث‪"...‬‬
‫ّ‬
‫لكن هذه هي لحيته‪ ،‬إنها زيّه‪ ،‬من أجل الرب‪ .‬أقول‪" :‬هل أنت على ما يرام؟"‬
‫يهز ليفي كتفيه بال مباالة‪.‬‬
‫أقول‪" :‬ولكن ماذا عن كل تلك الشهور التي قضيتها بالبحث عن وظيفة قبل‬
‫سنين؟" ليفي هو جندينا‪" .‬ماذا بشأن مقابالت العمل التي انتهت بسبب اللحية‪،‬‬
‫والفخر الذي ما تزال تخبر به تلك القصص؟"‬
‫يقول ليفي‪" :‬إنه مجرد شعر"‬
‫أخبره‪" :‬وباروكتي هي مجرد شعر‪".‬‬
‫وثيابه ذات اللونين األسود واألبيض‪ ،‬وأزيائي المحتشمة‪ ،‬ويارمولكته‪،‬‬
‫وخيوط التزتزت‪ ،‬هي مجرد قماش‪ .‬وطعامنا الحالل‪ ،‬وتحضيره المحكوم بك ّم هائل‬
‫من القواعد الرامية لتحقيق مستويات أعلى وأعلى من "القدسية"هو مجرد طعام‪.‬‬
‫أقول‪" :‬يغيّر السرطان كل شيء‪".‬‬
‫تصبح الرموز مجرد أشياء‪ ،‬لم تعد اللحية شيئًا يستحق التضحية من أجله‪.‬‬
‫عندما تكون الحياة في خطر‪ ،‬تصبح اللحية مجرد شعر‪.‬‬
‫يقول ليفي مبتس ًما‪" :‬إنه ثمن بخس لندفعه؟" ويضيف الحقا ً لألطفال‪:‬‬
‫"انظروا! يمتلك بابا ذقنًا بالفعل!"‬
‫ً‬
‫أصال‬ ‫أف ّكر‪ ،‬بينما يفغر األطفال أفواههم دهشةً‪ ،‬ماذا لو لم يكن السرطان‬
‫حاضرا في حيواتنا‪ ،‬ماذا لو أصبح الشعر والمالبس والطعام عندئذ مجرد شعر‬
‫ً‬
‫ً‬
‫رموزا ملزمة لالتصال بالرب‪ ،‬وال أط َر للصناديق التي‬ ‫ومالبس وطعام‪ ،‬وليست‬
‫وضعنا أنفسنا بها‪.‬‬
‫تحرق‬ ‫سيكلوفوسفاميد‪ ،‬دوكسوروبيسين‪ ،‬فينكريستين‪ ،‬بريدنيزون‪.‬‬
‫الكيمياويات أمعاء ليفي وتجعد فمه‪ ،‬وتتسبب بقروح نازفة في المريء والمعدة‪.‬‬
‫ترقق تلك المواد بشرته‪ ،‬تجعله مكتئبًا‪ ،‬تقتل خاليا الدم‪ ،‬تجهد كليتيه وكبده‪ .‬إنه‬
‫ضا ليصبح غريبًا في‬
‫يصلي‪ ،‬لكنه وفيما يتحول إلى كائن هزيل وأصلع‪ ،‬يعود أي ً‬
‫عا لمواصلة عمله‬
‫بيتنا‪ .‬يختفي فيض الحنان‪ ،‬ينكفئ على نفسه ويصبح أكثر اندفا ً‬
‫رجال غلي ً‬
‫ظا يصرخ‬ ‫ً‬ ‫على الرغم من اإلجازة التي عرضوها عليه‪ .‬أحيانًا يصبح‬
‫على أطفاله ويلومهم على إصابته بالسرطان‪ ،‬أو ينفجر غاضبًا من دون سبب‪ .‬ثم‬
‫يصلي‪ ،‬عائدًا إلى الرب وليس إلى عروض الراحة التي أقدمها‪.‬‬
‫ينفر منه إيتزك لهذا السبب‪ ،‬فأخبره مع بقية األطفال أن من حق أي شخص‬
‫يمتأل جسده بالسموم ويناضل من أجل حياته أن يصرخ أو يبكي أو يكون غير‬
‫غاضب‪ .‬أراقب استياء إيتزك الذي ال يلين‪ ،‬وجهودي‬
‫ٌ‬ ‫منطقي بشكل تام‪ ،‬لكن إيتزك‬
‫لرعاية ليفي أصبحت في أغلب األحيان تجابه بالصدّ‪ ،‬وأكثر فأكثر يتالشى ذلك‬
‫الحنين للماضي المصحوب بالدموع الذي يؤججه السرطان‪.‬‬
‫في أحد األيام في المستشفى بين موعدين‪ ،‬نتناول أنا وليفي وجبات غدائنا‬
‫المعبأة في "الحديقة"‪ ،‬وهي عبارة عن قاعة طعام على شكل ردهة خلفية ضخمة‬
‫تمتد حواليها أشجار عالية مزروعة ضمن رقعة داخلية مكشوفة تحت ضوء السماء‪.‬‬
‫إال أن ليفي ال يريد أن يأكل‪ ،‬فهو يقرأ المزامير بينما أقضم سندويشا‪ .‬لكن رغم‬
‫َجلَبة السرطان‪ ،‬ثمة شيء بقي عالقًا في ذهني‪.‬‬
‫أقول‪" :‬ليفي‪ ،‬لقد أعطيتك إحدى قصصي‪ ،‬لكنك لم تقرأها‪ ".‬لقد أعطيته إياها‬
‫باستحياء بعد تشخيص إصابته بالسرطان‪ ،‬كما لو أنني أقول‪ ،‬هذه أنا‪ .‬مرحبا‪ .‬إذا‬
‫كنت سأعتني بك خالل هذا الظرف‪ ،‬فأريدك أن تعرف من أنا‪.‬‬
‫ي وقت‪"،‬‬
‫يقول‪" :‬لم يكن لد ّ‬
‫أقول‪" :‬وقت؟ لكن ذلك كان مه ًما لي‪".‬‬
‫ويلوح بيده تلك التلويحة‪ ،‬ثم يقول‪" :‬لقد قطعت على نفسي‬
‫عندئذ يرفع بصره ّ‬
‫منذ زمن طويل التزا ًما بأال أقرأ أدبًا علمانيًا"‪.‬‬
‫سه قبل زمن طويل خلف جدار‬
‫س نَف َ‬
‫وأخيرا‪ ،‬أفهم األمر‪ .‬أفهم أن ليفي قد َحبَ َ‬
‫ً‬
‫ال يتزحزح‪ ،‬جدار ضخم وقديم وراسخ بعمق لن أستطيع تحريكه أبدًا‪ .‬أفهم أن‬
‫ارتباطه بالرب والدين سيحظى باألولوية دائ ًما‪ .‬أفهم أن كل أحد سيهتم بأمره ال ب ّد‬
‫أخيرا‪ .‬أقطع األمل بأن يتغير‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن يواجه تلويحة يده تلك‪ .‬وأتوقف‬
‫أقول‪" :‬أتفهم ذلك"‪.‬‬

‫يستدعى أفرامي‪ ،‬الذي عاد إلى اليشيفا اآلن‪ ،‬إلى مكتب المدير‪ ،‬ويقول له‬
‫الحاخام‪" :‬أغلق الباب‪ "،‬ينفّذ أفرامي ما طلب الحاخام ويجلس‪ ،‬وهو متوتر ً‬
‫قليال‪.‬‬
‫فو ّ‬
‫ت‬ ‫كثيرا‪ ،‬وقد ّ‬
‫ً‬ ‫يقول الحاخام‪" :‬ما الذي يحدث معك؟ إنك تتأخر عن الدروس‬
‫اختبارا‪".‬‬
‫ً‬
‫عا صلدًا‪ .‬ينظر لألسفل نحو حذائه‪.‬‬
‫يجعل أفرامي من وجهه قنا ً‬
‫يقول الحاخام‪" :‬وما هذا؟" يرفع ورقة اختبار تحريري مكتوب في أعالها‬
‫درجة ‪ 38‬باللون األحمر‪.‬‬
‫صغيرا على األرض‪.‬‬
‫ً‬ ‫سا‬
‫يتأمل أفرامي حذاءه‪ ،‬راس ًما بمقدمة الحذاء قو ً‬
‫مريض‪"،‬‬
‫ٌ‬ ‫يقول الحاخام‪" :‬أعلم أن والدك‬
‫فينهار أفرامي باكيًا‪ ،‬يتجرع الكثير من الدموع‪ .‬عندما أسمع عن هذه الحادثة‬
‫من الحاخام الحقًا‪ ،‬سأتذكر آخر مرة كان فيها أفرامي بالمنزل‪ ،‬وقد مضت عليها‬
‫اآلن ثالثة شهور‪ ،‬وهي تصادف بداية مرض ليفي‪ ،‬وكيف قام بتفريغ البقالة‪،‬‬
‫وتحضير أشقائه للمدرسة‪ ،‬وكأنما يبحث عن شيء ملموس وذي قيمة يستطيع فعله‬
‫في وجه السرطان‪ .‬بعدها يخبره ليفي أن يعود إلى اليشيفا ويتعلم التوراة لينال‬
‫ي أفرامي في اليشيفا خاليتان‪،‬‬ ‫رحمة الرب ألبيه‪ .‬يوصيه ليفي بأن يصلي‪ّ .‬‬
‫لكن يد ّ‬
‫ينظر إليهما من خالل دموعه‪ .‬إنه في الخامسة عشرة‪ ،‬وهو ال يعرف كيف ينقذ‬
‫يفرغ البقالة ويساعد بإعداد العشاء فحسب‪.‬‬
‫والده عبر الصالة والدراسة‪ ،‬بل كيف ّ‬
‫شاعرا بأنه كشف أمام الحاخام‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬لم يرغب أن‬
‫ً‬ ‫أتخيله محر ًجا من بكائه‪،‬‬
‫يعرف أصدقاؤه باألمر‪.‬‬
‫نحن من وضعنا عبء القداسة هذا‪ ،‬ومن ثَم العجز‪ ،‬على كتفيه‪ .‬أتصل‬
‫بأفرامي ونتحدث لوقت طويل‪ .‬لكنني أتساءل‪ :‬ما نفع مكالمة هاتفية عندما ال‬
‫أستطيع أن ألمس وجهه الجميل الذي بدأت تنبت عليه شعيرات لحيته األولى‬
‫الناعمة؟‬

‫مارس‪ .‬يصل البابا جون بول الثاني العجوز المريض على كرسيه المتحرك‬
‫إلى كاتدرائية القديس بطرس‪ ،‬حيث يبذل جهده لينهض من كرسيه المتحرك ويركع‬
‫أمام تمثال بييتا لمايكل أنجلو‪ ،‬الذي يصور ابن الرب الجميل‪ ،‬صريعًا في ريعان‬
‫شبابه وممددًا بال حياة بين الذراعين الحنونتين ألمه الرقيقة دائمة الشباب وهي في‬
‫حالة حزن‪ .‬الحقًا‪ ،‬من المذبح‪ ،‬يتوسل البابا بصوت متهدج مغفرة َ الرب على‬
‫الخطايا التي ارتكبتها الكنيسة على مدى قرون‪ ،‬بحق النساء‪ ،‬بحق السكان‬
‫األصليين‪ ،‬بحق اليهود‪.‬‬
‫يذيع الخبر في طائفتنا‪ ،‬حيث ما يزال الناس يلقون بالالئمة على الكنيسة‬
‫الكاثوليكية على نهب الصليبين للقرى اليهودية‪ ،‬على فرية الدم‪ ،‬على قرون من‬
‫المذابح العرقية التي استهدفت البلدات اليهودية‪ ،‬على عزل اليهود في غيتوهات‪،‬‬
‫على االغتصاب‪ ،‬والقتل‪ ،‬واالبتزاز والمجتمعات التي نفيت بين ليلة وضحاها‪،‬‬
‫وعلى قرون من سياسات اإلفقار ومعاداة السامية‪ ،‬وعلى التعاون مع النازية‪.‬‬
‫متظاهرا بأنه البابا‪" .‬لقد ارتكبنا‬
‫ً‬ ‫يتضاحك الناس على الخبر‪" .‬ويحي‪ "،‬يقول ليفي‪،‬‬
‫صغيرا"‪.‬‬
‫ً‬ ‫خطأ‬

‫عا جديدًا من الساباث في منزلنا‪ ،‬ساباث السرطان‪ .‬في الساباث‬


‫نحيي نو ً‬
‫االعتيادي‪ ،‬ال تسمح لنا الشريعة استخدام الماء الساخن والصابون‪ ،‬لذلك فإننا نتحمم‬
‫يوم الجمعة قبل بداية السبت‪ .‬أما اآلن‪ ،‬وقبل أن يقد َّم األطفال المساعدة َ بتقطيع‬
‫السلطة وإعداد المائدة وحمل أطباق الطعام‪ ،‬فإنني أرتّبهم في طابور في المطبخ‬
‫وأوجههم لفرك أيديهم حتى المرفق بالماء الساخن والكثير من الرغوة على الرغم‬
‫من مقتضيات شريعة الساباث‪ ،‬من أجل حماية والدهم‪ .‬لكن حقًا‪ ،‬تقتضي الشريعة‬
‫هذه التنازالت عندما تكون الصحة في خطر‪.‬‬
‫ي بدافع الضرورة الطبية‪ ،‬متحررة‬
‫ضا‪ .‬أغسل يد ّ‬
‫نغسل أنا وليفي أيدينا أي ً‬
‫اآلن من أحد القيود على األقل‪ .‬يغسل ليفي يديه بنفس الحماسة الدينية التي يصلي‬
‫بها‪ .‬يغسل ليفي يديه ليس بدافع الضرورة الطبية‪ ،‬وإنما ألن الشريعة بحكمتها تلزمه‬
‫بفعل ذلك تحت مث ِل هذه الظروف‪ .‬فلو لم تكن الشريعة تنص على أنه ملزم باتباع‬
‫أوامر الطبيب وتقديمها على األوامر الدينية‪ ،‬لما كان ليفي سيغسل يديه في الساباث‪،‬‬
‫دونما اكتراث لعدد خاليا الدم البيضاء‪ ،‬وسيكون متيقنًا من أن الرب سيحميه ألنه‬
‫ي‬
‫يكرم الساباث بيديه غير المغسولتين‪ .‬أفهم ذلك‪ ،‬وجمعينا نفهم ذلك‪ .‬أنا أغسل يد ّ‬
‫من أجل الجراثيم‪ ،‬وليفي يغسل يديه من أجل الرب‪.‬‬

‫ي أن أزور والدتي‪ .‬ال أعرف لماذا‪ ،‬بل ال أفهم أن السرطان‬


‫أقرر بأن عل ّ‬
‫أخيرا بال وجل في مرآتها األمومية‪،‬‬
‫ً‬ ‫يجعلني على نحو ما أحتاج ألن أعود وأنظر‬
‫تما ًما مثلما ال أعرف لماذا‪ ،‬وفي غمار كابوسنا‪ ،‬تطاردني ذكريات ليزا وآمالها‬
‫وأحالمها‪ .‬أعرف فقط أنني ذاهبة وأن زيارتي تبدو ضرورية‪ .‬لن تكون الزيارة‬
‫ذات أثر كبير‪ ،‬عدا أنها ستكشف بأن أمي أخذت تشيخ‪ ،‬ومن ث َ ّم فإنني لن أجد حقًا‬
‫أمي الماثلةَ في خياالت طفولتي‪ .‬يقضي األوالد ليلتهم مع بعض األصدقاء‪ ،‬بينما‬
‫يتدبر ليفي أمر ذهابه إلى المستشفى ويقوم بنفسه بالعناية بقسطرته‪ ،‬ويتولى أمر‬
‫أدويته ومضخة الكيمياويات التي تتدلى من كتفه مثل حقيبة‪ .‬ولهذا أتمكن من‬
‫الذهاب‪.‬‬
‫ً‬
‫شماال صوب داالس على الطريق السريع ‪ ،45-‬تكون السماء‬ ‫وبينما أتوجه‬
‫زرقةً شاسعة‪ ،‬والطريق السريع المفتوح شريطا ً يخترق وسط هذه الوالية المنبسط‬
‫الواسع‪ .‬أنطلق عبر حقول الشوفان والسورغم والذرة‪ ،‬وقطعان الماشية التي ترفع‬
‫رؤوسها بتثاقل لتنظر بعيونها البنية الصافية‪ ،‬وعبر المخارج المتباعدة لبلدات تحمل‬
‫اسما ًء مثل فالتونيا ووكاهاتشي‪ .‬إنه ديسمبر‪ ،‬وهذا يعني أشعة شمس دافئة وريا ًحا‬
‫بالبر إلى الحد الذي‬
‫ّ‬ ‫باردة‪ .‬السماء وال شيء في األفق غير السماء‪ ،‬فتتصل الزرقة‬
‫يصبح معه النظر إليها مؤل ًما نوعا ً ما‪.‬‬
‫وبينما أقود‪ ،‬بسرعة تصل إلى الثمانين ميالً‪ ،‬يبدأ الشال باالنزالق من على‬
‫رأسي‪ .‬أتركه يقع مثل ورقة تين ساقطة‪ .‬ما من أحد سيرى‪ ،‬سوى الرب‪.‬‬
‫ثم ينتابني الغضب‪ .‬فأفكر أن ربي ال يعاقب‪ّ ،‬‬
‫إن صمت ربي هو قبول‬
‫مضمر‪.‬‬
‫لكن حقًا‪ ،‬كان الشال المنزلق هو إعالني للتحدي‪ ،‬فبه أتحدى رب الشريعة‪،‬‬
‫مصرة على أن يتغير‪ .‬كان ذلك بمثابة اقبلني كما أنا‪ ،‬لكن ليس كأمرأة خاضعة‪.‬‬
‫ّ‬
‫بعد ساعة من قيادة السيارة‪ ،‬أحتاج لمشروب بارد ودورة مياه‪ .‬هناك محطة‬
‫تعبئة وقود إلى األمام أنشئت في منزل قديم وفيها محل بقالة‪ ،‬لذا أخرج من الطريق‬
‫وأوقف السيارة‪ ،‬وأنا أنظر إلى طالئها المتقشر وأسفلتها الملطخ ببقع الزيت‪ .‬أتوقف‬
‫بجانب شاحنة بيك أب قديمة متهالكة وملطخة بالوحل وثمة رجل يقف بجوارها‪.‬‬
‫يتكئ الرجل على الشاحنة مسندًا إحدى قدميه إلى الخلف على مرقاة الشاحنة‪ ،‬وهو‬
‫يرتدي بنطلون جينز مهترئًا وقمي ً‬
‫صا صوفيًا بنقشة الكاروهات‪ ،‬وجزمة قديمة عليها‬
‫وحل‪ ،‬ووجهه ذي بشرة متشققة ومجعدة‪ .‬كان يدخن سيجارة قرصها بين إبهامه‬
‫وسبابته‪ ،‬وكان يضيّق جفنيه ليدقق النظر في تلك السماء‪.‬‬
‫أجلس هناك حاسرة الرأس في سيارتي المركونة إلى جانب سيارته‪ ،‬وبينما‬
‫ألمس مقبض الباب ألخرج من السيارة‪ ،‬تعصف بي لحظةٌ من الهلع الذي غرسته‬
‫بي الحسيدية بسبب الرجل ورأسي الحاسر‪ ،‬عريي أمام رجل‪ .‬أتوقف‪ ،‬التقط نفَ ً‬
‫سا‪،‬‬
‫سوف أفعل ذلك ح ًقا‪ .‬ثم أفتح باب السيارة وأقف‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫أكز على أسناني‪ ،‬وأقول لنفسي‪:‬‬
‫أمام رجل حقيقي‪ ،‬برأس حاسر‪ .‬أتوقف‬
‫تحت شمس تكساس وأخطو خارج سيارتي‪َ ،‬‬
‫سا آخر‪ ،‬أتحرك خطوة‪ ،‬ثم أخرى‪ .‬ثم أتوقف فجأة‬
‫وأستدير‪ ،‬موطدة العزم‪ ،‬ألتقط نف ً‬
‫أخطو نحو راعي البقر العجوز الطويل‪،‬‬
‫َ‬ ‫ألنني أشعر برغبة مفاجئة وجامحة بأن‬
‫أن أصل إليه‪ ،‬وأمسك به من ياقته القطنية المهترئة‪ ،‬وأقول‪ :‬أتعلم بأنك الرجل‬
‫ً‬
‫وبدال من أن‬ ‫األول‪ ،‬عدا زوجي‪ ،‬الذي يرى شعري منذ خمسة وعشرين عا ًما؟‬
‫أفعل ذلك‪ ،‬أتطلع في وجهه المس َم ّر من أثر الشمس وأنفجر ضاحكة‪.‬‬

