Professional Documents
Culture Documents
مذكرات
بقلم
ليا الكس
إلى أمي
عند العودة بالزمن الى شهر فبراير ،ستة أشهر قبل الزفاف ،أذكر أن الحاخام
فرومان اتصل بي من مقر تشاباد هاوس في أوستن .كان قد قاد سيارته من منزله
في هيوستن لكي يلقي دروسه األسبوعية .كان تشاباد هاوس مكان لقائنا ،وهو في
حقيقته عبارة ٌ عن مساحة تخزين فارغة في مجمع سكني للطالب .وقد كان
األعضاء أصدقائي الوحيدين .إذ كنا وقتها قد انسحبنا تما ًما من المجتمع الجامعي
العام.
ينتهج الحاخام فرومان أسلوبًا غلي ً
ظا وسلو ًكا ازدرائيًا في تعامله مع النساء.
أما األوالد ،ورغم الشعور بغياب األمان في حضوره ،فقد كانوا يبجلّونه ،لكنني
كنت خائفة ببساطة ،أهابه فال أقوى على الكالم حالما يدخل إلى الغرفة .ورغم ذلك
ففي عقلي أصبحت جندية حسيدية متأهبة لتنفيذ األوامر التي تصدر من مبعوث
َحبرنا .كان بديهى أحيانا ً أن يقوم الحاخام فرومان بتعطيلي عن دراستي من أجل
التمرن
ّ اختبار في مادة الحكومة أو إلغاء خططي لقضاء فترة ما بعد الظهر في
على آلة التشيلو" .سآتي على الفور" أجبت قائلة ،تركت واجبي الدراسي واندفعت
يتجول الطالب ،وسط رائحة الديزل
ّ مسرعة عبر ال َح َرم الجامعي الفسيح ،حيث
المنبعثة من حافلة الحرم الجامعي ،أجتاز ’إيست مول‘ وأدور حول مكتبة ’تاور‘،
ي بينما أسير في الرياح الباردة.
ي ساقي ّ
التنورة الطويلة تصفع ربلت ّ
ثم جلسنا في تشاباد هاوس وج ًها لوجه .كانت طاوالت الساباث مطوية
ومرصوصة على الجدار ،ملصق لوجه ال َحبر الضاحك مثب ٌ
ّت أعلى رؤوسنا.
ي بشدة نحو الحافة المعدنية الباردة للكرسي القابل
سحبت الجزء الخلفي من ركبت ّ
ي .جلست ساكنة من دون أدنى حركة ،وشرعت
ي وقلبي ينبض بقوة في اذن ّ
للط ّ
أخمن األسباب خلف استدعائه لي.
عندما ابتسم الحاخام فرومان ،انحسرت شفته لتظهر أسنانه السفلية المحاطة
بلحيته الداكنة" .كيف تسير حياتك؟" قال بلكنته الروسية-اليديشية.
فأجبته ،"Baruch hashem":أي فليتبارك الرب.
فتح أحدهم جهاز اإلستريو في الشقة الواقعة تحتنا ،يصعد طنين الباس
ي. لموسيقى الروك فيدخل جسدي عبر أقدامي ،مختل ً
طا مع النبض في اذن ّ
"وكيف َج ّد ِ
اك؟"
هل يريد تبرعا ً؟ " "Baruch hashemقلت ثانيةً.
الفضل للرب .على كل شيء.
كنت ّأود سؤالك ،هل فكرت بأي أحد من األوالد؟ كزوج؟
لقد كنت محقّة .اٌصبت بالذعر .خطر في بالي وجه آنا الدافيء ،الذي استحوذ
على أحالمي فيما مضى .ذات مرة خربشت رسائ َل بطول بوصتين على يومياتي
في المدرسة الثانوية :وحيدة .آنا .آنا" .اماه "،قلت ،وأنا أضع يدي على صدري
كما لو إنها قد تستطيع رؤية الوجع" .أعتقد بأنني أمتلك رو ًحا".
ي الحاخام فرومان ،ثم تساءلت فيما لو كان يحاول أن يبحث
ي بعين ّ
التقت عينا ّ
في داخلي عن بعض التخيالت المخبوءة التي تخص أحد األوالد الحسيدين
ضا ،مته ّد ًجا ألجل أ ّ
ي منهم .لقد فكرت ً
خجوال خفي ً المستجدين .لكني لم اص ِدر صوتًا
بالحاخام ،بالطريقة التي خلع بها نظارته البالستيكية البيضاء ووضعها على
طاولته" .سوف تشيّدين بنيانًا أبديًا لبيت يهودي "،قال لي مع تلك النظرة الثاقبة،
لقد تحدد مستقبلي اآلن .وعلى ما يبدو ،فإنه ت َ َحد َد هاهنا.
" ليفي الكس يريد الزواج منك" قال الحاخام فرومان.
رفعت ذقني لألعلى َبغتَةً من وقع ما سمعت ،ثم كبحت نفسي من فتح عين ّ
ي
بسبع سنين ،لكن عائالتنا في داالس تعرف بعضها
ِ على وسعهما .ليفي كان يكبرني
ضا ،لقد استحق ِسنّه الزواج منذ أمد طويل .فكرت ،كان عل ّ
ي أن أتوقع هذا. بع ً
وكان هذا كل شيء.
"فلنتوقف هنا ونتحدث ".كان هذا قول ليفي بعد يومين في أول وآخر موعد
غرامي لنا ،في سيارته الدودج دارت في ليلة باردة ومظلمة .لكنه لم يكن موعدًا
غراميًا فعليًا؛ لقد كان فقط قيامنا نحن االثنين بإلقاء أنفسنا الى ما قد علّمنا أن نؤمن
بأنه قدرنا.
كان ليفي وهو خريج واحدة من أعرق ثمان جامعات فى الواليات المتحدة
تسمى ( ،)Ivy Leagueفي أوستن من أجل إكمال الدراسات العليا .لقد عرفته
من النوع الماهر ،فوضوى قليالً ،مع قدر من الذكاء .لقد أحبه الناس ،لكن رغم
ذلك ،لقد رأيته ينفجر غاضبًا من تفصيلة ما وقد أصابني ال َح َرج حينها .مع ذلك،
ع ِلمت بأنه يستطيع الحصول على وظيفة جيدة ،وأنه ،ببن َيته الطويلة والمتناسقة
لقد َ
ووجهه الوسيم ،يستطيع إنجاب أطفال جميلين.
سا بجانبي
لم أكن أرى سوى نصف ليفي الجانبي المظلم وهو يرتدي قبعته جال ً
في السيارة ،وذلك الصف األبيض من األضواء ال ِعلوية المثبتة على طول الطريق
الفارغ .كان يرتدي الجينز ،إذ إنه لم يزل في مرحلة التحول إلى رجل حسيدي،
وما زال يتعلم القواعد ،لكنني أعرف بأننا لن نتالمس .أدركت ذلك .أجثم في
موضعي بمعطفي الصوفي األسود ،مغلوبة على أمري ،حازمة أمري ،قدماي ال
تالمسان األرض كليًا بينما نحن نسير بأقصى سرعة نحو الكون المسرع .تستقر
يدي قرب مقبض الباب ،مقبوضة كيد طفل.
لم أكن أعرف بأنني ثالث فتاة طلبها الحاخام فرومان لليفي .لم أكن أعرف
أنني بموضع السلعة ،ولم أكن أعرف حتى أن أسأل عن السبب وراء رفض الفتاتين
ً
فضال عن مكافأته الروحية، سلّمت بأن التكليف االمتيازي بالزواج،
األخريين .فقد َ
كان للرجال .بينما كان من واجبنا كنساء أن نساعدهم في تنفيذ ذلك التكليف .لم
أكن أرى شيئًا يستحق المالحظة في الخواء الناتج عن غياب شهوتي .فالخواء ال
يصدر صوتًا.
كنت قد عرفت حينها كيف يتصرف الحسيديم عند التوفيق بين طرفي
الزيجة ،كيف ينبغي على األهل البحث عن القرين المستقبلي ،ومن ثم يستعلمون
بو ّد من أبنائهم أو بناتهم عن المواصفات التي يرغبون بها في الشريك ويش ّجعون
الطرفين على الخروج لبعض األماكن العامة من أجل التحدث ،طالما يخلو األمر
من التالمس.
يراد من االثنين أن يتشاركا قلبيهما ،أهدافهما .يراد منهما أن يقررا ،سوية،
إن كانا سيتزوجان ،وسيمضي اإلثنان قد ًما فقط إن بدأت الشرارة في روحيهما
باالشتعال .سوف تعرفون ذلك ،يقول الوالدان الحسيديان المحبان اللذان أتخيلهما
ضا ،كنا
ألطفالهما عديمي الخبرة .الشريعة والرب سيحبانكما ويحميانكما .نحن ،أي ً
في هذا الموقف ،ذات مرة.
ضا عن ذلك كان لدينا والد ليفي المحاسب ،والمنغمس في المجتمع
وعو ً
اليهودي المحاكي لمجتمع داالس ،ووالدة ليفي ،التي لم تفتها لعبة رعاةِ بقر البتّة.
لدينا والدتي الفنانة المصابة بهوس االكتناز ووالدي المريض عقليًا ،وجداي مح َدثا
النعمة ،اللذان تناوال الرنجة المخللة وارتديا المالبس الراقية.
تم توقيع العقد ،ت َ َحد َد مستقبلي ،والزفاف على وشك أن يبدأ .ما زلت ارتّل
المزامير بالعبرية في غرفة نوم جدتي ريثما تعود أمي مع روث من المكتب ذي
َص وأرفع
الجدران الخشبية .أضع إصبعي على المكان الذي توقفت عنده في الن ِ ّ
بصري ،والترقب يعتريني.
الحقًا ،تمتليء الحجرة الكبيرة التي تقع في مقدمة المنزل بالضيوف
المنشغلين بالمحادثات والتهام الطعام .وأنا محور كل هذا أنتقل للجلوس على كرسي
ي تقف كل من أمي وروث.
من كراسي غرفة الطعام كما لو أنه عرش ،وعلى جانب ّ
نحيّت الستائر الطويلة وفتحت األبواب الزجاجية المنزلقة على مصراعيها .في
مكونة من كالرنيت واحد وآلة كمان وساكسفون أكثر
الخارج ،فرقة من تكساسّ -
اعتيا ًدا على عزف موسيقى الحانات منها على الموسيقى اليهودية -تعزف ألحانًا
ضا عن الشعور بالبهجة ،أحاول أن أتيقن من أننا بالفعل
حسيدية بحماسة .وعو ً
اخترنا طريقا ً مثاليا ً .لكن ينبغي أن يسير كل شيء باالتجاه الصحيح في هذه الرقصة
قديمة التصميم ،وفي هذا الزفاف الحسيدي .القي نظرة على ما حولي ل ألتأكد من
أن كل فرد قد اتخذ مكانه المناسب .ثم اخبر نفسي بأن أبدو سعيدة.
ليفي في غرفة اخرى حيث يجهزه مرافقوه من أجل ممشاه لقبّة الزفاف .لم
يكن مسمو ًحا لنا برؤية بعضنا لسبعة أيام .عندما يدخل ،سيف ّكر الضيوف بفراقنا
الطويل وتراكم الشوق ويتخيّلوننا في حالة إغماء من فرط ترقب ذلك العناق األول.
باكرا ،األمر الذي
لكن ،وهذا سر بيننا (ربما بسبب التوتر) :أتتني دورتي الشهرية ً
أمر
عا بحكم الشريعة اليهودية طيلة عشرة أيام .يقول ليفي إنه ٌ
سي ممنو ً
يجعل َم ّ
من الرب .لكن حتى اآلن لم يكن الحيض يمثل لي أكثر من مجرد إزعاج طفيف.
لكن هذه تجربة جديدة ،هذا العار السري المخبوء.
في الغرفة المجاورة ،فوق قميص التوكسيدو المزركش الذي يرتديه ليفي،
جلّل الحاخام فرومان ليفي بقميص فضفاض كان قد ارتداه ال َحبر بنفسه ،ما أحاطه
بهالة من القداسة .ثم ساعد ليفي على إرتداء أولى معاطفه الحسيدية السوداء
الطويلة ،عالمة الرجل المتزوج.
سرا آخ َر .المعطف
حينما كنا نتحدث على الهاتف قبل أسبوع ،أخبرني ليفي ً
الخاص ال يالئمه ،رغم أنه كان قد طلَبه خصي ً
صا حسب قياساته .وفي اليوم التالي،
أصاب التشنج ظهره .وما يزال يشعر باأللم .أتخيله يَحني كتفيه ويسحب َم ِعدته
للخلف حتى يرتدي المعطف الحسيدي ،مصم ًما على إغالق الزر وإجبار نفسه على
الدخول في هذا القالب الجديد .الحاخام فرومان ينتظر ،يستعد ليكسوه بقميص
ال َحبر.
تتوقف الموسيقى؛ وقفة تحبس خاللها األنفاس .نظرت من األعلى من على
طوقا بآبائنا االثنين،
عرشي الذي هو كرسي الطعام ،ولمحت ليفي عند المدخل ،م ّ
بلحيته السوداء ووجهه الوسيم ورموشه الكثيفة وعينيه الداكنتين ،وبالتوتر الحاد
الذي يحمله والذي سأعرف عنه الحقًا ،وباإلجهاد البادي على محيّاه.
يقف الحاخام فرومان خلف ليفي تما ًما ،ويده على كوع ليفي .يتقدم ليفي
خطوة لألمام لكنه يبدو غير متيقن ،رافعًا كتفيه لألعلى .وأنا أرجو بأال يالحظ أح ٌد
عدم مالءمة المعطف له.
ها قد حانت اللحظة .هذه اللحظة التي قرأت عنها ،اللحظة التي يفترض أن
تتطلع فيها العروس بشوق عارم من عرشها لترى عريسها يخطو باتجاهها ،اللحظة
التي من المفترض أن تغمرها فيها بهجةَ رؤية محبوبها .الحقًا سيكون على العروس
والعريس التوجه سوية صوب قبة الزفاف المرتجى منذ زمن بعيد حيث سيجري
إضفاء الشرعية على اتحادهم واالحتفاء به وإتمامه .لكن من المفروض أن تكون
اللحظة الحاضرة هي لحظة االعتراف العجائبية ،حيث ينبغي أن تتالقى أعيننا عبر
الغرفة وهي مح ّملة برغبة ال ح َّد لها.
إنني أحاول .صدقًا إنني أحاول وأحاول أن أشعر بذلك .ليفي يتقدّم إل ّ
ي ،وهو
اآلن محاط بمجموعة من الرجال الذين يترنمون جميعهم بأغنية شعبية كئيبة.
الحقًا ،سأستعيد اللحظة وأتساءل فيما لو كان ليفي يجول بعينيه عبر الحجرة
ي ،وأنّه لم يكن يحاول فقط تجاهل ألم ظهره .سأتساءل ،بينما هو
جراء رغبته ف ّ
ّ
يسير صوبي بمهابة بين أبوينا وسط تزاحم الرجال الذين يقومون بالترنيم ،فيما لو
كان يخبر نفسه العبارات المبتذلة على شاكلة "رفيقتي" و"سوف نشيّد بنيانًا أبديًا"
" ،"ezer kenegdo, binyan adei adأو هل كان يشعر بشيء حقيقي،
نابع من داخله؟ لكنني سأتمسك بأمل أنه شعر حقًا بومضة من الرغبة ،وبأن واحدنا
فعل ذلك على األقل.
وبينما يخطو الرجال نحونا على أنغام أغنيتهم البطيئة ،أنظر الى والدي،
بجانب ليفي .جرت العادة أن يتقدم والدي ً
أوال ،يضع يديّه االثنتين على رأسي،
ويباركنيً ،
قائال"،لعل الرب يجعلك مثل سارة وريبيكا وراشيل وليا" ،أمهات
الشعب اليهودي األربع المحبوبات -وبهذا يحدد قدري كمنجبة لجيل جديد صالح.
إنني أخشى أن يخفق والدي في هذا .ولن يمنحني بركاته.
تتوقف الموسيقى .يقف الثالثة أمامي ،ليفي ووالده ووالدي ،ثالوثي .يحتشد
ي .إنه مستعد اللتقاط
المدعوون .يبدو ليفي مرتبكا ،إنه يصارع لكي ينظر في عين ّ
الطرحة من خلفي وإسدالها على وجهي ،لكنني انظر لوالدي .إنني أحتاج لبركاته
قبل كل شيء ،إنها امنية قديمة .أرغب أن يحقق لي والدي هذه الرغبة ،والكثير
غيرها .حاولت أن اعلّمه الكلمات العبرية قبل الزفاف ،لكنه خضع لعالج الصدمة
الكهربائية ،ويعيش على األدوية .ينحني أبي فوقي ،وفجأة أغرق في دوامة من
ذكريات الطفولة تعلوها مشاعر مختلطة يمتزج فيها الحب والنفور ،الحنين
واالستياء .وكما كنت دائ ًما ،أحس بمشاعره كما لو أنني أشعر بها من أجله ،ترتسم
على وجهي نظرة توسل :باركني ،احمني ،ارتفع حاجبايّ ،
تقطب َجبيني" .أبي؟"
همست له ،يائسةً " .الكلمات؟"
لم يتذكر أبي كلمات المباركة السحرية ،فليس هناك من سحر ،حتى لو كان
قد نهض من كرسيه الرمادي المريح حيث يقضي أيا ًما بكاملها في قراءة الصحيفة
و َج ّرش أسنانه ،وحتى لو تح ّم َم و َحلَقَ ذقنَه وارتدى بدلة ،ووضع قرنفلة على
ضا عن ذلك ،يضع والدي إحدى يديّه المرتجفتين على رأسي بحركة
صدره .عو ً
ضا عن المباركة ،يقبّل
تدل على الحيرة المطلقة .بحركة مرتبكة خاطفة ،وعو ً
جبهتي ،ليتركها مبتلة .ليس لديه لي أي مباركة .يهب الهواء باردًا على المكان
الذي طبع قبلته عليه.
سأحوله
ّ أشيح بنظري ،أشعر بالعار .مات شيء حينذاك ،وأنا أردت له ذلك.
سرا قدي ًما سأصونه
إلى كتلة ميتة وقديمة ،وستكون حماقاته ومرضه وإخفاقاته ً
ضا .بفستان زفافي
طيلة حياتي الزوجية .لذا ،سيشهد هذا اليوم زفافي وجنازته أي ً
سأحفر قبره وأتخلص فيه من جسده السقيم ،والخصالت البيضاء من شعره
والمتوائمة مع القرنفل حينما يهوي أمامي للداخل .سأغرف القذارة بالمجرفة ألهيلها
ط العرق والقذارة فستاني الساتان األبيض ّ
يخط َ عليه ،غرفَة بعد أخرى ألقيها بحنق.
وي ّ
لطخان حاشيته .وتحتي ،يفتح فمه ،كالسمكة ،من أجل استنشاق بعض الهواء.
يعلو صوت الموسيقى .بمزيد من الجرأة ،ينظر ليفي الى وجه امرأته
الحسيدية ليا .لكنه حين يفعل ذلك ،ال يرى ليزا ،إبنة ريتا وهيرب ،الفتاة التي كانت
في ما مضى تتسلق أسطح المنازل وتحلم بأنها فتى .إنه يعتقد بأنني ليا حقًا وبأنه
استلم البضاعة الصحيحة .لم تكن هناك خدعة تضاهي خدعة ليا التوراتية ،التي
اتخذت مكان أختها تحت ال َ
طرحة .إنها أنا ،ومن الواضح بأنه يصدق ذلك .مبته ًجا،
يرفع الطرحة من خلفي ويسدلها على وجهي.
ضا .أنا ليا.
تموت ليزا أي ً
وبابتسامة المنتصر على محيّاه ،يستدير ليفي ،وهو ما يزال بصحبة األبوين،
ويتمشى إلى فناء المنزل المفتوح لكي ينتظر الى حين إتخاذ الضيوف أماكنهم في
الخارج .ثم ،وعند تشغيل الموسيقى التي تعطي إشارة قيام العروسان نحو قدرهما
المقدس ،يسير الثالثة إلى قبة الزفاف.
لقد حان الوقت .أقف .يجب أن أذهب لزوجي .يناول أحدهم كالّ من الوالدتين
ي .خلفي،
عا رفيعة ومشتعلة ،وتضع كل منهما يدها األخرى على إحدى مرفق ّ
شمو ً
ضا .تبدأ
تسير اختاي ،آمي وديبي ،بخطوات متناغمة وهما تحمالن الشمع أي ً
موسيقى جديدة .تخلو الليلة الدافئة من النسيم بينما نخطو لنهاية الممشى بين
الضيوف الجالسين .اللهب الضئيل يتصاعد ً
قليال ويقوى بثبات.
تحت قبة الزفاف ،أدور حول ليفي سبع مرات ،وتتبعنا األمهات ،دورة بعد
أخرى .تمسك والدة ليفي بذيل فستاني حتى ال يتعثر به ولدها .أنسى العدّ ،أعلَق
في دورات من دون نهاية ،لكن الحاخام فرومان ينطق بصوت منخفض "إثنان،
ثالثة ،أربعة ".سبع دورات ترمز للسماوات السبع ،وليفي في مركز الكون ،وترمز
ّ
ستنظم حياتنا .ثم أقف بجانبه ،أكتافنا متباعدة ،بينما يعلن ضا أليام الساباث التي
أي ً
الرجال صفقة اقتنائي ،العقد ،ثمن العروس -خاتم من الذهب ،ويمنحون السبع
بركات .ترفع الطرحة إلعطائي رشفة من نبيذ االتفاق ،نبيذ النوم .يضع ليفي خات ًما
على سبابتي اليمنى بينما يظل هو بال قيد .ثم يدوس على كأس فتنطلق الصيحات
بـ"مازل توف!".
يطلق للفرقة العنان .نرقص ضمن دوائر رقص مجنونة حتى لما بعد
منتصف الليل ،ندور وندور ،النساء في داخل المنزل ،والرجال خار ًجا في الفناء.
عا. ٌ
حلقات أكثر اتسا ً أدور مع كل ضيفة على حدة ،أبتسم وأبتسم ،بينما تدور حولنا
يا لفرحي بالحياة الربانية الجديدة التي سوف نشيّدها! فأرقص حتى تتقطع أنفاسي.
يجلب أحدهم كرسيًا ألنهار عليه ،مع ذلك ما تزال الموسيقى المبهجة مستمرة وما
تزال النساء المتبسمات يرقصنَ حولي.
ثم تصطف مجموعة صغيرة من النساء من أجل تشكيل الميتزفاه تانتز ( the
.)mitzvah tantzتستمر الدائرة األكبر حولنا كخلفية تصفق وتتقافز .يرقص
صف النسوة ناحيتي .وأيديهن تحاكي حركة البطون المستديرة وأقدامهن ترفع من
وتيرة اإليقاع .يرقصن للخلف ،ثم يتقدمن لألمام ،هذه المرة يتظاهرن بأنهن يقمن
ّ
بهز رضيع .في المرة الالحقة التي يتقدمن فيها لألمام ،تتظاهر كل واحدة منهن
بدفع عربة أطفال .ومع كل خطوة متقدمة ،يمسحن األرض ،يربّتن على بطون
قدرا ،وآخر ،ثم يلقين
يحركن ً
مستديرة متخيَلة مرة اخرى ،يهززن رضيعًا آخرّ ،
ّ
جباههن متظاهرات باأللم ،ونحن نضحك .ونضحك. بمؤخرة معاصمهم على
يدندن الضيوف بحماسة .ها هى انا حبيبتى تعبر راقصةً .تبّرق عيناي؛ كم
أحببتها .لقد أتت مع الرجل الذي سيصبح زوجها .وهاهي رفيقة غرفتي في أوستن
أندريا ،وهي ستتزوج من ڤولف ،أو وارن ،وسيكفّون عن مغازالتهم عند التزام
الحياة الحسيدية .وهنا أول أصدقاء طفولتي المحبوبين ،جين ،مع أصدقاء آخرين
من المدرسة الثانوية وماقبلها ،أندريا وشارون ،وكذلك برت وديفيد اللذان يتواجدان
في الخارج مع الرجال .حبي األول ،صديقاتي :لقد دعوتكم لزفافي لكي أودّعكم.
النجوم عالية في السماء ،والليلة حارة .الموسيقى الصاخبة تتحدّى الليل،
اإليقاعات الجامحة تنحفر في أدمغتنا .وعبر األبواب الزجاجية يبدو الرجال
المنهمكون بالرقص منهكين ومتألقين .نراهم وقد تدلّت حواف قمصانهم خارج
سراويلهم ،يمررون زجاجات الفودكا .إنهم يغنون ،بأصوات مبحوحة ،يلوحون
بالزجاجات عاليًا ،يدًا بيد .ثالثة منهم يرفعون ليفي على كرسي ،يدورون به
ويلوح االثنان لليفي.
ويدورون .يرفع ڤولف توڤيا على كتفيهّ ،
ما أزال أرتدي الخاتم في سبابتي حيث وضعه ليفي ،رغم أنه ال يتعدى
مفصل ذلك اإلصبع .أدفع بالخاتم لألسفل حتى يصبح في موضع مريح إلصبعي-
وسأنقله لإلصبع الرابع بعد انتهاء الزفاف -لكن النساء يسحبنني للرقص خار ًجا
على المرج وسط المصابيح ،تحت األشجار القديمة ،تحت النجوم .نتماسك بإاليدي،
مبتهجات ،نقفز ونرقص على العشب الناعم ،ثمالت مع الغناء والضحك .أرفع يدي
اليمنى وأقذف ذراعي في الهواء أثناء الرقصة.
يطير الخاتم بعيدًا ،يحتجب في مكان ما في العشب .الوقت لي ٌل .ما الذي
بمقدورنا فعله سوى انتظار الغد للبحث عنه؟ أيًا كان؛ إنه وقت الرقص!
في نهاية المطاف ،أتوقف أللتقط أنفاسي .أدخل للمنزل ،أعود لحجرة جدتي،
حيث تساعدني في نزع الطرحة وذيل الدانتيل الطويل .يتبعني ك ٌّل من أمي وأبي
ت على الخاتم؟"
وليفي .يقترب والدي مني .فيقول " ،ليزا .هل عثر ِ
سا.
لقد سمع باألمر .أرفع ناظري ،مشدوهة ،وخلفه ليفي يبدو عاب ً
لكننا نعود للزفاف ،وهاهي السيدة فرومان الشابة ،زوجة الحاخام ،برأس
مرفوع ،وزهور وردية وخضراء مطبوعة على فستانها الضيق ،وهي تدور
وتخطو في رقصة حسيدية بارعة .وها هي اختي آمي ،ذات الستة عشر عا ًما،
بعينيها البراقتين وابتسامتها الرائعة ،مع أختي األكبر سنًا ديبي ،التي أمسكت بباقة
الورد المقذوفة في الهواء؛ إنها ستتزوج من حبيبها الذي تسكن معه قبل انتهاء
العام ،وسيكون الفرد الوحيد غير اليهودي في العائلة .ها هو الحاخام فرومان؛
تتطاير اللحية والشراشيب الطقسية ،األذرع في األعلى ،إنه رجل كبير ،لكن قَ َد َميه،
بإمكانهما فعل الكثير .إنه يرقص مع شريك جدي في العمل ،وهو رجل معمداني
طوال ،والمصور يوثّق هذا االندماج
ً منتصب القامة من تكساس يفوق الحاخام
الغريب بينهما .أعلم بأن كل الحاضرين سوف يتذكرون هذه الليلة والمتعة
والموسيقى والرقص .سيتذكرون البهجة.
الفصل الثاني
في الصباح التالي أستيقظ برداء نوم طويل أبيض ملموم عند المعصمين مع
أنشوطة صغيرة وردية معقودة عند الرقبة ،وحيدة على فراش غرفة الفندق .أستفيق
ي
من الرقصات الدورانية وصوت الكالرنيت الضاحك في أحالمي .أفتح عين ّ
وأصطدم بصمت مجدِب ،ما أزال عذراء رسميًا .وألنني في فترة الحيض ،فقد
أرسل الحاخام فرومان معنا الى الفندق اثنين من المرافقين .إذ ليس من المسموح
بَعد أن نختلي أنا وليفي ببعضنا .ما تزال مرافقتي مستغرقة في النوم على السرير
اآلخر .أما ليفي وزوج المرأة فقد خصص لهما سريران في الغرفة الثانية بجناح
الزفاف الفندقي .لقد تمنّى لي ليفي ليلة هانئة باقتضاب وخجل بعد أن حاصرتنا
نظراتهما المبتسمة ،وقد بادلته االمنية باإلحراج واالقتضاب ذاتهما.
احدّق فيما حولي ،ما يزال صدى الكالرنيت الذي سمعته في الحلم يتردد
عبر الجدران البيضاء .أفكر بموعدنا األول قبل شهور ،كم كنا حذرين ،كم كنا
عرض ليفي الزواج في تلك الليلة الظلماء تحت قمر الشتاء الفضي.
مهذبين ،وكيف َ
أتساءل كيف سيكون الشعور وأنا أستيقظ في الصباح ،إلى جانبه .وأنا أض ّمه .لكن
ال ينبغي لي أن افكر بذلك مع وجود المرافقين قربنا.
أقوم ،وبداخلي فضول الكتشاف ما الذي باستطاعتي فعله .ألمح على
المنضدة شعري المستعار الجديد مع تشكيلة من األوشحة الجديدة الملونة .أرغب
بتجربتها كلها .أوه ،لقد تغير كل شيء بليلة رقص! أنا امرأة متزوجة ،هكذا أفكر،
ألف وشا ًحا حول رأسي .ال يجب أن يرى أحد شعري ،وال حتى ليفي -على األقل،
ّ
ليس قبل أن أنغَمر في مياه الميكفاه .حافية القدمين برداء النوم أقف أمام مرآة
التزيين ،أتحسس األوشحة األخرى ،ألتقط الشعر المستعار ،ثم أقف هناك ،والشعر
المستعار في يدي .تتقلب المرافقة في نومها وتتنهد .يتحرك الرجال في الغرفة
المجاورة.
ومبعثر من أثر
ٌ أسحب الوشاح الجديد .شعري ،المقصوص حديثًا ،قص ٌ
ير
النوم
كومة من خصل مموجة يهودية طالما قاومت التمليس ،لكنني ال أمد يدي
تلقائيًا لفرشاة ،وال أتوقف لحظة عند الحرية التي تمتعت بها لحين األمس بأن أخرج
به للشارع كما هو ،بال غطاء .لقد مضى ذلك الوقت .أجمع الشعر وان ّحيه عن
ي .أحني رأسي وأش ّد الجوانب المطاطية للشعر
وجهي بأصابعي وأدفعه خلف اذن ّ
المستعار لألسفل فيغطي رأسي حتى يصبح ضغط الكبس متساويًا على جوانب
وقمة الرأس ومري ًحا عند مؤخرة عنقيّ .
لكن هناك بضع خصالت من شعري
الحقيقي ما تزال طليقة تتدلى .ألتقطها وأدفع بها تحت الشعر المستعار.
المرأة التي في المرآة ال تشبهني تما ًما .فهي تبدو وقورة وأكبر سنًا ،وكل
خصالت شعرها المستعار تتخذ مكانها الصحيح .إنني مبتهجة .لكوني أصبحت
امرأة حسيدية! ثم ،وكأن بابًا قد اغلق للتو ،وكأنني سمعت الطقطقة للتو ولم أكن
أعلم حتى هذه اللحظة بأنه سوف يقفل ورائي ،أحبس أنفاسي ،أهز برأسي وأفكر،
ال أستطيع التراجع .إنني متزوجة ،وال مجال للعودة.
ستأتي االخريات .أمامي -امرأة بالغة في المرآة ،بوقارها الذي يضفيه الشعر
المصفف .عارية القدمين بالرداء األنثوي ،أقابل عينيها ،أرفع مؤخرة رأسي وأفرد
ضا الئقة بسيدة .أوه ،نعم ،ترتسم ابتسامة
ي بوقفة ملؤها التصميم ولكنها أي ً
كتف ّ
متوترة على وجهي .إنها أنا.
أحد األيام بعدها ،حين كنت في الشقة لوحدي ،التمست طريقي لغرفة النوم
الثانية الغارقة في الفوضى لكي أعاين ما يدعوه ليفي بـ"المكتب" الخاص به .أفكر
ي فيها الزواج" .أريد غرفة لموسيقاي" قلت لهيئته ذات الظل.
ع َرض عل ّ
بالليلة التي َ
"أو ّد ذلك" قال حينها ،مان ًحا إياي األمل .لكن هذه الغرفة اإلضافية الوحيدة التي
نمتلكها .أرفف الكتب مليئةٌ بكتب ليفي ،وهناك الكثير غيرها على األرض بأكوام
متأرجحة ،وسط رزم من المجلدات وأغراض مبعثرة بال حاوية وصناديق تعود
لوقت انتقاله للشقة قبل زمن طويل .أتعثر أثناء سيري بحذاء تنس قديم مقلوب على
جانبه ومضرب خاص بكرة المضرب ،شريط الصق أسود غير مثبّت ويتدلى من
مقبض المضرب ،صندوق تسجيالت ذي بكرات ،سروال ممزق من الجينز .قبعة
بيسبول .كما أن هناك مكتب كبير بجانب الجدار مغطي باألوراق ،ودفاتر
المالحظات المغبّرة والمجلدات وعلب األقالم الرخيصة.
الحاجيات التي كدّستها أمي مألت طفولتي :الكثير من علب التونا غير
المفتوحة ،علب تونا خالية ،كؤوس زجاجية (دائ ًما ما تنفع لغرض ما) ،صحيفة
األمس وصحيفة اليوم .كتب ونباتات وأنابيب من كريم اليد وكريم الوجه وكريم
الساق وكريم العيون ،وأحمر شفاه وكريم أساس وباودر عيون بتدرجات األزرق
والبني .فقد اشترت أحدث العروض من ماركة أفون ومألت بها مناضد وأدراج
عجبت بها .كما َجمعت
وخزائن الحمام حتى فاض بعلب مختلفة األشكال من أنواع ا ِ
المجالت والبريد غير المرغوب فيه ،مع أنه لم يكن غير مرغوب فيه حقًا ،وأطباقًا
اقتنتها من آخر عروض متاجر البقالة ،وعلَّبًا فارغةً وأجزا ًءا وقطعًا من أشياء،
ألنها قالت بأنها سوف تكون بحاجة إليها .وكذلك أحذيةً وسراوي َل وفساتينَ
وحقائب .فهي تحب الحقائب .عشرات الحقائب .أكوام من الحقائب.
َ ومعاطف،
َ
أنابيب من األصباغ ولوحات قماشية وحافظات أوراق والعشرات العشرات من
ف َرش الرسم .لقد كنت محاصرة بأكوامها وم ّدخراتها وأكداسها .ورغم كوني طفلة
صغيرة ،إال أنني عرفت القواعد :ال يجوز لي تحريك حاجياتها ،وإال فإنها سوف
ً
جائزا لي أن أقول"تخلصي منها" ألنها ستشرع تلّوح بذراعيها وتصرخ .ولم يكن
باالنتقاد الالذع لشخصيتي.
اغادر غرفة مكتب ليفي ألعود ببخاخ ليسول المنظف وقماشة تنظيف للغبار
وخرقة مبللة .أعيد وضع الكتب على الرف وارتّب الباقي ضمن أكوام منظمة
بمواجهة الجدار ،وأمسح الغبار عن كل شيء .أجمع مجلدات الملفات في موضع
واحد عند الزاوية .أضع لوازم الرياضة واألحذية في الخزانة .أنفض الغبار عن
المنضدة وأرزم األوراق وأرش المنظف وأمسح السطح وأنا أردد مع نفسي
- seder iz kedushaالنظام قداسة .سوف أجلب النظام والقداسة لمنزلنا .شيئًا
فشيئًا ،يفسح مجال من أجل كرسي سأستخدمه لغرض التمرن على التشيلو وحامل
للنوتات الموسيقية وتخلو بضع إنشات على رف الكتب اللوحي المثبت على الجدار
من أجل وضع كتب الموسيقى .وبهذا لن أكون مضطرة لحمل التشيلو لغرفة
التمرين في بناية الموسيقى .سأمأل بيتنا بالموسيقى .ستكون الموسيقى صوت بيتنا.
لقد كنت منشغلة للغاية لدرجة صرفتني عن عدم مالحظة الباب األمامي وهو
يفتح ،ويدخل منه ليفي .ثم انطلقت ،من خلفي ،صيحة "ال!" ووسط هذا الغضب
واالستياء استدرت ،ومضربه القديم في يدي ،يتدلى منه الالصق األسود الجاف.
إنه يلّوح بذراعه ،ويصرخ" ،ما الذي فعلتيه؟ ألقي ذلك من يدك!" ورذاذ اللعاب
يتطاير من فمه" .ال تلمسي ذلك ".إنني متأكدة بأن الصوت قد بلغ الجيران" .أي
ت؟"يقول لي.
نوع من الناس أن ِ
ي وأنا أخرج من الغرفة .لست
ضا ،وأضرب األرض بقدم ّ
ألقي بالمضرب أر ً
ي أن أتحمل ذلك.
بطفلة ،أنا ال أعيش مع امي ،وليس عل ّ
وفيما عدا أن مغادرتي للغرفة يع ّد إستسال ًما ،ماعدا ذلك ،حتى بينما أبتعد،
دور المتطلبات الحسيدية
وقلبي المعتمل بالغضب يمأل صدري بالكالم ،أظل ا ّ
زوجك .ال يجب أن ألمس
ِ المغروسة في رأسي وأحاول أن أوقف مسيري .إنه
أخضعي إرادتك
ِ إنك مجرد امرأة.
حاجياته .لقد أوصانا ال َحبر بتشييد بنيان أبديِ .
لمشيئة الرب.
تفصل بيننا هدنة محبطة غير معلنة لبقية النهار .الحقًا اخبر ليفي أنني "ال
الخاص بي في بناية
ّ أحتاج لغرفة موسيقى .سأذهب ألتمرن على التشيلو
الموسيقى".
يتخرج
ّ يبدو بأن زفافنا كان الوداع األخير لمعظم أصدقائنا في تشاباد هاوس.
توفيا ومعظم اآلخرين وينتقلون بعي ًدا ،حاملين معهم للعالم ثورتهم الدينية .من تبقّى
هم بضعة شبّان يتجمعون إلقامة طقس المنيان اليومي ،وهم ليسوا كافين حتى
لتحقيق النصاب ،فغابت وجبات الساباث الجماعية الصاخبة ومجموعات الدرس.
سيبدأ الفصل الدراسي قريبًا ،وسيكون ليفي رفيقي الوحيد.
نتسوق ونطهو سوية .وبعد السنوات التي قضيتها
ّ إننا ننحو نَحو الصداقة.
وحدي بقليل من المال أو بدونه ،أنظر ذات يوم ألسعار الفراولة المرتفعة في متجر
البقالة وأتجاوزهاّ ،
لكن ليفي يتوقف ،ثم يضع علبتين فاخرتين من الفاكهة الشهية
في عربة التسوق ويقول لي" :من اللطيف أن نفعل أشيا َء صغيرة ً".
تلك الليلة ،وخالل تناولنا العشاء النباتي ،نتبادل أطراف الحديث المهذب
كشخصين في موعد مدبّر .يقوم ليفي من على الطاولة ويشغّل المذياع .إنها المحطة
الكالسيكية ،تذيع شيئًا غنائيًا وعاطفيًا" .ما هذا؟" أسأله.
يجيبني ً
قائال "إنه برامس"" ،إنها مقطوعته اإلولى ،لكنها على وشك االنتهاء.
إنها الخاتمة".
هذه ليست المرة األولى التي أسمع فيها ليفي يميّز مقطوعة موسيقية
كالسيكية على المذياع .إنني مندهشة .أنا التي أرغب بأن اصبح موسيقية ،لكنه
يستطيع تمييز الموسيقى أكثر مما أستطيع" .لقد سمعت هذا من قَبل" أقول هذا بقليل
من ال َح َرج.
يأخذ شوكة مليئة بالسمك ،ثم يمضغ بفم مفتوح ويريح كوعيه على الطاولة.
أشيح بنظري وأبتلع بصعوبة ،وأسأله" :إمم ،أين تعلمت تمييز كل تلك الموسيقى؟"
يجيبني" :في بنسلفانيا" ينقل رواية عن سنواته في جامعة بنسلفانيا قبل أن
يحول اهتمامه للدين .إنه متلهف وسعيد .يبدو عليه كما لو أنه رجع إلى هناك مرة
أخرى .يبقي أحد كوعيه على الطاولة ،ويده في الهواء ،بينما ينحني على طبقه
ويجرف الطعام بيده االخرى ،ث ّم يخبرني" :حصلت على عمل في مشروع خاص
ً
جهازا جدي ًدا بالحيوانات األليفة ألحد أساتذتي الجامعيين في الفيزياء ،وهو يخص
صورا لداخل الجسم باستخدام الموجات الصوتية ،إنه يدعى بالسونوغرام".
ً يلتقط
أجيبه" :فكرة مثيرة لالهتمام" .أتمنى فقط لو أنه يقوم بإغالق فمه عندما
يمضغ الطعام" .وهل هي آمنة؟ أكثر من أشعة أكس؟"
"بالتأكيد .ويمكنك رؤية األعضاء!" ويمأل شوكة اخرى.
"في المساءات ،كنت أذهب لمشاهدة يوجين أورماندي وهو يقود أوركسترا
فوت أي
فيالدلفيا .كنت أجلس في الشرفة الثالثة بتذكرة طالب ،وقد حاولت أال أ ّ
حفلة موسيقية .كنت واثقًا بأنني أشاهد شيئًا عظي ًما".
أتناول طعامي مثل مربية صارمة .لكن ،انظري ما الذي يتكشف ،أفكر.
انظري ما الذي يحبه .تتغير الموسيقى لكونشرتو بيانو" .إنه ِلست" يقول ليفي.
نعود للصمت .تتراكم النوتات فوق بعضها وتتصاعد ،تنثال علينا ،ترتفع
وترتفع حتى تصل للذروة .أحاول أن أتخيله طالبًا جامعيًا حليق الذقن ،وحيدًا وسط
الحشود في شرفة علوية خافتة اإلضاءة ،وهو يركز انتباهه على قائد األوركسترا
األسطوري.
ثم أقول له" :أخبرني عن ريتشي".
ينطفيء النور في وجهه ،ويضع شوكته جانبًا ،ويقول لي" :ما الذي يمكن
قوله؟"
"هل كنت قريبًا منه؟"
"أجل".
هناك صورة على رف الموقد في بيت والدي ليفي تعود ألخيه األصغر الذي
ً
طويال ونحيفًا وذا شعر طويل وشارب .لقد أخبرتني أمي بقصة ريتشي يظهر فيها
تعرف ريتشي على توفيا منذ الطفولة ،توفيا الذي كان يدير
قبل الزواج :كيف ّ
قرر ريتشي ،بتأثير من توفيا ،أن ينض َّم
تشاباد هاوس قبل أن يتخرج وينتقل .وكيف َ
لمؤسسة نيوجيرسي الحسيدية للرجال التي تشبه مؤسسة النساء التي أرتادها في
درا ًجا مليئًا بالحماس طالما تمنّى أن يقطع البالد
سانت بول .وكيف كان ريتشي ّ
على دراجته الثمينة.
يضيف ليفي ":لقد جئت الى هنا قاصدًا مدرسة الدراسات العليا بسبب أخي"
ً
أطفاال .أردت أن أتعرف عليه .كرجل كثيرا عندما كنا
ثم يضيف " :لقد كنا نتشاجر ً
بالغ".
النافذة عبر الفناء مفتوحة ،وأحد الطالب يتمرن على الفلوت .النغمات
الهوائية المتتابعة تطفو فوق المرج ذي العشب وتتداخل مع موسيقى ِلست " .لقد
كثيرا عن
ً اكتشفت بأنني أحببت أخي" يقول ليفي " .كان هذا جديدًا .لقد تحدث
رغبته بأن يصبح محاميًا ،لقد لعبنا الشطرنج كل يوم تقريبًا ،وكذلك كرة المضرب".
أتساءل" :بذلك المضرب الذي في المكتب؟ المضرب الذي كنت أمسكه حين
دخلت؟"
"أجل".
يتخطى الباقي ،سائق الشاحنة المخمور الذي صدم ريتشي في منطقة ما في
لويزيانا ،الدراجة المسحوقة ،الجثة التي بقيت مجهولةً لعدةِ أيام في أحد مشارح
البلدة .الصوت المقتضب الذي اتصل ً
ليال عبر الهاتف بوالديه المذعورين اللذين
انقطعت عنهما أخباره " :إمم ،آسفون ألننا لم نستطع االتصال بكم في وقت أبكر.
لدينا ابنكم .أين؟ أوه .هنا في المشرحة".
بعد الجنازة ،واصل توفيا االتصال بي من أجل القدوم إلى تشاباد هاوس.
حتى فعلت ذلك في نهاية المطاف ،ثم توقف .لم يقل أي شيء عن الكيفية التي قَد َّم
األساس واألجوبةَ لألسئلة الكونية في زمن لم يبد فيه أي شيء ذا معنى.
َ الدين بها
ولم يتحدث عن الكيفية التي تستطيع بها الضرورة خلقَ "برهان" غير ذي صلة
بالمقصد حيث قد ال تكون راغبًا بالبرهان حتى .لكن حينذاك ،لم يستطع أحد منا
التعبير عن هذه األشياء .على المذياع ،يتباطأ الكونشرتو إلى األداجيو ،الكمنجات
تش ّكل النغم .تستولي الموسيقى على أسماعنا ،أنا وزوجي ،فيدّب الصمت.
الباب المعدني القديم المؤدي الى الميكفاه التي تقع في مؤخرة كنيس
Tiferet Israeفي داالس يغلق خلفي مخلّفًا صوت قرقعة" .الميكفاه هناك في
الداخل" تقول سيما راكوفسكي ،وهي توميء برأسها مشيرة الى الداخل المعتِم .ثم
تشغل األنوار.
لقد مر زمن االنتظار الطويل .ليفي بانتظاري في النزل رقم ثمانيةّ .
لكن
والديه يتوقعان وصولنا إلى داالس في الغد ،مع عربة يو هول ربطناها بسيارة
ليفي لكي ننقل بقية هدايا الزفاف والطقم القديم لغرفة الطعام معنا ألوستن .لكننا
باكرا من أجل هذا.
أتينا ً
سألته ،حينما كنا ما نزال في النزل" :هل تظن بأنهم سيكتشفون بأننا اآلن
في المدينة؟" كان ليفي يضع حقيبتنا في األعلى على حمالة األمتعة .يستدير،
وعيونه تلمع ،ثم يجيبني" :فليكن هذا سرنا " .ثم خطا باتجاهي ،أقرب مما يمكن
ألي غريب أن يقترب ،قريب جدًا مني حتى شعرت بدفئه .فالتقطت مفاتيح سيارته،
وأشحت بنظري .وقلت له " :سيما تنتظر".
نتظارك هنا".
ِ "قريبًا…" قال وهو يرمقني بنظراته من علو" .سأكون با
انحنى فوقي ،وعيناه تخترقني ،أنفاسه تصلني ،وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيه.
ابتلعت األمر وتصنّعت التطلع الى وجهه.
ي بالذهاب عبر ممر داخلي يفضي
"تفضلي بالدخول" تقول سيما ،مشيرة عل ّ
مكسوة بالقرميد ومحاطة بدرابزين .ترفرف عثةٌ أمام النور
ّ إلى بركة صغيرة
األصفر الباهت المنبعث من اإلضاءة السقفية.
"جهزي نفسك هناك" تقول لي ،وهي تشير إلى حمام بجانب البركة " .نادِني
عندما تنتهين".
ألقي بحقيبتي في الداخل ،اغ ِلق الباب ومن ثم أقف تحت ماء الدش الساخن،
أنهارا على ظهري .أعود بذاكرتي للمرة األولى التي
ً فتنهمر الحرارة الرطبة
جلست فيها مع سيما لكي أدرس معها على منضدة الطعام في بيتها .كنت ما أزال
حينذاك طالبة في المدرسة الثانوية أرتدي" األفرول" األحمر وحذا ًء من نوع "سادل
ي أي فكرة عن ّ
أن المطاف سينتهي أكسفورد" وكنت مغرمة بصديقتي .لم تكن لد ّ
بي وأنا أدرس في المؤسسة الحسيدية للنساء ،أو بأنني خالل ثالث سنوات سأحظى
بزواج مدبّر وأن أجد نفسي هنا في ميكفاه .رفعت وجهي أمام شالل الماء الساخن.
أوه ،لكم كانت مذهلة تلك الطريقة التي تترجم بها سيما الكلمات والحروف العبرية،
والشروحات القديمة تتكشف في النص مثل محادثة غامضة عبر القرون .أقوم
بتدليك فروة رأسي بالشامبو وأعيد رأسي ثانية من أجل أن يتدفق الماء خالل
خصالت شعري.
قالت سيما " :تبدأ التوراة قصةَ الخلق بالحرف "بيت" والذي يعني أي ً
ضا
الرقم اثنين؛ ّ
ألن الرب خلق العالم بهيئة أزواج :الظلمة والنور ،الخير والشر ،الذكر
واألنثى .لقد اختلطت أزواج األضداد كلها اآلن" ث ّم أضافت قائلةّ " :
لكن الحياة التي
تحكمها الشريعة اليهودية تكشف حقيقة الرب األصلية .فيصبح الخير والشر
واضحين ،لذا فإننا نستطيع االختيار بصورة صائبة ،ونعيش في عالم يسوده
الصفاء .وهذا ما يريده الرب".
ارتبكت آنذاك-الخير والشر ،الذكر واألنثى-أفكر بأطياف الرمادي وال أفهم
أين بإمكاني أن أضع نفسي في تلك الصورة .لكن أمام التوراة العبرية المفتوحة
والمشفوعة بشبكة من الشروحات المتعلقة بها ،كنت أنا الجاهلة .حوصرت .فإذا
قالت سيما بأن الشريعة اليهودية هي حقيقة الرب ،فمن أنا ألشكك بذلك؟
وبدأت أحتاج لتلك الحقيقة.
بعد شطف جسمي بدوت مشرقة من شدة النظافة ،عبرت حافة الحوض
الوردي إلى حياتي الزوجية .ستكون الميكفاه جز ًءا من تلك الحياة ،كل شهر .تلَفّت
حولي وأخذت منشفة وردية منقوشة باألزهار من رف وردي مصنوع من
الخيزران موضوع فوق المرحاض الوردي ولففت بها بدني ،وأنا أرتجف .يبدو
المكان بكامله مثل كليشيه انثوية صارمة".إنني جاهزة" ناديت عليها.
كانت غرفة الميكفاه صغيرة ومربعة ومغطاة بالقرميد الوردي .نلتقي قرب
البركة عند الدرابزين .توصد سيما الباب خلفنا .اإلضاءة فوق البركة منخفضة ،أما
الهواء فدافيء ورطب وممزوج برائحة الكلورين" .حسنًا ،اآلن!" تقول سيما،
والفخر باد عليها ،كما لو أنها تلخص المسافة التي قطعتها .ترتسم على وجهها
ابتسامة وتمد ذراعيها.
إنها تعاملني كملكة .وهذه هي الكناية الحسيدية عن العروس الجديدة .أشعر
ي ،وأنظر لألسفل.
حرك قدم ّ
بمعدتي وهي تعتصر .ا ّ
ستزيل مياه الميكفاه ذلك .أرجو بأن تزيل الميكفاه ذلك المغص.
أوال أن تعاين خلّو ظهري من الشعيرات المتناثرة ،وهذا ما
لكن على سيما ً
ّ
تفعله بتمرير أطراف أناملها على بشرتي المبللة .أجفل عندما تلمسني .يبدو من
غير الالئق على اإلطالق أن تكون م ً
بلال وعاريًا أمام هذه المرأة الرائعة والحنونة
التي...التي تلمس جسدي العاري .األسوأ ،أفهم ذلك ،لكنني ال أفهم كيف أو لماذا،
ٌ
نتهاك .ال أستطيع تمييز الخطأ بعينه ،وهذا ما يضاعف َح َرجي هو أن لمستها ا
ويجعل الكالم يخرج مني بمشقّة .ثم ينبغي عل ّ
ي أن أنزع المنشفة أمامها وأن أنزل
ي بينما أنزل ساللم البركة،
ي بذراع ّ
الساللم ألدخل في المياه .أحاول أن اغطي نهد ّ
تشف عن القرميد الوردي الذي يغطي القاع .إحساس
لكن المياه ساكنة وصافية ،و ّ
بشع بالهتك يطغى على أي إحساس باالحتفاء أوالمباركة في المياه ،كما ويمحي
أمرا شاقًا في هذه اللحظة.
نتظر ما جعل من إقامة الصالة ً
إحساسي بزوجي الم ِ
ي أن اغطي
ي سيما الهادئة الفخورة الصالحة بقماشة للغسل .يتعيّن عل ّ
تلقي إل ّ
شعري قبل أن أتلفظ باسم الرب .أحاول أن أفكر كيف ينتظر الرب هذا اإلنغمار،
الذي سيجعل أصناف النقائض تتضح مجددًا ويضع عال ًما يتألف من الثنائيات في
ترتيبه الصحيح.
ى
ي صد ً
وبينما أفرد القماشة على رأسي ،تخلق القطرات المتساقطة من يد ّ
ي وانزل بدني حتى تلمس المياه الدافئة ذقني .أنثني
مائيًا في الحجرة .أمد ذراع ّ
لمسافة أكثر عمقًا وأحني رأسي ،ثم أغطس تحت سطح الماء .ألبث تحت الماء،
راجيةً الخشوع ،ثم أخرج .تقول سيما ،بصوت ممزوج بفخر وحب أموميّ ،
كرري
من بعدي" :مبارك" Baruch
فأردد" :مبارك"
أنت ،يا مواليAtah adonoi eloheinu ".
" َ
أنت ،يا موالي".
" َ
ثالث كلمات في آن واحد .إنها تقودني خالل المباركاتal mitzvas ،
.tvilaثم أغطس مجددًا تحت السطح نحو موضع يخلو من الهواء بعيد عن العالم
ي ،التي أنتظر
ي وظالل والد ّ
وأبدأ عو ًما جنينيًا .تحت الماء ،أشعر بظالل ماض ّ
ي.
المياه المقدسة لكي تذيبها وتزيلها .هذه هي صالتي ،أن تذيب مياه الميكفاه ماض ّ
أن أخرج كصفحة بيضاء أستطيع عليها أن اش ّكل ذاتًا جديدة .أركز بكل قواي على
هذا الواجب ،على ما يجب أن أكونه ،ما سأكونه ،أمام الرب.
ّ
أغط في الماء مجددًا ،سبع مرات تحت الماء، سا،
أصعد لسطح الماء ،آخذ نف ً
ً
ونزوال .افكر بالسبع دورات التي درتها حول ليفي تحت قبة الزفاف، صعودًا
بصوت الحاخام فرومان وهو يع ّد " خمس ،ست ،سبع" وبالسماوات السبع التي
تؤدي إلى للا .أخرج حينها ،واقفةً على أطراف أصابعي كي ابقي رأسي فوق
آخرا ،وأغطس للمرة األخيرة ،وأنا اردد مع نفسي ،إلى مياه
سا ًالماء .ألتقط نف ً
البركة ،إلى الزواج .عندما أصعد للمياه في المرة األخيرة ،يتعين أن تكون هذه
والدة جديدة .يجب أن أكون نقية كالمولود الجديد.
أتأهب اآلن لزوجي .لكن حالما اشاهد سيما وهي تمسك منشفة حمام فاردة ً
إياها مثل ستارة وتشيح بنظرها بداعي االحترام ،يعاودني ذات اإلحساس غير
الالئق بالهتك ،ولكنه بصورة فجة هذه المرة؛ أتمنى لو أنها تغادر وت َ َدعني أدخل
الحمام كي أرتدي ما يكسو بدني .أخفض رأسي ،غير قادرة على النظر في عينيها،
وألف بدني العاري من دون أن أقطع خطاي .وبينما
ّ ألتقط منها المنشفة بسرعة
أثرا من طبعات األقدام المبللة خلفي على األرضية
أتع ّجل بخطاي بعيدًا ،أترك ً
الرخامية .هذا األثر من الماء ،الذي يبدأ بالتبخر ،هو ذيل فستان زفافي.
في موتيل ،8يسطع ضوء نيون برتقالي وامض من خالل الستائر بينما
تهدر الطريق السريع بحركة المرور القادم من محور الطريق السريع رقم .635
الشعر المستعار موضوعٌ على حامل بجانب علبة قبعة ليفي ،حقيبتنا الوحيدة
مفتوحة على الخزانة ذات األدراج ،تنورتي الطويلة معلقة على كرسي ،شال الرأس
على األرض .أما جسدي المرتجف فتغطيه مالءة وبطانية ومفرش السرير .مكيف
الهواء ذو الصوت الهادر مضبوط على البارد.
أرى جسدي الخامد ك َمثلبة .إنني ال أعرف ما معنى أن أشتهيه .أعرف بأنه
ي ذلك ،أعرف بأنني يجب أن أتوق له.
يجب عل ّ
متلهف .ليفي طويل جدًا وأكبر سنًا وأكثر حكمة
ٌ ٌ
حنون وجه ليفي وخطوه
مني .يخفض عينيه بما يكفي للتحديق بي ،وعلى وجهة ابتسامة صغيرة.
انتابتني وخزة صغيرة من الخوف عندما تسلّ َ
ط ثقله المفاجيء على السرير،
تسارعٌ يأخذ بأنفاسي ،كمية متناثرة من الشعيرات السوداء على صدره .عندما
أتقرب إليه ،فإنني أسعى لألمل بأن يمسك بي ليفي ويبقيني معه ويحميني ،وبأن
أتمكن من الوثوق به لفعل ذلك وأن أتعلم أن أحبه ألجل ذلك .بمقدوري أن اسلّم له
نفسي من أجل ذلك ،حتى لو لم يكن في داخلي أي ارتعاشة لرجل.
ي للمرة األولى ،لزوجته ،التي ما
يسحب ليفي األغطية عني لكي ينظر إل ّ
يزال ال يعرفها إال كهيئة من االنحناءات المخبئة تحت طبقات من الثياب.
نك
وباستحياء ،وفي عجب ،يمرر أصابعه على ذراعي حتى نهايتها ،ث ّم يقول لي" :إ ِ
المرأة األولى في حياتي".
ّ
أفز مرتعشة" .وأنت لي" أقول له.
يمرر يده ببطء ،وبتوقير.
ي أن أنظر-
احافظ على سكوني التام ،أنفاسي ضحلة ،وجسدي بارد .ليس عل ّ
ليطوق س ّرته ويتوسع عند
ّ للشعر المتناثر على صدره أو للخط الداكن الذي ينحدر
ي أن أفكر كم أن يديه كبيرتان وخشنتان ،وكم أتمنى لو كانتا
أسفل بطنه .ليس عل ّ
رقيقتين وناعمتين ،وكم أن بدنه كان ضخ ًما وعوده صلب ،بل ويكاد يكون مخيفًا،
بينما سيكون من اللطيف لو كان جسده الئق الهيئة من حيث الرقة والنعومة مع
جسدي .اردد مع نفسي ،إنه زوجي .يَ ّ
قطب جبينه ،حدة التركيز تظهر على وجهه
الذي سأتعرف عليه .تختلج بعض الذكريات الحاسيس ماضية عبر جلدي :ألمرأة
تحتضنني ،وتدندن لي كطفلة .تناديني ليزا .اإلرجوحة العالية في المتنزه القريب
حيث كنت أذهب هناك وحدي ،الجهد ،التسارع ،التحليق ثم السقوط والحرية.
يت ّسع منخراه .يتحسس ردف ّ
ي ،مترد ًدا و َحذ ًِرا ،ينقلب التعبير على وجهه الى
ي .على مهل ،اخبر نفسي ،وأبدأ السقوط في دوامة
تعبير تعجب .تنزلق يده بين ساق ّ
من الماضي والحاضر ،أحلم وأتنفس ،أرتجف ،خوف بعيد ال أدرك له نقطة تراجع
ي على إرتياح هائل حين يجرف اإلحساس ك َل شيء.
يَلوح في األفق .ثم أفتح عين ّ
ي .أحس بالجوع ،ثم بالنهم .إنها حقيقة ،أفكر ،أستطيع أن أجبر نفسي على
أجذبه إل ّ
االنغماس في هذا قبل أن اقذف عبر الهواء لق ّم ِة جبل تحت نجوم شاهقة.
ً
منذهال ،لكنه يندفع بعدها ،يلهث ،وأنا محاصرة، يبقي فكه مفتو ًحا فوقي،
يداه مثنيتان وقويتان وكذلك ركبتاه بينما يشق طريقه لداخل جسدي بقوة .يصيبني
الذعر ،أكز على أسناني -ال تتحركي ،سيكون كل شيء على ما يرام -حتى أتيقّن
بأنني ال أستطيع تحمل لحظة اخرى ،حتى يبلغ إرتعاشه ،ويطلق تأوهه.
اكتمل شرائي المختوم بعقد الزواج الموقّع ،والمبارك سلفًا بمياه الميكفاه.
ينهار ليفي إلى جانبي ،يرمي برأسه على الوسادة ،ويقول" :يا للروعة"
ألف ذراعيه حولي وأغرق ياللروعة! ويجذبني قربه .ال أزال مصدومة ً
قليالّ ،
فيهما .أحاول نسيان لحظة الشعور بالمحاصرة ،وبالنفور بعد أن اقتحمنى ،ال داعي
جردة ،وقد تعهد هذا الرجل
للفهم اآلن إنني بين ذراعيه في هذه اللحظة الهشة والم ّ
بحياته ليكون ملجأي .بعد كل الوحدة ،إنه لشيء عجائبي أن أسند ظهري للخلف
وأن أجد من يسندني ،وأن أثق بأحد ثقة كافية تجعلني أفعل ذلك .ال تبدو الرغبات
غير التقليدية ذات أهمية في مقابل هذا األمان ،هذا الملجأ .أتنفس بعمق .ينفرد
جسدي .وقلت" :لم أكن أعلم كم كنت وحيدة ،إال حين لم أعد كذلك".
ت وحيدة ً " قال لي .يدس أنفه في شعري ،يش ّد ذراعيه.
"لس ِ
"إنك تتمتع بلمسة شافية" خرج مني الكالم وفي حلقي غصة .وضعت يدي
على يده وأرحت رأسي على صدره ،مكان جديد وصلب وغريب ،وقلت له" :
يمكنني أن أحبك من أجل هذا".
لكن حينها تما ًما ،ينسحب ليفي ،على نحو فجائي ،ويقول لي" :علينا أن نفترق
اآلن".
"ماذا؟"
ينهض من السرير.
أقول له":كال!"
بدا متأسفًا وهو يقول لي Dam niddah" :دماء العذرية ،إنها الشريعة".
ها هو السبب ،ذلك الخوف القديم الذي زرعوه في كلينا .ينتصب التهديد
الغامض الذي تش ّكله دماء النساء كجدار بينا.
نفسك" يقول ليفي.
ِ "وغطي
أسحب المالءة الى صدري ،أعثر على الشال ،وأعقده خلف رقبتي وأقول
له" :لكنّني ال أنزف"
لقد تسلّق شبح والدي لهذا السرير.
أراك بعدها".
ِ فيجيبني ليفي" :ال يه ّم ذلك ،فما يزال من غير المسموح لي أن
ث ّم ّ
يهز كتفيه قائال" :هناك الكثير من النساء اللواتي ال ينزفن في المرة األولى ،لقد
قرأت ذلك ،لكنّنا رغم ذلك ،ال نستطيع التالمس الثني عشر يو ًما أخرى".
فأجيبه قائلة" :أنا أعرف الشريعة"
قرب ضوء الحمام ،يلتقط ليفي منشفة يد ليمسح بها بدنه مني .يعاين المنشفة
مليًا بحثًا عن الدم ،وال يجد شيئًا" .إرتدي مالبسك" يقول بنبرة أكثر صرامة .أتناول
قميص نومي من على األرض .يرتدي ليفي بجامته ويريح نفسه على السرير
شخيرا خفيفًا.
ً اآلخر ،يدير ظهره ،ويغط سريعًا في النوم مط ِلقًا
حتى وقت متأخر من الليل ،أظل مستيقظة على فراشي أتساءل كيف كان
الشعور الرائع بإيجاد المنزل بين ذراعيه خاطفًا كالبرق .أوصي نفسي فقط
باالنتظار حتى موعد ليلة الميكفاه التالية حين نستطيع النوم سوية مجددًاّ ،
لكن
طفولتي تداهمني مجددًا ،بخردتها وفوضاها وخياناتها السرية غير المعلنة .أفكر،
ً
أطفاال سيشعرون باألمان ألن سنبني بيتًا م ّ
نظ ًما أساسه الشريعة الطاهرة وسنلد
قواعد الرب تكفل السلوك الحسن .شبكة أمان الرب .اوصي نفسي بنسيان عائلتي
المهاجرة ،لم أشعر أبدًا باالنتماء في داالس المعمدانية الشقراء؛ أوصي نفسي
بنسيان اختالفي الذي يدفع للفضول ،وحدتي وحاجتي غير المحددة المعالم.
صين ،بمباركة الرب.
سنكون المنزل واالنتماء الخا ّ
ّ انضجي ،تحلّي بصبر النساء.
دفء ليفي وأنفاسه ما زاال عالقين في المالءات ،وببطء يغشاني النوم وأنا
أفكر ،هذه هي ليلة زفافنا.
الفصل الثالث
أع ّد األيام حتى موعد الميكفاه ،لكن وقبل أن أتمكن من العودة إليها ،عاودتني
دورتي الشهرية .تنبض أيامي بإيقاع الع ّد الذي فرضته علينا الشريعة ،وبذكرى
ي ليفي.
اضطجاعي بين ذراع ّ
ليال على الطريق السريع لمسافة تسعين ً
ميال على آي35 - نقود السيارة ً
جنوبًا نحو سان انتونيو من أجل استعمال الميكفاه األقرب إلى منزلنا ،حيث توجد
واحدة صغيرة في منطقة خ َِربة من البلدة التي تقع خلف َمجمع رودفي شالوم،
الكنيس األرثودوكسي القديم .يفترض أن يكون المشرفون على الميكفاه من النساء،
ّ
لكن حاخام سان أنتونيو ،الحاخام كورنبلث ،ارتأى أن يصحبني ليفي ألن المنطقة
غير آمنة في الليل .كما ّ
أن زوجته ،يقول الحاخام وهو يكتم ضحكته ،قد أعلنت قبل
وقت طويل بأنها ليست حارسة للميكفاه.
نتوقف أنا وليفي عند منزل كورنبلث حتى نأخذ المفتاح .كالنا يشعر بالضيق
من هذا التصريح الفاضح الذي يعلن بأن هذه الليلة هي ليلة الميكفاه ،كما لو أننا
نتوقف لنعلن بأننا سنمارس الجنس هذه الليلة.
ّ
فيطل نقابل الحاخام كورنبلث وزوجته على باب دارهم المفتوح جزئيًا،
وجهاهما مثل قمرين متجاورين .أقف خلف ليفي مخفيةً نصف بدني" .لقد أتينا فقط
من أجل المفتاح" يقول ليفي ،لكنهما يفتحان الباب على مصراعيه ليقوال ":تفضّال
بالدخول ،ادخال!" وسرعان ما نجد أنفسنا جالسين على أريكتهم التقليدية ،ونضع
األكواب الصينية الرقيقة التي قدم لنا فيها الشاي الخفيف على الصحون ذات
الحافات الذهبية.
كان الزوجان كورنبلث كبيري السن ،في الخمسينيات من عمرهما على أقل
تقدير .وعلى عكس الذقون الحسيدية التي ال تمسها شفرة الحالقة ،قام الحاخام
بتشذيب لحيته الى حد قصير .يتطلّع االثنان في ليفي فحسب ويخاطبانه هو فقط،
حتى السيدة كورنبلث بسروالها الفضفاض تسأله" :ماذا تدرس؟"
يجيبها" :المحاسبة ،وأعد لرسالة الماجستير في إدارة األعمال".
على نحو ما ،افضل كوني انثى غير مرئية ،وأال تلمحني أي عين .إذ يتوارى
ب وجودنا هنا ،والمتمثل برغبتي في الغطس
خلف جلسة الشاي هذه فه ٌم مضم ٌر لسب ِ
في الميكفاه .إنني متأكدة بأن ذلك يخلق على نحو محتَّم صورة ً مشتركةً في ذهن
ك ِل َمن في الغرفة ،أقف فيها عارية أمامهم هناك على السجادة الفارسية" .أترغب
ببعض السكر؟" تسأل زوجة الحاخام ليفي.
نصل للكنيس بعد حلول الظالم بفترة .البناية القديمة المزخرفة ماثلةٌ في
الظل ،وهي كبيرة للغاية ،هذا ما قيل لنا ،بالنسبة لرعيتها المسنّين اآلخذين
بالتناقص.
المنطقة التي تحيط بالبناية رديئة اإلضاءة ،وكذلك هو الحال مع الشرفة
الواسعة المتصدعة .يتج ّهم ليفي ويقلقل المفتاح في القفل القديم" .سنتعرض للسرقة"
أهمس ،وأنا أراقب الشارع الفارغ ،فيجيبني "Shluchei mitzvah" :أي ال
تقلقي .كتفاه مشدودتان ،لكن ليس هناك خطر على أولئك المنخرطين في تنفيذ أحد
وصايا الرب
أخيرا ،نمشي على أطراف أصابعنا عبر البهو الخالي،
ً تمكنّا من الدخول
حيث تتدلى شاالت الصالة من على الجدار كما لو أنها أكياس نوم ،وعبر البهو
نصل الى الباب المفضي الى حمام النساء .ينظر أحدنا الى
الذي يتردد فيه الصدى ِ
باب آخر يقع على يمين الميكفاه " .يا إلهي" يقول.
اآلخر .يفتح ليفي الباب ،ث ّمة ٌ
ال بد أن أحدًا كان قبلنا هنا ،األرضية مبللةٌ ،وقد تٌركت المدفأة الكهربائية
مشتغلة ،الملفات ذات التوهج الضعيف والسلك المهتريء في بركة من الماء.
فينتزع ليفي السلك من المقبس.
لم يكن وجود المدفأة فارقًا على كل حال .الحجرة الباردة ،والتي ال تتسع
سوى للحوض الصغير ،ضيقة وشديدة الرطوبة ،ويغطي جدرانها المكسوة بالقرميد
بريق الرطوبة .أنحني أللمس الماء فأجفل .ثم أقف ،ثابتة العزم" .استدر" أطلب
من ليفي .ربما قد قضى الحاخام بأن يكون ليفي مرافقي ،حتى لو كان ذلك يعني
بأنه سيراني متجردة من ثيابي قبل الغطس ،لكننا نستطيع الحد من انكشافي أمام
ليفي .أدرت ظهري ألتجرد من مالبسي ،أنزع عني غطاء الرأس وأمرر أصابعي
في شعري القصير.
فاترا ،بل باردًا .ارغم نفسي على النزول للماء ،وليفي يشاهدني
لم يكن الماء ً
من على القاطع الداخلي.
تحت الماء ،تمنعني شدة البرودة من التفكير برمزية هذا الطقس ومحاولة
تحويل القانون إلى حالة خشوع وتالوة صالوات .الوالدة الجديدة كل شهر ،والسماء
السابعة والخروج من الماء المقدس إلى الطهارة ،كل األفكار الحالمة التي كانت
تحلّق خالل تجربتي اإلولى في الميكفاه ،كلها تبدو غير ضرورية في ظل الوضوح
الشديد لطقس الغطس البارد هذا .فال مجال هنا لألحالم واألفكار .فما يبقى هو
الطاعة السريعة .وصية الرب .لماذا ،أفكر ،إنه القانون ،هذا الغطس في المياه
الباردة؛ هو المطلوب .الطاعة المقدسة .التضحية .ال أبذل جهدًا في الخشوع .أصعد
لألعلى اآلن ،فوق سطح الماء من أجل التنفس ،مبتلّة وأرتجف ،أدمدم كلمات
المباركة في الهواء الرطب ،فيردد ليفي ورائي من األعلى" :آمين" بما يشبه التأييد،
لكنه يلفظها آو َمين.
أف ّكر ،ل ّكنه يشعر بالدفء بالمالبس التي تكسوه .أحمل نفسي على النزول
أسفل الماء .المجهود الذي أبذله في االرتعاش الشديد يملؤني بعنفوان ديني .إلى
ي وأتفوه من غير تفكير بلسان
األعلى مجددًا ،تصطك أسناني ،ألزيح الماء عن عين ّ
عبري سريع":لتكن مشيئتك إلهي في إعادة بناء الهيكل" bimheirah
،beyameinuويستجيب ليفي بالرد السريع والتلقائي"آمين".
نحن آالت الرب ،نعمل بأمر الرب .أنزل مجددًا تحت الماء بقوة جديدة ،ثم
أصعد ،وأنزل ،سبع مرات كاملة ،اخبر نفسي ،سأكتسب قوة من هذا .ثم أقف للمرة
األخيرة ،ورأسي مرفوع فوق الماء ،أرتجف بشدة ال أستطيع معها الكالم.
طاهرا من أجل زوجي .يفرد ليفي المنشفة ويرفعها ،كما فعلت
ً يعود جسدي
سيما ذات مرة .أصعد درجات السلّم ،وقطرات الماء تتساقط مجددًا من جسدي
المبلل ،أسحب منه المنشفة ،وأرتدي مالبسي ،ونخرج إلى السيارة .نتوقف لن ّدس
المفتاح في صندوق بريد آل كورنبلث ،ثم نقود السيارة لمسافة تسعين ً
ميال على
الطريق السريع ً
ليال .غريبين نمر ،قاطعين تكساس كانتري َه ّل ،بسكانها شحيحي
الكالم ،وأراضيها الوفيرة باألنهار.
يحدث شيء خالل ممارستنا للجنس تلك الليلة في شقتنا الطالبية الصغيرة
التي تقع قرب حرم جامعة تكساس ،وهي المرة الثانية التي نمارس فيها الجنس .إذ
يبدو بأنني ال أستطيع أن أتجرد من طبعي المذعن المستسلم ،وال أستطيع أن أتحرر
من الوضعية التلقائية لألنثى المتدينة .أشعر بأنني هامدة ٌ وفاترة العاطفة ،رغم
استجابة جسدي ،وطيلة الوقت أشعر بغصة فقدان في حلقي كما لو أنني ابتلعت
شيئًا ما .ولكن في النهاية عندما يعتليني ليفي ،عندما تسيّجني ركبتاه ويداه القويتان،
ال أشعر بأنني محاصرة هذه المرة ،ال أشعر بالكثير من أي شيء .لكن في وقت
متأخر من تلك الليلة في فراش ليفي ،وبينما أشرع في الخلود إلى النوم الى جانبه،
يجذبني قربه ويطوقني بذراعيه مجددًا .استكين على الوسادة التي يحل لنا اآلن أن
نتشاركها ونتنفس الصعداء .تهدأ األنفاس ،تنتهي الوحدة الطويلة .كم من الوقت
انتظرت ألعود الى هذا ،أفكر ،هذا الملجأ اآلمن .يغشى النوم ليفي حينها ،وهو
يطوقني بذراعيه ،وصدره في صعود وهبوط بطيء ،وأنا أشكر الرب على انقضاء
أيام االنفصال .يخطر لي ،هل هذا هو الحب؟ أرغب أن يكون هذا هو الحب .أخبر
أخيرا.
ً نفسي ،أنا في المنزل
صفرة.
يتسلل ضوء الشمس الصباحية عبر األلواح الخشبية للستائر الم ّ
أستيقظ وبداخلي إحساس بأنني متورطة في أمر ما .ثم أعتدل جالسة وأنا في حالة
هلع تام .فم ليفي مفتوح أثناء نومه ،وقد سقطت يارمولكته الليلية من على رأسه.
أستدير ،تتسارع نبضات قلبي ،أحاول أن ألتقط أنفاسي .ما هذا الصندوق؟ ال يبدو
بأنني قادرة على الخروج من هذا الصندوق .طوفان من كل شيء كنت قد رصصته
يتصاعد من حولي ،ويجتاحني .اهمهمِ " :ل َم لَم افكر؟" ألهث وأقفز من السرير.
ألتف وأسحب ذراع ليفي ،أهز كتفه وأقول له" :هيا استقيظ!"
"مـه -ماذا؟" يسألني ،وهو يغالب النوم ،وقد اخشوشن صوته من أثره.
"ما األمر؟"
" ِل َم لَم افكر؟ ِل َم لَم أعرف؟" أقول" .لكنني عرفت .بالطبع كنا نعرف".
يسألني وهو يرفع جسده مستندًا إلى أحد مرفقيه" :ماذا نعرف؟ ماذا؟"
أقف أمامه ،أهز كتفه قائلة":لقد مارسنا الجنس ليلة أمس!"
يسألني" :ث ّم ماذا؟"
"ولم نقم… .لسنا قادرين على استعمال وسائل منع الحمل!"
"ثم ماذا؟"
" ِب َم كنت افكر؟ ال يمكنني إنجاب طفل!"
"ال أعتقد…" يقول لي" :ولكنك تعرفين ذلك تمام المعرفة".
"لقد كنت منهمكة بأمور الزفاف!" أقول.
لقد كنت منساقةً مع حلم الزفاف ومع مباركة الحاخام ووصيته :تزوجي،
كوني فتاة حسيدية صالحة ،افعلي الصواب .لن يقرب األذى أولئك الذين ينفذون
أي ميتزفاه (الواجب الديني) .البهجة في جو الزفاف ،صورة غبشاء لعائالت
سعيدة ،العائلة التي سنحظى بها والتي ستكون لي كل شيء لم أمتلكه .لكن هذا كلَّه
يبدو مختلفًا على حين غ َّرة ،مختلفًا للغاية ،عن األطفال الحقيقيين الذين من الممكن
أن يتش ّكلوا داخل أحشاء فتاة ذات تسعة عشر ربيعًا مثلي ،طالبة جامعية مثلي ،بل
ربما قد تش ّكل أحدهم بالفعل في داخليً ،
طفال سيستحوذ على حياتي ،ويعطلني عن
طفال لن أعرف كيف أعتني بهً ،
طفال قد أسبب له األذى .أؤذيه كما اوذيت الدراسةً ،
أنا من قبل .سأرتكب كل أخطاء أمي ،وأضيف " :ال يمكنني فعل هذا!" إنني
أرتجف .أهز ليفي بكلتا يدي وأقول " :ال يمكن!" ث ّم أجلس وأبدأ بالنشيج " .ال طاقة
لي على ال َحمل ،األمر يفوق احتمالي بكثير .ما الذي فعلناه؟"
يجلس ليفي ،يحاول أن يهتدي ليامورلكته ،ثم يلهث ً
قليال ،وتتسع عيناه .يضع
يده على ذراعي ويهمس " :أتعتقدين بأنك حبلى؟ بالفعل؟"
فأجيبه نادبةً" :ال أعلم"
ي صوتها وهو
خيّل لي بأنني أسمع أمي تنادي :ليزا .ليزا! يتردد في أذن ّ
تقول :ليزا ،تعالي للمنزل .أنصتي إلي.
لم أعد ليزا ،اخبرها .ف ِل َم إذن أشعر بأنني عالقة داخل "ليا" هذه ،كما لو أنني
ال أعرف حتى من هي أو أين أنا؟
ليزا ،تهمس لي أمي.
أحاول أن اف ّكر مع نفسي بمنطقيةّ .
إن كوني ليا يعني بأن أصبح أ ًما .ولقد
كنت على علم بذلك منذ البداية.
ت حبلى ،فلن تستطيعي المغادرة .ال يمكنك العودة للمنزل.
إن أصبح ِ
نك لم تعودي لي " ً
منزال" ليفي هو ال يمكن أن يكون ذلك صحي ًحا ،أخبرها .إ ِ
منزلي.
أضع خاتمي .لكني لم أعد أتأرجح بين األمس واليوم ،بين ليزا وليا .إنني
أعرف من أنا .ف ِلم ينتابني الهلع؟ (تعالي للمنزل!) حينما أفكر بكوني حبلىِ ،ل َم أرى
نفسي أندفع بهذا الطريق عبر متاهة الشريعة اليهودية التي ال مخرج لها؟ (ليزا!
أنصتي! تعالي!) أين المنزل؟ (لقد أخبرتك بذلك ،تهمس لي).
وحتى لو كنت بعيدة عنها ،فإنجاب طفل قد يجعلني نسخة عنها.
ال بد أن يكون هناك مخرج من هذا.
يقول ليفي بنبرة متّزنة" :كان عل ّ
ي أن أتدارس أحكام الزواج قبل زفافنا،
الشريعة ليست صارمة للغاية حقًا .ففي بعض األحيان تجاز موانع الحمل إن كن ِ
ت
ضارا بك".
ًّ مريضة والحمل قد يكون
ً
حامال" أقول" .أموت من الداخل". "سأموت لو أصبحت
يحاول ليفي استرضائي بإظهار التساهل " :إن كانت الشريعة تقدم رخصةً،
فليس في هذا مخالفةً للشريعة ،إن كن ِ
ت مريضة" ث ّم يطرح هذا مجددًا " :كما تعرفين
هناك الـ "" v’chai bahem
إن الـ" "v’chai bahemهو بمثابة وعد ووصية ،ستعيش تحت ظل
األحكام ،وستساعدك الشريعة على العيش .هذا ما تعلمناه ،إن الشريعة اليهودية
قاسيةٌ وعطوفةٌ ،صارمة ومرنةٌ .الشريعة بمثابة والد صالح.
يبدو واض ًحا بأن ليفي يرغب بالبحث عن رخصة شرعية .ولديه إيمان
بوجود واحدة مناسبة لنا ضمن حدود الشريعة .أفكر ،إنه يتخذ صفي في هذه
المسألة .في ّخف هلعي ً
قليال.
صرح ليفي فيما لو كان يريد ً
طفال أم ال ،لكنني ال أتوقع أنه يرغب بذلك. لم ي ّ
إذ إن رغبته من عدمها ليست بذات أهمية ،بل وإنها غير الئقة حتى .فاألطفال
ليسوا محل اختيار ،إنهم عطايا الرب .أف ّكر :لكنّه قد يكون خائفًا أي ً
ضا ،فنحن ال
نملك المال ،وزوجته ليست مستعدة إلنجاب طفل ورعايته .ثمة دوامة أخرى.
"ماذا؟ الشريعة تعطي رخصةً للمرضى؟ ولكنني لست مريضةً" أقول له" :إنني ال
أستطيع أن أطيق الفكرة ليس إال .فما النفع الذي يمكن أن أجنيه من رخصة تمنح
للمرضى؟"
ينهض ليفي ،حافيًا يرتدي بجامة النوم وقميصه الداخلي الذي نام فيه ،ويضع
عليهما صدرية التزيتزيت ،التي تتدلى خيوطها البيضاء حتى ركبتيه ،ويعاود ارتداء
يارموكة النوم المحاكة على رأسه .يتراءى لي خياله العاري وهو يعتليني في الليل.
ي كتاب" يقول لي" .أتذكر شيئًا قرأته فيه ".يذهب إلى مكتبته ويلتقط
"إنتظري .لد ّ
عا بالعبرية
مجلدًا من على رف الكتب المثبت على الجدار ،كان عنوان غالفه مطبو ً
واإلنكليزية .يخلي موضعًا على منضدته ويجلس ليقرأ.
أفرش أسنانيّ .
لكن ألرش بعض الماء على وجهي ،أحاول أن أتنفسّ ،
أذهب ّ
ي ثقيلة.
الدقائق تمر عل ّ
وسرعان ما يخرج من المكتبة والكتاب مفتوح بين يديه ،ويقول لي" :انظري
لهذا ،يستلزم الحمل عالقة روحانية بين األب واألم والرب .إن عرقلة تلك العالقة
بإيقاف العملية الطبيعية هو معارضة لمشيئة الرب ،وهو إث ٌم عظي ٌم".
"يا للهول!" أرد قائلة.
"انتظري" يقول ليفي وهو يقلب الكتاب على صفحة اخرى" :يبدو بأن هناك
أوقات ًا أجاز فيها الراف موشيه موان َع الحمل .أنصتي ،يقرأ لي" :على الرغم من
تحريم الواقي الذكري ،فقد قضى الحاخام موشيه فينشتاين بأن األنواع األخرى من
موانع الحمل التي تش ّكل عائقًا بسي ً
طا وال تعرقل العملية الطبيعية عن طريق قتل
النطف أو منع اإلباضة يمكن السماح بها إذا كان هذا ضروريًا من أجل سالمة
األم" يتمعّن في الكتاب ،ويضيف" :مثل الغشاء العازل لمنع الحمل".
يبزغ أمامي بصيص من األمل ،فأقول" :من أجل سالمة األم .هل سالمة
األم العقلية جزء من هذا؟" وحينها أدرك ممن يقتبس ليفي .لحظة!" :هل يجيز راف
موشيه هذا؟" أقول وينتابني الهلع مجددًا.
لقد استغرق األمر لحظات حتى أعي هرم التراتبية ،فهناك الحاخامات
العاديون ،مثل الحاخام فرومان ،الذين يقودون المحافل الفردانية كرعاة روحانيين.
ضا
وهم أشبه بمحامين مؤهلين بنقل معرفة الخبراء في الشريعة ألتباعهم .لكنهم أي ً
يحتكمون إلى راف ،وهو حاخام أقرب ما يكون لقاض .فبإمكان الراف الحكم في
التطبيقات المستجدة للشريعة أو تفكيك النزاعات الشائكة بين الناس ،أو منح
اإلعفاءات.
أما بالنسبة لل َحبر فهو حاخام وراف في ذات الوقتّ ،
لكن ال َحبر يختار النأي
بنفسه عن كل هذا .فهو مرشدنا ومصدر إلهامنا ،لكن حينما يكتب له الناس عن
مشاكلهم التي يمكن معالجتها ضمن نطاق الشريعة ،فإنه يرد عليهم بجملة" :اسألوا
رافًا"
الراف موشيه فينشتاين ،الذي استعان ليفي بكتابه ،هو شخصية مب ّجلة بين
لكن الحسيديين الذين ال يتّبعون لوبافيتشر ال
ّ األرثودوكس غير الحسيديين،
يمتدحون تساهالت الراف موشيه ورأفته ،رغم أنه من المعروف عن ال َحبر ذاته
قيامه بإرسال الناس إلى الراف موشيه للحصول على أحكامه الليّنة .ال َحبر فقط من
بإمكانه تطويع الشريعة بتلك الطريقة .وفيما عدا ذلك ،يجب أن نلجأ الى أحكامنا.
يعبس ليفي قائال " :ربما علينا أن نسأل رافًا من لوبافيتشر ً
أوال"
فأسأله" :هل بإمكاننا أن نعثر على من يتفهم؟"
يجيب ليفي":سنذهب الى الصفوة وسنسأل الراف األعلى للوبافيتش .فنحن
ضا من الحسيدية التي تتبع لوبافيتشر .سيقوم باإلهتمام بأمرنا".
أي ً
من المؤكد أن ليفي هو من سيقوم باالتصال ويطلب المشاورة .كما أن ليفي
هو من يخبر الراف ،بعد انتظار عصيب من كليناّ " :
إن زوجتي غير قادرة على
إنجاب طفل ".ليفي هو من يشرح المشكلة ،مشكلتي .وأنا أنصت في صمت خجول
بانتظار قرار الحاخام بخصوص جسدي وحياتي.
فير ّد عليه الراف" :إذن ما الذي تريده؟"
يجيب ليفي متسائال ":هل بإمكاننا استخدام بعض أنواع موانع الحمل؟"
"نحن ال نفعل ذلك" يجبيه الراف بنبرة مزردية ،يتبعها صمت دال على
االستخفاف.
يفقد ليفي قدرته على الكالم ويسطو عليه ذلك الصمت المعهود ،فال يجادل،
وال يدافع عني.
سا عميقًا وأسمح
نختبر وقفة محرجة ،قلبي يخفق ،أنتظر فَ َر ًجا .ثم أسحب نفَ ً
وغرا ،وكل كلمة ممزوجة بمعصية قلة
ًّ لنفسي بالكالم ،فيبدو صوتي غير طبيعي
حيائي المتمثل بالجهر برأييّ .
لكن كل كلمة هي خطوة اخرى لألمام عبر درب
غير مألوف .ويو ًما ما ،سأتذكر ذلك ،وأتذكر كيف حدث ،أقول للراف " :لحظة،
ماذا لو كان هناك احتمال بتعرض المرأة لألذى؟"
فيجيب الحاخام" :ذلك أمر مختلف ،لكنني حينها سأحتاج لرسالة من طبيب".
ّ
وكأن رأيي عن جسدي غير كاف " .ماذا لو كانت (المرأة) سليمة طبيب!
جسديًا" لكن ال قدرة لها على احتمال الـ… الـ؟"
" هل تتحدثين عن الضرر النفسي؟" يقول الراف.
اجيبهّ " :
أظن ذلك"
فيضحك متسائال" :هل تريدين رخصة لمخالفة الشريعة ألن األمومة شاقة؟"
ال ينطق كالنا ،يفيض الصمت بعدم جاهزيتي كزوجة وكامرأة متدينة وكأم
أخيرا" :لكنّني قرأت -لكننا قرأناّ -
بأن الراف ً بالضعة .أنطق
ِّ مستقبلية ،أشعر
موشيه…"
"حسنًا إذن ،فلتتصلي بالراف موشيه ".يجيبني الحاخام واالنزعاج واضح
في نبرة صوته.
ي باب الحمام وأتخذ موضعًا في
أوصد عل ّ
ِ في إحدى الليالي بعد شهرين،
المساحة بين المرحاض وحوض االستحمام ،وخلفي ،الستارة النايلون المبللة والتي
ما تزال قطرات الماء تتساقط منها إثر االستحمام الصباحي .لقد اتصلنا بالراف
موشيه في المساء الذي تال ذلك اليوم .لم يكن من المسموح لنا التحدث مباشرة ً
معه ،لكننا تحدثنا مع ابنه ،ووكيله ،بينما كان الراف الكبير يصدر األحكام بجانبه.
ً
أطفاال يهودًا في بهجة... يتحدّث إلينا االبن" :يقول والدي بأنك ستنجبين
ويقول إن بوسعك استخدام الغشاء العازل لمنع الحمل لمدة عام إبتدا ًء من تاريخ
ّ
وأهز شعري اليوم ".واآلن ،وبعد شهرين ،انزل غطاء المرحاض ،أخلع شالي،
اآلخذ في النمو إلى الخلف وأبعده عن وجهي .ينتظر ليفي في الغرفة االٌخرى.
كوة
منذ أن حصلنا على رخصة الراف موشيه ،دأب كالنا على البحث عن ّ
ينفذ منها ضوء الحرية ،وكان أحدنا يبيح ذلك لآلخر .فيرتدي ليفي سرواله الجينز
ويذهب الى السمفونية ،وينغمس في مشاهدة األفالم القديمة التي يحبها ،حتى وإن
كانت الحسيدية ترى بأن مثل هذه األشياء العلمانية عديمة الروح .كما تجدد اهتمامي
ي في
بدراستي الجامعية .وقد عرض أحد أساتذتي في تاريخ الفن أن يشرف عل ّ
عمارة غاودي .كما أنني توقفت عن إرتداء الشعر مشروع مستقل عن هندسة َ
المستعار في الحرم الجامعي وتعلمت طرقًا تزينية معقدة لترتيب أوشحتي .واآلن
يرتخي شعري اآلخذ بالنمو وينسدل بكل جرأة تحت الوشاح.
