Professional Documents
Culture Documents
ﺗﺄﻟﻴﻒ
ﺟﱪان ﺧﻠﻴﻞ ﺟﱪان
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﺟﱪان ﺧﻠﻴﻞ ﺟﱪان
ﱠ
إن ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻏري ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ آراء املﺆﻟﻒ وأﻓﻜﺎره ،وإﻧﻤﺎ ﱢ
ﻳﻌﱪ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻦ آراء ﻣﺆﻟﻔﻪ.
ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮق اﻟﻨﴩ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺘﺼﻤﻴﻢ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب وﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف ُﻣ َﺮ ﱠﺧﺼﺔ ﺑﻤﻮﺟﺐ رﺧﺼﺔ
املﺸﺎع اﻹﺑﺪاﻋﻲ :ﻧ َ ْﺴﺐُ ا ُملﺼﻨﱠﻒ ،اﻹﺻﺪار .٤٫٠ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮق اﻟﻨﴩ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻨﺺ اﻟﻌﻤﻞ
اﻷﺻﲇ ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻟﻠﻤﻠﻜﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ.
اﳌﺤﺘﻮﻳﺎت
7 إﻫﺪاء
9 ﺗﻮﻃﺌﺔ
11 اﻟﻜﺂﺑﺔ اﻟﺨﺮﺳﺎء
13 ﻳﺪ اﻟﻘﻀﺎء
17 ﰲ ﺑﺎب اﻟﻬﻴﻜﻞ
21 اﻟﺸﻌﻠﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء
23 اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ
31 ﺑﺤرية اﻟﻨﺎر
41 أﻣﺎم ﻋﺮش املﻮت
51 ﺑني ﻋﺸﱰوت واملﺴﻴﺢ
55 اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ
61 املﻨﻘﺬ
إﻫﺪاء
إﱃ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪق إﱃ اﻟﺸﻤﺲ ﺑﺄﺟﻔﺎن ﺟﺎﻣﺪة ،وﺗﻘﺒﺾ ﻋﲆ اﻟﻨﺎر ﺑﺄﺻﺎﺑﻊ ﻏري
ﻣﺮﺗﻌﺸﺔ ،وﺗﺴﻤﻊ ﻧﻐﻤﺔ اﻟﺮوح »اﻟﻜﲇ« ﻣﻦ وراء ﺿﺠﻴﺞ اﻟﻌﻤﻴﺎن وﴏاﺧﻬﻢ .إﱃ
M. E. Hأرﻓﻊ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب.
ﺟﱪان
ﺗﻮﻃﺌﺔ
ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺄﺷﻌﺘﻪ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ ،وملﺲ ﻧﻔﴘ ﻷول ﻣﺮة ﱠ ﻛﻨﺖ ﰲ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻋﴩة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻓﺘﺢ اﻟﺤﺐّ
ﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻪ اﻟﻨﺎرﻳﺔ .وﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ املﺮأة اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ أﻳﻘﻈﺖ روﺣﻲ ﺑﻤﺤﺎﺳﻨﻬﺎ ،وﻣﺸﺖ
أﻣﺎﻣﻲ إﱃ ﺟﻨﺔ اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ ،ﺣﻴﺚ ﺗﻤﺮ اﻷﻳﺎم ﻛﺎﻷﺣﻼم وﺗﻨﻘﴤ اﻟﻠﻴﺎﱄ ﻛﺎﻷﻋﺮاس.
ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻫﻲ ﻋﻠﻤﺘﻨﻲ ﻋﺒﺎدة اﻟﺠﻤﺎل ﺑﺠﻤﺎﻟﻬﺎ ،وأ َ َرﺗْﻨﻲ ﺧﻔﺎﻳﺎ اﻟﺤﺐ ﺑﺎﻧﻌﻄﺎﻓﻬﺎ،
وﻫﻲ اﻟﺘﻲ أﻧﺸﺪت ﻋﲆ ﻣﺴﻤﻌﻲ أول ﺑﻴﺖ ﻣﻦ ﻗﺼﻴﺪة اﻟﺤﻴﺎة املﻌﻨﻮﻳﺔ.
أيّ ﻓﺘﻰ ﻻ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﺼﺒﻴﱠﺔ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ أﺑﺪﻟﺖ ﻏﻔﻠﺔ ﺷﺒﻴﺒﺘﻪ ﺑﻴﻘﻈﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﺑﻠﻄﻔﻬﺎ ،ﺟﺎرﺣﺔ
ﺑﻌﺬوﺑﺘﻬﺎ ،ﻓﺘﱠﺎﻛﺔ ﺑﺤﻼوﺗﻬﺎ؟ ﻣﻦ ﻣﻨﱠﺎ ﻻ ﻳﺬوب ﺣﻨﻴﻨًﺎ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ إذا
ﻄﻨﺖ اﻧﺘﺒﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺠﺄة رأى ُﻛ ﱢﻠﻴﱠﺘَﻪ ﻗﺪ اﻧﻘﻠﺒﺖ وﺗﺤﻮﻟﺖ ،وأﻋﻤﺎﻗﻪ ﻗﺪ اﺗّﺴﻌﺖ واﻧﺒﺴﻄﺖ وﺗﺒ ﱠ
ﺑﺎﻧﻔﻌﺎﻻت ﻟﺬﻳﺬة ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮارة اﻟ ِﻜﺘْﻤﺎن ،ﻣﺴﺘﺤﺒﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻜﺘﻨﻔﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﻣﻮع
واﻟﺸﻮق ﱡ
واﻟﺴﻬﺎد؟
ﻟﻜﻞ ﻓﺘﻰ ﺳﻠﻤﻰ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﲆ ﺣني ﻏﻔﻠﺔ ﰲ رﺑﻴﻊ ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﺗﺠﻌﻞ ﻻﻧﻔﺮاده ﻣﻌﻨًﻰ ﺷﻌﺮﻳٍّﺎ،
َ
وﺳﻜﻴﻨﺔ ﻟﻴﺎﻟﻴﻪ ﺑﺎﻷﻧﻐﺎم. وﺗُﺒﺪّل وﺣﺸﺔ أﻳﺎﻣﻪ ﺑﺎﻷﻧﺲ،
ﻛﻨﺖ ﺣﺎﺋ ًﺮا ﺑني ﺗﺄﺛريات اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻣﻮﺣﻴﺎت اﻟﻜﺘﺐ واﻷﺳﻔﺎر ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ اﻟﺤﺐﱠ
ﻳﻬﻤﺲ ﺑﺸﻔﺘﻲ ﺳﻠﻤﻰ ﰲ آذان ﻧﻔﴘ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣ ُْﻘﻔِ ﺮة ﺑﺎردة ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺴﺒﺎت
آدم ﰲ اﻟﻔﺮدوس ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﻨﺘﺼﺒﺔ أﻣﺎﻣﻲ ﻛﻌﻤﻮد اﻟﻨﻮر .ﻓﺴﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻫﻲ ﺣﻮاء
ﻫﺬا اﻟﻘﻠﺐ املﻤﻠﻮء ﺑﺎﻷﴎار واﻟﻌﺠﺎﺋﺐ ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ أﻓﻬﻤﺘﻪ ُﻛﻨ ْ َﻪ ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻮد ،وأوﻗﻔﺘﻪ ﻛﺎملﺮآة
أﻣﺎم ﻫﺬه اﻷﺷﺒﺎح .ﺣﻮّاء اﻷوﱃ أﺧﺮﺟﺖ آدم ﻣﻦ اﻟﻔﺮدوس ﺑﺈرادﺗﻬﺎ واﻧﻘﻴﺎده ،أﻣﺎ ﺳﻠﻤﻰ
ﻛﺮاﻣﺔ ﻓﺄدﺧﻠﺘْﻨﻲ إﱃ ﺟﻨﺔ اﻟﺤﺐ واﻟﻄﻬﺮ ﺑﺤﻼوﺗﻬﺎ واﺳﺘﻌﺪادي ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ أﺻﺎب اﻹﻧﺴﺎن
اﻷوّل ﻗﺪ أﺻﺎﺑﻨﻲ ،واﻟﺴﻴﻒ اﻟﻨﺎريّ اﻟﺬي ﻃﺮده ﻣﻦ اﻟﻔﺮدوس ﻫﻮ ﻛﺎﻟﺴﻴﻒ اﻟﺬي أﺧﺎﻓﻨﻲ
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
وﺻﻴﺔ ،وﻗﺒﻞ أن أذوق ﻃﻌﻢ ً ﻛﺮﻫﺎ ﻋﻦ ﺟﻨﺔ املﺤﺒﺔ ﻗﺒﻞ أن أﺧﺎﻟﻒ ﺑﻠﻤﻌﺎن ﺣﺪﱢه ،وأﺑﻌﺪﻧﻲ ً
ﺛﻤﺎر اﻟﺨري واﻟﴩ.
ﻳﺒﻖ ﱄ ﻣﻦواﻟﻴﻮم ،وﻗﺪ ﻣﺮت اﻷﻋﻮام املﻈﻠﻤﺔ ﻃﺎﻣﺴﺔ ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﺎ رﺳﻮم ﺗﻠﻚ اﻷﻳّﺎم ،ﻟﻢ َ
ذﻟﻚ اﻟﺤﻠﻢ اﻟﺠﻤﻴﻞ ﺳﻮى ﺗﺬﻛﺎرات ﻣﻮﺟﻌﺔ ﺗﺮﻓﺮف ﻛﺎﻷﺟﻨﺤﺔ ﻏري املﻨﻈﻮرة ﺣﻮل رأﳼ،
ﻣﺜرية ﺗﻨﻬﺪات اﻷﳻ ﰲ أﻋﻤﺎق ﺻﺪري ،ﻣﺴﺘﻘﻄﺮة دﻣﻮع اﻟﻴﺄس واﻷﺳﻒ ﻣﻦ أﺟﻔﺎﻧﻲ …
وﺳﻠﻤﻰ؛ ﺳﻠﻤﻰ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ اﻟﻌﺬﺑﺔ ،ﻗﺪ ذﻫﺒﺖ إﱃ ﻣﺎ وراء اﻟﺸﻔﻖ اﻷزرق ،وﻟﻢ َ
ﻳﺒﻖ ﻣﻦ آﺛﺎرﻫﺎ
ﻏﺼﺎت أﻟﻴﻤﺔ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ ،وﻗﱪ رﺧﺎﻣﻲ ﻣﻨﺘﺼﺐ ﰲ ﻇﻼل أﺷﺠﺎر اﻟﴪو. ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺳﻮى ّ
ﻓﺬﻟﻚ اﻟﻘﱪ وﻫﺬا اﻟﻘﻠﺐ ﻫﻤﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻟﻴﺤﺪﱢث اﻟﻮﺟﻮد ﻋﻦ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ،ﻏري أن اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ
ﺼﻮن اﻟﺬي أﺧﻔﺘﻪ اﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﻇﻠﻤﺎت اﻟﺘﺎﺑﻮت، اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻔﺮ اﻟﻘﺒﻮر ﻻ ﺗﻔﴚ ذﻟﻚ اﻟﴪ ا َمل ُ
ﻏﺼﺎت ﻫﺬا اﻣﺘﺼﺖ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺠﺴﺪ ﻻ ﺗﺒﻴﺢ ﺑﺤﻔﻴﻔﻬﺎ ﻣﻜﻨﻮﻧﺎت اﻟﺤﻔﺮة .أﻣﺎ ّ ّ واﻷﻏﺼﺎن اﻟﺘﻲ
اﻟﻘﻠﺐ وأوﺟﺎﻋﻪ ﻓﻬﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻠﻢ وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺴﻜﺐ اﻵن ﻣﻊ ﻗﻄﺮات اﻟﺤﱪ اﻟﺴﻮداء ﻣﻌﻠﻨﺔ
ﻟﻠﻨﻮر أﺷﺒﺎح ﺗﻠﻚ املﺄﺳﺎة اﻟﺘﻲ ﻣﺜﱠﻠﻬﺎ اﻟﺤﺐ واﻟﺠﻤﺎل واملﻮت.
ﻓﻴﺎ أﺻﺪﻗﺎء ﺷﺒﻴﺒﺘﻲ املﻨﺘﴩﻳﻦ ﰲ ﺑريوت ،إذا ﻣﺮرﺗﻢ ﺑﺘﻠﻚ املﻘﱪة اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ ﻏﺎﺑﺔ
اﻟﺼﻨﻮﺑﺮ ﻓﺎدﺧﻠﻮﻫﺎ ﺻﺎﻣﺘني ،وﺳريوا ﺑﺒﻂء ﻛﻴﻼ ﺗﺰﻋﺞ أﻗﺪاﻣُﻜﻢ رﻓﺎت اﻟﺮاﻗﺪﻳﻦ ﺗﺤﺖ
أﻃﺒﺎق اﻟﺜﺮى ،وﻗﻔﻮا ﻣﺘﻬﻴﱢﺒني ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻗﱪ ﺳﻠﻤﻰ وﺣﻴﱡﻮا ﻋﻨﻲ اﻟﱰاب اﻟﺬي ﺿﻢ ﺟﺜﻤﺎﻧﻬﺎ.
ﺛﻢ اذﻛﺮوﻧﻲ ﺑﺘﻨﻬﺪة ﻗﺎﺋﻠني ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻜﻢ :ﻫﻬﻨﺎ دُﻓﻨﺖ آﻣﺎل ذﻟﻚ اﻟﻔﺘﻰ اﻟﺬي ﻧﻔﺘْﻪ ﴏوف
واﺿﻤﺤ ﱠﻠﺖ
اﻟﺪﻫﺮ إﱃ ﻣﺎ وراء اﻟﺒﺤﺎر ،وﻫﻬﻨﺎ ﺗﻮارت أﻣﺎﻧﻴﻪ ،واﻧﺰوت أﻓﺮاﺣﻪ ،وﻏﺎرت دﻣﻮﻋﻪْ ،
واﻟﺼﻔﺼﺎف ،وﻓﻮق ّ اﻟﴪو اﺑﺘﺴﺎﻣﺎﺗﻪ ،وﺑني ﻫﺬه املﺪاﻓﻦ اﻟﺨﺮﺳﺎء ﺗﻨﻤﻮ ﻛﺂﺑﺘﻪ ﻣﻊ أﺷﺠﺎر ﱠ ْ
ﻫﺬا اﻟﻘﱪ ﺗﺮﻓﺮف روﺣﻪ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﺴﺘﺄﻧﺴﺔ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮى ،ﻣﺮدﱢدة ﻣﻊ أﺷﺒﺎح اﻟﻮﺣﺸﺔ ﻧﺪﺑﺎت
اﻟﺤﺰن واﻷﳻ ،ﻧﺎﺋﺤﺔ ﻣﻊ اﻟﻐﺼﻮن ﻋﲆ ﺻﺒﻴّﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻧﻐﻤﺔ ﺷﺠﻴﺔ ﺑني ﺷﻔﺘﻲ اﻟﺤﻴﺎة،
ﴎا ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﰲ ﺻﺪر اﻷرض. ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ اﻟﻴﻮم ٍّ
ﻬﻦ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ أن ﺗﻀﻌﻮا أﻛﺎﻟﻴﻞ اﻷزﻫﺎر أﺳﺘﺤﻠﻔﻜﻢ ﻳﺎ رﻓﺎق اﻟﺼﺒﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺎء اﻟﻠﻮاﺗﻲ أﺣﺒﱠﺘْ ﱠ
ﻣﻨﴘ ﺗﻜﻮن ﻛﻘﻄﺮة اﻟﻨﺪى ﱟ ﻋﲆ ﻗﱪ املﺮأة اﻟﺘﻲ أَﺣﺒﱠﻬﺎ ﻗﻠﺒﻲ؛ ﻓﺮبﱠ زﻫﺮة ﺗُﻠﻘﻮﻧﻬﺎ ﻋﲆ ﴐﻳﺢ
اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻜﺒﻬﺎ أﺟﻔﺎن اﻟﺼﺒﺎح ﺑني أوراق اﻟﻮردة اﻟﺬاﺑﻠﺔ.
10
اﻟﻜﺂﺑﺔ اﳋﺮﺳﺎء
أﻧﺘﻢ أﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺗﺬﻛﺮون ﻓﺠﺮ اﻟﺸﺒﻴﺒﺔ ﻓﺮﺣني ﺑﺎﺳﱰﺟﺎع رﺳﻮﻣﻪ ،ﻣﺘﺄﺳﻔني ﻋﲆ اﻧﻘﻀﺎﺋﻪ،
َ
ﺟﺪران ﺳﺠﻨﻪ وﺛﻘﻞ ﻗﻴﻮده .أﻧﺘﻢ ﺗﺪْﻋﻮن ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻨني أﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﺄذﻛﺮه ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﺤﺮ ا ُملﻌْ ﺘَﻖ
اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻲء ﺑني اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ واﻟﺸﺒﺎب ﻋﻬﺪًا ذﻫﺒﻴٍّﺎ ﻳﻬﺰأ ﺑﻤﺘﺎﻋﺐ اﻟﺪﻫﺮ وﻫﻮاﺟﺴﻪ ،وﻳﻄري
ﻣﺮﻓﺮﻓﺎ ﻓﻮق رؤوس املﺸﺎﻋﻞ واﻟﻬﻤﻮم ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺠﺘﺎز اﻟﻨﺤﻠﺔ ﻓﻮق املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ ﺳﺎﺋﺮة ً
ﻧﺤﻮ اﻟﺒﺴﺎﺗني املﺰﻫﺮة ،أﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﻼ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أدﻋﻮ ِﺳﻨِﻲ اﻟﺼﺒﺎ ﺳﻮى ﻋﻬﺪ آﻻم ﺧﻔﻴﺔ
ﺧﺮﺳﺎء ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻄﻦ ﻗﻠﺒﻲ وﺗﺜﻮر ﻛﺎﻟﻌﻮاﺻﻒ ﰲ ﺟﻮاﻧﺒﻪ ،وﺗﺘﻜﺎﺛﺮ ﻧﺎﻣﻴﺔ ﺑﻨﻤﻮﱢه ،وﻟﻢ ﺗﺠﺪ
ﻣﻨﻔﺬًا ﺗﻨﴫف ﻣﻨﻪ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ املﻌﺮﻓﺔ ﺣﺘﻰ دﺧﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﺤﺐ وﻓﺘﺢ أﺑﻮاﺑﻪ وأﻧﺎر زواﻳﺎه ،ﻓﺎﻟﺤﺐ
ُ
وﺷﻜﻮت. ُ
ﻓﺘﻨﻬﺪت ُ
ﻓﺒﻜﻴﺖ ،وﻓﺘﺢ ﺣﻨﺠﺮﺗﻲ ﻓﺘﻜﻠﻤﺖ ،وﻣ ﱠﺰق أﺟﻔﺎﻧﻲ ُ ﻗﺪ أﻋﺘﻖ ﻟﺴﺎﻧﻲ
أﻧﺘﻢ أﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺗﺬﻛﺮون اﻟﺤﻘﻮل واﻟﺒﺴﺎﺗني واﻟﺴﺎﺣﺎت وﺟﻮاﻧﺐ اﻟﺸﻮارع اﻟﺘﻲ رأت
أﻳﻀﺎ أذﻛﺮ اﻟﺒﻘﻌﺔ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﺷﻤﺎل ﻟﺒﻨﺎن ،ﻓﻤﺎ أﻟﻌﺎﺑﻜﻢ وﺳﻤﻌﺖ ﻫﻤﺲ ﻃﻬﺮﻛﻢ ،وأﻧﺎ ً
ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻦ ﻫﺬا املﺤﻴﻂ إﻻ رأﻳﺖ ﺗﻠﻚ اﻷودﻳﺔ املﻤﻠﻮءة ﺳﺤ ًﺮا وﻫﻴﺒﺔ ،وﺗﻠﻚ اﻟﺠﺒﺎل ﱠ أﻏﻤﻀﺖ
املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﺑﺎملﺠﺪ واﻟﻌﻈﻤﺔ ﻧﺤﻮ اﻟﻌﻼء ،وﻻ ﺻﻤَ ﻤْ ُﺖ أذﻧﻲ ﻋﻦ ﺿﺠﺔ ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع إﻻ ﺳﻤﻌﺖ
ﺧﺮﻳﺮ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻮاﻗﻲ وﺣﻔﻴﻒ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺼﻮن .وﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﺤﺎﺳﻦ — اﻟﺘﻲ أذﻛﺮﻫﺎ اﻵن
وأﺗﺸﻮق إﻟﻴﻬﺎ ﺗﺸﻮق اﻟﺮﺿﻴﻊ إﱃ ذراﻋﻲ أﻣﻪ — ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺬﱢب روﺣﻲ املﺴﺠﻮﻧﺔ
ﰲ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺘﻌﺬب اﻟﺒﺎزي ﺑني ﻗﻀﺒﺎن ﻗﻔﺼﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮى أﴎاب اﻟﺒﺰاة ﺗﺴﺒﺢ
ﺣﺮة ﰲ اﻟﺨﻼء اﻟﻮاﺳﻊ — وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﻸ ﺻﺪري ﺑﺄوﺟﺎع اﻟﺘﺄﻣﻞ وﻣﺮارة اﻟﺘﻔﻜري،
وﺗﻨﺴﺞ ﺑﺄﺻﺎﺑﻊ اﻟﺤرية واﻻﻟﺘﺒﺎس ﻧﻘﺎﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﻴﺄس واﻟﻘﻨﻮط ﺣﻮل ﻗﻠﺒﻲ ،ﻓﻠﻢ أذﻫﺐ إﱃ
ﺟﺎﻫﻼ أﺳﺒﺎب اﻟﻜﺂﺑﺔ ،وﻻ ﻧﻈﺮت ﻣﺴﺎءً إﱃ اﻟﻐﻴﻮم املﺘﻠﻮﱢﻧﺔ ﺑﺄﺷﻌﺔ ً اﻟﱪﻳﺔ إﻻ ﻋﺪت ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺌﻴﺒًﺎ
اﻟﺸﻤﺲ إﻻ ﺷﻌﺮت ﺑﺎﻧﻘﺒﺎض ﻣﺘﻠﻒ ﻳﻨﻤﻮ ﻟﺠﻬﲇ ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻻﻧﻘﺒﺎض ،وﻻ ﺳﻤﻌﺖ ﺗﻐﺮﻳﺪة
اﻟﺸﺤﺮور أو أﻏﻨﻴﺔ اﻟﻐﺪﻳﺮ إﻻ وﻗﻔﺖ ﺣﺰﻳﻨًﺎ ﻟﺠﻬﲇ ﻣﻮﺣﻴﺎت اﻟﺤﺰن.
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻳﻘﻮﻟﻮن إن اﻟﻐﺒﺎوة ﻣﻬﺪ اﻟﺨﻠﻮ واﻟﺨﻠﻮ ﻣﺮﻗﺪ اﻟﺮاﺣﺔ ،وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ذﻟﻚ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻋﻨﺪ
اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻮﻟﺪون أﻣﻮاﺗًﺎ وﻳﻌﻴﺸﻮن ﻛﺎﻷﺟﺴﺎد اﻟﻬﺎﻣﺪة اﻟﺒﺎردة ﻓﻮق اﻟﱰاب .وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎﻧﺖ
اﻟﻐﺒﺎوة اﻟﻌﻤﻴﺎء ﻗﺎﻃﻨﺔ ﰲ ﺟﻮار اﻟﻌﻮاﻃﻒ املﺴﺘﻴﻘﻈﺔ ﺗﻜﻮن اﻟﻐﺒﺎوة أﻗﴗ ﻣﻦ اﻟﻬﺎوﻳﺔ وأﻣ ﱠﺮ
ﻗﻠﻴﻼ ﻫﻮ أﺗﻌﺲ املﺨﻠﻮﻗﺎت أﻣﺎم ﻣﻦ املﻮت .واﻟﺼﺒﻲ اﻟﺤﺴﺎس اﻟﺬي ﻳﺸﻌﺮ ﻛﺜريًا وﻳﻌﺮف ً
وﺟﻪ اﻟﺸﻤﺲ؛ ﻷن ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻈﻞ واﻗﻔﺔ ﺑني ﻗﻮﺗني ﻫﺎﺋﻠﺘني ﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺘني :ﻗﻮة ﺧﻔﻴﻔﺔ ﺗﺤﻠﻖ ﺑﻪ
ﰲ اﻟﺴﺤﺎب وﺗﺮﻳﻪ ﻣﺤﺎﺳﻦ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻣﻦ وراء ﺿﺒﺎب اﻷﺣﻼم ،وﻗﻮة ﻇﺎﻫﺮة ﺗﻘﻴﺪه ﺑﺎﻷرض
ً
ﺧﺎﺋﻔﺎ ﰲ ﻇﻠﻤﺔ ﺣﺎﻟﻜﺔ. وﺗﻐﻤﺮ ﺑﺼريﺗﻪ ﺑﺎﻟﻐﺒﺎر ،وﺗﱰﻛﻪ ﺿﺎﺋﻌً ﺎ
ﻟﻠﻜﺂﺑﺔ أﻳ ٍﺪ ﺣﺮﻳﺮﻳﺔ املﻼﻣﺲ ﻗﻮﻳﺔ اﻷﻋﺼﺎب ،ﺗﻘﺒﺾ ﻋﲆ اﻟﻘﻠﻮب وﺗﺆملﻬﺎ ﺑﺎﻟﻮﺣﺪة،
ﻓﺎﻟﻮﺣﺪة ﺣﻠﻴﻔﺔ اﻟﻜﺂﺑﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ أﻟﻴﻔﺔ ﻛﻞ ﺣﺮﻛﺔ روﺣﻴﺔ .وﻧﻔﺲ اﻟﺼﺒﻲ املﻨﺘﺼﺒﺔ أﻣﺎم
ﻋﻮاﻣﻞ اﻟﻮﺣﺪة وﺗﺄﺛريات اﻟﻜﺂﺑﺔ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻟﺰﻧﺒﻘﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء ﻋﻨﺪ ﺧﺮوﺟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎم ،ﺗﺮﺗﻌﺶ
أﻣﺎم اﻟﻨﺴﻴﻢ ،وﺗﻔﺘﺢ ﻗﻠﺒﻬﺎ ﻷﺷﻌﺔ اﻟﻔﺠﺮ ،وﺗﻀﻢ أوراﻗﻬﺎ ﺑﻤﺮور أﺧﻴﻠﺔ املﺴﺎء ،ﻓﺈن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ
ﻟﻠﺼﺒﻲ ﻣﻦ املﻼﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﺸﻐﻞ ﻓﻜﺮﺗﻪ ،وﻣﻦ اﻟﺮﻓﺎق ﻣﻦ ﻳﺸﺎرﻛﻪ ﰲ املﻴﻮل ،ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻴﺎة أﻣﺎﻣﻪ
ﻛﺤﺒﺲ ﺿﻴﱢﻖ ﻻ ﻳﺮى ﰲ ﺟﻮاﻧﺒﻪ ﻏري أﻧﻮال اﻟﻌﻨﺎﻛﺐ ،وﻻ ﻳﺴﻤﻊ ﻣﻦ زواﻳﺎه ﺳﻮى دﺑﻴﺐ
اﻟﺤﴩات.
أﻣﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﻜﺂﺑﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﱠﺒﻌﺖ أﻳﺎم ﺣﺪاﺛﺘﻲ ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﺣﺎﺟﺘﻲ إﱃ املﻼﻫﻲ ﻷﻧﻬﺎ
ذﻫﺒﺖ ،ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﻦُ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﻮﻓﺮة ﻟﺪي ،وﻻ ﻋﻦ اﻓﺘﻘﺎري إﱃ اﻟﺮﻓﺎق ﻷﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ أﺟﺪﻫﻢ أﻳﻨﻤﺎ
أﻋﺮاض ﻋﻠﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺒّﺐ إﱄ ّ اﻟﻮﺣﺪة واﻻﻧﻔﺮاد ،وﺗُﻤﻴﺖ ﰲ روﺣﻲ املﻴﻮل
إﱃ املﻼﻫﻲ واﻷﻟﻌﺎب ،وﺗﺨﻠﻊ ﻋﻦ ﻛﺘﻔﻲ أﺟﻨﺤﺔ اﻟﺼﺒﺎ ،وﺗﺠﻌﻠﻨﻲ أﻣﺎم اﻟﻮﺟﻮد ﻛﺤﻮض ﻣﻴﺎه
ﺑني اﻟﺠﺒﺎل ﻳﻌﻜﺲ ﺑﻬﺪوﺋﻪ املﺤﺰن رﺳﻮم اﻷﺷﺒﺎح وأﻟﻮان اﻟﻐﻴﻮم وﺧﻄﻮط اﻷﻏﺼﺎن ،وﻟﻜﻨﻪ
ً
ﺟﺪوﻻ ﻣﱰﻧﻤً ﺎ إﱃ اﻟﺒﺤﺮ. ﻻ ﻳﺠﺪ ﻣﻤ ٍّﺮا ﻳﺴري ﻓﻴﻪ
ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻗﺒﻞ أن أﺑﻠﻎ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻋﴩة ،ﻓﺘﻠﻚ اﻟﺴﻨﺔ ﻫﻲ ﻣﻦ ﻣﺎﴈﱠ ﺑﻤﻘﺎم اﻟﻘﻤﺔ
ﻣﺘﺄﻣﻼ ﺗﺠﺎه ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وأرﺗﻨﻲ ﺳﺒﻞ اﻟﺒﴩ ،وﻣﺮوج ﻣﻴﻮﻟﻬﻢ، ً ﻣﻦ اﻟﺠﺒﻞ ،ﻷﻧﻬﺎ أوﻗﻔﺘﻨﻲ
وﻋﻘﺒﺎت ﻣﺘﺎﻋﺒﻬﻢ ،وﻛﻬﻮف ﴍاﺋﻌﻬﻢ وﺗﻘﺎﻟﻴﺪﻫﻢ.
ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻨﺔ و ُ
ُﻟﺪت ﺛﺎﻧﻴﺔ ،واملﺮء إن ﻟﻢ ﺗﺤﺒﻞ ﺑﻪ اﻟﻜﺂﺑﺔ وﻳﺘﻤﺤّ ﺾ ﺑﻪ اﻟﻴﺄس ،وﺗﻀﻌﻪ
املﺤﺒﺔ ﰲ ﻣﻬﺪ اﻷﺣﻼم؛ ﺗﻈﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﺼﻔﺤﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﺑﻴﻀﺎء ﰲ ﻛﺘﺎب اﻟﻜﻴﺎن.
ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻨﺔ ﺷﺎﻫﺪت ﻣﻼﺋﻜﺔ اﻟﺴﻤﺎء ﺗﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻣﻦ وراء أﺟﻔﺎن اﻣﺮأة ﺟﻤﻴﻠﺔ ،وﻓﻴﻬﺎ
رأﻳﺖ أﺑﺎﻟﺴﺔ اﻟﺠﺤﻴﻢ ﻳﻀﺠﻮن وﻳﱰاﻛﻀﻮن ﰲ ﺻﺪر رﺟﻞ ﻣﺠﺮم ،وﻣﻦ ﻻ ﻳﺸﺎﻫﺪ املﻼﺋﻜﺔ
واﻟﺸﻴﺎﻃني ﰲ ﻣﺤﺎﺳﻦ اﻟﺤﻴﺎة وﻣﻜﺮوﻫﺎﺗﻬﺎ ﻳﻈﻞ ﻗﻠﺒﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ املﻌﺮﻓﺔ وﻧﻔﺴﻪ ﻓﺎرﻏﺔ ﻣﻦ
اﻟﻌﻮاﻃﻒ.
12
ﻳﺪ اﻟﻘﻀﺎء
ﻛﻨﺖ ﰲ ﺑريوت ﰲ رﺑﻴﻊ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻨﺔ املﻤﻠﻮءة ﺑﺎﻟﻐﺮاﺋﺐ ،وﻛﺎن ﻧﻴﺴﺎن ﻗﺪ أﻧﺒﺖ اﻷزﻫﺎر
واﻷﻋﺸﺎب ،ﻓﻈﻬﺮت ﰲ ﺑﺴﺎﺗني املﺪﻳﻨﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ أﴎار ﺗﻌﻠﻨﻬﺎ اﻷرض ﻟﻠﺴﻤﺎء ،وﻛﺎﻧﺖ أﺷﺠﺎر
اﻟﻠﻮز واﻟﺘﻔﺎح ﻗﺪ ا ْﻛﺘﺴﺖ ﺑﺤﻠﻞ ﺑﻴﻀﺎء ﻣﻌﻄﺮة ،ﻓﺒﺎﻧﺖ ﺑني املﻨﺎزل ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺣﻮرﻳﺎت ﺑﻤﻼﺑﺲ
ﻧﺎﺻﻌﺔ ﻗﺪ ﺑﻌﺜﺖ ﺑﻬﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﺮاﺋﺲ وزوﺟﺎت ﻷﺑﻨﺎء ﱢ
اﻟﺸﻌﺮ واﻟﺨﻴﺎل.
اﻟﺮﺑﻴﻊ ﺟﻤﻴﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،وﻟﻜﻨﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻞ ﰲ ﺳﻮرﻳﺎ … اﻟﺮﺑﻴﻊ روح إﻟﻪ
ﻏري ﻣﻌﺮوف ﺗﻄﻮف ﰲ اﻷرض ﻣﴪﻋﺔ ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺒﻠﻎ ﺳﻮرﻳﺎ ﺗﺴري ﺑﺒﻂء ﻣﺘﻠﻔﺘﺔ إﱃ اﻟﻮراء
ﻣﺴﺘﺄﻧﺴﺔ ﺑﺄرواح املﻠﻮك واﻷﻧﺒﻴﺎء اﻟﺤﺎﺋﻤﺔ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ،ﻣﱰﻧﻤﺔ ﻣﻊ ﺟﺪاول اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ ﺑﺄﻧﺎﺷﻴﺪ
ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺨﺎﻟﺪة ،ﻣﺮددة ﻣﻊ أ َ ْرز ﻟﺒﻨﺎن ﺗﺬﻛﺎرات املﺠﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ.
