Professional Documents
Culture Documents
com
لقد حاولت الفلسفة خالل تاريخها الطويل صياغة قضايا املعرفة بطريقة تسمح بفهم الشروط التي تقوم عليها ،متخذة من الحقيقة
غاية قصوى لكل عملية معرفية .وذلك بعد أن تقطع مع الرأي واملعرفة العامية للواقع ،والتي تتميز بالسطحية ،لكي تبني معرفة موضوعية
وجوهرية متمثلة في الحقيقة ،باعتبارها مطابقة الفكر لذاته على املستوى املنطقي ،ومطابقة الحكم ملوضوعه على املستوى املادي
والواقعي .لقد اتخذت الحقيقة في التاريخ الحديث شكال علميا ،حيث وضع املجتمع العلمي املعاصر قواعد للبحث املوضوعي ،وذلك
باللجوء للتجربة واملالحظة ،والقياس… التي تحول الفرضيات إلى قوانين علمية تعبر عن العالقات الثابتة واملنتظمة بين الظواهر .إال أن
انتقال املعرفة العلمية من دراسة املادة إلى دراسة اإلنسان ذاته ،بما يتميز به من إرادة وحرية في االختيار تجعله ينفلت من القوانين
الحتمية ،دفع العلوم اإلنسانية إلى مراجعة مناهجها ،وأدوات اشتغالها
وهذا ما يجعلنا نطرح قضية املعرفة كإشكال فلسفي متعدد األبعاد من خالل صياغة األسئلة التالية
ما هي الحقيقة؟
مفهوم الحقيقة
الطرح اإلشكالي
يعتبر مفهوم الحقيقة املفهوم املحوري في التفكير الفلسفي ،ما دامت الفلسفة قد ظهرت في أول أمرها كبحث عن الحقيقة ،ويمكن
مالحظة ذلك حتى على مستوى اسمها « :محبة الحكمة » ،فليس للحكمة معنى آخر سوى الحقيقة .وهو مفهوم يثير قضايا فلسفية تتمثل
في العالقة اإلشكالية التي تربط الرأي بالحقيقة ،إضافة إلى تعدد معايير الحقيقة وتنوعها .وأخيرا تناقض التصورات الفلسفية حول قيمة
الحقيقة ،وهذا ما يمكن التعبير عنه بهذه األسئلة
ما هي املعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز الحقيقة عن غيرها من األوهام واألفكار الظنية أو الخاطئة؟
هل الحقيقة غاية في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لتحقيق غايات أخرى؟
ال فرق في الطبيعة -في نظر ماكس بالنك -بين االستدالل العلمي واالستدالل العادي اليومي (الرأي) ،وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء
َ
والدقة .وهذا االختالف شبيه ،شيئا ما ،باالختالف بين املجهر والعين املجردة .إن التمثل الذي يقدمه العلم عن العالم ال يختلف في
َ
الطبيعة عن التمثل الذي تقدمه عنه الحياة اليومية ،وإنما يختلف عنه في رهافة بنيته ودقتها .إن نسبة ذلك التمثل بالنسبة للعالم إلى
َ
تمثله السائد في الحياة اليومية ،هو كنسبة تمثل الراشد للعالم إلى تمثل الطفل له
وما يوضح حقيقة هذا الحكم -حسب بالنك -هو أن األمر هنا يتعلق بصورة من صور املنطق .فاملنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط
من مقدمات معطاة ،شيئا مغايرا ملا يستطيع منطق الحس املشترك العادي أن يستنبطه
إن الرأي من الناحية النظرية ،دائما على خطأ -في نظر غاستون باشالر -ألنه ال يفكر ما دام يعمل فقط على ترجمة حاجات اإلنسان
ورغباته إلى معارف ،ويعين األشياء حسب فائدتها .وهكذا يمتنع عن معرفتها حقا .فال يمكن تأسيس أي معرفة على أساس الرأي ،بل ينبغي
