Professional Documents
Culture Documents
التائهين
التائهين
الطبعة األوىل
الكتاب :متعة التائهني ٢٠٢٠م
املوضوع :تنمية وتطوير الذات
تأليف :قاسم أحمد حسن
اإلخراج الفني :دار ظأم
تصميم الغالف :دار ظأم
عدد الصفحات ١٧٢ :صفحة
عدد النسخ 1000 :نسخة
978-9933-9256-9-7 : ISBN
ملتابعة املؤلف:
Email : Kassem68-2007@yahoo.com
Email : Kassem68ahmad@gmail.com
متعة التائهين facebook :
مــن خــال جتربتنــا مــع القـ ّـراء ,والتــي جــاءت نتيجة عملنــا يف متجـ ٍ
ـر لبيــع الكتب,
كان ومــا يــزال شــعارنا (لتكــن القــراءة عــادة) ,ومــن خــال دار النــر «ظمــأ».
ـوع والثقافــات الكثــرة يف جمتمعاتنــا العربيــة ــــ
فقــد ملســنا ــــ عــى الرغــم مــن التنـ ّ
ـوف مــن الكتــاب إمجــاالً ،وعــى األخــص ممّــا يصادفــه مــن
أن القــارئ العــريب يتخـ ّ
كتــب قــد توحــي بأهنــا خمتلفــة عـ ّـا تبنّــاه مــن أفــكار ومعتقــدات وأيديولوجيــات،
نمــي ذلــك االنتــاء دون ســواه ،وكأ ّنــه يف ا ّطالعــه عــى ثقافــات
فــراه غارق ـ ًا فيــا ُي ّ
ـر ًا عــى جماراهتــم ،وهــذا ال يطابــق الواقــع أبــد ًا.
اآلخريــن ومعتقداهتــم ســيكون ُمـ َ
لذلك نقول:
عزيزي القارئ ،عزيزيت القارئة:
االختــاف ليــس بالــرورة خالفــ ًا ،وانطالقــ ًا مــن هــذا املبــدأ ،يســعدنا يف
«ظمــأ» أن ندعوكــم إىل القــراءة بشــكل عــا ّ ,م ألننــا نــدرك كــا يــدرك غالبيتكــم أن
ـح عليكــم مجيع ـ ًا
املعرفــة والوعــي مهــا اللــذان ســينهضان بمجتمعاتنــا ،كــا أننــا نُلـ ّ
أي كتــاب، ٍ
بالدعــوة إىل القــراءة ،مــع احلــرص عــى أخــذ مســافة أمــان كافيــة مــن ّ
بحيــث تكــون واعيـ ًا متامـ ًا أن الكتــاب صديــق جيــد إن أحســنت حماورتــه ،فقــد جتــد
فيــه مــا يزيــل الغبــش عــن عينيــك ،وقــد يصــادف أن جتــد فيــه مــا يؤ ّكــد قناعاتـ َ
ـك.
وأخــر ًا ..نتمنّاهــا قــراءة ممتعــة ،مفيــدة ،تغنيكــم عــن الســفرّ ،
تقربكــم مــن
وتقــرب اآلخريــن منكــم ...ع ّلهــا بذلــك تزهــر حمبــ ًة وألفــة.
ّ اآلخريــن،
املقدمة
7
أي يشء مــادي ..قيمــة احليــاة هــي فيــا نملكــه مــن وعــي، أن حيدّ دهــا ّ
وهــو مــا حيــدّ د مصرينــا بعــد انتهــاء مهلــة التجربــة واالختبــار..
كل منّــا يف وقــت مــا ،ك ّلــا كان
هــذه احلقيقــة ال بــدّ وأن يدركهــا ّ
الوقــت أبكــر ك ّلــا ازدهــرت قيمــة احليــاة ,وطــاب املصــر..
عندمــا يقولــون إن املعرفــة الزائفــة أخطــر مــن اجلهــل ،فإهنــم
يقصــدون العقــل ومــا تربمــج عليــه مــن برجمــة هدَّ امــة ،برجمــة قــادرة
عــى اســتالب اإلمكانيــات والقــوى الداخليــة ،واســتالب اهلويــة
اإلنســانية األصيلــة ،بإمكاننــا هنــا أن نقســم تلــك الربجمــة املوروثــة إىل
حموريــن:
داخــي ذايت ،يتع ّلــق بآل ّيــة تكويــن العقــل ،فك ّلنــا نعلــم أن
ّ األول:
ٍ
للعقــل واجبــات متعــدّ دة وأكثرهــا تطــور ًا وأكثرهــا أمهيــة هــي عمليــة
يت عــن اجلســد وعــن احليــاة ،لذلــك غالبـ ًا مــا يســود اخلوف الدفــاع الــذا ّ
تلــك الربجمــة العصب ّيــة املوروثــة ،وخصوصــ ًا اخلــوف مــن خــوض
ـرات جديــدة ،واخلــوف مــن جتــارب وخــرات جديــدة ،والقيــام بمغامـ ٍ
كــر العــادات القديمــة.
خارجــي ،يتع ّلــق بربجمــة املجتمــع مــن عــاداتّ املحــور الثــاين:
تأســسوتقاليــد وأعــراف ومفاهيــم وخطــوط محــراء فكريــة؛ فاملجتمــع ّ
يف األصــل ألجــل محايــة اإلنســان مــن األخطــار اخلارجيــة ،لكــن تلــك
ـورت ّ
واتــذت مســار ًا جديــد ًا مســار ًا يتناســب مــع ســيادة الربجمــة تطـ ّ
ـرت عنهــا برجميات التسـ ّلط واجلشــع واألهــواء الشــخصية ،وهــي مــا عـ ّ
التس ـ ّلط الســيايس والدينــي ،وهــي برجمــة ُمتمكّنــة مــن اســتالب ّ
حريــة
اإلنســان وإمكان ّياتــه الفكريــة وقدرتــه عــى املنــاورة الفكريــة ،وعــى
ـو واإلبــداع.
البنــاء والنمـ ّ
8
مــن هنــا يمكننــا أن نقــول :إن ّ
كل جتربة جديــدة ،وكل مغامــرة جديدة
ومنــاورة فكريــة جديــدة ،وإن كل معرفــة جديــدة ،هــي يف حقيقتهــا ثــورة
لتفردنــا واختالفنــا،
ـي ّ لكــر الربجم ّيــات املوروثــة ،وهــي املعنــى احلقيقـ ّ
وملعنــى وجودنا.
فــك التع ّلــق
األهــم يف هــذه التجربــة األرض ّيــة هــو يف ّ
ّ النجــاح
بــكل يشء مــا ّدي (أشــخاص ،مــال ،جــاه ،ســلطة ،رغبــات) وتأصيــل
الســاوي.
ّ االرتبــاط بأصلنــا
َقدْ َأ ْف َل َح َمن َزك َ
َّاها
----
كلما اضطربت بوصلتي ...اجتهت شوقاً.
9
10
توطئة
11
فــرص
ٌ مشــكلتنا أننــا كُلنــا ُمصــادرون وجود ّيــ ًا ،ولدينــا مجيعــ ًا
للحريــة ،إذا مــا آمنّــا بأنفســنا وبقدرتنــا عــى الفهــم والتغيــر،ـتمرة ّ ُمسـ ّ
لذلــك علينــا أن ندافــع عــن وجودنــا مــن خــال قــوة وعينــا ،ومــن
ـكل منــا يملــك القــدرة عــى خــال قــوة إيامننــا بأنفســنا وبقدراتنــا ،فـ ٌّ
الثــورة والتغيــر.
نتحمــل مســؤولية التغيــر ،ونؤمــن أنــه مــا مــن يشء يف ّ علينــا أن
اخلــارج قــادر عــى مســاعدتنا إن مل نمتلــك روح املبــادرة واإلرادة والقــوة
الالزمــة للتغيــر ،وإن مل نتخـ َّـل عــن خماوفنــا الومهيــة التــي غرســتها فينــا
الربجميــات واألفــكار املوروثــة.
فخــال رحلــة وعينــا ســنبدأ بانتــزاع أجســادنا وعقولنــا وأرواحنــا
مــن خمالــب الربجمــة املجتمعيــة املتسـ ّلطة ،تلــك الربجمــة املوروثــة ،القاتلــة
للتطــور واإلبــداع ،لن َُســ ّلم بمحبــة وامتنــان وإيــان لــإرادة اإلهليــةّ
الكونيــة ،لنكــون أكثــر إرشاقـ ًا ،وأكثــر شــفافية وأغــزر حكمــة ،وأطهــر
قلب ـ ًا ،وأصلــب قــوة.
التســليم لــإرادة اإلهليــة يعنــي أننــا اخرتنــا التع ّلــم والتل ّقــي
واإلرشــاد مــن األســمى واألمجــل واألذكــى واألرحــم واألكــرم.
كيف نُصبح أقوياء؟ وما هو معنى القوة احلقيقية؟
ـوة احلقيقيــة هــي قــوة إيامننــا ووعينــا ،إهنــا قدرتنــا عــى التواصــل
القـ ّ
مــع القــوة احلقيقيــة لألشــياء مــن حولنــا ،أي مــع جوهــر األشــياء ومــع
حقيقتهــا وأصلهــا ،وليــس التواصــل والتفاعــل مــع ظاهــر األشــياء
وحقيقتهــا ا ُملز ّيفــة ،فنحــن حــن نُتقــن التعامــل مــع جوهــر األشــياء
ســنتفرغ ملعاركنــا احلقيقيــة مــع الزيــف واجلهــل والوهــم واألنانيــة،
ّ
12
يــرع أغلبنــا يف
ُ وســنتخىل عــن حروبنــا اخلارجيــة الومهيــة ،والتــي
حتديثهــا طــوال رحلتــه الدنيويــة ،لكــن بأفــكار ُمتغـ ّـرة وأعــذار جاهــزة،
وك ّلهــا يف حقيقتهــا ُمز ّيفــة وومه ّيــة .فنحــن يف احلقيقــة مــن نفتعــل
حروبنــا وهنــدر أوقاتنــا بالتــايل يف إمخادهــا وإزالتهــا لنصنــع بعــد ذلــك
حروبــ ًا جديــدة.
فالشــعوب التــي ال ختــرج مــن قوقعــة اجلهــل والتبعيــة والتقليــد،
ســتبقى تنــزف دمــاء ،وســتبقى تنــزف كرامــة.
ـوة احلقيقيــة هــي أن تتقــن التعامــل مــع تفاصيــل احليــاة بأدنــى القـ ّ
مســتوى مــن البســاطة ،أي بأدنــى مســتوى مــن الطاقــة ،أصــل هــذه
القــوة األول هــو الثقــة يف الوجــود ،وأصلهــا اآلخــر هــو مــا يتو ّفــر لنــا
مــن طاقــة كامنــة وكافيــة للتعامــل بمرونــة مــع األحــداث وإمكان ّيــة عــى
املنــاورة بــن احللــول.
إحــدى الســيدات تســاءلت لتبحــث عــن طريقــة إلصــاح عالقتهــا
ـتمــع ابنهــا بعــد فــرة طويلــة مــن اخلصــام والتباعــد واالختــاف ،طلبـ ُ
منهــا أن حتتضنــه وتق ّبلــه وهــو نائــم ،وأن تتأ ّمــل يف وجهــه ،وتبعــث
ـب وحنــان ،وأن هتمــس لــه بأهنــا حت ّبــه حم ّبــة ال مرشوطــة
لــه طاقــة حـ ّ
وليســت حمبــة غريزيــة .فــر ّدت مســتغربة ،هــل األمــر هبــذه البســاطة؟
نعم األمر هبذه البساطة؛ تلك هي حكمة الروح ،وتلك هي احلقيقة.
تكونــت باألصــل
الربجمــة العقليــة ترفــض هــذه احلقيقيــة ألهنــا ّ
وفــق مفهــوم :أن القــوة احلقيقيــة هــي يف البــذل الواســع للطاقــة ذهني ـ ًا
وعمليــ ًا.
13
مشــكلتنا أننــا نحيــا وفــق أفــكار ســلبية وقيــم ســلبية وتــراث
وحتــر ســلبي وعــادات ســلبية ،لذلــك ّ ســلبي وثقافــات ســلبية
ّ
تــرى املؤسســات السياســية والدينيــة وحتــى الثقافيــة دائ ـ ًا مــا تتشــدّ ق
باملحافظــة عــى الــراث ،واملحافظــة عــى القيــم والتأريــخ ،وهــي ال
تقصــد وال تســعى إال للمحافظــة عــى التجهيــل واالســتحامر ،ألنــه يف
احلقيقــة هــو رأس ماهلــا يف التســ ّلط والطغيــان واالســتغالل.
يتحمــل مســؤولية التغيــر ،التغيــر احلقيقــي الــذي
ّ كل شــخص منــا ّ
وأناين،
ّ كل يشء قديــم و ُمســتهلك يبــدأ مــن الــذات ،التغيــر الثوري عــى ّ
عــى ّ
كل منّــا أن يعيــش تلــك اللحظــة التــي يتســاءل فيهــا مــع نفســه:
هل أنا موجود من أجل هذه احلياة الفارغة من أي معنى؟
جمرد جسد وجمرد حاجات جسدية أحيا ألجلها؟
هل أنا ّ
هــل أنــا جمــرد جســد تابــع لفــان ،و ُأص ّفــق لفــان ،وأدافــع عــن
فــان ،وأكــره فالن ـ ًا وأعبــد فالن ـ ًا؟
اخلاصة ورؤيتي اخلاصة؟
ّ متى تكون يل فكريت
متى سأفهم وأتشارك مع اآلخرين بفهمي اخلاص؟
أن نفهــم ،أو نحــاول أن نفهــم ،ونتشــارك مــع اآلخريــن وع َينــا
وفهمنــا نكــون قــد ح ّققنــا الغايــة التــي ُوجدنــا مــن أجلهــا ،غــر هــذا
نحــن ال نفــرق عــن باقــي املخلوقــات ،بــل أحيان ـ ًا كثــرة نكــون أدنــى
منهــا كثــر ًا.
14
إذا ما تل ّبدت يف سامئنا غيوم األسئلة..
لننتبــه ونثــق بإحساســنا وإدراكنــا ،لتنهمــر وتُغيثنــا اإلرشــادات
والتوجيهــات الكونيــة ،ومــن حيــث نــدري أوال نــدري ،فاإلجابــات
احلقيقيــة تكمــن يف داخلــك ،يف وعيــك..
يف صمتك...
يف مشاعرك النقية الصادقة....
يف اتّصالك بعاملك الروحي....
يف انعتاقك من هويتك اجلسدية واملادية.....
يف إحساسك بانتامئك للكون والطبيعة....
يف قربــك مــن اهلل ...فأنــت تكــون قريبــ ًا مــن اهلل عندمــا متتلــك
الشــجاعة عــى أن تكــون نفســك ،تلــك الشــجاعة التــي تُلهمــك الــذكاء
وتديــك ســبيل االنفتــاح الفكــري، والفطنــة والبصــرة والنظــرة الثاقبــةُ ،
واحلياديــة يف التفاعــل مــع األفــكار ،تلــك الشــجاعة التــي تُلهمــك الثقــة
واالطمئنــان والســكون .أنــت تكــون قريب ـ ًا مــن اهلل عندمــا تكــون قوي ـ ًا
ُمب ـ ًا ُمتســاحم ًا وســعيد ًا..
15
أتدري من هي النفس املطمئنّة؟ ..
هي التي ترى اهلل بعيون سج ّيتها ،ال بأفواه اآلخرين.
ِ ِ ِ ِ
الصــدْ ِق ا َّلتــي َت ْلتَم ُ
ــع يف ْظــر إِىل َع ْين َّ
َــي َمل ًّيــاَ ،و َت َ َّعــن يف َها َلــة ِّ ان ْ
أحداقــي..
الزم ِن ا َمل ْش ِ
لول. الصدْ ُق ن ََس َم ُة َّ َ َف ِّ
ــكــم َوت ََســ َّل ْق تِ ْل َــلُ ،ق ْ ــج ْ َي ِة ال ِّظ ِّ
ــت ُش َ ُــوث َ ْت َيــل ا ُملك َ ــاك َأ ْن تُطِ َ إِ َّي َ
ــك األَ َلُ.. ــت يــدَ َ ِ األَســوار َّ ِ
َاح َ اجت َ اك د َمــا ًء َو ْ الشــائ َك َةَ ،حتَّــى وإن ن ََز َف ْ َ ْ َ َ
الز َم ِن ا َمل ْش ُلول. اس َّ َفاألَ َل ُ ُقدَّ ُ
ِ ــك َأن َتــي ِف َح ْقــل التُّولِ ِ
يــب َم ْ ُمــور ًا مخــرة َعاشــقُ ،ك َّل َ
ــا َع َل ْي َ
ــر ٌح..
ْــك ُج ْ بــرئ ِمن َ َ ْــك َو ْر َد ٌة َغ َازلت َ
الز َم ِن ا َمل ْش ُلول. اق َّ اجلم َل تِ ْر َي ُ َف َ
اصــل ـك ال َّتـ ِّـل ال َف ِـوى َذلِـ َ ـق سـ َ
ـرَ ،ل ي َتبـ َّ ِ
الصـ ْ ِ ْ َ َ ـوة َو َّ
حشــدْ َأجـ َـزاء َك بِال ُقـ ِ
َّ ْ َ ْ
ـور... ادي النُّـ ِ ـن و ِ َب ْينَـ َ
ـك َو َبـ ْ َ َ
الزم ِن ا َمل ْش ُل ِ
ول. َفال ُق َّو ُة َ ْ
ج َر ُة َّ َ
ـقـق َولِت َُح ِّلـ َ
لتز ُفـ َـر َمـ َـر َار َة ال َّط ِريـ ِ
ـبْ ، ـك بِن ََه ـ ِم ا ُ
حلـ ِّ اسـ َ ـق َأ ْن َف ِ ـم َع َبـ َ َتن ََّسـ ْ
ـة .و ِ ِ
احلك َْمــة... َاحــي احلُ ِّر َّيـ َ بِ َجن َ
الز َم ِن ا َمل ْش ُلول. ب َث ْو َر ٌة ِف َّ حل ُّ َفا ُ
16
الفصل األول
برجمة العقول (ثقافة املجتمع)
17
تسـامح ،إبـداع) ،تكـون متوافقـة مـع الطبيعة البرشيـة ،وهـي يف حقيقتها
عمليـة رعايـة وليسـت برجمـة ،ويكـون فيهـا هامـش احلريـة واإلبـداع
سـتوف لشروط التنشـئة احلقيقيـة، ٍ مهـم و ُم واالطمئنـان والثقـة هامـش
ّ
مهمـة جـد ًا يف بلـورة شـخصية الفـرد ،ويف فكلنـا يفهـم أن هـذه التنشـئة ّ
تشـكيل مسـتوى طاقـة روحـه ،وتنعكـس أمهيتها أيضـ ًا عىل رفع مسـتواه
واألهـم هـو تأثير هـذه التنشـئة يف مسـتوىّ الصحـي ومسـتوى إبداعـه،ّ
سـلوكه ووعيـه وتطـوره ونضجـه ،فكلما كانـت هـذه التنشـئة ُمسـتلهمة
التطور والنمو أكثر ُيرس ًا وسالسـة ،والسـبب ّ للقيـم الروحية كانت عملية
ـمك الربجميات والعقائـد وال ُع َقـد واحلقائـق املفروضة ،وكلام
هـو ضٓالة ُس ْ
كانـت الربجمـة تقليدية نمط ّيـة خاضعة ومتناسـبة مع أمراض األنـا املز ّيفة،
أمسـى معهـا التغيير والتطـور صعبـ ًا للغاية وحيتـاج لفرتة غير قصرية من
ّ
التخلي للوصـول إىل مرحلـة الـوالدة اجلديدة. املعانـاة ومـن ٓاالم
يتعرض اإلنسـان خلال حياته لتأثيرات من املجتمع واملحيط تسـاهم ّ
يف تأطير أفـكاره وسـلوكه ،وتسـاهم يف بناء شـخصيته وتركيبته النفسـية،
الفكـري ،وعن حمدودية
ّ وغالبـ ًا ما تكـون هذه املؤثرات ناشـئة عن اجلمود
الـرؤى الكونيـة ،وغالب ًا مـا يكون نطاق اشـتغاالهتا هو االشـتغال باألمور
املاديـة اليوميـة ،وغالبـ ًا مـا تكـون تلـك املؤثـرات غير ُمدركـة ،وهـذا
بالطبـع هـو مصـدر اخلَطـر ،فأنـت عندمـا ال تعـرف وال تُـدرك الواسـطة
َ
أفعالك، التـي تتحكّـم بـك ،وال تُـدرك أفـكارك اخلف ّية التـي تقف خلـف
سـتفهم أنـك مـن تتحكّـم بنفسـك وأنـت مـن متلـك زما َمهـا ،وأنـت من
سير باملؤثرات
متلـك ناصيـة قراراتـك واختياراتـك ،لكنـك يف احلقيقـة ُم َّ
اجلمعي هلـذا املجتمع.
ّ والربجميـات املجتمعيـة ،وخاضـع للعقـل
18
فعقلـك الواعـي يسـعى دائم ًا لعقلنـة تلـك الربجميـات وهتذيبهـا
وصياغتهـا على شـكل كلمات وأفـكار ،ويدافع عنهـا دفاع ًا رشسـ ًا ،دفاع
كـر ٍه ،واحلقيقـ ُة أنـك
املؤمـن ا ُملتي ّقـن الـذي قـام باالختيـار طوعـ ًا غير ُم َ
وكنـت ُمكره ًا مسـلوب اإلرادة حينما أمىل عليـك املجتمع كيف َ جبرت
َ ُأ
تترصف ،حينام ألبسـك شـخصية تتناسـب معهتُفكّـر وكيـف تفعل وكيف ّ
هـو ،ومـع اجلامعـة ،وال تتناسـب أبـد ًا مـع روحـك ومـع األفق الشاسـع
الـذي تنمـو فيه ،وفيـه تتألـق وتبدع وتعـرف األنـوار الوجوديـة .روحك
مـا زالـت مأسـورة لـدى العقـل اجلمعـي ،لذلـك أنـت تعـاين وتتعـذب
وتقلـق وختـاف وتتخ ّبـط وتشـقى.
قـوة اإلنسـان احلقيقيـة تكمـن يف قدرتـه على اختاذ قـرار البـدء بعملية
ال ويسير ًا لسـببني ّ
مهمني: التغيير ،بعدهـا كل يشء سـيبدو سـه ً
أوالً :للعـدد الالهنائـي مـن االحتماالت املتو ّفـرة والسـاندة لعمليـة
التغيير.
ثانيـ ًا :ألن الكـون بأكملـه سـيتظافر من أجل إرشـادنا ومسـاعدتنا عىل
املهمة.
إمتـام ّ
تذك ّْر دائ ًام أن ُكلّ منّا ُم َّي بني برجمتني:
برجمـة إهليـة قوامهـا الفطـرة النقيـة والقيـم اجلامليـة ،وبرجمـة جمتمعيـة
قوامهـا الزيـف واخلـداع واألنانيـة .وتذكّـر أن أغلبنـا قـد قـام باالختيـار
ّ
وختلى عـن خيـار التحـدّ ي السـلبي ،وخضـع للربجمـة املجتمعيـة
ّ السـهل
واحلريـة واإلبـداع واحلقيقـة ،والدليـل على ذلـك إننـا ويف جممـل أفعالنـا
ّ
فـإن ّأول مـا نفكـر فيـه هـو رد فعـل املجتمـع واآلخريـن حـول أفعالنـا،
ّ
األقـل أن ال يمسسـنا فنجتهـد حماولين أن ننـال إعجاهبـم ،أو على
19
اسـتياؤهم واسـتنكارهم ألفعالنـاَ ،أل تالحـظ أن أمهـر النـاس وأكثرهـم
قبـوالً لـدى املجتمع وأوسـعهم ح ّظـ ًا يف نيل إعجاب الناس هو الشـخص
الـذي يرتدي شـخصية بارعـة جد ًا يف أداء الـدور الذي يكون متناسـق ًا مع
مقاسـات املجتمـع؟!
التنـور والوعـي ّ علينـا أن نفهـم ونُـدرك إذا مـا أردنـا السير يف درب
وكل رؤيـة وفكـرة وأيديولوجيـا وفلسـفة وعقيدة، كل نظريـة علميـةّ ، أن ّ
تشـتمل يف بنائهـا على جـزء نسـبي مـن احلقيقـة ،هـذا مـا يتّضـح جل ّي ًا يف
وكلويتغيرّ ،ّ ويتطور
ّ كل ٍ
فكر ينمـو مسيرة وسيرورة الوجـود البشريُّ ،
يتقمـص اإلنسـان فكـرة ويقاتـل مـن يتغير ُيصبـح ومهـ ًا ،إذ ًا ،ملـاذا ّ
ّ مـا
الفكري
ّ فيعـرض نفسـه لالسـتحامر
ّ أجلهـا ويكـره وحيقـد و َيتَعصـب هلا،
والعقائـدي.
كل األفـكار ،وأن نراقـب أليـس مـن املفيـد أن نتعامـل بحياد ّيـة مـع ّ
شـكل مـن أشـكال التفاعـل ٍ ون ّطلـع مـن دون تصنيـف أو شـجب أو ّ
أي
وسـلطة
ونحررهـا مـن ُسـلطة األفـكارُ ، ّ الفكـري؟ لكـي نُعتـق أنفسـنا،
مـن يتاجـر هبـا ليحـاول أن ُيـريض غـروره ويسـعى ل ُيل ّبـي مطامـع نفسـه
بتأ ِ
ليـه هـذه األفـكار. وجشـعها ْ
ال يمكـن لنـا فهم حقيقـة الوجود وحقيقـة ذواتنا ،وأذهانُنـا مل ّبدة بك ٍَّم
والتمو ُضعـات واالنطباعات والرغبات، ْ هائل من غيـوم األحكام واآلراء
الوضـع األمثل إلفـراغ الفكر ،والوصـول إىل حالة َ تعتبر املراقبـة احليادية
الصمـت الفكـري والصفـاء الذهنـي ،والتخلـص مـن قيـود الربجميـات،
والتطور.
ّ ّ
يتجلى الفهم احلقيقـي واإلبـداع حيـث
20
آل ّيـة الربجمـة هـذه ،يف حقيقتها ُسـن ّْت بدايـة ألجل املحافظـة عىل حياة
الفـرد اجلسـدية وطلبـ ًا لألمـن واحلاميـة وإبقائه عىل قيـد احليـاة ،يف مقابل
خماطـر عـدة ،حتيـط بـه وباسـتمرار ،وكذلك ألجـل تربيتـه وتنميتـه حتى
يشـتدّ عـوده ويبلغ رشـده ضمـن اجلامعـة ،فاملجتمعـات البدائيـة غالب ًا ما
كانـت تَصنـع برجميات متواتـرة وتضـع اشتراطات ،الغاية منهـا املحافظة
على الفـرد ،الفـرد الـذي يتصـف بصفـات الطاعـة والسـعي احلثيـث
للحفـاظ على السير اجلامعـي واإلبـداع ،لكـن يف نطـاق تأصيـل اهلويـة
وحتقيـق الـذات املجتمعيـة ،وليس يف نطـاق تنميتـه فكري ًا وسـلوكي ًا وبنائه
املتكامـل عقليـ ًا وروحيـ ًا وجسـدي ًا ،أمـا الفـرد املتمـر ّد فهـو وحـد ُه مـن
يتحمـل مسـؤولية املحافظـة على حياتـه ،وغالب ًا مـا تكون املهمة عسيرة. ّ
21
ُفعم باحليـاة .،علينا أن
لكي نسـتطيع أن نكـون واعني للجانـب امل َ
ال ندفـن اجلانب امليـت فينا.
(كريشنا مورتي).
22
العفـوي اللا مشروط ،علينـا أن
ّ تسـاؤالت أرواحنـا العذريـة ،وو ْعينـا
املشـوهة لألشـياء والوجـود ،علينـا أن ندفـن ك ُّل حقائقنا
ّ ندفـن مفاهيمنـا
اجلاهـزة وآرائنا املقتبسـة وأحكامنـا ا ُملطلقـة ،لنعيش حياتنـا بمرونة فكرية
وحريـة واسـعة وسـ ْع ٍي حثيـث للمعرفـة واالكتشـاف .أن نفسـح املجـال ّ
ألرواحنـا أن تأخـذ مداهـا الـذي يليـق بعظمتها.
أتدري من هم األحرار؟
هم اهلائمون يف ملكوت اهلل
ال حتدّ هم حدود
وال ُت ِض ُعهم قيود
وطنُهم الكون ،قوم ّيتُهم اإلنسان
دينهم العطف واملح ّبة.
ُيدركون بأرواحهم
ويستش ّفون معاين احلياة بالبصرية والفطنة.
23
مسؤولية الوعي والتغيير
الـذكاء هـو قدرتنا الفطريـة على أن نُبصـر وأن نُـدرك .يولد جميع
األطفـال أذكيـاء ولكـن اجملتمع يحولهـم إلى حمقى
أوشو
24
وبالتـايل البحـث عـن أفكار ُأخـرى أكثـر نضجـ ًا وف ّعال ّية والتزامـ ًا ،ألجل
التغيير وألجـل التأثري على اآلخرين ،وألجل حيـاة أكثر إجيابيـة .فالوعي
احلـب واحلكمة واملسـؤولية والتعاون والنماء ،هو وعي
ّ الـذي ال ينبـع من
زائـف وغير ُم ٍ
ثمـر أبد ًا.
غريبـة هـي ديمومـة الطريقـة التـي اسـتخدمتها السـلطات يف طمـس
معـامل اإلنسـان الروحيـة ،فبعـد ّ
كل هـذا املشـوار الـذي قط َعـه وجـو ُد
البدائـي هـو مـن يتحكّـم يف
ّ اإلنسـان على هـذه األرض ،مـا زال العقـل
مسيرة ومصير هـذا العـامل..
جمموعـة النظـم التي حتكـم املجتمـع ومت َ ْو ُضعاتـه الفكرية هـي اجلوهر
واألسـاس الـذي تُشـيد عليـه املجتمعـات ،وهـي بالطبـع مت ّثـل الطاقـة
عـي للمجتمـع ،فأنت ال تسـتطيع أن اجلم ّ
القصـوى ملـا وصـل إليه العقـل ْ
حتضره إال وفق هـذه النظم .ولو حتكـم عىل مسـتوى ثقافـة جمتمع ومـدى ُّ
أمعنّـا النظـر يف بنيـة هذه النظـم لوجدنا أهنـا يف حقيقتهـا إنام ُتثـل القض ّية
األنـاين واجلانب الظـامل واجلانب املظلـم واجلانب
ّ مـن وجهة نظـر اجلانب
الطامـع واجلشـع للكائـن البرشي.
البرشي
ّ عـي ،ومنذ فترات التمدُّ ناجلم ّ
املجتمعي ْ
ّ سيرورة هـذا العقل
وغري ُمب ّطنـة أبد ًا ،شـعارات مثل :إن ٍ
شـعارات ُمع َلنـة األوىل كانـت حتمل
َ
رر الوسـيلة ،وإن مصلحة اجلامعة هـي فوق مصلحـة الفرد ،وإن الغايـة تب ّ
يسـتحق التضحيـات حتـى وإن عظمت ...هبـذه اآلليات ّ اهلـدف السـامي
ٍ
بـطء وتـراخٍ يف ومتاسـكها يف مقابـل حافظـت املجتمعـات على هو ّيتهـا
ُ
الروحـي الفـردي .فام هـي فائدة رسـوخ اجلذور وتشـ ّعب ّ تنامـي الوعـي
والثم ُـر ذابل؟!.
َ األغصـان،
25
ورس ديمومتــه هــو يف غيــاب الوعــي
ـي ّـوة العقــل اجلمعـ ّ
١ـ مصــدر قـ ّ
الروحــي ،ويف ضمــور القيــم الروحيــة ،يف مقابــل ســيادة مت َ ْوضعــات
العقــل واألنــا الزائفــة ،والتــي غالبــ ًا مــا تكــون جذورهــا األنانيــة
واملنافســة؛ فالفــرد يكــون ناجحــ ًا يف نظــر املجتمــع يف مــدى وقــوة
وســعة تعاطيــه مــع ضوابــط املجتمــع ،ويف مــدى ا ْلتزامــه بقواعــده َ
ٍ
وقوانينــه ،فاملنافســة تتط ّلــب مهــارات وســات مناســبة كالقــدرة عــى
املجاملــة والنفــاق واحلســد ،والرباعــة يف ارتــداء األقنعــة املناســبة
ـكل ظــرف.لـ ّ
هكـذا تشـكّلت البنيـة النفسـية للمجتمـع ،وهكـذا َسق املجتمـع من
قوهتـم احلقيقيـة وثقتهـم بأنفسـهم ،ورسق منهـم سـعادهتم أفـراده ّ
وفرحتهـم وطاقاهتـم ،وهكـذا ضاقـت وتضاءلـت احتماالت اإلبداع
والتطـور ،وتضاعفـت احتماالت املعانـاة والفـوىض والضيـاع ،إال
ّ
واسـتحق ا ُمل َّ
يض يف رحلـة التغيير والوعي َّ تفـرد واجتهـد وناضـل
ملـن ّ
والتنويـر..
ذات القصص تذكّـر دائم ًا ..أنـت تعاين ألنّـك ما زلت تـروي لنفسـك َ
البدائـي بغرائزه وعواطفـه وعاداته،
ّ القديمـة ،ومـا يتحكّم بك هـو عقلك
التحرر
ّ احلقيقـي يبـدأ مـن
ّ وبرجمياتـه السـابقة وأحكامـه ا ُملغلقـة ..التغيير
مـن سـطوة هـذا العقـل ا ُملرب َمج بواسـطة أسـئلة جديـدة وأفـكار جديدة،
وترصفـات جديدة وجتـارب جديدة. ّ
لتتفرد ..وتزهر.
تذك ّْر أنّك موجود هنا ّ
التفرد واالزدهار،
مقومات ّ وتذكّر أنك متلك ّ
كل ّ
الداخيل،
ّ وال حتتاج إال إىل اإلنصات لدليلك
26
ّـر أنـك لطاملـا اسـتمعت لصـوت اإلرشـاد الداخلي ،لكنّـك
وتذك ْ
التفـرد ،ومن وحشـة الطريق..
ّ جتاهلتـه ،والسـبب هو خوفك من وحشـة
نمـر هبـا ،نشـعر بأننـا نفقـد توازننـا ،وبأننـا أصبحنا يف
هنـاك فترات ُّ
للنمو ٍ
أهم فترات حياتنـا ،كوهنـا فترات مثاليـ ًة
ّ مهـب الريـح ،هـذه هـي ّّ
رصاع بين الـروح وبين ذاتنـا الزائفـة ،فإ ّما
ٌ واالرتقـاء ،فهـي يف حقيقتهـا
أن تَكسـب أرواحنـا فنرتقـي درجـة ،وإ ّمـا أن نكسـب (أنواتنـا) الزائفـة ْ
فنسـتمر يف خسـاراتنا وضياعنـا.
فترات تشـعر بأنـك تقترب مـن ٌ سـتمر عليـك
ّ يف رحلـة التغيير
اسـتمر ...صدّ قنـي :دون أن تقتحم هـذه اهلاويـة ،ال يمكنك أن
َّ اهلاويـة..
أي معنًـى.. جتـد حلياتـك ّ
أتدري ماذا يعني أن تزهر؟
عطـور احلكمـة واإلبـداع واملحبـة
َ -يعنـي أن تنثـر مـن روحـك
والتسـامح والرمحـة والعدالـة والشرف.
27
كيف تصنع وعيك؟
مـا ورثتـه مـن والديك ،حـاول أن تكتسـبه من جديـد ،إن أردت
امتالكه.
( غوته )
(حريتـه ،نزعتـه
بقـدْ ر مـا َيعـي اإلنسـان رشوط وجـوده الطبيعيـة ّ
اإلنسـانية يف اخلير واجلمال والسلام ،حكمتـه ،وقدرته الذاتيـة عىل فهم
رس وجـوده .ألنه ذاتـه) بقـدر مـا يكـون أقـرب لتحقيـق كينونتـه وإدراك ّ
ِ أصبـح ُمه ّي ً
ـأ للعـودة ،وللتناغـم مـع ُأ ّمـه الطبيعـة ،راعيـة و ُمد ّبـرة ّ
نمـوه
الكـوين اإلهلـي ،الـذي
ّ وتطـوره املـادي ،وحياكـي ذكا َءهـا وذكاء العقـل
ّ
وتطـوره الروحـي؛
ّ أبـدع يف صنـع هـذه الطبيعـة ،ليسـتلهم منـه نمـوه
تطور اإلنسـان
الطبيعـة صنيعـة اهلل وذكاء اهلل ومجالـه ..لذلك هي قد أمتّت ّ
ٍ
وجـه وأفضـل حال ،لكـن اإلنسـان ،وعىل البيولوجـي وتر ّقيـه على ّ
أتـم
مسـتواه الوجـودي ،سـ ّلم َ
أمره ملا ُينسـب لقوانني اهلل زيفـ ًا وبطالن ًا ،لذلك
دوامة من املعانـاة واألمل والعذاب ،ألنـه ال يزال عالق ًا
هـو ما زال عالقـ ًا يف ّ
املؤسسـات املتسـ ّلطة على أمره.بين قيـود ّ
كل تعاليم األنبيـاء وإرشـادات املسـتنريين واملصلحني مـن هنـا كانـت ّ
يتحملّ مرتبطـة ارتباطـ ًا وثيقـ ًا بموضـوع اإليمان الواعـي ،اإليمان الـذي
فيـه الفرد املسـؤول ّية ،فاإليامن هو الوعـي والنور واحلرية والتد ّبـر والتفكّر
والفهـم والتأ ّمـل ،هـو التجربـة الفرديـة ،اإليمان لغـة الـروح وبصريهتـا
وحدْ سـها ،اإليمان رحلة داخليـة ،لذلك ال يمكن لإلنسـان أن يؤمن إيامن ًا
أي عوامـل خارجيـة ،مهما كانـت مقدّ سـة عنـد اآلخريـن. حقيقيـ ًا حتـت ّ
28
قوتك ،وفضاء إبداعك ،وجوهر وجودك.
