Professional Documents
Culture Documents
فإن الذي دعاني إلى كتابة هذه الرسالة هو النصح هلل ولرسوله ولعامة المسلمين ،وما رأيت من جهل الناس بفوائد المرض إلى درجة أني سمعت
أناسًا يقولون :أال ترحمه يارب ،ومنهم من يقول :إما ارحمه أو ريحه ،مع أن اهلل يقول في بعض اآلثار (( :كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ ))،
وكذلك ما سمعت ورأيت من بعض المرضى الذين ابتلوا بأمراض مستعصية كالسرطان أو غيره من األمراض التي ال يوجد لها عالج ،فبلغ بهم اليأس
ـ الواحد منهم قد ضعف صبره وكثر جزعه وعظم تسخطه وانفرد به الشيطان يوسوس له ويذكره بالمعاصي الماضية حتى يؤيسه مبلغًا عظيمًا فتجد
ـ الذين ءامنوا ))[المجادلة ، ]10 :مع أن المريض ال خوف عليه من روح اهلل ويوقعه في القنوط ،يقول اهلل (( :إنما النجوى من الشيطان ليحزن
مادام موحدًا ومحافظًا على الصالة ،حتى ولو لم يصل إال لما مرض ،فإن من تاب توبة صادقة قبل الغرغرة تاب اهلل عليه ،ولو وقع في كبائر الذنوب
ـ أبو ذر :وإن ،فإنه يرجى لكل من مات من الموحدين ولم يمت على الكفر ،ففي الحديث (( من مات من أمتي ال يشرك باهلل شيئًا دخل الجنة )) ،فقال
زنى وإن سرق ،قال (( :وإن زنى وإن سرق )) ،ويقول صلى اهلل عليه وسلم (( :ال يموتن أحدكم إال وهو يحسن الظن باهلل عز وجل )) [ رواه
مسلم ] ،ويقول اهلل (( أنا عند ظن عبدي ،فليظن بي ما يشاء )) 0
فعلى المؤمن أن يصبر على البالء مهما اشتد فإن مع العسر يسرًا ،وعذاب الدنيا أهون من عذاب اآلخرة ،يقول أنس :إن النبي صلى اهلل عليه وسلم
ـ (( :ال يجتمعان في قلب عبد ـ (( :كيف تجدك ؟ )) قال :أرجو رحمة اهلل يا رسول اهلل ،وأخاف ذنوبي ،فقال دخل على شاب وهو في الموت ،فقال
في مثل هذا الموطن إال أعطاه اهلل ما يرجو وأمنه مما يخاف )) ،فال تسيء العمل وأنت صحيح بحجة هذا الحديث ،فلعل الموت يأتيك بغتة .وعلى
كل فالمؤمن يصبر ويرضى بقضاء اهلل ،فإن عاش لم يحرم األجر ،وإن مات فإلى رحمة اهلل ،يقول صلى اهلل عليه وسلم (( :تحفة المؤمن الموت ))
[رواه الطبراني بسند جيد ] 0
ـ فوائد المرض العظيمة وما يترتب عليه من مصالح ومنافع قلبية وفكل قضاء اهلل للمسلم خير )) وفي رواية ألحمد (( فالمؤمن فإذا تقرر هذا كله فأليكم
يؤجر في كل أمره )) فالمؤمن البد وأن يرضى بقضاء اهلل وقدره في المصائب ،اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر ،وإذا أذنب استغفر ،وإذا ابتلي
ـ والشكر فهو بشر حال ،وكل واحدة من السراء والضراء في حقه تفضي إلى قبيح المآل ؛ إن أعطاه طغى وإن صبر ،ومن لم ينعم اهلل عليه بالصبر
ابتاله جزع وسخط 0
ـ ومن فوائد المرض وتمام نعمة اهلل على عبده ،أن ينزل به من الضر والشدائد ما يلجئه إلى المخاوف حتى يلجئه إلى التوحيد ،ويتعلق قلبه بربه5
ـ مستخرج الدعاء بالبالء ،ومستخرج الشكر بالعطاء ،يقول وهب بن منبه :ينزل البالء ليستخرج به الدعاء ـ مخلصًا له الدين ،فسبحان فيدعوه
(( وإذا أنعمنا على اإلنسان ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض )) [ فصلت ، ]51 :فيحدث العبد من التضرع والتوكل وإخالص الدعاء ما
