You are on page 1of 166

‫متعة التائهني‬

‫الطبعة األوىل‬
‫الكتاب‪ :‬متعة التائهني‬ ‫‪٢٠٢٠‬م‬
‫املوضوع ‪ :‬تنمية وتطوير الذات‬
‫تأليف ‪ :‬قاسم أحمد حسن‬
‫اإلخراج الفني‪ :‬دار ظأم‬
‫تصميم الغالف‪ :‬دار ظأم‬
‫عدد الصفحات ‪١٧٢ :‬صفحة‬
‫عدد النسخ ‪1000 :‬نسخة‬
‫‪978-9933-9256-9-7 : ISBN‬‬
‫ملتابعة املؤلف‪:‬‬
‫‪Email : Kassem68-2007@yahoo.com‬‬
‫‪Email : Kassem68ahmad@gmail.com‬‬
‫متعة التائهين ‪facebook :‬‬

‫سوريا ـ السويداء ـ الشارع املحوري‬


‫هاتف‪ 252302 :‬ـ ‪ 16‬ـ ‪00963‬‬
‫تلفاكس‪ 222098 :‬ـ ‪ 16‬ـ‪00963‬‬
‫‪fatenbookshop@yahoo.com‬‬
‫متعة التائهني‬
‫قاسم أحمد حسن‬

‫تنمية وتطوير الذات‬


‫اإلهداء‪..........‬‬
‫إلى العائلة التي علمتني كيف أكون أباً للجميع‬
‫زوجتي‬
‫وأوالدي‬
‫محمد قاسم أحمد‬
‫عز الدين قاسم أحمد‬
‫عبد الكرمي قاسم أحمد‬
‫لتكن القراءة عادة‬

‫مــن خــال جتربتنــا مــع القـ ّـراء‪ ,‬والتــي جــاءت نتيجة عملنــا يف متجـ ٍ‬
‫ـر لبيــع الكتب‪,‬‬
‫كان ومــا يــزال شــعارنا (لتكــن القــراءة عــادة)‪ ,‬ومــن خــال دار النــر «ظمــأ»‪.‬‬
‫ـوع والثقافــات الكثــرة يف جمتمعاتنــا العربيــة ــــ‬
‫فقــد ملســنا ــــ عــى الرغــم مــن التنـ ّ‬
‫ـوف مــن الكتــاب إمجــاالً‪ ،‬وعــى األخــص ممّــا يصادفــه مــن‬
‫أن القــارئ العــريب يتخـ ّ‬
‫كتــب قــد توحــي بأهنــا خمتلفــة عـ ّـا تبنّــاه مــن أفــكار ومعتقــدات وأيديولوجيــات‪،‬‬
‫نمــي ذلــك االنتــاء دون ســواه‪ ،‬وكأ ّنــه يف ا ّطالعــه عــى ثقافــات‬
‫فــراه غارق ـ ًا فيــا ُي ّ‬
‫ـر ًا عــى جماراهتــم‪ ،‬وهــذا ال يطابــق الواقــع أبــد ًا‪.‬‬
‫اآلخريــن ومعتقداهتــم ســيكون ُمـ َ‬
‫لذلك نقول‪:‬‬
‫عزيزي القارئ‪ ،‬عزيزيت القارئة‪:‬‬
‫االختــاف ليــس بالــرورة خالفــ ًا‪ ،‬وانطالقــ ًا مــن هــذا املبــدأ‪ ،‬يســعدنا يف‬
‫«ظمــأ» أن ندعوكــم إىل القــراءة بشــكل عــا ّ ‪,‬م ألننــا نــدرك كــا يــدرك غالبيتكــم أن‬
‫ـح عليكــم مجيع ـ ًا‬
‫املعرفــة والوعــي مهــا اللــذان ســينهضان بمجتمعاتنــا‪ ،‬كــا أننــا نُلـ ّ‬
‫أي كتــاب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بالدعــوة إىل القــراءة‪ ،‬مــع احلــرص عــى أخــذ مســافة أمــان كافيــة مــن ّ‬
‫بحيــث تكــون واعيـ ًا متامـ ًا أن الكتــاب صديــق جيــد إن أحســنت حماورتــه‪ ،‬فقــد جتــد‬
‫فيــه مــا يزيــل الغبــش عــن عينيــك‪ ،‬وقــد يصــادف أن جتــد فيــه مــا يؤ ّكــد قناعاتـ َ‬
‫ـك‪.‬‬

‫وأخــر ًا‪ ..‬نتمنّاهــا قــراءة ممتعــة‪ ،‬مفيــدة‪ ،‬تغنيكــم عــن الســفر‪ّ ،‬‬
‫تقربكــم مــن‬
‫وتقــرب اآلخريــن منكــم‪ ...‬ع ّلهــا بذلــك تزهــر حمبــ ًة وألفــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اآلخريــن‪،‬‬
‫املقدمة‬

‫احلر ّية ‪.‬‬


‫أنت روح‪ ،‬والروح هي اهلل‪ ،‬واهلل هو املح ّبة‪ ،‬واملحبة هي ّ‬
‫غريك؟‪..‬‬ ‫َ‬ ‫كل ٍ‬‫َف ِل َم تتأ ّبط ّ‬
‫لتكون َ‬ ‫قيد وعقيدة وفكرة‪ ،‬وجتتهد‬
‫يف هــذا الكتــاب ســتقرأ أســئلتك الوجود ّيــة‪ ،‬تلــك التــي مل جتــد هلــا‬
‫َ‬
‫لتكون‬ ‫ســابق ًا ســوى أجوبــة جاهــزة‪ ،‬أجوبــة كانــت الغاية منهــا برجم َتــك‪،‬‬
‫شــخص ًا أليفـ ًا ُمطيعـ ًا للمجتمــع‪ ،‬وراضخـ ًا ُمستســل ًام لســلطاته احلاكمــة‪،‬‬
‫قصــد هبــا ختديــرك وتنويمــك واســتغاللك‪.‬‬ ‫تلــك الربجمــة التــي ُي َ‬
‫فلســفي‪ ،‬لكنّــه حيتــوي عــى روح‬
‫ّ‬ ‫منحــى‬
‫الكتــاب ليــس بــذات ً‬
‫الفلســفة واشــتغاالهتا الوجوديــة‪ ،‬وحيتــوي عــى روح املفاهيــم الفلســفية‪،‬‬
‫بعيــد ًا عــن عقلهــا وإســهاهبا ومصطلحاهتــا التــي تُربــك أغلــب القــراء‪.‬‬
‫أبعــاد صوفيــة‪ ،‬لكنــه حيتــوي عــى روح‬‫ٍ‬ ‫والكتــاب ليــس بــذي‬
‫ـوف‪ ،‬فهــو‬‫ـوف‪ ،‬بعيــد ًا عــن وشــاح الرمز ّيــة الــذي يتّشــح بــه التصـ ّ‬ ‫التصـ ّ‬
‫عــر عــن رؤيــا ذاتيــة لتجــارب شــخصية ومســتوى و ْعــي‬ ‫يف النهايــة ُي ّ‬
‫عــن‪ ،‬قــد يتالقــى مــع مســتوى وعــي القــارئ‪ ،‬أو ال‪ ،‬لكنــه‪ ،‬وكــا‬ ‫ُم ّ‬
‫أســلفنا‪ ،‬عبــارة عــن جتــارب شــخصية رأينــا مــن خالهلــا نظــرة جديــدة‬
‫ومديــة عــى املســتوى الوجــودي‪ .‬خالصــة تلــك‬ ‫للحيــاة‪ ،‬نظــرة ُمثمــرة ُ‬
‫النظــرة وبإجيــاز أن قيمــة احليــاة ليســت يف املــال وال يف الســلطة وال يف‬
‫اجلــاه‪ ،‬وال فيــا تعتنقــه مــن عقائــد وأفــكار جامــدة وهامــدة‪ ،‬وال يمكــن‬

‫‪7‬‬
‫أي يشء مــادي‪ ..‬قيمــة احليــاة هــي فيــا نملكــه مــن وعــي‪،‬‬ ‫أن حيدّ دهــا ّ‬
‫وهــو مــا حيــدّ د مصرينــا بعــد انتهــاء مهلــة التجربــة واالختبــار‪..‬‬
‫كل منّــا يف وقــت مــا‪ ،‬ك ّلــا كان‬
‫هــذه احلقيقــة ال بــدّ وأن يدركهــا ّ‬
‫الوقــت أبكــر ك ّلــا ازدهــرت قيمــة احليــاة‪ ,‬وطــاب املصــر‪..‬‬
‫عندمــا يقولــون إن املعرفــة الزائفــة أخطــر مــن اجلهــل‪ ،‬فإهنــم‬
‫يقصــدون العقــل ومــا تربمــج عليــه مــن برجمــة هدَّ امــة‪ ،‬برجمــة قــادرة‬
‫عــى اســتالب اإلمكانيــات والقــوى الداخليــة‪ ،‬واســتالب اهلويــة‬
‫اإلنســانية األصيلــة‪ ،‬بإمكاننــا هنــا أن نقســم تلــك الربجمــة املوروثــة إىل‬
‫حموريــن‪:‬‬
‫داخــي ذايت‪ ،‬يتع ّلــق بآل ّيــة تكويــن العقــل‪ ،‬فك ّلنــا نعلــم أن‬
‫ّ‬ ‫األول‪:‬‬
‫ٍ‬
‫للعقــل واجبــات متعــدّ دة وأكثرهــا تطــور ًا وأكثرهــا أمهيــة هــي عمليــة‬
‫يت عــن اجلســد وعــن احليــاة‪ ،‬لذلــك غالبـ ًا مــا يســود اخلوف‬ ‫الدفــاع الــذا ّ‬
‫تلــك الربجمــة العصب ّيــة املوروثــة‪ ،‬وخصوصــ ًا اخلــوف مــن خــوض‬
‫ـرات جديــدة‪ ،‬واخلــوف مــن‬ ‫جتــارب وخــرات جديــدة‪ ،‬والقيــام بمغامـ ٍ‬
‫كــر العــادات القديمــة‪.‬‬
‫خارجــي‪ ،‬يتع ّلــق بربجمــة املجتمــع مــن عــادات‬‫ّ‬ ‫املحــور الثــاين‪:‬‬
‫تأســس‬‫وتقاليــد وأعــراف ومفاهيــم وخطــوط محــراء فكريــة؛ فاملجتمــع ّ‬
‫يف األصــل ألجــل محايــة اإلنســان مــن األخطــار اخلارجيــة‪ ،‬لكــن تلــك‬
‫ـورت ّ‬
‫واتــذت مســار ًا جديــد ًا مســار ًا يتناســب مــع ســيادة‬ ‫الربجمــة تطـ ّ‬
‫ـرت عنهــا برجميات‬ ‫التسـ ّلط واجلشــع واألهــواء الشــخصية‪ ،‬وهــي مــا عـ ّ‬
‫التس ـ ّلط الســيايس والدينــي‪ ،‬وهــي برجمــة ُمتمكّنــة مــن اســتالب ّ‬
‫حريــة‬
‫اإلنســان وإمكان ّياتــه الفكريــة وقدرتــه عــى املنــاورة الفكريــة‪ ،‬وعــى‬
‫ـو واإلبــداع‪.‬‬
‫البنــاء والنمـ ّ‬

‫‪8‬‬
‫مــن هنــا يمكننــا أن نقــول‪ :‬إن ّ‬
‫كل جتربة جديــدة‪ ،‬وكل مغامــرة جديدة‬
‫ومنــاورة فكريــة جديــدة‪ ،‬وإن كل معرفــة جديــدة‪ ،‬هــي يف حقيقتهــا ثــورة‬
‫لتفردنــا واختالفنــا‪،‬‬
‫ـي ّ‬ ‫لكــر الربجم ّيــات املوروثــة‪ ،‬وهــي املعنــى احلقيقـ ّ‬
‫وملعنــى وجودنا‪.‬‬
‫فــك التع ّلــق‬
‫األهــم يف هــذه التجربــة األرض ّيــة هــو يف ّ‬
‫ّ‬ ‫النجــاح‬
‫بــكل يشء مــا ّدي (أشــخاص‪ ،‬مــال‪ ،‬جــاه‪ ،‬ســلطة‪ ،‬رغبــات) وتأصيــل‬
‫الســاوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االرتبــاط بأصلنــا‬
‫َقدْ َأ ْف َل َح َمن َزك َ‬
‫َّاها‬
‫‪----‬‬
‫كلما اضطربت بوصلتي‪ ...‬اجتهت شوقاً‪.‬‬

‫‪9‬‬
10
‫توطئة‬

‫تذكّــر أن هنــاك بوابــ ًة وحيــدة تقــودك إىل اجلنّــة الداخليــة‪ ،‬إهنــا‬


‫احلريــة‪ ،‬وال يمكــن لــك أن تدخــل هــذه البوابــة دون أن ختلــع‬ ‫ّبوابــة ّ‬
‫عــى أعتاهبــا قيــو َد التع ّلــق (أفــكار‪ ،‬عقائــد‪ ،‬أشــخاص‪ ،‬رغبــات‪ ،‬مــال‪،‬‬
‫ســلطة‪.)...‬‬
‫روحــي ولــذة ُأخــرى‬
‫ٌّ‬ ‫يف اجلنــة ســيكون لألشــياء ُبعــدٌ آخــر‪ُ ،‬بعــد‬
‫دون أملٍ أو زوال‪.‬‬
‫ـتمرين يف احليــاة‪ ،‬أكثــر‬
‫ُيديــن أغلــب النــاس الطبيعــة يف بقائهــم مسـ ّ‬
‫ألي يشء أخــر‪.‬‬
‫ممّــا ُيدينــون ّ‬
‫بمعنــى أنــه لــو كانــت طبيعــة حياتنــا متأ ّثــرة بصــورة مبــارشة بوعينــا‬
‫وفكرنــا ملــا اســتطعنا احليــاة إال لفــرة وجيــزة‪ ،‬بالطبــع نحــن نتكلــم‬
‫هنــا عــن حياتنــا اجلســدية ال عــن حياتنــا الروحيــة‪ ،‬فبمقاييــس العيــش‬
‫روحيــ ًا‪ ،‬وهــو الســبب الــذي ُو ِجدنــا ألجلــه وتر ّقينــا ألجلــه‪ ،‬أغلبنــا‬
‫مكــررة بأحداثهــا وظروفهــا‬ ‫ّ‬ ‫ميتــون‪ ،‬فنحــن نولــد وتولــد معنــا قصــة‬
‫أي ســيناريوهات أخــرى‪ّ ،‬إل مــا نــدر‪.‬‬ ‫وســرورهتا الرتيبــة‪ ،‬بــا ّ‬
‫وكــا يقولــون‪ :‬كل الشــعوب تلــد أجيــاالً جديــدة‪ ،‬إال نحــن نلــد‬
‫آبا َءنــا وأجدادنــا‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫فــرص‬
‫ٌ‬ ‫مشــكلتنا أننــا كُلنــا ُمصــادرون وجود ّيــ ًا‪ ،‬ولدينــا مجيعــ ًا‬
‫للحريــة‪ ،‬إذا مــا آمنّــا بأنفســنا وبقدرتنــا عــى الفهــم والتغيــر‪،‬‬‫ـتمرة ّ‬ ‫ُمسـ ّ‬
‫لذلــك علينــا أن ندافــع عــن وجودنــا مــن خــال قــوة وعينــا‪ ،‬ومــن‬
‫ـكل منــا يملــك القــدرة عــى‬ ‫خــال قــوة إيامننــا بأنفســنا وبقدراتنــا‪ ،‬فـ ٌّ‬
‫الثــورة والتغيــر‪.‬‬
‫نتحمــل مســؤولية التغيــر‪ ،‬ونؤمــن أنــه مــا مــن يشء يف‬ ‫ّ‬ ‫علينــا أن‬
‫اخلــارج قــادر عــى مســاعدتنا إن مل نمتلــك روح املبــادرة واإلرادة والقــوة‬
‫الالزمــة للتغيــر‪ ،‬وإن مل نتخـ َّـل عــن خماوفنــا الومهيــة التــي غرســتها فينــا‬
‫الربجميــات واألفــكار املوروثــة‪.‬‬
‫فخــال رحلــة وعينــا ســنبدأ بانتــزاع أجســادنا وعقولنــا وأرواحنــا‬
‫مــن خمالــب الربجمــة املجتمعيــة املتسـ ّلطة‪ ،‬تلــك الربجمــة املوروثــة‪ ،‬القاتلــة‬
‫للتطــور واإلبــداع‪ ،‬لن َُســ ّلم بمحبــة وامتنــان وإيــان لــإرادة اإلهليــة‬‫ّ‬
‫الكونيــة‪ ،‬لنكــون أكثــر إرشاقـ ًا‪ ،‬وأكثــر شــفافية وأغــزر حكمــة‪ ،‬وأطهــر‬
‫قلب ـ ًا‪ ،‬وأصلــب قــوة‪.‬‬
‫التســليم لــإرادة اإلهليــة يعنــي أننــا اخرتنــا التع ّلــم والتل ّقــي‬
‫واإلرشــاد مــن األســمى واألمجــل واألذكــى واألرحــم واألكــرم‪.‬‬
‫كيف نُصبح أقوياء؟ وما هو معنى القوة احلقيقية؟‬
‫ـوة احلقيقيــة هــي قــوة إيامننــا ووعينــا‪ ،‬إهنــا قدرتنــا عــى التواصــل‬
‫القـ ّ‬
‫مــع القــوة احلقيقيــة لألشــياء مــن حولنــا‪ ،‬أي مــع جوهــر األشــياء ومــع‬
‫حقيقتهــا وأصلهــا‪ ،‬وليــس التواصــل والتفاعــل مــع ظاهــر األشــياء‬
‫وحقيقتهــا ا ُملز ّيفــة‪ ،‬فنحــن حــن نُتقــن التعامــل مــع جوهــر األشــياء‬
‫ســنتفرغ ملعاركنــا احلقيقيــة مــع الزيــف واجلهــل والوهــم واألنانيــة‪،‬‬
‫ّ‬

‫‪12‬‬
‫يــرع أغلبنــا يف‬
‫ُ‬ ‫وســنتخىل عــن حروبنــا اخلارجيــة الومهيــة‪ ،‬والتــي‬
‫حتديثهــا طــوال رحلتــه الدنيويــة‪ ،‬لكــن بأفــكار ُمتغـ ّـرة وأعــذار جاهــزة‪،‬‬
‫وك ّلهــا يف حقيقتهــا ُمز ّيفــة وومه ّيــة‪ .‬فنحــن يف احلقيقــة مــن نفتعــل‬
‫حروبنــا وهنــدر أوقاتنــا بالتــايل يف إمخادهــا وإزالتهــا لنصنــع بعــد ذلــك‬
‫حروبــ ًا جديــدة‪.‬‬
‫فالشــعوب التــي ال ختــرج مــن قوقعــة اجلهــل والتبعيــة والتقليــد‪،‬‬
‫ســتبقى تنــزف دمــاء‪ ،‬وســتبقى تنــزف كرامــة‪.‬‬
‫ـوة احلقيقيــة هــي أن تتقــن التعامــل مــع تفاصيــل احليــاة بأدنــى‬ ‫القـ ّ‬
‫مســتوى مــن البســاطة‪ ،‬أي بأدنــى مســتوى مــن الطاقــة‪ ،‬أصــل هــذه‬
‫القــوة األول هــو الثقــة يف الوجــود‪ ،‬وأصلهــا اآلخــر هــو مــا يتو ّفــر لنــا‬
‫مــن طاقــة كامنــة وكافيــة للتعامــل بمرونــة مــع األحــداث وإمكان ّيــة عــى‬
‫املنــاورة بــن احللــول‪.‬‬
‫إحــدى الســيدات تســاءلت لتبحــث عــن طريقــة إلصــاح عالقتهــا‬
‫ـت‬‫مــع ابنهــا بعــد فــرة طويلــة مــن اخلصــام والتباعــد واالختــاف‪ ،‬طلبـ ُ‬
‫منهــا أن حتتضنــه وتق ّبلــه وهــو نائــم‪ ،‬وأن تتأ ّمــل يف وجهــه‪ ،‬وتبعــث‬
‫ـب وحنــان‪ ،‬وأن هتمــس لــه بأهنــا حت ّبــه حم ّبــة ال مرشوطــة‬
‫لــه طاقــة حـ ّ‬
‫وليســت حمبــة غريزيــة‪ .‬فــر ّدت مســتغربة‪ ،‬هــل األمــر هبــذه البســاطة؟‬
‫نعم األمر هبذه البساطة؛ تلك هي حكمة الروح‪ ،‬وتلك هي احلقيقة‪.‬‬
‫تكونــت باألصــل‬
‫الربجمــة العقليــة ترفــض هــذه احلقيقيــة ألهنــا ّ‬
‫وفــق مفهــوم‪ :‬أن القــوة احلقيقيــة هــي يف البــذل الواســع للطاقــة ذهني ـ ًا‬
‫وعمليــ ًا‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫مشــكلتنا أننــا نحيــا وفــق أفــكار ســلبية وقيــم ســلبية وتــراث‬
‫وحتــر ســلبي وعــادات ســلبية‪ ،‬لذلــك‬ ‫ّ‬ ‫ســلبي وثقافــات ســلبية‬
‫ّ‬
‫تــرى املؤسســات السياســية والدينيــة وحتــى الثقافيــة دائ ـ ًا مــا تتشــدّ ق‬
‫باملحافظــة عــى الــراث‪ ،‬واملحافظــة عــى القيــم والتأريــخ‪ ،‬وهــي ال‬
‫تقصــد وال تســعى إال للمحافظــة عــى التجهيــل واالســتحامر‪ ،‬ألنــه يف‬
‫احلقيقــة هــو رأس ماهلــا يف التســ ّلط والطغيــان واالســتغالل‪.‬‬
‫يتحمــل مســؤولية التغيــر‪ ،‬التغيــر احلقيقــي الــذي‬
‫ّ‬ ‫كل شــخص منــا‬ ‫ّ‬
‫وأناين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل يشء قديــم و ُمســتهلك‬ ‫يبــدأ مــن الــذات‪ ،‬التغيــر الثوري عــى ّ‬
‫عــى ّ‬
‫كل منّــا أن يعيــش تلــك اللحظــة التــي يتســاءل فيهــا مــع نفســه‪:‬‬
‫هل أنا موجود من أجل هذه احلياة الفارغة من أي معنى؟‬
‫جمرد جسد وجمرد حاجات جسدية أحيا ألجلها؟‬
‫هل أنا ّ‬
‫هــل أنــا جمــرد جســد تابــع لفــان‪ ،‬و ُأص ّفــق لفــان‪ ،‬وأدافــع عــن‬
‫فــان‪ ،‬وأكــره فالن ـ ًا وأعبــد فالن ـ ًا؟‬
‫اخلاصة ورؤيتي اخلاصة؟‬
‫ّ‬ ‫متى تكون يل فكريت‬
‫متى سأفهم وأتشارك مع اآلخرين بفهمي اخلاص؟‬
‫أن نفهــم‪ ،‬أو نحــاول أن نفهــم‪ ،‬ونتشــارك مــع اآلخريــن وع َينــا‬
‫وفهمنــا نكــون قــد ح ّققنــا الغايــة التــي ُوجدنــا مــن أجلهــا‪ ،‬غــر هــذا‬
‫نحــن ال نفــرق عــن باقــي املخلوقــات‪ ،‬بــل أحيان ـ ًا كثــرة نكــون أدنــى‬
‫منهــا كثــر ًا‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫إذا ما تل ّبدت يف سامئنا غيوم األسئلة‪..‬‬
‫لننتبــه ونثــق بإحساســنا وإدراكنــا‪ ،‬لتنهمــر وتُغيثنــا اإلرشــادات‬
‫والتوجيهــات الكونيــة‪ ،‬ومــن حيــث نــدري أوال نــدري‪ ،‬فاإلجابــات‬
‫احلقيقيــة تكمــن يف داخلــك‪ ،‬يف وعيــك‪..‬‬
‫يف صمتك‪...‬‬
‫يف مشاعرك النقية الصادقة‪....‬‬
‫يف اتّصالك بعاملك الروحي‪....‬‬
‫يف انعتاقك من هويتك اجلسدية واملادية‪.....‬‬
‫يف إحساسك بانتامئك للكون والطبيعة‪....‬‬
‫يف قربــك مــن اهلل‪ ...‬فأنــت تكــون قريبــ ًا مــن اهلل عندمــا متتلــك‬
‫الشــجاعة عــى أن تكــون نفســك‪ ،‬تلــك الشــجاعة التــي تُلهمــك الــذكاء‬
‫وتديــك ســبيل االنفتــاح الفكــري‪،‬‬ ‫والفطنــة والبصــرة والنظــرة الثاقبــة‪ُ ،‬‬
‫واحلياديــة يف التفاعــل مــع األفــكار‪ ،‬تلــك الشــجاعة التــي تُلهمــك الثقــة‬
‫واالطمئنــان والســكون‪ .‬أنــت تكــون قريب ـ ًا مــن اهلل عندمــا تكــون قوي ـ ًا‬
‫ُمب ـ ًا ُمتســاحم ًا وســعيد ًا‪..‬‬

‫‪15‬‬
‫أتدري من هي النفس املطمئنّة؟ ‪..‬‬
‫هي التي ترى اهلل بعيون سج ّيتها‪ ،‬ال بأفواه اآلخرين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصــدْ ِق ا َّلتــي َت ْلتَم ُ‬
‫ــع يف‬ ‫ْظــر إِىل َع ْين َّ‬
‫َــي َمل ًّيــا‪َ ،‬و َت َ َّعــن يف َها َلــة ِّ‬ ‫ان ْ‬
‫أحداقــي‪..‬‬
‫الزم ِن ا َمل ْش ِ‬
‫لول‪.‬‬ ‫الصدْ ُق ن ََس َم ُة َّ َ‬ ‫َف ِّ‬
‫ــك‬‫ــم َوت ََســ َّل ْق تِ ْل َ‬‫ــل‪ُ ،‬ق ْ‬ ‫ــج ْ َي ِة ال ِّظ ِّ‬
‫ــت ُش َ‬ ‫ُــوث َ ْت َ‬‫يــل ا ُملك َ‬ ‫ــاك َأ ْن تُطِ َ‬ ‫إِ َّي َ‬
‫ــك األَ َلُ‪..‬‬ ‫ــت يــدَ َ ِ‬ ‫األَســوار َّ ِ‬
‫َاح َ‬ ‫اجت َ‬ ‫اك د َمــا ًء َو ْ‬ ‫الشــائ َك َة‪َ ،‬حتَّــى وإن ن ََز َف ْ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫الز َم ِن ا َمل ْش ُلول‪.‬‬ ‫اس َّ‬ ‫َفاألَ َل ُ ُقدَّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ــك َأن َتــي ِف َح ْقــل التُّولِ ِ‬
‫يــب َم ْ ُمــور ًا مخــرة َعاشــق‪ُ ،‬ك َّل َ‬
‫ــا‬ ‫َع َل ْي َ‬
‫ــر ٌح‪..‬‬
‫ْــك ُج ْ‬ ‫بــرئ ِمن َ‬ ‫َ‬ ‫ْــك َو ْر َد ٌة‬ ‫َغ َازلت َ‬
‫الز َم ِن ا َمل ْش ُلول‪.‬‬ ‫اق َّ‬ ‫اجلم َل تِ ْر َي ُ‬ ‫َف َ‬
‫اصــل‬ ‫ـك ال َّتـ ِّـل ال َف ِ‬‫ـوى َذلِـ َ‬ ‫ـق سـ َ‬
‫ـر‪َ ،‬ل ي َتبـ َّ ِ‬
‫الصـ ْ ِ ْ َ َ‬ ‫ـوة َو َّ‬
‫حشــدْ َأجـ َـزاء َك بِال ُقـ ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ـور‪...‬‬ ‫ادي النُّـ ِ‬ ‫ـن و ِ‬ ‫َب ْينَـ َ‬
‫ـك َو َبـ ْ َ َ‬
‫الزم ِن ا َمل ْش ُل ِ‬
‫ول‪.‬‬ ‫َفال ُق َّو ُة َ ْ‬
‫ج َر ُة َّ َ‬
‫ـق‬‫ـق َولِت َُح ِّلـ َ‬
‫لتز ُفـ َـر َمـ َـر َار َة ال َّط ِريـ ِ‬
‫ـب‪ْ ،‬‬ ‫ـك بِن ََه ـ ِم ا ُ‬
‫حلـ ِّ‬ ‫اسـ َ‬ ‫ـق َأ ْن َف ِ‬ ‫ـم َع َبـ َ‬ ‫َتن ََّسـ ْ‬
‫ـة‪ .‬و ِ‬ ‫ِ‬
‫احلك َْمــة‪...‬‬ ‫َاحــي احلُ ِّر َّيـ َ‬ ‫بِ َجن َ‬
‫الز َم ِن ا َمل ْش ُلول‪.‬‬ ‫ب َث ْو َر ٌة ِف َّ‬ ‫حل ُّ‬ ‫َفا ُ‬

‫‪16‬‬
‫الفصل األول‬
‫برجمة العقول (ثقافة املجتمع)‬

‫عندمـا تَعـي وتُـدرك أنـك شـخص ُمربمـج‪ ،‬وتفهـم الكيفيـة التـي‬


‫ت ََبجمـت هبـا‪ ،‬وتعـرف اجلهـات التـي قامـت بربجمتـك‪ ،‬تكون قـد ّاتذت‬
‫ثـم االنطالق يف‬ ‫ِ‬
‫كسر وتفكيـك تلـك الربجميـات‪ ،‬ومن ّ‬ ‫األهـم يف‬
‫ّ‬ ‫اخلطـوة‬
‫رحلـة الوعـي واالسـتنارة‪.‬‬
‫أغلبنـا‪ ،‬سـواء أكان يعلـم أو ال يعلـم‪ ،‬فإنـه يعيش حياته وفـق برجميات‬
‫عـدّ ة‪ ،‬فكريـة وعاطفيـة وشـعورية (أفـكار ‪ -‬عقائـد ‪ -‬تقاليـد ‪ -‬إطلاق‬
‫أحـكام ‪ -‬أمثـال شـعبية ‪ -‬أعراف)‪.‬‬
‫أوالً يف نطاق األهل وثاني ًا يف نطاق البيئة واملجتمع‪.‬‬
‫ففـي بدايـة حياتـه خيضـع الفـرد لربجمـة األبويـن؛ وهـي برجمـة يغلب‬
‫الفطـري والغريـزي‪ ،‬وغالبـ ًا مـا تكون خليطـ ًا ُمع ّقـد ًا من‬
‫ّ‬ ‫عليهـا اجلانـب‬
‫شـتّى املرجعيـات الفكريـة واملؤ ّثـرات العاطفيـة (حنان ‪ -‬حمبـة ‪ -‬فضيلة‪-‬‬
‫معرفـة ‪ -‬خـوف ‪ -‬قلـق‪ -‬مقارنـة ‪ -‬منافسـة ‪ -‬حسـد ‪ -‬تباهـي ‪ -‬غيرة)‪.‬‬
‫مـن هنـا نسـتطيع أن نُـدرك بـأن الفـارق يف الرتبيـة والربجمـة حيـدّ ده‬
‫مسـتوى التبايـن بني هذه القيـم والربجميـات الفكرية‪ ،‬فالربجمـة التي تكون‬
‫مرجع ّيتهـا القيـم الفطريـة الروحية‪( ،‬قـوة‪ ،‬حريـة‪ ،‬حب‪ ،‬تفاهـم‪ ،‬تعاون‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫تسـامح‪ ،‬إبـداع)‪ ،‬تكـون متوافقـة مـع الطبيعة البرشيـة‪ ،‬وهـي يف حقيقتها‬
‫عمليـة رعايـة وليسـت برجمـة‪ ،‬ويكـون فيهـا هامـش احلريـة واإلبـداع‬
‫سـتوف لشروط التنشـئة احلقيقيـة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مهـم و ُم‬ ‫واالطمئنـان والثقـة هامـش‬
‫ّ‬
‫مهمـة جـد ًا يف بلـورة شـخصية الفـرد‪ ،‬ويف‬ ‫فكلنـا يفهـم أن هـذه التنشـئة ّ‬
‫تشـكيل مسـتوى طاقـة روحـه‪ ،‬وتنعكـس أمهيتها أيضـ ًا عىل رفع مسـتواه‬
‫واألهـم هـو تأثير هـذه التنشـئة يف مسـتوى‬‫ّ‬ ‫الصحـي ومسـتوى إبداعـه‪،‬‬‫ّ‬
‫سـلوكه ووعيـه وتطـوره ونضجـه‪ ،‬فكلما كانـت هـذه التنشـئة ُمسـتلهمة‬
‫التطور والنمو أكثر ُيرس ًا وسالسـة‪ ،‬والسـبب‬ ‫ّ‬ ‫للقيـم الروحية كانت عملية‬
‫ـمك الربجميات والعقائـد وال ُع َقـد واحلقائـق املفروضة‪ ،‬وكلام‬
‫هـو ضٓالة ُس ْ‬
‫كانـت الربجمـة تقليدية نمط ّيـة خاضعة ومتناسـبة مع أمراض األنـا املز ّيفة‪،‬‬
‫أمسـى معهـا التغيير والتطـور صعبـ ًا للغاية وحيتـاج لفرتة غير قصرية من‬
‫ّ‬
‫التخلي للوصـول إىل مرحلـة الـوالدة اجلديدة‪.‬‬ ‫املعانـاة ومـن ٓاالم‬
‫يتعرض اإلنسـان خلال حياته لتأثيرات من املجتمع واملحيط تسـاهم‬ ‫ّ‬
‫يف تأطير أفـكاره وسـلوكه‪ ،‬وتسـاهم يف بناء شـخصيته وتركيبته النفسـية‪،‬‬
‫الفكـري‪ ،‬وعن حمدودية‬
‫ّ‬ ‫وغالبـ ًا ما تكـون هذه املؤثرات ناشـئة عن اجلمود‬
‫الـرؤى الكونيـة‪ ،‬وغالب ًا مـا يكون نطاق اشـتغاالهتا هو االشـتغال باألمور‬
‫املاديـة اليوميـة‪ ،‬وغالبـ ًا مـا تكـون تلـك املؤثـرات غير ُمدركـة‪ ،‬وهـذا‬
‫بالطبـع هـو مصـدر اخلَطـر‪ ،‬فأنـت عندمـا ال تعـرف وال تُـدرك الواسـطة‬
‫َ‬
‫أفعالك‪،‬‬ ‫التـي تتحكّـم بـك‪ ،‬وال تُـدرك أفـكارك اخلف ّية التـي تقف خلـف‬
‫سـتفهم أنـك مـن تتحكّـم بنفسـك وأنـت مـن متلـك زما َمهـا‪ ،‬وأنـت من‬
‫سير باملؤثرات‬
‫متلـك ناصيـة قراراتـك واختياراتـك‪ ،‬لكنـك يف احلقيقـة ُم َّ‬
‫اجلمعي هلـذا املجتمع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والربجميـات املجتمعيـة‪ ،‬وخاضـع للعقـل‬

‫‪18‬‬
‫فعقلـك الواعـي يسـعى دائم ًا لعقلنـة تلـك الربجميـات وهتذيبهـا‬
‫وصياغتهـا على شـكل كلمات وأفـكار‪ ،‬ويدافع عنهـا دفاع ًا رشسـ ًا‪ ،‬دفاع‬
‫كـر ٍه‪ ،‬واحلقيقـ ُة أنـك‬
‫املؤمـن ا ُملتي ّقـن الـذي قـام باالختيـار طوعـ ًا غير ُم َ‬
‫وكنـت ُمكره ًا مسـلوب اإلرادة حينما أمىل عليـك املجتمع كيف‬ ‫َ‬ ‫جبرت‬
‫َ‬ ‫ُأ‬
‫تترصف‪ ،‬حينام ألبسـك شـخصية تتناسـب معه‬‫تُفكّـر وكيـف تفعل وكيف ّ‬
‫هـو‪ ،‬ومـع اجلامعـة‪ ،‬وال تتناسـب أبـد ًا مـع روحـك ومـع األفق الشاسـع‬
‫الـذي تنمـو فيه‪ ،‬وفيـه تتألـق وتبدع وتعـرف األنـوار الوجوديـة‪ .‬روحك‬
‫مـا زالـت مأسـورة لـدى العقـل اجلمعـي‪ ،‬لذلـك أنـت تعـاين وتتعـذب‬
‫وتقلـق وختـاف وتتخ ّبـط وتشـقى‪.‬‬
‫قـوة اإلنسـان احلقيقيـة تكمـن يف قدرتـه على اختاذ قـرار البـدء بعملية‬
‫ال ويسير ًا لسـببني ّ‬
‫مهمني‪:‬‬ ‫التغيير‪ ،‬بعدهـا كل يشء سـيبدو سـه ً‬
‫أوالً‪ :‬للعـدد الالهنائـي مـن االحتماالت املتو ّفـرة والسـاندة لعمليـة‬
‫التغيير‪.‬‬
‫ثانيـ ًا‪ :‬ألن الكـون بأكملـه سـيتظافر من أجل إرشـادنا ومسـاعدتنا عىل‬
‫املهمة‪.‬‬
‫إمتـام ّ‬
‫تذك ّْر دائ ًام أن ُكلّ منّا ُم َّي بني برجمتني‪:‬‬
‫برجمـة إهليـة قوامهـا الفطـرة النقيـة والقيـم اجلامليـة‪ ،‬وبرجمـة جمتمعيـة‬
‫قوامهـا الزيـف واخلـداع واألنانيـة‪ .‬وتذكّـر أن أغلبنـا قـد قـام باالختيـار‬
‫ّ‬
‫وختلى عـن خيـار التحـدّ ي‬ ‫السـلبي‪ ،‬وخضـع للربجمـة املجتمعيـة‬
‫ّ‬ ‫السـهل‬
‫واحلريـة واإلبـداع واحلقيقـة‪ ،‬والدليـل على ذلـك إننـا ويف جممـل أفعالنـا‬
‫ّ‬
‫فـإن ّأول مـا نفكـر فيـه هـو رد فعـل املجتمـع واآلخريـن حـول أفعالنـا‪،‬‬
‫ّ‬
‫األقـل أن ال يمسسـنا‬ ‫فنجتهـد حماولين أن ننـال إعجاهبـم‪ ،‬أو على‬

‫‪19‬‬
‫اسـتياؤهم واسـتنكارهم ألفعالنـا‪َ ،‬أل تالحـظ أن أمهـر النـاس وأكثرهـم‬
‫قبـوالً لـدى املجتمع وأوسـعهم ح ّظـ ًا يف نيل إعجاب الناس هو الشـخص‬
‫الـذي يرتدي شـخصية بارعـة جد ًا يف أداء الـدور الذي يكون متناسـق ًا مع‬
‫مقاسـات املجتمـع؟!‬
‫التنـور والوعـي‬ ‫ّ‬ ‫علينـا أن نفهـم ونُـدرك إذا مـا أردنـا السير يف درب‬
‫وكل رؤيـة وفكـرة وأيديولوجيـا وفلسـفة وعقيدة‪،‬‬ ‫كل نظريـة علميـة‪ّ ،‬‬ ‫أن ّ‬
‫تشـتمل يف بنائهـا على جـزء نسـبي مـن احلقيقـة‪ ،‬هـذا مـا يتّضـح جل ّي ًا يف‬
‫وكل‬‫ويتغير‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ويتطور‬
‫ّ‬ ‫كل ٍ‬
‫فكر ينمـو‬ ‫مسيرة وسيرورة الوجـود البشري‪ُّ ،‬‬
‫يتقمـص اإلنسـان فكـرة ويقاتـل مـن‬ ‫يتغير ُيصبـح ومهـ ًا‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬ملـاذا ّ‬
‫ّ‬ ‫مـا‬
‫الفكري‬
‫ّ‬ ‫فيعـرض نفسـه لالسـتحامر‬
‫ّ‬ ‫أجلهـا ويكـره وحيقـد و َيتَعصـب هلا‪،‬‬
‫والعقائـدي‪.‬‬
‫كل األفـكار‪ ،‬وأن نراقـب‬ ‫أليـس مـن املفيـد أن نتعامـل بحياد ّيـة مـع ّ‬
‫شـكل مـن أشـكال التفاعـل‬ ‫ٍ‬ ‫ون ّطلـع مـن دون تصنيـف أو شـجب أو ّ‬
‫أي‬
‫وسـلطة‬
‫ونحررهـا مـن ُسـلطة األفـكار‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفكـري؟ لكـي نُعتـق أنفسـنا‪،‬‬
‫مـن يتاجـر هبـا ليحـاول أن ُيـريض غـروره ويسـعى ل ُيل ّبـي مطامـع نفسـه‬
‫بتأ ِ‬
‫ليـه هـذه األفـكار‪.‬‬ ‫وجشـعها ْ‬
‫ال يمكـن لنـا فهم حقيقـة الوجود وحقيقـة ذواتنا‪ ،‬وأذهانُنـا مل ّبدة بك ٍَّم‬
‫والتمو ُضعـات واالنطباعات والرغبات‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫هائل من غيـوم األحكام واآلراء‬
‫الوضـع األمثل إلفـراغ الفكر‪ ،‬والوصـول إىل حالة‬ ‫َ‬ ‫تعتبر املراقبـة احليادية‬
‫الصمـت الفكـري والصفـاء الذهنـي‪ ،‬والتخلـص مـن قيـود الربجميـات‪،‬‬
‫والتطور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتجلى الفهم احلقيقـي واإلبـداع‬ ‫حيـث‬

‫‪20‬‬
‫آل ّيـة الربجمـة هـذه‪ ،‬يف حقيقتها ُسـن ّْت بدايـة ألجل املحافظـة عىل حياة‬
‫الفـرد اجلسـدية وطلبـ ًا لألمـن واحلاميـة وإبقائه عىل قيـد احليـاة‪ ،‬يف مقابل‬
‫خماطـر عـدة‪ ،‬حتيـط بـه وباسـتمرار‪ ،‬وكذلك ألجـل تربيتـه وتنميتـه حتى‬
‫يشـتدّ عـوده ويبلغ رشـده ضمـن اجلامعـة‪ ،‬فاملجتمعـات البدائيـة غالب ًا ما‬
‫كانـت تَصنـع برجميات متواتـرة وتضـع اشتراطات‪ ،‬الغاية منهـا املحافظة‬
‫على الفـرد‪ ،‬الفـرد الـذي يتصـف بصفـات الطاعـة والسـعي احلثيـث‬
‫للحفـاظ على السير اجلامعـي واإلبـداع‪ ،‬لكـن يف نطـاق تأصيـل اهلويـة‬
‫وحتقيـق الـذات املجتمعيـة‪ ،‬وليس يف نطـاق تنميتـه فكري ًا وسـلوكي ًا وبنائه‬
‫املتكامـل عقليـ ًا وروحيـ ًا وجسـدي ًا‪ ،‬أمـا الفـرد املتمـر ّد فهـو وحـد ُه مـن‬
‫يتحمـل مسـؤولية املحافظـة على حياتـه‪ ،‬وغالب ًا مـا تكون املهمة عسيرة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪21‬‬
‫ُفعم باحليـاة‪ .،‬علينا أن‬
‫لكي نسـتطيع أن نكـون واعني للجانـب امل َ‬
‫ال ندفـن اجلانب امليـت فينا‪.‬‬
‫(كريشنا مورتي)‪.‬‬

‫علينـا أن نتحـدّ ث هنا برصاحـة تا ّمة‪ ،‬ألمهيـة املوضوع‪ ،‬ولنتسـاءل هل‬


‫أن نظرتنـا للوجـود تتناسـب مع مشـيئة اخلالـق من خلق هـذا الوجود؟‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اإلهلي؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهل أن نظرتنا جتاه العامل تتوافق مع ك ُّل هذا اإلبداع‬
‫ٍ‬
‫كوجود وسيرورة‬ ‫خلـق اهلل تعـاىل هـذا العـامل على أفضـل مـا يكـون‪،‬‬
‫وغايـة‪ ،‬أراد ُه اخلالـق مكانـ ًا رائعـ ًا‪ ،‬متكامالً‪ ،‬صاحلـ ًا ونق ّي ًا ومجيلاً‪ّ ،‬‬
‫وزوده‬
‫بـك ُّل مـا حيتاجه مـن قوانين حاكمة وفاعلـة ألصـل الغاية‪ ،‬وأفـاض عليه‬
‫وسـخر لـه كُل يشء مـن أجـل‬ ‫َّ‬ ‫الكـم اهلائـل مـن املوجـودات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بـكل هـذا‬
‫إمتـام تلـك الغاية‪.‬‬
‫لـكل تلك األسـئلة‪ ،‬ألنه لـو كانت‬ ‫بالتأكيـد سـتكون أجوبتنـا بالنفـي ّ‬
‫اإلهلـي لكنّـا قد سـلكنا‬
‫ّ‬ ‫نظرتنـا وفهمنـا للعـامل تتناسـب مـع مزايـا اخللـق‬
‫السـبيل األسـهل‪ ،‬ولـكان مـا ُيم ّيـز تفكرينـا وأفعالنـا هـو الثقـة واألمان‬
‫واإلبـداع واحلكمـة والتعـاون والتفـاؤل‪ ،‬ولتخ ّلينـا عـن ك ُّل أمل‪ ،‬ولتخ ّلينا‬
‫وطمعنا وجشـعنا‪ ،‬ولتخ ّلينا عـن ظلمنا ألنفسـنا ولألخرين‪.‬‬ ‫عـن خماوفنـا َ‬
‫والنمـو والفهم‪ ،‬أن نسـعى‬
‫ّ‬ ‫التطور‬
‫ّ‬ ‫لذلـك علينـا‪ ،‬خلال رحلتنا نحـو‬
‫لتغيير نظرتنـا للعـامل والوجـود‪ ،‬ونقـوم بدفـن اجلـزء امل ّيـت فينـا‪ ،‬اجلـزء‬
‫العقيـم الـذي ورثنـاه كربجمـة فكريـة‪ ،‬واسـتبداله بمنهـج جديـد وإدراك‬
‫حيـوي‪ ،‬تكـون فيـه هـذه املـدارك واملناهـج مبن ّية يف األسـاس عىل‬
‫ّ‬ ‫جديـد‬

‫‪22‬‬
‫العفـوي اللا مشروط‪ ،‬علينـا أن‬
‫ّ‬ ‫تسـاؤالت أرواحنـا العذريـة‪ ،‬وو ْعينـا‬
‫املشـوهة لألشـياء والوجـود‪ ،‬علينـا أن ندفـن ك ُّل حقائقنا‬
‫ّ‬ ‫ندفـن مفاهيمنـا‬
‫اجلاهـزة وآرائنا املقتبسـة وأحكامنـا ا ُملطلقـة‪ ،‬لنعيش حياتنـا بمرونة فكرية‬
‫وحريـة واسـعة وسـ ْع ٍي حثيـث للمعرفـة واالكتشـاف‪ .‬أن نفسـح املجـال‬ ‫ّ‬
‫ألرواحنـا أن تأخـذ مداهـا الـذي يليـق بعظمتها‪.‬‬
‫أتدري من هم األحرار؟‬
‫هم اهلائمون يف ملكوت اهلل‬
‫ال حتدّ هم حدود‬
‫وال ُت ِض ُعهم قيود‬
‫وطنُهم الكون‪ ،‬قوم ّيتُهم اإلنسان‬
‫دينهم العطف واملح ّبة‪.‬‬
‫ُيدركون بأرواحهم‬
‫ويستش ّفون معاين احلياة بالبصرية والفطنة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫مسؤولية الوعي والتغيير‬
‫الـذكاء هـو قدرتنا الفطريـة على أن نُبصـر وأن نُـدرك‪ .‬يولد جميع‬
‫األطفـال أذكيـاء ولكـن اجملتمع يحولهـم إلى حمقى‬
‫أوشو‬

‫حريـة األفـراد‪،‬‬‫لكـن املجتمـع صـا َد َر هـذه ا َمل َلـكات عندمـا صـادر ّ‬


‫وصـادر معهـا تفكريهـم‪ ،‬فالفـرد الـذي ال ُيصـا َدر تفكيره ال ُيمكـن أن‬‫َ‬
‫تُصـا َدر حريتـه‪ ،‬لذلـك على الفـرد الـذي يريـد أن يكـون ذاتَـه ويسـعى‬
‫اخلـاص‪ ،‬وأن ُي ِّرر‬
‫ّ‬ ‫تفكيره‬
‫َ‬ ‫والتحـول جيـب عليه أوالً أن َيسـتعيد‬
‫ّ‬ ‫للتغيير‬
‫يتحـرر من فكـره احلايل‬
‫ّ‬ ‫عقلـه من سـيطرة عقـل املجتمـع‪ ،‬وهذا يعنـي أن‬
‫يتحـرر ذهنـه مـن توجيـه املجتمـع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بأكملـه‪ ،‬وهـو يعنـي أن‬
‫عمل ّيـة التغيير هـذه يف حقيقتهـا ونتيجتها سـتكون من أجـل املجتمع‪،‬‬
‫مكـون مـن جمموعـة‬
‫َّ‬ ‫ّإنـا حماولـة يف سـبيل تغييره ونضجـه‪ ،‬فاملجتمـع‬
‫يتحمل مسـؤولية التغيري‪ ،‬ويمتلك يف الوقت نفسـه‬ ‫ّ‬ ‫أفـراد‪ّ ،‬‬
‫وكل فـرد فيـه‬
‫والتطـور والوعـي ال‬
‫ّ‬ ‫املؤهلات التـي ُتكِّنـه مـن ذلـك‪ ،‬وعمل ّيـة التغيير‬
‫تعنـي أبـد ًا االنفصـال عـن الواقـع واملجتمـع والبيئـة‪ ،‬بـل بالعكـس‪ ،‬إهنا‬
‫حتمـل مسـؤولية املجتمـع ومهومـه‪ ،‬مـن خلال إدراك واسـتيعاب‬ ‫تعنـي ّ‬
‫فحين تكون‬
‫َ‬ ‫اآلل ّيـات واملؤ ّثـرات واألمـراض التـي ُيعـاين منهـا املجتمع‪.‬‬
‫شـخص ًا واعيـ ًا وتعيـش ضمـن عائلـة وتشـعر وتُـدرك بـأن سـياق أدائها‬
‫سـلبي‪ ،‬نتيجـة برجمتهـا وأفكارهـا‪ ،‬ستسـعى لالنفصـال‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫سـياق‬ ‫يف احليـاة‬
‫عـن تلـك الربجمـة‪ ،‬وعـن تلك األفـكار‪ ،‬وليـس االنفصـال عـن العائلة‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫وبالتـايل البحـث عـن أفكار ُأخـرى أكثـر نضجـ ًا وف ّعال ّية والتزامـ ًا‪ ،‬ألجل‬
‫التغيير وألجـل التأثري على اآلخرين‪ ،‬وألجل حيـاة أكثر إجيابيـة‪ .‬فالوعي‬
‫احلـب واحلكمة واملسـؤولية والتعاون والنماء‪ ،‬هو وعي‬
‫ّ‬ ‫الـذي ال ينبـع من‬
‫زائـف وغير ُم ٍ‬
‫ثمـر أبد ًا‪.‬‬
‫غريبـة هـي ديمومـة الطريقـة التـي اسـتخدمتها السـلطات يف طمـس‬
‫معـامل اإلنسـان الروحيـة‪ ،‬فبعـد ّ‬
‫كل هـذا املشـوار الـذي قط َعـه وجـو ُد‬
‫البدائـي هـو مـن يتحكّـم يف‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـان على هـذه األرض‪ ،‬مـا زال العقـل‬
‫مسيرة ومصير هـذا العـامل‪..‬‬
‫جمموعـة النظـم التي حتكـم املجتمـع ومت َ ْو ُضعاتـه الفكرية هـي اجلوهر‬
‫واألسـاس الـذي تُشـيد عليـه املجتمعـات‪ ،‬وهـي بالطبـع مت ّثـل الطاقـة‬
‫عـي للمجتمـع‪ ،‬فأنت ال تسـتطيع أن‬ ‫اجلم ّ‬
‫القصـوى ملـا وصـل إليه العقـل ْ‬
‫حتضره إال وفق هـذه النظم‪ .‬ولو‬ ‫حتكـم عىل مسـتوى ثقافـة جمتمع ومـدى ُّ‬
‫أمعنّـا النظـر يف بنيـة هذه النظـم لوجدنا أهنـا يف حقيقتهـا إنام ُتثـل القض ّية‬
‫األنـاين واجلانب الظـامل واجلانب املظلـم واجلانب‬
‫ّ‬ ‫مـن وجهة نظـر اجلانب‬
‫الطامـع واجلشـع للكائـن البرشي‪.‬‬
‫البرشي‬
‫ّ‬ ‫عـي‪ ،‬ومنذ فترات التمدُّ ن‬‫اجلم ّ‬
‫املجتمعي ْ‬
‫ّ‬ ‫سيرورة هـذا العقل‬
‫وغري ُمب ّطنـة أبد ًا‪ ،‬شـعارات مثل‪ :‬إن‬ ‫ٍ‬
‫شـعارات ُمع َلنـة‬ ‫األوىل كانـت حتمل‬
‫َ‬
‫رر الوسـيلة‪ ،‬وإن مصلحة اجلامعة هـي فوق مصلحـة الفرد‪ ،‬وإن‬ ‫الغايـة تب ّ‬
‫يسـتحق التضحيـات حتـى وإن عظمت‪ ...‬هبـذه اآلليات‬ ‫ّ‬ ‫اهلـدف السـامي‬
‫ٍ‬
‫بـطء وتـراخٍ يف‬ ‫ومتاسـكها يف مقابـل‬ ‫حافظـت املجتمعـات على هو ّيتهـا‬
‫ُ‬
‫الروحـي الفـردي‪ .‬فام هـي فائدة رسـوخ اجلذور وتشـ ّعب‬ ‫ّ‬ ‫تنامـي الوعـي‬
‫والثم ُـر ذابل؟!‪.‬‬
‫َ‬ ‫األغصـان‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫ورس ديمومتــه هــو يف غيــاب الوعــي‬
‫ـي ّ‬‫ـوة العقــل اجلمعـ ّ‬
‫‪١‬ـ مصــدر قـ ّ‬
‫الروحــي‪ ،‬ويف ضمــور القيــم الروحيــة‪ ،‬يف مقابــل ســيادة مت َ ْوضعــات‬
‫العقــل واألنــا الزائفــة‪ ،‬والتــي غالبــ ًا مــا تكــون جذورهــا األنانيــة‬
‫واملنافســة؛ فالفــرد يكــون ناجحــ ًا يف نظــر املجتمــع يف مــدى وقــوة‬
‫وســعة تعاطيــه مــع ضوابــط املجتمــع‪ ،‬ويف مــدى ا ْلتزامــه بقواعــده‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫وقوانينــه‪ ،‬فاملنافســة تتط ّلــب مهــارات وســات مناســبة كالقــدرة عــى‬
‫املجاملــة والنفــاق واحلســد‪ ،‬والرباعــة يف ارتــداء األقنعــة املناســبة‬
‫ـكل ظــرف‪.‬‬‫لـ ّ‬
‫هكـذا تشـكّلت البنيـة النفسـية للمجتمـع‪ ،‬وهكـذا َسق املجتمـع من‬
‫قوهتـم احلقيقيـة وثقتهـم بأنفسـهم‪ ،‬ورسق منهـم سـعادهتم‬ ‫أفـراده ّ‬
‫وفرحتهـم وطاقاهتـم‪ ،‬وهكـذا ضاقـت وتضاءلـت احتماالت اإلبداع‬
‫والتطـور‪ ،‬وتضاعفـت احتماالت املعانـاة والفـوىض والضيـاع‪ ،‬إال‬
‫ّ‬
‫واسـتحق ا ُمل َّ‬
‫يض يف رحلـة التغيير والوعي‬ ‫َّ‬ ‫تفـرد واجتهـد وناضـل‬
‫ملـن ّ‬
‫والتنويـر‪..‬‬
‫ذات القصص‬ ‫تذكّـر دائم ًا‪ ..‬أنـت تعاين ألنّـك ما زلت تـروي لنفسـك َ‬
‫البدائـي بغرائزه وعواطفـه وعاداته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫القديمـة‪ ،‬ومـا يتحكّم بك هـو عقلك‬
‫التحرر‬
‫ّ‬ ‫احلقيقـي يبـدأ مـن‬
‫ّ‬ ‫وبرجمياتـه السـابقة وأحكامـه ا ُملغلقـة‪ ..‬التغيير‬
‫مـن سـطوة هـذا العقـل ا ُملرب َمج بواسـطة أسـئلة جديـدة وأفـكار جديدة‪،‬‬
‫وترصفـات جديدة وجتـارب جديدة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫لتتفرد‪ ..‬وتزهر‪.‬‬
‫تذك ّْر أنّك موجود هنا ّ‬
‫التفرد واالزدهار‪،‬‬
‫مقومات ّ‬ ‫وتذكّر أنك متلك ّ‬
‫كل ّ‬
‫الداخيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وال حتتاج إال إىل اإلنصات لدليلك‬

