You are on page 1of 143

‫هواري وسام‪/‬برج بوعريريج ‪/‬الجزائر‬

‫األرواح المقتولة ال تغادر أبدًا‬

‫نفض الغبار عن بزته الزرقاء ورمقني بنظرة باردة دون أن‬


‫يرسم وجهه المتجمد أي تعبير يذكر‪.‬‬

‫ثم قال‪ :‬لست نادما يا زينب ولن أكون كذلك ولِما أندم وفترة‬
‫احتجازي لن تدوم على أية حال بما أن القاضي ال يملك األدلة‬
‫الكافية ضدي‪.‬‬

‫كان ذالك السجين رقم ‪ 212‬األصلع صاحب الذقن المقسوم‬


‫واألقراط الفضية التي افترشها الكبريت لتصبح سوداء اللون‬
‫دون أن ننسى وشم التمساح على ذراعه اليمنى‪ .‬إنها ببساطة‬
‫الهيئة النمطية لقاتل ومريض نفسي أقنع زوجته باالنتحار بعد أن‬
‫اكتشف خيانتها له باإلضافة إلى أ ّنه امتلك قدرا كافيا من الوقاحة‬
‫سمح له بإسقاط التكلفة بيننا من أوّ ل لقاء‪....‬‬

‫لكن األمر أصبح كالروتين الممل بالنسبة لي‪...‬‬


‫سفاح يقتل كل من وقعت عليه عينه‪ ،‬مغتصب أطفال‪ ،‬اكل لحوم‬
‫بشر‪ ...‬كلهم زبائن عيادتي األوفياء‪ ،‬يطالبون بشهادة ختم عليها‬
‫"مريض نفسي"‪ ،‬تخفف من عقوبتهم وإن كانت غير كافية في‬
‫نظري‪.‬‬

‫فأغلبهم يعترف أمامي باقترافه الجرم‪ ،‬لكن لحسن حظهم قانون‬


‫المهنة يمنعني من تسريب أي سر من مرضاي ألي كان‪.‬‬

‫ولو كانت –الشرطة ‪-‬فاضطر لسماع قصصهم المشبعة بالكالم‬


‫القذر والمثقلة بالوقاحة وبالقليل من عبارات التهديد‪ ...‬وأظل‬
‫عاجزة‪...‬‬

‫الزلت راضية بمهنتي ففي النهاية تبقى على قول زمالئي األكثر‬
‫مالئمة المرأة تجاوزت سن األربعين والتزال عزباء تعيش‬
‫وحيدة وتعاني من انحناء في العمود الفقري وتساقط في الشعر‪،‬‬
‫ضف للقائمة مزاجي المتقلب باستمرار‪...‬‬

‫رسمت األن على وجهي ابتسامة خبيثة وعقدت ذراعي عند‬


‫صدري وقلت بصوت ثابت‪.‬‬

‫أوافقك الرأي فترة احتجازك لن تدوم‪ ،‬يمكنني أن أهنئك حقا‪...‬‬


‫ولكن من سينقذك منها‪ ...‬آه‪ ...‬أنا أعني زوجتك فكما ال تعلم أيها‬
‫المحترم األرواح المقتولة ال تغادر أبدا‪ ...‬خصوصا وإن لم ينل‬
‫قاتلها جزاءه الذي يستحقه‪ ...‬ستبقى تالحقه حتى تنال انتقامها‬
‫بنفسها‪.‬‬
‫ختمت كالمي بغمزة تبعها صمت رهيب وزوجين من األفواه‬
‫المفتوحة‪ ،‬تعود الثانية لمرافق السجين الذي كان يتنصت على‬
‫حديثنا خلسة‪ .‬لم يدم األمر طويال حتى انفجر صاحبنا المحترم‬
‫من الضحك فكيف لطبيبة تؤمن بالعلم والتفسيرات المادية لكل‬
‫الظواهر بأن تتفوه بهذه الترهات‪ ...‬ال ألومه معه حق وال أدري‬
‫كيف لجأت لحجة سخيفة كهذه‪ .‬لكنني وبالرغم من ضحكاته‬
‫الهستيرية رأيت نظرة توتر ورعشة قلق لم يستطع اخفاءها‪...‬‬
‫ماذا؟ ‪ ...‬القليل من الكوابيس المرعبة لن يضر أال توفقني‬
‫الرأي؟‬
‫ِوحـــــــدة‬
‫إن المسألة مسألة وقت فحسب فكلما كبرت ستجد أن المناصب‬
‫واإلنجازات ال تغريك بقدر ما يغريك ذلك اإلحساس باألمان‬
‫واالنتماء فال تواسيك شهاداتك التي يكتسيها الغبار وهي معلقة‬
‫في الجدار الذي تسند عليه مكتبك ما دامك لم تجد من تقاسمه‬
‫فخرك‪ ،‬فيمكنك أن تكتشف نجم جديدا في السماء مثال‪ ،‬لكن لن‬
‫يبعث األمر شعورا بالسعادة يضاهي ما يبعثه إصالح غسالة‬
‫مالبس معطلة رفقة شخص اضطررتما معا الى غسل الكثير من‬
‫المالبس يدويا‬
‫كنت أفكر وأنا أمسك بكوب القهوة الداكنة أمام النافذة أراقب‬
‫قطرات المطر التي تطرق زجاج النافذة مشكلة إيقاعا كئيبا‬
‫وكأنه يعزف لحن العزلة األبدية الذي يغلف حياتي‪.‬‬
‫أتظن أن المشهد عميق؟ ليس كذلك أيها القارئ الغالي أكره‬
‫القهوة ولكنني مضطرة لتحملها فهي الشيء الوحيد المتوفر‬
‫هنا‪ ...‬حسنا أنا وحيدة ولكن األمر ال يمنع أنني أحب "الميلك‬
‫شايك" أو عصير الفواكه المشكلة أو حلوى الخطمي التي تعلق‬
‫بين األسنان‪ ،‬ال تخلط األمور رعاك هللا‪ ...‬ثم انني أراقب‬
‫األمطار ليس لرغبة في تأمل المشهد الدرامي أو استعادة‬
‫الذكريات األليمة وإنما أنتظر توقفها ألستطيع ببساطة ان اعود‬
‫للمنزل وانهي هذا اليوم الطويل ألن صاحبتك هذه‪-‬اقصد نفسي‬
‫طبعا‪ -‬تمت مصادرة سيارتها بعد أن تأخرت في تسديد قرض‬
‫للبنك‬
‫ارتديت معطفي وغادرت بعد أن أقفلت العيادة متجهة إلى المنزل‬
‫مرورا بالصيدلية القتناء حزمة مشكلة من مختلف أدوية الضغط‬
‫بعد أن نفذت مني هذه األخيرة‬
‫وبينما أخرج من الصيدلية تعلقت عيناي بإعالن عن رحلة إلى‬
‫مخيم ثلجي لمدة أسبوع‪ ،‬في العادة ال يشد انتباهي هكذا فعاليات‬
‫لكن صورة الحشد السعيد من الناس في اإلعالن أغرتني‪ ...‬أناس‬
‫طبيعيين مسالمين ال يعانون من األمراض النفسية وال يدفعون‬
‫أزواجهم إلى االنتحار‪.‬‬
‫التقطت صورة لإلعالن بهاتفي وقررت أنني سأفكر بشكل جدي‬
‫باالنضمام إلى الرحلة عند العودة إلى المنزل هذا إذا لم أكن قد‬
‫اتخذت قراري بالفعل فليس األمر وكأنني أمتلك عائلة أقلق‬
‫بشأنها أو أن مجانين العيادة سيشتاقون‬
‫لوجودي‪.‬‬
‫دخلت البيت واتجهت للمطبخ حتى أحضر لقمة أسكت بها‬
‫عصافير بطني التي صارت تركل بعدما لم تفد الزقزقة شيء‪.‬‬
‫معاير نسبية‬
‫ال تقل أيها الغالي أن المظاهر خداعة‪ .‬فهاته األخيرة لم تكن يوما‬
‫معيارا صائبا للحكم على األشخاص وإنما المعاير يا صاحبي‬
‫هي تلك المفاهيم النسبية المتشكلة من مجموعة المبادئ‬
‫والصفات المسطرة في عقلك والتي كونتها من تجربتك‬
‫المتواضعة في الحياة فلذالك قد تلقي حكما إيجابيا كان أو سلبيا‬
‫على فالن مثال لتكتشف في ما بعد أن فالن بريء أو مذنب وأن‬
‫حكمك ال يتوافق معه‪ ،‬لكن الخطأ ليس خطؤك فأنت قمت فحسب‬
‫بإعطاء انطباع عليه على حسب المعطيات المسبقة والمعايير‬
‫األولية التي امتلكتها في عقلك وبعد هاته التجربة تكون يا‬
‫عزيزي قد أضفت ‪-‬أو أزلت‪ -‬معيارا جديدا إلى القائمة وتتكرر‬
‫الحلقة حتى تكون في النهاية قد شكلت مجموعة معاير تسمح‬
‫بتلقيبك بالشخص الحكيم‪.‬‬

‫أتجه اآلن إلى ملتقي االنطالق الخاص بالرحلة الواقع في الحي‬


‫المجاور‪ ...‬أج ّر حقيبتي المهترئة لتصدر صوت احتكاك مزعج‬
‫بعد أن كسرت إحدى عجالتها‪ ...‬أعتقد أن آخر مرة استعملت‬
‫فيها حقيبة كانت يوم انتقلت إلى شقتي أي قبل ستة سنوات‪...‬‬
‫وصلت ألرى ثالث حافالت كبيرة وتجمعا مهيبا من الناس‬
‫البدناء آآه أعتقد أن بدانتهم تعود الرتدائهم المبالغ للمعاطف‬
‫السميكة وحملهم لحقائب الظهر الضخمة‪ ...‬ترى بعضهم يحضن‬
‫عائلته بعيون غارقة بالدموع وتسمع وصاياهم في مشهد‬
‫درامي‪ ...‬فلم ألبث حتى اقشعر بدني واحمرت عيناي‪ ،‬ولكن‬
‫مجددا ليس بسبب المظهر ولكن بسبب الصقيع والجو البارد‬
‫واالنتظار الممل الذي كان علي مواجهته بسبب عواطفهم‬
‫الجياشة وعدم قدرتهم على تحمل أسبوع واحد بعيدا عن‬
‫عائالتهم‪.‬‬

‫ركبنا أخيرا وجلست رفقة فتاة شابة يهيأ لي أنها في الثامنة‬


‫والعشرين من العمر سمراء بعيون عسلية وشعر مجعد وأنف‬
‫أفطس تمسك كيسا فارغا بيد وتمسك قارورة "كولونيا" باليد‬
‫األخرى ال تأخذ وقتا طويال في التفكير حتى تدرك أنها مصابة‬
‫بدوار الطريق‪ .‬علمت بعد أن فتحنا حوارا بيننا أن اسمها رزان‬
‫يتيمة األب وأنها باإلضافة الى دوار الطريق مصابة وراثيا‬
‫برهاب األماكن المغلقة أيضا‪.‬‬

‫ال أنكر أنني استلطفتها حقا برغم من شخصيتها الغامضة بعض‬


‫الشيء‪.‬‬
‫وصلنا لمقر المخيم بعد رحلة دامت ستة ساعات أصبت خاللها‬
‫بشتى أنواع التشنجات التقرحات وباإلمساك طبعا‪.‬‬

‫‪-‬آآه الهواء نقي وكأن ِرأتاي تتذوقان األكسجين ألول مرة‪ .‬قالت‬
‫رزان وهي تفتح ذراعيها وترفع رأسها عاليا للسماء‪.‬‬

‫بعد ان رسمت ابتسامة عريضة على ثغري قلت‪- :‬أي منطق هذا‬
‫تعتمدين عليه؟ الفيزياء تقول أنّ نسبة األكسجين تقل كلما ارتقيت‬
‫إلى ارتفاع أعلى‪ ،‬وكما تالحظين نحن على قمة جبل‪.‬‬

‫انفجرنا ضاحكتين ليقاطعنا رجل رياضي الجسد بلحية شقراء‬


‫خفية يمسك ملفا أزرق بين يديه ‪-‬اتضح فيما بعد أنه أحد‬
‫منضمي الرحلة ويدعى السيد جمال‪ -‬قائال‪:‬‬

‫‪-‬على كل واحد منكم اختيار شريك للسكن ثم التقدم ألخذ مفتاح‬


‫الكوخ من الكشك المقابل‪ .‬أعتقد أن الجميع مرهق االن لذلك‬
‫اليوم سيكون مخصصا للراحة وغدا سنبدأ نشاطاتنا المتفق‬
‫عليها‪ ...‬نراكم خالل وجبة العشاء يمكنكم االنصراف‪...‬‬

‫بدون تفكير نظرت إلى رزان ألجدها تنظر هي األخرى إلي‬


‫ليحسم األمر بسرعة كلتانا ستكونان رفيقتين في السكن‪.‬‬
‫أسرعنا إلى الكشك الذي أشار إليه السيد جمال لنجد عنده رجل‬
‫بدينا يرتدي نضارة من ذالك النوع الذي يجعل عينيك تبدو‬
‫أصغر‪ ،‬وجه مستدير وشعر بني مجعد‪ ،‬يمسك بسيجارة رماها‬
‫بسرعة حين لمحنا نقترب‪ .‬ابتسم ثم قال بصوت أخنف متقطع‪:‬‬

‫‪-‬أهالاا أههال مرحبا بكن لق__د شرفتم المك__ان‬

‫رددت‪ -:‬شكرا لك نريد الحصول على أحد المفاتيح من فضلك‪.‬‬

‫التف بسرعة وبدء يفتش بين الرفوف بارتباك وهو يقول‪:‬‬

‫‪-‬طبعا طبعا سأجده في ___ الحا_ل‪ .‬ويختم كالمه بضحكة‬


‫صاخبة وبعض التصفيق بعدما التقط سلسلة مفاتيح قد أسقطها‬
‫على األرض بين حاويات البنزين وبعض الكشافات الضوئية‬
‫الكبيرة دون قصد‪.‬‬

‫ناولني زوجا من المفاتيح ألشكره على عجل وأنصرف للبحث‬


‫عن الكوخ الموافق للرقم ثمانية عشر المكتوب على المفاتيح‬
‫رفقة رزان التي قالت وهي تحك رأسها‪:‬‬

‫‪-‬يبدو للعيان من الخارج أنه شخص طيب لكن كيف يمكنه أن‬
‫يكون سعيدا هكذا بعد كل شيء؟‬
‫تعجبت من كالمها وقلت وأنا أفتح باب الكوخ‪:‬‬

‫‪-‬انه مسكين يعاني من التأتأة ويعمل في كشك صغير على قمة‬


‫جبل متجمد‪ ...‬وتحسدينه على كونه سعيد؟ أنا أرى أن سعادته‬
‫إلنجاز عظيم في حد ذاتها مقارنة بالظروف التي يعيش فيها‪...‬‬
‫العاشر من ديسمبر يوم ملعون‬
‫أخذنا قيلولة دامت خمس ساعات‪ ...‬حسنا ربما كلمة قيلولة ليست‬
‫المصطلح الصحيح لوصفها‪.‬‬

‫ثم انضممنا إلى البقية في الخارج أين جلسوا على أغصان‬


‫مشكلين دائرة تحيط بنار تكاد تنطفئ لوال أن السيد جمال يرمي‬
‫بكتلة من األعواد الرفيعة بين الحين واالخر لتغذيتها‬

‫وهنا تعرفت وأخيرا على بعض الناس من مجموعتي التي‬


‫يقودها السيد جمال‪.‬‬

‫أوال بالل وزوجته اللذان قرّرا قضاء جزء من شهر العسل في‬
‫مخيم ثلجي على سبيل التجديد واالختالف‪.‬‬

‫وهناك السيد حسن صاحب السبعين عاما وصاحب اإلرادة‬


‫الحديدية في نفس الوقت يشارك في طبعات هذه الرحلة منذ ستة‬
‫سنين‬

‫وهناك رزان وهناك أنا الطبيبة النفسية التي يطلب منها الجميع‬
‫األن "تحليل شخصية" ولكن لألسف أخبرتهم أنني نسيت بلورتي‬
‫السحرية وبطاقات التكهن في المنزل على سبيل المزاح من‬
‫طلباتهم الغريبة‪.‬‬

‫ثم إليك يا قارئي الغالي آخر اكتشافاتي‪.‬‬

‫األولى أن الشخص البدين السعيد صاحب الكشك من صباح‬


‫اليوم هو مالك هذا المخيم ومؤسس هذه الرحالت ويعيش هنا منذ‬
‫عشر سنين والثانية أبعد هللا عنك كل مفاجأة غير سارة هي أن‬
‫زوجة المالك سوزان زميلتي في الدراسة من أيام الثانوية‬
‫وأُوضح هنا أننا لم نكن نتفق أبدا‪...‬‬

‫وها هي األن تنهمر عليّ بالمجامالت المصطنعة وحجة أنها‬


‫حاولت التواصل معي من قبل لكنها لم تستطع‪.‬‬

‫ويجلس بجوارها زوجها الذي ال يفتح فمه إال للتثاؤب‪ ...‬غير أن‬
‫الوضع لم يستمر طويال على نفس النحو كانت البداية حين سأل‬
‫بالل السيد جمال بكل عفوية عن إمكانية تمديد الرحلة‪.‬‬

‫هنا انخطف لون مالك المخيم وكذالك حدث مع زوجته‪ ،‬ليتبادال‬


‫نضرات أثقلها القلق واالرتباك ثم تنظر زوجته نحوي وتمسك‬
‫بيدي فجأة وتقول‪:‬‬
‫‪-‬أيمكننا التحدث على انفراد قليال‪.‬‬

‫أومأت برأسي موافقة وذهبنا إلى بيتهما الذي سبقنا إليه زوجها‪.‬‬

‫دلفنا إلى الداخل لنجلس على طاولة كانت تتوسط الردهة وبدون‬
‫إطالة قالت وهي تعقد يديها في توتر‪:‬‬

‫‪-‬أالزلت تعملين كطبيبة نفسية؟ في الحقيقة احتاج مساعدتك‪.‬‬

‫رددت بلهجة مازحة‪- :‬إذا كنت تريدين تحليال لشخصيتك فأنا‬


‫لست الشخص المطلوب صدقيني‪.‬‬

‫لكن الزوجين ضال يبحلقان في وجهي بوجوه يكتسيها الترقب‬


‫والقلق‪ .‬ربما الدعابة لم تعجبهم وربما األمر ج ّدي حقا‪.‬‬

‫فقلت‪- :‬كلي أذان صاغية أخبريني ما األمر؟‬

‫قالت بصوت خائف‪:‬‬

‫‪-‬انه يوم العاشر من ديسمبر‪ ...‬يوم ملعون‪ ...‬منذ ستة سنين وفي‬
‫مثل هذا اليوم من كل عام تحدث جريمة قتل هنا‪.‬‬

‫‪-‬أنا أعتقد أنه مجرم يترصد لنا الهالك ولكن لزوجي رأي اخر‪.‬‬
‫يعتقد أن‬
‫‪-‬األمر يعود لوجود روح غاضبة‪.‬‬

‫وهمست بصوت خافت‪ -:‬روح ميتة من العالم االخر ألن كل‬


‫الضحايا المقتولة منذ ستة سنوات اشتركت في أن لدى زوجي‬
‫دافعا قوي لقتلها وهذا ما يجعل الشرطة تشك فينا باستمرار‬
‫ولوال تواجد زوجي المستمر برفقة أناس يشهدون لصالحه أثناء‬
‫وقوع الجريمة لسجن ظلما منذ وقت طويل‪.‬‬

‫فقلت وقد عقدت حاجباي‪ -:‬لكن ما دخل وجود الروح الغاضبة‬


‫في األمر يمكن ان يكون القاتل ببساطة شخصا يحقد على زوجك‬
‫ويريد تلبيسه التهمة‪ ،‬لم أفهم لماذا لجأتم إلى هذا التفسير‬
‫الميتافيزيقي؟‬

‫رد زوجها بعد أن أخرج سيجارة من جيبه‪:‬‬

‫‪-‬المجرم الذي تتحدثين عنه هو صديقي وهو الشخص الو__حيد‬


‫الذي قد يكن لي هذا القد__ر من الكراهية ولكنه‪...‬ولكنه مات‬
‫منذ ستة سنوا_ت وقد يكون لي دخل في موته دون قصد‪.‬‬

‫أشعل السيجارة وأكمل‪:‬‬


‫‪-‬كنا أربعة أصدقاء وكان ذلك قبل ستة سنوات كان أصغرنا‬
‫يعاني من رُهاب األماكن المغلقة وقررنا أن نوقعه في مقلب‪،‬‬
‫فحبسناه في أحد األكواخ مع جثة دب مخيفة‪.......‬كنا ننوي‬
‫إخراجه بعد ربع ساعة‪...‬لكننا لم ننتبه أنه كسر النافذة وهرب‬
‫إثر الصدمة باتجاه الجبل‪...‬‬
‫عاصفة‪...‬كان يوما عاصفا ولم يأخذ معه العدة الالزمة لذلك‪....‬‬
‫ثم انهمر بالبكاء وزوجته تمسح على ظهره‪.‬‬

‫أفرغت جعبتي حينها من كل ما امتلكته من عبارات المواساة‬


‫رغم أنني أعتقد أنه مجرد أحمق تسبب رفقة أصدقائه الحمقى‬
‫بمقتل رفيقهم ويعاني األن من الندم وكوابيس اليقظة‪.‬‬

‫ثم رحلت ألن األمر ببساطة يعني الشرطة أكثر مما يعنيني‪.‬‬

‫دخلت الكوخ ألجد رزان ننظر من خالل النافذة المفتوحة ألي‬


‫الكثبان الثلجية بعقل شارد وعينين غارقتان بالدموع‪.‬‬

‫مهال لحظة‪...‬أيعقل؟ طرقت عقلي فكرة مخيفة وأمل أنني‬


‫مخطئة‪...‬‬

‫سألتها في تردد‪ -:‬أعذريني‪...‬عزيزتي رزان‪.‬لكن‪...‬لكن كيف‬


‫فقدت والدك رحمه هللا؟‬
‫قالت في دهشة وهي تمسح الدموع من عينيها‪ -:‬أيعقل أنك‬
‫تقرئين األفكار ألنك طبيبة نفسية؟‪.....‬كنت افكر في االمر‬
‫األن‪....‬‬
‫لقد‪...‬مات في عاصفة ثلجية‪.‬‬
‫تيبست عروقي لما سمعته‪...‬هل يعقل أنه نفس الشخص؟ صديق‬
‫الحمقى المسكين؟ هل‪...‬هي تنتقم لوالدها كل عام‪...‬؟‬
‫أعتقد ان األمر أصبح يثير فضولي األن أكثر من أي وقت‬
‫مضى‪.‬‬
‫سوء ظن‬
‫اليوم هو التاسع من ديسمبر‪...‬اليوم المبرمج للعودة‪...‬وأكاد أقسم‬
‫أن القدر يمزح معي‪.‬‬
‫أجلت رحلتنا بسب سوء في األحوال الجوية وبهذا يتعين أننا‬
‫سنشهد اليوم الملعون هذا‪...‬‬

‫قضيت الليلة وعيناي معلقتان على رزان ولكنها لم تبد أية حركة‬
‫مشبوهة‪...‬‬

‫األن أحس بالذنب ألنني شككت فيها‪...‬‬

‫مرت تلك اللية في سالم ولم تكن هناك أي جثث أو جرائم قتل‬

‫في صباح الغد اتجهت لبيت زميلتي وزوجها لتوديعهم ألتفاجأ‬


‫بجميع أعضاء المجموعة هناك زميلتي السابقة‪ ،‬بالل وزوجته‪،‬‬
‫القائد جمال والشيخ حسن الذي انصرف بعد ان أخذ مثقاب‬
‫وبعض المسامير إلصالح مقعد كان قد كسر بكوخه‪ .‬بدأنا بتبادل‬
‫أطراف الحديث حتى دوى فجأة صوت انفجار من الخارج‪.‬‬

‫المصدر انفجار الكوخ الذي كنت أسكن فيه‪.‬‬

‫الضحايا رزان!‬
‫!‬

‫تفاصيل‬
‫استمرت تحقيقات الشرطة يومين ومُنع الجميع من المغادرة‪...‬‬
‫سبب الحريق كان تسرب الغاز‪.‬‬

‫الحادث كان مفتعل الكتشافهم ثقبا حديثا أحدث بواسطة مثقاب‬


‫كهربائي‪.‬‬

‫المشتبه به طبعا هو أول شخص خطر على بالك‪ .‬نعم كان الشيخ‬
‫الذي لم يمتلك حجة غياب‪.‬‬

‫لكني الوحيدة التي تعلم أنه ليس القاتل وأعلم أنك ستكتشف األمر‬
‫أنت كذالك بمجرد التفكير قليال‪...‬هناك تفصيل بسيط غفل عليه‬
‫الجميع‪ .‬هل تذكرته؟ أنا أؤمن بذكائك يا عزيزي وأعلم أنك‬
‫حللت اللغز‪.‬‬
‫كشك‬
‫ذهبت مسرعة إلى نقطة االنطالق‪...‬إلى كشك صاحب المخيم‬
‫كان مفتوحا لحسن حظي ولم يكن هناك أحد‬
‫بدأت أفتش المكان بعيناي‪ ...‬وكان كما توقعت تماما إنها غير‬
‫موجودة‪.‬‬

‫فجأة أحسست بيد باردة تمسك برقبتي من الخلف التفت ألسمع‬


‫صوتها المألوف وهي تقول‪:‬‬

‫‪-‬ماذا تفعلين هنا؟‬


‫كانت زميلتي ويقف خلفها زوجها‬

‫قلت‪ -:‬كنتما الفاعلين منذ البداية أليس كذلك؟‬

‫قالت وقد عقدت حاجبيها‪:‬‬

‫‪-‬ماذا تقصدين؟ المجرم هو الشيخ الخرف ألم تسمعي؟ كان‬


‫يشارك في الرحلة منذ ستة سنوات‪...‬اااه‪ ...‬كيف غفلنا عن ذالك‪.‬‬
‫قلت‪ -:‬أعتقد أن كالنا يعلم بأن ما توصلت إليه الشرطة‬
‫خاطئ‪...‬أُعلمك وإن ُكنت متأكدة بأنك تعلمين منذ البداية فأنا‬
‫عشت مع رزان لمدة تجاوزت األسبوع وبما أنها تعاني من‬
‫رهاب االماكن المغلقة فهي تبقي دوما ثالث نوافذ على االقل‬
‫مفتوحة وبالتالي ال يمكن أن يكون السبب في الحريق هو انبعاث‬
‫الغاز بما أن التهوية المستمرة للكوخ تحول دون ذلك‪.‬‬
‫‪-‬أحدهم ببساطة أشعل النار بواسطة البنزين الذي كان موجودا‬
‫هنا في هذا الكشك الذي ال يمتلك مفتاحه إلى مالك المخيم‬
‫وزوجته يمكنني القول انكما قد خططتما لألمر ببراعة حتى‬
‫يشتبه الجميع في الشيخ المسكين‪.‬‬
‫ردت وهي تصفق و يعلو وجهها ابتسامة ساخرة‪ -:‬أحسنت لم‬
‫تخيبي ظني بك أبدا‪...‬وأعتقد أنك بعد هذا االستنتاج الرائع‬
‫تريدين معرفة الدافع وراء فعلتنا‪......‬في الحقيقة لقد ظلت‬
‫تهددنا بمقاضاتنا تارة وبإغالق المخيم تارة أخرى منذ حادثة‬
‫والدها‪.‬‬

‫ومثل أي شخص يزعجنا ندعوه للمخيم إليجاد اتفاق يحل خالفنا‬


‫ثم نمحيه ونمحي الخالف من الوجود‪...‬ومع األسف سنضطر‬
‫لفعل نفس األمر معك األن‪.‬‬

‫تراجعت خطوتين للوراء وبدأت خفقات قلبي في ازدياد‪ ،‬وأكاد‬


‫أحس باألدرنالين المحتقن في عروقي‪.‬‬
‫حملت هاتفي ألريها بأنني كنت على الخط مع شخص ما منذ‬
‫نصف ساعة وقلت في سخرية‪:‬‬