ـ هلل الدين يزيد إيمانه ويقينه ،ويحصل له من اإلنابة وحالوة اإليمان وذوق طعمه ما هو أعظم من زوال المرض ،وما يحصل ألهل التوحيد المخلصين
ـ من أن يعبر عن كنهه مقال ،ولكل مؤمن نصيب ، الذين يصبرون على ما أصابهم فال يذهبون إلى كاهن وال ساحر وال يدعون قبرًا ،أو صالحًا فأعظم
فإذا نزل بهم مرض أو فقر أنزلوه باهلل وحده ،فإذا سألوا سألوا اهلل وحده ،وإذا استعانوا استعانوا باهلل وحده ،كما هو الحاصل مع نبي اهلل أيوب
(( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الرحمين )) [ األنبياء 0 ]83 :
وتأمل عظيم بالء أيوب فقد فقد ماله كله وأهله ومرض جسده كله حتى ما بقي إال لسانه وقلبه ،ومع عظيم هذا البالء إال أنه كان يمسي ويصبح وهو
يحمد اهلل ،ويمسي ويصبح وهو راض عن اهلل ،ألنه يعلم أن األمور كلها بيد اهلل ،فلم يشتك ألمه وسقمه ألحد ،ثم نادى ربه بكلمات صادقة (( إني
مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين )) فكشف اهلل ضره وأثنى عليه ،فقال (( :إنا وجدناه صابرًا نعم العبد أنه أواب )) [ ص ،]44:وقد ورد في بعض
اآلثار (( :يا ابن آدم ،البالء يجمع بيني وبينك ،والعافية تجمع بينك وبين نفسك )) 0
ـ ومن فوائد المرض :ظهور أنواع التعبد ،فإن هلل على القلوب أنواعًا من العبودية ،كالخشية وتوابعها ،وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها ،فكم6
من بلية كانت سببًا الستقامة العبد وفراره إلى اهلل وبعده عن الغي ،وكم من عبد لم يتوجه إلى اهلل إال لما فقد صحته ،فبدأ بعد ذلك يسأل عن دينه وبدأ
يصلي ،فكان هذا المرض في حقه نعمة ((ومن الناس من يعبد اهلل على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر
الدنيا واآلخرة )) [ الحج ، ]11 :وذلك أن على العبد عبودية في الضراء كما أن عليه عبودية في السراء ،وله عبودية فيما يكره ،كما أن له عليه
عبودية فيما يحب ،وأكثر الناس من يعطي العبودية فيما يحب ،والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ،وفيها تتفاوت مراتب العباد ،وبحسبها
ـ عند اهلل ،ومن كان من أهل الجنة فال تزال هداياه من المكاره تأتيه حتى يخرج من الدنيا نقيًا .يروى أنه لما أصيب عروة بن الزبير تكون منازلهم
باألكلة في رجله قال (( :اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحدًا وأبقيت ستة ،وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفًا وأبقيت ثالثة ،ولئن ابتليت لقد
عافيت ،ولئن أخذت لقد أبقيت )) ،ثم نظر إلى رجله في الطست بعدما قطعت فقال (( :إن اهلل يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم )) 0
ـ ومن فوائد المرض :أن اهلل يخرج به من العبد الكبر والعجب والفخر ،فلو دامت للعبد جميع أحواله لتجاوز وطغى ونسي المبدأ والمنتهى ،ولكن7
اهلل سلط عليه األمراض واألسقام واآلفات وخروج األذى منه والريح والبلغم ،فيجوع كرهًا ويمرض كرهًا ،وال يملك لنفسه نفعًا وال ضرًا وال موتًا