لكن تحت سقف المنزل ،وحتى مع شعري المكشوف جزئيًا والجينز األزرق
الذي يرتديه ليفي ،فما زلنا محددين بأدوارنا .إذ إن ليفي هو من يتحكم بالمال ويتخذ
القرارات .إنني أتعرف عليه :فحاجته قليلة لللمس العفوي وقلقه بالغ من التزاماته
خارج منزلنا .أحيانًا يفاجئني بهدية أو بكلمة لطيفة ،لكنه عمو ًما غير بارع بالتعامل
مع احتياجاتي ،وفي أغلب األحايين ال يبدو مدر ًكا لها.
ويبدو بأن أدوارنا المنفصلة هي ما يرسخ جهله ،كما لو أنه ،بموقعه المحدد
بوضوح ،يواجه صعوبة بتنمية تشارك وجداني جديد معي .فذلك سيكون بمثابة
عبور خط ال يبدو بأنه يعرف كيف يعبره بعد .وربما لم يجرب ذلك قط.
لكن الراف موشيه منحني شيئًا .ألتقط الحافظة البالستيكية الصفراء من
الدرج واخرج الكوب المطاطي الرقيق الذي ينتهي بحافة دائرية مرنة .لقد تعلمت
ي أن أضيّق
االستمتاع بالكريم الناعم في الوعاء المطاطى المرن ،الطريقة التي عل ّ
وأطوي فيها الحافة المرنة من أجل إدخاله في داخلي حتى يصبح خلف العظم
عرفني العازل األنثوي على طيات جسدي الداخلية وتجاويفه السرية،
المكسو برقة .ي ّ
ويمنحني وقتًا من دون أطفال لكي أتعلم .أضع قدمي اليمنى فوق غطاء المرحاض
ي .هذه هي
المغلق ،والقدم اليسرى على األرض ،وأرفع تنورتي الطويلة الى فخذ ّ
هدية الراف موشيه :جرأة محلّلة أكتسبها من هذه المعرفة الجديدة بجسدي.
أصبح اآلن بإمكاني وبال عواقب تجاوز الخط الذي اليبدو بأن ليفي قادر
على تجاوزه داخل سريره .وهذا ما أفعله ،فأطلب منه المضاجعة مرة تلو االخرى.
حتى مع أنني ال أكن سوى القليل من الرغبة الجسدية ،لكنني أفعلها على أية حال،
ودائ ًما ما اسر بالسعادة التي يبديها في المقابل .إنني أمارس معه الجنس من أجل
التواصل ومن أجل مكافأة االستلقاء بين ذراعيه بعدها .فالجنس هو الطريق الوحيد
الذي يبدو لي من أجل الوصول إلى ذلك المكان اآلمن والدافيء .فالبديل المتمثل
بالبقاء على الجانب الذي وضعني فيه الجدار الحسيدي ،دائ ًما بقربه ومنفصلة عنه
بذات الوقت ،يشعرني بالوحدة أكثر مما لو كنت وحيدة .عالوة على ذلك ،فإننى
أسعى بكل وسيلة متاحة لكي أضمن بأن البقاء بين ذراعيه يمدني بشعور العودة
وتكرارا ،ألنه بكثرة ممارسته ال يعود يشعرني بذلك.
ً مرارا
ً للمنزل .ثم أختبر األمر
أفتح باب الحمام وأذهب إليه.
الحقًا في تلك الليلة ،تبدأ تلك األحالم اآل ِسرة التي لم ،ولن أستطيع ،االعتراف
بها في النهار .في حلمي ،كانت معشوقتي األكثر شغفًا وفتنةً إمرأة ً ذات شعر مجعّد
ويدين رقيقتين بأصابع دقيقة.
الفصل الرابع
لقد أصابتني رؤياه بالصدمة .وغلبني اإلحراج التام على الفور .إذ شعرت
بأنه كان حالة شاذة تما ًما في المكان ،وبدا كما لو أنني قد اكتشفت فردًا من أفراد
ومثارا للسخرية ،في
ً لحس الموضة،
ّ العائلة كان متخلفًا عن النسق الجمعي وفاقدًا
ذات الوقت الذي كنت أسعى فيه جاهدة ً لالنطالق في عالم كنت عازمة على
االندماج فيه (وكنت قلقة بعض الشيء من أنني لن أحقق ذلك) .كنت ما أزال
أرتجف عندما دعاني سكرتير الحاخام للدخول .فلمحت عبر الزجاج األخضر
صورة غبشاء للرجل العجوز ،وقامته المنحنية وهو يغادر عبر أحد األبواب
الخارجية.
على خالف الرجل العجوز ،كان الحاخام غولدنبرغ حليق الذَقن ،حاسر
أدار كرسيه ،ثم أراح ذقنه على يده كما لو أنه يتأملني ،مثبتًا أصبعه ذي
الرأسَ .
طويال ومغطى بندوب حب الشباب ً المفصل الناتئ على جانب وجهه ،الذي كان
مع مسحة من اللطف .وبعد أن أطال النظر بي ،خاطبني ً
قائال" :كيف لي أن
أساعدك؟"
بخجل شرعت أطرح إثباتات بأسلوب متلكئ وميلودرامي عن إيماني الذي
اكتشفته حديثًا ،آملة بأنني سأحصل على تعاطفه ودعمه .قلت له" :أعتقد بأنني أريد
أن أصبح حاخامة".
"و ِل َم ذلك؟" سألني ،وذقنه ال زالت مستقرة على يده ،مع ابتسامة عطوفة.
لكنني لم أكن أعرف حقًا السبب وراء رغبتي تلك ،ناهيك عن عدم معرفتي
بما قد يتطلب أمر أن تصبح حاخا ًما .كما أنني لم أعِ حينها كم كان للمديح الذي
لنر" قال الحاخام ،مضيفا:
يَ " .
تتلقاه بيرساند وتفاخر أمي بها من سطوة وقتية عل ّ
"إ ّن التدريب الحاخامي يبدأ في مرحلة الدراسات العليا ،أمامك درب طويل لبلوغ
ذلكّ .
لكن عليك البدء من مكان ما".
وبهذه الطريقة انتهى بي المطاف وأنا أحضر صفوف االنتقال للحاخام
غولدنبرغ -بوصفها مكانًا ،حسب قوله ،أستطيع فيه بد َء مسيرتي عن طريق إلقاء
نظرة عامة جيدة على الفلسفة الليبرالية إلصالح اليهودية .ففي صفوفه ،شرح لنا
الحاخام كيف رفضت حركة اإلصالح أن تفرض خصوصيات العقيدة وكيف
صى
رفضت المفاهيم القائلة بأن الرب هو من قد أملى الكتاب المقدس .كما تق ّ
افتراضهم القائل بأن الكتاب المقدس هو عبارة ٌ عن منتخبات من نصوص مختلفة
اختارتها أيد مختلفة .كما رفضت حركة اإلصالح سلطةَ المدونة القديمة للشريعة
اليهودية ،والذي وصفها بأنها تحاول أن ّ
تسن التشريعات للحياة حتى أدق تفاصيلها،
قائال" :ارسموا طرقًا روحانيةً متفردة ً
وأنها تسرق حياة حرية الخيار .ثم تحدانا ً
وخاصةً بكم".
ضا وغير
لقد بقي األلم ،ولم يكتم صوته حتى .فوجدت كل هذا متعاليًا وغام ً
محدد المعالم على نحو يبعث على القنوط بعد أن كنت قد أملت بالحصول على
ي االعتقاد به وفعله .كما كنت
قواعد مثل قواعد النادي وعلى الئحة بما يفترض عل ّ
ي برضاه ،في نهاية الطريق .هذا ما ظننت قد تمنيت ضمانًا ّ
بأن الرب سيوحي إل ّ
بأن يكون عليه الدين .وباضطرابي هذا ،تابعت حياتي ،تاركةً خلفي مداعبة فكرة
أن أصبح حاخامة .وبعد فترة وجيزة ،حضرت ما حسبت بأنه كان يوم تعلم حر
بكنيس ( ،)Shearith Israelحيث صادف أن رأيت إعالن قضاء عطلة الساباث
مع الحسيدم.
عند العشاء ،جلس الرجال والنساء على جوانب متقابلة من الغرفة على
طاوالت مغطاة باألبيض ومحملة بصوان كبيرة من الكوجيل والسلطات والبابا
صلت
غنوج والجزر المنقوع والبيض والمخلالت وشرائح خبز الشااله السميكة .و ِ
بين الطاولتين من األمام طاولةٌ شغلت المقدمة ،حيث تجمع الحاخام غيلر وجماعته
ليشكلّوا صفًا من المعاطف السوداء واللحى الطويلة والقبعات .ربما كان المنظر
وتكرارا ،لكن
ً مرارا
ً كالتكرار ،فكل واحد منهم يشبه اآلخر ،الرسالة التي تصلني
ظهور هؤالء الحاخامات بدأ يصبح مفهو ًما .كانت حرب فيتنام الطاحنة قائمة .وفي
كل ليلة كان رجا ٌل بالزي الرسمي تبدو عليهم مالمح الجديّة والعزيمة يظهرون
على التلفاز" .انظري إلى أولئك الرجال في المقدمة" ،قلت آلنا.
أدارت عينيها قائلة" :يا لألناقة".
ّ
لكن زيهم اآلن يستعرض بيان َمه ّمة .كتيبة الرب التي قوامها الصفوة .فقلت
لها" :ال يتعلق األمر بالموضة" ".كما أن هذا ليس زيًا".
"حقًّا؟" قالت لي.
فأجبتها" :إنها حلَّة نظامية ،فهم جنود بخدمة الرب".
ضحكت عيناها.
كنت قد بدأت أشعر بالثقة بالنفس التي ربما استمددتها من قواعدهم ونبل
الغاية منها وكذلك اإلحساس بروح ال َم َه ّمة .فباإلضافة إلى الرسالة الواضحة التي
تحملها الحلّة النظامية ،كانت القواعد الحسيدية واضحة ومحددةً ،حتى إنها م ّ
دونة،
وبدا أنها ت َ ِعد بما يكاد أن يكون حبًا ربانيًا أموميًا ،لذا فقد كانت على عكس القواعد
أمرا داعب شعوري
التي واجهتها لغاية اليوم .وهكذا فقد كان الجلوس إلى مائدتهم ً
أكثر مما داعب تفكيري :وخالفًا لعالقتي مع أمي ،وما يحدث لي في المدرسة،
حيث ال أعرف السبيل الذي يجعلني أكون "إمرأة" ،أما هنا ،فربما أكون قد تمكنت
من فهم القواعد بصورة صحيحة.
سا فضيّةً من النبيذ ،وأخذ بترتيل صالة
وقف الحاخام غيلر ،وهو يرفع كأ ً
عا ما من تمييز اللحن الذي سمعته على
الكيدش على خمر الساباث .لقد تمكنت نو ً
لسان أبي الفاقد لألذن الموسيقية .فحينما كنت صغيرة وكان هو بصحة جيدة ،كنا
نستمتع بالوقت الهاديء الذي يسبق النوم تحت الضوء الخافت والذي يدفعه للتحدث
عن والديه المهاجرين الى بروكلين والتقاليد اليهودية القديمة التي َجلَباها معهما من
روسيا .لقد أخبرني كيف كانت والدته تل ّمع كأس النبيذ والشمعدانات في يوم الجمعة
وكيف تضع خبر الشااله تحت قماشة بيضاء ،وكيف كانت تحافظ على االستقرار
والنظام طيلة حياتها وهو ما كان مفقودًا في عائلتنا من قَبل أن ندركه .ثم كان يتمدد
ت بطاطا ،وأنا قلت بطاطس .فلنقع في
بجانبي ويغني األغاني القديمة" :لقد قل ِ
الحب".
ضا .رفعت ذقني ورتلّت الكيدش
ي .وعلى نحو ما ،رحل أبي أي ً
رحل جدا ّ
مع الحاخام غيلر .ثم قدمت لنا وجبة كبيرة من الطعام.
ع
بعد مضي بعض الوقت على شعوري بالشبع والخمود والنعاس ،ش ََر َ
الحاخام غيلر بغناء اغنية إيقاعية تأملية بال كلمات على السلّم اللحني الصغير،
بصوته الباريتون الفخم والذي جعلني اٌفكر بالتشيلو .كان يغني وهو مغمض
العينين .نا ننا نا .وشيئًا فشيئًا ،اتكأ الحاضرون للخلف على مقاعدهم وشاركوه
الغناء .أمال الحاضرون رؤوسهم للخلف حين كانوا يغنون ومنهم من أغلق عينيه.
فعلت آنا ذات الشيء .كانت األغنية تنساب حولنا ،تتباطأ ،حزينة وتائهة .ممزوجة
بصوت آنا السوبرانو ،تعالت األصوات ومألت القاعة ،تنحسر وترتفع فوقنا على
ي وبدأت الغناء، س َ
ط أناملي .أغلقت عين ّ شكل موجات .التوتر الذي عادة ً ما أحمله بَ َ
واصلت وواصلت ،تاركة جسدي للتمايل .التفّت األغنية الجماعية حولنا كشال
ي ألراه وقد رفع
صالة بشري .ثم ،وعلى نحو مفاجيء ،توقف الحاخام .فتحت عين ّ
كفه مثل إشارة توقف .فسكت الجميع" .إن صوت المرأة جوهرة ثمينة" أعلن
الحاخام بصوت متمهل ومتحفظ ،وأكمل" :وقطعًا ،ال يجب أن تكون الجوهرة
معروضة أمام الناس .وإنما يجب أن تصان في مكان آمن وبعيد عن األعين .ولهذا
السبب ال يسمح لنسائنا بالغناء في العلن".
إثر غنائي
فأفقت حينها ،ألجد نفسي مجرد امرأة ،وقد غطاني حرج شديد َ
بصوت عالّ .
هزت آنا برأسها .حاولت إخبار نفسي :لكننا كرمنا بهذا الصمت
القسري ،إذ كان من المفترض أن يكون هذا تكري ًما .رغم ذلك ،خفضت نظري
ي.
ليقع على يد ّ
ً
رجال فقط .أما النساء استأنف الحاخام غيلر الغناء مجددًا ،لينضم إليه من كان
فقد نظرنَ لبعضهن ،وخفّضنَ أبصارهن .ارتفع غناء الرجال حتى ّلوح الحاخام
فنهض جميع
َ بذراعيه ليحثهم على الخروج والتحرر من ذواتهم الدنيوية المتشنجة،
الرجال ،وهم مألى بالطاقة الروحانية الصالحة واالستعداد واللهفة لكي يطلقوا
العنان ألنفسهم .من أجل الرب .فتسارعوا إلى أرضية الغرفة المفتوحة وشرعوا
ً
جميال! لقد رقصوا بوتيرة واحدة ،وسرعان ما أصبحوا بالرقص .كم كان رقصهم
كيانًا واحدًا ،فضّجت القاعة بالرجال الراقصين واألقدام الضاربة على األرض
واإليقاع الصالح .وبينما كانوا يقفزون ويرقصون ،وأيديهم على أكتاف وظهور
بعضهم ،وقفنا على الجانب من حلقتهم المغلقة المتقدة بالحيوية .ثم زادوا وزادوا
من سرعتهم ،فتدلت حواف قمصانهم خار ًجا ،وخ ِلعت ربطات العنق .يا لروعة
رقصهم! واحدًا تلو اآلخر ،بدأ الرجال الحسيديون بخلع معاطفهم السوداء الطويلة،
وإلقائها جانبًا ،وانض ّموا مجددًا لحلقة الرجال المفعمة بالحماسة ،والخيوط تتطاير
حمرة
وتحط على أوراكهم .أفواه مفتوحة ،تغني وتغني ،أصوات مبحوحة ،وجوه م ّ
تدوي بصوت الغناء
ومرصعة بقطرات العرق المتقافزة ابتها ًجا .والقاعة بكاملها ّ
الذي يص ّم اآلذان.
نسيت كل ما يتعلق بأمر التزام الصمت .كان وجه آنا مضيئًا وعيناها
المعتين .لمست ذراعها برقة وأومئت للرجال الراقصين وأنا أهز بذقني معهم ،وأنا
أبتسم وأبتسم على المشهد والحماسة المتأججة ،مأخوذة ً بالثقة الحسيدية في صالحهم
وصوابهم والتي ال سبيل الى مقاومتها ،وبتظاهرة السعادة الربانية هذه .أما في
خيالي ،فقد كنت في وسط هؤالء الرجال الراقصين ،ويدي على ظهر أحدهم
المتعرق ،تتساوق قدمي مع إيقاع األقدام ،وصوتي يصدح بالغناء وسطهم ،وجميعنا
مرتبطون سوية بإيقاع اإليمان النابض وال شيء غيره في حميمية مقدسة خالصة.
إلى هذا المكان أنتمي .بالطبع! لقد كنت واحدة منهم ،وبينهم ،ولست امرأة تقف الى
جانب المتفرجات .لقد تمكنت من الفرار من كل شيء .إنه أمر حقيقي .ثم أفكر،
مبتهجة ،يمكنك أن تسلم نفسك للرب.
الحقًا في تلك الليلة ،ورغم القواعد التي ّ
حرمت استخدام اآلالت الموسيقية
في الساباث ،فَ َر َدت آنا فراشها المطوي على األرضية وجلست عليه متربّعة،
وشرعت تعزف الغيتار وتغنّي بصوت خافت مع نفسها .خلف بابنا الموصد،
فكرت ،لم نكن نغني في العلن تما ًما ،لذا فقد شاركتها الغناء .وسرعان ما أصبحنا
أكثر جسارة بقليل ،فرفعنا أصواتنا بصورة متناغمة .ثم جاء صوت َ
طرقة على
الباب .فأرخَت آنا يدها عن األوتار ،ونظرت إحدانا لألخرى .لكن لم يك من وجود
لشرطة الساباث .لقد كانت الطارقة فتاة بذات عمري تقريبًا قدمت نفسها باسم
جانيس ،كانت نحيلة وذات شعر داكن أملس وجميل .قَ ِد َمت الفتاة مع والدتها من
فورت وورث لحضور التجمع ،وقد طرقت الباب ألنها سمعت صوت غنائنا.
دعوتها للدخول ،وحالما أوصدت الباب ،استَعَدنا أصواتنا ثانيةً .كان صوت جانيس
صافيًا وقويًا .وغنينا ثالثتنا على نحو متناغم ،وجمعينا نجلس متربّعات على الفراش
الممدود .كانت آنا تنحني على الغيتار بينما كنت أميل في جلوسي نحوها ،وعيوننا
مأسورة باللحن.
مبكرا لكني فَ ّوت عل ّ
ي خدمات الصباح .كانت آنا ما تزال نائمة. ً استيقظت
قرب وعاء حفظ القهوة التقيت بسيما ،المرأة الحسيدية ذات الباروكة الشقراء التي
اسمك؟" سألتني بنبرة رسمية ،كما لو أنها
ِ وقت الصالة الليلة الماضية" .ما
َ رأيتها
أحد المتحدثين الرسميين.
أجبتها" :ليزا"
"واسمك العبري؟"
مؤخرا ألنني تركت جوابه فار ً
غا في ً كنت قد طرحت هذا السؤال على أمي
استمارة التسجيل لتج ّمع الساباث هذا .فأدارت عينيها ،وأجابتني بنبرة تغلّفها ِ
الحدّة
والعصبية كما لو كانت هي نفسها المهاجرة " :نحن أمريكيون" ،فاألسماء العبرية
التي تنحدر من البلد القديم لم تكن تصلح مع رؤيتها .لكنني نجحت في الحصول
على القصة من لسانها :كيف أرادت بعد والدتها لي إعالن اسمي في المعبد ،كيف
ي،
جرى إخبارها بأن تقوم بفعل ذلك ،فقد كان الحصول على اسم عبري ِلزا ًما عل ّ
تقول لي " :لذا فقد َمنَحك الحاخام واحدًا ،لكن لم يكن بنيّتنا استخدامه بكل األحوال".
"ث ّم ماذا؟"
"إنّه ليا" أجابتني بنفور بيّن.
" لي-يا؟" تساءلت.
"هكذا لفظه الحاخام".
"ليا" أخبرت سيما ،وفخورة بأنني قد عرفته" .لكن لماذا؟"
فردّت سيما" :هذا اسم روحك اليهودية".
ثم أخذَت فطيرة توت من طبق كبير موضوع بجانب وعاء القهوة ،ووضعته
على طبق ورقي وقَدّمته لي .وبيدها األخرى ،لَ َمست كتفي ،كما لو أنها تعرفني منذ
أتودين أن تتناولي بعضها؟"
سنوات ،وقالتّ " :
ي كما لو ّ
أن الطبق دعوة لناد من نوادي النخبة .وكيف فقَبلت ما َ
ع َرضت عل ّ
ال أقبل؟ لقد َخ َ
طرت على بالي سريعًا فكرة استبعاد أصدقائي من غير اليهود ممن
ي رغم ذلك قَ َ
ضمت الفطيرة الحلوة .وقبل أن ليس لديهم اسم ونسب يهوديان ،لكن ّ
نفترق أنا وسيما ،قبلت عرضها بتعليمي المزيد .فهي ستتصل بي من أجل قضاء
الساباث في منزلها .لقد كان الوضع كالتالي :سيما ،والدة األطفال الستّة ،أطعمتني
وابتسمت لي ولمست كتفي .لقد قالت لي بأنني أنتمي إليهم.
تلك الليلة ،وبعد أن هبط الظالم و َ
طلَعت النجوم ،تجمعنا في القاعة الرئيسية
مع الحاخام غيلر .أحدهم قام بخفض األضواء .وقام أحد الرجال الملتحين بإشعال
ً
أزيزا عود ثقاب وإيقاد شمعة طويلة ومضفورة ذات ألوان كثيرة .أصدر اللهب
وتعالى .ثم حمل الشعلة عاليًا ،والنار تتراقص في الظالم .فأعلن الحاخام غيلر بأن
الشمعة هي رمز الساباث المقدس الموثَق وسط األيام الدنيوية الحالكة .ورفع كأسه
الفضية وأخذ يصدح بالغناء"Hinei el yeshuasi evtach v’lo efchad" :
"نحن نؤمن بأن الساباث سيعود ".ورتّل الحاخام" :الرب سيحمينا .ال ولن نخاف".
ثم تقوم أيد كثيرة بتمرير أكياس مشبّكة صغيرة من القرنقل لكل واحد منا من أجل
ارتشف
َ تنشقها إلنعاش الروح حالما نعود لدخول األيام الحالكة بعد الساباث.
س َك َ
ب بقيته في طبق على الشمعة المائلة حتى طفت آخر جمرة الحاخام من النبيذ و َ
على السطح األحمر الغامق .يحط ترقّب اللحظة القادمة َوق َعه على الحشد ،ظالم،
شهيق هاديء ،تلك الجمرة الوحيدة ،نفحات النبيذ والقرنفل ،شعور بالمودة والحسرة
يجتاح الغرفة قبل أن يضيء أحدهم األنوار .لقد َر َمشت عيناي كما لو أنني أستيقظ
توا" .إيليا "،غنّى الرجل ،أغنية اخرى أعتاد أبي على غنائها لي في
من النوم ً
الظالم" Eliyahu hanavee .إيليا النبي ،ابن تيشبة ،ابن جلعاد ".المب ّ
شر
بالمسيا ،حينما سيكون كل يوم من األسبوع ساباثًا.
انتهت تلك الليلة التي أعقبت الساباث ،تنّحى الحاخامات وتولى طاق ٌم محل ٌ
ي
زوار
تنظيم األمور بعد أن وصلت القناة الثامنة لألخبار للمكان من أجل تصوير ّ
تكساس المنتمين الى أزمنة عتيقة.
ارتفع عدد الحضور اآلتين من غير الحسيديم وشكلّوا حلقة على األرض
أحاطت باثنين من الحسيديم اللذين كانا يؤديان رقصة الكازاتشاك لحشد من
المصفقين .كنت أنا وجانيس وآنا جز ًءا من ذلك الحشد ،وآنا تحمل حقيبة غيتارها.
ي .ض ّمت آنا إحدى يديها حول فمها،
نظرت آلنا وأشَرت للحقيبة ورفعت حاجب ّ
قربت شفتيها من اذني وقالت " :لقد سمعنا أحدهم ونحن نغني" لكن الساباث
ّ
السحري انقضى وسنعود من حيث أتينا ،فقد عادت آنا حرة لتعزف على غيتارها.
أحرارا من قيود األرض الحسيدية لنعود إلى العالم الذي
ً أحرارا لنغني،
ً وعدنا
ضا للزوار الذين لم يكونوا مثلنا ،وعلى
يضج بأصوات النساء .لقد رأينا للتو عر ً
الرغم من أنني قد رغبت بمعرفة المزيد عن قواعدهم ،إال أنني أردت التمتع بهذه
الحرية كذلك.
وج ّهت المرأة التي كانت تدير مكتب الكنيس اثنين من الرجال لنصب المنصة
المؤقتة أمام الكاميرا التلفزيونية الضخمة .حش ٌد متداف ٌع ،أضوا ٌء مشتعلة ،والمرأة
تشير إلينا :جانيس وآنا وأنا .نظرت آلنا ثم نقلت بصري لجانيس ،مذهولةً بعض
الشيء ،وأنا أصعد إلى المنصة خلفهن .نغمةٌ على وتر الغيتار ،ابتسامةٌ نتشاركها
إحدانا مع االخرى ،فاألمر سيّان سواء أكنا نغني لجدران صف مدرسة األحد أو
لهذه األنوار العمياء .أرجع رأسي للوراء ،وأرفع صوتي ليكون جز ًءا من تناغم
طوقة بأصدقائي وبالموسيقى .لم أعرف بأن آنا ستختفي من
ثالثي ،وأشعر بأنني م ّ
حياتي ،وال ّ
أن جانيس ستعاود الظهور بعد سنوات .لقد غنيّنا ،وكم كنا بريئات!
لم أعرف ّ
بأن هذه اللحظة من الصداقة ،والصدق ،والصوت الكامل غير
المنقوص ،ستغادرني لزمن طويل.
الفصل الخامس
التفت تيم لالثنين الجالسين في الخلف ونحوي ،ثم قال" :أريد أن نعقد ميثاقًا".
"ماذا؟" قال تيري.
"ميثاقًا بأننا سنظل منفتحين أمام كل فرصة للحب ".قالها بصوت درامي ،ثم بَسط
كفه ،متحديًا أخيه .ارتعشت يده ،وبتأن ،وضع تيري َكفَّه على ّ ِ
كف أخيه ،ثم وضعت
بات يدها فوق يديهما.
لم أستطع التصديق بأنهما قد تجرءا على قول ذلك .بأنهما لن يختبئا من َبحلَقات
اآلخرين واستهزائهم الذي ال مناص من التعرض له في الجامعة .حسنًا ،فكرت،
لن تكون تلك النظرات المبحلقة موجهة نحوي .يخفق قلبي ،وأبقي يدي الى جانبي.
صا بكلية وفي ليلة أخرى ،بقيت فيها مستيقظة حتى وقت متأخر ،أطالع ً
دليال خا ً
أوبرلين ،إذ كنت قد أرسلت في طلب دزينة أو نحو ذلك من تلك الكتيبات الخاصة
بمختلف الكليات من أجل أن أطلّع عليها وأحلم بها ،وقد كانت جميعها متناثرة على
ي
سريري .أما تحت السرير فقد تج ّمعت أكوام من الغبار المتطاير ،فيما بدا كرس ّ
المكتب مثقال بكومة من سراويل الجينز والتيشرتات واألفروالت حتى كاد أن
يترنح .وعلى الجدار علّقت صورة ٌ بحجم بوستر لكارول كنغ ،من ألبومها (امرأة
طبيعية) .كانت خصل شعرها المجعّدة تؤطر وجهها ،وكان فمها مفتو ًحا ،كأنها
تغني لألبد .وعند طرف السرير وضعت التشيلو الذي اشتريته من النقود التي
ادّخرتها حينما كنت أعمل جليسةً ألطفال الح ّ
ي.
كنت أقلّب صفحات كتاب "أجسامنا ،ذواتنا" ،وهو هدية من والدتي ،التي كانت قد
ظهرت عند باب غرفتي لتسلمني إياه على استحياء .حينها وجدت الفصل المعنون
يسموننا سحاقيات ".وتحت العنوان تموضعت صورة لثالث فتيات
ّ بـ "في أمريكا،
كورت إحداهن يدها حول
يمسكنَ بأيادي بعضهن وهن يعتمرنَ قبعات رجالية ،وقد ّ
نارا
أن ًنهد األخرى والضحكات ترتسم على شفاههن .فصفقت الكتاب بقوة كما لو ّ
ستني.
قد م ّ
عقدت العزم على التقديم على كل منحة دراسية أصادفها ،وقررت أن أحصل على
شهادة جامعية في الفنون وأنتقل بعيدًا عن المنزل لدراسة التشيلو .سأسعى للحصول
أجرا مقابل االعتناء باألشياء الجميلة.
ً على عمل في أحد المتاحف وأتقاضى
سأجرب أطعمة الكوشر المحلّلة وأمأل حياتي الجديدة بأمثال من ينتمون لتلك الطائفة
التي وجدتها في تجربة الساباث.
مددت يدي لبروشور خاص بمؤسسة نساء لوبافيتش التي يديرها الحاخام غيلر في
صور ملونةٌ لنساء
ٌ مينابوليس كان قد أعطانيه في وقت سابق ،كانت تملؤه
سم يقمنَ بالطبخ والدراسة والصالة .إنني واثقة من قدرتي
محتشمات ودائمات التب ّ
على إقناع آنا بمرافقتي في مغامرة هروب قصيرة قبل االلتحاق بالجامعة.
كانت ديبي قد غادرت للتو لحياة الجامعة والحرية ،أما في الغرفة المجاورة فقد
كانت آمي ،ذات األربعة عشر ربيعًا ،تشغّل ألبومي المفضل لكارول كنغ
وتكرارا .وقد كانت آمي تتردد على منزل أحد الجيران ،الذي
ً مرارا
ً (تابستري)
كانت تدخل إليه وتخرج منه شخصيات مريبة ،حيث كانت تلتقي هناك بحبيبها الذي
قالت بأنها سوف تتزوجه ،والذي لطالما صارعت من أجل أن تقضي الليالي معه.
وفي بعض األحيان لم تكن تعود لتبات في المنزل .ثم توقفت الموسيقى ،وعقب
ذلك سمعت صوت صفق الباب ،ثم تعالت األصوات.
وجدتهم في غرفة الجلوس ،أمي شعثاء الشعر بقميص نصف مزرر ،وأختي آمي
مكورتين وعيناه خاملتين .فيما كانت آمي وأبي .كان وجه أبي م ً
ثقال بالتعب ،وكتفاه ّ
تقول" :سأخرج ولن يقف أحد في طريقي!" .كانت ترتدي سترتها ذات الشراشيب
وتقبض على حقيبتها اليدوية المشرشبة.
ردّت أمي" :ماذا؟ كال ،لن تفعلي".
ّ
لكن الحجرة كتمت األصوات ثم انفجرت كلتاهما بالصراخ على اآلخرى،
المتعالية .ك َّن كالدمى المتحركة بين أكوام الجرائد الم ّ
صفرة والبريد غير المفتوح
صت
والكتب المنسية التي تغطي طاولة القهوة وتفترش األرضية .وعلى الجدار ر ّ
علَتها األتربة .كل هذا المشهد -بأبطاله
ست لوحات كانفاس ضخمة بألوان متراقصة َ
مكتومي األصوات وديكوره المهمل -يمثل شاهدًا صامتًا على االثاث المخزي المع ّد
ّ
خلفهن ،فكانت عتمة الليل تط ّل على الغرفة من من أجل ضيوف لم يأتوا أبدًا .أما
صفرة المفتوحة.
خالل الستائر الم ّ
كان والدي ،الذي يبدو شبحا بسبب كثرة تناول األدوية النفسية ،يترنح في وقوفه.
"أطيعي والدتك" زمجر في وجه آمي بصوت متوتّر محاوال اإلمساك بذراعها،
لكنها ن َّحته جانبًا ،فتعثّر للخلف.
"أمي ،أظن بأنني سأذهب لمنزل سيما هذه الليلة" قلت بذلك الصوت اإليقاعي
ضيوف إلى
ٌ المتروي الذي قد يدّخره أحدهم من أجل خادم غبي بعد أن وصل
ّ
منزله.
فغرت أمي فاها ،وأح ّمر وجهها .لقد بدت كمن تلّقى صفعة على وجهه .فقد رحلت
َ
ديبي ،وأنا وآمي في نوبة تمرد ،وكالنا متأهبتان للهروب.
لقد تمنيت بأنني لم أبح لها بشيء عن تجربة الساباث أو عن سيما .فقد كنت ال
أسيطر عل نفسي ،ودائ ًما ما كنت أفشي لها ك ّل شيء ،متمنية كل مرة أن تقوم
بحفظ ما شاركتها إياه تلك المرة .لكنّها ردت " :األرثودوكسية هي تالعب بالعقول".
بردّي" :األرثودكسية تعني األمهات الالتي هن أمهات
فما كان مني إال أن رشقتها َ
حقًا واآلباء الذين هم آباء حقًا ".فبَ َدت مصعوقة إلى حد جعلني أرغب بأن أركع
متأسفة عند قدميها ،لكنني ً
بدال من القيام بذلك أكملت ما بدأت قوله" :أوه ،إنها تعني
ضا بيوتًا نظيفة".
أي ً
استدارت أمي نحو آمي ثم نحوي ،ثم التفتت مجددًا نحو آمي ،ما جعل كلينا أكثر
عرا .كانت آمي تمسك بحقيبتها اليدوية .وبعينين المعتين ،رفعت أمي ذراعيها
ذ ً
وخرت على األرض ،حيث ثنت جسدها
ّ كما لو أنها تصد شيئًا ،ثم انفجرت باكية،
وجلست القرفصاء ،ثم شرعت بالعويل .كان صوتها ثاقبًا ،وبدائيًا.
ي وخوف طفولي أفلتت آمي جزدانها من يدها ،فاغرة ً فاها اندها ً
شا .ث ّم نظرت إل ّ
يمأل عينيها ،لكني لم أستطع توجيهها ،ولم أستطع منحها أي مساعدة" .ساعديها"
ّ
كخط على ذقنه. قال أبي ،لكنه كان يعني والدتي ،فيما كان لعابه يسيل
جثمت إلى جانب أمي ،بجسدها المطوي ونشيجها المضطرب .كم وددت أن أقول
بأسلوبك الدرامي ،لكنني لم أتمكن من
ِ ت الرابحة .لقد تغلّب ِ
ت علينا لها ،حسنًا ،أن ِ
إنك تغادرين ،قال جسدها .كانت تنوح وتولول" :لقد فشلت .لقد خَذلتِني".
قول ذلكِ .
"أماه؟" قالت آمي الصغيرة وهي غير مصدقة.
ثم لمحت نظرة ً جانبيةً ماكرة ً ألمي .أو هل خيّل ذلك لي؟ تلك الصرخات .ووسط
دوامة من الحاجة والشك والخوف أقول" :أمي ،حاولي أن تهدأي ".رغبت بأن
ّ
وتئن مثل حيوان جريح. ي .رغبت بأن أدفعها وأهرب .كانت تنود
أضمها بين ذراع ّ
"أبي ،أحضر رقم الدكتور بالك ".قلت له.
عاد أبي كطفل مطيع وبحوزته دليل الهاتف .فتحدثت لعامل النوبة الليلية في عيادة
الطبيب النفسي لوالدتي ،وصوت نشيجها وعويلها ال يهدآن خلفي ،فقال لي العامل:
ي إيصالها له؟"
"هل لي أن أعرف ما المشكلة التي عل ّ
أمامي كان يقف أبي بف ّكه المرتخي ،وآمي وهي تقبض على جزدانها وتنظر نحو
الباب ،وأمي التي تجلس منتحبةً على األرض .وقد كان معهم ضمن المشهد الفتاة
التي تحمل سماعة الهاتف ،أال وهي أنا ،بذاتها غير المتبلورة ورغباتها المخبوءة.
كان الذنب هو الشبكة الحديدية التي تربطنا جميعًا .قلت للعامل" :فقط… دعه
يهاتفنا".
عندما اتصل الدكتور بالك ،فتحت أمي راحة يدها للحظة ألضع فيها سماعة الهاتف
فقبضت عليها بيدها حتى ابيّضت براجم أصابعها وهي رابضة على األرض ،تنود
وتنتحب.
إن كانت المغادرة تعني خذالنها ،فلسوف أخذلها .في المطبخ ،سرقت المفاتيح من
حقيبتها وتسللت خارج المنزل.
ت فاعلة؟" قلت لنفسي ،فقد عدت للمنزل في ذات الليلة .لم تكن
"يا إلهي .ماذا أن ِ
المرة األولى التي أخرج فيها من الباب ألعود متسللة الحقاً .لقد استمررت في
محاوالت المغادرة ومن ثم العودة في كل مرة ،إنها قوة جاذبية المنزل التي ال
ً
سبيال لفهمها .هذه المرة عدت ألجد آمي في غرفتها ،تمسك تضعف والتي ال أجد
بشفرة حالقة على معصمها المقلوب .كانت الشفرة تلمع في الغرفة المظلمة ،وكان
الشحوب يطلي وجهها بألوانه الخضراء والرمادية الباهتة" .ماذا تريدين" قالت لي،
بصوت بارد ،ومن دون أن تنظر نحوي.
تقدمت نحوها خطوة حذرة ،ثم أعقبتها بأخرى ،والخوف يتملكني خشيةَ أن أقول
أي كلمة في غير محلها" .ال تفعليها" خاطبتها ،ثم غمرني شعور بالذنب .لم أتمكن
من استجماع كلماتي ألقول لها" :أختاه ،إنني أتفهم األمر .نحن سويًا في هذا
الوضع" ،لكنني لم أستطع أن أقول "نحن ".كان األمر كما لو أنني أردت إبقاء
نفسي في فئة مختلفة ،لسنا "نحن" ،بل إنني أعزل نفسي عنها ،من أجل أن أبعد
يأسها من التسرب لداخلي ،كما لو أنني احتجت الدّخار القوة من أجل مواجهة
الخطر الذي كان مح ّدقًا .كان شعرها ينسدل على وجهها مثل ِستارة مغلقة.
لفّني الصمت والعجز ،ولكن كان عل ّ
ي أن أفعل شيئًا فقلت لها" :سوف...أعود
ً
حاال ".لم يكن هناك سوى مكان وحيد أتوجه إليه ،هرعت إلى أمي .كانت تستلقي
على السرير ،وعلى المنضدة التي بجانبها رأيت علبةَ حبوب فارغة ملقاة على
جانبها .لقد بدت كما لو أنها مدفونة تحت جبل من الرمال المتحركة التي سيكون
ي المجردتينّ ،
لكن الرمال ستعود حت ًما لملء كل حفرة ي غرفها وحملها بعيدًا بيد ّ
عل ّ
استطعت تفريغها .هززت السرير ،وجذبتها من ذراعها .لقد كانت هناك في مكان
ما .كان يتحتم أن تكون .قلت لها" :أفيقي! ،آمي تريد قطع رسغها ".أصدرت بعض
األنين ،ولوحت بيد واهنة سرعان ما تهاوت مرة أخرى.
أرجوك!"
ِ "أمي.
"آه هاه "،تمتمت قائلة.
أطبق الصمت على كل ما حولنا في الغرفة والمنزل .كان شعرها أسو َد ناع ًما،
بتالفيف سوداء وبيضاء غير مألوفة وتلتحف بطانيتها الناعمة العتيقة التي تفوح
منها رائحة الدفء .أناديها" :أمي ،أمي ".وفي الجانب اآلخر للغرفة ،تكدست على
خزانة األدراج كومة يربو ارتفاعها على أكثر من قدم من الحقائب والشاالت
وطبقات من القمصان والفساتين والتنورات التي لم أتذكر بأنها قد ارتدتها يو ًما.
صف من علب وعصارات الماكياج ،وكان بريقها خافتًا
ٌ كما انتصب على الواجهة
غبرا .كانت مفاتيحها في المكان الذي ألقتها فيه تدعوني للتفكير في المغادرة.
وم ً
لكنني لم أستطع أن أتخيل مكانًا َ
آخر ألجأ إليه لطلب المساعدة ،فأمي كانت بمثابة
العالم كله لنا.
في الصباح التالي ،استيقظت على شعور بالمسؤولية تجاه آمي كما لو ّ
أن كومة
أحجار كانت في حنجرتي .وجدتها في الحمام ،تستعد للذهاب إلى المدرسة ،بتنورة
قصيرة وحذاء ذي كعب عريض ،تميل على المرآة المثبتة فوق الخزانة وتضع
الكحل لتحديد عينيها" .مرحبًا" حيّتني بنبرة ملؤها الحيوية والنشاط ،وبنظرة سريعة
إلى وجهي الذي يعلو وجهها في المرآة.
قلت لها" :ألم تتأخري؟"
فأجابتني":بالكاد" .كان معصماها سليمين ونظيفين ،وال أثر للدماء عليهما.
في وقت الحق من ذلك األسبوع وصلت مع آنا لحضور وجبة الساباث الدسمة
والمتأخرة في الوقت في بيت سيما .كانت الحجرة تتسع بالكاد لمائدة العشاء الكبيرة
التي تجمعنا حولها ،أنا وآنا وعائلة راكوفسكي -سيما والحاخام وأطفالهما األربعة-
وهم متأنقون بحلّة الساباث .كنا قد وصلنا قبل َجلَبَة الساباث ،وكانت اإلبنة رينا
حينها تقوم بتثبيت الشموع أمامنا في الشمعدان المتشعب ،وسيما تخرج صواني
الكوجيل من الفرن ،لوبا تشد رباط حذاء شيمي ،وكان الحاخام راكوفسكي ينزل
عا وهو منهمك بعقد ربطة عنقه .بدأت الشموع حينذاك باالحتراق،
الساللم مسر ً
لهيبها المرتعش ببطء يرسم خياالت راقصة ،الهواء ساكن ودافئ .وقد بدا َحبر
لوبافيتشر ،الزعيم المقدس لحركتهم ،وكأنه يلقي علينا نظرة حانية من صورته
متأخرا ،ولم يكن العشاء لينتهي .أثق َل النعاس
ً المكبّرة على الجدار .كان الوقت
ي .وبين األجساد المتراخية كان األطفال المتعبون :رينا ولوبا ،وناتشوم بوجهه
عين ّ
النحيل الشاحب ونظارته التي تنزلق على أنفه ،وشيمي الناعس ذو الثالثة أعوام
والذي كان يرتدي منامته .جلس الحاخام في مقدمة المائدة مرتديًا معطفه األسود،
وجلست سيما بجانبي بثوب أنيق وشعر مستعار وحذاء ذي كعب ،إذ كانت قد
خلعت المئزر.
سا عميقًا ،ثم قالت ،مع حدة في نبرة صوتها" :أتعلمون ،لقد تحول
أخذت آنا نف ً
حبيبي ريتشارد لليهودية في معبد إيمانويل .وبات يهوديًا اآلن".
ي .وهم ال يتّبعون فيه الشريعة،
"معبد إيمانويل؟" قال الحاخام" .ذلك المكان إصالح ٌ
ّ
إن تحوله ال قيمة له"
في تلك اللحظة انقسم العالم إلى "نحن" و"هم" .وقد صادف بأن هبطنا أنا وآنا على
جراء الصدفة التي جعلت والدتنا هناك .خفضت آنا
الجانب الصحيح من الطريقّ ،
بصرها ،وهزت برأسها.
في وقت مبكر من الصباح التالي ،استيقظت على صوت نشيج شيمي في الممر.
قمت من الفراش" .ششش" همست له" .والداك نائمان ،أخبرني ماذا تريد".
تبول ،تبعت تعليماته اللثغاء بصب الماء من إبريق ذي
فتمشى إلى الحمام .وبعد أن ّ
مقبضين على يده اليمنى ً
أوال ،ثم على يده اليسرى ،وسمعته يردد صالة
" "Modeh aniالصباحية .وفي غرف ِة نومه ،ساعدته على ارتداء رداء قطني
مربع يحتوي على فتحة ،ومشرشب بحبال بيضاء طويلة تتدلى من كل زاوية.
فكرت ،إنه بمثابة شال صالة صغير دائ ًما ما يرتديه ،فزررت له القميص فوق
الشال .أخذ شيمي إحدى الشراشيب ولَفها حول سبابته .ثم رتّل مباركة عبرية وقبّ َل
الحبا َل.
تناولت معه حبوب الفطور مع الحليب ،ثم ذهبنا في نزهة صباحية على األقدام بين
المروج المشذبة وأشجار القرانيا المزهرة وزهور الثالوث الجديدة التي تحيط
باألشجار اليافعة .براءة شيمي المحمية والشعور بيده الصغيرة في يدي ،توسال
معاملة رقيقة .لقد رأيت به أنموذ ًجا قيّ ًما للحياة الحسيدية ،النقاء مجسدًا.
الحقًا ،ذهبت برفقة آنا مع العائلة إلى الكنيس .لقد شعرت بالغرابة حين ارتديت
أفضل مالبسي من دون غسل ،لكنها كانت البداية للمزيد من هذا ،عائلة مترابطة
بفضل بنية الشريعة وسلطتها الراسختين ،اإليقاع المستقر في أيامهم المكتوبة
والمختومة بقبول الرب .أظهرت آنا كراهتها لعدم االغتسال ،لكنني بدأت أفهم مدى
ض َعة وتفاهة اعتراضاتنا وراحتنا أمام الشريعة الضخمة العتيقة.
ِ
لم تكن هناك أرصفة على جانب الطريق ،لذا فقد ِسرنا في الشارع" .صبا ٌح جميل"
قلت لسيما.
ي "Baruch hashem" :أي الشكر للرب.
فردت عل ّ
فرددت عليها ،Baruch hashem" :إذن… يعود الفضل للرب؟"
"تما ًما "،أجابتني.
متظاهرا بكونه جنديًا ،أما شيمي فكان يتهادى
ً ناتشوم كان يلقي التحيّة ويسير،
سعيدًا أثناء سيره ،وهو يحاول تقليد أخيه ،فحذرت سيما ناتشوم ،وهي تشير برأسها
المارة" :انتبه ألخيك"
ّ للسيارات
قلت لناتشوم" :إنك جندي الرب ".فجعله ذلك يبتسم.
في تلك الظهيرة ،سحبتني آنا جانبًا ،وقالت لي" :لقد اكتفيت ،ما شأن هؤالء الناس
وعدم تفريش أسنانك؟" ثم قامت بتمرير لسانها فوق أسنانها العلوية ورسمت
بمالمحها تكشيرة" .أحتاج حما ًما ".رمت بأشيائها في حقيبتها المخصصة للرحالت،
ومن ثم رفعتها على إحدى كتفيها.
تبعتها في نزول الساللم المفروشة بالسجاد" .لكن ،آنا"،خاطبتها .أجابتني" :محال،
إنني راحلة" ثم توقفت .ارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة ،وقالت" :اتصلي بي
الحقًا".
ثبت مكاني لبرهة ويدي على مقبض الباب وصمت الساباث الثقيل يخيم على
المكان.
وجدت أطفال راكوفسكي يرتاحون في الحجرة ،كان شيمي منبط ًحا على السجادة،
ذقنه تستقر على راحتيه ،ويشاهد لعبة ورق بين ناتشوم ولوبا .وعلى األريكة
استلقت رينا ،تقرأ كتابًا عن الفتيات اليهوديات األرثودكسيات .كان هنالك شي ٌء
جي ٌد وقدي ٌم وهادئ أكثر من العادة يتعلق بهؤالء األطفال .إذ بجانب عدم وجود
التلفاز ،لم تكن على مرأى بصري أي صحف أو كتب علمانية .قلت" :إنه عصر
السبت ،أال يزوركم أصدقاؤكم؟ هل تستطيعون الخروج؟"
نظر أحدهم لآلخر ،وهزوا برؤوسهم.
َ
"أوه" قلت ،ثم توجهت بالسؤال الى رينا" :أليس هناك أطفال آخرون من
األرثدوكس في المدرسة اليهودية؟"
عا ما ،لدينا بضعة أصدقاء في المدرسة ،لكن…"
فأجابتني" :نو ً
"هل بمقدورك تناول الطعام في منازلهم؟"
"كال".
ً
حالال كفاية ،أليس كذلك؟" "ليس
هز األوالد برؤوسهم.
"كما أنهم يشاهدون التلفاز ولربما حتى يستمعون لموسيقى الروك ،صحيح؟"
"بلى ".ثم تبادلت مع أختها النظرات وانتقلت للجلوس على السجادة.
حالل أكثر ،حالل أقل .كنت أتعلم وجود درجات من الحر َمة ،وأن باإلمكان وزن
هذه الحر َمة وقياسها .تخيّلت وجود مكان ما ،بروكلين على األرجح ،حيث ال بد
أن تكون هناك مدارس مليئة باألطفال الحسيديين الذي ينتمون لعوائل متدينة بما
فيه الكفاية ،وحيث يكون كل األفراد متشابهين ،حينها ال بد من أن يحصل هؤالء
األطفال على رفاق لعب لن يضلوهم عن الطريق المرسوم لهم أو يقلقوا والديهم.
تخيلت مدارس الفتيات المألى بالفتيات الالتي يرتدين التنورات الطويلة ويقفزن
سوالفهم وهم
على الحبل ،ومدارس الفتيان التي تحتضن الفتيان بيارمولكاتهم وب َ
يتسلقون الساللم أثناء الفسحة ،لكن ذلك ليس هنا في داالس.
أثناء دراستي الثانوية ،كانت داالس قد تخلصت للتو من الفصل العنصري .فحشرنا
سوية من غير سابق خبرة بجميع اختالفاتنا ومن دون إرشاد ،وكنا نحاول أن نتعلم
كيفية التعايش .فحدثت خالل سنوات دراستي الثانوية أعمال شغب بين الطالب،
اصطف على إثرها رجال الشرطة في الممرات أليامّ .
لكن االندماج ،من منظور
قادرا على أن ينتقل في
عائلتي ،كان بمثابة فرصة ،إذ ينبغي أن يكون كل شخص ً
العالم ويتكيّف ،وأن يعمل وتتم مكافأته ،وأن يكون ممتنًا لذلك .فإن قيّد اآلخرون،
فقد يأتينا الدور بعدهم .أما هنا فقد كان أفراد عائلة راكوفسكي يختارون الفصل
ويطبقونه على أنفسهم ،فيعزلون أنفسهم حتى عن بقية مجتمعهم .كان أطفالهم
ٌ
أقران سوى أشقائهم. معزولين أش َّد درجا ِ
ت العزلة ،إذ لم يكن لديهم
ً
مشتغال كل مساء، ّ
لكن السالم كان يخيّم على ذلك المنزل ،بينما كان تلفاز أمي
وهناك في الخارج ،كان الجميع يتقاتلون حول اختالفاتهم أو يهددون باالقتتال:
عائلتي ،السود والبيض في المدرسة وفي األخبار ،الطالب والشرطة في الجامعات،
البريطانيون واإليرلنديون ،الكاثوليك والبروتستانت ،الهنود والباكستانيون ،العرب
واإلسرائيليون .كما كان الفيتناميون الشماليون قد عبروا للتو المنطقة منزوعة
السالح .أما في فقاعة الساباث تلك التي ال وجود فيها للتلفاز ،فقد تم الحفاظ على
مسافة آمنة مع العالم.
"من هم أصدقاؤكم الحقيقيون؟" سألت أطفال راكوفسكي ،فضحكوا وأشار كل واحد
منهم الى اآلخر .بالنسبة لهم ،كان اي مكان خارج المنزل مكانًا غير يهودي ،وهو
ما يعني بأنه مدنّس ومشبوه .لكننا كنا مطمئنين وآمنين ،هنا على جزيرة الساباث
الصغيرة الخاصة بنا.
بعد وقت ليس بالطويل ،وجدت الحاخام راكوفسكي على طاولة الطعام يقرأ
بالعبرية ،سألني" :أين آنا؟".
أجبته" :لقد اضطرت للرحيل" .ثم قلت" :هالّ تقرأ لي ذلك؟"
أجابني" :ليس من الالئق لي أن أدرس مع امرأة".
فقلت له":إنني في السادسة عشرة ،أال يمكنك أن تحسبني واحدة ً من أطفالك؟"
ف ّكر لوهلة مع تحديقة طويلة وشفاه مضمومة ،وقال" :ربما" .ث ّم قلّب عدة صفحات،
سطرا آخ ََر،
ً ارتشف شرابًا ،وتنهد وبدأ يقرأ Basi l’gani" :أتيت لجنتي" .ثم قرأ
َ
ثم ترجمه واستمر على نفس المنوال ،يجيء ويذهب بين اللغات بصوته الرخيم
األلثغ ولهجته اليديشية .لم أفهم الكثير ،كان هناك اقتباسات بالعبرية واآلرامية
لكن حقيقة ّ
أن هذه اللغات ساحقة ال ِق َدم جعلتني أفكر انتثرت بين السطور اليديشيةّ .
بأنها ال بد أن تحمل شيئًا من حقيقة أصلية تعود لبداية البشرية .نحن تدفقنا من
المنبع .استخدم الحاخام كلمات لم أفهمها مثل "الفيض" و"الملكوت" و"العرش"
لوصف سمات الرب ،وبدت جميعها أجزاء من أحجية يقوم برسمها من دون تقديم
مفتاح اللغز ،فهناك عوالم للوجود تدعى الخلق والتكوين والفعل .وهناك "
"sovevالرب الذي يحيط بالعوالم جميعها ،و" "memalehالرب الذي يمأل
العوالم ،و" "shechinaالحضور األمومي الحائم .أربعة عوالم؟ ثالثة آلهة؟
فتساءلت" :ما هذا؟"
قال لي" :سأبدأ مجددًا ".هذه المرة ،أوجز وشرح المصطلحات بتأن .استم َع
ألسئلتي ،مستجيبًا لها بإيضاح األفكار التجريدية الغريبة والعسيرة على الفهم ومن
ثم تحريك كل فكرة ووضعها ضمن صورتها الواضحة :جنة الحميمي ِة مع الرب،
نور الفيض على يمينه ،والظالم على يساره ،القرب التواق للرب يتراجع بمراحل
متتالية بمواجهة الخطيئة .وفوق هذا كله يكون العرش -نقيا ومسببا للعمى وماحقا،
ضوء إلهي ليس بوسعنا إال السعي إليه ،وهو مستوى يستحيل بلوغه ثم البقاء على
قيد الحياة بعدها .ورويدًا بدأت تحوم في الجو بنية لعوالم روحية أصر الحاخام
راكوفسكي على أنها دائ ًما ما كانت حاضرة هناك.
صورا توراتية ،تشكيل الرب
ً حينذاك خرج عن النص وبدأ يستحضر ويجمع
لإلنسان من الطين ،وعصا هارون التي تفجرت بأزهار اللوز وفواكه ناضجة،
الحمار الذي تكلم ،ومعاقبة بلعم .وقال بأنه رغم حدوث كل هذه األشياء في الحقيقة،
ضا على مقاصد تتعلق بما هو باطني
إال أن كل واحدة من هذه القصص احتوت أي ً
وقد علمتنا كيفية كشف النور الروحاني الباطني في العالم.
توقفت الستنشاق بعض الهواء حينها .فكرت ،هل حدثت تلك األشياء حقًا؟ هل عل ّ
ي
أن أقبل بقصص الكتاب المقدس؟ إنه لن يكذب .لكن برزت هناك مفارقة أال وهي
السذاجة في لب االدعاءات الفكرية العميقة عن المتعالي .فبالنسبة إلي ،لم تكن
قصص الكتاب المقدس سوى رسومات طفولية بسيطة -ألسود وحمالن ،وفيلة
وزرافات تنتظر لتدخل السفينة مع نوح ذي الرداء وعائلته السعيدة ،وموسى رافعًا
عصاه عاليًا تجاه امواج البحر األحمر أمامه -رسومات قمت بتلوينها ذات مرة
صا لألطفال،
صا خيالية ،قص ً
بأقالم تلوين مكسورة في مدرسة األحد .كانت قص ً
لكن هنا كان الحاخام الحكيم راكوفسكي ،الملّم باللغات القديمة ،والرجل القارئ،
الذي يستخلص المعاني بحذق من نسيج األفكار التجريدية العميقة والعبارات
المبهمة ،يقول بحدوث هذه القصص في الواقع .كما إنه كان أبًا عطوفًا -فقد رأيت
كيف أخذ بيد (يوسي) عندما غادروا للكنيس .ينبغي أن أثق به وأن أصدقه.
بإمكانك أن تصدق تلك األشياء؟" تسائلت ،بالرغم من أن وجهي
َ ولكن…"كيف
كان ما يزال مشرقًا من نور عوالمه الروحانية.
أجابني" :األمر بسيط .إن كان الرب كلّي القدرة ،فإن باستطاعته إحداث فيضان أو
شق بحر".
ّ
قطبت جبيني ،محتارةً ،يتنازعني اإليمان والمنطق" .دعنا… نحاول مجددًا "،قلت
حرج لكنه مغرم.
له ،مثل شخص م َ
ال أعرف متى بلغت لحظة الوصول .لعلها كانت عندما تحدث عن آدم ،الذي سمع
اقتراب الرب فهرب في الجنة ،والرب الذي تحول إلى فكرة بعيدة وبقي آدم يتوق
إليه" .إذا استطعنا تحويل ذواتنا المادية ،فإن الظالم سيتحول إلى نور" قال الحاخام
راكوفسكي ،وحينها سيملئ الورع أكثر ما في أنفسنا من حميمة.
أردت أن أصدق أنه كان بإمكاني تحويل جسدي ورغباته الغريبة .وفوق ذلك ،كنت
ابذل جهدي آنذاك لكي أفهم استعاراته وصوره التي احتجت آنئذ ألن أؤكد في قلبي
جميع ما قد تمكنت في النهاية من فهمه في عقلي -قفزة من نوع مختلف تتجاوز
ذاتي الغريبة.
وبمرور فترة العصر ،أصبحت قصص المعجزات والمزاعم الساذجة طرقًا لتفسير
رغبة الرب إليجاد مكان لالمحدوديته في عالم محدود .وتدريجيًا ،حدث ذلك :عوالم
روحية آسرة انبثقت من الكتاب ،وانبسطت أمامنا فوق فتات الخبز على طاولة
الطعام .هنا وجدت قيثارة داوود بسلم موسيقي يتكون من ثمان درجاتً ،
بدال من
سبع ،والحروف العبرية المشربة بالربانية وأصولها في النار الساحرة ،ذات القدرة
على خلق العالم .كان هناك مالئكة واوعية متوهجة بالنور السماوي ،وشرارات
من الرب في المنفى تنتظرني لكي أخلصها .كانت هناك األشياء التي خلقها الرب
في الغسق األول :قوس قزح نوح ،وعصا موسى ،وفم األرض المظلم الذي يبتلع
المتمردين.
باإلصرار على ما ال يمكن إثباته ،جعل الحاخام من البرهان شيئًا ال أهمية له.
قال الحاخام بأن الحياة األرضية ليست إال حجابًا زائفًا يخفي العالم الروحاني
الحقيقي .فأمي التي تستلقي على السرير بجانب علب حبوبها الخالية ،وأبي
المضطرب ،وآمي التي تحمل الشفرة كانوا ذلك الستار الزائفّ .
لكن الجانب
الروحاني خلف جميع ذلك هو الحقيقي ،وقد خ ِلقَ من أجلى .لقد أحسست بأن
الحاخام راكوفسكي كان بمثابة قناة موصلة للحكمة اإللهية التي تعود جذورها لبداية
الزمان .كان راسخ االعتقاد ،طليق اللسان إلى ،وصوته األجش يقودني إلى مكان
يخلص فيه كل فعل أفعله هذا العالم الدنس .لم أكن عاجزة ،فكل فعل من أفعالي
ً
جباال .إن باستطاعتي أن أضع بصمتي في الملكوت الممتثلة إلرادة الرب حركت
األعلى.
إذا كانت أ تساوي ب وكانت ب تساوي ج" :فإن الرب وإرادته واحدٌ ،والشريعة
هي إرادته .ولهذا فإن الرب والشريعة واحدٌ .وبهذا فإن الشريعة تصبح بمثابة
الرب .فإن وهبت نفسك للشريعة ،فستندمج الروح مع الرب "،قال الحاخام.
عندما غادرت منزل الحاخام راكوفسكي ذلك المساء بعد أن تم إطفاء شمعة الهافداال
المضفورة في صحن نبيذ أحمر ،عدت إلى خططي وأصدقائي .عدت إلى منزلي،
ووالدي الذي كان كصدفة مثيرة للغثيان خاوية ،لكني حملت معي صورة الحاخام
ركوفسكي ،المعلم ،األب والحكيم الحنون .لقد أصبح منزلهم في ذهني مكانًا مصونًا
وراس ًخا وآمنًا .وعرفت حينها بأنني سأعود إليه.
في ذلك المساء ،وفي جوف حجرتي ،وبعد أن أقفلت الباب لكي أمنع دخول شبح
أبي ،قمت بفتح حقيبة التشيلو واخرجت دبوس الطرف ،ودهنت القوس بصمغ
الروزن .كان داخلي يتفجر بألحان غير مغناة ،على ساللم موسيقية قصيرة
وبتناغمات جوفاء .قال الحاخام راكوفسكي بأن واحدة من األغاني التي ترنّم بها
على مائدة الساباث كانت عن رحل ِة روح في العالم .وقال بأن الروح طردت من
نعيم التواجد مع الرب لتولد في هذا العالم القاسي ذي الوجود الرباني المخفي وتترك
مع والدين جاهلين .كما وقال بأن الروح تتوق للهرب ،والعودة إلى الرب .لكن إذا
كان هذا العالم حجابًا والوصايا هي الحقيقة الوحيدة ،فما الذي تبقى ألكتشفه؟ ميّزت
اللحن الحزين حتى أحسست بأنني متيقنة منه ،ثم سحبت القوس سحبة كاملة.
الحقًا ،حلمت بأنني كنت طالبة في إحدى قاعات اليشيفا الدراسية ،أتجادل مع
زميل حول أحد النصوص التلمودية .وكانت القاعة ممتلئة بطالب آخرين يخوضون
في الجداالت واألسئلة أزوا ًجا ،فتشابكت أصواتنا الذكورية وتعالت إلى الرب.
الفصل السادس
ح َّل العصر .كانت غرفة نومي في الطابق الرئيسي في كوة جدارية متصلة بغرفة
أسرة أخرى ،ما يعني بأن غرفتي ليس بها باب وأنها بمثابة
كبيرة تحوي ثمانية ّ
خزانة ضخمة للجميع ،كما أنها المدخل الوحيد للحمام المشترك.
حجزت السرير الثاني في الكوة آلنا ،وما زالت البهجة تتملّكني ألنها وافقت على
القدوم .قالت آنا بأنها ستدمج الرحلة مع زيارة لعمها المفضل وأبناء عمومتها
القاطنين في سانت بول ،وبهذه الطريقة سيدفع والداها ثمن الرحلة.
توجهت للحجرة الرئيسية األمامية ،صالة الرقص .كان الحاخام غيلر قد قال بأنني
سأكلَّف بمجالسة األطفال عو ً
ضا عن التدريس .فوجدت فريمي تنتظر في الصالة
األمامية.
كثيرا مع النساء الحوامل ،لكنني دائ ًما
فوجئت فلم أنبس ببنت شفة .لم أكن أتواصل ً
ما الحظت هالةً عاطفيةً غير مفهومة تحيط بهن .إنهن يجعلنني متوترة على نحو
صورا كانت تومض على شاشة خفية من نوع ما،
ً غير قابل للتفسير ،كما لو أن
صورا ألجساد نساء شوهها العنف ،وألطفال مستضعفين
ً عندما أرى إحداهن،
ولألشياء التي فعلها الناس لهم ،ولألسرار التي عليهم حملها ،وللخيانات الحتمية
الشنيعة .كنت أعاني هلعًا شعوريًا من أن أصبح حبلى .إذ حالما يبدأ الحمل ،فلن
أكون قادرة على إيقاف ذلك الطفل من االنطالق نحو الخطر .وبالنسبة لي ،كان
الطفل بمثابة حفرة ال قرار لها دائ ًما ما سأكون مهووسة لملئها ،وال أكتفي حتى
أقفز فيها أنا نفسي .وهنا ظهرت أمامي فريمي ،بوجه شاحب ومهموم ،مرتديةً
فستانًا باهتًا ورقيقًا بحاشية غير متساوية ضاق عند بطنها المدورة الضخمة .كانت
تقف على قدميها المسطحتين ،المعو َّجتين نحو الخارج ،غير مكترثة لزيادة الحجم
ت
ومباشرا .سألتني" :أأن ِ
ً الذي يثقل حركتها .كنت مرتعبةً ،لكن أسلوبها كان صري ًحا
ليزا؟"
في السيارة ،كنت أسترق النظرات إليها وهي تقود ،ولم أنطق بكلمة .توقفنا عند
منزل حجري صغير تفضي إليه ساللم شقّت طريقها عبر فناء منحدر .قالت لي:
"لن أتأخر .سأذهب لمتجر البقالة فقط .زوجي بالداخل ولكنه سيغادر عما قريب".
كان إيسر ،ذو اللحية الطويلة وخفيفة الشَعر ،هو َمن فتح الباب .في الداخل كان
ّ
مكتظة هناك أربعة أطفال صغار .وكانت األرض مغطاة باأللعاب ،والجدران
برفوف ممتلئة بالكتب العبرية .رتّب إيسر أوراقًا في حافظة وغادر من دون توجيه
ي كلمة لي أو لألطفال .ثم سمعت قلقلة القفل .حسنًا ،على األقل لد ّ
ي خبرة في أ ّ
مجالسة األطفال ،هكذا فكرت.
ي كما لو كنت كائنًا بثالث أعين .فقلت في نفسي بأنهم ربما ّ
لكن األطفال نظروا إل ّ
اسمك".
ِ ليسوا معتادين على الغرباء .فسألت الطفلة الكبرى" :أخبريني ما
صا على طريقة األوالد .وكانت هناك
قالت" :زيسيل ".كان شعرها األسود مقصو ً
تمص إبهامها ،وهناك يوسي ذو السنتين ،صاحب
ّ ضا دينا ذات الثالث سنوات،
أي ً
األنف الجاف المتقشر ،وكان الطفل الجميل المكتنز يوناسان ،يزحف بالقرب منا.
حملت يوناسان ،وكنت أترنح للخلف ،ثم توجهت للفناء الخلفي في ذلك اليوم
الجميل .لكنني وجدته خاليًا تملؤه الحشائش فقط.
ي
واجب بيت ٌّ
ٌ كتاب ألقرأه أو
ٌ وعلى خالف الوضع في الديار ،لم يكن بحوزتي
ألنجزه ،كما لم يكن هناك تلفاز أو شخص للتحدث معه على الهاتف .ضربت دينا
زيسيل وانتزعت لعبتها ،فحاولت وضع الطفل على األرض ألح ّل النزاع بينهما،
قوس ظهره وأخذ بالبكاء .أراد يوسي عصير تفاح ،ولكنني حين تدبّرت أمر
لكنه ّ
سكبه له ،إذ كنت ما أزال أحمل الطفل السمين الباكي على خصريَ ،دلَقَ العصير
على األرض .آنذاك ،كان الثالثة ينوحون ،وشعرت بأن البيت أشبه ما يكون
المشوهة.
ّ فرغ من الهواء ،وفي كل مكان كانت تظهر صورة األم
بصندوق م ّ
لم أستنتج من هذه التجربة األولى أن هذه هي حياة المرأة الحسيدية ،ولم أقرأ أي
تحذير في هذه التجربة الوجيزة .لم أعلم بأن الحمل المتتابع لفريمي وعنايتها الخانقة
بالكثير من األطفال الصغار في آن واحد قد تدل على شيء آخر غير أن هذه حالة
فردية لهذه العائلة .نحيّت ردة فعلي الفطرية على الحمل .كال ،فكرت ،ال أريد أن
أعمل في مجالسة األطفال اآلن .لقد أتيت من أجل قضاء عطلة يهودية .أليس كذلك؟
ّ
وكن جميعهن سير مع سالي وميشيل وروثي،
عند بداية المساء ،ذهبت في نزهة َ
ً
عليال، يرتدينَ تنورات طويلة بينما كنت ما أزال أرتدي الجينز بينهن .كان النسيم
والشعر يرفرف مع الهواء ،والضحكات سلسة مسترسلةّ .
كن جميعهن فوق سن
الثامنة عشرة ،لذا فقد كان ض ّمي بينهن سببًا لشعوري بالسعادة .قلنَ بأنهن َّ
كن
يجربنَ اسماءهن العبرية ،لذا فإن سالي وميشيل وروثي أصبحن على التوالي سورا
وميا وروس .وحينها أصب َح اسم ليا ،االسم الذي سمحت أمي للحاخام أن يقلدني
إياه ،اسم شهرتي ،وهو "أنا" أخرى أجربها .كنت استمتع بالتنزه ،وبغياب الفتيان
الذي يعقد األمور .ذكرت ك ٌل من ميا وروس بأنهن قد التقينَ حسيديم من اللوبافيتش
في أروقة جامعاتهن ،ميا في فلوريدا وروس في لوس أنجلوس .وقد حضرت
االثنتان وجبات الساباث والخدمات ومجاميع الدرس مجانًا قبل أن يتفقن على
الحضور إلى المؤسسة لتجربة "االنغماس الكلي ".ميا لم ترغب لهذه التجربة أن
تنتهي .وقالت" :سأترك الجامعة وأنتقل إلى كراون هايتس-حي ال َحبر -في بروكلين!
هناك يوجد عالم متكامل من الحسيديم ".ورفعت قبضة المنتصر.
قالت روس بعد أن تمشينا ً
قليال" :بعض األحيان أسأم من االلتزام بأطعمة الكوشر.
وأشتهي تناول التشيزبرغر فقط".
ضا كنت
لم أقل الكثير .ولم أكن أعرف الكثير عن قيود نظام أطعمة الكوشر .أنا أي ً
أحب التشيزبرغر.
أخرجت سورا علبةَ سجائر -التصريح الشهير بالعصيان والحرية -وتوقفت من
كورت يدها حول اللهب ،ومن ثم ّلوحت بيدها التي تحمل
أجل إشعال سيجارتهاّ ،
السيجارة تلويحةَ طرد .وقالت" :فلتأكلي التشيزبرغر".
إنك ال تعرفين حتى ما هو
ت بالكوشر طيلة حياتكِ .
قالت روس" :هاه ،لقد التزم ِ
مذاق التشيزبرغر".
ي المتقيدين بأطعمة
قالت سورا" :ولم تتسنَ لي تجربته قط ،فقد بقيت في منزل والد ّ
الكوشر أثناء دراستي الجامعية كي أدّخر النقود .ثم وقع والداي في غرام اللوبافيتشر
الجديد في البلدة ودفعاني ألكون هنا".
فقالت ميا" :ال تنصتي لها ،فسورا راضية تمام الرضا بالقواعد".
وهكذا جرت األمور ،وبدأت كل واحدة منهن تصارحنا بلمحة عن مشاكساتها
ّ
قبولهن السهل فتضحك األخريات ويحضضنَها للعودة إلى الطريق الصحيحّ .
لكن
ي البهجة .شاركتني سورا سيجارتها ،وتمشينا، لي ضمن المجموعة أدخل عل ّ
ً
عليال ،في نستنشق تلك المتعة السيئة ،بينما طال بقاء أشعة الشمس ،وكان الهواء
الوقت الذي كانت فيه ألوان الشمس ترسم أفقا جديدًا .س ِهرت معهن في تلك الليلة
إلى وقت متأخر .ومتى ما شكت إحداهن من اعتراضات والديها على تديّنها المتزايد
أو من االشتياق لحبيبها أو من النشاطات المفضلة التي تتعارض مع الشريعة ،تبادر
يمكنك التعامل مع ذلك.
ِ إحداهن دائ ًما بطمأنتها بـ"ال تقلقي" مع عناق.
ث ساعات من
استيقظت على صوت المنبه عند الساعة السابعة إال ربعًا بعد ثال ِ
أفوت الصلوات وبأن ذلك اليوم كان مزدح ًما بجدول تام
النوم ،وأدركت بأنني كنت ّ
من الدروس .انتزعت جسمي المنهك من السرير وتوجهت للحمام ،لكنني وجدت
ش ،ففتحت صنبور المغسلة لكي
أن إحدى الفتيات قد سبقتني لالستحمام تحت الد ّ
أفرش أسناني .فجأة ،أطلقت الفتاة التي كانت في الحمام صرخةً عاليةً .هل فعلت
شيئًا؟ هل أصيبت بأذى؟ هرعت خارجة من الحمام ووقفت أرتجف خار ًجا،
ي أن أطلب المساعدة؟ أو أن أعود
ونظري مشتت في كل االتجاهات .ربما عل ّ
للداخل؟
وقبل أن أعرف الجواب ،خرجت الفتاة ،ملفوفة بمنشفة حتى ركبتيها ،مح ّمرة الوجه
تزمجر ،ووقع قدميها المبللتين يترك آثاره على األرضية الخشبية ،وقالت" :كيف
تجرئين!"
لقد عرفت ،لقد عرفت بأنني فعلت شيئًا خاطئًا .لكنني قلت" :ماذا في األمر؟"
"أال تملكين أي حياء؟"
أجبتها" :ماذا! كالنا فتيات!"
لقد نشأت أنا وأختاي من دون إقفال األبواب ،ولم تكن إحدانا تتحفظ حيال خلع
ي
ثيابها أمام األخرى .لذا لم أفكر بشيء عند دخولي إلى الحمام الكبير الذي كان عل ّ
ش.
تشاركه مع تسع فتيات أخريات ،أو عند إيجاد إحداهن تحت الد ّ
أوه ،لكن الفتاة كانت مفعمة بالغضب على نحو جميل ،كان ذراعاها وربلتا ساقيها
الرشيقتان مبللتين وعاريتين .كان الماء يسيل كجداول على بشرتها بين شعيراتها
المبللة المتناثرة .اعتذرت منها" :أنا آسفة .لم أقصد النظر…" لكني لم أكن أنظر
ولم أفهم ِل َم شعرت وكأنني كنت أكذب.
بك ،إنه الحياء أمام
قالت الفتاة منتقدة" :إن حيائي ال يتعلق بمن ينظر .إنه ال يتعلق ِ
الرب ".ثم عادت أدراجها إلى الحمام ،تاركة خلفها آثار أقدامها المبللة.
ناديت خلفها بصوت خفيض" :في المرة القادمة ،أقفلي الباب!" كنت أرتعش ،مثقلة
ي الهائمتين .هل نظرت إليها ولم
باإلرهاق ،وقلبي يخفق والخجل باد على عين ّ
ي أن أنظر إليها! هل ستحدّث األخريات
أدرك؟ لقد نظرت إليها .أوه ،ما كان عل ّ
عني؟ هل سأغدو منبوذة في المؤسسة؟ لكنني قد قبلت للتو .ربما كنت معروفة
حتى ،وما الذي كانت تعنيه بشأن الحياء والرب؟
ي معرفة القواعد .لذا قررت
لم أستطع تح ّمل فكرة أن أصبح منبوذة ،كان ينبغي عل ّ
بأنني يجب أن أحرص على تغطية جسمي وأن أقفل باب الحمام خلفي دائ ًما .كان
ي .فال نظرات طائشة .لكن صورة تلك الفتاة وضراوتها الزماني،
ي مراقبة عين ّ
عل ّ
الطريقة التي هزت بها رأسها وتناثر قطرات الماء.
الحقًا في ذلك اليوم األول لي ،وفي الحجرة الكبيرة ذات األبواب المزدوجة التي
تقع في الطابق العلوي والتي رأيت فيها أول مرة أولئك الفتيات اللواتي يرتلّن خدمة
المينشا ( )minchaلما بعد العصر ،كان الحاخام غيلر يسهب في الحديث عن
كتاب الوصايا لميمونديس ،وبينما كان يذرع الصالة جيئة وذهابًا ،وهو منهمك
بالقراءة والشرح ،وقعت نظراتي الجانبية غير المتعمدة على الفتاة من الحمام .كنت
ي أن أحاول بجهد أكبر .الحقًا،
قد وعدت نفسي بأال أنظر ،ولكني قد فشلت .عل ّ
حين حان وقت مصاحبة إحداهن لدراسة القسم اليومي من الكتاب المقدس بالعبرية،
ظهرت رفقة ،دليلتي ،إلى جواري .قالت" :تعالي"وقادتني خار ًجا للشرفة لحجز
عا جراء النسيم العليل الذي
المقعدين األخيرين فيها .كان حفيف األشجار مسمو ً
يحرك األشجار الضليلة المعمرة تحت السماء الصافية .اتكأت للخلف وأغلقت
ي.
عين ّ
ش ََرعت رفقة بالحديث" :إن العبرية هي لغة ركائز .فكل حرف فيها هو عبارة وكل
كلمة هي حزمة من العبارات".
لكني كنت متعبة .وقلتِ " :ل َم يولي كل شخص هنا الحيا َء كل هذه األهمية الكبيرة؟"
فاتّكأت إلى الخلف أي ً
ضا ،وأغلقت الكتاب .ثم قالت" :كان للعظيمة حنة سبعة أبناء.
وقد كتب على كل واحد منهم أن يموت ميتة الشهداء".
"هل كان هذا يعد مكافأةً؟"
أجابت" :لقد ذهب أوالد حنة مباشرة إلى الجنة .ماذا تظنين؟ هل تعرفين لماذا نالت
حنة مثل هذا الشرف؟"
"كال".
"لقد أحبها الرب ألن "جدران منزلها لم تشهد قط رؤية شعرة من شعررأسها".هذا
هو الحياء الحقيقي .تزنوس " "Tzniusحتى إنها حين كانت تستحم ،كانت تجعل
الخادمات يرفعن األغطية من حولها".
"والعبرة…"
ي ِ رجال حين كانت تستحم .لقد كانت
" ممن كانت تختبئ؟ فلم يكن هناك وجود أل ّ
تلتزم بالحشمة من أجل إرضاء الرب فقط ال غير .هذا هو الحياء .إذ إن المرأة
التي دائ ًما ما تكون محتشمة حييّة أمام الرب هي بمثابة امرأة منخرطة في صالة
مستمرة .Hatznea lechesحنة هي قدوتنا".
تنهدت آنا ،وعندما تحركت على المصطبة التي كنا نجلس عليها ،التصق فخذها
بفخذي حتى أنني أحسست بدفئه.
بدأت أجلس بعيدًا عن آنا أثناء وجبات الطعام ،وأخذت أفضّل فقط مقادير الطعام
التي أحتاجها بكل ما لكلمة احتياج من معنى .وفي ختام كل وجبة ،تقوم المكرسات
للخدمة الالتي قلدنَ وسطنا كقدوات ،مثل رفقة ،بقيادة أغنية الشكر على نعمة
عا مفع ًما بالحيوية حين يغنينَ ،تدق أكفهن سطح
الطعام .كانت الفتيات تصدرنَ إيقا ً
المنضدة بسعادة وصوت صادح .لكن في رأسي كان صوت إيسر يتردّد:
" ،kodeshأي مقدس ،وهو ما يعني منعزال لهدف التضحية ".فجلست وحيدة
والتزمت الهدوء.
أرسلت لي أمي رسالة من لوال ،التي كانت تجلس إلى جانبي في صفوف الجبر،
وهي أول صديقة سوداء لي بعد اندماج مدارس داالس .كنا قد تواعدنا على أن
تنوعه ،وأصبح
نبقى على تواصل .لكن الحاجز أقيم اآلن بيني وبين العالم بكل ّ
"نحن" و"هم" .لم أستطع أن أنتمي إلى هنا وأن احتفظ بلوال كصديقة بنفس الوقت،
فوضعت الرسالة داخل دفتر يومياتي ،وأنا أتمنى أن يكون بإمكاني جعلها تتفهم.
في كل ليلة في المؤسسة كنا نعقد نفس جلسات الصداقة التي تمتد حتى وقت متأخر
من الليل ،وفي كل صباح نطلق نفس أنَّات اإلرهاق ،ونبذل نفس الجهد المكثف
الستيعاب التعاليم الباطنية والتشريعات المعقدة .كان كل يوم ينتهي بنفس االستسالم
للتعب .في أحد األيام وجدت آنا تخرج تنوراتها من خزانة األلومنيوم .وهي تقول:
"يا للقرف ،إنها تفوح برائحة دخان السجائر".
فقلت " :أنا آسفة ،لكن هل بإمكاني استعارة واحدة أخرى؟"
فقالت" :إنك ال تدخنين ".ناولتني تنورة زرقاء داكنة .وقالت" :تفضلي ،لكن من
غير المسموح لك أن تتناولي السجائر وأنت ترتدينها .وسيكون عليك أن تعيديها
ي حين ترجعين إلى داالس".
إل ّ
"هل سترحلين؟"
حالك
ِ "ليزا "...خاطبتني ،ثم أمالت رأسها إلى الجانب مثل ببغاء وقالت" :كيف
اليوم؟ .Baruch hashemكيف حال نومك؟ .Baruch hashemكيف هي
دراستك؟ .Baruch hashemإنني أكره عبارات ""Baruch hashem
التي تتفوهين بها.
ّ
"لكن تعني العبارة فليتبارك الرب ،إنها تعني "أنا أقبل مشيئة الرب ".قلت لها:
الجميع يقولونها حقًا ،الجميع".
ت لست الجميع".
فردّت" :أن ِ
بدوت كببغاء في عيون آنا .أردت إخبارها بأنني كنت أتعلم فقط.
أعلم بأنني قد ّ
ضا عن ذلك قلت لها" :هناك سبب لقول هذه
أردت أن أقول إنني أحببتها ،لكن عو ً
العبارة ،كما تعلمين".
فقالت" :هل هناك سبب ما حقًا ،اآلن؟" .ثم عادت لتوضيب حقيبتها ،وفي عصر
ذلك اليوم غادرت المؤسسة.
في الليلة التي أعقبت رحيل آنا ،اضطجعت وحيدة قبالة سريرها الفارغ وعانيت
ٌ
حنين لالتحاد النهائي مع الرب الذي كان إيسر نوبات من الحنين كنت أعتقد بأنها
قد وصفه في الدرس بأنه "حتى إلى حين الموت" .تخيلت روحي وهي تسعى جاهدة
للطيران بعيدًا عن جسدي المتطلب لتبلغ ذلك االتحاد الصوفي الوجودي.
كان الرب بمثابة شاشة عمالقة ،وكل من أحببته يو ًما كان جز ًءا من صورة الرب
التي تظهر عليها .وقد كانت آنا على تلك الشاشة ،تفتح لي ذراعيها على وسعهما.
"إنك الحب الدائم" .وكانت هناك أمي بيديها الرقيقتين وعينيها اللوزيتينّ ،
لكن َ
صورتها تغيرت إلى أخرى ذات حضن مؤتمن ،تومئ لي باالقتراب ،وترغب
"إنك تمنح القوة للمضنى" .كما كان هناك أبي بشعره األبيض وابتسامته
باحتضانيَ .
المائلة ،لكنه كان معافى ،وعيناه تشعان بالحيوية ،وقد أصبح درعي الذي لم يسبب
ضا كل ألم
لي األذى ولم يمت من الداخل يو ًما .وبكيفية ما ،كان على تلك الشاشة أي ً
ألَ ّم بي ذات يوم ،وقد ص ِف َّ
ي حتى أصبح نقطة المعة من النور المؤلم.
تحول وجه أبي إلى وجه حاخام ملتح؛ وتحولت أمي
رحلت آنا ولم تخبرني ،وقد ّ
إلى ربّ محتضن .وأنا قد أكون ،بل سوف أكون ،أنا أشعر بأني سأكون قديسة
صالحة ( .)tzaddikوسوف أتعالى على جسدي المتعنت ومتطلباته الجامحة ،وقد
أتمكن من رؤية الرب ،فقد كنت غارقة بالحنين الموجع .سألمس الرب وأهرب من
عالم الخيانة هذا.
قمت من سريري ،وتحت تأثير نوبة اجتاحتني من تأجج العاطفة والحاجة ،انتزعت
الغطاء عن السرير الذي كانت تنام عليه آنا ولففت نفسي بدفئها ،ثم عدت إلى
االستلقاء ،متل ّحفةً بها ،أحلم بالهروب وأستنشق رائحتها ،حتى غلبني النوم.
الفصل السابع
كانت السماء صافيةً في الخارج وأنا أراها من على ساللم المدخل األمامي للمؤسسة
في ليلة عيد مولدي السابع عشر ،الذي صادف التاسع والعشرين من شهر حزيران
عام .1973كانت الفتيات قد غنيّن لي على مائدة العشاء ،والسماء المرصعة
بالنجوم تمنيني بوعودها .فاتكأت إلى لوراء ،ووجهي نحو السماء ،أم ّد يد ّ
ي لبلوغ
تلك النجوم.
أجوف وخطير،
ٌ كانت رفقة ،أثناء دروسي معها ،قد أخبرتني أن كل الفن الدنيوي
يكرسوا فنهم للرب وللشريعة .فتدفقت عبر السماء حالكة
ألن الفنانين يجب أن ّ
صور من كتب الرسم التي تعود ألمي ،والتي كانت بمثابة أصدقاء طفولتي
ٌ السواد
وإلهام مراهقتي ،الكاتدرائيات في ريمس ونوتردام ،تمثال بيتتا لمايكل أنجلو،
مادونات ليوناردو دافنشي الحالمات ،وقوة اللون األسود في ضربات فرشاة كالين،
وغيوم روثكو ذات اللون الحالم ،وكل هذه األعمال تتصادم على خلفية مقطوعة
غروس فيوج لبيتهوفن .هل كان الجمال الرفيع مجرد هراء يفتقر ألي معنى
روحاني؟ لكنني كنت قد ّ
خططت للعودة للمنزل حين أنتهي من هنا ،ألتو ّجه لدراسة
الفن والموسيقى في الجامعة .هل اختزلت خططي بممارسة جوفاء خاوية هزأت
صا ً
مستقبال ،وال شخ ً بالوصايا؟ إن كان األمر كذلك ،ففي زيي الجديد ،لم أكن أمتلك
ألكونه.
ماذا لو أنني أنزل ساللم المدخل هذه ،ثم أجتاز الشارع وال أعود إلى هنا ثانية؟
ربما أستطيع أن أطرق على أي باب وأطلب منه استخدام الهاتف من أجل أن أتصل
بوالدتي ،فهي ستساعدني على العودة للمنزلّ .
لكن تلك النجوم كانت بعيدة المنال،
والسماء شاسعة ،والشارع الضيق كان أوسع مما أستطيع عبوره ،وقد كان التشيلو
الخاص بي بعيدًا للغاية ،وأمي قد رحلت .كان ك ّل من الخمول والخوف والشك
يثقلني ويشدني إلى األرض .من كنت أنا؟ لقد رحلت الفتاة التي كنتها .فكيف لي أن
أعود للمنزل؟ إذا تخليت عن المرأة ذات التنورة التي كنت في طور التحول إليها،
فماذا يتبقى؟ سأصبح صفحة فارغة ،بدون تعريف أو محتوى وسيكون الالمكان
منزلي .سأخرج إلى العالم بال طريق ،أهيم في الخواء .لكنني لن أخاطر بأن أتحول
إلى وجه تائه وخاو مثل والدي.
ي" :لقد غيّرت حياتي وأصبحت امرأة
في وقت متأخر من تلك الليلة ،كتبت لوالد ّ
حسيدية .إن كل دقيقة من يومي مكرسةٌ حاليًا لكي أصبح شخ ً
صا أفضل وأكثر
ي اتصافًا باألخالق .إنكم َمن بدأ بتشكيلي ،ولكن ،بقدر ما أحبكم واحترمكمّ ،
فإن عل ّ
أن أتولى زمام األمر اآلن .أعدكم بأن أبقى معكم على تواصل ،لكنني لن أعود
للمنزل ".بهذه الطريقة قمت بتوديعهم ،بهذه األكاذيب.
صوت تشويش ينبعث من نظام االتصال الداخلي للطائرة ،هدير المحرك يسري
إلى المقاعد على هيئة اهتزاز ،حركة اإلقالع تشدّنا للخلف .العالم مكان مليء
بالمشقةّ ،
لكن الصالة وتأدية الوصايا هما الواقع الوحيد .وترتيل المزامير يعيد
توجيه الطاقة الربانية ،ويدرأ العقاب .كنت أرتدي تنورة آنا ذات اللون األزرق
الداكن .وبجانبي ،كانت أمي بشفتين مستويتين تعكسان وجو َمها .أشبع ِ الحاجة،
جوع ِ الرغبة ،فالطهارة هي الدرب إلى الرب .ومن األرض نرتفع إلى السماء ّ
الزرقاء حتى ت َصغر المنازل لتبدو ألعابًا ،وث ّمة سحب ملتفة في مشهد أخروي يفتقر
للحب .طوبى لمن يسكن في منزلك .طلبت أمي بطانيةً من المضيّف ِةّ ،
لكن صوتها
بدا غريبًا عن صوتها .غَطت كتفيها ،ثم أطبقت عينيها.
في مكان ما فوق الغيوم ،مددت يدي في حقيبتي فعثرت على كتاب الصلوات
الخاص برفقة ،هديتها السرية األخيرة .سحبته في دهشة ،تشكيلة من األدعية في
يدي مثل كوب مملوء باألمل .في الجهة الداخلية من الغالف األمامي المهترئ
وجدت كتابة عبرية بخط يد رفقة ذي الحروف الملتفة بهيئة األنشوطات :الرب
قريب إلى َمن يدعوه .ذيلت الكتابة باسمها الذي وقعته برسم حلقة فوق النقطة.
ٌ
وأطباق وقوارير فارغة على المنضدة ،كتل الغبار المتكومة على خيوط علب
ٌ
ٌ
ونباتات مبثوثة وثياب
ٌ ٌ
ولوحات وبري ٌد صحف
ٌ العنكبوت في األركان ،ال شيء تغير.
س َّجاد ،صراصير تتسلق الجدران ،تلفاز أمي
في كل مكان ،براغيث تستوطن ال َ
مشتغ ٌل منذ أن غادرت .وأبي يحوم في أرجاء المنزل بال وجهة ،برأس خفيض،
كأنه شب ٌح متجه ٌم .استجمعت أمي من الطاقة ما يكفيها للقدوم والعودة بي للمنزل،
ثم اعتلت سريرها ثانية .عند منتصف الليل ،سمعت آمي تدخل من الباب األمامي
وتتسلل إلى غرفتها.
