Professional Documents
Culture Documents
الحمد هلل رب العالمين ..قَّس م الحظوَظ والمَلكاِت واألرزاَق على بني آَد م ِبمقاديَر
ُم ختلفة ،وأشكاٍل ُم تباينة؛ حَّتى يستقيم أمُر الحياة الدنيا على الهيئة اَّلتي هي
عليها .فقال تعالىَ ﴿ :نْح ُن َق َس ْمَن ا َبْيَن ُه م َّم ِع يَش َت ُه ْم ِفي الَحَياِة الُّد ْنَيا َو َر َف ْع َن ا َبْع َض ُه ْم
َفْو َق َبْع ٍض َد َرَج اٍت ِّلَيَّتِخَذ َبْعُض ُه م َبْع ضًا ُس ْخ ِريًا ﴾ [الزخرف .]32 :وأشهد أن ال إله إال
هللا وحده ال شريك له ..أثنى على عباده المؤمنين الصادقين بالحب واإلخاء فقال
تعالى (وال يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا)) الحشر .وأشهد أن سيدنا محمدا
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ..حذر من أمراض القلوب التي تفتك باألمة وتأكل
الحسنات فقال صَّلى هللا عليه وسَّلم" :ال تحاسدوا وال تناجشوا وال تباغضوا وال
تدابروا وال يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد هللا إخوانا " [رواه البخاري].
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
ولقد حذر المولى تبارك وتعالى من أمراض القلوب لما لها من أضرار على الفرد
والمجتمع فأمر باالستعاذة منها فقال تعالى ﴿ ُق ْل َأُع وُذ ِبَرِّب الَف َلِق * ِم ن َش ِّر َم ا
َخ َلَق * َو ِم ن َش ِّر َغاِس ٍق ِإَذا َو َقَب * َو ِم ن َش ِّر الَّنَّف اَثاِت ِفي الُع َقِد * َو ِم ن َش ِّر َح اِسٍد
ِإَذا َحَس َد ﴾ [الفلق.]5 - 1 :
ولقد انتشرت أمراض القلوب بين الناس من غل وحسد وغش وبغضاء ولن يجتمع
شمل هذه األمة إال إذا طهرت قلوبها وتماسكت فيما بينها البين ،ولن يؤمن أحدنا
حتى يحب ألخيه المسلم ما يحبه لنفسه.
فمن األمراض الخطيرة التي تفتك باألمة أفرادا ومجتمعات مرض الحسد الذي كان
في سبب كثير من الجرائم مثل القتل والدمار ،فالحسد صفة ذميمة ال تتخلق بها
إال النفوس المريضة التي ال تحب إال العيش منفردة واالستئثار على غيرها بما
تهواه .والحسد بوابة اآلثام ،وبضاعة اللئام ،يبدأ بالقريب قبل البعيد ،والصديق قبل
العدو ،فهو أكثر ما يكون بين األقارب ،وبين الجيران ،وبين الزمالء .فالقريب الحاسد
ال يحب أن يكون قريبه أحسن منه فيما يتباهى به الناس ،ولو كان أخاه ألبيه وأمه.
والجار الحاسد ال يحب أن يكون جاره أفضل منه في مال أو جاه أو قوة أو جمال أو
علم .والزمالء في الدراسة أو الوظائف أو األعمال ال يرضى الواحد منهم أن يتقدم
عليه في معلومات أو ترقيات أو مكافآت أو زيادة خير.
والحسد يدخل بين األقران واألمثال في أكثر األحيان فالعامل يحسد العامل والتاجر
يحسد التاجر والفالح يحسد الفالح ولذلك ال تستغربوا من حصول المشكالت
والمكايدات ،والبغضاء والتقاطع ،والهجران وفساد العالقات وتعثر المشروعات،
والتقاتل واألضرار بين األصناف السابقة ،فما ذلك إال نتيجة من نتائج مرض الحسد.
لذلك كان حديثنا عن مرض الحسد ،وذلك من خالل هذه العناصر الرئيسية التالية:
-1حقيقة الحسد.
-2مراتب الحسد.
-3أسباب الحسد.
-4أضرار الحسد علي الفرد والمجتمع.
-5قصص في خطورة الحسد.
-6عالج الحسد.
