You are on page 1of 188

‫َسالطيُن الَو ْج د‬

‫دولُة الُحِّب الُّص وِفي‬


‫إهداء‬
‫إلى‬
‫نوال عيسى‬
‫الواِج دة األولى‬
‫إلى‬
‫أحمد أحمد الَّشهاوي‬
‫صاحُب الوْج د‬
‫القاهرة‬
‫‪ 2021‬ميالدية‬ ‫‪ 15‬من أغسطس‬
‫َبْد ٌء َأَّو ل‬
‫من ال َو ْج َد لُه ال ُيعَّو ُل عليه‬
‫«َم ن ال وْج َد له ال ِديَن له»‪ ،‬مقولٌة منسوبٌة إلى علِّي بن أبي طالب (‪ 13‬من رجب ‪ 23‬قبل‬
‫الهـجرة ‪ 17/‬من مارس ‪ 599‬ميالدية ‪ 21 -‬من رمضان ‪ 40‬هـجرية ‪ 27 /‬من يناير ‪661‬‬
‫ميالدية )؛ ألن َم ن به وْج د فهو في حاِل شغٍف ‪ ،‬وَم ن َأَّر َقُه الَو ْج ُد فهو في اْلُحِّب‪ ،‬وفي الُّلغة نقوُل‪:‬‬
‫َو َج َد به َو ْج ًدا أي أحَّبه‪ ،‬وَو َج َد فالٌن َو ْج ًدا أي َحِز ن‪ .‬وَم ن َو َج َد ِبَحِبيَبِتِه يعني أنه َأَح َّبَه ا ُح ًّبا َشِديًدا‪ ،‬و‬
‫الوجد هو شغف الُم حب بمحبوبه‪.‬‬
‫والَو جد مرحلٌة من مراحل الُح ب الُم تطورة‪ ،‬وتدُّل على ُم داومة التفكير في المحُبوب‪ ،‬وعدم‬
‫القدرة على نسيانه‪.‬‬
‫وقال قيس بن الملَّو ح‪ ،‬الملَّقب بمجنون ليلى (‪ 24‬هجرية ‪ 645/‬ميالدية ‪ 68 -‬هـجرية ‪688/‬‬
‫ميالدية)‪:‬‬
‫َهــِل الَو جــُد ِإاّل َأَّن َقــلِبـَي َلو َد نـا‬
‫ِم َن الَج مِر َقيَد الُّر مِح اَل حَتَر َق الَج مُر‬
‫وخالل أسفاري الُم تتابعة إلى اليمن‪ ،‬وجدُت أسماًء لقرى ومدن ومناطق وأحياء تشيُر إلى الُح ب‬
‫والجسد وُم شتقاتهما مثل‪ :‬جبل النهدين‪ ،‬ويقع في العاصمة اليمنية صنعاء‪ ،‬وجزيرة النهدين وهي‬
‫إحدى ُج زر اليمن‪ ،‬وُتقَّسم إدارًّيا كأحد أحياء مديرية المعال بمحافظة عدن‪ ،‬وبيت بوس‪ ،‬وهو أحد‬
‫أحياء مدينة صنعاء في الجهة الجنوبية الغربية منها‪ ،‬والوْج د وهي إحدى القرى التي تتبع جغرافًّيا‬
‫محافظة تعز‪.‬‬
‫وتعني مفردة وْج د الّسعة وُيسر الحال‪ ،‬والُحّب الشديد‪ ،‬والمال الوفير‪ ،‬والُح زن اّلذي ألّم به‪،‬‬
‫والقدرة الكبيرة‪ ،‬والُعثور على الَّضاّلة‪.‬‬
‫وُيطلق هذا االسم ‪ -‬غالًبا ‪ -‬على اإلناث‪ ،‬وُيطلق على الّذكور وجدي‪.‬‬
‫ووجد ووجدي يحمالن المعنى نفسه‪ ،‬ومن األسماء القريبة لـ«وْج د»‪َ ،‬و جيدة‪ ،‬وَأْج َيد‪ ،‬وواجدة‪،‬‬
‫وِو ْج دان‪.‬‬
‫وهناك فرٌق كبيٌر بين الوْج د والتواُج د؛ فالتواُج د فيه التصُّنع‪ ،‬التباكي‪ ،‬التماُر ض‪ ،‬التغابي‪.‬‬
‫والتواُج د هي أول مرتبة؛ لكَّنها أضعُف المراتب‪ ،‬وقد اختلَف الُعلماء فيها‪ :‬هل هي مقبولة أم‬
‫مرفوضة؟‬
‫فإذا أراَد أحدهم بالتواُج د أن يكتسَب ثناَء اآلخرين فهي حاٌل مرفوضة‪ ،‬أّم ا إذا أراَد بالتواُج د أن‬
‫يِص َل من ِخ اللها إلى حقيقة الوْج د فهي حاٌل مقبولة‪ ،‬طبًقا لـ‪َ« :‬هْل َيْس َتِو ي اَّلِذيَن َيْعَلُم وَن َو اَّلِذيَن ال‬
‫َيْعَلُم وَن »‪.‬‬
‫والتواُج د ِنفاٌق ورياٌء ‪ ،‬ومحاولة إدراِك وانتزاِع إعجاب الناس البتزاز مشاعرهم وأموالهم‪.‬‬
‫والوْج د لغًة معناه انفعال القلب‪ ،‬و المصدر‪َ :‬و َج َد بالَّشيء وجًدا‪ ،‬وهو بخالف «الوُج ود»؛ فإنه‬
‫مصدر َو َج َد الَّشيء وُج وًدا ووجداًنا‪.‬‬
‫والوْج د كما يراه أهُل الوقت‪« :‬ما صادف القلب من فزٍع أو غٍّم أو رؤية معنى من أحوال‬
‫اآلخرة»‪ ،‬وهو‪« :‬لهٌب يتأَّجُج من شهود عارض القلق»‪ ،‬أو‪« :‬ما يصادف القلب ويِر د عليه‪ ،‬بال‬
‫تكُّلٍف وتصُّنٍع‪.»...‬‬
‫والوْج د محله القلب‪ ،‬مثل سائر الوجدانيات كالفرح والُح زن واأللم وغيرها‪ ..‬وقد استخرج‬
‫الصوفيون معنى الوْج د من قوله تعالى‪َ ﴿ۖ :‬فِإَّنَه ا اَل َتْعَم ى اَأْلْبَص اُر َو َٰل ِك ْن َتْعَم ى اْلُقُلوُب اَّلِتي ِفي‬
‫الُّص ُدوِر ﴾‪( ،‬سورة الحج‪ ،‬اآلية‪ ،)46 :‬فقد استخلصوا من اآلية أَّن القلوَب نوعان‪ :‬قلوب عمياء ال‬
‫ترى‪ ،‬وقلوب مبصرة ناظرة‪ ،‬أو‪ :‬قلوب تجد‪ ،‬وقلوب ال تجد‪ ،‬وما يسمعه القلب ويبصره هو المعبر‬
‫عنه بوْج د القلوب‪.‬‬
‫والوْج د معناُه الُح زن‪ ،‬وهو صفة العارفين‪ ،‬و نار الَّشوق للطالبين‪ ،‬وللوْج د مراتب هي‪ :‬التواُج د‪،‬‬
‫والوْج د‪ ،‬والوُج ود وهو المرتبة العليا واألخيرة‪.‬‬
‫أما الِو ْج َد اُن فُيطَلُق َأّو اًل على ُكِّل ِإحساٍس َأَّو ِلٍّي بالَّلَّذة َأو اَأللم‪ .‬وثانًيا على َض ـْر ٍب مـن الحــاالت‬
‫النفـسَّية من حـيُث تــَأُّثُر ها بالَّلَّذة َأو اَأللم في مقابل حاالٍت أخرى تمتاُز باإلدراك والمعرفة‪.‬‬
‫ويرى القشيري (‪ 465 - 376‬هـجرية = ‪ 1072 - 986‬ميالدية) أن التواُج د هو استفعال‬
‫الوْج د‪ ،‬وهو ما يمتزُج من اكتساب العبد باالستدعاء للوْج د‪ ..‬وتكلفه للتشبه بالصادقين من أهل‬
‫الوْج د‪.‬‬
‫ويقول إن استدعاء الوْج د بضرب اختيار‪ ،‬وليس لصاحبه كمال الوْج د‪ ،‬إذ لو كان لكان واِج ًدا‪.‬‬
‫وكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فهو يشاهده‪ :‬فإن كان الغالب عليه العلم فهو يشاهد العلم‪.‬‬
‫وإن كان الغالُب عليه الوْج د فهو يشاهد الوُج ود‪.‬‬
‫ويقول‪ :‬إَّن الوْج د هو ما يصادُف القلب من غير تعُّم ٍد‪ ،‬وال تكلٍف من العبد‪ ،‬وهو أشبه بنسيٍم‬
‫هفهاٍف يهب من لدن الحبيب‪ ،‬قال يعقوب‪ِ :‬إِّني َأَلِج ُد ِر يَح ُيوُسَف ‪ ،‬وأحياًنا يكوُن أشبه بنيران األنس‬
‫تثيرها رياُح القدس‪.‬‬
‫ويقوُل‪ :‬إَّن الوْج َد هو ما يجده اإلنساُن ويصيبه في قلبه من األحوال من غير تطُّلٍب وال تكُّلٍف ‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إَّن الوْج َد هو مكاشفة األسرار بمشاهدة المحبوب‪ .‬وقيل‪ :‬إَّن الوْج د هو وُج ود نسيم الحبيب‪.‬‬
‫أما ابن العربي (‪ 638 - 560‬هـجرية ‪ 1240 - 1165 /‬ميالدية) فيقول‪ :‬إن التواُج د هو‬
‫استدعاء الوْج د‪ ،‬وإظهار حالة الوْج د‪ ،‬من غير وْج ٍد ألنس يجده صاحبه؛ ألنه تعمل في تحصيل‬
‫الوْج د‪ ،‬فإن ظهر على صاحبه بصورة الوْج د‪ ،‬فهو كاذٌب ُم راٍء منافٌق ال حَّظ له في الطريق‪.‬‬
‫ويقول ابن العربي‪« :‬علومنا غير مقتنصٍة من األلفاظ وال من أفواه الرجال وال من بطون الدفاتر‬
‫والطروس‪ ،‬بل علومنا عن تجلياٍت على القلب عند غلبة سلطان الوْج د‪ ،‬وحالة الفناء بالوُج ود‪ ،‬فتقوم‬
‫المعاني مثاًل وغير مثل على حسب الحضرة التي يقع التنُّز ُل فيها‪ ،‬فمنها ما يقع من باب المحادثة‪،‬‬
‫ومنها ما يقع من باب الُم سامرة‪ ،‬ومن باب ما ال ينقال وال ينقال»‪.‬‬
‫ويقول كمال الدين القاشاني (توفي نحو ‪ 730‬هـجرية ‪ /‬نحو ‪ 1330‬ميالدية)‪ :‬إن التواُج د هو‬
‫استدعاء الوْج د‪ ،‬واستجالبه بالتفُّكر والتذُّكر‪ .‬وقيل‪ :‬إظهار حالة الوْج د من غير وْج ٍد‪ ،‬وهذا مَّم ا ال‬
‫خير فيه‪.‬‬
‫ويقول السراُج الطوسُّي (توفي ‪ 378‬هـجرية ‪ 988 /‬ميالدية)‪ :‬إن التواُج د والتساُكر قريبا‬
‫المعنى‪ ،‬وهو ما يمتزُج من اكتساب العبد باالستدعاء للوْج د والُّسْك ر‪ ،‬وتكلفه للتشُّبه بالصادقين من‬
‫أهل الوْج د والُّسْك ر‪ .‬و يقول‪ :‬إَّن الوْج د «مكاشفاٌت من الحق أال ترى أَّن أحدهم يكون ساكًنا‬
‫فيتحَّر ك‪ ،‬ويظهر منه الزفيُر والشهيق‪ ،‬وقد يكون َم ن هو أقوى منه ساكًنا فيوجده ال يظهر منه‬
‫شيء من ذلك»‪ .‬وصفو الوْج د‪ :‬هو أن ال يعارضه في وْج ِده شيء غير وجوده‪.‬‬
‫وُسئل أبو جعفر الصَّفار (توّفي عام ‪ 290‬هـجرية بمدينة قم )‪ :‬ما التصوُف ؟‬
‫فقال‪ :‬الئٌح الح فاصطلم‪ ،‬وأشباٌح إذا أقلقهم الخوف ناُح وا‪ ،‬وإذا أزعجهم الوجد صاُح وا‪ ،‬وإذا‬
‫أدهشهم الُحُّب ساُح وا‪ ،‬وإذا غلبهم الوْج د باُح وا‪.‬‬
‫أما طاهر المقدسي (‪ 507 – 448‬هجرية) فقال‪ُ :‬سميت الُّص وفية بهذا االسم الستتارها عن‬
‫الخلق بلوائح الوْج د‪ ،‬وانكشافها بشمائل القْص د‪.‬‬
‫بينما الُج نْيد (‪ 298 - 215‬هـجرية) فيقول‪ :‬ال يضر نقصان الوْج د مع فضل العلم‪ ،‬وإنما يضر‬
‫فضل الوْج د مع نقصان العلم‪ .‬وسرعة الوْج د من خصال التصوف وسماته؛ ألَّن صحة القصد بدوام‬
‫الوْج د‪.‬‬
‫ويرى عبد الكريم الجيلي (‪ 826-767‬هجرية) أن الواجد‪ :‬إن كان واجًدا حقيقًّيا‪ ،‬وجد الكماالت‬
‫اإللهية‪ ،‬أي‪ :‬التي تنبغي له عنده‪ ،‬كما وجد جميع المقتضيات عنده‪ ،‬فال وجدان أعظم من وجدانه‪.‬‬
‫والَو ْج د كما يقول أبو الُح سْين النوري (‪ 295‬هجرية ‪ 907/‬ميالدية )‪« :‬لهيب ينشأ في األسرار‪،‬‬
‫ويسنح عن الَّشوق‪ ،‬فتضطرب الجوارح طرًبا أو ُح زًنا عند ذلك الوارد»‪.‬‬
‫يقول أبو بكر الشبلي (‪ 247‬هجرية ‪ 861/‬ميالدية )‪ :‬الوْج د فْقد‪ ،‬والفقد في الوْج د وْج د‪.‬‬
‫ويقول عبد القادر الجيالني (‪ 561 - 470‬هـجرية)‪ :‬إَّن الوْج د هو أن تشتغل الُّر وح بحالوة‬
‫الذكر‪ ،‬وتشتغل النفس بلَّذة التطريب‪ ،‬ويبقى السُّر فارًغا من السوى للحبيب‪ ،‬خالًيا من الرقيب للحق‬
‫مع الحق‪ .‬والوْج د شراٌب يسقيه المولى لوليه على منبر كرامته‪ ،‬فإذا شرب طاش‪ ،‬وإذا طاش طار‬
‫قلبه بأجنحة اُألنس في رياض الُقدس‪ ،‬فيقع في بحر الهيبة‪ ،‬فيصرع‪ ،‬فلذلك ُيغشى على الواجد‪.‬‬
‫ويقول إن الوْج د جحوٌد ما لم يكن عن شهوٍد‪.‬‬
‫وعنده أن أهل الوْج د على مقامْين‪ :‬أحدهما‪ ،‬كأنه ناظٌر ‪ ،‬واآلخر منظوٌر إليه‪ .‬فالناظُر كأنه‬
‫ُم خاطب‪ ،‬والمنظوُر إليه كأنه مغيٌب ‪ .‬فمنهم‪َ :‬م ن يضطرب وهو يشاهد الذي وجده‪ ،‬ومنهم‪َ :‬م ن غَّيبه‬
‫الحق بأول ما ورد عليه‪.‬‬
‫ويقول أبو القاسم النصراباذي (مات في ذي الحجة سنة ‪ 367‬هـجرية)‪ :‬مواجيد القلوب تظهر‬
‫بركتها على األبدان‪ ،‬ومواجيد األرواح تظهر بركتها على األسرار‪.‬‬
‫أَّم ا الوجدان في اللغة أي‪ :‬النفس وقواها الباطنة‪.‬‬
‫وهي ضرٌب من الحاالت النفسية من حيث تأثرها باللذة أو األلم في مقابل حاالٍت أخرى تمتاُز‬
‫باإلدراك والمعرفة‪.‬‬
‫ورأى أحمد بن عجيبة (‪ 1224 - 1162‬هـجرية ‪ 1809 - 1748 /‬ميالدية) أَّن الوجدان‪ :‬هو‬
‫دوام حالوة الُّشهود‪ ،‬واتصاله مع غلبة السكر والدهش‪.‬‬
‫والَّشريف الجرجاني (‪ 816 -740‬هـجرية ‪ 1413- 1339 /‬ميالدية) يقول‪ :‬إَّن الوجدانيات‪:‬‬
‫هي ما تكون ُم دَر كة بالحواس الباطنة‪.‬‬
‫ويقول ابن العربي‪ :‬إن الوْج د الحاصل عن التواُج د ال ُيعَّو ل عليه‪ .‬والوجود الذي يكون عن مثل‬
‫هذا الوْج د ال ُيعَّو ل عليه‪ ،‬وعالم الوجدان‪ :‬هو عالٌم بين اليقظة والمنام‪ ...‬وهو العالم المتوسط‪.‬‬
‫أما أبو الحسن الشاذلي (‪ 593‬هجرية ‪ 1196 /‬ميالدية ‪ 656 -‬هجرية ‪ 1258 /‬ميالدية )‬
‫فيقول‪ :‬إَّن حقيقة الوْج د‪ :‬ناٌر تتوقُد في األسرار فيحترق به األغيار‪.‬‬
‫وقد اخترُت لكتابي اسم «سالطين الوْج د»‪ ،‬وكنُت قد نشرُت في الَّسابع عشر من يونيو سنة‬
‫‪ 2017‬ميالدية نًّص ا أو شهادًة في جريدة «المصري اليوم» عنونتها بـ«سالطين الوْج د يكتبون‬
‫شْر َع الهوى»‪.‬‬
‫وَسالطيُن جمع ُسلطان‪ ،‬والُّسْلَطاُن ‪ :‬المِلُك َأو الوالي‪َ ،‬أُّي اْلِج َه اِد َأْفَض ُل؟ َقاَل ‪َ :‬كِلَم ُة َحٍّق ِع ْنَد‬
‫ُسْلَطاٍن َج اِئٍر ‪ ،‬والُّسْلَطاُن ‪ :‬قّو ة ونفوذ وسيطرة‪.‬‬
‫والُّسلطة‪ ،‬وجمعها‪ُ :‬سُلَطاٌت ‪ُ ،‬سَلٌط‪ ،‬وهي الَّتَسُّلُط والسيادة‪.‬‬
‫والُّسْلَطان في اللغة اسم َعَلم مذَّكر عربي معناه‪ :‬الُحَّج ة‪ ،‬القدرة‪ ،‬التسلط‪ ،‬الملك‪ .‬قال تعالى‪َ﴿ :‬و َم ا‬
‫َكاَن ِلَي َعَلْيُكْم ِم ْن ُسْلَطاٍن ﴾ [ سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية ‪ ]22‬أي من حجة‪ ،‬وقد ورد ِذ ْك ر مفردة سلطان‬
‫بتشكيالٍت مختلفٍة في سبع وثالثين موضًعا من القرآن بمعاٍن عديدٍة‪.‬‬
‫لكن المتصوفة هم أصحاب الُّسلطة الُّر وحّية بسلوكهم وأفعالهم ونتاجهم الِّش عري أو النثري‬
‫وكراماتهم الصوفية‪ ،‬والتصُّو ف هو الثورة الُّر وحية في اإلسالم‪ ،‬بحسب تعبير أبي العال عفيفي‪.‬‬
‫«يا مليح الَّدِّل والُغُنج‬
‫لك سلطاٌن على الـُم هج»‬
‫فلقد استحق المتصوفة لقب (السلطان)؛ ألنهم سالطين زمانهم‪ ،‬وألن كل سلطان صوفي يرى‬
‫نفسه سلطان زمانه‪ ،‬أو هو بالفعل هكذا‪ ،‬فقد وقع الصدام بينهم وبين «سالطين السياسة» من‬
‫الخلفاء والُح َّكام واألمراء‪ ،‬ولذا عاش سالطين الصوفية تحت سيف هؤالء المتسِّلطين‪ ،‬فكانت‬
‫النتيجة المباشرة أَّن منهم من ُقِتل‪ ،‬ومنهم من ُسِج ن‪ ،‬ومنهم من ُنِفي‪ ،‬ومنهم من ُعِّذ َب وُأِه ين‪ ،‬وقد‬
‫كان أوائل الصوفية ينفُر ون من الَّسالطين واألمراء‪ ،‬وأنا هنا أقِّدم ثالثًة من سالطين الوْج د‪ ،‬عشُت‬
‫معهم زمًنا ممتًّدا من حياتي‪ ،‬ومع آخرين أَّثُر وا فَّي ‪ ،‬وأْثُر وا تجربتي‪ ،‬وسأخِّص ص لهم كتًبا‪ ،‬وأنا ال‬
‫أكتُب عن ُم تصوفٍة أحُّبهم بقدر ما أكتُب عن أهٍل لي‪ ،‬كان لهم فضٌل كبيٌر علَّي منذ ِص باي في‬
‫قريتي كفر المياسرة؛ حيث سلكُت الطريَق الُّص وفَّي في سٍّن مبِّك رة‪ ،‬والمتصوفة الثالثة محور هذا‬
‫الكتاب هم‪ :‬ذو النون المصري‪ ،‬وأبو بكر الشبلي‪ ،‬والنَّفري‪ ،‬الذي عاصر المتنبي وتوفي معه في‬
‫سنٍة واحدٍة هي ‪ 354‬هـجرية ‪ 965/‬ميالدية‪ ،‬رأيُت أنهم كانوا سالطيَن في زمانهم‪ ،‬ولهم سطوٌة‬
‫ُر وحية على َم ن عاصرهم‪ .‬وكانت كلمتهم مسموعًة عند الناس؛ ألنهم لم يتقَّر بوا من سلطاٍن جائٍر‬
‫ظالٍم ‪ ،‬ولم يترَّبحوا منه‪.‬‬
‫إنهم أرباُب الحقائق‪ ،‬وليسوا من «أهل الَّظاهر» أو «أهل الُّر ُسوم»‪ ،‬إَّنُه م «رجال قطعهم هللا إليه‬
‫وصانهم صيانة الغيرة عليهم؛ لئال تمتد إليهم عين فتشغلهم عن هللا‪ .‬لقد انفردوا مع هللا راسخين ال‬
‫يتزلزلون عن عبوديتهم مع هللا طرفة عين» بتعبير محيي الدين بن العربي‪ ،‬الذي كان من ضمن‬
‫أسمائه «سلطان العارفين»‪ ،‬مثلما كان اسم عمر بن الفارض «سلطان العاشقين»‪.‬‬
‫َبْد ٌء ثاٍن‬
‫ما الُحُّب إاَّل مقاٌم إلهٌّي‬
‫ما الُحُّب العذرُّي إال تصوٌف أو طريٌق إليه‪.‬‬
‫وما الُحُّب إال مقاٌم إلهٌّي ؛ ألَّن «المحبة أصُل جميع المقامات واألحوال»‪ ،‬و«أكمل مقامات‬
‫العارفين»‪ ،‬والنبي محمد ﷺ يقول في الحديث‪َ« :‬و اَّلِذي َنْفِس ي ِبَيِدِه ال َتْدُخ ُلوا اْلَج َّنَة َح َّتى ُتْؤ ِم ُنوا َو ال‬
‫ُتْؤ ِم ُنوا َح َّتى َتَح اُّبوا َأاَل َأُدُّلُكْم َعَلى َأْم ٍر ِإَذا َأْنُتْم َفَعْلُتُم وُه َتَح اَبْبُتْم َأْفُشوا الَّسالَم َبْيَنُكْم »‪.‬‬
‫وفي الُحِّب ُيعِّو ل المرُء على القلِب أكثر مَّم ا ُيعِّو ل على العقِل الذي قد يمِّثل حجاًبا كثيًفا على‬
‫الذات حين تفِّك ر والُّر وح حين تشتغُل؛ فالحب يهتك ما استتر‪ ،‬ويكشُف ما هو مخبوٌء ‪ ،‬أو ما هو‬
‫سرٌّي ‪.‬‬
‫والذات العليا لإلله تتمَّثل في الحب‪ .‬وبالمحبة يقترُب اإلنساُن من هللا‪.‬‬
‫و«العاشق يسلُبُه عشقُه للكمال عن لذة المطعم والمشرب والنوم وهي من األمور الضرورية‬
‫للجسم‪ .‬بل يحصل للنفس من الطرب والسرور بما هي فيه من اللذة الروحانية»‪« ،‬وعند ذلك‬
‫تتسلط عليه دواعي الشوق إلى استكمال وصال هذه النفس المعشوقة واالتحاد بها‪ .‬إذ وصال‬
‫األرواح اتحادها الذي معناه قرُب المناسبة بين النفسين حتى ال يخطر للعاشق أن ذاته شيء غير‬
‫ذات محبوبه‪ ،‬بل يعتقد أنه هو‪ .‬وبحصول هذا االتحاد يزول معنى الفراق الذي هو عذاب النفوس‪.‬‬
‫فالفرقة عذاٌب وال سَّيما فراق الُم شاِك ل‪ .‬وكلما هاج الشوق انزعَج القلب إلى كمال الوصال‪،‬‬
‫والوصاُل وصال األرواح ال مجرد لقاء األجسام»‪.‬‬
‫كما يشير عبد الرحمن بن محمد األنصاري المعروف بـ«ابن الدباغ (‪ 699-605‬هجرية)» في‬
‫كتابه «مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب»‪ ،‬الذي رأى في كتابه هذا أَّن «المحبة ال‬
‫يُــعِّبُر عنها حقيقًة إال من ذاقها‪ .‬ومن ذاقها استولى عليه من الذهول عن ما هو فيه أمٌر ال يمكنه‬
‫معه العبارة»‪ .‬وأَّن «حقيقة المحبة أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب»‪ ،‬وأَّن «المحبة أن تهب‬
‫ُكــّليتَك لمحبوبك فال يبقى لك منك شيء»‪.‬‬
‫وأنا أحاول مع الَّشاعر الروماني فرجيل (‪ 15‬من أكتوبر ‪ 70‬قبل الميالد ‪ 21 -‬من سبتمبر ‪19‬‬
‫قبل الميالد) أن أقول في هذا الكتاب‪« :‬اآلن أجدني أعرف ما هو الحب؟»‪.‬‬
‫فالُحُّب لغًة كما جاء في لسان العرب البن منظور (‪ 1311 - 1232‬ميالدية ‪ -‬‏ ‪711 - 630‬‬
‫هـجرية)‪َ« :‬نِقيُض الُبْغِض ‪ .‬والُحُّب الوداُد والـَم َح َّبُة‪ ،‬وكذلك الِح ُّب بالكسر‪ ..‬وَأَح َّبُه فهو ُم ِح ٌّب ‪ ،‬وهو‬
‫َم ْح ُبوٌب ‪ ..‬والـَم َح َّبُة َأيًض ا‪ :‬اسم للُحِّب»‪.‬‬
‫والُحُّب الُّص وفُّي أصُل وجود الُحِّب في العالم؛ ألنه مظهر للحب اإللهي؛ ألن الُحَّب بطبيعته‬
‫«أصل الموجودات»‪ ،‬الُح ب المنبثق من الحقيقة والباطن‪ ،‬والمحبة هي من أعمال الباطن‪،‬‬
‫والمتصوفة هم أهل المحبة وُينسبون إليها‪ .‬والحب عند المتصوف أسلوب حياة‪ ،‬ودليل المعرفة‬
‫الصوفية التي تعكس حال القلوب السامية‪.‬‬
‫ويرى عبد الكريم الجيلي (‪‍ 767‬هجرية ‪ 1365 /‬ميالدية ‪ 832 -‬هجرية ‪ 1428 /‬ميالدية )‬
‫في كتابه «اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل» أن اسم هللا مشتق من فعل «َأِلَه‪َ ..‬يْأَلُه»‬
‫بمعنى «َعِش ق‪ ..‬يعشق»؛ لذلك كان حنين الصوفي للعودة إلى أصله اإللهي هو ذاته الميل إلى‬
‫الذوبان في الحب كحقيقة أو مبدأ كوني؛ فُح ب األلوهية يخفي في ذاته حًّبا للحب نفسه‪ ،‬بكل أشكاله؛‬
‫ألن هللا هو الحب الُم طلق»‪.‬‬
‫وبالحب ‪ -‬الذي هو منحة إلهية ‪ -‬يستطيع َم ن يحُّب أن يصل إلى الحقيقة المطلقة التي يريدها‬
‫ويسعى إليها‪ ،‬ليسكن النقطة األعلى من فردوِس الُّر وح‪.‬والنبي محَّم د يقول‪ُ« :‬ج ِبلت القلوب إلى حِّب‬
‫َم ن أحسن إليها»‪.‬‬
‫وليس محيي الدين بن العربي وعمر بن الفارض بعيدْين عن ذهني حين أقول إنهما انطلقا إلى‬
‫سماء هللا من سماء خلقه‪ :‬وهي المرأة «حيث اتخذا من الحب العذري والعشق اإلنساني طريًقا إلى‬
‫الُح ب اإللهي والعشق الرباني»‪.‬‬
‫فما المرأة كمخلوٍق عاٍل ‪ ،‬وكائٍن ساٍم إال مْج َلى من المجالي الرَّبانية‪ ،‬وصورٌة من صور الجمال‬
‫الَّسماوي القدسي‪ ،‬ومن هنا يأتي تقديس المرأة في الُحِّب‪.‬‬
‫وقصة ُح ب ابن العربي لـ«النظام» معروفٌة‪ ،‬وقد سَّج لها في ديوانه «ترجمان األشواق»‪:‬‬

‫«َلْو َال َج َم اُلِك َم ا َتَه َّتَك ِسُّر َعاِش ٍق‬


‫َبْل ُكُّل َم ْعُشوٍق َعَليِك َد لِـيُل»‬
‫«أدين بديِن الحِب أّنى توَّج َه ت ركائُبُه‬
‫فالحُب ديني وإيماني»‬
‫«الحُّب ُينَسُب لإلنساِن وِهللا‬
‫بنسبٍة ليس يدري ِع ْلُم نا ما ِه ي‬
‫الحُّب ذوٌق وال ُتدرى حقيقتُه‬
‫أليَس ذا عجٌب وهللا وِهللا‬
‫لوازُم الحِّب تكسوني هوّيتها‬
‫ثوَب النقيضْين مثل الحاضِر الساهي‬
‫بالحِّب صَّح وجوب الحِّق حيث ُيَر ى‬
‫فينا وفيه ولسنا عْين أشباِه»‬
‫وابن العربي في شعره مثل ابن الفارض الذي يقوُل‪:‬‬
‫«َو َعْن َم ْذَهِبي ِفي الُحِّب َم ا ِلي َم ْذَهٌب‬
‫َو إْن ِم ْلُت َيْو ًم ا َعْنُه َفاَر ْقُت ِم َّلِتي‬
‫َو َلْو َخطَر ْت ِلي ِفي ِس َو اَك إَر اَد ٌة‬
‫َعَلى َخاِط ِر ي َسْه ًو ا َقَض ْيَت ِبِر َّدِتي»‬
‫ويقول ابن الفارض‪:‬‬
‫«إَّن الغراَم هو الحياُة فُم ْت بِه »‬
‫يمزُج بين عشقه المرأته وعشقه الَّسماوِّي أو الرَّباني أو اإللهِّي أو الُّص وفِّي‪ ،‬كما أنه من السهل‬
‫أن نقوَل عن عشٍق إنسانٍّي المرأٍة إنه عشٌق صوفٌّي إذا كان فيه فناٌء واتحاٌد وحلوٌل بحيث يصيران‬
‫ُر وحْين َح اَّل في بدٍن واحٍد‪« :‬أنا َم ن أهوى وَم ن أهوى أنا‪/‬نحُن ُر وحاِن َح َلْلنا بَد َنا» بتعبير الحاَّل ج‪.‬‬
‫بحيث ال يصير هناك عابٌد ومعبوٌد‪ ،‬أو عاشٌق ومعشوٌق ‪ ،‬حيث يحدث االنصهار في بوتقة العشق‪،‬‬
‫ويندمجان مًعا؛ للوصول إلى أعلى مدارج الكمال‪ ،‬ذلك الكمال الذي ُفِط َر اإلنسان عليه‪َ ﴿ :‬فَأِقْم‬
‫َو ْج َه َك ِللِّديِن َح ِنيًفا ۚ ِفْط َر َت ِهَّللا اَّلِتي َفَطَر الَّناَس َعَلْيَه ا﴾ (اآلية ‪ 30‬من سورة الروم)‪.‬‬
‫ويوضح ذلك االتحاد ابن العربي حين يقول‪« :‬اإلنسان صورة من هللا؛ ألنه نفخ فيه من روحه‪،‬‬
‫فما يشتاق إال إلى نفسه‪ ..‬ثم اشتق له منه شخًص ا على صورته سَّم اه امرأة‪ ،‬فظهرت بصورته فحَّن‬
‫إليها حنيَن الشيء إلى نفسه‪ ،‬وحَّنت إليه حنين الشيء إلى وطنه‪ .‬فُح ِّببْت إليه النساء‪ »...‬ويقول في‬
‫موضٍع آخر من «فصوص الحكم»‪« :‬أعظم ظهور هلل تعالى هو تجِّليه في المرأة للرجل وفي‬
‫الرجل للمرأة»‪.‬‬
‫فللعشق لغة ال ينطق بسواها‪ ،‬وال يفهمها إال أهلها‪ ،‬كما يقول جالل الدين الرومي‪.‬‬
‫والنظر إلى وجه المرأة الجميلة التي تفتُن عبادٌة‪ ،‬وهو نظٌر وتفُّكٌر في إعجاز الخالق الذي رَّكَب‬
‫وصَّو ر في أحسن تقويٍم ‪ ،‬وفيه اعتباٌر واستدالٌل على عظمة الُم صِّو ر‪« .‬وإن أحببت الجمال فما‬
‫أحببت إال هللا تعالى فإنه الجميل» كما يذكر ابن العربي‪ .‬الذي يرى أَّن «الحب ال يتعلق إال بمعدوٍم‬
‫يصّح وجوده‪ ،‬وهو غير موجود في الحال‪ ،‬والعالم ُم حَد ث‪ ،‬وهللا كان وال شيء معه‪ ،‬فكان الحُّب‬
‫أصل سبب وجود العالم‪ ،‬والسماع سبب كونه‪ ،‬وبهذا الحب وقع التنّفس‪ ،‬وأظهر العاَلُم َنَفس‬
‫الرحمن‪ ،‬إلزالة حكم الحّب ‪ ،‬وتنّفس ما يجد المحب‪ ،‬وخرج ذلك النَفس عن أصل محبة في الخلق‪،‬‬
‫الذي يريد أن يتعرف إليهم فيعرفوه‪ ،‬فكان العماء المسّم ى بالحّق المخلوق به‪ ،‬فكان ذلك العماء‬
‫جوهر العالم‪ ،‬فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها‪ ،‬وهو قابل ال يتناهى‪ ،‬فالعماء من تنفسه‪،‬‬
‫والصور الُم عَّبر عنها بالعالم من كلمة ُكْن ‪ ،‬فالمحبة مقامها شريف‪ ،‬وهي أصل الوجود»‪.‬‬
‫يقول ابن عطاء هللا السكندري (‪ 658‬هجرية‪ 1260/‬ميالدية ‪ 709 -‬هجرية ‪ 1309/‬ميالدية)‪:‬‬
‫«غرست ألهل الحب غصًنا من الهوى‬
‫ولم يُك يدري ما الهوى أحد قبلي»‬
‫وفي رسالته «ما ال ُيعَّو ل عليه» يقول محيي الدين بن العربي‪« :‬كل محبة ال ُيْؤ ِثر صاحبها‬
‫إرادة محبوبه على إرادته فال ُيعَّو ل عليها»‪ ،‬و«كل محبة ال يلتّذ صاحبها بموافقة محبوبه فيما‬
‫يكرهه في نفسه طبًعا ال ُيعَّو ل عليها»‪ ،‬و«كل حّب ال ينتج إحسان المحبوب في قلب المحّب ال‬
‫ُيعَّو ل عليه»‪ ،‬و«كل حب ُيعرف سببه فيكون من األسباب التي تنقطع ال ُيعَّو ل عليه»‪ ،‬و«كل حّب‬
‫يكون معه طلب ال ُيعَّو ل عليه»‪ ،‬و«كل حّب ال يتعلق بنفسه وهو المسَّم ى حّب الحّب ال ُيعَّو ل‬
‫عليه»‪ ،‬و«كل حب ال يفنيك عنك وال يتغير بتغير التجلي ال ُيعَّو ل عليه»‪ ،‬و«كل حّب تبقى في‬
‫صاحبه فضلة طبيعية ال ُيعَّو ل عليه»‪ ،‬و«كل شهوة غير شهوة الحب ال ُيعَّو ل عليها»‪ ،‬و«كل‬
‫شوق َيسُكن باللقاء ال ُيعَّو ل عليه»‪ ،‬و«المحبة إذا لم تكن جامعة ال ُيعَّو ل عليها»‪.‬‬
‫سالطين الوْج د‬
‫يكتبون شرع الهوى‬
‫يسلك الَّشاعر الُّص وفي طريق المعرفة‪ ،‬وال يرى طريًقا غيرها؛ ليعِّبر عن بواطنه وأشواقه‪ ،‬حين‬
‫يكون في مقام اإلشراق؛ إْذ إَّن نصوصه نشيٌد طويٌل للعشق‪ ،‬والجمال المطلق‪.‬‬
‫ويعيش الَّشاعر حياته متقشًفا زاهًدا قانًعا بما اصطادت روحه في حياته‪ ،‬ونِّص ه‪ ،‬حيُث ال يبحُث‬
‫عن منصٍب أو جاٍه؛ ألنه باع كل ذلك في سبيل أن يكون سالًكا في طريٍق ُر وحيٍة شائكة وشائقة‪،‬‬
‫وطويلة مداها‪ ،‬يمضي في مدارج التجريد‪ ،‬ذاهًبا نحو أودية المستضعفين‪ ،‬الفاِّر ين من زحام‬
‫التكاُلب والتخالب على عظام الحياة العارية‪.‬‬
‫كما يعيش في مقاٍم خاٍّص ‪ ،‬معتزاًل ‪ ،‬منتظًر ا فتًح ا وكشًفا وفيًض ا يترادف وال ينقطع؛ إذ إَّن ِش عَر‬
‫الصوفي نسخٌة من مواجيده‪ُ ،‬يعِّبر به عن رؤاه‪ ،‬أو هو صورة شعرية لنثره الفكري‪ ،‬ونظره إلى‬
‫الوجود والحقيقة‪ ،‬يبتعد عن التصُّنع والتكُّلف‪ ،‬وإن كانت «الصناعة» قد تسَّر بت في أجساد أكثر‬
‫من ديوان لشعراء التصوف‪ ،‬ربما ألن بعضهم كعمر بن الفارض (‪ 576‬هـجرية‪1181/‬ميالدية –‬
‫‪ 1235‬ميالدية )‪ ،‬كان يعيش في عصٍر كثرت فيه المحِّس نات البديعية‪ ،‬وأنواع الجناس‪ ،‬والولع‬
‫باللفظ‪ ،‬حيث عاصر ممِّثلين لذلك التيار في زمانه‪ ،‬ومنهم القاضي الفاضل‪ ،‬والعماد األصبهاني‪،‬‬
‫وبهاء الدين زهير‪ ،‬وابن سناء الُم لك‪.‬‬
‫وقد ترك ابن الفارض ديواًنا واحًدا هو األشهر بين شعراء التصوف‪ ،‬أو بمعنى أدق لم يصل إلينا‬
‫غيره من كتٍب‪ ،‬ولوال ابنه‪ ،‬وجمعه لشعر أبيه‪ ،‬لُح ِر منا من ألٍف وثمانمائة وخمسين بيًتا‪.‬‬
‫وإذا كان الشاعر الصوفي من ذوي الكشف‪ ،‬يرى فناء نفسه في حالة ُسكٍر ووْج ٍد‪ ،‬فهو ابٌن‬
‫للَّشطح‪ ،‬الذي ليس وهًم ا وال تخُّياًل ‪ ،‬بـل صـار هو المرآة‪ ،‬وهو أبعُد زمًنا من تلك النظرة الضِّيقة‬
‫التي يراها كارهو التصُّو ف والصوفية‪ ،‬وهو قوُت الشاعر وزاده كمسافٍر في األزمنة واألمكنة‪،‬‬
‫ُخ صوًص ا ذاته التي هي المصدر‪ ،‬والمكان األول الذي يحتضن كل كلمة ُتولد‪ ،‬فشطح الشاعر من‬
‫قوة وْج ِده‪ ،‬وفيضان بحره‪ ،‬حتى ال يعود يطيق (ما يرُد على قلبه من سطوة أنوار حقايقه )‪ ،‬يقول‬
‫صاحب كتاب «الُّلمع» أبو نصر السراج الطوسي (توفي ‪ 378‬هـجرية‪ 988/‬ميالدية) في شطح‬
‫الصوفية – ومنهم شعراء التصوف بالطبع ‪ -‬وقد يكونون في مقدمتهم‪ ...( :‬وصف وْج ٍد فاَض‬
‫بقوته‪ ،‬وهاج بشدة غليانه وغلبته‪ ،) ...‬ويعتبر ابن خلدون (‪1406 - 1332‬ميالدية) الشاطحين‬
‫من المتصوفة (ومنهم شعراء الصوفية)‪« :‬أهل غيبة عن الحس‪ ،‬فالواردات تملكهم حتى ينطقوا بما‬
‫ال يقصدون»‪.‬‬
‫الشاعر الصوفي ‪ -‬إذن ‪ -‬هو الُم تحِّر ر من رِّق األغالل‪ ،‬الناطق عن سِّر ه؛ ألن «النقش هو‬
‫النَّقاش»‪ ،‬في يديه ِج نان الفردوس‪ ،‬وجنون جحيم الشطح‪ ،‬فهو كاشٌف للحقيقة المطلقة‪ ،‬التي تتجلى‬
‫في العرفان الوجداني والمعرفة الذوقية واللدنية التي يعتبرها بيان عشقه واتصاله‪ ،‬ووصله بمن‬
‫يعشق‪.‬‬
‫وُيوِدع الشاعر العارف سَّر ه في نصه‪ ،‬معتمًدا مبدأ الذوق والمعرفة‪ ،‬أي «َم ن ذاق َعَر ف‪ ،‬وَم ن‬
‫َعَر ف اغَتَر ف»‪ ،‬وال يمكن أن يتحَّقق ذلك إال عبر ظاهر األشياء‪ ،‬ولكنه ُيعِّو ل على الباطن‪ ،‬باطن‬
‫المحبة باعتبارها مقام الشاعر األعلى مكانًة ومرتبًة‪ ،‬حيث يمحو من قلبه ما سوى محبوبه‪ ،‬الذي‬
‫يستولي ذكره على ُكِّله؛ حتى ال يبقى منه شيء لغير َم ن يعشق‪.‬‬
‫والشاعر الَّسكران بخمرٍة ُر وحية‪ ،‬تلك الخمرة الرامزة إلى العشق الُم قَّدس‪ ،‬والتي هي أزليٌة‬
‫تشربها الروح فتنتشي وتثمل‪ ،‬حيث تسكر العقول «بما ُيلَقى إليها من العلوم والحقائق العرفانية»‪:‬‬
‫«َشربنا َعلى ذكر الحبيِب ُم دامًة‬

‫َسِك رنا بها ِم ن قبل أن ُيخَلَق الَكْر ُم »‬


‫«وقالوا‪ :‬شربَت اإلثَم كاّل ‪ ،‬وإّنما‬
‫شربُت اّلتي‪ ،‬في تركها عندَي اإلثُم »‬
‫«فالعيَش في الدنيا ِلَم ن عاَش صاحيا‬
‫وَم ن لم يُم ت ُسكًر ا بها‪ ،‬فاته الحزُم »‬
‫والشاعر الُم تجِّر د من الجسد والمادة‪ ،‬يكشف الُح جب‪ ،‬كي يرى محبوبه‪ ،‬ويفنى فيه‪:‬‬
‫«وأّم ـا الذي أْنَت أهٌل َلُه‬
‫َفَلْس ُت أرٰى الَكْو َن َح تٰى أراْك »‬
‫والُح ب – الذي فيه ُأنس القلب – هو ِه بٌة‪ ،‬وِم َّنٌة‪ ،‬وعطَّيٌة‪ ،‬ورزٌق ‪ ،‬وُم صادفٌة إلهيٌة‪ ،‬وليس كسًبا‪،‬‬
‫يمكُن للمرء أن يحصده‪ ،‬أو يتحَّص ل عليه‪ ،‬لكنه بذرٌة تسقيها الَّسماء بمائها؛ حَّتى تكبر؛ لتصيَر‬
‫شجرَة عشٍق ومعرفٍة‪.‬‬
‫ويعيش الشاعر الصوفي حياته تحت سقيفٍة من الرموز واإلشارات؛ ألنه يذهب بلغته إلى ما‬
‫وراء اللغة‪ ،‬ولذا ال يفقهه الكثيرون‪ ،‬ومن ثم يتهمه أصحاب الظاهر‪ ،‬وأهل النظر الضِّيق بالُكفر‬
‫والزندقة‪ ،‬حتى إن كثيرين من أهل اإلشارة‪ ،‬وأصحاب الوقت والحال قد اُّضطهدوا‪ ،‬أو ِس يقوا إلى‬
‫القتل‪ ،‬أو ُسجنوا وُض ربوا وُعِّذبوا؛ ألنهم لم يستطيعوا كتمان األسرار على العامة والخاصة أيًض ا‪،‬‬
‫فباحوا‪:‬‬
‫«ِبالسِّر ِإن باحوا ُتباُح ِدماُؤهم‬
‫َو َكذا ِدماُء العاِشقيَن ُتباُح »‬
‫ولعل أبرزهم الحالج (ُأعدم سنة ‪ 309‬هجرية )‪ ،‬والُّسهروردي (ُقتل أو ُأحرق أو تم تجويُعه‬
‫سنة ‪ 586‬هـجرية‪ 1191 ،‬ميالدية )‪ ،‬ولهذا أخفى كثيرون مواجدهم وشطحاتهم‪ ،‬والمثال األشهر‬
‫على اإلخفاء جاء من أبي بكر الشبلي (‪ 247‬هجرية ‪ 861/‬ميالدية ‪ 334 -‬هجرية ‪946 /‬‬
‫ميالدية)‪ُ« :‬كَّنا أنا والُح سين ابن منصور الحالج شيًئا واحًدا‪ ،‬إال أنه أظهر وأنا كتمُت »‪ ،‬كتَم وأخفى‬
‫أسراره‪ ،‬وستَر حقائقه عن العامة‪ ،‬وأهل الجهل من فقهاء السالطين‪ ،‬الذين كانوا بالمرصاد‬
‫ألصحاب الطريق الصوفي من أقطاب التصوف وشيوخه‪.‬‬
‫فالشاعر الصوفي الذي يذهب إلى ما وراء األشياء والمحسوسات‪ ،‬مقتصٌد‪ ،‬لفظه قليل‪ ،‬ومعانيه‬
‫كثيرة‪ ،‬بعيدة عن ظاهر لفظه‪ ،‬يختصر‪ ،‬ويوحي‪ ،‬ويلِّو ح‪ ،‬وُيلِّم ح‪ ،‬ويشير‪ ،‬ويرمز‪ ،‬كي يدل على‬
‫جوهر باطنه‪ ،‬يقول الشيخ األكبر محيي الدين بن العربي (‪ 558‬هجرية ‪ 1164 /‬ميالدية ‪638 -‬‬
‫هجرية ‪ 1240 /‬ميالدية)‪« :‬اعلم أن الرموز واأللغاز ليست مرادة ألنفسها‪ ،‬وإنما هي مرادة لما‬
‫رمزت له‪ ،‬ولما ألغز فيها‪ ،»...‬وقال أيًض ا‪« :‬قوالب ألفاظ الكلمات ال تحل عبارة معاني الحاالت»‪،‬‬
‫﴿‬ ‫عمران‪:‬‬ ‫آل‬ ‫سورة‬ ‫من‬ ‫القرآنية‬ ‫اآلية‬ ‫يضع‬ ‫الشاعر‬ ‫كأن‬

‫﴾ دستوًر ا له‪ ،‬وبياًنا لمنطقه‬


‫الجمالي‪ ،‬إذ بالرمز يعبر عَّم ا يحلم بكتابته‪ ،‬ويشير بحدسه الذاتي الباطني األعلى إلى فيوضاته‪ ،‬ألنه‬
‫يؤمن أن منازل الكون كلها رموٌز ‪.‬‬
‫وألن باطن الشاعر الصوفي يحكمه الذوق والوجد‪ ،‬وال يمكن للظاهر أن يحاكمه‪ ،‬فقد ظل في‬
‫نصوصه الشعرية والنثرية ‪ -‬على مدار التاريخ

‫اإلسالمي ‪ -‬محروًم ا من العيش في طمأنينة‪ ،‬ومطروًدا من رحمة الُح َّكام والُو الة واألمراء والُخ لفاء‬
‫والُفقهاء من ُعدماء الدين وجهلته‪ ،‬وما أكثرهم في كتاب تاريخنا‪.‬‬
‫َم ن الُّص وفُّي ؟‬
‫الصوفي هو الذي ينفض يديه وقدميه ومالبسه وهو ماٍش على األرض‪ ،‬أي أرض‪ ،‬سواء أكانت‬
‫له‪ ،‬أم وقًفا‪ ،‬ال يبتغي منصًبا‪ ،‬أو جاًها‪ ،‬أو سلطاًنا‪ ،‬متيقًنا أنه صار نقًّيا من آثار الدنيا الزائلة الفانية‪.‬‬
‫وال يتاجُر إال في ثمار الصدق‪ ،‬ومن دون تكالٍب على ما هو دنيوي‪ ،‬يزهد فيما ُيقبل الناس عليه‪،‬‬
‫ال يتعلق بشيء‪ ،‬هو ابٌن للمجاهدة‪ ،‬يسلك الطريق‪ ،‬مداوًيا نفسه‪ ،‬قبل أن يداوي سواه‪ ،‬يسير في‬
‫النور‪ ،‬مثلما تسري اإلشاراُت في روحه‪ ،‬يكشف ما احتجب وما استتر وخفي عنه‪ ،‬يجلو مرآة قلبه‬
‫ويصقلها باإلشراق حتى تتجلى‪ ،‬وأن يعرف مكنون نفسه؛ كي يسهل له الوصول بعد تمام الوصل‪،‬‬
‫حيث تنكشف له أموٌر ال ُتعد وال ُتحصى‪.‬‬
‫الصوفي رحب‪ ،‬وذو شسوع‪ ،‬قلبه يسع الكون‪ ،‬ال يفلت الزمام منه‪ ،‬مهما تكن المتع والمغريات‪،‬‬
‫صاحب كبرياء وأنفة‪ ،‬على الرغم من بساطته وتواضعه‪ ،‬حبل روحه مربوط بالنور‪ ،‬وممتد‬
‫بمشكاوات السموات‪ .‬ال يقع في الِّش باك أو الحبائل التي يدبرها األغيار أو العابرون أو المارون‬
‫على الدين‪.‬‬
‫ال يعرف الخزي أو الخذالن أو الذلة أو الحسرة أو البغضاء أو الحسد‪ ،‬يصير شخًص ا آخر جديًدا‬
‫كلما طلعت شمس‪ُ ،‬يسَلب وال َيسِلب‪.‬‬
‫والصوفي يرى الفقراء إلى هللا كحبات الزيتون فيهم الكبير‪ ،‬وفيهم الصغير‪ ،‬وَم ن لم يكن فيه‬
‫زيت فالصوفي زيته‪ ،‬كما قال السيد أحمد البدوي صاحب الطريقة األحمدية (‪ 596‬هجرية ‪-‬‬
‫‪ 1199‬ميالدية ‪ 675 /‬هجرية ‪ 1276 -‬ميالدية)‪.‬‬
‫الصوفي صاحب نظر؛ ألنه من أهل الصفاء‪ ،‬مآلن باإللهام‪ ،‬قلبه يشرق بالنور‪ ،‬يمتاز عن سواه‬
‫بالعرفان‪ ،‬إذ يسمو عن عالم المادة‪ ،‬أفادته خلوته وغيبته عن الناس‪ ،‬فَعاَل فيُض ه‪ ،‬وكثرت سياحته‬
‫الروحية‪ ،‬يشتد به الوجد سواء أكان وحده أم وسط زحام من البشر‪ ،‬مصداًقا لقول الَّشاعر العربي‬
‫دعبل الخزاعي (‪ 246 -148‬هجرية ‪ 860 -756 /‬ميالدية)‪:‬‬
‫«إِّني أقِّلُب عيني حين أفتُح ها‬
‫على كثيٍر ولكن ال أرى أحدا»‬
‫وفي الخلوة‪ ،‬حيث الوجد والذوق والتجِّلي «هللا يجتبي إليه َم ن يشاء ويهدي إليه َم ن ينيب»‪،‬‬
‫وفيها يقع التجُّر د من المظاهر‪ ،‬حيث تسبح الروح في بحرها الوسيع الذي ال ساحل له‪ ،‬وال إدراك‪.‬‬
‫إن التصوف يفتح فيًض ا من المعاني الربانية وآفاًقا معرفية ال حد لها أمام الصوفي‪ ،‬إذ يسلك‬
‫الطريق ببصيرته المعرفية‪ ،‬وتنهمر اإللهامات على قلبه «وعلمناه من لدنا علما»‪.‬‬
‫الصوفي هو عالم رباني‪ ،‬روحه تشرق باألنوار‪ ،‬ترَّبى على علم القلوب‪ ،‬وهو الوهب ال الكسب‪،‬‬
‫أو العلم الوهبي‪.‬‬
‫والصوفي كما يقول شيوخي‪« :‬نالوا علوم الدراسة‪ ،‬ومنحوا علوم الوراثة»؛ حيث تكشف أمامه‬
‫نواميس هللا في الكون؛ ألن َم ن يتدَّبر ويتأمل لهو في رزق دائم ال ينقطع‪.‬‬

‫الصوفي بحر ال ُيدرك له قرار‪ ،‬وال ُيعرف له ساحل‪ ،‬وقديًم ا قال السيد البدوي‪« :‬إن سواقَّي‬
‫تدور على البحر المحيط‪ ،‬ولو نفد ماء جميع سواقي الدنيا‪ ،‬ما نفد ماء سواقي»‪.‬‬
‫َم ن العارُف ؟‬
‫الذي يعيُش في جَّنِة المعارِف ‪ ،‬يشَقى ويسعى‪ ،‬وال يكتمُل أبًدا‪ ،‬إْذ هو دائًم ا في نقصاٍن ؛ ألَّن َم ن‬
‫يكتمل يدركه الموُت ‪ ،‬وتنعشُه الحكمُة‪ ،‬وتغِنيه الخواطُر والوارداُت والُم ناجاُة‪ ،‬إْذ هي تخطُر وترُد‬
‫من سماء الُّر وح‪.‬‬
‫فَم ن يدخل ميداَن المعرفِة يطب له كُّل شيٍء ‪ ،‬ويقترب منه الحرُف ‪ ،‬ويصير قاب قوسين من‬
‫الكرامِة التي تمنحه اللذَة الُقصوى‪ ،‬والصورَة األتَّم ‪.‬‬
‫وَم ن يغترف من بحِر المعرفِة تمسك يداه األشياء‪ ،‬ويعرف شدائَد الزمان‪ ،‬وُيرزق من حيُث ال‬
‫يحتسب‪ ،‬وُتفتح له المخارُج واألبواُب ‪ ،‬ويدِّقق النظَر في البواعث‪ ،‬ويدخل سرادق الُحِّب كأنه في‬
‫عليين‪.‬‬
‫العارُف يسيُر إلى الزيادِة‪ ،‬يأنُس إلى فتح قلبه‪ ،‬عَّله يصل إلى الُم شاهدِة ثم االتحاد والحُلول فيَم ن‬
‫يعشُق ويرتجي؛ مطلًقا لسان سِّر ه‪ ،‬رافًعا الِح جاب عن كِّل مستتٍر وخفٍّي‪ ،‬واصاًل إلى معنى ُر وح‬
‫الحْر ِف الذي ينتظُم في كلمٍة‪ ،‬ثم في ُج ملٍة‪ ،‬ثم في نٍّص ‪.‬‬
‫العارُف ابن الذوق والحِّس ‪ ،‬وهو من أهِل اإلشارِة‪ ،‬والعبارِة‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬باطنُه غني‪ ،‬حتى لو شد‬
‫الحجر على بطنه من فرِط الُج وع والَّسَه ر‪.‬‬
‫العارُف يخرُج ليس معه شيٌء سوى الحْر ِف الذي يحمله قلبه‪ ،‬غارٌق في بحر ذاته‪ ،‬يحيا في‬
‫المقاِم والحاِل ‪ ،‬ويسعى إلى سبيل الحكمِة ؛ ليلمَح الحقائَق وهي تطيُر أمام عينيه‪ ،‬تتنَّز ُل بين يديه؛‬
‫كأنه من وارثي المنزلة‪.‬‬
‫العارُف له مواٌّد خاَّص ٌة‪ ،‬يختاُر ما ال يختاُر ُه سواه‪ ،‬ليس لُه من نفسه شيٌء ‪ ،‬ابن الِفرار ال القرار‪،‬‬
‫استوت له أرُض الحقيقة‪ ،‬يسوُق غماَم ُه نحو العلم اإللهِّي‪ ،‬ينظر ببصِر اإليقان‪ ،‬واإليقان بالشيء‬
‫العلم بحقيقته بعد نظٍر واستقراٍء واستدالٍل وتثُّبٍت وتحُّقٍق ووُض وٍح‪ ،‬وهو إتقاُن العلم بإزالة الَّشك‬
‫والُّشبهِة عنه وتحقيق األمر‪.‬‬
‫ال يدخُل الوسواُس بينه وبين حبيبه‪ ،‬وُينسيه ما قدمت الُّر وح من عشٍق ‪ ،‬وما منح الجسد من عطاٍء‬
‫وجنان‪.‬‬
‫العارف ال يقيده زمٌن ‪ ،‬وال يحُّده مكاٌن ‪ ،‬دوًم ا في تجٍّل ‪ ،‬وجالٍء ‪ ،‬وتجواٍل ‪ ،‬وسياحٍة‪ ،‬وسفٍر ‪ ،‬يسلم‬
‫قلبه لَم ن يحُّب ويرُج و‪.‬‬
‫العارُف محٌّب للخلوة‪ ،‬مستعٌّد للعُر وج‪ ،‬سبيُل المناجاة منجاته‪ ،‬ومفتوٌح أمامه‪ ،‬يقبُس من النور وال‬
‫ينفد‪ ،‬يترُك االنتصار لنفسه‪ ،‬إْذ يصِّفي ُر وحه‪ ،‬وينِّقي قلبه مع كل طلعة شمٍس ‪.‬‬
‫ال غاية لديه إال ُذروة الوُص ول‪ ،‬حيث مدت ُر وحه بمعاني المعارف‪ ،‬هو مفتاٌح لقلوب الغير‪،‬‬
‫ومصدُر الحكمة الكبرى ألهل السِّر ‪.‬‬
‫باطنه مع َم ن يعشُق ‪ ،‬وظاهرُه مع َم ن سواه‪ ،‬سترته األقداُر ‪.‬‬
‫العارُف يمتطي صهوة ُبراقه‪ ،‬ويسعى نحو التمام والكمال‪ ،‬ال يكُّف عن العُر وج‪ ،‬حتى يبلغ‬
‫الُّذروَة‪ ،‬سدرة منتهى الطلوع والفْيض‪.‬‬
‫طعاُم العارف ثمرُة الُّنور‪ ،‬وهي تنبت في أرض ُر وحه‪ ،‬ويسقيها بماء ذهِبه‪ ،‬الذي تشطفه الَّسماُء ‪،‬‬
‫وثمرة العلم اإللهي وهي تنبُت في أرض قلبه‪ ،‬ويسقيها بماء الُحِّب الذي ال تنفد بحاُر ه‪ ،‬وثمرة‬
‫الوصل وهي تنبُت في أرضْين‪ :‬أرُض العارِف ‪ ،‬وأرُض َم ن اتحد به‪ ،‬وإذا ما قطع المحُبوب‬
‫الوصل‪ ،‬عطبت الثمرُة‪ ،‬وسقطت تحت شجرتها‪ ،‬إذ ال يلتفُت أحٌد إليها‪.‬‬
‫في الُعزلة‪ ،‬أو في الخلوة يعرُف المحبوُب ُكنَه ثمرِة وْصِله‪ ،‬هل شاخْت ‪ ،‬وجَّفْت وحان سُقوُطها‪،‬‬
‫أم وهو في كهفه يدرك أن قلبه ناَم ‪ ،‬أو ماَت ‪ ،‬أو ضاَق ‪ ،‬أو ُسَّدت شرايينه من فرِط الَّص دأ؛ ألَّن‬
‫المحُبوَب يعرُف أَّن ثمرَة الُعزلِة تتجَّلى في كشف الغطاء‪ ،‬أو هتك الِح َج اب عن تمُّكن المحَّبة‬
‫وتحُّققها‪ ،‬أو فتورها‪ ،‬أو برود ناِر ها‪ ،‬ولم تُعد الُم جاهدُة تجِدي؛ لكَّن المحُبوب يخشى الُم واجهة‪ ،‬أو‬
‫يريد أن يحتفَظ بشكِل الوْص ل ال بجوهره‪ ،‬بسراِب العشِق ال مائه‪ ،‬بينما العارف يدرُك أنه ال سلطاَن‬
‫على القلِب‪ ،‬لكَّن الناَس تكرُه التصريَح خشية التجريح‪ ،‬مع أَّن العاشَق العارَف يصبُر على البالء‪،‬‬
‫ويرضى بالقضاِء ‪ ،‬وال يعرُف أنه ال يثبُت على الُح ب إال أهل التجريِد والُقرِب‪ ،‬ال أهل التقتيِر‬
‫والُبخِل والُّشح والَمِّن في الَم ْنح‪.‬‬
‫َم ْن أهُل الَّنظر؟‬
‫عودُت نفسي منذ الِّص با المبِّك ر‪ ،‬وأنا في قريتي‪ ،‬أن أعتزل كي ال أبتذل‪ ،‬وأن أنفرد كي ال‬
‫أزدحم‪ ،‬وأنشغل بالسفاسف والتوافه والقشور‪ ،‬وأن أغوص عميًقا في روحي الحيرى القلقة‪ ،‬مجهًدا‬
‫عقلي؛ كي أدخل إلى المعاني الكامنة في القلب‪.‬‬
‫واستفدُت من عزلتي التي اخترتها سبياًل ‪ ،‬ومصادقتي للكتاب حًّبا الزمني وبقي معي‪ ،‬ونوًر ا نافًذا‬
‫ينير لي الطريق‪ ،‬كلما انحرفت في ناحية ال تشبهني‪ ،‬ولم أخلق لها أساًسا؛ لذلك كبرت داخلي رغم‬
‫سني الصغيرة وقتذاك‪ ،‬وأكرمني هللا عندما هجمت الشدائد وتوالت المحن‪ ،‬وما أكثر ما ُشفُت‬
‫وعاينُت وعانيُت ‪ ،‬لكنني سيد الكتمان‪ ،‬إذ في الصمت علو وارتفاع‪ ،‬على الرغم من أَّن شواهد األلم‬
‫تسطع في مرآتي‪ ،‬وتنعكس على كلي نفًسا وحرًفا‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أنني لم أتعلم السباحة‪ ،‬وأخشى البحر وأراه غادًر ا‪ ،‬حتى لو صدق؛ فإنني أحب‬
‫أن أغرق في بحر نفسي‪ ،‬وفي محيط أشيائي؛ علني أقود سفائن روحي إلى الساحل حتى ولو كان‬
‫نائًيا أو مجهواًل ‪ ،‬وحتى لو انكسرت بعضها‪ ،‬أو حَّطمتها األمواج؛ ألن الغرق في الذات إدراٌك‬
‫لماهية النفس ومساءلتها والوصول إلى قرارها األعمق‪ ،‬حيث عشت أطمح أن أكون من أهل النظر‬
‫بالدليل والبرهان‪ ،‬وعادة ما يكون برهاني محمواًل على كفتْي ميزان قلبي‪.‬‬
‫وَم ن امتلك برهانه عاين وكشف ما استتر‪ ،‬وزالت الحجب عن المخفي فيه وعنه‪ ،‬وترَّقى في‬
‫الدرجات‪ ،‬وطوى المسافات بجناحي براقه إلى المعارج‪ ،‬وصار في حال الفتح‪ ،‬ومقام اإللهام‪.‬‬
‫والخسران هو أن يعيش المرء محجوًبا عن نفسه؛ ألن المحجوب قلبه فارٌغ‪ ،‬ومصروٌف عن‬
‫العشق‪ ،‬واألشياء ملتبسة عليه «لكل شيء حقيقة»‪ ،‬وَم ن يتحَّص ن بالمعرفة‪ ،‬تكتب له النجاة‪ ،‬ويحقق‬
‫قول أهل الوقت والنظر‪« :‬المحب على الحقيقة َم ن ال سلطان على قلبه لغير محبوبه‪ ،‬وال مشيئة له‬
‫غير مشيئته‪.»...‬‬
‫دع السر مغموًر ا‪ ،‬وال تكشف إال إذا حضرت‪ ،‬واستزد‪ ،‬وِفْض ‪ ،‬واقترْب ‪ ،‬واذهْب إلى البْك ر من‬
‫المعاني‪ ،‬وال تهمل ثِّيبات العلوم‪ ،‬فالخلق يولد من اتحاد البكر بالثيب‪.‬‬
‫فكأس َم ن تحب كامن في فم القلب‪ ،‬فعش ذائًقا تائًقا مشتاًقا‪ ،‬يدم لك الشرب؛ حتى تسكر‪ ،‬وال يكن‬
‫لك صحو أبًدا‪ ،‬وتصل إلى المحل األعلى‪.‬‬
‫عشُت أبحث عن الحال التي ال حال بعدها‪ ،‬وعن المعراج الذي ال معراج بعده‪ ،‬وعن القول الذي‬
‫ال يشبهه قول‪ ،‬وأسعى في الغيوب التي ما بعدها غيوب‪ ،‬وعن السر العظيم الذي أستريح في‬
‫سريره؛ كي أصل َم ن يبقى‪ ،‬وأهجر َم ن يروغ وتعمى بصيرته‪ ،‬وال أقف عند اللوم؛ ألن َم ن برح‬
‫ال مطرح له؛ إذ هو من أهل النسيان والعميان‪ ،‬يقتات أرز الغفلة‪ ،‬ويشرب ماء الضالل‪ ،‬نفسه‬
‫أرضية‪ ،‬ولم تصل روحه إلى المرتبة السماوية‪ ،‬ولم يعش حال الوجد‪ ،‬وأدرك روحه الجدب‬
‫والقحط‪ ،‬ولم تلحق اسمه الدرجة العلية‪ ،‬وظل في االسم الدني‪ ،‬وانعدم وجوده‪ ،‬وصار محًو ا‪.‬‬
‫في الخلوة ال يكون القلب مشغوال بغير من تحب‪ ،‬وإن سكن إلى غيره فقد أشركت به‪ ،‬حتى ولو‬
‫كان بالخيال‪ ،‬حيث تستمسك بالحبل الذي يربطك به‪ ،‬إذ هو حبٌل ِس ِّر ي (من الِّس ر)‪ ،‬وُسِّر ي (من‬
‫الُّسَّر ة)‪ ،‬وفي هذه الحال