‫أف ّكر‪ :‬كم هو رائع هذا الشعور! لكنه ليس نابعًا من أن ما من أحد ذي أهمية‬
‫هاهنا سوف يرى رأسي الحاسر‪ .‬إنما هو ناب ٌع من أنه ليس هناك من يلقي ً‬
‫باال‪.‬‬
‫أستمر بالسير‪ ،‬وأنا أهز رأسي وأضحك من نفسي‪ .‬وما أزال أضحك بيني وبين‬
‫نفسي بينما أمر أمامه‪ ،‬فيما ينفث دخان سيجارته الذي يخرج على شكل خيوط‬
‫رفيعة‪ .‬وتلك العيون التكساسية نصف المغمضة تتبعني‪ .‬فتاة ٌ غريبةٌ من المدينة‪.‬‬
‫ً‬
‫وبدال من مقابلة الحاخام فرومان وج ًها لوجه أثناء تلك األسابيع األولى من‬
‫إصابة ليفي بالسرطان‪ ،‬أتصل به وأزكي له جانيس على الهاتف‪ .‬أشد ّد على أن‬
‫ً‬
‫جميال وبالتالي سيجعل الميكفاه تبدو جميلة وربما يلهم هذا أحدًا‬ ‫عملها سيكون‬
‫ليرغب بتأدية الطقس‪ .‬وأظن بأنني ما زلت أمتلك بعض التأثير؛ ألنه قَبِل بالتحدث‬
‫إليها‪ .‬عندما ذهبت جانيس لتقابله جعلها تقطع له وعدًا بأن تكون الصور محتشمة‬
‫وال تظهر عريًا أماميًا‪ ،‬ويفضّل أن تعرض للنساء فقط‪ ،‬لكنه سمح لها بالتصوير‬
‫في ميكفاتنا‪.‬‬
‫وبعد بضعة أسابيع من عودتي من داالس‪ ،‬أزور جانيس في منزلها‪ ،‬حيث‬
‫كانت هذه فرصة وجيزة وثمينة ألفضي بهمومي لها وأستمع إليها‪ .‬لقد أذهلتني‬
‫الصور الجديدة‪ ،‬صور عارية تحت الماء بتدرجات األزرق التقطت من الخلف أو‬
‫بوضعيات جانبية محتشمة‪ ،‬أذرع تحجب النهود‪ ،‬وحدود غبشاء لفخذ وورك تحت‬
‫الماء‪ .‬وكل واحدة من تلك النساء تعوم بال وزن بجنسانية ال واعية‪ ،‬غير مدركة‬
‫لجمالها‪ ،‬وكل تركيزها منصبّ على داخلها وليس على إثارة شيء من الرغبة‪.‬‬
‫حضورا‪ ،‬في حين أن تلكم‬
‫ً‬ ‫ي متعال‪ ،‬كما لو أن الجانب الروحي هو األكثر‬ ‫عر ٌّ‬
‫النسوة في أكثر حاالتهن ماديةً‪ .‬تفهم جانيس ذلك‪ ،‬وتج ّ‬
‫سده‪.‬‬
‫عندما يفتتح المعرض في الشهر التالي خالل مهرجان هيوستن نصف‬
‫السنوي للصور (‪ ،)Houston’s biannual Fotofest‬يمتلئ الغاليري بنساء‬
‫يرتدين المالبس السوداء واأللماسات المتدلية‪ ،‬وكؤوس الشراب بين أصابعهن‪.‬‬
‫ورجال ببدالت أنيقة مخاطة بدقة وعناية يراقبون زوجاتهم ومن يواعدوهن عن‬
‫كثب‪ .‬يقترب النقاد لتف ّحص الصور‪ ،‬يبتعدون‪ ،‬ثم يعودون من أجل المزيد‪ .‬تقارن‬
‫وتصرح‪" :‬هذا العرض‬
‫ّ‬ ‫صحيفة هيوستن كرونيكل العم َل بأعمال أندريه كيرتيش‬
‫ال ينبغي تفويته‪ ".‬وفي وسط الحشد الحماسي الصاخب‪ ،‬تتخذ جانيس مكانها أمام‬
‫بيانها الفني المعلق على الجدار فيما تهمس إليها عدة نساء صففن شعورهن بطريقة‬
‫مثالية‪ :‬يمكنني أن أخبرك عن تجربتي في الميكفاه‪.‬‬
‫سرا"‬ ‫تخبرني جانيس الحقًا‪" :‬لقد ّ‬
‫كن كما لو أن لديهن ً‬
‫مضمرا في دواخلهن لقرون‪ .‬لم تتحدث النساء‬
‫ً‬ ‫فأجيبها‪" :‬لقد كان ذلك‬
‫اليهوديات عن الميكفاه أبدًا‪".‬‬
‫تقول‪" :‬دعينا نحثهن على الحديث‪".‬‬
‫"ماذا؟"‬
‫" البد أنك تعرفين نسا ًء يمكننا مقابلتهن‪ ،‬أليس كذلك؟ كما أنك كاتبة‪ ،‬إعملي‬
‫معي‪ ،‬لنوسع المعرض‪ .‬دعينا نقابل النساء‪ ،‬وأنا سألتقط صورهن‪".‬‬
‫"إنه أمر شديد الخصوصية"‪.‬‬
‫"سوف نبقي هوياتهن مجهولة"‪.‬‬
‫يدعنك تظهرين وجوههن"‪.‬‬
‫ِ‬ ‫"وهن لن‬
‫"من قال إنني سأظهر وجوههن؟"‬
‫الفصل الحادي والعشرون‬

‫وفي غضون أيام كنت أجلس بصحبة مسجل صوت مع فتاة حسيدية في‬
‫ي جانيس‬ ‫السابعة عشرة من عمرها على وشك الزواج‪ .‬فبعد أن عرضت عل ّ‬
‫(مشروع الميكفاه) في ذلك اليوم‪ ،‬أجرينا ً‬
‫سيال من المكالمات الهاتفية فيما بيننا‪،‬‬
‫وأقمنا جلسات ليلية متأخرة شيّقة ومثمرة تبادلنا فيها األفكار والصور والخطط‪.‬‬
‫ي مع‬ ‫أحيطها عل ًما بأنني سأساهم بالعمل فقط عندما أستطيع‪ّ ،‬‬
‫لكن الحياة تدب ف ّ‬
‫إحساس اإلثارة النابضة بينما نكمل جمل إحدانا األخرى‪ ،‬تتدحرج األفكار من‬
‫أفواهنا مثل ِجراء تتعثر‪ .‬أفكر ّ‬
‫بأن االنخراط بهذا العمل‪ ،‬ما دمت أتواله بحيطة‬
‫ووعي‪ ،‬قد ينفعني خالل محنة السرطان هذه‪.‬‬
‫إنه جنون‪ ،‬أعلم ذلك‪ :‬ليفي مريض‪ ،‬المنزل‪ ،‬األطفال‪ ،‬وال نوم إطالقًا‪ ،‬وها‬
‫أنا ذا قد وافقت على إجراء مقابالت مع نساء يتحدثن عن الميكفاه‪ ،‬وأقدّم المساعدة‬
‫لجانيس على تصويرهن‪ .‬من الجنون أن أنأى بنفسي عن كل هذا في وقت مثل‬
‫هذا‪ ،‬ولو بخطوة‪ ،‬عن كل التزاماتي ألقوم بشيء ال عالقة له بها أو بي‪ .‬لكنني‬
‫وجانيس سوف نحمل النساء الصامتات على التحدث عن هذا الطقس األكثر خفا ًء‬
‫ومحورية من بين الطقوس‪ .‬ال مكان للقناعات العقائدية‪ ،‬سأحملهن على أن ّ‬
‫يكن‬
‫حقيقيات‪.‬‬
‫كانت الفتاة التي تجلس أمامي مغرمةً بخطيبها الذي يمكنها اإلعجاب به من‬
‫بعيد فقط‪ .‬تدعوني "مورا ليا" أي المعلمة ليا‪ .‬أعدها بأال أكشف اسمها‪.‬‬
‫تشرع بالحديث بتفاؤل ساطع عن التجربة الروحية العظيمة التي تتوقع أن‬
‫تعيشها في الميكفاه في الليلة التي تسبق زفافها‪ .‬تغمض عينيها بينما تتخيل النور‬
‫الروحاني الذي سوف يهبط عليها مع حب الرب الالمتناهي‪ ،‬واللذين ستمررهما‬
‫سيعرفها إلى‬
‫ّ‬ ‫ألبنائها‪ .‬ومثلما جرى تعليمها منذ والدتها‪ ،‬فإنها تعتقد بأن زواجها‬
‫دورها كأ ّم‪ ،‬تشعر أنها بإنجاب أطفال يهود‪ ،‬ستختبر تحقيق كل لحظة عاشتها حتى‬
‫اآلن‪.‬‬
‫تصور جانيس الفتاة في زفافها‪ ،‬لتصبح األولى في سلسلة‬
‫ّ‬ ‫بعد عشرة أيام‬
‫ي خلف طرحة حسيدية غير شفافة‪.‬‬
‫البورتريهات مجهولة الشخصية‪ ،‬وجه الفتاة مخف ٌّ‬
‫تجلس العروس في كرسي أبيض من الخوص‪ ،‬وقد أنزل عريسها لتوه الطرحة‬
‫على وجهها بعد أن نظر نظرته األولى في وجه محبوبته‪ .‬تقبض العروس في يدها‬
‫على صورة مصغرة للحاخام‪.‬‬
‫وبعد شهر‪ ،‬أعود الستكمال مقابلة الفتاة‪ .‬اتخذت الفتاة وضعية جسد منفتحة‪.‬‬
‫أسلوبها أصبح أكثر صراحةً‪ ،‬وثيابها أكثر أناقة ونضو ًجا‪ ،‬ومن ضمن ما ارتدته‬
‫باروكة شعر طويل جديدة مصنوعة من الشعر الطبيعي‪ .‬أف ّكر‪ :‬لقد غدت امرأة‪.‬‬
‫أقول لها‪ ،‬وأنا أتذكر وصفها الشاعري قبل الزفاف‪" :‬أخبريني اآلن‪ ،‬كيف بدت‬
‫الميكفاه في الحقيقة؟"‬
‫كانت تبكي طيلة طقس الميكفاه تلك الليلة ولم تعرف ِل َم كانت تبكي‪ .‬تقول‪:‬‬
‫"اآلن أدرك بأنني ال أعرف حتى ماذا تعني (روحانية)"‪" .‬لم أفهم ما كان سيحدث‪،‬‬
‫غامرا كان يتملكني بأنني كنت سألج في تلك المياه فتاة ً وأخرج منها‬
‫ً‬ ‫شعورا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لكن‬
‫امرأة ً‪ ".‬تتحدث عن زوجها بأسلوب ملؤه المحبة‪ ،‬وتقول بأنها مسرورة من دعم‬
‫الشريعة لشهوتهما واحتفائها بها ومرافقتها لها عبر الميكفاه‪.‬‬
‫وبينما أسمعها أتذكر زفافنا أنا وليفي‪ .‬أتذكر محاولتي تدريب نفسي على‬
‫ً‬
‫فبدال من أن تقوم بتعليم نفسها على الرغب ِة‬ ‫الشهوة‪ .‬لكن‪ ،‬بالنسبة لهذه الفتاة‪،‬‬
‫بزوجها‪ ،‬نهضت الشهوة وعلّمتها شيئًا ع ّمن تكون هي‪ ،‬وهو ما لم يحصل معي‪.‬‬
‫تلتقي جانيس بامرأة أثناء رحلة لها إلى دينفر‪ ،‬وتخبرني أنها تو ّد أن أقابلها‪،‬‬
‫فأجري المقابلة على الهاتف‪ .‬تقول المرأة بأنها مثلية‪ّ ،‬‬
‫لكن والديها نبذاها عندما‬
‫كشفت األمر لهما‪ ،‬لقد نبذا طفلتهما الوحيدة‪ .‬كسيرة القلب‪ ،‬تلتجئ إلى الدين والطقس‬
‫طلبًا للعزاء‪ ،‬وهكذا ذهبت إلى الميكفاه‪ .‬خططت للزيارة‪ ،‬وذهبت إلى هناك "بضمأ‬
‫َص مقدَّس‪ّ ".‬‬
‫لكن الجزء غير المكتوب هو الذي غيّرها‪ .‬تحت المياه في‬ ‫روحي ون ّ‬
‫تلك الحجرة العتيقة‪ ،‬أدركت ّ‬
‫أن "هناك أشياء أكبر تدير حياتي‪ ".‬ثم وفي غرفة‬
‫تبديل المالبس‪ ،‬ترى نفسها مبللة وعارية في مرآة كاملة الطول‪ ،‬وتضطر أن تواجه‬
‫حقيقة وجودها الدامغة‪.‬‬
‫لم أكن أنوي لهذه المقابالت أن تستثيرني بهذه الطريقة‪ .‬إنها تتركني مستغرقة‬
‫في التفكير‪ ،‬وأستجوب نفسي‪ّ :‬‬
‫كأن العروس والمرأة المثلية مرآتاي كاملتا الطول‪.‬‬
‫أقوي شكيمتي لكي أبقى في أدواري؛ فاألم يجب أن تبقى أ ًما‪ ،‬وزوجة المصاب‬
‫ّ‬
‫بالسرطان كذلك‪ .‬ودائ ًما ما كان هناك العمل‪ :‬تفاصيل وقوائم وشجارات صغيرة‬
‫تتطلب التهدئة والتسوية ووجبات لطهيها‪.‬‬
‫في غضون أيام من هذه المقابلة‪ ،‬أشعر باأللم‪ ،‬وجع يجتاح كامل جسدي‪،‬‬
‫وكل مفصل فيه‪ ،‬كما لو أنني أموت من الداخل وألد نفسي في ذات الوقت‪ .‬تمر‬
‫ي األيام بتثاقل‪ ،‬ويعذبني الشعور بأنني ال أنتمي ألي مكان‪ ،‬ال للمنزل وال‬
‫عل ّ‬
‫للجامعة‪ ،‬ال أنتمي لنفسي وال ألطفالي‪ ،‬ليس بعد اآلن‪ ،‬وال أستطيع أن أحمي أطفالي‬
‫أفز في ظالم الليل وأنا أتصبب عرقًا ألجد‬
‫من خيانتي‪ .‬وعندما أتمكن من النوم‪ّ ،‬‬
‫نفسي جالسة في السرير في حالة من الذعر‪.‬‬
‫في أحد الصباحات‪ ،‬وفي منتصف مراحل العالج الكيمياوي‪ ،‬أجد ليفي مرتديًا‬
‫ثياب الخروج‪ ،‬لكنّه كان مستلقيًا على وجهه على السرير‪ ،‬وجبهته على ذراعه‬
‫منتظرا أن يستجمع القوة للنهوض وارتداء حذائه‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬يجلس على‬
‫ً‬ ‫المثنية‪،‬‬
‫حافة سريره‪ ،‬وبتأن ينتعل فردة حذائه اليمنى ً‬
‫أوال‪ ،‬على نفس النحو الذي دائ ًما ما‬
‫ارتدى به كل قطعة من ثيابه‪-‬الجانب األيمن ً‬
‫أوال‪ ،‬ألن اليمين يدل على قوة الرب‬
‫والشريعة المقدسة‪ ،‬ثم اليسار‪ ،‬الجانب األضعف‪ ،‬رمز رحمة الرب‪ .‬وهذا إقرار‬
‫بأن عدالة الرب تسبق رحمته‪ .‬ثم يربط ليفي فردة حذائه اليسرى ً‬
‫أوال مع صالة‬
‫صامتة لبعث رحمة الرب وجعلها تسود على الحكم الصارم الذي نستحقه جميعنا‬
‫حقًا‪.‬‬
‫بوجود السرطان‪ ،‬يصبح ك ّل شيء‪ ،‬حتى انتعال األحذية‪ ،‬بالنسبة لليفي‪،‬‬
‫صالة ً من أجل النجاة‪.‬‬

‫ترسلني جانيس إلى صديقتها المدلّكة‪ ،‬كيلي‪ ،‬وهي مغنية جاز ِمثلية ذات‬
‫أخيرا على مركزها في منطقة‬
‫ً‬ ‫صوت عميق ويدين بارعتين‪ .‬وعندما أعثر‬
‫مونتروز غير المألوفة‪ ،‬ترشدني موظفة االستعالمات فأجد طريقى إلى حجرة ذات‬
‫جدران مطلية باللون األخضر الداكن‪ ،‬يعبق هواؤها برائحة الشمع المعطر‬
‫وأدس نفسي بين مالءات سوداء منشاة‬
‫ّ‬ ‫باألعشاب‪ .‬أنزع طبقات المالبس الطويلة‬
‫على صوت موسيقى مختلطة بإيقاع أمواج تضرب الشاطئ‪ .‬في الغرفة المعتمة‪،‬‬
‫تمسد كيلي عضالتي على مهل بيديها الدافئتين المزيتتين‪ .‬وشيئًا فشيئًا يجتاحني‬
‫اإلجهاد‪ .‬أتأرجح بين الدخول والخروج في حالة من نصف الوعي على إيقاع‬
‫ي امرأة على جسدي‪.‬‬ ‫صوت األمواج‪ّ .‬‬
‫لكن هذه هي المرة األولى التي أشعر فيها بيد ّ‬
‫أفكر‪ :‬كم هي عميقة هذه اللمسة‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬وكما لو أن أبوابًا مقفلة أخذت تنفتح‪ ،‬أشعر بدفقة دفء غامرة‪ ،‬بارتياح‪،‬‬
‫وأنا اتطوح واألمواج تتصادم عاليًا فوق رأسي‪ .‬تصعد التنهدات لوحدها من قاع‬
‫المحيط‪.‬‬
‫أستلقي هناك على وجهي‪ ،‬كتفاي ترتجفان‪ ،‬دموعي تتساقط على األرض‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وإنما تعمل طيلة الساعة‪ ،‬مطلقةً أحيانًا صوت دندنة‬
‫ال تحاول كيلي التحدث إل ّ‬
‫أفرغ نفسي‪ .‬يغشاني النوم في‬
‫خفيضة‪ .‬وعندما تنهي عملها‪ ،‬تتركني‪ ،‬وأنا ما أزال ّ‬
‫أخيرا‪ ،‬وأنام بعمق على الطاولة الضيقة في الحجرة الخضراء المعتمة‬
‫ً‬ ‫تلك الحجرة‬
‫بين الشراشف السوداء المنشاة بجوار شمعة مرتعشة والصوت المس ّجل لألمواج‬
‫يحيط بي‪.‬‬

‫تريد جانيس مقابلةً مع امرأة حسيدية مستعدة للتحدث عن ارتداء الباروكة‪،‬‬


‫لذلك أتصل بدينا‪ ،‬وهي امرأة من مجموعتنا تحافظ على بقاء باروكتها غالية الثمن‬
‫ي‪ .‬أرتدي باروكتي للمقابلة ليجعلها التضامن تشعر‬
‫مصففة بشكل جميل وحيو ّ‬
‫باالرتياح‪.‬‬
‫أتذكر عندما كانت دينا ما تزال جديدة بيننا‪ ،‬وأتذكر اصطحابها إلى الميكفاه‬
‫وكيف كانت تطوي جسدها الطويل في المياه المتأللئة لتذكرني بلوحات ديالكروا‬
‫وآنغر‪ .‬إنني مطلّعة على حياة دينا فيما مضى‪ ،‬فقد اعتادت أن تحدثني عنها‪ ،‬ولم‬
‫تكن حياتها قبل الحسيدية جميلة دائ ًما‪ .‬لكنني عندما أشغل المسجل‪ ،‬تشرع دينا‬
‫برواية قصة منقّحة ذات طبيعة سجالية‪ ،‬بال مصاعب‪ ،‬وال صراعات‪ ،‬وكل حدث‬
‫في ماضيها يوجهها مباشرة نحو هدفها المتمثل بالرب‪ ،‬والذي يتكلّل بالتطهير في‬
‫تصور الطائفة الحسيدية وكأنها احتضان جماعي إلهي متكامل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ميكفاه‪ .‬ثم‬
‫أشعر بالصدمة واالستياء الشديدين‪ ،‬وذلك لسببين‪ :‬أولهما ألنني أعرف‬
‫قصتها الحقيقية‪ ،‬وثانيهما ألنني أستطيع سماعها وهي تكذب على نفسها‪ .‬ترمقني‬
‫جانيس بنظرة تصحبها ابتسامة غريبة‪ ،‬ثم تقول لدينا (أهي تهمزني؟)‪" ،‬أخبريني‬
‫عن إرتداء الباروكة"‪.‬‬
‫تقول دينا‪" :‬حسنًا‪ ،‬اآلن‪ ،‬حتى الحاخام فرومان أصبح يثق بي ألنني أرتديها‪.‬‬
‫ً‬
‫حالال‪ ،‬رغم أن مطبخي ما يزال‬ ‫إنه يسمح ألوالده بتناول طعامي‪ ،‬ويثق بكونه‬
‫بالضبط مثلما كان قبل أن أرتدي الباروكة‪ .‬حتى أن السيدة فرومان تتصل بي من‬
‫أجل أن تطلب مشورتي! كما أن أطفالي اآلن فخورون بأن مظهر أمهم يبدو مثل‬
‫مظهر األمهات األخريات‪ ،‬فال يصيبهم اإلحراج‪ ".‬أفكر‪ :‬كان جوابها بكامله يدور‬
‫حول تحقيق التماثل مع الجماعة والحصول على المكانة االجتماعية‪ ،‬وهي معتدة‬
‫بنفسها وراضية‪ .‬لم تقل شيئًا عن الحشمة أمام الرب‪ ،‬أو عن الباروكة كرمز للهوية‪.‬‬
‫ولم تشر إلى أن ارتداء الباروكة كان ً‬
‫فعال نابعًا من اإليمان أو ألنه وصية من‬
‫وصايا الرب‪.‬‬
‫سوف تعثر على أزواج ممتازين ألوالدها بفضل هذه الباروكة الجميلة‪.‬‬
‫لماذا تجعلني هذه المقابلة غاضبة جدًا؟ لكنها كانت كما لو أنني أنظر إلى‬
‫مرآة وأرى الرياء‪ .‬لست دينا‪ ،‬أحاول تذكير نفسي‪ ،‬بيد أنني ال أستطيع تح ّمل األمر‪.‬‬
‫ي أن أخرج من المكان فحسب‪،‬‬
‫ال أطيق المكوث‪ .‬أنهض بال مقدمات‪ ،‬معتذرة‪ ،‬عل ّ‬
‫توا ما فعلته‬
‫فأخرج‪ ،‬وأنا متيقنة من أن الجميلة دينا قد ابتلعت نفسها وأنني رأيت ً‬
‫للمرة األولى في حياتي‪ .‬أترك جانيس خلفي لتلتقط الصور بمفردها‪ .‬وفي سيارتي‬
‫على ممر السيارات الخاص بمنزل دينا‪ ،‬أضرب المقود وأصرخ "كال!" في وجه‬
‫الرب على سبيل التحدي‪ ،‬ال يمكنك أن تطلب منا هذا‪ ،‬وأصرخ على نفسي‪ .‬ماذا‬
‫فعلت؟ أدعس على دواسة الوقود فتترنح السيارة وهي تخرج من الممر‪ ،‬أتوجه‬
‫نحو المنزل بسرعة تبلغ الخمسين ميالً في شارع سكني‪ ،‬وأنا أصرخ "كال!" على‬
‫طول الطريق‪ .‬أقود السيارة داخل باحة منزلنا بعصبية‪ ،‬أقفز من السيارة وأصفق‬
‫الباب‪ ،‬وأشرع بالبكاء‪ ،‬وأنا أتخيل ذلك الرضا الذي يفيض باالعتداد بالنفس حينما‬
‫كانت دينا تجعل ذاتها تختفي‪ .‬وبينما ما أزال أنتحب‪ ،‬أدخل البيت الفارغ وأصفق‬
‫ضا‪ ،‬فتهتز النوافذ‪.‬‬
‫الباب أي ً‬
‫أتوقف فجأة ً عند بداية الممر وأنزع الباروكة عن رأسي‪ ،‬ثم أقذف بتلك‬
‫الباروكة إلى نهاية الممر الطويل مثل كرة بولينغ وأراقبها وهي تدور في الهواء‪.‬‬
‫يضرب فروة رأسي نسي ٌم بار ٌد وكأنه مطر صباحي‪ .‬تتهاوى الباروكة‬
‫سا على عقب في نهاية الممر مثل خرقة‬
‫متراخية في خط متعرج وتحط مقلوبة رأ ً‬
‫مرمية‪ .‬ألحقها بخطى متعثرة‪ ،‬وأركلها جانبًا بينما أمر‪ .‬لكنني لست دينا‪ّ .‬‬
‫ألن‬
‫ً‬
‫رمزا لهويتي‪ .‬ألن‪ ،‬ارتدائي لها كان نابعًا من رغبة حقيقية في‬ ‫باروكتي كانت‬
‫الرب‪ .‬فلم تمحني تلك الباروكة حينها‪ ،‬بل كانت ذات معنى‪ ،‬معنى حقيقي‪ .‬لكنها‬
‫بال جدوى؛ فعند ارتداء باروكتينا‪ ،‬نصبح أنا ودينا عضوتين متطابقتين من نفس‬
‫المراتب عديمة الوجوه‪ .‬عالوة على أنني لم أكن أعرف عم كنت أتخلى حينها‪،‬‬
‫لكنني ّ‬
‫بت أعرف اآلن‪ .‬ليس هنالك إال طريقة واحدة لكيال أكون مثلها‪.‬‬
‫أتأخر حتى نهاية اليوم قبل أن أستطيع رفع الشيء من حيث يقبع على‬
‫األرض م ً‬
‫همال وراكدًا‪ .‬أرفعها من على األرض بإصبعين‪ ،‬وعلى وجهي تكشيرة‪،‬‬
‫وأنفضها بتثاقل من الغبار الذي جمعته أثناء تدحرجها الطويل إلى نهاية الممر‪ .‬كل‬
‫تلك السنين من التفاني‪ ،‬ما الذي تبقى؟‬
‫وبينما أعبر المدينة في طريقي إلى الجامعة بعد يوم من حادثة الباروكة‪،‬‬
‫أوقف السيارة في موقف سيارات كبير وفارغ أمام متجر أثاث مغطى باأللواح‪،‬‬
‫صا بك ّم قصير‪ .‬أتمعج ألرتدي الثياب داخل السيارة‪،‬‬
‫وأخرج بنطال جينز جديدًا وقمي ً‬
‫ثم أفتح الباب وأقف ألنزع التنورة‪ .‬أفتح القميص على اتساعه عند قبته‪ ،‬وأعود إلى‬
‫ً‬
‫طويال مجددًا‪.‬‬ ‫السيارة ألمشط شعري على مرآة الرؤية الخلفية بعد أن أصبح‬
‫في الجامعة‪ ،‬كان الفرق بكيفية استقبالي بمالبسي الجديدة جليًا في ذلك اليوم‪،‬‬
‫وتطور منذ تلك اللحظة‪ .‬أصبح الطالب يشركونني في األحاديث‪ ،‬وصرنا نسترخي‬
‫في جلوسنا ونضحك‪ .‬بدأت أحب كتمان الهوية‪ ،‬أحب عدم قدرة أحد على تخمين‬
‫ي‪ .‬في المالبس التي ليست زيًا موحدًا‪ ،‬أنا مجرد شخص‪،‬‬
‫معتقداتي بمجرد النظر إل ّ‬
‫ولست عالمة‪ .‬ال أرتدي عالمة‪ .‬أرى إخفاء الهوية وكأنها دعوةٌ‪ :‬إذا َ‬
‫كنت تريد أن‬
‫ي وأسالني‪.‬‬
‫تعرف معتقداتي‪ ،‬فتعال إل ّ‬
‫وفي فعل تحد آخر‪ ،‬أرسل "قصة بركة" عن فتى اليشيفا المثلي الذي يحب‬
‫زميله في الدراسة‪ ،‬إلى مسابقة وطنية خاصة بالقصة القصيرة‪.‬‬