إيامنك هو مصدر ّ
يتحمل
ّ ولكـي يبدأ اإلنسـان مسيرة الوعـي بوجـوده ،عليـه بدايـة أن
مسـؤولية ذاتـه ،والتـي ال يمكـن أن تكـون بمعـزل عـن مسـؤول ّيته جتـاه
جمتمعـه .ولكـي حي ّقـق اإلنسـان رشط وجـوده األصيـل ،عليـه أوالً أن
ُيـارب يف داخلـه ليسـتعيدَ حريتـه و َم ْق ِدراتِـه ،وال يمكـن أن يتسـنّى لـه
عما اسـتورثه مـن حقائـق وأفـكار جاهـزة ،واالنفصـال ذلـك ّإل بالتيـه ّ
التـا ّم عـن برجم ّيـات املجتمع ،فمـن دون هـذا االنفصال يسـتحيل عليه أن
ُيبصر حقيقـة األشـياء .هـذه البصيرة التـي سـيدرك اإلنسـان بواسـطتها
حاجـة العـامل إىل نظـام أخالقـي جديد ذي قيـ ٍم إنسـانية قادرة على التغيري
وإنقـاذ األفـراد من تداعيـات الربجميات املد ّمـرة ،وقادرة على إنقاذهم من
أمـراض العنرصيـة واألنانيـة والكراهية ،وختليصهم من احلسـد واجلشـع
سير العامل
أن هذا النظـام احلايل الذي ُي ّواملنافسـة ،وليـدرك ببصريتـه تلـك ّ
مل جيلـب للنـاس سـوى التعاسـة والوحـدة واملـرض والقلـق واالتّكال ّية.
هش ًا من الداخل؟
متى يصبح اإلنسان ّ
-عندمـا ُي َق ْولِـب ذاته ،سـواء بعقيدة ،أو مؤسسـة ،أو مهنة ،أو فكرة،
أو شـخص .،ألنـه سـيخلق تناقض ًا فاضحـ ًا بني روحه ومداهـا الوجودي
الواسـع ،وبين فكـره القـارص وقيـوده الفكريـة،هـو يقولـب نفسـه بحث ًا
عـن الراحـة ،معتقد ًا إن هـذا القالب يشـعره باألمان وهـو يف احلقيقة أمان
زائـف ألسـباب عديـدة منهـا ظـروف احليـاة وتطورهـا وتغريهـا ،وتطور
وعيـه الشـخيص ،وتبايـن وعـي اآلخريـن ،وتبايـن مزاجهـم الشـخيص،
ومـن هـذا التناقض بني املسـار الفكري واملـدى الروحي تكون قد نشـأت
أبـرز مشـكالت اإلنسـان النفسـية؛ ألن الفكـر غالب ًا مـا ُ َ
ي ّرف الواقـع بنا ًء
29
وتطورت أساسـ ًا على مقدّ مات
ّ املعـريف ،والتي نمـت
ّ نمـوه
على مراحـل ّ
مغلوطـة ،أو مقدمـات كانـت مالئمـة لنزعـات العقل البشري يف بدايات
تطـور ًا ملحوظ ًا يف اكتشـافاته
تطـور ّ تكوينـه .صحيـح أن العقـل البشري ّ
وسبر غـور الكثير مـن األرسار الكونيـة ،لكـن هـذا التطـور كان على ْ
الروحـي ،فالنقلات النوع ّيـة اهلائلـة ،والتطـورات التي
ّ حسـاب تطـوره
شـهدها العقـل البشري على الصعيـد املـا ّدي ال تتناسـب أبد ًا مـع تطوره
على املسـتوى الروحـي ،هـذا إن مل تكن تتناسـب معـه عكسـي ًا .ألن روح
املؤسسـات
بـت مـن ق َبـل ّ قـت بالكامـل و ُغ ِّي ْ
س ْاإلنسـان باألصـل قـد ُ ِ
التسـ ٌلطية الدينيـة والسياسـية وتوابعهام الفكريـة واأليدلوجية ،فاإلنسـان
متمـرد صعـب التدجني،ّ بصري
ٌ متمـرس
ّ حتـت قيـادة الروح إنسـان صلـد
مضاجع السـلطة. َ يقـض
فهـو أشـبه بالكابوس الـذي ّ
بقـوة عظيمة،عندمـا حييـا اإلنسـان وفـق معـاين روحـه فإنـه سيشـعر ّ
اإلهلي باإلنسـاين ،وسـتكتنفه
َّ قـوة ناجتـة عـن الوعـي بالرابطة التـي تربـط
حالـة من الطمأنينة والسـكون والسلام ،هـذه احلالة من الصعـب جد ًا أن
صفوهـا حـادث ،أو أن َيرقهـا خارق.
تشـوهبا شـائبة ،أو يعكّـر َ
ألنا
نفسـها يف سـجون العقائد واألفـكارّ ،
األرواح العظيمـة ال حتشر َ
تـدرك أن قيمـة احليـاة تكمـن يف شـغف املعرفـة واالكتشـاف والتجربـة
الذاتيـة ،ومن يسـعى ليفهـم حقيقـة اهلل َ
دون ر َغبـات ،أو أفـكار موروثة،
سـيكون قـادر ًا عىل فهـم حقيقة وجوهـر الوجود ،وسـيفهم حقيقة ِ
نفسـه
و تكليفه .
30
الوالدة احلقيقية
يسـتحيل الوصـول إلـى مجتمع جديـد إال إذا حـدث تغيير عميق
فـي الضمير اإلنسـاني ،إال إذا ظهر شـيء جديد يكـرس الناس حياتهم
من أجلـه ويحل محـل ماهو موجـود حالياً.
( إريك فروم)
مكونـة مـن تراكمات األفـكار كل منّـا طبقـة ص ْلـدَ ة قامتـةّ ،يف داخـل ٍّ
تشـوهاته األخالقية ،لذلـك دائ ًام
القلقـة للعقـل البشري ،وأنان ّيتـه ،ومـن ّ
املتنـورون والروحان ّيون مجلـة (لتحيـا حياتَـك احلقيقي َة جيب
ّ مـا يسـتخدم
متـوت َ
قبـل املوت). َ عليـك أن
فام هو املقصود هبذا املوت؟.
رسـخها املجتمـع ،وأنمتـوت فيـك الــ " أنـا" التـي ّ
َ املقصـود هـو أن
االسـتبدادي املـوروث منـذ آالف السـنني ،لتولد من
ّ يمـوت فيـك العقـل
تتحلى بالشـجاعة لكسر هـذه الطبقـة الصلـدة، ّ جديـد ،عليـك أوالً أن
تنثـرِ والتـي ِتقـف حائل ً
ا بينـك وبين النـور ،وبينـك وبين احلقيقـة ،ول َ
أوها َمـك مـع الريح.
مـع أول ومضة نور ستشـعر بـاألمل ..هذا هو َأل االنسلاخ ،أمل دفاع الـ
"أنا" الزائفة عن نفسها ..هذا َأل املخاض الذي سينقلنا من املوت إىل احلياة،
31
الوجودي،
ّ أو إىل جنّتنـا اخلالـدة ،نعم من هنـا تبدأ رحلة الوصـول للمعنى
اإلهلـي بداخلـك ،ومـن هنـا تبـدأ رحلـة اخللـود.
ّ والوصـول للمعنـى
حين متلـك اإلرادة والشـجاعة والصبر الختراق وكرس تلـك الربجمة
سـتتفاجأ ّ
بـأن اهلل هو الذي يبحث عنك ،ولسـت أنت الـذي تبحث عنه..
فـرض املجتمع برجمتَه بواسـطة سياسـة التخويـف والرتهيـب ليتمكّن
مـن اسـتالب فكـر وحريـة وروحانيـة األفـراد ،وبالتـايل اسـتالب غايـة
وجودهـم ،ومل جتـد تلـك السـلطات وسـيلة أفضـل مـن التد ُّيـن ا ُملز َّيـف
وكل ذلـك باسـم وأتـم مـا يكـونّ .
ّ باملهمـة على أكمـل
ّ يسـتطيع القيـام
املقـدّ س.
فلا يوجـد يشء يف الكـون قـادر على ختويـف النـاس مثـل املقـدّ س،
ُبمـج النـاس ،ففـي حين كان مـن املفـروض أن يكـون املقدس، هكـذا ت َ ْ
ووفقـ ًا ملعطيات اخللـق الكوين ،غاية يف اجلمال والرأفة واحلكمـة والرمحة،
النمـو والتكامـل الكوين ،املفـروض أن
ّ وكذلـك ووفقـ ًا ملعطيـات مسيرة
تكـون األديـان سـاعي ًة بجوهرهـا خللاص اإلنسـان مـن معاناتـه ،وأن
لنمـو وتطـور اإلنسـان وارتقائـه ،ولتنميـة طاقاتـه
ّ يكـون الدِّ يـن دافعـ ًا
وقدراتـه ،ال أن يسـعى إىل هـدر طاقاتـه ويعرقـل تطـوره ويصيبه بالشـلل
ره اعتباط ًا إنما اختاره عن
والنكـوص .فمـن اختـار منهـج التخويف مل خيت ْ
درايـة وخ ْبـث ،ألنـه يعلم ويفهـم أن اخلوف هو العامل احلاسـم يف مسـخ
بنيـة اإلنسـان الفكريـة والسـيكولوجية ،وبالتـايل التحكّـم بـه والسـيطرة
عليـه بـكل مرونـة ويسر .ومـن هنـا سـنرى أن اإلنسـان ا ُملرب َمـج يتّصف
بصفـات عديـدة واضطرابات نفسـية يكـون جذرها الرئييس هـو اخلوف، ٍ
فاإلنسـان املربمـج نسـتطيع متييـزه بالعالمـات والصفـات التالية:
32
* تقديس األشخاص واألفكار.
* خاضـع نفسـي ًا وفكري ًا لسـلطات املجتمع (سياسـة -ديـن -إعالم
-موروثـات -عـادات -تقاليد).
والتعصـب األعمـى جتـاه
ّ * غالبـ ًا مـا تتّسـم ردود أفعالـه بالغضـب
اآلخـر املختلـف.
* يـرى ثقافته وثقافـة جمتمعه هي الثقافـة احلقيقيـة والثقافات األخرى
عيـوب ثقافتـه وجمتمعـه ،أو أن
َ ـارب .وال يرىك ّلهـا باطلـة وجيـب أن ُت َ
حقيقـي لتلـك األمـراض ،واألُمـم التـي ال
ّ يكـون قـادر ًا على تشـخيص
متلـك املقدرة على تشـخيص أمراضها ال يمكن هلـا بالطبـع أن تعرف وأن
ِ
َتـد الـدواء املناسـب للخلاص ،ومن هنـا سـنفهم َّ
رس املجتمعـات امل ّيتة
السر الـذي جعلهـا ُأممـ ًا عقيمـة تُـراوح يف مكاهنـا َ
غري َّ رسيريـ ًا ،وسـنفهم
والنمـو واإلبداع.
ّ قادرة على التطـور
َ
اإلنسـان هو االسـتالب الفكـري والتبع ّية، أخطـر مـا يمكن أن يصيب
فهـي تقتـل عنـده روح اإلبـداع واإلجيابيـة ،وتصنـع منـه إ ّمـا آلـة ٍ
قتـل أو
ٍ
عثـرة لنفسـه ولآلخرين. حجـر
َ
* غالبـا مـا تتسـم ردود أفعالـه بالغضـب والتعصـب األعمـى جتـاه
األخـر املختلـف.
* يـرى ثقافته وثقافـة جمتمعه هي الثقافـة احلقيقيـة والثقافات األخرى
كلهـا باطلـة وجيـب أن ُتـارب .وال يـرى عيـوب ثقافتـه وجمتمعـه أو أن
يكـون قـادر ًا على تشـخيص حقيقـي لتلـك األمـراض ،واألُمـم التـي ال
متلـك املقـدرة على تشـخيص أمراضها ال يمكن هلـا بالطبـع أن تعرف وان
جتـد الـدواء املناسـب للخلاص ،ومن هنـا سـنفهم رس املجتمعـات امليتة
33
رسيريـ ًا ،وسـنفهم السر الـذي جعلهـا ُأمـم عقيمـة تـراوح يف مكاهنا غري
قـادرة على التطـور والنمـو واإلبداع.
أخطـر مـا يمكن أن يصيب اإلنسـان هو االسـتالب الفكـري والتبعية،
فهـي تقتـل عنـده روح اإلبـداع واإلجيابيـة ،وتصنـع منـه إمـا آلـة قتـل أو
حجرعثـرة لنفسـه ولألخرين.
طاقة التمرد
لقـد أصبـح واضحـاً االٓن إن البشـرية قـد وقعت في الفـخ الذي ال
تعـرف بعـد كيف اخلـروج منـه ،لقـد وقعنا فـي فـخ الطريقـة اخلاصة
بنـا مـن التفكيـر ،وبالطبـع فـي فـخ الطريقـة املقابلة مـن حياتنـا ،وقد
قـام عقلنـا الـذي مناهي أنفسـنا معه بتشـييد جـدران تلـك األحبولة
دام أن عقلـك هو الذيأو املصيـدة فكيـف اخلروج مـن هذا الفخ مـا َ
ميثـل تلـك املصيدة.
( جيكارينتسيف)
34
موجهـة ضـدّ
متـرد عاليـةّ ،
متمـرد وطاقـة ُّ
ّ داخـل ّ
كل منّـا هنـاك إنسـان
املجتمـع ،لكـ ْن تتبايـن أوضـاع ومسـارات هذه الطاقة بحسـب مسـتوى
كل شـخص. وعـي ّ
املتمردة:
ّ نستطيع هنا أن نميز أربع مسارات للطاقة
موجهـة للجريمة بكل متـرد تكون ّ
* املسـتوى األول :عبـارة عـن طاقة ّ
أشـكاهلا :تعاطي املخـدّ رات ،تعاطي الكحـول ،جنس ،وهي طاقـة انتقا ٍم
من املجتمع.
موجهة للحـزن والعزلة واالكتئابمترد ّ* املسـتوى الثـاين :هناك طاقة ّ
والشـعور بالضيـاع وفقدان األمـل والتامهي مع فكـرة ّ
أن احليـاة عبثية وما
هـي إال عبارة عن جحيـم ال ُيطاق.
* املسـتوى الثالـث :طاقـة مكبوتـة يضطـر فيهـا الشـخص ملجـاراة
املجتمـع واالستسلام لربجمتـه والدفـاع عنها ،مـن أجل حتقيـق أحالمه يف
املـال واجلـاه والسـلطة ،وتظهـر هـذه الطاقـة يف هذا املسـتوى عىل شـكل
توتّـر دائـم واسـتهتار واضـح بـكل القيم اإلنسـانية.
موجهة إلعـادة اكتشـاف الذات، * املسـتوى الرابـع :هـو طاقـة متـرد ّ
واسـتعادة الكينونـة واسـتقالل الوجـدان ،والسـعي إلصلاح الـذات
والتحلي بالقيـم الروحية ،وهو املسـتوى ا ُمل َّ
عـول عليه ّ أخالقيـ ًا ومعرف ّيـ ًا،
احلـر اجلديـد ،واملفارقـة أن هـذا املسـتوى هـو األكثـر
يف خلـق اإلنسـان ّ
حماربـة واألكثـر حتجيم ًا مـن ِقبـل املجتمـع ،ومنـذ بدايـة رحلـة اإلنسـان
األرضيـة إىل حـدِّ اللحظـة الراهنـة.
رؤى جديـدة وقيـم
املتمـرد ،وحـدَ ه القـادر على ابتـداع ً
ّ إن اإلنسـان
ِ
جديـدة وجتـارب جديـدة ،جتـارب غالب ًا مـا كانت هـي من ُتـدث الطفرة
35
يف جينات املسـار الكـوين ،وحدَ ه القـادر عىل االنفصال عـن واقع املجتمع
وبرجم ّياتـه وتوتّـره وقيمـه وعاداته.
للمختلفين والتائهين عـن قيـود نفهـم الـدور العظيـم ُ
َ هنـا علينـا أن
والسـمو بالكائـن
ّ والتطـور
ّ الربجميـات املجتمعيـة ،السـاعني للتغيير
البشري ،وعلينـا أن نشـعر باالمتنـان لتلـك األذهـان البرشيـة املسـتنرية
طفـرات جين ّيـ ًة يف الوعي البشري ،وحافظـت عىل اجلنسٍ التـي أحدثـت
البشري مـن االنقـراض.
ّ
جتاربك اجلديدة هي القادرة عىل تفكيك برجمتك القديمة..
التجارب هي النسامت التي تُنعش الروح.
قبـل كيـف يصمـت عقلـك ك ّلما ْ
مـررت بتجربـة هـل الحظـت مـن ُ
جديـدة؟!
36
غيّر طريقة تفكيرك تتغيّر حياتك..
ّ
كل الظـروف مؤ ّقتـة ،لـن يبقـى شـيء ثابتـاً ،ال يوجـد شـيء
أي اّتجـاه هـو متو ّقـف عليـك أنـت.
يتغيـر وفـي ّ
مسـتقر ،وكل مـا ّ
ّ
( نيـل دونالـد وولـش )
37
يقول تشارلز داروين:
ليـس البقاء لألقوى ،وال حتـى األكثر ذكاء ،ولكن البقاء لألسـرع
استجابة للتغيير.
إن رسعـة االسـتجابة للتغيير تتع ّلـق بمـدى قدرتنـا على القبـول
والتسـليم لـه ،وعـدم مقاومتـه ،كـون هـذه التغيرات هـي سـمة كون ّيـة
وجوهريـة يف أصـل الوجـود.
والتخل والقبول والتسـليم ستفسـح املجال لروحك ّ يف حالـة التواضع
يت لتوجيهـك وإرشـادكٌّ ،
فكل منا يملـك آلي ًة وقـدرة ذاتية أو وعيـك الـذا ّ
دقيقـة ومع ّقـدة وفاعلة على اإلدراك والتغيير والفهم(( ،وخلقنا اإلنسـان
يف أحسـن تقويـم )) .وهـل هنـاك أقـوم من هـذه النعمـة العظيمـة ،نعمة
ٌّ
مسـتقل الـروح أو طاقـة الوعي الـذايت ،وكام يصفـه هاوكينز« :هو صامت
حـر وغري ُمق َّيـد وتلقائـي وهادئوعفـوي مسـامل وشـامل غري مربمـج إنه ّ
ّ
وليـس خاضع ًا للـوالدة أو املوت».
مـا علينـا أن نُدركـه بداية أن هـذه الرحلة نحـو التغيري ليسـت رحلة أو
ٍ
سـياق شـمو ّيل مـن اإلدراك إىل ذات
مغامـرة فكريـة عابرة ،بـل هي رحلة ُ
التجسـد ،هـي عمليـة حتقيـق للـذات وللكينونـة وللمعرفـة الواعيـة ،هي ّ
رحلـة إلعـادة اكتشـاف معـامل الوجـود ،وإلدراك غايـة الوجـود ،ولفهم
األهم،
ّ الـدور البشري فيـه ،وفقـ ًا واسـتناد ًا للمبـدأ وللجـذر الوجـودي
وهـو أن ال يشء يف الوجـود موجـود اعتباطـ ًا بـل إن لـكل موجـود دور ًا
يقـوم بـه يف مسيرة التكامـل الكوين.
املحـوري الذي بـات جذر ًا
ّ رحلـة التغيير هـي رحلـة لتخ ّطـي اخللـل
لـكل معانـاة البشر ،وهـو سـلبيتهم وضياعهـم ،هـي رحلـة السـتعادة
38
لكلالتـوازن الداخلي ،وإلعادة األمـور إىل نظامهـا الطبيعي ،أي السماح ّ
جـزء مـن أجزائنـا للقيـام بمهامه التي وجـد من أجلهـا ،فنحن لسـنا فكر ًا
كل من أجـزاء عدّ ة :فكرجمـرد ًا أو روحـ ًا جمردة أو جسـد ًا جمرد ًا ،بـل نحن ٌّ
ّ
كل لـه مهامـه ،وكل وجسـد وروح ونفـس وعقـل وحـواس وعواطـفٌّ ،
لـه دوره .عـودة األمـور إىل نصاهبـا الطبيعـي تعنـي التناغم مـع الطبيعة يف
املتغيرات والتناغم
ّ رسياهنا وتسـليمها ،ويف ذكائهـا املذهل يف التعاطي مع
كل وضـ ٍع جديد. بـكل بدهييـة واسترخاء مـع كل متغري ومـع ّّ
علينـا أن نُـدرك بأن أغلـب رصاعاتنا الداخلية سـببها التشـ ّبث بفكرة،
ولكـي نتخ ّلـص من هـذا الصراع علينا أن نفهـم بأننا لسـنا العقل ولسـنا
آليات مسـاعدة للفهـم واإلدراك.ٌ الفكرة ولسـنا املشـاعر ،إنما هي
نفسـك نبتـ ًة واألفـكار عبارة عن سـحاب ّ
يمـر ،فالفكـرة املثمرة خت ّي ْـل َ
تشـبه السـحابة ،فهـي حتمل الغيـث الذي حتتاجـه النبتة لتُزهـر ،هي تعطي
غيثهـا وتذهـب .والنبتة مراقبـة بحيادية وسـكون وامتنان..
ومثلام ستزهر النبتة ،سنزهر نحن بوعينا احلقيقي.
فعندمـا يرتفـع مسـتوى وعينـا وتُزهـر نفوسـنا سـنجد أن حياتنـا قـد
بـدأت بإعـادة تشـكيل نفسـها لكـي تنسـجم مـع مسـتوى طاقاتنـا ومـع
وسـتتغي كذلـك نظرتنـا لألمـور واألحـداث من
ّ جـودة نوايانـا ونقائهـا،
نظـرة سـطحية إىل نظـرة عميقـة واعيـة ومثمـرة ،نظـرة ثاقبـة قـادرة على
إعانتنـا يف جتـاوز املواقـف الصعبـة واألزمـات ،و ُمتمكّنـة مـن مسـاعدتنا
يف التغ ّلـب على رصاعاتنـا الداخلية ،يف هذا املسـتوى من الوعي سـنتفاجأ
بـأن أغلب األحداث السـلبية قـد اختفت تدرجييـ ًا من حياتنـا ،فنحن اآلن
ث أو شـخص بام يسـتح ّقه، أصبحنـا قادريـن ومهيئني للتعامل مع كل حدَ ٍ
ّ
39
ألننـا قـد خت ّل ْصنا من الكسـل واألحـكام املسـبقة ،ومن القلـق واملقاومة.
حينما يرتفـع مسـتوى وعينـا سـنجد أننـا قـد تنازلنـا عـن االسـتمرار
تغيرت
يف بعـض العالقـات ،وسـنجد أن تعامالتنـا مـع اآلخريـن قـد ّ
أكثـر نضج ًا ومنفعة ومتعة ،وسـنجد أن الكثري ممّـا كان يزعجناوأصبحـت َ
قـد أصبح مفهوم ًا ومقـدّ ر ًا من ناحيتنـا ،وأصبحنا أكثر قدرة عىل السـيطرة
على أفكارنـا وعقولنـا وفهـم الكيف ّيـة التـي تعمل هبا.
40
العقل
-ماهي بُغيتك أيها الغريب؟..
أتوسل إليك أن تُ ِح َّل السكينة فيه.
-إني أفقد السـكينة في عقليّ ،
-أرني عقلك ألجلب إليه السكينة.
-ولكني عندما أبحث عن عقلي ال أجده!..
-إذاً فقد جلبت السكينة إلى عقلك.
(ادبيات الزن)
41
املؤسسـات السياسـية والدينيـة والثقافية املسـتبدّ ة والطامعة.
لثقافة وبرجمة ّ
أزمـة العقـل يف الوجـود أنـه غالب ًا مـا كان إ ّمـا متسـ ّلط ًا مسـتبدّ ًا ،وإ ّما
ماكـر ًا خادعـ ًا ،أو خانعـ ًا خاضعـ ًا عاطالً.
النـص الديني فـإن اخلالق نفخ يف اإلنسـان من روحه ق َبسـ ًا من
ّ حسـب
نـور ،تكليفـ ًا ومتكين ًا لـه خلالفـة األرض ،وإلعامرها ،ولينتقل بـه من طور
ال فطر ّيـ ًا ومكتم ً
ال إنسـان (مل يكـن شـيئ ًا مذكور ًا) لطـور برش ،يكـون ّ
مؤه ً
ملهمة إعامر األرض ،ولبسـط السلام واملحبـة واحلرية واجلامل. بايولوج ّيـ ًا ّ
هيمنـة العقـل ،أو النفـس األ ّمارة
تتلخـص يف َ ِمنـة الوجـود البشري ّ
ٍ
عقـول وبمكْـر ودهـاء وخبـث وطغيـان على بالسـوء ،بقـوة غاشـمة َ
ونفـوس خاضعـة تابعـة سـاذجة كسـولة مستسـلمة.
هـذه العقـول األخيرة كانت ،وعىل مـدار التاريـخ ،هي بيضـة الق ّبان
املتكبرة ،تلك
ّ التـي رجحت على الـدوام سـوا َد وهيمنة العقـول اجل ّبـارة
أغلـب فترات التاريخ ملحنة وتعاسـة وفقـر وجهل
َ حولـت
العقـول التـي ّ
واسـتغالل وحـروب كارثية.
حماولـة العيـش وفق األجنـدة العقلية تعنـي معيشـة ما ّدية متأ ّثـرة غالب ًا
بأمـراض مزمنـة (معانـاة ،تعلـق ،خـوف ،جشـع ،قلـق) ،وحماولـة احليـاة
يف حالـة الوعـي تعنـي حيـاة روحيـة ناضجـة ومثمـرة وفـق القيـم اإلهل ّية
(حكمـة ،حمبـة ،سلام ،ثقـة ،لطافـة ،متعة).
فالعقل هو وسيلة للعيش ،والوعي هو غاية للحياة.
42
مـن هـذه املقدمـة نسـتطيع أن نقسـم العقـل البشري لثالثـة أشـكال
رئيسـية هـي :
-العقل الروحي
ذكـي ُمتفائـل ُمطمئـ ٌّن ُمتفاعـل مـع الـروح ،وقـادر على
ّ وهـو عقـل
اسـتيعاب وحتليـل كل مكنوناهتـا الفطريـة ،كاحلدس والبصيرة ،وترمجتها
إىل أفـكار وأفعـال إنسـانية خالصـة.
ويتجسـد هـذا العقل بصورة خاصـة عند األنبياء واحلكماء واملصلحني ّ
والعلماء واملفكّريـن وفئة قليلـة غريبة متناثـرة األطراف تارخييـ ًا وجغرافي ًا
ُوحدهـا الفضيلـة جيمعهـا االنتماء الكـوين ،ويأرسهـا مجـال احليـاة ،وت ّ
اإلنسانية.
-العقل املتجرب
هـو أيضـ ًا عقل ذكي ،لكنـه أ َّم ٌار بالسـوء متسـ ّلط يمتلك دهـا ًء وخبث ًا،
لذلـك يكـون ُمتمـرد ًا على مكنونـات الـروح خاضعـ ًا لشـهوة الــ "أنـا"
خاصة عنـد جبابرة وبتجسـد هذا العقـل بصورة ّ ّ التفوق،
واحلسـد وحـب ّ
السلاطني و ُعتـاة املجرمين ،لصوص السـلطة واملـال والعقيدة.
-العقل التابع
كل عمليـة مراجعـة وتدوير متخـل طوع ّيـ ًا عـن ّ
ٍّ وهـو عقـل ُمتخ ّلـف
الروحي والوجـداين ،وعن
ّ لربجم ّياتـه وألفـكاره ،وعـن االتصـال بداخلـه
ٍ
ال على أفـكار غيره ،وخاضعـ ًا إلطـارات فكريـة إبداعـي ُمتَّـك ً ٍ
فعـل كل
ّ
م َعـدَّ ة سـلف ًا مـن أصحـاب العقل املتجبر .وهذه الفئـة هي األكثـر خطر ًا،
كوهنـا أدا ًة من ّفـذة ألهـواء ومقاصـد أصحـاب العقـول اجل ّبـارة والسـبيل
الـذي ُيمكّـن هـؤالء مـن بلـوغ أهدافهـم ونواياهم.
43
جيـب أن نُـدرك بأننـا ُمنِحنـا الـروح لنحيا ،و ُمنحنـا العواطـف لنعرف
كيـف نحيـا ،وأن نـدرك أننا ُمنحنا اجلسـد لنعيـش ،و ُمنحنـا العقل لنعرف
كيـف نعيش.
جيـب ان نُـدرك بأننـا ُمنحنـا الروح لنحيـا ،و ُمنحنـا العواطـف لنعرف
كيـف نحيـا ،وأن نـدرك اننا ُمنحنا اجلسـد لنعيـش ،و ُمنحنا العقـل لنعرف
كيـف نعيش.
44
مقاييس الشخصية المثالية في العقل الجمعي
َأ ْعطِني صفات الشخصية املثالية للمجتمع ُأعطِ َك الطبيعة األخالقية له.
يف كل جمتمـع مـن املجتمعـات اإلنسـانية هنـاك نمـوذج للشـخصية،
تكـون مسـتوطنة يف العقـل اجلمعي للمجتمـع ،وتكون هي األكثـر تقدير ًا
واحرتامـ ًا مـن قبـل املجتمـع ،وتصبح مثاالً أعلى حيتذى بـه ،وألجل ذلك
تتمح َور
ْ املعبة عـن واقع هذا املجتمـع ،واملحور الـذي
فهـي تُعتبر اهلو ّية ّ
حولـه أجنـدات الثقافـة والفاعليـة التارخييـة واحلضارية .من هنا نسـتطيع
أن نعتبر أن مـن أهـم أمـراض جمتمعاتنـا املزمنـة هـي حتديـده لصفـات
ومالمح الشـخصية ،أو" السـوبر شـخصية" ،التي حتظـى باحرتامه ،وعىل
نطاقـه األوسـع ،وأحيانـ ًا حتـى تقديسـه وإجاللـه إذا مـا بـرع وأبـدع يف
َت َل ُّبـس هـذه الصفات.
ومن أهم صفات هذه الشخصية:
التكب والغرور.
ّ أوالً:
ثاني ًا :الرباعة يف ارتداء األقنعة.
الفكري والذهني.
ّ ثالث ًا :الت َقوقع
يض مـع ّ
كل اخلطـوط العامـة للثقافـة املجتمعيـة رابعـ ًا :التامهـي َ
املـر ّ
املوروثـة مـن عـادات وأفـكار وتقاليـد.
خامسـ ًا :القـدرة الفائقـة على الكـذب واملجاملـة واخلـداع ،حتـى
املكشـوف منهـا.
بغض النظر عن مصادر هذا الغنى. سادس ًاِ :
الغنى املا ّدي ّ
سابع ًا :اجلدّ ّية ا ُملفرطة ،مع فواصل إعالنية من التواضع والبساطة.
45
ثامن ًا :القسوة املفرطة ّ
بحجة الدفاع عن الوجود واهلوية.
عندمـا تكـون هـذه هـي الصفـات ا ُملثلى للمجتمـع سـنفهم إذ ًا مل َ هذه
املجتمعـات بـكل هـذا الرتاخـي املعـريف وبكل هـذه السـلبية السـائدة!..
فالطريقـة التـي نعيـش فيهـا حياتنـا هـي التـي حتـدّ د مـا سـنحصل عليـه
ومـا حيـدث لنـا؛ حسـب هـذا القانـون الكـوين الدقيـق نسـتطيع أن نفهم
الصعد ،يف وتتفـرع يف جمتمعاتنـا ،وعلى كل ُ
ّ أن هـذه السـلبية التـي تسـود
عالقاتنـا وتعامالتنـا ويف أفكارنـا وتفامهاتنـا وثقافتنا ،بـل حتى يف جماالت
الكـم اهلائـل مـن ّ الفـ ّن واحلضـارة واألدب ،وسـنُدرك أسـباب هـذا
الكراهيـة والنفـاق واحلسـد واملنافسـة ،وكل هذا احلقد واحلـزن والغضب
والضيـاع ،وكل هذه السـوداوية والتشـاؤمية ،وكل هذا الفسـاد األخالقي
َـم اهلائـل مـن السـلبية ما هوواملـايل واإلداري والفكـري ،فـكُل هـذا الك ّ
إال كغاممـة سـوداء متنـع َ ُ
وت ُ
ـول بيننا وبين النعمة والربكـة اإلهل ّيـة ،وبيننا
وبين النماء والرخـاء واإلبـداع اإلنسـاين ،واجلامل ِّ
والشـفاء.
أمخاس
َ جلأت فيها إليك ،حم ّطم ًا ومنكرس ًا ،أرضب
تلـك اللحظـة التي ُ
وقلـت يل:
َ ـت على كتفـي الطريـقَ ،ف َر ّب َّ
َ َ
وسـألتك احليرة بأسـداس األمل،
امسح ضباب احلرية بأصابع قلبك لِرتاين هال ًة من النور والسكينة...
ْ
هل قلتها للجميع ؟!
46
اآلن هو أفضل وقت للتغيري.
إذا أبقيــت انتباهــك عــى اجلســد بقــدر مــا يمكنــك ،فإنــك ســوف
تثبــت يف ( اآلن) ،ســوف لــن ختــر نفســك يف العــامل اخلارجــي ،ولــن
ختــر نفســك يف عقلــك .
األفـكار ،والعواطـف ،اخلـوف والرغبـات ،قـد تظـل هنـاك ملـدى
أطـول ،ولكنهـا سـوف لـن تتغلـب عليـك .
(إيكهارت تول)
47
واحللـول يف داخلـك ،يف إرادتك وتصميمك ،لذلك عليـك اآلن أن تبدأ،
وأن تتخ ّلـص مـن قيـود الكسـل ،وأن تقطـع حبـل االنتظـار..
وتـدرك جوهـرك هنـاك سـتجد مسـاحة مـن ُ عندمـا تصـل ألعامقـك
فهمـك وإدراكك (أجيـو -أفكار وم ّـررة مـن كل مـا ُيعيـق َالفـراغ خاليـة ُ
داخليـة أو خارجيـة -كلامت -تع ّلـق -برجميات -رغبـات وغايات) ،يف
تتحرر من كل املعلوم ،كي تفسـح املجال لألشـياء رحلـة الوعـي عليك أن ّ
يتجلى،عندما يكـون التفكري صامتـ ًا ،ختتفي ّ اجلديـدة والوعـي اجلديـد أن
املخـاوف وختتفـي ا ُملقارنـات وختتفـي االنقسـامات الداخليـة ،ويبقـى يف
الداخـل الفـراغ النقـي ،وهـو يف حقيقته ليس بمعنـى الفراغ الـذي نعرفه،
لـق واإلبـداع ،يفـم الـذي منـه ُيو َلد اخلَ ُ بـل هـو الفراغ الـذي يمثـل ِ
الرح َ
َّ ُ
هـذا الفـراغ ا ُملطلـق تنطلـق رحلتنا ..رحلـة الوعي واالسـتنارة.
لـو تأ ّملنـا يف خمتلـف األفعـال واألوضاع التـي ُتكّن اإلنسـان من ّ
فك
ارتباطـه بربجمـة املجتمـع ،وتغيير سـيناريوهاته املفروضة وبالتـايل امتالك
التحـرر مـن بندوالتـه ،لوجدنـا أن اسـتعادة امتلاك اللحظة ّ القـدرة على
اآلن ّيـة هـي ا ُملرتكَـز األسـايس لكل ذلـك .ألنك فقـط من خالهلا تسـتطيع
أن تسـتعيد حريتـك وتالمـس وجـودك ،وتقـرأ وجدانـك ،مـن دون أي
تأثيرات خارجيـة ،ومـن خالهلـا تسـتطيع أن تُبصر رسيرتـك بوضـوح
تـا ّم ،لتسـتعيدَ براءتـك وطبيعتـك الكونيـة ،تلـك الطبيعـة التـي صنعهـا
التسـليم التـا ّم ل ّلحظة اآلنيـة وتتق ّبل
َ وأبدعهـا العقل الكـوين .عندما تعلن
أوضا َعـك احلاليـة ،تُصبـح أكثـر قدرة على التمييـز ،ويصبح التغيير أكثر
سالسـة ،وتتد ّفـق إليـك العنايـة الكونيـة بانسـياب ّية ويرس.
48
التحرر
ّ عندمـا تكـون سـاكن ًا مطمئنّـ ًا يف عمـق ال ّلحظة اآلنيـة تسـتطيع
مـن أثقال املـايض وأوهام املسـتقبل ،والتحرر من سـلطة الفكـر واملفاهيم
اجلاهـزةِ ،
لتصـل حلالـة اهلـدوء والسلام ،والمتالك زمـام الذهـن، فطاقة
التفكير باللحظـة املاضيـة واللحظـة القادمـة ،هـي طاقة مرسوقـة من متام
اللحظـة اآلنيـة ،أي إهنـا طاقـة مرسوقـة مـن فيـض اخلبرة ومـن اإليمان
با ملستقبل .
هنـا فقـط يف حالـة السلام الداخلي سـيحدث اإلدراك احلقيقـي،
فالتحـول الداخلي والتغيير حيـدث عندمـا ُيدرك ّ وتُزهـر مشـاعر الفهـم،
الفـرد ويفهـم بنية املجتمع وأسـاليبه واشتراطاته ،هـذا اإلدراك وبرشوطه
احلقيقيـة (االنتبـاه -عـدم إطلاق األحـكام والتعريفـات -التسـامح -
يت ،هنـا علينـا أن نركّز ِ
القبـول -احلياديـة) هـو مـن َسـ ُيحدث التغيير الذا ّ
جيـد ًا يف آليـة اإلدراك هـذه ،نظـر ًا ألمه ّيتهـا القصـوى يف التغيير وأمه ّيتها
فك التع ّلق باألشـخاص واألشـياء ،ويف التحرر يف كل نواحـي حياتنـا ،يف ّ
مـن عاداتنـا السـلبية ومعاناتنـا وجهلنـا وعبود ّيتنـا ،وألجـل الدخـول يف
التحـول علينـا أن نركّز انتباهنـا عىل عدد
ّ عمليـة التغيير واسـتمرارية فعل
مـن األُسـس اجلوهريـة ذات األمهيـة القصوى.
49
القبول
بداية املعاناة ..هو رفض رؤية الواقع كما هو ؛
تقبل الواقع كما هو ،ثم انطلق نحو التغيير ،
القبول الكامل اول الطريق.
( ديباك شوبرا)
ما تتق ّبله ستواجهه ،وما تواجهه ستفهمه ،وما تفهمه لن يؤذيك..
رس األرسار..
القبول ّ
وبغـض
ّ أوالً؛ علينـا أن نتق ّبـل ،وأن نتصالـح مـع وضعنـا احلـايل،
مهم جـد ًا ألجل حالة السـكينة النظـر عـن واقعنـا وظروفنا ،هـذا القبـول ٌّ
ومهـم جد ًا لعمليـة الرتكيـز واالنتباه ،والتي سـنحتاج
ّ واهلـدوء الداخلي،
ـس العميـق إليهـا دائم ًا يف رحلتنـا نحـو التغيير والوعـي ،هـو يشـبه الن َف َ
واالسترخاء الذهنـي التـا ّم الـذي حيتاجـه العـدّ اؤون الرياضيـون ُق َبيـل
انطلاق املنافسـات.
