Professional Documents
Culture Documents
الوجد احمد الشهاوي
الوجد احمد الشهاوي
الصوفي بحر ال ُيدرك له قرار ،وال ُيعرف له ساحل ،وقديًم ا قال السيد البدوي« :إن سواقَّي
تدور على البحر المحيط ،ولو نفد ماء جميع سواقي الدنيا ،ما نفد ماء سواقي».
َم ن العارُف ؟
الذي يعيُش في جَّنِة المعارِف ،يشَقى ويسعى ،وال يكتمُل أبًدا ،إْذ هو دائًم ا في نقصاٍن ؛ ألَّن َم ن
يكتمل يدركه الموُت ،وتنعشُه الحكمُة ،وتغِنيه الخواطُر والوارداُت والُم ناجاُة ،إْذ هي تخطُر وترُد
من سماء الُّر وح.
فَم ن يدخل ميداَن المعرفِة يطب له كُّل شيٍء ،ويقترب منه الحرُف ،ويصير قاب قوسين من
الكرامِة التي تمنحه اللذَة الُقصوى ،والصورَة األتَّم .
وَم ن يغترف من بحِر المعرفِة تمسك يداه األشياء ،ويعرف شدائَد الزمان ،وُيرزق من حيُث ال
يحتسب ،وُتفتح له المخارُج واألبواُب ،ويدِّقق النظَر في البواعث ،ويدخل سرادق الُحِّب كأنه في
عليين.
العارُف يسيُر إلى الزيادِة ،يأنُس إلى فتح قلبه ،عَّله يصل إلى الُم شاهدِة ثم االتحاد والحُلول فيَم ن
يعشُق ويرتجي؛ مطلًقا لسان سِّر ه ،رافًعا الِح جاب عن كِّل مستتٍر وخفٍّي ،واصاًل إلى معنى ُر وح
الحْر ِف الذي ينتظُم في كلمٍة ،ثم في ُج ملٍة ،ثم في نٍّص .
العارُف ابن الذوق والحِّس ،وهو من أهِل اإلشارِة ،والعبارِة ،والحقيقة ،باطنُه غني ،حتى لو شد
الحجر على بطنه من فرِط الُج وع والَّسَه ر.
العارُف يخرُج ليس معه شيٌء سوى الحْر ِف الذي يحمله قلبه ،غارٌق في بحر ذاته ،يحيا في
المقاِم والحاِل ،ويسعى إلى سبيل الحكمِة ؛ ليلمَح الحقائَق وهي تطيُر أمام عينيه ،تتنَّز ُل بين يديه؛
كأنه من وارثي المنزلة.
العارُف له مواٌّد خاَّص ٌة ،يختاُر ما ال يختاُر ُه سواه ،ليس لُه من نفسه شيٌء ،ابن الِفرار ال القرار،
استوت له أرُض الحقيقة ،يسوُق غماَم ُه نحو العلم اإللهِّي ،ينظر ببصِر اإليقان ،واإليقان بالشيء
العلم بحقيقته بعد نظٍر واستقراٍء واستدالٍل وتثُّبٍت وتحُّقٍق ووُض وٍح ،وهو إتقاُن العلم بإزالة الَّشك
والُّشبهِة عنه وتحقيق األمر.
ال يدخُل الوسواُس بينه وبين حبيبه ،وُينسيه ما قدمت الُّر وح من عشٍق ،وما منح الجسد من عطاٍء
وجنان.
العارف ال يقيده زمٌن ،وال يحُّده مكاٌن ،دوًم ا في تجٍّل ،وجالٍء ،وتجواٍل ،وسياحٍة ،وسفٍر ،يسلم
قلبه لَم ن يحُّب ويرُج و.
العارُف محٌّب للخلوة ،مستعٌّد للعُر وج ،سبيُل المناجاة منجاته ،ومفتوٌح أمامه ،يقبُس من النور وال
ينفد ،يترُك االنتصار لنفسه ،إْذ يصِّفي ُر وحه ،وينِّقي قلبه مع كل طلعة شمٍس .
ال غاية لديه إال ُذروة الوُص ول ،حيث مدت ُر وحه بمعاني المعارف ،هو مفتاٌح لقلوب الغير،
ومصدُر الحكمة الكبرى ألهل السِّر .
باطنه مع َم ن يعشُق ،وظاهرُه مع َم ن سواه ،سترته األقداُر .
العارُف يمتطي صهوة ُبراقه ،ويسعى نحو التمام والكمال ،ال يكُّف عن العُر وج ،حتى يبلغ
الُّذروَة ،سدرة منتهى الطلوع والفْيض.
طعاُم العارف ثمرُة الُّنور ،وهي تنبت في أرض ُر وحه ،ويسقيها بماء ذهِبه ،الذي تشطفه الَّسماُء ،
وثمرة العلم اإللهي وهي تنبُت في أرض قلبه ،ويسقيها بماء الُحِّب الذي ال تنفد بحاُر ه ،وثمرة
الوصل وهي تنبُت في أرضْين :أرُض العارِف ،وأرُض َم ن اتحد به ،وإذا ما قطع المحُبوب
الوصل ،عطبت الثمرُة ،وسقطت تحت شجرتها ،إذ ال يلتفُت أحٌد إليها.
في الُعزلة ،أو في الخلوة يعرُف المحبوُب ُكنَه ثمرِة وْصِله ،هل شاخْت ،وجَّفْت وحان سُقوُطها،
أم وهو في كهفه يدرك أن قلبه ناَم ،أو ماَت ،أو ضاَق ،أو ُسَّدت شرايينه من فرِط الَّص دأ؛ ألَّن
المحُبوَب يعرُف أَّن ثمرَة الُعزلِة تتجَّلى في كشف الغطاء ،أو هتك الِح َج اب عن تمُّكن المحَّبة
وتحُّققها ،أو فتورها ،أو برود ناِر ها ،ولم تُعد الُم جاهدُة تجِدي؛ لكَّن المحُبوب يخشى الُم واجهة ،أو
يريد أن يحتفَظ بشكِل الوْص ل ال بجوهره ،بسراِب العشِق ال مائه ،بينما العارف يدرُك أنه ال سلطاَن
على القلِب ،لكَّن الناَس تكرُه التصريَح خشية التجريح ،مع أَّن العاشَق العارَف يصبُر على البالء،
ويرضى بالقضاِء ،وال يعرُف أنه ال يثبُت على الُح ب إال أهل التجريِد والُقرِب ،ال أهل التقتيِر
والُبخِل والُّشح والَمِّن في الَم ْنح.
َم ْن أهُل الَّنظر؟
عودُت نفسي منذ الِّص با المبِّك ر ،وأنا في قريتي ،أن أعتزل كي ال أبتذل ،وأن أنفرد كي ال
أزدحم ،وأنشغل بالسفاسف والتوافه والقشور ،وأن أغوص عميًقا في روحي الحيرى القلقة ،مجهًدا
عقلي؛ كي أدخل إلى المعاني الكامنة في القلب.
واستفدُت من عزلتي التي اخترتها سبياًل ،ومصادقتي للكتاب حًّبا الزمني وبقي معي ،ونوًر ا نافًذا
ينير لي الطريق ،كلما انحرفت في ناحية ال تشبهني ،ولم أخلق لها أساًسا؛ لذلك كبرت داخلي رغم
سني الصغيرة وقتذاك ،وأكرمني هللا عندما هجمت الشدائد وتوالت المحن ،وما أكثر ما ُشفُت
وعاينُت وعانيُت ،لكنني سيد الكتمان ،إذ في الصمت علو وارتفاع ،على الرغم من أَّن شواهد األلم
تسطع في مرآتي ،وتنعكس على كلي نفًسا وحرًفا.
وعلى الرغم من أنني لم أتعلم السباحة ،وأخشى البحر وأراه غادًر ا ،حتى لو صدق؛ فإنني أحب
أن أغرق في بحر نفسي ،وفي محيط أشيائي؛ علني أقود سفائن روحي إلى الساحل حتى ولو كان
نائًيا أو مجهواًل ،وحتى لو انكسرت بعضها ،أو حَّطمتها األمواج؛ ألن الغرق في الذات إدراٌك
لماهية النفس ومساءلتها والوصول إلى قرارها األعمق ،حيث عشت أطمح أن أكون من أهل النظر
بالدليل والبرهان ،وعادة ما يكون برهاني محمواًل على كفتْي ميزان قلبي.
وَم ن امتلك برهانه عاين وكشف ما استتر ،وزالت الحجب عن المخفي فيه وعنه ،وترَّقى في
الدرجات ،وطوى المسافات بجناحي براقه إلى المعارج ،وصار في حال الفتح ،ومقام اإللهام.
والخسران هو أن يعيش المرء محجوًبا عن نفسه؛ ألن المحجوب قلبه فارٌغ ،ومصروٌف عن
العشق ،واألشياء ملتبسة عليه «لكل شيء حقيقة» ،وَم ن يتحَّص ن بالمعرفة ،تكتب له النجاة ،ويحقق
قول أهل الوقت والنظر« :المحب على الحقيقة َم ن ال سلطان على قلبه لغير محبوبه ،وال مشيئة له
غير مشيئته.»...
دع السر مغموًر ا ،وال تكشف إال إذا حضرت ،واستزد ،وِفْض ،واقترْب ،واذهْب إلى البْك ر من
المعاني ،وال تهمل ثِّيبات العلوم ،فالخلق يولد من اتحاد البكر بالثيب.
فكأس َم ن تحب كامن في فم القلب ،فعش ذائًقا تائًقا مشتاًقا ،يدم لك الشرب؛ حتى تسكر ،وال يكن
لك صحو أبًدا ،وتصل إلى المحل األعلى.
عشُت أبحث عن الحال التي ال حال بعدها ،وعن المعراج الذي ال معراج بعده ،وعن القول الذي
ال يشبهه قول ،وأسعى في الغيوب التي ما بعدها غيوب ،وعن السر العظيم الذي أستريح في
سريره؛ كي أصل َم ن يبقى ،وأهجر َم ن يروغ وتعمى بصيرته ،وال أقف عند اللوم؛ ألن َم ن برح
ال مطرح له؛ إذ هو من أهل النسيان والعميان ،يقتات أرز الغفلة ،ويشرب ماء الضالل ،نفسه
أرضية ،ولم تصل روحه إلى المرتبة السماوية ،ولم يعش حال الوجد ،وأدرك روحه الجدب
والقحط ،ولم تلحق اسمه الدرجة العلية ،وظل في االسم الدني ،وانعدم وجوده ،وصار محًو ا.
في الخلوة ال يكون القلب مشغوال بغير من تحب ،وإن سكن إلى غيره فقد أشركت به ،حتى ولو
كان بالخيال ،حيث تستمسك بالحبل الذي يربطك به ،إذ هو حبٌل ِس ِّر ي (من الِّس ر) ،وُسِّر ي (من
الُّسَّر ة) ،وفي هذه الحال
ال يمكن أن ترد خائًبا ،حيث تكون في حال «غلبة الشوق» ،ودوام التفكير ،ويكون اسمك موصواًل
باسم َم ن تعشق ،وتتنَّز ل الكرامة ،وتوهب السر الذي يبقي القلب متقدا ،إذ يفتح بالنور ،وتحمله نون
الهوى على حوافها وفي قلب نقطتها إلى الفردوس.
أهل النظر هم أصحاُب بحر النور ،والبين ساقط بينهم وبين َم ن يحبون ،يدخلون المحبة ال
لشيٍء ،وال على شيٍء ؛ ألن في عشقهم يقيًنا ال يقابله شك ،محاطون باألسرار المكتومة عن سواهم،
يرفع الواحد منهم يديه إلى السماء داعًيا« :امح من قلبي محبة غيرك»؛ ألن بالعشق يسلك طريق
الصدق ،حيث ُيسِّخ ر هللا له النور والنار والماء والخيال والجبال والشمس والقمر والنجوم والرياح
والجن والبحار ،ويحمل أمره -دائًم ا -باليقين بعيًدا عن «الظنون والشكوك واألوهام الساترة
للقلوب عن ُم طالعة الغيوب» ،كما جاء في «حزب البحر» ألبي الحسن الشاذلي ،الذي كنت أقرؤه
بعد صالة كل عصر ،وأنا في قريتي «كفر المياسرة »؛ طبًقا للتقاليد الشاذلية ،وقد قال ابن عطاء
هللا السكندري وهو تلميذ الشاذلي عن هذا الحزب و الحزب الكبير« :إنهما سارا مسير الشمس
والقمر ،وأشيع ذكرهما في البدو والحضر».
اللهم أسألك «العصمة في الحركات والسكنات والكلمات واإلرادات والخطرات ،»...وصفاء
البصيرة ،ومالئكية الروح.
ُر وحي تنطُق عن هواها
كُّل شيٍء ال يصدُر عن الروح ال ُيعَّو ل عليه ،فلكي تصَل في الكتابِة إلى نقطة الذروة ،ال بد أن
تكوَن قد مشيَت على جمر ُر وحك ،وأمسكَت الناَر غير خائٍف ،بعيًدا عن التكُّلف والتصُّنع والتعُّم د،
وما طريُق الفطرة والتلقائية إال الجسُر الواصُل بين الذات وروحها.
وكُّل تجربٍة كتابيٍة ال تتأَّسُس أو تقوم أو تنطلُق من تجربٍة ُر وحيٍة هي ناقصُة ،ألَّن الشاعَر -
الكاتَب من المفترِض أن يكون مهُج وًسا بالوجود المحجوب ،ال بالوجود المكشوف ،المتاح
والمْر ِض ي عنه من قبل سلطات الكتابة ،التي تفرض سطوتها على المجتمع األدبي.
فأنا ال أكتُب عن عالٍم مرئٍّي جاهٍز ،ولكنني أحاوُل أن أخُلَق عالًم ا أراُه في حلمي ،هو عالٌم آخر
جديٌد ينتمي إلَّي ويشبُه ني ،إْن لم يُكن مطابًقا لروحي فهو على األقل قريٌب منها.
وكوني أطلب الحقيقَة المطلقَة ،فأنا أمام عالٍم غير محُسوٍس ال متناٍه ال تدركه األبصاُر الماديُة.
لي معراٌج شعرٌّي استند في رحلته على أجنحٍة كثيرٍة ،كان أبرزها التصوُف والفلسفُة ،إْذ هما
جناحان يمثالنني ويمنحانني درجَة غلياٍن أعلى ،ويجعالن روحي تنطق عن هواها ،دون تردٍد أو
توجٍس أو حذٍر .
واألسرار ال تترى إْن لم َتْغِل أواًل في ِقْد ِر الحياة الروحية للشاعر – الكاتب ،والكتب الكبرى
التي بقيْت في نفوسنا طوياًل ،صدرْت عن معارَج صوفيٍة ألصحابها ،حتى ولو لم يكونوا ُص وفيين؛
ألَّن كَّل روٍح تطيُر عن أرضها ،هي عندي روٌح طائرٌة في الطريِق الُّص وفِّي؛ ألَّن حاَل الشاعر
هي مزاٌج يتفاعُل مع التصوف أو الفلسفة وليس ابن العربي أو الُّسهروردي أو ابن سبعين ببعيديَن
عن ذهني.
فالتجربة تكشُف الكثيَر من الحقائق ،وما يشاهدُه الشاعُر في حاله
،
ال يستطيُع كتابته إال عبر تجلي الروح وإشراقها ،وليس استعارة أحوال آخرين ،ألَّن الشاعَر ال
يستعيُر لساَن غيره ،وقديًم ا قال النَّفري« :الجزء الذي يعرفني ال يصلح على غيري».
فالثقافة والعلم وحدهما ال يجعالن من الَّشاعر صوفًّيا؛ ألَّن الوصوَل والوصَل يحتاجان إلى
مجاهدٍة وروٍح ولدت عارفة ،تدَّر ب مريُدها على المنح ،ومن ثم سنكوُن بعد ذلك أمام مقام الذوق،
كلما قرأنا عماًل شعرًّيا نعرف من خالله أن روح كاتبه تخرج إلى متلِّقيها من كل حرف ،وال
يحتاج المرء إلى جهد ،كي يكشف الكتابة الصادرة من موقف الروح ،أو الصادرة من موقف
«نويُت أكتُب ».
الروح ال تحجُب ،بل ُج بلْت على الكشف ،وكل روٍح هي سادرٌة في منحها ،فقط تحتاج إلى بعض
مثيراٍت لتستجيَب وتذهب إلى النار وحدها ،وال تهرب منها ،هي كلما رأت ناًر ا ،وقعت فيها
باختيارها ،فهي في الكتابة تكتب ،وفي الصمت تصمُت وال حَّد لشواطيها إْذ هي بال سواحل.
الروُح هي التي تسقي شجرَة الكتابة ،وهي التي تفتح الباب المسدود ،وكل باٍب ُم غلٍق تراه أمامها
مفتوًح ا ،هي ترى ،وال تناُم ،وال يدرُكها تعٌب ،تأَر ُق وتقلُق ،لكنها ال تصدأ ،قد توصُد بابها أمام
مبدعها المشغول الالهي عنها؛ ألَّنها كالشعرُ ،تعطي ظهرها لَم ن يهجُس بغيرهما ،هما ال يحبان
شركاء ،يريدان الجنَة وحدهما؛ ألَّن الُّر وَح تغرُس شجرًة أبديًة أمام باب كِّل شاعٍر ،وتمنحه بئر
ماٍء ال تنفُد ،وتطلب منه أن يرويها ،فإن تقاعَس عن السقاية ،نقلت شجرتها إلى باب آخر ،ليس له،
وربما قتلتها ،إنعاًم ا في التنكيل بالُم همل.
الُّر وُح ظاهرٌة ،كأَّنها تنادي صاحبها« :ال تزاُل تراني» والغيبة عنها ،والذهاب نحو آخرُ ،يفسد
المحصول ،فما يأتي بالذوق أبقى وأهم مَّم ا يأتي بالتعُّلم ،ودوًم ا أثُق في الوْه ِب ال الكسب ،وابن
الروح هو صاحُب وهٍب وذوٍق وكشٍف ،والشعراء أبناء األرواح ،هم أرباب أحوال.
الشاعر يذهُب نحو المطلق الال متناهي ،يتحُد بَم ن يعشُق ،ويحُّل فيَم ن يحُّب ،يفنى ،هو دوًم ا فوق
طور العقل ،دنياه في تعبيرِه ،وقبس نوره من السموات ،و«شبيُه الشيِء منجذٌب إليه» ،وما من
فرع إال وهو دائم الحنين إلى أصله ،والناي يبكي لفراق أمه الشجرة ،ومن ثم تأتي لغته خاصًة ال
شبيَه لها ،ليست لغة العقل ،أو العلم ،أو الفلسفة ،الشاعر يدُّل وليس عليه أن يدرك نتيجًة ما ،هو
يحدُس وال يتحدُث ،هو يرمُز وال يقوُل ،هو يشيُر وال يشرُح ،هو يومُئ وال ُيفسُر ،هو يسأُل وال
يمنحك إجابًة.
الَّشاعر الحُّق دوًم ا في الحال ،التي هي التجربُة الروحيُة ،وهي منزلٌة سماويٌة عليا ،ال يصُل إلى
سدرتها إال قليلوَن ،هي عندي «اإلشراُق » ،الذي تتنَّز ُل من سمواته النصوُص الكبرى ،التي تبقى،
وتؤِّر ُق ،وتحُّث وتحِّر ُض ،وتمنُح َم ن يتلَّقاها درجاٍت عليا من الوصول والتحُّقق.
الشاعُر ابن روحه ،هو دوًم ا بين نقطتين :نقطة االبتداء ونقطة االنتهاء ،وكلما وصل إلى
إحديهما ،عاد إليها من جديٍد؛ ألنه يحيا ويموت بين الصفر واأللف أو الواحد ،يجِّر ُد بشريته ليفنى
في هللا ،ويقول :أنا أكتُب إذن أنا أحيا وموجوٌد في إرادتي ،التي هي جوهُر إنسانيته اإللهية ال عقله.
كشاعٍر سأظُّل من واقع حال تجربتي ،أنني كلما أردُت النطق بما رأت ُر وحي ال أقدُر ،وستبقى
لغتي دون الحال الذي أنا فيه؛ ألَّن ما فَّي أكبُر من اللغة ،وأسمى من التعبيِر ،ولذا أرى العاشق
دوًم ا عاجًز ا عن كشف حاله ،وهو في مقام الُحِّب ،ودائًم ا لغته إلى المحبوب ،أقُّل وأدنى مما تكتبه
روُح ه في صفحاتها بقلم الدم.
والَّشاعر الذي ال يصدر نُّص ه عن عاطفٍة جامحٍة ال ُيعَّو ُل عليه كثيًر ا ،حيث تكوُن نسبة عصير
الدماغ فيه أكثر طغياًنا من نسبة عصير الروح ،إذ الشاعر كالُّص وفي تماًم ا في كونه ابن استغراقه
وفنائه وحدسه الال متناهي .فهو يكتُب من «عين البصيرة» أو كما يسميها الصوفية «اسم القلب
والسر».
الشاعر يذهب إلى مناطَق ال يطرقها الطارقون ،وال يعرفها أهُل الحياة ،وال يدركها العابرون ،أو
كما قال النَّفري يوًم ا في مواقفه« :دْع عنَك كل عيٍن وانظر إلى ما سواها».
في «الُّنقطة» َطاَقٌة ال ُتْد َر ُك
َو َشْم ُس الَح ْد ِس بابي لمعرفة َنْفسي
بالحدس والتأويل َتصُل إلى ما تريد.
ال يمكن أن تحيا وأنَت ِظ ٌّل ألحد ،أو تظّل – هكذا – طوال حياتَك باحًثا عن قدوٍة ،لتتبَعها،
وتسير وراءها ،أو تستنسخها.
ابحْث عن أسلوٍب جديٍد ،أو طرائق مغايرٍة ومختلفٍة؛ لتكوَن الذي تريده أو تطمح إليه.
فالِج َّدة ،والبحث سبيالن إلى اإلضافة واإلنجاز ،وطريقان نحو االمتياز والخصوصية.
ُكن دوًم ا خارج المألوفَ ،و ال َتِسْر في الطرق الُم مهدة؛ ألَّن غيَر َك َطَر َقها َو َعَّبدها َو َساَر فيها،
وال مجال ألن تسيَر في المسار نفسه ،أو كما ُكَّنا نقول ونحن أطفال في القرية« :تطّبل في
المطِّبل» (حيث كان المسحراتي في رمضان َيْنَسى َأَّنه «طَّبل» في هذا الّشارع؛ ليصحو النائمون،
فيعاود التطبيل مرًة ثانيًة ومن هنا جاءت هذه المقولة التي تشير إلى الُم عاودة والتقليد والتكرار
واإللحاح و.)...
اذهب إلى ما وراء الشيء ،إلى ما وراء الرمز ،إلى ما وراء المعنى ،إلى ما َو َر اَء الُّلغة ،إلى ما
وراء الواقع ،كْي تنجَو من َشرِك العادّي والمطروِق والمألوِف ،وتفتح الُم ْغَلَق على أسرارِه.
ُر ْح إلى الخفِّي لتكشَفُه ،وإذا ما ذهبَت يوًم ا إلى الّظاهر أو الواضح أو الجلِّي ،تأَّكد أّن هناك باطًنا
ينتظرك لو أْح َسْنَت الُّدُخ وَل إليه.
ومثلما يفشل الَّشاعر إذا عَّو ل على الَّظاهر والواقع ،كذلك يفشُل الَعاِش ُق الذي ال يرى من امرأتِه
إاَّل جسدها فيغرق فيه ُم ْلتًّذا لذائَذ مؤقتًة ال تدوُم وال تتعَّم ُق ؛ ألنه لم يَر ما وراء الجسد ،أو لم يتعَّلم
من ُم َعِّلم الحّب األَّو ل في إرثنا اإلسالمّي والعربي المقَّدس محمد بن عبد هللا (ﷺ) ،ومن أراد أن
يعرَف أكثر ،فليذهب إلى صحيح البخاري ليدرَك كم كان النبُّي محمد مؤِّسًسا في فنون الحّب ،
عارًفا ما وراء األسرار ،ناشًدا الديمومَة ،والوصَل ،والوصوَل إلى المنتهى بإشاراٍت وتمهيداٍت ال
يفعلها (أو يلتزم بها) العاشُق والمعشوُق (الرجل والمرأة) ،ومن ثم ال يدوم العشُق كثيًر ا في ظِّل
الجهِل بأسراِر الروِح والجسِد التي أشار إليها الرسول – في السنين األولى من الهجرة – َقْبَل أن
يتوَّص ل إليها العلماء والمختصون في العصر الحديث.
اذهْب إلى النقطِة مباشرًة ،ال تترك نفسك للتداعي الُح ر؛ ألَّن فيه َم ْقَتَلَك .
ففي «النقطة» َطاقٌة ال ُتْد َر ُك ،وأسراٌر ال ُتْم َسُك ،وعوالم غامضٌة ال حدود لها ،ال تصل إليها إال
إذا كنَت من العارفين واإلشراقيين.
النقطُة َتِص ُل َبْيَن ما هو علوٌّي وبين ما هو أرضٌّي ،وتجمع اإللهَّي بالبشرِّي ،والمقَّدس بالمدَّنس.
فالنقطة هي الحقيقة التي نبحث عنها وسنموت دونما َأْن نصَل إليها ،وبمفهوم «الحَّالج» ما
النقطة األصلية إاَّل األصل ،أصل كِّل خٍّط ،أصل كِّل كلمة ،بدُء الِّس رَ ،و َبْد ُء َسَيالن الِح ْبِر ،وسُّر
العالقِة بين الورقِة والِح ْبِر ،وَبْيَن الَعْيِن ،أوَعْيِن الروِح والورقِة .
وعن الشيخ إبراهيم بن عمران النيلي أَّنه قال :سمعُت الحَّالج يقول « :النقطة أصل كل خّط،
والخّط كّله نقٌط مجتمعٌة ،فال غنى للخِّط عن النقطة ،وال للنقطة عن الخِّط ،وكل خٍّط مستقيم أو
منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها ،وكل ما يقع عليه بصُر أحٍد فهو نقطٌة بين نقطتين .وهذا
دليل على تجّلي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين ومن هذا قلت :ما رأيت شيًئا إاَّل
ورأيت هللا فيه».
ولعَّل إلحاحي الدائم على الذهاب إلى الَجْو َهرَ ،ناِبٌع من كوني ُأومن أَّن النقطَة وجوٌد ومعرفٌة
وأزٌل ُ ،كُّل َخٍّط َذاِهٌب إليه.
فالنقطة ِع ْلٌم ليس كمثله شيء ،كما يقول شيوخنا من المتصّو فة ،وألنني بدأُت بـ«الَح ْد س» ،فإَّنني
أعوُد إليه.
فأنا أخطو به ،وأختبر أرواح اآلخرين َعْبَر ُه ،ودليلي في ذلك ما قاله عمر ابن الخطاب عن
الَح ْد س (الظّن ) إْذ كان يرِّددَ« :م ن لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه» .فالحدس َيْفَتُح باَب الحقيقِة لَم ن
يمتلكه ،وهو َو ْه ٌب ال َكْسٌب ُ ،تْفَطُر الُّر وُح عليِه ،فهو َقاِد ٌم من مناطق اإلشراِق والحكمِة ،وهو
حسبما يراه اإلمام أبو حامد الغزالي « :نوٌر يقذفه هللا في القلب فتصفو الَّنفُس ويدُّق الحّس ويرّق
الَقْلُب وتنقشع الغمامة وحينئٍذ يحدث اإلشراق».
فمن الحدس تأتي المعرفُة ،وهو بحسب ديكارت «يصدر عن نور العقل وحده» ،فمنه َنْخ ُلُق ،
ونبتكُر ونخترُع ونذهُب إلى الجديد.
فالحدس َكْش ٌف لما هو َم ْخ ُبوٌء وباطنٌّي َ ،نَظٌر إلى ما وراء األشياء؛ ألن الَح ْد َس ُلَغًة :هو
التخمين ،الظن ،التوهم ،التخُّيل ،الفراسة ،الَّسْبر ،التصُّو ر ،التوُّقع...،
فال كتابَة من دون َح ْد ٍس ،وال محَّبَة من دون َح ْد ٍس .
فهنا ينكشُف َلَك األفُق َ ،و ُتَض اُء لروحَك الكهوُف َ ،و َتَتنَّو ُر الظلماُت ،وتبتعُد عن الّشرِح،
واإلسهاب ،واإلطالِة ،والترادفاِت ،ذاهًبا نحو المحِو والَح ْذِف َ ،فُه ما رديفا الحدس مالزمان له.
والَم ِْر ضُّي عنه سماوًّيا َم ن َيْنِقُل َبْح َر ذاِتِه إلى الورقِة ِ ،م ن دون أن يستعيَر ماَء البـحاِر اُألْخ رى،
والتي هي كثيرٌة ومنتشرٌة .
ألنه ال يمكن َخ ْلُق شيٍء َح ٍّي من َم اٍء ُم ْس َتَعاٍر .
فبالحدس َنْفَعُل وَنِص ُل َو َنْعِر ُف بروحنا.
ألَّنُه «األداُة» التي تصيُب وال تخيُب َأَبًدا .فهي تفوُق الَعْقَل ،وبها َسَّج ل صوفيون إشراقيون
تجاربهم النادرَة الفريدَة ،وبها َكَتَب شعراٌء في مقتبل أعمارهم نصوًص ا صارت عالماٍت ُم ؤِّس َسًة،
َو َص اروا هم ُشُه ًبا في سماِء الكتابِة ،إْذ سرعان ما توقفوا عن الكتابِة (رامبو مثااًل ) ،أو ماتوا في
سٍّن صغيرٍة (األمثلة أكثر من أن ُتْح َص ى).
إَّن الحدس كان بابي إلى معرفة نفسي واآلخرين .
وكم َص َد َق حدسي منذ اللحظة األولى في الحكم على البشر ،حَّتى من اقتربُت منهم ،أو اقترنُت
بهم.
إَّنه الباُب المفتوُح أمام عينَّي دوًم ا ،ومنه ُتِط ُّل شمُس روحي لترى وتعرَف بفضِل شمٍس أخرى
هي شمس الحدس.
ُو َّعاظ السالطين
الفقيه أو عالم الدين في زمانناُ ،يجالس السلطان ،ويأكل أكله ،ويشرب ماءه ،ويجلس في
حضرته ،ويأتمر بأمره ،ويبِّر ر له قراراته وأوامره ،وُيحِّلل له ما هو حرام ،وُيحِّر م له ما هو
حالل ،ويشِّبهه بالرسل واألنبياء ،وأنه ُيوَح ى إليـه ،وقد يشُّط في القول فيعتبره إلًه ا ال بد للرعية من
طاعته وعبادته والسجود في حضرته ،ويذهب إلى القرآن – كتاب هللا العلي القدير -ليؤِّو ل آياته،
كأنها ُأْنِز َلْت على السلطان ،أو جاءت في شأنه ،ومثل هذا الفقيه رأيناه
– أيًض ا -جلًّيا واضًح ا في تاريخناُ ،خ صوًص ا في أزمنة الخالفة اإلسالمية ،ويتكَّر ر بالحال نفسها،
مع الفارق أنه في السنوات األولى للهجرة كان هناك فقهاء وعلماء لهم مكانتهم بصرف النظر عن
سلوكهم الذي ال أفصله عنهم ،بينما في زماننا نجد خليًطا وهجيًنا غريًبا وعجيًبا بين َم ن ُيسُّم ون
أنفسهم «علماء الدين» ،إذ صاروا يصفون عدًدا مَم ن نالوا درجة الدكتوراه في فرع من الفروع
الدينية بـ«كبار العلماء» ،وصار كل َم ن قرر أن يترَّبح من الدين فقيًه ا وعالًم ا ،وهو بعيد كل البعد
عن الفقه والعلم الدينيين.
بينما نجد ِبْش ر الحافي أحد أعالم التصوف في القرن الثالث الهجري ،الذي ولد في بغداد سنة
179هجرية ،وعاش ومات فيها سنة 227هجرية ،كان «يشرب ماء البحر ،وال يشرب من
حياض السلطان ،حتى أضر بجوفه» ،و«كان يأخذ من البحر حوًتا -سمكة ،-فيشويه في عين
الشمس».
وأنا هنا ال أعقد مقارنًة؛ ألنني ال أرى في المشهد أقطاًبا في الفقه أو في التصوف ،كالذين
درسُتهم ،وقرأت عنهم ولهم ،وسلكت طريقهم ،ولكنني أردت أن أنبه وأؤكد أن العالقة بين الفقيه
والسلطان صارت مفَسدًة ال يمكن الصمت عليها ،إذ هي من أسباب التخلف واالستبداد والتأخر
الذي تنام فيه البالد والعباد.
هؤالء الفقهاء المعاصرون يعيشون تحت أضواء اإلعالم ،في ترف ورغد ،همهم األول الشهرة،
ورحم هللا بشر الحافي حين قال« :ما اتقى هللا َم ن أحب الشهرة».
علماء هذا الزمان ،الذين لن يكون لهم ذْك ر على ألسنة الخلق ،حيث ال كتاب لهم يمكن أن يبقى،
الذين هم بعيدون عن التقوى والورع والطاعة ،وُيباهون بعبادتهم ،وعلمهم الُم شَّو ه المنقوص ،ال
يراقبون هللا ،وال يحاسبون أنفسهم ،إذ يرونها فوق الُم حاسبة والُم ساءلة ،باعتبارهم ممثلين هلل،
ونواًبا عنه في األرض ،مع أنهم يؤثرون ُحَّب الدنيا على ُح ب خالقهم ،ال يزهدون وال يتقَّشفون،
يشتهون وال يعرفون فضيلة الَّتْر ك ،وال يعزفون نفوسهم ،وال يسقطون فضولهم ،وال يحفظون
ألسنتهم ،يعيشون في القصور ،ويركبون أغلى السيارات ،ويكنزون المال ،ويكثرون من الزواج،
مطالقين مزواجين ،تسلب الشهوات عقولهم ،إذ ال يجعلون بين شهواتهم وعبادة هللا سًّدا وراء سٍّد؛
كي يذوقوا حالوة اإليمان ،بينما نرى الصوفي (وهم يكرهون التصوف كسادتهم الوهابيين
والُم تسِّلفين) بشر الحافي كان يقول« :الجوع ُيصِّفي الفؤاد ،وُيميت الهوى ،ويوِّر ث العلم الدقيق».
وكان يقول دوًم ا :ال يفلح َم ن أِلَف أفخاذ النساءُ ،م ناجًيا ربه« :اللهم إنك تعلم أن الذل أحُّب إلَّي من
العِّز ،وأن الفقر أحُّب إلَّي من الغنى ،وأن الموت أحُّب إلَّي من البقاء».
ودعاء بشر الحافي هذا «اللهم إن كنَت شهرتني في الدنيا؛ لتفضحني في اآلخرة فاسلبها عِّني»،
لو قرأه أحد مَم ن أقصدهم من شيوخ هذا الزمان ،العتبره مجنوًنا ،ولو قرأ كالمهَ« :م ْن َطَلَب الدنيا
فليتهَّيأ للذل» لعَّدُه معتوًها ال يدري من أمره شيًئا ،ورآه ُم جَّر د صوفي جَّو ال يهذي في الطرقات.
وهؤالء أعُظهم أو أذِّك رهم بموعظة بشر الحافي عَّلهم يتعظون ويؤبون إلى رِّبهم« :إن في هذه
الدار نملة ،تجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء؛ فلما كان يوًم ا أخذت حبة في فمها ،فجاء
عصفور فأخذها ،فال ما جمعت أكلت ،وال ما أملت نالت».
وال بد للفقيه أن يكون ُم خلًص ا ،وأال ُيوِّلي وجهه ِقبلة السلطان ،أو يرائيه؛ ألن (هلل الدين الخالص
) ،وليس ألحٍد سواه ،مهما تُكن المغريات ،وهي كثيرة ،ويعرف السلطان متى وكيف يمنحها أو
يمنعها ،واإليمان هو اإلخالص ،والجزاء عند هللا ،وليس عند السلطان ،ولكن السالطين من فرط
تقديس الفقهاء لهم ،ومديحهم ،ظنوا أنفسهم آلهًة على األرض بيدها الُم لك والرزق.
وهؤالء بداًل من أن يهاجروا إلى هللا ورسوله ،صارت هجرتهم نحو السلطان ،وهو الِّش رك بعينه
لو يعرفون ،حيث عميت أبصار قلوبهم ،وتلك عقوبتهم في الدنيا.
وأسوأ السوء قاطبًة أن يفسد العلماء ،وكنُت أسمع دوًم ا وأنا طفل صغير في قريتنا (كفر
المياسرة) َم ن يقول« :اتِق شر األزهري إذا فسد» ،وال أدري َم ن صاحب هذا القول الذي ما زال
عالًقا في ذهني ،وكنت أغضب كثيًر ا؛ ألنني تربيُت في بيٍت أزهرٍّي عماده القرآن ،ودستوره
السماحة واالعتدال ،وال أحب ألحٍد أن يلفظ مقولة كهذه ،ولكن مع انخراطي في الطريقة الشاذلية،
ثم سلوكي الطريق الصوفي ،ومعرفتي بقطب صوفي أحبه كثيًر ا هو بشر الحافي ،رأيت أنه يكاد
يكون هو أول َم ن نبه إلى فساد العلماء قبل ما يزيد على ألف سنة« :إذا فسد العلماء ،فمن بقي من
الدنيا يصلحهم» ،ثم أنشد شعًر ا( :ال أدري إن كان له أم لسواه):
يا معشر العلماء يا ملح البلد
ما يصلح الملح إذا الملح فسد
والذين فسدوا في زماننا كثٌر ،وربما من الصعب حصرهم ،وإن كان منهم عدٌد معروٌف من فرط
فدائحه وفضائحه ،حيث يأكلون دنياهم بدينهم وعلمهم ،متخذين الِّدين وسيلة تكُّسب وترُّبح
وارتزاق ،وصار كل هُّم هم جمع المال ،والعيش في ترٍف ،كما يعيش نجوم المجتمع ،ولو لم أضع
هذه الجملة التي قالها بشر الحافي بين قوسين لظن القارئ أنها صيغت اليوم« :علماء زماننا ،إنما
هم متلذذون بالعلم ،يسمعونه ،ويحكونه فقط» ،ومثل هؤالء كمثل الذين يغسلون أياديهم برائحة
سمك نتنة.