لم أستبدل تنورة آنا .بدا التشيلو الذي يقبع في الزاوية داخل حقيبته القماشية مغلقة
السحاب مثل أثر من ماضي شخص آخر .كارول كنغ على البيانو كانت ما تزال
معلّقة على الجدار ،وهي تغنّي ،وبجانبها قصاصة م ّ
صفرة من صحيفة قمت بتعليقها
ذات مرة ،وكانت عبارة عن افتتاحية رأس السنة لعام .1970كتب عليها :لقد
فقدنا براءتنا وتعلمنا التشكيك.
في الليل ،ومن غرفتي التي تقع على مقربة من الصالة ،سمعت أمي تقرأ في
مدونتي الموجزة للشريعة اليهودية بصوت عال لوالدي .فتقرأ" :ال يجوز لليهودي
مشابهة الوثنيين ،حتى في أربطة أحذيتهم ".أخذت تنتحب قائلة" :هذا الشيء
ي للغاية! لن يسمحوا لها باتّباع الموضة .وال يمكنها الذهاب للمطاعم
ي وبدائ ٌ
انعزال ٌ
أو مشاهدة األفالم أو التلفاز أو قراءة كتاب ،ال بل سيحرمونها حتى من المواعدة".
ثم سمعت والدي يقول" :ريتا ،انظري إلى هذا ،إنهم يخبرونها حتى كيفية ربط
حذائها ،إنها مغسولة الدماغ".
تحول نحيب أمي إلى سيل من الشك تدفق باردًا عبر شراييني ،فتقلّبت على سريري
ّ
يمنة ويسرة .أردت أن أهرع إليها وأمسك بها وأعدها بأي شيء ،بكل شيء .ثم
نهضت ،وبحذر ،أحضرت الحوض البالستيكي إلى جانبي ،ووضعت فيه كوبًا مليئًا
بالماء من أجل غسل اليدين صبا ًحا .ثم صعدت إلى سريري وهمست بصالة
الهمابيل لما قبل النوم ،تلوت المقاطع ببطء ودقة .ذكرى موجة الهمسات األنثوية
آزرت صالتي ،الحاخام غيلر وإيسر ينتصبان برؤوس تشمخ بالرضا وأذرع
ي.
إنك تجعل أواصر النوم تغشى عين ّ
مضمومةَ ،
وبأمر الشريعة ،اضطجعت على جانبي األيسر ،صامتةً حتى الصباح بفعل الصالة
األخيرة.
لكن في عقلي تواص َل الهمس:
ها هي السطور.
ها هي الجدران.
هكذا تسير المرأة .هكذا تسير إحدى النساء الموسومات.
هكذا تلبس المرأة .هكذا تلبس السيدة الحسيدية؟
هكذا كيف لها أن تجلس ،كيف لها أن تجلس.
وكيف لها أن تغني وأال تغني.
هكذا تصلي المرأة .هكذا تصلي السيدة الحسيدية.
تصل المرأة ،حتى المرأة ،للرب.
وبهذه الكيفية ِ
انزلقت في األحالم التي رأيت فيها إيسر متو ًجا مثل منقذ ومحا ً
طا بالفتيات
الصاخبات ،لكنه وعلى نحو غريب كان يرتدي األحمر واألسود فبدا شكله شيطانيًا.
استيقظت وما ازال أرتدي تنورة آنا ،استيقظت وأنا أحس بندم شديد وشعور بغيض
ي في الحوض
لتسببي بااللم ألمي .سكبت الماء الذي كنت قد حضّرته بحذر على يد ّ
-يمين ثم يسار ثم يمين ويسار -صدمة صباحية مبللة وباردة .انتعلت فردة حذائي
أوال ،ثم اليسرى ،ألستحضر لطف الربً ،
بدال عن حكمه علي .أقدم شكري اليمنى ً
ي روحي .عظي ٌم هو إخالصك.
أمامك أيها الملك الذي يعيش لألبد ،لقد أعدت إل ّ
بعد فترة وجيزة ،قمت في أحد األيام بفتح سحاب حقيبة سفري القديمة وطويت
بداخلها تنورة واحدة ،حمراء بنقشة البيزلي على طراز الجدات ،وتنورة آنا الزرقاء
الداكنة وثالثة قمصان ذات أكمام طويلة وستة أزواج من الجوارب الطويلة
(الكيلونات) .رفعت بصري حين مرت آمي أمام باب غرفتي المفتوح .مالبس
داخلية وحماالت صدر وثوب نوم طويل األكمام .استعدت كتاب المدونة الموجزة
للشريعة اليهودية من على منضدة سرير أمي التي كان تلفازها ما يزال يومض في
الصالة .أغلقت حقيبة السفر وجررتها على األرض ،ث ّم علقت حقيبتي على
خصري ،ووضعت كتاب ِرفقة للصلوات فيها .ومن خزانة المطبخ ،أخذت ما تبّقى
ضا.
من رغيفي الذي جلب من المخبز الحالل ودسسته في حقيبتي أي ً
على سطح خزانة المطبخ ،بين أكوام الصفائح الفارغة والصناديق غير الممسوسة
من األطباق والكؤوس الجديدة وأكوام البريد والمجالت ،صفّت علب حبوب أمي
في أحد الجوانب .كان صفًا من األغطية كهرمانية اللون ،وجميعها مألى أو كانت
مألى بالفيتامينات وبأقراص الفاليوم والدارفون ،والكلمتان األخيرتان كانتا من أول
الكلمات التي تعلّمت نطقها بطفولتي .تراءت لي نفسي حين كنت في سن الخامسة،
وأنا أدفع الكرسي الى هذه الخزانة العالية وأصعد إليها ،حيث كانت أمي قد تركت
أغطية العلب غير محكمة اإلغالق حتى يتسنّى لي أن أخرج لها أقراص دوائها.
كان هناك كرسي آخر مستند إلى حوض المغسلة لكي أمأل لها الكأس بالماء ،ثم
أجلب لها األقراص التي تمأل قبضتي والكأس كنت أحاول الحفاظ على اتزانه وكأنه
جائزة ،فيما أنا أخطو بحذر بالغ خشيةَ سكبه على األرض .تنهدت أ ّمي عند ابتالع
أقراصها ،وناولتني الكأس ثانيةً بعدم اتزان.
عند مدخل بيتنا ،التقطت إحدى آخر نوتات صرير أسنان أبي ،نغمة ’ ‘Aخفيضة.
تركت التشيلو الخاص بي خلفي ،تركت مالبسي غير المحتشمة -شورتات
وسراويل وقمصان ذات أكمام قصيرة -عالوة على الكتب التي كنت قد قرأتها أثناء
طفولتي وما بعدها :شبكة شارلوت ،والجاسوس هارييت ،وآنا كارنينا ،وكبرياء
وهوى ،وكاتش .22-لقد تركت بوستراتي ،كارول كنغ لن تنهي تلك األغنية أبدًا.
تركت أختي ،تركت طفولتي ،تركت ألعابي على رفوفي ،تلك العرائس التي لم
أعرف كيف ألعب بها ،وتركت حصاالتي التي لم أنجح في ملئها أبدًا .تركت ثيابًا
متسخة على كرسي مكتبتي و"كتالوجات" جامعية مبعثرة على أرضية الغرفة.
تركت أمي ،تركت أبي .تركت أفروالتي الحمراء التي تميزني .تركت على
بروشورا مجعدًا ومطويًا لمؤسسة بيس تشانا
ً المنضدة التي بجانب سريري
لوبافيتش للنساء في سانت بول ،مينسوتا .تركت أصدقائي من غير اليهود ومعظم
أحالمي .تركت كتابي "أجسامنا ،ذواتنا" وتركت سريري من غير ترتيب.
كانت آمي مراهقة فتية ،لكنها في نظري كانت فتاة صغيرة تقف ساكنة بوجه فارغ،
ٌ
ملتصق بالنافذة ،تراقبني بينما أمضي بعيدًا. وأنفها
كانت الشمس ساطعة تعمي األبصار في السماء ذات الزرقة الداكنة .توجهت
لموقف الحافالت ،وفي نيتي أن أنتظر حتى أجد حافلة تتخذ الوجهة التي أريد.
سأذهب إلى جامعة نورث تكساس في شمال والية تكساس وأحصل على منحتها
وأعتاش عليها .وصلت إلى الرصيف قبل أن أتذكر شيئًا ،فهرولت عائدة للطريق
ومن ثم توجهت لغرفتي .هذه المرة ،أخذت التشيلو معي .الحقيبة والتشيلو في يد،
والخبز وكتاب الصلوات في حقيبتي ،وهكذا رحلت ليزا أو ليا .وفي هذه المرة
حرصت على إغالق الباب خلفي.
في الخارج تحت شمس الصيف ،وبينما أنا أسير عبر صف من المنازل الهادئة
التي أغلقت ستائرها على العيون النائمة ،شعرت بحبّات العرق وقد بدأت تتجمع
ي خبز ومنحة ،لكنني تخيلت نفسي مثل إبراهيم .لقد أخبر
على حافة شفتي العليا .لد ّ
الرب إبراهيم بأن يرحل عن مسقط رأسه ،ثم لم يخبره إلى أين يذهب ولم يعطه
ع إبراهيم برحلته بال وجهة وال يقينّ .
لكن الرب فعل ذلك به مؤونة للطريق .شر َ
لسبب وجيه ،لكي تكون كل خطوة يتخذها إبراهيم فعل إيمان .أو هل كان ذلك
سلوكا من االعتماد على النفس؟
فعندما يجد إبراهيم منزله الجديد ،عندما يجد مكانه الصحيح ،سيعَ ِلم بذلك .أخذت
ي ،لكنني انطلقت سا عميقًا .التشيلو في يدي ،التنورة رطبة وتلتصق بربلت ّ
ي ساق ّ نف ً
بخطى متوثبة.
الفصل الثامن
كنت أسير عبر حرم دنتون في آخر أيام شهر آب وسط أوالد سعداء أحرار يرتدون
الجينز ويحملون الكتب المدرسية ومذياعات الترانزستور ،وقد كان البعض منهم
تحت تأثير الماريغوانا ،لكني كنت منعزلة عن مجتمعي الجديد كما لو كنت في
صندوق زجاجي متحرك .كان الشباب والفتيات في مجاميع يلكز أحدهم األخر
ويعانقه ،مرحين وعفويين ومفعمين بالحياة .وآخرون يمرون بدراجاتهم بسرعة
ّ
تشق الهواء .اثنان يقبّالن بعضهما على مصطبة خارج قاعة ماركيز. خاطفة
ضا ،وأخذت أمعن النظر في لوحة
في اتحاد الطلبة ،وضعت التشيلو والحقيبة أر ً
إعالنات مغطاة بملحوظات مكتوبة بخط يدوي ،ثم انتزعت بطاقة مالحظات ،كتب
عليها "شريك سكن ،قرب الحرم الجامعي" بخط سريع مخربش بقلم الرصاص.
فقمت ذهنيًا باحتساب إعانتي المادية الضئيلة .كان مجمعًا سكنيًا حديث اإلنشاء على
بع ِد بنايتين فقط من الحرم الجامعي :طال ٌء جديد ،أرضية مفروشة بسجاد أخضر
من الوبر الخشن ،قسم للمطبخ في نهاية حجرة المعيشة .بإمكاني تخطي األسبوع
باالعتماد على شوربة كامبيل والتونا المعلبة ،إذ أستطيع شراء خمس منها بدوالر
واحد .فأخبرت شريكة سكني الجديدة ،هيلين ،بقراري" :سآخذها".
كان لهيلين ذات العيون الخضراء أسلوب صفيق ،وهي تتحدث بلهجة أهل غرب
تكساس المتميزة بنغمة خفيضة مستوية ،والصفير المالزم لصوت نطق حرف
السين ( .)Sفرشت غرفتي بأثاث غرفة نومها القديم ،وهو من الطراز األمريكي
غص المكان
َّ التقليدي وقد جلبه والدها إلى هنا بمقطورة متنقلة .في الليلة األولى،
بأصدقائها .جرى تقديمي إليهم والحظت من بينهم ستيفو الذي كان يستريح على
األريكة بسروال رياضي ،كان حوضه ناتئًا لألمام ،وقد وضع إحدى ذراعيه على
ظهر األريكة ،وحم َل باألخرى كأس بيرة .في وقت الحق من الليلة وبعد مغادرتهم،
ت ستيفو؟ والطريقة التي
جاءتني هيلين من أجل الثرثرة عنهم .قالت لي" :هل رأي ِ
كورت يدها في الهواء محركة
يجلس بها؟" كانت عيناها الخضراوان تتراقصان .ثم ّ
لها وكأنها تحركها فوق الكتلة البارزة في مقدمة سرواله.
سجلت في ثمانية عشر ساعة من الصفوف في ذلك الفصل الدراسي ،ومألت أيامي
ي باللوائح والصفوف والدراسة ،مع حرصي الدائم على أن أبقي إلى جانبي
وليال ّ
كتاب الجيب الخاص بالصلوات الذي يعود لرفقة والذي لففته بقماش ذهبي ووضعته
في حقيبتي .في بعض األحيان أعود بذكرياتي إلى المدرسة الثانوية ،األصدقاء،
الهروب من المدرسة ضمن جمع من األصحاب ،الحفالت ،الرقص الهادئ مع أي
صبي على أنغام شيكاغو ،فرقة ثري دوغ نايت ،أنين جوبلين ،رؤوسنا تميل
للوراء ،ندندن ونضحك .وفي أحد األيام ،بعد حوالي أسبوع من التحاقي بالفصل
الدراسي ،منحت الفتاة التي تجلس قبالتي في صف اإلنجليزية بضع ابتسامات
خجولة وحاولت أن أدخل معها في حديث قبل بدء الدرس .كانت مهذبة على نحو
فاتر ،فابتعدت ،مغت ّمة ،ثم لمحت عينيها وهي تحملق بغرابة في تنورتي التي ال
تواكب الموضة وجواربي وأكمامي الطويلة التي أرتديها في َح ِ ّر تكساس ،وياقتي
العالية المحتشمة وكيلوني .في تلك اللحظة ،منعزلةً عن كل من كنت أعرفهم
أصبحت أشك بكل شيء .في تلك اللحظة ،كان من المستحيل أن يكون نوح قد أخذ
الحيوانات بسفينة ،كما كان من المستحيل أن يكون موسى قد رفع عصاه ليشق
البحر بنا ًء على أوامر مسموعة من رب يتكلم العبرية .تململت في مقعدي ،خفضت
بصري .وشعرت بأنني عالقة.
في المنزل عند منتصف اليوم ،حاولت أن أدرس ،لكن ذهني كان يقفز من شيء
آلخر .أخذت استراحةً و َح ّما ًما وبعدها وقفت لدقائق شاقة طويلة أمام ماء الد ّ
ش
ي ممتلئين وناهدين،
الذي يتصاعد منه البخار ،أتفحص جسدي العاري .كان ثديا ّ
وبشرتي المشدودة صحية ونضرة .ما الذي ينقصني؟ شيء ال يمكنني تحديده .ما
العيب؟ شعرت بأنني غير مؤهلة للحب .ثم أرتديت ثيابي ،وذهبت لدرس الرسم
وبروية أرسم منحنيات
ّ الحي ،حيث قضيت ساعات أحدّق في "المودل" العارية،
جسمها بخط رقيق بقلم فحم كونتيه على الورق الحريري الناعم.
في الحلقات الدراسية المخصصة لطالب الشرف ،قرأنا عن ديكارت وبوبر وكافكا
وهيسه ،ثم فيتزجيرالد وهيمنغواي ،وكنت مندهشة من تلك الجاذبية والجمال
والتنوع والعمق .هنا حيث أستطيع أن أضع طاقتي ،شغفي الوحيد اليافع .وفي
ّ
وألن الكثير من الطالب قد قدموا لدنتون من أجل قسم الموسيقى الشهير، العلوم،
فقد درسنا فيزياء األبواق .ثم ذهبنا لمشاهدة ثاني جهاز مزج موسيقي لموغ في
العالم ،في الحرم الجامعي ،وقد صنعه روبرت موغ بنفسه لصديقه ميرل إليس،
مدير قسم الموسيقى اإللكترونية الجديد في الكلية .كان الجهاز المبتكر بحجم غرفة،
مع صف طويل من األزرار والبكرات والشاشات .كانت عينا الدكتور إليس
مضيئتين كالجهاز حين كان يؤشر ويشرح ،ثم شغّله ومأل الغرفة بصوت جديد.
في الليل ،كنت أتقلب في الفراش ،يؤرقني التفكير بأنني لست حقًا جز ًءا من المجتمع
الجامعي أو المجتمع الحسيدي .ليس لي منزل ،ليس في الواقع .فحلمت بمالئكة
سارافيم خارج جنة عدن يتحركون ذهابًا وإيابًا ،ويحرسونَ مدخل الفردوس ولكن
ال يسمح لهم بالدخول أبدًا.
وفي أحد أيام شهر تشرين الثاني ،توجهت ببساطة إلى إحدى آالت البيع في البناية
اإلنكليزية ،أخرجت عمالت معدنية من حقيبتي وألقيت بها في فتحة اآللة ،ثم
انتظرت حتى سقط في السلة ً
أوال لوح شوكوالته سنيكرز الذي يعد بصورة قطعية
من األطعمة غير الحالل ،ثم تبعته علبة سجائر مارلبورو .طويت أكمامي إلى ما
ي وهو مقدار ينتهك حدود الحشمة ،ثم فتحت زرين ثم ثالثة من أزرار
فوق مرفق ّ
قميصي العلوية ،ثم تسللت الى إحدى الحمامات ونزعت جواربي البغيضة ،ولكنني
بقيت أرتدي التنورة.
ضا عنها ،رحت أتمشى لفترة طويلة
وفي تلك الليلة تهربت من الصلوات ،وعو ً
فوت الصلوات مرة أخرى
في هواء الليل ،أنفث دخان السجائر صوب القمر .ثم ّ
في الصباح التالي ،وفي كثير من الصباحات التي تَلَته .كما احتفظت بلوح حلوى
وعلبة سجائر إضافيتين في حقيبتي إلى جانب كتاب رفقة للصلوات .كانت الشكوك
الدينية تفور وتضطرم في داخلي.
بعد انتهاء إحدى المحاضرات في يوم من أيام شهر كانون األول ونحن على أبواب
نهاية الفصل الدراسي األول ،وما أن خرجت من إحدى محت َرفات الرسم في بناية
الفن حتى رأيتها .كانت تقف على مبعدة ،رشيقة وأنيقة وواثقة من نفسها .كانت
لتطوق الخط المقوس لفكها المثالي ،وتجعيدات شعرها
ّ ياقتها المكوية مقلوبة لألعلى
السوداء التي تبرز أحمر شفاهها القاني وسروالها القرمزي الرقيق لتجعلها مثل
وردة على قماش القطيفة .كانت تحمل حافظة أوراق وتقف مع إمرأة أخرى،
تدردشان سوية .ناديتها" :أمي؟" ثم كنت أتعثر واتخبط وأجري وسط الطالب على
نحو سمج يخلو من اللياقة ،أهرع إليها ،مندهشة من الراحة الهائلة التي أحسست
بها عند رؤيتها ،من هذا الحنين الشديد الالمستحق ،كما لو أن رؤيتها كانت تعني
أخيرا ،في متناول
ً لي الحب دائ ًما ،هذا الشعور المغري بالمنزل يوشك أن يكون،
يدي .ورغم ذلك ،امتأل صوتي بالغضب عندما قلت" :ماذا تفعلين هنا؟"
فقالت" :ليزا!"
أعرف تلك البهجة الزائفة وذلك التباهي الفارغ عندما كانت تريد أن تثير إعجاب
ي بحاجبين مرفوعين فوق عينيها
أحد ما .رمقت المرأة بنظرات جانبية ،ثم التفتت إل ّ
اللوزيتين ذواتي األجفان الواسعة واللذين سبرتهما بدقة متناهية خالل طفولتي.
خالل أيامها التي كانت تقضيها في الفراش لمشاهدة التلفاز ،كانت عيناها فاترتين
وضحلتين ،مكانًا ال أستطيع الولوج إليه ،لكنهما كانتا تشعّان بالحيوية أينما كان
ي مثل نظرة
هناك حضور للفن .ثم رمقتني أمي بنظرة من رأسي حتى أخمص قدم ّ
تلك الفتاة في صف اللغة اإلنجليزية ،وفكرت ،إنها خ َِجلة مني .فتفجرت كل الشكوك
والمخاوف المضطرمة األخيرة والحنين القديم لها في شكل موجة عارمة .وقالت:
"ماذا أفعل هنا؟" وبدا عليها االنزعاج ،كما لو أنها توضح إحدى البديهيات لشخص
بطيء الفهم .ارتسمت على وجهها تكشيرة خفيفة" .إنني آخذ دروسا في الرسم!"
قلت" :لقد اتصلت ،حاولت أن أتصل".
فقالت" :هل فعلتِ؟"
أجل .كل أسبوع .وأحيانًا كل يوم" .أعلم بأننا على بعد ساعة ،لكنني ال أمتلك سيارة.
هل ..هل تريدين رقم هاتفي؟ لقد أوشك الفصل على اإلنتهاء…"
قالت" :أعلم ذلك".
ت تأتين إلى هنا كل أسبوع منذ بداية الفصل الدراسي؟"
"هل كن ِ
قالت ،وبدا عليها االنزعاج ثانيةً" :بالطبع".
ت عني؟"
"هل بحث ِ
رسوماتك؟" ثم أمالته
ِ لكنها التقطت كراسة المانيال من يدي .وقالت" :هل هذا دفتر
نحو صديقتها لتريها إياه .ففكرت أنها كانت تنظر له كما لو أنه ملكها ،وفجأة ً كنت
درسها ،وأنتظر
تلك الطفلة الملتصقة بها ،أتبعها الى دروس الرسم التي كانت ت ّ
رضاها وكأنني إحدى طالباتها .قَلَبت الكراسة على إحدى الرسمات غير المكتملة
درستي تسير في ذلك اليوم وهي
التي تصور كومة من الدمى ،إذ كنت قد لمحت م ّ
تحمل كيس قمامة مملو ًءا بتلك الدمى ،ثم أفرغت الدمى على إحدى المصاطب
وغادرت .في الرسمة ،كانت األجساد الصغيرة سابلة تتدلى ،مدفونة ضمن كومة،
متداخلة إلى أن أصبح من شبه المستحيل أن نميز أشكالها ،أو أن نميّز أيًا منها من
األخرى .بل أصبح من شبه المستحيل حتى أن تعرف كل واحدة منها نفسها .أجساد
محشوة ممتلئة نصف مدفونة ،رؤوس بالستيكية خالية ،مغلوبة ،عالقة في شبكة
وعاجزة عن تخليص نفسها .كلها كانت باردة الملمس ،ال دفء فيها .شعر مغزول
من الخيوط الصفراء والبرتقالية .وجوه عنيدة م ّ
قطبة ،وعيون من األزرار السوداء.
قالت صديقتها" :يا إلهي".
قالت أمي" :إنها موهوبة للغاية".
قلت لها" :أمي ،عندي فكرة!" .فقد كان لدي في المنزل من الخبز الحالل ما يكفي
ً
طويال إلى حيث المخبز من أجل شطيرتين ،اشتريته بعد أن قطعت بالحافلة طريقًا
ضا حبة طماطم كاملة في الثالجة .وأكملت قولي:
ي أي ً
الحالل في داالس ،ولد ّ
"بإمكانك المجيء لرؤية شقتي .يمكننا أن نتناول الغداء سوية".
أغلقت الكراسة.
ي .ضميني".
سري" :انظري إل ّ
أقول في ّ
"سنتأخر عن جلسة النقد "،خاطبت صديقتها ،فما كان مني إال أن تس ّمرت في
ّ
وهن يرحلن .ابتعدت هيئتها ،عبر فضاء مفتوح تحت المناور ومن ّ
أشاهدهن مكاني
عتمةً .نظرت إلى شكل ظهرها وهي تحمل حافظة األوراق
ثَم إلى قاعة أكثر َ
الكبيرة المربعة وتنا ِغم مشيتها ،البنطال القرمزي ،ظلها .ثم قعقعة باب المحت ََرف
الثقيل.
ال تبكي .واسيت نفسي.
"لقد عدت للمنزل!" ناديت ،ضاحكةً ،وأنا أدخل إلى بيت راكوفسكي في عصر
الجمعة التي أعقبت ذلك اليوم ،والذي صادف بأن يكون قبيل االمتحانات النهائية،
ألجد نفسي محاطة على الفور بروائح الدجاج المطهو في الفرن والكيك الطازج،
صفير اإلبريق ،ضجيج العائلة المصاحب لتحضيرات الساباث .ظهرت سيما
وفوطة الصحون في يدها وعلى جبهتها شال مشدود لألسفل وقد بهتت صدريتها
سبتك!" قالت سيما بابتسامة واسعة وعيون متعبة،
ِ المنزلية من بخار المطبخ" .طاب
"شكرا على دعوتك لي".
ً ي .وقلت لها:
فطوقتها بذراع ّ
ّ
فردّت" :بإمكانك المجيء كل أسبوع".
"كم أود ذلك".
ضا ،في المطبخ الصغير ،رجل حسيدي كبير السن
صا آخر كان هناك أي ً ّ
لكن شخ ً
ذو مظهر من عالم قديم ،كانت لحيته بيضاء وناعمة وطويلة ،وكان يرتدي معطفًا
أن يوم السبت لم يكن قد حان بعد ،كما وانتعل حذا ًء أسو َد. ً
طويال ،رغم ّ أسو َد
أخبرته سيما وهي تومئ برأسها نحوي "،Zie iz an eigener" :وهي عبارة
يديشية بت أعرف معناها اآلن :إنها من الداخل .إنها واحدة منا .ثم ضحكت سيما.
ً
خجال من ريائي في الفترة األخيرة .إذ كنت أرتدي ضحكت سيما وأنا احمررت
الجوارب ألول مرة منذ أسابيع ،وقد أنزلت أكمام قميصي الى الحد المحتشم،
وأعدت غلق أزراره العلوية.
فقال الرجل ".Shalom aleichem" :كان الرجل يتحدث بلهجة يديشية روسية
أصيلة ،على عكس لهجة سيما اليديشية المتأثرة باإلنجليزية برائها المدورة .وكان
ً
"أهال ومرحبا". يعني:
بعد أن غادر الرجال لخدمة المعاريف المقامة في الكنيس بعد حلول ظالم ليلة
الجمعة ،حان وقت النساء .بعد أن اغتسلنا وارتدينا حلّة الساباث ،تجمعنا نحن
اإلناث في غرفة الجلوس ،جلست مع سيما ،وبناتها لوبا ورينا ،والصغير شيمي،
والذي كان ما يزال بعمر صغير ال يسمح له بالذهاب إلى الكنيس في الليل مع
الرجال .صعد شيمي إلى األريكة ووضع رأسه على َحجر أمه ،وأقدامه على
َحجري ،وبينما كنا نتهامس أنا وأمه ،سطا عليه النعاس .وبالقرب منا ،كانت الفتيات
يهمسن بصلوات الساباث .أحد المصابيح ترك مفتو ًحا من أجل الساباث ،فكان
الظالم يخيم على الزوايا ،أما بقية المكان فمضا ٌء بإنارة هادئة مشتركة .بعد قليل
سيكون علينا أن نقوم ونستعد من أجل عودة الرجال .فعندما يعود الرجل من الكنيس
في الساباث ويجد المائدة مهيئة ومحملة بأطباق المعة مليئة بأطعمة الساباث ،فإن
المالئكة ستبارك األسرة لعلها تكون هكذا دو ًما.
فقلت لها" :أخبريني عن الرجل ،الضيف ".غفا شيمي .قامت رينا وأتت إلينا،
فرفَعته وهي تهمس بأذنه همسات أمومية تحولت إلى لهاث بينما كانت تحمله على
جسدها الهزيل ،فقد كانت في الرابعة عشرة .وضعت رأسه على كتفها ،وأخذت
حذاءه مني ،ثم صعدت الساللم ببطء .فأخبرتني سيما بأن الرجل كان ً
بطال في
حركة اللوبافيتش .اسمه هو أفرام أيور ،وقد اتخذ من داالس محطةَ توقف في
رحلته إلى كاليفورنيا من أجل زيارة ابنه .كان لألحبار شبكة سرية من الحاسيديم
في روسيا السوفيتية .وقد أداروا مؤسسات يشيفا في األقبية ونقلوا تقاليد الميزوزا
والتوراة والماتزو من أجل استمرار الروحانية اليهودية ،رغم أن العقوبة السوفيتية
على مثل هذه الممارسات كانت قاسية .العجوز أفرام أيور كان قد أسهم في تأسيس
الشبكة أيام ستالين وما بعده .وقد تم اعتقال معظم زمالئه ليموتوا في مخيمات
االعتقال في سيبيريا ،إال أنه تمكن من الهروب .قالت عنه سيما بأنه بطل حقيقي
من أجل الرب.
تخيّلت نفسي واحدة من أولئك الرجال الشباب الذين كانوا يتسللون عبر االتحاد
السوفيتي -الذي يكن للدين كراهيةً عمياء -إلى اليشيفات السرية في األقبية والبنايات
المهجورة ،يعانون الفقر والجوع الدائمين ،ومتأهبين دو ًما للسلطات الفاسدة ،يملؤهم
شعور النبل وتدفعهم القضية .كم هي تافهة متاعبي الحالية مع الشريعة في ضوء
ذلك ،وكم تبدو أفعال تمردي األخيرة مثيرة ً للشفقة .فكرت ،في أنني ال أستطيع أن
أضحي حتى بقطع الحلوى.
في الصباح التالي ،وجدت الرجل العجوز يقف عند النافذة .فيما يبدو أن الحاخام
راكوفسكي واألوالد قد غادروا إلى الكنيس .وعندما صعدت سيما الى الطابق
العلوي بخطى ثقيلة ،أخرج أفرام أيور شال تاليت مهترئًا من حقيبة مخملية ونفضه
حتى انفتح .كنت أجلس قريبة منه ،فحملت كتابًا وتظاهرت بالقراءة.
أغلق أفرام أيور عينيه وأسدل شال الصوف الواسع ذا الخطين األسودين على
رأسه وكتفيه .فتدلى الشال من األمام والخلف حتى المست شراشيب زواياه
األرض .ثم جلس تحت صورة ال َحبر وسحب الشال لألمام فوق رأسه حتى بانت
َ
عيناه وكأنهما تلمعان في نفق ،وتراج َع وجهه بالزمن .التقط كتاب الصالة وأمسك
به لكنه كان يرتّل الكلمات عن ظهر قلب ،وهو يحدّق في نقطة بعيدة .كان ترتيله
ذو النَّبر اليديشي منتظ ًما وسل ً
سا وأجنبيًاّ ،
لكن من الواضح أنه كان يفهم ويستوعب
كل كلمة .لم يكن في تالوته اندفاع طائش عبر المقاطع التي ال معنى لها ،ولم يكن
هناك أداء أجوف متباهً .
بدال من ذلك ،كان يقوم في بعض األحيان بإلقاء نظرات
على كتاب الصالة المهترئ الذي بين يديه ،ثم يتوقف لدقائق طويلة من أجل التف ّكر
ضا وعميقًا وهادئًا ،مثل قوس
الصامت .وعندما يستأنف القراءة ،يكون صوته خفي ً
يسحب بثبات على أخفض أوتار التشيلو .كان يتمايل ً
قليال بينما يترنم ،تقلَب صفحة
س هادئ ،عبارة ٌ صغيرة خفيضة ،ثم مجددًا الشعور الباطني الذي يسري
جديدة ،نَفَ ٌ
مع الترنيمة.
من خلف كتابي ،كان صوته المنساب ،المتناوب مع السكون العميق ،يتغلغل إلى
داخلي .كانت صالته هادئة وفردانية .كنت منبهرة من عمق السكينة التي بداخله.
س ّكنت رؤيتي له الصخب الذي في داخلي ،وأخمدت شكي القديم بذاتي وشكي
لقد َ
الجديد بالدين .ففكرت :هذه صالة ٌ حقيقيةٌ.
وفكرت :كان والد أمي روسيًا ،كما كان والدا أبي ذوي تقاليد يهودية القديمة .ربما
أكون هكذا من الداخل ،ربما أنتمي إليهم .وضع أفرام يده على عينيه من أجل صالة
الشيما .إنه يعرف نفسه من يكون.
ثم عدت بذاكرتي إلى معبد إيمانويل ،حيث كنت أنتظر خارج مكتب الحاخام
ٌ
عجوز يرتدي ردا ًء أسو َد .كنت محرجة في غولدنبرغ ،حين اعترض نظري رج ٌل
ذلك النهار أيّما إحراج وأنا أواجه ما حاولت عائلتي إبعاد نفسها عنه على مدى
جيلين .كنت قد أدرت ظهري وابتعدت ،لكن ربما كان ذلك الرجل هو أفرام أيور
نفسه.
ومع اقتراب حلول الساباث ،طلبت من الحاخام راكوفسكي أن يتكلم باليديشية مع
أفرام أيور من أجلي .أخبرت الحاخام عما كنت قد شاهدته ،عن الرجل الذي ظننت
بأنه ربما قد يكون أفرام أيور.
فقال الحاخام راكوفسكي" :محال ،ألن الحسيدي ال يخطو إلى مكان مثل هذا ".معبد
إصالحي ،مكان يهودي في ظاهره لكنه يعصي شريعة الرب.
فقلت" :لكنني أظن… اسأله لو سمحت".انتظرت خارج سور اليديشية حتى أبرز
أفرام أيور شفته السفلية بطريقة مترويّة وهز برأسه كما لو إنه يعترف بأمر ما.
وقال ".S'iz emes" :أي إنه صحيح .إذ كان قد ذهب إلى المعبد والتقى الحاخام
هناك .وقال بأنه حرص على الدخول إلى الجناح اإلداري فقط .وقال بأن المظاهر
ليست مهمةً عندما تكون هنالك ضرورة لمساعدة أحد ما.
طوع قاعدة من أجل عمل صالح ،فقد ذهب هناك لكي يساعد أحدهم .وهناك
لقد ّ
فرق بين تطويع قاعدة ما وكسرها .قلت" :أخبره ،لطفًا أخبره عن الصدمة التي
شعرت بها عند رؤيته في ذلك الوقت".
لكني لم أل ّمح أبدًا كم أشعرتني رؤيته بأنني مختلفة وخَجلة على نحو ال مفر منه.
غير أنّي شعرت بأنني مخادعة إلخفاء هذا األمر .قلت" :لم أكن قد رأيت أي رجل
من الحسيدم من قبل ،لم أستطع التنفس حينها".
خاطبني الرجل العجوز بصورة مباشرة هذه المرة ،رغم علمه بأنني ال أستطيع
فهم ما يقول ،حواجب كثّة بيضاء ،خطوط حول عينيه الغائرتين ،وقد ترجم الحاخام
راكوفسكي" :إنه يقول بأنه عندما يرى اليهودية الحقيقة ،فإنها توقظ فيه الروح".
بالنسبة لي ،كان وجه أفرام أيور في تلك اللحظة وج ًها لإلخالص العميق والحكمة
القديمةِ ،هبةٌ من نور .فتوقدت بإيمان جديد وراسخ.
عند العودة الى دنتون ،كنت ألقي بالمالبس التي ارتديتها في عطلة نهاية األسبوع
في سلة الغسيل عندما دخلت هيلين .قالت" :لقد أقمنا حفلة في ليلة السبت وبطريقة
سريرك ".ثم أشارت الى بقعة في منتصف المالءة،
ِ ما سمحت لحبيبين باستخدام
كشرت.
ّ ثم رفعت المالءة العلوية المجعدة وتشممتها .جعّدت أنفها ثم
قلت" :ياللقرف! لن أقوم…"
فقالت" :ربما ترغبين بتغيير هذه المالءات "،وضحكت.
في الربيع .انقضت سبعة أشهر على ابتعادي عن عائلتي .كان اتصالي الوحيد
بالعالم عن طريق صحيفة الجامعة ،نورث تكساس ديلي ،بعناوينها البارزة باللون
األخضر اليانع ،التي أسحبها كل يوم من األكداس التي تترك للطالب في بنايات
متعددة .احتجاجات طالبية ،حرب فيتنام الطاحنة ،وجه نيكسون الذي بات مكرو ًها،
األصولية المتفاقمة .في شباط ،تم اختطاف حفيدة أحد أقطاب الصحافة وليام
راندولف هيرست والتي تبلغ من العمر تسعة عشر عا ًما على يد مجموعة متطرفة
تقاتل من أجل نظام عالمي جديد وتسمي نفسها جيش التحرير التكافلي
( .)Symbionese Liberation Armyأصبحت القضية محط اهتمام البالد.
وعلى مدى األسابيع الالحقة ،غالبًا ما كان اسم باتي هيرست يتصدر الصفحة
األولى .لكنها لم تستحوذ على اهتمامي إال بعد شهرين الحقين ،بعد أن يئس والدها
من التفاوض مع خاطفيها ومطالبهم العصية على التحقيق ،فيما أعلنت هي للعالم
بأنها قد انضمت لجيش التحرير التكافلي وأصبحت واحدة منهم واتخذت اس ًما جديدًا
هو تانيا.
غريب ،هكذا خطر لي .إذ إن تانيا كان اسم الكتاب المؤسس للفكر الحسيدي
ٌ كم هذا
للوبافيتش ،وهو جوهر هذا كلهّ .
لكن والديها تخلوا عنها ،وأصبح لها حياة جديدة،
صورا
ً فال عجب بأنها قد غيرت اسمها .وبعد أسبوعين ،التقطت الكاميرات
لهيرست وهي تحمل سالح أم 1كاربين ،وترتدي مالبس تمويه عسكرية ،في بهو
فندق هبيرنيا أثناء عملية سطو مصرفي ،وتصدرت الصفحة األولى لكل صحيفة
في هذا البلد الذي كان تحت تأثير الصدمة .كانت تقف بقدمين منفرجتين ،وأكتاف
راجعة للخلف ،وتمسك سالحها بكل أريحية .كانت نحيفة وجريئة ،كانت ذات
تحولت.
هدف .لقد ّ
طقَّة .أقفل السائق أبواب السيارة .انعطفت سيارة األجرة التي استقليتها من مطار
الغوارديا لتوها نحو طريق متنزة بروكلين الغربي ،الذي يحاذي حي بيدفورد
خطرا
ً ستيفيسانت ( ،)Bedford Stuyvesantوالذي كان في ذلك الوقت حيًا
وخ َِربًا ،ويحاذي حي كراون هايتس الذي كان موطن حركة اللوبافيتش الحسيدية.
ً
فصال دراسيًا في جامعة تكساس في أوستن ،قَ ِدمت في رحلة حج فبعد أن أنهيت
لرؤية ال َحبر.
كان توفيا قد نبهني أال أعبر إلى بيد -ستي ( ،)Bed-Stuyلكن حتى على الجانب
عا ويع ّج بالنفايات ،وفي
الذي كنا نسير فيه من طريق المتنزه ،بدا الشارع متصد ً
كل مربع سكني انتصبت على األقل بناية واحدة مهجورة خربشت على واجهتها
صا يتسكعون فرادى .نظراتهم
رسومات غرافيتي سوداء ضخمة .رأيت أشخا ً
مريبة .لكني أومأت للسائق أن يتوقف عند ركن كنغستون ،فشكرته ودفعت له
بعجلة استحثت ّها اللهفة.
كان كنغستون هو الشارع الرئيسي لحي اللوبافيتش ،وكان يهدر بصوت مزامير
السيارات العابرة ومئات المارة من الحسيديين ،وبدا المنظر بمثابة لوحة لعائلتي
الجديدة .كانت واجهات المحال التجارية مكتوبة باللغتين العبرية واإلنكليزية وتعلن
عن سلع طقسية يهودية و"فن يهودي" وزهور من أجل الساباث وبيتزا حالل
وحلوى حالل وكتب مقدسة ،وفي كل متجر عرضت صورة لل َحبر على النافذة.
كان الرجال ملتحين ،وقد توحدت ألبسة الرجال والصبيان على حد سواء باللونين
األسود واألبيض وتدلّت منها خيوط "التزتزت" على أوراكهم .وبلغ الحال ببعض
الرجال المسنين ذوي اللحى الشائبة أنهم ارتدوا معطف الساباث الطويل في
منتصف األسبوع ،مثلما كان يفعل أفرام أيور .أما الفتيات والنساء فتقيدن جميعهن
بارتداء التنانير والفساتين ذات األكمام الطويلة تحت معاطفهن ،وقد غطت النسوة
المتزوجات رؤوسهنَ بباروكات أو حجب .كانت الكثيرات من أولئك النسوة
حوام َل ،لكني تغاضيت عن ذلك.
صغار بما فيه الكفاية الرتداء
ٌ صغارا ،ومنهم صبيا ٌن
ً ً
أطفاال اقتادت الكثير منهن
األلوان البراقة .كانت األمهات الالتي يدفعن بعربات األطفال التي وضعنَ فيها
حمرة والملفوفين باألقمطة ينبّهن صغارهن على
أطفالهن الرضع ذوي الوجوه الم ّ
البقاء بقربهن وعدم االبتعاد .أما األطفال األكبر سنًا فقد كانوا في الخارج من غير
صحبة ذويهم ،ضمن مجموعات من الصبيان أو الفتيات ،فيما كان المارة يعبرون
الشارع مندفعين بين السيارات.
في هذا المكان لن تتعرض ثيابي للحملقات المحرجة ،إلى هذا المكان أنتمي ،وهذا
ما جعلني مغتبطة.
المارة المنهمكة تتوقف
ّ تخيّلت كل َمن أصادفه صديقًا أو قريبًا ،تخيلت حشود
بأكملها في المكان وترفع أذرعها لتحملني عاليًا على تلك القوة الجماعية ،تلك
األيادي المرفوعة.
كنت شابة غير ناضجة في الثامنة عشرة من عمري .وأثناء دراستي في جامعة
تكساس ،كنت أحث الخطى عبر الحرم الجامعي الفسيح ألذهب إلى تشاباد هاوس
عدة مرات في األسبوع ،حيث كنت هناك أغسل األطباق وأ ّ
قطع مكونات السلطة
وأع ّد الطاوالت من أجل الخدمة أو من أجل االحتفاالت االخرى ،ومن ثم أنضم
إلى جلسات الدراسة وخدمات الصلوات وموائد الساباث الطويلة الصاخبة ،وأطرق
الطاولة بحماسة مع الفتيات األخريات محدثين إيقاع همهمات يصاحب إنشاد
الفتيان.
وتكرارا ،في صفوف الحاخام فرومان،
ً مرارا
ً وخالل هذا الوقت تلقيت الرسالة
وفي ال ِعظات ،وفي أحاديث التوراة التي تشاركناها على مائدة الساباث ،وفي
دراستنا مع الزمالء ،وفي التعليقات التي أدلى بها زمالئي في تشاباد هاوس.
الرسالة التي تقول إن إنجازي الحقيقي يتمثل بالزواج من الرجل الذي قدِر لي
االرتباط به ،وهذا هو ما أوجدني الربّ ألجله.
وعلى الرغم من كل ذلك ،فقد كنت أستمتع بالدراسة .وتحت اإلشراف الصارم
لألستاذ الهندي الزائر الذي كان يداوم على ارتداء البدالت البيضاء ،ويدخن
السجائر غير المفلترة من ماركة كاميل في الصف ،تعرفت على الشعراء كيتس،
ووردز وورث ،وتينسون ،وكولردج .كما وجدت استاذ تشيلو يبعث التحدي في
النفس وبدأت أكتب الشعر .وفي ظل انعدام رغبتي الجنسية وتغطية جسدي ،ووعيي
الدائم بالمتطلبات الحسيدية التي تقضي بإخضاع جسدي اآلثم ،تفحصت تماثيل
الرخام اإلغريقية العارية في دروس تاريخ الفن ،وتعلمت عن معاملة اإلغريق
سد للجمال الروحي ،والهيئة المثالية التي
للجسد البشري بوصفه المثال المج ِ ّ
استخدمت لتجسيد اآللهة .عاودت أخذ دروس في الرسم الحي مع العارضين العراة
واقتفيت بنظراتي منحنيات أجسادهم التي تقت للمسها .آنئذ أصبحت معاييري
الحسيدية واضحة المعالم ،فكنت أمشي في أرجاء الحرم الجامعي وكأننى محاطةٌ
بصندوق زجاجي وبداخل ذلك الصندوق كنت قد شرعت بمد أغصاني التي أينعت
أوراقًا.
ومع ذلك فقد أتيت لرؤية ال َحبر .لقد أردت الحصول على جميع األشياء ،فرغبت
بالروح الدينية وبالعبادة وبحس االنتماء ،كما أردت الذات الوليدة التي أحبت التعلم
وصنع الموسيقى ،والتي أرادت أن تجول العالم؛ لقد كنت مجرد مراهقة مليئة
دونت فيها ما يلي" :أعلم
بتناقضات نمطية .حتى أنني قمت بكتابة رسالة إلى ال َحبر ّ
بأنني مأمورة بالزواج ،لكنني لست مستعدة .فهل هناك مشكلة في أن أسافر وأدرس
ي الزواج ،لكني ال أشعر ،وال أميّز ،وال أعتقد بأنني ً
أوال؟" أيها ال َحبر ،أعلم بأنه عل ّ
أريد ذلك...أيها الحبر ،ساعدني على أن ألتزم وأصبح فتاة حسيدية ،واسمح لي بأال
ألتزم .ليس بعد.
عثرت على محل القرطاسية الصغير الذي يديره والد سيما ،الحاخام رينر .كانت
عيناه المترهلتان ذواتي لون أخضر تشوبه الزرقة ،ووض َع على رأسه األصلع
ضا ً
بنطاال أسو َد فضفا ً يارمولكة سوداء من القماش تشبه الطاسة ،وكان يرتدي
ي الحاخام ،ثم قادني بخطى بطيئة من
بب ّ
رفعته حماالت البنطلون إلى األعلىَ .ر ّح َ
حول جانب المبنى إلى مدخل مسكن العائلة ،حيث ساقيم.
كان حضور ال َحبر أشبه ما يكون بضباب دائم يخيّم على كراون هايتس ،وبدا نفس
ذلك الضباب يخيم على غرفة الجلوس في منزل آل رينر .جعل المكان كالمي
مقتصرا على الهمس .وكان المكان ملمعًا ومكت ً
ظا باألثاث وبخزائن الكتب العبرية،
وعلى صدر الجدار احتلت صورة ال َحبر موضعًا شرفيًا.
كانت هناك طاولة مستديرة بجوار كرسي مزهر حملت على األقل ثالث دزينات
من صور العائلة المؤطرة ،وظهر جميع من في تلك الصور ،ومعظمهم صغار
السن ،مرتدين ثيابًا على الطراز الحسيدي ،ومن بينهم صغار راكوفسكي الذين
ظهروا في إحدى هذه الصور .وفي القلب وضعت صورة مصغرة مبروزة لل َحبر،
تعبيرا يجسد الجحافل المؤمنة التي تناسلت من هذين
ً وبدا ترتيب الصور بأكمله
الزوجين العجوزين.
السيدة رينر التي ال يزيد طولها عن أربعة أقدام وثمانية إنشات رحبّت بي بابتسامة
قلّصت عينيها الالتي تحيطهما التجاعيد .خاطبتني قائلة" :هكذا إذن ،لقد أتي ِ
ت لرؤية
ال َحبر ".كانت سيما قد أخبرتني بأن المجتمع بكامله يفتح أبواب منازله دائ ًما للناس
الذين على شاكلتي "Baalei tshuvah" .هكذا يسموننا نحن األرواح األوابة
الباحثة عن طريق العودة إلى الرب .ثم طلبت مني السيدة رينر أن أجلس إلى طاولة
مطبخها الصغيرة من أجل شرب الشاي العديم الطعم وتناول الكعك الذي بدا طعمه
ي أن أمكث هناك لثالثة أسابيع ،وهي فترة االستراحة ما بين كالرمل .كان عل ّ
الفصلين الدراسيين .فأم َلت عل ّ
ي المواعيد التي ينبغي أن أصلي وآكل وأنام فيها،
وخرج كل هذا على هيئة تدليل على طريقة الجدات وهو ما جعلني أضحك .دعوتها
'ببي' رينر .أي الجدة رينر.
ي بين المالءات المكوية بالنشاء على وقع أجراسفي الصباح التالي فتحت عين ّ
لكن المحال التجارية كانت مفتوحةً في جادة
يوم الكريسماسّ ،
الكنيسة .صادف ذلك َ
كنغستون اليهودية ،ولم يطرأ أي تغيير على حركة المشاة .وفي الخارج ،رأيت
ثالث حافالت مدرسية مختلفة اصطفت على جانب الرصيف ،طبع على كل واحدة
منها اسم مدرستها بحروف عبرية ،وكان يصعد إليها أطفال حملوا حقائبهم
المدرسية وعلب غدائهم واعتلت اليارمولكات الملونة رؤوسهم التي تدلت منها
ضفائر جانبية صغيرة وانتعلوا أحذية تنس .ومن كنيس يقع في زاوية الشارع تدفق
الرجال الملتحون بعد تأدية خدمات الصباح ،ويع ّد هذا الكنيس واحدًا من عدة كنس
في المنطقة التي تحتضن الطائفة.
بدا المتبضعون واألسواق في كنغستون كمجموعة من الفرص .لعلني هنا أستطيع
أن أكتشف كيف أندمج في هذا المجتمع .هنا بإمكاني أن أستمع لحديث الناس مع
بعضهم ،وأرى ما يتبضعون وما يأكلون ،وأتعرف على الكتب والفن والحاجيات
اليومية التي يقتنونها لبيوتهم .كل غرض تفحصته في محالتهم أصبح جز ًءا من
ديكور منزلي المتخيل .وبحماسة العضوية الجديدة ،تذوقت عينات من األطعمة
وتل ّمست شاالت التاليت المخصصة للصالة وأباريق غسل األيدي ذات المقبضين
والصور األيقونية لل َحبر وصناديق تسداكا ذات الشق المخصصة للصدقة والكتب
العبرية ذات الحافات المذهبة والتي تفتح من اليسار وكتب األطفال ذات األلوان
الزاهية حيث الحيوانات حالل واألطفال يهو ٌد متدينون يتعلمون دروسا ً عن الرب
والسلوك الصالح.
استدرت عند زاوية إيسترن باركوي ( )Eastern Parkwayألبلغ شارع 770
إيسترن باركوي الواسع ،وهو المقر الرئيسي لحركة اللوبافيتش ،حيث يقع مكتب
ال َحبر .كان مدخل مترو األنفاق على مرمى النظر ،لكن المشاة الخارجين منه بدوا
وكأنهم يتالشون في الشارع .دقت أجراس الكريسماس عند الساعة العاشرة وعند
حلول الظهيرة ،ولم يبد بأن أحدًا قد سمعها.
أمر على المقر الرئيسي للوبافيتش ،وأسير بخطى سريعة على طول حدود حي
بيدفورد -ستيفيسانت ،وداخلي مليء بالسعادة والثقة .وبينما أسير ،حييّت مراهقًا
أسو َد كان يسير باتجاهي ويبدو سنه مقاربًا لسني قائلةً "مرحباً" بحماس أهل
تكساس ...وفي غمار غبش الرؤية الناتج عن حركتي ،لم ألحظ الغضب الذي كان
يظهر على وجهه المكفهر ،وال أجفانه التي ضيّقها .ولكن حالما أصبح أحدنا بجوار
االخر ،نفخ من بين شفتيه نفخةً قوية أطلق بها على قدم ّ
ي كتلة من البصاق قائال
"يهودية!" ،فتناثر البصاق على كاحلي.
قفزت من مكاني ،ثم جمدت من الخوف .رمقني بنظرة غاضبة وجعّد شفتيه مثل
شخص في فمه طع ٌم فاسد ،وكما لو كنت أنا تلك القذارة التي بصقها لتوه من فمه.
نظر أحدنا إلى اآلخر .فكرت بأنه كان يتحداني ألقول شيئًا ما ،لكنني لم أتمكن من
َ
النطق .كانت مشاعر الخوف والنفور والحزن تتملكني ،وال شيء غيرها ،لقد ش َّل
لساني ،وشعرت بأنني قد تم وضعي في الخانة الخاطئة في دماغه .رغبت في أن
أقول له إنك ال تفهم األمر.
في تلك اللحظة الوجيزة التي تقابل بها وجهانا ،لم أكن ليا ،ولم أكن امرأة حسيدية
أو جندية من جنود الرب أو حتى متمردة متسترة .وإنما كنت مجرد فتاة يداها
مرتعشتان تعرف بأنها تمثل بالنسبة لذلك الفتى فئةً مكروهةً بال وجه ،صنفًا غازيًا
أمرا خاطئًا جدًا يحدث هنا ،هنا في كراون
بال روح .راودتني فكرة أن هناك ً
هايتسّ .
لكن الفكرة كانت مثل فقاعة هشة قبل أن تهبط وتغيب عني ،مثلما غاب
الفتى.
أمام الميدان المكتظ الذي يقابل المقر الرئيسي لحركة اللوبافيتش ،والذي
ثم وصلت َ
يفضي إلى المدخل الكبير ذي الباب المزدوج .كان الحسيديم حينها يتوافدون منذ
أيام على كراون هايتس من جميع أنحاء العالم من أجل إحياء يود شفات (Yud
،)Shvatالذكرى السنوية لليوم الذي تسنم فيه ال َحبر مسؤولية القيادة .كان التج ّمع
قررا في ذلك المساء .أخبرتني السيدة
العام االحتفالي ( )farbrengenمع ال َحبر م ً
رينر بأن المنطقة هنا ال تخلو أبدًا من الناس الذين يتجولون فيها ،سواء أكانوا من
السكان المحليين أو من الزوار من مختلف أنحاء العالم ،بل وحتى من السياح،
ولكن ،مع كل هذا العدد من الزوار في البلدةّ ،
فإن الحشد يومها كان أضخم عددًا.
حاولت أن أتناسى مقابلة ذلك المراهق األسود .أردت أن أتطلع بالميدان بنفس
الطريقة التي تطلعت بها للمشهد في كنغستون ،كوسيلة العتناق ما يجري .كان
ضا ومعديًا ،داللة ذاتية تضج بالحماس
للصخب والحركة في المكان زخ ًما دينيًا ناب ً
وتصرح بأن نشاطات حيوية تجري هاهنا ،من أجل الرب .انتشر باعة األرصفة
الذين يعرضون كتب الفلسفة الحسيدية والشريعة اليهودية على امتداد محيط
الميدان ،وكانوا يعرضون بوسترات الصلوات والمقوالت التوراتية ،وميداليات
المفاتيح وأكواب القهوة والمفكرات التي تحمل صورة ال َحبر ،وصناديق اإلحسان
المسماة بالبوشكا وتمائم الميزوزاه وأكداس من اليارمولكات ومناضد مكدسة
بشاالت الرأس الملونة وكتبًا قصصية تروي معجزات ال َحبر .رأيت صبيًا مراهقًا
يعتمر قبعة سوداء واسعة وضع مقدمها على مؤخرة رأسه ،بينما كان صديقه يمضع
ً
سرواال أسو َد يستقر على أسفل وركيه كما لو أنه بنطال من الجينز، علكةً ويرتدي
نبت لكليهما خ ً
ط من الشعيرات الداكنة على الشفة العليا والذقن .وشاهدت امرأة وقد َ
ترتدي باروكة انسدلت حتى كتفيها ،وتنتعل حذا ًء ذا كعب عال ،وتلبس بدلة أنيقة،
تحاول أن تشق طريقًا لعربة أطفال مزدوجة تحمل طفلين كانت تدفع بها عبر
الميدان ،وفتاتين ترتديان تنورتين مربعتي النقش بتصميم الثنيات مثل تنورات الزي
المدرسي كن يلقين نظرة على البضائع .كما شاهدت رجال متسخا ،بك ّم معطف
للمارة وينتحب ً
قائال "امنحوني ّ ممزق ،مع انتفاخ في جيبه األيمن ،وهويبسط كفّه
ّ
دوالرا ،وامرأة ً متوسطة العمر تحمل علبة أمام
ً صدقة ،أظ ِهروا الرحمة" ،فناولته
المار ِة وتردد بإيقاع منتظم ":تبرعوا من أجل مدرسة بيس ِرفكا ".إذ كانوا ينوون
بناء يشيفا جديدة لتعليم الفتيات ،فأخرجت ورقة نقدية أخرى.
أخيرا ،عبرت الميدان و َخ َ
طوت عبر األبواب المزدوجة إلى داخل المقر الرئيسي ً
ى
لل َحبر .وعلى الفور ،وجدت نفسي في مكان ذي ثقل ومهابة ذكورية خالصة ،لح ً
ومهمات مكرسة للرب .لكن في كل ليلة ثالثاء ،يلتقي ال َحبر بك ّل من الرجال والنساء
الذين يَ ِفدون كح ّجاج .أردت أن أحجز موعدًا لمقابلته.
كانت البناية مكتظةً ،وباإلضافة إلى مكتب ال َحبر ومدرج الكنيس الضخم الواقع في
الطابق السفلي ،ضمت البناية دار نشر تطرح مطبوعات الرسالة بست لغات،
للرسامة ،ومكتب شلوشيم وهو مقر الدعوة العالمية لمبعوثي
ويشيفا كبيرة ِ
الحسيدية ،ويحتكر الرجال إدارة جميع هذه المفاصل كليًا .وبصفتي أنثى ،فقد
أصبحت تلقائيًا زائرة ودخيلة .وكل واحد من أولئك الرجال الذين كانوا يروحون
ويجيئون احتاج لمساحة وقائية عازلة تحميه من االحتكاك العرضي مع امرأة.
كنت أتوجس خشية من أن أشكل تهديدًا ،فلم أغامر بتجاوز الرواق .ثم جاءت من
خلفي تلك المرأة التي رأيتها تدفع بعربة األطفال المزدوجة ،وهي تحمل ظرفًا بنيًا
كبيرا من البريد ،فانتظرت مع ساعي البريد
ً وخلفها ساعي البريد يحمل كيسا
والمرأة .كان أحد صغيريها نائ ًما ،بينما ينظر اآلخر بعينين كئيبتين .تساءلت إن
كانت حقيبة ساعي البريد تحوي بداخلها الرسالة التي بعثتها للحبر في األسبوع
الماضي ،إذ إنني عملت بنصيحة توفيا الذي قال لي" :افتحي قلبك وأخبري الحاخام
بكل ما يعتمل فيه".
ذات مرة ،عندما كنت في دنتون ،كتبت رسالة مختلفة إلى الحبر ،اعترفت فيها
بشكوكي وبشعوري بالفتور تجاه الرب ،ومقاومتي للتهذيب الحسيدي ،وسألته
ً
وبدال النصيحةّ .
لكن خجلي البالغ منعني من االعتراف بأنني كنت أفقد اإليمان ،لذا
من إرسال تلك الرسالة ،ألصقتها في دفتر مذكراتي.
أخيرا اقترب رجل ذو لحية شائبة وقبعة سوداء وسألنا بشكل مستعجل" :هل بإمكاني
ً
ساعي البريد إلى مكتب صغير وراءه ،ث ّم قالت المرأة شيئًا
َ مساعدتكم؟" د َّل الرجل
باليديشية وسلّمته الظرف ،أما أنا فكنت ما أزال في غمرة الشعور بوضعي الجديد
كامرأة مقابل لحية هذا الرجل وطوله في هذه البناية المكتظة بالرجال ،فقلت شيئًا
من قبيل" :أوه ،كنت أتفقد المكان فحسب ".ثم تراجعت للوراء وتسللت خار ًجا.
حين أصبحت في الخارج ،رجعت عبر باب مختلف غير معلّم بأية عالمة ألدخل
إلى صالة النساء التي وجدت فيها نسا ًء يتجمعن أمام نوافذ زجاجية ويوجهنَ
أنظارهن لألسفل حيث المدرج الذي سيو ّجه فيه ال َحبر بعد قليل خطابًا للرجال .في
داخل هذا المكان امتزج األزيز العالي الناعم ألصوات النساء الخافتة مع أصوات
الفتيات وصراخ األطفال الصغار وروائح الشامبو ومزيالت العرق وبخاخ الشعر
والعطور والعرق األنثوي خفيف الرائحة وحليب األطفال المصنع ورائحة قيء
الصغار .تكيفت عيناي مع الضوء الخافت وأنا أمر للداخل متجاوزة ً فتاتين غير
متزوجتين ثبّتنَ شعورهن المكشوفة الطويلة إلى خلف رؤوسهن على نحو يخلو من
التكلف ،ويجلسن جنبًا إلى جنب ويتشاركن القراءة في كراس يحوي تعاليم ال َحبر
باستغراق تام كذلك الذي يمتاز به فتيان اليشيفا .تمنيت أن أكون واحدة من تلك
الفتيات .رغبت بأن أحوز على معرفتهن بالعبرية واليديشية .أردت أن أؤمن مثلهن
بأن الحاخام يوجه حياتي من خالل الكراسة وأن العالم الذي حددت تلك الكراسة
معالمه كان عالمي ،لقد رغبت باالنتماء.
ضا يصل حتى االلوح الخشبية التي
كان اللوح الزجاجي األخضر السميك منخف ً
تغطي أسفل الجدار ،أما النسوة ّ
فكن محشورات على مقاعد طويلة تقابل الزجاج،
غير أن المكان األمثل للمشاهدة كان مسافة ضيقة أمام تلك المقاعد ،وقد ازدحمت
باألجساد على الرغم من ضيقها .انقطعت عن التفكير في الرجال الذين يحتشدون
في األسفل ،جاهدت لشق طريقي للدخولّ ،
لكن كل ما استطعت رؤيته كان ظهر
كتف إحداهن .حاولت أن أتلوى أللج إلى الداخل أكثر لكني لم أستطع التقدم .كانت
إحدى النساء تضغط على جانبي األيسر ثم أخذت تزفر ونزعت فردة حذاءها.
"أوه كال .هكذا لن أتمكن أبدًا من الرؤية ".أخذت بالشكوى.
قالت المرأة" :عودي إلى هنا في الشهر القادم ،فالحشد سيكون أقل عددًا".
أجبت" :سأكون قد رحلت".
"من أين أنت؟"
"من تكساس".
وفجأة أصبحت مبعوثتي الشخصية ،ونقرت بأصبعها على كتف المرأة التي تسد
الرؤية أمامي وقالت لها" :دعيها تمر .إنها من تكساس!" أفسحت امرأتان مختلتفان
لي مسافة بوصة أو بوصتين .تذمرت إحدى النساء ،لكن صديقتي الجديدة أصرت
على ما طلبت" .دعيها تدخل!" ثم شعرت بيد تمسك بذراعي من مكان ما في
المقدمة وتسحبني عبر الزحمة ألجد نفسي أقف بعدها قرب الزجاج ،ثم قالت:
ي ".كانت ابنة أخت سيما.
صا من تكساس يقيم مع جد ّ
"تكساس؟ أعرف شخ ً
عندما اقتربت ،وجدت فرجةً بين الزجاج األخضر المخدش واإلزارة الخشبية تتيح
لي أن أنظر من خاللها للمدرج إن قمت باالنحناء .حتى أنها تتيح لي الحصول على
نسائ َم من الهواء المنعش.
في األسفل كان هناك بحر هائل يموج بالقبعات السوداء ،هذا عدا عن آالف القبعات
األخرى التي كانت تتدفق إلى القاعة المفتوحة .كنت أعرف بأنهم سينتظرون
لساعات إذا اقتضت الضرورة من أجل أن يستمعوا إلى خطابات ال َحبر المعقدة
ويشاركوا بغناء الترانيم الحسيدية التي بال كلمات".إن سماع ال َحبر يشبه الصالة"،
ي بنحو غريب ً
قليال. قلت للفتاة التي أنجدتني .هزت برأسها ونظرت إل ّ
يتعين على أي شخص في ذلك الحشد أن يشغل مجلسه وأن يلزم مكانه ،وكانت
ً
وصوال إلى السقف ممتلئة عن بكرة أبيها ،وجميع الرجال جميع المدرجات الخلفية
على المدرجات حتى الصف العلوي واقفون ،ويميلون بأجسامهم إلى نفس الناحية
ويقدمون أكتافهم العليا للخارج .استدعى منظرهم في ذهني مشهد قطع الدومينو
وهي تتداعى" .كم يتراوح عدد الرجال الذين في األسفل؟" سألت الفتاة.
أجابت قائلة" :إممم .سبعة أو ثمانية آالف".
والحت بعض االلوان بين كل ذلك البياض والسواد تعود أغلبها لثياب األطفال
الصغار .انحنى أحد الصبيان الصغار لألسفل واختفى ،ثم ظهر ثانيةً على بعد
بضعة أقدام .قلت متسائلةً" :هل رأي ِ
ت ذلك الصبي؟ كيف تمكن من التحرك؟
أجابت الفتاة" :إنهم يزحفون بين األرجل .فدورات المياه تقع في الخلف".
والح لون آخر ،زهري هذه المرة .قلت" :هل أرى فتاة ً هناك في األسفل؟"
"إنه أمر جائز حتى تبلغ الفتاة قرابة الرابعة من عمرها .كنت أرافق والدي إلى هنا
حينما كنت صغيرة".
"إذن فهذا الرجل الذي بجانبها هو والدها؟"
"على األغلب".
كانت هناك يارمولكات ملونة واحدة منها برتقالية وثانية خضراء وأخرى زرقاء
مع بضع قبعات بيضاء أو بنية تناثرت عبر بحر القبعات السوداء .وكانت هناك
قبعات بيسبول بألوان كثيرة ،إحداها تعلو رأس رجل جم َع شعره على هيئة ذيل
زوار من محبي االستطالع أو الباحثين عن
ٌ حصان .كان من الواضح أن جميعهم
ضيوف دعيوا من طرف أولئك
ٌ الروحانية ممن هم في بداية الدرب مثلي ،أو
ّ
وكأن كل شخص في كراون هايتس يعمل بالمجال العاملين في الدعوة ،لكن بدا
الدعوي ،فمبشرو ال َحبر ال ينفكون عن العمل أبدًا ،وفتيات المدرسة الثانوية
الحسيدية يواظبن على حمل المطويات وعلب شموع الساباث في حقائبهن قبل
الخروج إلى التسوق في المدينة ،تحسبًا للقائهن بيهودي ضال ،وكان الرجال يدعون
زمالءهم في العمل والغرباء في الشارع ،فيما ذهب بعضهم إلى مانهاتن ليسأل
المارة :هل أنت يهودي؟ من فضلك ،هل أنت يهودي؟ فيعجل معظم المارة سيرهم
ويكملون طريقهم ،لكن في بعض األحيان يستجيب أحد اليهود بدافع الكبرياء أو
الفضول ،ويوافق على السماح ألحد الحسيديين المخلصين بأن يربط صناديق صالة
تفيلن فوق ذراعه ،وأن يلّف الشريط الطويل إلى أسفل ذراعه بالنمط الصحيح وأن
يثبت عقدة الجزء المخصص للرأس خلف رأسه ويساعده على تالوة صلواته .لعل
هذا يجعل الرجل يتذكر والده وجده حين كانا يفعالن الشيء ذاته .سيقدم الحسيدي
ضا من حكمة ال َحبر ويدعو المهدتي المستقبلي الذي اجتذبه إلى القدوم إلى هنا،
بع ً
إلى ال َحبر.
وبين الحشد الكثيف في األسفل ،وضعت طاولة فارغة على منصة مرتفعة ،فبدت
كأنها جزيرة قاحلة وسط البحر .على الطاولة ثبت مايكروفون ،وعند منتصفها
سي بالمخمل األحمر .بدا أن المدرجات التي تقع خلف المنصة
وضع كرسي واحد ك َ
محجوزة للشيوخ؛ فانتصبت الطاولة أمام خلفية طويلة من اللحى البيضاء.
وسرعان ما انطلق نغم باريتوني بهيج فاض على الحشد ومأل القاعة وارتفع إلى
النسوة الهائمات الالتي يجلسن في األعلى .كان الرجال يتمايلون وهم يغنون،
ودخلت مزيد من القبعات للقاعة .لم تتسع مخيلتي ألستوعب كيف ستتسع القاعة
للمزيد من الحضور .ثم ،وبلحظة واحدة ،توقف الغناء .أنفاس جماعية متسارعة.
انتشر الهدوء مثل موجة .رفع اآلباء أطفالهم إلى أكتافهم .ومن خلفي ،همست إحدى
النساء" :إنه هنا!" وقالت الفتاة التي سحبتي للداخل ،بعد أن شدتني وأشارت بيدها:
"ال َحبر هنا!" فانثنيت ً
قليال لكي أرى ،ناظرة الى االسفل.
وحال دخوله من األبواب إلى القاعة ،وقف ال َحبر ال مباليًا أمام آالف الرجال
المنتظرين الذين تملكتهم الرهبة عند رؤياهَ .حبرنا هو الحاخام مناخيم منديل
شنيرسوهن ( ،)Menachem Mendel Shneersohnروسي المولد ،وكان
ممن نجحوا بالفرار من أوروبا في ذروة االبادة .إنه صورة ٌ للعزيمة والقوة
الروحانية ،نظرته الهادئة رزينة وعميقة ،عريض الصدر ،ذو لحية بلون رمادي
فضي أطالها حتى منتصف صدره ،واعتمر قبعة سوداء كبيرة بالها ال ِق َدم .وتزنّر
بوشاح لفّه على سترته التي بلغت حد ركبتيه.
جمد الجميع بال حراك ،ستة عشر ألف عين في األسفل ،باإلضافة إلى عيون النساء
واألطفال الذين كانوا يراقبون من األعلى ،تحدّق لتمتص شيئًا النهائيًا من هذا
الرجل ،وقد كنت بينهم ومعهم .كنا قد أظهرنا ال َحبر إلى الوجود بقوة األمل
الجماعي .شعرنا بأنه كان يجسدنا نحن ،يجسدنا جميعًا .امتألت القاعة بالبكاء
الصامت :أيها ال َحبر؛ ساعدني ،أعطني ،أرني ،أخبرني ،علمني ،أنقذني .أعطني
الرب ،أعطني نفسي ...أيها ال َحبر.
جال ال َحبر بنظره على الحشد ،وبدا كما لو أنه يقول ،دعوني أخفف عنكم.
كان هناك حشد متراص من القبعات ومسافة ليست بالقصيرة بين ال َحبر ومقعده
عند الطاولة" .راقبي هذا" همست الفتاة في أذني.
بدا المشهد من األعلى مثل شق في قماش أسود مهتز .بدأ ال َحبر يشق طريقه إلى
األمام باستقامة بين الحشد الكثيف ،وفي كل خطوة يخطوها يتسع الشق ً
قليال ثم
ينسد خلفه فيما يتنحى الرجال أو يتراجعون أمامه ،مخلين مساحة للحبر لم تكن
ق ال َحبر ً
باال للناس الذي كانوا يتنحون من أمامه. موجودة قبل تلك اللحظة .لم يل ِ
كان يسير لألمام فحسب ،يوميء برأسه ويبتسم للناس الذين بدوا جميعًا مذهولين
من انتباهه لهم.
قالت الفتاة ".Krias yam suf" :فالق البحر األحمر.
فقلت" :إذن ،فالحبر هو موسى".
لكم رغبت بأن أكون في األسفل ،أتنفس الهواء الذي يتنفسه الرجل ،الهواء الذي
فيه وجود الرب .بيد أني كنت ما أزال أسمع همس أمي الناضح باالزدراء ،إنهم
ست في أذني .ال بد أنها مخطئةّ ،
ألن سيما أخبرتني بأن اليهودي ال يعبدونه! هس َه َ
ً
رجال ،وال يحتاج لوساطة للوصول إلى الرب البتّة .أخبرتني سيما أن "الرب يعبد
يلقي سمعه لكل أحد ،لكنّه يلقي بسمعه أكثر ً
قليال لقديس مثل ال َحبر ".فعاودت أمي
عليك أن تفكري بنفسك .لكن ألم أكن أنا التي أش ّكل قناعتي ،ولم أدعها
ِ الهسهسة:
تفكر عني؟ أنا من توصلت إلى قناعتي .أدرت رأسي كما لو أنني كنت التفت تفاديا
لها ألغوص في التيار الجارف لتبجيل ال َحبر والثقة به.
درجتا سلّم تؤديان إلى المنصة ،ثم استقر ال َحبر في كرسيه األحمر أمام المايكروفون
لكي يلقي خطابه الذي يستمر لساعات .وحالما بدأ بالحديث ،لم أفهم إال القليل وقد
تطلب األمر وقتًا قبل أن أدرك أن الصوت الذي يصل إلى صالة النساء كان مشو ًها
للغاية ،وأن الكثير من أولئك النساء القادرات على فهم اليديشية بسهولة لم يستطعن
أن يسمعن بالمقدار الكافي لفهم الحديث .لم يمكن أمامي ما أفعله سوى الوقوف
هناك .بدأت الطاقة الروحانية العالية بالفتور ،تنهدت .همست الفتاة التي شدتني
للداخل" :أعلم بأنه يصعب عليك السماع ،لكن دعي روحك تتشرب هذا كله
فحسب".
أخبرتني سيما مسبقًا بأن الحبر يتخم أحاديثه بشواهد من التوراة والتلمود والقباالة
والشروحات القديمة ،وأخبرتني كيف أنه يستنبط المعنى من خالل االستدالالت
الحاذقة أو حتى من خالل الحذوفات التي انطوى عليها النص .سيتم تسجيل أحاديث
اليوم وطباعتها ،ومن ثم يتم نشرها بسرعة على النطاق العالمي من أجل تدارسها.
اختتم ال َحبر كل قول له ِبحثِ ّنا على إطاعة الشريعة بقدر أكبر ،ودراسة الكتب
المقدسة بقدر أكبر ،والصالة بقدر أكبر ،وكذلك تمجيد األدوار المنفصلة المخصصة
للرجال والنساء على نحو أكبر ،ونشر الكلمة بقدر أكبر .وانتهى كل قول له بوعده
سرى ترقب قدوم المسيا عبر حشد الحضور
أن المسيا سيأتي من خالل جهودناَ .
مثل تيار من الطاقة.
دوت القاعة بصيحة "آمين" مجلجلة
ما أن انتهى الحبر من خطابه ( ،)sichaحتى ّ
انطلقت من األسفل واألعلى .مكثنا نترقب بأنفاس متباطئة ،ولهنيهة تساءلت مع
نفسي ماذا سيقول الحبر عن رغبتي بتأجيل الزواج .ثم ش ََرع بالغناء ،فكان صوته
أجش وقويًا ،واألغنية نقيّةً وثاقبةً مثل صرخة ،كنا كما لو أننا نطلّع على
َّ المسن
محادثته الحميمة مع الرب .Tzamah lecha nafshi :روحي متعطشة لك.
بدني متعطش لك ،في أرض جافة ،ناشفة بال ماء .رد َد الحاسيدم غناء نفس األبيات
من ورائه :روحي متعطشة لك .بدني متعطش لك.Kamah lecha besari .
كان الحاسيدم وال َحبر عشاقًا تشاركوا نفس الضمأ للرب ،فكل حسيدي يركز على
رغبته بالهروب من الهموم ويلقيها على رجل واحد مسن يجلس على كرسي ملفوف
بالمخمل األحمر .لقد رغب كل حسيدي باحتضانه ،ومن ثم اإلمساك بطرف معطفه
ي متزايد
وتكرارا في دو ّ
ً مرارا
ً والتحليق معه إلى الرب .ردد الحاسيدم أغنيتهم
الحماسة .روحي متعطشة لك ،بدني متعطش لك .وضع الرجال أكفهم فوق
وجوههم ،تمايلوا وبكوا .الحشد ،التيار :كنت في تلك األغنية ومنها ،امتألت بها،
ضا لكي انغمس في هذا .وكان هذا يتحقق لي .كنت
ي أنا أي ً
وانتقلت .فأغلقت عين ّ
أحلق ،وأعلو عن توافه اآلمال وصغائر األحالم ،أطير بعيدًا عن عائلتي المشتتة
ملتحمةً بهذا المجتمع ،مع الرب ،مع الحبر .كانت الزمة األغنية من دون كلمات،
ياماماماما ،صرخةَ توسل ّ
مدوية.
ثم ،للحظة ،استفقت مما أنا فيه .للحظة ،استطعت أن أرى بأنني في الحقيقة كنت
معزولة عن ذلك التيار الذي في األسفل ،ولم أكن في وسطه البتّة .كنت ،في نهاية
األمر ،أقف في األعلى ،خلف الزجاج .لكم رغبت أن أغوص إلى األسفل ،أو
باألحرى أعوم في األسفل ألختلط وأنا غير مرئية مع الرجال وأصدح بالغناء بذات
الطريقة التي يغنون بها .رغبت أن أكون واحدة منهم ،معهم ،وليس مجرد متفرجة
من المحيط الخارجي لتلك األجواء.
استأنف ال َحبر الغناء على نغم للسلم الموسيقي الصغير مرة أخرىKain :
- bakoidesh chazisichaلذا فإنني في القداسة أبحث لكي أبصرك -ورد َد
الرجال ثانيةً الزمة أغنيتهم التي بال كلمات .وهكذا استمروا ،يتبادلون الغناء ،فكان
الحبر والحسيديون يملئون الكون ويمأل أحدهم اآلخر ،يشدهم إلى بعضهم ِرباط
األغنية وسبيل الوصول إلى الرب ،فيما أنظر إليهم من األعلى من وراء الزجاج.
بعد العودة إلى أوستن ،رحت أشق طريقي بشكل يومي تقريبًا إلى بناية الموسيقى،
هناك حيث أجلس مع التشيلو في غرفة تمرين صغيرة وأدلك القوس بصمغ
الصنوبر .ساللم موسيقية ،فيفالدي ،مقطوعات باخ الفخمة وبالغة البساطة .انغمست
ويسارا،
ً في بركة الصوت الصافي .وبينما كانت يدي تهبط بالقوس وتصعد ،يمينًا
كان وجع الوحدة يتجلى ويشتد .كانت الرغبة تتدفق مني عبر يدي إلى التشيلو.
تالشت كل الكلمات التي دائ ًما ما كانت تحاوطني ،كانت كلمات كثيرة ،من أساتذة
وكتب دراسية وكتاب وفالسفة موتى ،ومن سيما ومن الكتاب المقدس والخطابات
الحسيدية ،ومن الحاخام راكوفسكي وتوفيا وال َحبر وإيسر والحاخام غيلر والحاخام
فرومان ،ومن أصوات الماضي التي ما زالت حيّة في ذاكرتي ،وما زالت تتحدث
ي وآنا .كانت الموسيقى والغناء بمثابة منزل ،ومتى ما أكون
ي وأخت ّ
إلي ،ومن والد ّ
ي لإلحساس؛ في تلك البركة
وحيدة مع موسيقاي فإنني أحبس تلك الكلمات وأفتح أذن ّ
الدافئة ،يبدو حتى ألمي شيئًا صائبًا وحسنًا ،فسمحت للوجع القديم أن يزهر .كانت
النوتات تلفني وتغذيني ،وتمنحني الدفء حين تسري مهتزة عبر عظامي.
بعد مرور أسبوع على التجمع الحسيدي مع الحاخام (فاربرنغن) ،عدت للخروج
في جادَّة كنغستون ،متوجهة إلى بيت ابنة أخت سيما .حينها غدا من الطبيعي أن
أمر على صور ال َحبر المعلقة على نافذة كل محل .كانت السماء ذات زرقة رمادية
لكن الجو لم يبد باردًا جدًا على النسوة اللواتي ك ّن يعصرنَ
تميّز باكورة الشتاءّ ،
الفاكهة في محل البقالة الذي يقع على الزاوية واللواتي كن يصحبن أطفالهن
بمالبسهم الثقيلة مع عربات أطفال مزدوجة ،أو على األطفال المتوجهين إلى متجر
الحلوى ،أو الرجال الذين يذرعون الشارع مثقلي الوعي ،أو المراهقين الضاحكين
الواقفين في مجاميع ثالثية أو رباعية مفتعلين المشاجرات .لكنني آنئذ ،وللمرة
سا سودًا في الشارع ،كما لو أن غشا ًء شفافًا قد نزل على
ضا أنا ً
األولى ،أبصرت أي ً
العالم الذي تأتى لي أن اكتشفه .لقد مكنّني الفتى الذي بصق على قدمي في شارع
سا حقيقيين ،يرتدون السراويل أو الفساتين ،القديمة
إيسترن باركوي أن أرى :أنا ً
منها أو العصرية ،مع سترات أو بدونها ،ببزات رسمية أو بدالت من ثالث قطع،
ً
وأطفاال يحملون علب الغداء المدرسية ،ومعاطفهم مفتوحة للهواء ،ومراهقين
بتسريحات "األفرو" ،أياديهم محشورة بالجيوب األمامية ،وأمشاط أفرو كبيرة في
جيوبهم الخلفية ،أو قبعات بيسبول مسحوبة لألسفل .لكني لم أر أي نظرة أو حديث
بينهم وبين الحاسيدم .كان الجيران السود غير مرئيين ،وفي واقع األمر فقد كانت
كل مجموعة غير مرئية بالنسبة لألخرى ،كل واحدة منهما تتحرك على مستوى
غير الذي تتحرك عليه األخرى .حين مرت إحدى النساء من جانبي ،حييّتها بقول
"مرحبا!" فشزرتني بنظرة غاضبة وأكملت طريقها .انتابتني الصدمة حين كنت
أشاهد الناس الذين ال يرون أحدهم اآلخر .وكرهت أن أكون موضع كراهية ،وكما
لو أن قراري سيصنع فارقًا ،قررت :أنا أحبّ الحسيديم ،لكنني سأعود للمنزل بعد
أن ألتقي بال َحبر.
"ليا! حان وقت دخولك ".هكذا خاطبني السكرتير الشخصي لل َحبر ،ذو اللحية
المختلطة األلوان والنظارات السميكة السوداء والوجه المتعب ،نفس الرجل الذي
انسحبت متراجعة منه في مقر اللوبافيتش في ذلك اليوم الذي أعقب وصولي .وها
قد عدت اآلن إلى نفس البناية أنتظر خارج مكتب الحبر بعد منتصف الليل.
أوستن .في الصباح يستيقظ ليفي ويجمع ثيابه ويتوجه إلى الحمام بمنامته ويقفل
الباب خلفه .أتذكر تلك الفتاة المحتدة الملتفة بمنشفتها في مينيسوتا وبصرختها "إن
حيائي هو أمام الرب!" وال أحتج .أنتظر خارج الباب المقفول ،بيد أني أنشغل
بالتفكير بينما أنا واقفة هناك :على الرغم من حضور الدين في حياتنا ،فقد أصبحنا
أحرارا بقدر أكبر .لكن خلفي ،خلف هذا الباب المغلق ،ما يزال هناك الصرير
ً
سك بالحياء ح ّد
لم هم شديدو التم ّ المكتوم لصنبور الدش ،صوت المياه المندفعةَ .
ّ
التزمت؟ أتمنى لو ّ
أن بإمكاننا تفريش أسناننا وارتداء ثيابنا معًاِ .ل َم ليس باستطاعتنا
للمس
ّ التصرف بحميمية غير متكلفة حين نكون سوية؟ ِلم يبدو أنه ليس بحاجة
العابر؟ أريده أن يعانقني ،عناقات دافئة وقصيرة.
أخبر نفسي بأن وجودي مع ليفي يعطيني إحساس المنزل ،إال أنني أحتاج أن أتيقن
من دوام هذا الشعور .لكن كيف يمكنني تحقيق ذلك بينما ال يمكنني لمس خط عموده
فورا على التصور
الفقري عبر ثيابه متى ما شئت وأنا بتلك اللمسة سأكون قادرة ً
الدقيق للطريقة التي يدير بها ظهره تحت الدش ،وسأتخيل كيف يغلق عينيه ويرفع
ي ساقيه المبللتين حافات
وجهه نحو رشاش الماء ،وكيف ستشكل العضالت في ربلت ّ
بزوايا تحت تيار الماء الجاري؟ بعد أن نفترق كل صباح ،أسير عبر الحرم الجامعي
وأحيانًا يقع نظري للحظات وجيزة على جسد ذي منحنيات ،أو فتاة تقلب شعرها
خجال حين أفعل ذلك .أستمر بالسير فحسب،ً تحت ضوء الشمس .لم أعد أح ّمر
أحس أقلّه بذلك الشعور ناحية ليفي ،لكن كيف أتمكن
ّ وتوق مبهم يغمرني .أريد أن
من ذلك عندما ال تكون حتى رؤيته وهو يستبدل ثيابه في الصباح مشهدًا مألوفًا؟
شعورا ال أستطيع اإلمساك به ،وحتى
ً إنه يصبح شخصية هاربة أخرى .لقد أصبح
وآخر.
َ آخر،
لو استطعت فتح هذا الباب المقفول ،فسأواجه بابًا َ
في إحدى الليالي ،أعبر الخط الفاصل وأحشر جسدي إلى جانبه على السرير
الضيق .أدس نفسي في حضنه وألّف يده النائمة حولي ،ثم أرقد هناك وأجفاني
مسكونة باألرق .أريد حضنًا دافئًا أكثر رقة ويناسب حجمي ،فقد كان جسده متصلبًا
وضخ ًما وخشنًاِ .ل َم ال يتالشى هذا الفراغ؟ أشبك أصابعي بأصابع يده الغافيةّ ،
لكن
يده كبيرة وخشنة ،وذراعه عريضة وثقيلة للغاية وتضغط على صدريِ .ل َم أنا هنا؟
كوكب آخر .أحاول أن أتنفس .ال أستطيع الشعور بشيء سوى
ٌ ّ
كأن هذا السرير
الحاجة العميقة العميقة ألن أشعر ،وها أنا بدأت ألومه على حاجتي هذه.
الثامن عشر من أيلول .1975 ،خمسة أسابيع بعد زفافنا .يرجع ليفي للمنزل من
الجامعة ويلقي على المنضدة بنسخة من صحيفة أوستن أمريكان ستيتسمان .كان
عنوان الصحيفة الرئيسي :إلقاء القبض على باتي هيرست .اختطفت باتي قبل تسعة
شهرا ،عقب تركي للمنزل مباشرة ً .ثم اعتنقت قضية آسريها ،وشاركتهم
ً عشر
جرائمهم .تشغل باتي تفكيري طوال اليوم ،وعلى مدار األشهر التالية ال تتالشى
صورتها العالقة في ذهني وهي مقيدة باألصفاد .وفي لحظات تطغى عليها الغرابة،
أفكر :يالها من فتاة مسكينة ومخدوعة ،إنها تقبع في الحبس اآلن.
في الصيف التالي ،حزيران ،1976وفي الذكرى المئوية الثانية الستقالل البالد.
في متجر البقالة وفي محطات الوقود المنتشرة على طول الطريق إلى داالس رأينا
مجسمات مصغرة لجنود المنتمان ( )minutemenوأعال ًما أمريكية صفّت على
طاوالت المحاسبة .مكثنا مع والدي ليفي؛ إذ غالبًا ما يستشير ليفي والده على
وقدرا
ً الهاتف بشأن خططه الدراسية والمهنية .اقتنت والدة ليفي من أجلنا صحونًا
جديدًا للطهي ،ووضعتهم في صندوق مغلق لكي نستطيع أن نطهو طعامنا الحالل
ونتناول وجباتنا سوية .كان منزلهم مرتبًا ويلمع من فرط النظافة .لكن بدافع من
قوة اجتذاب غامضة تنبثق حالما نصل إلى داالس ،وا ً
متثاال للشريعة ،وبدافع الذنب
أيضاً ،أتوجه لزيارة أمي حالما تطأ قدمي المدينة بعد أن أترك ليفي مع والديه .إنها
تعيش بمفردها اآلن ،فقد انتقلت آمي من المنزل وغادرت ديبي منذ أمد بعيد .كما
مؤخرا بنقل أبي إلى شقة أخرى قريبة.
ً قامت أمي
اتصلت بي أمي قبل بضعة أسابيع ،وبصوت رتيب وقوي مثل مذيع نشرة جوية،
أبلغتني أخبار طالقها من أبي .تنقشع السحب من السماء .يغادر أبي .كان حديثًا
ت فيه على ذكر انقضاضه عليها خالل حلقة عالج
مقتضبًا استمر لدقيقة لم تأ ِ
جماعي في المستشفى النهاري ( ،)the day hospitalأو على ذكر الممرضين
الذين هرعوا لحمايتها ،أو الطبيب الذي قال بأن على أبي أن يتعلم العيش في العالم
من جديد ،وربما ينبغي عليه فعل ذلك من دون ضغوطات الحياة الزوجية .كما لم
تذكر بأنها حصلت له على تمويل إعاقة ،وجهزت شقته باألثاث ،وساعدته على
االنتقال .قالت بأنها لم تؤمن بالطالق ،وأنها ستفعل ما بوسعها من أجل أن تتحسن
حالته ،فقد عاشا معًا في زواج دام لسبعة وعشرين عا ًما.
أركن السيارة خلف سيارتها الماليبو الزرقاء القديمة ،السيارة التي تعلمت فيها
القيادة ،بجوار شجرة الحور التي كنت أتسلقها ألصعد على السطح حيث كنت أقرأ
وأحلم .طالت الشجرة وازدهرت ،غَز َرت أوراقها التي تتخذ شكل القلب ،وغلظ
عا ومنزا ًحا،
جذعها الذي كان ناع ًما .بيد أن البيت تقلص حجمه .كان األساس متصد ً
سرة .في الطرف البعيد من الرواق يجلس
أما سقيفة الرواق فقد كانت مائلة ومك ّ
ً
مقفال، حصاني الهزاز القديم المتسخ على زنبرك صدئ .لم يكن الباب األمامي
فخطوت للداخل.
وفي محيط مجال رؤيتي ،يصعد شبح الفتاة ذات األربع سنوات التي كنتها على
الخياطة وذا خصر
قصيرا منزلي ِ
ً ً
سرواال الحصان الهزاز .ترتدي الفتاة الصغيرة
مطاطي مع قميص بال أكمام .إنها حافية ،ويبدو شعرها الطويل ذو اللون الرملي
كما لو أنه لم يالمس فرشاة ً منذ مدة .كانت ساقاها سمراوتين من أثر الشمس
وتغطيهما آثار لدغات البراغيث .كانت أصغر بكثير من أن تصل أقدامها لمساند
األقدام الخشبية ،لذا فإنها تتوازن على المساند بالوقوف على أطراف أصابعها
وتنحني لألمام من أجل أن تمسك بالمقابض المصبوغة باللون األحمر .إنها تجد
بهجة في سماع الصرير الموسيقي الذي يصدر عن الزنبرك ،فتهز نفسها حتى
تدخل في غشاوة بصرية من ألوان متأرجحة .إنني أتذكر اآلن ،كم كنت مطمئنة
حينها ،على ذلك الحصان الهزاز ،كنت أعدو بالحصان بسرعة مذهلة تصيبني
ي وهذا المنزل.
ي وأخت ّ
بالدِوار بعيدًا عن والد ّ
يبدو أن كل تراجع للخلف هو سقوط في الذاكرة ،وكل عودة للوضع المستقيم هي
عودة إلى الحاضر ،أما عندما تميل لألمام ،فتلك غطسة في مستقبلها ،تمنحها لمحةً
خاطفة عن حياتها المتخيلة التي ستكون حياتي ،إن كانت ستواصل النظر والتشبث.