ٌ
خلـط واضـح وكبري يف موضـوع القبـول؛ فهناك مـن يفهمه عىل هنـاك
كسـل
أنـه استسلام ورضـوخ لألمـر الواقـع ،وهنـاك مـن يفهمه عىل أنه َ
تكاسـل أو راحة سـلبية.
أو ُ
نتطور
بدايـة؛ علينـا أن نفهـم بأننـا موجودون هنا ألجـل أن نفهـم وأن ّ
حريتنـا واختياراتنـا ،وألجل عيشـنا ا ُملبـدع الكريم، وأن نُحـارب ألجـل ّ
ال أن نستسـلم للجهـل واملهانـة والقيـود والربجميـات املجتمعيـة ،علينا أن
نفهـم ونؤمـن بقيمة أنفسـنا ونُقـدّ ر ذواتنـا ونحترم ُقدراتنا ونشـكر ن َع َمنا
اإلهل ّيـة ،وال نكفـر هبـا بإغفاهلا وإمهاهلـا وجحودها.
50
مـن هـذا املبدأ األسـاس سـنفهم أن القبـول ال يعني االستسلام ،وال
والنمو
ّ يعنـي ك ْب َت طاقاتنـا وحريتنا بل هو نقطـة انطالق ُمثىل نحـو التغيري
والتطـور ،ملـا ُي ّيئه لنا القبول من مسـاحة واسـعة وكافية للسلام لنفوسـنا
ّ
وأفكارنـا ،وحالـة مـن الراحـة والسـكينة ملشـاعرنا ،كـي تتح ّفـز بالتـايل
النقي ،ومعرفـة وإدراك إذا مـا كان احلدث أو الشـخص أو ّ طاقـة الوعـي
املوقـف قابل للتغيير أم ال.
القبـول هـو مـن هي ّيـئ لنا مسـاحة مـن السلام واهلـدوء والقـدرة عىل
رؤيـة األمـور بشـكل أوضـح دون توتّـر أو فـوىض فكر ّية ومشـاعرية.
القبـول يعنـي أن نتق ّبل واقعنا ،لكن دون رضـوخٍ ،وأن نتقبل كل ما ال
يمكننـا تغييره ،القبول يعنـي أن نتق ّبل ما حدث ألجل تغيري ما سـيحدث.
بشـخص مـا ،سـواء بطريقـة مفروضة ٍ لنفترض مثل ً
ا أين على عالقـة
ٍ
ومؤذ سـلبي جـدّ ًا أو اختياريـة ،لكـن هـذا الشـخص اتّضـح أنه شـخص
ّ
أدفع
ودائـم التجـاوز على حريتـي وعلى أفـكاري ،فهل مـن املعقـول أن َ
حيـايت وسلامتي النفسـية ومعنى وجـودي ثمنـ ًا هلذا القبـول ؟!.
أسـتمر يف الرتديـد "إن هذا هـو قـدري ،أو إهنا
ّ وهـل مـن املعقـول أن
ّ
احلـظ ،أو مشـيئة اهلل" أو غريهـا مـن املخـدّ رات واألعذار؟!. مشـيئة
ألي يشء
علينـا أن نفهـم أن هـذا استسلا ٌم وخسـارة كبيرة ال يمكـن ّ
تعويضهـا ،فنحـن وحدَ نـا مـن ندفـع الثمن.
نتهـرب مـن واقعنـا ،بـل هـو مواجهة الواقـع بوعيالقبـول يعنـي ّأل ّ
وإدراك وثقـة ،ألجـل االنطلاق يف رحلـة التغيير ،ووفقـ ًا لقدراتنـا
اإلهلي
ّ وإمكانياتنـا الذاتيـة ،والتـي هي بال حـدود ووفق ًا لإليمان بالتوفيق
الكـوين الالحمـدود.
ّ والدعـم
51
الرضـا و القبـول ال يعنـي أن هتـوي بأرشعتـك وقـت العاصفـة .هـو
حالـة اهلـدوء والسـكينة التـي سـتلهمك االجتـاه الصحيـح.
مهيـة الرضـا والقبـول يف أنـه غالبـ ًا مـا هي ّيـئ أرض ّيـة ومسـاحة
تظهـر أ ّ
الذهنـي ،وبالطبـع إن
ّ واسـعة ومناسـبة حلالـة السلام النفسي والتفتـح
حالـة السلام الداخلي هـي البيئـة املثالية ملامرسـة أجهـزة اجلسـم ا ُملختلفة
ـم السلام الداخيل أرجاء لوظائفهـا بصـورة طبيعيـة ومتناسـقة .فعندما َي ُع ّ
اجلسـد سـيحدث التناغم واالنسـجام بين اجلسـد والعقل والـروح بدون
وجـود رصاعـات داخليـة وسـوء فهـم داخلي ،وبالتـايل الوصـول حلالـة
الذهنـي دون ضغـوط داخليـة أو خارجيـة ،فاسـح ًا الطريـق ّ مـن الصفـاء
لتفتّـح أزهـار الوعـي واخليال واإلبـداع والطمـوح .أي بمعنـى أن القبول
ال يتقاطـع بحـال مـن األحـوال مـع اخليـال والطموح.
قد يبدو ظاهري ًا أن األمر متناقض ،فكيف أستطيع تق ُّب َل ذايت احلالية ،ويف
للميض يف رحلة التغيري والنمـو والنضج الروحي؟.. ّ الوقت نفسـه أسـعى
التمرد
أسـاس جوهـري يف رحلـة ّ ٌ علينـا أوالً أن نُؤمـن بـأن التناقـض
عين
ملسـتوى ُم َّ
ً والتغيير؛ فأفـكاري و َثوابِتـي يف األمـس كانـت نتيجـة
وسـتتغي هـذه الثوابت
ّ بمسـتوى خمتلـف،
ً مـن الوعـي ،وسـتكون اليـوم
وصلـت إليها يف هـذه اللحظة.
ُ واألفـكار غـد ًا ،تبعـ ًا لدرجة الوعـي التي
فهـذه هـي الديناميـة الكونيـة الطبيعيـة للتغيير ،وعلى اجلانـب اآلخر
سـتتوضح لنا آل ّيـة القبول
ّ إذا مـا تت ّبعنـا األثـر السـلبي للرفـض واملقاومة،
وأمه ّيتهـا بصورة أكثر وضوح ًا .فأكثر العلل واملشـاكل النفسـية واجلسـدية
التعصب -اخلوف -القلـق) .فمعنى ّ سـببها الرفض واملامنعـة (الكَبـت -
أن نرفـض هـو أن نسـمح للفكـرة بالنضـوج والتغلغـل يف العقـل الباطـن
(اللا واعـي) فعندمـا أرفـض كـوين على خطـأ فـإن "األجيـو" يسـتثمر
52
حـق ،وجيب
وألعيبـه ليز ّيـن يل وجهة نظـري بأين عىل ّ كل آل ّياتـه َ
وحيشـد ّ
دوامة
علي التشـ ّبث برأيـي لرييض غـرور الــ "أنـا" ،ل ُيدخلنـي بالتـايل يف ّ
ّ
التعصـب الفكري.
ّ و َمهلكـة
ويف حالـة املـرض واألمل فـإن عامـل الرفض يسـتدعي التوتّـر واخلوف
والقلـق ،وهـذا بـدوره سـيقوم بإيصـال رسـالة ذعـر ّ
لـكل خاليـا الدفاع
يت لتنتفـض هـذه اخلاليـا وتعمـل على محايـة نفسـها ،تاركـ ًة اجلسـدَ
الـذا ّ
فريسـة سـهلة للمـرض واألمل.
عندمـا نقـول :علينـا أن نتق ّبـل حزننـا وأ َملنـا وغضبنـا ،هـذا يعنـي أن
احلـق يف التواجد ،ومسـاح ًة مـن احلضور الطبيعي للسـبب وللغاية نعط َيـه ّ
ونتغير ،ال أن نرتد َيـه دائم ًا
ّ التـي وجـد مـن أجلهـا ،أن نفهـم حكمتـه
ونتلـذذ بـه ونعلنـه للملأ حتـى نسـتجدي تعا ُطـف اآلخرين، ّ ونتكاسـل
ولنخسر بالتـايل مـا تب ّقـى لنـا مـن قوتنـا وطاقتنـا وتوازننا.
هنـاك تشـاب ٌه كبير مـا بين كـرة القـدم وحيـاة اإلنسـان؛ فاإلنسـان،
يتعـرضّ ومهما كانـت درجـة قوتـه مـن حيـث وعيـه وثقافتـه ومرونتـه،
ٍ
ألسـباب يصعـب معرفتهـا واليقين هبـا بسـبب تأ ّثـره أحيانـ ًا للهزيمـة
بتعقيـدات يصعب اإلملـام هبا ،وبقوانين كثرية وبسـبب خضوعه لظروفٍ
هزائمه دائم ًا ،وكام
َ حصر هلا ،لذلك على اإلنسـان أن يتقبل
َ ومؤ ّثـرات ال
يقولـون "بـروح رياضيـة" ،فيسـعى دائم ًا لتربيرهـا بوعي وفهمهـا برتكيز
هـادئ وواضـح ،وألجـل حماولـة فهم كيف تسير احليـاة يف عـامل الرياضة
يقولـون :عليـك أن تتق ّبـل اخلسـارة بـروح رياضيـة ،ألنـك عندمـا تتقبل
الواقـع سـتهدأ وتفهـم ،وبالتـايل تتجاوز ما يبدو خسـارة .وإن كـرة القدم
هـي ،كما احلياة ،رحلة متأرجحـة بني الفوز واخلسـارة ،والفريق األفضل
علمـي من خلال معرفة األسـباب ّ هـو مـن يسـتفيد من اخلسـارة بشـكل
53
تعصـب ودون هـروب ودون الشروع يف ودراسـتها هبـدوء ورو ّيـة ،دون ّ
احلـي املثابـر ،وهكـذا ينبغي أن
ّ إلقـاء الت َُّهـم جزافـ ًا .هكـذا يكـون الفريق
احلـي املثابـر وال َّطموح.
ّ يكـون اإلنسـان
رس السلام والسـكون ،ويف القبول ّ
التجل ،ويف القبول ّ رس
يف القبول ّ
رس الوعي والنضج..
ّ
التسليم
تكمـن قـوة التسـليم يف قدرتـه على حتريـر املشـاعر والسماح برحيلها
والتخ ّلـص بالتـايل مـن تراكمهـا وكبتهـا .تقنيـة التسـليم سـتجعلنا نفهـم
رس املشـاعر ،لكـي ال نعيـش املقاومـة والفـوىض رسـالة األمل ونفهـم ّ
والرصاعـات الداخليـة .فأنـت عندمـا تكـون يف سـياق املقاومـة سـتصنع
ات لالنسـياب الطبيعـي للطاقـة يف داخـل اجلسـد ،ممّـا سـدود ًا ومصـدّ ٍ
ُيسـ ّبب االضطـراب يف تد ّفـق الطاقـة ،وهذا هـو املسـ ّبب األول للمرض.
علينـا أن نفهـم أن املشـاعر املزعجـة (خـوف -قلـق -تأنيـب -حزن
تنبيـه تعمـل كجهاز محايـة وحاجزٍ -قلـق -كراهيـة) مـا هـي ّإل رسـائل
معين أو خطـر مـا ،لذلـك ال ينبغـي كبتهـا أبـد ًا حتـى ال دفاعـي لظـرف ّ
ّ
تتحـول إىل أمـراض واضطرابات نفسـية ،أو ّ ـم ّية،
تتحـول إىل مشـاعر ُس ّ
ّ
تتطـور ألحـداث مؤملـة .وال ينبغـي أيضـ ًا أن نجعـل مـن تلـك املشـاعر ّ
طريقـة حيـاة ،ألهنـا سـتكون حاجـز ًا بيننـا وبين احلياة.
املـاء املسـكوب يف القـدح يتفاعـل ويسـتجيب للمؤثـرات اخلارجيـة
الطارئـة؛ فنـراه يف حالة ه َيجـان وثورة حتى يتهـادى بـزوال املؤ ّثر ،وبكل
انسـياب ّية وتلقائ ّيـة ،حتـى الوصول حلالة السـكون التـا ّم .علينـا أن نتفاعل
54
ٍ
وقبول، واملتغيرات بـكل اسـتحقاقها وبتلقائيـة وشـجاعة مـع احلـوادث
ّ
لنصـل حلالـة السلام التـا ّم ،كما يفعل ذلـك املاء.
ما هو الفرق بني التسليم واالستسالم؟
املتغي نقول: يف التسليم ّأول ر ّد ٍ
فعل حول ّ
حسـن ًا أنـا أقبل التحـدّ ي ألين واثق مـن إمكانيـايت الذاتيـة ،وواثق بأن
الكـون سـيقوم بمسـاعديت يف جتـاوز التغيير .أ ّمـا يف االستسلام َفـردود
أفعالنـا سـتكون على شـاكلة :مـا هـذا احلـظ السـيئ! ،مـا أقسـى هـذه
التحمـل أكثر.
ّ الظـروف اللعينـة! ،أو :أنـا مسـكني ال أمتلـك القـدرة عىل
ولتوضيح الفرق بني األمرين نورد املثال التايل:
ٌ
حيـوان خت ّي ْـل أنـك تسير لوحـدك يف غابـة ،وفجـأة ظهـر أمامـك
للترصف
ّ لهمك الصفـاء الذهني واهلـدوء الداخيل مفرتس ،التسـليم هنـا ُي ِ
بحكمـة وثِقـة واطمئنـانَ ،ف ُت ْب ِعـدُ نفسـك من أمـام هذا الوحـش املفرتس،
وحلين مـروره ،ألنـك تفهـم وتُـدرك أنـه ال جـدوى أبـد ًا مـن مصارعته.
مكتـوف اليدين أمـام هـذا الوحش
َ أمـا االستسلام فيعنـي أنـك سـتقف
ٍ
خارس لـك ،أو له. ٍ
قاتـل فتسـمح لـه بمهامجتـك والدخول معـه يف رصاع
ستة أسباب تثبت ّ
أن التسليم معجزة..
-له القدرة عىل تفكيك الربجمة الداخلية وتفكيك املشاعر املكبوتة.
ُ -يلهمنا الشجاعة والصرب والفهم واحلكمة.
نعمتَي السالم الداخيل والتصالح مع الذات.
-جيلب حلياتنا َ
رسيان الطبيعة والكون.
-جيعلنا نشعر بالتناغم مع َ
-هـو الوضـع املثـايل الـذي ُيمكّننـا من جتـاوز املشـكالت واألحداث
ومهمـة يف الرحلة.
ّ الصعبـة بحكمـة وامتالك جتـارب مفهومـة
55
-سـيصنع التسـليم منـك شـخص ًا ال يريـد ،وعندمـا تصبـح ال تريـد
تفتـح لـك احليـاة ذراعيها..
ويتوجـب عليـك حلحلتهـا ،إمـا أن تُرخيهـا
ّ عندمـا تصادفـك عقـدة
فتسـهل ،وإمـا أن تشـدّ ها أكثـر فتصعـب ،هـذا هـو الفـرق بين القبـول
والتسـليم وبين املامنعـة واملقاومـة.
كل ما حيدث لنا هو ما نحتاجه بالضبط لنصل ملرحلة:
(النضج ..الشفاء ..احلب).
تعدّ دت األسامء ،واجلوهر واحد.
كل ما حيدث لنا هو وفق قوانني كونية صارمة ودقيقة وعادلة.
(قل لن يصيبنا ّإل ما كتب اهلل لنا).
القوانني الكونية هي كتابة اهلل.
فالذيـن يستسـلمون للجوهـر اإللهـي في احليـاة يعيشـون بطمأنينة
وسلام حتـي عندمـا يتعـرض العالـم برمتـه إلـي اضطـراب تلـو
االضطـراب
(جالل الدين الرومي)
56
وليـس لغايـات ُأخـرى ضيقة وشـخصية ،وسـتكون ّ
حـر ًا مسـؤوالً بتلك
القيـم ولتلـك الغايـة السـاميةَ ،فبغير هـذا لـن تكـون حـر ًا بـل سـتكون
طائشـ ًا بنزواتـك وغرائـزك وأنان ّيتـك ،وسـتكون خـارس ًا بجشـعك
وب ُظلمـك لنفسـك ولآلخريـن.
سـتكون تائهـ ًا ُمطمئنـ ًا يف بِحـار احليـاة مهما اضطربـت وتالطمـت
ِ
قيمـك اإلهل ّية ،كسترة نجـاة ،فبغري تلك أمواجهـا ،ألنـك تُبحـر مرتديـ ًا َ
القيـم ال ُيمكنـك أن تصـل إىل شـاطئ األمـان واخللاص ،سـتبقى ضائع ًا
تتقاذفـك أمـواج احليرة والعبثية.
ٍ
بإيامن يتغير فينا؟ ..ومـا هـي ُمكتسـباتنا عندما نحيـا احليـاة
مـا الـذي ّ
ووعـي بأهنا تسير وفـق قوانني عادلـة وصارمـة ودقيقة .وتكـون أحداثها
من ّظمـة وليسـت عبث ّية أو عشـوائية؟..
بلا ّ
شـك إن الوعـي ومعرفة هـذه القوانني لـه األثر الكبري على حياتنا
وعلى تناغمنا معهـا ،وألجل جـودة األداء والنتيجة.
فكلنـا يفهـم ويشـعر بالفـارق الكبير بين أن نعيـش يف دولـة القانـون
والنظـام ودولـة املؤسسـات التـي تسـهر على ترشيـع وتنفيـذ القوانين
أي اسـتثناء ،وبني أن
العادلـة ،القوانين التـي تُط ّبـق عىل اجلميـع مـن دون ّ
نعيـش يف دولـة الال قانـون والال نظـام ،أو يف الـدول التي تكـون قوانينها
تكيـل بمكيالين وال تُن ّفـذ قوانينهـا ّإل على الفئـات األضعـف.
أوالً؛ سنشـعر بمسـؤوليتنا ،بـل بعظمة مسـؤوليتنا ،يف أدائنـا يف احلياة
وذلـك نظـر ًا لعظمـة دورنـا فيهـا ،وبأننـا جـزء فاعـل يف النظـام الكوين،
ومـا وجودنـا يف هـذا النظـام إال بسـبب قانـون عـادل وصـارم ودقيـق،
سـبب أو
ٌ وجودنـا نتيجـة ولـكل نتيجة ،سـواء أكنا نعرفهـا أم ال نعرفها،
أسـباب حمددة.
57
ثانيـ ًا؛ سـنحذف مـن قامـوس حياتنـا كلمات مثـل (احلـظ والصدفـة
وسـتحل حم ّلها كلامت مثل (االسـتحقاق والسـبب والنتيجة
ّ والنصيـب)،
ٍ والغايـة) .فلا يشء حيـدث يف الكـون اعتباطـ ًا؛ ّ
لـكل حدث ،مهما كانت
قسـاوته وأملـه أو أثـره اجلميـل يف حياتنـا ،أسـباب ونتيجـة واسـتحقاق
وغاية.
سـيتجذر يف وعينـا عميقـ ًا مفهـوم التسـليم للقوانين الكونيـة،
ّ ثالثـ ًا؛
والتسـليم يعنـي الثقـة هبـا والتد ّفـق معهـا واالسـتفادة منهـا واسـتثامرها
االسـتثامر األمثـل حليـاة مثمـرة.
التسـليم يعنـي عدم املقاومـة والتصارع مـع القوانني الكونيـة ونتائجها
تصـارع مـع القانـون هـو خسـارة متو ّقعـة وحتميـة،
ُ وانعكاسـاهتا ،فـكل
ألهنـا قوانين صارمـة وال يمكن أن تتغير .األمر بالضبط يشـبه الفارق بني
أن تقـف يف مواجهـة القطـار السـائر إىل وجهتـه ،وبني أن تركـب يف ذلك
القطـار لتصـل بواسـطته إىل وجهتـك ،فهو أذكـى وأكثر حرصـ ًا منك عىل
إمتـام الرحلـة وعلى جودهتا ،فـذكاء تلـك القوانني هـي مـن ذكاء الصانع
ا ُملقتدر.
علينـا أن نفهـم بعمـق أن عمليـة التغيير لألفضـل منوطة بنـا وبطريقة
رؤيتنـا وأفكارنـا وأفعالنـا ،وعلينـا كذلك أن نفهـم بعمق أننـا وحدَ نا من
نتحمـل مسـؤولية خسـاراتنا ومعاناتنا.
ّ
58
االنتباه
االنتباه هو الوعي مبن أنت ..
وأين أنت ..
وماذا يحدث حولك
في نفس اللحظة ..
(ديباك شوبرا)
59
موجـه وبال أدنـى ارتباط باألشـياء واألحـداث ،يكون يكـون انتباهـ ًا َ
غري ّ
جمـرد حـدَ ث أو صـورة خمزونـه يف الذاكرة ،فـكل ما يف الداخـل من أجهزة ّ
خمتصـة مـن معاجلـات وخمزونـات هـي مـن الـذكاء بحيـث إن هلـا القدرة
على تقويم سـلوكنا وإدامـة تفاعلنا مع األحـداث بصورة ناضجـة وفاعلة
وحقيقيـة ،وباسـتلها ٍم مـن عقلنـا الباطني ،حيـث تكون خالصـة ُصورنا
ال مـن نقـاوة التل ّقـي واملعاجلة .هـذا االنتباه النقيـة الواضحـة املربجمـة أص ً
ولنمو البصرية، ّ األهـم لتفعيل البدهييـة
ّ الواعـي ،وهـذه اآلل ّية هي املصدر
ولتطويـر مقدرتنـا على متييـز الزائف مـن احلقيقـي ،بمعنـى أن االنتباه هو
األهـم يف عملية الفهـم والتغيري ،ألنك سـتكون حـارض ًا ك ّل ّي ًا يف
ّ األسـاس
اللحظـة الراهنـة ،وقادر ًا عىل َخ ْـزن صورة حقيقية واضحـة ،وبال رتوش
مشـوهة ،صـورة خالية من ُم ّفـزات عاطفية أو شـعورية زائفة. ّ أو مالمـح
ُطـور عمليـة االنتبـاه من خلال التأ ّمل التفاعلي ،أي أن
نسـتطيع أن ن ّ
يكـون تركيزنا عىل خمتلـف أفعالنا اليوميـة وأفكارنا ،حتـى الصغرية منها،
وبنفـس اآللية التـي تك ّلمنا عنها سـابق ًا.
والتطـور الروحي ،أو
ّ والنمـو
ّ أهـم مـا علينـا إدراكه يف رحلـة التغيير
ّ
لنعتبره البوابـة الرئيسـية للدخـول يف منطقـة النـور والرت ّقـي ،هـو االنتباه
للــ "أنـا" الزائفـة ،ورؤيتهـا رؤيـة ناضجـة ،أي دون أحـكام أو تأنيب أو
متييـز بأهنـا جيـدة أو سـ ّيئة ،علينا أن نُـدرك ونفهـم كيف تُسـيطر تلك الـ"
متأصل
أنـا" عىل حياتنـا وكيف تكونت ُبنيتهـا ،فالـ "أنا" يف حقيقتهـا يشء ّ
ومـوروث يف العقل البشري ،فأنا وأنت واآلخرون مل نصنـع أنواتنا الزائفة
ا بعد جيـل ،فمعنـى أن نُديـن أنواتنـا يعني أن بأنفسـنا ،بـل ورثناهـا جيل ً
نسـتمر يف العيش بمشـاعر اإلحسـاس بالذنـب واخلطيئـة ،وجتاهلها يعني ّ
60
تسـتمر معاناتنا وتسـتفحل يف نفوسـنا
ّ االسـتمرار يف الكبت ،ويف احلالتني
مشـاعر اخلوف والكـره والغضـب والكراهية.
ليـس عليـك سـوى االنتباه واحلـرص عىل احلضـور يف عمـق اللحظة.
حتـرر ذهنـك من سـلطة األفـكار واملعتقـدات والنظريـات ،دع
حـاول أن ّْ
وحتـرر مـن األمـس والغـد ،فهـذا هـو البـاب ..إن كنـت
ّ املعرفـة جانبـ ًا،
ترغـب يف الطريق.
حـاول دائم ًا االنتبـاهُ ،مركّـز ًا بعمق ورصاحـة عىل ما يشـغل تفكريك،
ٍ
صاف ومشـاعر حياد ّية ،باسترخاء حـاول أن تسـتعرض املوضوع بذهـن
وقبـول تـا ّم ،ال حتكـم على يشء مـا بأنـه ج ّيـد أو سـيئ .عليـك فقـط أن
تعترف بوجـوده ،فهـذا هـو التكنيـك األفضـل لتفـادي أرضار األفـكار
واملشـاعر السـلبية ،لكـن عليـك أوالً أن جتتهـد يف امتلاك اإلرادة والصرب
والتصميم.
عنـد االنتبـاه واملراقبـة احلياديـة وعـدم إطالق األحـكام ا ُملسـبقة ،فإننا
مهمتين يف رحلـة التي ّقـظ والوعي واالسـتنارة:
سـنحصل على نتيجتني ّ
سيرتسـب يف كينونتنـا الفهـم وكل يشء حقيقـي ومفيـد ،كـون
ّ األوىل:
الفهـم موجـود ًا يف أصـل كينونتنـا ووجودنـا ،لكنـه اختفى خلـف ضبابية
الذهـن وخلـف اضطـراب العقـل .فالعقـل سـيغدو شـاهد ًا ُمراقبـ ًا بلا
ذاكـرة وال حتليلات وال تقييمات وال إسـقاطات.
الثانيـة :سـيخرج الوهـم مـن نفوسـنا ويلفظـه إدراكنـا ،كما َيلفـظ
اجلسـم األشـيا َء الغريبـة ،فال يمكـن للوهـم أن يتواجد مع رهافـة الروح
وحدسـها وذكائهـا.
61
بإمـكان كل شـخص منـا أن يرتفع بوعيـه ،وأن يكـون ذا ذكاء وفطنة،
صحة جسـدية ونفسـية طبيعية بأسـلوب جمّاين ،وال يتط ّلب منه سـوى
وذا ّ
اإلرادة واالجتهاد.
يتم ّثـل هذا األسـلوب يف عملية االنتباه واالتّصال مع اجلسـد ،فاجلسـد
البشري غايـة يف الـذكاء ،ليـس الذكاء نتـاج اخلبرة واملعرفة ،بـل إنه ذكاء
ّ
طبيعـي وفطـري ،بمعنـى أنـه ذكاء ال خيطـئ ذاتيـ ًا ،إنما ُيطـئ
ّ جوهـري
ّ
بمؤ ّثـرات وعوامـل خارجيـة ،فاآلليـة التـي يعمـل هبـا اجلسـد البشري،
وبكافـة أجزائـه ومكوناتـه ،غايـة يف الد ّقـة واالنضبـاط .وعلى الرغم من
وتفرعاهتا الكيميائية والفيزيائيـة والعصبية ،يمتلك
كل تعقيداتـه ووظائفـه ّ
القـدرة الفائقـة على إصلاح نفسـه بنفسـه ،وكذلـك إمكانياته يف إرسـال
رسـائل عصبيـة واضحـة إىل الدمـاغ ،ذلـك اجلـزء املسـؤول عـن أفعالنـا
اإلراديـة ،ألجـل تنبيهنـا وتوجيهنـا ،وإرشـادنا إىل احتياجاتـه ورغباتـه،
وإرشـادنا إىل أماكـن القصـور واخللـل ،عنـد اجلـوع أو العطش أو الشـبع
أو التعـب أو امللـل أو االنزعـاج أو حاجتـه للسـكينة واهلـدوء والراحـة.
كل هـذا عىل شـكل رسـائل واضحة ملـن يت ّقن االتّصـال والتواصل نتل ّقـى ّ
مـع جسـده ،وكل إمهـال لرسـالة من هذه الرسـائل يعني حـدوث خلل يف
وظائـف وعمل اجلسـم.
نتفهم ونسـتوعب لغة اجلسـد ورسـائله سـننتبه إىل األشـياء التي
عندما ّ
تزعجـه وتعيـق اتّزانه ود ّقتـه يف العمل ،وتعرقل ديمومة نشـاطه ،وسـننتبه
إىل األشـياء التـي ال تتوافـق مـع ذكائـه الفطـري ،فنبتعـد عنهـا بصـورة ال
جرب شـعوره بالرغبة ألشـياء مع ّينة ،وبعـدم الرغبة واعيـةٌّ ،
فـكل منا قـد ّ
ألشـياء أخـرى ،دون أسـباب واضحـة ومنطقية بالنسـبة لذهنه ،أو شـعر
62
بالتـو ّدد ألشـخاص ُمع ّينني ،وبعدم التودد ألشـخاص آخريـن ،أيض ًا دون
أن يفهم أسـباب وموجبـات ذلك.
اإلنسـان الواعـي يعـرف أن األسـباب هـي حقيقيـة ،وإن مل تسـتند إىل
أسـباب منطقيـة وواضحـة ،ألنـه يمتلـك اإليمان والثقـة ببصيرة روحـه
وذكاء جسـده النقـي ،وبمختلـف أجزائـه وآل ّياتـه.
يف منطقـة الوعي يسـود االنتبـاه ،ليس االنتبـاه املص َطنَع ،وإنما االنتباه
الفطـري ،وتُثـار األسـئلة ،ليسـت األسـئلة التـي تبحث عن أجوبـة ،وإنام
حتـرك فينا مشـاعر الفهـم واحلكمة.
األسـئلة التي ّ
63
الحيادية
لسـت حسـناً وال جيداً ،أنا نفسي وحسـب ،لقد جتاوزت فكرة كوني
سـيئاً ،جتاوزت فكـرة أن أكون جيداً ألننـي كلما حاولت أن
جيـداً أو ّ
سـيئاً أكثر ،كلمـا حاولت
وجدت نفسـي وقـد أصبحت ّ
ُ أكـون كذلك
أن أهـرب مـن السـوء وجـدت الكياسـة هـي التـي تختفـي ..جتاوزت
وحيـادي ..في اليـوم الـذي أصبحت فيه
ّ ِ
معتـدل املبـدأ بكاملـه ،فأنا
وولد شـيء حياديـاً اختفـى مـن داخلـي ٌّ
كل من الكياسـة والسـوءُ ،
جديـد متامـاً هـو أفضل مـن الكياسـة ،وال توجد ظلال للسـوء حوله.
أحد احلكماء
64
متو ُضعـات العقـل وال ارجتاعـات الذاكـرة وال
البصيرة نقيـة ،ال ختدعهـا ْ
الكلمات وال االنتماءات.
املفضل طرف ًا فيهـا ،تكون
عندمـا نشـاهد مبـاراة رياضية يكـون فريقنـا ّ
رؤيتنـا للمبـاراة ُمتشـنّجة ومتوتّـرة ،ممّـا يسـتوجب منـا رأيـ ًا غير ّ
نقـي
وإدراك ًا غير حقيقـي ،أ ّما إذا كنا نشـاهد املبـاراة بحيادية تا ّمة فـإن انطباعنا
وحكمنـا عليها سـيكون أكثـر نضجـ ًا وواقعية. ُ
نقـي و ُمبدع فـإن أفضـل تكنيـك داخلي للتعامل مع فمـن أجـل فهـ ٍم ّ
الفكـرة اجلديـدة هـو ّأل نرفضهـا أو نتصـارع معهـا ،وبالوقـت نفسـه ال
نسـ ّلم هبـا ونعتنقها ،ونسـتنفر من نطـاق ذاكرتنا ومن عملياتنـا الذهنية كل
حجـ ًة تؤ ّيدهـا ،ففي كلتـا احلالتين سـيصيب ذهنَنافكـرة خمزونـة لتكـون ّ
الفهمي.
ّ التوتـر واالنغلاق
ُ
أن تكـون شـاهد ًا وتراقـب بحياديـة يعنـي أنـك قـد أصبحـت أكثـر
قـدرة على التمييـز بين الــ "أنـا" الزائفـة كأفـكار وعواطـف ومشـاعر
زائفـة وخادعـة ،وبين "أنـاك" أو ذاتك احلقيقيـة ،هكذا سـتصبح األمور
أوضـح وأيسر.
علينـا أن نقـوم بمراقبـة الفكرة بحياديـة ،وننتبه ملشـاعرنا الناشـئة عن
الفكـرة دون أحـكام مسـبقة أو قطعيـة ،وبمرونـة ذهنية مناسـبة ،فإن هذا
التكنيـك من شـأنه أن يقوم برتسـيب خالصـة الفكرة وجوهرهـا احلقيقي
يف عمقنـا الداخلي ،أي بمعنـى أن اجلـواب عن مـدى صالحيـة الفكرة أو
عـدم صالحيتها سـيحدّ ده الداخل الروحـي والبوصلة الروحية ،وبشـكل
تلقائـي ،وعلى هيئـة مشـاعر نقيـة واضحـة ومفهومة ،مشـاعر من شـأهنا
تصرف أو رأي ،ألنّ أن تكـون هـي املرجعيـة املثلى لنـا يف كل تفاعـل أو
65
الداخـل الروحـي منطقـة عص ّيـة على املؤثـرات اخلارجيـة ،وهـذا هـو
بالضبـط مـا ندعـوه اصطالحـ ًا بــ "الرؤيـة القلبيـة" ،والتي تـرى الواقع
بحقيقتـه ،وبما هو موجود أصلاً ،تـراه واقع ًا تكامليـ ًا خالي ًا مـن التجزئة،
وخاليـ ًا مـن العبثية ،مما جيعـل رؤيتنا نقيـة وواقعية ومثمـرة ،وذلك بالطبع
ملـن ينتبـه وجيتهـد ل ُي ِتقـ َن فعـل املراقبـة احلياديـة وعـدم إطلاق األحـكام
املسـبقة أو النهائية.
ملاذا ال ينبغي لنا إطالق األحكام النهائية؟.
وسـنّة كونيـة ،وعملية إطلاق األحكام ِ
والتطـور سـمة ُ
ّ -ألن التغيير
النهائيـة تعنـي عـدم متاهينـا مـع السـنن الكونيـة ،بل هـذا يعنـي مقاومتنا
السـنن.
لتلك ُ
سـتمرة للتغيير،
ّ كل إنسـان يمتلـك الفرصـة الدائمـة والقابليـة ا ُمل ّ -
سـواء إىل الناحيـة اإلجيابيـة أو السـلبية ،نظر ًا للظـروف املع ّقـدة والدوافع
واملؤثـرات املتغيرة التـي تتفاعـل داخلـه أو خارجـه طـوال فترة حياته.
-عمليـة إطلاق األحـكام تعنـي إيقـاف التفكير ،وحكم ًا هنائيـ ًا َ
غري
قابـل للمراجعـة أو املداولة.
حقيقي ألنـه غالبـ ًا ما يكـون مقارنة
ّ -إطلاق األحـكام النهائيـة غير
بين جتـارب شـخصية سـابقة ومعايري خاصـة ورؤية شـخصية لألشـياء.
رمـج العقـل البشري على التصنيفـات وإطلاق األحـكام ،لذلك -ب ِ
ُ
هـي مرحيـة لـه ،فاملراقبة الواعيـة هي إعادة برجمـة للعقل وحتويلـه من عقل
متسـ ّلط إىل عقـل ٍ
مرن نـا ٍم وناضج.
-خطـورة عمليـة إطلاق األحـكام النهائيـة هـي يف نـوع املشـاعر
واألفـكار واالعتقـادات والقرارات التـي تُبنى عىل ما اعتربنـاه واعتقدنا به
66
كحقيقـة ُمسـ ّلم هبـا ،وبالطبع غالبـ ًا ما تكـون أحكامنا بعيدة عـن احلقيقة،
بسـبب برجمتنـا العقلية سـواء أحكامنا عىل أنفسـنا أو على املواقف أو عىل
حكمـت عىل نفسي بالفشـل واعتقدت بأين إنسـان ُ اآلخريـن؛ فمثلاً :لـو
حقيقـي كـون الفشـل هو حـال وليـس صفة، ّ فاشـل ،وبالطبـع هـذا غير
والفشـل وكام هـو معروف هو بسـبب التو ّقف عـن املحاولة وعن السـعي
مشـاعر سـلبية وأفكار ًا
َ النهائي سـيو ّلد
ّ احلثيـث إىل النجـاح ،هـذا احلكـم
سـوداو ّية داعمـة له ،تؤ ّدي إىل إحساسـنا بالكسـل واليـأس ،وتؤ ّدي تلك
األفـكار إىل اضطراب وخلـل يف الطاقـة الداخلية.
املحصلة عدم وجود قـدرة داخلية
ّ * عمليـة إطلاق األحكام تعنـي يف
التطـور والنمو والتغيري ،أي ّ
إن الشـخص يقوم بتقييد نفسـه يف منطقة ّ على
الراحة السـلبية والكسل الذهني.
67
التأمل
معينـة ،هو
وتخصـص لـه فتـرة زمنيـة ّ
ّ تؤديـه ً
عملا ّ التأمـل ليـس
ّ
مسـتمرة مـن احلضـور فـي «اآلن» حالـة كينونـة ،واالنتبـاه
ّ حالـة
للجمـال يسـاعد دائمـاً علـى العـودة إلـى اللحظـة وحالـة احلضـور.
(إيـكارت تـول)
ال نقصـد بحالـة التأ ُّمل التي نحن بصـدد احلديث عنهـا الرياض َة اآلل ّية
التكراريـة املعروفـة ،بالرغـم مـن أمهيتهـا يف الوصـول إىل حالـة الصفـاء
النفسي والتخ ّلـص مـن التوتّـر واإلجهـاد ،ودورها ا ُملسـاعد يف اكتسـابنا
للطاقـة احليويـة .مـا نحـن بصـدد احلديث عنه هـو حالـة التأمـل واالنتباه
حلظة مـن حلظات ٍ واليقظـة كطريقـة للحيـاة ،لتسري هـذه احلالة على ّ
كل
حياتنـا يف عملنا ويف سيرنا ويف صمتنـا وحديثنـا ،ويف كل حاالتنا اليومية.