‫‪26‬‬
‫ّـر أنـك لطاملـا اسـتمعت لصـوت اإلرشـاد الداخلي‪ ،‬لكنّـك‬
‫وتذك ْ‬
‫التفـرد‪ ،‬ومن وحشـة الطريق‪..‬‬
‫ّ‬ ‫جتاهلتـه‪ ،‬والسـبب هو خوفك من وحشـة‬
‫نمـر هبـا‪ ،‬نشـعر بأننـا نفقـد توازننـا‪ ،‬وبأننـا أصبحنا يف‬
‫هنـاك فترات ُّ‬
‫للنمو‬ ‫ٍ‬
‫أهم فترات حياتنـا‪ ،‬كوهنـا فترات مثاليـ ًة‬
‫ّ‬ ‫مهـب الريـح‪ ،‬هـذه هـي ّ‬‫ّ‬
‫رصاع بين الـروح وبين ذاتنـا الزائفـة‪ ،‬فإ ّما‬
‫ٌ‬ ‫واالرتقـاء‪ ،‬فهـي يف حقيقتهـا‬
‫أن تَكسـب أرواحنـا فنرتقـي درجـة‪ ،‬وإ ّمـا أن نكسـب (أنواتنـا) الزائفـة‬ ‫ْ‬
‫فنسـتمر يف خسـاراتنا وضياعنـا‪.‬‬
‫فترات تشـعر بأنـك تقترب مـن‬ ‫ٌ‬ ‫سـتمر عليـك‬
‫ّ‬ ‫يف رحلـة التغيير‬
‫اسـتمر‪ ...‬صدّ قنـي‪ :‬دون أن تقتحم هـذه اهلاويـة‪ ،‬ال يمكنك أن‬
‫َّ‬ ‫اهلاويـة‪..‬‬
‫أي معنًـى‪..‬‬ ‫جتـد حلياتـك ّ‬
‫أتدري ماذا يعني أن تزهر؟‬
‫عطـور احلكمـة واإلبـداع واملحبـة‬
‫َ‬ ‫‪ -‬يعنـي أن تنثـر مـن روحـك‬
‫والتسـامح والرمحـة والعدالـة والشرف‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫كيف تصنع وعيك؟‬
‫مـا ورثتـه مـن والديك‪ ،‬حـاول أن تكتسـبه من جديـد‪ ،‬إن أردت‬
‫امتالكه‪.‬‬
‫( غوته )‬

‫(حريتـه‪ ،‬نزعتـه‬
‫بقـدْ ر مـا َيعـي اإلنسـان رشوط وجـوده الطبيعيـة ّ‬
‫اإلنسـانية يف اخلير واجلمال والسلام‪ ،‬حكمتـه‪ ،‬وقدرته الذاتيـة عىل فهم‬
‫رس وجـوده‪ .‬ألنه‬ ‫ذاتـه) بقـدر مـا يكـون أقـرب لتحقيـق كينونتـه وإدراك ّ‬
‫ِ‬ ‫أصبـح ُمه ّي ً‬
‫ـأ للعـودة‪ ،‬وللتناغـم مـع ُأ ّمـه الطبيعـة‪ ،‬راعيـة و ُمد ّبـرة ّ‬
‫نمـوه‬
‫الكـوين اإلهلـي‪ ،‬الـذي‬
‫ّ‬ ‫وتطـوره املـادي‪ ،‬وحياكـي ذكا َءهـا وذكاء العقـل‬
‫ّ‬
‫وتطـوره الروحـي؛‬
‫ّ‬ ‫أبـدع يف صنـع هـذه الطبيعـة‪ ،‬ليسـتلهم منـه نمـوه‬
‫تطور اإلنسـان‬
‫الطبيعـة صنيعـة اهلل وذكاء اهلل ومجالـه‪ ..‬لذلك هي قد أمتّت ّ‬
‫ٍ‬
‫وجـه وأفضـل حال‪ ،‬لكـن اإلنسـان‪ ،‬وعىل‬ ‫البيولوجـي وتر ّقيـه على ّ‬
‫أتـم‬
‫مسـتواه الوجـودي‪ ،‬سـ ّلم َ‬
‫أمره ملا ُينسـب لقوانني اهلل زيفـ ًا وبطالن ًا‪ ،‬لذلك‬
‫دوامة من املعانـاة واألمل والعذاب‪ ،‬ألنـه ال يزال عالق ًا‬
‫هـو ما زال عالقـ ًا يف ّ‬
‫املؤسسـات املتسـ ّلطة على أمره‪.‬‬‫بين قيـود ّ‬
‫كل تعاليم األنبيـاء وإرشـادات املسـتنريين واملصلحني‬ ‫مـن هنـا كانـت ّ‬
‫يتحمل‬‫ّ‬ ‫مرتبطـة ارتباطـ ًا وثيقـ ًا بموضـوع اإليمان الواعـي‪ ،‬اإليمان الـذي‬
‫فيـه الفرد املسـؤول ّية‪ ،‬فاإليامن هو الوعـي والنور واحلرية والتد ّبـر والتفكّر‬
‫والفهـم والتأ ّمـل‪ ،‬هـو التجربـة الفرديـة‪ ،‬اإليمان لغـة الـروح وبصريهتـا‬
‫وحدْ سـها‪ ،‬اإليمان رحلة داخليـة‪ ،‬لذلك ال يمكن لإلنسـان أن يؤمن إيامن ًا‬
‫أي عوامـل خارجيـة‪ ،‬مهما كانـت مقدّ سـة عنـد اآلخريـن‪.‬‬ ‫حقيقيـ ًا حتـت ّ‬

‫‪28‬‬
‫قوتك‪ ،‬وفضاء إبداعك‪ ،‬وجوهر وجودك‪.‬‬
‫إيامنك هو مصدر ّ‬
‫يتحمل‬
‫ّ‬ ‫ولكـي يبدأ اإلنسـان مسيرة الوعـي بوجـوده‪ ،‬عليـه بدايـة أن‬
‫مسـؤولية ذاتـه‪ ،‬والتـي ال يمكـن أن تكـون بمعـزل عـن مسـؤول ّيته جتـاه‬
‫جمتمعـه‪ .‬ولكـي حي ّقـق اإلنسـان رشط وجـوده األصيـل‪ ،‬عليـه أوالً أن‬
‫ُيـارب يف داخلـه ليسـتعيدَ حريتـه و َم ْق ِدراتِـه‪ ،‬وال يمكـن أن يتسـنّى لـه‬
‫عما اسـتورثه مـن حقائـق وأفـكار جاهـزة‪ ،‬واالنفصـال‬ ‫ذلـك ّإل بالتيـه ّ‬
‫التـا ّم عـن برجم ّيـات املجتمع‪ ،‬فمـن دون هـذا االنفصال يسـتحيل عليه أن‬
‫ُيبصر حقيقـة األشـياء‪ .‬هـذه البصيرة التـي سـيدرك اإلنسـان بواسـطتها‬
‫حاجـة العـامل إىل نظـام أخالقـي جديد ذي قيـ ٍم إنسـانية قادرة على التغيري‬
‫وإنقـاذ األفـراد من تداعيـات الربجميات املد ّمـرة‪ ،‬وقادرة على إنقاذهم من‬
‫أمـراض العنرصيـة واألنانيـة والكراهية‪ ،‬وختليصهم من احلسـد واجلشـع‬
‫سير العامل‬
‫أن هذا النظـام احلايل الذي ُي ّ‬‫واملنافسـة‪ ،‬وليـدرك ببصريتـه تلـك ّ‬
‫مل جيلـب للنـاس سـوى التعاسـة والوحـدة واملـرض والقلـق واالتّكال ّية‪.‬‬
‫هش ًا من الداخل؟‬
‫متى يصبح اإلنسان ّ‬
‫‪ -‬عندمـا ُي َق ْولِـب ذاته‪ ،‬سـواء بعقيدة‪ ،‬أو مؤسسـة‪ ،‬أو مهنة‪ ،‬أو فكرة‪،‬‬
‫أو شـخص‪ .،‬ألنـه سـيخلق تناقض ًا فاضحـ ًا بني روحه ومداهـا الوجودي‬
‫الواسـع‪ ،‬وبين فكـره القـارص وقيـوده الفكريـة‪،‬‏هـو يقولـب نفسـه بحث ًا‬
‫عـن الراحـة‪ ،‬معتقد ًا إن هـذا القالب يشـعره باألمان وهـو يف احلقيقة أمان‬
‫زائـف ألسـباب عديـدة منهـا ظـروف احليـاة وتطورهـا وتغريهـا‪ ،‬وتطور‬
‫وعيـه الشـخيص‪ ،‬وتبايـن وعـي اآلخريـن‪ ،‬وتبايـن مزاجهـم الشـخيص‪،‬‬
‫ومـن هـذا التناقض بني املسـار الفكري واملـدى الروحي تكون قد نشـأت‬
‫أبـرز مشـكالت اإلنسـان النفسـية؛ ألن الفكـر غالب ًا مـا ُ َ‬
‫ي ّرف الواقـع بنا ًء‬

‫‪29‬‬
‫وتطورت أساسـ ًا على مقدّ مات‬
‫ّ‬ ‫املعـريف‪ ،‬والتي نمـت‬
‫ّ‬ ‫نمـوه‬
‫على مراحـل ّ‬
‫مغلوطـة‪ ،‬أو مقدمـات كانـت مالئمـة لنزعـات العقل البشري يف بدايات‬
‫تطـور ًا ملحوظ ًا يف اكتشـافاته‬
‫تطـور ّ‬ ‫تكوينـه‪ .‬صحيـح أن العقـل البشري ّ‬
‫وسبر غـور الكثير مـن األرسار الكونيـة‪ ،‬لكـن هـذا التطـور كان على‬ ‫ْ‬
‫الروحـي‪ ،‬فالنقلات النوع ّيـة اهلائلـة‪ ،‬والتطـورات التي‬
‫ّ‬ ‫حسـاب تطـوره‬
‫شـهدها العقـل البشري على الصعيـد املـا ّدي ال تتناسـب أبد ًا مـع تطوره‬
‫على املسـتوى الروحـي‪ ،‬هـذا إن مل تكن تتناسـب معـه عكسـي ًا‪ .‬ألن روح‬
‫املؤسسـات‬
‫بـت مـن ق َبـل ّ‬ ‫قـت بالكامـل و ُغ ِّي ْ‬
‫س ْ‬‫اإلنسـان باألصـل قـد ُ ِ‬
‫التسـ ٌلطية الدينيـة والسياسـية وتوابعهام الفكريـة واأليدلوجية‪ ،‬فاإلنسـان‬
‫متمـرد صعـب التدجني‪،‬‬‫ّ‬ ‫بصري‬
‫ٌ‬ ‫متمـرس‬
‫ّ‬ ‫حتـت قيـادة الروح إنسـان صلـد‬
‫مضاجع السـلطة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫يقـض‬
‫فهـو أشـبه بالكابوس الـذي ّ‬
‫بقـوة عظيمة‪،‬‬‫عندمـا حييـا اإلنسـان وفـق معـاين روحـه فإنـه سيشـعر ّ‬
‫اإلهلي باإلنسـاين‪ ،‬وسـتكتنفه‬
‫َّ‬ ‫قـوة ناجتـة عـن الوعـي بالرابطة التـي تربـط‬
‫حالـة من الطمأنينة والسـكون والسلام‪ ،‬هـذه احلالة من الصعـب جد ًا أن‬
‫صفوهـا حـادث‪ ،‬أو أن َيرقهـا خارق‪.‬‏‬
‫تشـوهبا شـائبة‪ ،‬أو يعكّـر َ‬
‫ألنا‬
‫نفسـها يف سـجون العقائد واألفـكار‪ّ ،‬‬
‫األرواح العظيمـة ال حتشر َ‬
‫تـدرك أن قيمـة احليـاة تكمـن يف شـغف املعرفـة واالكتشـاف والتجربـة‬
‫الذاتيـة‪ ،‬ومن يسـعى ليفهـم حقيقـة اهلل َ‬
‫دون ر َغبـات‪ ،‬أو أفـكار موروثة‪،‬‬
‫سـيكون قـادر ًا عىل فهـم حقيقة وجوهـر الوجود‪ ،‬وسـيفهم حقيقة ِ‬
‫نفسـه‬
‫و تكليفه ‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الوالدة احلقيقية‬
‫يسـتحيل الوصـول إلـى مجتمع جديـد إال إذا حـدث تغيير عميق‬
‫فـي الضمير اإلنسـاني‪ ،‬إال إذا ظهر شـيء جديد يكـرس الناس حياتهم‬
‫من أجلـه ويحل محـل ماهو موجـود حالياً‪.‬‬
‫( إريك فروم)‬

‫مكونـة مـن تراكمات األفـكار‬ ‫كل منّـا طبقـة ص ْلـدَ ة قامتـة‪ّ ،‬‬‫يف داخـل ٍّ‬
‫تشـوهاته األخالقية‪ ،‬لذلـك دائ ًام‬
‫القلقـة للعقـل البشري‪ ،‬وأنان ّيتـه‪ ،‬ومـن ّ‬
‫املتنـورون والروحان ّيون مجلـة (لتحيـا حياتَـك احلقيقي َة جيب‬
‫ّ‬ ‫مـا يسـتخدم‬
‫متـوت َ‬
‫قبـل املوت)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عليـك أن‬
‫فام هو املقصود هبذا املوت؟‪.‬‬
‫رسـخها املجتمـع‪ ،‬وأن‬‫متـوت فيـك الــ " أنـا" التـي ّ‬
‫َ‬ ‫املقصـود هـو أن‬
‫االسـتبدادي املـوروث منـذ آالف السـنني‪ ،‬لتولد من‬
‫ّ‬ ‫يمـوت فيـك العقـل‬
‫تتحلى بالشـجاعة لكسر هـذه الطبقـة الصلـدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جديـد‪ ،‬عليـك أوالً أن‬
‫تنثـر‬‫ِ‬ ‫والتـي ِتقـف حائل ً‬
‫ا بينـك وبين النـور‪ ،‬وبينـك وبين احلقيقـة‪ ،‬ول َ‬
‫أوها َمـك مـع الريح‪.‬‬
‫مـع أول ومضة نور ستشـعر بـاألمل‪ ..‬هذا هو َأل االنسلاخ‪ ،‬أمل دفاع الـ‬
‫"أنا" الزائفة عن نفسها‪ ..‬هذا َأل املخاض الذي سينقلنا من املوت إىل احلياة‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫الوجودي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أو إىل جنّتنـا اخلالـدة‪ ،‬نعم من هنـا تبدأ رحلة الوصـول للمعنى‬
‫اإلهلـي بداخلـك‪ ،‬ومـن هنـا تبـدأ رحلـة اخللـود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والوصـول للمعنـى‬
‫حين متلـك اإلرادة والشـجاعة والصبر الختراق وكرس تلـك الربجمة‬
‫سـتتفاجأ ّ‬
‫بـأن اهلل هو الذي يبحث عنك‪ ،‬ولسـت أنت الـذي تبحث عنه‪..‬‬
‫فـرض املجتمع برجمتَه بواسـطة سياسـة التخويـف والرتهيـب ليتمكّن‬
‫مـن اسـتالب فكـر وحريـة وروحانيـة األفـراد‪ ،‬وبالتـايل اسـتالب غايـة‬
‫وجودهـم‪ ،‬ومل جتـد تلـك السـلطات وسـيلة أفضـل مـن التد ُّيـن ا ُملز َّيـف‬
‫وكل ذلـك باسـم‬ ‫وأتـم مـا يكـون‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫باملهمـة على أكمـل‬
‫ّ‬ ‫يسـتطيع القيـام‬
‫املقـدّ س‪.‬‬
‫فلا يوجـد يشء يف الكـون قـادر على ختويـف النـاس مثـل املقـدّ س‪،‬‬
‫ُبمـج النـاس‪ ،‬ففـي حين كان مـن املفـروض أن يكـون املقدس‪،‬‬ ‫هكـذا ت َ ْ‬
‫ووفقـ ًا ملعطيات اخللـق الكوين‪ ،‬غاية يف اجلمال والرأفة واحلكمـة والرمحة‪،‬‬
‫النمـو والتكامـل الكوين‪ ،‬املفـروض أن‬
‫ّ‬ ‫وكذلـك ووفقـ ًا ملعطيـات مسيرة‬
‫تكـون األديـان سـاعي ًة بجوهرهـا خللاص اإلنسـان مـن معاناتـه‪ ،‬وأن‬
‫لنمـو وتطـور اإلنسـان وارتقائـه‪ ،‬ولتنميـة طاقاتـه‬
‫ّ‬ ‫يكـون الدِّ يـن دافعـ ًا‬
‫وقدراتـه‪ ،‬ال أن يسـعى إىل هـدر طاقاتـه ويعرقـل تطـوره ويصيبه بالشـلل‬
‫ره اعتباط ًا إنما اختاره عن‬
‫والنكـوص‪ .‬فمـن اختـار منهـج التخويف مل خيت ْ‬
‫درايـة وخ ْبـث‪ ،‬ألنـه يعلم ويفهـم أن اخلوف هو العامل احلاسـم يف مسـخ‬
‫بنيـة اإلنسـان الفكريـة والسـيكولوجية‪ ،‬وبالتـايل التحكّـم بـه والسـيطرة‬
‫عليـه بـكل مرونـة ويسر‪ .‬ومـن هنـا سـنرى أن اإلنسـان ا ُملرب َمـج يتّصف‬
‫بصفـات عديـدة واضطرابات نفسـية يكـون جذرها الرئييس هـو اخلوف‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فاإلنسـان املربمـج نسـتطيع متييـزه بالعالمـات والصفـات التالية‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫* تقديس األشخاص واألفكار‪.‬‬
‫* خاضـع نفسـي ًا وفكري ًا لسـلطات املجتمع (سياسـة ‪ -‬ديـن ‪ -‬إعالم‬
‫‪ -‬موروثـات ‪ -‬عـادات ‪ -‬تقاليد)‪.‬‬
‫والتعصـب األعمـى جتـاه‬
‫ّ‬ ‫* غالبـ ًا مـا تتّسـم ردود أفعالـه بالغضـب‬
‫اآلخـر املختلـف‪.‬‬
‫* يـرى ثقافته وثقافـة جمتمعه هي الثقافـة احلقيقيـة والثقافات األخرى‬
‫عيـوب ثقافتـه وجمتمعـه‪ ،‬أو أن‬
‫َ‬ ‫ـارب‪ .‬وال يرى‬‫ك ّلهـا باطلـة وجيـب أن ُت َ‬
‫حقيقـي لتلـك األمـراض‪ ،‬واألُمـم التـي ال‬
‫ّ‬ ‫يكـون قـادر ًا على تشـخيص‬
‫متلـك املقدرة على تشـخيص أمراضها ال يمكن هلـا بالطبـع أن تعرف وأن‬
‫ِ‬
‫َتـد الـدواء املناسـب للخلاص‪ ،‬ومن هنـا سـنفهم َّ‬
‫رس املجتمعـات امل ّيتة‬
‫السر الـذي جعلهـا ُأممـ ًا عقيمـة تُـراوح يف مكاهنـا َ‬
‫غري‬ ‫َّ‬ ‫رسيريـ ًا‪ ،‬وسـنفهم‬
‫والنمـو واإلبداع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قادرة على التطـور‬
‫َ‬
‫اإلنسـان هو االسـتالب الفكـري والتبع ّية‪،‬‬ ‫أخطـر مـا يمكن أن يصيب‬
‫فهـي تقتـل عنـده روح اإلبـداع واإلجيابيـة‪ ،‬وتصنـع منـه إ ّمـا آلـة ٍ‬
‫قتـل أو‬
‫ٍ‬
‫عثـرة لنفسـه ولآلخرين‪.‬‬ ‫حجـر‬
‫َ‬
‫* غالبـا مـا تتسـم ردود أفعالـه بالغضـب والتعصـب األعمـى جتـاه‬
‫األخـر املختلـف‪.‬‬
‫* يـرى ثقافته وثقافـة جمتمعه هي الثقافـة احلقيقيـة والثقافات األخرى‬
‫كلهـا باطلـة وجيـب أن ُتـارب‪ .‬وال يـرى عيـوب ثقافتـه وجمتمعـه أو أن‬
‫يكـون قـادر ًا على تشـخيص حقيقـي لتلـك األمـراض‪ ،‬واألُمـم التـي ال‬
‫متلـك املقـدرة على تشـخيص أمراضها ال يمكن هلـا بالطبـع أن تعرف وان‬
‫جتـد الـدواء املناسـب للخلاص‪ ،‬ومن هنـا سـنفهم رس املجتمعـات امليتة‬

‫‪33‬‬
‫رسيريـ ًا‪ ،‬وسـنفهم السر الـذي جعلهـا ُأمـم عقيمـة تـراوح يف مكاهنا غري‬
‫قـادرة على التطـور والنمـو واإلبداع‪.‬‬
‫أخطـر مـا يمكن أن يصيب اإلنسـان هو االسـتالب الفكـري والتبعية‪،‬‬
‫فهـي تقتـل عنـده روح اإلبـداع واإلجيابيـة‪ ،‬وتصنـع منـه إمـا آلـة قتـل أو‬
‫حجرعثـرة لنفسـه ولألخرين‪.‬‬

‫طاقة التمرد‬
‫لقـد أصبـح واضحـاً االٓن إن البشـرية قـد وقعت في الفـخ الذي ال‬
‫تعـرف بعـد كيف اخلـروج منـه‪ ،‬لقـد وقعنا فـي فـخ الطريقـة اخلاصة‬
‫بنـا مـن التفكيـر‪ ،‬وبالطبـع فـي فـخ الطريقـة املقابلة مـن حياتنـا‪ ،‬وقد‬
‫قـام عقلنـا الـذي مناهي أنفسـنا معه بتشـييد جـدران تلـك األحبولة‬
‫دام أن عقلـك هو الذي‬‫أو املصيـدة فكيـف اخلروج مـن هذا الفخ مـا َ‬
‫ميثـل تلـك املصيدة‪.‬‬
‫( جيكارينتسيف)‬

‫تسـعى الربجمـة املجتمعيـة أوالً لتدمير البنيـة النفسـية لألفـراد‪ ،‬مـن‬


‫عميـق بين اإلنسـان وبين ق َي ِمـه الروحيـة‪ ،‬ليفقـد‬
‫ٍ‬ ‫خلال وضـع إسـفني‬
‫أهـم حالة مـن املمكـن أن حيصل عليها الفـرد‪ ،‬وهي حالة السلام‬ ‫بالتـايل َّ‬
‫الداخلي‪ ،‬وامتلاك حريـة التفكير والتقريـر واإلبـداع‪ .‬لذلـك ليـس مـن‬
‫الصعـب أبـد ًا أن نسـتطيع أن نم ّيـز حالـة البـؤس والتوتّـر واالضطـراب‬
‫النفسي‪ ،‬وحالـة الضيـاع التـي تسـيطر على أفـراد املجتمع‪ ،‬وبسـبب هذه‬
‫رت َجم بطـرق خمتلفـة‪ ،‬ففي‬ ‫متـرد ُت ْ‬
‫احلالـة مـن عـدم االطمئنـان تنشـأ طاقـة ّ‬

‫‪34‬‬
‫موجهـة ضـدّ‬
‫متـرد عاليـة‪ّ ،‬‬
‫متمـرد وطاقـة ُّ‬
‫ّ‬ ‫داخـل ّ‬
‫كل منّـا هنـاك إنسـان‬
‫املجتمـع‪ ،‬لكـ ْن تتبايـن أوضـاع ومسـارات هذه الطاقة بحسـب مسـتوى‬
‫كل شـخص‪.‬‬ ‫وعـي ّ‬
‫املتمردة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫نستطيع هنا أن نميز أربع مسارات للطاقة‬
‫موجهـة للجريمة بكل‬ ‫متـرد تكون ّ‬
‫* املسـتوى األول‪ :‬عبـارة عـن طاقة ّ‬
‫أشـكاهلا‪ :‬تعاطي املخـدّ رات‪ ،‬تعاطي الكحـول‪ ،‬جنس‪ ،‬وهي طاقـة انتقا ٍم‬
‫من املجتمع‪.‬‬
‫موجهة للحـزن والعزلة واالكتئاب‬‫مترد ّ‬‫* املسـتوى الثـاين‪ :‬هناك طاقة ّ‬
‫والشـعور بالضيـاع وفقدان األمـل والتامهي مع فكـرة ّ‬
‫أن احليـاة عبثية وما‬
‫هـي إال عبارة عن جحيـم ال ُيطاق‪.‬‬
‫* املسـتوى الثالـث‪ :‬طاقـة مكبوتـة يضطـر فيهـا الشـخص ملجـاراة‬
‫املجتمـع واالستسلام لربجمتـه والدفـاع عنها‪ ،‬مـن أجل حتقيـق أحالمه يف‬
‫املـال واجلـاه والسـلطة‪ ،‬وتظهـر هـذه الطاقـة يف هذا املسـتوى عىل شـكل‬
‫توتّـر دائـم واسـتهتار واضـح بـكل القيم اإلنسـانية‪.‬‬
‫موجهة إلعـادة اكتشـاف الذات‪،‬‬ ‫* املسـتوى الرابـع‪ :‬هـو طاقـة متـرد ّ‬
‫واسـتعادة الكينونـة واسـتقالل الوجـدان‪ ،‬والسـعي إلصلاح الـذات‬
‫والتحلي بالقيـم الروحية‪ ،‬وهو املسـتوى ا ُمل َّ‬
‫عـول عليه‬ ‫ّ‬ ‫أخالقيـ ًا ومعرف ّيـ ًا‪،‬‬
‫احلـر اجلديـد‪ ،‬واملفارقـة أن هـذا املسـتوى هـو األكثـر‬
‫يف خلـق اإلنسـان ّ‬
‫حماربـة واألكثـر حتجيم ًا مـن ِقبـل املجتمـع‪ ،‬ومنـذ بدايـة رحلـة اإلنسـان‬
‫األرضيـة إىل حـدِّ اللحظـة الراهنـة‪.‬‬
‫رؤى جديـدة وقيـم‬
‫املتمـرد‪ ،‬وحـدَ ه القـادر على ابتـداع ً‬
‫ّ‬ ‫إن اإلنسـان‬
‫ِ‬
‫جديـدة وجتـارب جديـدة‪ ،‬جتـارب غالب ًا مـا كانت هـي من ُتـدث الطفرة‬

‫‪35‬‬
‫يف جينات املسـار الكـوين‪ ،‬وحدَ ه القـادر عىل االنفصال عـن واقع املجتمع‬
‫وبرجم ّياتـه وتوتّـره وقيمـه وعاداته‪.‬‬
‫للمختلفين والتائهين عـن قيـود‬ ‫نفهـم الـدور العظيـم ُ‬
‫َ‬ ‫هنـا علينـا أن‬
‫والسـمو بالكائـن‬
‫ّ‬ ‫والتطـور‬
‫ّ‬ ‫الربجميـات املجتمعيـة‪ ،‬السـاعني للتغيير‬
‫البشري‪ ،‬وعلينـا أن نشـعر باالمتنـان لتلـك األذهـان البرشيـة املسـتنرية‬
‫طفـرات جين ّيـ ًة يف الوعي البشري‪ ،‬وحافظـت عىل اجلنس‬‫ٍ‬ ‫التـي أحدثـت‬
‫البشري مـن االنقـراض‪.‬‬
‫ّ‬
‫جتاربك اجلديدة هي القادرة عىل تفكيك برجمتك القديمة‪..‬‬
‫التجارب هي النسامت التي تُنعش الروح‪.‬‬
‫قبـل كيـف يصمـت عقلـك ك ّلما ْ‬
‫مـررت بتجربـة‬ ‫هـل الحظـت مـن ُ‬
‫جديـدة؟!‬

‫‪36‬‬
‫غيّر طريقة تفكيرك تتغيّر حياتك‪..‬‬
‫ّ‬
‫كل الظـروف مؤ ّقتـة‪ ،‬لـن يبقـى شـيء ثابتـاً‪ ،‬ال يوجـد شـيء‬
‫أي اّتجـاه هـو متو ّقـف عليـك أنـت‪.‬‬
‫يتغيـر وفـي ّ‬
‫مسـتقر‪ ،‬وكل مـا ّ‬
‫ّ‬
‫( نيـل دونالـد وولـش )‬

‫يتغي مستقبلك ومصريك‪.‬‬


‫تتغي حياتك‪ ،‬أو ّ‬
‫تفكريك ّ‬
‫َ‬ ‫تغي‬
‫عندما ّ‬
‫ُغي أفكارنا؟‪.‬‬
‫مهمة وحقيقية‪ ،‬لك ْن كيف نستطيع أن ن ِّ‬
‫عبارة ّ‬
‫هـذ التغيير ال يتحـدّ د بمـدى الصعوبـة أو السـهولة التـي حيـدث هبا‪،‬‬
‫بقـدر مـا يتع ّلـق بمـدى شـجاعة ّاتـاذ القـرار وقـوة اإلرادة والتصميـم‪،‬‬
‫بسـعة الصبر على األمل‬ ‫وبقـدر ديمومـة اجلهـد املبـذول‪ ،‬ويتعلـق كذلـك َ‬
‫والعـذاب الروحـي‪ ،‬ذلـك األمل الذي سـيكون نتاجـ ًا طبيعي ًا لفعـل التغيري‬
‫ٍ‬
‫ختلخـل يف بنائنا‬ ‫ولتفاعلات وارتـدادات البنـاء الروحـي‪ ،‬ومـا ُي ِدثـه من‬
‫الشـخيص‪ ،‬صعوبـة أو َأل التغيير ال تكمـن يف إطـار وجوهر التغيري نفسـه‬
‫سـتضطر لتهشـيم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتخلي والتسـليم‪ ،‬ألنـك‬ ‫التواضـع‬
‫ُ‬ ‫وإنما يف عمليـة‬
‫والتطهر مـن أوهامها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أغلـب األجـزاء الرئيسـية للــ "أنـا"‬

‫‪37‬‬
‫يقول تشارلز داروين‪:‬‬
‫ليـس البقاء لألقوى‪ ،‬وال حتـى األكثر ذكاء‪ ،‬ولكن البقاء لألسـرع‬
‫استجابة للتغيير‪.‬‬
‫إن رسعـة االسـتجابة للتغيير تتع ّلـق بمـدى قدرتنـا على القبـول‬
‫والتسـليم لـه‪ ،‬وعـدم مقاومتـه‪ ،‬كـون هـذه التغيرات هـي سـمة كون ّيـة‬
‫وجوهريـة يف أصـل الوجـود‪.‬‬
‫والتخل والقبول والتسـليم ستفسـح املجال لروحك‬ ‫ّ‬ ‫يف حالـة التواضع‬
‫يت لتوجيهـك وإرشـادك‪ٌّ ،‬‬
‫فكل منا يملـك آلي ًة وقـدرة ذاتية‬ ‫أو وعيـك الـذا ّ‬
‫دقيقـة ومع ّقـدة وفاعلة على اإلدراك والتغيير والفهم‪(( ،‬وخلقنا اإلنسـان‬
‫يف أحسـن تقويـم ))‪ .‬وهـل هنـاك أقـوم من هـذه النعمـة العظيمـة‪ ،‬نعمة‬
‫ٌّ‬
‫مسـتقل‬ ‫الـروح أو طاقـة الوعي الـذايت‪ ،‬وكام يصفـه هاوكينز‪« :‬هو صامت‬
‫حـر وغري ُمق َّيـد وتلقائـي وهادئ‬‫وعفـوي مسـامل وشـامل غري مربمـج إنه ّ‬
‫ّ‬
‫وليـس خاضع ًا للـوالدة أو املوت»‪.‬‬
‫مـا علينـا أن نُدركـه بداية أن هـذه الرحلة نحـو التغيري ليسـت رحلة أو‬
‫ٍ‬
‫سـياق شـمو ّيل مـن اإلدراك إىل‬ ‫ذات‬
‫مغامـرة فكريـة عابرة‪ ،‬بـل هي رحلة ُ‬
‫التجسـد‪ ،‬هـي عمليـة حتقيـق للـذات وللكينونـة وللمعرفـة الواعيـة‪ ،‬هي‬ ‫ّ‬
‫رحلـة إلعـادة اكتشـاف معـامل الوجـود‪ ،‬وإلدراك غايـة الوجـود‪ ،‬ولفهم‬
‫األهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الـدور البشري فيـه‪ ،‬وفقـ ًا واسـتناد ًا للمبـدأ وللجـذر الوجـودي‬
‫وهـو أن ال يشء يف الوجـود موجـود اعتباطـ ًا بـل إن لـكل موجـود دور ًا‬
‫يقـوم بـه يف مسيرة التكامـل الكوين‪.‬‬
‫املحـوري الذي بـات جذر ًا‬
‫ّ‬ ‫رحلـة التغيير هـي رحلـة لتخ ّطـي اخللـل‬
‫لـكل معانـاة البشر‪ ،‬وهـو سـلبيتهم وضياعهـم‪ ،‬هـي رحلـة السـتعادة‬

‫‪38‬‬
‫لكل‬‫التـوازن الداخلي‪ ،‬وإلعادة األمـور إىل نظامهـا الطبيعي‪ ،‬أي السماح ّ‬
‫جـزء مـن أجزائنـا للقيـام بمهامه التي وجـد من أجلهـا‪ ،‬فنحن لسـنا فكر ًا‬
‫كل من أجـزاء عدّ ة‪ :‬فكر‬‫جمـرد ًا أو روحـ ًا جمردة أو جسـد ًا جمرد ًا‪ ،‬بـل نحن ٌّ‬
‫ّ‬
‫كل لـه مهامـه‪ ،‬وكل‬ ‫وجسـد وروح ونفـس وعقـل وحـواس وعواطـف‪ٌّ ،‬‬
‫لـه دوره‪ .‬عـودة األمـور إىل نصاهبـا الطبيعـي تعنـي التناغم مـع الطبيعة يف‬
‫املتغيرات والتناغم‬
‫ّ‬ ‫رسياهنا وتسـليمها‪ ،‬ويف ذكائهـا املذهل يف التعاطي مع‬
‫كل وضـ ٍع جديد‪.‬‬ ‫بـكل بدهييـة واسترخاء مـع كل متغري ومـع ّ‬‫ّ‬
‫علينـا أن نُـدرك بأن أغلـب رصاعاتنا الداخلية سـببها التشـ ّبث بفكرة‪،‬‬
‫ولكـي نتخ ّلـص من هـذا الصراع علينا أن نفهـم بأننا لسـنا العقل ولسـنا‬
‫آليات مسـاعدة للفهـم واإلدراك‪.‬‬‫ٌ‬ ‫الفكرة ولسـنا املشـاعر‪ ،‬إنما هي‬
‫نفسـك نبتـ ًة واألفـكار عبارة عن سـحاب ّ‬
‫يمـر‪ ،‬فالفكـرة املثمرة‬ ‫خت ّي ْـل َ‬
‫تشـبه السـحابة‪ ،‬فهـي حتمل الغيـث الذي حتتاجـه النبتة لتُزهـر‪ ،‬هي تعطي‬
‫غيثهـا وتذهـب‪ .‬والنبتة مراقبـة بحيادية وسـكون وامتنان‪..‬‬
‫ومثلام ستزهر النبتة‪ ،‬سنزهر نحن بوعينا احلقيقي‪.‬‬
‫فعندمـا يرتفـع مسـتوى وعينـا وتُزهـر نفوسـنا سـنجد أن حياتنـا قـد‬
‫بـدأت بإعـادة تشـكيل نفسـها لكـي تنسـجم مـع مسـتوى طاقاتنـا ومـع‬
‫وسـتتغي كذلـك نظرتنـا لألمـور واألحـداث من‬
‫ّ‬ ‫جـودة نوايانـا ونقائهـا‪،‬‬
‫نظـرة سـطحية إىل نظـرة عميقـة واعيـة ومثمـرة‪ ،‬نظـرة ثاقبـة قـادرة على‬
‫إعانتنـا يف جتـاوز املواقـف الصعبـة واألزمـات‪ ،‬و ُمتمكّنـة مـن مسـاعدتنا‬
‫يف التغ ّلـب على رصاعاتنـا الداخلية‪ ،‬يف هذا املسـتوى من الوعي سـنتفاجأ‬
‫بـأن أغلب األحداث السـلبية قـد اختفت تدرجييـ ًا من حياتنـا‪ ،‬فنحن اآلن‬
‫ث أو شـخص بام يسـتح ّقه‪،‬‬ ‫أصبحنـا قادريـن ومهيئني للتعامل مع كل حدَ ٍ‬
‫ّ‬

‫‪39‬‬
‫ألننـا قـد خت ّل ْصنا من الكسـل واألحـكام املسـبقة‪ ،‬ومن القلـق واملقاومة‪.‬‬
‫حينما يرتفـع مسـتوى وعينـا سـنجد أننـا قـد تنازلنـا عـن االسـتمرار‬
‫تغيرت‬
‫يف بعـض العالقـات‪ ،‬وسـنجد أن تعامالتنـا مـع اآلخريـن قـد ّ‬
‫أكثـر نضج ًا ومنفعة ومتعة‪ ،‬وسـنجد أن الكثري ممّـا كان يزعجنا‬‫وأصبحـت َ‬
‫قـد أصبح مفهوم ًا ومقـدّ ر ًا من ناحيتنـا‪ ،‬وأصبحنا أكثر قدرة عىل السـيطرة‬
‫على أفكارنـا وعقولنـا وفهـم الكيف ّيـة التـي تعمل هبا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫العقل‬
‫‪ -‬ماهي بُغيتك أيها الغريب؟‪..‬‬
‫أتوسل إليك أن تُ ِح َّل السكينة فيه‪.‬‬
‫‪ -‬إني أفقد السـكينة في عقلي‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬أرني عقلك ألجلب إليه السكينة‪.‬‬
‫‪ -‬ولكني عندما أبحث عن عقلي ال أجده!‪..‬‬
‫‪ -‬إذاً فقد جلبت السكينة إلى عقلك‪.‬‬
‫(ادبيات الزن)‬

‫ا للخارج‬ ‫كلنـا يؤمن ويفهم أن الشـخص املسـؤول عندما يكون عميل ً‬


‫عـدو ًا للداخـل‪ ،‬فالـدول السـ ّيئة والطامعـة دائم ًا مـا‬
‫ّ‬ ‫سـيكون بالضرورة‬
‫حتـاول جتنيـد عملاء لغـرض اسـتغالهلم‪ ،‬وكلنـا يفهـم اسـتحالة تطابـق‬
‫مصالـح وأجنـدات الـدول الطامعة مع مصالـح البلد؛ فالشـخص العميل‬
‫قوتـه ليجعله‬
‫سـيعمل على إضعـاف البلد ومصـادرة وتفتيـت كل عنارص ّ‬
‫لقمـة سـائغة للخارج‪.‬‬
‫هـذه احلالـة املفهومـة هـي بالضبط مـا حيصل مـع العقـل عنـد أغلبنا‪،‬‬
‫أي يشء يف الداخل‪،‬‬‫فهـو يلعـب دور العميل‪ ،‬فهو ال يعرف وال يتّصـل مع ّ‬
‫بـل إن كل مكتسـباته وآل ّياتـه وارتباطاتـه تكـون مـع اخلـارج‪ ،‬لذلـك هـو‬
‫أي فرصـة ألجـل مصـادرة عنارص القـوة وهدر‬ ‫ال يتوانـى عـن اسـتغالل ّ‬
‫الثـروات الداخليـة والنِّ َعـم اإلهل ّيـة التـي متلكهـا النفـس اإلنسـانية‪ ،‬وهذا‬
‫يفسر وجودنـا كشـعوب مسـلوبة اإلرادة‪ ،‬ومصـا َد َرة الوجـود‪،‬‬ ‫هـو مـا ّ‬
‫ومعدومـة اإلبـداع وجمهولـة املصير‪ ،‬وذلـك ألن عقولنـا باتـت عميلـ ًة‬

‫‪41‬‬
‫املؤسسـات السياسـية والدينيـة والثقافية املسـتبدّ ة والطامعة‪.‬‬
‫لثقافة وبرجمة ّ‬
‫أزمـة العقـل يف الوجـود أنـه غالب ًا مـا كان إ ّمـا متسـ ّلط ًا مسـتبدّ ًا‪ ،‬وإ ّما‬
‫ماكـر ًا خادعـ ًا‪ ،‬أو خانعـ ًا خاضعـ ًا عاطالً‪.‬‬
‫النـص الديني فـإن اخلالق نفخ يف اإلنسـان من روحه ق َبسـ ًا من‬
‫ّ‬ ‫حسـب‬
‫نـور‪ ،‬تكليفـ ًا ومتكين ًا لـه خلالفـة األرض‪ ،‬وإلعامرها‪ ،‬ولينتقل بـه من طور‬
‫ال فطر ّيـ ًا ومكتم ً‬
‫ال‬ ‫إنسـان (مل يكـن شـيئ ًا مذكور ًا) لطـور برش‪ ،‬يكـون ّ‬
‫مؤه ً‬
‫ملهمة إعامر األرض‪ ،‬ولبسـط السلام واملحبـة واحلرية واجلامل‪.‬‬ ‫بايولوج ّيـ ًا ّ‬
‫هيمنـة العقـل‪ ،‬أو النفـس األ ّمارة‬
‫تتلخـص يف َ‬ ‫ِمنـة الوجـود البشري ّ‬
‫ٍ‬
‫عقـول‬ ‫وبمكْـر ودهـاء وخبـث وطغيـان على‬ ‫بالسـوء‪ ،‬بقـوة غاشـمة َ‬
‫ونفـوس خاضعـة تابعـة سـاذجة كسـولة مستسـلمة‪.‬‬
‫هـذه العقـول األخيرة كانت‪ ،‬وعىل مـدار التاريـخ‪ ،‬هي بيضـة الق ّبان‬
‫املتكبرة‪ ،‬تلك‬
‫ّ‬ ‫التـي رجحت على الـدوام سـوا َد وهيمنة العقـول اجل ّبـارة‬
‫أغلـب فترات التاريخ ملحنة وتعاسـة وفقـر وجهل‬
‫َ‬ ‫حولـت‬
‫العقـول التـي ّ‬
‫واسـتغالل وحـروب كارثية‪.‬‬
‫حماولـة العيـش وفق األجنـدة العقلية تعنـي معيشـة ما ّدية متأ ّثـرة غالب ًا‬
‫بأمـراض مزمنـة (معانـاة‪ ،‬تعلـق‪ ،‬خـوف‪ ،‬جشـع‪ ،‬قلـق)‪ ،‬وحماولـة احليـاة‬
‫يف حالـة الوعـي تعنـي حيـاة روحيـة ناضجـة ومثمـرة وفـق القيـم اإلهل ّية‬
‫(حكمـة‪ ،‬حمبـة‪ ،‬سلام‪ ،‬ثقـة‪ ،‬لطافـة‪ ،‬متعة)‪.‬‬
‫فالعقل هو وسيلة للعيش‪ ،‬والوعي هو غاية للحياة‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫مـن هـذه املقدمـة نسـتطيع أن نقسـم العقـل البشري لثالثـة أشـكال‬
‫رئيسـية هـي ‪:‬‬
‫‪ -‬العقل الروحي‬
‫ذكـي ُمتفائـل ُمطمئـ ٌّن ُمتفاعـل مـع الـروح‪ ،‬وقـادر على‬
‫ّ‬ ‫وهـو عقـل‬
‫اسـتيعاب وحتليـل كل مكنوناهتـا الفطريـة‪ ،‬كاحلدس والبصيرة‪ ،‬وترمجتها‬
‫إىل أفـكار وأفعـال إنسـانية خالصـة‪.‬‬
‫ويتجسـد هـذا العقل بصورة خاصـة عند األنبياء واحلكماء واملصلحني‬ ‫ّ‬
‫والعلماء واملفكّريـن وفئة قليلـة غريبة متناثـرة األطراف تارخييـ ًا وجغرافي ًا‬
‫ُوحدهـا الفضيلـة‬ ‫جيمعهـا االنتماء الكـوين‪ ،‬ويأرسهـا مجـال احليـاة‪ ،‬وت ّ‬
‫اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ -‬العقل املتجرب‬
‫هـو أيضـ ًا عقل ذكي‪ ،‬لكنـه أ َّم ٌار بالسـوء متسـ ّلط يمتلك دهـا ًء وخبث ًا‪،‬‬
‫لذلـك يكـون ُمتمـرد ًا على مكنونـات الـروح خاضعـ ًا لشـهوة الــ "أنـا"‬
‫خاصة عنـد جبابرة‬ ‫وبتجسـد هذا العقـل بصورة ّ‬ ‫ّ‬ ‫التفوق‪،‬‬
‫واحلسـد وحـب ّ‬
‫السلاطني و ُعتـاة املجرمين‪ ،‬لصوص السـلطة واملـال والعقيدة‪.‬‬
‫‪ -‬العقل التابع‬
‫كل عمليـة مراجعـة وتدوير‬ ‫متخـل طوع ّيـ ًا عـن ّ‬
‫ٍّ‬ ‫وهـو عقـل ُمتخ ّلـف‬
‫الروحي والوجـداين‪ ،‬وعن‬
‫ّ‬ ‫لربجم ّياتـه وألفـكاره‪ ،‬وعـن االتصـال بداخلـه‬
‫ٍ‬
‫ال على أفـكار غيره‪ ،‬وخاضعـ ًا إلطـارات فكريـة‬ ‫إبداعـي ُمتَّـك ً‬ ‫ٍ‬
‫فعـل‬ ‫كل‬
‫ّ‬
‫م َعـدَّ ة سـلف ًا مـن أصحـاب العقل املتجبر‪ .‬وهذه الفئـة هي األكثـر خطر ًا‪،‬‬
‫كوهنـا أدا ًة من ّفـذة ألهـواء ومقاصـد أصحـاب العقـول اجل ّبـارة والسـبيل‬
‫الـذي ُيمكّـن هـؤالء مـن بلـوغ أهدافهـم ونواياهم‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫جيـب أن نُـدرك بأننـا ُمنِحنـا الـروح لنحيا‪ ،‬و ُمنحنـا العواطـف لنعرف‬
‫كيـف نحيـا‪ ،‬وأن نـدرك أننا ُمنحنا اجلسـد لنعيـش‪ ،‬و ُمنحنـا العقل لنعرف‬
‫كيـف نعيش‪.‬‬
‫جيـب ان نُـدرك بأننـا ُمنحنـا الروح لنحيـا‪ ،‬و ُمنحنـا العواطـف لنعرف‬
‫كيـف نحيـا‪ ،‬وأن نـدرك اننا ُمنحنا اجلسـد لنعيـش‪ ،‬و ُمنحنا العقـل لنعرف‬
‫كيـف نعيش‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫مقاييس الشخصية المثالية في العقل الجمعي‬
‫َأ ْعطِني صفات الشخصية املثالية للمجتمع ُأعطِ َك الطبيعة األخالقية له‪.‬‬
‫يف كل جمتمـع مـن املجتمعـات اإلنسـانية هنـاك نمـوذج للشـخصية‪،‬‬
‫تكـون مسـتوطنة يف العقـل اجلمعي للمجتمـع‪ ،‬وتكون هي األكثـر تقدير ًا‬
‫واحرتامـ ًا مـن قبـل املجتمـع‪ ،‬وتصبح مثاالً أعلى حيتذى بـه‪ ،‬وألجل ذلك‬
‫تتمح َور‬
‫ْ‬ ‫املعبة عـن واقع هذا املجتمـع‪ ،‬واملحور الـذي‬
‫فهـي تُعتبر اهلو ّية ّ‬
‫حولـه أجنـدات الثقافـة والفاعليـة التارخييـة واحلضارية‪ .‬من هنا نسـتطيع‬
‫أن نعتبر أن مـن أهـم أمـراض جمتمعاتنـا املزمنـة هـي حتديـده لصفـات‬
‫ومالمح الشـخصية‪ ،‬أو" السـوبر شـخصية"‪ ،‬التي حتظـى باحرتامه‪ ،‬وعىل‬
‫نطاقـه األوسـع‪ ،‬وأحيانـ ًا حتـى تقديسـه وإجاللـه إذا مـا بـرع وأبـدع يف‬
‫َت َل ُّبـس هـذه الصفات‪.‬‬
‫ومن أهم صفات هذه الشخصية‪:‬‬
‫التكب والغرور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أوالً‪:‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬الرباعة يف ارتداء األقنعة‪.‬‬
‫الفكري والذهني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثالث ًا‪ :‬الت َقوقع‬
‫يض مـع ّ‬
‫كل اخلطـوط العامـة للثقافـة املجتمعيـة‬ ‫رابعـ ًا‪ :‬التامهـي َ‬
‫املـر ّ‬
‫املوروثـة مـن عـادات وأفـكار وتقاليـد‪.‬‬
‫خامسـ ًا‪ :‬القـدرة الفائقـة على الكـذب واملجاملـة واخلـداع‪ ،‬حتـى‬
‫املكشـوف منهـا‪.‬‬
‫بغض النظر عن مصادر هذا الغنى‪.‬‬ ‫سادس ًا‪ِ :‬‬
‫الغنى املا ّدي ّ‬
‫سابع ًا‪ :‬اجلدّ ّية ا ُملفرطة‪ ،‬مع فواصل إعالنية من التواضع والبساطة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ثامن ًا‪ :‬القسوة املفرطة ّ‬
‫بحجة الدفاع عن الوجود واهلوية‪.‬‬
‫عندمـا تكـون هـذه هـي الصفـات ا ُملثلى للمجتمـع سـنفهم إذ ًا مل َ هذه‬
‫املجتمعـات بـكل هـذا الرتاخـي املعـريف وبكل هـذه السـلبية السـائدة!‪..‬‬
‫فالطريقـة التـي نعيـش فيهـا حياتنـا هـي التـي حتـدّ د مـا سـنحصل عليـه‬
‫ومـا حيـدث لنـا؛ حسـب هـذا القانـون الكـوين الدقيـق نسـتطيع أن نفهم‬
‫الصعد‪ ،‬يف‬ ‫وتتفـرع يف جمتمعاتنـا‪ ،‬وعلى كل ُ‬
‫ّ‬ ‫أن هـذه السـلبية التـي تسـود‬
‫عالقاتنـا وتعامالتنـا ويف أفكارنـا وتفامهاتنـا وثقافتنا‪ ،‬بـل حتى يف جماالت‬
‫الكـم اهلائـل مـن‬ ‫ّ‬ ‫الفـ ّن واحلضـارة واألدب‪ ،‬وسـنُدرك أسـباب هـذا‬
‫الكراهيـة والنفـاق واحلسـد واملنافسـة‪ ،‬وكل هذا احلقد واحلـزن والغضب‬
‫والضيـاع‪ ،‬وكل هذه السـوداوية والتشـاؤمية‪ ،‬وكل هذا الفسـاد األخالقي‬
‫َـم اهلائـل مـن السـلبية ما هو‬‫واملـايل واإلداري والفكـري‪ ،‬فـكُل هـذا الك ّ‬
‫إال كغاممـة سـوداء متنـع َ ُ‬
‫وت ُ‬
‫ـول بيننا وبين النعمة والربكـة اإلهل ّيـة‪ ،‬وبيننا‬
‫وبين النماء والرخـاء واإلبـداع اإلنسـاين‪ ،‬واجلامل ِّ‬
‫والشـفاء‪.‬‬
‫أمخاس‬
‫َ‬ ‫جلأت فيها إليك‪ ،‬حم ّطم ًا ومنكرس ًا‪ ،‬أرضب‬
‫تلـك اللحظـة التي ُ‬
‫وقلـت يل‪:‬‬
‫َ‬ ‫ـت على كتفـي‬ ‫الطريـق‪َ ،‬ف َر ّب َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وسـألتك‬ ‫احليرة بأسـداس األمل‪،‬‬
‫امسح ضباب احلرية بأصابع قلبك لِرتاين هال ًة من النور والسكينة‪...‬‬
‫ْ‬
‫هل قلتها للجميع ؟!‬