‫نجري المزيد من المقابالت‪ ،‬وتلتقط جانيس المزيد من البورتريهات عديمة‬


‫الوجوه‪ .‬تقول المرأة التالية التي أقابلها‪" :‬الميكفاه تعني الزواج األحادي‪ ،‬إنها تعني‬
‫أن الجنس مقدس وخصوصي‪ .‬حين ترعرعت في الستينات‪ ،‬لم أعرف أحدًا كان‬
‫يعتقد بهذا‪".‬‬
‫أخبر جانيس الحقًا‪" :‬تشدد الشريعة على القدسية والخصوصية حت ًما‪ ،‬لكنها‬
‫عا واحدًا فقط من الجنس‪ ،‬وتملي عليك متى يمكنك‬ ‫ضا على ّ‬
‫أن هناك نو ً‬ ‫تشدد أي ً‬
‫ممارسته ومتى ال يمكنك ذلك‪ .‬تضع الشريعة الجنس والجنسانية في صندوق‪ ،‬كما‬
‫تفعل مع الباقي من حياتنا‪ .‬صندوق داخل صندوق‪ .‬إن حاولت الخروج منها‪،‬‬
‫ستؤذي كل شخص كان معك هناك في الداخل‪".‬‬

‫يواصل ليفي انكفاءه على نفسه واستغراقه في كتبه‪ ،‬وما يزال يتعرض‬
‫سع المشروع‬
‫لنوبات الهيجان االنفعالي‪ ،‬ويصر على تدبّر أمر رعاية نفسه بنفسه‪ .‬أو ّ‬
‫مع جانيس‪ .‬ولكوني غير قادرة على فعل أي شيء من أجله‪ ،‬وغير راغبة باالكتفاء‬
‫بالمشاهدة‪ ،‬أضع خط ً‬
‫طا للسفر مع جانيس‪ .‬ولتوسعة ديموغرافية مشروع الميكفاه‪،‬‬
‫أتواصل عبر الهاتف للبحث عن أشخاص في جميع أنحاء البالد‪ .‬ويبدو أن نسا ًء‬
‫علمانيات في كل أنحاء البالد بدأن باستصالح الميكفاه واستخدامها بطرق جديدة‪،‬‬
‫كالمرأة المثلية التي التقيتها في دينفر‪ .‬وربما هناك أخريات‪ ،‬نسا ٌء أكثر تمس ًكا‬
‫بالطابع التقليدي عثرن على طريقة للقبول بقوانين الميكفاه المتطفلة‪ ،‬قد سمحن‬
‫ألنفسهن حتى بالتنازل‪ .‬أريد‪ ،‬أو أحتاج‪ ،‬أن أسمع عن هذا‪.‬‬
‫ربما تفصح لي بعضهن عن اعتراضاتهن على الميكفاه‪ ،‬وهذا لوحده له‬
‫جاذبية هائلة‪ .‬وإذ إنني لم أعد خائفة‪ ،‬ولم أعد متشبثة بوجهة نظر حسيدية واحدة‪،‬‬
‫فإنني أستغل هذه الفرصة لالبتعاد ولالستماع الحق لألصوات األخرى‪ .‬وخالل هذا‬
‫كله كان الدافع هو إعطاء النسوة الممنوعات من الكالم أصواتهن‪.‬‬
‫نذهب إلى نيويورك‪ .‬تشانا في الثالثينات من العمر‪ ،‬أرثوذكسية‪ ،‬وهي أم‬
‫لخمسة أطفال‪ .‬تلتقي بي في مطعم للمأكوالت الحالل في مانهاتن وتعطيني اسمها‬
‫األول فقط‪ ،‬والذي يراودني ٌّ‬
‫شك بأنه اسم مستعار‪ ،‬وقد جاءت بسيارتها من بلدة‬
‫قَ ِ‬
‫صية لم تكشف عنها‪.‬‬
‫عمو ًما‪ ،‬يطرأ التغيير على طرز األزياء الحسيدية واألرثوذكسية؛ إذ تصبح‬
‫النساء بالغات األناقة‪ ،‬ويرتدين باروكات مصنوعة من الشعر الطبيعي الطويل‬
‫وثيابًا باهضة الثمن‪ ،‬وأحذية ذات كعوب‪ ،‬ويضعن طالء األظافر‪ ،‬حتى عند الذهاب‬
‫صر الثياب إلى الحد األدنى المسموح به في الشريعة‪ّ .‬‬
‫لكن‬ ‫إلى متجر البقالة‪ .‬كما تق ّ‬
‫ثياب تشانا طويلة ومجعدة‪ ،‬وباروكتها باهتة‪ .‬كانت وقفتها محدودبة ووجهها منه ًكا‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬وحالما أشغّل مسجل الصوت‪ ،‬تتحدث عن أوائل من أعجبت بهم ً‬
‫سرا‬
‫عندما كانت مراهقة‪ .‬تسرد قصص اإلعجاب تلك بالتفاصيل‪ .‬كانت كل من أعجبت‬
‫بهن من الفتيات‪.‬‬
‫تقول تشانا إن هذا قدرها من للا‪-‬أن تتحدى طبيعتها كل يوم‪ .‬وبينما تدس‬
‫خصلة شعر شاردة في باروكتها البنية الباهتة‪ ،‬تقول بأنها عملت على مدى سنين‬
‫من أجل أن تعلّم نفسها كيف تحب زوجها وكيف تجعله يحبها‪ .‬ذلك الحب الذي‬
‫يأتي في كتيب إرشادات‪ ،‬ثم تقول‪" :‬لقد اضطررت إلى إجراء نوع من الجراحة‬
‫على نفسي‪".‬‬
‫تجتاحني داخلي هبّة ساخنة أقرب إلى الذعر عند سماع تلك الكلمات المفزعة‬
‫وتخيّل هذه المرأة تدخل ِمشر ً‬
‫طا إلى روحها لتستأصل جز ًءا من كيانها‪ ،‬كما لو‬
‫ٌ‬
‫مقيت‪،‬‬ ‫أنني شهدت للتو ولو َج الشفرة إلى داخلها‪ .‬كنت أعتقد أن إيذاء النفس‬
‫وغريب‪ ،‬لكن شيئًا يهمس لي‪ :‬إنني أعرف الحياة التي عاشتها…عل ّ‬
‫ي أن أنهض‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫أنصرف‪ ،‬أهدأ‪.‬‬
‫أذهب إلى دورة المياه‪ .‬أعود بعد أن أرغمت نفسي على استعادة رباطة‬
‫جأشي وانضباطي المهني‪ ،‬ونبدأ مجددًا‪ .‬أقول وفي نيّتي تغيير وجهة الحديث‬
‫والدخول إلى صلب الموضوع‪" :‬أخبريني عن الذهاب إلى الميكفاه‪".‬‬
‫تصف تجربتها مع الميكفاه‪ .‬أتتبعها خطوة خطوةً‪ .‬تخبرني ّ‬
‫بأن الميكفاه مهمة‬
‫جدًا عندها؛ ألنها تساعدها في جرف مقاومتها لخطة الرب المقدسة للجنس الغيري‬
‫والزواج واألطفال‪ .‬هذا ما تصلي ألجله في الميكفاه‪ ،‬كل شهر‪ ،‬أن تتطهر من‬
‫َصف الوقوف في المياه‪ ،‬وهي تصلي‪ ،‬وآخر كلماتها لي كانت "ثم تزولين‪،‬‬
‫نفسها‪ .‬ت ِ‬
‫تزولين‪ ،‬تزولين‪".‬‬
‫هذا أسوأ من المرآة كاملة الطول‪ .‬فالنظر إلى هذه المرأة يشبه النظر إلى‬
‫مرآتين تواجهان إحداهما األخرى‪ ،‬وصورتي تتكرر فيهما إلى ما ال نهاية‪.‬‬

‫بعد مرور ثالثة أشهر على بدء عالج ليفي‪ ،‬نذهب أنا وهو سوية إلى ليلة‬
‫شيفا براكوت (‪ ،)shiva brachos‬وهي واحدة من ليالي االحتفاالت السبع‬
‫المتتالية التي تقام في المنازل لتكريم العروسين الجديدين بعد زفافهما‪ .‬يقام الحدث‬
‫في منزل جيراننا‪ .‬وعند وصولنا نجد الزوجين المتزوجين حديثًا على رأس طاولة‬
‫طويلة مفروشة في حجرة العائلة الكبيرة‪ .‬كانت العروس ذات الوجه النضر فخورة‬
‫بباروكتها الجديدة الالمعة‪ .‬أما العريس فيبدو فتيًا إلى حد ال يصدق على الرغم من‬
‫لحيته وقبعته السوداء الجديدة‪ .‬تجلس النساء على جانب واحد من الطاولة بجوار‬
‫العروس‪ ،‬أما الرجال فيجلسون على الجانب اآلخر بمحاذاة العريس‪ .‬يبدو العروسان‬
‫مجهدين ً‬
‫قليال ومغرمين ببعضهما بشكل واضح‪ ،‬ولمرتين ضبطت الشاب ينظر إلى‬
‫زوجته وفي عينيه ابتسامة رقيقة‪.‬‬
‫يشرب الرجال الفودكا ويغنون‪ ،‬ويتخلل ذلك خطابات وبركات‪ .‬أما النساء‬
‫فيمررن صواني الطعام ويتبادلن األحاديث‪ ،‬وينصتن بتأدب‪ ،‬ويهرعن لتقديم‬
‫يمررن أطباق وصواني الدجاج والكوجيل والسلطات‬
‫ّ‬ ‫المساعدة في المطبخ‪ .‬كما‬
‫ضا عن الفودكا‬
‫والكيك‪ .‬تحضّر إحداهن صينية من أقداح الليكيور الحلو للنساء عو ً‬
‫النقية التي تقدم للرجال‪.‬‬
‫تطرقت لحرية االختيار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من المفارقات أن اثنين من الخطابات التي القيت‬
‫مشددة على أننا نختار بحرية أن نعيش ضمن حدود الشريعة‪ .‬ال ب ّد أن يكون األمر‬
‫بتلك الطريقة‪ ،‬يقولون في تلك الخطابات‪ ،‬حتى إذا ما قمت بالخيار الصائب‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫مكافأة الرب ستكون أعظم‪ .‬أفكر‪ ،‬وكم أنا حرة‪ ،‬عندما يؤدي إفصاحي عن ذاتي‬
‫الحقيقية إلى نبذ عائلتي وإيذاء أطفالي؟‬
‫حرا‪ .‬يعبّ جرعة فودكا على الرغم من العالج الكيمياوي‪ .‬يحمر‬
‫يبدو ليفي ً‬
‫وجهه الشاحب ورأسه األصلع‪ ،‬يقف ويبارك الزوجين الشابين بحياة مديدة زاخرة‬
‫بالتوراة واألطفال‪.‬‬
‫ثمة امرأة شابة أعرفها عادت للمدينة لزيارة عائلتها تنهض لتساعد بالخدمة‪.‬‬
‫أحضرت معها رفيقتها بالسكن إلى هذه الزيارة‪ ،‬فقد رأيت كلتيهما قبل أيام في‬
‫متجر البقالة وتع ّجبت مما رأيت‪ .‬كانت الشابتان تقفان قريبتين جدًا من بعضهما‪،‬‬
‫تميل إحداهما برأسها نحو رأس األخرى‪ ،‬فال يسمع أحد حديثهما الهامس‪ .‬كانتا‬
‫تمسكان بنفس رغيف الخبز‪ ،‬فتكاد تتالمس يداهما‪ .‬ومن خالل عدسة الرغبة‬
‫المكبوتة‪ ،‬رأيت حميميةً‪ ،‬ألفة متبادلة‪ ،‬ارتيا ًحا وحبًا‪ .‬كنت أعرف أن لد ّ‬
‫ي اختالال‬
‫بالرؤية‪ ،‬وضحكت على نفسي‪ .‬لكن أال يمكن أن يكون األمر كذلك؟ أدفع عربتي‬
‫على عجل إلى ممر آخر‪.‬‬
‫أخبر نفسي مرة أخرى‪َّ ،‬‬
‫كن يشترين الخبز ليس إال‪ ،‬لكنني ما أزال أراقب‬
‫الفتاة وهي تضع طبقها على الطاولة وتستدير وتعود إلى المطبخ‪ .‬يبدأ دوار األفكار‬
‫يعبث برأسي‪ .‬هراء‪ ،‬أفكر‪ :‬أنا بالكاد أعرف الفتاة‪.‬‬
‫أريد أن أكون الساحرة التي تلقي ببركتها‪/‬لعنتها للزوجين الجديدين الجالسين‬
‫سا معتدين بأنفسهم وثملين ً‬
‫قليال‪ .‬أريد أن أقف‬ ‫على رأس هذه الطاولة التي تجمع أنا ً‬
‫جهرا بصوتي األنثوي الجريء‪ :‬حذار من‬
‫ً‬ ‫سا مثل بقية الرجال‪ ،‬وأتحدث‬
‫وأرفع كأ ً‬
‫السالم واألمان اللذين يعميان البصر‪ ،‬واللذين تمنحهما الحياة الدينية‪ ،‬فماذا يعني‬
‫ذلك السالم واألمان إذا لم يعترف بكفاحك المحتوم؟ أي نوع من الحياة هذا إذا ما‬
‫قيل لك باستمرار بأنه ما من مشاكل ال يستطيع الدين حلها‪ ،‬وال من أسئلة ال يستطيع‬
‫نمو‪ ،‬والنمو صراع؟ من أنت إن كان ال يعترف‬
‫األجابة عنها‪ ،‬في حين أن الحياة ٌ‬
‫يجرك إلى حافة طريق الدين؟‬
‫بأي شيء داخلك قد ّ‬
‫التناقضات أمر بشري‪ ،‬وبدونها‪ ،‬ليس هناك من مجال لك‪ .‬تقدم التوراة عال ًما‬
‫مثاليًا‪ّ ،‬‬
‫لكن العالم المثالي يخنق الناس‪ .‬احذروا هذه الحياة المتكلفة المصطنعة!‬