هدمه ،ألنه أول عائق يلزمنا تخطيه لبناء الحقيقة العلمية التي تنبني على أساس البداهة العقلية .إن شرط الفكر العلمي األساس ي هو أن
نعرف كيف نطرح املشاكل ،ألن املعرفة بالنسبة للفكر العلمي هي جواب عن سؤال ،وإن لم يكن ثمة سؤال ،فمن غير املمكن قيام أية
معرفة علمية
ُ ُ
ال ش يء ُيعطى ،حسب باشالر ،بل الحقيقة العلمية تبنى وتشيد
إن املعايير التي نتمكن بواسطة من الوصول إلى حقيقة األشياء دون الخوف من الوقوع في الخطأ -في نظر رونيه ديكارت -هما اثنان فقط:
الحدس واالستنباط
الحدس :هو إدراك عقلي مباشر ملوضوع املعرفة ،حيث ينتج العقل الحقائق البديهية ،أي كل فكرة بسيطة واضحة بذاتها ،وال تحتاج
لبرهان ،تصدر عن نور العقل كذهن خالص ويقظ .وهكذا يمكن لكل واحد أن يدرك بالحدس أنه يفكر ،وأنه موجود
االستنباط :ونقصد به كل ما يتم استنتاجه بالضرورة من قضايا أخرى ،معلومة من قبل بنوع من اليقين .أي استخراج نتيجة ضرورية
كانت مجهولة ،من مقدمات يقينية معلومة .واالستنباط عملية متتالية ،تتسلسل فيها القضايا بشكل يقيني ،كل واحدة منها مرتبطة
بسابقاتها
من له فكرة صادقة -في نظر باروخ اسبينوزا -يعرف في الوقت نفسه أن له فكرة صادقة وال يمكن أن يشك في حقيقة معرفته .ذلك أن كل
من يملك فكرة صادقة ال يجهل أن الفكرة الصادقة تتضمن أعلى يقين .فأن تكون لدينا فكرة صادقة ،ال يعني سوى معرفة ش يء معرفة
كاملة أو على أحسن ما يمكن .فليس هناك معيارا للحقيقة أشد وضوحا وبداهة من الحقيقة ذاتها باعتبارها فكرة صادقة .فمثلما يعرف
النور بذاته ،ويعرف به الظالم ،كذلك الحقيقة ،حسب اسبينوزا ،هي معيار ذاتها ومعيار الكذب
إن امتالك الحقيقة -في نظر وليم جيمس -يعني امتالك أدوات ثمينة للعمل .إذ نعيش وسط وقائع تحتمل أن تكون مفيدة كما تحتمل أن
تكون مضرة لنا إلى أقص ى حد ،وبالتالي فالحقيقة هي األفكار التي تميز لنا الوقائع النافعة حتى نستفيد منها ،عن الوقائع الضارة حتى
نتجنب مساوئها .وهنا يظهر أن امتالك الحقيقة ليس غاية في ذاتها ،بل مجرد وسيلة إلشباع حاجات اإلنسان الحيوية
إن قيمة الحقيقة -بالنسبة للفلسفة البرغماتية -تتمثل بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا وسلوكنا معا
إن قول الحقيقة -بالنسبة للفلسفة األخالقية -هو غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة ،لدا ال يجب ربطه ال باملنفعة وال باملضرة
استنتاجات عامة
هناك تقابل بين التصور الفلسفي التقليدي ،والتصور الفلسفي املعاصر للحقيقة ،فإذا كانت الحقيقة :واحدة ،ثابتة ،مطلقة ،موضوعية،
نظرية… في التصور الفلسفي التقليدي ،فإنها :متعددة ،متغيرة ،نسبية ،ذاتية ،عملية… في التصور الفلسفي املعاصر
كون الحقيقة قيمة يعني أنها ما يرغب فيه اإلنسان ،ويفضله ،ويتخذه مثال أعلى يسعى نحوه ،سواء على مستوى الفكر النظري ،أو على
مستوى املمارسة العملية ،أو على املستوى األخالقي .فالحقيقة إذن قيمة فكرية ،وقيمة عملية ،وقيمة أخالقية
إن عملية البحث عن الحقيقة قد انطلقت منذ أن وعى اإلنسان ذاته في هذا الوجود ،لكننا لم نجدها لحد اآلن .فكلما وجدنا الحقيقة