مستمر ،هو مراقبة ّ
لكل يشء ،وأوهلا نفسك. ٌّ التأ ّمل ٌ
فعل
كـم األشـياء التـي حتـدث معـك يوميـ ًا وتعيشـها ْ
حـاول أن تتذكّـر ّ
شـك أهنا أحـداث قليلة جـد ًا أو نـادرة ،فأنتبحالـة تأمل ّيـة ،سـتجد وبال ّ
غالبـ ًا تصحـو مـن النـوم وتـأكل وتذهـب لعملـك وتعـود وجتلـس مـع
أهلـك وأصدقائـك ،بآل ّيـة وتكـرار غير واعٍ ،لكنّك تقـوم أحيانـ ًا بالتأمل
يف مناسـبات حمـدودة كالدراسـة أو القـراءة ،عندمـا تـدرس بعمـق ألجل
الفهـم فإنـك تتأ ّمل ما قرأتـه ،لتتبع أصلـه واتّصالـه ،وتتأمل و ْق َعـه عميق ًا
داخـل روحـك ويف داخـل ذهنـك ،لتقـوم بعد ذلـك بتكويـن فكـرة تا ّمة َ
وناضجـة عنـه ُت ّـزن يف الذاكـرة ويف عقلـك الباطـن ،اليشء نفسـه حيدث
معـك عندمـا تسـتمع إىل موضـوع تعتقـد بأمهيته.
68
أن تعيـش حياتـك بحالـة التأمـل التـي نقصدهـا يعنـي إدراكَك بـأن
وتسـتحق التأمـل واليقظة ،ألجـل عملية
ّ كل األشـياء التـي حتـدث مهمة
والتطـور.
ّ الفهـم واإلدراك
مـا نعنيـه بالتأمـل هنا هـو فهمـك لألشـياء بـكل وجـودك ،بمعنى أن
تكتشـف األشـياء بنفسـك ،دون معرفة سابقة وإسـقاطات وأحكام ُمسبقة
ودون تصنيف.
يف حالـة التأمـل سـتكون عالقاتـك مـع األشـياء واألشـخاص مـن
حولـك دائم ًا مـا حتمـل بدايـات ووالدات جديـدة واكتشـافات جديـدة.
ِ
القصي يف داخـل النفـس ،ذلـك التأمـل هـو الوصـول لذلـك املـكان
ّ
املـكان الفـارغ من إطـارات املـكان والزمـان ،لتكـون حـارض ًا يف اللحظة
آالن ّيـة ،متواجـد ًا يف نطـاق الصمـت الذهنـي ،حيث االطمئنان والسلام
ترسـبات املـايض وأوهـام املسـتقبل ،أيالداخلي والفهـم ،خاليـ ًا مـن ّ
بمعنـى أشـمل خاليـ ًا من املشـاكل.
يف حالـة التأمـل سـنلعب دور الشـاهد واملراقـب ،ونراقـب كيـف
يعمـل العقـل ،والكيفيـة التـي تتشـكّل فيهـا األفـكار ،ونراقـب طبيعـة
أفكارنـا ومسـارها ..نراقـب التفاعالت التـي حتدث بني الفكـرة والعاطفة
والشـعور لنرصـد بالتـايل اآلليـة التـي نتفاعل هبـا مـع أفكارنـا ،ونتفاعل
ترصفاتنا
فيهـا مع األشـخاص واألحداث ،لنحاول هنـا أن نتخ ّيـل أن كل ّ
ٍ
خـال مـن الدوافع نقـي ،مصـدر
إهلـي ّ
وردود أفعالنـا تكـون ذات مصـدر ّ
لـوث باألحـكام السـابقةوالرغبـات واألحلام والتوقعـات ،وغير ُم ّ
وا ُملسـبقة واألحـداث املاضيـة ،بالطبـع سـتكون قيمـة التسـامح والرمحـة
واحلكمـة والبنـاء هـي الدافـع األسـايس واملصـدر األوحد لتلـك األفعال
69
والترصفـات ،فـكل ما يصدر عـن حالة السلام والتصالح مـع الذات هو
سلام وتسـامح وارتقاء.
فـك االرتبـاط بيننـا (املراقب) وبين عقولنا هي اخلطـوة األكثرعمليـة ّ
أمهيـة يف رحلتنـا نحـو التغيير ،ألننـا أطحنـا بسـلطة الــ "أنـا" ،وأطحنـا
بأمراضهـا وبرجمياهتـا وتع ّلقاهتـا وتوقعاهتـا وأحكامهـا .مل يعـد لألفـكار
سـلطة علينا ألننـا اسـتطعنا اسـتيعاب األوهام التـي ّ
تتغذى منهـا األفكار
وتغذهيا.
يف حلظـات التأمـل ال يمكـن لنـا أن نُبصر القبـح أو اخلسـارات ،وال
عين الفكـر وفتحنـا عين القلـب
يمكـن لنـا أن نعـاين ،ألننـا أغمضنـا َ
القـادرة على متييـز اجلمال يف كل األشـياء واألحـداث.
70
الصمت
71
نسـتطيع أن نطلـق عليـه "فعل اإلبـداع" ،لكننـا غالبـ ًا نرى األشـياء برؤية
نمط ّيـة وبأفـكار نمطيـة ،فاألفـكار التـي تـدور وتتناسـل بأذهاننـا ،هـي
جمـرد ضجيـج ،ال تُفهـم وال تُغنـي عـن جهـل ،فالفهم يأيت مـن الصمت، ّ
والفهـم ينمـو مـن الداخـل ،فك ّلام اسـتغرقنا عميقـ ًا يف الصمت سـا ْ
مهنا يف
الفكـري ،وحتسين مسـتوى إدراكنـا وفهمنـا لألحـداث، ّ حتسين النسـل
وحتسين جـودة حياتنـا وجـودة تعاملنـا وتفاعلنـا مـع مـن حولنا.
مـن هنـا؛ علينـا أن نفتـح أفواهنـا فقـط عندما تكـون كلامتنـا أمجل من
الصمـت .وال أمجـل مـن الصمت سـوى كلمات املحبة والتفـاؤل وغرس
الثقـة يف أنفسـنا ويف نفـوس اآلخرين.
يف احلـب ،كما يف الوعـي ،ك ّلما ذهبنـا عميقـ ًا ،تناقصـت الكلمات،
لتتكامـل باإلحسـاس والصمـت ،فالصمـت يف حمـراب الروح هـو أعظم
صال ة .
72
الفصل الثاني
متعة التائهني
ُطه َ
رك احلقيقة.. ست ّ
عندما تقتلعك من جذورك ،كام تقتلع األعاصري الشجر.
لتُحيلك روح ًا يف أرض التيه.
صلى خل َفها
فاحلقيقـة التـي ال تشترى بالدمـع واألمل ..زائفـة حتى لو ّ
يس وألـف حكيم... ألـف قدّ ٍ
يف التيه؛
ّ
الشـك واليقين ،وأن عليـك أن ختطـو يف تلـك املسـافة الفاصلـة بين
ختطـو يف تلـك املسـافة الفاصلـة بين الصـواب واخلطـأ .لتتصالـح فيـك
املتناقضـات وتتظافـر يف داخلـك تلـك الرؤيـة الرسمد ّيـة ،حيـث يتأ ّلـق
النـور وتُزهـر املحبـة.
73
عليك أن ختطو يف تلك املسـافة الرسمدية وأنت حتمل بني كفيك قلب ًا...
قلب ًا من نور وسالم
ي ِ
بص وال ُي َزم ُ
ال يعيا وال َي َرم
هو املتعة ..هو الطبيعة ..هو الكون
النبي الذي ال خيون.
وهو ّ
تلك املسافة ستبلغ فيها رشدَ ك،
مكاين،
ّ زمني ،وال بمدً ى
ال بمدً ى ّ
بل سـتبلغ رشـدك بعـدد األسـئلة التي ترشق مـن روحكّ ،
كل سـؤال
هو قـدّ اس ..نـور ُيضاف ألنـوار الطريق.
زخارف الدروب؟..
ُ هل تُغري التائهني
هل تروي ظمأهم زنازين األجوبة؟..
بظهـر مسـتقيم ،كـي ال حتمـل عليـه ٍ يف تلـك املسـافة عليـك أن تسير
أسـفار ًا مـن ِر ْجس التاريـخ ،وال أفـكار ًا من عتمـة التاريـخ .وال أحجار ًا
ٍ
بـرأس ال يتل ّفت إال َشـ ُغوف ًا بمعـامل الطريق، مـن ثقـل التاريـخ ،وأن تسير
ومبهـور ًا بمتعـة الطريـق ،ومسـحور ًا بجمال الطريق.
ا بينـك وبين تتخلى عـن ك ُّل معرفـة تقـف حائل ً
ّ يف التيـه؛ عليـك أن
معرفـة نفسـك ،فمعرفـة نفسـك هـي ّبوابتـك ملعرفـة الوجـود ،عليك أن
ا عن كُل يشء سـواك ،وعليك أن تكـون فارغ ًا من ِ
ومنفصل ً تكـون خمتلفـ ًا
ا حقيقي ًا يف ٍ
عندئـذ ذاتك احلقيقيـة ،ولتكون فاعل ً كل يشء سـواك ،لتو َلـد
صميـم الوجـود ،مسـتمتع ًا ،غارقـ ًا يف مجـال الوجود.
74
ٍ
كثوب يستر متحركـة ،فالتائهـون يرتـدون احلقيقة
ّ ّ
ألن احلقيقـة ناميـة
ُصـادر ٍ
کقيـود ت عـورة جهلهـم ،وال يرتدوهنـا ِ
کلجـا ٍم ُيقـادون بـه ،أو
ُ
وجو َدهـم..
يف حمطـات التيـه سـتخلع يف كل حمطـة جلـد ًا مـن عقلك ،حتـى تصبح
سـتتحمل مسـؤول ّياتك عن
ّ عـاري العقـل من كل أسماهلم ..يف رحلة التيه
َ
القـوة الداخلية ،تلك
كل التجـارب التـي ختوضها ،ألنـك أصبحت متتلك ّ
القـوة التـي سـتمنحك القيمـة األغىل واألسـمى يف الكـون؛ قيمـة احلرية،
تتحول
والتـي ستكسـبك القدرة عىل حتديـد موقفك من التجارب قبـل أن ّ
طاقتـك الداخليـة إىل كلمات ،قيمة احلرية التي سـتجعلك متتلـك ما يكفي
كل تغيري حيـدث يف حياتك. كل جديد وتتقبـل ّ مـن الشـجاعة لتتق ّبـل ّ
يف تلـك املسـافة سترتدي من روحـك عقل ً
ا ال يبرص سـوى اجلامل يف
كل مـا حوله ،يـراه يف كل األحـداث واألشـياء واملخلوقات...
يـرى حقيقة األشـياء بجامهلـا وطبيعتهـا وعذر ّيتهـا وفطرهتا ،ويسـتمع
مشـدود ًا للموسـيقى الكونيـة التـي تتشـارك يف عزفهـا كل املوجـودات،
وتُسـ ّبح برتانيمهـا من فرحـة الوجود...التيـه هو أن تكون ريشـة تتقاذفها
رياح اهلل..
متحررة من األسباب واجلهات
ّ
فثمة وج ُه اهلل أينام ّ
تول وجهتَها ّ
متحررة من األفكار واملعرفة
ّ
متحررة من الرغبات والتوقعات
متحررة من الفخر والغرور
75
متحررة من اخلوف والعاقبة
متحررة من املكافأة واحلافز
متحررة من زيف الـ " أنا" وأوهامها
التيـه ال يعنـي أن تضيـع يف زمحـة الـدروب ،بـل يعنـي أن تضيـع فيك
زمحـة الـدروب ،ألن التيـه يعني أن حتيا وفـق رشيعة قلبك ،ومـن حييا وفق
رشيعـة قلبـه ال حيتـاج ألي رشيعـة ،ومـن حييـا وفق رشيعـة فكـره ال تنفع
معـه ألـف رشيعة..
سألته :أي الطرق أحب اليك؟
غير التائهني..
إلي ُ
قال :لم يصل ّ
متعـة التيـه هي متعة البحـث عن املعنـى املفقود ،أو املعنـى املرسوق،
بمعنى ّ
أدق.
هي متعة..
وهـل هنـاك ما هو أمتـع من رحلـة اهلروب مـن األغلال والنجاة من
القيود!..
وهـل هنـاك ما هـو أمتع مـن رحلة البحـث عن املعنـى وعـن الكينونة
والوجود!..
ٍ
للتائهين متعـة فريـدة ليسـت كمتـ ٍع عابـرة ،فهـم لدهيـم متعـة ّ
التفرد
التمـرد ومتعـة الشـجاعة والثقـة بالنفـس ،ومتعـة التصا ُلـح مـع ّ ومتعـة
ذواهتـم ومتعـة دهشـة اكتشـاف األشـياء على حقيقتهـا ،ألهنم بلا أقنعة
أو برجمـة أو ذاكـرة َص ِدئـة غالبـة .هـم لدهيـم متعـة التواصل مـع اهلل دون
وسـيلة أو طريـق ،فـكل الطـرق تـؤ ّدي إىل اهلل إذا مـا وجدنـا اهلل يف قلوبنا.
76
ُقـرر فيهـا التيه هـي اللحظة التـي تلمس فيهـا روحك،
اللحظـة التـي ت ّ
هـي اللحظـة التـي تلمـس فيها مـا ُسق مـن وجودك ،هـي اللحظـة التي
تلمـس فيهـا قدراتـك وتؤمـن بأنك قـادر على النجاة ،هـي اللحظـة التي
تلمـس فيهـا بمـلء ُأذنيك صـوت نرياهنـم ّ
فتفر مذعـور ًا ،كام تفـر الطيور
حينما تسـمع صوت النـار بلا وجهـة ...فالوجهة ال تشـغل عقـل الطائر
مـا دامـت احلرية هـي الغريـزة التـي ت ْلهمه بأنـه أينام ّ
يفـر فثمـة حياة...
ـه احليـاة ،فهـي األقـدر بحناهنـا وحكمتها أينما يفـر سيسـ ّلم أمـره ألم ِ
َ ّ
التغيير والنمو
ّ وأذرعهـا املمـدودة ،أن حتفـظ كينونته وأن ترعـى رحلته يف
والتطـور والبحـث عـن معنـى وجـوده ،فالطائـر ال يشـعر بـأن كينونتـه ّ
ووجـوده تتحقـق بمجـرد قدرتـه على التحليق ،بـل يف قدرته عىل ممارسـة
الغنـاء ،فقـد يكـون داخـل سـجن لكنه يمارس وجـوده ،ويتمتع بشـغف
روحـه ،وال توجـد قـوة يف الكـون قـادرة عىل أن جتبره على تقليد صوت
األفعـى أو صـوت احلامر.
عندمـا متتلك جـرأة التيه عـن دروب الناس ،سـتمتلك هبجة السير يف
دروب احلقيقة.
تعـود النـاس أن يستروا ُعرهيـم اخلارجـي بارتدائهـم للمالبـس، ّ
ِ
ريـم الداخيل بارتدائهـم ل َو ْهم اهلوية ،سـواءوتعـودوا أيضـ ًا أن يستروا ُع َ
ّ
كانـت هويـة قوميـة أو دينيـة أو مذهبية ،وغالب ًا هـذه اهلويات مل تكـن أبد ًا،
مكملـة للهويـة اإلنسـانية ،بـل كانـت دائم ًامـر التاريـخ ،هو ّيـات ّ وعلى ّ
متقاطعـة معهـا ،بسـبب مـا حتشـده لـدى الفـرد مـن آليـات أساسـية مـن
بر والفوقيـة ،فـأوىل ِ
تعصـب وعواطـف ُمسـتنفرة بدائيـة كالتفاخـر والك ْ ّ
مراحـل التيـه أن نمتلـك الشـجاعة لنسير يف األرض بلا هويـة ،ألن كل
77
فعـل اعتـزاز باهلويـة ر ّد فعلـه التعصـب والكراهيـة والعنرصيـة ونفـي
اآلخر.
زوادتك من نفسـك ،ال يشء من اخلـارج قادر أن ُيعينك، يف الرحلـةّ ..
دك بالثقـة والشـجاعةُـزو َ
فاطلـب املعونـة مـن روحـك فهـي قـادرة أن ت ّ
َ
ُسـعفك بـكل مـا حتتاجـه مـن واإليمان والصبر واحلكمـة ،وقـادرة أن ت
ويشـع نـور ًا عندما
ّ يتوهـج املصبـاح
أنـوار تكشـف لـك الطريـق ،فمثلما ّ
يالمـس الطاقـة الكهربائيـة ،الشيء نفسـه حيصـل معـك ،عندمـا تالمس
طاقـة روحـك .لكـن عليك أن تُـدرك جيـد ًا أنه مثلما حيترق املصباح من
الداخـل عليـك أن حتترق ألجـل النـور ،ففـي حلظـة مرعبـة تصبـح كل
األشـياء حولـك بلا قيمـة ،وتشـعر أن حياتك بلا هدف وبلا أي طعم.
اطمئـ ّن هـذا هـو النفـق املرعـب الـذي ال بـد لـك أن جتتـازه لتدخـل
مرحلـة النضـج ،فاألشـياء التـي كنـت تراهـا بعقلـك املسـتورد وأنـاك
سـتتغي نظرتـك
ّ الزائفـة مل تعـد تتناغـم مـع وهـج روحـك ،شـيئ ًا فشـيئ ًا
وسـتتأصل رؤيتك هلا وفهمك ،وشـيئ ًا فشـيئ ًا سـتتهاوى األشياء
ّ لألشـياء
التـي كانت تُشـكّل حاجز ًا بينـك وبني روحـك ،ويتظافر ويتجـدّ د و ْعيك
كما تتجـدّ د أوراق الشـجر يف فصـل الربيـع.
ما الذي يمنع اإلنسان من االتّصال بروحه؟
أوالً :متاسـك الــ "أنـا" الزائفة (األجيـو) ( خماوف -أوهـام -رغبات
-تعلـق -برجمـة -معاناة).
لـو حاولنـا التأمـل والتعمـق بعيـد ًا يف موضـوع اسـتفحال ومتاسـك
وملفاته على الشـخصية ،والتي األجيـو ،مـن خلال اسـتعراض تأثرياتـه ُ
قـوة داعمة ،سـيظهر لنا جل ّيـ ًا أن اخلوف ّ
تتلخـص يف جمملهـا بالبحـث عن ّ
78
يفسر لنا حالة
هـو يف أصـل املنافسـة عىل حيـازة القـوة اخلارجية ،وهـو ما ّ
العصبـي والتوتّـر النفسي الـذي بات هـو السـمة الغالبة على حياة
ّ الشـدّ
ويفسر لنا كذلـك مـا يفتقدونه من حالـة االطمئنـان الداخيل وما
ّ النـاس،
يفتقدونـه مـن األُلفـة والتصالح مـع احلياة.
بوهـم القـوة اخلارجيـة هـو مـا َج َل َ
ـب ،واليـزال إن اعتقـاد اإلنسـان ْ
َي ُلـب للبرشيـة ،كل هـذه املعانـاة واآلالم وكل هـذا العنـف والدمـار.
ثانيـ ًا ـ اجلهـل أو وهـم املعرفة ( تدين زائف ـ نـدرة التجارب اجلديدة
-نـدرة التأمل والتفكّر)
وهـم الفهم والتخلـص من األفكار املسـبقة هوأن االنعتـاق مـن ْ
اخلطوة األولـى الضرورية نحـو املعرفة.
(البير جاكار)
79
يفس
تعمـق وتأ ّمـل جتريبـي ،وهـذا هو مـا ّ عليـه سـطحي ًا ،ومـن دون أي ّ
السـطحية ا ُملد ّمـرة التـي باتـت هـي السـمة الغالبـة على ثقافة الشـعوب،
وكأن املعرفـة املتداولـة ،سـواء أكانـت برجمـة جمتمعية أو عقائـد ،أم كانت
وسـائل إعلام أو مناهج تدريسـية ،الغايـة منها إهلاء النـاس وحتييدهم عن
صلـب املوضـوع ،أي عـن املعرفـة احلقيقية .
ـدث اليقظـة الداخليـةُ ،
وت ّفـز عمليـة التنويـر تلـك املعرفـة التـي ُت ِ
الـذايت ،مـن خلال خلخلـة املكتسـبات اخلارجيـة مـن معـارف سـابقة،
مرتسـخة يف الطبقـات الداخليـة للعقـل اللا واعـي.
وثوابـت فكريـة ّ
املعرفـة احلقيقيـة هـي رحلة الـذكاء واالكتشـاف والفهـم ،وهي رحلة
تحـرر من اشتراطات املايض ،هي جتـارب فردية، فرد ّيـة واكتشـاف ذايت ُم ّ
فـكل منّـا لـه آلية تفكير خاصة ألسـباب عديـدة ومع ّقـدةّ ،
وكل منا حيتاج ٌّ
والتطـور .لذلـك فاملع ّلـم احلقيقـي
ّ لتجـارب خاصـة يف رحلـة التغيير
ال يعطـي حقائـق جاهـزة ،هـو مـن يع ّلمنـا الكيفيـة التـي نسـتطيع فيهـا
اكتشـاف احلقائق بأنفسـنا.
َ
املع ّلـم احلقيقـي ال يشير بإصبعـه نحـو القمـر ،هـو من يعلمـك كيف
تصـل إليـه بطريقتـك اخلاصة.
أبعاد الشخصية وأبعاد التيه.
ُك ّلنا مسافرون داخل مركبة تسري وال تعرف الوجهة ،لكنها ّ
موجهة.
هناك من ينظر من النافذة ،وهناك من ال يعرف ّ
أن هناك نافذة.
هناك من يعبث باملركبة ،وهناك من ُيديم املركبة.
هناك من يتصارع ويطغي ويسلب األمكنة.
ويضحي ويزيل األتربة.
ّ وهناك من يتفانى
80
لو كان األمر َمنوط ًا به ،ملا استطاع اإلنسان أن يكتسب عقله.
لكنها القوانني الكونية الصارمة الذكية العادلة.
فام اإلنسان ّإل قانون من قوانني الوجودُ ،م َّ
سي إىل هدفه.
ينمو وينضج ،ليس بإرادته وإنّام رغم أنفه...
يف املركبة..
هناك من يعيش اجلحيم بأكمله ،وهناك من حييا النعيم ،فام أمجله!...
مهام طالت الرحلة هناك حم ّطة أخرية..
كل يشء إن مل ن َِصلها بو ْعي ورشف...
سنخرس ّ
الروح اجلسـدَ لتبـدأ رحلة اكتشـافه ،واكتشـاف حاجاته وحميطه ُ تلبـس
حـواس ما ّديـة ،بعـد مرحلـة االكتشـاف هـذه تبـدأ رحلةّ بواسـطة مخسـة
التعايـش مع املحيـط والتناغم مع املجتمع ،مع أفكاره وعاداته ومقاييسـه،
ألجـل اكتسـاب الشـخصية ،وعادة تكـون قوة الشـخصية ومـدى احرتام
وتقديـر املجتمع هلا يتناسـب طـرد ًا مع قـوة االلتزام بقوانين ذلك املجتمع
وعاداتـه ومقاييسـه وأعرافـه .ويف هـذه املرحلـة تطفـو ظالل الـروح عىل
سـطح الشـخصية بفرتات ُمتق ّطعة ،أي بمعنـى ّأنا قد بـدأت رحلة التذكُّر
واحلنين ،تَذكّـر ماضيهـا اإلهلي واحلنين إىل مداهـا احلقيقي ،وتبـدأ بطرح
األسـئلة ،ألهنـا بدأت تشـعر بالقهـر وامللل وقسـاوة ثقل األقنعـة ،يف هذه
نسـبي بعامـل الزمن والعمر يبـدأ مفرتق ٍ
اختالف املرحلـة ومـا بعدها مـع
ّ
ويعتز بشـخصيته ومـا تراكَم فيها
ّ الطـرق بين النـاس ،فهناك مـن َ
يتفاخـر
ِ
واجلـاه والعقيـدة والسـلطة والرغبة ،ليمضي يف رحلته، من سـموم املـادة
تفجر عـادة وبصورة مزمنـة كرباكني من رحلـة السلام الومهـي ،والـذي َي ّ
الغضـب والظلـم والكراهيـة والقسـوة ،وسـيبقى العـامل عنـد هـذه الفئـة
درك وغير ُمدركة غايتـه وحقيقتـه وأبعاده. وغير ُم َ
َ جمهـوالً
81
يتمـرد على الشـخصية وأقنعتهـا ،ويسـتلهم نـور الوعـي ّ وهنـاك مـن
مـن طاقـة روحه بالوحـي واحلـدس والبصرية ،ل ُيبحـر مع أمواج األسـئلة
وخواطـر التيـه ،و َيتت ّبـع أنـوار املعرفة والوجـود ،والتي تقوده مـن نور إىل
كل نـور مـا إن يسـطع حتى خيفـت ،لتبحـث الروح عن نـور جديد نـورّ ،
سيسـتمر مـا دامت
ّ يـروي عطشـها ،ويل ّبـي شـغفها ...هـذا العطش الذي
الرحلة...
«إن مـا تشـعرون بـه من األلـم هو انكسـار القشـرة التـي تغلّف
إدراككـم .وكمـا أن القشـرة الصلـدة التي حتجـب الثمـرة يجب أن
ّ
تتحطـم حتـى يبرز قلبهـا من ظلمـة األرض إلى نور الشـمس ..هكذا
قشـوركم قبـل أن تعرفوا معنى
َ اآلالم
ُ أنتـم أيضاً ..يجب أن ّ
حتطم
احليـاة ..ألنكـم لـو اسـتطعتم أن تُ ِعيروا عجائـب حياتكـم اليومية
التأمل والدهشـة ملـا كنتم تـرون أالمكم ّ
أقـل غرابة من ح ّقهـا مـن ّ
مخيـرون فـي الكثير مـن آالمكم ..وهـذا الكثيرأفراحكـم ..أنتـم ّ
مـن آالمكـم هـو اجلرعـة الشـديدة املـرارة التـي بواسـطتها يَشـفي
أسـقام نفوسـكم البشـرية.»..
َ الطبيـب احلكيم السـاهر في أعماقكم
(جبران خليل جبران)
التائـه دلي ُلـه األمل ،فلا يشء يسـتطيع أن يفتـح يف روحنـا توجيـات
الفهـم أكثـر مـن األمل ،األمل الـذي نحتضنـه ونتق ّبلـه ال األمل الـذي هنـرب
منـه ونتحاشـاه .األمل هـو جرس إنـذار ورسـالة بوجوب وحتميـة التغيري.
مـن هنـا فـإن قبـول هـذه الرسـالة بوعـي ودون مقاومـة خيلـق أرضيـة
مناسـبة ومسـاحة فكريـة مواتيه للتغيير املطلـوب ،وبالتـايل زوال دواعي
82
ومسـ ّببات األمل ،أمـا رفـض األمل ومقاومته فإنه سـيعني اسـتمراره ومتاديه
ليتحـول إىل معانـاة .فمـن املسـتحيل أن حيـدث لنا شـفاء حقيقـي من األمل
ّ
دون أن نتصالـح معـه ونفهـم رسـالته وأسـبابه ،فالكبـت والكتمان ،يف
ليتجسـد لـك بصورة
ّ الظـروف املناسـبة
َ يتحين
ّ احلقيقـة ،مـرض خمـزون
مؤذيـة ومد ّمرة.
يقول الرومي:
ال تشرق الروح ّإل من ُدجى ٍ
ألم..
تعا ُم ُلنـا مـع حلظات األمل هـو الذي ُيـدّ د وض َعنا األخالقي ومسـتوى
وعينا..
هناك من ين ّقب يف داخله بحث ًا عن رسالة طمأنينة وحكمة وسالم..
يتسـول املسـكّنات اخلارج ّيـة كالرغبـات العابـرة ،أو من
ّ وهنـاك مـن
خلال الوهـم أو إلقـاء املسـؤول ّية على القـدر وعلى اآلخرين.
األمل رمحة ألنه نور الوعي..
فعندمـا تواجـه األمل وتعيشـه وتفهـم رسـالته وتسـتجيب للتغيير
املطلـوب ،سـتحصل عىل التشـايف واخلبرة ،وتسـتعيد سلامك الداخيل.
حتمل مسـؤولية
تسـتمر يف التذ ّمر والشـكوى ،ألنك غري قادر عىل ّ
ّ أنت
ستسـتمر يف املعاناة ،وسـتطول فرتة التشـايف ولن تسـتطيع أن
ّ أ َلك ،لذلك
تستوعب وأن تفهم سـبب األمل ورسالته..
تعام ُلنـا مـع حلظـات األمل هو الـذي حيـدّ د وضعنا األخالقي ومسـتوى
وعينـا ..فهنـاك مـن ين ّقـب يف داخـل روحـه بحثـ ًا عـن رسـالة طمأنينـة
يتحمل
ّ يتهرب مـن املواجهة وال يسـتطيع أن
وحكمـة وسلام ،وهناك من ّ
83
ٍ
انعكاس مسـؤولية االختلاالت التـي تقـف خلـف وجـود األمل ،فأسـوأ
للأمل هـو عندمـا نعتقـد بأننـا ال نسـتح ّقه ،ففـي اللحظـة التـي نتق ّبـل فيها
األمل ونؤمـن بأنه اسـتحقاق سـيحدث التشـايف والتغيري والنمـو الروحي .
مـن املهـم جـد ًا أن نسـتطيع التمييز بين نوعني َ
رئيسين مـن األمل :األمل
وكل منـا يملـك القـدرة على ذلـك مـن خلال احلقيقـي واألمل الزائـفّ .
تأ ّمـل وتت ّبـع أصل مشـاعر األمل وفهم أسـبابه والتسـاؤل :هل هي أسـباب
حقيقيـة ُمسـتح ّقة ملشـاعر اخلـوف التـي تعرتينـا ،أم هـي هت ّيـؤات أنواتنـا
الزائفـة ،والتـي أصبحـت تَشـعر باخلطـر لتهديـد ما؟.
األمل احلقيقـي هـو أمل نعمة كونه نتيجـة عاطفة حقيقية ونقية وألسـباب
متناغمـة مـع القيـم الروحيـة اإلنسـانية ،قيـم الرمحـة والتعـاون واحلكمـة
ٍ
مـؤذ ألنـه ال ُيكبـت ،بسـبب التصالـح التـا ّم بين والنضـج ،هـو أمل غير
أفكارنـا وأجسـادنا وأرواحنـا ،فالكبـت هـو هـروب مـن مواجهـة وفهم
األمل ،أي هـو إمهـال للرسـائل اجلسـدية والعرتاضـات اجلسـد.
يف األمل احلقيقـي تبقـى الطاقـة متوازنة بفعـل ما نملكه مـن طاقة احلب
والثقـة واإليامن ،لذلك يسـتطيع اجلسـد التعامل معه واحتـواءه وترصيفه،
واالسـتفادة املهمـة مـن أثره عىل املسـتوى الشـخيص واإلنسـاين ..أما األمل
ٍ
مـؤذ جـدّ ًا على املسـتوى الشـخيص واإلنسـاين، الزائـف فهـو أمل نقمـة،
األعـم األشـمل نتيجـة خلـوف داخيل وخلـل يف مسـتوى الوعي ّ كونـه يف
والتفوق بر ِ
ّ املشـوهة ،رغبات الك ْ
ّ واإليمان ،هو نتيجة لرغبات الشـخصية
واحلسـد والغيرة ،ونتيجـة للكراهيـة والتعلق واملقاومـة واألنانيـة ،وألنه
أمل غير ُمتناغـم مـع القيـم الروحيـة لذلـك يقـوم عقلنـا الواعـي بكبتـه
واهلـروب مـن مواجهتـه واالعتراف بوجـوده ،ليظهـر يف حياتنـا الحقـ ًا
84
ليتحـول بعدهـا إىل أمراض
ّ على هيئـة توتّر وتشـوش واضطـراب ُمد ّمـر،
جسـدية ونفسـية خطرية ،بسـبب آثاره يف هدر طاقاتنا ،وبالتـايل انخفاض
شـديد يف مسـتوى الطاقة.
كل أمل هو عقوبة ،ورمحة..
نحـن نعاقب من قبـل القوانني الكونيـة الصارمة والعادلـة وكام يعاقب
املحـب تالميذه ،وألسـباب عديدة منها:
ُّ املعلـم احلريص
-التشايف من فعل أو فكرة أو نية سلبية (كارما) سابقة..
-الـردع ولفـت االنتبـاه إىل خلـل مـا ،سـواء أكان نفسـي ًا أم جسـدي ًا،
وألجل إعـادة التـوازن..
-املحافظة عىل نظام الوعي البرشي ورسيانه..
حتسـس مكان اجلرح ليشـفى ،إياك أن تسـتأنس به عندمـا تشـعر باألملّ ،
كطفـل يبحـث عن أي يشء يقتـل به ملله وفراغـه الداخيل.
أتدري ما األمل؟..
الـويف ،و ُمع ّلمـك النبيل الـذي ُين ّبهـك بدُ ن ّ
ُـو اخلطر ،وال ّ هـو صديقك
ُيغـادرك إال عنـد الصحـوة واالنتباه..
اسـمحوا ألرواحكـم أن تتيـه عـن عقولكـم ،لكـن إياكم أن تسـمحوا
لعقولكـم أن تتيـه عـن أرواحكـم ..هذه هـي حكمـة التيه....
سـيتحول عندك املجهـول والغامـض إىل معلوم،
ّ يف ومضـة مـن الزمن
ً
مهيـأ إلتقـان رؤيـة األشـياء وفـق حقيقتهـا املجـردة، ألنـك أصبحـت
ً
مهيـأ للرؤيـة الروحيـة الناصعـة .تلـك الرؤيـة اخلاليـة مـن وأصبحـت
شـوائب األحـكام املطلقـة والتصنيـف واملقارنـة ،واخلاليـة مـن املؤثـرات
85
العاطفيـة ،واملتحـررة مـن قيـود النظرة الض ّيقـة التي ال تُـدرك ،وال يمكن
هلـا أن تسـتوعب تكامـل األشـياء واألحـداث ،وال تفهـم ديناميـة احلركة
الكونية.
الرؤيـة الروحيـة هـي اإلدراك لسيرورة التكامـل الكـوين ،والوعـي
بـأن كل مـا يف الوجـود يسـاعد ويسـاند بعضـه بعضـ ًا مـن خالل وسـائل
مسـاعدة مسـتدامة ،ورسـائل إرشـاد وإهلـام ال تنقطـع ،إال ملـن استسـلم
لرؤيـة العقـل ،ولسـيطرة الفكـر ،ومـا تربمـج فيه مـن برجميـات موروثة،
تلـك الرؤيـة العاجـزة ،أو القارصة عن إدراك األشـياء التـي تكون خارج
نطـاق إدراك حواسـها اخلمـس ،وإال ملن تقوقع يف مشـاعر اخلـوف والقلق
والتوتـر واإلحسـاس ا ُملزمـن بعـدم األمـان والطمأنينة ،وإال ملن استسـلم
لفكـرة االنفصـال عـن املوجـودات ،واالنفصـال عـن فكـرة كـون كل
موجـود هـو موجـود لـدور مـا ،وهلـدف ،وغاية.
زاويـة الرؤيـة مـن خلال الـروح تعنـي احلـدس والبصيرة واإلهلـام،
واالقتران والتناغـم مـع سـبل التسـديد والتوفيـق اإلهلـي ،ففـي حلظات
صفائنـا الروحـي ال يمكـن لنـا أن نبرص القبـح أو اخلسـارات ،وال يمكن
لنـا أن نعـاين ،ألننـا أغمضنـا عني الفكـر وفتحنا عين القلب ،تلـك العني
القـادرة عىل متييـز اجلامل واجلـدوى يف كل األشـياء واألحـداث ،والقادرة
على متييـز احلقائـق مـن الزيـف دون بحـث أو جهـد أو اجتهـاد ،فحقيقـة
األشـياء هـي ثمـرة اللا فكر واللا عقيـدة والال انتماء...
التيـه يعنـي ّأل تنتمي لفكـرة ،أو تتبنّى فكـرة دون أخـرى ..التيه يعني
املراقبـة الواعيـة من أجل اسـتخالص صفوة وخالصـة األفكار..
يف التيه ستتأكّد أن املحبة هي صفوة وخالصة ّ
كل يشء.
86
اسمح لروحك بالتيه..
ْ كل يوم
تتغرب عن شتات اجلسد..
اسمح هلا أن ّ
لترشق بنورها الساموي...
احلقيقـة واحلريـة مهـا غايتـا الوجـود وتوأمـاه البِكـر ،ولكـي تدخـل
حـر ًا ،ولتكون حـر ًا جيب عليـك أن تكون
ح ّيـز الوجـود عليـك أن تكون ّ
متوه ٍج ٍ
ذهـن ّ حقيقيـ ًا ،وألجل أن تكـون حقيقي ًا ،جيب أن تسـعى المتالك
مـرن قـادر على التحرر مـن املعـارف السـابقة والربجميـات املوروثة.
فـإذا مـا كان ثمـة مقياس حقيقـي لعمر اإلنسـان فال بـدّ أن يكون بعدد
األفكار التـي دارت يف ذهنه.
نفسـك مـن براثـن ِ
حقيقـة احلريـة تبـدأ يف اللحظـة التـي تُعتـق فيهـا َ
أفكارهـم ،وختـرج عـن قوالبهـم وبرجمياهتم ،حقيقـة احلرية هي أن تسـلم
نفسـك للتيـه ،و تنـأى هبا عـن دروهبم وتتخلص مـن طباعهـم وعاداهتم. َ
عليـك أن تكـون مـن البعـد بحيـث ال يكـون باسـتطاعتهم أن
ويقولِبـوك ..كـن بعيـداً جداً ّ
يجـدوك ،وأن ميسـكوا بـك ليشـكلوك ْ
كاجلبـال ،كالهـواء ،غيـر امللـوث ،كمـا صرخ يومـاً احلكيـم الهندي
ـدو كريشـنا مورتي". ِ
"ج ُ
سـتكون حـر ًا يف اللحظـة التي تنحـر فيهـا ذاكرتك عىل مذبـح اللحظة
اآلنيـة .سـتكون حـر ًا حين تلتقـي مـع روحـك وجهـ ًا لوجـه ،مـن دون
احلقيقـي ،وتالمس
ّ تشـوهات ،لتالمـس جوهرك وسـائط ،ومـن دون أي ّ
فيض ّ
ليتجلى من خاللك للوجـود ٌ البهـي يف داخلك،
ّ اإلهلـي
ّ ذلـك النـور
طاهـر من النقـاء واحلكمـة والنعمـة واإلبداع.
ولتكـون حقيقيـ ًا إ ّيـاك أن تنطلي عليـك خدعة األسماء؛ فهـي أكثر ما
يـزور احلقيقـة ،فاحلقيقـة ليسـت بعيـدة .األسماء تبعدهـا كما يقـول عبـد
ّ
الـرزاق اجلربان.