‫لكن الفتاة التي كنت أراقبها تجيء نحوي‪ .‬حلّت الفتاة ربطة شعرها األحمر‬
‫ّ‬
‫اللولبي‪ ،‬ورشقتني بابتسامة عريضة‪ .‬الفتاة معروفة بالطائفة بدراستها الدؤوبة‬
‫سا ومحاضرات لألفراد‪ .‬كنا قد درسنا سويًا من قبل‪ ،‬حيث‬
‫للتوراة‪ .‬وهي تعطي درو ً‬
‫عا من التسلية‪ .‬تقول‪" :‬ابقي ً‬
‫قليال بعد أن يغادر‬ ‫تعد دراسة التوراة في هذه الطائفة نو ً‬
‫ّ‬
‫وكأن ما من شيء يختلج‬ ‫اآلخرون‪ ،‬ولنقرأ مقالة حسيدية" فأقول طبعًا‪ ،‬وما المانع‪،‬‬
‫في داخلي‪.‬‬
‫تختتم الوليمة بأغنية شكر جماعية تنتهي بـ"مبارك هو الرجل الذي يثق‬
‫بالرب‪ ،‬والرب سيثق به‪ ".‬تتبادل النسوة األحاديث ويخلين المائدة وينظفنها‪ ،‬فيما‬
‫يترافق األزواج عند الباب ويغادرون‪ .‬يغادر ليفي مع األوالد‪ ،‬بعد أن أؤكد له بأنني‬
‫ً‬
‫طويال‪ .‬أفكر‪ ،‬ال يجدر بي أن أبقى‪ .‬ثم أفكر‪ ،‬لكن يمكنني البقاء إذا اخترت‬ ‫لن أمكث‬
‫ذلك‪ .‬أخبر نفسي‪ ،‬ال شيء يدعو للقلق‪ ،‬بوجود شعرها المنهمر وابتسامتها المشرقة‪.‬‬
‫ك َّن يشترين الخبز فحسب‪.‬‬
‫تنفض الحفلة‪ .‬نتشارك الكتاب‬
‫ّ‬ ‫نجلس على أريكة صغيرة في المكتبة بعد أن‬
‫الوحيد‪ ،‬نصفه على حجري‪ ،‬ونصفه على حجرها‪ ،‬أربعة سيقان مغطاة بالتنورات‬
‫تلتصق إحداها باألخرى‪ .‬عندما تخفض بصرها لتنظر إلى الكتاب‪ ،‬يشكل شعرها‬
‫اللولبي الغزير ستارة مفروقة حول وجهها‪ ،‬وعندما تلتفت‪ ،‬تَهبّ أنفاسها برقة على‬
‫أذني‪ .‬تقرأ بصوت عال بالعبرية‪" :‬منذ تدمير الهيكل أصبح كل ما يملكه الرب هو‬
‫الحرم الروحي الذي يشيده الرجل لنفسه ضمن حدود الشريعة‪ ،‬من خالل تضحيته‬
‫بالذات‪".‬‬
‫منذ اللحظة التي لم يعد بها الهيكل العتيق المشيد من الذهب موجودًا‪ ،‬أصبحت‬
‫أنا ك َّل ما يملكه الرب‪.‬‬
‫تقول‪" :‬علينا أن نتخيل أنفسنا مثل ذلك الرجل‪ .‬الرب يعتمد علينا اآلن‪،‬‬
‫والمكان الذي نشيّده ألنفسنا ضمن الشريعة هو حرمه‪ ،‬والذي ح َّل محل المعبد‬
‫العتيق الذي سكنه الرب ذات مرة في العالم‪ .‬أما اآلن فهو يسكن فينا‪".‬‬
‫تقول الفتاة‪" :‬أتفهمين؟"‪" ،‬أعني‪ ،‬ما قيمة التضحية بالنفس من أجل الشريعة‪،‬‬
‫حقًا؟" تواصل كالمها بأسلوب سريع ونَفَس الهث‪ ،‬كما لو أنها تعدو صوب مذبح‬
‫التضحية‪.‬‬
‫صوتها أغنية في الهواء الساكن‪ ،‬ساقها تحتّك بساقي‪ .‬الشعيرات الناعمة على‬
‫ظهر رسغها…ثم أسبح في صوتها الذي يغرق في نبرته بغرابة‪ .‬تواصل القراءة‬
‫والتحدث‪ ،‬مستغرقة‪ ،‬إصبعها يداعب الورقة‪ ،‬يداعب‪ ،‬الورقة‪.‬‬
‫وكما لو أنني أحلم‪ ،‬أميل نحوها وأضع يدي على يدها‪.‬‬
‫توقفي‪ .‬الرجل الموجود في الكتاب الذي نتقاسمه‪ ،‬الرجل الخاضع للشريعة‬
‫ي‪ً ،‬‬
‫قائال‪:‬‬ ‫ي‪ .‬إنه يشير إل ّ‬
‫الذي يبني حر ًما للحياة ضمن إطار شريعة الرب‪ ،‬يشير إل ّ‬
‫إنك كل ما يملكه الرب"‪.‬‬
‫" ِ‬
‫أنت‪ ،‬أحاول أن أجيبه‪ .‬لم أعد أستطيع تسليم قلبي لشريعة الرب‪ ،‬لم‬
‫أنا لست َ‬
‫أعد أستطيع أن أكون األضحية الراضية‪.‬‬
‫تجس يدي لثانية براحة يدها الباردة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لتنوه عن فكرة‪ ،‬ثم‬
‫تخبط على ذراعي ّ‬
‫إنها متفانية وصادقة ومستغرقة في النص استغراقًا تا ًما‪ .‬أغمض عين ّ‬
‫ي‪ ،‬في محاولة‬
‫للتفكير بصفاء‪ّ ،‬‬
‫لكن االهتياج يجتاح تفكيري‪ .‬هذا جنون‪ .‬تسيح الكلمات في دماغي‪،‬‬
‫وفي حلم يقظة‪ ،‬أقلب أغطية السرير ألجدها تنتظرني هناك‪.‬‬
‫حينئذ‪ ،‬يط ّل علينا جارانا الزوجان اللطيفان صاحبا المنزل‪ .‬أقفز من مكاني‪،‬‬
‫تورد وجهي‪ ،‬وكيف‬
‫ي اللذين أصابهما ال َخ َدر‪ّ ،‬‬
‫لكنهما حت ًما ال يستطيعان رؤية ذراع ّ‬
‫ي أن أعود للمنزل"‪ .‬ليفي‪ ،‬الصغار‪.‬‬
‫تجمدت الساعة في مكانها‪ .‬أقول‪" :‬رباه! عل ّ‬
‫لكن هذه الدوخة التي تصيبني تجعل حتى التفكير‬‫الوقت يقارب منتصف الليل‪ّ .‬‬
‫بالمشي صعبًا‪.‬‬
‫من خارج نافذة الشرفة‪ ،‬تتهادى شاحنة في الشارع‪ ،‬وهي ترش ضبابًا كثيفًا‬
‫من المبيدات الحشرية لمكافحة بعوض هيوستن‪ .‬يصبح الهواء ضبابيًا‪ ،‬وسرعان‬
‫يصر الجميع على مرافقتي مشيًا‬
‫ّ‬ ‫ما سيسبب حرقة في العيون والحلق‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫حتى المنزل ّ‬
‫ألن الوقت قد تأخر جدًا والجوار دائم التغيّر غير مأمون‪ .‬وهكذا نسير‪،‬‬
‫ي أو إلى أين يأخذني هذا‬
‫في موكب لطيف‪ .‬وبينما أسير ال أعرف تما ًما وجهة قدم ّ‬
‫أحاديث مبالغًا في تهذيبها‬
‫َ‬ ‫الغريب‪ ،‬جسدي‪ ،‬بهاتين الركبتين المرتجفتين‪ .‬أجري‬
‫مثل مراهقة ثملة تحاول النجاة بفعلتها‪ .‬بعدئذ‪ ،‬في المنزل في فراشي وفي ردائي‬
‫المحتشم‪ ،‬وحين تغمر أنفاس النائمين المنبعثة من غرفة ألخرى عتمةَ الليل‪ ،‬أغمض‬
‫ي مستسلمة للرؤى التي تنبثق عن الساعة الماضية‪ .‬النشوة الجنسية العارمة‬
‫عين ّ‬
‫التي تعقب ذلك كانت صرخة تحرير‪ ،‬صرخةً سيبقى اندالعها هو األشد رسو ًخا‬
‫في الذاكرة‪ .‬ثم أنام‪ ،‬نومة عميقة وطويلة وخالية من األحالم‪.‬‬
‫أستيقظ في الصباح التالي‪ ،‬أطرف بعيني‪ ،‬وتقفز الئحة أعمال اليوم إلى‬
‫ذهني‪ .‬األطفال إلى المدرسة‪ .‬موعد ليفي في المستشفى‪ .‬ثم أتذكر الليلة الماضية‬
‫وأعود لالستلقاء في الفراش‪ .‬كل سنواتي التي حاولت بها أن أستحث النشوة من‬
‫أجل الرب‪ ،‬وما من شيء جعلني أشعر بأنني حيّة وحقيقية مثل تلك اللحظات القليلة‬
‫التي استسلمت فيها للشهوة العفوية التي باغتتني‪ ،‬مثل احتراق ذاتي‪ .‬وما من شيء‬
‫طبيعتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ص َد َح من قبل‪ ،‬وكان في غاية اإلقناع‪ً ،‬‬
‫قائال إن هذه هي‬ ‫قد َ‬
‫لم تعد كلمة مثلية تترنح بين القبول واإلنكار وتتسلل لألحالم‪ .‬إنها ليست‬
‫كلمة أكاديمية أو مح ّل نقاش‪ ،‬وليست مسألة اختيار أو تح ّكم بأي شكل من األشكال‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وهزني ً‬
‫هزا‪.‬‬ ‫لقد أط ّل كياني‪ ،‬أمسكني من كتف ّ‬
‫أصف حقائب الغداء وأضع الشطائر في‬
‫ّ‬ ‫أغني في المطبخ‪ .‬أغني بينما‬
‫األكياس وأغلق سحابها‪ .‬شالوم يحوم حولي‪ ،‬وما يزال مرتديًا منامته‪ ،‬فألفّه‬
‫ي‪ ،‬أرقص معه‪ ،‬وأقهقه‪.‬‬
‫بذراع ّ‬
‫الحقًا‪ ،‬في السيارة‪ ،‬أنزل كل النوافذ‪ .‬كل شيء يبدو بلون مختلف عما كان‬
‫اخضرارا‪ .‬في البقالة‪ ،‬نظرة خاطفة‬
‫ً‬ ‫عليه أمس‪ :‬السماء أكثر زرقة‪ ،‬األشجار أكثر‬
‫واحدة إلى امرأة ترتدي بلوزة بحمالة عنق تكشف عن بطنها مع شورت قصير‬
‫مقصوص تجعل إحساس دغدغة يسري في جسدي‪ .‬أفكر‪ ،‬ينبغي أن أكون محرجة‪.‬‬
‫أشعر بأنني مثل صبي مراهق ذي قضيب شديد االهتياج‪ ،‬لكنني حيّة‪.‬‬
‫في يوم السبت‪ ،‬وأنا أتساءل كيف سيكون شعوري ناحية الكنيس اآلن‪ ،‬أذهب‬
‫إليه بعد غياب طويل وأجلس في الخلف وراء صديقتي القديمة شتيرنا‪ .‬لقد اعتدنا‬
‫أن ندردش في وقت متأخر من الليل بينما نقوم بأعمال التنظيف من أجل الفصح‪،‬‬
‫لقد سبق وأمسكت بيدها في مرتين من والداتها‪ .‬وهناك في نهاية الصف األول‬
‫زهوة لكنها هشة‪،‬‬
‫تجلس رفيقة الميكفاه القديمة ميرا‪ ،‬ودينا بباروكتها الفاخرة‪ ،‬تبدو َم ّ‬
‫إلى جانب السيدة فرومان التي تجلس في مقعدها الشرفي‪ .‬أفكر‪ ،‬حتى لو كنا ‪-‬نحن‬
‫النساء في الطائفة‪ -‬ال نثق ببعضنا‪ ،‬وحتى لو كنا نخفي شخصياتنا السرية‪ ،‬إال أننا‬
‫أصبحنا عائلة‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ .‬فقد رحبنا بأطفال إحدانا األخرى في منازلنا‪،‬‬
‫وهرعنا لمساعدة بعضنا في أوقات المرض‪ ،‬وفي األتراح واألفراح‪ .‬لكنكم لو‬
‫عرفتموني على حقيقتي‪ ،‬فإنني أشك في أن حبكم سيدوم‪ .‬فأنا أج ّسد العالم الذي يقع‬
‫خارج التوراة‪ .‬أنا بالضبط ما تحمون أطفالكم منه‪ -‬أنا ما تدعونه التوراة بـ‬
‫"الرجس‪".‬‬
‫سا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫لكن إحساسي بالبهجة واالكتشاف‪ ،‬وإحساسي بأنني حيّة ليس رج ً‬
‫أنظر إلى باروكاتهن من الخلف وأرى الخوف والغضب‪ ،‬بل وحتى الكره‬
‫ي وإلى اآلخرين الذين يشبهونني‪ ،‬كل تلك المشاعر بدت لي شرسة‬
‫الموجه إل ّ‬
‫كشراسة أم تدافع عن أطفالها‪.‬‬
‫جهارا في الليلة الماضية‪ ،‬أرغب بأن أقف على‬
‫ً‬ ‫ومثلما تخيلت بأن أتحدث‬
‫حرم‪ ،‬أقاطع الخدمة‪ ،‬وأتولى‬
‫أحد هذه المقاعد وأمأل الكنيس بصوتي النسائي الم ّ‬
‫زمام القيادة‪ .‬أتنكرون أن الرب خلقني؟ أتنكرون إرادة الرب؟ سأخبر هؤالء الناس‬
‫الذين يخشون الرب‪ .‬إنني موجودة بالفعل‪.‬‬
‫الخاص بي‪ .‬اليوم أصبحت امرأة‪ ،‬الشخص الذي‬
‫ّ‬ ‫اليوم هو يوم البار ميتزفاه‬
‫ظال مكر ًها على الصمت ومجبوالً بقالب مصطنع يقف خلف‬
‫ولدته أمي‪ ،‬ولست ً‬
‫الرجال‪ .‬لقد أصبحت من أنا عليه‪ :‬مثلية‪ .‬أخرج من الكنيس وال أعود البتّة‪.‬‬
‫أفرغ غسالة الصحون‪ .‬تكتمل دورة أخرى‪ .‬هذا‬
‫في منزلي‪ ،‬في المطبخ‪ّ ،‬‬
‫جزء من إيقاع كل يوم‪ ،‬اإليقاع المحبب‪ ،‬جزء من محاولة المحافظة على فقاعة‬
‫صها‪ ،‬ثم أرفع األقداح واحدًا‬
‫غير متغيرة ألطفالنا وألنفسنا‪ .‬الصحون نظيفة‪ .‬أر ّ‬
‫صف منظم على الرف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واحدًا وأرتبها في‬
‫بعد تسعة أشهر من ضخ المواد الكيمياوية الكا ِوية إلى جسم ليفي‪ ،‬ينتهي‬
‫لكن الجزء الحيوي منه‬ ‫ً‬
‫هزيال على نحو ال يصدق‪ّ ،‬‬ ‫العالج الكيمياوي‪ .‬يصبح ليفي‬
‫سليم‪ .‬يقول األطباء إنه نظيف من السرطان وأن السرطان قد زال‪ .‬أفكر بالبابا وهو‬
‫يعتذر على معاملة الكنيسة لليهود والنساء واألقليات‪ .‬كان يرتدي رداء حداد كهنوتيًا‬
‫أصر على أن يجهد نفسه للقيام من كرسيه‬
‫ّ‬ ‫أرجواني اللون في ذلك اليوم‪ ،‬وقد‬
‫المتحرك بمفرده وأن يجثو على ركبتيه لكي يصلي‪ .‬ولكن المحزن أن ذلك‬
‫االعتذار‪ ،‬ذلك االعتراف‪ ،‬لم يكسبه التطهير‪ ،‬ليس في عيون أولئك الذين ورثوا‬
‫المعاناة‪ .‬بل إن اعتذاره الحزين بدا لي بأنه قد جعل تلك الخطايا التي مورست على‬
‫مدى قرون أكثر عبثية‪.‬‬
‫إن شفاء ليفي يجعل السرطان يبدو أكثر عبثية‪ ،‬هفوة ارتكبها الرب‪ .‬خطأ ال‬
‫حاصرا‪ .‬لم يكن السرطان بالء مجديًا‬
‫ً‬ ‫طائل من ورائه‪ .‬فلم يكن ليفي جنديًا صال ًحا م‬
‫كر ًما‪ ،‬وال هدية خفية من الرب أو تحديًا ليكون قويًا‪ .‬لقد كان مجرد سرطان‪ .‬خطأ‬
‫م ِّ‬
‫غريب في خالياه‪ .‬وليفي ال يشعر بأنه خال من السرطان؛ إذ إن ندوبه لم تندمل‪.‬‬
‫ومن اآلن فصاعدًا سي ّمر عبر أجهزة التصوير الطبقي المحوري (المفراس) كل‬
‫ً‬
‫متسائال إن كان سيعيش أو يموت‪ .‬ستكون حياته هشة بعد اليوم‪.‬‬ ‫بضعة أشهر‬
‫آخر على الرف مع األقداح األخرى‪ .‬ليفي‬
‫أصف قد ًحا َ‬
‫ّ‬ ‫أو هل ستكون كذلك؟‬
‫مختلف عني‪ ،‬وربما كان كذلك دائ ًما‪ .‬لقد حمله إيمانه خالل المرض‪ .‬إنه يؤمن أن‬
‫شفاءه يبرهن على فاعلية الصلوات التي أدّاها الكثيرون نيابة عنه‪ ،‬ويثبت أن روحه‬
‫سوف تعيش إلى األبد‪ .‬وهذا يعني بأن ليفي‪ ،‬في الحياة اآلخرة على األقل‪ ،‬قد حقق‬
‫عا من الديمومة‪.‬‬
‫نو ً‬
‫كان الحفاظ على نظافة وترتيب هذه الصحون واألواني واألقداح بالنسبة لي‬
‫بمثابة ما تعني صلواته بالنسبة له‪ :‬طريقة ألن أخلق وأديم يوميًا شيئًا ذا قيمة‪ ،‬شيئًا‬
‫سيدوم‪ .‬بالنسبة لي‪ ،‬كانت الديمومة هي الحفاظ على هذا المنزل مالذًا لعائلتنا‪.‬‬
‫أردت أن يتغير ليفي‪ ،‬لكنني أنا َمن تغيّر‪ .‬لقد أصبح من الواضح اآلن أن‬
‫ي النظيفة‪ ،‬الدورات اليومية‪ ،‬المنزل الدائم الذي سعيت إلى تشييده ألبقي‬ ‫األوان ّ‬
‫أطفالي آمنين من عالم يهددهم بالخطر‪ ،‬ستتهاوى كلّها إلى األرض يو ًما‪ .‬لقد أزاح‬
‫السرطان الستارة‪ ،‬جعلني أرى تظاهرنا الصادق بالديمومة‪ّ .‬‬
‫لكن كل شخص‬
‫سيموت‪ .‬الصحون تتكسر‪ ،‬واألقداح تتهشم قابعةً على األرض‪ .‬حتى الكتابة تموت؛‬
‫فالورق يتمزق وينح ّل في األرض‪ .‬والحب قد يموت أي ً‬
‫ضا‪.‬‬
‫ي يقين بأن أيّا مما أفعله قد يخلق شيئًا يدوم‪ .‬ال ترديد الكلمات‬
‫لم يعد لد ّ‬
‫القديمة للرب‪ ،‬وال فصل الحليب عن اللحم‪ ،‬وال إسكات نفسي تحت تالفيف الثياب‪،‬‬
‫وال تغطيس نفسي في ميكفاه‪ ،‬أو القفز على المنطق لإليمان برب ال يموت ويعرض‬
‫ي جز ًءا من نفس األبدية‪ .‬وال حتى بتفريغ غسالة األطباق ووضع كل شيء‬
‫عل ّ‬
‫بترتيبه الصحيح‪.‬‬
‫ترك السرطان حياتي قصيرة وهشة‪ ،‬أكثر مما فعل مع حياة ليفي‪ .‬لكنني ما‬
‫أزال أرتّب الفضيّات في الدرج‪ ،‬الشوكات مع الشوكات‪ ،‬والمالعق مع المالعق‪،‬‬
‫والسكاكين مع السكاكين‪ .‬أصبحت أعرف اآلن كم هو ضئيل ما نعرف‪ ،‬لكنني ما‬
‫أصف األطباق األصغر إلى جانب األطباق األكبر منها‪ .‬لقد أراني السرطان‬
‫ّ‬ ‫أزال‬
‫أنني كنت أعيش على األمل‪ ،‬ال اإليمان‪ّ ،‬‬
‫وأن ما كنت أدعوه بـ"اإليمان" هو مجرد‬
‫مجموعة من الوعود التي قطعتها على نفسي عندما لم أرغب بأن أنظر إلى الحقيقة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما يزال باستطاعتي أن أعقد األمل‪ .‬أفتح بابي الخزانة على مصراعيهما‬
‫ألجل األطباق والزجاجيات المرصوصة بترتيب األمل‪ ،‬وأقرر‪ ،‬أجل‪ ،‬حتى أنني‬
‫صادقة إلى آخر ذرة في خالياي‪ ،‬بأنني أستطيع أن أجرؤ على األمل‪ .‬سأتمسك‬
‫بهذه البهجة غير المنطقية التي يغذيها األمل‪ ،‬والتي تبقيني منفتحة على الفرص‪-‬‬
‫أم ٌل بأن ثمة نو ً‬
‫عا من الخالص يقع خارج حدود مطبخي في نطاق المجهول‪.‬‬
‫الفصل الثاني والعشرون‬

‫لو كانت حياتي مختلفة‪ ،‬لكان هذا الكتاب انتهى هنا‪ ،‬بفقدان اإليمان وتبلور‬
‫القناعات الجديدة‪ ،‬واالستعداد لولوج العالم‪ .‬غير أن حياتي هي حياة أم وحياة حجاب‪،‬‬
‫ً‬
‫وبدال من ذلك أشرع بالسير في درب ذي خطوات‬ ‫أنظر إلى األطفال والعالم الغامض‬
‫صغيرة‪ .‬أذهب إلى مصفف الشعر للمرة األولى في حياتي كبالغة وأقص شعري‪ .‬وبحذر‬
‫وأصرح بمنتهى البهجة أن الروبيان حالل‪ .‬أتعلم حساب‬
‫ّ‬ ‫المحرم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شديد أستكشف الطعام‬
‫الضريبة والبقشيش في المطعم‪ .‬وعن طريق أصدقاء مشتركين‪ ،‬ألتقي بجاين وشريكتها‬
‫(وهما مثليتان يهوديتان!)‪ .‬أذهب إلى منزلهن وأخلع شالي‪ ،‬ونتبادل األحاديث أثناء شرب‬
‫ضا‪ ،‬مثلية‪ .‬أحكي األمر ذاته لجانيس التي لم تكن متفاجئة‪.‬‬
‫الشاي‪ ،‬ثم أخبرهن بأنني‪ ،‬أي ً‬
‫طيلة كل ذلك الوقت‪ ،‬كنت في الخارج مثل قط قروي في المدينة‪ ،‬أبحلق في كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫في المنزل أنتقل إلى غرفة منفصلة وأستيقظ في صباحي األول فيها مندهشةً من‬
‫أنني قد نمت الليل كله من دون أيّما مشكلة‪ .‬أتوقف عن الذهاب إلى الميكفاه‪ ،‬وال يعود‬
‫قادرا على لمسي‪.‬‬
‫ليفي ً‬
‫ينتظر ليرى إن كان كل هذا مؤقت ًا‪.‬‬
‫أثناء ذهابي إلى لوس أنجلوس مع جانيس من أجل إجراء مقابلة لمشروع الميكفاه‬
‫سا للمثليين والمثليات‪ ،‬حيث‬
‫(‪ ،)The Mikvah Project‬أنطلق بمفردي وأزور كني ً‬
‫أجد نفسي وسط حشد من المثليين للمرة األولى في حياتي‪ .‬حولي رجال ونساء يحيّي‬
‫ضا بمودّة عفوية‪ ،‬وبأحضان على المأل‪ ،‬بل وحتى بالقبل‪ ،‬وكل هذا يجري‬
‫بعضهم بع ً‬
‫بسالسة وصدق ومن دون رقابة‪ .‬يعتريني االندهاش والذهول من كم ما شعرت به من‬
‫انفتاح وتلقائية وسط هذه المجموعة‪ .‬وقبل أن تبدأ الخدمة‪ ،‬ألقي نظرة على جمع الجالسين‬
‫وأطلق ضحكة عالية على الفصل التلقائي بين الجنسين في هذا الكنيس الليبرالي‪ .‬فقد‬
‫رفضوا الفصل التقليدي بين الجنسين‪ ،‬ثم انفصلوا على أساس الجنس‪ ،‬ولكن لسبب آخر‬
‫يختلف تما ًما عن السبب الذي كان وراء مقصد الشريعة من الفصل؛ ذلك أن أولئك‬
‫المنجذبين لبعضهم يريدون أن يكونوا سوية وأال ينفصلوا عن بعضهم فيما هم يصلون‪.‬‬
‫تدعوني الحاخامة وشريكتها لمنزلهما‪ ،‬وأبيت الليلة عندهما‪ .‬في الصباح أجد‬
‫تريسي ّ‬
‫تنظف أسنانها في الحمام فيما تستند ليزا على حائط مجاور‪ ،‬وهي تمسك بكوب‬
‫قهوة كبير الحجم‪ ،‬وتتحدث إلى شريكتها بنبرة صباحية حميمية‪ .‬مجرد امرأتين ترتديان‬
‫قمصان بجاماتهن ببساطة وطمأنينة وحميمية نابعة من ألفة أسرية‪ ،‬قهوة وتفريش أسنان‬
‫فحسب‪.‬‬
‫في بيتهما‪ ،‬أتناول مقالة عن الميكفاه بقلم رايتشل آدلر‪ ،‬وهي واحدة من الكاتبات‬
‫النسويات اليهوديات اللواتي رأيت أعمالهن معروضة على طاولة في مؤتمر تكساس‬
‫األول عن النسوية واليهودية قبل زمن طويل‪ .‬تتسم كتابات آدلر األكاديمية التأملية بعاطفة‬
‫هائلة‪ .‬تكتب في هذه المقالة‪" :‬أشق كلمات التوراة حتى تنزف مثلما أنزف‪".‬‬
‫تقدمني الحاخامة ليزا إلى آدلر‪ ،‬وهي امرأة في منتصف العمر ذات ابتسامة رائعة‪-‬‬
‫وهما صديقتان وجارتان‪ .‬وفي اليوم التالي‪ ،‬قبل أن أعود أللتحق بجانيس من أجل إجراء‬
‫مقابلة أخرى‪ ،‬أجد نفسي ضيفة رايتشل آدلر في كنيسها الذي يض ّم رعيّة ليبرالية أخرى‬
‫من دون فصل‪ .‬تلّف راتشيل نفسها بشال صالة كبير حسيدي الطراز‪ ،‬وهو شال صوفي‬
‫ذو لون كريمي وشرائط سوداء تتدلى حتى ربلتي ساقيها‪ .‬كان المشهد مباغتًا‪ .‬بالنسبة‬
‫صا للرجال‪ ،‬ولهذا فإن ارتداءها لشال التاليت المخصص‬
‫لي‪ ،‬كان هذا الرداء مخص ً‬
‫للصالة يبدو فع َل تمرد مرضيًا إلى حد ما‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنه لمن المفارقة التاريخية بالنسبة‬
‫لي أن تثبت الكثير جدًا من النساء اليهوديات في هذا الوقت ذواتهن باالستيالء على هذا‬
‫الزي الذكوري‪ِ .‬ل َم ال يصنعن زيًا أنثويًا متفردًا؟‬
‫تعبيرا عن الصداقة والترحيب‪ ،‬إنك‬
‫ً‬ ‫ي‬
‫ثم تخلع راتشيل الشال وتضعه حول كتف ّ‬
‫امرأة ذات صوت هنا‪ .‬وبشكل بديهي‪ ،‬وكما رأيت الرجال وهم يؤدون الصلوات لسنوات‬
‫فأكون‬
‫عبر الحاجز المشبك‪ ،‬أسحب حافة الشال األمامية إلى األمام على رأسي ووجهي‪ّ ،‬‬
‫ي اللتين ينسدل عليهما الشال أمام صدري وأهمس ببركة‬ ‫ما يشبه الخيمة‪ .‬أشبك يد ّ‬
‫التاليت‪ ،‬وهي البركة التي علّمتها ألوالدي لكي يرددونها كل يوم عندما يرتدون خيوط‬
‫التزتزت‪ .‬تتملكني الدهشة حين أجد نفسي داخل هذه الحجرة القماشية الهادئة التي تعود‬
‫لقومي‪ .‬يتخلل الضوء إلى الداخل‪ ،‬مشتتًا‪ .‬ظالل متمايلة مبهمة‪ ،‬صوت أنفاسي‪ .‬يتباطأ‬
‫الوقت‪ ،‬يخفت صوت الترتيل عبر القماش المنسدل‪ .‬تض ّج الكاتدرائية القماشية بأصداء‬
‫تضرعات أجيال من البشر‪.‬‬
‫وأفهم حينئذ؛ إذ ليست المسألة أن النساء اليهوديات يردن أن يستولين على الزي‬
‫ي عالقة‬
‫الذكوري‪ ،‬وإنما يردن إيصال رسالة مفادها أن الجنسانية ال ينبغي أن تكون له أ ّ‬
‫بالتعبير عن الحاجة اإلنسانية‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وأجلس بجانب راتشيل‪ .‬ورغم أنهم يستخدمون‬
‫أسدل الشال فوق ظهر كتف ّ‬
‫ي كخلفية‬
‫الليتورجيا (الطقوس الجماعية) العبرية األرثوذكسية‪ ،‬فلم يكن هناك غنا ٌء ذكور ّ‬
‫للصلوات األنثوية المهموسة‪ .‬فيما حولنا‪ ،‬رجال ونساء يجلسون سوية‪ ،‬ويغنون سوية‪.‬‬
‫واحدًا تلو اآلخر‪ ،‬يستدعى ك ّل من الرجال والنساء‪ ،‬سبعة من أجل الساباث‪ ،‬فيما يرتل‬
‫القارئ كل قسم بالترتيب من جزء التوراة من لفيفة مفتوحة‪ .‬كان يكفي‪ ،‬بالنسبة لي‪ ،‬أن‬
‫تسنح لي الفرصة لرؤية نساء يستدعين لقراءة التوراة ويشاركن فيها للمرة األولى في‬
‫حياتي‪ .‬ولكن حينذاك ينادي قائد الصالة اسمي‪.‬‬
‫كنت مندهشة للغاية‪ .‬أنهض‪ ،‬مذعورة ً‬
‫قليال‪ ،‬حتى إنني ال أتساءل من أين حصل‬
‫على اسمي‪ .‬أطلب من راتشيل أن ترافقني ألنني أحتاج إلى معين‪ ،‬لذا نسير معًا إلى‬
‫منبر البيما الواسع المغطى بالقطيفة الخضراء الداكنة‪ ،‬حيث نقف أمام المخطوطة العتيقة‬
‫ي النسويتين المحرمتين على المماسك‬
‫الكبيرة المفتوحة على دفتيها‪ .‬هنا حيث أضع يد ّ‬
‫فورا على إنها فعل قدي ٌم من‬
‫الخشبية للتوراة‪ ،‬وأقبض عليها للمرة األولى‪ ،‬قبضة أفهمها ً‬
‫أفعال التملك‪ .‬في لحظة المالمسة تلك‪ ،‬كنت مخلوقةً من اللمس‪ ،‬حسيّة وحقيقية‪ ،‬القوة‬
‫ي‪ .‬أقف سافرة أمام التوراة‪ ،‬لست عارية‪ ،‬بل مكشوفة‪.‬‬
‫والمعنى في راحت ّ‬
‫لقد صعدت إلى توراة جديدة‪ .‬أفكر في أن التوراة ملكي‪ ،‬مهما كانت تبدو منقوصة‪،‬‬
‫إنها إرثي‪ .‬أن أحبها‪ ،‬أم ال‪ .‬أن أؤمن بها وأتبّعها‪ ،‬أم ال‪ .‬صائبة كانت أم ال‪ ،‬فيها وجد‬
‫قومي شظايا الحقيقة‪ .‬التففنا حولها‪ ،‬مقدسة كانت أم ال‪ .‬تجادلنا بشأن النص‪ ،‬وهذه‬
‫سا‪.‬‬
‫الجداالت هي ما أعطته الهيئة والعمق‪ .‬نحن َمن جعلناه مقد ً‬
‫ثم أغني البركة بصوت عال‪ .‬أردف بتلقائية بجملة الشكر "‪"shecheheyanu‬‬
‫على نعمة الوصول لهذا المكان والزمان‪ ،‬فيصدح الجمع بقول "آمين"‪ .‬ثم يذكر القارئ‬
‫المكان الذي سيقرأ منه في المخطوطة‪ .‬ألمس ذلك المكان بشراشيب شال راتشيل ثم‬
‫أقبلّها‪ .‬ثم أتطلّع مجددًا في المخطوطة‪ ،‬وأدرك أن الجزء الذي يوشك أن يقرأه القارئ‬
‫هو عن بنات زيلوفهاد‪ ،‬وهن النساء اللواتي طالبن أمام موسى بحقهن من األرث‪.‬‬
‫بعد أن ترتل القراءة‪ ،‬نتحرك صوب مقاعدنا عبر غَمرة المصافحات والهتافات‪.‬‬
‫ت الحاجز‬ ‫يهتف الناس "‪ -"yashar kochech‬مستقيمة وقوية‪ .‬لقد كن ِ‬
‫ت قوية‪ .‬لقد عبر ِ‬
‫الذي أصبح اآلن خياليًا وتوليت زمام األمور‪ .‬لقد وقفت وجرى احتسابي‪ ،‬وال أتخيل‬
‫العودة‪ .‬في مقعدي‪ ،‬وأنا مغمورة باالرتياح وبما سيحدث الحقًا‪ ،‬أسحب الشال ليغطي‬
‫وجهي مرة أخرى وأبكي‪.‬‬