واطمأنينا لها ،إال واكتشفنا بعد ذلك أنها خاطئة .أفال يعني هذا أننا نبحث عن وهم؟ أي عن حقيقة غير موجودة أصال؟
من املباحث األساسية في الفلسفة املعاصرة نجد مبحث اإلبستمولوجيا (الدراسة النقدية للمعرفة العلمية) ،لقد ارتكز هذا املبحث على
مجموعة من املفاهيم الفلسفية املرتبطة باملجال العلمي وعلى رأسها مفهومي :النظرية والتجربة اللذان يطرحان عدة قضايا فلسفية سواء
على مستوى النظرية أو على مستوى التجربة ،أو على مستوى العالقة بينهما .إضافة إلى تعدد املعايير لتمييز النظرية العلمية عن باقي أنواع
النظريات األخرى ،وهي قضايا يمكن أن تتخذ شكل أسئلة فلسفية منها
أن تكون لديه فكرة (فرضية) يخضعها للفحص في ضوء الوقائع -
أن يالحظ بساطة الظاهرة املاثلة أمامه ،مالحظة أكثر شمولية -
على املالحظ أن يكون بمثابة آلة تصوير ،أثناء معاينته للظاهرة ،تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة ،حيث يجب أن يالحظ بدون
فكرة مسبقة
العالم املتكامل هو الذي يجمع بين الفكري النظري واملمارسة التجريبية عبر الخطوات التالية يعاين واقعة ،أي املالحظة ميالد فكرة
إن ِ
(فرضية) في ذهنه تبعا للمعاينة االستدالل على الفكرة ،بعد معاينتها ذهنيا ،وذلك باللجوء إلى التجربة تنتج عن التجربة ظواهر جديدة
عليه أن يالحظها ،وهكذا دواليك
إن ذهن العالم – حسب بيرنار – يشتغل بين مالحظتين ،تمثل املالحظة األولى منطلق االستدالل العلمي ،وتمثل املالحظة الثانية خالصة
االستدالل ،أي التجربة
كثيرا ما تم الحديث عن التجربة التي شكلت إحدى السمات األكثر تمييزا للعلم الكالسيكي .غير أن في األمر غموضا ،بالنسبة أللكسندر
كويري .فالتجربة بمعناها الخام واملالحظة العامية ،لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكالسيكي ،اللهم إال دور العائق .أما التجريب ،وهو
العالم أسئلته ،حيث يسائل الطبيعة بلغة رياضية ،أو
املساءلة املنهجية للطبيعة ،فيفترض افتراضا مسبقا اللغة التي يطرح من خاللها ِ
بتعبير أدق بلغة هندسية ،حسب كويري
إن النظرية الفيزيائية يتم بناؤها – في تصور بيير دوهيم – من خالل أربع عمليات متتالية وهي:
اختيار الخصائص الفيزيائية البسيطة ،والتعبير عنها برموز رياضية ،وأعداد ،ومقادير الربط بين هذه املقادير بواسطة عدد من
القضايا التي تستخدم كمبادئ الستنتاجاتنا ،هذه املبادئ يطلق عليها اسم الفرضيات ,تركيب فرضيات النظرية حسب قواعد
التحليل الرياض ي ،وأن نستنبط منها نتائج ضرورية
إن النتائج التي استخرجناها من الفرضيات ،هي التي تشكل النظرية الفيزيائية الجديدة
وهكذا فالنظرية الصحيحة – حسب دوهيم – هي التي تعبر بشكل ُمرض ي عن مجموعة من القوانين التجريبية ،أما النظرية الخاطئة فهي
التي ال تتوافق مع القوانين التجريبية
إن نسقا كامال للفيزياء النظرية يتكون من مبادئ وقوانين تربط بين تلك املبادئ ،وقضايا مستنبطة منها بشكل ضروري بواسطة االستنباط
املنطقي .هذه النتائج هي التي يجب أن ترتبط بالتجربة .وهكذا حدد ألبير آينشتاين لكل من العقل والتجربة مكانتهما في نسق الفيزياء