وعندما تصل إلى أقصى نقطة في األمام تفقد التوازن ،وعندها تبتسم ابتسامة شبه
جامحة.
أتذكر إثارة ذلك التوقف المسبب للدوار عند نقطة النهاية ،قبيل أن تجرني المقاومة
ألقف عائدة للحياة ،كما كانت .كنت متيقنة حينها من أنني أعرف حصاني .كنت
أعرف موسيقاه ،وأعرف الحياة المتخيلة أكثر مما أعرف الحياة الحقيقية.
و في داخل المنزل ،في المدخل المظلم ،يتسلل شبح الطفلة إلى الداخل قبلي .تجلس
عند البيانو القديم المغبر في الغرفة األمامية ،تفتح الغطاء وتعدل كتاب بيانو
صا للتالميذ ،وببطء تنتقي لحن "ثالثة فئران عمياء" بعد جولة محيرة .وهاهي
مخص ً
پنكي ،مدبرة المنزل المحبوبة ،تضع يدها على كتف الفتاة ،وتستمع لجهودها
الخائبة ،لكن التشجيع والدفء يسري للفتاة عبر تلك اليد ،قبل أن تغادرنا ،نحن
الطفالت الثالث الكفيفات.
لكن الفتاة تفلت اللحن في منتصفه .تعبس وتتوجه إلى الرواق المظلم .كانت باألصل
محاصرة ً بعاطفة مفزعة نحو أمها .إنها تتعلم باألصل أن تحاول أال تشعر ،ألن
عالم الشعور ينتمي إلى أمها .إنها تريد باألصل ان تركض نحو أمها وأن تهرب
بعيدًا عنها في الوقت ذاته .ليتني أستطيع أن أتذكر أمي وهي تضمني .أهز رأسي
حتى أجعل شبح طفولتي يختفي.
مهجورا ،بيد أن الغريب في األمر هو أن معظم األكوام قد اختفت.
ً يبدو المكان
يتناهى إلى سمعي صوت من الغرفة الخلفية فأنادي" :أماه؟" وعلى الفور أكره
النبرة الحزينة في صوتي" .أماه؟"
في نهاية الرواق ،ادفع باب الغرفة فأجدها في سريرها ،ترتجف من شدة األسى.
كان القنوط يستولي على كامل جسدها ،فكانت تنتحب وسط مالءاتها وبطانياتها
وحشة .تراني وتمد يدها.
تكومت حولها مثل تالل م ِ
التي ّ
أخاطبها" :أماه؟ ما األمر؟"
تقول وهي تنتحب" :إنني وحيدة ".ليس من الصواب أن يتو ّجب عليها أن تصبح
وحيدة.
أقترب إليها ،تمسك بي وتلوذ باكيةً إلى صدري ،أشعر بخدها يالمس معدتي .تبكي
وتصيح باسمي "ليزا ،ليزا!" أقف عاجزة تما ًما ،ال يدي تطاوعني على لمسها وال
أنا قادرة على االبتعاد عنها ،تتنازعني حاجتان ماستان إحداهما تحثّني على المض ّ
ي
ي وأن أمنحها كل شيء
قد ًما ،وأخرى على لرجوع .أرغب أن أحتضنها بين ذراع ّ
ضا بأن أدفعها بعيدًا عني وأهرب.
احتجته منها يو ًما ،لكنني أرغب أي ً
لكنني ال أستطيع المغادرة .أتمتم بيأس كال ًما أخرقَ وعديم الجدوى" .ال بأس"
ي.
أقول لها .ألمس كتفها بأطراف أنامل إحدى يد ّ
تتشبث بي وهي تنتحب.
أقول لها" :ال تبكي .ال تبكي".
إنها تلطخ ثوبي بالدموع والمخاط ،وتقول" :ليزا".
لكنني لست ليزا .ليس بعد اآلن .ال يمكنني فعل هذا.
ي مستسلمة ،أتراجع ،أقول" :كال ،ال أستطيع .كال.
أسحب نفسي بغتة وأسبل يد ّ
إنني آسفة .كال".
أستدير وأهرب.
أخرج السيارة من موقف ركنها إلى الشارع بسرعة مجنونة ،كما لو أن شب ًحا
يطاردني ،وكما لو أن باستطاعتي اإلفالت منه .سيزول المخاط من ثوبي بعد
غسله ،لكن ،وقبل أن أعود إلى ليفي ،فقد تسربت دموع أمي من خالل الثوب ومن
خالل بشرتي واستقرت في داخلي ،وأصبحت تلك الدموع وجعًا خياليًا ال يغادر
صدري .ليزا!
أعود إلى أوستن ،حيث األستديو الموسيقي للسيد بول أوليفسكي والذي كانت تغطيه
رفوف مكتظةً بالكتب الموسيقية ،أما المساحة األرضية
ٌ من األرض وحتى السقف
فقد كان يشغلها بيانو صغير وحافظتا تشيلو وثالثة كراسي وأربعة حوامل نوتات
موسيقية .يمتاز السيد أوليفسكي ،قصير القامة وخشن األسلوب ،بوقفته الصلبة التي
يباعد فيها بين قدميه ،ووجهه الذي يشبه وجه كلب البلدغ .ما أزال أجهل أنه درس
ضا بعزف
مع بياتيغورسكي وكاسالس ،وعزف منفردًا مع يوجين أورماندي وقام أي ً
منفرد في قاعة كارنيجي ،وأجهل بأن طالبه منتشرون على طول البالد وعرضها
كعازفي كمان محترفين وقادة أوركسترا وأساتذة موسيقى .فهو بنظري لم يكن
سوى السيد أوليفسكي .كان السيد أوليفسكي قد أوقف لتوه بندول اإليقاع
(المترونوم) ،وأنا أتنفس بصعوبة ،القوس في يدي ،والتشيلو مستند على كتفي.
تخرجت في كانون األول الماضي .لم أذهب إلى مراسم التخرج ،ولم أقم بأي
شتَّتة والفاترة .اختزلت دراستي
إعالن ،عدا مكالمة واحدة ألمي ألجمع تهانيها الم َ
الجامعية في مجموعة من الكتب وضعت في ركن الرف السفلي من خزانة الكتب
الخشبية المثبتة على الجدار في مكتب ليفي ،كتب عن تاريخ الفن والتشريح الفني
والتاريخ واألدب اإلنكليزي ،وشهادتي التي بالكاد تصفحتها ثم حشرتها في أحد
أدراج الملفات ،ورسوماتي التخطيطية الحيّة التي لففتها في أنبوبة ووضعتها في
الركن .عثرت على وظيفة سكرتارية في قسم الهندسة تعيننا إلى حين انتهاء ليفي
من دراسته؛ فلم أكن أستطيع حتى أن أتخيل متابعة حياتي المهنية .لكنني سجلت
في الدراسات ما بعد البكلوريوس فقط من أجل إكمال دراسة التشيلو .تشبثت بهذا
الشيء وحده .لقد مضت حتى اآلن سنتان على عملي مع السيد أوليفسكي ،إال أن
األحاديث نادرة بيني وبينه .فالموسيقى هي كل ما يشغل هذا المكان.
"أتعلمين ،أود أن أراك تخضعين لتجربة أداء لسمفونية أوستن ".يقول لي.
فنظرت له ،مدهوشة ،وأنا أقول" :ماذا؟"
فيجاوبني":يمكنك الحصول على مكان فيها .ستكون تجربة جيدة".
أعلم ،منذ أن كنت في المدرسة الثانوية ،ماذا يعني أن تعزف في أوركسترا ،أن
تتحرك يدي التي تحمل القوس كما لو أنها مربوطة بعصا المايسترو .أتذكر ماذا
يعني أن تصبح جز ًءا من تلك الماكنة الموسيقية ،حيث تتحرك جميع األجزاء مع
نفس اإليقاع الذي تفرضه عصا المايسترو ،ومع نفس الضربة وبنفس االنغماس
في النغم المسيّر .في ليلة السبت الماضي ذهبت إلى سيمفونية أوستن .ارتدى ليفي
سترة فوق بنطلونه الجينز .وعلى المنصة ،بدا الرجال فخمين في بدالت التوكسيدو،
بينما ارتدت النسوة بناطي َل من الشيفون األسود .عزفت الفرقة سيبيليوس ،أو
ي اللتين يغطيهما
الساحر .حاولت تخيل نفسي واحدة منهم ،أثبّت التشيلو بين ركبت ّ
الشيفون.
بناطي ٌل .ارتدت النسوة بناطيل .كما إنهم يعزفون في ليلة الساباث .تدركني البصيرة
بغتة .فأهز رأسي.
ضا من الموسيقى ستكون صعبة ،لكنك
يقول لي السيد أوليفسكيِ " :ل َم ال؟ أعلم أن بع ً
ستبدأين في مؤخرة قسم التشيلو ،وأعتقد بأنك تستطيعين فعل ذلك".
"ال أستطيع "،أقول ،وما أزال أهز برأسي.
يرفع أستاذي صوته ،ويقول لي" :بإمكانك فعل هذا".
ألمس خاتم زواجي .لقد وقّعت عقدًا من نوع مختلف .أقول له" :إنك ال تفهم".
تجرفني الموسيقى بعيدًا .أعجز عن إيقاف نفسي ،أقول" :كال .كال".
بعد مضي أسبوع واحد ،وتحديدًا في الساعة الثالثة من يوم الثالثاء ،يخطو السيد
أوليفكسي خارج االستوديو الخاص به الكائن في بناية الموسيقى ويجول بنظره في
الرواق ،ثم ينظر إلى ساعته .في المنزل في غرفتي ،نثرت على السرير من حولي
أوراق النوتة الموسيقية مثنية األركان ،وكتب التمرين المليئة بمالحظات كتبها بقلم
الرصاص معلمي بخط يده المستدق األطراف .كنت أقرأ و"أستمع" للموسيقى.
أنهض واستل القوس من حقيبة التشيلو ،أدير البرغي المعدني ثماني األضالع الذي
ً
مترهال .ألملم أوراق النوتة في نهاية القوس ،وأرخي شعر الحصان حتى يصبح
من السرير ،وأقحمها جميعًا داخل الجيب الخارجي لحقيبة التشيلو ،ثم أغلق عليها
السحاب .ثم أفتح الحقيبة وأخرج التشيلو.
بروية في حضني .تستقر
أجلس في الكرسي الذي يجاور السرير وأضع التشيلو ّ
قوقعة التشيلو في ثنية ذراعي .أنحني لألمام فيصبح جسدي مثل قبة فوق منتصفه
ي وأخفض جبيني ،ثم أمرر أناملي على امتداد الضلع
المفتوح والرنان .أغلق عين ّ
ومصقوال ،ومن عند الخصر تكمل أناملي تحسسً ً
جميال وناع ًما المدور ،كان
ّ
ٌ
سنوات من الموسيقى :فيفالدي وباخ ،سان صانز ،فوريه ،برامز ،فان الحوض.
جونز ،فيبر ،هايدن ،موزارت ،بيتهوفن ،كل تلك األصوات دفعة واحدة تشتبك مع
أوركسترا متصاعدة ومع الدقات المنتظمة للمترونوم .يصيح السيد أوليفسكي بحدّة:
مرة أخرى .مرة أخرى .لم يخبرني أحد بأن أفعل هذا ،ال ليفي ،وال أي راف .وال
ينبغي على أحد أن يفعل ذلك.
انتصب في جلوسي .أدير برغيًا يقع في أعلى عنق التشيلو الطويل واألملس وأرخي
وتر نغمة Cخفيضة الحدة إلى الصمت .أفعل األمر ذاته مع برغي النغمة الرنانة
G؛ والنغمة الدافئة المنسابة D؛ والنغمة الصادحة ،Aوهذا ما سمح لي أن أصعد
ش ِت ّتة .ثم
الهواء المخلخل ،حتى أفرغت جميعها من بكائها وصيحاتها وأغانيها الم َ
جلست ،ويدي على الدفء المصقول .تمر سيارة ٌ .تتكتك الساعة .لحظات مديدة
خالية من الموسيقى .أنهض ،متثاقلة ،أدخل التشيلو في الحقيبة وأغلق سحابها.
أحشر الحقيبة في نهاية الخزانة خلف صف من التنورات الحسيدية المعلقة.
ّ
يحك رأسه .ثم يعود يجول السيد أوليفسكي بنظره على الرواق ثم يحملق بساعته.
إلى االستوديو ،ويحزم حقيبة أوراقه ،ثم يغادر.
ولم أره مجددًا أبدًا.
أطفا ٌل .أطفا ٌل في متجر البقالة وفي الصيدلية ،وفي عربات األطفال التي تدفعها
األمهات في الشارع .أطفال على صدور أمهاتهم ،على المصاطب التي تنتشر في
أنحاء الحرم الجامعي ،في اإلعالنات وعلى أغلفة المجالت عند طاولة الحسابات.
أطفال لطفاء ،أطفال بشعون ،أطفال فطنون وآخرون بليدون ،منهم من يسيل لعابه
ومنهم النائمون ،منهم من يتشبثون بأحضان أمهاتهم أو يناغون أو يصرخون .إن
لقب نبي ٌل ،غايةٌ،
هذا المنفذ الخالّق الوحيد المتروك لي كأمرأة حسيدية له َو إغرا ٌءٌ ،
مستقب ٌل ،حيّز االحتمال الوحيد المتاح لي .من دون مهنة ،من دون موسيقى ،من
دون أصدقاء ،وبال أطفال ،ما هو زواجي ،ما هي حياتي ،ماذا تبقى لي ،ما الذي
قمت بفعله؟ يتالشى خوفي من الحمل ،كاشفًا عن فجوة عميقة فَ ّرت منها كل
األحالم .إنني أرغب بطفل قوي نائم في تلك الفجوة ،دافئ وناعم ومطيع ويمأل
الخواء .في أحد الصباحات أسند رأسي الذي يغطيه الحجاب على الطاولة وأرفض
أن أقوم .بيت وعمل ثم عمل وبيت ،كل هذا يبدو باهتًا وذا بعدين" .إنني متعبة،
متعبة للغاية" أشكو لليفي.
في ظهيرة ذلك اليوم ،يقرع الباب فتى التوصيل الذي يمتلئ وجهه بالبثور ويبدو
في الثانوية وبين يديه وردة حمراء تنتصب في مزهرية للبراعم .وأرفق معها
أحبك".
ِ مالحظة تقول" :فلتبتهجي،
أتلقف مالحظته وكأنها وعد لشيء في المستقبل ،وعد بأنه سيحبني ،وحينها أفاقني
ذلك .يمكنني أن أعيش من أجل وعود .استجمعت نفسي وقمت من على الطاولة.
إننا نعيش من أجل المستقبل .سيحبني الرب على اتّباعي للشريعة ،سيأتي المسيا،
وستتالشى صراعاتنا .يعدّني ليفي بأنه سيحبني ،سيتحقق كل هذا .أسير إلى المطبخ
ألطهو الطعام للساباث.
وعلى مدى األسبوع الذي أعقب ذلك اليوم ،تأخذ بتالت الوردة بالجفاف والذبول
ويصبح لونها داكنًا .ثم تتساقط من المزهرية البيضاء الرخيصة واحدة بعد أخرى
على الطاولة البيضاء الملمعة ،بعدما اختلط لونها األحمر بالسواد وأصبحت سهلة
التفتت.
ً
نزوال إلى موقف في صباح آخر ،يقطع ليفي الساللم اإلسمنتية من شرفة شقتنا
السيارات متوج ًها إلى الدروس والتعليم .أسمع طقطقة أقدامه إلى حين اختفائها.
حينها أنزل الساللم وأتوجه إلى الساحة الخلفية ،حيث توجد حاوية نفايات فوالذية
زرقاء اللون تحت شجرة التين .أحمل معي في جيبي الحافظة البالستيكية الصفراء
التي تحوي بداخلها العازل األنثوي لمنع الحمل .إنني ممتنة للسنة التي قضيتها مع
هذا العازل ،ممتنة له على تعريفي بطيّات جسدي ومغاراته السرية.
سماء تكساس صافية وشمسها صغيرة وحادّة ،ال تترك مهربًا منها ،وال ظالالً،
وتنعكس لمعتها على الحافة الصدئة لحاوية النفايات .أخرجت الحافظة البالستيكية،
ي بيدي من الضوء بينما أرفع بصري ،أرجع يدي إلى الوراء وأقذف أقي عين ّ
سا هاب ً
طا بالحافظة عاليًا فوق الحافة .تطير الحافظة الصفراء نحو األعلى وترسم قو ً
لتستقر في أسفل الحاوية ،متبوعة بالصوت الخفيف للهبوط غير المرئي .لم يتبقَ
لي شي ٌء اآلن .فقط تلك الومضة األخيرة للون األصفر ولمعة ضوء الشمس.
بعد شهور ،يحدق ليفي في مرآة الحمام وهو يرتدي بنطال بدلة رسمية مع قميص
داخي ،وقد ترك باب الحمام مفتو ًحا .يقترب ناحية المرآة ،يدفع خده نحو الخارج
بلسانه م ً
شكال إنتفا ًخا ،وينتف الشعيرات باستخدام ملقط ،مرتبًا خط لحيته من دون
استخدام شفرة محرمة .يأخذ بلحيته الطويلة والخفيفة ويفتلها حتى تصبح ً
حبال
ملفوفًا ،ثم يلف الحبل على نفسه حتى يصبح كرة ملفوفة بإحكام ،ويدسها بالشعر
الذي ينبت تحت ذقنه .يثمر ذلك عن مظهر لحية قصيرة ومشذبة ،ووجهه نظيف.
يرتدي بقية بدلته البنية التي تتألف من ثالث قطع ،مع ربطة عنق جديدة ،ثم يستبدل
يارمولكته السوداء الكبيرة التي تشبه الطاسة بأخرى صغيرة سوداء مصنوعة من
ً
بروزا .فهو ذاهب إلى مكتب توظيف الجامعة .يضع الجلد على أمل أن تكون أقل
نسخة من سيرته الذاتية في الحقيبة المعلقة على كتفه .وما فتىء والده يعبر على
الهاتف عن قلقه من أال يحصل ليفي على وظيفة بسبب لحيته واليارمولكة .أخبره:
صغ ،وال تشغل بالك بذلك".
"ال ت ِ
يسألني ليفي" :كيف أبدو؟"
أجيب" :مثل من يذهب للحصول على وظيفة .سيرتك الذاتية ممتازة .كم مقابلة
ستجري اليوم؟"
يقول" :أربع"
سا محزونًا .أع ّد المائدة وأضع عليها الطعام.
وفي نهاية النهار ،يعود ليفي يائ ً
يحدثني" :إنهم يرون سيرتي الذاتية ويعطونني مواعي َد للمقابالت ،لكن حالما أصل
ي".
إلى هناك ،أرى الطريقة التي ينظرون بها إل ّ
أقول" :لماذا يتعاملون معنا وكأننا غرباء؟"
يهز ليفي برأسه.
"كم مقابلة بعد تنتظرك غدًا؟"
"اثنتان"
"اسمع ،علينا أن نكون عمليين هذه المرحلة".
"لن أفعل"
" لن يكون ذلك بإفراط ،شذّب لحيتك فقط ،فقط لهذه الفترة .وربما عليك أن تخلع
اليارمولكة عند إجراء المقابالت".
يقوم ليفي ً
قليال من مقعده ،ويجيبني فيما يطغى االستخفاف على وجهه وصوته:
"ماذا؟ بالطبع ال".
إن أقل ما يتطلبه العيش تحت مظلة الشريعة يشعرني بالخجل .فتلك المجموعة
ي تلبيتها على نحو تام،
الهائلة من المطالب تقف أمامي كل صباح ،ويستعصي عل ّ
لذا يحمل كل يوم إخفاقاته .وإخفاقة اليوم هي فقدان الثقة بعناية الرب بالمؤمن.
إنني ضعيفة وليفي قوي .إنه جندي ال يرتدي حلّة نظامية .إنه يمثل حلّته النظامية.
وهذا ما يكون عليه الحسيدي ،جنديًا بال وجه في خدمة الرب .دعك من الجينز؛
فخلف اللحية ما يزال ليفي جنديًا بال وجه .أخفض رأسي وأغادر الحجرة وأذهب
إلى غرفة النوم .وفيما أمر أمام المرآة ،أرى وجهي ما يزال بمكانه بكل عناد.
الفصل الحادي عشر
هيوستن االستوائية الساحلية .بعد أن طال سعي ليفي للبحث عن الوظيفة فترة تسعة
أشهر ،أجرى والده عدة اتصاالت هاتفية ،وها هو ليفي اآلن يحصل على وظيفة
جديدة في هيوستن ،محل َل أنظمة يكتب برامج حاسوبية .إنها أدنى بكثير من
مؤهالته ،لكنها تظل وظيفة مع ذلك .انضممنا لجماعة الحاخام فرومان الصغيرة
واآلخذة بالتزايد في جنوب غرب هيوستن .إنها أواخر آب المشبعة بالرطوبة ،إذ
ترتفع درجات الحرارة إلى التسعين فهرنهايت وتزيد الرطوبة عن 90بالمئة ،لكن
وفي كل ساباث ،يسير الناس في مجتمعنا الجديد من منازلهم إلى الكنيس .كان
معظمنا من األتباع الجدد ،لكن بعض الرجال ،ومنهم ليفي ،كانوا يسيرون وهم
حر هيوستن.
مرتدين معطف الساباث األسود الطويل حتى في ّ
باإلضافة إلى آل فرومان يوجد فقط زوجان آخران تربوا كحاسيدم وترعرعوا في
اليشيفات ويكنّون بآل زالمانوف ،وتع ّد كلتا العائلتين بمثابة أسر َملَكية وسطنا .إنهم
يستطيعون أن ينتقلوا بسهولة عبر نصوصنا الصعبة ،وأن يتحدثوا بغير اكتراث
عن التعقيدات في الشريعة ،وأن يتبادلوا األحاديث باليديشية والعبرية ،فيما ينظر
إليهم بقيتنا بغيرة يولدها الكبرياء مثل أطفال مبهورين ونحاول أن نقلدهم .من بين
البقية ،لم يكن هناك أزواج من تكساس سوانا ،أنا وليفي ،وزوج من الموظفين
المحليين الناجحين نجح الحاخام فرومان في استقطابهم من أجل المساعدة في دعم
القضية .كان الزوجان يوفي والزوجان باردن من إسرائيل ،والزوجان ويززبيرغ
والزوجان باسيل من جنوب أفريقيا ،والزوجان سيلغسون من أمريكا الجنوبية
ولكنهما ينحدران من مهاجرين أوروبيين .وكان الزوجان غوردوديتسكي
والزوجان أبستين من االتحاد السوفيتي االشتراكي .جميعنا شباب ومثاليون
وخريجو جامعات ،وجميعنا حديثو عهد بالقضية .جميعنا جديدون في هيوستن ،من
دون روابط بالمكان ،بال عائلة أو شبكة مستقرة من األصدقاء.
بعد سنوات من اآلن سأتذكر كيف امتلك األزواج المهاجرون في المجموعة رو ًحا
مغامرة جعلتهم مستعدين ألن ينصتوا لحاخام غريب ذي أسلوب حازم ولحية كثة
طويلة وابتسامة مهدئة ،وسيبدو لي كما لو أن كل فرد من مجموعتي الجديدة عثر
على الحياة الحسيدية بصورة شبه عرضية وتحديدًا بسبب تفكيرهم المستقل حينما
صغارا .كما سأتخيّل أن غالبية مجموعتنا أرادت في األصل أن تنتزع الجمال
ً كانوا
والروحانية من التربية الحسيدية من دون التضحية بإرادتها الحرة .سوف أتذكر
أنني شاهدت كيف هيمنت جاذبية عميقة على كل فرد منهم ،وكيف غلّف المجتمع
بأمس الحاجة إليها .ورغم كوننا
ّ بشرنقته كل فرد منا ،مان ًحا إيانا "العائلة" التي كنا
وافدين جد ًدا إلى مدينة جديدة ،إال ّ
أن هواتفنا لم تكن صامتة ،إذ كان األصدقاء
اللطفاء الجدد يهاتفوننا يوميًا من أجل أن نحضر خدمات الصالة ونستمع إلى
ضا بتعقيد بالغ يصعّب على الوافد
المحاضرات العاطفية الملهمة التي كانت تتسم أي ً
الجديد أن يفهمها فه ًما كافيًا يمكنه من التشكيك .وحالما يتم تفكيك األفكار التجريدية
والمنطق ،ترغب األنا أن تعتنق ما صارعت لفهمه ،كما فعلت أنا ذات مرة على
مائدة الحاخام راكوفسكي .وهكذا ،تدريجيًا ،فعل الجميع ذلك.
أنضم مع ليفي للمجتمع الجديد الناشئ .أمام تلك العيون الجديدة ،يحزم ليفي بناطيله
الجينز وأسطوانات الموسيقى الكالسيكية في مكان بعيد عن متناوله ويترك الستيريو
الخاص به صامتًا .فيما أنا ال أقص شعري ،لقد حاولت قصه ولم أفلح بذلك،
فأصبحت أربطه إلى األعلى وأخفيه تحت الشال ،وأغطي حتى الخصلة القديمة
التي كانت تتدلى في المقدمة .ورغم أن بعض النساء األخريات لم يشرعن بتغطية
شعورهن مطلقًا حتى اآلن ،إال أنني أرتدي الشعر المستعار خارج المنزل يوميًا،
ألن هذا ما يمليه الصواب .إنني متقدمة على غالبيتهن في هذه اللعبة ،وأنا أطمح
لبلوغ القمة ،إلى جانب السيدة فرومان التي أعدّها قدوتي .وعما قريب ،ستمتثل
األخريات .لكن عقدة شعري الطويل تحت باروكتي تبرز كنتوء محرج يصرخ
باالحتجاج.
ّ
يرن جرس المدرسة ،فتهرول إلى الصف فرقتي المؤلفة من تالميذ صغار ج ًدا في
السادسة والسابعة من أعمارهم ،قادمين من ساحة اللعب وهم متعرقون ومشعثو
الشعر ومفعمون بالنشاط .ترتدي الفتيات تنورات طويلة وكولونات ،أما الفتيان
فيعتمرون اليارمولكات المطرزة بالشعارات أو األسماء العبرية :مخيم جنة
قص الفتيان شعورهم بطريقة
إسرائيل ،يهودا ليب ،مناخيم آريه ،نريد المسيا اآلن! َّ
سوالف .يضع األطفال حقائبهم
تركت فيها خصل إضافية من الشعر تتدلى فوق ال َ
وستراتهم على خطافات مخصصة لكل منهم ومن ثم يتخذون مقاعدهم.
تمأل الدروس الدينية -من صالة وكتاب مقدس وشريعة -النصف األول من يومهم.
وكل هذه الدروس تتضمن تعلم قراءة العبرية بأبجديتين مختلفتين وكتابتها بأبجدية
ثالثة .والحقًا ،سيزيدون عليها اآلرامية واليديشية .أقضي عشرين ساعة إسبوعيًا
بتعليم هؤالء األطفال أوليات دراسات الكتاب المقدس ،باللغة العبرية .وتتمثل
وظيفتي كمعلمة للصف األول ،إلى جانب بدء تعليمهم القراءة والكتابة ،في قولبتهم
إلى حسيديين صغار ،وتخليصهم من جموحهم وجداالتهم وأسئلتهم وتحبيبهم
بالدراسة المقدسة ،فالمعرفة تجلب الطاعةّ ،
إن للمعرفة قوة اإلجبارّ .
أدون بسرعة
مفردات اليوم على اللوح بحروف عبرية كبيرة ،من السطور األولى للكتاب
المقدس shamayim :و eretzو ruachو ،elokimوتعني :الجنة واألرض
والروح والرب .يهودا هو مراقب الصف وهو من يسلّم كتب الصالة فيما ينشغل
اآلخرون باألحاديث والضحك" .مورا ليا!" ينادي أحد األطفال .وهذا هو اسمي،
المعلمة ليا .فأستدير ألرى السيدة فرومان تظهر عند الباب.
يعتدل األطفال في جلوسهم على الفور ويضمون أيديهم .أخبئ خصلة ضالة من
شعري .وبشفاه مزمومة ،تخطو السيدة فرومان إلى اللوح ،وتلتقط قطعة من
الطباشير ،ثم تصحح إمالئي .ثم تقول " :ال تحتوي هذه الكلمة على ".vavحين
تغادر حجرة الصف ،أحدّق نحو الباب بانشداه .بعدها ينطلق األطفال بالغناء عبر
الصلوات الصباحية .إنهم يغنون كما لو أن جهارة الصوت تخلق الحماسAdon .
!olamيا سيد العالم! إنه الملك ،أعلن اسمه! يحني بعض األطفال ظهورهم
ويمعنون النظر بكتبهم بينما يغنون ،مثل عجائز صغار ،أنامل صغيرة تمر على
كل مقطع .أطلب منهم أن يقرؤوا بذات الوقت الذي يغنون فيه ،على الرغم من أنهم
كانوا يحفظون الكلمات عن ظهر قلب .أسير عبر الصف ،وبلطف أصحح موضع
إصبع أحدهم وأعيد توجيه نظراتهم التائهة .يلقي آيتن ابتسامة خبيثة على يوفال،
الذي ير ّد بركله ّ
بودية عبر الممر .ثم يالحظ االثنان اقترابي ويعودان للغناءAsh .
.rei yosh vei vay se cha
ي .إنني أحب الحروف العبرية ٌ
مكان سحر ٌ أحب صفي .إنه َح َر ٌم لوحده ،إنه
الضخمة الملونة وبوسترات الصالة الملونة ،أحب لوائح الوظائف على الجدران
وبطاقات األسماء المكتوبة بحروف كبيرة وألوان زاهية تحت كل خطاف مخصص
لتعليق المعاطف والرفوف المصنفة وصف الكتب المرتبة بصورة أنيقة .النظام
قداسة .إن هذا المكان المنظم المكرس للرب يشبه تما ًما المنزل الذي أريد أن أشيده
تكلم الرب وأتى العالم
من أجل أطفالنا ،Baruch sheamar .يغني األطفالَ .
وصغارا .كل يوم ،أقدم لهم هذا المكان
ً للوجود .كان األطفال حساسين وطيّعين
السحري الخالي من السخرية والشك ،حيث يستطيع كل منهم أن يؤمن بسهولة
وببراءة مقدسة بأن الرب قد خلق العالم في ستة أيام ،وبأن األفعى قد وقفت على
ساقين وتكلمت مع حواء ،وبأن موسى قد صعد إلى الجنة ونقش وصايا الرب على
لوح من الياقوت األزرق .في هذا الصف ،يع ّد اإليمان ً
أمرا اعتياديًا وسهل المنال.
أريد أن أضع لبنات هذا اإليمان في بنيتهم العقلية لئال يواجهوا نفس الصراعات
التي واجهتها مع ذاتي ومع رغباتي.
في كل يوم ،أوزع الجوائز والحلوى واألوشحة والملصقات .وجميعها تمنح
كمكافآت عن الطاعة وإتقان المهارات ،ولكن ليس لدينا مكافآت عن التفكير
اإلبداعي أو المبادرة أو القيادة.
إننا نعلم األطفال بم عليهم أن يفكروا بالضبط .وفي بعض األحيان ،أعطيهم أحجيات
كلمات متقاطعة ذات نسق منطقي من أجل تطوير مهارات التفكير لديهمّ ،
لكن
الحلول جميعها تحمل االستنتاج ذاته عن الرب والتوراة.
أروضهم على الطاعة ،أمأل عقولهم باالستنتاجات المسبقة .وليس األمر أنني ال
ّ
أدرك أن ما أفعله أشبه بالتلقين منه للتعليم ،وإنما بما أصبحت تمثّله فكرة التلقين
بالنسبة لي ،إذ فقدت كل آثارها الظالمية ،وغدت هدفًا باعثًا على الفخر .فأنا ّ
أدرب
مراتب الجنود المكرسين للرب.
وقريبًا سألد جنديًا آخر .أخبرت ليفي باألمر في ذلك المساء نفسه ،بجملة بسيطة
وبنبرة هادئة أثناء تناول العشاء" :إنني حبلى" تجمدت يد ليفي التي تحمل الشوكة
ي ،لكنه
أطوق رقبته بذراع ّ
ف بعينيه .أردت أن ّ في منتصف المسافة إلى فمه و َ
ط َر َ
ينكمش على نفسه كما لو كان عليه أن يستجمع شيئًا ما .يستجمع عزيمته .ثم ترتخي
عضالت وجهه .ثم يقول مع ابتسامة تتجمد عند بدايتها".Baruch hashem" :
فليتبارك الرب .أرى خوفًا في عينيه .ومذاك ،ضاعف ليفي جهوده ليصلي أكثر
وليدرس أكثر وليكسب أكثر وليكون حسيديًا أكثر إذعانًاً ،
أمال منه أن يكتسب
الجدارة من السماء عن أطفاله .وهذا ،كما سيتأتى لي أن أفهم ،هو شكل حبه لهم.
ينهي تالميذي غناءهم .اليوم هو يوم ميمون .إذ من المفترض أن يتسلم األطفال
كتبهم االولى في دراسة الكتاب المقدس .كنا نتحضر من أجل الوصول لهذا .فتعلموا
ترجمة السطر األول ،كما وتعلموا أغنية جديدة"Tov, tov lilmud Turah" :
إنهم يغنون معي ،ألنني هنا أستطيع أن أغني ،خلف األبواب المغلقة ،وفي سبيل
تعليم األطفال .إن من ال َح ِسن ،بل ومن أفضل األعمال أن ندرس التوراة .حتى
إيتان الصغير يغني ،ويرفع جسده مع إيقاع األغنية .وبينما هم منهمكون بالغناء،
أتذكر بدايتي مع الدراسة ،وسيما التي تريني عالم الشريعة وهو يتدفق من شبكة
ي،
من الشروحات ،والحاخام راكوفسكي وهو يصف العوالم الباطنية ،ثم أرفع ذراع ّ
فينهض األطفال ،وهم مستمرون بالغناء .إنها التوراة ،توراتنا الثمينة! وأسلّم الكتب
إلى األيدي المتلهفة .كان األطفال قد صنعوا أغلفة للكتب وزخرفوها باألقالم الملونة
والبهارج اللّماعة والغراء .أساعد كل واحد منهم على إدخال كتابه الجديد في
الغالف .واحدًا تلو اآلخر ،أكتب أسماءهم على الغالف بقلم سميك الخط ،أسماء
أرواحهم اليهودية :ناعومي ديفورا ،يهودا ليب .وعندما أنتهي ،أرفع بصري ألرى
السيدة فرومان وقد عادت إلى الحجرة ،إنها تقف قرب الباب لكي تشهد مراسم
البدء ،وقد لفّت ذراعيها على صدرها .ترتسم االبتسامة على وجهها.
الرابع عشر من آذار .1979 ،يأتيني المخاض ،عند الفجر ،أنتظر في سيارتنا
الدودج دارت في باحة وقوف السيارات الخلفية التي تقع وراء مخبز ثري بروذرز.
كنا في طريقنا إلى المستشفىّ ،
لكن ليفي يشغل الفرن هنا صباح كل أربعاء وذلك
من أجل أن يصنف الخبر والحلة (الشااله) الحالل الذي ينتجه هذا المخبر على أنه
"خبز مخبوز على يد يهودي ".وفقًا للشريعة ،فإن عبارة "مخبوز على يد يهودي"
تعني الخبز المخبوز تجاريًا على يد رجل يلتزم بالشريعة ولم ينتهك حرمة الساباث
أبدًا .أو ،إذا كان الخبازون الفعليون ،مثل أولئك العاملين في مخبر ثري بروذرز،
حليقي اللحى وال يغطون أيديهم (أو حتى ليسوا من اليهود) ،حينها تعني عبارة
دوارة "مخبوز على يد يهودي" ً
خبزا يتم صنعه في فرن تجاري ضخم ذي طوابق ّ
يأتي رجل يهودي أرثودكسي وقور وملتح وملتزم بإحياء الساباث ليقوم بإطفائه
وإعادة إشعاله في مراسم تقليدية ال تستغرق أكثر من دقيقة ،حتى وإن كان هذا
الرجل في منزله يع ّد صناعة الخبزَ من مهمات النساء .ال يهم هذا .فليفي يفعل هذا
األمر خدمةً للمجتمع ومن باب االلتزام الديني.
ي أن أتنفس بصورة شديدة
ي .ينبغي عل ّ
لذا فأنا أمكث في السيارة ،أغمض عين ّ
البطء .يعتريني إحساس بتماوج مضطرب ،ث ّمة شعور بالضيق يسري بالتدريج
عبر جسدي ،ويوهنني .لكنني أرى وجه ليفي في نافذة السائق الجانبية ،وهو يعتمر
قبعة على مؤخرة رأسه ،كانت جبهته مجعدة وعيناه قلقتين .وفي غضون لحظة،
نتحرك بالسيارة .فتنقلني عبر الشوارع الفارغة ونصعد التلة فيما تشرق الشمس.
عبور سكك الحديد .يموج السائل مرة أخرى ،لكن
َ يتطلب الوصول إلى المستشفى
االضطراب هذا يتحول إلى ألم يجعلني ألقي برأسي للوراء وأميله إلى الجانب ،فيما
يبقى فمي مفتو ًحا .ينزاح الشال إلى هذا الجانب وذاكّ .
أئن .يوقف ليفي السيارة
على قمة التل .هناك أضواء وامضة ،بوق قطار وأذرع حواجز حمراء وبيضاء
تنزل لألسفل .تمر عشرون دقيقة بينما يزحف قطار صاخب من جانب إلى آخر
أمام مرآنا .أو هل هي عشرون عا ًما؟ نوبة أخرى من األلم ،تعقبها أخرى ،إال أنها
أخف هذه المرة .يحاول ليفي أن يشغلني بالحديث ،فأحاول أن أضحك.
تح ّملي .بيد أنني وفي كل يوم أتحمل :الوحدة ،واألحالم الجنسية المحرجة التي
توقظني في الليل ،وأغنية التشيلو المكتومة ،والذكريات المكبوتة كاألصوات
المكتومة التي تحاول أن تزيحني عن طريقي العسير نحو الرب .ما الذي ينبغي أن
يكون مختلفًا اآلن؟ في غرفة الوالدة في شاربستاون جينرال ،كانت ِ
الركابات
المعدنية الباردة عالية جدًا على قامتي القصيرة .ومن مكان بعيد يتناهى إلى سمعي
ي .وفي الخلفية خلف األمواج
صوت امرأة تصرخ .تقيّد إحدى الممرضات يد ّ
صوت ليفي المحت ّد يهمس بالمزامير ،وكأنه صفير ينطلق نحو الرب.
تستبدل إحدى الممرضات باروكتي بغطاء الرأس األخضر المخصص للعمليات
ي فلن أرى إال ي .لو قمت بفتح عين ّ
الجراحية ،وتنزع عني نظارتي وتغطي فخذ ّ
حمر واألسو َد ضمن موجات متناغمة .إنني أتنفّس وأع ّد،
األلم ،واللون األصف َر واأل َ
أترقّب ،رفس الطفل ،وأوج االنفعال ،ومزي ٌد من التنفس .ثم مجددًا ومجد ًدا ،حتى
يصدر صوت كالزمجرة من مكان ال أميزه ،لكنها أنا ،ثم تعقبه قوة لم أكن أعرف
بأنني أمتلكها تدفع الطفل للخارج بحركة اندفاع حيوانية ،بسرعة تصادم.
هدوء ،دثار فوق الهمهمات ،حفيف أقدام الحاضرين ،قرقعة المعدات ،هواء بارد
يضرب بشرتي العارية المبللة .أستدير نحو ليفي بنظرة ممتنة على الصرخة البدائية
التي آذنت بوصول الطفل .ثم صوت يقول" :إنه صبي".
ي الممرضة .فيما يداي ما
"أين نظارتي؟" أسأل .وبجانبي دمية ملفوفة بين ذراع ّ
تزاالن مقيدتين.
ً
أوال يأتي االحتجاج .كيف تكون أيها الصغير بعيدًا هناك في حاضنتهم بينما أنت
تنتمي لما تحت قلبي .ثم يأتي التساؤل :متى سيحلّون وثاق يد ّ
ي ويتأتى لى أن
أضمك؟ أطراف أناملك نقاط مدورة ،بشرة كالهمسة ،شعر كزغب الطيور،
وحاجبك الصغير المجعد .وبلمح البصر ،تحول إليك أيها العاجز كل التوق للحب
ً
منزال أو وللمنزل اللذين ر ّكزتهما على ليفي .أتذكر أن ال َحبر لم يعدني بأن أمتلك
ً
منزال .أتخيّل شقتنا الصغيرة الجدباء، أن أعثر على واحد .إنما قال لي بأن أشيّد
أنت الحلم،
صندوقا بال حلم .أضمك بقوة إلى صدري وأسكب وعودًا صامتةَ .
ً
منزال تتمكن ويشمر ذهني عن ساعديه .سأعمل جهدي ألجعل أي مكان نكون فيه
فيه من االزدهار .تجد وجهي ،تتالقى أعيننا وأسكب كل ذهبي فيه ،شيء جديد
بالنسبة لي ،وأصله حب جديد يستحوذ على كل شيء .لن أتركك أبدًا.
في غضون بضعة أيام ،استنزفني بكاؤه .أنتظر قدوم ليفي للمنزل في يوم حمام
الطفل األول .أخبره" :ال أستطيع تحميمه لوحدي ،إنني خائفة بعض الشيء ".ولكن
فاغرا عينيه.
ً ما أن بدأت بملء الحوض الصغير بالماء ،يتراجع ليفي نحو الجدار
لذا أحمم الطفل بمفردي فيما الطفل يتلوى ويبكي .في الليل ،يغطي ليفي رأسه أثناء
قادرا على العمل غدًا .وإن خسرت عملي ،فكيف سنأكل؟"
البكاء .ويقول" :لن أكون ً
أنت التغيير ،وها قد زال عبوس
بيد أنني حين أضمك بشدة ،يا ابني ،فإنك تتغيرَ .
الوليد الجديد من على جبهتك .وهاهي وجنتاك تبرزان اآلن! بينما أنت تغفو ثانية
ي ،تتدلى قطرة حليبِ رضاعة من على زاوية فمك ،عند الفجر.
بين ذراع ّ
بعدها بثمانية أيام ،نتهيأ إلحضار ابننا غير المسمى بعد إلى الكنيس من أجل طقس
الختان .والدا ليفي في طريقهما للوصول من الفندق .في الحمام ،أرتدي فستاني،
وأضع الشعر المستعار على رأسي ،وأعاين نفسي في المرآة .فأجد أمامي شبه
لكن شيئًا جديدًا وشر ً
سا تقدح شرارته من امرأة عديمة الشكل ،محايدة جنسيًاّ ،
وجهها ،غايةٌ جديدة .سأحمي ابني .سأنميه وأطعمه وأرعاه وسأكفل له طريقًا سال ًكا
يخلو من الخطر أو التيه أو الوحدة .إن حياتنا ستمنحه الرب ،من دون ارتياب أو
شكوك.
أنزع الشعر المستعار عن رأسي ،أح ّل شعري من ظفيرته الغريبة ،وأفرده-السر
ً
منزال مسي ًجا من الصغير الذي يجعلني مختلفة .هذا من أجلك ،يا ولدي .سأمنحك
دون ظالل ،ال يقربك فيه شك من عروج موسى للسماء ،ونقشه كلمات الرب على
الياقوت ،وتكون فيه متيق ًنا من أن عالمك هو مكان آمن منظم بشريعتنا .أخرج
صا وأمسك بخصلة سميكة ،فيخرج الشعر من تحت المقص بحواف متعرجة.
مق ً
ومن الغرفة خار ًجا يبدأ الطفل بالبكاء ،فيصبح صوته الصائح خلفيةً لهذا العمل،
عبر الباب الموصود .أوقع الخصالت المقصوصة في حوض المغسلة ،فتتجمع
فوق بعضها ،مجعدة ،مثل حيوان مذهول .ثم أخرج آلة حالقة الشعر الكهربائية
التي أستخدمها لحالقة شعر ليفي ،وأنحني ،ثم أشغلها فتطلق أزيزها وأمررها فوق
فروة رأسي حتى يصبح رأسي مثل لحية خفيفة .أترك خصلة طويلة واحدة من
ي.
ي بإمكاني أن أدسهما خلف أذن ّ
الشعر على كال صدغ ّ
تبدو المرأة عديمة الشكل في مرحلة ما بعد والدة الطفل التي هي أنا مثل رجل
ضئيل ذليل له جدائل جانبية ،لكنه يفتقد ليارمولكته .فهو رجل عبارة عن امرأة.
وامرأة عبارة عن رجل .اآلن سيالئمني الشعر المستعار ويصونني ،بال نتوء جانح.
ي أن
لن أقوم بمعاينة نفسي بالمرآة من دون شعر مستعار فحسب .ال ينبغي عل ّ
أنظر .ارتدي الجوارب والفستان بسرعة .ينزلق الشعر المستعار بسهولة على
رأسي .حان وقت المغادرة من أجل المراسيم.
في الكنيس ،يقف والد ليفي إلى جانب ليفي الذي يبدو عليه زهو االنتصار وهو
يحمل ولده على وسادة من الدانتيل األبيض متوج ًها به نحو الحرم .فيتلقاه الرجال
بصرخات "مازل توف" وبالتصفيق واألغاني .لقد حضر المجتمع بأكمله الستقبال
هذا العضو الجديد .فهذا الختان بمثابة والدة روحية البننا كفرد يهودي .هنا في
الكنيس ،يعد ليفي هو من أنجبه ،وليفي هو من يحمله ويقدمه للحرم والمجتمع ،أما
أنا فقد قمت بالجزء األقل أهميّة .أشاهد المراسم من خالل الحاجز ،وأنا مختبئة مع
روث ،والدة ليفي .وعندما يقوم الموهيل بعملية قص صغيرة وسريعة إلزالة غلفه
القضيب ،وعندما يرتّل ال َبركة مان ًحا ابننا اس ًما بصوت يعلو على صراخه
والصرخات الترحيبية لحشد الحاضرين ،تهبط رو ٌح يهودية من عند الرب وتلج
الطفل مع اسمه الجديد ،اسم روحه ،ليب ،ابن ليفي.
كان "ليب" االسم العبري الذي تس ّمى به أخو ليفي المتوفى .وحالما سمعت روث
باالسم ،انفجرت بالبكاء .وبدا االضطراب على السيدة فرومان ،فمالت نحوي
وهمست" :أال تعلمين بأنك تجتذبين العين الحاسدة بتسميتك ً
طفال على اسم شخص
مات ميتة مأساوية؟"
أفكر الحقًا بأنه ربما كانت هذه التسمية بمثابة تمردنا الصغيرً ،
بدال عما يمثله
شعري الطويل من تمرد ،ألننا كنا نعلم بالهواجس الحسيدية التي تحيط بمثل هذه
األمور إذ اخترنا نفس االسم ،لكننا اخترناه رغم ذلك.
وتفوه
ّ وحالما ولد ليب ،لم يستغرق األمر برمتّه من كلينا سوى إيماءة متبادلة،
نعلم بأن لفتة التأبين هذه أكثر
عفوي بنفس االسم من كلينا في ذات اللحظة ،لكي َ
أهميةً لنا من المجتمع وآرائه .وبهذا السهو قمنا ،عن غير قصد ،بتمرير ترخيص
مضمر البننا للتخلّي عن المتطلبات الحسيدية حين تكون الحاجة إلظهار إنسانيتك
أكثر إلحا ًحا من إظهار تديّنك.
َ
صر مستقبلنا في شقة صغيرة عندما ال نستخدم وسائل
وفي غضون شهور قليلة ،نتب ّ
ٌ
متين، صغيرا لكنه
ً ً
منزال .كان المكان الجديد منع الحمل ونخلص إلى أننا نحتاج
ً
مستقبال .يغمرنا توقيع وفيه باحة كبيرة حيث يستطيع األطفال أن يركضوا ويلعبوا
القرض العقاري بابتهاج هائل .سيكون هذا مكان تنشئة عائلتنا الذي سأحوله بصفتي
أ ًما إلى منزل لنا .وها قد وصلنا للمنزل.
الفصل الثاني عشر
عا .و ّ
تقطب لبي ،االبنة التي تبلغ "ال!" أصرخ ،منتحبةً .يقفز ليبل ذو السنتين فَ ِز ً
سا .وفي ستة أيام فقط أحشر مهام كل
من العمر اآلن سبعة شهور ،وج َهها عبو ً
األسبوع من تدريس وعناية باألطفال وبالمنزل وطبخ وسهر مع األطفال ،إذ تتوقف
كل األعمال من أجل الساباث ،وألن ليبي طفل كثير التطلب فإنني ال أحظى بدقيقة
لنفسي .تصبح األيام مثل آلة الركض ،والليالي ممتزجة بالبكاء فيما ليفي يستغرق
يمكنك أن تعود للبيت وتتوارى
َ بالنوم .يقع على عاتقي فعل كل شيء .أقول" :ال
فحسب!"
إنه األحد -وهو يوم عمل عادي بالنسبة لنا -وليفي مجاز من العمل ،والجريدة
اليومية ،المتعة التي يفضل االنغماس فيها ،مطوية تحت ذراعه ،وكوب القهوة الذي
يتصاعد منه البخار في يده .تضم غرفة العائلة أريكة قديمة ،والبيانو الذي أمتلكه
منذ الطفولة ،وأشياء قليلة أخرى .ليبل يلعب على السجادة وحوله تتناثر ألعابه .أما
لبي فنائمة على ظهرها ،وتلوك عضاضة األسنان .ينفتح الباب الزجاجي الجرار
على المرج الفسيح الفارغ .عاد ليفي للتو من الصلوات الصباحية .كان يتّجه نحو
غرفة الطعام مباشرة من أجل قراءة الجريدة ومن ثم قضاء وقت الصباح في دراسة
جزئه اليومي المخصص من الكتاب المقدس ،يقول ليفي" :ليا!" وقلة الحيلة تبدو
على وجهه.
"إنك ال تتواجد في المنزل ،حتى عندما تكون فيه .أنت ال تساعد في االعتناء
باألطفال .وطوال اليوم ،في كل يوم تغرقنا بمخاوفك المادية" ليس كافيًا ،يقول.
إنك ال تودعنا".
متوترا حتى َ
ً ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا" .إنك تغادر للعمل
يتطلع ليفي بلهفة نحو غرفة الطعام والكتب ،ويتنهد.
"إنك تعود للمنزل بذات الحال ،وتبلغ من االنهماك في شؤونك الخاصة مبلغًا لحد
أن ليبيل تعلم أن يخاف من إزعاجك".
مكفهرا ،متح ِ ّم ًال ،ال يظ ِهر
ً هذا صحيح ،فعندما يدخل ليفي من الباب ،يكون وجهه
ألم ظهره الذي يرفض اإلفصاح عنه ،ويشرع بأداء وظيفته الثانية في إجراء
إنك تصرخ لو طلبت منك فعل شيء".
الحسابات الخاصة .أقولَ ":
فيقول":إنني أقوم بعملي ،ال أحتمل أن أعمل أكثر مما أقوم به اآلن".
ي! وال تلمس األطفال ".وال يغسل أطباقه أو يلتقط جواربه من
"إنك ال تتحدث إل ّ
ً
مشغوال بعمله ،فإنه يختبئ في كتاب الصالة والكتب األرض ،وحين ال يكون
المقدسة .يخر على الفراش في منتصف الليل ليبدأ مجددًا في الصباح" .إنك ال
تحضنني!"
وممارسة الجنس الشهرية بدافع الطاعة ال تحتسب شيئًا.
يهرع ليفي خار ًجا من الغرفة.
"لكن…" يقول ليفي.
فأقول" :لكن؟"
ً
أصال في األفق .هذا هو وصف وظيفتي ،أن أكون هذا الصنف من ل ّ
كن العار يلوح
النساء حتى يكون هو الرجل .أحاول أن أتشبث بغضبي ،بيد أن هذا يبدو كما لو
أنني أتحدى الرب.
صر ليفي على رأيه بأن أستمر بالتدريس ألننا بحاجة للمال ،رغم أن المدرسة
ي ّ
كثيرا مما تدفعه للمعلمين الذكور ،ومعظم ما أجنيه يذهب
تدفع للمعلمات اإلناث أقل ً
إلى جيب المربية .وعندما أعود للمنزل ،ينتظرني إعداد طعام العشاء وإطعام
األطفال وتهيئتهم للنوم .كانت ليبي قد امتنعت للتو عن الرضاعة من ثديي ،وأنا
أتساءل كل يوم متى سأصبح حبلى مرة أخرى.
تفتقر هيوستن إلى المطاعم التي تطهو األكل الحالل؛ لذا فال أحظى باستراحة من
الطبخ .إنني أعرف كل المحاسبين في متجر البقالة باالسم .وباإلضافة إلى العناية
باألطفال ،يستغرق مني التسوق والطهي من أجل الساباث كام َل مسا َء الخميس
ومعظم يوم الجمعة .فأفكر في سري :كيف تكون حياة الروح هذه مادية بالكامل؟
ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا.
يفتح ليفي الباب الزجاجي الجرار ليتفحص اآللية التي يعمل بها ،فيسحب الباب،
متحيرا ومنهمك البال.
ً صريرا ،ويبدو ليفي
ً فينزلق ويصدر
ي" أقول وأنا أنشج ،أخلع نظارتي وأرميها نحوهّ ،
لكن تسديدتي تتجاوزه "انظر إل ّ
وتصيب اإلطار الخشبي لألريكة.
فتتطاير أجزاء النظارة ،ويغدو ليفي شب ًحا ،يده المغبشة تحرك الباب المغبش،
ووجهه المغبش بال تعابير.
سأنجز كل شيء بمفردي .سأصطحب األطفال وأعود إلى داالس ،وأطلب مساعدة
والدتي .سأعثر على وظيفة ،أيّا كانت ،ومهما كانتّ .
لكن الخوف يعتريني .سيكون
أي شيء أفضل من العيش مع هذا الغريب المهووس الذي يصب علينا جميعًا
مخاوفه المتعلقة بالمال ،وأفضل من العيش مع هذا العمل الالنهائي الذي يصنف
على أنه عمل خاص بالنساء لكيال يمد هو يد العون ،وال يمنح عناقًا أو كلمة طيبة.
ضا .إن الحياة َ مع شخص غريب ،أشد وحدة ً من
ولكنني ال أحاول التواصل معه أي ً
حياتك بمفردك .أليست مشاكلنا خطأي؟ ثم هناك تلك المشكلة :أنا لم أعيل نفسي
ِ
من قبل ،ولم أعش كإنسانة راشدة في العالم ،بالخارج.
وعلى مدار أيام عديدة تدور الفكرة في رأسي .سأفعلها وأغادرّ ،
إن باستطاعتي
ذلك.
نذرا بالخطر .إنني
لكن أن أعيش مع والدتي؟ ثم أتنبه إلى أن العالم يبدو ضخ ًما وم ً
أبدو مختلفة ،وال أعرف طريقي كراشدة خارج المجتمع الحسيدي .لم أعد أتحدث
تلك اللغة .وال حتى أمتلك سيارة ،وال أعرف كيف أوقّع عقد إيجار أو كيف أحصل
على تأمين.
لقد وعدت أطفالي بالرب ،وعدتهم بالحماية والسالمّ .
لكن المغادرة تعني خذالنهم،
كما لو أنني كذبت .إنني خائفة من البقاء ،مثلما أنا خائفة من المغادرة.
بعد ذلك بأيام ،ما تزال الحيرة تتملكني .وفي أحد األيام وبعد أن عدت من التدريس،
كان ليبل ولبي يغفيان عندما َّ
رن الهاتف .أسارع ألرفع السماعة من المطبخ ،لئال
يتسبب الصوت في إيقاظهما .يتبيّن أن السيدة فرومان هي المتصلة ،تقول":لقد
دعيت للتحدث في التجمع الذي تنظمه نشاي تشاباد ( )Nshei Chabadفي
منتصف الشتاء.
أجيبها" :وهذا يعني؟" ،فأنا ال أعرف ِل َم تتصل بي وتخبرني بهذا.
تقول" :إنه مؤتمر عالمي لنساء اللوبافيتش ،إنه حدث ضخم".
أقول" :إذا… تهانينا".
" لقد اخترناك أنا وزوجي كموفدة عن هيوستن ،وسيتكفل الكنيس بمصاريف قدومك
معي".
هل استشعرت تمردي؟ هل انتقتني لهذا السبب؟ هل األمر واضح؟ هل تحاول
يدعوك للعودة ،فدعي الشريعة تضمك بين ذراعيها.
ِ جري للعودة؟ إن الرب
ّ
سأهرب لعدة أيام وسأهدأ ً
قليال ،وسآخذ لبي معي .سيضطر ليفي ألخذ إجازة لنصف
يوم الجمعة ويعتني بليبل خالل فترة نهاية األسبوع ،إنه ال يستطيع أن يجادل في
ذلك ألن اجتماعات النساء هذه تحظى بمباركة ال َحبر ،وهذا العمل من أجل الرب.
سا عميقًا وأقول" :هل يمكن ألحد هناك أن يساعدني بإيجاد جليسة أطفال إن
آخذ نف ً
جلبت لبي معي؟"
في قاعة شيكاغو الضخمة للمناسبات اجتمعت أكثر من ألف من النساء الحسيديات
واتخذن مقاعدهن حول عشرات الطاوالت المستديرة التي أسدلت عليها أغطية
بيضاء ،وخضعت كل هؤالء النسوة في ملبسهن لإلمالءات الحسيدية .أما "البنات"،
وهي لفظة تشمل كل من لم تتزوج بعد ،فقد أحلن إلى غرفة أخرى وبرنامج مختلف.
هنا في القاعة :ألف تنورة ،ألف باروكة .وعلى طاولتنا ،تتجاذب السيدة فرومان
أطراف الحديث مع صديقة قديمة .بعد أن ألقت في وقت سابق خطابًا عن الدعوة
أمام حشد كبير قالت فيه" :فقط اغرس بذرة ،وسوف تستجيب الروح ".أما أنا
فأجلس مرتبكة بين الغرباء.
كانت الزينة الوسطية لطاولتنا تضم دمية بالستيكية على هيئة امرأة ترتدي أكما ًما
طويلة وتنورة ،وتقف باستقامة إلى جانب زوج من شموع الساباث يبلغ طولها
نصف حجم الدمية .كما وتحوي قطعتين من خبز الشااله اللماع مع تقويم مصغر
يرمز إلى التعداد الرسمي لأليام التي تسبق الميكفاه ،وكان نظر المرأة الدمية
صا إلى وصايا الرب العظيمة الثالثة للمرأة اليهودية.
المبتسمة شاخ ً
يجهز أحد الندالء الصحن الذي أمامي بالدجاج والكوجيل والجزر ويضع قرص
خبز ،ويفعل الشيء نفسه لألخريات ،فتقول إحدى النساء ضاحكةً" :ياللعجب! لم
ي أن أتكبد عناء طهيه!" وتضيف قائلةً" :أتعني بأنني أستطيع الجلوس
يكن عل ّ
واألكل؟" .فأحسب أنه البد أن يكون لهؤالء النسوة العشر الالتي يجلسن حول
ً
طفال. المائدة عددًا من األطفال يتراوح بين الخمسة عشر إلى خمسة وسبعين
ضا ،ثم يبدأنَ باألكل.
تضحك األخريات أي ً
بعد خمسة شهور ،وبعد انتصاف الليل بوقت طويل في غرفتنا المعتمة ،وليفي نائم
في فراشه على الجانب اآلخر من الخط الفاصل .أنا حبلى من جديد .أستلقي على
فراشي وأنصت ألنفاسه المنتظمة.
يجب أن أحاول أن أنام في حياتي هذه التي تهب للرب حتى ساعات نومها .يكتب
ي مثلما يكتب أيامي :هيئي الماء بجانب السرير من أجل غسل اليد
الرب ليال ّ
الصباحي .اذهبي للنوم في سرير منفصل أثناء فترة الحيض ولسبعة أيام بعدها ،أو
في كل ليلة ولألبد .اتلي عهد وحدانية الرب قبل النوم وصالة الشهداء ،ثم صالة
حياتك .نامي بشال ليلي ورداء طويل ذي
ِ منح الروح للرب لتلك الليلة ،أو لبقية
أكمام وقبة عنق عالية ،حتى في صيف تكساس .ومن أجل الصحة ،اضطجعي على
جانبك األيمن .واآلن أغمضي عينيك .تخيلي
ِ ت على
جانبك األيسر واستيقظي وأن ِ
ِ
صورته .اشعري باالنجذاب لروحه المقدسة ،من أجل ضمان أحالم
َ ال َحبر وتأملي
ميمونة .امتنعي عن الكالم حتى الصباح .وسيكتب الرب ما هو آت.
يغشاني النوم أحيانًا عند مطلع الصباح ،لكنني أستيقظ بعد وقت قصير وأنا في حالة
ؤشرا على
من الهلع التام .اختناق ،تسارع في دقات القلب ،وجه الساعة يتوهج م ً
وقت مبكر .ألهث وأحاول أن أستجمع نفسي .أتنفس وأهدئ من روعي .أستنشق
الهواء .أستنشقه مع :الوحدة وضحكات األطفال ومشاغباتهم الصغيرة وكيفية حبي
لهم .أستنشق القيود في حياتي والسخط المتأجج ،بيد أنها تعلق جميعها داخل
صدري .صدري يحترق ،وحنجرتي تضيق .يصفر الهواء خالل مروره عبر
ي التنفسية المتضيقة .ال يعلم األطباء ماذا يفعلون ،وال يجدي دواء الربو نفعًا
مجار ّ
ي أن أصمد يو ًما إضافيًا، زفيرا بيد أن الهواء ال يتحررّ ،
لكن عل ّ ً لفتح حياتي .أصدر
ومن ثم يو ًما آخر .أتشبث بشدة .واآلن أحاول أن أتنفس.
في وقت الحق ،أجد نفسي في فراش وأنا أعتلي إحدى النساء .إنها صامتة لكنها
ليست ساكنة ،وهي تستلقي على ظهرها فيما تحاوط ركبتاي فخذيها .أوه ،بيد أن
هذا مثير للدهشة ،هذه النعومة الفاتنة ،بشرة نهدها الرقيقة على لساني ،احتكاك
أطرافها البطيء المغوي على أطرافي .إنني أشعر ،أكثر مما أرى ،بيديها وهما
قشعرين ،سائل االهتياج ،شعور حاد يكاد يكون أل ًما.
ّ سدان ذراعي وظهري الم
تم ّ
تتوه مني الكلمات ،وأتدفق في موجة.
أنا الموجة.
ي وأنا أذوب في الدفء الرطب.
طوقها بذراع ّ
أنا غريزة .أنا لمسة .أ ّ
أنا أشتهي.
أنا رغبة.
أستيقظ ،وهذه المرة يخفق قلبي بشدة وينضح جسدي بالعرق مرة أخرى .ألبث
ساكنة في الظالم وأنا أرتدي شالي الليلي وردائي الليلي المحتشم ،الربوة الصغيرة
للحمل فوق معدتي وأنا أستمع لخفقان قلبي مقابل شخير زوجي .وبينما يتوهج وجه
الساعة في غرفة الظالل هذه ،أتساءل ِلم َ أظل أحلم بأنني رجل؟ ألنني أرفض
االعتراف بأنني ربما كنت امرأة تمارس الحب مع امرأة أخرى في هذا الحلم الذي
هو أكثر أحالمي إثارة.
بعد ذلك بثالث سنوات وطفلين إضافيين ،ما أزال أعاني من الربو ،وأعاني األحالم
أمرا اعتياديًا .في
سخ بعد المسافة بيني وبين ليفي وغدا ً
والليالي المؤرقة ،فيما تر ّ
أحد أيام الساباث ،أقطع مشيًا على األقدام مسافة الميل ألبلغ الكنيس ومعي لبي التي
تبلغ اآلن أرب َع سنوات.
يحوي الحاجز الذي يفصل الرجال عن النساء في الكنيس في قسمه العلوي جز ًءا
مثقبًا يمكننا عبره أن نرى ما إذا كنا نجلس على مقربة من بعضنا .وعندما نصل
أنا ولبي تصيبنا السعادة حين نحصل على مقاعد في المقدمة .كانت الخدمات قد
بدأت للتو .مندل والصغير أفرامي في المنزل مع جليسة أطفال .أسترق النظر عبر
الحاجز فأتأكد من جلوس ليبل مع ليفي في جهة الرجال .تلتقط لبي كتاب صالة،
إذ إنها قد بدأت بنطق الكلمات العبرية .أخاطبها" :إجلسي بأدب لثالثين دقيقة،
وبإمكانك بعدئذ أن تذهبي للعب في البهو مع أصدقائك ".تهز رأسها ،عيناها
كبيرتان ورزينتان.
تحت أفضل ثيابي المخصصة للساباث وباروكتي الجديدة المصنوعة من الشعر
الطبيعي ،كان جسدي مشوه الشكل من الحمل المتكرر ،ورأسي حليقًا تقريبًا ،بيد
أن جميع من تواجدن هنا كن يتزييّن بمالبس جميلة وباروكات مثالية فوق أجساد
مترهلة ورؤوس حليقة وقلوب متعبة .ربما كان صمتنا وإحساس القصور أمام
وظائفنا هما جزء مما يجمعنا سويةً.
ليبل وليفي يجلسان على مصطبة في جهة الرجال تقابل الجدار األمامي .يجيد ليبل
وضج ًرا ،وألنني ال أستطيع أن
ِ القراءة بالعبرية ،لكنني قلقة ألنه يبدو مضطربًا
أتخيل أن هذا الطفل سيتالءم مع أي قالب .عما قريب سأكون معلمته ،لكنني في
سريرتي ،ال أريد أن أقتلع تساؤالته وتمرداته الصغيرة .يرخي ليبل يده ليسقط
كتاب صالته ،ث ّم يقفز عن المصطبة ،لكن ليفي يثبت كتفه بقبضة قوية .يتلوى ليبل
ليفلت من تلك القبضة.
مبارك هو الذي تكلم فأتى العالم للوجود .لم تعد فوضى اختالط األصوات الذكورية
جهارا
ً وهي تتسارع أثناء الصلوات تفقدني تركيزي .ولكوني ال أستطيع المشاركة
ّ
فإن هذه األصوات تشكل اآلن ما يشبه الخلفية ،فيما أكون حرة ألبدأ بالغناء من
أينما شئت وبسرعتي الخاصة .لقد ّ
بت أفهم الكثير من العبرية القديمة .أحب
إيقاعاتها وجناسها وكالمها الموزون .الشعر .أقرأ تلك األدعية التي تعود لقرون
مضت وأتامل فيها وأنجرف معها وأشعر بأنني حرة للغوص فيها .يكاد صوتي أن
يكون غير محسوس في الصالة ،تتحرك شفتاي بالمقاطع .وببطء ،يهدأ الصفير في
صدري .ومن خالل الجزء المثقب أرى الرجا َل بعيدين ،جباال غطت رؤوسها
بالشاالت تترنم للرب.
إننا نختبئ خلف الحاجز ألن ألجسادنا القدرة على إثارة الرجال وإلهائهم عن
التزاماتهم .بعض صديقاتي هنا فخورات بهذه المكانة ،فهن يشعرن بالقوة ويستمتعن
بهذا االعتراف بسطوتهن الجنسية .في نهاية الصف تتهامس صديقتان مع بعضهما.
وأخرى تنحني على أطفالها الثالث ،الذين كانوا يلمعون من النظافة ،ويرتدون
أفضل حللهم المخصصة للساباث .لكن عدم أدائهن للصالة ليس باألمر المهم.
Aino domeh metzuva v’oseh l’mi shelo metzuvah
—v’osehألن النساء لسن ملزمات بالصالة ،وال تتمتع صلواتهن بالقداسة التي
تأتي من تنفيذ وصية إلهية ،والتي ال يستطيع بلوغها سوى الرجال .عرفًا ،يكفي
المرأة أن تقوم بجلب أطفالها للكنيس من أجل أن تنفذ الصلوات إلى أرواحهم.
لكنني اليوم لست راضية بما "يكفي" .لقد بقيت طريقة أفرام أيور التأملية لبلوغ
بإمكانك الذهاب اآلن "،أهمس للبي ،التي تبدو سعيدة وتقفز عن
ِ الحقيقة تالزمني" .
مقعدها وتأخذ بالبحث عن أصدقائها .يزداد هدوئي بالصالة ،أستمع للكلمات القديمة
وهي تسري عبر عقلي كما لو أن صوتي ليس بصوتي بل صوت الرب ،وهو
يهمس ب ِشعره إلي .من خاللي .السطور معبأة باستعارات عن حياتي ،كل واحدة
منها عبارة عن مفتاح يفتح شيئًا ما.
واآلن يتجمع الرجال الذين يتحدرون من كهنة كوهين في المقدمة على جانب
الرجال لكي يباركوا المصلين .يجر الكهنة شاالت الصالة من األمام حتى تبلغ
خصورهم من أجل إخفاء وجوههم ،فيش ّكلون صفًا جديدًا من الجبال المغطاة
بالشاالت .ويحتشد أبناء كوهين الصغار ،ضخا ًما كانوا أم ضئيلي البنية ،تحت
شاالت آبائهم فيظهر من تحت صف التالل تشكيلة من أكمام البناطيل وأحذية
بمختلف الحجوم .تعلو أغنيتهم الخافتة بسبب غطاء الرأس.Y’varech’cha .
فليباركك الرب ويحفظك ،ولعلّه يشرق بوجهه عليك.
نشيح جميعًا بأنظارنا عن القوة الكهنوتية للرجال المنخرطين بالغناء .فيما تعود لبي
بعد أن طرد أحدهم األطفال إلعادتهم إلى الداخل من أجل البركة الكهنوتية .أدير
رأسي ،وأمنحها عناقًا سريعًا .ثم أهمس بالرد المكتوب على البركة" .يا سيد العالم!
-''Chalom chalamti ayni yodeaلقد حلمت حل ًما ليس مألوفًا :فجأةً،
توقظني في الليل رؤيا حبّ غريب .أنظر حولي كما لو ّ
أن اآلخرين يستطيعون
رؤيتي ،ثم أتطلع لألسفل نحو لبي .تستمر الجبال الكهنوتية بالغناء" :لع ّل طلعة
الرب البهية تشرق عليك ".أعود للهمسات المس ّكنة وللوصول للرب ،وأحاول
التشبث ،Chalom chalamti .لقد رأيت حل ًما .تتعلق لبي بثوبي ،ويعود إحساس
الحرقة إلى صدري .وعلى الجانب اآلخر من الحاجز ،يلقي ليبل بكتابه ويشد بك ّم
ليفي.
حمام ساخن .عضالت متعبة تلبث تحت الماء الذي يتصاعد منه البخار .أتمطى.
وبروية أستنشق الهواء الرطب الدافئ .وحدها
ّ حرارة ٌ ،وعينان نصف مغمضتين.
الشريعة باستطاعتها أن تجعلني أنغمس بهذه الكيفيةّ ،
لكن هذا الحمام الطويل
والساخن الز ٌم قبل الميكفاه .لقد جربته لبضع مرات في السنوات األخيرة ،خال
ي الحمل والرضاعة ،لكنني انتهيت من األيام السبعة النظيفة وقد حان الوقت
فترت ّ
اآلن .سيشرف ليفي الليلة على وضع األطفال في أسرتهم ،إذ ال يجعلني القلق على
األطفال أحظى بحمام خاطف .وعلى مهل أزيل قشرة جرح صغيرة طرية ،وأنعّم
ي ،أفرك المكياج عن
ي وقدم ّ
الجلد الميت في قاعدة كل أظفر من أظافر أصابع يد ّ
ي الخشنتين ،لكيال يحجز شي ٌء مياه الميكفاه من التالمس مع
وجهي والبقع عن يد ّ
ي إلى وركي حتى أغدو جسدي الحي .أمرر الليفة ذات الرغوة من أصابع قدم ّ
أخيرا وأرتدي روبًا باهتًا م ً
زررا من األمام، ً نظيفة وناعمة على نحو مثالي .أخرج
ً
وشاال صوفيًا أحمر .أضع منشفة جديدة داخل حقيبة الظهر ،فيما مندل وأفرامي
نائمان" .ستخرج ماما لرؤية سيدة "،أخبر لبي النائمة في فراشها ً
أوال وأقبلها ،ثم
أخبر ليبل الذي كان مستيق ً
ظا يقرأ ،وأش ّد على يده" :سأعود قريبًا".
كنت أعتقد قبل الزواج أن اإليقاع المتقطع للميكفاه يزيد الحميمية .فقبل الميكفاه،
ال ب ّد أن يع ّمق الحوار والرفقة العذرية معرفة أحدنا باآلخر ،ومن ث َ ّم فإنهما يمتّنان
الرابطة بيننا .سيكبر الترقب اللذيذ ،وسيقودنا إلى ليلة الميكفاه .بيد أنني ال أعرف
كيف هو الشعور بذلك الترقب .لقد فقدت كل الجرأة التي اكتسبتها بعد منح الراف
ً
كامال قبل زمن طويل .فقد ازداد ليفي بعدًا موشيه إيّانا ذلك اإلرجاء الذي بلغ عا ًما
وبرودًا .أتذكر اشتهاءه لي ذات مرة .غير ّ
أن الجنس أصبح فع َل طاعة للشريعة
تتم ممارسته مرة شهريًا .أتو ّجه نحو الخارج عبر الباب الخلفي ،فيما ليفي يدرس
التلمود على منضدة غرفة الطعام ،وال ينبس ببنت شفة حين أغادر المنزل.
خارج الميكفاه ،في سيارة الفان التي تقودها عادة االمهات ،مع رفيقة الميكفاه ميرا،
ً
وشاال صوفيًا .لقد اصطحبت إحدانا األخرى للميكفاه ضا روبًا
والتي ترتدي أي ً
لسنوات ،وباإلضافة إلى ليفي فهي الوحيدة التي تعرف بأن هذه الليلة هي موعد
ليلتي في الميكفاه .تحب كالنا ركن السيارة ثم تبادل األحاديث .نقبع في السيارة
المظلمة التي تلقي ظلها تحت الضوء الطويل المسلط فوق ساحة وقوف السيارات.
تتوقف سيارة أخرى .تخرج منها امرأتان تتوجهان إلى باب الميكفاه .وتنكب
إحداهما على فتح القفل التوافقي .وإدرا ًكا لخصوصية الميكفاه ،وعلى الرغم من
نصرح بهوياتهنّ .
لكن وقتنا قد حان ،وأنا وميرا لم ّ أننا نعرف كلتيهما ،فنحن ال
نكن مستعجلتين للخروج من السيارة .بيننا نحن االثنتان ،هنالك تسعة أطفال ،وكالنا
يعلم بأنه سيكون هناك المزيد منهم ،لذا فإننا نتبادل أطراف الحديث .إنه أحد األماكن
القليلة التي أتحدث فيها ،وأنا محمية بحياء الميكفاه .نتحدث عن أطفالنا وعن معاناتنا
في تربيتهم وعن المدرسة الحسيدية وعن الحاخامات .وتتحدث هي عن شدة رغبتها
بغرس القيم الحسيدية في نفوس أطفالها ،وأحيانًا ،حينما تستشهد بدراساتها اليهودية،
يزداد صوتها حدّة .وعندما تفعل ذلك أتراجع عن الحديث ،إال إننا بعدها نتشارك
وصفات الطبخ ونتحدث عن أزواجنا وعن مهارتنا في المساومة وعن التعامل مع
مدبرات المنزل .لقد كنت ذات مرة خجولة ومترددة في مثل هذه الخروجات ،إال
أن ميرا أصبحت اآلن أكثر من مجرد صديقة ألتقي بها مرة في الشهر.
في غرفة االنتظار في الميكفاه ،تتجاذب بضعة نساء ،من اللواتي يجلسنَ على
أطراف الحديث مع بعضهن ،بينما تقف األخريات .ومن
َ المقاعد القليلة المتوافرة،
المتعارف عليه أن ما من امرأة ستبلّ ٌغ عن اللواتي رأت ّ
هن هنا .تأتي النسوة جميعهن
أزوا ًجا ،واحدة تغمر نفسها بمياه المكيفاه واألخرى تأتي من أجل اإلشراف عليها.
إحدى النسوة ،وهي حديثة العهد بالزواج ،ال تتكلم وال تنظر ألحد ،بل تسلط نظرها
على قدميها ،ويداها تمسك بمنشفتها الملفوفة في حضنها بينما تنتظر قدوم دورها.
فأتذكر كم شعرت بأنني منتهكةٌ في هذا المكان عندما كنت في بداية زواجي .كنت
أشعر بالحرج ّ
ألن كل شخص هنا ال بد وأن يعرف بأنني كات من المفترض أن
أمارس الجنس مع زوجي تلك الليلة ،أو ألن موعد الميكفاه يكون في وقت
خصوبتي ،ما يجعلني عرضة للحمل في الليلة نفسها .ولكنني تعلمت أن أحب هذه
المساحة النسائية الخاصة المفعمة بالطاقة حيث االعتراف المضمر بممارسة
الجنس .إننا نتشارك التكتم على األسرار والترقب والتغييرات التي قد تحدث .أنضم
للحديث.
أربعة أبواب متجاورة حول محيط غرفة االنتظار الرئيسية هذه ،وهذه األبواب
األربعة تفضي إلى أربع غرف متصلة .تحوي اثنتان منها على أحواض الميكفاه.
وكل واحدة منها مرتبط بحمام يتم فيه التهيؤ لالنغمار .تطلع إحدى النساء من إحدى
الغرف بوجه ناضر وجسد مكتس بالثياب ،ووجناتها متوردتان من أثر الماء الحار.
توميء لي ميرا أن حان وقت دخولي.
ألتف بمنشفة وأقف بجانب البركة ،وميرا تقف خلفي .الميكفاه مليئة بمياه حارة
تجعلها مثل حمام ساونا ،وهي مبطنة بقرميد أزرق اللون .وعلى الرغم من أن
المضخة المسؤولة عن تصفية الماء وإضافة الكلور مطفئة خالل وقت الميكفاه ،إال
ّ
أن الهواء يعبق برائحة الكلور ،إنها ميكفاه أمريكية عصرية .هنا في الداخل يتردد
صدى كل األشياء :المياه المتقاطرة ،وقع حذاء ميرا على األرض الرخامية،
أصواتنا الخافتة ،حماسة جميع النساء من الماضي والحاضر والمستقبل واللواتي
جلبن أو سوف يجلبن آمالهن إلى هنا .أستدير وأدع المنشفة تنزل حتى خصري
ي من أي شعيرات متناثرة .إذ ال ب ّد
لكي تستطيع ميرا أن تعاين خلو ظهري وكتف ّ
ي براحة
أن تمس المياه كل بوصة من بشرتي" .ال تتحركي "،تقول ميرا وتمسح كتف ّ
باالنتهاك في الميكفاه ما يزال يراودني ،فأجفل ال إراديًا
ِ يدها الدافئةّ .
لكن الشعور
أعود نفسي على هذا .أبقي ظهري بمواجهتها وأنزل
من لمستها الناعمة .ولن ّ
الدرجة األولى وأناول المنشفة والنظارات من وراء ظهري إلى ميرا ،ألدعها تظن
بأن حشمتي موجهة للرب.
تتوارى ميرا خلفي في األعلى.
ي .هنا أنا متجردة من كل شيء ،ومن
تصل المياه الدافئة إلى صدري ،وأغلق عين ّ
كل شخص ،من ليفي البعيد ،وليبل الصغير العاطفي ،ولبي الخجولة ،ومندل
النشيط ،والطفل الجميل أفرامي .كما أنني متجردة من التظاهر ،فهنا وهنا فقط أنا
ضا ،حيث
ي وأنزل إلى المستوى األكثر انخفا ً
منكشفة على حقيقة نفسي .أفتح عين ّ
ي من أجل إبقاء ذقني فوق سطح الماء.
أضطر إلى أن أتوازن على أصابع قدم ّ
تتدفق موجات المياه بعيدًا عني في خطوط رمادية متموجة .لقد تغيّر معنى الميكفاه
متمحورا حول ليفي ،أو حول الجنس الذي سوف يتبعها .وبغض
ً عندي ،ولم يعد
النظر عما ت ّم تلقيننا إياه ،فإنني لم أعد أطهر نفسي ألجله هنا ،مثل أعطية .إذ أصبح
هذا الغطس المتجرد في المياه الدافئة صالتي األكثر خصوصية ،صالة جسد ،بيني
وبين الرب فقط.
ي إلى األمام ،وال أتعجل .فهذه ليست مثل الغطسات اإلجبارية المستعجلة
أرفع ذراع ّ
الكثيرة التي سبقت هذه المرة ،والتي كانت مثقلة باإلرهاق وضعف البصيرة .أرفع
ي عن القاع وأدس رأسي تحت الماء .وتحت سطح الماء ،أتمطى وأمد يدي
قدم ّ
للوصول لشيء ال أستطيع تحديده .مغمورة وعارية ومعدومة الوزن ،إنني محت َ َ
ضنة
أخيرا .الماء يمثل عناقًا صامت ًا .لكنني بعدها أنزل قدم ّ
ي إلى قاع المحيط وأرفع ً
رأسي ألجد عال ًما أرضيًا ما يزال ينتظرني .أبزغ حينها فيما يبدو وكأنه والدة،
وما أزال أقف في الماء .تهمس ميرا بكلمة "حالل'' أو " "kosherوتنزل لألسفل
من الدرابزين عبر الهواء الرطب .لكن ما هو ،من هو ،هذا (الحالل)؟ هل أنا
مط َّهرة ،بعد كل شيء؟ وهل أطفالي كذلك؟ أتلو البركة بصوت مشوب باألمل.
وجل هذا األمل منصبٌّ على تحسين حيواتهم الثمينة .ومن خلفي ،تر ّد ميرا :آمين.
ي لكي أغطس تحت الماء .أموت هنا. أدس رأسي تحت الماء مجددًا وأرفع قدم ّ
أغدو قطرة في البركة الهائلة من النساء والتاريخ والرب .تحت الماء ،محاطةٌ أنا
بوجوه أنثوية عائمة من ماضي شعبي ،يصلين و َيعمنَ ويتأ ّملن .إنني أعوم على
قمة دوامة على هيئة قمع هائل .أدرك أنني لست وحيدة .أكرر فعل ذلك خمس
مرات أخرى ،فيصبح مجموع الغطسات الكلي سبعة ،أموت وأموت مجددًا ،حتى
تدور اللحظات األزلية الخالية من الهواء جميعها سوية .أقف اآلن ،والشعر األملس
المبلل ملتصق على رأسي ،أواجه الجدار المكسو بالقرميد في عقد حميمي مع
الرب ،أسلمه ذاتي المخبوءة .هنا ،أهمس له .خذ هذه.
الفصل الثالث عشر
28يناير .1986 ،أدخل إلى غرفة المستشفى التي يمكث فيها ليفي وأنا
شهرا
ً أدفع العربة التي وضعت فيها مولودتنا الخامسة سارة التي تبلغ من العمر
واحدًا ،ومعي ليبل الذي أصبح في سن السابعة يساعدني في دفع العربة .فسنوات
االستقامة أثقلت ظهر ليفي الذي جاء هنا ليخضع لجراحة فيه .وحالما نصبح داخل
يحرم ال َحبر
الغرفة نتوقف مع العربة .يطالعنا مشهد غريب :ليفي يشاهد التلفازّ .
التلفاز ،لذا ال نمتلك واحدًا في المنزل .وعلى الرغم من أنني أسمح لليبل أن يشاهده
أحيانا ً في منازل الجيران ،إال أنه ً
نادرا ما رأى والده يشاهد التلفاز ،هذا إن كان قد
رآه قط .ال يلتفت إلينا ليفي وال يحيّينا بابتسامته الباهتة .بل يس ّمر عينيه على
جارا
الشاشة .كان صوت التلفاز عاليًا ،والمذيع يتحدث بنبرة حميمية كما لو كان ً
أو صديقًا.
كنا قد اطلّعنا على آخر األخبار في نسخة ليفي من صحيفة هيوستن
كرونيكل ،كما حدّثت معلمة اللغة اإلنكليزية للصف األول ليبل وزمالءه األطفال
عن كريستا ماك أوليف ،معلمة الدراسات االجتماعية التي ستسافر إلى الفضاء
على متن مركبة فضائية تابعة لناسا حاملةً معها رسائ َل من تالميذ المدرسة .كانت
ماك أوليف تخطط ّ
لبث دروس من الفضاء ،فيما وصفتها بـ"الرحلة الميدانية
األعظم ".ناسا هاهنا في هيوستن ،فدبَّ الحماس في األطفال .كانت المهمة تضم
سبعة أعضاء آخرين ،من بينهم جوديث ريسنك ،وهي امرأة يهودية سبق لها أن
ذهبت إلى الفضاء ،لكن تبدو ماك أوليف ،وهي أول شخص يسافر للفضاء من غير
س َرت مخيّلة األمة .يوم أمس ،حملت الصفحة األولى من
رواد الفضاء ،هي من أ َ
الصحيفة صورة ً ملونة لطاقم ناسا المكون من ثمانية أعضاء وهم بكامل عدّتهم.
وطوال أسابيع ،كانت ألعاب ليبل تدور حول الصواريخ والرحالت الفضائية.
ال ينظر ليفي إلينا .وعلى شاشة التلفاز ظهرت هناك سحابة مخيفة ،غيمة
كثيفة مترعة بالدخان في أعلى السماء الزرقاء" .ما هذا؟" أقول.
يقول ليفي":إنه المكوك تشالنجر".
أضع يدي بسرعة على كتف ليبل ،كان صوت المذيع مغلفًا بهدوء حزين
ومنذر بالشؤم ،كما لو كان شي ًخا ينصح برفق إنسانًا وحيدًا وضعيفًا خالل مأساة
أل ّمت به .وتحت تأثير ذلك الصوت األبوي الحاني ،أعي فجأة أن كل البالد قد
توقفت لتشاهد إقالع المكوك تشالنجر ،إذ توقفت األعمال التجارية ،وتج ّمع تالميذ
المدارس الصغار أمام الشاشات .يعاد بث المشهد الغريب ،تلك السحابة الدخانية
في السماء ،والحشد المتفرج الصامت الذي كان منذ لحظات قليلة يهتف ويهلل عند
إطالق المكوك .يرفرف العلم من أثر الرياح .نشاهد العرض من البداية هذه المرة،
تصور األطفال
ّ اإلقالع المثير نحو االحتماليات الالنهائية ،ثالث وسبعون ثانية
المبتسمين والحشود المهللة ،ثم يع ّم الصمت .تلك السحابة في السماء .وجوه كئيبة.
الملوحة ،ونَزلَت ،فغرت األفواه ،شخصت العيون إلى
ّ تجمدت الالفتات واأليدي
األعلى .سوية مع الحشود ،نشاهد أنا وليفي وليبل الدخان وهو ينقشع رويدًا رويدًا.
كنا جميعنا نقف وأكتافنا مرتخية ،وعلى وجوهنا نفس الدهشة التي لم ترف بسببها
عيوننا .يترك المذيع وقفات طويلة وكئيبة بين جمله بينما يعاد بث صورة اإلقالع
وتكرارا ،لينتهي المشهد كل مرة بسماء خالية فيما نقيم وقفة حداد
ً مرارا
ً واالنفجار
أمام هذا الصندوق الغريب.
في غضون هذه الدقائق القليلة ،اقتلعني الحدث مع ليفي وليبل من صندوقنا
ورفعنا من فوق جدار الصندوق وأسقطنا في داخل المجتمع
الزجاجي الحسيدي َ
األمريكي .تمسح الكاميرا وجوه الحشود وها نحن ذا بينهم .وبينما يعاد بث مشهد
السحابة مرة أخرى ،ننض ّم بعجزنا لتيار المشاعر الوطنية.
ينشج ليبل ،عيناه واسعتان ومليئتان بالدموع .إنه ليس معتادًا بتاتًا على العالم
الغريب لصور التلفزيون .أضع يدي الثانية على كتفه اآلخر لمواساته وأفكر ،ان
سماع هذه االخبار كان يكفي ليسبب له هذا االذى ،ولكن رؤيتها بعينيهَ…حركت
يدي للحظة تجاه عينيه لتغطيتها ،ولكني عدلت عن ذلك.
لقد خذلناه .كنت أظن بأن الصندوق الزجاجي سيعزل أطفالي عن العالم
ي من كل ذلك ،وها قد قطعت كل هذه المسافة
ومآسيه ،كما وظننت أن مجتمعنا محم ٌّ
لكي أجلب ابني إلى هنا ليرى هذا الدمار الذي يفوق التصور .أما األسوأ من ذلك
فهو تعليمنا إياه أن ما من شيء في العالم يحدث من قبيل المصادفة .لقد علّمناه بأن
كل شيء يحدث تبعًا لخطة الرب الخيّرة .ومجددًا تظهر تلك السحابة في السماء.
"ليفي" أقول وأنا أشير إلى ليبل" .أطفئ التلفاز".
"أمي ،لماذا؟" يقول ليبل بصوت حزين من مقعده الخلفي في السيارة .أعرف
أنه ال يستطيع أن يتخيل عدم وجود أي تفسير ،فمن المفترض أن التوراة تجيب
عن كل شيء .لكنني كنت خرقاء وافتقر لألجوبة .وال يرجع هذا إلى ّ
أن ديننا
اليهودي ال يقدم اإلجابات ،لكنه يعود إلى أن االجابات التي أعرفها لن تشعرني
بالنزاهة حين أقدمها له اآلن .أعترف بهذا أمام نفسي.
وكأن التفسير الجيد بما فيه الكفاية كان ليزيل هذه الخسارة .تخترقني صدمة
ليبل البريئة بينما أقود السيارة .كان من المفترض أن أكون األم الدرع التي تحمي
أطفالها من التناقضات والصدف والخسارة .لقد آذيته ،ولم أمنحه الحماية من العالم
المحتوم" .لماذا؟" يسأل مجددًا ومجددًا.
أتمنى لو كنت حرة ألخبر ليبل بأن هناك الكثير والكثير في الخارج مما
يتحدى مفهوم وجود خطة إلهية خيّرة .أردته أن يكون واثقًا بنفسه وسعيدًا حتى في
الخارج في ذلك العالم المتناقض والمفجع الذي رآه على التلفاز ،لكن من أجل أن
يبلغ ذلك ،سيكون عليه أن يخوض غمار معرفة ذلك العالم.
يستمر ليبل بتساؤله أليام عدة.