ـ ،وأحيانًا يريد الشيء وفيه هالكه ،ويكره الشيء وفيه وال حياة وال نشورًا ،أحيانًا يريد أن يعرف الشيء فيجهله ،ويريد أن يتذكر الشيء فينساه
ـ
حياته ،بل ال يأمن في أي لحظة من ليل أو نهار أن يسلبه اهلل ما أعطاه من سمعه وبصره ،أو يختلس عقله ،أو يسلب منه جميع ما يهواه من دنياه
ـ شيء أذل منه لو عرف نفسه ؟ فكيف يليق به الكبر على اهلل وعلى خلقه وما أتى إال من فال يقدر على شيء من نفسه ،وال شيء من غيره ،فأي
جهله؟
ومن هذه أحواله فمن أين له الكبر والبطر ؟ ولكن كما قيل :من أكفر الناس بنعم اهلل افقير الذي أغناه اهلل ،وهذه عادة األخساء إذا رفع شمخ بأنفه ،
ـ يكون مكسور القلب كائنًا من كان ،فال بد أن يكسره المرض ،فإذا كان مؤمنًا وانكسر قلبه ومن هنا سلط اهلل على العبد األمراض واآلفات ،فالمريض
ـ0ـ وهي االنكسار واالتضاع في النفس وقرب اهلل منه ،وهذه هي أعظم فائدة ـ حصل على هذه الفائدة فالمريض
ـ )) وهذا هو السر في استجابة دعوة الثالثة :المظلوم ،والمسافر ،والصائم ،وذلك للكسرة التي في قلب كل يقول اهلل (( :أنا عند المنكسرة قلوبهم
ـ ،وكذا األمر في المريض والمظلوم واحد منهم ،فإن غربة المسافر وكسرته مما يجده العبد في نفسه ،وكذلك الصوم فإنه يكسر سورة النفس ويذلها
،فإذا أراد اهلل بعبد خيرًا سقاه دواء من االبتالء يستفرغ به من األمراض المهلكة للعبد حتى إذا هذبه رد عليه عافيته ،فهذه األمراض حمية له ،
ـ من يرحم ببالئه ويبتلي بنعمائه 0 فسبحان
ـ ومن فوائد المرض :انتظار المريض لفرج ،وأفضل العبادات انتظار الفرج ،األمر الذي يجعل العبد يتعلق قلبه باهلل وحده ،وهذا ملموس8
ـ وحصل له اإلياس منهم وتعلق قلبه باهلل وحده ، ومالحظ على أهل المرض أو المصائب ،وخصوصًا إذا يئس المريض من الشفاء من جهة المخلوقين
وقال :يا رب ،ما بقي لهذا المرض إال أنت ،فإنه يحصل له الشفاء بإذن اهلل ،وهو من أعظم األسباب التي تطلب بها الحوائج ،وقد ذكر أن رج ً
ال
ـ اهلل بعد حين ،ال ،وأنه ال يوجد له عالج ،وكان مريضًا بالسرطان ،فألهمه اهلل الدعاء في األسحار ،فشفاهأخبره األطباء بأن عالجه أصبح مستحي ً
ـ إذا تناهت وحصل اإلياس من الخلق ،عند ذلك يأتي الفرج ،فإن العبد إذا يئس من الخلق وتعلق باهلل وهذا من لطائف أسرار اقتران الفرج بالشدة
جاءه الفرج ،وهذه عبودية ال يمكن أن تحصل إال بمثل هذه الشدة ((حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا )) [ يوسف ]110 :
0
ـ ومن فوائد المرض :أنه عالمة على إرادة اهلل بصاحبه الخير ،فعن أبي هريرة مرفوعًا (( :من يرد اهلل به خيرًا يصب منه )) [ رواه البخاري] 9،
ومفهوم الحديث أن من لم يرد اهلل به خيرًا ال يصيب منه ،حتى يوافي ربه يوم القيامة ،ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال (( :مر برسول اهلل صلى
ـ فقال له :متى أحسست بأم ملدم ؟ قال :وما أم ملدم ؟ قال :الحمى ،قال :وأي شيء ـ ،قال :فدعاه
اهلل عليه وسلم أعرابي أعجبه صحته وجلده
الحمى ؟ قال :سخنة تكون بين الجلد والعظام ،قال :ما بذلك لي عهد ،وفي رواية :ما وجدت هذا قط ،قال :فمتى أحسست بالصداع؟ قال :وأي