النظرية .فالعقل يمنح النسق بنيته .أما املعطيات التجريبية وعالقاتها املتبادلة فيجب أن تطابق القضايا الناتجة عن النظرية .إن البناء
الرياض ي الخالص ،وليس التجربة ،هو الذي يمكننا من اكتشاف املبادئ والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة
إذا كانت الوقائع التجريبية ال تتطابق مع النظرية ،فينبغي تغيير الوقائع وليس النظرية حسب آينشتاين
إن الواقعة التجريبية ال يمكن أن تكون علمية – في نظر رونيه طوم – إال إذا استوفت شرطين هما
أن تكون قابلة إلعادة الصنع ،وهذا يتطلب أن تكون محاضر إعداد التجربة وإجرائها دقيقة بما يكفي للتمكن من إعادتها في أزمنة وأمكنة
أخرى
أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا ،يتمثل االهتمام التطبيقي في االستجابة لحاجيات بشرية .أما االهتمام النظري فيعني أن البحث
يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة
في هذه الحالة ،يكون الهدف من التجريب – حسب طوم – هو التحقق من صدق فرضية ما (نظرية) تتضمن قضايا عقلية يتم التسليم
بوجودها ،كالعالقات السببية ،أي الربط بين السبب والنتيجة
أن القابلية للتكذيب (أو التفنيد) – في نظر كارل بوبر – هو معيار التمييز بين النظريات التجريبية والنظريات الالتـجريبية ،لذلك يطلق عليه
كذلك معيار القابلية لالختبار .إن اختبار نظرية ما ،يعني محاولة تبين العيب فيها ،وبالتالي فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه ال يمكن تبيان
العيب فيها أو تفنيدها ،لهي نظرية غير علمية ألنها نظرية غير قابلة لالختبار .إن نظرية نيوتن في الجاذبية ،قابلة االختبار ،ألنها تتنبأ
بانحرافات معينة عن املدارات الكوكبية عند كبلر ،وهذا التنبؤ يمكن تفنيده .ونظرية آينشتاين في الجاذبية قابلة لالختبار كذلك ،ألنها تتنبأ
بانحرافات معينة عن املدارات الكوكبية عند نيوتن ،وهذا التنبؤ يمكن تفنيده مجددا
استنتاجات عامة
إن العالقة التي تربط النظرية بالتجربة ،عالقة جدلية ( أي عالقة تأثير وتأثر ) .فالنظرية تؤثر في التجربة من خالل تأطيرها وتوجيهها عندما
تـحدد عناصر وتفاعالت التجربة .والتجربة تؤثر في النظرية من خالل تصحيحها ،عندما تكتشف األخطاء التي تتضمنها .وبذلك تتقدم
النظرية .وهذا ما يجعل املعرفة العلمية ،معرفة متطورة ،تتطور بفعل هذا الجدل بين النظرية والتجربة
إن كان العلم يستنبط قوانين ضرورية وحتمية في العلوم الدقيقة ،فإن هذا األمر يصبح متعذرا على مستوى العلوم اإلنسانية .ألن املوضوع
هذه املرة ،هو كائن يتميز بالوعي واإلرادة والقدرة على االختيار ،مما يجعل العلمية تتميز في هذا املجال باالحتمال والترجيح ،نتيجة عدة
قضايا تتمثل في العالقة غير الواضحة بين الذات العارفة وموضوع املعرفة .إضافة إلى صعوبة التفسير والتنبؤ في العلوم اإلنسانية .وأخيرا
عالقة العلوم أإلنسانية بالعلوم الحقة على مستوى املنهج .وهذا ما يمكن طرحه من خالل اإلشكاالت التالية
إن املالحظ يكون أكثر ميال لالعتقاد في معرفته الحدسية بالوقائع النـخراطه في هذه األخيرة