وﺑريوت ﰲ اﻟﺮﺑﻴﻊ أﺟﻤﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﻔﺼﻮل؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺨﻠﻮ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ أوﺣﺎل
اﻟﺸﺘﺎء وﻏﺒﺎر اﻟﺼﻴﻒ ،وﺗﺼﺒﺢ ﺑني أﻣﻄﺎر اﻷول وﺣﺮارة اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻛﺼﺒﻴﱠﺔ ﺣﺴﻨﺎء ﻗﺪ اﻏﺘﺴﻠﺖ
ﺑﻤﻴﺎه اﻟﻐﺪﻳﺮ ﺛﻢ ﺟﻠﺴﺖ ﻋﲆ ﺿﻔﺘﻪ ﺗﺠﻔﻒ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺑﺄﺷﻌﺔ اﻟﺸﻤﺲ.
ﻓﻔﻲ ﻳﻮم ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم املﻔﻌﻤﺔ ﺑﺄﻧﻔﺎس ﻧﻴﺴﺎن ا ُمل ْﺴﻜِﺮة واﺑﺘﺴﺎﻣﺎﺗﻪ املﺤﻴﻴﺔ ،ذﻫﺒﺖ
ﻟﺰﻳﺎرة ﺻﺪﻳﻖ ﻳﺴﻜﻦ ﺑﻴﺘًﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺿﺠﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎع ،وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺤﻦ ﻧﺘﺤﺪث راﺳﻤني ﺑﺎﻟﻜﻼم
ﺧﻄﻮط آﻣﺎﻟﻨﺎ وأﻣﺎﻧﻴﻨﺎ دﺧﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺷﻴﺦ ﺟﻠﻴﻞ ﰲ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ واﻟﺴﺘني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ،ﺗﺪل ﻣﻼﺑﺴﻪ
اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ وﻣﻼﻣﺤﻪ املﺘﺠﻌﺪة ﻋﲆ اﻟﻬﻴﺒﺔ واﻟﻮﻗﺎر ،ﻓﻮﻗﻔﺖ اﺣﱰاﻣً ﺎ ،وﻗﺒﻴﻞ أن أﺻﺎﻓﺤﻪ ﻣﺴﻠﻤً ﺎ
ﺗﻘﺪم ﺻﺪﻳﻘﻲ وﻗﺎل :ﺣﴬﺗﻪ ﻓﺎرس أﻓﻨﺪي ﻛﺮاﻣﺔ ،ﺛﻢ ﻟﻔﻆ اﺳﻤﻲ ﻣﺸﻔﻮﻋً ﺎ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﺛﻨﺎء،
ﻻﻣﺴﺎ ﺑﺄﻃﺮاف أﺻﺎﺑﻌﻪ ﺟﺒﻬﺘﻪ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ املﻜﻠﻠﺔ ﺑﺸﻌﺮ أﺑﻴﺾ ﻛﺎﻟﺜﻠﺞ، ﻓﺤﺪّق إﱄ ّ اﻟﺸﻴﺦ ﻫﻨﻴﻬﺔ ً
ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺴﱰﺟﻊ إﱃ ذاﻛﺮﺗﻪ ﺻﻮرة ﳾء ﻗﺪﻳﻢ ﻣﻔﻘﻮد ،ﺛﻢ اﺑﺘﺴﻢ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﴎور
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺖ اﺑﻦ ﺻﺪﻳﻖ ﺣﺒﻴﺐ ﻗﺪﻳﻢ ﴏﻓﺖ رﺑﻴﻊ اﻟﻌﻤﺮ ﺑﺮﻓﻘﺘﻪ ،ﻓﻤﺎ واﻧﻌﻄﺎف واﻗﱰب ﻣﻨﻲ ً
أﻋﻈﻢ ﻓﺮﺣﻲ ﺑﻤﺮآك! وﻛﻢ أﻧﺎ ﻣﺸﺘﺎق إﱃ ﻟﻘﺎء أﺑﻴﻚ ﺑﺸﺨﺼﻚ!
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻓﺘﺄﺛﺮت ﻟﻜﻼﻣﻪ ،وﺷﻌﺮت ﺑﺠﺎذب ﺧﻔﻲ ﻳﺪﻧﻴﻨﻲ إﻟﻴﻪ ﺑﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻘﻮد اﻟﻐﺮﻳﺰة
ﻳﻘﺺ ﻋﻠﻴﻨﺎ أﺣﺎدﻳﺚ ﺻﺪاﻗﺘﻪ اﻟﻌﺼﻔﻮر إﱃ وﻛﺮه ﻗﺒﻴﻞ ﻣﺠﻲء اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ .وملﺎ ﺟﻠﺴﻨﺎ أﺧﺬ ﱡ
ﻟﻮاﻟﺪي ،ﻣﺘﺬﻛ ًﺮا أﻳﺎم اﻟﺸﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﴏﻓﻬﺎ ﺑﻘﺮﺑﻪ ،ﺗﺎﻟﻴًﺎ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﻣﻌﻨﺎ أﺧﺒﺎر أﻋﻮام ﻗﻀﺖ،
وﻗ َﱪَﻫﺎ ﰲ ﺻﺪره … إن اﻟﺸﻴﻮخ ﻳﺮﺟﻌﻮن ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ إﱃ أﻳﺎم ﺷﺒﺎﺑﻬﻢ ﻓﻜﻔﻨﻬﺎ اﻟﺪﻫﺮ ﺑﻘﻠﺒﻪ َّ
رﺟﻮع اﻟﻐﺮﻳﺐ املﺸﺘﺎق إﱃ ﻣﺴﻘﻂ رأﺳﻪ ،وﻳﻤﻴﻠﻮن إﱃ ﴎد ﺣﻜﺎﻳﺎت اﻟﺼﺒﺎ ﻣﻴﻞ اﻟﺸﺎﻋﺮ
إﱃ ﺗﻨﻐﻴﻢ أﺑﻠﻎ ﻗﺼﺎﺋﺪه ،ﻓﻬﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﺑﺎﻟﺮوح ﰲ زواﻳﺎ املﺎﴈ اﻟﻐﺎﺑﺮ؛ ﻷن اﻟﺤﺎﴐ ﻻ ﻳﻤﺮ
ﺑﻬﻢ وﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ ،واملﺴﺘﻘﺒﻞ ﻳﺒﺪو ﻷﻋﻴﻨﻬﻢ ﻣﺘﺸﺤً ﺎ ﺑﻀﺒﺎب اﻟﺰوال وﻇﻠﻤﺔ اﻟﻘﱪ.
وﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﺮت ﺑني اﻷﺣﺎدﻳﺚ واﻟﺘﺬﻛﺎرات ﻣﺮور ﻇﻞ اﻷﻏﺼﺎن ﻋﲆ اﻷﻋﺸﺎب ،وﻗﻒ
ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻟﻼﻧﴫاف ،وملﺎ دﻧﻮت ﻣﻨﻪ ﻣﻮدﻋً ﺎ أﺧﺬ ﻳﺪي ﺑﻴﻤﻴﻨﻪ ووﺿﻊ ﺷﻤﺎﻟﻪ ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻲ
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺎ ﻟﻢ أ َر واﻟﺪك ﻣﻨﺬ ﻋﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ ،وﻟﻜﻨﻨﻲ أرﺟﻮ أن أﺳﺘﻌﻴﺾ ﻋﻦ ﺑﻌﺎده اﻟﻄﻮﻳﻞ ً
ﺑﺰﻳﺎراﺗﻚ اﻟﻜﺜرية.
ﻓﺎﻧﺤﻨﻴﺖ ﺷﺎﻛ ًﺮا واﻋﺪًا ﺑﺘﺘﻤﻴﻢ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻻﺑﻦ ﻧﺤﻮ ﺻﺪﻳﻖ أﺑﻴﻪ.
وملﺎ ﺧﺮج ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ اﺳﺘﺰدت ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻣﻦ أﺧﺒﺎره ،ﻓﻘﺎل ﺑﻠﻬﺠﺔ ﻳﺴﺎورﻫﺎ اﻟﺘﺤﺪّر:
ﻓﺎﺿﻼ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻣﺜﺮﻳًﺎ .وﻫﻮ واﺣﺪ ﻣﻦ ً رﺟﻼ ﺳﻮاه ﰲ ﺑريوت ﻗﺪ ﺟﻌ َﻠﺘﻪ اﻟﺜﺮوة
ﻻ أﻋﺮف ً
اﻟﻘﻠﻴﻠني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺠﻴﺌﻮن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻳﻐﺎدروﻧﻪ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻼﻣﺴﻮا ﺑﺎﻷذى ﻧﻔﺲ ﻣﺨﻠﻮق ،وﻟﻜﻦ
ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺗﻌﺴﺎءَ ﻣﻈﻠﻮﻣني؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﺠﻬﻠﻮن ﺳﺒﻞ اﻻﺣﺘﻴﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻘﺬﻫﻢ
ً
ﻣﻨﺰﻻ ﻓﺨﻤً ﺎ ﰲ ﺿﺎﺣﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﻜﺮ اﻟﻨﺎس وﺧﺒﺜﻬﻢ … وﻟﻔﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ اﺑﻨﺔ وﺣﻴﺪة ﺗﺴﻜﻦ ﻣﻌﻪ
أﻳﻀﺎ ﺳﺘﻜﻮن ﺟﻤﺎﻻ ،وﻫﻲ ً ً املﺪﻳﻨﺔ ،وﻫﻲ ﺗﺸﺎﺑﻬﻪ ﺑﺎﻷﺧﻼق ،وﻟﻴﺲ ﺑني اﻟﻨﺴﺎء ﻣﻦ ﻳﻤﺎﺛﻠﻬﺎ
ﺗﺎﻋﺴﺔ؛ ﻷن ﺛﺮوة واﻟﺪﻫﺎ اﻟﻄﺎﺋﻠﺔ ﺗﻮﻗﻔﻬﺎ اﻵن ﻋﲆ ﺷﻔري ﻫﺎوﻳﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﻣﺨﻴﻔﺔ.
ﻟﻔﻆ ﺻﺪﻳﻘﻲ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻷﺧرية ،وﻇﻬﺮت ﻋﲆ ﻣﺤﻴﺎه ﻟﻮاﺋﺢ اﻟﻐﻢ واﻷﺳﻒ ،ﺛﻢ زاد ً
ﻗﺎﺋﻼ:
ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﺷﻴﺦ ﴍﻳﻒ اﻟﻘﻠﺐ ﻛﺮﻳﻢ اﻟﺼﻔﺎت ،وﻟﻜﻨﻪ ﺿﻌﻴﻒ اﻹرادة ﻳﻘﻮده رﻳﺎء اﻟﻨﺎس
ﻛﺎﻷﻋﻤﻰ وﺗﻮﻗﻔﻪ ﻣﻄﺎﻣﻌﻬﻢ ﻛﺎﻷﺧﺮس .أﻣﺎ اﺑﻨﺘﻪ ﻓﺘﺨﻀﻊ ﻣﻤﺘﺜﻠﺔ ﻹرادﺗﻪ اﻟﻮاﻫﻨﺔ ﻋﲆ رﻏﻢ
ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ روﺣﻬﺎ اﻟﻜﺒرية ﻣﻦ اﻟﻘﻮى واملﻮاﻫﺐ ،وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﴪ اﻟﻜﺎﻣﻦ وراء ﺣﻴﺎة اﻟﻮاﻟﺪ
واﺑﻨﺘﻪ .وﻗﺪ ﻓﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﴪ رﺟﻞ ﻳﺄﺗﻠﻒ ﰲ ﺷﺨﺼﻪ اﻟﻄﻤﻊ ﺑﺎﻟﺮﻳﺎء واﻟﺨﺒﺚ ﺑﺎﻟﺪﻫﺎء ،وﻫﺬا
اﻟﺮﺟﻞ ﻫﻮ ﻣﻄﺮان ،ﺗﺴري ﻗﺒﺎﺋﺤﻪ ﺑﻈﻞ اﻹﻧﺠﻴﻞ ﻓﺘﻈﻬﺮ ﻟﻠﻨﺎس ﻛﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ .ﻫﻮ رﺋﻴﺲ دﻳﻦ
ﰲ ﺑﻼد اﻷدﻳﺎن واملﺬاﻫﺐ ،ﺗﺨﺎﻓﻪ اﻷرواح واﻷﺟﺴﺎد وﺗﺨ ّﺮ ﻟﺪﻳﻪ ﺳﺎﺟﺪة ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻨﺤﻨﻲ رﻗﺎب
اﻷﻧﻌﺎم أﻣﺎم اﻟﺠﺰار .وﻟﻬﺬا املﻄﺮان اﺑﻦ أخ ﺗﺘﺼﺎرع ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺎﴏ املﻔﺎﺳﺪ واملﻜﺎره
ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺘﻘﻠﺐ اﻟﻌﻘﺎرب واﻷﻓﺎﻋﻲ ﻋﲆ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻜﻬﻮف واملﺴﺘﻨﻘﻌﺎت .وﻟﻴﺲ ﺑﻌﻴﺪًا اﻟﻴﻮم اﻟﺬي
14
ﻳﺪ اﻟﻘﻀﺎء
ﺟﺎﻋﻼ اﺑﻦ أﺧﻴﻪ ﻋﻦ ﻳﻤﻴﻨﻪ واﺑﻨﺔ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻋﻦ ً ﻳﻨﺘﺼﺐ ﻓﻴﻪ املﻄﺮان ﺑﻤﻼﺑﺴﻪ اﻟﺤﱪﻳﺔ
ﺷﻤﺎﻟﻪ ،راﻓﻌً ﺎ ﺑﻴﺪه اﻷﺛﻴﻤﺔ إﻛﻠﻴﻞ اﻟﺰواج ﻓﻮق رأﺳﻴﻬﻤﺎ ،ﻣﻘﻴﺪًا ﺑﺴﻼﺳﻞ اﻟﺘﻜﻬني واﻟﺘﻌﺰﻳﻢ
ﺟﺴﺪًا ﻃﺎﻫ ًﺮا ﺑﺠﻴﻔﺔ ﻣﻨﺘﻨﺔ ،ﺟﺎﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻗﺒﻀﺔ اﻟﴩﻳﻌﺔ اﻟﻔﺎﺳﺪة روﺣً ﺎ ﺳﻤﺎوﻳﺔ ﺑﺬات ﺗﺮاﺑﻴﺔ،
واﺿﻌً ﺎ ﻗﻠﺐ اﻟﻨﻬﺎر ﰲ ﺻﺪر اﻟﻠﻴﻞ .ﻫﺬا ﻛﻞ ﻣﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻗﻮﻟﻪ ﻟﻚ اﻵن ﻋﻦ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ
واﺑﻨﺘﻪ ،ﻓﻼ ﺗﺴﻠﻨﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ؛ ﻷن ذﻛﺮ املﺼﻴﺒﺔ ﻳﺪﻧﻴﻬﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳُﻘ ﱢﺮب املﻮت اﻟﺨﻮف ﻣﻦ
املﻮت.
وﺣﻮﱠل ﺻﺪﻳﻘﻲ وﺟﻬﻪ وﻧﻈﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﺬة إﱃ اﻟﻔﻀﺎء ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ أﴎار اﻷﻳﺎم
واﻟﻠﻴﺎﱄ ﺑني دﻗﺎﺋﻖ اﻷﺛري.
ﻓﻘﻤﺖ إذ ذاك ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ،وملﺎ أﺧﺬت ﻳﺪه ﻣﻮدﻋً ﺎ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻏﺪًا أزور ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻗﻴﺎﻣً ﺎ
ﺑﻮﻋﺪي ﻟﻪ واﺣﱰاﻣً ﺎ ﻟﻠﺘﺬﻛﺎرات اﻟﺘﻲ أﺑﻘﺘﻬﺎ ﺻﺪاﻗﺘﻪ ﻟﻮاﻟﺪي.
ﻓﺒُﻬﺖ ﺑﻲ اﻟﺸﺎب دﻗﻴﻘﺔ وﻗﺪ ﺗﻐريت ﻣﻼﻣﺤﻪ ،ﻛﺄن ﻛﻠﻤﺎﺗﻲ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻗﺪ أوﺣﺖ
ﻫﺎﺋﻼ ،ﺛﻢ ﻧﻈﺮ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﻧﻈﺮة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ — ﻧﻈﺮة ﻣﺤﺒﺔ وﺷﻔﻘﺔ ً إﻟﻴﻪ ﻓﻜ ًﺮا ﺟﺪﻳﺪًا
وﺧﻮف — ﻧﻈﺮة ﻧﺒﻲ ﻳﺮى ﰲ أﻋﻤﺎق اﻷرواح ﻣﺎ ﻻ ﺗﻌﺮﻓﻪ اﻷرواح ،ﺛﻢ ارﺗﻌﺸﺖ ﺷﻔﺘﺎه
ﻗﻠﻴﻼ وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻓﱰﻛﺘﻪ وﴎت ﻧﺤﻮ اﻟﺒﺎب ﺑﺄﻓﻜﺎر ﻣﺘﻀﻌﻀﻌﺔ ،وﻗﺒﻴﻞ أن ﻳﻠﺘﻔﺖ ً
إﱃ اﻟﻮراء رأﻳﺖ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻣﺎ زاﻟﺘﺎ ﺗﺘﺒﻌﺎﻧﻨﻲ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ؛ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﻲ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ
ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻋﺘﻘﺖ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ املﻘﺎﻳﻴﺲ واﻟﻜﻤﻴﺔ وﻃﺎرت إﱃ ﻣﺴﺎرح املﻸ اﻷﻋﲆ ﺣﻴﺚ
ﺗﺘﻔﺎﻫﻢ اﻟﻘﻠﻮب ﺑﺎﻟﻨﻈﺮات وﺗﻨﻤﻮ اﻷرواح ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﻫﻢ.
15
ﰲ ﺑﺎب اﳍﻴﻜﻞ
وﺑﻌﺪ أﻳﺎم وﻗﺪ ﻣﻠﻠﺖ اﻟﻮﺣﺪة ،وﺗﻌﺒﺖ أﺟﻔﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ أوﺟﻪ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻌﺎﺑﺴﺔ ﻋﻠﻮت
ﻣﺮﻛﺒﺔ ﻃﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻨﺰل ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ،ﺣﺘﻰ إذا ﻣﺎ ﺑﻠﻐﺖ ﺑﻲ ﻏﺎﺑﺔ اﻟﺼﻨﻮﺑﺮ ﺣﻴﺚ ﻳﺬﻫﺐ
اﻟﻘﻮم ﻟﻠﺘﻨﺰه ،ﺣﻮﱠل اﻟﺴﺎﺋﻖ وﺟﻬﺔ ﻓﺮﺳﻴﻪ ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ،ﻓﺴﺎر ﺧﺒﺒًﺎ ﻋﲆ ﻣﻤﺮ
ﺗﻈﻠﻠﻪ أﺷﺠﺎر اﻟﺼﻔﺼﺎف ،وﺗﺘﻤﺎﻳﻞ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺒﻴﻪ اﻷﻋﺸﺎب واﻟﺪواﱄ املﺘﻌﺮﺷﺔ وأزاﻫﺮ ﻧﻴﺴﺎن
املﺒﺘﺴﻤﺔ ﺑﺜﻐﻮر ﺣﻤﺮاء ﻛﺎﻟﻴﺎﻗﻮت وزرﻗﺎء ﻛﺎﻟﺰﻣ ّﺮد وﺻﻔﺮاء ﻛﺎﻟﺬﻫﺐ.
وﺑﻌﺪ دﻗﻴﻘﺔ وﻗﻔﺖ املﺮﻛﺒﺔ أﻣﺎم ﻣﻨﺰل ﻣﻨﻔﺮد ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻪ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻣﱰاﻣﻴﺔ اﻷﻃﺮاف،
ﺗﺘﻌﺎﻧﻖ ﰲ ﺟﻮاﻧﺒﻬﺎ اﻷﻏﺼﺎن ،وﺗﻌﻄﺮ ﻓﻀﺎءﻫﺎ راﺋﺤﺔ اﻟﻮرد واﻟﻔ ّﻞ واﻟﻴﺎﺳﻤني.
ﻣﺎ ﴎت ﺑﻀﻊ ﺧﻄﻮات ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺣﺘﻰ ﻇﻬﺮ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﰲ ﺑﺎب املﻨﺰل ﺧﺎرﺟً ﺎ
ً
ﻣﺘﺄﻫﻼ وﻗﺎدﻧﻲ ﻟﻠﻘﺎﺋﻲ ،ﻛﺄن ﻫﺪﻳﺮ املﺮﻛﺒﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻘﻌﺔ املﻨﻔﺮدة ﻗﺪ أﻋﻠﻦ ﻟﻪ ﻗﺪوﻣﻲّ ،
ﻓﻬﺶ
ﻣﺴﺘﻔﴪا ﻋﻦ ﻣﺎﴈّ
ً ﻣﺮﺣﱢ ﺒًﺎ إﱃ داﺧﻞ اﻟﺪار ،وﻧﻈري واﻟﺪ ﻣﺸﺘﺎق أﺟﻠﺴﻨﻲ ﺑﻘﺮﺑﻪ ﻳﺤﺪﱢﺛﻨﻲ
ﻣﺴﺘﻄﻠﻌً ﺎ ﻣﻘﺎﺻﺪي ﰲ ﻣﺴﺘﻘﺒﲇ ،ﻓﻜﻨﺖ أﺟﻴﺒﻪ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻠﻬﺠﺔ املﻔﻌﻤﺔ ﺑﻨﻐﻤﺔ اﻷﺣﻼم واﻷﻣﺎﻧﻲ
اﻟﺘﻲ ﻳﱰﻧّﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﻔﺘﻴﺎن ﻗﺒﻞ أن ﺗﻘﺬﻓﻬﻢ أﻣﻮاج اﻟﺨﻴﺎل إﱃ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﻌﻤﻞ ﺣﻴﺚ اﻟﺠﻬﺎد
واﻟﻨﺰاع … ﻟﻠﺸﺒﻴﺒﺔ أﺟﻨﺤﺔ ذات رﻳﺶ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ وأﻋﺼﺎب ﻣﻦ اﻷوﻫﺎم ،ﺗﺮﺗﻔﻊ ﺑﺎﻟﻔﺘﻴﺎن إﱃ
ﻣﺎ وراء اﻟﻐﻴﻮم ،ﻓريون اﻟﻜﻴﺎن ﻣﻐﻤﻮ ًرا ﺑﺄﺷﻌﺔ ﻣﺘﻠﻮﻧﺔ ﺑﺄﻟﻮان ﻗﻮس ﻗﺰح ،وﻳﺴﻤﻌﻮن اﻟﺤﻴﺎة
ﻣﺮﺗﻠﺔ أﻏﺎﻧﻲ املﺠﺪ واﻟﻌﻈﻤﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﺟﻨﺤﺔ اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ ﻻ ﺗﻠﺒﺚ أن ﺗﻤ ﱢﺰﻗﻬﺎ ﻋﻮاﺻﻒ
اﻻﺧﺘﺒﺎر ،ﻓﻴﻬﺒﻄﻮن إﱃ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ِﻣ ْﺮآة ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻳﺮى ﻓﻴﻬﺎ املﺮء ﻧﻔﺴﻪ
ﻣﺼﻐﺮة ﻣﺸﻮﻫﺔ.
ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻇﻬﺮت ﻣﻦ ﺑني ﺳﺘﺎﺋﺮ اﻟﺒﺎب املﺨﻤﻠﻴﺔ ﺻﺒﻴﺔ ﺗﺮﺗﺪي أﺛﻮاﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬه اﺑﻨﺘﻲ »ﺳﻠﻤﻰ«. اﻷﺑﻴﺾ اﻟﻨﺎﻋﻢ ،وﻣﺸﺖ ﻧﺤﻮي ﺑﺒﻂء ،ﻓﻮﻗﻔﺖ ووﻗﻒ اﻟﺸﻴﺦ ً
وﺑﻌﺪ أن ﻟﻔﻆ اﺳﻤﻲ ﺷﻔﻌﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ :إن ذاك اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺬي ﺣﺠﺒﺘﻪ ﻋﻨﻲ اﻷﻳﺎم ﻗﺪ
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻋﺎدت ﻓﺄﺑﺎﻧﺘﻪ ﱄ ﺑﺸﺨﺺ اﺑﻨﻪ ،ﻓﺄﻧﺎ أراه اﻵن وﻻ أراه .ﻓﺘﻘﺪﻣﺖ اﻟﺼﺒﻴﺔ إﱄ ﱠ وﺣﺪﱠﻗﺖ إﱃ
ﻋﻴﻨﻲ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺴﺘﻨﻄﻘﻬﻤﺎ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻣﺮي ،وﺗﻌﻠﻢ ﻣﻨﻬﻤﺎ أﺳﺒﺎب ﻣﺠﻴﺌﻲ إﱃ ذﻟﻚ ﱠ
ﺑﻴﺎﺿﺎ وﻧﻌﻮﻣﺔ ،ﻓﺄﺣﺴﺴﺖ ﻋﻨﺪ ﻣﻼﻣﺴﺔ ً املﻜﺎن ،ﺛﻢ أﺧﺬت ﻳﺪي ﺑﻴﺪ ﺗﻀﺎرع زﻧﺒﻘﺔ اﻟﺤﻘﻞ
اﻷﻛﻒ ﺑﻌﺎﻃﻔﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﺟﺪﻳﺪة أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﺸﻌﺮي ﻋﻨﺪ اﺑﺘﺪاء ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ ﰲ ﻣﺨﻴﱢﻠﺔ
اﻟﻜﺎﺗﺐ.
ﺟﻠﺴﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺳﺎﻛﺘني ﻛﺄن ﺳﻠﻤﻰ ﻗﺪ أدﺧﻠﺖ ﻣﻌﻬﺎ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺮﻓﺔ روﺣً ﺎ ﻋﻠﻮﻳﺔ ﺗﻮﻋﺰ
اﻟﺼﻤﺖ واﻟﺘﻬﻴﺐ ،وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺷﻌﺮت ﺑﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﺘﻔﺘﺖ ﻧﺤﻮي وﻗﺎﻟﺖ ﻣﺒﺘﺴﻤﺔ :ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺣﺪﺛﻨﻲ
واﻟﺪي ﻋﻦ أﺑﻴﻚ ﻣﻌﻴﺪًا ﻋﲆ ﻣﺴﻤﻌﻲ ﺣﻜﺎﻳﺎت ﺷﺒﺎﺑﻬﻤﺎ ،ﻓﺈن ﻛﺎن واﻟﺪك ﻗﺪ أﺳﻤﻌﻚ ﺗﻠﻚ
اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻓﻼ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺎء ﻫﻮ اﻷو َل ﺑﻴﻨﻨﺎ.
ﻓﴪ اﻟﺸﻴﺦ ﺑﻜﻠﻤﺎت اﺑﻨﺘﻪ واﻧﺒﺴﻄﺖ ﻣﻼﻣﺤﻪ ﺛﻢ ﻗﺎل :إن ﺳﻠﻤﻰ روﺣﻴﺔ املﻴﻮل ُ ﱠ
واملﺬاﻫﺐ ،ﻓﻬﻲ ﺗﺮى ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺳﺎﺑﺤﺔ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﻔﺲ.
ور ّﻗﺔ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ،ﻛﺄﻧﻪ وﺟﺪ ﰲ ّ ٍّ
ﴎا وﻫﻜﺬا ﻋﺎد ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ إﱃ ﻣﺤﺎدﺛﺘﻲ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم ﻛﲇ ِ
ﺳﺤﺮﻳٍّﺎ ﻳﺮﺟﻌﻪ ﻋﲆ أﺟﻨﺤﺔ اﻟﺬﻛﺮى إﱃ رﺑﻴﻊ أﻳﺎﻣﻪ اﻟﻐﺎﺑﺮة.
ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﺸﻴﺦ ﻳﺤﺪﱢق ﺑﻲ ﻣﺴﱰﺟﻌً ﺎ أﺷﺒﺎح ﺷﺒﺎﺑﻪ وأﻧﺎ أﺗﺄﻣﻠﻪ ﺣﺎ ًملﺎ ﺑﻤﺴﺘﻘﺒﲇ .ﻛﺎن
ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ّ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺨﻴﱢﻢ أﻏﺼﺎن اﻟﺸﺠﺮة اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ املﻤﻠﻮءة ﺑﻤﺂﺗﻲ اﻟﻔﺼﻮل ﻓﻮق ﻏﺮﺳﺔ ﺻﻐرية
ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﻌﺰم ﻫﺎﺟﻊ وﺣﻴﺎة ﻋﻤﻴﺎء .ﺷﺠﺮة ﻣﺴﻨّﺔ راﺳﺨﺔ اﻷﻋﺮاق ﻗﺪ اﺧﺘﱪت ﺻﻴﻒ اﻟﻌﻤﺮ
وﺷﺘﺎءه ،ووﻗﻔﺖ أﻣﺎم ﻋﻮاﺻﻒ اﻟﺪﻫﺮ وأﻧﻮاﺋﻪ .وﻏﺮﺳﺔ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﻟﻴﻨﺔ ﻟﻢ ﺗ َﺮ ﻏري اﻟﺮﺑﻴﻊ وﻟﻢ
ﺗﺮﺗﻌﺶ إﻻ ﺑﻤﺮور ﻧﺴﻴﻢ اﻟﻔﺠﺮ.
أﻣﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺳﺎﻛﺘﺔ ﺗﻨﻈﺮ إﱄ ّ ﺗﺎرة وﻃﻮ ًرا إﱃ أﺑﻴﻬﺎ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﻘﺮأ ﰲ وﺟﻬﻴﻨﺎ أول
ﻓﺼﻞ ﻣﻦ رواﻳﺔ اﻟﺤﻴﺎة وآﺧﺮ ﻓﺼﻞ ﻣﻨﻬﺎ.
ﻗﴣ ذﻟﻚ اﻟﻨﻬﺎ ُر ﻣﺘﻨﻬﺪًا أﻧﻔﺎﺳﻪ ﺑني ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪاﺋﻖ واﻟﺒﺴﺎﺗني ،وﻏﺎﺑﺖ اﻟﺸﻤﺲ ﺗﺎرﻛﺔ
ﺧﻴﺎل ﻗﺒﻠﺔ ﺻﻔﺮاء ﻋﲆ ﻗﻤﻢ ﻟﺒﻨﺎن املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﻗﺒﺎﻟﺔ ذﻟﻚ املﻨﺰل ،وﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻳﺘﻠﻮ ﻋﲇ ّ
أﺧﺒﺎره ﻓﻴﺬﻫﻠﻨﻲ ،وأﻧﺎ أﺗﺮﻧﻢ أﻣﺎﻣﻪ ﺑﺄﻏﺎﻧﻲ ﺷﺒﻴﺒﺘﻲ ﻓﺄﻃﺮﺑﻪ ،وﺳﻠﻤﻰ ﺟﺎﻟﺴﺔ ﺑﻘﺮب ﺗﻠﻚ
اﻟﻨﺎﻓﺬة ﺗﻨﻈﺮ إﻟﻴﻨﺎ ﺑﻌﻴﻨﻴﻬﺎ اﻟﺤﺰﻳﻨﺘني وﻻ ﺗﺘﺤﺮك ،وﺗﺴﻤﻊ أﺣﺎدﻳﺜﻨﺎ وﻻ ﺗﺘﻜﻠﻢ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﺮﻓﺖ
أن ﻟﻠﺠﻤﺎل ﻟﻐﺔ ﺳﻤﺎوﻳﺔ ﺗﱰﻓﻊ ﻋﻦ اﻷﺻﻮات واملﻘﺎﻃﻊ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﺛﻬﺎ اﻟﺸﻔﺎه واﻷﻟﺴﻨﺔ ،ﻟﻐﺔ
ﺧﺎﻟﺪة ﺗﻀﻢ إﻟﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻐﺎم اﻟﺒﴩ ،وﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﺷﻌﻮ ًرا ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺠﺘﺬب اﻟﺒﺤرية اﻟﻬﺎدﺋﺔ
أﻏﺎﻧﻲ اﻟﺴﻮاﻗﻲ إﱃ أﻋﻤﺎﻗﻬﺎ وﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﺳﻜﻮﺗًﺎ أﺑﺪﻳٍّﺎ .إن اﻟﺠﻤﺎل ﴎ ﺗﻔﻬﻤﻪ أرواﺣﻨﺎ وﺗﻔﺮح
ﺑﻪ وﺗﻨﻤﻮ ﺑﺘﺄﺛرياﺗﻪ ،أﻣﺎ أﻓﻜﺎرﻧﺎ ﻓﺘﻘﻒ أﻣﺎﻣﻪ ﻣﺤﺘﺎرة ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪه وﺗﺠﺴﻴﺪه ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ،
18
ﰲ ﺑﺎب اﻟﻬﻴﻜﻞ
وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ .ﻫﻮ ﺳﻴﺎل ﺧﺎف ﻋﻦ اﻟﻌني ﻳﺘﻤﻮج ﺑني ﻋﻮاﻃﻒ اﻟﻨﺎﻇﺮ وﺣﻘﻴﻘﺔ املﻨﻈﻮر.