و يقول ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد اصل الحسد :هو بغض نعمة هللا على
المحسود وتمني زوالها .وأمر الحسد ثابت شرعا قال هللا -تعالى ﴿ َو ِإْن َيَك اُد اَّلِذ يَن
َك َف ُر وا َلُيْز ِلُق وَنَك ِبَأْبَصاِرِه ْم ﴾ [القلم ،]51 :قال ابن عباس وغيره في تفسيرها :أي
يعينوك بأبصارهم ،ويقول النبي صلى هللا عليه وسلم " :العين حق ،ولو كان شيء
سابق القدر سبقت العين ،وإذا استغسلتم فاغسلوا " رواه مسلم ،وعن عائشة
رضي هللا عنها قالت " :كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يأمرني أن أسترقي
من العين " (البخاري ومسلم) ،وأخرج مسلم وأحمد والترمذي وصححه عن ابن
عباس رضي هللا عنهما عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال " :العين حق ولو كان
شيء سابق القدر لسبقته العين ،وإذا استغسلتم فاغسلوا " صححه األلباني في
السلسلة الصحيحة.
العنصر الثاني :مراتب الحسد - :ذكر العلماء أن مراتب الحسد أربعة وهي-:
األولى :تمني زوال النعمة عن المنعم عليه ولو لم تنتقل للحاسد .الثانية:
تمني زوال النعمة عن المنعم عليه وحصوله عليها.
الثالثة :تمني حصوله على مثل النعمة التي عند المنعم عليه حتى ال يحصل
التفاوت بينهما ،فإذا لم يستطع حصوله عليها تمنى زوالها عن المنعم عليه.
الرابعة :حسد الغبطة ويسمى حسدًا مجازًا وهو تمني حصوله على مثل النعمة
التي عند المنعم عليه من غير أن تزول عنه فهذا الحسد محمود كماجاء في
الحديث الصحيح في قوله صلى هللا عليه وسلم (ال حسد إال في إ ثنتين رجل أتاه
هللا القران فهو يقوم به آناء الليل وأناء النهار ورجل آتاه هللا ماال فهو ينفقه آناء الليل
وآناء النهار)) فأنت تتمنى أن تكون مثله ،مع بقاء تلك النعمة عنده وهذا الحسد
معناه الغبطة ،وقد يجوز ان يسمى ذلك منافسة ومنه قوله تبارك وتعالى ﴿ َو ِفي
َذِلَك َفْلَيَتَناَفِس اْلُم َتَناِفُس وَن ﴾ [المطففين.]26 :
والحسد خلق ذميم ،وصفة وضيعة ،حقيرة ال تكون إال في النفس العاجزة ،المهانة
التي تعجز عن فعل الخير ،وتتمني زواله من غيره حتي يكون العاجز والعامل سواء
كما قال تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
فالحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هوفمن كان يحب
هللا واليوم اآلخر فلينتهي عن هذه الصفة إن كانت فيه وليحذر عقاب هللا في الدنيا
واآلخرة ومن لم يكن من أهلها فليحمد ربه حمدًا كثيرا علي ذلك فإن اآلفة الوضيعة
تقتل صاحبها وتهينه وتجعله من السافلين.
وأصل الحسد والعداوة التزاحم على غرض واحد ومنشأ ذلك كله ،،حب الدنيا فإن
الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين وأما اآلخرة فال ضيق فيها.
وأنه بحسب فضل اإلنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له ،فإن كثر
فضله كثر حساده وإن قل فضله قلوا ،ألن ظهور الفضل يثير الحسد ،وحدوث النعمة
يضاعف الكمد..
فالحاسد لو كان عنده إيمان قوي بقضاء هللا وقدره ما حسد الناس على ما قضاه
هللا وقدره ،ولو كان عنده علم وفهم السمي هللا :العليم والحكيم ما حسد؛ ألن هللا
حكيم في قضائه وقدره وعليم بخلقه ،فمن علم ذلك انكف عن حسده.
إن الحاسد صاحب نفس خبيثة تكره رؤية النعمة بادية على اآلخرين؛ ولهذا يتمنى
الحاسد زوال النعمة عن الُم ْن َع م عليه .ذكر العلماء دواعي الحسد ،فذكروا منها-:
ُ -1بغض المحسود ،فإذا كانت له فضيلة ُتذكر أو منقبة ُتشكر ثارت نفس من أبغضه
حسًد ا .وال يفارقه فإذا أصاب عدوه بالء فرح وإذا أصابته نعماء ساءه ذلك.
جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى( :أم يحسدون الناس على ماآتاهم هللا
من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) .قال في
قوله (أم يحسدون )......قال هم اليهود والناس يعني النبي صلى هللا عليه وسلم.
وعن إبن عباس ومجاهد وغيرهما قالوا (حسدوا محمد صلى هللا عليه وسلم على
النبوة وحسدوا أصحابه على اإليمان به وال زالت آثار حسدهم تظهر يوما بعد يوم).
-2الكبر والعجب كأن يظهر من المحسود فضل يعجز عنه الحاسد فيكره تقدمه
فيه ،فيثير ذلك حسًد ا ،فالحسد هنا يختص بمن عال مع عجز الحاسد عن إدراكه.
وكان حسد الكفار للنبي صلى هللا عليه وسلم قريبا من ذلك ،،قال تعالى( وقالوا
لوال نزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم) الزخرف ،.وقالوا عن المؤمنين:
(أهؤالء من هللا عليهم من بيننا)).
-3حب الرئاسة والجاه ومثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في مجال
من المجاالت أو فن من الفنون إذا سمع بنظير له في مكان ما ساءه ذلك وأحب
هلكه أو زوال نعمته التي يشاركه بها وذلك لحب الرئاسة والجاه واإلنفراد به .لقد
التقى أبو جهٍل ،وأبو ُس فيان بن حرب ،واألخنُس بن شريق ،وقِد انصرفوا من حْو ِل
بْي ِت رسول هللا -صَّلى هللا عليه وسَّلم وقد جاءوا ال َيعرف كُّل واحد منهم من خبر
اآلَخ ر شيًئ ا ،يستمعون إلى رسول هللا صَّلى هللا عليه وسَّلم يتلو الُق رآن الكريم،
وكان ذلك لقاَء هم الثالَث ،وتعاهدوا أن ال يعودوا ِلمثلها فُيَر ْو ا على غْي ِر ما يعهدهم
الناس ،وفي صباح اليوم الثالث ،دَلف األخنُس بن شريق إلى بْي ِت أبي جهل،
يستْطِلُع األَثَر الذي ترَك ه َس ماُع القرآن الكريم من َف ِم رسول هللا -صلى هللا عليه
وسلم -في نفس أبي جهل ،ويسأُل األخنس :فيم َس مع من محمد؟ ويرُّد أبو
جهل :ما سمعت! (أي مثل ما َس معَت يا أخنس)" :تنازعنا َنحن وبنو عبدمناف
الَّش رَف :أطعموا فأطعْم نا ،وَح ملوا فحمْلنا ،وأعَطْو ا فأعَطْي نا ،حَّتى كَّنا كفَر َس ْي
رهان قالوا :مَّنا نبٌّي يأتيه الوحي من السماء ،فمتى ُنْد ِرك مثَل هذه؟ وِهللا ،ال ُنؤِم ُن
به أبًد ا ،وال ُنصِّد ُقه" .وانكشف لألخنس ما انَطَو ْت علْي ِه نفُس أبي جهل ،لقد كان
الحسد ،فهو وراَء كِّل تلك الخصومة ،والَّلَد د ،والمقاومة الشديدة لإلسالم ونبِّيه.
لقد صار أبو جهٍل مدرسًة في الكفر؛ بسَبِب هذه اآلفِة القاتلة ،الحسِد َ ،وَع َلًم ا
عليها.
-4السخط على قضاء هللا تعالى ،فيحسد اآلخرين على ما منحهم هللا تعالى إياه،
وإن كانت نعم هللا عنده أكثر ،وِم َن حه عليه أظهر.
-5خبث النفس وبخلها وهذا يحب اإلدبار لغيره ويبخل بنعمة هللا على عباده ،فإذا
ُو صف له حسن حال عبد من عباد هللا شق ذلك عليه ،وإذا وصف له أمرسوء
وتنغيص عيش الناس فرح بذلك والعياذ باهلل.
قال بعض العلماء :البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح الذي يبخل بمال غيره.