بعد نحو شهر في منزلنا الجديد ،أجلس في مطبخي الجديد الواسع الذي يزينه
البالط المكسيكي األحمر ،أرتشف الشاي وأستمتع بهدوء الوقت الباكر قبل ذروة
أخيرا الترميم ،والجراحة التي أجراها ليفي ،واالنتقال ،وأنا
ً الصباح .إذ تجاوزنا
مسرورة للغاية بقرار تأجيل عودتي للتدريس بعد والدة سارة .يعد المنزل الجديد
ي،
فرصة جديدة لخلق مالذنا اآلمن .سارة نائمة في كرسيها النطاط عند قدم ّ
وغالديس ،مدبرة منزلنا الجديدة ،توقظ األطفال وتنزع األغطية عن األسرة في
الجزء الخلفي من المنزل .وعبر النافذة الناتئة إلى الخارج ،تبدو سماء أواخر فبراير
منخفضة ورمادية ،وأحد الطيور المحاكية يغرد على غصن سفلي من أغصان
تكتس باألوراق بعد .تشكل أرضيتنا المصنوعة من الخشب
ِ شجرة الدردار التي لم
جسرا فوق بحيرة أسماك تتلوى في قاعها أسماك كوي .البالط المكسيكي،
ً األحمر
حوض مغسلة مزدوج وأدوات مطبخية مزدوجة ،إحداها للتعامل مع اللحم
واألخرى للتعامل مع الحليب ،جميعها تلمع من فرط النظافة .يندفع الطائر المحاكي
من الشجرة إلى درابزين الجسر ،يجثم هناك ،ويدير رأسه ليشاهد السمك .سارة
شبعى وهادئة .ويبدو عليها ذلك السكون المذهل الذي يميز نوم الرضيع.
لقد خفّضت الجدار الزجاجي بيننا وبين اآلخرين بمقدار قليل .فانتقلت
غالديس للعيش معنا .لقد دعوتها لالنتقال معنا رغم أنها -لكونها الجئة من
السلفادور ،وواحدة من جموع الناس اليائسين الذي تدفقوا على حدود تكساس-
تجلب العالم ومشاكله إلى داخل منزلنا .أوصيها" :خاطبي األطفال باللغة اإلسبانية
فقط ،وهم سيتعلمون بسرعة ".بعد أن انفجر المكوك تشالينجر ،ارتأيت أنه إذا
تمكنت من جعل األطفال أكثر تعودًا على القدر ،فلربما لن يشعروا فيما بعد أن
إيمانهم خانهم أمام خطر وعبثية العالم .ولعل غالديس تستطيع أن تساعدهم في أن
يصبحوا أقل ارتيابًا من الناس المختلفين عنا .عالوة على ذلك ،يمنحني وجود
غالديس وقتًا ألتعافى من والدة سارة ،حتى وإن كانت األعمال المنزلية تتطلب
جهود كلينا ،كما يمنحني وقتًا ألرتشف كوبًا من الشاي.
ينادي أفرامي من مهده "ماما!" ،ثم يتوقف عن مناداتي؛ ال بد أن غالديس
قد أخرجته من السرير .وأمامي يظهر ليفي مرتديًا بزة وربطة عنق ،وهو يسير
عا عبر المطبخ نحو الباب الخلفي ،وما يزال يتحرك كما لو أن ظهره الذي
مسر ً
س َّحاب والتي
مؤخرا قد ينكسر ،ويضع تحت ذراعه حقيبته المخملية ذات ال َّ
ً عالجه
تحتوي على شال الصالة الخاص به والتيفلين .أعبس وأضع أصبعي على شفتي،
وثم أؤشر على الطفلة النائمة .يقول ليفي "لقد تأخرت .يجب أن أذهب ،"،مثل
عا .يصفق الباب
األرنب األبيض في أليس في بالد العجائب ،دون أن يقول ودا ً
خلفه.
سرعان ما ستبدأ جلبة المنزل الصباحية ،لكن ليفي على وشك أن يشهد
ابتداء خدمة الكنيس الصباحية المبكرة .تتملكني بعض الغيرة .أتخيل رجال مجتمعنا
متناثرين في أرجاء حرم الكنيس ،ينفضون شاالت الصالة تحت السقف العالي،
والضوء الخافت ،ثم يلفون أحزمة التيفلين السوداء حول أذرعهم ،يتثائبون ،وكل
واحد منهم محاط بقدسية تتأتى من االلتحاف بالشال الذي يصدر حفيفًا .يبدؤون
الصالة واحدًا تلو اآلخر ،يغوصون في الكلمات ،يسهون عن مشاغلهم الراهنة،
عن وظائفهم والسيارة التي تحتاج إلى التصليح والطفل المشاغب والمرج غير
المشذب والصديق المحتاج والزوجة المتعبة ،حتى تمتلئ الحجرة باألمل المتجمع
تحت ضوء الصباح الباكر .أتذكر لحظات الهدوء التي كانت تتخلل كلمات أفرام
إيور حينما كنت أشاهده وهو يصلي ،ذلك النوع الفريد من السكون .يتسنى لليفي
أن ينغمس في تلك األجواء كل صباح ،وهو محاط بالرب من كل جانب.
مدو في الكنيس الذي يصلي فيه ليفي ،وأنا
لكن ،صوت الرب الذكوري ّ
أجلس في جانب النساء من الحاجز الفاصل بين النساء والرجال .ثم أفكر ،حسنًا،
ربما ليفي يشعر بالغيرة هو اآلخر ،الغيرة مما أبدو بأنني أحظى به من راحة في
الصباح الباكر بينما ينبغي عليه أن يسرع كل صباح إلى الكنيس ،بغض النظر عما
يشعر به .أتخيل ليفي بين الرجال اآلخرين .يسدل الشال على كتفيه ،صندوق
التيفلين على جبهته ،ويردد البركات اليومية التي تنطوي على تقديم الشكر للرب
ألنه "لم يجعله امرأة ".لقد فرغت قبل زمن طويل إلى أن الرجال مأمورون بترديد
عبارات الشكر كتهذيب يومي يبعد عنهم الشعور بالغيرة من النساء ،اللواتي ال
يحملن على عاتقهن عبء أداء الطقوس اليومية والصلوات الذي يتحملونه هم.
تبخترا مقيتًا كما يظنها الغرباء من غير اليهود.
ً أفكر ،ال يمكن أن تكون تلك الصالة
شعورا إزاء النساء ،إنما هي صالة نابعة من االلتزام الناشئ عن كونك
ً إنها ليست
ً
رجال .فنحن جميعًا ملزمون بشكر الرب على أعبائنا.
تدخل ليبي إلى المطبخ بخطوات هادئة ،ناعسة وضئيلة ،ويأتي خلفها ميندل.
أقوم من مقعدي .ترفع ليبي ذراعيها فأرفعها على خصري .أفكر بأنها أخذت تكبر
ولن يعود مناسبًا حملها بهذه الطريقة" .بوبا ،هل رد ّد ِ
ت صالة ()modeh ani؟"
أقول بنبرة تفيض دفئًا بعد أن تركت لها ليلة البارحة طشت غسل بجانب سريرها
مع إبريق ماء ذي مقبضين لكي تجده حين تستيقظ في الصباح ،فتقرفص على
األرض وتصبّ ماء الطقس على يديها .ال بد أنها سكبت بعض الماء حين حملت
ً
مبلال .تضع الحوض إلى الحمام مثل فتاة ناضجة ،ألن طرف رداء نومها كان
رأسها على كتفي وتعانقني وهي ما تزال ناعسة ،وأنا استمع لها وهي تلثغ بجملة
الشكر الصباحي للرب موديه آني ( .)modeh aniإن تدريبهم على الطقوس
عليك أن تتناولي الفطور وتستعدي للمدرسة"،
ِ واإليمان هو ما ميّز أمومتي" .يجب
أقول لها .تهز ليبي برأسها على كتفي.
ضا ،وليبل الذي يستيقظ من نومه
ثم يأتيني ميندل ،الذي يريد الفطور أي ً
وأفرامي الذي تجلبه غالديس وأنا أمزج رقائق التشيريو والحليب في أطباق
ّ
وأحث األطفال على ترديد البركة قبل الطعام -تناولوا وأحضّر كؤوس العصير
طعامكم ،حان وقت الذهاب للمدرسة -فيما تجهز غالديس أكياس وجبة الغداء .حتى
أفرامي ذو العامين يذهب إلى المدرسة .يستوجب هذا دفع المزيد من التكاليف
يصرون على بدء التعليم عند عمر السنتين .أحزم حقائب
ّ للتعليم ،لكن آل فرومان
أدس القمصان في بناطيلهم ،وأساعدهم على ارتداء األحذية الرياضية .ومع
الظهرّ ،
هذا ،مع هذا ،أفكر ،كما لو أن شعور لمس كل طفل ما يزال ملتصقًا على يد ّ
ي ،إن
احتضان األطفال هذا ورعايتهم وتعريفهم على الرب لهو صالتي الصباحية.
إن تعليم األطفال ورعايتهم وترتيب حيواتهم التي تتخللها لحظات الحب
المباغتة لهو عندي بمثابة الـ " "shechinahالهامسة ،أي ما نعني به الجانب
األنثوي من الرب .وهنا يلّح على التساؤل :بالنسبة ألولئك الرجال في مجتمعنا
الذين ،خالفا لليفي ،يشاركون بعمل المنزل ورعاية األطفال (وهم كثر) ،هل
ضا لحظات مع أطفالهم تبدو أشبه بالصالة؟
يختبرون أي ً
بعد ساعة ،وبعد أن يغادر األطفال إلى المدرسة ،أعود إلى طاولة المطبخ
ي.
مع كوب شاي طازج ،تركل سارة قدميها في ذراع ّ
يبدو أن المنزل الجديد يحبس أنفاسه في انتظار عودة األطفال للتجمع فيه
الحقًا مع صيحاتهم وحقائبهم وجوعهم ،لكن في اللحظات الراهنة ثمة استراحةٌ،
ترف يبعث على االمتنان .أرتشف شايي .لكن ما تزال أمامي الئحة مهام اليوم،
ٌ
والخطط ،ووجبات الطعام .يقول الحاخام فرومان أن كل حفاظة يتم تغييرها وكل
إناء يتم غسله ،وكل مرة تحمل فيها امرأة ً
طفال لهي طقوس المرأة الخاصة التي
تؤديها من أجل الرب .يقول الحاخام أن كل عمل من جنس هذه األعمال يحمل
للمرأة نفس الطاقة الروحية التي تحملها طقوس الرجل التقليدية .لكن… كيف لليفي
أن يتخيل أن حياتي مألى بالراحة والحرية لمجرد أنني غير ملزمة بأداء طقوسه
ودراسته وصلواته؟ ال يمكنه أن يغار مني .أي راحة؟ عندما أستيقظ قبل الفجر،
يكون ذهني منهم ًكا بالتفكير باألعمال غير المنجزة؟ أي راحة؟ عندما سيخيب أمل
أحد األطفال اليوم ألي أمر كان حينما ال يجد مني ما يكفيه؟ أي راحة عندما ال
نتعاون أنا وليفي في مسؤولياتنا المنفصلة وال حتى نتحدث عنها؟ فإذا كان كل ما
سا بحد ذاته ،فأنا أؤدي طائفة من الطقوس أكبر بكثير
أفعله للمنزل واألطفال طق ً
مما يؤدي ليفي.
تأخذ سارة بالبكاء .أرفع بلوزتي وألقمها ثديي .أنتقل إلى حيث الكرسي
المنبسط في حجرة المعيشة وأجلس عليه .يستقر ثقلها على معدتي ،السحب
المنوم لشفتيها الراضعتين ،األنفاس الدافئة المتواترة على البشرة
ِّ المتواصل
الناعمة .وبينما ترضع ،تتحسس بلوزتي بأصبعها .تبدأ بإغماض عينيها .أنحني
للخلف ،ثم أمد يدي إلى منضدة جانبية أللتقط أحد كتب الصالة المهترئة الموزعة
في جميع أرجاء المنزل لتكون في متناول اليد وأقلب الصفحة على نفس البركات
التي يبدأ بها ليفي يومه .وبينما ت َرضع سارة ويغلبها النوم ،أهمس بنفس الكلمات
التي يرددها ليفي في الكنيس" :إن الرب يحرر األسرى ،يرفع من يركعون ،يشفي
المرضى ".أقرأ الكلمات وكأنها وعود ّ
بأن األعباء سوف تخف عن كاهلي وبأنني
لست وحيدة في مواجهتها ،ولكنني ال أستطيع حتى تخيّل نفسي وأنا أعبر عن هذه
األعباء بصوت عال.
لكن الئحة مهام اليوم تقتحم رأسي ،فأبدأ باإلسراع في القراءة ،متعجلةً
ّ
وغائبة الذهن ،مهمة آخرى تحتاج ألن أتحقق منها ،حتى أصل إلى المقطع "بوركت
أيها الرب ،ألنك لم تخلقني امرأة ".وهنا أقوم تلقائيًا باستبدال ما تستبدله النساء
بالعادة" :لك الشكر ،ايها الرب ،ألنك خلقتني وفقًا إلرادتك ".إننا نقبل خيارات
ً
رجال وال أنتمي لجانب الكون الذي ينتمي إليه ليفي. الرب المجانبة للحظ .لست
لكنني أتساءل ِل َم تقتصر بركة النساء على القول بأنني أقبل ارادة الرب ،وال تقول
بأنني امرأة؟ أن ذلك ما أنا عليه .ف ِل َم ال نقول في البركة" :الشكر لك ،أيها الرب،
ألنك خلقتني امرأة"؟
لكن ِلم ال نقول ذلك حقًا ،اخبر نفسي .فليفي أي ً
ضا يقوم بنفس الصلوات
اليومية بنفس الخضوع الخاوي الذي أستجمعه كل يوم ،أمام نفس الرب الحسيدي.
لكن ماذا لو كان بإمكاني التأرجح بين عناق األطفال الدافيء والروعة الهائلة
الغامرة لربنا التقليدي القديم في الكنيس عند شروق الشمس؟ وماذا لو أنني أحظى
بكليهما؟ وماذا لو كان بإمكان ليفي أن يحوز على نفس الغنى المتنوع ونفس التوازن
والحرية لتذوق كال النوعين من الصالة؟ ماذا لو كنا نتشارك ذلك؟ ولو لم أكن
شعورا
ً وحيدة على الدوام على جانبي اإلنثوي من الشريعة ،فهل سأكون أقل
ً
عجزا؟ هل سيتحسن أمرنا إذا لم نكن نتحدث عن الرب بلغتين بالوحدة ،أقل
مختلفتين تما ًما؟
ي وأنسل للغرفة التي تتشاركها مع
أقوم من مقعدي وسارة نائمة بين ذراع ّ
ليبي ،وهي نفس الغرفة التي أخذت غالديس تفرد فيها سريرها كل ليلة .أفصل
الطفلة عن ثديي وأنزلها في مهدها ،وهي ماتزال نائمة وشفتاها تمص بفتور .أتوقف
ي أن
وأراقبها ،ويدي على ظهرها حتى تستقر في نومها .لكن الساباث آت وعل ّ
أذهب إلى متجر البقالة.
تحل ليلة الجمعة .وعند غروب الشمس كنت قد أرضعت الطفلة وتسوقت
وأرضعت وطهوت ورتبت المنزل وأرضعت ول ّمعت الفضيات وأرضعت
وتحممت وارتديت ثيابي وأجبت على الهاتف وأجبت عن مئات األسئلة التي طرحها
عا وغير ذلك كثير.
األطفال وأرضعت وفضضت ثالث شجارات وجففت دمو ً
الطعام ناضج ،المنزل نظيف ،الفضيات ملمعة ،وكل شيء في مكانه .تحمم األطفال
وارتدوا أو كادوا يكملون ارتداء ثياب الساباث ،دسوا حواف قمصانهم بالبناطيل
وربطوا عقدها ،ومشطوا شعورهم بطريقة احتفالية .طاولة العشاء مفروشة بغطاء
من القماش األبيض .وأنا وليبي على وشك أن نشعل الشموع.
اآلن تحين تلك اللحظة التي يفترض أن يدخل فيها "مقدار الروح األكبر"
للساباث أروا َحنا ،اللحظة التي ننضم فيها إلى جحافل النساء عبر الزمن بقدحة
ثقاب ،جوقة من جميع أنحاء العالم تقوم بقدح أعواد الثقاب وإطالق أزيز اللهب،
مثل الرب ،لها القدرة على خلق يوم .ولكن يومي كان بالفعل حافالً ومشحونا ً للغاية،
فكيف لقدحة عود ثقاب أن تجعلني أشعر بالقداسة؟ إن فكرة خلقنا لهذا الوقت المقدس
بإشعال شموع الساباث ليست حقيقية عندي بقدر ما يمثله البيت أو الطفل.
لم أعد أفكر باأللغاز الهائلة؛ لم أعد مفتونة بفكرة الرب الذي يحوم بين
سطور النص المقدس .بيد أن الرغبة الروحية التي ساقتني إلى هذه الحياة تركت
بصمتها مثل همهمة تصاحبني ،أو كدمة .إن ما أملكه اآلن هو طاعة محضة .فأنا
أحاول أن أرضي الرب بفعل ما قيل لي أنه يريده ،كما لو إنني أستطيع حينها أن
أرنو لألعلى مثل طفل وأرى الرضى في عينيه.
ي ألقول بركة الساباث ،وأومئ
ي بيد ّ
ي .أغطي عين ّ
لكن ليبي ترنو بعينيها إل ّ
لها لكي تفعل الشيء ذاته .أفكر أن هذا أفضل ،أن يولد أطفالي في هذه الحياة فلن
يكونوا متزعزعين من الجذور ،مثلي .أقبّل جبين ليبي" .طاب سبتك!" نقول لبعضنا
لك.
ضا .هذا ما أمنحه ِ
بع ً
الحقًا ،نجتمع جميعنا حول مائدة الساباث ،وهو الوقت الوحيد في األسبوع
الذي يتناول فيه ليفي وجبة الطعام مع العائلة .لقد وضعت أمامه رغيفين مظفورين
طازجين من أرغفة الشااله السمراء الذهبية المحمصة .أحضر أطباق الجزر
بالكمون وسلطة الحمص ،والمعكرونة المبرومة مع البروكلي وسلطة الخضار
جالس
ٌ المخلوطة وكرات السمك مع الفجل الحار والشاي المثلج المحلى .ليفي
معتمرا قبعته السوداء .بينما يجلس ليبل ومندل على الجانب
ً بمعطفه األسود
المخصص لألوالد إلى جنب الصغير أفرامي الذي كان مرتديًا منامته .أما أنا
فأجلس بجوار ليبي ،وأطرافي ثقيلة جراء المجهود الذي بذلته في عمل اليوم ،بينما
سارة نائمة في مهدها .أقوم عن مقعدي مرة أخرى وأذهب لجلب أطباق الدجاج
والخضروات التي يتصاعد منها البخار فيما ينطلق ليفي بالغناء .لكنه يغني بنشاز
ويطلب من األطفال أن يشاركوه الغناء .وسرعان ما ينخرطون جميعهم بالغناء
والتطبيل على الطاولة في جلبة جماعية تن ّم عن ابتهاج متكلف بالساباث .ثم يقرأ
بصوت عال قصة حسيدية تحمل معنى معقدًا يعجز األطفال عن استيعابه .إنه
ضخ ٌم أمامهم ،وصوته يجري بوتيرة تقرير إحصائي .يبدو التوتر والملل على
األطفال .تتثائب ليبي .أفكر ،إنني الموسيقية ،والمعلمة ،وراوية الحكايات .أنا من
يجب أن تع ّلم األطفال األغاني القديمة .أتنحنح ،أقول" :ليفي؟"
يقول'' :هل حساء الدجاج قادم؟"
أنهض ثانية ألعود للمطبخ .يتلوى ليبل في مقعده ويتشاجر مع مندل .يلكمه
مندل ،فيثب ليبل عليه .يقف ليفي ويصرخ" :اجلسوا!"
أصبحت صحيفة هيوستن كرونيكل التي اعتاد ليفي أن يحملها إلى الغرفة
مصدرا ثابتًا ألخبار العالم الخارجي .كل يوم ،أبحث في الصحيفة عن
ً الخلفية
ً
مطوال: خبرا ها ًما ،أتحدث عنه
األخبار التي سوف يفهمها األطفال ،وعندما أجد ً
هناك شركة تأسست للتو اسمها مايكروسوفت( .يعمل والدهم على الحاسوب
سا ،وهو أول
المركزي وقد سبق وأن اصطحب األطفال لمشاهدته) .زار البابا كني ً
بابا يقوم بزيارة من هذا النوع! المحكمة العليا تسمح للقوة الجوية بحظر
اليارمولكات.
لكن في أحد أيام شهر آذار ،ت َعن ِون الكرونيكل" :العثور على بقايا مقصورة
قيادة تشالينجر ".إذ أخرج غواصو البحرية من المياه بقايا كريستينا ماك أوليف
بينما وقف الطاقم الحزين على متن السفينة الستالمها .ثم عاد الغواصون للبحر
مرة أخرى للبحث عن الجثث األخرى .كانت ماك أوليف ما تزال بزي الفضاء
األزرق.
أتطلع إلى ليبل وأثني الصحيفة ألخفي الخبر وأحملها إلى الغرفة الخلفية .وأثناء
ذلك لم أنبس ببنت شفة.
تقلب غالديس عينيها ألنني أخبرتها في المطبخ أن أمامنا ثمانية أسابيع حتى
حلول الفصح اليهودي أو عيد العبور ،وحتى ذلك الحين يجب أن يزال من المنزل
أي طعام مختمر حتى آخر فتات منه .يجب إخراج الخبز والباستا والبسكويت،
واألغذية المخبوزة من أي نوع كانت وأي شيء مصنوع من الحبوب ،وحتى
أصغر الفتات التي من الممكن أن تكون قد سقطت في أرجاء المنزل .كنت قد عدت
إلى وظيفتي في التدريس ،لكن الوقت قد حان لنشرع بطقس التنظيف للفصح.
Shmutz al pi din iz chometzتعني ّ
أن الخميرة َ تع ّد في الفصح
من األمور النجسة ،وأن عقوبة امتالك األطعمة المختمرة في الفصح هي الموت
الروحي .تبدأ غالديس التنظيف من مؤخرة المنزل ،من غرفة الفتيات ،حينما أكون
في المدرسة .وعندما أعود للمنزل ،أجدها ما تزال في نفس المكان .سويةً ننزع
األغطية عن المرتبات ونقلبها من أجل تنظيفها من كال الجانبين بالمكنسة
الكهربائية .ليس بمقدوري االعتماد على غالديس لكي تحمينا من التأثير الروحي
إلغفال التقاط حتى الكسرة الواحدة .لذا بعد أن تنتهي ،أقوم بفحص نهائي ثم أمسح،
وأبدأ من عند إزار الجدار .أفرك البقع الباقية ،أمسح الزوايا .إن حياة أوالدي
الروحية مرهونة بفوطتي.
يرمز العجين المختمر للكبرياء المنتفخ الزائف والذي يقود إلى الخطيئة
األكبر :إنكار الرب .ولذا تعد التشاميتز ،كما يطلق حتى على الفتات المتبقية من
الكيك والخبز في هذا الوقت من السنة ،كلمة قذرة .بالنسبة لنا ،يختفي الرمز
ويستحيل الشيء إلى ما يرمز إليه .إذا كنا نحتفظ بما هو مختمر في يوم الفصح،
فنحن صفيقون ومتمردون وممتلئون بالكبرياء الزائف .لذا ننظف بهوس ونحاول
التصديق ّ
بأن "تنظيف المنزل" الخارجي والباطني هما الشيء ذاته .ينبغي أن يط ّهر
عملنا التظاهر والنفاق ،والذي يحفّز بدوره على األعمال المنزلية .فيصبح كل هذا
التنظيف طريقة الفتداء نفسي .ومع هذا فإن تخليص المنزل من التشاميتز سيفعل
الشيء ذاته بطريقة أو بأخرى مع ليفي من دون أن يكون مشار ًكا فعليًا في عملية
التنظيف .إن عمله هو أن يالحظ الرمزية القابعة في هذا العمل وأن يلهم ألداء
العمل المنوط به ،أال وهو التنظيف الباطني عبر التأمل والدراسة.
إن القصة المأخوذة من سفر الخروج التي يحتفل الفصح بذكراها تتمحور
حول والدة شعبنا .إنها عن الوالدة .إنها تحكي عن الممر الضيق الذي انفتح خالل
قناة مائية عبر البحر األحمر ،ومن ثَم وصولنا إلى الجانب اآلخر كأ َّمة جديدة .إنها
لنكرس أنفسنا للرب
أحرارا ّ
ً عن افتدائنا من العبودية الروحية والجسدية ،حتى نكون
المعشوق فقط .ثم هناك الرحلة إلى سيناء التي تكللّت بتلقي الشريعة ،والتي كانت
أشبه بتلقي وثيقة زواج ،تبعها اتحاد مع المعشوق.
عبودية ثم حرية ،والدة ،افتداء ،زواج واتحاد مع محبوب .هذه هي الرموز.
أتوقف ،وأمدّد ظهري .إن المشكلة هي أن كل هذا العمل ليس رمزيًا ،إنه جهد
حقيقي .أضحك ،ثم افرغ درج الخزانة وأمسح كل غرض كان فيه .ليس لدي وقت
للرموز أو للفحص الذاتي العميق أو للتفاني المتجدد الباعث على التواضعً .
بدال
من ذلك ،في هذا الوقت من العام ،نكون نحن النساء أعاصير من الطاقة .نحن
جحافل اإلناث .إننا قضايا تحترق بال ذات .إننا نقوم بهذا العمل ألن هذا ما نحن
عليه .في هذه العملية ،سوف ننقذ اليهود والتقاليد اآلخذة بالتالشي من خالل
التضحية بذواتنا .أقرفص داخل خزانة ليبي وأهز أحد األحذية .تسقط منها قطعة
من التشيريو ،الطعام المختمر البغيض ،كما لو أنها تأتمر بإمرة شريعة متحكمة.
أرمي قطعة التشيريو في كيس النفايات البالستيكي.
بدأت سارة بالتسنين ،فاستيقظت من النوم ليلة أمس ثالث مرات .لكني،
على األقل ،لست حبلى .أحتاج للذهاب إلى مركز التسوق من أجل شراء بزات
جديدة لألوالد وأحذية للجميع استعدادًا للعيد ،كما وهناك حزمة من أوراق العمل
تنتظر أن أعدّها من أجل الصف غدًا .أمسح الحذاء من التشريو ،ثم أقف ،ولم أزل
داخل الخزانة ،لكي أفرز ثياب ليبي وأنزل تلك التي لم تعد تناسب مقاسها .سوف
أخزنها من أجل سارة كيال نضطر لشراء ثياب جديدة .فكل سنت نكسبه يذهب إلى
أجور المدرسة الحسيدية والطعام الحالل وكلفة طقوسنا .خلف اإلحساس بأن ما
أمرا فوق طاقتي حتى مع مساعدة غالديس تتوارى همهمة ليفي
أقوم به بدأ يصبح ً
المتواصلة وهو يدمدم :ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا ليس كافيًا .لكنني اآلن
أصبحت أشاركه تلك الهمهمة .ليس هناك كفاية من الوقت أو المال أو النوم .أغلق
ي وأتكئ على عضادة الباب .تأتي غالديس بدلو من الماء المخلوط بالصابون،
عين ّ
ترفع النوافذ وتمسح عتبة النافذة لتزيل عنها أي فتات متبق.
ما يزال ليبل وليبي في المدرسةّ ،
لكن مندل وأفرامي يدخالن الغرفة ،إنهما
في الخامسة والثالثة تقريبًا من العمر ،ويسحباني من الخزنة .أعصر فوطتين في
الدلو وأعطي واحدة لكل منهما .يرقصان حولي ،يتظاهران بأنهما في عيد الفصح
عن طريق توجيه اللكمات للجدار ولبعضهما .أخبرهما" :اذهبا واجلبا دماكما.
ستحظى دماكما بحمام في الحوض استعدادًا للفصح ".يركض مندل إلى غرفة
اللعب ،ويتبعه أفرامي.
ينقضي أسبوعٌ ،ويتبعه آخر ،بانتظار قدوم الفصح .وكل يوم هنالك عمل
المدرسة ،ومن ثم المنزل وما فيه من أعمال تنظيف ،فضالً عن إعداد وجبات
الطعام ورعاية األطفال وتدبير شؤونهم .في المنزل ،أجعل ليبل وليبي ،أكبر
ضا من مئات الكتب اليهودية
األوالد ،ينخرطان في العمل معي .يتفحصان بع ً
والعبرية التي نقتنيها ويهزانها إلخراج الفتات ،تحسبًا لكون أحدها قد فتح على
مائدة الساباث .نشرع بتنظيف غرفة أخرى كل يومين أو ثالثة أيام .ننظف جيوب
المعاطف .أبدأ التخطيط لعشاءات الفصح المسماة بـ’السيدر‘ ،أتسوق ما يكفي
لوجبات الفصح لثمانية أيام ،أستبدل المنتجات المنزلية المعتادة بمنتجات الفصح
المعتمدة .أع ّد باروكتي وأحاول أن أعلّم األطفال أدوارهم ألجل السيدر .وفي الليل،
أظل مستيقظة ،عيوني مفتوحة وذهني مشغول باللوائح والخطط.
ما يزال أمامنا أسبوعان ،يأتي ليفي للمنزل في منتصف النهار فيما أنا أعمل
في في الممر في خزانة المفارش الواسعة ،حيث يحب األطفال أن يتسلقوا ويلعبوا
كومت
لعبة الغ ّميضة .أسمع الباب الخلفي وهو يفتح" .ليا؟" يناديني .كنت قد ّ
المناشف والمفارش النظيفة المطوية على السجادة .تجمعها غالديس بملء ذراعيها.
أقول لها "يجب أن يعاد غسل كل شيء من أجل العيد" ،ثم أجيب ليفي" :أنا هنا!"
ضا ثمينًا ،كان يحمل
كبيرا وكأنه يحمل غر ً
ً أجد ليفي يحمل صندوقًا
الصندوق الكرتوني بحذر ،وعلى محيّاه عالمات التوتر واالستعجال .طوال األيام
الثمانية للفصح ،سيكون الماتزاه المصنوع يدويًا الذي يحمله ليفي ً
بديال ألي طعام
مصنوع من الحبوب التي نتناولها بالعادة .لكن ال يجب أن تتلوث الماتزاه بوجود
التشوميتز في المنزل الذي لم يكتمل تنظيفه .أقول له" :انتظر! الماتزاه هنا؟ ولم
أكن مستعدة!"
أهرع للمطبخ من أجل إحضار علبة األلمنيوم .لقد رأيت صور البابوشكا
ّ
جبهن معقودة تحتالروسيات في معمل خَبز الماتزاه في نيويورك ،كانت ح
ذقونهن .تقف النسوة عند طاوالت طويلة عالية لفرد كرات العجين باليد بينما تأخذ
الطالبات الحاخاميات المتعرقات منهن دوائر العجين المسطحة ويضعنها على
مجاديف خشبية ذات مقابض طويلة ،ثم يدخلنها في الفرن المشتعل بالحطب .وهناك
شخص ينادي بانتظام " "Leshem matzohs mitsvahأي :نفعل هذا
بأمر الرب! في الفرن ،يصبح العجين جافًا ومقرم ً
شا في ظرف ثوان .تحرق النار
ً
رطال من الماتزاه المعمولة يدويًا .كانت أطراف الخبز .ابتاع ليفي للتو أربعة عشر
كلفتها تفوق المائتي دوالر .ال يجوز أن تكون هناك ماتزاه مخبوزة آليًا من أجل
عيد فصحنا.
أحضر األلمنيوم وأتذكر صورة من أيام دراستي لتاريخ الفن ،صورة للوحة
دافنشي العشاء األخير تالفة ومقشرة من أعلى مدخل مقوس في أحد األديرة.
ضا خبز المسيح في عشائه تذ ّكرني تلك المأدبة المقدّرة ّ
بأن الماتزاه كانت أي ً
األخير ،والذي كان شعيرة عشاء الفصح ،وأصبحت ً
رمزا لجسده ،تضحيته ورسالة
للفداء .إنها فكرة ال أتجرأ على البوح بها؛ فليس مسمو ًحا لنا حتى بذكر اسم المسيح،
بيد أنني فخورة في سري أن الماتزاه الخاصة بنا حملت رسالة الفداء التي تنطوي
عليها إلى العالم .وبينما أحمل صندوق األلمنيوم وقطعة قماش مبللة ،أهرع إلى
غرفة نومنا ،حيث أكوام كتب ليفي وأكداس ملفاته ولوازمه المكتبية تحتل بقعة
كبيرة من األرضية المفروشة بالسجاد .على عجل أزيل األغراض الموضوعة
على الجزء العلوي من خزانة الملفات ،أمسح الموضع وأجففه وأغطيه بشرائط
يحول قمة الخزانة إلى عرش المع مع ّد من أجل صندوق
طويلة من األلمنيوم ،ما ّ
الماتزاه ليحفظ عاليًا ال يطاله تهديد التشاميتز .يتجهم ليفي .ينبغي عليه أن يرجع
ممررا يده
ً إلى عمله .يهز لي يده ،مزدريًا ،ثم يرفع األلمنيوم ليتفحص الموضع،
النظيفة على السطح المعدني .ثم يضع الصندوق على عرشه بنفسه .أقف هناك،
متعبة وصامتة ،وفي تلك اللحظة ،ينتابني شعور بالكراهية نحوه.
لم يتبقَ على الفصح سوى يومان .عندما تنساب أشعة الشمس من خالل
ي على لحظة من الصفاء بعد ثالث ساعات من النوم.
الفتحات في الستارة ،أفتح عين ّ
ي .أقفز خارج السرير تحت تأثير دفقة من األدرينالين ،بعيدًا عن ليفي
أطرف بعين ّ
شخيرا خفيفًا أثناء نومه ،وأخطو إلى داخل الحمام وأغلق الباب ورائي.
ً الذي يصدر
ي كما لو أن
كان جسدي يؤلمني وقلبي يخفق ،كما أشعر بأن هناك حرقة في عين ّ
ً
رمال .أمد يدي لمؤخرة الخزانة وأستل اختبار حمل منزلي .عندما يتحول فيهما
الرأس ،أشبك
ِ المؤشر للون الوردي الذي يشير لوجود الحمل ،أجلس مطأطأة َ
ي ،كثير
ي ،وجبهتي على ذراعي ووجهي لألسفل .هذا كثير عل ّ
ي على ركبت ّ
ذراع ّ
ي ال الوقت وال المكان من أجل ترف فهم تجربة
ي .لكن ليس لد ّ
ي ،كثير عل ّ
عل ّ
أمومة جديدة أو من أجل تخيّل نمو طفل جديد .أستجمع نفسي وأمضي قد ًما إلى
يومي.
أرتدي ثياب الخروج وأذهب إلى المطبخ ،ألتقط مفاتيحي وفي نيتي التسلل
خار ًجا إلى سوق المزارعين قبل أن يستفيق األطفال من نومهم .لكنني أجد ليبي
أمامي وهي ترتدي ثياب الخروج وتبتسم خجالً بملء فمها على نحو يبدي عل ًما
بنيّتي؛ إذ إنها قفزت من سريرها ألنها سمعتني .إنها تريد المجيء معي" .حسنًا"،
أقول بتنهد" .أذهبي لترتدي حذاءك ".وبعد خمس دقائق ،وبينما أنتظر ليبي ،يدخل
ضا -ثم تبعه مندل" .لكنك
توا وهو يترنح محت ًجا -إنه يريد المجيء أي ً
ليبل المستيقظ ً
ال ترتدي ثياب الخروج" أقول لمندل ،لذا فإنه يركض راجعًا لغرفته .ثم يعود إلى
المطبخ في ظرف دقيقتين ،كان بنطاله ملتفًا إلى الجانب وحذاؤه بالمقلوب .أطلب
منهم الصمت -فسارة وأفرامي ما زاال نائمين -ثم اصطحبهم جميعًا للخارج.
في سيارة الفان ،النوافذ مفتوحة ،أشعر بسعادة أطفالي وهم يستنشقون نسيم
الصباح ،وبالتضامن التي يمنحني إيّاه وجودهم معي .إنها لمغامرة نادرة أن نبتعد
عن جنوب غرب هيوستن ،ونتوجه إلى وسط هيوستن التي تحوطها الطرق
السريعة كحلقة مسماة ب Loopونستمر حولها ،ثم على طريق I-10السريع
ً
وصوال إلى طريق أيرالين .عند وصولنا لسوق المزارعين المفتوح ،أمسك بيد
ميندل وأحاول أن أبقي عيني على أخويه اآلخرين بينما نلتمس طريقنا من حول
صون صناديق
طابور طويل من الشاحنات ،بين رجال يكدسون تالل البطيخ وير ّ
الطماطم والجريب فروت والشمام والموز .نتجول عبر صفوف أكشاك البيع بين
صيحات الباعة والمحادثات المحمومة باللغة اإلسبانية والرائحة النقية للخضروات
الطازجة والرائحة العطنة للرجال المتعرقين في صبيحة تكساس الدافئة .كانت
هناك صفوف من الفلفل المجفف معلقة فوق الرؤوس ،وأكشاك مكتظة بسالت
حمراء وصفراء من الثمار الملونة.
أتوقف عند أحد أكشاك الباعة حيث يتدلى من األعلى ميزان قديم معلق
صريرا .أناول ليبي قل ًما والئحة بكل شيء استهلكناه في
ً بسلسلة حديدية تصدر
فصح السنة الماضية .إنها في الخامسة من العمر ،إال أنها متمكنة من القراءة.
أقول لها" :كلما اشترينا أحد األشياء المدونة على هذه الالئحة قومي بشطبه".
كنت قد تعلمت القليل من اإلسبانية من غالديس "? "Quanto, señorأسأل
البائع وأنا أؤشر على صندوق من الموز" .ال يمكن! مستحيل!" أقول له بعد أن
قال السعر "?"Pero por dos cajas
ً
رطال من الجزر ً
رطال من البطاطا وخمسة وثالثين أشتري خمسين
ً
رطال من البصل الحلو (من نوع يطلق عليه تكساس .)1015فنحن ال وعشرين
نستهلك في الفصح سوى الفواكه أو الخضروات التي يمكن تقشيرها ،وهي حماية
أخرى من التشاميتز ،لذا تمنع الفاصولياء الخضراء والخضار الورقية وأي شيء
يمكن تجفيفه وطحنه وتحويله إلى خبز (ال ذرة أو فاصولياء أو فستقا حلبيا أو
صويا) نشتري المانجا واألفوكادو وتشكيلة مختلفة األشكال واأللوان من القرع
وجوز الهند والتوماتيلو ونوعا جديدا من الخيار والكيوي وبطيخ الكاسابا والباذنجان
الياباني .وقبل أن نغادر ،نتوقف عند بيت البيض ونبتاع أرب َع عشرة دزينة من
البيض .إن هذا الطعام سوف يش ِ ّكل حياتي خالل الفصح؛ سوف نقف أنا وغالديس
في المطبخ بمآزر المطبخ طوال نهارات ثمانية أيام ،نقضيها في التقشير والتقطيع
والعصر والطهي" .ماما ،ال تنسي برتقال العصير!" تقول ليبي.
نقود سيارة الفان التي ح ّمل ظهرها بأكداس المشتريات عائدين للمنزل.
نجر األغراض باستخدام عربة .وحتى اآلن تجاوزت كلفة الطعام
وعند وصولنا ّ
المخصص أليام الفصح الثمانية والتي تشمل هذه الثمار إضافة إلى اللحم والدجاج
الحالل والسمك وعصير العنب والنبيذ والماتزاه مبلغ األلف دوالر .لكن جهدي بال
مقابل.
تح ّل علينا الليلة األولى من الفصح ونحن جميعًا على مائدة السيدر ،وهي
وجبة الفصح األولى الطقسية المس َهبة في التفاصيل التي يكون فيها الطعام هو
الصالة .المائدة مفروشة بالقماش األبيض واألطفال في مقاعدهم يرتدون ثيابًا جديدة
ويشعون نظافةً ،أما ليفي فمتألق على رآس المائدة .وأنا أرتدي ثوبًا عثرت عليه
في عروض التخفيضات ،مع الباروكة التي ساويتها حديثًا .لكن ،انظر إلى عائلتنا.
يا لمنظرهم! طفل بعد اآلخر يملئهم الترقب.
هذه هي ثمرة عملي ،منزلنا ،ديننا المالذ! على المائدة غطاء مخملي مشغول
يغطي أرغفة الماتزاه الثالثة المخبوزة يدوياً ،صحن "السيدر" الالمع الذي يحتوي
مكون من الفاكهة
على بيضة ،وهي رمز للوالدة ،وبعض التشاروسيت ،وهو طبق ّ
المفرومة والمكسرات والنبيذ فيبدو شكله مثل الصلصال ،وهو يرمز لعمل العبيد،
المرة التي تمثّل البالء الذي يستحث األمل .يقف ليفي ويرفع كأسه
ّ واألعشاب
سا فضيًا بجانب كل طبقً ،
بدال من وضع كأس المليء بالنبيذ .لقد وضعنا الليلة كأ ً
وحيد بجانب طبق ليفي -وهذا داللة على الحرية .يفخر األطفال بكؤوسهم وبتمكنهم
من غناء بركة النبيذ مثل أبيهم ،حتى لو كان عليهم أن يتظاهروا بأن عصير العنب
الذي أمامهم هو نبيذ.
ال أستطيع أن أشرب كأس الحرية .إنني محترسة للغاية كيال يراودني النوم
بينما هناك عمل ينبغي إنجازه .أتصفح الهاكاداه ،وهو دليل عتيق للسيدر .دع كل
الجوعى يأتون ويأكلون! ِلم َ هذه الليلة مختلفة عن كل الليالي األخرى؟ Avadim
- hayinuكنا عبيدًا ،لكن ربنا أخذ أيدينا لسبيل الخروج بيده قوية .يده الحكيمة.
ماذا يطلب الرب؟ إنها هناك جميعًا ،الكلمات والرموز المحببة ،كم كنت مفتونة بها
جميعًا ذات مرة ،فيما أبتعد عن المائدة وأتوجه إلى المطبخ ألضع السمك في
األطباق وأغرف الشوربة بينما يبدأ ليفي بتوجيه األطفال خالل السيدر .ومن
المطبخ ،أسمع نبرته اآلمرة وأدرك أن األطفال سيضجرون قريبًا .وعندما أستطيع،
أجلس وأهمس بالهاكاداه بنفس السرعة التي يؤدي بها الرجال صلواتهم األسبوعية،
بنفس النبرة الرتيبة التي تخلو من التف ّكر ،ومن دون الطاقة المناسبة لهذه السطور
الجميلة .ثم أبارك الماتزاه وأقضم حافة محروقة.
ي ذكريات السيدر األول
تتكسر الماتزاه في فمي .وبتلك القضمة ،تعود إل ّ
معًا حينما كنا طالبًا في أوستن ،ثم السيدر األول مع الصغير ليبل بشقتنا الصغيرة،
ثم ليبي وهي تغني أغنية mah nishtanaللمرة األولىِ .ل َم هذه الليلة مختلفة؟
يركض مندل ليغسل ألعابه من أجل العيد ،ويتهادى أفرامي وبيده فوطة صغيرة
للمساعدة .لكن يحين وقت إلقاء األطفال لألسئلة األربعة ،من األصغر سنًا إلى
تحضيرا لهذه الليلة ،وجلست بجوار
ً األكبر .دربّت كل طفل على هذا مرات عديدة
كل واحد منهم على حدة على الكرسي المنبسط .يصدح مندل بغناء السؤالين األولين
بالعبرية بغناء مثالي .تشرع ليبي بغناء خارج اللحن .يتلوى ليبل ومن ثم يلقي
أسئلته .يبدأ باليديشية" :أبتاه ،أريد أن أسأل األسئلة األربعة ".بحلول السنة القادمة،
قادرا على اإللقاء ،وربما سارة .بحلول السنة القادمة ،سيكون قد
ً سيكون أفرامي
انض ّم إلينا طفل جديد.
أنصت إليهم ويتملكني إحساس يتأرجح بين البهجة والخسارة ،مستذكرة ً
شغفي المبكر بالدراسة وأحالمي بأن أكون فتى يشيفا .إن دليل السيدر العتيق مليء
بالقصص واالستعارات المحببة على مدى األجيال والتي أخذتني ذات مرة إلى
جسر؟ أو أن االستعارة تأخذ ذهنك عبر جسر ،عبر
ٌ أماكن جديدة .هل االستعارة
فجوة ،إلى مكان غير متوقع يغيّر كل شيء؟ أيّا كان الجوابّ ،
فإن حياتي اآلن
تتمحور حول ربط أشرطة األحذية وتقطيع الخضروات .أو هل هي كذلك؟ يحين
دوري ،mah nishtanah .أغني .أبتاه ،أخاطب الرب ،ما يزال لدي أسئلة.
الفصل الرابع عشر
أصبحت ميرا ،رفيقة الميكفاه ،شغوفة بعض الشيء بالسياسة .وما فتئت
ي إن أجدها
تقتبس عن شخصية إذاعية جديدة تدعى راش ليمبو .إنه لمن الغريب عل ّ
تعتقد أن العالم يجب أن يسير وفقًا لقيمنا في الشريعة ،أو أن تعتقد أن بإمكان رجل
مسيحي أن يجسد ما نؤمن به .ال أعرف الكثير عن ليمبو ،لكنني أستمع إليه في
ساخرا وباردًا .وفي إحدى ليالي الميكفاه
ً أحد األيام أثناء قيادتي للسيارة وأجد صوته
فعليك أن تتعلمي أن هناك
ِ أخبر ميرا" :أوتعلمين ،إننا مناسبتان إحدانا لألخرى.
ي أن أتذكر األسود واألبيض .تحتاج كلتانا ً
قليال لونا رماديًا ،وأنا كأمرأة متدينة ،عل ّ
من العمل ".لكنها ميرا الصريحة والمتحمسة ،ميرا ذات التفكير األسود واألبيض،
علّي أن أكون من تتذكر الرمادي.
التي يحترمها مجتمعنا .أعتقد أنه من الصب َ
ت َنفَسي .بعد أربعة أشهر من زيارة ديبي ،أنا في مستشفى الميثوديست في
إحدى غرف الوالدة البيضاء المعقمة موصولة بمحلول وريدي ّ
يقطر موا َّد كيميائية
في ذراعي في محاولة إليقاف المخاض المبكر قبل موعده بشهرين .أحاول أن
أتنفسّ ،
لكن كل سحبة نفس تكوي صدري أل ًما .تصطك أسناني ،أتعرق وأرتجف
مما ّ
يقطرونه في وريدي .أما أطرافي ووجهي فقد كانا متورمين جراء شهور
تعاطي الكورتيزون .أنظر إلى ليفي .ثم تنفصل المشيمة متسببة بتدفق الدماء.
تجيء الدكتورة هينس .يدعوها مرضاها باسم بيثاني".لن نوقف المخاض
بعد اآلن .علينا أن نقوم بتحفيزك على الوالدة ،علينا أن نخرج الطفل "،تقول
الطبيبة.
أستجمع أنفاسي ألقول" :هل الطفل سليم ،ولكن البيئة معادية؟"
تجيبني" :شي ٌء من هذا القبيل".
سا جديدًا من المحلول الوريدي وتحقن البيوتسين
تعلق إحدى الممرضات كي ً
في القثطرة .أشعر بدفقة برودة تصعد عبر ذراعي.
عليك أن
إليك التحذيراتِ ...
الوجوه :وجه رجل يرتدي األخضر يقولِ " :
ً
احتماال للوالدة القيصيرية...للسكتة الدماغية أو للسكتة القلبية أو تعلمي أن هناك
لتوقف التنفس ،أو…"فقط أخرجوا الطفل .".ووجه ليفي الطيب القلق ،كما لو أن
عا قد ازيل عنه" .إن الحاخام يرسل مباركته "،يهمس قرب أذني ،ويضيف
قنا ً
" ."Kol sh’vi’im chavivimأي أن كل "السبيعيين" محبوبون .تخاطبني
بيثاني وأنا في تلك الحالة من التشوش الذهني" ،هذه الوالدة ستكون مختلفة عن
والداتك األخرى .ال ينبغي أن تدفعي بشدة".
أواه ،لكن هذه الوالدة اإلصطناعية مختلفة عن الوالدات األخر .فاأللم
يضربني بال سابق إنذار ،بال تدريج ،بال مهارة طبيعية .ليس لدي القوة ألدفع
ً
أصال ،ويا إلهي…"الرأس" أصرخ مذعورة" .كم هو صغير! بإمكاني أن أشعر
ي وأرجع للوراء
بذلك -سوف أهشمه!" أسحب نفسي لألعلى باالستناد على مرفق ّ
على السرير ،كما لو أنني أبتعد عن الطفل الذي في أحشائي .ثم يخر رأسي للخلف
وال أعود امتلك وزنًا وال مادة ً .جسدي ليس ملكي .أو هل كان ملكي يو ًما؟ أبي،
ليفي ،الشريعة ،ال َحبر ،األطفال ،إنهم يمتلكونني أكثر مما أمتلك نفسي .إنهم
يرفعونني .الطفل الضئيل يباعد بين عظامي.
في اليوم التالي ،أمشي على قدمين رخوتين إلى جانب ليفي ،خطوة غير
متزنة بعد أخرى ،إلى حاضنة الخداج ضمن وحدة العناية المركزة .األضواء خافتة.
الحاضنات تصدر أصوات صفير وأزيز ،أجساد صغيرة تتنفس وتحلم .يرتدي ليفي
ردا ًء ورقيًا أخضر اللون وكمامة ال تغطي لحيته .ال يكاد طفلنا يتجاوز الثالثة
أرطال ،كان بال شعر ،وجفناه مطبقان بإحكام ،لكنه شيء صغير مزدهر .تلتمع
عينا ليفي .يحمل ابننا الذي يبلغ طوله خمسة عشر بوصة فتتسع له كلتا يديه
المكورتين.
يمر أسبوعان من أيام الوهن والغثيان وأنا مستلقية في سرير المستشفى.
أنهض ،أتناول دواء الربو ،أتناول الطعام ،أتمشى إلى الحاضنة ألحمل صرة متلوية
وصغيرة على نحو ال يصدق وألقمها ثديي ،ثم أرجع إلى سريري وأنام.
ونهارا .تتصل شقيقتي ديبي كل يوم .حتى أمي هي األخرى
ً أنامً ،
ليال
ضا .إنها غاضبة مني ألنني أفعل هذا بنفسي ،لكنني أسمع في
تهاتفني .وجدتي أي ً
صوتها "غضب" المحب القَ ِلق .تقول لي" :عليك أن تعتني بنفسك"" .هكذا تكونين
لهم أ ًما" .تقتبس جدتي هذا القول عن أمها ،من اللغة اليديشية" .كوني لهم أ ًما" تعني
أن أصبح أ ًما صالحة من خالل االعتناء بنفسي .افعلي هذا من أجل األطفال.
في أحد المساءات ،يلقي ليفي بنفسه على الكرسي الذي بجانب السرير بحركة
دراماتيكية تنم عن اإلنهاك ويأخذ بترديد قائمة طويلة" .أوه ،األطفال ،المنزل،
توصيل األطفال ،الشجارات ،الفوضى ،متى ستأتين للمنزل؟"
لكن شيئًا قد تغير .فأسمع منه ما يقصده حقًا :متى سوف تأتين لتقومي بكل
ّ
هذا العملً ،
بدال عني؟ أفكر بهذا ،وال أجيب .ما فتئت النسوة في مجتمعنا يقمن
بإرسال كسروالت الطعام ويأخذن األطفال لمواعيد اللعب .كانت غالديس توقظ
األطفال كل يوم وتطعمهم وتجهزهم للمدرسة .تعتني غالديس بالصغير إيتزك .ال
أشعر باألسى حيال ليفي ،وأقول" :أحتاج ألن أبقى هنا".
في تلك الليلة ،وبعد ساعات من مغادرة ليفي ،تأتي الطبيبة بيثاني إلى جانب
سريري في نهاية جوالتها ،مثلما فعلت في الليلة الماضية والليلة التي قبلها .فبعد
أن تنهي نهارها ،تجلس وتعودني .ال أعرف ِل َم تفعل هذا ،لكن ،وعلى خالف غير
اليهود هنا ،لم تعد بيثاني مجس ًما ورقيًا بالنسبة لي ،ليس بعد اآلن .ما أزال أسمع
تقرب كرسيها
صوتها في نهاية النفق المظلم أثناء المخاض ،مثل حبل يسحبنيّ .
إلى سريري.
أتلعثم بحديث خجول مشوب بتوتر تسببه الحاجة والوحدة .ليت باستطاعتي
سا مثل الذي أحظى به مع شقيقتي ،غير ً
تواصال سل ً أن أعرب عن امتناني .أتمنى
أنني لم أقم منذ زمن بحديث مع أي شخص من العالم .أشعر وكأنني فضائية،
وعالوة على ذلك ،تبدو حياة بيثاني ملكها إلى حد كبير .أعتقد بأنها ال يمكنها بتاتًا
استيعاب سعة الحرية التي تتمتع بها.
تنحني بيثاني لألمام وتعقد حاجبيها .ثم تقول" :ليا ،لقد حان الوقت".
"الوقت؟" أستفهم .لكنني أعرف قصدها.
اعليك أو على الطفل ،أو على كليكما".
ِ َط ًر
آخرا قد يكون خ ِ "إن ً
حمال ً
حينئذ ترتفع أصوات الجماعة بهيئة معارضة صارخة بالتقوى تجتاحني،
داعيةً إياي للتضحية بالنفس من أجل الشريعة ،لتمأل نفسي بالعار .إن واجبي هو
إنجاب أرواح يهودية إلى هذا العالم ،Mesiras nefesh .التضحية بالنفس
مؤخرا ،تحدّت امرأة من اللوبافيتش تدعى روتشيل ليا أطباءها وأنجبت
ً تكرم الرب.
ّ
ي حاخام كان
جراء قصور في القلب .ورغم أن أ ّ
طفلها الحادي عشر ،ثم توفيت ّ
ليخبرها بأن تستمع لرأي طبيبها ،إال أن روتشيل ليا كانت مصممة على أن تذهب
إلى أبعد مما يفرضه نص الشريعة .لقد أصبحت قديسةً بيننا ،شهيدة .فسم ّ
ي المواليد
تيمنًا بها ،وكرست ألجلها عظات مؤثرة .امرأة باسلة ،من ذا الذي قد يجد مثلها؟
إن تجاهلت نصيحة بيثاني ،فسوف أحظى بإعجاب الطائفة .يرتفع ضجيج
األصوات.
لكن هناك ليبل وليبي ومندل وأفرامي وسارة وإيتزك ،وانضم إليهم اآلن ابننا
الجديد" .كوني لهم أ ًما" .ذلك ما قالته جدتي .ال يمكنني اإلصغاء لصوت الجماعة.
لن أصغي .لن أموت .لن أدع أطفالي بال أمهم.
ال أعرف هذا الصوت المتطلب الجديد في داخلي والذي يعلو صوته على
بم
صوت الجوقة .لكنني أصغي" .أخبريني ،أقول لبيثاني بصوت واهن" .أخبريني َ
يجب أن أفعله".
تتنهد بيثاني .تتكئ للخلف وتبتسم.
في الصباح التالي حين يجيء ليفي ،أخبره بما قالت الطبيبة .أخبره أن بيثاني
خطيرا.
ً تقول بأننا إذا لم نتبّع نصيحتها ،فقد يصبح الوضع
يقول لي" :سوف نسأل رافًا".
" ِل َم نتكبد عناء استشارة راف ليخبرنا بما نعرفه؟" أقول" .فلو قال أحد األطباء
بأنها مسألة حياة أو موت ،فعلينا أن نصغي له".
"صحيح "،يقول ،وعلى وجهه ارتياح خالص.
نخرج من المستشفى إلى المنزل ،يصبح وزن إبننا الذي لم نسميه بعد أربعة
أرطال وهو يرضع كل ساعتين .كما أن سارة وأفرامي ومندل وليبي وليبل ،الذي
يبلغ العاشرة تقريبًا ،يحتاجون للعناية ،أما الصغير إيتزك فيصاب بالحمى مرة في
األسبوع وال نعرف سبب ذلك .تمر األسابيع بلمح البصر ،دون تمييز بين الليل
والنهار.
أخيرأ
ً شهرا ويصل وزنه لخمسة أرطال ،نقيم له
ً عندما يبلغ عمر المولود
مراسم ختان .نقيم االحتفال في المنزل بتحقق الحد األدنى من النصاب ليس إال
صغير للغاية .يقوم
ٌ والبالغ عشرة رجال ،ألنني لن أسمح بتعرضه لإلنكشاف وهو
الموهيل بحركة القص السريعة الماهرة ،ينتحب الوليد ،ثم ينادي الموهيل باسم ابننا
:b’yisraelشالوم ،سالم .اسم شالوم يشبه شاليم ،أي مكتمل .أصبحت عائلتنا
مكتملة.
وتكرارا لوالدة شالوم وإلحساس
ً مرارا
ً على مدار الشهور الالحقة ،أعود
فقدان ذاتي في العائلة وال َحبر والرب كما لو أنهم قد حملوني أثناءها .أسمع بيثاني
عليك أن تقومي بهذا "،قاصدة ً تحديد النسل ،وأستعيد دهشتي من موافقة
تقولِ " :
أخيرا أن يسمع صوتي وحده .لقد تبع مشورتي .أبدأ بفهم
ً ليفي ،كما لو أنه استطاع
هذا على أنه نقطة تحول وأتأقلم مع واقع جديد أكثر قوة.
ي أن أستسلم
اخترت أن أقول كال .أعجب من كل يوم لن يكون فيه لزا ًما عل ّ
ثانية ألفعوانية الحمل .جسدي هو ملكي .لقد طالبت بأحقيته كملك لي .إنني أقف
ضا مل ًكا لي على نحو أكبر؟ ولو
بثبات أكثر .فهل يكون ممكنًا أن يصبح مستقبلي أي ً
ً
سؤاال صا أثق به ،مثل بيثاني -جاء ووجه لي
صا من خارج الطائفة -شخ ً
أن شخ ً
حادًا ،فلربما حتى أجد طريقة ألشير إلى ذاتي الجديدة المنبثقة .لربما أقول ،بصوت
خافت ،إنني بدأت أستقل بذاتي.
يجيء موعد الفصح ثانية .لكن احتياجات األطفال تبدو اآلن أكثر واقعية من
متطلبات الشريعة .أوظف امرأتين لمعاونة غالديس (ليس كافيًا ،يقول ليفي ،لكنه
أفرغ جيوب المعاطف أو
يعني المال) ،وأنا ال أبذل جهدًا ألتفحص عملهن وال ّ
أبحث عن رقائق التشيريو في زوايا الخزانة وال أسهر على كشط الفرن وال ينتابني
القلق من تقصيري .قد ال تكون استعداداتنا مطابقة تما ًما للمعايير الحسيدية
النموذجية ،لكنني أعرف الحد األدنى مما تتطلبه الشريعة .أسمع صوتي الواضح
حينما أخبر ليفي" :أيا كان ما تنجزه المساعدة المستأجرة فهو كاف ".بطريقة ما لم
يب ِد ليفي اعتراضه ،على الرغم من أنه يغرق في ميلودراما عن التكاليف .ثم أتمادى
وأصرح بأنني لن أعود للعمل .ال مزيد من التدريس .يستسلم ليفي ويتنهد .فهو قلق
بشأن كيفية استطاعتنا تدبير شؤوننا؛ إذ كان راتبي يسدد أجر مدبرة المنزل على
األقل .يقول لي" :أال تستطعين أخذ إجازة ثم العودة للعمل في الخريف؟" .لكنني
أسمع جدتي وهي تردد "كوني لهم أ ًما" .فأجيبه" :كال ،لم يعد بوسعي التحمل".
تمر فترة رضاعة شالوم مثل غمضة عين ،مثل أخذ نَفَس ،وتنقضي أيامها
بسرعة .أريد أن أحفر صورته السريعة الزوال في دماغي؛ إنه يكبر بسرعة كبيرة،
وكل لحظة معه هي لحظة لن اختبرها مجددًأ .عندما أحتضنك ،أيها الرجل الصغير
إنك تختم ً
رسوخا ووعيًا بسببك ،ربما للمرة األولىَ . غير المكتمل ،أصبح أكثر
إنك تجعلهم جميعًا أكثر حياةً ألنك األخير .إنني َ
معك، أنت جميع أطفاليَ .
أمومتيَ .
في كل لحظة ،في األيام وفي الليالي حينما تكون نائ ًما ،حتى بعد أن أعود من
الميكفاه في بعض الليالي.
غريب كيف تستطيع قطعة مطاط صغيرة مشدودة على حلقة مرنة تغيير
ٌ
الكثير .إنها لمفارقة عندي كيف أن تحديد النسل يمنحني القوة التي أحتاجها من
أجل األطفال ،حيث تكمن المفارقة في أن منع األمومة يهبني األمومة .تذكرني كل
مرة أحمل بها العازل األنثوي في يدي بأن عافيتي أولوية .ومثلما حدث أثناء سنة
تأجيل الحمل التي منحنا إياها الراف موشيه قبل مدة طويلة ،اآلن ،وقد بلغت الثانية
والثالثين من عمري ،ما زلت أحب رش الرغوة في الكوب المطاطي ،وأحب
الوعي بالجسد الذي اكتسبته من وضع العازل في مكانه .عدت من الميكفاه قبل
ساعة واحدة .الوقت متأخر للغاية .األطفال نائمون .ليفي ينتظر .أخلع الشال وألقيه
ً
طويال مرة أخرى .أنتهي من على األرض ،أهز للوراء بشعري الذي أدعه ينمو
وضع العازل ثم أدخل إلى غرفة النوم وأذهب إليه.
في وقت متأخر من إحدى ليالي الميكفاه عندما يبلغ شالوم من العمر ثالثة
أشهر ونصف ،أجد نفسي أسحب جسدي في ذعر بعيدًا عن ليفي .لم أكن أفكر حقّا
قبل أن نصعد إلى السرير معًا .لقد كان ذهني في مكان آخر -مع األطفال والوليد
الذي لم يكن يكتسب الوزن بشكل جيد كما ينبغي له أن يفعل -واآلن قد فات األوان.
لقد نسيت البوابة .لقد نسيت استخدام العازل األنثوي .أقفز من السرير وأركض
للحمام واقفل الباب .أندب" :يا رباه".
يقول ليفي عبر الباب" :ليا! ما األمر؟ ما الخطب؟"
"لقد نسيت "،أقول له .آه كال ،آه كال ،آه كال .كالمجنونة ،أفتح المياه الحارة
في الحوض وأخطو إلى داخل الدوامة .أقرفص هناك وأسعى ألن أزيله من داخلي
باالغتسال مرة بعد أخرى .ثم أقفز إلى خارج الحوض ،والمياه تتقاطر مني وأنا
ي المرتجفين
أرتجف ،التقط أنبوبة مبيد النطاف واعتصرها بشدة ،فألطخ إصبع ّ
على طولهما بالكريمة الدهنية سميكة القوام ،ثم أمسح نفسي من الداخل .تتملكني
الهواجس .آخذ األنبوبة وأعصرها مباشرة في داخلي .اقتله اقتله.
ال يرتفع صوت الجماعة في معارضة صالحة .إنها أنا فقط من تصرخ:
"كال ،كال".
في اليوم الالحق ،أتحرك عبر المنزل وأنا في حالة من الذعر الصامت،
آخرا سوف يحطمني .أنا لست قديسة مثل روتشيل ليا .ال أريد أن أفكر :إن ً
طفال ً
آخر إلى العالم .ومرة تلو األخرى ،تدور الفكرة في أموت لكي أنجب ً
طفال يهوديًا َ
ذهني مثلما يتقلب الزجاج في فرن التلدين :كثير جدًا ،كثير جدًا ،كثير جدًا.
أحاول أن أفكر مع نفسيِ .لمَ أنا خائفة ،بينما ال أعرف حتى ما إذا كنت
حامال .ربما سينقضي األمر على خير .ربما ،وعلى األرجح ً ً
حامال؟ ربما لست
ليس هناك ما يستحق أن أقلق بشأنه .أجبر نفسي على العناية باألطفال والمنزل.
لكنني كنت قد أكتشفت للتو ً
قليال من الحرية.
أحاول العودة إلى ذلك المكان .وعلى مدى تسعة أيام ،أحاول أن أعود إلى
ذلك المكان .في اليوم العاشر ،أستعين باختبار حمل منزلي وت َظهر نتيجته موجبة.
يجتاحني شعور بأن جسدي محاصر .هناك صرخة في عقلي :سوف يقتلني
هذا .وعلى خالف السبع مرات التي سبقت هذا الحمل ،فإنني ال أستطيع أن أشعر
بأي حس بالوعي يتش ّكل في أحشائي .ال أستطيع أن أرى هذا الحمل كبشري .إنه
ليس ً
طفال ،أفكر .إنه جسم دخيل ،إنه سرطان.
تقوم الجماعة ،الشريعة ،ال َحبر بتوبيخي عبر صوت الجوقة المألوف :أحبي
عليك ذلك!
ِ هذا الطفل الجديد ألنه ينبغي
يخطرني رد ال أستطيع كتمه :إنه ليس ً
طفال.
اصرخي بذلك ،إذًا!
ال أستطيع .لن أنجب ذلك الطفل.
طفلتك ،بين ذراعيك ،ضعيفًا ومطمئنًا وناع ًما.
ِ تخيلي طفلك أو
كال! لست روتشيل ليا .ال أريد أن أموت.
ال أعرف هذه المرأة المتمردة في داخلي .ال أعرفها ،وهي تنفرد بذاتها عن
الجماعة ،ال أستوعب شجاعتها .إنها تدّعي معرفة ال أملكها -فليس هناك دليل على
خطورة هذا الحمل .فكل حمل مختلف عن اآلخر .ومن المفروض أن أكون أ ًما ،أ ٌم
ي وأتهرب من التفكير.
بال توقف .يحتدم الجدال بين العقل والقلب .أغمض عين ّ
"ماما ،ماذا هنالك؟" تقول ليبي ذات الثمانية أعوام ،وتضع يدها على ذراعها.
سد شعرها ،ألمس وجهها .أذهب إلى حيث طاولة المطبخ
أجيبها" :ال شيء ".أم ّ
وأجمع األطباق المتسخة.
ألف أرجاء المنزل شاردة الذهن ،أدور مع الذنب ،أصارع نفسي
ولعدة أيام ّ
بينما يستمر كل مسام من مسامات جسدي بالصراخ ،أخرجي الطفل .لن أسمح
بالتش ّكل الفعلي للصرخة -ألتزم بالصمت -لكني ال أنام وال أدنو من الطعام مع
الجهد الذي أبذله .أنا مرعوبة من نفسي ،خائفة من هذه الغريبة التي هي أنا ،التي
تريد أن تقتل طفلها .إلى َمن أتحول؟ أنا وحش .باستطاعتي أن أقتل .أنا قادرة على
ذلك .أشعر باالشمئزاز.
ي أن أخرج الطفل خارج بدني.
عل ّ
تمر عدّة أيام قبل أن أتمكن حتى من لفظ كلمة "جهاض" أمام نفسي ،بيد أنني
ّ
أخيرا ،تختفي الجوقة الصالحة وأجد أن الكلمة ال تعني رذيلة .إنها
ً عندما أقولها
مجردة من المشاعر .ما زلت أعتقد بأنني وحش ،غير
ّ تعني نجاة .إنها تعني راحة
ي أن أكون لهم أ ًما .أهاتف
أنني سأخاطر بكل شيء من أجل أطفالي .ينبغي عل ّ
بيثاني" :إنني حامل ،أعتقد بأنها ورطة "،أقول لها.
كان صوتها رقيقًا .تقولً " :
أوال ،تفضلي إلى العيادة وقومي بعمل تحليل للدم.
ً
حامال -فتلك األجهزة المنزلية ليست دقيقة دائ ًما". ت
ربما لس ِ
في ذلك العصر أكون في عيادة بيثاني ،مستخدمة صوتي الجديد الخافت
ألتفوه بطلبي البغيض متجاوزة ً حكم العار المتجدد للجماعة والرب .يعطي فحص
الدم نتيجة إيجابية .كانت الطاولة المكتبية الواسعة الالمعة التي تفصل بيننا تمنح
بيثاني مسافة مهنية .تبدو رزينة .أنا مذعورةٌ ،لكنني من الداخل كنت بدائية إلى حد
ما ،تسوقني الغريزة ،ومستعدة للتضحية بالطفل.
كان على الرف الذي خلف الطبيبة صورة مؤطرة يظهر فيها ولداها وهما
يبتسمان ويضيّقان أعينهما من الشمس معتمرين قبعات بيسبول .يحمل أحدهما قفاز
صائد كرات ،فيما كان الفتى اآلخر ذا وجه منمش.
"كان والدي قسيساً "،تقول بيثاني.
"حقًا؟" أقول ،مع أنني ال أدرك مقصدها.
تقول بيثاني" :أنا ال أقوم بإجراء عمليات اإلجهاض".
ال أنبس ببنت شفة .ال أعرف مكانًا آخر أذهب إليه.
"لكنني أنصحك بشدة بمكان آخر "،تقول لي.
ي الذهاب ،سأجد ً
حال". أقوم من مقعدي .وأقول" :سأعرف إلى أين عل ّ
تقول" :لكنني سأقوم بإجراء العملية هذه المرة".
أعود للجلوس في مقعدي" .أستفعلين ذلك؟" أسألها.
ً
تنازال عن مبادئي". تقول" :ال أرى في فعلي هذا
"إنه ضروري للغاية".
أفكر ،إن لديها قواع َد خاصة بها .وبإمكانها أن تلتف حولها .لماذا تكسر
قواعدها من أجلي ،وتمد لي يد المساعدة" .إنك تفهمينني ،أليس كذلك؟" أقول
مستفهمة.
عليك أن تقومي بالعملية ".ثم تضيف" :هل يعلم زوجك أنك هنا؟"
تقولِ " :
ي على وسعهما" .هل بوسعك أن
أقول" :كال ،ليس لديه علم ".أفتح عين ّ
تجريها هنا ،في العيادة؟"
"هنا؟ كال؟"
"ال أريد لليفي أن يعلم .إذا ذهبت للمستشفى ،فستأتي الفواتير للمنزل،".
فتقول على مهل" :ال أستطيع أن أفعل ذلك ".تقطب جبينها ،تتكئ للوراء ،تخفض
ذقنها" .ستكون هناك مشكلة في التخلص من … األنسجة البشرية".
ضا أن تمتثل للقوانين.
فثمة قوانين قبل كل شيء .وينبغي على الطبيبة أي ً
ضا".
زوجك ،فهذا الطفل طفله أي ً
ِ تخفض صوتها .تقول" :تحدثي إلى
أقول" :ال تقولي ذلك ،ال تقولي كلمة ’طفل‘".
بعد ذلك أكون لوحدي في مكتبها فيما هي تقوم بإجراء فحص روتيني في
غرفة أخرى .أتساءل فيما إذا كانت مع المرأة التي رأيتها في غرفة االنتظار ،تلك
المرأة الشابة الحامل ذات البطن المدورة .رأيتها تلتقط مجلة ( )Parentsوتقلب
صفحاتها المليئة بالنصائح المكتوبة بألوان زاهية وبأسلوب خال من التعقيد والتي
تروج ألسر صغيرة منتظمة اإلنجاب.
ّ
تريد مني بيثاني أن أخبر ليفي ،لكن إخباره يعني االحتكام إليه وإلى الشريعة.
أنا من يجب أن تقرر هذا األمر من أجل نفسي .لقد بدأت لتوي أشعر بأنني على
قيد الحياة.
عند الجلوس لوحدي في مكتب بيثاني ،أعترف لنفسي بأنني لست خائفة حقًا
من المخاطر الجسدية .فليس هذا ما قادني إلى القدوم هنا .أوه ،إن بيثاني محقة في
السر هو أنني ال أشعر حقًا
َّ ما قالته ،إنني لست مستعدة إلنجاب طفل آخر ،لكن
بأنني عرضة للموت .أما الحقيقة ببساطة فهي أنني ال أستطيع أن أتدبر مسؤولية
طفل آخر ،إلى حد يجعلني أشعر باليقين من التعرض لنوع مختلف من الموت ،أال
وهو التحطم من الداخل .هذا ما أنا متيقنة منه ،مذعورة منه .سأتحطم ،وسيفقد
أطفالي أمهم بطريقة مختلفة .وهي نفس الطريقة التي فقدت بها والدي .إن الشريعة
تحلل اإلجهاض لحماية بدني ،ولكن ليس لحماية روحي.
لقد طلبنا أنا وليفي اإلذن ذات مرة الستخدام موانع الحمل ألنني كنت متأكدة
ضا بأنني ال أستطيع أن أتدّبر مسؤولية طفل .لكن المسألة اآلن ليست تحديد
حينها أي ً
ي باألساس.
النسل .فهذا الطفل ح ّ
ال أعرف القانون األمريكي ،وال أفكر حتى بنفقة الطفل ،ال يمكنني النجاح
بتدبير مسؤولية األطفال لوحدي ،يحب ليفي الربَّ والشريع َة أكثر مما يحبني ،وكل
ي على الشريعة ،فإذا قمت بخرق الشريعة ،فسيفسد زواجنا.
جانب من حياتنا مبن ٌّ
ي أن أحاول أن أجد رافًا يوافق على هذا اإلجهاض ،ألنه إن وافق على
ينبغي عل ّ
ذلك ،فسيقبل ليفي باإلجهاض كذلك .سأجري العملية ألحافظ على شمل عائلتنا.
أما إذا لم يوافق الراف… فأنا مستعدة لتجاهل الشريعة لو اضطررت لذلك،
بغض النظر عن العواقب.
ي في حضني .وأقول" :إذا
تعود بيثاني وتجلس ثانية خلف المكتب .أضع يد ّ
أخبرت ليفي باألمر ،فإنه سيدعمني فقط في حال طلبنا حك ًما من راف ،وهو سلطة
حاخامية في الشريعة اليهودية ،فهو بمثابة قاض .إذ يفترض بنا أن نطلب مشورة
الراف في مثل هذه التفاصيل".
يبدو التعجب على بيثاني .وتنتظرني.
أقول" :أعني أنني سوف أجري عملية اإلجهاض مهما يكن من أمر ".يخفق
وأخيرا .لقد قلتها .وبصوت عال.
ً قلبي من الخوف .أوه
بأنك مضطرة إلجرائها".
تقول" :أعتقد ِ
"لكنني أحتاج للحصول على حكم من أجل ليفي ".يرتفع الصوت الجديد،
ي أن أحافظ على شمل عائلتي". غلي ً
ظا" .عل ّ
سيتركك بسبب هذا؟"
ِ "هل
"لو قمت بخرق القانون الذي تستند عليه حياتنا وقتلت طفله؟"
يخيّم الصمت ثم تقول" :حسنا ،إن كنت ترين األمور بهذا الشكل".
راف بإباحة األمر
ٌ "ال أعتقد أنه يستطيع رؤية األمر بشكل آخر .ما لم يقم
لنا".
ي قوله؟"
تبتلع ريقها" :ما الذي يجب عل ّ
"سيبيح الراف اإلجهاض فقط إن كان الحمل مهددًا للحياة بطريقة يفهمها"،
أقول" .سوف يصدق الطبيب .هل تستطيعين استخدام تلك الكلمات؟ مهدد للحياة‘؟
أيمكنك أن تخبري الراف بأنني سأموت؟"
ال أستطيع أن أصدق ذلك .إنني أحاول أن أتحايل على الشريعة .وقد أقطع
جذور حياتي في خضم ذلك.
تقول بيثاني" :أنا طبيبة .سأطلعه على المخاطر ،لكنني ال أستطيع أن أقول
على وجه التأكيد بأن الحمل مهدّد للحياة".
"لكن تلكم الكلمات هي ما يجب أن يسمعه".
"إنك تعانين من الربو ،وليس من مشكلة قلبية".
"أعرف ذلك".
"صحيح ،أن ما حدث من قبل يمكن أن يحدث مجددًا وربما يصبح األمر
خطيرا ،لكن كل حمل يختلف عن اآلخر.
ً أسوأ في المرة القادمة .قد يصبح وضعك
ربما تتجاوزين الوالدة بخير .لست أدري .فأنا لست الرب".
أقول" :كال".
"أن المشكلة هي أنني ال أعرف".
أهمس" :ال بأس ،هذا ما يجب فعله".
بعد أن استغرق األطفال بنومهم ،أطلب من ليفي أن يأتي للتحدث معي .ينتابه
الفضول ،وبعض القلق ،ويتبعني إلى الفناء الخلفي .نجلس على كراسي المرج
القديمة ،عريشة من النجوم تحيط غرفتنا الخاصة .وفي الجو صوت حفيف أجنحة
مر على زواجنا أكثر من خمسة عشر عا ًما .أقول:
الجنادب وطنين البعوض .لقد َّ
ي أن أخبرك شيئًا".
"عل ّ
"حسنًا؟"
"إنني حبلى مجددًا".
يتنهد ليفي ،ثم ينتزع ابتسامة من شفتيه" .ما زلنا نستخدم الحبوب منذ والدة
شالوم "،يقول" .لكن… ".baruch hashem
أقول" :كال".
"ماذا؟"
"ال باروخ هاشيم ،baruch hashemال شكر للرب".
"ماذا تقولين؟"
ٌ
سرطان أو قنبلة". "أشعر وكأن هذا الطفل
"بربك!"
"إنه قنبلة مزروعة بداخلي".
ت األمور بخير". ً
متحايال إلقناعي .ويقول لي" :دائ ًما ما اجتز ِ يرق صوته،
ّ
"لقد أصابني الخوف من اللحظة األولى التي عرفت فيها أنني حام ٌل".
كان ضوء القمر يلقي بظالله على وجه ليفي الم ّ
قطب .يرفع يده ،كما لو أنه
يريد أن يهش الخوف عنه كما لو أنه بعوضة ،ثم يتوقف وينزل يده .ثم يقول بنبرة
إنك تعلمين مقدار مبالغتهم".
متأنية" :يا لهؤالء األطباءِ ،
"لكنها محقة .أنا أعرف أنها على حق".
فيم هي على حق؟"
" َ
"باإلجهاض".
حالما يسمع بتلك الكلمة ،يبدو كما لو أنه قد لدغ للتو .يصرخ" :كال!" ويقفز
من كرسيه" .هل جننتي؟"
لكنني لم أعد أشعر بأنني وحش .أستسلم ببساطة .فالموت الجسدي والموت
ي أن أقوم باألمر من أجل أطفالي "،أقول .وأضيف:
الروحي سيّان عندي" .عل ّ
ي فعله".
عليك أن تفعل ذلك .أنا من عل ّ
َ "ليس
يقف ويشير إلي بأصبعه ً
قائال" :إنها جريمة!"
"ليفي "،أقول" .لقد قال األطباء…"
يقول" :لقد تماديتي هذه المرة ".ثم يخطو مبتعدًا.
إنني أفقده .هذا ما يحدث اآلن.
مارة على بركة السمك ،ودكة الخشب األحمر ،وأرجوحات األطفال
أتبعهّ ،
المبتلة بقطرات الندى .كان العشب عاليًا ،وسماء الليل صافية مثل شاهد يقظ ال
أن ثمة شيئًا يتشظى في داخل كلينا .ينتابني الغضب" .ستدعني أموت."،
يرمش .بيد ّ
وفيما يدير ليفي ظهره إلي ،بدأ كتفاه باالهتزاز من دون أن يصدر أي صوت.
إنه يبكي .أضع يدي على ذراعه ،وعلى هذه الحالة نقف تحت جنح الليل.
ثم يخطو مبتعدًا وأنا خائفة للغاية من تركه يذهب .أصرخ" :أرجوك!"
وأمسك نفسي عن البكاء .ألحق بزوجي عبر الباب الخلفي ،وأمر على طاولة
المطبخ ،حيث أجلس الرتشاف الشاي على ضوء الصباح ،وأمر على غرفة اللعب،
حيث تركت المكعبات الخشبية على األرض" .كال "،يقول ،ويرفع ذراعه بينما
يمشي .ما أزال أتبعه .ما أزال أتوسلّ ،
لكن عزيمتي تضعف .هل يستطيع أن يحتفظ
باألطفال ويطردني؟ إذا كانت خسارته تعني خسارتي لهم ،فإن فقدانه هو شكل
مؤكد من الموت.
نمر على غرفة الجلوس ،حيث يتظاهر األطفال بالسباحة على السجادة ذات
اللون األزرق كزرقة البحر .نمر على رفوف الكتب المليئة بكتب الشريعة
الضخمة ،حيث تسمع همهمات الرب القديمة .نمر على غرفة طعام الساباث ومنها
تنطلق أصداء صوت ليفي النشاز وهو يغني مع األطفال ،ثم نتجاوز حجرات النوم
أخيرا.
ً حيث ينام ليبل وليبي ومندل وأفرامي وسارة وإيتزك وشالوم المنضم إليهم
أجاري خطواته .لكن ليفي يتوقف ،ويستدير .يمط شفتيه ،مع نبرة اشمئزاز في
مزمجرا.
ً صوته" :من أنتِ؟"يصيح
أتحطم حينئذ" .حسنًا "،أقول وأنا أنتحب" .حسنًا حسنًا حسنًا حسنًا .سأنجب
الطفل".
وعندئذ يبدو ليفي محدودبًا ،مهزو ًما" .كال "،يقول وهو يهز برأسه وينظر
إلى قدميه ،و" ،ال أدري ".ثم يضيف" :سنسأل رافًا".
ال نسأل رافًا .أنا من أفعل ذلك .أتصل بالحاخام بنفسي في اليوم التالي بعد
أن يغادر األطفال إلى المدرسة وأخبره عن كل شيء بينما يستمع إلينا ليفي عبر
سماعة الهاتف الملحق .أعطي الراف رقم هاتف بيثاني .يقول لي بأنه سيعاود
االتصال بعد التحدث معها .ثم أصلي ،للمرة األولى منذ زمن طويل.
يعاود الراف اإلتصال في غضون ساعة .أجيبه من الغرفة .يقول بأنه قد
تحدث مع الطبيبة ،ويضيف قائال" :أحتاج ألن أتكلم مع كليكما ."،أومأ لليفي ،الذي
يذهب إلى المطبخ .أسمعه يلتقط سماعة الهاتف الملحق .ويقول" :أنا هنا".
عليك أن تقوم بهذا".
َ يقول الراف" :حسنًا،
لم يقم الحاخام بالتفوه بكلمة اإلجهاض .فقمت أنا باألمر .أقول" :نقوم
باإلجهاض؟"
"نعم "،يجيب .ثم تظهر في صوته نبرة اتهامية .يقول" :كنتما تستخدمان
وسائل تحديد النسل ،أليس كذلك؟" يقول.
يتنحنح ليفي ويقول" :نعم .لقد قالت الطبيبة بأنها كانت ضرورية ،أقله اآلن،
من أجل سالمة ليا ".كان حريًّا بنا أن نطلب الرخصة.
"إذًا "،يسأل الراف ،ثم يتحول صوته فجأة إلى سؤال يغلّفه األسى ،كأنه
سمحت لهذا بالحدوث؟"
َ يصرخ بنا" :كيف
يعم صمت من أثر الصدمة .أسمع صرخته وكأنها صرخة والد .ونحن أمامه
كاألطفال ،وقد خذلناه -لقد خذلناه.
ثم يقول" :واآلن ،وبسبب خطئكم الشنيع ،ينبغي أن أعطيكم األذن لكي تقتلوا
ً
طفال؟"
لم يتمكن أحدنا من الكالم .أدرك حينئذ بأنني قد تنازلت عن أهم مسؤولية
وأكثرها جسامة بحياتي والتي كان حريًّا بي أن أمسك بزمامها بوصفي إنسانة
راشدة :مسؤولية اتخاذ القرار بأن أنهي حياة طفلنا .لم يكن علينا أن نضع تلك
المسؤولية على عاتق شخص آخر .يجب أن تتخذ أي امرأة ناضجة قراراتها
ً
وبدال عن ذلك ،نقف هنا كأطفال مذنبين أمام أب سيقرر عقابنا ،عاقبتنا، الخاصة.
على خذالنه .أفغر فاهي.
أف ّكر :إننا ،نحن الحاسيدم ،من الناحية األخالقية ،أطفال ال نكبر أبدًا .نحن ال
كبارا بما فيه الكفاية لنميّز بين الصواب من الخطأ بأنفسنا .ودائ ًما ما تشرف
نصبح ً
علينا الشريعة مثل أب يقوم باإلشراف على طفله .إن الخيار الوحيد المتبقي لنا اآلن
هو القبول بقرار الراف ،بفعل ما أخبرنا بفعله .أو ال.
أمرا خاطئًا .ال شك أن ليفي سوف
للمرة األولى ،يبدو االعتماد على راف ً
يذعن ،مطيعًا ألمره .أحاول أن أخبر نفسي ،لكن هذا ما أردت.
سيأتي الوقت الذي سوف أعيد النظر بما حدث وأتمنى لو أنني امتلكت القوة
ألتصرف بمفردي وأبلّغ ليفي في وجهه بما كنت سأفعلهً ،
بدال من محاولة إقناع
راف بإصدار قرار من أجلي .سأتمنى لو كانت لدي الشجاعة ألحتفظ بتلك
أخيراً ،
بدال من تسليمها ً المسؤولية الجسيمة التي كنت مستعدة لالضطالع بها
للراف ،ألن العيش مع تبعات ذلك الخيار ،ومع اإلدراك الواضح لحقيقة أنني من
تسببت بها ،هو جزء من كوني راشدة .لكن في هذه اللحظة ،فأن النضوج األخالقي،
ي .وال
الذي يدفعنا من دون هداية نحو خيارات إشكالية مرعبة ،هو أمر جديد عل ّ
أعرف لحد اآلن ك َّم الندم الكبير الذي سأشعر به على هذا.
ي أن أتيقن من عدم حصول هذا الوضع
أقول للراف" :هناك أمر آخر ،عل ّ
مرة أخرى".
يقول الراف" :أجل ،عليكم ذلك".
"لذا أريد أن أجري ربط أنابيب .في نفس الوقت .أثناء وجودي في غرفة
العمليات".
إنك تعرفين الشريعة .أجسادنا تعود
"هذا أمر غير معتاد "،يقول الرافِ " .
للرب .ومن المحرم أن نجري عليها تغييرات غير ضرورية".
أقول" :هل هذا رفض؟"
"لكن في ضوء هذه الظروف ،قومي بإجرائها ،اإلجهاض و...اآلخرى.
وبهذه الطريقة ،لن تتصلوا بي مجددًا بسبب أخطاء وخيمة".
فجأة أصبح األمر يتعلق به ،إذ يريد أن يتأكد بأننا لن نعرضه لمثل هذا
الموقف مجددًا.
شكرا لك "،يقول ليفي بصوت ممتزج باالحترام والتذلل.
" ً
"أما بعد ،أيها السيد والسيدة الكس؟ فإنني أريد التأكد من أمر واحد بعد"،
يقول الراف.
فنجيب ،أنا وليفي ،سوية بصوت واحد" .أجل؟"
ي ِ مما حدث اآلن .ال ينبغي ألحد أن يعرف".
"ال تتكلموا عن أ ّ
يخلع ليفي نظارته ويطوي ذراعيها إلى الداخل ،الذراع األولى ،ثم بعده
األخرى ،ويضعها ووجهها لألعلى على المنضدة أمام المرآة بحركة دقيقة
ومحسوبة ،ثم يحركها بدقة متناهية لمسافة بوصتين كاملتين بعيدًا عن الحافة .أفكر
كيف يبقي أغراضه الثمينة على ظهر خزانة األدراج الخاصة به بترتيب ال يطاله
أي تغيير :مشطه ،ثم محفظته ،ثم مفاتيحه.
نحن في حمامنا .يجلس أمام مرآة التزيين .يقول" :حسنًا ،أنا مستعد".
أكور كفي وأحيط بها ذقنه وأدير وجهه إلى األعلى نحوي ،في راحة يدي
ّ
محيط فكه الذي كان يغزوه الشيب على عكس لحيته السوداء الخشنة .ما تزال
عيونه البنية الداكنة ورموشه الطويلة على نحو مبالغ به تظهر التزا ًما جديًا كان قد
أسرني تقريبًا ذات مرة .ثم أدير مفتا ًحا فتدّب الطاقة في ماكينة الحالقة الكهربائية
مستمرا من الماكينةّ ،
أجز الشعر ً في كفي اآلخر .وصفًا بعد آخر واألزيز ينطلق
الداكن الذي لم يحلق منذ شهر ،وأحرص على إبقاء خصلة زائدة فوق صدغيه كما
تأمر الشريعة .أفكر كيف أنه يثق بي بينما أمرر الماكنة على انحناءة جمجمته
وجبينه المرتفع وخط شعره المنحسر واالستدارة البسيطة خلف أذنيه وفوق عنقه
ي.
الطويل .أشذب حاجبيه المتلبّدين بمشط ومقص شعر ،تسقط أنفاسه دافئة عل ّ
ليفي ،الملتف بالعادة على نفسه مثل زنبرك الساعةّ ،
يفك جسمه اآلن ،عدا كتفيه،
فقد أحناهما .أفكر :إنه يتقلص ،هذا الرجل الذي لديه خوف من السقوط.
ّ
لكن الترتيب على خزانة األدراج الخاصة بليفي وأكوام الحاجيات التي
يأمرنا بعدم لمسها ونمط عمله الذي يميّزه الهوس واالندفاع والساعات التي يقضيها
كل يوم في تمتمة الصلوات بنوع قسري آخر من الطاعة ،تقع جميعها في الجانب
اآلخر من باب الحمام.
في هذه اللحظة ،يتشارك كالنا الصمت .في هذه اللحظة ،ما بيننا فقط هو
صوت أزيز الماكينة .أمرر يدي على رأسه ،أنفض الشعر عن كتفيه العريضتين.
نرفع الشعر المقصوص عن األرض سوية ،كأنه عشب أسود مجزوز حديثًا.
"ليا "،يقول.
فأجيبه" :ماذا؟" .ال أستطيع جعل نفسي ترغبه .وال أعرف كيف أجعله
يرغب بي .ال أعرف حتى ما إذا كنت أريده أن يرغب بي .ولوهلة ،أتوقف عن
لومه على وحدتي.
لك". يبدو خ َِج ًال .يقولً " :
شكرا ِ
"أوه "،أقول" .قصة الشعر .على الرحب والسعة".
غالبًا ما أجد نفسي منجذبة للكمبيوتر في الليل ،رغم أنني أقضي معظم الوقت
في الجلوس ثم أكتب عبارات قصيرة معلقة ،قصائد مشفرة غير منتهية ،وال شيء
آخر .ما أزال ال أعرف كيف أسحب الكلمات وأخرجها من سنين الصمت ،وال
أعلم ِل َم أستمر بالمحاولة .فذلك ال يمنحني أي راحة .لكن في كل مرة أجلس بها
من أجل أن أكتب ،يبدو كما لو أنني أتخذ خطوة صغيرة واحدة نحو فضاء واسع،
ظرا خاطفًا لألنفاس أمامي مباشرة إن استطعت فقط أن
نحو مكان أعرف أن فيه من ً
أتوغل بالدخول فيه وأشمله كله بنظري .عالوة على ذلك ،وفي كل يوم ،أصبح
أكثر شغفًا بمحاولة ربط الكلمات باالنطباعات التي يعجز الكالم عن التعبير عنها،
تصور ال َع َجب؟ عندما تتحقق
ّ بنطاق الخبرة ،بالتغيير الحتمي .ما الكلمات التي
االرتباطات ،أكاد أندهش لرؤية الكلمات وهي تظهر أمامي ،كما لو أنني ال أعرف
من ألّفها ،كما لو أنني أسمعها من شخص غريب.