فالعالم – في نظر بياجي – ال يكون أبدا معزوال ،بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي وإيديولوجي
ِ هكذا
إن كل باحث هو عضو ينتمي لجماعة كبيرة أو صغيرة (سواء كانت طبقة اجتماعية ،أو مهنة ،أو أمة…) ،في نظر فرانسوا بستيان ،وبالتالي
يكون منخرطا بالضرورة في صراعات صريحة أو ضمنية من أجل االعتراف ،والحظوة ،والسلطة ،وهي صراعات تحرك املعتقدات
واملثل…الخ .وتتمثل الصعوبة لدى الباحث االجتماعي في كونه ال يستطيع االنفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته ،في حين
يعتبر هذا االنفصال مبدأ كل جهد علمي (املوضوعية) .لذلك نجد كل مجهودات مؤسس ي العلوم االجتماعية قامت على مبدأ تباعد الباحث
عن جماعته ،حيث دعا « دوركايم » إلى اعتبار الوقائع االجتماعية أشياء ،وكذلك توصية « ماكس فيبر » باحترام مبدأ الحياد القيمي
إن العلوم الدقيقة -حسب كلود -ليفي ستروس -تقدمت بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ ،حيث يمكن لهذه العلوم أن تفسر ظواهر لم تتنبأ
بها ،كما فعلت الداروينية ،كما يمكنها أن تتنبأ بظواهر ال تكون قادرة على تفسيرها ،كما يحدث في علم األرصاد الجوية .أما العلوم
اإلنسانية ،فتجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ ،فهي ال تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ،وال تتنبأ بيقين تام ،لقد أكتفت العلوم
اإلنسانية ،حتى حدود اليوم ،بتفسيرات فضفاضة وتقريبية تنقصها الدقة ،ورغم أنها مهيأة ،ألن تمارس التنبؤ وتطوره ،فإن الخطأ كان
دائما حليف تنبؤاتها
ومع ذلك فإن العلوم اإلنسانية -حسب ستروس -يمكن أن تقدم للذين يمارسونها انطالقا من نتائجها ،شيئا وسيطا بين املعرفة الخالصة
واملعرفة النافعة ،لكن من غير الفصل بين التفسير والفهم
إذا كنا نفسر الطبيعة ،باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية في العلوم الفيزيائية والطبيعية -في نظر دلتاي -فإننا نفهم اإلنسان في علم
النفس ،من خالل فهم حياته النفسية ،فعمليات االكتساب ،ومختلف الوظائف العقلية والنفسية وعناصرها تجتمع وتكون كال يعطى لنا
عن طريق التجربة الداخلية .فالكل املعيش هو األساس ي ،وال يتجزأ إلى أجزاء إال بعد ذلك .وينتج عن هذا أن املناهج التي ندرس بها الحياة
النفسية والتاريخ واملجتمع تختلف عن املناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة
إن العلوم اإلنسانية الحقيقية -حسب دلتاي -هي التي تبني منهجها بنفسها ،انطالقا من موضوعها
تعتبر العلوم اإلنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية -في نظر كل من طولرا /وارنيي -حديثة النشأة ،أما نتائجها فهي قليلة وغير أكيدة ألن الواقع
الحي الذي تحاول اإلحاطة به (املجتمعات ،العقليات ،السلوكيات…) ،هو أكثر غنى وأقل انتظاما من الظواهر الطبيعية ،وبالتالي فإن
استخدام العقل في هذه العلوم مطالب بأن يكون حذرا ،كما أن الروح العلمية مطالبة بأن تكون أكثر تطورا من مثيلتها في العلوم
الطبيعية ،حيث تكون التجربة محكا مباشرا وحاسما