سبحان هللا كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه.
العنصر الرابع :أضرارالحسد علي الفرد والمجتمع-:
أضرار تعود على الحاسد-:
الحاسد قد يشعر وقد ال يشعر أنه أول المتضررين بلفح نار حسده ،فالحسد نار
متأججة تحرق أول ما تحرق مذكيها ومشعلها .وقد قالوا :هلل در الحسد ما أعدله
بدأ بصاحبه فقتله.
وقال معاوية رضي هللا عنه" :ليس من خصال الشر أعدل من الحسد ،يقتل
الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود".
فيصل الى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل الى المحسود شئ-:
أولها :غم ال ينقطع.
ثانيها :مصيبة ال يؤجر عليه.
ثالثها :مذمـة اليحمد بها.
رابعها :سخط الرب
خامسها :عدم التوفيق يوم ال ينفع مال وال بنون إال من أتى هللا بقلب سليم.
والحاسد عدو نعمة هللا ،قال بعض الحكماء :بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أوال :أنه ابغض كل نعمة ظهرت على غيره
ثانيا :أنه ساخط لقسمة ربه ،كأنه يقول ربي لما قسمت هذه القسمة.
ثالثا :أنه َض اَّد هللا بفعله أي أن فضل هللا يؤتيه من يشاء وهو يبخل بفضل هللا تبارك
وتعالى
رابعا :أنه خذل أولياء هللا أو يريد خذالنهم وزوال النعمة عنهم وهذا من الخذالن.
خامسا :أنه أعان عدوه إبليس.
وقيل :الحاسد ال ينال في المجالس إال ندامًة وال ينال عند المالئكة إال لعنة وبغضاًء
وال ينال في الخلوة إال جزعًا وغما وال ينال في االخرة إال حزنا واحتراقًا وال ينال من
هللا إال بعدا ومقًت ا ،،روي عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال ( :ثالثة ال يستجيب هللا
دعائهم ،آكل الحرام ،ومخبر الغيبة ومن كان في قلبه غٌل أو حسٌد للمسلمين).
والحسد ينافي اإليمان -:ألن اإليمان يأمر صاحبه بالتسليم ألفعال هللا .فلو حسد
العالم أو العابد أو الصالح فإن ذلك يدل على ضعف إيمانه؛ ولهذا قال رسول هللا
صلى هللا عليه و سلم( :ال يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل هللا وفيح
جهنم وال يجتمع في جوف عبد اإليمان والحسد).
و يقول رسول هللا صَّلى هللا عليه وسَّلم (الحسُد يأكُل الحسناِت ،كما تأكل الَّناُر
الحطب)[رواه البخاري].
وقال عبدهللا ابن مسعود( :ال تعادوا نعم هللا .قيل له ومن يعادي نعم هللا ،قال:
الذين يحسدون الناس على ماآتاهم هللا من فضله يقول هللا تعالى في بعض
الكتب( :الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راٍض بقسمتي.).....
وهذا النوع من الحسد أعمها وأخبثها؛ إذ ليس لصاحبه راحة ،وال لرضاه غاية.
قال بعض األدباء " :ما رأيت ظالمًـا أشبه بمظلوم من الحسودَ ،نَف ٌس دائم ،وَه ٌّم
الزم ،وقلٌب هائم " .والحاسد مسيء لألدب مع هللا سبحانه وتعالى.
قال الشاعر:
أيا حاسًد ا لي على نعمتي
أتدري على َمْن أسأت
األدْب ؟
أسأت على اهلل في ُح كمه
ألنك لم ترَض لي ما وهْب
فأخزاك ربي بأن زادني
وَس َّد عليك وجوه الطلب
وقال تعالى في ذم الحاسدين وإستنكار لفعلهم (أم يحسدون الناس على ماآتاهم
هللا من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).
وانظر إلي ما فعله إخوة يوسف بيوسف ،حين أظهروا ما في قلوبهم من الحقد
والحسد ،قال تعالى مخبرا عنهم( :ليوسف وأخوه أحب الى أبينا منا ونحن عصبة
إن أبانا لفي ضالل مبين اقتلوا يوسف أو إطرحوه أرضا يخلوا لكم وجه أبيكم وتكونوا
من بعده قوما صالحين) يوسف فكان ثمرة ذلك تفكك األسرة وتغرب يوسف عدد
سنين وذلك كله بسبب الحسد والحقد.