والمفضوحون من الفقهاء والعلماء في تاريخنا اإلسالمي ،وحتى يومنا هذا ،ال يكفي مجلد
لحصرهم ،إذ بتقربهم إلى الحكام والسالطين ،وشوا بأقرانهم ومعاصريهم ومجايليهم ،حتى ُدفعوا
وسيقوا إلى القتل ،ومن هؤالء المقتولين أقطاب في الشعر والنثر والتصوف والِّدين بشكل عام،
وفي أمر هؤالء قال بشر الحافي« :ال َيْنَبِغ ي َألَح ٍد َأْن َيْذُكَر َشْيًئا ِم َن اْلَح ِديِث ِفي َم ْو ِض ِع َح اَج ٍة
َيُكوُن َلُه ِم ْن َح َو اِئِج الُّدْنَيا ُيِر يُد َأْن َيَتَقَّر َب ِبِه َ ،و ال َيْذُكُر اْلِع ْلَم ِفي َم ْو ِض ِع ِذ ْك ِر الُّدْنَياَ ،و َقْد َر َأْيُت
مشايَخ َطَلُبوا اْلِع ْلَم ِللُّدْنَيا َفاْفُتِض ُح وا.»...،
ومثلي ال يأبه بفقيٍه حاسٍد حاقٍد مغتاٍب يفتي ضد فقيٍه آخر ،ليرضي حاكًم ا أو أميًر ا أو خليفة ما،
وتكون النهاية المحتومة والمقررة سلًفا هي مقتل الخصم بعد اتهامه بالكفر والزندقة.
َم ن كان منكم بال معرفٍة
فال ُيعَّو ُل عليه
أن تدرك ،وتعي ،وتفقه ،وتعلم ،وتتعَّلم ،وتتأَّم ل ،وتفِّك ر ،وتفهم ،وتبحث ،وتستبطن ،وتستشرف،
وتتنَّبأ ،وترى ،و ُتفِّس ر ،وتشرح ،وتستقصي ،وتناقش ،وُتحاجج ،وُتجادل ،وُتحاور ،تلك هي
المعرفة.
فـ«الَكامُل َم ْن َعُظَم ْت َح ْيَر ُتُه» من فرط الُّسؤال والَّسعي والحْيرة والمشاهدة ،والكشف واإللهام،
حيث إَّن بحر المعرفة وسيٌع وال سواحل له ،و«من ذاق عرف» ،حيث الذوق سبيٌل للمعرفة عند
المتصوفة ،ولكنه ليس السبيل األوحد ،وبالطبع ليس وحده وسيلة المعرفة ،فـ «ما يجده العالم على
سبيل الوجدان والكشف ،ال البرهان والكسب ،وال على طريق األخذ باإليمان والتقليد» كما جاء في
«طبقات الصوفية» ألبي عبد الرحمن محمد ابن الحسين الُّسَلِم ي ( 412 - 325هجرية ) .ويقول
محيي الدين بن العربي في كتابه «ُفصوص الِح َكم»« :اعلم أَّن العلوَم الذوقية الحاصلة ألهل هللا
مختلفٌة باختالف القوى الحاصلة مع كونها ترجع إلى عيٍن واحدة».
ويذكر أبو القاسم القشيري ( 465 - 376هجرية) في «الرسالة القشيرية» أن« :المعرفة على
لسان العلماء هي العلم ،فكل علم معرفة ،وكل عالم باهلل عارف ،وكل عارف عالم» ،وشجرة
المعرفة ُم تعِّددة الُج ذور والفُر وع ،ومتنِّو عة الثمار ،وال تمنح نفسها لقاطفها بسهولٍة وُيسٍر ،إْذ ال بد
من دأٍب وُم جاهدٍة ومثابرة وُم راودة وخلوة وكشف؛ حتى يصل إلى المجهول.
و«المعرفة التي ُتْسِقُط التمييَز ،بين ما ال يجوُز للُم كِّلف التصُّر ف فيه ،وبين ما ال يُج وز ال ُيعَّو ل
عليه» ،كما قال الشيخ األكبر محيي الدين بن العربي في «رسالُة الذي ال ُيعَّو ُل عليه» ،إذ ليس
وراء المعرفة -التي ُتْد َر ُك بالحواس والنظر والمالحظة والغرض واالستنتاج واالستنباط
واالستدالل وﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ والبحث وراء األسباب ﻭﺍﻟﺨﺒﺮﺓ ﻭﺍﻻﻛﺘﺴﺎﺏ ﻭﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻞ واالطالع والتعليم
وﺍﻟﺤْﺪ ﺱ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ -مرمى مادًّيا سوى المعرفة ذاتها ،واإلفادة منها في بناء ُم دن المعرفة ،وتحقيق
«اإلنسان الكامل» التام الذي يعيُش في هذه المدن ،والمثالية في المعرفة ليست يوتوبيا أفالطونية،
ولكنها واقٌع يسهُل تحقيقه بيننا مثلما تحَّقق بين بشٍر آخرين غيرنا ،وبالتالي الجهل والفقر والجوع
والمرض ال ُيعَّو ل على واحٍد من بينها؛ ألنها تقف حائاًل وحائًطا عائًقا أمام تحقيق المعرفة التي
ُتْثِم ُر «السعادة المطلقة» ،وُتحِّقق الرفاهيَة القصوى للُّر وح والنفس التي تسعى إلى تغيير ذاتها؛ ألن
المعرفة في حد ذاتها قَّو ة ،إذ هي في معناها العام «إدراك الشيء على ما هو عليه».
وَم ن يمتلك المعرفة يكون صاحب رأي يخُّص ه وقرار يتخذه ،غير منتظر مساعدًة من أحٍد ،حيث
يصبح سيد نفسه ،وليس عبًدا لسيٍد أو سيدْين أو أكثر في الوقت نفسه ،وليس تابًعا لغيره مهما يُكن
شأن هذا الغير ،ومن ثم ال بد من قراءة كتاب الذات ومعرفة النفس ،وشرح صدر اإلنسان آليته
امتثااًل لقول الِنَّفري« :وقال لي اعرف من أنَت ،فمعرفتك من أنت ،هي قاعدتك التي ال تنهدم وهي
سكينتك التي ال تزل».
وهنا ال بد من عقٍل يفِّك ر ،وليس عقاًل ينقل عن سواه ،يقلد أو يتبع ،أو ينام في ِح ضن ما تركه
األسالُف دون أن يغِّيره أو يطِّو ره أو يضيف إليه ،حيث المعرفة ُتحِّر ر اإلنسان (صاحب المعرفة)
من التقليد والتبعية.
وصدق أبو العباس أحمد بن العريف الصنهاجي ( 526 - 481هجرية 1141 - 1088 /
ميالدية ) حين قال« :المعرفة محَّج تي و العلم ُحَّج تي ،فالعلماء لي والعارفون بي ،والعارف يستدل
بي ،والعالم يستدل لي» .فأصحاب المعرفة ( َلُهْم ُقُلوٌب َيْعِقُلوَن ِبَه ا َأْو آَذاٌن َيْس َم ُعوَن ِبَه اَ ،فِإَّنَه ا اَل
َتْعَم ى اَأْلْبَص اُر َو َلِك ن َتْعَم ى اْلُقُلوُب اَّلِتي ِفي الُّص ُدوِر ).
وقديًم ا قال النَّفري (الُم توَّفى نحو 354هجرية )« :الِع ْلُم اْلُم ْس َتِقُّر ُهَو اْلَجْه ُل اْلُم ْس َتِقُّر » ،وقال ابن
العربي « :الَم ْعِر َفُة ِإَذا َلْم َتَتَنَّو ع َمَع اَألْنَفاِس اَل ُيَعَّو ُل َعَلْيَه ا» .وقال أيًض ا« :كل معرفة ال تتنوع ال
ألم يُقل الرسول ﷺَ« :ج ِّنُبوا َم َساِج َد ُكْم ِص ْبَياَنُكْم َو َم َج اِنيَنُكْم َو ِش َر اَء ُكْم َو َبْيَعُكْم َو ُخ ُص وَم اِتُكْم َو َر ْفَع
َأْص َو اِتُكْم َو ِإَقاَم َة ُح ُدوِد ُكْم َو َسَّل ُسُيوِفُكْم َ ،و اَّتِخ ُذوا َعَلى َأْبَو اِبَه ا اْلَم َطاِه َر َ ،و َج ِّم ُر وَها ِفي اْلُج َم ِع».
وقد رأى الخليفة ُعمر بن الخطاب رجاًل يرفع صوته وهو في المسجد ،فنهره مستنكًر ا« :أتدري
أين أنت؟» ،فما بالك بالقتل؟
وُسِئل اإلمام مالك ( 179- 93هجرية 795-711 /ميالدية) عن ُح كم رفع الصوت في العلم
بالمسجد ،فكانت إجابته« :ال أرى في ذلك خيًر ا» ،فما بالك – إذن -بالقتل ؟
ومن ثم ال اجتهاد مع نُص وٍص وردت في القرآن والسنة الصحيحة.
إَّن سفك الدماء في المسجد ،بات يعُّد ثقافًة راسخًة في أذهان المتشِّددين الُّسفهاء ،والمنحرفين
دينًّيا من الُغالة الُم تعِّص بين ،والمختلفين عقائدًّيا مع المقتول ،والمختلين عقلًّيا ونفسًّيا ،حيث يرونه
كافًر ا ،حتى ولو كان يصِّلي في مسجٍد ،وهم يطِّبقون حرفًّيا ما فعله أسالفهم منذ السنوات األولى
بعد وفاة النبي محمد ،حيث استحُّلوا دماء صحابة الرسول ،واثنين من خلفائه ،سواء وهم يصُّلون،
أو وهم في طريقهم إلى المسجد.
فالقتل في المسجد أمر ليس جديًدا في تاريخ المسلمين ،بل إنه تكَّر ر آالف المَّر ات وبطرائق
شَّتى ،وأساليب مختلفة ،بدًء ا من ُخ لفاء وصحابة رسول هللا الذين اغتيلوا وهم يصُّلون في المساجد،
وحتى انتهاك ُح رمة المساجد في زماننا ،والتي هي إفساٌد في األرض ليس بعده إفساد؛ ألن المساجد
ُج علت هلل وحده َ﴿ :و َم ْن َأْظ َلُم ِم َّم ْن َم َنَع َم َساِج َد ِهَّللا َأْن ُيْذَكَر ِفيَه ا اْس ُم ُه َو َسَعٰى ِفي َخ َر اِبَه ا ۚ ُأوَٰل ِئَك َم ا
َكاَن َلُهْم َأْن َيْدُخ ُلوَها ِإاَّل َخاِئِفيَن ۚ َلُهْم ِفي الُّدْنَيا ِخ ْز ٌي َو َلُهْم ِفي اآْل ِخ َر ِة َعَذاٌب َعِظ يٌم ﴾[ ..البقرة:
.]114
فُعمر بن الخطاب ُقتل أثناء إمامته لصالة الفجر بمسجد الرسول في المدينة بثالث طعناٍت بخنجٍر
مسُم وٍم على يد فيروز ،الذي ُيكّنى بأبي لؤلؤة ،وكان ذلك في أواخر ذي الحجة (سنة 23هجرية /
644ميالدية) ،وُطعن مع عمر ثالثة عشر رجاًل من المسلمين ،مات منهم سبعة ،ثم َقتل أبو لؤلؤة
نفسه ،لَّم ا اشتد الحصار عليه ،ورأى نفسه مقتواًل ال محالة.
وُقتل علُّي بن أبي طالب ( 13من رجب 23قبل الهجرية 17/من مارس 599ميالدية 21 -
من رمضان 40هجرية 27/من يناير 661ميالدية) بعدما طعنه عبدالرحمن بن ملجم المرادي
في مسجد الكوفة ،حيث ضربه بسيٍف مسُم وم على رأسه ،فمات بعد يوٍم ،وقبل موته طلب علُّي بن
أبي طالب أن يرى قاتله ،فقال له وألصحابه الذين أحضروه إلى فراشه حيث يصارع الموت:
«احبسوه فإن مُت فاقتلوه وال تمِّثلوا به ،وإْن لم أُم ت فاألمر إلَّي في العفو أو القصاص ..النفس
بالنفس ،إن هلكُت فاقتلوه ،وإْن بقيُت رأيُت فيه رأيي ..يا بني عبدالمطلب ال ألفينكم تخوضون دماء
المسلمين تقولون قتل أمير المؤمين ..أال يقتلن إال قاتلي ،إْن عشت فالجُر وح قصاص ،وإْن مت
فاقتلوه ..لكن احبسوه وأحسنوا» .وابن ملجم كان يؤمن أنه «قتل شر البرية ديًنا» ،ومن قتلهما
(عمر وعلٌّي ) في المسجد يدركان أنهما من المبَّشرين بالجنة ،ومع ذلك تم القتل وفي بيت هللا ،ولم
يختارا مكاًنا آخر.
وأهل الوهابية أجازوا القتل في المساجد ،واعتبروه جهاًدا ضد الكفر والزندقة ،حيث يرون َم ن
يختلف معهم مشركين وخارجين على الِم َّلة ،كما أنهم أنعموا في هدم الدور التاريخية لرموز
اإلسالم منذ بزوغه في الجزيرة العربية؛ بحَّج ة أن الناس ستفتتن ببيوت هؤالء ،بداًل من أن
يتوَّج هوا إلى الكعبة ،وخسرت الحضارة اإلسالمية آثاَر خلفاء وصحابة رسول هللا التي كان ينبغي
الحفاظ عليها.
والوهابيون هم َم ن قتلوا األمير عثمان بن غنام بعد صالة الجمعة في مسجده بالعيينة ،وكان ذلك
في الخامس عشر من شهر رجب من عام 1163هجرية الموافق 16من يونيو عام
1750ميالدية ،وكان ذلك أول قتل ينِّفذه الوهابيون في بيٍت من بيوت هللا ،وفي سنة 1802
ميالديةُ ،قتل خمسة آالف مسلم ،وأصيب ألفان في مسجد كربالء ،حيث كانوا يحتفلون بعيد الغدير
(يحتفل الشيعة بهذا اليوم ،ويعتبرونه ثالث األعياد وأعظمها ،ويقام يوم 18من ذي الحجة من كل
عام هجري)؛ بحَّج ة أن َم ن فيه هم كفار ألنهم يتبعون المذهب الشيعي ،كما تذكر المصادر فقد ُهِدم
مسجد الحسين وُسرقت محتوياته ،وغنم الوهابيون ما مقداره حمل أربعة ِج ماٍل مألى بالغنائم.
كما سلب الوهابيون ونهبوا ما يحتويه المسجد النبوي سنة 1804ميالدية ،وذكر عبد الرحمن
الجبرتي ( 1237 - 1167هجرية 1822 - 1754 -ميالدية) المتعلقات التي ُسرقْت من المسجد
النبوي في مؤلفه األشهر «عجائب اآلثار في التراجم واألخبار» والمعروف اختصاًر ا بـ«تاريخ
الجبرتي»؛ إذ ذكر أن ما ُسرق هو« :أربعة أوعية كبيرة من الجواهر الُم حالة بالماس والياقوت
العظيمة القدر ،ومن ذلك أربعة شمعدانات من الزمرد وبدل الشمعة قطعة ماس مستطيلة يضيء
نورها في الظالم ،ونحو مئة سيف قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها ماس وياقوت،
ونصابها من الزمرد واليشم (اليْش ب أو الجاد )Jadeونحو ذلك ،وسالحها من الحديد الموصوف كل سيف
منها ال قيمة له ،وعليها دمعات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك».
مع أن هللا في ُعاله يقول في سورة النور﴿ :في ُبُيوٍت َأِذَن ُهَّللا َأن ُتْر َفَع َو ُيْذَكَر ِفيَه ا اْس ُم ُه ُيَسِّبُح َلُه
ِفيَه ا ِباْلُغُدِّو َو اآلَص اِل * ِر َج اٌل َّال ُتْلِه يِه ْم ِتَج اَر ٌة َو َال َبْيٌع َعن ِذ ْك ِر ِهَّللا َو ِإَقاِم الصالِة َو ِإيَتآِء الَّز َكاِة
َيَخاُفوَن َيْو مًا َتَتَقَّلُب ِفيِه اْلُقُلوُب واألبصار﴾.
و ُقتل العالم اإلسالمي الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ( 1434 - 1347هجرية /
2013 - 1929ميالدية ) وهو فقيه سِّني معتدل ،وُقتل معه جماعة مَّم ن التفوا حوله يستمعون
إليه في مسجد األمويين بدمشق بلغ عددهم تسعة وأربعين شخًص ا وجرح أكثر من ثمانين.
وقد رأيت الكثير من الفيديوهات المصورة في غزة ،حيث يمارس أعضاء من جماعة أو حركة
حماس تعذيب الشباب المختطف داخل المساجد ،التي جعلوها سجوًنا لَم ن يناهضهم أو يختلف
معهم ،ناسين قول هللا تعالى
:
﴿وأن المساجد هلل فال تدعوا مع هللا أحدا﴾ ،وما قاله رسول هللاَ« :لْو َيْعَلُم اْلَم اُّر َبْيَن َيَد ي اْلُم َص ِّلي
َم اَذا َعَلْيِه ِم ن اِإل ْثِم َ ،لَكاَن َأْن َيِقَف َأْر َبِعيَن َ ،خْيًر ا َلُه ِم ْن َأْن َيُم َّر َبْيَن َيَد ْيِه » .وهم بداًل من أن يدعوا
إلى االعتكاف ،صار االعتقال دينهم وديدنهم.
وقد أفتى د .يوسف القرضاوي لحركة حماس باقتحام مسجد ابن تيمية في غزة سنة 2009
ميالدية ،وقتل جميع َم ن كان بالمسجد من مصلين ،كأنه ال يدرك – وهو المتخِّص ص – قول هللا
في قرآنهَ﴿ :و َلْو اَل َد ْفُع ِهَّللا الَّناَس َبْعَضُه م ِبَبْعٍض َّلَفَسَدِت اَأْلْر ُض َو َٰل ِك َّن َهَّللا ُذو َفْض ٍل َعَلى اْلَعاَلِم يَن ﴾.
والصوامع أي :األديرة ،والبيع أي :الكنائس ،والصلوات أي :معابد اليهود.
وقد انتهجت جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا ظاهرة قتل المصلين في المساجد ،وزادت حاالت
اغتيال الخطباء وأئمة المساجد ومشايخ العلم ،حيث فعلت ذلك في المسجد المركزي بمدينة
«كانو» ،كبرى مدن شمال نيجيريا ،وفي غيره من المساجد .وهذه الجماعة كغيرها من جماعات
العنف الديني تدعو إلى هدم وحرق المساجد التي بناها أفراد أو هيئات أو مؤسسات دينية
(رسمية) ،حيث يرونها كافرة ومرتدة.
وفي اليمن طالب أحد السلفيين أئمة المساجد بأداء صالة الفجر في منازلهم بداًل من المساجد؛
ليتفادوا عمليات االغتيال التي طالت كثيرين من نظرائهم.
ولعل العراق يحتل المرتبة األولى بين البلدان العربية واإلسالمية في ظاهرة حرق وهدم وتفجير
المساجد والزوايا والُح سينيات المخَّص صة ألصحاب المذهب الشيعي.
وظاهرة القتل في مساجد للسَّنة والمتصوفة والشيعة ،وتفجير وهدم المراقد والمقامات
واألضرحة صارت شائعة في كل من العراق وسوريا واليمن والسعودية والكويت وليبيا وتونس
ونيجيريا والهند وباكستان وأفغانستان ثم مصر.
الموالد ليست خطًر ا
مصر بال موالد ينقصها الكثير من الفرح والبهجة واإلشراق.
وإذا كان للمسلمين في مصر عيدان هما عيد الفطر ،وعيد األضحى ،فإن الموالد الدينية
الصوفية ،كانت أعياًدا دائمًة موَّز عًة على جغرافية مصر الُم متدة في ريفها وحضرها.
والمولد كما عرفُته في طفولتي وصباي طقٌس شعبٌّي دينٌّي ،يتم فيه االحتفاء واالحتفال برمٍز
صوفٍّي ،أو بطريقٍة صوفيٍة رئيسيٍة ،أو فرعيٍة تمِّثل ُج زًء ا من خريطة الطرق الصوفية في مصر.
ومنذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميالدي) ،ومصر تحتفل بأوليائها وأقطابها من
المتصوفة ،سواء َم ن ُو لدوا على أرضها ،أو َم ن َم ُّر وا بها في طريقهم إلى الحِّج ،أو َم ن مكُثوا فيها
بضع سنوات من أعمارهم ،ولكَّن الحال تبَّدلت واختلفت مع هُبوب رياح المذاهب السلفية الُم تشِّددة،
وبروز الجماعات الدينية الُم تطرفة والُم وغلة في سفك الدماء ،وتكفير الناس والدولة ،وإطالق يد
جماعة اإلخوان ،حتى تمَّكنت من مفاصل الحياة جميعها ،وصار لها ذراٌع طويلة تضرب وتنُخ ر
في كل شأن.
وكل طائفة من هذه الطوائف أرادت بهَّم ٍة ودأٍب أن تطُر د الصوفيين من الساحة ،فعمدت إلى
تكفيرهم ومحاربتهم بدعٍم خارجٍّي من دوٍل ترى في التصوف ُكفًر ا ،وتريد تسييد مذهبها الذي ال
محل له بين المذاهب الدينية التي يعرفها المسلمون في العالم ،وتحُّض على هدم مقامات أقطاب
التصوف ،وتدمير مقابر األولياء ،بحيث ال يكون في المشهد الديني -الذي هو أساًسا سياسي ،وال
يزيد على كونه صراًعا على السلطة -غير اإلخوان والسلفيين ،وَم ن دار في فلكهم ،ومن ثم انتشر
الدم ،وبرزت إلى السطح جرائم االغتياالت ،وقتل الُّسَّياح ،وضرب المدارس ،وسكب مياه النار
على النساء في الشوارع؛ ألن لباسهن ليس شرعًّيا ،وألنهن تاركات شعورهن تنسدل على أكتافهن،
وسرقة محالت الذهب ،والَّنْيل من األقباط ،وُم هاجمة الكنائس ،واغتيال الُكَّتاب والُم فِّك رين مَّم ن لهم
آراء أخرى تناهض هؤالء األدعياء الذين نَّص بوا أنفسهم أوصياء على الدين ،وُح ماة العقيدة،
ونَّو اب هللا ،وأصحاب التوكيل الوحيد من السماء ،والوسطاء الرسميين بين العبد وربه.
ورأينا األزهر واألوقاف ودور النشر تمتنع في أغلبها عن نشر ُكتب التصوف ،بل إن هناك
دوًر ا للنشر ،كانت تأخذ دعًم ا سخًّيا من إحدى الدول ُم قابل أال تنشر ُكتًبا للتصوف ،إلى حِّد أن هذه
الدار ،ارتكبت جريمًة ال ُتغتفر ،حيث امتنعْت عن تسليم أصول الكتب التي لديها حول التصوف،
ومنها كتٌب ُم ترجمة من الفرنسية إلى العربية ،أنفق أصحابها سنواٍت من أعمارهم في االشتغال
عليها ،وكان رد الدار أنها ُفقدْت وضاعت ،ولم يكن المؤلفون وقتذاك لديهم نسٌخ أخرى كعادة هذه
األيام ،حيث وسائل التكنولوجيا الحديثة في الطباعة.
لقد مات فؤاد كامل أحد أهم مبدعي مصر في الترجمة إثر فقده ألربعمائة صفحة ،كان قد سلمها
لهذا الناشر ،ترجمها عن الفرنسية لكتاب المستشرق الشهير هنري كوربان (1978 - 1903
ميالدية) «الخيال الخاَّل ق في تصوف ابن عربي» ،والذي سيترجمه بعد ذلك صديقنا المغربي فريد
الزاهي ،وهو يعتصر ألًم ا ،ألنه يترجم كتاًبا ترجمه قبله عظيٌم من مصر ،أضاعه عمًدا الناشر
المصري الشهير الذي كان يتلَّقى األموال لإلسهام في إماتة التصوف ،ويعيش بيننا كمالٍك لم
يرتكب إثًم ا.
الموالد في مصر ال تكِّلف الدولة مليًم ا واحًدا ،وليست خطًر ا على األمن الوطني أو األمن
القومي ،وما التجمعات فيها سوى تجُّم ٍع لألحباب والُم ريدين الذين يبحثون عن الفناء في الذات
اإللهية ،هم وُقود العشق اإللهي ،وليسوا قتلًة وال سَّفاكي دماء ،أنقياء أتقياء ،سْم ُتهم النقاء وصفاء
الروح.
وليلة المولد ليست ُعطلًة رسميًة ،كما أن األرض التي ُتقام عليها الموالد هبٌة من أهل كل قرية،
ولكن مع زحف التشُّدد الديني على أرض مصر ،اغُتصبت ساحاُت وميادين وأراضي الموالد.
وفي حوار أجراه معي في مونتلاير «كلود ليفيك» ُنشر 21من أكتوبر 2013ميالدية بجريدة
«لو دوفوار» الكندية بلساٍن فرنسٍّي ،وهي من أشهر وأكبر الصحف في كندا ،وقد ترجم فقرات من
الحوار إلى اللغة العربية الشاعر والناقد الدكتور وليد الخشاب أستاذ األدب بجامعة تورونتو الكندية
قلُت « :إن المتصوف كائن منفتح على العالم ،يقبل الديانات كافة .وكما قال الشيخ األكبر والصوفي
المسلم العظيم ،ابن العربي :الحب ديني وإيماني».
«المتصوفة مسالمون ،يحبون الحياة والعشق ،وال يمارسون السياسة» .إال أن هذه السمة لم
تجنبهم ويالت االضطهاد على مر العصور .وهم يشِّك لون األغلبية في العديد من البالد اإلسالمية،
ومنها مصر ،لكن «تم إسكات أصواتهم».
«يؤسفني أن أقول إن الغرب ال يحتفظ (من العالم اإلسالمي) إال بصورة المتطرفين .يظن أن
هذا العالم ال يقدم سوى المجرمين».
هذا جزٌء من حواري ،لكنني قلُت أيًض ا لمحاوري إن الغرب وأمريكا دائًم ا ما يقدمان الدعم
المادي والمعنوي لكل الجماعات الدينية المتشددة ولم نرهما مرًة واحدًة يدعمان الُم تصوفة أو
التصوف ،أو حتى ينفق مااًل قلياًل لنشر كتاٍب صوفٍّي؛ ألنه يدرك أن التصوف صورة مشرقة
لإلسالم ،وهو ال يريد لهذه الصورة أن تنتشر وتتعَّم ق في نفوس العالم ،الغرب ال يريد ابن العربي
( 558هـ 1164 -م 638/هـ 1240 -م) آخر ،وال جالل الدين الرومي ( 604هـ 672 -
هـ 1273 - 1207/م) آخر؛ ألنهما أبرز أنموذجين يدالن على سماحة واعتدال الدين اإلسالمي.
الموالد كما شهدُتها ومارسُت الِّذ ْك ر فيها ،تعبيٌر عن فرح القلب بالحب الذي ُيعِّم ر األرواح ،ومع
ذلك اعتادت الدولة المصرية من دون سبٍب واضٍح على مدى قرٍن من الزمان أن تضِّح ي بقيم
وتقاليد هذه الموالد بالمنع ال بالمنح والتصريح ،حتى رأينا المصريين يزدادون خسارًة مع استفحال
وتمدد إسالم الصحراء وآسيا (ممارسًة وملبًَسا) ،حيث اعتادت كسر خاطر الُم حبين ،وقتل الفرحة
عند الُم ريدين من بسطاء الناس وفقرائهم وعامتهم والذين تركوا ُقراهم ومدنهم وأتوا لالحتفال
بالمولد ،ومن ثم هناك احتقاٌن مدفوٌن في صُدور الذين ُح رموا من الموالد؛ ألن الدولة خذلتهم أيام
حكم الرئيس محمد حسني مبارك ،ولم تؤازرهم يوًم ا في صراعهم مع السلفيين واإلخوان وطوائف
وِم َلل الجماعات الدينية ،حيث غابت السعادة مع ُم هاجمة الموالد وحرقها وتخريبها وتدميرها ،وهي
عندي عادة مصرية أصيلة وُم حَّببة وخاصة ،وتشير إلى محبة المصرين للتصوف ،وآلل البيت من
دون تزُّم ٍت أو اِّدعاء ،والموالد كنٌز من كنوز مصر وثرواتها ،فكيف لها أن ُتلغى وُتشطب من
تاريخ مصر الحديث ،فال شك أن هناك تضييًقا على َم ن يتولون إقامة الموالد ،ناهيك عن الخسارة
الروحية.
ال أريد أن يقول لي أحد إن الموالد ممنوعة بأمر من الدولة المصرية ،وأن الفرح بطقٍس كهذا
صار عادًة ذميمًة ،وأن الموالد ما هي إال بدعة وَم ن يرتادها كافر وزنديق وخارج على اإلسالم،
إال إذا كان َم ن يتوَّلى األمور سلفيون ودواعش وإخوان وجماعات دينية.
وفقط سأذِّك ر بما مضى وأقول :إن حامد محمود باشا وزير الصحة ،هو َم ن كان يدعم مولد
طوخ ،وإن طه ُح سين ( 1306هـ 15 /من نوفمبر 1889م 1393 -هـ 28 /من أكتوبر
1973م) وزير التعليم وعميد األدب العربي ،هو َم ن أنقذ مولد مغاغة من الضياع ،بل إن أقباط
مصر في الزمن الماضي ،كانوا يدعمون الموالد الدينية اإلسالمية في مصر ،بل و يشاركون فيها
بالمؤازرة والتعاطف.
شعب الموالد ،شعب وديع وُم حب وودود ،ال يحمل في يديه سالًح ا ،وال يمارس شغًبا ،وال
يخِّر ب ُم نشأة ،وال يخُلق اضطرابات ما في أي مكان يكون فيه.
فأحدهم -في زمٍن ماٍض -سعى يوًم ا إلى إلغاء مولد السيد البدوي (فاس - 1200 ،طنطا،
1276هجرية) في طنطا أو تأجيله إلى أجل غير ُم سَّم ى ،بعدما قرأ وصًفا للمولد ،من أنه يجتذب
ُم ريدين وأتباًعا وُم حبين أكثر مَّم ا تجتذُب مكة.
الُم ولد حريٌة وبهجٌة وتجارٌة رابحٌة لكل َم ن يشارك فيه.
ُذو الُّنون المصري
رأُس الُّص وفية
«ال َتْس ُكُن اْلِح ْك َم ُة َم ِعَد ًة ُم ِلَئْت ِبَطَعاٍم »..
منذ قرأُت هذه الجملة الَّدالة ،وأنا في التاسعة عشر من ُعمري ،أتحَّثُث ُخ طاي في أرٍض جديدٍة
هي سوهاج موطن صاحبها «أخميم» ،وأنا أسعى أن أمأل معدَة ُر وحي بتصوٍف آخر غير الذي
سلكُته مع الشاذلية في قريتي كفر المياسرة ،وأنا صبٌّي صغيٌر ،وكنُت قد تعَّر فُت خالل سنتي
األولى في قسم الَّص حافة بكلية آداب سوهاج جامعة أسيوط وقتذاك بالسيد أبي ضيف المدني ،وكان
يعمل وقتذاك موِّج ًه ا بالتربية والتعليم في سوهاج ،وامتَّدت عالقتي به ،حتى بعد تخُّر جي في
الَّص حافة واشتغالي في مؤسسة «األهرام» ،عندما كان يأتي إلى القاهرة لمتابعة ُكتبه حول
التصُّو ف ،ومنها كتابه الُم بِّك ر عن ذي النون المصري «ذو النون المصري ..واألدب الُّص وفي»،
وقد صدر عن دار الشروق في القاهرة ،والذي قرأته قبل قراءتي كتابْي د.عبد الحليم محمود
«العالم العابد العارف باهلل ذو النون المصري» ،و«المكُنون في مناقب ذي النون» لجالل الدين
السيوطي .لكَّنني لم أُكن قد قرأُت رسالة محيي الدين ابن العربي «الكوكب الُّدري في مناقب ذي
النون المصري» إال بعد إعادة نشر رسائل ابن العربي ،وقد اهتم بنشر هذه الرسالة وتحقيقها
وتقديمها صديقي الكاتب سعيد عبد الفَّتاح .وهناك أطروحة للماجستير نوقشت سنة 1993ميالدية،
لم أتمَّكن من قراءتها لصُعوبة التوُّص ل إليها موضوعها «ذو النون المصري وتصُّو فه» للباحث
مؤيد فيصل الَّساعدي نالها من جامعة بغداد -كلية العلوم اإلسالمية ،بإشراف فرج توفيق الوليد.
وكان ذو النون المصري هو الباُب الذي ُفِتح لي نحو التصُّو ف اإلشراقي ،وذهابي نحو أقطاب
الوقت والَّشطح الذين رافقوا رحلتي في هذه الدنيا
– حياًة وِش ْعًر ا ،-وليس غريًبا أن أتحَّم َس وأكتَب كتاًبا عن ذي النون المصري ،وأنا طالٌب في
الكلية ،لكنه ضاع مني ولم ُيقَّدر له النشر ،وقصة ضياعه مؤلمة وعبثية ،وال مكان هنا للحديث
عنها.
كما أَّنني لم أنَس المُقولة التي حفظتها عن ذي النون« :عرفُت رِّبي برِّبي ،ولوال رِّبي ما عرفُت
رِّبي» ،ولم أحتج وسيًطا في حياتي أو هادًيا وال ُم رشًدا أو دلياًل لحيرتي.
يكاد يُكون ُذو النون المصري -الذي كانت له زاويٌة صوفيٌة في أخميم يرتاُدها رجاُل الَّطريق
الُّص وفي -أسطورًّيا من فرط القصص التي ُنسجت حوله ،والمتصل أغلبها بكراماته وُقدراته
الخارقة للعادات ،فهو ابٌن لتراٍث مصرٍّي يونانٍّي ،كان موُج وًدا في زمانهُ ،خ ُص وًص ا الفلسفة
األفالطونية الحديثة المتأخرة والفلسفة الهرمسية (نسبًة إلى هرمس ،وهو عند المصريين آخنوخ،
وعند اليونانيين آرميس ،وعند المسلمين إدريس ،أَّو ل َم ن عَّلم الكتابة والَّص نعة والِّط ب والتنجيم
والِّسْح ر ،)..وهو ابن العاطفة الشاعرية الجَّياشة ،وابن المعرفة الذوقية ،وقد انسحب ذلك على آثاره
التي تركها ِش ْعًر ا ونثًر ا ،فاض قلبه بالمحبة اإللهية ،وُشِغ ل بوحدة الُّشهود ،أي ال يرى الُّص وفي
شيًئا غير هللا ،أي حال الفناء ،ال وحدة الوُج ود أي ال يرى الُّص وفُّي شيًئا إاَّل ورأى هللا فيه ،أي حال
البقاء.
وبالفعل كان ُذو النون المصري ال يرى شيًئا إال ورأى هللا فيه .حيث عاش منذ شبابه بقلٍب
سماوٍّي ،إذ جال منُذ البداياِت ،فزار مكة ودمشق وأنطاكية وبغداد والمغرب وتونس ،وبيت المقدس
واليمن والمدينة ،وجبل الكام ووادي كنعان ،وجبال نيسان ،وبوادي الحجاز والشام وتيه بني
إسرائيل ،عدا تنقالته الكثيرة في صحارى مصر وطور سيناء ،وغيرها من المدائن والبلدان.
«ارتحلُت ثالث رحالٍت وعدُت بثالثة علوم :أتيُت في الرحلة األولى بعلم يقبله الخاص والعام،
وأتيُت في الرحلة الثانية بعلم قبله الخاص ولم يقبله العام ،وأتيُت في الثالثة بعلٍم لم يأخذ به الخاص
وال العام فبقيُت شريًدا طريًدا وحيًدا»« .وقد ظل ذو النون على هذه الحال من اإلقامة والرحلة،
يتلَّقى العلم حيًنا ،ويلقى الحكمة حيًنا آخر ،ويعظ الناس ويرشُدهم ويبِّص ُر هم بالحقائق ويوقفهم على
الدقائق».
وجاَب اآلفاَق المجاورَة له حيُث آثار ما تركه المصريون القدماء ،باعتبار أَّن أخميم «بيٌت من
بيوت الِح كمة القديمة ،وفيها التصاويُر العجيبُة والمثالُت الغريبُة ،التي تزيد المؤمن إيماًنا والكافر
طغياًنا».