‫‪46‬‬
‫اآلن هو أفضل وقت للتغيري‪.‬‬
‫إذا أبقيــت انتباهــك عــى اجلســد بقــدر مــا يمكنــك‪ ،‬فإنــك ســوف‬
‫تثبــت يف ( اآلن)‪ ،‬ســوف لــن ختــر نفســك يف العــامل اخلارجــي‪ ،‬ولــن‬
‫ختــر نفســك يف عقلــك ‪.‬‬
‫األفـكار‪ ،‬والعواطـف‪ ،‬اخلـوف والرغبـات‪ ،‬قـد تظـل هنـاك ملـدى‬
‫أطـول‪ ،‬ولكنهـا سـوف لـن تتغلـب عليـك ‪.‬‬
‫(إيكهارت تول)‬

‫عندما تق ّيدك األمكنة‬


‫وحتكمك قسوة الواقع‬
‫تشعر بشغفك للحياة مثل هلب يكوي صدرك‪.‬‬
‫كلام ش ّيدت لنفسك حل ًام أو أم ً‬
‫ال اغتالته أيدي الظروف الظاملة‪..‬‬
‫حياتك تكون أشـبه بالبنـدول الذي يتأرجح بني اإلرادة واالستسلام‪،‬‬
‫بني القـوة والضعف‪ ،‬وبني النشـوة والكبوة‪...‬‬
‫ال متتلك القدرة وال املعرفة عىل استثامر طاقاتك الداخلية‪...‬‬
‫تتسـ ّلل جلسـدك األمـراض كأهنـا وحـوش جائعـة تبحـث عن فريسـة‬
‫عاجـزة ‪ ...‬تشـعر بأنك صدفـة كونية خائبـة‪ ،‬تتل ّفت حولك لتُحـدّ د من ذا‬
‫الذي تُلقي عليه مسؤولية وضعك احلايل‪ :‬اهلل ‪ -‬احلظ ‪ -‬القدر ‪ -‬األخرون‪..‬‬
‫صدّ قنـي؛ كل فلسـفات العـامل ونظرياتـه وأفـكاره وعلومـه التجريبيـة‬
‫والتنظرييـة‪ ،‬ليـس لدهيـا إجابة لـك‪ ،‬وال يمكـن أن تقـدّ م لك يـدَ العون‪،‬‬
‫وليـس ألحـد غيرك أن يتحمـل مسـؤولية خسـاراتك‪ .‬كل األجوبـة‬

‫‪47‬‬
‫واحللـول يف داخلـك‪ ،‬يف إرادتك وتصميمك‪ ،‬لذلك عليـك اآلن أن تبدأ‪،‬‬
‫وأن تتخ ّلـص مـن قيـود الكسـل‪ ،‬وأن تقطـع حبـل االنتظـار‪..‬‬
‫وتـدرك جوهـرك هنـاك سـتجد مسـاحة مـن‬ ‫ُ‬ ‫عندمـا تصـل ألعامقـك‬
‫فهمـك وإدراكك (أجيـو ‪ -‬أفكار‬ ‫وم ّـررة مـن كل مـا ُيعيـق َ‬‫الفـراغ خاليـة ُ‬
‫داخليـة أو خارجيـة ‪ -‬كلامت ‪ -‬تع ّلـق ‪ -‬برجميات ‪ -‬رغبـات وغايات)‪ ،‬يف‬
‫تتحرر من كل املعلوم‪ ،‬كي تفسـح املجال لألشـياء‬ ‫رحلـة الوعـي عليك أن ّ‬
‫يتجلى‪،‬‏عندما يكـون التفكري صامتـ ًا‪ ،‬ختتفي‬ ‫ّ‬ ‫اجلديـدة والوعـي اجلديـد أن‬
‫املخـاوف وختتفـي ا ُملقارنـات وختتفـي االنقسـامات الداخليـة‪ ،‬ويبقـى يف‬
‫الداخـل الفـراغ النقـي‪ ،‬وهـو يف حقيقته ليس بمعنـى الفراغ الـذي نعرفه‪،‬‬
‫لـق واإلبـداع‪ ،‬يف‬‫ـم الـذي منـه ُيو َلد اخلَ ُ‬ ‫بـل هـو الفراغ الـذي يمثـل ِ‬
‫الرح َ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫هـذا الفـراغ ا ُملطلـق تنطلـق رحلتنا‪ ..‬رحلـة الوعي واالسـتنارة‪.‬‬
‫لـو تأ ّملنـا يف خمتلـف األفعـال واألوضاع التـي ُتكّن اإلنسـان من ّ‬
‫فك‬
‫ارتباطـه بربجمـة املجتمـع‪ ،‬وتغيير سـيناريوهاته املفروضة وبالتـايل امتالك‬
‫التحـرر مـن بندوالتـه‪ ،‬لوجدنـا أن اسـتعادة امتلاك اللحظة‬ ‫ّ‬ ‫القـدرة على‬
‫اآلن ّيـة هـي ا ُملرتكَـز األسـايس لكل ذلـك‪ .‬ألنك فقـط من خالهلا تسـتطيع‬
‫أن تسـتعيد حريتـك وتالمـس وجـودك‪ ،‬وتقـرأ وجدانـك‪ ،‬مـن دون أي‬
‫تأثيرات خارجيـة‪ ،‬ومـن خالهلـا تسـتطيع أن تُبصر رسيرتـك بوضـوح‬
‫تـا ّم‪ ،‬لتسـتعيدَ براءتـك وطبيعتـك الكونيـة‪ ،‬تلـك الطبيعـة التـي صنعهـا‬
‫التسـليم التـا ّم ل ّلحظة اآلنيـة وتتق ّبل‬
‫َ‬ ‫وأبدعهـا العقل الكـوين‪ .‬عندما تعلن‬
‫أوضا َعـك احلاليـة‪ ،‬تُصبـح أكثـر قدرة على التمييـز‪ ،‬ويصبح التغيير أكثر‬
‫سالسـة‪ ،‬وتتد ّفـق إليـك العنايـة الكونيـة بانسـياب ّية ويرس‏‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫التحرر‬
‫ّ‬ ‫عندمـا تكـون سـاكن ًا مطمئنّـ ًا يف عمـق ال ّلحظة اآلنيـة تسـتطيع‬
‫مـن أثقال املـايض وأوهام املسـتقبل‪ ،‬والتحرر من سـلطة الفكـر واملفاهيم‬
‫اجلاهـزة‪ِ ،‬‬
‫لتصـل حلالـة اهلـدوء والسلام‪ ،‬والمتالك زمـام الذهـن‪،‬‏ فطاقة‬
‫التفكير باللحظـة املاضيـة واللحظـة القادمـة‪ ،‬هـي طاقة مرسوقـة من متام‬
‫اللحظـة اآلنيـة‪ ،‬أي إهنـا طاقـة مرسوقـة مـن فيـض اخلبرة ومـن اإليمان‬
‫با ملستقبل ‪.‬‬
‫هنـا فقـط يف حالـة السلام الداخلي سـيحدث اإلدراك احلقيقـي‪،‬‬
‫فالتحـول الداخلي والتغيير حيـدث عندمـا ُيدرك‬ ‫ّ‬ ‫وتُزهـر مشـاعر الفهـم‪،‬‬
‫الفـرد ويفهـم بنية املجتمع وأسـاليبه واشتراطاته‪ ،‬هـذا اإلدراك وبرشوطه‬
‫احلقيقيـة (االنتبـاه ‪ -‬عـدم إطلاق األحـكام والتعريفـات ‪ -‬التسـامح ‪-‬‬
‫يت‪ ،‬هنـا علينـا أن نركّز‬ ‫ِ‬
‫القبـول ‪ -‬احلياديـة) هـو مـن َسـ ُيحدث التغيير الذا ّ‬
‫جيـد ًا يف آليـة اإلدراك هـذه‪ ،‬نظـر ًا ألمه ّيتهـا القصـوى يف التغيير وأمه ّيتها‬
‫فك التع ّلق باألشـخاص واألشـياء‪ ،‬ويف التحرر‬ ‫يف كل نواحـي حياتنـا‪ ،‬يف ّ‬
‫مـن عاداتنـا السـلبية ومعاناتنـا وجهلنـا وعبود ّيتنـا‪ ،‬وألجـل الدخـول يف‬
‫التحـول علينـا أن نركّز انتباهنـا عىل عدد‬
‫ّ‬ ‫عمليـة التغيير واسـتمرارية فعل‬
‫مـن األُسـس اجلوهريـة ذات األمهيـة القصوى‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫القبول‬
‫بداية املعاناة ‪ ..‬هو رفض رؤية الواقع كما هو ؛‬
‫تقبل الواقع كما هو‪ ،‬ثم انطلق نحو التغيير ‪،‬‬
‫القبول الكامل اول الطريق‪.‬‬
‫( ديباك شوبرا)‬

‫ما تتق ّبله ستواجهه‪ ،‬وما تواجهه ستفهمه‪ ،‬وما تفهمه لن يؤذيك‪..‬‬
‫رس األرسار‪..‬‬
‫القبول ّ‬
‫وبغـض‬
‫ّ‬ ‫أوالً؛ علينـا أن نتق ّبـل‪ ،‬وأن نتصالـح مـع وضعنـا احلـايل‪،‬‬
‫مهم جـد ًا ألجل حالة السـكينة‬ ‫النظـر عـن واقعنـا وظروفنا‪ ،‬هـذا القبـول ٌّ‬
‫ومهـم جد ًا لعمليـة الرتكيـز واالنتباه‪ ،‬والتي سـنحتاج‬
‫ّ‬ ‫واهلـدوء الداخلي‪،‬‬
‫ـس العميـق‬ ‫إليهـا دائم ًا يف رحلتنـا نحـو التغيير والوعـي‪ ،‬هـو يشـبه الن َف َ‬
‫واالسترخاء الذهنـي التـا ّم الـذي حيتاجـه العـدّ اؤون الرياضيـون ُق َبيـل‬
‫انطلاق املنافسـات‪.‬‬
‫ٌ‬
‫خلـط واضـح وكبري يف موضـوع القبـول؛ فهناك مـن يفهمه عىل‬ ‫هنـاك‬
‫كسـل‬
‫أنـه استسلام ورضـوخ لألمـر الواقـع‪ ،‬وهنـاك مـن يفهمه عىل أنه َ‬
‫تكاسـل أو راحة سـلبية‪.‬‬
‫أو ُ‬
‫نتطور‬
‫بدايـة؛ علينـا أن نفهـم بأننـا موجودون هنا ألجـل أن نفهـم وأن ّ‬
‫حريتنـا واختياراتنـا‪ ،‬وألجل عيشـنا ا ُملبـدع الكريم‪،‬‬ ‫وأن نُحـارب ألجـل ّ‬
‫ال أن نستسـلم للجهـل واملهانـة والقيـود والربجميـات املجتمعيـة‪ ،‬علينا أن‬
‫نفهـم ونؤمـن بقيمة أنفسـنا ونُقـدّ ر ذواتنـا ونحترم ُقدراتنا ونشـكر ن َع َمنا‬
‫اإلهل ّيـة‪ ،‬وال نكفـر هبـا بإغفاهلا وإمهاهلـا وجحودها‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫مـن هـذا املبدأ األسـاس سـنفهم أن القبـول ال يعني االستسلام‪ ،‬وال‬
‫والنمو‬
‫ّ‬ ‫يعنـي ك ْب َت طاقاتنـا وحريتنا بل هو نقطـة انطالق ُمثىل نحـو التغيري‬
‫والتطـور‪ ،‬ملـا ُي ّيئه لنا القبول من مسـاحة واسـعة وكافية للسلام لنفوسـنا‬
‫ّ‬
‫وأفكارنـا‪ ،‬وحالـة مـن الراحـة والسـكينة ملشـاعرنا‪ ،‬كـي تتح ّفـز بالتـايل‬
‫النقي‪ ،‬ومعرفـة وإدراك إذا مـا كان احلدث أو الشـخص أو‬ ‫ّ‬ ‫طاقـة الوعـي‬
‫املوقـف قابل للتغيير أم ال‪.‬‬
‫القبـول هـو مـن هي ّيـئ لنا مسـاحة مـن السلام واهلـدوء والقـدرة عىل‬
‫رؤيـة األمـور بشـكل أوضـح دون توتّـر أو فـوىض فكر ّية ومشـاعرية‪.‬‬
‫القبـول يعنـي أن نتق ّبل واقعنا‪ ،‬لكن دون رضـوخٍ ‪ ،‬وأن نتقبل كل ما ال‬
‫يمكننـا تغييره‪ ،‬القبول يعنـي أن نتق ّبل ما حدث ألجل تغيري ما سـيحدث‪.‬‬
‫بشـخص مـا‪ ،‬سـواء بطريقـة مفروضة‬ ‫ٍ‬ ‫لنفترض مثل ً‬
‫ا أين على عالقـة‬
‫ٍ‬
‫ومؤذ‬ ‫سـلبي جـدّ ًا‬ ‫أو اختياريـة‪ ،‬لكـن هـذا الشـخص اتّضـح أنه شـخص‬
‫ّ‬
‫أدفع‬
‫ودائـم التجـاوز على حريتـي وعلى أفـكاري‪ ،‬فهل مـن املعقـول أن َ‬
‫حيـايت وسلامتي النفسـية ومعنى وجـودي ثمنـ ًا هلذا القبـول ؟!‪.‬‬
‫أسـتمر يف الرتديـد "إن هذا هـو قـدري‪ ،‬أو إهنا‬
‫ّ‬ ‫وهـل مـن املعقـول أن‬
‫ّ‬
‫احلـظ‪ ،‬أو مشـيئة اهلل" أو غريهـا مـن املخـدّ رات واألعذار؟!‪.‬‬ ‫مشـيئة‬
‫ألي يشء‬
‫علينـا أن نفهـم أن هـذا استسلا ٌم وخسـارة كبيرة ال يمكـن ّ‬
‫تعويضهـا‪ ،‬فنحـن وحدَ نـا مـن ندفـع الثمن‪.‬‬
‫نتهـرب مـن واقعنـا‪ ،‬بـل هـو مواجهة الواقـع بوعي‬‫القبـول يعنـي ّأل ّ‬
‫وإدراك وثقـة‪ ،‬ألجـل االنطلاق يف رحلـة التغيير‪ ،‬ووفقـ ًا لقدراتنـا‬
‫اإلهلي‬
‫ّ‬ ‫وإمكانياتنـا الذاتيـة‪ ،‬والتـي هي بال حـدود ووفق ًا لإليمان بالتوفيق‬
‫الكـوين الالحمـدود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والدعـم‬

‫‪51‬‬
‫الرضـا و القبـول ال يعنـي أن هتـوي بأرشعتـك وقـت العاصفـة‪ .‬هـو‬
‫حالـة اهلـدوء والسـكينة التـي سـتلهمك االجتـاه الصحيـح‪.‬‬
‫مهيـة الرضـا والقبـول يف أنـه غالبـ ًا مـا هي ّيـئ أرض ّيـة ومسـاحة‬
‫تظهـر أ ّ‬
‫الذهنـي‪ ،‬وبالطبـع إن‬
‫ّ‬ ‫واسـعة ومناسـبة حلالـة السلام النفسي والتفتـح‬
‫حالـة السلام الداخلي هـي البيئـة املثالية ملامرسـة أجهـزة اجلسـم ا ُملختلفة‬
‫ـم السلام الداخيل أرجاء‬ ‫لوظائفهـا بصـورة طبيعيـة ومتناسـقة‪ .‬فعندما َي ُع ّ‬
‫اجلسـد سـيحدث التناغم واالنسـجام بين اجلسـد والعقل والـروح بدون‬
‫وجـود رصاعـات داخليـة وسـوء فهـم داخلي‪ ،‬وبالتـايل الوصـول حلالـة‬
‫الذهنـي دون ضغـوط داخليـة أو خارجيـة‪ ،‬فاسـح ًا الطريـق‬ ‫ّ‬ ‫مـن الصفـاء‬
‫لتفتّـح أزهـار الوعـي واخليال واإلبـداع والطمـوح‪ .‬أي بمعنـى أن القبول‬
‫ال يتقاطـع بحـال مـن األحـوال مـع اخليـال والطموح‪.‬‬
‫قد يبدو ظاهري ًا أن األمر متناقض‪ ،‬فكيف أستطيع تق ُّب َل ذايت احلالية‪ ،‬ويف‬
‫للميض يف رحلة التغيري والنمـو والنضج الروحي؟‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫الوقت نفسـه أسـعى‬
‫التمرد‬
‫أسـاس جوهـري يف رحلـة ّ‬ ‫ٌ‬ ‫علينـا أوالً أن نُؤمـن بـأن التناقـض‬
‫عين‬
‫ملسـتوى ُم َّ‬
‫ً‬ ‫والتغيير؛ فأفـكاري و َثوابِتـي يف األمـس كانـت نتيجـة‬
‫وسـتتغي هـذه الثوابت‬
‫ّ‬ ‫بمسـتوى خمتلـف‪،‬‬
‫ً‬ ‫مـن الوعـي‪ ،‬وسـتكون اليـوم‬
‫وصلـت إليها يف هـذه اللحظة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫واألفـكار غـد ًا‪ ،‬تبعـ ًا لدرجة الوعـي التي‬
‫فهـذه هـي الديناميـة الكونيـة الطبيعيـة للتغيير‪ ،‬وعلى اجلانـب اآلخر‬
‫سـتتوضح لنا آل ّيـة القبول‬
‫ّ‬ ‫إذا مـا تت ّبعنـا األثـر السـلبي للرفـض واملقاومة‪،‬‬
‫وأمه ّيتهـا بصورة أكثر وضوح ًا‪ .‬فأكثر العلل واملشـاكل النفسـية واجلسـدية‬
‫التعصب‪ -‬اخلوف ‪ -‬القلـق)‪ .‬فمعنى‬ ‫ّ‬ ‫سـببها الرفض واملامنعـة (الكَبـت ‪-‬‬
‫أن نرفـض هـو أن نسـمح للفكـرة بالنضـوج والتغلغـل يف العقـل الباطـن‬
‫(اللا واعـي) فعندمـا أرفـض كـوين على خطـأ فـإن "األجيـو" يسـتثمر‬

‫‪52‬‬
‫حـق‪ ،‬وجيب‬
‫وألعيبـه ليز ّيـن يل وجهة نظـري بأين عىل ّ‬ ‫كل آل ّياتـه َ‬
‫وحيشـد ّ‬
‫دوامة‬
‫علي التشـ ّبث برأيـي لرييض غـرور الــ "أنـا"‪ ،‬ل ُيدخلنـي بالتـايل يف ّ‬
‫ّ‬
‫التعصـب الفكري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫و َمهلكـة‬
‫ويف حالـة املـرض واألمل فـإن عامـل الرفض يسـتدعي التوتّـر واخلوف‬
‫والقلـق‪ ،‬وهـذا بـدوره سـيقوم بإيصـال رسـالة ذعـر ّ‬
‫لـكل خاليـا الدفاع‬
‫يت لتنتفـض هـذه اخلاليـا وتعمـل على محايـة نفسـها‪ ،‬تاركـ ًة اجلسـدَ‬
‫الـذا ّ‬
‫فريسـة سـهلة للمـرض واألمل‪.‬‬
‫عندمـا نقـول‪ :‬علينـا أن نتق ّبـل حزننـا وأ َملنـا وغضبنـا‪ ،‬هـذا يعنـي أن‬
‫احلـق يف التواجد‪ ،‬ومسـاح ًة مـن احلضور الطبيعي للسـبب وللغاية‬ ‫نعط َيـه ّ‬
‫ونتغير‪ ،‬ال أن نرتد َيـه دائم ًا‬
‫ّ‬ ‫التـي وجـد مـن أجلهـا‪ ،‬أن نفهـم حكمتـه‬
‫ونتلـذذ بـه ونعلنـه للملأ حتـى نسـتجدي تعا ُطـف اآلخرين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونتكاسـل‬
‫ولنخسر بالتـايل مـا تب ّقـى لنـا مـن قوتنـا وطاقتنـا وتوازننا‪.‬‬
‫هنـاك تشـاب ٌه كبير مـا بين كـرة القـدم وحيـاة اإلنسـان؛ فاإلنسـان‪،‬‬
‫يتعـرض‬‫ّ‬ ‫ومهما كانـت درجـة قوتـه مـن حيـث وعيـه وثقافتـه ومرونتـه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ألسـباب يصعـب معرفتهـا واليقين هبـا بسـبب تأ ّثـره‬ ‫أحيانـ ًا للهزيمـة‬
‫بتعقيـدات يصعب اإلملـام هبا‪ ،‬وبقوانين كثرية وبسـبب خضوعه لظروف‬‫ٍ‬
‫هزائمه دائم ًا‪ ،‬وكام‬
‫َ‬ ‫حصر هلا‪ ،‬لذلك على اإلنسـان أن يتقبل‬
‫َ‬ ‫ومؤ ّثـرات ال‬
‫يقولـون "بـروح رياضيـة" ‪ ،‬فيسـعى دائم ًا لتربيرهـا بوعي وفهمهـا برتكيز‬
‫هـادئ وواضـح‪ ،‬وألجـل حماولـة فهم كيف تسير احليـاة يف عـامل الرياضة‬
‫يقولـون‪ :‬عليـك أن تتق ّبـل اخلسـارة بـروح رياضيـة‪ ،‬ألنـك عندمـا تتقبل‬
‫الواقـع سـتهدأ وتفهـم‪ ،‬وبالتـايل تتجاوز ما يبدو خسـارة‪ .‬وإن كـرة القدم‬
‫هـي‪ ،‬كما احلياة‪ ،‬رحلة متأرجحـة بني الفوز واخلسـارة‪ ،‬والفريق األفضل‬
‫علمـي من خلال معرفة األسـباب‬ ‫ّ‬ ‫هـو مـن يسـتفيد من اخلسـارة بشـكل‬

‫‪53‬‬
‫تعصـب ودون هـروب ودون الشروع يف‬ ‫ودراسـتها هبـدوء ورو ّيـة‪ ،‬دون ّ‬
‫احلـي املثابـر‪ ،‬وهكـذا ينبغي أن‬
‫ّ‬ ‫إلقـاء الت َُّهـم جزافـ ًا‪ .‬هكـذا يكـون الفريق‬
‫احلـي املثابـر وال َّطموح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يكـون اإلنسـان‬
‫رس السلام والسـكون‪ ،‬ويف القبول‬ ‫ّ‬
‫التجل‪ ،‬ويف القبول ّ‬ ‫رس‬
‫يف القبول ّ‬
‫رس الوعي والنضج‪..‬‬
‫ّ‬

‫التسليم‬
‫تكمـن قـوة التسـليم يف قدرتـه على حتريـر املشـاعر والسماح برحيلها‬
‫والتخ ّلـص بالتـايل مـن تراكمهـا وكبتهـا‪ .‬تقنيـة التسـليم سـتجعلنا نفهـم‬
‫رس املشـاعر‪ ،‬لكـي ال نعيـش املقاومـة والفـوىض‬ ‫رسـالة األمل ونفهـم ّ‬
‫والرصاعـات الداخليـة‪ .‬فأنـت عندمـا تكـون يف سـياق املقاومـة سـتصنع‬
‫ات لالنسـياب الطبيعـي للطاقـة يف داخـل اجلسـد‪ ،‬ممّـا‬ ‫سـدود ًا ومصـدّ ٍ‬
‫ُيسـ ّبب االضطـراب يف تد ّفـق الطاقـة‪ ،‬وهذا هـو املسـ ّبب األول للمرض‪.‬‬
‫علينـا أن نفهـم أن املشـاعر املزعجـة (خـوف ‪ -‬قلـق ‪ -‬تأنيـب ‪ -‬حزن‬
‫تنبيـه تعمـل كجهاز محايـة وحاجز‬‫ٍ‬ ‫‪ -‬قلـق ‪ -‬كراهيـة) مـا هـي ّإل رسـائل‬
‫معين أو خطـر مـا‪ ،‬لذلـك ال ينبغـي كبتهـا أبـد ًا حتـى ال‬ ‫دفاعـي لظـرف ّ‬
‫ّ‬
‫تتحـول إىل أمـراض واضطرابات نفسـية‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ـم ّية‪،‬‬
‫تتحـول إىل مشـاعر ُس ّ‬
‫ّ‬
‫تتطـور ألحـداث مؤملـة‪ .‬وال ينبغـي أيضـ ًا أن نجعـل مـن تلـك املشـاعر‬ ‫ّ‬
‫طريقـة حيـاة‪ ،‬ألهنـا سـتكون حاجـز ًا بيننـا وبين احلياة‪.‬‬
‫املـاء املسـكوب يف القـدح يتفاعـل ويسـتجيب للمؤثـرات اخلارجيـة‬
‫الطارئـة؛ فنـراه يف حالة ه َيجـان وثورة حتى يتهـادى بـزوال املؤ ّثر‪ ،‬وبكل‬
‫انسـياب ّية وتلقائ ّيـة‪ ،‬حتـى الوصول حلالة السـكون التـا ّم‪ .‬علينـا أن نتفاعل‬

‫‪54‬‬
‫ٍ‬
‫وقبول‪،‬‬ ‫واملتغيرات بـكل اسـتحقاقها وبتلقائيـة وشـجاعة‬ ‫مـع احلـوادث‬
‫ّ‬
‫لنصـل حلالـة السلام التـا ّم‪ ،‬كما يفعل ذلـك املاء‪.‬‬
‫ما هو الفرق بني التسليم واالستسالم؟‬
‫املتغي نقول‪:‬‬ ‫يف التسليم ّأول ر ّد ٍ‬
‫فعل حول ّ‬
‫حسـن ًا أنـا أقبل التحـدّ ي ألين واثق مـن إمكانيـايت الذاتيـة‪ ،‬وواثق بأن‬
‫الكـون سـيقوم بمسـاعديت يف جتـاوز التغيير‪ .‬أ ّمـا يف االستسلام َفـردود‬
‫أفعالنـا سـتكون على شـاكلة‪ :‬مـا هـذا احلـظ السـيئ!‪ ،‬مـا أقسـى هـذه‬
‫التحمـل أكثر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الظـروف اللعينـة!‪ ،‬أو‪ :‬أنـا مسـكني ال أمتلـك القـدرة عىل‬
‫ولتوضيح الفرق بني األمرين نورد املثال التايل‪:‬‬
‫ٌ‬
‫حيـوان‬ ‫خت ّي ْـل أنـك تسير لوحـدك يف غابـة‪ ،‬وفجـأة ظهـر أمامـك‬
‫للترصف‬
‫ّ‬ ‫لهمك الصفـاء الذهني واهلـدوء الداخيل‬ ‫مفرتس‪ ،‬التسـليم هنـا ُي ِ‬
‫بحكمـة وثِقـة واطمئنـان‪َ ،‬ف ُت ْب ِعـدُ نفسـك من أمـام هذا الوحـش املفرتس‪،‬‬
‫وحلين مـروره‪ ،‬ألنـك تفهـم وتُـدرك أنـه ال جـدوى أبـد ًا مـن مصارعته‪.‬‬
‫مكتـوف اليدين أمـام هـذا الوحش‬
‫َ‬ ‫أمـا االستسلام فيعنـي أنـك سـتقف‬
‫ٍ‬
‫خارس لـك‪ ،‬أو له‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قاتـل‬ ‫فتسـمح لـه بمهامجتـك والدخول معـه يف رصاع‬
‫ستة أسباب تثبت ّ‬
‫أن التسليم معجزة‪..‬‬
‫‪ -‬له القدرة عىل تفكيك الربجمة الداخلية وتفكيك املشاعر املكبوتة‪.‬‬
‫‪ُ -‬يلهمنا الشجاعة والصرب والفهم واحلكمة‪.‬‬
‫نعمتَي السالم الداخيل والتصالح مع الذات‪.‬‬
‫‪ -‬جيلب حلياتنا َ‬
‫رسيان الطبيعة والكون‪.‬‬
‫‪ -‬جيعلنا نشعر بالتناغم مع َ‬
‫‪ -‬هـو الوضـع املثـايل الـذي ُيمكّننـا من جتـاوز املشـكالت واألحداث‬
‫ومهمـة يف الرحلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصعبـة بحكمـة وامتالك جتـارب مفهومـة‬

‫‪55‬‬
‫‪ -‬سـيصنع التسـليم منـك شـخص ًا ال يريـد‪ ،‬وعندمـا تصبـح ال تريـد‬
‫تفتـح لـك احليـاة ذراعيها‪..‬‬
‫ويتوجـب عليـك حلحلتهـا‪ ،‬إمـا أن تُرخيهـا‬
‫ّ‬ ‫عندمـا تصادفـك عقـدة‬
‫فتسـهل‪ ،‬وإمـا أن تشـدّ ها أكثـر فتصعـب‪ ،‬هـذا هـو الفـرق بين القبـول‬
‫والتسـليم وبين املامنعـة واملقاومـة‪.‬‬
‫كل ما حيدث لنا هو ما نحتاجه بالضبط لنصل ملرحلة‪:‬‬
‫(النضج‪ ..‬الشفاء‪ ..‬احلب)‪.‬‬
‫تعدّ دت األسامء‪ ،‬واجلوهر واحد‪.‬‬
‫كل ما حيدث لنا هو وفق قوانني كونية صارمة ودقيقة وعادلة‪.‬‬
‫(قل لن يصيبنا ّإل ما كتب اهلل لنا)‪.‬‬
‫القوانني الكونية هي كتابة اهلل‪.‬‬
‫فالذيـن يستسـلمون للجوهـر اإللهـي في احليـاة يعيشـون بطمأنينة‬
‫وسلام حتـي عندمـا يتعـرض العالـم برمتـه إلـي اضطـراب تلـو‬
‫االضطـراب‬
‫(جالل الدين الرومي)‬

‫ـأ لرحلتك‬ ‫اإلهلـي سـتكون ُمه ّي ً‬


‫ّ‬ ‫يتجلى فيـك اجلوهـر‬‫ّ‬ ‫يف اللحظـة التـي‬
‫يف احليـاة‪ ،‬ووفقـ ًا للقيـم اإلهليـة‪ ،‬تلك القيـم التي حتتضـن وترعـى دينام ّية‬
‫التطـور والرت ّقـي اإلنسـاين‪ ،‬بمعنـى أنـك سـتُحب األشـياء مـن حولـك‬ ‫ّ‬
‫التطـور والرتقـي اإلنسـاين‪ ،‬وليـس لغايـة‬ ‫ّ‬ ‫كونـك حمبـ ًا‪ ،‬وألجـل ديناميـة‬
‫أخـرى‪ ،‬وسـتكون رحومـ ًا وعطوفـ ًا و ُمبدعـ ًا ومتسـاحم ًا لنفـس الغايـة‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫وليـس لغايـات ُأخـرى ضيقة وشـخصية‪ ،‬وسـتكون ّ‬
‫حـر ًا مسـؤوالً بتلك‬
‫القيـم ولتلـك الغايـة السـامية‪َ ،‬فبغير هـذا لـن تكـون حـر ًا بـل سـتكون‬
‫طائشـ ًا بنزواتـك وغرائـزك وأنان ّيتـك‪ ،‬وسـتكون خـارس ًا بجشـعك‬
‫وب ُظلمـك لنفسـك ولآلخريـن‪.‬‬
‫سـتكون تائهـ ًا ُمطمئنـ ًا يف بِحـار احليـاة مهما اضطربـت وتالطمـت‬
‫ِ‬
‫قيمـك اإلهل ّية‪ ،‬كسترة نجـاة‪ ،‬فبغري تلك‬ ‫أمواجهـا‪ ،‬ألنـك تُبحـر مرتديـ ًا َ‬
‫القيـم ال ُيمكنـك أن تصـل إىل شـاطئ األمـان واخللاص‪ ،‬سـتبقى ضائع ًا‬
‫تتقاذفـك أمـواج احليرة والعبثية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بإيامن‬ ‫يتغير فينا؟‪ ..‬ومـا هـي ُمكتسـباتنا عندما نحيـا احليـاة‬
‫مـا الـذي ّ‬
‫ووعـي بأهنا تسير وفـق قوانني عادلـة وصارمـة ودقيقة‪ .‬وتكـون أحداثها‬
‫من ّظمـة وليسـت عبث ّية أو عشـوائية؟‪..‬‬
‫بلا ّ‬
‫شـك إن الوعـي ومعرفة هـذه القوانني لـه األثر الكبري على حياتنا‬
‫وعلى تناغمنا معهـا‪ ،‬وألجل جـودة األداء والنتيجة‪.‬‬
‫فكلنـا يفهـم ويشـعر بالفـارق الكبير بين أن نعيـش يف دولـة القانـون‬
‫والنظـام ودولـة املؤسسـات التـي تسـهر على ترشيـع وتنفيـذ القوانين‬
‫أي اسـتثناء‪ ،‬وبني أن‬
‫العادلـة‪ ،‬القوانين التـي تُط ّبـق عىل اجلميـع مـن دون ّ‬
‫نعيـش يف دولـة الال قانـون والال نظـام‪ ،‬أو يف الـدول التي تكـون قوانينها‬
‫تكيـل بمكيالين وال تُن ّفـذ قوانينهـا ّإل على الفئـات األضعـف‪.‬‬
‫أوالً؛ سنشـعر بمسـؤوليتنا‪ ،‬بـل بعظمة مسـؤوليتنا‪ ،‬يف أدائنـا يف احلياة‬
‫وذلـك نظـر ًا لعظمـة دورنـا فيهـا‪ ،‬وبأننـا جـزء فاعـل يف النظـام الكوين‪،‬‬
‫ومـا وجودنـا يف هـذا النظـام إال بسـبب قانـون عـادل وصـارم ودقيـق‪،‬‬
‫سـبب أو‬
‫ٌ‬ ‫وجودنـا نتيجـة ولـكل نتيجة‪ ،‬سـواء أكنا نعرفهـا أم ال نعرفها‪،‬‬
‫أسـباب حمددة‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫ثانيـ ًا؛ سـنحذف مـن قامـوس حياتنـا كلمات مثـل (احلـظ والصدفـة‬
‫وسـتحل حم ّلها كلامت مثل (االسـتحقاق والسـبب والنتيجة‬
‫ّ‬ ‫والنصيـب)‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫والغايـة)‪ .‬فلا يشء حيـدث يف الكـون اعتباطـ ًا؛ ّ‬
‫لـكل حدث‪ ،‬مهما كانت‬
‫قسـاوته وأملـه أو أثـره اجلميـل يف حياتنـا‪ ،‬أسـباب ونتيجـة واسـتحقاق‬
‫وغاية‪.‬‬
‫سـيتجذر يف وعينـا عميقـ ًا مفهـوم التسـليم للقوانين الكونيـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثالثـ ًا؛‬
‫والتسـليم يعنـي الثقـة هبـا والتد ّفـق معهـا واالسـتفادة منهـا واسـتثامرها‬
‫االسـتثامر األمثـل حليـاة مثمـرة‪.‬‬
‫التسـليم يعنـي عدم املقاومـة والتصارع مـع القوانني الكونيـة ونتائجها‬
‫تصـارع مـع القانـون هـو خسـارة متو ّقعـة وحتميـة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وانعكاسـاهتا‪ ،‬فـكل‬
‫ألهنـا قوانين صارمـة وال يمكن أن تتغير‪ .‬األمر بالضبط يشـبه الفارق بني‬
‫أن تقـف يف مواجهـة القطـار السـائر إىل وجهتـه‪ ،‬وبني أن تركـب يف ذلك‬
‫القطـار لتصـل بواسـطته إىل وجهتـك‪ ،‬فهو أذكـى وأكثر حرصـ ًا منك عىل‬
‫إمتـام الرحلـة وعلى جودهتا‪ ،‬فـذكاء تلـك القوانني هـي مـن ذكاء الصانع‬
‫ا ُملقتدر‪.‬‬
‫علينـا أن نفهـم بعمـق أن عمليـة التغيير لألفضـل منوطة بنـا وبطريقة‬
‫رؤيتنـا وأفكارنـا وأفعالنـا‪ ،‬وعلينـا كذلك أن نفهـم بعمق أننـا وحدَ نا من‬
‫نتحمـل مسـؤولية خسـاراتنا ومعاناتنا‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪58‬‬
‫االنتباه‬
‫االنتباه هو الوعي مبن أنت ‪..‬‬
‫وأين أنت ‪..‬‬
‫وماذا يحدث حولك‬
‫في نفس اللحظة ‪..‬‬
‫(‪‎‬ديباك شوبرا)‬

‫املشوشـة وا ُملمنهجـة باألحكام‬


‫التحول مـن الرؤية الذهن ّية ّ‬
‫ّ‬ ‫االنتبـاه هو‬
‫والتو ّقعـات واإلدانـة والفخـر والتأويـل واملقارنـة‪ ،‬إىل بصيرة الـروح‬
‫وحدسـها وحكمتهـا ووعيهـا الطبيعـي‪.‬‬
‫التحـرر والوعي‬
‫ّ‬ ‫رس ًا يؤثـر على النجـاح يف طريـق‬
‫ال أعتقـد أن هنـاك ّ‬
‫والتطـور‪ ،‬مثـل االنتباه‪ ،‬فهـو يعني ببسـاطة حتويـل الرتكيز مـن ا ُملح ّفزات‬
‫ّ‬
‫اخلارجيـة إىل املصـدر الداخلي‪ ،‬ومن نطـاق الكلامت إىل نطـاق املعنى‪ ،‬أي‬
‫تأصيـل املوضوعيـة بالبعد الـذايت‪ .‬وهو العامـل احلاسـم يف عملية تفكيك‬
‫وفـك االرتباط مع فوىض األفكار‪ ،‬ومـع النمط ّية والرتابة الذهنية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الربجمة‬
‫صحيـح أننـا غالبـ ًا مـا ننتبـه لِا حيـدث لنـا وحولنا‪ ،‬لكـن هـذا االنتباه‬
‫جمـد بسـبب أننـا اعتدنـا احلكـم على األشـياء بأحـكام عقليـة‬ ‫غالبـ ًا غير ٍ‬
‫نمطيـة جاهـزة‪ ،‬متأثـرة بأحـوال وظـروف عـدّ ة‪ ،‬أي أنـه غالبـ ًا مـا يكـون‬
‫نقي و َمشـوب بشـوائب الـ "أنـا" الزائفة‪ ،‬أو شـوائب حالتنا النفسـية‬
‫غير ّ‬
‫املسـتثارة االنتبـاه‪ ،‬وكما يؤكّـد ديباك شـوبرا هو دليل عىل سلامة اجلسـد‬
‫العاطفـي وديناميكيتـه الطبيعيـة‪ ،‬ولذلـك علينـا أن نحـاول ونجتهد حتى‬
‫حلكـم والتو ّقـع والتمييـز العقلي‪ ،‬أن‬
‫يكـون انتباهنـا انتباهـ ًا جمـرد ًا مـن ا ُ‬

‫‪59‬‬
‫موجـه وبال أدنـى ارتباط باألشـياء واألحـداث‪ ،‬يكون‬ ‫يكـون انتباهـ ًا َ‬
‫غري ّ‬
‫جمـرد حـدَ ث أو صـورة خمزونـه يف الذاكرة‪ ،‬فـكل ما يف الداخـل من أجهزة‬ ‫ّ‬
‫خمتصـة مـن معاجلـات وخمزونـات هـي مـن الـذكاء بحيـث إن هلـا القدرة‬
‫على تقويم سـلوكنا وإدامـة تفاعلنا مع األحـداث بصورة ناضجـة وفاعلة‬
‫وحقيقيـة‪ ،‬وباسـتلها ٍم مـن عقلنـا الباطني‪ ،‬حيـث تكون خالصـة ُصورنا‬
‫ال مـن نقـاوة التل ّقـي واملعاجلة‪ .‬هـذا االنتباه‬ ‫النقيـة الواضحـة املربجمـة أص ً‬
‫ولنمو البصرية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األهـم لتفعيل البدهييـة‬
‫ّ‬ ‫الواعـي‪ ،‬وهـذه اآلل ّية هي املصدر‬
‫ولتطويـر مقدرتنـا على متييـز الزائف مـن احلقيقـي‪ ،‬بمعنـى أن االنتباه هو‬
‫األهـم يف عملية الفهـم والتغيري‪ ،‬ألنك سـتكون حـارض ًا ك ّل ّي ًا يف‬
‫ّ‬ ‫األسـاس‬
‫اللحظـة الراهنـة‪ ،‬وقادر ًا عىل َخ ْـزن صورة حقيقية واضحـة‪ ،‬وبال رتوش‬
‫مشـوهة‪ ،‬صـورة خالية من ُم ّفـزات عاطفية أو شـعورية زائفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أو مالمـح‬
‫ُطـور عمليـة االنتبـاه من خلال التأ ّمل التفاعلي‪ ،‬أي أن‬
‫نسـتطيع أن ن ّ‬
‫يكـون تركيزنا عىل خمتلـف أفعالنا اليوميـة وأفكارنا‪ ،‬حتـى الصغرية منها‪،‬‬
‫وبنفـس اآللية التـي تك ّلمنا عنها سـابق ًا‪.‬‬
‫والتطـور الروحي‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫والنمـو‬
‫ّ‬ ‫أهـم مـا علينـا إدراكه يف رحلـة التغيير‬
‫ّ‬
‫لنعتبره البوابـة الرئيسـية للدخـول يف منطقـة النـور والرت ّقـي‪ ،‬هـو االنتباه‬
‫للــ "أنـا" الزائفـة‪ ،‬ورؤيتهـا رؤيـة ناضجـة‪ ،‬أي دون أحـكام أو تأنيب أو‬
‫متييـز بأهنـا جيـدة أو سـ ّيئة‪ ،‬علينا أن نُـدرك ونفهـم كيف تُسـيطر تلك الـ"‬
‫متأصل‬
‫أنـا" عىل حياتنـا وكيف تكونت ُبنيتهـا‪ ،‬فالـ "أنا" يف حقيقتهـا يشء ّ‬
‫ومـوروث يف العقل البشري‪ ،‬فأنا وأنت واآلخرون مل نصنـع أنواتنا الزائفة‬
‫ا بعد جيـل‪ ،‬فمعنـى أن نُديـن أنواتنـا يعني أن‬ ‫بأنفسـنا‪ ،‬بـل ورثناهـا جيل ً‬
‫نسـتمر يف العيش بمشـاعر اإلحسـاس بالذنـب واخلطيئـة‪ ،‬وجتاهلها يعني‬ ‫ّ‬

‫‪60‬‬
‫تسـتمر معاناتنا وتسـتفحل يف نفوسـنا‬
‫ّ‬ ‫االسـتمرار يف الكبت‪ ،‬ويف احلالتني‬
‫مشـاعر اخلوف والكـره والغضـب والكراهية‪.‬‬
‫ليـس عليـك سـوى االنتباه واحلـرص عىل احلضـور يف عمـق اللحظة‪.‬‬
‫حتـرر ذهنـك من سـلطة األفـكار واملعتقـدات والنظريـات‪ ،‬دع‬
‫حـاول أن ّ‬‫ْ‬
‫وحتـرر مـن األمـس والغـد‪ ،‬فهـذا هـو البـاب‪ ..‬إن كنـت‬
‫ّ‬ ‫املعرفـة جانبـ ًا‪،‬‬
‫ترغـب يف الطريق‪.‬‬
‫حـاول دائم ًا االنتبـاه‪ُ ،‬مركّـز ًا بعمق ورصاحـة عىل ما يشـغل تفكريك‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صاف ومشـاعر حياد ّية‪ ،‬باسترخاء‬ ‫حـاول أن تسـتعرض املوضوع بذهـن‬
‫وقبـول تـا ّم‪ ،‬ال حتكـم على يشء مـا بأنـه ج ّيـد أو سـيئ‪ .‬عليـك فقـط أن‬
‫تعترف بوجـوده‪ ،‬فهـذا هـو التكنيـك األفضـل لتفـادي أرضار األفـكار‬
‫واملشـاعر السـلبية‪ ،‬لكـن عليـك أوالً أن جتتهـد يف امتلاك اإلرادة والصرب‬
‫والتصميم‪.‬‬
‫عنـد االنتبـاه واملراقبـة احلياديـة وعـدم إطالق األحـكام ا ُملسـبقة‪ ،‬فإننا‬
‫مهمتين يف رحلـة التي ّقـظ والوعي واالسـتنارة‪:‬‬
‫سـنحصل على نتيجتني ّ‬
‫سيرتسـب يف كينونتنـا الفهـم وكل يشء حقيقـي ومفيـد‪ ،‬كـون‬
‫ّ‬ ‫األوىل‪:‬‬
‫الفهـم موجـود ًا يف أصـل كينونتنـا ووجودنـا‪ ،‬لكنـه اختفى خلـف ضبابية‬
‫الذهـن وخلـف اضطـراب العقـل‪ .‬فالعقـل سـيغدو شـاهد ًا ُمراقبـ ًا بلا‬
‫ذاكـرة وال حتليلات وال تقييمات وال إسـقاطات‪.‬‬
‫الثانيـة‪ :‬سـيخرج الوهـم مـن نفوسـنا ويلفظـه إدراكنـا‪ ،‬كما َيلفـظ‬
‫اجلسـم األشـيا َء الغريبـة‪ ،‬فال يمكـن للوهـم أن يتواجد مع رهافـة الروح‬
‫وحدسـها وذكائهـا‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫بإمـكان كل شـخص منـا أن يرتفع بوعيـه‪ ،‬وأن يكـون ذا ذكاء وفطنة‪،‬‬
‫صحة جسـدية ونفسـية طبيعية بأسـلوب جمّاين‪ ،‬وال يتط ّلب منه سـوى‬
‫وذا ّ‬
‫اإلرادة واالجتهاد‪.‬‬
‫يتم ّثـل هذا األسـلوب يف عملية االنتباه واالتّصال مع اجلسـد‪ ،‬فاجلسـد‬
‫البشري غايـة يف الـذكاء‪ ،‬ليـس الذكاء نتـاج اخلبرة واملعرفة‪ ،‬بـل إنه ذكاء‬
‫ّ‬
‫طبيعـي وفطـري‪ ،‬بمعنـى أنـه ذكاء ال خيطـئ ذاتيـ ًا‪ ،‬إنما ُيطـئ‬
‫ّ‬ ‫جوهـري‬
‫ّ‬
‫بمؤ ّثـرات وعوامـل خارجيـة‪ ،‬فاآلليـة التـي يعمـل هبـا اجلسـد البشري‪،‬‬
‫وبكافـة أجزائـه ومكوناتـه‪ ،‬غايـة يف الد ّقـة واالنضبـاط‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫وتفرعاهتا الكيميائية والفيزيائيـة والعصبية‪ ،‬يمتلك‬
‫كل تعقيداتـه ووظائفـه ّ‬
‫القـدرة الفائقـة على إصلاح نفسـه بنفسـه‪ ،‬وكذلـك إمكانياته يف إرسـال‬
‫رسـائل عصبيـة واضحـة إىل الدمـاغ‪ ،‬ذلـك اجلـزء املسـؤول عـن أفعالنـا‬
‫اإلراديـة‪ ،‬ألجـل تنبيهنـا وتوجيهنـا‪ ،‬وإرشـادنا إىل احتياجاتـه ورغباتـه‪،‬‬
‫وإرشـادنا إىل أماكـن القصـور واخللـل‪ ،‬عنـد اجلـوع أو العطش أو الشـبع‬
‫أو التعـب أو امللـل أو االنزعـاج أو حاجتـه للسـكينة واهلـدوء والراحـة‪.‬‬
‫كل هـذا عىل شـكل رسـائل واضحة ملـن يت ّقن االتّصـال والتواصل‬ ‫نتل ّقـى ّ‬
‫مـع جسـده‪ ،‬وكل إمهـال لرسـالة من هذه الرسـائل يعني حـدوث خلل يف‬
‫وظائـف وعمل اجلسـم‪.‬‬
‫نتفهم ونسـتوعب لغة اجلسـد ورسـائله سـننتبه إىل األشـياء التي‬
‫عندما ّ‬
‫تزعجـه وتعيـق اتّزانه ود ّقتـه يف العمل‪ ،‬وتعرقل ديمومة نشـاطه‪ ،‬وسـننتبه‬
‫إىل األشـياء التـي ال تتوافـق مـع ذكائـه الفطـري‪ ،‬فنبتعـد عنهـا بصـورة ال‬
‫جرب شـعوره بالرغبة ألشـياء مع ّينة‪ ،‬وبعـدم الرغبة‬ ‫واعيـة‪ٌّ ،‬‬
‫فـكل منا قـد ّ‬
‫ألشـياء أخـرى‪ ،‬دون أسـباب واضحـة ومنطقية بالنسـبة لذهنه‪ ،‬أو شـعر‬

‫‪62‬‬
‫بالتـو ّدد ألشـخاص ُمع ّينني‪ ،‬وبعدم التودد ألشـخاص آخريـن‪ ،‬أيض ًا دون‬
‫أن يفهم أسـباب وموجبـات ذلك‪.‬‬
‫اإلنسـان الواعـي يعـرف أن األسـباب هـي حقيقيـة‪ ،‬وإن مل تسـتند إىل‬
‫أسـباب منطقيـة وواضحـة‪ ،‬ألنـه يمتلـك اإليمان والثقـة ببصيرة روحـه‬
‫وذكاء جسـده النقـي‪ ،‬وبمختلـف أجزائـه وآل ّياتـه‪.‬‬
‫يف منطقـة الوعي يسـود االنتبـاه‪ ،‬ليس االنتبـاه املص َطنَع‪ ،‬وإنما االنتباه‬
‫الفطـري‪ ،‬وتُثـار األسـئلة‪ ،‬ليسـت األسـئلة التـي تبحث عن أجوبـة‪ ،‬وإنام‬
‫حتـرك فينا مشـاعر الفهـم واحلكمة‪.‬‬
‫األسـئلة التي ّ‬

‫‪63‬‬
‫الحيادية‬
‫لسـت حسـناً وال جيداً‪ ،‬أنا نفسي وحسـب‪ ،‬لقد جتاوزت فكرة كوني‬
‫سـيئاً‪ ،‬جتاوزت فكـرة أن أكون جيداً ألننـي كلما حاولت أن‬
‫جيـداً أو ّ‬
‫سـيئاً أكثر‪ ،‬كلمـا حاولت‬
‫وجدت نفسـي وقـد أصبحت ّ‬
‫ُ‬ ‫أكـون كذلك‬
‫أن أهـرب مـن السـوء وجـدت الكياسـة هـي التـي تختفـي‪ ..‬جتاوزت‬
‫وحيـادي‪ ..‬في اليـوم الـذي أصبحت فيه‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫معتـدل‬ ‫املبـدأ بكاملـه‪ ،‬فأنا‬
‫وولد شـيء‬ ‫حياديـاً اختفـى مـن داخلـي ٌّ‬
‫كل من الكياسـة والسـوء‪ُ ،‬‬
‫جديـد متامـاً هـو أفضل مـن الكياسـة‪ ،‬وال توجد ظلال للسـوء حوله‪.‬‬
‫أحد احلكماء‬