ـ ـ أو ولى ـ شيء الصداع ؟ قال :ضربات تكون في الصدغين والرأس ،قال :مالي بذلك عهد ،وفي رواية :ما وجدت هذا قط ،قال :فلما قفا
ـ صحيح البدن مريض القلب ،والمؤمن بالعكس 0 ـ إليه )) [ وإسناده حسن ] فالكافر األعرابي قال :من سره أن ينظر إلى رجل من أهل المار فلينظر
ـ له عمله الصالح إذا حبسه10 ـ ومن فوائد المرض :أن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة والتعرف على اهلل في الرخاء ،فإنه يحفظ
المرض ،وهذا كرم من اهلل وتفضل ،هذا فوق تكفير السيئات ،حتى ولو كان مغمى عليه ،أو فاقدًا لعقله ،فإنه مادام في وثاق اهلل يكتب له عمله
ـ لم تكتب عليه معصية ويكتب له عمله الصالح الذي ـ تقل معاصيه ،وإن كان فاقدًا للعقل الصالح ،تعرف إلى اهلل في الرخاء يعرفك في الشدة ،وبالتالي
كان يعمله في حال صحته ،ففي مسند أحمد عن عبداهلل بن عمرو عن النبي صلى اهلل عليه وسلم (( :ما من أحد من الناس يصاب بالبالء في جسده
ـ كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي )) 0 ـ :اكتبوا لعبديإال أمر اهلل عز وجل المالئكة الذين يحفظونه ،فقال
ـ بعمله ابتاله اهلل في جسده ،أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة ،قال11 ـ ومن فوائد المرض :أنه إذا كان للعبد منزلة في الجنة ولم يبلغها
ـ بعمل ،فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها )) يقول :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (( :إن الرجل ليكون له عند اهلل المنزلة فما يبلغها
ـ بالعافية 0ـ درجة ببالء فبلغنيها سالم بن مطيع :اللهم إن كنت بلغت أحدًا من عبادك الصالحين
ـ ومن فوائد المرض :أن يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وصحته ،فإنه إذا تربى في العافية ال يعلم ما يقاسيه المبتلى فال يعرف مقدار النعمة 12،
فإذا ابتلي العبد كان أكثر همه وأمانيه وآماله العودة إلى حالته األولى ،وأن يمتعه اهلل بعافيته ،فلوال المرض لما عرف قدر الصحة ،ولوال الليل لما
عرف قدر النهار ،ولوال هذه األضداد لما عرفت كثير من النعم ،فكل مريض يجد من هو أشد مرضًا فيحمد اهلل ،وكل غني يجد من هو أغنى منه ،
ـ العبد (( وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو ـ يجد من هو أفقر منه ،ثم كم نسبة صحة العبد إلى مرضه فوق ما فيه من الفوائد والمنافع التي يجهلها وكل فقير
خير لكم )) [ البقرة ، ]216:ولهذا روي أن آدم لما نشر اهلل له ذريته رأى الغني والفقير وحسن الصورة ،ورأى الصحيح على هئيته والمبتلى على
هيئته ،ورأى األنبياء على هيئتهم مثل السرج ،قال :يارب أال سويت بين عبادك ؟ قال :إني أحب أن أشكر ،فإن العبد إذا رأى صاحب البالء قال :
الحمد هلل الذي عافاني مما ابتالك ،فيعافيه اهلل من ذلك البالء بشرط الحمد ،والمبتلى إذا صبر حصل على أجر عظيم 0
ـ يقول :نحن أفضل من غيرنا ، ـ نظر إلى من هو فوقه ،لكنه إذا نظر في دينه نظر إلى من هو أسفل منه ،فتجده والغريب أن العبد إذا نظر في دنياه
ـ ،ومن ذاق ألم األمراض عرف بعد ذلك قيمة الصحة ،وكم نسبة مرضه إلى نسبة صحته ،روي أن الفضيل كانت له بنت لكنه ال يقول ذلك في دنياه