اﻟﺠﻤﺎل اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻫﻮ أﺷﻌﺔ ﺗﻨﺒﻌﺚ ﻣﻦ ﻗﺪس أﻗﺪاس اﻟﻨﻔﻮس وﺗﻨري ﺧﺎرج اﻟﺠﺴﺪ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ
ﺗﻨﺒﺜﻖ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ أﻋﻤﺎق اﻟﻨﻮاة وﺗﻜﺴﺐ اﻟﺰﻫﺮة ﻟﻮﻧًﺎ وﻋﻄ ًﺮا ،ﻫﻮ ﺗﻔﺎﻫﻢ ﻛﲇ ﺑني اﻟﺮﺟﻞ واملﺮأة
ﻳﺘﻢ ﺑﻠﺤﻈﺔ ،وﺑﻠﺤﻈﺔ ﻳﻮﻟﺪ ذﻟﻚ املﻴﻞ املﱰﻓﻊ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ املﻴﻮل ،ذﻟﻚ اﻻﻧﻌﻄﺎف اﻟﺮوﺣﻲ اﻟﺬي
ﻓﻬﻤﺖ روﺣﻲ روحَ ﺳﻠﻤﻰ ﰲ ﻋﺸﻴﺔ اﻟﻨﻬﺎر ﻓﺠﻌﻠﻨﻲ اﻟﺘﻔﺎﻫﻢ أراﻫﺎ أﺟﻤﻞ ْ ﻧﺪﻋﻮه ﺣﺒٍّﺎ ،ﻓﻬﻞ
اﻣﺮأة أﻣﺎم اﻟﺸﻤﺲ؟ أم ﻫﻲ ﺳﻜﺮة اﻟﺸﺒﻴﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺘﺨﻴّﻞ رﺳﻮﻣً ﺎ وأﺷﺒﺎﺣً ﺎ ﻻ ﺣﻘﻴﻘﺔ
ﻟﻬﺎ؟ ﻫﻞ أﻋﻤﺘﻨﻲ اﻟﻔﺘﻮة ﻓﺘﻮﻫﻤﺖ اﻷﺷﻌﺔ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﺳﻠﻤﻰ ،واﻟﺤﻼوة ﰲ ﺛﻐﺮﻫﺎ ،واﻟﺮﻗﺔ ﰲ
ﻗﺪﻫﺎ؟ أم ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻌﺔ وﺗﻠﻚ اﻟﺤﻼوة وﺗﻠﻚ اﻟﺮﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻟﱰﻳﻨﻲ أﻓﺮاح اﻟﺤﺐ
وأﺣﺰاﻧﻪ؟ ﻻ أدري ،وﻟﻜﻨﻨﻲ أﻋﻠﻢ أﻧﻨﻲ ﺷﻌﺮت ﺑﻌﺎﻃﻔﺔ ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﻬﺎ ﻗﺒﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ،
ﻋﺎﻃﻔﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺗﻤﺎﻳﻠﺖ ﺣﻮل ﻗﻠﺒﻲ ﺑﻬﺪوء ﻳﺸﺎﺑﻪ رﻓﺮﻓﺔ اﻟﺮوح ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻘﻤﺮ ﻗﺒﻞ أن
ﺗﺒﺘﺪئ اﻟﺪﻫﻮر .وﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ﻗﺪ ﺗﻮﻟﺪت ﺳﻌﺎدﺗﻲ وﺗﻌﺎﺳﺘﻲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻇﻬﺮت وﺗﻨﺎﺳﺨﺖ
اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﺑﺈرادة ذﻟﻚ اﻟﺮوح.
ﻫﻜﺬا اﻧﻘﻀﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻤﻌﺘﻨﻲ ﺑﺴﻠﻤﻰ ﻷول ﻣﺮة ،وﻫﻜﺬا ﺷﺎءت اﻟﺴﻤﺎء
وأﻋﺘﻘﺘﻨﻲ ﻋﲆ ﺣني ﻏﻔﻠﺔ ﻣﻦ ﻋﺒﻮدﻳﺔ اﻟﺤرية واﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻟﺘﺴريﻧﻲ ﺣ ٍّﺮا ﰲ ﻣﻮﻛﺐ املﺤﺒﺔ،
ﻓﺎملﺤﺒﺔ ﻫﻲ اﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺮﻓﻊ اﻟﻨﻔﺲ إﱃ ﻣﻘﺎم ﺳﺎ ٍم ﻻ ﺗﺒﻠﻐﻪ ﴍاﺋﻊ
اﻟﺒﴩ وﺗﻘﺎﻟﻴﺪﻫﻢ ،وﻻ ﺗﺴﻮده ﻧﻮاﻣﻴﺲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وأﺣﻜﺎﻣﻬﺎ.
وﻗﻔﺖ ﻟﻼﻧﴫاف اﻗﱰب ﻣﻨﻲ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ،وﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﺗﻌﺎﻧﻘﻪ رﻧﺔ اﻹﺧﻼص: ُ وملﺎ
اﻵن وﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﻫﺬا املﻨﺰل ﻳﺠﺐ أن ﺗﺄﺗﻲ إﻟﻴﻪ ﺷﺎﻋ ًﺮا ﺑﺎﻟﺜﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮدك إﱃ
ﺑﻴﺖ أﺑﻴﻚ ،وأن ﺗﺤﺴﺒﻨﻲ وﺳﻠﻤﻰ ﻛﻮاﻟﺪ وأﺧﺖ ﻟﻚ ،أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ؟
ً
ﻓﺄﺣﻨﺖ ﺳﻠﻤﻰ رأﺳﻬﺎ إﻳﺠﺎﺑًﺎ ﺛﻢ ﻧﻈﺮت إﱄ ّ ﻧﻈﺮة ﻏﺮﻳﺐ ﺿﺎﺋﻊ وﺟﺪ رﻓﻴﻘﺎ ﻳﻌﺮﻓﻪ.
إن ﺗﻠﻚ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻟﻬﺎ ﱄ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﻐﻤﺔ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ أوﻗﻔﺘﻨﻲ ﺑﺠﺎﻧﺐ
اﺑﻨﺘﻪ أﻣﺎم ﻋﺮش املﺤﺒﺔ ،ﻫﻲ اﺳﺘﻬﻼل اﻷﻏﻨﻴﺔ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﻬﺖ ﺑﺎﻟﻨﺪب واﻟﺮﺛﺎء ،ﻫﻲ
اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﺷﺠﻌﺖ روﺣﻴﻨﺎ ﻓﺎﻗﱰﺑﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻮر واﻟﻨﺎر ،ﻫﻲ اﻹﻧﺎء اﻟﺬي ﴍﺑﻨﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻮﺛﺮ
واﻟﻌﻠﻘﻢ.
وﺧﺮﺟﺖ ﻓﺸﻴﻌﻨﻲ اﻟﺸﻴﺦ إﱃ أﻃﺮاف اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،ﻓﻮدﻋﺘﻬﻤﺎ وﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔﻖ ﰲ داﺧﲇ ﻣﺜﻠﻤﺎ
ﺗﺮﺗﻌﺶ ﺷﻔﺘﺎ اﻟﻌﻄﺸﺎن ﺑﻤﻼﻣﺴﺔ ﺣﺎﻓﺔ اﻟﻜﺄس.
19
اﻟﺸﻌﻠﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء
واﻧﻘﴣ ﻧﻴﺴﺎن وأﻧﺎ أزور ﻣﻨﺰل ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ وأﻟﺘﻘﻲ ﺳﻠﻤﻰ وأﺟﻠﺲ ﻗﺒﺎﻟﺘﻬﺎ ﰲ ﺗﻠﻚ
ً
ﻣﺘﺄﻣﻼ ﻣﺤﺎﺳﻨﻬﺎ ،ﻣﻌﺠﺒًﺎ ﺑﻤﻮاﻫﺒﻬﺎ ،ﻣﺼﻐﻴًﺎ ﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻛﺂﺑﺘﻬﺎ ،ﺷﺎﻋ ًﺮا ﺑﻮﺟﻮد أﻳ ٍﺪ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ
وﴎاﺧﻔﻴﺔ ﺗﺠﺘﺬﺑﻨﻲ إﻟﻴﻬﺎ .ﻓﻜﻞ زﻳﺎرة ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒني ﱄ ﻣﻌﻨًﻰ ﺟﺪﻳﺪًا ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺟﻤﺎﻟﻬﺎ ٍّ
ﻋﻴﻨﻲ ﻛﺘﺎﺑًﺎ أﻗﺮأ ﺳﻄﻮره وأﺳﺘﻈﻬﺮ آﻳﺎﺗﻪ ّ ﻋﻠﻮﻳٍّﺎ ﻣﻦ أﴎار روﺣﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ أﻣﺎم
وأﺗﺮﻧﱠﻢ ﺑﻨﻐﻤﺘﻪ ،وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ.
إن املﺮأة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺤﻬﺎ اﻵﻟﻬﺔ ﺟﻤﺎل اﻟﻨﻔﺲ ﻣﺸﻔﻮﻋً ﺎ ﺑﺠﻤﺎل اﻟﺠﺴﺪ ﻫﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻇﺎﻫﺮة
ﻏﺎﻣﻀﺔ ﻧﻔﻬﻤﻬﺎ ﺑﺎملﺤﺒﺔ وﻧﻠﻤﺴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄﻬﺮ ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺤﺎول وﺻﻔﻬﺎ ﺑﺎﻟﻜﻼم ﺗﺨﺘﻔﻲ ﻋﻦ
ﺑﺼﺎﺋﺮﻧﺎ وراء ﺿﺒﺎب اﻟﺤرية واﻻﻟﺘﺒﺎس.
وﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻠﺔ اﻟﻨﻔﺲ واﻟﺠﺴﺪ ،ﻓﻜﻴﻒ أﺻﻔﻬﺎ ملﻦ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ؟ ﻫﻞ
ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺠﺎﻟﺲ ﰲ ﻇﻞ أﺟﻨﺤﺔ املﻮت أن ﻳﺴﺘﺤﴬ ﺗﻐﺮﻳﺪة اﻟﺒﻠﺒﻞ وﻫﻤﺲ اﻟﻮردة وﺗﻨﻬﺪة
اﻟﻐﺪﻳﺮ؟ أﻳﻘﺪر اﻷﺳري املﺜﻘﻞ ﺑﺎﻟﻘﻴﻮد أن ﻳﻼﺣﻖ ﻫﺒﻮط ﻧﺴﻤﺎت اﻟﻔﺠﺮ؟ وﻟﻜﻦ أﻟﻴﺲ اﻟﺴﻜﻮت
أﺻﻌﺐ ﻣﻦ اﻟﻜﻼم؟ وﻫﻞ ﻳﻤﻨﻌﻨﻲ اﻟﺘﻬﻴﺐ ﻋﻦ إﻇﻬﺎر ﺧﻴﺎل ﻣﻦ أﺧﻴﻠﺔ ﺳﻠﻤﻰ ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ اﻟﻮاﻫﻴﺔ
إذا ﻛﻨﺖ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أرﺳﻢ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ﺑﺨﻄﻮط ﻣﻦ اﻟﺬﻫﺐ؟ إن اﻟﺠﺎﺋﻊ اﻟﺴﺎﺋﺮ ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء
ﻻ ﻳﺄﺑﻰ أﻛﻞ اﻟﺨﺒﺰ اﻟﻴﺎﺑﺲ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻤﺎء ﻻ ﺗﻤﻄﺮه ﱠ
املﻦ واﻟﺴﻠﻮى.
ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻧﺤﻴﻠﺔ اﻟﺠﺴﻢ ،ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻤﻼﺑﺴﻬﺎ اﻟﺒﻴﻀﺎء اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ ﻛﺄﺷﻌﺔ ﻗﻤﺮ دﺧﻠﺖ
ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﺬة ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺮﻛﺎﺗﻬﺎ ﺑﻄﻴﺌﺔ ﻣﺘﻮازﻧﺔ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﻤﻘﺎﻃﻴﻊ اﻷﻟﺤﺎن اﻷﺻﻔﻬﺎﻧﻴﺔ،
ﻣﻨﺨﻔﻀﺎ ﺣﻠﻮًا ﺗﻘﻄﻌﻪ اﻟﺘﻨﻬﺪات ،ﻓﻴﻨﺴﻜﺐ ﻣﻦ ﺑني ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ اﻟﻘﺮﻣﺰﻳﺘني ﻣﺜﻠﻤﺎ ً وﺻﻮﺗﻬﺎ
ﺗﺘﺴﺎﻗﻂ ﻗﻄﺮات اﻟﻨﺪى ﻋﻦ ﺗﻴﺠﺎن اﻟﺰﻫﻮر ﺑﻤﺮور ﺗﻤﻮﺟﺎت اﻟﻬﻮاء … ووﺟﻬﻬﺎ — وﻣﻦ
ﻳﺎ ﺗﺮى ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺼﻒ وﺟﻪ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ؟ ﺑﺄﻳﺔ أﻟﻔﺎظ ﻧﻘﺪر أن ﻧﺼﻮر وﺟﻬً ﺎ ﺣﺰﻳﻨًﺎ
ﻫﺎدﺋًﺎ ﻣﺤﺠﻮﺑًﺎ وﻟﻴﺲ ﻣﺤﺠﻮﺑًﺎ ﺑﻨﻘﺎب ﻣﻦ اﻻﺻﻔﺮار اﻟﺸﻔﺎف؟ ﺑﺄﻳﺔ ﻟﻐﺔ ﻧﻘﺪر أن ﻧﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﴎا ﻣﻦ أﴎار اﻟﻨﻔﺲ ،وﺗﺬ ﱢﻛﺮ اﻟﻨﺎﻇﺮﻳﻦ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌﺎﻟﻢ روﺣﻲ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﻼﻣﺢ ﺗﻌﻠﻦ ﰲ ﻛﻞ دﻗﻴﻘﺔ ٍّ
ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ؟!
ﻣﻨﻄﺒﻘﺎ ﻋﲆ املﻘﺎﻳﻴﺲ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ اﻟﺒﴩ ﻟﻠﺠﻤﺎل، ً إن اﻟﺠﻤﺎل ﰲ وﺟﻪ ﺳﻠﻤﻰ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ
ﺑﻞ ﻛﺎن ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻛﺎﻟﺤﻠﻢ أو ﻛﺎﻟﺮؤﻳﺎ أو ﻛﻔﻜﺮ ﻋﻠﻮي ﻻ ﻳﻘﺎس وﻻ ﻳﺤﺪ وﻻ ﻳُﻨ ْ َﺴﺦ ﺑﺮﻳﺸﺔ
املﺼﻮر ،وﻻ ﻳﺘﺠﺴﻢ ﺑﺮﺧﺎم اﻟﺤﻔﺎر .ﺟﻤﺎل ﺳﻠﻤﻰ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ َﺷﻌْ ﺮﻫﺎ اﻟﺬﻫﺒﻲ ،ﺑﻞ ﰲ ﻫﺎﻟﺔ
ﻄﻬﺮ املﺤﻴﻄﺔ ﺑﻪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ اﻟﻜﺒريﺗني ،ﺑﻞ ﰲ اﻟﻨﻮر املﻨﺒﻌﺚ ﻣﻨﻬﻤﺎ ،وﻻ ﰲ ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ اﻟ ﱡ
اﻟﻮردﻳﺘني ،ﺑﻞ ﰲ اﻟﺤﻼوة اﻟﺴﺎﺋﻠﺔ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ،وﻻ ﰲ ﻋﻨﻘﻬﺎ اﻟﻌﺎﺟﻲ ،ﺑﻞ ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻧﺤﻨﺎﺋﻪ ً
ﻗﻠﻴﻼ
إﱃ اﻷﻣﺎم ،ﺟﻤﺎل ﺳﻠﻤﻰ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﻛﻤﺎل ﺟﺴﺪﻫﺎ ،ﺑﻞ ﰲ ﻧﺒﺎﻟﺔ روﺣﻬﺎ اﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﺸﻌﻠﺔ ﺑﻴﻀﺎء
ﻣﺘﻘﺪة ﺳﺎﺑﺤﺔ ﺑني اﻷرض واﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ .ﺟﻤﺎل ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺎن ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻨﺒﻮغ اﻟﺸﻌﺮي اﻟﺬي
ﻧﺸﺎﻫﺪ أﺷﺒﺎﺣﻪ ﰲ اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ واﻟﺮﺳﻮم واﻷﻧﻐﺎم اﻟﺨﺎﻟﺪة .وأﺻﺤﺎب اﻟﻨﺒﻮغ ﺗﻌﺴﺎء،
ﻣﻬﻤﺎ ﺗﺴﺎﻣﺖ أرواﺣﻬﻢ ﺗﻈ ﱡﻞ ﻣﻜﺘﻨﻔﺔ ﺑﻐﻼف ﻣﻦ اﻟﺪﻣﻮع.
وﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺜرية اﻟﺘﻔﻜري ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻜﻼم ،وﻟﻜﻦ ﺳﻜﻮﺗﻬﺎ ﻛﺎن ﻣﻮﺳﻴﻘﻴٍّﺎ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑﺠﻠﻴﺴﻬﺎ
إﱃ ﻣﺴﺎرح اﻷﺣﻼم اﻟﺒﻌﻴﺪة ،وﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﺼﻐﻲ ﻟﻨﺒﻀﺎت ﻗﻠﺒﻪ ،وﻳﺮى أﺧﻴﻠﺔ أﻓﻜﺎره وﻋﻮاﻃﻔﻪ
ﻣﻨﺘﺼﺒﺔ أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻴﻪ.
أﻣﺎ اﻟﺼﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺎﻧﻖ ﻣﺰاﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ وﺗﺴﺎور أﺧﻼﻗﻬﺎ ﻓﻬﻲ اﻟﻜﺂﺑﺔ اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ
اﻟﺠﺎرﺣﺔ ،ﻓﺎﻟﻜﺂﺑﺔ ﻛﺎﻧﺖ وﺷﺎﺣً ﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳٍّﺎ ﺗﺮﺗﺪﻳﻪ ﻓﺘﺰﻳﺪ ﻣﺤﺎﺳﻦ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﻫﻴﺒﺔ وﻏﺮاﺑﺔ،
وﺗﻈﻬﺮ أﺷﻌﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺧﻴﻮﻃﻪ ﻛﺨﻄﻮط ﺷﺠﺮة ﻣﺰﻫﺮة ﻣﻦ وراء ﺿﺒﺎب اﻟﺼﺒﺎح.
وﻗﺪ أوﺟﺪت اﻟﻜﺂﺑﺔ ﺑني روﺣﻲ وروح ﺳﻠﻤﻰ ﺻﻠﺔ املﺸﺎﺑﻬﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻛﻼﻧﺎ ﻳﺮى ﰲ وﺟﻪ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﻣﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻪ ﻗﻠﺒﻪ ،وﻳﺴﻤﻊ ﺑﺼﻮﺗﻪ ﺻﺪى ﻣﺨﺒﱠﺂت ﺻﺪره ،ﻓﻜﺄن اﻵﻟﻬﺔ ﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﻛﻞ واﺣﺪ
ﻛﺎﻣﻼ ،وﻳﻨﻔﺼﻞ ﻋﻨﻪ ﻓﻴﺸﻌﺮ ﺑﻨﻘﺺ ً ﻧﺼﻔﺎ ﻟﻶﺧﺮ ﻳﻠﺘﺼﻖ ﺑﻪ ﺑﺎﻟﻄﻬﺮ ﻓﻴﺼري إﻧﺴﺎﻧًﺎ ً ﻣﻨﺎ
ﻣﻮﺟﻊ ﰲ روﺣﻪ.
إن اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ املﺘﺄملﺔ ﺗﺠﺪ راﺣﺔ ﺑﺎﻧﻀﻤﺎﻣﻬﺎ إﱃ ﻧﻔﺲ أﺧﺮى ﺗﻤﺎﺛﻠﻬﺎ ﺑﺎﻟﺸﻌﻮر
وﺗﺸﺎرﻛﻬﺎ ﺑﺎﻹﺣﺴﺎس ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺴﺘﺄﻧﺲ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﺑﺎﻟﻐﺮﻳﺐ ﰲ أرض ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ وﻃﻨﻬﻤﺎ،
ﻓﺎﻟﻘﻠﻮب اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻧﻴﻬﺎ أوﺟﺎع اﻟﻜﺂﺑﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﻻ ﺗﻔ ﱢﺮﻗﻬﺎ ﺑﻬﺠﺔ اﻷﻓﺮاح وﺑﻬﺮﺟﺘﻬﺎ.
ﻓﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺤﺰن أﻗﻮى ﰲ اﻟﻨﻔﻮس ﻣﻦ رواﺑﻂ اﻟﻐﺒﻄﺔ واﻟﴪور .واﻟﺤﺐ اﻟﺬي ﺗﻐﺴﻠﻪ اﻟﻌﻴﻮن
ً
وﺟﻤﻴﻼ وﺧﺎﻟﺪًا. ﺑﺪﻣﻮﻋﻬﺎ ﻳﻈﻞ ﻃﺎﻫ ًﺮا
22
اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ
ﻓﺬﻫﺒﺖ وﻧﻔﴘ ﺟﺎﺋﻌﺔ إﱃ ذﻟﻚ ُ وﺑﻌﺪ أﻳﺎم دﻋﺎﻧﻲ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ إﱃ ﺗﻨﺎول اﻟﻌﺸﺎء ﰲ ﻣﻨﺰﻟﻪ،
اﻟﺨﺒﺰ اﻟﻌﻠﻮي اﻟﺬي وﺿﻌﺘﻪ اﻟﺴﻤﺎء ﺑني ﻳﺪيْ ﺳﻠﻤﻰ ،ذﻟﻚ اﻟﺨﺒﺰ اﻟﺮوﺣﻲ اﻟﺬي ﻧﻠﺘﻬﻤﻪ
ﻗﻴﺲ اﻟﻌﺮﺑﻲ وداﻧﺘﻲ ﺑﺄﻓﻮاه أﻓﺌﺪﺗﻨﺎ ﻓﻨﺰداد ﺟﻮﻋً ﺎ ،ذﻟﻚ اﻟﺨﺒﺰ اﻟﺴﺤﺮي اﻟﺬي ذاق ﻃﻌﻤَ ﻪ ٌ
اﻟﻄﻠﻴﺎﻧﻲ وﺳﺎﻓﻮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﺎﻟﺘﻬﺒﺖ أﺣﺸﺎؤﻫﻢ وذاﺑﺖ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ،ذﻟﻚ اﻟﺨﺒﺰ اﻟﺬي ﻋﺠﻨﺘﻪْ
ﻣﺄﻛﻼ ﻟﻠﻨﻔﻮس اﻟﺤﺴﺎﺳﺔ املﺴﺘﻴﻘﻈﺔ ﻟﺘﻔﺮﺣﻬﺎ ً اﻵﻟﻬﺔ ﺑﺤﻼوة ُ
اﻟﻘﺒَﻞ وﻣﺮارة اﻟﺪﻣﻮع ،وأﻋﺪﺗﻪ
ﺑﻄﻌﻤﻪ وﺗﻌﺬﺑﻬﺎ ﺑﺘﺄﺛريه.
وملﺎ ﺑﻠﻐﺖ املﻨﺰل وﺟﺪت ﺳﻠﻤﻰ ﺟﺎﻟﺴﺔ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪ ﺧﺸﺒﻲ ﰲ زاوﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،وﻗﺪ
أﺳﻨﺪت رأﺳﻬﺎ إﱃ ﻋﻤﺪ ﺷﺠﺮة ﻓﺒﺎﻧﺖ ﺑﺜﻮﺑﻬﺎ اﻷﺑﻴﺾ ﻛﻮاﺣﺪة ﻣﻦ ﻋﺮاﺋﺲ اﻟﺨﻴﺎل ﺗﺨﻔﺮ ذﻟﻚ
املﻜﺎن ،ﻓﺪﻧﻮت ﻣﻨﻬﺎ ﺻﺎﻣﺘًﺎ وﺟﻠﺴﺖ ﺑﻘﺮﺑﻬﺎ ﺟﻠﻮس ﻣﺠﻮﳼ ﻣﺘﻬﻴﺐ أﻣﺎم اﻟﻨﺎر املﻘﺪﺳﺔ ،وملﺎ
وﺷﻔﺘﻲ ﺟﺎﻣﺪﺗني ،ﻓﺎﺳﺘﺄﻧﺴﺖ ﺑﺎﻟﺴﻜﻮت؛ ﻷن اﻟﺸﻌﻮر ﱠ ﺣﺎوﻟﺖ اﻟﻜﻼم وﺟﺪت ﻟﺴﺎﻧﻲ ﻣﻨﻌﻘﺪًا
ﻳﺘﺠﺴﻢ ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ املﺤﺪودة، ﱠ اﻟﻌﻤﻴﻖ ﻏري املﺘﻨﺎﻫﻲ ﻳﻔﻘﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﺧﺎﺻﺘﻪ املﻌﻨﻮﻳﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ
وﻟﻜﻨﻨﻲ ﺷﻌﺮت ﺑﺄن ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻤﻊ ﰲ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻣﻨﺎﺟﺎة ﻗﻠﺒﻲ املﺘﻮاﺻﻠﺔ ،وﺗﺸﺎﻫﺪ ﰲ
ﻋﻴﻨﻲ أﺷﺒﺎح ﻧﻔﴘ املﺮﺗﻌﺸﺔ.
ﻄﺎوﺑﻌﺪ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﺧﺮج ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ إﱃ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،وﻣﴙ ﻧﺤﻮﻧﺎ ﻣﺮﺣﱢ ﺒًﺎ ﺑﻲ ﻛﻌﺎدﺗﻪ ،ﺑﺎﺳ ً
ﻳﺪه إﱄ ﱠ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺒﺎرك ﺑﻬﺎ ذﻟﻚ اﻟﴪ اﻟﺨﻔﻲ اﻟﺬي ﻳﺮﺑﻂ روﺣﻲ ﺑﺮوح اﺑﻨﺘﻪ ،ﺛﻢ
ﻗﺎل ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎ :ﻫﻠﻤﱠ ﺎ ﻳﺎ وﻟﺪيﱠ إﱃ اﻟﻌﺸﺎء ﻓﺎﻟﻄﻌﺎم ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﺎ .ﻓﻘﻤﻨﺎ وﺗﺒﻌﻨﺎه وﺳﻠﻤﻰ ﺗﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ
ﻣﻦ وراء أﺟﻔﺎن ﻣﻜﺤﻮﻟﺔ ﺑﺎﻟﺮﻗﺔ واﻻﻧﻌﻄﺎف ،ﻛﺄن ﻟﻔﻈﺔ »ﻳﺎ وﻟﺪيﱠ « ﻗﺪ أﻳﻘﻈﺖ ﰲ داﺧﻠﻬﺎ
ﺷﻌﻮ ًرا ﺟﺪﻳﺪًا ﻋﺬﺑًﺎ ﻳﻜﺘﻨﻒ ﻣﺤﺒﺘﻬﺎ ﱄ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺤﺘﻀﻦ اﻷم ﻃﻔﻠﻬﺎ.
ﺟﻠﺴﻨﺎ إﱃ املﺎﺋﺪة ﻧﺄﻛﻞ وﻧﴩب وﻧﺘﺤﺪث ،ﺟﻠﺴﻨﺎ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻧﺘﻠﺬذ ﺑﺄﻟﻮان اﻟﻄﻌﺎم
اﻟﺸﻬﻴﺔ وأﻧﻮاع اﻟﺨﻤﻮر املﻌﺘﱠﻘﺔ ،وأرواﺣﻨﺎ ﺗﺴﺒﺢ ﻋﲆ ﻏري ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﻨﺎ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ ﻫﺬا
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﺗﺤﻠﻢ ﺑﻤﺂﺗﻲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ،وﺗﺘﺄﻫﺐ ﻟﻠﻮﻗﻮف أﻣﺎم ﻣﺨﺎوﻓﻪ وأﻫﻮاﻟﻪ .ﺛﻼﺛﺔ أﺷﺨﺎص
ﺗﺨﺘﻠﻒ أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﺑﺎﺧﺘﻼف ﻣﻘﺎﺻﺪﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة ،وﺗﺘﻔﻖ ﴎاﺋﺮﻫﻢ ﺑﺎﺗﻔﺎق ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﺑﺎملﻮدة
ﻗﻠﻴﻼ ،وﻫﺬه ﻫﻲ املﺄﺳﺎة واملﺤﺒﺔ ،ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ اﻟﻀﻌﻔﺎء اﻷﺑﺮﻳﺎء ﻳﺸﻌﺮون ﻛﺜريًا وﻳﻌﺮﻓﻮن ً
املﺴﺘﺘﺒﱠﺔ ﻋﲆ ﻣﴪح اﻟﻨﻔﺲ .ﺷﻴﺦ ﺟﻠﻴﻞ ﴍﻳﻒ ﻳﺤﺐ اﺑﻨﺘﻪ وﻻ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﻐري ﺳﻌﺎدﺗﻬﺎ،
وﺻﺒﻴﱠﺔ ﰲ اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻫﺎ ﺗﺮى املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ،وﺗﺤﺪﱢق إﻟﻴﻪ ﻟﱰى ﻣﺎ ﻳُﺨﺒﺊ ﻟﻬﺎ
ﻣﻦ اﻟﻐﺒﻄﺔ واﻟﺸﻘﺎء ،وﻓﺘﻰ ﻛﺜري اﻷﺣﻼم واﻟﻬﻮاﺟﺲ ﻟﻢ ﻳﺬُق ﺑَﻌْ ُﺪ ﺧﻤ َﺮ اﻟﺤﻴﺎة وﻻ ﺧ ﱠﻠﻬﺎ،
ﻳﺤﺮك ﺟﻨﺎﺣﻴﻪ ﻟﻴﻄري ﺳﺎﺑﺤً ﺎ ﰲ ﻓﻀﺎء املﺤﺒﺔ واملﻌﺮﻓﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻨﻬﻮض ﻟﻀﻌﻔﻪ.
ﺛﻼﺛﺔ ﺟﺎﻟﺴﻮن ﺣﻮل ﻣﺎﺋﺪة أﻧﻴﻘﺔ ﰲ ﻣﻨﺰل ﻣﻨﻔﺮد ﻋﻦ املﺪﻳﻨﺔ ،ﺗﺨﻴﱢﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﺪﺟﻰ
وﺗﺤﺪق إﻟﻴﻪ ﻋﻴﻮن اﻟﺴﻤﺎء ،ﺛﻼﺛﺔ ﻳﺄﻛﻠﻮن وﻳﴩﺑﻮن وﰲ أﻋﻤﺎق ﺻﺤﻮﻧﻬﻢ وﻛﺆوﺳﻬﻢ ﻗﺪ
أﺧﻔﻰ اﻟﻘ َﺪ ُر املﺮار َة واﻷﺷﻮا َك.
ﻧﻨﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺎء ﺣﺘﻰ دﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻨﺎ إﺣﺪى اﻟﺨﺎدﻣﺎت وﺧﺎﻃﺒﺖ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻗﺎﺋﻠﺔ: وﻟﻢ ِ
ﰲ اﻟﺒﺎب رﺟﻞ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي.
ﻓﺴﺄﻟﻬﺎ :ﻣﻦ ﻫﻮ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ؟ ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ :أﻇﻨﻪ ﺧﺎدم املﻄﺮان ﻳﺎ ﺳﻴﺪي .ﻓﺴﻜﺖ دﻗﻴﻘﺔ
وﺣﺪﱠق إﱃ ﻋﻴﻨﻲ اﺑﻨﺘﻪ ﻧﻈري ﻧﺒﻲ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ وﺟﻪ اﻟﺴﻤﺎء ﻟريى ﻣﺎ ﺗﺨﺒﺌﻪ ﻣﻦ اﻷﴎار ،ﺛﻢ
اﻟﺘﻔﺖ ﻧﺤﻮ اﻟﺨﺎدﻣﺔ وﻗﺎل :دﻋﻴﻪ ﻳﺪﺧﻞ.
ﻓﻌﺎدت اﻟﺨﺎدﻣﺔ ،وﺑﻌﺪ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﻇﻬﺮ رﺟﻞ ﺑﺄﺛﻮاب ﻣﺰرﻛﺸﺔ وﺷﺎرب ﻣﻌﻘﻮف اﻟﻄﺮﻓني،
ﻗﺎﺋﻼ :ﻗﺪ ﺑﻌﺜﻨﻲ ﺳﻴﺎدة املﻄﺮان ﺑﻤﺮﻛﺒﺘﻪ اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ ﻓﺴ ﱠﻠﻢ ﻣﻨﺤﻨﻴًﺎ وﺧﺎﻃﺐ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ً
ﻷﻃﻠﺐ إﻟﻴﻚ أن ﺗﺘﻜﺮم ﺑﺎﻟﺬﻫﺎب إﻟﻴﻪ ،ﻓﻬﻮ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺒﺎﺣﺜﻚ ﺑﺄﻣﻮر ذات أﻫﻤﻴﺔ.
ﺗﻐريت ﻣﻼﻣﺤﻪ واﻧﺤﺠﺒﺖ ﺑﺸﺎﺷﺔ وﺟﻬﻪ وراء ﻧﻘﺎب ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﺎﻧﺘﺼﺐ اﻟﺸﻴﺦ ،وﻗﺪ ﱠ
واﻟﺘﻔﻜري ،ﺛﻢ اﻗﱰب ﻣﻨﻲ وﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﺗﺴﺎوره اﻟﺮﻗﺔ واﻟﺤﻼوة :أرﺟﻮ أن أﻋﻮد وأﻟﻘﺎك ﻫﻬﻨﺎ؛
ﻣﺆﻧﺴﺎ ﻳﺒﻌﺪ ﺑﺄﺣﺎدﻳﺜﻪ وﺣﺸﺔ اﻟﻠﻴﻞ ،وﻳﺰﻳﻞ ﺑﺄﻧﻐﺎم ﻧﻔﺴﻪ ﺗﺄﺛري اﻟﻮﺣﺪة ً ﻓﺴﻠﻤﻰ ﺳﺘﺠﺪ ﺑﻚ
واﻻﻧﻔﺮاد .ﺛﻢ اﻟﺘﻔﺖ ﻧﺤﻮ اﺑﻨﺘﻪ وزاد ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎ :أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ؟
ﻗﻠﻴﻼ ،وﺑﺼﻮت ﻳﻀﺎرع ﻧﻐﻤﺔ اﻟﻨﺎي رﻗﺔ ﻓﺤﻨﺖ اﻟﺼﺒﻴﺔ رأﺳﻬﺎ وﻗﺪ ﺗﻮ ﱠردت وﺟﻨﺘﺎﻫﺎ ً
ﻗﺎﻟﺖ :ﺳﻮف أﺟﻬﺪ اﻟﻨﻔﺲ ﻟﻜﻲ أﺟﻌﻞ ﺿﻴﻔﻨﺎ ﻣﴪو ًرا ﻳﺎ واﻟﺪي.