‫ال يمكن أن ترد خائًبا‪ ،‬حيث تكون في حال «غلبة الشوق»‪ ،‬ودوام التفكير‪ ،‬ويكون اسمك موصواًل‬
‫باسم َم ن تعشق‪ ،‬وتتنَّز ل الكرامة‪ ،‬وتوهب السر الذي يبقي القلب متقدا‪ ،‬إذ يفتح بالنور‪ ،‬وتحمله نون‬
‫الهوى على حوافها وفي قلب نقطتها إلى الفردوس‪.‬‬
‫أهل النظر هم أصحاُب بحر النور‪ ،‬والبين ساقط بينهم وبين َم ن يحبون‪ ،‬يدخلون المحبة ال‬
‫لشيٍء ‪ ،‬وال على شيٍء ؛ ألن في عشقهم يقيًنا ال يقابله شك‪ ،‬محاطون باألسرار المكتومة عن سواهم‪،‬‬
‫يرفع الواحد منهم يديه إلى السماء داعًيا‪« :‬امح من قلبي محبة غيرك»؛ ألن بالعشق يسلك طريق‬
‫الصدق‪ ،‬حيث ُيسِّخ ر هللا له النور والنار والماء والخيال والجبال والشمس والقمر والنجوم والرياح‬
‫والجن والبحار‪ ،‬ويحمل أمره ‪ -‬دائًم ا ‪ -‬باليقين بعيًدا عن «الظنون والشكوك واألوهام الساترة‬
‫للقلوب عن ُم طالعة الغيوب»‪ ،‬كما جاء في «حزب البحر» ألبي الحسن الشاذلي‪ ،‬الذي كنت أقرؤه‬
‫بعد صالة كل عصر‪ ،‬وأنا في قريتي «كفر المياسرة »؛ طبًقا للتقاليد الشاذلية‪ ،‬وقد قال ابن عطاء‬
‫هللا السكندري وهو تلميذ الشاذلي عن هذا الحزب و الحزب الكبير‪« :‬إنهما سارا مسير الشمس‬
‫والقمر‪ ،‬وأشيع ذكرهما في البدو والحضر»‪.‬‬
‫اللهم أسألك «العصمة في الحركات والسكنات والكلمات واإلرادات والخطرات‪ ،»...‬وصفاء‬
‫البصيرة‪ ،‬ومالئكية الروح‪.‬‬
‫ُر وحي تنطُق عن هواها‬
‫كُّل شيٍء ال يصدُر عن الروح ال ُيعَّو ل عليه‪ ،‬فلكي تصَل في الكتابِة إلى نقطة الذروة‪ ،‬ال بد أن‬
‫تكوَن قد مشيَت على جمر ُر وحك‪ ،‬وأمسكَت الناَر غير خائٍف ‪ ،‬بعيًدا عن التكُّلف والتصُّنع والتعُّم د‪،‬‬
‫وما طريُق الفطرة والتلقائية إال الجسُر الواصُل بين الذات وروحها‪.‬‬
‫وكُّل تجربٍة كتابيٍة ال تتأَّسُس أو تقوم أو تنطلُق من تجربٍة ُر وحيٍة هي ناقصُة‪ ،‬ألَّن الشاعَر ‪-‬‬
‫الكاتَب من المفترِض أن يكون مهُج وًسا بالوجود المحجوب‪ ،‬ال بالوجود المكشوف‪ ،‬المتاح‬
‫والمْر ِض ي عنه من قبل سلطات الكتابة‪ ،‬التي تفرض سطوتها على المجتمع األدبي‪.‬‬
‫فأنا ال أكتُب عن عالٍم مرئٍّي جاهٍز ‪ ،‬ولكنني أحاوُل أن أخُلَق عالًم ا أراُه في حلمي‪ ،‬هو عالٌم آخر‬
‫جديٌد ينتمي إلَّي ويشبُه ني‪ ،‬إْن لم يُكن مطابًقا لروحي فهو على األقل قريٌب منها‪.‬‬
‫وكوني أطلب الحقيقَة المطلقَة‪ ،‬فأنا أمام عالٍم غير محُسوٍس ال متناٍه ال تدركه األبصاُر الماديُة‪.‬‬
‫لي معراٌج شعرٌّي استند في رحلته على أجنحٍة كثيرٍة‪ ،‬كان أبرزها التصوُف والفلسفُة‪ ،‬إْذ هما‬
‫جناحان يمثالنني ويمنحانني درجَة غلياٍن أعلى‪ ،‬ويجعالن روحي تنطق عن هواها‪ ،‬دون تردٍد أو‬
‫توجٍس أو حذٍر ‪.‬‬
‫واألسرار ال تترى إْن لم َتْغِل أواًل في ِقْد ِر الحياة الروحية للشاعر – الكاتب‪ ،‬والكتب الكبرى‬
‫التي بقيْت في نفوسنا طوياًل ‪ ،‬صدرْت عن معارَج صوفيٍة ألصحابها‪ ،‬حتى ولو لم يكونوا ُص وفيين؛‬
‫ألَّن كَّل روٍح تطيُر عن أرضها‪ ،‬هي عندي روٌح طائرٌة في الطريِق الُّص وفِّي؛ ألَّن حاَل الشاعر‬
‫هي مزاٌج يتفاعُل مع التصوف أو الفلسفة وليس ابن العربي أو الُّسهروردي أو ابن سبعين ببعيديَن‬
‫عن ذهني‪.‬‬
‫فالتجربة تكشُف الكثيَر من الحقائق‪ ،‬وما يشاهدُه الشاعُر في حاله‪
،‬‬
‫ال يستطيُع كتابته إال عبر تجلي الروح وإشراقها‪ ،‬وليس استعارة أحوال آخرين‪ ،‬ألَّن الشاعَر ال‬
‫يستعيُر لساَن غيره‪ ،‬وقديًم ا قال النَّفري‪« :‬الجزء الذي يعرفني ال يصلح على غيري»‪.‬‬
‫فالثقافة والعلم وحدهما ال يجعالن من الَّشاعر صوفًّيا؛ ألَّن الوصوَل والوصَل يحتاجان إلى‬
‫مجاهدٍة وروٍح ولدت عارفة‪ ،‬تدَّر ب مريُدها على المنح‪ ،‬ومن ثم سنكوُن بعد ذلك أمام مقام الذوق‪،‬‬
‫كلما قرأنا عماًل شعرًّيا نعرف من خالله أن روح كاتبه تخرج إلى متلِّقيها من كل حرف‪ ،‬وال‬
‫يحتاج المرء إلى جهد‪ ،‬كي يكشف الكتابة الصادرة من موقف الروح‪ ،‬أو الصادرة من موقف‬
‫«نويُت أكتُب »‪.‬‬
‫الروح ال تحجُب ‪ ،‬بل ُج بلْت على الكشف‪ ،‬وكل روٍح هي سادرٌة في منحها‪ ،‬فقط تحتاج إلى بعض‬
‫مثيراٍت لتستجيَب وتذهب إلى النار وحدها‪ ،‬وال تهرب منها‪ ،‬هي كلما رأت ناًر ا‪ ،‬وقعت فيها‬
‫باختيارها‪ ،‬فهي في الكتابة تكتب‪ ،‬وفي الصمت تصمُت وال حَّد لشواطيها إْذ هي بال سواحل‪.‬‬
‫الروُح هي التي تسقي شجرَة الكتابة‪ ،‬وهي التي تفتح الباب المسدود‪ ،‬وكل باٍب ُم غلٍق تراه أمامها‬
‫مفتوًح ا‪ ،‬هي ترى‪ ،‬وال تناُم ‪ ،‬وال يدرُكها تعٌب ‪ ،‬تأَر ُق وتقلُق ‪ ،‬لكنها ال تصدأ‪ ،‬قد توصُد بابها أمام‬
‫مبدعها المشغول الالهي عنها؛ ألَّنها كالشعر‪ُ ،‬تعطي ظهرها لَم ن يهجُس بغيرهما‪ ،‬هما ال يحبان‬
‫شركاء‪ ،‬يريدان الجنَة وحدهما؛ ألَّن الُّر وَح تغرُس شجرًة أبديًة أمام باب كِّل شاعٍر ‪ ،‬وتمنحه بئر‬
‫ماٍء ال تنفُد‪ ،‬وتطلب منه أن يرويها‪ ،‬فإن تقاعَس عن السقاية‪ ،‬نقلت شجرتها إلى باب آخر‪ ،‬ليس له‪،‬‬
‫وربما قتلتها‪ ،‬إنعاًم ا في التنكيل بالُم همل‪.‬‬
‫الُّر وُح ظاهرٌة‪ ،‬كأَّنها تنادي صاحبها‪« :‬ال تزاُل تراني» والغيبة عنها‪ ،‬والذهاب نحو آخر‪ُ ،‬يفسد‬
‫المحصول‪ ،‬فما يأتي بالذوق أبقى وأهم مَّم ا يأتي بالتعُّلم‪ ،‬ودوًم ا أثُق في الوْه ِب ال الكسب‪ ،‬وابن‬
‫الروح هو صاحُب وهٍب وذوٍق وكشٍف ‪ ،‬والشعراء أبناء األرواح‪ ،‬هم أرباب أحوال‪.‬‬
‫الشاعر يذهُب نحو المطلق الال متناهي‪ ،‬يتحُد بَم ن يعشُق ‪ ،‬ويحُّل فيَم ن يحُّب ‪ ،‬يفنى‪ ،‬هو دوًم ا فوق‬
‫طور العقل‪ ،‬دنياه في تعبيرِه‪ ،‬وقبس نوره من السموات‪ ،‬و«شبيُه الشيِء منجذٌب إليه»‪ ،‬وما من‬
‫فرع إال وهو دائم الحنين إلى أصله‪ ،‬والناي يبكي لفراق أمه الشجرة‪ ،‬ومن ثم تأتي لغته خاصًة ال‬
‫شبيَه لها‪ ،‬ليست لغة العقل‪ ،‬أو العلم‪ ،‬أو الفلسفة‪ ،‬الشاعر يدُّل وليس عليه أن يدرك نتيجًة ما‪ ،‬هو‬
‫يحدُس وال يتحدُث ‪ ،‬هو يرمُز وال يقوُل‪ ،‬هو يشيُر وال يشرُح ‪ ،‬هو يومُئ وال ُيفسُر ‪ ،‬هو يسأُل وال‬
‫يمنحك إجابًة‪.‬‬
‫الَّشاعر الحُّق دوًم ا في الحال‪ ،‬التي هي التجربُة الروحيُة‪ ،‬وهي منزلٌة سماويٌة عليا‪ ،‬ال يصُل إلى‬
‫سدرتها إال قليلوَن ‪ ،‬هي عندي «اإلشراُق »‪ ،‬الذي تتنَّز ُل من سمواته النصوُص الكبرى‪ ،‬التي تبقى‪،‬‬
‫وتؤِّر ُق ‪ ،‬وتحُّث وتحِّر ُض ‪ ،‬وتمنُح َم ن يتلَّقاها درجاٍت عليا من الوصول والتحُّقق‪.‬‬
‫الشاعُر ابن روحه‪ ،‬هو دوًم ا بين نقطتين‪ :‬نقطة االبتداء ونقطة االنتهاء‪ ،‬وكلما وصل إلى‬
‫إحديهما‪ ،‬عاد إليها من جديٍد؛ ألنه يحيا ويموت بين الصفر واأللف أو الواحد‪ ،‬يجِّر ُد بشريته ليفنى‬
‫في هللا‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا أكتُب إذن أنا أحيا وموجوٌد في إرادتي‪ ،‬التي هي جوهُر إنسانيته اإللهية ال عقله‪.‬‬
‫كشاعٍر سأظُّل من واقع حال تجربتي‪ ،‬أنني كلما أردُت النطق بما رأت ُر وحي ال أقدُر ‪ ،‬وستبقى‬
‫لغتي دون الحال الذي أنا فيه؛ ألَّن ما فَّي أكبُر من اللغة‪ ،‬وأسمى من التعبيِر ‪ ،‬ولذا أرى العاشق‬
‫دوًم ا عاجًز ا عن كشف حاله‪ ،‬وهو في مقام الُحِّب‪ ،‬ودائًم ا لغته إلى المحبوب‪ ،‬أقُّل وأدنى مما تكتبه‬
‫روُح ه في صفحاتها بقلم الدم‪.‬‬
‫والَّشاعر الذي ال يصدر نُّص ه عن عاطفٍة جامحٍة ال ُيعَّو ُل عليه كثيًر ا‪ ،‬حيث تكوُن نسبة عصير‬
‫الدماغ فيه أكثر طغياًنا من نسبة عصير الروح‪ ،‬إذ الشاعر كالُّص وفي تماًم ا في كونه ابن استغراقه‬
‫وفنائه وحدسه الال متناهي‪ .‬فهو يكتُب من «عين البصيرة» أو كما يسميها الصوفية «اسم القلب‬
‫والسر»‪.‬‬
‫الشاعر يذهب إلى مناطَق ال يطرقها الطارقون‪ ،‬وال يعرفها أهُل الحياة‪ ،‬وال يدركها العابرون‪ ،‬أو‬
‫كما قال النَّفري يوًم ا في مواقفه‪« :‬دْع عنَك كل عيٍن وانظر إلى ما سواها»‪.‬‬
‫في «الُّنقطة» َطاَقٌة ال ُتْد َر ُك‬
‫َو َشْم ُس الَح ْد ِس بابي لمعرفة َنْفسي‬
‫بالحدس والتأويل َتصُل إلى ما تريد‪.‬‬
‫ال يمكن أن تحيا وأنَت ِظ ٌّل ألحد‪ ،‬أو تظّل – هكذا – طوال حياتَك باحًثا عن قدوٍة‪ ،‬لتتبَعها‪،‬‬
‫وتسير وراءها‪ ،‬أو تستنسخها‪.‬‬
‫ابحْث عن أسلوٍب جديٍد‪ ،‬أو طرائق مغايرٍة ومختلفٍة؛ لتكوَن الذي تريده أو تطمح إليه‪.‬‬
‫فالِج َّدة‪ ،‬والبحث سبيالن إلى اإلضافة واإلنجاز‪ ،‬وطريقان نحو االمتياز والخصوصية‪.‬‬
‫ُكن دوًم ا خارج المألوف‪َ ،‬و ال َتِسْر في الطرق الُم مهدة؛ ألَّن غيَر َك َطَر َقها َو َعَّبدها َو َساَر فيها‪،‬‬
‫وال مجال ألن تسيَر في المسار نفسه‪ ،‬أو كما ُكَّنا نقول ونحن أطفال في القرية‪« :‬تطّبل في‬
‫المطِّبل» (حيث كان المسحراتي في رمضان َيْنَسى َأَّنه «طَّبل» في هذا الّشارع؛ ليصحو النائمون‪،‬‬
‫فيعاود التطبيل مرًة ثانيًة ومن هنا جاءت هذه المقولة التي تشير إلى الُم عاودة والتقليد والتكرار‬
‫واإللحاح و‪.)...‬‬
‫اذهب إلى ما وراء الشيء‪ ،‬إلى ما وراء الرمز‪ ،‬إلى ما وراء المعنى‪ ،‬إلى ما َو َر اَء الُّلغة‪ ،‬إلى ما‬
‫وراء الواقع‪ ،‬كْي تنجَو من َشرِك العادّي والمطروِق والمألوِف ‪ ،‬وتفتح الُم ْغَلَق على أسرارِه‪.‬‬
‫ُر ْح إلى الخفِّي لتكشَفُه‪ ،‬وإذا ما ذهبَت يوًم ا إلى الّظاهر أو الواضح أو الجلِّي‪ ،‬تأَّكد أّن هناك باطًنا‬
‫ينتظرك لو أْح َسْنَت الُّدُخ وَل إليه‪.‬‬
‫ومثلما يفشل الَّشاعر إذا عَّو ل على الَّظاهر والواقع‪ ،‬كذلك يفشُل الَعاِش ُق الذي ال يرى من امرأتِه‬
‫إاَّل جسدها فيغرق فيه ُم ْلتًّذا لذائَذ مؤقتًة ال تدوُم وال تتعَّم ُق ؛ ألنه لم يَر ما وراء الجسد‪ ،‬أو لم يتعَّلم‬
‫من ُم َعِّلم الحّب األَّو ل في إرثنا اإلسالمّي والعربي المقَّدس محمد بن عبد هللا (ﷺ)‪ ،‬ومن أراد أن‬
‫يعرَف أكثر‪ ،‬فليذهب إلى صحيح البخاري ليدرَك كم كان النبُّي محمد مؤِّسًسا في فنون الحّب ‪،‬‬
‫عارًفا ما وراء األسرار‪ ،‬ناشًدا الديمومَة‪ ،‬والوصَل ‪ ،‬والوصوَل إلى المنتهى بإشاراٍت وتمهيداٍت ال‬
‫يفعلها (أو يلتزم بها) العاشُق والمعشوُق (الرجل والمرأة)‪ ،‬ومن ثم ال يدوم العشُق كثيًر ا في ظِّل‬
‫الجهِل بأسراِر الروِح والجسِد التي أشار إليها الرسول – في السنين األولى من الهجرة – َقْبَل أن‬
‫يتوَّص ل إليها العلماء والمختصون في العصر الحديث‪.‬‬
‫اذهْب إلى النقطِة مباشرًة‪ ،‬ال تترك نفسك للتداعي الُح ر؛ ألَّن فيه َم ْقَتَلَك ‪.‬‬
‫ففي «النقطة» َطاقٌة ال ُتْد َر ُك ‪ ،‬وأسراٌر ال ُتْم َسُك ‪ ،‬وعوالم غامضٌة ال حدود لها‪ ،‬ال تصل إليها إال‬
‫إذا كنَت من العارفين واإلشراقيين‪.‬‬
‫النقطُة َتِص ُل َبْيَن ما هو علوٌّي وبين ما هو أرضٌّي ‪ ،‬وتجمع اإللهَّي بالبشرِّي‪ ،‬والمقَّدس بالمدَّنس‪.‬‬
‫فالنقطة هي الحقيقة التي نبحث عنها وسنموت دونما َأْن نصَل إليها‪ ،‬وبمفهوم «الحَّالج» ما‬
‫النقطة األصلية إاَّل األصل‪ ،‬أصل كِّل خٍّط ‪ ،‬أصل كِّل كلمة‪ ،‬بدُء الِّس ر‪َ ،‬و َبْد ُء َسَيالن الِح ْبِر ‪ ،‬وسُّر‬
‫العالقِة بين الورقِة والِح ْبِر ‪ ،‬وَبْيَن الَعْيِن ‪ ،‬أوَعْيِن الروِح والورقِة ‪.‬‬
‫وعن الشيخ إبراهيم بن عمران النيلي أَّنه قال ‪ :‬سمعُت الحَّالج يقول ‪« :‬النقطة أصل كل خّط‪،‬‬
‫والخّط كّله نقٌط مجتمعٌة‪ ،‬فال غنى للخِّط عن النقطة‪ ،‬وال للنقطة عن الخِّط ‪ ،‬وكل خٍّط مستقيم أو‬
‫منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها‪ ،‬وكل ما يقع عليه بصُر أحٍد فهو نقطٌة بين نقطتين‪ .‬وهذا‬
‫دليل على تجّلي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين ومن هذا قلت ‪ :‬ما رأيت شيًئا إاَّل‬
‫ورأيت هللا فيه»‪.‬‬
‫ولعَّل إلحاحي الدائم على الذهاب إلى الَجْو َهر‪َ ،‬ناِبٌع من كوني ُأومن أَّن النقطَة وجوٌد ومعرفٌة‬
‫وأزٌل ‪ُ ،‬كُّل َخٍّط َذاِهٌب إليه‪.‬‬
‫فالنقطة ِع ْلٌم ليس كمثله شيء‪ ،‬كما يقول شيوخنا من المتصّو فة‪ ،‬وألنني بدأُت بـ«الَح ْد س»‪ ،‬فإَّنني‬
‫أعوُد إليه‪.‬‬
‫فأنا أخطو به‪ ،‬وأختبر أرواح اآلخرين َعْبَر ُه‪ ،‬ودليلي في ذلك ما قاله عمر ابن الخطاب عن‬
‫الَح ْد س (الظّن ) إْذ كان يرِّدد‪َ« :‬م ن لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»‪ .‬فالحدس َيْفَتُح باَب الحقيقِة لَم ن‬
‫يمتلكه‪ ،‬وهو َو ْه ٌب ال َكْسٌب ‪ُ ،‬تْفَطُر الُّر وُح عليِه ‪ ،‬فهو َقاِد ٌم من مناطق اإلشراِق والحكمِة ‪ ،‬وهو‬
‫حسبما يراه اإلمام أبو حامد الغزالي ‪« :‬نوٌر يقذفه هللا في القلب فتصفو الَّنفُس ويدُّق الحّس ويرّق‬
‫الَقْلُب وتنقشع الغمامة وحينئٍذ يحدث اإلشراق»‪.‬‬
‫فمن الحدس تأتي المعرفُة‪ ،‬وهو بحسب ديكارت «يصدر عن نور العقل وحده»‪ ،‬فمنه َنْخ ُلُق ‪،‬‬
‫ونبتكُر ونخترُع ونذهُب إلى الجديد‪.‬‬
‫فالحدس َكْش ٌف لما هو َم ْخ ُبوٌء وباطنٌّي ‪َ ،‬نَظٌر إلى ما وراء األشياء؛ ألن الَح ْد َس ُلَغًة ‪ :‬هو‬
‫التخمين‪ ،‬الظن‪ ،‬التوهم‪ ،‬التخُّيل‪ ،‬الفراسة‪ ،‬الَّسْبر‪ ،‬التصُّو ر‪ ،‬التوُّقع‪...،‬‬
‫فال كتابَة من دون َح ْد ٍس ‪ ،‬وال محَّبَة من دون َح ْد ٍس ‪.‬‬
‫فهنا ينكشُف َلَك األفُق ‪َ ،‬و ُتَض اُء لروحَك الكهوُف ‪َ ،‬و َتَتنَّو ُر الظلماُت ‪ ،‬وتبتعُد عن الّشرِح‪،‬‬
‫واإلسهاب‪ ،‬واإلطالِة ‪ ،‬والترادفاِت‪ ،‬ذاهًبا نحو المحِو والَح ْذِف ‪َ ،‬فُه ما رديفا الحدس مالزمان له‪.‬‬
‫والَم ِْر ضُّي عنه سماوًّيا َم ن َيْنِقُل َبْح َر ذاِتِه إلى الورقِة ‪ِ ،‬م ن دون أن يستعيَر ماَء البـحاِر اُألْخ رى‪،‬‬
‫والتي هي كثيرٌة ومنتشرٌة ‪.‬‬
‫ألنه ال يمكن َخ ْلُق شيٍء َح ٍّي من َم اٍء ُم ْس َتَعاٍر ‪.‬‬
‫فبالحدس َنْفَعُل وَنِص ُل َو َنْعِر ُف بروحنا‪.‬‬
‫ألَّنُه «األداُة» التي تصيُب وال تخيُب َأَبًدا‪ .‬فهي تفوُق الَعْقَل ‪ ،‬وبها َسَّج ل صوفيون إشراقيون‬
‫تجاربهم النادرَة الفريدَة‪ ،‬وبها َكَتَب شعراٌء في مقتبل أعمارهم نصوًص ا صارت عالماٍت ُم ؤِّس َسًة‪،‬‬
‫َو َص اروا هم ُشُه ًبا في سماِء الكتابِة ‪ ،‬إْذ سرعان ما توقفوا عن الكتابِة (رامبو مثااًل )‪ ،‬أو ماتوا في‬
‫سٍّن صغيرٍة (األمثلة أكثر من أن ُتْح َص ى)‪.‬‬
‫إَّن الحدس كان بابي إلى معرفة نفسي واآلخرين ‪.‬‬
‫وكم َص َد َق حدسي منذ اللحظة األولى في الحكم على البشر‪ ،‬حَّتى من اقتربُت منهم‪ ،‬أو اقترنُت‬
‫بهم‪.‬‬
‫إَّنه الباُب المفتوُح أمام عينَّي دوًم ا‪ ،‬ومنه ُتِط ُّل شمُس روحي لترى وتعرَف بفضِل شمٍس أخرى‬
‫هي شمس الحدس‪.‬‬
‫ُو َّعاظ السالطين‬
‫الفقيه أو عالم الدين في زماننا‪ُ ،‬يجالس السلطان‪ ،‬ويأكل أكله‪ ،‬ويشرب ماءه‪ ،‬ويجلس في‬
‫حضرته‪ ،‬ويأتمر بأمره‪ ،‬ويبِّر ر له قراراته وأوامره‪ ،‬وُيحِّلل له ما هو حرام‪ ،‬وُيحِّر م له ما هو‬
‫حالل‪ ،‬ويشِّبهه بالرسل واألنبياء‪ ،‬وأنه ُيوَح ى إليـه‪ ،‬وقد يشُّط في القول فيعتبره إلًه ا ال بد للرعية من‬
‫طاعته وعبادته والسجود في حضرته‪ ،‬ويذهب إلى القرآن – كتاب هللا العلي القدير ‪ -‬ليؤِّو ل آياته‪،‬‬
‫كأنها ُأْنِز َلْت على السلطان‪ ،‬أو جاءت في شأنه‪ ،‬ومثل هذا الفقيه رأيناه

‫– أيًض ا ‪ -‬جلًّيا واضًح ا في تاريخنا‪ُ ،‬خ صوًص ا في أزمنة الخالفة اإلسالمية‪ ،‬ويتكَّر ر بالحال نفسها‪،‬‬
‫مع الفارق أنه في السنوات األولى للهجرة كان هناك فقهاء وعلماء لهم مكانتهم بصرف النظر عن‬
‫سلوكهم الذي ال أفصله عنهم‪ ،‬بينما في زماننا نجد خليًطا وهجيًنا غريًبا وعجيًبا بين َم ن ُيسُّم ون‬
‫أنفسهم «علماء الدين»‪ ،‬إذ صاروا يصفون عدًدا مَم ن نالوا درجة الدكتوراه في فرع من الفروع‬
‫الدينية بـ«كبار العلماء»‪ ،‬وصار كل َم ن قرر أن يترَّبح من الدين فقيًه ا وعالًم ا‪ ،‬وهو بعيد كل البعد‬
‫عن الفقه والعلم الدينيين‪.‬‬
‫بينما نجد ِبْش ر الحافي أحد أعالم التصوف في القرن الثالث الهجري‪ ،‬الذي ولد في بغداد سنة‬
‫‪ 179‬هجرية‪ ،‬وعاش ومات فيها سنة ‪ 227‬هجرية‪ ،‬كان «يشرب ماء البحر‪ ،‬وال يشرب من‬
‫حياض السلطان‪ ،‬حتى أضر بجوفه»‪ ،‬و«كان يأخذ من البحر حوًتا ‪ -‬سمكة ‪ ،-‬فيشويه في عين‬
‫الشمس»‪.‬‬
‫وأنا هنا ال أعقد مقارنًة؛ ألنني ال أرى في المشهد أقطاًبا في الفقه أو في التصوف‪ ،‬كالذين‬
‫درسُتهم‪ ،‬وقرأت عنهم ولهم‪ ،‬وسلكت طريقهم‪ ،‬ولكنني أردت أن أنبه وأؤكد أن العالقة بين الفقيه‬
‫والسلطان صارت مفَسدًة ال يمكن الصمت عليها‪ ،‬إذ هي من أسباب التخلف واالستبداد والتأخر‬
‫الذي تنام فيه البالد والعباد‪.‬‬
‫هؤالء الفقهاء المعاصرون يعيشون تحت أضواء اإلعالم‪ ،‬في ترف ورغد‪ ،‬همهم األول الشهرة‪،‬‬
‫ورحم هللا بشر الحافي حين قال‪« :‬ما اتقى هللا َم ن أحب الشهرة»‪.‬‬
‫علماء هذا الزمان‪ ،‬الذين لن يكون لهم ذْك ر على ألسنة الخلق‪ ،‬حيث ال كتاب لهم يمكن أن يبقى‪،‬‬
‫الذين هم بعيدون عن التقوى والورع والطاعة‪ ،‬وُيباهون بعبادتهم‪ ،‬وعلمهم الُم شَّو ه المنقوص‪ ،‬ال‬
‫يراقبون هللا‪ ،‬وال يحاسبون أنفسهم‪ ،‬إذ يرونها فوق الُم حاسبة والُم ساءلة‪ ،‬باعتبارهم ممثلين هلل‪،‬‬
‫ونواًبا عنه في األرض‪ ،‬مع أنهم يؤثرون ُحَّب الدنيا على ُح ب خالقهم‪ ،‬ال يزهدون وال يتقَّشفون‪،‬‬
‫يشتهون وال يعرفون فضيلة الَّتْر ك‪ ،‬وال يعزفون نفوسهم‪ ،‬وال يسقطون فضولهم‪ ،‬وال يحفظون‬
‫ألسنتهم‪ ،‬يعيشون في القصور‪ ،‬ويركبون أغلى السيارات‪ ،‬ويكنزون المال‪ ،‬ويكثرون من الزواج‪،‬‬
‫مطالقين مزواجين‪ ،‬تسلب الشهوات عقولهم‪ ،‬إذ ال يجعلون بين شهواتهم وعبادة هللا سًّدا وراء سٍّد؛‬
‫كي يذوقوا حالوة اإليمان‪ ،‬بينما نرى الصوفي (وهم يكرهون التصوف كسادتهم الوهابيين‬
‫والُم تسِّلفين) بشر الحافي كان يقول‪« :‬الجوع ُيصِّفي الفؤاد‪ ،‬وُيميت الهوى‪ ،‬ويوِّر ث العلم الدقيق»‪.‬‬
‫وكان يقول دوًم ا‪ :‬ال يفلح َم ن أِلَف أفخاذ النساء‪ُ ،‬م ناجًيا ربه‪« :‬اللهم إنك تعلم أن الذل أحُّب إلَّي من‬
‫العِّز ‪ ،‬وأن الفقر أحُّب إلَّي من الغنى‪ ،‬وأن الموت أحُّب إلَّي من البقاء»‪.‬‬
‫ودعاء بشر الحافي هذا «اللهم إن كنَت شهرتني في الدنيا؛ لتفضحني في اآلخرة فاسلبها عِّني»‪،‬‬
‫لو قرأه أحد مَم ن أقصدهم من شيوخ هذا الزمان‪ ،‬العتبره مجنوًنا‪ ،‬ولو قرأ كالمه‪َ« :‬م ْن َطَلَب الدنيا‬
‫فليتهَّيأ للذل» لعَّدُه معتوًها ال يدري من أمره شيًئا‪ ،‬ورآه ُم جَّر د صوفي جَّو ال يهذي في الطرقات‪.‬‬
‫وهؤالء أعُظهم أو أذِّك رهم بموعظة بشر الحافي عَّلهم يتعظون ويؤبون إلى رِّبهم‪« :‬إن في هذه‬
‫الدار نملة‪ ،‬تجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء؛ فلما كان يوًم ا أخذت حبة في فمها‪ ،‬فجاء‬
‫عصفور فأخذها‪ ،‬فال ما جمعت أكلت‪ ،‬وال ما أملت نالت»‪.‬‬
‫وال بد للفقيه أن يكون ُم خلًص ا‪ ،‬وأال ُيوِّلي وجهه ِقبلة السلطان‪ ،‬أو يرائيه؛ ألن (هلل الدين الخالص‬
‫)‪ ،‬وليس ألحٍد سواه‪ ،‬مهما تُكن المغريات‪ ،‬وهي كثيرة‪ ،‬ويعرف السلطان متى وكيف يمنحها أو‬
‫يمنعها‪ ،‬واإليمان هو اإلخالص‪ ،‬والجزاء عند هللا‪ ،‬وليس عند السلطان‪ ،‬ولكن السالطين من فرط‬
‫تقديس الفقهاء لهم‪ ،‬ومديحهم‪ ،‬ظنوا أنفسهم آلهًة على األرض بيدها الُم لك والرزق‪.‬‬
‫وهؤالء بداًل من أن يهاجروا إلى هللا ورسوله‪ ،‬صارت هجرتهم نحو السلطان‪ ،‬وهو الِّش رك بعينه‬
‫لو يعرفون‪ ،‬حيث عميت أبصار قلوبهم‪ ،‬وتلك عقوبتهم في الدنيا‪.‬‬
‫وأسوأ السوء قاطبًة أن يفسد العلماء‪ ،‬وكنُت أسمع دوًم ا وأنا طفل صغير في قريتنا (كفر‬
‫المياسرة) َم ن يقول‪« :‬اتِق شر األزهري إذا فسد»‪ ،‬وال أدري َم ن صاحب هذا القول الذي ما زال‬
‫عالًقا في ذهني‪ ،‬وكنت أغضب كثيًر ا؛ ألنني تربيُت في بيٍت أزهرٍّي عماده القرآن‪ ،‬ودستوره‬
‫السماحة واالعتدال‪ ،‬وال أحب ألحٍد أن يلفظ مقولة كهذه‪ ،‬ولكن مع انخراطي في الطريقة الشاذلية‪،‬‬
‫ثم سلوكي الطريق الصوفي‪ ،‬ومعرفتي بقطب صوفي أحبه كثيًر ا هو بشر الحافي‪ ،‬رأيت أنه يكاد‬
‫يكون هو أول َم ن نبه إلى فساد العلماء قبل ما يزيد على ألف سنة‪« :‬إذا فسد العلماء‪ ،‬فمن بقي من‬
‫الدنيا يصلحهم»‪ ،‬ثم أنشد شعًر ا‪( :‬ال أدري إن كان له أم لسواه)‪:‬‬
‫يا معشر العلماء يا ملح البلد‬
‫ما يصلح الملح إذا الملح فسد‬
‫والذين فسدوا في زماننا كثٌر ‪ ،‬وربما من الصعب حصرهم‪ ،‬وإن كان منهم عدٌد معروٌف من فرط‬
‫فدائحه وفضائحه‪ ،‬حيث يأكلون دنياهم بدينهم وعلمهم‪ ،‬متخذين الِّدين وسيلة تكُّسب وترُّبح‬
‫وارتزاق‪ ،‬وصار كل هُّم هم جمع المال‪ ،‬والعيش في ترٍف ‪ ،‬كما يعيش نجوم المجتمع‪ ،‬ولو لم أضع‬
‫هذه الجملة التي قالها بشر الحافي بين قوسين لظن القارئ أنها صيغت اليوم‪« :‬علماء زماننا‪ ،‬إنما‬
‫هم متلذذون بالعلم‪ ،‬يسمعونه‪ ،‬ويحكونه فقط»‪ ،‬ومثل هؤالء كمثل الذين يغسلون أياديهم برائحة‬
‫سمك نتنة‪.‬‬
‫والمفضوحون من الفقهاء والعلماء في تاريخنا اإلسالمي‪ ،‬وحتى يومنا هذا‪ ،‬ال يكفي مجلد‬
‫لحصرهم‪ ،‬إذ بتقربهم إلى الحكام والسالطين‪ ،‬وشوا بأقرانهم ومعاصريهم ومجايليهم‪ ،‬حتى ُدفعوا‬
‫وسيقوا إلى القتل‪ ،‬ومن هؤالء المقتولين أقطاب في الشعر والنثر والتصوف والِّدين بشكل عام‪،‬‬
‫وفي أمر هؤالء قال بشر الحافي‪« :‬ال َيْنَبِغ ي َألَح ٍد َأْن َيْذُكَر َشْيًئا ِم َن اْلَح ِديِث ِفي َم ْو ِض ِع َح اَج ٍة‬
‫َيُكوُن َلُه ِم ْن َح َو اِئِج الُّدْنَيا ُيِر يُد َأْن َيَتَقَّر َب ِبِه ‪َ ،‬و ال َيْذُكُر اْلِع ْلَم ِفي َم ْو ِض ِع ِذ ْك ِر الُّدْنَيا‪َ ،‬و َقْد َر َأْيُت‬
‫مشايَخ َطَلُبوا اْلِع ْلَم ِللُّدْنَيا َفاْفُتِض ُح وا‪.»...،‬‬
‫ومثلي ال يأبه بفقيٍه حاسٍد حاقٍد مغتاٍب يفتي ضد فقيٍه آخر‪ ،‬ليرضي حاكًم ا أو أميًر ا أو خليفة ما‪،‬‬
‫وتكون النهاية المحتومة والمقررة سلًفا هي مقتل الخصم بعد اتهامه بالكفر والزندقة‪.‬‬
‫َم ن كان منكم بال معرفٍة‬
‫فال ُيعَّو ُل عليه‬
‫أن تدرك‪ ،‬وتعي‪ ،‬وتفقه‪ ،‬وتعلم‪ ،‬وتتعَّلم‪ ،‬وتتأَّم ل‪ ،‬وتفِّك ر‪ ،‬وتفهم‪ ،‬وتبحث‪ ،‬وتستبطن‪ ،‬وتستشرف‪،‬‬
‫وتتنَّبأ‪ ،‬وترى‪ ،‬و ُتفِّس ر‪ ،‬وتشرح‪ ،‬وتستقصي‪ ،‬وتناقش‪ ،‬وُتحاجج‪ ،‬وُتجادل‪ ،‬وُتحاور‪ ،‬تلك هي‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫فـ«الَكامُل َم ْن َعُظَم ْت َح ْيَر ُتُه» من فرط الُّسؤال والَّسعي والحْيرة والمشاهدة‪ ،‬والكشف واإللهام‪،‬‬
‫حيث إَّن بحر المعرفة وسيٌع وال سواحل له‪ ،‬و«من ذاق عرف»‪ ،‬حيث الذوق سبيٌل للمعرفة عند‬
‫المتصوفة‪ ،‬ولكنه ليس السبيل األوحد‪ ،‬وبالطبع ليس وحده وسيلة المعرفة‪ ،‬فـ «ما يجده العالم على‬
‫سبيل الوجدان والكشف‪ ،‬ال البرهان والكسب‪ ،‬وال على طريق األخذ باإليمان والتقليد» كما جاء في‬
‫«طبقات الصوفية» ألبي عبد الرحمن محمد ابن الحسين الُّسَلِم ي (‪ 412 - 325‬هجرية )‪ .‬ويقول‬
‫محيي الدين بن العربي في كتابه «ُفصوص الِح َكم»‪« :‬اعلم أَّن العلوَم الذوقية الحاصلة ألهل هللا‬
‫مختلفٌة باختالف القوى الحاصلة مع كونها ترجع إلى عيٍن واحدة»‪.‬‬
‫ويذكر أبو القاسم القشيري (‪ 465 - 376‬هجرية) في «الرسالة القشيرية» أن‪« :‬المعرفة على‬
‫لسان العلماء هي العلم‪ ،‬فكل علم معرفة‪ ،‬وكل عالم باهلل عارف‪ ،‬وكل عارف عالم»‪ ،‬وشجرة‬
‫المعرفة ُم تعِّددة الُج ذور والفُر وع‪ ،‬ومتنِّو عة الثمار‪ ،‬وال تمنح نفسها لقاطفها بسهولٍة وُيسٍر ‪ ،‬إْذ ال بد‬
‫من دأٍب وُم جاهدٍة ومثابرة وُم راودة وخلوة وكشف؛ حتى يصل إلى المجهول‪.‬‬
‫و«المعرفة التي ُتْسِقُط التمييَز ‪ ،‬بين ما ال يجوُز للُم كِّلف التصُّر ف فيه‪ ،‬وبين ما ال يُج وز ال ُيعَّو ل‬
‫عليه»‪ ،‬كما قال الشيخ األكبر محيي الدين بن العربي في «رسالُة الذي ال ُيعَّو ُل عليه»‪ ،‬إذ ليس‬
‫وراء المعرفة ‪ -‬التي ُتْد َر ُك بالحواس والنظر والمالحظة والغرض واالستنتاج واالستنباط‬
‫واالستدالل وﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ والبحث وراء األسباب ﻭﺍﻟﺨﺒﺮﺓ ﻭﺍﻻﻛﺘﺴﺎﺏ ﻭﺍﻟﺘﺤﺼﻴﻞ واالطالع والتعليم‬
‫وﺍﻟﺤْﺪ ﺱ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ ‪ -‬مرمى مادًّيا سوى المعرفة ذاتها‪ ،‬واإلفادة منها في بناء ُم دن المعرفة‪ ،‬وتحقيق‬
‫«اإلنسان الكامل» التام الذي يعيُش في هذه المدن‪ ،‬والمثالية في المعرفة ليست يوتوبيا أفالطونية‪،‬‬
‫ولكنها واقٌع يسهُل تحقيقه بيننا مثلما تحَّقق بين بشٍر آخرين غيرنا‪ ،‬وبالتالي الجهل والفقر والجوع‬
‫والمرض ال ُيعَّو ل على واحٍد من بينها؛ ألنها تقف حائاًل وحائًطا عائًقا أمام تحقيق المعرفة التي‬
‫ُتْثِم ُر «السعادة المطلقة»‪ ،‬وُتحِّقق الرفاهيَة القصوى للُّر وح والنفس التي تسعى إلى تغيير ذاتها؛ ألن‬
‫المعرفة في حد ذاتها قَّو ة‪ ،‬إذ هي في معناها العام «إدراك الشيء على ما هو عليه»‪.‬‬
‫وَم ن يمتلك المعرفة يكون صاحب رأي يخُّص ه وقرار يتخذه‪ ،‬غير منتظر مساعدًة من أحٍد‪ ،‬حيث‬
‫يصبح سيد نفسه‪ ،‬وليس عبًدا لسيٍد أو سيدْين أو أكثر في الوقت نفسه‪ ،‬وليس تابًعا لغيره مهما يُكن‬
‫شأن هذا الغير‪ ،‬ومن ثم ال بد من قراءة كتاب الذات ومعرفة النفس‪ ،‬وشرح صدر اإلنسان آليته‬
‫امتثااًل لقول الِنَّفري‪« :‬وقال لي اعرف من أنَت ‪ ،‬فمعرفتك من أنت‪ ،‬هي قاعدتك التي ال تنهدم وهي‬
‫سكينتك التي ال تزل»‪.‬‬
‫وهنا ال بد من عقٍل يفِّك ر‪ ،‬وليس عقاًل ينقل عن سواه‪ ،‬يقلد أو يتبع‪ ،‬أو ينام في ِح ضن ما تركه‬
‫األسالُف دون أن يغِّيره أو يطِّو ره أو يضيف إليه‪ ،‬حيث المعرفة ُتحِّر ر اإلنسان (صاحب المعرفة)‬
‫من التقليد والتبعية‪.‬‬
‫وصدق أبو العباس أحمد بن العريف الصنهاجي (‪ 526 - 481‬هجرية ‪1141 - 1088 /‬‬
‫ميالدية ) حين قال‪« :‬المعرفة محَّج تي و العلم ُحَّج تي‪ ،‬فالعلماء لي والعارفون بي‪ ،‬والعارف يستدل‬
‫بي‪ ،‬والعالم يستدل لي»‪ .‬فأصحاب المعرفة ( َلُهْم ُقُلوٌب َيْعِقُلوَن ِبَه ا َأْو آَذاٌن َيْس َم ُعوَن ِبَه ا‪َ ،‬فِإَّنَه ا اَل‬
‫َتْعَم ى اَأْلْبَص اُر َو َلِك ن َتْعَم ى اْلُقُلوُب اَّلِتي ِفي الُّص ُدوِر )‪.‬‬
‫وقديًم ا قال النَّفري (الُم توَّفى نحو ‪ 354‬هجرية )‪« :‬الِع ْلُم اْلُم ْس َتِقُّر ُهَو اْلَجْه ُل اْلُم ْس َتِقُّر »‪ ،‬وقال ابن‬
‫العربي ‪« :‬الَم ْعِر َفُة ِإَذا َلْم َتَتَنَّو ع َمَع اَألْنَفاِس اَل ُيَعَّو ُل َعَلْيَه ا»‪ .‬وقال أيًض ا‪« :‬كل معرفة ال تتنوع ال‬

‫يعول عليها»‪ ،‬ومهما أوتي اإلنساُن من معرفٍة فـ﴿‬


‫﴾‪َ﴿ ،‬و َم ا ُأوِتيُتم ِّم َن اْلِع ْلِم ِإاَّل َقِليًل﴾‪.‬‬
‫أن نصل إلى الحقائق بداًل من أن ننام في العماء‪ ،‬وننعم في الجهالة‪ ،‬فلن تضطلع بشيء لو لم‬
‫تَّطلع على ذاتك؛ لتقرأها بعمٍق وتجُّر د‪ ،‬بحيث تنحاز إلى التجريب والمغامرة‪ .‬مرِّدًدا مقولة‬
‫ديكارت‪« :‬أنا أفكر إذن أنا موجود»‪ ،‬والتي تعني مباشرًة «أنا أعرف»؛ ولذا أرى أن الُح ب يقود‬
‫إلى معرفة األشياء وإدراك كنهها؛ ألن الُح ب يحِّر ر الروح من ربقتها‪ ،‬ويمنحها حرية طيران ال‬
‫ُتحُّد‪ ،‬خصوًص ا إذا أدركنا أن النفس تتجدد خالياها بالمعرفة‪.‬‬
‫ودائًم ا ما أفصل بين المعرفة – التي هي إدراك األسرار – وبين المعلومة‪ ،‬فالثانية هي الطريق‬
‫الذي يمِّه د لَم ن يسلك درب المعرفة الطويل الذي يؤِّدي إلى الحقيقة الكلية والمطلقة والتي ال‬
‫يعتورها شٌّك ‪ ،‬وال يعتريها بهتان‪.‬والعارف الَّر ائي – من أهل الذوق وأصحاب األسرار وحاملي‬
‫نور الكشف ‪َ -‬م ن يستطيع تحليل واستخدام ما تراكم أمامه من معلوماٍت أًّيا ما كانت كميتها‪.‬‬
‫والمعرفة ال تحيا في مجتمٍع يكرهها أو يعرقلها ويعوق شجرتها؛ ألن المعرفة بنت التعُّدد والتنُّو ع‬
‫والفرق واالختالف وتموت مع االستبداد واألحادية والقهر وإغالق األبواب والنوافذ حتى يفسد‬
‫الهواء‪ ،‬و«المعرفة في اصطالح النحاة هو اسم وضع لشيٍء بعينه‪ ،‬وقيل ليستعمل في شيٍء بعينه‪.‬‬
‫ويقابله النكرة‪ .‬التعريف عبارة عن جعل الذات مشاًر ا بها إلى خارج إشارة وضعية‪ .‬ويقابلها‬
‫التنكير وهو جعل الذات غير ُم شاٍر بها إلى خارٍج في الوضع»‪ ،‬والبن العربي (‪ 558‬هجرية ‪-‬‬
‫‪ 1164‬ميالدية ‪ 63 /‬هجرية ‪ 1240 -‬ميالدية) رسالة منشورة في كتاب اسمها «كتاب المعرفة»‪،‬‬
‫و«شجرة المعرفة» ‪ -‬أو شجرة الوجدان أو الشجرة الُم حَّر مة ‪ -‬وتلك الشجرة تقع كما جاء في‬
‫«سفر التكوين» التوراتي في منتصف جنة عدن‪ ،‬وقد حَّر م هللا على آدم وحواء أكل ثمار هذه‬
‫الشجرة‪ ،‬فأغواهما الشيطان باألكل منها ليخلدا‪َ﴿ ،‬فَلَّم ا َذاَقا الَّشَجَر َة َبَد ْت َلُه َم ا َسْو آُتُه َم ا َو َطِفَقا‬
‫َيْخ ِص َفاِن َعَلْيِهَم ا ِم ْن َو َر ِق اْلَج َّنِة ﴾ [سورة األعراف ‪ -‬اآلية ‪.]22‬‬
‫أَّم ا شجرة المعرفة في زماننا‪ ،‬فحتًم ا ال بد من أن ُتذاق وُتؤكل‪.‬‬
‫وللمعرفة سبٌل وطرائُق يمكن تحصيلها والوصول إليها عبر الحواس والعقل والقلب والوحي‬
‫واإللهام‪ ،‬و كسب المعرفة يتطّلب مثابرًة وجهًدا‪.‬‬
‫ولهذا يقول أبو علي الدَّقاق‪« :‬المعرفة توجب الَّسكينة في القلب‪ ،‬كما أَّن العلم يوجب الُّسكون‪،‬‬
‫فَم ن ازدادت معرفته ازدادت سكينته»‪.‬‬
‫يقتُلوَن أهَل هللا‬
‫الصوفيون ال يكِّفرون أحًدا من أية مَّلة‪.‬‬
‫وهم ليسوا أهل استبداد أو طغيان أو عدوان‪ ،‬إنهم فقط قريبون من هللا‪.‬‬
‫ال يعرفون غلًّو ا أو تعُّنًتا‪ ،‬بل هم أبناء السماحة واالعتدال‪ ،‬بديعون وليسوا مبتدعين‪ ،‬متفانون في‬
‫عبادته‪ ،‬وزاهدون في الثروة والمظاهر‪ ،‬ال يبتغون ملَّذات الدنيا الفانية‪ ،‬ومتقِّش ُفون في كل شيٍء ‪،‬‬
‫ومكتفون بقلوبهم النقية المتطلعة إلى الُح ب‪ ،‬وبعيدون عن التحاُر ب والتقاُتل والتطاحن والتكالب‬
‫والمذهبية‪ ،‬مشغولون بتصفية قلوبهم‪ ،‬فهم يجاهدون روحًّيا وال يحملون أَّي أنواع من األسلحة‪،‬‬
‫مسالمون بطبيعتهم‪ ،‬وبحكم أخالقهم وتربيتهم النفسية‪ ،‬ويسلكون طريق الحق والهداية‪ ،‬يبحثون عن‬
‫الحقيقة المطلقة التي يسعون إليها‪ ،‬ويطلبون الوصول إليها‪.‬‬
‫ويؤمنون أن الذهاب إلى هللا وعبادته والتضُّر ع إليه على عدد أنفاس البشر‪ ،‬ويرشدون الخلق إلى‬
‫طرق الحق‪ ،‬يدفعون الشر ويستجلبون الخير‪.‬‬
‫وهنا علينا أن نستعيد ما كتبه الشيخ األكبر محيي الدين بن العربي شعًر ا عن موقف المتصوفة‬
‫من األديان والمعتقدات ‪:‬‬
‫لقد كنُت قبل اليوم أنكُر صاحبي‬
‫إذا لم يُكن ديني إلى ديِنه داني‬
‫لقْد صاَر قلبي قاباًل كَّل صورٍة‬
‫فَم ْر ًعى لِغ ْز الٍن ودْيٌر لُر ْه باِن‬
‫وَبْيٌت ألوثاٍن وكعبُة طائٍف‬

‫وألواُح توراٍة ومصحُف قرآِن‬


‫أديُن بديِن الحِّب أَّنى توَّج هْت‬
‫َر كاِئُبُه فالُحُّب ديِني وإيماني‬
‫ولألسف يقول المتخلفون من السلفيين والوهابيين عن ابن العربي‪« :‬الشيخ األكفر محيي‬
‫الشرك»‪ ،‬وَم ن يصفه بذلك من المؤَّكد أنه لم يقرأ كتاًبا واحًدا له‪.‬‬
‫المتصوفة في مصر أو في غيرها من الدول مستهدفون وُم طاردون وُم حاربون من المتشِّددين‬
‫قديًم ا وحديًثا‪ ،‬وُيَساء الظن بهم دائًم ا‪ ،‬واألمر ال يختلف كثيًر ا عندما سيق إلى الذبح قطبان صوفيان‬
‫من أقطاب الوقت وهما الحاَّل ج والُّسهروردي‪ ،‬حيث ُتهدم أضرحة األولياء والمتصوفة‪ ،‬أو ُتحرق‬
‫مساجدهم أو يتم تدميرها‪ ،‬واالعتداء على المصلين بها‪ ،‬إذ يرى السلفيون بطوائفهم المختلفة أن‬
‫الصوفيين كَّفار ومالحدة‪ ،‬ويناهضونهم‪ ،‬ويناصبونهم الكراهية والعداء‪ ،‬وفي زماننا هذا ُيكِّفر‬
‫الوهابيون ‪ -‬أينما كانوا – المتصوفة ويحرقون كتبهم ويمنعونها‪ ،‬ويستهدفون المكتبات التي تبيعها‪،‬‬
‫والناشرين الذين ينشرونها‪.‬‬
‫ففي مصر مثاًل رأينا سلفيين متطِّر فين ضالين ُمِض ِّلين مأجورين ومرتزقة من داعش أو سواها‬
‫من جماعات اإلسالم السياسي قتلت األب الروحي للصوفيين الشيخ سليمان أبو حراز السواركي‬
‫األشعري الشافعي في سيناء‪ ،‬وأحد أبناء قبيلة السواركة‪ ،‬وكان ضريًر ا و ُم سًّنا يبلغ عمره حوالي‬
‫مئة سنة‪ ،‬وخير َم ن يمِّثل اإلسالم المعتدل‪ ،‬الذي يتنافى مع أفكار الجماعات المتطرفة والشاذة‪ ،‬التي‬
‫تلبس الدين رداًء خارجًّيا لها‪ ،‬حيث اتهمت الشيخ الزاهد بالكهانة والِّس حر‪ ،‬واِّدعاء علم الغيب‪،‬‬
‫ودعوة الناس للِّش رك‪ ،‬وذبحته‪ ،‬وذبحت معه الشيخ قطيفان المنصوري الذي تم قتله بالطريقة نفسها‪،‬‬
‫وبالتهم نفسها‪ ،‬وقد وَّز عت داعش أو تنظيم أنصار بيت المقدس أو والية سيناء (ال فرق عندي‬
‫بينها في التطُّر ف والتشُّدد وممارسة اإلرهاب باسم الدين) فيديو يصِّو ر مقتلهما مصحوًبا بُج ملة‪:‬‬
‫«تنفيذ الحكم الشرعي على كاهنين»‪ ،‬وكان ذلك في سنة ‪ 2016‬ميالدية‪.‬‬
‫كأن هؤالء القتلة المجرمين ال يدركون أن الِّدين – أي دين ‪ُ -‬يحِّر م سفك دم األبرياء‪ ،‬وُيشِّدد على‬
‫حرمة دماء العجزة والضعفاء وكبار السن‪.‬‬
‫كما فَّج رت عدًدا من األضرحة الخاصة بالصوفيين في كل من الشيخ زويد والروضة بسيناء‪ ،‬ثم‬
‫فَّج رت مسجًدا في يوم جمعة (مسجد قرية الروضة)‪ ،‬وكان مقًّر ا للطريقة الجريرية األحمدية‬
‫الصوفية‪ ،‬ببئر العبد في سيناء‪ ،‬أثناء صالة الجمعة‪ ،‬وسميت هذه الطريقة بالجريرية نسبًة إلى‬
‫مؤِّس سها الشيخ عيد أبوجرير (‪ 1971 – 1910‬ميالدية) المدفون في قرية سعود التي يسكنها أهل‬
‫قبيلة الطحاوية أخوال ابني الوحيد أحمد‪ ،‬وقد رعاها بعد رحيله ابنه أحمد األمين (توفي عام‬
‫‪ 2014‬ميالدي)‪ ،‬وكان للشيخ عيد أبي جرير دور مهم في مقاومة أهل سيناء للعدو اإلسرائيلي‬
‫عندما كان يحتل جزيرة سيناء‪ ،‬ويعد من الرموز الكبار لمجاهدي سيناء‪.‬‬
‫حيث كان المصلون المسالمون بين يدي هللا‪ ،‬الذي يعتقد السلفيون الوهابيون (ُعَّباد ابن تيمية‬
‫وتلميذه ابن القيم‪ ،‬ومحمد بن عبد الوهاب) أنه ِم لُكهم وحدهم‪ ،‬و يحتكرونه لهم‪ ،‬وأن سواهم كَّفار‬
‫وزنادقة وملحدون ومشركون وُم هرطقون وخارجون على الدين‪ .‬وُيْخ ِر ج السلفيون ‪ -‬والوهابيون‬
‫منهم في المقدمة – الصوفيين من مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬ويعتبرون أن َم ن رجع عن طريق‬
‫التصوف فقد تاب وعاد إلى ربه‪.‬‬
‫وقد أحكم القتلة قبضتهم على المسجد وأبوابه‪ ،‬وأطلقوا النيران على المصلين وهم يهتفون‪:‬‬
‫«اقتلوا الكفار والمرتدين»‪ .‬فُقتل نحو ثالثمائة وهم بين يد هللا‪ ،‬وفي مسجده بقرية الروضة‪ ،‬التي‬
‫يسكنها مسلمون ينتمون إلى الطريقة الصوفية األحمدية أو البدوية‪ ،‬وهي إحدى الطرق الصوفية‬
‫السنّية‪ ،‬التي تنسب إلى الشيخ أحمد بن علي إبراهيم البدوي‪ ،‬السيد (فاس ‪ 596‬هجرية ‪1199/‬‬
‫ميالدية ‪ -‬طنطا ‪ 675‬هجرية ‪ 1276/‬ميالدية ) الُم لَّقب بالشيخ المعتقد الصالح أبي الفتيان‪،‬‬
‫وُعرف بأبي اللثامين السطوحي‪ ،‬وله الكثير من األلقاب‪ ،‬أشهرها شيخ العرب‪ ،‬وينتسب السيد‬
‫البدوي من جهة أبيه إلى الُح سْين بن علي بن أبي طالب‪ ،‬وقد عاش في العصر المملوكي‪ ،‬و نشر‬
‫طريقته من طنطا‪ ،‬وتوَّلى أمور الطريقة بعده عبد العال‪ ،‬وهو من أوائل مريديه الذين ترُّبوا على‬
‫يديه‪ ،‬وكان قد أوصاه قائاًل ‪« :‬يا عبد العال‪ ،‬اعلم أنني اخترُت هذه الراية الحمراء لنفسي في حياتي‬
‫وبعد مماتي‪ ،‬وهي عالمة لَم ن يمشي على طريقنا من بعدي»‪ ،‬وبالفعل انتشرت طريقته من مصر‬
‫إلى بلدان العالم اإلسالمي مثل‪ :‬تركيا وليبيا والسودان وغيرها من البلدان العربية واألوربية‬
‫واآلسيوية‪.‬‬
‫ولقد تفَّر عت منها طرق كثيرة من بينها الطريقة الجريرية األحمدية‪.‬‬
‫ولَّم ا كان المصلون يهرولون خارجين من المسجد؛ لينجوا من القتل‪ ،‬كأنني سمعت أحدهم يرِّدد‬
‫ما قاله الحالج يوم مقتله‪ ...« :‬هؤالء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعُّص ًبا لدينك وتقُّر ًبا إليك‪ .‬فاغفر‬
‫لهم‪ .‬فإنك لو كشفَت لهم ما كشفَت لي لما فعلوا ما فعلوا‪ ،‬ولو سترَت عني ما سترَت عنهم لما‬
‫ابُتليُت بما ابُتليت‪ .‬فلك الحمد فيما تفعل‪ ،‬ولك الحمد فيما تريد»‪.‬‬
‫إن تاريخ المسلمين مآلن بتعذيب وقتل المتصوفة والعلماء والفقهاء واألئمة والشعراء‪ ،‬ولو‬
‫منحُت نفسي فرصة الجمع واإلحصاء الحتجُت سنواٍت؛ كي أفي بملف كهذا‪ ،‬ولكنني سأضع هنا‬
‫عدًدا قلياًل من رموز التراث الذين اتهموا بالزندقة واإللحاد مثل‪ :‬الرازي‪ ،‬والخوارزمي‪ ،‬والكندي‪،‬‬
‫والفارابي‪ ،‬والبيروني‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وابن الهيثم‪ ،‬وأبو حامد الغزالي‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬والعسقالني‪ ،‬وابن‬
‫حيان‪ ،‬والنووي‪ ،‬وابن المقفع‪ ،‬والطبري‪ ،‬والكواكبي‪ ،‬والمتنبي‪ ،‬وبشار بن ُبرد‪ ،‬ولسان الدين بن‬
‫الخطيب‪ ،‬وعمر بن الفارض‪ ،‬ورابعة العدوية‪ ،‬والجاحظ‪ ،‬وأبو العالء المعري‪ ،‬وابن طفيل‪ ،‬وابن‬
‫بطوطة‪ ،‬وابن ماجد‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وثابت بن قرة‪ ،‬و ابن المنمر‪ ،‬واألصفهاني‪ ،‬والجعد

‫ابن درهم‪ ،‬وأحمد بن نصر‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وفضل هللا األسترابادي مؤِّس س المذهب‬
‫«الحروفي»‪ ،‬والذي اُّتهم بالهرطقة‪ ،‬وُأعدم في عام ‪ ،1393‬وعلي عماد الدين النسيمي أحد أبرز‬
‫شعراء الصوفية باللغة التركية ومؤسس الشعر التركي باللهجة الجنوبية الغربية (التركمانية‬
‫األذرية)‪ ،‬تخَّلصت منه الدولة المملوكية في سورية‪ ،‬بعدما اتهمه علماء الدين في حلب بالهرطقة‪،‬‬
‫وتشير المصادر إلى «أنه بعد أن ُسلخ جلده وُقطع رأسه وُبترت أعضاؤه‪َ ،‬ح مل جلده المسلوخ على‬
‫كتفيه وغادر حلب عبر أبوابها االثني عشر مًعا»‪ .‬وتعُّده الطائفة البكداشية (البكتاشية) أحد شعرائها‬
‫السبعة المقَّدسين»‪ ...‬وهؤالء وغيرهم من الرموز قد ُكِّفروا وعِّذبوا وطوردوا ونِّك ل بهم‪ ،‬وُض ِر بوا‬
‫بالسياط‪ ،‬وُأحِر قت كتبهم أو ُدفنت في باطن األرض أو ُأتلفْت أو ُغسلْت بالماء‪.‬‬
‫القتل في المساجد‬
‫«ُسَّنة» سلفية قديمة‬
‫قْتُل المسلم وهو يصِّلي‪ ،‬على يد َم ن يرى نفسه مسلًم ا عبٌث ‪ ،‬وحدٌث ال معقول‪ ،‬ال تستطيع الروح‬
‫إدراكه‪.‬‬
‫إذ هو عبٌث بالدين‪ ،‬وبالروح مًعا‪ ،‬واستخفاف بأصول العقيدة‪ ،‬وجهل بقرآن هللا‪ ،‬وُسَّنة نبيه‪،‬‬
‫وكراهية وحقد لإلنسان‪ ،‬في مكاٍن له ُح رمته وقداسته وجالله‪ُ ،‬خ ِّص ص للخُشوع والتقوى والورع‬
‫والعبادة والوقوف بين يدي هللا‪ ،‬والخُض وع له‪ ،‬وهو في هذه الحال ضيٌف عند هللا‪ ،‬فكيف يتم قتله؟‪:‬‬
‫«إّن بيوتي في األرض المساجُد وإّن ُز ّو اري فيها عّم ارها فطوبى لَم ن تطّه ر في بيته وزارني في‬
‫بيتي وحٌّق على الَم ُز وِر أن يكرم زائره»‪.‬‬
‫ودعك من أن الدستور المصري الذي تحمي مادته الرابعة والستون حرية ممارسة الشعائر‬
‫الدينية‪( :‬حرية االعتقاد مطلقة‪ ،‬وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة ألصحاب‬
‫األديان السماوية‪ ،‬حق ينظمه القانون)‪ ،‬و لنذهب إلى النصوص المقَّدسة مباشرًة‪ ،‬ونسأل‪ :‬أال‬
‫يحفظها هؤالء القتلة المجرمون إن كانوا حًّقا مسلمين؟‬

‫ألم يُقل الرسول ﷺ‪َ« :‬ج ِّنُبوا َم َساِج َد ُكْم ِص ْبَياَنُكْم َو َم َج اِنيَنُكْم َو ِش َر اَء ُكْم َو َبْيَعُكْم َو ُخ ُص وَم اِتُكْم َو َر ْفَع‬
‫َأْص َو اِتُكْم َو ِإَقاَم َة ُح ُدوِد ُكْم َو َسَّل ُسُيوِفُكْم ‪َ ،‬و اَّتِخ ُذوا َعَلى َأْبَو اِبَه ا اْلَم َطاِه َر ‪َ ،‬و َج ِّم ُر وَها ِفي اْلُج َم ِع»‪.‬‬
‫وقد رأى الخليفة ُعمر بن الخطاب رجاًل يرفع صوته وهو في المسجد‪ ،‬فنهره مستنكًر ا‪« :‬أتدري‬
‫أين أنت؟»‪ ،‬فما بالك بالقتل؟‬
‫وُسِئل اإلمام مالك (‪ 179- 93‬هجرية ‪795-711 /‬ميالدية) عن ُح كم رفع الصوت في العلم‬
‫بالمسجد‪ ،‬فكانت إجابته‪« :‬ال أرى في ذلك خيًر ا»‪ ،‬فما بالك – إذن ‪ -‬بالقتل ؟‬
‫ومن ثم ال اجتهاد مع نُص وٍص وردت في القرآن والسنة الصحيحة‪.‬‬
‫إَّن سفك الدماء في المسجد‪ ،‬بات يعُّد ثقافًة راسخًة في أذهان المتشِّددين الُّسفهاء‪ ،‬والمنحرفين‬
‫دينًّيا من الُغالة الُم تعِّص بين‪ ،‬والمختلفين عقائدًّيا مع المقتول‪ ،‬والمختلين عقلًّيا ونفسًّيا‪ ،‬حيث يرونه‬
‫كافًر ا‪ ،‬حتى ولو كان يصِّلي في مسجٍد‪ ،‬وهم يطِّبقون حرفًّيا ما فعله أسالفهم منذ السنوات األولى‬
‫بعد وفاة النبي محمد‪ ،‬حيث استحُّلوا دماء صحابة الرسول‪ ،‬واثنين من خلفائه‪ ،‬سواء وهم يصُّلون‪،‬‬
‫أو وهم في طريقهم إلى المسجد‪.‬‬
‫فالقتل في المسجد أمر ليس جديًدا في تاريخ المسلمين‪ ،‬بل إنه تكَّر ر آالف المَّر ات وبطرائق‬
‫شَّتى‪ ،‬وأساليب مختلفة‪ ،‬بدًء ا من ُخ لفاء وصحابة رسول هللا الذين اغتيلوا وهم يصُّلون في المساجد‪،‬‬
‫وحتى انتهاك ُح رمة المساجد في زماننا‪ ،‬والتي هي إفساٌد في األرض ليس بعده إفساد؛ ألن المساجد‬
‫ُج علت هلل وحده ‪َ﴿ :‬و َم ْن َأْظ َلُم ِم َّم ْن َم َنَع َم َساِج َد ِهَّللا َأْن ُيْذَكَر ِفيَه ا اْس ُم ُه َو َسَعٰى ِفي َخ َر اِبَه ا ۚ ُأوَٰل ِئَك َم ا‬
‫َكاَن َلُهْم َأْن َيْدُخ ُلوَها ِإاَّل َخاِئِفيَن ۚ َلُهْم ِفي الُّدْنَيا ِخ ْز ٌي َو َلُهْم ِفي اآْل ِخ َر ِة َعَذاٌب َعِظ يٌم ﴾‪[ ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪.]114‬‬
‫فُعمر بن الخطاب ُقتل أثناء إمامته لصالة الفجر بمسجد الرسول في المدينة بثالث طعناٍت بخنجٍر‬
‫مسُم وٍم على يد فيروز‪ ،‬الذي ُيكّنى بأبي لؤلؤة‪ ،‬وكان ذلك في أواخر ذي الحجة (سنة ‪ 23‬هجرية ‪/‬‬
‫‪ 644‬ميالدية)‪ ،‬وُطعن مع عمر ثالثة عشر رجاًل من المسلمين‪ ،‬مات منهم سبعة‪ ،‬ثم َقتل أبو لؤلؤة‬
‫نفسه‪ ،‬لَّم ا اشتد الحصار عليه‪ ،‬ورأى نفسه مقتواًل ال محالة‪.‬‬
‫وُقتل علُّي بن أبي طالب (‪ 13‬من رجب ‪ 23‬قبل الهجرية‪ 17/‬من مارس ‪ 599‬ميالدية ‪21 -‬‬
‫من رمضان ‪ 40‬هجرية‪ 27/‬من يناير ‪ 661‬ميالدية) بعدما طعنه عبدالرحمن بن ملجم المرادي‬
‫في مسجد الكوفة‪ ،‬حيث ضربه بسيٍف مسُم وم على رأسه‪ ،‬فمات بعد يوٍم ‪ ،‬وقبل موته طلب علُّي بن‬
‫أبي طالب أن يرى قاتله‪ ،‬فقال له وألصحابه الذين أحضروه إلى فراشه حيث يصارع الموت‪:‬‬
‫«احبسوه فإن مُت فاقتلوه وال تمِّثلوا به‪ ،‬وإْن لم أُم ت فاألمر إلَّي في العفو أو القصاص‪ ..‬النفس‬
‫بالنفس‪ ،‬إن هلكُت فاقتلوه‪ ،‬وإْن بقيُت رأيُت فيه رأيي‪ ..‬يا بني عبدالمطلب ال ألفينكم تخوضون دماء‬
‫المسلمين تقولون قتل أمير المؤمين‪ ..‬أال يقتلن إال قاتلي‪ ،‬إْن عشت فالجُر وح قصاص‪ ،‬وإْن مت‬
‫فاقتلوه‪ ..‬لكن احبسوه وأحسنوا»‪ .‬وابن ملجم كان يؤمن أنه «قتل شر البرية ديًنا»‪ ،‬ومن قتلهما‬
‫(عمر وعلٌّي ) في المسجد يدركان أنهما من المبَّشرين بالجنة‪ ،‬ومع ذلك تم القتل وفي بيت هللا‪ ،‬ولم‬
‫يختارا مكاًنا آخر‪.‬‬
‫وأهل الوهابية أجازوا القتل في المساجد‪ ،‬واعتبروه جهاًدا ضد الكفر والزندقة‪ ،‬حيث يرون َم ن‬
‫يختلف معهم مشركين وخارجين على الِم َّلة‪ ،‬كما أنهم أنعموا في هدم الدور التاريخية لرموز‬
‫اإلسالم منذ بزوغه في الجزيرة العربية؛ بحَّج ة أن الناس ستفتتن ببيوت هؤالء‪ ،‬بداًل من أن‬
‫يتوَّج هوا إلى الكعبة‪ ،‬وخسرت الحضارة اإلسالمية آثاَر خلفاء وصحابة رسول هللا التي كان ينبغي‬
‫الحفاظ عليها‪.‬‬
‫والوهابيون هم َم ن قتلوا األمير عثمان بن غنام بعد صالة الجمعة في مسجده بالعيينة‪ ،‬وكان ذلك‬
‫في الخامس عشر من شهر رجب من عام ‪1163‬هجرية الموافق ‪ 16‬من يونيو عام‬
‫‪1750‬ميالدية‪ ،‬وكان ذلك أول قتل ينِّفذه الوهابيون في بيٍت من بيوت هللا‪ ،‬وفي سنة ‪1802‬‬
‫ميالدية‪ُ ،‬قتل خمسة آالف مسلم‪ ،‬وأصيب ألفان في مسجد كربالء‪ ،‬حيث كانوا يحتفلون بعيد الغدير‬
‫(يحتفل الشيعة بهذا اليوم‪ ،‬ويعتبرونه ثالث األعياد وأعظمها‪ ،‬ويقام يوم ‪ 18‬من ذي الحجة من كل‬
‫عام هجري)؛ بحَّج ة أن َم ن فيه هم كفار ألنهم يتبعون المذهب الشيعي‪ ،‬كما تذكر المصادر فقد ُهِدم‬
‫مسجد الحسين وُسرقت محتوياته‪ ،‬وغنم الوهابيون ما مقداره حمل أربعة ِج ماٍل مألى بالغنائم‪.‬‬
‫كما سلب الوهابيون ونهبوا ما يحتويه المسجد النبوي سنة ‪ 1804‬ميالدية‪ ،‬وذكر عبد الرحمن‬
‫الجبرتي (‪ 1237 - 1167‬هجرية ‪ 1822 - 1754 -‬ميالدية) المتعلقات التي ُسرقْت من المسجد‬
‫النبوي في مؤلفه األشهر «عجائب اآلثار في التراجم واألخبار» والمعروف اختصاًر ا بـ«تاريخ‬
‫الجبرتي»؛ إذ ذكر أن ما ُسرق هو‪« :‬أربعة أوعية كبيرة من الجواهر الُم حالة بالماس والياقوت‬
‫العظيمة القدر‪ ،‬ومن ذلك أربعة شمعدانات من الزمرد وبدل الشمعة قطعة ماس مستطيلة يضيء‬
‫نورها في الظالم‪ ،‬ونحو مئة سيف قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها ماس وياقوت‪،‬‬
‫ونصابها من الزمرد واليشم (اليْش ب أو الجاد ‪ )Jade‬ونحو ذلك‪ ،‬وسالحها من الحديد الموصوف كل سيف‬
‫منها ال قيمة له‪ ،‬وعليها دمعات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك»‪.‬‬

‫مع أن هللا في ُعاله يقول في سورة النور‪﴿ :‬في ُبُيوٍت َأِذَن ُهَّللا َأن ُتْر َفَع َو ُيْذَكَر ِفيَه ا اْس ُم ُه ُيَسِّبُح َلُه‬
‫ِفيَه ا ِباْلُغُدِّو َو اآلَص اِل * ِر َج اٌل َّال ُتْلِه يِه ْم ِتَج اَر ٌة َو َال َبْيٌع َعن ِذ ْك ِر ِهَّللا َو ِإَقاِم الصالِة َو ِإيَتآِء الَّز َكاِة‬
‫َيَخاُفوَن َيْو مًا َتَتَقَّلُب ِفيِه اْلُقُلوُب واألبصار﴾‪.‬‬
‫و ُقتل العالم اإلسالمي الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (‪ 1434 - 1347‬هجرية ‪/‬‬
‫‪ 2013 - 1929‬ميالدية ) وهو فقيه سِّني معتدل‪ ،‬وُقتل معه جماعة مَّم ن التفوا حوله يستمعون‬
‫إليه في مسجد األمويين بدمشق بلغ عددهم تسعة وأربعين شخًص ا وجرح أكثر من ثمانين‪.‬‬
‫وقد رأيت الكثير من الفيديوهات المصورة في غزة‪ ،‬حيث يمارس أعضاء من جماعة أو حركة‬
‫حماس تعذيب الشباب المختطف داخل المساجد‪ ،‬التي جعلوها سجوًنا لَم ن يناهضهم أو يختلف‬
‫معهم‪ ،‬ناسين قول هللا تعالى‪
:‬‬
‫﴿وأن المساجد هلل فال تدعوا مع هللا أحدا﴾‪ ،‬وما قاله رسول هللا‪َ« :‬لْو َيْعَلُم اْلَم اُّر َبْيَن َيَد ي اْلُم َص ِّلي‬
‫َم اَذا َعَلْيِه ِم ن اِإل ْثِم ‪َ ،‬لَكاَن َأْن َيِقَف َأْر َبِعيَن ‪َ ،‬خْيًر ا َلُه ِم ْن َأْن َيُم َّر َبْيَن َيَد ْيِه »‪ .‬وهم بداًل من أن يدعوا‬
‫إلى االعتكاف‪ ،‬صار االعتقال دينهم وديدنهم‪.‬‬
‫وقد أفتى د‪ .‬يوسف القرضاوي لحركة حماس باقتحام مسجد ابن تيمية في غزة سنة ‪2009‬‬
‫ميالدية‪ ،‬وقتل جميع َم ن كان بالمسجد من مصلين‪ ،‬كأنه ال يدرك – وهو المتخِّص ص – قول هللا‬
‫في قرآنه‪َ﴿ :‬و َلْو اَل َد ْفُع ِهَّللا الَّناَس َبْعَضُه م ِبَبْعٍض َّلَفَسَدِت اَأْلْر ُض َو َٰل ِك َّن َهَّللا ُذو َفْض ٍل َعَلى اْلَعاَلِم يَن ﴾‪.‬‬
‫والصوامع أي‪ :‬األديرة‪ ،‬والبيع أي‪ :‬الكنائس‪ ،‬والصلوات أي‪ :‬معابد اليهود‪.‬‬
‫وقد انتهجت جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا ظاهرة قتل المصلين في المساجد‪ ،‬وزادت حاالت‬
‫اغتيال الخطباء وأئمة المساجد ومشايخ العلم‪ ،‬حيث فعلت ذلك في المسجد المركزي بمدينة‬
‫«كانو»‪ ،‬كبرى مدن شمال نيجيريا‪ ،‬وفي غيره من المساجد‪ .‬وهذه الجماعة كغيرها من جماعات‬
‫العنف الديني تدعو إلى هدم وحرق المساجد التي بناها أفراد أو هيئات أو مؤسسات دينية‬
‫(رسمية)‪ ،‬حيث يرونها كافرة ومرتدة‪.‬‬
‫وفي اليمن طالب أحد السلفيين أئمة المساجد بأداء صالة الفجر في منازلهم بداًل من المساجد؛‬
‫ليتفادوا عمليات االغتيال التي طالت كثيرين من نظرائهم‪.‬‬
‫ولعل العراق يحتل المرتبة األولى بين البلدان العربية واإلسالمية في ظاهرة حرق وهدم وتفجير‬
‫المساجد والزوايا والُح سينيات المخَّص صة ألصحاب المذهب الشيعي‪.‬‬
‫وظاهرة القتل في مساجد للسَّنة والمتصوفة والشيعة‪ ،‬وتفجير وهدم المراقد والمقامات‬
‫واألضرحة صارت شائعة في كل من العراق وسوريا واليمن والسعودية والكويت وليبيا وتونس‬
‫ونيجيريا والهند وباكستان وأفغانستان ثم مصر‪.‬‬
‫الموالد ليست خطًر ا‬
‫مصر بال موالد ينقصها الكثير من الفرح والبهجة واإلشراق‪.‬‬
‫وإذا كان للمسلمين في مصر عيدان هما عيد الفطر‪ ،‬وعيد األضحى‪ ،‬فإن الموالد الدينية‬
‫الصوفية‪ ،‬كانت أعياًدا دائمًة موَّز عًة على جغرافية مصر الُم متدة في ريفها وحضرها‪.‬‬
‫والمولد كما عرفُته في طفولتي وصباي طقٌس شعبٌّي دينٌّي ‪ ،‬يتم فيه االحتفاء واالحتفال برمٍز‬
‫صوفٍّي‪ ،‬أو بطريقٍة صوفيٍة رئيسيٍة‪ ،‬أو فرعيٍة تمِّثل ُج زًء ا من خريطة الطرق الصوفية في مصر‪.‬‬
‫ومنذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميالدي)‪ ،‬ومصر تحتفل بأوليائها وأقطابها من‬
‫المتصوفة‪ ،‬سواء َم ن ُو لدوا على أرضها‪ ،‬أو َم ن َم ُّر وا بها في طريقهم إلى الحِّج‪ ،‬أو َم ن مكُثوا فيها‬
‫بضع سنوات من أعمارهم‪ ،‬ولكَّن الحال تبَّدلت واختلفت مع هُبوب رياح المذاهب السلفية الُم تشِّددة‪،‬‬
‫وبروز الجماعات الدينية الُم تطرفة والُم وغلة في سفك الدماء‪ ،‬وتكفير الناس والدولة‪ ،‬وإطالق يد‬
‫جماعة اإلخوان‪ ،‬حتى تمَّكنت من مفاصل الحياة جميعها‪ ،‬وصار لها ذراٌع طويلة تضرب وتنُخ ر‬
‫في كل شأن‪.‬‬
‫وكل طائفة من هذه الطوائف أرادت بهَّم ٍة ودأٍب أن تطُر د الصوفيين من الساحة‪ ،‬فعمدت إلى‬
‫تكفيرهم ومحاربتهم بدعٍم خارجٍّي من دوٍل ترى في التصوف ُكفًر ا‪ ،‬وتريد تسييد مذهبها الذي ال‬
‫محل له بين المذاهب الدينية التي يعرفها المسلمون في العالم‪ ،‬وتحُّض على هدم مقامات أقطاب‬
‫التصوف‪ ،‬وتدمير مقابر األولياء‪ ،‬بحيث ال يكون في المشهد الديني ‪ -‬الذي هو أساًسا سياسي‪ ،‬وال‬
‫يزيد على كونه صراًعا على السلطة ‪ -‬غير اإلخوان والسلفيين‪ ،‬وَم ن دار في فلكهم‪ ،‬ومن ثم انتشر‬
‫الدم‪ ،‬وبرزت إلى السطح جرائم االغتياالت‪ ،‬وقتل الُّسَّياح‪ ،‬وضرب المدارس‪ ،‬وسكب مياه النار‬
‫على النساء في الشوارع؛ ألن لباسهن ليس شرعًّيا‪ ،‬وألنهن تاركات شعورهن تنسدل على أكتافهن‪،‬‬
‫وسرقة محالت الذهب‪ ،‬والَّنْيل من األقباط‪ ،‬وُم هاجمة الكنائس‪ ،‬واغتيال الُكَّتاب والُم فِّك رين مَّم ن لهم‬
‫آراء أخرى تناهض هؤالء األدعياء الذين نَّص بوا أنفسهم أوصياء على الدين‪ ،‬وُح ماة العقيدة‪،‬‬
‫ونَّو اب هللا‪ ،‬وأصحاب التوكيل الوحيد من السماء‪ ،‬والوسطاء الرسميين بين العبد وربه‪.‬‬
‫ورأينا األزهر واألوقاف ودور النشر تمتنع في أغلبها عن نشر ُكتب التصوف‪ ،‬بل إن هناك‬
‫دوًر ا للنشر‪ ،‬كانت تأخذ دعًم ا سخًّيا من إحدى الدول ُم قابل أال تنشر ُكتًبا للتصوف‪ ،‬إلى حِّد أن هذه‬
‫الدار‪ ،‬ارتكبت جريمًة ال ُتغتفر‪ ،‬حيث امتنعْت عن تسليم أصول الكتب التي لديها حول التصوف‪،‬‬
‫ومنها كتٌب ُم ترجمة من الفرنسية إلى العربية‪ ،‬أنفق أصحابها سنواٍت من أعمارهم في االشتغال‬
‫عليها‪ ،‬وكان رد الدار أنها ُفقدْت وضاعت‪ ،‬ولم يكن المؤلفون وقتذاك لديهم نسٌخ أخرى كعادة هذه‬
‫األيام‪ ،‬حيث وسائل التكنولوجيا الحديثة في الطباعة‪.‬‬
‫لقد مات فؤاد كامل أحد أهم مبدعي مصر في الترجمة إثر فقده ألربعمائة صفحة‪ ،‬كان قد سلمها‬
‫لهذا الناشر‪ ،‬ترجمها عن الفرنسية لكتاب المستشرق الشهير هنري كوربان (‪1978 - 1903‬‬
‫ميالدية) «الخيال الخاَّل ق في تصوف ابن عربي»‪ ،‬والذي سيترجمه بعد ذلك صديقنا المغربي فريد‬
‫الزاهي‪ ،‬وهو يعتصر ألًم ا‪ ،‬ألنه يترجم كتاًبا ترجمه قبله عظيٌم من مصر‪ ،‬أضاعه عمًدا الناشر‬
‫المصري الشهير الذي كان يتلَّقى األموال لإلسهام في إماتة التصوف‪ ،‬ويعيش بيننا كمالٍك لم‬
‫يرتكب إثًم ا‪.‬‬
‫الموالد في مصر ال تكِّلف الدولة مليًم ا واحًدا‪ ،‬وليست خطًر ا على األمن الوطني أو األمن‬
‫القومي‪ ،‬وما التجمعات فيها سوى تجُّم ٍع لألحباب والُم ريدين الذين يبحثون عن الفناء في الذات‬
‫اإللهية‪ ،‬هم وُقود العشق اإللهي‪ ،‬وليسوا قتلًة وال سَّفاكي دماء‪ ،‬أنقياء أتقياء‪ ،‬سْم ُتهم النقاء وصفاء‬
‫الروح‪.‬‬
‫وليلة المولد ليست ُعطلًة رسميًة‪ ،‬كما أن األرض التي ُتقام عليها الموالد هبٌة من أهل كل قرية‪،‬‬
‫ولكن مع زحف التشُّدد الديني على أرض مصر‪ ،‬اغُتصبت ساحاُت وميادين وأراضي الموالد‪.‬‬
‫وفي حوار أجراه معي في مونتلاير «كلود ليفيك» ُنشر ‪ 21‬من أكتوبر ‪ 2013‬ميالدية بجريدة‬
‫«لو دوفوار» الكندية بلساٍن فرنسٍّي‪ ،‬وهي من أشهر وأكبر الصحف في كندا‪ ،‬وقد ترجم فقرات من‬
‫الحوار إلى اللغة العربية الشاعر والناقد الدكتور وليد الخشاب أستاذ األدب بجامعة تورونتو الكندية‬
‫قلُت ‪« :‬إن المتصوف كائن منفتح على العالم‪ ،‬يقبل الديانات كافة‪ .‬وكما قال الشيخ األكبر والصوفي‬
‫المسلم العظيم‪ ،‬ابن العربي‪ :‬الحب ديني وإيماني»‪.‬‬
‫«المتصوفة مسالمون‪ ،‬يحبون الحياة والعشق‪ ،‬وال يمارسون السياسة»‪ .‬إال أن هذه السمة لم‬
‫تجنبهم ويالت االضطهاد على مر العصور‪ .‬وهم يشِّك لون األغلبية في العديد من البالد اإلسالمية‪،‬‬
‫ومنها مصر‪ ،‬لكن «تم إسكات أصواتهم»‪.‬‬
‫«يؤسفني أن أقول إن الغرب ال يحتفظ (من العالم اإلسالمي) إال بصورة المتطرفين‪ .‬يظن أن‬
‫هذا العالم ال يقدم سوى المجرمين»‪.‬‬
‫هذا جزٌء من حواري‪ ،‬لكنني قلُت أيًض ا لمحاوري إن الغرب وأمريكا دائًم ا ما يقدمان الدعم‬
‫المادي والمعنوي لكل الجماعات الدينية المتشددة ولم نرهما مرًة واحدًة يدعمان الُم تصوفة أو‬
‫التصوف‪ ،‬أو حتى ينفق مااًل قلياًل لنشر كتاٍب صوفٍّي؛ ألنه يدرك أن التصوف صورة مشرقة‬
‫لإلسالم‪ ،‬وهو ال يريد لهذه الصورة أن تنتشر وتتعَّم ق في نفوس العالم‪ ،‬الغرب ال يريد ابن العربي‬
‫(‪ 558‬هـ ‪1164 -‬م‪ 638/‬هـ ‪1240 -‬م) آخر‪ ،‬وال جالل الدين الرومي (‪ 604‬هـ ‪672 -‬‬
‫هـ‪ 1273 - 1207/‬م) آخر؛ ألنهما أبرز أنموذجين يدالن على سماحة واعتدال الدين اإلسالمي‪.‬‬
‫الموالد كما شهدُتها ومارسُت الِّذ ْك ر فيها‪ ،‬تعبيٌر عن فرح القلب بالحب الذي ُيعِّم ر األرواح‪ ،‬ومع‬
‫ذلك اعتادت الدولة المصرية من دون سبٍب واضٍح على مدى قرٍن من الزمان أن تضِّح ي بقيم‬
‫وتقاليد هذه الموالد بالمنع ال بالمنح والتصريح‪ ،‬حتى رأينا المصريين يزدادون خسارًة مع استفحال‬
‫وتمدد إسالم الصحراء وآسيا (ممارسًة وملبًَسا)‪ ،‬حيث اعتادت كسر خاطر الُم حبين‪ ،‬وقتل الفرحة‬
‫عند الُم ريدين من بسطاء الناس وفقرائهم وعامتهم والذين تركوا ُقراهم ومدنهم وأتوا لالحتفال‬
‫بالمولد‪ ،‬ومن ثم هناك احتقاٌن مدفوٌن في صُدور الذين ُح رموا من الموالد؛ ألن الدولة خذلتهم أيام‬
‫حكم الرئيس محمد حسني مبارك‪ ،‬ولم تؤازرهم يوًم ا في صراعهم مع السلفيين واإلخوان وطوائف‬
‫وِم َلل الجماعات الدينية‪ ،‬حيث غابت السعادة مع ُم هاجمة الموالد وحرقها وتخريبها وتدميرها‪ ،‬وهي‬
‫عندي عادة مصرية أصيلة وُم حَّببة وخاصة‪ ،‬وتشير إلى محبة المصرين للتصوف‪ ،‬وآلل البيت من‬
‫دون تزُّم ٍت أو اِّدعاء‪ ،‬والموالد كنٌز من كنوز مصر وثرواتها‪ ،‬فكيف لها أن ُتلغى وُتشطب من‬
‫تاريخ مصر الحديث‪ ،‬فال شك أن هناك تضييًقا على َم ن يتولون إقامة الموالد‪ ،‬ناهيك عن الخسارة‬
‫الروحية‪.‬‬
‫ال أريد أن يقول لي أحد إن الموالد ممنوعة بأمر من الدولة المصرية‪ ،‬وأن الفرح بطقٍس كهذا‬
‫صار عادًة ذميمًة‪ ،‬وأن الموالد ما هي إال بدعة وَم ن يرتادها كافر وزنديق وخارج على اإلسالم‪،‬‬
‫إال إذا كان َم ن يتوَّلى األمور سلفيون ودواعش وإخوان وجماعات دينية‪.‬‬
‫وفقط سأذِّك ر بما مضى وأقول‪ :‬إن حامد محمود باشا وزير الصحة‪ ،‬هو َم ن كان يدعم مولد‬
‫طوخ‪ ،‬وإن طه ُح سين (‪ 1306‬هـ ‪ 15 /‬من نوفمبر ‪1889‬م ‪ 1393 -‬هـ ‪ 28 /‬من أكتوبر‬
‫‪1973‬م) وزير التعليم وعميد األدب العربي‪ ،‬هو َم ن أنقذ مولد مغاغة من الضياع‪ ،‬بل إن أقباط‬
‫مصر في الزمن الماضي‪ ،‬كانوا يدعمون الموالد الدينية اإلسالمية في مصر‪ ،‬بل و يشاركون فيها‬
‫بالمؤازرة والتعاطف‪.‬‬
‫شعب الموالد‪ ،‬شعب وديع وُم حب وودود‪ ،‬ال يحمل في يديه سالًح ا‪ ،‬وال يمارس شغًبا‪ ،‬وال‬
‫يخِّر ب ُم نشأة‪ ،‬وال يخُلق اضطرابات ما في أي مكان يكون فيه‪.‬‬
‫فأحدهم ‪ -‬في زمٍن ماٍض ‪ -‬سعى يوًم ا إلى إلغاء مولد السيد البدوي (فاس‪ - 1200 ،‬طنطا‪،‬‬
‫‪1276‬هجرية) في طنطا أو تأجيله إلى أجل غير ُم سَّم ى‪ ،‬بعدما قرأ وصًفا للمولد‪ ،‬من أنه يجتذب‬
‫ُم ريدين وأتباًعا وُم حبين أكثر مَّم ا تجتذُب مكة‪.‬‬
‫الُم ولد حريٌة وبهجٌة وتجارٌة رابحٌة لكل َم ن يشارك فيه‪.‬‬
‫ُذو الُّنون المصري‬
‫رأُس الُّص وفية‬
‫«ال َتْس ُكُن اْلِح ْك َم ُة َم ِعَد ًة ُم ِلَئْت ِبَطَعاٍم ‪»..‬‬
‫منذ قرأُت هذه الجملة الَّدالة‪ ،‬وأنا في التاسعة عشر من ُعمري‪ ،‬أتحَّثُث ُخ طاي في أرٍض جديدٍة‬
‫هي سوهاج موطن صاحبها «أخميم»‪ ،‬وأنا أسعى أن أمأل معدَة ُر وحي بتصوٍف آخر غير الذي‬
‫سلكُته مع الشاذلية في قريتي كفر المياسرة‪ ،‬وأنا صبٌّي صغيٌر ‪ ،‬وكنُت قد تعَّر فُت خالل سنتي‬
‫األولى في قسم الَّص حافة بكلية آداب سوهاج جامعة أسيوط وقتذاك بالسيد أبي ضيف المدني‪ ،‬وكان‬
‫يعمل وقتذاك موِّج ًه ا بالتربية والتعليم في سوهاج‪ ،‬وامتَّدت عالقتي به‪ ،‬حتى بعد تخُّر جي في‬
‫الَّص حافة واشتغالي في مؤسسة «األهرام»‪ ،‬عندما كان يأتي إلى القاهرة لمتابعة ُكتبه حول‬
‫التصُّو ف‪ ،‬ومنها كتابه الُم بِّك ر عن ذي النون المصري «ذو النون المصري‪ ..‬واألدب الُّص وفي»‪،‬‬
‫وقد صدر عن دار الشروق في القاهرة‪ ،‬والذي قرأته قبل قراءتي كتابْي د‪.‬عبد الحليم محمود‬
‫«العالم العابد العارف باهلل ذو النون المصري»‪ ،‬و«المكُنون في مناقب ذي النون» لجالل الدين‬
‫السيوطي‪ .‬لكَّنني لم أُكن قد قرأُت رسالة محيي الدين ابن العربي «الكوكب الُّدري في مناقب ذي‬
‫النون المصري» إال بعد إعادة نشر رسائل ابن العربي‪ ،‬وقد اهتم بنشر هذه الرسالة وتحقيقها‬
‫وتقديمها صديقي الكاتب سعيد عبد الفَّتاح‪ .‬وهناك أطروحة للماجستير نوقشت سنة ‪ 1993‬ميالدية‪،‬‬
‫لم أتمَّكن من قراءتها لصُعوبة التوُّص ل إليها موضوعها «ذو النون المصري وتصُّو فه» للباحث‬
‫مؤيد فيصل الَّساعدي نالها من جامعة بغداد ‪ -‬كلية العلوم اإلسالمية‪ ،‬بإشراف فرج توفيق الوليد‪.‬‬
‫وكان ذو النون المصري هو الباُب الذي ُفِتح لي نحو التصُّو ف اإلشراقي‪ ،‬وذهابي نحو أقطاب‬
‫الوقت والَّشطح الذين رافقوا رحلتي في هذه الدنيا