ال فلقد عافى اهلل مني كثيرًا ، صغيرة فمرض كفها فسألها يومًا :يا بنية ،كيف حال كفك ؟ فقالت :يا أبت بخير ،واهلل لئن كان اهلل تعالى ابتلى مني قلي ً
ابتلى كفي وعافى سائر بدني ،فله الحمد على ذلك 0
ـ ومن فوائد المرض :أنه إحسان ورحمة من الرب للعبد ،فما خلقه ربه إال ليرحمه ال ليعذبه (( ما يفعل اهلل بعذابكم إن شكرتم وءامنتم ))13
[ :النساء ، ]147 :وكما قيل
وربما كان مكروه النفس إلى .......محبوبها سبب ما مثله سبب
ـ ،وهذا ورد في بعض اآلثار أن العبد إذا أصابته البلوى ولكن أكثر النفوس جاهلة باهلل وحكمته ،ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها
ال الوالد عندما يجبر ابنهفيدعو ربه ويستبطئ اإلجابة ،ويقول الناس :أال ترحمه يارب ؟ فيقول اهلل (( :كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ )) .فمث ً
على شرب الدواء المر وهو يبكي وأمه تقول :أال ترحمه ؟ مع أن فعل الوالد هو رحمة به ،وهلل المثل األعلى ،فال يتهم العبد ربه بابتالئه وليعلم أنه
إحسان إليه 0
ـ
لعــــــل عتبك محمود عواقبه ...........وربما صحت األجساد بالعلل
ـ ومن فوائد المرض :أنه يكون سببًا لصحة كثير من األمراض ،فلوال تلك اآلالم لما حصلت هذه العافية ،وهذا شأن أكبر األمراض ،أال وهو14
ـ ،ففيها منافع لألبدان ال يعلمها إال اهلل ،حيث أنها تذيب الفضالت وتتسبب في إنضاج بعض المواد الفاسدة الحمى وهي المعروفة اآلن بالمالريا
وإخراجها من البدن ،وال يمكن أن يصل إليه دواء غيرها ،يقول بعض الفضالء من األطباء :إن كثيرًا من األمراض التي نستبشر فيها الحمى ،كما
يستبشر المريض بالعافية ،فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء الكثير ،فمـــن األمراض التي تتسبب الحمى في عالجها مرض الــــرمد
ـ واللقوة ـ وهو داء يكون في الوجه يعوج منه الشدق ـ وزيادة على الصحة فهي من أفضل األمراض في تكفير الذنوب ،ففي مسلم عن والفالج
ـ (( :ال تسبي الحمى فإنها ـ (( :مالك ؟)) فقالت :الحمى ،ال بارك فيها ،فقال جبران أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دخل على أم السائب ،فقال
تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد )) وعند أحمد بسند صحيح (( حمى يوم كفارة سنة )) [ عن ابن عمرو ] وفي األدب للبخاري عن
ال ،وقيل إنها تؤثر في البدن ـ وعددها 360مفص ً أبي هريرة (( :ما من مرض يصيبني أحب إلى من الحمى )) ألنها تدخل في كل األعضاء والمفاصل
تأثيرًا ال يزول بالكلية إال بعد سنة 0
ـ ومن فوائد األمراض :تخويف العبد ((ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون )) [ المؤمنون (( ، ] 76 :وأخذناهم بالعذاب15
لعلهم يرجعون )) [الزخرف ، ] 48 :فما ابتاله اهلل إال ليخوفه لعله أن يرجع إلى ربه ،أخرج اإلمام أبو داود عن عامر مرفوعًا (( :إن المؤمن إذا
ـ عقله أهله ثم أرسلوه ـ لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل ،وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير أصابه سقم ثم أعفاه منه كان كفارة
ـ ولم أرسلوه )) 0 فلم يدر لم عقلوه