‫احليادية أصل من ُأصول الفهم واحلكمة‪.‬‬


‫ألننـا ال نملـك احلياديـة يف آرائنا باألشـخاص واألحـداث واملواقف‪،‬‬
‫واملتجبيـن وللحكومـات االنتهازيـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أصبحنـا صيـد ًا سـه ً‬
‫ال للظاملين‬
‫ممزقـة ومتخ ّلفة‪ ،‬وأمسـت أنفسـنا‬
‫ولإلعلام ا ُملضلـل‪ ،‬وأصبحـت بلداننـا ّ‬
‫عليلـ ًة باجلهـل والبلادة واحلقـد والكراهيـة والعنرصيـة‪.‬‬
‫مـا نقصـده مـن مصطلـح "احلياديـة" هنـا هـو احلياديـة جتـاه املشـاعر‬
‫وجتـاه الفكـرة وليسـت احلياديـة يف املواقـف اإلنسـانية التـي تتط ّلـب منـا‬
‫حرة وبنّـا َءة و ُمثمـرة‪ ،‬وشـجب أي موقف‬ ‫االنتصـار ّ‬
‫لـكل فكـرة إنسـانية ّ‬
‫أي‬
‫وبغـض النظـر عـن ّ‬‫ّ‬ ‫يتعـرض لـه مـن ينتمـي لعاملنـا اإلنسـاين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ظـامل‬
‫انتماءات ُأخـرى‪ .‬احلياديـة جتـاه األفـكار واملشـاعر تعنـي بصـورة أوضح‬
‫أي حالة فكريـة‪ ،‬وتلك‬ ‫التخلي عـن مشـاعر الرصاعـات والنزاعـات مـع ّ‬ ‫ّ‬
‫هـي النافـذة التي جتعلنـا نبرص األمور بأقـرب ما يكـون إىل حقيقتها‪ ،‬كون‬

‫‪64‬‬
‫متو ُضعـات العقـل وال ارجتاعـات الذاكـرة وال‬
‫البصيرة نقيـة‪ ،‬ال ختدعهـا ْ‬
‫الكلمات وال االنتماءات‪.‬‬
‫املفضل طرف ًا فيهـا‪ ،‬تكون‬
‫عندمـا نشـاهد مبـاراة رياضية يكـون فريقنـا ّ‬
‫رؤيتنـا للمبـاراة ُمتشـنّجة ومتوتّـرة‪ ،‬ممّـا يسـتوجب منـا رأيـ ًا غير ّ‬
‫نقـي‬
‫وإدراك ًا غير حقيقـي‪ ،‬أ ّما إذا كنا نشـاهد املبـاراة بحيادية تا ّمة فـإن انطباعنا‬
‫وحكمنـا عليها سـيكون أكثـر نضجـ ًا وواقعية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫نقـي و ُمبدع فـإن أفضـل تكنيـك داخلي للتعامل مع‬ ‫فمـن أجـل فهـ ٍم ّ‬
‫الفكـرة اجلديـدة هـو ّأل نرفضهـا أو نتصـارع معهـا‪ ،‬وبالوقـت نفسـه ال‬
‫نسـ ّلم هبـا ونعتنقها‪ ،‬ونسـتنفر من نطـاق ذاكرتنا ومن عملياتنـا الذهنية كل‬
‫حجـ ًة تؤ ّيدهـا‪ ،‬ففي كلتـا احلالتين سـيصيب ذهنَنا‬‫فكـرة خمزونـة لتكـون ّ‬
‫الفهمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التوتـر واالنغلاق‬
‫ُ‬
‫‏أن تكـون شـاهد ًا وتراقـب بحياديـة يعنـي أنـك قـد أصبحـت أكثـر‬
‫قـدرة على التمييـز بين الــ "أنـا" الزائفـة كأفـكار وعواطـف ومشـاعر‬
‫زائفـة وخادعـة‪ ،‬وبين "أنـاك" أو ذاتك احلقيقيـة‪ ،‬هكذا سـتصبح األمور‬
‫أوضـح وأيسر‪.‬‬
‫علينـا أن نقـوم بمراقبـة الفكرة بحياديـة‪ ،‬وننتبه ملشـاعرنا الناشـئة عن‬
‫الفكـرة دون أحـكام مسـبقة أو قطعيـة‪ ،‬وبمرونـة ذهنية مناسـبة‪ ،‬فإن هذا‬
‫التكنيـك من شـأنه أن يقوم برتسـيب خالصـة الفكرة وجوهرهـا احلقيقي‬
‫يف عمقنـا الداخلي‪ ،‬أي بمعنـى أن اجلـواب عن مـدى صالحيـة الفكرة أو‬
‫عـدم صالحيتها سـيحدّ ده الداخل الروحـي والبوصلة الروحية‪ ،‬وبشـكل‬
‫تلقائـي‪ ،‬وعلى هيئـة مشـاعر نقيـة واضحـة ومفهومة‪ ،‬مشـاعر من شـأهنا‬
‫تصرف أو رأي‪ ،‬ألن‬‫ّ‬ ‫أن تكـون هـي املرجعيـة املثلى لنـا يف كل تفاعـل أو‬

‫‪65‬‬
‫الداخـل الروحـي منطقـة عص ّيـة على املؤثـرات اخلارجيـة‪ ،‬وهـذا هـو‬
‫بالضبـط مـا ندعـوه اصطالحـ ًا بــ "الرؤيـة القلبيـة" ‪ ،‬والتي تـرى الواقع‬
‫بحقيقتـه‪ ،‬وبما هو موجود أصلاً‪ ،‬تـراه واقع ًا تكامليـ ًا خالي ًا مـن التجزئة‪،‬‬
‫وخاليـ ًا مـن العبثية‪ ،‬مما جيعـل رؤيتنا نقيـة وواقعية ومثمـرة‪ ،‬وذلك بالطبع‬
‫ملـن ينتبـه وجيتهـد ل ُي ِتقـ َن فعـل املراقبـة احلياديـة وعـدم إطلاق األحـكام‬
‫املسـبقة أو النهائية‪.‬‬
‫ملاذا ال ينبغي لنا إطالق األحكام النهائية؟‪.‬‬
‫وسـنّة كونيـة‪ ،‬وعملية إطلاق األحكام‬ ‫ِ‬
‫والتطـور سـمة ُ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ألن التغيير‬
‫النهائيـة تعنـي عـدم متاهينـا مـع السـنن الكونيـة‪ ،‬بل هـذا يعنـي مقاومتنا‬
‫السـنن‪.‬‬
‫لتلك ُ‬
‫سـتمرة للتغيير‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل إنسـان يمتلـك الفرصـة الدائمـة والقابليـة ا ُمل‬ ‫‪ّ -‬‬
‫سـواء إىل الناحيـة اإلجيابيـة أو السـلبية‪ ،‬نظر ًا للظـروف املع ّقـدة والدوافع‬
‫واملؤثـرات املتغيرة التـي تتفاعـل داخلـه أو خارجـه طـوال فترة حياته‪.‬‬
‫‪ -‬عمليـة إطلاق األحـكام تعنـي إيقـاف التفكير‪ ،‬وحكم ًا هنائيـ ًا َ‬
‫غري‬
‫قابـل للمراجعـة أو املداولة‪.‬‬
‫حقيقي ألنـه غالبـ ًا ما يكـون مقارنة‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬إطلاق األحـكام النهائيـة غير‬
‫بين جتـارب شـخصية سـابقة ومعايري خاصـة ورؤية شـخصية لألشـياء‪.‬‬
‫رمـج العقـل البشري على التصنيفـات وإطلاق األحـكام‪ ،‬لذلك‬ ‫‪-‬ب ِ‬
‫ُ‬
‫هـي مرحيـة لـه‪ ،‬فاملراقبة الواعيـة هي إعادة برجمـة للعقل وحتويلـه من عقل‬
‫متسـ ّلط إىل عقـل ٍ‬
‫مرن نـا ٍم وناضج‪.‬‬
‫‪ -‬خطـورة عمليـة إطلاق األحـكام النهائيـة هـي يف نـوع املشـاعر‬
‫واألفـكار واالعتقـادات والقرارات التـي تُبنى عىل ما اعتربنـاه واعتقدنا به‬

‫‪66‬‬
‫كحقيقـة ُمسـ ّلم هبـا‪ ،‬وبالطبع غالبـ ًا ما تكـون أحكامنا بعيدة عـن احلقيقة‪،‬‬
‫بسـبب برجمتنـا العقلية سـواء أحكامنا عىل أنفسـنا أو على املواقف أو عىل‬
‫حكمـت عىل نفسي بالفشـل واعتقدت بأين إنسـان‬ ‫ُ‬ ‫اآلخريـن؛ فمثلاً‪ :‬لـو‬
‫حقيقـي كـون الفشـل هو حـال وليـس صفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فاشـل‪ ،‬وبالطبـع هـذا غير‬
‫والفشـل وكام هـو معروف هو بسـبب التو ّقف عـن املحاولة وعن السـعي‬
‫مشـاعر سـلبية وأفكار ًا‬
‫َ‬ ‫النهائي سـيو ّلد‬
‫ّ‬ ‫احلثيـث إىل النجـاح‪ ،‬هـذا احلكـم‬
‫سـوداو ّية داعمـة له‪ ،‬تؤ ّدي إىل إحساسـنا بالكسـل واليـأس‪ ،‬وتؤ ّدي تلك‬
‫األفـكار إىل اضطراب وخلـل يف الطاقـة الداخلية‪.‬‬
‫املحصلة عدم وجود قـدرة داخلية‬
‫ّ‬ ‫* عمليـة إطلاق األحكام تعنـي يف‬
‫التطـور والنمو والتغيري‪ ،‬أي ّ‬
‫إن الشـخص يقوم بتقييد نفسـه يف منطقة‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫الراحة السـلبية والكسل الذهني‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫التأمل‬
‫معينـة‪ ،‬هو‬
‫وتخصـص لـه فتـرة زمنيـة ّ‬
‫ّ‬ ‫تؤديـه‬ ‫ً‬
‫عملا ّ‬ ‫التأمـل ليـس‬
‫ّ‬
‫مسـتمرة مـن احلضـور فـي «اآلن» حالـة كينونـة‪ ،‬واالنتبـاه‬
‫ّ‬ ‫حالـة‬
‫للجمـال يسـاعد دائمـاً علـى العـودة إلـى اللحظـة وحالـة احلضـور‪.‬‬
‫(إيـكارت تـول)‬

‫ال نقصـد بحالـة التأ ُّمل التي نحن بصـدد احلديث عنهـا الرياض َة اآلل ّية‬
‫التكراريـة املعروفـة‪ ،‬بالرغـم مـن أمهيتهـا يف الوصـول إىل حالـة الصفـاء‬
‫النفسي والتخ ّلـص مـن التوتّـر واإلجهـاد‪ ،‬ودورها ا ُملسـاعد يف اكتسـابنا‬
‫للطاقـة احليويـة‪ .‬مـا نحـن بصـدد احلديث عنه هـو حالـة التأمـل واالنتباه‬
‫حلظة مـن حلظات‬ ‫ٍ‬ ‫واليقظـة كطريقـة للحيـاة‪ ،‬لتسري هـذه احلالة على ّ‬
‫كل‬
‫حياتنـا يف عملنا ويف سيرنا ويف صمتنـا وحديثنـا‪ ،‬ويف كل حاالتنا اليومية‪.‬‬
‫مستمر‪ ،‬هو مراقبة ّ‬
‫لكل يشء‪ ،‬وأوهلا نفسك‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫التأ ّمل ٌ‬
‫فعل‬
‫كـم األشـياء التـي حتـدث معـك يوميـ ًا وتعيشـها‬ ‫ْ‬
‫حـاول أن تتذكّـر ّ‬
‫شـك أهنا أحـداث قليلة جـد ًا أو نـادرة‪ ،‬فأنت‬‫بحالـة تأمل ّيـة‪ ،‬سـتجد وبال ّ‬
‫غالبـ ًا تصحـو مـن النـوم وتـأكل وتذهـب لعملـك وتعـود وجتلـس مـع‬
‫أهلـك وأصدقائـك‪ ،‬بآل ّيـة وتكـرار غير واعٍ‪ ،‬لكنّك تقـوم أحيانـ ًا بالتأمل‬
‫يف مناسـبات حمـدودة كالدراسـة أو القـراءة‪ ،‬عندمـا تـدرس بعمـق ألجل‬
‫الفهـم فإنـك تتأ ّمل ما قرأتـه‪ ،‬لتتبع أصلـه واتّصالـه‪ ،‬وتتأمل و ْق َعـه عميق ًا‬
‫داخـل روحـك ويف داخـل ذهنـك‪ ،‬لتقـوم بعد ذلـك بتكويـن فكـرة تا ّمة‬ ‫َ‬
‫وناضجـة عنـه ُت ّـزن يف الذاكـرة ويف عقلـك الباطـن‪ ،‬اليشء نفسـه حيدث‬
‫معـك عندمـا تسـتمع إىل موضـوع تعتقـد بأمهيته‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫أن تعيـش حياتـك بحالـة التأمـل التـي نقصدهـا يعنـي إدراكَك بـأن‬
‫وتسـتحق التأمـل واليقظة‪ ،‬ألجـل عملية‬
‫ّ‬ ‫كل األشـياء التـي حتـدث مهمة‬
‫والتطـور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفهـم واإلدراك‬
‫مـا نعنيـه بالتأمـل هنا هـو فهمـك لألشـياء بـكل وجـودك‪ ،‬بمعنى أن‬
‫تكتشـف األشـياء بنفسـك‪ ،‬دون معرفة سابقة وإسـقاطات وأحكام ُمسبقة‬
‫ودون تصنيف‪.‬‬
‫يف حالـة التأمـل سـتكون عالقاتـك مـع األشـياء واألشـخاص مـن‬
‫حولـك دائم ًا مـا حتمـل بدايـات ووالدات جديـدة واكتشـافات جديـدة‪.‬‬
‫ِ‬
‫القصي يف داخـل النفـس‪ ،‬ذلـك‬ ‫التأمـل هـو الوصـول لذلـك املـكان‬
‫ّ‬
‫املـكان الفـارغ من إطـارات املـكان والزمـان‪ ،‬لتكـون حـارض ًا يف اللحظة‬
‫آالن ّيـة‪ ،‬متواجـد ًا يف نطـاق الصمـت الذهنـي‪ ،‬حيث االطمئنان والسلام‬
‫ترسـبات املـايض وأوهـام املسـتقبل‪ ،‬أي‬‫الداخلي والفهـم‪ ،‬خاليـ ًا مـن ّ‬
‫بمعنـى أشـمل خاليـ ًا من املشـاكل‪.‬‬
‫يف حالـة التأمـل سـنلعب دور الشـاهد واملراقـب‪ ،‬ونراقـب كيـف‬
‫يعمـل العقـل‪ ،‬والكيفيـة التـي تتشـكّل فيهـا األفـكار‪ ،‬ونراقـب طبيعـة‬
‫أفكارنـا ومسـارها‪ ..‬نراقـب التفاعالت التـي حتدث بني الفكـرة والعاطفة‬
‫والشـعور لنرصـد بالتـايل اآلليـة التـي نتفاعل هبـا مـع أفكارنـا‪ ،‬ونتفاعل‬
‫ترصفاتنا‬
‫فيهـا مع األشـخاص واألحداث‪ ،‬لنحاول هنـا أن نتخ ّيـل أن كل ّ‬
‫ٍ‬
‫خـال مـن الدوافع‬ ‫نقـي‪ ،‬مصـدر‬
‫إهلـي ّ‬
‫وردود أفعالنـا تكـون ذات مصـدر ّ‬
‫لـوث باألحـكام السـابقة‬‫والرغبـات واألحلام والتوقعـات‪ ،‬وغير ُم ّ‬
‫وا ُملسـبقة واألحـداث املاضيـة‪ ،‬بالطبـع سـتكون قيمـة التسـامح والرمحـة‬
‫واحلكمـة والبنـاء هـي الدافـع األسـايس واملصـدر األوحد لتلـك األفعال‬

‫‪69‬‬
‫والترصفـات‪ ،‬فـكل ما يصدر عـن حالة السلام والتصالح مـع الذات هو‬
‫سلام وتسـامح وارتقاء‪.‬‬
‫فـك االرتبـاط بيننـا (املراقب) وبين عقولنا هي اخلطـوة األكثر‬‫عمليـة ّ‬
‫أمهيـة يف رحلتنـا نحـو التغيير‪ ،‬ألننـا أطحنـا بسـلطة الــ "أنـا"‪ ،‬وأطحنـا‬
‫بأمراضهـا وبرجمياهتـا وتع ّلقاهتـا وتوقعاهتـا وأحكامهـا‪ .‬مل يعـد لألفـكار‬
‫سـلطة علينا ألننـا اسـتطعنا اسـتيعاب األوهام التـي ّ‬
‫تتغذى منهـا األفكار‬
‫وتغذهيا‪.‬‬
‫يف حلظـات التأمـل ال يمكـن لنـا أن نُبصر القبـح أو اخلسـارات‪ ،‬وال‬
‫عين الفكـر وفتحنـا عين القلـب‬
‫يمكـن لنـا أن نعـاين‪ ،‬ألننـا أغمضنـا َ‬
‫القـادرة على متييـز اجلمال يف كل األشـياء واألحـداث‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫الصمت‬

‫‏ ينتهي العالم عند حدود اللغة !‬


‫هكذا يقول فتغنشتاين‪.‬‬

‫نعم‪ ..‬ينتهي عاملٌ‪ ،‬ليبدأ عامل جديد بال لغة‪.‬‬


‫ما أصعب أن يكون لك عامل ٌ بال لغة‪.‬‬
‫وما أنفع أن يكون لك عامل بال لغة‪.‬‬
‫عامل بال أفكار‪ ،‬وال ظنون‪.‬‬
‫لتح ّلق منتشي ًا يف سامء األشياء املنسية‪.‬‬
‫ُفهـم‪ ،‬وال‬
‫جمرد ضجيـج‪ ،‬ال ت َ‬
‫األفـكار التـي تـدور وتتناسـل بأذهاننـا‪ّ ،‬‬
‫تُغنـي عـن جهل‪.‬‬
‫الفهـم يأيت من الصمت؛ يف حالة الصمت والسـكون تتسـ ّلقك الصورة‬
‫اآلتيـة مـن أبعـاد الفضـاء الداخلي‪ ،‬هـي صـورة ألهنـا ليسـت كلمات‪.‬‬
‫الذهـن والتفكير هـو مـن ُي َق ْولـب الصـورة ّ‬
‫وحيوهلـا إىل كلمات ثـم‬
‫فكـرة‪ ،‬هنـا يكمـن دور العقـل ومضمار الفـارق العقلي‪ ،‬فالعقـل األكثـر‬
‫تع ّقل ً‬
‫ا هـو األكثـر قـدرة عىل اسـتنطاق الصـورة وخلـق الفكـرة‪ .‬وهذا ما‬

‫‪71‬‬
‫نسـتطيع أن نطلـق عليـه "فعل اإلبـداع"‪ ،‬لكننـا غالبـ ًا نرى األشـياء برؤية‬
‫نمط ّيـة وبأفـكار نمطيـة‪ ،‬فاألفـكار التـي تـدور وتتناسـل بأذهاننـا‪ ،‬هـي‬
‫جمـرد ضجيـج‪ ،‬ال تُفهـم وال تُغنـي عـن جهـل‪ ،‬فالفهم يأيت مـن الصمت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والفهـم ينمـو مـن الداخـل‪ ،‬فك ّلام اسـتغرقنا عميقـ ًا يف الصمت سـا ْ‬
‫مهنا يف‬
‫الفكـري‪ ،‬وحتسين مسـتوى إدراكنـا وفهمنـا لألحـداث‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حتسين النسـل‬
‫وحتسين جـودة حياتنـا وجـودة تعاملنـا وتفاعلنـا مـع مـن حولنا‪.‬‬
‫مـن هنـا؛ علينـا أن نفتـح أفواهنـا فقـط عندما تكـون كلامتنـا أمجل من‬
‫الصمـت‪ .‬وال أمجـل مـن الصمت سـوى كلمات املحبة والتفـاؤل وغرس‬
‫الثقـة يف أنفسـنا ويف نفـوس اآلخرين‪.‬‬
‫يف احلـب‪ ،‬كما يف الوعـي‪ ،‬ك ّلما ذهبنـا عميقـ ًا‪ ،‬تناقصـت الكلمات‪،‬‬
‫لتتكامـل باإلحسـاس والصمـت‪ ،‬فالصمـت يف حمـراب الروح هـو أعظم‬
‫صال ة ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫متعة التائهني‬

‫وما أروع أن تكون؛ أنت التائه‪ ،‬وأنت الدليل ‪..‬‬


‫(جالل الدين الرومي)‬

‫ُطه َ‬
‫رك احلقيقة‪..‬‬ ‫ست ّ‬
‫عندما تقتلعك من جذورك‪ ،‬كام تقتلع األعاصري الشجر‪.‬‬
‫لتُحيلك روح ًا يف أرض التيه‪.‬‬
‫صلى خل َفها‬
‫فاحلقيقـة التـي ال تشترى بالدمـع واألمل‪ ..‬زائفـة حتى لو ّ‬
‫يس وألـف حكيم‪...‬‬ ‫ألـف قدّ ٍ‬
‫يف التيه؛‬
‫ّ‬
‫الشـك واليقين‪ ،‬وأن‬ ‫عليـك أن ختطـو يف تلـك املسـافة الفاصلـة بين‬
‫ختطـو يف تلـك املسـافة الفاصلـة بين الصـواب واخلطـأ‪ .‬لتتصالـح فيـك‬
‫املتناقضـات وتتظافـر يف داخلـك تلـك الرؤيـة الرسمد ّيـة‪ ،‬حيـث يتأ ّلـق‬
‫النـور وتُزهـر املحبـة‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫عليك أن ختطو يف تلك املسـافة الرسمدية وأنت حتمل بني كفيك قلب ًا‪...‬‬
‫قلب ًا من نور وسالم‬
‫ي ِ‬
‫بص وال ُي َزم‬ ‫ُ‬
‫ال يعيا وال َي َرم‬
‫هو املتعة‪ ..‬هو الطبيعة‪ ..‬هو الكون‬
‫النبي الذي ال خيون‪.‬‬
‫وهو ّ‬
‫تلك املسافة ستبلغ فيها رشدَ ك‪،‬‬
‫مكاين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫زمني‪ ،‬وال بمدً ى‬
‫ال بمدً ى ّ‬
‫بل سـتبلغ رشـدك بعـدد األسـئلة التي ترشق مـن روحك‪ّ ،‬‬
‫كل سـؤال‬
‫هو قـدّ اس‪ ..‬نـور ُيضاف ألنـوار الطريق‪.‬‬
‫زخارف الدروب؟‪..‬‬
‫ُ‬ ‫هل تُغري التائهني‬
‫هل تروي ظمأهم زنازين األجوبة؟‪..‬‬
‫بظهـر مسـتقيم‪ ،‬كـي ال حتمـل عليـه‬ ‫ٍ‬ ‫يف تلـك املسـافة عليـك أن تسير‬
‫أسـفار ًا مـن ِر ْجس التاريـخ‪ ،‬وال أفـكار ًا من عتمـة التاريـخ ‪ .‬وال أحجار ًا‬
‫ٍ‬
‫بـرأس ال يتل ّفت إال َشـ ُغوف ًا بمعـامل الطريق‪،‬‬ ‫مـن ثقـل التاريـخ‪ ،‬وأن تسير‬
‫ومبهـور ًا بمتعـة الطريـق‪ ،‬ومسـحور ًا بجمال الطريق‪.‬‬
‫ا بينـك وبين‬ ‫تتخلى عـن ك ُّل معرفـة تقـف حائل ً‬
‫ّ‬ ‫يف التيـه؛ عليـك أن‬
‫معرفـة نفسـك‪ ،‬فمعرفـة نفسـك هـي ّبوابتـك ملعرفـة الوجـود‪ ،‬عليك أن‬
‫ا عن كُل يشء سـواك‪ ،‬وعليك أن تكـون فارغ ًا من‬ ‫ِ‬
‫ومنفصل ً‬ ‫تكـون خمتلفـ ًا‬
‫ا حقيقي ًا يف‬ ‫ٍ‬
‫عندئـذ ذاتك احلقيقيـة‪ ،‬ولتكون فاعل ً‬ ‫كل يشء سـواك‪ ،‬لتو َلـد‬
‫صميـم الوجـود‪ ،‬مسـتمتع ًا‪ ،‬غارقـ ًا يف مجـال الوجود‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ٍ‬
‫كثوب يستر‬ ‫متحركـة‪ ،‬فالتائهـون يرتـدون احلقيقة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألن احلقيقـة ناميـة‬
‫ُصـادر‬ ‫ٍ‬
‫کقيـود ت‬ ‫عـورة جهلهـم‪ ،‬وال يرتدوهنـا ِ‬
‫کلجـا ٍم ُيقـادون بـه‪ ،‬أو‬
‫ُ‬
‫وجو َدهـم‪..‬‬
‫يف حمطـات التيـه سـتخلع يف كل حمطـة جلـد ًا مـن عقلك‪ ،‬حتـى تصبح‬
‫سـتتحمل مسـؤول ّياتك عن‬
‫ّ‬ ‫عـاري العقـل من كل أسماهلم‪ ..‬يف رحلة التيه‬
‫َ‬
‫القـوة الداخلية‪ ،‬تلك‬
‫كل التجـارب التـي ختوضها‪ ،‬ألنـك أصبحت متتلك ّ‬
‫القـوة التـي سـتمنحك القيمـة األغىل واألسـمى يف الكـون؛ قيمـة احلرية‪،‬‬
‫تتحول‬
‫والتـي ستكسـبك القدرة عىل حتديـد موقفك من التجارب قبـل أن ّ‬
‫طاقتـك الداخليـة إىل كلمات‪ ،‬قيمة احلرية التي سـتجعلك متتلـك ما يكفي‬
‫كل تغيري حيـدث يف حياتك‪.‬‬ ‫كل جديد وتتقبـل ّ‬ ‫مـن الشـجاعة لتتق ّبـل ّ‬
‫يف تلـك املسـافة سترتدي من روحـك عقل ً‬
‫ا ال يبرص سـوى اجلامل يف‬
‫كل مـا حوله‪ ،‬يـراه يف كل األحـداث واألشـياء واملخلوقات‪...‬‬
‫يـرى حقيقة األشـياء بجامهلـا وطبيعتهـا وعذر ّيتهـا وفطرهتا‪ ،‬ويسـتمع‬
‫مشـدود ًا للموسـيقى الكونيـة التـي تتشـارك يف عزفهـا كل املوجـودات‪،‬‬
‫وتُسـ ّبح برتانيمهـا من فرحـة الوجود‪...‬‏التيـه هو أن تكون ريشـة تتقاذفها‬
‫رياح اهلل‪..‬‬
‫متحررة من األسباب واجلهات‬
‫ّ‬
‫فثمة وج ُه اهلل‬ ‫أينام ّ‬
‫تول وجهتَها ّ‬
‫متحررة من األفكار واملعرفة‬
‫ّ‬
‫متحررة من الرغبات والتوقعات‬
‫متحررة من الفخر والغرور‬

‫‪75‬‬
‫متحررة من اخلوف والعاقبة‬
‫متحررة من املكافأة واحلافز‬
‫متحررة من زيف الـ " أنا" وأوهامها‬
‫التيـه ال يعنـي أن تضيـع يف زمحـة الـدروب‪ ،‬بـل يعنـي أن تضيـع فيك‬
‫زمحـة الـدروب‪ ،‬ألن التيـه يعني أن حتيا وفـق رشيعة قلبك‪ ،‬ومـن حييا وفق‬
‫رشيعـة قلبـه ال حيتـاج ألي رشيعـة‪ ،‬ومـن حييـا وفق رشيعـة فكـره ال تنفع‬
‫معـه ألـف رشيعة‪..‬‬
‫سألته‪ :‬أي الطرق أحب اليك؟‬
‫غير التائهني‪..‬‬
‫إلي ُ‬
‫قال‪ :‬لم يصل ّ‬
‫متعـة التيـه هي متعة البحـث عن املعنـى املفقود‪ ،‬أو املعنـى املرسوق‪،‬‬
‫بمعنى ّ‬
‫أدق‪.‬‬
‫هي متعة‪..‬‬
‫وهـل هنـاك ما هو أمتـع من رحلـة اهلروب مـن األغلال والنجاة من‬
‫القيود!‪..‬‬
‫وهـل هنـاك ما هـو أمتع مـن رحلة البحـث عن املعنـى وعـن الكينونة‬
‫والوجود!‪..‬‬
‫ٍ‬
‫للتائهين متعـة فريـدة ليسـت كمتـ ٍع عابـرة‪ ،‬فهـم لدهيـم متعـة ّ‬
‫التفرد‬
‫التمـرد ومتعـة الشـجاعة والثقـة بالنفـس‪ ،‬ومتعـة التصا ُلـح مـع‬ ‫ّ‬ ‫ومتعـة‬
‫ذواهتـم ومتعـة دهشـة اكتشـاف األشـياء على حقيقتهـا‪ ،‬ألهنم بلا أقنعة‬
‫أو برجمـة أو ذاكـرة َص ِدئـة غالبـة‪ .‬هـم لدهيـم متعـة التواصل مـع اهلل دون‬
‫وسـيلة أو طريـق‪ ،‬فـكل الطـرق تـؤ ّدي إىل اهلل إذا مـا وجدنـا اهلل يف قلوبنا‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ُقـرر فيهـا التيه هـي اللحظة التـي تلمس فيهـا روحك‪،‬‬
‫اللحظـة التـي ت ّ‬
‫هـي اللحظـة التـي تلمـس فيها مـا ُسق مـن وجودك‪ ،‬هـي اللحظـة التي‬
‫تلمـس فيهـا قدراتـك وتؤمـن بأنك قـادر على النجاة‪ ،‬هـي اللحظـة التي‬
‫تلمـس فيهـا بمـلء ُأذنيك صـوت نرياهنـم ّ‬
‫فتفر مذعـور ًا‪ ،‬كام تفـر الطيور‬
‫حينما تسـمع صوت النـار بلا وجهـة‪ ...‬فالوجهة ال تشـغل عقـل الطائر‬
‫مـا دامـت احلرية هـي الغريـزة التـي ت ْلهمه بأنـه أينام ّ‬
‫يفـر فثمـة حياة‪...‬‬
‫ـه احليـاة‪ ،‬فهـي األقـدر بحناهنـا وحكمتها‬ ‫أينما يفـر سيسـ ّلم أمـره ألم ِ‬
‫َ ّ‬
‫التغيير والنمو‬
‫ّ‬ ‫وأذرعهـا املمـدودة‪ ،‬أن حتفـظ كينونته وأن ترعـى رحلته يف‬
‫والتطـور والبحـث عـن معنـى وجـوده‪ ،‬فالطائـر ال يشـعر بـأن كينونتـه‬ ‫ّ‬
‫ووجـوده تتحقـق بمجـرد قدرتـه على التحليق‪ ،‬بـل يف قدرته عىل ممارسـة‬
‫الغنـاء‪ ،‬فقـد يكـون داخـل سـجن لكنه يمارس وجـوده‪ ،‬ويتمتع بشـغف‬
‫روحـه‪ ،‬وال توجـد قـوة يف الكـون قـادرة عىل أن جتبره على تقليد صوت‬
‫األفعـى أو صـوت احلامر‪.‬‬
‫عندمـا متتلك جـرأة التيه عـن دروب الناس‪ ،‬سـتمتلك هبجة السير يف‬
‫دروب احلقيقة‪.‬‬
‫تعـود النـاس أن يستروا ُعرهيـم اخلارجـي بارتدائهـم للمالبـس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ريـم الداخيل بارتدائهـم ل َو ْهم اهلوية‪ ،‬سـواء‬‫وتعـودوا أيضـ ًا أن يستروا ُع َ‬
‫ّ‬
‫كانـت هويـة قوميـة أو دينيـة أو مذهبية‪ ،‬وغالب ًا هـذه اهلويات مل تكـن أبد ًا‪،‬‬
‫مكملـة للهويـة اإلنسـانية‪ ،‬بـل كانـت دائم ًا‬‫مـر التاريـخ‪ ،‬هو ّيـات ّ‬ ‫وعلى ّ‬
‫متقاطعـة معهـا‪ ،‬بسـبب مـا حتشـده لـدى الفـرد مـن آليـات أساسـية مـن‬
‫بر والفوقيـة‪ ،‬فـأوىل‬ ‫ِ‬
‫تعصـب وعواطـف ُمسـتنفرة بدائيـة كالتفاخـر والك ْ‬ ‫ّ‬
‫مراحـل التيـه أن نمتلـك الشـجاعة لنسير يف األرض بلا هويـة‪ ،‬ألن كل‬

‫‪77‬‬
‫فعـل اعتـزاز باهلويـة ر ّد فعلـه التعصـب والكراهيـة والعنرصيـة ونفـي‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫زوادتك من نفسـك‪ ،‬ال يشء من اخلـارج قادر أن ُيعينك‪،‬‬ ‫يف الرحلـة‪ّ ..‬‬
‫دك بالثقـة والشـجاعة‬‫ُـزو َ‬
‫فاطلـب املعونـة مـن روحـك فهـي قـادرة أن ت ّ‬
‫َ‬
‫ُسـعفك بـكل مـا حتتاجـه مـن‬ ‫واإليمان والصبر واحلكمـة‪ ،‬وقـادرة أن ت‬
‫ويشـع نـور ًا عندما‬
‫ّ‬ ‫يتوهـج املصبـاح‬
‫أنـوار تكشـف لـك الطريـق‪ ،‬فمثلما ّ‬
‫يالمـس الطاقـة الكهربائيـة‪ ،‬الشيء نفسـه حيصـل معـك‪ ،‬عندمـا تالمس‬
‫طاقـة روحـك‪ .‬لكـن عليك أن تُـدرك جيـد ًا أنه مثلما حيترق املصباح من‬
‫الداخـل عليـك أن حتترق ألجـل النـور‪ ،‬ففـي حلظـة مرعبـة تصبـح كل‬
‫األشـياء حولـك بلا قيمـة‪ ،‬وتشـعر أن حياتك بلا هدف وبلا أي طعم‪.‬‬
‫اطمئـ ّن هـذا هـو النفـق املرعـب الـذي ال بـد لـك أن جتتـازه لتدخـل‬
‫مرحلـة النضـج‪ ،‬فاألشـياء التـي كنـت تراهـا بعقلـك املسـتورد وأنـاك‬
‫سـتتغي نظرتـك‬
‫ّ‬ ‫الزائفـة مل تعـد تتناغـم مـع وهـج روحـك‪ ،‬شـيئ ًا فشـيئ ًا‬
‫وسـتتأصل رؤيتك هلا وفهمك‪ ،‬وشـيئ ًا فشـيئ ًا سـتتهاوى األشياء‬
‫ّ‬ ‫لألشـياء‬
‫التـي كانت تُشـكّل حاجز ًا بينـك وبني روحـك‪ ،‬ويتظافر ويتجـدّ د و ْعيك‬
‫كما تتجـدّ د أوراق الشـجر يف فصـل الربيـع‪.‬‬
‫‏ما الذي يمنع اإلنسان من االتّصال بروحه؟‬
‫أوالً‪ :‬متاسـك الــ "أنـا" الزائفة (األجيـو) ( خماوف ‪ -‬أوهـام ‪ -‬رغبات‬
‫‪ -‬تعلـق ‪ -‬برجمـة ‪ -‬معاناة)‪.‬‬
‫لـو حاولنـا التأمـل والتعمـق بعيـد ًا يف موضـوع اسـتفحال ومتاسـك‬
‫وملفاته على الشـخصية‪ ،‬والتي‬ ‫األجيـو‪ ،‬مـن خلال اسـتعراض تأثرياتـه ُ‬
‫قـوة داعمة‪ ،‬سـيظهر لنا جل ّيـ ًا أن اخلوف‬ ‫ّ‬
‫تتلخـص يف جمملهـا بالبحـث عن ّ‬

‫‪78‬‬
‫يفسر لنا حالة‬
‫هـو يف أصـل املنافسـة عىل حيـازة القـوة اخلارجية‪ ،‬وهـو ما ّ‬
‫العصبـي والتوتّـر النفسي الـذي بات هـو السـمة الغالبة على حياة‬
‫ّ‬ ‫الشـدّ‬
‫ويفسر لنا كذلـك مـا يفتقدونه من حالـة االطمئنـان الداخيل وما‬
‫ّ‬ ‫النـاس‪،‬‬
‫يفتقدونـه مـن األُلفـة والتصالح مـع احلياة‪.‬‬
‫بوهـم القـوة اخلارجيـة هـو مـا َج َل َ‬
‫ـب‪ ،‬واليـزال‬ ‫إن اعتقـاد اإلنسـان ْ‬
‫َي ُلـب للبرشيـة‪ ،‬كل هـذه املعانـاة واآلالم وكل هـذا العنـف والدمـار‪.‬‬
‫ثانيـ ًا ـ اجلهـل أو وهـم املعرفة ( تدين زائف ـ نـدرة التجارب اجلديدة‬
‫‪ -‬نـدرة التأمل والتفكّر)‬
‫وهـم الفهم والتخلـص من األفكار املسـبقة هو‬‫أن االنعتـاق مـن ْ‬
‫اخلطوة األولـى الضرورية نحـو املعرفة‪.‬‬
‫(البير جاكار)‬

‫ودوهنا اإلنسـان ال تتناسـب‬ ‫هـذا الكم اهلائل من املعرفة التي اكتشـفها ّ‬


‫أبد ًا مع مسـتوى الوعي البشري‪ ،‬ومل تنجح حتى اللحظـة الراهنة يف بلورة‬
‫منظومـة أخالقيـة ُمسـتوفية الشتراطات الـروح ومداهـا الوجـودي‪ ،‬ومل‬
‫تسـتلهم بعـدُ حم ّفزاهتا اجلامليـة‪ ،‬فأغلبنا ويف أفضـل األحوال يتل ّقـى املعرفة‬
‫اجلاهـزة‪ ،‬كأفـكار ومصطلحـات ومفاهيم ُتفـي وراءها املعنـى واجلوهر‪،‬‬
‫وال يعيـد ترتيـب األفـكار ألجـل التناغـم معهـا‪ ،‬ألنـه يعتقـد بأهنـا فكرة‬
‫ال تقبـل املراجعـة والتفكيـك‪ ،‬وال يمكـن إعـادة تشـكيل بنيتهـا لتتوافـق‬
‫وتتناغـم وتتط ّبـع بلـون الـروح‪ ،‬وال تتناسـب مـع َمدَ َياهتـا اجلامليـة‪ .‬حتى‬
‫عىل مسـتوى مـا نصطلح عليـه باملثقف‪ ،‬فثقافتـه ال تتجاوز معرفته بأسماء‬
‫األشـياء وإسـقاطات تلـك األسماء على قشرة ذهنـه‪ ،‬أي مـع مـا تربمج‬

‫‪79‬‬
‫يفس‬
‫تعمـق وتأ ّمـل جتريبـي‪ ،‬وهـذا هو مـا ّ‬ ‫عليـه سـطحي ًا‪ ،‬ومـن دون أي ّ‬
‫السـطحية ا ُملد ّمـرة التـي باتـت هـي السـمة الغالبـة على ثقافة الشـعوب‪،‬‬
‫وكأن املعرفـة املتداولـة‪ ،‬سـواء أكانـت برجمـة جمتمعية أو عقائـد‪ ،‬أم كانت‬
‫وسـائل إعلام أو مناهج تدريسـية‪ ،‬الغايـة منها إهلاء النـاس وحتييدهم عن‬
‫صلـب املوضـوع‪ ،‬أي عـن املعرفـة احلقيقية ‪.‬‬
‫ـدث اليقظـة الداخليـة‪ُ ،‬‬
‫وت ّفـز عمليـة التنويـر‬ ‫تلـك املعرفـة التـي ُت ِ‬
‫الـذايت‪ ،‬مـن خلال خلخلـة املكتسـبات اخلارجيـة مـن معـارف سـابقة‪،‬‬
‫مرتسـخة يف الطبقـات الداخليـة للعقـل اللا واعـي‪.‬‬
‫وثوابـت فكريـة ّ‬
‫املعرفـة احلقيقيـة هـي رحلة الـذكاء واالكتشـاف والفهـم‪ ،‬وهي رحلة‬
‫تحـرر من اشتراطات املايض‪ ،‬هي جتـارب فردية‪،‬‬ ‫فرد ّيـة واكتشـاف ذايت ُم ّ‬
‫فـكل منّـا لـه آلية تفكير خاصة ألسـباب عديـدة ومع ّقـدة‪ّ ،‬‬
‫وكل منا حيتاج‬ ‫ٌّ‬
‫والتطـور‪ .‬لذلـك فاملع ّلـم احلقيقـي‬
‫ّ‬ ‫لتجـارب خاصـة يف رحلـة التغيير‬
‫ال يعطـي حقائـق جاهـزة‪ ،‬هـو مـن يع ّلمنـا الكيفيـة التـي نسـتطيع فيهـا‬
‫اكتشـاف احلقائق بأنفسـنا‪.‬‬
‫َ‬
‫املع ّلـم احلقيقـي ال يشير بإصبعـه نحـو القمـر‪ ،‬هـو من يعلمـك كيف‬
‫تصـل إليـه بطريقتـك اخلاصة‪.‬‬
‫أبعاد الشخصية وأبعاد التيه‪.‬‬
‫ُك ّلنا مسافرون داخل مركبة تسري وال تعرف الوجهة‪ ،‬لكنها ّ‬
‫موجهة‪.‬‬
‫هناك من ينظر من النافذة‪ ،‬وهناك من ال يعرف ّ‬
‫أن هناك نافذة‪.‬‬
‫هناك من يعبث باملركبة‪ ،‬وهناك من ُيديم املركبة‪.‬‬
‫هناك من يتصارع ويطغي ويسلب األمكنة‪.‬‬
‫ويضحي ويزيل األتربة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهناك من يتفانى‬

‫‪80‬‬
‫لو كان األمر َمنوط ًا به‪ ،‬ملا استطاع اإلنسان أن يكتسب عقله‪.‬‬
‫لكنها القوانني الكونية الصارمة الذكية العادلة‪.‬‬
‫فام اإلنسان ّإل قانون من قوانني الوجود‪ُ ،‬م َّ‬
‫سي إىل هدفه‪.‬‬
‫ينمو وينضج‪ ،‬ليس بإرادته وإنّام رغم أنفه‪...‬‬
‫يف املركبة‪..‬‬
‫هناك من يعيش اجلحيم بأكمله‪ ،‬وهناك من حييا النعيم‪ ،‬فام أمجله!‪...‬‬
‫مهام طالت الرحلة هناك حم ّطة أخرية‪..‬‬
‫كل يشء إن مل ن َِصلها بو ْعي ورشف‪...‬‬
‫سنخرس ّ‬
‫الروح اجلسـدَ لتبـدأ رحلة اكتشـافه‪ ،‬واكتشـاف حاجاته وحميطه‬ ‫ُ‬ ‫تلبـس‬
‫حـواس ما ّديـة‪ ،‬بعـد مرحلـة االكتشـاف هـذه تبـدأ رحلة‬‫ّ‬ ‫بواسـطة مخسـة‬
‫التعايـش مع املحيـط والتناغم مع املجتمع‪ ،‬مع أفكاره وعاداته ومقاييسـه‪،‬‬
‫ألجـل اكتسـاب الشـخصية‪ ،‬وعادة تكـون قوة الشـخصية ومـدى احرتام‬
‫وتقديـر املجتمع هلا يتناسـب طـرد ًا مع قـوة االلتزام بقوانين ذلك املجتمع‬
‫وعاداتـه ومقاييسـه وأعرافـه‪ .‬ويف هـذه املرحلـة تطفـو ظالل الـروح عىل‬
‫سـطح الشـخصية بفرتات ُمتق ّطعة‪ ،‬أي بمعنـى ّأنا قد بـدأت رحلة التذكُّر‬
‫واحلنين‪ ،‬تَذكّـر ماضيهـا اإلهلي واحلنين إىل مداهـا احلقيقي‪ ،‬وتبـدأ بطرح‬
‫األسـئلة‪ ،‬ألهنـا بدأت تشـعر بالقهـر وامللل وقسـاوة ثقل األقنعـة‪ ،‬يف هذه‬
‫نسـبي بعامـل الزمن والعمر يبـدأ مفرتق‬ ‫ٍ‬
‫اختالف‬ ‫املرحلـة ومـا بعدها مـع‬
‫ّ‬
‫ويعتز بشـخصيته ومـا تراكَم فيها‬
‫ّ‬ ‫الطـرق بين النـاس‪ ،‬فهناك مـن َ‬
‫يتفاخـر‬
‫ِ‬
‫واجلـاه والعقيـدة والسـلطة والرغبة‪ ،‬ليمضي يف رحلته‪،‬‬ ‫من سـموم املـادة‬
‫تفجر عـادة وبصورة مزمنـة كرباكني من‬ ‫رحلـة السلام الومهـي‪ ،‬والـذي َي ّ‬
‫الغضـب والظلـم والكراهيـة والقسـوة‪ ،‬وسـيبقى العـامل عنـد هـذه الفئـة‬
‫درك وغير ُمدركة غايتـه وحقيقتـه وأبعاده‪.‬‬ ‫وغير ُم َ‬
‫َ‬ ‫جمهـوالً‬

‫‪81‬‬
‫يتمـرد على الشـخصية وأقنعتهـا‪ ،‬ويسـتلهم نـور الوعـي‬ ‫ّ‬ ‫وهنـاك مـن‬
‫مـن طاقـة روحه بالوحـي واحلـدس والبصرية‪ ،‬ل ُيبحـر مع أمواج األسـئلة‬
‫وخواطـر التيـه‪ ،‬و َيتت ّبـع أنـوار املعرفة والوجـود‪ ،‬والتي تقوده مـن نور إىل‬
‫كل نـور مـا إن يسـطع حتى خيفـت‪ ،‬لتبحـث الروح عن نـور جديد‬ ‫نـور‪ّ ،‬‬
‫سيسـتمر مـا دامت‬
‫ّ‬ ‫يـروي عطشـها‪ ،‬ويل ّبـي شـغفها‪ ...‬هـذا العطش الذي‬
‫الرحلة‪...‬‬
‫«إن مـا تشـعرون بـه من األلـم هو انكسـار القشـرة التـي تغلّف‬
‫إدراككـم‪ .‬وكمـا أن القشـرة الصلـدة التي حتجـب الثمـرة يجب أن‬
‫ّ‬
‫تتحطـم حتـى يبرز قلبهـا من ظلمـة األرض إلى نور الشـمس ‪ ..‬هكذا‬
‫قشـوركم قبـل أن تعرفوا معنى‬
‫َ‬ ‫اآلالم‬
‫ُ‬ ‫أنتـم أيضاً ‪ ..‬يجب أن ّ‬
‫حتطم‬
‫احليـاة‪ ..‬ألنكـم لـو اسـتطعتم أن تُ ِعيروا عجائـب حياتكـم اليومية‬
‫التأمل والدهشـة ملـا كنتم تـرون أالمكم ّ‬
‫أقـل غرابة من‬ ‫ح ّقهـا مـن ّ‬
‫مخيـرون فـي الكثير مـن آالمكم‪ ..‬وهـذا الكثير‬‫أفراحكـم‪ ..‬أنتـم ّ‬
‫مـن آالمكـم هـو اجلرعـة الشـديدة املـرارة التـي بواسـطتها يَشـفي‬
‫أسـقام نفوسـكم البشـرية‪.»..‬‬
‫َ‬ ‫الطبيـب احلكيم السـاهر في أعماقكم‬
‫(جبران خليل جبران)‬

‫التائـه دلي ُلـه األمل‪ ،‬فلا يشء يسـتطيع أن يفتـح يف روحنـا توجيـات‬
‫الفهـم أكثـر مـن األمل‪ ،‬األمل الـذي نحتضنـه ونتق ّبلـه ال األمل الـذي هنـرب‬
‫منـه ونتحاشـاه‪ .‬األمل هـو جرس إنـذار ورسـالة بوجوب وحتميـة التغيري‪.‬‬
‫مـن هنـا فـإن قبـول هـذه الرسـالة بوعـي ودون مقاومـة خيلـق أرضيـة‬
‫مناسـبة ومسـاحة فكريـة مواتيه للتغيير املطلـوب‪ ،‬وبالتـايل زوال دواعي‬

‫‪82‬‬
‫ومسـ ّببات األمل‪ ،‬أمـا رفـض األمل ومقاومته فإنه سـيعني اسـتمراره ومتاديه‬
‫ليتحـول إىل معانـاة‪ .‬فمـن املسـتحيل أن حيـدث لنا شـفاء حقيقـي من األمل‬
‫ّ‬
‫دون أن نتصالـح معـه ونفهـم رسـالته وأسـبابه‪ ،‬فالكبـت والكتمان‪ ،‬يف‬
‫ليتجسـد لـك بصورة‬
‫ّ‬ ‫الظـروف املناسـبة‬
‫َ‬ ‫يتحين‬
‫ّ‬ ‫احلقيقـة‪ ،‬مـرض خمـزون‬
‫مؤذيـة ومد ّمرة‪.‬‬
‫‏يقول الرومي‪:‬‬
‫ال تشرق الروح ّإل من ُدجى ٍ‬
‫ألم‪..‬‬
‫تعا ُم ُلنـا مـع حلظات األمل هـو الذي ُيـدّ د وض َعنا األخالقي ومسـتوى‬
‫وعينا‪..‬‬
‫هناك من ين ّقب يف داخله بحث ًا عن رسالة طمأنينة وحكمة وسالم‪..‬‬
‫يتسـول املسـكّنات اخلارج ّيـة كالرغبـات العابـرة‪ ،‬أو من‬
‫ّ‬ ‫وهنـاك مـن‬
‫خلال الوهـم أو إلقـاء املسـؤول ّية على القـدر وعلى اآلخرين‪.‬‬
‫األمل رمحة ألنه نور الوعي‪..‬‬
‫فعندمـا تواجـه األمل وتعيشـه وتفهـم رسـالته وتسـتجيب للتغيير‬
‫املطلـوب‪ ،‬سـتحصل عىل التشـايف واخلبرة‪ ،‬وتسـتعيد سلامك الداخيل‪.‬‬
‫حتمل مسـؤولية‬
‫تسـتمر يف التذ ّمر والشـكوى‪ ،‬ألنك غري قادر عىل ّ‬
‫ّ‬ ‫أنت‬
‫ستسـتمر يف املعاناة‪ ،‬وسـتطول فرتة التشـايف ولن تسـتطيع أن‬
‫ّ‬ ‫أ َلك‪ ،‬لذلك‬
‫تستوعب وأن تفهم سـبب األمل ورسالته‪..‬‬
‫تعام ُلنـا مـع حلظـات األمل هو الـذي حيـدّ د وضعنا األخالقي ومسـتوى‬
‫وعينـا‪ ..‬فهنـاك مـن ين ّقـب يف داخـل روحـه بحثـ ًا عـن رسـالة طمأنينـة‬
‫يتحمل‬
‫ّ‬ ‫يتهرب مـن املواجهة وال يسـتطيع أن‬
‫وحكمـة وسلام‪ ،‬وهناك من ّ‬

‫‪83‬‬
‫ٍ‬
‫انعكاس‬ ‫مسـؤولية االختلاالت التـي تقـف خلـف وجـود األمل‪ ،‬فأسـوأ‬
‫للأمل هـو عندمـا نعتقـد بأننـا ال نسـتح ّقه‪ ،‬ففـي اللحظـة التـي نتق ّبـل فيها‬
‫األمل ونؤمـن بأنه اسـتحقاق سـيحدث التشـايف والتغيري والنمـو الروحي ‪.‬‬
‫مـن املهـم جـد ًا أن نسـتطيع التمييز بين نوعني َ‬
‫رئيسين مـن األمل‪ :‬األمل‬
‫وكل منـا يملـك القـدرة على ذلـك مـن خلال‬ ‫احلقيقـي واألمل الزائـف‪ّ .‬‬
‫تأ ّمـل وتت ّبـع أصل مشـاعر األمل وفهم أسـبابه والتسـاؤل‪ :‬هل هي أسـباب‬
‫حقيقيـة ُمسـتح ّقة ملشـاعر اخلـوف التـي تعرتينـا‪ ،‬أم هـي هت ّيـؤات أنواتنـا‬
‫الزائفـة‪ ،‬والتـي أصبحـت تَشـعر باخلطـر لتهديـد ما؟‪.‬‬
‫األمل احلقيقـي هـو أمل نعمة كونه نتيجـة عاطفة حقيقية ونقية وألسـباب‬
‫متناغمـة مـع القيـم الروحيـة اإلنسـانية‪ ،‬قيـم الرمحـة والتعـاون واحلكمـة‬
‫ٍ‬
‫مـؤذ ألنـه ال ُيكبـت‪ ،‬بسـبب التصالـح التـا ّم بين‬ ‫والنضـج‪ ،‬هـو أمل غير‬
‫أفكارنـا وأجسـادنا وأرواحنـا‪ ،‬فالكبـت هـو هـروب مـن مواجهـة وفهم‬
‫األمل‪ ،‬أي هـو إمهـال للرسـائل اجلسـدية والعرتاضـات اجلسـد‪.‬‬
‫يف األمل احلقيقـي تبقـى الطاقـة متوازنة بفعـل ما نملكه مـن طاقة احلب‬
‫والثقـة واإليامن‪ ،‬لذلك يسـتطيع اجلسـد التعامل معه واحتـواءه وترصيفه‪،‬‬
‫واالسـتفادة املهمـة مـن أثره عىل املسـتوى الشـخيص واإلنسـاين‪ ..‬أما األمل‬
‫ٍ‬
‫مـؤذ جـدّ ًا على املسـتوى الشـخيص واإلنسـاين‪،‬‬ ‫الزائـف فهـو أمل نقمـة‪،‬‬
‫األعـم األشـمل نتيجـة خلـوف داخيل وخلـل يف مسـتوى الوعي‬ ‫ّ‬ ‫كونـه يف‬
‫والتفوق‬ ‫بر‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫املشـوهة‪ ،‬رغبات الك ْ‬
‫ّ‬ ‫واإليمان‪ ،‬هو نتيجة لرغبات الشـخصية‬
‫واحلسـد والغيرة‪ ،‬ونتيجـة للكراهيـة والتعلق واملقاومـة واألنانيـة‪ ،‬وألنه‬
‫أمل غير ُمتناغـم مـع القيـم الروحيـة لذلـك يقـوم عقلنـا الواعـي بكبتـه‬
‫واهلـروب مـن مواجهتـه واالعتراف بوجـوده‪ ،‬ليظهـر يف حياتنـا الحقـ ًا‬