‫‪-‬الشرطة قد سمعت اعترافك كامال األن يا سوزي وال أعتقد أنه‬


‫سيكون لديك الوقت الكافي لتفعلي أي شيء ألي أحد‪....‬‬
‫لطالما لم أتفق معك وتساءلت عن السبب فإِذ أنني أملك نظرة‬
‫مستقبلية عن األمور فحسب‪.‬‬
‫‪-‬بالمناسبة أذكرك أنني تعاملت مع أسوء أنواع المجرمين طوال‬
‫حياتي فهل اعتقدت حقا أنك ستوقعينني في هذا الفخ؟‬
‫‪-‬فلتنتقم منكم أرواح المظلومين الذين غدرتوهم وأنتم تتعفنون في‬
‫السجن‪.‬‬
‫تمت‬
‫هديل ‪/‬لعثامنة‬
‫ا ّنه بيتي‪7‬‬
‫في أرقى مدن العالم كانت هناك أكبر الشركات في إنتاج‬
‫المشروبات إال أنه ُكشف استعمال مياه غير صالحة للشرب في‬
‫تلك المشروبات وتسببها في أمراض عديدة‪ ،‬حُجزت تلك الشركة‬
‫وأصبح مالكها " بيتر " صاحب ‪ 45‬عام متابعا قضائيا‪ .‬فبعدما‬
‫أفلس وكثر كالم الناس عليه وأصبح علكة في أفواه أعداءه‬
‫ومنافسيه‪ ،‬اضطر إلى الهرب واالستقرار في مكان آخر تجنبا‬
‫دخول السجن وسماع أبشع الكالم في حقه‪ ،‬فما كان بوسعه بعد‬
‫إفالسه سوى الذهاب إلى قرية نائية‪ ،‬مصطحبا عائلته المتكونة‬
‫من زوجته "أليكس" صاحبة ‪ 40‬سنة وابنيه االثنين "جاك"‬
‫صاحب ‪ 14‬سنة و"روني" صاحب ‪ 8‬سنوات وابنته المدللة‬
‫"جيمي" صاحبة ‪ 17‬سنة‪ .‬بعدما وصلت العائلة إلى تلك القرية‬
‫اصطحبهم بيتر إلى مكان على ضفة نهر متكون من ورشة‬
‫للعمل ومخزن وبيت صغير من طابقين‪ ،‬دخلت أليكس وابنتها‬
‫جيمي البيت مع أغراضهم بينما دخل األب وجاك وروني‬
‫الورشة‪ .‬وشرع كل منهم في التنظيف ووضع األغراض في‬
‫مكانها المناسب‬
‫وبعدما فرغ كل منهم من عمله حضرت أليكس العشاء وبعد‬
‫إكمالهم األكل قالت غرفتي بهذا الطابق وبجواري غرفة روني‬
‫وبالطابق العلوي غرفة جيمي وبجوارها غرفة جاك‪ ،‬ذهب‬
‫الجميع إلى غرفهم فهمّوا مباشرة بالنوم بعد يوم شاق باستثناء‬
‫جيمي بقت في غرفة الجلوس تتذكر ما كانت عليه وما أصبحت‬
‫فيه اآلن‪ .‬وعلى الساعة الثانية تماما توجهت إلى غرفتها المطلة‬
‫على النهر‪ ،‬فسمعت ضجيجا بالخارج ولمحت امرأة تسبح‬
‫بالنهر‪ ،‬فاستغربت من الوضع وراحت في نوم عميق‪ .‬وفي‬
‫الصباح استيقظت أليكس على موسيقى عالية في المطبخ فذهبت‬
‫إلى هناك متوجهة بالشتائم والصراخ فقد اعتقدتها جيمي‬
‫المهووسة بالغناء‪ ،‬وجدت تلك الموسيقى صادرة من هاتف‬
‫جيمي فأخذته وصعدت إليها بغرفتها قائلة‪- :‬لن أتحمل الالمباالة‬
‫وعدم المسؤولية منك‪ ،‬فأنت اآلن ستساعدينني بعدما تغير‬
‫الوضع‪ .‬أنكرت جيمي وضعها لهاتفها و تشغيلها الموسيقى في‬
‫الطابق السفلي‪ ،‬كانت متأكدة من أنها هاتفت ابنة خالتها قبل‬
‫نومها بالضبط‪ ،‬قالت أليكس ‪- :‬ال يهم أنا فقط أنبهك ‪.‬اعتقدت‬
‫جيمي بأنها بسبب عدم تأقلمها مع الوضع أصبحت ال تبالي لما‬
‫تفعله‪ ،‬أيقظت أخويها جاك وروني واصطحبتهم في جولة بينما‬
‫أعدت أليكس غداءهم وه ّم بيتر في العمل بحرفة النجارة في‬
‫الورشة‪ ،‬عادت جيمي وأخويها إال أن روني كان يبكي و يردد‬
‫أنه لن يتجول في هذا المكان مرة أخرى ‪ ،‬لم تبالي أليكس به‬
‫وسرعان ما أحست جيمي بالملل‪ ،‬جاء المساء وهمت أليكس‬
‫وجيمي بإعداد العشاء ونادت الجميع على األكل إال أنه كان‬
‫أسوء طعام حضرته جيمي فكان محروقا نوعا ما وشديد الملوحة‬
‫أنكرت جيمي وضعها للملح‪ ،‬غضبت أليكس وصرخت في وجه‬
‫جيمي قائلة‪- :‬في كل خطأ ترتكبينه تقولين لست أنـــا! ‪ -‬لــسـت‬
‫أنــا! اعترفي بخطئك‪ .‬ذهبت جيمي لغرفتها ولحقها جاك‪ ،‬فضال‬
‫يتبادالن أطراف الحديث حتى وصلت الساعة الثانية تماما مرة‬
‫أخرى وسمعت جيمي ضجيجا بالخارج فنظر جاك من النافذة و‬
‫إذا به يرى نارا مشتعلة أسفل بيتهم‪ ،‬كان ذاهبا ليطفئها لكن‬
‫جيمي منعته‪ ،‬وبعدما استأنفا حديثها سمعا صوت أخيهم الصغير‬
‫روني‪ ،‬يتكلم ويمشي في نومه مرددا‪- :‬من أنت؟‪ -‬أ أنت صاحبة‬
‫بيتنا؟ بدأت جيمي تخاف وأخبرها جاك أنه ليس مطمئنا لهذا‬
‫المنزل‪ .‬ظلت جيمي مستيقظة ثم نامت حتى فتحت عيناها على‬
‫أمها تجلس عند رأسها وذهبت بمجرد استيقاظ جيمي دون أن‬
‫تتكلم معها‪ .‬لحقتها جيمي إلى المطبخ لكنها لم تجدها بل وجدت‬
‫ورقة مكتوب عليها "عزيزتي جيمي لقد ذهبت مع أبيك ألحضر‬
‫مستلزمات البيت واصطحبنا معنا روني وجاك يتجول سنأتي‬
‫في غضون الساعة التاسعة‪ ".‬نظرت جيمي إلى الساعة‬
‫فوجدتها الخامسة مساءً‪ ،‬جلست فوق الكرسي وراحت في تفكير‬
‫عميق لما يحدث معها‪ ،‬تأكدت أن شيئا غريبا في هذا المنزل‬
‫فعزمت على معرفته ليطمئن قلبها‪ .‬خرجت أمام منزلهم لتتأرجح‬
‫في أرجوحة معلقة بشجرة‪ ،‬أغمضت عيناها لمدة طويلة وما إن‬
‫فتحتهم حتى خيم الظالم فلم تنتبه للوقت‪ ،‬دخلت منزلهم فرأت‬
‫الطاولة محظرة بما ّلذ وطاب من األكل‪ ،‬حسبت أمها أعددته‬
‫فذهبت إلى غرفتها لتتسطح إلى أن تناديها أمها للعشاء‪ ،‬لكنها لم‬
‫تنادها! فنزلت ووجدت امرأة جالسة على الطاولة‪ ،‬كان وجهها‬
‫يطمئن له‪ .‬صرخت جيمي‪- :‬أمّــي !!!!‪ .‬لكنها لم تجد أحدا من‬
‫أفراد عائلتها في البيت فأدركت وقتها أن ليس أمها من أعدت‬
‫الطعام‪ .‬كانت جيمي تردد‪- :‬أخرجي‪ ...‬أخرجي‪ .‬تكلمت االمرأة‬
‫وقالت‪- :‬لست أنا من عليك الخوف منه‪ ،‬سأبقى حتى تأتي أمك‬
‫ألحميك‪ .‬أغمي على جيمي واستيقظت على صوت أمها وجاك‬
‫يناديها للعشاء‪ .‬وجدت جيمي ورقة فوق سريرها مكتوب عليها‬
‫"ال تخبري أحدا حتى أتكلم معك"‪ ،‬راحت جيمي تتناول طعامها‬
‫في صمت على غير عادتها ثم ذهبت لغرفتها حتى تنام‪ ،‬وعلى‬
‫الساعة الثانية تماما سمعت كالما‪-:‬ال تغادري‪ .‬انه المخزن‪.‬‬
‫استأنفت جيمي نومها وقامت في الصباح مطمئنة ألنها ظنت ليلة‬
‫أمس كانت حلما‪ .‬خرجت فلم تجد أية أرجوحة فتطمئنت أكثر‪.‬‬
‫لكن جاك كان مضطربا نوعا ما‪ ،‬فسألته جيمي عن سبب توتره‬
‫أخبرها بأنه ال يرتاح لمنزلهم وتصرفات روني لم تعجبه حتى‬
‫إن أمه لم تعد تكترث ألي أمر وتغيرت تصرفاتها قليال‪ ،‬بقيت‬
‫جيمي تفكر في أمر المخزن‪ .‬دامت األوضاع متوترة في منزلهم‬
‫إلى أن مضى على قدومهم أسبوع بالتمام‪ ،‬استيقظت أليكس‬
‫إلعداد الفطور فوجدت ورقة ومكتوب عليها "انه بيتي"‪ ،‬لم تبالي‬
‫أليكس باألمر وحضرت الفطور‪ ،‬صعدت إليقاظ أوالدها لكنها‬
‫وجدت ورقة أخرى مكتوب عليها "تحملتكم بما يكفي‪ ،‬أسبوع‬
‫كامل! ارحلوا"‪ ،‬ظنت أنها فكرة أحد من أوالدها ليرجعوا للعيش‬
‫في المدينة‪ ،‬وسقطت عليها ورقة أخرى مكتوب عليها‬
‫"سأساعدكم بقدر المستطاع بعد شهر ستعود!"‪ ،‬فكرت األم‬
‫لبرهة من ستعود؟‪ ،‬لكنها تصرفت وكأنه لم يحدث شيء وذهبت‬
‫وأيقظت أوالدها‪ .‬كان ذلك اليوم يصادف عيد ميالد صديقة جاك‬
‫وجيمي‪ ،‬فكانت جيمي تتزين بأحلى أزياءها ولكنها لم تجد أحمر‬
‫شفاهها وبمجرد أن استدارت وراءها وجدت مكتوب على الحائط‬
‫"غرق ثم حرق واآلتي أبشع" بأحمر شفاهها‪ ،‬قالت جيمي‪-:‬آه‬
‫أحمر شفاهي!"‪ ،‬ذهبوا لحفلة عيد الميالد‪ ،‬لم ينتبهوا للوقت‬
‫وظلوا حتى بعد منتصف الليل‪ .‬كان جاك متعبا فراح في نوم‬
‫عميق‪ ،‬أما جيمي لما دخلت غرفتها وجدت ورقة مكتوب عليها‬
‫"أريد أن أحدثك دون أن يسمعنا أحد‪ ،‬تعالي إلى المخزن على‬
‫الساعة الثانية تماما"‪ .‬ووجدت ورقة أخرى مكتوب عليها "إياك!‬
‫إياك! إياك!"‪ .‬صرخت جيمي بأعلى صوت‪ - :‬ماذا تريدون‬
‫مني!!!اكترث جاك ألمر أخته بعدما استيقظ على صوتها‪ ،‬وفي‬
‫الغد بعدما خرجت من غرفتها ذهب ووضع هاتفه ليسجل فيديو‬
‫لكل ما يحصل في غرفتها‪ ،‬وحرص على أن ال تراه‪ ،‬نسيت‬
‫جيمي أمر المخزن فظلت بغرفتها ترى صورها مع صديقاتها‬
‫وانتبهت إلى ورقة بجوارها مكتوب بها "جاك يراقبك‪ ،‬أريد‬
‫مساعدتك قبل فوات األوان ‪ -29-‬هل من الممكن أن نلتقي"‪.‬‬
‫خرجت جيمي بجانب بيتهم فجاءتها نفس االمرأة التي أعدت لها‬
‫الطعام‪ ،‬خافت جيمي وكانت ستهرب لكن االمرأة قالت لها‪:‬‬
‫انتظري ‪ ...‬أنا من طلبت أن أراك في آخر ورقة كتبت لكِ و‬
‫إياك أن تدخلي المخزن‪ ،‬جلست االمرأة بجوار جيمي و بدأت‬
‫تحدثها " اسمي جيسيكا‪ ،‬أنا أود أن أساعدك‪ ،‬يستوجب عليك أن‬
‫تعرفي حكاية تهمك " فجأة جاء روني و جلس بجوارهم يسأل‬
‫االمرأة و كأنه يعرفها ‪ 29 ،‬يوم أليس كذلك ؟ ‪ ،‬أجابت –نعم‪.‬‬
‫تذكرت جيمي رقم ‪ 29‬على آخر ورقة‪ ،‬فسألت روني‪29 - :‬‬
‫يوم على ماذا؟ قال‪- :‬حتى تصبح حياتنا جحيم‪ .‬قالت جيسيكا‪- :‬‬
‫‪ 29‬يوم وتعود الساحرة وعندما تعود لن ترحمكم! اندهشت‬
‫جيمي من كالم جيسيكا وطلبت منها توضيح أكثر‪ ،‬قالت لها‪:‬‬
‫‪-‬ابحثي عن عجوز اسمها "ديانا" ستخبرك بكل شيء‪ ،‬انها‬
‫تسكن بهذه القرية‪ .‬بحثت جيمي عن تلك العجوز في مدة ‪ 9‬أيام‬
‫فلم تبقى سوى ‪ 19‬يوم وتعود الساحرة‪ ،‬كانت العجوز مريضة‬
‫أشد المرض‪ ،‬بمجرد أن دخلت جيمي قالت لها‪- :‬ما قصة ذلك‬
‫الكوخ بجوار النهر والمخزن؟ قالت لها العجوز‪ -:‬احكي لي كل‬
‫شيء ألكمل حكايتك‪ ...‬قالت جيمي‪ -:‬أنا ال أعرف شيئا محددا‬
‫أال أنه هناك امرأة تزورني وتدعي أنها تريد حمايتي وكذلك‬
‫ألقى أوراقا عليها كتابات أحسها تهديدا‪ .‬قالت العجوز ديانا‪:‬‬
‫‪-‬ما اسم المرأة والتي حدثتك؟ قالت‪ :‬جيسيكا‪ .‬تبسمت العجوز‬
‫وقالت‪- :‬هل أنت مستعدة للسماع؟ قالت جيمي‪ -:‬أعدك‪ .‬قالت‬
‫ديانا‪- :‬سأرجع بك إلى زمان بعيد حيث كنت في الميتم وعندما‬
‫وصلت ‪ 18‬سنة طردت منه فلم أجد مكانا يأويني‪ ،‬فأصبحت‬
‫أعمل خادمة وكان مصيري أن أعمل في بيتها‪ .‬قاطعتها جيمي‪:‬‬
‫‪-‬بيت من؟‪ ،‬قالت ديانا‪- :‬السّاحرة‪ ،‬بدأت أعمل في بيتها كانت‬
‫قاسية للغاية‪ ،‬كان اسمها "برينا"‪ ...‬وهي أم جيسيكا ولديها ابن‬
‫كذلك اسمه "آيل" وزوجته اسمها "إيميلي" عملت عندها عامين‬
‫دون أن أالحظ أي شيء غريب عليها‪ ،‬ثم دون سابق إنذار‪،‬‬
‫أخبرتني أننا سنأتي إلى هنا أنا وهي وزوجة ابنها في أيام بها‬
‫أمطار غزيرة‪ .‬جئنا لكن أنا كنت أخدمهم وأعيش بالمنزل أما‬
‫هي وإيميلي كانوا يقضون ليلهم في المخزن وينامون نهارا‪،‬‬
‫كنت أسمع أصواتا في المخزن‪ ،‬وأرى دخانا يخرج من هناك‪،‬‬
‫بقينا هنا خمسة أيام إلى حين انتهاء المطر ثم عدنا‪ .‬كانت‬
‫نظراتها ثاقبة‪ ،‬كان يناديها آيل بالشيطانة وتناديها جيسيكا‬
‫بالساحرة فأدركت وقتها أنها مشعوذة تقوم بأعمال شيطانية‪ ،‬كنت‬
‫أريد أن أغادر المكان إال أن جيسيكا منعتني فقد كنت صديقتها‪،‬‬
‫كانت جيسيكا وآيل يكرهان أمهما وال يكلمانها‪ ،‬عملت عندها‬
‫‪ 32‬سنة حتى أصبح عمري ‪ 50‬سنة ونحن على هذا الحال‬
‫وعادت بنا إلى هنا بجانب النهر لكن ليس كعادتها أنا وزوجة‬
‫ابنها بل كانت جيسيكا وآيل معنا‪ ،‬كانتا الغرفتين في طابق‬
‫السفلي غرفتي وغرفة إيميلي‪ ،‬والغرفتين في الطابق العلوي‬
‫غرفة جيسيكا وغرفة آيل أما هي فكانت كانت تبقى في المخزن‬
‫تكتب كتابات غريبة وتحمل كتابا وتضع أدوات غريبة وعظام‪،‬‬
‫جاء يوم أصبحت فيه أ ّ‬
‫شد قسوة فقالت لها جيسيكا كفاك شرا‪ ،‬فما‬
‫كان عليها سوى أن تحقد عليها وعلى أخوها آيل حقدا لم يُرى له‬
‫مثيل‪ ،‬ومارست عليها أشد أنواع السحر والشعوذة إلى أن‬
‫انتحرت جيسيكا فقد قطعت يدها بسكين‪ ،‬وبعدها بخمس سنوات‬
‫كان آيل يريد أن يخلص أمه وزوجته من الشر واألعمال‬
‫الشيطانية‪ ،‬فإن إيميلي كانت تساعدها على السحر‪ ،‬فهددته بأن‬
‫تمارس نفس السحر الذي مارسته على أخته جيسيكا‪ ،‬وبعدها‬
‫بعامين انتحر آيل‪ ...‬فقد شنق نفسه‪ ،‬وجنت إيميلي على الساحرة‬
‫وأصبحت تريد قتلها‪ ،‬فلما علمت المشعوذة بما تدبره إيميلي‬
‫قتلتها واستعملت جثتها في أخطر أنواع السحر وصارت‬
‫تستدعي أرواح أوالدها روح إيميلي‪ ،‬لم تقبل أرواح أوالدها‬
‫العمل معها أما إيميلي فهي من تهددك ألنها عادت لعملها الرذل‬
‫وبعد ذلك بثالث سنوات انتحرت الساحرة في الورشة فقد‬
‫غرست سكينا في قلبها‪ ،‬وأنا هربت من ذلك المنزل عن عمر‬
‫يناهز ‪ 60‬سنة‪ ،‬لكنها عادت بروحها الشريرة وصارت أقوى‬
‫وأ ّ‬
‫شد‪.‬‬
‫أنهت العجوز حكايتها لجيمي فقد مرت عليها ‪ 20‬سنة‪ ،‬وعادت‬
‫جيمي إلى منزلهم خائفة وتحسب األيام الباقية‪ .‬وها قد وصل‬
‫اليوم الموعود‪ ،‬يوم رجوع الساحرة‪ .‬في ذلك اليوم كانت جيمي‬
‫وروني ملتزمين الصمت وكانت األم خائفة فسبق وسمعت شهر‬
‫وتعود‪ ،‬لكنها ال تعلم من العائد‪ ،‬وكان جاك قد عرف بالحكاية‬
‫من تسجيل الفيديو فكان مجهزا نفسه ألي شيء سيحدث وحكى‬
‫ألبيه ما يحدث ببيتهم‪ ،‬لكن بيتر لم يبالي لما قاله جاك‪ ...‬وبعد‬
‫لحظات جاءت جيسيكا لمنزلهم قائلة‪- :‬اهربوا كادت تصل‪ .‬ظن‬
‫بيتر أن هذه مزحة من أوالده إال أن السماء اشتدت وأمطرت‬
‫وبدأ الدخان يخرج من المخزن كما كان من قبل وكتب على‬
‫الحائط بدم العجوز التي أخبرت جيمي بالقصة "قتلتها وحان‬
‫دوركم"‪ ،‬خاف بيتر وحاول الهروب لكنه لم يستطع‪ .‬صرخت‬
‫الساحرة بصوت عالي‪- :‬جيمي غرق ثم حرق واآلتي أبشع‪.‬‬
‫رأت جيمي أخوها روني في النهر يطلب مساعدتها فما كان‬
‫بوسعها سوى أن تذهب إليه‪ ،‬ولكنها لم تكن سوى خدعة من‬
‫الساحرة فقد أبعدت جيمي عن ضفة النهر حيث لم تستطع العودة‬
‫وماتت غرقا واشتعل جاك دون سابق إنذار وتفحم‪ ،‬وبينما كانت‬
‫الساحرة تحرق جاك استغلها بيتر المخادع فرصة وهرب نحو‬
‫المدينة تاركا وراءه زوجته وروني المسكين الذي تلبست‬
‫الساحرة أمه فقتلته بسكين وبعدما رجعت أليكس لوعيها ما كان‬
‫عليها سوى أن تتجه نحو الورشة وقطعت يدها بمنشار زوجها‪.‬‬
‫وصل بيتر إلى المدينة وألقي القبض عليه وحكم مؤبد‪.‬‬
‫ال ّنهاية‬
‫هدي محمود مصطفي سعد محمود‬
‫الوليلي‪/‬مصر‬
‫من سرق بهجة حياتي؟‬
‫وبينما يسير في طريقه إلى العمل‪ ،‬وهو غارق في همومه‬
‫وأحزانه وتعبه البدني بعدما أنهكه مرضه المزمن الذي طالما‬
‫تحداه مرات ومرات وتركه ينال منه مرات أخري‪ ،‬فمعركته‬
‫معه ليست حديثة إنما بدأت منذ طفولته هو بالثامنة من العمر‬
‫تقريباً‪ ،‬فأحيانا ً يتغلب عليه مستعينا ً بالصبر‪ ،‬واإليمان مع‬
‫ممارسة بعض التمارين الرياضية وتناول الدواء ومخطط الغذاء‬
‫الصحي الموصوف له من قبل الطبيب‪.‬‬
‫حتى استقامت حياته على هذا الحال واعتاد عليها واعتادت هي‬
‫األخرى عليه‪ ،‬وأصبحت حياته عبارة عن سلسلة من الروتين‬
‫اليومي الذي جعله يفقد معه شهيته للحياة وتذوق الجمال الكامن‬
‫في أيامها‪ .‬فبعد يوم عمل طويل يعود لنله ليتمدد على أريكته‬
‫المفضلة التي دائما ً كانت تستقبله على أي حال‪ ،‬والتي طالما‬
‫احتضنته نائما ً أو جالسا ً ومرحبة بما يجلب معها ليستقر عليها‬
‫من مالبس تخصه أحيانا ً ومن لفة طعام قد جلبها من مطعم‬
‫قريب من مكان العودة لتشاركه بعض الفتافيت الصغيرة التي‬
‫تسقط أثناء تناوله لطعامه مخلفة مكانها بعض البقع الزيتية والتي‬
‫على الرغم من ذلك لم تكن تضيق به ذرعا ً بل كانت تسامح‬
‫وتغفر على أي حال‪ .‬طالما ً كانت كاألم له فهي محبة به على‬
‫الدوام مستحما ً أو متعرقا ً بعد يوم عمل طويل وشاق‪ ،‬وأحيانا ً‬
‫كان يعود إليها ليتمدد عليها تاركا ً اليأس يتسلل إليه إلى أن‬
‫يستغرق في النوم‪.‬‬
‫وبينما هو في طريقه إلى العمل فإذا بقطعة ورق ممزقة ومهترئة‬
‫من أثر ما تركته عليها األحذية من بصمات والتي مرت عليها‬
‫دون أدني التفاتة لما تحويه بين طياتها قبل أن تحملها الرياح‬
‫العاصفة في ذلك اليوم تحت قدماه‪ .‬فألتقطها وحاول فتحها برفق‬
‫ليجد أن أحدهم كتب فيها "لم يعد لشيء طعم‪ .‬ال طعم لقهوتي‪.‬‬
‫وال جمال لصباحاتي الباكرة‪ .‬وال حتى لورداتي المزهرة في‬
‫شرفتي‪ .‬حتى صوت مارسيل خليفة ماعد يسكرني كما كان‪ .‬ال‬
‫طعم لحياتي"‪.‬‬
‫وبينما هو يقرأها وقد شعر وكأنها رسالة موجهه له شخصيا ً‬
‫فارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة وقد اغرورقت عيناه‬
‫بالدموع‪ .‬فطواها وتلفت حوله لعله يري صاحبها أو احداً يعرف‬
‫من تصه هذه الرسالة؛ لكن دون جدوى فالطريق قد خال إال منه‪.‬‬
‫فدسها في جيبه وأكمل طريقه إلى عمله‪ ،‬وبعد يوم طويل‬
‫وروتين يومي ممل‪ .‬عاد إلي بيته وبعدما تناول طعامه غير‬
‫عابئ بارتفاع أو ربما انخفاض مستوى السكر في الدم‪ .‬فال شيء‬
‫يهم اآلن سوي تناول ذلك الطعام المشبع بالدهون والنشويات‬
‫الذي تعده المطاعم التي يمر عليها لجلب طعامه منها‪ ،‬والخلود‬
‫للنوم على أريكته بعدما أسلم نفسه لالمباالة حتى غرق في ثبات‬
‫عميق‪.‬‬
‫ففي الصباح وبينما هو يرتدي مالبسه ليعاود الكرة مرة أخرى‬
‫عثرت يده على الورق التي كان قد نسي أمرها تماماً‪ .‬فأخرجها‬
‫من جيبه وجعل يقرأها مرة أخري شاعراً أنها توافق هواه‬
‫وتصف ما يشعر به في تلك الفترة من حياته‪ ،‬فأخذها ومسحها‬
‫بعناية بمنديل ليزيل آثار ما علق بها من بصمات وراح يعلقها‬
‫على جدار الحائط المقابل ألريكته المفضلة وأخذ يردد كلماتها‬
‫حتى كاد يحفظها‪ ،‬ثم انتبه أنه قد تأخر على عمله حتى ذهب‬
‫مسرعاً‪ ،‬وهو يردد كلماتها زافراً زفرات طويلة بعد كل جملة‬
‫واألخرى وكأنما يريد أن يطرد معها شيء ما يعتمر بصدره‪.‬‬
‫وبعد عودته من العمل وقضاء بعض الحوائج الحياتية وقعت‬
‫عينه على الورقة فتذكرها وجلس على األريكة ليتأملها ورا‬
‫يحدث نفسه في حوار دام طول ليله تقريبا ً متأمال في حاله‬
‫وعاداته‪ ،‬ومحاوالً استخالص المغزى من هذه الرسالة التي‬
‫أرسلتها الرياح له هو دون سواه‪ .‬لطالما كان يؤمن باإلشارات‬
‫الكونية التي كان جده يحدثه عنها وتلك الرسائل الربانية التي‬
‫كان يحكي له عن أبطالها حين يخصهم هللا بها‪ ،‬فهي عالمات‬
‫يسوقها هللا للمؤمنين من عباده ليرشدهم للطريق القويم‪.‬‬
‫وهنا شعر أنه ربما يكون من هؤالء الذين يحبهم هللا وهذه الورقة‬
‫ربما تكون تلك إحدى الرساالت الكونية‪ ،‬فأبتهج بذلك الخاطر‬
‫وقررت أن يفك رموزها ليفهم المغزى منها‪ .‬فقام واقترب منها‬
‫وتسأل لما لم أشعر بطعم لقهوتي‪ .‬فذهب إلى المطبخ وقام بإعداد‬
‫فنجانا ً منها وحرص على أن تكون في فنجانا ً من الخزف وذهب‬
‫ألريكته وراح يرتشف منها رشفة تلو األخرى إلى أن فرغ‬
‫فنجانه‪ .‬ثم علق محدثا ً نفسه‪- :‬آه بالفعل لم يعد لها طعم‪ ...‬ثم فكر‬
‫قليالً ثم قام وارتدى مالبسه وقرر أن يتناول القهوة في مكان ما‬
‫فقادته قدماه إلى مقهى قريب من بيته الذي يسكنه هو ووحدته‬
‫وأريكته‪ .‬وجلس على الكرسي بعدما أشار للنادل بأن يحضر له‬
‫فنجانا ً من القهوة سكر زيادة‪ .‬وبينما هو ينتظر قهوته‪ ،‬رأى‬
‫مجموعة من الشباب وعجوزان يضحكوا ويتبادلون األحاديث‬
‫والنكات فظل منصتا ً لهم حتى سمعهم يتحدثون عن أخبار اليوم‬
‫وكان أحدهم يسأل عن شيء ما فأجابه‪ .‬وقد وصلت قهوته فدعاه‬
‫العجوزان للجلوس معهم على طاولتهم‪ ،‬فوافق على الفور لما‬
‫أحس في حديثه من تسلية‪ ،‬حتى أصبحت عادته اليومية أن‬
‫يذهب إلى ذلك المقهى ويتناول قهوته هناك مع العجوزان‬
‫مجموعة الشباب الذين أطلق عليهم "رفقاء المقهى" حتى سارت‬
‫قهوته بنكهة الصحبة والحكايات من هنا وهناك من ماض‬
‫وحاضر ‪ .‬كما أنه أبتاع أقاصيص للزهور والنباتات العطرية‪،‬‬
‫وشرع في زراعتها وتعهدها بالسقي التسميد حتى أنها أصبحت‬
‫تشغل شرفه التي كانت ملقاة على الدوام بعدما تحولت لمخزن‬
‫للكراكيب والروبابكيا‪ .‬ولكن اآلن أصبحت حديقة غناء مملوءة‬
‫بالزهور الملونة وتنبعث منها روائح النباتات التي تنثر شذاها في‬
‫المكان كله‪ .‬فأصبح يصحو مبكراً قبل ميعاد العمل بساعتين‬
‫تقريبا ً حتى يتثنى له رعاية حديقته وقضاء وقت أطول بين‬
‫أزهارها ونباتاتها‪.‬‬
‫وراح يتلو ما بتلك الورقة التي كانت بمثابة صالة يتلوها كل‬
‫صباح بعدما استطاعت تلك الورقة أن تحدث الكثير في حياته‪،‬‬
‫فبعدما كانت صحراء جرداء أصبحت جنة خضراء‪ ،‬حتى أنه‬
‫راح يبحث عن أغنيات "مارسيل خليفة" والذي كان لم يسمع به‬
‫من قبل‪ .‬فترامى إلى مسامعه ذلك المقطع‪:‬‬
‫‪-‬وإني أحبّك‪ ،‬أنت بداية روحي‪ ،‬وأنت الختام‬
‫‪ -‬يطير الحمام‬
‫ّ‬
‫يحط الحمام‪.‬‬
‫من شعر محمود درويش‬

‫وبالخلفية يصدح صوت العود‪ ،‬وصوت "مارسيل يشدو بدفء‬


‫فما كان منه إال أن أرسل روحه لتصلي في محراب ذلك الجمال‬
‫الذي يلقي على مسامعه‪.‬‬

‫وبينما راحت حياته تسير في وجهة أي أحبها كثيراً‪ ،‬وأستطاع‬


‫ألول مرة منذ سنوات طويلة أن يتذوق كل هذا الجمال الذي نبت‬
‫في حياته فقط من جراء تأمل تلك الورقة‪ .‬حتى شعر أنه ممتن‬
‫لها ولكاتبها‪ ،‬فما كان منه إال ان جلب ورقه ملونة بلون السماء‬
‫وبدأ يكتب فيها‪'' .‬لم تعد قهوتي بال طعم بعد اآلن‪ ،‬بعدما‬
‫تشاركت تناولها مع صحبتي بدالً من وحدتي‪ .‬كما أن زهراتي قد‬
‫مأل عبيرها هوائي ورئتي حتى أصبحت الطيور تتشارك معي‬
‫ألحانها إعجابا ً بحديقتي التي بقليل من العناية أعطتني الكثير من‬
‫الجمال‪ .‬حتى صباحاتي أصبحت بطعم الخبز الطازج المعد‬
‫بعناية‪ .‬حتى مارسيل سار رفيقا ً ومؤنسا ً لي في طريقي ذهابا ً‬
‫وعوده فما عاد الطريق موحش كما كان"‬