ـ ومن فوائد المرض :أن اهلل يستخرج به الشكر ،فإن العبد إذا ابتلي بعد الصحة بالمرض وبعد القرب بالبعد اشتاقت نفسه إلى العافية ،وبالتالي16
ـ :يكفي من سؤالي علمه ـ اهلل بالدعاء فإنه ال يرد القدر إال الدعاء بل ينبغي له أن يتوسل إلى اهلل وال يتجلد تجلد الجاهل فيقول تتعرض إلى نفحات
بحالي !! فإن اهلل أمر العبد أن يسأله تكرمًا وهو يغضب إذا لم تسأله ،فإذا منح اهلل العبد العافية وردها عليه عرف قدر تلك النعمة ؛ فلهج بشكره شكر
من عرف المرض وباشر وذاق آالمه ال شكر من عرف وصفه ولم يقاس ألمه ،فكما يقال :أعرف الناس باآلفات أكثرهم آفات ،فإذا نقله ربه من
ضيق المرض والفقر والخوف إلى سعة األمن والعافية والغنى فإنه يزداد سروره وشكره ومحبته لربه بحسب معرفته وبما كان فيه ،وليس كحال من
ولد في العافية والغنى فال يشعر بغيره 0
ـ ومن فوائد المرض :معرفة العبد ذله وحاجته وفقره إلى اهلل ،فأهل السموات واألرض محتاجون إليه سبحانه ،فهم فقراء إليه وهو غني عنهم17
ولوال أن سلط على العبد هذه األمراض لنسي نفسه ،فجعله ربه يمرض ويحتاج ليكون تكرار أسباب الحاجة فيه سبب لخمود آثار الدعوى وهو ادعاء
الربوبية ،فلو تركه بال فاقة لتجرأ وادعى ،فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية ،ولهذا سلط اهلل عليه ذل العبودية وهي أربع :ذل الحاجة ،وذل
ـ وفاقته إلى اهلل كائنًا من كان 0الطاعة ،وذل المحبة ـ فالمحب ذليل لمن أحبه ـ وذل المعصية ،وعلى كل فإذا مرض العبد أحس بفقره
لعلك تقول :هذه األخبار ددل على أن البالء خير في الدنيا من النعيم ،فهل نسأل اهلل البالء ؟ ٌفول لك :ال وجه لذلك ،بل إن الرسول صلى اهلل عليه
وسلم قال دعائه لما أخرجه أهل الطائف (( :إن لم يكن بك غضب علي فال أبالي ،ولكن عافيتك أوسع لي )) ،وروى أن العباس لما طلب من الرسول
ـ له (( :سل اهلل العفو والعافية ،فإنه ما أعطى أحد أفضل من العافية بعد اليقين )) ،وقال الحسن :الخير صلى اهلل عليه وسلم أن يعلمه دعاء فقال
الذي ال شر فيه العافية مع الشكر ،فكم من منعم عليه غير شاكر ،وهذا أظهر من أن يحتاج إلى دليل ،فينبغي أن نسأل اهلل تمام النعمة في الدنيا ودفع
البالء عنا ،لكن إذا ابتلي العبد ببالء فينبغي له الصبر والرضا بقضاء اهلل عليه 0
:أخيرًا أختم هذه الرسالة بأن المرض نعمة وليس بنقمة ،وأن في المرض لذائذ *
ـ به المريض والحب الذي يغمره من أقاربه ومعارفه 10 ـ منها :لذة العطف الذي يحاط
ـ ومنها :اللذة الكبرى التي يجدها المريض ساعة اللجوء إلى اهلل ،هندما يدعوه مخلصًا مضطرًا 20
ـ الضيق على المريض وهو مقيد على السرير ،ويبلغ به المرض أقصاه فيفيء لحطتها إلى اهلل كما3 ـ ومنها :لذة الرضا عن اهلل عندما تمر لحظات
حصل في نداء أيوب ،فال يحكم على المريض أو البائس بمظهره ،فلعل وراء الجدار الخرب قصرًا عامرًا ،ولعل وراء الباب الضخم كوخًا خربًا 0
ـ ،فال يفرق المرض بين غني أو فقير ،فلو كان المرض سببه الفقر أو نقص الغذاء لكان المرض4 ـ ومنها :لذة المساواة التامة ،فهي سنة الحياة
ً