‫– حياًة وِش ْعًر ا ‪ ،-‬وليس غريًبا أن أتحَّم َس وأكتَب كتاًبا عن ذي النون المصري‪ ،‬وأنا طالٌب في‬
‫الكلية‪ ،‬لكنه ضاع مني ولم ُيقَّدر له النشر‪ ،‬وقصة ضياعه مؤلمة وعبثية‪ ،‬وال مكان هنا للحديث‬
‫عنها‪.‬‬
‫كما أَّنني لم أنَس المُقولة التي حفظتها عن ذي النون‪« :‬عرفُت رِّبي برِّبي‪ ،‬ولوال رِّبي ما عرفُت‬
‫رِّبي»‪ ،‬ولم أحتج وسيًطا في حياتي أو هادًيا وال ُم رشًدا أو دلياًل لحيرتي‪.‬‬
‫يكاد يُكون ُذو النون المصري ‪ -‬الذي كانت له زاويٌة صوفيٌة في أخميم يرتاُدها رجاُل الَّطريق‬
‫الُّص وفي ‪ -‬أسطورًّيا من فرط القصص التي ُنسجت حوله‪ ،‬والمتصل أغلبها بكراماته وُقدراته‬
‫الخارقة للعادات‪ ،‬فهو ابٌن لتراٍث مصرٍّي يونانٍّي‪ ،‬كان موُج وًدا في زمانه‪ُ ،‬خ ُص وًص ا الفلسفة‬
‫األفالطونية الحديثة المتأخرة والفلسفة الهرمسية (نسبًة إلى هرمس‪ ،‬وهو عند المصريين آخنوخ‪،‬‬
‫وعند اليونانيين آرميس‪ ،‬وعند المسلمين إدريس‪ ،‬أَّو ل َم ن عَّلم الكتابة والَّص نعة والِّط ب والتنجيم‬
‫والِّسْح ر‪ ،)..‬وهو ابن العاطفة الشاعرية الجَّياشة‪ ،‬وابن المعرفة الذوقية‪ ،‬وقد انسحب ذلك على آثاره‬
‫التي تركها ِش ْعًر ا ونثًر ا‪ ،‬فاض قلبه بالمحبة اإللهية‪ ،‬وُشِغ ل بوحدة الُّشهود‪ ،‬أي ال يرى الُّص وفي‬
‫شيًئا غير هللا‪ ،‬أي حال الفناء‪ ،‬ال وحدة الوُج ود أي ال يرى الُّص وفُّي شيًئا إاَّل ورأى هللا فيه‪ ،‬أي حال‬
‫البقاء‪.‬‬
‫وبالفعل كان ُذو النون المصري ال يرى شيًئا إال ورأى هللا فيه‪ .‬حيث عاش منذ شبابه بقلٍب‬
‫سماوٍّي‪ ،‬إذ جال منُذ البداياِت‪ ،‬فزار مكة ودمشق وأنطاكية وبغداد والمغرب وتونس‪ ،‬وبيت المقدس‬
‫واليمن والمدينة‪ ،‬وجبل الكام ووادي كنعان‪ ،‬وجبال نيسان‪ ،‬وبوادي الحجاز والشام وتيه بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬عدا تنقالته الكثيرة في صحارى مصر وطور سيناء‪ ،‬وغيرها من المدائن والبلدان‪.‬‬
‫«ارتحلُت ثالث رحالٍت وعدُت بثالثة علوم‪ :‬أتيُت في الرحلة األولى بعلم يقبله الخاص والعام‪،‬‬
‫وأتيُت في الرحلة الثانية بعلم قبله الخاص ولم يقبله العام‪ ،‬وأتيُت في الثالثة بعلٍم لم يأخذ به الخاص‬
‫وال العام فبقيُت شريًدا طريًدا وحيًدا»‪« .‬وقد ظل ذو النون على هذه الحال من اإلقامة والرحلة‪،‬‬
‫يتلَّقى العلم حيًنا‪ ،‬ويلقى الحكمة حيًنا آخر‪ ،‬ويعظ الناس ويرشُدهم ويبِّص ُر هم بالحقائق ويوقفهم على‬
‫الدقائق»‪.‬‬
‫وجاَب اآلفاَق المجاورَة له حيُث آثار ما تركه المصريون القدماء‪ ،‬باعتبار أَّن أخميم «بيٌت من‬
‫بيوت الِح كمة القديمة‪ ،‬وفيها التصاويُر العجيبُة والمثالُت الغريبُة‪ ،‬التي تزيد المؤمن إيماًنا والكافر‬
‫طغياًنا»‪.‬‬
‫األمر الذي جعله يسعى إلى معرفة لغتهم وفِّك رُم وزها‪ ،‬وكثير من الشواهد تثبت أنه كان يقرأ‬
‫الرموز الهيروغليفية قبل أن يفَّكها شامبليون (فيچيك‪ 23 ،‬من ديسمبر ‪ – 1790‬باريس‪ 4 ،‬من‬
‫مارس ‪1832‬ميالدية) بألف سنٍة من على حجر رشيد الذي نقش عام ‪ 196‬قبل الميالد‪ .‬وقد ذكر‬
‫المسعودي (‪ 346 - 283‬هجرية ‪ 957 - 896 /‬ميالدية) الذي توفي بعد ذي النون المصري‬
‫بمئة عام «أنه ُو ِّفق إلى حِّل كثيٍر من الصور والنقوش المرُسومة عليها»‪ .‬وكان والده نوبًّيا‪ ،‬وكان‬
‫حارًسا لبعض المعابد المصرية في أخميم‪ ،‬وله ثالثة بنين آخرين هم‪ُ :‬ذو اْلِك ْفِل ‪َ ،‬و َعْبُد اْلَخ اِلِق ‪،‬‬
‫َو َعْبُد اْلَباِر ِئ ‪ ،‬وكان ذو النون َيعرف اللغة المصرَّية القبطَّية‪ ،‬لغة قدماء المصريين‪ ،‬تعَّلمها من‬
‫الكتابة التي على المعابد‪ ،‬ومن بعض الرهبان الذين كانوا يعرفونها في القرن الثالث الهجري‪ ،‬حيث‬
‫ولد وعاش ذو النون في زمن الخالفة العباسَّية‪.‬‬
‫ويذكر المستشرق اإلنجليزي رينولد نيكلسون (‪ 1364 - 1285‬هجرية ‪1945 - 1868/‬‬
‫ميالدية) «أن ذا النون كان كثير العكوف على دراسة النقوش البصرية المكتوبة على المعابد وحل‬
‫رموزها‪ ،‬كما كانت مصر القديمة في نظر المسلمين مهد علوم الكيمياء والِّسْح ر وعلوم األسرار‪،‬‬
‫وكان هو من أصحاب الكيمياء والِّسْح ر مع أن اإلسالم حرم الِّس حر‪ ،‬ولذلك ستره بلباس الكرامات‪،‬‬
‫ومن هنا بدا تأثير الِّس حر في التصوف‪ ،‬ويؤيد ذلك استخدام ذي النون األدعية الِّس حرية واستعماله‬
‫البخور لذلك كما ذكره القشيري في رسالته»‪.‬‬
‫وقد التقى ثماني عشرة امرأة من العابدات الزاهدات الناسكات خالل أسفاره وسياحاته في الجبال‬
‫والوديان والبراري والبلدان والمدائن التي ارتحل إليها‪ ،‬حيث قضى شطًر ا كبيًر ا من حياته متنِّقاًل‬
‫وسائًح ا‪ ،‬ولعَّل العارفة فاطمة النيسابورية وهي من خراسان أبرز َم ن التقى في تطوافه‪ ،‬وقال عنها‬
‫ذو النون‪« :‬هي ولية من أولياء هللا وهي أستاذي»‪ ،‬سكنت مكة‪ ،‬وتوفيت في طريق العمرة سنة‬
‫‪ 223‬هجرية‪.‬‬
‫وهي أحد أعالم التصوف السني‪ ،‬وكانت من قدماء نساء خراسان‪ ،‬قال عنها أبو عبد الرحمن‬
‫السلمي (‪ 24‬من أبريل ‪ 11 - 937‬من نوفمبر ‪1021‬ميالدية ‪ 10/‬من جمادى اآلخرة ‪3 - 325‬‬
‫من شعبان ‪ 412‬هجرية) إّنها‪« :‬من العارفات الكبار‪ ،‬لم يُكن ِفي زمانها ِفي الِّنَساء مثلَه ا»‪ ،‬كما‬
‫قال عنها أبو يزيد البسطامي‪َ« :‬م ا َر َأْيت ِفي عمري ِإاَّل رجاًل َو اْم َر َأة فالمرأة َكاَنت َفاِط َم ة‬
‫النيسابورية َم ا أْخ برتَه ا َعن مَقام من المقامات ِإاَّل َو َكاَن اْلَخ َبر َلَه ا عَياًنا»‪ ،‬ومن أقوالها‪َ« :‬م ن لم‬
‫يُكن هللا ِم ْنُه على َبال َفِإَّنُه يتخَّطى ِفي كل ميدان َو يَتَكَّلم ِبُكل ِلَسان‪َ ،‬و من َكاَن هللا ِم ْنُه على َبال‬
‫أخرسه ِإاَّل َعن الصْد ق وألزمه اْلحَياء َو اِإْل ْخ اَل ص»‪ .‬و«الَّص اِدق والمتقي اْلَيْو م ِفي َبحر يضطرب‬
‫َعَلْيِه أمواجه َو َيْد ُعو ربه ُدَعاء الغريق يْس َأل ربه اْلَخ اَل ص والنجاة»‪.‬‬
‫ومن بين َم ن التقاهن رابعة العدوية‪ ،‬وقيل إنها تابت على يديه‪ ،‬حين استمعت إلى إنشاده‪ ،‬وهما‬
‫في سفينٍة‪ ،‬إذ كانت مع جماعٍة تشرب الخمر‪:‬‬

‫أحسن من قينٍة ومزماِر‬


‫في غسِق الليِل نغمة القاري‬
‫يا ُح سنه والجليل يسمُعُه‬

‫بطيب صوٍت ودمعه جاِر‬


‫وخدُه في التراِب معفٌر‬
‫وقلبه في محبِة الباري‬
‫يقوُل يا سيدي ويا سندي‬
‫أشغلني عنك ثقل أوزاِر ي‬
‫وقال ذو النون‪َ« :‬م ن أراد أن يتعلم المُر وءة والظرف فعليه بسَّقاء الماء ببغداد‪ ،‬وَم ن أراد أن‬
‫يسمع تجريد التوحيد وخالص التوُّكل فعليه بالنساء الَّز ِم ني»‪ ،‬أي الدائمات المرض أو الضعيفات‬
‫من ِك َبر السن‪.‬‬
‫ويعد شقران العابد هو شيخ ذي النون المصري‪ ،‬وقبره موجوٌد بمصر كما جاء في كتاب «مرشد‬
‫الزوار إلى قبور األبرار» لزين الدين بن الموفق (توفي في سنة ‪ 615‬هجرية) عند رأسه من‬
‫الغرب‪ ،‬قال القضاعّي في كتابه الخطط‪« :‬هو شقران العابد‪ ،‬أستاذ ذي النون‪ ،‬توفي قبل ذي النون‪،‬‬
‫ال أعلم في أّي سنة توفي‪ ،‬فإنني لم أقف له على تاريخ وفاٍة‪ ،‬وقبره شرقّي التربة التي فيها قبر ذي‬
‫النون‪ ،‬بينهما تربتان‪ :‬إحداهما ألبي جعفر بن حواصل‪ ،‬واألخرى تالصقها‪ُ ،‬يصعد إليها بدَر ج‪،‬‬
‫وُينزل إلى هذا القبر بدرج أيًض ا‪ ،‬وهو أحد القبرين الّلذين في ظهر محاريب ابن حولي القرقوبي‪،‬‬
‫ذات القبور التي أكثرها منَّكسة‪ ،‬وهي مالصقٌة لظهر أحد المحاريب التي بالتربة المذُكورة‪ ،‬إلى‬
‫جانب القبر الذي عليه عمود كدان‪ ،‬يعرف بأبي الربيع الزبدي»‪.‬‬
‫وأخذ ذو النون على شقران‪ ،‬وتأّدب بأدبه‪ ،‬وتوفي وهو في صحبته‪.‬‬
‫قال ذو النون‪« :‬سمعت شقران يقول‪ :‬إّن هلل عباًدا خرجوا إليه بإخالصهم‪ ،‬وشّم روا إليه بطيب‬
‫أسرارهم‪ ،‬فأقاموا على صفاء المعاملة في محاريب الكّد‪ ،‬فساروا في ميادين أنوار ملكوته‪ ،‬وبادروا‬
‫الستماع كالمه بحضور أفهامهم‪ ،‬فعند ذلك نظر إليهم بعين المالحظة‪ ،‬وشاهد منهم نهدات األسف‪،‬‬
‫وفي ضمائرهم حرارات الّشغف‪ ،‬فعندها أسرج لهم نجائَب المواهب‪ ،‬وحّفت بهم منه العطايا‬
‫والّتأييد‪ ،‬وأذاقهم كأَس الِو داد‪ ،‬فطلعت في قلوبهم كواكب مراكب القلق‪ ،‬وجرت بهم في بحار‬
‫االشتياق‪ ،‬فوصلت إلى روح نسيم الّتالق‪ ،‬فكيف إذا رأيت ثرّيا اإليمان قد علقت في قلوبهم‪ ،‬وهالل‬
‫التوحيد قد الح بين أعينهم‪ ،‬وبحار الوفاء قد تدّفقت في قلوبهم‪ ،‬وأنهار ماء الحياة قد تصادمت إلى‬
‫جوارحهم‪ ،‬فتنّسموا روائح الّدنّو من قربه‪ ،‬وهّبت رياح اللقاء من تحت عرشه‪ ،‬فوفدت هواتف‬
‫الملكوت بألسنة القدرة إلى أسماعهم وأفهامهم‪ ،‬وشّيعها ُر وح نسيم المصافاة إلى أذهانهم‪ ،‬وأوقدت‬
‫في أسرارهم مصابيح األفكار‪ ،‬واشتعلت ضمائرهم‪ ،‬وّز فت إلى قلوبهم أزواج القلق‪ ،‬وزّج بها‬
‫الشوق في مفاصلهم‪ ،‬فتطايرت أرواحهم إلى روح عظيم الذخائر‪ ،‬ثم نادت‪ :‬ال براح وذلك أنها لَّم ا‬
‫وصلت إلى الحجاب األعظم المعظم أقسمت أاّل تبرح وال تزول حتى تنعم‪ .‬فكشف لها الحجاب‪،‬‬
‫وناداها‪ :‬أنا الّر ّب األعظم المعظم‪ ،‬أنا عاّل م الغيوب‪ ،‬أنا المّطلع على الضمائر‪ ،‬أنا مراقُب‬
‫الحركات‪ ،‬أنا راصُد الّلحظات‪ ،‬أنا العالم بمجاري الفكر وما أصغت إليه األسماع‪.‬‬
‫ثم قال ألرواحهم‪ :‬أنا طالعتك ورفعتك إلى قربي‪ ،‬وقرنت ذكري مع ذكرك ائتالًفا‪ ،‬وعّر فتك‬
‫نفسي وصافيتك إعطاًفا‪ ،‬وجّللتك ستري إلحاًفا‪ ،‬فاشكري لي أزدك أضعاًفا ‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬يا قلوب صفوتي التئمي‪ ،‬ويا أهل محّبتي حافظوا على لزوم موّدتي‪.‬‬
‫فلما وعت القلوُب كالَم المحبوب وردت على بحر الفهم‪ ،‬فاغترفت منه رَّي الشراب‪ ،‬فهَّل عليها‬
‫عارض صدر إليها من محبوبها‪ ،‬فسجدت له تعظيًم ا‪ ،‬وأذن لها فكّلمته تكليًم ا‪ ،‬وأفرغ عليها من‬
‫نوره فزادها تهييًم ا‪ ،‬فرجعت إلى األبدان بطرائف الفوائد‪ ،‬فظمئت وعطشت‪ ..‬فهل تدري ما‬
‫أعطشها؟ كشف لها عن غيوبه فطاشت‪ ،‬وشاهدت قربه فعاشت‪ ،‬في كل يوم تطالع علًم ا جديًدا‪ ،‬فهو‬
‫لها يزيد‪ ،‬وكيف ال يكون هذا العبد كذلك وأنوار الصدق عليه متراكمة‪ ،‬ومراتب الحقائق فيه‬
‫منتصبة‪ ،‬وروحه قد سارت في مواكب التوفيق؟ فلو شاهدت سرائرهم وقد وصلت إليه فرّو اها من‬
‫نسيم قربه‪ ،‬وزّو دها من طرائف علمه المكنون‪َ« ،‬و ِفي ذِلَك َفْلَيَتناَفِس اْلُم َتناِفُسوَن »‪.‬‬
‫ثم بكى طوياًل وقال‪ :‬يا ذا النون‪ ،‬أين َم ن أسرجت بواطنه بحّب هللا؟ أين َم ن ظهر على جوارحه‬
‫نور خدمة هللا فشهد شواهد الهيبة عطاياه فحمد هللا؟ أين َم ن شهد القرب فلم يتحرك؟ أين َم ن راقب‬
‫الّر ّب في سرائره؟ أين َم ن دامت بمعاملته ظواهره؟ أين َم ن نطق بعلم القرب منه؟ أين َم ن شرب‬
‫بكأس المحبة؟ أين َم ن عرف الطريق؟ أين َم ن نطق بالتحقيق؟ أين َم ن أدني فلم يبرح؟ أين َم ن‬
‫شّو ق فلم يفرح؟ أين َم ن سقى فباح؟ أين َم ن بكى فناح؟ أين َم ن ألف فشغل؟ أين َم ن وصل فغنم؟‬
‫أين َم ن لزم فأخبر؟ أين َم ن صلح فأحضر؟ أين َم ن رضي فقنع؟ أين َم ن صبر فاقتنع؟ أين َم ن بكى‬
‫بعويل؟ أين َم ن صرخ بغليل؟‬
‫أين َم ن رضي فطاب؟ أين َم ن شّو ق فذاب؟ أين َم ن شّفه الوداد؟ أين َم ن جّد باجتهاد؟ أين َم ن‬
‫هّم ه الحبيب؟‬
‫أين َم ن دهره غريب؟ أين َم ن طالع المكشوف؟ أين َم ن أمر بالمعروف؟ أين َم ن تأّلف الهموم؟‬
‫أين خّدامه الّص يام؟ أين عّم اله القيام؟ أين َم ن ذاق ما أصف؟ أين َم ن جّد ملتهف‪ ،‬أين َم ن كان ذكره‬
‫غذاه‪ ،‬أين َم ن قلبه مرآه؟ أين َم ن بان واستبان؟‬
‫يا ذا الّنون‪ ،‬فلو رأيتهم وقد أخرجهم بعد ما أحسن تقويمهم‪ ،‬وأجلسهم على كراسي األطّباء وأهل‬
‫المعرفة‪ ،‬وجعل تالمذتهم أهل الورع والّتقى‪ ،‬وضمن لهم اإلجابة عند النداء‪ ،‬ثم قال لهم‪ :‬يا أوليائي‬
‫وأهل صفوتي‪ ،‬إن أتاكم عليٌل فداووه‪ ،‬أو فاٌّر مّني فرُّدوه‪ ،‬أو آيس من رحمتي وفضلي فعدوه‪ ،‬أو‬
‫مبارز لي بالمعاصي فنادوه‪ ،‬أو مستوصف نحوي فدّلوه‪ ،‬أو خائف مّني فأّم نوه‪ ،‬أو مسيء بعد‬
‫إحسان فرّغبوه‪ ،‬أو من جنا جناية وحزن فسّر وه‪ ،‬وإن وهبت لكم هبة فشاطروه‪ ..‬ويا أهل صفوتي‬
‫من خلقي ال يفزعّنكم صوت جّبار دوني‪ ،‬وال مخلوق من خلقي‪.‬‬
‫إنه َم ن أراد بكم سوًء ا قصمته‪ ،‬وَم ن آذاكم أهلكته‪ ،‬وَم ن عاداكم عاديته‪ ،‬وَم ن أحّبكم أحببته‪.‬‬
‫فلما نظر القوم إلى حسن لطفه بهم اجتهدوا غاية االجتهاد‪ ،‬وألفت الجوارح منهم المسارعة إلى‬
‫مرضاته‪ ،‬والمبادرة إلى خدمته‪ ،‬وأسقطت الّر احات‪ ،‬وأزالت اآلالت‪ ،‬فوّر ثهم إخالصهم الّز فرات‪،‬‬
‫ثم تضاعفت لهم الّتحف‪ ،‬فإذا جاء أحدهم الّنهار بكى عليه الُّدجى‪ ،‬ويستشرف به الفجر‪ ،‬وتوّدعه‬
‫الكواكب‪ ،‬ويصافحه الّنهار‪ ،‬وتساعده األفالك‪.‬‬
‫ثّم يصل فكره إلى العرش‪ ،‬ثم تصل أنفاسه إلى الكرسي‪ ،‬فعند ذلك يا أخي ترّح ب به الّسموات‪،‬‬
‫وتسّلم عليه الجبال‪ ،‬وتأنس به الوحوش‪ ،‬وتفرح به المواطن‪ ،‬وتخضع له الملوك‪ ،‬وتلوذ به‬
‫المواشي‪ ،‬وتتبّر ك به األشجار‪ ،‬وتحّن إليه البهائم‪ ،‬ويأتي من أجله القطر‪ ،‬ويتضاعف ببركته‬
‫النبات‪ ،‬وتهابه الفّج ار‪ ،‬وترهبه الشياطين‪ ،‬وتحّفه المالئكة في الّليل والنهار بأجنحتها‪ ،‬وتسلم عليه‬
‫الحيتان في البحار إذا مّر بها‪ ،‬وإذا نظر إلى األرض تقلبت عن أنوار الزهر‪ ،‬إذا مّر بيده على‬
‫العليل أبرأه‪ ،‬وإذا وعظ سقيم الّذنوب أشفاه‪ ،‬وإذا نظرت إليه شهد له قلبك بالّص دق‪ .‬أنس بالوحدة‬
‫بعد االجتماع‪ ،‬وخالط الجوع بعد الطعام‪ ،‬وسارع إلى الظمإ بعد الشراب‪ ،‬ولبس الخرق بعد الخّز ‪،‬‬
‫وركن إلى الخراب بعد القصور‪.‬‬
‫قال خادم شقران‪ :‬دعاني شقران ليلة فقال‪ :‬أريد أن أغتسل‪ .‬فلم أجد ماء‪ ،‬فلحظ السماء بطرفه‬
‫وقال‪ :‬اللهم إني قد عجزُت عن الماء‪ ،‬وانقطع رجائي من غيرك‪ ،‬فاعطف على قّلة حيلتي‪ .‬فقمت‬
‫فسمعت وقع الماء في اإلناء‪ ،‬فمّس الشيخ الماء بيده فوجده بارًدا‪ ،‬فحّر ك شفتيه فسخن الماء‪ ،‬ثم جاء‬
‫إلى المغتسل‪ ،‬وكانت ليلة باردة مظلمة‪ ،‬فقال‪ :‬لو كان معنا مصباح كان أمكن في طهري‪ .‬فرأيت‬
‫مصباًح ا قد أنفذ له فاغتسل‪.‬‬
‫وبلغ ذا الّنون خبر شقران بالمغرب‪ ،‬فأتاه من مصر‪ ،‬فسأل عنه‪ ،‬فقيل له‪ :‬الّساعة قد دخل الخلوة‪،‬‬
‫وهو ال يخرج من بيته إاّل من الجمعة إلى الجمعة‪ ،‬وال يكلم أحًدا إاّل بعد أربعين يوًم ا ‪.‬‬
‫قال ذو النون‪ :‬فأقمت أربعين يوًم ا على بابه‪ ،‬فلما خرج قال‪ :‬ما الذي أقدمك على بالدنا؟ قلت‪:‬‬
‫طلبك‪ ،‬فوضع في يدي رقعة قدر الّدينار‪ ،‬مكتوًبا فيها‪« :‬يا دائم الّثبات‪ ،‬يا مخرج الّنبات‪ ،‬يا سامع‬
‫األصوات‪ ،‬يا مجيب الّدعوات»‪ .‬فما سألت هللا بها حاجة إاّل قضاها لي‪ .‬وكانت هذه الرحلة مغبوطة‬
‫بهذه الدعوات‪.‬‬
‫وأتى شقران بصغيٍر أعمى فدعا له‪ ،‬فأبصر‪.‬‬
‫وجاء له الناس مرة يسألونه أن يستسقي لهم‪ ،‬وخرج من بيته والسماء صاحية‪ ،‬ووقف بينهم‬
‫والسماء صاحية‪ ،‬وجعل يقول‪ :‬اسقني اسقني‪ ،‬الّساعة الّساعة‪ ،‬فأرعدت السماء وأبرقت‪ ،‬وجاء‬
‫مطر عظيم كأفواه القرب‪.‬‬
‫وكان شقران من أجمل الناس‪ ،‬فنظرت إليه امرأة فشغفت به‪ ،‬فذكرت شأنها لعجوز‪ ،‬فقالت‬
‫العجوز‪ :‬أنا أجمع بينكما‪ .‬فمّر شقران يوًم ا‪ ،‬فقالت له العجوز‪ :‬لي ولد غائب‪ ،‬وقد جاءني كتابه‪ ،‬وله‬
‫أخٌت تحُّب أن تسمع كتابه‪ ،‬فلو جئت وقرأته على الباب لشفيت الغليل‪ ،‬وأطفأت الّنار ‪ .‬فقال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ودنا من الباب‪ ،‬فقالت‪ :‬ادخل يسيًر ا‪ ،‬فدخل‪ ،‬فقالت‪ :‬يا سيدي‪ ،‬أخته تخشى أن يدخل أحٌد‪ ،‬فهل لك أن‬
‫تغلق الباب؟ فقال‪ :‬نعم‪ .‬فلما أغلق الباب برزت إليه امرأٌة جميلٌة قد تعَّطرت‪ ،‬فوّلى بوجهه عنها‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬كنُت مشتاقًة إليك‪ .‬فقال لها‪ :‬أين الماُء حتى أتوّضأ؟‬
‫فأتته بالماء‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إّنك خلقتني لما شئت‪ ،‬وقد خشيت الفتنة‪ ،‬وأنا أسألك أن تصرف شّر ها‬
‫عني وتغّير خلقتي‪ .‬فخرجت إليه‪ ،‬فوجدت خلقته اليوسفّية أّيوبّية‪ ،‬فدفعته في صدره وقالت‪ :‬اخرج‪.‬‬
‫فخرج وهو يقول‪:‬‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ .‬ثم عاد إليه حسنه‪.‬‬
‫وجاءه رجل ومعه صغيرة قد لحقها الجنون‪ ،‬فقرأ عليها شقران‪ ،‬ثم أخذها أبوها ومضى بها إلى‬
‫البيت‪ ،‬فصرعت‪ ،‬وتكّلم الجّنُّي على رأسها وقال‪ :‬أّم ا أنا‪ ،‬فو هللا ال سكنت هذه البلدة وال عدت إليها‬
‫خوفا من شقران أن يحرقني‪ ،‬فإن مّسها غيري فال حرج علَّي ‪ ،‬وعّر فوا شقران بذلك‪.‬‬

‫قبر صاحب الّدّر ابة‪:‬‬

‫وتخرج من التربة وتأتي إلى الجهة البحرية تجد على يمينك قبر صاحب «الّدّر ابة» رحمه هللا‬
‫تعالى‪ ،‬قيل‪ :‬إّن ذا الّنون المصرّي ‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬رأى في المنام كأّن قائاًل يقول له‪ :‬يا ذا الّنون‪،‬‬
‫إذا كان غًدا‪ ،‬اجلس على شفير الخندق يجيء إليك ولي من أولياء هللا تعالى‪ ،‬ميت محمول على‬
‫دّر ابة‪ ،‬فجّه زه وصِّل عليه‪ .‬قال‪ :‬فلما أصبحت جئت وجلست على الموضع الذي وصف لى‪ ،‬وإذا‬
‫برجلين‪ ،‬يحمالن رجاًل مّيًتا على دّر ابة‪ ،‬فقلت لهما حّطاه واذهبا ‪.‬‬
‫قال ذو النون‪ :‬فغّسلته‪ ،‬وكّفنته‪ ،‬وصّليت عليه‪ ،‬ودفنته‪ .‬وأوصى ذو النون إذا مات أن يدفن تحت‬
‫رجليه ‪ .‬ففعل ذلك به ‪ .‬قال ذو النون‪ :‬فرأيت تلك الليلة في منامي ذلك الّر جل الذي دفنته وعليه حّلة‬
‫من الّسندس‪ ،‬فقال‪ :‬يا ذا النون‪ ،‬جزاك هللا عني خيًر ا‪.‬‬
‫ومن تالميذه يوسف بن الحسين الرازي أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعالم التصوف‬
‫السني في القرن الثالث الهجري‪ ،‬وقد وصفه الذهبي بـ«اإلمام العارف شيخ الصوفية»‪ ،‬وقال عنه‬
‫أبو عبد الرحمن السلمي بأنه «شيُخ الّر ي والجبال في وقته‪ ،‬كان َأْو حَد في طريقته في إسقاط الجاه‬
‫وَتْر ك التصُّنع واستعمال اإلخالص»‪ ،‬أكثر الترحال‪ ،‬وأخذ عن ذي النون المصري‪ ،‬وقاسم‬
‫الجوعي‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وأحمد بن أبي الحواري‪ ،‬ودحيم‪ ،‬وأبي تراب عسكر النخشبي‪ ،‬ورافق‬
‫أبا سعيٍد الخَّر اَز – وهو أحد تالميذ ذي النون المصري أيًض ا ‪ -‬في بعض أسفاره‪.‬‬
‫ُيَقال‪َ :‬كَتَب ِإَلى الُج َنْيد‪ :‬ال َأَذاَقَك ُهللا طعم َنْفسك‪َ ،‬فِإْن ُذْقَتَه ا ال ُتْفِلح‪.‬‬
‫َو َقاَل ‪ِ :‬إَذا َر َأْيَت الُم ِر يَد يشتغُل ِبالُّر َخص َفاعلْم َأَّنُه ال َيِج ْي ء ِم ْنُه َشْي ء‪َ ..‬و ِقْيَل ‪َ :‬كاَن َيْس َم ُع اَألبَياَت‬
‫َو َيْبِك ي‪َ .‬م اَت َسَنَة َأْر َبٍع َو َثالِث مَئٍة من الهجرة‪.‬‬
‫َو َقْد َسِم َع َقَّو ااًل ُينشد‪:‬‬
‫َر َأْيُتَك َتْبِني َد اِئًم ا ِفي َقِط ْيَعِتي‬
‫َو َلْو ُكْنَت َذا َح ْز ٍم َلَه َّدْم َت َم ا َتْبِني‬
‫َكَأِّنْي ِبُكْم َو الَّلْيُت َأْفَض ُل َقْو ِلُكم‬
‫َأال َلْيَتَنا ُكَّنا ِإَذا الَّلْيُت ال ُتْغِني‬
‫َفَبَكى َكِثْيًر ا َو َقاَل ِلْلمنشد‪َ :‬يا َأِخ ي‪ ،‬ال َتُلم َأْه َل الَّر ّي َأْن ُيَسُّم وِني ِز ْنِدْيًقا‪َ ،‬أَنا ِم ْن بكَر ٍة َأقرُأ ِفي‬
‫الُم ْص َح ِف ‪َ ،‬م ا َخ َر َج ْت ِم ْن َعْيِني َدْم َعة‪َ ،‬و وَقَع ِم ِّني ِإْذ َغَّنْيَت َم ا َر َأْيَت ‪.‬‬
‫َقاَل الُّسَلِم ُّي ‪َ :‬كاَن ‪َ -‬مَع ِع ْلمه َو تَم اِم َح اله ‪َ -‬هَجَر ُه َأْه ُل الَّر ّي ‪َ ،‬و تكَّلُم وا ِفْيِه ِبالقَباِئح‪ُ ،‬خ ُصْو صا‬
‫الُّز َّهاد‪َ ،‬و َأْفَشْو ا ُأُم ورا‪َ ،‬ح َّتى َبَلَغِني َأَّن َشْيخا َر َأى ِفي الَّنْو ِم َكَأَّن بَر اءًة نزلْت ِم َن الَّسَم اء‪ِ ،‬فْيَه ا‬
‫َم ْك ُتْو ب‪َ :‬هِذِه بَر اءٌة لُيْو ُسَف بِن الُح َسْيِن ِم َّم ا ِقْيَل ِفْيِه ‪َ.‬فَسَكُتوا‪.‬‬
‫وُهَو َص اِح ُب ِح َكاَية الَفْأَر ة َمَع ِذي الُّنْو ِن َلَّم ا سَأله االْسم اَألْع َظم‪َ .‬و َعْنُه‪َ ،‬قاَل ‪ِ :‬باَألدب َتَتَفَّه م الِع ْلم‪،‬‬
‫َو َبالِع ْلِم يصُّح َلَك الَعَم ل‪َ ،‬و َبالَعَم ِل تَناُل الِح ْك َم ة‪َ ،‬و َبالِح ْك َم ة تفَهُم الُّز ْه د‪َ ،‬و َبالُّز ْه ِد تترُك الُّدْنَيا‪َ ،‬و ترغُب‬
‫ِفي اآلِخ َر ِة‪َ ،‬و ِبَذِلَك تَناُل ِر َض ى هللا َتَعاَلى‪.‬‬
‫َقاَل الُخ ْلِد ّي ‪ :‬كتَب الُج َنْيد ِإَلى ُيْو ُسَف بن الُح َسْيِن ‪ُ :‬أْو ِص ْيَك ِبَتْر ِك اَاللتَفاِت ِإَلى ُكِّل َح اٍل َم َض ْت ‪َ ،‬فِإَّن‬
‫اَاللتَفاَت ِإَلى َم ا َم َض ى شغٌل َعِن األوَلى‪َ ،‬و ُأوِص ْيَك ِبَتْر ِك مَالحَظِة الَح اِل الَكاِئَنة‪ ،‬اعمْل َعَلى تخليِص‬
‫َهِّم َك ِم ْن َهِّم َك ِلَه ِّم َك ‪َ ،‬و اعمْل َعَلى محِق َشاِهِدَك ِم ْن َشاهدك َح َّتى َيُكْو َن الَّشاهُد َعَلْيَك َشاهًدا َلَك‬
‫َو ِبَك َو منَك ‪ ...‬وليوسف رسالة إلى الُج نيد منها‪:‬‬
‫َكْيَف الَّسِبْيُل ِإَلى َم ْر َض اِة َم ْن َغِض َبا‬
‫ِم ْن َغْيِر ُجْر ٍم َو َلْم َأْع ِر ْف َلُه َسَبَبا‬
‫َقاَل َو الد تَم ام‪َ :‬سِم ْعُت ُيْو ُسَف بَن الُح َسْيِن َيُقْو ُل‪ :‬قيَل ِلي‪ُ :‬ذو الُّنْو ِن َيْعِر ُف االْس َم اَألْع َظم‪َ .‬فِسْر ُت‬
‫ِإَلْيِه ‪َ ،‬فَبُص َر ِبي َو َأَنا َطِو ْيُل الِّلْح َية‪َ ،‬و مِع ي ركَو ة َطِو ْيَلة‪َ ،‬فاْس َتْش َنَع َم ْنظِر ي‪َ .‬قاَل َو الد تَم ام‪ُ :‬يَقال‪َ :‬كاَن‬
‫ُيْو ُسُف َأْع َلَم َأْه ِل َز َم اِنِه ِبالَكَالم َو بعلم الُّص ْو ِفَّية‪.‬‬
‫َقاَل ‪َ :‬فَج اَء َم َتَكِّلٌم ‪َ ،‬فَناَظر َذا الُّنْو ِن ‪َ ،‬فَلْم َيقم َلُه ِبحَّج ة‪.‬‬
‫َقاَل ‪َ :‬فاْج َتَذْبُتُه ِإَلَّي ‪َ ،‬و َناظْر ُته‪َ ،‬فَقَطْعُتُه‪َ ،‬فَعَر ف ُذو الُّنْو ِن َم َكاِني‪َ ،‬و َعاَنَقِني‪َ ،‬و َج َلَس َبْيَن َيدَّي ‪َ ،‬و َقاَل ‪:‬‬
‫اعُذْر ِني‪َ .‬قاَل ‪َ :‬فَخ َدْم ُتُه سَنة ‪.‬‬
‫ومن تالميذ ذي النون المصري اْبُن الَج اَّل ِء َأُبو َعْبد ِهللا َأْح َم ُد بُن َيْح َيى‪ ،‬وقد جاء في كتاب «سير‬
‫أعالم النبالء» لشمس الدين الذهبي (المتوَّفى سنة ‪ 748‬هجرية) أنه‪ :‬الُقْد َو ُة‪ ،‬الَعارُف ‪َ ،‬شْيُخ الَّشام‪،‬‬
‫َأُبو َعْبِد ِهللا اْبُن الجاَّل ء‪َ ،‬أْح َم ُد ابُن َيْح َيى‪َ ،‬و ِقْيَل ‪ُ :‬مَحَّم د بن َيْح َيى‪ُ .‬يَقاُل‪َ :‬أصُله َبْغَداِد ّي ‪ ،‬صحَب َو الَد ه‪،‬‬
‫َو َأَبا ُتَر اٍب الَّنْخ َشِبّي ‪َ ،‬و َذا الُّنْو ِن الِم ْص ِر َّي َو َح َكى َعْنُه‪.‬‬
‫َو َكاَن ُيَقاُل‪ :‬الُج َنْيُد ِبَبْغَد اَد ‪َ ،‬و اْبُن الجاَّل ء ِبالَّشاِم ‪َ ،‬و َأُبو ُعْثَم اَن الِح ْيِر ُّي ِبَنْيَساُبْو َر – َيْعِني‪ :‬ال َنِظ ْيَر‬
‫َلُه م‪.‬‬
‫َقاَل الُّدِّقي‪َ :‬م ا َر َأْيُت َشْيًخ ا َأهَيَب ِم ِن اْبِن الجاَّل ء َمَع َأِّني لقيُت َثالَث مَئِة َشْيخ‪َ ،‬فَسِم ْعُتُه َيُقوُل‪َ :‬م ا‬
‫جال َأِبي َشْيًئا َقُّط‪َ ،‬و لِك َّنُه َكاَن َيِع ُظ‪ ،‬فيقُع َكالُم ه ِفي الُقُلوِب‪ ،‬فُسِّم َي َج اَّل َء الُقُلوب‪.‬‬
‫َقاَل ُمَحَّم ُد بُن َعِلِّي بِن الُج لندى‪ُ :‬سِئَل اْبُن الجاَّل ء َعِن المحَّبة‪َ ،‬فَسمْعُتُه َيُقـوُل‪َ :‬م ا ِلي َو ِلْلمحَّبة؟ َأَنا‬
‫ُأِر ْيُد َأْن َأتعَّلم الَّتوَبة‪.‬‬
‫َقاَل َأُبو ُعَمَر الِّد َم ْش ِقّي ‪َ :‬سِم ْعُت اْبَن الجاَّل ء َيُقوُل‪ُ :‬قْلُت َألبوَّي ‪ُ :‬أِح ُّب َأْن َتَه َباِني ِهلل‪َ .‬قاال‪َ :‬قْد َفَعْلَنا‪.‬‬
‫َفِغ ْبُت َعْنُه م ُم َّدة‪ُ ،‬ثَّم ِج ْئُت فدققُت الَباب‪َ ،‬فَقاَل َأِبي‪َ :‬م ْن َذا؟‬
‫ُقْلُت ‪َ :‬و لُدك‪َ .‬قاَل ‪َ :‬قْد َكاَن ِلي َو لٌد َو هبَناُه ِهلل‪.‬‬
‫َو َم ا فتَح ِلي‪.‬‬
‫َو َعِن اْبِن الجاَّل ء‪َ ،‬قاَل ‪ :‬آَلُة اْلَفِقير ِص َياَنُة َفْقره‪َ ،‬و ِح ْفُظ ِس ِّر ه‪َ ،‬و َأَد اُء َفْر ِض ه‪ُ .‬تُو ِّفَي ِفي َسَنِة ِس ٍّت‬
‫َو َثَالِث مَئٍة من الهجرة‪.‬‬

‫َأْص َح اُب الَم َطاِلِب َذا الُّنْو ِن ‪َ ،‬فَخ َر َج َمَعُه م ِإَلى ِقْفَط‪َ ،‬و ُهَو‬ ‫وَعْن َأُّيْو َب ُمَؤ ِّد ِب ِذي الُّنوِن ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬ج اَء‬
‫ِهللا اَألْع َظُم ‪َ ،‬فَأَخ َذُه ُذو الُّنوِن ‪َ ،‬و َسَّلَم ِإَلْيِه م َم ا َو َج ُدوا ‪.‬‬ ‫َشاٌّب ‪َ ،‬فَح َفُر وا َقبًر ا‪َ ،‬فَو َج ُدوا َلْو ًح ا ِفْيِه ‪ :‬اْس ُم‬
‫َقاَل ُيوُسُف بُن الُح َسْيِن الَّر اِز ُّي – وهو أحد أبرز وأخلص تالميذه الذين نقلوا عنه الكثير وكان‬
‫مالزًم ا له في مصر‪َ :‬حَض ْر ُت َذا الُّنْو ِن ‪َ ،‬فِقْيَل َلُه‪َ :‬يا َأَبا الَفْيِض ‪َ ،‬م ا َكاَن َسَبُب َتْو َبِتَك ؟‬
‫َقاَل ‪ :‬عجب ال تطيقه‪ ،‬قال‪ :‬بمعبودك إال أخبرتني‪ ،‬فقال ذو النون‪ :‬أردت الخروج من مصر إلى‬
‫بعض القرى؛ فِنْم ُت ِفي الطريق في بعض الَّص َح ارى‪َ ،‬فَفَتْح ُت َعْيِني‪َ ،‬فِإَذا أنا بُقْنَبَر ٍة َعْم َياَء َسَقَطْت‬
‫ِم ْن َو ْك رها‪َ ،‬فاْنَشَّقِت اَألْر ُض ‪َ ،‬فَخ َر َج ِم ْنَه ا ُسُكُّر َج َتاِن إحداهما َذَهٌب َو األخرى ِفَّض ٌة‪ِ ،‬في ِإْح َد يهَم ا‬
‫ِسْم ِس ٌم ‪َ ،‬و ِفي اُألْخ َر ى َم اٌء ‪َ ،‬فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا‪َ ،‬فُقْلُت ‪َ :‬ح ْس ِبي‪ .‬قد ُتْبُت ‪َ ،‬و َلِز ْم ُت‬
‫الَباَب ‪ِ ،‬إَلى َأْن َقِبَلِني هللا‪.‬‬
‫ذو النون المصري‬
‫الذي َز َهْت به مصر‬
‫ذو النون المصري الزاهد الناسك الوِر ع المتقِّش ف البسيط ‪ -‬الذي يمكن معرفة الكثير عن ُر وحه‬
‫عبر قراءة ما ترك من أقواٍل ومواقَف وقصٍص وصلت إلينا ‪ -‬هو لسان أهل الباطن‪ ،‬أي ينطق‬
‫بلسان الحقيقة‪ ،‬يطابق كالمه حاله‪ ،‬أي أَّن كالمه عين حاله‪.‬‬
‫وكان ذو النون – الذي له لساٌن في المعرفة والمحَّبة‪ ،‬وُم ولٌع في طلب العلم ‪ -‬يجد األنس في‬
‫خلوته‪.‬‬
‫وهو أَّو ل من وضع تعريفاٍت للوْج د والَّسماع‪ ،‬وكان أول َم ن تكلم في مصر في األحوال ومقامات‬
‫أهل الوالية‪ ،‬وهو أول َم ن فَّسر إشارات الصوفية وتكَّلم في هذا الطريق‪ ،‬وُيعتبر بحق واضع أُسس‬
‫التصُّو ف‪ ،‬فعنه أخذ الكثيرون‪ ،‬ويكفي أَّن ابن العربي قد خَّص ص له رسالًة وحده‪ ،‬كما خَّص ص له‬
‫جالل الدين الرومي نصوًص ا شعريًة في كتابه األشهر «المثنوي» – الجزء الثاني ‪ -‬وسأورد هذه‬
‫النصوص في مكانها حين الحديث عن محنة ذي النون واتهامه بالُكفر والزندقة‪ .‬وقد أَّثر في‬
‫متصوفة المشرق والمغرب حتى أَّن تأثيره وصل إلى بالد األندلس‪.‬‬
‫ولم يكن البن العربي أن يخِّص َص له كتاًبا‪ ،‬لو لم يكن يعرف مكانه ومكانته عندما كان في‬
‫إشبيلية‪ ،‬قبل أن ينتقل إلى المشرق‪ ،‬جائاًل متنِّقاًل بين مكة وحلب وقونية‪ ،‬ثم دمشق التي ختم فيها‬
‫حياته وُدفَن فيها‪.‬‬
‫وأكثر َم ن تأَّثروا تأثًر ا عميًقا – في األندلس – بذي النون المصري‪ ،‬هو ابن مسَّر ة (الُم توَّفى سنة‬
‫‪ 319‬ميالدية)‪ ،‬الذي اتهم بالزندقة‪ ،‬وأحرقت كتبه‪ .‬والذي اعتبره ابن العربي رجاًل «من أخير أهل‬
‫الطريقة» في العلم والحال والكشف‪.‬‬
‫وكان ذو النون المصري حاًّدا وحاًّر ا وحميًم ا وغيوًر ا على بلده ودينه‪ ،‬لم يعرف الُم هادنة وال‬
‫الُم واربة‪ ،‬وكان بابه دائًم ا مفتوًح ا‪ ،‬لم يغلقه في وجه ُم قيٍم أو عابٍر غريٍب‪ ،‬أو حائٍر يبحث في مسألٍة‬
‫تؤِّر قه‪ ،‬ويريد لها جواًبا كافًيا شافًيا مريًح ا للنفس والروح‪ ،‬على الرغم مَّم ا واجهه من صعاب‬
‫ومشكالت خصوًص ا من فقهاء عصره في مصر الذين أوغُر وا صدر السلطة الحاكمة ضده‪ ،‬ولم‬
‫يتركوه حتى سيق إلى الخليفة في بغداد مقَّيًدا في األغالل‪ ،‬وتلك قصة سنأتي على الحديث فيها‬
‫بتفصيٍل ‪ ،‬وذكر المرويات التي صاحبت محنة أحد أبرز رَّو اد الطريق الصوفي‪ ،‬الذي ظلم حًّيا‬
‫وميًتا‪ ،‬إذ حتى اللحظة لم نجد له كتاًبا مطبوًعا محَّقًقا‪ ،‬ولم نجد له جمًعا لما ترك من نثٍر وشعٍر‬
‫وإشاراٍت وتلويحاٍت ومواقف ومخاطبات وفتوحات‪ ،‬وما هو متاٌح أمامنا إال محاوالت خجلى ال‬
‫ُتشبع‪ ،‬وكان علَّي أن أذهب إلى المصادر القديمة من كتب الطبقات واألولياء‪ ،‬والتي يوجد فيها‬
‫كغيره‪ ،‬ألجمع ما تناثر‪ ،‬ويوافق ذوقي‪ ،‬ويتواءم أيًض ا مع ذائقة محِّبي التصوف‪ ،‬وأختار من بين ما‬
‫ترك ما هو ذهب المع‪ ،‬وأحجار حرة كريمة‪ ،‬يمكن لها أن تبقى وتؤِّثر في نفوس متلِّقيها‪.‬‬
‫كان ذو النون أبًّيا شامًخ ا معتًّدا بنفسه ال يطأطئ الرأس ألميٍر أو حاكٍم أو حتى خليفة‪ ،‬متواضًعا‬
‫في سلوكه وردوده‪ ،‬ومواقفه المتكِّر رة طوال حياته تثبت ذلك‪ُ ،‬يكِثُر من الدعاء لنفسه ولآلخر‪،‬‬
‫يوصي‪ ،‬ويلقي حَكمه‪ ،‬ويسدي النصيحة ‪.‬‬
‫وكان «تصوف ذي النون‪ ...‬خطوة في سبيل تكوين فلسفة وحدة الوجود التي فَّص لها ابن العربي‪،‬‬
‫والتي أشار إلى أنها تستمد من رأي لذي النون في العرش» كما يذكر الدكتور محمود علي مّكي‬
‫في مجلة «دعوة الحق» المغربية عام ‪1962‬ميالدي‪ ،‬في عددين متتابعين تحت عنوان‪:‬‬
‫«التصوف األندلسي مبادئه وأصوله»‪ ،‬مضيًفا أنه «ظلت قداسة ذي النون المصري تأسر ألباب‬
‫األندلسيين بعد ذلك بمدة طويلة‪ ،‬ولعل ذلك يرجع إلى اعتدال ذي النون‪ ،‬وعدم تطُّر فه في تصُّو فه‬
‫إذا قسناه بغيره من متصوفة العراق‪ ،‬أو إيران مثل أبي يزيد البسطامي‪ ،‬أو الحالج‪ ،‬وقد أَّلف ابن‬
‫شعبان المعروف بابن القرطي (‪ 355 - 270‬هجرية ‪ 966 - 883 /‬ميالدية) كتاًبا أسماه‬
‫«مواعظ ذي النون األخميمي» متناقاًل في األندلس‪ ،‬وابن شعبان فقيه أندلسي استقر بمصر وأصبح‬
‫رئيًسا للمذهب المالكي بها خالل القرن الرابع الهجري‪ ،‬كما عرفت باألندلس خالل هذا العصر‬
‫مؤلفات منسوبة إلى ذي النون نذكر منها رسالة «سؤال ذي النون المصري بعض الزهاد عن‬
‫صفة المؤمن»‪ ،‬وهي رسالة أذاعها في األندلس مسلمة بن القاسم القرطبي (المتوَّفى سنة ‪353‬‬
‫هجرية)‪ ،‬و«ظل التصوف األندلسي حتى انتهاء القرن الرابع الهجري أقرب إلى البساطة وأشبه‬
‫بالتصوف المصري البعيد عن التطُّر ف»‪.‬‬
‫وأقام سهل التستري (‪ 283 - 200‬هجرية‪ 896 - 815 ،‬ميالدية) سنين ال يسنُد ظهره إلى‬
‫المحراب وال يتكَّلم‪ ،‬فلما كان ذات يوٍم بكى‪ ،‬واستند وتكَّلم‪ ،‬وبالغ في إبراز المعاني العجيبة‬
‫واإلشارات الغريبة‪ ،‬فقيل له ماذا فيه‪ ،‬فقال‪ :‬كان ذو النون بمصر حًّيا فما تكلمت وال استندُت إجالاًل‬
‫له‪ ،‬واآلن قد مات‪ ،‬فقيل لي‪ :‬تكلم فقد أذنت‪.‬‬
‫كان ذو النون المصري ‪ -‬الذي َز َهْت به مصر وديارها ‪ -‬يستعمل البُخ ور‪ ،‬وقد زاره رجل يوًم ا‬
‫فرأى بين يديه طسًتا من ذهٍب وحوله الند والعنبر ُيْس َج ر‪ ،‬فصاح به ذو النون قائاًل ‪« :‬هل أنت مَّم ن‬
‫يدخُل على الملوك في حال بسطهم»؟‬
‫يذكر القشيري في رسالته أَّن ذا النون المصري هو أول َم ن عَّر ف التوحيد بالمعنى الصوفي‪،‬‬
‫وأنه أول َم ن وضع تعريفات للوجد والسماع والمقامات واألحوال‪.‬‬
‫ويقول عنه «صاحب الكواكب الدرية» إنه‪« :‬العارف الناطق بالحقائق‪ ،‬الفاتق للطرائق‪ ،‬ذو‬
‫العبارات الوثيقة‪ ،‬واإلشارات الدقيقة‪ ،‬والصفات الكاملة‪ ،‬والنفس العالمة العاملة‪ ،‬والهمم الجلية‪،‬‬
‫والطريقة المرضية‪ ،‬والمحاسن الجزيلة المتبعة‪ ،‬واألفعال واألقوال التي ال تخشى منها تبعة‪ ،‬زهت‬
‫به مصر وديارها‪ ،‬وأشرق بنوره ليلها ونهارها»‪.‬‬
‫وذو النون – الذي رآه أبو طالب المِّك ي (المتوَّفى ‪ 998‬ميالدية) من أهل الصحو ال الَّشطح ‪-‬‬
‫صاحُب قدٍم أولى في ازدهار الُّص وفية‪ ،‬وله أثٌر ال ُينسى في الَّص نعة‪ ،‬وكان صاحَب حكمٍة وفلسفٍة‬
‫مشتغاًل بالكيمياء‪ ،‬وهو من طبقة جابر بن حيان (‪101‬هجرية ‪721 /‬ميالدية ‪197-‬هجرية ‪815 /‬‬
‫ميالدية) وهو أَّو ل َم ن استخدم الكيمياء عملًّيا في التاريخ ولذي النون قدٌم أخرى في صناعة‬
‫الكيمياء‪ ،‬له كتٌب لكن أغلبها صار منسًّيا أو مجُه واًل أو تلف وضاع‪.‬‬
‫«ويعد ذو النون رأس الصوفية‪ ،‬وهم يضافون إليه وُينسبون‪ ،‬وأول َم ن فَّسر اإلشارات الصوفية‪،‬‬
‫وعَّبر عنها‪ ،‬ونطق عن هذا الطريق‪ ،‬ولم يكن الشيوخ من قبله يفعلون ذلك‪ ،‬وعنه أخذ َم ن أتى‬
‫بعده‪ ،‬وتكلم عن المعرفة بقوله‪ :‬إنها على ضروٍب ثالثة هي‪ :‬معرفة العامة‪ ،‬ومعرفة المتكلمين‬
‫والحكماء‪ ،‬ومعرفة الخاصة من األولياء والمقَّر بين الذين يعرفون هللا بقلوبهم‪ ،‬وهي أسمى وأيقن؛‬
‫ألنها ال تحصل عن التعُّلم والكسب واالستدالل‪ ،‬ولكنها إلهام يفيضه هللا على قلب عبده‪ ،‬وعنده أَّن‬
‫بين الرب والعبد ُح ًّبا متباداًل ‪ ،‬وَم ن ذاق الُح ب اإللهي عرف الذات اإللهية وتحقيق وحدانيتها‬
‫وأصبح من العارفين المقربين»‪ .‬وقال عنه ابن عساكر (‪ 571 -499‬هجرية)‪« :‬كان رئيس القوم‪،‬‬
‫المرجوع إليه والمقبول على جميع األلسنة‪ ،‬وأول َم ن عبر عن علوم المنازالت‪ ،‬وله السياحة‬
‫المشهورة والرياضات المذكورة»‪.‬‬
‫ومن مؤلفاته كتاب «حل الرموز وبرء األرقام في كشف أصول اللغات واألقالم»‪ ،‬وكتاب‬
‫«الركن الكبير» أو«الركن األكبر»‪ ،‬وكتاب «الثقة بالصنعة» وكتاب «المجربات» ويضم‬
‫وصفات في الطب والكيمياء والسحر والطالسم‪ ،‬وموجود في مكتبة باريس‪ ،‬ويتكون من إحدى‬
‫وتسعين ورقة‪ ،‬وكتاب «القصيدة في الصنعة الكريمة»‪ ،‬ويوجد منه نسختان إحداهما في مكتبة‬
‫باريس‪ ،‬واألخرى في مكتبة المتحف البريطاني‪ ،‬وهناك نسخة أخرى بعنوان «أرجوزة في علم‬
‫الصنعة»‪ .‬وضع لهذه القصيدة أيدمر الجلدكي (توفي ‪ 743‬هجرية‪ 1342/‬ميالدية) شرًح ا بعنوان‪:‬‬
‫«الدر المكنون في شرح قصيدة ذي النون» كما شرحها آخرون‪ .‬ولذي النون «رسالة في العناصر‬
‫الثالثة»‪ ،‬و«رسالة في تدبير الحجر المكرم أو الكريم»‪ ،‬وكتاب «صفة المؤمن والمؤمنة»‪،‬‬
‫ورسالة في ذكر مناقب الصالحين‪ ،‬وأشعار في حجر الحكماء‪ ،‬ويوجد في مكتبة باريس أيًض ا‪،‬‬
‫مناظرة بينه وبين تلميذه يعقوب‪ ،‬وموجودة في مكتبة برلين‪ ،‬والعجائب ويوجد في دار الكتب‬
‫المصرية‪ ،‬وهناك مخطوط موجود في مكتبة جامعة اليبزج في ألمانيا تحت عنوان‪« :‬جزء فيه‬
‫قصة العباس بن حمزة مع ذي النون المصري رحمة هللا عليه»‪ .‬وكما يظهر من خالل العنوان‪،‬‬
‫يرصد المخطوط زيارَة أبي الفضل العباس بن حمزة بن أشوش الّنيسابوري (توفي ‪ 288‬هجرية‬
‫‪ 901/‬ميالدية) لذي النون المصرّي ‪ ،‬وقد ُنشَر هذا المخطوط في كتاٍب سنة ‪ 2019‬ميالدية‬
‫بعنوان‪« :‬الحديث والتصوف»‪ ،‬دراسة وتحقيق بالل األرفه لي وفرانشسكو كيابوتي‪..‬‬
‫وقد عدُت إلى الرسالة القشيرية للقشيري الذي ابتدأ به رسالته فذكر أنه «أوحد وقته علًم ا‪،‬‬
‫وورًعا‪ ،‬وحااًل ‪ ،‬وأدًبا‪ .‬سعوا به إلى المتوِّك ل‪ ،‬فاستحضره من مصر‪ ،‬فلَّم ا دخل عليه وعظه فبكى‬
‫المتوِّك ل ورَّده إلى مصر مكَّر ًم ا‪ ،‬وكان المتوكل إذا ُذكر بين يديه أهل الورع يبكي‪ .‬وكان رجاًل‬
‫نحيًفا‪ ،‬تعلوُه ُح مرة‪ ،‬ليس بأبيض اللحية‪.‬‬
‫ويذكرأحد تالميذ ذي النون وهو يوسف بن الحسين الرازي المتوَّفى سنة ‪ 301‬هجرية ‪ -‬والذي‬
‫اتصل به‪ ،‬واستمع إليه‪ ،‬وأخذ عنه ‪ -‬أنه خرج ذات يوم من لدن أستاذه فوجد فقهاء أخميم تعَّص بوا‬
‫ونزلوا إلى زورٍق ذاهبين إلى ُسلطان مصر ليشهدوا بُكفره فانقلب الزورق والناس ينظرون‪.‬‬
‫وكان معاصروه من أصحاب المذهب المالكي‪ ،‬ومن المعتزلة وسواهما قد اتهموه بالزندقة‪ ،‬وقد‬
‫حاربه – خصوًص ا ‪ -‬عبد هللا بن الحكم شيخ المالكية (‪ 772‬ميالدية ‪ 156/‬هجرية ‪ 26 -‬من‬
‫نوفمبر ‪ 829‬ميالدية ‪ 21/‬من رمضان ‪ 214‬هجرية) فقيه مالكي مصري‪ .‬وصف بأنه «كان من‬
‫ذوي األموال والِّر باع‪ ،‬عظيم القدر‪ ،‬ويقال إنه دفع لإلمام الشافعي عند قدومه إلى مصر ألف‬
‫دينار»‪ ،‬وابن أبي الليث شيخ الحنفية (لَّم ا استخلف الواثق ورد كتابه على محمد بن أبي الليث‬
‫بامتحان الناس أجمع‪ ،‬فلم يبَق أحٌد من فقيٍه وال ُم حِّدث وال مؤِّذن وال معِّلم حتى ُأخذ بالمحنة «محنة‬
‫خْلق القرآن»‪ ،‬فهرب كثيٌر من الناس‪ ،‬وملئت الُّسجون ممن أنكر المحنة‪ ،‬وأمر ابن أبي الليث‬
‫باالكتتاب على المساجد «ال إله إال هللا رب القرآن المخلوق» فكتب بذلك على المساجد ُفسطاط‬
‫مصر‪ ،‬ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد‪ ،‬وأمرهم أاَّل يقربوه)‪،‬‬
‫وحاولوا اإليقاع بينه وبين الخليفة المتوكل واصفينه بأنه أحدث علًم ا لم تتكلم به الصحابة‪ ،‬فاستجلبه‬
‫المتوكل إليه في بغداد سنة ‪ 829‬ميالدية‪ ،‬ويقال إنه لَّم ا دخل عليه وعظه فبكى‪ ،‬وَو ِلَع ِبِه ‪َ ،‬و َأَح َّبُه‪،‬‬
‫َو َكاَن َيُقوُل‪ِ :‬إَذا ُذِك َر الَّص اِلُح ْو َن ‪َ ،‬فَح َّي َهال ِبِذي الُّنْو ِن ‪.‬‬
‫فرَّده إلى مصر مكرًم ا‪ ،‬وكان ذا تأثير قوي على أهل مصر‪ ،‬إلى الحد اَّلذي جعل ُحَّساده ينظرون‬
‫إليه على أَّنه زنديق‪.‬‬
‫وتذكر دائرة المعارف اإلسالمية أن ذا النون المصري «كان مصري المولد والنشأة‪ ،‬والعناصر‬
‫التي تتألف منها حياته وثقافته وواليته‪ ،‬واألحداث التي وقعت له‪ ،‬واألقوال التي ُأثرت عنه‪ ،‬كل‬
‫أولئك وغيره‪ ...‬سيظهر من غير شك أن الطابع اَّلذي غلب عليه كان مصرًّيا‪ ،‬وأَّنه قد استمد تلك‬
‫العناصر من صميم الحياة المصرية‪ ،‬وأنه وإن كان واحًدا من أئمة صوفية المسلمين‪ ،‬الذين ظهروا‬
‫في تاريخ التصوف اإلسالمي‪ ،‬فإنه كان أواًل وقبل كل شيٍء إماًم ا لمن ظهر من الصوفية المسلمين‬
‫في تاريخ التصوف المصري ‪.‬‬
‫وكان المتوكل قد أمر بإشخاصه سنة خمس وأربعين ومائتين فوصل إلى ُسر َم ن رأى‪ ،‬فأنزله‬
‫الخليفة في بعض الدور وأوصى به رجاًًل ُيعرف بزرافة‪ ،‬وقال‪ :‬إذا أنا رجعت من ركوبي فأخرج‬
‫إلَّي هذا الرجل‪ ،‬فقال له زرافة‪ :‬إَّن أمير المؤمنين قد أوصاني بك؛ فلَّم ا رجع من الغد قال له‪:‬‬
‫تستقبل أمير المؤمنين بالسالم‪ ،‬فلما أخرجه إليه قال‪ُ :‬سِّلم على أمير المؤمنين‪ ،‬فقال ذو النون ليس‬
‫هكذا جاءنا الخبر‪ ،‬إَّن الراكب يسِّلم على الَّر اِج ل‪ ،‬قال‪ :‬فتبَّسم الخليفة وبدأه بالسالم‪ ،‬ونزل إليه فقال‬
‫له‪ :‬أنت زاهد مصر‪ ،‬قال‪ :‬كذا يقولون‪ ،‬ثم وعظه‪ ،‬وأكرمه الخليفة‪.‬‬
‫يقول صاحب «الكواكب الدرية» عنه‪« :‬ولما تكلم بعلوم لدنية ال علم ألهل مصر بها‪ ،‬وشوا به‬
‫إلى خليفة بغداد‪ ،‬فُح مل إليه في جماعة‪ ،‬مغُلواًل مقيًدا‪ ،‬فُقدم للقتل‪ ،‬فكلم الخليفة‪ ،‬فأعجبه‪ ،‬فأطلقه‬
‫ورفقته‪ ،‬وقال‪ :‬إن كان هؤالء زنادقة فما على وجه األرض مسلٌم »‪.‬‬
‫وقال‪« :‬هو رجل بريء مَّم ا قيل عنه»‪.‬‬
‫َقاَل الُّسَلِم ُّي ِفي كتابه «تاريخ الصوفية‪ :‬وبذيله ِم َح ِن الُّص ْو ِفَّيِة »‪ُ :‬ذو الُّنْو ِن َأَّو ُل َم ْن َتَكَّلَم ِبَبْلَد تِه ِفي‬
‫َتْر ِتْيِب اَألْح َو اِل ‪َ ،‬و َم َقاَم اِت اَألْو ِلَياِء ‪َ ،‬فَأْنَكَر َعَلْيِه َعْبُد ِهللا بُن َعْبِد الَح َكِم ‪َ ،‬و َهَجَر ُه ُعَلَم اُء ِم ْص َر ‪َ ،‬و َشاَع‬
‫َأَّنُه َأْح َد َث ِع ْلًم ا َلمًم ا َيَتَكَّلْم ِفْيِه الَّسَلُف َو َهَجُر ْو ُه َح َّتى َر َم ْو ُه ِبالَّز ْنَد َقِة ‪.‬‬
‫َفَقاَل َأُخ ْو ُه‪ِ :‬إَّنُه م َيُقْو ُلْو َن ‪ِ :‬إَّنَك ِز ْنِدْيٌق ‪َ ،‬فَقاَل ‪:‬‬
‫َو َم ا ِلي ِس َو ى اِإل ْط َر اِق َو الَّصْم ِت ِح ْيَلٌة‬