‫ثم أرتدى مالبسه ذاهبا ً إلى ذلك الطريق الذي وجد فيه تلك‬
‫الورقة من عدة شهور مضت‪ .‬وأخرج ورقته من جيب سترته‬
‫وأرسلها مع الرياح لتصل لمن ستختاره األقدار‪ .‬حتى وقعت في‬
‫يد طفل ربما في الثامنة من العمر‪ ،‬فبينما هو قد أدار ظهره‬
‫عائداً قد سمع ذلك الطفل يتهجأ كلمات رسالته تلك بصوت‬
‫طفولي لذيذ محبب وقد التف حوله مجموعة من األطفال‬
‫محاولين اكتشاف تلك الورقة التي اختارتهم هم دون غيرهم‪.‬‬
‫إسراء طارق‬
‫تلك الحافة المجهولة‬
‫‪١‬‬
‫صورة ضبابية‪ ،‬مشهد غير واضح‪ُ ،‬ج َّل ما تعرفه أن هناك‬
‫الكثير من األشخاص كأنه احتفال أو اجتماع من نوع ما‪ ،‬ولكنك‬
‫ً‬
‫مدعوا لهذا الحفل‪.‬‬ ‫ال تدري لما أنت هنا‪ ،‬فيبدو أنك لست‬

‫أشخاص ُكثر‪ ،‬تسمع أحدهم يقول يتربى في عزكم‪ ،‬وآخر جعله‬


‫هللا ذرية صالحة‪ ،‬أحدهم قد جاء إلى هذا العالم‪ ،‬ولكنك تتساءل‬
‫ما دخلك بكل هذا؟ أيعقل أن هذا أنت في المستقبل ويكون هذا‬
‫طفلك؟ ال تستطيع أن تعرف فكل المالمح ضبابية‪.‬‬

‫بكاء متواصل وهدوء حي ًنا ثم بكاء لساعات‪ ،‬ومحاوالت لشغله‬


‫بكل الطرق لعلَّه يتوقف عن البكاء‪ ،‬ضحكات صغيرة تمأل‬
‫أرجاء المكان‪ ،‬وتحول المكان إلى جنة على األرض‪ ،‬كل هذا‬
‫صدى لضحكات صغيرة فقط‪ ،‬تتساءل داخلك أح ًقا عجيب أمر‬
‫البشر إلى هذا الحد؟ ما كان يظن أنه مصدر تعبه وصداعه‬
‫أضحى فجأة مصدر سعادته وتحول حياته إلى جنة‪.‬‬
‫‪۲‬‬
‫مالبس جديدة وحقيبة ظهر وأقالم‪ ،‬وكل ما ال يخطر ببالك‪ ،‬يبدو‬
‫أن الغد هو أول يوم في المدرسة‪ ،‬يجري الصغير فرحً ا بأشيائه‪،‬‬
‫أمي انظري إلى هذا وهذا‪ ،‬يجرب المالبس ثانية‪ ،‬وأنت داخلك‬
‫تسخر منه تارة وتارة تشفق عليه وتارة تراقبه فرحً ا مثله‪ ،‬جزء‬
‫ما بداخلك تمنى لو تعود له هذه الحماسة مرة أخرى‪.‬‬

‫أيام تمر بتفاصيلها المرحة والمتعبة‪ ،‬الصغير يدرس حي ًنا‪،‬‬


‫ويلعب حي ًنا‪ ،‬يدخل بثيابه متسخة ولكن ال يهمه شيء وال يهمه‬
‫تحذير والدته‪ ،‬فقد أحرز هدف الفوز في المباراة‪.‬‬

‫مرَّ أمامك شريط ذكرياتك‪ ،‬ذكريات لطيفة تتذكرها ف َيبسُم‬


‫محياك‪ ،‬وأخرى وودت لو أنها لم تمر بك قط‪ ،‬تتذكر انتصاراتك‬
‫الصغيرة‪ ،‬تقف بك الذاكرة عند تلك اللحظة التي حققت فيها أول‬
‫أهدافك‪ ،‬ود َّدت لو توقف الزمن‪ ،‬و َّددت لو أن كل لحظاتك تماثل‬
‫ً‬
‫سعيدا وال يشغل بالك أي شيء سوى‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬وقتها كنت‬
‫أنك أخيرً ا حققت ما تريد‪.‬‬
‫‪٣‬‬
‫أيام وشهور تمر‪ ،‬الصف األول فالثاني وهكذا دواليك‪ ،‬يكبر‬
‫الصغير وتكبر معه أحالمه‪ ،‬يرى الطبيب فيتمنى أن يصبح‬
‫طبيبًا عندما يكبر‪ ،‬يشاهد فيلمًا عن الفضاء فيوَّ د لو يصبح رائد‬
‫فضاء‪ ،‬وفي وقت فراغه يرسم‪ ،‬فتجده يريد أن يصبح فنا ًنا‬
‫مشهورً ا‪.‬‬

‫ُتشاهد كل ذلك‪ ،‬فتضحك حي ًنا على سذاجته‪ ،‬وتشفق أحيا ًنا على‬
‫حاله‪َّ ،‬تود لو أن بإمكانك الصراخ لتحذيره أن العالم لن يسع‬
‫خياله البريء‪ ،‬وأن كل شيء يخص مستقبله مرسوم بدقة‪ ،‬ولو‬
‫و َّد أن يحيد عنه‪ ،‬اتهموه بالجنون‪.‬‬

‫تسمع أصوا ًتا حول الصغير‪ ،‬تب َّدل المشهد من غرفته الصغيرة‬
‫ذات األحالم الوردية‪ ،‬إلى غرفة كبيرة تحوي أشخاصًا ُكثر‪،‬‬
‫أحدهم يخبره أن يبذل قصارى جهده‪ ،‬وصوت يقول إن بذلت‬
‫جهدك وتعبت في هذه المرحلة سوف ترتاح فيما بعد‪.‬‬

‫تعلواألصوات‪ ،‬كل يدلي برأيه‪ ،‬والكل يجد أن الطريق الذي‬


‫رسمه للصغير هو األفضل‪ ،‬وتجده حائرً ا ال يعرف بما يجيب‪،‬‬
‫وإن أجاب بما يدور في عقله‪ ،‬هل سيعجبهم الرد؟ أم أنهم سوف‬
‫يغضبون منه ويضعونه على قائمة الفاشلين الذين ال يعرفون‬
‫شي ًئا عن مصلحتهم‪ ،‬تراه تائهًا ال يدري كيف أتى إلى هنا‪ ،‬كل‬
‫ما يتذكره هو غرفته الصغيرة التي يحبها وأحالمه الوردية‪.‬‬

‫‪٤‬‬
‫َكبُر الصغير‪ ،‬لم يعد كسابق عهده‪ ،‬شخصيته الصغيرة لم تعد‬
‫كما كانت‪ ،‬أحالمه ال تمت بصلة لتلك األحالم الصغيرة التي‬
‫كانت تسكن عالمه الخاص به‪ ،‬كل شيء لم يعد يشبه الماضي‪،‬‬
‫هو يذكر الماضي بشكل طفيف‪ ،‬ولكن رغم ذلك هو يشعر في‬
‫قرارة نفسه أنه تغير‪ ،‬وتغير كثيرً ا أيضً ا‪.‬‬

‫ود َّدت لو أن بإمكانك أن تهون عليه‪ ،‬أن تخبره أن هذه هي‬


‫الحياة‪ ،‬يجب أن تتغير لتتأقلم مع المجريات من حولك‪ ،‬ولكنك‬
‫أردت أن تخبره أن التغيير يمكن أن يكون في اتجاهين‪،‬‬
‫فاألفضل لك أن تختار االتجاه الصحيح‪ ،‬وإن ِح َّدت يومًا عنه‪،‬‬
‫عليك بالعودة‪ ،‬حتى ولو كنت تظن يومًا أنه ال مجال لذلك‪.‬‬

‫يخطو الصغير أول خطواته داخل أحد الكليات التي يسمونها‬


‫كلية قمة‪ ،‬يتنفس الصعداء‪ ،‬أخيرً ا سيجد الراحة كما أخبروه‪.‬‬
‫يبدو الوضع لطي ًفا في أولى ساعاته‪ ،‬ولكن فجأة الوضع اختلف‪،‬‬
‫تنهال عليه المحاضرات من حيث ال يعلم‪ ،‬أشياء غريبة يُقال أنه‬
‫يعرفها ولكنه ال يتذكر شي ًئا عنها‪ ،‬محاضرة تليها محاضرة تليها‬
‫أخرى وفجأة امتحان‪ ،‬ال يدري كيف حصل كل هذا؟‪.‬‬

‫الوضع ال يشير إلى أي راحة‪ ،‬هذا ال يمت للراحة بصلة‪،‬‬


‫تقارير ومن َّثم مشاريع وأبحاث‪ ،‬هدنة كل ما يريده هو هدنة‪،‬‬
‫فكل ذلك لم يكن بخاطره‪ ،‬رغم أنه َو َّدع خياالت الطفولة منذ‬
‫زمن‪ ،‬لكن كل خياله عن تلك المرحلة ال يشبه الواقع‪ ،‬ويبدو أن‬
‫خياله عن هذه المرحلة كان خيااًل آخر من خياالت الطفولة‪.‬‬

‫‪٥‬‬
‫ها هو اآلن على عتبات التخرج‪ ،‬ما كان يحلم به منذ زمن‪،‬‬
‫أخيرً ا تحقق‪ ،‬لم يكن يعلم أنه سيصل إلى هذه اللحظة‪ ،‬كان دائمًا‬
‫يرى هذه اللحظة بعيدة‪ ،‬كان يستغرب هؤالء الذين يتخرجون من‬
‫حوله ويتسائل كيف يفعلون ذلك؟‪.‬‬

‫كان يرى كل هؤالء المتخرجين أبطااًل من نوع خاص‪ ،‬صحيح‬


‫أنهم ال يشبهون األبطال بشكلهم المعهود في خيالنا‪ ،‬وربما ال‬
‫يعرفهم أحد‪ ،‬ولكنهم مروا بكل هذه الضغوطات ونجحوا في‬
‫تخطيها‪ً ،‬إذا هم أبطال‪.‬‬

‫فجأة تسمع أصوا ًتا كثيرة‪ ،‬ماذا سوف أفعل اآلن؟ هل هذا هو ما‬
‫أريد ح ًقا؟ أخبروني أنني سوف أجد الراحة عندما أفعل كذا وكذا‬
‫فأين الراحة؟ كيف السبيل إلى الخالص من كل هذه األفكار؟‪.‬‬

‫ال أحد في المكان سواك أنت والصغير‪ ،‬يبدو أنك تسمع أفكاره‪،‬‬
‫ولكن كيف؟ ال تدري‪ ،‬أهي َمل َك ٌة اكتشفت وجودها مثل تلك التي‬
‫تشاهدها في أفالم الخيال العلمي! أم أنك فقط تتخيل أنك تسمع‬
‫أفكاره رغم أنه ال يتحدث مطل ًقا!‪ ،‬يبدو أن هذا الكابوس سيُفقدك‬
‫عقلك ويجعلك تصدق األوهام والترهات‪.‬‬

‫لكن مهاًل كل هذه التساؤالت تشبه تساؤالتك‪ ،‬أنت مثله تتسائل‬


‫ولكن ال أحد يسمعك عندما تنزوي في غرفتك‪ ،‬أيعقل أن كل هذا‬
‫من أجل أن تعرف اإلجابة؟ أو أن يشير هذا الكابوس أو الشيء‬
‫الذي ال تعرف مسمى له إلى الطريق الذي تريده؟‪.‬‬
‫‪٦‬‬
‫تتضح الصورة شي ًئا فشي ًئا وتتضح معها مالمح الصغير‪ ،‬تفرك‬
‫عينيك غير مصدق لما يحدث‪ ،‬أخيرً ا أوشك هذا الكابوس على‬
‫االنتهاء‪.‬‬

‫يقف الصغير أمام المرآة‪ ،‬تعكس المرآة مالمحه واضحة هذه‬


‫المرة‪ ،‬ولكنك غير مصدق‪ ،‬ما إن اتضحت مالمحه حتى اكتشفت‬
‫أن مالمح الصغير تشبه مالمحك تمامًا‪ ،‬أهو توأمك الضائع الذي‬
‫ال تعرف عنه شي ًئا وأتاك في الحُلم ليُعلِمك بوجوده! أهو نوع من‬
‫التواصل الروحي بينكما كما كنت تشاهد في األفالم!‪.‬‬

‫تفرك عينيك‪ ،‬يبدو أن األوهام استولت على عقلك‪ ،‬يجب أن‬


‫تستيقظ من هذا الكابوس‪ ،‬يجب أن تجد مهربًا‪ ،‬لو بقيت هنا أكثر‬
‫ستصاب بالجنون‪.‬‬

‫فجأة تبدلت مالمح الصغير ولكن الغرفة كما هي‪ ،‬كل شيء كما‬
‫هو المالمح فقط اختلفت‪ ،‬هذه مالمح صديقك المقرب‪ ،‬ثم مالمح‬
‫جارك‪ ،‬مالمح زميلتك في الجامعة‪ ،‬المالمح تتغير ولكن كل‬
‫شيء كما هو‪ ،‬مالمح ألشخاص عرفتهم طوال حياتك فرقتكم‬
‫الطرقات‪ ،‬بقي من بقى وغادر من غادر‪ ،‬ولكن ما الرابط بين‬
‫كل هؤالء؟‪.‬‬

‫ً‬
‫متنهدا بعد أن قلبت المكان رأسً ا على عقب‬ ‫جلست مكانك‬
‫لتهرب‪ ،‬ولكن بال جدوى‪ ،‬أخذت تفكر ما عالقة هؤالء‬
‫األشخاص ببعضهم‪ ،‬ال شيء يجمعهم‪ ،‬ال مدينة وال شارع وال‬
‫حي‪ ،‬ال يجمعهم شيء سوى أنهم متماثلون في العمر‪.‬‬

‫‪٧‬‬
‫تحول المشهد الذي كنت فيه إلى مكان أبيض واسع‪ ،‬ال شيء‬
‫فيه سوى اللون األبيض‪ ،‬تنظر إلى أعلى فتجد لو ًنا أبيضًا أيضا‬
‫ولكن يشوبه قليل من السواد‪ ،‬ال تفهم ما هذا المكان‪ ،‬يبدو أن هذا‬
‫الكابوس لن ينتهي قريبًا‪.‬‬

‫تجد أشخاصًا ُكثر يتجهون َ‬


‫نحوك من بعيد‪ ،‬ال تدري أتختبيء؟ أم‬
‫تظل واق ًفا لتفهم ماذا يحصل؟ وإن قررت أن تختبيء أين السبيل‬
‫لذاك االختباء وسط الالشيء؟‪.‬‬

‫اتضحت مالمح هؤالء األشخاص القادمين‪ ،‬إنهم نفس األشخاص‬


‫ً‬
‫وحيدا‪،‬‬ ‫الذين ظهرت مالمحهم على المرآة‪ ،‬حس ًنا يبدو أنك لست‬
‫ال بأس بعض الرفقة ال تضر‪ ،‬لعلك تفهم ما يجري حولك منهم‪.‬‬
‫تجمَّع ال ُكل‪ ،‬ينظرون إلى بعضهم البعض ويتساءلون‪ ،‬ولكن ال‬
‫أحد يملك االجابة‪ ،‬ال أحد يعرف ما هذا المكان أو لم هم هنا‪،‬‬
‫قرّر الجميع أن يستمروا بالمسير لعلهم سويًا يصلون لشيء أو‬
‫يجدون سبياًل للهرب‪.‬‬

‫ظهرت ألوان أخرى في األفق‪ ،‬أسرع الجميع نحوها‪ ،‬فإذا بهم‬


‫يرون أطفااًل يلعبون وبي ًتا وعصافير وسماء زرقاء‪ ،‬حاول‬
‫البعض أن يواصلوا السير فال شيء هنا يساعدهم‪ ،‬ولكنهم ال‬
‫يستطيعون التقدم أكثر من ذلك‪ ،‬حاول البعض القفز ولكن كل‬
‫حاجزا شفا ًفا يمنعهم من‬
‫ً‬ ‫المحاوالت باءت بالفشل‪ ،‬يبدو أن هناك‬
‫المواصلة‪ ،‬وال أحد يعرف السبيل إلى تخطيه‪.‬‬

‫دققوّ ا النظر فإذا بهم يكتشفون أن هؤالء األطفال لم يكونوا بشرً ا‬


‫بل إنهم أقرب إلى الرسم‪ ،‬والبيت ليس بي ًتا حقي ًقا إنه يشبه ذاك‬
‫البيت الذي نرسمه بنوافذ على شكل مثلث‪ ،‬وكذلك العصافير‬
‫والسماء ليست حقيقة‪ُ ،‬دهش الجميع‪ ،‬نحن عالقون داخل ورقة‪،‬‬
‫على وجه الدقة عالقون عند الحواف البيضاء التي ال يلتفت لها‬
‫أحد‪.‬‬
‫نحن عالقون عند الحافة‪ ،‬تلك التي يتجاهلها الجميع‪ ،‬برغم أنها‬
‫تحدد بداية ونهاية تلك اللوحة الجميلة التي لطالما صفقوا لنا‬
‫إعجابًا بها‪ ،‬جيل كامل عالق ال يعرف السبيل إلى الخالص‪ ،‬ال‬
‫يدري إلى أين يجدر به أن يمضي‪ ،‬لم يجد تلك الراحة التي‬
‫لطالما حدثوه عنها لو اتبع الخطوات خطوة بخطوة‪.‬‬

‫جيل أراد أن يرسم لوحته الخاصة وأال يتجاهل الحواف‪ ،‬ولكنه‬


‫فوجيء بالنفي للحافة‪ ،‬ال يعرف اآلن أعليه أن يمضي ُج َّل حياته‬
‫قابعً ا هناك عند الحافة؟‪ ،‬هل يجدر به أن يرضى باللوحة كما هي‬
‫ويمضي حياته في التغني بجمالها حتى يتخطى ذاك الحاجز؟ أم‬
‫أن يترك كل ذلك ويحاول بشتى الطرق أن يتخطى ذاك الحاجز‬
‫ليعيد تشكيل اللوحة كما يريد؟‪.‬‬

‫مشهد الختام لم يُكتب بعد لذا فالمشهد بال رقم إلى حين مسمى‪،‬‬
‫ربما لن يُكتب اآلن‪ ،‬ربما يأخذ وق ًتا حتى يُكتب‪ ،‬لم يُسدل الستار‬
‫بعد فمازال للمسرحية بقية‪ ،‬فهل يمكن للستار أن يُسدل رغمًا‬
‫َّ‬
‫تخطينا لذاك الحاجز محظ ترهات‬ ‫ع َّنا؟‪ ،‬ربما كانت محاولة‬
‫وأوهام‪ ،‬ومحاولة تشكيل اللوحة تبعً ا إلرادتنا صعبة‪ ،‬ربما كان‬
‫السعي ال يستدعي حتمية الوصول‪ ،‬ولكن عزاؤنا أن السعي‬
‫يستدعي حتمية الجزاء‪ ،‬عزاؤنا هي محاوالتنا للتمسك بخيوط‬
‫األمل التي تبعث بها الشمس‪ ،‬رغم أنها على حين غرة م َّنا تأف ُل‬
‫وتتركنا في الظالم الحالك‪ ،‬عزاؤنا كما قالت رضوى عاشور ‪-‬‬
‫بغير‬ ‫هّٰللا‬
‫رحمة عليها ‪ " -‬هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا ِ‬
‫الهزيمة ما ُدمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا "‪.‬‬
‫مباركة الميطة ‪/‬الجزائر‬
‫قبص شهاب‬
‫بين صراعات القلب وانكسار العين‪ ،‬بين تالحم الشفق واستيقاظ‬
‫الفجر‪ ،‬وبين تنفس الجبال ورقصات األشجار أعلنت أرتيميس‬
‫ميالد موسم اإلصطياد‪ ،‬وصدح صوتها بين ثنايا المجرات لتكن‬
‫كل األنفس مثلي المرمى مستنير والسهم مشدود على قوس‬
‫االنتصار ليبجل الصيادون ولينزلوا لبالد الضعفاء أرض القلوب‬
‫الميتة من صعقات الحياة وليبرزوا قوة النجوم‪.‬‬
‫كعادتي استرقت السمع لحكايا النجوم من شرفة منزلي‬
‫وكانت خير جليس لضعف إرادتي جسد انصاع لويالت المرض‬
‫وأرجل كبلت بأصفاد الشلل‪ ،‬صدامات نزلت على هذا الجسد‬
‫وجدت في قدمي مسرحا لترسيخ انتقام القدر‪ ،‬فحبست قلبي‬
‫وعقلي عند هذا الحد‪ ،‬سمعت تلك األرتيميس تردد هيا هذه‬
‫أرضكم يا محاربي فانزلوا ولتكن غنائمكم أنفس من البشر‪.‬‬
‫فجأة سطع ذاك الوميض بين عيني شهاب سلك طريق الغيوم‬
‫ليسقط أمام قدمي‪ ...‬إقتص من ذات اإلنتقام ‪...‬ليعود البصر‬
‫رويدا رويدا وتفك األصفاد قفال واء قفل ‪...‬‬
‫أساور غجرية وثياب عربية وأفكار جهنمية‪ ،‬تقبع بين يدي‬
‫إدعت العلم والمعرفة‪ ،‬وجالت في علم الغيب تعبث بأصابعها‬
‫بين دفاترنا‪ ،‬قالت مسكت بين يدي قارات سبع حولتها لسبع‬
‫حجرات‪ ،‬فإن كنت ذا علم ومعرفة صارت بقرات سمان تنبئ‬
‫بالخير والبركة ‪،‬وإن كانت بالعكس‪ ،‬فأنت ذا طالع نحس‪ ،‬صرن‬
‫عجاف ال يسمن وال يغنين من جوع‪ ،‬خطت بأصابعها على‬
‫شاطئ بحري حكايات وروايات‪ ،‬ارتوت بمطر السماوات السبع‪،‬‬
‫وشقت طريقها نحو سابع أرض‪ ،‬سلبت لب العاقلين واتهمت‬
‫الباقون بالجهل‪ ،‬فكان لكل سطر رواية تقص مستقبلك‪ ،‬نجاح‪،‬‬
‫عمل‪ ،‬مال‪ ،‬خطبة وزفاف‪ ،‬أو ولد ‪ ،‬استهوت صاحب نفس‬
‫تطمع لما فقدت من خط القدر ‪.‬‬

‫هكذا رأيتها تحدث حبات رملها‪ ،‬وتستجدي آذانهم لتطرق على‬


‫باب القلب حب االطالع‪ ،‬ولكن أين؟‪ ...‬أمام مسجد بنيت أركانه‬
‫بايمان واحتساب‪ ،‬وتصدع جدرانه يشهد لقوة إيمانه‪ ،‬ربما لتوهم‬
‫من تقف بجانبه أنها موصلة باستشراقات تعبدية‪ ،‬معتكفة بمعالم‬
‫غيبية‪ ،‬لكنها هنا في منزلي من سمح لها بالدخول‪ ،‬أردت أن‬
‫أصرخ بعلو صوتي لتسمع تلك المؤنسة لوحدتي صدى صوتي‬
‫لكنها ستعتبرها نوبة من نوبات كوابيسي أرى فيها إنطفاء شمعة‬
‫الحياة في جسد من وهباني الحياة‪ ....‬لكن أثارني تقاسيم وجه‬
‫أعرفه حق المعرفة‪.‬‬

‫اقتربت منى بخطى حثيثة وقلبي يدق أوتار الخوف ويحاور‬


‫عقلي‪ ":‬من أي عالم هذه ؟‪..‬ال أعلم هل يحق لي قول هذه المرأة‬
‫أم كائن أسطوري جهلت معاليم كيانه؟‪...‬وأي رسالة تحملها‬
‫لي‪...‬أوووف ما بك هل تقبلين بخرافات؟ فعالم الغيب خط قدرا‬
‫في كتاب جف حبره منذ والدتك‪ ،‬وال مجال لتغييره‪ ،‬فركت‬
‫عيني بيدي وأغلقتها كما أغلقت عقلي قبال دون جدوى ال زالت‬
‫قابعة أمامي‪. ".‬‬

‫وقبل أن أنبس بكلمة‪ ،‬طالعتني باهتمام وقالت‪ :‬من غير سالم‬


‫قطبت حاجبا ورفعت آخر‪ ،‬وحملقت في عيني بعين جاحظة‪،‬‬
‫(حتى شعرت أنها بكالمها واثقة) الشك ذريعة الفاشلين لالقتراب‬
‫من المحضور ‪ ،‬فإما أن يبلغ إيمانك يقينه‪ ،‬وتسير على درب‬
‫عقلك‪ ،‬أو تسلم مقالد الفكر لقلب تستهويه المحرمات‪ ،‬وما بين‬
‫عقل رافض وقلب خاضع‪ ،‬فرصة تجربة فماذا أنت خاسرة!!‪.‬‬

‫عجبا لك سيدتي‪ ،‬قرأت ما في عقلي قبل أن أسألك عن طالع‬


‫يومي ‪( ،‬لم تقرأ ولم تعرف مايخلج ذهني ولكن ‪....‬تجاوزت‬
‫السحر والسحرة وبواطن العقول المنفتحة وتعلمت فن النفس‬
‫المنغلقة‪ ،‬أقنعتني أنها ذات نية‪ ،‬فطمأن لها قلبي كرها ليس‬
‫طوعا‪ ،‬فقد علمت كيف تحيط عقلي عند أول نقاش‪ ،‬كما أحطت‬
‫نفسي بضعفي عند منحنيات الحياة ‪...‬هذا طبعا ضعف مني‪،‬‬
‫ربما شخصي يبدو من خالل مظهري لذلك عرفت تقلبات‬
‫نفسي ‪)..‬‬

‫حسن ال ضير لنرى ما تقوله رمالك ويرقص على طرف لسانك‬


‫فربما انتشلتي هذي الروح المطوقة بعجز جسد‪...‬‬

‫‪ -‬أال تزالين بين رفض وقبول‪ ،‬انضري يا ابنتي ما أقوم به ليس‬


‫من المجون‪ ،‬هذا علم نجوم وفلك خط من غابر الزمن تعلمناه‬
‫من يد نبي عرف كيف يستقي الغيب من صاحب الغيب ويطوقه‬
‫بما ينفع‪ ،‬وذألك ليس عبث بل لنتجاوز ما يضر‪.‬‬

‫في قلبي قلت شتان بين علم رصد حركة الرياح والنجوم‬
‫واستخلص حركة الغيوم‪ ،‬علم علم إن كانت السحابة تحمل‬
‫بجعبتها ما يثلج قحل األرض‪ ،‬أم خاوية ليس فيها سوى صدى‬
‫قارورة فارغة مثلي ‪ ،‬لما لم أقل ذالك وأرفض حوارها‬
‫وانصرف لهمي ال أعلم‪ ،‬بل استرسلت وقلت‪ :‬هاتي لنرى يا‬
‫صاحبة العلم فأساسا كنت هائمة على وجهي في أرض نبذت‬
‫كياني‪ ،‬ليس لي فيها عمل إنما فراغ يتلوه فراغ‪.‬‬

‫ابتسامة أبدتها على ثغرها‪ ،‬أسفرت عن انطواءات األسرار‬


‫فهمت منها أن آالفا مني قد مرو على سطور رملها‪ ،‬ولست أول‬
‫من تريد أن تدحض علمها ‪.‬‬

‫حركات وايماءات أبدتها رفعت رأسها للسماء تستقي منها‬


‫الحكمة‪ ،‬وأيد ترفعها وتنزلها كصوت يضرب على قلبي‪ ،‬ترى‬
‫ماذا ستقول ومن أين ستبدأ كشف سىري‪ ،‬هل حقا ستفتح قفص‬
‫قلبي وتفضح ضعفي‪ ،‬أم ستخبرني عن قصة عشقي‪ ،‬ال أكيد‬
‫ستقول تطمحين لمنصب وستقابلين قدرك وغيرها من أمور‬
‫شربنا كأسها حد الثمالة فما عادت تستهوينها ‪.‬رمت قاراتها على‬
‫صفوة رملها‪ ،‬وأوصلت خطوطا بين حجرة وحجرة‪ ،‬وقالت قلب‬
‫أنهكته الحياة سرقت أحالمه وآمااله‪ ،‬ماذا ينتضر من حبات رمل‬
‫نثرت على شوك وطلب من حفات يوم ريح جمعه ‪.‬‬

‫وهذه حقيقتي ال يوم أنتضره وال غد لي رغبة بعيشة وال ماض‬


‫أرغب بتذكره‪ ،‬يكفيني استحضار تلك األرواح المشتتة لتضفي‬
‫بعض حياة على حياة ميتة مثقلة بسهام الغدر والقهر ‪.‬‬
‫نفضت هذا الحوار من ذهني وهممت بالمضي‪ ،‬كفى كذب‬
‫المنجموم ولو صدقو‪ ،‬قدري وأعرفه ومستقبلي وليد فكري‬
‫وماضي ليس عليه أسف ولى ومضى‪ ،‬لن أدخل نفسي في‬
‫متاهات ال طائل منها ‪.‬‬

‫توقفي سر اختفى بين سطور الرمال ال عالقة للقدر بما‬


‫سأقوله ‪،‬حياتك شارفت على اإلنتهاء فخط قدرك لم يوصل بكل‬
‫القارات ‪.‬‬

‫ماذا اأنا بصحة جيدة لم أشتكي مرضا وال حمة وال شيء كيف‬
‫تقولين أيامي في الحياة معدودة‪ ....‬آه رأيتني مقعدة فضننت أن‬
‫مرضا فتك بي بل أعظم األطباء قال خلل في نفس وليس جسد‬
‫يشفى ويقوى مع مرور الزمن ‪.‬‬

‫أجزعتي لم تطلبي حدا لحالتك‪..‬اسمعي الموت فريضة حتمية‬


‫ومسلمة ال تدحضها فرضية‪ ،‬ولدنا لنموت وإال أين الماضون‬
‫قبلنا ‪،‬وأبن من تعج معاجم السير بسيرتهم‬

‫صحيح قولك ال نقاش‪ ،‬ولكن ليس بيدك تحديد موعد موتي‬

‫ردت ببرود ‪:‬ومن قال موعد سيحدد ‪.‬‬


‫أنت قلت حياتك شارفت على االنتهاء ‪.‬‬

‫وهل تطمحين للخلود ستنتهي ولو بعد حين ‪.‬‬

‫تنفست الصعداء وكأنيي لم أقل ال غد أرغب بعيشة وقلت‬


‫‪:‬إذن لم تأتي بجديد‪ ،‬تلك حياة وليس خط رمل على جدار‬
‫الزمن ‪.‬‬

‫ههه تهزئين من علمي وتتجاهلين صدق قلمي‪،‬رغم بياني أنك‬


‫تطمحين لعيش غدك‪ ،‬سأفتح الزمان في ذهنك وسأسرد أمورا‬
‫غابت عن خلدك ‪.‬‬

‫أنظري حبات رمل صفت بانحناءات على فرش‪ ،‬كأنها أفعى‬


‫تترصد لقتلك‪ ،‬طريق بدأت منذ متنصف عمرك لم تنتهي بعد‬
‫وهذه كينونة السماء األولى تحدو حدوها نحو تحقيق حلمك‪،‬‬
‫راقبي الرياح كيف تحمل همك وتبعثر خوفك وتنثر رمل قدرك‪،‬‬
‫وتلك األرواح المستحضرة في صمتك بعثت يقين حياة في شمس‬
‫قدرك وحان موعد العودة لحيث يطبق الزمن على جدار ضعفك‪.‬‬