‫هيوستن‪ .‬أنتهي من مسح طاولة المطبخ الطويلة من الجهة المخصصة للحوم‪ ،‬ثم‬
‫آخذ مكنسة وأكنس التراب من على البالط المكسيكي‪ ،‬وما أن أجمعه بتأن في كومة‬
‫واحدة حتى يندفع جسد ذكوري طويل نحيل فيدعس الكومة ويبعثر التراب‪ .‬أصرخ‪:‬‬
‫ً‬
‫وخامال بعد مرور شهور على العالج‬ ‫"ابتعد عن ترابي!" ليفي‪ ،‬الذي ما يزال أصل َع‬
‫الكيمياوي‪ ،‬يضطجع في الغرفة الخلفية‪ .‬أما إيتزك وشالوم‪ ،‬أصغر أثنين من األوالد‪،‬‬
‫اللذان أصبحا في الثانية عشرة والثالثة عشرة من العمر‪ ،‬فهما في مهمة مصيرية‪ ،‬يتخللها‬
‫لعبة كرة سلة متقطعة في باحة المنزل‪ .‬أصبحت غالديس تعمل في المنزل مرة واحدة‬
‫أدرب األوالد‪ ،‬مع سارة‪ ،‬على الطهي والتنظيف‪ ،‬لكنني أدعهم يذهبون‬
‫في األسبوع‪ ،‬وأنا ّ‬
‫ويجلبون مجرفة كناسة ويرفعون الكومة التي لممتها إلى سلة المهمالت فيما ينتهي‬
‫ي إنهاء تنظيف األرضية‪ ،‬ثم يرن‬
‫ي أن أخرج الخبز من الفرن‪ ،‬لكن عل ّ‬
‫توقيت العداد‪ .‬عل ّ‬
‫الهاتف‪.‬‬
‫أعرف َمن الذي على الهاتف‪.‬‬
‫إذا لم أرفع السماعة‪ ،‬فيمكنني أن أبقى هنا لفترة أخرى من الزمن‪ ،‬أربّي األطفال‪،‬‬
‫أواصل النوم في غرفة منفصلة‪ ،‬فليس هناك من زواج متبق‪ ،‬لكننا ما نزال شركاء ندير‬
‫سفينتنا الصغيرة المعقدة سوية‪ .‬يمكنني أن أنهي كلية الدراسات العليا ومشروع الميكفاه‬
‫مع جانيس‪ ،‬وأن أسكب تخيالتي عن طريق كتابة األدب‪ .‬يمكنني أن أواصل التأرجح‬
‫بين عالمين منفصلين وأن أواصل خداع نفسي بتصديق أن أخبار أحد العالمين ال تتسرب‬
‫إلى العالم اآلخر‪ .‬إذا لم أرفع تلك السماعة‪ ،‬فيمكنني أن أستمر بإرضاء نفسي بالتجربة‬
‫مر على لقائي بها نحو‬
‫باإلنابة عبر صديقات مثليات عثرت عليهن‪ ،‬مثل جين‪ ،‬التي ّ‬
‫عشرة أسابيع‪ .‬وإذا عانت صديقاتي المثليات الجديدات من األلم‪ ،‬مثلما عانت جين بسبب‬
‫انفصالها عن شريكتها في العالقة‪ ،‬حسنًا‪ ،‬فلن يكون ذلك األلم ألمي‪ .‬سأحرص على إبقاء‬
‫مسافة بيني وبين النساء األخريات حتى يكبر األطفال‪ .‬لكنني أرفع السماعة‪.‬‬
‫تقول جين‪" :‬انتهت العالقة‪ ،‬إنها راحلة‪ .‬لقد غادرت بالفعل‪ .‬وستعود من أجل جمع‬
‫أغراضها‪".‬‬
‫ال أسأل ِل َم تتصل بي دونًا عن صديقاتها األقدم واألقرب‪ ،‬أو عن والدتها‪ .‬كنا قد‬
‫مرارا‬
‫ً‬ ‫تناولنا الغداء سوية ألربع أو خمس مرات‪ ،‬لكنني لم أسألها ِل َم طلبت أن تلتقي بي‬
‫خالل الوقت القصير الذي عرفنا فيه بعضنا‪ .‬لم أعترف بمغازالتنا الخفيفة‪ .‬أقول لها‪:‬‬
‫لوحدك في المنزل‪ ،‬تعالي إلى هنا‪ .‬تعالي لتأخذيني‪".‬‬
‫ِ‬ ‫"ال تجلسي‬
‫الخبز‪ ،‬األطفال‪ ،‬األرضية‪ ،‬العشاء‪ ،‬تسألني‪" :‬وإلى أين سنذهب؟"‬
‫"ال أعلم‪ .‬إلى مكان نستطيع التحدث فيه‪".‬‬
‫وخالل نصف ساعة‪ ،‬أترك أرغفة الشااله لتبرد على الشبكة‪ ،‬ومنشفة الصحون‬
‫مرميّة على الطاولة‪ ،‬ومجرفة الكناسة على األرض‪ .‬ال أعرف أن تلك الخطوات القليلة‬
‫من المطبخ‪ ،‬إلى الباب‪ ،‬إلى سيارتها ستصطبغ لألبد بالندم والتساؤل‪" .‬سأعود!" أقول‬
‫ذلك لألوالد‪ ،‬ولم أكن أعرف بأن تلك كانت كذبة‪.‬‬
‫بعد الغسق نخرج من السيارة ونسير بهدوء إلى متنزه مهجور في الجوار بعيد‬
‫كفاية عن منزلي ونجلس على مصطبة خشبية‪ ،‬وهي جزء من حديقة تسلق مخصصة‬
‫ّ‬
‫تطن جيئة وذهابًا‪ .‬هناك جسر حبال‪ ،‬ساللم‪ ،‬مزيد من المصاطب‬ ‫لألطفال‪ .‬بعوضة‬
‫الخشبية‪ ،‬زحليقة‪ ،‬يطغى عليها الصمت وتتردد فيها أصداء أصوات طفولية‪ .‬أردت مكانًا‬
‫أكثر انعزاال من هذا‪ ،‬ألنني أصبحت أفطن للناس الذين قد يبغضوننا إذا نويت أن أحضنها‬
‫إن بكت‪ .‬تصفع جين بعوضة تحط على ذراعها‪ .‬نقوم من مكاننا‪ ،‬ونعبر الدرب الذي‬
‫يشطر المتنزه‪ ،‬ونجلس على الجانب اآلخر على مصطبة في الظالل الداكنة‪ .‬أخذت‬
‫ي‬
‫تبكي‪ ،‬فوضعت ذراعي حول كتفها الرقيق‪ ،‬وراحة يدي ملفوفة حول ذراعها‪ .‬يذوب ف ّ‬
‫شي ٌء ما حينئذ تحت ضوء الغسق وتلفّنا األشجار القديمة بظاللها الخضراء الزيتونية‪.‬‬
‫وبينما تبكي‪ ،‬تتبخر المقاومة‪ ،‬االكتراث‪ ،‬التهذيب المتبقي للرب‪.‬‬
‫سا‬ ‫أسحب نفسي بعيدًا‪ّ ،‬‬
‫لكن يدي وذراعي بقيتا فارغتين على نحو مؤلم‪ .‬أجر نف ً‬
‫عميقًا وأقترح عليها أن نتمشى‪ .‬ال أعرف ماذا أفعل‪ ،‬أو ِل َم أرشدها‪ .‬إنها متألمة‪ ،‬خاضعة‪،‬‬
‫وتتبعني‪ .‬تط ّل األشجار على الممشى الترابي‪ ،‬فينفذ من خاللها الضوء الباقي‪ .‬أقول‪:‬‬
‫صغارا‪ ".‬يركب أشباح أطفالي‬
‫ً‬ ‫"لقد اعتدت على أن أحضر األطفال إلى هنا عندما كانوا‬
‫على الدراجات ذات العجالت الثالثية‪ ،‬ويحومون حولنا‪.‬‬
‫في نهاية الممشى هناك قفص طيور ينتصب على األرض‪ ،‬أبعاده عشرة في إثني‬
‫عشر في عشرة أقدام تقريبًا‪ ،‬يحوي أرجوحات ومجاثم وأواني للمياه والبذور وعشرات‬
‫ي‪ ،‬رغم العتمة التي اضطرتني‬
‫من الطيور الغريبة‪ ،‬بألوان كثيرة جدًا‪ .‬الطيور مألوفة لد ّ‬
‫إلى استحضار تفاصيلها‪ .‬في الظالل تختزل األلوان التي أتذكرها إلى خياالت مبهمة‬
‫ولمعات ألوان‪ .‬أقول لها‪" :‬انظري‪ "،‬وأعني الجمال المأسور‪ ،‬اللمعان البري المهدور‪.‬‬
‫تصور‬
‫ّ‬ ‫أريدها أن تكون قادرة على رؤية كل هذا‪ .‬أتخيل نفسي بين تلك الطيور‪ ،‬لكن‬
‫نفسي واحدة منها في ذلك القفص فكرة ال تطاق‪ .‬أقول‪ ":‬أتمنى لو أطلقها لتطير"‪ .‬نستمع‬
‫إلى الخشخشة والهديل‪ ،‬رفرفة الظل‪.‬‬
‫مكسوة بالعشب ومحاطة بجدران من‬
‫ّ‬ ‫خلف قفص الطيور هناك منطقة معزولة‬
‫الشجيرات الطويلة لعب فيها أوالدي الكرة ذات مرة‪ .‬يط ّل القمر‪ .‬أقول‪" :‬لقد كنا نسمي‬
‫هذه المساحة بالحديقة السريّة"‪ .‬نجلس في داخلها على مصطبة أخرى في الظالل‪،‬‬
‫وتش ّكل األغصان التي فوقنا دانتيال سوداء قبالة بريق القمر‪ .‬يزداد النسيم برودة‪ ،‬وقبل‬
‫أن أستطيع كبح نفسي‪ ،‬قلت‪" :‬أشعر بالبرد"‪ ،‬وأنا أعلم بأنها دعوة إغراء‪.‬‬
‫تلف جين ذراعها حولي‪ ،‬ال يعود بإمكاني تحمل المزيد فحسب‪ ،‬ال أعود‬
‫وعندما ّ‬
‫أقوى على التحدث والتفكير وكبح نفسي فحسب مثلما أفعل في كل يوم من أيام حياتي‪.‬‬
‫يضربني الخوف بعنف وقوة حتى يكاد يرفعني عن مقعدي‪ ،‬لكنني أعرف إن األمر قد‬
‫قضي‪ ،‬ربما لن يفتح هذا الباب مجددًا‪ .‬التفت وأقبّلها‪.‬‬

‫ال يطاوعني النوم أليام‪ ،‬كل شيء حولي يبدو بدقة عالية‪ ،‬مكشوفًا‪ .‬كل مظاهر‬
‫ريائي مكشوفة‪ .‬البالط المكسيكي‪ ،‬جدران المطبخ المغطاة بورق جدران الفينيل القابلة‬
‫للغسل التي اخترتها بعناية‪ ،‬كلها بدأت تتضعضع‪ .‬وقريبًا سأكون واقفة في مطبخي الذي‬
‫يلعب به الهواء الطلق‪ ،‬وحيدة ً‪.‬‬
‫لم تفعل جين شيئًا‪ ،‬إنما غيّرتني فحسب‪ ،‬لذا إن كنت قد اعتقدت بأنني أستطيع‬
‫البقاء في هذا المكان المحمي مع الحفاظ على وعيي المستجد‪ ،‬فقد كنت واهمة‪ .‬لم تفعل‬
‫جين شيئًا‪ ،‬فقط جعلتني أعترف بأنني غريبة في بيتي‪ ،‬لذا فإنني أشعر اآلن بأنني غير‬
‫وأفرغ غسالة الصحون‪ ،‬كما لو أن‬
‫ّ‬ ‫حقيقية حين أستيقظ في الصباح وأحضّر وجبة طعام‬
‫آخر قد ح ّل محلي عنوة‪ .‬لم تفعل جين شيئًا‪ ،‬إنما فقط تنهض في الصباح في‬
‫صا َ‬‫شخ ً‬
‫منزلها وتتمشى وحيدة إلى مطبخها من أجل تحضير القهوة الصباحية‪ ،‬ثم إلى الدوش‪،‬‬
‫َض‪.‬‬
‫حيث تدع حبّات الماء الحارة تنزلق على جسدها الغ ّ‬
‫يتكلم األطفال وال أستطيع سماعهم‪ .‬ويتقلب الطعام في معدتي من دون أن يشبع‬
‫هذا الجوع‪ .‬أمسك عن األكل بعد بضع لقيمات‪.‬‬
‫ال أستطيع العمل‪ ،‬وال التفكير‪.‬‬
‫صباح يوم أحد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وهذا قد يكون السبب وراء تواجدي في منزل جين بعد أسبوع في‬
‫والسبب وراء تفوهها بالقليل من الكالم‪ ،‬و ِل َم بالكاد تتحدث كالنا وكأننا خجلتان مثل‬
‫طفلتي مدرسة جرى للتو تعريفهن ببعضهن‪ .‬ربما هذا هو السبب في محاولتي أن أتمسك‬
‫بحجة أن هذه مجرد زيارة‪ ،‬وأردت أن أقول‪ ،‬مرحبا‪ ،‬لديك منزل جميل‪ .‬هل تريدين أن‬
‫تريني إياه؟ وهو السبب في أن يتوقف عقلي حينما نصل إلى غرفة النوم ثم نجد نفسينا‬
‫ي أن أطمئن من أال أسقط‪ .‬أقول‪" :‬علميني"‪،‬‬ ‫في السرير وأنا أتمسك بها كما لو أن عل ّ‬
‫جملة سخيفة تجعلها تضحك‪ ،‬ألنه ما من داع ألن يعلمني أح ٌد شيئًا فيما تضمحل كل‬
‫ي‪ .‬وبالمقارنة مع ما أختبره اآلن‪ ،‬تبدو ذكرياتي مع‬ ‫ٌ‬
‫صوت يمأل أذن ّ‬ ‫األفكار‪ .‬نعومتها‬
‫ليفي ورقة تتخشخش وتتناثر‪ .‬ليس هناك من إرادة‪ ،‬وما من كلمات‪ ،‬فقط همهمة اللمس‬
‫هذه‪ ،‬وفمها يمسك بالطالء الذي يرسم قوامي على لوحة كانفاس جديدة‪ .‬وبطريقة ما‪،‬‬
‫تضخم حركة يدي الصوت‪ .‬لقد كنت هنا أللف سنة‪ ،‬وهنا سوف أكون‪ .‬لقد ش ّكل جسدها‬
‫ليناسب جسدي‪ -‬هذا هو الدليل‪.‬‬
‫هاهنا ولدت‪ .‬أوه‪ ،‬يا أطفالي‪ ،‬كيف لكم أن تفهموا؟ لقد ولدت أمكم للتو‪ ،‬اليوم‪.‬‬

‫يوم آخر‪ ،‬منتصف ليل آخر‪ ،‬أتسلل إلى الباب الخلفي وأحرص على أال يصدر‬
‫صريرا عند فتحه‪ .‬أضع السيارة على الوضع المحايد فتنزلق إلى نهاية ممر السيارة‬
‫ً‬
‫الخاص بالمنزل مع إبقاء باب السائق الجانبي مواربًا‪ .‬وحالما أصبح في الشارع‪ ،‬أغلق‬
‫مارة تعطلت فجأة‪ ،‬أم‬
‫الباب برفق وأشغل المحرك حتى أكون مثل أي عابر‪ ،‬سيارة ّ‬
‫حسيدية تهرب إلى حبيبتها المثلية‪.‬‬
‫أعض على شفتي‪ ،‬وقدمي على دواسة البنزين‪ .‬كان الهواء باردًا منع ً‬
‫شا‪ ،‬وفتحتا‬
‫أنفي متّسعتين‪ ،‬احتكاك الثياب‪ ،‬التي تبدو كما لو لم يكن لها لزوم‪ ،‬ببشرتي المتهيجة‪،‬‬
‫ي وعمودي الفقري ويتصاعد أزيزه عبر مقعدي‪.‬‬
‫المحرك الذي يسري اهتزازه إلى ساق ّ‬
‫ي‪ .‬أنسل عبر الحي الحسيدي الغارق في النوم مثل‬
‫ملمس المقود البارد الصلب على كف ّ‬
‫ي المتضيقتان مصوبتان على الشوارع الخالية المعتمة تبحث عن‬
‫حيوان زاحف‪ ،‬وعينا ّ‬
‫خيانة‪ ،‬تستحثها صرخة جسد‪ .‬تتقلص عائلتي حتى تغدو من خلفي نقطة متناهية الصغر‬
‫وت ّمحي‪.‬‬
‫سرعان ما أخبر نفسي بأنني أفعل هذا باعتباره مسألة بقاء "‪pikuach‬‬
‫‪ "nefesh‬مثل غسل ليفي ليديه في الساباث‪ ،‬إذ تقضي الشريعة ّ‬
‫بأن أمر البقاء يغلب‬
‫الشريعة‪ .‬سأهدئ نفسي بهذا التبرير على الرغم من أنني منذ مدة ال ّ‬
‫أكن للشريعة إال‬
‫القليل من االعتبار‪ّ .‬‬
‫لكن هذا هو ما أشعر به‪ ،‬أشعر بأنني ذاهبة إلى جين ألنجو‪.‬‬
‫أخبئ السيارة في مرآب منزلها‪ ،‬وألج للداخل باستخدام مفتاحها‪ ،‬إلى داخل البيت‬
‫الذي أصبحت تعيش فيه لوحدها اآلن‪ .‬في الداخل‪ ،‬أخلع الباروكة عن رأسي‪ ،‬أهز شعري‬
‫للوراء‪ ،‬ألقي بالشال على أرضية المطبخ‪ .‬وعبر غرفة المعيشة التي يطغى عليها‬
‫السكون‪ ،‬إلى نهاية الممر المعتم‪ ،‬تتلمس أناملي الطريق على امتداد جدار محبّب‪ .‬أتسلل‬
‫إلى فراشها‪ ،‬فتستيقظ‪ ،‬وتستدير نحوي‪.‬‬
‫هناك‪ ،‬بين ذراعيها‪ ،‬أبكي‪ .‬على ليفي (وهو األمر الذي ال تقدّره)‪ .‬على كل تلك‬
‫السنوات الضائعة‪ ،‬على التفكير بأنني أستطيع العيش من دون حتى معرفة السكينة‬
‫البسيطة لـ… هذا‪ :‬الجسد الدافئ الذي يتواءم مع جسدي‪ ،‬األنفاس المنتظمة على شعري‪،‬‬
‫الحضور الصامت المستمر خالل الليل‪ ،‬النبض المتزامن المتسارع في الصباح‪ .‬في‬
‫اللحظة الراهنة‪ ،‬هذا هو كل ما يهمني‪ .‬أتخيّل أن هذا لن يكون حقيقيًا لفترة طويلة‪.‬‬
‫أتركها عند شروق الشمس‪.‬‬
‫لكنها السادسة والنصف صبا ًحا تقريبًا‪ .‬أتسلل من الباب الخلفي لبيتي‪ ،‬إلى منزل‬
‫أصف حقائب الغداء‪ ،‬ثماني شرائح من‬
‫ّ‬ ‫يغط بالنوم‪ ،‬إذ يجب أن أوقظ األطفال للمدرسة‪.‬‬
‫الخبز على المنضدة‪ ،‬ال تسمح لي ال َجلبة بالتفكير‪ّ .‬‬
‫أقطع الجبنة والخس‪ ،‬أقفل األكياس‪،‬‬
‫د ّراقة من أجل إيتزك‪ ،‬وتفاحة من أجل سارة‪ ،‬وكالهما لن تؤكال‪ ،‬هل أكملت سارة‬
‫واجبها البيتي؟ أخرج إيتزك من السرير‪ ،‬يحتاج شالوم لتعبئة إطار دراجته الهوائية‬
‫األمامي بالهواء‪ ،‬وأسمع ليفي يتحرك في الخلف‪.‬‬