األمر الذي جعله يسعى إلى معرفة لغتهم وفِّك رُم وزها ،وكثير من الشواهد تثبت أنه كان يقرأ
الرموز الهيروغليفية قبل أن يفَّكها شامبليون (فيچيك 23 ،من ديسمبر – 1790باريس 4 ،من
مارس 1832ميالدية) بألف سنٍة من على حجر رشيد الذي نقش عام 196قبل الميالد .وقد ذكر
المسعودي ( 346 - 283هجرية 957 - 896 /ميالدية) الذي توفي بعد ذي النون المصري
بمئة عام «أنه ُو ِّفق إلى حِّل كثيٍر من الصور والنقوش المرُسومة عليها» .وكان والده نوبًّيا ،وكان
حارًسا لبعض المعابد المصرية في أخميم ،وله ثالثة بنين آخرين همُ :ذو اْلِك ْفِل َ ،و َعْبُد اْلَخ اِلِق ،
َو َعْبُد اْلَباِر ِئ ،وكان ذو النون َيعرف اللغة المصرَّية القبطَّية ،لغة قدماء المصريين ،تعَّلمها من
الكتابة التي على المعابد ،ومن بعض الرهبان الذين كانوا يعرفونها في القرن الثالث الهجري ،حيث
ولد وعاش ذو النون في زمن الخالفة العباسَّية.
ويذكر المستشرق اإلنجليزي رينولد نيكلسون ( 1364 - 1285هجرية 1945 - 1868/
ميالدية) «أن ذا النون كان كثير العكوف على دراسة النقوش البصرية المكتوبة على المعابد وحل
رموزها ،كما كانت مصر القديمة في نظر المسلمين مهد علوم الكيمياء والِّسْح ر وعلوم األسرار،
وكان هو من أصحاب الكيمياء والِّسْح ر مع أن اإلسالم حرم الِّس حر ،ولذلك ستره بلباس الكرامات،
ومن هنا بدا تأثير الِّس حر في التصوف ،ويؤيد ذلك استخدام ذي النون األدعية الِّس حرية واستعماله
البخور لذلك كما ذكره القشيري في رسالته».
وقد التقى ثماني عشرة امرأة من العابدات الزاهدات الناسكات خالل أسفاره وسياحاته في الجبال
والوديان والبراري والبلدان والمدائن التي ارتحل إليها ،حيث قضى شطًر ا كبيًر ا من حياته متنِّقاًل
وسائًح ا ،ولعَّل العارفة فاطمة النيسابورية وهي من خراسان أبرز َم ن التقى في تطوافه ،وقال عنها
ذو النون« :هي ولية من أولياء هللا وهي أستاذي» ،سكنت مكة ،وتوفيت في طريق العمرة سنة
223هجرية.
وهي أحد أعالم التصوف السني ،وكانت من قدماء نساء خراسان ،قال عنها أبو عبد الرحمن
السلمي ( 24من أبريل 11 - 937من نوفمبر 1021ميالدية 10/من جمادى اآلخرة 3 - 325
من شعبان 412هجرية) إّنها« :من العارفات الكبار ،لم يُكن ِفي زمانها ِفي الِّنَساء مثلَه ا» ،كما
قال عنها أبو يزيد البسطاميَ« :م ا َر َأْيت ِفي عمري ِإاَّل رجاًل َو اْم َر َأة فالمرأة َكاَنت َفاِط َم ة
النيسابورية َم ا أْخ برتَه ا َعن مَقام من المقامات ِإاَّل َو َكاَن اْلَخ َبر َلَه ا عَياًنا» ،ومن أقوالهاَ« :م ن لم
يُكن هللا ِم ْنُه على َبال َفِإَّنُه يتخَّطى ِفي كل ميدان َو يَتَكَّلم ِبُكل ِلَسانَ ،و من َكاَن هللا ِم ْنُه على َبال
أخرسه ِإاَّل َعن الصْد ق وألزمه اْلحَياء َو اِإْل ْخ اَل ص» .و«الَّص اِدق والمتقي اْلَيْو م ِفي َبحر يضطرب
َعَلْيِه أمواجه َو َيْد ُعو ربه ُدَعاء الغريق يْس َأل ربه اْلَخ اَل ص والنجاة».
ومن بين َم ن التقاهن رابعة العدوية ،وقيل إنها تابت على يديه ،حين استمعت إلى إنشاده ،وهما
في سفينٍة ،إذ كانت مع جماعٍة تشرب الخمر:
وتخرج من التربة وتأتي إلى الجهة البحرية تجد على يمينك قبر صاحب «الّدّر ابة» رحمه هللا
تعالى ،قيل :إّن ذا الّنون المصرّي ،رضي هللا عنه ،رأى في المنام كأّن قائاًل يقول له :يا ذا الّنون،
إذا كان غًدا ،اجلس على شفير الخندق يجيء إليك ولي من أولياء هللا تعالى ،ميت محمول على
دّر ابة ،فجّه زه وصِّل عليه .قال :فلما أصبحت جئت وجلست على الموضع الذي وصف لى ،وإذا
برجلين ،يحمالن رجاًل مّيًتا على دّر ابة ،فقلت لهما حّطاه واذهبا .
قال ذو النون :فغّسلته ،وكّفنته ،وصّليت عليه ،ودفنته .وأوصى ذو النون إذا مات أن يدفن تحت
رجليه .ففعل ذلك به .قال ذو النون :فرأيت تلك الليلة في منامي ذلك الّر جل الذي دفنته وعليه حّلة
من الّسندس ،فقال :يا ذا النون ،جزاك هللا عني خيًر ا.
ومن تالميذه يوسف بن الحسين الرازي أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعالم التصوف
السني في القرن الثالث الهجري ،وقد وصفه الذهبي بـ«اإلمام العارف شيخ الصوفية» ،وقال عنه
أبو عبد الرحمن السلمي بأنه «شيُخ الّر ي والجبال في وقته ،كان َأْو حَد في طريقته في إسقاط الجاه
وَتْر ك التصُّنع واستعمال اإلخالص» ،أكثر الترحال ،وأخذ عن ذي النون المصري ،وقاسم
الجوعي ،وأحمد بن حنبل ،وأحمد بن أبي الحواري ،ودحيم ،وأبي تراب عسكر النخشبي ،ورافق
أبا سعيٍد الخَّر اَز – وهو أحد تالميذ ذي النون المصري أيًض ا -في بعض أسفاره.
ُيَقالَ :كَتَب ِإَلى الُج َنْيد :ال َأَذاَقَك ُهللا طعم َنْفسكَ ،فِإْن ُذْقَتَه ا ال ُتْفِلح.
َو َقاَل ِ :إَذا َر َأْيَت الُم ِر يَد يشتغُل ِبالُّر َخص َفاعلْم َأَّنُه ال َيِج ْي ء ِم ْنُه َشْي ءَ ..و ِقْيَل َ :كاَن َيْس َم ُع اَألبَياَت
َو َيْبِك يَ .م اَت َسَنَة َأْر َبٍع َو َثالِث مَئٍة من الهجرة.
َو َقْد َسِم َع َقَّو ااًل ُينشد:
َر َأْيُتَك َتْبِني َد اِئًم ا ِفي َقِط ْيَعِتي
َو َلْو ُكْنَت َذا َح ْز ٍم َلَه َّدْم َت َم ا َتْبِني
َكَأِّنْي ِبُكْم َو الَّلْيُت َأْفَض ُل َقْو ِلُكم
َأال َلْيَتَنا ُكَّنا ِإَذا الَّلْيُت ال ُتْغِني
َفَبَكى َكِثْيًر ا َو َقاَل ِلْلمنشدَ :يا َأِخ ي ،ال َتُلم َأْه َل الَّر ّي َأْن ُيَسُّم وِني ِز ْنِدْيًقاَ ،أَنا ِم ْن بكَر ٍة َأقرُأ ِفي
الُم ْص َح ِف َ ،م ا َخ َر َج ْت ِم ْن َعْيِني َدْم َعةَ ،و وَقَع ِم ِّني ِإْذ َغَّنْيَت َم ا َر َأْيَت .
َقاَل الُّسَلِم ُّي َ :كاَن َ -مَع ِع ْلمه َو تَم اِم َح اله َ -هَجَر ُه َأْه ُل الَّر ّي َ ،و تكَّلُم وا ِفْيِه ِبالقَباِئحُ ،خ ُصْو صا
الُّز َّهادَ ،و َأْفَشْو ا ُأُم وراَ ،ح َّتى َبَلَغِني َأَّن َشْيخا َر َأى ِفي الَّنْو ِم َكَأَّن بَر اءًة نزلْت ِم َن الَّسَم اءِ ،فْيَه ا
َم ْك ُتْو بَ :هِذِه بَر اءٌة لُيْو ُسَف بِن الُح َسْيِن ِم َّم ا ِقْيَل ِفْيِه َ.فَسَكُتوا.
وُهَو َص اِح ُب ِح َكاَية الَفْأَر ة َمَع ِذي الُّنْو ِن َلَّم ا سَأله االْسم اَألْع َظمَ .و َعْنُهَ ،قاَل ِ :باَألدب َتَتَفَّه م الِع ْلم،
َو َبالِع ْلِم يصُّح َلَك الَعَم لَ ،و َبالَعَم ِل تَناُل الِح ْك َم ةَ ،و َبالِح ْك َم ة تفَهُم الُّز ْه دَ ،و َبالُّز ْه ِد تترُك الُّدْنَياَ ،و ترغُب
ِفي اآلِخ َر ِةَ ،و ِبَذِلَك تَناُل ِر َض ى هللا َتَعاَلى.
َقاَل الُخ ْلِد ّي :كتَب الُج َنْيد ِإَلى ُيْو ُسَف بن الُح َسْيِن ُ :أْو ِص ْيَك ِبَتْر ِك اَاللتَفاِت ِإَلى ُكِّل َح اٍل َم َض ْت َ ،فِإَّن
اَاللتَفاَت ِإَلى َم ا َم َض ى شغٌل َعِن األوَلىَ ،و ُأوِص ْيَك ِبَتْر ِك مَالحَظِة الَح اِل الَكاِئَنة ،اعمْل َعَلى تخليِص
َهِّم َك ِم ْن َهِّم َك ِلَه ِّم َك َ ،و اعمْل َعَلى محِق َشاِهِدَك ِم ْن َشاهدك َح َّتى َيُكْو َن الَّشاهُد َعَلْيَك َشاهًدا َلَك
َو ِبَك َو منَك ...وليوسف رسالة إلى الُج نيد منها:
َكْيَف الَّسِبْيُل ِإَلى َم ْر َض اِة َم ْن َغِض َبا
ِم ْن َغْيِر ُجْر ٍم َو َلْم َأْع ِر ْف َلُه َسَبَبا
َقاَل َو الد تَم امَ :سِم ْعُت ُيْو ُسَف بَن الُح َسْيِن َيُقْو ُل :قيَل ِليُ :ذو الُّنْو ِن َيْعِر ُف االْس َم اَألْع َظمَ .فِسْر ُت
ِإَلْيِه َ ،فَبُص َر ِبي َو َأَنا َطِو ْيُل الِّلْح َيةَ ،و مِع ي ركَو ة َطِو ْيَلةَ ،فاْس َتْش َنَع َم ْنظِر يَ .قاَل َو الد تَم امُ :يَقالَ :كاَن
ُيْو ُسُف َأْع َلَم َأْه ِل َز َم اِنِه ِبالَكَالم َو بعلم الُّص ْو ِفَّية.
َقاَل َ :فَج اَء َم َتَكِّلٌم َ ،فَناَظر َذا الُّنْو ِن َ ،فَلْم َيقم َلُه ِبحَّج ة.
َقاَل َ :فاْج َتَذْبُتُه ِإَلَّي َ ،و َناظْر ُتهَ ،فَقَطْعُتُهَ ،فَعَر ف ُذو الُّنْو ِن َم َكاِنيَ ،و َعاَنَقِنيَ ،و َج َلَس َبْيَن َيدَّي َ ،و َقاَل :
اعُذْر ِنيَ .قاَل َ :فَخ َدْم ُتُه سَنة .
ومن تالميذ ذي النون المصري اْبُن الَج اَّل ِء َأُبو َعْبد ِهللا َأْح َم ُد بُن َيْح َيى ،وقد جاء في كتاب «سير
أعالم النبالء» لشمس الدين الذهبي (المتوَّفى سنة 748هجرية) أنه :الُقْد َو ُة ،الَعارُف َ ،شْيُخ الَّشام،
َأُبو َعْبِد ِهللا اْبُن الجاَّل ءَ ،أْح َم ُد ابُن َيْح َيىَ ،و ِقْيَل ُ :مَحَّم د بن َيْح َيىُ .يَقاُلَ :أصُله َبْغَداِد ّي ،صحَب َو الَد ه،
َو َأَبا ُتَر اٍب الَّنْخ َشِبّي َ ،و َذا الُّنْو ِن الِم ْص ِر َّي َو َح َكى َعْنُه.
َو َكاَن ُيَقاُل :الُج َنْيُد ِبَبْغَد اَد َ ،و اْبُن الجاَّل ء ِبالَّشاِم َ ،و َأُبو ُعْثَم اَن الِح ْيِر ُّي ِبَنْيَساُبْو َر – َيْعِني :ال َنِظ ْيَر
َلُه م.
َقاَل الُّدِّقيَ :م ا َر َأْيُت َشْيًخ ا َأهَيَب ِم ِن اْبِن الجاَّل ء َمَع َأِّني لقيُت َثالَث مَئِة َشْيخَ ،فَسِم ْعُتُه َيُقوُلَ :م ا
جال َأِبي َشْيًئا َقُّطَ ،و لِك َّنُه َكاَن َيِع ُظ ،فيقُع َكالُم ه ِفي الُقُلوِب ،فُسِّم َي َج اَّل َء الُقُلوب.
َقاَل ُمَحَّم ُد بُن َعِلِّي بِن الُج لندىُ :سِئَل اْبُن الجاَّل ء َعِن المحَّبةَ ،فَسمْعُتُه َيُقـوُلَ :م ا ِلي َو ِلْلمحَّبة؟ َأَنا
ُأِر ْيُد َأْن َأتعَّلم الَّتوَبة.
َقاَل َأُبو ُعَمَر الِّد َم ْش ِقّي َ :سِم ْعُت اْبَن الجاَّل ء َيُقوُلُ :قْلُت َألبوَّي ُ :أِح ُّب َأْن َتَه َباِني ِهللَ .قاالَ :قْد َفَعْلَنا.
َفِغ ْبُت َعْنُه م ُم َّدةُ ،ثَّم ِج ْئُت فدققُت الَبابَ ،فَقاَل َأِبيَ :م ْن َذا؟
ُقْلُت َ :و لُدكَ .قاَل َ :قْد َكاَن ِلي َو لٌد َو هبَناُه ِهلل.
َو َم ا فتَح ِلي.
َو َعِن اْبِن الجاَّل ءَ ،قاَل :آَلُة اْلَفِقير ِص َياَنُة َفْقرهَ ،و ِح ْفُظ ِس ِّر هَ ،و َأَد اُء َفْر ِض هُ .تُو ِّفَي ِفي َسَنِة ِس ٍّت
َو َثَالِث مَئٍة من الهجرة.
َأْص َح اُب الَم َطاِلِب َذا الُّنْو ِن َ ،فَخ َر َج َمَعُه م ِإَلى ِقْفَطَ ،و ُهَو وَعْن َأُّيْو َب ُمَؤ ِّد ِب ِذي الُّنوِن َ ،قاَل َ :ج اَء
ِهللا اَألْع َظُم َ ،فَأَخ َذُه ُذو الُّنوِن َ ،و َسَّلَم ِإَلْيِه م َم ا َو َج ُدوا . َشاٌّب َ ،فَح َفُر وا َقبًر اَ ،فَو َج ُدوا َلْو ًح ا ِفْيِه :اْس ُم
َقاَل ُيوُسُف بُن الُح َسْيِن الَّر اِز ُّي – وهو أحد أبرز وأخلص تالميذه الذين نقلوا عنه الكثير وكان
مالزًم ا له في مصرَ :حَض ْر ُت َذا الُّنْو ِن َ ،فِقْيَل َلُهَ :يا َأَبا الَفْيِض َ ،م ا َكاَن َسَبُب َتْو َبِتَك ؟
َقاَل :عجب ال تطيقه ،قال :بمعبودك إال أخبرتني ،فقال ذو النون :أردت الخروج من مصر إلى
بعض القرى؛ فِنْم ُت ِفي الطريق في بعض الَّص َح ارىَ ،فَفَتْح ُت َعْيِنيَ ،فِإَذا أنا بُقْنَبَر ٍة َعْم َياَء َسَقَطْت
ِم ْن َو ْك رهاَ ،فاْنَشَّقِت اَألْر ُض َ ،فَخ َر َج ِم ْنَه ا ُسُكُّر َج َتاِن إحداهما َذَهٌب َو األخرى ِفَّض ٌةِ ،في ِإْح َد يهَم ا
ِسْم ِس ٌم َ ،و ِفي اُألْخ َر ى َم اٌء َ ،فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذاَ ،فُقْلُت َ :ح ْس ِبي .قد ُتْبُت َ ،و َلِز ْم ُت
الَباَب ِ ،إَلى َأْن َقِبَلِني هللا.
ذو النون المصري
الذي َز َهْت به مصر
ذو النون المصري الزاهد الناسك الوِر ع المتقِّش ف البسيط -الذي يمكن معرفة الكثير عن ُر وحه
عبر قراءة ما ترك من أقواٍل ومواقَف وقصٍص وصلت إلينا -هو لسان أهل الباطن ،أي ينطق
بلسان الحقيقة ،يطابق كالمه حاله ،أي أَّن كالمه عين حاله.
وكان ذو النون – الذي له لساٌن في المعرفة والمحَّبة ،وُم ولٌع في طلب العلم -يجد األنس في
خلوته.
وهو أَّو ل من وضع تعريفاٍت للوْج د والَّسماع ،وكان أول َم ن تكلم في مصر في األحوال ومقامات
أهل الوالية ،وهو أول َم ن فَّسر إشارات الصوفية وتكَّلم في هذا الطريق ،وُيعتبر بحق واضع أُسس
التصُّو ف ،فعنه أخذ الكثيرون ،ويكفي أَّن ابن العربي قد خَّص ص له رسالًة وحده ،كما خَّص ص له
جالل الدين الرومي نصوًص ا شعريًة في كتابه األشهر «المثنوي» – الجزء الثاني -وسأورد هذه
النصوص في مكانها حين الحديث عن محنة ذي النون واتهامه بالُكفر والزندقة .وقد أَّثر في
متصوفة المشرق والمغرب حتى أَّن تأثيره وصل إلى بالد األندلس.
ولم يكن البن العربي أن يخِّص َص له كتاًبا ،لو لم يكن يعرف مكانه ومكانته عندما كان في
إشبيلية ،قبل أن ينتقل إلى المشرق ،جائاًل متنِّقاًل بين مكة وحلب وقونية ،ثم دمشق التي ختم فيها
حياته وُدفَن فيها.
وأكثر َم ن تأَّثروا تأثًر ا عميًقا – في األندلس – بذي النون المصري ،هو ابن مسَّر ة (الُم توَّفى سنة
319ميالدية) ،الذي اتهم بالزندقة ،وأحرقت كتبه .والذي اعتبره ابن العربي رجاًل «من أخير أهل
الطريقة» في العلم والحال والكشف.
وكان ذو النون المصري حاًّدا وحاًّر ا وحميًم ا وغيوًر ا على بلده ودينه ،لم يعرف الُم هادنة وال
الُم واربة ،وكان بابه دائًم ا مفتوًح ا ،لم يغلقه في وجه ُم قيٍم أو عابٍر غريٍب ،أو حائٍر يبحث في مسألٍة
تؤِّر قه ،ويريد لها جواًبا كافًيا شافًيا مريًح ا للنفس والروح ،على الرغم مَّم ا واجهه من صعاب
ومشكالت خصوًص ا من فقهاء عصره في مصر الذين أوغُر وا صدر السلطة الحاكمة ضده ،ولم
يتركوه حتى سيق إلى الخليفة في بغداد مقَّيًدا في األغالل ،وتلك قصة سنأتي على الحديث فيها
بتفصيٍل ،وذكر المرويات التي صاحبت محنة أحد أبرز رَّو اد الطريق الصوفي ،الذي ظلم حًّيا
وميًتا ،إذ حتى اللحظة لم نجد له كتاًبا مطبوًعا محَّقًقا ،ولم نجد له جمًعا لما ترك من نثٍر وشعٍر
وإشاراٍت وتلويحاٍت ومواقف ومخاطبات وفتوحات ،وما هو متاٌح أمامنا إال محاوالت خجلى ال
ُتشبع ،وكان علَّي أن أذهب إلى المصادر القديمة من كتب الطبقات واألولياء ،والتي يوجد فيها
كغيره ،ألجمع ما تناثر ،ويوافق ذوقي ،ويتواءم أيًض ا مع ذائقة محِّبي التصوف ،وأختار من بين ما
ترك ما هو ذهب المع ،وأحجار حرة كريمة ،يمكن لها أن تبقى وتؤِّثر في نفوس متلِّقيها.
كان ذو النون أبًّيا شامًخ ا معتًّدا بنفسه ال يطأطئ الرأس ألميٍر أو حاكٍم أو حتى خليفة ،متواضًعا
في سلوكه وردوده ،ومواقفه المتكِّر رة طوال حياته تثبت ذلكُ ،يكِثُر من الدعاء لنفسه ولآلخر،
يوصي ،ويلقي حَكمه ،ويسدي النصيحة .
وكان «تصوف ذي النون ...خطوة في سبيل تكوين فلسفة وحدة الوجود التي فَّص لها ابن العربي،
والتي أشار إلى أنها تستمد من رأي لذي النون في العرش» كما يذكر الدكتور محمود علي مّكي
في مجلة «دعوة الحق» المغربية عام 1962ميالدي ،في عددين متتابعين تحت عنوان:
«التصوف األندلسي مبادئه وأصوله» ،مضيًفا أنه «ظلت قداسة ذي النون المصري تأسر ألباب
األندلسيين بعد ذلك بمدة طويلة ،ولعل ذلك يرجع إلى اعتدال ذي النون ،وعدم تطُّر فه في تصُّو فه
إذا قسناه بغيره من متصوفة العراق ،أو إيران مثل أبي يزيد البسطامي ،أو الحالج ،وقد أَّلف ابن
شعبان المعروف بابن القرطي ( 355 - 270هجرية 966 - 883 /ميالدية) كتاًبا أسماه
«مواعظ ذي النون األخميمي» متناقاًل في األندلس ،وابن شعبان فقيه أندلسي استقر بمصر وأصبح
رئيًسا للمذهب المالكي بها خالل القرن الرابع الهجري ،كما عرفت باألندلس خالل هذا العصر
مؤلفات منسوبة إلى ذي النون نذكر منها رسالة «سؤال ذي النون المصري بعض الزهاد عن
صفة المؤمن» ،وهي رسالة أذاعها في األندلس مسلمة بن القاسم القرطبي (المتوَّفى سنة 353
هجرية) ،و«ظل التصوف األندلسي حتى انتهاء القرن الرابع الهجري أقرب إلى البساطة وأشبه
بالتصوف المصري البعيد عن التطُّر ف».
وأقام سهل التستري ( 283 - 200هجرية 896 - 815 ،ميالدية) سنين ال يسنُد ظهره إلى
المحراب وال يتكَّلم ،فلما كان ذات يوٍم بكى ،واستند وتكَّلم ،وبالغ في إبراز المعاني العجيبة
واإلشارات الغريبة ،فقيل له ماذا فيه ،فقال :كان ذو النون بمصر حًّيا فما تكلمت وال استندُت إجالاًل
له ،واآلن قد مات ،فقيل لي :تكلم فقد أذنت.
كان ذو النون المصري -الذي َز َهْت به مصر وديارها -يستعمل البُخ ور ،وقد زاره رجل يوًم ا
فرأى بين يديه طسًتا من ذهٍب وحوله الند والعنبر ُيْس َج ر ،فصاح به ذو النون قائاًل « :هل أنت مَّم ن
يدخُل على الملوك في حال بسطهم»؟
يذكر القشيري في رسالته أَّن ذا النون المصري هو أول َم ن عَّر ف التوحيد بالمعنى الصوفي،
وأنه أول َم ن وضع تعريفات للوجد والسماع والمقامات واألحوال.
ويقول عنه «صاحب الكواكب الدرية» إنه« :العارف الناطق بالحقائق ،الفاتق للطرائق ،ذو
العبارات الوثيقة ،واإلشارات الدقيقة ،والصفات الكاملة ،والنفس العالمة العاملة ،والهمم الجلية،
والطريقة المرضية ،والمحاسن الجزيلة المتبعة ،واألفعال واألقوال التي ال تخشى منها تبعة ،زهت
به مصر وديارها ،وأشرق بنوره ليلها ونهارها».
وذو النون – الذي رآه أبو طالب المِّك ي (المتوَّفى 998ميالدية) من أهل الصحو ال الَّشطح -
صاحُب قدٍم أولى في ازدهار الُّص وفية ،وله أثٌر ال ُينسى في الَّص نعة ،وكان صاحَب حكمٍة وفلسفٍة
مشتغاًل بالكيمياء ،وهو من طبقة جابر بن حيان (101هجرية 721 /ميالدية 197-هجرية 815 /
ميالدية) وهو أَّو ل َم ن استخدم الكيمياء عملًّيا في التاريخ ولذي النون قدٌم أخرى في صناعة
الكيمياء ،له كتٌب لكن أغلبها صار منسًّيا أو مجُه واًل أو تلف وضاع.
«ويعد ذو النون رأس الصوفية ،وهم يضافون إليه وُينسبون ،وأول َم ن فَّسر اإلشارات الصوفية،
وعَّبر عنها ،ونطق عن هذا الطريق ،ولم يكن الشيوخ من قبله يفعلون ذلك ،وعنه أخذ َم ن أتى
بعده ،وتكلم عن المعرفة بقوله :إنها على ضروٍب ثالثة هي :معرفة العامة ،ومعرفة المتكلمين
والحكماء ،ومعرفة الخاصة من األولياء والمقَّر بين الذين يعرفون هللا بقلوبهم ،وهي أسمى وأيقن؛
ألنها ال تحصل عن التعُّلم والكسب واالستدالل ،ولكنها إلهام يفيضه هللا على قلب عبده ،وعنده أَّن
بين الرب والعبد ُح ًّبا متباداًل ،وَم ن ذاق الُح ب اإللهي عرف الذات اإللهية وتحقيق وحدانيتها
وأصبح من العارفين المقربين» .وقال عنه ابن عساكر ( 571 -499هجرية)« :كان رئيس القوم،
المرجوع إليه والمقبول على جميع األلسنة ،وأول َم ن عبر عن علوم المنازالت ،وله السياحة
المشهورة والرياضات المذكورة».
ومن مؤلفاته كتاب «حل الرموز وبرء األرقام في كشف أصول اللغات واألقالم» ،وكتاب
«الركن الكبير» أو«الركن األكبر» ،وكتاب «الثقة بالصنعة» وكتاب «المجربات» ويضم
وصفات في الطب والكيمياء والسحر والطالسم ،وموجود في مكتبة باريس ،ويتكون من إحدى
وتسعين ورقة ،وكتاب «القصيدة في الصنعة الكريمة» ،ويوجد منه نسختان إحداهما في مكتبة
باريس ،واألخرى في مكتبة المتحف البريطاني ،وهناك نسخة أخرى بعنوان «أرجوزة في علم
الصنعة» .وضع لهذه القصيدة أيدمر الجلدكي (توفي 743هجرية 1342/ميالدية) شرًح ا بعنوان:
«الدر المكنون في شرح قصيدة ذي النون» كما شرحها آخرون .ولذي النون «رسالة في العناصر
الثالثة» ،و«رسالة في تدبير الحجر المكرم أو الكريم» ،وكتاب «صفة المؤمن والمؤمنة»،
ورسالة في ذكر مناقب الصالحين ،وأشعار في حجر الحكماء ،ويوجد في مكتبة باريس أيًض ا،
مناظرة بينه وبين تلميذه يعقوب ،وموجودة في مكتبة برلين ،والعجائب ويوجد في دار الكتب
المصرية ،وهناك مخطوط موجود في مكتبة جامعة اليبزج في ألمانيا تحت عنوان« :جزء فيه
قصة العباس بن حمزة مع ذي النون المصري رحمة هللا عليه» .وكما يظهر من خالل العنوان،
يرصد المخطوط زيارَة أبي الفضل العباس بن حمزة بن أشوش الّنيسابوري (توفي 288هجرية
901/ميالدية) لذي النون المصرّي ،وقد ُنشَر هذا المخطوط في كتاٍب سنة 2019ميالدية
بعنوان« :الحديث والتصوف» ،دراسة وتحقيق بالل األرفه لي وفرانشسكو كيابوتي..
وقد عدُت إلى الرسالة القشيرية للقشيري الذي ابتدأ به رسالته فذكر أنه «أوحد وقته علًم ا،
وورًعا ،وحااًل ،وأدًبا .سعوا به إلى المتوِّك ل ،فاستحضره من مصر ،فلَّم ا دخل عليه وعظه فبكى
المتوِّك ل ورَّده إلى مصر مكَّر ًم ا ،وكان المتوكل إذا ُذكر بين يديه أهل الورع يبكي .وكان رجاًل
نحيًفا ،تعلوُه ُح مرة ،ليس بأبيض اللحية.
ويذكرأحد تالميذ ذي النون وهو يوسف بن الحسين الرازي المتوَّفى سنة 301هجرية -والذي
اتصل به ،واستمع إليه ،وأخذ عنه -أنه خرج ذات يوم من لدن أستاذه فوجد فقهاء أخميم تعَّص بوا
ونزلوا إلى زورٍق ذاهبين إلى ُسلطان مصر ليشهدوا بُكفره فانقلب الزورق والناس ينظرون.
وكان معاصروه من أصحاب المذهب المالكي ،ومن المعتزلة وسواهما قد اتهموه بالزندقة ،وقد
حاربه – خصوًص ا -عبد هللا بن الحكم شيخ المالكية ( 772ميالدية 156/هجرية 26 -من
نوفمبر 829ميالدية 21/من رمضان 214هجرية) فقيه مالكي مصري .وصف بأنه «كان من
ذوي األموال والِّر باع ،عظيم القدر ،ويقال إنه دفع لإلمام الشافعي عند قدومه إلى مصر ألف
دينار» ،وابن أبي الليث شيخ الحنفية (لَّم ا استخلف الواثق ورد كتابه على محمد بن أبي الليث
بامتحان الناس أجمع ،فلم يبَق أحٌد من فقيٍه وال ُم حِّدث وال مؤِّذن وال معِّلم حتى ُأخذ بالمحنة «محنة
خْلق القرآن» ،فهرب كثيٌر من الناس ،وملئت الُّسجون ممن أنكر المحنة ،وأمر ابن أبي الليث
باالكتتاب على المساجد «ال إله إال هللا رب القرآن المخلوق» فكتب بذلك على المساجد ُفسطاط
مصر ،ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد ،وأمرهم أاَّل يقربوه)،
وحاولوا اإليقاع بينه وبين الخليفة المتوكل واصفينه بأنه أحدث علًم ا لم تتكلم به الصحابة ،فاستجلبه
المتوكل إليه في بغداد سنة 829ميالدية ،ويقال إنه لَّم ا دخل عليه وعظه فبكى ،وَو ِلَع ِبِه َ ،و َأَح َّبُه،
َو َكاَن َيُقوُلِ :إَذا ُذِك َر الَّص اِلُح ْو َن َ ،فَح َّي َهال ِبِذي الُّنْو ِن .
فرَّده إلى مصر مكرًم ا ،وكان ذا تأثير قوي على أهل مصر ،إلى الحد اَّلذي جعل ُحَّساده ينظرون
إليه على أَّنه زنديق.
وتذكر دائرة المعارف اإلسالمية أن ذا النون المصري «كان مصري المولد والنشأة ،والعناصر
التي تتألف منها حياته وثقافته وواليته ،واألحداث التي وقعت له ،واألقوال التي ُأثرت عنه ،كل
أولئك وغيره ...سيظهر من غير شك أن الطابع اَّلذي غلب عليه كان مصرًّيا ،وأَّنه قد استمد تلك
العناصر من صميم الحياة المصرية ،وأنه وإن كان واحًدا من أئمة صوفية المسلمين ،الذين ظهروا
في تاريخ التصوف اإلسالمي ،فإنه كان أواًل وقبل كل شيٍء إماًم ا لمن ظهر من الصوفية المسلمين
في تاريخ التصوف المصري .
وكان المتوكل قد أمر بإشخاصه سنة خمس وأربعين ومائتين فوصل إلى ُسر َم ن رأى ،فأنزله
الخليفة في بعض الدور وأوصى به رجاًًل ُيعرف بزرافة ،وقال :إذا أنا رجعت من ركوبي فأخرج
إلَّي هذا الرجل ،فقال له زرافة :إَّن أمير المؤمنين قد أوصاني بك؛ فلَّم ا رجع من الغد قال له:
تستقبل أمير المؤمنين بالسالم ،فلما أخرجه إليه قالُ :سِّلم على أمير المؤمنين ،فقال ذو النون ليس
هكذا جاءنا الخبر ،إَّن الراكب يسِّلم على الَّر اِج ل ،قال :فتبَّسم الخليفة وبدأه بالسالم ،ونزل إليه فقال
له :أنت زاهد مصر ،قال :كذا يقولون ،ثم وعظه ،وأكرمه الخليفة.
يقول صاحب «الكواكب الدرية» عنه« :ولما تكلم بعلوم لدنية ال علم ألهل مصر بها ،وشوا به
إلى خليفة بغداد ،فُح مل إليه في جماعة ،مغُلواًل مقيًدا ،فُقدم للقتل ،فكلم الخليفة ،فأعجبه ،فأطلقه
ورفقته ،وقال :إن كان هؤالء زنادقة فما على وجه األرض مسلٌم ».
وقال« :هو رجل بريء مَّم ا قيل عنه».
َقاَل الُّسَلِم ُّي ِفي كتابه «تاريخ الصوفية :وبذيله ِم َح ِن الُّص ْو ِفَّيِة »ُ :ذو الُّنْو ِن َأَّو ُل َم ْن َتَكَّلَم ِبَبْلَد تِه ِفي
َتْر ِتْيِب اَألْح َو اِل َ ،و َم َقاَم اِت اَألْو ِلَياِء َ ،فَأْنَكَر َعَلْيِه َعْبُد ِهللا بُن َعْبِد الَح َكِم َ ،و َهَجَر ُه ُعَلَم اُء ِم ْص َر َ ،و َشاَع
َأَّنُه َأْح َد َث ِع ْلًم ا َلمًم ا َيَتَكَّلْم ِفْيِه الَّسَلُف َو َهَجُر ْو ُه َح َّتى َر َم ْو ُه ِبالَّز ْنَد َقِة .
َفَقاَل َأُخ ْو ُهِ :إَّنُه م َيُقْو ُلْو َن ِ :إَّنَك ِز ْنِدْيٌق َ ،فَقاَل :
َو َم ا ِلي ِس َو ى اِإل ْط َر اِق َو الَّصْم ِت ِح ْيَلٌة
-عندما اقترب منه ذلك النفُر ،صاح بهم :هه؟ َم ن أنتم ...اتُقوا.
-فقالوا بأدٍب :إَّننا من األصدقاء ،وجئنا إلى ُهنا مخلصيَن من أجِل الُّسؤاِل .
-فكيف أنَت يا بحَر العقِل ذا الفنون؟ وأُّي بهتاٍن هذا بأن يصيب عقلك الجنون؟
-ومتى يصُل ُدَخاُن المستوقِد إلى الَّشمِس ؟ وكيف تصبُح العنقاُء مهُز ومًة من ُغراٍب؟
- 1455ال تكتم عَّنا «السَّر » ،وفِّسْر هذا الكالم ،وال تتصَّر ْف معنا هكذا ،فنحُن محُّبوَن .
-وال ينبغي إبعاُد الُم حِّبين ،أو صرفهم بالِح يلِة والَّدريئِة .
-وُبْح لنا بالسِّر أُّيها المليُك ،وال ُتْخ ِف وجَه َك خلَف الغماِم أيها القمُر .
-نحُن ُم حُّبوَن صادقون« ،نشعُر » باأللِم في قلوِبنا ،وفي كلتا الداريِن علقنا بَك الُقلوَب .
-فبدأ في السِّب والَّشتِم الُم ْقذِع ،وتحَّدث بطريقِة المجانين حديًثا ال رابَط فيه.
- 1460وقفَز وبدأ في رميِه م بالحجارِة والخشِب ،فهربوا جميًعا خوًفا من اإلصابِة .
-فضحَك ُم قهقًه ا ،وهَّز رأَسُه ،وقال :أنظر إلى نفاِج هؤالء األصدقاِء واِّدعائهم.
-أنظر إلى األصدقاء ،فأين أمارُة األصدقاء؟ إنما يحُّب األصدقاُء األلم كأنُه الُّر وُح .
-وكيف يحُّس الَّص ديُق بأَّن إيالَم الَّص ديِق ثقيٌل ؟ إن األلم لٌّب ،والصداقُة له كالقشِر .
-وأليست عالمُة المحَّبِة هي السروُر في البالِء واآلفِة ومعاناِة الِم َح ن؟
- 1465والصديق كالذهِب ،والبالُء مثل الَّناِر ،والَّذهُب الخالُص ُم تهلُل الوْج ِه في قلِب الَّنار.
....
َكاَن َأْه ُل ناحية ذي النون المصري ُيَسُّمْو َنُه الِّز ْنِدْيَق َ ،فَلَّم ا َم اَت َ ،أظَّلْت الَّطْيُر الخضر ِج َناَز َته،
حتى وصل إلى مدفنهَ ،فاْح َتَر ُم وا َبْعُد َقْبَر ُه .وقد َم اَت ِبالِج ْيَز ِةَ ،و ُعِّدي ِبِه ِإَلى ِم ْص َر ِفي َم ْر ِكٍب َخ ْو ًفا
ِم ْن َز ْح َم ِة الَّناِس َعَلى الِج ْس ِر .