‫باهتمام قلت ‪:‬هل افرح لما تقوله أم أبدي العكس‪.‬‬


‫تاعبت قولها‪ :‬أرأيت هذه االنحناءات التي ترسم قدرك على‬
‫رملي هو ذاته ذاك الخوف القابع بقلبك‪ ،‬لما تقديم األسوء دائما‬
‫عندك ما دام بإمكانك توقع األفضل‪ ،‬لما تجاهل ما يسعد قلبك‬
‫والسير نحو ألمك ‪.‬‬

‫سيدتي هل تخاطبين قلبا هجره األمل‪ ،‬أم تسعفين نفسا تلقت‬


‫وليات الضرب من قدر‪ ،‬سيدتي قلبي ال زال ينبض بايمان والغد‬
‫فيه خير وإن لم أنتضره‪ ،‬دعك من اللعب بالكلمات وجلسة الطب‬
‫النفسي هذه ‪،‬إن أردت بيع كالمك هاتي ما يفصح عن صدق‬
‫علمك وأخبريني من أنت؟ ‪.‬‬

‫قبص شهاب أرسل من قبل نجمة لتحاور من استمع لقولها‪...‬‬


‫فكفاك مكابرة على نفسك وفك قيد قدمك جلوسك قربي رغم‬
‫رفضك يبدي رغبة عارمة لسماع ما يهون قدرك على نفسك‪،‬‬
‫سأجمع حبات رملي حبة حبة وسأرجع القارات السبع إلى كفي‪،‬‬
‫وأنت انهضي واسعي وابحثي وحاربي ‪ ،‬علك تجدين في مكان‬
‫اخر ما ينتظرك ‪،‬ولتأخذي بنيتي بنصيحتي ‪،‬الرمل موجود في‬
‫كل مكان ‪،‬مزج مع ذرات الهواء ‪،‬وجد في أعالي الجبال وفي‬
‫قعر المحيطات‪ ،‬استقى من الشمس ضياءها واألرض حريتها‪،‬‬
‫صقل بماء البحر و سنداب الفقد‪ ،‬فأصبح زجاج مرآة عاكسة‪،‬‬
‫يحمل في طياته سحر حديث نفس‪ ،‬تجهل مكامن قوتها وتحكم‬
‫اغالق قوقعتها ‪ ،‬تبحث في وجوه اآلخرين من يكشف سر نفسها‪.‬‬

‫ما إن قالت هذا حتى عاد صوت أرتيميس ليصدح بين النجوم‬
‫ليجتمع المحاربون فقد سرى القلم بقلوب المستضعفين ولهم قرار‬
‫المضي أو الرضوخ فلسنا سوى رسائل تخاطب الروح‪.‬‬
‫عادل عبد العاطي الغنام‪/.‬مصر‬
‫الهاربون إلى الكهف‬

‫‪-1-‬‬
‫" أدهم‪ ...‬حبيبي ‪...‬أثق أنك عندما تأتي سوف نصنع ما هو‬
‫أفضل من هذا‪ ...‬أحبك!" (ميرنا)‪.‬‬

‫‪-2-‬‬
‫التاكسي يقطع قيظ القاهرة متجهًا الى المطار‪ ،‬بحركة ال إرادية‬
‫يتفحص تذكرة الطيران وجواز السفر‪ ،‬يتأمل التأشيرة السياحية‬
‫التي سيدخل بها الدولة التركية‪ ،‬بوابة أوروبا‪ ،‬حلم جيله كله‪.‬‬
‫تعتصره لحظات وداع "حسناء" الباكية‪ ،‬يهدأ من روعها‬
‫ويطمئنها فكل ذلك من أجل المستقبل وتحقيق حلم العالمية‪ ،‬وهي‬
‫ترد بجملة واحدة "كنت أنا حلمك الدائم"‪ .‬ال يعقب ويسحب باب‬
‫الشقة ملقيًا بقلبها المتحطم وراءه‪.‬‬
‫‪-3-‬‬
‫لم يفهم سر هروب طيور الحمام الذي كان تعتني به أمه "فرح"‬
‫كأبنائها فوق سطح منزلهم‪ ،‬ولِ َم سكنت الفراشات الملونة باحة‬
‫منزلهم الرحيب؟ هل ح ًقا تسكن األرواح الفراشات لتطل بين كل‬
‫حين وآخر على أحبابها؟ هل كان عمره ال يسمح له باالستيعاب؟‬
‫ال يظن‪ ،‬فلقد أتم وقتها المرحلة الثانوية ويترقب دخول الجامعة‪.‬‬
‫لكن رحيله مع "حسناء" أخته الكبرى بعد ذلك لإلقامة وحدهم في‬
‫شقة جدهم القديمة‪ ،‬تجنبًا لالختالط مع زوجة أبيهم ومعاملتها‬
‫تفسير واحد‪ ،‬أنه بعد موت‬
‫ٍ‬ ‫السيئة لهم‪ ،‬كل ذلك جعله يستقر على‬
‫"فرح"‪ ،‬غابت كل البهجة عن الحياة!‬

‫‪-4-‬‬
‫‪" -‬حسناء"‪ ...‬أريد أن أحول غرفتي إلى "أستوديو" كي أتمكن من‬
‫القيام بالتسجيالت الصوتية وتصوير الفيديوهات بطريقة‬
‫احترافية‪ ،‬إن دراستي في كلية اإلعالم قد فتحت لي الكثير من‬
‫األبواب‪ ،‬ورأيت نماذج خاصة بشباب معي في الكلية و‪...‬‬
‫‪ -‬انتظر قلياًل يا "أدهم"‪ ...‬أظن مشروعً ا مثل هذا يكلف الكثير‪،‬‬
‫وأنت تعرف أننا نعيش على ميزانية محدودة من مصروف أبيك‬
‫مع فوائد الودائع البنكية التي ورثناها عن أمك‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬وممكن القيام به بإمكانات قليلة‪ .‬ما رأيك؟‬ ‫ً‬
‫بسيطا ً‬ ‫‪ -‬ما أريده‬
‫ت تعرفين حلمي منذ صغري‪...‬‬
‫أن ِ‬
‫‪ -‬رحمك هللا يا "فرح"‪ ...‬أوصتني أال أكون سببًا لحزنك ً‬
‫أبدا!‬

‫‪-5-‬‬
‫ْ‬
‫حملت حقيبة يدها وهمت‬ ‫ِرت كثيراً لدهشته من طلبها‪،‬‬
‫َسخ ْ‬
‫باالنصراف‪ ،‬عادت ونظرت في عينيه بعمق "انظر للحياة من‬
‫حولك‪ ،‬وال تعِش كأهل الكهف!"‬

‫بشكل كاف‪ ،‬فقد كان غار ًقا في عينيها‬


‫ٍ‬ ‫لم يركز فيما تقول‬
‫الملونتين الحادتين‪ ،‬ترددت في عقله كلمات نزار قباني العذبة‪:‬‬

‫(في مرفأ عينيك األزرق* أركض كالطفل على الصخر*‬


‫أستنشق رائحة البحر*وأعود كعصفور مرهق*في مرفأ عينيك‬
‫األزرق*أحلم بالبحر وباإلبحار*وأصيد ماليين األقمار*وعقود‬
‫اللؤلؤ والزنبق)‪.‬‬
‫فليتريث في رفضه قلياًل ‪" .‬ميرنا" فتاة مثقفة حرة‪ ،‬وما تطلبه‬
‫ليس أكثر من فن مجرد‪ ،‬وهو مصور ومخرج محترف وقناته‬
‫على اليوتيوب تحصد كل يوم مزي ًدا من المشاهدات‬
‫والمشاركات‪ ،‬فلتكن يا "أدهم" أكثر برجماتية فلم نعد بزمن‬
‫القديسين‪ ،‬فلترقصي يا "ميرنا" كما ترغبين‪ ،‬وارتدي ما يحلو‬
‫لك‪ ،‬هذا الفيديو لكِ وحدِك وللذكرى‪ .‬ش َّد يدها بقوة قبل أن‬
‫تنصرف‪:‬‬

‫‪ -‬انتظري قلياًل ‪ ...‬موافق!‬

‫‪-6-‬‬
‫أعاد األوراق الى حقيبة يده‪ ،‬ال يحمل غيرها‪ ،‬لذا حاول حشوها‬
‫بكل ما أمكنه من مستندات مهمة وبعض الصور القديمة‪ ،‬أخرج‬
‫هاتفه الذكي‪ ،‬فتح برنامج "الواتساب" ليتابع آخر الرسائل الواردة‬
‫إليه‪ .‬الفتة صالة المغادرين َتلَ ُّوح أمامه‪ ،‬ومعها وجه "ميرنا"‬
‫المضيء الذي فتنه في عدسة الكاميرا‪ .‬تسلمت "ميرنا" رسالته‬
‫األخيرة دون أن تقرأها‪( .‬يقولون إن السحر وه ٌم للعيون‪ ،‬فكيف‬
‫يكون سحرك في غيابك أشد من صحبتك؟ أم أنه العشق الذي‬
‫يأسرني إليكِ ؟ ‪...‬أدهم)‪ .‬عالمة وصول الرسالة تتلون لألزرق‬
‫إشار ًة على قراءتها‪ .‬يتوقف التاكسي‪ ،‬حمل الحقيبة وغادر نحو‬
‫بوابة المطار مع نغمة وصول رسالة جديده!‬

‫‪-7-‬‬
‫‪ -‬ال أحتمل الحياة في هذا البلد‪ ،‬أريد الرحيل إلى أي مكان‪ .‬لن‬
‫أعيش وأموت مثل أهل الكهف!‬
‫‪ -‬هذا الموضوع فيه التباس كبير يا أدهم‪.‬‬
‫‪ -‬هل من الممكن أن توضحي رأيكِ يا دكتوره حسناء؟‬
‫‪ -‬دكتورة رغمًا عنك!‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪ ...‬ماجستير في آداب اللغة اإلنجليزية وبدرجة‬
‫امتياز‪ ...‬أكيد دكتورة وبال جدال‪.‬‬
‫‪ -‬حس ًنا يا مراوغ‪...‬المهم في الموضوع أن عبارة أهل الكهف التي‬
‫ال تعجبك تستخدم اآلن في الحياة كداللة على الرجعية والتأخر‬
‫مع أن الحقيقة غير ذلك‪ .‬إن شباب الكهف كانوا أكثر تقدمية من‬
‫مجتمعهم التقليدي الذي لم يسمح بالتجديد أو حتى محاوالت‬
‫التفكير المغايرة‪ ،‬لذا لم يكن أمامهم إال أن ينصاعوا ويكبلوا‬
‫أنفسهم بالجهل والجبن‪ ،‬أو أن يهربوا بمعتقدهم وإيمانهم الى‬
‫مكان بعيد يعيشون فيه دون خوف أو قيد‪ .‬إن مكوثهم في الكهف‬
‫لم يكن غايتهم قط‪ ،‬بل وسيلة لتحقيق ما هو أهم وأثمن ومن أجل‬
‫بناء حياة جديدة‪ .‬لكن يوجد أمر غريب في كالمك‪.‬‬
‫‪ -‬غريب !؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لدي صديقة في الكلية تردد مثل هذا الكالم‪ ،‬متمردة على كل‬
‫شيء‪ ,‬وتبحث عن أي طريقة للهجرة خارج البالد‪ .‬هل تعرفها؟‬
‫‪َ -‬من؟‬
‫‪" -‬ميرنا"‪ ...‬صديقتي التي أحكي لك عنها‪ .‬لعلك قابلتها هنا في‬
‫شقتنا‪ ،‬كانت معتادة على حضور حفالتنا الشهرية‪ ،‬لكنها انقطعت‬
‫عنها منذ فترة وكذلك كل أخبارها دون سبب واضح‪ .‬هل‬
‫تذكرها؟‬
‫‪ -‬ال أظن!‬
‫‪ -‬لكن "ميرنا" تختلف عنك بشكل كبير‪ ,‬وذلك بسبب ما مرت به‬
‫من ظروف غير طبيعية‪ .‬فبالرغم من صغر سنها‪ ،‬فقد مرت‬
‫بتجربتين للزواج؛ في المرة األولى تزوجت من ابن عمتها وهي‬
‫ما زالت تدرس في المرحلة الثانوية‪ ،‬لكنها انفصلت عنه بعد‬
‫دخولها الجامعة‪ ،‬على ما يبدو كان زواجً ا تقليديًا مفروضًا عليها‬
‫من األسرة‪ ،‬ومن عمتها التي كانت ترعاها بعد وفاة والديها‪ .‬بعد‬
‫طالقها‪ ،‬استقلت "ميرنا" بحياتها الخاصة‪ ،‬وكانت تنفق على‬
‫نفسها من عمل مؤقت في أحد مطاعم البيتزا‪ .‬في المرة الثانية‬
‫ارتبطت عرفيًا بأحد زمالئنا في الكلية‪ ،‬زواجً ا عابرً ا لم يستمر‬
‫سوى عدة أشهر‪ ،‬ولسوء حظها أصيبت في التجربتين بأزمة‬
‫نفسية كبرى وأجرت في كل مرة عملية إجهاض للتخلص من‬
‫جنين لم ترغب في وجوده‪ .‬كانت في دفعتي والتحقنا بالكلية معًا‬
‫لكنها متأخرة اآلن في الدراسة‪...‬‬
‫‪ -‬ميرنا ‪ ...‬ميرنا‪ ...‬ال أعتقد أني أعرفها‪ ،‬لكن قد تتشابه األفكار‬
‫على أية حال!‬

‫‪-8-‬‬
‫لم تكن رسالة نصية‪ ،‬بل فيديو‪ ،‬لكنه يحتاج بعض الوقت ليكتمل‬
‫تحميله‪ .‬سحب حقيبة السفر متجهًا نحو بوابة المطار‪ ،‬نفس‬
‫الحقيبة التي كان يحملها معه منذ أيام المدرسة‪ .‬ابتاعتها له أمه‬
‫"فرح" في الصف األول الثانوي عندما حصد المركز األول في‬
‫امتحانات نهاية العام‪ ،‬وتم ترشيحه لرحلة علمية‪ ،‬وتوالت‬
‫الرحالت‪ ،‬وكل مرة كانت "فرح" تهتم بالحقيبة وتجهزها له بكل‬
‫ما يمكن أن يحتاج إليه أثناء السفر‪ ،‬كم كان يتعجب من مقدرتها‬
‫على التوقع‪ ،‬لم ْ‬
‫تنس يومًا المخبوزات المحشوة بالتمر التي‬
‫يلتهمها في الطريق‪ .‬تابعت "حسناء" مهمة "فرح" من يوم‬
‫التحاقه بالجامعة‪ ،‬إال هذه المرة‪ ،‬فال تحوي حقيبته غير الكاميرا‬
‫وأدوات التصوير‪ .‬ينجز إجراءات التفتيش في يسر‪ ،‬ينتظر دوره‬
‫في مكتب تسجيل الرحلة‪ ،‬يتابع مراحل تنزيل الفيديو‪ ،‬وصل‬
‫للمنتصف‪ ،‬تظهر الصورة تدريجيًا‪ ،‬وإن لم تتضح بشكل تام‪،‬‬
‫فتاةٌ ترتدي زيًا عسكريًا‪ ,‬وتمسك بيدها جسمًا غريبًا أشبه بكرة‬
‫سوداء!‬

‫‪-9-‬‬
‫من وقت ما سبقته "ميرنا" بالهجرة وهما يتواصالن من خالل‬
‫الرسائل‪ .‬ميرنا لها قدرة فائقة على قراءة أفكاره‪ ،‬بل وتحفيزه‬
‫لفعل أمور لم تخطر يومًا بباله‪ ،‬هي الوحيدة بعد أخته "حسناء"‪,‬‬
‫وصديق عمره في الحياة والدراسة "محسن"‪ ,‬من تستطيع أن‬
‫توجه مسار تفكيره‪ ،‬وفي الفترة األخيرة كانت وحدها التي تقدر‬
‫على التأثير عليه‪ ،‬هل ذلك بسبب مصاحبتها له أغلب الوقت؟‬
‫هل كانت تسحره ح ًقا بعينيها الزرقاوين؟ مازالت كلماتها تدور‬
‫َ‬
‫(أنت سجين كهف الرتابة والتقليدية‪ ،‬قمة طموحك هي‬ ‫برأسه‬
‫أقصى درجات العادية‪ ،‬هل جربت نشوة التحرر ولو لمرة‬
‫شخص آخر‪ .‬لقد عشت‬
‫ٍ‬ ‫تالق وتشابه‪ ،‬لم أجده في‬
‫ٍ‬ ‫واحدة؟ إن بيننا‬
‫ُ‬
‫وكنت أفكر‬ ‫مثلي بال أم أو أب أو حنان‪َ ،‬‬
‫كنت تحلم بعين أختك‬
‫بعقل عمتي‪ ،‬واآلن علينا أن نختار الحياة التي نحبها وتجلب لنا‬
‫السعادة‪ .‬إن المجتمع ما هو إال مجموعة من الجالدين‪ .‬يجلدونك‬
‫بالعين وبالقول وينتقدون أفعالك بال مبرر وال رحمة! أما في‬
‫أوقات الحاجة إليهم فيقابلونك بالالمباالة والتجاهل‪ .‬غايتهم أن‬
‫تكون أنت معذبًا‪ .‬من هذه اللحظة‪ ،‬لن نسمح لهم بذلك‪ ،‬بإمكانك‬
‫الحصول على تأشيرة سفر للسياحة إلى تركيا ثم بعدها ستتمكن‬
‫من الوصول إلى أوروبا وساعتها نستطيع أن نعيش م ًعا الحياة‬
‫التي نحلم بها‪ ،‬أنت مصور محترف ومخرج مبتكر‪ ،‬وستموت‬
‫موهبتك معك‪ .‬عليك أن تلحق بي إلى عالم ال يملكك فيه غير‬
‫ذاتك فقط‪" ...‬ميرنا")‬

‫‪-10-‬‬
‫بوابة رقم ‪( ...11‬من هنا ستبدأ في تحقيق مرادك يا أدهم‪،‬‬
‫ستقفز خلف أسوار حياتك المحدودة نحو أفق ال سماء له‪،‬‬
‫ستصنع واقعك بنفسك‪ ،‬كم سأمت كل ذاك الوهم من حولك‪ ،‬إن‬
‫الحياة في نشأتها بسيطة‪ ،‬لكن تدخل اإلنسان جعلها معقدة ومملة‪،‬‬
‫وضع القوانين ثم عاقب نفسه على خرقها‪ ،‬شرع للفن نماذج‬
‫وأنماط ثم هاجم بشراسه كل من يحيد عنها‪ .‬كم تعرض عملك‬
‫لالنتقاد والسخرية بحجة عدم اتباعك لقواعد الفن! وهل لإلبداع‬
‫قالب يحكمه؟ وصل األمر الى اقتيادك ذات يوم إلى جهات األمن‬
‫والتحقيق معك بسبب فيديو ساخر صنعته بنفسك‪ ،‬وانتشر عبر‬
‫َ‬
‫انتقدت فيه تناول السينما لبعض‬ ‫قناتك على اليوتيوب‪،‬‬
‫ً‬
‫ممتدا تجاه السينما‬ ‫موضوعات الحرب بسذاجة‪ .‬كان بصرك‬
‫العالمية وعمقها في التناول واإلمكانيات الجبارة في اإلنتاج‪،‬‬
‫لكنهم زعموا أنك تقوم بمهاجمة الدولة والسخرية من الثوابت‬
‫الوطنية وتعكير مزاج المجتمع‪ .‬كم من األيام قضيت يا "أدهم"‬
‫في استجوابات سخيفة وإهانات بشعة‪ ،‬ولم تعد لبيتك إال بعد‬
‫تدخل غير متوقع من أبيك وعدد من معارف زوجته التي اهتمت‬
‫بك على غير العادة‪ .‬هذا طبعً ا بعد التعهد بعدم العودة لمثل تلك‬
‫األمور فيما بعد وإال لن يتمكن أحد حينئ ٍذ من إنقاذك‪ .‬األدهى من‬
‫ذلك كله هو ما حدث لألستوديو الخاص بك‪ .‬قاموا بمصادرة‬
‫األجهزة وفحصها وتفريغ المعلومات والوسائط من جهاز‬
‫واحدا يدينك‪ ،‬وحين بذل الوسطاء جه ًدا‬
‫ً‬ ‫الكمبيوتر‪ .‬لم يجدوا دلياًل‬
‫مضنيًا‪ ،‬ردوا األجهزة إليك مع اعتذار بارد لم يكن مكاف ًئا قط‬
‫لمصاريف إصالحها التي لم تتحملها ميزانيتك‪ ،‬وبقي األستوديو‬
‫الخرب أمام عينيك‪ ،‬تتحسر عليه كل ليلة وعلى حلمك الذي لم‬
‫يتم‪ .‬على أية حال‪ ،‬ال داعي لتعكير صفو ذاكرتك اآلن‪ ،‬ففي‬
‫أوروبا ستعمل وف ًقا لهواك‪ ،‬وتعيش مع الفتاة التي اختارها قلبك‬
‫وتؤمن بأفكارك)‪.‬‬
‫‪-11-‬‬
‫الفيديو لم يكتمل بعد‪ ،‬تضطرب خلجاته من الشوق لمشاهدة‬
‫محتواه‪ ،‬شرع في تصفح بعض الرسائل التي وصلته مؤخرً ا‪ .‬لم‬
‫يرد على معظمها‪ .‬رسالة من صديقه محسن مكررة فوق العشر‬
‫مرات بخصوص االنضمام إلى فريق عمل مسلسل تليفزيوني‬
‫بطولة عدد من الشباب‪ ،‬كم كان يبحث عن مثل هذه الفرصة من‬
‫قبل‪ .‬كان هذا من أسباب بنائه لألستوديو في شقة جده‪ ،‬ذلك‬
‫عام كامل‪ .‬جاءت مع مجموعة من‬
‫المكان الذي جمعه بميرنا منذ ٍ‬
‫صديقات "حسناء" لمنزلهم من أجل الرقص! تلك الهواية الغير‬
‫معتادة بين فتيات األسر المتوسطة‪ ،‬والتي كانت تجمع البنات‬
‫مرة كل شهر في بيوتهن الخاصة‪ ،‬حيث أنه يصعب عليهن‬
‫الذهاب إلى صاالت الديسكو أو ما شابهها إما العتبارات‬
‫اجتماعية أو مادية‪ ،‬ثم انتقلن الح ًقا إلى األستوديو الخاص به‪,‬‬
‫والذي وفر لهن الخصوصية وعدم إزعاج الجيران‪ ،‬وكذلك البعد‬
‫عن أعين األهل الذين غالبًا ما كان يروق لهم تلك األمور أو‬
‫يتفهمونها‪ .‬سأل أخته "حسناء" عن سبب شغفهن بالرقص‪،‬‬
‫أجابته بحماس‪:‬‬
‫"تلك فرصتنا الوحيدة لالنطالق وإخراج الطاقات السلبية‬
‫والتنفيس عن عناء وضغط الحياة‪ .‬إن الرقص يساعدنا على‬
‫اإلحساس بذواتنا بل ومعرفة أنفسنا بشكل أفضل‪ ،‬يعاوننا على‬
‫مواجهة مضايقات المجتمع والتحرش والشعور المستمر‬
‫بالدونية‪ ،‬هل سألت نفسك عن سر رقص الصوفية وكيف‬
‫يتقربون به الى هللا؟ إنهم يغوصون في أنفسهم فيعرفونها بشكل‬
‫أفضل‪ ،‬وإذا عرفت نفسك فقد عرفت هللا‪".‬‬

‫هكذا كانت تقول حسناء ‪-‬مع عدم اقتناعه في البداية ‪-‬فرقص‬


‫الصوفية يختلف عن الرقص الشعبي‪ ،‬لكنه اعتاد األمر بعد فترة‪.‬‬
‫كان عليه أن يجهز المكان واسطوانات الموسيقى ثم يغادر الشقة‬
‫بأكملها‪ ،‬فتلك الحفالت كانت خاصة بالبنات فقط‪ ،‬حتى في‬
‫المرات التي طلبت فيها "حسناء" منه تسجيل الحفل لرغبة بعض‬
‫البنات في الحصول على فيديوهات بشكل خاص وأمين‪ ،‬كان‬
‫ينسق إعدادات الكاميرات واإلضاءة ثم ينصرف‪ .‬درّ ب حسناء‬
‫على كيفية التشغيل واإليقاف وتحميل كروت الذاكرة‬
‫واستخراجها كي يكون لكل بنت تسجيلها المنفصل‪ .‬بالطبع هذا‬
‫أمَّن له مبل ًغا مناسبًا من المال استخدمه في عمله وإنتاجه‬
‫الخاص‪ ،‬إلى أن تلقى ذات مساء اتصال من "ميرنا"‪ ،‬عرفته‬
‫بنفسها‪ ،‬أبدت إعجابها باألستوديو وبقناته على اليوتيوب وطلبت‬
‫مقابلته خارج المنزل‪ ،‬وأوصته أال تعلم "حسناء" عن اللقاء أي‬
‫خبر!‬

‫‪-12-‬‬
‫اكتمل تحميل الفيديو بنجاح‪...‬هي‪ ...‬ميرنا‪ .‬ارتجفت أطرافه‪ ،‬إنها‬
‫المرة األولى التي يشاهدها فيها بهذا الشكل‪ .‬لم يكن ليتعرف إليها‬
‫لكنه لم يخطأ عينيها الزرقاوين وشعرها األسود المسدل الذي‬
‫أثار أشواقه في لقائهما األول‪ .‬التقيا يومها في كافيتريا ملحقة‬
‫بمركز تسوق كبير بالقرب من شقته‪ .‬لم يتجادال كثيرً ا‪ ,‬وسرعان‬
‫ما تفاهما على األمر برمته‪ .‬يصورها بشكل احترافي وهي تقوم‬
‫بالرقص‪ ،‬ثم يقوم بعمل المونتاج وإضافة المؤثرات الخاصة‪,‬‬
‫مقابل أجر محدد‪ .‬الشرط الوحيد هو أن يتم الموضوع بشكل‬
‫سري‪ ،‬وهذا سر لجوئها إليه‪ ،‬فهي تثق به تمام الثقة‪ .‬نفذ لها كل‬
‫طلباتها‪ ،‬وطبع لها مجموعة من األقراص المدمجة ذات الجودة‬
‫العالية‪ ،‬ربما لو عرضتها على أي قناة فضائية خاصة بالرقص‬
‫ألبرموا معها ً‬
‫عقدا مجزيًا في لحظتها‪ .‬الصعوبة كانت في تخير‬
‫أوقات خالء المنزل من "حسناء" ومن أصدقائه‪ ,‬وضبط أعصابه‬
‫في اللحظات التي تندمج فيها ميرنا بالرقص وتقوم بحركات‬
‫جريئة‪ .‬انزعج في أول األمر‪ ،‬إال أنها كانت تفعل ذلك بعفوية‬
‫وانسيابية‪ ،‬ومن نفسها كافأته برفع المبلغ الذي تمنحه إياه مع قُبْلة‬
‫امتنان على خده‪.‬‬
‫لكن ما يحتويه هذا المقطع كان فوق تصوره‪" .‬ميرنا" في زي‬
‫عسكري‪ ,‬يلتف حول كتفها بندقية كالشينكوف‪ ,‬وتمسك بيدها‬
‫رأس رجل مبتورة‪ ,‬يحيط بها شباب مختلطي األلوان‪ ،‬يطلقون‬
‫صيحات احتفالية‪ ,‬يرفعون رايات سوداء‪ ,‬وفي نهاية الفيديو‬
‫تتحدث "ميرنا" بنفسها ضاحكة الى الكاميرا‪:‬‬
‫"عذرا حبيبي‪ ...‬كما ترى‪...‬اإلخراج دون المستوى‪ ...‬نحتاج‬
‫وجودك وخبراتك معنا هنا‪ ...‬أثق أنك عندما تأتي سوف نصنع‬
‫ما هو أفضل من هذا‪ ...‬أحبك!"‬