‫تحتفظ جين بتشكيلة من األحجار المصقولة‪ ،‬ملساء والمعة‪ ،‬في وعاء نحاسي‬
‫ضحل موضوع على طاولة الزينة الخاصة بها‪ ،‬ومن بين تلك األحجار صوداليت بلونه‬
‫األزرق الملكي‪ ،‬وماالكيت أخضر‪ ،‬وعقيق باللون األحمر الغامق‪ .‬في أحد الصباحات‪،‬‬
‫أجدها تمسك بحفنة من تلك األحجار أمام ضوء الصباح الباكر‪ .‬كانت تقف صامتة‪،‬‬
‫وتميّل كفها المفتوح إلى هذا الجانب وإلى ذاك‪ ،‬لتبرز كيف يتبدل الضوء ويرقص على‬
‫األسطح المصقولة‪ .‬تقول‪" :‬انظري"‪" .‬انظري!" بوجه مليء بانتباه حا ّد ودهشة‪ .‬تتقافز‬
‫األلوان‪ .‬إنها لحظة بسيطة من السكون‪ .‬أرض‪ ،‬أحجار‪ ،‬لون‪ .‬وجود‪.‬‬
‫يبزغ العالم الحسي في الخارج الذي لطالما ازدريته‪ ،‬والذي يكمن وراء تيارات‬
‫كلماتنا التي ال نهاية لها‪ ،‬في ثالثة أبعاد مهيبة‪.‬‬
‫لكنني ال أعيش يوميًا في عالم ذي ثالثة أبعاد‪ .‬تستعد سارة للمغادرة إلى اليشيفا‪.‬‬
‫ال أو ّد أن أرسلها إلى الحياة التي عشتها كل هذه السنوات‪ ،‬لكن الحياة الحسيدية هي‬
‫هويتها‪ ،‬وأنا ال أستطيع تخيّل قسوة قيامي ّ‬
‫بهز هويتها بينما توشك على البلوغ‪ .‬انظروا‬
‫لها‪ ،‬أفكر‪ :‬إنها أطول مني‪ ،‬وشعرها المع وبلون بنّي داكن وذو تمويجة أنيقة يصل حتى‬
‫كتفيها‪ .‬لقد تخرجت للتو من المدرسة الحسيدية‪ ،‬حيث اعتلت المنصة باعتبارها إحدى‬
‫الطالبات المتفوقات‪ ،‬وألقت خطابًا أمام الطائفة به من النضج والكياسة ما يفوق سنواتها‬
‫األربعة عشرة‪ .‬لقد كدت أسمع الجمهور وهم يسحبون أنفاسهم‪ .‬وأف ّكر في ّ‬
‫أن سارة قد‬
‫تشكلّت هنا‪.‬‬
‫وكذلك تشكلّت أمومتي‪ .‬كانت مهمتي أن أجعلها تتشرب بالشريعة‪ ،‬وأن ألهمها‬
‫باإليمان‪ ،‬وال شيء من هذا له عالقة بآرائي الشخصية‪ ،‬التي تبدو ضئيلة وحديثة التشكل‬
‫أمام تيار التاريخ القديم الهائل‪ .‬لم أفهم بعد أن بمقدوري إعادة توجيه ابنتي برفق‪ ،‬لم‬
‫أفهم بعد أن تواجدي إلى جانبها‪ ،‬مقرونًا برؤيتها اليافعة وإثارة الحرية الجديدة‪ ،‬يمكن‬
‫أن تتحول إلى مغامرة ثنائية‪ .‬حتى إنني لم أفهم أن الغريزة يمكن أن تكون دليل األم‬
‫األعظم‪ .‬إننا نسمو‪ ،‬نسمو فوق طبائعنا‪ ،‬ما تزال الجماعة تردد‪ .‬وحدها كلمة الرب‬
‫بداخلنا لها المصداقية‪.‬‬
‫أقول لسارة عشية مغادرتها‪ ،‬وأنا أجلس بجوارها على سريرها‪" :‬ستغادرين عما‬
‫قريب"‬
‫فتبتسم ابتسامة عريضة وتهز برأسها‪.‬‬
‫أريدك أن تتذكريه‪".‬‬
‫ِ‬ ‫أقول‪" :‬أنصتي‪ ،‬هناك ما‬
‫"وما هو؟"‬
‫"إن حياتنا‪ ،‬الحياة الحسيدية‪ ،‬حتى عندما تكونين بعيدة في المدرسة‪ ،‬هي قفص‬
‫ي بالذهب‪ .‬سوف تنشئين صداقات‪ ،‬وتقضين أوقاتًا ممتعةً هناك‪ ،‬وسيستمرون‬ ‫مطل ّ‬
‫بإخبارك كل يوم بأنها حياة مثالية‪ .‬لكنّها حياة طيبة فقط إذا لم تحتاجي للخروج‪ ،‬وإذا لم‬
‫ِ‬
‫تحتاجي للمزيد‪ .‬ولكنك‪ ،‬ربما تحتاجين للمزيد يو ًما ما‪ .‬فإن حصل لك ذلك يو ًما‪ ،‬فليس‬
‫أساعدك‪".‬‬
‫ِ‬ ‫ي مشكلة فيه‪ ،‬وسوف‬
‫ث ّمة أ ّ‬
‫تقول سارة‪" :‬ماذا تقصدين؟"‪ .‬وتبدو غير مرتاحة‪ ،‬ومشوشة‪ ،‬فأمسك يدها‪.‬‬
‫لكن ليفي يدخل علينا في تلك اللحظة‪ .‬ثم‪ ،‬سوية‪ ،‬يهديها والداها المحبّان قالدة من‬
‫الحلقات المعقوفة بثالثة ألوان من الذهب‪ .‬تقف سارة‪ ،‬ويباركها ليفي بحياة ملؤها التوراة‬
‫ويمنحها عناقًا مرتب ًكا‪.‬‬
‫أقول لها بينما أقفل مشبك القالدة خلف رقبتها‪":‬البسي هذه وتذكري ما أخبرتك‬
‫إياه"‪ .‬لكم أردت بعمق أن أصدق في هذه اللحظة أن ابنتي اليافعة سوف تتذكر ما قلته‬
‫لها عبر كل سنواتها القادمة التي ستقضيها بعيدًا عن المنزل‪ ،‬أردت أن أصدق بأنها‬
‫سوف تدرك تحذيري حالما تنضج‪ ،‬وبأنه مع الوقت سيصبح قفص الشريعة الذي‬
‫يحاوطها مرئيًا بوضوح‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن سارة تتطلع إلى ليفي‪ ،‬ووجها مفعم بحب يفوق الوصف‪.‬‬
‫سأعيش مع حقيقة أنني من أرشدها إلى الحياة الحسيدية في مفترق الطرق هذا‬
‫لكي تعتقد أن هذه الحياة هي غايتها‪َ ،‬دلَلتها على األمومة الممتعة والمرهقة وغير‬
‫المتناهية‪ ،‬وأعباء األعمال والصمت وخسارة الخيارات التي عليها أن تتحملها‪ .‬لقد جاءت‬
‫إلى الدنيا‪ ،‬وكل ما فعلته كان ترتيب الفراش وفرش الشراشف‪ ،‬وها قد رحلت‪.‬‬

‫بعد أن غادرت سارة‪ ،‬تشبثت بجين‪ ،‬لكنني لم أقم بأي تغييرات‪ ،‬إذ ما أزال خائفة‬
‫من مصارحة ليفي أو الرحيل‪ .‬تتوسل جين‪ ،‬لكن حينما يقترب حلول الفصح‪ ،‬أنهمك‬
‫بالعمل استعدادًا للعيد‪ ،‬عازمة على الحفاظ على المظاهر في الوقت الحالي‪ .‬أنقطع عن‬
‫جين ألسابيع‪ ،‬ويحضر كل األوالد إلى المنزل‪ .‬وعندما ينتهي الفصح‪ ،‬أشعر باالرتياح‬
‫عندما أجدها بانتظاري‪.‬‬
‫سرا مكشوفًا‪ .‬يصبح شالوم‪ ،‬المولع والمتعلق‬
‫أصبح المبيت في منزل "صديقتي" ً‬
‫بي دائ ًما‪ ،‬منطويًا على نفسه‪ ،‬وغاضبًا‪ .‬يلعب إيتزك كرة السلة في باحة المنزل‪ ،‬ثم يجلب‬
‫الكرة إلى داخل المنزل ويجعلها تتقافز باتجاه البالط المكسيكي وعلى الجدار‪ ،‬كما لو‬
‫أنه يخبرنا بأن منزلنا ينهار‪ .‬بانغ بانغ‪.‬‬
‫يبدو ليفي مشتتًا ومضطربًا‪ .‬وعندما استجوبته‪ ،‬اعترف بأنه َحلم بأنه يضيعني‬
‫وسط حشد ويهيم على وجهه باحثًا عني‪.‬‬

‫في أحد الصباحات‪ ،‬وبينما أشاهد األخبار مع جين أثناء تناول القهوة‪ ،‬نرى البرج‬
‫الشمالي لمركز التجارة العالمية وهو يتعرض لالصطدام‪ .‬كنا جزيرة متناهية في الصغر‬
‫وتكونت‬
‫ّ‬ ‫وسط عالم متبدل حيث تتهاوى األجساد في الهواء‪ .‬ثم اصطدمت الطائرة الثانية‪،‬‬
‫سحابة الفطر الناجمة عن االنهيار‪ ،‬انهيار آخر‪ ،‬البنتاغون‪ ،‬حقل بنسلفانيا‪ ،‬والناس الذين‬
‫يفرون من مانهاتن‪.‬‬
‫يغطيهم الغبار األبيض‪ ،‬فيبدون كاألشباح وهم ّ‬
‫ومرة أخرى أعيش إحساس اقتالعي من بيئتي وتجاوز الجدار وسحبي إلى‬
‫المجتمع األمريكي‪ ،‬أللقى نفسي فجأة وعلى نحو ال رجعة فيه جز ًءا من المشهد‪ ،‬كما لو‬
‫كنا نحن َمن نقطع جسر مانهاتن بخطى مجهدة يكسونا الغبار األبيض وقد تغيرنا لألبد‪.‬‬
‫لقد فقدنا اللون‪ .‬العالم ينهار‪.‬‬
‫في المنزل‪ ،‬ألتزم بصمتي تجاه ما هو واضح‪ ،‬وال أعرف لماذا‪ .‬أهو الخوف؟‬
‫أهي العادة؟ أم انتظار الوقت المناسب في حين أنه ليس هناك من وقت مناسب؟ ال‬
‫أعرف‪ .‬لقد بقيت لفترة أطول من الالزم‪ .‬ليفي‪ ،‬األطفال‪ ،‬أنا‪ ،‬نحن جميعًا ال نتناول‬
‫انهيارنا الطويل البطيء بالكلمات‪.‬‬
‫أصر أمام جين على ضرورة بقائي حتى إتمام حفل البار ميتزفاه‬
‫ّ‬ ‫ومع ذلك‪،‬‬
‫لشالوم‪ .‬لكن في يوم االحتفال ذاك‪ ،‬سيقرأ شالوم خطابه من ورقة مطبوعة ثم يتملص‬
‫من فعاليات االحتفال‪ ،‬ويقضي الوقت في الخارج مع أصدقائه‪ ،‬ويدخن معهم الماريغوانا‬
‫مصوب ناحيتي‪ ،‬خطابًا عن‬
‫ّ‬ ‫(كما سأكتشف بعد سنوات)‪ .‬سيلقي ليفي‪ ،‬بوجه حزين‬
‫ي في خدمة البيت والعائلة‪ .‬إنه يتوسل إلي‪ .‬أو هل هذا هو وداعه؟ ثم وبعد‬
‫امتنانه لتفان ّ‬
‫أن تجد األقاويل طريقها في الطائفة‪ ،‬وتمهد السبيل‪ ،‬سوف يصعد الحاخام فرومان إلى‬
‫ي نظرة ملؤها تقريع سافر ثم يلقي محاضرة عن المزايا التي ستكون‬
‫المنصة‪ ،‬وينظر إل ّ‬
‫في السماء بانتظار المرأة المحتشمة احتشا ًما صحي ًحا والتي تطيع الشريعة‪.‬‬
‫لكن قبل كل هذا‪ ،‬وحينما كنت ما أزال في غمرة التحضيرات للبار ميتزفاه‪ ،‬فازت‬
‫قصتي القصيرة عن الفتيين المثليين "قصة بركة" بمسابقة مجلة "‪ ."Moment‬سيقرؤها‬
‫آالف الناس‪ .‬تصرخ جين فر ًحا وترقص‪ .‬وفي الجامعة‪ ،‬قبيل التخرج‪ ،‬يمسك دان ستيرن‬
‫إصدار المجلة واسمي على الغالف ويرفعها أمام صفه ويقول إنه يشعر بالفخر‪.‬‬
‫ّ‬
‫يرن الهاتف في المنزل‪ ،‬فيما كان األوالد ما يزالون في‬ ‫وبعد أيام من النشر‪،‬‬
‫المدرسة‪ .‬أرفع السماعة وأسمع‪":‬هل أتحدث مع ليا الكس؟" كان صوتًا ذكوريا ً مألوفًا‬
‫ً‬
‫قليال‪ ،‬وذا لهجة يديشية ثقيلة‪.‬‬
‫"أجل‪ .‬من يتصل؟"‬
‫"أنا الراف شيتشر‪".‬‬
‫صوت الشريعة‪ .‬الراف شيتشر ال يهاتف الناس‪ ،‬فهو حاخام الحاخام‪ ،‬وهو مب ّجل‬
‫صا الحاخامات‪ ،‬حتى األكثر نفوذًا وقد ًرا‬
‫في الشريعة‪-‬والناس‪ ،‬الناس الحسيديون‪ ،‬وخصو ً‬
‫من بينهم‪ ،‬هم من يتصلون به‪ .‬ثم أتذكر‪ .‬هذا هو نفس الصوت ‪-‬مجرد صوت‪ -‬الذي‬
‫المهولة عن قرار إجهاض طفلي الذي لم‬
‫ّ‬ ‫تنازلت له ذات مرة عن المسؤولية الجسيمة‬
‫يولد‪ .‬أحارب الخوف القديم من الشريعة‪ ،‬النزعة للخضوع‪ ،‬كما لو أنني طفلة تشاهد‬
‫منزلها وقد بدأت النيران تنشب فيه‪ .‬أفكر‪ ،‬إنني مستعدة‪ ،‬يجب أن أكون مستعدة‪.‬‬
‫"هل هذه ليا الكس التي كتبت مثل هذه القصة في إحدى المجالت؟"‬
‫"أجل‪".‬‬
‫"لقد اعتقدت بأنك امرأة متدينة ترتدي باروكة محتشمة‪".‬‬
‫أقول‪" :‬هذا ما يقولونه عني‪".‬‬
‫"إذن كيف استطعت فعل شيء كهذا؟"‬
‫يضربني شعور حاد بالذنب‪ ،‬فأبتلع ريقي‪ .‬لكن في هذه اللحظة‪ ،‬فإن شخصيتي‬
‫في القصة القصيرة‪ ،‬شخصية بركة‪ ،‬هي شخصية حقيقة‪ .‬في هذه اللحظة‪ ،‬أحبه أكثر من‬
‫نفسي‪ .‬والراف شيتشر دعاه للتو "شيئًا كهذا"‪ .‬بركة ليس شيئًا كهذا‪.‬‬
‫"هل قرأت القصة ً‬
‫فعال؟"‬
‫يقول‪" :‬بالطبع ال‪".‬‬
‫"إذن كيف عرفت بشأنها؟"‬
‫ي‪".‬‬
‫"عن طريق أناس جاؤوا إل ّ‬
‫أقول‪" :‬لو قمت بقراءتها‪ ،‬لوجدت بركة فتى صال ًحا‪ .‬إنه يتعلم‪ ،‬يتعبد‪ ،‬إنه يريد‬
‫أن يفعل الصواب‪ .‬وهو لم يرتكب أي خطيئة‪".‬‬
‫"إذا؟"‬
‫أتنفس بصعوبة‪ ،‬ال مجال للتراجع‪ .‬أقول‪" :‬أيها الراف شيتشر‪ ،‬بركة يمثّل الكثير‬
‫من الفتيان في يشيفاتنا‪ .‬أنت تعلم ذلك‪ .‬وبركة ولد على هذه الطبيعة‪ .‬لقد جبله الرب‬
‫على تلك الشاكلة‪ .‬كل ما فعلته هو أنني أظهرته من الداخل‪ .‬لقد أظهرت صراعه‪".‬‬
‫"لكنك تنشرين غسيلنا القذر!" يقول صار ًخأ‪ ،‬إنها جريمة حسيدية قصوى‪.‬‬
‫أقول‪" :‬لم‪ .‬أرتكب‪ .‬أي‪ .‬خطأ‪"،‬‬
‫يغلق الحاخام الخط‪.‬‬
‫أقف وأنا أرتجف‪ ،‬لقد جادلت الشريعة‪.‬‬
‫قذرا‪.‬‬ ‫ً‬
‫غسيال ً‬ ‫لست‬

‫ي أن أعرف فيما إذا كنت قادرة على ممارسة الجنس مع ليفي‬


‫يجب أن أعرف‪ .‬عل ّ‬
‫اآلن فيما أنا واعية وحيّة‪ .‬بغض النظر عن الدين والقواعد‪ ،‬هذا ما سأعتمد عليه‪ .‬إذا‬
‫سا يسكنني‪ ،‬وسأفكر بأنني ربما قد‬
‫رحلت ولم أكتشف حقيقة األمر‪ ،‬فإنه سيصبح هاج ً‬
‫تملصت من القيام بما فيه الخير للعائلة‪ .‬لم أكن قد ذهبت إلى الميكفاه لشهور‪ ،‬لكنني‬
‫سأذهب هذه المرة للمرة األخيرة‪ ،‬حتى ال يكون لمسي محر ًما عليه‪ .‬تكره جين الفكرة‪،‬‬
‫لكنني أخبرها بأنني مجبرة على القيام بها‪.‬‬
‫أتّبع القواعد‪ .‬أع ّد أيام النظافة السبعة بعد دورتي الشهرية‪ .‬في كل يوم منها‪ ،‬آخذ‬
‫خرقة مربعة بيضاء وأمسح بها من الداخل ألتفحص وجود أي دماء عالقة‪ ،‬حمايةً لليفي‬
‫من هذه النجاسة القصوى‪ .‬وفي مساء اليوم الذي يلي اليوم السابع‪ ،‬أنقع نفسي في حمام‬
‫ساخن لساعة كاملة‪ .‬أستلقي هناك في الحمام‪ ،‬هواء رطب‪ ،‬والحجرة يغشاها البخار‪،‬‬
‫أفكر بليفي وجين‪ .‬أفكر‪ :‬لقد انتهى بي األمر على هذا‪ ،‬الذات العارية التي يستحيل‬
‫نكرانها‪ .‬ما أنا‪ ،‬من أنا‪ ،‬ومن ال يمكن أن يكون أنا‪.‬‬
‫لم تبقَ امرأة في الطائفة يمكنني أن أطلب منها بأريحية أن تأخذني إلى الميكفاه‬
‫وتشرف على تلبيتي لتفاصيل الشريعة وتجهر بعبارة "حالل" بعد أن أغطس في المياه‪،‬‬
‫وتقول "آمين" ردًا على بركتي‪ .‬القيل والقال في كل مكان‪ ،‬رغم أنني أصبحت أرحب‬
‫به‪ -‬شفاه مزمومة تخفي ضحكات مكتومة‪ ،‬صمت في حضوري‪ ،‬كلها تمهد لي الطريق‪.‬‬
‫فما كان إال أن أطلب من جانيس أن تقابلني في الميكفاه في وقت متأخر من الليل حينما‬
‫يكون المكان خاليًا‪ .‬أركن السيارة حيث كنّا نركنها أنا وميرا طوال تلك السنوات‪ ،‬حيث‬
‫كنا نتبادل األحاديث الطويلة في سيارة معتمة‪ .‬في الداخل‪ ،‬هنا حيث كنت ألتقي بكل‬
‫أولئك النسوة ألشرف عليهن وهن يغطسن في المياه‪ ،‬مئات النساء على مر السنين‪ .‬وهنا‬
‫حيث كنت أراقبهن من على الدرابزين فيما تغطس صورهن المتمايلة تحت الماء‪ .‬حالل‪،‬‬
‫ي‪ :‬اذهبي‬
‫أعلنت للعروس الجديدة‪ ،‬وللزوجة القانعة ولألم المنهكة‪ ،‬وباركتهن بعين ّ‬
‫أطفالك‬
‫ِ‬ ‫للمنزل‪ ،‬إلى زوجك‪ .‬كوني مرتاحة بعد االنتظار‪ ،‬ومتل ّهفةً ألحضانه‪ .‬دعي‬
‫بينك وبينه‪.‬‬
‫يشعرون بما ِ‬
‫لم أعد واثقة بأن الميكفاه ستعني لي شيئًا‪ ،‬أو أنني سأكون صادقة مع نفسي هنا‬
‫مثلما لم أكن في أي مكان آخر أو أن الرب سوف يكون هنا‪ ،‬أيّا ما كان هذا الرب‪،‬‬
‫ومهما كان‪ .‬فأنا أقوم بهذا كآخر أمر أفعله من أجل ليفي‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬كنت ما أزال أؤمن بالسيطرة اإللهية المبالية التي بدت‬
‫عندما كان ليفي مري ً‬
‫غرة قاسية ومتقلّبة األطوار‪ ،‬وقد كنت متحدية‪ .‬الميكفاه فقط يمكنها أن توقف‬
‫على حين ّ‬
‫اندفاعي األهوج‪ .‬هنا فقط أصبحت ساكنة‪ ،‬أقرفص في البركة الدافئة حتى زال شيء‬
‫ما‪.‬‬
‫أرفض أن تقوم جانيس بمهمة مشرفة الميكفاه بالتأكد من خلو ظهري من الشعرات‬
‫ي رب حسيدي‪ .‬أنزل الساللم إلى الماء‪.‬‬
‫المتناثرة؛ فشعرة واحدة لن تحجبني عن أ ّ‬
‫ّ‬
‫أغط تحت الماء‪.‬‬ ‫ي ومن ثم‬
‫سا وأثني ركبت ّ‬
‫مغمورة بالماء إلى صدري‪ ،‬آخذ نف ً‬
‫أتوقف‪ ،‬معدومة الوزن‪ ،‬وها أنا عروس جديدة مرة أخرى‪ ،‬وأم جديدة لسبع مرات من‬
‫جديد‪ .‬أنا مخلوقة من كل األمل الذي أحضرته إلى هنا‪ .‬أنا مخلوقة من كل مواجهاتي‬
‫مع الرب في هذا المكان‪ .‬ربما كنت أجابه ما ال أستطيع السيطرة عليه فحسب‪ .‬ربما‬
‫الحاجة أو الرغبة لوحدهما هما من خلقتا ربنا ووضعتاه هنا‪ .‬رغبتي‪ .‬الرغبة الجماعية‪.‬‬
‫أظهر من تحت الماء‪ .‬أنزل تحت الماء‪ .‬أصعد‪ .‬ماذا تبقى؟ مياه متموجة‪ ،‬بالط‬
‫أزرق‪ ،‬قطرات ذات صدى‪ ،‬أصداء حياتي‪ ،‬ليفي الذي تركته خلفي‪ .‬ليس لدي أحد هنا‪،‬‬
‫وال حتى جانيس وصداقتها‪ ،‬أو جين‪ .‬أنا فقط‪ ،‬وربما الرب‪ ،‬ربما‪.‬‬