ويفترض إدراك املوضوع -حسب طولرا /وارنيي -أن تكون الذات مستعدة لفهم ما يخالفها ويعتبر آخرها .وفي هذه الحالة ،تتمثل الروح
العلمية في القدرة على استيعاب التناقض والقدرة على مواجهة ما هو غريب ومزعج لكل تلقائية ،أي اللقاء الدائم مع الواقع
وهكذا فإن وجهة النظر العلمية التي أكون بمقتضاها مجرد لحظة من لحظات العالم هي دائما وجهة نظر خادعة ،ألنها وجهة نظر يكون
العالم حولي حسبها موضوعا ،وال يوجد ألجلي .إن الرجوع إلى األشياء ذاتها هو الرجوع إلى العالم املعيش قبل أن يكون موضوع معرفة،
وهكذا فكل معرفة لإلنسان -حسب ميرلوبونتي -هي معرفة ذاتية ،ألن العلم يفترض وجود نظرة موضوعية لذات تتعالى عن كل الذوات ،هي
في الواقع غير موجودة
استنتاجات عامة
إن أكثر املعارف فائدة وأقلها تقدما ،من كل املعارف اإلنسانية ،في اآلن نفسه ،هي تلك املتعلقة باإلنسان -حسب ج .ج .روسو -إنها أكثر
فائدة ألنها تدرس الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يملك عقال ووعيا .وأقلها تقدما ألن زمن نشأتها جاء متأخرا جدا .وهي التي تشكل
العلوم اإلنسانية
إن العلوم اإلنسانية هي علوم مأزومة ،ألنها ولدت بأزمتها التي تتمثل ،من جهة ،في تداخل الذات واملوضوع ،واضطراب العالقة بينهما .كما
تتمثل ،من جهة أخرى ،في استعارة مناهج العلوم التجريبية ،بدل إبداع مناهج تتواءم وطبيعة موضوعها الذي يتميز بالتعقيد
يمثل علم االجتماع نموذجا للعلوم اإلنسانية بما يطرحه من قضايا نظرية ومنهجية تخص شروط إمكانية علمية العلوم اإلنسانية أو
استحالتها ،إذ يواجه عالم االجتماع ،عندما يريد دراسة املجتمع ،عدة مشاكل نظرية ومنهجية ترجع كلها إلى طبيعة عالقة الذات العارفة
بموضوع املعرفة ،املتميزة بالتعقيد ،وبكونها عالقة واعية تتداخل فيها اإلرادة والقصد .إليكم األسئلة
توجد في كل مجتمع -حسب إيميل دوركايم -مجموعة من الظواهر ،بخصائص واضحة تختلف عن تلك التي تدرسها علوم الطبيعة ،فحين
ّ
أقوم بممارسات دينية ،أو عندما أنفذ التزامات التزمت بها ،أو أقوم بدوري كزوج أو كمواطن .فإنني أقوم بواجبات تحدد في استقالل عني،
ألنني لست صانعها ،بل سبق لي أن تلقيتها بواسطة التربية ،أي تحدث داخل القانون والعادات االجتماعية .هذه األنماط من السلوك
والتفكير واإلحساس ،تتمتع بقوة إلزامية وإكراهية تجعلها تفرض نفسها على الفرد ،حيث توجد عقوبات تواجه كل من حاول خرقها ،أو
تجاوزها ،أو مقاومتها
إذن فالواقعة االجتماعية -في نظر دوركايم -هي كل طريقة في الفعل ،ثابتة ،وقادرة على ممارسة إكراه خارجي على الفرد ،وتكون عامة في
املجتمع ،ومستقلة عن إرادة األفراد
لقد عارض لوسيان غولدمان تعريف الجريمة -باعتبارها نموذجا للواقعة االجتماعية -الذي وضعه دوركايم حين كتب « :نالحظ جميعا
وجود أفعال معينة تتميز بخاصية خارجية « موضوعية » ،وهي أنه بمجرد ما يتم القيام بها يقوم املجتمع برد فعل خاص بها نسميه
َ
العقاب ،فنجعل من هذه األفعال مجموعة قائمة الذات ندخلها تحت لفظ مشترك ،فنسمي جريمة كل فعل ُيعاقب على فعله ،وهكذا
تصبح الجريمة َّ