-2إشاعة الجريمة-:
الحسد معصية عظيمة ،وأَّول ذنٍب ُع ِص َي به ُهللا في السماء ،وأَّول ذنٍب ُع ِص َي ُهللا
به في األرض.
وأَّم ا ما كان في السماء ،فهو ِع صيان إبليَس أمَر رِّبه أن َيسُج د آلَد م ،لقد كان دافَع ه
الحسُد إلْك رام هللا له؛ قال تعالىَ ﴿ :فِإَذا َس َّوْي ُت ُه َو َنَفْخ ُت ِفيِه ِم ن ُّروِح ي َف َق ُع وا َلُه
َس اِجِد يَن ﴾ [الحجر ،]29 :وسجد المالئكُة ألمر ربهم ،وأبى إبليس.
ولَّم ا ُس ِئَل عن سبب ذلك أجابَ ﴿ :خ َلْق َت ِني ِم ن َّناٍر َوَخ َلْق َتُه ِم ن ِط يٍن ﴾ [األعراف:
،]12وكفر إبليس وُطِرَد من السماء ،وخِس ر خسراًنا مبيًن ا بسبب تلك اآلفة القاتلة.
وأَّم ا ما كان في األرض ،فَق ْت ُل قابيل ألخيه هابيل ،لقد قَّد م كٌّل منُه ما ُقرباًنا إلى
هللا ،فُق ِبَل قرباُن هابيل ،ولم ُيْقبل قربان قابيل ،وقتل قابيُل أخاه هابيل ،وعجز عن
مواراة جَّثته ،إلى أن أرسل هللا له ُغ رابْي ِن فاْق َتَت ال ،وحفر القاتُل حفرًة ،ودَف ن اآلَخ َر
القتيَل ،فحذا قابيُل حذَو ه ،ووارى أخاه الُّتراب.
لقد كان الحسد هو الدافَع وراَء أَّول جريمٍة على األرض ،على ما ساقه هللا من
فضل وإكرام لعبده ،الذي قَّرب إليه قرباًنا فتقَّبله منه ،إشارًة إلى رضاه عنه،
فحسده أخوُه على ذلك الفضل.
لقد ُقتل عثمان رضي هللا عنه حسدا ،،قال أبو قتادة ما قتلوا عثمان االحسدا أي
حسدوه على الخالفة فأحبوا أن يزيلوها عنه.
قال تعالى ُيَق ِّرر حقيقَة ِع ْلِم هم بنبَّوة ُم حمد -صلى هللا عليه وسلم -وَنْف ي اِّد عائهم
بأَّنهم ال يعلمون شيًئ ا من ذلك ،بقوٍل قاطع ال يقدر أحٌد على دحضه ﴿ اَّلِذ يَن
آَتْيَناُه ُم اْلِكَت اَب َيْع ِرُفوَنُه َكَم ا َيْع ِرُفوَن َأْبَناَءُهْم َو ِإَّن َف ِريًق ا ِم ْن ُه ْم َلَيْك ُتُم وَن اْلَحَّق َوُهْم
َيْع َلُم وَن ﴾ [البقرة ،]146 :وقالَ ﴿ :وَّد َك ِثيٌر ِّم ْن َأْه ِل الِكَت اِب َلْو َيُر ُّدوَنُكم ِّم ْن َبْع ِد
ِإيَم اِنُك ْم ُك َّف ارًا َحَس دًّا ِّم ْن ِع نِد َأنُف ِس ِه م ِّم ْن َبْع ِد َم ا َتَبَّيَن َلُه ُم الَح ُّق ﴾ [البقرة.]109 :
لقد كان اليهود يعلمون أن محمدًا عليه الصالة والسالم نبي هللا حقًا ،لكن حينما
جاء من غيرهم -أي :من العرب -كفروا به بغيًا وحسدًا.
-2ما رواه النسائي وابن ماجة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل
فقال لم أر كاليوم وال جلد مخبأة ،فما لبث أن لبط به فأتي به رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم فقيل له :أدرك سهال صريعا فقال :من تتهمون؟ قالوا عامر بن ربيعة،
فقال النبي صلى هللا عليه وسلم( :عالم يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من
أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة) ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه
ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخله إزاره وأمره أن يصب عليه وفي لفظ يكفأ اإلناء
من خلفه.