وفي تلك الليلة التي فارق الدنيا فيها ،رأى سبعون رجاًل النبي محمد في النوم يقول« :إن حبيب
هللا ذا النون يزمع المجيء ،وقد جئُت الستقباله» ،وحين مات ظهر مكتوًبا على جبينه« :هذا حبيب
هللا ،مات في حب هللا ،قتيل هللا» ،فلما حملوا جنازته تجَّم عت طيور السماء وظللتها ،فتحَّير أهل
مصر جميًعا ،وتابوا عَّم ا كانوا قد ارتكبوه معه من جفاء).
ولما دفن غابت الطيور ،وعندما رأى أهل مصر ذلك ،ندموا على ما فرط منهم في حق ذلك
الولي ،واستغفروا مَّم ا أنكروه عليه من واليته ،وما ألحقوه به من األذى في حياته ،وأجُّلوه بعد ذلك
واحترموا قبره .وذكر المناوي أن ذا النون قد ُدفن بالقرافة ،وأن قبره بها ظاهر مقصود بالزيارة
وعليه أنس ومهابة ،وأن هذا القبر بالقرب من قبر عقبة بن عامر الجهني الصحابي ،وأنه يقال إَّن
ذا النون وعقبة وعمرو بن العاص في قبٍر واحٍد .
َو َلَّم ا َمِر َض ُذو الُّنوِن َمَر َض ُه اَّلِذي َم اَت ِفيِه ِقيَل َلُهَ :م ا َتشتِه ي؟ َقاَل َ :أْن َأْع ِر َفُه َقْبَل َم ْو ِتي ِبَلْح َظٍة،
َو َلَّم ا َم اَت ُو ِج َد َعَلى َقْبِر ِه (وفي رواية أخرى جبينه) َم ْك ُتوٌب َ :م اَت ُذو الُّنوِن َحِبيُب ِهَّللا ِم َن الَّشَر ِق
َقِتيُل هَّللا .
وقيل له عند النزع« :أوصنا» ،فقال« :ال تشغلوني فإني متعِّج ٌب من سر لطفه».
قال فتح بن شخرف« :دخلُت عليه عند موته ،فقلُت له :كيف تجدك؟ فقال:
َأموُت وما ماَتْت إليك َص باَبتي
وال قَّض يُت ِم ن ِص ْد ق ُح بك َأوطاري
ُم ناَي المنى كُّل المنى أنَت لي ُم ًنى
وَأْنَت الِغ نى كُّل الِغ نى ِع ْند أقتاري
وأنَت َم َد ى ُسْؤ لي وغايُة َر ْغ َبِتي
وَم وِض ُع آمالي وَم ْك ُنوُن إضماري
َتحَّم َل قلبي فيك ما ال َأُبُّثه
َو ِإْن طاَل ُسْقِم ي فيَك أو طال ِإْضراري
وَبْيَن ُض لوعي منَك َم ا َلَك َقْد بدا
وكان ذو النون قادًر ا على خرق العادة ،لم يحب من أحد أن يشغله أو يشوش وقته ،لم يَّدِع
المعرفة أو يحترف الُّز هد كعادة أهل زماننا ،مَّم ن امتطوا صهوَة خيل الدعوة ،وهم ُدونها ،وغير
مؤهلين لها.
فكان نوره ساطًعا بفضل األنس باهلل ،ولم يأنس بالناس ألنه كان يدرُك أنه ُسٌّم قاطع ،أليس هو
القائل« :ما أخلص عبٌد هلل إال أحَّب أن يكوَن في ُجٍّب ال ُيْعَر ُف » ،فقد عاش يرِّدد« :البالُء ملُح
المؤمن ،فإذا عدمه فسد حاله» ،كان ذو النون المصري عارًفا خائًفا ال عارًفا واصًفا ،يعاتب نفسه
إذا دعته إلى بلَّية.
إذا تكَّلم جال القلوب
كان ذو النون المصري من القليلين الذين يعلمون شأَن الَّسموات واألرض ،كان إذا تكَّلم جال
القلوب ،ينظُر بعين اليقين ،خاض بحاًر ا وقطع ِقفاًر ا ،وكابَد الشدائَد ،واحتمل األذى واالتهاَم من
بعض فقهاء زمانه ،وكان يقوُل« :لوال نقٌص دخَل على أهل الحديث والفقه؛ لكانوا أفضَل الناس في
زمانهم ،ولكن بذلوا علمهم ألهل الدنيا فحجُبوهم وتكَّبروا عليهم ...،فجعلوا العلم فًّخ ا للدنيا ،فما
أقبح هذا ،لقد جهلوا بعد علمهم ،وافتقروا بعد غناهم ،وذلوا بعد عّز هم ،وصاروا عبيًدا ألهل الدنيا،
بعدما جعلهم هللا أحراًر ا ،شربوا بكأس المفُتونين؛ فذهبت بعُقولهم .إَّن العلم سالح الدين ،فإذا طلبت
به الدنيا لم ينفعك» ،كأَّن ذا النون يعيُش بيننا اآلَن ،ويتحَّدث عن فقهاء يعيشون معنا ،إَّن توصيَفه
ذاك ينطبُق على كثيرين يتاجُر ون بعلمهم ،وبما يعرفون من الِّدين ،والدين منهم براء.
لقد خاطَر ُذو النون بنفسه ،وخرَق ظلماٍت بُنوِر ُم شاهداته؛ فأشَر َق وتجَّلى ،إذا كان يدرُك أَّن
الطريَق مستقيٌم ،والمحَّج ة واضحة.
كان جوابه على قدر ما رأى حينما يسألُه أحُدهم مسألًة ،وكان ال يعمُل إال عن علٍم ،وباإلسناد
أيًض ا ،يتمَّنى منازل األبرار.
ولما مرَض ُذو النون مرَض الموت ،قيَل له :ما تشتهي؟ قال :أن أعرَفُه (هللا) قبل موتي بلحظٍة.
عاش ُذو النون حياته يحاوُل ُم جاوزَة دار الظالمين ،ويستوحُش من ُم ؤانسة الجاهلين ،ويركُب
سفينة الِفطنة ،ويقلُع بريح اليقين ،ويرُسو على ُشطوط اإلخالص ،عابًر ا جسَر الهوى ،فاتًح ا باَب
الَّص بر .فقد رفَع حجاَب الغفلِة عن قلبه ،وُأْلِه م النظَر في عجيِب الصنائِع وبديِع العجائِب ،كان غاية
أمله الكشف عن مكُنون العلم ،والُّشرب من ِح َياض المعرفة.
وكان ُذو النون المصري يسافُر إلى هللا بالُج وع والعطش .داعًيا هللا أن يهَب إليه «يقيًنا ال توهنه
ُشبهة غفلٍة ،وال تهينه خطرة شٍّك »« ،اللهم اجعلنا من الذين تفَّكروا فاعتبروا ،ونظُر وا فأبصُر وا،
وسمعوا فتقلقلت قلوبهم بالمنازعة إلى طلب اآلخرة.»...
كان يسعى إلى أن يفتَح أبواَب مغالِق العمى بأنوار مفاتيح الضياء.
عرَف مسيَر الدنيا بُم وقناِت المعرفِة ،تزَّيَن بالعلم ،وسكَن بيَت الوَر ع ،فنال ُعلو الزاهد،
واستعذب مذَّلة النفوس ،وظفر بدار الجالل ،وتعَّلق بحجاب العَّز ة؛ فمنح منازل الُقرب والوالية.
وسرحت ُر وحه في العلى ،وحَّط قلبه في الملُكوت ،وجال بين سرائر حجب الجبروت ،ومالت
روحه في ظِّل نسيم المشتاقين ،حتى جعل قلبه معقوًدا بسالسل النور.
عاش ُذو النون المصري يغسُل «أوعية الجهل بصفو ماء الحياة في مسالِك النعيم» ،ونبهته
المعرفُة إلى كريم اآلالء.
وهناك سبعُة قبوٍر اشتهرت عند المصريين بقضاء الحاجة منها قبر ذي النون المصري ،وقبر
أبي الخير األقطع ،وهو «من أعالم التصوف الُّسني في القرن الرابع الهجري (343 - 223
للهجرة) ،وكان ينسج الخوص بيديه ،ال يدري كيف ينسجه .وحكاية قطع يده طويلٌة مشهورٌة.
وكانت الِّس باع والهوام تأوي إليه ،وتأنس به ،وسبب قطع يده أنه كان قد عاهد هللا أال يتناول بشهوة
نفسه شيًئا مشتهًيا ،فرأى يوًم ا بجبل اللكام شجرة زعرور( )1فاستحسنها فقطع منها غصًنا فتناول
منها شيًئا من الزعرور فذكر عهده وتركه ثم كان يقول« :قطعت غصًنا فُقطع مني عضو»،
وروى ابنه «عيسى» عنه أنه قال« :كنُت عبًدا أسود ،فضاق صدري في الملك؛ فدعوت هللا
فأعتقت؛ فكنت أجيء إلى اإلسكندرية فأحتطب وأتقَّو ت بثمنه ،وكنُت أدخل المسجد أقف على الخلق
وأعلم أنهم
ال يعلمونني شيًئا؛ ألنني عبد أسود ،فكنت أقف عليهم فيسهل هللا على لسانهم ما كنت أريد أن أسأل
عنه فأحفظه وأستعمل ذلك ،سمعت مرة حكاية يحيى ابن زكريا وما عملوا به ،فقلُت في نفسي إَّن
هللا ابتالني بشيء في بدني ،صبرُت ثم خرجُت إلى الثغر بطرطوس ،وكنُت آكُل المباحات ومعي
حجفة وسيف ،وكنُت أقاتُل العدو مع الناس فآواني الليل إلى غار هناك ،فقلُت في نفسي إنني أزاحُم
الطير في أكل المباحات؛ فنويُت أال آكل ،فمررُت بعد ذلك بشجرٍة فقطعُت منها شيًئا ،فلما أردُت أن
آكله ذكرُت ،فرميُته ،ثم دخلُت المغارة بالليل؛ فإذا هناك قطعوا الطريق ودخلوا إلى الغار قبلي ،ولم
أعلم فلَّم ا دخلُت إلى هناك ،فإذا نحن بصاحب الشرطة يطلبهم ،فدخل الغار فأخذهم وأخذني معهم؛
فقدموا جميًعا ،فقطعوا فلما قدمت قالت اللصوص لم يكن هذا األسود معنا وكان أهل الثغر
يعرفونني فغطى هللا عنهم ،حتى قطعوا يدي فلما مُّدوا رجلي قلُت يا رب هذه يدي قطعت لعقد
عقدته فما بال رجلي فكأنه كشف عنهم وعرفوني وقالوا هذا أبو الخير واغتُّم وا فلما أرادوا أن
يغمسوا يدي في الزيت امتنعت وخرجُت ودخلُت الغار وبُّت ليلًة عظيمًة فأخذني النوُم فرأيت النبي
صلى هللا عليه وسلم في النوم فقلُت :يا رسول هللا فعلوا بي وفعلوا فأخذ يدي المقطوعة فقَّبلها
فأصبحُت وال أجُد ألَم الجرح وقد عوفيت».
وهناك قبر أبي الربيع المالقي (نسبًة إلى مدينة ملقة األندلسية) ،وقبر القاضي بَّكار (عَّينه الخليفة
العباسي المتوكل على هللا قاضًيا على مصر سنة 246هجرية ،لما اشتهر عنه من العلم والُّز هد
والورع والفضل .وقد توفي في زمن الخليفة العباسي المعتمد على هللا).
وقبر القاضي كنانة ،وقبر أبي بكر الُم زني ،وقبر أبي الحسن الدينوري أحد علماء أهل الُّسنة
والجماعة ،ومن أعالم التصُّو ف الُّسني في القرن الرابع الهجري ،من كبار المشايخ ،وكان في
المعاملة مخلًص ا ،وعن النظر إلى سوى الحق معرًض ا ،وأقام في مصر وتوفي فيها عام 330
هجرية ،ومن عجائب ما ُر وي عنه عن ممشاذ الدينوري ،أنه قال« :خرجُت ذات يوٍم إلى
الَّص حراء ،فبينا أنا ماّر ؛ إذا أنا بنسٍر قد فتَح جناحيه ،فتعجبُت منه فاّطلعُت ،فإذا بأبي الحسن
الدينوري الَّص ائغ قائٌم يصِّلي والنسر يظلله».
ولذي النون كراماٌت كعادة المتصوفة وهي كثيرٌة ومنها أن جاءه «رجل يشكو إليه َد ْيًنا عليه نحو
سبعمائة دينار ،قال ذو النون :فأخذ حصاًة من األرض ،فقال للرجلُ :خ ْذها فإني أرُج و أن يكون
قضاء َد ْينك ،قال يوسف ابن الحسين :قال الرجل :جئُت بها إلى صديٍق لي من أصحاب الجوهر
«الجواهر»؛ فدفعتها إليه ،فقال :ليس هذا وقُت بيعها ،فإن صبرَت عليها ،رجوُت أن تبيَعها
بالِّض عف ،قال :فغبُت عنه شهًر ا ،ثم عدُت إليه ؛ فإذا هو باعها لي بألف وأربعمائة دينار».
وكان ذو النون حكيًم ا في شعره القليل ونثره الذي وصل إلينا متفِّر ًقا في الكتب ،ولعَّل زهَد ُه إلى
جانب ثقافته المتنوعة ،ومطالعة الحقيقة ،وتصوفه هو ما جعله صاحب حكمة عالية ،أليس هو
القائل« :الزهاد ملوك اآلخرة ،وهم فقراء العارفين» ،و« الزهد يوِّر ث الحكمة» ،و«ازهد في
الدنيا تَر العجب» ،و«َم ن قنع استراح من أهل زمانه ،واستطال على إخوانه».
لم يُكن يدِّنس ظاهره بالُم عارضات وال باطنه بالُم خالفات ،يحُّن قلبه إلى الشكوى ،ويرتاُح للِّذكر،
وقد ُقِّلَد بالعلم ،وُز ِّيَن بالحلم ،وُخ ِلَع بالعقل.
فالخالص لديه في اإلخالص ،فإذا أخلص تخَّلَص ،وال يتحقق اإلخالص إال «إذا سكنت معادن
األنوار في قلبك».
والبالء عنده ملح المؤمن ،وإذا عدم البالء فسد حاله.
كان ذو النون يسخو بنفسه ،ويمارس النصح واإلرشاد أينما ذهب ،يبدي الذي هو به ،ال يتكلف
أو يتصنع؛ ألنه يؤمن أن «الصدق ال يتم إال باإلخالص فيه والمداومة عليه» .قوًّيا في عزلة نفسه؛
كي يصل إلى المطلوب ،فكان يصبر عند وقوع البالء ،ويشكر عند حلول الرخاء .يلتذ بالخلوة؛
ألن َم ن يستأنس بها يستمكن من بساط الفراغ ،وكان يستحلي الوحدة ،ويستوحش من الصحبة.
كان ذو النون يصف حال الناس والعلماء كأنها ما نحن فيه اآلن على الرغم من مرور نحو ألف
سنة على وفاته« :أيها الناس هذا أوان ينصح فيه األحياء ،إذ األموات في غمرتهم يعمُه ون (َعَم َه
الَّساِئُر َ :تَح َّيَر َو َتَر َّدَد ِفي الَّطِر يِق َو َلْم َيْد ِر َأْيَن َيْذَهُب ) ،حين غدا الِّدين غريًبا منبوًذا ،وغدا أهله
ُغرباء ُم هيؤون قد أقبلوا على أكل الحرام ،وتركوا طلب الحالل ،ورفُض وا المعروف ،وأقبلوا على
المنكر ،وتركوا الجهاد فأظلمت األرض بعد نورها ،ورضيت العلماء من العلم بعلمهم ،فانتبهوا أيها
األموات أبناء األموات وإخوان األموات وجيران األموات ،وعن قليٍل أنتم أموات قد أخليتم الدور
وعَّم رتم القبور ،أال فقد برح الخفا لمن فهم كثر الجفا ،وخلت العلماء وقَّلت الخطباء ،وكثرت
الدواهي ،وكثر األشرار ،وقَّلت األخيار ،وافتكهوا (من اإلفك) اآلثام ،وقطعوا األرحام ،ورضوا
بالسالم ،وجلس بعضهم مجالس العلماء ،يقولون ما ال يعلمون ،عبيد الدنيا فهم لها متصِّنعون،
وعليها يتخَّشعون ،غنيهم فقير ،وجارهم ذليل ،ال يبالي غنيهم ما طوى عليه جاره من جوٍع أو
عري ،إن سألوا ألُّح وا ،وإن ُسئلوا شُّح وا ،لبسوا الثياب على قلوب الذئاب ،اتخذوا مساجد هللا التي
يذكر فيها اسمه لرفع أصواتهم وجمع إخوانهم ،وال تجالسوهم فليس هلل فيهم حاجة».
......
وأنا أكتُب عن ذي النون المصري ،عدُت إلى كتاب «الكوكب الُّدِّر ي في مناقب ذي النون
المصري» الذي أَّلفه محيي الدين بن العربي ،وقد قرأُت طبعتين من أربٍع صدرت حتى كتابتي
اآلن ،أولها من تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح ،وقد صدر عن مؤسسة االنتشار العربي سنة 2002
ميالدية في بيروت ،والثانية للدكتور عبد الحميد صالح حمدان (شقيق د .جمال حمدان) وصدرت
سنة 2006ميالدية عن دار الجزيرة للنشر والتوزيع في القاهرة ،أما الثالثة فهي للدكتور عاصم
إبراهيم الكَّيالي ،وصدرت عن دار الكتب العلمية سنة 2005ميالدية ،والرابعة فهي لُعقبة زيدان،
وصدرت سنة 2019ميالدية عن دار آرام للدراسات والنشر والتوزيع .ولم أَر الطبعتين
األخيرتين؛ ألنني لم أجد حاجًة للرُج وع إليهماُ ،خ صوًص ا أَّن حاجتي كانت ُم لَّح ًة لمتن النِّص الذي
أَّلفه ابن العربي ،وقد وجدُت نًّص ا فيه من الجمع والتعريف وحفظ سيرة وتراث ذي النون أكثر مَّم ا
فيه من رأي البن العربي في ذي النون ،خصوًص ا أَّن األول قد استفاد كثيًر ا من ُم نجز ذي النون،
وربما تكون تلك االستفادة هي الدافع األساسي وراء تأليف هذه الرسالة (الكتاب).
كما أن ابن العربي لم يَر في الجماعة الصوفية «أكثر سياحة واجتماًعا بأولياء هللا من ذي النون
المصري» ،وقد ظل كتاب ابن العربي هذا مخُطوًطا مجهواًل ومنسًّيا ،ولم يرد في مؤلفات ابن
العربي ،حتى اكُتشف وُحِّقَق وُنشر على الناس.
وبذلك نكون أمام ثالثة من كبار القوم الصوفي كتبوا عن ذي النون ،كل بطريقته ،اثنان
بالفارسية وهما جالل الدين الرومي ،وفريد الدين العطار ،ثم واحد بالعربية وهو محيي الدين بن
العربي ،ومع ذلك ما زال ذو النون المصري «مجهواًل » ،وغير مدروس أكاديمًّيا في الجامعات،
ولم ينشر حتى كتابتي هذه سوى كتابين له وهما «صفة المؤمن والمؤمنة» والذي اعتنى بنشره
رمزي سعد الدين دمشقية ،ثم «التفسير العرفاني للقرآن الكريم» ،وصدر سنة 2007ميالدية
لمؤلفه الفنان التشكيلي والباحث في التراث صديقي الَّشاعر محمود الهندي ،وكان ضمن مشروع
«األعمال الكاملة لذي النون» ،لكَّن الموت لم يمهله ليكمل ما بدأ من مشروعات مهمة كان قد أعلن
عنها.
جنس نباتي يتبع الفصيلة الوردية ،وهي شجرة شوكية ُم عِّم رة وزراعية ،وفيها شعيرات بيضاء ،تنمو في البلدان
العربية ،وقد تصل دورة حياتها إلى مئات السنين ،ولها قدرة على طرد األرواح الشريرة.
-1القصُص والمرويات:
لقيتني امرأة
بينا أنا في بعض مسيري إذ لقيتني امرأة فقالت لي :من أين أنت؟ قلت :رجل غريب ،فقالت لي:
ويحك وهل يوجد مع هللا أحزان الغربة؟ وهو مؤنس الغرباء ،ومعين الضعفاء؟ قال :فبكيت فقالت
لي :ما يبكيك؟ قلت :وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع لي نجاحه ،قالت :فإن كنت صادًقا فلم
بكيت؟ قلت :والصادق ال يبكي؟ قالت :ال ،قلت :ولم؟ قالت :ألن البكاء راحة للقلب ،وملجأ يلجأ
إليه ،وما كتم القلب شيًئا أحق من الشهيق والزفير ،فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب ،وهذا ضعف
األطباء بإبطال الداء ،قال :فبقيت متعجًبا من كالمها ،فقالت لي :ما لك؟ قلت :تعجبت من هذا
الكالم ،قالت :وقد نسيت القرحة التي سألت عنها؟ قلت :ال ما أنا بالمستغني عن طلب الزوائد،
قالت :صدقت حب ربك سبحانه ،واشتق إليه فإن له يوًم ا يتجلى فيه على كرسي كرامته ألوليائه
وأحبائه فيذيقهم من محبته كأًسا
ال يظمئون بعده أبًدا ،قال :ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق وهي تقول :سيدي إلى كم تخلفني
في دار ال أجد فيها أحًدا يسعفني على البكاء أيام حياتي -ثم تركتني ومضت.
ِص ْف لي األبدال
قلت لذي النون المصريِ :ص ْف لي األبدال ،فقال :إنك لتسألني عن دياجي الظلم ،ألكشفنها لك
عبد الباري ،هم قوم ذكروا هللا عز وجل بقلوبهم تعظيًم ا لربهم عز وجل ،لمعرفتهم بجالله ،فهم
حجج هللا تعالى على خلقه ،ألبسهم النور الساطع من محبته ،ورفع لهم أعالم الهداية إلى مواصلته،
وأقامهم مقام األبطال إلرادته ،وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته ،وطهر أبدانهم بمراقبته ،وطيبهم
بطيب أهل مجاملته ،وكساهم حلاًل من نسج مودته ،ووضع على رءوسهم تيجان مسرته ،ثم أودع
القلوب من ذخائر الغيوب فهي معلقة بمواصلته ،فهمومهم إليه ثائرة ،وأعينهم إليه بالغيب ناظرة.
قد أقامهم على باب النظر من قربه ،وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته ،ثم قال :إن أتاكم
عليل من فقري فداووه ،أو مريض من فراقي فعالجوه ،أو خائف مني فآمنوه ،أو آمن مني فحذروه،
أو راغب في مواصلتي فهنئوه ،أو راحل نحوي فرودوه ،أو جبان في متاجرتي فشجعوه ،أو آيس
من فضلي فعدوه ،أو راج إلحساني فبشروه ،أو حسن الظن بي فباسطوه ،أو محب لي فواظبوه ،أو
معظم لقدري فعظموه ،أو مستوصفكم نحوي فأرشدوه ،أو مسيء بعد إحسان فعاتبوه ،ومن واصلكم
فَّي فواصلوه ،ومن غاب عنكم فافتقدوه ،ومن ألزمكم جناية فاحتملوه ،ومن قَّص ر في واجب حقي
فاتركوه ،ومن أخطأ خطيئة فناصحوه ،ومن مرض من أوليائي فعودوه ،ومن حزن فبشروه ،وإن
استجار بكم ملهوف فأجيروه.
يا أوليائي لكم عاتبت ،وفي إياكم رغبت ،ومنكم الوفاء طلبت ،ولكم اصطفيت وانتخبت ،ولكم
استخدمت واختصصت؛ ألنني ال أحب استخدام الجَّبارين ،وال مواصلة المتكِّبرين ،وال مصافاة
المخلطين ،وال مجاوبة المخادعين ،وال قرب المعجبين ،وال مجالسة البَّطالين ،وال مواالة الشرهين.
يا أوليائي جزائي لكم أفضل الجزاء ،وعطائي لكم أجزل العطاء ،وبذلي لكم أفضل البذل،
وفضلي عليكم أكثر الفضل ،ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ،ومطالبتي لكم أشد المطالبة ،أنا مجتني
القلوب ،وأنا عالم الغيوب ،وأنا مراقب الحركات ،وأنا مالحظ اللحظات ،أنا المشرف على
الخواطر ،أنا العالم بمجال الفكر ،فكونوا ُدعاة إلَّي ،ال يفزعكم ذو سلطان سواي ،فمن عاداكم
عاديته ،ومن واالكم واليته ،ومن آذاكم أهلكته ،ومن أحسن إليكم جازيته ،ومن هجركم قليته.
قال الشيخ رحمه هللا :وهم الشغفون به وبوده ،والكلفون بخطابه وعهده.
وضُعوُه على أفئدتهم فانفرجْت
حدثنا أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري قال :إن هلل عز وجل لصفوة من خلقه ،وإن هلل
عز وجل لخيرة ،فقيل له :يا أبا الفيض ،فما عالمتهم؟ قال :إذا خلع العبد الراحة ،وأعطى المجهود
في الطاعة ،وأحب سقوط المنزلة .ثم قال:
منع القرآن بوعده ووعيده
مقل العيون بليلها أن تهجعا
فهموا عن الملك الكريم كالمه
فهما تذل له الرقاب وتخضعا
وقال له بعض من كان في المجلس حاضًر ا :يا أبا الفيض ،من هؤالء القوم يرحمك هللا؟ فقال:
ويحك ،هؤالء قوم جعلوا الركب لجباههم وساًدا ،والتراب لجنوبهم مهاًدا ،هؤالء قوم خالط القرآن
لحومهم ودماءهم ،فعزلهم عن األزواج وحركهم باإلدالج ،فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت،
وضموه إلى صدورهم فانشرحت ،وتصَّدعت هممهم به فكدحت ،فجعلوه لظلمتهم سراًج ا ،ولنومهم
مهاًدا ،ولسبيلهم منهاًج ا ،ولحجتهم أفالًج ا ،يفرح الناس ويحزنون ،وينام الناس ويسهرون ،ويفطر
الناس ويصومون ،ويأمن الناس ويخافون ،فهم خائفون حذرون ،وجلون مشفقون مشمرون،
يبادرون من الفوت ،ويستعدون للموت ،لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب،
وخطر ما يوعدون من الثواب ،درجوا على شرائع القرآن ،وتخلصوا بخالص القربان ،واستناروا
بنور الرحمن ،فما لبثوا أن أنجز لهم القرآن موعوده ،وأوفى لهم عهوده ،وأحلهم سعوده ،وأجارهم
وعيده ،فنالوا به الرغائب ،وعانقوا به الكواعب ،وأمنوا به العواطب ،وحذروا به العواقب ،ألنهم
فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية ،ونظروا إلى ثواب اآلخرة بعين راضية ،واشتروا الباقية بالفانية،
فنعم ما اتجروا ،ربحوا الدارين ،وجمعوا الخيرين ،واستكملوا الفضلين ،بلغوا المنازل بصبر أيام
قالئل ،قطعوا األيام باليسير ،حذار يوم قمطرير ،وسارعوا في المهلة ،وبادروا خوف حوادث
الساعات ،ولم يركبوا أيامهم باللهو واللذات ،بل خاُض وا الغمرات للباقيات الصالحات ،أوهن وهللا
قوتهم التعب ،وغير ألوانهم النصب ،وذكروا ناًر ا ذات لهب ،مسارعين إلى الخيرات ،منقطعين عن
اللهوات ،بريئون من الريب والخنا ،فهم خرس فصحاء ،وعمي بصراء ،فعنهم تقصر الصفات،
وبهم تدفع النقمات ،وعليهم تنزل البركات ،فهم أحلى الناس منطًقا ومذاًقا ،وأوفى الناس عهًدا
وميثاًقا ،سراج العباد ،ومنار البالد ،مصابيح الدجى ،ومعادن الرحمة ،ومنابع الحكمة ،وقوام
األمة ،تجافت جنوبهم عن المضاجع ،فهم أقبل الناس للمعذرة ،وأصفحهم للمغفرة ،وأسمحهم
بالعطية ،فنظروا إلى ثواب هللا عز وجل بأنفس تائقة ،وعيون رامقة ،وأعمال موافقة ،فحلوا عن
الدنيا مطي رحالهم ،وقطعوا منها حبال آمالهم ،لم يدع لهم خوف ربهم عز وجل من أموالهم تليًدا
وال عتيًدا ،فتراهم لم يشتهوا من األموال كنوزها ،وال من األوبار خزوزها ،وال من المطايا
عزيزها ،وال من القصور مشيدها ،بلى ،ولكنهم نظروا بتوفيق هللا تعالى لهم وإلهامه إياهم،
فحركهم ما عرفوا بصبر أيام قالئل ،فضموا أبدانهم عن المحارم ،وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم،
وهربوا بأنفسهم عن المآثم ،فسلكوا من السبيل رشاده ،ومهدوا للرشاد مهاده ،فشاركوا أهل الدنيا
في آخرتهم ،عزوا عن الرزايا ،وغصص المنايا ،هابوا الموت وسكراته وكرباته وفجعاته ،ومن
القبر وضيقه ،ومنكر ونكير ومن ابتدارهما وانتهارهما وسؤالهما ،ومن المقام بين يدي هللا عز
ذكره ،وتقدست أسماؤه.
وغابْت عن النظر
انتهيُت إلى منظرة عالية هناك ،فتوضأُت ورجعُت ،فوقع نظري على المنظرة ،فرأيُت جارية في
غاية الحسن والجمال ،أردُت امتحانها ،فقلُت :لَم ن أنِت يا جارية؟ قالت :يا ذا النون ،لَّم ا رأيتك
بادئ الرأي ظننتك مجنوًنا ،فلما صرَت ُقربنا ظننتك عالًم ا ،ثم لَّم ا صرَت أقرب ظننتك عارًفا،
واآلن تبين الحال ،وانكشف األمر فما أنت بمجنون ،وال عالم ،وال عارف .قلُت :كيف هذا الشأن؟
قالت :فلو كنَت مجنوًنا ما توضأَت ،ولو كنَت عالًم ا ما نظرَت إلى غير محرمك ،ولو كنَت عارًفا
ما نظرَت إلى غير هللا ،وما التفَّت إلى ما سوى الحق ،جل وعال .قالت هذا الكالم ،وغابت عن
النظر.
أنَت جاسوس
صلى بأهل َطَر ُسوس ( هي مدينة تركية تقع جنوب البالد على ساحل البحر األبيض المتوسط،
تابعة لمحافظة مرسين ،وتبعد حوالي خمسة عشر كيلو متًر ا عن مدينة مرسين و أربعين كيلو متًر ا
عن مدينة أضنة ) الغداة ،فوقع النفير وصاحوا ،فلم ُيَخفف الصالة ،فلما فرغوا قالوا« :أنت
جاسوس» قال« :وكيف ذاك؟» فقالوا« :صاح النفير ولم تخفف» .فقال« :إنما ُسميت صالة ألنها
اتصال باهلل تعالى ،وما حسبت أن أحًدا يكون في الصالة ،فيقع في سمعه غير ما يخاطب هللا به».
ودار الَّسرير
ُحِك ي عن أبي جعفر األعور أنه قال :كنُت عند ذي النون المصري ،فتذاكرنا حديث طاعة
األشياء لألولياء ،فقال ذو النون :من الطاعة أن أقول لهذا السرير يدور في أربع زوايا البيت ،ثم
يرجع مكانه ،فيفعل ،قال :فدار السرير في أربع زوايا البيت ،وعاد إلى مكانه ،وكان هناك شاب
فأخذ يبكي حتى مات في الوقت.
استلبها الوَلُه
رأيت في تيه بني إسرائيل سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن ،شاخصًة ببصرها نحو
السماء ،فقلت :السالم عليك يا أختاه ،قالت :وعليك السالم يا ذا النون ،قلت :من أين عرفتني؟
قالت :إن هللا خلق األرواح قبل األجساد بألفْي عام ،ثم أدارها حول العرش .فما تعارف منها
ائتلف ،وما تناكر منها اختلف ،فعرفت روحي روحك في ذلك الجوالن.
قلت :أراِك حكيمة ،فعلميني مَّم ا علمك هللا.
قالت :يا أبا الفيض ،ضع على جوارحك ميزان القسط :حتى يذوب كل ما كان لغير هللا .ويبقى
القلب نقًّيا ال شيء فيه غيره ،فحينئذ يقيمك على الباب .ويوليك والية جديدة ،ويأمر الخزان لك
بالطاعة.
قلت :زيديني.
قالت :خذ من نفسك لنفسك ،وأطع هللا إذا خلوتُ .يجبك إذا دعوت ،والسالم».
-2اإلشارات:
-الُّص وِفي هوَ« :م ن ِإذا نطق أبان نطقه َعن اْلَح َقاِئقَ ،و ِإن سكت نطقت َعنُه اْلَج َو اِر ح ِبقطع
العالئق».
َ -م ْه َم ا َتَصَّو َر ِفي َو ْه ِم َك َ ،فاُهلل ِبِخ الِف َذِلَك .
-المحبون (وفي رواية أخرى المجنون) في الدنيا على أربع طبقات :منهم إذا ذكر حبيبه أَّن ،
ومنهم إذا ذكر حبيبه حَّن ،ومنهم إذا ذكر حبيبه َر ّن ،ومنهم إذا ذكر حبيبه ُج َّن .
-إذا صَّح ت المناجاة بالقلوب استراحت الجوارح.
-كيف ال أبتهج بك سروًر ا ،وقد كنت أكدح ببابك؛ حتى جعلتني من أهل التوحيد.
-ذبحهم الليل بسكاكين السهر.
ُ -سئل ذو النون :لم أحب الناس الدنيا؟ قال« :ألن هللا تعالى جعلها خزانة أرزاقهم فمدوا أعينهم
إليها».
-ثالثة موجودة ،وثالثة مفقودة :العلم موجود ،والعمل به مفقود ،والعمل موجود ،واإلخالص فيه
مفقود ،والحب موجود ،والصدق فيه مفقود .
-ما أكلُت طعاَم امرٍئ بخيٍل وال مَّناٍن إاَّل وجدُت ثقله على فؤادي أربعين صباًح ا.
ُ -سئل ذو النونَ :م ن أدوم الناس عناًء ؟ قال :أسوؤهم خلًقا .قيل :وما عالمة سوء الخلق؟ قال:
كثرة الخالف.
ُ -سِئَل َذو الُّنوِن َعِن اْلَم َح َّبِة َ ،فَقاَل ُ :قْر ُب اْلَقْلِب ِم َن اْلَم ْح ُبوِب َعَلى الُّطَم ْأِنيَنِة َو الُّشُكوِر .
-المعرفة :إنها على ضروب ثالثة :هي معرفة العامة ،ومعرفة المتكلمين والحكماء ،ومعرفة
الخاصة من األولياء والمقربين الذين يعرفون هللا بقلوبهم ،وهي أسمى وأيقن ألنها ال تحصل عن
التعلم والكسب واالستدالل ولكنها إلهام يفيضه هللا على قلب عبده ،وعنده أن بين الرب والعبد حًّبا
متباداًل ،وَم ن ذاق الحب اإللهي عرف الذات اإللهية وتحقيق وحدانيتها وأصبح من العارفين
المقربين.
ِ -قيَل َلُهَ :أُّي الَّناِس َأْقَر ُب ِإَلى اْلُكْفِر ؟ َقاَل ُ :ذو َفاَقٍة ال َص ْبَر َلُه.
َ -م ْن َلْم َيُكْن َلُه َعَلى َنْفِسِه ُح ْك ٌم ال َيِح ُّل َلُه َأْن َيْح ُكَم َعَلى َأَح ٍد.
-اُأْلنس ِباهَّلل نور َساِط ع واُألنس بالخلق غم َو اقع.
َ -م ْن َج ِه َل َقْد َر ُه َهَتَك ِس ْتَر ُه.
َ -م ْن َر اَقَب اْلَعَو اِقَب َسِلَم .
ِ -بأَّو ِل قدٍم تطلبه ُتْد ِر كُه وتجده.
َ -م ن لم يتأَّدب بأستاٍذ فهو بَّطال.
-اطلب دواءك مَّم ن ابتالك.
-الصْد ق سيف هللا ِفي أرضهَ ،م ا وضع على َشْي ء ِإاَّل قطعه.
َ -م ن تزين ِبَعَم ِلِه َكاَنت َحَسَناته سيئات .
-اْلَخ ْو ف َر ِقيب اْلَعَم ل والرجاء َشِفيع المحن .
ِ -م ْفَتاح اْلِع َباَد ة الفكرة ،وعالمة اْلهوى ُم َتابَعة الَّشَهَو ات ،وعالمة الَّتَو ُّكل اْنِقَطاع المطامع .
-االستئناس بالناس عالمٌة من عالمات اإلفالس.
َ -كاَن الرجل من أهل اْلعلم يْز َد اد ِبِع ْلِم ِه بغًض ا للدنيا وتركا َلَه ا َو اْلَيْو م يْز َد اد الرجل ِبِع ْلِم ِه للدنيا
حًّبا َو لها طلًبا َو َكاَن الرجل َم اله على علمه َو اْلَيْو م تكسب الرجل ِبِع ْلِم ِه َم ااًل َو َكاَن يرى على
َص احب اْلعلم ِز َياَد ة ِفي َباِط نه َو َظاهره َو اْلَيْو م يرى على كثير من أهل اْلعلم َفَساد اْلَباِط ن َو الَّظاِه ر .
-صدور األحرار قبور األسرار.
-شغلي بنفسي استغرق وقتي.
َ -م ن نظر إلى سلطان هللا ذهب سلطان نفسه؛ ألن النفوس كلها حقيرة عند هيبته.