‫َو َو ْض ِع َي َكِّفي َتْح َت َخِّدي َو َتْذَكاِر ي‬


‫َقاَل ذو الُّنوِن َو ُهَو َد اِخ ٌل ِإَلى اْلَح ْبِس ‪ :‬اْلَحَسُد َد اٌء ال َيْبَر ُأ َو َح ْسُب اْلَح ُسوِد ِم َن الَّشِّر َم ا َيْلَقى‪َ ،‬و َد َخ َل‬
‫اْلَح ْبَس ‪.‬‬
‫يقول ذو النون المصري ‪ -‬الذي عاصر رابعة العدوية (‪ 100‬هجرية ‪ 717 /‬ميالدية ‪180 -‬‬
‫هجرية ‪ 796 /‬ميالدية)‪ :‬لما ُح ملُت من مصر في الحديد إلى بغداد لقيتني امرأٌة زمَنٌة (ُم سَّنة‪ ،‬دائمة‬
‫المرض أو ضعيفة من الِك َبر)‪ ،‬فقالت‪ :‬إذا دخلت على المتوكل فال تَه ْبُه‪ ،‬وال تَر أنه فوقك‪ ،‬وال‬
‫تحتَّج لنفسك ُم حًّقا كنَت أو متهًم ا؛ ألنك إْن هبته سَّلطه هللا عليك‪ ،‬وإْن حاججت عن نفسك لم يزدك‬
‫ذلك إال وبااًل ؛ ألنك باَهَّت هللا فيما يعلمه‪ ،‬وإن كنت بريًئا فادُع هللا تعالى أن ينتصر لك‪ ،‬وال تنتصر‬
‫لنفسك َفيكَلَك إليها‪.‬‬
‫فقلُت لها‪ :‬سمًعا وطاعة‪.‬‬
‫فلما دخلُت على المتوكل سَّلمُت بالخالفة‪ .‬فقال لي‪ :‬ما تقوُل فيما قيل فيك من الُكفر والزندقة؟‬
‫فسكُّت ‪.‬‬
‫فقال وزيره‪ :‬هو حقيٌق عندي بما قيل فيه‪.‬‬
‫ثم قال لي‪ِ :‬لَم ال تتكلم؟‬
‫فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إْن قلُت ال كَّذبُت المسلمين‪ ،‬وإن قلُت نعم كذبُت على نفسي بشيٍء ال‬
‫يعلمه هللا تعالى مني؛ فافعل أنَت ما ترى فإِّني غير منتصٍر لنفسي‪.‬‬
‫فقال المتوكل‪ :‬هو رجل بريء مَّم ا قيل فيه‪.‬‬
‫فخرجُت إلى العُج وز‪ ،‬فقلُت لها‪ :‬جزاِك هللا عني خيًر ا‪ ،‬فعلُت ما أمرتني به‪ ،‬فمن أين لك هذا؟‬
‫فقالت‪ :‬من حيث خاطب به الُه دهد سليمان عليه السالم‪.‬‬
‫حَّدث أبي عن زرافة صاحب المتوكل قال‪ :‬لما انصرف ذو النون من عند أمير المؤمنين‪ ،‬دخل‬
‫علَّي ليوِّد َعني فقلُت له‪ :‬اكتب لي دعوة ففعل‪ ،‬فقربت إليه جام لوزينج (ِش به القطائف ُيْؤ َد م بُدهن‬
‫الَّلوز‪ ،‬وهي حلوى معجونة بالفستق واللوز) فقلُت له‪ُ :‬كْل من هذا فإنه يّر ّز ن (ينفع) الدماغ‪ ،‬وينفع‬
‫العقل‪ ،‬فقال‪ :‬العقل ينفعه غير هذا‪ ،‬قلُت ‪ :‬وما ينفعه؟ قال‪ :‬اتباع أمر هللا واالنتهاء عن نهيه‪ ،‬أما‬
‫علمَت أَّن النبي ﷺ قال‪ :‬إنما العاقل َم ن عقل عن هللا أمره ونهيه‪ ،‬فقلُت له‪ :‬أكرمني بأكله‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أريد ألذ من هذا‪ ،‬فقلُت له‪ :‬وأي شيٍء ألذ من هذا؟ فقال‪ :‬هذا لَم ن ال يعرف الحلواء وال يعرف أكله‪،‬‬
‫وإن أهَل معرفة هللا يتخذون خالف هذا اللوزينج‪ ،‬قلُت ‪ :‬ال أظن أحًدا في الدنيا يحسن أن يتخذ أجود‬
‫من هذا‪ ،‬وإن هذا من مطبخ أمير المؤمنين المتوكل على هللا‪ ،‬فقال‪ :‬أنا أصف لك لوزينج المتوكل‬
‫على هللا‪ ،‬فقلُت ‪ :‬هات هلل أبوك‪ ،‬فقال‪ُ :‬خ ذ لباب مكنون محض طعام المعرفة‪ ،‬واعجنه بماء‬
‫االجتهاد‪ ،‬وانصب أثفّيه االنكماد‪ ،‬وطابق صفو الوداد‪ ،‬ثم اخبز ُخ بز لوزينج الُعّباد‪ ،‬بحر نيران نَفس‬
‫الُّز َّهاد‪ ،‬وأوقده بحطب األسى حتى ترمي نيران وقودها بشرر الضنا‪ ،‬ثم احش ذلك بقند الرضى‪،‬‬
‫ولوز الشجا مرضوضان بمهراس الوفا‪ ،‬مطيبان بطيبة رقة عشق الهوى‪ ،‬ثم اطوه طي األكياس‬
‫لأليام بالعزا‪ ،‬وقِّط عه بسكاكين الَّسهر جوف الُّدجى‪ ،‬ورفض لذيد الكرى‪ ،‬ونّضده على جامات القلق‬
‫والشهق‪ ،‬وانثر عليه سكًر ا يعمل من زفرات الحرق‪ ،‬ثم كل بأنامل التفويض‪ ،‬في والئم المناجاة‪،‬‬
‫بوجدان خواطر القلوب‪ ،‬فعند ذلك تفريج كرب القلوب‪ ،‬ومحل سرور محب الملك المحبوب‪.‬‬
‫َأْخ َبَر َنا َأُبو َبْك ٍر ُمَحَّم ُد ْبُن َعْبِد ِهَّللا الَّر اِز ُّي ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬سِم ْعُت ِإْس َح اَق ْبَن ِإْبَر اِه يَم الَّسَر ْخ ِس ُّي ‪ِ ،‬بَم َّكَة‬
‫َيُقوُل‪َ :‬سِم ْعُت َذا الُّنوِن َيُقوُل َو ِفي َيِدِه اْلُغُّل َو ِفي ِر ْج َلْيِه اْلَقْيُد‪َ ،‬و ُهَو ُيَساُق ِإَلى اْلُم ْط َبِق َو الَّناُس َيْبُكوَن‬
‫َحْو َلُه‪َ ،‬و ُهَو َيُقوُل‪َ :‬هَذا ِم ْن َمَو اِه ِب ِهَّللا َتَعاَلى‪َ ،‬هَذا ِم ْن َعَطاَياُه‪َ ،‬و ُكُّل ِفَعاِلِه َعْذٌب َحَسٌن َطِّيٌب ‪ُ ،‬ثَّم َأْنَشَأ‬
‫َيُقوُل ‪:‬‬
‫َلَك ِم ْن َقْلِبي اْلَم َكاُن اْلَم ُص وُن‬
‫ُكَّل َيْو ٍم َعَلَّي ِفيَك َيُه وُن‬
‫َلَك َعْز ٌم ِبَأْن َأُكوَن َقِتياًل ِفيَك‬
‫َفالَّص ْبُر َعْنَك َم ا ال َيُكوُن‬
‫َو َعْن َعْم ِر و بِن الَّسْر ِح‪ُ ،‬قْلُت ِلِذي الُّنْو ِن ‪َ :‬كْيَف َخلصَت ِم َن الُم َتَو ِّك ِل ‪َ ،‬و َقْد َأَمَر ِبَقْتِلَك ؟‬
‫ْل‬
‫َقاَل ‪َ :‬لَّم ا َأْو َص َلِني الُغالُم ‪ُ ،‬ق ُت ِفي َنْفِس ي‪َ :‬يا َم ْن َلْيَس ِفي الِبَح اِر َقَطَر اٌت ‪َ ،‬و ال ِفي َد ْيَلِج الِّر َياِح‬
‫دْيَلَج اٌت ‪َ ،‬و ال ِفي اَألْر ض َخ ِبيَئاٌت ‪َ ،‬و ال ِفي الُقُلْو ِب َخ َطَر اٌت ‪ِ ،‬إاَّل َو ِه َي َعَلْيَك َدِلياَل ٌت ‪َ ،‬و َلَك َشاِهَد اٌت ‪،‬‬
‫َو ِبُر ُبوِبَّيِتَك ُم عَتِر َفاٌت ‪َ ،‬و ِفي ُقدَر ِتَك ُم َتَحِّيَر اٌت ‪َ ،‬فِبالُقْد َر ِة اَّلِتي ُتِج ْيُر ِبَه ا َم ْن ِفي اَألَر ِض ْيَن َو الَّسَم اَو اِت‬
‫ِإَّال َص َّلْيَت َعَلى ُمَحَّم ٍد َو َعَلى آِل ُمَحَّم ٍد‪َ ،‬و َأَخذَت َقْلَبه َعِّني‪.‬‬
‫َفَقاَم الُم َتَو ِّك ُل َيْخ ُطو َح َّتى اْع َتَنَقِني‪ُ ،‬ثَّم َقاَل ‪َ :‬أْتَعْبَناَك َيا َأَبا الَفْيِض ‪.‬‬
‫ويروي فريد الدين العطار النيسابوري (‪ 540 - 618‬هجرية) في كتابه «تذكرة األولياء»‪،‬‬
‫كيف استدعى «المتوكل» في عام ‪ 244‬هجرية ذا النون‪« :‬روي أنه لما ترَّقى أمره وعظم شأنه‪،‬‬
‫وحسده بعض الناس‪ ،‬وسعوا به إلى المتوكل‪ ،‬فاستحضره المتوكل إلى بغداد‪ ،‬فلما وصل إلى باب‬
‫الخليفة‪ ،‬قال‪ :‬تعلمت اإلسالم في الطريق من عجوز‪ ،‬والفتوة من سَّقاء‪ .‬قيل‪ :‬وكيف ذلك؟ قال‪ :‬لما‬
‫رأيت حشمة الخليفة‪ ،‬وكثرة الحجاب والغلمان على باب الخليفة كدُت أتغير‪ ،‬قالت عجوز‪ :‬انظروا‬
‫إلى هذا الشخص‪ ،‬فإنه يذهب إلى الحبس‪ ،‬والحال أنه والذي أمر بحبسه عبدان ومملوكان لسيٍد‬
‫واحد ‪ -‬جَّل جالله‪ ،‬وعَّز شأنه ‪ -‬فإن لم يؤلمه هللا ال يقدر أحد على أن يؤلمه‪ .‬وأيًض ا استقبلني سَّقاء‪،‬‬
‫وناولني شربة ماء‪ ،‬وأنا أشرت إلى صاحب لي بإعطاء شيء‪ ،‬فلم يقبل السَّقاء‪ ،‬وقال‪ :‬هو أسير‬
‫محبوس مقيد‪ ،‬وليس من الفتوة أخذ شيء منه‪ .‬ثم برز مرسوم الخليفة ليحبس‪ ،‬فبقي في الحبس‬
‫أربعين يوًم ا‪ ،‬وكانت أخت بشر الحافي ترسل إليه كل يوم رغيًفا تذهب به إلى باب الحبس وتعطي‬
‫البواب ليوصله إليه‪ ،‬فلما طلع من الحبس كان هنالك أربعون رغيًفا إذ ما أكل شيًئا‪ ،‬فقيل‪ :‬إن أخت‬
‫بشر لم ترسل إليك إال وجًه ا حالاًل ؟ قال‪ :‬نعم ولكن َو َص ل إلَّي على يٍد ليست نظيفة‪ ،‬يعني يد‬
‫السَّج ان»‪.‬‬
‫وإذا كنُت قد أوردُت رواية فريد الدين العَّطار عن ذي النون‪ ،‬فأنا هنا أورد رواية جالل الدين‬
‫الرومي التي أتت شعًر ا‪ ،‬في الجزء الثاني من كتابه «المثنوي» بترجمة إبراهيم الدسوقي شتا‪ ،‬وقد‬
‫اعتمدت الطبعة التي صدرت في قونية (تركيا)‪ ،‬تلك المدينة التي عاش فيها الرومي ومات‪ ،‬وبذا‬
‫أكون قد أوردت «شهادات» أكبر ثالثة أقطاٍب في التصوف عن ذي النون‪ ،‬وهم‪ :‬ابن العربي‪،‬‬
‫والعَّطار‪ ،‬والُّر ومي‪.‬‬
‫نصوص جالل الدين الرومي عن ذي النون المصري‬
‫‪ - 1385‬لقد صرُت ثانيًة مجنوًنا أيها الطبيُب ‪ ،‬وصرُت ثانيًة ُم تَّيًم ا أيها الحبيُب ‪.‬‬
‫‪ -‬وحلقاُت سلسلتَك يا ذا الفنون‪ ،‬كُّل حلقٍة منها‪ ،‬تمنُح نوًعا مختلًفا من الجنوِن ‪.‬‬
‫‪ -‬وكُّل حلقٍة‪ ،‬أعطت فنوًنا من نوٍع آخر‪ ،‬ومن ثم فإَّن لي في كِّل لحظٍة جنوًنا مختلًفا‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ثم‪« ،‬صار الجنوُن فنوًنا»‪ ،‬وهذا مثل‪ ،‬بخاَّص ٍة في سلسلِة هذا األمير األجِّل ‪.‬‬
‫‪ -‬ومثل ذلك الجُنون قد حطم القيَد ‪ ،‬بحيُث أخَذ كُّل المجانين يسُدوَن إلَّي النصَح ‪.‬‬
‫مجيء الرفاق إلى البيَم ارستان «دار المجانين» لعيادة ذي الُّنون المصري رحمة هللا عليه‪.‬‬
‫ولقد حدث مثل هذا لذي الُّنون المصري‪ ،‬فقد تولد لديه وْج ٌد وجنوٌن جديدان‪.‬‬
‫‪ -‬وصار الهياُج شديًدا حتى بلَغ ما فوق الَفلِك ‪ ،‬ومنه كان الِم لُح ينثُر على األكباِد «الجريحة»‪.‬‬
‫‪ -‬وحذاِر يا تراًبا ِم ْلًح ا أن تجعَل من ِم لحَك مساوًيا لِم لِح األطهاِر ‪.‬‬
‫‪ -‬ولم يُكن عند الخلق طاقٌة على «تحُّم ل» جنونه‪ ،‬فلقد كانت ناُر ه تختطُف لحاُهم‪.‬‬
‫‪ -‬وعندما شَّبِت الناُر في ِلَح ى الَعوام‪ ،‬قيُدوه‪ ،‬ووضُعوه في الِّس جن‪.‬‬
‫‪ - 1395‬وليس في اإلمكان جذب هذا اللجام‪ ،‬بالرغم من العوام يضيقون به‪.‬‬
‫‪ -‬لقد رأى هؤالء الملوُك من العاَّم ة الخوَف على الُّر وح‪ ،‬فهذه الجماعة عمياُء ‪ ،‬والُم لوُك ال‬
‫أمارات لهم‪.‬‬
‫‪ -‬وما دام الُح كُم في أيدي الَعوام‪ ،‬فال ُج رَم أَّن ذا النون يكوُن في السجن‪.‬‬
‫‪ -‬والملُك العظيُم يمضي «وحيًدا» كفارِس الميداِن ‪ ،‬ويكون بين أيدي األطفال مثل هذا الُّدر اليتيم‪.‬‬
‫‪ -‬وما الدُّر ؟ إنه بحٌر مخبوٌء في قطرٍة‪ ،‬وشمٌس مخبوءٌة في ذَّر ة‪.‬‬
‫‪ - 1400‬إنه شمٌس ‪ ،‬يبدي نفسه في ذَّر ٍة‪ ،‬وقلياًل قليـاًل يكشُف النقـاَب عن وجهه‪.‬‬
‫‪ -‬وكُّل الذَّر اِت ممحوٌة فيه‪ ،‬والعالم منه‪ ،‬صار في ُسْك ٍر ثم في صحٍو ‪.‬‬
‫‪ -‬وعندما يكون القلُم في يد غادٍر ‪ ،‬يكون المنصوُر (الحاَّل ج) بال شٍّك فوق المشنقة‪.‬‬
‫‪ -‬وما دام للسفهاء هذه األبهُة والعظمُة‪ ،‬صار الزًم ا لهم قتل األنبياء‪.‬‬
‫‪ -‬ومن سفههم‪ ،‬قال قوم مَّم ن ضُّلوا الطريق لألنبياء‪ِ« :‬إَّنا َتَطَّيْر َنا ِبُكْم »‪.‬‬
‫‪ - 1405‬وانُظْر إلى جهِل النصرانِّي‪ ،‬إنُه يطلُب األماَن من ذلك السيد الذي ُصِلَب ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا كان اليهوُد قد صلبوه على حِّد قوله‪ ،‬فكيف يستطيُع أن يمنَح ُه األماَن ؟‬
‫‪ -‬وإذا كان ذلك الملُك قد َدِم َي قلبه منهم‪ ،‬فكيف بعصمِة «َو َأْنَت ِفيِه ْم »؟‬
‫‪ -‬والذهُب الخالُص والصائُغ كالهما يتعَّر ضاِن للخطِر أكثر من المزيف والخائن‪.‬‬
‫‪ -‬وأمثال يوسف مختفون من حسِد الُقبحاِء ‪ ،‬والِح ساُن يعيشون في الناِر «خوًفا» من العدو‪.‬‬
‫‪ - 1410‬وأمثال يوسف في الُجِّب من خوِف اإلخواِن ‪ ،‬الذين يسلمون يوسف ُحَّسًدا إلى الذئِب‪.‬‬
‫‪ -‬فما ذا جرى ليوُسف المصرِّي من الحسِد؟ وهذا الحسُد ذئٌب ضخٌم ُم ترِّص ٌد‪.‬‬
‫‪ -‬فال جرَم أَّن يعقوَب الحليم‪ ،‬كان دائَم الخوِف على يوُسَف من هذا الذئِب‪.‬‬
‫‪ -‬وذئب الظاهر‪ ،‬لم يقترب في األصل من يوُسف‪ ،‬وهذا الحسُد في فعلِه ‪ ،‬جاوَز فعَل الذئاِب‪.‬‬
‫‪ -‬ولقد طعنُه هذا الذئُب ‪ ،‬ومن الُعذر اللبِق ‪ ،‬جاَء قائاًل ‪ِ« :‬إَّنا َذَهْبَنا َنْس َتِبُق »‪.‬‬
‫‪ - 1415‬ومئاُت اآلالِف من الذئاِب ليس لديها هذا المكر‪ ،‬وفي النهاية‪ ،‬سوف يفتضُح هذا الذئُب ‪،‬‬
‫فاصبْر ‪.‬‬
‫‪ -‬ذلك أَّن حْش َر الحاسديَن يوم العقاِب‪ ،‬ال شَّك سوف يكوُن على ُص ورِة الذئاِب‪.‬‬
‫‪ -‬وحْش ُر شديِد الحرِص الخسيِس آكِل الجيِف ‪ ،‬يكوُن على صورة الخنزيِر يوم الحساب‪.‬‬
‫‪ -‬والُز ناُة ُيحشروَن بعوراٍت نتنٍة‪ ،‬ولمعاقري الخمر يُكونون نتِني الفم‪.‬‬
‫‪ -‬والنتُن الخفُّي الذي كان يصُل إلى القلب‪ ،‬صار يوم الحشر محسوًسا ظاهًر ا‪.‬‬
‫‪ - 1420‬وإَّن وُج وَد اإلنساِن قد ُخ لَق على مثاِل غابٍة‪ ،‬فُكن على حذٍر من ذلك الوُج وِد‪ ،‬إن كنت‬
‫من ذلك الَّنَفس «اإللهي»‪.‬‬
‫‪ -‬وفي وجودنا آالٌف من الذئاِب والخنازيِر ‪ ،‬والَّص الح والطالح‪ ،‬والَّشريف وابن الزنا‪.‬‬
‫‪ -‬والُح كُم يُكون لتلك الخصلة التي تكون غالبة‪ ،‬ويكون حشُر ك واجًبا على ُص ورتها‪.‬‬
‫‪ -‬ففي لحظٍة يدخل ذئٌب إلى «طبيعة» البشِر ‪ ،‬ولحظة أخرى يدخُل َم ن هو في وجه يوسف‪،‬‬
‫كالقمر‪.‬‬
‫‪ - 1425‬وتمضي من الُّص دوِر إلى الُّص دوِر ‪ ،‬من طريٍق خفٍّي‪ ،‬أنواُع الَّص الح‪ ،‬وأنواُع الحقد‪.‬‬
‫‪ -‬بل إنه من اإلنسان نفسه‪ ،‬يمضي إلى البقر والُح ُم ر‪ ،‬المعرفُة والعلُم والفضُل‪.‬‬
‫‪ -‬والِح صاُن الذي يمضي َحُر وًنا‪ ،‬يصبُح حسَن الَّسيِر وديًعا‪ ،‬والدُّب يقوُم باأللعاب‪ ،‬والماعز يقوم‬
‫بالتحية‪.‬‬
‫‪ -‬انتقل الهوُس إلى الكلِب من البشِر ‪ ،‬حتى صار راعًيا أو حارًسا أو قَّناًص ا‪.‬‬
‫‪ -‬ومن أصحاب الكهف‪ ،‬انتقل الخيُر إلى كلبهم‪ ،‬حتى صار باحًثا عن هللا‪.‬‬
‫‪ - 1430‬وفي كِّل لحظٍة‪ ،‬يطل برأسه نوٌع ما في الصدر‪ ،‬حيًنا شيطان‪ ،‬وحيًنا مالك‪ ،‬وحيًنا‬
‫شبكة ووحش‪.‬‬
‫‪ -‬وكُّل أسٍد ذي وْع ٍي له إلى تلك الغابِة العجيبِة ‪ ،‬طريٌق خفٌّي ‪ ،‬حتى شباك الُّص ُدور‪.‬‬
‫‪ -‬فاختلس الُّر وح من داخِل الَم ْر جان‪ ،‬يا أقَّل من كلٍب‪ ،‬اسرقها من بواطِن العارفين‪.‬‬
‫‪ -‬وما دمت لًّص ا‪ ،‬فاسرْق هذا الُّدَّر اللطيف‪ ،‬وإن كنَت حاماًل «لحمل»‪ ،‬فليُكن حماًل شريًفا‪.‬‬
‫فْه ُم المريدين أَّن ذا النون‬
‫لم ُيَج ّن بل فعلها عامًدا‬
‫‪ -‬وسمَع المريدون ما حدث لذي النون‪ ،‬فمضْو ا إلى السجن‪ ،‬وتشاوُر وا فيما بينهم‪.‬‬
‫‪ -‬اتجه إليه رفاُقُه من كل صوٍب‪ ،‬نحو السجن لعيادته‪.‬‬
‫‪ - 1435‬فلعله متعِّم ٌد‪ ،‬أو أَّن في ذلك حكمًة‪ ،‬إنه في هذا الدين آيٌة وِقبلٌة‪.‬‬
‫‪ -‬وبعيٌد بعيٌد عن عقِلِه الشبيِه بالبحِر ‪ ،‬أن يكوَن الجنوُن آمًر ا له بالَّسفِه ‪.‬‬
‫‪ -‬وحاشا هلل من كماِل جاهِه ‪ ،‬أن يغِّط ي غماَم المرض قمُر ُه‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قبع في الِّس جن «هرًبا» من شِّر العامة‪ ،‬ولقد تظاهَر بالُج نوِن من عاِر الُعقالء‪.‬‬
‫‪ -‬فهو من عاِر العقِل البليِد عابُد الجسِد‪ ،‬قد ذهَب عمًدا‪ ،‬وصاَر مجُنوًنا‪.‬‬
‫‪ - 1440‬قائاًل ‪ُ :‬شُّدوا وثاِقي‪ ،‬واضرُبوني على رأِس ي وظهري بذيِل بقرٍة‪ ،‬وال تسأُلوا عن الَّسبب‪.‬‬
‫‪ -‬حتى أجَد من ضرباِت الذيِل الحياَة‪ ،‬مثلما وجَد ها القتيُل من «ذيِل » بقرِة موسى أُّيها الثقاُت ‪.‬‬
‫‪ -‬وحتى أشَفى بضرباِت ذيِل البقرِة‪ ،‬وأربو مثل قتيِل بقرِة موسى‪.‬‬
‫‪ -‬لقد انبعث القتيُل حًّيا من ضرباِت ذيِل البقرِة‪ ،‬ومن الكيمياِء ‪ ،‬صار ذهًبا خالًص ا‪ ،‬بعد أن كاَن‬
‫نحاًسا‪.‬‬
‫‪ -‬ولقد قفز القتيُل ونطَق باألْس َر اِر ‪ ،‬وأبدى تلك الزمرَة الَّسفاكَة للدماِء ‪.‬‬
‫‪ - 1445‬وقال بوضوٍح‪ :‬إَّن تلك الجماعَة قد قتلتني‪ ،‬عندما لُّج وا في ُخ ُص ومِتي‪.‬‬
‫‪ -‬وعندما يصيُر هذا الجسُم الثقيُل قتياًل ‪ُ ،‬يبعُث حًّيا الوجوُد العالُم باألسراِر ‪.‬‬
‫‪ -‬وترى روُح ه الناَر والجنَة‪ ،‬وتسترُّد علمها بكِّل األسرار‪.‬‬
‫‪ -‬وُتبِدي الَّسفاحيَن الشياطيَن ‪ ،‬وتكشُف عن ِش باِك الخديعِة والرياِء ‪.‬‬
‫‪ -‬وقتُل البقرِة إنما يُكوُن من شرِط الَّطريق‪ ،‬حتى تصيَر الُّر وح مفيقًة من ضرباِت ذيلها‪.‬‬
‫‪ - 1450‬فُقم سريًعا بقتِل بقرِة نفسَك ‪ ،‬حتى تصبَح الُّر وُح الخفيُة حَّيًة ذات ذكاٍء ‪.‬‬

‫عودٌة إلى قَّصِة ذي النون‬

‫‪ -‬عندما اقترب منه ذلك النفُر ‪ ،‬صاح بهم‪ :‬هه؟ َم ن أنتم‪ ...‬اتُقوا‪.‬‬
‫‪ -‬فقالوا بأدٍب‪ :‬إَّننا من األصدقاء‪ ،‬وجئنا إلى ُهنا مخلصيَن من أجِل الُّسؤاِل ‪.‬‬
‫‪ -‬فكيف أنَت يا بحَر العقِل ذا الفنون؟ وأُّي بهتاٍن هذا بأن يصيب عقلك الجنون؟‬
‫‪ -‬ومتى يصُل ُدَخاُن المستوقِد إلى الَّشمِس ؟ وكيف تصبُح العنقاُء مهُز ومًة من ُغراٍب؟‬
‫‪ - 1455‬ال تكتم عَّنا «السَّر »‪ ،‬وفِّسْر هذا الكالم‪ ،‬وال تتصَّر ْف معنا هكذا‪ ،‬فنحُن محُّبوَن ‪.‬‬
‫‪ -‬وال ينبغي إبعاُد الُم حِّبين‪ ،‬أو صرفهم بالِح يلِة والَّدريئِة ‪.‬‬
‫‪ -‬وُبْح لنا بالسِّر أُّيها المليُك ‪ ،‬وال ُتْخ ِف وجَه َك خلَف الغماِم أيها القمُر ‪.‬‬
‫‪ -‬نحُن ُم حُّبوَن صادقون‪« ،‬نشعُر » باأللِم في قلوِبنا‪ ،‬وفي كلتا الداريِن علقنا بَك الُقلوَب ‪.‬‬
‫‪ -‬فبدأ في السِّب والَّشتِم الُم ْقذِع‪ ،‬وتحَّدث بطريقِة المجانين حديًثا ال رابَط فيه‪.‬‬
‫‪ - 1460‬وقفَز وبدأ في رميِه م بالحجارِة والخشِب‪ ،‬فهربوا جميًعا خوًفا من اإلصابِة ‪.‬‬
‫‪ -‬فضحَك ُم قهقًه ا‪ ،‬وهَّز رأَسُه‪ ،‬وقال‪ :‬أنظر إلى نفاِج هؤالء األصدقاِء واِّدعائهم‪.‬‬
‫‪ -‬أنظر إلى األصدقاء‪ ،‬فأين أمارُة األصدقاء؟ إنما يحُّب األصدقاُء األلم كأنُه الُّر وُح ‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف يحُّس الَّص ديُق بأَّن إيالَم الَّص ديِق ثقيٌل ؟ إن األلم لٌّب ‪ ،‬والصداقُة له كالقشِر ‪.‬‬
‫‪ -‬وأليست عالمُة المحَّبِة هي السروُر في البالِء واآلفِة ومعاناِة الِم َح ن؟‬
‫‪ - 1465‬والصديق كالذهِب‪ ،‬والبالُء مثل الَّناِر ‪ ،‬والَّذهُب الخالُص ُم تهلُل الوْج ِه في قلِب الَّنار‪.‬‬
‫‪....‬‬
‫َكاَن َأْه ُل ناحية ذي النون المصري ُيَسُّمْو َنُه الِّز ْنِدْيَق ‪َ ،‬فَلَّم ا َم اَت ‪َ ،‬أظَّلْت الَّطْيُر الخضر ِج َناَز َته‪،‬‬
‫حتى وصل إلى مدفنه‪َ ،‬فاْح َتَر ُم وا َبْعُد َقْبَر ُه‪ .‬وقد َم اَت ِبالِج ْيَز ِة‪َ ،‬و ُعِّدي ِبِه ِإَلى ِم ْص َر ِفي َم ْر ِكٍب َخ ْو ًفا‬
‫ِم ْن َز ْح َم ِة الَّناِس َعَلى الِج ْس ِر ‪.‬‬
‫وفي تلك الليلة التي فارق الدنيا فيها‪ ،‬رأى سبعون رجاًل النبي محمد في النوم يقول‪« :‬إن حبيب‬
‫هللا ذا النون يزمع المجيء‪ ،‬وقد جئُت الستقباله»‪ ،‬وحين مات ظهر مكتوًبا على جبينه‪« :‬هذا حبيب‬
‫هللا‪ ،‬مات في حب هللا‪ ،‬قتيل هللا»‪ ،‬فلما حملوا جنازته تجَّم عت طيور السماء وظللتها‪ ،‬فتحَّير أهل‬
‫مصر جميًعا‪ ،‬وتابوا عَّم ا كانوا قد ارتكبوه معه من جفاء)‪.‬‬
‫ولما دفن غابت الطيور‪ ،‬وعندما رأى أهل مصر ذلك‪ ،‬ندموا على ما فرط منهم في حق ذلك‬
‫الولي‪ ،‬واستغفروا مَّم ا أنكروه عليه من واليته‪ ،‬وما ألحقوه به من األذى في حياته‪ ،‬وأجُّلوه بعد ذلك‬
‫واحترموا قبره ‪ .‬وذكر المناوي أن ذا النون قد ُدفن بالقرافة‪ ،‬وأن قبره بها ظاهر مقصود بالزيارة‬
‫وعليه أنس ومهابة‪ ،‬وأن هذا القبر بالقرب من قبر عقبة بن عامر الجهني الصحابي‪ ،‬وأنه يقال إَّن‬
‫ذا النون وعقبة وعمرو بن العاص في قبٍر واحٍد ‪.‬‬
‫َو َلَّم ا َمِر َض ُذو الُّنوِن َمَر َض ُه اَّلِذي َم اَت ِفيِه ِقيَل َلُه‪َ :‬م ا َتشتِه ي؟ َقاَل ‪َ :‬أْن َأْع ِر َفُه َقْبَل َم ْو ِتي ِبَلْح َظٍة‪،‬‬
‫َو َلَّم ا َم اَت ُو ِج َد َعَلى َقْبِر ِه (وفي رواية أخرى جبينه) َم ْك ُتوٌب ‪َ :‬م اَت ُذو الُّنوِن َحِبيُب ِهَّللا ِم َن الَّشَر ِق‬
‫َقِتيُل هَّللا ‪.‬‬
‫وقيل له عند النزع‪« :‬أوصنا»‪ ،‬فقال‪« :‬ال تشغلوني فإني متعِّج ٌب من سر لطفه»‪.‬‬
‫قال فتح بن شخرف‪« :‬دخلُت عليه عند موته‪ ،‬فقلُت له‪ :‬كيف تجدك؟ فقال‪:‬‬
‫َأموُت وما ماَتْت إليك َص باَبتي‬
‫وال قَّض يُت ِم ن ِص ْد ق ُح بك َأوطاري‬
‫ُم ناَي المنى كُّل المنى أنَت لي ُم ًنى‬
‫وَأْنَت الِغ نى كُّل الِغ نى ِع ْند أقتاري‬
‫وأنَت َم َد ى ُسْؤ لي وغايُة َر ْغ َبِتي‬
‫وَم وِض ُع آمالي وَم ْك ُنوُن إضماري‬
‫َتحَّم َل قلبي فيك ما ال َأُبُّثه‬
‫َو ِإْن طاَل ُسْقِم ي فيَك أو طال ِإْضراري‬
‫وَبْيَن ُض لوعي منَك َم ا َلَك َقْد بدا‬

‫وَلْم َيْبُد باديه ألهٍل وال جاِر‬


‫وبي ِم نَك في األحشاِء داء ُم خاِم ر‬
‫فقد َهَّد ِم ِّني الركَن واْنَبَّث إْسراري‬
‫أَلسَت دليَل الَّر ْك ب ِإْن هُم َتَح َّيروا‬
‫وُم ْنِقَذ َم ن َأْش في َعَلى ُجُر ٍف هار؟‬
‫َأَنِر َت الُه َد ى ِلْلُمْه َتِدين ولم َيُكْن‬

‫ِم َن الُّنور في أيديهُم ُعْش َر ِم ْعشاِر‬


‫َفَنْلني بعفٍو ِم ْنك أحيا ِبُقْر ِبه‬
‫َأِغ ْثِني ِبُيْس ٍر منك َيْط ُر ُد ِإْعساري‬
‫كان ذو النون المصري صوفًّيا من أصحاب الرياضات والمجاهدات‪ ،‬وولًّيا من أرباب األذواق‬
‫والمشاهدات؛ وقد كان له بحكم هذا كله حياة روحية تأتلف فيها العناصر العلمية والعملية التي‬
‫يتألف منها مذهبه الصوفي‪.‬‬
‫و قد اتصل باإلمام أحمد بن حنبل واجتمع به‪ ،‬كما اجتمع به غيره من مشايخ الصوفية الذين كان‬
‫منهم بشر الحافي (‪ 227 – 179‬هجرية)‪ ،‬والسري السقطي (‪ 253- 160‬هجرية)‪ ،‬وهو خال‬
‫الُج نْيد‪ ،‬ومعروف الكرخي (توفي في بغداد سنة ‪ 200‬هجرية ‪ 815 /‬ميالدية)‪.‬‬
‫«وكما كان العصر اَّلذي عاش فيه ذو النون حافاًل بأرباب العلم من الفقهاء والمحدثين الذين أخذ‬
‫عنهم‪ ،‬فقد كان كذلك عصًر ا مزدهًر ا من الناحية الروحية مشرًقا بكثير من الشخصيات الصوفية‬
‫التي طبعت روح العصر بطابعها‪ ،‬والتي كان من بين أصحابها أبو يزيد طيفور بن عيسى‬
‫البسطامي المتوفى سنة ‪ 261‬هجرية‪ .‬وأبو محمد سهل بن عبد هللا التستري المتوَّفى سنة ‪273‬‬
‫هجرية أو ‪ 283‬هجرية‪ ،‬وقد لقي ذا النون بمكة سنة خروجه إلى الحج‪ ،‬وأبو سعيد أحمد ابن‬
‫عيسى الخَّر از المتوفى سنة ‪ 277‬هجرية‪ ،‬وقد صحب ذا النون‪ ،‬وإسحاق ابن إبراهيم السرخسي‪.‬‬
‫وأبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي المتوفى سنة ‪ 304‬هجرية‪ ،‬وقد صحب ذا النون‬
‫المصري وأبا تراب النخشبي‪ ،‬ورافق أبا سعيد الخَّر از‪ :‬فكل أولئك وكثير غيرهم كانوا من كبار‬
‫الصوفية الذين عاصروا ذا النون‪ ،‬واتصلوا به ألواًنا مختلفة من االتصال ‪ ،‬وكان لهم في حياته‬
‫وفي مذهبه آثار لها قيمتها العلمية والعملية‪ ،‬كما كان له في أنفسهم منزلة كبرى ومكانة عظمى من‬
‫الناحية الروحية‪.‬‬
‫ويذكر الدكتور محمد مصطفى حلمي (‪ 1969 – 1904‬ميالدية) أنه إن «لم يكن زاهًدا أو‬
‫عابًدا من طراز الزهاد والعباد الذين حفلت بهم عهود الحياة الُّر وحية اإلسالمية األولى فحسب‪،‬‬
‫وإنما كان صاحب منهج وصاحب مذهب‪ ،‬وكان أخص خصائص منهجه التحليل والتعليل والتأويل‬
‫وكلها أشياء تبّينا بعض آياتها من خالل ترتيبه وتصنيفه لألحوال والمقامات‪ ،‬كما كان أبرز ما يتسم‬
‫به مذهبه من سمات‪ ،‬هذه الصبغة التيوزوفية التي اتخذ فيها من هللا موضوًعا أسمى لمعرفته‬
‫ومحبته وغاية قصوى لرغبته ومنيته»‪.‬‬
‫ويرى أحمد أمين (‪ 1‬من أكتوبر ‪ 30 - 1886‬من مايو ‪1954‬ميالدية) في كتابه «ُظهر‬
‫اإلسالم» أن «له تأثيًر ا كبيًر ا في نقل التصوف من حاٍل إلى حال‪ ،‬وينسب إليه إدخال الكالم في‬
‫المقامات واألحوال في الصوفية‪ ،‬وقد شغلت جزًء ا كبيًر ا منها؛ فللصوفية كالٌم طويٌل في األحوال‬
‫والمقامات التي وضع فكرتها ذو النون»‪.‬‬
‫البالُء ِم ْلُح العارف‬
‫أفرُح كثيًر ا كلما كتبُت حرًفا عن ذي النون المصري؛ ألسباٍب كثيرٍة من بينها أنه أوُل متصوٍف‬
‫إشراقٍّي أتعرُف حياته الشخصية الثرية والغريبة‪ ،‬المألى باألحداث والوقائع والِم َح ن‪ ،‬وطريقه‬
‫الُّص وفي‪ ،‬وعجائبه‪ ،‬وكراماته‪ ،‬ومدى تأثيره فيَم ن جاء بعده من أهل الوقت‪ ،‬وكنُت وقتذاك طالًبا‬
‫في سنته األولى يدرس الصحافة‪ ،‬قادًم ا من عند أبي الحسن الشاذلي‪ ،‬والطريقة الشاذلية‪ ،‬فـ«قَلَب »‬
‫حياتي مع رحلة التصُّو ف‪ ،‬وصرُت أعرُف شيوخ الوقت الذين أَّثُر وا فَّي ‪ ،‬وأْثروا ُر وحي وتجربتي‬
‫الشعرية‪ُ ،‬خ صوًص ا الحالج‪ ،‬وابن العربي‪ ،‬والُج نْيد‪ ،‬والشبلي‪ ،‬وشهاب الدين الُّسهروردي‪ ،‬و‬
‫البسطامي‪ ،‬وعمر بن الفارض‪ ،‬وسواهم مَّم ن ُقتل أو عِّذب أو عاش طريَد الفقهاء المتشِّددين –‬
‫فقهاء الَّسالطين‪ ،‬وُخ َّدام الحَّكام – وهم كْثٌر في زماننا وأزمنة سالطين الصوفية‪.‬‬
‫كما أشعُر أَّنني مديٌن َطواَل الوقِت لذي الُّنون‪ ،‬وأحزُن كثيًر ا أنه ال يلَقى االهتمام الكافي في‬
‫الدراسات األكاديمية العلمية داخل مصر وخارجها‪ ،‬وأحاوُل التنبيه إلى ذلك‪ ،‬على الرغم من أَّن‬
‫كباَر الُم تصوفة قد اهتموا به وأفرُدوا صفحاٍت أو ُكتًبا‪ ،‬وهذه المحاولة مِّني لرسم صورٍة لُه عْبري‪،‬‬
‫وعبر َم ن عايُشوه أو نقلوا عنه‪ ،‬وكي أكمَل الُّص ورة‪ ،‬فقد اخترُت له شعًر ا‪ ،‬وِح َكًم ا‪ ،‬وإشاراٍت‪،‬‬
‫وكراماٍت‪ ،‬وعجائَب ‪ ،‬وقصًص ا‪ ،‬ومرويات‪ ،‬ومحكيات عنه رواها تالميذه الُم قَّر ُبون الثقات‪.‬‬
‫كما أنه كان ثالَث ثالثٍة حاولوا معرفَة الهيروغليفية وفّك ُخ طوطها وُر موزها مع يوحنا النقيوسي‬
‫(توفي نحو ‪ 700‬ميالدية) في القرن الَّسابع الميالدي‪ ،‬وفي القرن الَّثالث الهجري ‪ /‬التاسع الميالدي‬
‫أبو بكر أحمد بن وحشية النبطي (وهو كيميائي‪ ،‬وعالم لغوي نبطي‪ ،‬وله كتاب «شوق المستهام في‬
‫معرفة رموز األقالم»‪ ،‬يتناول نحو تسٍع وثمانين لغة قديمة وكتاباتها وُم قارنتها بالعربية‪ ،‬ومن‬
‫ضمنها اللغة الُكردية والهيروغليفية‪ ،‬وقد كشف ابن وحشية أَّن الرموز الهيروغليفية رموٌز‬
‫صوتية‪ ،‬وحّلل العديد منها‪ ،‬قبل كشف شامبليون‪ ،‬بل إن ترجمًة إنجليزيًة لمخطوطة «شوق‬
‫المستهام‪ »...‬التي حَّققها المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر‪ -‬برجشتال (‪1856-1774‬‬
‫ميالدية ) نشرت في لندن عام ‪ 1806‬ميالدي‪ ،‬أي ستة عشر عاًم ا قبل كشف شامبليون ذلك‪،‬‬
‫وذهب البعض إلى القول إَّن شامبليون كان قد اَّطلع على هذه المخطوطة )‪.‬‬
‫كما أَّن ذا النون المصري قد قارن الخط الهيروغليفي بالكتابة القبطية التى كانت معاصرًة له‪،‬‬
‫والتي كان يستخدمها القساوسة األقباط في زمانه‪.‬‬
‫كان ُذو النون المصري يقوُل ويفعُل‪ ،‬وينظُر في األمور‪ ،‬وفي المقادير التي وثق بها فاستراح‪،‬‬
‫وفي الخالئق‪ ،‬ال يخشى تبعات شيٍء ‪ ،‬صاحب طريقة خاصة في الحكمة‪« ،‬امُتحن وُأوذي لكونه‬
‫أتاهم – أهل مصر‪ -‬بعلٍم لم يعهدوه» كما قال ابن يونس المصري (‪ 342‬هجرية ‪ 950 -‬ميالدية‬
‫‪ 1009/‬ميالدية) وهو من مشاهير الفلكيين العرب‪ ،‬وسبق جاليليو في اختراع بندول الساعة بعدة‬
‫قرون‪ ،‬وقد ُأطِلَق اسُم ه على إحدى مناطق السطح غير المرئي من القمر‪.‬‬

‫وكان ذو النون قادًر ا على خرق العادة‪ ،‬لم يحب من أحد أن يشغله أو يشوش وقته‪ ،‬لم يَّدِع‬
‫المعرفة أو يحترف الُّز هد كعادة أهل زماننا‪ ،‬مَّم ن امتطوا صهوَة خيل الدعوة‪ ،‬وهم ُدونها‪ ،‬وغير‬
‫مؤهلين لها‪.‬‬
‫فكان نوره ساطًعا بفضل األنس باهلل‪ ،‬ولم يأنس بالناس ألنه كان يدرُك أنه ُسٌّم قاطع‪ ،‬أليس هو‬
‫القائل‪« :‬ما أخلص عبٌد هلل إال أحَّب أن يكوَن في ُجٍّب ال ُيْعَر ُف »‪ ،‬فقد عاش يرِّدد‪« :‬البالُء ملُح‬
‫المؤمن‪ ،‬فإذا عدمه فسد حاله»‪ ،‬كان ذو النون المصري عارًفا خائًفا ال عارًفا واصًفا‪ ،‬يعاتب نفسه‬
‫إذا دعته إلى بلَّية‪.‬‬
‫إذا تكَّلم جال القلوب‬
‫كان ذو النون المصري من القليلين الذين يعلمون شأَن الَّسموات واألرض‪ ،‬كان إذا تكَّلم جال‬
‫القلوب‪ ،‬ينظُر بعين اليقين‪ ،‬خاض بحاًر ا وقطع ِقفاًر ا‪ ،‬وكابَد الشدائَد ‪ ،‬واحتمل األذى واالتهاَم من‬
‫بعض فقهاء زمانه‪ ،‬وكان يقوُل‪« :‬لوال نقٌص دخَل على أهل الحديث والفقه؛ لكانوا أفضَل الناس في‬
‫زمانهم‪ ،‬ولكن بذلوا علمهم ألهل الدنيا فحجُبوهم وتكَّبروا عليهم ‪ ...،‬فجعلوا العلم فًّخ ا للدنيا‪ ،‬فما‬
‫أقبح هذا‪ ،‬لقد جهلوا بعد علمهم‪ ،‬وافتقروا بعد غناهم‪ ،‬وذلوا بعد عّز هم‪ ،‬وصاروا عبيًدا ألهل الدنيا‪،‬‬
‫بعدما جعلهم هللا أحراًر ا‪ ،‬شربوا بكأس المفُتونين؛ فذهبت بعُقولهم‪ .‬إَّن العلم سالح الدين‪ ،‬فإذا طلبت‬
‫به الدنيا لم ينفعك»‪ ،‬كأَّن ذا النون يعيُش بيننا اآلَن ‪ ،‬ويتحَّدث عن فقهاء يعيشون معنا‪ ،‬إَّن توصيَفه‬
‫ذاك ينطبُق على كثيرين يتاجُر ون بعلمهم‪ ،‬وبما يعرفون من الِّدين‪ ،‬والدين منهم براء‪.‬‬
‫لقد خاطَر ُذو النون بنفسه‪ ،‬وخرَق ظلماٍت بُنوِر ُم شاهداته؛ فأشَر َق وتجَّلى‪ ،‬إذا كان يدرُك أَّن‬
‫الطريَق مستقيٌم ‪ ،‬والمحَّج ة واضحة‪.‬‬
‫كان جوابه على قدر ما رأى حينما يسألُه أحُدهم مسألًة‪ ،‬وكان ال يعمُل إال عن علٍم ‪ ،‬وباإلسناد‬
‫أيًض ا‪ ،‬يتمَّنى منازل األبرار‪.‬‬
‫ولما مرَض ُذو النون مرَض الموت‪ ،‬قيَل له‪ :‬ما تشتهي؟ قال‪ :‬أن أعرَفُه (هللا) قبل موتي بلحظٍة‪.‬‬
‫عاش ُذو النون حياته يحاوُل ُم جاوزَة دار الظالمين‪ ،‬ويستوحُش من ُم ؤانسة الجاهلين‪ ،‬ويركُب‬
‫سفينة الِفطنة‪ ،‬ويقلُع بريح اليقين‪ ،‬ويرُسو على ُشطوط اإلخالص‪ ،‬عابًر ا جسَر الهوى‪ ،‬فاتًح ا باَب‬
‫الَّص بر‪ .‬فقد رفَع حجاَب الغفلِة عن قلبه‪ ،‬وُأْلِه م النظَر في عجيِب الصنائِع وبديِع العجائِب‪ ،‬كان غاية‬
‫أمله الكشف عن مكُنون العلم‪ ،‬والُّشرب من ِح َياض المعرفة‪.‬‬
‫وكان ُذو النون المصري يسافُر إلى هللا بالُج وع والعطش‪ .‬داعًيا هللا أن يهَب إليه «يقيًنا ال توهنه‬
‫ُشبهة غفلٍة‪ ،‬وال تهينه خطرة شٍّك »‪« ،‬اللهم اجعلنا من الذين تفَّكروا فاعتبروا‪ ،‬ونظُر وا فأبصُر وا‪،‬‬
‫وسمعوا فتقلقلت قلوبهم بالمنازعة إلى طلب اآلخرة‪.»...‬‬
‫كان يسعى إلى أن يفتَح أبواَب مغالِق العمى بأنوار مفاتيح الضياء‪.‬‬
‫عرَف مسيَر الدنيا بُم وقناِت المعرفِة ‪ ،‬تزَّيَن بالعلم‪ ،‬وسكَن بيَت الوَر ع‪ ،‬فنال ُعلو الزاهد‪،‬‬
‫واستعذب مذَّلة النفوس‪ ،‬وظفر بدار الجالل‪ ،‬وتعَّلق بحجاب العَّز ة؛ فمنح منازل الُقرب والوالية‪.‬‬
‫وسرحت ُر وحه في العلى‪ ،‬وحَّط قلبه في الملُكوت‪ ،‬وجال بين سرائر حجب الجبروت‪ ،‬ومالت‬
‫روحه في ظِّل نسيم المشتاقين‪ ،‬حتى جعل قلبه معقوًدا بسالسل النور‪.‬‬
‫عاش ُذو النون المصري يغسُل «أوعية الجهل بصفو ماء الحياة في مسالِك النعيم»‪ ،‬ونبهته‬
‫المعرفُة إلى كريم اآلالء‪.‬‬
‫وهناك سبعُة قبوٍر اشتهرت عند المصريين بقضاء الحاجة منها قبر ذي النون المصري‪ ،‬وقبر‬
‫أبي الخير األقطع‪ ،‬وهو «من أعالم التصوف الُّسني في القرن الرابع الهجري (‪343 - 223‬‬
‫للهجرة)‪ ،‬وكان ينسج الخوص بيديه‪ ،‬ال يدري كيف ينسجه‪ .‬وحكاية قطع يده طويلٌة مشهورٌة‪.‬‬
‫وكانت الِّس باع والهوام تأوي إليه‪ ،‬وتأنس به‪ ،‬وسبب قطع يده أنه كان قد عاهد هللا أال يتناول بشهوة‬
‫نفسه شيًئا مشتهًيا‪ ،‬فرأى يوًم ا بجبل اللكام شجرة زعرور(‪ )1‬فاستحسنها فقطع منها غصًنا فتناول‬
‫منها شيًئا من الزعرور فذكر عهده وتركه ثم كان يقول‪« :‬قطعت غصًنا فُقطع مني عضو»‪،‬‬
‫وروى ابنه «عيسى» عنه أنه قال‪« :‬كنُت عبًدا أسود‪ ،‬فضاق صدري في الملك؛ فدعوت هللا‬
‫فأعتقت؛ فكنت أجيء إلى اإلسكندرية فأحتطب وأتقَّو ت بثمنه‪ ،‬وكنُت أدخل المسجد أقف على الخلق‬
‫وأعلم أنهم

‫ال يعلمونني شيًئا؛ ألنني عبد أسود‪ ،‬فكنت أقف عليهم فيسهل هللا على لسانهم ما كنت أريد أن أسأل‬
‫عنه فأحفظه وأستعمل ذلك‪ ،‬سمعت مرة حكاية يحيى ابن زكريا وما عملوا به‪ ،‬فقلُت في نفسي إَّن‬
‫هللا ابتالني بشيء في بدني‪ ،‬صبرُت ثم خرجُت إلى الثغر بطرطوس‪ ،‬وكنُت آكُل المباحات ومعي‬
‫حجفة وسيف‪ ،‬وكنُت أقاتُل العدو مع الناس فآواني الليل إلى غار هناك‪ ،‬فقلُت في نفسي إنني أزاحُم‬
‫الطير في أكل المباحات؛ فنويُت أال آكل‪ ،‬فمررُت بعد ذلك بشجرٍة فقطعُت منها شيًئا‪ ،‬فلما أردُت أن‬
‫آكله ذكرُت ‪ ،‬فرميُته‪ ،‬ثم دخلُت المغارة بالليل؛ فإذا هناك قطعوا الطريق ودخلوا إلى الغار قبلي‪ ،‬ولم‬
‫أعلم فلَّم ا دخلُت إلى هناك‪ ،‬فإذا نحن بصاحب الشرطة يطلبهم‪ ،‬فدخل الغار فأخذهم وأخذني معهم؛‬
‫فقدموا جميًعا‪ ،‬فقطعوا فلما قدمت قالت اللصوص لم يكن هذا األسود معنا وكان أهل الثغر‬
‫يعرفونني فغطى هللا عنهم‪ ،‬حتى قطعوا يدي فلما مُّدوا رجلي قلُت يا رب هذه يدي قطعت لعقد‬
‫عقدته فما بال رجلي فكأنه كشف عنهم وعرفوني وقالوا هذا أبو الخير واغتُّم وا فلما أرادوا أن‬
‫يغمسوا يدي في الزيت امتنعت وخرجُت ودخلُت الغار وبُّت ليلًة عظيمًة فأخذني النوُم فرأيت النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم في النوم فقلُت ‪ :‬يا رسول هللا فعلوا بي وفعلوا فأخذ يدي المقطوعة فقَّبلها‬
‫فأصبحُت وال أجُد ألَم الجرح وقد عوفيت»‪.‬‬
‫وهناك قبر أبي الربيع المالقي (نسبًة إلى مدينة ملقة األندلسية)‪ ،‬وقبر القاضي بَّكار (عَّينه الخليفة‬
‫العباسي المتوكل على هللا قاضًيا على مصر سنة ‪246‬هجرية‪ ،‬لما اشتهر عنه من العلم والُّز هد‬
‫والورع والفضل‪ .‬وقد توفي في زمن الخليفة العباسي المعتمد على هللا)‪.‬‬
‫وقبر القاضي كنانة‪ ،‬وقبر أبي بكر الُم زني‪ ،‬وقبر أبي الحسن الدينوري أحد علماء أهل الُّسنة‬
‫والجماعة‪ ،‬ومن أعالم التصُّو ف الُّسني في القرن الرابع الهجري‪ ،‬من كبار المشايخ‪ ،‬وكان في‬
‫المعاملة مخلًص ا‪ ،‬وعن النظر إلى سوى الحق معرًض ا‪ ،‬وأقام في مصر وتوفي فيها عام ‪330‬‬
‫هجرية‪ ،‬ومن عجائب ما ُر وي عنه عن ممشاذ الدينوري‪ ،‬أنه قال‪« :‬خرجُت ذات يوٍم إلى‬
‫الَّص حراء‪ ،‬فبينا أنا ماّر ؛ إذا أنا بنسٍر قد فتَح جناحيه‪ ،‬فتعجبُت منه فاّطلعُت ‪ ،‬فإذا بأبي الحسن‬
‫الدينوري الَّص ائغ قائٌم يصِّلي والنسر يظلله»‪.‬‬
‫ولذي النون كراماٌت كعادة المتصوفة وهي كثيرٌة ومنها أن جاءه «رجل يشكو إليه َد ْيًنا عليه نحو‬
‫سبعمائة دينار‪ ،‬قال ذو النون‪ :‬فأخذ حصاًة من األرض‪ ،‬فقال للرجل‪ُ :‬خ ْذها فإني أرُج و أن يكون‬
‫قضاء َد ْينك‪ ،‬قال يوسف ابن الحسين‪ :‬قال الرجل‪ :‬جئُت بها إلى صديٍق لي من أصحاب الجوهر‬
‫«الجواهر»؛ فدفعتها إليه‪ ،‬فقال‪ :‬ليس هذا وقُت بيعها‪ ،‬فإن صبرَت عليها‪ ،‬رجوُت أن تبيَعها‬
‫بالِّض عف‪ ،‬قال‪ :‬فغبُت عنه شهًر ا‪ ،‬ثم عدُت إليه ؛ فإذا هو باعها لي بألف وأربعمائة دينار»‪.‬‬
‫وكان ذو النون حكيًم ا في شعره القليل ونثره الذي وصل إلينا متفِّر ًقا في الكتب‪ ،‬ولعَّل زهَد ُه إلى‬
‫جانب ثقافته المتنوعة‪ ،‬ومطالعة الحقيقة‪ ،‬وتصوفه هو ما جعله صاحب حكمة عالية‪ ،‬أليس هو‬
‫القائل‪« :‬الزهاد ملوك اآلخرة‪ ،‬وهم فقراء العارفين»‪ ،‬و« الزهد يوِّر ث الحكمة»‪ ،‬و«ازهد في‬
‫الدنيا تَر العجب»‪ ،‬و«َم ن قنع استراح من أهل زمانه‪ ،‬واستطال على إخوانه»‪.‬‬
‫لم يُكن يدِّنس ظاهره بالُم عارضات وال باطنه بالُم خالفات‪ ،‬يحُّن قلبه إلى الشكوى‪ ،‬ويرتاُح للِّذكر‪،‬‬
‫وقد ُقِّلَد بالعلم‪ ،‬وُز ِّيَن بالحلم‪ ،‬وُخ ِلَع بالعقل‪.‬‬
‫فالخالص لديه في اإلخالص‪ ،‬فإذا أخلص تخَّلَص ‪ ،‬وال يتحقق اإلخالص إال «إذا سكنت معادن‬
‫األنوار في قلبك»‪.‬‬
‫والبالء عنده ملح المؤمن‪ ،‬وإذا عدم البالء فسد حاله‪.‬‬
‫كان ذو النون يسخو بنفسه‪ ،‬ويمارس النصح واإلرشاد أينما ذهب‪ ،‬يبدي الذي هو به‪ ،‬ال يتكلف‬
‫أو يتصنع؛ ألنه يؤمن أن «الصدق ال يتم إال باإلخالص فيه والمداومة عليه»‪ .‬قوًّيا في عزلة نفسه؛‬
‫كي يصل إلى المطلوب‪ ،‬فكان يصبر عند وقوع البالء‪ ،‬ويشكر عند حلول الرخاء‪ .‬يلتذ بالخلوة؛‬
‫ألن َم ن يستأنس بها يستمكن من بساط الفراغ‪ ،‬وكان يستحلي الوحدة‪ ،‬ويستوحش من الصحبة‪.‬‬
‫كان ذو النون يصف حال الناس والعلماء كأنها ما نحن فيه اآلن على الرغم من مرور نحو ألف‬
‫سنة على وفاته‪« :‬أيها الناس هذا أوان ينصح فيه األحياء‪ ،‬إذ األموات في غمرتهم يعمُه ون (َعَم َه‬
‫الَّساِئُر ‪َ :‬تَح َّيَر َو َتَر َّدَد ِفي الَّطِر يِق َو َلْم َيْد ِر َأْيَن َيْذَهُب )‪ ،‬حين غدا الِّدين غريًبا منبوًذا‪ ،‬وغدا أهله‬
‫ُغرباء ُم هيؤون قد أقبلوا على أكل الحرام‪ ،‬وتركوا طلب الحالل‪ ،‬ورفُض وا المعروف‪ ،‬وأقبلوا على‬
‫المنكر‪ ،‬وتركوا الجهاد فأظلمت األرض بعد نورها‪ ،‬ورضيت العلماء من العلم بعلمهم‪ ،‬فانتبهوا أيها‬
‫األموات أبناء األموات وإخوان األموات وجيران األموات‪ ،‬وعن قليٍل أنتم أموات قد أخليتم الدور‬
‫وعَّم رتم القبور‪ ،‬أال فقد برح الخفا لمن فهم كثر الجفا‪ ،‬وخلت العلماء وقَّلت الخطباء‪ ،‬وكثرت‬
‫الدواهي‪ ،‬وكثر األشرار‪ ،‬وقَّلت األخيار‪ ،‬وافتكهوا (من اإلفك) اآلثام‪ ،‬وقطعوا األرحام‪ ،‬ورضوا‬
‫بالسالم‪ ،‬وجلس بعضهم مجالس العلماء‪ ،‬يقولون ما ال يعلمون‪ ،‬عبيد الدنيا فهم لها متصِّنعون‪،‬‬
‫وعليها يتخَّشعون‪ ،‬غنيهم فقير‪ ،‬وجارهم ذليل‪ ،‬ال يبالي غنيهم ما طوى عليه جاره من جوٍع أو‬
‫عري‪ ،‬إن سألوا ألُّح وا‪ ،‬وإن ُسئلوا شُّح وا‪ ،‬لبسوا الثياب على قلوب الذئاب‪ ،‬اتخذوا مساجد هللا التي‬
‫يذكر فيها اسمه لرفع أصواتهم وجمع إخوانهم‪ ،‬وال تجالسوهم فليس هلل فيهم حاجة»‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫وأنا أكتُب عن ذي النون المصري‪ ،‬عدُت إلى كتاب «الكوكب الُّدِّر ي في مناقب ذي النون‬
‫المصري» الذي أَّلفه محيي الدين بن العربي‪ ،‬وقد قرأُت طبعتين من أربٍع صدرت حتى كتابتي‬
‫اآلن‪ ،‬أولها من تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح‪ ،‬وقد صدر عن مؤسسة االنتشار العربي سنة ‪2002‬‬
‫ميالدية في بيروت‪ ،‬والثانية للدكتور عبد الحميد صالح حمدان (شقيق د‪ .‬جمال حمدان) وصدرت‬
‫سنة ‪ 2006‬ميالدية عن دار الجزيرة للنشر والتوزيع في القاهرة‪ ،‬أما الثالثة فهي للدكتور عاصم‬
‫إبراهيم الكَّيالي‪ ،‬وصدرت عن دار الكتب العلمية سنة ‪ 2005‬ميالدية‪ ،‬والرابعة فهي لُعقبة زيدان‪،‬‬
‫وصدرت سنة ‪ 2019‬ميالدية عن دار آرام للدراسات والنشر والتوزيع‪ .‬ولم أَر الطبعتين‬
‫األخيرتين؛ ألنني لم أجد حاجًة للرُج وع إليهما‪ُ ،‬خ صوًص ا أَّن حاجتي كانت ُم لَّح ًة لمتن النِّص الذي‬
‫أَّلفه ابن العربي‪ ،‬وقد وجدُت نًّص ا فيه من الجمع والتعريف وحفظ سيرة وتراث ذي النون أكثر مَّم ا‬
‫فيه من رأي البن العربي في ذي النون‪ ،‬خصوًص ا أَّن األول قد استفاد كثيًر ا من ُم نجز ذي النون‪،‬‬
‫وربما تكون تلك االستفادة هي الدافع األساسي وراء تأليف هذه الرسالة (الكتاب)‪.‬‬
‫كما أن ابن العربي لم يَر في الجماعة الصوفية «أكثر سياحة واجتماًعا بأولياء هللا من ذي النون‬
‫المصري»‪ ،‬وقد ظل كتاب ابن العربي هذا مخُطوًطا مجهواًل ومنسًّيا‪ ،‬ولم يرد في مؤلفات ابن‬
‫العربي‪ ،‬حتى اكُتشف وُحِّقَق وُنشر على الناس‪.‬‬
‫وبذلك نكون أمام ثالثة من كبار القوم الصوفي كتبوا عن ذي النون‪ ،‬كل بطريقته‪ ،‬اثنان‬
‫بالفارسية وهما جالل الدين الرومي‪ ،‬وفريد الدين العطار‪ ،‬ثم واحد بالعربية وهو محيي الدين بن‬
‫العربي‪ ،‬ومع ذلك ما زال ذو النون المصري «مجهواًل »‪ ،‬وغير مدروس أكاديمًّيا في الجامعات‪،‬‬
‫ولم ينشر حتى كتابتي هذه سوى كتابين له وهما «صفة المؤمن والمؤمنة» والذي اعتنى بنشره‬
‫رمزي سعد الدين دمشقية‪ ،‬ثم «التفسير العرفاني للقرآن الكريم»‪ ،‬وصدر سنة ‪ 2007‬ميالدية‬
‫لمؤلفه الفنان التشكيلي والباحث في التراث صديقي الَّشاعر محمود الهندي‪ ،‬وكان ضمن مشروع‬
‫«األعمال الكاملة لذي النون»‪ ،‬لكَّن الموت لم يمهله ليكمل ما بدأ من مشروعات مهمة كان قد أعلن‬
‫عنها‪.‬‬
‫جنس نباتي يتبع الفصيلة الوردية‪ ،‬وهي شجرة شوكية ُم عِّم رة وزراعية‪ ،‬وفيها شعيرات بيضاء‪ ،‬تنمو في البلدان‬
‫العربية‪ ،‬وقد تصل دورة حياتها إلى مئات السنين‪ ،‬ولها قدرة على طرد األرواح الشريرة‪.‬‬

‫مختاراٌت من مرويات وأقوال‬


‫وإشارات وأشعار ذي النون المصري‬
‫عدُت إلى كتٍب ومراجع متنوعٍة وكثيرٍة؛ كي أختاَر منها ما يعينني على تقديم هذه المختارات‪،‬‬
‫خصوًص ا أنه ال يوجد بين أيدينا كتاٌب مطبوٌع لذي النون المصري‪ ،‬وقد وجدُت تضارًبا فيما هو‬
‫منسوٌب إلى ذي النون المصري‪ ،‬وأذكر أبرزها‪ ،‬وهي‪ :‬الرسالة القشيرية في علم التصوف‬
‫للقشيري‪ ،‬و الطبقات الكبرى لواقح األنوار في طبقات األخيار لعبد الوهاب الشعراني‪ ،‬والكواكب‬
‫الدرية في تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤوف المناوي‪ ،‬وحلية األولياء وطبقات األصفياء ألبي‬
‫نعيم األصفهاني‪ ،‬والتعُّر ف لمذهب أهل التصوف للكالباذي‪ ،‬واللمع في التصوف للسّر اج الطوسي‪،‬‬
‫و كشف المحجوب للهجويري‪ ،‬وكتب أخرى قد ذكرتها خالل كتابتي عن ذي النون المصري‪.‬‬

‫‪ -1‬القصُص والمرويات‪:‬‬

‫ثم تنهدت وخَّر ت ميتة إلى جانب ولدها‬


‫قال ذو النون المصري‪ :‬حججُت سنًة إلى بيت هللا الحرام فلما وقفُت بعرفة رأيت شاًّبا عليه آثار‬
‫االصفرار والنحول والقلق والذبول‪ ،‬فعلمت أن عنده من المحبة محصول‪ ،‬فسمعته يقول‪ :‬سيدي‬
‫كيف ألبيك بلسان عصاك أو قلب جفاك‪ ،‬سيدي ما أجمل هذه الساعة إذ أنت تناجيني‪ ،‬وفي هذا‬
‫الموقف تناديني‪ ،‬قال ذو النون‪ :‬فتقدمت إليه فلما رآني قال‪ :‬مرحًبا يا ذا النون‪ ،‬فقلت‬
‫له‪ :‬ومن أين تعرفني؟ قال‪ :‬عّر فني بك َم ن عَر فني وأخبرني بك َم ن آنسني‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا ذا النون حبه‬
‫تَّيمني وهجره أنحلني فمتى أظفر بقربه‪ ،‬ويجود لي الحبيب برفع حجبه؟ قلت‪ :‬من أين جئت؟ قال‪:‬‬
‫من بلد القلب‪ ،‬أقصد حضرة الرب‪ ،‬قلت‪ :‬فبَم تزودت؟ قال‪ :‬بقطرٍة من شراِب أْنِسِه ‪ ،‬أرجو أن أصل‬
‫بها إلى حضرة قدسه‪ ،‬قلُت ‪ :‬فهل كانت لك مطية؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬صفو النية واالنقطاع عن الدنيا بالكلية‪،‬‬
‫والتنُّز ه في مقامات حضرته السنية‪ ،‬ثم قال‪ :‬إليك عني يا ذا النون فما أقبح ساعة تمر في غير‬
‫طاعة‪ ،‬ثم تركني ومضى‪ ،‬فلما جئت ِم ًني رأيته ينظر إلى الناس وهم ينحرون ضحاياهم‪ ،‬فجرت‬
‫دموعه وتزايد ولوعه وعظم خوفه وخشوعه‪ ،‬ثم قال‪ :‬سيدي كل أحد تقرب إليك بنسكه وتقدم‬
‫بملكه‪ ،‬وأنا ما أملك غير هذه النفس العاتية الغافلة الساهية وإني أقربها إليك بالذلة والمسكنة بين‬
‫يديك‪ ،‬فإن تكرمت بقبولها فُج د بوصولها‪ ،‬وأسرع في تعجيلها‪ ،‬فأنت دليلها إلى سبيلها‪ ،‬ثم صاح‬
‫وتأَّو ه وسقط على األرض ميًتا‪ ،‬فسمعت قائاًل يقول‪ :‬يا لها من ركضٍة إلى الفردوس األعلى! قال ذو‬
‫النون‪ :‬فوقفُت عند رأسه ساعة أتفَّكر فيه‪ ،‬وإذا بعجوز قد أقبلت إليه وألقت نفسها عليه‪ ،‬ثم أجرت‬
‫الدموع أسًفا وأظهرت حزًنا وولًه ا‪ ،‬ثم قالت‪ :‬هنيًئا لك يا َم ن كان دأبه النسك والوفاء‪ ،‬وما غفل عن‬
‫خدمة سيده وال هفا‪ ،‬وطالما قام في الليل برداء الطاعة متلحًفا‪ ،‬يمسي كئيًبا ويصبح مدنًفا‪ ،‬قال ذو‬
‫النون‪ :‬فقلُت لها َم ن يكون لك هذا الشاب؟ قالت‪ :‬هو ولدي سائٌح في الفلوات‪ ،‬أجتمع أنا وهو كل‬
‫سنٍة في الموسم والميقات فال أعوُد أراُه إلى العام المقبل‪ ،‬فلَّم ا وقفُت في هذه الساعة بعرفات طلبُته‬
‫على سالف العادات‪ ،‬فهتف بي هاتٌف أنه قد مات‪ ،‬وقد ُر فعت روحه إلى أعلى الدرجات‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫يا سيدي بما بيني وبينك في خلوتي وبما أودعت من محبتك في مهجتي إال ما خلصت نفسي العاتية‬
‫من هذه الدار الفانية‪ ،‬وأوصلتني مع ولدي إلى الدار الباقية‪ ،‬قال ذو النون‪ :‬ثم تنهدت وخَّر ت ميتة‬
‫إلى جانب ولدها رحمه هللا تعالى‪.‬‬
‫رجل قد غاص في بحر الوله‬
‫خرجُت في طلب المناجاة‪ ،‬فإذا أنا بصوٍت فعدلُت إليه فإذا أنا برجل قد غاص في بحر الوله‬
‫وخرج على ساحل الكمه‪ ،‬وهو يقول في دعائه‪ :‬أنت تعلم أني ال أعلم أن االستغفار مع اإلصرار‬
‫لؤم وأن تركي االستغفار مع معرفتي بسعة رحمتك لعجز‪ ،‬إلهي أنت الذي خصصت خصائصك‬
‫بخالص اإلخالص‪ ،‬وأنت الذي سلمت قلوب العارفين من اعتراض الوسواس‪ ،‬وأنت آنست اآلنسين‬
‫من أوليائك وأعطيتهم كفاية رعاية المتوكلين عليك تكلؤهم في مضاجعهم وتطلع على سرائرهم‪،‬‬
‫وسري عندك مكشوف وأنا إليك ملهوف‪ .‬قال‪ :‬ثم سكنت صرخته فلم أسمع له صوًتا‪.‬‬

‫ما قاله ذو النون للخليفة العباسي‬


‫ثم قال‪« :‬يا أمير المؤمنين إن الجهل علق بنكتة أهل الفهم‪ ،‬إن هلل عباًدا عبدوه بخالص من السر‬
‫فشرفهم بخالص من شكره فهم الذين تمر صحفهم مع المالئكة فرًغا حتى إذا صارت إليه مألها من‬
‫سر ما أسروا إليه‪ ،‬أبدانهم دنيوية وقلوبهم سماوية قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع‬
‫المالئكة بين تلك الفرج وأطباق السماوات لم يخبتوا في ربيع الباطل ولم يرتعوا في مصيف اآلثام‪،‬‬
‫ونزهوا هللا أن يراهم يثبون على حبائل مكره هيبة منهم له وإجالاًل أن يراهم يبيعون أخالقهم بشيء‬
‫ال يدوم وبلذة من العيش مزهودة‪ ،‬فأولئك الذين أجلسهم على كراسي أطباق أهل المعرفة باألدواء‬
‫والنظر في منابت الدواء‪ ،‬فجعل تالمذتهم أهل الورع والبصر‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إن أتاكم عليل من فقدي‬
‫فداووه‪ ،‬أو مريض من تذكري فأدنوه‪ ،‬أو ناٍس لنعمتي فذكروه‪ ،‬أو مبارز لي بالمعاصي فنابذوه‪ ،‬أو‬
‫محب لي فواصلوه‪ ،‬يا أوليائي فلكم عاتبت ولكم خاطبت ومنكم الوفاء طلبت‪ ،‬ال أحب استخدام‬
‫الجبارين وال تولي المتكبرين وال مصافاة المترفين‪ ،‬يا أوليائي وأحبابي‪ ،‬جزائي لكم أفضل الجزاء‪،‬‬
‫وإعطائي لكم أفضل العطاء‪ ،‬وبذلي لكم أفضل البذل‪ ،‬وفضلي عليكم أوفر الفضل‪ ،‬ومعاملتي لكم‬
‫أوفى المعاملة‪ ،‬ومطالبتي لكم أشد مطالبة‪ ،‬وأنا مقدس القلوب وأنا عالم الغيوب وأنا عالم بمجال‬
‫الفكر ووسواس الصدور‪ ،‬من أرادكم قصمته ومن عاداكم أهلكته»‪« .‬بحبك وردت قلوبهم على‬
‫بحر محبته فاغترفت منه ريا من الشراب فشربت منه بمخاطر القلوب فسهل عليها كل عارض‬
‫عرض لها عند لقاء المحبوب‪ ،‬فواصلت األعضاء المبادرة وألفت الجوارح تلك الراحة‪ ،‬فهم رهائن‬
‫أشغال األعمال‪ ،‬قد اقتلعتهم الراحة بما كلفوا أخذه عن االنبساط بما ال يضرهم تركه‪.‬‬
‫قد سكنت لهم النفوس ورضوا بالفقر والبؤس واطمأنت جوارحهم على الدءوب على طاعة هللا‬
‫عز وجل بالحركات‪ ،‬وظعنت أنفسهم عن المطاعم والشهوات‪ ،‬فتوالهوا بالفكرة‪ ،‬واعتقدوا بالصبر‪،‬‬
‫وأخذوا بالرضا ولهوا عن الدنيا‪ ،‬وأقروا بالعبودية للملك الديان ورضوا به دون كل رقيب وحميم‬
‫فخشعوا لهيبته‪ ،‬وأقروا له بالتقصير وأذعنوا له بالطاعة‪ ،‬ولم يبالوا بالقلة إذا خلوا بأقل بكاء‪ ،‬وإذا‬
‫عوملوا فإخوان حياء‪ ،‬وإذا كلموا فحكماء‪ ،‬وإذا سئلوا فعلماء‪ ،‬وإذا جهل عليهم فحلماء‪ ،‬فلو قد‬
‫رأيتهم لقلت عذارى في الخدور‪ ،‬وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد‬
‫عالها النور‪ ،‬وإذا كشفت عن القلوب رأيت قلوًبا لينة منكسرة‪ ،‬وبالذكر نائرة وبمحادثة المحبوب‬
‫عامرة‪ ،‬ال يشغلون قلوبهم بغيره‪ ،‬وال يميلون إلى ما دونه‪ ،‬قد مألت محبة هللا صدورهم فليس‬
‫يجدون لكالم المخلوقين شهوة وال بغير األنيس ومحادثة هللا لذة‪ ،‬إخوان صدق وأصحاب حياء‬
‫ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين‪ ،‬قطعوا األودية بغير مفاوز‪ ،‬واستقلوا الوفاء بالصبر على‬
‫لزوم الحق‪ ،‬واستعانوا بالحق على الباطل فأوضح لهم الحجة‪ ،‬ودَّلهم على المحجة فرفضوا طريق‬
‫المهالك وسلكوا خير المسالك‪ ،‬أولئك هم األوتاد الذين بهم توهب المواهب‪ ،‬وبهم تفتح األبواب‪،‬‬
‫وبهم ينشأ السحاب‪ ،‬وبهم يدفع العذاب‪ ،‬وبهم يستقي العباد والبالد فرحمة هللا علينا وعليهم»‪.‬‬

‫لقيتني امرأة‬
‫بينا أنا في بعض مسيري إذ لقيتني امرأة فقالت لي‪ :‬من أين أنت؟ قلت‪ :‬رجل غريب‪ ،‬فقالت لي‪:‬‬
‫ويحك وهل يوجد مع هللا أحزان الغربة؟ وهو مؤنس الغرباء‪ ،‬ومعين الضعفاء؟ قال‪ :‬فبكيت فقالت‬
‫لي‪ :‬ما يبكيك؟ قلت‪ :‬وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع لي نجاحه‪ ،‬قالت‪ :‬فإن كنت صادًقا فلم‬
‫بكيت؟ قلت‪ :‬والصادق ال يبكي؟ قالت‪ :‬ال‪ ،‬قلت‪ :‬ولم؟ قالت‪ :‬ألن البكاء راحة للقلب‪ ،‬وملجأ يلجأ‬
‫إليه‪ ،‬وما كتم القلب شيًئا أحق من الشهيق والزفير‪ ،‬فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب‪ ،‬وهذا ضعف‬
‫األطباء بإبطال الداء‪ ،‬قال‪ :‬فبقيت متعجًبا من كالمها‪ ،‬فقالت لي‪ :‬ما لك؟ قلت‪ :‬تعجبت من هذا‬
‫الكالم‪ ،‬قالت‪ :‬وقد نسيت القرحة التي سألت عنها؟ قلت‪ :‬ال ما أنا بالمستغني عن طلب الزوائد‪،‬‬
‫قالت‪ :‬صدقت حب ربك سبحانه‪ ،‬واشتق إليه فإن له يوًم ا يتجلى فيه على كرسي كرامته ألوليائه‬
‫وأحبائه فيذيقهم من محبته كأًسا

‫ال يظمئون بعده أبًدا‪ ،‬قال‪ :‬ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق وهي تقول‪ :‬سيدي إلى كم تخلفني‬
‫في دار ال أجد فيها أحًدا يسعفني على البكاء أيام حياتي ‪ -‬ثم تركتني ومضت‪.‬‬

‫كم محب ذليل‬


‫كم من مطيع مستأنس‪ ،‬وكم عاص مستوحش‪ ،‬وكم محب ذليل‪ ،‬وكل راج طالب قال‪ :‬وسمعته‬
‫يقول‪ :‬اعلموا أن العاقل يعترف بذنبه‪ ،‬ويحس بذنب غيره‪ ،‬ويجود بما لديه ويزهد فيما عند غيره‬
‫ويكف عن أذاه ويحتمل األذى عن غيره والكريم يعطي قبل السؤال‪ ،‬فكيف يبخل بعد السؤال؟‬
‫ويعذر قبل االعتذار‪ ،‬فكيف يحقد بعد االعتذار؟ ويعف قبل االمتناع فكيف يطمع في االزدياد‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وسمعته يقول‪ :‬ثالثة من أعالم المحبة‪ :‬الرضا في المكروه‪ ،‬وحسن الظن في المجهول‪ ،‬والتحسين‬
‫في االختيار في المحذور‪ ،‬وثالثة من أعالم الصواب‪ :‬األنس به في جميع األحوال‪ ،‬والسكون إليه‬
‫في جميع األعمال‪ ،‬وحب الموت بغلبة الشوق في جميع األشغال‪ ،‬وثالثة من أعمال اليقين‪ :‬النظر‬
‫إلى هللا تعالى في كل شيء‪ ،‬والرجوع إليه في كل أمر‪ ،‬واالستعانة به في كل حال‪ ،‬وثالثة من‬
‫أعمال الثقة باهلل‪ :‬السخاء بالموجود‪ ،‬وترك الطلب للمفقود‪ ،‬واالستنابة إلى فضل الموجود‪ ،‬وثالثة‬
‫من أعمال الشكر‪ :‬المقاربة من اإلخوان في النعمة‪ ،‬واستغنام قضاء الحوائج قبل العطية‪ ،‬واستقالل‬
‫الشكر لمالحظة المنة‪ ،‬وثالثة من أعالم الرضا‪ :‬ترك االختيار قبل القضا‪ ،‬وفقدان المرارة بعد‬
‫القضا‪ ،‬وهيجان الحب في حشو البال‪ ،‬وثالثة من أعمال األنس باهلل‪ :‬استلذاذ الخلوة‪ ،‬واالستيحاش‬
‫من الصحبة‪ ،‬واستحالء الوحدة‪ ،‬وثالثة من أعالم حسن الظن باهلل‪ :‬قوة القلب‪ ،‬وفسحة الرجا في‬
‫الذلة‪ ،‬ونفي اإلياس بحسن اإلنابة‪ ،‬وثالثة من أعالم الشوق‪ :‬حب الموت مع الراحة‪ ،‬وبغض الحياة‬
‫مع الدعة‪ ،‬ودوام الحزن مع الكفاية»‪.‬‬

‫اطلب دواءك مَّم ن ابتالك‬


‫حدثنا عبد هللا بن محمد‪ ،‬ثنا أبو بكر الدينوري‪ ،‬ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي قال‪ :‬سمعت ذا‬
‫النون المصري يقول‪« :‬بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذ أنا بجارية تدعو وهي تقول في‬
‫دعائها‪ :‬يا َم ن هو عند ألسن الناطقين‪ ،‬يا َم ن هو عند قلوب الذاكرين‪ ،‬يا َم ن هو عند فكرة‬
‫الحامدين‪ ،‬يا َم ن هو على نفوس الجبارين والمتكبرين‪ ،‬قد علمت ما كان مني‪ ،‬يا أمل المؤملين‪،‬‬
‫قال‪ :‬ثم صرخت صرخة خرت مغشًّيا عليها‪ ،‬قال‪ :‬وسمعت ذا النون يقول‪ :‬دخلت إلى سواد نيل‬
‫مصر فجاءني الليل فقمت بين زروعها فإذا أنا بامرأة سوداء قد أقبلت إلى سنبلة ففركتها ثم امتنعت‬
‫عليها فتركتها وبكت وهي تقول‪ :‬يا َم ن بذره حًّبا يابًسا في أرضه ولم يك شيًئا‪ ،‬أنت الذي صيرته‬
‫حشيًشا‪ ،‬ثم أنبته عوًدا قائًم ا‪ ،‬بتكوينك وجعلت فيه حًّبا متراكًبا‪ ،‬ودورته فكونته وأنت على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬وقالت‪ :‬عجبت لَم ن هذه مشيئته كيف ال ُيطاع‪ ،‬وعجبت لَم ن هذا صنعه كيف ُيشتكى‪ ،‬فدنوت‬
‫منها فقلت‪َ :‬م ن يشكو أمل المؤملين‪ ،‬فقالت لي‪ :‬أنت يا ذا النون‪ ،‬إذا اعتلك فال ‍تجعل علتك إلى‬
‫مخلوق مثلك‪ ،‬واطلب دواءك مَّم ن ابتالك وع‍ليك السالم‪ ،‬ال حاجة لي في مناظرة البطالين‪ ،‬ثم‬
‫أنشأت تقول‪:‬‬
‫وكيف تنام العيُن وهي قريرٌة‬
‫ولم تدِر في أي المحليِن تنزُل‬

‫كان لي قلب فقدته‬


‫حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد‪ ،‬ثنا أحمد بن عيسى الوشاء قال‪ :‬سمعت أبا عثمان سعيد بن‬
‫الحكم يقول‪ :‬سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم يقول‪ :‬بينما أنا أسير ذات ليلة ظلماء في جبال‬
‫بيت المقدس إذ سمعت صوًتا حزيًنا وبكاًء جهيًر ا وهو يقول‪ :‬يا وحشتاه بعد أنسنا‪ ،‬يا غربتاه عن‬
‫وطننا‪ ،‬وا فقراه بعد غنانا‪ ،‬وا ذاله بعد عزنا‪ ،‬فتتبعت الصوت حتى قربت منه فلم أزل أبكي لبكائه‬
‫حتى أصبحنا نظرت إليه فإذا رجل ناحل كالشن المحترق فقلت‪ :‬يرحمك هللا تقول مثل الكالم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫دعني فقد كان لي قلب فقدته‪ ،‬ثم أنشأ يقول‪:‬‬
‫قد كان لي قلب أعيش به‬
‫بين الهوى فرماه الحب فاحترقا‬
‫فقلت له‪:‬‬
‫ِلَم تشتكي ألم البال‬
‫وأنت تنتحل المحبة؟‬
‫إن المحب هو الصبو‬
‫ر على البالء لَم ن أحبه‬
‫حب اإلله هو السرو‬
‫ر مع الشفاء لكل كربة‬

‫العلم نور لصاحبه‬


‫حدثنا أحمد قال‪ :‬سمعت أبا محمد يقول‪ :‬سمعت إسرافيل يقول‪ :‬سمعت ذا النون يقول‪ :‬كتب رجل‬
‫إلى عالم‪ :‬ما الذي أكسبك علًم ا من ربك‪ ،‬وما أفادك في نفسك؟ فكتب إليه العالم‪ :‬أثبت العلم الحجة‪،‬‬
‫وقطع عمود الشك والشبهة‪ ،‬وشغلت أيام عمري بطلبه‪ ،‬ولم أدرك منه ما فاتني‪ ،‬فكتب إليه الرجل‪:‬‬
‫العلم نور لصاحبه‪ ،‬ودليل على حظه‪ ،‬ووسيلة إلى درجات السعداء‪ ،‬فكتب إليه العالم‪ :‬أبليت إليه في‬
‫طلبه جدة الشباب وأدركني حين علمت الضعف عن العمل به‪ ،‬ولو اقتصرت منه على القليل كان‬
‫لي فيه مرشد إلى السبيل‪.‬‬

‫لسُت من أهل الُّتهم‬


‫حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان‪ ،‬ثنا محمد بن أحمد الواعظ‪ ،‬ثنا العباس ابن يوسف الشكلي‪ ،‬ثنا‬
‫سعيد بن عثمان‪ ،‬قال‪ :‬كنت مع ذي النون في تيه بني إسرائيل فبينا نحن نسير إذا بشخص قد أقبل‬
‫فقلت‪ :‬أستاذ شخص‪ ،‬فقال لي‪ :‬انظر فإنه ال يضع قدمه في هذا المكان إال صديق‪ :‬فنظرت فإذا‬
‫امرأة‪ ،‬فقلت إنها امرأة‪ ،‬فقال‪ :‬صديقة ورب الكعبة‪ ،‬فابتدر إليها وسلم عليها فردت السالم‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫ما للرجل ومخاطبة النساء؟ فقال لها‪ :‬إني أخوك ذو النون ولست من أهل التهم فقالت‪ :‬مرحًبا حَّياك‬
‫هللا بالسالم‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما حملك على الدخول إلى هذا الموضع؟ فقالت‪ :‬آية في كتاب هللا تعالى‪ ﴿ :‬ﮑ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ﴾ [النساء‪ ]97 :‬فكلما دخلت‬
‫إلى موضع يعصى فيه لم يهنني القرار فيه بقلب‬
‫قد أبهلته شدة محبته‪ ،‬وهام بالشوق إلى رؤيته‬
‫فقال لها‪ :‬صفي لي‪ ،‬فقالت‪ :‬يا سبحان هللا! أنت‬
‫عارف تكلم بلسان المعرفة تسألني؟ فقال‪ :‬يحق‬
‫للسائل الجواب‪ ،‬فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬المحبة عندي لها‬
‫أول وآخر‪ ،‬فأولها لهج القلب بذكر المحبوب‪،‬‬
‫والحزن الدائم‪ ،‬والتشوق الالزم‪ ،‬فإذا صاروا إلى‬
‫أعالها شغلهم وجدان الخلوات عن كثير من‬
‫أعمال الطاعات‪ ،‬ثم أخذت في الزفير والشهيق‬
‫وأنشأت تقول‪:‬‬
‫َعَر ْفُت الَه وى ُم ذ َعَر ْفُت هواَك‬
‫وأْغ َلْقُت َقْلبي َعلٰى َم ْن َعاداْك‬
‫وُقْم ُت ُأناِج يَك يا َم ن ترٰى‬
‫َخفايا الُقُلوِب وَلْسنا نراَك‬
‫أِح ُّبَك ُح ََّبْيِن ُحَّب الَه وٰى‬
‫وُح ًّبا ألَّنَك أْهٌل لَذاك‬
‫فأَّم ا الذي ُهَو ُحُّب الَه وٰى‬
‫َفُشْغِلي بِذ ْك ِر َك َعَّم ْن سواَك‬
‫وأَّم ا الذي أْنَت أهٌل َلُه‬
‫َفَلْس ُت أرٰى الَكْو ن َح تٰى أراَك‬
‫فال الَح ْم ُد في ذا وال ذاَك لي‬
‫ولكْن لَك الَح ْم ُد ِفي ذا وذاَك‬
‫ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا‪.‬‬