املعرفة بهذا الشكل ،موضوع علم خاص ،هو علم الجريمة » .ألن هذا التعريف في نظر غولدمان يشبه الثوري باملجرم،
ُ
وبالتالي تنس ي القارئ حقيقة الثوري ،وهنا تكمن صعوبة تحديد الواقعة االجتماعية
ُيظهر السلوك اإلنساني ،سواء في مظاهره الخارجية أو في عامله الداخلي ،ترابطات وانتظامات أثناء تطوره ،هي التي تكون موضوع تأويل
تفهمي .وهو سلوك يتميز بما يلي
أوال :إنه سلوك يرتبط بسلوك الغير تبعا للقصد الذاتي للفاعل املعني
ثانيا :يكون هذا السلوك ،أثناء تطوره ،مشروطا بهذه العالقة الدالة والبينذاتية ،أي بين الذوات
ثالثا :يكون هذا السلوك قابال للتفسير بطريقة تفهمية انطالقا من املعنى املقصود ذاتيا من طرف الفاعل
تتأسس املقاربة السوسيولوجية التفهمية -حسب فيبر -على دراسة العالقات الداللية النموذجية التي تسم السلوك املعبر عن هذه
الظواهر في مظاهرها الخارجية
إن السببية ،أي أن شيئا ما يسبب شيئا آخر ،أمر ضروري في تفسير الظاهرة االجتماعية .لكنها في علم االجتماع مطالبة بتفسير أفعال
الفاعلين ،في نظر إيان كريب .ألنهم يتأملون أفعالهم ،ويتخذون القرارات وفق حسابات معينة ،ولهم مقاصد ونوايا.وهو ما يمكن أن نطلق
عليه التفسير الغائي :إن النقطة النهائية ،أي النتيجة ،موجودة هنا سلفا على شكل الرغبة التي ال بد أن توضع موضع التنفيذ باملمارسة.
والفعل هنا يفسر بنتيجته النهائية ،بمعنى أن النتيجة هي السبب
إن نظريات الفعل االجتماعي تولي قدرا أكبر من األهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء املجتمع .ويبرز دور علم االجتماع هنا في استيعاب
املعاني التي ينطوي عليها الفعل االجتماعي والتفاعل ،وامللتزمون بنظرية الفعل االجتماعي ُيركزون على تحليل األسلوب الذي يتصرف به
الفاعلون األفراد أو يتفاعلون به فيما بينهم وبين املجتمع من جهة أخرى
تعنى هذه املدرسة بالقضايا املتصلة باللغة واملعنى .فالكلمات التي نستعملها لإلشارة إلى أمور محددة هي رموز تمثل املعاني التي نقصدها،
وجه انتباهنا إلى تفصيالت التفاعالت الشخصية ،وينوه منظرو التفاع ّلية الرمزية ُت ّ
ُ كما تشمل اإليماءات ،وأشكال التواصل األخرى .إن
هذه املدرسة بالدور الذي تؤديه هذه التفاعالت في خلق املجتمع ومؤسساته
إن املعرفة ليست ُمعطى جاهزا ،بل هي عملية بناء مستمرة تتم بطريقة تفاعلية بين الذات واملوضوع ،تقوم بها الذات العارفة ،بشكل
منهجي ،اتجاه موضوع املعرفة باالعتماد على قدرات عقلية ومهارات ذهنية
تتمثل املوضوعية في املعرفة اإلنسانية على مستوى الحقيقة العلمية ،سواء الرياضية أو التجريبية ،أو اإلنسانية ،التي تعبر عن الواقع في
استقالل عن تدخل الذات مستعينة بمناهج اختبارية تتأسس على التجريب ،والصياغة الرياضية ،كما تدرس اإلنسان بعيدا عن اآلراء
الشخصية واألذواق وتأمالت الذات
تتمثل الذاتية في املعرفة اإلنسانية في الحقيقة الوجدانية والرأي ،إضافة إلى حضور الذات في بناء املعرفة العلمية من خالل وضع
الفرضيات والبناءات العقلية ،وتظهر بشكل واضح في العلوم اإلنسانية ،حيث يصعب التخلص من الذاتية ما دام أن الذات العارفة
تتدخل في تشكل موضوع املعرفة