-عن يوسف بن الحسين قال :سمعت ذا النون يقول :العطايا مواهب ،والطاعات مكاسب،
والناس رجالن :دارج وواصل .فالدارج سائر على طريق اإليمان .والواصل :طائر بقوة المعرفة،
ولكل دليل .فدليل اإليمان :العلم .ودليل المعرفة :هللا تعالى ،فمتى يلحق السائر الطائر؟
-وقال :وسمعته يقولَ« :م ن وثق بالمقادير استراح ،وَم ن صحح استراح ،وَم ن تقرب قرب،
وَم ن صفى صفي له ،وَم ن توكل وفق ،وَم ن تكلف ما ال يعنيه ضيع ما يعنيه».
-عالمة السعادة ثالث :متى ما ِز يَد في ُعمره نقص من ِح رصه ،ومتى ِز يَد في ماله ِز يَد في
سخائه ،ومتى ِز يَد في َقْد ره ِز يَد في تواضعه .وعالمة الشقاء ثالث :متى ما ِز يَد في عمره ِز يَد في
ِح رصه ،ومتى ما ِز يَد في ماله ِز يَد في ُبخله ،ومتى ما ِز يَد في َقْد ره ِز يَد في َتَج ُّبره وقهِر ه وتكُّبره.
َ -ثالُث ِخ َص اٍل ِم َن اْلَكَر ِم ُحْس ُن اْلَم ْح َض ِر َ ،و اْح ِتَم اُل الَّز َّلِة َ ،و ِقَّلُة اْلَم الَم ِة .
-وقال :أَم ا إّنه من الحمق التماس اإلخوان بغير الوفاء ،وطلب اآلخرة بالرئاسة ،ومودة النساء
بالغلظة.
َ -م ن ذبح حنجرة الطمع بسيف اليأس ،وردم خندق الِح رصَ ،ظِفر بكيمياء الخدمة .وَم ن استقى
بحبل الُّز هد على َد ْلو العروق استقى من ُجِّب الحكمة ،وَم ن سلك أودية الَكَم د َج َنى حياَة األبد ،وَم ن
حصد ُعشب الذنوب بمنجل الورع أضاءت له روضة االستقامة ،وَم ن قطع لسانه بشفرة الصمت
وجد عذوبة الراحة ،وَم ن تدّر ع ِدرع الصدق قِو َي على مجاهدة عسكر الباطل ،وَم ن فرح بمدحة
الجاهل ألبَسه الشيطاُن ثوَب الحماقة.
-ال يشغلنك عيوب الناس عن عيب نفسك ،لسَت عليهم برقيٍب ،ثم قال :إَّن أحَّب عباد هللا أعقلهـم
عنه ،وإنما ُيستدُّل على تمام عقل الرجل وتواضعه بحسن استماعه للُم حِّدث ،وإن كان به عالًم ا،
وسرعة قبوله للحق ،وإن كان مَّم ن دونه ،وإقراره على نفسه بالخطأ وإذا جاء منه.
-جميُع األشياء ال ُتْد َر ُك إال بالعقل.
َ -م ن نظر في عُيوب الناس ،عمي عن عُيوب نفسه ،وَم ن عني بالفرَد ْو س والنار ُشِغ ل عن القيل
والقال ،وَم ن هرَب من الناس سلم من شِّر هم ،وَم ن شكَر المزيَد ِز يد له.
-لو أَّن الخلق عرفوا ُذَّل أهل المعرفة في أنفسهم لحثوا التراب على رءوسهم وفي وجوههم،
فقال رجل كان حاضًر ا في المجلس «رجل مؤيد» ،فذكرت ذلك لطاهر المقدسي فقال :سقى هللا أبا
الفيض ،حًّقا ما قال ،ولكني أقول :لو أبدى هللا نور المعرفة للزاهدين والعابدين ،والمحتجين عنه
باألحوال الحترقوا واضمحلوا ،وتالشوا حتى كأن لم يكونوا.
-ما أعز هللا عبًدا بعز هو أعز له من أن يذله على ذل نفسه ،وما أذل هللا عبًدا بذل هو أذل له
من أن يحجبه عن ذل نفسه.
َ -م ن اَّدعى مقاًم ا ُح ِج َب به عن هللا.
-ليس عندي بذي ُلٍّب َم ن داَس في أمر ُدنياه وحمق في أمر آخرته ،وال َم ن سَّفه في مواطن
ُح لمه ،وال َم ن تكَّبر في مواطن تواضعه ،وال َم ن فقدت منه التقوى في مواطن طمعه ،وال َم ن
غضب من حٍّق إْن قيل له ،وال َم ن زهد فيما يرغُب العقالُء فيه ،وال َم ن رغب فيما يزهُد األكياُس
في مثله ،وال َم ن استقل الكثير من خالقه ،واستكثر قليل الُّشكر من نفسه ،وال َم ن طلب اإلنصاَف
من غيره لنفسه ،ولم ينصف من نفسه غيره ،وال َم ن نسي هللا في مواطن طاعته ،وذكر هللا في
مواضع الحاجة إليه ،وال َم ن جمع العلم فُعِر َف به ثم آثر عليه هواه عند ُم تعِّلمه ،وال َم ن قَّل منه
الحياُء من هللا على جميل ستره ،وال َم ن عقل الُّشكر عند إظهار نعمه ،وال َم ن عجز عن ُم جاهدة
عدو لنجاته إذ صبر عدوه على ُم جاهدته ،وال َم ن جعل ُم روءته لباسه ،ولم يجعل أدبه وورعه
وتقواه لباسه ،وال َم ن جعل علمه ومعرفته تظُّر ًفا وتزُّيًنا في مجلسه ،ثم قال ذو النون :أستغفر هللا
إَّن الكالم كثير ،وإن لم تقطعه لم ينقطع وقام به.
-قال ذو النون :قلُت لرجٍل من العباد أوصني .فقال :عليك بمعاقبة نفسك إذا دعتك إلى بلية،
ومنابذتها إذا دعتك إلى الفترة؛ فإن لها مكًر ا وخداًعا ،فإذا فعلت هذا الفعل؛ أغناك عن المخلوقين،
وسالك عن مجالسة الفاسقين.
َ -تَو َّسُدوا الَم ْو َت ِإَذا ِنْم ُتْم َ ،و اْج َعُلوُه ُنْص َب َأْع ُيِنُكْم ِإَذا ُقْم ُتْم ،كونوا كأنكم ال حاجة لكم إلى الدنيا،
وال ُبَّد لكم من اآلخرة.
َ -م ن طلب مع الخبز ملًح ا لم يفلح في طريق القوم.
-قال ذو النون لرجٍل عند توديعه :ال تُكن خصًم ا لنفسك على ربك مستزيده في رزقك وجاهك،
ولكن خصًم ا لربك على نفسك ،وال تلقين أحًدا بعين االزدراء والتصغير وإن كان مشرًكا؛ خوًفا من
عاقبتك وعاقبته؛ فلعلك تسلب المعرفة ويرزقها..
-ثالٌث من عالمات الرضا :ترك االختيار قبل القضاء ،وفقدان المرارة بعد القضاء ،وهيجان
الحب في حشو البالء.
َ -م ن قنع استراح من أهل زمانه ،واستطال على أقرانه.
َ -م ن وثق بالمقادير لم يغتم.
-قال يوسف بن الحسين الرازي :سمعت ذا النون المصري يقول :أنا أسير قدرتك؛ فاجعلني
طليق رحمتك.
-ثالٌث من عالمات اإلخالص :استواء المدح والذم من العاَّم ة ،ونسيان رؤية األعمال في
األعمال ،ونسيان اقتضاء ثواب العمل في اآلخرة .
-أدب اﻟﻌﺎرف ﻓﻮق ﻛﻞ أدب؛ ألن معروفه مؤدب قلبه.
-سمعُت أشياخنا يقولون :إذا عرض لك أمران ال تدري في أيهما الرشاد فانظر إلى أقربهما إلى
هواك فخالفه ،فإن الحق في مخالفة الهوى .
ُ -ذِك َر الَّشوُق عند ذي النون فقال :ال يسُكُن جارحًة إال تركَه ا رميًم ا.
-ما العيُش عندي إال عيُش الُم شتاقين ألنهم ما داموا محِّبين مجَّر دين عن لباس الَّشوق فهم
مكُدودون حتى إذا تدَّر عوا ِخ َلَع الَّشوِق طاشت هُم ومهم ،ورتعوا في رياِض الُّسرور ،وُر فعْت عنهم
المكابدات.
ِ -بُح سن الصوت ُتسَتماُل أعَّنة األبصار.
-الحكمُة ُتوِّر ُث النظَر في العواقب.
-مْن َج ِه َل قدره هتك ستره.
َ -قاَل ُذو الُّنونَ :م ن أنس بالخلق فقد استمكن من ِبَساط الفراعنةَ ،و من غيب َعن ُم اَل حَظة َنفسه
فقد استمكن من اِإْل ْخ اَل صَ ،و َم ن َكاَن َح ظه ِفي اَأْلْش َياء ُهَو اه اَل ُيَباِلي َم ا َفاَتُه ِم َّم ا ُهَو دونه.
-ما خلع هللا على عبد خلعة أحسن وال أشرف من العقل ،وال قلده قالدة أجمل من العلم ،وال
زينه بزينة أفضل من الحلم ،وكمال الخلق ،فَم ن أدرك طريق اآلخرة ،فليكثر مساءلة الحكماء،
ومشاورتهم ،وليكن أول شيء يسأل عنه :العقل؛ ألن جميع األشياء ال تدرك إال بالعقل.
-قال ذو النونَ :م ن تطأطأ لقط رطًبا ،وَم ن تعالى لقي عطًبا.
-أكثر الناس إشارة إلى هللا في الظاهر أبعدهم من هللا.
-حرمة الجليس أن َتُسَّر ه فإن لم تُسّر ه فال تسوءه.
َ -م ن لم يُكن له على نفسه َح َكم ال يحُّل له أن يحُكَم على أحٍد.
-كل مطيع مستأنس ،وكل عاص مستوحش ،وكل محب ذليل ،وكل خائف هارب ،وكل راج
طالب .
-إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها ،ومن الحكمة إشارة إليها .
-الُحُّب ينطق ،والحياُء ُيْسِك ُت ،والخوف يقلُق ،والُم حُّب بين هذه الثالثة هالٌك ،وهذا من باب
تعب المحّب .
-الَّشوُق ِم فتاُح باب المحَّبة ،واللساُن ِم فتاُح باب الَّشوق.
-سأل رجل ذا النون المصري عن سؤال فقال له ذو النون :قلبي لك مقفل فإن فتح لك أجبتك،
وإن لم ينفتح لك فاعذرني واتهم نفسك .
-لئن مددُت يدي إليك داعًيا لطال ما كفيتني ساهًيا فال أقطع منك رجائي بما عملت يداي ،حسبي
من سؤالي علمك بي.
-من المحال أن يحسن منك الظن ،وال يحسن منه المن ،قال وسمعته يقول :كيف أفرح بعملي
وذنوبي مزدحمة أم كيف أفر بأملي وعاقبتي مبهمة؟ قال :وسمعته يقول :الكِّيس َم ن بادر بعمله،
وسَّو ف بأمله واستعد ألجله .
-حَّر م هللا الزيادة في الِّدين ،واإللهام في القلب ،والفراسة في الخلق على ثالثة نفر :على بخيل
بدنياه ،وسخي بدينه ،وسيئ الخلق مع هللا .فقال له رجل :بخيل بالدنيا عرفناه ،وسخي بدينه عرفناه،
صف لنا سيئ الخلق مع هللا .قال :يقضي هللا قضاًء ويمضي قدًر ا وينفذ علًم ا ويختار لخلقه أمًر ا،
فترى صاحب سوء الخلق مع هللا مضطرًبا في ذلك كله غير راٍض به ،دائًم ا شكواه من هللا إلى
خلقه فما ظنك .
-تنال المعرفة بثالث :بالنظر في األمور كيف دبرها ،وفي المقادير كيف قدرها ،وفي الخالئق
كيف خلقها.
-قرأت في باب برابي مصر بالسريانية فتدبرته فإذا فيه يقدر المقدرون ،والقضاء يضحك.
-إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها ،ومن الحكمة إشارة إليها.
-أتى رجل من أهل البصرة ذا النون فسأله :متى تصح لي عزلة الخلق؟ قال :إذا قويت على
عزلة نفسك ،قال :فمتى يصح طلبي للزهد؟ قال :إذا كنت زاهًدا في نفسك هارًبا من جميع ما
يشغلك عن هللا؛ ألن جميع ما شغلك عن هللا هي دنيا.
-قال يوسف بن الحسين :وسألت ذا النون :ما عالقة اآلخرة في هللا؟ قال :ثالث :الصفاء،
والتعاون ،والوفاء .فالصفاء في الِّدين ،والتعاون في المواساة ،والوفاء في البالء.
-سئل ذو النون عن سماع العظة الحسنة والنغمة الطيبة ،فقال :مزامير أنس في مقاصير قدس
بألحان توحيد في رياض تمجيد بمطربات الغواني في تلك المعاني المؤدية بأهلها إلى النعيم الدائم
في مقعد صدق عند مليك مقتدر .ثم قال :هذا لهم الخبر فكيف طعم النظر.
ُ -تَناُل اْلَم ْعِر َفُة ِبَثاَل ٍثِ :بالَّنَظِر ِفي اُأْلُم وِر َكْيَف َد َّبَر َهاَ ،و ِفي اْلَم َقاِديِر َكْيَف َقَّدَر َها َو ِفي اْلَخ اَل ِئِق
َكْيَف َخ َلَقَه ا .
ِ -إْن َسَكَّت َعِلَم َم ا ُتِر يُدَ ،و ِإْن َنَطْقَت َلْم َتَنْل ِبُنْط ِقَك َم ا اَل ُيِر يُدَ ،و ِع ْلُم ُه ِبُم َر اِدَك َيْنَبِغ ي َأْن ُيْغِنَيَك
َعْن َم ْس َأَلِتِه َأْو ُيْنِج َيَك َعْن ُم َطاَلَبِتِه .
ِ -إَّن الَّطِبيَعَة الَّنِقَّيَة ِه َي اَّلِتي َيْك ِفيَه ا ِم ن اْلَعَظَم ِة َر اِئَح ُتَه اَ ،و ِم َن اْلِح ْك َم ِة ِإَشاَر ٌة ِإَلْيَه ا .
َ -م ْن َأْد َر َك َطِر يَق اآْل ِخ َر ِة َفْلُيْك ِثْر َم ْس َأَلَة اْلُح َكَم اِء َو مَشاَو َر َتُهْم َ ،و َلِك ْن َأَّو ُل َشْي ٍء ُيْس َأُل َعْنُه اْلَعْقُل؛
َأِلَّن َج ِم يَع اَأْلْش َياِء اَل ُتْد َر ُك ِإاَّل ِباْلَعْقِل َ ،و َم تى َأَر ْد َت اْلِخ ْد َم َة ِهَّلِل َفاْع ِقْل ِلَم َتْخ ُدُم ُثُّم َأْخ ِد ْم .
ُ -سِئَل ُذو الُّنوِن َ :م ْن َأْد َو ُم الَّناِس َعَناًء ؟ َقاَل َ :أْس َو ُؤ ُهْم ُخ ُلًقاِ ،قيَل َ :و َم ا َعاَل َم ُة ُسوِء اْلُخ ُلِق َ ،قاَل :
َكْثَر ُة الِخ اَل ِف .
ِ -باْلُعُقوِل ُيْج َتَنى َثَم ُر اْلُقُلوِبَ ،و ِبُحْس ِن الَّص ْو ِت ُتْس َتَم اُل َأِع َّنُة اَأْلْبَص اِر َ ،و ِبالَّتْو ِفيِق ُتَناُل اْلَح ْظ َو ُة
َو ِبُص ْح َبِة الَّص اِلِح يَن َتِط يُب اْلَحَياُةَ ،و اْلَخْيُر َم ْج ُم وٌع ِفي اْلَقِر يِن الَّص اِلِح ِإْن َنِس يَت َذَّكَر َك َو ِإْن َذَكْر َت
َأَعاَنَك .
-اْلَعاِر ُف ُم َتَلِّو ُث الَّظاِه ِر َص اِفي اْلَباِط ِن َ ،و الَّز اِه ُد َص اِفي الَّظاِه ِر ُم َتَلِّو ُث اْلَباِط ِن .
ُ -سِئَل ذو النونَ :م ا َأَساُس َقْس َو ِة اْلَقْلِب ِلْلُم ِر يِد؟ َفَقاَل َ :بْح ُثُه َعْن ُعُلوِم ِر َض ى َنْفِسِه ِبَتْعِليِم َه ا ُدوَن
اْس ِتْعَم اِلَه ا َو اْلُو ُص وِل ِإَلى َح َقاِئِقَه ا.
َ -م ْك ُتوٌب ِفي الَّتْو َر اِةَ :م ْلُعوٌن َم ْن ِثَقُتُه ِإْنَساٌن ِم ْثُلُه .
َ -د اَر ْت َر َح ى اِإْل َر اَدِة َعَلى َثاَل ٍثَ :عَلى الِّثَقِة َبَو ْعِد ِهَّللا َو الِّر َض ا َو َد َو اِم َقْر ِع َباِب ِهَّللا .
َ -نُعوُذ ِباِهَّلل ِم َن الَّنَبِط ِّي ِإَذا اْس َتْعَر َب .
َ -يُقوُل ذو النون :رَأْيُت ِفَي َبِر َّيٍة َم ْو ِض ًعا َلُه َد ْنَد َر ٌة َفِإَذا ِك َتاٌب ِفيِه َم ْك ُتوٌب :اْح َذُر وا اْلَعِبيَد اْلُم ْعَتِقيَن
َو اَأْلْح َد اَث اْلُم َتَقِّر ِبيَن َ ،و اْلُج ْنَد اْلُم َتَعِّبِديَن َ ،و الَّنَبَط اْلُم ْس َتْعِر ِبيَن .
-اْج ِلْس ِإَلى َم ْن ُتَكِّلُم َك ِص َفُتُه َو اَل َتْج ِلْس ِإَلى َم ْن ُيَكِّلُم َك ِلَساُنُه .
ُ -طوَبى ِلَم ْن َكاَن ِش َعاُر َقْلِبِه اْلَو َر ُعَ ،و َلْم ُيْعِم َبَصَر َقْلِبِه الَّطَم ُع َ ،و َكاَن ُمَح اِس ًبا ِلَنْفِسِه ِفيَم ا َص َنَع .
ِ -إَّنَم ا ُيْخ َتَبُر ُذو اْلَبْأِس ِع ْنَد الِّلَقاِء َ ،و ُذو اَأْلَم اَنِة ِع ْنَد اَأْلْخ ِذ َو اْلَعَطاِء َ ،و ُذو اَأْلْه ِل َو اْلَو َلِد ِع ْنَد اْلَفاَقِة
َو اْلَباَل ِء َ ،و اِإْل ْخ َو اُن ِع ْنَد َنَو اِئِب اْلَقَض اِء .
-اْلَباَل ُء ِم ْلُح اْلُم ْؤ ِم ِن ِإَذا ُعِد َم اْلَباَل َء َفَسَد َح اُلُه.
ُ -سِئَل َعْن َأَّو ِل َد َر َج ٍة َيْلَقاَها اْلَعاِر ُف َ ،قاَل « :الَّتَح ُّيُر ُثَّم ااِل ْفِتَقاُر ُ ،ثَّم ااِل ِّتَص اُلُ ،ثَّم اْنَتَه ى َعْقُل
اْلُعَقاَل ِء ِإَلى اْلِح يَر ِة»َ ،و ُسِئَل ُذو الُّنوِن َ :م ا َأْغَلُب اَأْلْح َو اِل َعَلى اْلَعاِر ِف ؟ َقاَل ُ :ح ُّبُه َو اْلُحُّب ِفيِه َو َنْش ُر
اآْل اَل ِء َو ِه ي اَأْلْح َو اُل اَّلِتي اَل ُتَفاِر ُقُه.
ُ -حْر َم ُة اْلَج ِليِس َأْن َتُسَّر ُه َفِإْن َلْم َتُسَّر ُه َفاَل َتُسْؤ ُهَ ،لْم َيْك ِسْب َم َح َّبَة الَّناِس ِفي َهَذا الَّز َم اِن ِإاَّل َر ُج ٌل
َخ ِفيُف اْلُمُر وَنِة َعَلْيِه ْم َ ،و َأْح َسُن اْلَقْو ِل ِفيِه ْم َو َأَطاَب اْلِع ْش َر َة َم َعُهْم .
ُ -سِئَل ُذو الُّنوِن اْلِم ْص ِر ُّي َعِن اْلَم َح َّبِة َفَقاَل ِ« :ه َي اَّلِتي اَل َتِز يُدَها َم ْنَفَعٌةَ ،و اَل َتْنُقُص َه ا َم َض َّر ٌةُ ،ثَّم
َأْنَشَأ َيُقوُل:
َشَو اِه ُد َأْه ِل اْلُحِّب َباٍد َدِليُلَه ا
ِبَأْع اَل ِم ِص ْد ٍق َم ا َيِض ُّل َسِبيُلَه ا
ُجُسوُم ُأوِلي ِص ْد ِق اْلَم َح َّبِة َو الِّر َض ى
َتِبيُن َعْن ِص ْد ِق اْلِو َداِد ُنُح وُلَه ا
ِإَذا َناَج ِت اَأْلْفَه اُم ُأْنَس ُنُفوِس ِه ْم
بَأْلِسَنٍة َتْخ َفى َعَلى الَّناِس قْيُلَه ا
َو َض َّج ْت ُنُفوُس اْلُم ْس َتَه اِم يَن َو اْشَتَكْت
َجًو ى َكاَن َعْن َأْج َساِم َه ا َشربيُلَه ا
َيِح ُّنوَن ُح ْز ًنا َض اَعَف اْلَخ ْو َف َشْج ُو ُه
َو ِنيَر اُن َشْو ٍق َكالَّسِع يِر َعِليُلَه ا
َو َساُر وا َعَلى ُحِّب الَّر َشاِد ِإَلى اْلُعَلى
َقْو ٌم ِبِه ْم َتْقَو اُه َو ُهَو َدِليُلَه ا
َفَح ُّطوا ِبَد اِر اْلُقْد ِس ِفي َخْيِر َم ْنِز ٍل
َو َفاَز ِبُز ْلَفى ِذي اْلَج اَل ِل ُح ُلوُلَه ا.
َ -م ْن ُو ِج َد ِفيِه َخ ْم ُس ِخ َص اٍل َر َجْو ُت َلُه الَّسَعاَد َة َو َلْو َقْبَل َم ْو ِتِه ِبَساَعٍةِ ،قيَل َ :م ا ِه َي ؟ َقاَل ُ :سوُء
اْلُخ ُلِق َعْنُهَ ،و ِخ َّفُة الُّر وِحَ ،و َغَز اَر ُة اْلَعْقِل َ ،و َص َفاُء الَّتْو ِح يِدَ ،و ِط يُب اْلَم ْو ِلِد.
-اْلَكِّيُس َم ْن َباَد َر ِبَعَم ِلِه َو َسَّو َف ِبَأَم ِلِه َو اْس َتَعَّد َأِلَج ِلِه .
َ -م ْن َتَز َّيَن ِبَعَم ِلِه َكاَنْت َحَسَناُتُه َسِّيَئاٍت.
َ -قاَل ذو النون :اْع َلُم وا َأَّن اْلَعاِقَل َيْعَتِر ُف ِبَذْنِبِه َ ،و ُيِح ُّس ِبَذْنِب َغْيِر ِهَ ،و َيُج وُد ِبَم ا َلَد ْيِه َو َيْز َهُد ِفيَم ا
ِع ْنَد َغْيِر ِه َو َيُكُّف َعْن َأَذاُه َو َيْح َتِم ُل اَأْلَذى َعْن َغْيِر ِه َو اْلَكِر يُم ُيْعِط ي َقْبَل الُّسَؤ اِل َ ،فَكْيَف َيْبَخُل َبْعَد
الُّسَؤ اِل ؟ َو َيْعُذُر َقْبَل ااِل ْع ِتَذاِر َ ،فَكْيَف َيْح ِقُد َبْعَد ااِل ْع ِتَذاِر ؟ َو َيَعُّف َقْبَل ااِل ْم ِتَناِع َفَكْيَف َيْط َم ُع ِفي
ااِل ْز ِد َياِد.
-وَقاَل َ :ثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَم َح َّبِة :الِّر َض ا ِفي اْلَم ْك ُر وِهَ ،و ُحْس ُن الَّظِّن ِفي اْلَم ْج ُه وِل َ ،و الَّتْح ِس يُن ِفي
ااِل ْخ ِتَياِر ِفي اْلَم ْح ُذوِر َ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع ـاَل ِم الَّص َو اِب :اُأْلْنُس ِبِه ِفي َج ِم يِع اَأْلْح َو اِل َ ،و الُّسُكوُن ِإَلْيِه ِفي
َج ِم يِع اَأْلْع َم اِل َ ،و ُحُّب اْلَم ْو ِت ِبَغَلَبِة الَّشْو ِق ِفي َج ِم يِع اَأْلْش َغاِل َ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اْلَيِقيِن :الَّنَظُر ِإَلى
ِهَّللا َتَعاَلى ِفي ُكِّل َشْي ٍء َ ،و الُّر ُج وُع ِإَلْيِه ِفي ُكِّل َأْم ٍر َ ،و ااِل ْسِتَعاَنُة ِبِه ِفي ُكِّل َح اٍل َ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل
الِّثَقِة ِباِهَّلل :الَّسَخاُء ِباْلَم ْو ُج وِدَ ،و َتْر ُك الَّطَلِب ِلْلَم ْفُقوِدَ ،و ااِل ْسِتَناَبُة ِإَلى َفْض ِل اْلَم ْو ُج وِدَ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن
َأْع َم اِل الُّشْك ِر :اْلُم َقاَر َبُة ِم َن اِإْل ْخ َو اِن ِفي الِّنْعَم ِة َ ،و اْسِتْغَناِم َقَض اِء اْلَح َو اِئِج َقْبَل اْلَعِط َّيِة َ ،و اْسِتْقاَل ِل
الُّشْك ِر ِلُم اَل َح َظِة اْلِم َّنِة َ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الِّر َض اَ :تْر ُك ااِل ْخ ِتَياِر َقْبَل اْلَقَض اَ ،و ُفْقَد اُن اْلَمَر اَر ِة َبْعَد
اْلَقَض اَ ،و َهَيَج اُن اْلُحِّب ِفي َح ْش ِو اْلِباَل َ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اُأْلْنِس ِباِهَّلل :اْسِتْلَذاُذ اْلَخ ْلَو ِةَ ،و ااِل ستيَح اُش
ِم َن الُّصْح َبِة َ ،و اْسِتْح اَل ُء اْلَو ْح َدِةَ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم ُحْس ِن الَّظِّن ِباِهَّللُ :قَّو ُة اْلَقْلِبَ ،و ُفْس َح ُة الَّر َج ا ِفي
الِّذ َّلِة َ ،و َنْفُي اِإْل َياِس ِبُحْس ِن اِإْل َناَبِة َ ،و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّشْو ِق ُ :حُّب اْلَم ْو ِت َمَع الَّر اَح ِة َ ،و ُبْغُض اْلَحَياِة
َمَع الَّدَعِة َ ،و َد َو اُم اْلُح ْز ِن َمَع اْلِك َفاَيِة .
َ -سَأَلُه َر ُج ٌل َ :أُّي اَأْلْح َو اِل َأْغَلُب َعَلى َقْلِب اْلَعاِر ِف ،الُّسُر وُر َو اْلَفَر ُح َأِم اْلُح ْز ُن َو اْلُهُم وُم ؟ َفَقاَل :
َأْو َص َلَنا ُهَّللا َو ِإَّياُكْم ِإَلى َج ميِل َم ا َنْأَم ُلُه ِم ْنُهَ ،و اْلِع ْلُم ِفي َهَذا ِع ْنِدي َو ُهَّللا َأْع َلُم َأَّنُه َلْيَس ُهَناَك َح اٌل ُيَشاُر
ِإَلْيِه ُدوَن َح اٍل َ ،و اَل َسَبٌب ُدوَن َسَبٍبَ ،و َأَنا َأْض ِر ُب َلَك َم َثاًل :اْع َلْم َر ِح َم َك ُهَّللا َأَّن َم َثَل اْلَعاِر ِف ِفي َهِذِه
الَّداِر َم َثُل َر ُج ٍل َقْد ُتِّو َج ِبَتاِج اْلَكَر اَم ِة َو ُأْج ِلَس َعَلى َسِر يٍر ِفي َبْيٍت ُثَّم ُعِّلَق ِم ْن َفْو ِق َر ْأِسِه َسْيٌف
ِبَشْعِر ِه َو ُأْر ِسَل َعَلى َباِب اْلَبْيِت َأْسَد اِن َض اِر َياِن َفاْلَم ِلُك ُيْش ِر ُف ُكَّل َساَعٍة َبْعَد َساَعٍة َعَلى اْلَه اَل ِك
َو اْلَعَطِب َفَأَّنى َلُه ِبالُّسُر وِر َو اْلَفَر ِح َعَلى الَّتَم اِم ؟
َ -عِن اآْل َفِة اَّلِتي ُيْخ َد ُع ِبَه ا اْلُم ِر يُد َعِن ِهَّللاَ ،فَقاَل ُ :يِر يِه اَأْلْلَطاَف َو اْلَكَر اَم اِت َو اآْل َياِت.
ِقيَل َلُهَ :يا َأَبا اْلَفْيِض ِ ،فيَم ُيْخ َد ُع َقْبَل ُو ُص وِلِه ِإَلى َهِذِه الَّدَر َج ِة َ ،قاَل ِ :بَو ْط ِء اَأْلْع َقاِبَ ،و َتْعِظ يِم
الَّناِس َلُهَ ،و الَّتَو ُّسِع ِفي اْلَم َج اِلِس َ ،و َكْثَر ِة اَأْلْتَباِعَ ،فَنُعوُذ ِباِهَّلل ِم ْن َم ْك ِر ِه َو ِخ َدِعِه .
َ -ح َّدَثَنا َأِبي ،ثنا َأْح َم ُد ،ثنا َسِع يٌدَ ،قاَل َ :سِم ْعُت َذا الُّنوِن َ ،يُقوُلَ :ثاَل َثٌة َعاَل َم اُت اْلَخ ْو ِف :اْلَو َر ُع َعِن
الُّشُبَه اِت ِبُم اَل َح َظِة اْلَو ِع يِدَ ،و ِح ْفُظ الِّلَساِن ُم َر اَقَبًة ِللَّتْعِظ يِم َ ،و َد َو اُء اْلَكَم ِد ِإْش َفاًقا ِم ْن َغضِب اْلَح ِليِم .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اِإْل ْخ اَل ِص :اْسِتَو اُء اْلَم ْد ِح َو الَّذِّم ِم َن اْلَعاَّم ِة َو ِنْس َياُن ُر ْؤ َيِتِه ْم ِفي اَأْلْع َم اِل َنَظًر ا
ِإَلى ِهَّللا َو اْقِتَض اَء َثَو اِب اْلَعَم ِل ِفي اآْل ِخ َر ِة ِبُحْس ِن َعْفِو ِهَّللا ِفي الُّدْنَيا ِبُحْس ِن اْلِم ْد َح ِة .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اْلَكَم اِل َ :تْر ُك اْلَج َو اَل ِن ِفي اْلُبْلَد اِن َ ،و ِقَّلُة ااِل ْغ ِتَباِط ِلُنْعَم اُه ِع ْنَد ااِل ْم ِتَح اِن َ ،و َص ْفُو
الَّنْفِس ِفي الِّس ِّر َو اِإْل ْع اَل ِن .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اْلَيِقيِن ِ :قَّلُة اْلُم َخاَلَفِة ِللَّناِس ِفي اْلِع ْش َر ِةَ ،و َتْر ُك اْلَم ْد ِح َلُهْم ِفي اْلَعِط َّيِة َ ،و الَّتَنُّز ُه َعْن
َدِم ِه ْم ِفي اْلَم ْنِع َو الَّر ِز َّيِة .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الُم َتَو ِّك ِل َ :نْقُض اْلَعاَل ِئِق َ ،و َتْر ُك الَّتَم ُّلِق ِفي الَّساَل ِئِق َ ،و اْس ِتْعَم اُل الِّص ْد ِق ِفي
اْلَخ اَل ِئِق .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّص ْبِر :الَّتَباُعُد َعِن اْلُخ َلَطاِء ِفي الِّش َّدِةَ ،و الُّسُكوُن ِإَلْيِه َمَع َتَج ُّر ِع ُغَص ِص اْلَبِلَّيِة ،
َو ِإْظ َه اُر اْلِغ َنى َمَع ُح ُلوِل اْلَفْقِر ِبَساَح ِة اْلَم ِع يَشِة .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلِح ْك َم ِة ِ :إْنَز اُل الَّنْفِس ِم َن الَّناِس َكَباِط ِنِه ْم َ ،و َو ْع ُظُهْم َعَلى َقْد ِر ُعُقوِلِه ْم ِلَيُقوُم وا
َعْنُه ِبَنْفٍع َح اِض ٍر .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الُّز ْه ِدِ :قَص ُر اَأْلَم ِل َ ،و ُحُّب اْلَفْقِر َ ،و اْسِتْغَناٌء َمَع َص ْبٍر .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلِع َباَدِةُ :حُّب الَّلْيِل ِللَّسَهِر ِبالَّتَه ُّجِد َو اْلَخ ْلَو ِةَ ،و َكَر اَهُة الُّص ْبِح ِلُر ْؤ َيِة الَّناِس َو اْلَغْفَلِة ،
َو اْلَبَد اُر ِبالَّص اِلَح اِت َم َخاَفَة اْلِفْتَنِة َ .و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَّتَو اِض ِعَ :تْصِغ يُر الَّنْفِس َم ْعِر َفًة ِباْلَعْيِبَ ،و َتْعِظ يُم
الَّناِس ُحْر َم ًة ِللَّتْو ِح يِدَ ،و َقُبـوُل اْلَح ِّق َو الَّنِص يَح ِة ِم ْن ُكِّل َأَح ٍد.
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل الَّسَخاِء :اْلَبْذُل ِللَّشْي ِء َمَع اْلَح اَج ِة ِإَلْيِه َ ،و َخ ْو ُف اْلُم َكاَفَأِة اْسِتْقاَل اًل ِلْلَعِط َّيِة ،
َو اْلَخ ْو ُف َعَلى الَّنْفِس اْسِتْغَناًء ِإِل ْد َخاِل الُّسُر وِر َعَلى الَّناِس .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم ُحْس ِن اْلُخ ُلِق ِ :قَّلُة اْلِخ اَل ِف َعَلى اْلُم َعاِش ِر يَن َ ،و َتْح ِس يُن َم ا َيِر ُد َعَلْيِه ِم ْن َأْخ اَل ِقِه ْم
َو ِإْلَز اِم الَّنْفِس الاَّل ِئَم ِة ِفيَم ا َيْخ َتِلُفوَن ِفيِه َكًّفا َعْن َم ْعِر َفِة ُعُيوِبِه ْم .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّر ْح َم ِة ِلْلَخ ْلِق :اْنِز َو اُء اْلَعْقِل ِلْلَم ْلُه وِفيَن َ ،و ُبَكاُء اْلَقْلِب ِلْلَيِتيِم َو اْلِم ْسِك يِن َ ،و ِفْقَد اُن
الَّشَم اَتِة ِبَمَص اِئِب اْلُم ْسِلِم يَن َ ،و َبْذُل الَّنِص يَح ِة َلُهْم ُم َتَجِّر ًعا ِلَمَر اَر ِة ُظُنوِنِه ْم َو ِإْر َشاِدِه ْم ِإَلى َمَص اِلِح ِه ْم
َو ِإْن َج ِه ُلوُه َو َكِر ُهوُه.
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َظِم ااِل ْسِتْغَناِء ِباِهَّلل :الَّتَو اُض ُع ِلْلُفَقَر اِء اْلُم َتَذِّلِليَن َ ،و الَّتَعُّظُم َعَلى اَأْلْغ ِنَياِء اْلُم َتَكِّبِر يَن ،
َو َتْر ُك اْلُم َعاَشَر ِة َأِلْبَناِء الُّدْنَيا اْلُم ْس َتْك ِبِر يَن .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَحَياِء ِ :و ْج َد اُن اُأْلْنِس ِبِفْقَد اِن اْلَو ْح َشِة َ ،و ااِل ْم ِتاَل ُء ِم َن اْلَخ ْلَو ِة ِبِإْد َم اِن الَّتَفُّكِر ،
َو اْسِتْش َعاُر اْلَه ْيَبِة ِبَخ اِلِص اْلُم َر اَقَبِة .
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَم ْعِر َفِة :اِإْل ْقَباُل َعَلى ِهَّللاَ ،و ااِل ْنِقَطاُع ِإَلى ِهَّللاَ ،و ااِل ْفِتَخاُر ِباِهَّلل.
َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّتْسِليِم ُ :م َقاَبَلُة اْلَقَض اِء ِبالِّر َض اَ ،و الَّص ْبُر ِع ْنَد اْلَباَل ِء َ ،و الُّشْك ُر ِع ْنَد الَّر َخاِء ».
َ -أْخ َبَر َنا ُمَحَّم ُد بن َأْح َم َد بن َيْعُقوَب اْلَبْغَداِد ُّي ،ثنا َأُبو َج ْعَفٍر ُمَحَّم ُد ْبُن َعْبِد اْلَم ِلِك ْبِن َهاِشٍم َ ،قاَل :
ُقْلُت ِلِذي الُّنوِن َ :كِم اَأْلْبَو اُب ِإَلى اْلِفْط َنِة ؟ َقاَل َ :أْر َبَعُة َأْبَو اٍبَ :أَّو ُلَه ا اْلَخ ْو ُف ُ ،ثَّم الَّر َج اُ ،ثَّم اْلَم َح َّبُةُ ،ثَّم
الَّشْو ُق .