‫وكان كل حوت في فمه صَّر ة‬


‫قيل إَّنه خرج للحج في سفينة وكان بها غالم معه بضيعة في قفص‪ ،‬ونام ذو النون في جانب من‬
‫السفينة‪ ،‬حتى أيقظه ركابها فأخبروه بأَّن الغالم فقد صَّر ة بها نقود له ويتهمه بسرقتها إذ إَّنهم فَّتشوا‬
‫ركاَب السفينة جميًعا فلم يجدوها ولم يبَق غيره‪ ،‬وسأل ذو النون الغالم‪ :‬أحٌّق ما يقولون؟ فأجاب‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فلم يقل ذو النون شيًئا‪ ،‬وإنما انحنى على جانب السفينة فتوَّضأ من النهر وصلى ركعتين‪،‬‬
‫وأشار إلى البحر‪ ،‬فإذا هو ممتلئ بحيتان تتجه كلها نحو السفينة فاغرة أفواهها حتى خاف الركاب‬
‫على أنفسهم وتمنوا لو أنهم لم يقولوا له شيًئا‪ ،‬وكان كل حوت في فمه صَّر ة؛ فأخذ ذو النون واحدة‬
‫منها أعطاها الغالم‪ ،‬وقال‪ :‬خذ هذه بداًل من صَّر تك التي فقدت‪.‬‬

‫ولم َيَر ه ذو النون بعد‬


‫كان ذو النون في طريق الحج بأرض الحجاز فانقطع عن الركب وضَّل الطريق‪ ،‬فلما أجهده‬
‫السير أوى إلى شجرٍة في سفح الجبل ليستريح في ظاللها‪ ،‬وحين غابت الشمس وأظَّله الليل رأى‬
‫شاًّبا يخرج من كهف في الجبل فعمد إلى كومة رمل فركلها بقدمه فانبجست منها عين تبض بالماء‬
‫فشرب منها وتوَّضأ ثم قام يصلي‪ ،‬وقام ذو النون من خلفه وهو ال يشعر به

‫فما زال يتابع صالته حتى انشَّق عمود الفجر‪ ،‬فنهد الشاب وقال‪ :‬ذهب الليل بما فيه وأتى النهار‬
‫بدواهيه‪ ،‬خسر من أتعب جسمه في غير مرضاة ربه‪.‬‬
‫ولما أخبره ذو النون بنبئه‪ ،‬قال‪ :‬ويحك وهل يقطع هللا مدده عن عباده؟ ثم قال‪ :‬اتبعني‪ ،‬فتبعه ذو‬
‫النون فكانت األرض تطوى طًّيا تحت أقدامهما حتى تراءت لهما القافلة‪ ،‬وَد َنوا منها‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫هؤالء قومك فالحْق بهم‪ ،‬ولم َيَر ه ذو النون بعد‪.‬‬

‫ما علمُت في قلبي موضًعا لغيره‬


‫قال ذو النون المصري‪ :‬وصف لي عابدة من الزهاد ذات علٍم واجتهاٍد فقصدتها‪ ،‬فإذا هي صائمة‬
‫النهار‪ ،‬قائمة الليل‪ ،‬ال تفتر عن العبادة وال تمل من العمل‪ ،‬وهي مقيمة في دير خرب‪ ،‬فلما جن‬
‫الليل سمعتها تقول‪ :‬سيدي ال ينام وال ينبغي له المنام‪ ،‬فكيف الجارية تنام والمخدوم ال ينام‪ ،‬ال‬
‫وعزتك وجاللك ليس لي في هذه الليلة منام‪ ،‬فلما أصبحت سلمُت عليها فرَّدت علَّي السالم فقلت‬
‫لها‪ :‬يا جارية تسكنين في مساكن النصارى وأنت على هذه الحالة؟ فقالت‪ :‬يا ذا النون ال تتكلم بمثل‬
‫هذا الكالم السقيم‪ ،‬وأنت على هذا القدم العظيم‪ ،‬فال يخطر غير هللا في بالك‪ ،‬وال تتوهم غيره في‬
‫خيالك‪ ،‬فقلت لها‪ :‬أما تستوحشين في هذا الدير؟ فقالت‪ :‬والذي مأل قلبي من لطيف حكمته وهَّيمني‬
‫في محبته ما علمُت في قلبي موضًعا لغيره‪ ،‬وال في جسدي عرًقا إال وهو مآلن بمعرفته‪ ،‬فكيف ال‬
‫أستأنس بذكره وأنا دائًم ا في حضرته‪ ،‬فقلت لها‪ :‬قد أرشدتني إلى الطريق فاسلكي بي مسالك القوم‬
‫فإنني وهللا في بحر ذنوبي غريق‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ذا النون اجعل التقوى زادك واآلخرة مرادك والزهد‬
‫والورع مطيتك‪ ،‬واسلك طريق الخائفين واترك طريق المذنبين تكتب في ديوان الموحدين وتلَق هللا‬
‫تعالى وليس بينك وبينه حجاب وال يردك عنه بواب‪ ،‬قال ذو النون‪ :‬فأَّثر كالمها في قلبي‪ ،‬وكان‬
‫سبب رجوعي إلى ربي‪ ،‬ثم تركتني ومضت وهي تسوح‪.‬‬

‫ما فقدُت أنوار شوقي إليك‬


‫قال ذو النون المصري‪ :‬كانت «أم دأب» من كبار الصالحات إلى أن بلغ عمرها تسعين سنة‬
‫وهي تحج في كل سنة على قدميها من المدينة إلى مكة‪ ،‬فكف بصرها‪ ،‬فلما حضر وقت الحج دخل‬
‫عليها النساء يزرنها ويتغممن لها في كف بصرها‪ ،‬فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت‪ :‬إلهي‬
‫وعزتك لئن فقدُت نور بصري بين يديك ما فقدُت أنوار شوقي إليك‪ ،‬ثم أحرمت وقالت‪ :‬لبيك اللهم‬
‫لبيك وخرجت مع صواحباتها‪ ،‬فكانت تمشي بين أيديهن فتسبقهن في المسير‪ ،‬قال ذو النون‪:‬‬
‫فتعجبت من حالها‪ ،‬فهتف بي هاتف‪ :‬يا ذا النون أتعجب من ضعيفة اشتاقت إلى بيت موالها فحملها‬
‫إليه بلطفه وقواها‪.‬‬

‫ِص ْف لي األبدال‬
‫قلت لذي النون المصري‪ِ :‬ص ْف لي األبدال‪ ،‬فقال‪ :‬إنك لتسألني عن دياجي الظلم‪ ،‬ألكشفنها لك‬
‫عبد الباري‪ ،‬هم قوم ذكروا هللا عز وجل بقلوبهم تعظيًم ا لربهم عز وجل‪ ،‬لمعرفتهم بجالله‪ ،‬فهم‬
‫حجج هللا تعالى على خلقه‪ ،‬ألبسهم النور الساطع من محبته‪ ،‬ورفع لهم أعالم الهداية إلى مواصلته‪،‬‬
‫وأقامهم مقام األبطال إلرادته‪ ،‬وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته‪ ،‬وطهر أبدانهم بمراقبته‪ ،‬وطيبهم‬
‫بطيب أهل مجاملته‪ ،‬وكساهم حلاًل من نسج مودته‪ ،‬ووضع على رءوسهم تيجان مسرته‪ ،‬ثم أودع‬
‫القلوب من ذخائر الغيوب فهي معلقة بمواصلته‪ ،‬فهمومهم إليه ثائرة‪ ،‬وأعينهم إليه بالغيب ناظرة‪.‬‬
‫قد أقامهم على باب النظر من قربه‪ ،‬وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن أتاكم‬
‫عليل من فقري فداووه‪ ،‬أو مريض من فراقي فعالجوه‪ ،‬أو خائف مني فآمنوه‪ ،‬أو آمن مني فحذروه‪،‬‬
‫أو راغب في مواصلتي فهنئوه‪ ،‬أو راحل نحوي فرودوه‪ ،‬أو جبان في متاجرتي فشجعوه‪ ،‬أو آيس‬
‫من فضلي فعدوه‪ ،‬أو راج إلحساني فبشروه‪ ،‬أو حسن الظن بي فباسطوه‪ ،‬أو محب لي فواظبوه‪ ،‬أو‬
‫معظم لقدري فعظموه‪ ،‬أو مستوصفكم نحوي فأرشدوه‪ ،‬أو مسيء بعد إحسان فعاتبوه‪ ،‬ومن واصلكم‬
‫فَّي فواصلوه‪ ،‬ومن غاب عنكم فافتقدوه‪ ،‬ومن ألزمكم جناية فاحتملوه‪ ،‬ومن قَّص ر في واجب حقي‬
‫فاتركوه‪ ،‬ومن أخطأ خطيئة فناصحوه‪ ،‬ومن مرض من أوليائي فعودوه‪ ،‬ومن حزن فبشروه‪ ،‬وإن‬
‫استجار بكم ملهوف فأجيروه‪.‬‬
‫يا أوليائي لكم عاتبت‪ ،‬وفي إياكم رغبت‪ ،‬ومنكم الوفاء طلبت‪ ،‬ولكم اصطفيت وانتخبت‪ ،‬ولكم‬
‫استخدمت واختصصت؛ ألنني ال أحب استخدام الجَّبارين‪ ،‬وال مواصلة المتكِّبرين‪ ،‬وال مصافاة‬
‫المخلطين‪ ،‬وال مجاوبة المخادعين‪ ،‬وال قرب المعجبين‪ ،‬وال مجالسة البَّطالين‪ ،‬وال مواالة الشرهين‪.‬‬
‫يا أوليائي جزائي لكم أفضل الجزاء‪ ،‬وعطائي لكم أجزل العطاء‪ ،‬وبذلي لكم أفضل البذل‪،‬‬
‫وفضلي عليكم أكثر الفضل‪ ،‬ومعاملتي لكم أوفى المعاملة‪ ،‬ومطالبتي لكم أشد المطالبة‪ ،‬أنا مجتني‬
‫القلوب‪ ،‬وأنا عالم الغيوب‪ ،‬وأنا مراقب الحركات‪ ،‬وأنا مالحظ اللحظات‪ ،‬أنا المشرف على‬
‫الخواطر‪ ،‬أنا العالم بمجال الفكر‪ ،‬فكونوا ُدعاة إلَّي ‪ ،‬ال يفزعكم ذو سلطان سواي‪ ،‬فمن عاداكم‬
‫عاديته‪ ،‬ومن واالكم واليته‪ ،‬ومن آذاكم أهلكته‪ ،‬ومن أحسن إليكم جازيته‪ ،‬ومن هجركم قليته‪.‬‬
‫قال الشيخ رحمه هللا‪ :‬وهم الشغفون به وبوده‪ ،‬والكلفون بخطابه وعهده‪.‬‬
‫وضُعوُه على أفئدتهم فانفرجْت‬
‫حدثنا أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري قال‪ :‬إن هلل عز وجل لصفوة من خلقه‪ ،‬وإن هلل‬
‫عز وجل لخيرة‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا أبا الفيض‪ ،‬فما عالمتهم؟ قال‪ :‬إذا خلع العبد الراحة‪ ،‬وأعطى المجهود‬
‫في الطاعة‪ ،‬وأحب سقوط المنزلة‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫منع القرآن بوعده ووعيده‬
‫مقل العيون بليلها أن تهجعا‬
‫فهموا عن الملك الكريم كالمه‬
‫فهما تذل له الرقاب وتخضعا‬
‫وقال له بعض من كان في المجلس حاضًر ا‪ :‬يا أبا الفيض‪ ،‬من هؤالء القوم يرحمك هللا؟ فقال‪:‬‬
‫ويحك‪ ،‬هؤالء قوم جعلوا الركب لجباههم وساًدا‪ ،‬والتراب لجنوبهم مهاًدا‪ ،‬هؤالء قوم خالط القرآن‬
‫لحومهم ودماءهم‪ ،‬فعزلهم عن األزواج وحركهم باإلدالج‪ ،‬فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت‪،‬‬
‫وضموه إلى صدورهم فانشرحت‪ ،‬وتصَّدعت هممهم به فكدحت‪ ،‬فجعلوه لظلمتهم سراًج ا‪ ،‬ولنومهم‬
‫مهاًدا‪ ،‬ولسبيلهم منهاًج ا‪ ،‬ولحجتهم أفالًج ا‪ ،‬يفرح الناس ويحزنون‪ ،‬وينام الناس ويسهرون‪ ،‬ويفطر‬
‫الناس ويصومون‪ ،‬ويأمن الناس ويخافون‪ ،‬فهم خائفون حذرون‪ ،‬وجلون مشفقون مشمرون‪،‬‬
‫يبادرون من الفوت‪ ،‬ويستعدون للموت‪ ،‬لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب‪،‬‬
‫وخطر ما يوعدون من الثواب‪ ،‬درجوا على شرائع القرآن‪ ،‬وتخلصوا بخالص القربان‪ ،‬واستناروا‬
‫بنور الرحمن‪ ،‬فما لبثوا أن أنجز لهم القرآن موعوده‪ ،‬وأوفى لهم عهوده‪ ،‬وأحلهم سعوده‪ ،‬وأجارهم‬
‫وعيده‪ ،‬فنالوا به الرغائب‪ ،‬وعانقوا به الكواعب‪ ،‬وأمنوا به العواطب‪ ،‬وحذروا به العواقب‪ ،‬ألنهم‬
‫فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية‪ ،‬ونظروا إلى ثواب اآلخرة بعين راضية‪ ،‬واشتروا الباقية بالفانية‪،‬‬
‫فنعم ما اتجروا‪ ،‬ربحوا الدارين‪ ،‬وجمعوا الخيرين‪ ،‬واستكملوا الفضلين‪ ،‬بلغوا المنازل بصبر أيام‬
‫قالئل‪ ،‬قطعوا األيام باليسير‪ ،‬حذار يوم قمطرير‪ ،‬وسارعوا في المهلة‪ ،‬وبادروا خوف حوادث‬
‫الساعات‪ ،‬ولم يركبوا أيامهم باللهو واللذات‪ ،‬بل خاُض وا الغمرات للباقيات الصالحات‪ ،‬أوهن وهللا‬
‫قوتهم التعب‪ ،‬وغير ألوانهم النصب‪ ،‬وذكروا ناًر ا ذات لهب‪ ،‬مسارعين إلى الخيرات‪ ،‬منقطعين عن‬
‫اللهوات‪ ،‬بريئون من الريب والخنا‪ ،‬فهم خرس فصحاء‪ ،‬وعمي بصراء‪ ،‬فعنهم تقصر الصفات‪،‬‬
‫وبهم تدفع النقمات‪ ،‬وعليهم تنزل البركات‪ ،‬فهم أحلى الناس منطًقا ومذاًقا‪ ،‬وأوفى الناس عهًدا‬
‫وميثاًقا‪ ،‬سراج العباد‪ ،‬ومنار البالد‪ ،‬مصابيح الدجى‪ ،‬ومعادن الرحمة‪ ،‬ومنابع الحكمة‪ ،‬وقوام‬
‫األمة‪ ،‬تجافت جنوبهم عن المضاجع‪ ،‬فهم أقبل الناس للمعذرة‪ ،‬وأصفحهم للمغفرة‪ ،‬وأسمحهم‬
‫بالعطية‪ ،‬فنظروا إلى ثواب هللا عز وجل بأنفس تائقة‪ ،‬وعيون رامقة‪ ،‬وأعمال موافقة‪ ،‬فحلوا عن‬
‫الدنيا مطي رحالهم‪ ،‬وقطعوا منها حبال آمالهم‪ ،‬لم يدع لهم خوف ربهم عز وجل من أموالهم تليًدا‬
‫وال عتيًدا‪ ،‬فتراهم لم يشتهوا من األموال كنوزها‪ ،‬وال من األوبار خزوزها‪ ،‬وال من المطايا‬
‫عزيزها‪ ،‬وال من القصور مشيدها‪ ،‬بلى‪ ،‬ولكنهم نظروا بتوفيق هللا تعالى لهم وإلهامه إياهم‪،‬‬
‫فحركهم ما عرفوا بصبر أيام قالئل‪ ،‬فضموا أبدانهم عن المحارم‪ ،‬وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم‪،‬‬
‫وهربوا بأنفسهم عن المآثم‪ ،‬فسلكوا من السبيل رشاده‪ ،‬ومهدوا للرشاد مهاده‪ ،‬فشاركوا أهل الدنيا‬
‫في آخرتهم‪ ،‬عزوا عن الرزايا‪ ،‬وغصص المنايا‪ ،‬هابوا الموت وسكراته وكرباته وفجعاته‪ ،‬ومن‬
‫القبر وضيقه‪ ،‬ومنكر ونكير ومن ابتدارهما وانتهارهما وسؤالهما‪ ،‬ومن المقام بين يدي هللا عز‬
‫ذكره‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪.‬‬

‫وهللا ال ُعدُت إلى المدن أبًدا‬


‫سمعت يوسف بن الحسين‪ ،‬يقول‪« :‬كنت مع ذي النون المصري على شاطئ غدير‪ ،‬فنظرُت إلى‬
‫عقرب أعظم ما يكون على شط الغدير واقفة‪ ،‬فإذا بضفدع قد خرجت من الغدير‪ ،‬فركبتها العقرب‪،‬‬
‫فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت‪ ،‬فقال ذو النون‪ :‬إن لهذه العقرب لشأًنا‪ ،‬فامِض بنا‪ ،‬فجعلنا نقفو‬
‫أثرها‪ ،‬فإذا رجل نائم سكران‪ ،‬وإذا حية قد جاءت‪ ،‬فصعدت من ناحية سرته إلى صدره‪ ،‬وهي‬
‫تطلب أذنه‪ ،‬فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها‪ ،‬فانقلبت وانفسخت‪ ،‬ورجعت العقرب إلى‬
‫الغدير‪ ،‬فجاءت الضفدع‪ ،‬فركبتها فعبرت‪ ،‬فحرك ذو النون الرجل النائم‪ ،‬ففتح عينيه‪ ،‬فقال‪ :‬يا فتى‪،‬‬
‫انظر مَّم نجاك هللا؟ هذه العقرب جاءت‪ ،‬فقتلت هذه الحية التي أرادتك‪ ،‬ثم أنشأ ذو النون يقول‪:‬‬
‫يا غافاًل ‪ ،‬والجليل يحرسه‬
‫من كل سوٍء ‪ ،‬يِدُّب في الظلِم‬
‫كيف تنام العيون عن َم ِلك‬
‫تأتيه منُه فوائد النعِم‬
‫فنهض الشاب‪ ،‬وقال‪ :‬إلهي هذا فعلك بَم ن عصاك‪ ،‬فكيف رفقك بَم ن يطيعك؟ ثم ولى‪ ،‬فقلت‪ :‬إلى‬
‫أين؟ قال‪ :‬إلى البادية‪ ،‬وهللا ال عدت إلى المدن أبًدا»‪.‬‬

‫وغابْت عن النظر‬
‫انتهيُت إلى منظرة عالية هناك‪ ،‬فتوضأُت ورجعُت ‪ ،‬فوقع نظري على المنظرة‪ ،‬فرأيُت جارية في‬
‫غاية الحسن والجمال‪ ،‬أردُت امتحانها‪ ،‬فقلُت ‪ :‬لَم ن أنِت يا جارية؟ قالت‪ :‬يا ذا النون‪ ،‬لَّم ا رأيتك‬
‫بادئ الرأي ظننتك مجنوًنا‪ ،‬فلما صرَت ُقربنا ظننتك عالًم ا‪ ،‬ثم لَّم ا صرَت أقرب ظننتك عارًفا‪،‬‬
‫واآلن تبين الحال‪ ،‬وانكشف األمر فما أنت بمجنون‪ ،‬وال عالم‪ ،‬وال عارف‪ .‬قلُت ‪ :‬كيف هذا الشأن؟‬
‫قالت‪ :‬فلو كنَت مجنوًنا ما توضأَت ‪ ،‬ولو كنَت عالًم ا ما نظرَت إلى غير محرمك‪ ،‬ولو كنَت عارًفا‬
‫ما نظرَت إلى غير هللا‪ ،‬وما التفَّت إلى ما سوى الحق‪ ،‬جل وعال‪ .‬قالت هذا الكالم‪ ،‬وغابت عن‬
‫النظر‪.‬‬

‫ال َأْد ُعو َعَلى َأَح ٍد َبْعَد َها‬


‫َقاَل ُمَحَّم ُد بُن الَفْر ِخ ِّي‪ُ :‬كْنت َمَع ِذي الُّنْو ِن ِفي َز ْو َر ٍق ‪َ ،‬فَم َّر ِبَنا َز ْو َر ٌق آَخ ُر ‪َ ،‬فِقْيَل ِلِذي الُّنْو ِن ‪ِ :‬إَّن‬
‫َهُؤالِء َيُم ُّر ْو َن ِإَلى الُّسْلَطاِن َيْش َه ُدْو َن َعَلْيَك ِبالُكْفِر ‪.‬‬
‫َفَقاَل ‪ :‬الَّلُهَّم ِإْن َكاُنوا َكاِذ ِبْيَن ‪َ ،‬فَغِّر ْقُه م‪.‬‬
‫َفاْنَقَلَب الَّز ْو َر ُق ‪َ ،‬و َغِر ُقوا‪َ ،‬فُقْلُت َلُه‪َ :‬فَم ا َباُل الَم اَّل ِح؟‬
‫َقاَل ‪ِ :‬لَم َح َم َلُه م َو ُهَو َيعَلُم َقْصَد ُهم؟ َو َألْن َيِقُفوا َبْيَن َيَد ِي ِهللا َغْر َقى‪َ ،‬خْيٌر َلُه م ِم ْن َأْن َيِقُفوا ُشُهْو َد‬
‫ُز ْو ٍر ‪.‬‬
‫ُثَّم اْنَتَفَض ‪َ ،‬و َتَغَّير‪َ ،‬و َقاَل ‪َ :‬و ِع َّز ِتَك ال َأْد ُعو َعَلى َأَح ٍد َبْعَد َها‪.‬‬

‫يا مجنون ائتمنتك في فأرة فُخ نتني‬


‫عن يوسف بن الحسين قال‪ :‬بلغني أن ذا النون يعلم اسم هللا األعظم فخرجت من مكة قاصًدا إليه‬
‫حتى وافيته في جيزة مصر‪ ،‬فأول ما بصر بي ورآني وأنا طويل اللحية وفي يدي ركوة طويلة‪،‬‬
‫متزر بمئزر على كتفي‪ ،‬فاستشنع منظري فلما سلمت عليه كأنه ازدراني‪ ،‬ولم أَر منه تلك البشاشة‪،‬‬
‫فقلت في نفسي‪ :‬ما تدري مع من وقعت؟ فقال‪ :‬فجلست ولم أبرح من عنده فلما كان بعد يومين أو‬
‫ثالثة جاءه رجل من المتكلمين فناظره في شيء من الكالم فاستظهر على ذي النون‪ ،‬فاغتنمت ذلك‬
‫وبركت بين يديهما واستلبت المتكلم إلَّي وناظرته حتى قطعته‪ .‬ثم ناظرته بشيء لم يفهم كالمي قال‪:‬‬
‫فتعجب ذو النون ‪ -‬وكان شيًخ ا وأنا شاب ‪ -‬قال فقام من مكانه وجلس بين يدي وقال‪ :‬اعذرني فإني‬
‫لم أعرف محلك من العلم‪ ،‬وأنت آثر الناس عندي‪.‬‬
‫قال فما زال بعد ذلك يجلني ويكرمني ويرفعني عن جميع أصحابه حتى بقيت على ذلك سنة‬
‫فقلت له بعد ذلك‪ :‬يا أستاذ أنا رجل غريب وقد اشتقت إلى أهلي وقد خدمتك سنة وقد وجب حقي‬
‫عليك؛ وقيل لي إنك تعرف اسم هللا األعظم وقد جربتني وعرفت أني أهل لذلك‪ ،‬فإن كنت تعرفه‬
‫فعلمني إياه‪ .‬قال‪ :‬فسكت ذو النون عني ولم يجبني بشيء وأوهمني أنه لعله يقول لي ويعلمني ثم‬
‫سكت عني ستة أشهر فلما كان بعد ستة أشهر من يوم مسألتي إياه قال لي‪ :‬يا أبا يعقوب أليس‬
‫تعرف فالًنا صديقنا بالفسطاط الذي يجيئنا؟ وسَّم ى رجاًل ‪ ،‬فقلت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فأخرج إلَّي من بيته‬
‫طبًقا فوقه مكبة مشدودة بمنديل فقال لي‪ :‬أوصل هذا إلى َم ن سميت لك بالفسطاط‪.‬‬
‫قال فأخذت الطبق فإذا طبق خفيف يدل على أن ليس في جوفه شيء‪ ،‬فلما بلغت الجسر الذي بين‬
‫الفسطاط والجيزة قلت في نفسي‪ :‬ذو النون يوجه إلى رجل بهدية وهذا أرى طبًقا خفيًفا ألبصرن‬
‫أي شيء فيه‪ .‬قال‪ :‬فحللُت المنديل ورفعُت المكبة فإذا فأرة قد قفزت من الطبق فمرت‪ .‬قال‪:‬‬
‫فاغتظت وقلت إنما سخر بي ذو النون ولم يذهب وهمي إلى ما أراد في الوقت‪ .‬قال‪ :‬فجئت إليه‬
‫وأنا مغضب فلما رآني تبسم وعرف القصة‪ ،‬وقال‪ :‬يا مجنون ائتمنتك في فأرة فخنتني‪ ..‬أأتمنك‬
‫على اسم هللا األعظم؟ قم عني فارتحل وال أراك بعد هذا‪.‬‬

‫أنَت جاسوس‬
‫صلى بأهل َطَر ُسوس ( هي مدينة تركية تقع جنوب البالد على ساحل البحر األبيض المتوسط‪،‬‬
‫تابعة لمحافظة مرسين‪ ،‬وتبعد حوالي خمسة عشر كيلو متًر ا عن مدينة مرسين و أربعين كيلو متًر ا‬
‫عن مدينة أضنة ) الغداة‪ ،‬فوقع النفير وصاحوا‪ ،‬فلم ُيَخفف الصالة‪ ،‬فلما فرغوا قالوا‪« :‬أنت‬
‫جاسوس» قال‪« :‬وكيف ذاك؟» فقالوا‪« :‬صاح النفير ولم تخفف»‪ .‬فقال‪« :‬إنما ُسميت صالة ألنها‬
‫اتصال باهلل تعالى‪ ،‬وما حسبت أن أحًدا يكون في الصالة‪ ،‬فيقع في سمعه غير ما يخاطب هللا به»‪.‬‬

‫فأخذ ضرسه ووضعه في مكانه وقرأ عليه‬


‫روى ابن باكويه في كتاب «أخبار العارفين» عن أبي العباس قال‪ :‬كنُت ماًّر ا بمصر‪ ،‬فرأيت‬
‫حلقة‪ ،‬فإذا برجل تعلق بآخر‪ ،‬والدم يسيل على ثيابه‪ ،‬فوقف عليهم ذو النون‪ ،‬وقال‪ :‬ما لك؟ قال‪ :‬هذا‬
‫كسر ضرسي‪ ،‬فأخذ ضرسه ووضعه في مكانه وقرأ عليه؛ فإذا بالضرس كما كان‪ ،‬فلما تفرق‬
‫الناس عنه تعلقت به‪ ،‬وقلت‪ :‬أرى معك اسم هللا األعظم‪ ،‬فقال‪ :‬تنَّح عني‪ ،‬فقلت‪
:‬‬
‫ال أفارقك أو تعلمنيه‪ ،‬فأقبل علَّي وقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬إذا رق قلبك فادع بما شئت‪ ،‬فذاك اسم هللا األعظم‪.‬‬

‫ارِم قشوَر الموز‬


‫وعن أبي عبد هللا بن الجالء قال‪ :‬كنت مع ذي النون بمكة‪ ،‬فجعنا أياًم ا‪ ،‬فقام يوًم ا ذو النون قبل‬
‫الظهر‪ ،‬فصعد الجبل للطهارة‪ ،‬وأنا معه أحمل الماء‪ ،‬فرأيت قشور الموز في الوادي‪ ،‬فأخذت‬
‫قطعتين أو ثالًثا‪ ،‬فقلت‪ :‬إذا تباعد الشيخ للطهارة آكل هذا‪ ،‬فلما صعدنا الجبل وتباعدنا عن الناس‪،‬‬
‫قال‪ :‬ارِم قشور الموز‪ .‬فرميت‪ ،‬فمضى وفرغ من وضوئه‪ ،‬ورجعنا إلى المسجد وصلينا وجلسنا‪،‬‬
‫وإذا بشاب يجيء ومعه طبق‪ ،‬فقال له الشيخ‪ :‬اتركه‪ .‬ثم قال لي‪ُ :‬كْله‪ .‬قلت‪ :‬وحدي؟ فقال‪ :‬أنت‬
‫طلبته‪ ،‬وأنا لم أطلبه‪ ،‬فأكلت وحدي وأنا َخ ِج ٌل ‪.‬‬

‫ثم صرخ صرخًة وفارَق الّدنيا‬


‫يقول أحد رفاق ذي النون المصري‪ :‬بينما أنا سائٌر مع ذي النون في جبل لبنان إذ قال لي‪ :‬مكانك‬
‫يا سالم حتى أعود إليك‪ ..‬فغاب عني في الجبل ثالثة أيام وأنا أنتظره‪ ،‬إذا هاجت علَّي النفس‬
‫أطعمتها من نبات األرض وسقيُتها من ماء الغدران‪ .‬ولَّم ا كان بعد الثالث رجع إلَّي متغير اللون‪،‬‬
‫ذاهب العقل‪ ،‬فقلُت له بعد أن رجعت إليه نفسه‪ :‬يا أبا الفيض أتعرضَت ألحد السباع‪ .‬فقال‪ :‬ال‪.‬‬
‫دعني من تخويف البشرية‪ ،‬إنني دخلُت كهًفا من كهوف هذا الجبل‪ ،‬فرأيُت رجاًل أبيض الرأس‬
‫واللحية‪ ،‬أشعث أغبر نحيًفا نحياًل ‪ ،‬وهو ُيصلي‪ ،‬فسّلمت عليه بعدما سّلم من الصالة‪ ،‬فَر َّد السالم‬
‫وقام إلى الّص الة‪ ،‬فما زال راكًعا وساجًدا حتى صلى الَعصر‪ ،‬ثم استند إلى حجر‪ ،‬وجعل ُيَسِّبح هللا‬
‫وال ُيكلمني‪ ،‬فقلت له‪ :‬رحمك هللا‪ ،‬اْد ُع َهللا عّز وجّل لي؟‬
‫فقال‪ :‬آَنَسك ُهللا بُقْر ِبه‪.‬‬
‫فقلت له‪ِ :‬ز ْد ِني؟‬
‫فقال‪ :‬يا ُبَني‪َ ،‬م ن آَنَسه ُهللا ِبُقْر ِبه أعطاه أرَبَع ِخ َص ال‪:‬‬
‫ِع ًّز ا ِم ن غير عِش يَر ة‪ .‬وِع لًم ا من غير طلب‪ .‬وِغ ًنى من غير مال‪ .‬وأنًسا من غير جماعة‪.‬‬
‫ثم َشِه َق َشهقًة فلم ُيِفق إال بعد ثالثِة أيام‪ ،‬ثم قام فتوَّضأ‪ ،‬وسألني‪ :‬كم فاته من صالة؟ فأخبرته‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إن ِذكَر الَح بيب َهَّيَج َشْو ِقي‬
‫ثّم ُحَّب الحبيِب أْذَهَل َعقلي‬
‫وقد استوَح شُت من ُم القاة المخلوقين‪ ،‬وأِنست برِّب العاَلمين‪ ،‬انَصِر ف عني بسالم‪.‬‬
‫فقلُت له‪ :‬يرحمك هللا‪ ،‬وَقفُت عليك ثالثة أيام رجاَء الزيادة‪ ،‬وأريد موِع ظًة منك؟ وبكيت‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أحبب موالك‪ ،‬وال ُتِر د بحِّبه َبداًل ؛ فالمحّبون هلل تيجان الِع باد‪ ،‬وعلم الّز ّهاد‪ ،‬وهم أصفياء هللا‬
‫وأحّباؤه‪ ،‬وعباُده وأولياؤه‪.‬‬
‫ثم صرخ صرخًة وفارَق الُّدنيا‪ ،‬فما كان إال هنيهة‪ ،‬فإذا نحن بجماعة من العباد ينحِدرون من‬
‫الجبل‪ ،‬فتولوه حتى واروه تحت التراب‪.‬‬
‫فسألُت ما اسم هذا الشيخ؟ فقالوا‪ :‬شيبان الُم صاب‪.‬‬
‫(يقول صاحب ذي النون‪ :‬فسألُت أهل الشام عنه فقالوا‪ :‬كان مجنوًنا خرج من أذى الصبيان‪،‬‬
‫قلت‪ :‬تعرفون من كالمه شيًئا؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬كلمة واحدة كان يغني بها إذا ضجر‪ :‬إذا بك لم ُأجن يا‬
‫حبيبي فبَم ن؟)‪.‬‬

‫ودار الَّسرير‬
‫ُحِك ي عن أبي جعفر األعور أنه قال‪ :‬كنُت عند ذي النون المصري‪ ،‬فتذاكرنا حديث طاعة‬
‫األشياء لألولياء‪ ،‬فقال ذو النون‪ :‬من الطاعة أن أقول لهذا السرير يدور في أربع زوايا البيت‪ ،‬ثم‬
‫يرجع مكانه‪ ،‬فيفعل‪ ،‬قال‪ :‬فدار السرير في أربع زوايا البيت‪ ،‬وعاد إلى مكانه‪ ،‬وكان هناك شاب‬
‫فأخذ يبكي حتى مات في الوقت‪.‬‬

‫الَّشوُق ُيوِّر ُث السقام‬


‫يروى أن ذا النون سأل امرأة‪ ،‬متى يحوي الهموم قلب المحب؟‬
‫قالت‪ :‬إذا كان للتذكار مجاوًر ا وللشوق محاضًر ا‪ ،‬يا ذا النون أما علمت أَّن الشوق يورُث السقام‪،‬‬
‫وتجديد التذكار يورث األحزان‪ ،‬ثم أنشأت تقول‪:‬‬
‫لم أذق طعم وصلك حتى‬
‫زال عني محبتي لألنام‬
‫فأجابها ذو النون‪:‬‬
‫نعم المحب إذا تزايد وصله‬
‫وعلت محبته بعقب وصال‬
‫فقالت‪ :‬أوجعتني‪ ،‬أما علمت أنه ال يبلغ إليه إال بترك َم ن دونه‪.‬‬
‫وفي روايٍة أخرى‪ ،‬قال ذو النون‪ :‬خرجُت حاًّج ا إلى بيت هللا الحرام‪ ..‬فبينما أنا بالطواف إذ‬
‫بشخٍص متعلٍق بأستار الكعبة‪ ،‬وإذا هو يبكي ويقول في بكائه‪« :‬كتمت بالئي عن غيرك‪ ،‬وبحت‬
‫بسري إليك‪ ،‬واشتغلت بك عَّم ن سواك‪ ..‬عجبت لَم ن عرفَك كيف يسلو عنك‪ ،‬ولَم ن ذاق حبك كيف‬
‫يصبر عنك؟»‪ ..‬ثم أنشأ يقول‪:‬‬
‫َذَّو قتني طيب الوصال فزدتني‬
‫شوًقا إليك ُم خامر الَحَسراِت‬
‫ثم أقبل على نفسه فقال‪« :‬أمهلك فما ارعويت‪ ،‬وستر عليك فما استحييت‪ ،‬وسلبك حالوة المناجاة‬
‫فما باليت»‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلم أتمالك أن أتيت الكعبة مستخفًيا‪ ،‬فلَّم ا أحَّس تجَّلل بخماٍر كان عليه ثم قال‪« :‬يا ذا النون‪،‬‬
‫ُغض بصرك من مواقع النظر؛ فإني حرام»‪ ..‬فعلمت أنها امرأة‪.‬‬
‫ثم أنشأْت تقول‪:‬‬
‫لم أذق طعم وصلك َح َّتى‬
‫زال َعني َم َح َّبتي لألنام‬
‫ثم قالت‪« :‬أوجعتني أما علمت أنه ال يبلغ إليه إال بترك َم ن دونه»‪..‬‬
‫وهل يأسُف العارُف على شيء؟‬
‫قال ذو النون‪ :‬رأيُت في سياحتي شيًخ ا‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫كيف الطريُق إلى هللا؟ قال‪َ« :‬د ع طريق الخالف واالختالف»‪ .‬قلت‪ :‬أليس اختالف العلماء‬
‫رحمة؟‬
‫قال‪« :‬إال في تجريد التوحيد»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تجريده؟‬
‫قال‪« :‬فقدان رؤية ما سواه لوجدانه»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أوليس َم ن عرف هللا طال َهُّم ه؟‬
‫قال‪« :‬بل َم ن عرفه زال همه»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل يكون العارف مسروًر ا؟‬
‫قال‪« :‬وهل يكون محزوًنا؟»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أليس َم ن عرف هللا صار مستوحًشا؟‬
‫قال‪« :‬معاذ هللا‪ ،‬بل يكون مهاجًر ا متجدًدا»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يأسف العارف على شيء غير هللا تعالى؟‬
‫قال‪« :‬وهل يعرف هللا فيأسف عليه»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يشتاق إلى ربه؟‬
‫قال‪« :‬وهل يغيب عنه طرفة عين حتى يشتاقه؟»‬
‫قلت‪ :‬ما اسم هللا األعظم؟‬
‫قال‪« :‬أن تقول هللا وأنت َتَه ابه»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كثيًر ا ما أقوله وال تداخلني هيبة‪.‬‬
‫قال‪« :‬ألنك تقول هللا من حيث أنت‪ ،‬ال من حيث هو»‪.‬‬
‫قلت‪ِ :‬ع ظني‪.‬‬
‫قال‪َ« :‬ح سُبَك من الموعظة ِع لُم َك بأنه يراك»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تأمرني؟‬
‫قال‪« :‬الِّط العه عليك في كل أحوالك؛ ال َتنَسُه»‪.‬‬

‫فالتفُّت فلم أَر ُه‬


‫بينما أنا أسيُر في نواحي الشام إذ وقعُت على روضٍة خضراء‪ ،‬وإذا بشاب يصلي تحت شجرة‬
‫تفاٍح‪ ،‬فتقدمُت إليه‪ ،‬فسلمُت ‪ ،‬فأوجز في صالته ولم يرد‪ ،‬ثم كتب بإصبعه في األرض‪:‬‬
‫ُم ِنَع اللساُن من الكالِم ألنُه‬
‫سبُب الفساِد وجالُب اآلفاِت‬
‫فإذا نطقَت فُكن لربَك ذاكًر ا‬
‫وإذا سكَّت فُعَّد موَتَك آِت‬
‫قال‪ :‬فبكيُت ‪ ،‬وكتبُت بإصبعي في األرض‪:‬‬
‫وما ِم ن كاتٍب إال سَيبَلى‬
‫وُيْبِقي الدهُر ما َكَتَبْت َيداُه‬
‫فال َتْك ُتْب ِبَكِّفَك غيَر شيٍء‬
‫َيُسُّر َك في القيامِة أْن َتراُه‬
‫فصاح الشاب فمات‪ ،‬فقمُت ألجِّه َز ه وأدفنه‪ ،‬وإذا بقائٍل ‪ :‬خِّل عنه فإَّن هللا وعده أال يتواله إال‬
‫مالئكته‪ ،‬فالتفُّت فلم أره‪.‬‬

‫شربُت البارحة كأَس المحبة‬


‫قال ذو النون‪ :‬رأيُت على شاطئ البحر جاريًة مكشوفة الرأس مسفرة‪ ،‬قلت لها استري وجهك‬
‫بخمار‪ ،‬قالت‪ :‬وما يصنع الخمار بوجٍه عاله االصفرار‪ ،‬إليك عني يا بّطال‪ ،‬فإني شربت البارحة‬
‫كأس المحبة مسرورة‪ ،‬فأصبحت اليوم من ُح ّبه مخمورة‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬أوصيني‪ ،‬قالت‪ :‬عليك بالسكوت‪ ،‬ولزوم البيوت‪ ،‬وارَض بالقوت حتى تموت‪.‬‬

‫ثم سَكَت فلم أسمع لٌه صوًتا‬


‫َح َّدَثَنا ُمَحَّم ُد ْبُن ُمَحَّم ِد ْبِن َعْبِد ِهَّللا ْبِن َز ْيٍد‪ ،‬ثنا َأُبو اْلَعَّباِس َأْح َم ُد ْبُن ِع يَسى اْلَو َّشاُء ‪ ،‬ثنا َسِع يُد ْبُن‬
‫َعْبِد اْلَح َكِم ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬سِم ْعُت َذا الُّنوِن ‪َ ،‬يُقوُل‪َ« :‬خ َر ْج ُت ِفي َطَلِب اْلُم َناَج اِة‪َ ،‬فِإَذا َأَنا ِبَص ْو ٍت َفَعَد ْلُت ِإَلْيِه‬
‫َفِإَذا َأنا ِبَر ُج ٍل َقْد َغاَص ِفي َبْح ِر اْلَو َلِه َو َخ َر َج َعَلى َساِح ِل اْلَكَم ِه ‪َ ،‬و ُهَو َيُقوُل ِفي ُدَعاِئِه ‪َ :‬أْنَت َتْعَلُم َأِّني‬
‫اَل َأْع َلُم َأَّن ااِل ْسِتْغَفاَر َمَع اِإْل ْص َر اِر ُلْؤ ٌم َو َأَّن َتْر ِك ي ااِل ْسِتْغَفاَر َمَع َم ْعِر َفِتي ِبِس َعِة َر ْح َم ِتَك َلَعْج ٌز ‪ِ ،‬إَلِه ي‬
‫َأْنَت اَّلِذي َخ َّصْصَت َخ َص اِئَص َك ِبَخ اِلِص اِإْل ْخ اَل ِص ‪َ ،‬و َأْنَت اَّلِذي َسَّلْم َت ُقُلوَب اْلَعـاِر ِفيَن ِم ِن‬
‫اْع ِتَر اِض اْلَو ْس َو اِس ‪َ ،‬و َأْنَت آَنْسَت اآْل ِنِسيَن ِم ْن َأْو ِلَياِئَك َو َأْع َطْيَتُهْم ِك َفاَيَة ِر َعاَيِة اْلُم َتَو ِّكِليَن َعَلْيَك‬
‫َتْكَلُؤ ُهْم ِفي َم َض اِج ِع ِه ْم َو َتَّطِلُع َعَلى َسَر اِئِر ِه ْم ‪َ ،‬و ِس ِّر ي ِع ْنَدَك َم ْك ُشوٌف َو َأَنا ِإَلْيَك َم ْلُه وٌف ‪.‬‬
‫َقاَل ‪ُ :‬ثَّم َسَكَنْت َص ْر َخ ُتُه َفَلْم َأْس َم ْع َلُه َص ْو ًتا»‪.‬‬

‫صحبُت زنجًّيا في التيه‬


‫قال ذو النون‪ :‬صحبُت زنجًّيا في التيه‪ ،‬فكان إذا ذكر هللا ابيض‪ ،‬فورد على أمٍر عظيم‪ ،‬فسألته‪،‬‬
‫فأنشد‪:‬‬
‫ذكرنا وما ُكنا نسينا فنذكُر‬
‫ولكن نسيم القرِب يبدو فيظهُر‬
‫ثم قال أيًض ا‪:‬‬
‫أنَت في غفلٍة وقلبك ساِه‬
‫نفد العمُر والذنوُب كما هي‬
‫جمة أحصيت عليك جميًعا‬
‫في كتاٍب‪ ..‬وأنَت عن ذاك الِه‬
‫لم تبادر بتوبٍة منَك حَّتى‬
‫صرَت شيًخ ا فحبلَك اليوم واِه‬
‫فاجتهد في فكاك نفسك واحذر‬
‫يوم تبدو السمات فوق الجباِه‬
‫قال ذو النون‪« :‬فما طرق سمعي مثل حكمة ذلك الزنجي‪ ،‬فعلمت أَّن هلل تعالى عباًدا تعلو قلوبهم‬
‫باألذكار كما تعلو األطيار في األوكار‪ ،‬فلو فتشت منهم القلوب لما وجدت فيها غير حب‬
‫المحبوب»‪.‬‬

‫استلبها الوَلُه‬
‫رأيت في تيه بني إسرائيل سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن‪ ،‬شاخصًة ببصرها نحو‬
‫السماء‪ ،‬فقلت‪ :‬السالم عليك يا أختاه‪ ،‬قالت‪ :‬وعليك السالم يا ذا النون‪ ،‬قلت‪ :‬من أين عرفتني؟‬
‫قالت‪ :‬إن هللا خلق األرواح قبل األجساد بألفْي عام‪ ،‬ثم أدارها حول العرش‪ .‬فما تعارف منها‬
‫ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف‪ ،‬فعرفت روحي روحك في ذلك الجوالن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراِك حكيمة‪ ،‬فعلميني مَّم ا علمك هللا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬يا أبا الفيض‪ ،‬ضع على جوارحك ميزان القسط‪ :‬حتى يذوب كل ما كان لغير هللا‪ .‬ويبقى‬
‫القلب نقًّيا ال شيء فيه غيره‪ ،‬فحينئذ يقيمك على الباب‪ .‬ويوليك والية جديدة‪ ،‬ويأمر الخزان لك‬
‫بالطاعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬زيديني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬خذ من نفسك لنفسك‪ ،‬وأطع هللا إذا خلوت‪ُ .‬يجبك إذا دعوت‪ ،‬والسالم»‪.‬‬

‫ثم تركني ومضى‬


‫قال ذو النون‪« :‬كنُت في جبل الشام فرأيُت رجاًل قاعًدا مطرًقا فقلت‪ :‬ما تصنع هنا؟‬
‫قال‪ :‬أنظر وأرعى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أرى عندك إال األحجار فما الذي تنظره وترعاه؟‬
‫فنظر إلَّي مغضًبا‪ ،‬وقال‪ :‬أنظر خواطر قلبي‪ ،‬وأرعى أوامر ربي‪ ،‬فبحق َم ن أطلعك علَّي إال‬
‫رحت عني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كلمني بشيء أنتفع به وأذهب‪.‬‬
‫قال‪َ« :‬م ن لزم الباب أثبت من الخدم‪ ،‬وَم ن أكثر ذكر الذنوب أعقبه كثرة الندم‪ ،‬وَم ن استغنى باهلل‬
‫أمن من العدم»‪ ..‬ثم تركني ومضى‪.‬‬

‫ال تلهيهم تجارة‬


‫وقال‪« :‬رأيت بسواحل الشام امرأة‪ ،‬فقلت‪ :‬من أين أقبلت؟‬
‫قالت‪ :‬من عند قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وإلى أين؟‬
‫قالت‪ :‬إلى قوم ال تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر هللا‪.‬‬

‫وصاح صيحة كانت فيها نفسه‬


‫قال ذو النون‪« :‬وصف لي رجل باليمن قد برز على الخافقين‪ ،‬وسما على المجتهدين‪ ،‬وذكر لي‬
‫بالحكمة‪ ،‬ووصف لي بالتواضع والرحمة‪ ،‬فخرجت حاًّج ا‪ ،‬فلما قضيت نسكي مضيت إليه ألسمع‬
‫من كالمه‪ ،‬وأنتفع بمواعظه أنا وأناس كانوا معي يطلبون منه مثل ما أطلب‪ ،‬ومعنا شاب عليه‬
‫سيماء الصالحين‪ ،‬فخرج إلينا‪ ،‬فجلسنا إليه‪ ،‬فبدأ الشاب بالسالم عليه‪ ،‬وصافحه‪ ،‬فأبدى له الشيخ‬
‫البشر والترحيب‪ ،‬فسلمنا عليه جميًعا‪ ،‬ثم بدأ الشاب بالكالم فقال‪ :‬إن هللا بمِّنه وفضله قد جعلك طبيًبا‬
‫لسقام القلوب‪ ،‬ومعالًج ا ألوجاع الذنوب‪ ،‬ولي جرح قد تفل‪ ،‬وداء قد استكمل‪ ،‬فإن رأيت أن تتلطف‬
‫لي ببعض مراهمك‪ ،‬وتعالجني برفقك‪.‬‬
‫فقال له الشيخ‪ :‬ما بدا لك؟‬
‫فقال له الشاب‪ :‬يرحمك هللا‪ ،‬ما عالمة الخوف من هللا تعالى؟‬
‫فقال‪ :‬أن يؤمنه خوفه من كل خوف غير خوفه‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬يرحمك هللا‪ ،‬متى يتيسر للعبد خوفه من هللا؟‬
‫قال‪ :‬إذا أنزل نفسه من الدنيا بمنزلة السقيم فهو يحتمي من أكل الطعام مخافة السقام‪ ،‬ويصبر‬
‫على مضض كل دواء مخافة طول الضنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما عالمة المحب هلل ؟‬
‫قال‪ :‬إن درجة الحب درجة رفيعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬صفها لي؟‬
‫قال‪ :‬إن المحبين هلل شق لهم عن قلوبهم‪ ،‬فأبصروا بنور القلوب إلى عز جالل هللا‪ ،‬فعبدوه بمبلغ‬
‫استطاعتهم له‪ ،‬ال طمًعا في جنته‪ ،‬وال خوًفا من ناره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فشهق الفتى وصاح صيحة كانت فيها نفسه»‪.‬‬

‫ثم غابت عني فلم أرها‬


‫حدثنا عبد هللا بن محمد بن جعفر‪ ،‬ثنا أبو بكر الدينوري‪ ،‬ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫سمعت ذا النون‪ ،‬يقول‪« :‬بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذا أنا بجارية‪ ،‬عليها دباء شعث‬
‫الكالل‪ ،‬وإذا القلب منها متعلق بحب الجبار‪ ،‬وهي منقطعة في نيل مصر وهو يضطرب بأمواجه‪،‬‬
‫فبينا هي كذلك إذ نظرت إلى حوت ينساب بين الوجبتين فرمت بطرفها إلى السماء وبكت‪ ،‬وأنشأت‬
‫تقول‪ :‬لك تفَّر د المتفردون في الخلوات‪ ،‬ولعظيم رجاء ما عندك سبح الحيتان في البحور الزاخرات‪،‬‬
‫ولجالل هيبتك تصافقت األمواج في البحور المستفحالت‪ ،‬ولمؤانستك استأنست بك الوحوش في‬
‫الفلوات‪ ،‬وبجودك وكرمك قصد إليك يا صاحب البر والمسامحات‪ ،‬ثم ولت عني‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫يا مؤنس األبرار في خلواتهم‬
‫يا خير من حَّطت به النزال‬
‫من نال حبك ال ينال تفجًعا‬
‫القلب يعلم أن ما يفنى محال‬
‫ثم غابت عني فلم أرها‪ ،‬فانصرفت وأنا حزين القلب‪ ،‬ضعيف الرأي»‪.‬‬

‫‪ -2‬اإلشارات‪:‬‬

‫‪ -‬الُّص وِفي هو‪َ« :‬م ن ِإذا نطق أبان نطقه َعن اْلَح َقاِئق‪َ ،‬و ِإن سكت نطقت َعنُه اْلَج َو اِر ح ِبقطع‬
‫العالئق»‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْه َم ا َتَصَّو َر ِفي َو ْه ِم َك ‪َ ،‬فاُهلل ِبِخ الِف َذِلَك ‪.‬‬
‫‪ -‬المحبون (وفي رواية أخرى المجنون) في الدنيا على أربع طبقات‪ :‬منهم إذا ذكر حبيبه أَّن ‪،‬‬
‫ومنهم إذا ذكر حبيبه حَّن ‪ ،‬ومنهم إذا ذكر حبيبه َر ّن ‪ ،‬ومنهم إذا ذكر حبيبه ُج َّن ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا صَّح ت المناجاة بالقلوب استراحت الجوارح‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ال أبتهج بك سروًر ا‪ ،‬وقد كنت أكدح ببابك؛ حتى جعلتني من أهل التوحيد‪.‬‬
‫‪ -‬ذبحهم الليل بسكاكين السهر‪.‬‬
‫‪ُ -‬سئل ذو النون‪ :‬لم أحب الناس الدنيا؟ قال‪« :‬ألن هللا تعالى جعلها خزانة أرزاقهم فمدوا أعينهم‬
‫إليها»‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثة موجودة‪ ،‬وثالثة مفقودة‪ :‬العلم موجود‪ ،‬والعمل به مفقود‪ ،‬والعمل موجود‪ ،‬واإلخالص فيه‬
‫مفقود‪ ،‬والحب موجود‪ ،‬والصدق فيه مفقود ‪.‬‬
‫‪ -‬ما أكلُت طعاَم امرٍئ بخيٍل وال مَّناٍن إاَّل وجدُت ثقله على فؤادي أربعين صباًح ا‪.‬‬
‫‪ُ -‬سئل ذو النون‪َ :‬م ن أدوم الناس عناًء ؟ قال‪ :‬أسوؤهم خلًقا‪ .‬قيل‪ :‬وما عالمة سوء الخلق؟ قال‪:‬‬
‫كثرة الخالف‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل َذو الُّنوِن َعِن اْلَم َح َّبِة ‪َ ،‬فَقاَل ‪ُ :‬قْر ُب اْلَقْلِب ِم َن اْلَم ْح ُبوِب َعَلى الُّطَم ْأِنيَنِة َو الُّشُكوِر ‪.‬‬
‫‪ -‬المعرفة‪ :‬إنها على ضروب ثالثة‪ :‬هي معرفة العامة‪ ،‬ومعرفة المتكلمين والحكماء‪ ،‬ومعرفة‬
‫الخاصة من األولياء والمقربين الذين يعرفون هللا بقلوبهم‪ ،‬وهي أسمى وأيقن ألنها ال تحصل عن‬
‫التعلم والكسب واالستدالل ولكنها إلهام يفيضه هللا على قلب عبده‪ ،‬وعنده أن بين الرب والعبد حًّبا‬
‫متباداًل ‪ ،‬وَم ن ذاق الحب اإللهي عرف الذات اإللهية وتحقيق وحدانيتها وأصبح من العارفين‬
‫المقربين‪.‬‬
‫‪ِ -‬قيَل َلُه‪َ :‬أُّي الَّناِس َأْقَر ُب ِإَلى اْلُكْفِر ؟ َقاَل ‪ُ :‬ذو َفاَقٍة ال َص ْبَر َلُه‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْن َلْم َيُكْن َلُه َعَلى َنْفِسِه ُح ْك ٌم ال َيِح ُّل َلُه َأْن َيْح ُكَم َعَلى َأَح ٍد‪.‬‬
‫‪ -‬اُأْلنس ِباهَّلل نور َساِط ع واُألنس بالخلق غم َو اقع‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْن َج ِه َل َقْد َر ُه َهَتَك ِس ْتَر ُه‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْن َر اَقَب اْلَعَو اِقَب َسِلَم ‪.‬‬
‫‪ِ -‬بأَّو ِل قدٍم تطلبه ُتْد ِر كُه وتجده‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن لم يتأَّدب بأستاٍذ فهو بَّطال‪.‬‬
‫‪ -‬اطلب دواءك مَّم ن ابتالك‪.‬‬
‫‪ -‬الصْد ق سيف هللا ِفي أرضه‪َ ،‬م ا وضع على َشْي ء ِإاَّل قطعه‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن تزين ِبَعَم ِلِه َكاَنت َحَسَناته سيئات ‪.‬‬
‫‪ -‬اْلَخ ْو ف َر ِقيب اْلَعَم ل والرجاء َشِفيع المحن ‪.‬‬
‫‪ِ -‬م ْفَتاح اْلِع َباَد ة الفكرة‪ ،‬وعالمة اْلهوى ُم َتابَعة الَّشَهَو ات‪ ،‬وعالمة الَّتَو ُّكل اْنِقَطاع المطامع ‪.‬‬
‫‪ -‬االستئناس بالناس عالمٌة من عالمات اإلفالس‪.‬‬
‫‪َ -‬كاَن الرجل من أهل اْلعلم يْز َد اد ِبِع ْلِم ِه بغًض ا للدنيا وتركا َلَه ا َو اْلَيْو م يْز َد اد الرجل ِبِع ْلِم ِه للدنيا‬
‫حًّبا َو لها طلًبا َو َكاَن الرجل َم اله على علمه َو اْلَيْو م تكسب الرجل ِبِع ْلِم ِه َم ااًل َو َكاَن يرى على‬
‫َص احب اْلعلم ِز َياَد ة ِفي َباِط نه َو َظاهره َو اْلَيْو م يرى على كثير من أهل اْلعلم َفَساد اْلَباِط ن َو الَّظاِه ر ‪.‬‬
‫‪ -‬صدور األحرار قبور األسرار‪.‬‬
‫‪ -‬شغلي بنفسي استغرق وقتي‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن نظر إلى سلطان هللا ذهب سلطان نفسه؛ ألن النفوس كلها حقيرة عند هيبته‪.‬‬
‫‪ -‬عن يوسف بن الحسين قال‪ :‬سمعت ذا النون يقول‪ :‬العطايا مواهب‪ ،‬والطاعات مكاسب‪،‬‬
‫والناس رجالن‪ :‬دارج وواصل‪ .‬فالدارج سائر على طريق اإليمان‪ .‬والواصل‪ :‬طائر بقوة المعرفة‪،‬‬
‫ولكل دليل‪ .‬فدليل اإليمان‪ :‬العلم‪ .‬ودليل المعرفة‪ :‬هللا تعالى‪ ،‬فمتى يلحق السائر الطائر؟‬
‫‪ -‬وقال‪ :‬وسمعته يقول‪َ« :‬م ن وثق بالمقادير استراح‪ ،‬وَم ن صحح استراح‪ ،‬وَم ن تقرب قرب‪،‬‬
‫وَم ن صفى صفي له‪ ،‬وَم ن توكل وفق‪ ،‬وَم ن تكلف ما ال يعنيه ضيع ما يعنيه»‪.‬‬
‫‪ -‬عالمة السعادة ثالث‪ :‬متى ما ِز يَد في ُعمره نقص من ِح رصه‪ ،‬ومتى ِز يَد في ماله ِز يَد في‬
‫سخائه‪ ،‬ومتى ِز يَد في َقْد ره ِز يَد في تواضعه‪ .‬وعالمة الشقاء ثالث‪ :‬متى ما ِز يَد في عمره ِز يَد في‬
‫ِح رصه‪ ،‬ومتى ما ِز يَد في ماله ِز يَد في ُبخله‪ ،‬ومتى ما ِز يَد في َقْد ره ِز يَد في َتَج ُّبره وقهِر ه وتكُّبره‪.‬‬
‫‪َ -‬ثالُث ِخ َص اٍل ِم َن اْلَكَر ِم ُحْس ُن اْلَم ْح َض ِر ‪َ ،‬و اْح ِتَم اُل الَّز َّلِة ‪َ ،‬و ِقَّلُة اْلَم الَم ِة ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال‪ :‬أَم ا إّنه من الحمق التماس اإلخوان بغير الوفاء‪ ،‬وطلب اآلخرة بالرئاسة‪ ،‬ومودة النساء‬
‫بالغلظة‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن ذبح حنجرة الطمع بسيف اليأس‪ ،‬وردم خندق الِح رص‪َ ،‬ظِفر بكيمياء الخدمة‪ .‬وَم ن استقى‬
‫بحبل الُّز هد على َد ْلو العروق استقى من ُجِّب الحكمة‪ ،‬وَم ن سلك أودية الَكَم د َج َنى حياَة األبد‪ ،‬وَم ن‬
‫حصد ُعشب الذنوب بمنجل الورع أضاءت له روضة االستقامة‪ ،‬وَم ن قطع لسانه بشفرة الصمت‬
‫وجد عذوبة الراحة‪ ،‬وَم ن تدّر ع ِدرع الصدق قِو َي على مجاهدة عسكر الباطل‪ ،‬وَم ن فرح بمدحة‬
‫الجاهل ألبَسه الشيطاُن ثوَب الحماقة‪.‬‬
‫‪ -‬ال يشغلنك عيوب الناس عن عيب نفسك‪ ،‬لسَت عليهم برقيٍب‪ ،‬ثم قال‪ :‬إَّن أحَّب عباد هللا أعقلهـم‬
‫عنه‪ ،‬وإنما ُيستدُّل على تمام عقل الرجل وتواضعه بحسن استماعه للُم حِّدث‪ ،‬وإن كان به عالًم ا‪،‬‬
‫وسرعة قبوله للحق‪ ،‬وإن كان مَّم ن دونه‪ ،‬وإقراره على نفسه بالخطأ وإذا جاء منه‪.‬‬
‫‪ -‬جميُع األشياء ال ُتْد َر ُك إال بالعقل‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن نظر في عُيوب الناس‪ ،‬عمي عن عُيوب نفسه‪ ،‬وَم ن عني بالفرَد ْو س والنار ُشِغ ل عن القيل‬
‫والقال‪ ،‬وَم ن هرَب من الناس سلم من شِّر هم‪ ،‬وَم ن شكَر المزيَد ِز يد له‪.‬‬
‫‪ -‬لو أَّن الخلق عرفوا ُذَّل أهل المعرفة في أنفسهم لحثوا التراب على رءوسهم وفي وجوههم‪،‬‬
‫فقال رجل كان حاضًر ا في المجلس «رجل مؤيد»‪ ،‬فذكرت ذلك لطاهر المقدسي فقال‪ :‬سقى هللا أبا‬
‫الفيض‪ ،‬حًّقا ما قال‪ ،‬ولكني أقول‪ :‬لو أبدى هللا نور المعرفة للزاهدين والعابدين‪ ،‬والمحتجين عنه‬
‫باألحوال الحترقوا واضمحلوا‪ ،‬وتالشوا حتى كأن لم يكونوا‪.‬‬
‫‪ -‬ما أعز هللا عبًدا بعز هو أعز له من أن يذله على ذل نفسه‪ ،‬وما أذل هللا عبًدا بذل هو أذل له‬
‫من أن يحجبه عن ذل نفسه‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن اَّدعى مقاًم ا ُح ِج َب به عن هللا‪.‬‬
‫‪ -‬ليس عندي بذي ُلٍّب َم ن داَس في أمر ُدنياه وحمق في أمر آخرته‪ ،‬وال َم ن سَّفه في مواطن‬
‫ُح لمه‪ ،‬وال َم ن تكَّبر في مواطن تواضعه‪ ،‬وال َم ن فقدت منه التقوى في مواطن طمعه‪ ،‬وال َم ن‬
‫غضب من حٍّق إْن قيل له‪ ،‬وال َم ن زهد فيما يرغُب العقالُء فيه‪ ،‬وال َم ن رغب فيما يزهُد األكياُس‬
‫في مثله‪ ،‬وال َم ن استقل الكثير من خالقه‪ ،‬واستكثر قليل الُّشكر من نفسه‪ ،‬وال َم ن طلب اإلنصاَف‬
‫من غيره لنفسه‪ ،‬ولم ينصف من نفسه غيره‪ ،‬وال َم ن نسي هللا في مواطن طاعته‪ ،‬وذكر هللا في‬
‫مواضع الحاجة إليه‪ ،‬وال َم ن جمع العلم فُعِر َف به ثم آثر عليه هواه عند ُم تعِّلمه‪ ،‬وال َم ن قَّل منه‬
‫الحياُء من هللا على جميل ستره‪ ،‬وال َم ن عقل الُّشكر عند إظهار نعمه‪ ،‬وال َم ن عجز عن ُم جاهدة‬
‫عدو لنجاته إذ صبر عدوه على ُم جاهدته‪ ،‬وال َم ن جعل ُم روءته لباسه‪ ،‬ولم يجعل أدبه وورعه‬
‫وتقواه لباسه‪ ،‬وال َم ن جعل علمه ومعرفته تظُّر ًفا وتزُّيًنا في مجلسه‪ ،‬ثم قال ذو النون‪ :‬أستغفر هللا‬
‫إَّن الكالم كثير‪ ،‬وإن لم تقطعه لم ينقطع وقام به‪.‬‬
‫‪ -‬قال ذو النون‪ :‬قلُت لرجٍل من العباد أوصني‪ .‬فقال‪ :‬عليك بمعاقبة نفسك إذا دعتك إلى بلية‪،‬‬
‫ومنابذتها إذا دعتك إلى الفترة؛ فإن لها مكًر ا وخداًعا‪ ،‬فإذا فعلت هذا الفعل؛ أغناك عن المخلوقين‪،‬‬
‫وسالك عن مجالسة الفاسقين‪.‬‬
‫‪َ -‬تَو َّسُدوا الَم ْو َت ِإَذا ِنْم ُتْم ‪َ ،‬و اْج َعُلوُه ُنْص َب َأْع ُيِنُكْم ِإَذا ُقْم ُتْم ‪ ،‬كونوا كأنكم ال حاجة لكم إلى الدنيا‪،‬‬
‫وال ُبَّد لكم من اآلخرة‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن طلب مع الخبز ملًح ا لم يفلح في طريق القوم‪.‬‬
‫‪ -‬قال ذو النون لرجٍل عند توديعه‪ :‬ال تُكن خصًم ا لنفسك على ربك مستزيده في رزقك وجاهك‪،‬‬
‫ولكن خصًم ا لربك على نفسك‪ ،‬وال تلقين أحًدا بعين االزدراء والتصغير وإن كان مشرًكا؛ خوًفا من‬
‫عاقبتك وعاقبته؛ فلعلك تسلب المعرفة ويرزقها‪..‬‬
‫‪ -‬ثالٌث من عالمات الرضا‪ :‬ترك االختيار قبل القضاء‪ ،‬وفقدان المرارة بعد القضاء‪ ،‬وهيجان‬
‫الحب في حشو البالء‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن قنع استراح من أهل زمانه‪ ،‬واستطال على أقرانه‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن وثق بالمقادير لم يغتم‪.‬‬
‫‪ -‬قال يوسف بن الحسين الرازي‪ :‬سمعت ذا النون المصري يقول‪ :‬أنا أسير قدرتك؛ فاجعلني‬
‫طليق رحمتك‪.‬‬
‫‪ -‬ثالٌث من عالمات اإلخالص‪ :‬استواء المدح والذم من العاَّم ة‪ ،‬ونسيان رؤية األعمال في‬
‫األعمال‪ ،‬ونسيان اقتضاء ثواب العمل في اآلخرة ‪.‬‬
‫‪ -‬أدب اﻟﻌﺎرف ﻓﻮق ﻛﻞ أدب؛ ألن معروفه مؤدب قلبه‪.‬‬
‫‪ -‬سمعُت أشياخنا يقولون‪ :‬إذا عرض لك أمران ال تدري في أيهما الرشاد فانظر إلى أقربهما إلى‬
‫هواك فخالفه‪ ،‬فإن الحق في مخالفة الهوى ‪.‬‬
‫‪ُ -‬ذِك َر الَّشوُق عند ذي النون فقال‪ :‬ال يسُكُن جارحًة إال تركَه ا رميًم ا‪.‬‬
‫‪ -‬ما العيُش عندي إال عيُش الُم شتاقين ألنهم ما داموا محِّبين مجَّر دين عن لباس الَّشوق فهم‬
‫مكُدودون حتى إذا تدَّر عوا ِخ َلَع الَّشوِق طاشت هُم ومهم‪ ،‬ورتعوا في رياِض الُّسرور‪ ،‬وُر فعْت عنهم‬
‫المكابدات‪.‬‬
‫‪ِ -‬بُح سن الصوت ُتسَتماُل أعَّنة األبصار‪.‬‬
‫‪ -‬الحكمُة ُتوِّر ُث النظَر في العواقب‪.‬‬
‫‪ -‬مْن َج ِه َل قدره هتك ستره‪.‬‬
‫‪َ -‬قاَل ُذو الُّنون‪َ :‬م ن أنس بالخلق فقد استمكن من ِبَساط الفراعنة‪َ ،‬و من غيب َعن ُم اَل حَظة َنفسه‬
‫فقد استمكن من اِإْل ْخ اَل ص‪َ ،‬و َم ن َكاَن َح ظه ِفي اَأْلْش َياء ُهَو اه اَل ُيَباِلي َم ا َفاَتُه ِم َّم ا ُهَو دونه‪.‬‬
‫‪ -‬ما خلع هللا على عبد خلعة أحسن وال أشرف من العقل‪ ،‬وال قلده قالدة أجمل من العلم‪ ،‬وال‬
‫زينه بزينة أفضل من الحلم‪ ،‬وكمال الخلق‪ ،‬فَم ن أدرك طريق اآلخرة‪ ،‬فليكثر مساءلة الحكماء‪،‬‬
‫ومشاورتهم‪ ،‬وليكن أول شيء يسأل عنه‪ :‬العقل؛ ألن جميع األشياء ال تدرك إال بالعقل‪.‬‬
‫‪ -‬قال ذو النون‪َ :‬م ن تطأطأ لقط رطًبا‪ ،‬وَم ن تعالى لقي عطًبا‪.‬‬
‫‪ -‬أكثر الناس إشارة إلى هللا في الظاهر أبعدهم من هللا‪.‬‬
‫‪ -‬حرمة الجليس أن َتُسَّر ه فإن لم تُسّر ه فال تسوءه‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن لم يُكن له على نفسه َح َكم ال يحُّل له أن يحُكَم على أحٍد‪.‬‬
‫‪ -‬كل مطيع مستأنس‪ ،‬وكل عاص مستوحش‪ ،‬وكل محب ذليل‪ ،‬وكل خائف هارب‪ ،‬وكل راج‬
‫طالب ‪.‬‬
‫‪ -‬إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها‪ ،‬ومن الحكمة إشارة إليها ‪.‬‬
‫‪ -‬الُحُّب ينطق‪ ،‬والحياُء ُيْسِك ُت ‪ ،‬والخوف يقلُق ‪ ،‬والُم حُّب بين هذه الثالثة هالٌك ‪ ،‬وهذا من باب‬
‫تعب المحّب ‪.‬‬
‫‪ -‬الَّشوُق ِم فتاُح باب المحَّبة‪ ،‬واللساُن ِم فتاُح باب الَّشوق‪.‬‬
‫‪ -‬سأل رجل ذا النون المصري عن سؤال فقال له ذو النون‪ :‬قلبي لك مقفل فإن فتح لك أجبتك‪،‬‬
‫وإن لم ينفتح لك فاعذرني واتهم نفسك ‪.‬‬
‫‪ -‬لئن مددُت يدي إليك داعًيا لطال ما كفيتني ساهًيا فال أقطع منك رجائي بما عملت يداي‪ ،‬حسبي‬
‫من سؤالي علمك بي‪.‬‬
‫‪ -‬من المحال أن يحسن منك الظن‪ ،‬وال يحسن منه المن‪ ،‬قال وسمعته يقول‪ :‬كيف أفرح بعملي‬
‫وذنوبي مزدحمة أم كيف أفر بأملي وعاقبتي مبهمة؟ قال‪ :‬وسمعته يقول‪ :‬الكِّيس َم ن بادر بعمله‪،‬‬
‫وسَّو ف بأمله واستعد ألجله ‪.‬‬
‫‪ -‬حَّر م هللا الزيادة في الِّدين‪ ،‬واإللهام في القلب‪ ،‬والفراسة في الخلق على ثالثة نفر‪ :‬على بخيل‬
‫بدنياه‪ ،‬وسخي بدينه‪ ،‬وسيئ الخلق مع هللا‪ .‬فقال له رجل‪ :‬بخيل بالدنيا عرفناه‪ ،‬وسخي بدينه عرفناه‪،‬‬
‫صف لنا سيئ الخلق مع هللا‪ .‬قال‪ :‬يقضي هللا قضاًء ويمضي قدًر ا وينفذ علًم ا ويختار لخلقه أمًر ا‪،‬‬
‫فترى صاحب سوء الخلق مع هللا مضطرًبا في ذلك كله غير راٍض به‪ ،‬دائًم ا شكواه من هللا إلى‬
‫خلقه فما ظنك ‪.‬‬
‫‪ -‬تنال المعرفة بثالث‪ :‬بالنظر في األمور كيف دبرها‪ ،‬وفي المقادير كيف قدرها‪ ،‬وفي الخالئق‬
‫كيف خلقها‪.‬‬
‫‪ -‬قرأت في باب برابي مصر بالسريانية فتدبرته فإذا فيه يقدر المقدرون‪ ،‬والقضاء يضحك‪.‬‬
‫‪ -‬إن الطبيعة النقية هي التي يكفيها من العظمة رائحتها‪ ،‬ومن الحكمة إشارة إليها‪.‬‬
‫‪ -‬أتى رجل من أهل البصرة ذا النون فسأله‪ :‬متى تصح لي عزلة الخلق؟ قال‪ :‬إذا قويت على‬
‫عزلة نفسك‪ ،‬قال‪ :‬فمتى يصح طلبي للزهد؟ قال‪ :‬إذا كنت زاهًدا في نفسك هارًبا من جميع ما‬
‫يشغلك عن هللا؛ ألن جميع ما شغلك عن هللا هي دنيا‪.‬‬
‫‪ -‬قال يوسف بن الحسين‪ :‬وسألت ذا النون‪ :‬ما عالقة اآلخرة في هللا؟ قال‪ :‬ثالث‪ :‬الصفاء‪،‬‬
‫والتعاون‪ ،‬والوفاء‪ .‬فالصفاء في الِّدين‪ ،‬والتعاون في المواساة‪ ،‬والوفاء في البالء‪.‬‬
‫‪ -‬سئل ذو النون عن سماع العظة الحسنة والنغمة الطيبة‪ ،‬فقال‪ :‬مزامير أنس في مقاصير قدس‬
‫بألحان توحيد في رياض تمجيد بمطربات الغواني في تلك المعاني المؤدية بأهلها إلى النعيم الدائم‬
‫في مقعد صدق عند مليك مقتدر‪ .‬ثم قال‪ :‬هذا لهم الخبر فكيف طعم النظر‪.‬‬