في إحدى الليالي ،أحلم بأنني أجلس على الكمبيوتر حينما تظهر نساء
الجماعة فجأة في بث عبر شاشتي .كان هناك الكثير منهن بأشكال وأحجام مختلفة،
كانت النساء األصغر سنًا ما يزلن يكشفن شعورهن ،لكنهن جميعا ً يرتدين نفس
الثوب المحتشم عديم اللون ،ويتحركن بنفس اإليقاع ،وجميعهن يواجهن نفس اإلتجاه
ويمشين ضمن تيار صامت مستمر بال انقطاع.
حتى تتوقف إحدى تلك النسوة .تتفصل األخريات من حولها فقط ويتحركن
لألمام ،لكن هذه المرأة الواحدة تقف مثل جزيرة وسط تيار جار .ثم تستدير وتنظر
من الشاشة نحوي مباشرة ً .عيناها زرقاوان مثل زرقة السماء في النهار ،كزرقة
ي.
عين ّ
أعجز عن التحرك .وال أستطيع أن أحيد بنظري عنها .تستمر األخريات من
حولها بالتحرك ،لكنها ال تتحرك .ثم ترفع يدها وتبتسم .إنها تومئ لي .إنها
تنتظرني .إنني مشدودة شدة بالغة إليها وللنسوة األخريات ،ولتدفقهن المستمر
الصامت إلى األمام .أحتاج لالندماج بهن ،أتقدم معهن ،أطلق العنان لنفسي .إلى
التيار .أطفو فقط .في التقدم إلى األمام تكمن التوليفة المثالية للنعمة والنسيان .ال بد
ي وأمد يدي ليدها.
أن أفعل ذلك .عيناها الزرقاوان…أقوم من كرسي ّ
إنها تبدو منتشية .تفتح فمها وتبدأ بالغناء لي .أنا مغتبطة .من أجلي .ثم يطلع
صوتها ،مثل صوت خفيض عميق .صوت رجل.
أتوقف مذعورة .هذه المرأة مسكونة ،لقد نزعت أحشاؤها؛ قشرة بال روح
ألمرأة مليئة بهذا الصوت العتيق الغريب ،صوت الحاخامات .لم يتبقَ لها من
روحها شي ٌء ،Eishis chayil .تغني المرأة بتلك الطبقة المنخفضة المخيفة
تلك .امرأة باسلة ،من ذا الذي قد يجد مثلها؟
ما تزال تبتسم ،وما تزال يدها ممدودة تدعوني ،تومئ لي .إنها تومئ لي
لكي أذهب إليها.
أستيقظ وأجلس في سريري بعجالة ،وأنا ألهث .تهزني الصدمة.
أقضي المزيد من األسابيع واألشهر والليالي على لوحة المفاتيح .وفي نهاية
سطرا بعد آخر .المرأة في القصة تدعى ِلبا .ليست
ً المطاف ،أكتب قصة مكتملة،
أنا ،أنا متأكدة من ذلك؛ وهذا ما لن يكشف أي شيء ،على الرغم من أنها حسيدية
عرف نفسها من خالل األمومة ،وتصبح
ضا ،ولديها الكثير من األطفال ،كما أنها ت ّ
أي ً
ضا مندفعة بجنون إلجهاض حملها .يكمن الفرق في أن زوجها هو حبها الكبير.
أي ً
ّ
لكن ِلبا ستكتشف كيف تأخذ بيده وتقوده خالل هذا االختبار ،وسيخرجون منه سوية.
وفي مغادرة الشريعة ،ستعثر على نفسها.
ضا.
كما أنها شغوفة بطفلها األصغر أي ً
في األسبوع الماضي اشتريت سلّة ذات عجالت ،واسعة ومنخفضة بمستوى
األرض على نحو يسمح لي بتخبئتها تحت السرير .أحيانًا بعد الساعة الرابعة ً
فجرا،
أطبع القصة الجديد ثم أحذفها من الكومبيوتر .ألقي باألوراق إلى العربة ،التي
أخ َّر على الفراش وأنام لبضع ساعات قبل أن يدق
أعيدها إلى الظالم اآلمن قبل أن ِ
منبه الساعة ليعلن بدء يوم جديد.
أستلقي في الفراش قبل النوم ،وشعوري بالظفر إلنجازي قصة جديدة يخالطه
شعور بالخوف ،فتفكيري مشغول بالجماعة .إننا شعب الكلمات التي تخلق العوالم.
لكن كتّابَنا الشرعيين هم فقهاء ملتحون.
العالم بمثل هذه الكلماتّ .
َ فقد خلق الرب
ً
أعماال هامشية موجهة َّ
يمتهن الكتابة فيخلقنَ أما أولئك النسوة الحسيديات اللواتي
حصرا لجمهور اإلناث المتدينات ،وهن يكتبن بصوت الرجل ليحاضرن النساء
ً
ويحضّنهن على االلتزام يحدود الشريعة .كلما واصلت القيام بهذا األمر الغريب،
ً
انفصاال عن الجماعة .ال يسعني التراجع أي الكتابة بصوت المرأة ،أصبح أكثر
عن الكتابة ،وأبقى في خوف من النبذ الذي يتخذونه تجاه أي فرد يخرج عن الحدود.
لكن بطريقة ما ،أفكر ،وأنا مستلقية هناك ،ليس هناك من جماعة .نحن لسنا جماعة
حقًا .فكل واحد منا وحيد مع أسراره .أتخيل العزلة القاسية لمنحوتة جياكوميتي ،ثم
ً
كامال مملو ًءا بتلك الطواطم الوحيدة .وأنا لست سوى واحدة أتخيل بعدها فضا ًء
منهن ،معروضة على سطح مستو بال ألوان.
قصةٌ قصيرة واحدة ال تكفي .أجلس أمام الكمبيوتر كل ليلة قرابة العاشرة
وال أتوقف حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صبا ًحا ،وأحيانًا لما بعد هذا الوقت .أكتب
وأكتب ،مئات الصفحات .وال أعرف ِل َم أقوم بذلك.
أسراري الخاصة ليست كافية .ما أزال أنتمي للمجموعة؛ إذ تتسرب القليل
من أسرارهم إلى كتابتي كما لو أنها أسراري ،تتسرب جروحهم المفتوحة
وقصصهم نصف المخفية .كل قصة من قصصي الجديدة مترعة بالخطيئة والخشية
من النميمة والصراعات مع اإليمان.
في إحدى الصباحات ،يالحظ ليفي السلة المعدنية .فلم أقم بدفعها تحت السرير
لعمق كاف قبل أن أنصرف للنوم .يسألني" :ما ذاك؟"
"أشياء كنت أكتبها .أوراق شخصية".
"أوه ،لقد سمعت صوت الطابعة في منتصف الليل ".لكنه كان مشتت الذهن
ومتأخرا عن عمله .فيرتدي سترة بذلته ،ويتناول حقيبته.
ً
وطوال اليوم بعد أن يغادر إلى عمله ،أنهمك بالتفكير ،يا لي من أم سيئة .إن
ظهر للعلن بأنني أكتب مثل هذه األشياء ،فقد يتم وصم عائلتي ونبذها في الطائفة.
وما من أحد سيسمح ألبنائه بالزواج من أبنائنا.
واألسوأ حتى من الكتابة عن العصيان والخطيئة هو أنني ال أسعى إللهام
الناس بكتابتي ،وال أحاول جعلهم يؤوبون إلى الرب .وهذا هو أجدد أسراري :أنا
أقرب الناس إلى للا .ال أريد للرب أن يحوم بين سطور قصصي ،مثل
ال أريد أن ّ
مسافر بالخلسة.
لقد مضت اآلن ثالث سنوات من دون حمل أو تدريس .شالوم في الثالثة من
ي للقراءة
العمر؛ وليبل ،األكبر ،في الثالثة عشرة .أكرس نهاراتي لألطفال ،وليال ّ
والكتابة .لكنني اآلن متوجهة إلى الطريق I-45جنوبًا بسيارة الفان نحو
فريندزوود ،وهي بلدة قديمة تقطنها طائفة الكويكر وتمتلئ بمهندسي وكالة الفضاء
ناسا ،حيث تقع شقة شقيقتي ديبي .أتحدث وإياها على الهاتف باستمرار لكننا ال
كثيرا .ال تتحقق أمنيتنا بأن نربي أطفالنا سوية .وعندما نجتمع معًا،
ً نرى بعضنا
تجيء ديبي إلينا مع أطفالها من دون زوجها ،إذ في المرات القليلة التي أتى بها
إلينا زوجها غير اليهودي ،كان ليفي جافًا ومتشن ًجا معه لدرجة أنضبت الحديث.
أنا في عجلة من أمري .عيد بلوغ ليبل (البار ميتزفاه) آت ،وكذلك مراسم
حالقة شعر شالوم األولى المسماة ( .)upshernishولكي أجد وقتًا للقدوم إلى
ي الترتيب لبقاء شالوم
هنا إلى جانب الذهاب للتبضع المقرر موعده اليوم ،كان عل ّ
وإيتزك في المدرسة بعد انتهاء ساعات الدوام .أحتاج لمقابلة متعهد الحفالت مرة
ثانية من أجل اإلعداد لحفلة البار ميتزفاه لليبل والذهاب لشراء المزيد من السلع
الورقية قبل أن يعود األطفال للمنزل عند الساعة الثالثة .وبعد أن يصلوا للمنزل،
يدربه على إنشاد قراءته
ي أن أوصل ليفي لجلسته مع ابن الحاخام فرومان ،الذي ّ
عل ّ
ي القدوم إلى منزلها في الحال ولم تقل لي سبب
التوراتية .لكن ديبي قالت بأن عل ّ
دعوتي" .ال تجلبي األطفال "،قالت لي ،وكذلك" :تعالي قبل أن يعود أطفالي للمنزل.
أرغب أن نكون بمفردنا".
وعلى امتداد الشرفة الكبيرة في مجمع الشقق الذي تسكنه ،أمر على أصص
نباتات ،وشواية خارجية ،وموقدي فحم ،وأبواب مفتوحة ،وصوت أخبار الصباح
على التلفاز ،ورائحة لحم الخنزير المقدد .أكرمش أنفي .وها هي ديبي الرشيقة في
ً
مسترسال شقتها ،عيناها بنيتان مثل لون عيني أمي وشعرها ما يزال داكنًا وناع ًما
صغارا .على الجدار علقت ثالث قطع مطرزة باألزهار
ً مثلما كان عندما كنا
اشتغلتها بنفسها ،وعلى منضدة العشاء المغطاة بالقرميد كانت هناك صورة داخل
إطار قائم بذاته لجدتي الكبرى إستير في ثوب فضفاض بال تفاصيل وشعر أبيض
مصفف بشكل الكعكة وفي حضنها الواسع تضع والدتنا التي كانت تشبه دمية
صينية .تعود الصورة للعام .1927وإلى جانبهن تجثو جدتي النحيفة الشابة على
ركبتيها ،وهي ترتدي لباس شابات العشرينيات العصريات .وكما والدتي ،تمتلك
كلتا المرأتين عيونًا كثيفة الرموش مثل عيوننا .كلتاهما ينظران بفرح إلى الطفلة،
لكن الطفلة تنظر إلى األمام باتجاهنا بوجه كئيب.
تجلس ديبي عند الطاولة وتنحي الصورة جانبًا ،ثم توميء لي بالجلوس
بحيث تواجه إحدانا األخرى .تشبك يديها أمامها .تتنحنح وتقول" :نحتاج للتحدث
عن أبي".
ي وأقول" :نحتاج للتحدث عنه؟!، أميل برأسي إلى الجانب ً
قليال ،أضيّق عين ّ
من قال إنني أريد التحدث عنه؟"
لكنها تدخل في صلب الحديث ،كما لو أن لديها ً
عمال تريد إنجازه .تقول" :ال
أعلم كم كنت صغيرة حينما بدأ بفعلها أول مرة .ال بد أنني كنت صغيرة جدًا".
لقد اختفى ظله في الليل من ذاكرتي منذ زمن طويل .لكنني أشعر بالغثيان.
أشعر كما لو أن ً
ثقال يضغط بقوة على أطرافي وفمي" .ديبي "،أقول ،وأنا أهز
رأسي.
تثبّت ديبي عينيها على المربع األبيض الفارغ من القرميد في منتصف
الطاولة وال تطرف .كتفاها مشدودتان ،وصوتها متحشرج .تقول" :عندما كنت
صغيرة ،كنت أنام وأذني مفتوحة".
" ِل َم ذلك "،أقول ،لكن نبرتي ال تحمل استفها ًما في طياتها .فأنا ال أريد أن
أعرف.
ت ّكف ديبي عن الكالم ،تلتقط نف ً
سا ،ثم تستأنف الحديث .ولو كانت تمشي،
لكانت مشيتها تشبه تثاقل حصان برذون عجوز مصمم على السير" .لقد حاولت أن
أنهض في الليل عندما سمعت وقع خطواته في الممر".
أفكر ،ال أستطيع أن أوقفها .سأغادر ،لكني أعجز عن النهوض.
عنك .وعن آمي .كنتما صغيرتين للغاية .كنت أهرع
ِ تقول" :أردت أن أبعده
خارج الغرفة عندما أسمعه في الممر في الليل ،أمسك يده وأسحبه إلى غرفتي".
ي على الفهم ،وعيناها المعتان للغاية .تفز دمعةٌ من عينيها ،فتمسحها
وجهها عص ٌّ
بيدها مرتجفة ،كما لو أنها منزعجة من نفسها.
ال أتذكر ما أتذكره .ال أعلم ما أعلمه .ال أفهم الذاكرة ،أهي ذاكرتها أم
توقف؟" .وال أسأل ،متى بدأ؟ هل بدأ قبل أن أولد ،ثم تأصلت
َ ذاكرتي .أسأل" :متى
العادة وانتظرني أنا وآمي لكي نولد ،أو عندما بدأتي دخول سنتك الخامسة وأنا
أتفرس في وجهه الحنون المشدوه مثل ذلك الذي يظهر
كنت رضيعة بين ذراعيهّ ،
في الصورة التي أحتفظ بها .أو عندما… لكني أريد أن تكون هذه القصة قصتك
وليست قصتي .تميل بي الغرفة ،فتنقلب األريكة والمشغوالت المطرزة باألزهار
والطاولة المغلفة بالقرميد والصورة التي تجمع األجيال الثالث من األمهات.
تقول ديبي" :كنت في السادسة عشرة حين توقف".
ض فيها".
مر َ
فأقول" :إنها تلك السنة التي َ
ت في الثانية عشرة".
تهز برأسها" .لقد كن ِ
أحاول أن أعي أن المستشفيات العقلية وعالج الصدمة كانت لها بمثابة
الهدية .كم كرهت صورة الميت الحي التي أصب َح عليها أبي ،ذلك اللص الذي سرق
والدي .وللحظة تخطر ذكرى خاطفة ،حينها كنت صغيرة وأركب معه ،قبل أن
يتوقف بسيارته ،في الطريق الذي يسلكه لبيع األثواب النسائية م ً
نتقال من منزل
آلخر .النوافذ مغلقة ورياح داالس الحارة تتغلغل في شعري .نتوقف عند كريستال
للوجبات السريعة ،ويرفعني على مقعد عال من الكروم عند الطاولة ،حيث نرتشف
مخفوق الحليب المثلج بالرغوة .هذا هو األب الذي اغتصبها .ثم أقول" :ستة عشر
ت كبيرة بما فيه الكفاية لكي تقولي له كال منذ أمد بعيد!"
عا ًما؟ لقد كن ِ
تبدو ديبي شبه خائفة" .أنا… لم أعرف كيف".
شعور بالغثيان .ثقل يضغط على فمي وأطرافي .شيء في الخفاء ال أستطيع
تمييزه" .ال أستطيع أن أفكر "،أقول ،وأنا أهز رأسي.
لكنها تواصل الكالم" :عندما كنت صغيرة ،اعتدت أن أفكر أنني كنت في
األعلى على السقف ،أنظر نحو األسفل إلى ظهره ،وهو يعتلي فتاة صغيرة أخرى".
ت مصرة على إخباري؟ ِل َم اآلن؟"
أقول" :كفى ".أرفع يديِ " .ل َم أن ِ
"هذا ما تذكرته ً
أوال .النظر من السقف نحو األسفل".
ثمةٌ نوع من الذعر الخفي .تتقاطر حبات العرق على جبيني .أتوسل،
يتضاءل صوتي" :لقد حدث ذلك منذ زمن بعيد".
تقول" :لقد شاهدت تلك الفتاة الصغيرة بكل هدوء ،لكنني شعرت بالسوء
ألجلها".
أنهض واقفة ،دافعةً الطاولة .تسقط الصورة .يتوسع الصدع في الجدار
الحسيدي الزجاجي الذي يحيطني والذي سببّه اإلجهاض وتعلّم الكتابةّ ،
لكن ما
يتدفق عبره هو الظالم فقط ،وليس النور .تصبح الغرفة المائلة معتمة ،تتالشى
األلوان كلها ،تتأرجح بي الغرفة وتنقلب .تسقط القطع المطرزة باألزهار بإطاراتها
ووسائد الزينة عبر الهواء في ظالل رمادية.
ي أن أخبرك "،تقول ديبي ،وهي تقوم من كرسيها.
"عل ّ
عليك ذلك ".أستدير للذهاب.
ِ أقول" :كال ،ليس
ي أن أخبرك ألنني فشلت".
"عل ّ
أخر على الكرسي. ي ً
أوال؛ إذ ّ أثني ركبت ّ
نك
ت .فشلتِ؟" يا لضآلة حجم ديبي .كم يبلغ وزنها ،ربما 90باوندًا؟ "لك ِ
"أن ِ
ت بيده في الممر…"
أمسك ِ
عنك وعن آمي ".تقول
ِ "لكنني لم أكن أستيقظ دائ ًما .ولم أب ِقه دو ًما بعيدًا
وتنساب الدموع على خديها.
ٌ
عجز عن الكالم ،اجتياح الذكرى .أتمتم" :لكنك بطبيعة الحال دقات القلب،
ت ضئيلةً وهو كان وح ً
شا ".تلتقي عيناي بعيني أختي ،وأنا جالسة هناك" .لقد كن ِ
ت طبعًا ".أمد يدي ليدها .إنك فرقة عسكرية مكونة من طفلة واحدة .فال شك
فشل ِ
ي.
أنه اخترق صفوفك المكونة من طفلة صغيرة وأتى إلينا .أتى إل ّ
ال أتذكر ما أتذكره .يده على فميِ .ل َم أستطيع الشعور بذلك؟ لقد فَ ِشلَت .كانت
أمي تغط في النوم ،أو هل فعلت ذلك؟ كنت أسمعها وهي تتسلل إلى المطبخ في
ي في ٌ
ضغط ساخن على ساق ّ الليل ،أسمع الصنبور الجاري ،وطقطقة الكأس.
الظالم .أأنا أتخيل أم أتذكر؟ ألهذا السبب كنت أزحف إلى نهاية الممر في الليل ،أو
لهذا كنت أتسلق إلى السطح؟ جدار خشن محبّب تحت أناملي في ممر معتم ،أبحث
عن ملجأ األم.
ت جندية الجبهة األمامية التي تحميني ".أتطلع
أشد على يدها وأقول" :لقد كن ِ
للحزن الذي يعلو وجهها وأفكر ،ال بد أن يكون هذا حبًا .لقد حظيت بحبك كل هذا
الوقت ،أختاه .تمنيت لو أنني أدركت هذا من قبل" .لم يكن الذنب ذنبك".
تقول" :لكن آمي ."،األخت الصغيرة التي تركناها وراءنا .تضغط أنفها على
النافذة بينما أسير بعيدًا.
أقول وأنا أربّت على يدها" :أنا أعلم ،أعلم".
لن أتذكر بقية زيارتي .ربما سكبت لي كوال فوق الثلج الذي أخرجته من
درج في ثالجتها .ولكن سأتذكر كيف أن الغرفة تعود إلى وضعها تدريجيًا وكيف
يرجع اللون إلى األزهار الصغيرة المنمقة على الجدار .سوف أتذكر كيف نتعانق
لوقت طويل ،وكيف لم أعد أشعر بأنني وحيدة .أنطلق بسرعة على طريق البيلتواي
ألبلغ المنزل في الوقت المناسب لكي أستقبل األطفال الذين قضيت حياتي أحميهم
من التعرض لمثل هذه األمور .عندما أصل للمنزل ،يخطو عتبة الدار معي كل من
ديبي وآمي وأمي و ،طبعًا ،أبي ،كما لو أنها المرة األولى .إنهم جزء مني على
نحو ال مفر منه .أستشف ذلك اآلن .ما من جدار بعد اآلن .أصطحبهم لداخل المنزل.
الفصل السادس عشر
كان والد أمي -الذي ندعوه بابا -يمتلك مصنع ألبسة وفيه كان يعمل والدي
حينما كنت صغيرة .غالبًا ما كان أبي يعود للمنزل في وقت متأخر ،بعد أن أكون
قد ذهبت للفراش .لقد أعتاد أن يأتيني بكأس من الحليب ،فيجلس على حافة سريري
في غرفتي المعتمة وينتظر حتى أفرغ من شرب الكأس .كان هذا طقس وقت النوم
الخاص بنا .كان والدي ابنًا لمهاجرين ،وكان عمره خمسة وثالثين عندما ولدت،
وقد تجاوز األربعين في هذه المرحلة من عمري ،بشعر كثيف غزاه الشيب المبكر،
وابتسامة مائلة ،ولهجة عالقة ليهودي منتقل لنيويوك منذ مدة طويلة .فكان يناديني
"عزيزتي" بتلك اللكنة .كانت آمي في مثل هذا الوقت تنام في غرفتها المجاورة
لغرفتي ،أما ديبي فتقرأ كتابًا في غرفتها .وثمة همهمة تأتي من نهاية الممر صادرة
عن تلفاز أمي الذي ال ينطفيء.
دربني أبي على غناء صالة شيما ،كما علّمه والده اليهودي أن يفعل قبل
النوم .أناوله كأس الحليب الفارغ ،وأمسح شارب الحليب بك ّم منامتي ،وأغني معه
نفس المقاطع العبرية التي تعلمتها في مدرسة األحد shema yisrael
ي ،تحدث عن طفولته التي
.adonoi elohaynuوبينما أثقل النعاس عين ّ
قضاها في بروكلين ووالديه الناطقين باليديشية ،وعن أرغفة الشااله المظفورة التي
كانت أمه تخبزها من أجل الساباث ،وكيف كانت تقطع له شرائح سميكة من الخبز
المتبقي وتمسحها بدهن الدجاج وتسخنها في الفرن عندما كان يعود من المدرسة.
حاولت أن أتخيل الخبز وهو خارج من فرن وليس من كيس بالستيكي على شكل
مربعات منفوشة كالقطن .ثم كان يتمدد بجانبي ويغني أغاني من عروض موسيقية
قديمة بنغمة رتيبة ذات نوتة واحدة .لقد قلت بطاطا ،وأنا قلت بطاطس ،فلنقع في
الحب.
ثم وقف ،وغطاني ،فألقت قامته ً
ظال في الضوء الخافت .رجوت أن يترك
انصرف،
َ ضوء الممر والباب مفتوحين ،ألنني أخاف من الظالل من الليل .وبعد أن
ي مثبتتين
ي ،حتى أتمكن من إبقاء عين ّ
أنقلب على السرير ،فيصير رأسي مكان قدم ّ
على اإلنارة المتوهجة المثبتة في الممر ،قبل أن أزحف عائدة الى وسادتي واستسلم
للنوم .ثم يلفني الظالم ،العمق الكبير لنوم الطفل ،عذوبة خاوية تخدّر أطرافي .دافئة
وساكنة ،يمضي وقت النوم بال حسبان .كانت هناك فقط صور وأحالم طفولية
مشبعة ،توقف فجائي في ذهن مزدحم .لم أكن أعرف شيئًا .حتى بدأ الصرير
الخافت لمقبض باب يدار.
إنه يطفو فوق سريري اآلن ،ظل أش ّد ظلمةً محا ٌ
ط بالظالل .حتى أثناء نومي،
كان حضوره مطمئنًا .يجلس في نفس المكان على سريري ،وأنا أتزحزح ،أبتسم
وأعود ثانية لألحالم .لكن رائحته الخفيفة وظالمه الحالك مثل أذرع تسحبني إلى
السطح .ثم :بشرة كفه الدافئة والخشنة على فمي .ي ٌد تداعب رأسي.
ي مفتوحتان ،عقلي ما يزال نائ ًما بمعظمه،
أبي هو أرق المغتصبين .عينا ّ
ي .حينئذ.
لكنني ال أرى سوى مخمل أسود .اليد تضغط ،يتسع منخر ّ
ي
انقباض باطن ٌّ
ٌ اآلن ،سخونة ،ضغط ،أنفاس ثقيلة متواترة على وجهي.
عميق يش ّد معدتي ،ويفرد ورك ّ
ي الطفوليين إلى األمام ،ورأسي الطفولي يتكئ
للخلف.
ي .من بعيد :صوت يشبه األنين.
أرفرف بذراع ّ
الهيئة ،شكل ذاكرة الجسد التي تكونت ،سوف تلين وتتمدد تحت السطح
وتحرر نفسها بفعل الزمن .وسيساعدني وجه أمي الجاهل في النهار على فصل
الذكرىّ ،
لكن أثره سيبقى على عضالتي وجلدي .في آخر المطاف ،ما عدت أتذكر
إن كان قد فعل فعلته مرة واحدة أم مرات كثيرة ،ربما ألن كل مرة يكون وقعها
مثل كدمة كبيرة تتجمع فيها كل المرات ،حتى ال أعود أتذكر إن كان قد فعلها في
األصل ،ولن أكون متأكدة أبدًا .لكن جسدي سيحتفظ بتلك الذاكرة ،فجسدي يتذكر.
جسدي يتذكر.
ومن هنا بدأ الدافع ألن أجد مكانًا آمنًا أستطيع أن أحتمي فيه ،الدافع الذي
سيحثني على الخروج من هذا المنزل.
لقد كبر خوفي من الظالم .ثم وفي إحدى الليالي ّ
افز من النوم مذعورة
وأنهض عازمةً على بلوغ نهاية الممر حيث أمي ،حيث األمان.
أحلم بأبي مرات ومرات .يظهر في الرؤية على بابي ورأسه ثمرة جوز هند،
مرسوم عليها ابتسامة صارخة ،فأضربها بمضرب البيسبول .تنفتح الثمرة
وأشاهدها تدلق حليبها ،وتتقاطر ،وال يزال الجزء األمامي منها مطل َيا بتلك
االبتسامة الجامدة .يسقط نصفا ثمرة الجوز على كال الجانبين ،عقابًا على جميع
خياناتهّ ،
لكن الفم المرسوم يستمر باالبتسام ويستمر .يسري حليب جوز الهند في
عروقي ،وهو يعج بالبذور ،كما يعج زَ بد بِرك الماء بالكائنات حين نضعه تحت
المجهر ،وأنا ممتلئة به وفيه ومنه وبه .أنظر في المرآة وأرى ابتسامته المائلة،
ليست ابتسامته ،بل ابتسامي.
أضاعفه وأقسمه ،أسحقه من كل زاوية على بطاقات صغيرة ،ثم أغربل
وأغربل البطاقات بصورها المختلفة ،في محاولة ألن أكتشف ما الذي سأحتفظ به
منها وما سأرميه .أع ّد بطاقات الحلم بال توقف .مثل بخيل شره منكبٌّ على حساب
أمواله في الخفاء.
"ينبغي أن أتحدث إليك "،أخبر ليفي في أحد األيام في غرفة الطعام حيث
كان يدرس الـ’ ‘Likkutei Sichosوهي خطابات ال َحبر .يضع إصبعه على
الموضع الذي وصل إليه ويرفع بصره.
بأمس الحاجة للحديث ،إذ أحاول للمرة األولى منذ
ّ أعلم بأنني أقاطعه ،لكنني
زمن طويل جدًا أن أعامله كصديق وقرين محل ثقة .أجلس في مكاني على يمينه.
تصلنا أصوات األطفال من غرفة اللعب .أقول" :لقد تحدثت مع ديبي ،فقد ذهبت
إلى منزلها قبل أيام".
صبورا ،كأنه يعمل على أن يكون منصتًا.
ً يبدو ليفي وكأنه يحاول أن يكون
وأصبعه باق على الصفحة.
أبوح له بكل شيء .أخبره عن ديبي عند الطاولة المغلفة بالقرميد ،عن
شجاعتها ويديها المرتجفتين .أخبره عن ديبي الصغيرة في الممر ،وهي تقود أبي
في الليل بعيدًا عني وعن آمي .أخبره عن الطاولة المائلة ،الصورة ،الغثيان ،وكيف
أن اعتراف ديبي كان بمثابة تأكيد ألمر كنت أعرفه مسبقًا لكنني نسيته .عندما
أنتهي من الحديث ،يضحك ليفي عاليًا بقهقهة هازئة" :هذا مستحيل "،يقول ،ثم يعود
إلى كتابه.
أفغر فاهي .أحاول أن أقنع نفسي بأنه مصدوم وفاقد لتوازنه من األخبار
ليس إال .فوالداه شخصان صالحان ،لذا فهو ال يملك مثل هذه األشياء في قاموسه،
ً
مستحيال ،إنها وال يعرف كيف يتعامل مع مثل هذه األنباء .فأخبره" :كال ليس
الحقيقة".
يشخر .يزم شفتيه مثل ليمون حامض .يقول" :أنا ال أصدق هذا".
"ماذا؟" أقول له .أفكر لنفسي ،إنني أعرفك جيدًا .أنا أعرف الرجل الكامن
وراء هذه ال ِغلظة .أصبح نشطة ومصممة على الحسم .أسحب الورقة الرابحة،
ورقة الشريعة .وأقول" :انظر إلي! أنا زوجتك .من األحرى أن تصدقني".
يلوح ليفي بظهر يده ،وينفخ الهواء من بين شفتيه ويقول" :لقد قابلت والدك
ّ
ما يكفي من المرات ،إنه رجل مسالم".
إزعاج تافه .وكأن تلويحة يد ستجعل األمر كذلك.
"أهكذا تجري األمور؟" أقول" .أنا أعلم .لقد فهمت! إن ما تريد أن تصدقه
هو حقيقي! وما ال تريد أن تصدقه ال وجود له فحسب .أمر كالسحر! حسنا ً!" أقول،
ألوح بيدي جيئة وذهابًا أمام وجهه" .ذهبت بتلويحة!" أجعد جبيني ،هازة راسي
وأنا ّ
تأسفًا على خيانته" .كان من المفترض أن تعاني األمر معي ،ولكنك ال تعترف به
حتى".
يقول" :لكن ،ليا"،
ما تزال تلك اليد تلتصق بالكتاب الذي كان يقرأ فيه .فيما مضى ،كنت أنهمك
بالبحث في تلك الكتب عن قصص لكي أعرف من يجب أن أكونً ،
بدال من مجرد
النظر في المرآة لرؤية من أكونّ .
لكن عائلتي كان لها دور في تشكيلي أكثر بكثير
كونت من أنا
من تلك الكتب .وسواء أكانت صالحة أم سيئة ،فإن قصصنا هي ما ّ
ي المبسطوتين على صدري ،كما لو أنه
عليه اآلن" .هذه أنا!" أقول ،وأنا أضع يد ّ
قد حاول لتوه أن يمحوني بتلك التلويحة.
أخيرا سوف أفهم بأنني لست قصص عائلتي فحسب .لكن في هذه اللحظة،
ً
في َحنَقي ،أنا أمي وأنا أختاي االثنتان ،و ،أجل ،أنا أبي .ألنني لم أفهم سوى اآلن
بأن أنقى شظايا الحب الحقيقي التي عرفتها كانت في عائلتي ،على الرغم من أنها
كانت ممتزجة بالسوء.
ولن أتخلى عن ذلك بتلويحة من يد ليفي" .ال يمكن لك أن تفعل ذلك "،أقول
واخطو مبتعدة عنه.
يناديني" :ليا ،إنك تنخدعين برواية أختك!"
أتوقف وأنظر للوراء ،إلى حاجبه المرفوع ولحيته السوداء غير المشذبة
ويارمولكته التي تشبه الطاسة على رأسه ،وقميصه األبيض المكوي ،وفي يده كتاب
مواعظ ال َحبر التي سيقتبس منها عند اجتماعنا على طاولة الساباث .أقول" :من
وقع في خديعة ماذا؟" إن عائلتي بكل مثالبها ترافقني بينما أبتعد ،وليس الرب ،وال
الكتاب المقدس وال الشريعة ،وال ال َحبر ،أو الطائفة .وال ليفي.
أحتفظ بذلك الغضب ،وكأنه وقود ،لكنني ما أزال جز ًءا من ماكينة المنزل
والعائلة والشريعة .فهناك األطفال وثقتهم فيما وضعناه فيهم ،والذين علمناهم بأنها
ثقة بالرب .يبدو غضبي عديم القوة أمام هذا كله .لكنه ما يزال غضبي.
ربما كان ذلك الغضب هو ما دفعني ،في األسبوع التالي ،ألن اصطحب
األطفال إلى المكتبة العامة وأعرض عليهم كل أنواع الكتب عن الفتيات ،كما عن
الفتيان ،الذين يمتلكون أصواتًا وأهدافًا ،كتب يتكلم فيها الناس بكل صدق ويعترفون
فيها بأحالمهم ويحلمون ويكافحون ،أناس يتحدرون من مختلف األديان واأللوان
والمجتمعات ،رجال حليقو اللحى ،نساء حاسرات الرؤوس ويرتدين السراويل،
حيوانات ال شرعية ومهن غير مألوفة .أحاول أن أخبرهم أنه ال يوجد "آخر" ،حتى
ولو كنت أشعر اآلن بأنني أنا "اآلخر" ضمن الطائفة .آه ،لم يكن بقصدي أن أضيّق
من قدرتهم على الحلم.
عند العودة ،يتفرق األطفال في أرجاء المنزل حاملين كتبهم ،وهم منبهرون.
ليبل مستلق على بطنه على الطابق األعلى من السرير ذي الدورين وبجانبه رزمة
كتب ،مندل يجلس متربعًا في الزاوية ويضع كتابًا على حضنه ،وليبي متكورة على
الكرسي المنبسط القديم ،مستغرقة في إحدى القصص .كل واحد منهم جاث ٌم على
السطح الخاص به .إنهم يلتهمون الكتب مثل الجياع ،يتبادلونها ،يتحدثون عنها،
يعيدون قراءتها ،ثم يتوسلون من أجل رحلة أخرى إلى المكتبة .فاصطحبهم إليها.
أصبحنا نداوم على الذهاب إلى المكتبة كل أسبوع .ورغم ذلك ،ما أزال أ ًما
حسيدية :في أحد المساءات ،أسمع ليبل يتقلب في فراشه وأذهب إلى غرفته .إنه
في الطابق العلوي من السرير فوق مندل المستغرق في النوم .أهمس" :هل أنت
مستيقظ؟".
يجيب" :أجل .ال أستطيع النوم".
"لماذا؟"
"ال أدري .أعتقد إنه بسبب التفكير".
"ستكون رائعًا "،اقول ،مفترضة إنه يعاني من القلق بشأن حفل بلوغه ’البار
ميتزفاه‘ الوشيك.
ي من الباراشا والمامار .باستطاعتي
"أماه ،ليس ذلك السبب .أنا أحفظ مقطع ّ
أن أرتّل كل ذلك".
أقول" :إذن لماذا؟"
يبوح لي في ما يشبه النشيج" ،سوف أصبح ’"‘chayav mitzvos
سوف أصبح بالغا ً ملز ًما بحفظ كل الوصايا .إن ما يبقيه مستيق ً
ظا هذه الليلة هو ثقل
الشريعة ،الذي سيوضع رسميًا على عاتقه في حفل بلوغه والذي سيحمله بعد ذلك
إلى األبد ،هذا الثقل الذي سيصطحب معه كل توقعات الطائفة .وكل تلك العيون.
هذا الصبي ،إبني البكر .عما قريب سوف نرسله بعيدًا ليصبح جنديًا حسيديًا.
ستحل اليشيفا محلنا كوالدين .أمسك يده الناعمة والممتلئة ً
قليال وذات األصابع
الطويلة كيدي.
يقول" :شدي عليها ،بقوة أكبر".
ي إفالتها.
أض ّم يده بكلتا يدي وأعصر يده كما لو أنه لن يكون عل ّ
حين كنت طفلة ،كنت ألحق والدتي كلما سمحت لي إلى المعارض وحفالت
افتتاح المعارض الفنية التي ترتادها .وبمجرد أن نصل تطلب مني أن أنظر إلى
أصف ما رأيت .وكلما كان جوابي أكثر تفصيالً وذكاء ،التمعت
اللوحات وأن ِ
عيناها أكثر .لقد روت تلك اللحظات ظمئ ًا مستعصيًا .في أحد صباحات األسبوع
عندما كنت في الثامنة من العمر ،صعدنا السلّم الرخامي في متحف داالس للفنون
الجميلة المؤدي إلى البهو العلوي الكبير .كان المكان يبدو فار ً
غا ،ولم يكن هناك
سوى الفنانة لويز نيفلسون ،التي وقفت مثل أحد طواطمها بأوشحتها المتطايرة
وقميصها التونيك ورموشها االصطناعية الكبيرة التي تشتهر بها .كان خلفها منصة
منخفضة وواسعة حملت اثنتين من منحوتاتها .كان ثمة شيء في نيفلسون في غاية
ت حقًا من صنعت
الجمال والقوة حملني ألن أتوجه إليها مباشرة وأسالها" :هل أن ِ
هذه األشياء؟"
"أوه ،أجل" تقول وهي جدية تما ًما وال تبدو متعالية على اإلطالق .سألتني
عن نفسي ،وبينما أجيب عن أسئلتها تهز أمي المنبهرة رأسها بالموافقة على ما
أقول من مسافة ال تالحظ منها .قالت نيفلسون المزيد ،لكنني كنت منشغلة بالنظر
إلى الطبقات الشفافة أللبستها ومكياجها.
بعدها ،اجتزنا الحراس ودخلنا إلى المعرض األول ،فرأينا غرفة كاملة مليئة
بتكوينات نيفلسون العالية المصنوعة من الخشب المقطوع حديثًا ،وجميعها مطلية
باللون األبيض أو األسود .لقد بدت األشكال والطبقات ،والقناطر والحجرات
كونتها كأنها تخفي ما تحتوي عليه ،وقد أذهلتني .كانت مستوياتها
الصغيرة التي ّ
سا باالنبهار عقد
المتداخلة بمثابة عوالم داخل عوالم .لقد منحني عمل نيفلسون إحسا ً
لساني ،رغبة قوية بأن أرى ما كان مخفيًا في داخل تلك الفضاءات كما لو إنها
صا. كانت تحمل (كما سوف أتخيل الحقًا عند استرجاع الماضي) غمو ً
ضا وخال ً
واألفضل من كل هذا هو أنني تشاركت بهذا االنبهار مع أمي.
تقدمت لألمام ومددت يدي في أحد التجاويف السوداء .لكن كان ثمة حارس
يقف خلفي" .من األفضل أن ال تلمسي ذلك ،أيتها السيدة الصغيرة "،قال ،في اللحظة
التي رأيت فيها الزي الموحد ،والشارة ،والوجه ذا التعابير التحذيرية .انسحبت
للخلف ،كالملدوغة ،وحينئذ ظهرت الفنانة خلفي ،وخلفها وقفت أمي الخجولة.
بعملك في مكان آخر "،أخبرته نيفلسون ،ثم أخبرتني:
َ يمكنك التحرك والقيام
َ "
"المسي ما تريدين ،ياحلوتي".
لم أتجرأ على لمس المنحوتات مجددًا ،لكنني صعدت على المنصات ألحصل
على نظرة مقربة .انفتحت المساحات المنحوتة أمامي مثل مرايا تقابل وجهي
فتعكس ممرات مكررة بال نهاية.
وفي أحد األيام ،وأثناء توجهي للمنزل عائدة من مكتبة وسط المدينة مع
األطفال ،أمر على مبنى إنرون الواقع في ( )Allen Placeوألحظ منحوتة عالية
للويز نيفلسون منتصبة أمام المبنى .أفكر ،ال بد وأنها مصبوبة من المعدن .أخفف
من سرعة السيارة وأشير للمنحوتة .أخبر األطفال" :لقد قابلت تلك الفنانة ذات مرة"
وفي المرة التالية التي نزور فيها المكتبة ،أجد سيرة ذاتية لنيفلسون مكتوبة
ّ
أحث األطفال على قراءتها ،ثم أقضي معظم للشباب البالغين وأجلبها معي للمنزل.
الليل في قراءتها لنفسي .أقرأ كيف استنزف فنها طاقتها حتى تخلت عن زواجها
وأرسلت ابنها ليعيش مع والديها .لقد وضعت مقعدًا من طراز مقاعد الكنيسة محل
األريكة في غرفة جلوسها لكي تص ّد ضيوفها عن المكوث .أضحك على فعلتها
سري .فخالل تلك الليالي التي اعتدت فيها على الغوص
تلك ،لكنها ضحكة تأييد َّ
في عملية العبث مع الكلمات ،كنت أنسى اإلحساس بالوقت ،ثم أرفع نظري بدهشة
إلى الشمس البازغة؛ فأنا أعرف كم يمكن أن تصبح صناعة الفن آسرة أكثر من
العالم الحقيقي .أبدأ بالتفكير أن إطالق العنان لحافز إبداعي هو مثل إطالق ثور
من حظيرته؛ هدف يمكنه مالحقتك خالل النهار وجعل حتى من تحبهم يبدون مثل
متطفلين .ثم أضحك على استغراق نفسي في العبث لمجرد تخيّل حياة مثل حياتها.
ورغم ذلك ،أبدأ بالكتابة مجددًا .وفي إحدى الليالي ،يأتي الدور لديبي
الصغيرة بالظهور على الورق .إنها تشاهد أبي من السقف ،ثم حين يحل الصباح
يقوم بتحضير التوست والبيض لها .يحل الصباح الحقيقي قبل أن أتوقعه ،هدير
السيارات المارة الذي يحمله الهواء ،عصافير تزقزق من شجرة الدردار التي
تنتصب في الفناء الخلفي ،فيما ألقي بالصفحات على كدس األوراق في السلّة
المشبكة ذات العجالت وأدفعها إلى ما تحت منتصف السرير.
ثمة أمر يحدث لي .إنها خسارة مقلقة ال أستطيع فهمها .لقد اعتدت على
وجود الرب الدائم قريبًا مثل حبل الوريد ،وكان حضوره شبه محسوس .أما اآلن،
وبعد شهور من الكتابة المكثفة ،يبدو بأنه قد انسحب إلى مكان بعيد .لكنني أكتب
صا ليس إال.
قص ً
لقد فاضت مني األسئلة التي أخفيتها ليلة بعد أخرىِ .لم يم ّثل التحدث عن
أمرا بالغ السوء؟ و ِلمَ تعج النصوص التي أحبهاالحقيقة بشأن الخطايا والفشل ً
بكراهية النساء ،و ِلمَ لم األحظ هذا األمر من قبل؟ ِلمَ يخبو سحر كلمة الرب الكاملة
والنقية أكثر كلما توغلت بالكتابة أكثر؟
أتوجه للمطبخ ،وأثناء سيري أسوي الشال من أجل تغطية أمثل لشعري
النامي .وأظن أن تغطيتي له ستغطي األسئلة المتزايدة واإلحساس المتنامي بأنني
أعيش في كذبة.
إنني كاذبة ،ألنني مصممة على إخفاء قصصي وأسئلتي وشكوكي المتأججة
وأواصل حياتي كما لو أنها غير موجودة .لكن بطريقة أو بأخرى ،أليست كل أم
كاذبة؟ "إن األم لكاذبة" ،لكنهن ال يكذبن سوى بداعي اإلغفال لحماية األطفال،
أليس ذلك صحي ًحا؟ إنه أمر شائع بما فيه الكفاية .ال يحتاج األطفال أن يعرفوا .إنهم
ليسوا بحاجة إلى حمل أسئلتي وشكوكي .ذلك باإلضافة إلى أننا جميعًا ،في داخل
الطائفة ،نخفي المواضع المظلمة الصغيرة في أرواحنا.
ّ
لكن حقيقة جديدة ترن في رأسي مثل جرس متواصل الجلجلة :ليس من
طبيعتي أن أكون امرأة محتشمة محجبة الرأس .وهناك المزيد :لم يكن أبي ً
رجال
ضا :تراودني أحالمٌ عن النساء .تلك الشجرة التي تسقط في صال ًحا .والمزيد أي ً
الغابة ،أتكون الكذبة كذبًة حقًا إذا لم ننطق بها؟
يمر يوليو وأبدو ،من حيث الظاهر ،أ ًما حسيدية حازمة لجنود الرب الناشئين،
ي الدليل على هذا :سيغادر ليبل قريبًا لليشيفا
تدخل في عامها السادس والثالثين .ولد ّ
في نيويورك ،وفي ذلك برهان على أني أدعم الرتب الناشئة .وها أنا ذا بشعري
المغطى ،وزوجي ولحيته ،وشوارع الحي التي تمتلئ بالعائالت الحسيدية التي تسير
إلى الكنيس وكأنها شوارع بريجادون في صباحات السبت .أستمع للمصطلحات
العبرية واليديشية التي تطعّم كالمنا .أجلس في مطبخنا ذي األدوات المزدوجة
الشرعية وأطقم األطباق المنفصلة ،منها ما خصص للحليب ومنها للحم ،فيما
يركض أطفالنا السبعة داخلين وخارجين مع أطفال حسيديين آخرين من الحي،
فتتطاير خيوط التزتزت من ثياب األوالد ،واأليدي على اليارمولكات في حركة
تلقائية لإلمساك بها أثناء الركض .أما الفتيات فيطاردنهم ،ال تعيقهن التنورات
الطويالت وال الكولونات ،بعد أن أصبحت تلك المالبس طبيعية كجلودهن .أالحظ
الرفوف ورفوف المجلدات التي تصدح منها أصوات خفيضة والتي تحف غرفة
المعيشة وغرفة الطعام فتنبعث األحكام الحاخامية إلى هوائنا ،أنظر إلى طاولة
الطعام التي يبلغ طولها إثنا عشر قد ًما والتي أغطيها باألطباق الساخنة استعدادًا
للساباث ،كتب الصالة البالية الملقاة في أماكن عشوائية في أرجاء المنزل ،حيثما
قرئت آخر مرة .لو قمت بتقريب أذني من أي واحد من هذه الكتب ،فسوف أسمع
اآلمال السرية المهموسة فيها والتي يستحيل سماعها بطريقة أخرى .أغلق كتب
صها سوية .زوجة حسيدية ،هذا ما أنا عليه ،وال
الصالة التي تركت مفتوحة ،وأر ّ
أعرف كيف أتغير ،حتى بينما أقف عند طاولة الطعام كامرأة مختلفة ،وهناك،
أتصفح البريد الصباحي الذي جلبه أحد األطفال للتو.
بين الفواتير والمنشورات اإلعالنية لمحالت البقالة أجد مطوية بسيطة
التصميم من ثالث طيات باللونين األسود واألبيض ،بال تعريف .كان مكتوبًا عليها:
"مؤتمر تكساس األول عن النسوية واليهودية ".أضحك وألقي بالمطوية مع كومة
البريد الدعائي .لكن في تلك الظهيرة ،وبينما أعمل في المطبخ ،أتذكر األيام األولى
للحركة النسوية ،حين كنت صبية يافعة .أتذكر تلكم النساء الشابات المتقدات
بالحماسة وهن يهتفن على التلفاز .أفكر ،اليهودية مقرونة بالنسوية؟ بالنسبة لي،
فإن معنى هذا هو "قواعد ،وفي نفس الوقت ليس هناك قواعد" .إنه أمر مناف
للمنطق .أال يدركون التناقض؟ أفكر ،لقد تجاوزت تلكم النسوة الجريئات حدود
كثيرا .أتذكر سالي بيرساند ،أول حاخامة ،قبل عشرين عا ًما .أتذكر
ً المنطق
إفصاحي للحاخام غولدنبيرغ عن رغبتي أنا األخرى بأن أصبح حاخامة .أفكر ،كم
كنت خجولة وجسورة في اآلن ذاته .كم كنت صغيرة ،وكم كنت ساذجة.
ارتّب غرفة الطعام وأرمي بمنشورات الدعاية ،سويةً مع المطوية ،في سلة
المهمالت .لكنني أتوقف وأنبش عن المنشور وأخرجه .وال أعرف السبب الذي
دفعني إلخراجه .ثم ألقيه على منضدتي في المطبخ .والحقًا ،أدسه في درج المكتب.
يقبع هناك لبضعة أيام قبل أن أعود وأخرجه في صبيحة هادئة .أفكر ،تلكم النسوة
يطلبن المستحيل .فهن يردن أن ّ
يكن تلقائيات وأن يكن يهوديات ملتزمات في الحين
ذاته ،في حين أنه ال يوجد أي مساحة للتلقائية تحت حكم الشريعة .إنهن يردن إلههن
اليهودي من غير أن يخضعن أنفسهن للشريعة.
تلكم النسوة .أتجول بناظري في أرجاء المطبخ وغرفة الطعام ،تمائم
الميزوزاه على كل مدخل باب تحمل كتابات تحضّنا ،بينما نمر من الباب ،على أن
نحرص على التفكير بالرب ً
أوال .أرى جدار الكتب .أهمس" :إن حياتي مكتوبة
بالفعل".
رغم ذلك أفتح المطوية .فأجد في داخلها الئحة بالفعاليات والمتحدثين
الرئيسيين .ثم أدرك أن هذا أكثر من مجرد إعالن .فما زال على انعقاد المؤتمر
بضعة شهور .يبحث المنظمون عن متحدثين ،وهم يدعون الناس إلرسال
عروضهم .أضحك على تخيّل فكرة امرأة حسيدية تذهب إلى مؤتمر نسوي ،لكن،
وللحظة مجنونة ،أتساءل عما سيكون عليه اللقاء بكامل مجموعة النساء
كبيرا.
ً انتشارا
ً الالمنطقيات تلك .ستصل النميمة للطائفة بال أدنى شك ،وستنشر
أمر محال .أترك المطوية على المنضدة وأشرع بإعداد العشاء.
أفرم ،أحرك ال ِقدر ،وجهي في البخار ،وهناك يداهمني فيض من الذكريات
ت
عن فتاة اعتقدت ذات مرة بأنها ستكتب مستقبلها وكذلك تحظى بدينها .لقد كن ِ
ت محتاجة لنظام ،أخبر نفسي .لقد قم ِ
ت بفعل الصواب .ثم يأتي الرد: طفلة .كن ِ
لكنني أردت دي ًنا يكون صاريًا لشراعي أردت القدر الكافي من النظام ليدعمني.
لم يعد ذلك مه ًما ،أخبر نفسي .لم تعودي تلك الطفلة التي كانت تحضر صف
أنك لست تلك الفتاة المبهورة بالوصول إلى المؤسسة ،ولم
الحاخام غولدبيرغ .كما ِ
تعودي تلك الفتاة التي تمعن النظر من خالل الزجاج المخدش لتتمكن من رؤية
إنك هنا اآلن ،إنسانة راشدة .فكري باألطفال .لن تخاطري
بحر القبعات السودِ .
بالظهور في ذلك المؤتمر.
ّ
لكن بإمكاني أن أعرض عليهم أن أكون أحد المتحدثين .فذلك لن يسبب لي
المشاكل.
إن لدى العديد من النساء في الطائفة خبرة في التحدث أمام الجمهور.
فمخاطبة الجمهور جزء من دعوتنا ،ووظائفنا ،لنعرض آراءنا عن اليهودية على
النساء غير الحسيديات في اجتماعات منظمة هاداسا ،ومجموعات بناي بريث،
واألختيات .أفكر بجحافل الشباب الحسيديين الواقفين على نواصي الشوارع في
تروج لطائفتنا،
مانهاتن الذين يسألون المارة عما إذا كانوا يهودًا ليعطوهم مطويات ّ
كما وأفكر بالمبعوثين من أمثال الحاخام فرومان الذين انتشروا في شتى أرجاء
العالم .فإذا اختارني مؤتمر تكساس األول للنسوية واليهودية كإحدى المتحدثات،
فخورا بحملي لرسالة ال َحبر إلى مثل هذا المكان األجنبي .وتحت هذا
ً فسيكون ليفي
الستار يمكنني الذهاب إلى هناك.
سيكون ذلك عندما تواتيني الشجاعة .أعلم أنني لن أكون قادرة ً على قول ما
أرغب بقوله في الحقيقة .فالحقيقة هي أنني ال أريد التحدث من األصل ،ولم أرد
سوى رؤية تلكم النسوة ،ولعلني أحظى بحديث واحد مرتجل .ورغم ذلك أمسح
دفترا وقلم حبر.
ي بمئزري وأعود إلى المكتب ،حيث أستل ً
يد ّ
لكن الجزء الذي لن أخبر به ليفي هو أنني في عرضي الذي سأرسله لن
أقترح عليهم أن أعلّم شيئًا .فأنا ال أريد أن أترفع عن تلكم النسوة بغرور القداسة
ونصرة العقيدة .لكني ببساطة سأعرض نفسي ،كامرأة حسيدية ،للحوار الحر.
وأدون على عجل الئحة من الكلمات في الهامش التأكد من أن تتضمن:
ّ أتوقف
الحوار ،اإلحترام المتبادل.
يحل أكتوبر ،آخر أيام الصيف في هيوستن .كان ليبل قد غادر لليشيفا في
بروكلين ،وبدا كما لو أن المنزل قد أزداد سعةً .حتى الصغير شالوم بدأ يرتاد
المدرسة لبضع ساعات يوميًا ،لكنني ما أزال أرفض أن أعود إلى التدريس .أنا في
فندق هيلتون الواقع في وسط المدينة أتبع مرافقتي إلى مساحة اعدّت من أجل
براقا ،قابلتها عند طاولة الترحيب.
المتحدث .إنها امرأة مبتسمة تضع أحمر شفاه ّ
اسأل" :كم عدد المتحدثين اآلخرين الذين تبقوا في هذه الفترة الزمنية؟"
تجيب" :أربعة".
أسأل" :المنافسة ،هل سيأتي أحدهم من أجل ذلك؟"
تجيب" :سيكون هناك القليل"،
سعيت إلبراز اإلندماج من خالل انتقائي لثيابي .فكانت الباروكة مصففة
حديثًا لكي تبدو طبيعية قدر المستطاع ،ولم يراعِ طول تنورة طقمي الكحلي حد
ي .لكن وبينما نسير ،نمر على نساء يرتدين
الحشمة .حتى إنها تكشف عن ركبت ّ
بناطي َل غير رسمية ،كما أن بعضهن يرتدين الجينز أو البناطيل القصيرة ،مع
قمصان قصيرة األكمام تظهر أكواعهن وذات قبات مفتوحة ،وبشعورهن الحقيقية
التي تلمع تحت أضواء الفلورسنت .فلم يلفت قصر تنورتي الجريء المتحدي
للشريعة انتباه أحد .كانت مؤخرة هذه القاعة بكاملها مغطاة بستارة مخملية كستنائية
شقَّة واحدة .يتحرك منسق الفندق برشاقة ،فتختلط سترته
مهترئة الحافات ذات َ
الحمراء مع الستارة وتصيران وكأنهما شيئًا واح ًدا .نطلع على منصة صغيرةّ .
لكن
كل شيء مكتوم هنا :خطوات سير االرجل على األرضية المفروشة بالسجاد،
هسهسة الجمهور الذي بدأ بالتجمع .لكن تلكم النسوة يبدون منفتحات ،إذ ّ
كن يضعن
ساقًا على ساق أو حتى يباعدن بين ركبهن ،ويستخدمن حركات األيدي بينما يتحدثن
مع بعضهن ،وكانت وجوههن على سجيتها تض ّج بالحيوية .ال يمكنني حتى أن
كثيرا من النميمة أو يقلقن
أحزر كنه ما يدردشن حوله .لكنني أظن بأنهن ال يخشين ً
حيال تزويج أطفالهن.
كثيرا .تنظر مرافقتي إلى قامتي القصيرة
ً أجد أن منصة الحديث أعلى مني
وتقول" :أوه ،إنك بحاجة للقليل من المساعدة ".تسحب مقعدًا خشبيًا مسط ًحا،
فأرتقيه ،فأصبح بمستوى أعلى بكثير من مستوى النظر الذي كنت أفضّل أن أكون
فيه.
ال أريد أن أمثّل حركة اللوبافيتش .ال أريد هنا سوى أن أكون ذاتي .أقول
ت".
لمرافقتي" :ال تقدميني .أعني ،اذكري اسمي فحسب ،لو سمح ِ
تقول" :حسنًا".
عند وصولي ،توقفت عند طاولة مليئة بالكتب ،متوقعةً أن أجد الكتب اليهودية
الكالسيكية التي أعرفها ،مثل إيجاد وجوه مألوفة في وسط حشد ،لكني ً
بدأل من ذلك
وجدت كتبًا لكاتبات نسويات يهوديات لم أسمع باسمائهن من قبل :جوديث بالسكو،
راتشيل آدلر ،جوديث هوبتمان ،غلوريا ستينم ،بيتي فريدان .نظرة خاطفة على
دواخل بعض هذه الكتب جعلتني أرى أن لغة هؤالء النساء هي لغة ال أعرفها.
اآلن ،من منبري ،أنظر إلى بحر النساء ،وأفكر ،ماذا فعلت؟ يجب أن أغادر .لقد
خطوت إلى المنصة الخاطئة ،وال أعرف الغاية من فعلي.
"أقدم لكم ليا الكس "،تقول مرافقتي في المايكرفون ،بصوت مرتفع مج ِفّل.
يخيّم الصمت على القاعة.
يا للمصيبة .ال يمكنني فعل ذلك ،وال أقوى حتى على أن أل ّمح بمعارضتي
في العلن .يثب قلبي إلى حلقي ،ألتقط المايكروفون وأقول" :مرحبا .أنا ليا الكس.
امرأة حسيدية ،امرأة ال تقبل المساومة".
علي العموم ليس من اليسير أن أخرج عن النص الذي تدربت عليه .أتنحنح
وأتمكن من إضافة فقرة غير مخطط لها" .أنني أكن األحترام ألولئك الذين يختارون
مرت من دون
أن ينفكوا عن الشريعة عن وعي ".لكن هذه اإلضافة العفوية الهامة ّ
أن تثير أي اهتمام كما كان الحال مع طرف تنورتي .أقول" :أود أن أدعو إلى
حوار .فلربما يمكنكن أن تريننا ،نحن اليهود األرثودوكس مثل متحف حي نحافظ
على تقاليدنا القديمة ونتمسك بالدراسة الجادة لنصوصنا القديمة وقوانين شريعتنا،
بطريقة تحرر اآلخرين للذهاب إلى ما هو أبعد من الشريعة".
تباغتني يد مرفوعة .وتقول" :أليس هذا نوعٌ من الغرور؟ لقد كانت هناك
الكثير من المنجزات المعرفية اليهودية خارج الطائفة األرثودكسية ،وهناك حصة
كبيرة للنساء في تأليفها ".تلك المنجزات المعرفية التي لم أكن على دراية بها .تلك
الكتب التي وجدتها على المنضدة حين دخلت… أقولً " :
شكرا على مداخلتك .أعتقد
بأنني ربما كنت بحاجة لسماع هذا ".لكن الشجاعة التي تطلبها قول هذا قوبلت
ضا بعدم االكتراث.
أي ً
ثم ترفع إحداهن صوتها من مقعدها" .كيف تستطيعين الوقوف خلف حاجز
الكنيس الذي يفصل بين الرجال والنساء؟ كيف تستطيعين فعل ذلك؟"
أبتلع ريقي ،ثم أعود إلى ذلك المكان األنثوي اآلمن الذي تتردد فيه الهمسات.
ضا
أريدهن أن يرين ذلك المكان كما أراه أنا .فأقول" :في قسم النساء نحن أي ً
معزوالت عن أي غواية من قبل الرجال الذين قد يتفحصوننا .المكان أنثوي
وخصوصي .إنه مكان آمن .والصلوات العبرية؟ إنها تجعلني أنظر لنفسي.
فالكلمات مثل المرايا ،حتى أن البكاء يغلبني أحيانًا .فالمساحة تمنحني الخصوصية
الكافية ألن أفعل ذلك".
"لكنك ال تستطعين أن تحظي بأي دور قيادي في الخدمة "،تقول المرأة.
ضا بين صفوف النساء في بعض
أقول" :أعلم ذلك ،وربما يثير هذا امتعا ً
األحيان .فأنا ال أستطيع التحدث بالنيابة عن كل النساء .لكن بالنسبة لي ،أنا ال
أرغب بتلك القيادة ،لذا فإنني ال أفتقدها .فالصالة عندي ممارسة بمنتهى السكون
والخصوصية.
لكنني لم أبح أمامهن بأنني لم أدخل الكنيس منذ أن هزئ ليفي من رواية
آخرا لمجموعة
سرا ً
ديبي ،منذ أن تفاقم غضبي وفتر إيماني ،ومنذ أن أضفت ً
أسراري ،سر اعتداء والدي .كما أنني لم أخبرهن بأنه ال داعي حتى أن تتجشم
نساؤنا عناء الذهاب للكنيس ألنهن يجلسن هناك كمتفرجات ال دور أساسي لهن
بالخدمة .حتى أن ما من أحد قد علّق على انقطاعي عن الحضور ،أقله ليس أمامي.
كما أنني أخفي عنهن أنني لم أعد أحسب القسم الخاص بالنساء مكانًا مري ًحا ،ألن
خفوت الصالة والشعر في كتاب الصالة تجعلني بطريقة ما أنظر إلى كل شيء
أسعى إلخفائه .لكن الكثير من األيدي ترفع اآلن .إن الوقوف أمامهن لشعور غريب،
كما لو أنني أسمح لهن باختالس النظر إلى ما تحت باروكتي .تعلق إحدى النساء:
"هناك فرق بين أن يختار المرء إنكار الذات وأن ينكرك األخرون".
أقول" :ال أظن بأنني فهمت قصدك ".لكن امرأة أخرى ترفع يدها ،فأؤشر
لها.
تقول" :ماذا لو أردتِ؟"
أسأل" :أردت ماذا؟"
ت أن تقودي خدمات الكنيس أو أن تغني بصوت مرتفع
تقول" :ماذا لو أرد ِ
هناك؟" ثم تشرح بتمهل" :إن المشكلة هي بالصمت القسري .كيف تبررين لنفسك
إقصاءك خلف الحاجز؟"
ِ تجريدك من االختيار؟ كيف تبررين
"االختيار؟" ال أدري كيف اريها التيار القديم الهائل الذي ال أمثل فيه سوى
قطرة واحدة .أقول" :ما من أحد في طائفة أرثودكسية لديه خيار حقيقي .وهذا ليس
شأن النساء فحسب .فالجميع في الطائفة يخضعون أنفسهم لحكم الشريعة ".ثم
أضيف ،وكأنني أقول فكرة جديدة ،كما لو أنني أتحدث لنفسي" :لكن أال يمكنك
اختيار أال يكون لك خيار؟"
تجعلني الهمهات التي تتردد في القاعة بينما أقف محرجة أمام المنصة التي
تشرف عليهن أفكر بأنني ربما قد افسدت شيئًا ما وأضعت فرصة التواصل
ً
وجيزا .لكن حينئذ ترتفع المزيد من األيدي ،ثم تقف إحداهن. الحقيقي ،مهما كان
أصفر بلون الزعفران بأكمام طويلة
َ صا
كانت ذات شعر أشقر طويل ،وترتدي قمي ً
مع تنورة فضفاضة ،فتبدو بهذه الهيئة مثل واحدة منا تقريبًا .إنها تبدو شابة،
وبحركة خاطفة برأسها تنحي شعرها جانبًا .تقول" :إنا زعيمة جمعية لمثليّي الجنس
ومثليات الجنس ،كما أنني مثلية الجنس .أخبريني ،أين مكاني في صورتك التي
كونتها للدين؟"
ّ
أشعر أن صدري خاو تما ًما .إرحلي من هنا ،أقولها ولكن الكالم ال يخرج
من فمي" .أتمنى "،أقول في المايكروفون ،ثم اتلعثم" .ليس لدي إجابة .أتمنى لو
أنني كنت أمتلك واحدة .لكنني ال أعتقد بأن هناك إجابة ".وهذا خرق آخر من
خروقاتي التي تجاسرت بها على الشريعة ،تجاوز يمر من دون لفت أي نظر .إذ
إن الشريعة تقول إنه دائ ًما ما يكون ثمة إجابة .والتوراة تحوي جميع اإلجابات.
تسقط بقية تفاصيل الحدث من ذاكرتي ،ربما ألنني مضطربة على نحو
منعني من استيعاب الباقي ،حتى تصعد مرافقتي وتشكرني وتصفق النساء مجاملةً،
ثم يقمن ،يراجعن برامج المؤتمر ،يبدأن بالتحرك وتبادل األحاديث .ثم أشق طريقي
بين الحشد ،وأنا أشعر بأنني وحيدة وغريبة في مغادرتي كما عند وصولي ،وربما
ً
انعزاال وغربة .تبدأ رائحة حريتهن بالتالشي ،وال تغيّر شيئًا من حالي. حتى أشد
حتى إنني ال أحاول أن أحضر بقية جلسات المؤتمر .أنا ال أنتمي إلى هنا .ليفي في
المنزل مع األطفال ،ومن الضروري أن أعود إلى هناك .أتوجه صوب الباب.
ي.
وبينما أمر تتفحصني إحدى النساء من رأسي إلى أخمص قدم ّ
وعند المخرج ،توقفني إحداهن .أقرأ بطاقة اسمها :روزلين براون .كنت قد
اعتدت على قراءة األخبار المتعلقة بالكتب في الصحيفة -فأعرف أن روايتها
الجديدة ،والتي عنوانها ’قبل وبعد‘ ،على قائمة النيويورك تايمز ألفضل الكتب
مبيعًا .كانت قصيرة القامة بما فيه الكفاية ألتمكن من النظر في عينيها مباشرة ،كان
وجهها عاطفيًا وحنونًا ومكترثًا ومنه ًكا بعض الشيء .تتفرق النساء ويواصلن
كثيرا ما رأيته في حلمي .تقول
ً المرور بجوارنا عبر أبواب أخرى في مشهد يشبه
بانتقادك في داخل القاعة ،أليس كذلك؟"
ِ لي" :من المؤكد أنهن ّ
كن قاسيات
عا ما".
أتردد" .أظن بأنني َمن جلبت ذلك لنفسي نو ً
تنظر إلى بقليل من الريبة وفمها مفتوح ،كما لو أنها تفكر .ثم تقول لي هذه
الكاتبة الشهيرة" :أود أن أتناول معك الغداء في وقت ما".
أتلعثم قائلة" :أعتقد بأنني أرغب بذلك ".لكنني ال أصدقها ً
فعال .أفكر ،سوف
تنساني بحلول الصباح .ثم تتوقف بقربي أي ً
ضا تلك المرأة المثلية التي وقفت وتكلمت
أثناء حديثي .كانت تنتظرني .وسرعان ما تختفي المؤلفة الشهيرة بين الحشد.
"ماذا تريدين؟" أسأل المرأة المثلية .نذهب لبهو الفندق ونجلس على كراس
ذهبية مجنحة .يحمل الهواء إلى مسامعنا تصفيقا قادما من إحدى قاعات المؤتمرات.
أحاول أن أبدو مهذبة ،ال أن أبدو متحدّيةً .لكنني حقًا تورطت في أمر يصعب عل ّ
ي
التعامل معه وأعلم بذلك .ال أستطيع أن أتخيل امرأة ً حسيدية في أي مكان تجلس
لتبادل الحوار مع امرأة مثلية .لعلني أنا األولى التي تفعل ذلك.
تجيبني المرأة" :أنا ال أحتاج شيئًا .لكن هناك الكثير من اليهود واليهوديات
المثليين الذين يحتاجون".
أجلس جلسة رسمية في وضعية التأهب والدفاع .إنها ترغمني على أن أمثّل
طائفتي كلها وأنا ال أريد أن أفعل ذلك .فقد جئت إلى هذا المكان ألتحدث نيابة عن
نفسي .أصمت.
ثم تقول" :جميع الحركات اليهودية تج ّل الشريعة اليهودية إلى حد ما ،وطالما
أن الشريعة اليهودية تنبذ الناس الذين على شاكلتي ،فسيكون ثمة أصداء لهذا النبذ
في أماكن يهودية أخرى خارج نطاق األرثدوكسية ".إنها هادئة وصريحة.
أصبح أكثر مرونة ،وأقول" :ال يمكنني تغيير الشريعة".
"لكنك موافقة على الحديث معي".
أقول" :هذا صحيح ".لكنها حينئذ كانت أول أمرأة مثلية قابلتها تكشف عن
توجهها عالنية ،وكيف أستطيع أال أجلس معها ،حتى لو أنني أحمي نفسي ،وحتى
لو أنني خائفة من الطريقة التي تصنف بها نفسها كـ "مثلية" وكأن لديها حالة
مرضية ما؟ "وهل يكفي الحديث معك للتغيير؟"
تقول" :ربما الحديث ،حديث النساء سوية ،هو بداية التغيير".
أسئلتك".
ِ "لكنني ال أمتلك أي إجابات على
"ليس لبعض األشياء من إجابات ".يسود بيننا صمت رائق .أتنهد ،ثم أخبرها:
ي زو ًجا
"إذن ليس هناك من مزيد ليقال ".ولم يكن هناك المزيد ،ما عدا أن لد ّ
ً
ومنزال وطائفة هائلة من التشريعات والتوقعات تحكم حياتي ،وأن بشرتها وعائلةً
ي أال أسمح لها باالقتراب مني .ليس هناك من شيء
تلمع وعينيها ال تكذب وأن عل ّ
ألقوله ،سوى أن حياتي تبدو وأنا أغادر هذا المكان أكثر زيفًا مما كانت عليه حين
جئت .أقف كما لو أنني أحمل ثِ ً
قال .تميل لألمام .تقول" :أنا موجودة .ولن أختفي".
ثم أسير مبتعدة عنها ،خطوة خفيفة ،ثم أعقبها بأخرى ،عبر السجادة
الكستنائية ،حتى ال تصدر خطواتي وأنا أبتعد عنها أي صوت ،خطوات بال وزن،
صف من المصاعد .وأمامي تحوم صورة الغمازة الخفيفة
ٌ بال حقيقة .إلى األمام
التي تقع على زاوية فمها اليمنى ،وخلفي ،دفق أصوات النساء وهن يخرجن بعد
ي ،كتب ذات لغة
انتهاء أحد البرامج ،وكذلك طاولة تغص بالكتب المحرمة عل ّ
جديدة .ما يزال صوتها يتردد في أذني" :أنا موجودة" .أضغط على زر المصعد
فيتوهج باللون األخضر ،مثل اشارة أحاول أن أتجاهلها.
حالما أصل للمنزل ،سيالحقني وجه رونا ،وعبارتها "أنا موجودة" .سوف
أتذكر الخوف العميق الذي انتابني عندما سمعتها تقف وتقدم نفسها كمثلية في مكان
قربني ليفي
عام .سوف تجبرني على أن أنتبه لخيبة األمل التي أشعر بها عندما يَ َ
بعد الميكفاه ،وإلحساس العزلة المؤلم الذي يعجز عن إزاحته ،وكيف أنه ال يستطيع
أن يشبعني .لن أكون قادرة بعد اآلن على تجاهل تلك األحالم األيروتيكية.
سأفعل ما بوسعي ألتجنب صورتها وصوتها .سوف أخبر نفسي بأنني لست
عا من الحاالت المرضية،
حالة شاذة ،وبأن ما أشعر به هو أمر اعتيادي وليس نو ً
ولذا فهو شيء ال يمكن أن يصنف .ال أريد تصنيفًا .لذا ماذا يعني لو أنني ال أشعر
بأي شيء ناحية ليفي .ال يوجد تصنيف النعدام الشعور ،لالشيءّ .
لكن وجهها
وصوتها سيظالن يالحقاني.
في أحد األيام ،أذهب إلى فرع مكتبة موريس فرانك الذي يقع قرب منزلنا،
وهي المرة األولى التي أذهب فيها إلى هناك من دون اصطحاب األطفال .أتخلص
من سطوع أشعة الشمس بالدخول عبر األبواب المزدوجة المنزلقة ،عبر المدخل
الالمع ،وأمر على أم التينية ذات عيون ناعسة تجلس على األرض مع اثنين من
أطفالها وكومة من الكتب المصورة .إنني أكتب قصص الخيال لكني لم أعتقد لحد
اآلن بأنني قد أحتاج لقراءة األدب القصصي ،فأنا لم أقرأ رواية واحدة منذ أن قابلت
الحاسيدم .إنني ال أمتلك لحد اآلن فه ًما لقواعد الكتابة أو فه ًما لما قد يتطلبه صقل
قصص .أنا أجمع شظايا
ٌ قصص؛ األحالم
ٌ الحرفة .لكنني أعرف القصص .فالحياة
ما أعرفه .عالوة على أن شخصياتي في القصص هي شخصيات حقيقية للغاية
ي على لوحة المفاتيح ومشاهدتها
عندي لدرجة أن كل ما أحتاج لفعله هو وضع يد ّ
وهي تحاول أن تعيش .لكنني أريد أن أكتب الشعر.
حب كاف
لقد ظننت أن األحالم ،الرؤى ،الشياطين ،ستختفي إن كان هناك ٌ
يقضي عليها.
-سيلفيا بالث
دعها تكون ،دعها تكون ،دعها تكون ،لتكون خجولة ،دعها تكون ،لتكون،
دعها تكون ،لتكون ،دعها تحاول.
دعها تحاول…
-غيرترود شتاين
تقول الشاعرة كومين" :أن تكون عقالنيًا يعني أن تطفئ النور" ".أال ترى
يا أبي" أتحدث مع جسده النائم حين أعود للغرفة" ،لقد محيتك منذ زمن طويل،
واآلن ال أستطيع البكاء على شي محيته" ّ
لكن الحقيقة هي أنني حاولت إطفاء الضوء
كثيرا من المرات ،لكن صورته ظلت تتوهج في الظلمة .ثم تضيف الشاعرة "أن
ً
تكون عقالنيًا يعني أن تنسى ".أتساءل في سري ،كم من الحب الذي سعيت ألن
لك ،أبتاه؟ كما لو أنني
أستجمعه لل َحبر وللرب وحتى لليفي كان في الحقيقة مقد ًّرا َ
قد تركت مثقلة بالحب الذي لم يكن بوسعي حمله ورحت أبحث عن مكان آخر
ي ح ّد كانت الصورة التي ّ
كونتها لنفسي عن الربّ مؤلفة مما أضعه فيه .إلى أ ّ
أنت عليه؟ لكن ما من إيمان مختلق وما من أب بديل يمكن أن يحل
تمنيت أن تكون َ
محل ما كنتَه أو ما كان يمكن أن تكونه .حب أبيك ،أفكر .يا له من عبء غريب
الهيئة.
لكنني ال أستطيع أن أقول ذلك .ال أستطيع أن أقول إنني "أحب" هذا الرجل
المتورم المجنون ذا الياقة الملطخة بالطعام كاألطفال ،بأنفاسه ذات الرائحة الالذعة،
ورأسه الذي يترنح عن رقبته التي أصابها االرتخاء ،وفمه المنفرج .أقول له" :انظر
إلى حالك ".ش َوا ٌل مفرغ.
يستيقظ .يقول" :ليزا! ليزا!"
وعلى الفور ،أصبح ليزا مجددًا .طفلة مفعمة باألمل .أتحرك من كرسيي
نحوه ،وأقول ناشجةً" :أبي؟"
ي أن أذهب!
يهز ساقيه الواهنتين ويحاول أن يلوح بذراعيه ،ويقول" :عل ّ
ي أن أصل في الساعة الثانية!"
عل ّ
ي
أمد يدي إليه ألسحبه من األمواج ،لكنني ال أستطيع إيقافها أو إيقافه .عل ّ
أن أشاهد .ال أمل.
عة .أضع يدي على
شر َ ً
بدال من سحبه ،أرتمي مجددًا في أحضان الطقس الم َ
ذراعه كما يفعل الحسيديون عند التعاطف وأنشد صالة اسمع يا إسرائيل
" "Shemaaa, yisraael,إنها نفس الصالة التي أنشدها معي ذات مرة قبل أن
ضا اعتراف ما قبل الموت .أنحني عليه وأش ّم رائحة موته
أخلد للنوم ،والتي تعد أي ً
وأغني في إذنه المحتضرة هذا االعتراف األخير-اعترافي ،وليس اعترافه.
ومرة أخرى ،تخرج الكلمات العبرية التي كان يرددها في أيام الطفولة مع
فقاعات من فمه .يتمتم "."Adonoi, Echad
لكنني أعود إلى يوم زفافي .تعلو الموسيقى ،والعريس ليفي يقترب مني
سل وأرفع
ليسدل طرحتي ،وعلى جانبيه يقف والدانا الشابّان" .أبي؟ الكلمات؟" أتو ّ
نظري إلى والدي وليس إلى العريس ،مستجديةً مباركة أبي األخيرة قبل أن أدفن
كلينا .يميل أبي نحوي ببدلته األنيقة وعطره المألوف ،فتجتاحني موجةٌ من مشاعر
خائف ،وال يتمكن من تذ ّكر الكلمات السحرية .وعو ً
ضا عن ٌ الحاجة واألمل .لكنه
الكلمات ،يقبّل جبهتي ،ويتركها مبتلة .ثم يدنو ليفي ويغطي جرح قبلة والدي
بالطرحة .هذه القبلة األخيرة من والدي التي تشعرني بالخزي ستكون المرة األخيرة
التي أنظر فيها إلى الجرح المسمى أبي .لغاية اآلن .لغاية لحظة التخلي هذه ،أغني
لوالدي المحتضر .اسمع ،يا إسرائيل ،الرب إلهنا ،الرب واحد .مبارك اسم مجد
مملكته دائ ًما وأبدًا.
هيوستن ،الحادي والعشرون من يونيو .1993 ،انتظرت رحيله ،لكنني
ّ
يرن الهاتف اضطررت للعودة إلى المنزل ،إلى أطفالي .اآلن ،وبعد ثالثة أيام،
إلبالغي بنبرة باردة بما هو مستحيل ،وبديهي ،مقرونًا بمجاملة تقديم العزاء ،وبأن
والدي قد توفي .أتلقى هذا التعقيد المفاجئ في حياتي كما لو كان غير متوقع .كان
ليبل في المنزل متمتعًا بإجازة الصيف من اليشيفا .أما الستة اآلخرون فيحومون
في أرجاء المنزل .ثمة وجبات طعام وتنظيف وتنظيم سير األمور المنزلية ،لكن
ي أن أعود إلى داالس حيث
ي أن أذهب إليه .إنه يحتاجني ،عل ّ
والدي قد توفي ،وعل ّ
والدي.
أهرع إلى علبة المجوهرات في حمامي ،نفس العلبة الزجاجية المطوقة
بالزخرفة الذهبية والتي كانت موضوعة ذات مرة على منضدة التزيين حين كانت
أمي تثبت طرحة الزفاف على رأسي .أنقّب فيها عن سلسلة مصنوعة من أحجار
مصقولة متنوعة والمعة وذات أشكال صغيرة غير محددة ،كانت تلك القالدة هدية
ي بعد سنوات من زفافي ،بعد أن بدأ عالج الليثيوم بمنحه
من والدي أرسلها إل ّ
فرصة أخرى .في ذلك الوقت ألقيت بالقالدة هنا باستهانة .وفي هذه اللحظة أسحب
القالدة وأصبعي يالمس الحجر األول ،وهو حجر باللون الوردي الضارب إلى
الرمادي ،المع ويمنح األمل ،ثم الحجر الالحق ،وهو أبيض اللون مخلوط بشوائب،
ثم الحجر الذي يليه .كل واحد من هذه األحجار بارد وناعم وذو أبعاد غير متناظرة
خاصة به .اوقع السلسلة على راحتي ،الحجارة الباردة مثقلة بالقصص المخبوءة،
ي .أنتحب .للحظة واحدة ،يغمرني
ثم أشدد عليها قبضتي في نوبة من الحزن الجل ّ
وأخيرا ال أريد أن أتجنب الحزن .أرتجف ،يغمرني االحتياج اليه ،فأضع
ً حبه لي،
القالدة حول عنقي وأقفل مشبكها.
ثم أختنق ،فأتحسس قفل القالدة لفتحها وال أستطيع أن أخلعها سريعًا كما
يجب.
بعد ثالثة أيام تتوجه األنظار إلى باطن قبر مفتوح في مقبرة إيمانويل في
معبد داالس القديم .يحف الحفرة من الداخل طمي أسو ٌد مقطوعٌ حديثًا ،طمي خصب
غني وثقيل نتيجة التشبّع باألمطار األخيرة .لكن تلك الحفرة هي ملخص خساراتنا.
وأنا اآلن أعرف ما خسرناه :ذلك األمل الذي لم نستطع أن نتخلى عنه يو ًما بأب
يمكننا أن نعرفه أو نثق به أو نفهمه .وهذا ما دفناه نحن الثالثة هنا اليوم.
وأختاي على يساري ،وإلى جانب ديبي يقف
َ يقف ليفي كتمثال على يميني،
زوجها روبرت .يحضر الجيران القدامى واألصدقاء ،وأمي بينهم في مكان ما.
أميل برأسي نحو ليفي حتى أصبح على بعد بوصة واحدة فحسب من التالمس
العلني المحرم .أرغب باالتكاء عليه .يبتعد خطوة عني ،فأستقيم وأعتدل في وقفتي.
صا لديبي وآمي
يخيّم الصمت على الحضور المتناثرين حالما يسلم الحاخام مق ً
عا لكي تتم ّكنا من قص الشريط األسود المثبّت على ثيابهن ،وهي نسخة منقحة
تبا ً
أجلك ".عندما يناولني
َ ومهذبة من الشريعة .تهمس ديبي":إننا نقوم بهذا الفعل من
الحاخام المقص ،أحيد عن الشريط وأفتح شقًا في الشال الذي أضعه فوق ثوبي ،ثم
ّ
وأمزق القماش إلى شقين بالحركة األرثوذكسية العنيفة ،التي ألتقط طرفي الشق
ترمز للقلب الممزق .يتردد صوت التمزق الحاد عبر الشادر الذي يخيّم عليه
الصمت .أسمع شهقة .يتدلى القماش .أمامي ،الحفرة في األرض التي شقها في
دواخلنا .الرائحة الغنية للتربة الرطبة .أفكر بنماء الخضرة .أفكر بالديدان.
عند العودة إلى منزلنا في هيوستن ،يبقى الباب األمامي للدار مفتو ًحا لسبعة
أيام وأنا أظل بثوبي الذي يتدلى عليه الشال الممزق .يغطي ليفي واألطفال الجدار
ذا المرايا في غرفة الطعام والمرآة الكبيرة في غرفة المعيشة بشراشف السرير
التي تتدلى طياتها .أوقد شمعة طويلة في أسطوانة زجاجية ،البصيص الضعيف
ٌ
رمز لروح أبي الحية خارج هذه الدنيا .وقبل أن تنطفئ الشمعة ،سأوقد المتواصل
أخرى ،وأخرى ،وأعتزم الحرص على إبقاء اللهب طوا َل سنة الحداد .ينبّه ليفي
األطفال باالبتعاد عن جهاز الستيريو .لن يكون هناك العم موشيه ورجال الميتزفاه،
ال أبراهام فرايد وال جوقة صبيان اللوبافيتش ،لن يكون هناك موسيقى في منزلنا
حتى السنة القادمة.
يصل الزوار ،وتبدأ الرقصة الحسيدية لمواساة المحزون .يدخل الضيوف
ي مغمغَمة .يجلسون وال من غير استئذان ،حاملين معهم أطباقًا مغطاة وتعاز ّ
يبدؤون حديثًا ،منتظرين توجيهي ،حتى لو كان هذا يعني أال نتكلم .وحينما أنطق
أخيرا ،يبدؤون بطرح األسئلة عن والدي.
ً بشيء
لكن هذا المشهد المدبَّر ،والذي يبعث توقعه على الراحة هو ما أردت ،عطايا
محبة صادقة ،حضور ،أطعمة لم أطهها ،كلمات مطمئنة ،وأطفالي بقربي ،وإن
كان هذا يبعث الرهبة بعض الشيء .عالوة على ذلك ،فإن إتبّاع الشريعة مع
المفجوع وكأنه طقس تعني أن أبي لم يتعين عليه أن يستحق حزني كيما أحزن
عليه ،وهذا ما يعني أن هويته أو ما كان عليه ليسا باألمر المهم .تحضر الطائفة،
مهما يكن من أمر ،ألنني هنا ،لست ابنته ليزا ،وإنما امرأة يهودية في حداد ،فتصبح
خسارتي معممة ومنقحة .إنهم يقدمون العزاء ،باتبّاع الشريعة .لكنهم يسألون عن
والدي.
أجلس على المقعد المنخفض المخصص لصاحب العزاء وأعرض على
ضيوفي صورة ألبي حينما كان في هيئة رجل شاب ووسيم ،الوالد المحبوب الذي
يتالءم مع توقعاتهم ،وأقول" :لقد علمني صالة الشيما .وعادة ً ما كان يحدثني عن
ي وتقاليدهما اليهودية القديمة ".أمسك بالصورة لتكون أمام أنظارهم .لكنني
جد َّ
أحجب مغتصب األطفال بإبهامي .أحجب سنواته في المصح العقلي ،والتلف
الدماغي الذي ألحقه به عالج الصدمات الكهربائية وأيامه األخيرة التي قضاها وهو
عاجز عن قضاء حاجته ويغمغم من أثر العت َه .يحجب إبهامي كل شيء عدا ابتسامته
المائلة.
مع ذلك ،أعتقد بأنه ال بد وأن يكون ثمة أمر خاطئ يحدث معي لكي أحزن
على ذلك .لكنني كنت طفلة يو ًما ،وهو كان والدي ذات يوم.
في النهاية ،أجد أن طقوس الحداد ،من إيماءات الزوار المعبّرة عن االهتمام
وأوعية الطعام وصناديق الفاكهة ،ألمر مرهق .في النهاية ،أريد أن أخبرهم كم
يبدو عزاؤهم الملقن مفتعالً وخاويًا .أريد أن أشكرهم وأصرفهم.
أثناء السنة التي قضيتها في الحداد ،اجتاحت كراون هايتس ح ّمى مسيانية
تفشت عبر شبكة الحسيديم اللوبافيتش المنتشرين في أرجاء العالم .إذ بدا لي ّ
أن كل
من أعرفه كان مقتنعًا بأن الحاخام سيعلن قريبًا أنه المسيا المنتظر ،وقد أصبح ذلك
اإلعالن وشي ًكا جدًا .أمتنع عن االنجرار وراء ذلك السعي للنسيان الذي يمنح
السرور ،ذلك الحماس المتأجج المعدي ،حتى عندما يقوم المئات ،بل اآلالف من
أقراني باالنغماس في ذلك الحماس ،ومن بينهم أناس أذكياء ومتعلمون ،كنت قد
أعجبت بهم فيما مضى .المسيا آت! يغلب التفاني على الجميع.
جئت إلى حديقة روزلين ،العابقة بروائح الورود واألعشاب ،وقد تكون
األميال القليلة التي قطعتها ألصل إلى هنا مئة ميل .تبدو الحديقة مثل ضريح لإلبداع
والجمال من أجل أن تبلغهما الحرية ،أو على األقل أن تحاول .وعلى الجهة المقابلة
لهذا المنزل الصغير عبر الشارع الضيق ،تنتصب منحوتة بارنيت نيومان
" "Broken Obeliskأو "المسلة المكسورة" في بركة عاكسة أمام كنيسة
مكسورا ،وحيدًا وعاليًا وه ً
شا .وبالقرب منها تقع ً روثكو .تجسد المنحوتة طوط ًما
مجموعة مينيل الفنية ( )Menil Collectionالمليئة بأصوات فنية تصخب بمزيد
من الصدق .يلف الدفء مقاعدنا المعدنية ،تحوم نحلةٌ حول إحدى األزهار الحمراء
بحركات قوسية صغيرة .ثمة نسيم خفيف ،ونفثة من رائحة دخان السيارات في
الهواء.
أرتشف الشاي من المطبخ الذي ال يستند للضوابط الشرعية ،وأضيف ذلك
إلى أسراري .ينتابني ال َح َرج من زيي الحسيدي في هذا المكان الحر .يَلوح لي أنه
كان ال ب ّد من حدوث كل ما جرى ً
أوال حتى أتمكن من القدوم إلى هنا :اإلجهاض،
المؤتمر النسوي ،إفشاء ديبي لألسرار المتعلقة بأبي ،القصص واألشعار التي أكتبها
بالخفاء .ال أجرؤ على أن أتغيّر ،ورغم ذلك ها أنا هنا ،شخص مختلف أبحث عن
مرشد من خارج طائفتي.
تتحدث روزلين عن تحرير الرواية من األحداث التي ولّدتها ،وعن كيفية
خرج الصفحات -كنت قد أرسلت لها
توصيل اإلحساس بالواقع ،وعن بنية السرد .ت ِ
المدونة بيديها
ّ ما يفوق المئة صفحة -وألحظ إنها قد مألت الهوامش بالمالحظات
الثابتتين.
تقول روزلين" :انظري إلى هذا ."،وتؤشر على أحد تعقيباتها وتقرأ السطر.
ثم تنطلق بشرح السبب وراء العيب الذي يكتنف المقطع وما الذي يتطلبه إصالحه.
أدافع عن قصتي كما لو أنها أحد أطفالي .وبالتأكيد ،هي ال تبدي تفه ًما لما
أقول فحسب.
ال تتراجع عن رأيها.
أبتلع الموقف وأحاول اإلنصات.
في النهاية ،تناولني روزلين دليل حرفة كتابة الرواية .وفي باطن الغالف،
أخيرا شعور
ً ي الصمت ،وينتابني
أجد الدليل مكتوبًا بخط يدها .يستحوذ عل ّ
بالتواضع واالمتنان.
"واآلن أخبريني "،تقول بنبرة متزنة ،وذلك الفم المفتوح والنظرة الجانبية
تعودان إلى وجهها" .إنك إنسانة مفكرة".
أقول" :ع َّم تسألين؟"
تشير إيماءاتها إلى ياقة مالبسي العالية ،أكمامي الطويلة ،التنورة ،الشعر
المستعار .تقول لي" :أريد أن أفهم كيف لشخص مفكر أن يتصالح مع كل هذا".
ال أجيبها .أخبر نفسي بأنني أحتاج للتفكير بما سأقول.
في اليوم التالي ،أكتب لروزلين الرسالة األولى من سلسلة رسائل .ربما ،لو
استطعت أن أقنعها أن حياتنا المستندة للتعاليم الحسيدية هي حياة حقيقية وذات
مغزى ،فسوف أتمكن من إقناع نفسي بذلك والتصالح مع الصدع المتنامي في
داخلي ،ألنها جعلتني أسأل نفسي" :كيف لشخص مفكر أن يتصالح مع كل هذا؟"
ندرب أنفسنا على الوعي الثاقب بالرب .إذ إن مهمتنا اليومية
أكتب" :إننا ّ
هي إيجاد الدليل على نيّة الرب الخيّرة في كل يوم ،وقبول قيودنا وسلطة الرب
العليا .فالحياة لدينا هي رموز".