َو َلَه ا َأْر َبَعُة َم َفاِتيَح َ :فاْلَفْر ُض ِم ْفَتاُح َباِب اْلَخ ْو ِف َ ،و الَّناِفَلُة ِم ْفَتاُح َباِب الَّر َج اِء َ ،و ُحُّب اْلِع َباَدِة
َو الَّشْو ُق ِم ْفَتاُح َباِب اْلَم َح َّبِة َ ،و ِذ ْك ُر ِهَّللا الَّداِئُم ِباْلَقْلِب َو الِّلَساِن ِم ْفَتاُح َباِب الَّشْو ِق َ ،و ِه َي َد َر َج ُة اْلَو اَل َيِة ،
َفِإَذا َهَم ْم َت ِبااِل ْر ِتَقاء ِفي َهِذِه الَّدَر َج ِة َفَتَناَو ْل ِم ْفَتاَح َباِب اْلَخ ْو ِف َ ،فِإَذا َفَتْح َتُه اَّتَص ْلَت ِإَلى َباِب اْلِفْط َنِة
َم ْفُتوًح ا اَل ُغُلَق َعَلْيِه َ ،فِإَذا َد َخ ْلَتُه َفَم ا َأُظُّنَك ُتِط يُق َم ا َتَر ى ِفيِه ِح يَنِئٍذ َيُج وُز َشَر ُفَك ِباِإْل ْش َر اِف َو َيْعُلو
ُم ْلُكَك ُم ْلَك اْلُم ُلوِك َ ،و اْع َلْم َأْي َأِخ ي َأَّنُه َلْيَس ِباْلَخ ْو ِف ُيَناُل اْلَفْر ُض َ ،و َلِك ْن ِباْلَفْر ِض ُيَناُل اْلَخ ْو ُف َ ،و اَل
ْل ْل
ِبالَّر َج اِء ُتَناُل الَّناِفَلُة َو َلِك ْن ِبالَّناِفَلِة ُيَناُل الَّر َج اُء َ ،كَم ا َأَّنُه َلْيَس ِباَأْلْبَو اِب ُتَناُل ا َم َفاِتيُح َو َلِك ْن ِبا َم َفاِتيِح
ُتَناُل اَأْلْبَو اُب َ ،و اْع َلْم َأَّنُه َم ْن َتَكاَم َل ِفيِه اْلَفْر ُض َفَقْد َتَكاَم َل ِفيِه اْلَخ ْو ُف َ ،و َم ْن َج اَء ِبالَّناِفَلِة َفَقْد َج اَء
ِبالَّر َج اِء َ ،و َم ْن َج اَء ِبَم َح َّبِة اْلِع َباَدِةَ ،فَقْد َو َص َل ِإَلى ِهَّللاَ ،و َم ْن َشَغَل َقْلَبُه َو ِلَساَنُه ِبالِّذ ْك ِر َقَذَف ُهَّللا ِفي
َقْلِبِه ُنوُر ااِل ْش ِتَياِق ِإَلْيِه َ ،و َهَذا ِسُّر اْلَم َلُكوِت َفاْع َلْم ُه َو اْح َفْظ ُه َح َّتى َيُكوَن ُهَّللا َعَّز َو َج َّل ُهَو اَّلِذي ُيَناِو ُلُه
َم ْن َيَشاُء ِم ْن ِع َباِدِه».
-3األشعار:
ُر َّب َو ْر َقاَء َهُتوٍف ِبالُّض َح ى َذاِت َشْج ٍو َص َدْح َت ِفي َفَنِن
َفُبَكاِئي ُر َّبَم ا َأَّر َقَه ا َو ُبَكاَها ُر َّبَم ا َأَّر َقِني
َو َلَقْد َتْشُكو َفَم ا َأْفَه ُم َه ا َو َلَقْد َأْشُكو َفَم ا َتْفَه ُم ِني
َغْيَر َأِّني ِباْلَج َو ى َأْع ِر ُفَه ا َو ْه َي َأْيًض ا ِباْلَج َو ى َتْعِر ُفِني.
وقليلة هي المصادر والمراجع التي تتناول سيرة الشبلي ،وإن كانت هناك كتٌب محدودٌة قد
تناولت حياته ومسيرته ،فالكتب التي وصلت إلينا من الشبلي ،تكاد تكون معدومة باستثناء ديوانه
الذي لم يسلم من تداخل النصوص ،ونسبة بعضها إليه مع أنها ليست له.
ريحانُة المؤمنين المجُذوب نحو الُّنور
«َم ن ماتْت هَّم تُه ضُعفْت محَّبُتُه» الِّش بلي
هذا صوفٌّي أخَذُه الوَلُه الذي يِر ُد على القلب ،وأسَر ُه الوْج ُد ،ال يخطُر بباله شيٌء آخر غير الحق
الذي يتجَّلى له ،جَذَبُه الِّس ر الذي يِر ُد عليه وال يطالُعه .عاش في الغْيبة ،تغلبُه الحال.
شرب هو والحالج من كأٍس واحدٍة ،لكَّنه صحا وكتم وسَتر محَّبتُه ،بينما سكر الحالج ،فقال
وباح ،فُقِتل.
إنه أبو بكر الِّش بلي صاحب القلب الَّطائر بأجنحة المعرفة ،والذي آمن بأَّن العبادة كالُحِّب ال تكوُن
بالشركة ،ولما ُسئل :هل أنت الِّش بلي؟ قال« :أنا النقطة التي تحَت الباء» ،وُهنا نتذَّكر قوَل أبي
مدين الغوث ( 594- 509للهجرة)« :ما رأيُت شيًئا إال رأيُت الباَء مكُتوبًة»؛ ألَّن «سر الخلق،
وسر التكوين في حْر ف الباء للبسملةِ ،بْس ِم ِهّللا الَّر ْح مِن الَّر ِح يِم ».
واألصل يُعوُد إلى قول اإلمام علي بن أبي طالب« :كل ما في الُكتب الُم نَّز لة ،فهو في القرآن ،و
كل ما في القرآن فهو في الفاتحة ،و كل ما في الفاتحة فهو في (ِبْس ِم ِهّللا الَّر ْح مِن الَّر ِح يِم ) ،و كل ما
في (ِبْس ِم ِهّللا الَّر ْح مِن الَّر ِح يِم ) في الباء ،و كل ما في الباء في النقطة ،و أنا النقطة تحت الباء».
وعلم النقط والدوائر من أجِّل الُعلوم وغوامض األسرار؛ ألَّن ُم نتهى الكالم إلى الُح روف،
ومنتهى الُح روف إلى األلف ،وُم نتهى األلف إلى النقطة ،والنقطة عندهم عبارٌة عن نُز ول الوُج ود
المطلق الَّظاهر بالباطن ،ومن االبتداِء باالنتهاِء يعني ُظهور الُه وية التي هي مبدأ الوُج ود التي ال
عبارة لها وال إشارة حسبما قال الحافظ رجب البرسي (توفي سنة 813هجرية) في كتابه
«مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين».
الِّش بلي عارٌف عاشٌق ُ ،ذو قلٍب يعشُق من ُدون أن يدري جسده« :أحَّب قلبي وما دَر ى بدني»،
وهو من أوائِل المتصوفة الذين التفتوا إلى أن الُح رية ما هي إال «ُح رية القلب ال غير» ،إْذ هو
ُم حٌّب مجُذوٌب نحو الُّنور.
فالِّش بلي هو ابن الَّشطح والملَّقب بـ«ريحانة الُم ؤمنين» ،وهو كغيره
من المتصوفة شاعٌر ُم ِقٌّل ،فما رأينا صوفًّيا له إنتاٌج غزيٌر من الِّشْعر ،باستثناء ابن العربي
( 1240 -1165ميالدية 638 – 558/هجرية) ،وُعمر بن الفارض
( 576هجرية1181/ميالدية – 1235ميالدية) ،واألخير لم يصل إلينا منه إال ديواٌن ِش عرٌّي ،
وال ندري شيًئا عن كتٍب أخرى له ما زالت مخُطوطًة أو مجُه ولة.
وإذا كان جعفر الُخ لدي ( 348هجرية – 959ميالدية ،وهو من أعالم التصوف في القرن
الرابع الهجري ،من أفتى اْلَم َشاِيخ وأجلهم َو َأْح َسنهْم قواًل َ ،و َكاَن اْلمرجع ِإَلْيِه ِفي ُعُلوم اْلَقْو م وكتبهم
وحكاياتهم وسيرهم) يرِّدد أنه يحفُظ أكثر من مئٍة وثالثين ديواًنا من دواوين الصوفية ،فمن المؤَّكد
أَّن كثيَر ها قد ضاع ،أو ُأْح ِر ق ،أو ُغِس ل بالماء ،أو اختفى باإلهمال أو الَّسرقة؛ ألنُه صار من
الَّص عب أن ُيحِص ي المرُء عشرين ديواًنا شعرًّيا صوفًّيا.
وفي تجربة الِّش بلي الُّص وفية تَم َّثل بِشْعر كل منُ :ز هْير بن أبي سلمى ،والعَّباس بن األحنف،
وقيس بن الملَّو ح «مجنون ليلى» ،وابن المعتز ،وأبي الحسن النوري ،وعبد الَّص مد بن المعذل،
وذي الرمة ،وقيس بن ُذرْيح ،وأبي تمام ،والمتنبي ،والحاَّل ج.
ولم يهتم أحٌد بالِّش بلي االهتمام الكافي أو الذي يليق بمكانته كُم تصِّو ف ،ودائًم ا ما يأتي ُم رافًقا أو
تالًيا للحاَّل ج ،إْذ كان صديقه وُم جايله ورفيقه ،وُهما من عائلٍة ُص وفيٍة وِشعريٍة واحدٍة ،أو على األقِّل
متشابهة.
على الرغم من أَّن شيخه الُج نْيد قد قال« :نحن حَّبرنا هذا العلم تحبيًر ا ،ثم خَّبأناُه في الَّسراديب،
فجئَت أنَت ،فأظهرَتُه على رُؤوس المأل».
وقليلٌة هي – بل نادرٌة – ُكتب مختارات الِّش عر أو النثر الُّص وفِّي في تراثنا القديم والحديث ،وإْن
كان االهتمام كله ُم نصًّبا على ِس َير أقطاب التصُّو ف أو تحقيق ُكتبهم ورسائلهم؛ ألَّن الدولَة
اإلسالميَة الرسميَة أخرجت المتصوفة من المتن ،واكتفت بوُج ودهم في الهامش ،بل وطاردتهم حّد
اإلقصاء والنفي والَّطرد والَّسجن والقتل ،لكَّن ِم صفاَة الزمان استطاعت أن تحفظ لنا عدًدا من
أقطاِب التصُّو ف ،وتعيدهم إلى المْتن بعد موتهم بمئات السنين.
وستظُّل جُه ودي وجُه ود َم ن سبقوني ناقصة؛ ألَّن الِّش عر الذي كتبه المتصوفُة ُم َو َّز ٌع ومنُثوٌر في
بطون كتب السلف التراثية ،كما أن عدًدا كبيًر ا من اإلرِث الِّش عرِّي لهؤالء المتصوفة قد ضاع
واختفى وال أثَر له.
وهناك َم ن ينسُب الِّش بلي إلى مصر ،وأنه عاش ُج زًء ا من صباه وشبابه في اإلسكندرية ،حيث
كان خاله أميًر ا لألمراء.
لقد هجر الِّش بلي حياَة الَّتَر ف ،وذهب إلى الُّز هد والتخِّلي والتجُّر د؛ ليبحَث بعد ُم جاهدٍة مضنيٍة عن
الَّسكينة والُّطمأنينة ،والمحَّبة والمعرفة والُّطهر ،واالئتناس إلى الحْر ف المحُم ول على الُّر وح
الُقُدس ،وانشغل بمجاهداته وإشراقاته وشطحاته.
كان الِّش بلي يؤمُن بمقولة« :استراح َم ن أسقط عن قلبه محَّبة الدنيا» ،إْذ رفض أن يأكَل الُّدنيا
بالدين .فقد نَّقى ُر وَح ه من شوائبها وما علق بها من شواغل دنيويٍة ،وكانت له مواقف حازمة
وحاسمة من عبدة الَّسالطين والُح َّكام من أولي األمر ،ومن أشهر مواقفه ،موقفه من الوزير علي بن
عيسى ( 946 – 859ميالدية 335 - 245 /هجرية) حينما زاره وهو مريض في دار المرضى
حيث أدخل الشبلي ليعالج فدخل عليه علي بن عيسى الوزير (يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم،
أصله من الفرس ،وكان من أكبر القائمين على الحالج) عائًدا فأقبل على الوزير فقال :ما فعل
ربك؟ فقال الوزير :في السماء يقضي ويمضي ،فقال :سألتك عن الرب الذي تعبده ال عن الرب
الذي ال تعبده ،يريد الخليفة المقتدر باهلل ،وهو الخليفة العباسي الثامن عشر في ترتيب الخلفاء
العباسِّيين (320-295هجرية932-908/ميالدية).
فقال علي لبعض حاضريه ناِظ ْر ُه ،فقال الرجل :يا أبا بكر ،سمعتك تقول في حال صحوتك كل
صِّديٍق بال معجزٍة كَّذاب وأنت صِّديق فما معجزتك قال :معجزتي أن تعرض خاطري في حال
صحوي على خاطري في حال سكري فال يخرجان عن موافقة هللا تعالى.
فقد كان الِّش بلي يتسم بسُم ٍّو ُر وحٍّي يندر أن يوجد بين معاصريه ،خصوًص ا أن ترك منصبه
كحاكٍم أو واٍل وسلك طريق الُّز هد والتوبة والتجُّر د من كِّل شيٍء سوى هللا ،بعد أن غادر كنوز
الدنيا المادية الفانية« .خَّلف أبي ستين ألف دينار سوى الِّض َياع؛ فأنفقُت الُكَّل وقعدُت مع الفقراء».
قال الشبلي ،الذي هو أنموذج لكتمان الحال مع بذل الجهد في المجاهدة« :ما أحد يعرف هللا ،قيل:
كيف؟ قال :لو عرفوه لما اشتغلوا بسواه».
وقال« :ما أحوج الناس إلى السكرة ،فقيل :أي سكرة ،فقال :سكرة تفنيهم عن مالحظة أنفسهم
وأفعالهم وأحوالهم ،واألكوان وما فيها».
ويحكي الشبلي قصًة ليدِّلل بها على صدق الحب ،وفرط الوجد وعمقه ،واالتحاد مع ذات َم ن
نحُّب ،إْذ كان إشراقًّيا فَّياًض ا صاحب ذاٍت نقيٍة من العوالق الدنيوية« :إن متحابين ركبا بعض
البحار ،فسقط أحدهما في البحر وغرق ،فألقى اآلخُر نفسه إلى البحر ،فغاص الغواصون
فأخرجوهما سالمْين .فقال األول لصاحبه :أما أنا فسقطت في البحر ،أنت لَم رميَت نفسك؟ فقال له:
أنا غائٌب بك عن نفسي ،توهمت أني أنَت ».
الحاكم الذي باع كبريًتا في األسواق
ليسِقَط عن نفسه محَّبة الدنيا
أبو بكر الِّش ْبلي – وهو شاعٌر ُم ِقٌّل -في ديوانه الذي وصل إلينا ،نحُن أمام شاعٍر يشيُر ويرمُز ؛
ليعِّبر عن تجربته الصوفية الذوقية .وحقيقة األمر أَّن الِّش ْبلي لم يتُر ك ديواًنا مخُطوًطا ،لكَّنها قصائُد
ُم تفرقاٌت ُم تناثرة في ُكتب التصوفُ ،جِم عت بعد ذلك في ديواٍن .لم يلمها الِّش بلي في كتاٍب ،وال َم ن
كانوا في زمانه فعلوا ذلك ،أو َم ن جاءوا بعده ،وقد جاء في كتاب «التعُّر ف لمذهب أهل التصوف»
ألبي بكر محمد الكالباذي الُم توَّفى سنة 380هجرية ،أن الشبلي قد ترك كتًبا ورسائل في علم
التوحيد ،لكن ال أحد يعلم عنها شيًئا ،ومن الُم حتمل أَّن هذه التآليف قد ُفِقدْت .
والدراسات األكاديمية المتخِّص صة عن شعره وحياته محُدودة ،بل تكاُد تُكوُن نادرًةُ ،م قارنًة بما
ُكتب عن سواه من ُشعراء التصوف مثل الحاَّل ج ،وابن العربي ،وُعمر بن الفارض.
ولعَّل الديوان الذي جمعه وحَّققه وعَّلق على حواشيه وقدم له الدكتور مصطفى كامل الشيبي
( 27من مايو 4 - 1927من سبتمبر 2006ميالدية) ،هو أتُّم تجربٍة أكاديمية عن الِّش بلي ،وكذا
كتاب الدكتور عبد الحليم محمود (1978– 1910ميالدية) «تاج الصوفية ..أبو بكر الِّش بلي،
حياته وآراؤه».
والِّش بلي عزَف عن الدنيا وملَّذاتها ،وهجَر حياة المال والَج اه والُّسلطان والِع ِّز والثروة ،وأسقط
عن نفسه محَّبة الدنيا فاستراح ،واتخذ التصوَف طريًقا والُّز هَد سبياًل ،وهو في سن الحادية
والثالثين من عمره ،حيُث أقال نفسه من منصب الحاكم أو األمير ،وطلب من الناس أن يأخُذوا ماله
ويترُكوه ،وتنازَل لهم عَّم ا تحت إمرِتِه ...« :فاجعلوني في ِح ٍّل ».
ويذكُر الهجويري (نوفمبر 465 / 1009هجرية -سبتمبر 1072ميالدية) في كتابه «كشف
المحجوب» أَّن الِّش بلي ألقى في دجلة أربعة آالف دينار ُج ملًة واحدة ،فقيل له :ماذا تفعل؟ فقال:
الَحَجُر أوَلى بالَم اِء .قالوا :ولم ال ُتفِّر قها على الخلق؟ قالُ :سبحان هللا ،وماذا أحتج هلل على أن أزْلُت
من قلبي ِح َج اَبه ووضعته على إخواني المسلمين إيثاًر ا لنفسي عليهم».
وذكر فريد الدين العطار « 627هجرية – 1230ميالدية» أَّن ابتداء أمر الِّش بلي في عالم
التصوف كان لما قصد إلى بغداد أيام إمارته على دماوند ُص حبة أمير الري – رئيسه – وجماعة
من الموَّظفين لحُض ور مراسيم إلباس أميرهم خلعة منصبه .وبعد تمام المراسيم ،وتفُّر ق الحُض ور،
خرج األمير وَم ن معه إلى حال سبيلهم ،وعليه الخلعة ،وفي الَّطريق ضايقتُه عْط سٌة؛ فتلَّقاها بُكم
الخلعة من دون أن يسبق إلى ذهنه ما في ذلك من ُخ ُر وج على التقاليد الرسمية التي تقضي
باالحترام والتقدير .ومن سوء حظ أمير الري أن خبره بلغ مسامع الخليفة ،وحمل ذلك منه محمل
اإلهانة وسوء النية ،فكان أن اسُتْد ِع ي إلى المجلس من جديٍد وُأهين وُصِفع على قفاه وانتِز عْت منه
الخلعة وُص رف عن إمارته.
وذكر فريد الدين صاحب «تذكرة األولياء» أن الِّش بلي تأَّثر غاية التأثر من الحادث ونتائجه،
وأخذته الفكرة ،وحَّدَث نفسه يقول لها« :إذا كان َم ن استعمل خلعَة مخلوٍق ِم ندياًل مستحًّقا للعزل،
محكوًم ا عليه برِّدها ،فما يصنُع بَم ن فعل ذلك بخلعة رب العالمين» ،وقال فريد الدين العَّطار
صاحب «منطق الطير» وقصد الِّش بلي إلى مجلس الخليفة فسئل ما خطبه؟ فقال« :أُّيها الخليفة إنك
مخلوٌق وال ترضى أن ُيساء األدُب مع خلعتك ،وتقديرك لها معلوٌم ،وقد خلع علَّي هللا خلعة من
محَّبته ومعرفته ومن الُم حال أن يرضى باستعمالها ِم ندياًل في خدمة المخلوقين».
قال الهجويري« :ولما جاء الِّش بلي إلى الُج نْيد ،قال له يا أبا بكر إَّن في رأسك ُغروًر ا يترَّدد
ويقول :أنا ابن حاجب ُحَّج اب الخليفة وأمير سامراء .ولن يكون فيك فائدة إال إذا قصدت إلى الُّسوق
واستجديت كل َم ن لقيته من الناس لتعرف قيمتك ،ففعل ،وكان يقصد إلى السوق مستجدًيا فكانت
تضعف يوًم ا بعد يوم ،وظل ذلك دأبه سنة طاف خاللها الُّسوق فلم يعطه أحد شيًئا ،وعاد الِّش بلي
إلى الُج نْيد مكسور النفس ،مهيض الجناح ،خالي الوفاض ،لم يشفع له ثراؤه وال سلطانه ،ولم
يحرك ذله قلوب الناس عليه فقال له :اآلن عرفَت قيمتك ،ولم يقدرك أحٌد من الناس بشيٍء فال تحفل
بهم وال تأخذهم بشيء».
ويذكر فريد الدين العطار :جاء الِّش بلي الُج نيد أول سلوكه الطريق وقال له :لقد حدثوني أَّن عندك
جوهرة العلم الرَّباني ،فإما أن تمنحنيها وإما أن تبيعينها ،فقال له الُج نيد :ال أستطيُع أن أبيعكها ،فما
عندك ثمنها ،وإْن منحتها لك ،أخذتها رخيصًة ،فال تعرف قدرها .ألق بنفسك غير هَّياب في عباب
هذا المحيط مثلما فعلت ،لعلك إن صبرت أن تظفر بها .فسأله الِّش بلي عَّم ا يفعل ،فقال له الجنيد
اذهب بع الناس كبريًتا ،وفي ختام العام ،قال له« :لقد شهرتك هذه التجارة بين الناس ،فكن
درويًشا ،ال تشغل نفسك بغير السؤال» .وفي خالل العام ،كان الِّش بلي يجوُس شوارع بغداد ،يسأل
المارة إحسانهم ،بيد أَّن أحًدا لم يأبه له .ثم رجع إلى الُج نْيد ،فقال له« :أرأيت اآلن؟ لسَت في أعين
الناس شيًئا ،فال تصرف فكرك إليهم ،وال تقم لهم وزًنا .وقد كنَت في بعض أيامك حاجًبا ،ثم
اشتغلت حاكًم ا لبعض األقاليم .فاغُد إليه ،واسأل جميع الذين أسأت إليهم ،أن يعُفوا عنك» .فأطاع
الِّش بلي ،وصرف أربعة أعوام ،يذهب من باٍب إلى باب ،حتى ظفر بالعفو من كل أحد ،إال واحًدا
فشل في العثور عليه .فقال له الُج نْيد ،حين عاد إليه« :ال يزال فيك ميٌل إلى الشهرة ،اذهب واسأل
الناس عاًم ا آخر» .وفي كل يوم كان الِّش بلي ُيحضر الصدقات ،التي أعطيت له للُج نْيد ،فيفِّر قها بين
الفقراء ،ويدع الِّش بلي من غير طعاٍم ،إلى الصباح القادم .فلما انقضى العام على هذا المنوال ،تقَّبله
الجنيد مريًدا من مريديه ،على أن يخدم اآلخرين عاًم ا .فلما انقضت خدمة العام ،سأله الُج نيد« :ما
تظن في نفسك اآلن؟» ،فأجاب الِّش بلي« :أنا أعد نفسي أحقر مخلوقات هللا» ،فقال شيخه« :اآلن
توَّثق إيمانك».
وقال الِّش بليُ :نوديُت في سـِّر ي يوًم اُ« :شَّب لي» أي :احتِر ْق فَّي ،فسميُت نفسي بذلك ،وقلُت في
معنى ذلك:
رآني فأوراني عجائب لطفه
فهمُت وقلبي باألنيِن يذوُب
فال غائًبا عِّني فأسُلو بذْك ِر ِه
وال هو عِّني ُم ْعِر ٌض فأغيُب
لقد كانت مجاهداُت الِّش بلي شديدة -في حياته -فوق الحِّد ،فكان بين يديه مرآٌة ينظُر فيها كل
ساعٍة ،ويقول :بيني وبين هللا عهد إْن ِم لُت عنه عاقبني ،وأنا أنظُر ُكَّل ساعٍة في المرآِة ألعرَف هل
اسوَّد وجهي أم ال .وُحِك َي أَّن الِّش بلي ُسئل عن العارف والُم حب ،فقال :العارُف إْن تكلم هلك،
والُم حب إْن سكت هلك .وقيل للِّش بلي :ألم تعلم أنه تعالى رحمن؟ فقال :بلى ،ولكن منذ عرفُت
رحمته ما سألته أن يرحمني.
وقيل :إَّن الِّش بلي كان في ابتداء أمره -حين كان مريًدا -ينزُل كل يوٍم سرًبا ويحمل مع نفسه
حزمًة من القضبان ،فكان إذا دخل قلبه غفلة أو فتر انتباهه ،ضرَب نفسه بتلك الخشب حتى
يكسَر ها على نفسه ،فربما كانت الحزمة تفنى قبل أن يمسي ،فكان يضرُب بيديه ورجليه في حائط
المغارة.
وقال الِّش بلي :الُّص وفي ُم نقطٌع عن الخلقُ ،م تصٌل بالحق؛ كقوله تعالى« :واصطنعتك لنفسي»
قطعه عن كل غير ،ثم قال له« :لن تراني» .وقال :الُّص وفية أطفاٌل في ِح ْج ِر الحِّق .وقال أيًض ا:
التصوف برقة محرقٌة.
وقال أيًض ا :هو العصمة عن رؤية الكون.
وقال الِّش بلي :التصوف الجلوس مع هللا بال هٍّم .وُسئل الِّش بليِ :لَم سميت الصوفية بهذه التسمية؟
فقال :لبقيٍة بقيت عليهم من نفوسهم؛ ولوال ذلك لما تعَّلقت بهم تسميٌة .وقال الِّش بليُ :سميت المحَّبة
محَّبة؛ ألَّنها تمُح و من القلب ما سوى المحبوب.
وُر ؤي الِّش بلي في المنام ،فقيل له :ما فعل هللا بك؟ فقال :ناقشني حتى أيست ،فلما رأى يأِس ي
تغمَّدني برحمته.
بعد مقتل الحاَّل ج َخ ِش ي الِّش بلي بطَش الفقهاء به ،فتوَّقفت شطحاته ،وخمدت ناُر ه ،وانطفأت
جذوته .كان يقول« :أنا الوقُت ،وليس في الوقِت غيري» ،وقد «اتخذ الجُنوَن ُج َّنًة ووقايًة له من
المآخِذ ،ومهرًبا من الحَر ج ،واستعار من أشعاِر مجُنون ليلى الكثير من األبيات ،ونازعه على
زعامة العشق» ،وقال الِّش بليُ« :أْدخلُت مَّر ًة المارستان كذا وكذا مرة ،وُأسقيُت الَّدواء كذا وكذا
دواًء فلم أزدد إال جنوًنا» .وقد ُج َّن ثمانَي وعشرين مرة ،قال الشبلي« :أنا والحالج شيٌء واحٌد،
فخَّلصني جُنوني ،وأهلكه عقله».
وكان يرِّدد قول ذي الُّر َّم ة ( 77هجرية 696 -ميالدية 117 /هجرية 735 -ميالدية):
وَعيناِن ،قال ُهللا ُكوَنا فكاَنتا
َفُعوالِن ِباأللَباِب ما َتفَعُل الَخمُر
وقد فَّسر الِّش بلي هذا البيت بقوله« :لسُت أعني العيوَن الُنْج َل ،ولكَّنني أعني عيوَن القلوِب ذوات
الصدور ،فُطوبى لَم ن كان له عيٌن في قلبه وُأُذن واعيٌة وألفاٌظ مرضيٌة».
وقد زار قبره بعد موته صوفيون ورَّح الة وعلماء وفقهاء من أشهرهم :أبو عبد الرحمن السلمي،
وابن بطوطة ،وابن ُج بْير.
أبو بكر الِّش بلي..
مختارات من شعره ونثره
1
فال غائَب عِّني فأسلو بذكِر ِه
وال هو عني مْعِر ٌض فأغيُب
2
ﻟﻴﺲ ﻣﻨﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻗﻠﺐ ُﻣ َﻌَّﻨﻰ
ُﻛُّﻞ ﻋﻀٍو ﻣِّﻨﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻗﻠﻮُﺏ
3
ُت
عرفُتك ضَّيعت توبتي
4
إذا عاتبُتُه أو عاتبوه
شَكا ِفعلي وعَّدَد سيئاتي
أيا َم ْن َد هُر ُه َغَض ٌب وُسخٌط
7
وأعجب شيٍء سمعنا به
8
9
أليس من السعادِة أن َد اري
ُم جاورٌة لدارك في البالد؟
10
باَح مجنوُن عامٍر بهواُه
َو َكتمُت الَه وى فُفزُت ِبَو جدي
َفِإذا كاَن في القيامِة ُنودي
َم ْن قتيُل الَه وى َتقّدمُت َو حدي
11
يا جملة الُكّل التي كُّلها
أحّب من بعضي و من سائري
تراك ترثى للذي قلبُه
درس الثانوية Grammar Schoolفي بورتسموث ،ولتفوقه حصل على منحة دراسية لدراسة اآلداب الكالسيكية
(اليونانية والالتينية) في كلية بمبروك Pembrokeمن جامعة كمبردج عام 1924ميالدي بوصفه الطالب األول في السنة.
ودَر َس العربية والفارسية؛ حيث درس العربية على يد رينولد نيكلسون ( 1364 - 1285هجرية 1945 - 1868 /ميالدية) سنة
1927ميالدية ،وتأثر به كثيًر ا وتوَّثقت بينهما موَّدة حتى وفاة هذا األستاذ.
وقد حصل على المرتبة األولى مرتْين في مواد الدراسات الشرقية (1929ميالدي) .ولتفوقه هذا
ُم ِنح ميدالية وليم براون ،كما نال عدة منح أخرى ،واختير في عام 1931ميالدي زمياًل باحًثا في
كلية بمبروك التي تخرج فيها.
ثم ارتحل إلى مصر عام 1931ميالدي لمواصلة دراسته للغة العربية ،وُعِّين في كلية اآلداب
بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة اليوم) رئيًسا لقسم الدراسات القديمة (اليونانية والالتينية) ،وبقي
في هذه الوظيفة من أكتوبر 1932حتى يوليو 1934ميالدية .ونشر في مجلتها كتاب «النبات»
المنسوب إلى أرسطو ،وهو في الحقيقة لنقوالوس ،وزَّو ده بتعليقاٍت وفيرة ،وخالل إقامته في مصر
زار فلسطين ولبنان وسورية لجمع مواد ألبحاثه المقبلة.
وقد تعَّر ف إلى سيرينا سيمونز ،Sarina Simonsثم اقترن بها في كمبردج في 1932ميالدي .وبعد
زواجهما عادا إلى مصر ،وهي ُر ومانية األصل ،وأنجبا طفلتهما الوحيدة أَّنا سارا في القاهرة.
اعتمد أربري على قاموس أكسفورد الجديد عندما أراد إعطاء تعريف للمستشرق ،فقال إنه هو
«َم ن تبَّح ر في لغات الشرق وآدابه» .وبينما كان يمضي إجازته عام 1934ميالدي في إنجلترا
ُعِّيَن مساعًدا محافًظا في«مكتبة الديوان الهندي» بلندن.
ومنحته جامعة كمبردج درجة الدكتوراه في اآلداب عام 1936ميالدي .وفي هذه السنة أيًض ا
أصدر «فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الديوان الهندي» .وأتبعه في عام 1937ميالدي
بكتاب «فهرست الكتب الفارسية» في المكتبة نفسها .وتتابعت بعد ذلك أعماله في فهرسة
المخطوطات العربية والفارسية.
ولَّم ا اندلعت الحرب العالمية الثانية في أول سبتمبر 1939ميالدية ،انُتِز ع أربري من أعماله
العلمية المفيدة ،وُنقل إلى قسم الرقابة على البريد التابع لوزارة الحرب في ليفربول ،فأمضى فيه
ستة أشهرُ ،نقل بعدها إلى وزارة اإلعالم في لندن ،فبقي في هذا العمل طوال أربع سنوات يصدر
بنفسه ،أو مع غيره ،منشوراٍت ال نهاية لها للدعاية البريطانية في الشرق األوسط ،باللغتين العربية
والفارسية ،بل إنه ظهر في فيلم للدعاية البريطانية.
وتكفيًر ا عن هذه «المهَّم ة المنحطة» ،فَّكر أربري في تقديم الَّشرق إلى الغرب بترجمة كتٍب
عربية وفارسية وتأليف كتٍب وأبحاٍث لتفهيم األوروبيين حقيقة اإلسالم :حضارته وآدابه وعقيدته.
يقول أربري« :قبل أن يتيَّسر إقرار الحق عن الَّشرق وُشعوبه في الضمير المشترك للغرب،
ينبغي إزالة حشٍد هائل من الباطل وُسوء الفهم واألكاذيب المتعَّم دة .وإنه لجزء من واجب
المستشرق ذي الضمير الحّي القيام بهذه اإلزالة .لكن ال تدعه يحسب أن هذه المهَّم ة سهلة أو أنه
ُخ صوًص ا سيلقى عنها الجزاء».
وقد أبلى أربري في هذا السبيل خير بالٍء ،يشهد على ذلك إنتاجه :من ُكتب ،وتحقيقات
لمخطوطات ،وترجمات ،ومقاالت علمية ممتازة ،وما أشرف على نشره من كتب ،وهي تقارُب
المائة على هيئة كتب ،والسبعين على هيئة مقاالت علمية.
وخالل عمله في وزارة اإلعالم ،أصدر في هذا المجال ،أي على سبيل الدعاية ،كتاًبا بعنوان
«اإلسهام البريطاني في الدراسات الفارسية» ( 1942ميالدية) ،وآخر بعنوان« :المستشرقون
البريطانيون» ( 1943ميالدية).
ولما تقاعد مينورسكي V.F. Minorskyفي 1944ميالديةُ ،عّين أربري مكانه أستاًذا للغة الفارسية في
«مدرسة الدراسات الشرقية واإلفريقية» .ومن أجل عمله الجديد هذا أصدر متوًنا لتعليم الفارسية .فنشر في 1944
ميالدية كتاب «قراءة في اللغة الفارسية الحديثة» .وفي 1945ميالدية نشر الفصلين األولين من «جولستان» سعدي
الشيرازي مع تعليقات .وفي 1958ميالدية أصدر كتاًبا بعنوان« :األدب الفارسي الكالسيكي» .وفي 1965ميالدية
أصدر كتابه« :الِّش عر العربي».
وبعد عامين من تعيينه في «مدرسة الدراسات الشرقية واإلفريقية» صار أستاًذا لكرسي اللغة
العربية ،وانُتخب رئيًسا لقسم الَّشرق األوسط في تلك المدرسة .لكنه لم يستمر طوياًل ،إذ استقال
أستوري C.A. Storeyمن منصبه أستاًذا لكرسي توماس أدمز في كمبردج1947 ،ميالدية ،فُعرض هذا المنصب
على أربري؛ فقبله وصار أستاًذا في جامعة كمبردج ابتداًء من عام 1947ميالدية .وكان هذا ،كما قال عن نفسه «أعظم
لي ،Samuel Leeورايت Writghtوبراون شرف طمحت إليه :أن أكون خليفة لهويلوك Wheelockوأوكلي ،Ockleyوصمويل
Brownونيكلسون »Nicholsonوهم أعالم المستشرقين الذين تعاقبوا على كرسي الدراسات العربية واإلسالمية في جامعة كمبردج .وعلى الفور أعيد
انتخابه زمياًل في كليته القديمة ،كلية بمبروك .وألقى محاضرته االفتتاحية في 30من أكتوبر 1947ميالدية بعنوان« :المدرسة العربية في كمبردج» ،فيها أشاد
بذكرى أسالفه في هذا المنصب وأعمالهم ،منذ سنة 1632ميالدية ،تاريخ إنشاء كرسي الدراسات العربية واإلسالمية في جامعة كمبردج.
ومن كتبه التي تركها غير تحقيقه وترجمته إلى اإلنجليزية «المواقف والمخاطبات» للنَّفري
بدعوة من رينولد نيكلسون ،تحقيق كتاب «التعُّر ف إلى أهل التصُّو ف» للكالباذي ،وهو من أقدم
الكتب في التصُّو ف (القاهرة 1934ميالدية) ،وترجمه إلى اإلنجليزية بعنوان The Doctrine of the
( Sufisكمبردج 1935ميالدية) .فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الديوان الهندي – لندن1936 ،ميالدية .فهرست
الكتب الهندية بالمكتبة نفسها 1937ميالدية .تحقيق كتاب «الرياضة» للحكيم الترمذي ،طبع في القاهرة 1947ميالدية.
«خمسون قصيدة لحافظ» الشيرازي ،مع ترجمة إلى اإلنجليزية« .صفحات من كتاب اللمع» وقَّدم له بمقدمة عن أستاذه
نيكلسون .ترجمة «زنبقة سينا» لمحمد إقبال ،الشاعر الهندي الكبير .وقد واصل بعد ذلك ترجمة قصائد لمحمد إقبال
هي« :مزامير فارسية» 1948ميالدية« ،أسرار بيخودي» (أسرار الالذات)1953 ،ميالدية .جاويد نامه،
1966ميالدية .ترجمة مسرحية «مجنون ليلى» ألحمد شوقي .ونشرها عام 1933ميالدية.