‫‪ُ -‬تَناُل اْلَم ْعِر َفُة ِبَثاَل ٍث‪ِ :‬بالَّنَظِر ِفي اُأْلُم وِر َكْيَف َد َّبَر َها‪َ ،‬و ِفي اْلَم َقاِديِر َكْيَف َقَّدَر َها َو ِفي اْلَخ اَل ِئِق‬
‫َكْيَف َخ َلَقَه ا ‪.‬‬
‫‪ِ -‬إْن َسَكَّت َعِلَم َم ا ُتِر يُد‪َ ،‬و ِإْن َنَطْقَت َلْم َتَنْل ِبُنْط ِقَك َم ا اَل ُيِر يُد‪َ ،‬و ِع ْلُم ُه ِبُم َر اِدَك َيْنَبِغ ي َأْن ُيْغِنَيَك‬
‫َعْن َم ْس َأَلِتِه َأْو ُيْنِج َيَك َعْن ُم َطاَلَبِتِه ‪.‬‬
‫‪ِ -‬إَّن الَّطِبيَعَة الَّنِقَّيَة ِه َي اَّلِتي َيْك ِفيَه ا ِم ن اْلَعَظَم ِة َر اِئَح ُتَه ا‪َ ،‬و ِم َن اْلِح ْك َم ِة ِإَشاَر ٌة ِإَلْيَه ا ‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْن َأْد َر َك َطِر يَق اآْل ِخ َر ِة َفْلُيْك ِثْر َم ْس َأَلَة اْلُح َكَم اِء َو مَشاَو َر َتُهْم ‪َ ،‬و َلِك ْن َأَّو ُل َشْي ٍء ُيْس َأُل َعْنُه اْلَعْقُل؛‬
‫َأِلَّن َج ِم يَع اَأْلْش َياِء اَل ُتْد َر ُك ِإاَّل ِباْلَعْقِل ‪َ ،‬و َم تى َأَر ْد َت اْلِخ ْد َم َة ِهَّلِل َفاْع ِقْل ِلَم َتْخ ُدُم ُثُّم َأْخ ِد ْم ‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل ُذو الُّنوِن ‪َ :‬م ْن َأْد َو ُم الَّناِس َعَناًء ؟ َقاَل ‪َ :‬أْس َو ُؤ ُهْم ُخ ُلًقا‪ِ ،‬قيَل ‪َ :‬و َم ا َعاَل َم ُة ُسوِء اْلُخ ُلِق ‪َ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫َكْثَر ُة الِخ اَل ِف ‪.‬‬
‫‪ِ -‬باْلُعُقوِل ُيْج َتَنى َثَم ُر اْلُقُلوِب‪َ ،‬و ِبُحْس ِن الَّص ْو ِت ُتْس َتَم اُل َأِع َّنُة اَأْلْبَص اِر ‪َ ،‬و ِبالَّتْو ِفيِق ُتَناُل اْلَح ْظ َو ُة‬
‫َو ِبُص ْح َبِة الَّص اِلِح يَن َتِط يُب اْلَحَياُة‪َ ،‬و اْلَخْيُر َم ْج ُم وٌع ِفي اْلَقِر يِن الَّص اِلِح ِإْن َنِس يَت َذَّكَر َك َو ِإْن َذَكْر َت‬
‫َأَعاَنَك ‪.‬‬
‫‪ -‬اْلَعاِر ُف ُم َتَلِّو ُث الَّظاِه ِر َص اِفي اْلَباِط ِن ‪َ ،‬و الَّز اِه ُد َص اِفي الَّظاِه ِر ُم َتَلِّو ُث اْلَباِط ِن ‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل ذو النون‪َ :‬م ا َأَساُس َقْس َو ِة اْلَقْلِب ِلْلُم ِر يِد؟ َفَقاَل ‪َ :‬بْح ُثُه َعْن ُعُلوِم ِر َض ى َنْفِسِه ِبَتْعِليِم َه ا ُدوَن‬
‫اْس ِتْعَم اِلَه ا َو اْلُو ُص وِل ِإَلى َح َقاِئِقَه ا‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْك ُتوٌب ِفي الَّتْو َر اِة‪َ :‬م ْلُعوٌن َم ْن ِثَقُتُه ِإْنَساٌن ِم ْثُلُه ‪.‬‬
‫‪َ -‬د اَر ْت َر َح ى اِإْل َر اَدِة َعَلى َثاَل ٍث‪َ :‬عَلى الِّثَقِة َبَو ْعِد ِهَّللا َو الِّر َض ا َو َد َو اِم َقْر ِع َباِب ِهَّللا ‪.‬‬
‫‪َ -‬نُعوُذ ِباِهَّلل ِم َن الَّنَبِط ِّي ِإَذا اْس َتْعَر َب ‪.‬‬
‫‪َ -‬يُقوُل ذو النون‪ :‬رَأْيُت ِفَي َبِر َّيٍة َم ْو ِض ًعا َلُه َد ْنَد َر ٌة َفِإَذا ِك َتاٌب ِفيِه َم ْك ُتوٌب ‪ :‬اْح َذُر وا اْلَعِبيَد اْلُم ْعَتِقيَن‬
‫َو اَأْلْح َد اَث اْلُم َتَقِّر ِبيَن ‪َ ،‬و اْلُج ْنَد اْلُم َتَعِّبِديَن ‪َ ،‬و الَّنَبَط اْلُم ْس َتْعِر ِبيَن ‪.‬‬
‫‪ -‬اْج ِلْس ِإَلى َم ْن ُتَكِّلُم َك ِص َفُتُه َو اَل َتْج ِلْس ِإَلى َم ْن ُيَكِّلُم َك ِلَساُنُه ‪.‬‬
‫‪ُ -‬طوَبى ِلَم ْن َكاَن ِش َعاُر َقْلِبِه اْلَو َر ُع‪َ ،‬و َلْم ُيْعِم َبَصَر َقْلِبِه الَّطَم ُع ‪َ ،‬و َكاَن ُمَح اِس ًبا ِلَنْفِسِه ِفيَم ا َص َنَع ‪.‬‬
‫‪ِ -‬إَّنَم ا ُيْخ َتَبُر ُذو اْلَبْأِس ِع ْنَد الِّلَقاِء ‪َ ،‬و ُذو اَأْلَم اَنِة ِع ْنَد اَأْلْخ ِذ َو اْلَعَطاِء ‪َ ،‬و ُذو اَأْلْه ِل َو اْلَو َلِد ِع ْنَد اْلَفاَقِة‬
‫َو اْلَباَل ِء ‪َ ،‬و اِإْل ْخ َو اُن ِع ْنَد َنَو اِئِب اْلَقَض اِء ‪.‬‬
‫‪ -‬اْلَباَل ُء ِم ْلُح اْلُم ْؤ ِم ِن ِإَذا ُعِد َم اْلَباَل َء َفَسَد َح اُلُه‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل َعْن َأَّو ِل َد َر َج ٍة َيْلَقاَها اْلَعاِر ُف ‪َ ،‬قاَل ‪« :‬الَّتَح ُّيُر ُثَّم ااِل ْفِتَقاُر ‪ُ ،‬ثَّم ااِل ِّتَص اُل‪ُ ،‬ثَّم اْنَتَه ى َعْقُل‬
‫اْلُعَقاَل ِء ِإَلى اْلِح يَر ِة»‪َ ،‬و ُسِئَل ُذو الُّنوِن ‪َ :‬م ا َأْغَلُب اَأْلْح َو اِل َعَلى اْلَعاِر ِف ؟ َقاَل ‪ُ :‬ح ُّبُه َو اْلُحُّب ِفيِه َو َنْش ُر‬
‫اآْل اَل ِء َو ِه ي اَأْلْح َو اُل اَّلِتي اَل ُتَفاِر ُقُه‪.‬‬
‫‪ُ -‬حْر َم ُة اْلَج ِليِس َأْن َتُسَّر ُه َفِإْن َلْم َتُسَّر ُه َفاَل َتُسْؤ ُه‪َ ،‬لْم َيْك ِسْب َم َح َّبَة الَّناِس ِفي َهَذا الَّز َم اِن ِإاَّل َر ُج ٌل‬
‫َخ ِفيُف اْلُمُر وَنِة َعَلْيِه ْم ‪َ ،‬و َأْح َسُن اْلَقْو ِل ِفيِه ْم َو َأَطاَب اْلِع ْش َر َة َم َعُهْم ‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل ُذو الُّنوِن اْلِم ْص ِر ُّي َعِن اْلَم َح َّبِة َفَقاَل ‪ِ« :‬ه َي اَّلِتي اَل َتِز يُدَها َم ْنَفَعٌة‪َ ،‬و اَل َتْنُقُص َه ا َم َض َّر ٌة‪ُ ،‬ثَّم‬
‫َأْنَشَأ َيُقوُل‪:‬‬
‫َشَو اِه ُد َأْه ِل اْلُحِّب َباٍد َدِليُلَه ا‬
‫ِبَأْع اَل ِم ِص ْد ٍق َم ا َيِض ُّل َسِبيُلَه ا‬
‫ُجُسوُم ُأوِلي ِص ْد ِق اْلَم َح َّبِة َو الِّر َض ى‬
‫َتِبيُن َعْن ِص ْد ِق اْلِو َداِد ُنُح وُلَه ا‬
‫ِإَذا َناَج ِت اَأْلْفَه اُم ُأْنَس ُنُفوِس ِه ْم‬
‫بَأْلِسَنٍة َتْخ َفى َعَلى الَّناِس قْيُلَه ا‬
‫َو َض َّج ْت ُنُفوُس اْلُم ْس َتَه اِم يَن َو اْشَتَكْت‬
‫َجًو ى َكاَن َعْن َأْج َساِم َه ا َشربيُلَه ا‬
‫َيِح ُّنوَن ُح ْز ًنا َض اَعَف اْلَخ ْو َف َشْج ُو ُه‬
‫َو ِنيَر اُن َشْو ٍق َكالَّسِع يِر َعِليُلَه ا‬
‫َو َساُر وا َعَلى ُحِّب الَّر َشاِد ِإَلى اْلُعَلى‬
‫َقْو ٌم ِبِه ْم َتْقَو اُه َو ُهَو َدِليُلَه ا‬
‫َفَح ُّطوا ِبَد اِر اْلُقْد ِس ِفي َخْيِر َم ْنِز ٍل‬
‫َو َفاَز ِبُز ْلَفى ِذي اْلَج اَل ِل ُح ُلوُلَه ا‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْن ُو ِج َد ِفيِه َخ ْم ُس ِخ َص اٍل َر َجْو ُت َلُه الَّسَعاَد َة َو َلْو َقْبَل َم ْو ِتِه ِبَساَعٍة‪ِ ،‬قيَل ‪َ :‬م ا ِه َي ؟ َقاَل ‪ُ :‬سوُء‬
‫اْلُخ ُلِق َعْنُه‪َ ،‬و ِخ َّفُة الُّر وِح‪َ ،‬و َغَز اَر ُة اْلَعْقِل ‪َ ،‬و َص َفاُء الَّتْو ِح يِد‪َ ،‬و ِط يُب اْلَم ْو ِلِد‪.‬‬
‫‪ -‬اْلَكِّيُس َم ْن َباَد َر ِبَعَم ِلِه َو َسَّو َف ِبَأَم ِلِه َو اْس َتَعَّد َأِلَج ِلِه ‪.‬‬
‫‪َ -‬م ْن َتَز َّيَن ِبَعَم ِلِه َكاَنْت َحَسَناُتُه َسِّيَئاٍت‪.‬‬
‫‪َ -‬قاَل ذو النون‪ :‬اْع َلُم وا َأَّن اْلَعاِقَل َيْعَتِر ُف ِبَذْنِبِه ‪َ ،‬و ُيِح ُّس ِبَذْنِب َغْيِر ِه‪َ ،‬و َيُج وُد ِبَم ا َلَد ْيِه َو َيْز َهُد ِفيَم ا‬
‫ِع ْنَد َغْيِر ِه َو َيُكُّف َعْن َأَذاُه َو َيْح َتِم ُل اَأْلَذى َعْن َغْيِر ِه َو اْلَكِر يُم ُيْعِط ي َقْبَل الُّسَؤ اِل ‪َ ،‬فَكْيَف َيْبَخُل َبْعَد‬
‫الُّسَؤ اِل ؟ َو َيْعُذُر َقْبَل ااِل ْع ِتَذاِر ‪َ ،‬فَكْيَف َيْح ِقُد َبْعَد ااِل ْع ِتَذاِر ؟ َو َيَعُّف َقْبَل ااِل ْم ِتَناِع َفَكْيَف َيْط َم ُع ِفي‬
‫ااِل ْز ِد َياِد‪.‬‬
‫‪ -‬وَقاَل ‪َ :‬ثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَم َح َّبِة ‪ :‬الِّر َض ا ِفي اْلَم ْك ُر وِه‪َ ،‬و ُحْس ُن الَّظِّن ِفي اْلَم ْج ُه وِل ‪َ ،‬و الَّتْح ِس يُن ِفي‬
‫ااِل ْخ ِتَياِر ِفي اْلَم ْح ُذوِر ‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع ـاَل ِم الَّص َو اِب‪ :‬اُأْلْنُس ِبِه ِفي َج ِم يِع اَأْلْح َو اِل ‪َ ،‬و الُّسُكوُن ِإَلْيِه ِفي‬
‫َج ِم يِع اَأْلْع َم اِل ‪َ ،‬و ُحُّب اْلَم ْو ِت ِبَغَلَبِة الَّشْو ِق ِفي َج ِم يِع اَأْلْش َغاِل ‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اْلَيِقيِن ‪ :‬الَّنَظُر ِإَلى‬
‫ِهَّللا َتَعاَلى ِفي ُكِّل َشْي ٍء ‪َ ،‬و الُّر ُج وُع ِإَلْيِه ِفي ُكِّل َأْم ٍر ‪َ ،‬و ااِل ْسِتَعاَنُة ِبِه ِفي ُكِّل َح اٍل ‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل‬
‫الِّثَقِة ِباِهَّلل‪ :‬الَّسَخاُء ِباْلَم ْو ُج وِد‪َ ،‬و َتْر ُك الَّطَلِب ِلْلَم ْفُقوِد‪َ ،‬و ااِل ْسِتَناَبُة ِإَلى َفْض ِل اْلَم ْو ُج وِد‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن‬
‫َأْع َم اِل الُّشْك ِر ‪ :‬اْلُم َقاَر َبُة ِم َن اِإْل ْخ َو اِن ِفي الِّنْعَم ِة ‪َ ،‬و اْسِتْغَناِم َقَض اِء اْلَح َو اِئِج َقْبَل اْلَعِط َّيِة ‪َ ،‬و اْسِتْقاَل ِل‬
‫الُّشْك ِر ِلُم اَل َح َظِة اْلِم َّنِة ‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الِّر َض ا‪َ :‬تْر ُك ااِل ْخ ِتَياِر َقْبَل اْلَقَض ا‪َ ،‬و ُفْقَد اُن اْلَمَر اَر ِة َبْعَد‬
‫اْلَقَض ا‪َ ،‬و َهَيَج اُن اْلُحِّب ِفي َح ْش ِو اْلِباَل ‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اُأْلْنِس ِباِهَّلل‪ :‬اْسِتْلَذاُذ اْلَخ ْلَو ِة‪َ ،‬و ااِل ستيَح اُش‬
‫ِم َن الُّصْح َبِة ‪َ ،‬و اْسِتْح اَل ُء اْلَو ْح َدِة‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم ُحْس ِن الَّظِّن ِباِهَّلل‪ُ :‬قَّو ُة اْلَقْلِب‪َ ،‬و ُفْس َح ُة الَّر َج ا ِفي‬
‫الِّذ َّلِة ‪َ ،‬و َنْفُي اِإْل َياِس ِبُحْس ِن اِإْل َناَبِة ‪َ ،‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّشْو ِق ‪ُ :‬حُّب اْلَم ْو ِت َمَع الَّر اَح ِة ‪َ ،‬و ُبْغُض اْلَحَياِة‬
‫َمَع الَّدَعِة ‪َ ،‬و َد َو اُم اْلُح ْز ِن َمَع اْلِك َفاَيِة ‪.‬‬
‫‪َ -‬سَأَلُه َر ُج ٌل ‪َ :‬أُّي اَأْلْح َو اِل َأْغَلُب َعَلى َقْلِب اْلَعاِر ِف ‪ ،‬الُّسُر وُر َو اْلَفَر ُح َأِم اْلُح ْز ُن َو اْلُهُم وُم ؟ َفَقاَل ‪:‬‬
‫َأْو َص َلَنا ُهَّللا َو ِإَّياُكْم ِإَلى َج ميِل َم ا َنْأَم ُلُه ِم ْنُه‪َ ،‬و اْلِع ْلُم ِفي َهَذا ِع ْنِدي َو ُهَّللا َأْع َلُم َأَّنُه َلْيَس ُهَناَك َح اٌل ُيَشاُر‬
‫ِإَلْيِه ُدوَن َح اٍل ‪َ ،‬و اَل َسَبٌب ُدوَن َسَبٍب‪َ ،‬و َأَنا َأْض ِر ُب َلَك َم َثاًل ‪ :‬اْع َلْم َر ِح َم َك ُهَّللا َأَّن َم َثَل اْلَعاِر ِف ِفي َهِذِه‬
‫الَّداِر َم َثُل َر ُج ٍل َقْد ُتِّو َج ِبَتاِج اْلَكَر اَم ِة َو ُأْج ِلَس َعَلى َسِر يٍر ِفي َبْيٍت ُثَّم ُعِّلَق ِم ْن َفْو ِق َر ْأِسِه َسْيٌف‬
‫ِبَشْعِر ِه َو ُأْر ِسَل َعَلى َباِب اْلَبْيِت َأْسَد اِن َض اِر َياِن َفاْلَم ِلُك ُيْش ِر ُف ُكَّل َساَعٍة َبْعَد َساَعٍة َعَلى اْلَه اَل ِك‬
‫َو اْلَعَطِب َفَأَّنى َلُه ِبالُّسُر وِر َو اْلَفَر ِح َعَلى الَّتَم اِم ؟‬
‫‪َ -‬عِن اآْل َفِة اَّلِتي ُيْخ َد ُع ِبَه ا اْلُم ِر يُد َعِن ِهَّللا‪َ ،‬فَقاَل ‪ُ :‬يِر يِه اَأْلْلَطاَف َو اْلَكَر اَم اِت َو اآْل َياِت‪.‬‬
‫ِقيَل َلُه‪َ :‬يا َأَبا اْلَفْيِض ‪ِ ،‬فيَم ُيْخ َد ُع َقْبَل ُو ُص وِلِه ِإَلى َهِذِه الَّدَر َج ِة ‪َ ،‬قاَل ‪ِ :‬بَو ْط ِء اَأْلْع َقاِب‪َ ،‬و َتْعِظ يِم‬
‫الَّناِس َلُه‪َ ،‬و الَّتَو ُّسِع ِفي اْلَم َج اِلِس ‪َ ،‬و َكْثَر ِة اَأْلْتَباِع‪َ ،‬فَنُعوُذ ِباِهَّلل ِم ْن َم ْك ِر ِه َو ِخ َدِعِه ‪.‬‬

‫‪َ -‬ح َّدَثَنا َأِبي‪ ،‬ثنا َأْح َم ُد‪ ،‬ثنا َسِع يٌد‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬سِم ْعُت َذا الُّنوِن ‪َ ،‬يُقوُل‪َ :‬ثاَل َثٌة َعاَل َم اُت اْلَخ ْو ِف ‪ :‬اْلَو َر ُع َعِن‬
‫الُّشُبَه اِت ِبُم اَل َح َظِة اْلَو ِع يِد‪َ ،‬و ِح ْفُظ الِّلَساِن ُم َر اَقَبًة ِللَّتْعِظ يِم ‪َ ،‬و َد َو اُء اْلَكَم ِد ِإْش َفاًقا ِم ْن َغضِب اْلَح ِليِم ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اِإْل ْخ اَل ِص ‪ :‬اْسِتَو اُء اْلَم ْد ِح َو الَّذِّم ِم َن اْلَعاَّم ِة َو ِنْس َياُن ُر ْؤ َيِتِه ْم ِفي اَأْلْع َم اِل َنَظًر ا‬
‫ِإَلى ِهَّللا َو اْقِتَض اَء َثَو اِب اْلَعَم ِل ِفي اآْل ِخ َر ِة ِبُحْس ِن َعْفِو ِهَّللا ِفي الُّدْنَيا ِبُحْس ِن اْلِم ْد َح ِة ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اْلَكَم اِل ‪َ :‬تْر ُك اْلَج َو اَل ِن ِفي اْلُبْلَد اِن ‪َ ،‬و ِقَّلُة ااِل ْغ ِتَباِط ِلُنْعَم اُه ِع ْنَد ااِل ْم ِتَح اِن ‪َ ،‬و َص ْفُو‬
‫الَّنْفِس ِفي الِّس ِّر َو اِإْل ْع اَل ِن ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل اْلَيِقيِن ‪ِ :‬قَّلُة اْلُم َخاَلَفِة ِللَّناِس ِفي اْلِع ْش َر ِة‪َ ،‬و َتْر ُك اْلَم ْد ِح َلُهْم ِفي اْلَعِط َّيِة ‪َ ،‬و الَّتَنُّز ُه َعْن‬
‫َدِم ِه ْم ِفي اْلَم ْنِع َو الَّر ِز َّيِة ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الُم َتَو ِّك ِل ‪َ :‬نْقُض اْلَعاَل ِئِق ‪َ ،‬و َتْر ُك الَّتَم ُّلِق ِفي الَّساَل ِئِق ‪َ ،‬و اْس ِتْعَم اُل الِّص ْد ِق ِفي‬
‫اْلَخ اَل ِئِق ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّص ْبِر ‪ :‬الَّتَباُعُد َعِن اْلُخ َلَطاِء ِفي الِّش َّدِة‪َ ،‬و الُّسُكوُن ِإَلْيِه َمَع َتَج ُّر ِع ُغَص ِص اْلَبِلَّيِة ‪،‬‬
‫َو ِإْظ َه اُر اْلِغ َنى َمَع ُح ُلوِل اْلَفْقِر ِبَساَح ِة اْلَم ِع يَشِة ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلِح ْك َم ِة ‪ِ :‬إْنَز اُل الَّنْفِس ِم َن الَّناِس َكَباِط ِنِه ْم ‪َ ،‬و َو ْع ُظُهْم َعَلى َقْد ِر ُعُقوِلِه ْم ِلَيُقوُم وا‬
‫َعْنُه ِبَنْفٍع َح اِض ٍر ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الُّز ْه ِد‪ِ :‬قَص ُر اَأْلَم ِل ‪َ ،‬و ُحُّب اْلَفْقِر ‪َ ،‬و اْسِتْغَناٌء َمَع َص ْبٍر ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلِع َباَدِة‪ُ :‬حُّب الَّلْيِل ِللَّسَهِر ِبالَّتَه ُّجِد َو اْلَخ ْلَو ِة‪َ ،‬و َكَر اَهُة الُّص ْبِح ِلُر ْؤ َيِة الَّناِس َو اْلَغْفَلِة ‪،‬‬
‫َو اْلَبَد اُر ِبالَّص اِلَح اِت َم َخاَفَة اْلِفْتَنِة ‪َ .‬و َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَّتَو اِض ِع‪َ :‬تْصِغ يُر الَّنْفِس َم ْعِر َفًة ِباْلَعْيِب‪َ ،‬و َتْعِظ يُم‬
‫الَّناِس ُحْر َم ًة ِللَّتْو ِح يِد‪َ ،‬و َقُبـوُل اْلَح ِّق َو الَّنِص يَح ِة ِم ْن ُكِّل َأَح ٍد‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َم اِل الَّسَخاِء ‪ :‬اْلَبْذُل ِللَّشْي ِء َمَع اْلَح اَج ِة ِإَلْيِه ‪َ ،‬و َخ ْو ُف اْلُم َكاَفَأِة اْسِتْقاَل اًل ِلْلَعِط َّيِة ‪،‬‬
‫َو اْلَخ ْو ُف َعَلى الَّنْفِس اْسِتْغَناًء ِإِل ْد َخاِل الُّسُر وِر َعَلى الَّناِس ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم ُحْس ِن اْلُخ ُلِق ‪ِ :‬قَّلُة اْلِخ اَل ِف َعَلى اْلُم َعاِش ِر يَن ‪َ ،‬و َتْح ِس يُن َم ا َيِر ُد َعَلْيِه ِم ْن َأْخ اَل ِقِه ْم‬
‫َو ِإْلَز اِم الَّنْفِس الاَّل ِئَم ِة ِفيَم ا َيْخ َتِلُفوَن ِفيِه َكًّفا َعْن َم ْعِر َفِة ُعُيوِبِه ْم ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّر ْح َم ِة ِلْلَخ ْلِق ‪ :‬اْنِز َو اُء اْلَعْقِل ِلْلَم ْلُه وِفيَن ‪َ ،‬و ُبَكاُء اْلَقْلِب ِلْلَيِتيِم َو اْلِم ْسِك يِن ‪َ ،‬و ِفْقَد اُن‬
‫الَّشَم اَتِة ِبَمَص اِئِب اْلُم ْسِلِم يَن ‪َ ،‬و َبْذُل الَّنِص يَح ِة َلُهْم ُم َتَجِّر ًعا ِلَمَر اَر ِة ُظُنوِنِه ْم َو ِإْر َشاِدِه ْم ِإَلى َمَص اِلِح ِه ْم‬
‫َو ِإْن َج ِه ُلوُه َو َكِر ُهوُه‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع َظِم ااِل ْسِتْغَناِء ِباِهَّلل‪ :‬الَّتَو اُض ُع ِلْلُفَقَر اِء اْلُم َتَذِّلِليَن ‪َ ،‬و الَّتَعُّظُم َعَلى اَأْلْغ ِنَياِء اْلُم َتَكِّبِر يَن ‪،‬‬
‫َو َتْر ُك اْلُم َعاَشَر ِة َأِلْبَناِء الُّدْنَيا اْلُم ْس َتْك ِبِر يَن ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَحَياِء ‪ِ :‬و ْج َد اُن اُأْلْنِس ِبِفْقَد اِن اْلَو ْح َشِة ‪َ ،‬و ااِل ْم ِتاَل ُء ِم َن اْلَخ ْلَو ِة ِبِإْد َم اِن الَّتَفُّكِر ‪،‬‬
‫َو اْسِتْش َعاُر اْلَه ْيَبِة ِبَخ اِلِص اْلُم َر اَقَبِة ‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم اْلَم ْعِر َفِة ‪ :‬اِإْل ْقَباُل َعَلى ِهَّللا‪َ ،‬و ااِل ْنِقَطاُع ِإَلى ِهَّللا‪َ ،‬و ااِل ْفِتَخاُر ِباِهَّلل‪.‬‬
‫َو َثاَل َثٌة ِم ْن َأْع اَل ِم الَّتْسِليِم ‪ُ :‬م َقاَبَلُة اْلَقَض اِء ِبالِّر َض ا‪َ ،‬و الَّص ْبُر ِع ْنَد اْلَباَل ِء ‪َ ،‬و الُّشْك ُر ِع ْنَد الَّر َخاِء »‪.‬‬
‫‪َ -‬أْخ َبَر َنا ُمَحَّم ُد بن َأْح َم َد بن َيْعُقوَب اْلَبْغَداِد ُّي ‪ ،‬ثنا َأُبو َج ْعَفٍر ُمَحَّم ُد ْبُن َعْبِد اْلَم ِلِك ْبِن َهاِشٍم ‪َ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫ُقْلُت ِلِذي الُّنوِن ‪َ :‬كِم اَأْلْبَو اُب ِإَلى اْلِفْط َنِة ؟ َقاَل ‪َ :‬أْر َبَعُة َأْبَو اٍب‪َ :‬أَّو ُلَه ا اْلَخ ْو ُف ‪ُ ،‬ثَّم الَّر َج ا‪ُ ،‬ثَّم اْلَم َح َّبُة‪ُ ،‬ثَّم‬
‫الَّشْو ُق ‪.‬‬
‫َو َلَه ا َأْر َبَعُة َم َفاِتيَح ‪َ :‬فاْلَفْر ُض ِم ْفَتاُح َباِب اْلَخ ْو ِف ‪َ ،‬و الَّناِفَلُة ِم ْفَتاُح َباِب الَّر َج اِء ‪َ ،‬و ُحُّب اْلِع َباَدِة‬
‫َو الَّشْو ُق ِم ْفَتاُح َباِب اْلَم َح َّبِة ‪َ ،‬و ِذ ْك ُر ِهَّللا الَّداِئُم ِباْلَقْلِب َو الِّلَساِن ِم ْفَتاُح َباِب الَّشْو ِق ‪َ ،‬و ِه َي َد َر َج ُة اْلَو اَل َيِة ‪،‬‬
‫َفِإَذا َهَم ْم َت ِبااِل ْر ِتَقاء ِفي َهِذِه الَّدَر َج ِة َفَتَناَو ْل ِم ْفَتاَح َباِب اْلَخ ْو ِف ‪َ ،‬فِإَذا َفَتْح َتُه اَّتَص ْلَت ِإَلى َباِب اْلِفْط َنِة‬
‫َم ْفُتوًح ا اَل ُغُلَق َعَلْيِه ‪َ ،‬فِإَذا َد َخ ْلَتُه َفَم ا َأُظُّنَك ُتِط يُق َم ا َتَر ى ِفيِه ِح يَنِئٍذ َيُج وُز َشَر ُفَك ِباِإْل ْش َر اِف َو َيْعُلو‬
‫ُم ْلُكَك ُم ْلَك اْلُم ُلوِك ‪َ ،‬و اْع َلْم َأْي َأِخ ي َأَّنُه َلْيَس ِباْلَخ ْو ِف ُيَناُل اْلَفْر ُض ‪َ ،‬و َلِك ْن ِباْلَفْر ِض ُيَناُل اْلَخ ْو ُف ‪َ ،‬و اَل‬
‫ْل‬ ‫ْل‬
‫ِبالَّر َج اِء ُتَناُل الَّناِفَلُة َو َلِك ْن ِبالَّناِفَلِة ُيَناُل الَّر َج اُء ‪َ ،‬كَم ا َأَّنُه َلْيَس ِباَأْلْبَو اِب ُتَناُل ا َم َفاِتيُح َو َلِك ْن ِبا َم َفاِتيِح‬
‫ُتَناُل اَأْلْبَو اُب ‪َ ،‬و اْع َلْم َأَّنُه َم ْن َتَكاَم َل ِفيِه اْلَفْر ُض َفَقْد َتَكاَم َل ِفيِه اْلَخ ْو ُف ‪َ ،‬و َم ْن َج اَء ِبالَّناِفَلِة َفَقْد َج اَء‬
‫ِبالَّر َج اِء ‪َ ،‬و َم ْن َج اَء ِبَم َح َّبِة اْلِع َباَدِة‪َ ،‬فَقْد َو َص َل ِإَلى ِهَّللا‪َ ،‬و َم ْن َشَغَل َقْلَبُه َو ِلَساَنُه ِبالِّذ ْك ِر َقَذَف ُهَّللا ِفي‬
‫َقْلِبِه ُنوُر ااِل ْش ِتَياِق ِإَلْيِه ‪َ ،‬و َهَذا ِسُّر اْلَم َلُكوِت َفاْع َلْم ُه َو اْح َفْظ ُه َح َّتى َيُكوَن ُهَّللا َعَّز َو َج َّل ُهَو اَّلِذي ُيَناِو ُلُه‬
‫َم ْن َيَشاُء ِم ْن ِع َباِدِه»‪.‬‬

‫‪ -3‬األشعار‪:‬‬

‫أطلعُت قلبي على سِّر ي وأحشائي‬


‫من نظرٍة وقعْت مِّني على دائي‬
‫قد كنُت ِغًّر ا فما حَّيفت من نظري‬
‫ال علَم لي أَّن بعضي بعُض أعدائي‬
‫‪...‬‬
‫فيا لقلوٍب قَّر بْت فتقَّر بْت‬
‫لذي العرِش مَّم ن زَّيَن الُم لَك بالُقرِب‬
‫رضاها فأرضاها فحازْت مدى الِّر ضا‬
‫وحَّلْت مَن المحبوِب بالمنزِل الَّر حِب‬
‫‪...‬‬
‫لها من لطيِف الُحِّب عزٌم سرْت بِه‬
‫ويهتُك باألفكاِر ما داخل الُحْج ِب‬
‫فإْن فقدْت خوَف الِفراِق ُأللِفها‬
‫أدامْت حنيًنا تطلُب اُألنَس بالُقرِب‬
‫سَر ى سُّر ها بيَن الحبيِب وبيِنها‬
‫فأضحى مُص وًنا من ِس وى الَّر ِّب في القلِب‬
‫‪...‬‬
‫حْسُب المحِّبيَن في الُّدنيا بأَّن لُه م‬
‫من رِّبهم سبًبا ُيدِني إلى سَبِب‬
‫قوٌم جُسوُمُه ُم في األرِض ساريٌة‬

‫نعْم وأرواُح هْم تختاُل في الُح جِب‬


‫لهفي على َخلوٍة منه تسِّدُدني‬
‫إذا تضَّر عْت باإلشفاِق في الُح جِب‬
‫يا رُّب يا رُّب أنَت ُهللا ُم عتَم ِدي‬
‫متى أراَك جهاًر ا غير ُم حتجِب‬
‫‪...‬‬
‫للعارفين قلوٌب يعرفوَن بها‬
‫نوَر اإللِه بسِّر السِّر في الُحُجِب‬
‫صٌّم عن الخلِق ُعْم ٌي عن مناظرهم‬
‫بكٌم عن الُّنْط ِق في دعواُه بالكذِب‬
‫‪...‬‬
‫يا ذا الذي أضحى الفؤاُد بذكرِه‬
‫أنَت الذي ما إْن سواه أريُد‬
‫يا منيتي دوَن األناِم وُبغيتي‬
‫يا مْن لُه كُّل األناِم عبيُد‬
‫تفنى الليالي والزماُن بأسِر ِه‬
‫وهواك غٌّض في الفؤاِد جديُد‬
‫‪...‬‬
‫أعَم يُت عينَّي عن الدنيا و زينِتها‬

‫فأنت والروُح شيٌء غيُر ُم فَترِق‬


‫‪....‬‬
‫ال ألِّني أنساك أكثر ذكراك‬
‫ولكن بذاَك يجري لساني‬

‫أنت في القلِب والجوانِح والُّر وِح‬


‫وأنت الُم نى وأنت األماني‬

‫كُّل عضٍو مِّني يراك من الَّشوِق‬


‫بعيٍن غنيٍة عن عياني‬
‫‪......‬‬
‫الخوُف أمَر ضني والشوُق أحَر قني‬
‫والحُّب أهلَكني والُقرُب أْح ياني‬
‫‪.....‬‬
‫ِلَم تشتكي ألم البال‬
‫وأنَت تنتحُل المحَّبْه‬
‫إن المحَّب هو الصبو‬
‫ُر على البالِء لَم ن أحَّبْه‬
‫‪.....‬‬
‫َشَو اِه ُد َأْه ِل اْلُحِّب َباٍد َدِليُلَه ا‬
‫ِص ْد ٍق َم ا يِض ُّل َسِبيلَه ا‬ ‫ِبَأْع اَل ِم‬
‫ُأوِلي ِص ْد ِق اْلَم َح َّبِة َو الِّر َض ا‬ ‫ُجُسوُم‬
‫َتِبيُن َعْن ِص ْد ِق اْلِو َداِد ُنُح ولَه ا‬
‫ِإَذا َناَج ِت اَأْلْفَه اُم ُأْنَس ُنُفوِس ِه ْم‬
‫بَأْلِسَنٍة َتْخ َفى َعَلى الَّناِس قْيلَه ا‬
‫‪...‬‬
‫وما من كاِتٍب إال سيفنى‬
‫ويبقي الدهُر ما كتبت يداُه‬
‫فال تكتْب بكِّفك غيَر شيٍء‬
‫يسُّر َك في القيامِة أن تراه‬
‫أبو بكر الِّش بلي‪..‬‬
‫وَّدع الَّذهب ليذهَب مع هللا‬
‫كان يوًم ا ما أحَد الُو الة الُم تنِّفذين في ُخ راَسان (في مدينٍة قريبٍة من سمرقند‪ ،‬دنباوند‪ ،‬من توابع‬
‫طبرستان‪ ،‬من نواحي رستاق الرّي )‪ ،‬وكان غالبية ُسَّكان اإلقليم من الفرس والبشتون والبلوش مع‬
‫وجوٍد للترك في األقسام الشمالية‪ ،‬يأمُر فُيطاع‪ ،‬ويسأُل فُيجاب‪ ،‬له سلطٌة تنفيذية‪ ،‬وسطوٌة رئاسية‪،‬‬
‫لكَّنه ترك كل شيٍء وراءه‪ ،‬وتنازل عن الوالية‪ ،‬واختار سلطة القلب‪ ،‬وسطوة الُّر وح‪ ،‬بعدما فَّر غ‬
‫قلبه من الدنيا؛ فوهَب أمواله‪ ،‬وما يملك‪ ،‬ووَّز عها على الفقراء والُم حتاجين‪ ،‬وسلك طريق‬
‫التصُّو ف‪ ،‬وهو أَّو ل َم ن سَّم ى التصوف بعلم الِخ َر ق‪ ،‬في مقابلة علم الورق‪ ،‬وهو علم الفقه الظاهر‬
‫والشريعة‪.‬‬
‫لقد ترك الجاه والمنصب‪ ،‬وتخَّلى عن األَّبهة والعظمة‪ ،‬وَّدع الَّذهب ليذهَب مع هللا وإليه‪ ،‬واعتبر‬
‫صراط األولياء هو المحبة ‪.‬‬
‫وقد رأى التصوَف «ترويح القلوب‪ ،‬وتجليل الخواطر بأردية الوفاء‪ ،‬والتخُّلق بالَّسخاء‪ ،‬والِبْش ر‬
‫في اللقاء‪ ،‬وهو الجلوس مع هللا بال هٍّم ‪ ،‬والصوفية أطفاٌل في ِح ْج ر الحق»‪.‬‬
‫فالُّص وفي عند الِّش بلي – الذي عاش سبًعا وثمانين سنة ‪ -‬هو «َم ن صفا من الكدر‪ ،‬وخلص من‬
‫الغير‪ ،‬وامتأل من الفكر‪ ،‬وتساوى عنده الذهب والَم َد ُر ‪ :‬أي الِّط ين الَّلِز ُج المتماسك»‪ .‬وهو واحٌد من‬
‫أهل الباطن‪ .‬وكانت إشارات الشبلي تعتبر في زمانه من العجائب ‪.‬‬
‫كان له ذوق خاص في شعر العشق والغزل‪ ،‬ومجاهدات عجيبة‪ ،‬فكان يكتحل بالملح حتى ال ينام‬
‫ويتعَّو د الَّسهر؛ ألن «من نام غفل‪ ،‬ومن غفل حجب»‪ ،‬وكان من أصحاب الُج نيد الذي وصفه‬
‫بـ«الَّسكران» لفرط وجْد ِه وهيامه‪ ،‬وقال عنه أيًض ا‪« :‬لكل قوم تاج‪ ،‬وتاج هذا القوم الشبلي‪ ،‬وذاك‬
‫الشارب رحيق المعرفة»‪ ،‬وتعَّلم على يديه‪ ،‬وفي اللقاء األول للِّش ْبلي مع الُج نيد (‪298 - 215‬‬
‫هجرية) قال له أبو بكر‪« :‬لقد حدثوني عنك أن عندك جوهرة العلم الرَّباني الذي ال يضل صاحبه‬
‫وال يشقى‪ ،‬فإما أن تمنح وإما أن تبيع‪.‬‬
‫فقال الُج نيد‪ :‬ال أستطيع أن أبيعها لك فما عندك ثمنها‪ ،‬وإن منحتها لك أخذتها رخيصًة فال تعرف‬
‫قدرها‪ ،‬ولكن وقد رزقت هذا العزم فهو عالمة اإلذن‪ ،‬وبشير التوفيق‪ ،‬فألِق بنفسك غير هَّياٍب في‬
‫عباب هذا المحيط مثلما فعلت أنا‪ ،‬ولعلك إن صبرت وصاحبك التوفيق أن تظفر بها‪ ،‬واعلم أن‬
‫طريقنا طريق المجاهدين اآلخذين بقوله تعالى‪َ :‬و اَّلِذيَن َج اَهُدوا ِفيَنا َلَنْه ِد َيَّنُهْم ُسُبَلَنا‪ ،‬فاجعل هذه اآلية‬
‫نصب عينيك فهي معراجك إلى ما تريد»‪.‬‬
‫وبعد وقٍت ليس بالَّطويل في ُعمر زمن أهل الوقت‪ ،‬قال الُج نيد‪« :‬ال تنظروا إلى أبي بكر الشبلي‬
‫بالعين التي ينظر بها بعضكم إلى بعض‪ ،‬فإنه عين من عيون هللا تعالى‪ ،‬ولم أَر في الصوفية أعلَم‬
‫من الِّش بلي‪ ،‬ومن شَّدة ُز هده‪ .‬كان ُيلَّقب بـ«ريحانة المؤمنين» وكان يؤُّم حلقته في جامع المنصور‬
‫ببغداد خلٌق كثيٌر »‪.‬‬
‫وصاحب الحالج (‪ 922 – 858‬ميالدية ‪ 309 - 244 /‬هجرية)‪ ،‬وكان يرِّدُد‪« :‬كنُت مع‬
‫الحالج شيًئا واحًدا‪ ،‬إال أنه أعلن وأنا كتمُت »‪ .‬وزاره في سجنه‪ ،‬فوجده جالًسا يخط في التراب‪،‬‬
‫فجلس بين يديه حتى ضجر‪ ،‬فرفع الحاَّل ج طرفه إلى السماء‪ ،‬وقال‪« :‬إلهي لكِّل حٍّق حقيقٌة‪ ،‬ولكِّل‬
‫خلٍق طريقٌة‪ ،‬ولكِّل عهٍد وثيقٌة‪ ،‬ثم قال‪« :‬يا شبلي‪ ،‬من أخذه مواله عن نفسه‪ ،‬ثم أوصله إلى بساط‬
‫أنسه‪ ،‬كيف تراه؟»‬
‫فقال الشبلي‪ :‬وكيف ذاك؟‬
‫فقال الحاَّل ج‪ :‬يأخذه عن نفسه‪ ،‬ثم يرُّده على قلبه‪ ،‬فهو عن نفسه مأخوٌذ‪ ،‬وعلى قلبه مرُدوٌد‪ ،‬فأخذه‬
‫عن نفسه تعذيٌب ‪ ،‬ورده إلى قلبه تقريٌب ‪ ،‬طوبى لنفٍس كانت له طائعًة‪ ،‬وشموس الحقيقة في قلوبها‬
‫طالعة‪ ،‬ثم أنشد‪:‬‬
‫طلعت شمس من أحبك لياًل‬
‫فاستضاءت فما لها من غروب‬
‫إن شمس النهار تغرب بالليل‬
‫وشمس القلوب ليس تغيب»‬
‫وقال الشبلي‪« :‬إن هلل عباًدا لو بزقوا (بصقوا) على جهنم ألطفأوها»‪.‬‬
‫وقيل له‪« :‬لَم تقول‪ :‬هللا‪ ،‬وال تقول‪ :‬ال إله إال هللا؟ فقال‪ :‬أستحي أن أواجه إثباًتا بعد نفي‪ ..‬أخشى‬
‫أن أؤخذ في كلمة الجحود وال أصل إلى كلمة اإلقرار»‪.‬‬
‫عاش بين القرنين الثالث والرابع الهجريين‪ ،‬وولد في زمن الخليفة العباسي المنتصر باهلل‪ ،‬إنه أبو‬
‫بكر الشبلي (‪ 334 - 247‬هجرية ‪ 946 - 861 /‬ميالدية) الذي ُسئل‪ :‬ما عالمة العارف؟ قال‪:‬‬
‫صدره مشروح‪ ،‬وقلبه مجروح‪ ،‬وجسمه مطروح‪ .‬الوجد عندي جحود ما لم يكن َعن شهود وشاهد‬
‫الحق عندي يفني شهود الوجود‪.‬‬
‫وكان الشبلي يضبط حواسه‪ ،‬ويراعي أنفاسه‪ ،‬ويعيش في تآلٍف وتعاطٍف ‪ ،‬إْذ استوت حاله في‬
‫المشهد والمغيب‪ ،‬وفي الحِّل والترحال‪ ،‬وتحَّو ل قلبه – وهو الزاهُد المستغني المتجِّر د ‪ -‬من األشياء‬
‫إلى رب األشياء‪ .‬و«لقد صار أْو َج َد أهل الوقت علًم ا وحااًل وظرًفا» كما يذكر عبد الوهاب‬
‫الشعراني‪.‬‬
‫وقيل َلُه‪َ :‬يا َأَبا بكر‪ ،‬الَّر ُج ُل َيْس َم ُع َقْو اًل َو ال َيْفَه ُم ُه‪َ ،‬فَيَتَو اَج ُد َعَلْيِه ؟ َفَأْنَشَأ َيُقوُل‪:‬‬

‫ُر َّب َو ْر َقاَء َهُتوٍف ِبالُّض َح ى َذاِت َشْج ٍو َص َدْح َت ِفي َفَنِن‬
‫َفُبَكاِئي ُر َّبَم ا َأَّر َقَه ا َو ُبَكاَها ُر َّبَم ا َأَّر َقِني‬
‫َو َلَقْد َتْشُكو َفَم ا َأْفَه ُم َه ا َو َلَقْد َأْشُكو َفَم ا َتْفَه ُم ِني‬
‫َغْيَر َأِّني ِباْلَج َو ى َأْع ِر ُفَه ا َو ْه َي َأْيًض ا ِباْلَج َو ى َتْعِر ُفِني‪.‬‬
‫وقليلة هي المصادر والمراجع التي تتناول سيرة الشبلي‪ ،‬وإن كانت هناك كتٌب محدودٌة قد‬
‫تناولت حياته ومسيرته‪ ،‬فالكتب التي وصلت إلينا من الشبلي‪ ،‬تكاد تكون معدومة باستثناء ديوانه‬
‫الذي لم يسلم من تداخل النصوص‪ ،‬ونسبة بعضها إليه مع أنها ليست له‪.‬‬
‫ريحانُة المؤمنين المجُذوب نحو الُّنور‬
‫«َم ن ماتْت هَّم تُه ضُعفْت محَّبُتُه» الِّش بلي‬
‫هذا صوفٌّي أخَذُه الوَلُه الذي يِر ُد على القلب‪ ،‬وأسَر ُه الوْج ُد‪ ،‬ال يخطُر بباله شيٌء آخر غير الحق‬
‫الذي يتجَّلى له‪ ،‬جَذَبُه الِّس ر الذي يِر ُد عليه وال يطالُعه‪ .‬عاش في الغْيبة‪ ،‬تغلبُه الحال‪.‬‬
‫شرب هو والحالج من كأٍس واحدٍة‪ ،‬لكَّنه صحا وكتم وسَتر محَّبتُه‪ ،‬بينما سكر الحالج‪ ،‬فقال‬
‫وباح‪ ،‬فُقِتل‪.‬‬
‫إنه أبو بكر الِّش بلي صاحب القلب الَّطائر بأجنحة المعرفة‪ ،‬والذي آمن بأَّن العبادة كالُحِّب ال تكوُن‬
‫بالشركة‪ ،‬ولما ُسئل‪ :‬هل أنت الِّش بلي؟ قال‪« :‬أنا النقطة التي تحَت الباء»‪ ،‬وُهنا نتذَّكر قوَل أبي‬
‫مدين الغوث (‪ 594- 509‬للهجرة)‪« :‬ما رأيُت شيًئا إال رأيُت الباَء مكُتوبًة»؛ ألَّن «سر الخلق‪،‬‬
‫وسر التكوين في حْر ف الباء للبسملة‪ِ ،‬بْس ِم ِهّللا الَّر ْح مِن الَّر ِح يِم »‪.‬‬
‫واألصل يُعوُد إلى قول اإلمام علي بن أبي طالب‪« :‬كل ما في الُكتب الُم نَّز لة‪ ،‬فهو في القرآن‪ ،‬و‬
‫كل ما في القرآن فهو في الفاتحة‪ ،‬و كل ما في الفاتحة فهو في (ِبْس ِم ِهّللا الَّر ْح مِن الَّر ِح يِم )‪ ،‬و كل ما‬
‫في (ِبْس ِم ِهّللا الَّر ْح مِن الَّر ِح يِم ) في الباء‪ ،‬و كل ما في الباء في النقطة‪ ،‬و أنا النقطة تحت الباء»‪.‬‬
‫وعلم النقط والدوائر من أجِّل الُعلوم وغوامض األسرار؛ ألَّن ُم نتهى الكالم إلى الُح روف‪،‬‬
‫ومنتهى الُح روف إلى األلف‪ ،‬وُم نتهى األلف إلى النقطة‪ ،‬والنقطة عندهم عبارٌة عن نُز ول الوُج ود‬
‫المطلق الَّظاهر بالباطن‪ ،‬ومن االبتداِء باالنتهاِء يعني ُظهور الُه وية التي هي مبدأ الوُج ود التي ال‬
‫عبارة لها وال إشارة حسبما قال الحافظ رجب البرسي (توفي سنة ‪ 813‬هجرية) في كتابه‬
‫«مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين»‪.‬‬
‫الِّش بلي عارٌف عاشٌق ‪ُ ،‬ذو قلٍب يعشُق من ُدون أن يدري جسده‪« :‬أحَّب قلبي وما دَر ى بدني»‪،‬‬
‫وهو من أوائِل المتصوفة الذين التفتوا إلى أن الُح رية ما هي إال «ُح رية القلب ال غير»‪ ،‬إْذ هو‬
‫ُم حٌّب مجُذوٌب نحو الُّنور‪.‬‬
‫فالِّش بلي هو ابن الَّشطح والملَّقب بـ«ريحانة الُم ؤمنين»‪ ،‬وهو كغيره

‫من المتصوفة شاعٌر ُم ِقٌّل ‪ ،‬فما رأينا صوفًّيا له إنتاٌج غزيٌر من الِّشْعر‪ ،‬باستثناء ابن العربي‬
‫(‪ 1240 -1165‬ميالدية‪ 638 – 558/‬هجرية)‪ ،‬وُعمر بن الفارض

‫(‪ 576‬هجرية‪1181/‬ميالدية – ‪ 1235‬ميالدية)‪ ،‬واألخير لم يصل إلينا منه إال ديواٌن ِش عرٌّي ‪،‬‬
‫وال ندري شيًئا عن كتٍب أخرى له ما زالت مخُطوطًة أو مجُه ولة‪.‬‬
‫وإذا كان جعفر الُخ لدي (‪ 348‬هجرية – ‪ 959‬ميالدية‪ ،‬وهو من أعالم التصوف في القرن‬
‫الرابع الهجري‪ ،‬من أفتى اْلَم َشاِيخ وأجلهم َو َأْح َسنهْم قواًل ‪َ ،‬و َكاَن اْلمرجع ِإَلْيِه ِفي ُعُلوم اْلَقْو م وكتبهم‬
‫وحكاياتهم وسيرهم) يرِّدد أنه يحفُظ أكثر من مئٍة وثالثين ديواًنا من دواوين الصوفية‪ ،‬فمن المؤَّكد‬
‫أَّن كثيَر ها قد ضاع‪ ،‬أو ُأْح ِر ق‪ ،‬أو ُغِس ل بالماء‪ ،‬أو اختفى باإلهمال أو الَّسرقة؛ ألنُه صار من‬
‫الَّص عب أن ُيحِص ي المرُء عشرين ديواًنا شعرًّيا صوفًّيا‪.‬‬
‫وفي تجربة الِّش بلي الُّص وفية تَم َّثل بِشْعر كل من‪ُ :‬ز هْير بن أبي سلمى‪ ،‬والعَّباس بن األحنف‪،‬‬
‫وقيس بن الملَّو ح «مجنون ليلى»‪ ،‬وابن المعتز‪ ،‬وأبي الحسن النوري‪ ،‬وعبد الَّص مد بن المعذل‪،‬‬
‫وذي الرمة‪ ،‬وقيس بن ُذرْيح‪ ،‬وأبي تمام‪ ،‬والمتنبي‪ ،‬والحاَّل ج‪.‬‬
‫ولم يهتم أحٌد بالِّش بلي االهتمام الكافي أو الذي يليق بمكانته كُم تصِّو ف‪ ،‬ودائًم ا ما يأتي ُم رافًقا أو‬
‫تالًيا للحاَّل ج‪ ،‬إْذ كان صديقه وُم جايله ورفيقه‪ ،‬وُهما من عائلٍة ُص وفيٍة وِشعريٍة واحدٍة‪ ،‬أو على األقِّل‬
‫متشابهة‪.‬‬
‫على الرغم من أَّن شيخه الُج نْيد قد قال‪« :‬نحن حَّبرنا هذا العلم تحبيًر ا‪ ،‬ثم خَّبأناُه في الَّسراديب‪،‬‬
‫فجئَت أنَت ‪ ،‬فأظهرَتُه على رُؤوس المأل»‪.‬‬
‫وقليلٌة هي – بل نادرٌة – ُكتب مختارات الِّش عر أو النثر الُّص وفِّي في تراثنا القديم والحديث‪ ،‬وإْن‬
‫كان االهتمام كله ُم نصًّبا على ِس َير أقطاب التصُّو ف أو تحقيق ُكتبهم ورسائلهم؛ ألَّن الدولَة‬
‫اإلسالميَة الرسميَة أخرجت المتصوفة من المتن‪ ،‬واكتفت بوُج ودهم في الهامش‪ ،‬بل وطاردتهم حّد‬
‫اإلقصاء والنفي والَّطرد والَّسجن والقتل‪ ،‬لكَّن ِم صفاَة الزمان استطاعت أن تحفظ لنا عدًدا من‬
‫أقطاِب التصُّو ف‪ ،‬وتعيدهم إلى المْتن بعد موتهم بمئات السنين‪.‬‬
‫وستظُّل جُه ودي وجُه ود َم ن سبقوني ناقصة؛ ألَّن الِّش عر الذي كتبه المتصوفُة ُم َو َّز ٌع ومنُثوٌر في‬
‫بطون كتب السلف التراثية‪ ،‬كما أن عدًدا كبيًر ا من اإلرِث الِّش عرِّي لهؤالء المتصوفة قد ضاع‬
‫واختفى وال أثَر له‪.‬‬
‫وهناك َم ن ينسُب الِّش بلي إلى مصر‪ ،‬وأنه عاش ُج زًء ا من صباه وشبابه في اإلسكندرية‪ ،‬حيث‬
‫كان خاله أميًر ا لألمراء‪.‬‬
‫لقد هجر الِّش بلي حياَة الَّتَر ف‪ ،‬وذهب إلى الُّز هد والتخِّلي والتجُّر د؛ ليبحَث بعد ُم جاهدٍة مضنيٍة عن‬
‫الَّسكينة والُّطمأنينة‪ ،‬والمحَّبة والمعرفة والُّطهر‪ ،‬واالئتناس إلى الحْر ف المحُم ول على الُّر وح‬
‫الُقُدس‪ ،‬وانشغل بمجاهداته وإشراقاته وشطحاته‪.‬‬
‫كان الِّش بلي يؤمُن بمقولة‪« :‬استراح َم ن أسقط عن قلبه محَّبة الدنيا»‪ ،‬إْذ رفض أن يأكَل الُّدنيا‬
‫بالدين‪ .‬فقد نَّقى ُر وَح ه من شوائبها وما علق بها من شواغل دنيويٍة‪ ،‬وكانت له مواقف حازمة‬
‫وحاسمة من عبدة الَّسالطين والُح َّكام من أولي األمر‪ ،‬ومن أشهر مواقفه‪ ،‬موقفه من الوزير علي بن‬
‫عيسى (‪ 946 – 859‬ميالدية ‪ 335 - 245 /‬هجرية) حينما زاره وهو مريض في دار المرضى‬
‫حيث أدخل الشبلي ليعالج فدخل عليه علي بن عيسى الوزير (يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم‪،‬‬
‫أصله من الفرس‪ ،‬وكان من أكبر القائمين على الحالج) عائًدا فأقبل على الوزير فقال‪ :‬ما فعل‬
‫ربك؟ فقال الوزير‪ :‬في السماء يقضي ويمضي‪ ،‬فقال‪ :‬سألتك عن الرب الذي تعبده ال عن الرب‬
‫الذي ال تعبده‪ ،‬يريد الخليفة المقتدر باهلل‪ ،‬وهو الخليفة العباسي الثامن عشر في ترتيب الخلفاء‬
‫العباسِّيين (‪320-295‬هجرية‪932-908/‬ميالدية)‪.‬‬
‫فقال علي لبعض حاضريه ناِظ ْر ُه‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬يا أبا بكر‪ ،‬سمعتك تقول في حال صحوتك كل‬
‫صِّديٍق بال معجزٍة كَّذاب وأنت صِّديق فما معجزتك قال‪ :‬معجزتي أن تعرض خاطري في حال‬
‫صحوي على خاطري في حال سكري فال يخرجان عن موافقة هللا تعالى‪.‬‬
‫فقد كان الِّش بلي يتسم بسُم ٍّو ُر وحٍّي يندر أن يوجد بين معاصريه‪ ،‬خصوًص ا أن ترك منصبه‬
‫كحاكٍم أو واٍل وسلك طريق الُّز هد والتوبة والتجُّر د من كِّل شيٍء سوى هللا‪ ،‬بعد أن غادر كنوز‬
‫الدنيا المادية الفانية‪« .‬خَّلف أبي ستين ألف دينار سوى الِّض َياع؛ فأنفقُت الُكَّل وقعدُت مع الفقراء»‪.‬‬
‫قال الشبلي‪ ،‬الذي هو أنموذج لكتمان الحال مع بذل الجهد في المجاهدة‪« :‬ما أحد يعرف هللا‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫كيف؟ قال‪ :‬لو عرفوه لما اشتغلوا بسواه»‪.‬‬
‫وقال‪« :‬ما أحوج الناس إلى السكرة‪ ،‬فقيل‪ :‬أي سكرة‪ ،‬فقال‪ :‬سكرة تفنيهم عن مالحظة أنفسهم‬
‫وأفعالهم وأحوالهم‪ ،‬واألكوان وما فيها»‪.‬‬
‫ويحكي الشبلي قصًة ليدِّلل بها على صدق الحب‪ ،‬وفرط الوجد وعمقه‪ ،‬واالتحاد مع ذات َم ن‬
‫نحُّب ‪ ،‬إْذ كان إشراقًّيا فَّياًض ا صاحب ذاٍت نقيٍة من العوالق الدنيوية‪« :‬إن متحابين ركبا بعض‬
‫البحار‪ ،‬فسقط أحدهما في البحر وغرق‪ ،‬فألقى اآلخُر نفسه إلى البحر‪ ،‬فغاص الغواصون‬
‫فأخرجوهما سالمْين‪ .‬فقال األول لصاحبه‪ :‬أما أنا فسقطت في البحر‪ ،‬أنت لَم رميَت نفسك؟ فقال له‪:‬‬
‫أنا غائٌب بك عن نفسي‪ ،‬توهمت أني أنَت »‪.‬‬
‫الحاكم الذي باع كبريًتا في األسواق‬
‫ليسِقَط عن نفسه محَّبة الدنيا‬
‫أبو بكر الِّش ْبلي – وهو شاعٌر ُم ِقٌّل ‪ -‬في ديوانه الذي وصل إلينا‪ ،‬نحُن أمام شاعٍر يشيُر ويرمُز ؛‬
‫ليعِّبر عن تجربته الصوفية الذوقية‪ .‬وحقيقة األمر أَّن الِّش ْبلي لم يتُر ك ديواًنا مخُطوًطا‪ ،‬لكَّنها قصائُد‬
‫ُم تفرقاٌت ُم تناثرة في ُكتب التصوف‪ُ ،‬جِم عت بعد ذلك في ديواٍن ‪ .‬لم يلمها الِّش بلي في كتاٍب‪ ،‬وال َم ن‬
‫كانوا في زمانه فعلوا ذلك‪ ،‬أو َم ن جاءوا بعده‪ ،‬وقد جاء في كتاب «التعُّر ف لمذهب أهل التصوف»‬
‫ألبي بكر محمد الكالباذي الُم توَّفى سنة ‪ 380‬هجرية‪ ،‬أن الشبلي قد ترك كتًبا ورسائل في علم‬
‫التوحيد‪ ،‬لكن ال أحد يعلم عنها شيًئا‪ ،‬ومن الُم حتمل أَّن هذه التآليف قد ُفِقدْت ‪.‬‬
‫والدراسات األكاديمية المتخِّص صة عن شعره وحياته محُدودة‪ ،‬بل تكاُد تُكوُن نادرًة‪ُ ،‬م قارنًة بما‬
‫ُكتب عن سواه من ُشعراء التصوف مثل الحاَّل ج‪ ،‬وابن العربي‪ ،‬وُعمر بن الفارض‪.‬‬
‫ولعَّل الديوان الذي جمعه وحَّققه وعَّلق على حواشيه وقدم له الدكتور مصطفى كامل الشيبي‬
‫(‪ 27‬من مايو ‪ 4 - 1927‬من سبتمبر ‪ 2006‬ميالدية)‪ ،‬هو أتُّم تجربٍة أكاديمية عن الِّش بلي‪ ،‬وكذا‬
‫كتاب الدكتور عبد الحليم محمود (‪1978– 1910‬ميالدية) «تاج الصوفية‪ ..‬أبو بكر الِّش بلي‪،‬‬
‫حياته وآراؤه»‪.‬‬
‫والِّش بلي عزَف عن الدنيا وملَّذاتها‪ ،‬وهجَر حياة المال والَج اه والُّسلطان والِع ِّز والثروة‪ ،‬وأسقط‬
‫عن نفسه محَّبة الدنيا فاستراح‪ ،‬واتخذ التصوَف طريًقا والُّز هَد سبياًل ‪ ،‬وهو في سن الحادية‬
‫والثالثين من عمره‪ ،‬حيُث أقال نفسه من منصب الحاكم أو األمير‪ ،‬وطلب من الناس أن يأخُذوا ماله‬
‫ويترُكوه‪ ،‬وتنازَل لهم عَّم ا تحت إمرِتِه ‪ ...« :‬فاجعلوني في ِح ٍّل »‪.‬‬
‫ويذكُر الهجويري (نوفمبر ‪465 / 1009‬هجرية ‪ -‬سبتمبر ‪ 1072‬ميالدية) في كتابه «كشف‬
‫المحجوب» أَّن الِّش بلي ألقى في دجلة أربعة آالف دينار ُج ملًة واحدة‪ ،‬فقيل له‪ :‬ماذا تفعل؟ فقال‪:‬‬
‫الَحَجُر أوَلى بالَم اِء ‪ .‬قالوا‪ :‬ولم ال ُتفِّر قها على الخلق؟ قال‪ُ :‬سبحان هللا‪ ،‬وماذا أحتج هلل على أن أزْلُت‬
‫من قلبي ِح َج اَبه ووضعته على إخواني المسلمين إيثاًر ا لنفسي عليهم»‪.‬‬
‫وذكر فريد الدين العطار «‪ 627‬هجرية – ‪ 1230‬ميالدية» أَّن ابتداء أمر الِّش بلي في عالم‬
‫التصوف كان لما قصد إلى بغداد أيام إمارته على دماوند ُص حبة أمير الري – رئيسه – وجماعة‬
‫من الموَّظفين لحُض ور مراسيم إلباس أميرهم خلعة منصبه‪ .‬وبعد تمام المراسيم‪ ،‬وتفُّر ق الحُض ور‪،‬‬
‫خرج األمير وَم ن معه إلى حال سبيلهم‪ ،‬وعليه الخلعة‪ ،‬وفي الَّطريق ضايقتُه عْط سٌة؛ فتلَّقاها بُكم‬
‫الخلعة من دون أن يسبق إلى ذهنه ما في ذلك من ُخ ُر وج على التقاليد الرسمية التي تقضي‬
‫باالحترام والتقدير‪ .‬ومن سوء حظ أمير الري أن خبره بلغ مسامع الخليفة‪ ،‬وحمل ذلك منه محمل‬
‫اإلهانة وسوء النية‪ ،‬فكان أن اسُتْد ِع ي إلى المجلس من جديٍد وُأهين وُصِفع على قفاه وانتِز عْت منه‬
‫الخلعة وُص رف عن إمارته‪.‬‬
‫وذكر فريد الدين صاحب «تذكرة األولياء» أن الِّش بلي تأَّثر غاية التأثر من الحادث ونتائجه‪،‬‬
‫وأخذته الفكرة‪ ،‬وحَّدَث نفسه يقول لها‪« :‬إذا كان َم ن استعمل خلعَة مخلوٍق ِم ندياًل مستحًّقا للعزل‪،‬‬
‫محكوًم ا عليه برِّدها‪ ،‬فما يصنُع بَم ن فعل ذلك بخلعة رب العالمين»‪ ،‬وقال فريد الدين العَّطار‬
‫صاحب «منطق الطير» وقصد الِّش بلي إلى مجلس الخليفة فسئل ما خطبه؟ فقال‪« :‬أُّيها الخليفة إنك‬
‫مخلوٌق وال ترضى أن ُيساء األدُب مع خلعتك‪ ،‬وتقديرك لها معلوٌم ‪ ،‬وقد خلع علَّي هللا خلعة من‬
‫محَّبته ومعرفته ومن الُم حال أن يرضى باستعمالها ِم ندياًل في خدمة المخلوقين»‪.‬‬
‫قال الهجويري‪« :‬ولما جاء الِّش بلي إلى الُج نْيد‪ ،‬قال له يا أبا بكر إَّن في رأسك ُغروًر ا يترَّدد‬
‫ويقول‪ :‬أنا ابن حاجب ُحَّج اب الخليفة وأمير سامراء‪ .‬ولن يكون فيك فائدة إال إذا قصدت إلى الُّسوق‬
‫واستجديت كل َم ن لقيته من الناس لتعرف قيمتك‪ ،‬ففعل‪ ،‬وكان يقصد إلى السوق مستجدًيا فكانت‬
‫تضعف يوًم ا بعد يوم‪ ،‬وظل ذلك دأبه سنة طاف خاللها الُّسوق فلم يعطه أحد شيًئا‪ ،‬وعاد الِّش بلي‬
‫إلى الُج نْيد مكسور النفس‪ ،‬مهيض الجناح‪ ،‬خالي الوفاض‪ ،‬لم يشفع له ثراؤه وال سلطانه‪ ،‬ولم‬
‫يحرك ذله قلوب الناس عليه فقال له‪ :‬اآلن عرفَت قيمتك‪ ،‬ولم يقدرك أحٌد من الناس بشيٍء فال تحفل‬
‫بهم وال تأخذهم بشيء»‪.‬‬
‫ويذكر فريد الدين العطار‪ :‬جاء الِّش بلي الُج نيد أول سلوكه الطريق وقال له‪ :‬لقد حدثوني أَّن عندك‬
‫جوهرة العلم الرَّباني‪ ،‬فإما أن تمنحنيها وإما أن تبيعينها‪ ،‬فقال له الُج نيد‪ :‬ال أستطيُع أن أبيعكها‪ ،‬فما‬
‫عندك ثمنها‪ ،‬وإْن منحتها لك‪ ،‬أخذتها رخيصًة‪ ،‬فال تعرف قدرها‪ .‬ألق بنفسك غير هَّياب في عباب‬
‫هذا المحيط مثلما فعلت‪ ،‬لعلك إن صبرت أن تظفر بها‪ .‬فسأله الِّش بلي عَّم ا يفعل‪ ،‬فقال له الجنيد‬
‫اذهب بع الناس كبريًتا‪ ،‬وفي ختام العام‪ ،‬قال له‪« :‬لقد شهرتك هذه التجارة بين الناس‪ ،‬فكن‬
‫درويًشا‪ ،‬ال تشغل نفسك بغير السؤال»‪ .‬وفي خالل العام‪ ،‬كان الِّش بلي يجوُس شوارع بغداد‪ ،‬يسأل‬
‫المارة إحسانهم‪ ،‬بيد أَّن أحًدا لم يأبه له‪ .‬ثم رجع إلى الُج نْيد‪ ،‬فقال له‪« :‬أرأيت اآلن؟ لسَت في أعين‬
‫الناس شيًئا‪ ،‬فال تصرف فكرك إليهم‪ ،‬وال تقم لهم وزًنا‪ .‬وقد كنَت في بعض أيامك حاجًبا‪ ،‬ثم‬
‫اشتغلت حاكًم ا لبعض األقاليم‪ .‬فاغُد إليه‪ ،‬واسأل جميع الذين أسأت إليهم‪ ،‬أن يعُفوا عنك»‪ .‬فأطاع‬
‫الِّش بلي‪ ،‬وصرف أربعة أعوام‪ ،‬يذهب من باٍب إلى باب‪ ،‬حتى ظفر بالعفو من كل أحد‪ ،‬إال واحًدا‬
‫فشل في العثور عليه‪ .‬فقال له الُج نْيد‪ ،‬حين عاد إليه‪« :‬ال يزال فيك ميٌل إلى الشهرة‪ ،‬اذهب واسأل‬
‫الناس عاًم ا آخر»‪ .‬وفي كل يوم كان الِّش بلي ُيحضر الصدقات‪ ،‬التي أعطيت له للُج نْيد‪ ،‬فيفِّر قها بين‬
‫الفقراء‪ ،‬ويدع الِّش بلي من غير طعاٍم ‪ ،‬إلى الصباح القادم‪ .‬فلما انقضى العام على هذا المنوال‪ ،‬تقَّبله‬
‫الجنيد مريًدا من مريديه‪ ،‬على أن يخدم اآلخرين عاًم ا‪ .‬فلما انقضت خدمة العام‪ ،‬سأله الُج نيد‪« :‬ما‬
‫تظن في نفسك اآلن؟»‪ ،‬فأجاب الِّش بلي‪« :‬أنا أعد نفسي أحقر مخلوقات هللا»‪ ،‬فقال شيخه‪« :‬اآلن‬
‫توَّثق إيمانك»‪.‬‬
‫وقال الِّش بلي‪ُ :‬نوديُت في سـِّر ي يوًم ا‪ُ« :‬شَّب لي» أي‪ :‬احتِر ْق فَّي ‪ ،‬فسميُت نفسي بذلك‪ ،‬وقلُت في‬
‫معنى ذلك‪:‬‬
‫رآني فأوراني عجائب لطفه‬
‫فهمُت وقلبي باألنيِن يذوُب‬
‫فال غائًبا عِّني فأسُلو بذْك ِر ِه‬
‫وال هو عِّني ُم ْعِر ٌض فأغيُب‬
‫لقد كانت مجاهداُت الِّش بلي شديدة ‪ -‬في حياته ‪ -‬فوق الحِّد‪ ،‬فكان بين يديه مرآٌة ينظُر فيها كل‬
‫ساعٍة‪ ،‬ويقول‪ :‬بيني وبين هللا عهد إْن ِم لُت عنه عاقبني‪ ،‬وأنا أنظُر ُكَّل ساعٍة في المرآِة ألعرَف هل‬
‫اسوَّد وجهي أم ال‪ .‬وُحِك َي أَّن الِّش بلي ُسئل عن العارف والُم حب‪ ،‬فقال‪ :‬العارُف إْن تكلم هلك‪،‬‬
‫والُم حب إْن سكت هلك‪ .‬وقيل للِّش بلي‪ :‬ألم تعلم أنه تعالى رحمن؟ فقال‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن منذ عرفُت‬
‫رحمته ما سألته أن يرحمني‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إَّن الِّش بلي كان في ابتداء أمره ‪ -‬حين كان مريًدا ‪ -‬ينزُل كل يوٍم سرًبا ويحمل مع نفسه‬
‫حزمًة من القضبان‪ ،‬فكان إذا دخل قلبه غفلة أو فتر انتباهه‪ ،‬ضرَب نفسه بتلك الخشب حتى‬
‫يكسَر ها على نفسه‪ ،‬فربما كانت الحزمة تفنى قبل أن يمسي‪ ،‬فكان يضرُب بيديه ورجليه في حائط‬
‫المغارة‪.‬‬
‫وقال الِّش بلي‪ :‬الُّص وفي ُم نقطٌع عن الخلق‪ُ ،‬م تصٌل بالحق؛ كقوله تعالى‪« :‬واصطنعتك لنفسي»‬
‫قطعه عن كل غير‪ ،‬ثم قال له‪« :‬لن تراني»‪ .‬وقال‪ :‬الُّص وفية أطفاٌل في ِح ْج ِر الحِّق ‪ .‬وقال أيًض ا‪:‬‬
‫التصوف برقة محرقٌة‪.‬‬
‫وقال أيًض ا‪ :‬هو العصمة عن رؤية الكون‪.‬‬
‫وقال الِّش بلي‪ :‬التصوف الجلوس مع هللا بال هٍّم ‪ .‬وُسئل الِّش بلي‪ِ :‬لَم سميت الصوفية بهذه التسمية؟‬
‫فقال‪ :‬لبقيٍة بقيت عليهم من نفوسهم؛ ولوال ذلك لما تعَّلقت بهم تسميٌة‪ .‬وقال الِّش بلي‪ُ :‬سميت المحَّبة‬
‫محَّبة؛ ألَّنها تمُح و من القلب ما سوى المحبوب‪.‬‬
‫وُر ؤي الِّش بلي في المنام‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما فعل هللا بك؟ فقال‪ :‬ناقشني حتى أيست‪ ،‬فلما رأى يأِس ي‬
‫تغمَّدني برحمته‪.‬‬
‫بعد مقتل الحاَّل ج َخ ِش ي الِّش بلي بطَش الفقهاء به‪ ،‬فتوَّقفت شطحاته‪ ،‬وخمدت ناُر ه‪ ،‬وانطفأت‬
‫جذوته‪ .‬كان يقول‪« :‬أنا الوقُت ‪ ،‬وليس في الوقِت غيري»‪ ،‬وقد «اتخذ الجُنوَن ُج َّنًة ووقايًة له من‬
‫المآخِذ‪ ،‬ومهرًبا من الحَر ج‪ ،‬واستعار من أشعاِر مجُنون ليلى الكثير من األبيات‪ ،‬ونازعه على‬
‫زعامة العشق»‪ ،‬وقال الِّش بلي‪ُ« :‬أْدخلُت مَّر ًة المارستان كذا وكذا مرة‪ ،‬وُأسقيُت الَّدواء كذا وكذا‬
‫دواًء فلم أزدد إال جنوًنا»‪ .‬وقد ُج َّن ثمانَي وعشرين مرة‪ ،‬قال الشبلي‪« :‬أنا والحالج شيٌء واحٌد‪،‬‬
‫فخَّلصني جُنوني‪ ،‬وأهلكه عقله»‪.‬‬
‫وكان يرِّدد قول ذي الُّر َّم ة (‪ 77‬هجرية ‪ 696 -‬ميالدية ‪ 117 /‬هجرية ‪ 735 -‬ميالدية)‪:‬‬
‫وَعيناِن ‪ ،‬قال ُهللا ُكوَنا فكاَنتا‬
‫َفُعوالِن ِباأللَباِب ما َتفَعُل الَخمُر‬
‫وقد فَّسر الِّش بلي هذا البيت بقوله‪« :‬لسُت أعني العيوَن الُنْج َل ‪ ،‬ولكَّنني أعني عيوَن القلوِب ذوات‬
‫الصدور‪ ،‬فُطوبى لَم ن كان له عيٌن في قلبه وُأُذن واعيٌة وألفاٌظ مرضيٌة»‪.‬‬
‫وقد زار قبره بعد موته صوفيون ورَّح الة وعلماء وفقهاء من أشهرهم‪ :‬أبو عبد الرحمن السلمي‪،‬‬
‫وابن بطوطة‪ ،‬وابن ُج بْير‪.‬‬
‫أبو بكر الِّش بلي‪..‬‬
‫مختارات من شعره ونثره‬
‫‪1‬‬
‫فال غائَب عِّني فأسلو بذكِر ِه‬
‫وال هو عني مْعِر ٌض فأغيُب‬
‫‪2‬‬
‫ﻟﻴﺲ ﻣﻨﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻗﻠﺐ ُﻣ َﻌَّﻨﻰ‬
‫ُﻛُّﻞ ﻋﻀٍو ﻣِّﻨﻲ ﺇﻟﻴﻚ ﻗﻠﻮُﺏ‬
‫‪3‬‬

‫أنت ُسؤلي وُم نيتي‬

‫ُدَّلني كيف حيلتي؟‬

‫قد تعَّشقُت وافتضحـ‬

‫ُت وقامت قيامتي‬

‫محنتي فيك أنني‬

‫ال أبالي بمحنتي‬

‫يا ِش فائي من السقام‬

‫وإْن كنت عَّلتي‬

‫تعبي فيك دائم‬

‫فمتى وقت راحتي؟‬

‫تبُت دهًر ا فمذ‬

‫ُت‬
‫عرفُتك ضَّيعت توبتي‬

‫قربكم مثل بعدكم‬

‫فمتى وقت راحتي؟‬

‫‪4‬‬
‫إذا عاتبُتُه أو عاتبوه‬
‫شَكا ِفعلي وعَّدَد سيئاتي‬
‫أيا َم ْن َد هُر ُه َغَض ٌب وُسخٌط‬

‫أما أحسنُت يوًم ا في حياتي‬


‫‪5‬‬
‫َتَسرمَد وقتي فيك فهو ُمَسرَم د‬
‫وأفنيتني عني فعدت محَّددا‬
‫وكلي بكل الُكِّل َو صٌل محقٌق‬
‫حقائق حق في دوام تخّلدا‬
‫تغَّر َب أمري فانفردت بغربتي‬
‫وأنيتني عني فصرت مجَّر دا‬
‫‪6‬‬

‫لها في طْر فها لحظات سْح ٍر‬

‫ُتميت بها وُتْح يي َم ن تريُد‬

‫وَتسبي العالمين بمقلتْيها‬

‫كأن العالمين لها عبيُد‬

‫أالحظها فتعلم ما بقلبي‬

‫وألحظها فتعلم ما أريُد‬

‫‪7‬‬
‫وأعجب شيٍء سمعنا به‬

‫مريٌض ُيعاد فال يوجُد‬

‫‪8‬‬

‫لَّم ا تيقنُت أني ال أعاينكم‬

‫أغمضُت طرفي فلم أنُظر إلى أحِد‬

‫‪9‬‬
‫أليس من السعادِة أن َد اري‬
‫ُم جاورٌة لدارك في البالد؟‬
‫‪10‬‬
‫باَح مجنوُن عامٍر بهواُه‬
‫َو َكتمُت الَه وى فُفزُت ِبَو جدي‬
‫َفِإذا كاَن في القيامِة ُنودي‬
‫َم ْن قتيُل الَه وى َتقّدمُت َو حدي‬
‫‪11‬‬
‫يا جملة الُكّل التي كُّلها‬
‫أحّب من بعضي و من سائري‬
‫تراك ترثى للذي قلبُه‬

‫ُم َعَّلق في مخلبْي طائِر‬


‫مَد َّلٌه حيراُن مستوحٌش‬
‫يهرب من قفر إلى آخِر‬
‫‪12‬‬
‫‏ُأقّلُل صبري فيَك وهو كثيُر‬
‫وأزجُر دمعي عنَك وهو غزيُر‬
‫وعندي دموٌع لو بكيُت ببعضها‬
‫لفاضت بحوٌر بعدهّن بحوُر‬
‫ُقُبوُر اْلوَر ى َتْح َت الُّتَر اِب َو ِلْلَهَو ى‬
‫ِر َج اٌل َلُهْم َتْح َت الِّثَياِب ُقُبوُر‬
‫سأبكي بأجفاٍن عليك قريحة‬
‫وأرنو بألحاٍظ إليك تشيُر ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫َﺻ ﺎﺑَﺮ ﺍﻟﺼﺒَﺮ ﻓﺎﺳﺘﻐﺎﺙ ﺑﻪ ﺍﻟﺼﺒُﺮ‬
‫ﻓﺼﺎﺡ ﺍﻟُﻤ ﺤُّﺐ ‪ :‬يا َص ْبُر ﺻﺒﺮا‬
‫‪14‬‬
‫دِع األقماَر تغرُب أو ُتِنيُر‬
‫لنا بدٌر َتذَّل له الُبدوُر‬
‫لنا من نوره في كل وقت‬
‫ضياٌء ما تغّيرُه الُدهوُر‬
‫‪15‬‬

‫يقول بحرقٍة وبنوِح شوٍق‬


‫أما وهللا ما في الُحِّب عار‬
‫‪16‬‬
‫وتحَسُبني حًّيا وإِّني لمِّيٌت‬
‫وبعضي من الِه جران يبكي على َبْعِض ي‬
‫‪17‬‬
‫الدهُر لي مأتٌم ‪ -‬إن ِغْبَت يا أملي ‪-‬‬
‫والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا‬
‫‪18‬‬
‫قد ذَّلَل الَّشوُق قلبي فهَو ُم عترٌف‬
‫أَّن الَّتذُّلَل في حكم الهَو ى شرُف‬
‫‪19‬‬
‫هِذِه داُر هم وأنت ُم ِح ٌّب‬
‫ما بقاُء الدموِع في اآلماِق ؟‬
‫‪20‬‬
‫ولو قلت َطأ في النار بادرُت نحوَها‬
‫ُسروًر ا ألني قد َخ َطرُت ببالكا‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫ليس تخلو جوارحي منك وقًتا‬
‫هي مشغولٌة ِبَح ْم ِل هواكا‬
‫ليس يجري على لساني شيٌء‬
‫َعِلَم هللا ذا سوى ِذكراكا‬
‫وتمَّثلَت حين كنَت بعيني‬
‫فهي إن غبَت أو حضرت َتراكا‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫الصبُر َيجُم ُل في المواطن كِّلها‬
‫ِإاَّل عليك فإّنه ال َيجُم ُل‬
‫‪23‬‬
‫لسُت من ُج ملِة الُم حبين إْن لم‬
‫أجعل القلَب بيَته والَم قاما‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫ُيِح ُّبَك َقْلِبي َم ا َحِييُت َفِإْن َأُم ْت‬
‫ُيِح ُّبُك َعْظ ٌم ِفي الُّتَر اِب َر ِم يٌم ‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫والهجُر لو سكن الِج ناَن تحّو لْت‬
‫ِنَعُم الِج ناِن على العبيد جحيًم ا‬
‫والوصُل لو سكن الجحيَم تحَّو لْت‬
‫ناُر الجحيِم على العبيِد نعيما‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫ذاَب مَّم ا في فؤادي َبَد ني‬
‫وفؤادي ذاَب مَّم ا في البدْن‬
‫فاقطعوا حبلي وإن شئتم ِص ُلوا‬
‫كُّل شيٍء منكُم عندي َحَسْن‬
‫صح عند الناِس أِّني عاشٌق‬
‫غير أن لم يعلموا ِع شقي ِلَم ْن‬
‫‪27‬‬
‫ذكرتك ال أّني نِس يُتَك لمحًة‬