‫‪84‬‬
‫ليتحـول بعدهـا إىل أمراض‬
‫ّ‬ ‫على هيئـة توتّر وتشـوش واضطـراب ُمد ّمـر‪،‬‬
‫جسـدية ونفسـية خطرية‪ ،‬بسـبب آثاره يف هدر طاقاتنا‪ ،‬وبالتـايل انخفاض‬
‫شـديد يف مسـتوى الطاقة‪.‬‬
‫كل أمل هو عقوبة‪ ،‬ورمحة‪..‬‬
‫نحـن نعاقب من قبـل القوانني الكونيـة الصارمة والعادلـة وكام يعاقب‬
‫املحـب تالميذه‪ ،‬وألسـباب عديدة منها‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫املعلـم احلريص‬
‫‪ -‬التشايف من فعل أو فكرة أو نية سلبية (كارما) سابقة‪..‬‬
‫‪ -‬الـردع ولفـت االنتبـاه إىل خلـل مـا‪ ،‬سـواء أكان نفسـي ًا أم جسـدي ًا‪،‬‬
‫وألجل إعـادة التـوازن‪..‬‬
‫‪ -‬املحافظة عىل نظام الوعي البرشي ورسيانه‪..‬‬
‫حتسـس مكان اجلرح ليشـفى‪ ،‬إياك أن تسـتأنس به‬ ‫عندمـا تشـعر باألمل‪ّ ،‬‬
‫كطفـل يبحـث عن أي يشء يقتـل به ملله وفراغـه الداخيل‪.‬‬
‫أتدري ما األمل؟‪..‬‬
‫الـويف‪ ،‬و ُمع ّلمـك النبيل الـذي ُين ّبهـك بدُ ن ّ‬
‫ُـو اخلطر‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫هـو صديقك‬
‫ُيغـادرك إال عنـد الصحـوة واالنتباه‪..‬‬
‫اسـمحوا ألرواحكـم أن تتيـه عـن عقولكـم‪ ،‬لكـن إياكم أن‏ تسـمحوا‬
‫لعقولكـم أن تتيـه عـن أرواحكـم‪ ..‬هذه هـي حكمـة التيه‪....‬‬
‫سـيتحول عندك املجهـول والغامـض إىل معلوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف ومضـة مـن الزمن‬
‫ً‬
‫مهيـأ إلتقـان رؤيـة األشـياء وفـق حقيقتهـا املجـردة‪،‬‬ ‫ألنـك أصبحـت‬
‫ً‬
‫مهيـأ للرؤيـة الروحيـة الناصعـة‪ .‬تلـك الرؤيـة اخلاليـة مـن‬ ‫وأصبحـت‬
‫شـوائب األحـكام املطلقـة والتصنيـف واملقارنـة‪ ،‬واخلاليـة مـن املؤثـرات‬

‫‪85‬‬
‫العاطفيـة‪ ،‬واملتحـررة مـن قيـود النظرة الض ّيقـة التي ال تُـدرك‪ ،‬وال يمكن‬
‫هلـا أن تسـتوعب تكامـل األشـياء واألحـداث‪ ،‬وال تفهـم ديناميـة احلركة‬
‫الكونية‪.‬‬
‫الرؤيـة الروحيـة هـي اإلدراك لسيرورة التكامـل الكـوين‪ ،‬والوعـي‬
‫بـأن كل مـا يف الوجـود يسـاعد ويسـاند بعضـه بعضـ ًا مـن خالل وسـائل‬
‫مسـاعدة مسـتدامة‪ ،‬ورسـائل إرشـاد وإهلـام ال تنقطـع‪ ،‬إال ملـن استسـلم‬
‫لرؤيـة العقـل‪ ،‬ولسـيطرة الفكـر‪ ،‬ومـا تربمـج فيه مـن برجميـات موروثة‪،‬‬
‫تلـك الرؤيـة العاجـزة‪ ،‬أو القارصة عن إدراك األشـياء التـي تكون خارج‬
‫نطـاق إدراك حواسـها اخلمـس‪ ،‬وإال ملن تقوقع يف مشـاعر اخلـوف والقلق‬
‫والتوتـر واإلحسـاس ا ُملزمـن بعـدم األمـان والطمأنينة‪ ،‬وإال ملن استسـلم‬
‫لفكـرة االنفصـال عـن املوجـودات‪ ،‬واالنفصـال عـن فكـرة كـون كل‬
‫موجـود هـو موجـود لـدور مـا‪ ،‬وهلـدف‪ ،‬وغاية‪.‬‬
‫زاويـة الرؤيـة مـن خلال الـروح تعنـي احلـدس والبصيرة واإلهلـام‪،‬‬
‫واالقتران والتناغـم مـع سـبل التسـديد والتوفيـق اإلهلـي‪ ،‬ففـي حلظات‬
‫صفائنـا الروحـي ال يمكـن لنـا أن نبرص القبـح أو اخلسـارات‪ ،‬وال يمكن‬
‫لنـا أن نعـاين‪ ،‬ألننـا أغمضنـا عني الفكـر وفتحنا عين القلب‪ ،‬تلـك العني‬
‫القـادرة عىل متييـز اجلامل واجلـدوى يف كل األشـياء واألحـداث‪ ،‬والقادرة‬
‫على متييـز احلقائـق مـن الزيـف دون بحـث أو جهـد أو اجتهـاد‪ ،‬فحقيقـة‬
‫األشـياء هـي ثمـرة اللا فكر واللا عقيـدة والال انتماء‪...‬‬
‫‏التيـه يعنـي ّأل تنتمي لفكـرة‪ ،‬أو تتبنّى فكـرة دون أخـرى‪ ..‬التيه يعني‬
‫املراقبـة الواعيـة من أجل اسـتخالص صفوة وخالصـة األفكار‪..‬‬
‫يف التيه ستتأكّد أن املحبة هي صفوة وخالصة ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫اسمح لروحك بالتيه‪..‬‬
‫ْ‬ ‫كل يوم‬
‫تتغرب عن شتات اجلسد‪..‬‬
‫اسمح هلا أن ّ‬
‫لترشق بنورها الساموي‪...‬‬
‫احلقيقـة واحلريـة مهـا غايتـا الوجـود وتوأمـاه البِكـر‪ ،‬ولكـي تدخـل‬
‫حـر ًا‪ ،‬ولتكون حـر ًا جيب عليـك أن تكون‬
‫ح ّيـز الوجـود عليـك أن تكون ّ‬
‫متوه ٍج‬ ‫ٍ‬
‫ذهـن ّ‬ ‫حقيقيـ ًا‪ ،‬وألجل أن تكـون حقيقي ًا‪ ،‬جيب أن تسـعى المتالك‬
‫مـرن قـادر على التحرر مـن املعـارف السـابقة والربجميـات املوروثة‪.‬‬
‫‏فـإذا مـا كان ثمـة مقياس حقيقـي لعمر اإلنسـان فال بـدّ أن يكون بعدد‬
‫األفكار التـي دارت يف ذهنه‪.‬‬
‫نفسـك مـن براثـن‬ ‫ِ‬
‫حقيقـة احلريـة تبـدأ يف اللحظـة التـي تُعتـق فيهـا َ‬
‫أفكارهـم‪ ،‬وختـرج عـن قوالبهـم وبرجمياهتم‪ ،‬حقيقـة احلرية هي أن تسـلم‬
‫نفسـك للتيـه‪ ،‬و تنـأى هبا عـن دروهبم وتتخلص مـن طباعهـم وعاداهتم‪.‬‬ ‫َ‬
‫عليـك أن تكـون مـن البعـد بحيـث ال يكـون باسـتطاعتهم أن‬
‫ويقولِبـوك‪ ..‬كـن بعيـداً جداً‬ ‫ّ‬
‫يجـدوك‪ ،‬وأن ميسـكوا بـك ليشـكلوك ْ‬
‫كاجلبـال‪ ،‬كالهـواء‪ ،‬غيـر امللـوث‪ ،‬كمـا صرخ يومـاً احلكيـم الهندي‬
‫ـدو كريشـنا مورتي"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫"ج ُ‬
‫سـتكون حـر ًا يف اللحظـة التي تنحـر فيهـا ذاكرتك عىل مذبـح اللحظة‬
‫اآلنيـة‪ .‬سـتكون حـر ًا حين تلتقـي مـع روحـك وجهـ ًا لوجـه‪ ،‬مـن دون‬
‫احلقيقـي‪ ،‬وتالمس‬
‫ّ‬ ‫تشـوهات‪ ،‬لتالمـس جوهرك‬ ‫وسـائط‪ ،‬ومـن دون أي ّ‬
‫فيض‬ ‫ّ‬
‫ليتجلى من خاللك للوجـود ٌ‬ ‫البهـي يف داخلك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلهلـي‬
‫ّ‬ ‫ذلـك النـور‬
‫طاهـر من النقـاء واحلكمـة والنعمـة واإلبداع‪.‬‬
‫ولتكـون حقيقيـ ًا إ ّيـاك أن تنطلي عليـك خدعة األسماء؛ فهـي أكثر ما‬
‫يـزور احلقيقـة‪ ،‬فاحلقيقـة ليسـت بعيـدة‪ .‬األسماء تبعدهـا كما يقـول عبـد‬
‫ّ‬
‫الـرزاق اجلربان‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫بمكرهـم اسـتطاعوا أن جيعلـوا لألسماء هبرجـ ًا وسـحر ًا مـن النـادر‬
‫اجعـل بينـك وبين األسماء مسـافة مـن ّ‬
‫شـك‪ ،‬فالـروح النقية‬ ‫ْ‬ ‫يقـاوم‪،‬‬
‫أن َ‬
‫ِ‬
‫هيمهـا اجلنـس وال العـرق وال‬ ‫َيسـحرها املعنـى وت ِ‬
‫ُلهمهـا الفضيلـة‪ ،‬وال ّ‬
‫أي هو ّيـة أخـرى‪.‬‬
‫الديـن‪ ،‬وال ّ‬
‫من أين ألش ّعة الشمس أن ختاف التيه‪..‬‬
‫وهي بسمة الشمس‪ ،‬التي َتزم الظالم‪..‬‬
‫ومن أين ألرواحنا أن ختاف التيه‪..‬‬
‫اإلهلي‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وهي بسمة النور‬
‫بـاب احليـاة بقوارب التيه والدهشـة‪ ،‬دهشـة‬ ‫األرواح العظيمـة َتخـر ُع َ‬
‫االكتشـاف ومتعـة التجـارب اجلديـدة‪ ،‬دهشـة اكتشـاف األشـياء بعقـل‬
‫تحـرر من‬
‫متحـرر من إسـقاطات املـايض‪ ،‬و ُم ّ‬ ‫ّ‬ ‫حيـوي ُمتنـا ٍم‪ ،‬عقل‬
‫ّ‬ ‫جديـد‬
‫اشتراطات الربجميـات املوروثـة‪ .‬مـن هنا حيدث الشـعور باألشـياء‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫يتجلى الفهم النقـي‪ ،‬ويتجىل بالتايل فهمنـا وإدراكنا للحيـاة ولتكوينها‬ ‫هنـا‬
‫ولتامسـكها وتكاملهـا بموجوداهتا‪.‬‬
‫علينـا أن نعيـش احليـاة وكأننـا ُمسـافرون يف رحلـة اكتشـاف‪ ،‬فـكل‬
‫حلظـة حتمـل يف طياهتـا احليـاة‪ ،‬وكل حلظة هـي والدة جديـدة‪ ،‬وكل حلظة‬
‫متتلـك يف طياهتـا القـدرة على التغيير‪ ،‬كل حلظة حتمـل يف داخلهـا املعرفة‬
‫والدهشة‪.‬‬
‫كل األحـداث‪ ،‬حتـى املؤملـة منهـا والقاسـية‪ ،‬هـي أحـداث صديقـة‬ ‫ّ‬
‫وحكيمـة‪..‬‬
‫ّ‬
‫وسـيتجل لك‬ ‫عندمـا تعيـش دور املراقب تكون أنـت البطل احلقيقي‪،‬‬
‫الفهم والوعـي واإليامن كعطايـا ونِ َع ٍم كونية‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫هنـاك أوقات تشـعر فيهـا بامللل يف حياتك‪ ،‬وتشـعر بـأن حياتك باتت‬
‫ـاص بـاألمل واخلـوف والقلـق‪ ،‬ذلـك ألنك‬ ‫عبثيـة وبلا طائـل‪ ،‬وأنـك ُم َ‬
‫قـررت بأنـك تفهـم‪ ،‬أو أنـك قد قـررت وجز ْمت بأنـك ال تفهـم‪ ،‬فعندما‬ ‫ّ‬
‫تقـرر بأنـك تفهـم فأنت ال تفهـم‪ ،‬وعندما تقـرر بأنك ال تفهـم فأنت أيضاً‬
‫ّ‬
‫ال تفهـم‪ .‬فأنـت يف احلالتني تكـون خارج احليـاة ألنك خـارج نطاق رحلة‬
‫االكتشـاف واملعرفـة والفهـم‪ ،‬فالتحديـد واجلـزم والتصنيف هـو مجود بل‬
‫هو مـوت قبـل املوت‪..‬‬
‫ٍ‬
‫مكتف‬ ‫مـن يشـعر بأنه خـارج احلياة هو إنسـان ميت‪ ،‬ومن يشـعر بأنـه‬
‫يف هـذه احلياة هو إنسـان ميـت أيض ًا‪.‬‬
‫كل يشء‪ ،‬وتثبـط يف تلك‬‫هنـاك أوقـات تشـعر فيها بالسـأم وامللل مـن ّ‬
‫األوقـات عزيمتك‪ ،‬ويسـيطر عليك إحسـاس بالال معنـى‪ ،‬وبالال جدوى‬
‫مـن احلياة‪..‬‬
‫يف هـذه األوقـات مـن غير ا ُملجـدي أن حتـاول اسـتيعاب روحـك‪،‬‬
‫وحماولـة ختديرهـا وتسـكينها‪ ،‬وختطـئ يف فهـم فحـوى الرسـالة‪ ،‬عليـك‬
‫الومهـي الفاصل‬
‫ّ‬ ‫أن تفهـم أن روحـك تُريـد منـك أن حتفـر ثقب ًا يف اجلـدار‬
‫بينـك وبين احليـاة‪ ،‬وبينـك وبين املعنـى والغايـة‪..‬‬
‫أرواح التائهين تُدرك أن الوصـول يعني املـوت‪ ،‬وأن املتعة يف الطريق‪،‬‬
‫و تُـدرك أن الرحلـة مسـتمرة بلا حـدود‪ ،‬وأن اإليمان واحلقيقة والعشـق‬
‫واجلمال والوعـي‪ ،‬كلهـا بال حـدود أو قيود‪.‬‬
‫أتدري ما اخلرسان العظيم؟‪..‬‬
‫حمم ً‬
‫ال بأفـكار اآلخرين‪ ،‬دون أن‬ ‫هـو أن تغادر هـذا العامل تابع ًا‪ ،‬مق ّلـد ًا‪ّ ،‬‬
‫لذة ودهشـة اكتشـاف األشياء!‪..‬‬ ‫تَغمرك ّ‬
‫السـائرون مـع القطيع سـيعرفون إهل ًا َخلقـ ُه الناس‪ ،‬والتائهـون ُفرادى‪،‬‬
‫ـق الناس‪.‬‬ ‫سـيعرفون اهلل الذي َخ َل َ‬

‫‪89‬‬
‫مل يعـدْ لإلنسـان طريـق يصـل بـه لكينونتـه وخلالصـه‪ ،‬فـكل الطـرق‬
‫بدء جديد‪،‬‬ ‫باتـت تتشـابه‪ ،‬يف كوهنا طرق ًا دائريـة ال تؤدي هناياهتا سـوى إىل ٍ‬
‫ّ‬
‫املوروثـات ‪ -‬املعـارف ‪ -‬الفلسـفات ‪ -‬األنظمـة التعليميـة‪ ،‬ورغـم كل‬
‫تلـك الطرق ورغـم كل هذا املدى الواسـع مـن التطورات واالكتشـافات‬
‫املعرفيـة التـي بلغهـا العقل البشري‪ ،‬ورغـم كل تلك الثـورات وعمليات‬
‫التغيير والديمقراطيـات التي شـهدهتا البرشيـة ّإل أهنا مل تسـتطع أبد ًا إنقاذ‬
‫اإلنسـان مـن البـؤس والدمـار واحلـروب والضيـاع‪ ،‬وإنقـاذه مـن ظلمـه‬
‫لنفسـه‪ ،‬ومـن ظلمـه لآلخريـن‪ ،‬ومل تسـتطع أن تُنير لـه حياتـه وتشـعره‬
‫باألمـان والطمأنينـة‪ ،‬ومل تسـتطع أن تكشـف لـه احلقيقة‪ ،‬بـل إن ما حدث‬
‫هـو العكـس متامـ ًا؛ فـكل هذه األشـياء قد تظافـرت لفـرض العبودية عىل‬
‫اإلنسـان‪ ،‬وانتزاعـه مـن ذاته وتغريبـه عنها‪ ،‬من حيث يشـعر أو ال يشـعر‪،‬‬
‫وهـو غالب ًا ال يشـعر‪.‬‬
‫ثمة ضـو ٌء يلوح يف ُأفقـه‪ ،‬ألن حلكة النفق أصبحـت المتناهية‪،‬‬ ‫مل يعـد ّ‬
‫فاإلنسـان َأبصر يف كل االجتاهـات‪ ،‬واسـتمع لـكل األوثـان‪ ،‬وبحـث يف‬
‫كل اخلفايـا‪ ،‬ومل يبصر أو يسـتمع لذاتـه‪ .‬ومل يبحـث يف داخلهـا‪ ،‬ومل يعـد‬
‫لإلنسـان بـدٌّ سـوى الثـورة على كل مـا هـو خـارج ذاتـه‪ ،‬على كل ِع َض ِ‬
‫ـة‬
‫ٍ‬
‫منطـق ال يتكلم وفق منطـق روحه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالغـة سـيايس‪ ،‬وعلى كل‬ ‫ٍ‬
‫كاهـن‪ ،‬أو‬
‫وعلى كل فلسـفة ال يكـون جذرها األهم اكتشـاف منابـع اإلرشاق وكنوز‬
‫احلكمـة واإلبـداع يف داخله‪.‬‬
‫على كل مـن يدعـي سـعيه إلنقـاذ اإلنسـانية وخللاص اإلنسـان مـن‬
‫عذاباتـه وفوضـاه الوجوديـة‪ ،‬وعلى كل مـن ترنـو عينـاه صـوب إنسـانية‬
‫اإلنسـان وسـعادته وألقـه‪ ،‬أن يـدع اإلنسـان وشـأن َه‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫أهيـا اإلنسـان‪ ..‬مهما كان جنسـك‪ ،‬ومهما كان لونـك‪ ،‬ومهما كان‬
‫عمـرك‪ ،‬ففـي داخلـك نبـي وفيلسـوف وطبيـب‪ ،‬ويف ثنايـاك ِ‬
‫عـال وفنان‬ ‫ّ‬
‫يتجسـد‬
‫ّ‬ ‫وعاشـق‪ ،‬فيـك انطـوى الوجود‪ ،‬وفيـك أقطـاب احلقيقة‪ ،‬وفيك‬
‫قيمـه السـامية‪ ،‬فما لـك ال‬
‫ذكاء الكـون وقدرتـه وإبداعـه‪ ،‬وفيـك تسـمو ُ‬
‫تأمـن إال بالقطيـع وال تطمئـ ّن إال بالقيـود!‪ ..‬وأنـت تعلـم أن كل عظماء‬
‫التاريـخ صنعتهـم الغربـة ّ‬
‫اخللقـة‪ ،‬والوحـدة الف ّياضـة‪ ،‬فما لـك ترمتـي‬
‫بأحضـان الراعـي‪ ،‬وأنـت تعلـم بأنـك تتعـرض ألقـذر عمليـة اسـتغالل‬
‫وتنويـم‪ ،‬تـارة باحلـروب‪ ،‬وتارة بآلـة اإلعالم‪ ،‬وتـارة بشركات األدوية‪،‬‬
‫وتـارة باألشـياء الكامليـة االسـتهالكية!‪..‬‬
‫أهيا اإلنسان ‪...‬أما آن أوان الصحوة؟!‪..‬‬
‫زوده بنفخـة مـن روحـه نفحـة فيهـا احلكمـة‬ ‫كل إنسـان خلقـه اهلل ّ‬
‫والـذكاء والقـوة واملحبـة املطلقة‪ ،‬وفيها الرمحـة واجلامل والصفـاء والقدرة‬
‫على اختراق كل مكنونـات الكـون‪ .‬ليـس هلذه احلكمـة عالقـة باحلواس‬
‫متجسـدة بصـورة واضحة عند‬ ‫ّ‬ ‫وال بالعقـل‪ ،‬إنما هـي جوهر وروح‪ ،‬هـي‬
‫الطفـل‪ ،‬ثـم ال يلبث أن حيصـل اعتداء عىل هـذه الفطرة من ِقبـل املجتمع؛‬
‫ا عىل كل ما من شـأنه االبتعاد‬ ‫بقوانينـه وتعاليمـه‪ ،‬ومنهج ّيته املشـ ّيدة أصل ً‬
‫عـن هـذا اجلوهر‪ ،‬هـذا االعتداء هـو بالضبط مـا قصدته األديان السماوية‬
‫الفقه‪ ،‬ومـن أجل هدفهم‬ ‫وحـذر منـه األنبياء مجيعـ ًا‪ .‬لكن كَهنـة ِ‬
‫ّ‬ ‫بالشرك‪،‬‬
‫َ‬
‫يف السـيطرة واالسـتحواذ والتخديـر‪ ،‬وكما هـو َد ْيدَ هنم عىل طـول التاريخ‬
‫زوروا مفاهيم الشرك والكفر والعبـادة لتتواءم‬ ‫وعلى العـرض اجلغـرايف‪ّ ،‬‬
‫مـع مـا يصبـون إليـه‪ .‬فمعنـى الشرك هـو أن تعبـد معبـود ًا مـن دون اهلل‪،‬‬
‫أي أن تسـتبدل جوهـرك وقيمـك اإلهليـة وأنـوار روحـك بأفـكار غريك‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫وأن تسـتبدل حمبتـك بالكراهية ‪ -‬والتعصـب والرمحة بالظلم ‪ ،-‬والسلام‬
‫بالغضـب ‪ -‬والقلـق ‪ -‬واحلريـة باخلضـوع ‪ -‬واحلكمـة باجلهـل ‪ -‬واجلامل‬
‫بالقبح‪.‬‬
‫اهلل تعـاىل خلـق اإلنسـان حمبـة لـه‪ ،‬يريده أن يسـمو بنفسـه إىل السماء‪،‬‬
‫متفـرد ًا مكتفيـ ًا بذاتـه‬
‫ّ‬ ‫وأن يصنـع جنتـه بنفسـه على األرض‪ ،‬يريـده فـرد ًا‬
‫حـر ًا‪ ،‬ذكيـ ًا‪ ،‬مؤمنـ ًا ب ُقدراته‪ ،‬ألهنـا باألصل قـدرات كونية هائلـة‪ُ ،‬قدرات‬
‫خطرة جـد ًا عىل الكافرين‪ ،‬أولئـك ا ُملتصدّ ين هلـذه اإلمكانيات وامللكات‪،‬‬
‫سـواء بقتلهـا أو تزويرهـا أو إخفائها‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫رحلة الوعي والتنوير‬

‫نُولـد كُلنـا يف املنطقـة املحايـدة الفاصلة بين اجلنة واجلحيـم‪ ،‬هذا يعني‬
‫تقربنـا من اجلنة هـي تبعدنا عـن اجلحيم‪.‬‬
‫أن كل خطـوة وعـي بقـدر ما ّ‬
‫املوسـع لألشـياء‪ ،‬أي رؤيـة األشـياء مـن وجهـة‬
‫الوعـي هـو اإلدراك ّ‬
‫التحول‬
‫ّ‬ ‫متنـورة متحـررة مـن متوضعـات العقـل‪ ،‬هـو حالـة‬ ‫نظـر روحيـة ّ‬
‫مـن إنسـان (مل يكـن شـيئ ًا مذكـور ًا)‪ ،‬أي جمـرد وجـود مـادي‪ ،‬إىل إنسـان‬
‫يمتلـك القـدرة على رصد ومتييـز احلقيقـي من الزائـف‪ ،‬هذه القـدرة التي‬
‫سـيملكها مـن خلال التامهـي مـع الوعي الكـوين‪ ،‬ومـن خالل اسـتلهام‬
‫النفخـة اإلهل ّيـة واستشـعار النـور اإلهلـي يف داخلـه‪ ،‬ألجل حتقيـق الذات‪،‬‬
‫وألجـل الوصـول بالنفـس حلالـة التنوير‪.‬‬
‫الوعـي هـو اخلـروج من عتمـة النفـس إىل أنـوار الوجود‪ ،‬هـذه العتمة‬
‫هـي ظلمات الــ " أنـا" الزائفـة‪ ،‬وهـي العائق األكبر يف طريـق الوصول‬
‫حلالـة التنويـر‪ ،‬صحيـح أن وجـود الكائـن البشري حتيـط بـه تعقيـدات‬
‫مؤثـرة عـدّ ة على املسـتويني الداخلي واخلارجـي‪ ،‬لكـن كل التعقيـدات‬
‫تتموضـع يف النهايـة يف "أنـاه" الزائفـة‪ ،‬فهـي تكـون بمثابـة احلقيبـة التـي‬
‫حيملهـا على ظهـره وحيمـل يف داخلهـا أوزار ًا مت ّثـل كل إفـرازات مـا حييط‬
‫بـه مـن تعقيـدات داخلية (خماوفـه‪ ،‬نرجسـيته‪ ،‬معاناتـه‪ ،‬رغباتـه‪ ،‬مطامعه)‬
‫وتعقيـدات خارجيـة تكـون على هيئـة برجميـات موروثـة‪ ،‬أو على هيئـة‬
‫تسـ ّلط سـيايس ودينـي‪ ،‬ومصـادرة لقـواه الروحية‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ليـس للوعـي عالقـة بكميـة املعرفـة أو الثقافـة أو املسـتوى الـدرايس‬
‫بقـدر مـا لـه من عالقـة باليقظـة الداخليـة واالنتبـاه‪ ،‬وغـزارة ما يكتشـفه‬
‫اإلنسـان بداخلـه مـن قيـم املحبة والرمحـة والتسـامح واحلكمـة واإلبداع‪،‬‬
‫فهنـاك الكثير ممّـن يعيشـون يف عاملنا وهـم عىل درجـة متقدّ مة مـن الوعي‬
‫الفطـري والرتبيـة الذاتيـة‪ .‬ومن املؤكّـد أن هذا الوعـي ال يـأيت اعتباط ًا بل‬
‫نتيجـة انتبـاه ألفكارنـا ومشـاعرنا وأفعالنـا وردود أفعالنـا جتـاه األحداث‬
‫وفهـم وإدراك أصـل كل فكـرة وفعـل وشـعور‪ ،‬ويتبلـور وعينـا نتيجـة‬
‫المتلاء أنفسـنا بقيـم أرواحنـا اجلميلـة‪ ،‬فكلنـا نتعـرض ملواقـف مؤملة أو‬
‫حمزنـة أو حمرجـة‪ ،‬هـي أشـبه بـدروس ورسـائل كونيـة ألجـل أن نفهـم‬
‫وأن نرتقـي بأنفسـنا‪ ،‬كـون هـذا االرتقـاء هـو ما جيلب ألنفسـنا السـعادة‬
‫واالسـتقرار الداخلي والتوازن النفسي‪ ،‬والذي ينعكس بـدوره عىل جممل‬
‫أفعالنـا وتعامالتنـا مـع اآلخرين‪.‬‬
‫صبـي يف‬
‫ّ‬ ‫يف إحـدى قصـص الكاتبـة آن ويمـز املعبرة تتحـدّ ث عـن‬
‫اخلامسـة مـن عمـره أراد أن يمسـك مزهريـة موضوعـة يف مـكان ٍ‬
‫عـال يف‬
‫أعـز مقتنياهتا‪،‬‬
‫البيـت ألهنـا‪ ،‬وحسـب ما أخربتـه والدتـه أكثر مـن مـرة‪ّ ،‬‬
‫ألهنـا قديمـة جـد ًا تعـود جلـدّ ُأ ّمهـا‪ ،‬وهـي هديـة ُأمهـا هلـا‪ .‬لكـن الصبي‬
‫ولضعـف يديـه أسـقط املزهرية وحت ّطمـت‪ ،‬وما أن المسـت األرض حتى‬
‫أخـذ الطفـل يبكـي بحرقـة وأمل وتعاىل بـكاؤه ليتحـول إىل عويـل‪ ،‬وما أن‬
‫سـمعت بـكاءه حتـى جـاءت راكضة ووقفـت تنظـر إىل ابنها وقـد عرفت‬
‫مـا فعـل‪ ،‬وهـي تنظـر إىل األمل يف عينـي ابنهـا‪ ،‬ال شـك أن قيمـة الرمحة قد‬
‫طفـت إىل سـطح نفسـها فأهلمتهـا بـأن تقدّ م هـي البنهـا هدية ثمينـة جد ًا‪،‬‬
‫حتـى أثمـن مـن كل ماديـات العـامل‪ ،‬والتفتـت إليـه وقالـت‪ :‬شـكر ًا هلل يا‬

‫‪94‬‬
‫ولـدي أنـك بخير‪ ،‬لقـد ظننـت أن مكروهـ ًا أصابـك‪ .‬احتضنتـه بحنـان‬
‫كف عن البـكاء وقالـت مجلتهـا الكبرية بسـلوكها وليس‬
‫وهدهدتـه حتـى ّ‬
‫بلسا هنا ‪:‬‬
‫"أنت كنزي"‬
‫إىل اآلن‪ ،‬وعلى الرغـم مـن أنـه رجـل ناضـج مـا زالـت تلـك اهلديـة‬
‫األقـرب إىل قلبـه واألوضـح فيـه‪.‬‬
‫َ‬
‫يف رحلـة التنويـر ليـس عليـك أن تصل إىل مـكان‪ ،‬أو وض ٍع مـا‪ ،‬أو أن‬
‫تكسـب شـيئ ًا جديـد ًا‪ ،‬أو أن تصـل ملرحلـة مـا‪ ،‬كل مـا عليك فعلـه هو أن‬
‫تفهـم األشـياء التي تؤذي نفسـك وتـؤذي اآلخريـن‪ ،‬وحتاول جاهـد ًا أن‬
‫تتجنّبها‪..‬‬
‫كيف نُم ّيز اإلنسان الواعي؟‬
‫اإلنسـان الواعـي بـارع يف املحافظـة على اسـتتباب وضعـه الداخلي‪،‬‬
‫عطب نفسي يبحـث عـن مسـبباته يف الداخل‬
‫ٌ‬ ‫ألنـه يف كل مـرة حيـدث لـه‬
‫ويصلحـه باالنتبـاه والرتكيـز والفهـم‪.‬‬
‫عتل عن‬ ‫نسـتطيع أن نميـز اإلنسـان املتعـايف مـن اإلنسـان املريـض وا ُمل ّ‬
‫طريـق حركتـه وحيويتـه ونشـاطه وشـكله‪ ،‬لكـن كيـف نسـتطيع أن نم ّيز‬
‫اإلنسـان األكثـر وعيـ ًا مـن غيره األدنى؟‪.‬‬
‫مهمـة وهـي أن الوعـي يتع ّلـق بمـدى‬‫بدايـة‪ ،‬علينـا أن نفهـم نقطـة ّ‬
‫متاسـنا ومتاهينـا مـع الداخـل النقـي‪ ،‬ومـع انعـكاس ذلـك التامهـي على‬ ‫ّ‬
‫أسـلوب حياتنـا وعلى أفعالنـا‪ ،‬وعلى ن ّياتنـا وأفكارنـا‪ ،‬وانعكاسـه على‬
‫رؤيتنـا جتـاه وجودنـا وجتـاه فعاليتنـا يف ذلـك الوجـود‪ ،‬وال ُيمكـن لوعينا‬
‫أن يتعلـق بمـدى ثقافتنـا أو ا ّطالعنـا ومعرفتنـا اخلارجية‪ ،‬بمعنـى أنك لن‬

‫‪95‬‬
‫تكـون شـخص ًا واعيـ ًا بمجـرد أنـك قـرأت أو اسـتمعت أو تكلمـت بلغة‬
‫ومفـردات الوعـي‪ ،‬سـتكون واعيـ ًا عندمـا ينعكـس وعيك على أدائك يف‬
‫احليـاة وعلى عالقاتـك مـع مـن حولك مـن األشـخاص واألشـياء‪.‬‬
‫هنـاك الكثري من األشـخاص يتمتّعـون بوعي ٍ‬
‫عال ذايت فطـري تلقائي‪،‬‬
‫تسـتطيع أن متيزهـم مـن خلال تفاعلهـم وتعاملهـم مـع الواقـع‪ ،‬فرتاهم‬
‫يتعاطـون مـع واقعهـم مـن خلال قيـم مجاليـة مفعمـة بالبسـاطة واليسر‬
‫واحلنكـة واحلكمة والبناء‪ُ ،‬متسـامني فـوق أن ََواهتم ومتجاوزيـن ألوهامها‬
‫وزيفهـا‪ .‬فالوعـي احلقيقـي يتعلق بمدى قدرتنـا عىل كرس الربجمـة املتوارثة‬
‫وترويـض أنواتنا الطائشـة‪.‬‬
‫نستطيع أن نميز اإلنسان الواعي‪:‬‬
‫‪ -‬مـن خلال نشـاطه وحيويتـه ولغتـه واحرتامـه وتواضعـه وحكمته‬
‫وفاعليتـه ونزاهتـه ورشفه‪.‬‬
‫‪ -‬مـن خلال شـعوره باملسـؤولية جتـاه األشـياء واألحداث مـن حوله‬
‫لكـن دون لـوم أو إدانـة لنفسـه ولآلخرين‪.‬‬
‫‪ -‬مـن خلال قدرته عىل اسـتخدام لغة تفاؤليـة مؤمنـة‪ ،‬أي لغة واقعية‬
‫حقيقيـة‪ .‬هـذه الرؤيـة بالتأكيد هـي نتيجة جتـارب وليسـت اعتباطية‪ ،‬رؤية‬
‫مؤمنة بالوفـرة واإلعانة الكونية املسـتدامة‪.‬‬
‫‪ -‬اإلدراك بـأن املحبـة النقيـة اللا مرشوطة هـي العالج األكثـر فاعلية‬
‫لـكل معاناة اإلنسـان وأمراضه ومشـاكله النفسـية‪.‬‬
‫(التطـور‪ ،‬احلكمة‪ ،‬السـعادة‪ ،‬اهلدوء‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الرتكيـز عىل اإلنجـاز الروحـي‬
‫الداخلي‪ ،‬السلامة النفسـية)‪ .‬ألنـه بمقاييسـه هـو النجاح احلقيقـي األهم‬
‫وليسـت النجاحات واإلنجـازات املاديـة األخرى‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫أتغي؟‪..‬‬
‫كيف ّ‬
‫كيف أصل للوعي أو التنوير؟‪.‬‬
‫كيف أصل حلالة االطمئنان الداخيل أو ملستوى النفس املطمئنة؟‪.‬‬
‫مهمـة وتتر ّدد كثير ًا‪ ،‬ومن أجـل فه ٍم واسـع للموضـوع علينا‬
‫أسـئلة ّ‬
‫أن نأخـذ باالعتبـار بعـض األمـور اهلامة‪:‬‬
‫* عملية التغيري ال بدّ وأن تكون بقرار داخيل وإرادة صلبة‪.‬‬
‫* تبـدأ عمليـة التغيير أوالً على مسـتوى املفاهيـم‪ ،‬أمهيـة املفاهيـم يف‬
‫كوهنـا الركيزة األساسـية لنوعيـة التفكري ومسـتوى املشـاعر‪ ،‬فهي تعكس‬
‫مسـتوى وعـي الفـرد ومـن خلال نظرتـه للحيـاة واملجتمـع والديـن‬
‫والفلسـفة والعلـم والتاريـخ‪ .‬هناك مـن يقول ُأريـد أن أتغير وأمتنى ذلك‬
‫لكن ال أسـتطيع‪ ،‬فاملشـاعر ليسـت كافية وكذلك التفكري‪ .‬املهم أن نسـعى‬
‫لتغيير مفاهيمنـا حسـب رؤيتنـا وأهدافنـا وأحالمنـا وآمالنـا‪ ،‬وأن يكون‬
‫كل ذلـك على املسـتوى الروحـي وليـس املادي‪.‬‬
‫* للعمـر الزمنـي أمهيـة قصـوى يف عمليـة التغيير‪ ،‬وال يمكـن هلا أن‬
‫ُتمـل‪ ،‬صحيـح أن الوعـي والنضـج ال يتعلقان بسـ ٍّن معني لكـن للتجربة‬
‫أمهيـة قصـوى يف عمليـة التغيير‪ ،‬وكما هو معـروف لـكل مرحلـة عمرية‬
‫ظروفهـا وطاقتهـا ورغباهتـا وتفاعالهتـا الداخليـة‪ .‬ففـي مرحلـة املراهقـة‬
‫والشـباب يصعـب كثير ًا فعـل التغيري‪ ،‬كـون اإلنسـان يف هـذه املراحل قد‬
‫للتـو يف اكتشـاف املجتمـع وبيئتـه والسـعي للتفاعـل معها واكتشـاف‬
‫بـدأ ّ‬
‫احليـاة واإلحسـاس هبويتـه‪ ،‬وقـد بـدأ للتـو يف التفكير يف مسـتقبله املهني‬
‫واالجتامعـي‪ ،‬تأخـذ األمـور هذه حيـز ًا كبري ًا مـن تفكريه ومشـاعره لذلك‬
‫نقـول‪ :‬صعـب جد ًا الرتكيز على موضوع التغيير‪ ،‬وعىل الوصـول ملرحلة‬

‫‪97‬‬
‫االسـتقرار الداخلي والسلام النفسي‪ ،‬لكـن ذلـك ال يمنـع مـن السـعي‬
‫ال مهم ًا يف تعزيـز اإلدراك والتجربة‬
‫للثقافـة واملعرفـة واالطالع كوهنـا عام ً‬
‫والقـدرة على التغيير على مسـتوى املفاهيـم‪ ،‬واخلـروج مـن قيـود البيئة‬
‫واملجتمـع وبرجمياته‪.‬‬
‫الوعي لعنة ومرض‪ ،‬التنوير معاناة وأمل‪.‬‬
‫هل تعلم ملاذا؟‬
‫ألنـك سـتضطر إىل أن تكـون صادقـ ًا مـع ذاتـك وت ّ‬
‫ُسـمي األشـياء‬
‫بمسـمياهتا احلقيقيـة‪ ،‬وسـتكون قادر ًا على فهم ووعي أفكارك ومشـاعرك‬
‫وأفعالـك‪ ،‬و ُمتمكنـ ًا مـن االنتباه ألصلها وفيما إذا كانت زائفـة أم حقيقية‪،‬‬
‫ممـا يعنـي اسـتيعابك وسـيطرتك على أنـاك الزائفـة والتـي سـتقابل هـذا‬
‫االسـتيعاب بالطبـع بحـرب دفاعيـة مسـتميتة ومؤملـة بقصـد الدفـاع عن‬
‫نفسـها وعـن وجودهـا‪ ،‬وسـتضطر كذلـك إىل مواجهـة قلقـك الوجودي‬
‫احلقيقـي والفطـري األصيـل‪ ،‬وسـتولد مـن داخلـك األسـئلة الوجودية‪،‬‬
‫كنـت سـابق ًا تعتبر هـذا القلق خمـاوف وتعـزو أسـبابه ألكبـاش فداء‬ ‫َ‬ ‫فقـد‬
‫عديـدة ختلقهـا أنـت سـواء على مسـتوى برجمتـك أو حتـى على مسـتوى‬
‫معرفتـك وثقافتـك‪ ،‬فالتفسيرات والنظريـات العلميـة كانـت تعـزو هذا‬
‫القلـق تـارة للكبـت واملخاوف اجلنسـية وفـق رؤيـة فرويد‪ ،‬وتـارة لنقص‬
‫احلـب واالنفصال عـن اآلخرين حسـب رؤية أريـك فروم‪ ،‬وتـارة أخرى‬
‫السـارة يف الطفولـة حسـب رأي أرثـر جانوف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إىل بعـض اخلبرات غير‬
‫شـك سـيم ّثل ما يشـبه الصدمـة للعقل‪،‬‬‫هـذا الوضـع اجلديـد بال أدنى ّ‬
‫ويسـبب آالمـ ًا مزمنـة ومعانـاة داخلية بسـبب الدفاع املسـتميت للــ "أنا"‪،‬‬
‫ررات الكسـل والبقاء يف‬ ‫للبقـاء يف منطقـة الراحـة السـلبية‪ ،‬ويف نطـاق مب ّ‬

‫‪98‬‬
‫دائـرة املألـوف‪ ،‬ولن ينتهي هـذا اجلحيم حتى َت َتك َّشـف لك أنـوار روحك‬
‫وتتعلـم كيف تسـتلهم مـن أنوارها‪.‬‬
‫حـاول أن تتخلـص مـن قلقك هـذا‪ ،‬من خلال تعزيـز الثقـة بالنفس‪،‬‬
‫وأنـا أضمـن لك اسـتعادة الطفـل مـن داخلـك بحيويته وهبجته وسلامه‬
‫الداخلي وإقباله على احلياة‪..‬‬
‫كل مـا قيـل ويقـال عـن الوعـي اإلنسـاين هـو يف حقيقتـه مـن أجـل‬
‫الوصـول باإلنسـان ملسـتوى يعيش فيـه متوازن ًا بال معانـاة‪ ،‬وبال رصاعات‬
‫فكرية أو جسـدية‪ ،‬سـواء مع نفسـه أو مع اآلخرين‪ .‬الوعي إرادة‪ ،‬وجهد‬
‫مسـتمر‪ ،‬وصرب عظيم‪ ،‬فاإلنسـان الواعي هو من يسـعى المتالك السيطرة‬ ‫ّ‬
‫على أفـكاره ومعتقداته‪ ،‬بالتيه عـن كل املكتسـبات الذهنية السـابقة‪ ،‬تلك‬
‫التـي ورثهـا مـن املجتمـع واألهـل والبيئـة‪ ،‬والسـعي للسـيطرة على أنـاه‬
‫الزائفـة وحتييدهـا‪ ،‬مـن خلال االنتبـاه والفهـم واإلدراك‪ ،‬ومـن خلال‬
‫السـيطرة على رغباتـه الشـا ّذة وحتييدهـا‪ ،‬أيض ًا من خلال االنتبـاه والفهم‬
‫واإلدراك ‪ ،‬معنـى التحييـد هنـا يعنـي أن نفهـم أننـا لسـنا األفكار‪ ،‬ولسـنا‬
‫أن ََواتنـا الزائفـة‪ ،‬وال رغباتنا الطائشـة‪ ،‬هـذا التحييد والفهم هـو ما نقصده‬
‫التحـول الـذي حيمـل اخللاص للجنـس البشري‪ ،‬وهـو‬ ‫ّ‬ ‫بالوعـي‪ ،‬وهـو‬
‫التحول‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يتحمل مسـؤولية هـذا‬‫ّ‬ ‫جهـد فـردي‪ ،‬وكل فـرد منـا‬
‫‏كيف لقمر روحك أن يبزغ من الظ ُلامت؟‪.‬‬
‫وأنت تسكن يف ظالهلم‪..‬‬
‫وتدير وجهك لشمس اهلل‪!..‬‬
‫أقـرب ُمصطلـح للمقصـد اإلهلي ملعنـى اإليامن هـو ُمصطلـح الوعي‪،‬‬
‫لكـن لألسـف ُأفرغـت كلمـة اإليمان ممّـا تعنيـه‪ ،‬و ُأفرغـت مـن جوهرها‬

‫‪99‬‬
‫آخر يناسـب ُمراد ا ُملتسـ ّلطني وأصحاب العقائد‪.‬‬
‫احلقيقـي ليصبح هلا معنى َ‬
‫‏مـن يعـرف حقيقـة اهلل سـيفهم أن اإليمان هـو الوعـي‪ ،‬هـو الوعـي‬
‫ّ‬
‫يتجلى إال باالسـترشاق الـذايت‪،‬‬ ‫اإلدراكـي والشـعوري الـذايت الـذي ال‬
‫وال يمكـن أن ُيع ّلمـه مع ّلـم أو كتـاب أو مدرسـة‪ ،‬ومـن يعـرف حقيقة اهلل‬
‫سـيعرف حقيقـة نفسـه‪ ،‬ومـن يعـرف حقيقـة نفسـه سـتكون أفعالـه غري‬
‫خاضعـة لرغبـة أو انفعـال أو تفكير أو تـر ّدد أو حسـابات منطقيـة‪ ،‬بـل‬
‫تكـون خاضعـة لشيء أعمـق مـن البصيرة وأبعـد مـن الثقـة‪ ،‬يشء كأنـه‬
‫القـدر املنير‪...‬‬
‫ـار طاعـن يف السـ ّن يدعـى (هـول) يف زمـن ازدهار السـفن‬ ‫بح ٌ‬
‫عـاش ّ‬
‫الرشاعيـة‪ ،‬كان بحار ًا أسـطوري ًا ومشـهور ًا وموقـر ًا بوصفه ّ‬
‫البحـار األكثر‬
‫نجاحـ ًا يف أيامه‪.‬‬
‫ا يف البحـر‪ ،‬وكان األقل خسـارة‬ ‫كان دؤوبـ ًا يف عملـه ويمكـث طويل ً‬
‫بحـار آخـر‪ ،‬كان هول‬ ‫للرجـال يف أثنـاء صيـد املزيـد من السـمك مـن أي ّ‬
‫كثير ًا مـا ُيسـأل عـن قدرتـه غير العاديـة واخلارقـة يف البقـاء هـذه ا ُملـدَ د‬
‫الطويلـة يف البحـر مـن غير معـدّ ات مالحيـة‪ ،‬فـكان ُييب ببسـاطة‪:‬‬
‫كنـت أرتقي ظهـر املركـب و ُأصغـي إىل الريح‬
‫ُ‬ ‫كل مـا أفعلـه هـو أننـي‬
‫واألرشعـة‪ ،‬أفهم انحدار البحـر وأنظر إىل النجوم‪ ،‬ومن ثـم ُأ ّقرر وجهتي‪.‬‬
‫لكـن األحوال تغريت يف البالد‪ ،‬فقد نشـطت كُربيـات رشكات التأمني‬
‫ورص َح أرباهبـا أهنـم لـن يقدمـوا تأمينـ ًا للسـفن إن مل يكـن‬
‫على السـفن ّ‬
‫القباطنـة قـد تلقـوا تدريبـ ًا مناسـب ًا وموثوقـ ًا على السـفن ّ‬
‫خيوهلـم اإلبحار‬
‫يتلق‬
‫هبـا‪ ،‬كانـوا على درجـة شـديدة مـن التردد يف إخبـار هـول الـذي مل َّ‬
‫تعليم ًا رسـمي ًا معرتفـ ًا بـه‪ ،‬لكـن دهشـتهم كانـت كبرية حين قال‪:‬‬

‫‪100‬‬
‫إن كان ال بــدّ مــن هــذا التدريــب فــا بــأس‪ ،‬ســأذهب لتل ّقــي املناهــج‬
‫املالحية‪.‬‬
‫وختـرج بدرجـة عالية‪ ،‬اسـتبدّ بـه احلنني إىل‬
‫ّ‬ ‫انظـم هـول إىل التدريبـات‬
‫ّ‬
‫البحـر‪ ،‬ومـا إن وصـل إليـه حتـى رشع يف رحلـة طويلـة‪ ،‬ويف يـوم عودته‬
‫اجتمـع سـكان املدينة كلهـم ملقابلته وسـألوه‪:‬‬
‫هـول‪ ..‬كيـف كانـت رحلتـك مـع كل تلـك اخلرائـط واملعـادالت؟‪.‬‬
‫اعتـدل هـول يف كرسـيه ثـم أجـاب‪:‬‬
‫األمـر يف غايـة البسـاطة‪ ،‬كنـت حين ُأريـد معرفـة موقعـي يف البحـر‬
‫أذهـب إىل قمـرة القيـادة أنشر اخلرائـط واجلـداول‪ ،‬و ُأجـري املعـادالت‬
‫احلسـاب ّية و ُأحـدّ د مسـاري بدقة علمية ثـم أرتقي إىل ظهـر املركب و ُأصغي‬
‫إىل الريـح واألرشعـة‪ ،‬وأعـي انحدار البحـر‪ ،‬وأنظر إىل النجـوم‪ ،‬ثم أعود‬
‫ألصحـح األخطـاء التـي ارتكبتهـا يف إجراء املعـادالت!‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إىل ُقمـريت‬
‫دعوت اهلل (سبحانه) قائالً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫حني سمعت هذا القول منه‬
‫إهلـي‪ُ ..‬أريـد أن أعرفـك هبـذه الطريقـة‪ُ ...‬أريـد أن أرتقـي إىل ظهـر‬
‫ا يف كلمتـك الرسمديـة‪ ،‬ثم‬ ‫املركـب وأنصـت إىل صوتـك يف قلبـي‪ ،‬متأ ّمل ً‬
‫أنـزل إىل ُقمـريت وأجـري تعدياليت على خططـي العقلية والعلميـة املرهفة‬
‫التـي رسـمتها يف رأيس‪.‬‬
‫عليك أن جتتهد لتجد املعنى اإلهلي بداخلك‪..‬‬
‫إ ّياك إياك أن تأخذه من أفواه اآلخرين‪،‬‬
‫ألنك إما أن خترس اهلل وإما أن خترس نفسك‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ميـز الشـخص احلر عـن بقيـة القطيـع‪ ،‬كل ما‬‫‏الوعـي هـو الـذي يُ ّ‬
‫نحتاجـه هـو أن نسـتفيق ونُـدرك مـا يحـدث حولنا‪.‬‬
‫(فادمي زيالند)‪.‬‬
‫‏ َمنحك اهلل روح ًا هي البذرة‪،‬‬
‫وأعطاك قلب ًا هو املاء‪،‬‬
‫وغرسك يف تربة هذا العامل‪،‬‬
‫فام الذي حتتاج بعدها كي تُزهر؟!‬
‫ُغير مـن ردود أفعالنا جتاه األحـداث‪ ،‬من ردود‬
‫سـتجعلنا‏قـوة الوعي ن ّ‬
‫أفعـال منمطـة غري واعيـة إىل ردود أفعـال واعية ومتّزنة‪ ،‬ت ِ‬
‫ُكسـبنا شـجاعة‬ ‫ُ ّ‬
‫مهمـة للتغيري‪ ،‬ومتنحنـا قوة رضوريـة لعملية االختيار واإلبـداع‪ ،‬وتدعمنا‬ ‫ّ‬
‫بمقـدرة تفاعليـة إجياب َّيـة مع املحيط ومـع اآلخرين‪.‬‬
‫مسيرة الوعـي والنمـو يف حقيقتهـا هـي رحلـة نمـو للقـوة الداخليـة‬
‫تلاش لألوهـام‪ ،‬فمـن معجـزات الوعـي أنـك كلما أدركـت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف مقابـل‬
‫وتفهمـت‪ ،‬وتقبلـت‪ ،‬وتصاحلـت‪ ،‬مع نقـاط ضعفك كلام حتولـت إىل نقاط‬
‫قـوة ونامء‪.‬‬
‫يف وعينـا احلقيقـي سـنؤمن أن اآلالم والتجارب الصعبـة هي من أجل‬
‫ارتقـاء فهمنا وألجل توسـيع دوائـر مداركنا‪ ،‬وألجل لفـت انتباهنا ملواطن‬
‫اخللـل‪ ،‬ولبواطن العلل يف نفوسـنا‪ ،‬وألجل حتمية السـعي للتغيري‪.‬‬
‫يف اللحظـة التـي تتقبـل فيهـا أملـك وحتتضنـه وتتأ ّملـه‪ ،‬لتفهم رسـالته‪،‬‬
‫فأنـت تكـون قـد ّاتـذت اخلطـوة األوىل يف طريـق الوعـي واليقظـة‬
‫واالسـتنارة‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ّ‬
‫للتخل‪ ،‬سـواء‬ ‫ُ‬
‫األوان‬ ‫فاحليـاة رحلـة ٍّ‬
‫ختل‪ ،‬واألمل رسـالة لك بأنـه قد آن‬
‫عـن برجمـة خاطئـة أو عن تع ّلق مـا‪ ،‬أو عن عـادة ُم ّ‬
‫رضة‪ ،‬الوعي سـيجعلنا‬
‫قـوة األشـياء التـي هتزمنا هـي قوة ومه ّية‪ ،‬سـندرك ذلـك بعد أن‬
‫نُـدرك أن ّ‬
‫نتق ّبـل تلـك األشـياء ونفهمهـا ونفهم فحـوى رسـائلها‪ .‬األوهـام العقلية‬
‫كالتعلـق واحلسـد واسـتصغار الـذات واإلمكانيـات والطمـع واخلـوف‬
‫ّ‬
‫ومتجـذرة يف العقـل البشري منـذ بدايات‬ ‫واملعانـاة‪ ،‬هـي أوهـام موروثـة‬
‫نشـأته وتطـوره‪ ،‬وأفضـل مـا نسـتطيع فعلـه ألجـل التقليـل مـن آثارهـا‬
‫السـلبية‪ ،‬هـو مراقبتهـا واالنتباه هلـا واالعتراف بوجودها‪.‬‬
‫‏يف مسـتوى معين مـن الوعـي سـيتغري مفهومنـا عـن قسـوة احليـاة‪،‬‬
‫رسيـان احليـاة‬
‫وصفعاهتـا املؤملـة‪ ،‬وسـنؤمن بأهنـا يف احلقيقـة هـي طبيعـة َ‬
‫نمـو وتر ّقـي املخلوقـات‪ ،‬بالضبط كما يؤمن‬
‫وسـنّتها وأسـلوهبا يف عمليـة ّ‬ ‫ُ‬
‫الشـخص عنـد وعيـه بـأن قسـاوة الوالديـن إنما هـي يف احلقيقـة ألجـل‬
‫نضجـه واشـتداد عـوده‪.‬‬
‫يف الوعـي احلقيقـي ال وجـود ملفاهيـم اخلسـارة واخلطأ والفشـل‪ ،‬ألن‬
‫الـروح الواعيـة تؤمـن بـأن كل األحداث حتدث لسـبب وغاية يف سيرورة‬
‫الوعـي الكـوين وتطـوره‪ ،‬لذلـك فإن الـروح الواعيـة ال تعاين‪.‬‬
‫هنـاك تشـابه كبير بين كـرة القـدم وبين حيـاة اإلنسـان‪ ،‬فاإلنسـان‪،‬‬
‫يتعـرض‬
‫ّ‬ ‫ومهما كانـت درجـة قوتـه مـن حيـث وعيـه وثقافتـه ومرونتـه‪،‬‬
‫أحيانـ ًا للهزيمـة‪ ،‬ألسـباب صعـب جـد ًا حرصهـا وحتديدهـا‪ ،‬وذلـك‬
‫بسـبب تأثـره بظـروف متغيرة ومتباينـة ومؤ ّثـرات ال حصر هلا‪ ،‬وبسـبب‬
‫خضوعـه لقوانين ُمتعـدّ دة‪ ،‬لذلـك على اإلنسـان أن يتق ّبـل دائم ًا هزائمه‪،‬‬
‫وكما يقولـون‪ ،‬بـروح رياضية‪ ،‬ويسـعى دائم ًا السـتيعاهبا وتربيرها بوعي‬