وﺧﺮج اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﺤﻮﺑًﺎ ﺑﺨﺎدم املﻄﺮان ،وﻇﻠﺖ ﺳﻠﻤﻰ واﻗﻔﺔ ﺗﻨﻈﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﺬة ﻧﺤﻮ
اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺣﺘﻰ اﺧﺘﻔﺖ املﺮﻛﺒﺔ ﻋﻦ ﺑﴫﻫﺎ وراء ﺳﺘﺎﺋﺮ اﻟﻈﻼم ،واﺿﻤﺤ ّﻞ ارﺗﺠﺎج اﻟﺪواﻟﻴﺐ
ﺑﺘﺒﺎﻋﺪ املﺴﺎﻓﺔ ،وﺗﴩب اﻟﺴﻜﻮن ﺣﺮﺗﻘﺔ ﺳﻨﺎﺑﻚ اﻟﺨﻴﻞ ،ﺛﻢ ﺟﻠﺴﺖ ﻗﺒﺎﻟﺘﻲ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪ ُﻣﻮ َّﳽ
َت ﻗﺎﻣﺘﻬﺎ ﻧﺴﻤﺎت اﻟﺼﺒﺎح ﺑﻨﺴﻴﺞ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮ اﻷﺧﴬ ،ﻓﺒﺎﻧﺖ ﺑﺄﺛﻮاﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎﺻﻌﺔ ﻛﺰﻧﺒﻘﺔ َﻟﻮ ْ
ﻋﲆ ﺑﺴﺎط ﻣﻦ اﻷﻋﺸﺎب.
24
اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ
25
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻓِ ﻜﺮ واﺣﺪ ﻳﺠﻴﺌﻚ ﰲ ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻠﻴﻞ ﻳﺴري ﺑﻚ إﱃ املﺠﺪ أو إﱃ اﻟﺠﻨﻮن .ﻧﻈﺮة واﺣﺪة ﻣﻦ
أﻃﺮاف أﺟﻔﺎن اﻣﺮأة ﺗﺠﻌﻠﻚ أﺳﻌﺪ اﻟﻨﺎس أو أﺗﻌﺴﻬﻢ ،ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة ﺗﺨﺮج ﻣﻦ ﺑني ﺷﻔﺘﻲ
ﺼ ﱢريك ﻏﻨﻴٍّﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻔﻘﺮ أو ﻓﻘريًا ﺑﻌﺪ اﻟﻐﻨﻰ … ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة ﻟﻔﻈﺘﻬﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﰲ رﺟﻞ ﺗُ َ
ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﻬﺎدﺋﺔ أوﻗﻔﺘﻨﻲ ﺑني ﻣﺎﴈﱠ وﻣﺴﺘﻘﺒﲇ وﻗﻮف ﺳﻔﻴﻨﺔ ﺑني ﻟﺠﺔ اﻟﺒﺤﺎر وﻃﺒﻘﺎت
اﻟﻔﻀﺎء .ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﻗﺪ أﻳﻘﻈﺘﻨﻲ ﻣﻦ ُﺳﺒﺎت اﻟﺤﺪاﺛﺔ واﻟﺨﻠﻮّ ،وﺳﺎرت ﺑﺄﻳﺎﻣﻲ ﻋﲆ
ﻃﺮﻳﻖ ﺟﺪﻳﺪة إﱃ ﻣﺴﺎرح اﻟﺤﺐ ﺣﻴﺚ اﻟﺤﻴﺎة واملﻮت.
ﺧﺮﺟﻨﺎ إﱃ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ وﴎﻧﺎ ﺑني اﻷﺷﺠﺎر ﺷﺎﻋﺮﻳﻦ ﺑﺄﺻﺎﺑﻊ اﻟﻨﺴﻴﻢ اﻟﺨﻔﻴﺔ ﺗﻼﻣﺲ
وﺟﻬﻴﻨﺎ وﻗﺎﻣﺎت اﻷزﻫﺎر واﻷﻋﺸﺎب اﻟﻠﺪﻧﺔ ﺗﺘﻤﺎﻳﻞ ﺑني أﻗﺪاﻣﻨﺎ ،ﺣﺘﻰ إذا ﻣﺎ ﺑﻠﻐﻨﺎ ﺷﺠﺮة
اﻟﻴﺎﺳﻤني ﺟﻠﺴﻨﺎ ﺻﺎﻣﺘني ﻋﲆ ذﻟﻚ املﻘﻌﺪ اﻟﺨﺸﺒﻲ ﻧﺴﻤﻊ ﺗﻨﻔﺲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻨﺎﺋﻤﺔ ،وﻧﻜﺸﻒ
ﺑﺤﻼوة اﻟﺘﻨﻬﺪ ﺧﻔﺎﻳﺎ ﺻﺪرﻳﻨﺎ أﻣﺎم ﻋﻴﻮن اﻟﺴﻤﺎء اﻟﻨﺎﻇﺮة إﻟﻴﻨﺎ ﻣﻦ وراء ا ْز ِر َﻗﺎق اﻟﺴﻤﺎء.
وﻃﻠﻊ اﻟﻘﻤﺮ إذا ذاك ﻣﻦ وراء ﺻﻨني ،وﻏﻤﺮ ﺑﻨﻮره ﺗﻠﻚ اﻟﺮواﺑﻲ واﻟﺸﻮاﻃﺊ ،ﻓﻈﻬﺮت
اﻟﻘﺮى ﻋﲆ أﻛﺘﺎف اﻷودﻳﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻗﺪ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻣﻦ اﻟﻼﳾء ،وﺑﺎن ﻟﺒﻨﺎن ﺟﻤﻴﻌﻪ ﻣﻦ ﺗﺤﺖ
ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻌﺔ اﻟﻔﻀﻴﺔ ،ﻛﺄﻧﻪ ﻓﺘﻰ ﻣﺘﻜﺊ ﻋﲆ ﺳﺎﻋﺪه ﺗﺤﺖ ﻧﻘﺎب ﻟﻄﻴﻒ ﻳﺨﻔﻲ أﻋﻀﺎءه وﻻ
ﻳﺨﻔﻴﻬﺎ.
ﻟﺒﻨﺎن ﻋﻨﺪ ﺷﻌﺮاء اﻟﻐﺮب ﻣﻜﺎن ﺧﻴﺎﱄ ،ﻗﺪ اﺿﻤﺤ ّﻠﺖ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﺑﺬﻫﺎب داود وﺳﻠﻴﻤﺎن
واﻷﻧﺒﻴﺎء ،ﻣﺜﻠﻤﺎ اﻧﺤﺠﺒﺖ ﺟﻨﺔ ﻋﺪن ﺑﺴﻘﻮط آدم وﺣﻮاء ،ﻫﻮ ﻟﻔﻈﺔ ﺷﻌﺮﻳﺔ ﻻ اﺳﻢ ﺟﺒﻞ —
ﻟﻔﻈﺔ ﺗﺮﻣﺰ ﻋﻦ ﻋﺎﻃﻔﺔ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ وﺗﺴﺘﺤﴬ إﱃ اﻟﻔﻜﺮ رﺳﻮم ﻏﺎﺑﺎت ﻣﻦ اﻷَرز ﻳﻔﻮح ﻣﻨﻬﺎ
اﻟﻌﻄﺮ واﻟﺒﺨﻮر ،وأﺑﺮاج ﻣﻦ اﻟﻨﺤﺎس واﻟﺮﺧﺎم ﺗﺘﻌﺎﱃ ﺑﺎملﺠﺪ واﻟﻌﻈﻤﺔ ،وأﴎاب ﻣﻦ اﻟﻐﺰﻻن
ﺗﺘﻬﺎدى ﺑني اﻟﻄﻠﻮل واﻷودﻳﺔ .وأﻧﺎ ﻗﺪ رأﻳﺖ ﻟﺒﻨﺎن ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﺜﻞ ﻓﻜﺮ ﺷﻌﺮي ﺧﻴﺎﱄ
ﺑﺘﻐري ﻋﻮاﻃﻔﻨﺎ ،وﻫﻜﺬا ﻣﻨﺘﺼﺐ ﻛﺎﻟﺤﻠﻢ ﺑني اﻟﻴﻘﻈﺔ واﻟﻴﻘﻈﺔ .ﻛﺬا ﺗﺘﻐري اﻷﺷﻴﺎء أﻣﺎم أﻋﻴﻨﻨﺎ ﱡ
ﻧﺘﻮﻫﻢ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﺘﱠ ِﺸﺤﺔ ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ واﻟﺠﻤﺎل ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻ ﻳﻜﻮن اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺠﻤﺎل إﻻ ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ.
واﻟﺘﻔﺘﺖ إﱄ ّ ﺳﻠﻤﻰ وﻗﺪ ﻏﻤﺮ ﻧﻮر اﻟﻘﻤﺮ وﺟﻬﻬﺎ وﻋﻨﻘﻬﺎ وﻣﻌﺼﻤﻴﻬﺎ ،ﻓﺒﺎﻧﺖ ﻛﺘﻤﺜﺎل ﻣﻦ
اﻟﻌﺎج ﻧﺤﺘﺘﻪ أﺻﺎﺑﻊ ﻣﺘﻌﺒﺪ ﻟﻌﺸﱰوت رﺑﺔ اﻟﺤﺴﻦ واملﺤﺒﺔ :ملﺎذا ﻻ ﺗﺘﻜﻠﻢ؟ ملﺎذا ﻻ ﺗﺤﺪﺛﻨﻲ
ﻋﻦ ﻣﺎﴈ ﺣﻴﺎﺗﻚ؟
ﻓﻨﻈﺮت إﱃ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ املﻨريﺗني ،وﻣﺜﻞ أﺧﺮس ﻓﺎﺟﺄ اﻟﻨﻄﻖ ﺷﻔﺘﻴﻪ؛ أﺟﺒﺘﻬﺎ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻟﻢ
ﺗﺴﻤﻌﻴﻨﻲ ﻣﺘﻜﻠﻤً ﺎ ﻣﺬ ﺟﺌﺖ إﱃ ﻫﺬا املﻜﺎن؟ أو ﻟﻢ ﺗﺴﻤﻌﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﻠﺘﻪ ﻣﺬ ﺧﺮﺟﻨﺎ إﱃ ﻫﺬه
اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ؟ إن ﻧﻔﺴﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﻊ ﻫﻤﺲ اﻷزﻫﺎر وأﻏﺎﻧﻲ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺴﻤﻊ ﴏاخ
روﺣﻲ وﺿﺠﻴﺞ ﻗﻠﺒﻲ.
26
اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ
ﻓﺤﺠﺒﺖ وﺟﻬﻬﺎ ﺑﻴﺪﻳﻬﺎ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ ﺑﺼﻮت ﻣﺘﻘﻄﻊ :ﻗﺪ ﺳﻤﻌﺘﻚ … ﻧﻌﻢ ﺳﻤﻌﺘﻚ .ﺳﻤﻌﺖ
ً
ﺻﺎرﺧﺎ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻣﻦ أﺣﺸﺎء اﻟﻠﻴﻞ وﺿﺠﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻣﻨﺒﺜﻘﺔ ﻣﻦ ﻗﻠﺐ اﻟﻨﻬﺎر. ﺻﻮﺗًﺎ
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﴪﻋﺔ وﻗﺪ ﻧﺴﻴﺖ ﻣﺎﴈ ﺣﻴﺎﺗﻲ وﻧﺴﻴﺖ ﻛﻴﺎﻧﻲ وﻧﺴﻴﺖ ﻛﻞ ﳾء ،وﻟﻢ أﻋﺪ
أﻋﺮف ﺳﻮى ﺳﻠﻤﻰ وﻻ أﺷﻌﺮ ﺑﻐري وﺟﻮدﻫﺎ ،وأﻧﺎ ﻗﺪ ﺳﻤﻌﺘﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ؛ ﺳﻤﻌﺖ ﻧﻐﻤﺔ
ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻣﺤﻴﻴﺔ ﺟﺎرﺣﺔ ﺗﺘﻤﻮج ﻟﻬﺎ دﻗﺎﺋﻖ اﻟﻔﻀﺎء ،وﺗﻬﺘ ّﺰ ﺑﺎرﺗﻌﺎﺷﻬﺎ أﺳﺲ اﻷرض.
ﻓﺄﻏﻤﻀﺖ ﺳﻠﻤﻰ أﺟﻔﺎﻧﻬﺎ وﻇﻬﺮ ﻋﲆ ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ اﻟﻘﺮﻣﺰﻳﺘني ﺧﻴﺎل اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺤﺰﻧﺔ ،ﺛﻢ
ﻫﻤﺴﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ اﻵن ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻮﺟﺪ ﳾء أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ،وأﻋﻤﻖ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ ،وأﻗﻮى
ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة واملﻮت واﻟﺰﻣﻦ .وﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ اﻵن ﻣﺎ ﻟﻢ أﻛﻦ أﻋﺮﻓﻪ ﺑﺎﻷﻣﺲ وﻻ أﺣﻠﻢ ﺑﻪ.
ﻣﻨﺬ ﺗﻠﻚ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﺻﺎرت ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ أﻋ ﱠﺰ ﻣﻦ اﻟﺼﺪﻳﻖ وأﻗﺮب ﻣﻦ اﻷﺧﺖ وأﺣﺐ ﻣﻦ
ً
ﺟﻤﻴﻼ اﻟﺤﺒﻴﺒﺔ ،ﺻﺎرت ﻓﻜ ًﺮا ﺳﺎﻣﻴًﺎ ﻳﺘﺒﻊ ﻋﺎﻗﻠﺘﻲ ،وﻋﺎﻃﻔﺔ رﻗﻴﻘﺔ ﺗﻜﺘﻨﻒ ﻗﻠﺒﻲ ،وﺣﻠﻤً ﺎ
ﻳﺠﺎور ﻧﻔﴘ.
ﻣﺎ أﺟﻬﻞ اﻟﻨﺎس اﻟﺬﻳﻦ ﱠ
ﻳﺘﻮﻫﻤﻮن أن املﺤﺒﺔ ﺗﺘﻮﻟﺪ ﺑﺎملﻌﺎﴍة اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ واملﺮاﻓﻘﺔ املﺴﺘﻤﺮة.
إن املﺤﺒﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻫﻲ اﺑﻨﺔ اﻟﺘﻔﺎﻫﻢ اﻟﺮوﺣﻲ ،وإن ﻟﻢ ﻳﺘﻢ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺎﻫﻢ ﺑﻠﺤﻈﺔ واﺣﺪة ﻻ
ﻳﺘﻢ ﺑﻌﺎم وﻻ ﺑﺠﻴﻞ ﻛﺎﻣﻞ.
ورﻓﻌﺖ ﺳﻠﻤﻰ رأﺳﻬﺎ وﻧﻈﺮت ﻧﺤﻮ اﻷﻓﻖ اﻟﺒﻌﻴﺪ ﺣﻴﺚ ﺗﻠﺘﻘﻲ ﺧﻄﻮط ﺻﻨني ﺑﺄذﻳﺎل
اﻟﻔﻀﺎء ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ :ﻟﻘﺪ ﻛﻨﺖ ﱄ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻣﺜﻞ أخ أﻗﱰب ﻣﻨﻪ ﻣﻄﻤﺌﻨﺔ وأﺟﻠﺲ ﺑﺠﺎﻧﺒﻪ ﰲ ﻇﻼل
واﻟﺪي ،أﻣﺎ اﻵن ﻓﻘﺪ ﺷﻌﺮت ﺑﻮﺟﻮد أﻗﻮى وأﻋﺬب ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻷﺧﻮﻳﺔ ،ﻗﺪ ﺷﻌﺮت ﺑﻌﺎﻃﻔﺔ
ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻣﺠﺮدة ﻋﻦ ﻛﻞ ﻋﻼﻗﺔ؛ ﻋﺎﻃﻔﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻣﺨﻴﻔﺔ ﻟﺬﻳﺬة ﺗﻤﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﺣﺰﻧًﺎ وﻓﺮﺣً ﺎ.
ﻓﺄﺟﺒﺘﻬﺎ :أﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺨﺎﻓﻬﺎ وﻧﺮﺗﺠﻒ ملﺮورﻫﺎ ﰲ ﺻﺪورﻧﺎ ﺟﺰءًا ﻣﻦ
اﻟﻨﺎﻣﻮس اﻟﻜﲇ اﻟﺬي ﻳ َُﺴ ﱢري اﻟﻘﻤﺮ ﺣﻮل اﻷرض ،واﻷرض ﺣﻮل اﻟﺸﻤﺲ ،واﻟﺸﻤﺲ وﻣﺎ ﻳﺤﻴﻂ
ﺑﻬﺎ ﺣﻮل ﷲ؟
ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻳﺪﻫﺎ ﻋﲆ رأﳼ وﻏﺮﺳﺖ أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﺑﺸﻌﺮي ،وﻗﺪ ﺗﻬﻠﻞ وﺟﻬﻬﺎ وﺗﺮﻗﺮﻗﺖ
اﻟﺪﻣﻮع ﰲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻠﻤﻊ ﻗﻄﺮات اﻟﻨﺪى ﻋﲆ أﻃﺮاف أوراق اﻟﻨﺮﺟﺲ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ :ﻣَ ﻦ ِﻣﻦ
اﻟﺒﴩ ﻳﺼﺪق ﺣﻜﺎﻳﺘﻨﺎ؟ ﻣَ ﻦ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺼﺪق أﻧﻨﺎ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻲء ﺑني ﻏﺮوب اﻟﺸﻤﺲ
وﻃﻠﻮع اﻟﻘﻤﺮ ﻗﺪ ﻗﻄﻌْ ﻨﺎ اﻟﻌﻘﺒﺎت واﺟﺘﺰﻧﺎ املﻌﺎﺑﺮ اﻟﻜﺎﺋﻨﺔ ﺑني اﻟﺸﻚ واﻟﻴﻘني؟ ﻣَ ﻦ ﻣﻨﻬﻢ
ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻧﻴﺴﺎن اﻟﺬي ﺟﻤﻌﻨﺎ ﻷول ﻣﺮة ﻫﻮ اﻟﺸﻬﺮ اﻟﺬي أوﻗﻔﻨﺎ ﰲ ﻗﺪس أﻗﺪاس اﻟﺤﻴﺎة؟
ﻗﺎﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت وﻳﺪﻫﺎ ﻣﺎ ﺑﺮﺣﺖ ﻋﲆ رأﳼ املﻨﺤﻨﻲ ،وﻟﻮ ﺗﺨريت ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ
ملﺎ ﻓﻀﻠﺖ ﺗﻴﺠﺎن املﻠﻮك وأﻛﺎﻟﻴﻞ اﻟﻐﺎر ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﻴﺪ اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ املﺘﻼﻋﺒﺔ ﺑﺸﻌﺮي .ﺛﻢ أﺟﺒﺘﻬﺎ
27
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻗﺎﺋﻼ :إن اﻟﺒﴩ ﻻ ﻳﺼﺪﻗﻮن ﺣﻜﺎﻳﺘﻨﺎ ﻷﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮن ﺑﺄن املﺤﺒﺔ ﻫﻲ اﻟﺰﻫﺮة اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ً
ﺗﻨﺒﺖ وﺗﻨﻤﻮ ﺑﻐري ﻣﻌﺎوﻧﺔ اﻟﻔﺼﻮل ،وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﻫﻮ ﻧﻴﺴﺎن اﻟﺬي ﺟﻤﻌﻨﺎ ﻷول ﻣﺮة؟ وﻫﻞ ﻫﻲ
ُ
ﻗﺒﻀﺔ ﷲ ﻗﺒﻞ أن ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ أوﻗﻔﺘﻨﺎ ﰲ ﻗﺪس أﻗﺪاس اﻟﺤﻴﺎة؟ أﻣﺎ ﺟﻤﻌﺖ روﺣﻴﻨﺎ
ﺗﺼريﻧﺎ اﻟﻮﻻدة أﺳريي اﻷﻳﺎم واﻟﻠﻴﺎﱄ؟ إن ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻻ ﺗﺒﺘﺪئ ﰲ اﻟﺮﺣﻢ ،ﻛﻤﺎ ﱢ
أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻨﺘﻬﻲ أﻣﺎم اﻟﻘﱪ ،وﻫﺬا اﻟﻔﻀﺎء اﻟﻮاﺳﻊ املﻤﻠﻮء ﺑﺄﺷﻌﺔ اﻟﻘﻤﺮ واﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ
اﻷرواح املﺘﻌﺎﻧﻘﺔ ﺑﺎملﺤﺒﺔ واﻟﻨﻔﻮس املﺘﻀﺎﻣﻨﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﻫﻢ.
ورﻓﻌﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻳﺪﻫﺎ ﺑﻠﻄﻒ ﻋﻦ رأﳼ ﺗﺎرﻛﺔ ﺑني ﻣﻐﺎرس اﻟﺸﻌﺮ ﺗﻤﻮﺟﺎت ﻛﻬﺮﺑﺎﺋﻴﺔ
ُ
ﻓﺄﺧﺬت ﺗﻠﻚ اﻟﻴﺪ ﺑﺮاﺣﺘﻲ ،ﻧﻈري ﻣﺘﻌﺒّﺪ ﻳﺘﻼﻋﺐ ﺑﻬﺎ ﻧﺴﻴﻢ اﻟﻠﻴﻞ ،ﻓﻴﺰﻳﺪﻫﺎ ﻧﻤﻮٍّا وﺣﺮا ًﻛﺎ،
ﺷﻔﺘﻲ املﻠﺘﻬﺒﺘني وﻗﺒّﻠﺘﻬﺎ ﻗﺒﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺧﺮﺳﺎء،ﱠ ﻳﺘﱪك ﺑﻠﺜﻢ املﺬﺑﺢ ،ووﺿﻌﺘﻬﺎ ﻋﲆ
ﺗﺬﻳﺐ ﺑﺤﺮارﺗﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻘﻠﺐ اﻟﺒﴩي ﻣﻦ اﻹﺣﺴﺎس ،وﺗﻨﺒﻪ ﺑﻌﺬوﺑﺘﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ
اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻄﻬﺮ.
وﻣﺮت ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺳﺎﻋﺔ ﻛﻞ دﻗﻴﻘﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﺎم ﺷﻐﻒ وﻣﺤﺒﺔ ،ﺗﺴﺎورﻧﺎ ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻠﻴﻞ ،وﺗﻐﻤﺮﻧﺎ
أﺷﻌﺔ اﻟﻘﻤﺮ ،وﺗﺤﻴﻂ ﺑﻨﺎ اﻷﺷﺠﺎر واﻟﺮﻳﺎﺣني ،ﺣﺘﻰ إذا ﻣﺎ ﺑﻠﻐﻨﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﴗ ﻓﻴﻬﺎ
اﻹﻧﺴﺎن ﻛﻞ ﳾء ﺳﻮى ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺤﺐ ﺳﻤﻌﻨﺎ وﻗﻊ ﺣﻮاﻓﺮ وﻫﺪﻳﺮ ﻣﺮﻛﺒﺔ ﺗﻘﱰب ﻣﻨﺎ ﻣﴪﻋﺔ،
ﻓﺎﻧﺘﺒﻬﻨﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﻴﺒﻮﺑﺔ اﻟﻠﺬﻳﺬة ،وﻫﺒﻄﺖ ﺑﻨﺎ اﻟﻴﻘﻈﺔ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﺣﻼم إﱃ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ
اﻟﻮاﻗﻒ ﺑﻤﺴرية ﺑني اﻟﺤرية واﻟﺸﻘﺎء ،ﻓﻌﺮﻓﻨﺎ ﺑﺄن اﻟﻮاﻟﺪ اﻟﺸﻴﺦ ﻗﺪ ﻋﺎد ﻣﻦ دار املﻄﺮان،
ﻓﴪﻧﺎ ﺑني اﻷﺷﺠﺎر ﻧﻨﺘﻈﺮ وﺻﻮﻟﻪ .وﺑﻠﻐﺖ املﺮﻛﺒﺔ ﻣﺪﺧﻞ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،ﻓﱰﺟّ ﻞ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ
وﺳﺎر ﻧﺤﻮﻧﺎ ﻣﻨﺤﻨﻲ اﻟﺮأس ﺑﻄﻲء اﻟﺤﺮﻛﺔ ،وﻧﻈري ﻣﺘﻌﺐ رازح ﺗﺤﺖ ﺣﻤﻞ ﺛﻘﻴﻞ ﺗﻘﺪّم
ﻃﻮﻳﻼ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺨﺎف أن ﺗﻐﻴﺐ ً ﻧﺤﻮ ﺳﻠﻤﻰ ،ووﺿﻊ ﻛﻠﺘﺎ ﻳﺪﻳﻪ ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻴﻬﺎ ،وﺣﺪق إﱃ وﺟﻬﻬﺎ
ﺻﻮرﺗﻬﺎ ﻋﻦ ﻋﻴﻨﻴﻪ اﻟﻀﺌﻴﻠﺘني ،ﺛﻢ اﻧﺴﻜﺒﺖ دﻣﻮﻋﻪ ﻋﲆ وﺟﻨﺘﻴﻪ املﺘﺠﻌﱢ ﺪﺗني وارﺗﺠﻔﺖ ﺷﻔﺘﺎه
ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺤﺰﻧﺔ ،وﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﻣﺨﻨﻮق :ﻋﻤﺎ ﻗﺮﻳﺐ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ،ﻋﻤﺎ ﻗﺮﻳﺐ ﺗﺨﺮﺟني ﻣﻦ ﺑني
ذراﻋﻲ واﻟﺪك إﱃ ذراﻋﻲ رﺟﻞ آﺧﺮ ،ﻋﻤﺎ ﻗﺮﻳﺐ ﺗﺴري ﺑﻚ ﺳﻨﺔ ﷲ ﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﺰل املﻨﻔﺮد إﱃ ْ
ﺳﺎﺣﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻮاﺳﻌﺔ ،ﻓﺘﺼﺒﺢ ﻫﺬه اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﻣﺸﺘﺎﻗﺔ إﱃ وطء ﻗﺪﻣﻴﻚ وﻳﺼري واﻟﺪك ﻏﺮﻳﺒًﺎ
ﻋﻨﻚ .ﻟﻘﺪ ﻟﻔﻆ اﻟﻘﺪر ﻛﻠﻤﺘﻪ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻓﻠﺘﺒﺎرﻛﻚ اﻟﺴﻤﺎء وﺗﺤﺮﺳﻚ!
ﻓﺘﻐريت ﻣﻼﻣﺤﻬﺎ وﺟﻤﺪت ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ رأت ﺷﺒﺢ املﻮت ْ ﺳﻤﻌﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت
ﻣﻨﺘﺼﺒًﺎ أﻣﺎﻣﻬﺎ ،ﺛﻢ ﺷﻬﻘﺖ وﺗﻤﻠﻤﻠﺖ ﻣﺘﻮﺟﱢ ﻌﺔ ﻛﻌﺼﻔﻮر رﻣﺎه اﻟﺼﻴﺎد ﻓﻬﺒﻂ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﻴﺾ
اﻟﻐﺼﺎت اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﴏﺧﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻣﺎذا ﺗﻘﻮل؟ ﻣﺎذا ﺗﻌﻨﻲ؟ ّ ً
ﻣﺮﺗﺠﻔﺎ ﺑﺂﻻﻣﻪ ،وﺑﺼﻮت ﺗﻘﻄﻌﻪ
إﱃ أﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺒﻌﺚ ﺑﻲ؟
28
اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ
ﺛﻢ ﺷﺨﺼﺖ ﺑﻪ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺰﻳﻞ ﺑﻨﻈﺮاﺗﻬﺎ اﻟﻐﻼف ﻋﻦ ﻣﺨﺒﺂت ﺻﺪره ،وﺑﻌﺪ
دﻗﻴﻘﺔ ﻣﺜﻘﻠﺔ ﺑﻌﻮاﻣﻞ ذﻟﻚ اﻟﺴﻜﻮن اﻟﺸﺒﻴﻪ ﺑﴫاخ اﻟﻘﺒﻮر ﻗﺎﻟﺖ ﻣﺘﺄوﱢﻫﺔ :ﻗﺪ ﻓﻬﻤﺖ اﻵن …
ﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ ﻛﻞ ﳾء … إن املﻄﺮان ﻗﺪ ﻓﺮغ ﻣﻦ ﺣَ ﺒْﻚِ ﻗﻀﺒﺎن اﻟﻘﻔﺺ اﻟﺬي أﻋﺪّه ﻟﻬﺬا اﻟﻄﺎﺋﺮ
املﻜﺴﻮر اﻟﺠﻨﺎﺣني ،ﻓﻬﻞ ﻫﺬه ﻫﻲ إرادﺗﻚ ﻳﺎ واﻟﺪي؟
ﻓﻠﻢ ﻳﺠﺒﻬﺎ ﺑﻐري اﻟﺘﻨﻬﱡ ﺪات اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ،ﺛﻢ أدﺧﻠﻬﺎ اﻟﺪار وأﺷﻌﺔ اﻟﺤﻨﻮ ﺗﻨﺴﻜﺐ ﻣﻦ ﻣﻼﻣﺤﻪ
واﻗﻔﺎ ﺑني اﻷﺷﺠﺎر واﻟﺤرية ﺗﺘﻼﻋﺐ ﺑﻌﻮاﻃﻔﻲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺘﻼﻋﺐ اﻟﻌﻮاﺻﻒ املﻀﻄﺮﺑﺔ ،ﻓﺒﻘﻴﺖ أﻧﺎ ً
ﺑﺄوراق اﻟﺨﺮﻳﻒ ،ﺛﻢ ﺗﺒﻌﺘﻬﻤﺎ إﱃ اﻟﻘﺎﻋﺔ .وﻛﻴﻼ أﻇﻬﺮ ﺑﻤﻈﻬﺮ ﻃﻔﻴﲇ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ اﺳﺘﻄﻼع
ﺗﻠﻔﺖ ﻧﺤﻮ ﻧﺠﻢ ﻻﻣﻊ اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺎت أﺧﺬت ﻳﺪ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﻮدﻋً ﺎ ،وﻧﻈﺮت إﱃ ﺳﻠﻤﻰ ﻧﻈﺮة ﻏﺮﻳﻖ ّ
ﰲ ﻗﺒﺔ اﻟﻔﻠﻚ ،ﺛﻢ ﺧﺮﺟﺖ دون أن ﻳﺸﻌﺮوا ﺑﺨﺮوﺟﻲ ،وﻟﻜﻨﻨﻲ ﻣﺎ ﺑﻠﻐﺖ أﻃﺮاف اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ
ﺣﺘﻰ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮت اﻟﺸﻴﺦ ﻣﻨﺎدﻳًﺎ ،ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ وإذا ﺑﻪ ﻳﺘﺒﻌﻨﻲ ،ﻓﻌﺪت إﱃ ﻟﻘﺎﺋﻪ ،وملﺎ دﻧﻮت
ً
ﻣﻜﺘﻨﻔﺎ ﻣﻨﻪ أﻣﺴﻚ ﺑﻴﺪي وﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﻣﺮﺗﻌﺶ :ﺳﺎﻣﺤﻨﻲ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﺧﺘﺎم ﻟﻴﻠﺘﻚ
ﺑﺎﻟﺪﻣﻮع ،وﻟﻜﻨﻚ ﺳﻮف ﺗﺠﻲء إﱄ ّ داﺋﻤً ﺎ ،أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟ أﻻ ﺗﺰورﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼري ﻫﺬا املﻜﺎن
اﻟﻐﺾ ﻻ ﻳﺴﺘﺄﻧﺲ ﺑﺎﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ اﻟﺬاﺑﻠﺔ ،ﻛﻤﺎ ّ ﺧﺎﻟﻴًﺎ إﻻ ﻣﻦ اﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ املﺤﺰﻧﺔ؟ إن اﻟﺸﺒﺎب
أن اﻟﺼﺒﺎح ﻻ ﻳﻠﺘﻘﻲ ﺑﺎملﺴﺎء ،أﻣﺎ أﻧﺖ ﻓﺴﻮف ﺗﺠﻲء إﱄ ّ ﻟﺘُﺬَﻛﺮﻧﻲ ﺑﺄﻳﺎم اﻟﺼﺒﺎ اﻟﺘﻲ ﴏﻓﺘﻬﺎ
ﺑﻘﺮب أﺑﻴﻚ ،وﺗﻌﻴﺪ ﻋﲆ ﻣﺴﻤﻌﻲ أﺧﺒﺎر اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﺤﺴﺒﻨﻲ ﻣﻦ أﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ،أﻟﻴﺲ
ﻛﺬﻟﻚ؟ أﻻ ﺗﺰورﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺬﻫﺐ ﺳﻠﻤﻰ وأﺻﺒﺢ وﺣﻴﺪًا ﻣﻨﻔﺮدًا ﰲ ﻫﺬا املﻨﺰل اﻟﺒﻌﻴﺪ ﻋﻦ
املﻨﺎزل؟
ﻄﻊ ،وملﺎ أﺧﺬت ﻳﺪه وﻫﺰزﺗﻬﺎ ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﻟﻔﻆ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻷﺧرية ﺑﺼﻮت ﻣﻨﺨﻔﺾ ﻣﺘﻘ ﱢ
أﺣﺴﺴﺖ ﺑﻘﻄﺮات ﻣﻦ اﻟﺪﻣﻮع اﻟﺴﺨﻴﻨﺔ ﻗﺪ ﺗﺴﺎﻗﻄﺖ ﻋﲆ ﻳﺪي ﻣﻦ ﺟﻔﺎﻧﻪ ،ﻓﺎرﺗﻌﺸﺖ
ﻧﻔﴘ ﰲ داﺧﲇ ،وﺷﻌﺮت ﻧﺤﻮه ﺑﻌﺎﻃﻔﺔ ﺑﻨﻮﻳّﺔ ﻋﺬﺑﺔ ﻣﺤﺰﻧﺔ ﺗﺘﻤﺎﻳﻞ ﺑني ﺿﻠﻮﻋﻲ ،وﺗﺘﺼﺎﻋﺪ
ﻛﺎﻟﻐﺼﺎت إﱃ أﻋﻤﺎق ﻗﻠﺒﻲ .وملﺎ رﻓﻌﺖ رأﳼ و َرأَى أن دﻣﻮﻋﻪّ ﻛﺎﻟ ّﻠﻬﺎث إﱃ ﺷﻔﺘﻲ ،ﺛﻢ ﺗﻌﻮد
ﻗﻠﻴﻼ وملﺲ ﺑﺸﻔﺘﻴﻪ املﺮﺗﺠﻔﺘني أﻋﲆ ﺟﺒﻬﺘﻲ ،ﺛﻢ ﻗﺪ اﺳﺘﺪرت اﻟﺪﻣﻮع ﻣﻦ أﺟﻔﺎﻧﻲ اﻧﺤﻨﻰ ً
ً
ﻣﺤﻮﻻ وﺟﻬﻪ ﻧﺤﻮ ﺑﺎب املﻨﺰل :ﻣﺴﺎء اﻟﺨري … ﻣﺴﺎء اﻟﺨري ﻳﺎ اﺑﻨﻲ. ﻗﺎل
إن دﻣﻌﺔ واﺣﺪة ﺗﺘﻠﻤﻊ ﻋﲆ وﺟﻨﺔ ﺷﻴﺦ ﻣﺘﺠﻌﺪة ﻟﻬﻲ أﺷﺪ ﺗﺄﺛريًا ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ
ﺗﻬﺮﻗﻪ أﺟﻔﺎن اﻟﻔﺘﻴﺎن.