87
بمكرهـم اسـتطاعوا أن جيعلـوا لألسماء هبرجـ ًا وسـحر ًا مـن النـادر
اجعـل بينـك وبين األسماء مسـافة مـن ّ
شـك ،فالـروح النقية ْ يقـاوم،
أن َ
ِ
هيمهـا اجلنـس وال العـرق وال َيسـحرها املعنـى وت ِ
ُلهمهـا الفضيلـة ،وال ّ
أي هو ّيـة أخـرى.
الديـن ،وال ّ
من أين ألش ّعة الشمس أن ختاف التيه..
وهي بسمة الشمس ،التي َتزم الظالم..
ومن أين ألرواحنا أن ختاف التيه..
اإلهلي..
ّ وهي بسمة النور
بـاب احليـاة بقوارب التيه والدهشـة ،دهشـة األرواح العظيمـة َتخـر ُع َ
االكتشـاف ومتعـة التجـارب اجلديـدة ،دهشـة اكتشـاف األشـياء بعقـل
تحـرر من
متحـرر من إسـقاطات املـايض ،و ُم ّ ّ حيـوي ُمتنـا ٍم ،عقل
ّ جديـد
اشتراطات الربجميـات املوروثـة .مـن هنا حيدث الشـعور باألشـياء ،ومن
ّ
يتجلى الفهم النقـي ،ويتجىل بالتايل فهمنـا وإدراكنا للحيـاة ولتكوينها هنـا
ولتامسـكها وتكاملهـا بموجوداهتا.
علينـا أن نعيـش احليـاة وكأننـا ُمسـافرون يف رحلـة اكتشـاف ،فـكل
حلظـة حتمـل يف طياهتـا احليـاة ،وكل حلظة هـي والدة جديـدة ،وكل حلظة
متتلـك يف طياهتـا القـدرة على التغيير ،كل حلظة حتمـل يف داخلهـا املعرفة
والدهشة.
كل األحـداث ،حتـى املؤملـة منهـا والقاسـية ،هـي أحـداث صديقـة ّ
وحكيمـة..
ّ
وسـيتجل لك عندمـا تعيـش دور املراقب تكون أنـت البطل احلقيقي،
الفهم والوعـي واإليامن كعطايـا ونِ َع ٍم كونية.
88
هنـاك أوقات تشـعر فيهـا بامللل يف حياتك ،وتشـعر بـأن حياتك باتت
ـاص بـاألمل واخلـوف والقلـق ،ذلـك ألنك عبثيـة وبلا طائـل ،وأنـك ُم َ
قـررت بأنـك تفهـم ،أو أنـك قد قـررت وجز ْمت بأنـك ال تفهـم ،فعندما ّ
تقـرر بأنـك تفهـم فأنت ال تفهـم ،وعندما تقـرر بأنك ال تفهـم فأنت أيضاً
ّ
ال تفهـم .فأنـت يف احلالتني تكـون خارج احليـاة ألنك خـارج نطاق رحلة
االكتشـاف واملعرفـة والفهـم ،فالتحديـد واجلـزم والتصنيف هـو مجود بل
هو مـوت قبـل املوت..
ٍ
مكتف مـن يشـعر بأنه خـارج احلياة هو إنسـان ميت ،ومن يشـعر بأنـه
يف هـذه احلياة هو إنسـان ميـت أيض ًا.
كل يشء ،وتثبـط يف تلكهنـاك أوقـات تشـعر فيها بالسـأم وامللل مـن ّ
األوقـات عزيمتك ،ويسـيطر عليك إحسـاس بالال معنـى ،وبالال جدوى
مـن احلياة..
يف هـذه األوقـات مـن غير ا ُملجـدي أن حتـاول اسـتيعاب روحـك،
وحماولـة ختديرهـا وتسـكينها ،وختطـئ يف فهـم فحـوى الرسـالة ،عليـك
الومهـي الفاصل
ّ أن تفهـم أن روحـك تُريـد منـك أن حتفـر ثقب ًا يف اجلـدار
بينـك وبين احليـاة ،وبينـك وبين املعنـى والغايـة..
أرواح التائهين تُدرك أن الوصـول يعني املـوت ،وأن املتعة يف الطريق،
و تُـدرك أن الرحلـة مسـتمرة بلا حـدود ،وأن اإليمان واحلقيقة والعشـق
واجلمال والوعـي ،كلهـا بال حـدود أو قيود.
أتدري ما اخلرسان العظيم؟..
حمم ً
ال بأفـكار اآلخرين ،دون أن هـو أن تغادر هـذا العامل تابع ًا ،مق ّلـد ًاّ ،
لذة ودهشـة اكتشـاف األشياء!.. تَغمرك ّ
السـائرون مـع القطيع سـيعرفون إهل ًا َخلقـ ُه الناس ،والتائهـون ُفرادى،
ـق الناس. سـيعرفون اهلل الذي َخ َل َ
89
مل يعـدْ لإلنسـان طريـق يصـل بـه لكينونتـه وخلالصـه ،فـكل الطـرق
بدء جديد، باتـت تتشـابه ،يف كوهنا طرق ًا دائريـة ال تؤدي هناياهتا سـوى إىل ٍ
ّ
املوروثـات -املعـارف -الفلسـفات -األنظمـة التعليميـة ،ورغـم كل
تلـك الطرق ورغـم كل هذا املدى الواسـع مـن التطورات واالكتشـافات
املعرفيـة التـي بلغهـا العقل البشري ،ورغـم كل تلك الثـورات وعمليات
التغيير والديمقراطيـات التي شـهدهتا البرشيـة ّإل أهنا مل تسـتطع أبد ًا إنقاذ
اإلنسـان مـن البـؤس والدمـار واحلـروب والضيـاع ،وإنقـاذه مـن ظلمـه
لنفسـه ،ومـن ظلمـه لآلخريـن ،ومل تسـتطع أن تُنير لـه حياتـه وتشـعره
باألمـان والطمأنينـة ،ومل تسـتطع أن تكشـف لـه احلقيقة ،بـل إن ما حدث
هـو العكـس متامـ ًا؛ فـكل هذه األشـياء قد تظافـرت لفـرض العبودية عىل
اإلنسـان ،وانتزاعـه مـن ذاته وتغريبـه عنها ،من حيث يشـعر أو ال يشـعر،
وهـو غالب ًا ال يشـعر.
ثمة ضـو ٌء يلوح يف ُأفقـه ،ألن حلكة النفق أصبحـت المتناهية، مل يعـد ّ
فاإلنسـان َأبصر يف كل االجتاهـات ،واسـتمع لـكل األوثـان ،وبحـث يف
كل اخلفايـا ،ومل يبصر أو يسـتمع لذاتـه .ومل يبحـث يف داخلهـا ،ومل يعـد
لإلنسـان بـدٌّ سـوى الثـورة على كل مـا هـو خـارج ذاتـه ،على كل ِع َض ِ
ـة
ٍ
منطـق ال يتكلم وفق منطـق روحه، ِ
بالغـة سـيايس ،وعلى كل ٍ
كاهـن ،أو
وعلى كل فلسـفة ال يكـون جذرها األهم اكتشـاف منابـع اإلرشاق وكنوز
احلكمـة واإلبـداع يف داخله.
على كل مـن يدعـي سـعيه إلنقـاذ اإلنسـانية وخللاص اإلنسـان مـن
عذاباتـه وفوضـاه الوجوديـة ،وعلى كل مـن ترنـو عينـاه صـوب إنسـانية
اإلنسـان وسـعادته وألقـه ،أن يـدع اإلنسـان وشـأن َه.
90
أهيـا اإلنسـان ..مهما كان جنسـك ،ومهما كان لونـك ،ومهما كان
عمـرك ،ففـي داخلـك نبـي وفيلسـوف وطبيـب ،ويف ثنايـاك ِ
عـال وفنان ّ
يتجسـد
ّ وعاشـق ،فيـك انطـوى الوجود ،وفيـك أقطـاب احلقيقة ،وفيك
قيمـه السـامية ،فما لـك ال
ذكاء الكـون وقدرتـه وإبداعـه ،وفيـك تسـمو ُ
تأمـن إال بالقطيـع وال تطمئـ ّن إال بالقيـود! ..وأنـت تعلـم أن كل عظماء
التاريـخ صنعتهـم الغربـة ّ
اخللقـة ،والوحـدة الف ّياضـة ،فما لـك ترمتـي
بأحضـان الراعـي ،وأنـت تعلـم بأنـك تتعـرض ألقـذر عمليـة اسـتغالل
وتنويـم ،تـارة باحلـروب ،وتارة بآلـة اإلعالم ،وتـارة بشركات األدوية،
وتـارة باألشـياء الكامليـة االسـتهالكية!..
أهيا اإلنسان ...أما آن أوان الصحوة؟!..
زوده بنفخـة مـن روحـه نفحـة فيهـا احلكمـة كل إنسـان خلقـه اهلل ّ
والـذكاء والقـوة واملحبـة املطلقة ،وفيها الرمحـة واجلامل والصفـاء والقدرة
على اختراق كل مكنونـات الكـون .ليـس هلذه احلكمـة عالقـة باحلواس
متجسـدة بصـورة واضحة عند ّ وال بالعقـل ،إنما هـي جوهر وروح ،هـي
الطفـل ،ثـم ال يلبث أن حيصـل اعتداء عىل هـذه الفطرة من ِقبـل املجتمع؛
ا عىل كل ما من شـأنه االبتعاد بقوانينـه وتعاليمـه ،ومنهج ّيته املشـ ّيدة أصل ً
عـن هـذا اجلوهر ،هـذا االعتداء هـو بالضبط مـا قصدته األديان السماوية
الفقه ،ومـن أجل هدفهم وحـذر منـه األنبياء مجيعـ ًا .لكن كَهنـة ِ
ّ بالشرك،
َ
يف السـيطرة واالسـتحواذ والتخديـر ،وكما هـو َد ْيدَ هنم عىل طـول التاريخ
زوروا مفاهيم الشرك والكفر والعبـادة لتتواءم وعلى العـرض اجلغـرايفّ ،
مـع مـا يصبـون إليـه .فمعنـى الشرك هـو أن تعبـد معبـود ًا مـن دون اهلل،
أي أن تسـتبدل جوهـرك وقيمـك اإلهليـة وأنـوار روحـك بأفـكار غريك،
91
وأن تسـتبدل حمبتـك بالكراهية -والتعصـب والرمحة بالظلم ،-والسلام
بالغضـب -والقلـق -واحلريـة باخلضـوع -واحلكمـة باجلهـل -واجلامل
بالقبح.
اهلل تعـاىل خلـق اإلنسـان حمبـة لـه ،يريده أن يسـمو بنفسـه إىل السماء،
متفـرد ًا مكتفيـ ًا بذاتـه
ّ وأن يصنـع جنتـه بنفسـه على األرض ،يريـده فـرد ًا
حـر ًا ،ذكيـ ًا ،مؤمنـ ًا ب ُقدراته ،ألهنـا باألصل قـدرات كونية هائلـةُ ،قدرات
خطرة جـد ًا عىل الكافرين ،أولئـك ا ُملتصدّ ين هلـذه اإلمكانيات وامللكات،
سـواء بقتلهـا أو تزويرهـا أو إخفائها.
92
الفصل الثالث
رحلة الوعي والتنوير
نُولـد كُلنـا يف املنطقـة املحايـدة الفاصلة بين اجلنة واجلحيـم ،هذا يعني
تقربنـا من اجلنة هـي تبعدنا عـن اجلحيم.
أن كل خطـوة وعـي بقـدر ما ّ
املوسـع لألشـياء ،أي رؤيـة األشـياء مـن وجهـة
الوعـي هـو اإلدراك ّ
التحول
ّ متنـورة متحـررة مـن متوضعـات العقـل ،هـو حالـة نظـر روحيـة ّ
مـن إنسـان (مل يكـن شـيئ ًا مذكـور ًا) ،أي جمـرد وجـود مـادي ،إىل إنسـان
يمتلـك القـدرة على رصد ومتييـز احلقيقـي من الزائـف ،هذه القـدرة التي
سـيملكها مـن خلال التامهـي مـع الوعي الكـوين ،ومـن خالل اسـتلهام
النفخـة اإلهل ّيـة واستشـعار النـور اإلهلـي يف داخلـه ،ألجل حتقيـق الذات،
وألجـل الوصـول بالنفـس حلالـة التنوير.
الوعـي هـو اخلـروج من عتمـة النفـس إىل أنـوار الوجود ،هـذه العتمة
هـي ظلمات الــ " أنـا" الزائفـة ،وهـي العائق األكبر يف طريـق الوصول
حلالـة التنويـر ،صحيـح أن وجـود الكائـن البشري حتيـط بـه تعقيـدات
مؤثـرة عـدّ ة على املسـتويني الداخلي واخلارجـي ،لكـن كل التعقيـدات
تتموضـع يف النهايـة يف "أنـاه" الزائفـة ،فهـي تكـون بمثابـة احلقيبـة التـي
حيملهـا على ظهـره وحيمـل يف داخلهـا أوزار ًا مت ّثـل كل إفـرازات مـا حييط
بـه مـن تعقيـدات داخلية (خماوفـه ،نرجسـيته ،معاناتـه ،رغباتـه ،مطامعه)
وتعقيـدات خارجيـة تكـون على هيئـة برجميـات موروثـة ،أو على هيئـة
تسـ ّلط سـيايس ودينـي ،ومصـادرة لقـواه الروحية.
93
ليـس للوعـي عالقـة بكميـة املعرفـة أو الثقافـة أو املسـتوى الـدرايس
بقـدر مـا لـه من عالقـة باليقظـة الداخليـة واالنتبـاه ،وغـزارة ما يكتشـفه
اإلنسـان بداخلـه مـن قيـم املحبة والرمحـة والتسـامح واحلكمـة واإلبداع،
فهنـاك الكثير ممّـن يعيشـون يف عاملنا وهـم عىل درجـة متقدّ مة مـن الوعي
الفطـري والرتبيـة الذاتيـة .ومن املؤكّـد أن هذا الوعـي ال يـأيت اعتباط ًا بل
نتيجـة انتبـاه ألفكارنـا ومشـاعرنا وأفعالنـا وردود أفعالنـا جتـاه األحداث
وفهـم وإدراك أصـل كل فكـرة وفعـل وشـعور ،ويتبلـور وعينـا نتيجـة
المتلاء أنفسـنا بقيـم أرواحنـا اجلميلـة ،فكلنـا نتعـرض ملواقـف مؤملة أو
حمزنـة أو حمرجـة ،هـي أشـبه بـدروس ورسـائل كونيـة ألجـل أن نفهـم
وأن نرتقـي بأنفسـنا ،كـون هـذا االرتقـاء هـو ما جيلب ألنفسـنا السـعادة
واالسـتقرار الداخلي والتوازن النفسي ،والذي ينعكس بـدوره عىل جممل
أفعالنـا وتعامالتنـا مـع اآلخرين.
صبـي يف
ّ يف إحـدى قصـص الكاتبـة آن ويمـز املعبرة تتحـدّ ث عـن
اخلامسـة مـن عمـره أراد أن يمسـك مزهريـة موضوعـة يف مـكان ٍ
عـال يف
أعـز مقتنياهتا،
البيـت ألهنـا ،وحسـب ما أخربتـه والدتـه أكثر مـن مـرةّ ،
ألهنـا قديمـة جـد ًا تعـود جلـدّ ُأ ّمهـا ،وهـي هديـة ُأمهـا هلـا .لكـن الصبي
ولضعـف يديـه أسـقط املزهرية وحت ّطمـت ،وما أن المسـت األرض حتى
أخـذ الطفـل يبكـي بحرقـة وأمل وتعاىل بـكاؤه ليتحـول إىل عويـل ،وما أن
سـمعت بـكاءه حتـى جـاءت راكضة ووقفـت تنظـر إىل ابنها وقـد عرفت
مـا فعـل ،وهـي تنظـر إىل األمل يف عينـي ابنهـا ،ال شـك أن قيمـة الرمحة قد
طفـت إىل سـطح نفسـها فأهلمتهـا بـأن تقدّ م هـي البنهـا هدية ثمينـة جد ًا،
حتـى أثمـن مـن كل ماديـات العـامل ،والتفتـت إليـه وقالـت :شـكر ًا هلل يا
94
ولـدي أنـك بخير ،لقـد ظننـت أن مكروهـ ًا أصابـك .احتضنتـه بحنـان
كف عن البـكاء وقالـت مجلتهـا الكبرية بسـلوكها وليس
وهدهدتـه حتـى ّ
بلسا هنا :
"أنت كنزي"
إىل اآلن ،وعلى الرغـم مـن أنـه رجـل ناضـج مـا زالـت تلـك اهلديـة
األقـرب إىل قلبـه واألوضـح فيـه.
َ
يف رحلـة التنويـر ليـس عليـك أن تصل إىل مـكان ،أو وض ٍع مـا ،أو أن
تكسـب شـيئ ًا جديـد ًا ،أو أن تصـل ملرحلـة مـا ،كل مـا عليك فعلـه هو أن
تفهـم األشـياء التي تؤذي نفسـك وتـؤذي اآلخريـن ،وحتاول جاهـد ًا أن
تتجنّبها..
كيف نُم ّيز اإلنسان الواعي؟
اإلنسـان الواعـي بـارع يف املحافظـة على اسـتتباب وضعـه الداخلي،
عطب نفسي يبحـث عـن مسـبباته يف الداخل
ٌ ألنـه يف كل مـرة حيـدث لـه
ويصلحـه باالنتبـاه والرتكيـز والفهـم.
عتل عن نسـتطيع أن نميـز اإلنسـان املتعـايف مـن اإلنسـان املريـض وا ُمل ّ
طريـق حركتـه وحيويتـه ونشـاطه وشـكله ،لكـن كيـف نسـتطيع أن نم ّيز
اإلنسـان األكثـر وعيـ ًا مـن غيره األدنى؟.
مهمـة وهـي أن الوعـي يتع ّلـق بمـدىبدايـة ،علينـا أن نفهـم نقطـة ّ
متاسـنا ومتاهينـا مـع الداخـل النقـي ،ومـع انعـكاس ذلـك التامهـي على ّ
أسـلوب حياتنـا وعلى أفعالنـا ،وعلى ن ّياتنـا وأفكارنـا ،وانعكاسـه على
رؤيتنـا جتـاه وجودنـا وجتـاه فعاليتنـا يف ذلـك الوجـود ،وال ُيمكـن لوعينا
أن يتعلـق بمـدى ثقافتنـا أو ا ّطالعنـا ومعرفتنـا اخلارجية ،بمعنـى أنك لن
95
تكـون شـخص ًا واعيـ ًا بمجـرد أنـك قـرأت أو اسـتمعت أو تكلمـت بلغة
ومفـردات الوعـي ،سـتكون واعيـ ًا عندمـا ينعكـس وعيك على أدائك يف
احليـاة وعلى عالقاتـك مـع مـن حولك مـن األشـخاص واألشـياء.
هنـاك الكثري من األشـخاص يتمتّعـون بوعي ٍ
عال ذايت فطـري تلقائي،
تسـتطيع أن متيزهـم مـن خلال تفاعلهـم وتعاملهـم مـع الواقـع ،فرتاهم
يتعاطـون مـع واقعهـم مـن خلال قيـم مجاليـة مفعمـة بالبسـاطة واليسر
واحلنكـة واحلكمة والبناءُ ،متسـامني فـوق أن ََواهتم ومتجاوزيـن ألوهامها
وزيفهـا .فالوعـي احلقيقـي يتعلق بمدى قدرتنـا عىل كرس الربجمـة املتوارثة
وترويـض أنواتنا الطائشـة.
نستطيع أن نميز اإلنسان الواعي:
-مـن خلال نشـاطه وحيويتـه ولغتـه واحرتامـه وتواضعـه وحكمته
وفاعليتـه ونزاهتـه ورشفه.
-مـن خلال شـعوره باملسـؤولية جتـاه األشـياء واألحداث مـن حوله
لكـن دون لـوم أو إدانـة لنفسـه ولآلخرين.
-مـن خلال قدرته عىل اسـتخدام لغة تفاؤليـة مؤمنـة ،أي لغة واقعية
حقيقيـة .هـذه الرؤيـة بالتأكيد هـي نتيجة جتـارب وليسـت اعتباطية ،رؤية
مؤمنة بالوفـرة واإلعانة الكونية املسـتدامة.
-اإلدراك بـأن املحبـة النقيـة اللا مرشوطة هـي العالج األكثـر فاعلية
لـكل معاناة اإلنسـان وأمراضه ومشـاكله النفسـية.
(التطـور ،احلكمة ،السـعادة ،اهلدوء
ّ -الرتكيـز عىل اإلنجـاز الروحـي
الداخلي ،السلامة النفسـية) .ألنـه بمقاييسـه هـو النجاح احلقيقـي األهم
وليسـت النجاحات واإلنجـازات املاديـة األخرى.
96
أتغي؟..
كيف ّ
كيف أصل للوعي أو التنوير؟.
كيف أصل حلالة االطمئنان الداخيل أو ملستوى النفس املطمئنة؟.
مهمـة وتتر ّدد كثير ًا ،ومن أجـل فه ٍم واسـع للموضـوع علينا
أسـئلة ّ
أن نأخـذ باالعتبـار بعـض األمـور اهلامة:
* عملية التغيري ال بدّ وأن تكون بقرار داخيل وإرادة صلبة.
* تبـدأ عمليـة التغيير أوالً على مسـتوى املفاهيـم ،أمهيـة املفاهيـم يف
كوهنـا الركيزة األساسـية لنوعيـة التفكري ومسـتوى املشـاعر ،فهي تعكس
مسـتوى وعـي الفـرد ومـن خلال نظرتـه للحيـاة واملجتمـع والديـن
والفلسـفة والعلـم والتاريـخ .هناك مـن يقول ُأريـد أن أتغير وأمتنى ذلك
لكن ال أسـتطيع ،فاملشـاعر ليسـت كافية وكذلك التفكري .املهم أن نسـعى
لتغيير مفاهيمنـا حسـب رؤيتنـا وأهدافنـا وأحالمنـا وآمالنـا ،وأن يكون
كل ذلـك على املسـتوى الروحـي وليـس املادي.
* للعمـر الزمنـي أمهيـة قصـوى يف عمليـة التغيير ،وال يمكـن هلا أن
ُتمـل ،صحيـح أن الوعـي والنضـج ال يتعلقان بسـ ٍّن معني لكـن للتجربة
أمهيـة قصـوى يف عمليـة التغيير ،وكما هو معـروف لـكل مرحلـة عمرية
ظروفهـا وطاقتهـا ورغباهتـا وتفاعالهتـا الداخليـة .ففـي مرحلـة املراهقـة
والشـباب يصعـب كثير ًا فعـل التغيري ،كـون اإلنسـان يف هـذه املراحل قد
للتـو يف اكتشـاف املجتمـع وبيئتـه والسـعي للتفاعـل معها واكتشـاف
بـدأ ّ
احليـاة واإلحسـاس هبويتـه ،وقـد بـدأ للتـو يف التفكير يف مسـتقبله املهني
واالجتامعـي ،تأخـذ األمـور هذه حيـز ًا كبري ًا مـن تفكريه ومشـاعره لذلك
نقـول :صعـب جد ًا الرتكيز على موضوع التغيير ،وعىل الوصـول ملرحلة
97
االسـتقرار الداخلي والسلام النفسي ،لكـن ذلـك ال يمنـع مـن السـعي
ال مهم ًا يف تعزيـز اإلدراك والتجربة
للثقافـة واملعرفـة واالطالع كوهنـا عام ً
والقـدرة على التغيير على مسـتوى املفاهيـم ،واخلـروج مـن قيـود البيئة
واملجتمـع وبرجمياته.
الوعي لعنة ومرض ،التنوير معاناة وأمل.
هل تعلم ملاذا؟
ألنـك سـتضطر إىل أن تكـون صادقـ ًا مـع ذاتـك وت ّ
ُسـمي األشـياء
بمسـمياهتا احلقيقيـة ،وسـتكون قادر ًا على فهم ووعي أفكارك ومشـاعرك
وأفعالـك ،و ُمتمكنـ ًا مـن االنتباه ألصلها وفيما إذا كانت زائفـة أم حقيقية،
ممـا يعنـي اسـتيعابك وسـيطرتك على أنـاك الزائفـة والتـي سـتقابل هـذا
االسـتيعاب بالطبـع بحـرب دفاعيـة مسـتميتة ومؤملـة بقصـد الدفـاع عن
نفسـها وعـن وجودهـا ،وسـتضطر كذلـك إىل مواجهـة قلقـك الوجودي
احلقيقـي والفطـري األصيـل ،وسـتولد مـن داخلـك األسـئلة الوجودية،
كنـت سـابق ًا تعتبر هـذا القلق خمـاوف وتعـزو أسـبابه ألكبـاش فداء َ فقـد
عديـدة ختلقهـا أنـت سـواء على مسـتوى برجمتـك أو حتـى على مسـتوى
معرفتـك وثقافتـك ،فالتفسيرات والنظريـات العلميـة كانـت تعـزو هذا
القلـق تـارة للكبـت واملخاوف اجلنسـية وفـق رؤيـة فرويد ،وتـارة لنقص
احلـب واالنفصال عـن اآلخرين حسـب رؤية أريـك فروم ،وتـارة أخرى
السـارة يف الطفولـة حسـب رأي أرثـر جانوف.
ّ إىل بعـض اخلبرات غير
شـك سـيم ّثل ما يشـبه الصدمـة للعقل،هـذا الوضـع اجلديـد بال أدنى ّ
ويسـبب آالمـ ًا مزمنـة ومعانـاة داخلية بسـبب الدفاع املسـتميت للــ "أنا"،
ررات الكسـل والبقاء يف للبقـاء يف منطقـة الراحـة السـلبية ،ويف نطـاق مب ّ
98
دائـرة املألـوف ،ولن ينتهي هـذا اجلحيم حتى َت َتك َّشـف لك أنـوار روحك
وتتعلـم كيف تسـتلهم مـن أنوارها.
حـاول أن تتخلـص مـن قلقك هـذا ،من خلال تعزيـز الثقـة بالنفس،
وأنـا أضمـن لك اسـتعادة الطفـل مـن داخلـك بحيويته وهبجته وسلامه
الداخلي وإقباله على احلياة..
كل مـا قيـل ويقـال عـن الوعـي اإلنسـاين هـو يف حقيقتـه مـن أجـل
الوصـول باإلنسـان ملسـتوى يعيش فيـه متوازن ًا بال معانـاة ،وبال رصاعات
فكرية أو جسـدية ،سـواء مع نفسـه أو مع اآلخرين .الوعي إرادة ،وجهد
مسـتمر ،وصرب عظيم ،فاإلنسـان الواعي هو من يسـعى المتالك السيطرة ّ
على أفـكاره ومعتقداته ،بالتيه عـن كل املكتسـبات الذهنية السـابقة ،تلك
التـي ورثهـا مـن املجتمـع واألهـل والبيئـة ،والسـعي للسـيطرة على أنـاه
الزائفـة وحتييدهـا ،مـن خلال االنتبـاه والفهـم واإلدراك ،ومـن خلال
السـيطرة على رغباتـه الشـا ّذة وحتييدهـا ،أيض ًا من خلال االنتبـاه والفهم
واإلدراك ،معنـى التحييـد هنـا يعنـي أن نفهـم أننـا لسـنا األفكار ،ولسـنا
أن ََواتنـا الزائفـة ،وال رغباتنا الطائشـة ،هـذا التحييد والفهم هـو ما نقصده
التحـول الـذي حيمـل اخللاص للجنـس البشري ،وهـو ّ بالوعـي ،وهـو
التحول.
ّ يتحمل مسـؤولية هـذاّ جهـد فـردي ،وكل فـرد منـا
كيف لقمر روحك أن يبزغ من الظ ُلامت؟.
وأنت تسكن يف ظالهلم..
وتدير وجهك لشمس اهلل!..
أقـرب ُمصطلـح للمقصـد اإلهلي ملعنـى اإليامن هـو ُمصطلـح الوعي،
لكـن لألسـف ُأفرغـت كلمـة اإليمان ممّـا تعنيـه ،و ُأفرغـت مـن جوهرها
99
آخر يناسـب ُمراد ا ُملتسـ ّلطني وأصحاب العقائد.
احلقيقـي ليصبح هلا معنى َ
مـن يعـرف حقيقـة اهلل سـيفهم أن اإليمان هـو الوعـي ،هـو الوعـي
ّ
يتجلى إال باالسـترشاق الـذايت، اإلدراكـي والشـعوري الـذايت الـذي ال
وال يمكـن أن ُيع ّلمـه مع ّلـم أو كتـاب أو مدرسـة ،ومـن يعـرف حقيقة اهلل
سـيعرف حقيقـة نفسـه ،ومـن يعـرف حقيقـة نفسـه سـتكون أفعالـه غري
خاضعـة لرغبـة أو انفعـال أو تفكير أو تـر ّدد أو حسـابات منطقيـة ،بـل
تكـون خاضعـة لشيء أعمـق مـن البصيرة وأبعـد مـن الثقـة ،يشء كأنـه
القـدر املنير...
ـار طاعـن يف السـ ّن يدعـى (هـول) يف زمـن ازدهار السـفن بح ٌ
عـاش ّ
الرشاعيـة ،كان بحار ًا أسـطوري ًا ومشـهور ًا وموقـر ًا بوصفه ّ
البحـار األكثر
نجاحـ ًا يف أيامه.
ا يف البحـر ،وكان األقل خسـارة كان دؤوبـ ًا يف عملـه ويمكـث طويل ً
بحـار آخـر ،كان هول للرجـال يف أثنـاء صيـد املزيـد من السـمك مـن أي ّ
كثير ًا مـا ُيسـأل عـن قدرتـه غير العاديـة واخلارقـة يف البقـاء هـذه ا ُملـدَ د
الطويلـة يف البحـر مـن غير معـدّ ات مالحيـة ،فـكان ُييب ببسـاطة:
كنـت أرتقي ظهـر املركـب و ُأصغـي إىل الريح
ُ كل مـا أفعلـه هـو أننـي
واألرشعـة ،أفهم انحدار البحـر وأنظر إىل النجوم ،ومن ثـم ُأ ّقرر وجهتي.
لكـن األحوال تغريت يف البالد ،فقد نشـطت كُربيـات رشكات التأمني
ورص َح أرباهبـا أهنـم لـن يقدمـوا تأمينـ ًا للسـفن إن مل يكـن
على السـفن ّ
القباطنـة قـد تلقـوا تدريبـ ًا مناسـب ًا وموثوقـ ًا على السـفن ّ
خيوهلـم اإلبحار
يتلق
هبـا ،كانـوا على درجـة شـديدة مـن التردد يف إخبـار هـول الـذي مل َّ
تعليم ًا رسـمي ًا معرتفـ ًا بـه ،لكـن دهشـتهم كانـت كبرية حين قال:
100
إن كان ال بــدّ مــن هــذا التدريــب فــا بــأس ،ســأذهب لتل ّقــي املناهــج
املالحية.
وختـرج بدرجـة عالية ،اسـتبدّ بـه احلنني إىل
ّ انظـم هـول إىل التدريبـات
ّ
البحـر ،ومـا إن وصـل إليـه حتـى رشع يف رحلـة طويلـة ،ويف يـوم عودته
اجتمـع سـكان املدينة كلهـم ملقابلته وسـألوه:
هـول ..كيـف كانـت رحلتـك مـع كل تلـك اخلرائـط واملعـادالت؟.
اعتـدل هـول يف كرسـيه ثـم أجـاب:
األمـر يف غايـة البسـاطة ،كنـت حين ُأريـد معرفـة موقعـي يف البحـر
أذهـب إىل قمـرة القيـادة أنشر اخلرائـط واجلـداول ،و ُأجـري املعـادالت
احلسـاب ّية و ُأحـدّ د مسـاري بدقة علمية ثـم أرتقي إىل ظهـر املركب و ُأصغي
إىل الريـح واألرشعـة ،وأعـي انحدار البحـر ،وأنظر إىل النجـوم ،ثم أعود
ألصحـح األخطـاء التـي ارتكبتهـا يف إجراء املعـادالت!.
ّ إىل ُقمـريت
دعوت اهلل (سبحانه) قائالً:
ُ حني سمعت هذا القول منه
إهلـيُ ..أريـد أن أعرفـك هبـذه الطريقـةُ ...أريـد أن أرتقـي إىل ظهـر
ا يف كلمتـك الرسمديـة ،ثم املركـب وأنصـت إىل صوتـك يف قلبـي ،متأ ّمل ً
أنـزل إىل ُقمـريت وأجـري تعدياليت على خططـي العقلية والعلميـة املرهفة
التـي رسـمتها يف رأيس.
عليك أن جتتهد لتجد املعنى اإلهلي بداخلك..
إ ّياك إياك أن تأخذه من أفواه اآلخرين،
ألنك إما أن خترس اهلل وإما أن خترس نفسك.
101
ميـز الشـخص احلر عـن بقيـة القطيـع ،كل ماالوعـي هـو الـذي يُ ّ
نحتاجـه هـو أن نسـتفيق ونُـدرك مـا يحـدث حولنا.
(فادمي زيالند).
َمنحك اهلل روح ًا هي البذرة،
وأعطاك قلب ًا هو املاء،
وغرسك يف تربة هذا العامل،
فام الذي حتتاج بعدها كي تُزهر؟!
ُغير مـن ردود أفعالنا جتاه األحـداث ،من ردود
سـتجعلناقـوة الوعي ن ّ
أفعـال منمطـة غري واعيـة إىل ردود أفعـال واعية ومتّزنة ،ت ِ
ُكسـبنا شـجاعة ُ ّ
مهمـة للتغيري ،ومتنحنـا قوة رضوريـة لعملية االختيار واإلبـداع ،وتدعمنا ّ
بمقـدرة تفاعليـة إجياب َّيـة مع املحيط ومـع اآلخرين.
مسيرة الوعـي والنمـو يف حقيقتهـا هـي رحلـة نمـو للقـوة الداخليـة
تلاش لألوهـام ،فمـن معجـزات الوعـي أنـك كلما أدركـت، ٍ يف مقابـل
وتفهمـت ،وتقبلـت ،وتصاحلـت ،مع نقـاط ضعفك كلام حتولـت إىل نقاط
قـوة ونامء.
يف وعينـا احلقيقـي سـنؤمن أن اآلالم والتجارب الصعبـة هي من أجل
ارتقـاء فهمنا وألجل توسـيع دوائـر مداركنا ،وألجل لفـت انتباهنا ملواطن
اخللـل ،ولبواطن العلل يف نفوسـنا ،وألجل حتمية السـعي للتغيري.
يف اللحظـة التـي تتقبـل فيهـا أملـك وحتتضنـه وتتأ ّملـه ،لتفهم رسـالته،
فأنـت تكـون قـد ّاتـذت اخلطـوة األوىل يف طريـق الوعـي واليقظـة
واالسـتنارة.
102
ّ
للتخل ،سـواء ُ
األوان فاحليـاة رحلـة ٍّ
ختل ،واألمل رسـالة لك بأنـه قد آن
عـن برجمـة خاطئـة أو عن تع ّلق مـا ،أو عن عـادة ُم ّ
رضة ،الوعي سـيجعلنا
قـوة األشـياء التـي هتزمنا هـي قوة ومه ّية ،سـندرك ذلـك بعد أن
نُـدرك أن ّ
نتق ّبـل تلـك األشـياء ونفهمهـا ونفهم فحـوى رسـائلها .األوهـام العقلية
كالتعلـق واحلسـد واسـتصغار الـذات واإلمكانيـات والطمـع واخلـوف
ّ
ومتجـذرة يف العقـل البشري منـذ بدايات واملعانـاة ،هـي أوهـام موروثـة
نشـأته وتطـوره ،وأفضـل مـا نسـتطيع فعلـه ألجـل التقليـل مـن آثارهـا
السـلبية ،هـو مراقبتهـا واالنتباه هلـا واالعتراف بوجودها.
يف مسـتوى معين مـن الوعـي سـيتغري مفهومنـا عـن قسـوة احليـاة،
رسيـان احليـاة
وصفعاهتـا املؤملـة ،وسـنؤمن بأهنـا يف احلقيقـة هـي طبيعـة َ
نمـو وتر ّقـي املخلوقـات ،بالضبط كما يؤمن
وسـنّتها وأسـلوهبا يف عمليـة ّ ُ
الشـخص عنـد وعيـه بـأن قسـاوة الوالديـن إنما هـي يف احلقيقـة ألجـل
نضجـه واشـتداد عـوده.
يف الوعـي احلقيقـي ال وجـود ملفاهيـم اخلسـارة واخلطأ والفشـل ،ألن
الـروح الواعيـة تؤمـن بـأن كل األحداث حتدث لسـبب وغاية يف سيرورة
الوعـي الكـوين وتطـوره ،لذلـك فإن الـروح الواعيـة ال تعاين.
هنـاك تشـابه كبير بين كـرة القـدم وبين حيـاة اإلنسـان ،فاإلنسـان،
يتعـرض
ّ ومهما كانـت درجـة قوتـه مـن حيـث وعيـه وثقافتـه ومرونتـه،
أحيانـ ًا للهزيمـة ،ألسـباب صعـب جـد ًا حرصهـا وحتديدهـا ،وذلـك
بسـبب تأثـره بظـروف متغيرة ومتباينـة ومؤ ّثـرات ال حصر هلا ،وبسـبب
خضوعـه لقوانين ُمتعـدّ دة ،لذلـك على اإلنسـان أن يتق ّبـل دائم ًا هزائمه،
وكما يقولـون ،بـروح رياضية ،ويسـعى دائم ًا السـتيعاهبا وتربيرها بوعي
103
وانتبـاه ،وفهمهـا برتكيـز هـادئ وواضح ،ألجـل حماولة فهـم الكيفية التي
تسير هبـا احلياة.
يف عـامل الرياضـة يقولـون "عليـك أن تتقبـل اخلسـارة بـروح رياضية"،
ألنـك عندمـا تتق ّبـل الواقع سـتهدأ وتفهـم لتتجـاوز ،وإن كـرة القدم هي
كما احليـاة رحلـة متأرجحة بين الفـوز واخلسـارة ،والفريـق األفضل هو
مـن يسـتفيد مـن اخلسـارة بشـكل علمـي ،مـن خلال معرفـة األسـباب
تعصـب ومـن دون هـروب ،ومـن ودراسـتها هبـدوء ورو ّيـة ،ومـن دون ّ
احلـي املثابر ،وهكـذا ينبغي
ّ دون إلقـاء التّهـم جزافـ ًا ،هكذا يكـون الفريق
أن يكـون اإلنسـان احلـي املثابر.