رموزا .فإذا لم تكن األحداث اليومية باألساس رم ً
وزا ً ينبغي أن تكون الحياة
يجب علينا أن نتعلم منها ،هبات من الرب لذلك الغرض ،إن كانت الحياة
ي أن أنظر لألحداث والتجربة بدقة وأقبل الحاضر
مجرد...حياة -إن كان عل ّ
ال َعرضي الخام على إنه واقعي ،من دون وعد بالتعويض -حينها ال يمكنني أن
أواجه حياتي .إنني بحاجة للمعنى ،الذي هو بمثابة التبرير .فمن دونه ،ستكون
حياتي الحسيدية زيفًا .وسيكون لزا ًما عل ّ
ي تركها.
س ِلموا من
ثم أكتب في يوم آخر" :أؤكد أن اليهود ،وهم بقايا شعب قديم ،قد َ
التغيير بسبب الجوهر الثابت للتعاليم وللقيم الروحانية واألخالقيات ،وكذلك مراعاة
الطقوس التي ضخت تلك التعاليم في أكثر جوانب الحياة دنيوية ".هذا هو صوت
الجماعة .أحبوا الشريعة .فالشريعة أبقتنا أحيا ًء .الشريعة تجعل الحياة ربانيّة.
ّ
أسطر بها مث ًال عليا رنانّة .لم أعرف حقًا أكتب كل بضعة أيام رسالة أخرى
بأنني كنت أحاول أن أصالح نفسي مع حياتي ،مثلما لم أكن أدرك حينها أن الصدع
في داخلي كان يكبر بسبب التواصل مع روزلين .ما أعرفه فحسب هو أن هذا
الحوار الذي أعقده معها يشبه األوكسجين.
وبعد بضعة أيام ،يصلني عبر البريد مغلف يحوي بقية مسودة قصتي .مرفق
معه رسالة تعرض بسخاء استقبال روزلين للمزيد من كتاباتي .وكانت مالحظاتها
تحتّل الهوامش على كل صفحة.
أتوجه إلى السلة المشبكة ،أبتلع ريقي وأخرج قصة اإلجهاض .أرسل القصة
إلى روزلين ،وهكذا سيعلم أحدهم بقصتي.
أهذا ما أفعله؟ غناء األغنيات القديمة لروزلين برسائلي ،على الرغم من أن
النساء الخارجات عن القانون يبعدنني عن القواعد؟
كبرت كومة المكعبات على األرض .يقوم أفرامي ليجلب المزيد .أؤشر على
التلة ،ونظري مثبّت عليه ،وأقول" :يمكنك أن تجلب المزيد إن قمت بتنظيف المكان
الحقًا" .يتقلب إيتزك على حجري ويتنهد .أقرأ.
جسدك
سيالزم جسدي-رقيقة ،مرهف ٌة
ممارستك للحب
أعتدل في جلوسي .رقيقة ،مرهفة-ال ب ّد وأنها تكتب المرأة .أجزم بأنها تكتب
جهرا .أتشبث بالصفحة.
ً عن امرأة .لم أسمع في حياتي كائنًا تكلم عن هذه الصورة
يتورد وجهي.
يفرغ ميندل دلو قطع اللوغو على السجادة .الغرفة مغطاة باأللعاب ،غرفة
ّ
ي .أقول" :نظفوا األرض من المكعبات قبل أن
اللعب فارغة ،األطفال عند قدم ّ
تلمسوا قطع اللوغو تلك".
يقول مندل" :كال ،ماما! إننا منشغلون بصنع شيء .سنقوم بالتنظيف الحقًا.
نعدك!" يهز أفرامي وسارة رأسيهما .إيتزك نائم في حجري.
يدخل ليفي ،ووجهه منتفخ من أثر نوم الساباث .يذهب إلى المطبخ ليحضر
كوب قهوة.
وجهي ساخن ،أقف والكتاب المغلق معي وأحمل إيتزك النائم ،واضعةً رأسه
على كتفي .أحافظ على إخالء وجهي من أي تعبير بينما أتسلل إلى غرفته ألنزله
في سريره .ستبقى الكلمتان األخيرتان من القصيدة معي وأنا أمشي إلى نهاية الممر:
واحدًا تلو اآلخر ،كان آل فرومان يرسلون أطفالهم األحد عشر إلى اليشيفيات
حالما يبلغون سن المراهقة ،وحت ًما تقتفي الطائفة خطاهم ،وهذا ما يش ّكل أعبا ًء
مالية باهظة .فأن تكون "منفيًا إلى مكان التوراة" ،goleh lemakom torah
وأن تختبر النزوح والتضحية في سبيل معرفة التوراة هما أمران مهمان لبناء
ويصر الحاخام فرومان على أال يشيد مدرسة ثانوية حسيدية
ّ الشخصية الحسيدية.
في هيوستن.
لقد كبرت ليبي وهي تترقب الرحيل ،وها هي اآلن في الرابعة عشرة من
العمر .وقد غادرت بالفعل بعض من أفضل صديقاتها .إنها متلهفة لكي تشرع
بطقس العبور هذا .سوف تقوم مدرسة اليشيفا الداخلية للبنات بكل إتقان بمساعدتها
على تخطي عمر التساؤل والبحث وتحدي القواعد المسمى بعمر المراهقة .ستقوم
المدرسة بتشذيبها من األجزاء التي ال تالئم قالبها ،وتثبيتها على الطريق الصحيح.
ستبقيها بمعزل عن الصبيان وتملؤها بالفلسفة الحسيدية وباللغة العبرية واليديشية
محصورا بحده األدنى الخاضع
ً والتوراة واألنبياء .أما تعليمها العلماني فسيبقى
يعظم المعلمون من شأن الزواج واإلنجاب واالحتشام ،مؤكدين لهاّ للرقابة .سوف
ً
مستقبال. أنها عندما تمتثل بخضوع ،فستقوم بمنح كامل األمة اليهودية
تخبرني جارتي الحسيدية" :اسمحي لها بالذهاب كي تعود إليك "،إنني اليوم
أتصور أن هذه النصيحة قد تنطبق على شابة بالغة أفضل مما تنطبق على فتاة
بعمر الرابعة عشرة .لكنني ال أريد أن أربك أبنتي .وفي النهاية ،أنا ال أعرف كيف
أفعل أي شيء سوى ما يفترض بنا فعله.
إن تعليم اآلخرين على الخطيئة هو خطيئة ليس بإمكان أحد أن يكفّر عنها.
أد ّل ابنتي على طريق صمت المرأة المغطى .أعرض لها طريق التضحية بالنفس
واألمومة الالنهائية وأرسلها في طريقها .وهذا ما سيحدد ،من ث َ َّم ،من ستكون عليه،
من ستصبح عليه .أرسلها .أفعل ذلك.
عزيزتي روزلين:
كانت أكبر أمنيات إيتزك لعيد ميالده السابع أن يحظى بدراجة هوائية جديدة،
وديك رومي على العشاء .وبينما كان هو في المدرسة ،وجدت دراجةً خضعت
لبعض التصليحات ،ولكنها شبه جديدة ،فنقلتها في سيارتي إلى محل الدراجات بعد
أن وضعت الديك الرومي في الفرن ،وقضيت ساعة في المحل المكتظ حتى انتهوا
من خفض ارتفاع مقعد الدراجة والمقود وتبديل العجالت بأخرى تناسب الفرامل
ووضع إطارات جديدة وإضافة مسند .هذا المسند ال يكلفني المزيد ،أليس كذلك؟
أنطلق للمنزل والدراجة الحمراء الصغيرة في مؤخرة سيارة الفان .وحالما
ظهر األطفال على الطريق قادمين من المدرسة ،أوقفت السيارة ،فأتوني راكضين.
لم تأخرت حتى طفلي السادس ألتم ّكن من رؤية ذلك؟ لطفلي السادس؟ إنها
َ
بهجة ،نقية وبسيطة ،بال وعظ ،وما من حضور للمقدّس فيها .ال شيء سوى دراجة
باكرا
ً جديدة حمراء ومنزل يعبق برائحة الديك الرومي ،وليفي عائد للمنزل
عليك أن تري إيتزك وهو يرقص .فيما أشقاؤه الثالثة
ِ ليشاركنا العشاء .كان
يرقصون حوله ،وهم يدورون على الديك الرومي ،ثم يتناوبون على التسابق
وتكرارا .يتسابق أفرامي وسارة وإيتزك
ً مرارا
ً بالدراجة .يطوقني إيتزك بذراعيه
على دراجاتهم بعد العشاء وهم يرتدون الخوذ والمعاطف ،تتمايل الخوذ في الظالم،
ّ
ولكن مصباح الشارع يلقي عليهم بضوئه حيث يتوقفون تحته للدردشة أثناء
انتظاري عند كل ناصية بينما ألحق بهم مشيًا على األقدام ويد شالوم الصغيرة
الحلوة في يدي .لقد كنت متأثرة طوال األسبوع ببساطة التجربة كلها.
األمر بيدي ،فستكون هدية عيد ميالد إيتزك هي أن يحتفظ ببهجته
َ لو ّ
أن
الشعور بالبهجة الذي
َ باألشياء الصغيرة ،وأن يحظى يو ًما ما بطفل مثله ليمنحه هذا
عشته أنا ،إن كان ذلك ممكنًا.
مع الحب،
) Leah der Oysherالغنية)
يتصل ليبل من هاتف عمومي في صفد ،حيث اليشيفا التي مضى على وجوده
فيها نحو ستة أسابيع .يتحدث عن التنزه مشيًا في الوادي الذي يقع أسفل سكنه
الجامعي مع مجموعة من أصدقائه ،وعن رحلتهم جنوبًا إلى البحر الميت .ولسبب
تحول إلى دراسة العبرية الحديثة ،وهي مختلفة جدًا عن النصوص القديمة،
ما فقد ّ
ث ّم يضحك على برنامج إذاعي وينقل لي حديثًا سمعه على متن الباص .لكنني أسمع
خلفه مكبر صوت وغنا ًء صاخبًا ،فيما يبدو أنها مسيرة صاخبة .عاش َحبرنا ،ملكنا
المسيا لألبد .اقول" :ما ذلك؟"
شباب تجمعوا ويقومون بمسيرة هنا".
ٌ يجيب" :
"هلً ،
مثال ،يحملون الالفتات؟"
"أجل ،وهناك ملصقات على السيارات ولوحات منتشرة في البلدة ".وصور
وجه ال َحبر إلى جانب عبارة "عاش الملك" ملصقة على جوانب البنايات وعلى
نوافذ المحالت والسيارات وأعمدة الهاتف وفي مداخل البنايات والمنازل الخاصة،
ويرفعها الرجال الصارخون في المسيرات العفوية .يقول ليبل" :بدأت أسأم من تلك
األغنية ".يتعالى الضجيج بينما يمر أفراد المسيرة بقربه .يعيش سيدنا لألبد!
أخاطب ليفي" :سوف نساند ليبل ،وإال سنفقده" .أوقفت زوجي في غرفة
الجلوس وطالبته باإلصغاء إلي.
"ماذا تقولين؟"
"لن يبقى ليبل في اليشيفا ،ولن يصبح حاخا ًما .يقول بأنه سوف يلتحق
بالكلية".
وذاكر لوحده طيلة شهور .ثم أدى اختبار سات SAT
َ ابتاع ليبل كتبًا
واختبارات القدرة وأبلى فيهما بال ًء حسنًا.
يتكلم ليفي ً
قليال ،لكنه يذعن على مضض.
في شهر مايو ،يقبل ليبل في جامعة رايس في هيوستن .وبعد سنوات من
البعد ،يعود المتمرد المبجل الجديد في عائلتنا إلى المنزل .في أحد األيام بعدئذ،
وبعد أن يعود للسكن في منزلنا ،أجده منهم ًكا في حديث مع والده في غرفة المعيشة،
يتذكر ليفي سنواته السعيدة التي قضاها في دراسة الرياضيات والفيزياء في جامعة
بنسلفانيا .يحن إلى الماضي ،فتبسط أساريره .يتكئ ليبل للوراء ،متلهفًا للسماع.
أفرامي هو اآلخر ،يغادر إلى يشيفا في شيكاغو .أظل أفكر بأنني سوف أمر
على إحدى زوايا المنزل وألقاه منبط ًحا على بطنه ،ورأسه مستند إلى قبضتي يديه،
وهو يلعب لعبة لوحية مع إيتزك ،راس ًما على وجهه ابتسامة سريعة فتبين غمازاته
التي تسبب له اإلحراج .أو أتخيله ينطلق في الشارع على دراجته الهوائية الصغيرة
جدًا .أو يلقي نكاته الساخرة على مائدة الساباث.
على الرغم من أنه لم يبقَ في المنزل اآلن سوى أبنائي الثالثة األصغر سنًّا،
ي أن أبقى منغمسة في دراما األطفال وتنشئتهم ،وما
إال أنه ما يزال من اليسير عل ّ
يزال من السهل أن أتجنب النظر إلى المرآة ،ومن السهل أن أكرس نفسي للكتابة
ع المزيد من ليال ألتهرب ً
قليال من الحضور الذهني خالل النهار .يمكنني أن أد َ ً
السنوات تمر بهذه الطريقة.
ثم في أحد األيام يتصل بي ميندل من أحد الهواتف العمومية ويذكر لي آخر
اإلشاعات التي تتحدث عن انتحار صبي مراهق في يشيفا اللوبافيتش في مانشستر
بإنجلترا بعد أن قفز من سطح مهجعه .ليس هناك توضي ًحا رسميًا ،لكن اإلشاعة
انتشرت بين أوساط الفتيان في يشيفات اللوبافيتش .كانوا يقولون إن الصبي مثلي
الجنس وقد قتل نفسه ألنه كان ِمثليًا.
أقفل الخط وأنحني لألمام عاجزة ً عن التنفس .أشعر بيأسه الغامر من عالم
يرفض قبوله كما هو عليه .أراه يصعد الساللم الفارغة ويسير على السطح ،أعصر
ي بعد إغماضهما لكنني ال أستطيع أن أدحر الصورة.
عين ّ
يجافيني النوم .أحمل ذلك الصبي معي إلى اليوم التالي واليوم الذي يليه .وال
أفهم ِل َم أفعل ذلك .أفهم وال أفهمّ ،
لكن الصبي يالزم تفكيري .فما من مكان يلجأ
جبرا على
إليه ،وال من سبيل لكي يكون نفسه من غير أن تتدمر حياته .لقد كان م ً
االختيار بين حياته كما عرفها وإنهائها .وقد اختار.
أنا "نحن ".المجتمع .نحن من جعلنا مأساة الفتى حتمي ًة .لقد قتل الفتى نفسه
ألنه صدّق ما علّمناه إياه ،ولذلك لم يستطع أن يتحمل نبضات قلبه.
إنه كأطفالي .لقد أجبر على "بلوغ" كبلوغ الجندية الذي يتولى سحق أجزاء
من روحه.
ثم بدأت أشعر بتعاطف عميق غامض يهمس لي بأنني أعرف ذلك الفتى من
صا يجبرني على الدخول
الداخل .إنني أعرفه وأحلم به .أحلم بأنني هو :أحلم بأن شخ ً
في قفص ذهبي ،حيث أعيش يو ًما بعد آخر .وفي النهاية ،أهرب وأتسلق إلى
أخيرا
ً السطح .في الحلم ،أنفذ قفزتي األخيرة باندفاع جامح .فأصبح عديمة الوزن
وخلفي سماء غفورة.
أواخر يونيو .أصطحب إيتزك وشالوم لدروس تنس مجانية في أحد مراكز
التنس القريبة ،وقد أقنعت عائلة أخرى بأن ترسل ولديها معهما .يثب األربعة من
السيارة ويندفعون نحو مالعب التنس ،غير آبهين بالرطوبة والشمس وحشرات
ضا عن اليارمولكات وشعورهم القصيرة
الزيز التي تصم أصواتها اآلذان ،ساهين أي ً
جدًا وعن حقيقة أنهم األطفال البيض الوحيدون في الصف .أجلس في انتظارهم
على أريكة متهالكة من الفينيل في استراحة مركز التنس مع حاسوبي المحمول
المستعمل الذي اشتريته حديثًا ،مرتاحةً لوجود مكيف الهواء البارد .وبالطبع يعاود
الفتى المثلي في إنكلترا مجيئه إلي ،فقد أصبح رفيقًا كثير الترداد .أتخذ وضعية
جلوس مريحة ،وأتنهد .لكن ثمة إشاعة في الطائفة كل عام عن فتى آخر"على هذه
الشاكلة" مطرود من إحدى اليشيفات ،ويتبع ذلك دائ ًما تعليقات تحمل ذعر قائليها
من حال عائلته التي سيصمها العار ،وأشقائه الذين سيدفعون الثمن .أف ّكر :ما الذي
يعنيه هذا الشعور الذي يراودني بأنني أعرف شيئًا لم أختبره؟ أريد أن أكتب عما
كانت تبدو عليه الحياة لهذا الفتى يو ًما بيوم.
في كل صباح يؤخذ الفتيان في اليشيفات اليهودية إلى ميكفاه ،حيث يتجردون
من ثيابهم ويقفزون في الماء سوية ،كتحضير روحي للصلوات الصباحية .بعد
ذلك ،يستحم الفتيان جميعًا في وقت واحد ،بحمام ذي غرفة تبديل واحدة .وبين
جميع تلك األجساد الذكورية ،ال بد أن الفتى الذي قفز من السطح قد شعر مثلما
سيشعر أي رجل شاب غيري الجنس لو طلب منه أن يندمج ،بأريحية ،وسط جوقة
ونهارا ،تجمع المودة واألكل والشرب والملبس
ً محتشدة من النسوة العارياتً .
ليال
والتعلم الفتيان سوية .وهم يرقصون يدًا بيد.
كان فتى اليشيفا الذي يلحقني مثل ظلي غارقًا في هرموناته ،يكابد األفكار
مؤرقًا من محط استقرار نظراته ومرعوبًا من
حرمة .كان يعاني قلقًا ِ ّ
والخياالت الم ّ
خيانة نفسه باستراق نظرة إلى أحد الفتيان .لكنّه يحب حياة اليشيفا ،ويحب تفكيك
رموز تلك النصوص المقدسة المشفرة ،واإلحساس بالوجود الدائم للرب قريبًا مثل
حبل الوريد ،والصداقة الحميمية ،ويحب الشعور باليقين مما هو صالح وصحيح.
كما أنه يحب والده .ويحتاج رضاه.
أتوغل في حياة الفتى التي يتنازعها الصراع ،شدة تفانيه المبكر ،وارتباكه
عندما توصل لمعرفة نفسه .إنني أشعر بما يشعره ذلك الفتى ،وأريد ما يريده .يتخذ
صة في حلقي .وأطلق عليه اسم ً
شكال ،ويتحول تعاطفي معه إلى غ ّ الشاب الخيالي
بركة.
في الميكفاه ،لن يخلع بركة ثيابه مع اآلخرين .ويبقى في مساحة االنتظار،
بينما يتجول الصبيان في المكان ،عراة أو نصف عراة ،بأجساد يافعة مفتولة
العضالت وشعور مبللة المعة .وفيما هو جالس في مكان االنتظار ،يقبض يده كما
لو أنه يمسك شيئًا فيها .يحاول أن يوجه بصره إلى بالط األرضية األبيض ،متمنيًا
لو ّ
أن هذا الفراغ األبيض نفسه موجود في ذهنه.
عندما ينتهي األوالد من درس التنس ،يتكدسون في السيارة ،ورائحة العرق
ي الوجوه ويتحدثون عن المدرب والنقاط واألوالد اآلخرين
تفوح منهم ،كانوا محمر ّ
في الدرس ،ال سيّما أولئك األوالد الذين ينظر إليهم أوالدنا بعين الحسد .أقود السيارة
في طريق العودة للمنزل مستغرقة بالتفكير في بركة وأنا غير مدركة بعد للتشابهات
بين حياتينا.
وفي يوم آخر قضيته على األريكة الفينيل في بيت التنس ،أقابل شلومو،
رفيق الدراسة لبركة ،وصديقه منذ األيام التي قضياها معًا في مخيم الصيف ،والذي
كان مغرما ً ببركة .يبذل بركة جهدًا ليقاوم اهتمام شلومو ،لكنه شديد التعلق بشلومو.
وفي ذات الوقت كان بركة طالبًا يحظى باإلعجاب في اليشيفا ،وهذا يجعل الحاخام،
عميد اليشيفا ،يز ّكيه أمام ممول اليشيفا الرئيسي لكي يخرج بموعد مع ابنة الرجل
بوصفه مرش ًحا للزواج .وذلك شرف عظيم يبهج بركة ،فهو يعرف أن والده سيكون
فخورا به ،وستحتفي طائفته به ،وبذلك سيكون ك َّل ما تربى أن يكون عليه.
ً
يخرج بموعد مع الفتاة التي تقول له" :إنك مختلف عن اآلخرين ".تميل
وتقترب منه ،وتكاد تضع يدها على وجهه ،لكنها توقفها على بعد همسة من اللمسة
المحرمة ،وأصابعها ترتجف.
عندما دعي ك ّل طالب اليشفيا لحضور زفاف أحد الطالب السابقين ،ترك
بركة نفسه لالنغماس في االحتفال وهو يتخيل بلوغه الوشيك من نيل عضويته
أخيرا على أخذ مكانه بينهم كبالغ .يرى
ً التامة في الطائفة كرجل متزوج ،قادر
الفتاة التي واعدها ترقص في الطرف اآلخر من الحاجز الفاصل ،ويرتمي في حلقة
الرجال الراقصين .تمرر أكواب صغيرة من جرعات الفودكا بينما ينهمك الرجال
بالرقص ،ويسلم بركة كل واحد من هذه األكواب بحماسة .وسرعان ما تتشكل
حلقات داخل حلقات من الرجال الراقصين .يترنح بركة من الكحول ،والموسيقى
الصاخبة تدق في رأسه .وفي كل مرة يبصر فيها شلومو يخطو مقتربًا من عمق
حلقات الرجال الراقصين ،حتى يلقى به إلى قلب الرقصة ليرقص مع العريس.
ومرارا ،وهما محاطان برجال يغنون ويضربون
ً مرارا
ً فيرقص االثنان ،بالدوران
األرض بأقدامهم ويهتفون لتشجعيهما .ثم يفلته العريس ويرقص مع ضيف آخر
ضا .ثم يترنح نحو شلومو ،الذي يبدو بأنه
لتكريمه فيوشك بركة على السقوط أر ً
كان ينتظره .وحينئذ يبدأ االثنان بالرقص ،بطيئًا ،ثم يزيدان سرعتهما ،يدوران مع
الموسيقى ،وهما يمسكان سواعد بعضهما ،ويبدو لبركة أن الرجال قد شكلوا حلقة
حولهما ،بدل االلتفاف حول العريس .تص ّم الموسيقى المبهجة أذنيه ،وتغمره .يرى
ضا .وبينما هما يرقصان لم يكن
الفتيان يضحكون ويشيرون إليهما ،فيضحك هو أي ً
ي شلومو على راحتيه
هناك من شيء يحس به سوى الدقات النابضة لذراع ّ
والموسيقى التي تدق في رأسه .تطير القاعة بهما ،وتأخذ الوجوه الضاحكة المشوشة
بالتالشي ،فيما تنساب الدموع على وجنات بركة.
لم أالحظ أن بركة كان في نفس عمري عندما تزوجت ،رغم أنني أعلم أن
بركة كان سيتزوج بتلك الفتاة التي كادت تلمس وجهه لو أردت للقصة أن تكتمل.
كما أنني أعرف ،وأرتعد من معرفتي ،بأن أفضل نهاية للقصة هي حيثما توقفت،
وأنني لو نويت أن أدع القصة تستمر ،فلربما سيقتل نفسه.
أوصل أصدقاء أطفالي إلى منازلهم ثم أنعطف إلى الممر المؤدي إلى منزلنا.
يركض إيتزك وشالوم إلى المنزل ،فتهتز الجدران من طاقتهما الصبيانية بينما
يلتهمان الساندويشات وعصير التفاح ويعودان راكضين للخارج إلى دراجاتهما
الهوائية .أخرج لمشاهدتهما ،وبينما يتسابقان إلى نهاية الشارع ،أشعر بأنني متيقنة
من أنه ما من حل للصراع بالنسبة لبركة.
أوائل الربيع ،بعد شهور من كتابتي لقصة بركة .كان حينا الكائن في
الضاحية مزدانًا بزهور األزالية المتفتحة ،وبالكركرديه المتبرعمة ،وأزهار
الماغنوليا المتفتحة المبهرة التي تضاهي حجم طبق .الشمس دافئةٌ ووادعةٌ في
ي تطير في السماء على شكل حرف V ّ
اإلوز الكند ّ وأسراب من
ٌ السماء الصافية،
متّجهةً إلى الشمال مثل سهام مصوبة نحو الوطن .أخرج السيارة من موقف سيارات
متجر البقالة ،وذهني منشغل بالتفكير بالخسارات الضرورية .ثم تداهمني لحظة
من الجنون االندفاعي ،أخبر نفسي ّ
أن من األفضل أن أتحرك بأسرع مما يمكنني
التفكير .أنعطف نحو االتجاه المعاكس للمنزل وأسير بسرعة نحو الجانب اآلخر
من البلدة إلى جامعة هيوستن .أركن السيارة على نحو مخالف ،وأوقف طالبين
محملين بالكتب من أجل السؤال عن الطريق ،وأرفع تنورتي ألصعد ساللم
Cullen Hallإلى حيث المكتب الفوضوي الخاص ببرنامج الكتابة اإلبداعية
للخريجين .يسألني الموظف" :أتريدين استمارة تقديم؟ تنتهي مدة التقديم خالل
يومين".
في المنزل ،أستل إحدى قصصي ،تلك القصة التي تتحدث عن مونيا ،وهي
مهاجرة روسية عجوز تعمل مشرفة على الميكفاه ً
ليال .وفي إحدى الليالي تأتي
ً
بنطاال ،وتريد الغطس في الميكفاه .فهي امرأة غير متزوجة مكشوفة الشعر ترتدي
تأمل أن تطهرها الميكفاه من سرها المتمثّل باغتصابها وهي طفلة .تشعر مونيا
بأنها مضطرة إلى مساعدة المرأة إلى الح ّد الذي يجعلها تتخطى الشريعة للمرة
األولى في حياتها .عندما تقف المرأة أمامها عاريةً في المياه ،تتلو مونيا صالتها
الخاصة ،بكلماتها الخاصة" :اليوم سأسمح لنفسي أن أكون امرأة".
أرفق القصة باستمارة التقديمّ .
لكن الصفحة الثانية من االستمارة مكتوب
فيها :اذكر كل الجوائز التي حصلت عليها واإلصدارات التي نشرتها .أترك
الصفحة فارغة .ترسل لي روزلين خطاب توصية عن طريق الفاكس قبل ساعات
معدودة من انتهاء مهلة التقديم .ثم أخبر ليفي عن األمر .ال أطلب رأيه ،أخبره
فحسب .أقول" :لن أحصل على قبول في ذلك البرنامج ،لكن إن حصلت عليه،
فسوف نتدبر األمر".
في مايو ،تصلني رسالة بترويسة رسمية تقول" :نأسف إلبالغك … "،أهمل
قراءة باقي الرسالة .أمزق الورقة ،فتتساقط مني أجزاؤها وأنصرف.
شهور دون أن نلمس أنا وليفي أحدنا اآلخر ،وها هو هنا يقوم من
ٌ انقضت
كرسيه ،ويلتقط أجزاء الورقة الممزقة من على األرض.
أقول له" :ال فائدة منها .ال تزعج نفسك".
ير ّكب األجزاء الممزقة سوية ،ثم يقرأ ما يستطيع قراءته .يقول" :انتظري،
ليس األمر سيئًا للغاية".
أقول" :لم أعد أهتم".
إنك على قائمة االنتظار ".ثم يأخذ بالقراءة بصوت
يجيبني" :كال ،انظريِ .
عال" :نرجو منك االتصال بنا حتى نعرف أفضل طريقة للوصول إليك ".أرجع
للوراء ،وأنا أخطو مقتربة من حرارته وثقله .آخذ ما تبقى من الرسالة من بين
يديه ،وأصابعي تالمس أصابعه التي كانت باردة وخشنة وجافة .أتطلع إلى عينيه،
كنت؟ أقول" :أوه .آوه".
وأفكر :أين َ
أواخر أغسطس ،وأنا أصعد ساللم بناية ( )Roy Cullenفي جامعة
هيوستن تتعثر أقدامي بالتنورة وأكاد أسقط .كنت متوترة للغاية .ثم أصل إلى بسطة
الوصول .كان المكان متسخا ً
قليال ،لكنني وصلت .أين األبواق؟
اقترب نحوي رجل عجوز بشعر قصير داكن وخدود مترهلة وعيون داكنة
ً
حامال في إحدى يديه صغيرة ،وكانت تبدو عليه عالمات الصرامة واالنهماك،
حقيبة أوراق وفي األخرى حزمة غير مرتبة من األوراق .قال" :وجهك ليس مألوفًا
لي".
عا لرجل ربما للمرة األولى في حياتي
فأجبته" :نعم ".ثم مددت يدي طو ً
كراشدة .لكن طبعًا كانت يداه مشغولتين ،لقد كانت تلك لحظة محرجة.
سألني" :ما اسمك؟"
"ليا الكس".
"أوه ،لدي قصتك القصيرة هنا في مكان ما بين األوراق "،يقول ذلك وهو
يلقي نظرة خاطفة على األوراق التي على وشك السقوط" .لدينا برنامج إرشاد
جديد .وأنا سأكون مرشدك ".كان مرشدي هو الروائي دانييل ستيرن.
أبدأ الدراسة ،ومن ضمنها الحلقات الدراسية لدان ستيرن عن كتابة الرواية،
فيأخذ المجتمع الحسيدي بالتنائي عني .أتوقف عن ارتياد الكنيس وحضور تجمعات
الطائفة .وعندما أصادف أيًّا من نساء الطائفة ،فإنهن يبدون فخورات بي ،لكن يبدو
أن هناك توقعًا واض ًحا منهن بأنني سوف أستخلص من الجامعة فقط تلك المعرفة
التي أحتاجها ألطور مهاراتي من دون الخضوع لألفكار غير المحلّلة .فأنا سأكون
عنصر العرض للطائفة ،ألري العالم كيف يستطيع الحاسيدم أن يكونوا متعلمين
ضا هو ما يثق به ليفي ويأمله ويتوقعه
من دون التفريط بديننا .وأنا أتوقع أن هذا أي ً
مني.
أوهّ ،
إن من المذهل أن تجابه نوعية الفكر واإلبداع التي تنشأ في ظ ّل عدم
ي رقابةّ .
لكن هذا المكان فيه حرية جامحة .لقد كنت أريد أن أترفع عن وجود أ ّ
حياتي إلى مكان من دون تضييق ،لكن هذا المكان بمثابة الستراتوسفير.
وفي إحدى الليالي ،أشتغل على مقالة نقدية لصف دان ستيرن ،إذ ينبغي علينا
أن ننقد عمل أحدنا اآلخر كل سبوع .لكن القصة التي أعمل عليها تكدّرني .تجرح
الشخصية في القصة نفسها وتغوص في حالة حلم يكون األلم فيه نشوة .أنا حانقة.
هذه هي القصة الرابعة التي أقرؤها عن إيذاء النفس في هذا الفصل الدراسي .ال
أستطيع أن أفهم كيف يستخدم أحدهم األلم لمحاربة األلم ،وال أستطيع تصور تشويه
المرء لذاته لتصبح عدوه ،وال أستطيع أن أبصر حياتي الخاصة.
باكرا مثل عفريت ،أخذت ورقة فارغة وكتبت
في اليوم التالي ،ذهبت للدرس ً
عليها بحروف كبيرة( :مرحبا بكم في ورشة عمل دان ستيرن إليذاء النفس).
وقبل أن يصل أحد ،أعلّق الالفتة على الجهة الخارجية للباب .بفعلتي هذه ،أقوم
سرا بتوبيخ الطالب بالطبع ،لكنّني أي ً
ضا أواجه مشقة في التكيّف مع حالة انعدام ً
الرقابة .الهواء متخلخل للغاية-وأنا أعاني من أعراض انخفاض الضغط الجوي.
الحقًا ،لن أشعر بالفخر من تعليق تلك الالفتة ،من فرض الرقابة على الطالب بهذا
الشكل .يصل الطالب ،ويضحكون على الالفتة ثم يتخذ كل منهم مكانه في مقعده.
أخيرا يصل دان ،يبدو عليه الغضب ويمزق الالفتة وهو يقول" :من فعل
هذا؟" ال ينطق أحد بكلمة .أفكر ،لقد جعلتهم يضحكون على أنفسهم على األقل .ما
من مشاهد تجريح تظهر في القصص المستقبلية.
يشمل البرنامج دراسات مكثفة في األدب والنقد ،وأنا مبتدئة ،غرة وطموحة،
ترتدي التنورة والشال .أقرأ خمسين كتابًا في السنة األولى وأسجلها بقائمة .أمأل
دفاتر المالحظات بخربشات في الهوامش :اقرئي فوكو! ابحثي عن الهيمنة
،hegmonyعن الفريد من نوعه ،sui generisعن نظرية المعرفة
.epistemologyتفتر عزيمتي أحيانًا ،أتكدّر من حماسي ال ِغ ّر ،لكن فتوري ال
يدوم .فهناك الكثير ألتعلمه.
أحضر حلقات دراسية عن الرواية مع روبرت بوزويل (ندعوه بوز) ،الذي
يتحدث أسبوعيا عن أهمية السخرية في كتابتنا .في المرة األولى التي أسمعه فيها
يقول تلك الكلمة ،سخرية ،أذهب للمنزل وأحدق ببالهة في تعريف الكلمة الواضح
جدا ً في أحد القواميسِ .لم ال أستطيع فهم هذا؟ ِلمَ ال يمكنني أن أتعرف على كلمة
السخرية المكتوبة على الورق أو أن أتخيل كيف أكتبها؟ يكرر بوز التطرق للمسألة
عا بعد آخر ،وتستحيل مشكلتي مع السخرية إلى أزمة سرية صغيرة .يقول إن
أسبو ً
السخرية هي صدام بين األضداد ،عندما يقول شخص شيئًا ولكنه يعني شيئًا َ
آخر،
ضا صري ًحا مع األسلوب المحدد مسبقًا-
أو عندما يتعارض وقوع حدث ما تعار ً
حدث كوميدي في جنازة ،ال مباالة بليدة وسط حشد صاخب ،عبارة كراهية منطوقة
بصوت رقيق .يحبطني ذلك ،تحبطني الطريقة التي يطلب مني فيها أن أتبنى ضدين
في اآلن ذاته.
وكثيرا على سحق
ً كثيرا
ً يحدث هذا عندما أبدأ بإدراك أن عقلي قد د ِ ّرب
ي أن أتعرف على مثل
األفكار أو المشاعر المتناقضة حتى أصبح من الصعب عل ّ
هذه التناقضات .لقد علموني أن أعتقد بأنه إذا ما كان الخيار(أ) صحي ًحا ،فيجب
بالضرورة أن يكون الخيار (ب) خطأ ً .ال يوجد غير سبيل واحد ،ويجب تصنيف
شرا .أف ّكر :هل يمكن أن يكون
خيرا أو ً
ً كل شيء ليكون إما صحيحا ً أو خطأ ً.
الخياران صائبين في ذات الوقت ،من دون صراع أو أحكام أو تصنيفات؟ هل
أقر بذلك ،أو أن أكتبه؟
يمكنني أن ّ
ي األبعاد ،مثل
إن محاولة فهم كل هذا تجعلني أشعر أن عقلي بدأ يصبح ثالث ّ
شخصية كارتونية مرت فوقها مدحلة ،ثم تهادت صوب العالم ،مصدرة طقطقة
وهي تنتفخ لتصبح ثالثية االبعاد ثانية .طق .طق .طق.
يتغير العالم .يصبح الناس مجموعات مدهشة من التناقضات من دون
تصنيفات وال أحكام .وكذا الحال مع األحداث .لم أعد بحاجة إلى استخالص
االستنتاجات؛ ال أريد سوى أن أقترب وأتفحص كل الخيوط واأللوان والمفاجآت.
هناك الكثير جدًا من القواعد الجديدة في الكتابة .وجريًا على العادة ،أعمل
بدايةً على تعلم القواعد واتبّاعها .ومع ذلك أبدأ تدريجيًا بفهم أن هذه القواعد مختلفة
عن تلك القواعد التي ما تزال تحكم حياتي .أنا أمتلك هذه القواعد للكاتبة التي في
داخلي ،وهي ال تمتلكني .فأنا أستطيع أن أتالعب بهذه القواعد وأن أكسرها .وذلك
يحدث عندما أصبح كاتبة .وبالغة.
إنني أتغير من نواح أخرى .ربما سبب ذلك التغيير هو قراءة كل تلك الكتب
التي يحمل كل واحد منها وجهة نظر أو فلسفة مختلفة ،ولكل منها جوهر مختلف،
فتش ّكلت في عقلي مجموعة جديدة من األصوات ،وليست أصوات مجموعة في
اتساق تام .ربما السبب هو كل ذلك الوقت الذي أقضيه خارج المنطقة الحسيدية في
حرية أكاديمية غير مقيدة .ال أعرف على وجه التحديد ،لكنني اآلن أستطيع رؤية
أن الحياة الدينية قد مألتني بقناعات مبالغ في عظمتها ،وجعلتني أعتقد بأنني كنت
أعرف كلمات الرب وأفكاره وأنني قد غيّرت العالم ً
فعال بقدحة عود ثقاب أو بعقد
أربطة األحذية بالطريقة الصحيحة .واآلن ال أشعر إال بكوني ضئيلة وعديمة
التأثير .أهذا ما يكون عليه العالم في الخارج؟ ما من سبيل واضح ،وإنما خليط
هائل من االعتقادات واألحداث والشخصيات والرغبات المتعارضة فحسب .وما
أثرا
من شيء أفعله سيغير هذا؟ سأموت ،كأنني نقطة على شاشة رادار ،ولن أترك ً
على اإلطالق .وال يهم كيف أعقد رباط حذائي.
لكن ،بعد كل هذه السنوات التي عشتها في األسود واألبيض ،ما أزال أجهل
تما ًما حتى ما هو اللون.
على الرغم من أنني أستطيع أن أرى التناقض والسخرية أينما ألتفت ،فأنا
غير مهيئة للتعامل معهما .في العالم العلماني ،أنا طفلة ،أو مهاجرة جديدة ،من
دون بصيرة وال نقاط مرجعية.
في الصف وفي استراحة الطالب ،أساير األحاديث ،لكنهم يتحدثون عن
األفالم وبرامج التلفزيون والسياسة وأنا أجهل معظم ما يتحدثون عنه .يلتقي الطالب
ويقضون أوقاتًا في البارات والمقاهي والمطاعم ،حيث ال أعرف ما أطلب أو كيف
أحسب قيمة الضريبة واإلكرامية.
ألقي نفسي في الدراسة بينما أحاول أن أواكب متطلبات البيت واألطفال،
كثيرا .ابحث عن علبتين من
ً وتوجيه أكبر األوالد عبر الهاتف ،وهذا ما أقوم به
الهوت دوغ في الثالجة .اضبط الفرن على درجة حرارة .350راقب الفرن .وفي
ضا كما لو أنني قد
المنزل ،أقوم بواجبي البيتي كما لو أنه أمر حيوي ،لكن أي ً
تعرضت للسرقة.
أخيرا من الرد
ً الذي أتمكن فيه
أنا (مشيرة بإصبع اتهام) :اآلن بت أعرف أنكم ما أريتموني من العالم إال ما
أردتم لي أن أراه .لقد قلتم لي أن العالم مليء بالدنس واألكاذيب .لقد جعلتموني
أضيّع الحياة.
أخبرناك -عن
ِ الجوقة اإلغريقية ذات اللهجة اليديشية :لقد أخبرناك -لقد
الخنزير الذي يظ ِهر حافره المشقوق ليخدعنا كي نعتقد بأنه حالل .ليست األشياء
على ما تبدو عليه .نحن قلنا ،الزمي الحذر .الشر مختلط مع الخير ،والخير مختلط
مع الشر .ال تدّعي أننا قلنا لك عكس ذلك.
أنا :ثم واسيتموني بالزعم أن الواقع كان مجرد حلم رديء ،وأن حلمكم
بالكمال هو الواقع .لقد فعلتم هذا بي لكي تجعلونني أدير ظهري للعالم وأعتنق
توراتكم .وها أنا هنا قد فاتني الركب.
الجوقة اإلغريقية ذات اللهجة اليديشية :لكننا قلنا إن للحقيقة مظاهر كثيرة.
ال تتهمينا باألفكار المب ّسطة.
[تختفي الجماعة]
مر أكثر من خمسة وعشرين عا ًما مذ قمت أنا وآنا ذات مرة بالغناء مع فتاة
ّ
تدعى جانيس كانت قد جاءت إلى تجربة معايشة الساباث .تناغمنا الثالثي في تلك
الليلة ،األصوات الممتزجة بالبراءة والثقة المشتركة ،النفوس التي تض ّج بمخططات
شبابية .كم كان لقاء الصدفة ذلك مقتضبًا ،ورغم ذلك ،عندما ميّزت جانيس في
متجر البقالة ،ناديت باسمها وأسرعت نحوها قائلة "مرحبا" مفخمة .تبادلنا أرقام
الهواتف ،وبعد عدة مكالمات تلفونية طيبة ،لكن موجزة ،أخذت "قصة مونيا" مرة
أخرى من الحافظة المشبكة وأرسلتها إليها .التقينا لشرب القهوة بعد فترة ليست
بقي ليفي في المنزل مع األطفال ،وانغمست في نوع
بالطويلة في أحد اآلحاد ،بينما َ
من حديث الصديقات الذي لم أعهده مع أحد من قبل في الطائفة أو في الجامعة.
مجرد رغبة ،أخبر نفسي ،بعد أن شعرت باالنجذاب نحو الحرية .ال تنسي من
إنها ّ
أنتِ.
اإلرهاق باد في عينيها ،والتقطيب واض ٌح على جبينها ،تبدو جانيس كما لو
ضا بحاجة لصديقة .كم هي مختلفةٌ طرقنا التي سلكناها! لقد أصبحت جانيسأنها أي ً
مصورة صحفية تجوب العالم ،متزوجة ولها ابن .تشتغل في التصوير لصالح إحدى
المؤسسات ،لكنها تعمل فنانةً أي ً
ضا .نتحدث عن األطفال وصناعة الفن كما لو أننا
نستأنف صداقةً قديمة ،صداقة لم نح َ
ظ بها يو ًما .ال تفوتني هذه المفارقة.
تقول" :اسمعي .لقد دعاني القائمون على ذلك الغاليري المسمى Diverse
Worksإلقامة معرض لصوري".
أجيبها" :رائع! "،لكنني ،أتراجع للخلف ً
قليال .أنا خجلة ،وغيورة بعض
الشيء.
تقول" :إنه حدث مهم .سيكون لدي حائطان ألمألهما بصوري ".تميل لألمام
وتضيف قائلةً" :لقد قرأت قصة مونيا ،لكن أتدرين ،لطالما ظننت أن قوانين الميكفاه
بالية وتنضح بكراهية النساء .لم أتخيّل أن احدًا قد يستخدم الميكفاه على طريقته
قصتك".
ِ الخاصة -خارج نطاق الشريعة اليهودية -مثل تلك المرأة في
"ماذا تريدين أن تقولي؟"
صورا في الميكفاه".
ً "أريد أن ألتقط
أمر شديد الخصوصية .لن يسمح لك أحد"- أجيبها" :ماذا؟ ّ
لكن ذلك ٌ
"ال أريد أن أنتهك خصوصية أحد ،سأجلب فتيات عارضات وأجعلهن
يحاكين العملية".
ٌ
عاريات في الميكفاه ،لكن لماذا؟" ٌ
عارضات أقول متسائلة" :عارضات!
تزداد هدو ًءا وتجيب" :اللتقاط الصور .تلك طريقتي في الفهم ،وأنا أريد أن
أفهم".
فأجيب" :لكنك ستبللين كاميرتك!"
وترد ضاحكةً" :ستتبلّل بشدّة ،ال سيّما أنني سأجلس تحت المياه".
فأجيبها" :حسنًا ،وأي حاخام يحترم نفسه ذلك الذي سيسمح ِ
لك بأن تلتقطي
صورا عارية في ميكفاته؟" نضحك كلتانا .ثم أعود في عقلي إلى الميكفاه ،عينان
ً
أطراف وشعر طاف،
ٌ مفتوحتان على الشقوق في تلك المساحة البينية الزرقاء؛
عليك أن تذهبي للميكفاه
ِ فقاعات ،صوت دقات القلب .أقول لها" :قبل كل شيء،
تتعرفي على المكان".
ّ بنفسك .يجب أن
"أود ذلك".
ثم نتبادل األفكار ،ونحن مفعمتان بالحيوية والحماس.
تسأل" :هل يمكنك أن تساعديني؟"
أتسائل .يمكننا أن نذ ّكر الحاخام بأن صور الميكفاه الجميلة قد تمنحها سمعة
طيبة في العالم ،فهم دائ ًما ما يبحثون عن أدوات جديدة للدعوة .سيكون على جانيس
ي.
الحذر بالتعامل مع العر ّ
َ أن تتو ّخى
أقول" :لعلني ما أزال أحظى ببعض المصداقية ،لذا فسأرتدي الباروكة
وأقدمك للحاخام فرومان".
ِ
ت طوال الطريق إلى المنزل ،كنت مفعمةً بالحياة ،وأف ّكر في ّ
أن الصديقا ِ
أفكارك جمو ًحا .ال أعرف شيئًا عن النساء العظيمات الالتي
ِ جربين أكث َر
يجعلنك ت ّ
ِ
جراء حصولهن على القوة من الصداقات الصدوقة مع نساء أخريات
غيّرن العالم ّ
ي مثل هؤالء الصديقات .لم أتصور بأن هذه الفرصة للعمل مع
فحسب؛ إذ ليس لد َّ
ضا بأنني أستطيع أن أخلق حياتي الخاصة .أنا أعلم فقط ّ
أن هذه جانيس قد تشي أي ً
األفكار تتداعى بطريقة ما بينما أقود السيارة إلى المنزل .أنزل نوافذ السيارة واشغّل
أغاني ريفية وغربية هادئة بصوت عال .أقرر أن بمقدوري أن أتحدث إلى ليفي، َ
أن أتحدث معه حديثًا حقيقًا .سوف أجعله يتغيّر! سأخبره بما أحتاجه ،سأفتح فمي!
سأحمله على أن يض ّمني ،ك ّل يوم ،وأن يعينني أخيرا ً على شؤون المنزل واألطفال.
عليه أن يتغيّر ،ألنني ال أستطيع أن أتغيّر .يتعين عليه أن يساعدني على أن أتماسك،
ألنني بدأت أز ّل .لكنه سيتغير .عل ّ
ي أن أخبره فحسب .سيفعل ذلك من أجلي ،من
أجلنا.
أصل إلى المنزل وأتوجه إلى الغرفة الخلفية ،حيث أصادف ليفي وهو فيِ
طريقه للخروج .أسد مدخل الباب مباغتةً إياه بقولي" :انتظر دقيقة ،علينا أن
نتحدث" .بعدئذ ،أنا وهو ما بين الطاولة التي أعمل عليها في الليل والسريرين
المنفصلين ،ثرثرتي الالواعية المندفعة مقاب َل تململه الغريب ،وأسكب سنوات
متراكمةً بجرة نفس واحدة" :أنا لست سعيدة ،غاضبة ،وحيدة ،عليك أن تتغير،
أحضنّي ،ساعدني بشؤون المنزل واألطفال ،أظهر لهم الحنان ،ال تجعلهم يخافون
باكرا ،اتصل ك ّل يوم ،أخبرني أين
منك ،أخبرني إنك تحبني ،قم بدورك ،عد للبيت ً
َ
نهر من الكلمات. ٌ
سنوات من الكبتٌ ، كنت ".أواصل وأواصل،
عيناه تستقران على موضع ما أعلى رأسي .يتجهم ،يبدو مشتت الذهن .يضع
يده على جانب عنقه.
إنك ال تصغي ،هذا األمر مهم .إنه جوهري ،إنه يتعلق بزواجنا".
أقولَ " :
فيرد" :ليا".
بإخبارك منذ سنين ،شيئًا عنّا ،عني ،وال أعلم ِل َم لم أقم
َ "لطالما كنت أرغب
عة معكّ ،
لكن بذلك ،ال أعلم لم عجزت عن ذلكّ ،
لكن هذا مهم ،أعلم أنني كنت َج ِز َ
عليك أن تتغير ،سأعمل معك على ذلك ،هذا أمر مهم".
َ
يقول" :ليا .توقفي".
يستدير ويذهب إلى الحمام ،وأنا أتبعه ،منزعجة ،ألجده يحدّق برقبته في
المرآة التي فوق المغسلة .أقول باستياء متزايد" :ال تتهرب من الرد" .يحضرني
إدراك لحظي مح ِبط بأن المرء ال يتغير في دقيقة .أقول له" :من فضلك" وبعدئذ:
"ما ذاك الذي على رقبتك؟ بثرة؟ أهي أهم من حياتنا؟"
ً
مركزا في المرآة وهو يقول لي" :إنه ور ٌم ،وهو ي ،وبقي
لم يتطلع إلى عين ّ
حر َجةً ،خائفةً ،عاجزة ً.
ي نظرة ً م َ
أكبر حج ًما من األمس بمرتين ".ثم ينظر إل ّ
ي ،أزيز مكيّف الهواء ،خوفه.
يتوقف كل شيء .بوسعي سماع الهواء في أذن ّ
أم ّد يدي أللمس ذراعه ،لكنني لم أتطهر في الميكفاه بعد ،فيتقهقر هو نتيجة
ذلك كر ّد فعل تلقائي .سترتبط دائ ًما هذه الصعقة الحارقة للذنب ،المنبثقة من لمستي
بم تحس؟"
المحرمة المدفوعة بالتعاطف ،بلحظ ِة االكتشاف األولى هذه .أهمس لهَ " :
فيقول" :أظن أن هذا قد يودي بحياتي".
الفصل العشرون
في البداية ،أشعر باالنعتاق .الـ" " yene machlaأو "ذلك المرض" في
اليديشية ،الذي لن ينعم عليه الحسيدي الخائف باسم؛ ّ
ألن االسم قوة .ينطقه األطباء
أتفوه بالكلمة المحرمة.
بصوت عال في وجوهنا ،وأشعر باالنعتاق .بإمكاني أن ّ
أريد أن أذرع المكان أمام الكنيس جيئة وذهابًا وأصرخ بالكلمة :سرطان سرطان
سرطان سرطان سرطان سرطان سرطان .لم يعد هناك من مجهول ،لم يعد هناك
عدو خفي .إنني أراك ،أيها السرطان .أعرف أين مخبؤك وما تفعل وإلى أين
من ّ
تذهب وكيف سننال منك .أعرف اسمك .نحن هنا اثنان مقابل واحد ،أيها السرطان.
سوف نحاربك سوية ،أنا وليفي ،سنحاربك ،سترى ذلك.
تنبض العقَد في عنق ليفي وكأنها قرقعة سيوف .وبعد دقائق من تلك النظرة
المذعورة ،اتصلت بطبيبنا المختص باألنف واألذن والحنجرة ،وألححت عليه أن
يعاين ليفي ،فرآنا في ساعته المخصصة للغداء .وفي اليوم التالي أجرى ليفي
خزعةً ،ث ّم ،وخالل أسبوع ،بدأ بعالج سرطان الغدد اللمفاوية في مستشفى أم دي
أندرسون في هيوستن .كان السرطان قد انتشر ،وال يمكن معرفة طول المدة التي
بقي فيها عدونا مترصدًا يدبّر مكيدته.
أنسى مواجهتي مع ليفي ،أنسى حياتنا المجدبة ،الوحدة والغضب اللذين
يالزماني وأنا أنام وحيدة في فراشي .أنسى كلمة مثلية ،وأنسى أن الحياة تجري
في ثالثة أبعاد ،أنسى الدراسة وكل ما كنت أتعلمه ،أنسى كل شيء خال أنني ال
أريده أن يموت .اإليمان ،عدم اإليمان ،ما من شيء مهم ،عدا أننا اآلن نواجه مهمة
شاقّة وأن حياتينا متشابكان ،وأنا أظن بأن هذا هو المقصود بالحب.
يرغمني السرطان على أن أتخيّل الحياة بدونه ،ترف يثير السخرية ،وأنا
خائفة من أنني قد أضطر حقًا لعيش تلك الحياة .يستتر عدونا الجديد في الظالل.
لقد تجاهلتك ،يا ليفي ،العائل الوحيد لتسعتنا ،وماذا سأفعل إن َّ
مت؟ فأنا ال أعرف
البلد ،ال أعرف كيف أعمل ،أو في أي مجال .سيلقى بي مع أوالدي إلى العالم،
عاريةً ووحيدة .أقرفص ،أجفل كلما لمحت حركة بطرف عيني .سنجر معًا هذا
الخصم إلى حيث الضوء ،ليفي ،في الطليعة .اجمعوا األسلحة ،استعدوا اآلن،
تحركوا.
اللمفومة الالهودجكينية ،نوع عنيف ،خلية مختلطة ،جريبية ،وفي المرحلة
الثالثة .يعاني ليفي من األلم في حنجرته وعينه منذ شهرين ،هل وصل المرض إلى
دماغه؟
سهم حول طاولة غرفة الطعام ،مكان
نجمع األطفال الذين في المنزل ،ونج ِل َ
الساباث .ماذا ستكون هذه المائدة من دون وجوده على رأسها؟ يقوم ليفي بإخبار
ليبل وأفرامي وسارة وإيتزك وشالوم بأنه مصاب بالسرطان .يخبرهم بأنه ال يدري
ي وعود .يجيب عن أسئلتهم التي تغلفها
إن كان سيعيش أو يموت ،وال يقطع لهم أ َّ
صبورا وحنونًا .ثم يتصل بليبي ومندل ،اللذين كانا بعيدين في
ً الصدمة .كان
مدرستيهما ،ويبلغهما الخبر مع إرشاد حكيم وحنون .أراقب وأتساءل :أين كان
يختبئ هذا الوالد الحكيم والحنون كل هذه السنين! ّ
لكن هذا لم يعد مه ًما اآلن ،إنهم
يتعلقون به ،يتشبثون بكلماته.
أنا أ ٌّم ،وال أستطيع أن أحمي أطفالي .من المحتمل أن يموت والدكم.
نخبر عائلتنا وأصدقاءنا ،فيتوافد علينا الناس زرافات ،ومن ضمنهم األطباء
الذين يقولون" :أوه ،لمفوما ،إن نسبة الشفاء منه عالية .وثمانون بالمئة من
المصابين به يتشافون!" لمفوما فقط؟ حسنًا ،لقد أصاب عمتي صوفيا قبل ثالث
وعشرين سنة!
وفي غضون ذلك ،في يومه األول من العالج ،يحاول ليفي أال يصرخ عندما
يغرز األخصائي أنبوبًا من خالل وركه إلى عظمه ،ثم إلى أعمق من ذلك لسحب
النخاع" .آسف جدًا ،سيد الكس .فالتخدير الموضعي ليس له تأثير كبير عند ذلك
العمق ".أقف بجانبه وأنظر في عينيه ،هذا الرجل الذي أحبّه في الوقت الراهن،
والذي هو زوجي ،الذي ال أشتهيه لكنني أبدو بحاجته.
يقول" :أظن أن األلم يصبح نسبيًا مع مرور الوقت".
هذا هو ليفي ،من طبعه التح ّمل .أستشف اآلن أن السرطان سيقوي إيمانه،
إنه يصلي.
وفي المنزل ،ألتقط ديوان ِشعر لروبرت لويل وأعثر على التالي" :يحيا
ٌ
إيمان يحاول أن يحيا من دون إيمان". األمل في الشك.
لكنني بحاجة ألصلي.
فَقَ َد لويل ،الذي ترعرع في الكنيسة ،إيمانه وعبّر عن حزنه "على التراتيل
التي تغني للسالم وت َعظ باليأس".
ضا أسمع التراتيل بنفس تلك الطريقة التي تراها مزدوجة النغمة،
إنني أي ً
لكنني ما أزال بحاجة للصالة.
ضا "مشدودًا إلى التراتيل…بسبب الطريقة التي ألجمت فيها
كان لويل أي ً
وفرت فيها "منفذًا للروح".
الظالم" الطريقة التي ّ
"استمع إلى األجراس!" كتب لويل قاصدًا بها أجراس الكنيسة التي تجتذب
المؤمن .أعتقد أنه ليس بوسعي منع نفسي من سماع األجراس ،بغض النظر عن
اإليمان من عدمه.
إن الرب الذي أريد أن أعصيه هو نفس الرب الذي ما أزال أعتقد بأنه
تلوح
المسيطر على زمام األمور .كم أنا منافقة وسفيهة ونمطية :اليهودية التي ّ
بقبضتها في وجه الرب ،لكنها في ذات الوقت ال تشك بوجوده ،اليهودية التي تعزو
الكثير الى سيطرة الرب ،لدرجة أنه ال يتبقى من خيار سوى أن نجابه مدى ضآلة
َ
جهودنا وجنون خرافاتنا.
لكنني عشت فترة طويلة جدًا في ظل دين أرثودوكسي ،وفي ظل التعقل الذي
يتبناه لويل بخداع النفس؛ فال يمكنني أن أتصور أن ربنا قد يكون مجر َد مفهوم
واحد من ضمن مفاهيم عديدة .عالوة على أنني ال أعرف كيف أعيش لحظةً عصيبة
وأن أتقبلها فحسب .وعلى األقل ،فإنني ال أستطيع أن أتخلى عن احتمالية تحقّق
آمالي إذا رجوت تحقّقها برغبة وإلحاح شديدين .لكنني في ذات الوقت لم أعد
أتفوه بكلمات الصالة المكررة مثلما يفعل ليفي ،وال أستطيع أن أصدّق
أستطيع أن ّ
المرة.
أن مجرد تالوة الكلمات قد تغيّر الحقائق ّ
ومع ذلك ما أزال مشدودة إلى األجراس ،وأحد هذه األجراس هو ليفي .إنه
جز ٌء مما يبقيني صامدة متشبثة .يرغمني السرطان على أن أعيد النظر في ديني
كتب
َ وزواجي -إنهما شيء واح ٌد -قبل أن أهجرهما ،ورغم ذلكّ ،
فإن ذلك ،كما
يجلب لي حنانًا حقيقيًا ،وإنما القلق فقط".
َ لويل "لن
يشدّني اإليقاع والشعر المألوفين لكتاب الصالة العبري ،النغمة التي تجلب
ّ
أنشق. البهجة ثم الحنين .أبكي على الكلماتّ ،
لكن البكاء ال ينفعني ،إنني
تبقى الحاجة للصالة خالل تلك األيام األولى ،خالل ساعات الجلوس الطويلة
في مستشفى السرطان ،محاطة بآالف الناس المصابين بنفس المرض ،خالل
الجوالت األولى من العالج الكيماوي ومحاوالت ليفي للتقيؤ .تظل تلك الحاجة حتى
أذهب للميكفاه وأقف في الماء ،بال حول وال قوة.
المكسوة بالبالط ،صدى
ّ في الماء ،ليس هناك من شيء متبق سوى الجدران
قطرات الماء المتساقطة ،الصورة الغبشاء ألطرافي .لن يكون هناك جنس بعد
الميكفاه ،وال أم ٌل في ممارسته أي ً
ضا .لم تبقَ عندي شهوة ،عند كلينا ،لكنني هاهنا،
مبللة وعارية ،أنا ممتلئة بالحاجة لمواجهة إرادة غير مفهومة.
إنني بحاجة للصالة .أحتاج لكلمات تضع نهاية لالنهاية ،وتضع الهائل في
حجمه الطبيعي ،كلمات تنتشلني من الغ ّم .ليس مه ًما ّ
أن حاجتي للتواصل مع القوى
تهز حياتي ليست ً
دليال على وجود الرب أو على فاعلية الصالة ،أو ّ
أن حاجتي التي ّ
تشهد على أنني مجرد إنسانة عارية وتعيسة ومبللة ال تتقبل الظروف الخارجة عن
ي من ذلك .ال يهم أنني لم أعد أؤمن بالصالة .أحتاج للصالة؛
سيطرتها .ال يهم أ ٌّ
ألنني ضعيفة ،ألنني حيّة .أغطس في الماء وأستسلم.
إنني أم .سأحافظ على سالمة الجميع ،سأحافظ على بقاء كل شيء على حاله.
ثبات الحال أمان .أصل إلى متجر البقالة في السابعة صبا ًحا ،شاكرة ً الربّ على
متاجر البقالة التي تبقي أبوابها مفتوحة طيلة أربع وعشرين ساعة ،وأغذّ السير
عبر ممرات المتجر حتى أمأل ثالث عربات ،إذ سنقضي الكثير من الوقت في
ألوح
بقاء الجميع بحال جيدةّ .
المستشفى بعيدًا عن المنزل ،ويجب أن أتأكد من ِ
بقائمة التسوق بينما أسير ،القائمة التي أعدّها ليبل وأفرامي في الليلة الماضية.
سنجتاز المحنة سوية .تتعدى الفاتورة مبلغ األربعمائة دوالر ،فيقول لي المدير:
"في المرة القادمة اتصلي بنا فقط ونحن سنقوم بالتوصيل بال مقابل".
أسرع بالعودة إلى المنزل ويلتقيني أفرامي خارجه ،ينزل األغراض ويبدأ
بترتيبها .إذا شغلت نفسي بإنجاز المهام اليومية بسرعة كافية ،فإن األلم سيفارقني.
سارة مستعدة للمدرسةَّ ،
لكن الصغيرين يبددان الوقت ،بال أحذية ،بال فطور ،لذا
أحضر وجبات الغداء ،وأضع الفطور ،لكننا نتلقى ثالث
ّ أحملهما على التحرك،
مكالمات هاتفية مختلفة من عيادات األطباء .يغادر ليفي إلى المستشفى من دوني.
ي أن اتدبّر توصيل األطفال للمدرسة ،وما يزال إيتزك لم يرتد حذاءه بعد ،وأنا
عل ّ
متخلفة عن موعد قسطرة ليفي في المستشفى ،وعن موع ِد محاضرة حول التعامل
مع أنبوب القسطرة أنا ملزمة بأخذها مرتين أن كنت سأتولى العناية به .وأنا أتولى
العناية به.
أصل المستشفى فأجد أخصائيًا يصارع إلدخال أنبوب قسطرة من تحت عظم
ومباشرا إلى قلبه ،فأف ّكر :لكم هو عجيب
ً قصيرا
ً الترقوة إلى وريد يش ّكل طريقًا
إيجاد ذلك الطريق .على الرجل أن يتخطى شريانًا من دون ثقبه ،من دون التسبب
ي .الرجل هادئ وواثق من نفسه ومراع ألسس النظافة ،لكنه يواجه
بتسريب أو ل ّ
صعوبة .يهتز ويسحب األنبوب ،ويغدو ليفي شاحبًا.
بعد ذلك ،يتوجه ليفي إلى عيادة أخرى في المستشفى وأنا جالسةٌ في كرسي
كبير وناعم في صالة االستراحة .أسند رأسي على المسند ،يرتخي كتفاي ،وأطلق
النفس الذي كنت أحبسه منذ الصباح الباكر ثم أتفقد هاتفي .أجد أن جانيس قد اتصلت
بي ،لكنني أزيح وجهها الصادق ،محادثتنا عند تناول القهوة ،قناعتي الجديدة .ال
يوجد متسع سوى لليفي .ال أعاود االتصال بها.
ً
بدال من ذلك رفعت حقيبتي القماشية وسحبت منها مسرحية حازت للتو على
جائزة البوليتزر ،عنوانها " ،"Witوهي تحكي عن بروفيسورة إنكليزية تحتضر
جدارا من األفكار المعقدة
ً بسبب السرطان .لقد قضت المرأة حياتها وهي تبني
حولها ،وانخرطت في تحليالت قصائد التأمالت المعقدة لجون دون عن الموت وما
بعدهّ .
لكن السرطان الذي أصابها جعل الحاضر المادي حقيقيًا على نحو كاسح،
ولم تدرك إال اآلن ،أن البساطة الدنيوية التي دائ ًما ما ازدرتها-والتي توشك أن
تفقدها-هي الحياة الحقيقية .اآلن فقط ،أدركت أنها لم تعش أبدًا.
تتشنج حنجرتي .كيف ستكون الحياة من دون هروبي إلى الفلسفة والصالة؟
يبدو بأن الكلمات التي نسجتها في رأسي ،وتلك األفكار الدينية التي ما زلت أتشبث
بها ،كانت عوائقَ أمام العيش.
ستكون هناك تحاليل أسبوعية للدم خالل أشهر العالج الكيمياوي التسعة.
نتحرق سوية بانتظار استالم النتائج .أراقب
ّ المسؤوليات المتعلقة بالمراقبة الشاملة:
تضاءل عدد خاليا الدم البيضاء حتى يصبح مثل فتى الفقاعة حين يترك خارج
تطرف
َ إياك أن
خيمته ،حتى تظن بأن العالم سيقتله قبل أن يفعل السرطان ذلكِ .
عينك للطبيب متبلّد العاطفة الذي يصرح بأريحية أن هذه ليست لمفوما اعتيادية.
أتساءل فقطِ :ل َم ال يختفي هذا السرطان أمام السم الذي يتدفق المزيد والمزيد منه
إلى جسده .و ِل َم تسبب القسطرة حكة؟ من األفضل فحصها للتحقق من االلتهاب.
آخر.
عندما تصيبه الحمى ،يتوجه مباشرة لقضاء يوم في غرفة الطوارئ .ثم يو ًما َ
أراقب مضخة العالج الكيمياوي ،أتأكد من أن السائل البرتقالي مستمر بالتحرك،
أتأكد من أنه يحتفظ ببطارية احتياطية معهِ .ل َم ال يتأثر السرطان؟ عش ،اللعنة!
األطعمة التي يمكنه تحملها :مسحوق البروتين ،السموذي ،البيض! يبدو مذاق
البيض له اعتياديًا تقريبًا .ال طعام يحتوي على معجون الطماطم ،وإال سيشعر بطعم
مر يمكث أليام.
معدني ّ
أشاهد بشرته تصبح صفراء بسبب تكدس خاليا الدم الميتة .هناك أنبوب
مفتوح إلى قلبه يتأرجح في الهواء ،وخلفه دم مخفف ذي دفاعات منخفضة .أحلم
بذلك المايكروب المراوغ الذي يتمكن من الفتك به.
ً
أصأل .لكنه مريض يتناقص وزنه بسرعة ،وكان قد خسر عشرين باوندًا
سرطان؛ تنكمش تلك الباوندات قبل أن تختفي .الخطوة األخيرة هي أن يجعله
المرض شفافًا .أمسك صورة ليفي في الهواء ،وتمر يدي من خاللها .أمرر كلتا
يدي ،وأقول" :كل!" لكي تبقى مرئيًا.
ي الخير؟ األصدقاء في الكنيس الذين يسلموه
ولكن ماذا نفعل بشأن متمن ّ
الموت بأيديهم غير المغسولة بينما يعانقونه ،يلمسونه ،يباركونه بحياة طويلة .أتبعه
إلى الكنيس ،أتجهم في وجوه الناس الذين يمدون له أيديهم ،لماذا يصافحهم؟ أبقَ
ٌ
أطباق تناقلتها عشرات األيدي المختلفة .يأكل منها ليفي سل إلى منزلنا
بعيدًا! تر َ
وتتدهور صحته ،يصاب بالحمى ،ويعود إلى المستشفى .وبالنسبة لألطفال :كال،
إن كان ثمة مريض في بيت صديقكم ،فال يمكنكم أن تذهبوا إليه .بإمكانكم معانقة
والدكم إن غسلتم أيديكم ً
أوال ،لكن التقبيل ممنوع.
ق الدلو قريبًا من أجل التقيؤ ،اطلب له العافية ،اطلب أن يعيش ،ابقه واقفًا،
اب ِ
يتحرك ،حولنا .في الليل ،استمع إلى تنفسه.
هل يبقى المرء نفسه بعد السرطان؟ يزدهر أمل جديد بأنه سوف يتغيّر .نعم،
أنا آمل أن تغيّره محنة السرطان ،أن ترقق قلبه ،أن تقربه مني ،فلربما أستطيع
البقاء .عليه أن يتغير ،ألنه لم يعد بوسعي أن أكون ما لست عليه ،أو أن أسايره أو
أتقلّب حسب أهوائه .أطفالي المساكين ،حالما يتحسن والدكم ،سيكلف بقائي تغييره.
لكن إن مات ،فهل سأبقى؟
وبينما أسعى للمحافظ ِة على سالمته ،ثمة جزء ضئيل متنام في داخلي يهمس:
يمكن أن يموت ،يجب أن تعرفي ذلك ،يمكن أن يموت ،ربما تريدين ذلك ،يمكن
أن يموت ،وعندئذ ،وعندئذ… يمكنك أن تبقي.
ثم أعلم أنني أستطيع ،أستطيع تدبر األمر .عندما تنتهي المحنة ،ويسترد
عافيته مرة أخرى ،يمكنني أن أجد حياتي الحقيقية ،سوف أعيش.
تتصل بي والدتي .في هذا الوقت كانت لوحاتها قد عرضت في باريس وبكين
وموسكو وواشنطن .تقول" :ليزا!"
"أمي!"
"اتصلت لكي أخبرك بأن تستمري في الدراسة".
لقد ألقيت بكل ما عندي لكي أحارب سرطان ليفي ،وهي تقول لي بأن أستمر
بالدراسة .ما زالت مطالبها غير عملية .أقول" :ال أستطيع أن أبقى بالدراسة".
تقول" :ابقي لفصل واحد فقط ،تمسكي بشيء ما".
وأنا أفعل ذلك ،وأستمر بدراستي .يخدمني قرب المستشفى من الجامعة ،إذ
بإمكاني أن أذهب مباشرة إلى مركز العالج الوريدي من الجامعة .أسجل في حلقة
صا سريعة عفوية نابعة من
دراسية أخرى للرواية مع دانيال ستيرن وأكتب قص ً
الغضب أثناء الليل .كانت إحداها عن امرأة مكثت لسنوات مع زوج صعب العريكة
لكنه مخلص .عندما تصاب بالسرطان ،يكون لها ذلك بمثابة التجلّي وتهجره.
يحررها السرطان .حتى إنها تهجر ابنها الذي يأتي باحثا ً عنها عندما يصبح على
أعتاب البلوغ .تنتهي القصة باحتضانها لولدها الكبير بين ذراعيها كما لو أنه طف ٌل.
وكعادة حلقات دانيال ستيرن الدراسية ،ينبغي علينا أن نكتب نقدًا منهجيًا
ي كيث قصتي عبر طاولة االجتماع
لكتابات أحدنا اآلخر .في أحد األيام يعيد إل ّ
مشفوعة بتعليقاته المطبوعة ويقول" :ليا ،ال أعرف ماذا يجري معك ،لكن تابعي
على هذا المنوال".
تترك لي جانيس رسالة ،فقد وجدت العارضة المناسبة وتريد أن تبدأ التقاط
الصور .هل ستتمكن من أن تشرع بالتصوير في الميكفاه خاصتنا؟ هل تحدثت مع
الحاخام فرومان؟
بعد مرور شهر على بدء العالج الكيمياوي ،ثالثة أيام بعد التسريب الوريدي
الثاني ،يخرج ليفي من تحت الدش في أحد الصباحات بوجه حليق ،وقد خلّف وراءه
فوق فتحة التصريف كتلة من شعر أسود مجعد متهالك .يناديني من الحمام ،وهو
ما يزال عاريًا" :ليا" ،فأدخل ،أتجمد في مكاني ،وأحدّق .لقد أصبح غير محتشم
على نحو غير معتاد .وهناك غمازة في ذقنه ،مثل غمازة إيتزك .أجيبه" :حسنًا،
كنا نعرف بأن هذا سيحدث"...
ّ
لكن هذه هي لحيته ،إنها زيّه ،من أجل الرب .أقول" :هل أنت على ما يرام؟"
يهز ليفي كتفيه بال مباالة.
أقول" :ولكن ماذا عن كل تلك الشهور التي قضيتها بالبحث عن وظيفة قبل
سنين؟" ليفي هو جندينا" .ماذا بشأن مقابالت العمل التي انتهت بسبب اللحية،
والفخر الذي ما تزال تخبر به تلك القصص؟"
يقول ليفي" :إنه مجرد شعر"
أخبره" :وباروكتي هي مجرد شعر".
وثيابه ذات اللونين األسود واألبيض ،وأزيائي المحتشمة ،ويارمولكته،
وخيوط التزتزت ،هي مجرد قماش .وطعامنا الحالل ،وتحضيره المحكوم بك ّم هائل
من القواعد الرامية لتحقيق مستويات أعلى وأعلى من "القدسية"هو مجرد طعام.
أقول" :يغيّر السرطان كل شيء".
تصبح الرموز مجرد أشياء ،لم تعد اللحية شيئًا يستحق التضحية من أجله.
عندما تكون الحياة في خطر ،تصبح اللحية مجرد شعر.
يقول ليفي مبتس ًما" :إنه ثمن بخس لندفعه؟" ويضيف الحقا ً لألطفال:
"انظروا! يمتلك بابا ذقنًا بالفعل!"
ً
أصال أف ّكر ،بينما يفغر األطفال أفواههم دهشةً ،ماذا لو لم يكن السرطان
حاضرا في حيواتنا ،ماذا لو أصبح الشعر والمالبس والطعام عندئذ مجرد شعر
ً
ً
رموزا ملزمة لالتصال بالرب ،وال أط َر للصناديق التي ومالبس وطعام ،وليست
وضعنا أنفسنا بها.
تحرق سيكلوفوسفاميد ،دوكسوروبيسين ،فينكريستين ،بريدنيزون.
الكيمياويات أمعاء ليفي وتجعد فمه ،وتتسبب بقروح نازفة في المريء والمعدة.
ترقق تلك المواد بشرته ،تجعله مكتئبًا ،تقتل خاليا الدم ،تجهد كليتيه وكبده .إنه
ضا ليصبح غريبًا في
يصلي ،لكنه وفيما يتحول إلى كائن هزيل وأصلع ،يعود أي ً
عا لمواصلة عمله
بيتنا .يختفي فيض الحنان ،ينكفئ على نفسه ويصبح أكثر اندفا ً
رجال غلي ً
ظا يصرخ ً على الرغم من اإلجازة التي عرضوها عليه .أحيانًا يصبح
على أطفاله ويلومهم على إصابته بالسرطان ،أو ينفجر غاضبًا من دون سبب .ثم
يصلي ،عائدًا إلى الرب وليس إلى عروض الراحة التي أقدمها.
ينفر منه إيتزك لهذا السبب ،فأخبره مع بقية األطفال أن من حق أي شخص
يمتأل جسده بالسموم ويناضل من أجل حياته أن يصرخ أو يبكي أو يكون غير
غاضب .أراقب استياء إيتزك الذي ال يلين ،وجهودي
ٌ منطقي بشكل تام ،لكن إيتزك
لرعاية ليفي أصبحت في أغلب األحيان تجابه بالصدّ ،وأكثر فأكثر يتالشى ذلك
الحنين للماضي المصحوب بالدموع الذي يؤججه السرطان.
في أحد األيام في المستشفى بين موعدين ،نتناول أنا وليفي وجبات غدائنا
المعبأة في "الحديقة" ،وهي عبارة عن قاعة طعام على شكل ردهة خلفية ضخمة
تمتد حواليها أشجار عالية مزروعة ضمن رقعة داخلية مكشوفة تحت ضوء السماء.
إال أن ليفي ال يريد أن يأكل ،فهو يقرأ المزامير بينما أقضم سندويشا .لكن رغم
َجلَبة السرطان ،ثمة شيء بقي عالقًا في ذهني.
أقول" :ليفي ،لقد أعطيتك إحدى قصصي ،لكنك لم تقرأها ".لقد أعطيته إياها
باستحياء بعد تشخيص إصابته بالسرطان ،كما لو أنني أقول ،هذه أنا .مرحبا .إذا
كنت سأعتني بك خالل هذا الظرف ،فأريدك أن تعرف من أنا.
ي وقت"،
يقول" :لم يكن لد ّ
أقول" :وقت؟ لكن ذلك كان مه ًما لي".
ويلوح بيده تلك التلويحة ،ثم يقول" :لقد قطعت على نفسي
عندئذ يرفع بصره ّ
منذ زمن طويل التزا ًما بأال أقرأ أدبًا علمانيًا".
سه قبل زمن طويل خلف جدار
س نَف َ
وأخيرا ،أفهم األمر .أفهم أن ليفي قد َحبَ َ
ً
ال يتزحزح ،جدار ضخم وقديم وراسخ بعمق لن أستطيع تحريكه أبدًا .أفهم أن
ارتباطه بالرب والدين سيحظى باألولوية دائ ًما .أفهم أن كل أحد سيهتم بأمره ال ب ّد
أخيرا .أقطع األمل بأن يتغير.
ً أن يواجه تلويحة يده تلك .وأتوقف
أقول" :أتفهم ذلك".
يستدعى أفرامي ،الذي عاد إلى اليشيفا اآلن ،إلى مكتب المدير ،ويقول له
الحاخام" :أغلق الباب "،ينفّذ أفرامي ما طلب الحاخام ويجلس ،وهو متوتر ً
قليال.
فو ّ
ت كثيرا ،وقد ّ
ً يقول الحاخام" :ما الذي يحدث معك؟ إنك تتأخر عن الدروس
اختبارا".
ً
عا صلدًا .ينظر لألسفل نحو حذائه.
يجعل أفرامي من وجهه قنا ً
يقول الحاخام" :وما هذا؟" يرفع ورقة اختبار تحريري مكتوب في أعالها
درجة 38باللون األحمر.
صغيرا على األرض.
ً سا
يتأمل أفرامي حذاءه ،راس ًما بمقدمة الحذاء قو ً
مريض"،
ٌ يقول الحاخام" :أعلم أن والدك
فينهار أفرامي باكيًا ،يتجرع الكثير من الدموع .عندما أسمع عن هذه الحادثة
من الحاخام الحقًا ،سأتذكر آخر مرة كان فيها أفرامي بالمنزل ،وقد مضت عليها
اآلن ثالثة شهور ،وهي تصادف بداية مرض ليفي ،وكيف قام بتفريغ البقالة،
وتحضير أشقائه للمدرسة ،وكأنما يبحث عن شيء ملموس وذي قيمة يستطيع فعله
في وجه السرطان .بعدها يخبره ليفي أن يعود إلى اليشيفا ويتعلم التوراة لينال
ي أفرامي في اليشيفا خاليتان، رحمة الرب ألبيه .يوصيه ليفي بأن يصليّ .
لكن يد ّ
ينظر إليهما من خالل دموعه .إنه في الخامسة عشرة ،وهو ال يعرف كيف ينقذ
يفرغ البقالة ويساعد بإعداد العشاء فحسب.
والده عبر الصالة والدراسة ،بل كيف ّ
شاعرا بأنه كشف أمام الحاخام .وبعد ذلك ،لم يرغب أن
ً أتخيله محر ًجا من بكائه،
يعرف أصدقاؤه باألمر.
نحن من وضعنا عبء القداسة هذا ،ومن ثَم العجز ،على كتفيه .أتصل
بأفرامي ونتحدث لوقت طويل .لكنني أتساءل :ما نفع مكالمة هاتفية عندما ال
أستطيع أن ألمس وجهه الجميل الذي بدأت تنبت عليه شعيرات لحيته األولى
الناعمة؟
مارس .يصل البابا جون بول الثاني العجوز المريض على كرسيه المتحرك
إلى كاتدرائية القديس بطرس ،حيث يبذل جهده لينهض من كرسيه المتحرك ويركع
أمام تمثال بييتا لمايكل أنجلو ،الذي يصور ابن الرب الجميل ،صريعًا في ريعان
شبابه وممددًا بال حياة بين الذراعين الحنونتين ألمه الرقيقة دائمة الشباب وهي في
حالة حزن .الحقًا ،من المذبح ،يتوسل البابا بصوت متهدج مغفرة َ الرب على
الخطايا التي ارتكبتها الكنيسة على مدى قرون ،بحق النساء ،بحق السكان
األصليين ،بحق اليهود.
يذيع الخبر في طائفتنا ،حيث ما يزال الناس يلقون بالالئمة على الكنيسة
الكاثوليكية على نهب الصليبين للقرى اليهودية ،على فرية الدم ،على قرون من
المذابح العرقية التي استهدفت البلدات اليهودية ،على عزل اليهود في غيتوهات،
على االغتصاب ،والقتل ،واالبتزاز والمجتمعات التي نفيت بين ليلة وضحاها،
وعلى قرون من سياسات اإلفقار ومعاداة السامية ،وعلى التعاون مع النازية.
متظاهرا بأنه البابا" .لقد ارتكبنا
ً يتضاحك الناس على الخبر" .ويحي "،يقول ليفي،
صغيرا".
ً خطأ
أف ّكر :كم هو رائع هذا الشعور! لكنه ليس نابعًا من أن ما من أحد ذي أهمية
هاهنا سوف يرى رأسي الحاسر .إنما هو ناب ٌع من أنه ليس هناك من يلقي ً
باال.
أستمر بالسير ،وأنا أهز رأسي وأضحك من نفسي .وما أزال أضحك بيني وبين
نفسي بينما أمر أمامه ،فيما ينفث دخان سيجارته الذي يخرج على شكل خيوط
رفيعة .وتلك العيون التكساسية نصف المغمضة تتبعني .فتاة ٌ غريبةٌ من المدينة.
ً
وبدال من مقابلة الحاخام فرومان وج ًها لوجه أثناء تلك األسابيع األولى من
إصابة ليفي بالسرطان ،أتصل به وأزكي له جانيس على الهاتف .أشد ّد على أن
ً
جميال وبالتالي سيجعل الميكفاه تبدو جميلة وربما يلهم هذا أحدًا عملها سيكون
ليرغب بتأدية الطقس .وأظن بأنني ما زلت أمتلك بعض التأثير؛ ألنه قَبِل بالتحدث
إليها .عندما ذهبت جانيس لتقابله جعلها تقطع له وعدًا بأن تكون الصور محتشمة
وال تظهر عريًا أماميًا ،ويفضّل أن تعرض للنساء فقط ،لكنه سمح لها بالتصوير
في ميكفاتنا.
وبعد بضعة أسابيع من عودتي من داالس ،أزور جانيس في منزلها ،حيث
كانت هذه فرصة وجيزة وثمينة ألفضي بهمومي لها وأستمع إليها .لقد أذهلتني
الصور الجديدة ،صور عارية تحت الماء بتدرجات األزرق التقطت من الخلف أو
بوضعيات جانبية محتشمة ،أذرع تحجب النهود ،وحدود غبشاء لفخذ وورك تحت
الماء .وكل واحدة من تلك النساء تعوم بال وزن بجنسانية ال واعية ،غير مدركة
لجمالها ،وكل تركيزها منصبّ على داخلها وليس على إثارة شيء من الرغبة.
حضورا ،في حين أن تلكم
ً ي متعال ،كما لو أن الجانب الروحي هو األكثر عر ٌّ
النسوة في أكثر حاالتهن ماديةً .تفهم جانيس ذلك ،وتج ّ
سده.
عندما يفتتح المعرض في الشهر التالي خالل مهرجان هيوستن نصف
السنوي للصور ( ،)Houston’s biannual Fotofestيمتلئ الغاليري بنساء
يرتدين المالبس السوداء واأللماسات المتدلية ،وكؤوس الشراب بين أصابعهن.
ورجال ببدالت أنيقة مخاطة بدقة وعناية يراقبون زوجاتهم ومن يواعدوهن عن
كثب .يقترب النقاد لتف ّحص الصور ،يبتعدون ،ثم يعودون من أجل المزيد .تقارن
وتصرح" :هذا العرض
ّ صحيفة هيوستن كرونيكل العم َل بأعمال أندريه كيرتيش
ال ينبغي تفويته ".وفي وسط الحشد الحماسي الصاخب ،تتخذ جانيس مكانها أمام
بيانها الفني المعلق على الجدار فيما تهمس إليها عدة نساء صففن شعورهن بطريقة
مثالية :يمكنني أن أخبرك عن تجربتي في الميكفاه.
سرا" تخبرني جانيس الحقًا" :لقد ّ
كن كما لو أن لديهن ً
مضمرا في دواخلهن لقرون .لم تتحدث النساء
ً فأجيبها" :لقد كان ذلك
اليهوديات عن الميكفاه أبدًا".
تقول" :دعينا نحثهن على الحديث".
"ماذا؟"
" البد أنك تعرفين نسا ًء يمكننا مقابلتهن ،أليس كذلك؟ كما أنك كاتبة ،إعملي
معي ،لنوسع المعرض .دعينا نقابل النساء ،وأنا سألتقط صورهن".
"إنه أمر شديد الخصوصية".
"سوف نبقي هوياتهن مجهولة".
يدعنك تظهرين وجوههن".
ِ "وهن لن
"من قال إنني سأظهر وجوههن؟"
الفصل الحادي والعشرون
وفي غضون أيام كنت أجلس بصحبة مسجل صوت مع فتاة حسيدية في
ي جانيس السابعة عشرة من عمرها على وشك الزواج .فبعد أن عرضت عل ّ
(مشروع الميكفاه) في ذلك اليوم ،أجرينا ً
سيال من المكالمات الهاتفية فيما بيننا،
وأقمنا جلسات ليلية متأخرة شيّقة ومثمرة تبادلنا فيها األفكار والصور والخطط.
ي مع أحيطها عل ًما بأنني سأساهم بالعمل فقط عندما أستطيعّ ،
لكن الحياة تدب ف ّ
إحساس اإلثارة النابضة بينما نكمل جمل إحدانا األخرى ،تتدحرج األفكار من
أفواهنا مثل ِجراء تتعثر .أفكر ّ
بأن االنخراط بهذا العمل ،ما دمت أتواله بحيطة
ووعي ،قد ينفعني خالل محنة السرطان هذه.
إنه جنون ،أعلم ذلك :ليفي مريض ،المنزل ،األطفال ،وال نوم إطالقًا ،وها
أنا ذا قد وافقت على إجراء مقابالت مع نساء يتحدثن عن الميكفاه ،وأقدّم المساعدة
لجانيس على تصويرهن .من الجنون أن أنأى بنفسي عن كل هذا في وقت مثل
هذا ،ولو بخطوة ،عن كل التزاماتي ألقوم بشيء ال عالقة له بها أو بي .لكنني
وجانيس سوف نحمل النساء الصامتات على التحدث عن هذا الطقس األكثر خفا ًء
ومحورية من بين الطقوس .ال مكان للقناعات العقائدية ،سأحملهن على أن ّ
يكن
حقيقيات.
كانت الفتاة التي تجلس أمامي مغرمةً بخطيبها الذي يمكنها اإلعجاب به من
بعيد فقط .تدعوني "مورا ليا" أي المعلمة ليا .أعدها بأال أكشف اسمها.
تشرع بالحديث بتفاؤل ساطع عن التجربة الروحية العظيمة التي تتوقع أن
تعيشها في الميكفاه في الليلة التي تسبق زفافها .تغمض عينيها بينما تتخيل النور
الروحاني الذي سوف يهبط عليها مع حب الرب الالمتناهي ،واللذين ستمررهما
سيعرفها إلى
ّ ألبنائها .ومثلما جرى تعليمها منذ والدتها ،فإنها تعتقد بأن زواجها
دورها كأ ّم ،تشعر أنها بإنجاب أطفال يهود ،ستختبر تحقيق كل لحظة عاشتها حتى
اآلن.
تصور جانيس الفتاة في زفافها ،لتصبح األولى في سلسلة
ّ بعد عشرة أيام
ي خلف طرحة حسيدية غير شفافة.
البورتريهات مجهولة الشخصية ،وجه الفتاة مخف ٌّ
تجلس العروس في كرسي أبيض من الخوص ،وقد أنزل عريسها لتوه الطرحة
على وجهها بعد أن نظر نظرته األولى في وجه محبوبته .تقبض العروس في يدها
على صورة مصغرة للحاخام.
وبعد شهر ،أعود الستكمال مقابلة الفتاة .اتخذت الفتاة وضعية جسد منفتحة.
أسلوبها أصبح أكثر صراحةً ،وثيابها أكثر أناقة ونضو ًجا ،ومن ضمن ما ارتدته
باروكة شعر طويل جديدة مصنوعة من الشعر الطبيعي .أف ّكر :لقد غدت امرأة.
أقول لها ،وأنا أتذكر وصفها الشاعري قبل الزفاف" :أخبريني اآلن ،كيف بدت
الميكفاه في الحقيقة؟"
كانت تبكي طيلة طقس الميكفاه تلك الليلة ولم تعرف ِل َم كانت تبكي .تقول:
"اآلن أدرك بأنني ال أعرف حتى ماذا تعني (روحانية)"" .لم أفهم ما كان سيحدث،
غامرا كان يتملكني بأنني كنت سألج في تلك المياه فتاة ً وأخرج منها
ً شعورا
ً ّ
لكن
امرأة ً ".تتحدث عن زوجها بأسلوب ملؤه المحبة ،وتقول بأنها مسرورة من دعم
الشريعة لشهوتهما واحتفائها بها ومرافقتها لها عبر الميكفاه.
وبينما أسمعها أتذكر زفافنا أنا وليفي .أتذكر محاولتي تدريب نفسي على
ً
فبدال من أن تقوم بتعليم نفسها على الرغب ِة الشهوة .لكن ،بالنسبة لهذه الفتاة،
بزوجها ،نهضت الشهوة وعلّمتها شيئًا ع ّمن تكون هي ،وهو ما لم يحصل معي.
تلتقي جانيس بامرأة أثناء رحلة لها إلى دينفر ،وتخبرني أنها تو ّد أن أقابلها،
فأجري المقابلة على الهاتف .تقول المرأة بأنها مثليةّ ،
لكن والديها نبذاها عندما
كشفت األمر لهما ،لقد نبذا طفلتهما الوحيدة .كسيرة القلب ،تلتجئ إلى الدين والطقس
طلبًا للعزاء ،وهكذا ذهبت إلى الميكفاه .خططت للزيارة ،وذهبت إلى هناك "بضمأ
َص مقدَّسّ ".
لكن الجزء غير المكتوب هو الذي غيّرها .تحت المياه في روحي ون ّ
تلك الحجرة العتيقة ،أدركت ّ
أن "هناك أشياء أكبر تدير حياتي ".ثم وفي غرفة
تبديل المالبس ،ترى نفسها مبللة وعارية في مرآة كاملة الطول ،وتضطر أن تواجه
حقيقة وجودها الدامغة.