‫ألوح فتخرج جانيس من الحجرة‪.‬‬


‫أغطس سبع مرات‪ ،‬سبعة ليفي الروحانية‪ .‬ثم ّ‬
‫تفهم أنني أريد البقاء بمفردي‪.‬‬
‫"وها نحن هنا" أخاطب الجدار‪ ،‬أو الرب‪ ،‬أو ال حد‪ ،‬ال بل الرب‪.‬‬
‫أتمنى لو أنني أستطيع أن ألتحف بالماء وأبقى‪ ،‬وأال أعود إلى المنزل لليفي مرة‬
‫أخرى مطلقًا‪ .‬لكننا عشنا سوية لسبع وعشرين سنة‪ ،‬وينبغي عل ّ‬
‫ي أن أحاول على األقل‪.‬‬

‫ي‪ .‬أعوم إلى‬


‫في غرفة النوم‪ ،‬بوقت متأخر من الليل‪ ،‬يقف ليفي الطويل متطلعًا ف ّ‬
‫األمام فوق عقبة التردد الفطري وفي سنوات حياتينا المتشابكة‪ ،‬يقول‪" :‬اشتقت إليك‪ .‬كل‬
‫ت إلى الغرفة األخرى لتنامين في الليل"‪ .‬يلفّني‬
‫الشهور التي لم أفكر فيها‪ ....‬وبعدها ذهب ِ‬
‫بذراعيه‪.‬‬
‫هنا بين ذراعيه هو ما اعتقدت ذات مرة إنه حيثما أحتاج أن أكون‪ ،‬خالل مئات‪،‬‬
‫بل آالف الليالي التي قضيتها وحيدة أراقب أنفاسه‪ ،‬هو المكان الذي ظننت أنه ال بد أن‬
‫يكون ملجأي‪ .‬وفجأة في هذه اللحظة أصبحت طفلة أتحسس طريقي في ممر مظلم‪،‬‬
‫فأخبر ليفي‪" :‬ال تفلتني"‪ .‬يمكنني أن أتقلص ألناسب هذا المكان الوثير وفير الدالل بين‬
‫ذراعيك‪ ،‬ال أريد أن أكون بالغة‪ .‬لكنني أشعر بانتصابه يالمس جسدي‪ .‬تبدأ يداه بتمسيد‬
‫ي‪ ،‬ومن ثم تتحسس صدري يجذب أزرار قميصي‪ ،‬يداه كبيرتان‬
‫ظهري‪ ،‬رقبتي‪ ،‬ذراع ّ‬
‫وغريبتان‪ .‬ليس فيهما لمسة أنثوية لطيفة‪ ،‬تنقبض معدتي‪ .‬إن لم أكن أستطيع أن أكون‬
‫طفلة هنا‪ ،‬فإذن أنا‪...‬ال أستطيع فعلها‪ ،‬لم أعد أستطيع‪ .‬أضع يدي على ذراعه قائلة‬
‫"انتظر‪."،‬‬
‫نهبط على السرير‪ ،‬وأنا بين ذراعيه‪ .‬أتحدث وأنا إلى صدره ويفيض مني كل‬
‫الكالم‪ .‬كله تقريبًا‪ .‬بعد سنوات الصمت المشترك التي قضيناها‪ ،‬أخبره عن كل الليالي‬
‫التي استلقيت فيها وحيدة أراقبه‪ ،‬عن السنوات التي تركت فيها وحيدة ومثقلة بأعباء‬
‫المنزل واألطفال‪ ،‬عن شعوري باالنسحاق الذي تسببه الشريعة‪ ،‬عن شعوري بالذعر‬
‫خالل مرضه‪ .‬أخبره عن اإليمان المفقود‪ ،‬كيف لم أعد أستطيع العيش ضمن حدود‬
‫الشريعة‪ .‬أنشج‪ ،‬أغمغم‪ ،‬أكرر كالمي‪ ،‬يتطاير الرذاذ من فمي‪ ،‬أقول كل ما أقوله وأنا‬
‫أبكي إلى صدره تحت لحيته الحسيدية التي أخذت تشيب‪ .‬أخبره كل شيء‪ ،‬ما عدا أنني‬
‫مثلية‪ .‬كل شيء إال كيفية استحضاري لصور النساء عندما كنا نمارس الجنس‪ ،‬ونفوري‬
‫من جسده العاري‪ ،‬أو لماذا كنا دائ ًما ما ننتهي من الجنس بسرعة‪ .‬كل شيء ما عدا هذا‪،‬‬
‫ألن هذا ال يبدو مه ًما في الوقت الراهن‪ .‬في الوقت الراهن‪ ،‬ال يبدو أن هذا هو السبب‬
‫وراء الوحدة الطويلة‪ .‬وعلى نحو ما‪ ،‬لم أعلم بأنه كان يعرف منذ وقت طويل بأنني‬
‫مثلية‪ ،‬وبأنني كنت أمارس الجنس مع جين‪ ،‬وبأنني أتركه‪.‬‬
‫يعتذر مني مرات كثيرة‪ .‬يقبّل جبهتي‪ ،‬يمسد على ظهري‪ ،‬يتمتم‪ ،‬يكرر كالمه‪.‬‬
‫وتكرارا‪ .‬يبكي‪ .‬نبكي سوية‪ .‬وفي األخير‪ ،‬بعد أن تحل الرابعة‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬ ‫يجتر كالنا كالمه‪،‬‬
‫ّ‬
‫صبا ًحا‪ ،‬يغشانا النوم‪ ،‬وستكون تلك آخر مرة اضطجع فيها بين ذراعيه‪.‬‬
‫في الصباح‪ ،‬يالحقني شبح الذكريات بينما أتجول في المنزل‪ :‬أجلب أكياس البقالة‬
‫عبر باب المطبخ‪ ،‬ثم أجر صناديق الخضار من أجل الساباث‪ .‬أفرك الفرن في الثانية‬
‫صبا ًحا بينما أتضاحك مع إحدى الصديقات‪ .‬أنا عند موقد الطبخ‪ ،‬أع ّد حياتنا‪ّ .‬‬
‫أفرغ غسالة‬
‫أصف أطباق األمل بالترتيب المثالي‪ .‬ها هنا الكرسي البرتقالي القديم المنبسط‬
‫ّ‬ ‫الصحون‪،‬‬
‫حيث دربّت األطفال على ترديد الصلوات بألسنتهم اللثغاء‪ ،‬وهنا السجادة الزرقاء في‬
‫حجرة المعيشة والتي كانت مثل محيط للسباحة‪ ،‬وها هنا أرضية الموقد المتكسرة حيث‬
‫كانوا يَتلون ويغنون‪ .‬هنا غرف األطفال‪ ،‬صورهم وكتبهم‪ ،‬وأغراض مكتنزة من أيام‬
‫واألسرة‬
‫ّ‬ ‫المدرسة وثياب قديمة مخزونة كما لو أن كل واحد منهم على وشك العودة‪،‬‬
‫ذات الطابقين التي شكلّت منصة ذات ستارة لمسرحيات مندل فيما كنت أشاهد وأصفق‪،‬‬
‫وغرفة اللعب‪ ،‬خزائن مملؤة بقطع اللوغو والمكعبات واأللعاب اللوحية‪ ،‬حيث كل القطع‬
‫مفروزة ومحفوظة بعناية‪ .‬وحال الخروج من باب المطبخ هناك ح ّمالة صفّت عليها‬
‫الدراجات‪ ،‬وأبعد منها على باحة المنزل علقت حلقة كرة السلة‪ .‬هنا طاولة الساباث في‬
‫غرفة الطعام‪ ،‬ولكنها اآلن خالية من األطباق الساخنة التي ينبعث منها البخار‪ .‬هنا غرفة‬
‫نومنا‪ ،‬والسرير حيث كنت أتمدد مستيقظةً في العتمة‪ ،‬والطاولة التي تعلمت عليها أن‬
‫أكتب عبر الليالي الطويلة‪ ،‬وها هنا الحمام حيث كنت أتحضّر للميكفاه‪ ،‬وحيث قصصت‬
‫شعر ليفي‪ ،‬وحيث اكتشف الورم على عنقه‪.‬‬
‫ورغم كل ذلك ال أستطيع أن أرى بصمتي الخاصة على هذا المنزل‪ .‬لقد صنعت‬
‫كل ذلك‪ ،‬كل تلك السنوات‪ ،‬ولم أترك أي عالمة‪ .‬كل غرض‪ ،‬كل ركن‪ ،‬يحمل بصمة‬
‫األطفال الذين كبروا أو على وشك أن يكبروا‪ ،‬وبصمة ليفي‪ .‬وعندما أغادر‪ ،‬سأضع‬
‫أغراضي القليلة في صندوق أو اثنين وأحشر الصندوقين وبضع قطع من الثياب سآخذها‬
‫معي في المقعد الخلفي لسيارة الفان‪.‬‬
‫هذا البيت ملك ليفي‪ .‬الجدران البيضاء واألثاث ذو اللون البيج‪ ،‬أكداس أغراضه‬
‫وصناديقه‪ ،‬وكيف لم يسمح بصرف النقود على الديكور‪ ،‬على األلوان‪ .‬ها هنا غرفة‬
‫الطعام الخاصة به حيث يدرس‪ ،‬وجدران غرفة الجلوس الخاصة به التي تحفّها رفوف‬
‫كتبه‪.‬‬
‫ال شيء يدوم‪ ،‬في الواقع‪ .‬يمكن لليفي أن يحتفظ بالمنزل في الحي الحسيدي‪.‬‬
‫سيرغب األطفال بالمجيء للمنزل عندما يأتون للزيارة ويقيمون في غرفهم‪ .‬يمكنني أن‬
‫أترك له هذا عندما أذهب‪.‬‬
‫أتصل بوالدتي‪ ،‬أخبرها‪" ،‬أماه‪ :‬إنني أهجر ليفي والحسيدية‪ .‬إنني أخلع الباروكة‪.‬‬
‫وأصطحب معي التشيللو الذي ما يزال بحوزتي‪ .‬ربما أستطيع إيجاد وظيفة في التدريس‬
‫أو ما شابه‪ ،‬سأتدبر حال لذلك‪ .‬سأعمل بتعبئة البقالة إن لزم األمر‪ .‬و‪ ،‬أ ّماه… أنا مثلية‪".‬‬
‫تصرخ عبر الهاتف‪ ،‬وبإمكاني أن أرى ذراعيها مفتوحتين على وسعهما‪" ،‬ليزا‪،‬‬
‫إنك تعودين للمنزل!"‬
‫ِ‬
‫الخاتمة‬

‫"ستكون معتقداتك النور الذي ترى به‪ ،‬بيد أنها لن تكون ما تراه‪ ،‬ولن تكون‬
‫ً‬
‫بديال عن الرؤية‪".‬‬
‫فالنيري أوكونور‬

‫يناير ‪ .2003‬في سيارة فولكسفاغن صفراء مكشوفة‪ ،‬أنزل سقفها‪ ،‬يقف رجالن‬
‫من هيوستن‪ ،‬هما جون لورنس وتايرون غارنر‪ ،‬يطوفان الشارع الذي يشهد مسيرة‬
‫هيوستن للفخر بالمثلية‪ ،‬وهما يلوحان للحشود‪ .‬فبعد أن اعتقال على خلفية ممارسة الجنس‬
‫بالتراضي في حرمة منزل لورنس‪ ،‬كسب الرجالن للتو قضيتهما مع المحكمة العليا‪،‬‬
‫مبطلين تشريعات اللواط في كافة أنحاء البالد‪ .‬وقد علّق القاضي كينيدي‪" :‬ليس من عمل‬
‫الحكومة أن تسن تشريعات تتعلق باألخالقيات الفردية‪ ،‬وإنما عملها ضمان الحرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫يحط من قدر حيوات األشخاص المثليين‪ ".‬ومن أول إلى آخر‬ ‫فالقانون بصيغته الحالية‬
‫الشارع على امتداد مجمعات سكنية‪ ،‬وفوق األسيجة العالية‪ ،‬واألسطح‪ ،‬يحتشد آالف‬
‫الناس وهم يلوحون ويهتفون‪ ،‬وأنا كنت من بينهم‪.‬‬
‫ً‬
‫وبدال‬ ‫اآلن‪ ،‬إنها الليلة األولى من ليالي الفصح لعام ‪ ،2005‬في شقتي الصغيرة‪.‬‬
‫من قضاء األسابيع في التنظيف والطبخ من أجل العيد‪ ،‬غيرت من تقاليد "الحجاداة ‪-‬‬
‫دليل السيدار" وجلست على رأس الطاولة‪ ،‬حيث كان يجلس ليفي‪ ،‬ألقود السيدار بنفسي‪.‬‬
‫كتبت رحلة في الذاكرة الجمعية‪ .‬غادر ضيوفي للتو‪-‬سوزان‪ ،‬حبيبتي الجديدة‪ ،‬وجانيس‬
‫جوا من سياتل وطهي الديك الرومي‪ ،‬ومندل مع حبيبته الحالية‪،‬‬
‫وعائلتها‪ ،‬وليبل الذي أتى ً‬
‫وإيتزك وشالوم‪ ،‬رغم أن إيتزك يعيش معي وسيعود في وقت الحق‪ .‬الفتيان متوجهون‬
‫إلى السيدار الذي يقيمه والدهم (مائدتا سيدار في ليلة واحدة!) لينضموا ألشقائهم اآلخرين‪.‬‬
‫ي على مقعد عال‪ ،‬وأخلع‬ ‫أغوص في كرسيي الجلدي ذي الذراعين‪ ،‬وأرفع قدم ّ‬
‫ّ‬
‫وأحك قدمي اليمنى‪ .‬يقفز الكلب إلى جانبي‪ .‬الجلد الداكن بارد‬ ‫عني فردتي حذائي‬
‫سا بعد‬
‫الملمس‪ ،‬ونبضات قلب الكلب على ساقي‪ .‬يكاد الصمت في الغرفة أن يكون ملمو ً‬
‫ك ّل الضجيج‪ ،‬فتجتاحني بهجة هادئة لطيفة‪ ،‬إحساس عميق بالذات المجردة‪ ،‬بالوجود‪،‬‬
‫تزود‪ ،‬لحظة عيش بسيطة‪.‬‬ ‫يجعلني أدع رأسي يرت ّد إلى الوراء وأغلق عين ّ‬
‫ي‪ .‬إنها لحظة ّ‬
‫يمكن للمرء أن يدعو هذا السالم بـ "الرب" لكنّه‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬ليس الرب الذي نتوق‬
‫ونسعى إليه من خالل الصالة والطقوس‪ .‬كما أنه ليس الرب الموجود في التاريخ‪ ،‬أو‬
‫الرب الموجود في النصوص المقدسة‪ ،‬وليس رب اليهود أو أي جماعة محددة من الناس‬
‫تدّعي ملكيته الحصرية‪ .‬لو كان لي أن أدعو سعة الوجود هذه‪ ،‬هذا الجوهر الساكن‪،‬‬
‫عرف‪ ،‬ربًا يترك األسئلة معلقة‪ ،‬ويؤكد األنا فحسب‪.‬‬
‫ربًا‪ ،‬فسيكون ربًا غير م ّ‬
‫إننا هنا فحسب‪ .‬اآلن‪.‬‬