صدّ قنـي؛ ال يوجـد يشء شـخيص بينـك وبين احليـاة ،إهنـا حتتضنـك
توهجـ ًا ،فمن ال ينضـج باللني
بقسـوة فقـط ،لتكـون أكثر نضجـ ًا وأكثـر ّ
سـينضج بالقسـوة ،ومن ال تُنضجه القسـوة سـتُنضجه الشـدّ ة يف القسوة.
104
يقول الشاعر واحلكيم الهندي طاغور:
"من البسـاطة أن تعيش سـعيداً لكن من الصعوبة أن تعيش بسـيطًا».
تكمـن الصعوبـة يف التحـرر مـن قوانين العقـل وقواعـده ،فالعقـل
البشري ال يـزال ُمق ّيـد ًا بقواعـد العيـش البدائـيُ ،معتقـد ًا أنـه ُمهـد ٌد من
اخلـارج ،ومـا زالـت تطفو عىل سـطحه قواعد الربـح واخلسـارة ،واهلزيمة
واالنتصـار ،ومـا زال هيـدر طاقته ،وخيسر َبريق احلكمة والسلام ،ما زال
العقـل البرشي يفهم أن العطاء خسـارة ،وأن السماحة ضعـف واملخاوف
بر والغرور هو من جيلب لنفسـه االحرتام، ِ
أمـان ،والكسـل راحة ،وأن الك ْ َ
وأن غضبـه يعـود عليـه بالسـكينة والسلام ،وأن اجلفـاء هـو مـن جيعلـه
عزيـر ًا وحمبوب ًا.
أن نعيـش ببسـاطة يعنـي أن نخلـع عنا قنـاع املثاليـة والتصنّـع ،وأن نكون
نتصرف
ّ صادقين مـع أنفسـنا ،وأن نحـاول قـدْ َر اإلمـكان أن نتنبـه ،وال
وحـي أرواحنـا وقيمهـا اجلامليـة ،قيـم املحبـةأو نشـعر أو نفكـر ّإل مـن ْ
والتسـامح والرمحـة والتعـاون ،تعنـي أن نتت ّبـع مشـاعرنا لنفهـم األصيـل
منهـا ونُم ّيـز الزيـف فيها.
صدّ قنـي؛ األمـر سـهل جـد ًا ،هـذه هـي البسـاطة التـي متنحنـا الرضـا
واالطمئنـان .هـذا هـو معنى أن تعيـش احليـاة بتلقائية وبراءة وبلا تك ّلف
أو تعقيـد ،فأنـت عندما تكـون عىل طبيعتك بال تك ّلف أو تصنّع ،سـتحظى
فمن ِ
بمكافـآت وهبات كون ّيـة ،و(فلترة) طبيع ّية لعالقاتك مـع اآلخرينَ ،
سـيجمل حياتـك ..و َمن ينتقدك سـيغادرها مع ّ
كل آثاره السـلب ّية. ّ يتق ّبلك
البسـاطة تعنـي أن تكـون ذاتَـك ،أن تكـون حـارض ًا بوعيـك الـذايت يف
كل الرصاعات ،بال ٍ
تشـاف مـن ّ ٍ
صـاف و ُم فطري الزمـان واملـكان ،بذهن
ّ
أي خمـاوف أو أحقـاد ،يعنـي أن تكـون صادقـ ًا متواضعـ ًا بال أقنعـة ،حتى
105
تغيرت األماكـن وتباينـت الظـروف ،فأنت أنـت يف البيـت أو العمل
وإن ّ
أو الشـارع ،أو يف مـكان آخـر.
أن يكـون اإلنسـان بسـيط ًا هو أسـهل فعـل ،لكنه أصعـب قرار .البسـاطة
هـي براعـة احليـاة وفهمهـا الواعـي ،هـي أن تتد ّفـق مـن روحك سلسـلة
احلكمـة الثمينـة .ذكاء عاطفـي ـ خيـال حـر ـ عقـل مطيـع .
مـا هـي مكاسـب اإلنسـان عندما يكـون عىل طبيعتـه وبسـاطته ويترصف
بتلقائية؟
على الصعيد اخلارجي سـندخل يف دائـرة النضج وسـنتمتع بالثقة واخلربة،
ترصفاتنـا التلقائية
تحرريـن مـن املكر واألقنعة والرصاعـات ،صحيح أن ّ ُم ّ
النابعـة مـن مشـاعرنا احلقيقيـة سـتجعل املحيطين بنـا يتق ّلصـون يومـ ًا
ويثمنـون هـذهيتفهمـون ّ بعـد آخـر ،لكنهـا يف النهايـة سـتفرز أشـخاص ًا ّ
الصفـات ،وهـم األغلى واألهـم .وعلى الصعيـد الداخيل سنسـمح لكل
خاليـا اجلسـد وأجهزتـه أن تقـوم بعملهـا دون إجهـاد أو تعقيد.
ْ
حـاول قـدْ ر اإلمـكان أن تُبحـر يف هذه احليـاة بقـارب العفوية والبسـاطة،
تنـس أن تأخذ معـك ِم ْ َ ْ
ـداف التفكّر واملسـؤولية.. لكـن ال َ
الوعي في العالقات
واحـدة من أهـم املؤرشات الرتفاع مسـتوى الوعـي عند اإلنسـان .يتم ّثل
واملقربني منـه بالثقة والراحـة واألمان،
ّ يف مسـتوى إحسـاس املحيطين بـه
وعـدم احلساسـية يف التعامـل معـه ،فأنـت تكـون يف مسـتوى متقـدم مـن
َحـرج اآلخرون يف احلديـث والتباحث معـك بال أدنى الوعـي عندمـا ال َيت ّ
تـردد أو خـوف أو خشـية يف أي موضـوع كان ،ألهنـم يتو ّقعـون منك آراء
تفهمـة ،وال يتو ّقعـون منـك أيـة ردود أفعـال غير حمسـوبة أو ناضجـة ُم ّ
مترسعـة ،أو أيـة ردود تتسـم بالغضـب والعدوانية.
ّ
106
فعندمـا تكـون عالقتنا مـع اآلخرين ونظرتنا هلـم نابعة من عمـق أرواحنا،
نقـي مـن الوعـيُ ،يتيـح لنـا أن ننظـر هلـم
نكـون قـد وصلنـا إىل مسـتوى ّ
عرقي أو
ّ ونتعامـل معهـم كأرواح حقيقيـة جمـردة ،دون تصنيف جنسي أو
دينـي أو متييز.
ّ
فالشـخص الواعـي سـيحصل على حصانـة منيعـة ومناعـة حقيقيـة ضـدّ
التـورط بعالقـات متعبـة ،وضـدّ احلامقـة واالسـتغالل من قبـل اآلخرين،
ّ
التعمـد يف إيـذاء اآلخريـن وضـد اجلـدال والتعصب.
ّ وضـدّ
تتظافـر وتتعاضد يف نسـج تلك احلصانـة أجزاؤه املختلفة :الروح واجلسـد
والعقل.
ونسـبي،
ّ ٍ
بإطـار ُمعين غالبـ ًا؛ تكـون عالقاتنـا مـع األشـخاص ُمؤ ّطـرة
تتراوح نسـبيته حسـب درجـة سـطحية العالقـة وعمقهـا ،هـذا اإلطـار
غالبـ ًا ما يكون ُمؤسسـ ًا حسـب بعـض اآلراء واملواقف واألحكام املسـ َبقة
ـي واملفيد أن نجتهد يف االنتباه
الصح ّ
ّ واملركونـة يف رفوف الذاكرة .هنا؛ من
املهم جـد ًا ،ومراجعـة وتقليب هذه امللفـات والتصالح إىل هـذا املوضـوع ّ
معهـا ،وذلـك ملـا له مـن أثر بالـغ يف تنقيـة عقلنـا الالواعي وإعـادة برجمته
قـدر اإلمـكان إىل حالـة املصاحلة مع الـذات ،وذلـك من خالل للوصـول َ
إحلال التـوازن والتناغـم بين عقلنـا الواعـي والالواعي ،فلا يمكن أن
خيفـى على اإلنسـان اللبيـب أمهيـة ودور العالقـات اإلنسـانية يف جمـرى
حياتنـا ،وتأثريهـا على ُبنيتنا النفسـية.
أثـار هـذا املوضـوع اهتاممي حني شـكا يل أحـد األصدقاء من عـدم قدرته
على التعامـل بثقـة وأرحي ّيـة تا ّمة مـع زميل لـه يف العمل ،فهام حسـب قوله
يشتركان يف نفـس العمل واملـكان وجه ًا لوجه وملـدّ ة ثامين سـاعات تقريب ًا
يوميـ ًا ،ويضيـف :املشـكلة أنـه مل يبـدر من هـذا الزميـل أي سـوء أو خلل
107
أخالقـي ،بـل بالعكـس دائم ًا مـا كان ُمتعاونـ ًا وحريصـ ًا عىل عملـه وعىل
عالقتنا.
طلبـت مـن هـذا الشـخص أن يتذكّـر برتكيـز األيـا َم األوىل ملعرفتـه هبـذا
َكـون لديـه ،أو خطـر لـه عنه، الزميـل وأن يتذكّـر االنطبـاع األول الـذي ت ّ
مـن النظـرة األوىل ،أي عـن شـكله ومظهـره اخلارجـي ،أو البحـث عـن
ُحكمـه الشـخيص على أول املواقـف التـي حدثت بينهما ،وطلبـت منه أن
مرة رأى يتذكـر ويراجع مشـاعره فقط يف تلـك األيام .فأجاب بأنـه يف أول ّ
فيهـا ذلـك الشـخص مل يشـعر بشـعور إجيـايب دون أن يفهم السـبب ،وأنه
يشـعر باسـتياء من نفسـه خلوفه أن يكـون ظامل ًا هلذا الشـخص ،املهـم مت ّكنّا
سـوية مـن فهم هـذه احلالة وأسـباب نشـوئها ،وإهنـا كانت تتعلـق باملظهر
ليـس إال ،فهـذه هي طبيعـة الــ «أنـا» وقوانينهـا وأحكامها الزائفـة .فهي
غالبـ ًا مـا جتعلنـا نحكـم عىل األشـخاص أو على األحـداث أحكامـ ًا غري
حجـة منطقيـة أو عىل سـبب ُمقنـع ،فقط أي ّ واقعيـة وغير ُمسـتندة على ّ
ّ
والشـك والتر ّدد. وتعودت على اخلوف
ألهنـا تربجمـت ّ
مشـكلة هـذه الـ «أنا» أهنا متسـ ّلطة على العقل الالواعي لـدى أغلبنا ،وال
يمكننـا اسـتيعاهبا إال بالوعـي هبـا ،وإدراك أالعيبهـا وأسـاليبها ،والوعـي
احلقيقـي يف جوهرنـا النقـي و ُقدراتنا ُ
الشـجاعة والنبيلة.
أنـاين ،وما
ّ العالقـة التـي جتعلـك تعـاين هي التـي تثبت لك بأنك شـخص
يتحكّـم بـك هو األجيو وليسـت قيمـك الروحية..
كلنـا يعـرف أمهيـة عالقاتنـا اإلنسـانية بمختلـف أشـكاهلا ومـدى تأثريها
على توازننـا الداخلي وتأثريهـا على ُممـل حياتنـا ،ومـن أجـل عالقات
مرحيـة ومفيـدة وأكثـر انسـجام ًا علينـا أن نتأ ّمـل يف بعـض األسـئلة ّ
املهمة
بعمـق ووضـوح وصـدق مع الذاتُ ،م ّـرد انتباه تا ّم إىل مسـتوى املشـاعر،
108
وبالطبـع بلا أيـة إجابـات أو حكـم على الـذات أو على اآلخر.
* هل أعيش العالقة بصدق وعفوية بال تك ّلف أو مثالية أو تفكري؟.
* هـل هنـاك نِ ّيـات مسـ َبقة يف العالقـة ،أي هـل إن هذه العالقـة من أجل
غايـة معينة ،ومـا هي هـذه الغاية؟.
* هل تس ّبب يل العالقة معاناة ُمزمنة أو أمل ًا مزمن ًا؟ ،وما هو أصل هذه املعاناة ؟.
الشـخص الواعـي ال توجد يف قواميسـه كلامت مثـل :اخليانـة وخيبة الظ ّن
يتحمـل هـو مناصفة مع ّ والنـدم ،ألنـه مؤمـن أنـه يف حالة فشـل العالقـة
الطـرف اآلخـر وزر فشـلها ،ومؤمـن كذلـك أن كل إنسـان يتصرف وفق
وعيـه وجتربتـه ،ومؤمـن بأن الـدرس الذي يتع ّلـم منه ال يمكن أن ُي ّ
سـمى
فشلاً ،ومؤمـن بـأن العطـاء أمـر داخلي ليـس للطـرف اآلخـر فيـه أي
عالقـة ،فالعالقـة مع اآلخرين سـوف لن تزعجـك أو تؤملـك ،حني تؤمن
أن الوعي مسـتويات ،وكل شـخص يتعامل معك حسـب مسـتوى وعيه.
مثلما تعلمـت أن ختتـار جلسـدك مـا ُي ّملـه مـن مالبـس ،تعلـم أن ختتـار
لروحـك مـا ُيملهـا مـن أرواح.
كل عمليـة بنـاء روحـي وتناغـم مـع الرشيـك يف العالقـة ،علينـا أن يف ّ
ٍ
جـزء من شـخص ّيتنا ،هذا هـو االهتمام الواعـي ،وهذا هو نتقبـل خسـارة
األهـم يف تنامـي العالقـة الروحيـة ونضجهـا ،وألجـل ديمومة
ّ األسـاس
نتفهـم ونتق ّبـل هـذه اخلسـارات ،ونتقبـل
العالقـة وتسـاميها علينـا أن ّ
ونُسـ ّلم بـاألمل املصاحـب لـكل خسـارة ،ومـا ندعوه خسـارة هنـا هو عىل
مسـتوى الذهـن وعلى مسـتوى الشـخصية ،بمعنـى هـي خسـارة لدعائم
الــ «أنـا» الزائفـة وأوهامهـا ،أوهـام الرغبـة والتسـلط واحلسـد والغيرة
واألنانيـة ،هـذه اخلسـائر هـي يف حقيقتهـا ٍّ
ختـل ونضـج وأنـوار تنبلـج
وحترر
ختل وتنـازل ّ وأزهـار تتفتـح ،عىل مسـتوى الـروح ،هـي يف حقيقتها ّ
109
مـن الشروط األنويـة والعقليـة ،لتتفتـح يف نفوسـنا زهـور التسـامح اللا
مشروط ،والرمحـة واملحبـة الالمرشوطـة ،واألهم هـو تَفتّح أنـوار الفهم
واإلحسـاس النقـي ،هـذه هـي القيمـة املقدّ سـة للحب.
مهيةعندمـا يكـون طرفا العالقة يف املسـتوى نفسـه من الشـعور بعظمـة وأ ّ
اخلسـارات تصبـح العالقـة ناميـة وناضجـة ويشـعران بسـهولة إمتـام
متغير ،وبعـد كل اختبـار .لكـن يف ّ املسيرة الروحيـة بعـد كل منعطـف أو
حالـة وجـود تفـاوت يف مسـتوى الوعـي وتفاوت يف مسـتوى االسـتعداد
سـيتحمل الطرف األكثـر وعي ًا ونور ًا مشـ ّقة
ّ لعالقـة ناضجـة ومثمـرة ،هنا
كبيرة وصبر ًا عظيم ًا ألجـل الوصـول بالطـرف اآلخـر إىل مسـتوى وعيه
فالطـرف األكثـر و ْعيـ ًا قـادر ببصريتـه وحدسـه أن ُيبصر َ واسـتعداده،
النمـو والنضج ،سـيكون ّ داخـل الطـرف اآلخر و ُيـدرك جيـد ًا قدرته عىل
يسـتحق ويسـتحق كثري ًا.
ّ هنـاك مشـقة وأمل لكنـه
ملاذا ال يفهم الرجال النساء؟
وهل املرأة كائن غامض يصعب ،بل يستحيل ،فهمه؟
املختصين واملفكريـن على صعوبة فهـم الرجال لعـامل حواءّ اتّفـق أغلـب
اخلـاص ،ولترصفاهتـا وانفعاالهتـا وردود أفعاهلـا وتفكريهـا وعاطفتهـا،
واألمـر بالطبـع واضح جـد ًا .وبالطبـع هذا اإلشـكال يف الفهم له أسـبابه
وفهـم هـذه األسـباب سـيعود بالفائـدة للطرفين املوضوعيـة اخلاصـةْ ،
البشري بأرسه.
ّ وللعـامل
يتحمل النسـبة األعظـم من هذه اإلشـكالية،ّ شـخصي ًا أؤمـن بـأن الرجـل
صحيـح أن ظروف الرجل سـامهت يف ب ْل َورة واسـتفحال هذه اإلشـكالية،
غير وا ٍع حلجـم
لكـن ذنـب الرجـل أنـه استسـلم هلـذه الظـروف ،فـكان َ
اخلسـارات التـي حلقـت بـه وباملـرأة على حدّ سـواء ،بسـبب سـوء الفهم
110
وعجـزه هـذا .فالرجل على العمـوم يقيض أغلـب أوقاته يف عملـه ،وهو
ضطـر السـتخدام تفكيره وذكائه العقلي يف إنجـاز عمله ،وهـذا طبيعي ّ ُم
مـن أجـل النجـاح واملنافسـة يف العمـل ،أو حتـى ملجـرد إنجـاز العمـل
فقـط ،فهـو يف املعتـاد يسـتهلك أغلـب هنـاره وأحيانـ ًا بضـع سـاعات من
الليـل يف العمـل ،هـذا الوضـع وهـذه الظـروف هـي التي جعلـت الرجل
ـزن األمـور واألحـداث وفـق منظـوره العقلي ووفق ذكائـه .ويف يـرى و َي ِ
تعاملـه مـع اآلخريـن ،أكثـر ممـا ُيبرصهـا بعاطفتـه وذكائـه العاطفـي،
فالـذكاء العاطفـي بحاجـة لفهـم ووعـي وإحسـاس ،كونـه لغـة مشـاعر
صادقـة بدهييـة فطريـة وليسـت منطقية فكريـة ،الـذكاء العاطفـي بحاجة
ّ
يتحلى للتأ ّمـل والتد ّبـر الروحـي ،ولكـي يفهـم الرجـل املـرأة عليـه أن
ويتّصـف هبـذا النوع من الـذكاء ،فهـو الذي يمنحـه البعد احلقيقـي لواقع
املـرأة ،فاملـرأة بأغلب حاالهتا غير خاضعة للقوانين املنطقيـة العقلية التي
يفهمهـا الرجـل ،أو حتـى التي تفهمهـا هي ،وهنا إشـكالية واقعيـة للمرأة
أيضـ ًا يف فهمهـا وتعاملهـا مـع بنات جنسـها.
علينـا هنـا أن تتأكّـد ونؤمـن بـأن إشـكالية عـدم الفهـم هـذه مصـدر قوة
للمرأة ،لكنّه لألسـف وبسـبب مسـتوى الوعـي البرشي احلـايل أصبحت
مصـدر ًا إشـكالي ًا وجودي ًا.
إن قـوة املـرأة احلقيقيـة تكمـن يف بسـاطتها وفطرهتـا وعاطفتهـا ويف قرهبـا
مـن الطبيعـة ،فاملـرأة هـي الطبيعـة يف أهبـى جت ّلياهتا.
أرادت املـرأة أن تُدافـع عـن نفسـها ضـدّ التحدّ يـات والعراقيـل والقيود،
كـويص و َق ّيـ ٍم عليهـا ،لذلـك جلـأت املـرأة لعقلها،
ٍّ التـي وضعهـا الرجـل
السلاح الوحيـد الـذي تتقـن اسـتخدامه ،وهـذا بالطبـع على حسـاب
عنـارص قوهتـا الطبيعيـة (عاطفتهـا ،حدسـها ،صربهـا ،بصريهتـا ،انتباهها
111
وباملحصلـة على حسـاب التـوازن الكـوين ،لذلـك أصبحـت
ّ وفهمهـا)،
املـرأة تعـاين أكثر ،ولذلـك أصبح الوجـود البشري كله يعاين بسـبب هذا
االختلال احلاصـل يف جزئـه األنثـوي اجلاميل.
رسيـان الطبيعـةّ ،
وكل موجود ّ
كل موجـود يعـاين عندمـا حيـاول أن يقاوم َ
يبتهـج ويرقـص رقصتـه الكونيـة عندما يسـتثمر معطيـات الطبيعـة وينمو
مـع رسياهنا.
فما نحتاجـه نحـن البشر بصـورة عامـة هـو ترويـض أنفسـنا وتدريبهـا
وتنميتهـا على الـذكاء العاطفـي ،كام نسـعى لتنميتهـا عىل الـذكاء العقيل،
ّ
لتتجلى مـن جديد فينـا قوة احليـاة املفقودة بسـبب االنفصـال الذي حيدث
بين املـرأة والرجـل ،ولتكـون عالقتنـا فيما بيننـا عالقـات حمبـة وفهـم
واحترام وبنـاء ومسـاعدة .أ ّمـا مـا حتتاجه املـرأة مـن الرجل هـو التعامل
والتواصـل معهـا بعواطفـه وليـس بعقلـه ،عليـه أن يتعامـل معهـا بحـب
وحنـان ورمحـة واهتمام ،والرتكيـز على االهتمام هبـا .فاملـرأة التي تشـعر
باالهتمام احلقيقـي مـن قبـل الرجل ،تكـون امـرأة ناضجة متكاملـة واعية
واثقـة بنفسـها ومتوازنـة ،كـون االهتمام هـو أكثـر مـا ُيشـعرها بالسلام
واالمتلاء الداخلي.
يصعـب أن تكـون هنـاك عالقـة متوازنـة وناضجـة بين الرجـل واملـرأة،
إذا مل حيـدث بينهما فيهـا التكامـل ،بمعنـى أن تتواصـل املـرأة مـع الرجـل
بحقيقتهـا وبامهيتهـا األنثويـة وأن يتواصـل الرجـل مـع املـرأة بحقيقتـه
وبامهيتـه الرجوليـة ،فمـن هنـا فقـط يشـعر كل منهما بطبيعتـه وحقيقتـه
ويكونـان متكاملين ،كام أرادهتما ُأ ّمهام الطبيعـة ،وليكونا فاعلني يف سـياق
النمـو والرتقـي الكـوين .علينـا أن نُـدرك بـأن التفا ُعـل التكاميل بين املرأة
ّ
والرجـل ،هـو الغايـة لسـبب خلـق الرجـل بطبيعته ،ولسـبب خلـق املرأة
112
بطبيعتهـا ،ووفـق قانـون أن «ال يشء حيدث مـن قبيل الصدفـة ،وال يمكن
أن حيـدث سـبب يف الكـون دون نتيجـة أو غايـة».
دنيـوي ومادي،
ّ وتتنزه عـن كل ما هو
حين تصل العالقة ملسـتوى الـروح ّ
أثيري ،يف
ّ سـتصبح عالقـة مـن نـور ،أي أهنا قـد أصبحت عالقـة ات ٍ
ّصال
هـذا املسـتوى ال ُيمكـن أن حيدث أي فـراق أو نسـيان أو اشـتياق ،الفراق
والنسـيان واالشـتياق حيدث فقـط عىل املسـتوى املادي.
رصيـد املحبـة الصادقة الذي نمتلكـه يف قلوب الناس ،حتـى وإن كان من
شـخص واحـد ،هـو الرصيد الذي سـيمكّننا من تسـديد ديـون احلياة مهام
كانت غالية.
تبادل المنفعة الروحية
اإلنسـان الواعـي يفهـم جوهـر األشـياء التـي حتيـط بـه والتـي خيضع
لتأثرياهتـا يف مسيرة حياتـه ،مـن هنـا سـتكون عالقتـه متوازنـة مـع هـذه
أهـم تلـك العالقات هـي عالقتـه باألشـخاص اآلخرين، األشـياء ،ومـن ّ
ومـا نعنيـه هنا بكلمـة (متوازنة) هو أن تكـون عالقة نفعية لـكال الطرفني،
سـواء أكانـت هـذه الفائدة على املسـتوى الروحـي واملعنـوي واألخالقي
أم كانـت على املسـتوى املـادي ،تعود تلـك العالقـة بالفائـدة والنفع لكال
الطرفين ،ومـن دون أي فعـل اسـتغالل مـن أحـد الطرفين ،كـون فعـل
االسـتغالل يعـود بالضرر على طـريف العالقـة على حـدٍّ سـواء ،فمثل ً
ا
عندمـا تفهم طبيعة عمل جسـدك سـتُدرك األشـياء التي تعود عليـه بالنفع
وتـدأب على فعلها ،وسـتدرك األشـياء التي جتلـب له الضرر ،ومتتنع عن
فعلهـا ،وكذلـك عندمـا تكـون إنسـان ًا واعيـ ًا سـتفهم الطريقة التـي يعمل
هبـا عقلـك وسـتكون قـادر ًا ومتمكّنـ ًا مـن ترتيـب دوره يف حياتـك ،مـن
113
خلال إفسـاح املجـال لـه ألداء مها ّمـه التـي ُوجـد ألجلهـا ،مـن خلال
توفير الظـروف املناسـبة لـه ،أي بإفراغه من أفـكاره السـلبية والضوضاء
والتوتـر ،عـن طريـق املامرسـات الروحيـة كالصلاة والتأمـل والرياضة.
هـذه املنفعـة ا ُملتبادلـة ُيدركهـا اإلنسـان الواعـي بطريقـة ختتلـف عـن
إدراك اإلنسـان قليـل الوعـي ،فالواعـي مؤمن متامـ ًا بأن اكتسـاب املنافع
الروحيـة أعلى قيمة وأسـمى من اكتسـاب املنافـع املادية ،لذلـك ال يتوانى
عـن نيـل املنافـع املعنويـة والروحية حتـى وإن كانـت عىل حسـاب منافعه
املاديـة ،أو على حسـاب أي جهد مـادي يبذله يف سـبيل حتقيق ذلـك النَيل
الروحـي ،ألنـه يمتلـك ثقـة تامـة ال يمكـن أن تتزعـزع بقوانين الوجـود
العادلـة والدقيقة.
تقص إحدى التلميذات حكايتها قائل ًة:
ُّ
نـت يل مع ّلمتـي يف املدرسـة احلكوميـة األفـكار املعقـدة يف املنـح َب ّي ْ
ا يف طريقتـي يف محل جلي أن ثمة خلل ً
واالسـتالم ،فقـد الحظـت بشـكل ّ
الكتـاب يف درس القـراءة ،لـذا جلـأت إىل إخضاعـي إىل فحـص برصي ،مل
ترسـلني إىل املستشـفى ،بـل أخذتنـي إىل طبيـب العيـون اخلـاص هبـا ،ومل
تعرضنـي عليـه على سـبيل اإلحسـان ،بل بوصفـي صديقـة هلا ،لقـد أثار
هـذا الفعـل فضـويل وهلفتـي ملعرفـة مـا ُيـراد يب ،فأنـا مل أفهـم بالضبـط ما
حـدث حتـى أعطتنـي ذات يـوم نظـارة طبيـة ،قلـت بحدّ ة:
ال أسـتطيع أخذهـا ،فلا طاقـة يل على دفـع ثمنهـا ،قلـت ذلـك وأنـا
حمـارصة بفقـر عائلتـي ،فحكـت يل معلمتـي حكايـة:
عيل أن
إن ّحينما كنـت طفلـة اشترت يل جارتنا نظـارة طبيـة ،وقالـت ّ
أدفـع ثمنهـا يومـ ًا مـا عبر رشاء نظـارة طبيـة لطفلة صغيرة ،لذا كما ترين
114
فـإن ثمـن هـذه الن ّظـارة مدفـوع قبـل أن تولـدي .ثـم أسـمعتني مع ّلمتـي
معظـم الكلمات اجلميلـة التـي مل يقلهـا يل أحدٌ من قبـل ،ختمتهـا بالقول:
ستشترين أنـت أيضـ ًا ذات يـوم نظـارة لطفلة صغيرة أخرى ،لقـد كانت
آمنت
تنظـر إ ّيل وكأننـي واهبـة ،وقـد جعلتنـي أشـعر بـأين مسـؤولة ،فقـد ْ
بـأين سـأمنح شـيئ ًا لشـخص آخـر و َقب َلتنـي ألكـون فـرد ًا يف العـامل نفسـه
الـذي تعيـش فيـه هـي .خرجـت من غرفـة الـدرس وأنـا أقبـض بإحكام
هلبـة وإحسـان ،بـل ألين على النظـارة الطبيـة ،ليـس بوصفـي مسـتلمة ٍ
ُ
ُأ ِ
عـت أمانـ ًة ّ
علي أن أكـون مؤمتَنـة عليها. ود ُ
الحقيقة فخ العقول
سـتتغي عنـدك معـاين الكلمات،
ّ ففـي مسـتوى متقـدّ م مـن الوعـي
ويصبـح هلـا بعـدٌ آخـر..
ال ستصبح السعادة تعني الرضا..فمث ً
ِ
والغنى يعني العطاء..
والتعاسة تعني الوهم..
والذكاء يعني النقاء..
واجلهل يعني الكسل..
والشيطان يعني اخلوف..
واحلب يعني ح ّبك لآلخر..
ّ
واحلر ّية ستعني التيه..
ّ
والتدرج
ّ االنتقـال والرتقـي يف مسـتويات الوعي يشـبه تقريبـ ًا الرتقـي
تتعـرض الختبار
يف األنظمـة التعليميـة ،الفـرق أنـك يف النظـام التعليمي ّ
115
كميـة املعلومـات التـي حتصـل
أو امتحـان ينقلـك ملرحلـة أعلى بحسـب ّ
عليهـا وهتضمهـا ،أمـا يف حالـة الوعي فإنـك تنتقـل ملرحلة أعىل بحسـب
كم ّيـة املعلومـات واألفـكار واملفاهيم التـي ّ
تتخل عنها ،لتبـدأ يف كُل حلظة
متحركة ونسـبية ،وليسـت ّ بدايـ ًة جديـدة للفهـم واإلدراك ،فاحلقيقة نامية
رئييس ُيسـلك ،بل هلـا عدّ ة طرق
ّ جامـدة أو جاهـزة .ليس للحقيقـة طريق
طـرق متشـ ّعبة متتـدّ إىل أمـد الرحلة ،هـذه هي حركـة الفكر جانبيـة ،وهلـا ُ
البشري يف تطـوره ونمـوه وتفاعالتـه ،فكان لـكل زمان حقائقـه اخلاصة،
جمرد أوهـام وأباطيل ،ولكل زمان مسـتوى والتـي أمسـت يف زمان ِ
الح ٍ
ـق ّ
وعيـه اخلـاص به ،املشـكلة كما يفهمهـا اإلنسـان الواعـي ليسـت يف كون
احلقيقـة كإشـكال ّية أو كحقيقـة بذاهتـا أو نسـقها يف الزمـان واملـكان ،فهي
ُعبر غالبـ ًا عـن مسـتوى وعـي وثقافـة وحضـارة أمـة مـا وجمتمـع مـا، ت ّ
املشـكلة عندمـا تُعتبر تلك احلقائـق كعقائـد ُم ّنزهة عن البحـث واملراجعة
والتدويـر ،وأن تُصا َدر حريـة الفكر وحرية النقد وحريـة التعبري ،فاألفكار
ال تُعتبر حقائـق ُم ّنزهـة إال من ِق َبل العقـل الديكتاتوري والعقل ا ُملتسـ ّلط،
والغايـة دائ ًام هي االسـتغالل.
التعصب
ّ مهم كثير ًا وهو أن موضـوعلنحـاول االنتبـاه هنا إىل جانـب ّ
للحقيقـة كان ومـا زال هـو السـبب الرئيسي ملـآيس اإلنسـان ،بما ُيعانيـه
ربئمـن حـروب وجماعـات وقهر وظلـم وجهـل ،وال ُيمكـن لنا هنـا أن ُن ّ
عم َيـدث له، يتحمـل جزء ًا مـن املسـؤولية ّ
ّ اإلنسـان مـن كل هـذا ،ألنـه
تتحمل السـلطات مسـؤولية جتهيل اإلنسـان وإقحامه يف ّ بمعنـى أنه مثلما
سـجون األفـكار والعقائـد ومصـادرة فكـره واسـتغالله ،كذلك اإلنسـان
يتحمـل مسـؤولية االنصيـاع واخلنوع واالستسلام لـكل ذلك.
116
يسـود يف منطقـة الوعـي االنتبـاه ،ليـس االنتبـاه املفت َعـل وإنّما االنتباه
الفطـري ،وتُثـار األسـئلة ،ليسـت األسـئلة التـي تبحـث عن أجوبـة وإنام
األسـئلة التـي ُت ّـرك فينـا مشـاعر الفهـم واحلكمة.
سـتتمكّن مـن فهـم حقيقة األشـياء بقـدر مـا تتو ّلـد فيك األسـئلة ،ال
بقـدر مـا تتزاحـم عنـدك األجوبة..
أهم األسئلة التي تراود السالكني يف منطقة الوعي :
جمـرد وجـود جسـدي ذي أبعـاد ماديـة رصفـة أم أن هنـاك
* هـل أنـا ّ
أبعـاد ًا وامتـدادات روحيـة لوجـودي؟
* هـل أنا موجود عبث ًا واعتباط ًا ،أو إنني موجود لغاية ما وهدف حمدد؟
* هل أشعر بانتامئي للكون أو أنا جمرد يشء غريب خمتلف عنه؟
* هـل أفعـايل وأفـكاري صـادرة مـن أنـاي الزائفـة (خـوف ،طمـع،
حسـد ،حـب الشـهرة ،حـب التسـلط والسـيطرة) أم أهنا من وحـي قيمي
الروحيـة( ،حكمـة ،إدراك ،سلام ،حمبـة ،قـوة ،إبـداع)؟
* هـل أفعـايل وأفـكاري يف عالقايت املتعـددة مصدرها العقـل ،تفكري،
شـك ،التعامـل باملثـل ،غيرة ،انتقـام ،أم أهنا مـن وحي روحـي ،تعاطف،
رمحة ،تعـاون ،ثقـة ،تفهم ؟
* هـل أشـعر بالرضـا والقناعـة واإليمان بربجمـات املجتمـع وعاداتـه
وقيمـه وسـياقاته؟
* هل ُأدرك حقيقة بداخيل ،عمق النعمة اإلهلية؟
117
التعلّق علة وانحدار
كل منّـا يـرى العـامل وفـق مفاهيمـه اخلاصـة ،حتـدث املشـكلة يف رحلة
تطـور الوعـي والنضـج ،عندما ينغلق الشـخص على مفاهيمـه ويتعصب
هلـا ،ومـن دون أي مراجعـة أو مرونـة أو حتديـث ،ومـن هنـا أيض ًا تنشـأ
مشـكلة التع ّلـق ،فالتع ّلـق يف حقيقته انغالق فكري بسـبب اخلوف واملامنعة
والشـك .لذلـك علينـا أن نجتهـد ونثابـر ونسـعى لالنفتـاح على الوجود
والتناغـم مـع جمرياتـه ودينامية تطوره ،واإلحسـاس باالنتامء لـه واالمتالء
بـه وبمكنوناتـه ،والتيـه عـن الربجميـات السـابقة واألفـكار التـي تنشـأ يف
نطـاق أنواتنـا الزائفـة .يسـعى اإلنسـان الواعـي دومـ ًا يف رحلـة التنويـر
إىل اكتشـاف الثغـرات الداخليـة التـي حتتـاج للشـفاء ،مـن خلال االنتباه
واليقظـة ،اليقظـة لألفـكار واملشـاعر والنيـات واالختيـارات واألفعـال،
فهـو ُمـدرك متام ًا أن التعلـم والنمو والتطـور يتكامل عندما يقترن باليقظة
والصـدق مـع النفس.
ُجمـل رحلـة التنويـر بأهنـا رحلـة إهناء
نسـتطيع بإيمان وثقـة تامـة أن ن ّ
وسـمو
ّ فـك ارتباط ٍّ
وختل بـكل مـا هـو مـادي ،ورحلـة ّ للتع ّلـق ،التع ّلـق ّ
تتحـرر من سـيطرة األرضيـات ُمال أن تسـمو إىل ّ لألعلى،فأنـت دون أن
األعلى وحمـال أن تصل ملـداك الروحـي ،فكل تع ّلـق مادي هـو يف حقيقته
عـدم إدراك للبعـد الروحـي ،ودليـل على عـدم اتّصالنـا بالداخـل ،إنـه
دليـل عىل إحساسـنا باحلرمان واحلاجـة والفقـر الداخيل ،التع ّلـق يعني أن
تسـمح لألشـخاص أو الرغبـات أو األشـياء املاديـة بالتحكـم يف حياتـك
وأفـكارك ومشـاعرك وانفعاالتك.
118
يقول واين داير :
ما الفرق بني املتعة والتعلّق بشيء أو شخص؟
املتعـة ..هـي أن تسـمح للطاقـة الناجتة عـن تقديـرك هلذا الشيء وهلذا
الشـخص وحبـك لـه أن تنسـاب وتتدفـق من خاللـه وتعـود إليك.
التع ّلـق ..اسـأل نفسـك عن ردة فعلـك إذا اختفـى هذا الشيء أو هذا
(سق ُ ،فقد )..،
اإلنسـان مـن حياتـك ُ
هل ستشعر بالغضب أو القلق؟..
هل ستصبح غري قادر عىل احلركة؟..
إن احلاجـة املرتبطـة هبـذا اإلنسـان أو الشيء أعطتـه بعـض درجـات
السـيطرة أو النفـوذ على مشـاعرك وانفعاالتـك ..هـذا هـو التع ّلـق.
كيف أتشاىف من التع ّلق؟
التع ّلـق مـرض وخلـل نفسي داخيل وللتشـايف منـه ،وكذلك للتشـايف
مـن أغلب العلـل واألمراض النفسـية ،عىل اإلنسـان أن ُي ِق ّـر ويعرتف بأنه
ُيعـاين مـن تلـك الع ّلـة ومـن دون أي اختلاق للتربيـرات وملـا يظـن بأهنا
أسـباب منطقيـة للتعلـق ،فمـن دون هـذا اإلقـرار ،ومـن دون صـدق مع
الـذات يصعـب أن حتـدث عمليـة الفهـم واإلدراك ،وبالتايل مـن الصعب
جـد ًا بلوغ الشـفاء.