‫‪-13-‬‬
‫حقيبة مثقلة بالخيبة والصدمة تزحف فوق درج منتصف‬
‫ب تفتك به‬ ‫ٌ‬
‫دقات على قل ٍ‬ ‫الليل‪ ...‬توقظ ذكريات الطفولة‪......‬‬
‫جراح الفقد للمرة الثانية في حياته‪ ...‬حسناء تزيح الحجاب عن‬
‫نور يتسلل من باب أضعفه األلم والحسرة‪ ...‬فرحة تهز العناق‬
‫بين الحنين والندم‪ ...‬وآهات تعلن أن طريق الحرية يبدأ من‬
‫داخل الكهف!‬
‫محـمــد عبـد الجـبــــار‬
‫‪ ‬سراب المكان (‪!...‬؟)‬
‫( أنا الوحيدة التي يمكن أن تشكو لها ‪ ..‬انقبض قلبه وتمتم ) ـ‬
‫الروائي المصري نجيب محفوظ‪-‬‬
‫إعتاد على عادة من ك ّل عادة من ك ّل شهر وشهر أن يقتني كتابا‬
‫من الكتب من تلك المكتبة المتواجدة من بين مكتبات المدينة في‬
‫ذلك الحي المزدحم الّذي ليس كك ّل األحياء‪ ،‬في تلك المدينة‬
‫تخطى بصعوبة سهلة ك ّل الخطوات والخطى‬ ‫ّ‬ ‫المختبئة وراءها ‪..‬‬
‫الغائبة وهدوء الضوضاء وصخبها ‪ ..‬ال ّ‬
‫شوارع ضيّقة وجميلة‬
‫بقبحها والمكتبة بعيدة ج ّدا عن مكان عمله وقريبة من أمله ‪..‬‬
‫الغبار يمأل الرفوف واألرصفة واألنفاس ‪ ..‬حين وصل وجد‬
‫طابورا طويال ج ّدا مثل أيّامه وفهرس المكتبات العتيقة ‪ ..‬لم يكن‬
‫في حساباته ذلك‪ ،‬إنض ّم إليه وهو اآلن تترقبه ساعته كم يشير‬
‫(‪...‬؟) ‪ ..‬ال ّ‬
‫شمس محرقة تحضتنها نسمات باردة ‪ ..‬أصناف‬
‫مختلفة من ال ّناس كهوال وشبابا وشيوخا وأطفاال ‪ ..‬لم يكونوا‬
‫مر ّتبين ‪ ..‬هو خليط العمر‪ ،‬وحتى في ال ّنساء أيضا طابور‬
‫مشابه‪.‬‬
‫ال زالت تسكنه ال ّدهشة ممّا رأى‪ .‬اإلزدحام عند وعلى وفي‬
‫المكتبات‪.‬‬
‫طرح على نفسه أسئلة كثيرة وبرز سؤال كبير‪ :‬ــ كيف بدأ‬
‫ال ّناس يقرأون ؟ لكن هم ال يحملون كتبا (‪ )!...‬ولم يطرح هذا‬
‫الطفل الّذي أمامه وال على الكهل الّذي أمام ّ‬
‫الطفل‬ ‫السؤال على ّ‬
‫شخص الّذي سيأتي بعد حين وراءه في‬
‫وال سيطرحه على ال ّ‬
‫الطابور‪.‬‬
‫اآلن عجوز جميلة تتوجّ ه نحوهم ربمّا تود اإلنضمام‬
‫للطابور ‪ ..‬من تكون ؟ تساءل الجميع‪ ،‬هي ترجع اآلن من نفس‬‫ّ‬
‫الطريق‪.‬‬
‫كان آخر واحد في الطابور ‪..‬‬
‫ق ّرر في لحظة هاربة زئبقية أالّ يطرح المزيد من األسئلة وال‬
‫يجيب عليها إالّ في البيت أو في منصّات الراحة المتعبة‬
‫وتقاليدها‪ ،‬حينما يجلس لإلحتراق والتورّط‪ ،‬إ ّنها كتابة الكلمة‬
‫الّتي ال يأبه لها أحد إالّ (‪...‬؟!) هو دائما يكتب عمّا يثير انتباهه‬
‫ويثري قلقه‪ ،‬خاصّة وأنّ تخصّصه في ال ّ‬
‫شهادة التي تحصّلت‬
‫عليه يعينه على البوح والصراخ بالقلم ‪ ..‬فقد تعود على الكتابة‬
‫بقلقه الذي ال يفارقه من جيبه بجانب ذلك القلم األسود واألنيق‪.‬‬
‫واصل عقوقه للجلوس كالعادة فهو كثير العادات الّتي يراها‬
‫األخرون غريبة ‪ ..‬غريبة مثلهم ألنّ لهم عادات ينسون‬
‫ويتناسون وجودها فيهم ويلصقون الغرابة في غيرهم ‪ ..‬ومن‬
‫عاداته الغريبة القراءة واقفا وفي ك ّل مكان‪ ،‬في ّ‬
‫الطوابير ‪ ..‬في‬
‫المقاهي ‪ ..‬في البيت ‪ ..‬في الحافلة ‪ ..‬قبل ال ّنوم وفي ال ّنوم‬
‫أيضا ‪ ..‬وهذا ما يفعله اآلن في طابوره الغريب هذه المرة‪ ،‬هو‬
‫يكمل قراءة رواية مترجمة « المدينة والهوى » لصاحبتها‬
‫«أالن فوست» بدأها منذ ثالثة أيام ‪ ..‬هو يقرأ لينسى ‪ ..‬يقرأ‬
‫وينسى ما قرأ‪ ،‬لينسى روتين العمل واألمل أيضا ‪ ..‬لينسى‬
‫غرابة الطابور وينسى هموم يوم عابر أو باألحرى ليتذ ّكر كل‬
‫الهموم السّابقة والالّحقة أيضا ‪ ..‬ألنّ الحياة موجودة في ك ّل‬
‫مكان بتلملم مكنوناتها وح ّتى عندما ننبش عنها بين الكتب وفي‬
‫تفلسفنا اليومي وفي سفسطتنا الالّمتناهية‪.‬‬
‫(هل تتذكرنا الكتب الّتي قرأناها يوما ؟)‪.‬‬
‫فهو دائما يقول ألصدقائه‪ :‬ــ الكتابة تأتي من األلم واأللم يأتي من‬
‫القراءة (‪ )...‬وكان يمازحه أحد األصدقاء ‪ :‬ــ من أين تأتي‬
‫القراءة ؟ وكان يحاول أن يجيبه ‪ :‬ــ القراءة تأتي من األمل ‪..‬‬
‫واألمل يأتي من الكبت والكبت يأتي من تاريخ ك ّل واحد منا‬
‫(‪...‬؟!)‪.‬‬
‫في ك ّل م ّرة يحاول الغياب بالكلمات في الكلمات عن الكلمات‬
‫واللّحظات الواقعة الّتي ال يحب ‪ ..‬في ال ّرواية واقع أخر ‪ ..‬في‬
‫الواقع رواية أخرى ‪ ..‬في الواقع واقع أخر ‪ ..‬في الرواية رواية‬
‫أخرى أيضا‪.‬‬
‫تذ ّكر أ ّنه كان يشتري كتبه من دون طابور إالّ في احتفاالت البيع‬
‫باإلهداء في حضرة الكتاب والكاتب ‪ ..‬يشتري بال وقوف زائد‪،‬‬
‫وتحت أعين ال ّ‬
‫شمس المحرقة والمحترقة ‪ ..‬كان ينتقل بين رفوف‬
‫المكتبات لوحده ال يزاحمه أحد إالّ ذاته وشغفه للمطالعة ‪ ..‬يدفعه‬
‫كتاب من هنا إلى كتاب هناك ‪ ..‬ويقذفه فضوله إلى فضول متبق‬
‫بين الكتب من زيارة سابقة ‪ ..‬كانت سعادة ما مثلها سعادة ‪..‬‬
‫كانت سعادة نادرة مثل السّعادة الحقيقية‪.‬‬
‫هو الّذي كان يبحث عن أحالمه في أحالم الكتب وفي الحروف‬
‫الصامتة للكلمات ‪ ..‬كان يستعير أحالما من أحالم غيره كلّما‬
‫استعار كتابا ‪ ..‬وكان يقتنيها كلّما اقتنى كتابا من مر ّتبه القليل‬
‫والحائر مثله والمنقسم بين جذب الحاجيات الكثيرة‪ ،‬منها ما هو‬
‫مهم وأساسي ومنها ما هو تافه ‪ ..‬تافه ‪ ..‬تافه ( ‪...‬؟؟؟ )‪.‬‬
‫سؤال أخر يقتحم المكان وجغرافيا األسئلة‪ :‬ــ ترى هل يق ّدر‬
‫األخرون أحالمنا ؟ ‪ ..‬كان يتذ ّكر أ ّنه عندما كان يرجع الكتب‬
‫ألصحابها ترجع معها بعض األحالم وعندما يشتري كتبا تبقى‬
‫تلك األحالم بين دفتي كل كتاب إشتراه تنتظر التحقيق والتح ّقق‬
‫والهستيريا في المسافات المسروقة‪.‬‬
‫هل األحالم يجب أالّ تدوم ؟ ‪ ..‬كيف بعض األحالم يجب أالّ‬
‫تدوم ؟ ‪ ..‬لماذا األحالم كلّها يجب أن تدوم ؟‪.‬‬
‫الطابور يسير ببطىء سريع ‪ ..‬فضوله يزيد أكثر‬ ‫ال زال ّ‬
‫وأكثر ‪...‬‬
‫( ما الّذي جرى وما الّذي يحدث اليوم بالضّبط ؟ )‪.‬‬
‫هو في الصّفحة الخامسة والثالثين من الرواية ‪ ..‬مثل سنوات‬
‫عمره الثالثين وخمسة أخرى من رواية حياته الصادرة في طبعة‬
‫إستثنائية هذا الصّباح‪.‬‬
‫كان ك ّل يوم يقرأ من الرّواية الصّفحات الكثيرة ‪ ..‬ويقلّب‬
‫صفحات حياته كلّما سنحت الفرصة ليفعل ذلك ‪ ..‬بقي من طول‬
‫الطابور ما بقي من قصر صبره ّ‬
‫الطويل بالضّبط وطول الرواية‬ ‫ّ‬
‫المقتصرة على مسافات موضوعها ‪ ..‬في هذا الزمان أصبح كل‬
‫شيء يقاس بالمسافات ‪ ..‬حتىّ المشاعر واألحاسيس والعواطف‬
‫والحبّ والنقد‪ ،‬وال ّنساء ‪ ،...‬و ‪ ،...‬كل شيء‪.‬‬
‫سأله أحدهم ‪ :‬ــ أخويا كم السّاعة ؟‬
‫دون أن يجيبه إكتفى برفع معصمه األيسر إلى عينيه ليرى‬
‫الساعة وهو يواصل قراءة الرواية بنفس المعصم ‪ ..‬هو فاصل‬
‫للرّ احة وليشير له متسائال بالتلميح‪ :‬ــ أين كتابك ؟ ّ‬
‫الطابور‬
‫يتآكل شيئا فشيئا ‪ ..‬ال ّتعب يزيد أشياء فأشياء ‪ ..‬أمّا الرّواية فكلّما‬
‫التهم منها العديد من الصفحات تتناقص أوراقها وتزيد األوراق‬
‫التي قرأها وبالتالي يزيد التورّط فيها بعد ك ّل ورقة يقلّبها فتقترب‬
‫النهاية من بداية تورطات جديدة‪.‬‬
‫هي فوبيا القراءة ‪ ..‬الفوبيا قراءة ‪ ..‬حينما تكون القراءة‬
‫فوبيا للذات والذاكرة والكتابة والطريق نحو الخموت‪.‬‬
‫ينظرون إليه بغرابة غريبة أل ّنه يحمل كتابا ‪ ..‬ال يبدو أ ّنهم‬
‫أناس يقرؤون ‪ ..‬يظهر أ ّنهم متعبون من حياة أخرى ‪ ..‬من آخر‬
‫الحياة ‪ ..‬من حياة الحياة‪.‬‬
‫ترى هل تتح ّدث عنهم الروايات والكتب ؟‬
‫يحدث أن تكون األسئلة مستعصية وعنيدة دائما ‪ ..‬بل في بعض‬
‫األحايين ‪ ..‬فهي تحبّ التسلّط واقتحام األمكنة ‪ ..‬ال يعرف عنها‬
‫متى تتو ّقف ؟ وال كيف ؟ هي ال تشبه األشياء (‪...‬؟!) هل تخاف‬
‫األسئلة ؟‬
‫ــ فهم لهم عذرهم ‪ ..‬أنا أحبهم ‪ ..‬أنا ‪( ...‬يقرأ جملة من الرواية)‪،‬‬
‫وفي ذات الوقت يحادث نفسه تزامنا مع نظرة شيخ وقعت عيناه‬
‫في عينيه !!! ؟؟؟ في عمر من األمل ولحظة ألم‪ .‬في مأل من‬
‫وأزقة ال ّنفي وبين‬
‫العابرين وغير العابرين في شوارع المنفى‪ّ ،‬‬
‫المساءات ‪..‬‬
‫كالهما يتساءل مع نفسه ويقول‪ :‬ــ ما الّذي يفعله هذا الّذي‬
‫ينظر إلي في هذا المكان ؟!‪.‬‬
‫لم يتخيّل يوما أ ّنه سوف يقف بهذا ال ّ‬
‫شكل لكي يشتري كتابا ‪..‬‬
‫هو يقول في وهد ذاته هذا ما يجب أن يكون ‪ ..‬هكذا يجب أن‬
‫يكون ‪ ..‬هل آن أوانه ؟ هل هذا شكله حقيقة ؟‬
‫هو ال زال يتساءل ؟‬
‫قد تعوّ د على األسئلة ‪ ..‬تعوّ د على اإلجابة عليها بأسئلة أخرى‬
‫متعبة ‪ ..‬والمتعب أكثر هو عدم الوصول إلجابات مطلقة ومغلقة‬
‫‪ ..‬هذا ما تفعله الكتابة معه ‪ ..‬أو ما يفعله هو مع الكتابة ‪ ..‬بل‬
‫هذا ما فعلته األسئلة‪ ،‬أو ما تفعله أسئلة األسئلة الغائبة الحضور‬
‫(‪...‬؟؟؟)‪.‬‬
‫رغم ك ّل شيء سيطغى وجود ك ّل األشياء على شيء ‪ ..‬ويحت ّل‬
‫شيء ك ّل األشياء‪.‬‬
‫لم يبق القليل من الكثير ح ّتى يصل إلى باب المكتبة ويتوغ ّل في‬
‫بعد من أبعادها ‪ ..‬ينتقل من عتبة إلى عتبة ‪ ..‬الك ّل عابرون ‪..‬‬
‫الكالم عابر والزمن أيضا ‪ ..‬توقف الزمن اليوم ‪ ..‬هو السّفر في‬
‫الالّزمن ‪ ..‬مسافة الجسد وحيدة والكتاب أيضا ‪ ..‬الحوار متفجر‬
‫مع الذات وفيها ‪ ..‬الحضور نصف الغياب ‪ ..‬بعيدا عن اللّيل ‪..‬‬
‫ال ّنزيف للغاضبين والمنبوذين ‪ ..‬هتافهم ال لإلنكار ‪ ..‬أزمنة‬
‫البوح تعبر الجسور بشقاء ألجل البقاء‪.‬‬
‫مرّ ت دقيقة وثالثة أرباع السّاعة ‪ ..‬قرأ نصف الرّ واية ‪ ..‬تقاس‬
‫أعمار الرّ وايات بالفصول وأيضا أعمارنا ‪ ..‬قرأ فصلين‬
‫كاملين ‪ ..‬بل بقي منها ثالثة أقساط من الفضول وال ّتجول الفكري‬
‫‪..‬‬
‫( هل بالفضول يقرأ كتبه اإلنسان ؟ )‪.‬‬
‫بقي عمر مشترك من الوقت تتجاذبه الرّواية واإلنتظار‬
‫وتحوالت قد تحدث بين اللّحظات واللّحظة األخيرة وعنوان‬
‫الكتاب الذي سيقتنيه بعد عشرين شخصا في الطابور ‪..‬‬
‫( و هو كم بقي له من الوقت ؟ )‬
‫ال زال يتساءل ‪ ..‬لم تخمد ثورته الباطنية ونيرانه العميقة ‪..‬‬
‫الطريق هو ذات‬‫يظهر شبه استقرار على شواطىء مالمحه ‪ّ ..‬‬
‫ّ‬
‫الطريق ‪..‬أخيرا يصل إلى باب المكتبة ‪ ..‬الباب هو الباب ‪..‬‬
‫الالّفتة هي ذاتها مكتوب عليها مكتبة واإللتفاتات ليست هي ‪..‬‬
‫هو يتذ ّكر ك ّل شيء ‪ ..‬هو ال يتذ ّكر ك ّل شيء ‪ ..‬ذات اإلنسان‬
‫صاحب المكتبة شعره األبيض ال يرجع إليه سواده ‪ ..‬حينها‬
‫الذكريات ‪ ..‬عشرون سفرا وسفرا أشرقت وانطلقت‬ ‫بدأت تتف ّتح ّ‬
‫من جديد ‪ ..‬تقترب اللّذة من أن تخف ‪ ..‬أن تجف‪ ،‬الوقوف‬
‫يتجسد حلما على الباب ‪ ..‬في لحظة صراع يتشتت اإلختيار و‬
‫تتمزق اإلنطالقات من بعيد ‪..‬‬
‫يتساءل مرة أخرى ( من ــ كيف ــ تكونين أيتها الطريق ؟ )‬
‫بدأ يح ّدث نفسه وقد أشرقت تفسيرات عابرة‪ :‬ــ ك ّل شيء يقاس‬
‫بالكم‪ ،‬ويقاس بالمال أيضا‪ ،‬وبأشياء أخرى‪ ...( .‬؟؟؟) ليس كل‬
‫شيء ‪ ..‬بعض األشياء فقط‪.‬‬
‫تصرخ الغربة عند اللّقاء ‪ ..‬وتتهاوى لحظات اإلنتظار ( لماذا‬
‫اإلنتظار ؟) ‪ ..‬يقترب الفجر لإلنسحاب ‪..‬‬
‫( هل هو الغريب في وطنه ؟ )‬
‫يم ّر عيد األوراق ببرودة ‪ ..‬ينتشر الصقيع ونزيف الكلمات ‪..‬‬
‫تتعب الذكريات وتباع األحالم على الرّصيف‪ ،‬حين تنكسر‬
‫األسئلة وتغادر المحطات لتسكن المرافىء ‪ ..‬عندما يكبر في‬
‫الجسد األه وتهرع العيون لبريق دموع تنتظر ‪ ..‬كل شيء إنتهى‬
‫غدا ‪ ..‬باألمس كانت ستتمزق الحجب واألن أيضا ‪ ..‬باألمس‬
‫فقط وفي الصباح وبعد غروب إشراق ال ّ‬
‫شمس ‪ ( ..‬وبعد‬
‫ماذا ؟ ) إ ّنه فنّ الالّمباالة في زبائن المكتبة ‪ ..‬إنتهى كل شيء‬
‫أل ّنه سينتهي ‪ ..‬باألمس فقط حوّ لوا المكتبة والبيع األسرع‬
‫البطيء للكتب إلى محل لبيع األكالت الخفيفة والربح السريع ‪..‬‬
‫كل ذلك ألجل إنسان اإلنسان‪.‬‬
‫ليلى جزار‪/‬الجزائر‬
‫ه ََوس‬
‫َبدَأَ ال َّ‬
‫ش ِريط‪.‬‬
‫أحضان‬
‫ِ‬ ‫إخوتِي في صِ َغ ِرنا َعلَى أنْ َنج َتم َِع َحول‬ ‫لَ َقد َت َع ًّودنا أنا و َ‬
‫كاويها و قِصَصِ ها ال َقدِي َمة المُرعِ َبة‪،‬‬ ‫َج َّدتِنا الّتي ال َت َ‬
‫بخل َعلَينا ِب َح ِ‬
‫الج َّدةُ ِبعِنا َي ٍة فا ِئ َقة‪ .‬خاص ًَّة فِي لَيالِي ال ِّشتا ِء‬
‫صص َتختارُها َ‬ ‫ك القِ َ‬ ‫تِل َ‬
‫ارة الرُّ عب في‬ ‫كان َذل َِك َقصدَ إ َث َ‬
‫ت َنومِنا ِب َقلِيل؛ و َ‬ ‫البار َدة َقب َل َتوقِي ِ‬
‫ِ‬
‫هر ُع لِل َنوم ِبسُر َع ِة ال َبرق !‪..‬‬ ‫وبنا ما َيج َعلُنا َن َ‬ ‫قُلُ ِ‬
‫مر م َُجرَّ دَ َتسلِ َي ٍة ال َغير‪ ،‬و لَطالَ َما‬ ‫نت أَ ِج ُد األَ َ‬
‫أمَّا ِبال ِّنس َب ِة لِي َف َقد ُك ُ‬
‫رواح‬ ‫ث إلَى ال َكثِير ِممَّا َتقولُ ُه َج َّدتِي َعن وُ جُو ِد أَ‬‫نت الَ أَك َت ِر ُ‬ ‫ُك ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين الم َُجرَّ دَ ة‪ ،‬و َتقو ُل أَيضً ا ِبأ َّن ُه‬ ‫يرنا و ِبأ َ َّنها ال ُت َرى َ‬
‫بالع ِ‬ ‫َغري َب ٍة َغ َ‬
‫اإلحساسُ ِبها؛ لَكِنَّ َها ِت ِه األَرواح َت َرانا‬
‫َ‬ ‫ال يُم ِك ُننا لَمسُها أو‬
‫اس ِبنا أَو َح َّتى أ َّنها َقد ت َتلَ َّبسُنا َعلى‬
‫اإلحس َ‬
‫َ‬ ‫ُقابل و باِست َِط َ‬
‫اعتِها‬ ‫بالم ِ‬
‫نت أَن َف ِج ُر ضا ِح َكة َساخ َِر ًة مِنْ َكال ِم َها و‬
‫َح ِّد َقولِها !‪ ..‬حِي َنها ُك ُ‬
‫ير مُبالِ َية ِبأنَّ ُك َّل‬ ‫غر َب ًة لِ َمضمُونِه؛ فأ َنا دا ِئمًا َما أُجي ُب َها َغ َ‬
‫مُس َت ِ‬
‫ت و ال َتح ِم ُل َذرَّ ًة م َِن‬ ‫ِي م َُجرَّ دَ ُخرافا ٍ‬ ‫قِصَصِ ك يا َج َّدتِي ه َ‬
‫ُص ِّد ُق هُرا ًء َك َهذا ؟!‪..‬‬
‫الصِّحَّ ة‪ ..‬و َمن ي َ‬
‫صر‪َ ،‬كبُرنا عُمراً و َكب َُرت َم َعنا‬ ‫َمرَّ ت األيَّا ُم و ال ُّس ُنونُ َكلَ ِ‬
‫مح ال َب َ‬
‫الج َّدة الِّتي اِع َت َبر ُتها ُخرافِ َية‪ ..‬إلَى أنْ َجا َء َذ َ‬
‫اك ال َيو ُم‬ ‫َح َكايا َ‬
‫ال َمشؤوم و الّذِي َحدَ َ‬
‫ث َمعِي فِيه َما الَ يُح َم ُد عُق َباه‪..‬‬

‫أصا َبنِي َم َرضٌ َغامِض َع ِجز األطِ بَّا ُء‬ ‫مس َسنوا ٍ‬
‫ت م َِن اآلن َ‬ ‫م ُ‬
‫ُنذ َخ ِ‬
‫ب علَى عا ِئلَتِي َفه َم حالَتِي و إيجا ِد‬
‫في َتشخيصِ ِه لِي؛ ِممّا اِس َتص َع َ‬
‫َح ٍّل يُعافِيني‪ ،‬لَم َت ُكن عِ لَّتِي واضِ َحة ل َِلعيان؛ َف َهذا ال َّشيء لَم يُصِ بْ‬
‫ِجسمِي و ال َج َسدِي ال َه ِزيل و ال َح َّتى َق ِلبي المُن َهك‪ ،‬و إ َّنما َ‬
‫كان‬
‫َقد َت َخ َّطف َعقل َِي السَّلي َم ِم ِّني !‬

‫ضر َب ٌة مِن ُج ُنون ؟!‬


‫َهل كا َنت َ‬

‫َن َعم ُربَّما كا َنت َكذالِك !‬

‫يا إلَ ِهي‪ ..‬أُع َتقِ ُد أنَّ ُخرافا ِ‬


‫ت َج َّدتِي َبدَأَت َت َت َح َّقق َمعِي !‬

‫لِ َنعُد بال َّش ِريطِ إلَى َ‬


‫الوراء‬

‫الز َمان ‪َ :‬شه ُر أَيلُول مِن عام ‪ 2015‬مِيالدي‪.‬‬


‫َّ‬

‫ُورة‬ ‫ال َم َكان ‪ :‬إحدَى َزوايا ال َم ِ‬


‫نزل ال َمهج َ‬
‫برأسي‬ ‫اآلن َتت َش َّكل َ‬
‫ِي َ‬ ‫الخبي َثة‪ ،‬ها ه َ‬ ‫او َي ِة َ‬ ‫ك َّ‬
‫الز ِ‬ ‫ورةٌ بتِل َ‬‫ش َ‬ ‫إ َّنني َمح ُ‬
‫َكو َم ُة أَفكا َ ٍر َبالِ َية؛ أَ َت َخبَّط على َنفسِ ي َبا ِك َية‪ ..‬أَن َهشُ األَ َ‬
‫رض َنه ًشا‬
‫و كأ َ َّنني أُض ِح َي ُة عِ ي ٍد ُتن َت َز ُع مِنها روحُها‪ .‬ال َشياطِ ينُ َتحو ُم َحولِي‬
‫ضا ِح َكة؛ ف َقد أَ َّدت وا ِج َباتِها َ‬
‫الجحي ِميَّة علَى أك َم ِل َوجه‪ ،‬أس َت ِم ُع‬ ‫َ‬
‫ين َتعلُوا !‬
‫ات ال َّشياطِ ِ‬
‫ض ِح َك ُ‬
‫شوشات ِِهم ِبوُ ضُوح‪َ ..‬‬
‫ل َِو َ‬

‫لَ َقد َت َعالَت أَصوا ُتهم َ‬


‫ض ِح ًكا؛ َ‬
‫ضجي ُجهُم يُزعِ ُج َرأسِ ي و َه َمسا ُتهُم‬
‫حاو ُ‬ ‫ُ‬
‫طني‬ ‫ار َمة ُت ِ‬
‫وضى َع ِ‬ ‫زاح ُم دا ِخ َل أ ُذني مِن ُد ِ‬
‫ون َرح َمة‪َ ..‬ف َ‬ ‫َت َت َ‬
‫مِن ُك ِّل ال ِج َهات‪.‬‬

‫أَص ُر ُخ ِبشِ َّدة ‪" :‬يا لَكِ مِن َشياطِ ينُ َح َ‬


‫قيرة‪ُ ..‬ك ِّفي َعن ف ِ‬
‫ِعل‬
‫هذا !‪َ ..‬ت ًّبا َلكِ "‬

‫ِرار‬
‫او ُل الف َ‬ ‫ُ‬ ‫ِلك ال َف َ‬
‫سحبُني إلى ال َقاع لت َ‬ ‫أَ َخ َذت َت َ‬
‫جو ِة المُظلِ َمة‪ ،‬أ َح ِ‬
‫ش ُّد َعلَى َيداي أَن َت َم َّسكِي َجي ًِّدا؛ لَ ِك َّننِي ال‬
‫مِنها لَ ِك ِّني اَل أَ َقوى‪ ..‬أَ ُ‬

‫ك ال َّدوَّ ا َمة علَى إي َق ِ‬


‫اع َهوا ِجسِ ي ال َماك َِرة‪.‬‬ ‫أس َتطيع‪ ..‬ف َقد َغ ِر ُ‬
‫قت بتِل َ‬

‫الجا ِّد لَهُم‪َ ..‬ت َّم َتشغي ُل األُسطوا َنة ال َمعهودَ ة‪ ،‬و‬
‫الع َم ِل َ‬
‫قت َ‬‫ان َو ُ‬
‫َح َ‬
‫ُضلَّل َتن َه ِم ُر َفوقي؛ َفما َف َ‬
‫ات لَي َت ُه لَم َي ُكن‬ ‫إذا ِب َشرائِط المَاضِ ي الم َ‬
‫كل َعشوائي ُك َّل‬ ‫أالف ال َم ّرات ِب َش ٍ‬
‫َ‬ ‫طع ُنني‬‫مِن أَصلِه‪َ ..‬ف َقد َج َعلُوهُ َي َ‬
‫َيوم‪َ ،‬ند َب ٌة هُنا و أ ُ َ‬
‫خرى هُناك ‪.‬‬
‫عِ ن َد العا ِئلَة‪..‬‬

‫ون أ َّننِي‬
‫ُون بال َهلَع لِما َيح ُدث لِي‪َ ،‬يظ ُّن َ‬‫نزل مُصاب َ‬ ‫َجمِي ُع َمن ِبال َم ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫عجل َمع َباقِي‬ ‫ِماع مُس َت َ‬‫َح ّقا ُجنِنت !‪ ..‬أمِّي و أ ِبي ِبالقُرب فِي إجت ٍ‬
‫ب‬‫إلحاقِي ِب َطبي ٍ‬
‫رورة َ‬ ‫ض َ‬ ‫فاق علَى َ‬ ‫ون اإل ِّت َ‬ ‫أَفراد العا ِئلَة ي ِ‬
‫ُحاولَ َ‬
‫ض ًة‬
‫رص ٍة مُم ِك َنة‪ ،‬لِ َتقُوم َج َّدتِي مِن َمكانِها َرافِ َ‬
‫سرع فُ َ‬ ‫َنف َسانِيّ فِيِ أَ َ‬
‫َّارم َبعدَها ِبم َُخ َّططٍ ُم َغ ِاير َمفا ُدهُ أنَّ‬
‫دَخلَها الص ِ‬ ‫َهذا ال َق َرار و ُتعلِن َت ُّ‬
‫وسة سِ َوى الرُّ ق َي ُة ال َّشرعِ يَّة و الّتِي‬‫ال َشي َء َس َين َف ُع َم ِع َحالَتِي ال َميؤُ َ‬
‫الطاهر" و‬ ‫"الحاج ّ‬ ‫َس َت ُكون علَى َي ِد َشيخِها المُفضَّل ال َمدعُوا َ‬
‫فس َح ِّي َنا‪ ..‬فُ ِه َي َتز ُع ُم أ َّن ُه ال َّشخص المُناسِ ب و َ‬
‫الوحِيد‬ ‫القاطِ ن ِب َن ِ‬
‫ال َقادِر علَى إخرا ِجي مِن َهذا ال َّتلَ ُّوث ال َم َرضِ ي ال ُم َت َف ِّشي ِبدا ِخلِي ‪.‬‬

‫ُوع إلَيّ ‪..‬‬


‫بالرُّ ج ِ‬

‫كريات َحولي ت َتصار ُع مِن أَجلي؛ أِل َ ُر َّد باِضطِ َراب ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫إصط َّفت ِّ‬
‫الذ‬ ‫َ‬
‫ست َن ِاب َغة ر َُويداً على َعقلي !"‪ ..‬قا َمت ِب َع َملِها و َذ َب َحتني َذبحً ا‬
‫"لَ ُ‬
‫ُبرحً ا في ُك ِّل لَيلَة‪..‬‬
‫م ِ‬

‫َعقل ؟!‪َ ..‬عقلي أَ َ‬


‫نستني‬

‫خِيا َنة ؟!‪ ..‬ذاك َِرتي خا َنتني‬


‫َح َس ًنا؛ م ُ‬
‫ُنذ َفتر ٍة و ال َّشياطِ ينُ ُت َر ِّس ُخ ِبذِهني ِبأ َّنها خِيا َن ٌة عَكسِ َية !‪..‬‬
‫زالَت َع ِّني َكو َم ُة ال ِّن ِ َ‬
‫سيان َفجأة و اِن َت َهى ِم ِّني ما ي َُسمَّى بال َّت ِ‬
‫نويم‬
‫يل ال ِّدماغ !‪..‬‬ ‫باألحرى ما َج َعلونِي أَدعُوهُ ِب َغسِ ِ‬ ‫َ‬ ‫المِغناطِ يسِ ي أو‬
‫شهدا ب َمش َهد و َتجعلُني أُصاحِبُ‬ ‫ِلك األَحداث المُؤلِ َمة َم ً‬ ‫لِ َتعو َد إلَيَّ ت َ‬
‫الح ِزين‪َ ،‬س َه ٌر َعقِي ٌم َط ِويل‪َ ،‬تفكي ٌر ُب َكا ٌء و َع ِويل ‪.‬‬
‫اللَّي َل َ‬