‫وأيَسُر ما في الذكِر ذكُر لساني‬


‫وِك دُت بال َو جٍد أموُت من الهوى‬

‫وهام علَّي القلُب بالخفقاِن‬


‫فلما أراني الوجُد أَّنَك حاضري‬

‫َشِه دُتَك موجوًدا بكل مكاِن‬


‫فخاطبُت موجوًدا بغير تكلم‬

‫والحظت معلوًم ا بغيِر عياِن‬


‫‪28‬‬
‫إَّن المحبَة للرحمِن تْسِك ُر ني‬
‫وهل رأيَت ُم حًّبا غير سكراِن ‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫إَّن المحبين أحياٌء وإن ُدِفنوا‬
‫في الُتْر ِب أو ُغِّر قوا في الماِء أو ُح ِر قوا‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫َلْيَس ِم ِّني َقْلٌب ِإَلْيَك ُم َعَّنى‬
‫ُكُّل ُعْض ٍو ِم ِّني ِإَلْيَك ُقُلوُب‬
‫=‬
‫ليس يخطر الكون ببالي‪ ،‬وكيف يخطر الكون ببال َم ن عرف الُم كِّو ن؟‬
‫=‬
‫قيل للشبلي‪ :‬نراك جسيًم ا بديًنا‪ ،‬والمحبة ُتضني؟‬
‫فأنشأ يقول‪:‬‬
‫أَح َّب قلبي‪ ،‬ومادرى بدني‬
‫ولو درى‪ ،‬ما أقام في الِّس َمِن ‪.‬‬
‫=‬
‫أعمى هللا بصًر ا يراني‪ ،‬وال يرى فَّي آثار القدرة‪ ،‬فأنا أحد آثار القدرة‪ ،‬وأحد شواهد الِع ّز ة‪ ،‬لقد‬
‫ذللت حتى َعَّز في ذلي كُّل ُذٍّل ‪ ،‬وعززت حتى

‫ما تعزز أحٌد إال بي أو بَم ن تعززت به‪ ،‬وما افترقنا‪ ،‬وكيف نفترق‪ ،‬ولم َيجِر علينا حال الجمع أبًدا‪.‬‬
‫=‬
‫الحرية هي حرية القلب ال غير‪.‬‬
‫=‬
‫أَم ا وهللا ما في الُحِّب عاُر ‪.‬‬
‫=‬
‫الدهُر لي مأتٌم ‪.‬‬
‫=‬
‫الَحَجُر أْو لى بالماء‪.‬‬
‫=‬
‫قد ذَّلَل الَّشوُق قلبي فهَو ُم ْعَتِر ٌف‬
‫أَّن الَّتذُّلَل في ُح ْك ِم الهَو ى شرُف ‪.‬‬
‫‪......‬‬
‫ومَّم ا بقي من آثاره عندي وهو قليٌل ‪:‬‬
‫‪ -‬ليس َم ن استأنس بالذكر كَم ن استأنس بالمذُكور‪.‬‬
‫‪ -‬ليس للمريد فترة‪ ،‬وال للعارف معرفة‪ ،‬وال للمعرفة عالقة‪ ،‬وال للمحب سكون‪ ،‬وال للصادق‬
‫دعوى‪ ،‬وال للخائف قرار‪ ،‬وال للخلق من هللا فرار‪.‬‬
‫‪َ -‬م ن عرف هللا خضع له كل شيء؛ ألنه عاين أثر ملكه فيه‪.‬‬
‫‪ -‬الفرح باهلل أولى من الحزن بين يدي هللا‪.‬‬
‫‪ -‬ليس لألعمى من رؤية الجوهرة إال مسها‪ ،‬وليس للجاهل من هللا إال ذكره باللسان‪.‬‬
‫‪ -‬ال تأمن من نفسك وإن مشيت على الماء حتى تخرج من دار الغرة «الغرور واالغترار‬
‫والغفلة» إلى دار األمل‪.‬‬
‫‪ -‬إذا وجدت قلبك مع هللا فاحذر من نفسك‪ ،‬وإذا وجدت قلبك مع نفسك فاحذر من هللا‪.‬‬
‫‪ -‬ما أحوج الناس ِإَلى سكرة‪ ،‬فقيل‪ :‬أي سكرة ؟ فقال‪ :‬سكرة تغنيهم َعن مالحظات أنفسهم‪،‬‬
‫وأفعالهم‪ ،‬وأحوالهم‪ ،‬واألكوان‪ ،‬وما ِفيَه ا‪ ،‬وأنشد‪« :‬وتحَسُبني حًّيا وإّني لمِّيٌت‬
‫وبعضي من الِه جراِن يبكي على بعِض ي»‪.‬‬
‫‪ -‬ما الحيلة ؟ َقاَل ‪ :‬ترك الحيلة؛ ألن الحيلة إما رشوة‪ ،‬أو قرار‪ ،‬وهما بعيدان َعن طرق الحقيقة‪،‬‬
‫فاطلب الدواء من حيث جاء الداء‪ ،‬فال يقدر َعَلى شفائك إال َم ن أعلك‪ ،‬وأنشد‪:‬‬
‫«إّن الذين بخيٍر كنَت تذُكُر ُهْم‬
‫هْم أهلكوَك وعنهْم كنُت أنهاكا‬

‫ال تطُلَبَّن حياًة عند غيِر ِه ُم‬


‫فليس يحييَك إال َم ن َتَو َّفاكا»‬
‫‪ -‬دخل َعَلْيِه قوم من أصحابه وهو ِفي الموت‪ ،‬فقالوا‪ُ :‬قل‪ :‬ال إله إال هَّللا ‪ ،‬فأنشأ يقول‪:‬‬
‫«ِإَّن َبْيًتا أنَت ساكُنُه‬

‫َغيُر ُم حتاٍج إلى الُّسُر ِج‬


‫َو ْج ُه َك الَم ْأُم وُل ُحّج ُتنا‬

‫يوَم يأتي الّناُس بالُح َج ِج‬


‫ال َأَتاَح ُهّللا لْي َفَر ًج ا‬
‫يوَم َأْد ُعو منَك بالَفَر ِج» وهي أبيات للشاعر العربي ديك الجن الحمصي (‪236-161‬هجرية‬
‫‪850-778/‬ميالدية )‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل ‪َ :‬م تى يكون الرجل مِر يًدا؟ َفَقاَل ‪ِ :‬إذا اْس َتَو ت َح اله ِفي الّسفر والحضر والمشهد والمغيب‪.‬‬
‫‪ُ -‬سِئَل ‪ِ :‬بَم يقمع اْلهوى؟ َفَقاَل ‪ :‬برياضات الطباع وكشف القناع‪.‬‬
‫‪َ« -‬نِس يُت اليوم من عشقي صالتي‬
‫فال أدري غداتي من ِع شائي‬
‫فذكرك سيدي أكلي وُشربي‬
‫ووجهك إن رأيُت ِش فاُء دائي»‪.‬‬
‫‪« -‬وقال خير النَّساج»‪ :‬كنا في المسجد‪ ،‬فجاء الشبلي ‪ -‬في ُسْك ره ‪ -‬فنظر إلينا‪ ،‬فلم يكلمنا وهجم‬
‫على الجنيد في بيته‪ ،‬وهو جالس مع زوجته‪ ،‬وهي مكشوفة الرأس‪ ،‬فهَّم ت أن تغطي رأسها‪ ،‬فقال‬
‫لها الجنيد‪« :‬ال عليك‪ ،‬ليس هو هناك» فصفق على رأس الجنيد وأنشد يقول‪:‬‬
‫عودوني الوصال‪ ،‬والوصل عذٌب‬
‫ورموني بالصد‪ ،‬والصد صعُب‬
‫زعموا حين أيقنوا أن جرمي‬
‫فرط حبي لهم‪ ،‬وما ذاك ذنُب‬
‫ال وحسن الخضوع عند التالقي‬
‫ما جزا من يحب إال ُيَح ُّب‬
‫قال‪ :‬ثم ولى الشبلي خارًج ا‪ ،‬فضرب الُج نيد على األرض برجليه‪ ،‬وقال‪« :‬هو ذاك يا أبا بكر‪ ،‬هو‬
‫ذاك»‪ ،‬وخر مغشًّيا عليه‪.‬‬
‫‪ -‬المحبة كأس لها وهج‪ ،‬إن استقرت في الحواس قتلت‪ ،‬وإن سكنت في النفوس أسكرت‪ ،‬فهي‬
‫سكر في الظاهر ومحبة في الباطن‪ .‬المحبة بحار بال شاطئ‪ ،‬وليل بال آخر‪ ،‬وهم بال فرح‪ ،‬وعلة‬
‫بال طبيب‪ ،‬وبالء بال صبر‪ ،‬ويأس بال رجاء ‪.‬‬
‫النَّفري الغامض الُم ختفي‬
‫الذي لم يكتب «المواقف والمخاطبات»‬
‫لم يشتهر كتاٌب صوفٌّي بين الُّشعراء في الُعُقود األخيرة مثلما اشُتِه ر كتاب «المواقف‬
‫والمخاطبات» للنفري‪ ،‬والمدهش أن هذا الكتاب ليس للنفري‪ ،‬وإَّنما هو لمتصوف ُيْد عى أبو عبد‬
‫هللا محمد بن عبد هللا‪ ،‬وما محمد

‫ابن عبد الجبار النفري‪ ،‬المنسوب إليه الكتاب سوى حفيد مؤلف الكتاب‪ ،‬الذي اقتصر جهده ‪ -‬فقط ‪-‬‬
‫على جمع وترتيب كتاب جِّده والتأليف بين مادته وقت أن كان حًّيا وحتى بعد رحيله‪.‬‬
‫ولم يكن النفري (الجد) يمسك قلًم ا ليدِّو ن‪ ،‬وما كتابه المعجز «المواقف – سبعة وسبعون موقًفا‬
‫– والمخاطبات – ست وخمسون مخاطبًة» الذي اكتشفه ونشره المستشرق البريطاني أرثر يوحنا‬
‫أربري (‪1969 – 1905‬ميالدية) سنة ‪ 1934‬ميالدية إال تأليٌف شفاهٌّي قاله أو أماله أو فاض به‬
‫وأشرق على مريديه وهم َم ن حفظوه من الضياع‪ ،‬ودَّو نوه‪ ،‬وقد أشار إليه محيي الدين بن العربي‬
‫أربع مرات في كتابه األبرز «الفتوحات المكية»‪ ،‬كأنه كان يقول البن العربي ‪:‬‬
‫«تلَك آثاُر نا تُدُّل علينا‬
‫فانظُر وا بعَد نا إلى اآلثاِر »‬
‫ولوال هذه اإلشارات لغاب النفري‪ ،‬وُطمس وُح ذف من المشهد الصوفي التاريخي‪ ،‬فقبل ابن‬
‫العربي ظل النفري منسًّيا مهماًل قرابة ثالثمئة سنة‪.‬‬
‫ولقد أعاد ابن العربي النفري إلى المشهد‪ ،‬ولكن سيظل الغموض مالزًم ا لحياته وسيرته سواء في‬
‫مصر أو في العراق‪ ،‬وتصمت المصادر ‪ -‬لألسف ‪ -‬عن مِّدنا بتفاصيل ووقائع ومواقف في حياته‪،‬‬
‫وهو النادر في حذفه للزائد من الكالم في الكتابة‪ ،‬الُم قِص ي للشروح والباحث فقط عن الجوهر في‬
‫المتن األساسي‪.‬‬
‫وظِّني – ولعَّل في الظن بعض الخطأ – أن النفري قد يكون خشي تسجيل فيوضاته وإشراقاته‬
‫وتجلياته وشطحاته‪ ،‬كي ال ُيقتل مثل الحالج الذي ُقِتل في مدينة بغداد سنة ‪ 309‬هجرية‪ ،‬أي قبل‬
‫خمس وأربعين سنة من وفاة النفري‪ ،‬الذي أراد أن ال يكون مصيره كمصير الحالج ُخ صوًص ا أن‬
‫بينهما متشابهات في الكتابة والشكل والَّشطح وقلة اإلنتاج الفلسفي والصوفي والشعري‪ ،‬وما يندرج‬
‫تحت باب الشذور أو الشذرات والمناجيات (كتب ‪ 2130‬سطًر ا أي ‪ 213‬ورقة طبًقا لُم جمل‬
‫أعماله الموجودة مخطوطة في إستنبول‪ ،‬وهي التي كتبها في النيل «مصر»‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والمدائن‬
‫وهي مدينة عراقية تقع على بعد بضعة كيلو مترات جنوب شرق بغداد‪ ،‬وفيها قبر الصحابي سلمان‬
‫الفارسي‪ ،‬ومنها المتصوف القطب عبد القادر الجيالني‪ ،‬وهو من أعمال جيالن التابعة للمدائن)‪.‬‬
‫لقد عاش النفري بعد محنة الحالج وقتله متحفًظا كتوًم ا مرتعًدا خائًفا من بطش الخلفاء واألمراء‪،‬‬
‫ومن أهل الفقه والشريعة من كارهي المتصوفة ومكِّفريهم هو وأهل التصوف في زمانه‪.‬‬
‫فالنفري كان يخفي ويكتم ويقِّنع في لغٍة ُم جَّر دة محمولة على الترميز واإلشارة طوال الوقت؛ ألنه‬
‫كان في نصوصه دائم الحوار مع هللا حيث ال حجاب بين جوهرين‪ :‬اإللهي واإلنساني‪ .‬ولذا نحن‬
‫أمام متصوف ال سيرة ذاتية له يمكن االعتماد عليها‪ ،‬والرجوع إليها‪.‬‬
‫وشَر ح كتابه «المواقف» المتصوف عفيف الدين التلمساني الذي عاش في القرن السابع الهجري‬
‫والثالث عشر الميالدي‪ ،‬و عاش جزًء ا من حياته في القاهرة عندما أتاها وهو في بدايات العقد‬
‫الثالث من عمره‪ ،‬وعاش أيًض ا جزًء ا من حياته كمحيي الدين بن العربي في دمشق في حضن جبل‬
‫قاسيون‪ ،‬وما زال مكان بيته ُيعرف بـ«العفيف» نسبة إلى اسمه األول‪.‬‬
‫وقد عاش النفري (الذي أراه جديًدا وحداثًّيا سابًقا لعصره رغم مرور أكثر من ألف سنة على‬
‫وفاته) في العصر العباسي بين العراق الذي ينتمي إليه ومصر التي مات فيها سنة ‪ 354‬هجرية ‪/‬‬
‫‪ 965‬ميالدية‪ ،‬وُدفن في إحدى قراها‪ ،‬وفي مصر كتَب النفري – الذي ُيلَّقب بالسكندري أو‬
‫المصري ‪ -‬بعض أجزاء من كتابه «المواقف والمخاطبات»‪ ،‬وهو من أهل القرن الرابع الهجري‪،‬‬
‫ويصفه رينولد نيكلسون (‪ 18‬من أغسطس ‪ 27 -1868‬من أغسطس ‪ 1945‬ميالدية) بأنه‬
‫«درويش جَّو اب آفاق‪ ،‬مغامر في أقطار األرض»‪ ،‬دائم السفر والترحال في البراري‪ ،‬محمول‬
‫على الحدس والخيال والرمز‪.‬‬
‫وكتابة النفري ‪ -‬التي يكشف فيها محجوبه ‪ -‬خاصة وفريدة وليست سهلة‪ ،‬وال تتسم بالمباشرة أو‬
‫الوضوح المعتاد‪ ،‬بل هي غريبة على الكتابة العربية ويمكن اعتبارها بحسب النفري (برزخ فيه‬
‫قبر العقل وفيه قبور األشياء)‪.‬‬
‫في «المواقف» سنجد أنه ابتكر شكاًل فنًّيا جديًدا لم يسبقه إليه أحد من المتصوفة أو الشعراء أو‬
‫ناثري زمانه‪ ،‬ويعتمد هذا الشكل على فعلْين هما‪« :‬أوقفني»‪ ،‬ثم‪« :‬وقال لي»‪ .‬حيث يعتبر النفري‬
‫«الوقفة»‪( :‬خروج الهم عن الحرف وعما ائتلف منه وانفرق)‪ ،‬وسنلحظ منذ الموقف األول وهو‪:‬‬
‫«موقف العز» أن النفري يستفيد من اللغة القرآنية كأن ما يكتبه هو نص آخر مقدس‪.‬‬
‫وفي «موقف قد جاء وقتي» سنجد النفري يشير صراحًة إلى مصطلح «معنى المعنى» مَّم ا‬
‫يعني أنه سبق دارسي الغرب لهذا المفهوم بنحو ألف سنة حينما قال‪« :‬وقال لي إشاراتي في الشيء‬
‫تمُح و معنى المعنى فيه وتثبته منه ال به»‪ ،‬ومعنى المعنى هو‪« :‬أن تعقل من اللفظ معنى‪ ،‬ثم يفضي‬
‫بك ذلك المعنى إلى معنى آخر» بحسب قول عبد القاهر الجرجاني (‪ 471 - 400‬هجرية‬
‫‪ 1078 -1009/‬ميالدية)‪ ،‬وقد شاع هذا المصطلح في القرن العشرين عند نقاد الغرب خصوًص ا‬
‫ﺗﺸﺎرﻟﺰ أوجدن وزﻣﻴﻠﻪ آﻳﻔﺮ رﺗﺸﺎردز اللذين أَّلفا كتاًبا عنوانه «معنى المعنى»‪.‬‬
‫وفي الموقف الواحد تتوَّلد مواقف كثيرة‪ ،‬بمعنى أننا أمام نٍّص قصيٍر يحوي في بنائه نصوًص ا‬
‫أخرى‪ ،‬فكثيًر ا ما نجد سطًر ا واحًدا يشكل نًّص ا زاخًم ا ُم تعِّدد التأويل رغم محدودية مفرداته‪ ،‬فهو‬
‫يختزل ويحذف ويلِّخ ص‪ ،‬ولنا في نِّص ه الشهير «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» مثااًل بارًز ا‬
‫على ما أقول‪ ،‬وهو يعتمد شكل المحاورة في كل نصوص «كتاب المواقف»‪.‬‬
‫ُقدرُة البشر تعَج ُز عن عبارِته‬
‫كشَف عن ذاته في مواقِفه وُم خاطباته‪ .‬ولم يكشف عن حياته؛ فكانت ُص ورته قابلًة لكل تجٍّل‬
‫وُم عاينٍة بعد معاناٍة‪.‬‬
‫فال أحَد يعرُف الكثيَر عن حياته‪ ،‬إْذ عاش معتزاًل بعيًدا عن الناس‪ُ ،‬م ستتًر ا مخفًّيا‪ ،‬كثيَر الَّسفر‬
‫والتجوال والسياحة في األرض‪ُ ،‬م كتفًيا برؤى الُّر وح‪ ،‬ونظر القلب‪ ،‬كأنه قد ُحِظ ر عليه الكشُف ‪،‬‬
‫وإذاعة الِّس ر‪ ،‬فهو غير مأُذوٍن له بهتك شطِح ِه ‪ ،‬ونشر تجِّليه بين الناس‪« :‬ال إذن لك‪ ،‬ثم ال إذن لك‪،‬‬
‫ثم سبعين مَّر ة ال إذن لك‪ ،‬أن تصَف كيف تراني‪ ،‬وال كيف تدخُل إلى ِخ زانتي‪ ،‬وال كيف تأخُذ منها‬
‫خواتمي‪ ،‬وال كيف تقتبُس من الحرِف حرًفا بعَّز ة جبُر وتي»‪ .‬وقد سار في اتجاهه كل بطريقته‪ :‬أبو‬
‫مدين الغوث وعمر بن الفارض وابن عطاء هللا السكندري‪.‬‬
‫وكان كلما ضاَق ذهَب إلى أهل المعرفة والعلم والتزم الَّص بَر ‪ ،‬وإن كانت المعرفُة لديه أرقى‪،‬‬
‫وأعلى رتبًة من العلم‪.‬‬
‫هو الكبير لكَّن اسَم ه لم ينتشر‪ ،‬ولم يتحَّقق إلرثه الُّذيوع‪ ،‬رغم فرادته وُخ صوصيته وانتهاجه‬
‫طريًقا خاًّص ا شكاًل وُم حتًو ى‪ ،‬ولعَّل عفيف الدين التلمساني (‪ 690 - 610‬هجرية ‪- 1213 /‬‬
‫‪1291‬ميالدية) الذي شرح مواقفه‪ ،‬هو األول بين الناس الذي نَّبه إلى فراَد ة النَّفري‪ ،‬الذي يوغُل‬
‫في الباطن‪ُ ،‬م ستخدًم ا أسلوًبا جديًدا لم يألفه الناس قبله‪ ،‬ولذا اتهم بالغُم وض واالستغالق‪ ...« :‬ما‬
‫رأيُت في مكُتوٍب‪ ،‬وال سمعُت في مسُم وٍع منذ أكرمني هللا تعالى باالنتماء إلى هذه الطائفة‪ ،‬أفصح‬
‫عبارة عن التجليات الجزئية‪ ،‬من لفظ هذه التنُّز الت – المواقف ‪ -‬واألول على حقيقة التعُّر ف‪ ،‬وإني‬
‫أعتقد أَّن قدرة البشر تعجُز عن هذه العبارة‪ ،‬وأَّن هذه لقوة إلهية»‪.‬‬
‫إنه محمد بن عبد الجبار النفري‪ ،‬الذي دوًم ا ما ُيوِّج ه نظره نحو باطنه ليتأَّم َل ‪« :‬ما أنا في شيء‪،‬‬
‫وال خالطُت شيًئا‪ ،‬وال حللُت في شيٍء ‪ ،‬وال أنا في شيٍء ‪ ،‬وال من‪ ،‬وال عن‪ ،‬وال كيف‪ ،‬وال ما ال‬
‫ينقال‪ ،‬أنا أنا‪.»...،‬‬
‫النفري صاحُب خيال شاطح جامح‪ ،‬لكنُه خاٍل من التعُّم د والتصُّنع والتكُّلف‪ ،‬يكتُب كأَّن الماء‬
‫يجري في يده وهو يخط أو وهو ُيْم ِلي‪.‬‬
‫وقد قرأُت النفري – الذي عاش في النصف األول من القرن الرابع الهجري ‪ -‬مَّر اٍت كثيرًة‪،‬‬
‫ولدَّي كل الطبعات التي صدرْت له أو عنه‪ ،‬ومع ذلك في كل مرة أقرأ أراني كأَّنني أبدأ من جديٍد‪،‬‬
‫وأخرُج بانطباعاٍت ونتائج ُم غايرٍة لما هو عندي‪.‬‬
‫«هللا يعلم بجلَّية أمِر ه» هذه الُج ملة الملتبسة والُم حِّيرة ذكرها عفيف الدين التلمساني الذي لم يُكن‬
‫يحب ألحٍد أن يكشَف َم ن يكون‪ ،‬لقد كان سائًر ا في طريِق القوم الُّص وفِّي‪ ،‬يكتب إشاراته من ُدون‬
‫ترتيٍب أو اهتماٍم ؛ ألنه لم يُكن معنًّيا بالخلود أو بترك أثٍر له‪ ،‬يذكر التلمساني‪« :‬إَّن الذي أَّلف هذه‬
‫المواقف هو ولد ولد الشيخ النَّفري رحمه هللا‪ ،‬وليس هو الشيخ نفسه‪ ،‬إذ كان الَّشيخ لم يؤلف كتاًبا‪،‬‬
‫إنما كان يكتُب هذه التنُّز الت في ُج زازات أوراق ُنقلت بعده‪ ،‬فإنه كان ُم ولًه ا ال يقيُم بأرٍض ‪ ،‬وال‬
‫يتعَّر ُض ألحٍد‪ ،...،‬وإَّن الذي أَّلف هذه المواقف لم يُكن هو النَّفري‪ ،‬بل هو بعض أصحابه‪ ،‬وقيل هو‬
‫ابن بنته»‪.‬‬
‫والتأليف هنا معناه الترتيب الذي وصَل إلينا‪.‬‬
‫يقول األب بولس نويا اليسوعّي (‪ 1980 – 1925‬ميالدية) صاحب كتابْي «نُص وص صوفية‬
‫غير منشورة»‪ ،‬و«التأويل القرآني واللغة الصوفية»‪ :‬إَّن النَّفري كان «يسِّج ل في كراسٍة أو دفتٍر‬
‫حصيلة كل رؤية‪ ،‬بعض هذه الكراسات ُدِّو ن في فترة وجوده بمصر‪ ،‬والبعض اآلخر بالبصرة‪،‬‬
‫والثالث بالمدائن (عاصمة ملك فارس‪ ،‬وكانت مسكن الملوك من األكاسرة الساسانية وغيرهم‪،‬‬
‫وسَّم اها العرب المدائن ألنها تتكَّو ن من سبع مدائن‪ ،‬وبينها وبين بغداد خمسٌة وعشرون مياًل ‪ ،‬وبها‬
‫إيوان كسرى‪ ،‬وهو قصٌر من ُقصور ِك سرى أنوشروان الذي تهَّدم وبقيت آثاره في مدينة المدائن)‪،‬‬
‫أعيد نسُخ هذه الكراسات كيفما اتفق‪ ،‬من ُدون اهتمام بالترتيب الزمني لتأليفها»‪.‬‬
‫وإن كان النَّفري قد ألهم شعراء عرب كثيرين‪ ،‬فقد ألهم الكثيرين من القدماء‪ ،‬وكان في مقدمتهم‬
‫ابن قضيب البان ( ‪ 1040 - 971‬هجرية ) الذي كتب «المواقف اإللهية» على وتيرة‬
‫«المواقف» للنَّفري‪ ،‬وقَّلد أيًض ا ابن العربي حيث كتب «الفتوحات المدنية» والتي أَّلفها على وتيرة‬
‫«الفتوحات المكية»‪ ،‬وكتب شعًر ا تائيًة على وتيرة «التائية الُكبرى» لعمر بن الفارض‪ .‬وأذكُر هنا‬
‫أَّن ابنه الَّشاعر الَّشاب الَّظريف (‪ 688 - 661‬هجرية ‪1289 - 1263/‬ميالدية) الذي ُو لد‬
‫بمصر‪ ،‬وعاش في دمشق؛ حيث ُو لي أبوه عمالة الِخ زانة بها‪ ،‬والذي مات في السابعة والعشرين‬
‫من عمره‪ ،‬كان أشعَر من أبيه‪.‬‬
‫سَلك النَّفري رياضاٍت وُم جاهداٍت ُر وحيًة ُم تواصلًة بالوْه ب ال بالكْسب‪ ،‬بدت في سلوكه وطقوسه‬
‫في الحياة سعًيا إلى الذهاب في رحلته نحو هللا‪ ،‬إْذ كان حُّبه ُم نَّز ًها عن أِّي غرٍض أو هدٍف ‪ ،‬حيث‬
‫كان شريَف المقصد عفيَفُه‪« :‬وقال لي‪ :‬اخرج إلى البرية الفارغة‪ ،‬واقعد وحدك حتى أراك‪ ،‬فإني‬
‫إذا رأيتك‪ ،‬عرجت بك من األرض إلى السماء‪ ،‬ولم أحتجب عنك»‪.‬‬
‫ولذلك وصل إلى «أعلى درجات الفناء»‪ ،‬حيُث جاز الكون‪ ،‬يقول النَّفري في «المواقف»‪:‬‬
‫«وقال لي ‪ :‬إذا خرجت عن الحرف خرجت عن األسماء‪ ،‬وإذا خرجت عن األسماء خرجت عن‬
‫الُم سَّم يات‪ ،‬وإذا خرجت عن المسَّم يات خرجت عن كل ما بدا‪ ،‬وإذا خرجت عن كل ما بدا قلت‬
‫فسمعت ودعوت فأجبت»‪.‬‬
‫النَّفري الذي شغل الدنيا‪ ،‬ووقف أمام حْر ِفِه كبار الصوفية كان ُم قاًّل ‪ ،‬ولم يترك الكثير من‬
‫المصَّنفات‪ ،‬لكَّن قليله الذي بدأ العالم يعرفه منذ سنة ‪ 1934‬ميالدية على يدْي المستشرق‬
‫اإلنجليزي أرثر أربري قد لفت انتباه أهل الَح ْر ف والكتابة‪ ،‬وإن كان النَّفري موجوًدا في المتِن‬
‫الصوفِّي وُم شاًر ا إليه من الكبار (وكان محيي الدين بن العربي أول َم ن أشار إلى ‪ -‬المواقف ‪ -‬في‬
‫كتابه األساسي «الفتوحات المكية»‪ ،‬وأول َم ن شَر َح ها هو عفيف الدين التلمساني سنة ‪690‬‬
‫هجرية)‪ ،‬فإَّن الكسَل العربي األكاديمي مارس مهامه في التأِّس ي والتبعية‪ ،‬وترك لآلخر المستشرق‬
‫أن يقِّدمه لنا‪ ،‬ومثل النَّفري الكثير‪ ،‬وعلى رأسهم الحالج الذي قَّدمه لنا المستشرق الفرنسي لويس‬
‫ماسينيون‪.‬‬
‫«المواقف والمخاطبات» كتاٌب ال نظيَر له في التراث الُّص وفي جوهًر ا وشكاًل ‪ ،‬غير مسبوٍق في‬
‫اللغة العربية‪.‬‬

‫قد جاء وقتي وآَن لي أن أكشَف‬


‫عاش النَّفري صاحُب «المواقف» و«الُم خاطبات» يستُر معانيه عن سواه؛ ساعًيا إلى الرؤية في‬
‫زمن أبي نصر الفارابي‪ ،‬وأبي حيان التوحيدي‪ ،‬وأبي الطيب المتنبي في ُم نتصف القرن الرابع‬
‫الهجري – العاشر الميالدي ‪ -‬كان حذًر ا مخفًّيا متكتًم ا متحِّفًظا مضِم ًر ا صامًتا بسبب مقتل الحالج‪،‬‬
‫كما كان هناك حيطٌة وتخُّو ٌف من فقهاء السالطين الُم تشِّددين الذين يكرهون التصُّو ف والمتصوفة‪،‬‬
‫وهو ما فعلوه مع الحاَّل ج وغيره‪ ،‬وإذا كان الحالج قد نطق وتكلم؛ فقد صمت الُج نيد خوًفا من‬
‫مصير الحالج‪ .‬إذ اُّتهم الحالج بالُكفر والِفسق والزندقة قبل أن ُيسجن وُيقتل بعدها‪.‬‬
‫لقد لجأ النَّفري إلى التسُّتر والتقية َخشيًة من السلطتين السياسية والدينية‪ ،‬بعدما صار عدٌد كبير‬
‫من الفقهاء نائمين في ِح ْج ر الُخ لفاء واألمراء‪ ،‬ينِّفُذون أوامرهم‪ ،‬وُيفِّص لون لهم الفتاوى بالمقاس‬
‫الذي يطلبون‪ ،‬بل وُيقِّدمون المتصوفة إلى مذبح السلطان كي يشنقه‪ ،‬ويقطع جسده إلى أجزاء‪ ،‬ثم‬
‫يحرقها‪ ،‬وُيذِّر ي رمادها‪.‬‬
‫حيث أخرج اللغَة من قفِص ها‪ ،‬بإيجاٍز نادٍر ‪ ،‬وتكثيٍف غير مسبوٍق ‪ ،‬وأنطق ذاته في إشراِقها‬
‫وتجِّليها وصمِتها‪ ،‬وكان ُم نشغاًل بحاله‪ ،‬وليس بما سيكوُن عليه اسمه في ُم دونة التاريخ‪ ،‬وذلك قمة‬
‫الُّز هد والتخِّلي عن الشواغل‪ ،‬واالستغناء‪ .‬وترك ما سوى هللا‪ ،‬وهو ما تجَّلى في عدم جمع كتابته‪:‬‬
‫«الحرُف يعجُز عن أن يخبر عن نفسه‪ ،‬فكيف يخبُر عني»‪.‬‬
‫كان سائًح ا موَّلًه ا‪« ،‬هام بُحِّب هللا‪ ،‬وتاه في طلبه‪ ،‬وتوَّله بذكره‪ ،‬ومات باسمه»‪ .‬كأَّنني أراُه في‬
‫سياحاته اآلن ال يبيُت في منزٍل ليلتين متعاقبتين‪.‬‬
‫ال توجُد لغٌة تشبُه لغة النَّفري عند سواه من الصوفيين‪ ،‬فهي جديدٌة في حرِفها وعبارتها ومعناها‬
‫ووْج ِدها‪« :‬إذا جئتني فألِق العبارَة وراء ظهِر َك ‪ ،‬وألِق المعنى وراَء العبارِة‪ ،‬وألِق الوجَد وراَء‬
‫المعنى»‪.‬‬
‫النَّفري تطاوُعه لغُته‪ ،‬يكتُب بسالسٍة‪ ،‬ويحشُد للمعاني في غزارٍة غير مسبوقٍة‪ ،‬على الرغم من‬
‫تجريِده وتلخيِص ه‪ ،‬وحذفه المستمر ساعة الفيض‪ ،‬ومن الَّص عِب أن نضَع النَّفري في ُدرٍج أدبٍّي ما‪،‬‬
‫أي هو عصٌّي على التصنيِف األدبِّي واألكاديمِّي‪.‬‬
‫إنه نٌّص شعرٌّي ‪ ،‬ونثرٌّي ‪ ،‬وفلسفٌّي في آٍن ‪.‬‬
‫هو إذن خارُج المألوِف والُم عتاد والُم تاح ‪.‬‬
‫هو يمزُج بين كِّل هذا‪.‬‬
‫محيي الدين بن العربي – الذي كان أَّو ل َم ن كشف عن اسمه وأخرجه إلى الُّنور‪ ،‬بعد تجاهٍل‬
‫وصمٍت وربما نسيان دام نحو قرنين من الزمان ‪ -‬يرى النَّفري «من رجال هللا»‪ ،‬ويسِّم ي كتابه‬
‫«كتاب المواقف» بـ«كتاب المواقف والقول»‪ ،‬ويرى أنه «كتاٌب شريٌف يحوي على علوم آداب‬
‫المقامات»‪ ،‬وهناك إحدى المخطوطات التي تسِّم يه «كتاب المواقف مع الحق على التصُّو ف»‪.‬‬
‫بينما القاشاني (توفي نحو ‪ 730‬هجرية ‪ /‬نحو ‪ 1330‬ميالدية) يذكُر في كتابه «لطائف األعالم‬
‫في إشارات أهل اإللهام» الكتاب باسم «المواقف النَّفرية»‪.‬ويراه الذهبي‪ :‬صاحب «المواقف»‬
‫واالِّدعاءات والِبَد ع‪.‬‬
‫وَم ن يقرأ النَّفري سيلحظ أنه كان متأثًر ا إلى حٍّد كبيٍر بالديانات القديمة‪ ،‬التي كانت موُج ودًة في‬
‫المحيط الذي عاش وتنَّقل فيه‪ ،‬وسافر إليه مثل البوذية والمانوية‪ ،‬حيث كانت بابل مكاًنا للديانة‬
‫المانوية (هي ديانة نشأت في القرن الثالث الميالدي‪ ،‬من حضن الديانة المندائية‪،‬‬
‫«إن الحكمة والمناقب لم يزل يأتي بها رسل هللا بين زمن وآخر‪ ،‬فكان مجيئها في زمن على يد‬
‫الرسول (بوذا) إلى بالد الهند‪ ،‬وفي زمن على يد (زرادشت) إلى أرض فارس‪ ،‬وفي زمن على يد‬
‫(عيسى) إلى أرض المغرب (الشام)‪ ،‬ثم نزل هذا الوحي وجاءت النبوة في هذا الزمن األخير على‬
‫يدَّي أنا (ماني) رسول إله الحق إلى أرض بابل‪ ،»...‬لقد «ُعِّذب (ماني) وُص لب وقِّط عت أطرافه؛‬
‫ثم ُأحرقت ُج ثته‪ ،‬وُنثر رماده»‪ ،).‬وقد أثر فيه هذا التراث الديني إذ بقي أثُر هذه الديانات موجوًدا‬
‫ونشًطا حتى بعد ظهور اإلسالم‪ .‬فالمانوية كانت موجودة في زمن الخالفتين األموية والعباسية‪،‬‬
‫وِنَّفر (أو نيبور السومرية)‪ ،‬التي ينتمي الِّنَّفري إليها‪ ،‬كانت شديدة القرب من بابل‪ ،‬مدينة ماني‪ ،‬بل‬
‫عاصمة الديانة المانوية‪.‬‬
‫وقد اُّتهم كثيرون بالمانوية مثل‪ :‬صالح بن عبد القدوس‪ ،‬وبشار بن برد‪ ،‬وأبو نواس‪ ،‬وأبو‬
‫العتاهية‪ ،‬وحماد الراوية‪ ،‬وعبد هللا بن المقفع‪ ،‬وسواهم الكثير‪.‬‬
‫الصمت والكتمان كانا نهج النَّفري في حياته خشية البطش؛ حتى إنه عاش مجهواًل في زمانه‪،‬‬
‫ولم يكتب عنه مؤرخو عصره‪ ،‬ولوال أن نَّص ه كان فارًقا ما عرفه أحٌد‪ ،‬وال اجتازت كتابته قروًنا‬
‫وحواجز وتشُّدًدا من الفقهاء ‪.‬‬
‫فلم تذكره الُكتب الكبرى التي أَّر خت للمتصوفة من مختلف الطبقات والدرجات مثل «طبقات‬
‫الصوفية» للسلمي‪ ،‬و«اللمع» للطوسي‪ ،‬و«تذكرة األولياء» للعَّطار‪ ،‬وسواها من الكتب‪.‬‬
‫ال أحُّب الَّشرح‪ ،‬ومن ثم ال أحُّب شرَح مواقف وُم خاطبات النَّفري‪ ،‬إنني أقرؤه للُم تعة واللَّذة‬
‫الُّر وحية‪ ،‬وال أطِّبق على نِّص ه منهًج ا ما في التلِّقي؛ ألَّن صوفًّيا مثله حين يكتُب ‪ ،‬ال يعرُف هل هو‬
‫في الُحُض ور أم الغياب‪ ،‬في المْح و أو اإلثبات‪ .‬وكان قد شرح مواقفه عفيف الدين التلمساني الذي‬
‫توفي بعد ثالثمئة وست وأربعين سنة على رحيل النفري‪.‬‬
‫وكتابا النَّفري‪ ،‬اللذان نشرهما المستشرق أرثر يوحنا أربري في القاهرة سنة ‪ 1934‬ميالدية ‪-‬‬
‫الذي كتب عن النَّفري في تقديمه للكتاب إنه‪« :‬سائح وكاتب مترّسل‪ ،‬لكنه كان قبل كل شيء مفكًر ا‬
‫أصياًل ‪ ،‬متقًدا‪ ،‬ذا قناعة واضحة بأصالة تجربته» ‪ -‬من الُكتب القليلة في حياتي التي أستعيُد قراءتها‬
‫مَّر اٍت؛ ألَّنني في كل مرة أرى جديًدا‪ ،‬وأضيف إلى نفسي معرفة كانت ُم ستترًة وُم ْض َم رة بين‬
‫الُّسطور‪ ،‬فأنا أحُّب أن أكون ضيًفا عليه‪ُ ،‬م حتفًيا به ومحتفاًل ‪.‬‬
‫وكان أدونيس قد عثر على كتاب النَّفري في مكتبة الجامعة األميركية في بيروت‪ ،‬وبدأ منذ‬
‫‪ 1965‬ميالدية يبِّش ر بنصوص النَّفري‪ ،‬واعتبره صوفًّيا «يضيء الكتابة العربية الحديثة والكتابة‬
‫إطالًقا»‪« ،‬يتحَّر ك بين النطق والصمت‪ ،‬صامًتا في نطقه وناطًقا في صمته»‪« ،‬لعَّل أعمق ما يمِّيز‬
‫شعرية هذا النص هو أن تفُّج ر الفكر فيه إنما هو تفُّج ر اللغة نفسها‪ .‬ويمتلئ هذا التفُّج ر باإلشراقات‬
‫الُم فاجئة والتوترات المتضادة المتعانقة»‪« ،‬الفكر هنا شعٌر خالٌص والشعر فكر خالص»‪« ،‬يرفع‬
‫الكتابة إلى مستوى األسطورة؛ فكتابته تدعونا لكي نفهمها بحركة األحشاء ونبضات القلب‪ ،‬كما لو‬
‫أن علينا أن ننصهر فيها‪ ،‬أن نتماهى معها‪ ،‬كما نتماهى مع طفولتنا وال شعورنا‪ .‬ونصه هو نص‬
‫يقول لنا إن الحقيقة شوق‪ ،‬وهي غير موجودة بوضوحها الكامل‪ ،‬أي بغموضها الدال‪ ،‬إال في اللغة‪،‬‬
‫أعني الشعر»‪« ،‬تجربة قلبية ال تجربة عقلية‪ ،‬وتجربة كتابية‪ ،‬بدًء ا من القطيعة مع الواقع‪ ،‬ومن‬
‫الصلة مع المتخيل‪ .‬إنها تجربة تتجاوُز إمكانات الواقع من أجل أن ُتْح ِس ن الغوص في داخله‪،‬‬
‫وتحسن استقصاء ما يضمره‪ ،‬فهي تجربة رموز وإشارات وتلميحات»‪« ،‬النص هنا يقول أكثر مَّم ا‬
‫يقول ظاهر كلماته‪ ،‬وتتقاطع فيه أبعاٌد ودالالٌت تجِّس د لغة تفرُض التواصل معها ذوقًّيا أو حدسًّيا»‪.‬‬
‫مع النفري أنت تنهُض وتسمُق وتسُم و‪« :‬إذا رأيتني استوى الكشُف والحجاب»‪.‬‬
‫تبني وال تهدم‪ ،‬تعرف بيتك بعدها‪ ،‬لكنك تحار في الطريق الذي تسلُك ‪« :‬إذا جئتني فألِق العبارَة‬
‫وراء ظهرَك ‪ ،‬وألِق المعنى وراَء العبارة»‪.‬‬
‫وال يعني صمت النَّفري أنه كان متخاذاًل جباًنا‪ ،‬والحظ هنا رؤيته‪ ،‬حيث يبدو أنه كان يجاهد‬
‫ويكافُح ويرفُض عبر حرفه‪:‬‬
‫= وقال لي قد جاء وقتي وآَن لي أن أكشَف عن وجهي وأظهر سبحاني ويتصل ُنوري باألفنية‬
‫وما وراءها‪ ...‬وترى عدوي يحُّبني وترى أوليائي يحكمون‪ ...‬وأعمر بُيوت الخراب وتتزيُن‬
‫بالزينة الحق‪ ،‬وترى قسِط ي كيف ينفي ما سواه‪ ،‬وأجمُع الناَس على الُيسر فال يفترقون وال يذلون‪،‬‬
‫فأستخرج كنزي ويتحَّقق ما أحققتك به من خبري وعَّدتي وقرب طلوعي‪ ،‬فإني سوف أطلع وتجتمع‬
‫حولي النجوم‪ ،‬وأجمُع بين الشمس والقمر‪.‬‬
‫= كذلك يقول الرب إني طالٌع على األفنية أتبَّسم‪ ،‬ويجتمعون إلَّي ويستنصرني الضعيُف‬
‫ويتوكلون كلهم علَّي ‪ ...‬فلتنتبهي أيتها النائمُة إلى قيامك‪ ...‬فارجمي الُّدور بنجومِك واثبتي القطَب‬
‫بأصبعك والبسي رهبانية الحِّق وال تنتقبي‪ ،‬إنما الحكم لك‪ ،‬وعود البركة بيمينك‪ ،‬فذلك أريد وأنا‬
‫على ذلك شهيد‪...‬‬
‫= كذلك يقول الرُّب أقبل وال تراجع‪ ،‬وأنظم لك القالدة وأخرج يدَّي إلى األرض ويرونني معك‬
‫وأمامك‪.‬‬
‫= فابرزي من خدرك؛ فإَّنني أطلع عليك الشمس‪ ،‬وخذي عاقبتك بيمينك‪ ،‬واشتِّدي كالرياح‪،‬‬
‫وتدَّر عي بالرحمة السابقة‪ ،‬وال تنامي فقد أطلعت فجرك وقرب الصباُح منِك ‪.‬‬
‫كتاٌب عظيٌم صاحُبه مجهول‬
‫ابتعَد ونأى واحتجَب ؛ ألنُه أدرك أَّن الفقهاَء والخلفاَء واألمراَء والسالطين وأهَل الُّسلطة السياسية‬
‫والدينية مًعا يكرهون الُم تصوفة ويعادونهم ويحاربونهم‪ ،‬وُيؤِّلُبون العاَّم َة عليهم‪ ،‬بعد اتهامهم بالِفسق‬
‫والُكفر والَّز ندقة والخُر وج على الدين‪ ،‬وينِز لون بهم أقسى أنواع العذاب‪ ،‬وقد رأى النَّفري ِم حَن َم ن‬
‫سبقوه وعاصروه؛ فآثر الَّص مت‪ ،‬الذي صار ُج زًء ا مهًّم ا في نِّص ه‪ ،‬وليس في سلوِكِه الحياتي فقط‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أَّن نصوَص النَّفري‪ ،‬نصِّنُفها ُكتًبا ُص وفيًة تراثيًة قديمًة‪ ،‬فإنها حديثٌة وجديدٌة في‬
‫شكلها وِبنيتها‪ ،‬بل صارت أحَد روافد اإللهام لدى الُّشعراء والُكَّتاب منذ حقبة الستينيات من القرن‬
‫العشرين الميالدي وحتى يومنا هذا‪ ،‬بل إَّن نتاَج النَّفري مطُبوٌع في كِّل البلدان العربية‪ ،‬ومدُر وٌس‬
‫في أقسام الفلسفة بالجامعات العربية‪ ،‬ويعتبُر ُه الكثيرون أحَد أهم الكتب العربية على اإلطالق‪.‬‬
‫ولعل «المواقف والمخاطبات» هو المتُن الوحيُد الذي صمد وانتصر لنفسه أمام ِم صفاِة الَّز من‪،‬‬
‫من دون أن تكوَن هناك سيرٌة ذاتيٌة وحياتيٌة لصاحبه‪ ،‬إْذ كتَب ‪ ،‬وترَك ‪ ،‬وما خَّطه بِقي ووصل إلينا‪.‬‬
‫وصار كتاب النَّفري هو الدليُل عليه والسيرة له‪ ،‬ومنه نستخرج منهجه ومواقفه؛ ألَّن الكتابَة ما هي‬
‫إال تعبيٌر عن ُر وح وعقل كاتبها‪.‬‬
‫فقد رآه صديقي المستشرق اإليطالي األب جوزيبي سكاتولين «صوفًّيا عميًقا‪ ،‬بل عبقرًّيا‪ ،‬مَّم ا‬
‫يجعلنا نعتبُر ُه من أعمق المفكرين في اإلسالم»‪.‬‬
‫يقول النَّفري في كتاب «المواقف»‪« :‬وقال لي‪ :‬ال يُكون الُم نتهى حتى تراني من وراء كل شيء‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬نْم لتراني‪ ،‬فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك‪ ،‬فإنك ال تراني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كُّل واقٍف عارٌف ‪ ،‬وما كُّل عارٍف واقف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬فإَّن العارَف كالَم ِلك يبني قصوَر ه من المعرفة فال يريد أن يتخَّلى عنها‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المعرفُة ناٌر تأكُل المحَّبة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬من علوم الُّر ؤيا أن تشهَد صمَت الكل‪ ،‬ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل»‪.‬‬
‫ويقول النَّفري في كتاب «الُم خاطبات»‪:‬‬
‫يا عبد اجعلني صاحب سرك أكن صاحب عالنيتك‪ .‬يا عبد اجعلني صاحب وحدتك أكن صاحب‬
‫جمعك‪ .‬يا عبد اجعلني صاحب خلوتك أكن صاحب مالئك‪ .‬يا عبد كيف تيأس مني وفي قلبك‬
‫متحدثي‪.‬‬
‫يا عبد اصبر لي يوًم ا أكفك غلبة األيام‪.‬‬
‫متن النفري يحتشُد بتعُّدد األصوات المتكلمة واألبنية واألشكال‪ ،‬فهو نٌّص غنٌّي بالخيال‪،‬‬
‫واإلشارة‪ ،‬والرمز الذي يحتاج إلى تفكيٍك وتأويل‪.‬‬
‫ومع ذلك فإَّن ما يستخدمه النَّفري من كلمات ال تغطي مساحة روحه وال تستوعب ما يرغب‬
‫ويهدف إلى الوُص ول إليه‪ ،‬وأنه عاجٌز أمام الحرف‪ ،‬وحائر أمام قصاصة الورق التي يكتب عليها‪،‬‬
‫وإال ما كان قال قولته التي اشتهرْت وذاعت‪..« :‬كلما اتسعت الرؤية‪..‬ضاقت العبارة‪.»..‬‬
‫وحين كتب النَّفري لم يُكن يبحُث لنِّص ه عن شكٍل أو جنٍس أدبٍّي‪ ،‬هو كتب فقط نفسه بحريٍة‬
‫شديدٍة‪ ،‬وكان متحًدا مع ذاته؛ ولذا جاء نُّص ه غريًبا وُم لِغ ًز ا وجديًدا على الذوق العربي وقتذاك وما‬
‫زال قادًر ا على اإلدهاش‪.‬‬
‫وقال النَّفري ‪« :‬الحرُف خزانُة هللا‪ ،‬فَم ن دخلها فقد حمل األمانة‪ ،‬والحرُف دليُل العلم والعلم‬
‫معدُن الحْر ف»‪.‬‬
‫أرثر أربري ُم كتِش ف «المواقف والُم خاطبات»‬
‫لم أنَسه يوًم ا‪ ،‬فقد ارتبط اسمه باكتشاف ونشر أحب الُكتب لدَّي وهو «المواقف والمخاطبات»‪،‬‬
‫إذ بذل جهًدا علمًّيا كبيًر ا لنشر هذا الكتاب ليس لنا نحن العرب ولكن لإلنسانية؛ ألنه قدم المتن‬
‫العربي مرُفوًقا بترجمٍة إنجليزيٍة له‪.‬‬
‫وقد أصدره محَّقًقا بعد مقابلته على سبع نسٍخ‪ ،‬وقَّدمه لنا مع مقدمٍة عن الكتاب وتاريخه جاءت‬
‫باللغة اإلنجليزية‪ ،‬وطبعه عام ‪1934‬ميالدي في مطبعة دار الكتب المصرّية بالقاهرة‪ ،‬وكانت‬
‫عالقة أربري مع النَّفري قد بدأت مع أول بحٍث نشره عنه في مجلة الثقافة اإلسالمية عام‬
‫‪1930‬ميالدي‪.‬‬
‫هو أرثر جون أربري ‪Arthur John Arberry‬‏(‪ 12‬من مايو ‪ 2 - 1905‬من أكتوبر ‪1969‬ميالدية) مستشرٌق‬
‫بريطانٌّي اختّص في التصّو ف واألدب الفارسي‪ .‬ولد في حي فراتون من أحياء بورتسموث جنوبي إنجلترا‪ ،‬وهو االبن‬
‫الرابع من بين خمسة أوالد‪ .‬وكان والده ضابًطا في البحرية الملكية البريطانية‪ .‬ويقول عن أبويه «إنهما كانا ُم ولعْين‬
‫بقراءة الُكتب الجيدة‪ ،‬وقد رَّبيا أبناءهما على أن يكونوا مسيحيين أتقياء‪ ،‬وأن يتذوقوا األدب الجاّد»‪.‬‬

‫درس الثانوية ‪ Grammar School‬في بورتسموث‪ ،‬ولتفوقه حصل على منحة دراسية لدراسة اآلداب الكالسيكية‬
‫(اليونانية والالتينية) في كلية بمبروك ‪ Pembroke‬من جامعة كمبردج عام ‪ 1924‬ميالدي بوصفه الطالب األول في السنة‪.‬‬

‫ودَر َس العربية والفارسية؛ حيث درس العربية على يد رينولد نيكلسون (‪‍ 1364 - 1285‬هجرية ‪ 1945 - 1868 /‬ميالدية) سنة‬

‫‪ 1927‬ميالدية‪ ،‬وتأثر به كثيًر ا وتوَّثقت بينهما موَّدة حتى وفاة هذا األستاذ‪.‬‬

‫وقد حصل على المرتبة األولى مرتْين في مواد الدراسات الشرقية (‪1929‬ميالدي)‪ .‬ولتفوقه هذا‬
‫ُم ِنح ميدالية وليم براون‪ ،‬كما نال عدة منح أخرى‪ ،‬واختير في عام ‪ 1931‬ميالدي زمياًل باحًثا في‬
‫كلية بمبروك التي تخرج فيها‪.‬‬
‫ثم ارتحل إلى مصر عام ‪ 1931‬ميالدي لمواصلة دراسته للغة العربية‪ ،‬وُعِّين في كلية اآلداب‬
‫بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة اليوم) رئيًسا لقسم الدراسات القديمة (اليونانية والالتينية)‪ ،‬وبقي‬
‫في هذه الوظيفة من أكتوبر ‪ 1932‬حتى يوليو ‪ 1934‬ميالدية‪ .‬ونشر في مجلتها كتاب «النبات»‬
‫المنسوب إلى أرسطو‪ ،‬وهو في الحقيقة لنقوالوس‪ ،‬وزَّو ده بتعليقاٍت وفيرة‪ ،‬وخالل إقامته في مصر‬
‫زار فلسطين ولبنان وسورية لجمع مواد ألبحاثه المقبلة‪.‬‬
‫وقد تعَّر ف إلى سيرينا سيمونز ‪ ،Sarina Simons‬ثم اقترن بها في كمبردج في ‪1932‬ميالدي‪ .‬وبعد‬
‫زواجهما عادا إلى مصر‪ ،‬وهي ُر ومانية األصل‪ ،‬وأنجبا طفلتهما الوحيدة أَّنا سارا في القاهرة‪.‬‬

‫اعتمد أربري على قاموس أكسفورد الجديد عندما أراد إعطاء تعريف للمستشرق‪ ،‬فقال إنه هو‬
‫«َم ن تبَّح ر في لغات الشرق وآدابه»‪ .‬وبينما كان يمضي إجازته عام ‪ 1934‬ميالدي في إنجلترا‬
‫ُعِّيَن مساعًدا محافًظا في«مكتبة الديوان الهندي» بلندن‪.‬‬
‫ومنحته جامعة كمبردج درجة الدكتوراه في اآلداب عام ‪1936‬ميالدي‪ .‬وفي هذه السنة أيًض ا‬
‫أصدر «فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الديوان الهندي»‪ .‬وأتبعه في عام ‪ 1937‬ميالدي‬
‫بكتاب «فهرست الكتب الفارسية» في المكتبة نفسها‪ .‬وتتابعت بعد ذلك أعماله في فهرسة‬
‫المخطوطات العربية والفارسية‪.‬‬
‫ولَّم ا اندلعت الحرب العالمية الثانية في أول سبتمبر ‪ 1939‬ميالدية‪ ،‬انُتِز ع أربري من أعماله‬
‫العلمية المفيدة‪ ،‬وُنقل إلى قسم الرقابة على البريد التابع لوزارة الحرب في ليفربول‪ ،‬فأمضى فيه‬
‫ستة أشهر‪ُ ،‬نقل بعدها إلى وزارة اإلعالم في لندن‪ ،‬فبقي في هذا العمل طوال أربع سنوات يصدر‬
‫بنفسه‪ ،‬أو مع غيره‪ ،‬منشوراٍت ال نهاية لها للدعاية البريطانية في الشرق األوسط‪ ،‬باللغتين العربية‬
‫والفارسية‪ ،‬بل إنه ظهر في فيلم للدعاية البريطانية‪.‬‬
‫وتكفيًر ا عن هذه «المهَّم ة المنحطة»‪ ،‬فَّكر أربري في تقديم الَّشرق إلى الغرب بترجمة كتٍب‬
‫عربية وفارسية وتأليف كتٍب وأبحاٍث لتفهيم األوروبيين حقيقة اإلسالم‪ :‬حضارته وآدابه وعقيدته‪.‬‬
‫يقول أربري‪« :‬قبل أن يتيَّسر إقرار الحق عن الَّشرق وُشعوبه في الضمير المشترك للغرب‪،‬‬
‫ينبغي إزالة حشٍد هائل من الباطل وُسوء الفهم واألكاذيب المتعَّم دة‪ .‬وإنه لجزء من واجب‬
‫المستشرق ذي الضمير الحّي القيام بهذه اإلزالة‪ .‬لكن ال تدعه يحسب أن هذه المهَّم ة سهلة أو أنه‬
‫ُخ صوًص ا سيلقى عنها الجزاء»‪.‬‬
‫وقد أبلى أربري في هذا السبيل خير بالٍء ‪ ،‬يشهد على ذلك إنتاجه‪ :‬من ُكتب‪ ،‬وتحقيقات‬
‫لمخطوطات‪ ،‬وترجمات‪ ،‬ومقاالت علمية ممتازة‪ ،‬وما أشرف على نشره من كتب‪ ،‬وهي تقارُب‬
‫المائة على هيئة كتب‪ ،‬والسبعين على هيئة مقاالت علمية‪.‬‬
‫وخالل عمله في وزارة اإلعالم‪ ،‬أصدر في هذا المجال‪ ،‬أي على سبيل الدعاية‪ ،‬كتاًبا بعنوان‬
‫«اإلسهام البريطاني في الدراسات الفارسية» (‪ 1942‬ميالدية)‪ ،‬وآخر بعنوان‪« :‬المستشرقون‬
‫البريطانيون» (‪ 1943‬ميالدية)‪.‬‬
‫ولما تقاعد مينورسكي ‪ V.F. Minorsky‬في ‪1944‬ميالدية‪ُ ،‬عّين أربري مكانه أستاًذا للغة الفارسية في‬
‫«مدرسة الدراسات الشرقية واإلفريقية»‪ .‬ومن أجل عمله الجديد هذا أصدر متوًنا لتعليم الفارسية‪ .‬فنشر في ‪1944‬‬
‫ميالدية كتاب «قراءة في اللغة الفارسية الحديثة»‪ .‬وفي ‪ 1945‬ميالدية نشر الفصلين األولين من «جولستان» سعدي‬
‫الشيرازي مع تعليقات‪ .‬وفي ‪ 1958‬ميالدية أصدر كتاًبا بعنوان‪« :‬األدب الفارسي الكالسيكي»‪ .‬وفي ‪ 1965‬ميالدية‬
‫أصدر كتابه‪« :‬الِّش عر العربي»‪.‬‬

‫وبعد عامين من تعيينه في «مدرسة الدراسات الشرقية واإلفريقية» صار أستاًذا لكرسي اللغة‬
‫العربية‪ ،‬وانُتخب رئيًسا لقسم الَّشرق األوسط في تلك المدرسة‪ .‬لكنه لم يستمر طوياًل ‪ ،‬إذ استقال‬
‫أستوري ‪ C.A. Storey‬من منصبه أستاًذا لكرسي توماس أدمز في كمبردج‪1947 ،‬ميالدية‪ ،‬فُعرض هذا المنصب‬
‫على أربري؛ فقبله وصار أستاًذا في جامعة كمبردج ابتداًء من عام ‪ 1947‬ميالدية‪ .‬وكان هذا‪ ،‬كما قال عن نفسه «أعظم‬
‫لي ‪ ،Samuel Lee‬ورايت ‪ Writght‬وبراون‬ ‫شرف طمحت إليه‪ :‬أن أكون خليفة لهويلوك ‪ Wheelock‬وأوكلي ‪ ،Ockley‬وصمويل‬

‫‪ Brown‬ونيكلسون ‪ »Nicholson‬وهم أعالم المستشرقين الذين تعاقبوا على كرسي الدراسات العربية واإلسالمية في جامعة كمبردج‪ .‬وعلى الفور أعيد‬

‫انتخابه زمياًل في كليته القديمة‪ ،‬كلية بمبروك‪ .‬وألقى محاضرته االفتتاحية في ‪ 30‬من أكتوبر‪ 1947‬ميالدية بعنوان‪« :‬المدرسة العربية في كمبردج»‪ ،‬فيها أشاد‬

‫بذكرى أسالفه في هذا المنصب وأعمالهم‪ ،‬منذ سنة ‪1632‬ميالدية‪ ،‬تاريخ إنشاء كرسي الدراسات العربية واإلسالمية في جامعة كمبردج‪.‬‬

‫ومن كتبه التي تركها غير تحقيقه وترجمته إلى اإلنجليزية «المواقف والمخاطبات» للنَّفري‬
‫بدعوة من رينولد نيكلسون‪ ،‬تحقيق كتاب «التعُّر ف إلى أهل التصُّو ف» للكالباذي‪ ،‬وهو من أقدم‬
‫الكتب في التصُّو ف (القاهرة ‪1934‬ميالدية)‪ ،‬وترجمه إلى اإلنجليزية بعنوان ‪The Doctrine of the‬‬
‫‪( Sufis‬كمبردج ‪1935‬ميالدية)‪ .‬فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الديوان الهندي – لندن‪1936 ،‬ميالدية‪ .‬فهرست‬
‫الكتب الهندية بالمكتبة نفسها ‪ 1937‬ميالدية ‪ .‬تحقيق كتاب «الرياضة» للحكيم الترمذي‪ ،‬طبع في القاهرة ‪1947‬ميالدية‪.‬‬
‫«خمسون قصيدة لحافظ» الشيرازي‪ ،‬مع ترجمة إلى اإلنجليزية‪« .‬صفحات من كتاب اللمع» وقَّدم له بمقدمة عن أستاذه‬
‫نيكلسون‪ .‬ترجمة «زنبقة سينا» لمحمد إقبال‪ ،‬الشاعر الهندي الكبير‪ .‬وقد واصل بعد ذلك ترجمة قصائد لمحمد إقبال‬
‫هي‪« :‬مزامير فارسية» ‪ 1948‬ميالدية‪« ،‬أسرار بيخودي» (أسرار الالذات)‪1953 ،‬ميالدية‪ .‬جاويد نامه‪،‬‬
‫‪1966‬ميالدية‪ .‬ترجمة مسرحية «مجنون ليلى» ألحمد شوقي‪ .‬ونشرها عام ‪1933‬ميالدية‪.‬‬

‫كما نشر كتاب «الصدق» للخَّر از مع ترجمة إلى اإلنجليزية‪ .‬واختار نماذج من الخطوط العربية‬
‫والفارسية الموجودة في مكتبة الديوان الهندي‪ ،‬ونشرها بعنوان‪specimens of Arabic and :‬‬
‫‪.Persian Paleography، 1939‬‬

‫ويذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين‪ :‬أَّن أرثر أربري عثر في‬
‫مجموعة شستر بيتي على مخطوط لـ«رباعيات الخيام» فنشره في ‪ 1949‬ميالدية‪ ،‬وترجمه في‬
‫‪1951‬ميالدية‪ .‬كما عثر على مخطوٍط آخر «لرباعيات الخيام»‪ ،‬فاقتناه لمكتبة جامعة كمبردج في‬
‫‪1950‬ميالدية‪ ،‬وترجمه في ‪1952‬ميالدية‪.‬‬
‫وفي ‪ 1956‬ميالدية أعاد نشر الترجمتين اللتين قام بهما إدوارد فتزجرلد ‪Edward Fitzgerald‬‬
‫مترجم الخيام الشهير لقصيدة «سالمان وأبسال» نظم عبد الرحمن الجامي الَّشاعر الصوفي الفارسي‪ .‬وزَّو د هذه النشرة‬
‫بترجمٍة حرفية جديدة قام بها لهذه القصيدة‪ ،‬مع مقدمة طويلة مستمدة من مواد موجودة في «محفوظات فتزجرالد» في‬
‫مكتبة جامعة كمبردج‪ ،‬ومن المنبع نفسه استقى المادة لمقدمة كتابه «قصة الرباعيات» (‪1959‬ميالدية)‪.‬‬
‫وفي أوائل الخمسينيات أخذ أربري على عاتقه القيام بترجمة جديدة للقرآن‪ .‬فأصدر أواًل ترجمة‬
‫لمختاراٍت من بعض آيات القرآن‪ ،‬مع مقدمة طويلة‪ ،‬وصدر ذلك بعنوان ‪ ،The Holy Koran‬وهو‬
‫المجلد التاسع من سلسلة بعنوان‪« :‬الكالسيكيات األخالقية والدينية للشرق والغرب»‪ ،‬وقد أشرف على إصدار هذه‬
‫السلسلة ابتداًء من عام ‪1950‬ميالدي‪ .‬وفي ‪ 1955‬ميالدية أصدر ترجمته المفّسرة للقرآن تحت عنوان‪The Koran :‬‬

‫‪ Interpreted‬في مجَّلدين‪ .‬وكما يدل عليه العنوان‪ ،‬فإن هذه ليست ترجمة حرفية‪ ،‬بل ترجمة ُم فّسرة ‪ Interpreted‬تعطي المعنى في‬

‫أسلوٍب رشيٍق جميٍل ‪ ،‬من دون التقُّيد بحرفية اآليات وال تسلسل تركيبها اللغوي‪ .‬إنها أجمل في القراءة من أية ترجمٍة أخرى للقرآن إلى‬

‫‪ Rodwell‬اإلنجليزية‪ ،‬أو ترجمة بالشير الفرنسية‪ .‬ومع ذلك فهي من أجِّل أعمال‬ ‫أية لغة‪ ،‬لكنها ال تغني عن الترجمات الدقيقة مثل ترجمة رودول‬

‫االستشراق‪ ،‬وأعظم إنتاج أربري‪.‬‬

‫ومنذ ‪ 1956‬ميالدية تحالفت األمراض واآلالم على أربري‪ ،‬وظل يعاني منها معاناًة شديدة حتى‬
‫توفي في الثاني من أكتوبر ‪ 1969‬ميالدية في بيته بكمبردج‪.‬‬
‫وقد كان أربري هادئ الطبع‪ ،‬صافي الضمير‪ ،‬يحبه كل َم ن يعرفه‪ ،‬وكان مرهف اإلحساس‬
‫الشعري‪ ،‬رشيق األسلوب‪ ،‬واسع االطالع على كل ما يتصل باهتماماته من أبحاث‪ .‬وهو أشبه ما‬
‫يكون بأستاذه نيكلسون‪ :‬إنتاًج ا وأخالًقا وذوًقا أدبًّيا وجمال أسلوب‪.‬‬
‫وهناك ببليوغرافيا بأهم أعمال أربري‪ ،‬وقد ترجمها د‪ .‬حسين يوسف حسين‪.‬‬

‫‪1935‬‬ ‫عبد الوهاب عزام يكتب عن صديقه أربري سنة‬

‫وأنا أبحُث وجدُت مقااًل نادًر ا منُشوًر ا في السادس من مايو سنة ‪ 1935‬ميالدية للدكتور عبد‬
‫الوهاب عَّز ام (‪ 1‬من يناير ‪ 1 /1894‬من يناير ‪ 1959‬ميالدية) نشره في العدد ‪ 96‬من مجلة‬
‫«الرسالة» الشهيرة‪ ،‬بمناسبة إصدار صديقه أربري لكتاب «المواقف والمخاطبات» للنَّفري‪:‬‬
‫‪ -1‬األستاذ نيكلسون أستاذ األدب العربي بجامعة كمبردج‪ ،‬أحد العلماء األوربيين الذين عنوا‬
‫بدراسة التصوف اإلسالمي‪ ،‬وبلغوا في درسه والعلم بتاريخه درجة عالية‪.‬‬
‫ولألستاذ نيكلسون أياد مشكورة في ترجمة كتب التصوف الفارسية والعربية إلى اإلنجليزية‪،‬‬
‫ونشر نصوصها‪ ،‬والكتابة في كثير من مباحث التصوف‪ .‬وأعظم مآثره في ذلك ترجمته الكتاب‬
‫الخالد‪ ،‬كتاب المثنوي إلى اإلنجليزية‪ ،‬ونشره األصل الفارسي في طبعٍة مرتبٍة مصححٍة‪ ،‬ال تقاس‬
‫بها طبعة أخرى؛ وال ريب أن األستاذ يعد اليوم من أئمة هذا الشأن في المشرق والمغرب‪.‬‬
‫‪ -2‬ولألستاذ نيكلسون تالميذ نهجوا نهجه واقتفوا أثره في العناية بالتصوف اإلسالمي‪ ،‬واالهتمام‬
‫بإحياء كتبه ونشرها‪.‬‬
‫ومنهم صديقنا النابغة العالمة أربري الذي سعدنا بصحبته حيًنا في كلية اآلداب‪ ،‬ثم شقينا بفراقه‬
‫هذا العام‪ ،‬إذ ولي منصب في المكتبة الهندية بلندن وكان صديقنا أربري‪ ،‬زمان إقامته بالقاهرة‪،‬‬
‫دائب البحث عن المخطوطات الصوفية‪ ،‬يواصل الجهد في تصحيحها ومقابلة بعضها ببعض‪،‬‬
‫ونسخها بخطه العربي الجميل‪ ،‬وقد يسر له أن يجمع جملة نادرة من رسائل التصوف وكتبه‪ ،‬منها‪:‬‬
‫رسائل المحاسبي والسلمي من متقدمي الصوفية‪.‬‬
‫ثم بدأ ينشر ما جمعه وصَّح حه‪ ،‬فطبع في القاهرة كتابْي «المواقف والمخاطبات» اللذين نكتب‬
‫عنهما اليوم‪ ،‬وترجمهما إلى اإلنجليزية‪ ،‬ثم نشر األصل والترجمة في كتاٍب واحٍد‪ ،‬وكتب له مقدمًة‬
‫نفيسًة‪.‬‬
‫‪-3‬محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري‪ ،‬أحد صوفية القرن الرابع الهجري‪ ،‬توفي سنة ‪354‬‬
‫هجرية أو بعدها بقليل‪ .‬وينسب إلى قرية نفر إحدى قرى العراق‪ ،‬وهي مدينة نبور البابلية القديمة‪.‬‬
‫ويقال إَّن أبا الشيخ كان جَّو ااًل في البراري ال يستقر في مكاٍن ‪ ،‬وال يسكُن إلى إنساٍن ‪ ،‬وأنه توفي‬
‫بإحدى قرى مصر‪.‬‬
‫ولم ينبه ذكر الشيخ بين رجال الصوفية‪ ،‬ولم تذع كتبه بين الناس‪ .‬وقد ذكره محيي الدين بن‬
‫العربي في كتاب «الفتوحات»‪ ،‬والَّشعراني في «الطبقات الكبرى»‪ ،‬ولكن المأثور من أخباره قليل‪.‬‬
‫وللشيخ النفري كلمات في التصوف‪ ،‬طائفة منها تبدأ بقوله‪ :‬أوقفني على كذا‪ ،‬واألخرى تبدأ‬
‫بقوله‪ :‬خاطبني ‪ .‬وقد جمع ابن بنته كلماته في كتابْي «المواقف والمخاطبات» اللذين نشرهما‬
‫صديقنا العالمة أربري‪.‬‬
‫وخير تعريف للكتابين أن أعرض على القارئ بعض كلماتهما‪ ،‬فهذه شذرات من المواقف‪ ،‬وفي‬
‫العدد اآلتي ننقل شذرات من المخاطبات‪.‬‬
‫وسيرى القارئ أن هذا الكتاب بدع من كتب التصوف‪ ،‬وأنه من األدب الصوفي الذي ال يعرف‬
‫نظيره»‪.‬‬
‫وقد اختار الدكتور عبد الوهاب عَّز ام أربعة مواقف من كتاب «المواقف» وهي‪ :‬موقف العز‪،‬‬
‫موقف البحر‪ ،‬موقف المطلع‪ ،‬موقف الموت‪ ،‬نشرها مع مقاله القصير‪.‬‬

‫األب بولس نويا اليسوعي مكتشف «موقف المواقف» للنَّفري‬


‫حتى الثانية عشرة من ِسِّنه لم يتعَّلم القراءَة والكتابَة‪ ،‬هو من إحدى القرى العراقية في الموصل‪،‬‬
‫وليس لبنانًّيا كما يظُّن أكثر الناس‪ ،‬بل انتقل من العراق إلى لبنان‪.‬‬
‫والتحق بمعهد اآلباء اليسوعيين في الموصل؛ ليبدأ التعُّلَم ‪ ،‬ومن هذا المعهد انتقل إلى العاصمة‬
‫الفرنسية باريس؛ ليدُر َس التصوَف في جامعة السوربون على يد المستشرق الفرنسي الشهير لويس‬
‫ماسينيون (‪ 1962 – 1883‬ميالدية)‪ ،‬الذي درَس الحالج ونشر أخباَر ه وُكتبه وِشْعره‪.‬‬
‫ولم أعرف نويا (‪ 1980 - 1925‬ميالدية) إال ألنه كان المشرف على أطروحة الدكتوراه‬
‫ألدونيس‪ ،‬التي قَّدمها في «معهد اآلداب الشرقية بجامعة القديس يوسف» – بيروت‪ ،‬وشارك في‬
‫مناقشتها الدكاترة‪ :‬سعيد البستاني‪ ،‬وعبد هللا عبد الدائم‪ ،‬و أنطون غطاس كرم‪ .‬والتي صدرت بعد‬
‫ذلك في كتاٍب من أربعة أجزاء بعنوان‪« :‬الَّثابت والمتحول‪ ..‬بحٌث في اإلبداع واالتباع عند‬
‫العرب»‪ ،‬وقد أهدى أدونيس كتابه إلى بولس نويا‪« :‬إلى بولس نويا‪ ..‬رمًز ا للُخ ُر وج من المملوكية‬
‫إلى الحرية»‪ .‬ومن مقدمة بولس لكتاب أدونيس ‪« :‬ذكرت في األطروحة أن التراث هو بمثابة‬
‫األب‪ .‬ونحن نعلم منذ فرويد أن االبن ال يستطيع أن يكتسب حريته ويحقق شخصيته إال إذا قتل أباه‪.‬‬
‫على اإلنسان العربي أن يميت تراث الماضي في صورة األب لكي يستعيده في صورة االبن»‪.‬‬
‫وألنه كشف لنا ما لم يكمله المستشرق اإلنجليزي أرثر أربري من تراث النَّفري‪ ،‬وهو كتاب‬
‫«موقف المواقف»‪ ،‬حيث مات أربري وهو يؤمن أنه أَّدى مهمته في كشف «المواقف‬
‫والمخاطبات»‪ ،‬ولم يكن يعلم أن النفري الجَّو ال قد ترك وراءه كنوًز ا أخرى سيكشفها لنا نويا‪.‬‬
‫ونويا من اآلباء اليسوعيين‪ ،‬وقد اختير عضًو ا في المجلس الوطني لألبحاث العلمية في باريس‪،‬‬
‫وله من الكتب‪« :‬مقدمة تفسير القرآن» لعالء الدولة السمناني (‪ 736 - 659‬هجرية ‪- 1261 /‬‬
‫‪ 1336‬ميالدية) ومن أبرز كتبه التي قرأُتها‪« :‬رسالة سربال البال لذوي الحال»‪ ،‬وقد صدر عن‬
‫دار المعارف بمصر‪ ،‬من ترجمة وتحقيق وتقديم الدكتور شعبان ربيع طرطور‪ ،‬ولنويا أيًض ا‪:‬‬
‫«رسائل ابن العريف إلى أصحاب ثورة المريدين في األندلس»‪ ،‬و«نصوص صوفية غير‬
‫منشورة» لشقيق البلخي وابن عطاء األدمي‪ ،‬وهو من أعالم التصوف في القرن الرابع الهجري‪،‬‬
‫وقد توفي سنة ‪ 309‬هجرية ‪ 922 -‬ميالدية‪ ،‬وكان الُج نيد شيخه‪ ،‬والنفري‪ ،‬وكان ذلك سنة ‪1973‬‬
‫ميالدية‪ ،‬و«الرسائل الصغرى» البن عباد الرندي‪ ،‬من أعالم التصوف في القرن الثامن الهجري‬
‫(‪ 792 - 733‬هجرية‪ 1390 - 1333/‬ميالدية) ‪.‬‬
‫وقدم نويا تحقيًقا لكتاب «الطواسين» ألبي المغيث الحسين بن منصور الحالج‪ ،‬وكان أول َم ن‬
‫نشر «الطواسين» للحالج هو لويس ماسينيون في العام ‪ 1913‬ميالدي‪.‬‬