على الشـخص الـذي يعـاين مـن التع ّلـق أن يقـوم بالرتكيـز عىل نفسـه
واالجتهـاد واملثابـرة للوصـول إىل حالـة مـن الوعـي يسـتطيع معهـا ومن
خالهلـا احلـدّ من سـلطة األشـخاص واألشـياء عليه والشـفاء مـن التع ّلق
هبـا من خلال قيامـه ببعـض األمـور املهمـة منها:
119
* املواظبـة على احلضـور يف اللحظـة اآلنيـة مـن خلال الرتكيـز على
اجلسـد الداخلي والطاقـة الداخليـة.
* القبول واالمتنان.
* املحبة الال مرشوطة.
* التسامح والغفران .
* احرتام الذات وتقديرها.
* االتصـال بالـروح وبالعقـل الواعـي حيـث اإلبـداع والقـوة
واإلحسـاس بالوجـود واالنتماء لـه.
كيف أستطيع التمييز بني احلب والتع ّلق؟
* احلب تكامل ومشـاركة عىل مسـتوى العواطف واألفكار واملشـاعر،
والتع ّلـق هروب من فـوىض الداخل وهـروب من الوحدة.
* احلـب حيدث يف نطاق روحاين مقدّ س ُمتسـا ٍم فـوق كل ما هو مادي،
والتع ّلـق حيـدث يف نطـاق الــ "أنـا" الزائفـة ،أي يف نطـاق فكـري حمض.
* احلـب يمنـح إحساسـ ًا غالب ًا باجلمال والثقـة والشـجاعة واالمتالء،
والتع ّلـق يو ّلـد شـعور ًا غالب ًا باخلـوف والشـك والتوتر.
* احلـب يمنح طاقـة إجيابية عىل مسـتوى املشـاعر واألفـكار ،والتع ّلق
يولـد طاقة سـلبية عىل مسـتوى املشـاعر واألفكار.
* احلـب ُيعبر عنه بالصمـت واالحرتام واالهتمام ،والتع ّلـق ُي ّ
عب عنه
بالـكالم ( عتب ،لوم ،مدح ،توسـل ،أسـف).
* احلـب ُيف ّعل حوافز التطـور والنمو عىل املسـتوى الروحي والتكامل
األخالقـي ،والتعلق حي ّفز عىل التطور عىل املسـتوى املادي والشـكيل فقط.
120
* احلـب حافـز لالجتـاه نحو الداخـل ،ومـن دون هذا االجتـاه يصعب
جد ًا اإلحسـاس باملحبـة الصادقة واالمتلاء هبا ،فالذين امتألت نفوسـهم
باحلـب ال ينتظـرون أن حيبهم أحـد .وال يمكن هلـم أن يتسـولوا املحبة من
اآلخريـن ،أمـا التعلق فهو هروب مـن مواجهة الداخـل وحماولة التعويض
مـن اخلـارج .لذلـك اإلنسـان املحـب دائم ًا مـا يأنـس ويسـتمتع بخلوته.
ما هو احلب؟
التعـود ،الرمحـة ،األمومـة ،األبـوة،
ّ اإلعجـاب ،االهتمام ،التع ّلـق،
الشـفقة ،كل هـذه الكلمات قـد تعنـي يف ظاهرهـا احلـب..
ا أو داعي ًا
لكـن يف عمقهـا ليسـت كذلـك ،قـد تكـون حافـز ًا أو مدخل ً
للحب . .
احلـب احلقيقـي هـو تناغم وجتـاذب ذبذيب وتناسـب طاقي يف مسـتوى
الوعـي الروحي لطـريف العالقة..
يُسـاء فهـم احلب على أنّه شـعور ،فـي الواقـع إنّه حالة مـن الوعي،
طريقـة للتواجـد فـي هـذا العالـم ،وسـيلة يـرى فيها الشـخص نفسـه
واآلخرين.
(ديفيد هاوكنز)
121
جيعـلالعلـم حياتنـا أسـهل وأوضـح ،وجتعل الفلسـفة تفكرينـا أعمق
وأنضـج ..وحـده احلـب من حيمـل حلياتنـا النـور واملعنى..
يف لغـة الكـون احلـب يعنـي طاقـة العطـاء الالمرشوطـة جتاه األشـياء
التـي تشـعر بانتامئـك إليها.
أحد األصدقاء بعث يل يتساءل عن تعريفي للحب.
تأ ّملـت السـؤال ملـدة مـن الوقـت ومت ّلكتنـي احليرة ،واقتنعـت بعجز
الكلمات عـن تأطير احلـب ،حالـه كحـال كل املعـاين والقيـم اإلنسـانية
األصيلـة ،لكـن حاولـت أن ُأعبر عـن وجهة نظـري حول اجلانـب األهم
مـن احلـب ،وهـو أن تتوفـر لدينـا الشـجاعة واإليمان على االسـتمرار يف
العطـاء دون قيـد أو رشط ،ومهما تباينـت وتغيرت الظـروف.
هـي أن تسـتمر يف العطـاء واالهتمام بغـض النظـر عـن كـون الطـرف
اآلخـر يسـتحق العطـاء أم ال ،ألنـك يف احلقيقـة قد ملسـت يف داخلـه بذرة
مجـال تسـتحق أن تُسـقى وأن تُرعـى ،تلـك البـذرة املوجـودة يف كل البرش
لكنهـم جيهلـون أهنـا موجـودة فيهـم ،لطغيـان وتسـلط أنواهتـم الزائفـة
وعللهـا املتشـعبة داخلهـم ،أنـت ملسـت اجلمال ألنـك تبحـث عنـه بنوايا
صادقـة ونقيـة ،أو ألنك ممتلـئ باجلامل فال يمكـن إال أن تُكافئـك القوانني
ُسير الوجـود باجلمال ،تلـك هـي عدالـة ودقـة تلـك القوانين، التـي ت ّ
فاجلمال بوصلـة احلـب ،ذلـك اجلمال الروحـي الـذي ال يفنـى ،فـكل ما
يرتبـط بمـدارات احلـب ال يفنـى ،وهـذا أيضـ ًا أحـد قوانين الوجود.
مهما تباينـت آراؤنـا حـول اجلمال تبقـى التلقائيـة والبسـاطة الصفـة
األمجـل لـه ،ومهما تباينـت آراؤنا حـول القبـح تبقـى األقنعة هـي الصفة
األقبح.
122
مزوديـن بطاقـة هائلـة مـن احلـب ،حيـدث كلنـا نـأيت هلـذه احليـاة ّ
يسـتحق منـا بـذل هـذه الطاقـة
ّ عمـن
االرتبـاك حين نبـدأ يف التسـاؤل ّ
وعمـن ال يسـتحق ،كل موجـودات الكـون تسـتحق منـا هـذا البـذل هلذه ّ
املشـاعر ،خصوصـ ًا وأن هـذه الطاقـة ختتلف عـن كل الطاقـات األخرى؛
فكلما بذلناهـا أكثـر توهجـت فينـا أكثـر ،رغـم كل مـا يقدمـه العقـل من
اعرتاضـات .عليـك أن ت ِ
ُراهـن دائم ًا على احلـب ،فاحلـب خسـارة كبرية،
لـكل مـا ُيثقـل الـروح ،مـن السـوء والرش..
أهـم عنـارص احلكمـة أن نسـتطيع التمييـز بين رغباتنا التـي يقف
مـن ّ
خلفهـا اخلـوف ،وبين رغباتنـا التي يقـف خلفهـا احلب.
أسـلوب حياتنـا على الرغبات
َ نؤسـس
ومـن أهـم عنـارص القـوة ،أن ّ
التـي يقـف خلفهـا احلب.
قوة الحب
يقين مريـح ،أن يعيشـوا حياهتـم كبيادقفضلـون ،وبِ ٍ ُمعظـم النـاس ُي ّ
الشـطرنج ،يتحركـون بأيـدي اآلخريـن أو أن يتحركـوا بام تربجمـوا عليه،
وأن ينتقلـوا مـن ُمفـزات ورغبات بال معنـى إىل مرشوعـات فارغة عبثية،
زائف وعبثـي ،هذا
ٌ وإىل واقـع زائـف ،فـكل مـا ال يصنعه اإلنسـان بوعيـه
هـو أصـل معاناتـه ،فاملعانـاة أصلهـا اخلـوف ،واخلـوف أصلـه املجهول،
واملجهـول هـو مـا ال تصنعه بوعيـك ورشـدك ونياتك وإيامنـك ،فأنت يف
اللحظـة التي تَرشع فيها بامتلاك حريتك وأفكارك ،وتسـعى للتخلص ممّا
تربجمـت عليه ،وتسـعى إلفـراغ ذهنك مـن كل املعارف واألفـكار الزائفة،
تلـك العوائـق التي حتـول بينك وبني رهافة اإلحسـاس والصفـاء الذهني،
فإنك سـتبدأ يف اسـتعادة قوتـك احلقيقية املفقـودة واملجهولة بالنسـبة لك،
هـذه القـوة هـي يف احلقيقـة قـوة روحـك ،وقوة وعيـك وإيامنـك ،هي يف
123
شـوهها الزيـف والكسـل واألنانية ،تلـك القوة
احلقيقـة قـوة احلـب التي ُي ّ
التـي سـتمنحك الوضـوح يف الرؤيـة والبصيرة ،والوضـوح يف التفكير،
والوضـوح يف الن ّيـة ،والوضـوح يف املشـاعر ،والوضـوح هـو أحـد دعائم
املقـدرة على متييـز الوهـم ،والوضـوح هـو أحد سمات احلكمـة ،احلكمة
حتولنا من نظرتنـا العقلية املكتسـبة لألشـياء ،إىل نظرتنا
التـي تعنـي أننا قـد ّ
الروح ّيـة الناضجـة ،ومن دون هـذه النظـرة الواعية والناضجـة ال ُيمكننا
أن نفهـم أنفسـنا بالدرجـة نفسـها التـي نفهـم فيهـا العـامل ،وال يتسـنّى لنا
يتضمنـه الوجـود ،تلـك الرؤيـة التـي نسـتطيع بواسـطتها ّ رؤيـة كل يشء
الوصـول حلالـة من الوعـي نتمكّـن فيها مـن إدراك أهـداف الوجود.
ومـن دون أن نصـل حلالـة الوعـي هـذه ال ُيمكـن لنـا أن نعـرف قيمـة
احلـب ،وال يمكـن لنـا أن نعـي ونؤمـن أن احلـب هـو القيمـة األعلى
واألسـمى يف معـاين الوجـود وأهدافـه .ومن دون هـذه احلالة مـن الوعي
واحلكمـة سـيبقى اإلنسـان يعيـش يف حالة مـن الفوىض ،ويعيـش يف دائرة
مغلقـة مـن املعاناة والعـذاب ،ألنه َح َر َم نفسـه مـن فضائل النعمـة اإلهلية،
ومـن اجلمال اإلهلـي ،حينما َح َـر َم نفسـه مـن طاقـة املحبـة ،و َأ ْف َسـدَ على
روحـه َمدَ ياهتـا وهبجتهـا يف الطمأنينـة والسلام واخللاص.
ملاذا احلب هو احلقيقة الوحيدة؟.
نتهرب أو ننسـى أو نخـاف أو نندمألننـا ،وال بـدّ لنـا يف يوم ما ،إما أن ّ
مـن أفعالنـا ،إال تلك التـي كانت ُمفعمـة و ُمك ّللة باحلب.
مـن امتلأت نفسـه باملحبـة الالمرشوطـة فلريكـب معنـا ،لينجـو مـن
طوفـان األنانيـة والبـؤس.
هكذا نادى نوح ندا َءه األخري..
124
كيف ُيغرينا احلب؟
تتعـرض ،حاهلـا كحـال كل القيـم ّ احلـب كقيمـة إنسـانية ُمقدّ سـة
اإلنسـانية األخـرى ،للتزييـف واالبتـذال ،وبالطبـع مـن قبـل برجميـات
املجتمـع ومـن ِق َبل أنواتنـا الزائفـة .فربجم ّيات املجتمع سـعت دائم ًا لربجمة
األشـخاص على النظر للحب كشيء كما ّيل وأحيان ًا كيشء ُمعيـب ال يليق
بأصولنـا الكريمة ،وال يليـق بالرجل كرجل قوي ،وال يليـق باملرأة كامرأة
وحتول من قيمة إنسـانية جوهرية ومقدسـة إىل ِ
ُمرتمـة ،وكـذا ابتُذل احلـب ّ
ُمـرد عالقـة تربـط الرجـل باملـرأة .أ ّمـا أنواتنـا الزائفـة فقـد جعلتنـا نفهم
احلـب بنفـس طريقـة فهمنـا للحـرب؛ فأنـت يف احلـب ال بـد وأن تكـون
ا ُملنتصر دائم ًا ،وال بـد أن يكـون للطـرف اآلخر خيـاران ال ثالـث هلام :إما
أن يقـع أسير ًا يف حبائـل ح ّبنـا ،وإمـا أن ُيصبـح هـو اخلائـن وهـو مصدر
عذابنـا وآالمنـا ومعاناتنـا .وهـذا بالطبـع هو اجلـو املثـا ّيل ألنواتنـا الزائفة
لتعيـش حالـة العـذاب واملعانـاة والفوىض والدمـار الذايت ،حتـى أصبحنا
جمتمعـ ًا بلا عافيـة! ..ألننـا ال نعـرف أن نحـب! ..ألننا نُطـارد احلب بكل
مـا لدينـا من اختلاالت وعقـد نفسـية وأنانية.
يتغي فينا عندما نحب؟
ما الذي ّ
احلـب هـو العاطفـة األكثـر قـدرة على التغلغـل إىل أعمـق نقطـة يف
وجداننـا ،فيحـرك فينـا ما سـكن حتت رمـاد الغفلـة واألنانية ،وحيـرك فينا
ا برياح السـموم ،احلب هـو إعادة نسمات البهجـة بعدمـا ا ْلت ََذعـت طويل ً
تربيـة للنفـس ،وهو القـادر عىل تفعيـل عواطفنـا الصادقة والنقيـة بأكمل
طاقتهـا؛ فأنـت ،عندمـا تغمـرك عواطفـك احلقيقيـة الصادقة فهـذا يعني
أنـك قـد بلغـت غايـة اجلمال والكمال الكـوين ،ألن كيميـاء العواطف قد
ِصي َغـت بيـد صانع اجلمال وخالـق األلفة..
125
وح ٌّي و َيااِ ْبنَ ُة صالوايت... يا َأم ر ِ
َ ْ ُ
وحي َفا ْع ِذ ِرينِي.. اض ك َْأس البهج ِة يف ر ِ
ُ ُ َْ َ َقدْ َف َ
س ُد َب ْعض ًا ِم ْن ِق َّصتِنا... ِ ِ ِ
سنا ا ُمل َعت ََّق بِاحلَ ْمد َوالياسمنيَ ..س َأ ْ ُ
ِ
َس َأ ْف َض ُح ّ
ول:سأ ُق ُ َ
الو ْر ِد ِّي ِ ِ
َأنْت َم ْن َل َّونْت َع ْين َّي بِال َّل ْون َ
ِ
و َلون ِ
ْت َق ْلبِي بِال َّل ْو ِن األَ ْب َي ِ
ض َ َّ
الس َم ِو َّي ِ ِ ِ
َو َأعَدْ ت ل ُروحي َل ْوهنا َّ
َس َأ ُق ُ
ول:
ف َح ْلتِنِي َف ْو َق َمدَ يات ا َمل ْعنَى.. َك ْي َ
أل ْشي ِ ِ
آخر.. اء ُب ْعدٌ َ ف َأ ْص َب َح ل َ َ َو َك ْي َ
ُب ْعدٌ ال ُي َق ُال َو َل َت ْع ِر ُف ُه ال ُّل َغات..
اء َأصبح ْت ح ِق ِيقي ًة و ِ ِ
صائ َب ًة.. ك ُُّل األَ ْش َي ْ َ َ َ َّ َ
والدُّ روب ُك ُّلها َأصبح ْت و ِ
احدَ ةً.. َ ُ ُ َ ْ َ َ َ
ِّيه ..وال َب ْهجة.. بلو ِن الت ِ
ْ
كتاب مقدَّ س ،هو اإلنسان
ٌ
حينام يس ّطر بحرب ا َملح ّبة
حروف ُط ِ
هره.. َ
سلاحك فيه احلب هـو انتصار
ُ ٍ
انتصـار حت ّققـه يف حياتـك ال يكون كل
زائـف ،أو باألحـرى خسـارة ُم َقنّعـة .لذلكحـاول اسـتغالل وجودك يف
ا أن ُتـب كل املوجودات احليـاة حتـى لو بفعل أشـياء بسـيطة للغاية ،مثل ً
مـن حولـك ،أو مثل ً
ا أن حتـاول إطلاق أسماء جديـدة على األشـياء من
126
حولـك ،أسماء مـن وحـي املحبـة واالنتماء ،أسماء ليـس هلـا عالقـة أبد ًا
ِ
ـب والباحث بما ت ْعلمـه عنهـا سـابق ًا ،أي أن تنظـر إىل األشـياء نظـرة ا ُملح ّ
ا ملكتشف .
رصيـد املحبـة الصادقـة الذي نمتلكـه يف قلوبنا هـو القـوة الف ّعالة التي
تقتحـم اجلـدران التـي تفصلنـا عـن الوجـود ،وعـن ف ّعاليتنـا يف الوجـود،
ورصيـد للمحبـة التـي نمتلكهـا يف قلـوب النـاس حتـى وإن كان مـن
شـخص واحـد ،هـو الرصيد الذي سـيمكّننا من تسـديد ديـون احلياة مهام
كانـت غالية.
يف اللحظـة التـي تعثـر فيها على تلك الـروح التي تتعشـق فيها روحك
سيتالشـى إحساسـك بالغربـة عـن هـذا العـامل ،وسـتظهر لـك روعتـه
تتجلى لـك معـاين النعمـة والرمحـة والعدالـة اإلهلية،ّ وقداسـته ،وعندمـا
سـتؤمن أن األرواح املتجاذبـة النقيـة ال يكتـب هلـا أن تتفـارق أبـد ًا..
ما هو الفرق بني احلب والعشق؟.
يف احلب أنت تشعر باتّزان لتوافِ َق أجزاءك..
ٍ
باحرتاق لتبعثر أشالءك.. ويف العشق أنت تشعر
فالعشق هو شهقة الروح التي تفزع النفس وتلجم العقل..
كاذبة هي الكلامت التي تصف اجلامل
عني العاشق..
اسألوا َ
كاذبة هي الكلامت التي تصف النار
اسألوا صدر العاشق..
وليس من قدرة ألحد أن يرحم العاشقني
127
سوى اهلل رب العاشقني..
يف احلب:
ستضيع ..لكنك ستجدُ نفسك.
ّ
ستتأل ..لكنك لن تعاين.
ستحزن ..لكنك لن تشعر بالتعاسة.
ستمرض ..لكنك ستشفى رسيع ًا.
ستشتاق ..لكنك لن تشعر بالوحدة.
واألهم أن حياتك ستصبح كلها صالة يف حمراب قلبك.
فللسماء لغـة ال تتواصـل معهـا ،وال تنصـت هلـا ،إال األرواح النقية..
ورس العشـق يف االحرتاق ..
رس النقـاء يف العشـقّ ،ّ
حترتق أنفس العاشقني
نور نج ٍم
فيغدو بعضهم َ
زهر ياسمني.
ويغدو بعضهم َ
128
الفصل الرابع
اإلستنارة
إن مـا نريـده ونحتـاج إليـه اآلن هـو التواصـل األقـرب ،والفهـم
األفضـل بني األفـراد واجلماعات ،في األرض بكاملهـا ،وإنقاص الـ "أنا "
والتفاخـر واالسـتكبار الـذي مييل دوماً إلـى دفع العالم إلـى الهمجية
البدائيـة واحلـروب ،فالسلام ال ميكـن أن يأتـي إال كنتيجـة طبيعية
لالستنارة.
(نيكوال تسال)
ال يمكــن لنــا أن نُعطــي تعريفـ ًا عامـ ًا وملـ ًا لالســتنارة ،مهــا اجتهدنا
يف القــول وأســهبنا يف الــرح ،حتــى اإلنســان ا ُملســتنري ال يمكنــه ذلــك،
لكننــا ســنحاول قــدر اإلمــكان تقريــب املعنــى وتســليط الضــوء عــى
الظــروف املســاعدة وامللــكات املكنونــة ،وعــى بنــاءات وثمــرات حــال
االســتنارة.
يمكننــا القــول بدايــة إن االســتنارة حم ّطــة فاعلــة يف رحلــة النضــج،
ـي والفهــم ،هــي حلظــة ثقـ ٍ
ـة، وثمــرة مــن ثمــرات الوعــي والتغيــر والتخـ ّ
لكــن ليــس باملعنــى الــذي نعرفــه عــن الثقــة وليــدة التجربــة أو نتيجــة
القــرار الداخــي ،بــل هــي الثقــة يف الوجــود ،هــي ثقــة مشــاهبة لثقــة
129
وقــررت
ّ جربــت أن تُثمــر
الشــجرة حــن تثمــر ،فهــي مل تثمــر ألهنــا ّ
ـتمر ،إهنــا تثمــر ألن هــذا هــو وجودهــا ،وهــذه هــي بعــد ذلــك أن تسـ ّ
فاعل ّيتهــا الكونيــة ،وهــذه هــي طريقــة تناغمهــا مــع الكــون.
ٍ
اكتشــاف للــذات ،وإعــادة معرفــة للنفــس، االســتنارة هــي إعــادة
وإعــادة اكتشـ ٍ
ـاف للقــدرة اإلنســانية الكامنــة ،وهــي حالــة جتـ ٍّـل للنــور
الداخــي ،نــور اهلل ونفحتــه نــور املحبــة والرمحــة والعطــف والتســامح،
والتوحــد مــع املوجــودات ،هــي ليســت معرفــة
ّ نــور االمتنــان والتناغــم
ُمكتســبة.
أحــد املســتنريين عندمــا أتتــه حلظــة االســتنارة بعــد ســنوات أخــذ
ا كيف كُنــت أبحث عــن يشء موجود َّيف أساسـ ًا. يضحــك هبســتري ّية قائـ ً
فاالســتنارة ال تتعلــق بكتــاب أو معلــم أو معرفة ،وال تتعلق بمســاعدة
خارجيــة ســوى مســاعدة واحــدة؛ هــي أن يقــال لــك :إنــك تســتطيع
ـون مــن نفــس املــادة اهلائلــة الــذكاء التــي يتكــون
وجاهــز ،ألنــك مكـ ّ
ذات د ّقــة متناهيــة،
ُســره قوانــن ُمنهــا الكــون ،هــذا الكــون الــذي ت ّ
ليــس ذكاء التفكــر وإنــا ذكاء التســليم ،ذكاء الوجــود والطبيعــة.
االســتنارة حــال مــن أحــوال الرحلــة ،يف الرحلــة املحبــة هــي اهلدف،
والنــور هو الوســيلة..
اإلنســان املســتنري هــو مــن يبــر األشــياء بنــوره الداخــي ليعكــس
تلــك األنــوار إىل العــامل مــن حولــه ،ســواء عــى هيئــة أفــكار أو تعاليــم،
أو عــى هيئــة أفعــال أخالقيــة ،أو اكتشــافات علميــة؛ فالبــر يتع ّلمــون
ـع مــن أرواح الناس ويفهمــون ويدركــون بواســطة تلــك األنــوار التي تَشـ ّ
املســتنريينُ ،أولئــك الذيــن ســامهوا يف تطــور مســتوى الوعــي البــري..
130
ـظ أننــا وعــى مســتوى تعليمنــا وبــكل أشــكاله املعرفيــة غالب ـ ًا مــا
الحـ ْ
نــدرس أفــكار واقتباســات وكتــب واكتشــافات وتعاليــم ونظريــات
ُأولئــك املع ّلمــن.
تتوحــد أقطابــه الثالثــة ،اجلســد والعقــل
اإلنســان املســتنري هــو مــن ّ
والــروح ،لتتظافــر كلهــا يف تكويــن شــكل جديــد إلنســان جديــد،
إنســان خــارج عــن املألــوف ،إنســان جديــد غــر قابــل للتجزئــة ،يتجـ ّ
ـى
فيــه النــور ،النــور الــذي هــو يف حقيقتــه أصلــه الســاوي ،النــور الــذي
ُيلهمــه إدراك املعنــى خلــف كل شــعور وأصــل كل فكــرة ،النــور الــذي
يمنحــه حالــة النعيــم الدنيــوي وحالــة الســام الداخــي املتناغــم مــع
الســام الوجــودي األصيــل ،حيــث ال رصاعــات وال آالم وال أمــاين وال
مطامــع وال رغبــات ،وبــا قلــق.
االســتنارة هــي أن تتجــى فيــك هبجــة الوجــود وروعــة الوجــود ودقة
الوجــود وعدالــة الوجــود وغايــة الوجــود وتوافــق الوجــود ،لتبــر
املعنــى اإلهلــي ُمتج ّلي ـ ًا يف مجيــع املوجــودات ويف مجيــع أشــكال احليــاة.
إيامنك هو مصدر قوتك ،وفضاء إبداعك ،وجوهر وجودك.
ففــي املرحلــة التــي يســمو فيــك (الوعــي اإلنســاين) ســتعاين وتتــأمل
ملــا تــرى كميــة الظلــم واملعانــاة واجلــوع والقهــر والقتــل والفقــد ،التــي
يــرزح حتتهــا هــذا العــامل ،لكــن يف املرحلــة التــي يســمو فيــك الوعــي
كل يشء بخــر ،وأن كل يشء صحيــح ،وكل يشء اإلهلــي ســتطمئن أن ّ
يســر وفــق قوانــن عادلــة ودقيقــة وحياديــة ،وأن ال يشء يضيــع مــن
بــن َيــدي القــدرة اإلهليــة ،وأن كل فــرد قــادر وفــق قدراتــه الالحمــدودة،
تلــك القــدرات التــي تتمثــل يف إيامنــه ووعيــه وقيمــه الروحيــة ،قــادر
ـو ونضــج الوعــي البــري. عــى أن ُيســاهم يف نمـ ّ
131
يقول أوشو :
"يكــون النجــاح داخــل اللــه ومــع اللــه ،وعليــك أن ّ
تتذكــر
أنــي ال أعنــي بـــ (اللــه) شــخصاً جالسـاً فــي مــكان مــا فــي الســماء،
ـعر بالــروح الكونيــة ،ذلــك القانــون
بــل أعنــي الــروح الكونيــة .اشـ ْ
الــذي يتغلغــل ويختــرق الوجــود بأكملــه ،الــذي ولــدت منــه
وســتعود إليــه يومــاً ".
مـا يقصـده أوشـو يف أن تكون مـع اهلل هـو أن ِ
تصل أوالً حلقيقـة املعنى
اإلهلـي بداخلـك،فمـن يعـرف حقيقـة املعنى اإلهلـي ،سـيفهم أن اإليامن
هـو الوعـي ،إنـه الوعـي الشـعوري الـذايت العفـوي الـذي ال يتجلى إال
باالسـترشاق الفـردي ،وال يمكـن أن يعلمـه مع ّلـم أو كتـاب أو مدرسـة.
تتعمـق يف معرفتـه ومعرفـة قوانينـه وقيمه ،قيم
أن تعـرف اهلل يعنـي أن ّ
التسـامح واملحبـة واالهتمام والسلام ،هـذا هو النجـاح احلقيقـي ،وغريه
هو فشـل تـا ّم مهما كانت مظاهـره ،ومهما كانت شـعاراته.
عم غريبـة الطبـاع منغلقة عىل نفسـها ال يقـول أحدهـم :كانـت يل ابنـة ّ
ختـرج أبـد ًا إال للضرورة القصـوى ،حتـى إين شـخصي ًا مل َأرهـا إال عندما
مصـدر قلـق ألهلهـا
َ كانـت طفلـة صغيرة ،كنـت أسـمع بأهنـا أصبحـت
ألهنـا ترفض االرتبـاط ،وقد رفضـت كل الرجال الذين تقدّ مـوا خلطبتها.
ترسبيقـول :حصـل وأن رأيتهـا يف إحـدى املناسـبات ،يف تلك اللحظـة ّ
منهـا يف داخـل كيـاين يشء ،يشء صعب أن يوصف ،يشء مل أسـتطع وقتها
ا مرحيـ ًا ممتعـ ًا حمفـز ًا ،فيـه نـوع من أن ُأ ّ
فـك شـيفرته لكنـه كان شـيئ ًا مجيل ً
التحـدي ،وفيـه طاقـة مـن املسـؤولية والسـعي إىل االهتمام واملسـاعدة
واإلنقاذ.
132
بعـد هـذا اللقـاء وملدّ ة غير قليلة مـن الوقـت كان هناك أشـبه باجلدال
والصراع يف داخيل بني قوتني متعاكسـتني؛ األوىل بني الشيء الذي وصفته
وتَو ّلـد يف داخلي بعـد اللقـاء ،والثانية بني صـوت داخيل آخـر رافض هلذا
الشيء ،ولـه ُح َججـه املنطقية ،فهـي أكرب مني سـن ًا وتعاين مـن اضطراب
وخـوف وعـدم ثقـة واطمئنـان ،أي إهنـا سـتكون زوجـة متعبة جـد ًا ،بعد
انقضـاء فترة الرصاع تلك حسـمت أمـري وتقدمـت خلطبتها.
مضي عرشيـن عامـ ًا على زواجنـا أشـعر أننـي ّ يقـول :اآلن ،وبعـد
وبفضـل اهلل والقيـم اجلامليـة التـي انتصرت يف روحـي ،نجحـت نجاحـ ًا
باهـر ًا يف إنقاذهـا ،والدليل هو يف حجم ابتسـامتها عندما تراين وإحساسـها
بالثقـة واألمـان معـي وعافيتهـا وحيويتهـا ونشـاطها وإقباهلـا على احلياة.
والتفهـم والرمحـة وبالتأكيـد هـذا مل ِ
يـأت مـن فـراغ ،بـل بالتسـامح
ّ
واملـودة واالهتمام.
يتجسـد فيـك
ّ هـذا بالضبـط هـو معنـى أن تكـون مـع اهلل ،ومعنـى أن
ومـن خاللـك املعنـى اإلهلي.
ألنك حبيب اهلل..
فـكل مـا جيلـب لروحـك السلام ،ويغمـر حياتـك بالسـكون واملعنى
هو عبـادة..
كل ما حيدث لكم هو باختياركم
أرواحكم تعرف هذا األمر جيد ًا.
ُيشير الكاتب غـاري زوكاف يف كتابـه (موطن الـروح) إىل أن أرواحنا
هي مـن ختتار دورهـا يف جتربتها اإلنسـانية.
133
صحيـح أننـي مل ُأؤمـن بالفكـرة كعقيـدة أو كحقيقـة راسـخة ومسـ ّلم
غيرت الكثير مـن طريقـة فهمـي للحيـاة، هبـا ،لكننـي أشـعر بأهنـا قـد ّ
وضاعفـت كثير ًا مـن إحسـايس باملسـؤولية جتـاه أقـداري.
يتحمل اإلنسـان مسـؤولية أقداره ومسـؤولية كل مـا حيدث له،ّ عندمـا
مشـاكله ومعاناتـه ونجاحاتـه ،سيكتسـب خبرة ثمينـة ،وحكمـة عظيمـة
وسـتتوضح له نياتـه ،وتتنامى
ّ خلقة ،وسـتغمره طاقة نور وهبجة،و ُقـدرة ّ
عنـده الثقـة بالنفـس والشـجاعة ،وتتضاعـف قوتـه وصالبتـه ،ويتصاعد
نسـق رسيانـه مـع الطبيعـة والوجـود ،فـكل موجـود يعـاين عندمـا حياول
رسيـان الطبيعـة ،وكل موجـود يبتهـج ويرقص رقصتـه الكونية أن يقـاوم َ
عندمـا يسـتثمر معطيـات الطبيعـة وينمو مـع رسياهنا.
التطور والتشايف..
ّ يف كل حلظة أنتم متلكون خيارات
أعذاركـم هـي زيـف الــ "أنا" ومبررات الكسـل ،وهي عـادة الراحة
والبقـاء يف دائـرة املألوف..
كل خماوفكـم التـي بلا ٍ
سـند سـندُ ها احلقيقي الفجـوة احلاصلـة بينكم
وبين أرواحكم.
عـودوا ألرواحكـم ،فهـي وحدها تعـرف أنكم أبنـاء الكـون املد ّللني،
أتيتـم من النـور واجلامل والسلام وإليـه متضون.
ال يـزال اإلنسـان جيهـل عاملـه األول ،وجيهـل طريقة االتصـال به ،ألنه
اعتـاد الفهـم بعقلـه وحواسـه اخلمـس ،رغم أن كل شـخص منا قد شـعر
يومـ ًا بتل ّقيه رسـالة أو وحيـ ًا أو إهلام ًا.
األثريي أو الذات العليا حيتـاج إىل رشوط رضورية
ّ التواصـل مع العـامل
مـن أجل الفهم واإلدراك واالسـتيعاب ،ومن أهـم هذه الرشوط :
134
* النية الصادقة الواعية.
حالـة ضعف الثقـة وانعدامها أحيان ًا ،واالرتبـاك احلاصل يف العالقات
بين النـاس ،هو نتيجـة طبيعية لتغلب النوايا السـيئة يف نفوسـنا عىل النوايا
احلسـنة ،هنـاك من سـيقول بأنه مـن الطبيعـي أن تكون لنا خمـاوف أو عدم
ثقـة يف التعامـل مـع النـاس ،كـون املجتمـع أصبـح جمتمعـ ًا أناني ًا وسـلبي ًا
ررة وحقيقيـة ،لكـن جـد ًا ،وخماوفنـا بالتـايل هـي خمـاوف مرشوعـة ومب ّ
احلقيقـة معكوسـة ،أي إن املجتمـع أصبـح هبـذه الدرجـة من السـلبية ألن
نوايانـا أصبحـت هبـذه الدرجـة مـن السـلبية ،وليـس العكـس ،فاملجتمع
سـ ِّيئ ألننا سـ ّيئون ،ولسـنا سـيئني ألن املجتمع سـ ِّيئ.
ترويض أنفسـنا على النوايـا اإلجيابية احلسـنة رغم كل َ ٍ
بجهـد لنحـاول
ظـرف ،نوايـا نقية جمردة مـن كل خوف أو رغبـة أو أنانية ،حتـى تصفو لنا
النوايـا الكونيـة ولِنُثاب بخيـارات كونية إجيابيـة ليس هلا حصر أو انتهاء.
يف الكـون هنـاك ماليين االختيـارات ،لكـن مـا يتهيأ لنـا منهـا مرتبط
بوعينـا ونياتنـا ،ومـن املهـم هنـا أن نفهـم أن النيـة ليسـت جمـرد رغبـة أو
هـوى ،بـل هـي فعـل إرادة وسـعي وإيامن. ً
لـكل نيـة هنـاك عـدد مـن االختيـارات ،فعندمـا تكـون نيتنـا العيـش
وفـق قيمة احلـب والرمحة والتسـامح ،ووفق ثقتنـا ومسـؤوليتنا ،تتحدّ د لنا
اختيـارات معينـة ،وعندما تكـون نيتنا العيش وفق مشـاعر اخلـوف وعدم
الثقـة واحلسـد والالمبـاالة وقلة الصبر ،تتحـدد أمامنا اختيـارات أخرى.
تطورنـا الروحي مرتبـط بنياتنا ووعينا هبـا ،وعلينا
علينـا أن نؤمن بـأن ّ
أن نؤمـن بأننـا نتحمل دائ ًام املسـؤولية عـن أفعالنا ونتائـج أفعالنا.
135
مهمـة للتصالـح مـع ذواتنـا وألجـل الوعي
ومـن أجـل خطـوة أوليـة ّ
بالنوايـا ،لنحـاول دائم ًا االنتبـاه إىل نسـق أفكارنـا وحتديـد إذا مـا كانـت
يف املجمـل مرتبطـة باملـايض وإعـادة تدويـر لألحـداث السـابقة ،أو إذا
مـا كانـت مرتبطـة دائم ًا باخلـوف مـن املجهـول والقلـق مـن اآليت ،ذلـك
الـذي مل حيـدث بعـد ،أو أن تكون دائم ًا مرتبطة بسـلطة الرغبـات وتبعاهتا
السـلوكية ،أو أن تكـون نابعـة مـن منطلـق األنانيـة.
لنحـاول أن نكـون على قـدر كبري مـن الرصاحـة واملصداقيـة يف حتديد
نوعيـة هـذه األفـكار ومدى سـلطتها على أدائنـا يف رحلتنا الدنيويـة ،وأن
نلعـب دور املراقـب والشـاهد عليها ،ومـن دون إطالق أي أحـكام ودون
توبيـخ ولـوم أو تأنيب.
كل نيـة خير وحب وهبجة تُزهر يف نفوسـنا ستسـاهم يف موازنة وإعادة
تغليـب اخلري الكـوين يف مقابل الرش.
الثقة
ُ
تلجـأ إليه أنـت ُمسـتاء وتتذ ّمـر مـن وضعـك احلـايل ،وال جتد خمرجـ ًا
لتشـعر بالراحـة وتتخ ّلـص ممّـا أنـت فيه!..
السـبب هـو أنـك ُمسـتاء ،االسـتياء يعنـي أنـك ال تـدرك مـا حيـدث
معـك ،وال تفهـم الطريقـة التـي تسري فيهـا احليـاة وكيـف تتد ّفـق ،أنت
كل تغيير ،أنت جتهل إمكانياتـك للتغيري ،وجتهـل ُقدراتك الكامنة،تقـاوم ّ
بالسـنن والقوانين الكونية،
ألنـك ال متلـك الثقة بنفسـك ،وال متلك الثقة ُّ
وألنـك ال متنـح روحـك الفرصـة للتعاطـي مـع اآلخريـن ومـع كل يشء
مـن حولـك بثقـة وشـجاعة واطمئنان ،فمـن دون هـذه الثقة سـتبقى ترى
مشوشـة وضبابيـة ،ولن تسـتطيع أن تفهـم املعنى اخلاص
األشـياء بصورة ّ
136
بتجاربـك واملعنـى اخلـاص باملواقـف واألحداث التـي تتعرض هلـا ،ولن
تسـتطيع أن تفهـم عالقاتـك ،سـواء مـع اآلخرين من حولـك أو عالقتك
باحليـاة واملوجـودات ،وعالقتـك مـع الكـون والوجـود ،وال يتسـنّى لك
والتطـور يف كل هـذه العالقات.