‫مارس ‪ .2013‬أكتب هذا وأنا جالسة على طاولة غرفة الطعام في البيت غير‬
‫التقليدي الذي تقاسمني إياه سوزان في هيوستن‪ ،‬تحيطنا ذكريات حياتينا‪ ،‬الماضية‬
‫والحالية‪ .‬الباب الخلفي مفتو ٌح على حديقة تتناثر فيها أوراق الشجر مؤذنة بوصول هواء‬
‫الربيع‪ .‬تدور مروحة السقف دورات كسولة مصدرة أزي ًزا خفي ً‬
‫ضا‪ .‬لوحات من رسم كال‬
‫ي معلقة على مقربة‪ .‬وإلى جانبها‪ ،‬أسالف سوزان األمريكيون القرويون الفخورون‬
‫والد ّ‬
‫الخاص بي في الركن في حقيبته‪ ،‬جاهز للتمرين اليومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يسهرون للحراسة‪ .‬التشيللو‬
‫وبنكي‪ ،‬مدبرة المنزل المحبوبة ‪-‬وهي أم طفولتي‪ -‬تسكن في منطقة ليست بالبعيدة‪ .‬وفي‬
‫الخارج‪ ،‬طائر كاردينال صغير مختال يغني‪What what what’s with :‬‬
‫?‪ ،youuuu‬بمقابل الهديل األجوف لحمام الحداد‪ .‬فقد حان وقت بناء أعشاشها‪.‬‬
‫ارتشفنا قهوتنا خارج المنزل هذا الصباح في استراحة هانئة قبل بداية يومنا‪ .‬لدينا‬
‫أربع شجيرات توت ونوع جديد من نبات الجهنمية بال أشواك علينا غرسها‪ .‬لكن ً‬
‫أوال‪،‬‬
‫تقوم سوزان بكنس أوراق الشتاء المتناثرة في الفناء الخلفي فيما يتقافز كلبنا األبله من‬
‫فصيلة اإليرديل في كومة األوراق‪ .‬بعد قليل‪ ،‬سأترك هذا الدفتر جانبًا وأذهب لتقديم‬
‫المساعدة في تعبئة األوراق واألغصان في أكياس ومن ثم سحبها إلى الرصيف لتقبع‬
‫هناك بانتظار شاحنة نفايات المدينة‪.‬‬
‫ي أن أبدأ من جديد بالتدرب على ساللم بسيطة‪.‬‬ ‫عندما عدت للتشيلو‪ ،‬كان عل ّ‬
‫ورغم أن أسلوبي أصبح اآلن يتسم بطموح أقل‪ ،‬لكنه أكثر عمقًا وهدو ًءا‪ .‬ويبدو أن‬
‫سمعي قد تغير؛ فالموسيقى التي كنت اعتبرها موسيقى متقشفة‪ ،‬مثل موسيقى باخ‪،‬‬
‫أصبحت تبدو لي اآلن فيّاضة بعاطفة مستترة‪.‬‬
‫تنوع البيئة األمريكية حيث هبطت‪ ،‬ومن مدى ثرائها‪.‬‬
‫تصيبني الدهشة كل يوم من ّ‬
‫بالتفرد في‬
‫ّ‬ ‫قادتني الكتابة إلى الفن واألوبرا والتعليم وإلى مجتمع هائل من الكتّاب يحتفي‬
‫كل مناسبة سانحة‪ .‬وقادتني إلى العثور على قصص أناس قادمين من ثقافات كثيرة‬
‫وأرتني ِسماتنا المشتركة‪ .‬وعلى عكس المجتمع المتماثل الذي غادرته‪ ،‬يبدو أن معيار‬
‫سا‬ ‫ً‬
‫مستقال على نحو تام‪ .‬أحمل معي‪ ،‬دو ًما‪ ،‬إحسا ً‬ ‫االنتماء الوحيد هنا هو أن تكون فردًا‬
‫مبه ًجا بأن قوتنا تكمن في هذا التنوع المبهر الموجود حولي‪.‬‬
‫لدى سوزان قارب كاياك َبنَته بنفسها‪ .‬إنه قارب جميل على الطراز الهندي الشمال‬
‫غربي‪ ،‬صنع هيكله من ألواح خشب السيدر المنقوعة والمقوسة والمثبتة يدويًا باألوتار‪.‬‬
‫يرتفع الطرف األمامي على شكل رأس أفعى لتشق األمواج‪ .‬ورث الهنود تقليدًا برسم‬
‫تميمة داخل القارب ال يستطيع أن يراها إال المجدف‪ .‬وفي وقت متأخر من تلك الليلة‬
‫التي شيدت بها سوزان القارب‪ ،‬رسمت تلك التميمة بداخل زورقها باستخدام دماء‬
‫صا عن الهوية والقوة والروح‪ .‬لقد قضيت سنينَ من‬
‫تعبيرا خا ً‬
‫ً‬ ‫أنوثتها‪ ،‬والتي تمثل لها‬
‫سا‪ tumah ،‬نجاسة‪ ،‬وأنها‬
‫حياتي مع فكرة أن مثل هذه الدماء تجسد ظال ًما روحيًا دام ً‬
‫تشك ّل تهديدًا روحيًا للرجال‪ ،‬لقد عشت مع ذلك اإلحساس المميت بالخزي من نفسي في‬
‫نصف كل شهر‪ .‬اآلن‪ ،‬عندما ال تكون سوزان تستخدم الكاياك‪ ،‬فإنه يكون معلقًا في‬
‫غرفة المعيشة الخاصة بنا‪.‬‬
‫سوية استكشفنا أنا وسوزان السهوب المنغولية على ظهور الجياد‪ ،‬تنزهنا مشيًا‬
‫عا‬
‫على األقدام عبر غابة مطرية في بيليز‪ ،‬نزلنا إلى داخل بركان مكسيكي‪ ،‬جلنا قال ً‬
‫وكاتدرائيات في أوروبا‪ ،‬قطعنا سور الصين العظيم‪ .‬ركبنا زوارق الكاياك إلى أسفل‬
‫نهر لي الملتوي حول تكوينات الكارست المقوسة‪ ،‬وجدفنا في مسارات األهوار في ثالث‬
‫قارات والكثير غير ذلك‪ .‬وخالل كل ذلك لم أتوقف عن البحلقة وكأنني قروية ساذجة‪،‬‬
‫باحثة عن طاقة الحياة الكامنة في كل هذا‪.‬‬
‫ي أن أعترف‪ ،‬ففي النهاية كان إخفاء الحقائق‪ ،‬وكل‬
‫أما بالنسبة ألبنائي‪ ،‬فعل ّ‬
‫األكاذيب التي اقترنت بذلك‪ ،‬هو ما ألحق بهم أكبر األذى‪ ،‬إذ كنت أخبر نفسي بأنني ما‬
‫وأخيرا‪ ،‬كنت والدتهم الحسيدية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فأوال‬ ‫أخفي ذلك إال لحمايتهم ولصون حياتهم الدينية‪.‬‬
‫أخيرا بكل شيء‪،‬‬
‫ً‬ ‫أيقونة اإليمان واإلخالص عندهم‪ .‬لقد وثقوا بي‪ ،‬وعندما أخبرتهم‬
‫اكتشفت بأننا جميعًا نعلم الكثير من األمور عن أمهاتنا‪ ،‬أمور جوهرية‪ ،‬لم تفصح عنها‬
‫ي منهم‪.‬‬
‫أمهاتنا‪ .‬أخبرهم أنني مثلية‪ ،‬ولم يتفاجأ أ ٌّ‬
‫لقد استغرق ذلك الكثير من الوقت‪ ،‬لكنني لم أستسلم‪ .‬فأبنائي ما يزالون بحاجتي‪،‬‬
‫ولعلهم سيبقون كذلك‪ ،‬وأنا بحاجتهم‪ .‬إنني اليوم‪ ،‬هكذا آمل‪ ،‬ذات تواجد مستمر في‬
‫حيواتهم‪.‬‬
‫غادر أربعة من أبنائي حظيرة الحسيدية‪ .‬جميعهم كبروا وانتقلوا إلى أنحاء مختلفة‬
‫من البالد‪ .‬أخبرهم جميعًا‪ ،‬سواء أكانوا أرثوذكسيين أم ال‪ ،‬أنه على الرغم من العيش أو‬
‫تجربتنا الماضية في العيش ضمن حياة مقيدة بالشريعة تملي عليكم ما يجب أن تكونوا‬
‫عليه‪ّ ،‬‬
‫فإن عليكم أن تكتشفوا من أنتم‪ .‬كونوا أنفسكم‪ .‬أخبرهم أن أدوار الجندر الصارمة‬
‫تترك الناس المنخرطين في عالقات وحيدين مع األعباء‪ ،‬وأن سحر العالقات السليمة‬
‫الطيبة يأتي من خالل المشاركة بعبور ذلك الحد الفاصل‪ ،‬مشاركة المسؤولية المالية أو‬
‫إخراج القمامة أو إعداد الوجبات أو تقديم الرعاية لألطفال‪ .‬أرجوهم أن يتقاسموا كالّ‬
‫من التبعية والقيادة‪.‬‬
‫حينما أنجبت سارة وزوجها الحاخام مولودهما األول‪ ،‬ذهبت إلى كراون هايتس‪،‬‬
‫عا من أجل مساعدتها‪ .‬فلمست التغيير وقد‬
‫الحي الذي يقطنه ال َحبر‪ ،‬ومكثت هناك أسبو ً‬
‫طرأ على الحياة هنا؛ فقد اجتاح اإلنترنت المكان‪ ،‬ومعه تطورات جديدة‪ .‬وأصبح من‬
‫المستحيل الحفاظ على الجدران قائمة على حالها؛ فاألزواج الشباب يعملون سوية مع‬
‫زوجاتهم لالعتناء باألطفال‪ ،‬ويتزايد اإلقدام بين الشباب على ارتياد الجامعات‪ ،‬والكثير‬
‫صرت التنورات بعض الشيء‪،‬‬
‫من النسوة الشابات يظهرن بإطالالت عصرية؛ إذ قد ق ّ‬
‫وزحفت الشاالت إلى الخلف لتبدي ً‬
‫قليال من شعورهن‪ .‬وبشكل غير رسمي ومن دون‬
‫إشهار‪ ،‬بدأ البعض يستخدمون موانع الحمل‪ .‬وقد أنشئت منظمة مجتمعية لتحض‬
‫العائالت على عدم نبذ أوالدها الضاليّن‪ .‬وبينما أشق طريقي كل يوم وأنا حاسرة الرأس‬
‫وأرتدي البنطال عبر بحر من اللحى والقبعات‪ ،‬والتنورات والباروكات‪ ،‬إلى الشقة‬
‫الصغيرة التي تقطنها سارة‪ ،‬أشعر ببقايا من الخوف القديم ما تزال تسكنني‪ ،‬لكنني‪،‬‬
‫ي ألحيي أصدقائي القدامى‪ .‬أما بالنسبة ألحفادي‪،‬‬
‫ومثلما أفعل في هيوستن‪ ،‬أفتح ذراع ّ‬
‫فإني أصر على مناداتي بالتسمية الحسيدية القديمة للجدة "‪ ،"Bubbie‬وهي إعادة‬
‫صياغة لكل ما تنطوي عليه التسمية‪ ،‬كما أظن‪ ،‬لكنني حملت كل واحد من أحفادي‬
‫ووقعت في حبه‪ .‬وهأنذا‪ ،‬جدة مثلية‪ ،‬ترتدي الجينز‪ ،‬ألحفاد حسيديين‪ .‬إنني موجودة‪ ،‬ولم‬
‫أذهب بعيدًا‪ ،‬لغاية اآلن على األقل‪.‬‬
‫أف ّكر أحيانًا بتلك المقابلة التي جرت منذ أمد بعيد مع الحاخام غولدنبرغ‪ ،‬عندما‬
‫كنت مراهقة‪ .‬كان الحاخام أصغر سنًا مما أنا عليه اآلن‪ ،‬وربما لذلك لم يعرف أن يسأل‬
‫الفتاة التي كنتها‪ِ ،‬ل َم كانت تحس ّ‬
‫بأن وجود روحها مؤلم؟ أو‪ِ ،‬ل َم كانت تسعى خلف الدين‬
‫بحماس متّقد؟ أو‪ِ ،‬ل َم كانت تحاول أن تعيد تعريف ذاتها وتهرب من المنزل في ذلك السن‬
‫اليافع؟ لكنه لو كان قد سألني‪ ،‬لو كان قد است َد ّر من لساني الحكايات‪ ،‬فكيف كنت سأصبح‬
‫يا ترى؟ هل كنت سأتّخذ وجهةً مختلفةً؟‬
‫ضأ بسنواتي التي قضيتها في الحسيدية‪ ،‬كيف أخبرونا بأننا نحن النساء‬
‫أفكر أي ً‬
‫"أقوى روحيًا" من الرجال‪ ،‬ومن ث ّم فإن لنا حاجة أقل لإلحياء المتواصل للطقوس‬
‫ً‬
‫وبدال عن المشاركة في الخدمات اليومية أو ربط تمائم التيفيلن وارتداء شاالت‬ ‫التقليدية‪.‬‬
‫الصالة أو الصعود إلى التوراة‪ ،‬كان يفترض بنا أن ننال الشرف بإخفاء أجسادنا‪،‬‬
‫وبالصمت أمام المأل‪ ،‬وأن نترقى بالمنزلة عن طريق إنجاب األطفال بال توقف‪ ،‬وخلق‬
‫فسر لنا كيف أن "الحاجة‬
‫بيوت يهودية‪ .‬ونحن رغبنا بأن نصدق ذلك‪ .‬وما من أحد قط ّ‬
‫األقل" للطقس قد ترجمت إلى إقصاء فاعل من جميع الطقوس العامة واألشد خصوصية‪،‬‬
‫ومن أي دور قيادي أو صوت عام‪ ،‬ما جعل جوهر الدين األكبر من نصيب الرجال‬
‫حصرا‪.‬‬
‫ً‬
‫في تلك السنوات‪ ،‬كان أكبر مخاوفي وجوديًا‪ ،‬من نوع ماذا لو‪ ،‬إذ ّ‬
‫إن أبسط األشياء‬
‫كربط الحذاء‪ ،‬كان قد تحول بفعل الدين إلى فعل روحي‪ ،‬ماذا كان سيحدث لو أن األعمال‬
‫ً‬
‫رموزا على اإلطالق‪.‬‬ ‫اليومية البسيطة التي حولناها إلى رموز ذات دالالت عميقة لم تكن‬
‫ماذا لو كانت تلك األعمال هي مجرد ارتداء ثياب وأكل وانتعال أحذية‪ ،‬ولم يكن مه ًما‬
‫اختبارا‬
‫ً‬ ‫كيفية قيامي بها؟ ماذا لو كانت مشقة األعمال اليومية مجرد مشقّة‪ ،‬وليست‬
‫لإليمان؟ ماذا لو لم يكن الرب يقوم بمراقبتنا والحكم علينا؟ ماذا لو لم يكن هناك رب من‬
‫األساس؟‬
‫ّ‬
‫الفظ لروحي‬ ‫ماذا لو كانت حاجتي ألن تحضنني امرأة ليست إال قتال جسدي‬
‫النبيلة من أجل بسط الهيمنة؟ ماذا لو كانت خيبة أملي في البقاء مع ليفي هي حقيقة‬
‫رئيسية في زواجنا‪ ،‬وليست مجرد تحد من الرب كان متوقعًا مني أن أتخطاه؟‬
‫في النهاية‪ ،‬أصبح ديننا فخ استدراج وخداع كبير‪ ،‬لكنني حينئذ كنت قد تعرفت‬
‫على المقايضة‪ ،‬األجندة الخفية في األصولية‪ ،‬سرقة الروح عبر وعودها بإنقاذ الروح‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬عندما كنت حسيدية‪ ،‬فربما كانت قوة الخيال المحض لدينا في حد ذاتها شيئًا‬
‫يعتّد به ويحسب حسابه‪ .‬لقد تخيّلنا التوراة كتشكيلة من الحقائق الدامغة‪ :‬الشريعة كلمة‬
‫الرب‪ ،‬يو ًما ما سيحملنا الرب جميعنا إلى الفردوس‪ ،‬كل فعل صغير نؤديه حسب الطقوس‬
‫يغيّر العالم‪ .‬ربما يكون الرب مفهو ًما غايةً في البساطة فهو قد (هو؟) يتدخل بحسب شدّة‬
‫أملنا‪ ،‬وهذا ما كنا نتخيّله‪ .‬هذا ما كانت عليه صالتنا‪ ،‬رغبتنا الجماعية المر ّكزة‪ ،‬حاجتنا‬
‫الجمعية لالعتقاد‪ ،‬أملنا المتضخم وخيالنا المحض ّ‬
‫بأن تعبيراتنا عن األمل سوف تتالعب‬
‫باألحداث والناس والصحة وتعيد توجيهها جميعًا إلى ما فيه مصلحتنا‪ ،‬لكي يكون كل‬
‫واحد منّا أكثر من مجرد قطعة حطام طافية يحملها إعصار‪ .‬هناك قدر كبير من القوة‬
‫في ذلك‪ .‬إن الحياة الحسيدية هي ما علمني أن أبني عال ًما مقنعًا من خالل الخيال وحده‪.‬‬
‫لربما كانت تلك السنوات هي السبب في ممارستي للكتابة‪.‬‬
‫في النهاية‪ ،‬إنني أعرف على األقل أن ما أعاقني وأبقاني مثقلة للغاية ليس الرب‪،‬‬
‫وإنما تشبثي الضاري بالرب‪.‬‬
‫في البداية لم أستطع أن أتخيّل فكرة التخلص من الشريعة‪ ،‬لكنني قررت بأنني لن‬
‫سا‬
‫أسمح لقيود الساباث أن تعزلني عن أصدقائي‪ .‬ثم صرت أرى مشاركة الطعام طق ً‬
‫إنساني أرحب يمكنه أن يبني رابطة جوهرية وطيبة بين الناس‪ ،‬وأدركت أن قيود الطعام‬
‫الحالل قد حرمتني من عدد هائل من مثل هذه الفرص‪ ،‬وذلك ما أدى بي إلى رفض تلك‬
‫القيود‪ .‬إن الدين للناس الراشدين‪ ،‬كما قال الحاخام غولدنبيرغ ذات مرة‪ ،‬إنه مخطط‬
‫الدرب الذي يسلكه المرء‪ .‬اليوم‪ ،‬أصبحت األسئلة تح ّل محل إيماني‪ .‬أحب الكيفية التي‬
‫تبقي بها األسئلة الكونية التي بال إجابات ك َّل االحتماالت مفتوحةً‪ .‬يتمدد الكون في ثالثة‬
‫أبعاد عجيبة وغامضة‪.‬‬
‫ومع ذلك فإنني أفهم الحاجة واألمل اللتين يحضر بهما الناس إلى الدين‪ ،‬الملجأ‬
‫الذي يبحثون عنه هناك‪ .‬حيث قد يجد المرء الحكمة والمجتمع والدفء‪ .‬في عالمنا‬
‫ً‬
‫جماال سرمديًا وتنظي ًما وهوية واستمرارية مع ماضينا العتيق‪.‬‬ ‫المشوش‪ ،‬يعرض الدين‬
‫أر تلك المجموعة الهائلة من التوقعات واألحكام‪ .‬أتمنى لو أنني‬
‫ضا لم َ‬
‫أتمنى لو أنني أي ً‬
‫لم أعرف عن تجربة تلك القوى المخادعة التي يمكن أن تنشأ في المجتمعات الدينية‪،‬‬
‫جراء صفات غير قابلة للتغيير‪ ،‬وحيث الرسائل الملتوية‬
‫حيث غالبًا ما يحكم على الناس ّ‬
‫والوعود المستحيلة يمكن أن تكون جز ًءا من الحال‪ ،‬لكنني أعرف ذلك الحال‪.‬‬

‫إلى أخواتي المحجبات‪:‬‬


‫فعليك بالغربلة‪ .‬اسمحي لنفسك بالغربلة‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫لكي تستخلصي األفضل من الدين‪،‬‬
‫تهتمي لما يقوله الناس‪ .‬واجهي الذنب أو العار اللذين يستخدمهما البعض أداة ً للدين (ويا‬
‫لها من أداة غير نزيهة)‪ ،‬واحتفظي لنفسك بالحق في التفكير وإصدار األحكام‪ ،‬حتى ولو‬
‫ت تقفين أمام قضاة‪ .‬خذي الحكمة واإللهام والجمال واتركي الباقي‪.‬‬
‫كن ِ‬
‫كثير من النساء المحجبات ال يعتقدن بأن لديهن القوة لفعل ذلك‪ ،‬لكنك تمتلكينها‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ملكك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫صوتك‪ .‬وحرية االختيار‪ ،‬االختيار الذي يجب أال تضحي به‪ ،‬هو‬
‫ِ‬ ‫حافظي على‬

‫بينما أنا اآلن هنا‪ ،‬في بيتنا الصغير‪ّ ،‬‬


‫فإن األصولية تواصل تأجيج كثير من‬
‫الصراعات والتعصب والقمع في كافة أنحاء العالم‪ .‬لم يعد العالم بعيدًا في الخارج‪ ،‬يكتم‬
‫صغير واح ٌد فيه‪ ،‬ولذا‪ ،‬بالنسبة لي‪ ،‬فهو ما يزال يعاود‬
‫ٌ‬ ‫صوته جدار الطائفة‪ .‬لكنني فر ٌد‬
‫الحضور إلى هذه الطاولة الخشبية المربعة القديمة حيث أكتب‪ ،‬نقر أصابعي على لوحة‬
‫أخيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫المفاتيح‪ ،‬أزيز مروحة السقف‪ ،‬الرائحة الباهتة لكلبنا غراسي الذي غفا على قدمي‬
‫ي عبر الباب المفتوح‪ ،‬وهناك السكينة‬
‫هناك صوت سوزان وهي تعمل في الفناء يتدفق إل ّ‬
‫والمحبة اللتان نتقاسمهما‪ .‬مشهد شائع بما فيه الكفاية‪ .‬بسيط‪ ،‬حقًا‪ .‬أدرك في كل يوم كم‬
‫هو وجيز كل هذا‪ .‬ربما سيفهم أطفالي جميعهم يو ًما ما أمتلكه اآلن‪ ،‬وربما ال‪ ،‬فحياتهم‬
‫ملك لهم‪ .‬ينبغي أن أتذكر أن التفهم قد يأتي أحيانًا في مراحل‪ ،‬مثل النمو‪ ،‬ومثل العمر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ً‬
‫مركزا روحيًا‬ ‫ذات مرة‪ ،‬سعيت ألضمن أن يكون البيت الذي أتقاسمه مع ليفي‬
‫أخيرا يدوس‬
‫ً‬ ‫لحيواتنا‪ ،‬ومن أجلنا‪ ،‬ولنيل ذلك أزحنا المجتمع‪ .‬أما اآلن‪ ،‬وقد أصبح العالم‬
‫عتبة منزلي ويدخل إلى الداخل‪ ،‬فالمفارقة هي‪ :‬أن كل القوة التي أحتاجها للمواصلة‪،‬‬
‫والهدوء والفكاهة واالبتكار‪ ،‬والهدايا التي أقدمها ألوالدي وألصدقائي ولكل شخص‬
‫خارج حدودنا المباحة لالختراق‪ ،‬جميعها تتدفق من هذا المكان الدافئ والحميمي المستقر‬
‫الذي ندعوه بيتًا‪ ،‬والذي أتشاركه مع سوزان‪ ،‬المكان الذي يحاوط هذه الطاولة‪ .‬اآلن‬
‫سوف أذهب للعمل في الحديقة‪.‬‬

‫ومن منطلق الحب الشديد‪ ،‬يا أخواتي‪ ،‬أقدّم لَك ّن أفوا ًها‪.‬‬
‫شكر وعرفان‬

‫أتوجه بخالص الشكر لروزلين براون‪ ،‬التي ما كانت تعلم إلى أين سيفضي‬
‫لطفها وبصيرتها الفذّة‪ .‬وأكثر من مجرد الشكر أدين به للعزيزة شارون‪ ،‬التي‬
‫ناولتني المصباح اليدوي ثم ظلت إلى جانبي‪ .‬وأعرب عن امتناني العميق لمعلمي‬
‫ي الالمعين‬
‫ومرشدي دان ستيرن‪ ،‬الذي يحزنني أن أوجهه له بعد رحيله‪ ،‬ولمعلم ّ‬
‫روبرت بوسويل ومارك دوتي‪ .‬وشكر خاص ألونر مور‪ ،‬الذي تحداني لكي أواصل‬
‫مسيرتي عندما مرت حياتي بمنعطف حاسم‪ ،‬وللمعطاءة الودودة غلوريا ستاينم‬
‫سيرا على األقدام في هيدجبروك‪ ،‬أبقتني‬
‫التي‪ ،‬وخالل نزهاتنا الطويلة التي قطعناها ً‬
‫مطلعة على مجريات العصر التي فاتني أن أواكبها عندما كنت أقبع وراء الحجاب‪،‬‬
‫ومن ثم َه َدتني بكل أناة إلى الكثير من التفاصيل التي كانت أساسية إلفهام قصتي‪.‬‬
‫كما أوجه شكري لتشانا بلوخ‪ ،‬ذات الرؤية الشاعرية وصاحبة السكين المطابق‬
‫للشريعة‪ ،‬ومن بعدها لبام بارتون وجولي كيمبنر وجوديث لتل وآن سلوان ولويس‬
‫ستارك وآن ويسغاربر‪ .‬وشكر خاص موصول إلى شركة يادو (‪ )Yaddo‬على‬
‫ي اإلقامة الساحرين‪ ،‬ولمركز فيرمونت ستوديو ولهيدجبروك المذهلة على‬ ‫مكان ّ‬
‫األمر ذاته‪ ،‬والتحاد فنون هيوستن على المنحة الفنية التي سهلّت الشروع بهذا‬
‫الكتاب‪ ،‬ولشركة (‪ ،)InPrint‬الكائنة في هيوستن‪ ،‬على سماحها لي بأن أكون‬
‫السيدة المجنونة في العلية (انظر‪" :‬فنانة في المسكن") على مدى عامين‪ .‬والشكر‬
‫لكامي أوستمان وجين مارلو على مالحظاتهما الفذة‪ ،‬ولجميع األشخاص الذين‬
‫ي أماكنَ ألكتب فيها ومن تحملني خالل رحلة‬
‫المسودة ولمن عرضوا عل ّ‬
‫ّ‬ ‫قرؤوا‬
‫ولك‪ ،‬أماه‪،‬‬
‫الكتابة الطويلة وأمدني بالفكاهة والصداقة وهم كثر لم يتسنَ لي ذكرهم‪ِ .‬‬
‫وأخيرا‬
‫ً‬ ‫أينما قد تكونين‪ .‬لقد استرجعنا أنفسنا بطريقة ما وال أعرف كيف صار ذلك‪.‬‬
‫أوجه امتناني الالمتناهي لسوزان‪ ،‬زوجتي‪ ،‬التي أثرى عطاؤها وحبها وصبرها‬
‫العجيب هذا الكتاب مثلما أثرى حياتي في كل يوم‪.‬‬
‫المؤلفة في سطور‬

‫حقوق الصورة‪ :‬جانيس روبين‬

‫حازت أعمال ليا الكس األدبية‪ ،‬الخيالية منها والواقعية‪ ،‬على الجوائز‬
‫ونشرت في العديد من المختارات األدبية والمطبوعات‪ ،‬والمطبوعة واإللكترونية‪،‬‬
‫ومن ضمنها ديم ‪ Dame‬وليليث ‪ Lilith‬وصالون ‪ .Salon‬كما نشرت مراجعة‬
‫لعملها المسرحي في النيويورك تايمز ومجلة رولنغ ستون‪ ،‬وب َّ‬
‫ث على هواء اإلذاعة‬
‫الوطنية العامة (‪ .)NPR‬الكاتبة حائزة على ماجستير في مجال الكتابة اإلبداعية‬
‫من كلية الفنون الجميلة في جامعة هيوستن‪.‬‬

You might also like