‫‪103‬‬
‫وانتبـاه‪ ،‬وفهمهـا برتكيـز هـادئ وواضح‪ ،‬ألجـل حماولة فهـم الكيفية التي‬
‫تسير هبـا احلياة‪.‬‬
‫يف عـامل الرياضـة يقولـون "عليـك أن تتقبـل اخلسـارة بـروح رياضية"‪،‬‬
‫ألنـك عندمـا تتق ّبـل الواقع سـتهدأ وتفهـم لتتجـاوز‪ ،‬وإن كـرة القدم هي‬
‫كما احليـاة رحلـة متأرجحة بين الفـوز واخلسـارة‪ ،‬والفريـق األفضل هو‬
‫مـن يسـتفيد مـن اخلسـارة بشـكل علمـي‪ ،‬مـن خلال معرفـة األسـباب‬
‫تعصـب ومـن دون هـروب‪ ،‬ومـن‬ ‫ودراسـتها هبـدوء ورو ّيـة‪ ،‬ومـن دون ّ‬
‫احلـي املثابر‪ ،‬وهكـذا ينبغي‬
‫ّ‬ ‫دون إلقـاء التّهـم جزافـ ًا‪ ،‬هكذا يكـون الفريق‬
‫أن يكـون اإلنسـان احلـي املثابر‪.‬‬
‫‏صدّ قنـي؛ ال يوجـد يشء شـخيص بينـك وبين احليـاة‪ ،‬إهنـا حتتضنـك‬
‫توهجـ ًا‪ ،‬فمن ال ينضـج باللني‬
‫بقسـوة فقـط‪ ،‬لتكـون أكثر نضجـ ًا وأكثـر ّ‬
‫سـينضج بالقسـوة‪ ،‬ومن ال تُنضجه القسـوة سـتُنضجه الشـدّ ة يف القسوة‪.‬‬

‫البساطة شرط من شروط الوعي‬


‫طـوال آالف السـنني دأب اإلنسـان يف البحـث عـن ُأ ُطر ترسـم لـه مالمح‬
‫مؤسسـة على ُأسـس عميقة‬ ‫حياتـه‪ ،‬وعـن نظـام أخالقـي يؤ ّمـن لـه حياة ّ‬
‫للسـعادة‪ ،‬ومفعمـة بالسلام واألمـان‪ ،‬ومزدهـرة باإلبـداع واحلكمـة‪،‬‬
‫ومليئـة باحلـب والتسـامح والرمحـة‪ ،‬لكنـه كان دائم ًا يبحث عـن كل ذلك‬
‫وبمؤهلات قـارصة ووسـائل غير مناسـبة‪ ،‬وال ترتقـي‬ ‫ّ‬ ‫يف املـكان اخلطـأ‬
‫ٍ‬
‫بذهـن مريض‪ ،‬ذهـن يفتقد‬ ‫لعظمـة إمكانياتـه‪ ،‬فهـو غالبـ ًا مـا كان يبحـث‬
‫للمرونة ويفتقد للشـفافية ورهافة اإلحسـاس‪ ،‬ويفتقد للبسـاطة والتلقائية‬
‫يف مسيرة عيشه‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫يقول الشاعر واحلكيم الهندي طاغور‪:‬‏‬
‫"من البسـاطة أن تعيش سـعيداً لكن من الصعوبة أن تعيش بسـيطًا»‪.‬‬
‫تكمـن الصعوبـة يف التحـرر مـن قوانين العقـل وقواعـده‪ ،‬فالعقـل‬
‫البشري ال يـزال ُمق ّيـد ًا بقواعـد العيـش البدائـي‪ُ ،‬معتقـد ًا أنـه ُمهـد ٌد من‬
‫اخلـارج‪ ،‬ومـا زالـت تطفو عىل سـطحه قواعد الربـح واخلسـارة‪ ،‬واهلزيمة‬
‫واالنتصـار‪ ،‬ومـا زال هيـدر طاقته‪ ،‬وخيسر َبريق احلكمة والسلام‪ ،‬ما زال‬
‫العقـل البرشي يفهم أن العطاء خسـارة‪ ،‬وأن السماحة ضعـف واملخاوف‬
‫بر والغرور هو من جيلب لنفسـه االحرتام‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أمـان‪ ،‬والكسـل راحة‪ ،‬وأن الك ْ َ‬
‫وأن غضبـه يعـود عليـه بالسـكينة والسلام‪ ،‬وأن اجلفـاء هـو مـن جيعلـه‬
‫عزيـر ًا وحمبوب ًا‪.‬‬
‫أن نعيـش ببسـاطة يعنـي أن نخلـع عنا قنـاع املثاليـة والتصنّـع‪ ،‬وأن نكون‬
‫نتصرف‬
‫ّ‬ ‫صادقين مـع أنفسـنا‪ ،‬وأن نحـاول قـدْ َر اإلمـكان أن نتنبـه‪ ،‬وال‬
‫وحـي أرواحنـا وقيمهـا اجلامليـة‪ ،‬قيـم املحبـة‬‫أو نشـعر أو نفكـر ّإل مـن ْ‬
‫والتسـامح والرمحـة والتعـاون‪ ،‬تعنـي أن نتت ّبـع مشـاعرنا لنفهـم األصيـل‬
‫منهـا ونُم ّيـز الزيـف فيها‪.‬‬
‫صدّ قنـي؛ األمـر سـهل جـد ًا‪ ،‬هـذه هـي البسـاطة التـي متنحنـا الرضـا‬
‫واالطمئنـان‪ .‬هـذا هـو معنى أن تعيـش احليـاة بتلقائية وبراءة وبلا تك ّلف‬
‫أو تعقيـد‪ ،‬فأنـت عندما تكـون عىل طبيعتك بال تك ّلف أو تصنّع‪ ،‬سـتحظى‬
‫فمن‬ ‫ِ‬
‫بمكافـآت وهبات كون ّيـة‪ ،‬و(فلترة) طبيع ّية لعالقاتك مـع اآلخرين‪َ ،‬‬
‫سـيجمل حياتـك‪ ..‬و َمن ينتقدك سـيغادرها مع ّ‬
‫كل آثاره السـلب ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتق ّبلك‬
‫البسـاطة تعنـي أن تكـون ذاتَـك‪ ،‬أن تكـون حـارض ًا بوعيـك الـذايت يف‬
‫كل الرصاعات‪ ،‬بال‬ ‫ٍ‬
‫تشـاف مـن ّ‬ ‫ٍ‬
‫صـاف و ُم‬ ‫فطري‬ ‫الزمـان واملـكان‪ ،‬بذهن‬
‫ّ‬
‫أي خمـاوف أو أحقـاد‪ ،‬يعنـي أن تكـون صادقـ ًا متواضعـ ًا بال أقنعـة‪ ،‬حتى‬

‫‪105‬‬
‫تغيرت األماكـن وتباينـت الظـروف‪ ،‬فأنت أنـت يف البيـت أو العمل‬
‫وإن ّ‬
‫أو الشـارع‪ ،‬أو يف مـكان آخـر‪.‬‬
‫أن يكـون اإلنسـان بسـيط ًا هو أسـهل فعـل‪ ،‬لكنه أصعـب قرار‪ .‬البسـاطة‬
‫هـي براعـة احليـاة وفهمهـا الواعـي‪ ،‬هـي أن تتد ّفـق مـن روحك سلسـلة‬
‫احلكمـة الثمينـة‪ .‬ذكاء عاطفـي ـ خيـال حـر ـ عقـل مطيـع ‪.‬‬
‫مـا هـي مكاسـب اإلنسـان عندما يكـون عىل طبيعتـه وبسـاطته ويترصف‬
‫بتلقائية؟‬
‫على الصعيد اخلارجي سـندخل يف دائـرة النضج وسـنتمتع بالثقة واخلربة‪،‬‬
‫ترصفاتنـا التلقائية‬
‫تحرريـن مـن املكر واألقنعة والرصاعـات‪ ،‬صحيح أن ّ‬ ‫ُم ّ‬
‫النابعـة مـن مشـاعرنا احلقيقيـة سـتجعل املحيطين بنـا يتق ّلصـون يومـ ًا‬
‫ويثمنـون هـذه‬‫يتفهمـون ّ‬ ‫بعـد آخـر‪ ،‬لكنهـا يف النهايـة سـتفرز أشـخاص ًا ّ‬
‫الصفـات‪ ،‬وهـم األغلى واألهـم‪ .‬وعلى الصعيـد الداخيل سنسـمح لكل‬
‫خاليـا اجلسـد وأجهزتـه أن تقـوم بعملهـا دون إجهـاد أو تعقيد‪.‬‬
‫ْ‬
‫حـاول قـدْ ر اإلمـكان أن تُبحـر يف هذه احليـاة بقـارب العفوية والبسـاطة‪،‬‬
‫تنـس أن تأخذ معـك ِم ْ َ ْ‬
‫ـداف التفكّر واملسـؤولية‪..‬‬ ‫لكـن ال َ‬
‫الوعي في العالقات‬
‫واحـدة من أهـم املؤرشات الرتفاع مسـتوى الوعـي عند اإلنسـان‪ .‬يتم ّثل‬
‫واملقربني منـه بالثقة والراحـة واألمان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف مسـتوى إحسـاس املحيطين بـه‬
‫وعـدم احلساسـية يف التعامـل معـه‪ ،‬فأنـت تكـون يف مسـتوى متقـدم مـن‬
‫َحـرج اآلخرون يف احلديـث والتباحث معـك بال أدنى‬ ‫الوعـي عندمـا ال َيت ّ‬
‫تـردد أو خـوف أو خشـية يف أي موضـوع كان‪ ،‬ألهنـم يتو ّقعـون منك آراء‬
‫تفهمـة‪ ،‬وال يتو ّقعـون منـك أيـة ردود أفعـال غير حمسـوبة أو‬ ‫ناضجـة ُم ّ‬
‫مترسعـة‪ ،‬أو أيـة ردود تتسـم بالغضـب والعدوانية‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪106‬‬
‫فعندمـا تكـون عالقتنا مـع اآلخرين ونظرتنا هلـم نابعة من عمـق أرواحنا‪،‬‬
‫نقـي مـن الوعـي‪ُ ،‬يتيـح لنـا أن ننظـر هلـم‬
‫نكـون قـد وصلنـا إىل مسـتوى ّ‬
‫عرقي أو‬
‫ّ‬ ‫ونتعامـل معهـم كأرواح حقيقيـة جمـردة‪ ،‬دون تصنيف جنسي أو‬
‫دينـي أو متييز‪.‬‬
‫ّ‬
‫فالشـخص الواعـي سـيحصل على حصانـة منيعـة ومناعـة حقيقيـة ضـدّ‬
‫التـورط بعالقـات متعبـة‪ ،‬وضـدّ احلامقـة واالسـتغالل من قبـل اآلخرين‪،‬‬
‫ّ‬
‫التعمـد يف إيـذاء اآلخريـن وضـد اجلـدال والتعصب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وضـدّ‬
‫تتظافـر وتتعاضد يف نسـج تلك احلصانـة أجزاؤه املختلفة‪ :‬الروح واجلسـد‬
‫والعقل‪.‬‬
‫ونسـبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بإطـار ُمعين‬ ‫غالبـ ًا؛ تكـون عالقاتنـا مـع األشـخاص ُمؤ ّطـرة‬
‫تتراوح نسـبيته حسـب درجـة سـطحية العالقـة وعمقهـا‪ ،‬هـذا اإلطـار‬
‫غالبـ ًا ما يكون ُمؤسسـ ًا حسـب بعـض اآلراء واملواقف واألحكام املسـ َبقة‬
‫ـي واملفيد أن نجتهد يف االنتباه‬
‫الصح ّ‬
‫ّ‬ ‫واملركونـة يف رفوف الذاكرة‪ .‬هنا؛ من‬
‫املهم جـد ًا‪ ،‬ومراجعـة وتقليب هذه امللفـات والتصالح‬ ‫إىل هـذا املوضـوع ّ‬
‫معهـا‪ ،‬وذلـك ملـا له مـن أثر بالـغ يف تنقيـة عقلنـا الالواعي وإعـادة برجمته‬
‫قـدر اإلمـكان إىل حالـة املصاحلة مع الـذات‪ ،‬وذلـك من خالل‬ ‫للوصـول َ‬
‫إحلال التـوازن والتناغـم بين عقلنـا الواعـي والالواعي‪ ،‬فلا يمكن أن‬
‫خيفـى على اإلنسـان اللبيـب أمهيـة ودور العالقـات اإلنسـانية يف جمـرى‬
‫حياتنـا‪ ،‬وتأثريهـا على ُبنيتنا النفسـية‪.‬‬
‫أثـار هـذا املوضـوع اهتاممي حني شـكا يل أحـد األصدقاء من عـدم قدرته‬
‫على التعامـل بثقـة وأرحي ّيـة تا ّمة مـع زميل لـه يف العمل‪ ،‬فهام حسـب قوله‬
‫يشتركان يف نفـس العمل واملـكان وجه ًا لوجه وملـدّ ة ثامين سـاعات تقريب ًا‬
‫يوميـ ًا‪ ،‬ويضيـف‪ :‬املشـكلة أنـه مل يبـدر من هـذا الزميـل أي سـوء أو خلل‬

‫‪107‬‬
‫أخالقـي‪ ،‬بـل بالعكـس دائم ًا مـا كان ُمتعاونـ ًا وحريصـ ًا عىل عملـه وعىل‬
‫عالقتنا‪.‬‬
‫طلبـت مـن هـذا الشـخص أن يتذكّـر برتكيـز األيـا َم األوىل ملعرفتـه هبـذا‬
‫َكـون لديـه‪ ،‬أو خطـر لـه عنه‪،‬‬ ‫الزميـل وأن يتذكّـر االنطبـاع األول الـذي ت ّ‬
‫مـن النظـرة األوىل‪ ،‬أي عـن شـكله ومظهـره اخلارجـي‪ ،‬أو البحـث عـن‬
‫ُحكمـه الشـخيص على أول املواقـف التـي حدثت بينهما‪ ،‬وطلبـت منه أن‬
‫مرة رأى‬ ‫يتذكـر ويراجع مشـاعره فقط يف تلـك األيام‪ .‬فأجاب بأنـه يف أول ّ‬
‫فيهـا ذلـك الشـخص مل يشـعر بشـعور إجيـايب دون أن يفهم السـبب‪ ،‬وأنه‬
‫يشـعر باسـتياء من نفسـه خلوفه أن يكـون ظامل ًا هلذا الشـخص‪ ،‬املهـم مت ّكنّا‬
‫سـوية مـن فهم هـذه احلالة وأسـباب نشـوئها‪ ،‬وإهنـا كانت تتعلـق باملظهر‬
‫ليـس إال‪ ،‬فهـذه هي طبيعـة الــ «أنـا» وقوانينهـا وأحكامها الزائفـة‪ .‬فهي‬
‫غالبـ ًا مـا جتعلنـا نحكـم عىل األشـخاص أو على األحـداث أحكامـ ًا غري‬
‫حجـة منطقيـة أو عىل سـبب ُمقنـع‪ ،‬فقط‬ ‫أي ّ‬ ‫واقعيـة وغير ُمسـتندة على ّ‬
‫ّ‬
‫والشـك والتر ّدد‪.‬‬ ‫وتعودت على اخلوف‬
‫ألهنـا تربجمـت ّ‬
‫مشـكلة هـذه الـ «أنا» أهنا متسـ ّلطة على العقل الالواعي لـدى أغلبنا‪ ،‬وال‬
‫يمكننـا اسـتيعاهبا إال بالوعـي هبـا‪ ،‬وإدراك أالعيبهـا وأسـاليبها‪ ،‬والوعـي‬
‫احلقيقـي يف جوهرنـا النقـي و ُقدراتنا ُ‬
‫الشـجاعة والنبيلة‪.‬‬
‫أنـاين‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫‏العالقـة التـي جتعلـك تعـاين هي التـي تثبت لك بأنك شـخص‬
‫يتحكّـم بـك هو األجيو وليسـت قيمـك الروحية‪..‬‬
‫كلنـا يعـرف أمهيـة عالقاتنـا اإلنسـانية بمختلـف أشـكاهلا ومـدى تأثريها‬
‫على توازننـا الداخلي وتأثريهـا على ُممـل حياتنـا‪ ،‬ومـن أجـل عالقات‬
‫مرحيـة ومفيـدة وأكثـر انسـجام ًا علينـا أن نتأ ّمـل يف بعـض األسـئلة ّ‬
‫املهمة‬
‫بعمـق ووضـوح وصـدق مع الذات‪ُ ،‬م ّـرد انتباه تا ّم إىل مسـتوى املشـاعر‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫وبالطبـع بلا أيـة إجابـات أو حكـم على الـذات أو على اآلخر‪.‬‬
‫* هل أعيش العالقة بصدق وعفوية بال تك ّلف أو مثالية أو تفكري؟‪.‬‬
‫* هـل هنـاك نِ ّيـات مسـ َبقة يف العالقـة‪ ،‬أي هـل إن هذه العالقـة من أجل‬
‫غايـة معينة‪ ،‬ومـا هي هـذه الغاية؟‪.‬‬
‫* هل تس ّبب يل العالقة معاناة ُمزمنة أو أمل ًا مزمن ًا؟‪ ،‬وما هو أصل هذه املعاناة ؟‪.‬‬
‫الشـخص الواعـي ال توجد يف قواميسـه كلامت مثـل‪ :‬اخليانـة وخيبة الظ ّن‬
‫يتحمـل هـو مناصفة مع‬ ‫ّ‬ ‫والنـدم‪ ،‬ألنـه مؤمـن أنـه يف حالة فشـل العالقـة‬
‫الطـرف اآلخـر وزر فشـلها‪ ،‬ومؤمـن كذلـك أن كل إنسـان يتصرف وفق‬
‫وعيـه وجتربتـه‪ ،‬ومؤمـن بأن الـدرس الذي يتع ّلـم منه ال يمكن أن ُي ّ‬
‫سـمى‬
‫فشلاً‪ ،‬ومؤمـن بـأن العطـاء أمـر داخلي ليـس للطـرف اآلخـر فيـه أي‬
‫عالقـة‪ ،‬فالعالقـة مع اآلخرين سـوف لن تزعجـك أو تؤملـك‪ ،‬حني تؤمن‬
‫أن الوعي مسـتويات‪ ،‬وكل شـخص يتعامل معك حسـب مسـتوى وعيه‪.‬‬
‫مثلما تعلمـت أن ختتـار جلسـدك مـا ُي ّملـه مـن مالبـس‪ ،‬تعلـم أن ختتـار‬
‫لروحـك مـا ُيملهـا مـن أرواح‪.‬‬
‫كل عمليـة بنـاء روحـي وتناغـم مـع الرشيـك يف العالقـة‪ ،‬علينـا أن‬ ‫يف ّ‬
‫ٍ‬
‫جـزء من شـخص ّيتنا‪ ،‬هذا هـو االهتمام الواعـي‪ ،‬وهذا هو‬ ‫نتقبـل خسـارة‬
‫األهـم يف تنامـي العالقـة الروحيـة ونضجهـا‪ ،‬وألجـل ديمومة‬
‫ّ‬ ‫األسـاس‬
‫نتفهـم ونتق ّبـل هـذه اخلسـارات‪ ،‬ونتقبـل‬
‫العالقـة وتسـاميها علينـا أن ّ‬
‫ونُسـ ّلم بـاألمل املصاحـب لـكل خسـارة‪ ،‬ومـا ندعوه خسـارة هنـا هو عىل‬
‫مسـتوى الذهـن وعلى مسـتوى الشـخصية‪ ،‬بمعنـى هـي خسـارة لدعائم‬
‫الــ «أنـا» الزائفـة وأوهامهـا‪ ،‬أوهـام الرغبـة والتسـلط واحلسـد والغيرة‬
‫واألنانيـة‪ ،‬هـذه اخلسـائر هـي يف حقيقتهـا ٍّ‬
‫ختـل ونضـج وأنـوار تنبلـج‬
‫وحترر‬
‫ختل وتنـازل ّ‬ ‫وأزهـار تتفتـح‪ ،‬عىل مسـتوى الـروح‪ ،‬هـي يف حقيقتها ّ‬

‫‪109‬‬
‫مـن الشروط األنويـة والعقليـة‪ ،‬لتتفتـح يف نفوسـنا زهـور التسـامح اللا‬
‫مشروط‪ ،‬والرمحـة واملحبـة الالمرشوطـة‪ ،‬واألهم هـو تَفتّح أنـوار الفهم‬
‫واإلحسـاس النقـي‪ ،‬هـذه هـي القيمـة املقدّ سـة للحب‪.‬‬
‫مهية‬‫عندمـا يكـون طرفا العالقة يف املسـتوى نفسـه من الشـعور بعظمـة وأ ّ‬
‫اخلسـارات تصبـح العالقـة ناميـة وناضجـة ويشـعران بسـهولة إمتـام‬
‫متغير‪ ،‬وبعـد كل اختبـار‪ .‬لكـن يف‬ ‫ّ‬ ‫املسيرة الروحيـة بعـد كل منعطـف أو‬
‫حالـة وجـود تفـاوت يف مسـتوى الوعـي وتفاوت يف مسـتوى االسـتعداد‬
‫سـيتحمل الطرف األكثـر وعي ًا ونور ًا مشـ ّقة‬
‫ّ‬ ‫لعالقـة ناضجـة ومثمـرة‪ ،‬هنا‬
‫كبيرة وصبر ًا عظيم ًا ألجـل الوصـول بالطـرف اآلخـر إىل مسـتوى وعيه‬
‫فالطـرف األكثـر و ْعيـ ًا قـادر ببصريتـه وحدسـه أن ُيبصر‬ ‫َ‬ ‫واسـتعداده‪،‬‬
‫النمـو والنضج‪ ،‬سـيكون‬ ‫ّ‬ ‫داخـل الطـرف اآلخر و ُيـدرك جيـد ًا قدرته عىل‬
‫يسـتحق ويسـتحق كثري ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هنـاك مشـقة وأمل لكنـه‬
‫ملاذا ال يفهم الرجال النساء؟‬
‫وهل املرأة كائن غامض يصعب‪ ،‬بل يستحيل‪ ،‬فهمه؟‬
‫املختصين واملفكريـن على صعوبة فهـم الرجال لعـامل حواء‬‫ّ‬ ‫اتّفـق أغلـب‬
‫اخلـاص‪ ،‬ولترصفاهتـا وانفعاالهتـا وردود أفعاهلـا وتفكريهـا وعاطفتهـا‪،‬‬
‫واألمـر بالطبـع واضح جـد ًا‪ .‬وبالطبـع هذا اإلشـكال يف الفهم له أسـبابه‬
‫وفهـم هـذه األسـباب سـيعود بالفائـدة للطرفين‬ ‫املوضوعيـة اخلاصـة‪ْ ،‬‬
‫البشري بأرسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وللعـامل‬
‫يتحمل النسـبة األعظـم من هذه اإلشـكالية‪،‬‬‫ّ‬ ‫شـخصي ًا أؤمـن بـأن الرجـل‬
‫صحيـح أن ظروف الرجل سـامهت يف ب ْل َورة واسـتفحال هذه اإلشـكالية‪،‬‬
‫غير وا ٍع حلجـم‬
‫لكـن ذنـب الرجـل أنـه استسـلم هلـذه الظـروف‪ ،‬فـكان َ‬
‫اخلسـارات التـي حلقـت بـه وباملـرأة على حدّ سـواء‪ ،‬بسـبب سـوء الفهم‬

‫‪110‬‬
‫وعجـزه هـذا‪ .‬فالرجل على العمـوم يقيض أغلـب أوقاته يف عملـه‪ ،‬وهو‬
‫ضطـر السـتخدام تفكيره وذكائه العقلي يف إنجـاز عمله‪ ،‬وهـذا طبيعي‬ ‫ّ‬ ‫ُم‬
‫مـن أجـل النجـاح واملنافسـة يف العمـل‪ ،‬أو حتـى ملجـرد إنجـاز العمـل‬
‫فقـط‪ ،‬فهـو يف املعتـاد يسـتهلك أغلـب هنـاره وأحيانـ ًا بضـع سـاعات من‬
‫الليـل يف العمـل‪ ،‬هـذا الوضـع وهـذه الظـروف هـي التي جعلـت الرجل‬
‫ـزن األمـور واألحـداث وفـق منظـوره العقلي ووفق ذكائـه‪ .‬ويف‬ ‫يـرى و َي ِ‬
‫تعاملـه مـع اآلخريـن‪ ،‬أكثـر ممـا ُيبرصهـا بعاطفتـه وذكائـه العاطفـي‪،‬‬
‫فالـذكاء العاطفـي بحاجـة لفهـم ووعـي وإحسـاس‪ ،‬كونـه لغـة مشـاعر‬
‫صادقـة بدهييـة فطريـة وليسـت منطقية فكريـة‪ ،‬الـذكاء العاطفـي بحاجة‬
‫ّ‬
‫يتحلى‬ ‫للتأ ّمـل والتد ّبـر الروحـي‪ ،‬ولكـي يفهـم الرجـل املـرأة عليـه أن‬
‫ويتّصـف هبـذا النوع من الـذكاء‪ ،‬فهـو الذي يمنحـه البعد احلقيقـي لواقع‬
‫املـرأة‪ ،‬فاملـرأة بأغلب حاالهتا غير خاضعة للقوانين املنطقيـة العقلية التي‬
‫يفهمهـا الرجـل‪ ،‬أو حتـى التي تفهمهـا هي‪ ،‬وهنا إشـكالية واقعيـة للمرأة‬
‫أيضـ ًا يف فهمهـا وتعاملهـا مـع بنات جنسـها‪.‬‬
‫علينـا هنـا أن تتأكّـد ونؤمـن بـأن إشـكالية عـدم الفهـم هـذه مصـدر قوة‬
‫للمرأة‪ ،‬لكنّه لألسـف وبسـبب مسـتوى الوعـي البرشي احلـايل أصبحت‬
‫مصـدر ًا إشـكالي ًا وجودي ًا‪.‬‬
‫إن قـوة املـرأة احلقيقيـة تكمـن يف بسـاطتها وفطرهتـا وعاطفتهـا ويف قرهبـا‬
‫مـن الطبيعـة‪ ،‬فاملـرأة هـي الطبيعـة يف أهبـى جت ّلياهتا‪.‬‬
‫أرادت املـرأة أن تُدافـع عـن نفسـها ضـدّ التحدّ يـات والعراقيـل والقيود‪،‬‬
‫كـويص و َق ّيـ ٍم عليهـا‪ ،‬لذلـك جلـأت املـرأة لعقلها‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫التـي وضعهـا الرجـل‬
‫السلاح الوحيـد الـذي تتقـن اسـتخدامه‪ ،‬وهـذا بالطبـع على حسـاب‬
‫عنـارص قوهتـا الطبيعيـة (عاطفتهـا‪ ،‬حدسـها‪ ،‬صربهـا‪ ،‬بصريهتـا‪ ،‬انتباهها‬

‫‪111‬‬
‫وباملحصلـة على حسـاب التـوازن الكـوين‪ ،‬لذلـك أصبحـت‬
‫ّ‬ ‫وفهمهـا)‪،‬‬
‫املـرأة تعـاين أكثر‪ ،‬ولذلـك أصبح الوجـود البشري كله يعاين بسـبب هذا‬
‫االختلال احلاصـل يف جزئـه األنثـوي اجلاميل‪.‬‬
‫رسيـان الطبيعـة‪ّ ،‬‬
‫وكل موجود‬ ‫ّ‬
‫كل موجـود يعـاين عندمـا حيـاول أن يقاوم َ‬
‫يبتهـج ويرقـص رقصتـه الكونيـة عندما يسـتثمر معطيـات الطبيعـة وينمو‬
‫مـع رسياهنا‪.‬‬
‫فما نحتاجـه نحـن البشر بصـورة عامـة هـو ترويـض أنفسـنا وتدريبهـا‬
‫وتنميتهـا على الـذكاء العاطفـي‪ ،‬كام نسـعى لتنميتهـا عىل الـذكاء العقيل‪،‬‬
‫ّ‬
‫لتتجلى مـن جديد فينـا قوة احليـاة املفقودة بسـبب االنفصـال الذي حيدث‬
‫بين املـرأة والرجـل‪ ،‬ولتكـون عالقتنـا فيما بيننـا عالقـات حمبـة وفهـم‬
‫واحترام وبنـاء ومسـاعدة‪ .‬أ ّمـا مـا حتتاجه املـرأة مـن الرجل هـو التعامل‬
‫والتواصـل معهـا بعواطفـه وليـس بعقلـه‪ ،‬عليـه أن يتعامـل معهـا بحـب‬
‫وحنـان ورمحـة واهتمام‪ ،‬والرتكيـز على االهتمام هبـا‪ .‬فاملـرأة التي تشـعر‬
‫باالهتمام احلقيقـي مـن قبـل الرجل‪ ،‬تكـون امـرأة ناضجة متكاملـة واعية‬
‫واثقـة بنفسـها ومتوازنـة‪ ،‬كـون االهتمام هـو أكثـر مـا ُيشـعرها بالسلام‬
‫واالمتلاء الداخلي‪.‬‬
‫يصعـب أن تكـون هنـاك عالقـة متوازنـة وناضجـة بين الرجـل واملـرأة‪،‬‬
‫إذا مل حيـدث بينهما فيهـا التكامـل‪ ،‬بمعنـى أن تتواصـل املـرأة مـع الرجـل‬
‫بحقيقتهـا وبامهيتهـا األنثويـة وأن يتواصـل الرجـل مـع املـرأة بحقيقتـه‬
‫وبامهيتـه الرجوليـة‪ ،‬فمـن هنـا فقـط يشـعر كل منهما بطبيعتـه وحقيقتـه‬
‫ويكونـان متكاملين‪ ،‬كام أرادهتما ُأ ّمهام الطبيعـة‪ ،‬وليكونا فاعلني يف سـياق‬
‫النمـو والرتقـي الكـوين‪ .‬علينـا أن نُـدرك بـأن التفا ُعـل التكاميل بين املرأة‬
‫ّ‬
‫والرجـل‪ ،‬هـو الغايـة لسـبب خلـق الرجـل بطبيعته‪ ،‬ولسـبب خلـق املرأة‬

‫‪112‬‬
‫بطبيعتهـا‪ ،‬ووفـق قانـون أن «ال يشء حيدث مـن قبيل الصدفـة‪ ،‬وال يمكن‬
‫أن حيـدث سـبب يف الكـون دون نتيجـة أو غايـة»‪.‬‬
‫دنيـوي ومادي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتتنزه عـن كل ما هو‬
‫حين تصل العالقة ملسـتوى الـروح ّ‬
‫أثيري‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫سـتصبح عالقـة مـن نـور‪ ،‬أي أهنا قـد أصبحت عالقـة ات ٍ‬
‫ّصال‬
‫هـذا املسـتوى ال ُيمكـن أن حيدث أي فـراق أو نسـيان أو اشـتياق‪ ،‬الفراق‬
‫والنسـيان واالشـتياق حيدث فقـط عىل املسـتوى املادي‪.‬‬
‫رصيـد املحبـة الصادقة الذي نمتلكـه يف قلوب الناس‪ ،‬حتـى وإن كان من‬
‫شـخص واحـد‪ ،‬هـو الرصيد الذي سـيمكّننا من تسـديد ديـون احلياة مهام‬
‫كانت غالية‪.‬‬
‫تبادل المنفعة الروحية‬
‫اإلنسـان الواعـي يفهـم جوهـر األشـياء التـي حتيـط بـه والتـي خيضع‬
‫لتأثرياهتـا يف مسيرة حياتـه‪ ،‬مـن هنـا سـتكون عالقتـه متوازنـة مـع هـذه‬
‫أهـم تلـك العالقات هـي عالقتـه باألشـخاص اآلخرين‪،‬‬ ‫األشـياء‪ ،‬ومـن ّ‬
‫ومـا نعنيـه هنا بكلمـة (متوازنة) هو أن تكـون عالقة نفعية لـكال الطرفني‪،‬‬
‫سـواء أكانـت هـذه الفائدة على املسـتوى الروحـي واملعنـوي واألخالقي‬
‫أم كانـت على املسـتوى املـادي‪ ،‬تعود تلـك العالقـة بالفائـدة والنفع لكال‬
‫الطرفين‪ ،‬ومـن دون أي فعـل اسـتغالل مـن أحـد الطرفين‪ ،‬كـون فعـل‬
‫االسـتغالل يعـود بالضرر على طـريف العالقـة على حـدٍّ سـواء‪ ،‬فمثل ً‬
‫ا‬
‫عندمـا تفهم طبيعة عمل جسـدك سـتُدرك األشـياء التي تعود عليـه بالنفع‬
‫وتـدأب على فعلها‪ ،‬وسـتدرك األشـياء التي جتلـب له الضرر‪ ،‬ومتتنع عن‬
‫فعلهـا‪ ،‬وكذلـك عندمـا تكـون إنسـان ًا واعيـ ًا سـتفهم الطريقة التـي يعمل‬
‫هبـا عقلـك وسـتكون قـادر ًا ومتمكّنـ ًا مـن ترتيـب دوره يف حياتـك‪ ،‬مـن‬

‫‪113‬‬
‫خلال إفسـاح املجـال لـه ألداء مها ّمـه التـي ُوجـد ألجلهـا‪ ،‬مـن خلال‬
‫توفير الظـروف املناسـبة لـه‪ ،‬أي بإفراغه من أفـكاره السـلبية والضوضاء‬
‫والتوتـر‪ ،‬عـن طريـق املامرسـات الروحيـة كالصلاة والتأمـل والرياضة‪.‬‬
‫هـذه املنفعـة ا ُملتبادلـة ُيدركهـا اإلنسـان الواعـي بطريقـة ختتلـف عـن‬
‫إدراك اإلنسـان قليـل الوعـي‪ ،‬فالواعـي مؤمن متامـ ًا بأن اكتسـاب املنافع‬
‫الروحيـة أعلى قيمة وأسـمى من اكتسـاب املنافـع املادية‪ ،‬لذلـك ال يتوانى‬
‫عـن نيـل املنافـع املعنويـة والروحية حتـى وإن كانـت عىل حسـاب منافعه‬
‫املاديـة‪ ،‬أو على حسـاب أي جهد مـادي يبذله يف سـبيل حتقيق ذلـك النَيل‬
‫الروحـي‪ ،‬ألنـه يمتلـك ثقـة تامـة ال يمكـن أن تتزعـزع بقوانين الوجـود‬
‫العادلـة والدقيقة‪.‬‬
‫تقص إحدى التلميذات حكايتها قائل ًة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫نـت يل مع ّلمتـي يف املدرسـة احلكوميـة األفـكار املعقـدة يف املنـح‬ ‫َب ّي ْ‬
‫ا يف طريقتـي يف محل‬ ‫جلي أن ثمة خلل ً‬
‫واالسـتالم‪ ،‬فقـد الحظـت بشـكل ّ‬
‫الكتـاب يف درس القـراءة‪ ،‬لـذا جلـأت إىل إخضاعـي إىل فحـص برصي‪ ،‬مل‬
‫ترسـلني إىل املستشـفى‪ ،‬بـل أخذتنـي إىل طبيـب العيـون اخلـاص هبـا‪ ،‬ومل‬
‫تعرضنـي عليـه على سـبيل اإلحسـان‪ ،‬بل بوصفـي صديقـة هلا‪ ،‬لقـد أثار‬
‫هـذا الفعـل فضـويل وهلفتـي ملعرفـة مـا ُيـراد يب‪ ،‬فأنـا مل أفهـم بالضبـط ما‬
‫حـدث حتـى أعطتنـي ذات يـوم نظـارة طبيـة‪ ،‬قلـت بحدّ ة‪:‬‬
‫ال أسـتطيع أخذهـا‪ ،‬فلا طاقـة يل على دفـع ثمنهـا‪ ،‬قلـت ذلـك وأنـا‬
‫حمـارصة بفقـر عائلتـي‪ ،‬فحكـت يل معلمتـي حكايـة‪:‬‬
‫عيل أن‬
‫إن ّ‬‫حينما كنـت طفلـة اشترت يل جارتنا نظـارة طبيـة‪ ،‬وقالـت ّ‬
‫أدفـع ثمنهـا يومـ ًا مـا عبر رشاء نظـارة طبيـة لطفلة صغيرة‪ ،‬لذا كما ترين‬

‫‪114‬‬
‫فـإن ثمـن هـذه الن ّظـارة مدفـوع قبـل أن تولـدي‪ .‬ثـم أسـمعتني مع ّلمتـي‬
‫معظـم الكلمات اجلميلـة التـي مل يقلهـا يل أحدٌ من قبـل‪ ،‬ختمتهـا بالقول‪:‬‬
‫ستشترين أنـت أيضـ ًا ذات يـوم نظـارة لطفلة صغيرة أخرى‪ ،‬لقـد كانت‬
‫آمنت‬
‫تنظـر إ ّيل وكأننـي واهبـة‪ ،‬وقـد جعلتنـي أشـعر بـأين مسـؤولة‪ ،‬فقـد ْ‬
‫بـأين سـأمنح شـيئ ًا لشـخص آخـر و َقب َلتنـي ألكـون فـرد ًا يف العـامل نفسـه‬
‫الـذي تعيـش فيـه هـي‪ .‬خرجـت من غرفـة الـدرس وأنـا أقبـض بإحكام‬
‫هلبـة وإحسـان‪ ،‬بـل ألين‬ ‫على النظـارة الطبيـة‪ ،‬ليـس بوصفـي مسـتلمة ٍ‬
‫ُ‬
‫ُأ ِ‬
‫عـت أمانـ ًة ّ‬
‫علي أن أكـون مؤمتَنـة عليها‪.‬‬ ‫ود ُ‬
‫الحقيقة فخ العقول‬
‫سـتتغي عنـدك معـاين الكلمات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ففـي مسـتوى متقـدّ م مـن الوعـي‬
‫ويصبـح هلـا بعـدٌ آخـر‪..‬‬
‫ال ستصبح السعادة تعني الرضا‪..‬‬‫فمث ً‬
‫ِ‬
‫والغنى يعني العطاء‪..‬‬
‫والتعاسة تعني الوهم‪..‬‬
‫والذكاء يعني النقاء‪..‬‬
‫واجلهل يعني الكسل‪..‬‬
‫والشيطان يعني اخلوف‪..‬‬
‫واحلب يعني ح ّبك لآلخر‪..‬‬
‫ّ‬
‫واحلر ّية ستعني التيه‪..‬‬
‫ّ‬
‫والتدرج‬
‫ّ‬ ‫االنتقـال والرتقـي يف مسـتويات الوعي يشـبه تقريبـ ًا الرتقـي‬
‫تتعـرض الختبار‬
‫يف األنظمـة التعليميـة‪ ،‬الفـرق أنـك يف النظـام التعليمي ّ‬

‫‪115‬‬
‫كميـة املعلومـات التـي حتصـل‬
‫أو امتحـان ينقلـك ملرحلـة أعلى بحسـب ّ‬
‫عليهـا وهتضمهـا‪ ،‬أمـا يف حالـة الوعي فإنـك تنتقـل ملرحلة أعىل بحسـب‬
‫كم ّيـة املعلومـات واألفـكار واملفاهيم التـي ّ‬
‫تتخل عنها‪ ،‬لتبـدأ يف كُل حلظة‬
‫متحركة ونسـبية‪ ،‬وليسـت‬ ‫ّ‬ ‫بدايـ ًة جديـدة للفهـم واإلدراك‪ ،‬فاحلقيقة نامية‬
‫رئييس ُيسـلك‪ ،‬بل هلـا عدّ ة طرق‬
‫ّ‬ ‫جامـدة أو جاهـزة‪ .‬ليس للحقيقـة طريق‬
‫طـرق متشـ ّعبة متتـدّ إىل أمـد الرحلة‪ ،‬هـذه هي حركـة الفكر‬ ‫جانبيـة‪ ،‬وهلـا ُ‬
‫البشري يف تطـوره ونمـوه وتفاعالتـه‪ ،‬فكان لـكل زمان حقائقـه اخلاصة‪،‬‬
‫جمرد أوهـام وأباطيل‪ ،‬ولكل زمان مسـتوى‬ ‫والتـي أمسـت يف زمان ِ‬
‫الح ٍ‬
‫ـق ّ‬
‫وعيـه اخلـاص به‪ ،‬املشـكلة كما يفهمهـا اإلنسـان الواعـي ليسـت يف كون‬
‫احلقيقـة كإشـكال ّية أو كحقيقـة بذاهتـا أو نسـقها يف الزمـان واملـكان‪ ،‬فهي‬
‫ُعبر غالبـ ًا عـن مسـتوى وعـي وثقافـة وحضـارة أمـة مـا وجمتمـع مـا‪،‬‬ ‫ت ّ‬
‫املشـكلة عندمـا تُعتبر تلك احلقائـق كعقائـد ُم ّنزهة عن البحـث واملراجعة‬
‫والتدويـر‪ ،‬وأن تُصا َدر حريـة الفكر وحرية النقد وحريـة التعبري‪ ،‬فاألفكار‬
‫ال تُعتبر حقائـق ُم ّنزهـة إال من ِق َبل العقـل الديكتاتوري والعقل ا ُملتسـ ّلط‪،‬‬
‫والغايـة دائ ًام هي االسـتغالل‪.‬‬
‫التعصب‬
‫ّ‬ ‫مهم كثير ًا وهو أن موضـوع‬‫لنحـاول االنتبـاه هنا إىل جانـب ّ‬
‫للحقيقـة كان ومـا زال هـو السـبب الرئيسي ملـآيس اإلنسـان‪ ،‬بما ُيعانيـه‬
‫ربئ‬‫مـن حـروب وجماعـات وقهر وظلـم وجهـل‪ ،‬وال ُيمكـن لنا هنـا أن ُن ّ‬
‫عم َيـدث له‪،‬‬ ‫يتحمـل جزء ًا مـن املسـؤولية ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـان مـن كل هـذا‪ ،‬ألنـه‬
‫تتحمل السـلطات مسـؤولية جتهيل اإلنسـان وإقحامه يف‬ ‫ّ‬ ‫بمعنـى أنه مثلما‬
‫سـجون األفـكار والعقائـد ومصـادرة فكـره واسـتغالله‪ ،‬كذلك اإلنسـان‬
‫يتحمـل مسـؤولية االنصيـاع واخلنوع واالستسلام لـكل ذلك‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫يسـود يف منطقـة الوعـي االنتبـاه‪ ،‬ليـس االنتبـاه املفت َعـل وإنّما االنتباه‬
‫الفطـري‪ ،‬وتُثـار األسـئلة‪ ،‬ليسـت األسـئلة التـي تبحـث عن أجوبـة وإنام‬
‫األسـئلة التـي ُت ّـرك فينـا مشـاعر الفهـم واحلكمة‪.‬‬
‫سـتتمكّن مـن فهـم حقيقة األشـياء بقـدر مـا تتو ّلـد فيك األسـئلة‪ ،‬ال‬
‫بقـدر مـا تتزاحـم عنـدك األجوبة‪..‬‬
‫أهم األسئلة التي تراود السالكني يف منطقة الوعي ‪:‬‬
‫جمـرد وجـود جسـدي ذي أبعـاد ماديـة رصفـة أم أن هنـاك‬
‫* هـل أنـا ّ‬
‫أبعـاد ًا وامتـدادات روحيـة لوجـودي؟‬
‫* هـل أنا موجود عبث ًا واعتباط ًا‪ ،‬أو إنني موجود لغاية ما وهدف حمدد؟‬
‫* هل أشعر بانتامئي للكون أو أنا جمرد يشء غريب خمتلف عنه؟‬
‫* هـل أفعـايل وأفـكاري صـادرة مـن أنـاي الزائفـة (خـوف‪ ،‬طمـع‪،‬‬
‫حسـد‪ ،‬حـب الشـهرة‪ ،‬حـب التسـلط والسـيطرة) أم أهنا من وحـي قيمي‬
‫الروحيـة‪( ،‬حكمـة‪ ،‬إدراك‪ ،‬سلام‪ ،‬حمبـة‪ ،‬قـوة‪ ،‬إبـداع)؟‬
‫* هـل أفعـايل وأفـكاري يف عالقايت املتعـددة مصدرها العقـل‪ ،‬تفكري‪،‬‬
‫شـك‪ ،‬التعامـل باملثـل‪ ،‬غيرة‪ ،‬انتقـام‪ ،‬أم أهنا مـن وحي روحـي‪ ،‬تعاطف‪،‬‬
‫رمحة‪ ،‬تعـاون‪ ،‬ثقـة‪ ،‬تفهم ؟‬
‫* هـل أشـعر بالرضـا والقناعـة واإليمان بربجمـات املجتمـع وعاداتـه‬
‫وقيمـه وسـياقاته؟‬
‫* هل ُأدرك حقيقة بداخيل‪ ،‬عمق النعمة اإلهلية؟‬

‫‪117‬‬
‫التعلّق علة وانحدار‬
‫كل منّـا يـرى العـامل وفـق مفاهيمـه اخلاصـة‪ ،‬حتـدث املشـكلة يف رحلة‬
‫تطـور الوعـي والنضـج‪ ،‬عندما ينغلق الشـخص على مفاهيمـه ويتعصب‬
‫هلـا‪ ،‬ومـن دون أي مراجعـة أو مرونـة أو حتديـث‪ ،‬ومـن هنـا أيض ًا تنشـأ‬
‫مشـكلة التع ّلـق‪ ،‬فالتع ّلـق يف حقيقته انغالق فكري بسـبب اخلوف واملامنعة‬
‫والشـك‪ .‬لذلـك علينـا أن نجتهـد ونثابـر ونسـعى لالنفتـاح على الوجود‬
‫والتناغـم مـع جمرياتـه ودينامية تطوره‪ ،‬واإلحسـاس باالنتامء لـه واالمتالء‬
‫بـه وبمكنوناتـه‪ ،‬والتيـه عـن الربجميـات السـابقة واألفـكار التـي تنشـأ يف‬
‫نطـاق أنواتنـا الزائفـة‪ .‬يسـعى اإلنسـان الواعـي دومـ ًا يف رحلـة التنويـر‬
‫إىل اكتشـاف الثغـرات الداخليـة التـي حتتـاج للشـفاء‪ ،‬مـن خلال االنتباه‬
‫واليقظـة‪ ،‬اليقظـة لألفـكار واملشـاعر والنيـات واالختيـارات واألفعـال‪،‬‬
‫فهـو ُمـدرك متام ًا أن التعلـم والنمو والتطـور يتكامل عندما يقترن باليقظة‬
‫والصـدق مـع النفس‪.‬‬
‫ُجمـل رحلـة التنويـر بأهنـا رحلـة إهناء‬
‫نسـتطيع بإيمان وثقـة تامـة أن ن ّ‬
‫وسـمو‬
‫ّ‬ ‫فـك ارتباط ٍّ‬
‫وختل‬ ‫بـكل مـا هـو مـادي‪ ،‬ورحلـة ّ‬ ‫للتع ّلـق‪ ،‬التع ّلـق ّ‬
‫تتحـرر من سـيطرة األرضيـات ُمال أن تسـمو إىل‬ ‫ّ‬ ‫لألعلى‪،‬‏‏فأنـت دون أن‬
‫األعلى وحمـال أن تصل ملـداك الروحـي‪ ،‬فكل تع ّلـق مادي هـو يف حقيقته‬
‫عـدم إدراك للبعـد الروحـي‪ ،‬ودليـل على عـدم اتّصالنـا بالداخـل‪ ،‬إنـه‬
‫دليـل عىل إحساسـنا باحلرمان واحلاجـة والفقـر الداخيل‪ ،‬التع ّلـق يعني أن‬
‫تسـمح لألشـخاص أو الرغبـات أو األشـياء املاديـة بالتحكـم يف حياتـك‬
‫وأفـكارك ومشـاعرك وانفعاالتك‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫يقول واين داير ‪:‬‬
‫ما الفرق بني املتعة والتعلّق بشيء أو شخص؟‬
‫املتعـة‪ ..‬هـي أن تسـمح للطاقـة الناجتة عـن تقديـرك هلذا الشيء وهلذا‬
‫الشـخص وحبـك لـه أن تنسـاب وتتدفـق من خاللـه وتعـود إليك‪.‬‬
‫التع ّلـق‪ ..‬اسـأل نفسـك عن ردة فعلـك إذا اختفـى هذا الشيء أو هذا‬
‫(سق ‪ُ ،‬فقد ‪)..،‬‬
‫اإلنسـان مـن حياتـك ُ‬
‫هل ستشعر بالغضب أو القلق؟‪..‬‬
‫هل ستصبح غري قادر عىل احلركة؟‪..‬‬
‫إن احلاجـة املرتبطـة هبـذا اإلنسـان أو الشيء أعطتـه بعـض درجـات‬
‫السـيطرة أو النفـوذ على مشـاعرك وانفعاالتـك‪ ..‬هـذا هـو التع ّلـق‪.‬‬
‫كيف أتشاىف من التع ّلق؟‬
‫التع ّلـق مـرض وخلـل نفسي داخيل وللتشـايف منـه‪ ،‬وكذلك للتشـايف‬
‫مـن أغلب العلـل واألمراض النفسـية‪ ،‬عىل اإلنسـان أن ُي ِق ّـر ويعرتف بأنه‬
‫ُيعـاين مـن تلـك الع ّلـة ومـن دون أي اختلاق للتربيـرات وملـا يظـن بأهنا‬
‫أسـباب منطقيـة للتعلـق‪ ،‬فمـن دون هـذا اإلقـرار‪ ،‬ومـن دون صـدق مع‬
‫الـذات يصعـب أن حتـدث عمليـة الفهـم واإلدراك‪ ،‬وبالتايل مـن الصعب‬
‫جـد ًا بلوغ الشـفاء‪.‬‬
‫على الشـخص الـذي يعـاين مـن التع ّلـق أن يقـوم بالرتكيـز عىل نفسـه‬
‫واالجتهـاد واملثابـرة للوصـول إىل حالـة مـن الوعـي يسـتطيع معهـا ومن‬
‫خالهلـا احلـدّ من سـلطة األشـخاص واألشـياء عليه والشـفاء مـن التع ّلق‬
‫هبـا من خلال قيامـه ببعـض األمـور املهمـة منها‪:‬‬