كما نشر كتاب «الصدق» للخَّر از مع ترجمة إلى اإلنجليزية .واختار نماذج من الخطوط العربية
والفارسية الموجودة في مكتبة الديوان الهندي ،ونشرها بعنوانspecimens of Arabic and :
.Persian Paleography، 1939
ويذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين :أَّن أرثر أربري عثر في
مجموعة شستر بيتي على مخطوط لـ«رباعيات الخيام» فنشره في 1949ميالدية ،وترجمه في
1951ميالدية .كما عثر على مخطوٍط آخر «لرباعيات الخيام» ،فاقتناه لمكتبة جامعة كمبردج في
1950ميالدية ،وترجمه في 1952ميالدية.
وفي 1956ميالدية أعاد نشر الترجمتين اللتين قام بهما إدوارد فتزجرلد Edward Fitzgerald
مترجم الخيام الشهير لقصيدة «سالمان وأبسال» نظم عبد الرحمن الجامي الَّشاعر الصوفي الفارسي .وزَّو د هذه النشرة
بترجمٍة حرفية جديدة قام بها لهذه القصيدة ،مع مقدمة طويلة مستمدة من مواد موجودة في «محفوظات فتزجرالد» في
مكتبة جامعة كمبردج ،ومن المنبع نفسه استقى المادة لمقدمة كتابه «قصة الرباعيات» (1959ميالدية).
وفي أوائل الخمسينيات أخذ أربري على عاتقه القيام بترجمة جديدة للقرآن .فأصدر أواًل ترجمة
لمختاراٍت من بعض آيات القرآن ،مع مقدمة طويلة ،وصدر ذلك بعنوان ،The Holy Koranوهو
المجلد التاسع من سلسلة بعنوان« :الكالسيكيات األخالقية والدينية للشرق والغرب» ،وقد أشرف على إصدار هذه
السلسلة ابتداًء من عام 1950ميالدي .وفي 1955ميالدية أصدر ترجمته المفّسرة للقرآن تحت عنوانThe Koran :
Interpretedفي مجَّلدين .وكما يدل عليه العنوان ،فإن هذه ليست ترجمة حرفية ،بل ترجمة ُم فّسرة Interpretedتعطي المعنى في
أسلوٍب رشيٍق جميٍل ،من دون التقُّيد بحرفية اآليات وال تسلسل تركيبها اللغوي .إنها أجمل في القراءة من أية ترجمٍة أخرى للقرآن إلى
Rodwellاإلنجليزية ،أو ترجمة بالشير الفرنسية .ومع ذلك فهي من أجِّل أعمال أية لغة ،لكنها ال تغني عن الترجمات الدقيقة مثل ترجمة رودول
ومنذ 1956ميالدية تحالفت األمراض واآلالم على أربري ،وظل يعاني منها معاناًة شديدة حتى
توفي في الثاني من أكتوبر 1969ميالدية في بيته بكمبردج.
وقد كان أربري هادئ الطبع ،صافي الضمير ،يحبه كل َم ن يعرفه ،وكان مرهف اإلحساس
الشعري ،رشيق األسلوب ،واسع االطالع على كل ما يتصل باهتماماته من أبحاث .وهو أشبه ما
يكون بأستاذه نيكلسون :إنتاًج ا وأخالًقا وذوًقا أدبًّيا وجمال أسلوب.
وهناك ببليوغرافيا بأهم أعمال أربري ،وقد ترجمها د .حسين يوسف حسين.
وأنا أبحُث وجدُت مقااًل نادًر ا منُشوًر ا في السادس من مايو سنة 1935ميالدية للدكتور عبد
الوهاب عَّز ام ( 1من يناير 1 /1894من يناير 1959ميالدية) نشره في العدد 96من مجلة
«الرسالة» الشهيرة ،بمناسبة إصدار صديقه أربري لكتاب «المواقف والمخاطبات» للنَّفري:
-1األستاذ نيكلسون أستاذ األدب العربي بجامعة كمبردج ،أحد العلماء األوربيين الذين عنوا
بدراسة التصوف اإلسالمي ،وبلغوا في درسه والعلم بتاريخه درجة عالية.
ولألستاذ نيكلسون أياد مشكورة في ترجمة كتب التصوف الفارسية والعربية إلى اإلنجليزية،
ونشر نصوصها ،والكتابة في كثير من مباحث التصوف .وأعظم مآثره في ذلك ترجمته الكتاب
الخالد ،كتاب المثنوي إلى اإلنجليزية ،ونشره األصل الفارسي في طبعٍة مرتبٍة مصححٍة ،ال تقاس
بها طبعة أخرى؛ وال ريب أن األستاذ يعد اليوم من أئمة هذا الشأن في المشرق والمغرب.
-2ولألستاذ نيكلسون تالميذ نهجوا نهجه واقتفوا أثره في العناية بالتصوف اإلسالمي ،واالهتمام
بإحياء كتبه ونشرها.
ومنهم صديقنا النابغة العالمة أربري الذي سعدنا بصحبته حيًنا في كلية اآلداب ،ثم شقينا بفراقه
هذا العام ،إذ ولي منصب في المكتبة الهندية بلندن وكان صديقنا أربري ،زمان إقامته بالقاهرة،
دائب البحث عن المخطوطات الصوفية ،يواصل الجهد في تصحيحها ومقابلة بعضها ببعض،
ونسخها بخطه العربي الجميل ،وقد يسر له أن يجمع جملة نادرة من رسائل التصوف وكتبه ،منها:
رسائل المحاسبي والسلمي من متقدمي الصوفية.
ثم بدأ ينشر ما جمعه وصَّح حه ،فطبع في القاهرة كتابْي «المواقف والمخاطبات» اللذين نكتب
عنهما اليوم ،وترجمهما إلى اإلنجليزية ،ثم نشر األصل والترجمة في كتاٍب واحٍد ،وكتب له مقدمًة
نفيسًة.
-3محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري ،أحد صوفية القرن الرابع الهجري ،توفي سنة 354
هجرية أو بعدها بقليل .وينسب إلى قرية نفر إحدى قرى العراق ،وهي مدينة نبور البابلية القديمة.
ويقال إَّن أبا الشيخ كان جَّو ااًل في البراري ال يستقر في مكاٍن ،وال يسكُن إلى إنساٍن ،وأنه توفي
بإحدى قرى مصر.
ولم ينبه ذكر الشيخ بين رجال الصوفية ،ولم تذع كتبه بين الناس .وقد ذكره محيي الدين بن
العربي في كتاب «الفتوحات» ،والَّشعراني في «الطبقات الكبرى» ،ولكن المأثور من أخباره قليل.
وللشيخ النفري كلمات في التصوف ،طائفة منها تبدأ بقوله :أوقفني على كذا ،واألخرى تبدأ
بقوله :خاطبني .وقد جمع ابن بنته كلماته في كتابْي «المواقف والمخاطبات» اللذين نشرهما
صديقنا العالمة أربري.
وخير تعريف للكتابين أن أعرض على القارئ بعض كلماتهما ،فهذه شذرات من المواقف ،وفي
العدد اآلتي ننقل شذرات من المخاطبات.
وسيرى القارئ أن هذا الكتاب بدع من كتب التصوف ،وأنه من األدب الصوفي الذي ال يعرف
نظيره».
وقد اختار الدكتور عبد الوهاب عَّز ام أربعة مواقف من كتاب «المواقف» وهي :موقف العز،
موقف البحر ،موقف المطلع ،موقف الموت ،نشرها مع مقاله القصير.
وقد أّلف األب نويا باللغة الفرنسّية كتاب «التأويل القرآنّي ونشأة اللغة الصوفّية» ،و نشر وترجم
مع مقّدمٍة وحواٍش ،باالشتراك مع األب سمير خليل سمير اليسوعّي المراسلة بين ابن المنّج م
وحنين بن إسحاق وقسطا بن لوقا ،وأسهم في عّدة أبواب في دائرة المعارف للبستانّي ،ودائرة
المعارف اإليرانّية ،ودائرة المعارف اإلسالمّية ،وأّلف كتاًبا للتأّم الت عنوانه «صوت المسيح».
وقد ترجم األب بولس نويا بعض قصائد جالل الدين الرومي.
ونشر باللغة العربية «تفسير القرآن لإلمام جعفر الصادق» ،وكتب دراسة عنه بالفرنسية عام
1969ميالدي .كما نشر «تفسير أبي الحسن الحّر الي المراكشي للقرآن» ،ونشر رسالته «مفتاح
الباب المقفل لفهم القرآن المنّز ل» ،ودرس األب نويا كتاب «معرفة األسرار» للحكيم الترمذي.
و من كتاب« :اليسوعّيون واآلداب العربّية واإلسالمّية ..سَير وآثار» ،لألب كميل حشيمة
اليسوعّي نعرف أن األب بولس ُنِو ّيا من مواليد قرية إينشكي في منطقة العمادّية في جبال كردستان
العراقّية ،وقد ُأرسل إلى المعهد اإلكليريكي في الموصل ألّن والده ،وهو من أعيان بلدته ،كان
يرغب في أن يعتنق أحد أفراد عائلته السلك اإلكليركّي ،حيث درس العلوم األدبّية والفلسفّية
والالهوتّية ،وأخذ يهتّم بالشؤون اإلسالمّية ،وال سّيما التصّو ف ،لما رأى فيه مجااًل للتالقي بين
المسيحّية واإلسالم.
وفي الثانية والعشرين من عمره ،وإذ كان بطريرك طائفته ُيريد ترقيته إلى درجة الكهنوت،
طلب أن ُيسمح له بدخول الرهبانّية اليسوعّية لُيتاح له تحقيق رغبته على أكمل وجه ،واستطاع أن
ُيقنع الدوائر الرسمّية في روما والتغّلب على ممانعة ذويه ،فانضّم إلى اليسوعّيين بلبنان في مطلع
العام 1948ميالدي.
وبعد سنتي االبتداء في دير بكفيا وخمس سنوات ُأخرى إلكمال دروسه الجامعّية وال سّيما في
اإلسالمّيات بإشراف المستشرق لويس ماسينيونُ ،ر سم كاهًنا في الموصل في ( 29من يونيو عام
1955ميالدي) .وأنهى مراحل التنشئة بإمضاء سنة في مونستر بألمانيا .وما إن انقضت هذه
السنة األخيرة حّتى ُعّين زائًر ا رسولًّيا على رهبانّية مار هرمز الكلدانّية مهتًّم ا خصوًص ا بتنشئة
الرهبان الشّبان .إال أّنه طلب بعد أربع سنوات أن ُيعفى من المهّم ة الصعبة هذه؛ ليتسّنى له التفّر غ
للعمل الجامعّي واألبحاث العلمّية في مجال اختصاصه.
وقد درس اإلسالمّيات في معهد اآلداب الشرقّية ببيروت ،وأشرف على سلسلة «بحوث
ودراسات» الصادرة عن المعهد المذكور ودار المشرق اليسوعّية ،واالنتهاء من تحرير أطروحته
للدكتوراه اّلتي تقّدم بها في جامعة السوربون بباريس العام 1970ميالدي .وبعد ذلك كان يوّز ع
وقته بين بيروت وباريسُ ،يشرف على األطاريح وُيدّر س في جامعة القّديس يوسف ،والمعهد
العلمّي للدروس العليا في باريس ،متبّو ًئا الكرسّي اّلذي سبقه إليه أستاذه ،ومن ثّم صديقه وزميله
لويس ماسينيون .إاَّل أّن كثرة أعماله أنهكت قواه ،وعاجلته المنّية بباريس؛ فتوفي بسكتة قلبّية ،وهو
لَّم ا يزل في الخامسة والخمسين ،يوم 25من فبراير 1980ميالدي.
مختارات من نصوص النَّفري
ومن األشياء التي توقفت أمامها منذ قراءتي األولى له في طبعة الكتاب التي صدرت عن الهيئة
المصرية العامة للكتاب بتحقيق أرثر أربري وتقديم وتعليق الدكتور عبد القادر محمود سنة 1985
ميالدية ،وإن كنت اعتمدت في هذه المختارات على طبعة مكتبة المتنبي وهي من دون تاريخ
للنشر ،وهي صورة طبق األصل من طبعة دار الكتب المصرية التي صدرت في القاهرة سنة
1935ميالدية ،التي طبعت للمرة األولى بعد مقابلة سبع نسخ بعناية وتصحيح واهتمام أرثر يوحنا
أربري المحاضر بالجامعة المصرية وزميل كلية بمبروك في جامعة كمبردج حسب ما جاء في
الغالف الداخلي من الكتاب ،وقد كمل طبع «كتاب المواقف» و«كتاب المخاطبات» بمطبعة دار
الكتب المصرية في يوم الخميس 15من ذي القعدة سنة 1352هجرية ،األول من مارس سنة
1934ميالدية ،حسب ما أشار محمد نديم مالحظ المطبعة بدار الكتب المصرية.
مختارات من كتاب المواقف
َمْو ِقُف الَبْح ِر
أْو َقفني في الَبْح ِر َفَر أْيُت الَمَر اِك َب َتْغَر ُق َو األْلَو اَح َتْس َلُم ،ثَّم َغَر قت األْلَو اُح َ ،و قاَل لِي :ال َيْس َلُم َم ْن
َر كب.
َو قاَل ليَ :هَلَك َم ْن أْلقى بَنْفِسِه َو لْم َيْر َكْب .
َو قاَل لي :في الُم َخاطَر ِة ُج ْز ٌء ِم َن الَّنجاِةَ ،و َج اَء الَم ْو ُج َفَر َفَع َم ا َتْح َتُهَ ،و َساَح على الَّساِح ل.
َو قاَل لي :ظاِه ُر الَبْح ِر َضْو ٌء ال ُيْبَلُغ َ ،و َقْعُر ُه ُظْلَم ٌة ال ُتَم َّكُن َ ،و َبْيَنُه َم ا ِح يتاٌن ال ُتْستأَم ُن .
َو قاَل لي :ال َتْر كِب الَبْح َر َ ،فأْح ُجُبَك باآللِة َ ،و ال ُتْلِق َنْفَسَك فْيِه فأْح ُجُبَك بِه .
َو قاَل لي :في الَبْح ِر ُح ُدوٌدَ ،فأُّيَه ا ُيقُّلَك .
َو قاَل ليَ :غَشْشُتَك إْن َد للُتَك على ِس َو اَي .
َو قاَل لي :إْن َهَلْك َت في ِس َو اَي ُكْنَت ِلَم ا َهَلْك َت فْيِه .
َو قاَل لي :الُّدنَيا ِلَم ْن َصَر ْفُتُه َعْنَه اَ ،و اآلِخ َر ُة ِلَم ْن أقَبَلُت بَه ا إلْيِه َو أقَبْلُت بِه َعلَّي .
موقُف الُقرب
أوقفني في القرب وقال لي :ما مني شيء أبعد من شيء ،وال مني شيء أقرب من شيء إال حكم
إثباتي له في القرب والبعد.
وقال لي :البعد تعرفه بالقرب ،والقرب تعرفه فَّي بالوجود.
وأنا الذي ال يرومه القرب ،وال ينتهي إليه الوجود.
وقال لي :أدنى علوم القرب أن ترى آثار نظري في كل شيء فيكون أغلب عليك من معرفتك به.
وقال لي :القرب الذي تعرفه في القرب الذي أعرفه كمعرفتك في معرفتي.
وقال لي :ال بعدي عرفت وال قربي عرفت وال وصفي كما وصفي عرفت.
وقال لي :أنا القريب ال كقرب الشيء وأنا البعيد ال كبعد الشيء من الشيء.
وقال لي :قربك ال هو بعدك وبعدك ال هو قربك ،وأنا القريب البعيد قرًبا هو البعد وبعًدا هو
القرب.
وقال لي :القرب الذي تعرفه مسافة ،والبعد الذي تعرفه مسافة ،وأنا القريب البعيد بال مسافة.
وقال لي :أنا أقرب اللسان من نطقه إذا نطق ،فَم ن شهدني لم يذكر وَم ن ذكرني لم يشهد.
وقال لي :الشاهد الذاكر إن لم يكن حقيقة ما شهده حجبه ما ذكر.
وقال لي :ما كل ذاكر شاهد وكل شاهد ذاكر.
وقال لي :تعرفت إليك وما عرفتني ذلك هو البعد ،رآني قلبك وما رآني ذلك هو البعد.
وقال لي :تجدني وال تجدني ذلك هو البعد ،تصفني وال تدركني بصفتي ذلك هو البعد ،تسمع
خطابي لك من قلبك وهو مني ذلك هو البعد ،تراك وأنا أقرب إليك من رؤيتك ذلك هو البعد.
موقف الكبرياء
أوقفني في كبريائه وقال لي :أنا الظاهر الذي ال يكشفه ظهوره ،وأنا الباطن الذي ال ترجع
البواطن بدرك من علمه.
وقال لي :بدأت فخلقت الفرق فال شيء مني وال أنا منه ،وعدت فخلقت الجمع فيه اجتمعت
المتفرقات وتألفت المتباينات.
وقال لي :ما كل عبد يعرف لغتي فتخاطبه ،وال كل عبد يفهم ترجمتي فتحادثه.
وقال لي :لو جمعت قدرة كل شيء لشيء ،وحزت معرفة كل شيء لشيء ،وأثبت قوة كل شيء
لشيء .ما حمل تعرفي بمحوه ،وال صبر على مداومتي بفقد وجده لنفسه.
وقال لي :األنوار من نور ظهوري بادية وإلى نور ظهوري آفلة ،والظلم من فوت مرامي بادية
وإلى فوت مرامي آئبة.
وقال لي :الكبرياء هو العز والعز هو القرب والقرب فوت عن علم العالمين.
وقال لي :أرواح العارفين ال كاألرواح وأجسامهم ال كاألجسام.
وقال لي :أوليائي الواقفون بين يدي ثالثة :فواقف بعبادة أتعرف إليه بالكرم ،وواقف بعلم أتعرف
إليه بالعزة ،وواقف بمعرفة إليه بالغلبة.
وقال لي :نطق الكرم بالوعد الجميل ،ونطقت العزة بإثبات القدرة ،ونطقت الغلبة بلسان القرب.
وقال لي :الواقفون بي واقفون في كل موقف خارجون عن كل موقف.
موقف قد جاء وقتي
أوقفني وقال لي :إن لم ترني لم تكن بي.
وَقال ِلي :إْن َر أْيت َغْيري ..لْم َترِني.
وقال لي :إشارتي في الشيء تمحو معنى المعنى فيه وتثبته منه ال به.
وقال لي :فيك ما ال ينصرف وال يصرف.
وقال لي :أصمت لي الصامت منك ينطق الناطق ضرورة.
وقال لي :أثر نظري في كل شيء فإن خاطبته على لسانك قلبته.
وقال لي :اجعل ذكري وراء ظهرك وإال رجعت إلى سواي ال حائل بينك وبينه.
وقال لي :قد جاء وقتي وآن لي أن أكشف عن وجهي وأظهر سبحاتي ويتصل نوري باألفنية وما
وراءها وتطلع على العيون والقلوب ،وترى عدوي يحبني وترى أوليائي يحكمون ،فأرفع لهم
العروش ويرسلون النار فال ترجع ،وأعمر بيوت الخراب وتتزين بالزينة الحق ،وترى قسطي
كيف ينفي ما سواه ،وأجمع الناس على اليسر فال يفترقون وال يذلون ،فأستخرج كنزي وتحقق ما
أحققتك به من خبري وعدتي وقرب طلوعي ،فإني سوف أطلع وتجتمع حولي النجوم ،وأجمع بين
الشمس والقمر ،وأدخل في كل بيت ويسلمون علَّي وأسلم عليهم ،بذلك بأن لي المشيئة وبإذني تقوم
الساعة ،وأنا العزيز الرحيم.
من موقف الرحمانية
وقال لي :إذا رأيتني فانصرني ،فلن يستطيع نصرتي َم ن لم يرني.
وقال لي :إذا لم تقَو على الحجاب عني فقد آذنتك بخالفتي.
وقال لي :البس خاتمي الذي أتيتك تختم به على كل قلب راغب بالرغبة ،وكل راهب بالرهبة،
فتحوز وال تحاز ،وتحصر وال تحصر.
من موقف الوقفة
أوقفني في الوقفة وقال لي :الوقفة ينبوع العلم فَم ن وقف كان علمه تلقاء نفسه ،وَم ن لم يقف كان
علمه عند غيره.
وقال لي :الواقف ينطق ويصمت على حكم واحد.
وقال لي :الوقفة نورية تعِّر ف القيم وتطمس الخواطر.
وقال لي :الوقفة وراء الليل والنهار ووراء ما فيهما من األقدار.
وقال لي :الوقفة روح المعرفة والمعرفة روح العلم والعلم روح الحيوة.
وقال لي :كل واقف عارف ،وما كل عارف واقف.
وقال لي :الواقفون أهلي ،والعارفون أهل معرفتي.
من موقف معرفة المعارف
أوقفني في معرفة المعارف ،وقال لي :إذا عرفت معرفة المعارف جعلت العلم دابة من دوابك
وجعلت الكون كله طريًقا من طرقاتك.
وقال لي :لمعرفة المعارف عينان تجريان ،عين العلم ،وعين الحكم ،فعين العلم تنبع من الجهل
الحقيقي ،وعين الحكم تنبع من عين ذلك العلم .فَم ن اغترف العلم من عين العلم اغترف العلم
والحكم ،وَم ن اغترف العلم من جريان العلم ال من عين العلم نقلته ألسنة العلوم وميلته تراجم
العبارات فلم يظفر بعلم مستقر وَم ن لم يظفر بعلم مستقر لم يظفر بحكم.
وقال لي :قف في معرفة المعارف وأقم في معرفة المعارف تشهد ما أعلمته فإذا شهدته أبصرته،
وإذا أبصرته ،فرقت بين الحجة الواجبة وبين المعترضات الخاطرة ،فإذا فرقت ثبت ،وما لم تفرق
لم تثبت.
وقال ليَ :م ن لم يغترف العلم من عين العلم لم يعلم الحقيقة ولم يكن لما علمه حكم ،فحلت علومه
في قوله ال في قلبه ،كذلك تحل فيَم ن علم.
وقال لي :اعرف سطوتي تحذر مني ومن سطوتي.
من موقف األعمال
أوقفني في األعمال ،وقال لي :إنما صفتك الحد ،وصفة الحد الجهة ،وصفة الجهة المكان ،وصفة
المكان التجزيء ،وصفة التجزيء التغاير ،وصفة التغاير الفناء.
وقال لي :إن أردت أن تثبت فقف بين يدي في مقامك وال تسألني عن المخرج.
وقال لي :تعلم وال تسمع من العلم واعمل وال تنظر إلى العمل.
وقال لي :عمل الليل عماد لعمل النهار.
وقال لي :تخفيف عمل النهار أدوم فيه ،وتطويل عمل الليل أدوم فيه.
وقال لي :إن لم تعرف صفتك علمت وجهلت وعملت وفترت ،فبحسب ما بقي عندك من العلم
تعمل وبحسب ما عارضك من الجهل تترك.
وقال لي :زن العلم بميزان النية ،وزن العمل بميزان اإلخالص.
من موقف التذكرة
وقال لي :المعرفة ما وجدته ،والتحقق بالمعرفة ما شهدته.
وقال لي :لكل شيء شجر ،وشجر الحروف األسماء ،فاذهب عن األسماء تذهب عن المعاني.
وقال لي :إذا ذهبت عن المعاني صلحت لمعرفتي.
من موقف األمر
أوقفني في األمر ،وقال لي :اكتب َم ن أنت لتعرف َم ن أنت؛ فإن لم تعرف َم ن أنت ،فما أنت من
أهل معرفتي.
وقال لي :أليس إرسالي إليك العلوم من جهة قلبك إخراًج ا لك من العموم إلى الخصوص أوليس
تخصيصي لك بما تعرفت به إليك من طرح قلبك وطرح ما بدا لك من العلوم من جهة قلبك
إخراًج ا لك إلى الكشف أوليس الكشف أن تنفي عنك كل شيء وعلم كل شيء وتشهدني بما أشهدتك
فال يوحشك الموحش حين ذلك وال يؤنسك المؤنس حين أشهدك وحين أتعرف إليك ولو مرة في
عمرك إيذاًنا لك بواليتي ألنك تنفي كل شيء بما أشهدتك فأكون المستولي عليك وتكون أنت بيني
وبين كل شيء.
من موقف المطلع
أوقفني في المطلع ،وقال لي :الباطل يستعير األلسنة وال يوردها موردها كالسهم تستعيره وال
تصيب به.
وقال لي :الحق ال يستعير لساًنا من غيره.
وقال لي :إذا بدت أعالم الغيرة ظهرت أعالم التحقيق.
وقال لي :إذا ظهرت الغيرة لم تستتر.
وقال لي :المطلع مشكاتي التي َم ن رآها لم ينم.
وقال لي :يا عالم اجعل بينك وبين الجهل فرًقا من العلم وإال غلبك ،واجعل بينك وبين العلم فرًقا
من المعرفة وإال اجتذبك.
وقال لي :العلم بابي والمعرفة بوابي.
وقال لي :اليقين طريقي الذي ال يصل سالك إال منه.
وقال لي :من عالمات اليقين الثبات ،ومن عالمات الثبات األمن في الروع.
وقال لي :من يعلم عاقبته ويعمل يزدد خوًفا.
وقال لي :الخوف عالمة من علم عاقبته ،والرجاء عالمة من جهل عاقبته.
وقال لي :إن ذهب قلبك عني لم أنظر إلى عملك.
وقال لي :حِّدث عني وعن حقوقي وعن نعمتي فَم ن فهم عني فاتخذه عالًم ا ،وَم ن فهم عن حقي
فاتخذه نصيًح ا ،وَم ن فهم عن نعمتي فاتخذه أًخ ا.
وقال ليَ :م ن لم يفهم عني وال عن حقي وال عن نعمتي فاتخذه عدًّو ا فإن جاءك بحكمتي فخذها
منه كما تأخذ ضالتك من األرض الُم سبعة.
وقال ليَ :م ن عبدني وهو يريد وجهي دام ،وَم ن عبدني من أجل خوفي فتر ،وَم ن عبدني من
أجل رغبته انقطع.
وقال لي :العلماء ثالثة :فعالم هداه فَّي قلبه ،وعالم هداه فَّي سمعه ،وعالم هداه فَّي تعلمه.
وقال لي :القراء ثالثة :فقارئ عرف الكل ،وقارئ عرف النصف ،وقارئ عرف الدرس.
وقال لي :الكل الظاهر والباطن ،والنصف الظاهر ،والدرس التالوة.
وقال لي :إذا تكلم العارف والجاهل بحكمة واحدة فاتبع إشارة العارف وليس لك من الجاهل إال
لفظه.
من موقف العزة
وقال لي :العقل آلة تحمل حَّدها من معرفة ،والمعرفة بصيرة تحمل حَّدها من إشهادي ،واإلشهاد
قوة تحمل حَّدها من مرادي.
وقال لي :إذا بدت العظمة رأى العارف معرفته نكرة ،وأبصر المحسن حسنته سيئة.
من موقف التقرير
أوقفني في التقرير ،وقال لي :خروج الهم عن الحرف وعَّم ا ائتلف منه وانفرق.
وقال لي :إذا خرجت عن الحرف ،خرجت عن األسماء ،وإذا خرجت عن األسماء خرجت عن
المسميات ،وإذا خرجت عن المسميات خرجت عن كل ما بدا ،وإذا خرجت عن كل ما بدا ،قلت
فسمعت ،ودعوت فُأجبت.
وقال لي :الواقف ال يعرف اﻟﻤﺠاز ،وإذا لم يكن بيني وبينك مجاز لم يكن بيني وبينك حجاب.
وقال لي :معارف كل شيء توجد به ،وأسماؤه من معارفه ،وإذا سقطت معارف الشيء سقط
الوجد به.
وقال لي :لكل شيء اسم الزم ولكل اسم أسماء ،فاألسماء تفرق عن االسم ،واالسم يفرق عن
المعنى.
من موقف الرفق
أوقفني في الرفق ،وقال لي :حسن الظن طريق من طرق اليقين.
من موقف بيته المعمور
أوقفني في بيته المعمور ،وقال لي :القول حجاب فناء القول غطاء فناء الغطاء خطر فناء الخطر
صحة ،علم ذلك يكون حقيقته ال تكون.
من موقف ال تطرف
أوقفني ،وقال لي :كل له عالمة ينقسم بها وتنقسم به.
من موقف ال تفارق اسمي
أوقفني ،وقال لي :إن لم ترني فال تفارق اسمي.
وقال لي :إذا وقفت بين يدي فال يقف معك سواك.
وقال لي :الصدق أن ال يكذب اللسان ،والصديقية أن ال يكذب القلب.
وقال لي :كذب اللسان أن يقول ما لم يقل وأن يقول وال يفعل ،وكذب القلب أن يعقد فال يفعل.
وقال لي :كذب القلب استماع الكذب.
وقال لي :الكذب كله لغة سواي والحق الحقيقي لغتي إن شئت أنطقت بها حجًر ا أو بشًر ا.
وقال لي :كلما علقك بي فهو نطقي عن لغتي.
وقال لي :التمني من كذب القلب.
وقال لي :األماني غرس العدو في كل شيء.
وقال لي :الرجاء في مجاورة األماني والمجاورة اطالع.
وقال لي :لكل متجاورين صحبة.
من موقف كدت ال أواخذه
أوقفني ،وقال لي :أسرع شيء عقوبة القلب.
من موقف لي أعزاء
أوقفني ،وقال لي :فرق بين َم ن غبت عنه ليعتذر وبين َم ن غبت عنه لينتظر.
وقال لي :فارقت المنتظر وطالعت المعتذر.
وقال لي :وعزتي لي أعزاء ما لهم عيون فيكون لهم دموع ،وال لهم إقبال فيكون لهم رجوع.
وقال لي :لي أعزاء ما لهم دنيا فتكون لهم آخرة.
وقال لي :اآلخرة أجر لصاحب دنيا بالحق.
من موقف ما تصنع بالمسئلة
أوقفني ،وقال لي :كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
وقال لي :العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه.
وقال ليَ :م ن ال يعرف نعمتي كيف يشكرني.
من موقف حجاب الرؤية
أوقفني ،وقال لي :إن كنت ذا مال فما أنا منك وال أنت مني.
وقال لي :الغيبة وطن ذكر ،الرؤية ال وطن وال ذكر.
من موقف البصيرة
أوقفني في البصيرة ،وقال لي :ما نهاك شيء عن شيء إال دعاك إليه بما نهاك عنه.
وقال لي :كل شيء سواي يدعوك إليه بشركة وأنا أدعوك إلَّي وحدي.
من موقف الصفح الجميل
أوقفني في الصفح الجميل ،وقال لي :رد علَّي في كل شيء أرد عليك في كل شيء.
وقال لي :اذكرني في كل شيء أذكرك في كل شيء.
من موقف ما ال ينقال
أوقفني في ما ال ينقال ،وقال لي :الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه ،فكيف يخبر عني.
وقال لي :كل كاتب يقرأ كتابته وكل قارئ يحسب قراءته.
من موقف اسمع عهد واليتك
أوقفني ،وقال لي :اعرف َم ن أنت فمعرفتك َم ن أنت هي قاعدتك التي ال تنهدم وهي سكينتك التي
ال تزل.
وقال لي :إن سر الدعاء الحاجة ،وإن سر الحاجة النفس ،وإن سر النفس ما تهوى.
من موقف وراء المواقف
أوقفني وراء المواقف ،وقال لي :الكون موقف .وقال لي :كل جزئية من الكون موقف.
وقال لي :الوسوسة في كل موقف والخاطر في كل كون.
وقال لي :طافت الوسوسة على كل شيء إال على العلم.
وقال لي :العقود قائمة في العلوم والوسوسة تخطر في أحكام العلوم.
من موقف الداللة
أوقفني في الداللة وقال لي :المعرفة بالء الخلق خصوصه وعمومه ،وفي الجهل نجاة الخلق
خصوصه وعمومه.
وقال لي :معرفة ال جهل فيها ال تبدو .جهل ال معرفة فيه ال يبدو.
وقال لي :أدنى ما يبقى من المعرفة اسم البادي.
وقال لي :إذا عرفت َم ن تسمع منه عرفت ما تسمع.
وقال لي :لن تعرف َم ن تسمع منه حتى يتعرف إليك بال نطق.
وقال لي :إذا تعَّر ف إليك بال نطق تعَّر ف إليك بمعناه فلم تمل في معرفته.
وقال لي :المعرفة نار كل المحبة؛ ألﻧﻬا تشهدك حقيقة الغنى عنك.
وقال لي :الشهوة نار تأكل الوقار وال طمأنينة إال فيه وال معرفة إال في طمأنينة.
وقال لي :الهوى يأكل ما دخل فيه.
وقال لي :الجزاء مادة الصبر إن انقطعت عنه انقطع.
وقال لي :الصبر مادة القنوع إن انقطعت عنه انقطع.
وقال لي :القنوع مادة العز إن انقطعت عنه انقطع.
وقال لي :المعرفة الصمتية تحكم والمعرفة النطقية تدعو.
وقال لي :الحكم كفاية والدعاء تكليف.
وقال لي :أنا القريب الذي ال يحسه العلم ،وأنا البعيد الذي ال يدركه العلم.
من موقف َم ن أنت وَم ن أنا
أوقفني وقال ليَ :م ن أنت ،وَم ن أنا؛ فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع األنوار .
وقال لي :ما بقي نور في مجرى بحري إال وقد رأيته ،وجاءني كل شيء حتى لم يبق شيء فقَّبل
بين عيني وسَّلم علَّي ووقف في الظل.
وقال لي :تعرفني وال أعرفك ،فرأيته كله يتعلق بثوبي وال يتعلق بي ،وقال :هذه عبادتي ،ومال
ثوبي وما ملت فلما مال ثوبي .قال ليَ :م ن أنا ،فكسفت الشمس والقمر وسقطت النجوم وخمدت
األنوار وغشيت الظلمة كل شيء سواه ولم تَر عيني ولم تسمع أذني وبطل حسي ،ونطق كل شيء
فقال :هللا أكبر ،وجاءني كل شيء وفي يده حربة ،فقال لي :اهرب ،فقلت :إلى أين ،فقال :قع في
الظلمة ،فوقعت في الظلمة فأبصرت نفسي ،فقال لي :ال تبصر غيرك أبًدا وال تخرج من الظلمة
أبًدا فإذا أخرجتك منها أريتك نفسي فرأيتني وإذا رأيتني فأنت أبعد األبعدين.
من موقف العظمة
أوقفني في العظمة وقال لي :ال تسألني فيما رأيت فإنك غير محتاج ،ولو أحوجتك ما أريتك ،وال
تقعد في المزبلة؛ فتهر عليك الكالب ،واقعد في القصر المصون ،وسد األبواب ،وال يكون معك
غيرك ،وإن طلعت الشمس ،أو طار طائر؛ فاستر وجهك عنه؛ فإنك إن رأيت غيري عبدته ،وإن
رآك غيري عبدك ،وإذا جئت إلَّي فهات الكل معك وإال لم أقبلك فإذا جئت به رددته عليك وال
تنفعك شفاعة الشافعين.
من موقف التيه
أوقفني في التيه ،وقال لي :اصحب المحجوب ،وفارق الموصول وادخل علَّي بغير إذن؛ فإنك إن
استأذنت حجبتك ،وإذا دخلت إلَّي ،فاخرج بغير إذن؛ فإنك إن استأذنت حبستك ،فرأيت كلما أظهر
إبرة ،وكلما أستر خيًطا.
وقال لي :اقعد في ثقب اإلبرة وال تبرح ،وإذا دخل الخيط في اإلبرة فال تمسكه ،وإذا خرج فال
تمده ،وافرح فإني ال أحب إال الفرحان ،وقل لهم قبلني وحدي ورَّدكم كلكم ،فإذا جاؤوا معك قبلتهم
ورددتك ،وإذا تخلفوا عذرﺗﻬم ولمتك ،فرأيت الناس كلهم براء.
وقال لي :أنت صاحبي ،فإن لم تجدني فاطلبني عند أشدهم علَّي تمرًدا ،وإذا وجدتني فال تعصه،
وإن لم تجدني؛ فاضربه بالسيف وال تقتله فأطالبك به ،وخِّل بيني وبينك ،وال تخل بيني وبين
الناس ،وخاصمني وتوكل لهم علَّي فإذا أعطيتك ما تريد فاجعله قرباًنا للنار ،وقف في ظل فقير من
الفقراء فسله أن يسألني ،وال تسألني أنت فأمنع غيرك بمسئلتك فتكون ضًّدا لي وأخذلك ،فرأيت
طرح كل شيء الفوز.
وقال لي :إن طرحت أفلست ،وأنا ال أحب إال األغنياء ،وال أكره إال الفقراء ،فال أرى معك غنًّيا
وال فقيًر ا؛ فإني ال أنظر إلى األنواع.
من موقف الثوب
أوقفني في الثوب وقال لي :إنك في كل شيء كرائحة الثوب في الثوب.
وقال لي :ليس الكاف تشبيًه ا ،هي حقيقة أنت ال تعرفها إال بتشبيه.
وقال لي :يوم الموت يوم العرس ،ويوم الخلوة يوم األنس.
وقال لي :أنظر إليك في قبرك وليس معك ما أردته وال ما أرادك.
وقال لي :أنا في عين كل ناظر.
وقال لي :الجزء الذي يعرفني ال يصلح على غيري.