لم أكن أنوي لهذه المقابالت أن تستثيرني بهذه الطريقة .إنها تتركني مستغرقة
في التفكير ،وأستجوب نفسيّ :
كأن العروس والمرأة المثلية مرآتاي كاملتا الطول.
أقوي شكيمتي لكي أبقى في أدواري؛ فاألم يجب أن تبقى أ ًما ،وزوجة المصاب
ّ
بالسرطان كذلك .ودائ ًما ما كان هناك العمل :تفاصيل وقوائم وشجارات صغيرة
تتطلب التهدئة والتسوية ووجبات لطهيها.
في غضون أيام من هذه المقابلة ،أشعر باأللم ،وجع يجتاح كامل جسدي،
وكل مفصل فيه ،كما لو أنني أموت من الداخل وألد نفسي في ذات الوقت .تمر
ي األيام بتثاقل ،ويعذبني الشعور بأنني ال أنتمي ألي مكان ،ال للمنزل وال
عل ّ
للجامعة ،ال أنتمي لنفسي وال ألطفالي ،ليس بعد اآلن ،وال أستطيع أن أحمي أطفالي
أفز في ظالم الليل وأنا أتصبب عرقًا ألجد
من خيانتي .وعندما أتمكن من النومّ ،
نفسي جالسة في السرير في حالة من الذعر.
في أحد الصباحات ،وفي منتصف مراحل العالج الكيمياوي ،أجد ليفي مرتديًا
ثياب الخروج ،لكنّه كان مستلقيًا على وجهه على السرير ،وجبهته على ذراعه
منتظرا أن يستجمع القوة للنهوض وارتداء حذائه .وفي النهاية ،يجلس على
ً المثنية،
حافة سريره ،وبتأن ينتعل فردة حذائه اليمنى ً
أوال ،على نفس النحو الذي دائ ًما ما
ارتدى به كل قطعة من ثيابه-الجانب األيمن ً
أوال ،ألن اليمين يدل على قوة الرب
والشريعة المقدسة ،ثم اليسار ،الجانب األضعف ،رمز رحمة الرب .وهذا إقرار
بأن عدالة الرب تسبق رحمته .ثم يربط ليفي فردة حذائه اليسرى ً
أوال مع صالة
صامتة لبعث رحمة الرب وجعلها تسود على الحكم الصارم الذي نستحقه جميعنا
حقًا.
بوجود السرطان ،يصبح ك ّل شيء ،حتى انتعال األحذية ،بالنسبة لليفي،
صالة ً من أجل النجاة.
ترسلني جانيس إلى صديقتها المدلّكة ،كيلي ،وهي مغنية جاز ِمثلية ذات
أخيرا على مركزها في منطقة
ً صوت عميق ويدين بارعتين .وعندما أعثر
مونتروز غير المألوفة ،ترشدني موظفة االستعالمات فأجد طريقى إلى حجرة ذات
جدران مطلية باللون األخضر الداكن ،يعبق هواؤها برائحة الشمع المعطر
وأدس نفسي بين مالءات سوداء منشاة
ّ باألعشاب .أنزع طبقات المالبس الطويلة
على صوت موسيقى مختلطة بإيقاع أمواج تضرب الشاطئ .في الغرفة المعتمة،
تمسد كيلي عضالتي على مهل بيديها الدافئتين المزيتتين .وشيئًا فشيئًا يجتاحني
اإلجهاد .أتأرجح بين الدخول والخروج في حالة من نصف الوعي على إيقاع
ي امرأة على جسدي. صوت األمواجّ .
لكن هذه هي المرة األولى التي أشعر فيها بيد ّ
أفكر :كم هي عميقة هذه اللمسة.
ثم ،وكما لو أن أبوابًا مقفلة أخذت تنفتح ،أشعر بدفقة دفء غامرة ،بارتياح،
وأنا اتطوح واألمواج تتصادم عاليًا فوق رأسي .تصعد التنهدات لوحدها من قاع
المحيط.
أستلقي هناك على وجهي ،كتفاي ترتجفان ،دموعي تتساقط على األرض.
ي ،وإنما تعمل طيلة الساعة ،مطلقةً أحيانًا صوت دندنة
ال تحاول كيلي التحدث إل ّ
أفرغ نفسي .يغشاني النوم في
خفيضة .وعندما تنهي عملها ،تتركني ،وأنا ما أزال ّ
أخيرا ،وأنام بعمق على الطاولة الضيقة في الحجرة الخضراء المعتمة
ً تلك الحجرة
بين الشراشف السوداء المنشاة بجوار شمعة مرتعشة والصوت المس ّجل لألمواج
يحيط بي.
يواصل ليفي انكفاءه على نفسه واستغراقه في كتبه ،وما يزال يتعرض
سع المشروع
لنوبات الهيجان االنفعالي ،ويصر على تدبّر أمر رعاية نفسه بنفسه .أو ّ
مع جانيس .ولكوني غير قادرة على فعل أي شيء من أجله ،وغير راغبة باالكتفاء
بالمشاهدة ،أضع خط ً
طا للسفر مع جانيس .ولتوسعة ديموغرافية مشروع الميكفاه،
أتواصل عبر الهاتف للبحث عن أشخاص في جميع أنحاء البالد .ويبدو أن نسا ًء
علمانيات في كل أنحاء البالد بدأن باستصالح الميكفاه واستخدامها بطرق جديدة،
كالمرأة المثلية التي التقيتها في دينفر .وربما هناك أخريات ،نسا ٌء أكثر تمس ًكا
بالطابع التقليدي عثرن على طريقة للقبول بقوانين الميكفاه المتطفلة ،قد سمحن
ألنفسهن حتى بالتنازل .أريد ،أو أحتاج ،أن أسمع عن هذا.
ربما تفصح لي بعضهن عن اعتراضاتهن على الميكفاه ،وهذا لوحده له
جاذبية هائلة .وإذ إنني لم أعد خائفة ،ولم أعد متشبثة بوجهة نظر حسيدية واحدة،
فإنني أستغل هذه الفرصة لالبتعاد ولالستماع الحق لألصوات األخرى .وخالل هذا
كله كان الدافع هو إعطاء النسوة الممنوعات من الكالم أصواتهن.
نذهب إلى نيويورك .تشانا في الثالثينات من العمر ،أرثوذكسية ،وهي أم
لخمسة أطفال .تلتقي بي في مطعم للمأكوالت الحالل في مانهاتن وتعطيني اسمها
األول فقط ،والذي يراودني ٌّ
شك بأنه اسم مستعار ،وقد جاءت بسيارتها من بلدة
قَ ِ
صية لم تكشف عنها.
عمو ًما ،يطرأ التغيير على طرز األزياء الحسيدية واألرثوذكسية؛ إذ تصبح
النساء بالغات األناقة ،ويرتدين باروكات مصنوعة من الشعر الطبيعي الطويل
وثيابًا باهضة الثمن ،وأحذية ذات كعوب ،ويضعن طالء األظافر ،حتى عند الذهاب
صر الثياب إلى الحد األدنى المسموح به في الشريعةّ .
لكن إلى متجر البقالة .كما تق ّ
ثياب تشانا طويلة ومجعدة ،وباروكتها باهتة .كانت وقفتها محدودبة ووجهها منه ًكا.
ثم ،وحالما أشغّل مسجل الصوت ،تتحدث عن أوائل من أعجبت بهم ً
سرا
عندما كانت مراهقة .تسرد قصص اإلعجاب تلك بالتفاصيل .كانت كل من أعجبت
بهن من الفتيات.
تقول تشانا إن هذا قدرها من للا-أن تتحدى طبيعتها كل يوم .وبينما تدس
خصلة شعر شاردة في باروكتها البنية الباهتة ،تقول بأنها عملت على مدى سنين
من أجل أن تعلّم نفسها كيف تحب زوجها وكيف تجعله يحبها .ذلك الحب الذي
يأتي في كتيب إرشادات ،ثم تقول" :لقد اضطررت إلى إجراء نوع من الجراحة
على نفسي".
تجتاحني داخلي هبّة ساخنة أقرب إلى الذعر عند سماع تلك الكلمات المفزعة
وتخيّل هذه المرأة تدخل ِمشر ً
طا إلى روحها لتستأصل جز ًءا من كيانها ،كما لو
ٌ
مقيت، أنني شهدت للتو ولو َج الشفرة إلى داخلها .كنت أعتقد أن إيذاء النفس
وغريب ،لكن شيئًا يهمس لي :إنني أعرف الحياة التي عاشتها…عل ّ
ي أن أنهض، ٌ
أنصرف ،أهدأ.
أذهب إلى دورة المياه .أعود بعد أن أرغمت نفسي على استعادة رباطة
جأشي وانضباطي المهني ،ونبدأ مجددًا .أقول وفي نيّتي تغيير وجهة الحديث
والدخول إلى صلب الموضوع" :أخبريني عن الذهاب إلى الميكفاه".
تصف تجربتها مع الميكفاه .أتتبعها خطوة خطوةً .تخبرني ّ
بأن الميكفاه مهمة
جدًا عندها؛ ألنها تساعدها في جرف مقاومتها لخطة الرب المقدسة للجنس الغيري
والزواج واألطفال .هذا ما تصلي ألجله في الميكفاه ،كل شهر ،أن تتطهر من
َصف الوقوف في المياه ،وهي تصلي ،وآخر كلماتها لي كانت "ثم تزولين،
نفسها .ت ِ
تزولين ،تزولين".
هذا أسوأ من المرآة كاملة الطول .فالنظر إلى هذه المرأة يشبه النظر إلى
مرآتين تواجهان إحداهما األخرى ،وصورتي تتكرر فيهما إلى ما ال نهاية.
بعد مرور ثالثة أشهر على بدء عالج ليفي ،نذهب أنا وهو سوية إلى ليلة
شيفا براكوت ( ،)shiva brachosوهي واحدة من ليالي االحتفاالت السبع
المتتالية التي تقام في المنازل لتكريم العروسين الجديدين بعد زفافهما .يقام الحدث
في منزل جيراننا .وعند وصولنا نجد الزوجين المتزوجين حديثًا على رأس طاولة
طويلة مفروشة في حجرة العائلة الكبيرة .كانت العروس ذات الوجه النضر فخورة
بباروكتها الجديدة الالمعة .أما العريس فيبدو فتيًا إلى حد ال يصدق على الرغم من
لحيته وقبعته السوداء الجديدة .تجلس النساء على جانب واحد من الطاولة بجوار
العروس ،أما الرجال فيجلسون على الجانب اآلخر بمحاذاة العريس .يبدو العروسان
مجهدين ً
قليال ومغرمين ببعضهما بشكل واضح ،ولمرتين ضبطت الشاب ينظر إلى
زوجته وفي عينيه ابتسامة رقيقة.
يشرب الرجال الفودكا ويغنون ،ويتخلل ذلك خطابات وبركات .أما النساء
فيمررن صواني الطعام ويتبادلن األحاديث ،وينصتن بتأدب ،ويهرعن لتقديم
يمررن أطباق وصواني الدجاج والكوجيل والسلطات
ّ المساعدة في المطبخ .كما
ضا عن الفودكا
والكيك .تحضّر إحداهن صينية من أقداح الليكيور الحلو للنساء عو ً
النقية التي تقدم للرجال.
تطرقت لحرية االختيار،
ّ من المفارقات أن اثنين من الخطابات التي القيت
مشددة على أننا نختار بحرية أن نعيش ضمن حدود الشريعة .ال ب ّد أن يكون األمر
بتلك الطريقة ،يقولون في تلك الخطابات ،حتى إذا ما قمت بالخيار الصائبّ ،
فإن
مكافأة الرب ستكون أعظم .أفكر ،وكم أنا حرة ،عندما يؤدي إفصاحي عن ذاتي
الحقيقية إلى نبذ عائلتي وإيذاء أطفالي؟
حرا .يعبّ جرعة فودكا على الرغم من العالج الكيمياوي .يحمر
يبدو ليفي ً
وجهه الشاحب ورأسه األصلع ،يقف ويبارك الزوجين الشابين بحياة مديدة زاخرة
بالتوراة واألطفال.
ثمة امرأة شابة أعرفها عادت للمدينة لزيارة عائلتها تنهض لتساعد بالخدمة.
أحضرت معها رفيقتها بالسكن إلى هذه الزيارة ،فقد رأيت كلتيهما قبل أيام في
متجر البقالة وتع ّجبت مما رأيت .كانت الشابتان تقفان قريبتين جدًا من بعضهما،
تميل إحداهما برأسها نحو رأس األخرى ،فال يسمع أحد حديثهما الهامس .كانتا
تمسكان بنفس رغيف الخبز ،فتكاد تتالمس يداهما .ومن خالل عدسة الرغبة
المكبوتة ،رأيت حميميةً ،ألفة متبادلة ،ارتيا ًحا وحبًا .كنت أعرف أن لد ّ
ي اختالال
بالرؤية ،وضحكت على نفسي .لكن أال يمكن أن يكون األمر كذلك؟ أدفع عربتي
على عجل إلى ممر آخر.
أخبر نفسي مرة أخرىَّ ،
كن يشترين الخبز ليس إال ،لكنني ما أزال أراقب
الفتاة وهي تضع طبقها على الطاولة وتستدير وتعود إلى المطبخ .يبدأ دوار األفكار
يعبث برأسي .هراء ،أفكر :أنا بالكاد أعرف الفتاة.
أريد أن أكون الساحرة التي تلقي ببركتها/لعنتها للزوجين الجديدين الجالسين
سا معتدين بأنفسهم وثملين ً
قليال .أريد أن أقف على رأس هذه الطاولة التي تجمع أنا ً
جهرا بصوتي األنثوي الجريء :حذار من
ً سا مثل بقية الرجال ،وأتحدث
وأرفع كأ ً
السالم واألمان اللذين يعميان البصر ،واللذين تمنحهما الحياة الدينية ،فماذا يعني
ذلك السالم واألمان إذا لم يعترف بكفاحك المحتوم؟ أي نوع من الحياة هذا إذا ما
قيل لك باستمرار بأنه ما من مشاكل ال يستطيع الدين حلها ،وال من أسئلة ال يستطيع
نمو ،والنمو صراع؟ من أنت إن كان ال يعترف
األجابة عنها ،في حين أن الحياة ٌ
يجرك إلى حافة طريق الدين؟
بأي شيء داخلك قد ّ
التناقضات أمر بشري ،وبدونها ،ليس هناك من مجال لك .تقدم التوراة عال ًما
مثاليًاّ ،
لكن العالم المثالي يخنق الناس .احذروا هذه الحياة المتكلفة المصطنعة!
لكن الفتاة التي كنت أراقبها تجيء نحوي .حلّت الفتاة ربطة شعرها األحمر
ّ
اللولبي ،ورشقتني بابتسامة عريضة .الفتاة معروفة بالطائفة بدراستها الدؤوبة
سا ومحاضرات لألفراد .كنا قد درسنا سويًا من قبل ،حيث
للتوراة .وهي تعطي درو ً
عا من التسلية .تقول" :ابقي ً
قليال بعد أن يغادر تعد دراسة التوراة في هذه الطائفة نو ً
ّ
وكأن ما من شيء يختلج اآلخرون ،ولنقرأ مقالة حسيدية" فأقول طبعًا ،وما المانع،
في داخلي.
تختتم الوليمة بأغنية شكر جماعية تنتهي بـ"مبارك هو الرجل الذي يثق
بالرب ،والرب سيثق به ".تتبادل النسوة األحاديث ويخلين المائدة وينظفنها ،فيما
يترافق األزواج عند الباب ويغادرون .يغادر ليفي مع األوالد ،بعد أن أؤكد له بأنني
ً
طويال .أفكر ،ال يجدر بي أن أبقى .ثم أفكر ،لكن يمكنني البقاء إذا اخترت لن أمكث
ذلك .أخبر نفسي ،ال شيء يدعو للقلق ،بوجود شعرها المنهمر وابتسامتها المشرقة.
ك َّن يشترين الخبز فحسب.
تنفض الحفلة .نتشارك الكتاب
ّ نجلس على أريكة صغيرة في المكتبة بعد أن
الوحيد ،نصفه على حجري ،ونصفه على حجرها ،أربعة سيقان مغطاة بالتنورات
تلتصق إحداها باألخرى .عندما تخفض بصرها لتنظر إلى الكتاب ،يشكل شعرها
اللولبي الغزير ستارة مفروقة حول وجهها ،وعندما تلتفت ،تَهبّ أنفاسها برقة على
أذني .تقرأ بصوت عال بالعبرية" :منذ تدمير الهيكل أصبح كل ما يملكه الرب هو
الحرم الروحي الذي يشيده الرجل لنفسه ضمن حدود الشريعة ،من خالل تضحيته
بالذات".
منذ اللحظة التي لم يعد بها الهيكل العتيق المشيد من الذهب موجودًا ،أصبحت
أنا ك َّل ما يملكه الرب.
تقول" :علينا أن نتخيل أنفسنا مثل ذلك الرجل .الرب يعتمد علينا اآلن،
والمكان الذي نشيّده ألنفسنا ضمن الشريعة هو حرمه ،والذي ح َّل محل المعبد
العتيق الذي سكنه الرب ذات مرة في العالم .أما اآلن فهو يسكن فينا".
تقول الفتاة" :أتفهمين؟"" ،أعني ،ما قيمة التضحية بالنفس من أجل الشريعة،
حقًا؟" تواصل كالمها بأسلوب سريع ونَفَس الهث ،كما لو أنها تعدو صوب مذبح
التضحية.
صوتها أغنية في الهواء الساكن ،ساقها تحتّك بساقي .الشعيرات الناعمة على
ظهر رسغها…ثم أسبح في صوتها الذي يغرق في نبرته بغرابة .تواصل القراءة
والتحدث ،مستغرقة ،إصبعها يداعب الورقة ،يداعب ،الورقة.
وكما لو أنني أحلم ،أميل نحوها وأضع يدي على يدها.
توقفي .الرجل الموجود في الكتاب الذي نتقاسمه ،الرجل الخاضع للشريعة
يً ،
قائال: ي .إنه يشير إل ّ
الذي يبني حر ًما للحياة ضمن إطار شريعة الرب ،يشير إل ّ
إنك كل ما يملكه الرب".
" ِ
أنت ،أحاول أن أجيبه .لم أعد أستطيع تسليم قلبي لشريعة الرب ،لم
أنا لست َ
أعد أستطيع أن أكون األضحية الراضية.
تجس يدي لثانية براحة يدها الباردة.
ّ لتنوه عن فكرة ،ثم
تخبط على ذراعي ّ
إنها متفانية وصادقة ومستغرقة في النص استغراقًا تا ًما .أغمض عين ّ
ي ،في محاولة
للتفكير بصفاءّ ،
لكن االهتياج يجتاح تفكيري .هذا جنون .تسيح الكلمات في دماغي،
وفي حلم يقظة ،أقلب أغطية السرير ألجدها تنتظرني هناك.
حينئذ ،يط ّل علينا جارانا الزوجان اللطيفان صاحبا المنزل .أقفز من مكاني،
تورد وجهي ،وكيف
ي اللذين أصابهما ال َخ َدرّ ،
لكنهما حت ًما ال يستطيعان رؤية ذراع ّ
ي أن أعود للمنزل" .ليفي ،الصغار.
تجمدت الساعة في مكانها .أقول" :رباه! عل ّ
لكن هذه الدوخة التي تصيبني تجعل حتى التفكيرالوقت يقارب منتصف الليلّ .
بالمشي صعبًا.
من خارج نافذة الشرفة ،تتهادى شاحنة في الشارع ،وهي ترش ضبابًا كثيفًا
من المبيدات الحشرية لمكافحة بعوض هيوستن .يصبح الهواء ضبابيًا ،وسرعان
يصر الجميع على مرافقتي مشيًا
ّ ما سيسبب حرقة في العيون والحلق ،ورغم ذلك
حتى المنزل ّ
ألن الوقت قد تأخر جدًا والجوار دائم التغيّر غير مأمون .وهكذا نسير،
ي أو إلى أين يأخذني هذا
في موكب لطيف .وبينما أسير ال أعرف تما ًما وجهة قدم ّ
أحاديث مبالغًا في تهذيبها
َ الغريب ،جسدي ،بهاتين الركبتين المرتجفتين .أجري
مثل مراهقة ثملة تحاول النجاة بفعلتها .بعدئذ ،في المنزل في فراشي وفي ردائي
المحتشم ،وحين تغمر أنفاس النائمين المنبعثة من غرفة ألخرى عتمةَ الليل ،أغمض
ي مستسلمة للرؤى التي تنبثق عن الساعة الماضية .النشوة الجنسية العارمة
عين ّ
التي تعقب ذلك كانت صرخة تحرير ،صرخةً سيبقى اندالعها هو األشد رسو ًخا
في الذاكرة .ثم أنام ،نومة عميقة وطويلة وخالية من األحالم.
أستيقظ في الصباح التالي ،أطرف بعيني ،وتقفز الئحة أعمال اليوم إلى
ذهني .األطفال إلى المدرسة .موعد ليفي في المستشفى .ثم أتذكر الليلة الماضية
وأعود لالستلقاء في الفراش .كل سنواتي التي حاولت بها أن أستحث النشوة من
أجل الرب ،وما من شيء جعلني أشعر بأنني حيّة وحقيقية مثل تلك اللحظات القليلة
التي استسلمت فيها للشهوة العفوية التي باغتتني ،مثل احتراق ذاتي .وما من شيء
طبيعتك.
ِ ص َد َح من قبل ،وكان في غاية اإلقناعً ،
قائال إن هذه هي قد َ
لم تعد كلمة مثلية تترنح بين القبول واإلنكار وتتسلل لألحالم .إنها ليست
كلمة أكاديمية أو مح ّل نقاش ،وليست مسألة اختيار أو تح ّكم بأي شكل من األشكال.
ي ،وهزني ً
هزا. لقد أط ّل كياني ،أمسكني من كتف ّ
أصف حقائب الغداء وأضع الشطائر في
ّ أغني في المطبخ .أغني بينما
األكياس وأغلق سحابها .شالوم يحوم حولي ،وما يزال مرتديًا منامته ،فألفّه
ي ،أرقص معه ،وأقهقه.
بذراع ّ
الحقًا ،في السيارة ،أنزل كل النوافذ .كل شيء يبدو بلون مختلف عما كان
اخضرارا .في البقالة ،نظرة خاطفة
ً عليه أمس :السماء أكثر زرقة ،األشجار أكثر
واحدة إلى امرأة ترتدي بلوزة بحمالة عنق تكشف عن بطنها مع شورت قصير
مقصوص تجعل إحساس دغدغة يسري في جسدي .أفكر ،ينبغي أن أكون محرجة.
أشعر بأنني مثل صبي مراهق ذي قضيب شديد االهتياج ،لكنني حيّة.
في يوم السبت ،وأنا أتساءل كيف سيكون شعوري ناحية الكنيس اآلن ،أذهب
إليه بعد غياب طويل وأجلس في الخلف وراء صديقتي القديمة شتيرنا .لقد اعتدنا
أن ندردش في وقت متأخر من الليل بينما نقوم بأعمال التنظيف من أجل الفصح،
لقد سبق وأمسكت بيدها في مرتين من والداتها .وهناك في نهاية الصف األول
زهوة لكنها هشة،
تجلس رفيقة الميكفاه القديمة ميرا ،ودينا بباروكتها الفاخرة ،تبدو َم ّ
إلى جانب السيدة فرومان التي تجلس في مقعدها الشرفي .أفكر ،حتى لو كنا -نحن
النساء في الطائفة -ال نثق ببعضنا ،وحتى لو كنا نخفي شخصياتنا السرية ،إال أننا
أصبحنا عائلة ،بطريقة أو بأخرى .فقد رحبنا بأطفال إحدانا األخرى في منازلنا،
وهرعنا لمساعدة بعضنا في أوقات المرض ،وفي األتراح واألفراح .لكنكم لو
عرفتموني على حقيقتي ،فإنني أشك في أن حبكم سيدوم .فأنا أج ّسد العالم الذي يقع
خارج التوراة .أنا بالضبط ما تحمون أطفالكم منه -أنا ما تدعونه التوراة بـ
"الرجس".
سا. ّ
لكن إحساسي بالبهجة واالكتشاف ،وإحساسي بأنني حيّة ليس رج ً
أنظر إلى باروكاتهن من الخلف وأرى الخوف والغضب ،بل وحتى الكره
ي وإلى اآلخرين الذين يشبهونني ،كل تلك المشاعر بدت لي شرسة
الموجه إل ّ
كشراسة أم تدافع عن أطفالها.
جهارا في الليلة الماضية ،أرغب بأن أقف على
ً ومثلما تخيلت بأن أتحدث
حرم ،أقاطع الخدمة ،وأتولى
أحد هذه المقاعد وأمأل الكنيس بصوتي النسائي الم ّ
زمام القيادة .أتنكرون أن الرب خلقني؟ أتنكرون إرادة الرب؟ سأخبر هؤالء الناس
الذين يخشون الرب .إنني موجودة بالفعل.
الخاص بي .اليوم أصبحت امرأة ،الشخص الذي
ّ اليوم هو يوم البار ميتزفاه
ظال مكر ًها على الصمت ومجبوالً بقالب مصطنع يقف خلف
ولدته أمي ،ولست ً
الرجال .لقد أصبحت من أنا عليه :مثلية .أخرج من الكنيس وال أعود البتّة.
أفرغ غسالة الصحون .تكتمل دورة أخرى .هذا
في منزلي ،في المطبخّ ،
جزء من إيقاع كل يوم ،اإليقاع المحبب ،جزء من محاولة المحافظة على فقاعة
صها ،ثم أرفع األقداح واحدًا
غير متغيرة ألطفالنا وألنفسنا .الصحون نظيفة .أر ّ
صف منظم على الرف.
ّ واحدًا وأرتبها في
بعد تسعة أشهر من ضخ المواد الكيمياوية الكا ِوية إلى جسم ليفي ،ينتهي
لكن الجزء الحيوي منه ً
هزيال على نحو ال يصدقّ ، العالج الكيمياوي .يصبح ليفي
سليم .يقول األطباء إنه نظيف من السرطان وأن السرطان قد زال .أفكر بالبابا وهو
يعتذر على معاملة الكنيسة لليهود والنساء واألقليات .كان يرتدي رداء حداد كهنوتيًا
أصر على أن يجهد نفسه للقيام من كرسيه
ّ أرجواني اللون في ذلك اليوم ،وقد
المتحرك بمفرده وأن يجثو على ركبتيه لكي يصلي .ولكن المحزن أن ذلك
االعتذار ،ذلك االعتراف ،لم يكسبه التطهير ،ليس في عيون أولئك الذين ورثوا
المعاناة .بل إن اعتذاره الحزين بدا لي بأنه قد جعل تلك الخطايا التي مورست على
مدى قرون أكثر عبثية.
إن شفاء ليفي يجعل السرطان يبدو أكثر عبثية ،هفوة ارتكبها الرب .خطأ ال
حاصرا .لم يكن السرطان بالء مجديًا
ً طائل من ورائه .فلم يكن ليفي جنديًا صال ًحا م
كر ًما ،وال هدية خفية من الرب أو تحديًا ليكون قويًا .لقد كان مجرد سرطان .خطأ
م ِّ
غريب في خالياه .وليفي ال يشعر بأنه خال من السرطان؛ إذ إن ندوبه لم تندمل.
ومن اآلن فصاعدًا سي ّمر عبر أجهزة التصوير الطبقي المحوري (المفراس) كل
ً
متسائال إن كان سيعيش أو يموت .ستكون حياته هشة بعد اليوم. بضعة أشهر
آخر على الرف مع األقداح األخرى .ليفي
أصف قد ًحا َ
ّ أو هل ستكون كذلك؟
مختلف عني ،وربما كان كذلك دائ ًما .لقد حمله إيمانه خالل المرض .إنه يؤمن أن
شفاءه يبرهن على فاعلية الصلوات التي أدّاها الكثيرون نيابة عنه ،ويثبت أن روحه
سوف تعيش إلى األبد .وهذا يعني بأن ليفي ،في الحياة اآلخرة على األقل ،قد حقق
عا من الديمومة.
نو ً
كان الحفاظ على نظافة وترتيب هذه الصحون واألواني واألقداح بالنسبة لي
بمثابة ما تعني صلواته بالنسبة له :طريقة ألن أخلق وأديم يوميًا شيئًا ذا قيمة ،شيئًا
سيدوم .بالنسبة لي ،كانت الديمومة هي الحفاظ على هذا المنزل مالذًا لعائلتنا.
أردت أن يتغير ليفي ،لكنني أنا َمن تغيّر .لقد أصبح من الواضح اآلن أن
ي النظيفة ،الدورات اليومية ،المنزل الدائم الذي سعيت إلى تشييده ألبقي األوان ّ
أطفالي آمنين من عالم يهددهم بالخطر ،ستتهاوى كلّها إلى األرض يو ًما .لقد أزاح
السرطان الستارة ،جعلني أرى تظاهرنا الصادق بالديمومةّ .
لكن كل شخص
سيموت .الصحون تتكسر ،واألقداح تتهشم قابعةً على األرض .حتى الكتابة تموت؛
فالورق يتمزق وينح ّل في األرض .والحب قد يموت أي ً
ضا.
ي يقين بأن أيّا مما أفعله قد يخلق شيئًا يدوم .ال ترديد الكلمات
لم يعد لد ّ
القديمة للرب ،وال فصل الحليب عن اللحم ،وال إسكات نفسي تحت تالفيف الثياب،
وال تغطيس نفسي في ميكفاه ،أو القفز على المنطق لإليمان برب ال يموت ويعرض
ي جز ًءا من نفس األبدية .وال حتى بتفريغ غسالة األطباق ووضع كل شيء
عل ّ
بترتيبه الصحيح.
ترك السرطان حياتي قصيرة وهشة ،أكثر مما فعل مع حياة ليفي .لكنني ما
أزال أرتّب الفضيّات في الدرج ،الشوكات مع الشوكات ،والمالعق مع المالعق،
والسكاكين مع السكاكين .أصبحت أعرف اآلن كم هو ضئيل ما نعرف ،لكنني ما
أصف األطباق األصغر إلى جانب األطباق األكبر منها .لقد أراني السرطان
ّ أزال
أنني كنت أعيش على األمل ،ال اإليمانّ ،
وأن ما كنت أدعوه بـ"اإليمان" هو مجرد
مجموعة من الوعود التي قطعتها على نفسي عندما لم أرغب بأن أنظر إلى الحقيقة.
لكن ،ما يزال باستطاعتي أن أعقد األمل .أفتح بابي الخزانة على مصراعيهما
ألجل األطباق والزجاجيات المرصوصة بترتيب األمل ،وأقرر ،أجل ،حتى أنني
صادقة إلى آخر ذرة في خالياي ،بأنني أستطيع أن أجرؤ على األمل .سأتمسك
بهذه البهجة غير المنطقية التي يغذيها األمل ،والتي تبقيني منفتحة على الفرص-
أم ٌل بأن ثمة نو ً
عا من الخالص يقع خارج حدود مطبخي في نطاق المجهول.
الفصل الثاني والعشرون
لو كانت حياتي مختلفة ،لكان هذا الكتاب انتهى هنا ،بفقدان اإليمان وتبلور
القناعات الجديدة ،واالستعداد لولوج العالم .غير أن حياتي هي حياة أم وحياة حجاب،
ً
وبدال من ذلك أشرع بالسير في درب ذي خطوات أنظر إلى األطفال والعالم الغامض
صغيرة .أذهب إلى مصفف الشعر للمرة األولى في حياتي كبالغة وأقص شعري .وبحذر
وأصرح بمنتهى البهجة أن الروبيان حالل .أتعلم حساب
ّ المحرم،
ّ شديد أستكشف الطعام
الضريبة والبقشيش في المطعم .وعن طريق أصدقاء مشتركين ،ألتقي بجاين وشريكتها
(وهما مثليتان يهوديتان!) .أذهب إلى منزلهن وأخلع شالي ،ونتبادل األحاديث أثناء شرب
ضا ،مثلية .أحكي األمر ذاته لجانيس التي لم تكن متفاجئة.
الشاي ،ثم أخبرهن بأنني ،أي ً
طيلة كل ذلك الوقت ،كنت في الخارج مثل قط قروي في المدينة ،أبحلق في كل
شيء.
في المنزل أنتقل إلى غرفة منفصلة وأستيقظ في صباحي األول فيها مندهشةً من
أنني قد نمت الليل كله من دون أيّما مشكلة .أتوقف عن الذهاب إلى الميكفاه ،وال يعود
قادرا على لمسي.
ليفي ً
ينتظر ليرى إن كان كل هذا مؤقت ًا.
أثناء ذهابي إلى لوس أنجلوس مع جانيس من أجل إجراء مقابلة لمشروع الميكفاه
سا للمثليين والمثليات ،حيث
( ،)The Mikvah Projectأنطلق بمفردي وأزور كني ً
أجد نفسي وسط حشد من المثليين للمرة األولى في حياتي .حولي رجال ونساء يحيّي
ضا بمودّة عفوية ،وبأحضان على المأل ،بل وحتى بالقبل ،وكل هذا يجري
بعضهم بع ً
بسالسة وصدق ومن دون رقابة .يعتريني االندهاش والذهول من كم ما شعرت به من
انفتاح وتلقائية وسط هذه المجموعة .وقبل أن تبدأ الخدمة ،ألقي نظرة على جمع الجالسين
وأطلق ضحكة عالية على الفصل التلقائي بين الجنسين في هذا الكنيس الليبرالي .فقد
رفضوا الفصل التقليدي بين الجنسين ،ثم انفصلوا على أساس الجنس ،ولكن لسبب آخر
يختلف تما ًما عن السبب الذي كان وراء مقصد الشريعة من الفصل؛ ذلك أن أولئك
المنجذبين لبعضهم يريدون أن يكونوا سوية وأال ينفصلوا عن بعضهم فيما هم يصلون.
تدعوني الحاخامة وشريكتها لمنزلهما ،وأبيت الليلة عندهما .في الصباح أجد
تريسي ّ
تنظف أسنانها في الحمام فيما تستند ليزا على حائط مجاور ،وهي تمسك بكوب
قهوة كبير الحجم ،وتتحدث إلى شريكتها بنبرة صباحية حميمية .مجرد امرأتين ترتديان
قمصان بجاماتهن ببساطة وطمأنينة وحميمية نابعة من ألفة أسرية ،قهوة وتفريش أسنان
فحسب.
في بيتهما ،أتناول مقالة عن الميكفاه بقلم رايتشل آدلر ،وهي واحدة من الكاتبات
النسويات اليهوديات اللواتي رأيت أعمالهن معروضة على طاولة في مؤتمر تكساس
األول عن النسوية واليهودية قبل زمن طويل .تتسم كتابات آدلر األكاديمية التأملية بعاطفة
هائلة .تكتب في هذه المقالة" :أشق كلمات التوراة حتى تنزف مثلما أنزف".
تقدمني الحاخامة ليزا إلى آدلر ،وهي امرأة في منتصف العمر ذات ابتسامة رائعة-
وهما صديقتان وجارتان .وفي اليوم التالي ،قبل أن أعود أللتحق بجانيس من أجل إجراء
مقابلة أخرى ،أجد نفسي ضيفة رايتشل آدلر في كنيسها الذي يض ّم رعيّة ليبرالية أخرى
من دون فصل .تلّف راتشيل نفسها بشال صالة كبير حسيدي الطراز ،وهو شال صوفي
ذو لون كريمي وشرائط سوداء تتدلى حتى ربلتي ساقيها .كان المشهد مباغتًا .بالنسبة
صا للرجال ،ولهذا فإن ارتداءها لشال التاليت المخصص
لي ،كان هذا الرداء مخص ً
للصالة يبدو فع َل تمرد مرضيًا إلى حد ما .ومع ذلك ،فإنه لمن المفارقة التاريخية بالنسبة
لي أن تثبت الكثير جدًا من النساء اليهوديات في هذا الوقت ذواتهن باالستيالء على هذا
الزي الذكوريِ .ل َم ال يصنعن زيًا أنثويًا متفردًا؟
تعبيرا عن الصداقة والترحيب ،إنك
ً ي
ثم تخلع راتشيل الشال وتضعه حول كتف ّ
امرأة ذات صوت هنا .وبشكل بديهي ،وكما رأيت الرجال وهم يؤدون الصلوات لسنوات
فأكون
عبر الحاجز المشبك ،أسحب حافة الشال األمامية إلى األمام على رأسي ووجهيّ ،
ي اللتين ينسدل عليهما الشال أمام صدري وأهمس ببركة ما يشبه الخيمة .أشبك يد ّ
التاليت ،وهي البركة التي علّمتها ألوالدي لكي يرددونها كل يوم عندما يرتدون خيوط
التزتزت .تتملكني الدهشة حين أجد نفسي داخل هذه الحجرة القماشية الهادئة التي تعود
لقومي .يتخلل الضوء إلى الداخل ،مشتتًا .ظالل متمايلة مبهمة ،صوت أنفاسي .يتباطأ
الوقت ،يخفت صوت الترتيل عبر القماش المنسدل .تض ّج الكاتدرائية القماشية بأصداء
تضرعات أجيال من البشر.
وأفهم حينئذ؛ إذ ليست المسألة أن النساء اليهوديات يردن أن يستولين على الزي
ي عالقة
الذكوري ،وإنما يردن إيصال رسالة مفادها أن الجنسانية ال ينبغي أن تكون له أ ّ
بالتعبير عن الحاجة اإلنسانية.
ي ،وأجلس بجانب راتشيل .ورغم أنهم يستخدمون
أسدل الشال فوق ظهر كتف ّ
ي كخلفية
الليتورجيا (الطقوس الجماعية) العبرية األرثوذكسية ،فلم يكن هناك غنا ٌء ذكور ّ
للصلوات األنثوية المهموسة .فيما حولنا ،رجال ونساء يجلسون سوية ،ويغنون سوية.
واحدًا تلو اآلخر ،يستدعى ك ّل من الرجال والنساء ،سبعة من أجل الساباث ،فيما يرتل
القارئ كل قسم بالترتيب من جزء التوراة من لفيفة مفتوحة .كان يكفي ،بالنسبة لي ،أن
تسنح لي الفرصة لرؤية نساء يستدعين لقراءة التوراة ويشاركن فيها للمرة األولى في
حياتي .ولكن حينذاك ينادي قائد الصالة اسمي.
كنت مندهشة للغاية .أنهض ،مذعورة ً
قليال ،حتى إنني ال أتساءل من أين حصل
على اسمي .أطلب من راتشيل أن ترافقني ألنني أحتاج إلى معين ،لذا نسير معًا إلى
منبر البيما الواسع المغطى بالقطيفة الخضراء الداكنة ،حيث نقف أمام المخطوطة العتيقة
ي النسويتين المحرمتين على المماسك
الكبيرة المفتوحة على دفتيها .هنا حيث أضع يد ّ
فورا على إنها فعل قدي ٌم من
الخشبية للتوراة ،وأقبض عليها للمرة األولى ،قبضة أفهمها ً
أفعال التملك .في لحظة المالمسة تلك ،كنت مخلوقةً من اللمس ،حسيّة وحقيقية ،القوة
ي .أقف سافرة أمام التوراة ،لست عارية ،بل مكشوفة.
والمعنى في راحت ّ
لقد صعدت إلى توراة جديدة .أفكر في أن التوراة ملكي ،مهما كانت تبدو منقوصة،
إنها إرثي .أن أحبها ،أم ال .أن أؤمن بها وأتبّعها ،أم ال .صائبة كانت أم ال ،فيها وجد
قومي شظايا الحقيقة .التففنا حولها ،مقدسة كانت أم ال .تجادلنا بشأن النص ،وهذه
سا.
الجداالت هي ما أعطته الهيئة والعمق .نحن َمن جعلناه مقد ً
ثم أغني البركة بصوت عال .أردف بتلقائية بجملة الشكر ""shecheheyanu
على نعمة الوصول لهذا المكان والزمان ،فيصدح الجمع بقول "آمين" .ثم يذكر القارئ
المكان الذي سيقرأ منه في المخطوطة .ألمس ذلك المكان بشراشيب شال راتشيل ثم
أقبلّها .ثم أتطلّع مجددًا في المخطوطة ،وأدرك أن الجزء الذي يوشك أن يقرأه القارئ
هو عن بنات زيلوفهاد ،وهن النساء اللواتي طالبن أمام موسى بحقهن من األرث.
بعد أن ترتل القراءة ،نتحرك صوب مقاعدنا عبر غَمرة المصافحات والهتافات.
ت الحاجز يهتف الناس " -"yashar kochechمستقيمة وقوية .لقد كن ِ
ت قوية .لقد عبر ِ
الذي أصبح اآلن خياليًا وتوليت زمام األمور .لقد وقفت وجرى احتسابي ،وال أتخيل
العودة .في مقعدي ،وأنا مغمورة باالرتياح وبما سيحدث الحقًا ،أسحب الشال ليغطي
وجهي مرة أخرى وأبكي.
هيوستن .أنتهي من مسح طاولة المطبخ الطويلة من الجهة المخصصة للحوم ،ثم
آخذ مكنسة وأكنس التراب من على البالط المكسيكي ،وما أن أجمعه بتأن في كومة
واحدة حتى يندفع جسد ذكوري طويل نحيل فيدعس الكومة ويبعثر التراب .أصرخ:
ً
وخامال بعد مرور شهور على العالج "ابتعد عن ترابي!" ليفي ،الذي ما يزال أصل َع
الكيمياوي ،يضطجع في الغرفة الخلفية .أما إيتزك وشالوم ،أصغر أثنين من األوالد،
اللذان أصبحا في الثانية عشرة والثالثة عشرة من العمر ،فهما في مهمة مصيرية ،يتخللها
لعبة كرة سلة متقطعة في باحة المنزل .أصبحت غالديس تعمل في المنزل مرة واحدة
أدرب األوالد ،مع سارة ،على الطهي والتنظيف ،لكنني أدعهم يذهبون
في األسبوع ،وأنا ّ
ويجلبون مجرفة كناسة ويرفعون الكومة التي لممتها إلى سلة المهمالت فيما ينتهي
ي إنهاء تنظيف األرضية ،ثم يرن
ي أن أخرج الخبز من الفرن ،لكن عل ّ
توقيت العداد .عل ّ
الهاتف.
أعرف َمن الذي على الهاتف.
إذا لم أرفع السماعة ،فيمكنني أن أبقى هنا لفترة أخرى من الزمن ،أربّي األطفال،
أواصل النوم في غرفة منفصلة ،فليس هناك من زواج متبق ،لكننا ما نزال شركاء ندير
سفينتنا الصغيرة المعقدة سوية .يمكنني أن أنهي كلية الدراسات العليا ومشروع الميكفاه
مع جانيس ،وأن أسكب تخيالتي عن طريق كتابة األدب .يمكنني أن أواصل التأرجح
بين عالمين منفصلين وأن أواصل خداع نفسي بتصديق أن أخبار أحد العالمين ال تتسرب
إلى العالم اآلخر .إذا لم أرفع تلك السماعة ،فيمكنني أن أستمر بإرضاء نفسي بالتجربة
مر على لقائي بها نحو
باإلنابة عبر صديقات مثليات عثرت عليهن ،مثل جين ،التي ّ
عشرة أسابيع .وإذا عانت صديقاتي المثليات الجديدات من األلم ،مثلما عانت جين بسبب
انفصالها عن شريكتها في العالقة ،حسنًا ،فلن يكون ذلك األلم ألمي .سأحرص على إبقاء
مسافة بيني وبين النساء األخريات حتى يكبر األطفال .لكنني أرفع السماعة.
تقول جين" :انتهت العالقة ،إنها راحلة .لقد غادرت بالفعل .وستعود من أجل جمع
أغراضها".
ال أسأل ِل َم تتصل بي دونًا عن صديقاتها األقدم واألقرب ،أو عن والدتها .كنا قد
مرارا
ً تناولنا الغداء سوية ألربع أو خمس مرات ،لكنني لم أسألها ِل َم طلبت أن تلتقي بي
خالل الوقت القصير الذي عرفنا فيه بعضنا .لم أعترف بمغازالتنا الخفيفة .أقول لها:
لوحدك في المنزل ،تعالي إلى هنا .تعالي لتأخذيني".
ِ "ال تجلسي
الخبز ،األطفال ،األرضية ،العشاء ،تسألني" :وإلى أين سنذهب؟"
"ال أعلم .إلى مكان نستطيع التحدث فيه".
وخالل نصف ساعة ،أترك أرغفة الشااله لتبرد على الشبكة ،ومنشفة الصحون
مرميّة على الطاولة ،ومجرفة الكناسة على األرض .ال أعرف أن تلك الخطوات القليلة
من المطبخ ،إلى الباب ،إلى سيارتها ستصطبغ لألبد بالندم والتساؤل" .سأعود!" أقول
ذلك لألوالد ،ولم أكن أعرف بأن تلك كانت كذبة.
بعد الغسق نخرج من السيارة ونسير بهدوء إلى متنزه مهجور في الجوار بعيد
كفاية عن منزلي ونجلس على مصطبة خشبية ،وهي جزء من حديقة تسلق مخصصة
ّ
تطن جيئة وذهابًا .هناك جسر حبال ،ساللم ،مزيد من المصاطب لألطفال .بعوضة
الخشبية ،زحليقة ،يطغى عليها الصمت وتتردد فيها أصداء أصوات طفولية .أردت مكانًا
أكثر انعزاال من هذا ،ألنني أصبحت أفطن للناس الذين قد يبغضوننا إذا نويت أن أحضنها
إن بكت .تصفع جين بعوضة تحط على ذراعها .نقوم من مكاننا ،ونعبر الدرب الذي
يشطر المتنزه ،ونجلس على الجانب اآلخر على مصطبة في الظالل الداكنة .أخذت
ي
تبكي ،فوضعت ذراعي حول كتفها الرقيق ،وراحة يدي ملفوفة حول ذراعها .يذوب ف ّ
شي ٌء ما حينئذ تحت ضوء الغسق وتلفّنا األشجار القديمة بظاللها الخضراء الزيتونية.
وبينما تبكي ،تتبخر المقاومة ،االكتراث ،التهذيب المتبقي للرب.
سا أسحب نفسي بعيدًاّ ،
لكن يدي وذراعي بقيتا فارغتين على نحو مؤلم .أجر نف ً
عميقًا وأقترح عليها أن نتمشى .ال أعرف ماذا أفعل ،أو ِل َم أرشدها .إنها متألمة ،خاضعة،
وتتبعني .تط ّل األشجار على الممشى الترابي ،فينفذ من خاللها الضوء الباقي .أقول:
صغارا ".يركب أشباح أطفالي
ً "لقد اعتدت على أن أحضر األطفال إلى هنا عندما كانوا
على الدراجات ذات العجالت الثالثية ،ويحومون حولنا.
في نهاية الممشى هناك قفص طيور ينتصب على األرض ،أبعاده عشرة في إثني
عشر في عشرة أقدام تقريبًا ،يحوي أرجوحات ومجاثم وأواني للمياه والبذور وعشرات
ي ،رغم العتمة التي اضطرتني
من الطيور الغريبة ،بألوان كثيرة جدًا .الطيور مألوفة لد ّ
إلى استحضار تفاصيلها .في الظالل تختزل األلوان التي أتذكرها إلى خياالت مبهمة
ولمعات ألوان .أقول لها" :انظري "،وأعني الجمال المأسور ،اللمعان البري المهدور.
تصور
ّ أريدها أن تكون قادرة على رؤية كل هذا .أتخيل نفسي بين تلك الطيور ،لكن
نفسي واحدة منها في ذلك القفص فكرة ال تطاق .أقول ":أتمنى لو أطلقها لتطير" .نستمع
إلى الخشخشة والهديل ،رفرفة الظل.
مكسوة بالعشب ومحاطة بجدران من
ّ خلف قفص الطيور هناك منطقة معزولة
الشجيرات الطويلة لعب فيها أوالدي الكرة ذات مرة .يط ّل القمر .أقول" :لقد كنا نسمي
هذه المساحة بالحديقة السريّة" .نجلس في داخلها على مصطبة أخرى في الظالل،
وتش ّكل األغصان التي فوقنا دانتيال سوداء قبالة بريق القمر .يزداد النسيم برودة ،وقبل
أن أستطيع كبح نفسي ،قلت" :أشعر بالبرد" ،وأنا أعلم بأنها دعوة إغراء.
تلف جين ذراعها حولي ،ال يعود بإمكاني تحمل المزيد فحسب ،ال أعود
وعندما ّ
أقوى على التحدث والتفكير وكبح نفسي فحسب مثلما أفعل في كل يوم من أيام حياتي.
يضربني الخوف بعنف وقوة حتى يكاد يرفعني عن مقعدي ،لكنني أعرف إن األمر قد
قضي ،ربما لن يفتح هذا الباب مجددًا .التفت وأقبّلها.
ال يطاوعني النوم أليام ،كل شيء حولي يبدو بدقة عالية ،مكشوفًا .كل مظاهر
ريائي مكشوفة .البالط المكسيكي ،جدران المطبخ المغطاة بورق جدران الفينيل القابلة
للغسل التي اخترتها بعناية ،كلها بدأت تتضعضع .وقريبًا سأكون واقفة في مطبخي الذي
يلعب به الهواء الطلق ،وحيدة ً.
لم تفعل جين شيئًا ،إنما غيّرتني فحسب ،لذا إن كنت قد اعتقدت بأنني أستطيع
البقاء في هذا المكان المحمي مع الحفاظ على وعيي المستجد ،فقد كنت واهمة .لم تفعل
جين شيئًا ،فقط جعلتني أعترف بأنني غريبة في بيتي ،لذا فإنني أشعر اآلن بأنني غير
وأفرغ غسالة الصحون ،كما لو أن
ّ حقيقية حين أستيقظ في الصباح وأحضّر وجبة طعام
آخر قد ح ّل محلي عنوة .لم تفعل جين شيئًا ،إنما فقط تنهض في الصباح في
صا َشخ ً
منزلها وتتمشى وحيدة إلى مطبخها من أجل تحضير القهوة الصباحية ،ثم إلى الدوش،
َض.
حيث تدع حبّات الماء الحارة تنزلق على جسدها الغ ّ
يتكلم األطفال وال أستطيع سماعهم .ويتقلب الطعام في معدتي من دون أن يشبع
هذا الجوع .أمسك عن األكل بعد بضع لقيمات.
ال أستطيع العمل ،وال التفكير.
صباح يوم أحد،
ِ وهذا قد يكون السبب وراء تواجدي في منزل جين بعد أسبوع في
والسبب وراء تفوهها بالقليل من الكالم ،و ِل َم بالكاد تتحدث كالنا وكأننا خجلتان مثل
طفلتي مدرسة جرى للتو تعريفهن ببعضهن .ربما هذا هو السبب في محاولتي أن أتمسك
بحجة أن هذه مجرد زيارة ،وأردت أن أقول ،مرحبا ،لديك منزل جميل .هل تريدين أن
تريني إياه؟ وهو السبب في أن يتوقف عقلي حينما نصل إلى غرفة النوم ثم نجد نفسينا
ي أن أطمئن من أال أسقط .أقول" :علميني"، في السرير وأنا أتمسك بها كما لو أن عل ّ
جملة سخيفة تجعلها تضحك ،ألنه ما من داع ألن يعلمني أح ٌد شيئًا فيما تضمحل كل
ي .وبالمقارنة مع ما أختبره اآلن ،تبدو ذكرياتي مع ٌ
صوت يمأل أذن ّ األفكار .نعومتها
ليفي ورقة تتخشخش وتتناثر .ليس هناك من إرادة ،وما من كلمات ،فقط همهمة اللمس
هذه ،وفمها يمسك بالطالء الذي يرسم قوامي على لوحة كانفاس جديدة .وبطريقة ما،
تضخم حركة يدي الصوت .لقد كنت هنا أللف سنة ،وهنا سوف أكون .لقد ش ّكل جسدها
ليناسب جسدي -هذا هو الدليل.
هاهنا ولدت .أوه ،يا أطفالي ،كيف لكم أن تفهموا؟ لقد ولدت أمكم للتو ،اليوم.
يوم آخر ،منتصف ليل آخر ،أتسلل إلى الباب الخلفي وأحرص على أال يصدر
صريرا عند فتحه .أضع السيارة على الوضع المحايد فتنزلق إلى نهاية ممر السيارة
ً
الخاص بالمنزل مع إبقاء باب السائق الجانبي مواربًا .وحالما أصبح في الشارع ،أغلق
مارة تعطلت فجأة ،أم
الباب برفق وأشغل المحرك حتى أكون مثل أي عابر ،سيارة ّ
حسيدية تهرب إلى حبيبتها المثلية.
أعض على شفتي ،وقدمي على دواسة البنزين .كان الهواء باردًا منع ً
شا ،وفتحتا
أنفي متّسعتين ،احتكاك الثياب ،التي تبدو كما لو لم يكن لها لزوم ،ببشرتي المتهيجة،
ي وعمودي الفقري ويتصاعد أزيزه عبر مقعدي.
المحرك الذي يسري اهتزازه إلى ساق ّ
ي .أنسل عبر الحي الحسيدي الغارق في النوم مثل
ملمس المقود البارد الصلب على كف ّ
ي المتضيقتان مصوبتان على الشوارع الخالية المعتمة تبحث عن
حيوان زاحف ،وعينا ّ
خيانة ،تستحثها صرخة جسد .تتقلص عائلتي حتى تغدو من خلفي نقطة متناهية الصغر
وت ّمحي.
سرعان ما أخبر نفسي بأنني أفعل هذا باعتباره مسألة بقاء "pikuach
"nefeshمثل غسل ليفي ليديه في الساباث ،إذ تقضي الشريعة ّ
بأن أمر البقاء يغلب
الشريعة .سأهدئ نفسي بهذا التبرير على الرغم من أنني منذ مدة ال ّ
أكن للشريعة إال
القليل من االعتبارّ .
لكن هذا هو ما أشعر به ،أشعر بأنني ذاهبة إلى جين ألنجو.
أخبئ السيارة في مرآب منزلها ،وألج للداخل باستخدام مفتاحها ،إلى داخل البيت
الذي أصبحت تعيش فيه لوحدها اآلن .في الداخل ،أخلع الباروكة عن رأسي ،أهز شعري
للوراء ،ألقي بالشال على أرضية المطبخ .وعبر غرفة المعيشة التي يطغى عليها
السكون ،إلى نهاية الممر المعتم ،تتلمس أناملي الطريق على امتداد جدار محبّب .أتسلل
إلى فراشها ،فتستيقظ ،وتستدير نحوي.
هناك ،بين ذراعيها ،أبكي .على ليفي (وهو األمر الذي ال تقدّره) .على كل تلك
السنوات الضائعة ،على التفكير بأنني أستطيع العيش من دون حتى معرفة السكينة
البسيطة لـ… هذا :الجسد الدافئ الذي يتواءم مع جسدي ،األنفاس المنتظمة على شعري،
الحضور الصامت المستمر خالل الليل ،النبض المتزامن المتسارع في الصباح .في
اللحظة الراهنة ،هذا هو كل ما يهمني .أتخيّل أن هذا لن يكون حقيقيًا لفترة طويلة.
أتركها عند شروق الشمس.
لكنها السادسة والنصف صبا ًحا تقريبًا .أتسلل من الباب الخلفي لبيتي ،إلى منزل
أصف حقائب الغداء ،ثماني شرائح من
ّ يغط بالنوم ،إذ يجب أن أوقظ األطفال للمدرسة.
الخبز على المنضدة ،ال تسمح لي ال َجلبة بالتفكيرّ .
أقطع الجبنة والخس ،أقفل األكياس،
د ّراقة من أجل إيتزك ،وتفاحة من أجل سارة ،وكالهما لن تؤكال ،هل أكملت سارة
واجبها البيتي؟ أخرج إيتزك من السرير ،يحتاج شالوم لتعبئة إطار دراجته الهوائية
األمامي بالهواء ،وأسمع ليفي يتحرك في الخلف.
تحتفظ جين بتشكيلة من األحجار المصقولة ،ملساء والمعة ،في وعاء نحاسي
ضحل موضوع على طاولة الزينة الخاصة بها ،ومن بين تلك األحجار صوداليت بلونه
األزرق الملكي ،وماالكيت أخضر ،وعقيق باللون األحمر الغامق .في أحد الصباحات،
أجدها تمسك بحفنة من تلك األحجار أمام ضوء الصباح الباكر .كانت تقف صامتة،
وتميّل كفها المفتوح إلى هذا الجانب وإلى ذاك ،لتبرز كيف يتبدل الضوء ويرقص على
األسطح المصقولة .تقول" :انظري"" .انظري!" بوجه مليء بانتباه حا ّد ودهشة .تتقافز
األلوان .إنها لحظة بسيطة من السكون .أرض ،أحجار ،لون .وجود.
يبزغ العالم الحسي في الخارج الذي لطالما ازدريته ،والذي يكمن وراء تيارات
كلماتنا التي ال نهاية لها ،في ثالثة أبعاد مهيبة.
لكنني ال أعيش يوميًا في عالم ذي ثالثة أبعاد .تستعد سارة للمغادرة إلى اليشيفا.
ال أو ّد أن أرسلها إلى الحياة التي عشتها كل هذه السنوات ،لكن الحياة الحسيدية هي
هويتها ،وأنا ال أستطيع تخيّل قسوة قيامي ّ
بهز هويتها بينما توشك على البلوغ .انظروا
لها ،أفكر :إنها أطول مني ،وشعرها المع وبلون بنّي داكن وذو تمويجة أنيقة يصل حتى
كتفيها .لقد تخرجت للتو من المدرسة الحسيدية ،حيث اعتلت المنصة باعتبارها إحدى
الطالبات المتفوقات ،وألقت خطابًا أمام الطائفة به من النضج والكياسة ما يفوق سنواتها
األربعة عشرة .لقد كدت أسمع الجمهور وهم يسحبون أنفاسهم .وأف ّكر في ّ
أن سارة قد
تشكلّت هنا.
وكذلك تشكلّت أمومتي .كانت مهمتي أن أجعلها تتشرب بالشريعة ،وأن ألهمها
باإليمان ،وال شيء من هذا له عالقة بآرائي الشخصية ،التي تبدو ضئيلة وحديثة التشكل
أمام تيار التاريخ القديم الهائل .لم أفهم بعد أن بمقدوري إعادة توجيه ابنتي برفق ،لم
أفهم بعد أن تواجدي إلى جانبها ،مقرونًا برؤيتها اليافعة وإثارة الحرية الجديدة ،يمكن
أن تتحول إلى مغامرة ثنائية .حتى إنني لم أفهم أن الغريزة يمكن أن تكون دليل األم
األعظم .إننا نسمو ،نسمو فوق طبائعنا ،ما تزال الجماعة تردد .وحدها كلمة الرب
بداخلنا لها المصداقية.
أقول لسارة عشية مغادرتها ،وأنا أجلس بجوارها على سريرها" :ستغادرين عما
قريب"
فتبتسم ابتسامة عريضة وتهز برأسها.
أريدك أن تتذكريه".
ِ أقول" :أنصتي ،هناك ما
"وما هو؟"
"إن حياتنا ،الحياة الحسيدية ،حتى عندما تكونين بعيدة في المدرسة ،هي قفص
ي بالذهب .سوف تنشئين صداقات ،وتقضين أوقاتًا ممتعةً هناك ،وسيستمرون مطل ّ
بإخبارك كل يوم بأنها حياة مثالية .لكنّها حياة طيبة فقط إذا لم تحتاجي للخروج ،وإذا لم
ِ
تحتاجي للمزيد .ولكنك ،ربما تحتاجين للمزيد يو ًما ما .فإن حصل لك ذلك يو ًما ،فليس
أساعدك".
ِ ي مشكلة فيه ،وسوف
ث ّمة أ ّ
تقول سارة" :ماذا تقصدين؟" .وتبدو غير مرتاحة ،ومشوشة ،فأمسك يدها.
لكن ليفي يدخل علينا في تلك اللحظة .ثم ،سوية ،يهديها والداها المحبّان قالدة من
الحلقات المعقوفة بثالثة ألوان من الذهب .تقف سارة ،ويباركها ليفي بحياة ملؤها التوراة
ويمنحها عناقًا مرتب ًكا.
أقول لها بينما أقفل مشبك القالدة خلف رقبتها":البسي هذه وتذكري ما أخبرتك
إياه" .لكم أردت بعمق أن أصدق في هذه اللحظة أن ابنتي اليافعة سوف تتذكر ما قلته
لها عبر كل سنواتها القادمة التي ستقضيها بعيدًا عن المنزل ،أردت أن أصدق بأنها
سوف تدرك تحذيري حالما تنضج ،وبأنه مع الوقت سيصبح قفص الشريعة الذي
يحاوطها مرئيًا بوضوح.
ّ
لكن سارة تتطلع إلى ليفي ،ووجها مفعم بحب يفوق الوصف.
سأعيش مع حقيقة أنني من أرشدها إلى الحياة الحسيدية في مفترق الطرق هذا
لكي تعتقد أن هذه الحياة هي غايتهاَ ،دلَلتها على األمومة الممتعة والمرهقة وغير
المتناهية ،وأعباء األعمال والصمت وخسارة الخيارات التي عليها أن تتحملها .لقد جاءت
إلى الدنيا ،وكل ما فعلته كان ترتيب الفراش وفرش الشراشف ،وها قد رحلت.
بعد أن غادرت سارة ،تشبثت بجين ،لكنني لم أقم بأي تغييرات ،إذ ما أزال خائفة
من مصارحة ليفي أو الرحيل .تتوسل جين ،لكن حينما يقترب حلول الفصح ،أنهمك
بالعمل استعدادًا للعيد ،عازمة على الحفاظ على المظاهر في الوقت الحالي .أنقطع عن
جين ألسابيع ،ويحضر كل األوالد إلى المنزل .وعندما ينتهي الفصح ،أشعر باالرتياح
عندما أجدها بانتظاري.
سرا مكشوفًا .يصبح شالوم ،المولع والمتعلق
أصبح المبيت في منزل "صديقتي" ً
بي دائ ًما ،منطويًا على نفسه ،وغاضبًا .يلعب إيتزك كرة السلة في باحة المنزل ،ثم يجلب
الكرة إلى داخل المنزل ويجعلها تتقافز باتجاه البالط المكسيكي وعلى الجدار ،كما لو
أنه يخبرنا بأن منزلنا ينهار .بانغ بانغ.
يبدو ليفي مشتتًا ومضطربًا .وعندما استجوبته ،اعترف بأنه َحلم بأنه يضيعني
وسط حشد ويهيم على وجهه باحثًا عني.
في أحد الصباحات ،وبينما أشاهد األخبار مع جين أثناء تناول القهوة ،نرى البرج
الشمالي لمركز التجارة العالمية وهو يتعرض لالصطدام .كنا جزيرة متناهية في الصغر
وتكونت
ّ وسط عالم متبدل حيث تتهاوى األجساد في الهواء .ثم اصطدمت الطائرة الثانية،
سحابة الفطر الناجمة عن االنهيار ،انهيار آخر ،البنتاغون ،حقل بنسلفانيا ،والناس الذين
يفرون من مانهاتن.
يغطيهم الغبار األبيض ،فيبدون كاألشباح وهم ّ
ومرة أخرى أعيش إحساس اقتالعي من بيئتي وتجاوز الجدار وسحبي إلى
المجتمع األمريكي ،أللقى نفسي فجأة وعلى نحو ال رجعة فيه جز ًءا من المشهد ،كما لو
كنا نحن َمن نقطع جسر مانهاتن بخطى مجهدة يكسونا الغبار األبيض وقد تغيرنا لألبد.
لقد فقدنا اللون .العالم ينهار.
في المنزل ،ألتزم بصمتي تجاه ما هو واضح ،وال أعرف لماذا .أهو الخوف؟
أهي العادة؟ أم انتظار الوقت المناسب في حين أنه ليس هناك من وقت مناسب؟ ال
أعرف .لقد بقيت لفترة أطول من الالزم .ليفي ،األطفال ،أنا ،نحن جميعًا ال نتناول
انهيارنا الطويل البطيء بالكلمات.
أصر أمام جين على ضرورة بقائي حتى إتمام حفل البار ميتزفاه
ّ ومع ذلك،
لشالوم .لكن في يوم االحتفال ذاك ،سيقرأ شالوم خطابه من ورقة مطبوعة ثم يتملص
من فعاليات االحتفال ،ويقضي الوقت في الخارج مع أصدقائه ،ويدخن معهم الماريغوانا
مصوب ناحيتي ،خطابًا عن
ّ (كما سأكتشف بعد سنوات) .سيلقي ليفي ،بوجه حزين
ي في خدمة البيت والعائلة .إنه يتوسل إلي .أو هل هذا هو وداعه؟ ثم وبعد
امتنانه لتفان ّ
أن تجد األقاويل طريقها في الطائفة ،وتمهد السبيل ،سوف يصعد الحاخام فرومان إلى
ي نظرة ملؤها تقريع سافر ثم يلقي محاضرة عن المزايا التي ستكون
المنصة ،وينظر إل ّ
في السماء بانتظار المرأة المحتشمة احتشا ًما صحي ًحا والتي تطيع الشريعة.
لكن قبل كل هذا ،وحينما كنت ما أزال في غمرة التحضيرات للبار ميتزفاه ،فازت
قصتي القصيرة عن الفتيين المثليين "قصة بركة" بمسابقة مجلة " ."Momentسيقرؤها
آالف الناس .تصرخ جين فر ًحا وترقص .وفي الجامعة ،قبيل التخرج ،يمسك دان ستيرن
إصدار المجلة واسمي على الغالف ويرفعها أمام صفه ويقول إنه يشعر بالفخر.
ّ
يرن الهاتف في المنزل ،فيما كان األوالد ما يزالون في وبعد أيام من النشر،
المدرسة .أرفع السماعة وأسمع":هل أتحدث مع ليا الكس؟" كان صوتًا ذكوريا ً مألوفًا
ً
قليال ،وذا لهجة يديشية ثقيلة.
"أجل .من يتصل؟"
"أنا الراف شيتشر".
صوت الشريعة .الراف شيتشر ال يهاتف الناس ،فهو حاخام الحاخام ،وهو مب ّجل
صا الحاخامات ،حتى األكثر نفوذًا وقد ًرا
في الشريعة-والناس ،الناس الحسيديون ،وخصو ً
من بينهم ،هم من يتصلون به .ثم أتذكر .هذا هو نفس الصوت -مجرد صوت -الذي
المهولة عن قرار إجهاض طفلي الذي لم
ّ تنازلت له ذات مرة عن المسؤولية الجسيمة
يولد .أحارب الخوف القديم من الشريعة ،النزعة للخضوع ،كما لو أنني طفلة تشاهد
منزلها وقد بدأت النيران تنشب فيه .أفكر ،إنني مستعدة ،يجب أن أكون مستعدة.
"هل هذه ليا الكس التي كتبت مثل هذه القصة في إحدى المجالت؟"
"أجل".
"لقد اعتقدت بأنك امرأة متدينة ترتدي باروكة محتشمة".
أقول" :هذا ما يقولونه عني".
"إذن كيف استطعت فعل شيء كهذا؟"
يضربني شعور حاد بالذنب ،فأبتلع ريقي .لكن في هذه اللحظة ،فإن شخصيتي
في القصة القصيرة ،شخصية بركة ،هي شخصية حقيقة .في هذه اللحظة ،أحبه أكثر من
نفسي .والراف شيتشر دعاه للتو "شيئًا كهذا" .بركة ليس شيئًا كهذا.
"هل قرأت القصة ً
فعال؟"
يقول" :بالطبع ال".
"إذن كيف عرفت بشأنها؟"
ي".
"عن طريق أناس جاؤوا إل ّ
أقول" :لو قمت بقراءتها ،لوجدت بركة فتى صال ًحا .إنه يتعلم ،يتعبد ،إنه يريد
أن يفعل الصواب .وهو لم يرتكب أي خطيئة".
"إذا؟"
أتنفس بصعوبة ،ال مجال للتراجع .أقول" :أيها الراف شيتشر ،بركة يمثّل الكثير
من الفتيان في يشيفاتنا .أنت تعلم ذلك .وبركة ولد على هذه الطبيعة .لقد جبله الرب
على تلك الشاكلة .كل ما فعلته هو أنني أظهرته من الداخل .لقد أظهرت صراعه".
"لكنك تنشرين غسيلنا القذر!" يقول صار ًخأ ،إنها جريمة حسيدية قصوى.
أقول" :لم .أرتكب .أي .خطأ"،
يغلق الحاخام الخط.
أقف وأنا أرتجف ،لقد جادلت الشريعة.
قذرا. ً
غسيال ً لست
"ستكون معتقداتك النور الذي ترى به ،بيد أنها لن تكون ما تراه ،ولن تكون
ً
بديال عن الرؤية".
فالنيري أوكونور
يناير .2003في سيارة فولكسفاغن صفراء مكشوفة ،أنزل سقفها ،يقف رجالن
من هيوستن ،هما جون لورنس وتايرون غارنر ،يطوفان الشارع الذي يشهد مسيرة
هيوستن للفخر بالمثلية ،وهما يلوحان للحشود .فبعد أن اعتقال على خلفية ممارسة الجنس
بالتراضي في حرمة منزل لورنس ،كسب الرجالن للتو قضيتهما مع المحكمة العليا،
مبطلين تشريعات اللواط في كافة أنحاء البالد .وقد علّق القاضي كينيدي" :ليس من عمل
الحكومة أن تسن تشريعات تتعلق باألخالقيات الفردية ،وإنما عملها ضمان الحرية.
ّ
يحط من قدر حيوات األشخاص المثليين ".ومن أول إلى آخر فالقانون بصيغته الحالية
الشارع على امتداد مجمعات سكنية ،وفوق األسيجة العالية ،واألسطح ،يحتشد آالف
الناس وهم يلوحون ويهتفون ،وأنا كنت من بينهم.
ً
وبدال اآلن ،إنها الليلة األولى من ليالي الفصح لعام ،2005في شقتي الصغيرة.
من قضاء األسابيع في التنظيف والطبخ من أجل العيد ،غيرت من تقاليد "الحجاداة -
دليل السيدار" وجلست على رأس الطاولة ،حيث كان يجلس ليفي ،ألقود السيدار بنفسي.
كتبت رحلة في الذاكرة الجمعية .غادر ضيوفي للتو-سوزان ،حبيبتي الجديدة ،وجانيس
جوا من سياتل وطهي الديك الرومي ،ومندل مع حبيبته الحالية،
وعائلتها ،وليبل الذي أتى ً
وإيتزك وشالوم ،رغم أن إيتزك يعيش معي وسيعود في وقت الحق .الفتيان متوجهون
إلى السيدار الذي يقيمه والدهم (مائدتا سيدار في ليلة واحدة!) لينضموا ألشقائهم اآلخرين.
ي على مقعد عال ،وأخلع أغوص في كرسيي الجلدي ذي الذراعين ،وأرفع قدم ّ
ّ
وأحك قدمي اليمنى .يقفز الكلب إلى جانبي .الجلد الداكن بارد عني فردتي حذائي
سا بعد
الملمس ،ونبضات قلب الكلب على ساقي .يكاد الصمت في الغرفة أن يكون ملمو ً
ك ّل الضجيج ،فتجتاحني بهجة هادئة لطيفة ،إحساس عميق بالذات المجردة ،بالوجود،
تزود ،لحظة عيش بسيطة. يجعلني أدع رأسي يرت ّد إلى الوراء وأغلق عين ّ
ي .إنها لحظة ّ
يمكن للمرء أن يدعو هذا السالم بـ "الرب" لكنّه ،في هذه الحالة ،ليس الرب الذي نتوق
ونسعى إليه من خالل الصالة والطقوس .كما أنه ليس الرب الموجود في التاريخ ،أو
الرب الموجود في النصوص المقدسة ،وليس رب اليهود أو أي جماعة محددة من الناس
تدّعي ملكيته الحصرية .لو كان لي أن أدعو سعة الوجود هذه ،هذا الجوهر الساكن،
عرف ،ربًا يترك األسئلة معلقة ،ويؤكد األنا فحسب.
ربًا ،فسيكون ربًا غير م ّ
إننا هنا فحسب .اآلن.
مارس .2013أكتب هذا وأنا جالسة على طاولة غرفة الطعام في البيت غير
التقليدي الذي تقاسمني إياه سوزان في هيوستن ،تحيطنا ذكريات حياتينا ،الماضية
والحالية .الباب الخلفي مفتو ٌح على حديقة تتناثر فيها أوراق الشجر مؤذنة بوصول هواء
الربيع .تدور مروحة السقف دورات كسولة مصدرة أزي ًزا خفي ً
ضا .لوحات من رسم كال
ي معلقة على مقربة .وإلى جانبها ،أسالف سوزان األمريكيون القرويون الفخورون
والد ّ
الخاص بي في الركن في حقيبته ،جاهز للتمرين اليومي.
ّ يسهرون للحراسة .التشيللو
وبنكي ،مدبرة المنزل المحبوبة -وهي أم طفولتي -تسكن في منطقة ليست بالبعيدة .وفي
الخارج ،طائر كاردينال صغير مختال يغنيWhat what what’s with :
? ،youuuuبمقابل الهديل األجوف لحمام الحداد .فقد حان وقت بناء أعشاشها.
ارتشفنا قهوتنا خارج المنزل هذا الصباح في استراحة هانئة قبل بداية يومنا .لدينا
أربع شجيرات توت ونوع جديد من نبات الجهنمية بال أشواك علينا غرسها .لكن ً
أوال،
تقوم سوزان بكنس أوراق الشتاء المتناثرة في الفناء الخلفي فيما يتقافز كلبنا األبله من
فصيلة اإليرديل في كومة األوراق .بعد قليل ،سأترك هذا الدفتر جانبًا وأذهب لتقديم
المساعدة في تعبئة األوراق واألغصان في أكياس ومن ثم سحبها إلى الرصيف لتقبع
هناك بانتظار شاحنة نفايات المدينة.
ي أن أبدأ من جديد بالتدرب على ساللم بسيطة. عندما عدت للتشيلو ،كان عل ّ
ورغم أن أسلوبي أصبح اآلن يتسم بطموح أقل ،لكنه أكثر عمقًا وهدو ًءا .ويبدو أن
سمعي قد تغير؛ فالموسيقى التي كنت اعتبرها موسيقى متقشفة ،مثل موسيقى باخ،
أصبحت تبدو لي اآلن فيّاضة بعاطفة مستترة.
تنوع البيئة األمريكية حيث هبطت ،ومن مدى ثرائها.
تصيبني الدهشة كل يوم من ّ
بالتفرد في
ّ قادتني الكتابة إلى الفن واألوبرا والتعليم وإلى مجتمع هائل من الكتّاب يحتفي
كل مناسبة سانحة .وقادتني إلى العثور على قصص أناس قادمين من ثقافات كثيرة
وأرتني ِسماتنا المشتركة .وعلى عكس المجتمع المتماثل الذي غادرته ،يبدو أن معيار
سا ً
مستقال على نحو تام .أحمل معي ،دو ًما ،إحسا ً االنتماء الوحيد هنا هو أن تكون فردًا
مبه ًجا بأن قوتنا تكمن في هذا التنوع المبهر الموجود حولي.
لدى سوزان قارب كاياك َبنَته بنفسها .إنه قارب جميل على الطراز الهندي الشمال
غربي ،صنع هيكله من ألواح خشب السيدر المنقوعة والمقوسة والمثبتة يدويًا باألوتار.
يرتفع الطرف األمامي على شكل رأس أفعى لتشق األمواج .ورث الهنود تقليدًا برسم
تميمة داخل القارب ال يستطيع أن يراها إال المجدف .وفي وقت متأخر من تلك الليلة
التي شيدت بها سوزان القارب ،رسمت تلك التميمة بداخل زورقها باستخدام دماء
صا عن الهوية والقوة والروح .لقد قضيت سنينَ من
تعبيرا خا ً
ً أنوثتها ،والتي تمثل لها
سا tumah ،نجاسة ،وأنها
حياتي مع فكرة أن مثل هذه الدماء تجسد ظال ًما روحيًا دام ً
تشك ّل تهديدًا روحيًا للرجال ،لقد عشت مع ذلك اإلحساس المميت بالخزي من نفسي في
نصف كل شهر .اآلن ،عندما ال تكون سوزان تستخدم الكاياك ،فإنه يكون معلقًا في
غرفة المعيشة الخاصة بنا.
سوية استكشفنا أنا وسوزان السهوب المنغولية على ظهور الجياد ،تنزهنا مشيًا
عا
على األقدام عبر غابة مطرية في بيليز ،نزلنا إلى داخل بركان مكسيكي ،جلنا قال ً
وكاتدرائيات في أوروبا ،قطعنا سور الصين العظيم .ركبنا زوارق الكاياك إلى أسفل
نهر لي الملتوي حول تكوينات الكارست المقوسة ،وجدفنا في مسارات األهوار في ثالث
قارات والكثير غير ذلك .وخالل كل ذلك لم أتوقف عن البحلقة وكأنني قروية ساذجة،
باحثة عن طاقة الحياة الكامنة في كل هذا.
ي أن أعترف ،ففي النهاية كان إخفاء الحقائق ،وكل
أما بالنسبة ألبنائي ،فعل ّ
األكاذيب التي اقترنت بذلك ،هو ما ألحق بهم أكبر األذى ،إذ كنت أخبر نفسي بأنني ما
وأخيرا ،كنت والدتهم الحسيدية،
ً ً
فأوال أخفي ذلك إال لحمايتهم ولصون حياتهم الدينية.
أخيرا بكل شيء،
ً أيقونة اإليمان واإلخالص عندهم .لقد وثقوا بي ،وعندما أخبرتهم
اكتشفت بأننا جميعًا نعلم الكثير من األمور عن أمهاتنا ،أمور جوهرية ،لم تفصح عنها
ي منهم.
أمهاتنا .أخبرهم أنني مثلية ،ولم يتفاجأ أ ٌّ
لقد استغرق ذلك الكثير من الوقت ،لكنني لم أستسلم .فأبنائي ما يزالون بحاجتي،
ولعلهم سيبقون كذلك ،وأنا بحاجتهم .إنني اليوم ،هكذا آمل ،ذات تواجد مستمر في
حيواتهم.
غادر أربعة من أبنائي حظيرة الحسيدية .جميعهم كبروا وانتقلوا إلى أنحاء مختلفة
من البالد .أخبرهم جميعًا ،سواء أكانوا أرثوذكسيين أم ال ،أنه على الرغم من العيش أو
تجربتنا الماضية في العيش ضمن حياة مقيدة بالشريعة تملي عليكم ما يجب أن تكونوا
عليهّ ،
فإن عليكم أن تكتشفوا من أنتم .كونوا أنفسكم .أخبرهم أن أدوار الجندر الصارمة
تترك الناس المنخرطين في عالقات وحيدين مع األعباء ،وأن سحر العالقات السليمة
الطيبة يأتي من خالل المشاركة بعبور ذلك الحد الفاصل ،مشاركة المسؤولية المالية أو
إخراج القمامة أو إعداد الوجبات أو تقديم الرعاية لألطفال .أرجوهم أن يتقاسموا كالّ
من التبعية والقيادة.
حينما أنجبت سارة وزوجها الحاخام مولودهما األول ،ذهبت إلى كراون هايتس،
عا من أجل مساعدتها .فلمست التغيير وقد
الحي الذي يقطنه ال َحبر ،ومكثت هناك أسبو ً
طرأ على الحياة هنا؛ فقد اجتاح اإلنترنت المكان ،ومعه تطورات جديدة .وأصبح من
المستحيل الحفاظ على الجدران قائمة على حالها؛ فاألزواج الشباب يعملون سوية مع
زوجاتهم لالعتناء باألطفال ،ويتزايد اإلقدام بين الشباب على ارتياد الجامعات ،والكثير
صرت التنورات بعض الشيء،
من النسوة الشابات يظهرن بإطالالت عصرية؛ إذ قد ق ّ
وزحفت الشاالت إلى الخلف لتبدي ً
قليال من شعورهن .وبشكل غير رسمي ومن دون
إشهار ،بدأ البعض يستخدمون موانع الحمل .وقد أنشئت منظمة مجتمعية لتحض
العائالت على عدم نبذ أوالدها الضاليّن .وبينما أشق طريقي كل يوم وأنا حاسرة الرأس
وأرتدي البنطال عبر بحر من اللحى والقبعات ،والتنورات والباروكات ،إلى الشقة
الصغيرة التي تقطنها سارة ،أشعر ببقايا من الخوف القديم ما تزال تسكنني ،لكنني،
ي ألحيي أصدقائي القدامى .أما بالنسبة ألحفادي،
ومثلما أفعل في هيوستن ،أفتح ذراع ّ
فإني أصر على مناداتي بالتسمية الحسيدية القديمة للجدة " ،"Bubbieوهي إعادة
صياغة لكل ما تنطوي عليه التسمية ،كما أظن ،لكنني حملت كل واحد من أحفادي
ووقعت في حبه .وهأنذا ،جدة مثلية ،ترتدي الجينز ،ألحفاد حسيديين .إنني موجودة ،ولم
أذهب بعيدًا ،لغاية اآلن على األقل.
أف ّكر أحيانًا بتلك المقابلة التي جرت منذ أمد بعيد مع الحاخام غولدنبرغ ،عندما
كنت مراهقة .كان الحاخام أصغر سنًا مما أنا عليه اآلن ،وربما لذلك لم يعرف أن يسأل
الفتاة التي كنتهاِ ،ل َم كانت تحس ّ
بأن وجود روحها مؤلم؟ أوِ ،ل َم كانت تسعى خلف الدين
بحماس متّقد؟ أوِ ،ل َم كانت تحاول أن تعيد تعريف ذاتها وتهرب من المنزل في ذلك السن
اليافع؟ لكنه لو كان قد سألني ،لو كان قد است َد ّر من لساني الحكايات ،فكيف كنت سأصبح
يا ترى؟ هل كنت سأتّخذ وجهةً مختلفةً؟
ضأ بسنواتي التي قضيتها في الحسيدية ،كيف أخبرونا بأننا نحن النساء
أفكر أي ً
"أقوى روحيًا" من الرجال ،ومن ث ّم فإن لنا حاجة أقل لإلحياء المتواصل للطقوس
ً
وبدال عن المشاركة في الخدمات اليومية أو ربط تمائم التيفيلن وارتداء شاالت التقليدية.
الصالة أو الصعود إلى التوراة ،كان يفترض بنا أن ننال الشرف بإخفاء أجسادنا،
وبالصمت أمام المأل ،وأن نترقى بالمنزلة عن طريق إنجاب األطفال بال توقف ،وخلق
فسر لنا كيف أن "الحاجة
بيوت يهودية .ونحن رغبنا بأن نصدق ذلك .وما من أحد قط ّ
األقل" للطقس قد ترجمت إلى إقصاء فاعل من جميع الطقوس العامة واألشد خصوصية،
ومن أي دور قيادي أو صوت عام ،ما جعل جوهر الدين األكبر من نصيب الرجال
حصرا.
ً
في تلك السنوات ،كان أكبر مخاوفي وجوديًا ،من نوع ماذا لو ،إذ ّ
إن أبسط األشياء
كربط الحذاء ،كان قد تحول بفعل الدين إلى فعل روحي ،ماذا كان سيحدث لو أن األعمال
ً
رموزا على اإلطالق. اليومية البسيطة التي حولناها إلى رموز ذات دالالت عميقة لم تكن
ماذا لو كانت تلك األعمال هي مجرد ارتداء ثياب وأكل وانتعال أحذية ،ولم يكن مه ًما
اختبارا
ً كيفية قيامي بها؟ ماذا لو كانت مشقة األعمال اليومية مجرد مشقّة ،وليست
لإليمان؟ ماذا لو لم يكن الرب يقوم بمراقبتنا والحكم علينا؟ ماذا لو لم يكن هناك رب من
األساس؟
ّ
الفظ لروحي ماذا لو كانت حاجتي ألن تحضنني امرأة ليست إال قتال جسدي
النبيلة من أجل بسط الهيمنة؟ ماذا لو كانت خيبة أملي في البقاء مع ليفي هي حقيقة
رئيسية في زواجنا ،وليست مجرد تحد من الرب كان متوقعًا مني أن أتخطاه؟
في النهاية ،أصبح ديننا فخ استدراج وخداع كبير ،لكنني حينئذ كنت قد تعرفت
على المقايضة ،األجندة الخفية في األصولية ،سرقة الروح عبر وعودها بإنقاذ الروح.
لكن ،عندما كنت حسيدية ،فربما كانت قوة الخيال المحض لدينا في حد ذاتها شيئًا
يعتّد به ويحسب حسابه .لقد تخيّلنا التوراة كتشكيلة من الحقائق الدامغة :الشريعة كلمة
الرب ،يو ًما ما سيحملنا الرب جميعنا إلى الفردوس ،كل فعل صغير نؤديه حسب الطقوس
يغيّر العالم .ربما يكون الرب مفهو ًما غايةً في البساطة فهو قد (هو؟) يتدخل بحسب شدّة
أملنا ،وهذا ما كنا نتخيّله .هذا ما كانت عليه صالتنا ،رغبتنا الجماعية المر ّكزة ،حاجتنا
الجمعية لالعتقاد ،أملنا المتضخم وخيالنا المحض ّ
بأن تعبيراتنا عن األمل سوف تتالعب
باألحداث والناس والصحة وتعيد توجيهها جميعًا إلى ما فيه مصلحتنا ،لكي يكون كل
واحد منّا أكثر من مجرد قطعة حطام طافية يحملها إعصار .هناك قدر كبير من القوة
في ذلك .إن الحياة الحسيدية هي ما علمني أن أبني عال ًما مقنعًا من خالل الخيال وحده.
لربما كانت تلك السنوات هي السبب في ممارستي للكتابة.
في النهاية ،إنني أعرف على األقل أن ما أعاقني وأبقاني مثقلة للغاية ليس الرب،
وإنما تشبثي الضاري بالرب.
في البداية لم أستطع أن أتخيّل فكرة التخلص من الشريعة ،لكنني قررت بأنني لن
سا
أسمح لقيود الساباث أن تعزلني عن أصدقائي .ثم صرت أرى مشاركة الطعام طق ً
إنساني أرحب يمكنه أن يبني رابطة جوهرية وطيبة بين الناس ،وأدركت أن قيود الطعام
الحالل قد حرمتني من عدد هائل من مثل هذه الفرص ،وذلك ما أدى بي إلى رفض تلك
القيود .إن الدين للناس الراشدين ،كما قال الحاخام غولدنبيرغ ذات مرة ،إنه مخطط
الدرب الذي يسلكه المرء .اليوم ،أصبحت األسئلة تح ّل محل إيماني .أحب الكيفية التي
تبقي بها األسئلة الكونية التي بال إجابات ك َّل االحتماالت مفتوحةً .يتمدد الكون في ثالثة
أبعاد عجيبة وغامضة.
ومع ذلك فإنني أفهم الحاجة واألمل اللتين يحضر بهما الناس إلى الدين ،الملجأ
الذي يبحثون عنه هناك .حيث قد يجد المرء الحكمة والمجتمع والدفء .في عالمنا
ً
جماال سرمديًا وتنظي ًما وهوية واستمرارية مع ماضينا العتيق. المشوش ،يعرض الدين
أر تلك المجموعة الهائلة من التوقعات واألحكام .أتمنى لو أنني
ضا لم َ
أتمنى لو أنني أي ً
لم أعرف عن تجربة تلك القوى المخادعة التي يمكن أن تنشأ في المجتمعات الدينية،
جراء صفات غير قابلة للتغيير ،وحيث الرسائل الملتوية
حيث غالبًا ما يحكم على الناس ّ
والوعود المستحيلة يمكن أن تكون جز ًءا من الحال ،لكنني أعرف ذلك الحال.
ومن منطلق الحب الشديد ،يا أخواتي ،أقدّم لَك ّن أفوا ًها.
شكر وعرفان
أتوجه بخالص الشكر لروزلين براون ،التي ما كانت تعلم إلى أين سيفضي
لطفها وبصيرتها الفذّة .وأكثر من مجرد الشكر أدين به للعزيزة شارون ،التي
ناولتني المصباح اليدوي ثم ظلت إلى جانبي .وأعرب عن امتناني العميق لمعلمي
ي الالمعين
ومرشدي دان ستيرن ،الذي يحزنني أن أوجهه له بعد رحيله ،ولمعلم ّ
روبرت بوسويل ومارك دوتي .وشكر خاص ألونر مور ،الذي تحداني لكي أواصل
مسيرتي عندما مرت حياتي بمنعطف حاسم ،وللمعطاءة الودودة غلوريا ستاينم
سيرا على األقدام في هيدجبروك ،أبقتني
التي ،وخالل نزهاتنا الطويلة التي قطعناها ً
مطلعة على مجريات العصر التي فاتني أن أواكبها عندما كنت أقبع وراء الحجاب،
ومن ثم َه َدتني بكل أناة إلى الكثير من التفاصيل التي كانت أساسية إلفهام قصتي.
كما أوجه شكري لتشانا بلوخ ،ذات الرؤية الشاعرية وصاحبة السكين المطابق
للشريعة ،ومن بعدها لبام بارتون وجولي كيمبنر وجوديث لتل وآن سلوان ولويس
ستارك وآن ويسغاربر .وشكر خاص موصول إلى شركة يادو ( )Yaddoعلى
ي اإلقامة الساحرين ،ولمركز فيرمونت ستوديو ولهيدجبروك المذهلة على مكان ّ
األمر ذاته ،والتحاد فنون هيوستن على المنحة الفنية التي سهلّت الشروع بهذا
الكتاب ،ولشركة ( ،)InPrintالكائنة في هيوستن ،على سماحها لي بأن أكون
السيدة المجنونة في العلية (انظر" :فنانة في المسكن") على مدى عامين .والشكر
لكامي أوستمان وجين مارلو على مالحظاتهما الفذة ،ولجميع األشخاص الذين
ي أماكنَ ألكتب فيها ومن تحملني خالل رحلة
المسودة ولمن عرضوا عل ّ
ّ قرؤوا
ولك ،أماه،
الكتابة الطويلة وأمدني بالفكاهة والصداقة وهم كثر لم يتسنَ لي ذكرهمِ .
وأخيرا
ً أينما قد تكونين .لقد استرجعنا أنفسنا بطريقة ما وال أعرف كيف صار ذلك.
أوجه امتناني الالمتناهي لسوزان ،زوجتي ،التي أثرى عطاؤها وحبها وصبرها
العجيب هذا الكتاب مثلما أثرى حياتي في كل يوم.
المؤلفة في سطور
حازت أعمال ليا الكس األدبية ،الخيالية منها والواقعية ،على الجوائز
ونشرت في العديد من المختارات األدبية والمطبوعات ،والمطبوعة واإللكترونية،
ومن ضمنها ديم Dameوليليث Lilithوصالون .Salonكما نشرت مراجعة
لعملها المسرحي في النيويورك تايمز ومجلة رولنغ ستون ،وب َّ
ث على هواء اإلذاعة
الوطنية العامة ( .)NPRالكاتبة حائزة على ماجستير في مجال الكتابة اإلبداعية
من كلية الفنون الجميلة في جامعة هيوستن.