إن دﻣﻮع اﻟﺸﺒﺎب اﻟﻐﺰﻳﺮة ﻫﻲ ﻣﻤﺎ ﻳﻔﻴﺾ ﻣﻦ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻘﻠﻮب املﱰﻋﺔ ،أﻣﺎ دﻣﻮع
اﻟﺸﻴﻮخ ،ﻓﻬﻲ ﻣﻦ ﻓﻀﻼت اﻟﻌﻤﺮ ﺗﻨﺴﻜﺐ ﻣﻦ اﻷﺣﺪاق ،ﻫﻲ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻷﺟﺴﺎد
اﻟﻮاﻫﻨﺔ .اﻟﺪﻣﻮع ﰲ أﺟﻔﺎن اﻟﺸﺒﻴﺒﺔ ﻛﻘﻄﺮات اﻟﻨﺪى ﻋﲆ أوراق اﻟﻮردة ،أﻣﺎ اﻟﺪﻣﻮع ﻋﲆ
29
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
وﺟﻨﺔ اﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ ﻓﺄﺷﺒﻪ ﺑﺄوراق اﻟﺨﺮﻳﻒ املﺼﻔﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺜﺮﻫﺎ اﻟﺮﻳﺎح وﺗﺬرﻳﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻳﻘﱰب ﺷﺘﺎء اﻟﺤﻴﺎة.
واﺧﺘﻔﻰ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ وراء ﻣﴫاﻋﻲ اﻟﺒﺎب ،وﺧﺮﺟﺖ أﻧﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ وﺻﻮت
ّ
ﺗﺠﻒ ﺑﺒﻂء أذﻧﻲ ،وﺟﻤﺎﻟﻬﺎ ﻳﺴري ﻛﺎﻟﺨﻴﺎل أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻲ ،ودﻣﻮع واﻟﺪﻫﺎ ّ ﺳﻠﻤﻰ ﻳﺘﻤﻮّ ج ﰲ
ﻋﲆ ﻳﺪيّ .ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ذﻟﻚ املﻜﺎن ﺧﺮوج آدم ﻣﻦ اﻟﻔﺮدوس ،وﻟﻜﻦ ﺣﻮاء ﻫﺬا اﻟﻘﻠﺐ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ
ً
ﻓﺮدوﺳﺎ .ﺧﺮﺟﺖ ﺷﺎﻋ ًﺮا ﺑﺄن ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ وُﻟﺪت ﻓﻴﻬﺎ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﺑﺠﺎﻧﺒﻲ ﻟﺘﺠﻌﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ
ﻫﻲ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ملﺤﺖ ﻓﻴﻬﺎ وﺟﻪ املﻮت ﻷول ﻣﺮة.
ﻛﺬا ﺗُﺤﻴﻲ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺤﻘﻮل ﺑﺤﺮارﺗﻬﺎ ،وﺑﺤﺮارﺗﻬﺎ ﺗُﻤﻴﺘﻬﺎ.
30
ﺑﺤﲑة اﻟﻨﺎر
ﴎا ﰲ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﻠﻴﻞ ﻳﻈﻬﺮه اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻠﻨًﺎ ﰲ ﻧﻮر اﻟﻨﻬﺎر .اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻹﻧﺴﺎن ٍّ
اﻟﺘﻲ ﺗﻬﻤﺴﻬﺎ ﺷﻔﺎﻫﻨﺎ ﰲ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﺗﺼري ﻋﲆ ﻏري ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﻨﺎ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻋﻤﻮﻣﻴٍّﺎ ،واﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ
ﺗﺘﺠﺴﻢ ﻏﺪًا ،وﺗﻨﺘﺼﺐ ﰲ ﻣﻨﻌﻄﻔﺎت اﻟﺸﻮارع. ّ ﻧﺤﺎول اﻟﻴﻮم إﺧﻔﺎءﻫﺎ ﰲ زاوﻳﺎ املﻨﺎزل
ﻛﺬا أﻋﻠﻨﺖ أﺷﺒﺎح اﻟﺪﺟﻰ ﻣﻘﺎﺻﺪ املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ﻣﻦ اﺟﺘﻤﺎﻋﻪ ﺑﻔﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ،
وﻫﻜﺬا ﺣﻤﻠﺖ دﻗﺎﺋﻖ اﻷﺛري أﻗﻮاﻟﻪ وأﺣﺎدﻳﺜﻪ إﱃ أﺣﻴﺎء املﺪﻳﻨﺔ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﺴﻤﻌﻲ.
ﻣﺎ ﻃﻠﺐ املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﻘﻤﺮة ﻟﻴﻔﺎوﺿﻪ
ﺑﺸﺆون اﻟﻔﻘﺮاء واملﻌﻮزﻳﻦ ،أو ﻳﺨﺎﺑﺮه ﺑﺄﻣﻮر اﻷراﻣﻞ واﻷﻳﺘﺎم ،ﺑﻞ أﺣﴬه ﺑﻤﺮﻛﺒﺘﻪ
ﻋﺮوﺳﺎ ﻻﺑﻦ أﺧﻴﻪ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻏﺎﻟﺐ. ً اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ اﻟﻔﺨﻤﺔ ﻟﻴﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ اﺑﻨﺘﻪ ﺳﻠﻤﻰ
رﺟﻼ ﻏﻨﻴٍّﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ وارث ﺳﻮى اﺑﻨﺘﻪ ﺳﻠﻤﻰ ،وﻗﺪ اﺧﺘﺎرﻫﺎ ً ﻛﺎن ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ
املﻄﺮان زوﺟﺔ ﻻﺑﻦ أﺧﻴﻪ ،ﻻ ﻟﺠﻤﺎل وﺟﻬﻬﺎ وﻧﺒﺎﻟﺔ روﺣﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻷﻧﻬﺎ ﻏﻨﻴﺔ ﻣﻮﴎة ،ﺗﻜﻔﻞ
ﺑﺄﻣﻮاﻟﻬﺎ اﻟﻄﺎﺋﻠﺔ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ،وﺗﺴﺎﻋﺪه ﺑﺄﻣﻼﻛﻬﺎ اﻟﻮاﺳﻌﺔ ﻋﲆ إﻳﺠﺎد ﻣﻘﺎم رﻓﻴﻊ
ّ
اﻟﺨﺎﺻﺔ واﻷﴍاف. ﺑني
إن رؤﺳﺎء اﻟﺪﻳﻦ ﰲ اﻟﴩق ﻻ ﻳﻜﺘﻔﻮن ﺑﻤﺎ ﻳﺤﺼﻠﻮن ﻋﻠﻴﻪ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻦ املﺠﺪ واﻟﺴﺆدد،
ﺑﻞ ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ وﺳﻌﻬﻢ ﻟﻴﺠﻌﻠﻮا أﻧﺴﺒﺎءﻫﻢ ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ اﻟﺸﻌﺐ وﻣﻦ املﺴﺘﺒﺪﱢﻳﻦ ﺑﻪ
واملﺴﺘﺪ ّرﻳﻦ ﻗﻮاه وأﻣﻮاﻟﻪ .إن ﻣﺠﺪ اﻷﻣري ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑﺎﻹرث إﱃ اﺑﻨﻪ اﻟﺒﻜﺮ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ،أﻣﺎ
ﻣﺠﺪ اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻓﻴﻨﺘﻘﻞ ﺑﺎﻟﻌﺪوى إﱃ اﻹﺧﻮة وأﺑﻨﺎء اﻹﺧﻮة ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ .وﻫﻜﺬا ﻳﺼﺒﺢ
اﻷﺳﻘﻒ املﺴﻴﺤﻲ واﻹﻣﺎم املﺴﻠﻢ واﻟﻜﺎﻫﻦ اﻟﱪﻫﻤﻲ ،ﻛﺄﻓﺎﻋﻲ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺒﺾ ﻋﲆ اﻟﻔﺮﻳﺴﺔ
ّ
وﺗﻤﺘﺺ دﻣﺎءﻫﺎ ﺑﺄﻓﻮاه ﻋﺪﻳﺪة. ﺑﻤﻘﺎﺑﺾ ﻛﺜرية
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﻠﺐ املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻳﺪ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﻦ واﻟﺪﻫﺎ ﻟﻢ ﻳﺠﺒﻪ ذﻟﻚ اﻟﺸﻴﺦ ﺑﻐري اﻟﺴﻜﻮت
اﻟﻌﻤﻴﻖ واﻟﺪﻣﻮع اﻟﺴﺨﻴﻨﺔ ،وأي واﻟﺪ ﻻ ﻳﺸﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺮاق اﺑﻨﺘﻪ ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ذاﻫﺒﺔ إﱃ ﺑﻴﺖ
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﺑﺎﻟﻐﺼﺎت ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻔﺼﻠﻪ ﻧﺎﻣﻮس ّ ﺟﺎره أو إﱃ ﻗﴫ ﻣﻠﻚ؟ أي رﺟﻞ ﻻ ﺗﺮﺗﻌﺶ أﻋﻤﺎق ﻧﻔﺴﻪ
اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻦ اﻻﺑﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻻﻋﺒﻬﺎ ﻃﻔﻠﺔ وﻫ ّﺬﺑﻬﺎ ﺻﺒﻴﺔ وراﻓﻘﻬﺎ اﻣﺮأة؟ إن ﻛﺂﺑﺔ اﻟﻮاﻟﺪﻳﻦ ﻟﺰواج
اﻻﺑﻨﺔ ﺗﻀﺎرع ﻓﺮﺣﻬﻤﺎ ﺑﺰواج اﻻﺑﻦ ،ﻷن ﻫﺬا ﻳﻜﺴﺐ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻋﻀﻮًا ﺟﺪﻳﺪًا ،أﻣﺎ ذاك ﻓﻴﺴﻠﺒﻬﺎ
ﻋﻀﻮًا ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻋﺰﻳ ًﺰا .أﺟﺎب اﻟﺸﻴﺦ ﻃﻠﺐ املﻄﺮان ﻣﻀﻄ ٍّﺮا ،واﻧﺤﻨﻰ أﻣﺎم ﻣﺸﻴﺌﺘﻪ ﻗﻬ ًﺮا ﻋﻤﺎ
ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ املﻤﺎﻧﻌﺔ ،وﻛﺎن ﻗﺪ اﺟﺘﻤﻊ ﺑﺎﺑﻦ أﺧﻴﻪ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ وﺳﻤﻊ اﻟﻨﺎس ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ﻋﻨﻪ،
ً
أﺳﻘﻔﺎ ﰲ ﻓﻌﺮف ﺧﺸﻮﻧﺘﻪ وﻃﻤﻌﻪ واﻧﺤﻄﺎط أﺧﻼﻗﻪ ،وﻟﻜﻦ أي ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻳﻘﺪر أن ﻳﻘﺎوم
ﺳﻮرﻳﺎ وﻳﺒﻘﻰ ﻣﺤﺴﻮﺑًﺎ ﺑني املﺆﻣﻨني؟ أي رﺟﻞ ﻳﺨﺮج ﻋﻦ ﻃﺎﻋﺔ رﺋﻴﺲ دﻳﻨﻪ ﰲ اﻟﴩق
ﺳﻴﻔﺎ وﻻ ﺗُﻘﻄﻊ؟وﻳﻈﻞ ﻛﺮﻳﻤً ﺎ ﺑني اﻟﻨﺎس؟ أﺗﻌﺎﻧﺪ اﻟﻌني ﺳﻬﻤً ﺎ وﻻ ﺗُﻔﻘﺄ؟ أو ﺗﻨﺎﺿﻞ اﻟﻴﺪ ً
وﻫﺐ أن ذﻟﻚ اﻟﺸﻴﺦ ﻛﺎن ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ واﻟﻮﻗﻮف أﻣﺎم ﻣﻄﺎﻣﻌﻪ ،ﻓﻬﻞ
ﺗﻜﻮن ﺳﻤﻌﺔ اﺑﻨﺘﻪ ﰲ ﻣﺄﻣﻦ ﻣﻦ اﻟﻈﻨﻮن واﻟﺘﺂوﻳﻞ؟ وﻫﻞ ﻳﻈﻞ اﺳﻤﻬﺎ ﻧﻘﻴٍّﺎ ﻣﻦ أوﺳﺎخ اﻟﺸﻔﺎه
واﻷﻟﺴﻨﺔ؟ أ َ َو ﻟﻴﺴﺖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻌﻨﺎﻗﻴﺪ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﺣﺎﻣﻀﺔ ﰲ ﴍع ﺑﻨﺎت آوى؟
ﻫﻜﺬا ﻗﺒﺾ اﻟﻘﺪر ﻋﲆ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ،وﻗﺎدﻫﺎ ﻋﺒْﺪة ذﻟﻴﻠﺔ ﰲ ﻣﻮﻛﺐ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﴩﻗﻴﺎت
اﻟﺘﺎﻋﺴﺎت ،وﻫﻜﺬا ﺳﻘﻄﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺮوح اﻟﻨﺒﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﺤﺒﺎﺋﻞ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﺒﺢ ﻷول ﻣﺮة ﻋﲆ
ﻄﺮه راﺋﺤﺔ اﻷزاﻫﺮ.أﺟﻨﺤﺔ اﻟﺤﺐ اﻟﺒﻴﻀﺎء ﰲ ﻓﻀﺎء ﺗﻤﻸه أﺷﻌﺔ اﻟﻘﻤﺮ وﺗﻌ ّ
إن أﻣﻮال اﻵﺑﺎء ﺗﻜﻮن ﰲ أﻛﺜﺮ املﻮاﻃﻦ ﻣﺠﻠﺒﺔ ﻟﺸﻘﺎء اﻟﺒﻨني؛ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﺰاﺋﻦ اﻟﻮاﺳﻌﺔ اﻟﺘﻲ
ﺣﺒﻮﺳﺎ ﺿﻴﻘﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﻟﻨﻔﻮس اﻟﻮرﺛﺔ .ذﻟﻚ اﻹﻟﻪ ً ﻳﻤﻸﻫﺎ ﻧﺸﺎط اﻟﻮاﻟﺪ وﺣﺮص اﻷم ﺗﻨﻘﻠﺐ
ً ً
اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺬي ﻳﻌﺒﺪه اﻟﻨﺎس ﺑﺸﻜﻞ اﻟﺪﻳﻨﺎر ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺷﻴﻄﺎﻧﺎ ﻣﺨﻴﻔﺎ ﻳﻌﺬب اﻟﻨﻔﻮس وﻳﻤﻴﺖ
اﻟﻘﻠﻮب .وﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻫﻲ ﻛﺎﻟﻜﺜريات ﻣﻦ ﺑﻨﺎت ﺟﻨﺴﻬﺎ اﻟﻠﻮاﺗﻲ ﻳﺬﻫﺒﻦ ﺿﺤﻴﺔ ﺛﺮوة اﻟﻮاﻟﺪ
وأﻣﺎﻧﻲ اﻟﻌﺮﻳﺲ .ﻓﻠﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ً
رﺟﻼ ﻏﻨﻴٍّﺎ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ اﻟﻴﻮم ﺣﻴﺔ ﺗﻔﺮح ﻣﺜﻠﻨﺎ
ﺑﻨﻮر اﻟﺸﻤﺲ.
ﻣَ ّﺮ أﺳﺒﻮع وﺣﺐ ﺳﻠﻤﻰ ﻳﺠﺎﻟﺴﻨﻲ ﰲ املﺴﺎء ﻣﻨﺸﺪًا ﻋﲆ ﻣﺴﻤﻌﻲ أﻏﺎﻧﻲ اﻟﺴﻌﺎدة،
وﻳﻨﺒﻬﻨﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺠﺮ ﻟريﻳﻨﻲ ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟﺤﻴﺎة وأﴎار اﻟﻜﻴﺎن .ﺣُ ﺐﱞ ﻋﻠﻮي ﻻ ﻳﻌﺮف اﻟﺤﺴﺪ
ﻷﻧﻪ ﻏﻨﻲ ،وﻻ ﻳﻮﺟﻊ اﻟﺠﺴﺪ ﻷﻧﻪ ﰲ داﺧﻞ اﻟﺮوح .ﻣﻴﻞ ﻗﻮي ﻳﻐﻤﺮ اﻟﻨﻔﺲ ﺑﺎﻟﻘﻨﺎﻋﺔ ،ﻣﺠﺎﻋﺔ
ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺗﻤﻸ اﻟﻘﻠﺐ ﺑﺎﻻﻛﺘﻔﺎء ،ﻋﺎﻃﻔﺔ ﺗﻮ ﱢﻟﺪ اﻟﺸﻮق وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺜريه ،ﻓﺘﻮن ﺟﻌﻠﻨﻲ أرى اﻷرض
ﺟﻤﻴﻼ .ﻓﻜﻨﺖ أﺳريُ ﺻﺒﺎﺣً ﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻮل وأرى ﰲ ﻳﻘﻈﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ رﻣﺰ ً ﻧﻌﻴﻤً ﺎ واﻟﻌﻤﺮ ﺣﻠﻤً ﺎ
اﻟﺨﻠﻮد ،وأﺟﻠﺲ ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﺒﺤﺮ وأﺳﻤﻊ ﻣﻦ أﻣﻮاﺟﻪ أﻏﺎﻧﻲ اﻷﺑﺪﻳﺔ ،وأﻣﴚ ﰲ ﺷﻮارع
املﺪﻳﻨﺔ وأﺟﺪ ﰲ ﻃﻠﻌﺎت اﻟﻌﺎﺑﺮﻳﻦ وﺣﺮﻛﺎت املﺸﺘﻐﻠني ﻣﺤﺎﺳﻦ اﻟﺤﻴﺎة وﺑﻬﺠﺔ اﻟﻌﻤﺮان.
ﻳﺒﻖ ﱄ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻮى اﻟﺬﻛﺮى ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ﻣﻀﺖ ﻛﺎﻷﺷﺒﺎح واﺿﻤﺤ ّﻠﺖ ﻛﺎﻟﻀﺒﺎب ،وﻟﻢ َ
اﻷﻟﻴﻤﺔ؛ ﻓﺎﻟﻌني اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أرى ﺑﻬﺎ ﺟﻤﺎل اﻟﺮﺑﻴﻊ وﻳﻘﻈﺔ اﻟﺤﻘﻮل ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﺤﺪﱢق إﱃ ﻏري
32
ﺑﺤرية اﻟﻨﺎر
ﻏﻀﺐ اﻟﻌﻮاﺻﻒ وﻳﺄس اﻟﺸﺘﺎء .واﻷذن اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﺳﻤﻊ ﺑﻬﺎ أﻏﻨﻴﺔ اﻷﻣﻮاج ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﺗﺼﻐﻲ
ﻟﻐري أﻧﱠﺔ اﻷﻋﻤﺎق وﻋﻮﻳﻞ اﻟﻬﺎوﻳﺔ .واﻟﻨﻔﺲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻒ ﻣﺘﻬﻴﱢﺒﺔ أﻣﺎم ﻧﺸﺎط اﻟﺒﴩ وﻣﺠﺪ
اﻟﻌﻤﺮان ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﻐري ﺷﻘﺎء اﻟﻔﻘﺮاء وﺗﻌﺎﺳﺔ اﻟﺴﺎﻗﻄني .ﻓﻤﺎ أﺣﲆ أﻳﺎم اﻟﺤﺐ وﻣﺎ
أﻋﺬب أﺣﻼﻣﻬﺎ! وﻣﺎ أﻣ ﱠﺮ ﻟﻴﺎﱄ اﻟﺤﺰن وﻣﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﺨﺎوﻓﻬﺎ!
وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷﺳﺒﻮع ،وﻗﺪ ﺳﻜﺮت ﻧﻔﴘ ﺑﺨﻤﺮة ﻋﻮاﻃﻔﻲ ،ﴎت ﻣﺴﺎءً إﱃ ﻣﻨﺰل ﺳﻠﻤﻰ
ﻛﺮاﻣﺔ ،ذﻟﻚ اﻟﻬﻴﻜﻞ اﻟﺬي أﻗﺎﻣﻪ اﻟﺠﻤﺎل وﻗﺪﱠﺳﻪ اﻟﺤﺐ ﻟﺘﺴﺠﺪ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﺼﻠﻴﺔ وﻳﺮﻛﻊ
اﻟﻘﻠﺐ ﺧﺎﺷﻌً ﺎ .وملﺎ ﺑﻠﻐﺘﻪ ودﺧﻠﺖ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﻬﺎدﺋﺔ أﺣﺴﺴﺖ ﺑﻮﺟﻮد ﻗﻮة ﺗﺴﺘﻬﻮﻳﻨﻲ
ﺧﺎل ﻣﻦ اﻟﻌﺮاكوﺗﺴﺘﻤﻴﻠﻨﻲ وﺗﺒﻌﺪﻧﻲ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺗﺪﻧﻴﻨﻲ ﺑﺒﻂء إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﺳﺤﺮي ٍ
واﻟﺠﻬﺎد ،وﻣﺜﻞ ﻣﺘﺼﻮف ﺟﺬﺑﺘﻪ اﻟﺴﻤﺎء إﱃ ﻣﺴﺎرح اﻟﺮؤﻳﺎ؛ وﺟﺪﺗﻨﻲ ﺳﺎﺋ ًﺮا ﺑني ﺗﻠﻚ اﻷﺷﺠﺎر
ﱡ
اﻟﺘﻔﺖ ،وإذا ﺑﺴﻠﻤﻰ ﺟﺎﻟﺴﺔ املﺤﺘﺒﻜﺔ واﻟﺰﻫﻮر املﺘﻌﺎﻧﻘﺔ ،ﺣﺘﻰ إذا ﻣﺎ اﻗﱰ ُ
َﺑﺖ ﻣﻦ ﺑﺎب اﻟﺪار
ﻋﲆ ذﻟﻚ املﻘﻌﺪ ﺑﻈﻼل ﺷﺠﺮة اﻟﻴﺎﺳﻤني ،ﺣﻴﺚ ﺟﻠﺴﻨﺎ ﻣﻨﺬ أﺳﺒﻮع ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ
اﺧﺘﺎرﺗﻬﺎ اﻵﻟﻬﺔ ﻣﻦ ﺑني اﻟﻠﻴﺎﱄ وﺟﻌﻠﺘﻬﺎ ﺑﺪء ﺳﻌﺎدﺗﻲ وﺷﻘﺎﺋﻲ ،ﻓﺪﻧﻮت ﻣﻨﻬﺎ ﺻﺎﻣﺘًﺎ ،ﻓﻠﻢ
ﻋﻴﻨﻲ
ﱠ ُ
ﺟﻠﺴﺖ ﺑﺠﺎﻧﺒﻬﺎ ﺣﺪﱠﻗﺖ إﱃ ﺗﺘﺤﺮك وﻟﻢ ﺗﺘﻜﻠﻢ؛ ﻛﺄﻧﱠﻬﺎ ﻋﻠﻤﺖ ﺑﻘﺪوﻣﻲ ﻗﺒﻞ ﻗﺪوﻣﻲ ،وملﺎ
دﻗﻴﻘﺔ ،وﺗﻨﻬّ ﺪت ﺗﻨﻬﱡ ﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﻤﻴﻘﺔ ،ﺛﻢ ﻋﺎدت وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﺸﻔﻖ اﻟﺒﻌﻴﺪ ﺣﻴﺚ ﺗﻌﺒﺚ
أواﺋﻞ اﻟﻠﻴﻞ ﺑﺄواﺧﺮ اﻟﻨﻬﺎر .وﺑﻌﺪ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﻣﻤﻠﻮءة ﺑﺘﻠﻚ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻢ ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ
إﱃ ﻣﻮاﻛﺐ اﻷرواح ﻏري املﻨﻈﻮرة ،ﺣﻮﻟﺖ ﺳﻠﻤﻰ وﺟﻬﻬﺎ ﻧﺤﻮي ،وأﺧﺬت ﻳﺪي ﺑﻴﺪ ﻣﺮﺗﻌﺸﺔ
ﺑﺎردة ،وﺑﺼﻮت ﻳﺸﺎﺑﻪ ﺗﺄوﱡه ﺟﺎﺋﻊ ﻻ ﻳﻘﻮى ﻋﲆ اﻟﻜﻼم ﻗﺎﻟﺖ :اﻧﻈﺮ إﱃ وﺟﻬﻲ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ،
ﻃﻮﻳﻼ واﻗﺮأ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻔﻬﻤﻪ ﻣﻨﻲ ﺑﺎﻟﻜﻼم … اﻧﻈﺮ ً اﻧﻈﺮ إﱃ وﺟﻬﻲ ﺟﻴﺪًا وﺗﺄﻣﻠﻪ
إﱃ وﺟﻬﻲ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ … اﻧﻈﺮ ﺟﻴﺪًا ﻳﺎ أﺧﻲ.
ﻃﻮﻳﻼ ،ﻓﺮأﻳﺖ ﺗﻠﻚ اﻷﺟﻔﺎن اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺬ أﻳﺎم ﻗﻠﻴﻠﺔ ً ُ
ﻓﻨﻈﺮت إﱃ وﺟﻬﻬﺎ ،ﻧﻈﺮت
ﺗﺒﺘﺴﻢ ﻛﺎﻟﺸﻔﺎه وﺗﺘﺤﺮك ﻛﺄﺟﻨﺤﺔ اﻟﺸﺤﺮور ﻗﺪ ﻏﺎرت وﺟﻤﺪت واﻛﺘﺤﻠﺖ ﺑﺨﻴﺎﻻت اﻟﺘﻮﺟﱡ ﻊ
واﻷﻟﻢ ،رأﻳﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﴩة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﺛﻨﺎﻳﺎ اﻟﺰﻧﺒﻘﺔ اﻟﺒﻴﻀﺎء اﻟﻔﺮﺣﺔ ﺑﻘﺒﻼت اﻟﺸﻤﺲ،
ﻗﺪ اﺻﻔ ﱠﺮت وذﺑﻠﺖ وﺗﱪﻗﻌﺖ ﺑﻨﻘﺎب اﻟﻘﻨﻮط ،رأﻳﺖ اﻟﺸﻔﺘني اﻟﻠﺘني ﻛﺎﻧﺘﺎ ﻛﺰﻫﺮة أﻗﺎح ﺗﺴﻴﻞ
ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺤﻼوة ﻗﺪ ﻳﺒﺴﺘﺎ وﺻﺎرﺗﺎ ﻛﻮردﺗني ﻣﺮﺗﺠﻔﺘني أﺑﻘﺎﻫﻤﺎ اﻟﺨﺮﻳﻒ ﻋﲆ ﻃﺮف اﻟﻐﺼﻦ،
رأﻳﺖ اﻟﻌﻨﻖ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﺮﻓﻮﻋً ﺎ ﻛﻌﻤﻮد اﻟﻌﺎج ﻗﺪ اﻧﺤﻨﻰ إﱃ اﻷﻣﺎم ﻛﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ
ﺣﻤﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﻮل ﰲ ﺗﻼﻓﻴﻒ اﻟﺮأس.
رأﻳﺖ ﻫﺬه اﻻﻧﻘﻼﺑﺎت املﻮﺟﻌﺔ ﰲ ﻣﻼﻣﺢ ﺳﻠﻤﻰ ،رأﻳﺘﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﰲ
ﺗﻮﺷﺢ اﻟﻘﻤﺮ ﻓﺘﺰﻳﺪ ﻣﻨﻈﺮه ﺣﺴﻨًﺎ وﻫﻴﺒﺔ .إن املﻼﻣﺢ اﻟﺘﻲ ﺗُﺒﻴﺢ ﻧﻈﺮي إﻻ ﻛﺴﺤﺎﺑﺔ رﻗﻴﻘﺔ ّ
33
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﺟﻤﺎﻻ وﻣﻼﺣﺔ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻷﴎار ﻣﻮﺟﻌﺔ وأﻟﻴﻤﺔ، ً أﴎار اﻟﺬات املﻌﻨﻮﻳﺔ ﺗﻜﺴﺐ اﻟﻮﺟﻪ
أﻣﺎ اﻟﻮﺟﻮه اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻜﻠﻢ ﺑﺼﻤﺘﻬﺎ ﻋﻦ ﻏﻮاﻣﺾ اﻟﻨﻔﺲ وﺧﻔﺎﻳﺎﻫﺎ ﻓﻼ ﺗﻜﻮن ﺟﻤﻴﻠﺔ ﻣﻬﻤﺎ
ّ
ﻳﺸﻒ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﻨﺎﺳﻘﺔ اﻟﺨﻄﻮط ﻣﺘﻨﺎﺳﺒﺔ اﻷﻋﻀﺎء .إن اﻟﻜﺆوس ﻻ ﺗﺴﺘﻤﻴﻞ ﺷﻔﺎﻫﻨﺎ ﺣﺘﻰ
ﺑﻠﻮرﻫﺎ ﻋﻦ ﻟﻮن اﻟﺨﻤﺮ .ﻓﺴﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻋﺸﻴﺔ ذﻟﻚ اﻟﻨﻬﺎر ﻛﺄس ﻃﺎﻓﺤﺔ ﻣﻦ ﺧﻤﺮة
ﻋﻠﻮﻳﺔ ﺗﻤﺘﺰج ﺑﺪﻗﺎﺋﻘﻬﺎ ﻣﺮارة اﻟﻌﻴﺶ ﺑﺤﻼوة اﻟﻨﻔﺲ .ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﺜﻞ ﻋﲆ ﻏري ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﻨﻬﺎ
ﺣﻴﺎة املﺮأة اﻟﴩﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻐﺎدر ﻣﻨﺰل واﻟﺪﻫﺎ املﺤﺒﻮب إﻻ ﻟﺘﻀﻊ ﻋﻨﻘﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﻧري زوﺟﻬﺎ
ذراﻋﻲ أﻣﻬﺎ اﻟﺮؤوف إﻻ ﻟﺘﻌﻴﺶ ﰲ ﻋﺒﻮدﻳﺔ واﻟﺪة زوﺟﻬﺎ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ. ْ اﻟﺨﺸﻦ … وﻻ ﺗﱰك
ﻣﺤﺪﻗﺎ إﱃ وﺟﻪ ﺳﻠﻤﻰ ،ﻣﺼﻐﻴًﺎ ﻷﻧﻔﺎﺳﻬﺎ املﺘﻘﻄﻌﺔ ،ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﻣﻔﻜ ًﺮا ،ﺷﺎﻋ ًﺮا ً وﺑﻘﻴﺖ
ﻣﺘﺄ ًملﺎ ﻣﻌﻬﺎ وﻟﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ أﺣﺴﺴﺖ أن اﻟﺰﻣﻦ ﻗﺪ وﻗﻒ ﻋﻦ ﻣﺴريه ،واﻟﻮﺟﻮد ﻗﺪ اﻧﺤﺠﺐ
واﺿﻤَ ﺤَ ﱠﻞ ،وﻟﻢ أﻋﺪ أرى ﺳﻮى ﻋﻴﻨني ﻛﺒريﺗني ﻣﺤﺪّﻗﺘني إﱃ أﻋﻤﺎﻗﻲ ،وﻻ أﺷﻌﺮ ﺑﻐري ﻳﺪ
ﺑﺎردة ﻣﺮﺗﻌﺸﺔ ﺗﻀﻢ ﻳﺪي .وﻟﻢ أﻓﻖ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻐﻴﺒﻮﺑﺔ ﺣﺘﻰ ﺳﻤﻌﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﺗﻘﻮل ﺑﻬﺪوء:
ﺗﻌﺎ َل ﻧﺘﺤﺪث اﻵن ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ .ﺗﻌﺎ َل ﻧﺤﺎول ﺗﺼﻮﻳﺮ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺑﻤﺨﺎوﻓﻪ
رﻓﻴﻘﺎ ﱄ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﱪ .ﻗﺪ ذﻫﺐ ً وأﻫﻮاﻟﻪ .ﻟﻘﺪ ذﻫﺐ واﻟﺪي إﱃ ﻣﻨﺰل اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺳﻴﻜﻮن
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي اﺧﺘﺎرﺗﻪ اﻟﺴﻤﺎء ﺳﺒﺒًﺎ ﻟﻮﺟﻮدي ﻟﻴﻠﺘﻘﻲ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي اﻧﺘﻘﺘﻪ اﻷرض ﺳﻴﺪًا ﻋﲆ
أﻳﺎﻣﻲ اﻵﺗﻴﺔ .ﻓﻔﻲ ﻗﻠﺐ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ﻳﺠﺘﻤﻊ اﻵن اﻟﺸﻴﺦ اﻟﺬي راﻓﻖ ﺷﺒﻴﺒﺘﻲ ﺑﺎﻟﺸﺎب اﻟﺬي
ﺳرياﻓﻖ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﱄ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻳﺘﻔﻖ اﻟﻮاﻟﺪ واﻟﺨﻄﻴﺐ ﻋﲆ ﻳﻮم اﻟﻘِ ﺮان اﻟﺬي
ﺳﻴﻜﻮن ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻬﻤﺎ ﺟﻌﻼه ﺑﻌﻴﺪًا ،ﻓﻤﺎ أﻏﺮب ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ وﻣﺎ أﺷ ﱠﺪ ﺗﺄﺛريﻫﺎ! ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه
اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﻮع اﻟﻐﺎﺑﺮ .وﰲ ﻇﻼل ﻫﺬه اﻟﻴﺎﺳﻤﻴﻨﺔ ﻗﺪ ﻋﺎﻧﻖ اﻟﺤﺐ روﺣﻲ ﻷول ﻣﺮة،
ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻘﺪر ﻳﺨﻂ أول ﻛﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﺣﻜﺎﻳﺔ ﻣﺴﺘﻘﺒﲇ ﰲ دار املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ .وﰲ ﻫﺬه
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﺑﺠﺎﻧﺒﻲ وأﺷﻌﺮ ً اﻟﺴﺎﻋﺔ وﻗﺪ ﺟﻠﺲ واﻟﺪي وﺧﻄﻴﺒﻲ ﻟﻴﻀﻔﺮا إﻛﻠﻴﻞ زواﺟﻲ ،أراك
ﻣﺮﻓﺮﻓﺎ ﻓﻮق ﻳﻨﺒﻮع ﻣﺎء ﻳﺨﻔﺮه ﺛﻌﺒﺎن ﺟﺎﺋﻊ ً ﺑﻨﻔﺴﻚ ﻣﺘﻤﻮﺟﺔ ﺣﻮﱄ ،ﻛﻄﺎﺋﺮ ﻇﺎﻣﺊ ﻳﺤﻮم
ﻣﺨﻴﻒ ،ﻓﻤﺎ أﻋﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﻠﻴﻠﺔ وﻣﺎ أﻋﻤﻖ أﴎارﻫﺎ!