‫‪119‬‬
‫* املواظبـة على احلضـور يف اللحظـة اآلنيـة مـن خلال الرتكيـز على‬
‫اجلسـد الداخلي والطاقـة الداخليـة‪.‬‬
‫* القبول واالمتنان‪.‬‬
‫* املحبة الال مرشوطة‪.‬‬
‫* التسامح والغفران ‪.‬‬
‫* احرتام الذات وتقديرها‪.‬‬
‫* االتصـال بالـروح وبالعقـل الواعـي حيـث اإلبـداع والقـوة‬
‫واإلحسـاس بالوجـود واالنتماء لـه‪.‬‬
‫كيف أستطيع التمييز بني احلب والتع ّلق؟‬
‫* احلب تكامل ومشـاركة عىل مسـتوى العواطف واألفكار واملشـاعر‪،‬‬
‫والتع ّلـق هروب من فـوىض الداخل وهـروب من الوحدة‪.‬‬
‫* احلـب حيدث يف نطاق روحاين مقدّ س ُمتسـا ٍم فـوق كل ما هو مادي‪،‬‬
‫والتع ّلـق حيـدث يف نطـاق الــ "أنـا" الزائفـة‪ ،‬أي يف نطـاق فكـري حمض‪.‬‬
‫* احلـب يمنـح إحساسـ ًا غالب ًا باجلمال والثقـة والشـجاعة واالمتالء‪،‬‬
‫والتع ّلـق يو ّلـد شـعور ًا غالب ًا باخلـوف والشـك والتوتر‪.‬‬
‫* احلـب يمنح طاقـة إجيابية عىل مسـتوى املشـاعر واألفـكار‪ ،‬والتع ّلق‬
‫يولـد طاقة سـلبية عىل مسـتوى املشـاعر واألفكار‪.‬‬
‫* احلـب ُيعبر عنه بالصمـت واالحرتام واالهتمام‪ ،‬والتع ّلـق ُي ّ‬
‫عب عنه‬
‫بالـكالم ( عتب‪ ،‬لوم‪ ،‬مدح‪ ،‬توسـل‪ ،‬أسـف)‪.‬‬
‫* احلـب ُيف ّعل حوافز التطـور والنمو عىل املسـتوى الروحي والتكامل‬
‫األخالقـي‪ ،‬والتعلق حي ّفز عىل التطور عىل املسـتوى املادي والشـكيل فقط‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫* احلـب حافـز لالجتـاه نحو الداخـل‪ ،‬ومـن دون هذا االجتـاه يصعب‬
‫جد ًا اإلحسـاس باملحبـة الصادقة واالمتلاء هبا‪ ،‬فالذين امتألت نفوسـهم‬
‫باحلـب ال ينتظـرون أن حيبهم أحـد‪ .‬وال يمكن هلـم أن يتسـولوا املحبة من‬
‫اآلخريـن‪ ،‬أمـا التعلق فهو هروب مـن مواجهة الداخـل وحماولة التعويض‬
‫مـن اخلـارج‪ .‬لذلـك اإلنسـان املحـب دائم ًا مـا يأنـس ويسـتمتع بخلوته‪.‬‬
‫ما هو احلب؟‬
‫التعـود‪ ،‬الرمحـة‪ ،‬األمومـة‪ ،‬األبـوة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلعجـاب‪ ،‬االهتمام‪ ،‬التع ّلـق‪،‬‬
‫الشـفقة‪ ،‬كل هـذه الكلمات قـد تعنـي يف ظاهرهـا احلـب‪..‬‬
‫ا أو داعي ًا‬
‫لكـن يف عمقهـا ليسـت كذلـك‪ ،‬قـد تكـون حافـز ًا أو مدخل ً‬
‫للحب ‪. .‬‬
‫احلـب احلقيقـي هـو تناغم وجتـاذب ذبذيب وتناسـب طاقي يف مسـتوى‬
‫الوعـي الروحي لطـريف العالقة‪..‬‬

‫يُسـاء فهـم احلب على أنّه شـعور‪ ،‬فـي الواقـع إنّه حالة مـن الوعي‪،‬‬
‫طريقـة للتواجـد فـي هـذا العالـم‪ ،‬وسـيلة يـرى فيها الشـخص نفسـه‬
‫واآلخرين‪.‬‬
‫(‪‎‬ديفيد هاوكنز)‬

‫‪121‬‬
‫جيعـل‏العلـم حياتنـا أسـهل وأوضـح‪ ،‬وجتعل الفلسـفة تفكرينـا أعمق‬
‫وأنضـج‪ ..‬وحـده احلـب من حيمـل حلياتنـا النـور واملعنى‪..‬‬
‫يف لغـة الكـون احلـب يعنـي طاقـة العطـاء الالمرشوطـة جتاه األشـياء‬
‫التـي تشـعر بانتامئـك إليها‪.‬‬
‫أحد األصدقاء بعث يل يتساءل عن تعريفي للحب‪.‬‬
‫تأ ّملـت السـؤال ملـدة مـن الوقـت ومت ّلكتنـي احليرة‪ ،‬واقتنعـت بعجز‬
‫الكلمات عـن تأطير احلـب‪ ،‬حالـه كحـال كل املعـاين والقيـم اإلنسـانية‬
‫األصيلـة‪ ،‬لكـن حاولـت أن ُأعبر عـن وجهة نظـري حول اجلانـب األهم‬
‫مـن احلـب‪ ،‬وهـو أن تتوفـر لدينـا الشـجاعة واإليمان على االسـتمرار يف‬
‫العطـاء دون قيـد أو رشط‪ ،‬ومهما تباينـت وتغيرت الظـروف‪.‬‬
‫هـي أن تسـتمر يف العطـاء واالهتمام بغـض النظـر عـن كـون الطـرف‬
‫اآلخـر يسـتحق العطـاء أم ال‪ ،‬ألنـك يف احلقيقـة قد ملسـت يف داخلـه بذرة‬
‫مجـال تسـتحق أن تُسـقى وأن تُرعـى‪ ،‬تلـك البـذرة املوجـودة يف كل البرش‬
‫لكنهـم جيهلـون أهنـا موجـودة فيهـم‪ ،‬لطغيـان وتسـلط أنواهتـم الزائفـة‬
‫وعللهـا املتشـعبة داخلهـم‪ ،‬أنـت ملسـت اجلمال ألنـك تبحـث عنـه بنوايا‬
‫صادقـة ونقيـة‪ ،‬أو ألنك ممتلـئ باجلامل فال يمكـن إال أن تُكافئـك القوانني‬
‫ُسير الوجـود باجلمال‪ ،‬تلـك هـي عدالـة ودقـة تلـك القوانين‪،‬‬ ‫التـي ت ّ‬
‫فاجلمال بوصلـة احلـب‪ ،‬ذلـك اجلمال الروحـي الـذي ال يفنـى‪ ،‬فـكل ما‬
‫يرتبـط بمـدارات احلـب ال يفنـى‪ ،‬وهـذا أيضـ ًا أحـد قوانين الوجود‪.‬‬
‫مهما تباينـت آراؤنـا حـول اجلمال تبقـى التلقائيـة والبسـاطة الصفـة‬
‫األمجـل لـه‪ ،‬ومهما تباينـت آراؤنا حـول القبـح تبقـى األقنعة هـي الصفة‬
‫األقبح‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫مزوديـن بطاقـة هائلـة مـن احلـب‪ ،‬حيـدث‬ ‫كلنـا نـأيت هلـذه احليـاة ّ‬
‫يسـتحق منـا بـذل هـذه الطاقـة‬
‫ّ‬ ‫عمـن‬
‫االرتبـاك حين نبـدأ يف التسـاؤل ّ‬
‫وعمـن ال يسـتحق‪ ،‬كل موجـودات الكـون تسـتحق منـا هـذا البـذل هلذه‬ ‫ّ‬
‫املشـاعر‪ ،‬خصوصـ ًا وأن هـذه الطاقـة ختتلف عـن كل الطاقـات األخرى؛‬
‫فكلما بذلناهـا أكثـر توهجـت فينـا أكثـر‪ ،‬رغـم كل مـا يقدمـه العقـل من‬
‫اعرتاضـات‪ .‬عليـك أن ت ِ‬
‫ُراهـن دائم ًا على احلـب‪ ،‬فاحلـب خسـارة كبرية‪،‬‬
‫لـكل مـا ُيثقـل الـروح‪ ،‬مـن السـوء والرش‪..‬‬
‫أهـم عنـارص احلكمـة أن نسـتطيع التمييـز بين رغباتنا التـي يقف‬
‫مـن ّ‬
‫خلفهـا اخلـوف‪ ،‬وبين رغباتنـا التي يقـف خلفهـا احلب‪.‬‬
‫أسـلوب حياتنـا على الرغبات‬
‫َ‬ ‫نؤسـس‬
‫ومـن أهـم عنـارص القـوة‪ ،‬أن ّ‬
‫التـي يقـف خلفهـا احلب‪.‬‬
‫قوة الحب‬
‫يقين مريـح‪ ،‬أن يعيشـوا حياهتـم كبيادق‬‫فضلـون‪ ،‬وبِ ٍ‬ ‫ُمعظـم النـاس ُي ّ‬
‫الشـطرنج‪ ،‬يتحركـون بأيـدي اآلخريـن أو أن يتحركـوا بام تربجمـوا عليه‪،‬‬
‫وأن ينتقلـوا مـن ُمفـزات ورغبات بال معنـى إىل مرشوعـات فارغة عبثية‪،‬‬
‫زائف وعبثـي‪ ،‬هذا‬
‫ٌ‬ ‫وإىل واقـع زائـف‪ ،‬فـكل مـا ال يصنعه اإلنسـان بوعيـه‬
‫هـو أصـل معاناتـه‪ ،‬فاملعانـاة أصلهـا اخلـوف‪ ،‬واخلـوف أصلـه املجهول‪،‬‬
‫واملجهـول هـو مـا ال تصنعه بوعيـك ورشـدك ونياتك وإيامنـك‪ ،‬فأنت يف‬
‫اللحظـة التي تَرشع فيها بامتلاك حريتك وأفكارك‪ ،‬وتسـعى للتخلص ممّا‬
‫تربجمـت عليه‪ ،‬وتسـعى إلفـراغ ذهنك مـن كل املعارف واألفـكار الزائفة‪،‬‬
‫تلـك العوائـق التي حتـول بينك وبني رهافة اإلحسـاس والصفـاء الذهني‪،‬‬
‫فإنك سـتبدأ يف اسـتعادة قوتـك احلقيقية املفقـودة واملجهولة بالنسـبة لك‪،‬‬
‫هـذه القـوة هـي يف احلقيقـة قـوة روحـك‪ ،‬وقوة وعيـك وإيامنـك‪ ،‬هي يف‬

‫‪123‬‬
‫شـوهها الزيـف والكسـل واألنانية‪ ،‬تلـك القوة‬
‫احلقيقـة قـوة احلـب التي ُي ّ‬
‫التـي سـتمنحك الوضـوح يف الرؤيـة والبصيرة‪ ،‬والوضـوح يف التفكير‪،‬‬
‫والوضـوح يف الن ّيـة‪ ،‬والوضـوح يف املشـاعر‪ ،‬والوضـوح هـو أحـد دعائم‬
‫املقـدرة على متييـز الوهـم‪ ،‬والوضـوح هـو أحد سمات احلكمـة‪ ،‬احلكمة‬
‫حتولنا من نظرتنـا العقلية املكتسـبة لألشـياء‪ ،‬إىل نظرتنا‬
‫التـي تعنـي أننا قـد ّ‬
‫الروح ّيـة الناضجـة‪ ،‬ومن دون هـذه النظـرة الواعية والناضجـة ال ُيمكننا‬
‫أن نفهـم أنفسـنا بالدرجـة نفسـها التـي نفهـم فيهـا العـامل‪ ،‬وال يتسـنّى لنا‬
‫يتضمنـه الوجـود‪ ،‬تلـك الرؤيـة التـي نسـتطيع بواسـطتها‬ ‫ّ‬ ‫رؤيـة كل يشء‬
‫الوصـول حلالـة من الوعـي نتمكّـن فيها مـن إدراك أهـداف الوجود‪.‬‬
‫ومـن دون أن نصـل حلالـة الوعـي هـذه ال ُيمكـن لنـا أن نعـرف قيمـة‬
‫احلـب‪ ،‬وال يمكـن لنـا أن نعـي ونؤمـن أن احلـب هـو القيمـة األعلى‬
‫واألسـمى يف معـاين الوجـود وأهدافـه‪ .‬ومن دون هـذه احلالة مـن الوعي‬
‫واحلكمـة سـيبقى اإلنسـان يعيـش يف حالة مـن الفوىض‪ ،‬ويعيـش يف دائرة‬
‫مغلقـة مـن املعاناة والعـذاب‪ ،‬ألنه َح َر َم نفسـه مـن فضائل النعمـة اإلهلية‪،‬‬
‫ومـن اجلمال اإلهلـي‪ ،‬حينما َح َـر َم نفسـه مـن طاقـة املحبـة‪ ،‬و َأ ْف َسـدَ على‬
‫روحـه َمدَ ياهتـا وهبجتهـا يف الطمأنينـة والسلام واخللاص‪.‬‬
‫ملاذا احلب هو احلقيقة الوحيدة؟‪.‬‬
‫نتهرب أو ننسـى أو نخـاف أو نندم‬‫ألننـا‪ ،‬وال بـدّ لنـا يف يوم ما‪ ،‬إما أن ّ‬
‫مـن أفعالنـا‪ ،‬إال تلك التـي كانت ُمفعمـة و ُمك ّللة باحلب‪.‬‬
‫‏مـن امتلأت نفسـه باملحبـة الالمرشوطـة فلريكـب معنـا‪ ،‬لينجـو مـن‬
‫طوفـان األنانيـة والبـؤس‪.‬‬
‫هكذا نادى نوح ندا َءه األخري‪..‬‬

‫‪124‬‬
‫كيف ُيغرينا احلب؟‬
‫تتعـرض‪ ،‬حاهلـا كحـال كل القيـم‬ ‫ّ‬ ‫احلـب كقيمـة إنسـانية ُمقدّ سـة‬
‫اإلنسـانية األخـرى‪ ،‬للتزييـف واالبتـذال‪ ،‬وبالطبـع مـن قبـل برجميـات‬
‫املجتمـع ومـن ِق َبل أنواتنـا الزائفـة‪ .‬فربجم ّيات املجتمع سـعت دائم ًا لربجمة‬
‫األشـخاص على النظر للحب كشيء كما ّيل وأحيان ًا كيشء ُمعيـب ال يليق‬
‫بأصولنـا الكريمة‪ ،‬وال يليـق بالرجل كرجل قوي‪ ،‬وال يليـق باملرأة كامرأة‬
‫وحتول من قيمة إنسـانية جوهرية ومقدسـة إىل‬ ‫ِ‬
‫ُمرتمـة‪ ،‬وكـذا ابتُذل احلـب ّ‬
‫ُمـرد عالقـة تربـط الرجـل باملـرأة‪ .‬أ ّمـا أنواتنـا الزائفـة فقـد جعلتنـا نفهم‬
‫احلـب بنفـس طريقـة فهمنـا للحـرب؛ فأنـت يف احلـب ال بـد وأن تكـون‬
‫ا ُملنتصر دائم ًا‪ ،‬وال بـد أن يكـون للطـرف اآلخر خيـاران ال ثالـث هلام‪ :‬إما‬
‫أن يقـع أسير ًا يف حبائـل ح ّبنـا‪ ،‬وإمـا أن ُيصبـح هـو اخلائـن وهـو مصدر‬
‫عذابنـا وآالمنـا ومعاناتنـا‪ .‬وهـذا بالطبـع هو اجلـو املثـا ّيل ألنواتنـا الزائفة‬
‫لتعيـش حالـة العـذاب واملعانـاة والفوىض والدمـار الذايت‪ ،‬حتـى أصبحنا‬
‫جمتمعـ ًا بلا عافيـة!‪ ..‬ألننـا ال نعـرف أن نحـب!‪ ..‬ألننا نُطـارد احلب بكل‬
‫مـا لدينـا من اختلاالت وعقـد نفسـية وأنانية‪.‬‬
‫يتغي فينا عندما نحب؟‬
‫ما الذي ّ‬
‫احلـب هـو العاطفـة األكثـر قـدرة على التغلغـل إىل أعمـق نقطـة يف‬
‫وجداننـا‪ ،‬فيحـرك فينـا ما سـكن حتت رمـاد الغفلـة واألنانية‪ ،‬وحيـرك فينا‬
‫ا برياح السـموم‪ ،‬احلب هـو إعادة‬ ‫نسمات البهجـة بعدمـا ا ْلت ََذعـت طويل ً‬
‫تربيـة للنفـس‪ ،‬وهو القـادر عىل تفعيـل عواطفنـا الصادقة والنقيـة بأكمل‬
‫طاقتهـا؛ فأنـت‪ ،‬عندمـا تغمـرك عواطفـك احلقيقيـة الصادقة فهـذا يعني‬
‫أنـك قـد بلغـت غايـة اجلمال والكمال الكـوين‪ ،‬ألن كيميـاء العواطف قد‬
‫ِصي َغـت بيـد صانع اجلمال وخالـق األلفة‪..‬‬

‫‪125‬‬
‫وح ٌّي و َيااِ ْبنَ ُة صالوايت‪...‬‬ ‫يا َأم ر ِ‬
‫َ ْ ُ‬
‫وحي َفا ْع ِذ ِرينِي‪..‬‬ ‫اض ك َْأس البهج ِة يف ر ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َْ َ‬ ‫َقدْ َف َ‬
‫س ُد َب ْعض ًا ِم ْن ِق َّصتِنا‪...‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫سنا ا ُمل َعت ََّق بِاحلَ ْمد َوالياسمني‪َ ..‬س َأ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫َس َأ ْف َض ُح ّ‬
‫ول‪:‬‬‫سأ ُق ُ‬ ‫َ‬
‫الو ْر ِد ِّي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َأنْت َم ْن َل َّونْت َع ْين َّي بِال َّل ْون َ‬
‫ِ‬
‫و َلون ِ‬
‫ْت َق ْلبِي بِال َّل ْو ِن األَ ْب َي ِ‬
‫ض‬ ‫َ َّ‬
‫الس َم ِو َّي‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َو َأعَدْ ت ل ُروحي َل ْوهنا َّ‬
‫َس َأ ُق ُ‬
‫ول‪:‬‬
‫ف َح ْلتِنِي َف ْو َق َمدَ يات ا َمل ْعنَى‪..‬‬ ‫َك ْي َ‬
‫أل ْشي ِ‬ ‫ِ‬
‫آخر‪..‬‬ ‫اء ُب ْعدٌ َ‬ ‫ف َأ ْص َب َح ل َ َ‬ ‫َو َك ْي َ‬
‫ُب ْعدٌ ال ُي َق ُال َو َل َت ْع ِر ُف ُه ال ُّل َغات‪..‬‬
‫اء َأصبح ْت ح ِق ِيقي ًة و ِ‬ ‫ِ‬
‫صائ َب ًة‪..‬‬ ‫ك ُُّل األَ ْش َي ْ َ َ َ َّ َ‬
‫والدُّ روب ُك ُّلها َأصبح ْت و ِ‬
‫احدَ ةً‪..‬‬ ‫َ ُ ُ َ ْ َ َ َ‬
‫ِّيه‪ ..‬وال َب ْهجة‪..‬‬ ‫بلو ِن الت ِ‬
‫ْ‬
‫كتاب مقدَّ س‪ ،‬هو اإلنسان‬
‫ٌ‬
‫حينام يس ّطر بحرب ا َملح ّبة‬
‫حروف ُط ِ‬
‫هره‪..‬‬ ‫َ‬
‫سلاحك فيه احلب هـو انتصار‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫انتصـار حت ّققـه يف حياتـك ال يكون‬ ‫‏كل‬
‫زائـف‪ ،‬أو باألحـرى خسـارة ُم َقنّعـة‪ .‬لذلك‏حـاول اسـتغالل وجودك يف‬
‫ا أن ُتـب كل املوجودات‬ ‫احليـاة حتـى لو بفعل أشـياء بسـيطة للغاية‪ ،‬مثل ً‬
‫مـن حولـك‪ ،‬أو مثل ً‬
‫ا أن حتـاول إطلاق أسماء جديـدة على األشـياء من‬

‫‪126‬‬
‫حولـك‪ ،‬أسماء مـن وحـي املحبـة واالنتماء‪ ،‬أسماء ليـس هلـا عالقـة أبد ًا‬
‫ِ‬
‫ـب والباحث‬ ‫بما ت ْعلمـه عنهـا سـابق ًا‪ ،‬أي أن تنظـر إىل األشـياء نظـرة ا ُملح ّ‬
‫ا ملكتشف ‪.‬‬
‫‏رصيـد املحبـة الصادقـة الذي نمتلكـه يف قلوبنا هـو القـوة الف ّعالة التي‬
‫تقتحـم اجلـدران التـي تفصلنـا عـن الوجـود‪ ،‬وعـن ف ّعاليتنـا يف الوجـود‪،‬‬
‫ورصيـد للمحبـة التـي نمتلكهـا يف قلـوب النـاس حتـى وإن كان مـن‬
‫شـخص واحـد‪ ،‬هـو الرصيد الذي سـيمكّننا من تسـديد ديـون احلياة مهام‬
‫كانـت غالية‪.‬‬
‫يف اللحظـة التـي تعثـر فيها على تلك الـروح التي تتعشـق فيها روحك‬
‫سيتالشـى إحساسـك بالغربـة عـن هـذا العـامل‪ ،‬وسـتظهر لـك روعتـه‬
‫تتجلى لـك معـاين النعمـة والرمحـة والعدالـة اإلهلية‪،‬‬‫ّ‬ ‫وقداسـته‪ ،‬وعندمـا‬
‫سـتؤمن أن األرواح املتجاذبـة النقيـة ال يكتـب هلـا أن تتفـارق أبـد ًا‪..‬‬
‫ما هو الفرق بني احلب والعشق؟‪.‬‬
‫يف احلب أنت تشعر باتّزان لتوافِ َق أجزاءك‪..‬‬
‫ٍ‬
‫باحرتاق لتبعثر أشالءك‪..‬‬ ‫ويف العشق أنت تشعر‬
‫فالعشق هو شهقة الروح التي تفزع النفس وتلجم العقل‪..‬‬
‫‏كاذبة هي الكلامت التي تصف اجلامل‬
‫عني العاشق‪..‬‬
‫اسألوا َ‬
‫كاذبة هي الكلامت التي تصف النار‬
‫اسألوا صدر العاشق‪..‬‬
‫وليس من قدرة ألحد أن يرحم العاشقني‬

‫‪127‬‬
‫سوى اهلل رب العاشقني‪..‬‬
‫يف احلب‪:‬‬
‫ستضيع‪ ..‬لكنك ستجدُ نفسك‪.‬‬
‫ّ‬
‫ستتأل‪ ..‬لكنك لن تعاين‪.‬‬
‫ستحزن‪ ..‬لكنك لن تشعر بالتعاسة‪.‬‬
‫ستمرض‪ ..‬لكنك ستشفى رسيع ًا‪.‬‬
‫ستشتاق‪ ..‬لكنك لن تشعر بالوحدة‪.‬‬
‫واألهم أن حياتك ستصبح كلها صالة يف حمراب قلبك‪.‬‬
‫فللسماء لغـة ال تتواصـل معهـا‪ ،‬وال تنصـت هلـا‪ ،‬إال األرواح النقية‪..‬‬
‫ورس العشـق يف االحرتاق ‪..‬‬
‫رس النقـاء يف العشـق‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫حترتق أنفس العاشقني‬
‫نور نج ٍم‬
‫فيغدو بعضهم َ‬
‫زهر ياسمني‪.‬‬
‫ويغدو بعضهم َ‬

‫‪128‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫اإلستنارة‬
‫إن مـا نريـده ونحتـاج إليـه اآلن هـو التواصـل األقـرب‪ ،‬والفهـم‬
‫األفضـل بني األفـراد واجلماعات‪ ،‬في األرض بكاملهـا‪ ،‬وإنقاص الـ "أنا "‬
‫والتفاخـر واالسـتكبار الـذي مييل دوماً إلـى دفع العالم إلـى الهمجية‬
‫البدائيـة واحلـروب‪ ،‬فالسلام ال ميكـن أن يأتـي إال كنتيجـة طبيعية‬
‫لالستنارة‪.‬‬
‫(نيكوال تسال)‬

‫ال يمكــن لنــا أن نُعطــي تعريفـ ًا عامـ ًا وملـ ًا لالســتنارة‪ ،‬مهــا اجتهدنا‬
‫يف القــول وأســهبنا يف الــرح‪ ،‬حتــى اإلنســان ا ُملســتنري ال يمكنــه ذلــك‪،‬‬
‫لكننــا ســنحاول قــدر اإلمــكان تقريــب املعنــى وتســليط الضــوء عــى‬
‫الظــروف املســاعدة وامللــكات املكنونــة‪ ،‬وعــى بنــاءات وثمــرات حــال‬
‫االســتنارة‪.‬‬
‫يمكننــا القــول بدايــة إن االســتنارة حم ّطــة فاعلــة يف رحلــة النضــج‪،‬‬
‫ـي والفهــم‪ ،‬هــي حلظــة ثقـ ٍ‬
‫ـة‪،‬‬ ‫وثمــرة مــن ثمــرات الوعــي والتغيــر والتخـ ّ‬
‫لكــن ليــس باملعنــى الــذي نعرفــه عــن الثقــة وليــدة التجربــة أو نتيجــة‬
‫القــرار الداخــي‪ ،‬بــل هــي الثقــة يف الوجــود‪ ،‬هــي ثقــة مشــاهبة لثقــة‬

‫‪129‬‬
‫وقــررت‬
‫ّ‬ ‫جربــت أن تُثمــر‬
‫الشــجرة حــن تثمــر‪ ،‬فهــي مل تثمــر ألهنــا ّ‬
‫ـتمر‪ ،‬إهنــا تثمــر ألن هــذا هــو وجودهــا‪ ،‬وهــذه هــي‬ ‫بعــد ذلــك أن تسـ ّ‬
‫فاعل ّيتهــا الكونيــة‪ ،‬وهــذه هــي طريقــة تناغمهــا مــع الكــون‪.‬‬
‫ٍ‬
‫اكتشــاف للــذات‪ ،‬وإعــادة معرفــة للنفــس‪،‬‬ ‫االســتنارة هــي إعــادة‬
‫وإعــادة اكتشـ ٍ‬
‫ـاف للقــدرة اإلنســانية الكامنــة‪ ،‬وهــي حالــة جتـ ٍّـل للنــور‬
‫الداخــي‪ ،‬نــور اهلل ونفحتــه نــور املحبــة والرمحــة والعطــف والتســامح‪،‬‬
‫والتوحــد مــع املوجــودات‪ ،‬هــي ليســت معرفــة‬
‫ّ‬ ‫نــور االمتنــان والتناغــم‬
‫ُمكتســبة‪.‬‬
‫أحــد املســتنريين عندمــا أتتــه حلظــة االســتنارة بعــد ســنوات أخــذ‬
‫ا كيف كُنــت أبحث عــن يشء موجود َّيف أساسـ ًا‪.‬‬ ‫يضحــك هبســتري ّية قائـ ً‬
‫فاالســتنارة ال تتعلــق بكتــاب أو معلــم أو معرفة‪ ،‬وال تتعلق بمســاعدة‬
‫خارجيــة ســوى مســاعدة واحــدة؛ هــي أن يقــال لــك‪ :‬إنــك تســتطيع‬
‫ـون مــن نفــس املــادة اهلائلــة الــذكاء التــي يتكــون‬
‫وجاهــز‪ ،‬ألنــك مكـ ّ‬
‫ذات د ّقــة متناهيــة‪،‬‬
‫ُســره قوانــن ُ‬‫منهــا الكــون‪ ،‬هــذا الكــون الــذي ت ّ‬
‫ليــس ذكاء التفكــر وإنــا ذكاء التســليم‪ ،‬ذكاء الوجــود والطبيعــة‪.‬‬
‫االســتنارة حــال مــن أحــوال الرحلــة‪ ،‬يف الرحلــة املحبــة هــي اهلدف‪،‬‬
‫والنــور هو الوســيلة‪..‬‬
‫اإلنســان املســتنري هــو مــن يبــر األشــياء بنــوره الداخــي ليعكــس‬
‫تلــك األنــوار إىل العــامل مــن حولــه‪ ،‬ســواء عــى هيئــة أفــكار أو تعاليــم‪،‬‬
‫أو عــى هيئــة أفعــال أخالقيــة‪ ،‬أو اكتشــافات علميــة؛ فالبــر يتع ّلمــون‬
‫ـع مــن أرواح الناس‬ ‫ويفهمــون ويدركــون بواســطة تلــك األنــوار التي تَشـ ّ‬
‫املســتنريين‪ُ ،‬أولئــك الذيــن ســامهوا يف تطــور مســتوى الوعــي البــري‪..‬‬

‫‪130‬‬
‫ـظ أننــا وعــى مســتوى تعليمنــا وبــكل أشــكاله املعرفيــة غالب ـ ًا مــا‬
‫الحـ ْ‬
‫نــدرس أفــكار واقتباســات وكتــب واكتشــافات وتعاليــم ونظريــات‬
‫ُأولئــك املع ّلمــن‪.‬‬
‫تتوحــد أقطابــه الثالثــة‪ ،‬اجلســد والعقــل‬
‫اإلنســان املســتنري هــو مــن ّ‬
‫والــروح‪ ،‬لتتظافــر كلهــا يف تكويــن شــكل جديــد إلنســان جديــد‪،‬‬
‫إنســان خــارج عــن املألــوف‪ ،‬إنســان جديــد غــر قابــل للتجزئــة‪ ،‬يتجـ ّ‬
‫ـى‬
‫فيــه النــور‪ ،‬النــور الــذي هــو يف حقيقتــه أصلــه الســاوي‪ ،‬النــور الــذي‬
‫ُيلهمــه إدراك املعنــى خلــف كل شــعور وأصــل كل فكــرة‪ ،‬النــور الــذي‬
‫يمنحــه حالــة النعيــم الدنيــوي وحالــة الســام الداخــي املتناغــم مــع‬
‫الســام الوجــودي األصيــل‪ ،‬حيــث ال رصاعــات وال آالم وال أمــاين وال‬
‫مطامــع وال رغبــات‪ ،‬وبــا قلــق‪.‬‬
‫االســتنارة هــي أن تتجــى فيــك هبجــة الوجــود وروعــة الوجــود ودقة‬
‫الوجــود وعدالــة الوجــود وغايــة الوجــود وتوافــق الوجــود‪ ،‬لتبــر‬
‫املعنــى اإلهلــي ُمتج ّلي ـ ًا يف مجيــع املوجــودات ويف مجيــع أشــكال احليــاة‪.‬‬
‫إيامنك هو مصدر قوتك‪ ،‬وفضاء إبداعك‪ ،‬وجوهر وجودك‪.‬‬
‫ففــي املرحلــة التــي يســمو فيــك (الوعــي اإلنســاين) ســتعاين وتتــأمل‬
‫ملــا تــرى كميــة الظلــم واملعانــاة واجلــوع والقهــر والقتــل والفقــد‪ ،‬التــي‬
‫يــرزح حتتهــا هــذا العــامل‪ ،‬لكــن يف املرحلــة التــي يســمو فيــك الوعــي‬
‫كل يشء بخــر‪ ،‬وأن كل يشء صحيــح‪ ،‬وكل يشء‬ ‫اإلهلــي ســتطمئن أن ّ‬
‫يســر وفــق قوانــن عادلــة ودقيقــة وحياديــة‪ ،‬وأن ال يشء يضيــع مــن‬
‫بــن َيــدي القــدرة اإلهليــة‪ ،‬وأن كل فــرد قــادر وفــق قدراتــه الالحمــدودة‪،‬‬
‫تلــك القــدرات التــي تتمثــل يف إيامنــه ووعيــه وقيمــه الروحيــة‪ ،‬قــادر‬
‫ـو ونضــج الوعــي البــري‪.‬‬ ‫عــى أن ُيســاهم يف نمـ ّ‬
‫‪131‬‬
‫يقول أوشو ‪:‬‬
‫"يكــون النجــاح داخــل اللــه ومــع اللــه‪ ،‬وعليــك أن ّ‬
‫تتذكــر‬
‫أنــي ال أعنــي بـــ (اللــه) شــخصاً جالسـاً فــي مــكان مــا فــي الســماء‪،‬‬
‫ـعر بالــروح الكونيــة‪ ،‬ذلــك القانــون‬
‫بــل أعنــي الــروح الكونيــة‪ .‬اشـ ْ‬
‫الــذي يتغلغــل ويختــرق الوجــود بأكملــه‪ ،‬الــذي ولــدت منــه‬
‫وســتعود إليــه يومــاً "‪.‬‬
‫مـا يقصـده أوشـو يف أن تكون مـع اهلل هـو أن ِ‬
‫تصل أوالً حلقيقـة املعنى‬
‫اإلهلـي بداخلـك‪،‬‏فمـن يعـرف حقيقـة املعنى اإلهلـي‪ ،‬سـيفهم أن اإليامن‬
‫هـو الوعـي‪ ،‬إنـه الوعـي الشـعوري الـذايت العفـوي الـذي ال يتجلى إال‬
‫باالسـترشاق الفـردي‪ ،‬وال يمكـن أن يعلمـه مع ّلـم أو كتـاب أو مدرسـة‪.‬‬
‫تتعمـق يف معرفتـه ومعرفـة قوانينـه وقيمه‪ ،‬قيم‬
‫أن تعـرف اهلل يعنـي أن ّ‬
‫التسـامح واملحبـة واالهتمام والسلام‪ ،‬هـذا هو النجـاح احلقيقـي‪ ،‬وغريه‬
‫هو فشـل تـا ّم مهما كانت مظاهـره‪ ،‬ومهما كانت شـعاراته‪.‬‬
‫عم غريبـة الطبـاع منغلقة عىل نفسـها ال‬ ‫يقـول أحدهـم‪ :‬كانـت يل ابنـة ّ‬
‫ختـرج أبـد ًا إال للضرورة القصـوى‪ ،‬حتـى إين شـخصي ًا مل َأرهـا إال عندما‬
‫مصـدر قلـق ألهلهـا‬
‫َ‬ ‫كانـت طفلـة صغيرة‪ ،‬كنـت أسـمع بأهنـا أصبحـت‬
‫ألهنـا ترفض االرتبـاط‪ ،‬وقد رفضـت كل الرجال الذين تقدّ مـوا خلطبتها‪.‬‬
‫ترسب‬‫يقـول‪ :‬حصـل وأن رأيتهـا يف إحـدى املناسـبات‪ ،‬يف تلك اللحظـة ّ‬
‫منهـا يف داخـل كيـاين يشء‪ ،‬يشء صعب أن يوصف‪ ،‬يشء مل أسـتطع وقتها‬
‫ا مرحيـ ًا ممتعـ ًا حمفـز ًا‪ ،‬فيـه نـوع من‬ ‫أن ُأ ّ‬
‫فـك شـيفرته لكنـه كان شـيئ ًا مجيل ً‬
‫التحـدي‪ ،‬وفيـه طاقـة مـن املسـؤولية والسـعي إىل االهتمام واملسـاعدة‬
‫واإلنقاذ‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫بعـد هـذا اللقـاء وملدّ ة غير قليلة مـن الوقـت كان هناك أشـبه باجلدال‬
‫والصراع يف داخيل بني قوتني متعاكسـتني؛ األوىل بني الشيء الذي وصفته‬
‫وتَو ّلـد يف داخلي بعـد اللقـاء‪ ،‬والثانية بني صـوت داخيل آخـر رافض هلذا‬
‫الشيء‪ ،‬ولـه ُح َججـه املنطقية‪ ،‬فهـي أكرب مني سـن ًا وتعاين مـن اضطراب‬
‫وخـوف وعـدم ثقـة واطمئنـان‪ ،‬أي إهنـا سـتكون زوجـة متعبة جـد ًا‪ ،‬بعد‬
‫انقضـاء فترة الرصاع تلك حسـمت أمـري وتقدمـت خلطبتها‪.‬‬
‫مضي عرشيـن عامـ ًا على زواجنـا أشـعر أننـي‬ ‫ّ‬ ‫يقـول‪ :‬اآلن‪ ،‬وبعـد‬
‫وبفضـل اهلل والقيـم اجلامليـة التـي انتصرت يف روحـي‪ ،‬نجحـت نجاحـ ًا‬
‫باهـر ًا يف إنقاذهـا‪ ،‬والدليل هو يف حجم ابتسـامتها عندما تراين وإحساسـها‬
‫بالثقـة واألمـان معـي وعافيتهـا وحيويتهـا ونشـاطها وإقباهلـا على احلياة‪.‬‬
‫والتفهـم والرمحـة‬ ‫وبالتأكيـد هـذا مل ِ‬
‫يـأت مـن فـراغ‪ ،‬بـل بالتسـامح‬
‫ّ‬
‫واملـودة واالهتمام‪.‬‬
‫يتجسـد فيـك‬
‫ّ‬ ‫هـذا بالضبـط هـو معنـى أن تكـون مـع اهلل‪ ،‬ومعنـى أن‬
‫ومـن خاللـك املعنـى اإلهلي‪.‬‬
‫ألنك حبيب اهلل‪..‬‬
‫فـكل مـا جيلـب لروحـك السلام‪ ،‬ويغمـر حياتـك بالسـكون واملعنى‬
‫هو عبـادة‪..‬‬
‫‏كل ما حيدث لكم هو باختياركم‬
‫أرواحكم تعرف هذا األمر جيد ًا‪.‬‬
‫‏ ُيشير الكاتب غـاري زوكاف يف كتابـه (موطن الـروح) إىل أن أرواحنا‬
‫هي مـن ختتار دورهـا يف جتربتها اإلنسـانية‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫صحيـح أننـي مل ُأؤمـن بالفكـرة كعقيـدة أو كحقيقـة راسـخة ومسـ ّلم‬
‫غيرت الكثير مـن طريقـة فهمـي للحيـاة‪،‬‬ ‫هبـا‪ ،‬لكننـي أشـعر بأهنـا قـد ّ‬
‫وضاعفـت كثير ًا مـن إحسـايس باملسـؤولية جتـاه أقـداري‪.‬‬
‫يتحمل اإلنسـان مسـؤولية أقداره ومسـؤولية كل مـا حيدث له‪،‬‬‫ّ‬ ‫‏عندمـا‬
‫مشـاكله ومعاناتـه ونجاحاتـه‪ ،‬سيكتسـب خبرة ثمينـة‪ ،‬وحكمـة عظيمـة‬
‫وسـتتوضح له نياتـه‪ ،‬وتتنامى‬
‫ّ‬ ‫خلقة‪ ،‬وسـتغمره طاقة نور وهبجة‪،‬‬‫و ُقـدرة ّ‬
‫عنـده الثقـة بالنفـس والشـجاعة‪ ،‬وتتضاعـف قوتـه وصالبتـه‪ ،‬ويتصاعد‬
‫نسـق رسيانـه مـع الطبيعـة والوجـود‪ ،‬فـكل موجـود يعـاين عندمـا حياول‬
‫رسيـان الطبيعـة‪ ،‬وكل موجـود يبتهـج ويرقص رقصتـه الكونية‬ ‫أن يقـاوم َ‬
‫عندمـا يسـتثمر معطيـات الطبيعـة وينمو مـع رسياهنا‪.‬‬
‫التطور والتشايف‪..‬‬
‫ّ‬ ‫يف كل حلظة أنتم متلكون خيارات‬
‫‏أعذاركـم هـي زيـف الــ "أنا" ومبررات الكسـل‪ ،‬وهي عـادة الراحة‬
‫والبقـاء يف دائـرة املألوف‪..‬‬
‫‏كل خماوفكـم التـي بلا ٍ‬
‫سـند سـندُ ها احلقيقي الفجـوة احلاصلـة بينكم‬
‫وبين أرواحكم‪.‬‬
‫عـودوا ألرواحكـم‪ ،‬فهـي وحدها تعـرف أنكم أبنـاء الكـون املد ّللني‪،‬‬
‫أتيتـم من النـور واجلامل والسلام وإليـه متضون‪.‬‬
‫ال يـزال اإلنسـان جيهـل عاملـه األول‪ ،‬وجيهـل طريقة االتصـال به‪ ،‬ألنه‬
‫اعتـاد الفهـم بعقلـه وحواسـه اخلمـس‪ ،‬رغم أن كل شـخص منا قد شـعر‬
‫يومـ ًا بتل ّقيه رسـالة أو وحيـ ًا أو إهلام ًا‪.‬‬
‫األثريي أو الذات العليا حيتـاج إىل رشوط رضورية‬
‫ّ‬ ‫التواصـل مع العـامل‬
‫مـن أجل الفهم واإلدراك واالسـتيعاب‪ ،‬ومن أهـم هذه الرشوط ‪:‬‬

‫‪134‬‬
‫* النية الصادقة الواعية‪.‬‬
‫حالـة ضعف الثقـة وانعدامها أحيان ًا‪ ،‬واالرتبـاك احلاصل يف العالقات‬
‫بين النـاس‪ ،‬هو نتيجـة طبيعية لتغلب النوايا السـيئة يف نفوسـنا عىل النوايا‬
‫احلسـنة‪ ،‬هنـاك من سـيقول بأنه مـن الطبيعـي أن تكون لنا خمـاوف أو عدم‬
‫ثقـة يف التعامـل مـع النـاس‪ ،‬كـون املجتمـع أصبـح جمتمعـ ًا أناني ًا وسـلبي ًا‬
‫ررة وحقيقيـة‪ ،‬لكـن‬ ‫جـد ًا‪ ،‬وخماوفنـا بالتـايل هـي خمـاوف مرشوعـة ومب ّ‬
‫احلقيقـة معكوسـة‪ ،‬أي إن املجتمـع أصبـح هبـذه الدرجـة من السـلبية ألن‬
‫نوايانـا أصبحـت هبـذه الدرجـة مـن السـلبية‪ ،‬وليـس العكـس‪ ،‬فاملجتمع‬
‫سـ ِّيئ ألننا سـ ّيئون‪ ،‬ولسـنا سـيئني ألن املجتمع سـ ِّيئ‪.‬‬
‫ترويض أنفسـنا على النوايـا اإلجيابية احلسـنة رغم كل‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بجهـد‬ ‫لنحـاول‬
‫ظـرف‪ ،‬نوايـا نقية جمردة مـن كل خوف أو رغبـة أو أنانية‪ ،‬حتـى تصفو لنا‬
‫النوايـا الكونيـة ولِنُثاب بخيـارات كونية إجيابيـة ليس هلا حصر أو انتهاء‪.‬‬
‫يف الكـون هنـاك ماليين االختيـارات‪ ،‬لكـن مـا يتهيأ لنـا منهـا مرتبط‬
‫بوعينـا ونياتنـا‪ ،‬ومـن املهـم هنـا أن نفهـم أن النيـة ليسـت جمـرد رغبـة أو‬
‫هـوى‪ ،‬بـل هـي فعـل إرادة وسـعي وإيامن‪.‬‬ ‫ً‬
‫لـكل نيـة هنـاك عـدد مـن االختيـارات‪ ،‬فعندمـا تكـون نيتنـا العيـش‬
‫وفـق قيمة احلـب والرمحة والتسـامح‪ ،‬ووفق ثقتنـا ومسـؤوليتنا‪ ،‬تتحدّ د لنا‬
‫اختيـارات معينـة‪ ،‬وعندما تكـون نيتنا العيش وفق مشـاعر اخلـوف وعدم‬
‫الثقـة واحلسـد والالمبـاالة وقلة الصبر‪ ،‬تتحـدد أمامنا اختيـارات أخرى‪.‬‬
‫تطورنـا الروحي مرتبـط بنياتنا ووعينا هبـا‪ ،‬وعلينا‬
‫علينـا أن نؤمن بـأن ّ‬
‫أن نؤمـن بأننـا نتحمل دائ ًام املسـؤولية عـن أفعالنا ونتائـج أفعالنا‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫مهمـة للتصالـح مـع ذواتنـا وألجـل الوعي‬
‫ومـن أجـل خطـوة أوليـة ّ‬
‫بالنوايـا‪ ،‬لنحـاول دائم ًا االنتبـاه إىل نسـق أفكارنـا وحتديـد إذا مـا كانـت‬
‫يف املجمـل مرتبطـة باملـايض وإعـادة تدويـر لألحـداث السـابقة‪ ،‬أو إذا‬
‫مـا كانـت مرتبطـة دائم ًا باخلـوف مـن املجهـول والقلـق مـن اآليت‪ ،‬ذلـك‬
‫الـذي مل حيـدث بعـد‪ ،‬أو أن تكون دائم ًا مرتبطة بسـلطة الرغبـات وتبعاهتا‬
‫السـلوكية‪ ،‬أو أن تكـون نابعـة مـن منطلـق األنانيـة‪.‬‬
‫لنحـاول أن نكـون على قـدر كبري مـن الرصاحـة واملصداقيـة يف حتديد‬
‫نوعيـة هـذه األفـكار ومدى سـلطتها على أدائنـا يف رحلتنا الدنيويـة‪ ،‬وأن‬
‫نلعـب دور املراقـب والشـاهد عليها‪ ،‬ومـن دون إطالق أي أحـكام ودون‬
‫توبيـخ ولـوم أو تأنيب‪.‬‬
‫كل نيـة خير وحب وهبجة تُزهر يف نفوسـنا ستسـاهم يف موازنة وإعادة‬
‫تغليـب اخلري الكـوين يف مقابل الرش‪.‬‬
‫الثقة‬
‫ُ‬
‫تلجـأ إليه‬ ‫أنـت ُمسـتاء وتتذ ّمـر مـن وضعـك احلـايل‪ ،‬وال جتد خمرجـ ًا‬
‫لتشـعر بالراحـة وتتخ ّلـص ممّـا أنـت فيه!‪..‬‬
‫السـبب هـو أنـك ُمسـتاء‪ ،‬االسـتياء يعنـي أنـك ال تـدرك مـا حيـدث‬
‫معـك‪ ،‬وال تفهـم الطريقـة التـي تسري فيهـا احليـاة وكيـف تتد ّفـق‪ ،‬أنت‬
‫كل تغيير‪ ،‬أنت جتهل إمكانياتـك للتغيري‪ ،‬وجتهـل ُقدراتك الكامنة‪،‬‬‫تقـاوم ّ‬
‫بالسـنن والقوانين الكونية‪،‬‬
‫ألنـك ال متلـك الثقة بنفسـك‪ ،‬وال متلك الثقة ُّ‬
‫وألنـك ال متنـح روحـك الفرصـة للتعاطـي مـع اآلخريـن ومـع كل يشء‬
‫مـن حولـك بثقـة وشـجاعة واطمئنان‪ ،‬فمـن دون هـذه الثقة سـتبقى ترى‬
‫مشوشـة وضبابيـة‪ ،‬ولن تسـتطيع أن تفهـم املعنى اخلاص‬
‫األشـياء بصورة ّ‬

‫‪136‬‬
‫بتجاربـك واملعنـى اخلـاص باملواقـف واألحداث التـي تتعرض هلـا‪ ،‬ولن‬
‫تسـتطيع أن تفهـم عالقاتـك‪ ،‬سـواء مـع اآلخرين من حولـك أو عالقتك‬
‫باحليـاة واملوجـودات‪ ،‬وعالقتـك مـع الكـون والوجـود‪ ،‬وال يتسـنّى لك‬
‫والتطـور يف كل هـذه العالقات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التواصـل والتفاهـم‬
‫االسـتياء يعنـي أنـك أصبحت سـاحة للرصاع بين عدّ ة أفـكار خمتلفة‪،‬‬
‫ومشـاعر متناقضـة وعواطـف زائفـة‪ ،‬والسـبب هـو خماوفـك وأوهامـك‬
‫العقليـة؛ إن عـدم الثقة يعني وجود خمـاوف وارتياب يف العالقـة واالنتامء‪،‬‬
‫فأنـت عندمـا تكـون يف عالقة ال يكـون أساسـها الثقة واالطمئنـان‪ ،‬فإنك‬
‫لـن تفهـم الطرف اآلخـر فه ًام صحيحـ ًا‪ ،‬ولن تفهم نفسـك‪ ،‬ولـن تفهم أو‬
‫تـؤ ّدي دورك يف العالقـة بصـورة حقيقية‪ ،‬ولـن تتمكّن من اختـاذ القرارات‬
‫والتطور لك وللطـرف اآلخر‪،‬‬‫ّ‬ ‫الصائبـة واحلكيمـة‪ ،‬والتي سـتعود باخلير‬
‫بمعنـى أن مشـاعر اخلـوف وعـدم الثقة قد أزاحت مشـاعر احلـب والرمحة‬
‫والتفهم واالنتامء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والتسـامح‬
‫عندمـا نتعاطـى بثقـة واطمئنـان مـع الوجـود ومـع القوانين الكونيـة‬
‫رسياهنـا‪ ،‬ونؤمـن بعدالتهـا ود ّقتهـا وحياد ّيتهـا ورصامتها‪،‬‬
‫ونفهـم طبيعـة َ‬
‫وأن ال يشء يف الكـون حيـدث اعتباطـ ًا‪ ،‬وأن أحداثها منظمة وليسـت عبثية‬
‫أو عشـوائية‪.‬‬
‫فـإن هـذه الثقة هلـا األثـر الكبير على حياتنـا ويف تناغمنا معهـا ألجل‬
‫جـودة األداء والنتيجة‪.‬‬
‫ْ‬
‫لنتخيـل أنفسـنا نعيـش يف دولـة تكـون قوانينهـا الترشيعيـة غايـة يف‬
‫العدالـة واملسـاواة‪ ،‬و ُين ّفـذ فيها القانون بصـورة حيادية وصارمـة‪ ،‬ال ُتايب‬
‫أحـد ًا ومهما كان منصبـه‪ ،‬وال تظلـم أحد ًا مهما كان وضعه‪ ،‬ومتنـح فرص ًا‬

‫‪137‬‬
‫متكافئـة للجميـع ويف كل املجـاالت‪ ،‬بالتأكيـد يف هـذه احلالـة سيشـعر‬
‫الشـخص الـذي يـو ّد أن يعيش بكرامـة ورشف باطمئنان نفيس‪ ،‬ومسـاحة‬
‫َأمـان مهمـة وكافية للعيـش املبدع والكريم‪ .‬الشـخص الـذي يفهم ويؤمن‬
‫بتلـك القوانين والغايـة السـامية التـي وضعـت ألجلهـا سـتكون حياتـه‬
‫سلسـة وسـهلة ويسرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫الغـش‬ ‫أمـا الشـخص الـذي يريـد أن يعيـش بطريقـة أنانيـة ملؤهـا‬
‫واخلـداع والظلـم‪ ،‬فبالتأكيـد ال يمكـن أن ترحيـه هـذه احلالـة وسيشـعر‬
‫باالختنـاق النفسي الدائـم وتَغلـب عليـه حالـة مـن التذ ّمـر والعدوانيـة‪.‬‬
‫ُعمـم كالمنا هذا‬
‫هذا عىل مسـتوى حياتنـا كمجتمعات‪ ،‬ونسـتطيع أن ن ّ‬
‫على املسـتوى الوجـودي العـام؛ فنحـن عندما نكـون واعين وواثقني من‬
‫دقـة ورصامـة وعدالـة القوانين الوجوديـة الكونيـة‪ ،‬فإننـا سـنحصل عىل‬
‫الرتيـاق األعظـم لسـموم اخلـوف والتشـتت والقلـق الوجـودي‪ ،‬ومـن‬
‫الطبيعـي واحلقيقـي أن يكـون إيامننـا هـذا هـو الفضـاء الـذي تنمـو فيـه‬
‫طمأنينتنـا وسـكينتنا وإبداعنـا وتطورنـا وأماننـا املفقود‪ ،‬وهـذا بالطبع ملن‬
‫يـود احليـاة بكرامـة ورشف وإبداع‪.‬‬
‫حيـل السلام‪ ،‬سـواء على املسـتوى الفـردي أو على‬ ‫صعـب جـد ًا أن ّ‬
‫مسـتوى العـامل ككل‪ ،‬دون تبلـور رؤيـة واعيـة وإيامن تـام بأن هـذا الكون‬
‫سير وفـق نظام وقوانين دقيقة وحياديـة وعادلة وصارمـة‪ ،‬قوانني داعمة‬ ‫ُم َّ‬
‫للنمـو والتطور والنجاح‪ ،‬والرتابـط والتآلف بني املوجـودات‪ ،‬هذا اإليامن‬
‫سـيو ّلد يف داخلنـا إحساسـ ًا عميقـ ًا باالطمئنان والسلام واألمـان‪ ،‬وهذا‬
‫اإلحسـاس هـو الشرط اجلوهـري للرؤيـة احلقيقيـة الواضحة‪ ،‬فهـو يو ّفر‬
‫وسـيغي هذا اإليمان بالنظـام الكوين‬
‫ّ‬ ‫جـو ًا مناسـب ًا للفهـم واالسـتيعاب‪،‬‬