من موقف االختيار
أوقفني في االختيار وقال لي :إذا رأيت النار فقع فيها وال ﺗﻬرب فإنك إن وقعت فيها انطفت وإن
هربت منها طلبتك وأحرقتك.
وقال لي :أنا أوقد النار باليد الثانية.
وقال لي :إذا تكلمت فتكلم ،وإذا صمت فاصمت.
وقال لي :اخرج إلى البرية الفارغة واقعد وحدك حتى أراك فإني إذا رأيتك عرجت بك من
األرض إلى السماء ولم أحتجب عنك.
وقال لي :قد جعلت لك في السد أبواًبا بعدد ما خلقت وغرست على كل باب شجرة وعين ماء
باردة وأظمأتك ووعزتي لئن خرجت ال رددتك إلى منزل أهلي وال سقيتك من الماء.
وقال لي :نم لتراني فإنك تراني ،واستيقظ لتراك فإنك لن تراني.
وقال لي :اذكرني كما يذكرني الطفل وادعني كما تدعوني المرأة.
من موقف العهد
أوقفني في العهد وقال لي :إن كنت أجير العلم أعطاك الثواب العلم وإن كنت أجير المعرفة
أعطتك السكينة.
وقال لي :كن أجيري أرفعك فوق العلم والمعرفة فترى أين يبلغ العلم وترى أين ترسخ المعرفة
فال يسعك المبلغ وال يستطيعك الرسوخ.
وقال لي :إذا وقفت بي أعطيتك العلم فكنت أعلم به من العالمين وأعطيتك المعرفة فكنت أعرف
ﺑﻬا من العارفين وأعطيتك الحكم فكنت أقوم به من الحاكمين.
وقال لي :الحرف يسري في الحرف حتى يكونه فإذا كانه سرى عنه إلى غيره فيسري في كل
حرف فيكون كل حرف.
وقال لي :الحرف الحسن يسري في الحروف إلى الجنة ،والحرف السوء يسري في الحروف إلى
النار.
وقال لي :اعرف مقامي وقم فيه.
من موقف المراتب
أوقفني في المراتب وقال لي :من عرفني فال عيش له إال في معرفتي ،ومن رآني فال قوة له إال
في رؤيتي.
وقال لي :العلم يدعو إلى العمل ،والعمل يذِّك ر برب العلم وبالعلم ،فمن علم ولم يعمل فارقه العلم،
ومن علم وعمل لزمه العلم.
وقال ليَ :م ن فارقه العلم لزمه الجهل وقاده إلى المهالك ،وَم ن لزمه العلم فتح له أبواب المزيد
منه.
وقال لي :أول المشاهدة نفي الخاطر وآخرها نفي المعرفة.
وقال لي :إذا بدا العلم عن المشاهدة أحرق العلوم والعلماء.
من موقف السكينة
أوقفني في السكينة وقال لي :السكينة أن تدخل إلَّي من الباب الذي جاءك منه تعرفي.
وقال لي :فتحت لكل عارف محق باًبا إلَّي فال أغلقه دونه فمنه يدخل ومنه يخرج وهو سكينته
التي ال تفارقه.
وقال لي :أصحاب األبواب من أصحاب المعارف هم الذين يدخلوﻧﻬا بعلم منها ويخرجون منها
بعلم مني.
وقال لي :الصبر من السكينة ،والحلم من الصبر ،والرفق من الحلم.
من موقف بين يديه
أوقفني بين يديه وقال لي :الحرف حجاب وكلية الحرف حجاب وفرعية الحرف حجاب.
وقال لي :ال يعرفني الحرف ،وال ما في الحرف ،وال ما من الحرف ،وال ما يدل عليه الحرف.
وقال لي :المعنى الذي يخبر به الحرف حرف ،والطريق الذي يهدي إليه حرف.
وقال لي :العلم حرف ال يعربه إال العمل ،والعمل حرف ال يعربه إال اإلخالص ،واإلخالص
حرف ال يعربه إال الصبر ،والصبر حرف ال يعربه إال التسليم.
وقال لي :المعرفة حرف جاء لمعنى فإن أعربته بالمعنى الذي جاء له نطقت به.
وقال لي :إذا تعرفت إليك بال عبارة خاطبك الحجر والمدر.
وقال لي :إن سكنت إلى العبارة نمت ،وإن نمت مت ،فال بحيوة ظفرت ،وال على عبارة حصلت.
وقال لي :األفكار في الحرف ،والخواطر في األفكار ،وذكري الخالص من وراء الحرف
واألفكار ،واسمي من وراء الذكر.
وقال لي :اخرج من العلم الذي ضده الجهل ،وال تخرج من الجهل الذي ضده العلم تجدني.
وقال لي :اخرج من المعرفة التي ضدها النكرة تعرف فتستقر ،فيما تعرف فتثبت ،فيما تستقر
فتشهد ،فيما تثبت فتتمكن ،فيما تشهد.
وقال لي :العلم الذي ضده الجهل علم الحرف ،والجهل الذي ضده العلم جهل الحرف ،فاخرج من
الحرف تعلم علًم ا ال ضد له وهو الرباني ،وتجهل جهاًل ال ضد له وهو اليقين الحقيقي.
وقال لي :إذا جزت الحرف وقفت في الرؤية.
وقال لي :لن تقف في الرؤية حتى ترى حجابي رؤية ورؤيتي حجاًبا.
وقال لي :من علوم الرؤية أن تشهد صمت الكل ،ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل.
وقال لي :من علوم صمت الكل أن تشهد عجز الكل ومن علوم نطق الكل أن تشهد تعرض الكل.
وقال لي :من علوم القرب أن تعلم احتجابي بوصف تعرفه.
وقال لي :إن جئتني بعلم أي علم جئتك بكل المطالبة وإن جئتني بمعرفة أي معرفة جئتك بكل
الحجة.
وقال لي :إذا جئتني فألِق العبارة وراء ظهرك ،وألِق المعنى وراء العبارة ،وألِق الوجد وراء
المعنى.
وقال لي :إذا جئتني فألِق ظهرك ،وألِق ما وراء ظهرك ،وألِق ما قَّدامك ،وألِق ما عن يمينك،
وألِق ما عن شمالك.
وقال لي :لن تلقى في موتك إال ما لقيته في حيوتك.
وقال لي :إن خرجت من معناك خرجت من اسمك ،وإن خرجت من اسمك وقعت في اسمي.
من موقف قلوب العارفين
أوقفني في قلوب العارفين وقال لي :آية معرفتي أن ال تسألني عني وال عن معرفتي.
وقال لي :لن تدوم في عمل حتى ترتبه ،وتقضي ما يفوت منه ،وإن لم تفعل لم تعمل ،ولم تدم.
وقال لي :وزن معرفتك كوزن ندمك.
وقال لي :قلوب العارفين ترى األبد وعيوﻧﻬم ترى المواقيت.
وقال لي :قل للعارفين كونوا من وراء األقدار فإن لم تستطيعوا فمن وراء األفكار.
وقال لي :قل لقلوب العارفين من أكل في المعرفة ونام في المعرفة ثبت فيما عرف.
وقال لي :التقط الحكمة َم ن أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العامدين لها ،إنك تراني
وحدي في حكمة الغافلين ال في حكمة العامدين.
وقال لي :اكتب حكمة الجاهل ،كما تكتب حكمة العالم.
من موقف حق المعرفة
أوقفني في حق المعرفة وقال لي :الحجاب يهتك وللهتك صولة ال تقوم لها فطر المخترعين.
وقال لي :لو رفع الحجاب ولم يهتك سكن من تحته وإنما يهتك فإذا هتك ذهلت معرفة العارفين
فتكسى في الذهول نوًر ا تحمل به ما بدا بعد هتك الحجاب؛ ألﻧﻬا ال تحمل بمعارف الحجاب ما بدا
عند هتك الحجاب.
من موقف عهده
أوقفني في عهده وقال لي :احفظ عليك مقامك وإال ماد بك كل شيء.
وقال لي :مقامك هو الرؤية ...،
وقال لي :الليل والنهار ستران ممدودان على جميع َم ن خلقت وقد اصطفيتك؛ فرفعت السترين
لتراني ،وقد رأيتني؛ فقف في مقامك بين يدَّي ،قف في رؤيتي ،وإال اختطفك كل كون.
وقال لي :إذا اصطفيت أًخ ا ،فكن معه فيما أظهر ،وال تكن معه فيما أسر ،فهو له من دونك سر؛
فإن أشار إليه ،فأشر إليه ،وإن أصفح فأفصح به.
وقال لي :اسمي وأسمائي عندك ودائعي ،ال تخرجها فأخرج من قلبك.
وقال لي :إن خرجت من قلبك عبد ذلك القلب غيري.
من موقف أدب األولياء
أوقفني في أدب األولياء وقال لي :مقام الولي بيني وبين كل شيء فليس بيني وبينه حجاب.
وقال لي :سميت ولّي ولّي ألن قلبه يليني دون كل شيء فهو بيتي الذي فيه أتكلم.
من موقف الليل
أوقفني في الليل وقال لي :ألِق الجهل من يديك ،وخذ العلم فاصرف به عنك البالء ،وأقم في العلم
وإال أخذك البالء.
وقال لي :احتجب عن البالء بالعلم وإال لم تَر نوري وبينتي.
من موقف محضر القدس الناطق
أوقفني بين يديه وقال لي :ألفت بين كل حرفين بصفة من صفاتي فتكونت األكوان بتأليف
الصفات لها والصفة ال ينقال هي فعاله وﺑﻬا تثبت المعاني وعلى المعاني ركبت األسماء.
من موقف الكشف والبهوت
أوقفني في الكشف والبهوت وقال لي :الحجب خمسة :حجاب أعيان ،وحجاب علوم ،وحجاب
حروف ،وحجاب أسماء ،وحجاب جهل.
وقال لي :الدنيا واآلخرة وما فيهما من خلق هو حجاب أعيان وكل عين من ذلك فهي حجاب
نفسها وحجاب غيرها.
وقال لي :العلوم كلها حجب كل علم من حجاب نفسه وحجاب غيره.
وقال لي :حجاب العلوم يرد إلى حجاب األعيان باألقوال وبمعاني األقوال ،وحجاب األعيان يرد
إلى حجاب العلوم بمعاني األعيان وبسرائر مجهوالت األعيان.
وقال لي :حجاب األعيان منصوب في حجاب العلوم ،وحجاب العلوم منصوب في حجاب
األعيان.
وقال لي :حجاب الحروف هو الحجاب الحكمي ،وحجاب الحكم هو من وراء العلوم.
وقال لي :لحجاب العلوم ظاهر ،هو علم الحروف ،وباطن هو حكم الحروف.
من موقف المحضر والحرف
أوقفني في المحضر ،وقال لي :الحرف حجاب والحجاب حرف.
وقال لي :اطرح ذنبك تطرح جهلك.
وقال لي :أوقفت الحرف قدام الكون ،وأوقفت العقل قدام الحرف ،وأوقفت المعرفة قدام العقل،
وأوقفت اإلخالص قدام المعرفة.
وقال لي :ال يعرفني الحرف وال يعرفني ما عن الحرف وال يعرفني ما في الحرف.
وقال لي :إنما خاطبت الحرف بلسان الحرف فال اللسان شهدني وال الحرف عرفني.
وقال لي :النعيم كله ال يعرفني والعذاب كله ال يعرفني.
وقال لي :العلم المستقر هو الجهل المستقر.
وقال لي :إنما توسوس الوسوسة في الجهل وإنما تخطر الخواطر في الجهل.
وقال لي :العارف يخرج مبلغه عن الحرف فهو مبلغه وإن كانت الحروف ستره.
وقال لي :الحرف دليل العلم والعلم معدن الحرف.
وقال لي :أصحاب الحروف محجوبون عن الكشوف قائمون بمعانيهم بين الصفوف.
وقال لي :معناك أقوى من السماء واألرض.
وقال لي :معناك يبصر بال طرف ويسمع بال سمع.
وقال لي :معناك ال يسكن الديار وال يأكل من الثمار.
وقال لي :معناك ال يجّنه الليل وال يسرح بالنهار.
وقال لي :معناك ال تحيط به األلباب وال تتعلق به األسباب.
وقال لي :اذكرني تعرفني وانصرني تشهدني.
وقال لي :أنا القريب فال بيان قرب ،وأنا البعيد فال بيان بعد.
وقال لي :أنا الظاهر ال كما ظهرت الظواهر ،وأنا الباطن ال كما بطنت البواطن.
وقال لي :االسم ألٌف معطوف.
وقال لي :العلم من وراء الحروف.
وقال لي :المحضر خاص ولكل خاص عام.
وقال لي :الحضرة تحرق الحرف ،وفي الحرف الجهل والعلم ففي العلم الدنيا واآلخرة ،وفي
الجهل مطلع الدنيا واآلخرة...
وقال لي :ما النار ،قلت :نور من أنوار السطوة ،قال :ما السطوة ،قلت :وصف من أوصاف
العزة ،قال :ما العزة ،قلت :وصف من أوصاف الجبروت ،قال :ما الجبروت ،قلت :وصف من
أوصاف الكبرياء ،قال :ما الكبرياء ،قلت :وصف من أوصاف السلطان ،قال :ما السلطان ،قلُت :
وصف من أوصاف العظمة ،قال :ما العظمة ،قلُت :وصٌف من أوصاف الذات ،قال :ما الذات ،قلُت
أنت هللا ال إله إال أنت ،قال :قلت الحق ،قلت :أنت قَّو لتني ،قال :لترى بينتي.
وقال لي :ما الجنة ،قلت :وصف من أوصاف التنعيم :،قال :ما التنعيم ،قلت :وصف من أوصاف
اللطف ،قال :ما اللطف ،قلت :وصف من أوصاف الرحمة ،قال :ما الرحمة ،قلت :وصف من
أوصاف الكرم ،قال :ما الكرم ،قلت :وصف من أوصاف العطف ،قال :ما العطف ،قلت :وصف
من أوصاف الود ،قال :ما الود ،قلت :وصف من أوصاف الحب ،قال :ما الحب ،قلت :وصف من
أوصاف الرضا ،قال :ما الرضا ،قلت :وصف من أوصاف االصطفاء ،قال :ما االصطفاء ،قلت:
وصف من أوصاف النظر ،قال :ما النظر ،قلت :وصف من أوصاف الذات ،قال :ما الذات ،قلت:
أنت هللا ،قال :قلت الحق ،قلت :أنت قَّو لتني ،قال :لترى نعمتي.
وقال لي :إن لم تقف وراء الوصف أخذك الوصف.
وقال لي :إن أخذك الوصف األعلى أخذك الوصف األدنى.
وقال لي :إن أخذك الوصف األدنى فال أنت مني وال من معرفتي.
وقال لي :القرآن يبني واألفكار تغرس.
وقال لي :الحرف يسري حيث القصد جيم جنة جيم جحيم.
وقال ليَ :م ن أهل النار ،قلت :أهل الحرف الظاهر ،قالَ :م ن أهل الجنة ،قلت :أهل الحرف
الباطن ،قال لي :ما الحرف الظاهر ،قلت :علم ال يهدي إلى عمل ،قال :ما الحرف الباطن ،قلت:
علم يهدي إلى حقيقة ،قال :ما العمل ،قلت :اإلخالص ،قال لي :ما الحقيقة ،قلت :ما تعَّر فت به ،قال
لي :ما اإلخالص ،قلت :لوجهك ،قال :ما التعُّر ف ،قلت :ما تلقيه إلى قلوب أوليائك.
وقال لي :القول الخالص موقوف على العمل ،والعمل موقوف على األجل ،واألجل موقوف على
الطمأنينة ،والطمأنينة موقوفة على الدوام.
من موقف الصفح والكرم
أوقفني في الصفح والكرم ،وقال لي :تعَّر فُت إلى القلم بمعرفٍة من معارف اإلثبات ،وتعَّر فُت إلى
اللوح بمعرفٍة من معارف الحزن.
من موقف القوة
أوقفني في وصف القوة ،وقال لي :المعدن مستقر ،وللمستقر أبواب ،ولألبواب طرق ،وللطرق
فجاج ،وللفجاج أدالء ،ولألدالء زاد ،وللزاد أسباب.
وقال لي :األجل مجمع الواقفين ومفرق المعلولين.
من موقف الصفح الجميل
أوقفني في الصفح الجميل ،وقال لي :أقم في مقامك تشرب من عين الحيوة فال تموت في الدنيا
وال في اآلخرة.
وقال لي :إن لم تدر َم ن أنت لم تفد علًم ا ولم تكسب عماًل .
من موقف العبادة الوجهية
أوقفني في العبادة الوجهية ،وقال لي :إذا سميتك فلم تعمل على التسمية ،فال اسم لك عندي وال
عمل.
وقال لي :إذا سميتك فعملت على التسمية ،فأنت من أهل الظل.
وقال لي :أهل األسماء أهل الظل.
وقال لي :يا كاتب النور المنشور على سرادقات العظمة اكتب على رفارفها تسبيح ما سبح
واكتب على تسبيح ما سبح معرفة من عرف.
مختارات من كتاب المخاطبات
من مخاطبة 1
يا عبد إن لم تعرف َم ن أنت مني لم تستقر في معرفتي.
يا عبد إن لم تستقر في معرفتي لم تدِر كيف تعمل لي.
يا عبد إن عرفت َم ن أنت مني كنت من أهل المراتب.
يا عبد اعرف َم ن أنت يكن أثبت لقدمك ويكن أسكن لقلبك.
يا عبد الجأ إلَّي في كل حال أكن لك في كل حال.
من مخاطبة 4
يا عبد آية معرفتي أن تزهد في كل معرفة...
يا عبد اعتبر محبتي بنصري لك.
يا عبد لئن أقمت في رؤيتي لتقولن للماء أقبل وأدبر.
يا عبد إذا رأيتني فالعلم ماء من مائك ،فأجره أين شئت؛ لتثبت به ما شئت.
من مخاطبة 5
..ورأيتني من وراء القول ولم تَر القول...
من مخاطبة 6
..االبتداء طاعة المحب.
من مخاطبة 7
يا عبد الهم المحزون كالمعول في الجدار المائل.
يا عبد لكل شيء قلب وقلب القلب همه المحزون.
يا عبد القلب ينقلب قلب القلب ال ينقلب.
من مخاطبة 8
يا عبد َم ن ال يستحيي لزيادة العلم ال يستحيي أبًدا.
من مخاطبة 12
الملتفت ال يمشي معي وال يصلح لمسامرتي.
يا عبد َم ن ال قرار له ال معرفة له.
من مخاطبة 13
يا عبد اجعلني صاحب سرك أكن صاحب عالنيتك ،اجعلني صاحب وحدتك أكن صاحب جمعك،
اجعلني صاحب خلوتك أكن صاحب مالئك.
وقل لي سد باب قلبك الذي يدخل منه سواي ألن قلبك بيتي...
من مخاطبة 14
يا عبد َم ن لم يرني في الدنيا ال يراني في اآلخرة.
يا عبد رؤية الدنيا توطئة لرؤية اآلخرة.
يا عبد َم ن رآني جاز النطق والصمت.
من مخاطبة 15
يا عبد من رآني عرفني وإال فال ،من عرفني صبر علي وإال فال.
يا عبد من صبر عن سواي أبصر نعمتي وإال فال.
يا عبد من أبصر نعمتي شكرني وإال فال.
يا عبد من شكرني تعبد لي وإال فال.
يا عبد من تعبد لي أخلص وإال فال ،من أخلص لي قبلته وإال فال ،من قبلته كلمته وإال فال.
يا عبد من كلمته سمع مني وإال فال ،من سمع مني أجابني وإال فال ،من أجانبي أسرع إلَّي وإال
فال ،من أسرع إلَّي جاورني وإال فال ،من جاورني أجرته وإال فال ،من أجرته نصرته وإال فال ،من
نصرته أعززته وإال فال.
من مخاطبة 17
يا عبد أنا أقرب من الحرف وإن نطق ،وأنا أبعد من الحرف وإن صمت.
كل حجاب ظلمة ألن النور لي وأنا النور...
من مخاطبة 19
يا عبد ال تكن بالعلم فيزل بك ،وال تكن بالمعرفة فتتنكر عليك.
يا عبد أخرج قلبك من المؤتلف تخرج من المختلف.
من مخاطبة 21
كلما كان أخف كان أسرع...
كلما كان أكظم كان أعظم...
كلما كان أدأب كان أقرب.
من مخاطبة 23
يا عبد إذا كنت بي ال يسعك المكان ،وإذا نطقت بي لم يسعك النطق.
يا عبد الحرف خزانتي فَم ن دخلها فقد حمل أمانتي...
يا عبد الحرف لغات وتصريف وتفرقة وتأليف وموصول ومقطوع ومبهم ومعجم وأشكال
وهيئات ،والذي أظهر الحرف في لغة هو الذي صَّر فه والذي صَّر فه هو الذي فَّر قه والذي فَّر قه هو
الذي أَّلفه والذي أَّلفه هو الذي واصل فيه والذي واصل فيه هو الذي قطعه والذي قطعه هو الذي
أﺑﻬمه والذي أﺑﻬمه هو الذي أعجمه والذي أعجمه هو الذي أشكله والذي أشكله هو الذي هَّيأه ،ذلك
المعنى هو معنى واحد ذلك المعنى هو نور واحد ذلك الواحد هو األحد الواحد.
من مخاطبة 25
يا عبد ابِن لقلبك بيًتا جدرانه مواقع نظري...
يا عبد أصل المعصية ِلَم وأصل الطاعة سقوط ِلَم .
من مخاطبة 26
يا عبد إذا رأيتني في الضدين رؤية واحدة فقد اصطفيتك بنفسي.
يا عبد الغيبة أن ال تراني في شيء ،الرؤية أن تراني في كل شيء.
يا عبد اجعل لي يوًم ا ولك يوًم ا وابتدئ بيومي يحمل يومك يومي.
يا عبد اصبر لي يوًم ا أكفك غلبة األيام.
من مخاطبة 27
يا عبد االسم سترة على العين.
يا عبد الكشف جنة الجنة ،الغطاء نار النار.
من مخاطبة 28
يا عبد يومك هو عمرك.
يا عبد ال تصح المحادثة إال بين ناطٍق وصامت.
من مخاطبة 30
يا عبد صاحب الرؤية يفسده العلم كما يفسد الخل العسل.
يا عبد في الدواء عين من الداء.
يا عبد الرؤية علم اإلدامة فاتبعه تغلب على الضدية.
من مخاطبة 31
يا عبد الروح والرؤية ألفان مؤتلفان.
من مخاطبة 32
يا عبد الكون كالكرة والعلم كالميدان.
34 من مخاطبة
يا عبد من دَّل على الحجاب فقد رفعت له نار الوصول.
يا عبد ال تبع داءك إال بالدواء فهو قيمته.
من مخاطبة 37
يا عبد الرؤية باب الحضرة.
يا عبد قيمة كل امرئ حديث قلبه.
من مخاطبة 38
يا عبد الزينة تطفئ الغضب.
يا عبد طهور الجسم الماء وطهور القلب الغض عن السوى.
من مخاطبة 41
يا عبد أنا الظاهر فال تحجبني الحواجب ،وأنا الباطن فال تظهرني الظواهر.
يا عبد أنا القيوم فال أنام ،وأنا المثبت الماحي فال أسام.
يا عبد أنا األحد فال توحدني األعداد ،وأنا الصمد فال تعاليني األنداد.
من مخاطبة 52
يا عبد الحروف كلها مرضى إال األلف ،أما ترى كل حرف مائل ،أما ترى األلف قائًم ا غير
مائل ،إنما المرض الميل ،وإنما الميل للسقام فال تمل.
53 من مخاطبة
يا عبد الحرف ناري ،الحرف قدري ،الحرف حتمي من أمري ،الحرف خزانة سري.
يا عبد ال تدخل إلى الحرف إال ونظري في قلبك ،ونوري على وجهك ،واسمي الذي ينفسح له
قلبك على لسانك.
يا عبد لو دخلت بقوة النار ألكلتكما نار الحرف.
يا عبد ال أقول لك ألِق المفاتيح بين يدي حضرتي أكرم ﺑﻬا في سريرتك فمقامك من وراء
الحرف لدَّي ومن وراء مفاتيح الحروف ،فإذا أرسلتك إلى الحروف فلتقتبس حرًفا من حرف كما
تقتبس ناًر ا من نار أقول لك أخرج ألًفا ،من باء ،أخرج باٍء من باًء أخرج ألًفا من ألف.
من مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت
أوقفني الرُّب وقال لي :قل للشمس أيتها المكتوبة بقلم الرب أخرجي وجهك ،وابسطي من
أعطافك ،وسيري حيث ترين فرحك على همك ،وأرسلي القمر بين يديك ،ولتحدق بك النجوم
الثابتة ،وسيري تحت السحاب واطلعي على قعور المياه ،وال تغربي في المغرب ،وال تطلعي في
المشرق وقفي للظل...
المراجع
-1األب بولس نويا اليسوعّي ،نُص وص صوفية غير منشورة ،معهد اآلداب الشرقية ،الطبعة
األولى ،بيروت1973 ،م.
-2ابن الدباغ ،عبد الرحمن بن محمد األنصاري ،مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب،
آفاق للنشر والتوزيع ،القاهرة2017 ،م.
-3ابن العربي ،محيي الدين ،ترجمان األشواق ،دار صادر ،بيروت1961 ،م.
-4ابن العربي ،محيي الدين ،رسالُة الذي ال ُيعَّو ُل عليه ،دار الكرمة ،الطبعة األولى ،القاهرة،
2017م.
-5ابن العربي ،محيي الدين ،الفتوحات المكية ،تحقيق عثمان يحيى ،الهيئة المصرية العامة
للكتاب ،الطبعة األولى ،القاهرة1985 ،م.
-6ابن العربي ،محيي الدين ،فصوص الحكم ،تعليقات أبو العال عفيفي ،دار الكتاب العربي،
بيروت1946 ،م.
-7ابن العربي ،محيي الدين ،الكوكب الُّدري في مناقب ذي النون المصري ،تحقيق عبد الحميد
صالح حمدان ،الجزيرة للنشر والتوزيع ،القاهرة2006 ،م.
-8ابن منظور ،لسان العرب ،دار المعارف ،القاهرة ،من دون تاريخ.
-9أدونيس ،الَّثابت والمتحول ..بحٌث في اإلبداع واالتباع عند العرب ،دار الساقي ،لندن،
2011م.
-10بدوي ،عبد الرحمن ،موسوعة المستشرقين ،دار العلم للماليين ،بيروت1993 ،م.
-11البرسي ،الحافظ رجب ،مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين ،شركة األعلمي
للمطبوعات ،بيروت2017 ،م.
-12التلمساني ،عفيف الدين ،شرح مواقف النفري ،دراسة وتحقيق وتعليق جمال المرزوقي،
الطبعة األولى 1997م ،والطبعة الثانية ،دار المحروسة ،القاهرة2018 ،م.
-13الجبرتي ،عبد الرحمن ،عجائب اآلثار في التراجم واألخبار ،الهيئة المصرية العامة
للكتاب ،القاهرة2003 ،م.
-14الجيلي ،عبد الكريم ،اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل ،دار الكتب العلمية،
بيروت1997 ،م.
-15ديوان أبي بكر الشبلي ،تحقيق كامل مصطفى الشيبي ،منشورات الجمل ،ألمانيا – بغداد،
2014م.
-16ديوان أبي بكر الشبلي ،موفق فوزي الجبر ،دار بترا ،دمشق1999 ،م.
-17ديوان ذي النون المصري ،إعداد وتحقيق أحمد فريد المزيدي ،الطبعة األولى ،مكتبة
رجب ،القاهرة2015 ،م.
-18الرومي ،جالل الدين ،المثنوي – الجزء الثاني ،ترجمة :إبراهيم الدسوقي شتا ،بلدية قونية
المدينة األم ،رقم الكتاب ،100قونية ،تركيا2006 ،م.
-19الُّسَلِم ي ،أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين ،تاريخ الصوفية :وبذيله ِم َح ِن الُّص ْو ِفَّيِة ،الطبعة
األولى ،دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ،دمشق2015 ،م.
-20الُّسَلِم ي ،أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين ،طبقات الصوفية ،تحقيق مصطفى عبد القادر
عطا ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،الطبعة األولى1998 ،م.
-21السيوطي ،جالل الدين ،المكُنون في مناقب ذي النون (المصري اإلخميمي) تحقيق عبد
الرحمن حسن محمود ،مكتبة اآلداب ،الطبعة الثانية ،القاهرة1991 ،م.
-22الطوسي ،أبو نصر عبد هللا السراج ،الُّلمع ،طبعة الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد
الباقي سرور في القاهرة 1960م المأخوذة عن طبعة أربري» ،دار الكتب الحديثة بمصر.
-23عزام ،عبد الوهاب ،مجلة الرسالة ،القاهرة6 ،من مايو سنة 1935م.
-24العطار ،فريد الدين ،تذكرة األولياء ،ترجمة وتقديم وتعليق منال اليمني عبد العزيز ،الهيئة
المصرية العامة للكتاب ،الطبعة األولى ،القاهرة2006 ،م.
-25الغراب ،محمود ،الحب والمحبة اإللهية :من كالم الشيخ األكبر محيي الدين بن العربي،
دمشق ،مطبعة نضر ،الطبعة الثانية1992 ،م.
-26القاشاني ،لطائف اإلعالم في إشارات أهل اإللهام ،تحقيق وضبط وتقديم أحمد عبد الرحيم
السايح [و] توفيق علي وهبة [و] عامر النجار ،ج ،2 - 1مكتبة الثقافة الدينية ،القاهرة2005 ،م.
-27القشيري ،عبد الكريم بن هوازن ،الرسالة القشيرية ،تحقيق عبد الحليم محمود ومحمد بن
الشريف ،دار المعارف ،القاهرة 2019 ،م.
-28الكالباذي ،أبو بكر محمد بن إسحاق ،التعُّر ف لمذهب أهل التصوف ،دار الوراق للنشر،
لندن2010 ،م.
-29محمود ،عبد الحليم ،تاج الصوفية أبو بكر الشبلي ..حياته وآراؤه ،دار المعارف ،القاهرة،
1993م.
-30محمود ،عبد الحليم ،العالم العابد العارف باهلل ذو النون المصري ،الطبعة الثانية ،دار
الرشاد ،القاهرة2004 ،م.
-31موفق الدين بن عثمان« ،مرشد الزوار إلى قبور األبرار» ،المسَّم ى الُّدر المنَّظم في زيارة
الجبل المقطم ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة1995 ،م.
-32النفري ،األعمال الصوفية ،راجعها وقدم لها سعيد الغانمي ،الطبعة األولى ،منشورات
الجمل ،ألمانيا – بغداد2007 ،م.
-33النفري -كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري ويليه كتاب المخاطبات له
أيًض ا ،أرثر يوحنا أربري ،مكتبة المتنبي ،القاهرة1934 ،م.
-34النفري ،النصوص الكاملة ،دراسة وتقديم جمال المرزوقي ،الطبعة األولى ،دار
المحروسة ،القاهرة2018 ،م.
-35الهجويري ،أبو الحسن ،كشف المحجوب ،دراسة وترجمة وتعليق :إسعاد عبد الهادي
قنديل ،المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية ،الطبعة األولى ،القاهرة1974 ،م.
أحمد الشهاوي
سيرة ذاتية
ُو لد بمدينة دمياط في 12من نوفمبر عام 1960م ،وعاش فيها خمس سنواٍت ،ثم انتقل مع
أسرته للعيش في قريته «كفر المياسرة» ،حيث درس المرحلة االبتدائية بها ،ثم المرحلتين
اإلعدادية والثانوية بـ «الَّز ْر َقا» ،والتحق بعد ذلك بكلية التربية في دمياط جامعة المنصورة «قسم
الرياضيات» ،ظل عاًم ا واحًدا بها ،قبل أن يلتحق بقسم الصحافة في كلية اآلداب بسوهاج – جامعة
أسيوط ،وتخرج في مايو 1983م.
شارك – أيام دراسته الصحافة – في تأسيس جريدة «صوت سوهاج» ،وهي جريدة شهرية
يحِّر رها طالب قسم الصحافة ،وكان يرأس القسم الثقافي بها ،ثم التحق بالجيش المصري ألداء
الخدمة العسكرية في أبريل 1984م ،وأثناء أداء الواجب الوطني ،كان قد دخل جريدة األهرام في
األَّو ل من يناير 1985م؛ ليعمل في قسم األخبار ،وفي 18من فبراير 1990م صدرت مجلة
«نصف الدنيا» األسبوعية عن مؤسسة األهرام ،ليتولى مهام سكرتير تحريرها ،ثم نائًبا لرئيس
التحرير في مايو 2000م ،ثم مديًر ا للتحرير ،وهو من المؤِّس سين لها ،ثم صار بعد ذلك كاتًبا
متفِّر ًغا باألهرام.
وفي سبتمبر 1991م ،شارك في برنامج الُكَّتاب الدوليين International Writing Program
بالواليات المتحدة األمريكية لمدة ثالثة أشهر ،وتم منحه شهادة الزمالة في األدب من جامعة أيوا األمريكية في 12من
ديسمبر 1991م .وفي سبتمبر 1994م حاز على دبلوم خاص في الثقافة والعلوم من المركز األيوني ،Ionic Center
باليونان ،كما ُترجمت قصائده إلى لغات عَّدة ،وصدرت في كتٍب ،ومختاراٍت كثيرٍة حول العالم.
صدر له:
الِّش عر :
« .1ركعتان للعشق» ،دار ألف للنشر ،القاهرة1988 ،م.
.2األحاديث «الِّس ْفر األول» ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة1991 ،م.
.3األحاديث «الِّس ْفر الثاني» ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة1994 ،م ،مكتبة األسرة،
مهرجان القراءة للجميع ،القاهرة1999 ،م.
.4كتاب الموت ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة1997 ،م.
ُ .5قْل هي ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة2000 ،م.
ِ .6لساُن الَّنار ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة 2005م ،وزارة الثقافة والسياحة ،طبعة ثانية،
صنعاء2005 ،م.
.7باٌب َو اِح ٌد َو َم َناِز ُل ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة2009 ،م.
.8أسوُق الغمام ،كتاب أخبار اليوم ،القاهرة2010 ،م.
.9سماٌء باسمي ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة2013 ،م ،الَّطبعة الثانية 2018م ( .القائمة
الطويلة لجائزة زايد للكتاب سنة 2014م).
.10ال أراني ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة 2018 ،م ( .القائمة الطويلة لجائزة زايد للكتاب
سنة 2018م).
.11ما أنا فيه ،الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة 2020 ،م( .القائمة الطويلة لجائزة زايد للكتاب
2020م). سنة
مختارات من شعره:
.1األحاديث «مختارات» ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة1996 ،م.
.2مياٌه في األصابع« ،مختارات» الدار المصرية اللبنانية ،القاهرة2002 ،م .مكتبة األسرة،
مهرجان القراءة للجميع ،طبعة ثانية خاصة في 25ألف نسخة ،القاهرة ،سبتمبر 2002م.
.3أنا خطأ الُّنحاة ،مختارات ،دار خطوط وظالل ،عَّم ان ،األردن2021 ،م.
فلسفة الدين:
-1نواب هللا ،الدار المصرية اللبنانية2016 ،م ،الَّطبعة الثانية 2017م.
-2عدماء الدين ،الدار المصرية اللبنانية 2022 ،ميالدية.
ترجمات ألعماله:
Agua En Los Dedosبالُّلغة اإلسبانية ،ترجمة ميالجروس نوين Milagros « .1مياٌه في األصابع»
،Nuinالمعهد المصري للدراسات اإلسالمية بمدريد ،مدريد 2002م.
-طبعة جديدة مضاًفا إليها مختارات من الوصايا في عشق النساء «الكتاب األول» عن جامعة
كوستاريكا باالشتراك مع مهرجان الشعر العالمي في كوستاريكا 2008م.
• مشيت في أحرفك زارًعا زماني (مختارات شعرية) باللغة التركيةHarflerind Yuru Dum ،
،Zamanimi ekerekترجمة متين فندقجي – دار ،Artshopإستنبول ،تركيا2010 ،م.
• ال أحد يفكر في اسمي (مختارات شعرية) Nadie Piensa en mi mombre ،باللغة اإلسبانية ،ترجمة
د .محمد أبو العطا – سان خوسيه -كوستاريكا2011 ،م.
،Une Seule porte et Des Demeuresترجمة د .محمد ميلود غرافيAile Edition ، • باب واحد ومنازل
نانت ،فرنسا2013 ،م.
• ِل ساُن الَّنار ،Atesin Diliترجمة متين فندقجي ،دار النشر ،artshopإستنبول ،تركيا2013 ،م.
• سماٌء باسمي ،Benim adima bir gokyuzuترجمة د .محمد حِّقي صوتشين ،Kirmizi ،إستنبول ،تركيا،
2013م.
• سماٌء باسمي ،Un cielo con mi nombreترجمة د .عبير عبد الحافظ ،سان خوسيه ،كوستاريكا2014 ،م،
طبعة أخرى Ediciones El Quirofano ،اإلكوادور2014 ،م.
• كل شيء يبدأ من وردتِك ( مختارات شعرية ) –Ogni cosa comincia dalla tua rosaروما
–Aletti Editioreترجمة الَّر َّداد شَّر اطي ،روما 2019م.
قيد النشر:
.1طبقات الكافر (رواية).
ِ .2ك َّتاُن اآلِلَه ة.
َ .3م ْنِز ُل األلف (سيرٌة في الِّشْعر).
.4اسُم ُه َأْح َم د.
.5الوَص ايا في ِع ْش ِق الِّنَساِء (الكتاب الَّثالث).
.6وهديناه النهدين.
.7حجاب الساحر (رواية).