ﻗﺎﺑﻀﺎ ﻋﲆ ﻋﻨﻖ ﺣﺒﻨﺎ ﻟﻴﻤﻴﺘﻪ ﰲ ﻃﻔﻮﻟﻴﺘﻪ: ً ﻓﺄﺟﺒﺘﻬﺎ وﻗﺪ ﺗﺨﻴﻠﺖ اﻟﻘﻨﻮط ﺷﺒﺤً ﺎ ﻣﻈﻠﻤً ﺎ
ﻣﺮﻓﺮﻓﺎ ﻓﻮق اﻟﻴﻨﺒﻮع ﺣﺘﻰ ﻳﻀﻨﻴﻪ اﻟﻌﻄﺶ ﻓريدﻳﻪ ،أو ﻳﻘﺒﺾ ً ﺳﻴﻈﻞ ﻫﺬا اﻟﻄﺎﺋﺮ ﺣﺎﺋﻤً ﺎ
ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺜﻌﺒﺎن املﺨﻴﻒ ﻓﻴﻤ ﱢﺰﻗﻪ وﻳﻠﺘﻬﻤﻪ.
َ
ﻓﻠﻴﺒﻖ ﻫﺬا اﻟﻄﺎﺋﺮ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﺘﺄﺛﺮة وﺻﻮﺗﻬﺎ ﻳﺮﺗﺠﻒ ﻛﺎﻷوﺗﺎر اﻟﻔﻀﻴﺔ :ﻻ ،ﻻ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ،
ﻟﻴﺒﻖ ﻫﺬا اﻟﺒﻠﺒﻞ ﻣﻐﺮدًا ﺣﺘﻰ املﺴﺎء ،ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺘﻬﻲ اﻟﺮﺑﻴﻊ ،ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺘﻬﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﺣﺘﻰ ﺣﻴٍّﺎَ ،
ﺗﺨﺮﺳﻪ؛ ﻷن ﺻﻮﺗﻪ ﻳُﺤﻴﻴﻨﻲ ،وﻻ ﺗُﻮﻗﻒ ﺟﻨﺎﺣﻴﻪ؛ ﻷن ﺣﻔﻴﻔﻬﻤﺎ ﻳﺰﻳﻞ ْ ﺗﻨﺘﻬﻲ اﻟﺪﻫﻮر .ﻻ
اﻟﻀﺒﺎب ﻋﻦ ﻗﻠﺒﻲ.
34
ﺑﺤرية اﻟﻨﺎر
35
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻄﺦ ﺻﺨﻮرﻫﺎ ﺑﺎﻟﺪﻣﺎء وﻳﻐﺮس ﺗﺮﺑﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻌﻈﺎم ﻓﻬﻮ ﻳﻘﺘﻠﻊ أﺷﺠﺎرﻫﺎ وﻳﺤﺮق أﻋﺸﺎﺑﻬﺎ وﻳﻠ ّ
ً
ﺧﺮﻳﻔﺎ واﻟﺠﻤﺎﺟﻢ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻫﺎدﺋﺔ ﺳﺎﻛﻨﺔ ﻣﻄﻤﺌﻨّﺔ ،وﻳﻈ ّﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﺮﺑﻴﻊ رﺑﻴﻌً ﺎ واﻟﺨﺮﻳﻒ
إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺪﻫﻮر … واﻵن ﻗﺪ ُﻗﴤ اﻷﻣﺮ ،ﻓﻤﺎذا ﻧﻔﻌﻞ؟ ﻗﻞ ﱄ ﻣﺎذا ﻧﻔﻌﻞ وﻛﻴﻒ ﻧﻔﱰق
ﺿﻴﻔﺎ ﻏﺮﻳﺒًﺎ أﺗﻰ ﺑﻪ املﺴﺎء وأﺑﻌﺪه اﻟﺼﺒﺎح؟ أﻧﺤﺴﺐ ﻫﺬه ً وﻣﺘﻰ ﻧﻠﺘﻘﻲ؟ ﻫﻞ ﻧﺤﺴﺐ اﻟﺤﺐّ
اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺣﻠﻤً ﺎ أﺑﺎﻧﻪ اﻟﻜﺮى ﺛﻢ أﺧﻔﺘﻪ اﻟﻴﻘﻈﺔ؟ أﻧﺤﺴﺐ ﻫﺬا اﻷﺳﺒﻮع ﺳﺎﻋﺔ ُﺳ ْﻜ ٍﺮ
ﻣﺎ ﻟﺒﺜﺖ أن ﻗﻀﺖ ﺑﺎﻟﺼﺤﻮ واﻻﻧﺘﺒﺎه؟ … ارﻓﻊ رأﺳﻚ ﻷرى ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ .اﻓﺘﺢ ﺷﻔﺘﻴﻚ
ﻷﺳﻤﻊ ﺻﻮﺗﻚ ،ﺗﻜﻠﻢ ،أﺧﱪﻧﻲ ،ﺣﺪﺛﻨﻲ ،ﻫﻞ ﺗﺬﻛﺮﻧﻲ ﺑﻌﺪ أن ﺗﻐﺮق اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ ﺳﻔﻴﻨﺘَ ْﻲ
أﻳﺎﻣﻨﺎ؟ ﻫﻞ ﺗﺴﻤﻊ ﺣﻔﻴﻒ أﺟﻨﺤﺘﻲ ﰲ ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻠﻴﻞ؟ ﻫﻞ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﺄﻧﻔﺎﳼ ﻣﺘﻤﻮﱢﺟﺔ ﻋﲆ
وﺟﻬﻚ وﻋﻨﻘﻚ؟ ﻫﻞ ﺗﺼﻐﻲ ﻟﺘﻨﻬﱡ ﺪاﺗﻲ ﻣﺘﺼﺎﻋﺪة ﺑﺎﻟﺘﻮﺟّ ﻊ ﻣﻨﺨﻔﻀﺔ ﺑﺎﻟﻐﺼﺎت؟ وﻫﻞ ﺗﺮى
ﻣﻀﻤﺤﻼ ﻣﻊ ﺿﺒﺎب اﻟﺼﺒﺎح؟ ﻗﻞ ﱄ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ،ﻗﻞ ﱄ ﻣﺎذا ٍّ ﺧﻴﺎﱄ ﻗﺎدﻣً ﺎ ﻣﻊ ﺧﻴﺎﻻت اﻟﻈﻼم
ﺗﻜﻮن ﱄ ﺑﻌﺪ أن ﻛﻨﺖ ﻧﻮ ًرا ﻟﻌﻴﻨﻲ وﻧﻐﻤﺔ ﻷذﻧﻲ وﺟﻨﺎﺣً ﺎ ﻟﺮوﺣﻲ ،ﻣﺎذا ﺗﻜﻮن؟
ﻓﺄﺟﺒﺘﻬﺎ وﺣﺒﺎت ﻗﻠﺒﻲ ﺗﺬوب ﰲ ﻋﻴﻨﻲ :ﺳﺄﻛﻮن ﻟﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺮﻳﺪﻳﻨﻨﻲ أن أﻛﻮن.
ﻓﻘﺎﻟﺖ :أرﻳﺪك أن ﺗﺤﺒﱠﻨﻲ ،أرﻳﺪك أن ﺗﺤﺒﻨﻲ إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ أﻳﺎﻣﻲ ،أرﻳﺪك أن ﺗﺤﺒﻨﻲ ﻣﺜﻠﻤﺎ
ﻳﺤﺐ اﻟﺸﺎﻋﺮ أﻓﻜﺎره املﺤﺰﻧﺔ ،أرﻳﺪك أن ﺗﺬﻛﺮﻧﻲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺬﻛﺮ املﺴﺎﻓﺮ ﺣﻮض ﻣﺎء ﻫﺎدئ رأى
ﻓﻴﻪ ﺧﻴﺎل وﺟﻬﻪ ﻗﺒﻞ أن ﻳﴩب ﻣﻦ ﻣﺎﺋﻪ ،وأرﻳﺪك أن ﺗﺬﻛﺮﻧﻲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮ اﻷم ﺟﻨﻴﻨًﺎ ﻣﺎت
ﰲ أﺣﺸﺎﺋﻬﺎ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺮى اﻟﻨﻮر ،وأرﻳﺪك أن ﺗﻔ ّﻜﺮ ﺑﻲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻔ ّﻜﺮ املﻠﻚ اﻟﺮؤوف ﺑﺴﺠني
ورﻓﻴﻘﺎ ،أرﻳﺪك أن ﺗﺰور واﻟﺪيً ً
وﺻﺪﻳﻘﺎ ﻣﺎت ﻗﺒﻞ أن ﻳﺒﻠﻐﻪ ﻋﻔﻮه ،أرﻳﺪك أن ﺗﻜﻮن ﱄ ً
أﺧﺎ
ﰲ وﺣﺪﺗﻪ وﺗﻌ ّﺰﻳﻪ ﰲ اﻧﻔﺮاده؛ ﻷﻧﻨﻲ ﻋﻤﺎ ﻗﺮﻳﺐ ﺳﺄﺗﺮﻛﻪ وأﺻري ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻋﻨﻪ.
ﻏﻼﻓﺎ ﻟﺮوﺣﻚ ،وﻗﻠﺒﻲ ﺑﻴﺘًﺎ ﻓﺄﺟﺒﺘﻬﺎ :ﺳﺄﻓﻌﻞ ﻛﻞ ذﻟﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ،ﺳﻮف أﺟﻌﻞ روﺣﻲ ً
ﻟﺠﻤﺎﻟﻚ ،وﺻﺪري ﻗﱪًا ﻷﺣﺰاﻧﻚ .ﺳﻮف أﺣﺒﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﺤﻘﻮل ﻟﻠﺮﺑﻴﻊ .ﺳﻮف
أﺣﻴﺎ ﺑﻚ ﺣﻴﺎة اﻷزاﻫﺮ ﺑﺤﺮارة اﻟﺸﻤﺲ .ﺳﻮف أﺗﺮﻧﻢ ﺑﺎﺳﻤﻚ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﱰﻧّﻢ اﻟﻮادي ﺑﺼﺪى
رﻧني اﻷﺟﺮاس املﺘﻤﺎﻳﻠﺔ ﻓﻮق ﻛﻨﺎﺋﺲ اﻟﻘﺮى .ﺳﻮف أُﺻﻐﻲ ﻷﺣﺎدﻳﺚ ﻧﻔﺴﻚ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗُﺼﻐﻲ
اﻟﺸﻮاﻃﺊ ﻟﺤﻜﺎﻳﺔ اﻷﻣﻮاج … ﺳﺄذﻛﺮك ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﻐﺮﻳﺐ املﺴﺘﻮْﺣﺶ وﻃﻨﻪ
املﺤﺒﻮب ،واﻟﻔﻘري اﻟﺠﺎﺋﻊ ﻣﺎﺋﺪة اﻟﻄﻌﺎم اﻟﺸﻬﻴﺔ ،واملﻠﻚ املﺨﻠﻮع أﻳﺎم ﻋﺰه وﻣﺠﺪه ،واﻷﺳري
اﻟﻜﺌﻴﺐ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ .ﺳﻮف أﻓﻜﺮ ﺑﻚ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻔﻜﺮ اﻟﺰارع ﺑﺄﻏﻤﺎر اﻟﺴﻨﺎﺑﻞ
وﻏﻠﺔ اﻟﺒﻴﺎدر ،واﻟﺮاﻋﻲ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﺑﺎملﺮوج اﻟﺨﴬاء واملﻨﺎﻫﻞ اﻟﻌﺬﺑﺔ.
ﻛﻨﺖ أﺗﻜﻠﻢ وﺳﻠﻤﻰ ﺗﻨﻈﺮ إﱃ أﻋﻤﺎق اﻟﻠﻴﻞ وﺗﺘﺄوّه ﺑني اﻵوﻧﺔ واﻷﺧﺮى ،وﻧﺒﻀﺎت ﻗﻠﺒﻬﺎ
ً
ﺧﻴﺎﻻ ﺗﺘﺴﺎرع وﺗﺘﻤﺎﻫﻞ ﻛﺄﻧﻬﺎ أﻣﻮاج ﺑﺤﺮ ﺑني ﺻﻌﻮد وﻫﺒﻮط .ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ :ﻏﺪًا ﺗﺼري اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ
واﻟﻴﻘﻈﺔ ﺣﻠﻤً ﺎ ،ﻓﻬﻞ ﻳﻜﺘﻔﻲ املﺸﺘﺎق ﺑﻌﻨﺎق اﻟﺨﻴﺎل وﻳﺮﺗﻮي اﻟﻈﻤﺂن ﻣﻦ ﺟﺪاول اﻷﺣﻼم؟
36
ﺑﺤرية اﻟﻨﺎر
ﻓﺄﺟﺒﺘﻬﺎ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻏﺪًا ﻳﺴري ﺑﻚ اﻟﻘﺪر إﱃ أﺣﻀﺎن اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ املﻤﻠﻮءة ﺑﺎﻟﺮاﺣﺔ واﻟﻬﺪوء،
أﻧﺖ إﱃ ﻣﻨﺰل رﺟﻞ ﻳﺴﻌﺪ ﺑﺠﻤﺎﻟﻚ وﻳﺴري ﺑﻲ إﱃ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺣﻴﺚ اﻟﺠﻬﺎد واﻟﻘﺘﺎلِ .
أﻧﺖ إﱃ اﻟﺤﻴﺎة ﻃﻬْ ﺮ ﻧﻔﺴﻚ .وأﻧﺎ إﱃ ﻣﻜﺎﻣﻦ أﻳﺎم ﺗﻌﺬﱢﺑﻨﻲ ﺑﺄﺣﺰاﻧﻬﺎ وﺗُﺨﻴﻔﻨﻲ ﺑﺄﺷﺒﺎﺣﻬﺎِ .
و ُ
أﻧﺖ إﱃ اﻷﻧﺲ واﻷﻟﻔﺔ وأﻧﺎ إﱃ اﻟﻮﺣﺸﺔ واﻻﻧﻔﺮاد .وﻟﻜﻨﻨﻲ ﺳﺄرﻓﻊ ﰲ وادي وأﻧﺎ إﱃ اﻟﻨﺰعِ .
ﺗﻤﺜﺎﻻ ﻟﻠﺤﺐ وأﻋﺒﺪه .ﺳﺄﺗﺨﺬ اﻟﺤﺐ ﺳﻤريًا وأﺳﻤﻌﻪ ﻣﻨﺸﺪًا وأﴍﺑﻪ ﺧﻤ ًﺮا وأﻟﺒﺴﻪً ﻇﻞ املﻮت
ﺛﻮﺑًﺎ .ﻋﻨﺪ اﻟﻔﺠﺮ ﺳﻴﻨﺒّﻬﻨﻲ اﻟﺤﺐ ﻣﻦ رﻗﺎدي وﻳﺴري أﻣﺎﻣﻲ إﱃ اﻟﱪﻳﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة .وﻋﻨﺪ اﻟﻈﻬرية
ﺳﻴﻘﻮدﻧﻲ إﱃ ﻇﻞ اﻷﺷﺠﺎر ،ﻓﺄرﺑﺾ ﻣﻊ اﻟﻌﺼﺎﻓري املﺤﺘﻤﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﺮارة اﻟﺸﻤﺲ .وﰲ املﺴﺎء
ﺳﻴﻮﻗﻔﻨﻲ أﻣﺎم املﻐﺮب وﻳﺴﻤﻌﻨﻲ ﻧﻐﻤﺔ وداع اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻠﻨﻮر ،وﻳﺮﻳﻨﻲ أﺷﺒﺎح اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ
ﺳﺎﺑﺤﺔ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء .وﰲ اﻟﻠﻴﻞ ﺳﻴﻌﺎﻧﻘﻨﻲ ﻓﺄﻧﺎم ﺣﺎ ًملﺎ ﺑﺎﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﻘﻄﻦ أرواح
اﻟﻌﺸﺎق واﻟﺸﻌﺮاء .وﰲ اﻟﺮﺑﻴﻊ ﺳﺄﻣﴚ واﻟﺤﺐ ﺟﻨﺒًﺎ ﻟﺠﻨﺐ ﻣﱰﻧﻤني ﺑني اﻟﺘﻠﻮل واملﻨﺤﺪرات
ﻣﺘﺒﻌني آﺛﺎر أﻗﺪام اﻟﺤﻴﺎة املﺨﻄﻄﺔ ﺑﺎﻟﺒﻨﻔﺴﺞ واﻷﻗﺤﻮان ،ﺷﺎرﺑني ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻷﻣﻄﺎر ﺑﻜﺆوس
اﻟﻨﺮﺟﺲ واﻟﺰﻧﺒﻖ .وﰲ اﻟﺼﻴﻒ ﺳﺄﺗﻜﺊ واﻟﺤﺐ ﺳﺎﻧﺪﻳﻦ رأﺳﻴﻨﺎ إﱃ أﻏﻤﺎر اﻟﻘﺶ ﻣﻔﱰﺷني
اﻷﻋﺸﺎب ﻣﻠﺘﺤﻔني اﻟﺴﻤﺎء ﺳﺎﻫﺮﻳﻦ ﻣﻊ اﻟﻘﻤﺮ واﻟﻨﺠﻮم .وﰲ اﻟﺨﺮﻳﻒ ﺳﺄذﻫﺐ واﻟﺤﺐ إﱃ
اﻟﻜﺮوم ،ﻓﻨﺠﻠﺲ ﺑﻘﺮب املﻌﺎﴏ ﻧﺎﻇﺮﻳﻦ إﱃ اﻷﺷﺠﺎر وﻫﻲ ﺗﺨﻠﻊ أﺛﻮاﺑﻬﺎ املﺬﻫﺒﺔ ﻣﺘﺄﻣﻠني
ﺑﺄﴎاب اﻟﻄﻴﻮر اﻟﺮاﺣﻠﺔ إﱃ اﻟﺴﺎﺣﻞ .وﰲ اﻟﺸﺘﺎء ﺳﺄﺟﻠﺲ واﻟﺤﺐ ﺑﻘﺮب املﻮﻗﺪ ﺗﺎﻟﻴني
ﺣﻜﺎﻳﺎت اﻷﺟﻴﺎل ﻣﺮددﻳﻦ أﺧﺒﺎر اﻷﻣﻢ واﻟﺸﻌﻮب .وﰲ أﻳﺎم اﻟﺸﺒﻴﺒﺔ ﺳﻴﻜﻮن ﱄ اﻟﺤﺐ ﻣﻬﺬﺑًﺎ،
ﻣﺆﻧﺴﺎ .ﺳﻴﻈﻞ اﻟﺤﺐ ﻣﻌﻲ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻌﻤﺮ، ً وﰲ اﻟﻜﻬﻮﻟﺔ ﻋﻀﺪًا ،وﰲ اﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ
إﱃ أن ﻳﺠﻲء املﻮت ،إﱃ أن ﺗﺠﻤﻌﻨﻲ ﺑﻚ ﻗﺒﻀﺔ ﷲ.
ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻟﻔﺎظ ﺗﺘﺼﺎﻋﺪ ﻣﴪﻋﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﺎق ﻧﻔﴘ ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺷﻌﻼت ﻣﻦ ﻧﺎر ﺗﻨﻤﻮ وﺗﺘﻄﺎﻳﺮ
ﺛﻢ ﺗﺘﺒﺪد وﺗﻀﻤﺤ ّﻞ ﰲ زواﻳﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺼﻐﻴﺔ واﻟﺪﻣﻮع ﺗﻨﻬﻤﺮ ﻣﻦ
ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ،ﻛﺄن أﺟﻔﺎﻧﻬﺎ ﺷﻔﺎه ﺗﺠﻴﺒﻨﻲ ﺑﺎﻟﺪﻣﻮع ﻋﲆ اﻟﻜﻼم.
إن اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻬﺒﻬﻢ اﻟﺤﺐ أﺟﻨﺤﺔ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن ﻳﻄريوا إﱃ ﻣﺎ وراء اﻟﻐﻴﻮم ﻟريوا
ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺴﺤﺮي اﻟﺬي ﻃﺎﻓﺖ ﻓﻴﻪ روﺣﻲ وروح ﺳﻠﻤﻰ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ املﺤﺰﻧﺔ ﺑﺄﻓﺮاﺣﻬﺎ
املﻔﺮﺣﺔ ﺑﺄوﺟﺎﻋﻬﺎ .إن اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﺬﻫﻢ اﻟﺤﺐ أﺗﺒﺎﻋً ﺎ ﻻ ﻳﺴﻤﻌﻮن اﻟﺤﺐ ﻣﺘﻜ ﱢﻠﻤً ﺎ ،ﻓﻬﺬه
اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﻟﻢ ﺗُﻜﺘﺐ ﻟﻬﻢ ،ﻓﻬﻢ وإن ﻓﻬﻤﻮا ﻣﻌﺎﻧﻲ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺤﺎت اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ أن
ﻳﺮوا ﻣﺎ ﻳﺴﻴﻞ ﺑني ﺳﻄﻮرﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﺒﺎح واﻷﺧﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻠﺒﺲ اﻟﺤﱪ ﺛﻮﺑًﺎ وﻻ ﺗﺘﺨﺬ
اﻟﻮرق ﻣﺴﻜﻨًﺎ .ﻟﻜﻦ أي ﺑﴩيّ ﻟﻢ ﻳﺮﺷﻒ ﻣﻦ ﺧﻤﺮة اﻟﺤﺐ ﰲ إﺣﺪى ﻛﺎﺳﺎﺗﻪ؟ أﻳﺔ ﻧﻔﺲ ﻟﻢ
ﺗﻘﻒ ﻣﺘﻬﻴﺒﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻬﻴﻜﻞ املﻨري املﺮﺻﻮف ﺑﺤﺒﺎت اﻟﻘﻠﻮب املﺴﻘﻮف ﺑﺎﻷﴎار واﻷﺣﻼم
37
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
واﻟﻌﻮاﻃﻒ؟ أي زﻫﺮة ﻟﻢ ﻳﺴﻜﺐ اﻟﺼﺒﺎح ﻗﻄﺮة ﻣﻦ اﻟﻨﺪى ﺑني أوراﻗﻬﺎ؟ وأي ﺳﺎﻗﻴﺔ ﺗﻀﻞ
ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ وﻻ ﺗﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺒﺤﺮ؟
ورﻓﻌﺖ ﺳﻠﻤﻰ إذ ذاك رأﺳﻬﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﻤﺎء املﺰﻳّﻨﺔ ﺑﺎﻟﻜﻮاﻛﺐ ،وﻣﺪت ﻳﺪﻳﻬﺎ إﱃ اﻷﻣﺎم،
وﻛﱪت ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ،وارﺗﺠﻔﺖ ﺷﻔﺘﺎﻫﺎ ،وﻇﻬﺮ ﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ املﺼﻔﺮ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ ﻧﻔﺲ املﺮأة املﻈﻠﻮﻣﺔ
ّ
ﻓﺎﺳﺘﺤﻘﺖ ﻏﻀﺒﻚ؟! ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻮى واﻟﻘﻨﻮط واﻷﻟﻢ ،ﺛﻢ ﴏﺧﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻣﺎذا ﻓﻌﻠﺖ املﺮأة ﻳﺎ رب
ﻣﺎذا أﺗﺖ ﻣﻦ اﻟﺬﻧﻮب ﻟﻴﺘﺒﻌﻬﺎ ﺳﺨﻄﻚ إﱃ آﺧﺮ اﻟﺪﻫﻮر؟! ﻫﻞ اﻗﱰﻓﺖ ﺟﺮﻣً ﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻔﻈﺎﻋﺘﻪ
ﻟﻴﻜﻮن ﻋﻘﺎﺑﻚ ﻟﻬﺎ ﺑﻐري ﻧﻬﺎﻳﺔ؟! أﻧﺖ ﻗﻮي ﻳﺎ رب وﻫﻲ ﺿﻌﻴﻔﺔ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺗﺒﻴﺪﻫﺎ ﺑﺎﻷوﺟﺎع؟!
أﻧﺖ ﻋﺎﺻﻔﺔ ﺷﺪﻳﺪة وﻫﻲ أﻧﺖ ﻋﻈﻴﻢ وﻫﻲ ﺗﺪبّ ﺣﻮل ﻋﺮﺷﻚ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺗﺴﺤﻘﻬﺎ ﺑﻘﺪﻣﻴﻚ؟! َ َ
ﻛﺎﻟﻐﺒﺎر أﻣﺎم وﺟﻬﻚ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺗﺬرﻳﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺜﻠﻮج؟! أﻧﺖ ﺟﺒﺎر وﻫﻲ ﺑﺎﺋﺴﺔ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺗﺤﺎرﺑﻬﺎ؟!
أﻧﺖ ﺑﺼري ﻋﻠﻴﻢ وﻫﻲ ﺗﺎﺋﻬﺔ ﻋﻤﻴﺎء ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺗﻬﻠﻜﻬﺎ؟! أﻧﺖ ﺗﻮﺟﺪﻫﺎ ﺑﺎملﺤﺒﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ ﺑﺎملﺤﺒﺔ
ﺗُﻔﻨﻴﻬﺎ؟! ﺑﻴﻤﻴﻨﻚ ﺗﺮﻓﻌﻬﺎ إﻟﻴﻚ وﺑﺸﻤﺎﻟﻚ ﺗﺪﻓﻌﻬﺎ إﱃ اﻟﻬﺎوﻳﺔ ،وﻫﻲ ﺟﺎﻫﻠﺔ ﻻ ﺗﺪري أﻧﱠﻰ
ﺗﺮﻓﻌﻬﺎ وﻛﻴﻒ ﺗﺪﻓﻌﻬﺎ؟! ﰲ ﻓﻤﻬﺎ ﺗﻨﻔﺦ ﻧﺴﻤﺔ اﻟﺤﻴﺎة ،وﰲ ﻗﻠﺒﻬﺎ ﺗﺰرع ﺑﺬور املﻮت ،ﻋﲆ
ﻓﺎرﺳﺎ ﻟﻴﺼﻄﺎدﻫﺎ ،ﰲ ﺣﻨﺠﺮﺗﻬﺎ ﺗﺒﺚ ﻧﻐﻤﺔ ً ﺳﺒﻞ اﻟﺴﻌﺎدة ﺗﺴريﻫﺎ راﺟﻠﺔ ﺛﻢ ﺗﺒﻌﺚ اﻟﺸﻘﺎء
اﻟﻔﺮح ﺛﻢ ﺗﻐﻠﻖ ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﺰن وﺗﺮﺑﻂ ﻟﺴﺎﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻜﺂﺑﺔ ،ﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻚ اﻟﺨﻔﻴﺔ ﺗﻤﻨﻄﻖ ﺑﺎﻟﻠﺬة
أوﺟﺎﻋﻬﺎ ،وﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻚ اﻟﻈﺎﻫﺮة ﺗﺮﺗﺴﻢ ﻫﺎﻻت اﻷوﺟﺎع ﺣﻮل ﻣﻠﺬاﺗﻬﺎ ،ﰲ ﻣﻀﺠﻌﻬﺎ ﺗﺨﻔﻲ
اﻟﺮاﺣﺔ واﻟﺴﻼﻣﺔ ،وﺑﺠﺎﻧﺐ ﻣﻀﺠﻌﻬﺎ ﺗﻘﻴﻢ املﺨﺎوف واملﺘﺎﻋﺐ ،ﺑﺈرادﺗﻚ ﺗﺤﻴﻲ ﻣﻴﻮﻟﻬﺎ،
وﻣﻦ ﻣﻴﻮﻟﻬﺎ ﺗﺘﻮﻟﺪ ﻋﻴﻮﺑﻬﺎ وزﻻﺗﻬﺎ ،ﺑﻤﺸﻴﺌﺘﻚ ﺗﺮﻳﻬﺎ ﻣﺤﺎﺳﻦ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺗﻚ ،وﺑﻤﺸﻴﺌﺘﻚ ﺗﻨﻘﻠﺐ
ﻣﺤﺒﺘﻬﺎ ﻟﻠﺤﺴﻦ ﻣﺠﺎﻋﺔ ﻣﻬﻠﻜﺔ ،ﺑﴩﻳﻌﺘﻚ ﺗﺰوج روﺣﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﺴﺪ ﺟﻤﻴﻞ ،وﺑﻘﻀﺎﺋﻚ ﺗﺠﻌﻞ
ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺑَﻌْ ًﻼ ﻟﻠﻀﻌﻒ واﻟﻬﻮان .أﻧﺖ ﺗﺴﻘﻴﻬﺎ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻜﺄس املﻮت واملﻮت ﺑﻜﺄس اﻟﺤﻴﺎة.
أﻧﺖ ﺗﻄﻬﺮﻫﺎ ﺑﺪﻣﻮﻋﻬﺎ ،وﺑﺪﻣﻮﻋﻬﺎ ﺗﺬﻳﺒﻬﺎ .أﻧﺖ ﺗﻤﻸ ﺟﻮﻓﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﺒﺰ اﻟﺮﺟﻞ ،ﺛﻢ ﺗﻤﻸ ﺣﻔﻨﺔ
اﻟﺮﺟﻞ ﻣﻦ ﺣﺒﺎت ﺻﺪرﻫﺎ .أﻧﺖ أﻧﺖ ﻳﺎ رب ،ﻗﺪ ﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺎملﺤﺒﺔ ،وﺑﺎملﺤﺒﺔ أﻋﻤﻴﺘﻨﻲ،
أﻧﺖ ﻗﺒﱠﻠﺘﻨﻲ ﺑﺸﻔﺘﻴﻚ ،وﺑﻴﺪك اﻟﻘﻮﻳﺔ ﺻﻔﻌﺘﻨﻲ ،أﻧﺖ زرﻋﺖ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ وردة ﺑﻴﻀﺎء ،وﺣﻮل
واﻟﺤﺴﻚ ،أﻧﺖ أوﺛﻘﺖ ﺣﺎﴐي ﺑﺮوح ﻓﺘﻰ أﺣﺒﻪ ،وﺑﺠﺴﺪ رﺟﻞ َ ﻫﺬه اﻟﻮردة ﱠ
أﻧﺒﺖ اﻷﺷﻮاك
ﻻ أﻋﺮﻓﻪ ﻗﻴﺪت أﻳﺎﻣﻲ؛ ﻓﺴﺎﻋﺪﻧﻲ ﻷﻛﻮن ﻗﻮﻳﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﴫاع املﻤﻴﺖ ،وأﺳﻌِ ْﻔﻨﻲ ﻷﺑﻘﻰ أﻣﻴﻨﺔ
وﻃﺎﻫﺮة ﺣﺘﻰ املﻮت … ﻟﺘﻜﻦ ﻣﺸﻴﺌﺘﻚ ﻳﺎ رب ،ﻟﻴﻜﻦ اﺳﻤﻚ ﻣﺒﺎر ًﻛﺎ إﱃ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ.