‫عِ ن َد العا ِئلَة‪..‬‬

‫فراد عا ِئلَتِي َحو َل َحالَتِي المُب َه َمة‪َ ،‬يمُرُّ‬ ‫ين أَ َ‬‫ال َيزا ُل ال ِّنقاشُ َي ُدو ُر َب َ‬
‫هريّ و لَم َي َت َحرَّ ك أَ َح ٌد َبعد؛ َفأنا لَم‬ ‫ان م َِن ال َعذاب ال َق ِ‬ ‫َعلَيَّ َيو َم ِ‬
‫يخ َج َّدتِي‬‫ب َنفسانِيّ و ال َح َّتى علَى َش ِ‬ ‫أَح َظى إلَى اآلن ال علَى َطبي ٍ‬
‫ِكر ًة‬
‫ِيط ف َ‬‫ات َبي َنهُم؛ و ُك ٌّل َيخ ُ‬ ‫ار ُع األرا ُء و ال َّت َو ُّق َع ُ‬ ‫ص َ‬ ‫الراقِي !‪َ ..‬ت َت َ‬
‫ِيج ٍة ُتذ َكر‪َ ..‬ح َس ًنا؛ َيب ُدو لِي‬
‫ون الوُ صُول إلَى َنت َ‬
‫علَى مَقاسِ ه لَكِن ُد َ‬
‫الع َرب علَى أنْ ال َي َّتفِقُوا"‪ ..‬ما َه ِذ ِه‬
‫بارة "إ َّت َف َق َ‬ ‫أ َّنهُم ُي َط ِبقُ َ‬
‫ون عِ َ‬
‫العا ِئلَة الّتِي أَملِك يا إلَ ِهي ! ‪.‬‬

‫أَمَّا عِ ندِي‪..‬‬

‫ك األَطيافُ اللَّعِي َنة ُت ِ‬


‫جب ُرنِي َعلى الصُّراخ؛ أَصرُخ ِبشِ َّدة لَكِن ال‬ ‫تِل َ‬
‫أحد‪ ،‬أنا أس َت ُ‬
‫غيث ِبدا ِخلِي َف َقط َف َمن َعساهُ ُيغِيث !‬ ‫َيس َم ُعنِي َ‬
‫ياطين أخ َب َرني بأ ِّني َشخصٌ مُذنِب و َعلَيَّ أن أشع َُر‬‫ِ‬ ‫أح ُد ال َّش‬‫َ‬
‫مت أَ َح ًدا َّ‬
‫ألو ِل‬ ‫سب َقولِه َقد أَ ُكونُ َظلَ ُ‬
‫العميق أل َّنني َح َ‬
‫ب َ‬ ‫َّ‬
‫بالذن ِ‬
‫نت َس َببًا في َكآ َبتِه َيومًا‪َ ..‬هل َف َع ُ‬
‫لت‬ ‫َمرَّ ة !‪ ..‬ألَم ُته؛ َك َسر ُته؛ أَو ُك ُ‬
‫نت أَف َعلُ ُه حِي َن َها‪َ ،‬ه َذا‬
‫ُر َّب َما لَم أَ ُكن أَعِ ي َما ُك ُ‬ ‫ك َح ًّقا ؟!‬
‫ذالِ َ‬
‫صحِّ َح َزالّتِي و‬‫الوهمِيّ َجعلَنِي أَت َم َّنى أَن أَعُودَ إلَى ُه َناك أل ُ َ‬ ‫َّ‬
‫الذنبُ َ‬
‫َه َفواتِي َّ‬
‫الطا ِئ َشة‪ ..‬و َهل َين َف ُع َندَ ُم ال ُربَّان َبعدَ َغ َر ِق السَّفي َنة !‬

‫َتبَّا‪ ..‬ال أزا ُل أَس َم ُع َقه َق َه َة ال َّشياطِ ين مِن َبعيد ‪.‬‬

‫ِبال َعو َدة إلَى العا ِئلَة المُنقِ َذة‪..‬‬

‫ِكرتِها ال َّسدِيدَ ة‪َ ،‬ها َقد إس َتسلَ َم‬ ‫جل ف َ‬ ‫ارب مِن أَ ِ‬ ‫َج َّدتِي ال َتزا ُل ُت َح ِ‬
‫األفراد َبع َد أَخ ٍذ و َر ّد؛ و َت َّم األَ ُ‬
‫خذ ِب ُخ َّط ِة َج َّدتِي ِبما أ َّنها‬ ‫َ‬ ‫َبقِ َّي ُة‬
‫األسرع مِن حالَة ال ُج ُنون هاتِه ال‬ ‫َ‬ ‫َن َج َحت في إقناعِ ِهم ِبأنَّ ال ِّش َفاء‬
‫فكارها و ُحلُولِها الّتِي َت َرى ِبأ َّنها مِثالِ َية‪.‬‬ ‫َي ُكونُ إالَّ َع َ َ‬
‫بر أ ِ‬
‫صحِيح َتقصِ د "الحاج ّ‬
‫الطاهر" المِثالِيّ ‪.‬‬ ‫مِثالِ َية !‪َ ..‬‬

‫الع َرب َقد إ َّت َفقُوا أخِيراً ‪.‬‬


‫يُمكِن ال َقول أنّ َ‬

‫ك األثناء‪..‬‬
‫أمَّا عِ ندِي فِي تِل َ‬
‫يف ال و َقد‬ ‫ياطين ُت َق ِّدسُ َع َملَها أَك َث َر مِن ال َب َشر‪َ ،‬ك َ‬
‫َ‬ ‫در ُ‬
‫كت أنَّ ال َش‬ ‫أَ َ‬
‫ب دَ فِي َنة‬ ‫َت َم َّك َنت مِن إلبَاسِ ي َه َو ًسا لَعي ًنا أَ َخ َذ َي ُم ُّدني بإمدَادا ِ‬
‫ت َخرا ٍ‬
‫ث اِن َت َش َر ِب َخالياي ِبغ َم َ‬
‫ض ِة‬ ‫بخاليا م ُِّخ َي ال َّتالِف‪َ ،‬ك َو َر ٍم َخبي ٍ‬
‫َتغوصُ َ‬
‫يس َز َمني؛ َز َمنٌ‬ ‫بز َم ٍن لَ َ‬
‫يست رُوحي و َ‬ ‫روح لَ َ‬ ‫عيش ِب ٍ‬ ‫َعين‪ ..‬أِل َ َ‬
‫خاريف‪ ،‬يُسافِ ُر ِبي ُرجُوعًا‬ ‫ير َمشحو َن ًة َت ِ‬ ‫روي بذِهنِي أَساطِ َ‬ ‫َي ِ‬
‫الو َراء؛ إلَى المَاضِ ي؛ َيأ ُخ ُذنِي في َها‬ ‫ِقل إلَى َ‬ ‫سحبُني بث ٍ‬ ‫هر ًّيا و َي َ‬
‫َق ِ‬
‫هاط ُل جُز ِئيَّا ُتها فِي بَاطِ نِي ِب َح َذاف ِ‬
‫ِير َها َو‬ ‫ث ُخرافِ َي ٍة َخلَت‪َ ..‬ت َت َ‬
‫أِل حدا ٍ‬
‫َت َفاصِ يلِ َها ال َغ َ‬
‫زيرة ‪.‬‬

‫نزل‪..‬‬
‫ُناك في ال َم ِ‬
‫ه َ‬

‫ارق بال ِّنس َبة‬ ‫ِي العا ِئلَة ال َك ِري َمة َتأتِي ِبمُنقِذِي ال َف ّذ و َ‬
‫الخ ِ‬ ‫ها ه َ‬
‫أس‬
‫الر ِ‬‫الطويلَة و َ‬ ‫ضاء َ‬ ‫ل َِج َّدتِي؛ إ َّن ُه َشي ُخ َحيِّنا ُذو اللِّح َي ِة ال َبي َ‬
‫ُرعة لِ َتس َت ِقبلَ ُه‬
‫الج َّدة ِبس َ‬ ‫األصلَع "الحاج ّ‬
‫الطاهر" دَا ِئمًا‪ ..‬قا َمت َ‬
‫الحلَ ِو َيات و هُم َي ُخوض َ‬
‫ُون في‬ ‫العصائِر و َ‬ ‫فاوة و ُت َق ِّدم لَ ُه َ‬
‫ِب َح َ‬
‫جز ُم أ َّنهُم َن َسو َمج ُنو َن َتهُم ال ُم َت َقو ِق َعة علَى َنفسِ ها‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫األحادِيث؛ و أكا ُد أ ِ‬
‫فِي ال ُغر َفة الم ِ‬
‫ُجاو َرة‪.‬‬

‫رح َما أُعانِيه أو ما أَمُرُّ‬


‫الجزر فِي َش ِ‬ ‫َبع َد دَقائ َِق َطويلَة مِن ال َم ِّد و َ‬
‫ظر ٍة َرأَ ُ‬
‫يت‬ ‫ب ِم ِّني و َش َّد َرأسِ ي إلَيه ِب َن َ‬
‫ُخضرم‪ .‬إق َت َر َ‬
‫َ‬ ‫ِبه لِ َشي ِخ َنا الم‬
‫الوهلَ ِة‬
‫حت َيدَي ِه في َ‬ ‫ار ًة الَ ِم َعة و َقد خِل ُتنِي َسأُذ َب ُح َت َ‬‫فِيها َش َر َ‬
‫الطالسِ م الّتي لَم أَف َهم َمع َناها (أو ُربَّما‬ ‫عض َ‬ ‫األُولَى‪َ ..‬بدَأَ ِبإل َقاء َب ِ‬
‫ُنهي َكال َم ُه‬ ‫ت م َِن القُرآن ال َك ِريم؛ لِي ِ‬ ‫لَم أَس َمعها َجيِّداً) َمم ُز َ‬
‫وج ًة ِبآيا ِ‬
‫فِي األخِير قا ِئالً ‪" :‬أن ِ‬
‫ت ِبصِ حَّ ٍة َجيِّدَ ة يا ُب َن َّيتِي؛ و ما َتشع ُِر َ‬
‫ين ِبه‬
‫ُحار َب ُتها‬
‫أفكار وُ سواسِ َية ال َغير‪ ..‬و َعلَيكِ م َ‬ ‫ٍ‬ ‫اآلن ه َُو نا ِت ٌج َعن‬
‫أوَّ الً ِبدا ِخلِكِ ُث َّم َعن َق َ‬
‫ناع ٍة مِنكِ ؛ و َذل َِك ِب َت ِ‬
‫قو َي ِة إي َمانِك باهلل و الّذِي‬
‫ُور أَسَاسِ يَّة َت َت َم َّث ُل فِي الصَّالة و قِرا َءة القُرآن و‬ ‫ُ‬
‫َي َتأ َّتى ِب َثال َث ِة أم ٍ‬
‫الذكر ال َكثير" ‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫يزة َكا َنت علَى َح ٍّق فِي ُك ِّل ما‬ ‫أس إنْ اِع َت َر ُ‬
‫فت ِبأنَّ َج َّدتِي ال َع ِز َ‬ ‫ال َب َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الجها المِثالِي َم َع ال َشيخ ّ‬ ‫روي ِه لَنا؛ و أَنَّ عِ َ‬
‫الطاهر َقد أ َتى ِبط ِ‬
‫هر ِه‬ ‫َت ِ‬
‫الوقت بالفِعل ‪.‬‬
‫ُرور َ‬ ‫َ‬
‫و أث َم َر َم َع م ِ‬

‫أمَّا اآلن‪..‬‬

‫ك األَطالل كا َنت م َُجرَّ دَ َخيال أو َح َّتى‬‫حت أَتم َّنى أَنَّ ُك َّل تِل َ‬
‫أَص َب ُ‬
‫كون واقِعً ا لِ َنفسِ ي َحبيس‪ ..‬و إذا‬‫َكوابيس‪ ،‬ال َبأس؛ الم ُِه ُّم أَنْ ال َت َ‬
‫بالواقِع ُي َك ِّشر َعن أَ ِ‬
‫نيابه و َير ِكلُني ِبكِل َتا َقدَ َميه !‪َ ..‬ساخِراً‬
‫ضا ِح ًكا ‪َ " :‬بلَى أ َّي ُتها ال َمج ُنو َنة إ َّن ُه أ َنا" ‪.‬‬
‫َ‬

‫اِن َت َهى ال َّش ِريط‪.‬‬


.
‫راوية بوسكين‬
‫الرعد يدوي فوق رؤوسهما‪ ,‬البرق يكاد يعمي بصيرتهما‪,‬‬
‫أشجار تتمايل مع هبوب الرياح‪ ,‬مقبرة قديمة قد عبرتها األزمان‬
‫تثير القشعريرة في الجسم‪ ,‬أرواح جالسة على شواهد قبورها‬
‫تراقب بصمت ما يحدث‪ ,‬فتاتين قد غط الوحل كل مالبسهما‪ ,‬و‬
‫سماء تبكي حظ فتاة مسكينة تنتظر انكشاف الستار عن‬
‫مصيرها‪...‬‬

‫"ألينا" فتاة مراهقة تبلغ من العمر ‪ 17‬عاما تملك شعرا اسودا‬


‫كليلة صيف صافية و تملك عينين بنيتين تشعان جماال كانت‬
‫االبنة الوحيدة لوالديها "هاري" و"روزا"‪" .‬ألينا" انتقلت لتقطن‬
‫في قرية صغيرة‪ .‬كانت تدرس في الثانوية العامة هي لم تكن‬
‫اجتماعية كثيرا لكن كانت لديها صديقة واحدة‪".‬ألينا" كانت تحب‬
‫الجلوس وحدها و قراءة الكتب فهي كانت تملك مجموعة جد‬
‫مميزة من الكتب و الروايات لكن كلها تتحدث عن موضوع‬
‫"الجوثيك" أو "القوطية" فقد كان يستهويها الغموض و األمور‬
‫الخارقة للطبيعة‪.‬‬

‫***‬
‫أين هو فستاني األسود يا أمي ال أجده في أي مكان؟‬

‫" ابحثي يا عزيزتي في غرفتك‪ ,‬في الخزانة لقد وضعته هناك‬


‫آخر مرة‪ ,‬يا بنيتي ارتدي قميصك األحمر الجديد أحسن‪".‬‬

‫ودعت "ألينا" أمها و ركبت في الباص المتجه نحو‬


‫المدرسة‪.‬وصلت و إذا بصديقتها تأخرت فتوجهت نحو المكتبة و‬
‫راحت تجوب في نواحيها شاهدت الرفوف بصمت إلى أن‬
‫وصلت نحو باب في أخر الغرفة مدت يدها و إذا به ينفتح من‬
‫تلقاء نفسه تقدمت )إلينا( إلى الداخل ببطء الحظت رفوف ممتدة‬
‫من كتب غريبة راحت تراقب حتى شد انتباهها كتاب غامض‬
‫اسود اللون فجلبته معها خرجت من تلك الغرفة فرات صديقتها‬
‫"اليكس" تبحث عنها‪.‬‬

‫(("ألينا" كنت ابحث عنك‪)).‬‬

‫(( لقد كنت في المكتبة‪)).‬‬

‫(( آه حسنا‪ .‬هيا لنذهب لدينا حصة اآلن‪)).‬‬

‫مضى اليوم المدرسي‪ ,‬توجهت "ألينا" نحو بيتها لكنها لم تركب‬


‫الباص كان المطر يهطل و هي تحب أن تسير تحت المطر‪,‬‬
‫بينما هي ماشية على حافة الطريق انتبهت لقطة سوداء تتبعها‬
‫توقفت ألينا عندها و نادتها لكن تلك القطة لم تقترب منها عندها‬
‫أكملت طريقها وصلت البيت سلمت على والديها و صعدت إلى‬
‫غرفتها رمت الحقيبة على السرير و أخرجت ذاك الكتاب منها‬
‫همت بفتحه و إذا بأمها تناديها‬

‫(( ألينا تعالي لقد حضرت كعكة الموز التي تحبينها‪)).‬‬

‫(( أوه‪ ,‬قادمة أمي‪)).‬‬

‫رمت ذاك الكتاب فوق المكتب‪ ,‬ثم نزلت للطابق السفلي‪.‬‬

‫***‬

‫مرت األيام و "ألينا" تعايش نفس الروتين‪ .‬لكن في ليلة من ليالي‬


‫الشتاء العاصفة استيقظ والداها على صوت صراخ حاد صادر‬
‫من غرفتها ذهبا مسرعين ليروا ما الخطب‪ ,‬وجدا ابنتهما‬
‫مفزوعة‪ ,‬مرعوبة تتنفس بصعوبة‪ ,‬غارقة في عرقها‪...‬‬

‫((ألينا ماذا هناك؟ ماذا حصل لكي؟)) خاطبتها أمها بصوت‬


‫مليء بالخوف‪.‬‬
‫أجابتها "ألينا" و هي تبكي ((أمي لقد رأيت كابوسا مرعبا يا أمي‬
‫ال تتركيني وحدي" جذبتها أمها نحوها واحتضنتها بشدة‪)).‬‬

‫((ابنتي ماذا رأيت)) تكلم أبوها و هو مذعور من حالة ابنته‪...‬‬

‫أبي رأيت أنني أذوب كان الحياة تسلب مني تدريجيا و كان هناك‬
‫نار في وسط لهبها قطة تنظر إلي نظرة شريرة‪ .‬لم افهم شيئا‬
‫استيقظت مرعوبة…‬

‫((ال تخافي و ال تقلقي يا عزيزتي لقد كان مجرد كابوس و انتهى‬


‫اآلن نحن معك)) قال أبوها هذا الكالم لتطمأن و تهدأ‪ .‬ليلة بعد‬
‫ليلة كانت ألينا ترى نفس الكابوس لكن كانت تلك القطة تحمل‬
‫مالمح إنسان مع مرور األيام‪ .‬توالت الليالي و حالتها لم تتحسن‬
‫حتى أصبحت ال تنام‪ ,‬و هذا اثر بالسلب على صحتها‪.‬‬

‫***‬

‫في صباح احد األيام صعدت أمها لغرفة ألينا لتطمئن عليها‪...‬‬
‫وجدتها ملقاة على األرض فاقدة الوعي‪ .‬صرخت بأعلى صوتها‬
‫لكي يأتي زوجها و يأخذ ابنته للمستشفى‪...‬‬
‫"دكتور أرجوك اخبرني ما بها ابنتي هل هي بخير" تكلم هاري‬
‫مع الدكتور و هو قلق اشد قلق على ابنته الوحيدة‪..‬‬

‫أجابه الدكتور‪:‬‬

‫((سيدي مؤشرات ابنتك الحيوية ضعيفة سنبقيها الليلة هنا‬


‫لنطمئن عليها‪ ,‬لكن سيدي هل تسيء معاملة ابنتك؟))‬

‫((كيف تقول هذا‪ ,‬إنها ابنتي الوحيدة لن اتجرا أبدا على فعل‬
‫هذا‪))...‬‬

‫((آسف سيدي لكن خالل الفحص وجدت أن جسم ابنتك كله‬


‫كدمات زرقاء))‬

‫(( كيف حصل هذا؟))‬

‫((ال اعرف سيدي‪))..‬‬

‫بقيت "ألينا" الليلة في المستشفى و الغريب أنها نامت بشكل جيد‪,‬‬


‫و استيقظت بحالة رائعة استغربت أمها لحال ابنتها نفس‬
‫االستغراب الذي أبداه طبيبها‪...‬‬

‫((أمي أريد مغادرة المشفى‪ ,‬أنا بخير))‪.‬‬


‫((حسنا عزيزتي‪))..‬‬

‫غادرت "ألينا" المستشفى‪..‬و ذهبت لبيتها مع والديها مع نزولها‬


‫من السيارة وجدت أن صديقتها تنتظر أمام المنزل‪..‬‬

‫(( ألينا صديقتي لقد جئت ألطمئن عليك اختفيت فجأة و لكي ما‬
‫يقارب الشهر لم تأتي للثانوية‪ ,‬قلقت جدا عليك))‬

‫((يا اليكس كنت مريضة لم أقوى على الخروج أبدا‪..‬لكن اآلن‬


‫أنا بخير))‪.‬‬

‫صعدت الصديقتان لغرفة "ألينا"‪ ..‬بينما جلست اليكس على‬


‫كرسي المكتب الحظت كتاب غريبا بين األوراق المبعثرة‪,‬‬
‫حملته وفتحته رأت أن صفحاته مليئة برموز و خربشات غريبة‬
‫إال بعض الصفحات التي كانت خالية تماما من تلك الكتابات‬
‫التفتت نحو صديقتها‪ ..‬مستغربة‪:‬‬

‫((ما هذا الكتاب يا إلينا ؟))‬

‫((انه كتاب أحضرته من مكتبة المدرسة‪ ,‬لكن لم افرغ ألقرأه‬


‫بعد‪))..‬‬
‫(( أحضرته من المدرسة؟ لكني لم أالحظ أبدا وجود هذا الكتاب‬
‫هناك))‬

‫"لقد كان في قسم بالخلف شعرت بالفضول لدخوله‪ ...‬لكن‬


‫لماذا؟"‬

‫((انظري لصفحاته‪))..‬‬

‫نظرت بداخله فشعرت برعب شديد لما تبين لها من رموز‬


‫غامضة‪..‬‬

‫ال تخافي يا "ألينا" سنبحث عنه و القصة التي تقبع خلفه‪..‬‬

‫ولجت "اليكس" لصفحة البحث و استخدمت البحث بالصور‬


‫بحكم أن ذلك الكتاب لم يكن يحمل أية عنوان‪..‬‬

‫تفاجأت الفتاتين بنتيجة البحث التي ظهرت لهما‪...‬‬

‫تبين أن الكتاب ملعون‪..‬كان عبارة عن بوابة لعبور روح ساحرة‬


‫شريرة عاشت في العصور الغابرة بهاته المنطقة‪..‬‬

‫عندما امسك السكان بها لقتلها نتيجة ألفعالها الشريرة ألقت‬


‫تعويذة سمحت لروحها أن تسكن صفحات هذا الكتاب‪..‬‬
‫تم قتل هاته الساحرة بحرقها‪ ,‬لكن في لحظة إلقائها في النار‬
‫توعدت باالنتقام من الذين قاموا بقتلها قالت أنها ستنهض من‬
‫الرماد مجددا ما أن تكتمل الكتابات في الكتاب و تمتلئ صفحاته‬
‫كافة بالرموز سيموت الشخص المالك لهذا الكتاب‪...‬‬

‫ما إن يمضى على وجود هذا الكتاب ‪ 21‬يوم عند شخص ما‬
‫يصبح ملكا له و سيستنزف الحياة منه تدريجيا و ببطء‪..‬‬

‫((يا للهول يا "ألينا" منذ متى و هذا الكتاب عندك))‬

‫((أظن قرابة الشهر)) تكلمت بصوت كله خوف و ذعر‪..‬‬

‫((ومنذ متى و أنت مريضة‪..‬؟)) خاطبتها اليكس و كلها قلق‪..‬‬

‫(( من ذاك اليوم الذي أحضرت فيه هذا الكتاب اللعين))‬

‫أجابتها "ألينا" و الدموع تمأل عينيها‪ ..‬أردفت قائلة‪:‬‬

‫(( ما العمل يا "أليكس"؟ أنا ال أريد أن أموت ))‬

‫((ال تقلقي يا صديقتي يجب أن يكون هناك حل ما‪))...‬‬

‫واصلت "اليكس" تصفح ذاك الموقع لكن ال فائدة تذكر‪..‬‬


‫ما أن كادت تستسلم للواقع حتى لمحت موقعا يشرح الفلكلور‬
‫الشعبي و األساطير المحلية لهاته المنطقة‪..‬دخلته وإذا بها تجد‬
‫مقالة تناولت قصة هذه الساحرة و قدرتها على التحول لقطة‬
‫سوداء‪ ,‬و األفعال الشريرة التي مارستها قديما و التعويذة التي‬
‫ألقتها لتجعل عودتها ممكنة لالنتقام‪..‬‬

‫كما تناولت هذه المقالة كيفية القضاء عليها‪...‬‬

‫((ألينا لقد وجدت الحل‪ ))..‬تكلمت "اليكس" متفائلة‪..‬‬

‫((ماهو أرجوك اخبريني))‬

‫((لقد ذكر هنا‪..‬أن الطريق المثلى للقضاء عليها هي حرقها))‪..‬‬

‫((كيف هذا و هي باألصل ميتة))‬

‫استرسلت "اليكس" القراءة شارحة األمر لصديقتها المذعورة‬

‫((باستدعائها و ذلك فقط يتم بامتالك أحدهم للكتاب حيث‬


‫يستعمل دم يده اليسرى و ملح خشن و تضحية بقطة سوداء يتم‬
‫ذبحها و يتم تفريغ مزيج الدم و الملح على رقبة جثة القطة‪...‬و‬
‫كل هذا يتم داخل نجمة خماسية مرسومة بنصل نحاسي مرفوقة‬
‫برموز من الصفحات األولى من الكتاب‪ ,‬ويجب أن ترسم فوق‬
‫أرضية مقبرة قديمة لم يتم دفن أي أحد فيها من مدة قريبة‪...‬ذكر‬
‫أيضا أنه يجب أن تكون ليلة منتصف الشهر و القمر بدر لينجح‬
‫هذا الطقس عند ظهور الساحرة داخل النجمة علينا بحرقها ألنها‬
‫ستكون خائرة القوى في الثواني األولى و بسرعة علينا برمي‬
‫هذا الكتاب داخل تلك النار قبل خمودها‪))..‬‬

‫((الليلة تصادف ‪ 15‬فيفري يا للهول‪...‬ما العمل ؟كيف سنضحي‬


‫بقطة بريئة؟ وأين سنجد مقبرة قديمة لتأدية هذا الطقس اللعين؟))‬
‫تكلمت "ألينا" بصوت مرتجف‪...‬‬

‫خاطبتها "اليكس" بجدية كبيرة‪:‬‬

‫(( عليك أن تقلقي على نفسك أوال‪ ..‬هيا ارتدي مالبسك إنها‬
‫الرابعة عصرا‪..‬اقترب المساء‪ ..‬قرب منزلي هناك مقبرة قديمة‬
‫جدا تقع أعلى التلة سنذهب هناك و في طريقنا سنتدبر أمر‬
‫النصل و القطة‪..‬أبي كان محبا للمبارزة بالسيوف و كل ما‬
‫يخصها قد كان يجمع السيوف بكل أنواعها لن يمانع أن نستعير‬
‫من مجموعته النصل النحاسي‪...‬حسنا‪ ,‬ال تقلقي يا صديقتي‬
‫سأساعدك و لن أتركك وحيدة مهما حصل))‬
‫رغم الوضعية التي كانت بها "ألينا" فقد اطمأنت لوجود صديقتها‬
‫بجانبها‪.‬‬

‫***‬

‫أخذت "ألينا" اإلذن من والديها للمبيت عند صديقتها‪.‬لم ترد‬


‫إخبارهما لكي ال تخيفهما‪...‬‬

‫حملتا الكتاب و توجهتا نحو منزل "اليكس" ليحضرا لليلة‪.‬والدا‬


‫"اليكس" لم يكونا بالمنزل هذا ما سهل األمر عليهما جلبتا الملح‬
‫الخشن و النصل النحاسي و سكينا حادة لذبح القطة و والعة و‬
‫بعضا من البنزين إلشعال النار‪ ...‬لكن بقيت مشكلة إحضار‬
‫القطة‪.‬‬

‫خرجتا تبحثان في األزقة الضيقة قرب صناديق القمامة‪..‬و‬


‫لحسن حظهما وجدا قطة سوداء مارة بجانب الزقاق الذي كانتا‬
‫به قفزت "اليكس" عليها و أمسكتها و وضعتها في قفص كانت‬
‫قد أحضرته معها‪...‬‬

‫انطلقت الصديقتان متجهتين نحو المقبرة كانت خطواتهما‬


‫متثاقلة‪ ,‬و كانتا خائفتين من ما سيحصل‪ ...‬كانت السماء تنذر‬
‫بعاصفة قريبة جدا‪...‬‬
‫دخلتا المقبرة و في لحظة انفجرت "ألينا" بكاءا ‪...‬التفتت‬
‫نحوها "اليكس" و أمسكتها بقوة و شجعتها على التقدم فبعد الليلة‬
‫ستتخلص من تلك اللعنة التي حلت بها‪...‬بهذا الكالم استجمعت‬
‫"ألينا" قوتها و تقدمت‪..‬‬

‫توغلتا داخل المقبرة حتى وصلتا لمكان تحت صفصافة‬


‫عمالقة‪ ..‬بدا لهما مناسبا للقيام بالطقس‪ .‬طلبت "أليكس" من‬
‫"ألينا" الجلوس بينما ترسم هي النجمة الخماسية و الرموز‪ .‬بدأت‬
‫برسمها و فتحت الكتاب و نقلت بعض من الرموز الموجودة في‬
‫الصفحات األولى‪ ..‬عند انتهائها حان دور خلط الدماء مع الملح‪,‬‬
‫ناولت "اليكس" السكين و وعاءا ل"ألينا" لتنزف فيه أقنعتها أن‬
‫هذا لصالحها و عليها أن تتحمل األلم‪...‬‬

‫جرحت "ألينا" يدها اليسرى‪ ,‬و نزفت الكثير من الدماء داخل‬


‫الوعاء و خلطتها مع الملح‪ ,‬و أعطت المزيج لصديقتها‪...‬‬

‫أخرجت "اليكس" القطة من القفص و وضعتها في منتصف‬


‫النجمة و ذبحتها و أفرغت مزيج الدماء فوق رقبتها‪..‬في نفس‬
‫اللحظة وصلت عاصفة هوجاء قلبت األجواء‪...‬‬
‫أبقت الفتاتين عينيهما على النجمة الخماسية و الحظتا تصاعد‬
‫دخان كثيف و تعالت أصوات صراخ مرعبة مجهولة المصدر و‬
‫بدأت تتشكل مالمح بشرية وراء ذلك الدخان‪...‬‬

‫تسللت "أليكس" إلى الجهة المعاكسة حاملة للوالعة و البنزين‪ .‬و‬


‫كانت "ألينا" حاملة للكتاب تنتظر إشارة من صديقتها لترمي به‬
‫في النار‪ ..‬بدأ الدخان بالزوال فإذا بامرأة ملقاة وسط النجمة‬
‫الخماسية بسرعة خاطفة رشت "أليكس" البنزين فوقها و أشعلت‬
‫النار فيها و صرخت‬

‫((اآلن يا "ألينا" ألقي بالكتاب‪))..‬‬

‫استجابت "ألينا" لصديقتها و ألقت بذلك الكتاب في النار فتحول‬


‫في لمحة بصر إلى رماد‪...‬‬

‫((انتهى األمر يا "ألينا" ))‬

‫خاطبت "اليكس" صديقتها و التفاؤل يمأل نبرة صوتها‪...‬‬

‫احتضنت "ألينا" صديقتها باكية قائلة‪:‬‬

‫(( لوال وجودك يا صديقتي لكنت ميتة‪))..‬‬


‫***‬

‫النهاية‬
‫بقلم‪ :‬مح َّمد أمين جميل ال َّ‬
‫شامي‬
‫عزف مشترك‬
‫يجلس إلى طاولته كعادته ك َّل يوم‪ .‬ير ِّتب كدسة أوراقه عليها‬