وقفًا على الفقراء ،ولكان األغنياء في منجى منه ،لكنه ال يعرف حقيرًا أو جليال ،الناس سواء 0
تمت هذه الرسالة وهلل الحمد والمنة
ـ نقمته وجميع سخطه 0 نسأل اهلل من عظيم لطفه وكرمه وستره الجميل في الدنيا واآلخرة ،ونعوذ به من زوال نعمته وتحول عافيته وفجأة
وصلى اهلل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 0بدنية ،وقبل الشروع البد من مقدمة قبل الدخول في المقصود 0
إن اهلل لم يخلق شيئًا إال وفيه نعمة أيضًا ،إما على المبتلى أو على غير المبتلى ،حتى إن ألم الكفار في نار جهنم نعمة ،ولكنها في حق غيرهم من
العباد ،فمصائب قوم عند قوم فوائد ،ولوال أن اهلل خلق العذاب واأللم لما عرف المتنعمون قدر نعمته عليهم ولجهلت كثير من النعم ،ومن هنا خلق
سبحانه األضداد لحكم كثيرة منها معرفة النعم ،فلوال الليل لما عرف قدر النهار ،ولوال المرض لما عرف قدر الصحة ،وكذا الفقر والسماء والجنة ،
ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آالم أهل النار ،بل إن من نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب ،مع العلم أن كل بالء
ـ عليه ،بل يؤمر بإزالته ففي الحديث (( :ليس للمؤمن أن يذل نفسه ،أن يحمل نفسه ماال يطيق )) .وإنما يقدر العبد على دفعه ،ال يؤمر بالصبر
ـ ،فإنه يبتلى بالنعماء والبأساء ،وكم من بالء يكون بالء على صاحبها
المحمود الصبر على ألم ليس له حيلة في إزالته ،كما أن من النعم نعمة تكون ً
نعمة على صاحبه ،فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض ،ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى (( ولو بسط اهلل الرزق لعباده لبغوا في
األرض )) [ الشورى 0 ]27 :
فكل نعمة سوى اإليمان وحسن الخلق قد تكون بالء في حق بعض الناس ،وتكون أضدادها نعمًا في حقهم ،فكما أن المعرفة كمال ونعمة ،إال أنها قد
ـ نعمة مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس ،إذ لو رفع له الستر لطال غمه وحسده .وكم من نعمة يحرص تكون في بعض األحيان بالء وفقدها
ً
عليها العبد فيها هالكه ،ولما كانت اآلالم واألمراض أدوية لألرواح واألبدان وكانت كماال لإلنسان ،فإن فاطره وبارئه ما أمرضه إال ليشفيه ،وما
ال إليها ،ولهذا قال العقالء قاطبة :إن ابتاله إال ليعافيه ،وما أماته إال ليحييه ،وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرًا موص ً
ال نزول األمطار والثلوج وهبوب ـ ،وإن الراحة ال تنال بالراحة ،فهذه اآلالم والمشاق من أعظم النعم ،إذ هي أسباب النعم ،فمث ً النعيم ال يدرك بالنعيم
ال لو أن المرأة نظرت إلى آالم الحمل والوالدة لما ـ من اآلالم فإنها مغمورة جدًا بالنسبة إلى المنافع والمصالح التي تصحبها ،فمث ً الرياح وما يصاحبها
تزوجت ،لكن لذة األمومة واألوالد أضعاف أضعاف تلك اآلالم ،بل إنها إذا حرمت األوالد لم تترك طبيبًا إال وذهبت إليه من أجل الحصول على األبناء ،
إنه ال يوجد شر محض ،وما نهى سبحانه عن األعمال القبيحة إال ألن مفسدتها راجحة على خيرها ،وهكذا ..وقد قال اهلل عن الخمر :إثمها أكبر من
نفعها ،فلو نظر العبد كم يحصل له من المضار والمفاسد منها لما أقدم عليها 0