ّ التواصـل والتفاهـم
االسـتياء يعنـي أنـك أصبحت سـاحة للرصاع بين عدّ ة أفـكار خمتلفة،
ومشـاعر متناقضـة وعواطـف زائفـة ،والسـبب هـو خماوفـك وأوهامـك
العقليـة؛ إن عـدم الثقة يعني وجود خمـاوف وارتياب يف العالقـة واالنتامء،
فأنـت عندمـا تكـون يف عالقة ال يكـون أساسـها الثقة واالطمئنـان ،فإنك
لـن تفهـم الطرف اآلخـر فه ًام صحيحـ ًا ،ولن تفهم نفسـك ،ولـن تفهم أو
تـؤ ّدي دورك يف العالقـة بصـورة حقيقية ،ولـن تتمكّن من اختـاذ القرارات
والتطور لك وللطـرف اآلخر،ّ الصائبـة واحلكيمـة ،والتي سـتعود باخلير
بمعنـى أن مشـاعر اخلـوف وعـدم الثقة قد أزاحت مشـاعر احلـب والرمحة
والتفهم واالنتامء.
ّ والتسـامح
عندمـا نتعاطـى بثقـة واطمئنـان مـع الوجـود ومـع القوانين الكونيـة
رسياهنـا ،ونؤمـن بعدالتهـا ود ّقتهـا وحياد ّيتهـا ورصامتها،
ونفهـم طبيعـة َ
وأن ال يشء يف الكـون حيـدث اعتباطـ ًا ،وأن أحداثها منظمة وليسـت عبثية
أو عشـوائية.
فـإن هـذه الثقة هلـا األثـر الكبير على حياتنـا ويف تناغمنا معهـا ألجل
جـودة األداء والنتيجة.
ْ
لنتخيـل أنفسـنا نعيـش يف دولـة تكـون قوانينهـا الترشيعيـة غايـة يف
العدالـة واملسـاواة ،و ُين ّفـذ فيها القانون بصـورة حيادية وصارمـة ،ال ُتايب
أحـد ًا ومهما كان منصبـه ،وال تظلـم أحد ًا مهما كان وضعه ،ومتنـح فرص ًا
137
متكافئـة للجميـع ويف كل املجـاالت ،بالتأكيـد يف هـذه احلالـة سيشـعر
الشـخص الـذي يـو ّد أن يعيش بكرامـة ورشف باطمئنان نفيس ،ومسـاحة
َأمـان مهمـة وكافية للعيـش املبدع والكريم .الشـخص الـذي يفهم ويؤمن
بتلـك القوانين والغايـة السـامية التـي وضعـت ألجلهـا سـتكون حياتـه
سلسـة وسـهلة ويسرية.
ّ
الغـش أمـا الشـخص الـذي يريـد أن يعيـش بطريقـة أنانيـة ملؤهـا
واخلـداع والظلـم ،فبالتأكيـد ال يمكـن أن ترحيـه هـذه احلالـة وسيشـعر
باالختنـاق النفسي الدائـم وتَغلـب عليـه حالـة مـن التذ ّمـر والعدوانيـة.
ُعمـم كالمنا هذا
هذا عىل مسـتوى حياتنـا كمجتمعات ،ونسـتطيع أن ن ّ
على املسـتوى الوجـودي العـام؛ فنحـن عندما نكـون واعين وواثقني من
دقـة ورصامـة وعدالـة القوانين الوجوديـة الكونيـة ،فإننـا سـنحصل عىل
الرتيـاق األعظـم لسـموم اخلـوف والتشـتت والقلـق الوجـودي ،ومـن
الطبيعـي واحلقيقـي أن يكـون إيامننـا هـذا هـو الفضـاء الـذي تنمـو فيـه
طمأنينتنـا وسـكينتنا وإبداعنـا وتطورنـا وأماننـا املفقود ،وهـذا بالطبع ملن
يـود احليـاة بكرامـة ورشف وإبداع.
حيـل السلام ،سـواء على املسـتوى الفـردي أو على صعـب جـد ًا أن ّ
مسـتوى العـامل ككل ،دون تبلـور رؤيـة واعيـة وإيامن تـام بأن هـذا الكون
سير وفـق نظام وقوانين دقيقة وحياديـة وعادلة وصارمـة ،قوانني داعمة ُم َّ
للنمـو والتطور والنجاح ،والرتابـط والتآلف بني املوجـودات ،هذا اإليامن
سـيو ّلد يف داخلنـا إحساسـ ًا عميقـ ًا باالطمئنان والسلام واألمـان ،وهذا
اإلحسـاس هـو الشرط اجلوهـري للرؤيـة احلقيقيـة الواضحة ،فهـو يو ّفر
وسـيغي هذا اإليمان بالنظـام الكوين
ّ جـو ًا مناسـب ًا للفهـم واالسـتيعاب،
138
رؤيتنـا للوجـود من رؤى واعتقادات سـلبية بـأن الوجود عَدَ مـي اعتباطي
وبلا غايـة أو سيرورة نحو هـدف ُمثمـر وعظيـم ،إىل رؤيـة إجيابية حتمل
يف جوانبهـا كل مـا هـو إجيـايب وتنموي ومسـامل ورحيم.
حتتـاج البـذرة ملراحـل تكوينيـة زمنيـة حتميـة لتُزهـر ،كذلك اإلنسـان
بحاجـة هلـذه املراحل لينمـو و ُيزهـر ،يف كل مرحلة عىل اإلنسـان أن جيتهد
وأن يتخلى وأن ُيكافـح كام الشـجرة.
ال يشء يمنـع الشـجرة مـن أن تزهـر ،ألهنـا مكتفيـة بذاهتـاُ ،مسـ ّلمة
لقوانين الطبيعـة والوجـود وال تسـتمع وال تذعـن ألحـد.
السالم الداخلي
نسـتطيع أن نصف السلام الداخلي بأنه الفـردوس األريض ،واحلديقة
ا ُملزهـرة ا ُمل ّ
سـورة باهلـدوء والطمأنينـة ،والتـي يسـتطيع أن يـأوي إليهـا
اإلنسـان بعـد كل جهـد ذهنـي أو إجهـاد فكـري ،وهـو الوضـع األمثـل
للجسـد ،لكـي تقـوم أعضـاؤه املختلفـة بمامرسـة مهامهـا بأقصى كفـاءة
زودت اإلنسـان بـكل مـا حيتاجـه من أجهـزة ذكيةوأتـم تدبير ،فالطبيعـة ّ
ّ
ودقيقـة يف أداء واجباهتـا ،وعبر مراحـل تطـوره التارخيية للوصـول به إىل
مرتبـة (أحسـن تقويم) حسـب املصطلح القرآين ،وممّا ال شـك فيـه أن هذا
التقويـم هـو تقويـم جسـدي وروحـي وفكري.
األشـخاص الذيـن ينعمـون بنعمـة السلام الداخلي أشـخاص
حـارضون دائم ًا يف اللحظـة ،متصاحلـون مـع الداخـل ومتصاحلـون مـع
اخلـارج ،وتكـون ردود أفعاهلم متوازنـة ،بارعون يف عالقاهتـم االجتامعية
ويتقنـون التفاعـل والتجاهـل.
139
أما األشـخاص الذيـن يفتقدون لنعمة السلام الداخيل فهم أشـخاص
يعانـون مـن التوتـر ا ُملزمـن والعدائيـة والتخبـط العاطفـي ،ويعانـون مـن
االرتبـاك االنفعـايل والتطـرف الفكـري والشـعور الدائـم باملعاناة .
مـن أجل الوصـول حلالة السلام الداخيل يتطلـب األمـر إرادة حقيقية
وثقـة بالنفـس وقـوة وشـجاعة وصبر .لكـي نصـل علينـا أن نُزيـل مـن
ترسـبت يف عمـق أذهاننـا ألننـا
نفوسـنا طبقـات عـدّ ة مـن األوهـام التـي ّ
اعتربناهـا فيما مضى حقائـق ومسـ ّلامت تُنعـش أنواتنـا الزائفـة ،حقائـق
جاهـزة ملجتمـع مريـض أقصى طموحـه أن يكـون أفـراده قطيعـ ًا مـن
تتيسر لـه عمليـة التدجني.
األشـخاص املـرىض بالفكـر واجلسـد ،حتـى ّ
للمتغيرات واملؤ ّثرات
ّ أمهية السلام الداخلي تظهر جلي ًا عنـد تعرضنا
مهمـة ال تسـتنزفها الرصاعـات الداخليـة، الصعبـة ،فهـو يوفـر لنـا طاقـة ّ
ألجـل إمتام اإلجـراءات اخلاصة ملعاجلة املوقـف ب ُيرس وتلقائيـة ،أي توفري
مسـاحة مـن القـدرة العصبية مناسـبة للتفاعل مـع املتغري.
السلام الداخلي غري مشروط بحالة مـن البهجـة والفرح والسـعادة،
كما قـد يظـن البعـض ،هـو مشروط بحالـة مـن القبـول والتصالـح بين
الداخـل وبين األفـكار واملشـاعر ،سـواء أكانت مشـاعر إجيابيـة أو كانت
مشـاعر سـلبية ،كاحلـزن واألمل والقلـق واخلوف .لنتذكـر دائ ًام أن السلام
الداخلي ال يعنـي أن نعيـش حياتنـا بلا عقبـات أو مشـاكل أو عثـرات،
بـل يعنـي قدرتنـا على وقـف رصاعاتنـا الداخليـة ،ووقـف مشـاعرنا
وأحاسيسـنا السـلبية ،والتـي يسـ ّببها هروبنـا مـن مواجهـة هـذه املشـاكل
وحتملنـا للمسـؤولية.
140
لتتصالـح مـع ذاتـك وجتلـب حلياتـك السـكون ..اخلـع عنـك ِقنـاع
ْ
املثاليـة والتصنّـع ،واجـ ْه نفسـك وكـن صادقـ ًا معهـا ،واعترف هلـا
بمخاوفـك ورصاعاتـك وكرهـك وحسـدك وتوترك وضعفـك وغريتك
وقلقـك ،ال بـأس عليك أنت لسـت ا ُملذنـب ،أنت ضحية ملجتمـع مأزوم،
ولثقافـة مهزومـة.
السلام الداخلي ال يعنـي ّأل تقلـق وأال حتـزن وأال تتأمل ،هـو يعني أال
تقلـق مـن قلقـك وال حتزن على حزنـك وأال ّ
تتأل مـن أملك.
تعرضنا للمتغيرات واملؤثراتأمهية السلام الداخلي تظهر جلي ًا عنـد ّ
الصعبـة ،فهـو يو ّفـر لنـا طاقـة مهمـة ال تسـتنزفها الرصاعـات الداخليـة،
ألجـل إمتام اإلجـراءات اخلاصة ملعاجلة املوقـف بيرس وتلقائيـة ،أي توفري
املتغي.
قـدرة عصبيـة مناسـبة للتفاعل مـع ّ
أحـد األشـخاص بعـث يل مـرة يتسـاءل كيـف لنـا أن ننعـم بالسلام
الداخلي يف ّ
ظـل كل هـذه الفـوىض واملـآيس والظلـم واجلهـل التـي يعاين
منهـا املجتمـع؟.
السلام الداخيل ال يعني الكسـل أبـد ًا ،وال هو منطقة للراحة السـلبية،
وال هـو يعنـي االنفصـال التا ّم عن قضايـا املجتمع ،وال يعني االستسلام،
بـل بالعكـس متامـ ًا كـون كل األوضاع السـابقة هـي أوضاع سـلبية تؤدي
إىل الكبـت ،كبـت لقيـم الـروح األصيلـة ،قيـم احلريـة والعدل والسلام
والعطـف والرمحـة واملحبـة ،والكبـت هـو املسـبب األول لعـدم التـوازن
واالسـتقرار الداخلي ،وهو املسـبب األول للنكوص الفكري واإلنسـاين،
فأي شـخص منـا يسـتطيع أن يلمس حجم هـذا الكبت بمجرد مشـاهدته
ألي حـوار سـيايس أو ديني يف برنامـج تلفزيوين أو على مواقع التواصل،
141
سـيلمس بيـده حجـم الكـذب والتزويـر والكراهية والبـذاءة ،هـذه كلها
إفـرازات طبيعية لعمليـة الكبت.
فالسلام الروحـي حيصـل حينما حيـدث التناغـم والتناسـق بين قيمنا
الروحيـة األصيلة وبين أفعالنـا وردود أفعالنـا جتاه األحداث مـن حولنا.
كيف أستطيع الوصول حلالة السالم الداخيل؟
نتحرر مـن كل فكرة أو عقيدة
للتحـرر من الربجميات ،أي أن ّ ّ -السـعي
أو أيديولوجيـا اعتربناهـا يف يوم ما مسـ ّلمة غير قابلة للتـداول واملراجعة،
وأن تكـون سماؤنا الداخلية صحـو ًا دائ ًام بأنـوار الفطرة واإليمان والنفخة
الر ّبانيـة ،وأال تشـوهبا غيوم أو ظالل الــ "أنا" الزائفة.
-الرتكيـز الدائـم على الشـعور بالرضـا واالمتنـان لـكل مـا حيـدث،
والقناعـة العميقـة بـأن كل مـا حيدث لنا هـو لصاحلنا سـواء أكان خير ًا أو
جتربـة أو انعطافـة خلير أبقى وأوسـع.
-التسـامح احلقيقـي مـع أنفسـنا ومـع اآلخريـن ،وبالرغـم مـن كل
حـدث أو موقـف ،باعتبار أن التسـامح مزيـل ف ّعال لكل أشـكال الندبات
الظاهريـة والدفينة.
-تدريـب النفـس عىل النظـر بعيـون املحبـة والعطف والرمحـة للناس
ٍ
آليـات وبرجمة مـن حولنـا ،فرغم مسـاوئ البعض فهـم يف النهايـة ضحايا
املجتمـع وطغيـان الطاغني.
-االنتبـاه الدائـم إىل آليـة التنفـس لِـا للتنفـس العميـق مـن ف ّعاليـة يف
التخلـص مـن التوتـر وجتهيـز أجهـزة اجلسـم املختلفـة بما حتتاجـه مـن
أوكسـجني وطاقـة.
142
قوة السالم الداخيل
الســام الداخــي هــو املقيــاس احلقيقــي للقــوة ،فالشــخص القــوي
هــو املتامســك داخليــ ًا والقــادر عــى الرجــوع هلــذا الوضــع بعــد كل
متغــر.
ّ انعطافــة أو
فاإلنســان يتعــرض يف مســرة حياتــه ملتغــرات ومط ّبــات وعثــرات
وحتدّ يــات مســتمرة ،كونــه حمكــوم بالعيــش يف جمتمــع ،وحمكــوم بعالقات
متنوعــة ومعقــدة ،ولذلــك فــإن قوتــه احلقيقيــة تتجســد يف مــدى تعاملــه
بــذات واعيــة مطمئنّــة وواثقــةٍ ،
ذات ٍ وتفاعلــه مــع كل هــذه الظــروف
ُ
ُمتصلــة بالقيــم اجلامليــة الروحيــة.
أســاس هــذا االطمئنــان هــو يف التوافــق بــن النيــة والقــدرة ،ويف
التوافــق بــن الوعــي واإليــان بالداخــل والوعــي واإليــان بالوجــود.
كل مــن يمتلــك هــذا االطمئنــان ســيمتلك الثقــة ،والثقــة هــي القوة،
ألنــك عندمــا تكــون واثق ـ ًا وممتلئ ـ ًا باملســؤولية ،ســتظهر دائ ـ ًا بوجهــك
احلقيقــي ،فأنــت ال حتتــاج الرتــداء أي قنــاع ،وال يمكــن أن تلعــب أي
دور آخــر غــر دورك الطبيعــي .الضعفــاء هــم فقــط مــن يرتــدون األقنعة
ألهنــم باألصــل ليــس هلــم وجــوه لريتدوهــا ،وجوههــم احلقيقيــة ضائعــة
يف دهاليــز اخلــوف والزيــف واهلزيمــة واإلحبــاط ،وال يمتلكــون أي
مصــدر ثقــة ســواء يف أنفســهم أو يف اآلخريــن أو يف الوجــود ،وال حتــى
يف واجــد الوجــود.
الشــخص الضعيــف شــخص ُمرتبــك و ُمتوتّــر وخائــف ،لذلــك
غالبــ ًا مــا يتظاهــر بالقســوة ،ويتعامــل بالظلــم واالســتبداد والتذلــل،
وغــارق بالتم ّلــق والكــذب وازدراء اآلخريــن ،فأنــت ال يمكــن لــك
143
أن تدخــل يف رصاعــات خارجيــة وأنــت تعيــش يف ســام داخــي ،كل
رصاعاتــك اخلارجيــة هــي هــروب مــن مواجهــة الداخــل والتصالــح
معــه ،فنحــن نســتطيع أن نُميــز اإلنســان القــوي مــن خــال تواضعــه
وبســاطته ومرونتــه ،فهــذه هــي الصفــات األهــم التــي ُتكّنــه مــن اجتيــاز
التطــرف بــكل أشــكاله إالّ الصعوبــات وامتصــاص الصدمــات ،ومــا
دليــل ضعــف واختــال يف التــوازن .ودليــل عــى العــذاب الداخــي
والتصحــر الداخــي واملعانــاة املســتمرة.
ّ
القـوة احلقيقيـة لإلنسـان تبرز بشـكل واضـح يف قدرتـه على أن
جيعـل نفسـه صادقـة معـه ،دون مواربـة أو حتايـل أو تربيـر ،هـذا الصـدق
واملكاشـفة للنفـس سـتمكنه مـن متييـز األصـوات التـي تشـكل اجتاهات
يسيره هـل هو صـوت الــ "أنـا" الزائفة حياتـه ،سـيفهم الصـوت الـذي ّ
أم هـو صوت الروح! .وسـيفهم مرجعيـة كل فكرة وكل عاطفة وشـعور.
املهم اآلخر هو أن هذه املكاشـفة والشـفافية يف التعامـل مع الذات، األمـر ّ
عب عنهـا بالنزاهـة ،أي النزاهـة التـي لن تسـمح لنا بتربيـر اخلطأ ،كون سـ ُي ّ
هـذا التربيـر وعىل املسـتوى النفيس قد يكـون أكثر رضر ًا من اخلطأ نفسـه،
فكلنـا نخطـئ ألننا يف رحلـة جتربة واختبـار ،املهم هو أن نعترف بارتكابنا
للخطـأ دون حماكمـة للنفـس ،بـل بقبـول تـا ّم و َت َف ُّهـم ،هـذا القبـول مهـم
جـد ًا يف تأصيـل وتعزيـز حالـة السلام الداخيل ،ومهـم جد ًا لفعـل التوبة
عـن اخلطأ.
ما الرس يف ذلك؟
السر هـو يف عمليـة اتّـزان الطاقـة يف وضـع التـوازن النفسي الـذي
جيلبـه لنـا السلام الداخلي ،فالقـوة احلقيقيـة لإلنسـان تتجسـد يف قدرتـه
144
مسـتقرة قـادرة عىل أن
ّ على موازنـة الطاقة يف جسـده ،بحيـث تصبح طاقة
تُعينـه على الوعـي والرتكيـز ،فالشـخص الـذي يتمتع بمسـتوى ٍ
عـال من
الطاقـة هـو القـادر على التناغم مـع طاقـة روحـه ،والتناغم مـع إرشاقاهتا
واالتّصـال هبـا وبقيمهـا اإلهليـة ،هـو القادر على العطـاء احلقيقـي ،عطاء
املتـدن للطاقة
ّ املحبـة والثقـة والتسـامح واحلكمة واإلبـداع ،أما املسـتوى
وخسـارة القـوة والـذي حيدث غالب ًا بسـبب اخلوف أو نقـص الثقة ،فهو ال
جيلـب للشـخص سـوى مشـاعر األمل والقلق ،والتي تـؤ ّدي باسـتمراريتها
إىل اختلال يف وظائـف اجلسـد وتـؤدي كذلك ألمراض نفسـية وجسـدية
وترسهبـا أثنـاء شـعوره
ّ فـكل منـا قـد الحـظ انخفـاض طاقتـه خمتلفـةّ ،
باخلـوف أو الغضـب أو احلـزن ،وشـعر كيـف أن تغييرات فيزيولوجيـة
والتعـرق وفقـدان
ّ عديـدة قـد طـرأت على اجلسـد ،كاإلجهـاد واخلمـول
السـيطرة على النفس واملشـاعر.
لذلـك علينـا أن نجتهـد ونثابر من أجـل ترويض النفس عىل املكاشـفة
بمسـمياهتا احلقيقيـة ،من أجل وضـوح املشـاعر ونقائها
ّ وتسـمية األسماء
وأن نتق ّبـل منـذ اللحظـة ذواتنا وعيوبنـا وأخطاءنا وأقدارنـا ،فهي الطريق
الوحيد للنضج واالسـتنارة والتشـايف.
كلامتك املتفائلة التي تزرع الثقة يف نفسك ويف نفوس اآلخرين..
ابتسامتك لنفسك ويف وجوه اآلخرين..
اخلية التي تقوم هبا لنفسك ولآلخرين..
أفعالك ّ
هـي كلهـا طاقـة إجيابية مضافـة للطاقة الكونيـة ،وألن الطاقـة ال تفنى،
وألهنـا طاقـة ذات ذبذبـات حتمـل بصمتـك ،فسـيضيفها الكـون مليـزان
حسنا تك .
145
يف اللحظـة التـي تكـون فيهـا برفقـة ُأناسـك ّ
املقربين سـتكون على
وتتصرف بعفوية وتشـعر بصفـاء ونقـاء داخيل وهبجـة وفرحة ّ طبيعتـك،
تتنـزه يف رحـاب الطبيعـة وتسـتمع جلريـان املـاء وغنـاءعظيمـة ،وعندمـا ّ
الطيـور وحفيـف الشـجر ،ستشـعر كذلـك بصفاء داخلي ومتعـة عظيمة،
نفـس املشـاعر سـتحياها عندمـا تقابـل البحـر وتتأمـل حركتـه وعمقـه
وأرساره ،ونفـس الشيء ستشـعر بـه عندمـا متـارس التأمـل والصلاة،
الرس يف ذلـك أن العقـل يف كل هذه احلاالت
وعندمـا تسـتمع للموسـيقىّ ،
قـد َسـكَن وانتفـى دوره ،ألنـك يف كل هـذه احلـاالت قـد عشـت األمـان
والطمأنينـة والرضـا ،ومل تُفكّـر فيما ُيعكّـر صفـو هـذا األمـان مـن أفكار
متهـورة وأحـكام جاهـزة ،أو قلـق وخمـاوف داخليـة. ّ سـلبية ورغبـات
اإلنسـان باسـتطاعته دائم ًا أن جيعـل كل حلظاتـه هبـذا املسـتوى مـن
الصفـاء والنقـاء والسـكون الداخيل ،إذا ما انتبـه ألناه الزائفـة ،التي مل ولن
لـب لـه سـوى القلـق واملعانـاة واألوهام ،وحارصتـه بكل ما هو سـلبي َ ْت َ
ويفتـك بجسـده وروحـه ،ويسـتلب منـه إنسـانيته ومعنـى وجوده.
عندمـا نتصالـح مـع ذواتنـا فإننا نكـون أكثر صالبـة وقوة ،ألننـا نلغي
ذرات أجزائنـا ،لذلـك يصعب أو نق ّلـص مسـافات الوهـم الفاصلـة بين ّ
جـد ًا ختلخلنـا أو اهنيارنا.
146
كما يف االمتحـان املـدريس نُعطى القلـم ،فإننـا يف امتحان احليـاة نعطى
اجلسـد ،فكما نحن يف اجلوهر لسـنا بقلم ،وإنما األفكار التي ُتـرك القلم،
كذلـك يف اجلوهـر نحن لسـنا بجسـد إنما نحـن األرواح ،األرواح اخلالدة
التـي حتـرك اجلسـد يف رحلتـه األرضيـة ،والتـي تعينـه يف إكمال امتحانـه
األريض .إن إدراك عمـق حقيقـة أرواحنـا اخلالـدة ،كفيـل بـأن جيعلنـا
نتسـامى فـوق خماوفنـا وأوهامنـا ،وكفيـل بـأن جيعلنـا ننعـم باالطمئنـان
والثقـة ،ونـدرك كذلـك عظمـة وجودنا.
عندمـا تغمرنـا حكمـة الـروح ،سنشـعر بالثقـة والسلام والطمأنينـة،
ألننـا برعايـة ورمحـة كونيـة تا ّمـة ،وإننـا دائم ًا مـا نتل ّقى رسـائل ووسـائل
مسـاعدة وإرشـاد ،ليـس ألننـا ذوو أمهية قصـوى للوجود ،بـل ألننا جزء
أصيـل مـن هـذا الوجـود العظيم.
األرواح العظيمـة تُـدرك أن اللحظـات القاسـية هـي التـي تصنـع
اإلنسـان ،بشرط التصالـح معهـا واالمتنـان هلا وإعلان البهجة والسلام
عىل القـادم.
األرواح العظيمـة تُـدرك أن كل مـا حيـدث هلا هـو باختيارهـا ،وتُدرك
أهنـا يف كل حلظـة متتلـك خيـارات التطور والتشـايف.
األرواح العظيمـة ال تتع ّلـق بشيء ألهنـا تُـدرك أن اللحظـة احلالية هي
احليـاة ،وتـدرك أن يف كل حلظـة تنسـاب وتتجلى مـن الوجـود طاقـات
الربكـة والنعمـة والبهاء.
األرواح العظيمـة تُـدرك أن مـن عالمـات نموهـا وتطورهـا أن تؤمـن
بأهنـا ليسـت أفضـل مـن أحـد ،وليسـت أدنـى مـن أحـد ،وغري مسـاوية
ألحـد ،بـل هـي نسـخة فريـدة حليـاة فريدة.
147
األرواح العظيمـة ال تـؤذي أحـد ًا ،وال يسـتطيع أن يؤذهيـا أحـد ،ألهنا
تُدرك أن اإلسـاءة ال متثل شـيئ ًا سـوى ظـروف صاحبها ،ومسـتوى وعيه.
األرواح العظيمـة تتقـن لغـة املشـاعر وتتواصـل هبـا ،ألهنـا تـدرك أهنا
اللغـة األكثـر عمقـ ًا ونقا ًء مـن لغـة األفكار.
تقارن نفسـها بأحد ،ألهنا ال تشـعر بعقدة النقص،األرواح العظيمـة ال ِ
وال عقـدة العظمة والتفوق.
األرواح العظيمة ال خييب ظنها أبد ًا ،ألهنا أص ً
ال ال تظ ّن.
148
الفصل اخلامس
َكلمت روحي
ْ هكذا ت
***
كما حيترق الشـهاب يف رحلتـه األرضيـة ،عليـك أن حتترق يف رحلتـك
تتطهـر ممّـا علـق فيـك مـن دنـس األرض..
السماوية ،كـي ّ
***
كما للطبيعة ،للروح أيض ًا ،مواسـمها ا ُملتعاقبة ،حيصـل االضطراب عندما
نرتـدي يف الصيـف مالبـس الشـتاء ،أو عندما نبكـي أوراقنا املتسـاقطة يف
فصـل اخلريف..
***
مهما اختلقنـا من أعـذار لبؤسـنا ومعاناتنا تبقـى التع ّلقـات املادية واخلوف
اللـذات الدنيويـة ،هـي احلاجـز الفاصـل بيننـا وبين جنتنـامـن خسـارة ّ
الروحيـة وسلامنا الدائم.
***
149
الصادقـون مـع أنفسـهم هـم القـادرون على تق ّبلهـا والتمتّع يف نفائسـها،
ِ
التطـور واالسـتنارة.
ّ ضي يف دروب وا ُمل ّ
***
أغلـب النـاس ُين ّقبـون عن املـاء يف رساب الصحـارى ،وهـم حيملونه عىل
ظهورهـم ،فيجتمـع عليـه ثقل املـاء وشـدة العطش وتعـب التنقيب.
***
لـكل مـا حتتاجـون ادعـوا أنفسـكم ،فـاهلل ال ُيدعى سـوى باحلمـد هلل رب
العاملني.
***
مـا أمجـل اإلنسـان ببسـاطته وعفويتـه وبراءتـه ،وما أهبـاه بمشـاعر املحبة
والعطـف والرمحـة والتسـامح ،ومـا أعظمـه بعقلـه املبـدع ملعـاين اجلمال
والبهجـة والسلام ،ومـا أقبـح عقليـة االسـتبداد والتغييـب والتجهيـل
والتزييـف التـي رسقـت منـه كل هـذا.
***
وتفهـم ،فإنـك هتدي لنفسـك
عندمـا تتقبـل كل أخطائـك برحابـة صـدر ُّ
أروع هديـة ،وهـي االنعتـاق مـن الكربيـاء الزائـف ،والرؤيـة الضبابيـة،
ممّـا يعنـي أنك قـد أصبحت شـخصية متّزنـة مرحيـة لذاهتـا وللتواصل مع
اآلخرين.
***
150
وعينـا هـو مـا جيعلنـا نـرى احليـاة واألحـداث بـكل ألواهنـا الطبيعيـة ،ال
بمنظـور ضيـق ال حيتمـل إال األبيـض أو األسـود.
يتجسـد جوهـر الـذكاء ومعنـاه يف سـعينا الـدؤوب لالنفتـاح املسـتمر
والدائـم على املعرفـة اجلديـدة واالكتشـاف ،وسـهولة تغيير اعتقاداتنـا
ومبادئنـا ،أكثـر ممـا يتجسـد يف سـعينا للمحافظـة على عقائدنـا ومبادئنـا
ومعرفتنـا الذاتيـة.
***
موهبـة ثمينـة تلـك التـي تُلهمنا رؤيـة الصـور ،بإطارهـا املناسـب .فغالب ًا
التشـوه الـذي نـراه هـو يف نـوع اإلطـار ،وليـس يف ذات الصورة.
ّ
***
151
واعشق بعمق..
ْ وأحبب بعمق،
ْ صاحب بعمق،
ْ
تعود عىل أن تستمتع بوحدتك
لكن ّ
دوامة التعاسة واملعاناة.
كي ال تقع يف ّ
فالعالقات كلها آيلة للزوال ،إال عالقتك بنفسك.
***
مـن يعـرف حقيقة اهلل سـيفهم أن اإليامن هـو الوعي ،هو الوعـي اإلدراكي
والشـعوري الـذايت الـذي ال يتجىل إال باالسـترشاق الـذايت ،وال يمكن أن
ُيع ّلمـه مع ّلـم أو كتاب أو مدرسـة .ومـن يعرف حقيقة اهلل سـيعرف حقيقة
نفسـه ،ومـن يعـرف حقيقـة نفسـه سـتكون أفعاله غير خاضعـة لرغبة أو
انفعـال أو تفكير أو تـر ّدد أو حسـابات منطقيـة ،بل تكـون خاضعة ليشء
أعمـق من البصيرة وأبعد مـن الثقـة ،يشء كأنه القـدر املنري...
***
152
يا وليد العاصفة..
يوم ًا ما ،ستهدأ العاصفة
ويتصالح فيك روحك وعقلك..
اخلوف جدران واهية...
حاول أن ُتسكها بيدك لتدرك حجم هشاشتها..
ولتدرك كم حالت هي بينك وبني قيمة احلياة..
***
153
الذيـن خيافـون الوحدة هـم يف احلقيقة خيافـون عبور النفق املظلـم الفاصل
بني ضجيـج أفكارهم وأنوارهـم الداخل ّية..
***
أهـم مهـارة عليـك أن ُتيدهـا يف هـذه احليـاة هـي كيـف تفهـم اإلهلـام
اإلهلـي ،والتوفيـق اإلهلـي ،والتدبير الكـوين.
***
فقط من حيتفظ برباءته ال يمكن ألحد ،أو يشء ،أن جيعله يعاين..
مزودين بكامل خطوطنا الدفاع ّية ،لكنّنا نفقدها شيئ ًا فشيئ ًا..
ألننا نولد ّ
***
حني حيكم اجلسد عىل الروح بالسجن
حتكم عليه الروح بامللل.
الفارق كبري..
حينام تلبس روحك فوق شخصيتك ختتفي شخصيتك ويسود اجلامل.
وحينام تلبس شخصيتك فوق روحك
ختتفي روحك ويسود االبتذال!.
***
154
كاذبة هي الكلامت التي ِ
تصف اجلامل
عني العاشق..
اسألوا َ
تصف الناركاذبة هي الكلامت التي ِ
155
جمـرد رق ٍم يف
العشـق هـو الشيء الوحيـد الذي ينتشـل اإلنسـان مـن كونه ّ
ا بوجوده. عـداد العابريـن ،ليجعل منـه كيانـ ًا ُمتمر ًاُ ،مـدرك ًا ُ
ومتفل ً
***
رسي؟
من أوحى لك بشيفرة ّ
جتمعت فيك أضدادي؟
كيف ّ
ما عدت أحفل مأزوم ًا بأمري
وال عادت متلكني أبعادي
***
156
يف النهايـة سـألتفت خلفي ،ألُحيص سـنوايت بعـدد أجزائي التي انتشـلتها
من علقـة الفخاخ.
***
احتضنوا آالمكم..
فالثمرة التي ال حتتضن قساوة الشمس..
كيف هلا أن تنضج؟!
***
إن أردنـا حلياتنـا أن تنمـو فعلينـا أن نتقـن التسـليم ،فهـو الوضـع األمثـل
لتكسير السـدود التـي تشـكل حاجـز ًا يمنـع ّ
تسرب الزائف منـا ،ويمنع
تد ّفـق النماء إلينا..
***
مـن أراد أن يتعلـم سـيتعلم مـن كل يشء حولـه ،فكل األشـياء مـن حولنا
هـي دروس جمّانية وسـخ ّية ملـن ينتبه ،وملن يبصر األشـياء بحيادية ،ولكي
نجيـد احلياديـة علينـا أن نتأ ّمل األشـياء التـي ال نحبها أو نكرههـا ،ونفهم
جوهرهـا ،ونفهـم الغاية مـن وجودها ،فلا يشء يف الكون موجود سـهو ًا
أو اعتباط ًا..
***
157
يؤملك اآلخرون غالب ًا بسبب عدم تل ّقيك االحرتام واالهتامم منهم...
هل تساءلت يوم ًا ملاذا؟..
نحن ال نحتاج إال إىل األشياء التي نفتقدها..
فعندمـا يملـك اإلنسـان كفايته مـن االهتامم بنفسـه واالحرتام هلـا ال يعود
يؤملـه أي يشء مـن اآلخرين.
***
تي َّقن أن للروح ن ُبو َءةً ،وأهنا وحدها بوصلة النشوة واجلامل..
تي َّقن أن بينك وبني النُّ ُبو َءة مسافة من صرب ويقني..
***
158
ال ّ
يتجل اجلامل إال يف تسليم العقل ومنطقه جلنون القلب ونزواته.
***
التهويـل والتضخيـم والتعقيـد مـن أهـم خـدع الــ "أنـا" الزائفـة ،فإنـك
هتـول
تغير ،فـإن أنـاك الزائفـة ّعندمـا تتعـرض ملوقـف أو مشـكلة أو ُم ِّ
احلـل ال بـد وأن يكـون على الدرجـة ذاهتـااألمـر لتجعلـك تعتقـد بـأن ّ
مـن التعقيـد ،لذلـك يصيبـك التوتّـر واإلربـاك ،وتصبـح غير قـادر عىل
اسـتيعاب احللـول ،والتـي تكـون غالبـ ًا سـهلة وبسـيطة..
***
159
األسى بقربه ال يعود سدً ى
والشوق يف مقلتيه هدً ى
وإن حالت بيننا الدنى
لمنا شذى الروح واملعنى
َي ّ
فليس للروح موعد َي ْبىل
إن فاض فيها النور والسنا..
ال ينبلج الفجر األروع
إال من عتمة ليل صادق
ليل ..مل تلوثه األنوار الكاذبة
***
160
دع عنـك كل مسـتحرضات التجميـل والعنايـة بالبشرة ،فلا يوجـد
ْ
يشء ُيمـل اإلنسـان مثـل الرضـا.
***
161
كميـة السـوء التـي نراها يف هـذا العامل ،هي مسـاوية متام ًا لكمية السـوء
التي يف نفوسـنا.
***
آخ ُر َهـا ْـت َ ُـك َأ ْحِ ُـل َأ ْقـدَ ًارا َأن َ ِج ْئت ِ
162
املحتويات
املقدمـة7 ...........................................................
توطئة11 ...........................................................
الفصل األول
برجمـة العقـول17.................................................
مسـؤولية الوعـي والتغيير24 .....................................
كيـف تصنـع وعيـك؟28 .........................................
هش� ًا م�ن الداخ�ل؟29 .........................
متى يصبح اإلنس�ان ّ
الـوالدة احلقيقيـة31...............................................
طاقـة التمـرد34 ....................................................
تتغير حياتـك37 .............................
ّ غير طريقـة تفكيرك
ّ
العقل41 ...........................................................
مقاييس الشـخصية املثاليةيف العقل اجلمعي45........................
اآلن هـو أفضـل وقـت للتغيير47 .................................
القبـول50 ..........................................................
التسـليم54 .........................................................
ما هـو الفرق بني التسـليم واالستسلام55 ..........................
163
االنتبـاه59........................................................
احليادية64 ..........................................................
التأمـل68....................................................
الصمـت71 ......................................................
الفصل الثاين
متعـة التائهين73 ..................................................
مـا الـذي يمنـع اإلنسـان مـن االتصـال بروحـه؟78 ...............
أبعـاد الشـخصية وأبعـاد التيـه80 .................................
الفصل الثالث
رحلـة الوعـي والتنويـر93........................................
كيـف نُم ّيـز اإلنسـان الواعـي؟95 .................................
البسـاطة رشط مـن رشوط الوعـي104 ...........................
الوعـي يف العالقـات106 .........................................
ملـاذا ال يفهـم الرجـال النسـاء؟110 ..............................
تبـادل املنفعـة الروحيـة113 ......................................
احلقيقـة فـخ العقـول115 ..........................................
التع ّلـق علـة وانحـدار118 ........................................
كيـف أتشـاىف مـن التع ّلـق ؟119..................................
كيـف أسـتطيع التمييـز بين احلـب والتع ّلـق؟120..................
مـا هـو احلـب؟121 ..............................................
164
قـوة احلـب123 ...................................................
كيـف ُيغرينـا احلـب؟125.........................................
الرابـع الفصـل
االسـتنارة129 ...................................................
الثقة136 ...........................................................
السلام الداخلي146 ..............................................
كيف أسـتطيع الوصول حلالة السلام الداخلي؟13 9 ...............
قـوة السلام الداخلي143 ..........................................
الـروح كنـز احلكمـة146 ..........................................
اخلامـس الفصـل
هكذا تكلمـت روحـي165 .........................................
165
166