‫ويحمل قلمه محاوالً لملمة الخيوط ليغيب في لجج الصَّفحات‬

‫ويشرد فوق سطورها السُّود‪ .‬هو يعيش تجلِّياته المعتادة بداية كل‬

‫عمل في سعيه ال َّدؤوب إلى تهدئة صراعها مع هواجسه‪،‬‬

‫وترتيب أفكاره الَّتي يبغي نقلها إلى تلك السُّطور الممت َّدة أمامه‬

‫كخطوط أرض محروثة تستجدي الغيث‪.‬‬

‫مضى عليه زمن طويل وهو على هذه الحال‪ ،‬ينسج حبكة القصَّة‬
‫الجديدة ويعمل على فتح األقنية أمام تد ُّفق أحداثها‪ .‬لكن‪ ،‬كلَّما‬
‫حاول تحويلها إلى نصٍّ تنحني األسطر وتنزوي الكلمات أمام‬
‫جداله المرير مع الهاتف ال ّداخلي الَّذي يشوِّ ش على تتابع‬
‫األحداث ويحاول جرَّ ها نحو مسارات مختلفة‪ ،‬مسارات ال يريد‬
‫لقصَّته أن تتورَّ ط فيها‪.‬‬

‫اعتمد في بناء الرِّ واية على حبكة بسيطة تتناول جانبا ً من سيرة‬
‫روائي‪ .‬كانت قصَّة عشق ملحميَّة اجتاحت حياة ذلك الكاتب‬
‫وتركت أثرها على إبداعاته‪ .‬لم يكن هدفه أن يتعرَّ ض إلى‬
‫جوانب أخرى أبداً‪ ،‬بل كان يريد أن يرسم صورته كإنسان‪،‬‬
‫كعاشق‪ ،‬بعيداً عن ُّ‬
‫تدخل إبداعه أو شهرته في تجميل الصُّورة‪،‬‬
‫وبعيداً أيضا ً عن الهالة المالئكيَّة الَّتي تحيط بتلكم الصُّورة في‬
‫وجدان متابعيه‪.‬‬

‫يح ِّدق في األسطر الَّتي ما تزال بتوالً‪ .‬يدوِّ ر القلم بين ال َّسبَّابة‬
‫والوسطى‪ ،‬ث َّم‪ ،‬في لحظة تجلٍّ‪ ،‬يسنده إلى كتف اإلبهام ح َّتى‬
‫يركن إلى استوائه ويباشر الكتابة‪:‬‬

‫"ما زلت أذكر نظراتها حين تق َّدمت م ّني و سألتني عمَّن أكون‬
‫وعن موقعي في المؤسَّسة بينما كنت أجوب طوابق البناء‬
‫لل َّتعرف على جغرافيَّة المكان‪ .‬هي عادتي كلَّما تقلَّدت منصبا ً‬
‫جديداً‪ .‬استوقفتني إشارات االستفهام الَّتي ُّ‬
‫تنط في عينيها وهي‬
‫تنتظر ر ّداً على تساؤلها االستهاللي المشفوع بابتسامة أظهرت‬
‫خلالً في أسنانها وفي إطباق أحد جفنيها ورجا ًء خف ّيا ً في ال َّنبرة‪:‬‬
‫هل أنت مديرنا؟‪ ،‬ألجيبها بسرعة واقتضاب أن بلى وأنتقل إلى‬
‫طابق آخر تاركا ً إيَّاها مع حيرة أسئلتها الَّتي لم تطرح بعد"‪.‬‬
‫يتو َّقف كي ِّ‬
‫ينظم تداعي األفكار الَّذي طرأ عليه ليسمع هاتفا ً‬
‫يقول‪:‬‬

‫"لك ِّني لم أنتقل في حياتي إلى مكان غير المكان الَّذي ولدت فيه"‪.‬‬

‫يباغته الصَّوت وهو يه ُّم بالبدء برقن المقطع ال َّتالي فيتو َّقف عن‬
‫الكتابة ويبدأ بال َّتل ُّفت حوله‪.‬‬

‫"من هذا؟ من أنت؟ من أين تتح َّدث؟"‪.‬‬

‫"أنا هنا‪ ،‬على األسطر الَّتي لم تسوِّ دها بعد"‪.‬‬

‫ينظر إلى الجزء الخالي من الصَّفحة فال يرى أحداً‪.‬‬

‫"ال أراك"‪.‬‬

‫"أل َّنك ال تريد أن تراني‪ .‬تريد أن تكتبني كما يوحي إليك خيالك‬
‫ال كما ش َّكلتني الحقيقة"‪.‬‬

‫"فمن أنت؟"‪.‬‬

‫"أنا هو‪ ،‬الكاتب الَّذي تو ُّد سرد حكاية عشقه"‪.‬‬

‫"فماذا تريد؟"‪.‬‬
‫"قلت لك‪ .‬أريدك أن تكتب ع ِّني كما أنا ال كما تتخيَّلني أنت"‪.‬‬

‫"أنا أكتب كما أشاء أنا ال كما تشاء أنت"‪.‬‬

‫"إذاً اكتب عن غيري ودعك م ّني"‪.‬‬

‫يمسك مغتاظا ً بالورقة الَّتي امتألت بضع سطور منها فيكرمشها‬


‫بعصبية ويرميها بعيداً‪ .‬يتناول ورقة جديدة ليعيد تسويدها بما‬
‫سرده على الصَّفحة المغتالة‪ ،‬ث َّم يكمل ما بدأ‪:‬‬

‫"بعد اإللمام بجغرافيَّة المكان دعوت إلى اجتماع للعاملين في‬


‫المؤسَّسة للتعرُّ ف عليهم ومركز ك ٍّل منهم‪ ،‬ألنتقل بعدها إلى‬
‫بخطة العمل واألهداف المطلوب تحقيقها خالل زمن‬ ‫َّ‬ ‫تعريفهم‬
‫مح َّدد‪.‬‬

‫كنت قد ر َّتبت لألمر منذ أن علمت بترشيحي إلى منصبي الجديد‬


‫وقبولي بعد تر ُّدد‪ ،‬فجهَّزت نفسي لإلجابة عن األسئلة المتو َّقع‬
‫طرحها من قبل البعض‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ينتظم عقد الك ِّل في قاعة‬
‫االجتماعات ونبدأ اللِّقاء بتعريفهم إلى نفسي وأنتقل بعدها إلى‬
‫ِّ‬
‫متأخرة وهي تعبِّر عن اعتذارها‬ ‫ال َّتعرف بهم‪ ،‬ألتفاجأ بها تدخل‬
‫بتلعثم‪ .‬أشرت إليها أن اجلسي و ‪"...‬‬
‫يقاطعه الصَّوت مج َّدداً‪:‬‬

‫"ماذا تكتب يا هذا؟ قلت لك اكتب عن نفسك‪ .‬من أين أتيت بك ِّل‬
‫هذا الهراء؟ أنا لم أترأَّس مؤسَّسة في حياتي ولم أعقد اجتماعا ً‬
‫رسم ّيا ً مع أحد‪ .‬أساسا ً ال خبرة لديَّ بتلك اإلجراءات أل َّنها‬
‫ببساطة تقع خارج نطاق اهتماماتي‪ .‬ث َّم‪ ،‬أنت تريد أن تكتب‬
‫ع ِّني‪ ،‬وأنا كنت كاتبا ً وحسب ولم أرأس مؤسَّسة‪ ،‬أم تراك غرقت‬
‫في طوفان الحبكة وتريد أيَّ ق َّشة للخالص؟ أكتب عن نفسك‬
‫ودعك م ِّني فهذا خير لك ولي"‪.‬‬

‫يحاول الكاتب ال َّتغاضي عمَّا يحدث معه ويه ُّم بمتابعة الكتابة‬
‫حين يصرخ به الصَّوت‪:‬‬

‫"يا أنت‪ .‬من سمح لك بكتابتي وال َّتالعب بسيرتي؟"‪.‬‬

‫يخبط القلم على ّ‬


‫الطاولة ويمسك الورقة بغضب ويوردها مورد‬
‫سابقتها‪ .‬يتناول من بعدها ورقة بيضاء بكراً ويعاود من جديد‬
‫كتابة ك ِّل السُّطور اآلفلة على صفحتها الَّتي أع َّدت نفسها للرَّ حيل‬
‫المب ِّكر ويواصل تسويدها‪.‬‬

‫"حين نظرت إليها باغتني هاتف داخلي يخبرني أنَّ هذه المرأة‬
‫لن تمرَّ في حياتي مرور الكرام‪ .‬بك ِّل األحوال‪ ،‬وبعيد سويعات‬
‫على تسلُّمي اإلدارة‪ ،‬تبدأ حبال ال َّتواصل تمت ُّد بيني وبينها‪ .‬طبيعة‬
‫وظيفتها تح ِّتم عليها زيارتي مرَّ ة على األق ِّل ك َّل يوم في مكتبي‪.‬‬

‫بدأ األمر في إطار العمل‪ ،‬ث َّم أخذ ينساق خارجه‪ ،‬مع تنامي‬
‫األلفة بيننا‪ ،‬إلى سياقات أكثر شخصيَّة وخصوصيَّة‪ .‬راحت‬
‫تسألني عن ‪."...‬‬

‫ينفجر الصَّوت به‪:‬‬

‫"ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال‪ .‬ماذا تفعل يا رجل؟ ما هذه السَّخافات الَّتي تكتبها؟‬
‫هذا أشبه بسيناريو باهت لفيلم تجاري لطالما تكرَّ رت قصَّته‬
‫ال ّتافهة في شرائط البسطات واألرصفة‪ .‬لم يبق إاَّل أن تزيد بضع‬
‫تفاصيل ال معنى لها لتحت َّل ما بقي من أسطر وت َّدعي بعدها أ َّنك‬
‫أنجزت عملك اإلبداعي ع ّني‪ ،‬وليكون المشهد األخير فيها عناق‬
‫العاش َقين كما عانقتني ج َّدتي يوماً‪ ،‬تليه قبلة ال ِّنهاية كقبلتي‬
‫لقطتي‪ .‬أهكذا تشوِّ ه سيرتي؟ أين الصِّدقيَّة؟ إن كنت ال تدري‬ ‫َّ‬
‫فحكايتي مع العشق بدأت مع زميلة لي في المدرسة االبتدائيَّة‬
‫حين ك َّنا نتشارك نفس المقعد‪ .‬يومها كتبت لها رسالة أعبِّر فيها‬
‫عن رغبتي في أن تشاركني سريري وقلت فيها ‪"...‬‬

‫يقاطع المؤلِّف استرساله‪:‬‬


‫"من أخبرك يا هذا أ َّنني أو ُّد سماع شيء عن تاريخ مغامراتك‬
‫العاطفيَّة؟"‪.‬‬

‫"بل يجب أن تصغي لتعرف الحقيقة وتنقل الوقائع بأمانة"‪.‬‬

‫يه ُّم الكاتب بالرَّ د‪ ،‬لكنَّ الصَّوت يستمرُّ في كالمه‪:‬‬

‫"قلت في رسالتي تلك إنَّ أمِّي تدفئ فراش أبي في ال ِّشتاء‪،‬‬


‫والفارس وحصانه‪ ،‬أقصد لعبتي‪ ،‬يرقدان معا ً جنبا ً إلى جنب في‬
‫صندوق ألعابي‪ ،‬وأنا الوحيد الَّذي ينام بمفرده فيداهمني البرد‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬أريدك أن تشاركيني فراشي كي نتد َّفأ معا ً في اللَّيالي‬
‫ال ِّشتائيّة القارسة‪.‬‬

‫هذه كانت َّأول رسالة أرسلها إلى َّأول وآخر أنثى أحببتها بصدق‬
‫وبراءة‪ .‬لك أن تزوِّ ق الحقيقة لكن‪ ،‬ال تزيِّفها"‪.‬‬

‫"وفي الصَّيف ماذا كنت ستفعل معها؟ أكنت ستعيدها إلى أهلها‬
‫بسبب الحرِّ ؟ لم لَ ْم تشعل المدفأة أو تض َّم لعبتك كما يفعل األطفال‬
‫وتريحنا من معاناتك مع البرد والمغص؟ أغرب عن صفحاتي‬
‫أيُّها ال َّناعق"‪.‬‬
‫يمسك بالمسكينتين َّ‬
‫الثالثة والرَّ ابعة ويرميهما مزقاً‪ .‬يلتقط ورقات‬
‫جديدة ويعيد مألها بك ِّل ما سبق‪ ،‬ث َّم يتابع‪:‬‬

‫"تتالت األيَّام ونحن على هذا المنوال‪ .‬صرت أنتظر زيارتها‬


‫اليوميّة ألسرِّ ي عن نفسي قليالً من ضغط العمل وعن قلبي من‬
‫إلحاح ِّ‬
‫الذكريات‪.‬‬

‫مع الوقت‪ ،‬أخذت أحاديثنا المشتركة‪ ،‬كما سبق وألمحت‪ ،‬تدخل‬


‫نطاقات يفترض أ َّنها غير مخصَّصة للعرض على الغرباء‬
‫وتنفض الغبار عن زوايا معتمة أهملتها األيّام وذهلت عنها‬
‫ّ‬
‫الذاكرة‪.‬‬

‫وفي يوم تجرَّ أت ودعوتها إلى زيارتي في منزلي متحجِّ جا ً‬


‫بضرورات العمل وضغطه‪ .‬يحمرُّ وجهها وهي تعلن قبولها‬
‫لل َّدعوة مع كثير من ال َّتر ُّدد ليصير أشبه بشمس األصيل"‪.‬‬

‫"قلت لك ستر ِّقع هري حبكتك بتفاصيل مستهلكة تطيل بها عمر‬
‫العمل ليصبح رواية وهو بالكاد يصلح قصَّة قصيرة وحسب‪.‬‬

‫أترغب أن أملي على مسامعك ما سيحدث؟ ستتكرَّ ر الحجج من‬


‫كليكما كي تلتقيا مج َّدداً ولسوف تأتي مراراً لتستعر لواعج‬
‫العشق وتشي بكما ال َّنظرات واألفعال‪ ،‬وينطلق الهمز واللَّمز‬
‫َّ‬
‫وتضطرُّ هي بسبب هذا إلى ترك العمل وتكابد‬ ‫فتتع َّكر العالقة‬
‫أنت بسبب بعادها‪ .‬ث َّم‪ ،‬ستنقل لنا صور صراعات دخيلة ومعاناة‬
‫مراهقين تكرِّ ر لوحات مجنون ليلى ح َّتى تظفر بها في ال ِّنهاية‪،‬‬
‫أليس كذلك؟ أنت تلبسني ثوبك يا هذا‪ ،‬وثوبك ليس على مقاسي"‪.‬‬

‫"من قال إ ِّني مهتم بإلباسك أو تعريتك‪ .‬أنت مجرَّ د شخصية في‬
‫عمل أش ِّكله كما أريد وأح ِّدد أبعاده كما تقتضي سيرورة األحداث‬
‫والخاتمة المرجوّ ة"‪.‬‬

‫"إذاً ال تجعلني أنت‪ .‬مهمَّتك أن تكتب ع ّني ال أن تكتبني"‪ .‬يسود‬


‫صمت من الجانبين‪" .‬حبيبتي لم تتغيَّر‪ .‬بقيت عشقي الوحيد ح َّتى‬
‫بعد أن ماتت"‪ .‬تبدأ ح َّدة صوته تتحوَّ ل إلى مزيج من حنين‬
‫الفتوة ومالعب‬
‫الطفولة ودروب َّ‬ ‫وحزن‪" .‬قطعنا معا ً مدارج ُّ‬
‫الصِّبا‪ .‬كانت نظراتنا تغزل الحبَّ أردية لقلبينا ولم نتجاوز يوما ً‬
‫حدود القداسة لمشاعرنا كما تلمِّح أنت‪ .‬ومثلما ح َّفز وجودها في‬
‫حياتي مشاعري‪ ،‬ح َّفزت بموتها قلمي كذلك‪.‬‬

‫بقيت على حبِّي لها وإخالصي لعالقتنا ح َّتى مماتي"‪.‬‬

‫َّ‬
‫تتدخل في شؤون األحياء؟"‪.‬‬ ‫"ما دمت ميتا ً فلماذا‬
‫"أل َّنهم يسرقون ذكريات الموتى ويعيدون تفصيلها على مقاس‬
‫عبثهم‪ .‬أنت تحوِّ ل حياة نابضة بالصِّدق إلى فانتازيا شمعيَّة تنقط‬
‫تشويهاً‪ .‬اصدقني القول‪ ،‬هل أحببت يوماً؟ هل أخرج الحبُّ من‬
‫داخلك مكنونات وقوى لم تكن أنت نفسك تعرف بوجودها فيك‬
‫قبالً؟ هل جرَّ بت أن ‪."...‬‬

‫وقبل أن يكمل الصَّوت كالمه ينتزع الكاتب األوراق المستسلمة‬


‫لقدرها كي يفعل بها ما فعله بأخواتها‪ ،‬فيناديه الصَّوت مجدداً‪:‬‬

‫"تو َّقف‪ .‬تكفي مجزرة األوراق الَّتي ارتكبتها ح َّتى اآلن‪ .‬وتذ َّكر‬
‫أنَّ القمر الَّذي يلهمك بشاعريَّته ليس بهاء في حقيقته وحسب‪ ،‬بل‬
‫هو بهاء وعتمة وعذابات محاق‪ ،‬سعادة وحزن ومكابدة والدة‪،‬‬
‫فإمَّا أن تكتب عن القمر كما هو أو دع عنك الكتابة‪ ،‬أو اسرد‬
‫سيرتك أنت وزوِّ ق بها كيفما تشاء‪ .‬استعر من سير العاشقين‬
‫لكن‪ ،‬استثن قصَّة حبّي من سج ِّل مشاريعك‪ ،‬أو اكتبها كما هي‪،‬‬
‫كما ولدت وعاشت وبقيت في قلبي ح ّتى غربت أنا وبقيت هي‬
‫مشرقة"‪.‬‬
‫" بل سأتابع قصَّتي كما حبكت سردها ألنَّ أحداثها ليست كما‬
‫أوحى إليك ظ ُّنك‪ .‬اُغرب عن مسامعي ومالعب قلمي وكفاك‬
‫اعتراضاً"‪.‬‬

‫يمزق المؤلِّف األوراق الَّتي كتبها‪ ،‬ث َّم‪ ،‬يجمع أشالءها ونتفها‬
‫ِّ‬
‫ليرمي بك ِّل هذا في سلَّة المهمالت الَّتي فاضت باألوراق‬
‫الممزقة‪ .‬يعود إلى مقعده وهو يحاول لملمة شتات أفكاره الَّتي‬
‫َّ‬
‫بعثرتها ُّ‬
‫تدخالت الصَّوت الغامض‪.‬‬

‫"جاءتني عند المغيب تميس كأزهار الرَّ بيع حين يهدهدها ال َّنسيم‪،‬‬
‫مشرقة المحيَّا‪ ،‬تمشي على استحياء‪ .‬أستقبلها عند الباب بابتسامة‬
‫هادئة تستر قلبا ً متلهِّفا ً وعيونا ً نشوى‪ .‬تدخل ويدخل معها ك ُّل‬
‫عطر ال ُّدنيا‪ ،‬وتستوي على أريكة فرديَّة كمليكة من غير ما تاج‪.‬‬

‫أرنُّ جرسا ً فتحضر مدبِّرة المنزل تحمل صينيَّة الضِّيافة فيزول‬


‫ال َّتو ُّتر عن وجهها ونظراتها‪ .‬انتبهت إلى أ َّنها تحمل من مالمح‬
‫حبيبتي الَّتي تو ِّفيت منذ وقت ليس بالقصير أكثر ممّا لمحت‬
‫مسبقاً‪ .‬أتراه هذا ما جعلني أتحاشاها في البداية وأتعلَّق بها فيما‬
‫بعد؟ ‪ ...‬ربَّما‪.‬‬
‫تحادثنا في أمور العمل وانتقلنا إلى شؤون الحياة وولجنا دروب‬
‫األدب َّ‬
‫والثقافة فبهرتني بثقافتها وعمق معرفتها‪ .‬تطاول اللِّقاء‬
‫ّ‬
‫ليغطي مساحة من َّ‬
‫الزمن تزيد على السَّاعتين ما شعرت‬
‫بانقضائهما‪ .‬وعندما أزف أوان الوداع رافقتها ح َّتى الباب‬
‫فصافحتها لتمضي‪ .‬ومن هنا تبدأ الحكاية"‪.‬‬

‫ينتظر المؤلِّف ظهور الصَّوت المعترض من جديد‪ ،‬لكن‪ ،‬لم يكن‬


‫هناك أيُّ صدى المتعاضه المعتاد‪ .‬ف َّتش في ذيل الصَّفحة ونفض‬
‫الورقات الماضية والقادمة فما وجد ما يد ُّل على استمرار‬
‫وجوده‪.‬‬

‫"أخيراً‪ .‬يبدو أ َّنه استسلم فغادر أفكاري وأسطري"‪ ،‬هكذا يح ِّدث‬


‫نفسه وهو يحاول العودة إلى قصَّته‪ .‬لكن‪ ،‬ما قصَّه ذلك الصَّوت‬
‫راح يطغى على نظم الحدث عنده‪.‬‬

‫كانت قصَّته تسير في مسارها الَّذي ش َّكله لها‪ ،‬قصَّة حبٍّ من‬
‫طرف واحد‪ .‬ظ َّنه ح َّبا ً يعوِّ ضه ما فقد‪ ،‬لك َّنه بال ِّنسبة لها كان جزءاً‬
‫من َّ‬
‫خطة لتحديد مواضع ال َّتسريبات في المؤسَّسة‪ .‬سيكتشف فيما‬
‫بعد أ َّنها هي صاحبة العمل‪ ،‬ونتيجة لخيانة داخليَّة تتعرَّ ض‬
‫َّ‬
‫الموظفين‬ ‫المؤسَّسة إلى كارثة كادت تودي بسمعتها‪ .‬فقد قام أحد‬
‫ببيع عمل أدبي لكاتب معروف إلى كاتب مغمور يتعامل مع‬
‫مؤسَّسة منافسة مقابل مبلغ مالي لينشر العمل بعد تعديله على أ َّنه‬
‫له ويتفجَّ ر الموقف بصورة َّأثرت على سمعة المؤسَّسة‬
‫وزعزعت مكانتها في سوق ال َّنشر وعند عمالئها‪ .‬لتنتهي القصَّة‬
‫َّ‬
‫الموظفة وتركه للعمل بعد الصَّدمة الَّتي تل ّقاها إثر‬ ‫باكتشافه سرَّ‬
‫هذا االكتشاف‪.‬‬

‫هكذا كانت األفكار‪ ،‬لكنَّ ما انتقل إلى الورق أخذ دربا ً مغايرة‪.‬‬
‫عندما يعاود صاحبنا قراءة ما كتب تعتريه ال َّدهشة‪.‬‬

‫صة ليست ‪ ...‬ما هكذا أردتها‪ .‬كيف كتبت أنَّ حبيبته‬


‫"ما هذا؟ الق َّ‬
‫األولى تو ِّفيت مع أنَّ الفكرة األصليَّة أ َّنها غادرته إلى غيره؟‬
‫لماذا عدت إلى أيّام طفولته؟ ح ّتى الخاتمة اختلفت‪ .‬كيف استطاع‬
‫ذلك الصَّوت ال َّتشويش عليَّ ؟ هي فعالً تحمل نفس العموميات‬
‫لتطور األحداث‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫لكن‪ ،‬ليس هذا ما رسمته‬

‫كيف تب َّدلت تلك األفكار الَّتي جهدت في نظمها لم َّدة طويلة؟ أين‬
‫أنت أيُّها الصَّوت؟ أرأيت ما فعلت أيُّها َّ‬
‫الثرثار المتط ِّفل؟"‪.‬‬

‫يضع القلم من يده محبطا ً ويلملم أوراقه وينحِّ يها جانباً‪ ،‬ث َّم يمسك‬
‫رأسه بين ك َّفيه ويبدأ بمراجعة اإلطار العام وعناصر العمل‬
‫بمجمله‪ .‬لقد استطاع الصَّوت أن ِّ‬
‫يؤثر فيه عبر الحكاية الَّتي‬
‫روى شذرات منها‪ .‬بدأت القصَّة فعالً تمضي بحسب ما كان‬
‫يرغب في سردها بأحداثها وشخوصها وحبكتها‪ ،‬إ َّنما بقي ترتيب‬
‫األحداث ووصولها إلى ُّ‬
‫الذروة‪ .‬وفاة حبيبته لم تكن ال ِّنهاية كما‬
‫َّ‬
‫خطط بل بداية تف ُّتق إبداع أدبي عظيم عنده‪ ،‬وقصَّة وفاء نادر‪.‬‬

‫*********‬

‫بعد تو ُّقف لفترة خالها دهراً‪ ،‬يتناول مجموعة من األوراق‬


‫البيضاء ويبدأ بسرد الرِّ واية من جديد‪ .‬لم تتمرَّ د الكلمات بل‬
‫سالت جمالً كجدول رقراق ولد في الرَّ بيع‪ .‬ولم تنحن السُّطور بل‬
‫استقامت كأغصان خضراء لتتل َّقف الحبكة الَّتي تف َّتحت شخوصها‬
‫عليها كما ُّ‬
‫الزهور‪ .‬وتتوالى الصَّفحات ترفل باإلبداع وال ِّدفء‪.‬‬

‫*********‬

‫"بعد مغادرته المؤسَّسة يعتكف في بيته‪ .‬شعوره بأ َّنه خان حبَّه‬


‫األول ضاعف من ألمه‪ .‬يخرج مل َّفا ً قديما ً ويقلِّب أوراقه بهدوء‪،‬‬
‫َّ‬
‫ث َّم يشرع في كتابة تتمَّة القصَّة‪:‬‬
‫أنهك موتها المفاجئ ذاكرتي‪ .‬تأرجحت حياتي بين خياالت معها‬
‫وذكريات عنها‪ ،‬وبين واقع حقيقي مضى وقادم افتراضي لن‬
‫الزمن م ِّني فضعت بين مداراته‪.‬‬
‫يصل‪ .‬تاه َّ‬

‫حاولت أن أستجمع شتات روحي فلم أجد إلى ذلك سبيالً إاَّل‬
‫الهروب إلى الكتابة‪ .‬أعترف أ َّنها لم تخرجني من تجاذبات‬
‫العاطفة تماماً‪ ،‬لك َّنها جعلتني أتوازن نفس ّيا ً قليالً‪ .‬بقيت على شفير‬
‫الضَّياع ح َّتى مرَّ ت سنتان نشرت خاللهما رواية أعادتني إلى‬
‫دائرة األضواء مج َّدداً‪ ،‬ليبدأ تأثير غيابها يأخذ منحى آخر مختلفا ً‬
‫تماماً‪.‬‬

‫وبقي األمر كذلك إلى أن تصلني دعوة من صاحب إحدى‬


‫مؤسَّسات النشر يطلب فيها لقائي ‪."...‬‬

‫أت َّم الرواية بحياديَّة طارئة أدهشته‪.‬‬

‫ينهى المراجعات ويطمئن إلى عدم وجود أخطاء‪ .‬ث َّم‪ ،‬يجمع‬
‫األوراق حسب تسلسلها ليسجِّ ل على الصَّفحة األخيرة تاريخ‬
‫إتمامه للعمل كما اعتاد أن يفعل على ال َّدوام‪.‬‬

‫**********‬
‫أُغلق القلم وأُلملم الصَّفحات وأهرع إلى زوجتي‪.‬‬

‫"أتممت مهمَّتك وستبدأ مهمَّتي‪ .‬استع ّنا على ال َّشقا باهلل"‪ ،‬بهذه‬
‫العبارة تستقبلني وهي ترى المخطوطة في يدي‪ .‬أناولها إيّاها كي‬
‫تقرأها وتبدي مالحظاتها بشأنها كعادتها‪ ،‬وأجلس قبالتها‪.‬‬

‫تتص َّفحها لماما ً ث َّم ترفع ناظريها نحوي مستفسرة وتسألني‪:‬‬

‫"أما زال ذلك الهاجس يراودك؟"‪.‬‬

‫تهرب عيوني إلى حضن الغسق الَّذي احت َّل ال َّفضاء من حولنا‪.‬‬

‫"بلى"‪.‬‬

‫تسكت وتفتح الصَّفحة األولى كي تقرأ سطور االستهالل‪ .‬أتابع‬


‫منعكسات ال َّتفاعل على قسماتها‪:‬‬

‫" من يكتب من‪ .‬كأ َّنني أمام لوحة اإلسباني أليكس حين رسم‬
‫نفسه وهو يرسم‪ ،‬لك َّنها لوحة مرسومة بالكلمات هذه المرَّ ة"‪،‬‬
‫تطلق مالحظتها مشفوعة بابتسامة وهي تنظر إليَّ تلك ال َّنظرة‬
‫الَّتي خبرت ف َّ‬
‫ك أحاجيها‪.‬‬

‫أبتسم‪" :‬ليس تماماً"‪.‬‬


‫تبقي على نظرتها إليَّ دون أن تنطق بشيء‪ .‬كأ َّنها تنتظر جوابا ً‬
‫آخر لسؤال لم تطرحه كالما ً لكنَّ عينيها باحتا به‪ ،‬فأستطرد‪:‬‬

‫"هو سؤال قديم ما زال يل ُّح عليَّ منذ أن وجدت في الصَّفحات‬


‫مالذاً آمنا ً ألفكاري‪ :‬كيف يتعامل الكاتب مع الصَّوت ال َّداخلي‪،‬‬
‫مع القلق‪ ،‬أو الهاجس‪ ،‬أو االعتراض‪ ،‬أو الصَّدى‪ ،‬سمِّه ما‬
‫شئت‪ ،‬والَّذي يتر َّدد ضجيجه كلَّما بدأ عمالً دون أن يهدأ بانتهائه‪،‬‬
‫بل يدهمه متابعا ً ضوضاءه كالهوس أو كالمسِّ ‪ ،‬ح َّتى حين يرى‬
‫العمل ال ُّنور‪ ،‬داعيا ً إلى تحرير ال َّشخصيّات من سطوة الكاتب؟‬
‫وماذا لو َّ‬
‫تمثل الصَّوت بصورة ال َّشخصية الَّتي ترسمها‬
‫العبارات؟ وكيف سيمضي الحوار بينهما؟‬

‫منذ زمن بعيد وأنا أريد أن أنقل إلى الورق صراعي هذا مع‬
‫انقسامي الرُّ وحي والفكري‪ ،‬بين ال ّ‬
‫شاهد القاص والفاعل المدوِّ ن‪،‬‬
‫الطرح والهو في السَّرد‪ ،‬حين ُّ‬
‫أخط‬ ‫صراع بين صدقيَّة األنا في َّ‬
‫أحداث حكاية‪ ،‬حين أحاول أن أتقمَّص دور الكاتب والرَّ اوي‬
‫والبطل بآن معاً‪.‬‬