-3كان هناك رجل وكان له جار لديه ماال كثيرا فحسده على ما وهبه هللا من ذلك
المال ،ففكر كيف يزول هذا المال؟؟ فذهب إلى رجل حاسد صاحب عين فطلب
منه رؤية مال جاره ليتسبب في زواله ،فقال له انظر إلى مال جاري هذا يمْال هذه
األودية ،ولحسن الحظ كان بصره ضعيف ،فقال الرجل العائن لذلك الرجل أولك من
قوة النظر ما ترى به هذه األنعام في هذه األودية؟؟ فأصيب بالعمى.
قيل( :هلل در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله)
العنصر السادس :عالج الحسد -:ذكر اإلمام ابن ابن القيم -رحمه هللا تعالى في
عالج الحسد أمور منها:
-1التعوذ باهلل من شره ،والتحصن به واللجوء إليه -:ولَّم ا كان الحسد سلوًكا ،له
آثاُر ه الضاَّرة على المؤمن ،فقد أَم َر الحُّق عباَد ه أن يعوذوا به من شِّر هذه اآلفة
القاتلة؛ قال تعالىُ ﴿ :ق ْل َأُع وُذ ِبَرِّب الَف َلِق * ِم ن َش ِّر َم ا َخ َلَق * َو ِم ن َش ِّر َغ اِس ٍق ِإَذا
َو َقَب * َو ِم ن َش ِّر الَّنَّف اَثاِت ِفي الُع َقِد * َو ِم ن َش ِّر َح اِسٍد ِإَذا َحَس َد ﴾ [الفلق.]5 - 1 :
-2تقوى هللا تعالى ،وحفظه عند أمره ونهيه فمن أتقى هللا تعالى توَّلى هللا عز
وجل حفظه ،ولم يِكْله إلى غيره.
-3الصبر على عدوه ،وأال يقاتله وال يشكوه ،وال يحّد ث نفسه بأذاه أصاًل فما ُنِص َر
على حاسده وعُد ِّوه بمثل الصبر عليه قال الشاعر:
اصبر على حسد
الحسود
فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
-4التوكل على هللا -:فمن توكل على هللا فهو حسُبه ،والتوُّكل من أقوى األسباب
التي يدفع بها العبد ما ال ُيطيق من أذى الخلق وظلمهم وُع دوانهم.
والرضا بقضاء هللا وقدره خيره وشره وحلوه وُم ّره ،على النفس أو على غيرها.
قال هللا تعالىَ ﴿ :م ا َأَص اَب ِم ن ُّمِص يَبٍة ِإاَّل ِبِإْذِن الَّلِه َوَم ن ُيْؤِم ن ِبالَّلِه َيْه ِد َقْلَبُه َو الَّلُه
ِبُك ِّل َش ْي ٍء َع ِليٌم ﴾ [التغابن.]11
وهو من أقوى األسباب في ذلك ،فإن هللا تعالى حسُبُه ،أي كافيه ،ومن كان هللا
عز وجل كافيه وواقيه فال مطمع فيه لعدّوه.
-5فراُغ القلب من االشتغال به والفكر فيه ،وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر
له .فال يلتفت إليه ،وال يخافه ،وال يمُأل قلبُه بالفكر فيه .وهذا من أنفع األدوية،
وأقوى األسباب المعينة على اندفاع شره.
-6تجريد التوبة إلى هللا تعالى من الذنوب التي َس َّلَطْت عليه أعداءه.فإن هللا تعالى
يقولَ ﴿ :وَم ا َأَصاَبُك ْم ِم ْن ُم ِص يَبٍة َفِبَم ا َكَس َبْت َأْي ِد يُك ْم ﴾ [الشوري.]30 :
-7الصدقة واإلحساُن ما أمكنه ،فإن لذلك تأثيًر ا عجيبًـا في دفع البالء ،ودفع العين،
وشر الحاسد ،ولو لم يكن في هذا إال بتجارب األمم قديمًـا وحديثًـا لُكفي به.