وﺳﻜﺘﺖ ﺳﻠﻤﻰ وﻇﻠﺖ ﻣﻼﻣﺤﻬﺎ ﺗﺘﻜﻠﻢ ،ﺛﻢ ﺣَ ﻨ َ ْﺖ رأﺳﻬﺎ وأ َ ْر َﺧ ْﺖ ذراﻋﻴﻬﺎ ،واﻧﺨﻔﺾ
ﻫﻴﻜﻠﻬﺎ ،ﻛﺄن اﻟﻘﻮى اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﺮﻛﺘﻬﺎ ﻓﺒﺎﻧﺖ ﻟﻨﺎﻇﺮي ﻛﻐﺼﻦ ﻗﺼﻔﺘﻪ اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ وأﻟﻘﺘْﻪ
ُ
ﻓﺄﺧﺬت ﻳﺪﻫﺎ املﺜﻠﺠﺔ ﺑﻴﺪي املﻠﺘﻬﺒﺔ ،وﻗﺒﱠﻠﺖ إﱃ اﻟﺤﻀﻴﺾ ﻟﻴﺠﻒ وﻳﻨﺪﺛﺮ ﺗﺤﺖ أﻗﺪام اﻟﺪﻫﺮ،
38
ﺑﺤرية اﻟﻨﺎر
أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﺑﺄﺟﻔﺎﻧﻲ وﺷﻔﺘﻲ ،وملﺎ ﺣﺎوﻟﺖ ﺗﻌﺰﻳﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻜﻼم وﺟﺪﺗﻨﻲ أﺣﺮى ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﻌﺰﻳﺔ
ﻣﺘﺄﻣﻼ ،ﺷﺎﻋ ًﺮا ﺑﺘﻼﻋﺐ اﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﺑﻌﻮاﻃﻔﻲ ،ﻣﺼﻐﻴًﺎ ﻷَﻧ ﱠ ِﺔ ﻗﻠﺒﻲ
ً واﻟﺸﻔﻘﺔ؛ ﻓﺒﻘﻴﺖ ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﺣﺎﺋ ًﺮا
ﺧﺎﺋﻔﺎ ﻣﻦ ﻧﻔﴘ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ. ً ﰲ داﺧﲇ،
وﻟﻢ ﻳﻨﺒﺲ أﺣﺪﻧﺎ ﺑﺒﻨﺖ ﺷﻔﺔ ﰲ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ؛ ﻷن اﻟﻠﻮﻋﺔ إذا ﻋﻈﻤﺖ ﺗﺼري
ﺧﺮﺳﺎء ،ﻓﺒﻘﻴﻨﺎ ﺳﺎﻛﺘني ﺟﺎﻣﺪﻳﻦ ﻛﻌﻤﻮديْ رﺧﺎم َﻗ َﱪَﻫﻤﺎ اﻟﺰﻟﺰال ﰲ اﻟﱰاب ،وﻟﻢ ﻳﻌﺪ أﺣﺪﻧﺎ
ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺴﻤﻊ اﻵﺧﺮ ﻣﺘﻜﻠﻤً ﺎ؛ ﻷن ﺧﻴﻮط ﻗﻠﺒﻴﻨﺎ ﻗﺪ و ََﻫ ْﺖ ﺣﺘﻰ ﺻﺎر اﻟﺘﻨﻬﱡ ﺪ دون اﻟﻜﻼم
ﻳﻘﻄﻌﻬﺎ.
ﻧﺎﻗﺼﺎ ﻣﻦ وراء ﺻﻨني ،وﺑﺎن ﺑني ً اﻧﺘﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ ،وﻧﻤﺖ رﻫﺒﺔ اﻟﺴﻜﻮت ،وﻃﻠﻊ اﻟﻘﻤﺮ
اﻟﻨﺠﻮم ﻛﻮﺟﻪ ﻣﻴﺖ ﺷﺎﺣﺐ ﻏﺎرق ﰲ املﺴﺎﻧﺪ اﻟﺴﻮداء ﺑني ﺷﻤﻮع ﺿﺌﻴﻠﺔ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻨﻌﺸﻪ،
وﻇﻬﺮ ﻟﺒﻨﺎن ﻛﺸﻴﺦ ﻟﻮت ﻇﻬﺮه اﻷﻋﻮام وأﻧﺎﺧﺖ ﻫﻴﻜﻠﻪ اﻷﺣﺰان وﻫﺠﺮ أﺟﻔﺎﻧﻪ اﻟﺮﻗﺎد ،ﻓﺒﺎت
وﻳﱰﻗﺐ اﻟﻔﺠﺮ ،ﻛﻤﻠﻚ ﻣﺨﻠﻮع ﺟﺎﻟﺲ ﻋﲆ رﻣﺎد ﻋﺮﺷﻪ ﺑني ﺧﺮاﺋﺐ ﻗﴫه. ّ ﻳﺴﺎﻫﺮ اﻟﺪﺟﻰ
إن اﻟﺠﺒﺎل واﻷﺷﺠﺎر واﻷﻧﻬﺎر ﺗﺘﺒﺪل ﻫﻴﺌﺎﺗﻬﺎ وﻣﻈﺎﻫﺮﻫﺎ ﺑﺘﻘ ﱡﻠﺐ اﻟﺤﺎﻻت واﻷزﻣﻨﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ
ﺑﺘﻐري أﻓﻜﺎره وﻋﻮاﻃﻔﻪ؛ ﻓﺸﺠﺮة اﻟﺤﻮر ،اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺎﱃ ﰲ اﻟﻨﻬﺎر ﺗﺘﻐري ﻣﻼﻣﺢ وﺟﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﱡ
ﻛﻌﺮوس ﺟﻤﻴﻠﺔ ﻳﻼﻋﺐ اﻟﻨﺴﻴﻢ أﺛﻮاﺑﻬﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ املﺴﺎء ﻛﻌﻤﻮد دﺧﺎن ﻳﺘﺼﺎﻋﺪ ﻧﺤﻮ اﻟﻼﳾء،
واﻟﺼﺨﺮ اﻟﻜﺒري ،اﻟﺬي ﻳﺠﻠﺲ ﻋﻨﺪ اﻟﻈﻬرية ﻛﺠﺒّﺎر ﻗﻮي ﻳﻬﺰأ ﺑﻌﺎدﻳﺎت اﻟﺰﻣﻦ ﻳﺒﺪو ﰲ اﻟﻠﻴﻞ
ﻛﻔﻘري ﺑﺎﺋﺲ ﻳﻔﱰش اﻟﺜﺮى وﻳﻠﺘﺤﻒ اﻟﻔﻀﺎء .واﻟﺴﺎﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺼﺒﺎح ﻣﺘﻠﻤﻌﺔ
َﻛﺬَوْب اﻟ ﱡﻠﺠَ ْني وﻧﺴﻤﻌﻬﺎ ﻣﱰﻧﻤﺔ ﺑﺄﻏﻨﻴﺔ اﻟﺨﻠﻮد ،ﻧﺨﺎﻟﻬﺎ ﰲ املﺴﺎء ﻣﺠﺮى دﻣﻮع ﻳﺘﻔﺠﺮ ﻣﻦ
ﺑني أﺿﻠﻊ اﻟﻮادي ،وﻧﺴﻤﻌﻬﺎ ﺗﻨﺪب وﺗﻨﻮح ﻛﺎﻟﺜﻜﲆ .وﻟﺒﻨﺎن اﻟﺬي ﻇﻬﺮ ﻣﻨﺬ أﺳﺒﻮع ﺑﻜﻞ
ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺠﻼل واﻟﺮوﻧﻖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻘﻤﺮ ﺑﺪ ًرا واﻟﻨﻔﺲ راﺿﻴﺔ ﻗﺪ ﺑﺎن ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻛﺌﻴﺒًﺎ
ﻣﺴﺘﻮﺣﺸﺎ أﻣﺎم ﻗﻤﺮ ﺿﺌﻴﻞ ﻧﺎﻗﺺ ﻫﺎﺋﻢ ﰲ ﻋﺮض اﻟﺴﻤﺎء وﻗﻠﺐ ﺧﺎﻓﻖ ﻣﻌﺘ ّﻞ ﰲ ً ﻣﻨﻬﻮ ًﻛﺎ
داﺧﻞ اﻟﺼﺪر.
وﻗﻔﻨﺎ ﻟﻠﻮداع ،وﻗﺪ وﻗﻒ ﺑﻴﻨﻨﺎ اﻟﺤﺐ واﻟﻴﺄس ﺷﺒﺤني ﻫﺎﺋﻠني؛ ﻫﺬا ﺑﺎﺳﻂ ﺟﻨﺎﺣﻴﻪ ﻓﻮق
رأﺳﻴﻨﺎ ،وذاك ﻗﺎﺑﺾ ﺑﺄﻇﺎﻓﺮه ﻋﲆ ﻋﻨﻘﻴﻨﺎ ،ﻫﺬا ﻳﺒﻜﻲ ﻣﺮﺗﺎﻋً ﺎ ،وذاك ﻳﻀﺤﻚ ﺳﺎﺧ ًﺮا .وملﺎ
أﺧﺬت ﻳﺪ ﺳﻠﻤﻰ ووﺿﻌﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﺷﻔﺘﻲ ﻣﺘﱪ ًﻛﺎ َدﻧ َ ْﺖ ﻣﻨﻲ وﻟﺜﻤﺖ ﻣﻔﺮق ﺷﻌﺮي ،ﺛﻢ ﻋﺎدت ُ
ﻓﺎرﺗﻤﺖ ﻋﲆ املﻘﻌﺪ اﻟﺨﺸﺒﻲ وأﻃﺒﻘﺖ أﺟﻔﺎﻧﻬﺎ وﻫﻤﺴﺖ ﺑﺒﻂء :أﺷﻔﻖ ﻳﺎ رب وﺷﺪد ﺟﻤﻴﻊ
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة.
اﻧﻔﺼﻠﺖ ﻋﻦ ﺳﻠﻤﻰ وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺷﺎﻋ ًﺮا ﺑﻨﻘﺎب ﻛﺜﻴﻒ ﻳﻮﳾ ﻣﺪارﻛﻲ
اﻟﺤﺴﻴﺔ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻐﻤﺮ اﻟﻀﺒﺎب وﺟﻪ اﻟﺒﺤرية ،وﴎت وأﺧﻴﻠﺔ اﻷﺷﺠﺎر اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺒﻲ
39
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﺘﺤﺮك أﻣﺎﻣﻲ ﻛﺄﻧﻬﺎ أﺷﺒﺎح ﻗﺪ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻣﻦ ﺷﻘﻮق اﻷرض ﻟﺘﺨﻴﻔﻨﻲ ،وأﺷﻌﺔ اﻟﻘﻤﺮ
اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﺗﺮﺗﻌﺶ ﺑني اﻟﻐﺼﻮن ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺳﻬﺎم دﻗﻴﻘﺔ ﺗﺮﻳﺸﻬﺎ أرواح اﻟﺠﺎن اﻟﺴﺎﺑﺤﺔ ﰲ
اﻟﻔﻀﺎء ﻧﺤﻮ ﺻﺪري ،واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﺗﺨﻴﻢ ﻋﲇ ّ ﻛﺄﻧﻬﺎ أﻛﻒ ﺳﻮداء ﺛﻘﻴﻠﺔ أﻟﻘﺘﻬﺎ اﻟﻈﻠﻤﺔ
ﻋﲆ ﺟﺴﺪي.
ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد وﻛﻞ ﻣﻌﻨﻰ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وﻛﻞ ﴎ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻗﺪ ﺻﺎر ﻗﺒﻴﺤً ﺎ رﻫﻴﺒًﺎ ً
ﻫﺎﺋﻼ،
ﻓﺎﻟﻨﻮر املﻌﻨﻮي اﻟﺬي أراﻧﻲ ﺟﻤﺎل اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺑﻬﺠﺔ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻗﺪ اﻧﻘﻠﺐ ﻧﺎ ًرا ﺗﺤﺮق ﻛﺒﺪي
ﺑﻠﻬﻴﺒﻬﺎ وﺗﺴﱰ ﻧﻔﴘ ﺑﺪﺧﺎﻧﻬﺎ ،واﻟﻨﻐﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻀﻢ إﻟﻴﻬﺎ أﺻﻮات املﺨﻠﻮﻗﺎت وﺗﺠﻌﻠﻬﺎ
ﻧﺸﻴﺪًا ﻋﻠﻮﻳٍّﺎ ﻗﺪ اﺳﺘﺤﺎﻟﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ إﱃ ﺿﺠﻴﺞ أروع ﻣﻦ زﻣﺠﺮة ﻷﺳﺪ وأﻋﻤﻖ ﻣﻦ
ﴏاخ اﻟﻬﺎوﻳﺔ.
ﺑﻠﻐﺖ ﻏﺮﻓﺘﻲ وارﺗﻤﻴﺖ ﻋﲆ ﻓﺮاﳾ ﻛﻄﺎﺋﺮ رﻣﺎه اﻟﺼﻴﺎد ﻓﺴﻘﻂ ﺑني اﻟﺴﻴﺎج واﻟﺴﻬﻢ ُ
ﰲ ﻗﻠﺒﻪ .وﻇﻠﺖ ﻋﺎﻗﻠﺘﻲ ﺗﺮاوح ﺑني ﻳﻘﻈﺔ ﻣﺨﻴﻔﺔ وﻧﻮم ﻣﺰﻋﺞ ،وروﺣﻲ ﰲ داﺧﲇ ﺗﺮدد ﰲ
اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻛﻠﻤﺎت ﺳﻠﻤﻰ :أﺷﻔﻖ ﻳﺎ رب وﺷﺪﱢد ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة.
40
أﻣﺎم ﻋﺮش اﳌﻮت
إﻧﻤﺎ اﻟﺰﻳﺠﺔ ﰲ أﻳﺎﻣﻨﺎ ﻫﺬه ﺗﺠﺎرة ﻣﻀﺤﻜﺔ ﻣﺒﻜﻴﺔ ﻳﺘﻮﱃ أﻣﻮرﻫﺎ اﻟﻔﺘﻴﺎن وآﺑﺎء اﻟﺼﺒﺎﻳﺎ،
اﻟﻔﺘﻴﺎن ﻳﺮﺑﺤﻮن ﰲ أﻛﺜﺮ املﻮاﻃﻦ واﻵﺑﺎء ﻳﺨﴪون داﺋﻤً ﺎ ،أﻣﺎ اﻟﺼﺒﺎﻳﺎ املﻨﺘﻘﻼت ﻛﺎﻟﺴﻠﻊ ﻣﻦ
ﻣﻨﺰل إﱃ آﺧﺮ ﻓﺘﺰول ﺑﻬﺠﺘﻬﻦ ،وﻧﻈري اﻷﻣﺘﻌﺔ اﻟﻌﺘﻴﻘﺔ ﻳﺼري ﻧﺼﻴﺒﻬﻦ زواﻳﺎ املﻨﺎزل ﺣﻴﺚ
اﻟﻈﻠﻤﺔ واﻟﻔﻨﺎء اﻟﺒﻄﻲء.
ﻗﻠﻴﻼ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ أﻛﺜﺮت أوﺟﺎﻋﻬﺎ ﺑﺘﻌﻤﻴﻢإن املﺪﻧﻴﺔ اﻟﺤﺎﴐة ﻗﺪ أﻧﻤﺖ ﻣﺪارك املﺮأة ً
ﻣﻄﺎﻣﻊ اﻟﺮﺟﻞ ،ﻛﺎﻧﺖ املﺮأة ﺑﺎﻷﻣﺲ ﺧﺎدﻣﺔ ﺳﻌﻴﺪة ﻓﺼﺎرت اﻟﻴﻮم ﺳﻴﺪة ﺗﻌﺴﺔ .ﻛﺎﻧﺖ
ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻋﻤﻴﺎء ﺗﺴري ﰲ ﻧﻮر اﻟﻨﻬﺎر ،ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻣﺒﴫة ﺗﺴري ﰲ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﻠﻴﻞ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻠﺔ
ﺑﺠﻬﻠﻬﺎ ﻓﺎﺿﻠﺔ ﺑﺒﺴﺎﻃﺘﻬﺎ ﻗﻮﻳﺔ ﺑﻀﻌﻔﻬﺎ ،ﻓﺼﺎرت ﻗﺒﻴﺤﺔ ﺑﺘﻔﻨﱡﻨﻬﺎ ﺳﻄﺤﻴّﺔ ﺑﻤﺪارﻛﻬﺎ ﺑﻌﻴﺪة
ﻋﻦ اﻟﻘﻠﺐ ﺑﻤﻌﺎرﻓﻬﺎ .ﻓﻬﻞ ﻳﺠﻲء ﻳﻮم ﻳﺠﺘﻤﻊ ﰲ املﺮأة اﻟﺠﻤﺎل ﺑﺎملﻌﺮﻓﺔ واﻟﺘﻔﻨﻦ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ،
وﺿﻌﻒ اﻟﺠﺴﺪ ﺑﻘﻮة اﻟﻨﻔﺲ؟ أﻧﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﺋﻠني إن اﻻرﺗﻘﺎء اﻟﺮوﺣﻲ ﺳﻨﱠﺔ ﰲ اﻟﺒﴩ ،واﻟﺘﻘﺮب
ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎل ﴍﻳﻌﺔ ﺑﻄﻴﺌﺔ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻓﻌﺎﻟﺔ ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ املﺮأة ﻗﺪ ا ْرﺗﻘﺖ ﺑﴚء وﺗﺄﺧﺮت ﺑﴚء
آﺧﺮ؛ ﻓﻸن اﻟﻌﻘﺒﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُﺒﻠﻐﻨﺎ ﻗﻤﺔ اﻟﺠﺒﻞ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻣﻦ اﻟﻠﺼﻮص وﻛﻬﻮف اﻟﺬﺋﺎب.
ﻓﻔﻲ ﻫﺬا اﻟﺠﺒﻞ اﻟﺸﺒﻴﻪ ﺑﺎﻟﻐﻴﺒﻮﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻘﺪم اﻟﻴﻘﻈﺔ ،ﰲ ﻫﺬا اﻟﺠﺒﻞ اﻟﻘﺎﺑﺾ ﺑﻜﻔﻴﻪ ﻋﲆ
ﺗﺮاب اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻐﺎﺑﺮة وﺑﺰور اﻷﺟﻴﺎل اﻵﺗﻴﺔ ،ﰲ ﻫﺬا اﻟﺠﺒﻞ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﺑﻤﻴﻮﻟﻪ وأﻣﺎﻧﻴﻪ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ
ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ اﻣﺮأة ﺗﺮﻣﺰ ﺑﻮﺟﻮدﻫﺎ ﻋﻦ اﺑﻨﺔ املﺴﺘﻘﺒﻞ .وﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺑريوت رﻣﺰ
املﺮأة اﻟﴩﻗﻴﺔ اﻟﻌﺘﻴﺪة ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻟﻜﺜريﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻗﺒﻞ زﻣﺎﻧﻬﻢ ﻗﺪ ذﻫﺒﺖ ﺿﺤﻴﺔ
اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺤﺎﴐ ،وﻧﻈري زﻫﺮة اﺧﺘﻄﻔﻬﺎ ﺗﻴﺎر اﻟﻨﻬﺮ ﻗﺪ ﺻﺎرت ﻗﻬ ًﺮا ﰲ ﻣﻮﻛﺐ اﻟﺤﻴﺎة ﻧﺤﻮ
اﻟﺸﻘﺎء.
وﺗﺰوج ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻏﺎﻟﺐ ﻣﻦ ﺳﻠﻤﻰ ،ﻓﺴﻜﻨﺎ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻣﻨﺰل ﻓﺨﻢ ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ
اﻟﺒﺤﺮ ﰲ رأس ﺑريوت ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻄﻦ وﺟﻬﺎء اﻟﻘﻮم واﻷﻏﻨﻴﺎء ،وﺑﻘﻲ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ وﺣﺪه ﰲ
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ذﻟﻚ اﻟﺒﻴﺖ املﻨﻔﺮد ﺑني اﻟﺤﺪاﺋﻖ واﻟﺒﺴﺎﺗني اﻧﻔﺮاد اﻟﺮاﻋﻲ ﺑني أﻏﻨﺎﻣﻪ ،وﻣﻀﺖ أﻳﺎم اﻟﻌﺮس
ﻋﺴﻼ ،ﺗﺎر ًﻛﺎ وراءه ﺷﻬﻮر اﻟﺨﻞ ً واﻧﻘﻀﺖ ﻟﻴﺎﱄ اﻷﻓﺮاح ،وﻣ ّﺮ اﻟﺸﻬﺮ اﻟﺬي ﻳﺪﻋﻮه اﻟﻨﺎس
واﻟﻌﻠﻘﻢ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﱰك أﻣﺠﺎد اﻟﺤﺮوب ﺟﻤﺎﺟﻢ اﻟﻘﺘﲆ ﰲ اﻟﱪﻳﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة … إن ﺑﻬﺮﺟﺔ اﻷﻋﺮاس
اﻟﴩﻗﻴﺔ ﺗﺼﻌﺪ ﺑﻨﻔﻮس اﻟﻔﺘﻴﺎن واﻟﺼﺒﺎﻳﺎ ﺻﻌﻮد اﻟﻨﴪ إﱃ ﻣﺎ وراء اﻟﻐﻴﻮم ،ﺛﻢ ﺗﻬﺒﻂ ﺑﻬﻢ
ﻫﺒﻮط ﺣﺠﺮ اﻟﺮﺣﻰ إﱃ أﻋﻤﺎق اﻟﻴﻢّ ،ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﺜﻞ آﺛﺎر اﻷﻗﺪام ﻋﲆ رﻣﺎل اﻟﺸﺎﻃﺊ ﻻ ﺗﻠﺒﺚ أن
ﺗﻤﺤﻮﻫﺎ اﻷﻣﻮاج.
وذﻫﺐ اﻟﺮﺑﻴﻊ وﺗﻼه اﻟﺼﻴﻒ وﺟﺎء اﻟﺨﺮﻳﻒ ،وﻣﺤﺒﺘﻲ ﻟﺴﻠﻤﻰ ﺗﺘﺪرج ﻣﻦ ﺷﻐﻒ
ﻓﺘﻰ ﰲ ﺻﺒﺎح اﻟﻌﻤﺮ ﺑﺎﻣﺮأة ﺣﺴﻨﺎء إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺒﺎدة اﻟﺨﺮﺳﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ
اﻟﺼﺒﻲ اﻟﻴﺘﻴﻢ ﻧﺤﻮ روح أﻣﻪ اﻟﺴﺎﻛﻨﺔ ﰲ اﻷﺑﺪﻳﺔ ،ﻓﺎﻟﺼﺒﺎﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﺘﻠﻚ ﻛﻠﻴﺘﻲ ﻗﺪ
ﺗﺤﻮﱠﻟﺖ إﱃ ﻛﺂﺑﺔ ﻋﻤﻴﺎء ﻻ ﺗﺮى ﻏري ﻧﻔﺴﻬﺎ ،واﻟﻮﻟﻊ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺪ ّر اﻟﺪﻣﻮع ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻲ ﻗﺪ
اﻧﻘﻠﺐ َو َﻟﻬً ﺎ ﻳﺴﺘﻘﻄﺮ اﻟﺪم ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻲ ،وأﻧﱠﺔ اﻟﺤﻨني اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻤﻸ ﺿﻠﻮﻋﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﺻﻼة
ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺗﻘﺪّﻣﻬﺎ روﺣﻲ ﰲ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ أﻣﺎم اﻟﺴﻤﺎء ﻣﺴﺘﻤﺪة اﻟﺴﻌﺎدة ﻟﺴﻠﻤﻰ واﻟﻐﺒﻄﺔ ﻟﺒﻌﻠﻬﺎ
ﺑﺎﻃﻼ ﻛﻨﺖ أﺷﻔﻖ وأﺑﺘﻬﻞ وأﺻﲇ؛ ﻷن ﺗﻌﺎﺳﺔ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﺔ ً ْ
وﻟﻜﻦ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﻟﻮاﻟﺪﻫﺎ،
ﰲ داﺧﻞ اﻟﻨﻔﺲ ﻻ ﻳﺸﻔﻴﻬﺎ ﺳﻮى املﻮت .أﻣﺎ ﺑﻌﻠﻬﺎ ﻓﻜﺎن ﻣﻦ أوﻟﺌﻚ اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺼﻠﻮن
ﺑﻐري ﺗﻌﺐ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﻫﻨﻴﺌﺔ وﻻ ﻳﻘﻨﻌﻮن ،ﺑﻞ ﻳﻄﻤﺤﻮن داﺋﻤً ﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ،
وﺑﺎﻃﻼ ﻛﻨﺖ أرﺟﻮ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﻟﻔﺎرس ً وﻫﻜﺬا ﻳﻈﻠﻮن ﻣﻌﺬﱠﺑني ﺑﻤﻄﺎﻣﻌﻬﻢ إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ أﻳﺎﻣﻬﻢ.
ﻛﺮاﻣﺔ؛ ﻷن ﺻﻬﺮه ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻠﻢ ﻳﺪ اﺑﻨﺘﻪ وﻳﺤﺼﻞ ﻋﲆ أﻣﻮاﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﺴﻴﻪ وﻫﺠﺮه ،ﺑﻞ ﺻﺎر
ً
ﺗﻮﺻﻼ إﱃ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ ﺛﺮوﺗﻪ. ﻳﻄﻠﺐ ﺣﺘﻔﻪ
ﻛﺎن ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﺷﺒﻴﻬً ﺎ ﺑﻌﻤﻪ املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ،وﻛﺎﻧﺖ أﺧﻼﻗﻪ ﻛﺄﺧﻼﻗﻪ ،وﻧﻔﺴﻪ
ﺻﻮرة ﻣﺼﻐﺮة ﻟﻨﻔﺴﻪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﻔﺮق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ إﻻ ﺑﻤﺎ ﻳﻔﺮق اﻟﺮﻳﺎء ﻋﻦ اﻻﻧﺤﻄﺎط .ﻛﺎن
املﻄﺮان ﻳﺒﻠﻎ أﻣﺎﻧﻴﻪ ﻣﺴﺘﱰًا ﺑﺄﺛﻮاﺑﻪ اﻟﺒﻨﻔﺴﺠﻴﺔ ،وﻳﺸﺒﻊ ﻣﻄﺎﻣﻌﻪ ﻣﺤﺘﻤﻴًﺎ ﺑﺎﻟﺼﻠﻴﺐ اﻟﺬﻫﺒﻲ
املﻌﻠﻖ ﻋﲆ ﺻﺪره ،أﻣﺎ اﺑﻦ أﺧﻴﻪ ﻓﻜﺎن ﻳﻔﻌﻞ ﻛﻞ ذﻟﻚ ﺟﻬﺎ ًرا وﻋﻨﻮة .ﻛﺎن املﻄﺮان ﻳﺬﻫﺐ
إﱃ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ،وﻳﴫف ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﻬﺎر ﻣﻨﺘﺰﻋً ﺎ اﻷﻣﻮال ﻣﻦ اﻷراﻣﻞ واﻟﻴﺘﺎﻣﻰ
ً
ﻣﻼﺣﻘﺎ ﺷﻬﻮاﺗﻪ ﰲ وﺑﺴﻄﺎء اﻟﻘﻠﺐ .أﻣﺎ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻓﻜﺎن ﻳﻘﴤ اﻟﻨﻬﺎر ﻛﻠﻪ ﻣﺘﱠ ِﺒﻌً ﺎ ﻣﻠﺬاﺗﻪ
اﻷز ﱠﻗﺔ املﻈﻠﻤﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﺨﺘﻤﺮ اﻟﻬﻮاء ﺑﺄﻧﻔﺎس اﻟﻔﺴﺎد.
ﺗﻠﻚ ِ
ّ
ﻛﺎن املﻄﺮان ﻳﻘﻒ ﻳﻮم اﻷﺣﺪ أﻣﺎم املﺬﺑﺢ ،وﻳﻌﻆ املﺆﻣﻨني ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺘﻌﻆ ﺑﻪ ،وﻳﴫف
ﻣﺸﺘﻐﻼ ﺑﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺒﻼد ،أﻣﺎ اﺑﻦ أﺧﻴﻪ ﻓﻜﺎن ﻳﴫف ﺟﻤﻴﻊ أﻳﺎﻣﻪ ﻣﺘﺎﺟ ًﺮا ً أﻳﺎم اﻷﺳﺒﻮع
ﻟﺼﺎ ﻳﺴري ﻣﺨﺘﺒﺌًﺎ ﺑﺴﺘﺎﺋﺮﺑﻨﻔﻮذ ﻋﻤﻪ ﺑني ﻃﺎﻟﺒﻲ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ وﻣﺮﻳﺪي اﻟﻮﺟﺎﻫﺔ .ﻛﺎن املﻄﺮان ٍّ
ﻣﺤﺘﺎﻻ ﻳﻤﴚ ﺑﺸﺠﺎﻋﺔ ﰲ ﻧﻮر اﻟﻨﻬﺎر. ً اﻟﻠﻴﻞ ،أﻣﺎ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻓﻜﺎن
42
أﻣﺎم ﻋﺮش املﻮت
ﻛﺬا ﺗَﺒﻴﺪ اﻟﺸﻌﻮب ﺑني اﻟﻠﺼﻮص واملﺤﺘﺎﻟني ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻔﻨﻰ اﻟﻘﻄﻌﺎن ﺑني أﻧﻴﺎب اﻟﺬﺋﺎب
وﻗﻮاﻃﻊ اﻟﺠ ّﺰارﻳﻦ ،وﻫﻜﺬا ﺗﺴﺘﺴﻠﻢ اﻷﻣﻢ إﱃ ذوي اﻟﻨﻔﻮس املﻌﻮﺟّ ﺔ واﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺳﺪة،
ﻓﺘﱰاﺟﻊ إﱃ اﻟﻮراء ﺛﻢ ﺗﻬﺒﻂ إﱃ اﻟﺤﻀﻴﺾ ،ﻓﻴﻤﺮ اﻟﺪّﻫﺮ وﻳﺴﺤﻘﻬﺎ ﺑﺄﻗﺪاﻣﻪ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺴﺤﻖ
ﻣﻄﺎرق اﻟﺤﺪﻳﺪ آﻧﻴﺔ ّ
اﻟﻔﺨﺎر.
وﻣﺎذا ﻳﺎ ﺗﺮى ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ اﻵن أﺷﻐﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺤﺎت ﺑﺎﻟﻜﻼم ﻋﻦ أﻣﻢ ﺑﺎﺋﺴﺔ ﻳﺎﺋﺴﺔ ،وأﻧﺎ
ﻗﺪ ﺧﺼﺼﺘﻬﺎ ﻟﺘﺪوﻳﻦ ﺣﻜﺎﻳﺔ اﻣﺮأة ﺗﺎﻋﺴﺔ وﺗﺼﻮﻳﺮ ﺧﻴﺎﻻت ﻗﻠﺐ وﺟﻴﻊ ﻟﻢ ﻳﻠﻤﺴﻪ اﻟﺤﺐ
ﺑﺄﻓﺮاﺣﻪ ﺣﺘﻰ ﺻﻔﻌﻪ ﺑﺄﺣﺰاﻧﻪ؟! ملﺎذا ﺗﺮاود اﻟﺪﻣﻮع أﺟﻔﺎﻧﻲ ﻟﺬﻛﺮ ﺷﻌﻮب ﺧﺎﻣﻠﺔ وﻣﻈﻠﻮﻣﺔ،
وأﻧﺎ ﻗﺪ وﻗﻔﺖ دﻣﻮﻋﻲ ﻋﲆ ذﻛﺮى أﻳﺎم اﻣﺮأة ﺿﻌﻴﻔﺔ ﻟﻢ ﺗﻌﺎﻧﻖ اﻟﺤﻴﺎة ﺣﺘﻰ اﺣﺘﻀﻨﻬﺎ املﻮت؟
وﻟﻜﻦ أﻟﻴﺴﺖ املﺮأة اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﻫﻲ رﻣﺰ اﻷﻣﺔ املﻈﻠﻮﻣﺔ؟ أﻟﻴﺴﺖ املﺮأة املﺘﻮﺟﱢ ﻌﺔ ﺑني ﻣﻴﻮل
ﻧﻔﺴﻬﺎ وﻗﻴﻮد ﺟﺴﺪﻫﺎ ﻫﻲ ﻛﺎﻷُﻣﱠ ﺔ املﺘﻌ ّﺬﺑﺔ ﺑني ﺣﻜﺎﻣﻬﺎ وﻛﻬﺎﻧﻬﺎ؟ أوﻟﻴﺴﺖ اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﺨﻔﻴﺔ
اﻟﺘﻲ ﺗﺬﻫﺐ ﺑﺎﻟﺼﺒﻴّﺔ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ إﱃ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﻘﱪ ﻫﻲ ﻛﺎﻟﻌﻮاﺻﻒ اﻟﺸﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻤﺮ ﺣﻴﺎة
اﻟﺸﻌﻮب ﺑﺎﻟﱰاب؟ إن املﺮأة ﻣﻦ اﻷﻣﺔ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﺸﻌﺎع ﻣﻦ اﻟﴪاج ،وﻫﻞ ﻳﻜﻮن ﺷﻌﺎع اﻟﴪاج
ً
ﺿﺌﻴﻼ إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ زﻳﺘﻪ ﺷﺤﻴﺤً ﺎ؟
ﻣﻀﺖ أﻳﺎم اﻟﺨﺮﻳﻒ وﻋ ّﺮت اﻟﺮﻳﺎح اﻷﺷﺠﺎر ﻣﺘﻼﻋﺒﺔ ﺑﺄوراﻗﻬﺎ اﻟﺼﻔﺮاء ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺪاﻋﺐ اﻷﻧﻮاء
زﺑﺪ اﻟﺒﺤﺮ ،وﺟﺎء اﻟﺸﺘﺎء ﺑﺎﻛﻴًﺎ ﻣﻨﺘﺤﺒًﺎ وأﻧﺎ ﰲ ﺑريوت وﻻ رﻓﻴﻖ ﱄ ﺳﻮى أﺣﻼم ﺗﺘﺼﺎﻋﺪ
ﺑﻨﻔﴘ ﺗﺎرة ﻓﺘﺒﻠﻐﻬﺎ اﻟﻜﻮاﻛﺐ ،وﺗﻨﺨﻔﺾ ﺑﻘﻠﺒﻲ ﻃﻮ ًرا ﻓﺘﻠﺤﺪه ﺑﺠﻮف اﻷرض.