‫ِّ‬
‫تشظياتي حين أش ِّكل الحكاية‬ ‫ما زلت أحاول نقل صراعي مع‬
‫وأصبح مصدر أفكارها وناظم عقد تفاعالتها وراوية حبكتها‪.‬‬
‫وهنا يبدأ الصِّراع الحقيقي عندي بين هذه األقطاب على شكل‬
‫َّ‬
‫الطرح وال َّدور‪ ،‬والك ُّل يش ُّد البساط صوبه"‪.‬‬

‫"فلم لم تجب عن ك ِّل هذه ال َّتساؤالت هنا؟"‪.‬‬

‫"لم أستطع‪ .‬فاجأني موت الحبيبة األولى وانزواء البطل‬


‫وأربكتني بدايته الدراميَّة الَّتي كشفها لي الصَّوت عبر‬
‫اعتراضاته المتكرِّ رة‪.‬‬

‫أعترف أ َّنني لم أرسم هذا الخط الَّذي سارت عليه القصَّة‪ ،‬بل‬
‫كنت مجرَّ د حكواتي محايد في كثير من المواقف‪ .‬البطل هو من‬
‫ح َّدد سيرورة الصِّراع وهذا ما أظ ُّنه أضفى مزيداً من الواقعيَّة‬
‫والجاذبيَّة‪ .‬أكيد أنَّ تلك الهواجس ستبقى معلَّقة‪ ،‬مثل نبوءة أو‬
‫لغز‪ ،‬فوق الصَّفحات الَّتي سأكتبها الحقا ً عن أبطال آخرين‬
‫يعيشون في أمكنة وأزمنة أخرى‪ ،‬لك َّنني لست متي ِّقنا ً من‬
‫اإلجابات‪.‬‬

‫يبدو أنَّ القلق سيبقى رفيق جملي القادمة"‪.‬‬

‫************‬
‫عندما أنهي كالمي يخيَّل إليَّ أ َّنني أرى وجها ً يبسم لي‪ ،‬ليأتيني‬
‫الصَّوت عميقاً‪:‬‬

‫"المهم أن تكتب بحب وصدق وتترك لشخصيّاتك المساحة لتعبِّر‬


‫بحرِّ يَّة عن أنفسها‪ ،‬ح َّتى لو كتبت عن الكراهية أو الموت‪ ،‬كي‬
‫تهطل الكلمات على نفس القارئ أكثر نقاء وصدقاً"‪.‬‬

‫يدهمني صوت آخر وهو يقول ضاحكاً‪:‬‬

‫"نصحته أن يعانق المدفأة كي يتخلَّص من البرد والمغص ويح َّل‬


‫ع ّني وعن سطوري فلم يسمع م ّني"‪.‬‬

‫ويضحك االثنان‪.‬‬

‫أضحك مثلهما فتنتقل عدوى الضَّحك إلى زوجتي المندهشة من‬


‫ضحكاتي المفاجئة‪ .‬تتعالى ضحكاتنا في الهزيع األخير من اللَّيل‬
‫مثل عزف مشترك يساير هدوءه وأسرار قمره‪.‬‬
‫مروه علي علي علي ‪/‬مصر‬
‫ُ‬
‫ذهبت اليوم ألعقد المقابلة الخاصة بالوظيفة الجديده‪ ،‬وقبل‬
‫ُ‬
‫وجدت الفته مكتوب عليها‬ ‫الدخول للمكان المخصص بذلك‬

‫(من فضلك قم بتقديم بطاقه الماسنچر والفيسبوك الخاص بك‬


‫للتأكد من هويتك‪ ،‬والتنسى فتح الماسنچر)‬

‫وبالفعل قمت بذلك ثم فتحت الماسنچر فوجدت رسالة من‬


‫السكرتيره مضمونها‪:‬‬

‫‪"-‬من فضلك يا احمد ‪@123‬؛أنتظر نصف ساعة في صالة‬


‫األستقبال حتى يحين موعدك في المقابله‪.‬‬

‫مرت النصف ساعة كالثانيه‪ ،‬فلم أشعر بها قط‪ ،‬ثم دخلت المكتب‬
‫لمقابلة المدير وقلبي يدعو من أعماقه أن تنجح المقابلة ويتم‬
‫قبولي في العمل‪.....‬‬

‫بدأت المقابلة وكتب لي المدير على الماسنچر سائالً‪:‬‬

‫‪"-‬ما عدد الاليكات على صورة ملفك الشخصي؟!"‪.‬‬

‫فأجبته‪:‬‬
‫‪1000"-‬اليك"‪.‬‬

‫فقال لي‪:‬‬

‫‪"--‬ممتاز"‬

‫ثم سألني باقي االسئله المعتاده في أي مقابلة‪ ،‬فسألني عن‬


‫مستقبلي‪ ،‬والخطط المستقبلية‪ ،‬ولماذا أود العمل في هذه الشركة‪،‬‬
‫وغيرها من األسئلة‪ ،‬وطلب مني *ال ‪*c.v‬الخاص بي فأعطيته‬
‫إياه‪ .‬وبعد ذلك قال لي‪:‬‬

‫‪"-‬متابعتك ل*بوستات*الشركة هي التي سوف تحدد قبولك بها ام‬


‫ال‪.‬‬

‫ثم فتح صفحة الشركة ليتحقق من ذلك وبعدها كتب لي‬

‫‪ "-‬انتظر نصف ساعة بالخارج وبعدها س ُنعْ َ‬


‫لمك بالنتيجة"‪.‬‬

‫خرجت من المكتب وأجلستني السكرتيره في قاعة االستقبال‬


‫حتى مضى الوقت‪ ،‬ثم طلبت مني الدخول لمكتب المدير مؤكده‬
‫عليَّ بفتح الماسنچر‪.‬‬
‫دخلت المكتب للمرة الثانية وجلست على الكرسي أمام المدير‬
‫ُ‬
‫حيث أشار لي بالجلوس‪ ،‬ثم كتب لي‪:‬‬

‫‪ "-‬لألسف لم يتم قبولك في الشركة‪ ،‬فقد وجدت انك لم تقم‬


‫بوضع ايه *اليكات* على *بوستات* الشركة سوى اليك‬
‫واحد فقط وهذا يدل على عدم متابعتك الجيده للشركة"‪.‬‬

‫فأرسلت له كاتباً‪:‬‬

‫‪"-‬هذا ظلم! فمع كل هذه الشهادات التي تدل على كفاءتي بالشغل‬
‫ترفضني فقط بسبب الاليكات؟! "‪.‬‬

‫ثم قمت بعمل *بلوك* له وأنا مازلت اجلس على الكرسي أمامة‪.‬‬

‫حتى بعد ذلك وجدت األمن يقتحمون عليَّ المكتب وهم ينظرون‬
‫إليَّ بغضب ثم ارسلوا لي‪:‬‬

‫‪ "-‬سنوسعك ضربا ً أيها األحمق‪ ،‬لقد جعلت المدير يحدث حالته‬


‫على الفيس بوك ب"يشعر بالغضب"‪ .‬كيف لك أن تجرؤ وتقوم‬
‫بهذا؟!‪.‬‬

‫ردت من الشركة وذهبت إلى البيت حزيناً‪ ،‬فأستقبلتني امي‬


‫ط ُ‬ ‫ُ‬
‫ويبدو عليها انها الحظت عليَّ عالمات الحزن‪.‬‬
‫فأسرعت إليَّ برسالة على الماسنچر كاتبه ‪:‬‬

‫‪ "-‬مابك ياحبيبي" يتبعها ايموشن حزين‪.‬‬

‫فقلت لها متحدثا ً بصوتي‬

‫‪-‬التكتبي لي على هذا البرنامج الشنيع‪ ،‬فقط كلميني بصوتك كما‬


‫أفعل‪.‬‬

‫وحينها سمعت صوت إشعار برساله أخرى مضمونها ‪:‬‬

‫‪"-‬يبدو أنك جننت!! أيعقل أن نترك الماسنچرونتحدث أمام بعضنا‬


‫بصوتنا في ظل عام ‪2035‬؟!‬

‫أتريد أن يُقال ع َّنا اننا جاهلون ومن العصر الحجري أو اننا‬


‫مجانين وفقدنا عقلنا؟! يتبعها ايموشن غضب"‪.‬‬

‫خرجت من البيت شديد الغضب‪ ،‬ال أجد احد اتكلم معهُ‪ ،‬فقط‬
‫اسي ُر في الشوارع وأج ُد كل الناس يحملون في أيديهم الموبايالت‬
‫وتمتلىء الشوارع بأصوات إشعارات الماسنچر البغيضة‪.‬‬

‫فقط اريد ان اتكلم مع أحدهم‪ ،‬اريد ان اعبر عن مشاعري‬


‫بتعبيرات وجهي ال *بأيموشنات الماسنچر*‪.‬‬
‫وأردت حينها الذهاب إلى البحر لكي اتحدث إليه لعلي ُ‬
‫ابث له‬
‫شكواي بدالً من البشر‪.‬‬

‫فقمت بالدخول على موقع المواصالت وكتبت المكان الذي أو ُد‬


‫الذهاب اليهِ‪ ،‬وبعد دقيقتين ارسلو لي تلك العربة اإللكترونية التي‬
‫كانت بدون سائق ولكن العجب في ذلك‪ .‬كسائر العربات في‬
‫عصرنا؛ثم ركبت العربة وتم إرسال رسالة لي على الماسنچر‬
‫مضمونها ‪:‬‬

‫‪"-‬اتود تشغيل الوضع الطائر للعربيه ام الوضع العادي"‪.‬‬

‫فأخترت الوضع الطائر‪.‬‬

‫وبالفعل طارت العربة بي من خالل األجنحة المزودة بها‪،‬‬


‫وذهبت بي إلى البحر خالل ربع ساعة فقط‪ ،‬رغم أن البحر يبعد‬
‫ركبت من ُه بحوالي ‪51‬كيلو متر تقريباً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عن الشارع الذي‬

‫ُ‬
‫وتطرقت‬ ‫ُ‬
‫واخذت اتحدث إليه وانا ابكي بشدة‬ ‫ُ‬
‫وصلت إلى البحر‬
‫ُ‬
‫وجدت عدد كبير من‬ ‫في الحديث له حتى ما إن انتهيت‬
‫األشخاص يتجمعون حولي وينظرون إليَّ بدهشه وتعجب شديد‪،‬‬
‫ومن بينهم اثنان يرتدون بالطو ابيض‪ ،‬يبدو عليهم انهم‬
‫ممرضين‪ .‬وطلب مني هذان االثنان بطاقه الماسنچر الخاصة بي‬
‫ليتكلموا معي‪.‬‬

‫فأعطيتهم إياها ثم كتبو لي‪:‬‬

‫‪"-‬لقد أخبرنا هؤالء األشخاص الذين حولك أنك تتحدث بصوتك‬


‫في ظل هذا العصر الحديث! وهذا أمر غريب لم يحدث قط؛‬
‫لذلك سنأخذك معنا لنتأكد من صحه عقلك وحالتك النفسيه‪.‬‬

‫ثم قاموا بتقييدي ومنعي من الحركة وانا احاول الفرار منهم‪،‬‬


‫واصرخ بأعلى صوت‪:‬اتركوني لست مجنونا ً بل أنتم مجانين‬
‫ولكن ال تشعرون‪.‬‬

‫وبعدها سمعت صوت امي تقل لي‪:‬‬

‫‪-‬من هؤالء المجانين الذين تقصدهم؟! ثم اكملت‪ ،‬إياك أن‬


‫تقصدني انا ثم أخذت تحركني حتى فتحت عيني‪.‬‬

‫وظلت مستمرة في الحديث قائله‪:‬‬

‫‪-‬الساعة اآلن أصبحت العاشره صباحاً‪ ،‬فمنذ تلت ساعات وانا‬


‫اوقظك‪ ،‬ولكن كطبيعتك كسول؛ هيا قم واستعد للعمل فقد‬
‫تأخرت‪.‬‬
‫وبينما امي في حديثها وانا استمر في النظر إليها محدقا ً عيناي‬
‫اردفت قائالً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫شديد الدهشة ثم‬

‫‪-‬امي اتتحدثين بصوتك؟! ثم اكملت‪ .‬إذن أين الماسنچر؟! هل‬


‫تعطل ام ماذا حدث له!!!!!‬

‫اجبتني امي وهي شديدة الغضب قائله‬

‫‪-‬اجننت!! أم أنك ُتغيظني!! ثم أجابت ساخرة مني‬


‫َ‬

‫ال لم أتحدث بصوتي بل اتحدث بصوتك وصوت الجيران يا‬


‫أحمق‪.‬‬

‫‪-‬ال يا أمي ال اقصد ذلك ولكن اما قولتي انك لن تتحدثي بصوتك‬
‫لكي اليقال عنك انك جاهله أو مجنونة في ظل هذا العصر‬
‫الحديث‪ ،‬عصر‪ 2035‬ميالدية؟!‬

‫‪-‬ماذا؟!! انا قلت لك هذا الكالم الغريب؟! ومتى كنا في عام‬


‫‪2035‬؟! نحن مازلنا في عام ‪ 2019‬يا ابله‪.‬‬

‫‪-‬ماذا!! انتي متأكده اننا في عام ‪2019‬؟!!!‬

‫‪-‬اكنت في حُلم يابني أليس كذلك؟!‬


‫ُ‬
‫كنت في كابوس‪.‬‬ ‫‪-‬ال ياأمي‬

‫االسم ‪ :‬سبف الدين‪ ‬‬


‫اللفب ‪ :‬صعانية‪ ‬‬
‫العمر ‪ 20‬سنة‪ ‬‬
‫العنوان ‪ :‬والية قالم ‪ -‬بلدية بوشقوف‪ ‬‬

‫امشي ببطء على أرضية رواق الثانوية احمل بين‬


‫يدي قصاصة ورقية كتب عليها رقم الرواق و القاعة التي‬
‫سأزاول فيها دراستي منذ اليوم‪،‬و بينما اقلب راسي انظر هنا و‬
‫هناك بتمعن‪ ،‬توقفت قرب باب احد القاعات و عيناي معلقتان‬
‫بتلك الالفتة الصغيرة المرصوصة فوقه ببضع سنتيمترات‬
‫‪،‬حولت بصري إلى القصاصة مجددا ألتأكد من صحة ما رأيت‬
‫ليخالجني ذلك اإلحساس بالراحة‪ ،‬لقد وصلت أخيرا‪ ،‬لن أضطر‬
‫للمشي مجددا في هذا الرواق الممل الذي ال ينتهي ‪ ،‬رفعت كم‬
‫قميصي ألرى الساعة ‪ ،‬إنها التاسعة و عشر دقائق صباحا ‪ ،‬لم‬
‫أتأخر عن المحاضرة كثيرا ‪ ،‬تنهدت ثم تقدمت بخطوات أسرع‬
‫نحو الباب ‪ ،‬طرقته ‪.‬‬

‫ثواني ليفتح األستاذ الباب ‪،‬الجميع ينتظر بشغف‬


‫من يكون وراءه ‪ ،‬ربما البعض يحاول تخيل كيف سيكون شكلي‬
‫‪ ،‬كم أتمنى أن تكون هناك الكثير من الفتيات الجميالت ‪،‬و بينما‬
‫أنا عالق في شباك أفكاري ‪ ،‬انساب إلى أذني صوت األستاذ‬
‫وهو يقول ‪":‬السيد ستيفن والكر ‪...‬؟"‪.‬‬

‫انقطع حبل أفكار ألجيبه و أنا أتلعثم‪»:‬آه‪....‬ن‪...‬نعم سيدي‪."....‬‬

‫علت وجهه ابتسامة صغيرة و هو ينظر إلي ثم قال‪":‬تفضل‬


‫بالدخول"‪.‬‬

‫شققت طريقي بين تلك الطاوالت الجميع كان‬


‫يلف رقبته ليحدق بي ‪،‬مشيت بخطى قصيرة ابحث عن مقعد‬
‫شاغر فقد تعودت على أجواء الطالب الجديد‪ ،‬توقفت عند آخر‬
‫مقعد بجانب الباب الخلفي للقاعة ‪،‬سحبت كرسي ألجلس‬
‫‪،‬أخرجت كراسي ثم انحنيت ألضع حقيبتي بجانبي ‪ ،‬و بينما أنا‬
‫ارفع راسي خفق قلبي بسرعة فقد عجزت عيني عن مقاومة‬
‫ذلك المنظر ‪ ،‬لقد كانت تجلس في الطاولة بجانبي بهدوء ‪،‬و قد‬
‫استقرت وجنتاها الحمراوتان بين راحتي يديها ‪ ،‬في حين‬
‫اعتلت وجهها نظرات باردة ‪ ،‬و بينما أنا تائه بين ضفائر شعرها‬
‫األسود الذي انسدل على كتفيها‪،‬فجأة نظرت إلي و ابتسمت‬
‫لتوقعني في شرك عيناها الواسعتان ‪.‬‬
‫طأطأت نظراتي بسرعة ‪ ،‬ثم حاولت استراق النظر‬
‫إليها مجددا ‪ ،‬ألجدها ال تزال تحدق بي بابتسامتها الساحرة‪،‬‬
‫استجمعت ثقتي ‪ ،‬ثم بادلتها االبتسامة ألقول لها بصوت خافت‬
‫خوفا أن يسمعني األستاذ ‪":‬مرحبا ‪ ....‬أنا ستيفن"‪.‬‬

‫تكلمت لتظهر أسنانها ناصعة بالبياض كحبات األلماس ‪":‬كارال‬


‫سميث ‪ .....‬سررت بلقائك "‪.‬‬

‫كان صوتها يتسلل إلى إذناي كمعزوفة موسيقية‬


‫لبيتهوفن ‪ ،‬حتى قاطعها األستاذ و هو يقول ‪":‬سيد والكر ‪ ....‬هل‬
‫هناك مشكلة ‪..‬؟ هل الديك أي استفسار ‪...‬؟"‪.‬‬

‫الجميع يحدق بي استطيع أن أرى في وجوههم نظرات‬


‫استغراب ‪ ...‬لكن ما السبب ؟؟‪ ...‬تعجبت من نظراتهم ثم‬
‫أجبته ‪ ":‬ل‪...‬ال سيدي أنا آسف "‪.‬‬
‫عاد بعدها ليكمل المحاضرة‪ ،‬مر الوقت‬
‫بسرعة و أنا استرق النظر إليها بين الفينة و األخرى ‪ ،‬حتى‬
‫إلتقطت أذناي صوت جرس نهاية الحصة‪ ،‬الجميع بدا بجمع‬
‫أغراضه و الخروج بسرعة ‪ ،‬لكن األغرب من ذلك كان‬
‫تصرفها ‪ ،‬لقد كانت ال تزال جالسة في مكانها و كان شيء لم‬
‫يحدث ‪،‬تقدمت نحوها ثم سألتها بلطف ‪":‬هل تمانعين لو خرجنا‬
‫لتناول الغداء معا ‪...‬؟ اقصد ا‪...‬أنا جديد هنا و ليس لدي‬
‫أصدقاء‪ ....‬أنت بالطبع تعين معانات الطالب الجدد في أولى‬
‫أيامهم"‪.‬‬

‫ابتسمت ثم أجابتني بصوت مالئكي‪ ":‬ال مانع من‬


‫هذا لكنني آسفة‪ ،‬فانا اكره األماكن المزدحمة لذا أفضل تناول‬
‫غدائي فالمنزل‪ ....‬لكن بالطبع يمكننا التمشي معا "‪.‬‬

‫ماذا ‪...‬؟ ال اصدق ما تسمعه أذناي ‪ ...‬أحاول‬


‫قرص يدي التاكد أني لست في حلم ‪ ....‬لطالما كنت سيء الحظ‬
‫مع الفتيات‪ ،‬لم أنل إعجاب إحداهن من قبل ‪،‬لكن هذه المرة و‬
‫عندما انظر في عينيها أحس أنها فرصتي ‪،‬خرجنا ثم مشينا في‬
‫ذلك الرواق الطويل‪ ،‬و بالرغم من كوني قليل الكالم ‪ ،‬إال أن‬
‫الكلمات لم تخني هته المرة فقد كانت تتدفق من فمي كالسيل دون‬
‫توقف ‪ ،‬رفعت حاجبي بدهشة عندما أبصرت أن كل من في‬
‫الرواق يحدقون بنا بغرابة و عالمات الدهشة بادية على‬
‫وجوهم ‪ ،‬يتهامسون و يرمقوننا باستغراب ‪ ..‬اللعنة عليهم‪..‬‬
‫اهكذا يعامل الطالب الجديد في هذه الثانوية ‪ ...‬لكن ال يهم‬
‫فوجودي مع كارال و االستماع لصوتها الجميل كافي الن يعزلني‬
‫عن هذا العالم ‪.‬‬

‫لم أدرك نفسي حتى قابلني باب الخروج‪ ،‬ماذاا‬


‫‪..‬بهته السرعة ‪..‬؟ هل هذا هو نفس الرواق الذي مشيت فيه هذا‬
‫الصباح ‪...‬؟ تمشينا بعدها لدقائق ‪ ،‬حدثتني كم تحب الكتب ‪ ،‬عن‬
‫أغانيها المفضلة و كم تحب العزلة ‪ ،‬حدثتني عن حياتها العاطفية‬
‫‪ ،‬عن انكساراتها و عن األشخاص الذين خذلوها ‪ ،‬حينها أدركت‬
‫كم هي بحاجة إلى شخص يغير حياتها أو على األقل يجبر‬
‫انكسارها ‪.‬‬

‫أردت إمساك يدها و مداعبة أصابع يدها النحيلة ‪،‬‬


‫تحسس بشرتها الناعمة ‪ ،‬لكني لم املك الشجاعة ‪ ،‬شعرت‬
‫بالذنب ألنني لم استطع التغلب على خجلي من اجلها ‪ ،‬كل ما‬
‫فعلته هو التفوه بكلمات تافهة ظنا مني أنها ستعدل مزاجها‬
‫الكئيب‪ ،‬رافقتها إلى منزلها ثم راقبتها و هي تفتح الباب و تدخل‬
‫حتى اختفت عن ناظري ‪.‬‬

‫عدت بجسدي إلى البيت لكني نسيت قلبي و عقلي‬


‫عند باب منزلها ‪،‬ال استطيع التوقف عن التفكير بها ‪ ،‬ذهني‬
‫اللعين يستحضر صورها أمامي ‪ ،‬وجهها ‪ ،‬ضحكتها ‪ ،‬حتى‬
‫صوتها ال يزال يتردد في مسمعي في كل دقيقة تمر ‪،‬عقلي‬
‫يرفض التفكير بغيرها ‪،‬أتخيل أنها بجانبي و كم ستكون سعيدة‬
‫معي ‪ ،‬أحاول تخيل مالمح وجهها و هي سعيدة ‪،‬فالبر غم من‬
‫عبوسها إال أنها كانت في غاية الجمال ‪ ،‬فكيف ستكون و هي‬
‫سعيدة ‪...‬؟؟ أراهن أنها ستصبح فائقة الجمال ‪.‬‬

‫فاليوم التالي ‪ ،‬أقف أمام المرآة و أنا ارتدي أجمل‬


‫مالبسي ‪ ،‬سويت شيرت ابيض مع سروال جين اسود و حذائي‬
‫الثمين الذي ال أرتديه إال فالمناسبات ‪ ،‬اردد وحدي‬
‫كالمجنون ‪ ":‬سأعترف لها اليوم ‪ ...‬سأتغلب على خجلي ‪..‬‬
‫سأكون شجاعا من اجلها ‪ ..‬ال أريد أن افقدها‪ ..‬كل اللواتي‬
‫أحببتهن قد رحلن أمام عيني بسبب خجلي "‪.‬‬
‫نزلت أدراجي إلى المطبخ ألجد الفطور الذي‬
‫حضرته أمي قبل أن تذهب إلى العمل على الطاولة مع مجموعة‬
‫مالحظات معلقة على الثالجة كالعادة ‪ ،‬ابتسمت و أنا أقراها ‪،‬‬
‫تناولت فطوري على عجلة ‪ ،‬ال استطيع االنتظار ألقابل كارال‬
‫مجددا ‪.‬‬

‫خرجت من البيت بخطوات سريعة متوجها إلى‬


‫مكتبة حينا ‪ ،‬القف عند بابها الضخم ‪ ،‬لم أرى مكتبة بهذا الحجم‬
‫من قبل ‪ ،‬دفعت بابها الزجاجي بعنف لثقله ‪،‬ثم أخذت أتجول بين‬
‫أروقتها أتفقد بتمعن رفوفها ذات الخشب الصلب ‪،‬تملكتني‬
‫الدهشة لطولها و عرضها‪،‬لكنني واصلت البحث بينها بدون‬
‫ملل ‪ ،‬حتى توقفت عن احد الرفوف في مؤخرة المكتبة ‪،‬‬
‫ابتسمت ابتسامة عريضة ‪ ،‬سحبت كتاب من بين تلك الكتب‬
‫الكثيرة ‪ ،‬نظرت إلى عنوانه "رواية المقامر لدوستويفسكي"‪،‬‬
‫توجهت إلى المكتبية التي كانت تجلس في مكتبها منشغلة بتوقيع‬
‫بعض األوراق ‪ ،‬دفعت ثمنه و أنا انظر إلى الساعة المعلقة على‬
‫الحائط أمامي مباشرة ‪ ،‬ال يزال الوقت مبكرا لكني ال أطيق‬
‫صبرا حتى أفاجئها بهته الهدية‪.‬‬
‫هرولت إلى محطة الحافالت ‪ ،‬استقليت أول‬
‫حافلة متوجة إلى الثانوية ‪،‬نزلت وجهتي اخيرا ثم صعدت إلى‬
‫الطابق الثاني ثم مشيت في الرواق الممل وصوال إلى القاعة"‬
‫‪، "50‬يبدو أنني وصلت باكرا قليال ‪ ،‬لكن ال يهم بما أنني سأقابل‬
‫كارال ‪ ،‬دخلت و أنا انظر مباشرة إلى طاولتها ‪ ،‬ليتملكني‬
‫اإلحباط ‪ ،‬الطاولة ال تزال فارغة ‪ ،‬البد أنها لم تأتي بعد ‪،‬‬
‫جلست على طاولتي انتظر بشغف قدومها ‪ ،‬مرت دقائق و أنا‬
‫أراقب بصمت ‪ ،‬امسك بذلك الكتاب بين يدي ‪ ،‬أحاول ترتيب‬
‫أفكاري و التدرب على بعض السيناريوهات في ذهني ألزيد‬
‫إعجابها بي ‪ ،‬هاهي تدخل ‪ ،‬بدأت أتوتر ‪ ،‬أعصابي مشدودة فمي‬
‫يبتسم دون استئذان ‪ ،‬أما عيناي فتراقبانها بشغف حتى جلست‬
‫مكانها ‪.‬‬

‫نظرت إلي و ابتسمت ‪ ،‬يبدو أني أدمنت ابتسامتها ‪،‬‬


‫اقتربت منها ثم مددت يدي ببطء المسك بيدها فوق الطاولة ‪،‬‬
‫قلت لها بصوت خجول ‪":‬كارال ‪ .....‬ا‪..‬أن‪، "..‬حتى تردد صوت‬
‫ينادي باسمي فالقاعة ‪ ،‬حولت بصري إلى مصدر الصوت ‪ ،‬تبا‬
‫انه األستاذ ‪ ،‬ماذا يفعل هنا ‪,‬محاضرته تبدأ بعد ساعة ‪ ،‬تقدمت‬
‫نحوه و أنا العنه و العن حظي ألنه قاطع أهم لحظة في‬
‫حياتي ‪ ،‬لقد تطلبت مني تلك الخطوة ليلة كاملة الستجمع‬
‫شجاعتي و اعترف لها ‪.‬‬

‫قادني بعدها إلى الخارج و لم ينطق بكلمة ‪ ،‬و‬


‫بينما أنا أتخبط بين دهشتي و استغرابي من تصرفه ‪ ،‬أتساءل لما‬
‫قد يستدعيني إلى مكتبه في هذا الصباح الباكر ‪ ،‬و بينما أنا‬
‫أتساءل و أتوقع اإلجابات ‪،‬إذ به توقف عند احد القاعات ‪ ،‬لتلفت‬
‫نظري الفتة معلقة كتب عليها "مكتب " فتح الباب ثم دخلنا‬
‫ليغلق هو الباب ‪.‬‬

‫جلست ليجلس مقابال إياي على المكتب‪ ،‬صمت‬


‫قليال ثم قال‪ ":‬أنا آسف ألنني استعديتك فجأة‪ ...‬لكني حقا أريد‬
‫اإلجابة عن سؤال منعني من النوم ليلة البارحة «‪ ،‬هززت‬
‫حاجبي باستغراب ليكمل هو حديثه «هل تعاني من أي مرض‬
‫نفسي‪..‬؟أو أي مشاكل مع أصدقائك الجدد فالقسم‪..‬؟"‪.‬‬

‫سكت لهنيهة و أنا مندهش أقول في نفسي " بماذا‬


‫يقول بحق الجحيم ‪ ..‬مرض نفسي ‪...‬؟ أصدقاء جدد‪ ...‬؟ البد‬
‫انه مجنون "‪ ،‬ابتسمت باستهزاء ثم أجبته‪ ":‬أصدقاء‪...‬؟ لقد‬
‫استبقت األمور قليال ‪ ...‬فالحقيقة لم أكون أي صداقة جديدة بعد‬
‫لكنني سعيد بمرافقتي لكارال"‪.‬‬
‫تغيرت مالمح األستاذ لتفيض دهشة ‪ ،‬و الكونا‬
‫كثر دقة لقد أصبحت أكثر غرابة ‪ ،‬قرب رأسه إلي ‪ ،‬لمسافة‬
‫كافية ليستطيع أن يهمس في أذني ‪ ،‬حتى أنني استطعت أن أرى‬
‫تلك التجاعيد و الهاالت السوداء تحت عينيه ثم قال بصوت‬
‫خافت ‪ " :‬هممم هل تقصد بقولك كارال سميث ‪...‬؟؟ " هززت‬
‫راسي موافقا ‪،‬كانت نبرة صوته غريبة نوعا ما ‪ ،‬حينها‬
‫أكمل ‪ ":‬إنها طالبة جيدة ‪ ،‬مجتهدة و طموحة و بالنظر إلى ملفك‬
‫الدراسي تبدو مناسبة جدا لطالب متفوق مثلك "‪.‬‬

‫قرب وجهه مني أكثر ليهمس في أذني ‪":‬لكن يؤسفني أن أقول‬


‫لك أنها انتحرت هنا منذ ثالثة أشهر"‪.‬‬
‫**** النهاية ****‬

You might also like