فما َح َر َس العبُد نعمة هللا عليه بمثل ُش كرها ،وال عَّرضها للَّزوال بمثل العمل فيها
بمعاصي هللا تعالى ،وهو ُكفراُن النعمة ،وهو باٌب إلى كفران الُم ْن ِع ِم .
-8وهو من أصعب األسباب على النفس ،وأشقها عليها ،وال ُيوَّفق له إال من عُظم
حُّظُه من هللا تعالى ،وهو إطفاُء نار الحاسد والباغي والمؤذي باإلحسان إليه،
فكلما ازداد أذى وشًر ا وبغيًـا وحسًد ا ازدْد ت إليه إحسانًـا ،وله نصيحة ،وعليه
شفقًة .
يقول هللا تعالى ﴿ َو ال َتْس َت ِوي اْلَحَس َن ُة َو ال الَّس ِّيَئ ُة اْد َف ْع ِباَّلِتي ِه َي َأْح َس ُن َفِإَذا
اَّلِذ ي َبْيَنَك َوَبْيَنُه َع َد اَوٌة َكَأَّنُه َوِلٌّي َح ِم يٌم * َوَم ا ُيَلَّق اَه ا ِإاَّل اَّلِذ يَن َص َبُر وا َوَم ا ُيَلَّق اَه ا ِإَّال
ُذ و َح ٍّظ َع ِظ يٍم * َو ِإَّم ا َيْنَز َغ َّنَك ِم َن الَّش ْي َطاِن َنْز ٌغ َفاْس َت ِعْذ ِبالَّلِه ِإَّنُه ُهَو الَّس ِم يُع
اْلَع ِليُم ) ﴾ [فصلت.]36 - 34
-9وهو الجامع لذلك كله ،وعليه مداُر هذه األسباب ،وهو تجريُد التوحيد ،والَّتَرُّح ُل
بالفكر في األسباب إلى المسبب العزيز الحكيم ،والعلُم بأن هذه اآلالت بمنزلة
حركات الرياح ،وهي بيد ُم حركها ،وفاطرها وبارئها ،وال تضُّر وال تنفُع إال بإذنه ،فهو
الذي ُيحسُن عبُد ُه بها ،وهو الذي يصرفها عنه وحدُه ال أحد سواه ،قال تعالى:
﴿ َو ِإْن َيْمَس ْس َك الَّلُه ِبُض ٍّر َف ال َكاِش َف َلُه ِإَّال ُهَو َو ِإْن ُيِرْدَك ِبَخ ْي ٍر َف ال َر اَّد ِلَف ْضِلِه ﴾
[يونس .]107انتهي كالم ابن القيم.
-10إخفاء بعض النعم التي تخاف عليها من الحسد قال هللا تعالى عن سيدنا
يعقوب عليه السالمَ ﴿ :يا َبِنَّي َال َتْد ُخ ُلوْا ِم ن َباٍب َو اِحٍد َو اْدُخ ُلوْا ِم ْن َأْبَو اٍب ُّم َت َف ِّرَقٍة َوَم ا
ُأْغ ِني َع نُكم ِّم َن الّلِه ِم ن َش ْي ٍء ِإِن اْلُح ْك ُم ِإَّال ِلّلِه َع َلْي ِه َتَو َّكْلُت َو َع َلْي ِه َفْلَيَتَو َّكِل
اْلُم َتَو ِّكُلوَن ﴾ [يوسف.]67
وروى الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب اإليمان عن معاذ بن جبل بلفظ قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان لها ،فإن
كل ذي نعمة محسود)( .صححه األلباني في السلسلة وصحيح الجامع).
و أخيرا إذا ابتليت بنظرة حاسد فعليك بالعالج بالرقية الشرعية وإياك واللجوء إلى
الكهنة والعرافين والدجالين( كاإلعتقاد في الخرز األزرق ،أو تعليق التمائم
الشركية ،أو تعليق األحذية في السيارة أو البيت بزعم دفع الحسد ،وغير ذلك من
األمور ،واجعل ناصيتك بيد هللا ورجائك في الشفاء من ربك دون سواه وعليك بما
ورد في شرعه واألخذ باألسباب بمراجعة الرقى الشرعية المأخوذه من كتاب هللا
عز وجل ،وسنة نبيه صلى هللا عليه وسلم المختصرة في بعض الكتب المتخصصة
في هذا المجال.