‫‪138‬‬
‫رؤيتنـا للوجـود من رؤى واعتقادات سـلبية بـأن الوجود عَدَ مـي اعتباطي‬
‫وبلا غايـة أو سيرورة نحو هـدف ُمثمـر وعظيـم‪ ،‬إىل رؤيـة إجيابية حتمل‬
‫يف جوانبهـا كل مـا هـو إجيـايب وتنموي ومسـامل ورحيم‪.‬‬
‫حتتـاج البـذرة ملراحـل تكوينيـة زمنيـة حتميـة لتُزهـر‪ ،‬كذلك اإلنسـان‬
‫بحاجـة هلـذه املراحل لينمـو و ُيزهـر‪ ،‬يف كل مرحلة عىل اإلنسـان أن جيتهد‬
‫وأن يتخلى وأن ُيكافـح كام الشـجرة‪.‬‬
‫ال يشء يمنـع الشـجرة مـن أن تزهـر‪ ،‬ألهنـا مكتفيـة بذاهتـا‪ُ ،‬مسـ ّلمة‬
‫لقوانين الطبيعـة والوجـود وال تسـتمع وال تذعـن ألحـد‪.‬‬

‫السالم الداخلي‬
‫نسـتطيع أن نصف السلام الداخلي بأنه الفـردوس األريض‪ ،‬واحلديقة‬
‫ا ُملزهـرة ا ُمل ّ‬
‫سـورة باهلـدوء والطمأنينـة‪ ،‬والتـي يسـتطيع أن يـأوي إليهـا‬
‫اإلنسـان بعـد كل جهـد ذهنـي أو إجهـاد فكـري‪ ،‬وهـو الوضـع األمثـل‬
‫للجسـد‪ ،‬لكـي تقـوم أعضـاؤه املختلفـة بمامرسـة مهامهـا بأقصى كفـاءة‬
‫زودت اإلنسـان بـكل مـا حيتاجـه من أجهـزة ذكية‬‫وأتـم تدبير‪ ،‬فالطبيعـة ّ‬
‫ّ‬
‫ودقيقـة يف أداء واجباهتـا‪ ،‬وعبر مراحـل تطـوره التارخيية للوصـول به إىل‬
‫مرتبـة (أحسـن تقويم) حسـب املصطلح القرآين‪ ،‬وممّا ال شـك فيـه أن هذا‬
‫التقويـم هـو تقويـم جسـدي وروحـي وفكري‪.‬‬
‫األشـخاص الذيـن ينعمـون بنعمـة السلام الداخلي أشـخاص‬
‫حـارضون دائم ًا يف اللحظـة‪ ،‬متصاحلـون مـع الداخـل ومتصاحلـون مـع‬
‫اخلـارج‪ ،‬وتكـون ردود أفعاهلم متوازنـة‪ ،‬بارعون يف عالقاهتـم االجتامعية‬
‫ويتقنـون التفاعـل والتجاهـل‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫أما األشـخاص الذيـن يفتقدون لنعمة السلام الداخيل فهم أشـخاص‬
‫يعانـون مـن التوتـر ا ُملزمـن والعدائيـة والتخبـط العاطفـي‪ ،‬ويعانـون مـن‬
‫االرتبـاك االنفعـايل والتطـرف الفكـري والشـعور الدائـم باملعاناة ‪.‬‬
‫مـن أجل الوصـول حلالة السلام الداخيل يتطلـب األمـر إرادة حقيقية‬
‫وثقـة بالنفـس وقـوة وشـجاعة وصبر‪ .‬لكـي نصـل علينـا أن نُزيـل مـن‬
‫ترسـبت يف عمـق أذهاننـا ألننـا‬
‫نفوسـنا طبقـات عـدّ ة مـن األوهـام التـي ّ‬
‫اعتربناهـا فيما مضى حقائـق ومسـ ّلامت تُنعـش أنواتنـا الزائفـة‪ ،‬حقائـق‬
‫جاهـزة ملجتمـع مريـض أقصى طموحـه أن يكـون أفـراده قطيعـ ًا مـن‬
‫تتيسر لـه عمليـة التدجني‪.‬‬
‫األشـخاص املـرىض بالفكـر واجلسـد‪ ،‬حتـى ّ‬
‫للمتغيرات واملؤ ّثرات‬
‫ّ‬ ‫أمهية السلام الداخلي تظهر جلي ًا عنـد تعرضنا‬
‫مهمـة ال تسـتنزفها الرصاعـات الداخليـة‪،‬‬ ‫الصعبـة‪ ،‬فهـو يوفـر لنـا طاقـة ّ‬
‫ألجـل إمتام اإلجـراءات اخلاصة ملعاجلة املوقـف ب ُيرس وتلقائيـة‪ ،‬أي توفري‬
‫مسـاحة مـن القـدرة العصبية مناسـبة للتفاعل مـع املتغري‪.‬‬
‫السلام الداخلي غري مشروط بحالة مـن البهجـة والفرح والسـعادة‪،‬‬
‫كما قـد يظـن البعـض‪ ،‬هـو مشروط بحالـة مـن القبـول والتصالـح بين‬
‫الداخـل وبين األفـكار واملشـاعر‪ ،‬سـواء أكانت مشـاعر إجيابيـة أو كانت‬
‫مشـاعر سـلبية‪ ،‬كاحلـزن واألمل والقلـق واخلوف‪ .‬لنتذكـر دائ ًام أن السلام‬
‫الداخلي ال يعنـي أن نعيـش حياتنـا بلا عقبـات أو مشـاكل أو عثـرات‪،‬‬
‫بـل يعنـي قدرتنـا على وقـف رصاعاتنـا الداخليـة‪ ،‬ووقـف مشـاعرنا‬
‫وأحاسيسـنا السـلبية‪ ،‬والتـي يسـ ّببها هروبنـا مـن مواجهـة هـذه املشـاكل‬
‫وحتملنـا للمسـؤولية‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫لتتصالـح مـع ذاتـك وجتلـب حلياتـك السـكون‪ ..‬اخلـع عنـك ِقنـاع‬
‫ْ‬
‫املثاليـة والتصنّـع‪ ،‬واجـ ْه نفسـك وكـن صادقـ ًا معهـا‪ ،‬واعترف هلـا‬
‫بمخاوفـك ورصاعاتـك وكرهـك وحسـدك وتوترك وضعفـك وغريتك‬
‫وقلقـك‪ ،‬ال بـأس عليك أنت لسـت ا ُملذنـب‪ ،‬أنت ضحية ملجتمـع مأزوم‪،‬‬
‫ولثقافـة مهزومـة‪.‬‬
‫السلام الداخلي ال يعنـي ّأل تقلـق وأال حتـزن وأال تتأمل‪ ،‬هـو يعني أال‬
‫تقلـق مـن قلقـك وال حتزن على حزنـك وأال ّ‬
‫تتأل مـن أملك‪.‬‬
‫تعرضنا للمتغيرات واملؤثرات‬‫أمهية السلام الداخلي تظهر جلي ًا عنـد ّ‬
‫الصعبـة‪ ،‬فهـو يو ّفـر لنـا طاقـة مهمـة ال تسـتنزفها الرصاعـات الداخليـة‪،‬‬
‫ألجـل إمتام اإلجـراءات اخلاصة ملعاجلة املوقـف بيرس وتلقائيـة‪ ،‬أي توفري‬
‫املتغي‪.‬‬
‫قـدرة عصبيـة مناسـبة للتفاعل مـع ّ‬
‫أحـد األشـخاص بعـث يل مـرة يتسـاءل كيـف لنـا أن ننعـم بالسلام‬
‫الداخلي يف ّ‬
‫ظـل كل هـذه الفـوىض واملـآيس والظلـم واجلهـل التـي يعاين‬
‫منهـا املجتمـع؟‪.‬‬
‫السلام الداخيل ال يعني الكسـل أبـد ًا‪ ،‬وال هو منطقة للراحة السـلبية‪،‬‬
‫وال هـو يعنـي االنفصـال التا ّم عن قضايـا املجتمع‪ ،‬وال يعني االستسلام‪،‬‬
‫بـل بالعكـس متامـ ًا كـون كل األوضاع السـابقة هـي أوضاع سـلبية تؤدي‬
‫إىل الكبـت‪ ،‬كبـت لقيـم الـروح األصيلـة‪ ،‬قيـم احلريـة والعدل والسلام‬
‫والعطـف والرمحـة واملحبـة‪ ،‬والكبـت هـو املسـبب األول لعـدم التـوازن‬
‫واالسـتقرار الداخلي‪ ،‬وهو املسـبب األول للنكوص الفكري واإلنسـاين‪،‬‬
‫فأي شـخص منـا يسـتطيع أن يلمس حجم هـذا الكبت بمجرد مشـاهدته‬
‫ألي حـوار سـيايس أو ديني يف برنامـج تلفزيوين أو على مواقع التواصل‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫سـيلمس بيـده حجـم الكـذب والتزويـر والكراهية والبـذاءة‪ ،‬هـذه كلها‬
‫إفـرازات طبيعية لعمليـة الكبت‪.‬‬
‫فالسلام الروحـي حيصـل حينما حيـدث التناغـم والتناسـق بين قيمنا‬
‫الروحيـة األصيلة وبين أفعالنـا وردود أفعالنـا جتاه األحداث مـن حولنا‪.‬‬
‫كيف أستطيع الوصول حلالة السالم الداخيل؟‬
‫نتحرر مـن كل فكرة أو عقيدة‬
‫للتحـرر من الربجميات‪ ،‬أي أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬السـعي‬
‫أو أيديولوجيـا اعتربناهـا يف يوم ما مسـ ّلمة غير قابلة للتـداول واملراجعة‪،‬‬
‫وأن تكـون سماؤنا الداخلية صحـو ًا دائ ًام بأنـوار الفطرة واإليمان والنفخة‬
‫الر ّبانيـة‪ ،‬وأال تشـوهبا غيوم أو ظالل الــ "أنا" الزائفة‪.‬‬
‫‪ -‬الرتكيـز الدائـم على الشـعور بالرضـا واالمتنـان لـكل مـا حيـدث‪،‬‬
‫والقناعـة العميقـة بـأن كل مـا حيدث لنا هـو لصاحلنا سـواء أكان خير ًا أو‬
‫جتربـة أو انعطافـة خلير أبقى وأوسـع‪.‬‬
‫‪ -‬التسـامح احلقيقـي مـع أنفسـنا ومـع اآلخريـن‪ ،‬وبالرغـم مـن كل‬
‫حـدث أو موقـف‪ ،‬باعتبار أن التسـامح مزيـل ف ّعال لكل أشـكال الندبات‬
‫الظاهريـة والدفينة‪.‬‬
‫‪ -‬تدريـب النفـس عىل النظـر بعيـون املحبـة والعطف والرمحـة للناس‬
‫ٍ‬
‫آليـات وبرجمة‬ ‫مـن حولنـا‪ ،‬فرغم مسـاوئ البعض فهـم يف النهايـة ضحايا‬
‫املجتمـع وطغيـان الطاغني‪.‬‬
‫‪ -‬االنتبـاه الدائـم إىل آليـة التنفـس لِـا للتنفـس العميـق مـن ف ّعاليـة يف‬
‫التخلـص مـن التوتـر وجتهيـز أجهـزة اجلسـم املختلفـة بما حتتاجـه مـن‬
‫أوكسـجني وطاقـة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫قوة السالم الداخيل‬
‫الســام الداخــي هــو املقيــاس احلقيقــي للقــوة‪ ،‬فالشــخص القــوي‬
‫هــو املتامســك داخليــ ًا والقــادر عــى الرجــوع هلــذا الوضــع بعــد كل‬
‫متغــر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انعطافــة أو‬
‫فاإلنســان يتعــرض يف مســرة حياتــه ملتغــرات ومط ّبــات وعثــرات‬
‫وحتدّ يــات مســتمرة‪ ،‬كونــه حمكــوم بالعيــش يف جمتمــع‪ ،‬وحمكــوم بعالقات‬
‫متنوعــة ومعقــدة‪ ،‬ولذلــك فــإن قوتــه احلقيقيــة تتجســد يف مــدى تعاملــه‬
‫بــذات واعيــة مطمئنّــة وواثقــة‪ٍ ،‬‬
‫ذات‬ ‫ٍ‬ ‫وتفاعلــه مــع كل هــذه الظــروف‬
‫ُ‬
‫ُمتصلــة بالقيــم اجلامليــة الروحيــة‪.‬‬
‫أســاس هــذا االطمئنــان هــو يف التوافــق بــن النيــة والقــدرة‪ ،‬ويف‬
‫التوافــق بــن الوعــي واإليــان بالداخــل والوعــي واإليــان بالوجــود‪.‬‬
‫كل مــن يمتلــك هــذا االطمئنــان ســيمتلك الثقــة‪ ،‬والثقــة هــي القوة‪،‬‬
‫ألنــك عندمــا تكــون واثق ـ ًا وممتلئ ـ ًا باملســؤولية‪ ،‬ســتظهر دائ ـ ًا بوجهــك‬
‫احلقيقــي‪ ،‬فأنــت ال حتتــاج الرتــداء أي قنــاع‪ ،‬وال يمكــن أن تلعــب أي‬
‫دور آخــر غــر دورك الطبيعــي‪ .‬الضعفــاء هــم فقــط مــن يرتــدون األقنعة‬
‫ألهنــم باألصــل ليــس هلــم وجــوه لريتدوهــا‪ ،‬وجوههــم احلقيقيــة ضائعــة‬
‫يف دهاليــز اخلــوف والزيــف واهلزيمــة واإلحبــاط‪ ،‬وال يمتلكــون أي‬
‫مصــدر ثقــة ســواء يف أنفســهم أو يف اآلخريــن أو يف الوجــود‪ ،‬وال حتــى‬
‫يف واجــد الوجــود‪.‬‬
‫الشــخص الضعيــف شــخص ُمرتبــك و ُمتوتّــر وخائــف‪ ،‬لذلــك‬
‫غالبــ ًا مــا يتظاهــر بالقســوة‪ ،‬ويتعامــل بالظلــم واالســتبداد والتذلــل‪،‬‬
‫وغــارق بالتم ّلــق والكــذب وازدراء اآلخريــن‪ ،‬فأنــت ال يمكــن لــك‬

‫‪143‬‬
‫أن تدخــل يف رصاعــات خارجيــة وأنــت تعيــش يف ســام داخــي‪ ،‬كل‬
‫رصاعاتــك اخلارجيــة هــي هــروب مــن مواجهــة الداخــل والتصالــح‬
‫معــه‪ ،‬فنحــن نســتطيع أن نُميــز اإلنســان القــوي مــن خــال تواضعــه‬
‫وبســاطته ومرونتــه‪ ،‬فهــذه هــي الصفــات األهــم التــي ُتكّنــه مــن اجتيــاز‬
‫التطــرف بــكل أشــكاله إال‬‫ّ‬ ‫الصعوبــات وامتصــاص الصدمــات‪ ،‬ومــا‬
‫دليــل ضعــف واختــال يف التــوازن‪ .‬ودليــل عــى العــذاب الداخــي‬
‫والتصحــر الداخــي واملعانــاة املســتمرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫القـوة احلقيقيـة لإلنسـان تبرز بشـكل واضـح يف قدرتـه على أن‬
‫جيعـل نفسـه صادقـة معـه‪ ،‬دون مواربـة أو حتايـل أو تربيـر‪ ،‬هـذا الصـدق‬
‫واملكاشـفة للنفـس سـتمكنه مـن متييـز األصـوات التـي تشـكل اجتاهات‬
‫يسيره هـل هو صـوت الــ "أنـا" الزائفة‬ ‫حياتـه‪ ،‬سـيفهم الصـوت الـذي ّ‬
‫أم هـو صوت الروح!‪ .‬وسـيفهم مرجعيـة كل فكرة وكل عاطفة وشـعور‪.‬‬
‫املهم اآلخر هو أن هذه املكاشـفة والشـفافية يف التعامـل مع الذات‪،‬‬ ‫األمـر ّ‬
‫عب عنهـا بالنزاهـة‪ ،‬أي النزاهـة التـي لن تسـمح لنا بتربيـر اخلطأ‪ ،‬كون‬ ‫سـ ُي ّ‬
‫هـذا التربيـر وعىل املسـتوى النفيس قد يكـون أكثر رضر ًا من اخلطأ نفسـه‪،‬‬
‫فكلنـا نخطـئ ألننا يف رحلـة جتربة واختبـار‪ ،‬املهم هو أن نعترف بارتكابنا‬
‫للخطـأ دون حماكمـة للنفـس‪ ،‬بـل بقبـول تـا ّم و َت َف ُّهـم‪ ،‬هـذا القبـول مهـم‬
‫جـد ًا يف تأصيـل وتعزيـز حالـة السلام الداخيل‪ ،‬ومهـم جد ًا لفعـل التوبة‬
‫عـن اخلطأ‪.‬‬
‫ما الرس يف ذلك؟‬
‫السر هـو يف عمليـة اتّـزان الطاقـة يف وضـع التـوازن النفسي الـذي‬
‫جيلبـه لنـا السلام الداخلي‪ ،‬فالقـوة احلقيقيـة لإلنسـان تتجسـد يف قدرتـه‬

‫‪144‬‬
‫مسـتقرة قـادرة عىل أن‬
‫ّ‬ ‫على موازنـة الطاقة يف جسـده‪ ،‬بحيـث تصبح طاقة‬
‫تُعينـه على الوعـي والرتكيـز‪ ،‬فالشـخص الـذي يتمتع بمسـتوى ٍ‬
‫عـال من‬
‫الطاقـة هـو القـادر على التناغم مـع طاقـة روحـه‪ ،‬والتناغم مـع إرشاقاهتا‬
‫واالتّصـال هبـا وبقيمهـا اإلهليـة‪ ،‬هـو القادر على العطـاء احلقيقـي‪ ،‬عطاء‬
‫املتـدن للطاقة‬
‫ّ‬ ‫املحبـة والثقـة والتسـامح واحلكمة واإلبـداع‪ ،‬أما املسـتوى‬
‫وخسـارة القـوة والـذي حيدث غالب ًا بسـبب اخلوف أو نقـص الثقة‪ ،‬فهو ال‬
‫جيلـب للشـخص سـوى مشـاعر األمل والقلق‪ ،‬والتي تـؤ ّدي باسـتمراريتها‬
‫إىل اختلال يف وظائـف اجلسـد وتـؤدي كذلك ألمراض نفسـية وجسـدية‬
‫وترسهبـا أثنـاء شـعوره‬
‫ّ‬ ‫فـكل منـا قـد الحـظ انخفـاض طاقتـه‬ ‫خمتلفـة‪ّ ،‬‬
‫باخلـوف أو الغضـب أو احلـزن‪ ،‬وشـعر كيـف أن تغييرات فيزيولوجيـة‬
‫والتعـرق وفقـدان‬
‫ّ‬ ‫عديـدة قـد طـرأت على اجلسـد‪ ،‬كاإلجهـاد واخلمـول‬
‫السـيطرة على النفس واملشـاعر‪.‬‬
‫لذلـك علينـا أن نجتهـد ونثابر من أجـل ترويض النفس عىل املكاشـفة‬
‫بمسـمياهتا احلقيقيـة‪ ،‬من أجل وضـوح املشـاعر ونقائها‬
‫ّ‬ ‫وتسـمية األسماء‬
‫وأن نتق ّبـل منـذ اللحظـة ذواتنا وعيوبنـا وأخطاءنا وأقدارنـا‪ ،‬فهي الطريق‬
‫الوحيد للنضج واالسـتنارة والتشـايف‪.‬‬
‫كلامتك املتفائلة التي تزرع الثقة يف نفسك ويف نفوس اآلخرين‪..‬‬
‫ابتسامتك لنفسك ويف وجوه اآلخرين‪..‬‬
‫اخلية التي تقوم هبا لنفسك ولآلخرين‪..‬‬
‫أفعالك ّ‬
‫هـي كلهـا طاقـة إجيابية مضافـة للطاقة الكونيـة‪ ،‬وألن الطاقـة ال تفنى‪،‬‬
‫وألهنـا طاقـة ذات ذبذبـات حتمـل بصمتـك‪ ،‬فسـيضيفها الكـون مليـزان‬
‫حسنا تك ‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫يف اللحظـة التـي تكـون فيهـا برفقـة ُأناسـك ّ‬
‫املقربين سـتكون على‬
‫وتتصرف بعفوية وتشـعر بصفـاء ونقـاء داخيل وهبجـة وفرحة‬ ‫ّ‬ ‫طبيعتـك‪،‬‬
‫تتنـزه يف رحـاب الطبيعـة وتسـتمع جلريـان املـاء وغنـاء‬‫عظيمـة‪ ،‬وعندمـا ّ‬
‫الطيـور وحفيـف الشـجر‪ ،‬ستشـعر كذلـك بصفاء داخلي ومتعـة عظيمة‪،‬‬
‫نفـس املشـاعر سـتحياها عندمـا تقابـل البحـر وتتأمـل حركتـه وعمقـه‬
‫وأرساره‪ ،‬ونفـس الشيء ستشـعر بـه عندمـا متـارس التأمـل والصلاة‪،‬‬
‫الرس يف ذلـك أن العقـل يف كل هذه احلاالت‬
‫وعندمـا تسـتمع للموسـيقى‪ّ ،‬‬
‫قـد َسـكَن وانتفـى دوره‪ ،‬ألنـك يف كل هـذه احلـاالت قـد عشـت األمـان‬
‫والطمأنينـة والرضـا‪ ،‬ومل تُفكّـر فيما ُيعكّـر صفـو هـذا األمـان مـن أفكار‬
‫متهـورة وأحـكام جاهـزة‪ ،‬أو قلـق وخمـاوف داخليـة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سـلبية ورغبـات‬
‫اإلنسـان باسـتطاعته دائم ًا أن جيعـل كل حلظاتـه هبـذا املسـتوى مـن‬
‫الصفـاء والنقـاء والسـكون الداخيل‪ ،‬إذا ما انتبـه ألناه الزائفـة‪ ،‬التي مل ولن‬
‫لـب لـه سـوى القلـق واملعانـاة واألوهام‪ ،‬وحارصتـه بكل ما هو سـلبي‬ ‫َ ْت َ‬
‫ويفتـك بجسـده وروحـه‪ ،‬ويسـتلب منـه إنسـانيته ومعنـى وجوده‪.‬‬
‫عندمـا نتصالـح مـع ذواتنـا فإننا نكـون أكثر صالبـة وقوة‪ ،‬ألننـا نلغي‬
‫ذرات أجزائنـا‪ ،‬لذلـك يصعب‬ ‫أو نق ّلـص مسـافات الوهـم الفاصلـة بين ّ‬
‫جـد ًا ختلخلنـا أو اهنيارنا‪.‬‬

‫الروح كنز الحكمة‬


‫مـن عـاش ولـم يكتشـف فى قلبـه كنزاً اسـمه الـروح‪ ،‬فقـد مات‬
‫مرتين‪ :‬مرة باحليـاة‪ ،‬ومـرة باملوت‪.‬‬
‫(إبراهيم الكوني‪)...‬‬

‫‪146‬‬
‫كما يف االمتحـان املـدريس نُعطى القلـم‪ ،‬فإننـا يف امتحان احليـاة نعطى‬
‫اجلسـد‪ ،‬فكما نحن يف اجلوهر لسـنا بقلم‪ ،‬وإنما األفكار التي ُتـرك القلم‪،‬‬
‫كذلـك يف اجلوهـر نحن لسـنا بجسـد إنما نحـن األرواح‪ ،‬األرواح اخلالدة‬
‫التـي حتـرك اجلسـد يف رحلتـه األرضيـة‪ ،‬والتـي تعينـه يف إكمال امتحانـه‬
‫األريض‪ .‬إن إدراك عمـق حقيقـة أرواحنـا اخلالـدة‪ ،‬كفيـل بـأن جيعلنـا‬
‫نتسـامى فـوق خماوفنـا وأوهامنـا‪ ،‬وكفيـل بـأن جيعلنـا ننعـم باالطمئنـان‬
‫والثقـة‪ ،‬ونـدرك كذلـك عظمـة وجودنا‪.‬‬
‫عندمـا تغمرنـا حكمـة الـروح‪ ،‬سنشـعر بالثقـة والسلام والطمأنينـة‪،‬‬
‫ألننـا برعايـة ورمحـة كونيـة تا ّمـة‪ ،‬وإننـا دائم ًا مـا نتل ّقى رسـائل ووسـائل‬
‫مسـاعدة وإرشـاد‪ ،‬ليـس ألننـا ذوو أمهية قصـوى للوجود‪ ،‬بـل ألننا جزء‬
‫أصيـل مـن هـذا الوجـود العظيم‪.‬‬
‫األرواح العظيمـة تُـدرك أن اللحظـات القاسـية هـي التـي تصنـع‬
‫اإلنسـان‪ ،‬بشرط التصالـح معهـا واالمتنـان هلا وإعلان البهجة والسلام‬
‫عىل القـادم‪.‬‬
‫األرواح العظيمـة تُـدرك أن كل مـا حيـدث هلا هـو باختيارهـا‪ ،‬وتُدرك‬
‫أهنـا يف كل حلظـة متتلـك خيـارات التطور والتشـايف‪.‬‬
‫األرواح العظيمـة ال تتع ّلـق بشيء ألهنـا تُـدرك أن اللحظـة احلالية هي‬
‫احليـاة‪ ،‬وتـدرك أن يف كل حلظـة تنسـاب وتتجلى مـن الوجـود طاقـات‬
‫الربكـة والنعمـة والبهاء‪.‬‬
‫األرواح العظيمـة تُـدرك أن مـن عالمـات نموهـا وتطورهـا أن تؤمـن‬
‫بأهنـا ليسـت أفضـل مـن أحـد‪ ،‬وليسـت أدنـى مـن أحـد‪ ،‬وغري مسـاوية‬
‫ألحـد‪ ،‬بـل هـي نسـخة فريـدة حليـاة فريدة‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫األرواح العظيمـة ال تـؤذي أحـد ًا‪ ،‬وال يسـتطيع أن يؤذهيـا أحـد‪ ،‬ألهنا‬
‫تُدرك أن اإلسـاءة ال متثل شـيئ ًا سـوى ظـروف صاحبها‪ ،‬ومسـتوى وعيه‪.‬‬
‫األرواح العظيمـة تتقـن لغـة املشـاعر وتتواصـل هبـا‪ ،‬ألهنـا تـدرك أهنا‬
‫اللغـة األكثـر عمقـ ًا ونقا ًء مـن لغـة األفكار‪.‬‬
‫تقارن نفسـها بأحد‪ ،‬ألهنا ال تشـعر بعقدة النقص‪،‬‬‫األرواح العظيمـة ال ِ‬
‫وال عقـدة العظمة والتفوق‪.‬‬
‫األرواح العظيمة ال خييب ظنها أبد ًا‪ ،‬ألهنا أص ً‬
‫ال ال تظ ّن‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫الفصل اخلامس‬
‫َكلمت روحي‬
‫ْ‬ ‫هكذا ت‬

‫أتدري ماذا يعني أن تسري يف رصاط اهلل؟‬


‫يعنـي أن تسير رافع ًا رأسـك نحوه‪ ،‬صبـور ًا‪ ،‬عنيد ًا‪ ،‬عنيد ًا جـد ًا‪ ،‬حتى وإن‬
‫ٍ‬
‫بـروح حافية‪.‬‬ ‫الفخاخ‬ ‫اضطررت أن تسير فـوق مجر ِ‬

‫***‬
‫كما حيترق الشـهاب يف رحلتـه األرضيـة‪ ،‬عليـك أن حتترق يف رحلتـك‬
‫تتطهـر ممّـا علـق فيـك مـن دنـس األرض‪..‬‬
‫السماوية‪ ،‬كـي ّ‬
‫***‬
‫‏كما للطبيعة‪ ،‬للروح أيض ًا‪ ،‬مواسـمها ا ُملتعاقبة‪ ،‬حيصـل االضطراب عندما‬
‫نرتـدي يف الصيـف مالبـس الشـتاء‪ ،‬أو عندما نبكـي أوراقنا املتسـاقطة يف‬
‫فصـل اخلريف‪..‬‬
‫***‬
‫مهما اختلقنـا من أعـذار لبؤسـنا ومعاناتنا تبقـى التع ّلقـات املادية واخلوف‬
‫اللـذات الدنيويـة‪ ،‬هـي احلاجـز الفاصـل بيننـا وبين جنتنـا‬‫مـن خسـارة ّ‬
‫الروحيـة وسلامنا الدائم‪.‬‬
‫***‬

‫‪149‬‬
‫الصادقـون مـع أنفسـهم هـم القـادرون على تق ّبلهـا والتمتّع يف نفائسـها‪،‬‬
‫ِ‬
‫التطـور واالسـتنارة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ضي يف دروب‬ ‫وا ُمل ّ‬
‫***‬

‫أغلـب النـاس ُين ّقبـون عن املـاء يف رساب الصحـارى‪ ،‬وهـم حيملونه عىل‬
‫ظهورهـم‪ ،‬فيجتمـع عليـه ثقل املـاء وشـدة العطش وتعـب التنقيب‪.‬‬
‫***‬

‫لـكل مـا حتتاجـون ادعـوا أنفسـكم‪ ،‬فـاهلل ال ُيدعى سـوى باحلمـد هلل رب‬
‫العاملني‪.‬‬
‫***‬

‫مـا أمجـل اإلنسـان ببسـاطته وعفويتـه وبراءتـه‪ ،‬وما أهبـاه بمشـاعر املحبة‬
‫والعطـف والرمحـة والتسـامح‪ ،‬ومـا أعظمـه بعقلـه املبـدع ملعـاين اجلمال‬
‫والبهجـة والسلام‪ ،‬ومـا أقبـح عقليـة االسـتبداد والتغييـب والتجهيـل‬
‫والتزييـف التـي رسقـت منـه كل هـذا‪.‬‬
‫***‬
‫وتفهـم‪ ،‬فإنـك هتدي لنفسـك‬
‫عندمـا تتقبـل كل أخطائـك برحابـة صـدر ُّ‬
‫أروع هديـة‪ ،‬وهـي االنعتـاق مـن الكربيـاء الزائـف‪ ،‬والرؤيـة الضبابيـة‪،‬‬
‫ممّـا يعنـي أنك قـد أصبحت شـخصية متّزنـة مرحيـة لذاهتـا وللتواصل مع‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫***‬

‫‪150‬‬
‫وعينـا هـو مـا جيعلنـا نـرى احليـاة واألحـداث بـكل ألواهنـا الطبيعيـة‪ ،‬ال‬
‫بمنظـور ضيـق ال حيتمـل إال األبيـض أو األسـود‪.‬‬
‫يتجسـد جوهـر الـذكاء ومعنـاه يف سـعينا الـدؤوب لالنفتـاح املسـتمر‬
‫والدائـم على املعرفـة اجلديـدة واالكتشـاف‪ ،‬وسـهولة تغيير اعتقاداتنـا‬
‫ومبادئنـا‪ ،‬أكثـر ممـا يتجسـد يف سـعينا للمحافظـة على عقائدنـا ومبادئنـا‬
‫ومعرفتنـا الذاتيـة‪.‬‬
‫***‬

‫موهبـة ثمينـة تلـك التـي تُلهمنا رؤيـة الصـور‪ ،‬بإطارهـا املناسـب‪ .‬فغالب ًا‬
‫التشـوه الـذي نـراه هـو يف نـوع اإلطـار‪ ،‬وليـس يف ذات الصورة‪.‬‬
‫ّ‬
‫***‬

‫هل تعاين من سوء فهم مزمن لك من قبل اآلخرين؟‬


‫ال عليك استمر‪..‬‬
‫هذه هي أبرز دالئل نضجك ووعيك‪..‬‬
‫***‬

‫نحـن ال نخـاف خسـارة الطـرف اآلخـر بقـدر ما نخاف خسـارة األشـياء‬


‫التـي تُبنـى يف العالقـة‪ ،‬األشـياء التـي تبنـى وتُشـ َّيد بصعوبـة وأمل وجهـد‬
‫وتغيرات على املسـتوى النفيس‪.‬‬
‫***‬

‫‪151‬‬
‫واعشق بعمق‪..‬‬
‫ْ‬ ‫وأحبب بعمق‪،‬‬
‫ْ‬ ‫صاحب بعمق‪،‬‬
‫ْ‬
‫تعود عىل أن تستمتع بوحدتك‬
‫لكن ّ‬
‫دوامة التعاسة واملعاناة‪.‬‬
‫كي ال تقع يف ّ‬
‫فالعالقات كلها آيلة للزوال‪ ،‬إال عالقتك بنفسك‪.‬‬
‫***‬

‫‏كيف لقمر روحك أن يبزغ من الظلامت؟‬


‫وأنت تسكن يف ظالهلم‪..‬‬
‫وتدير وجهك لشمس اهلل!‪..‬‬
‫***‬

‫أقـرب ُمصطلـح للمقصـد اإلهلي ملعنى اإليمان هو ُمصطلـح الوعي‪ ،‬لكن‬


‫لألسـف ُأفرغـت كلمـة اإليامن ممّـا تعنيـه‪ ،‬و ُأفرغت من جوهرهـا احلقيقي‬
‫آخر يناسـب ُمراد ا ُملتسـ ّلطني وأصحـاب العقائد‪.‬‬ ‫ليصبـح هلـا معنى َ‬
‫***‬

‫‏مـن يعـرف حقيقة اهلل سـيفهم أن اإليامن هـو الوعي‪ ،‬هو الوعـي اإلدراكي‬
‫والشـعوري الـذايت الـذي ال يتجىل إال باالسـترشاق الـذايت‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫ُيع ّلمـه مع ّلـم أو كتاب أو مدرسـة‪ .‬ومـن يعرف حقيقة اهلل سـيعرف حقيقة‬
‫نفسـه‪ ،‬ومـن يعـرف حقيقـة نفسـه سـتكون أفعاله غير خاضعـة لرغبة أو‬
‫انفعـال أو تفكير أو تـر ّدد أو حسـابات منطقيـة‪ ،‬بل تكـون خاضعة ليشء‬
‫أعمـق من البصيرة وأبعد مـن الثقـة‪ ،‬يشء كأنه القـدر املنري‪...‬‬
‫***‬
‫‪152‬‬
‫يا وليد العاصفة‪..‬‬
‫يوم ًا ما‪ ،‬ستهدأ العاصفة‬
‫ويتصالح فيك روحك وعقلك‪..‬‬
‫اخلوف جدران واهية‪...‬‬
‫حاول أن ُتسكها بيدك لتدرك حجم هشاشتها‪..‬‬
‫ولتدرك كم حالت هي بينك وبني قيمة احلياة‪..‬‬
‫***‬

‫ُيسـاهم اإلنسـان يف تلطيـف وديمومـة اجلـو الكـوين‪ ،‬عندما يسـطع هناره‬


‫الداخلي‪ ،‬ألنـه سـيقوم بتحويل الطاقـة السـلبية إىل طاقة إجيابيـة مثلام تقوم‬
‫األزهـار هنـار ًا بتحويل ثاين أوكسـيد الكربـون إىل أوكسـجني نقي‪.‬‬
‫***‬

‫أتدري ما هو الفرق بني اإليامن واالعتقاد؟‬


‫نعـش وجيـذب أرواحنـا‪ ،‬ويتناغم مـع عرفاننا‬ ‫اإليمان هـو أن نصـدّ ق مـا ي ِ‬
‫ُ‬
‫الداخلي وحدسـنا النقي‪..‬‬
‫أ ّمـا االعتقـاد فهـو أن نعتنـق األفـكار اجلاهـزة التـي تتناغـم مـع أنواتنـا‬
‫الزائفـة‪..‬‬
‫***‬

‫‪153‬‬
‫الذيـن خيافـون الوحدة هـم يف احلقيقة خيافـون عبور النفق املظلـم الفاصل‬
‫بني ضجيـج أفكارهم وأنوارهـم الداخل ّية‪..‬‬
‫***‬

‫أهـم مهـارة عليـك أن ُتيدهـا يف هـذه احليـاة هـي كيـف تفهـم اإلهلـام‬
‫اإلهلـي‪ ،‬والتوفيـق اإلهلـي‪ ،‬والتدبير الكـوين‪.‬‬
‫***‬

‫فقط من حيتفظ برباءته ال يمكن ألحد‪ ،‬أو يشء‪ ،‬أن جيعله يعاين‪..‬‬
‫مزودين بكامل خطوطنا الدفاع ّية‪ ،‬لكنّنا نفقدها شيئ ًا فشيئ ًا‪..‬‬
‫ألننا نولد ّ‬
‫***‬
‫‏‬
‫حني حيكم اجلسد عىل الروح بالسجن‬
‫حتكم عليه الروح بامللل‪.‬‬
‫الفارق كبري‪..‬‬
‫حينام تلبس روحك فوق شخصيتك ختتفي شخصيتك ويسود اجلامل‪.‬‬
‫وحينام تلبس شخصيتك فوق روحك‬
‫ختتفي روحك ويسود االبتذال‪!.‬‬
‫***‬

‫‪154‬‬
‫كاذبة هي الكلامت التي ِ‬
‫تصف اجلامل‬
‫عني العاشق‪..‬‬
‫اسألوا َ‬
‫تصف النار‬‫كاذبة هي الكلامت التي ِ‬

‫اسألوا صدر العاشق‪..‬‬


‫وليس من قدرة ألحد أن يرحم العاشقني‬
‫سوى اهلل رب العاشقني‪.‬‬
‫من يعجبه شكل الوردة يتالىف أشواكها‪..‬‬
‫ومن يعرف جوهر الوردة حيتضن حتى أشواكها‪..‬‬
‫الرس يف مجال العيون هو صدقها‪..‬‬
‫ّ‬
‫فهي تعكس ما يف الروح‪ ،‬ال العقل‪.‬‬
‫تأميل عينيك احلكيمتني‬
‫رحيق األمل‬
‫َ‬ ‫متتصان‬
‫كيف ّ‬
‫لتصنعا منه ألق ًا‬
‫فيه شفاء للناظرين‪.‬‬
‫***‬

‫عندمـا يتحمل اإلنسـان مسـؤولية مشـاكله‪ ،‬يكتسـب خربة ثمينـة‪ ،‬وقدرة‬


‫ّ‬
‫خلقـة‪ ،‬وطاقـة هبجـة‪ ،‬وتتنامـى لديـه الثقـة بالنفـس‪‎،‬وتتضاعـف عنـده‬
‫القـوة والصالبة‪.‬‬
‫***‬

‫‪155‬‬
‫جمـرد رق ٍم يف‬
‫العشـق هـو الشيء الوحيـد الذي ينتشـل اإلنسـان مـن كونه ّ‬
‫ا بوجوده‪.‬‬ ‫عـداد العابريـن‪ ،‬ليجعل منـه كيانـ ًا ُمتمر ًا‪ُ ،‬مـدرك ًا ُ‬
‫ومتفل ً‬
‫***‬

‫هي أحبته كعاصفة اقتلعت من أرضها َّ‬


‫كل جذور األمل واألمل‪..‬‬
‫وهو أحبها كمرآة رأى فيها هبا َء وجهه‪..‬‬
‫والذي لطاملا شعر به كظل باهت‪!.‬‬
‫***‬

‫‏تلك الوردة الذاوية‬


‫امهس هلا بالندى‪ ...‬لتُزهر‬
‫ْ‬
‫وال تلتفت خلفي‬
‫***‬

‫رسي؟‬
‫من أوحى لك بشيفرة ّ‬
‫جتمعت فيك أضدادي؟‬
‫كيف ّ‬
‫ما عدت أحفل مأزوم ًا بأمري‬
‫وال عادت متلكني أبعادي‬
‫***‬

‫‪156‬‬
‫‏يف النهايـة سـألتفت خلفي‪ ،‬ألُحيص سـنوايت بعـدد أجزائي التي انتشـلتها‬
‫من علقـة الفخاخ‪.‬‬
‫***‬

‫‪‎‬احتضنوا آالمكم‪..‬‬
‫فالثمرة التي ال حتتضن قساوة الشمس‪..‬‬
‫كيف هلا أن تنضج؟!‬
‫***‬

‫إن أردنـا حلياتنـا أن تنمـو فعلينـا أن نتقـن التسـليم‪ ،‬فهـو الوضـع األمثـل‬
‫لتكسير السـدود التـي تشـكل حاجـز ًا يمنـع ّ‬
‫تسرب الزائف منـا‪ ،‬ويمنع‬
‫تد ّفـق النماء إلينا‪..‬‬
‫***‬

‫مـن أراد أن يتعلـم سـيتعلم مـن كل يشء حولـه‪ ،‬فكل األشـياء مـن حولنا‬
‫هـي دروس جمّانية وسـخ ّية ملـن ينتبه‪ ،‬وملن يبصر األشـياء بحيادية‪ ،‬ولكي‬
‫نجيـد احلياديـة علينـا أن نتأ ّمل األشـياء التـي ال نحبها أو نكرههـا‪ ،‬ونفهم‬
‫جوهرهـا‪ ،‬ونفهـم الغاية مـن وجودها‪ ،‬فلا يشء يف الكون موجود سـهو ًا‬
‫أو اعتباط ًا‪..‬‬
‫***‬

‫‪157‬‬
‫يؤملك اآلخرون غالب ًا بسبب عدم تل ّقيك االحرتام واالهتامم منهم‪...‬‬
‫هل تساءلت يوم ًا ملاذا؟‪..‬‬
‫نحن ال نحتاج إال إىل األشياء التي نفتقدها‪..‬‬
‫فعندمـا يملـك اإلنسـان كفايته مـن االهتامم بنفسـه واالحرتام هلـا ال يعود‬
‫يؤملـه أي يشء مـن اآلخرين‪.‬‬
‫***‬

‫وما احلزن إال حمطة من حم ّطات القدَ ر‬


‫هرب منها‪ ،‬قسا واستكرب‬
‫من َ‬
‫ومن مكث فيها هتاوى وانكرس‬
‫واستقر‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ومن عاشها تشاىف‬
‫إذا أردت ّأل تنهزم‪ ..‬فلن تنهزم‪..‬‬
‫ال يمكن ألي يشء أن هيزمك‪ ..‬من اخلارج‬
‫***‬

‫تي َّقن أن للروح ن ُبو َءةً‪ ،‬وأهنا وحدها بوصلة النشوة واجلامل‪..‬‬
‫تي َّقن أن بينك وبني النُّ ُبو َءة مسافة من صرب ويقني‪..‬‬
‫***‬

‫‪158‬‬
‫ال ّ‬
‫يتجل اجلامل إال يف تسليم العقل ومنطقه جلنون القلب ونزواته‪.‬‬
‫***‬

‫اعتدنا أن نخرس من قوتنا‪ ،‬ألننا ال نتقبل حاالت ضعفنا‪..‬‬


‫***‬

‫البساطة هي أقرص الطرق نحو احلقيقة‪...‬‬


‫ما أفجع غموض الذات عىل الذات‬
‫***‬

‫ومن قال إين اخرتتك بملء إراديت؟!‬


‫أنا فقط أطلقت العنان لناقة روحي‪ ...‬فأناخت بأعتابك‪..‬‬
‫***‬

‫التهويـل والتضخيـم والتعقيـد مـن أهـم خـدع الــ "أنـا" الزائفـة‪ ،‬فإنـك‬
‫هتـول‬
‫تغير‪ ،‬فـإن أنـاك الزائفـة ّ‬‫عندمـا تتعـرض ملوقـف أو مشـكلة أو ُم ِّ‬
‫احلـل ال بـد وأن يكـون على الدرجـة ذاهتـا‬‫األمـر لتجعلـك تعتقـد بـأن ّ‬
‫مـن التعقيـد‪ ،‬لذلـك يصيبـك التوتّـر واإلربـاك‪ ،‬وتصبـح غير قـادر عىل‬
‫اسـتيعاب احللـول‪ ،‬والتـي تكـون غالبـ ًا سـهلة وبسـيطة‪..‬‬
‫***‬

‫‪159‬‬
‫األسى بقربه ال يعود سدً ى‬
‫والشوق يف مقلتيه هدً ى‬
‫وإن حالت بيننا الدنى‬
‫لمنا شذى الروح واملعنى‬
‫َي ّ‬
‫فليس للروح موعد َي ْبىل‬
‫إن فاض فيها النور والسنا‪..‬‬
‫ال ينبلج الفجر األروع‬
‫إال من عتمة ليل صادق‬
‫ليل‪ ..‬مل تلوثه األنوار الكاذبة‬
‫***‬

‫ا ما قـد أصـاب داخلنا‬ ‫حسي خيربنـا أن خلل ً‬


‫األمل اجلسـدي هـو تنبيـه ّ‬
‫اجلسـدي‪ ،‬نفـس املعنـى ينطبـق على أملنـا وعلى معاناتنـا النفسـية‪ ،‬فهـي‬
‫مـؤش على وجـود خلـل مـا يف داخلنـا النفسي‪ ،‬مـن املهـم جـد ًا هنـا أن‬
‫ّ‬
‫نفهـم أن يف احلالتين الشـفاء حيـدث عندما نتحمـل نحن مسـؤولية التغيري‬
‫وإصلاح اخللـل‪ ،‬أمـا وضـع اهلـروب وإلقـاء املسـؤولية على اخلـارج‬
‫واآلخريـن‪ ،‬فهـي جمـرد خـدع عقليـة زائفـة‪.‬‬
‫***‬

‫‪160‬‬
‫دع عنـك كل مسـتحرضات التجميـل والعنايـة بالبشرة‪ ،‬فلا يوجـد‬
‫ْ‬
‫يشء ُيمـل اإلنسـان مثـل الرضـا‪.‬‬
‫***‬

‫ما الدليل عىل عمق املحبة ونقائها؟‬


‫أي‬
‫الدليـل هو أنك ال تسـتحي وال ختـاف وال تفكّر وال تتر ّدد يف قول ّ‬
‫كالم يف حضرة املحبوب‪.‬‬
‫***‬

‫أنـت يف هـذه احليـاة حتظـى بثمرتين‪ :‬واحـدة توجـد بوجـودك وهـي‬


‫األهـل‪ ،‬والثانيـة تناهلـا حسـب اسـتحقاقك وهـي األصدقـاء‪..‬‬
‫ْ‬
‫حـاول أن تعـرف نوعيـة األصدقـاء الذيـن حييطون بك لتفهـم قيمتك‬
‫واستحقاقك‪.‬‬
‫***‬

‫من اجلهل أن نؤمن أن العلم هو نقيض اجلهل‪..‬‬


‫ال يوجد نقيض للجهل سوى الرباءة‪..‬‬
‫***‬

‫‪161‬‬
‫كميـة السـوء التـي نراها يف هـذا العامل‪ ،‬هي مسـاوية متام ًا لكمية السـوء‬
‫التي يف نفوسـنا‪.‬‬
‫***‬

‫ـت مدامعـه‬ ‫ـو ِق َو ْه َل ُ‬ ‫ان َّ‬


‫الش ْ‬ ‫ـان َأ َو ُ‬
‫َح َ‬
‫بِالـكَاد َأ ْنَـا ُه وباللحـظ ُين ِْهينِـي‬
‫ـو ِق ُقدْ تُـ ُه ِمـ ْن َق ْب ُـل‬
‫الش ْ‬‫يـص َّ‬ ‫ه َ ِ‬
‫ـذا َقم ُ‬ ‫َ‬
‫بر َمـا َعـا َد َي ْعنِينِـي‬ ‫الص ُ ِ‬
‫ـو َب ُّ‬ ‫ـت َث ْ‬ ‫َو َأ ْب َل ْي ُ‬
‫َحتَّـى نيـاط ال َق ْل ُ‬
‫ـب َ ْت ُف َ‬
‫ـوا جاثيـة‬
‫ين و ِ‬
‫احل ِ‬ ‫تـردد حلـن البـوح ب َ ِ‬
‫ين‬ ‫ين احل ِ َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ‬
‫الع ْش ِ‬
‫ـق َل ُت َغنِّـي َعن َ‬
‫ْـك ُم ْف َـر َد ًة‬ ‫ِف ِ‬
‫ف الدَّ َو ِاو ِ‬
‫يـن‬ ‫ـت بِالصـو ِ‬
‫ت َآل ُ‬ ‫َوإِ ْن َر َّت َل ْ‬
‫َّ ْ‬
‫ْـت َأ ْح ُسـ ُب َها‬ ‫بر ْت َر ِّو ِحـي َو َقـدْ ُكن ُ‬ ‫َ َت َّ َ‬
‫ـم َت ْع ِيينِـي‬ ‫ـو ِل الك ْ ِ‬
‫َسر بِاهل َ ِّ‬
‫ِ‬
‫مـ ْن َف ْـرط َه ْ‬
‫ِ‬

‫آخ ُر َهـا‬ ‫ْـت َ‬ ‫ُـك َأ ْحِ ُـل َأ ْقـدَ ًارا َأن َ‬ ‫ِج ْئت ِ‬

‫ـل َمـا َب ْينَـي َو َب ْينَـي‬ ‫الو ْص ِ‬


‫ه َـز ُة َ‬ ‫َيـا َ ْ‬
‫وح َت َغـدَّ ْوا ُم ْبت َِس ًما‬ ‫الـر ِ‬
‫ـس ُّ‬ ‫ـت ِل َ ْم ِ‬ ‫ُأن ِْص ُ‬
‫ـر بِ َأ ْفـو ِاه الري ِ‬ ‫ِ‬
‫الع ْط ِ‬ ‫ـم ِة‬
‫ين‬
‫اح َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َك َب ْس َ‬
‫***‬

‫‪162‬‬
‫املحتويات‬

‫املقدمـة‪7 ...........................................................‬‬
‫توطئة‪11 ...........................................................‬‬
‫الفصل األول‬
‫برجمـة العقـول‪17.................................................‬‬
‫مسـؤولية الوعـي والتغيير‪24 .....................................‬‬
‫كيـف تصنـع وعيـك؟‪28 .........................................‬‬
‫هش� ًا م�ن الداخ�ل؟‪29 .........................‬‬
‫متى يصبح اإلنس�ان ّ‬
‫الـوالدة احلقيقيـة‪31...............................................‬‬
‫طاقـة التمـرد‪34 ....................................................‬‬
‫تتغير حياتـك‪37 .............................‬‬
‫ّ‬ ‫غير طريقـة تفكيرك‬
‫ّ‬
‫العقل‪41 ...........................................................‬‬
‫مقاييس الشـخصية املثاليةيف العقل اجلمعي‪45........................‬‬
‫اآلن هـو أفضـل وقـت للتغيير‪47 .................................‬‬
‫القبـول‪50 ..........................................................‬‬
‫التسـليم‪54 .........................................................‬‬
‫ما هـو الفرق بني التسـليم واالستسلام‪55 ..........................‬‬

‫‪163‬‬
‫االنتبـاه‪59........................................................‬‬
‫احليادية‪64 ..........................................................‬‬
‫التأمـل‪68....................................................‬‬
‫الصمـت‪71 ......................................................‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫متعـة التائهين‪73 ..................................................‬‬
‫مـا الـذي يمنـع اإلنسـان مـن االتصـال بروحـه؟‪78 ...............‬‬
‫أبعـاد الشـخصية وأبعـاد التيـه‪80 .................................‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫رحلـة الوعـي والتنويـر‪93........................................‬‬
‫كيـف نُم ّيـز اإلنسـان الواعـي؟‪95 .................................‬‬
‫البسـاطة رشط مـن رشوط الوعـي‪104 ...........................‬‬
‫الوعـي يف العالقـات‪106 .........................................‬‬
‫ملـاذا ال يفهـم الرجـال النسـاء؟‪110 ..............................‬‬
‫تبـادل املنفعـة الروحيـة‪113 ......................................‬‬
‫احلقيقـة فـخ العقـول‪115 ..........................................‬‬
‫التع ّلـق علـة وانحـدار‪118 ........................................‬‬
‫كيـف أتشـاىف مـن التع ّلـق ؟‪119..................................‬‬
‫كيـف أسـتطيع التمييـز بين احلـب والتع ّلـق؟‪120..................‬‬
‫مـا هـو احلـب؟‪121 ..............................................‬‬

‫‪164‬‬
‫قـوة احلـب‪123 ...................................................‬‬
‫كيـف ُيغرينـا احلـب؟‪125.........................................‬‬
‫الرابـع‬ ‫الفصـل‬
‫االسـتنارة‪129 ...................................................‬‬
‫الثقة‪136 ...........................................................‬‬
‫السلام الداخلي‪146 ..............................................‬‬
‫كيف أسـتطيع الوصول حلالة السلام الداخلي؟‪13 9 ...............‬‬
‫قـوة السلام الداخلي‪143 ..........................................‬‬
‫الـروح كنـز احلكمـة‪146 ..........................................‬‬
‫اخلامـس‬ ‫الفصـل‬
‫هكذا تكلمـت روحـي‪165 .........................................‬‬

‫‪165‬‬
166

You might also like