‫وقد أّلف األب نويا باللغة الفرنسّية كتاب «التأويل القرآنّي ونشأة اللغة الصوفّية»‪ ،‬و نشر وترجم‬
‫مع مقّدمٍة وحواٍش ‪ ،‬باالشتراك مع األب سمير خليل سمير اليسوعّي المراسلة بين ابن المنّج م‬
‫وحنين بن إسحاق وقسطا بن لوقا‪ ،‬وأسهم في عّدة أبواب في دائرة المعارف للبستانّي ‪ ،‬ودائرة‬
‫المعارف اإليرانّية‪ ،‬ودائرة المعارف اإلسالمّية‪ ،‬وأّلف كتاًبا للتأّم الت عنوانه «صوت المسيح»‪.‬‬
‫وقد ترجم األب بولس نويا بعض قصائد جالل الدين الرومي‪.‬‬
‫ونشر باللغة العربية «تفسير القرآن لإلمام جعفر الصادق»‪ ،‬وكتب دراسة عنه بالفرنسية عام‬
‫‪1969‬ميالدي ‪ .‬كما نشر «تفسير أبي الحسن الحّر الي المراكشي للقرآن»‪ ،‬ونشر رسالته «مفتاح‬
‫الباب المقفل لفهم القرآن المنّز ل»‪ ،‬ودرس األب نويا كتاب «معرفة األسرار» للحكيم الترمذي‪.‬‬
‫و من كتاب‪« :‬اليسوعّيون واآلداب العربّية واإلسالمّية‪ ..‬سَير وآثار»‪ ،‬لألب كميل حشيمة‬
‫اليسوعّي نعرف أن األب بولس ُنِو ّيا من مواليد قرية إينشكي في منطقة العمادّية في جبال كردستان‬
‫العراقّية‪ ،‬وقد ُأرسل إلى المعهد اإلكليريكي في الموصل ألّن والده‪ ،‬وهو من أعيان بلدته‪ ،‬كان‬
‫يرغب في أن يعتنق أحد أفراد عائلته السلك اإلكليركّي ‪ ،‬حيث درس العلوم األدبّية والفلسفّية‬
‫والالهوتّية‪ ،‬وأخذ يهتّم بالشؤون اإلسالمّية‪ ،‬وال سّيما التصّو ف‪ ،‬لما رأى فيه مجااًل للتالقي بين‬
‫المسيحّية واإلسالم‪.‬‬
‫وفي الثانية والعشرين من عمره‪ ،‬وإذ كان بطريرك طائفته ُيريد ترقيته إلى درجة الكهنوت‪،‬‬
‫طلب أن ُيسمح له بدخول الرهبانّية اليسوعّية لُيتاح له تحقيق رغبته على أكمل وجه‪ ،‬واستطاع أن‬
‫ُيقنع الدوائر الرسمّية في روما والتغّلب على ممانعة ذويه‪ ،‬فانضّم إلى اليسوعّيين بلبنان في مطلع‬
‫العام ‪ 1948‬ميالدي‪.‬‬
‫وبعد سنتي االبتداء في دير بكفيا وخمس سنوات ُأخرى إلكمال دروسه الجامعّية وال سّيما في‬
‫اإلسالمّيات بإشراف المستشرق لويس ماسينيون‪ُ ،‬ر سم كاهًنا في الموصل في (‪ 29‬من يونيو عام‬
‫‪ 1955‬ميالدي)‪ .‬وأنهى مراحل التنشئة بإمضاء سنة في مونستر بألمانيا‪ .‬وما إن انقضت هذه‬
‫السنة األخيرة حّتى ُعّين زائًر ا رسولًّيا على رهبانّية مار هرمز الكلدانّية مهتًّم ا خصوًص ا بتنشئة‬
‫الرهبان الشّبان‪ .‬إال أّنه طلب بعد أربع سنوات أن ُيعفى من المهّم ة الصعبة هذه؛ ليتسّنى له التفّر غ‬
‫للعمل الجامعّي واألبحاث العلمّية في مجال اختصاصه‪.‬‬
‫وقد درس اإلسالمّيات في معهد اآلداب الشرقّية ببيروت‪ ،‬وأشرف على سلسلة «بحوث‬
‫ودراسات» الصادرة عن المعهد المذكور ودار المشرق اليسوعّية‪ ،‬واالنتهاء من تحرير أطروحته‬
‫للدكتوراه اّلتي تقّدم بها في جامعة السوربون بباريس العام ‪ 1970‬ميالدي‪ .‬وبعد ذلك كان يوّز ع‬
‫وقته بين بيروت وباريس‪ُ ،‬يشرف على األطاريح وُيدّر س في جامعة القّديس يوسف‪ ،‬والمعهد‬
‫العلمّي للدروس العليا في باريس‪ ،‬متبّو ًئا الكرسّي اّلذي سبقه إليه أستاذه‪ ،‬ومن ثّم صديقه وزميله‬
‫لويس ماسينيون‪ .‬إاَّل أّن كثرة أعماله أنهكت قواه‪ ،‬وعاجلته المنّية بباريس؛ فتوفي بسكتة قلبّية‪ ،‬وهو‬
‫لَّم ا يزل في الخامسة والخمسين‪ ،‬يوم ‪ 25‬من فبراير ‪ 1980‬ميالدي‪.‬‬
‫مختارات من نصوص النَّفري‬
‫ومن األشياء التي توقفت أمامها منذ قراءتي األولى له في طبعة الكتاب التي صدرت عن الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب بتحقيق أرثر أربري وتقديم وتعليق الدكتور عبد القادر محمود سنة ‪1985‬‬
‫ميالدية‪ ،‬وإن كنت اعتمدت في هذه المختارات على طبعة مكتبة المتنبي وهي من دون تاريخ‬
‫للنشر‪ ،‬وهي صورة طبق األصل من طبعة دار الكتب المصرية التي صدرت في القاهرة سنة‬
‫‪ 1935‬ميالدية‪ ،‬التي طبعت للمرة األولى بعد مقابلة سبع نسخ بعناية وتصحيح واهتمام أرثر يوحنا‬
‫أربري المحاضر بالجامعة المصرية وزميل كلية بمبروك في جامعة كمبردج حسب ما جاء في‬
‫الغالف الداخلي من الكتاب‪ ،‬وقد كمل طبع «كتاب المواقف» و«كتاب المخاطبات» بمطبعة دار‬
‫الكتب المصرية في يوم الخميس ‪ 15‬من ذي القعدة سنة ‪ 1352‬هجرية‪ ،‬األول من مارس سنة‬
‫‪ 1934‬ميالدية‪ ،‬حسب ما أشار محمد نديم مالحظ المطبعة بدار الكتب المصرية‪.‬‬
‫مختارات من كتاب المواقف‬
‫َمْو ِقُف الَبْح ِر‬
‫أْو َقفني في الَبْح ِر َفَر أْيُت الَمَر اِك َب َتْغَر ُق َو األْلَو اَح َتْس َلُم ‪ ،‬ثَّم َغَر قت األْلَو اُح ‪َ ،‬و قاَل لِي‪ :‬ال َيْس َلُم َم ْن‬
‫َر كب‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪َ :‬هَلَك َم ْن أْلقى بَنْفِسِه َو لْم َيْر َكْب ‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪ :‬في الُم َخاطَر ِة ُج ْز ٌء ِم َن الَّنجاِة‪َ ،‬و َج اَء الَم ْو ُج َفَر َفَع َم ا َتْح َتُه‪َ ،‬و َساَح على الَّساِح ل‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪ :‬ظاِه ُر الَبْح ِر َضْو ٌء ال ُيْبَلُغ ‪َ ،‬و َقْعُر ُه ُظْلَم ٌة ال ُتَم َّكُن ‪َ ،‬و َبْيَنُه َم ا ِح يتاٌن ال ُتْستأَم ُن ‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪ :‬ال َتْر كِب الَبْح َر ‪َ ،‬فأْح ُجُبَك باآللِة ‪َ ،‬و ال ُتْلِق َنْفَسَك فْيِه فأْح ُجُبَك بِه ‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪ :‬في الَبْح ِر ُح ُدوٌد‪َ ،‬فأُّيَه ا ُيقُّلَك ‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪َ :‬غَشْشُتَك إْن َد للُتَك على ِس َو اَي ‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪ :‬إْن َهَلْك َت في ِس َو اَي ُكْنَت ِلَم ا َهَلْك َت فْيِه ‪.‬‬
‫َو قاَل لي‪ :‬الُّدنَيا ِلَم ْن َصَر ْفُتُه َعْنَه ا‪َ ،‬و اآلِخ َر ُة ِلَم ْن أقَبَلُت بَه ا إلْيِه َو أقَبْلُت بِه َعلَّي ‪.‬‬
‫موقُف الُقرب‬
‫أوقفني في القرب وقال لي‪ :‬ما مني شيء أبعد من شيء‪ ،‬وال مني شيء أقرب من شيء إال حكم‬
‫إثباتي له في القرب والبعد‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬البعد تعرفه بالقرب‪ ،‬والقرب تعرفه فَّي بالوجود‪.‬‬
‫وأنا الذي ال يرومه القرب‪ ،‬وال ينتهي إليه الوجود‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أدنى علوم القرب أن ترى آثار نظري في كل شيء فيكون أغلب عليك من معرفتك به‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬القرب الذي تعرفه في القرب الذي أعرفه كمعرفتك في معرفتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ال بعدي عرفت وال قربي عرفت وال وصفي كما وصفي عرفت‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا القريب ال كقرب الشيء وأنا البعيد ال كبعد الشيء من الشيء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قربك ال هو بعدك وبعدك ال هو قربك‪ ،‬وأنا القريب البعيد قرًبا هو البعد وبعًدا هو‬
‫القرب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬القرب الذي تعرفه مسافة‪ ،‬والبعد الذي تعرفه مسافة‪ ،‬وأنا القريب البعيد بال مسافة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا أقرب اللسان من نطقه إذا نطق‪ ،‬فَم ن شهدني لم يذكر وَم ن ذكرني لم يشهد‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الشاهد الذاكر إن لم يكن حقيقة ما شهده حجبه ما ذكر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ما كل ذاكر شاهد وكل شاهد ذاكر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬تعرفت إليك وما عرفتني ذلك هو البعد‪ ،‬رآني قلبك وما رآني ذلك هو البعد‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬تجدني وال تجدني ذلك هو البعد‪ ،‬تصفني وال تدركني بصفتي ذلك هو البعد‪ ،‬تسمع‬
‫خطابي لك من قلبك وهو مني ذلك هو البعد‪ ،‬تراك وأنا أقرب إليك من رؤيتك ذلك هو البعد‪.‬‬
‫موقف الكبرياء‬
‫أوقفني في كبريائه وقال لي‪ :‬أنا الظاهر الذي ال يكشفه ظهوره‪ ،‬وأنا الباطن الذي ال ترجع‬
‫البواطن بدرك من علمه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬بدأت فخلقت الفرق فال شيء مني وال أنا منه‪ ،‬وعدت فخلقت الجمع فيه اجتمعت‬
‫المتفرقات وتألفت المتباينات‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ما كل عبد يعرف لغتي فتخاطبه‪ ،‬وال كل عبد يفهم ترجمتي فتحادثه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لو جمعت قدرة كل شيء لشيء‪ ،‬وحزت معرفة كل شيء لشيء‪ ،‬وأثبت قوة كل شيء‬
‫لشيء‪ .‬ما حمل تعرفي بمحوه‪ ،‬وال صبر على مداومتي بفقد وجده لنفسه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬األنوار من نور ظهوري بادية وإلى نور ظهوري آفلة‪ ،‬والظلم من فوت مرامي بادية‬
‫وإلى فوت مرامي آئبة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الكبرياء هو العز والعز هو القرب والقرب فوت عن علم العالمين‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أرواح العارفين ال كاألرواح وأجسامهم ال كاألجسام‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أوليائي الواقفون بين يدي ثالثة‪ :‬فواقف بعبادة أتعرف إليه بالكرم‪ ،‬وواقف بعلم أتعرف‬
‫إليه بالعزة‪ ،‬وواقف بمعرفة إليه بالغلبة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬نطق الكرم بالوعد الجميل‪ ،‬ونطقت العزة بإثبات القدرة‪ ،‬ونطقت الغلبة بلسان القرب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الواقفون بي واقفون في كل موقف خارجون عن كل موقف‪.‬‬
‫موقف قد جاء وقتي‬
‫أوقفني وقال لي‪ :‬إن لم ترني لم تكن بي‪.‬‬
‫وَقال ِلي‪ :‬إْن َر أْيت َغْيري‪ ..‬لْم َترِني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إشارتي في الشيء تمحو معنى المعنى فيه وتثبته منه ال به‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬فيك ما ال ينصرف وال يصرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أصمت لي الصامت منك ينطق الناطق ضرورة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أثر نظري في كل شيء فإن خاطبته على لسانك قلبته‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اجعل ذكري وراء ظهرك وإال رجعت إلى سواي ال حائل بينك وبينه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قد جاء وقتي وآن لي أن أكشف عن وجهي وأظهر سبحاتي ويتصل نوري باألفنية وما‬
‫وراءها وتطلع على العيون والقلوب‪ ،‬وترى عدوي يحبني وترى أوليائي يحكمون‪ ،‬فأرفع لهم‬
‫العروش ويرسلون النار فال ترجع‪ ،‬وأعمر بيوت الخراب وتتزين بالزينة الحق‪ ،‬وترى قسطي‬
‫كيف ينفي ما سواه‪ ،‬وأجمع الناس على اليسر فال يفترقون وال يذلون‪ ،‬فأستخرج كنزي وتحقق ما‬
‫أحققتك به من خبري وعدتي وقرب طلوعي‪ ،‬فإني سوف أطلع وتجتمع حولي النجوم‪ ،‬وأجمع بين‬
‫الشمس والقمر‪ ،‬وأدخل في كل بيت ويسلمون علَّي وأسلم عليهم‪ ،‬بذلك بأن لي المشيئة وبإذني تقوم‬
‫الساعة‪ ،‬وأنا العزيز الرحيم‪.‬‬
‫من موقف الرحمانية‬
‫وقال لي‪ :‬إذا رأيتني فانصرني‪ ،‬فلن يستطيع نصرتي َم ن لم يرني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا لم تقَو على الحجاب عني فقد آذنتك بخالفتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬البس خاتمي الذي أتيتك تختم به على كل قلب راغب بالرغبة‪ ،‬وكل راهب بالرهبة‪،‬‬
‫فتحوز وال تحاز‪ ،‬وتحصر وال تحصر‪.‬‬
‫من موقف الوقفة‬
‫أوقفني في الوقفة وقال لي‪ :‬الوقفة ينبوع العلم فَم ن وقف كان علمه تلقاء نفسه‪ ،‬وَم ن لم يقف كان‬
‫علمه عند غيره‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الواقف ينطق ويصمت على حكم واحد‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الوقفة نورية تعِّر ف القيم وتطمس الخواطر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الوقفة وراء الليل والنهار ووراء ما فيهما من األقدار‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الوقفة روح المعرفة والمعرفة روح العلم والعلم روح الحيوة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كل واقف عارف‪ ،‬وما كل عارف واقف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الواقفون أهلي‪ ،‬والعارفون أهل معرفتي‪.‬‬
‫من موقف معرفة المعارف‬
‫أوقفني في معرفة المعارف‪ ،‬وقال لي‪ :‬إذا عرفت معرفة المعارف جعلت العلم دابة من دوابك‬
‫وجعلت الكون كله طريًقا من طرقاتك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لمعرفة المعارف عينان تجريان‪ ،‬عين العلم‪ ،‬وعين الحكم‪ ،‬فعين العلم تنبع من الجهل‬
‫الحقيقي‪ ،‬وعين الحكم تنبع من عين ذلك العلم‪ .‬فَم ن اغترف العلم من عين العلم اغترف العلم‬
‫والحكم‪ ،‬وَم ن اغترف العلم من جريان العلم ال من عين العلم نقلته ألسنة العلوم وميلته تراجم‬
‫العبارات فلم يظفر بعلم مستقر وَم ن لم يظفر بعلم مستقر لم يظفر بحكم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قف في معرفة المعارف وأقم في معرفة المعارف تشهد ما أعلمته فإذا شهدته أبصرته‪،‬‬
‫وإذا أبصرته‪ ،‬فرقت بين الحجة الواجبة وبين المعترضات الخاطرة‪ ،‬فإذا فرقت ثبت‪ ،‬وما لم تفرق‬
‫لم تثبت‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬م ن لم يغترف العلم من عين العلم لم يعلم الحقيقة ولم يكن لما علمه حكم‪ ،‬فحلت علومه‬
‫في قوله ال في قلبه‪ ،‬كذلك تحل فيَم ن علم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اعرف سطوتي تحذر مني ومن سطوتي‪.‬‬
‫من موقف األعمال‬
‫أوقفني في األعمال‪ ،‬وقال لي‪ :‬إنما صفتك الحد‪ ،‬وصفة الحد الجهة‪ ،‬وصفة الجهة المكان‪ ،‬وصفة‬
‫المكان التجزيء‪ ،‬وصفة التجزيء التغاير‪ ،‬وصفة التغاير الفناء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن أردت أن تثبت فقف بين يدي في مقامك وال تسألني عن المخرج‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬تعلم وال تسمع من العلم واعمل وال تنظر إلى العمل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬عمل الليل عماد لعمل النهار‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬تخفيف عمل النهار أدوم فيه‪ ،‬وتطويل عمل الليل أدوم فيه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن لم تعرف صفتك علمت وجهلت وعملت وفترت‪ ،‬فبحسب ما بقي عندك من العلم‬
‫تعمل وبحسب ما عارضك من الجهل تترك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬زن العلم بميزان النية‪ ،‬وزن العمل بميزان اإلخالص‪.‬‬
‫من موقف التذكرة‬
‫وقال لي‪ :‬المعرفة ما وجدته‪ ،‬والتحقق بالمعرفة ما شهدته‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لكل شيء شجر‪ ،‬وشجر الحروف األسماء‪ ،‬فاذهب عن األسماء تذهب عن المعاني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا ذهبت عن المعاني صلحت لمعرفتي‪.‬‬
‫من موقف األمر‬
‫أوقفني في األمر‪ ،‬وقال لي‪ :‬اكتب َم ن أنت لتعرف َم ن أنت؛ فإن لم تعرف َم ن أنت‪ ،‬فما أنت من‬
‫أهل معرفتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أليس إرسالي إليك العلوم من جهة قلبك إخراًج ا لك من العموم إلى الخصوص أوليس‬
‫تخصيصي لك بما تعرفت به إليك من طرح قلبك وطرح ما بدا لك من العلوم من جهة قلبك‬
‫إخراًج ا لك إلى الكشف أوليس الكشف أن تنفي عنك كل شيء وعلم كل شيء وتشهدني بما أشهدتك‬
‫فال يوحشك الموحش حين ذلك وال يؤنسك المؤنس حين أشهدك وحين أتعرف إليك ولو مرة في‬
‫عمرك إيذاًنا لك بواليتي ألنك تنفي كل شيء بما أشهدتك فأكون المستولي عليك وتكون أنت بيني‬
‫وبين كل شيء‪.‬‬
‫من موقف المطلع‬
‫أوقفني في المطلع‪ ،‬وقال لي‪ :‬الباطل يستعير األلسنة وال يوردها موردها كالسهم تستعيره وال‬
‫تصيب به‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحق ال يستعير لساًنا من غيره‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا بدت أعالم الغيرة ظهرت أعالم التحقيق‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا ظهرت الغيرة لم تستتر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المطلع مشكاتي التي َم ن رآها لم ينم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬يا عالم اجعل بينك وبين الجهل فرًقا من العلم وإال غلبك‪ ،‬واجعل بينك وبين العلم فرًقا‬
‫من المعرفة وإال اجتذبك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلم بابي والمعرفة بوابي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اليقين طريقي الذي ال يصل سالك إال منه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬من عالمات اليقين الثبات‪ ،‬ومن عالمات الثبات األمن في الروع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬من يعلم عاقبته ويعمل يزدد خوًفا‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الخوف عالمة من علم عاقبته‪ ،‬والرجاء عالمة من جهل عاقبته‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن ذهب قلبك عني لم أنظر إلى عملك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬حِّدث عني وعن حقوقي وعن نعمتي فَم ن فهم عني فاتخذه عالًم ا‪ ،‬وَم ن فهم عن حقي‬
‫فاتخذه نصيًح ا‪ ،‬وَم ن فهم عن نعمتي فاتخذه أًخ ا‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬م ن لم يفهم عني وال عن حقي وال عن نعمتي فاتخذه عدًّو ا فإن جاءك بحكمتي فخذها‬
‫منه كما تأخذ ضالتك من األرض الُم سبعة‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬م ن عبدني وهو يريد وجهي دام‪ ،‬وَم ن عبدني من أجل خوفي فتر‪ ،‬وَم ن عبدني من‬
‫أجل رغبته انقطع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلماء ثالثة‪ :‬فعالم هداه فَّي قلبه‪ ،‬وعالم هداه فَّي سمعه‪ ،‬وعالم هداه فَّي تعلمه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬القراء ثالثة‪ :‬فقارئ عرف الكل‪ ،‬وقارئ عرف النصف‪ ،‬وقارئ عرف الدرس‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الكل الظاهر والباطن‪ ،‬والنصف الظاهر‪ ،‬والدرس التالوة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا تكلم العارف والجاهل بحكمة واحدة فاتبع إشارة العارف وليس لك من الجاهل إال‬
‫لفظه‪.‬‬
‫من موقف العزة‬
‫وقال لي‪ :‬العقل آلة تحمل حَّدها من معرفة‪ ،‬والمعرفة بصيرة تحمل حَّدها من إشهادي‪ ،‬واإلشهاد‬
‫قوة تحمل حَّدها من مرادي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا بدت العظمة رأى العارف معرفته نكرة‪ ،‬وأبصر المحسن حسنته سيئة‪.‬‬
‫من موقف التقرير‬
‫أوقفني في التقرير‪ ،‬وقال لي‪ :‬خروج الهم عن الحرف وعَّم ا ائتلف منه وانفرق‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا خرجت عن الحرف‪ ،‬خرجت عن األسماء‪ ،‬وإذا خرجت عن األسماء خرجت عن‬
‫المسميات‪ ،‬وإذا خرجت عن المسميات خرجت عن كل ما بدا‪ ،‬وإذا خرجت عن كل ما بدا‪ ،‬قلت‬
‫فسمعت‪ ،‬ودعوت فُأجبت‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الواقف ال يعرف اﻟﻤﺠاز‪ ،‬وإذا لم يكن بيني وبينك مجاز لم يكن بيني وبينك حجاب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معارف كل شيء توجد به‪ ،‬وأسماؤه من معارفه‪ ،‬وإذا سقطت معارف الشيء سقط‬
‫الوجد به‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لكل شيء اسم الزم ولكل اسم أسماء‪ ،‬فاألسماء تفرق عن االسم‪ ،‬واالسم يفرق عن‬
‫المعنى‪.‬‬
‫من موقف الرفق‬
‫أوقفني في الرفق‪ ،‬وقال لي‪ :‬حسن الظن طريق من طرق اليقين‪.‬‬
‫من موقف بيته المعمور‬
‫أوقفني في بيته المعمور‪ ،‬وقال لي‪ :‬القول حجاب فناء القول غطاء فناء الغطاء خطر فناء الخطر‬
‫صحة‪ ،‬علم ذلك يكون حقيقته ال تكون‪.‬‬
‫من موقف ال تطرف‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬كل له عالمة ينقسم بها وتنقسم به‪.‬‬
‫من موقف ال تفارق اسمي‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬إن لم ترني فال تفارق اسمي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا وقفت بين يدي فال يقف معك سواك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الصدق أن ال يكذب اللسان‪ ،‬والصديقية أن ال يكذب القلب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كذب اللسان أن يقول ما لم يقل وأن يقول وال يفعل‪ ،‬وكذب القلب أن يعقد فال يفعل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كذب القلب استماع الكذب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الكذب كله لغة سواي والحق الحقيقي لغتي إن شئت أنطقت بها حجًر ا أو بشًر ا‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كلما علقك بي فهو نطقي عن لغتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬التمني من كذب القلب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬األماني غرس العدو في كل شيء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الرجاء في مجاورة األماني والمجاورة اطالع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لكل متجاورين صحبة‪.‬‬
‫من موقف كدت ال أواخذه‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬أسرع شيء عقوبة القلب‪.‬‬
‫من موقف لي أعزاء‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬فرق بين َم ن غبت عنه ليعتذر وبين َم ن غبت عنه لينتظر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬فارقت المنتظر وطالعت المعتذر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬وعزتي لي أعزاء ما لهم عيون فيكون لهم دموع‪ ،‬وال لهم إقبال فيكون لهم رجوع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لي أعزاء ما لهم دنيا فتكون لهم آخرة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اآلخرة أجر لصاحب دنيا بالحق‪.‬‬
‫من موقف ما تصنع بالمسئلة‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬م ن ال يعرف نعمتي كيف يشكرني‪.‬‬
‫من موقف حجاب الرؤية‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬إن كنت ذا مال فما أنا منك وال أنت مني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الغيبة وطن ذكر‪ ،‬الرؤية ال وطن وال ذكر‪.‬‬
‫من موقف البصيرة‬
‫أوقفني في البصيرة‪ ،‬وقال لي‪ :‬ما نهاك شيء عن شيء إال دعاك إليه بما نهاك عنه‪.‬‬
‫وقال لي ‪ :‬كل شيء سواي يدعوك إليه بشركة وأنا أدعوك إلَّي وحدي‪.‬‬
‫من موقف الصفح الجميل‬
‫أوقفني في الصفح الجميل‪ ،‬وقال لي‪ :‬رد علَّي في كل شيء أرد عليك في كل شيء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اذكرني في كل شيء أذكرك في كل شيء‪.‬‬
‫من موقف ما ال ينقال‬
‫أوقفني في ما ال ينقال‪ ،‬وقال لي‪ :‬الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه‪ ،‬فكيف يخبر عني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كل كاتب يقرأ كتابته وكل قارئ يحسب قراءته‪.‬‬
‫من موقف اسمع عهد واليتك‬
‫أوقفني‪ ،‬وقال لي‪ :‬اعرف َم ن أنت فمعرفتك َم ن أنت هي قاعدتك التي ال تنهدم وهي سكينتك التي‬
‫ال تزل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن سر الدعاء الحاجة‪ ،‬وإن سر الحاجة النفس‪ ،‬وإن سر النفس ما تهوى‪.‬‬
‫من موقف وراء المواقف‬
‫أوقفني وراء المواقف‪ ،‬وقال لي‪ :‬الكون موقف‪ .‬وقال لي‪ :‬كل جزئية من الكون موقف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الوسوسة في كل موقف والخاطر في كل كون‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬طافت الوسوسة على كل شيء إال على العلم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العقود قائمة في العلوم والوسوسة تخطر في أحكام العلوم‪.‬‬
‫من موقف الداللة‬
‫أوقفني في الداللة وقال لي‪ :‬المعرفة بالء الخلق خصوصه وعمومه‪ ،‬وفي الجهل نجاة الخلق‬
‫خصوصه وعمومه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معرفة ال جهل فيها ال تبدو‪ .‬جهل ال معرفة فيه ال يبدو‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أدنى ما يبقى من المعرفة اسم البادي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا عرفت َم ن تسمع منه عرفت ما تسمع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لن تعرف َم ن تسمع منه حتى يتعرف إليك بال نطق‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا تعَّر ف إليك بال نطق تعَّر ف إليك بمعناه فلم تمل في معرفته‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المعرفة نار كل المحبة؛ ألﻧﻬا تشهدك حقيقة الغنى عنك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الشهوة نار تأكل الوقار وال طمأنينة إال فيه وال معرفة إال في طمأنينة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الهوى يأكل ما دخل فيه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الجزاء مادة الصبر إن انقطعت عنه انقطع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الصبر مادة القنوع إن انقطعت عنه انقطع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬القنوع مادة العز إن انقطعت عنه انقطع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المعرفة الصمتية تحكم والمعرفة النطقية تدعو‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحكم كفاية والدعاء تكليف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا القريب الذي ال يحسه العلم‪ ،‬وأنا البعيد الذي ال يدركه العلم‪.‬‬
‫من موقف َم ن أنت وَم ن أنا‬
‫أوقفني وقال لي‪َ :‬م ن أنت‪ ،‬وَم ن أنا؛ فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع األنوار ‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ما بقي نور في مجرى بحري إال وقد رأيته‪ ،‬وجاءني كل شيء حتى لم يبق شيء فقَّبل‬
‫بين عيني وسَّلم علَّي ووقف في الظل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬تعرفني وال أعرفك‪ ،‬فرأيته كله يتعلق بثوبي وال يتعلق بي‪ ،‬وقال‪ :‬هذه عبادتي‪ ،‬ومال‬
‫ثوبي وما ملت فلما مال ثوبي‪ .‬قال لي‪َ :‬م ن أنا‪ ،‬فكسفت الشمس والقمر وسقطت النجوم وخمدت‬
‫األنوار وغشيت الظلمة كل شيء سواه ولم تَر عيني ولم تسمع أذني وبطل حسي‪ ،‬ونطق كل شيء‬
‫فقال‪ :‬هللا أكبر‪ ،‬وجاءني كل شيء وفي يده حربة‪ ،‬فقال لي‪ :‬اهرب‪ ،‬فقلت‪ :‬إلى أين‪ ،‬فقال‪ :‬قع في‬
‫الظلمة‪ ،‬فوقعت في الظلمة فأبصرت نفسي‪ ،‬فقال لي‪ :‬ال تبصر غيرك أبًدا وال تخرج من الظلمة‬
‫أبًدا فإذا أخرجتك منها أريتك نفسي فرأيتني وإذا رأيتني فأنت أبعد األبعدين‪.‬‬
‫من موقف العظمة‬
‫أوقفني في العظمة وقال لي‪ :‬ال تسألني فيما رأيت فإنك غير محتاج‪ ،‬ولو أحوجتك ما أريتك‪ ،‬وال‬
‫تقعد في المزبلة؛ فتهر عليك الكالب‪ ،‬واقعد في القصر المصون‪ ،‬وسد األبواب‪ ،‬وال يكون معك‬
‫غيرك‪ ،‬وإن طلعت الشمس‪ ،‬أو طار طائر؛ فاستر وجهك عنه؛ فإنك إن رأيت غيري عبدته‪ ،‬وإن‬
‫رآك غيري عبدك‪ ،‬وإذا جئت إلَّي فهات الكل معك وإال لم أقبلك فإذا جئت به رددته عليك وال‬
‫تنفعك شفاعة الشافعين‪.‬‬
‫من موقف التيه‬
‫أوقفني في التيه‪ ،‬وقال لي‪ :‬اصحب المحجوب‪ ،‬وفارق الموصول وادخل علَّي بغير إذن؛ فإنك إن‬
‫استأذنت حجبتك‪ ،‬وإذا دخلت إلَّي ‪ ،‬فاخرج بغير إذن؛ فإنك إن استأذنت حبستك‪ ،‬فرأيت كلما أظهر‬
‫إبرة‪ ،‬وكلما أستر خيًطا‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اقعد في ثقب اإلبرة وال تبرح‪ ،‬وإذا دخل الخيط في اإلبرة فال تمسكه‪ ،‬وإذا خرج فال‬
‫تمده‪ ،‬وافرح فإني ال أحب إال الفرحان‪ ،‬وقل لهم قبلني وحدي ورَّدكم كلكم‪ ،‬فإذا جاؤوا معك قبلتهم‬
‫ورددتك‪ ،‬وإذا تخلفوا عذرﺗﻬم ولمتك‪ ،‬فرأيت الناس كلهم براء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنت صاحبي‪ ،‬فإن لم تجدني فاطلبني عند أشدهم علَّي تمرًدا‪ ،‬وإذا وجدتني فال تعصه‪،‬‬
‫وإن لم تجدني؛ فاضربه بالسيف وال تقتله فأطالبك به‪ ،‬وخِّل بيني وبينك‪ ،‬وال تخل بيني وبين‬
‫الناس‪ ،‬وخاصمني وتوكل لهم علَّي فإذا أعطيتك ما تريد فاجعله قرباًنا للنار‪ ،‬وقف في ظل فقير من‬
‫الفقراء فسله أن يسألني‪ ،‬وال تسألني أنت فأمنع غيرك بمسئلتك فتكون ضًّدا لي وأخذلك‪ ،‬فرأيت‬
‫طرح كل شيء الفوز‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن طرحت أفلست‪ ،‬وأنا ال أحب إال األغنياء‪ ،‬وال أكره إال الفقراء‪ ،‬فال أرى معك غنًّيا‬
‫وال فقيًر ا؛ فإني ال أنظر إلى األنواع‪.‬‬
‫من موقف الثوب‬
‫أوقفني في الثوب وقال لي‪ :‬إنك في كل شيء كرائحة الثوب في الثوب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ليس الكاف تشبيًه ا‪ ،‬هي حقيقة أنت ال تعرفها إال بتشبيه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬يوم الموت يوم العرس‪ ،‬ويوم الخلوة يوم األنس‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنظر إليك في قبرك وليس معك ما أردته وال ما أرادك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا في عين كل ناظر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الجزء الذي يعرفني ال يصلح على غيري‪.‬‬
‫من موقف االختيار‬
‫أوقفني في االختيار وقال لي‪ :‬إذا رأيت النار فقع فيها وال ﺗﻬرب فإنك إن وقعت فيها انطفت وإن‬
‫هربت منها طلبتك وأحرقتك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا أوقد النار باليد الثانية‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا تكلمت فتكلم‪ ،‬وإذا صمت فاصمت‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اخرج إلى البرية الفارغة واقعد وحدك حتى أراك فإني إذا رأيتك عرجت بك من‬
‫األرض إلى السماء ولم أحتجب عنك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قد جعلت لك في السد أبواًبا بعدد ما خلقت وغرست على كل باب شجرة وعين ماء‬
‫باردة وأظمأتك ووعزتي لئن خرجت ال رددتك إلى منزل أهلي وال سقيتك من الماء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬نم لتراني فإنك تراني‪ ،‬واستيقظ لتراك فإنك لن تراني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اذكرني كما يذكرني الطفل وادعني كما تدعوني المرأة‪.‬‬
‫من موقف العهد‬
‫أوقفني في العهد وقال لي‪ :‬إن كنت أجير العلم أعطاك الثواب العلم وإن كنت أجير المعرفة‬
‫أعطتك السكينة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬كن أجيري أرفعك فوق العلم والمعرفة فترى أين يبلغ العلم وترى أين ترسخ المعرفة‬
‫فال يسعك المبلغ وال يستطيعك الرسوخ‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا وقفت بي أعطيتك العلم فكنت أعلم به من العالمين وأعطيتك المعرفة فكنت أعرف‬
‫ﺑﻬا من العارفين وأعطيتك الحكم فكنت أقوم به من الحاكمين‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحرف يسري في الحرف حتى يكونه فإذا كانه سرى عنه إلى غيره فيسري في كل‬
‫حرف فيكون كل حرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحرف الحسن يسري في الحروف إلى الجنة‪ ،‬والحرف السوء يسري في الحروف إلى‬
‫النار‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اعرف مقامي وقم فيه‪.‬‬
‫من موقف المراتب‬
‫أوقفني في المراتب وقال لي‪ :‬من عرفني فال عيش له إال في معرفتي‪ ،‬ومن رآني فال قوة له إال‬
‫في رؤيتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلم يدعو إلى العمل‪ ،‬والعمل يذِّك ر برب العلم وبالعلم‪ ،‬فمن علم ولم يعمل فارقه العلم‪،‬‬
‫ومن علم وعمل لزمه العلم‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬م ن فارقه العلم لزمه الجهل وقاده إلى المهالك‪ ،‬وَم ن لزمه العلم فتح له أبواب المزيد‬
‫منه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أول المشاهدة نفي الخاطر وآخرها نفي المعرفة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا بدا العلم عن المشاهدة أحرق العلوم والعلماء‪.‬‬
‫من موقف السكينة‬
‫أوقفني في السكينة وقال لي‪ :‬السكينة أن تدخل إلَّي من الباب الذي جاءك منه تعرفي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬فتحت لكل عارف محق باًبا إلَّي فال أغلقه دونه فمنه يدخل ومنه يخرج وهو سكينته‬
‫التي ال تفارقه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أصحاب األبواب من أصحاب المعارف هم الذين يدخلوﻧﻬا بعلم منها ويخرجون منها‬
‫بعلم مني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الصبر من السكينة‪ ،‬والحلم من الصبر‪ ،‬والرفق من الحلم‪.‬‬
‫من موقف بين يديه‬
‫أوقفني بين يديه وقال لي‪ :‬الحرف حجاب وكلية الحرف حجاب وفرعية الحرف حجاب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ال يعرفني الحرف‪ ،‬وال ما في الحرف‪ ،‬وال ما من الحرف‪ ،‬وال ما يدل عليه الحرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المعنى الذي يخبر به الحرف حرف‪ ،‬والطريق الذي يهدي إليه حرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلم حرف ال يعربه إال العمل‪ ،‬والعمل حرف ال يعربه إال اإلخالص‪ ،‬واإلخالص‬
‫حرف ال يعربه إال الصبر‪ ،‬والصبر حرف ال يعربه إال التسليم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المعرفة حرف جاء لمعنى فإن أعربته بالمعنى الذي جاء له نطقت به‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا تعرفت إليك بال عبارة خاطبك الحجر والمدر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن سكنت إلى العبارة نمت‪ ،‬وإن نمت مت‪ ،‬فال بحيوة ظفرت‪ ،‬وال على عبارة حصلت‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬األفكار في الحرف‪ ،‬والخواطر في األفكار‪ ،‬وذكري الخالص من وراء الحرف‬
‫واألفكار‪ ،‬واسمي من وراء الذكر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اخرج من العلم الذي ضده الجهل‪ ،‬وال تخرج من الجهل الذي ضده العلم تجدني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اخرج من المعرفة التي ضدها النكرة تعرف فتستقر‪ ،‬فيما تعرف فتثبت‪ ،‬فيما تستقر‬
‫فتشهد‪ ،‬فيما تثبت فتتمكن‪ ،‬فيما تشهد‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلم الذي ضده الجهل علم الحرف‪ ،‬والجهل الذي ضده العلم جهل الحرف‪ ،‬فاخرج من‬
‫الحرف تعلم علًم ا ال ضد له وهو الرباني‪ ،‬وتجهل جهاًل ال ضد له وهو اليقين الحقيقي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا جزت الحرف وقفت في الرؤية‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لن تقف في الرؤية حتى ترى حجابي رؤية ورؤيتي حجاًبا‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬من علوم الرؤية أن تشهد صمت الكل‪ ،‬ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬من علوم صمت الكل أن تشهد عجز الكل ومن علوم نطق الكل أن تشهد تعرض الكل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬من علوم القرب أن تعلم احتجابي بوصف تعرفه‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن جئتني بعلم أي علم جئتك بكل المطالبة وإن جئتني بمعرفة أي معرفة جئتك بكل‬
‫الحجة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا جئتني فألِق العبارة وراء ظهرك‪ ،‬وألِق المعنى وراء العبارة‪ ،‬وألِق الوجد وراء‬
‫المعنى‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا جئتني فألِق ظهرك‪ ،‬وألِق ما وراء ظهرك‪ ،‬وألِق ما قَّدامك‪ ،‬وألِق ما عن يمينك‪،‬‬
‫وألِق ما عن شمالك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لن تلقى في موتك إال ما لقيته في حيوتك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن خرجت من معناك خرجت من اسمك‪ ،‬وإن خرجت من اسمك وقعت في اسمي‪.‬‬
‫من موقف قلوب العارفين‬
‫أوقفني في قلوب العارفين وقال لي‪ :‬آية معرفتي أن ال تسألني عني وال عن معرفتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لن تدوم في عمل حتى ترتبه‪ ،‬وتقضي ما يفوت منه‪ ،‬وإن لم تفعل لم تعمل‪ ،‬ولم تدم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬وزن معرفتك كوزن ندمك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قلوب العارفين ترى األبد وعيوﻧﻬم ترى المواقيت‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قل للعارفين كونوا من وراء األقدار فإن لم تستطيعوا فمن وراء األفكار‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬قل لقلوب العارفين من أكل في المعرفة ونام في المعرفة ثبت فيما عرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬التقط الحكمة َم ن أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العامدين لها‪ ،‬إنك تراني‬
‫وحدي في حكمة الغافلين ال في حكمة العامدين‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اكتب حكمة الجاهل‪ ،‬كما تكتب حكمة العالم‪.‬‬
‫من موقف حق المعرفة‬
‫أوقفني في حق المعرفة وقال لي‪ :‬الحجاب يهتك وللهتك صولة ال تقوم لها فطر المخترعين‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لو رفع الحجاب ولم يهتك سكن من تحته وإنما يهتك فإذا هتك ذهلت معرفة العارفين‬
‫فتكسى في الذهول نوًر ا تحمل به ما بدا بعد هتك الحجاب؛ ألﻧﻬا ال تحمل بمعارف الحجاب ما بدا‬
‫عند هتك الحجاب‪.‬‬
‫من موقف عهده‬
‫أوقفني في عهده وقال لي‪ :‬احفظ عليك مقامك وإال ماد بك كل شيء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬مقامك هو الرؤية ‪...،‬‬
‫وقال لي‪ :‬الليل والنهار ستران ممدودان على جميع َم ن خلقت وقد اصطفيتك؛ فرفعت السترين‬
‫لتراني‪ ،‬وقد رأيتني؛ فقف في مقامك بين يدَّي ‪ ،‬قف في رؤيتي‪ ،‬وإال اختطفك كل كون‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا اصطفيت أًخ ا‪ ،‬فكن معه فيما أظهر‪ ،‬وال تكن معه فيما أسر‪ ،‬فهو له من دونك سر؛‬
‫فإن أشار إليه‪ ،‬فأشر إليه‪ ،‬وإن أصفح فأفصح به‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اسمي وأسمائي عندك ودائعي‪ ،‬ال تخرجها فأخرج من قلبك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن خرجت من قلبك عبد ذلك القلب غيري‪.‬‬
‫من موقف أدب األولياء‬
‫أوقفني في أدب األولياء وقال لي‪ :‬مقام الولي بيني وبين كل شيء فليس بيني وبينه حجاب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬سميت ولّي ولّي ألن قلبه يليني دون كل شيء فهو بيتي الذي فيه أتكلم‪.‬‬
‫من موقف الليل‬
‫أوقفني في الليل وقال لي‪ :‬ألِق الجهل من يديك‪ ،‬وخذ العلم فاصرف به عنك البالء‪ ،‬وأقم في العلم‬
‫وإال أخذك البالء‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬احتجب عن البالء بالعلم وإال لم تَر نوري وبينتي‪.‬‬
‫من موقف محضر القدس الناطق‬
‫أوقفني بين يديه وقال لي‪ :‬ألفت بين كل حرفين بصفة من صفاتي فتكونت األكوان بتأليف‬
‫الصفات لها والصفة ال ينقال هي فعاله وﺑﻬا تثبت المعاني وعلى المعاني ركبت األسماء‪.‬‬
‫من موقف الكشف والبهوت‬
‫أوقفني في الكشف والبهوت وقال لي‪ :‬الحجب خمسة‪ :‬حجاب أعيان‪ ،‬وحجاب علوم‪ ،‬وحجاب‬
‫حروف‪ ،‬وحجاب أسماء‪ ،‬وحجاب جهل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الدنيا واآلخرة وما فيهما من خلق هو حجاب أعيان وكل عين من ذلك فهي حجاب‬
‫نفسها وحجاب غيرها‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلوم كلها حجب كل علم من حجاب نفسه وحجاب غيره‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬حجاب العلوم يرد إلى حجاب األعيان باألقوال وبمعاني األقوال‪ ،‬وحجاب األعيان يرد‬
‫إلى حجاب العلوم بمعاني األعيان وبسرائر مجهوالت األعيان‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬حجاب األعيان منصوب في حجاب العلوم‪ ،‬وحجاب العلوم منصوب في حجاب‬
‫األعيان‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬حجاب الحروف هو الحجاب الحكمي‪ ،‬وحجاب الحكم هو من وراء العلوم‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬لحجاب العلوم ظاهر‪ ،‬هو علم الحروف‪ ،‬وباطن هو حكم الحروف‪.‬‬
‫من موقف المحضر والحرف‬
‫أوقفني في المحضر‪ ،‬وقال لي‪ :‬الحرف حجاب والحجاب حرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اطرح ذنبك تطرح جهلك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أوقفت الحرف قدام الكون‪ ،‬وأوقفت العقل قدام الحرف‪ ،‬وأوقفت المعرفة قدام العقل‪،‬‬
‫وأوقفت اإلخالص قدام المعرفة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ال يعرفني الحرف وال يعرفني ما عن الحرف وال يعرفني ما في الحرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إنما خاطبت الحرف بلسان الحرف فال اللسان شهدني وال الحرف عرفني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬النعيم كله ال يعرفني والعذاب كله ال يعرفني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلم المستقر هو الجهل المستقر‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إنما توسوس الوسوسة في الجهل وإنما تخطر الخواطر في الجهل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العارف يخرج مبلغه عن الحرف فهو مبلغه وإن كانت الحروف ستره‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحرف دليل العلم والعلم معدن الحرف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أصحاب الحروف محجوبون عن الكشوف قائمون بمعانيهم بين الصفوف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معناك أقوى من السماء واألرض‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معناك يبصر بال طرف ويسمع بال سمع‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معناك ال يسكن الديار وال يأكل من الثمار‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معناك ال يجّنه الليل وال يسرح بالنهار‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬معناك ال تحيط به األلباب وال تتعلق به األسباب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬اذكرني تعرفني وانصرني تشهدني‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا القريب فال بيان قرب‪ ،‬وأنا البعيد فال بيان بعد‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أنا الظاهر ال كما ظهرت الظواهر‪ ،‬وأنا الباطن ال كما بطنت البواطن‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬االسم ألٌف معطوف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬العلم من وراء الحروف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬المحضر خاص ولكل خاص عام‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحضرة تحرق الحرف‪ ،‬وفي الحرف الجهل والعلم ففي العلم الدنيا واآلخرة‪ ،‬وفي‬
‫الجهل مطلع الدنيا واآلخرة‪...‬‬
‫وقال لي‪ :‬ما النار‪ ،‬قلت‪ :‬نور من أنوار السطوة‪ ،‬قال‪ :‬ما السطوة‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف‬
‫العزة‪ ،‬قال‪ :‬ما العزة‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف الجبروت‪ ،‬قال‪ :‬ما الجبروت‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من‬
‫أوصاف الكبرياء‪ ،‬قال‪ :‬ما الكبرياء‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف السلطان‪ ،‬قال‪ :‬ما السلطان‪ ،‬قلُت ‪:‬‬
‫وصف من أوصاف العظمة‪ ،‬قال‪ :‬ما العظمة‪ ،‬قلُت ‪ :‬وصٌف من أوصاف الذات‪ ،‬قال‪ :‬ما الذات‪ ،‬قلُت‬
‫أنت هللا ال إله إال أنت‪ ،‬قال‪ :‬قلت الحق‪ ،‬قلت‪ :‬أنت قَّو لتني‪ ،‬قال‪ :‬لترى بينتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬ما الجنة‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف التنعيم‪ :،‬قال‪ :‬ما التنعيم‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف‬
‫اللطف‪ ،‬قال‪ :‬ما اللطف‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف الرحمة‪ ،‬قال‪ :‬ما الرحمة‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من‬
‫أوصاف الكرم‪ ،‬قال‪ :‬ما الكرم‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف العطف ‪ ،‬قال‪ :‬ما العطف‪ ،‬قلت‪ :‬وصف‬
‫من أوصاف الود‪ ،‬قال‪ :‬ما الود‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف الحب‪ ،‬قال‪ :‬ما الحب‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من‬
‫أوصاف الرضا‪ ،‬قال‪ :‬ما الرضا‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف االصطفاء‪ ،‬قال‪ :‬ما االصطفاء‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫وصف من أوصاف النظر‪ ،‬قال‪ :‬ما النظر‪ ،‬قلت‪ :‬وصف من أوصاف الذات‪ ،‬قال‪ :‬ما الذات‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫أنت هللا‪ ،‬قال‪ :‬قلت الحق‪ ،‬قلت‪ :‬أنت قَّو لتني‪ ،‬قال‪ :‬لترى نعمتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن لم تقف وراء الوصف أخذك الوصف‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن أخذك الوصف األعلى أخذك الوصف األدنى‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن أخذك الوصف األدنى فال أنت مني وال من معرفتي‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬القرآن يبني واألفكار تغرس‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬الحرف يسري حيث القصد جيم جنة جيم جحيم‪.‬‬
‫وقال لي‪َ :‬م ن أهل النار‪ ،‬قلت‪ :‬أهل الحرف الظاهر‪ ،‬قال‪َ :‬م ن أهل الجنة‪ ،‬قلت‪ :‬أهل الحرف‬
‫الباطن‪ ،‬قال لي‪ :‬ما الحرف الظاهر‪ ،‬قلت‪ :‬علم ال يهدي إلى عمل‪ ،‬قال‪ :‬ما الحرف الباطن‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫علم يهدي إلى حقيقة‪ ،‬قال‪ :‬ما العمل‪ ،‬قلت‪ :‬اإلخالص‪ ،‬قال لي‪ :‬ما الحقيقة‪ ،‬قلت‪ :‬ما تعَّر فت به‪ ،‬قال‬
‫لي‪ :‬ما اإلخالص‪ ،‬قلت‪ :‬لوجهك‪ ،‬قال‪ :‬ما التعُّر ف‪ ،‬قلت‪ :‬ما تلقيه إلى قلوب أوليائك‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬القول الخالص موقوف على العمل‪ ،‬والعمل موقوف على األجل‪ ،‬واألجل موقوف على‬
‫الطمأنينة‪ ،‬والطمأنينة موقوفة على الدوام‪.‬‬
‫من موقف الصفح والكرم‬
‫أوقفني في الصفح والكرم‪ ،‬وقال لي‪ :‬تعَّر فُت إلى القلم بمعرفٍة من معارف اإلثبات‪ ،‬وتعَّر فُت إلى‬
‫اللوح بمعرفٍة من معارف الحزن‪.‬‬
‫من موقف القوة‬
‫أوقفني في وصف القوة‪ ،‬وقال لي‪ :‬المعدن مستقر‪ ،‬وللمستقر أبواب‪ ،‬ولألبواب طرق‪ ،‬وللطرق‬
‫فجاج‪ ،‬وللفجاج أدالء‪ ،‬ولألدالء زاد‪ ،‬وللزاد أسباب‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬األجل مجمع الواقفين ومفرق المعلولين‪.‬‬
‫من موقف الصفح الجميل‬
‫أوقفني في الصفح الجميل‪ ،‬وقال لي‪ :‬أقم في مقامك تشرب من عين الحيوة فال تموت في الدنيا‬
‫وال في اآلخرة‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إن لم تدر َم ن أنت لم تفد علًم ا ولم تكسب عماًل ‪.‬‬
‫من موقف العبادة الوجهية‬
‫أوقفني في العبادة الوجهية‪ ،‬وقال لي‪ :‬إذا سميتك فلم تعمل على التسمية‪ ،‬فال اسم لك عندي وال‬
‫عمل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬إذا سميتك فعملت على التسمية‪ ،‬فأنت من أهل الظل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬أهل األسماء أهل الظل‪.‬‬
‫وقال لي‪ :‬يا كاتب النور المنشور على سرادقات العظمة اكتب على رفارفها تسبيح ما سبح‬
‫واكتب على تسبيح ما سبح معرفة من عرف‪.‬‬
‫مختارات من كتاب المخاطبات‬
‫من مخاطبة ‪1‬‬
‫يا عبد إن لم تعرف َم ن أنت مني لم تستقر في معرفتي‪.‬‬
‫يا عبد إن لم تستقر في معرفتي لم تدِر كيف تعمل لي‪.‬‬
‫يا عبد إن عرفت َم ن أنت مني كنت من أهل المراتب‪.‬‬
‫يا عبد اعرف َم ن أنت يكن أثبت لقدمك ويكن أسكن لقلبك‪.‬‬
‫يا عبد الجأ إلَّي في كل حال أكن لك في كل حال‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪4‬‬
‫يا عبد آية معرفتي أن تزهد في كل معرفة‪...‬‬
‫يا عبد اعتبر محبتي بنصري لك‪.‬‬
‫يا عبد لئن أقمت في رؤيتي لتقولن للماء أقبل وأدبر‪.‬‬
‫يا عبد إذا رأيتني فالعلم ماء من مائك‪ ،‬فأجره أين شئت؛ لتثبت به ما شئت‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪5‬‬
‫‪ ..‬ورأيتني من وراء القول ولم تَر القول‪...‬‬
‫من مخاطبة ‪6‬‬
‫‪ ..‬االبتداء طاعة المحب‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪7‬‬
‫يا عبد الهم المحزون كالمعول في الجدار المائل‪.‬‬
‫يا عبد لكل شيء قلب وقلب القلب همه المحزون‪.‬‬
‫يا عبد القلب ينقلب قلب القلب ال ينقلب‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪8‬‬
‫يا عبد َم ن ال يستحيي لزيادة العلم ال يستحيي أبًدا‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪12‬‬
‫الملتفت ال يمشي معي وال يصلح لمسامرتي‪.‬‬
‫يا عبد َم ن ال قرار له ال معرفة له‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪13‬‬
‫يا عبد اجعلني صاحب سرك أكن صاحب عالنيتك‪ ،‬اجعلني صاحب وحدتك أكن صاحب جمعك‪،‬‬
‫اجعلني صاحب خلوتك أكن صاحب مالئك‪.‬‬
‫وقل لي سد باب قلبك الذي يدخل منه سواي ألن قلبك بيتي‪...‬‬
‫من مخاطبة ‪14‬‬
‫يا عبد َم ن لم يرني في الدنيا ال يراني في اآلخرة‪.‬‬
‫يا عبد رؤية الدنيا توطئة لرؤية اآلخرة‪.‬‬
‫يا عبد َم ن رآني جاز النطق والصمت‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪15‬‬
‫يا عبد من رآني عرفني وإال فال‪ ،‬من عرفني صبر علي وإال فال‪.‬‬
‫يا عبد من صبر عن سواي أبصر نعمتي وإال فال‪.‬‬
‫يا عبد من أبصر نعمتي شكرني وإال فال‪.‬‬
‫يا عبد من شكرني تعبد لي وإال فال‪.‬‬
‫يا عبد من تعبد لي أخلص وإال فال‪ ،‬من أخلص لي قبلته وإال فال‪ ،‬من قبلته كلمته وإال فال‪.‬‬
‫يا عبد من كلمته سمع مني وإال فال‪ ،‬من سمع مني أجابني وإال فال‪ ،‬من أجانبي أسرع إلَّي وإال‬
‫فال‪ ،‬من أسرع إلَّي جاورني وإال فال‪ ،‬من جاورني أجرته وإال فال‪ ،‬من أجرته نصرته وإال فال‪ ،‬من‬
‫نصرته أعززته وإال فال‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪17‬‬
‫يا عبد أنا أقرب من الحرف وإن نطق‪ ،‬وأنا أبعد من الحرف وإن صمت‪.‬‬
‫كل حجاب ظلمة ألن النور لي وأنا النور‪...‬‬
‫من مخاطبة ‪19‬‬
‫يا عبد ال تكن بالعلم فيزل بك‪ ،‬وال تكن بالمعرفة فتتنكر عليك‪.‬‬
‫يا عبد أخرج قلبك من المؤتلف تخرج من المختلف‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪21‬‬
‫كلما كان أخف كان أسرع‪...‬‬
‫كلما كان أكظم كان أعظم‪...‬‬
‫كلما كان أدأب كان أقرب‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪23‬‬
‫يا عبد إذا كنت بي ال يسعك المكان‪ ،‬وإذا نطقت بي لم يسعك النطق‪.‬‬
‫يا عبد الحرف خزانتي فَم ن دخلها فقد حمل أمانتي‪...‬‬
‫يا عبد الحرف لغات وتصريف وتفرقة وتأليف وموصول ومقطوع ومبهم ومعجم وأشكال‬
‫وهيئات‪ ،‬والذي أظهر الحرف في لغة هو الذي صَّر فه والذي صَّر فه هو الذي فَّر قه والذي فَّر قه هو‬
‫الذي أَّلفه والذي أَّلفه هو الذي واصل فيه والذي واصل فيه هو الذي قطعه والذي قطعه هو الذي‬
‫أﺑﻬمه والذي أﺑﻬمه هو الذي أعجمه والذي أعجمه هو الذي أشكله والذي أشكله هو الذي هَّيأه‪ ،‬ذلك‬
‫المعنى هو معنى واحد ذلك المعنى هو نور واحد ذلك الواحد هو األحد الواحد‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪25‬‬
‫يا عبد ابِن لقلبك بيًتا جدرانه مواقع نظري‪...‬‬
‫يا عبد أصل المعصية ِلَم وأصل الطاعة سقوط ِلَم ‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪26‬‬
‫يا عبد إذا رأيتني في الضدين رؤية واحدة فقد اصطفيتك بنفسي‪.‬‬
‫يا عبد الغيبة أن ال تراني في شيء‪ ،‬الرؤية أن تراني في كل شيء‪.‬‬
‫يا عبد اجعل لي يوًم ا ولك يوًم ا وابتدئ بيومي يحمل يومك يومي‪.‬‬
‫يا عبد اصبر لي يوًم ا أكفك غلبة األيام‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪27‬‬
‫يا عبد االسم سترة على العين‪.‬‬
‫يا عبد الكشف جنة الجنة‪ ،‬الغطاء نار النار‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪28‬‬
‫يا عبد يومك هو عمرك‪.‬‬
‫يا عبد ال تصح المحادثة إال بين ناطٍق وصامت‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪30‬‬
‫يا عبد صاحب الرؤية يفسده العلم كما يفسد الخل العسل‪.‬‬
‫يا عبد في الدواء عين من الداء‪.‬‬
‫يا عبد الرؤية علم اإلدامة فاتبعه تغلب على الضدية‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪31‬‬
‫يا عبد الروح والرؤية ألفان مؤتلفان‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪32‬‬
‫يا عبد الكون كالكرة والعلم كالميدان‪.‬‬
‫‪34‬‬ ‫من مخاطبة‬
‫يا عبد من دَّل على الحجاب فقد رفعت له نار الوصول‪.‬‬
‫يا عبد ال تبع داءك إال بالدواء فهو قيمته‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪37‬‬
‫يا عبد الرؤية باب الحضرة‪.‬‬
‫يا عبد قيمة كل امرئ حديث قلبه‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪38‬‬
‫يا عبد الزينة تطفئ الغضب‪.‬‬
‫يا عبد طهور الجسم الماء وطهور القلب الغض عن السوى‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪41‬‬
‫يا عبد أنا الظاهر فال تحجبني الحواجب‪ ،‬وأنا الباطن فال تظهرني الظواهر‪.‬‬
‫يا عبد أنا القيوم فال أنام‪ ،‬وأنا المثبت الماحي فال أسام‪.‬‬
‫يا عبد أنا األحد فال توحدني األعداد‪ ،‬وأنا الصمد فال تعاليني األنداد‪.‬‬
‫من مخاطبة ‪52‬‬
‫يا عبد الحروف كلها مرضى إال األلف‪ ،‬أما ترى كل حرف مائل‪ ،‬أما ترى األلف قائًم ا غير‬
‫مائل‪ ،‬إنما المرض الميل‪ ،‬وإنما الميل للسقام فال تمل‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫من مخاطبة‬
‫يا عبد الحرف ناري‪ ،‬الحرف قدري‪ ،‬الحرف حتمي من أمري‪ ،‬الحرف خزانة سري‪.‬‬
‫يا عبد ال تدخل إلى الحرف إال ونظري في قلبك‪ ،‬ونوري على وجهك‪ ،‬واسمي الذي ينفسح له‬
‫قلبك على لسانك‪.‬‬
‫يا عبد لو دخلت بقوة النار ألكلتكما نار الحرف‪.‬‬
‫يا عبد ال أقول لك ألِق المفاتيح بين يدي حضرتي أكرم ﺑﻬا في سريرتك فمقامك من وراء‬
‫الحرف لدَّي ومن وراء مفاتيح الحروف‪ ،‬فإذا أرسلتك إلى الحروف فلتقتبس حرًفا من حرف كما‬
‫تقتبس ناًر ا من نار أقول لك أخرج ألًفا‪ ،‬من باء‪ ،‬أخرج باٍء من باًء أخرج ألًفا من ألف‪.‬‬
‫من مخاطبة وبشارة وإيذان الوقت‬
‫أوقفني الرُّب وقال لي‪ :‬قل للشمس أيتها المكتوبة بقلم الرب أخرجي وجهك‪ ،‬وابسطي من‬
‫أعطافك‪ ،‬وسيري حيث ترين فرحك على همك‪ ،‬وأرسلي القمر بين يديك‪ ،‬ولتحدق بك النجوم‬
‫الثابتة‪ ،‬وسيري تحت السحاب واطلعي على قعور المياه‪ ،‬وال تغربي في المغرب‪ ،‬وال تطلعي في‬
‫المشرق وقفي للظل‪...‬‬
‫المراجع‬
‫‪ -1‬األب بولس نويا اليسوعّي ‪ ،‬نُص وص صوفية غير منشورة‪ ،‬معهد اآلداب الشرقية‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬بيروت‪1973 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬ابن الدباغ‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد األنصاري‪ ،‬مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب‪،‬‬
‫آفاق للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪2017 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬ابن العربي‪ ،‬محيي الدين‪ ،‬ترجمان األشواق‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪1961 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬ابن العربي‪ ،‬محيي الدين‪ ،‬رسالُة الذي ال ُيعَّو ُل عليه‪ ،‬دار الكرمة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪2017‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬ابن العربي‪ ،‬محيي الدين‪ ،‬الفتوحات المكية‪ ،‬تحقيق عثمان يحيى‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬ابن العربي‪ ،‬محيي الدين‪ ،‬فصوص الحكم‪ ،‬تعليقات أبو العال عفيفي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫بيروت‪1946 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬ابن العربي‪ ،‬محيي الدين‪ ،‬الكوكب الُّدري في مناقب ذي النون المصري‪ ،‬تحقيق عبد الحميد‬
‫صالح حمدان‪ ،‬الجزيرة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪2006 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬من دون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -9‬أدونيس‪ ،‬الَّثابت والمتحول‪ ..‬بحٌث في اإلبداع واالتباع عند العرب‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬لندن‪،‬‬
‫‪2011‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬بدوي‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬موسوعة المستشرقين‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬البرسي‪ ،‬الحافظ رجب‪ ،‬مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين‪ ،‬شركة األعلمي‬
‫للمطبوعات‪ ،‬بيروت‪2017 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -12‬التلمساني‪ ،‬عفيف الدين‪ ،‬شرح مواقف النفري‪ ،‬دراسة وتحقيق وتعليق جمال المرزوقي‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪1997‬م‪ ،‬والطبعة الثانية‪ ،‬دار المحروسة‪ ،‬القاهرة‪2018 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬الجبرتي‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬عجائب اآلثار في التراجم واألخبار‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬الجيلي‪ ،‬عبد الكريم‪ ،‬اإلنسان الكامل في معرفة األواخر واألوائل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪1997 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -15‬ديوان أبي بكر الشبلي‪ ،‬تحقيق كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬ألمانيا – بغداد‪،‬‬
‫‪2014‬م‪.‬‬
‫‪ -16‬ديوان أبي بكر الشبلي‪ ،‬موفق فوزي الجبر‪ ،‬دار بترا‪ ،‬دمشق‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -17‬ديوان ذي النون المصري‪ ،‬إعداد وتحقيق أحمد فريد المزيدي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مكتبة‬
‫رجب‪ ،‬القاهرة‪2015 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -18‬الرومي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬المثنوي – الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‪ :‬إبراهيم الدسوقي شتا‪ ،‬بلدية قونية‬
‫المدينة األم‪ ،‬رقم الكتاب ‪ ،100‬قونية‪ ،‬تركيا‪2006 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -19‬الُّسَلِم ي‪ ،‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين‪ ،‬تاريخ الصوفية‪ :‬وبذيله ِم َح ِن الُّص ْو ِفَّيِة ‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪2015 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -20‬الُّسَلِم ي‪ ،‬أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين‪ ،‬طبقات الصوفية‪ ،‬تحقيق مصطفى عبد القادر‬
‫عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1998 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -21‬السيوطي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬المكُنون في مناقب ذي النون (المصري اإلخميمي) تحقيق عبد‬
‫الرحمن حسن محمود‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬الطوسي‪ ،‬أبو نصر عبد هللا السراج‪ ،‬الُّلمع‪ ،‬طبعة الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد‬
‫الباقي سرور في القاهرة ‪1960‬م المأخوذة عن طبعة أربري»‪ ،‬دار الكتب الحديثة بمصر‪.‬‬
‫‪ -23‬عزام‪ ،‬عبد الوهاب‪ ،‬مجلة الرسالة‪ ،‬القاهرة‪6 ،‬من مايو سنة ‪1935‬م‪.‬‬
‫‪ -24‬العطار‪ ،‬فريد الدين‪ ،‬تذكرة األولياء‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق منال اليمني عبد العزيز‪ ،‬الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪2006 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -25‬الغراب‪ ،‬محمود‪ ،‬الحب والمحبة اإللهية‪ :‬من كالم الشيخ األكبر محيي الدين بن العربي‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬مطبعة نضر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -26‬القاشاني‪ ،‬لطائف اإلعالم في إشارات أهل اإللهام‪ ،‬تحقيق وضبط وتقديم أحمد عبد الرحيم‬
‫السايح [و] توفيق علي وهبة [و] عامر النجار‪ ،‬ج ‪ ،2 - 1‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬القاهرة‪2005 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -27‬القشيري‪ ،‬عبد الكريم بن هوازن‪ ،‬الرسالة القشيرية‪ ،‬تحقيق عبد الحليم محمود ومحمد بن‬
‫الشريف‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ 2019 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬الكالباذي‪ ،‬أبو بكر محمد بن إسحاق‪ ،‬التعُّر ف لمذهب أهل التصوف‪ ،‬دار الوراق للنشر‪،‬‬
‫لندن‪2010 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -29‬محمود‪ ،‬عبد الحليم‪ ،‬تاج الصوفية أبو بكر الشبلي‪ ..‬حياته وآراؤه‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1993‬م‪.‬‬
‫‪ -30‬محمود‪ ،‬عبد الحليم‪ ،‬العالم العابد العارف باهلل ذو النون المصري‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار‬
‫الرشاد‪ ،‬القاهرة‪2004 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -31‬موفق الدين بن عثمان‪« ،‬مرشد الزوار إلى قبور األبرار»‪ ،‬المسَّم ى الُّدر المنَّظم في زيارة‬
‫الجبل المقطم‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -32‬النفري‪ ،‬األعمال الصوفية‪ ،‬راجعها وقدم لها سعيد الغانمي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬منشورات‬
‫الجمل‪ ،‬ألمانيا – بغداد‪2007 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -33‬النفري ‪ -‬كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري ويليه كتاب المخاطبات له‬
‫أيًض ا‪ ،‬أرثر يوحنا أربري‪ ،‬مكتبة المتنبي‪ ،‬القاهرة‪1934 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -34‬النفري‪ ،‬النصوص الكاملة‪ ،‬دراسة وتقديم جمال المرزوقي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار‬
‫المحروسة‪ ،‬القاهرة‪2018 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -35‬الهجويري‪ ،‬أبو الحسن‪ ،‬كشف المحجوب‪ ،‬دراسة وترجمة وتعليق‪ :‬إسعاد عبد الهادي‬
‫قنديل‪ ،‬المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪1974 ،‬م‪.‬‬
‫أحمد الشهاوي‬
‫سيرة ذاتية‬
‫ُو لد بمدينة دمياط في ‪ 12‬من نوفمبر عام ‪1960‬م‪ ،‬وعاش فيها خمس سنواٍت‪ ،‬ثم انتقل مع‬
‫أسرته للعيش في قريته «كفر المياسرة»‪ ،‬حيث درس المرحلة االبتدائية بها‪ ،‬ثم المرحلتين‬
‫اإلعدادية والثانوية بـ «الَّز ْر َقا»‪ ،‬والتحق بعد ذلك بكلية التربية في دمياط جامعة المنصورة «قسم‬
‫الرياضيات»‪ ،‬ظل عاًم ا واحًدا بها‪ ،‬قبل أن يلتحق بقسم الصحافة في كلية اآلداب بسوهاج – جامعة‬
‫أسيوط‪ ،‬وتخرج في مايو ‪1983‬م‪.‬‬
‫شارك – أيام دراسته الصحافة – في تأسيس جريدة «صوت سوهاج»‪ ،‬وهي جريدة شهرية‬
‫يحِّر رها طالب قسم الصحافة‪ ،‬وكان يرأس القسم الثقافي بها‪ ،‬ثم التحق بالجيش المصري ألداء‬
‫الخدمة العسكرية في أبريل ‪1984‬م‪ ،‬وأثناء أداء الواجب الوطني‪ ،‬كان قد دخل جريدة األهرام في‬
‫األَّو ل من يناير ‪1985‬م؛ ليعمل في قسم األخبار‪ ،‬وفي ‪ 18‬من فبراير ‪1990‬م صدرت مجلة‬
‫«نصف الدنيا» األسبوعية عن مؤسسة األهرام‪ ،‬ليتولى مهام سكرتير تحريرها‪ ،‬ثم نائًبا لرئيس‬
‫التحرير في مايو ‪2000‬م‪ ،‬ثم مديًر ا للتحرير‪ ،‬وهو من المؤِّس سين لها‪ ،‬ثم صار بعد ذلك كاتًبا‬
‫متفِّر ًغا باألهرام‪.‬‬
‫وفي سبتمبر ‪1991‬م‪ ،‬شارك في برنامج الُكَّتاب الدوليين ‪International Writing Program‬‬
‫بالواليات المتحدة األمريكية لمدة ثالثة أشهر‪ ،‬وتم منحه شهادة الزمالة في األدب من جامعة أيوا األمريكية في ‪ 12‬من‬
‫ديسمبر ‪1991‬م‪ .‬وفي سبتمبر ‪1994‬م حاز على دبلوم خاص في الثقافة والعلوم من المركز األيوني ‪،Ionic Center‬‬

‫باليونان‪ ،‬كما ُترجمت قصائده إلى لغات عَّدة‪ ،‬وصدرت في كتٍب‪ ،‬ومختاراٍت كثيرٍة حول العالم‪.‬‬

‫• عضو في الموسوعة العالمية للّشعر ‪ who’s who‬منذ عام ‪1992‬م‪.‬‬

‫• حاز جائزة اليونسكو في اآلداب عام ‪1995‬م‪.‬‬


‫• شارك في برنامج مؤسسة جيراسي اإلبداعية‪ ،‬أكتوبر ‪1995‬م‪ ،‬سان فرانسيسكو‪ ،‬كاليفورنيا‪.‬‬
‫• حاز جائزة كفافيس الدولية في الّشعر‪ ،‬مايو ‪1998‬م‪.‬‬
‫• عضو لجنة الّشعر بالمجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة أكتوبر‪2006 -2001‬م‪.‬‬
‫• أصدر له مهرجان الّشعر العالمي‪ ،‬روتردام‪ ،‬كتابْي مختارات شعرية بالُّلغتين اإلنجليزية‬
‫والهولندية‪ ،‬يونيو ‪2004‬م‪.‬‬
‫• منذ يوليو ‪1987‬م‪ ،‬يجوُب اآلفاَق مسافًر ا في رحالٍت أدبية وثقافية وشعرية إلى بلدان العالم‪:‬‬
‫الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬كندا‪ ،‬فرنسا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬إسبانيا‪ ،‬تركيا‪ ،‬هولندا‪ ،‬إيطاليا‪ ،‬بلجيكا‪ ،‬مقدونيا‪،‬‬
‫الدانمارك‪ ،‬سويسرا‪ ،‬بريطانيا‪ ،‬اليونان‪ ،‬األردن‪ ،‬سورية‪ ،‬العراق‪ ،‬تونس‪ ،‬الجزائر‪ ،‬المغرب‪،‬‬
‫موريتانيا‪ ،‬ليبيا‪ ،‬اليمن‪ ،‬اإلمارات‪ ،‬الكويت‪ ،‬قطر‪ ،‬السعودية‪ ،‬سلطنة ُعَم ان‪ ،‬البحرين‪ ،‬كولومبيا‪،‬‬
‫كوستاريكا‪ ،‬نيكاراجوا‪ ،‬جواتيماال‪ ،‬السلفادور‪ ،‬اإلكوادور‪ ،‬األرجنتين‪ ،‬المكسيك‪ ،‬الهند‪.‬‬
‫• تناول ِشْعَر ُه عدد وافر من الكتب والدراسات النقدية‪ ،‬وكذا عدد من أطروحات الماجستير‬
‫والدكتوراه في الجامعات المصرية والعربية‪.‬‬

‫صدر له‪:‬‬

‫الِّش عر ‪:‬‬
‫‪« .1‬ركعتان للعشق»‪ ،‬دار ألف للنشر‪ ،‬القاهرة‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .2‬األحاديث «الِّس ْفر األول»‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .3‬األحاديث «الِّس ْفر الثاني»‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪1994 ،‬م‪ ،‬مكتبة األسرة‪،‬‬
‫مهرجان القراءة للجميع‪ ،‬القاهرة‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .4‬كتاب الموت‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬م‪.‬‬
‫‪ُ .5‬قْل هي‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪2000 ،‬م‪.‬‬
‫‪ِ .6‬لساُن الَّنار‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة ‪2005‬م‪ ،‬وزارة الثقافة والسياحة‪ ،‬طبعة ثانية‪،‬‬
‫صنعاء‪2005 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬باٌب َو اِح ٌد َو َم َناِز ُل‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪2009 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬أسوُق الغمام‪ ،‬كتاب أخبار اليوم‪ ،‬القاهرة‪2010 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .9‬سماٌء باسمي‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪2013 ،‬م‪ ،‬الَّطبعة الثانية ‪2018‬م‪ ( .‬القائمة‬
‫الطويلة لجائزة زايد للكتاب سنة ‪2014‬م)‪.‬‬
‫‪ .10‬ال أراني‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪ 2018 ،‬م‪ ( .‬القائمة الطويلة لجائزة زايد للكتاب‬
‫سنة ‪2018‬م)‪.‬‬
‫‪ .11‬ما أنا فيه‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪ 2020 ،‬م‪( .‬القائمة الطويلة لجائزة زايد للكتاب‬
‫‪2020‬م)‪.‬‬ ‫سنة‬

‫مختارات من شعره‪:‬‬
‫‪ .1‬األحاديث «مختارات»‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .2‬مياٌه في األصابع‪« ،‬مختارات» الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪2002 ،‬م‪ .‬مكتبة األسرة‪،‬‬
‫مهرجان القراءة للجميع‪ ،‬طبعة ثانية خاصة في ‪ 25‬ألف نسخة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سبتمبر ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪ .3‬أنا خطأ الُّنحاة‪ ،‬مختارات‪ ،‬دار خطوط وظالل‪ ،‬عَّم ان‪ ،‬األردن‪2021 ،‬م‪.‬‬

‫أدب العشق ‪:‬‬


‫‪« -1‬كتاب العشق»‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬القاهرة‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬أحوال العاشق‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة‪1996 ،‬م‪ ،‬مكتبة األسرة‪ ،‬مهرجان القراءة‬
‫للجميع‪ ،‬طبعة خاصة في ‪ 25‬ألف نسخة‪ ،‬القاهرة‪2001 ،‬م‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬الوصايا في عشق النساء (الكتاب األَّو ل)‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬القاهرة يوليو ‪2003‬م‪،‬‬
‫مكتبة األسرة‪ ،‬مهرجان القراءة للجميع‪ ،‬طبعة ثانية خاصة في ‪ 25‬ألف نسخة‪ ،‬القاهرة يوليو‬
‫‪2003‬م‪ ،‬طبعة ثالثة ‪2010‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬الوَص ايا في ِع ْش ِق النساِء (الكتاب الَّثاني)‪ ،‬المكتب المصري للمطبوعات‪ ،‬القاهرة ‪2006‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬أنا َم ْن َأْه َو ى‪ 600 ..‬طريق إلى الِع ْش ق‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية ‪2016‬م ‪ -‬الطبعة الثانية‬
‫‪2017‬م‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪2018‬م‪.‬‬
‫‪ُ –6‬كْن عاشًقا‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ 2019 ،‬م‪.‬‬

‫فلسفة الدين‪:‬‬
‫‪ -1‬نواب هللا‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪2016 ،‬م‪ ،‬الَّطبعة الثانية ‪2017‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬عدماء الدين‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪ 2022 ،‬ميالدية‪.‬‬

‫األدب الصوفي ‪:‬‬


‫• سالطين الوجد‪ ..‬دولة الُح ب الُّص وفي‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪2022 ،‬م‪.‬‬
‫كتب عن الَّشاعر‪:‬‬
‫• حوار القرآن والشعر عند أحمد الشهاوي‪ ،‬د‪ .‬حياة الخياري‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪2012 ،‬م‪.‬‬

‫ترجمات ألعماله‪:‬‬
‫‪ Agua En Los Dedos‬بالُّلغة اإلسبانية‪ ،‬ترجمة ميالجروس نوين ‪Milagros‬‬ ‫‪« .1‬مياٌه في األصابع»‬
‫‪ ،Nuin‬المعهد المصري للدراسات اإلسالمية بمدريد‪ ،‬مدريد ‪2002‬م‪.‬‬

‫‪ -‬طبعة جديدة مضاًفا إليها مختارات من الوصايا في عشق النساء «الكتاب األول» عن جامعة‬
‫كوستاريكا باالشتراك مع مهرجان الشعر العالمي في كوستاريكا ‪2008‬م‪.‬‬
‫• مشيت في أحرفك زارًعا زماني (مختارات شعرية) باللغة التركية‪Harflerind Yuru Dum ،‬‬
‫‪ ،Zamanimi ekerek‬ترجمة متين فندقجي – دار ‪ ،Artshop‬إستنبول‪ ،‬تركيا‪2010 ،‬م‪.‬‬

‫• ال أحد يفكر في اسمي (مختارات شعرية)‪ Nadie Piensa en mi mombre ،‬باللغة اإلسبانية‪ ،‬ترجمة‬
‫د‪ .‬محمد أبو العطا – سان خوسيه‪ -‬كوستاريكا‪2011 ،‬م‪.‬‬

‫‪ ،Une Seule porte et Des Demeures‬ترجمة د‪ .‬محمد ميلود غرافي‪Aile Edition ،‬‬ ‫• باب واحد ومنازل‬
‫نانت‪ ،‬فرنسا‪2013 ،‬م‪.‬‬

‫• ِل ساُن الَّنار ‪ ،Atesin Dili‬ترجمة متين فندقجي‪ ،‬دار النشر ‪ ،artshop‬إستنبول‪ ،‬تركيا‪2013 ،‬م‪.‬‬

‫• سماٌء باسمي ‪ ،Benim adima bir gokyuzu‬ترجمة د‪ .‬محمد حِّقي صوتشين‪ ،Kirmizi ،‬إستنبول‪ ،‬تركيا‪،‬‬
‫‪2013‬م‪.‬‬

‫• سماٌء باسمي ‪ ،Un cielo con mi nombre‬ترجمة د‪ .‬عبير عبد الحافظ‪ ،‬سان خوسيه‪ ،‬كوستاريكا‪2014 ،‬م‪،‬‬
‫طبعة أخرى‪ Ediciones El Quirofano ،‬اإلكوادور‪2014 ،‬م‪.‬‬

‫• كل شيء يبدأ من وردتِك ( مختارات شعرية ) ‪ –Ogni cosa comincia dalla tua rosa‬روما‬
‫‪ –Aletti Editiore‬ترجمة الَّر َّداد شَّر اطي‪ ،‬روما ‪ 2019‬م‪.‬‬

‫• ال أراني ‪ No me veo‬ترجمة د‪ .‬عبير عبد الحافظ‪ ،‬سان خوسيه‪ ،‬كوستاريكا ‪ 2019‬م‪.‬‬

‫قيد النشر‪:‬‬
‫‪ .1‬طبقات الكافر (رواية)‪.‬‬
‫‪ِ .2‬ك َّتاُن اآلِلَه ة‪.‬‬
‫‪َ .3‬م ْنِز ُل األلف (سيرٌة في الِّشْعر)‪.‬‬
‫‪ .4‬اسُم ُه َأْح َم د‪.‬‬
‫‪ .5‬الوَص ايا في ِع ْش ِق الِّنَساِء (الكتاب الَّثالث)‪.‬‬
‫‪ .6‬وهديناه النهدين‪.‬‬
‫‪ .7‬حجاب الساحر (رواية)‪.‬‬

‫عنوان البريد اإللكتروني‪:‬‬


‫‪ahmad_shahawy@hotmail.com‬‬

You might also like