أما سنة نبينا النبي صلى هللا عليه وسلم فمنها قوله( :ال رقية إال من عين أو
حمة) وقد كان جبريل يرقي النبي صلى هللا عليه وسلم فيقول( :باسم هللا أرقيك
من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد ،هللا يشفيك ،باسم هللا
أرقيك) - .رقية جبريل للنبي صلى هللا عليه وسلم (بسم هللا أرقيك من كل داء
يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد هللا يشفيك ،باسم هللا أرقيك وهللا يشفيك)
مسلم.
♦ تعويذ الرسول صلى هللا عليه وسلم للحسن والحسين بقوله (أعيذ كما بكلمات
هللا التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين المة)البخاري.
♦ وورد أمره لعثمان بن أبي العاص رضي هللا عنه عندما شكى له وجعا يجده في
جسده منذ أسلم فقال لهصلى هللا عليه وسلم( :ضع يدك على الذي يألم من
جسدك وقل( :بسم هللا ثالث مرات)( :أعوذ بعزة هللا وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)
أخرجه مسلم.
♦ للمريض أن يقرأ على نفسه الفاتحة وقل هو هللا أحد والمعوذتين وينفث في يده
ويمسح بها وجهه وما استطاع من جسده .الوقاية من الحسد قبل وقوعه-:
♦ التحصن باألذكار (الفاتحة -آية الكرسي -المعوذات وبعض األذكار الواردة خالل
اليوم من سنة المصطفى صلى هللا عليه وسلم.
♦ ورد عن المصطفى صلى هللا عليه وسلم أنه قال ( :من رأى شيئا فأعجبه فقال
ما شاء هللا ال قوة إال باهلل لم يضره ).
♦ وللوقاية من حسد الجن وعورات بني آدم فقد روي عن انس ان النبي صلى هللا
عليه وسلم قال (ستر مابين أعين الجن وعورات بني آدم أن يقول الرجل المسلم
إذا أراد أن يطرح ثيابه ( :باسم هللا الذي ال إله إال هو) رواه ابن السني.
♦ و قال صلى هللا عليه وسلم( :ستر مابين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل
أحدهم الخالء أن يقول باسم هللا) رواه أحمد
الخاتمة-:
أيها المسلمون -:علينا أن يقوي إيمانه باهلل تعالى وقضائه وقدره ،ويرضى بما قسم
هللا له ،ويكثر من الطاعات والقربات .ويلجأ إلى هللا تعالى بالدعاء والتضرع بين
يديه؛ ليزيل عنه هذا الداء.
وعلينا أيضًا :أن يفكر في نتائج الحسد وعواقبه الوخيمة؛ فاإلنسان العاقل ال يقدم
على ما يجلب له التعب والضرر.
وعلىنا أن ينظر بعين التأمل إلى ما أعطاه هللا تعالى من النعم؛ فإنه لو نظر جيدًا
سيجد أن لديه نعمًا كثيرة قد ال توجد عند غيره .فقد يحسد فقير غنيًا وال يدري
ذلك الفقير أنه أحسن منه صحة وأتم عافية وهدوء بال.
وقد يحسد إنسان ليست له وظيفة مرموقة أو مسؤولية عالية من نالها في
المجتمع ،وال يعرف ذلك الحاسد أنه في أمن واطمئنان وسرور وانشراح صدر أفضل
من ذلك المسؤول أو الموظف الكبير .فيا عباد هللا ،من أراد سالمة الدين ،وصحة
البدن ،والنجاح في الحياة فال يسلك مسلك الحسد ،وليرحم نفسه؛ فإن الحاسد
مصاب ال يجد أحدًا يرحمه .وليكن حال اإلنسان كما قال الشاعر-:
وإني امرؤ ال أحسد الناس
نعمة
إذا نالها قبلي من الناس نائُل
أأحسد فضل اهلل أْن ناله امرؤ
سواي وعندي لإلله فضائل
نسأل هللا تعالى أن يقينا شر األشرار ،وكيد الفجار ،وشر طوارق الليل والنهار،
ونعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.
https://www.alukah.net/sharia/0/93764/#ixzz6FrzvoK7S :رابط الموضوع