ـ من فوائد المرض ،أنه تهذيب للنفس ،وتصفية لها من الشر الذي فيها (( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ))1
[ الشورى ، ]30 :فإذا أصيب العبد فال يقل :من أين هذا ،ول من أين أتيت ؟ فما أصيب إال بذنب ،وفي هذا تبشير وتحذير إذا علمنا أن مصائب
ـ ،أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال (( :ما يصيب المؤمن من وصب وال هم وال الدنيا عقوبات لذنوبنا
حزن وال أذى حتى الشوكة يشاكها إال كفر اهلل بها من خطاياه )) وقال صلى اهلل عليه وسلم (( :وال يزال البالء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى
ـ أو المرض ،وفي هذا بشارة فإن مرارة ساعة وهي الدنيا يلقى اهلل وما عليه خطيئة )) ،فإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ابتاله اهلل بالحزن
أفضل من احتمال مرارة األبد ،يقول بعض السلف :لوال مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس 0
ـ ومن فوائد المرض :أن ما يعقبه من اللذة والمسرة في اآلخرة أضعاف ما يحصل له من المرض ،فإن مرارة الدنيا حالوة اآلخرة والعكس2
ـ )) وقال أيضًا (( :تحفة المؤمن الموت )) [ رواه ابن أبي الدنيا بسند بالعكس ،ولهذا قال صلى اهلل عليه وسلم (( :الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
ـ مرض أو مصيبة فحمد اهلل بني له بيت الحمد في جنة الخلد ،فوق ما ينتظره من الثواب ،أخرج الترمذي عن جابر مرفوعًا حسن ] ،وإذا نزل بالعبد
ـ في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البالء )) 0 (( :يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض
ـ ومن فوائد المرض :قرب اهلل من المريض ،وهذا قرب خاص ،يقول اهلل (( :ابن آدم ،عبدي فالن مرض فلم تعده ،أما لو عدته لوجدتني3
عنده)) [ رواه مسلم عن أبي هريرة ] ،واثر (( :أنا عند المنكسرة قلوبهم )) 0
ـ ومن فوائد المرض :أنه يعرف به صبر العبد ،فكما قيل :لوال االمتحان لما ظهر فضل الصبر ،فإذا وجد الصبر وجد معه كل خير ،وإذا فات فقد4
ـ الكير عن خبث الحديد ( ومعنى معه كل خير ،فيمتحن اهلل صبر العبد وإيمانه به ،فإما أن يخرج ذهبًا أو خبثًا ،كما قيل :سبكناه ونحسبه لجينًا فأبدى
اللجين الفضة ) ،والمقصود :أن حظه من المرض ما يحدث من الخير والشر ،فعن أنس مرفوعًا (( :إن عظم الجزاء من عظم البالء ،وإن اهلل إذا
أحب قومًا ابتالهم ،فمن رضي فله الرضا ،ومن سخط فله السخط)) ،وفي رواية (( :ومن جزع فله الجزع ))[ رواه الترمذي ] ،فإذا أحب اهلل عبدًا
أكثر غمه ،وإذا أبغض عبدًا وسع عليه دنياه وخصوصًا إذا ضيع دينه ،فإذا صبر العبد إيمانًا وثباتًا كتب في ديوان الصابرين ،وإن أحدث له الرضا
كتب في ديوان الراضين ،وإن أحدث له الحمد والشكر كان جميع ما يقضي اهلل له من القضاء خيرًا له ،أخرج مسلم من حديث صهيب قال :قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم (( :عجبًا ألمر المؤمن ،إن أمره كله خير ،وليس ذلك ألحد إال للمؤمن ،إن أصابه سراء فشكر اهلل فله أجر ،وإن أصابته
،ضاء فصبر فله أجر