إن اﻟﻨﻔﺲ اﻟﻜﺌﻴﺒﺔ ﺗﺠﺪ راﺣﺔ ﺑﺎﻟﻌﺰﻟﺔ واﻻﻧﻔﺮاد ﻓﺘﻬﺠﺮ اﻟﻨﺎس ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺒﺘﻌﺪ اﻟﻐﺰال
اﻟﺠﺮﻳﺢ ﻋﻦ ﴎﺑﻪ وﻳﺘﻮارى ﰲ ﻛﻬﻔﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﱪأ أو ﻳﻤﻮت.
ﻓﺬات ﻳﻮم ﺳﻤﻌﺖ ﺑﺎﻋﺘﻼل ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ،ﻓﱰﻛﺖ وﺣﺪﺗﻲ وذﻫﺒﺖ ﻟﻌﻴﺎدﺗﻪ ﻣﺎﺷﻴًﺎ ﻋﲆ
ﻣﻤﺮ ﻣﻨﻔﺮد ﺑني أﺷﺠﺎر اﻟﺰﻳﺘﻮن املﺘﻠﻤّ ﻌﺔ أوراﻗﻬﺎ اﻟﺮﺻﺎﺻﻴﺔ ﺑﻘﻄﺮات املﻄﺮ ،ﻣﺘﻨﺤﻴًﺎ ﻋﻦ
اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺰﻋﺞ ﺿﺠﺔ املﺮﻛﺒﺎت ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻔﻀﺎء.
ﺑﻠﻐﺖ ﻣﻨﺰل اﻟﺸﻴﺦ ودﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻮﺟﺪﺗﻪ ﻣُﻠﻘﻰ ﻋﲆ ﻓﺮاﺷﻪ ﻣﻀﻨﻰ اﻟﺠﺴﻢ ،ﺷﺎﺣﺐ
اﻟﻮﺟﻪ أﺻﻔﺮ اﻟﻠﻮن ،ﻗﺪ ﻏﺮﻗﺖ ﻋﻴﻨﺎه ﺗﺤﺖ ﺣﺎﺟﺒﻴﻪ ﻓﺒﺎﺗﺘﺎ ﻛﻬﻮﱠﺗني ﻋﻤﻴﻘﺘني ﻣﻈﻠﻤﺘني
ﺗﺠﻮل ﻓﻴﻬﻤﺎ أﺷﺒﺎح اﻟﺴﻘﻢ واﻷﻟﻢ ،ﻓﺎملﻼﻣﺢ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻋﻨﻮان اﻟﺒﺸﺎﺷﺔ واﻻﻧﺒﺴﺎط
ﻗﺪ ﺗﻘ ﱠﻠﺼﺖ واﻛﻔﻬ ﱠﺮت وأﺻﺒﺤﺖ ﻛﺼﺤﻴﻔﺔ رﻣﺎدﻳﺔ ﻣﺘﺠﻌﺪة ﺗﻜﺘﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻌﻠﺔ ﺳﻄﻮ ًرا
ﻋﺮﻳﺒﺔ ﻣﻠﺘﺒﺴﺔ .واﻟﻴﺪان اﻟﻠﺘﺎن ﻛﺎﻧﺘﺎ ﻣﻐ ّﻠﻔﺘني ﺑﺎﻟﻠﻄﻒ واﻟﻠﺪاﻧﺔ ﻗﺪ ﻧُﺤﻠﺘﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﺪت ﻋﻈﺎم
أﺻﺎﺑﻌﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﺤﺖ اﻟﺠﻠﺪ ﻛﻘﻀﺒﺎن ﻋﺎرﻳﺔ ﺗﺮﺗﻌﺶ أﻣﺎم اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ.
43
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﺳﺎﺋﻼ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﻪ ،ﺣﻮّل وﺟﻬﻪ املﻬﺰول ﻧﺤﻮي وﻇﻬﺮ ﻋﲆ ﺷﻔﺘﻴﻪ ً وملﺎ دﻧﻮت ﻣﻨﻪ
املﺮﺗﺠﻔﺘني ﺧﻴﺎل اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺤﺰﻧﺔ ،وﺑﺼﻮت ﺿﻌﻴﻒ ﺧﺎﻓﺖ ﺧﻠﺘﻪ آﺗﻴًﺎ ﻣﻦ وراء اﻟﺠﺪران
ﻗﺎل :اذﻫﺐ ،اذﻫﺐ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺮﻓﺔ واﻣﺴﺢ دﻣﻮع ﺳﻠﻤﻰ وﺳ ﱢﻜﻦ روﻋﻬﺎ ﺛﻢ ﻋ ْﺪ ﺑﻬﺎ
إﱄ ﱠ ﻟﺘﺠﻠﺲ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻓﺮاﳾ …
دﺧﻠﺖ اﻟﻐﺮﻓﺔ املﺤﺎذﻳﺔ ﻓﻮﺟﺪت ﺳﻠﻤﻰ ﻣﻨﻄﺮﺣﺔ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪ وﻗﺪ ﻏﻤﺮت رأﺳﻬﺎ ﺑﺰﻧﺪﻳﻬﺎ ُ
ُ
ﻓﺎﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺒﻂء وﻏﺮﻗﺖ وﺟﻬﻬﺎ ﺑﺎملﺴﺎﻧﺪ ،وأﻣﺴﻜﺖ أﻧﻔﺎﺳﻬﺎ ﻛﻴﻼ ﻳﺴﻤﻊ واﻟﺪﻫﺎ ﻧﺤﻴﺒﻬﺎ.
ﻓﺘﺤﺮﻛﺖ ﻣﻀﻄﺮﺑﺔ ﻛﻨﺎﺋﻢ ﺗﺮاوده ْ وﻟﻔﻈﺖ اﺳﻤﻬﺎ ﺑﺼﻮت أﻗﺮب إﱃ اﻟﺘﻨﻬّ ﺪ ﻣﻨﻪ إﱃ اﻟﻬﻤﺲ،
اﻷﺣﻼم املﺨﻴﻔﺔ ،ﺛﻢ اﺳﺘﻮت ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪﻫﺎ وﻧﻈﺮت إﱄ ّ ﺑﻌﻴﻨني ﺷﺎﺧﺼﺘني ﺟﺎﻣﺪﺗني ﻛﺄﻧﻬﺎ
ﺗﺮى ﺷﺒﺤً ﺎ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺮؤﻳﺎ ،وﻻ ﺗﺼﺪق ﺣﻘﻴﻘﺔ وﺟﻮدي ﰲ ذﻟﻚ املﻜﺎن.
وﺑﻌﺪ ﺳﻜﻮت ﻋﻤﻴﻖ أرﺟﻌﻨﺎ ﺑﺘﺄﺛرياﺗﻪ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﻜﺮﻧﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ
ﻣﺘﺤﴪة :أرأﻳﺖ ﻛﻴﻒ ﺗﺒﺪﱠﻟﺖ ﱢ ﺧﻤﺮة اﻵﻟﻬﺔ ،ﻣﺴﺤﺖ ﺳﻠﻤﻰ دﻣﻮﻋﻬﺎ ﺑﺄﻃﺮاف أﻧﺎﻣﻠﻬﺎ وﻗﺎﻟﺖ
اﻷﻳﺎم؟ أرأﻳﺖ ﻛﻴﻒ أﺿ ﱠﻠﻨﺎ اﻟﺪﻫﺮ ﻓﴪﻧﺎ ﻣﴪﻋني إﱃ ﻫﺬه اﻟﻜﻬﻮف املﻔﺰﻋﺔ؟ ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن
ﺟﻤﻌﻨﺎ اﻟﺮﺑﻴﻊ ﰲ ﻗﺒﻀﺔ اﻟﺤﺐ ،وﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن ﻳﺠﻤﻌﻨﺎ اﻵن اﻟﺸﺘﺎء أﻣﺎم ﻋﺮش املﻮت ،ﻓﻤﺎ
أﺑﻬﻰ ذﻟﻚ اﻟﻨﻬﺎر! وﻣﺎ أﺷﺪ ﻇﻠﻤﺔ ﻫﺬا اﻟﻠﻴﻞ!
اﻟﻐﺼﺎت أواﺧﺮﻫﺎ ،ﺛﻢ ﻋﺎدت ﻓﺴﱰت وﺟﻬﻬﺎ ﺑﻴﺪﻳﻬﺎ ّ ﻗﺎﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت وﻗﺪ اﺑﺘﻠﻌﺖ
ﺗﺠﺴﺪت ،ووﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻬﺎ ﻓﻠﻢ ﺗﺸﺄ أن ﺗﺮاﻫﺎ .ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﻋﲆ ّ ﻛﺄن ذﻛﺮى املﺎﴈ ﻗﺪ
ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﻌﺎﱄ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ،ﺗﻌﺎﱄ ﻧﻨﺘﺼﺐ ﻛﺎﻷﺑﺮاج أﻣﺎم اﻟﺰوﺑﻌﺔ .ﻫﻠﻤﻲ ﻧﻘﻒ ﻛﺎﻟﺠﻨﻮد ﺷﻌﺮﻫﺎ ً
ﻣﺘﻠﻘني ﺷﻔﺎر اﻟﺴﻴﻮف ﺑﺼﺪورﻧﺎ ﻻ ﺑﻈﻬﻮرﻧﺎ ،ﻓﺈن ُﴏﻋﻨﺎ ﻧﻤﻮت ﻛﺎﻟﺸﻬﺪاء أﻣﺎم اﻷﻋﺪاء ﱢ
ﻧﻌﺶ ﻛﺎﻷﺑﻄﺎل … إن ﻋﺬاب اﻟﻨﻔﺲ ﺑﺜﺒﺎﺗﻬﺎ أﻣﺎم املﺼﺎﻋﺐ واملﺘﺎﻋﺐ ﻟﻬﻮ أﴍف وإن ﺗﻐ ﱠﻠﺒْﻨﺎ ْ
ﻣﻦ ﺗﻘﻬﻘﺮﻫﺎ إﱃ ﺣﻴﺚ اﻷﻣﻦ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ .ﻓﺎﻟﻔﺮاﺷﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻈ ّﻞ ﻣﺮﻓﺮﻓﺔ ﺣﻮل اﻟﴪاج ﺣﺘﻰ
ﺗﺤﱰق ﻫﻲ أﺳﻤﻰ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﺪ اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺶ ﺑﺮاﺣﺔ وﺳﻼﻣﺔ ﰲ ﻧ َ َﻔﻘِ ِﻪ املﻈﻠﻢ .واﻟﻨﻮاة اﻟﺘﻲ ﻻ
ﺗﺤﺘﻤﻞ ﺑﺮد اﻟﺸﺘﺎء وﺛﻮرات اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻻ ﺗﻘﻮى ﻋﲆ ﺷﻖ اﻷرض وﻟﻦ ﺗﻔﺮح ﺑﺠﻤﺎل ﻧﻴﺴﺎن
ﴪ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﺑﻘﺪم ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻮﻋﺮة راﻓﻌني أﻋﻴﻨﻨﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺸﻤﺲ … ﻫﻠﻤﻲ ﻧ َ ِ ْ
ﻛﻴﻼ ﻧﺮى اﻟﺠﻤﺎﺟﻢ املﻄﺮوﺣﺔ ﺑني اﻟﺼﺨﻮر ،واﻷﻓﺎﻋﻲ املﻨﺴﺎﺑﺔ ﺑني اﻷﺷﻮاك ،ﻓﺈن أوﻗﻔﻨﺎ
اﻟﺨﻮف ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﺳﻤﻌﺘﻨﺎ أﺷﺒﺎح اﻟﻠﻴﻞ ﴏاخ اﻻﺳﺘﻬﺰاء واﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ،وإن ﺑﻠﻐﻨﺎ
ﻗﻤﺔ اﻟﺠﺒﻞ ﺑﺸﺠﺎﻋﺔ ﺗﱰﻧﻢ ﻣﻌﻨﺎ أرواح اﻟﻔﻀﺎء ﺑﺄﻧﺸﻮدة اﻟﻨﴫ واﻻﺳﺘﻈﻬﺎر … ﺧﻔﻔﻲ ﻋﻨﻚ
ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ وﺟﻔﻔﻲ دﻣﻮﻋﻚ ،وأﺧﻔﻲ ﻫﺬه اﻟﻜﺂﺑﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻋﲆ ﻣﺤﻴّﺎك ،وﻗﻮﻣﻲ ﻧﺠﻠﺲ ﺑﺠﺎﻧﺐ
ﻓﺮاش واﻟﺪك ﻷن ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻚ وﺷﻔﺎءه ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻚ.
44
أﻣﺎم ﻋﺮش املﻮت
ﻓﻨﻈﺮت إﱄ ّ ﻧﻈﺮة ﻣﻠﺆﻫﺎ اﻟﺤﻨﺎن واﻟﺮأﻓﺔ واﻻﻧﻌﻄﺎف ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ :أﺗﻄﻠﺐ ﻣﻨﻲ اﻟﺼﱪ
واﻟﺘﺠﻠﺪ وﰲ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻴﺄس واﻟﻘﻨﻮط؟ أﻳﻌﻄﻲ اﻟﻔﻘري اﻟﺠﺎﺋﻊ ﺧﺒﺰه ﻟﻠﺠﺎﺋﻊ اﻟﻔﻘري؟ أَو
ﻳﺼﻒ اﻟﻌﻠﻴﻞ دواءً ﻟﻌﻠﻴﻞ آﺧﺮ وﻫﻮ أﺣﺮى ﺑﺎﻟﺪواء؟
ﺛﻢ وﻗﻔﺖ وﺳﺎرت أﻣﺎﻣﻲ ﻣﻨﺤﻨﻴﺔ اﻟﺮأس إﱃ ﻏﺮﻓﺔ واﻟﺪﻫﺎ .ﺟﻠﺴﻨﺎ ﺑﻘﺮب ﻣﻀﺠﻊ
اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻌﻠﻴﻞ وﺳﻠﻤﻰ ﺗﺘﻜﻠﻒ اﻻﺑﺘﺴﺎم وﻫﺪوء اﻟﺒﺎل وﻫﻮ ﻳﺘﻜﻠﻒ اﻟﺮاﺣﺔ واﻟﻘﻮة ،وﻛﻞ
ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺷﺎﻋﺮ ﺑﻠﻮﻋﺔ اﻵﺧﺮ ،ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻀﻌﻔﻪ ،ﺳﺎﻣﻊ ﻏﺼﺎت ﻗﻠﺒﻪ ،ﻓﻜﺎﻧﺎ ﻣﺜﻞ ﻗﻮﺗني ﻣﺘﺼﺎرﻋﺘني
ﺑﻌﻀﺎ ﰲ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ .واﻟ ٌﺪ دﻧﻒ ﻳﺬوب ﺿﻨًﻰ ﻟﺘﻌﺎﺳﺔ اﺑﻨﺘﻪ ،واﺑﻨﺔ ﻣﺤﺒﺔ ﺗﺬﺑﻞ ﻳﻔﻨﻲ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ً
ﻣﺘﻮﺟﻌﺔ ﺑﻌﻠﺔ واﻟﺪﻫﺎ ،ﻧﻔﺲ راﺣﻠﺔ وﻧﻔﺲ ﻳﺎﺋﺴﺔ ﺗﺘﻌﺎﻧﻘﺎن أﻣﺎم اﻟﺤﺐ واملﻮت ،وأﻧﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ
أﺗﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﺑﻲ وأﻗﺎﳼ ﻣﺎ ﺑﻬﻤﺎ؛ ﺛﻼﺛﺔ ﺟﻤﻌﺘﻬﻢ ﻳﺪ اﻟﻘﻀﺎء ﺛﻢ ﻗﺒﻀﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﺸﺪة ﺣﺘﻰ
ﺳﺤﻘﺘﻬﻢ؛ ﺷﻴﺦ ﻳﻤﺜﻞ ﺑﻴﺘًﺎ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻫﺪﻣﻪ اﻟﻄﻮﻓﺎن ،وﺻﺒﻴّﺔ ﺗﺤﺎﻛﻲ زﻧﺒﻘﺔ ﻗﻄﻊ ﻋﻨﻘﻬﺎ ﺣﺪ
املﻨﺠﻞ ،وﻓﺘﻰ ﻳﺸﺎﺑﻪ ﻏﺮﺳﺔ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﻟﻮت ﻗﺎﻣﺘﻬﺎ اﻟﺜﻠﻮج ،وﺟﻤﻴﻌﻨﺎ ﻣﺜﻞ أﻟﻌﻮﺑﺔ ﺑني أﺻﺎﺑﻊ
اﻟﺪﻫﺮ.
وﺗﺤﺮك اﻟﺸﻴﺦ إذ ذاك ﺑني اﻟﻠﺤﻒ وﻣﺪ ﻳﺪه اﻟﻨﺤﻴﻠﺔ ﻧﺤﻮ ﺳﻠﻤﻰ ،وﺑﺼﻮت أودﻋﻪ ﻛﻞ
ﻣﺎ ﰲ ﻗﻠﺐ اﻷب ﻣﻦ اﻟ ﱢﺮ َﻗﺔ واﻟﺮأﻓﺔ ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﺼﺪر اﻟﻌﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺴﻘﻢ واﻷﻟﻢ ﻗﺎل :ﺿﻌﻲ
ﻳﺪك ﰲ ﻳﺪي ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ.
ً
ﻓﻤﺪت ﻳﺪﻫﺎ وأﻟﻘﺘﻬﺎ ﺑني أﺻﺎﺑﻌﻪ ﻓﻀﻤّ ﻬﺎ ﺑﻠﻄﻒ ﺛﻢ زاد ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﻘﺪ ﺷﺒﻌﺖ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني
ﻃﻮﻳﻼ وﺗﻠﺬذت ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺗﺜﻤﺮه اﻟﻔﺼﻮل ،وﺗﻤﺘﻌﺖ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺗﱪزه اﻷﻳﺎم ً ﻳﺎ وﻟﺪي ،ﻗﺪ ﻋﺸﺖ
ﻛﻬﻼ ،وﻛﻨﺖ ﰲ ﻫﺬه واﻟﻠﻴﺎﱄ ،ﻗﺪ ﻻﺣﻘﺖ اﻟﻔﺮاش ﺻﺒﻴٍّﺎ وﻋﺎﻧﻘﺖ اﻟﺤﺐ ﻓﺘﻰ وﺟﻤﻌﺖ املﺎل ً
ﻄﺎ … ﻓﻘﺪت أﻣﻚِ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺒﻠﻐﻲ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ أﺑﻘﺘْﻚِ ﱄ ﻛﻨ ًﺰا اﻷدوار ﺳﻌﻴﺪًا ﻣﻐﺘﺒ ً
ﺛﻤﻴﻨًﺎ ،ﻓﻜﻨﺖ ﺗَﻨ ْ ِﻤني ﺑﴪﻋﺔ ﻧﻤ ﱠﻮ اﻟﻬﻼل ،وﺗﻨﻌﻜﺲ ﻋﲆ وﺟﻬﻚ ﻣﻼﻣﺢ أﻣﻚ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻨﻌﻜﺲ
أﺷﻌﺔ اﻟﻨﺠﻮم ﰲ ﺣﻮض ﻣﺎء ﻫﺎدئ ،وﺗﻈﻬﺮ أﺧﻼﻗﻬﺎ وﻣﺰاﻳﺎﻫﺎ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻚ وأﻗﻮاﻟﻚ ﻇﻬﻮر اﻟﺤﲇ ّ
ﻛﻨﺖ ﻣﺜ َﻠﻬﺎ ﺟﻤﻴﻠﺔ وﺣﻜﻴﻤﺔ … اﻟﺬﻫﺒﻴﺔ ﻣﻦ وراء اﻟﻨﻘﺎب اﻟﺮﻗﻴﻖ ،ﻓﺘﻌ ﱠﺰﻳْﺖ ﺑﻚِ ﻳﺎ وﻟﺪي ﻷﻧﻚِ ِ
ﺷﻴﺨﺎ ﻃﺎﻋﻨًﺎ وراﺣﺔ اﻟﺸﻴﻮخ ﺑني أﺟﻨﺤﺔ املﻮت اﻟﻨﺎﻋﻤﺔ ،ﻓﺘﻌﺰيْ ﻳﺎ وﻟﺪي ً واﻵن ﻗﺪ ﴏت
ﻷﻧﻨﻲ ﺑﻘﻴﺖ ﻷراك اﻣﺮأة ﻛﺎﻣﻠﺔ ،واﻓﺮﺣﻲ ﻷﻧﻲ ﺳﺄﺑﻘﻰ ﺑﻚ ﺣﻴٍّﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻲ .إن ذﻫﺎﺑﻲ اﻵن
ﻫﻮ ﻣﺜﻞ ذﻫﺎﺑﻲ ﻏﺪًا أو ﺑﻌﺪه ،ﻷن أﻳﺎﻣﻨﺎ ﻣﺜﻞ أوراق اﻟﺨﺮﻳﻒ ،ﺗﺘﺴﺎﻗﻂ وﺗﺘﺒﺪد أﻣﺎم وﺟﻪ
اﻟﺸﻤﺲ ،ﻓﺈن أﴎﻋﺖ ﺑﻲ اﻟﺴﺎﻋﺎت إﱃ اﻷﺑﺪﻳﺔ ﻓﻸﻧﻬﺎ ﻋﻠﻤﺖ ﺑﺄن روﺣﻲ ﻗﺪ اﺷﺘﺎﻗﺖ إﱃ ﻟﻘﺎء
أﻣﻚ.
ﻟﻔﻆ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻷﺧرية ﺑﻨﻐﻤﺔ ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﺤﻼوة اﻟﺤﻨني واﻟﺮﺟﺎء ،وﻻﺣﺖ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ
املﻨﻘﺒﺾ أﺷﻌﺔ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻨﻮر اﻟﺬي ﻳﻨﺒﺜﻖ ﻣﻦ أﺟﻔﺎن اﻷﻃﻔﺎل ،ﺛﻢ ﻣ ﱠﺪ ﻳﺪه ﺑني املﺴﺎﻧﺪ
45
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
املﺤﻴﻄﺔ ﺑﺮأﺳﻪ ،واﻧﺘﺸﻞ ﺻﻮرة ﺻﻐرية ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻳﻤﻨﻄﻘﻬﺎ إﻃﺎر ﻣﻦ اﻟﺬﻫﺐ ﻗﺪ ﻧﻌّ ﻤﺖ ﺣﺪودَه
ﻧﻘﻮﺷﻪ ُﻗﺒ ُﻞ اﻟﺸﻔﺎه ،ﺛﻢ ﻗﺎل دون أن ﻳﺤﻮﱢل ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻋﻦ اﻟﺮﺳﻢ :اﻗﱰﺑﻲَ ْ
وﻣﺤﺖ ﻣﻼﻣﺲ اﻷﻳﺪي
ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ،اﻗﱰﺑﻲ ﻣﻨﻲ ﻳﺎ وﻟﺪي ﻷرﻳﻚ ﺧﻴﺎل أﻣﻚ ،ﺗﻌﺎﱄ ْ واﻧﻈﺮي ﻇﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺔ ﻣﻦ
اﻟﻮرق.
ﻓﺪﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺎﺳﺤﺔ اﻟﺪﻣﻮع ﻣﻦ ﻣﻘﻠﺘﻴﻬﺎ ﻛﻴﻼ ﺗﺤﻮل ﺑني ﻧﺎﻇﺮﻳﻬﺎ واﻟﺮﺳﻢ اﻟﻀﺌﻴﻞ،
ﻃﻮﻳﻼ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﺮآة ﺗﻌﻜﺲ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ وﺷﻜﻞ وﺟﻬﻬﺎ ،ﻗﺮﺑﺘﻪ ﻣﻦ ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ ً وﺑﻌﺪ أن ﺣﺪّﻗﺖ إﻟﻴﻪ
وﻗﺒﻠﺘﻪ ﺑﻠﻬﻔﺔ ﻣﺮا ًرا ﻣﺘﻮاﻟﻴﺔ ﺛﻢ ﴏﺧﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻳﺎ أﻣﺎه ،ﻳﺎ أﻣﺎه ،ﻳﺎ أﻣﺎه! وﻟﻢ ﺗﺰد ﻋﲆ ﻫﺬه
اﻟﻜﻠﻤﺔ ،ﺑﻞ ﻋﺎدت ﻓﻮﺿﻌﺖ اﻟﺮﺳﻢ ﻋﲆ ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ املﺮﺗﻌﺸﺘني ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺒﺚ ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻴﺎة
ﺑﺄﻧﻔﺎﺳﻬﺎ اﻟﺤﺎرة …
إن أﻋﺬب ﻣﺎ ﺗﺤﺪﺛﻪ اﻟﺸﻔﺎه اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻫﻮ ﻟﻔﻈﺔ »اﻷم« ،وأﺟﻤﻞ ﻣﻨﺎداة ﻫﻲ :ﻳﺎ أﻣﻲ،
ﻛﻠﻤﺔ ﺻﻐرية ﻛﺒرية ﻣﻤﻠﻮءة ﺑﺎﻷﻣﻞ واﻟﺤﺐ واﻻﻧﻌﻄﺎف ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻘﻠﺐ اﻟﺒﴩي ﻣﻦ اﻟﺮﻗﺔ
واﻟﺤﻼوة واﻟﻌﺬوﺑﺔ .اﻷم ﻫﻲ ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة ،ﻫﻲ اﻟﺘﻌﺰﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﺰن ،واﻟﺮﺟﺎء ﰲ
اﻟﻴﺄس ،واﻟﻘﻮة ﰲ اﻟﻀﻌﻒ ،ﻫﻲ ﻳﻨﺒﻮع اﻟﺤﻨﻮ واﻟﺮأﻓﺔ واﻟﺸﻔﻘﺔ واﻟﻐﻔﺮان ،ﻓﺎﻟﺬي ﻳﻔﻘﺪ أﻣﻪ
ﻳﻔﻘﺪ ﺻﺪ ًرا ﻳﺴﻨﺪ إﻟﻴﻪ رأﺳﻪ وﻳﺪًا ﺗﺒﺎرﻛﻪ وﻋﻴﻨًﺎ ﺗﺤﺮﺳﻪ …
ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺮﻣﺰ وﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ اﻷﻣﻮﻣﺔ ،ﻓﺎﻟﺸﻤﺲ ﻫﻲ أم ﻫﺬه اﻷرض
ﺗﺮﺿﻌﻬﺎ ﺣﺮارﺗﻬﺎ وﺗﺤﺘﻀﻨﻬﺎ ﺑﻨﻮرﻫﺎ ،وﻻ ﺗﻐﺎدرﻫﺎ ﻋﻨﺪ املﺴﺎء إﻻ ﺑﻌﺪ أن ﺗﻨﻮّﻣﻬﺎ ﻋﲆ
ﻧﻐﻤﺔ أﻣﻮاج اﻟﺒﺤﺮ وﺗﺮﻧﻴﻤﺔ اﻟﻌﺼﺎﻓري واﻟﺴﻮاﻗﻲ ،وﻫﺬه اﻷرض ﻫﻲ أم ﻟﻸﺷﺠﺎر واﻷزﻫﺎر
ﺗ ِﻠﺪُﻫﺎ وﺗُﺮﺿﻌﻬﺎ ﺛﻢ ﺗَﻔﻄﻤﻬﺎ .واﻷﺷﺠﺎر واﻷزﻫﺎر ﺗﺼري ﺑﺪورﻫﺎ أﻣﻬﺎت ﺣﻨﻮﻧﺎت ﻟﻸﺛﻤﺎر
اﻟﺸﻬﻴﺔ واﻟﺒﺰور اﻟﺤﻴﺔ .وأم ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻜﻴﺎن ﻫﻲ اﻟﺮوح اﻟﻜﻠﻴﺔ اﻷزﻟﻴﺔ اﻷﺑﺪﻳﺔ املﻤﻠﻮءة
ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل واملﺤﺒﺔ.
وﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻌﺮف أﻣﻬﺎ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺎﺗﺖ وﻫﻲ ﻃﻔﻠﺔ ،وﻗﺪ ﺷﻬﻘﺖ ﻣﺘﺄﺛﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﴪ إرادﺗِﻬﺎ؛ ﻷن ﻟﻔﻈﺔ اﻷم ﺗﺨﺘﺒﺊ ﰲ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺨﺘﺒﺊ رأت رﺳﻤﻬﺎ وﻧﺎدﺗﻬﺎ :ﻳﺎ أﻣﺎهَ ،ﻗ ْ َ
اﻟﻨﻮاة ﰲ ﻗﻠﺐ اﻷرض ،وﺗﻨﺒﺜﻖ ﻣﻦ ﺑني ﺷﻔﺎﻫﻨﺎ ﰲ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﺤﺰن واﻟﻔﺮح ،ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺼﺎﻋﺪ
اﻟﻌﻄﺮ ﻣﻦ ﻗﻠﺐ اﻟﻮردة ﰲ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﺼﺎﰲ واملﻤﻄﺮ.
ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﺗﺤﺪﱢق إﱃ رﺳﻢ أﻣﻬﺎ ﺛﻢ ﺗﻘﺒﱢﻠﻪ ﺑﻠﻬﻔﺔ ﺛﻢ ﺗﻠﺰه إﱃ ﺻﺪرﻫﺎ اﻟﺨﻔﻮق ،ﺛﻢ
ﺗﺘﺄوه ﻣﺘﻨﻬﱢ ﺪة ،وﻣﻊ ﻛﻞ ﺗﻨﻬّ ﺪة ﺗﻔﻘﺪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻗﻮاﻫﺎ ،ﺣﺘﻰ إذا ﻣﺎ وﻫﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺟﺴﺪﻫﺎ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻗﺪ أرﻳﺘُﻚِ ﻳﺎ
اﻟﻨﺤﻴﻞ ﻫﻮت وﺳﻘﻄﺖ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﴎﻳﺮ أﺑﻴﻬﺎ ،ﻓﻮﺿﻊ ﻛﻠﺘﺎ ﻳﺪﻳﻪ ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ً
وﻟﺪي ﺷﺒﺢ أﻣﻚِ ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﻮرق ،ﻓﺄﺻﻐﻲ إﱄ ﱠ ﻷﺳﻤﻌﻚ أﻗﻮاﻟﻬﺎ.
46
أﻣﺎم ﻋﺮش املﻮت
ﻓﺮﻓﻌﺖ ﺳﻠﻤﻰ رأﺳﻬﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻔﻌﻞ اﻟﻔﺮاخ ﰲ اﻟﻌﺶ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺴﻤﻊ ﺣﻔﻴﻒ أﺟﻨﺤﺔ
اﻟﻌﺼﻔﻮرة ﺑني اﻟﻘﻀﺒﺎن ،وﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﻣﺼﻐﻴﺔ ﺻﺎﻏﺮة ﻛﺄن ذاﺗﻬﺎ املﻌﻨﻮﻳﺔ ﻗﺪ اﺳﺘﺤﺎﻟﺖ
إﱃ أﻋني ﻣﺤﺪﱢﻗﺔ وآذان واﻋﻴﺔ.
ﻓﻘﺎل واﻟﺪﻫﺎ :ﻛﻨﺖ ﻃﻔﻠﺔ رﺿﻴﻌﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻓﻘﺪت أﻣﻚ واﻟﺪﻫﺎ اﻟﺸﻴﺦ ،ﻓﺤﺰﻧﺖ ﻟﻔﻘﺪه
وﺑﻜﺖ ﺑﻜﺎء ﺣﻜﻴﻢ ﻣﺘﺠﻠﺪ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻗﱪه ﺣﺘﻰ ﺟﻠﺴﺖ ﺑﺠﺎﻧﺒﻲ ﰲ ﻫﺬه
ﺑﺎق ﱄ وﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻐﺮﻓﺔ وأﺧﺬت ﻳﺪي ﺑﺮاﺣﺘﻴﻬﺎ وﻗﺎﻟﺖ :ﻗﺪ ﻣﺎت واﻟﺪي ﻳﺎ ﻓﺎرس وأﻧﺖ ٍ
ﺗﻌﺰﻳﺘﻲ .إن اﻟﻘﻠﺐ ﺑﻌﻮاﻃﻔﻪ املﺘﺸﻌﱢ ﺒﺔ ﻳﻤﺎﺛﻞ اﻷرزة ﺑﺄﻏﺼﺎﻧﻬﺎ املﺘﻔﺮﻗﺔ ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﻓﻘﺪت
ﺷﺠﺮة اﻷ َ ْرز ﻏﺼﻨًﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﺗﺘﺄﻟﻢ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﻤﻮت ،ﺑﻞ ﺗﺤﻮّل ﻗﻮاﻫﺎ اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ إﱃ اﻟﻐﺼﻦ
اﻟﻐﻀﺔ ﻣﻜﺎن اﻟﻐﺼﻦ املﻘﻄﻮع .ﻫﺬا ﻣﺎ ﻗﺎﻟﺘﻪ واﻟﺪﺗﻚّ املﺠﺎور ﻟﻴﻨﻤﻮ وﻳﺘﻌﺎﱃ وﻳﻤﻸ ﺑﻔﺮوﻋﻪ
ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻣﺎت أﺑﻮﻫﺎ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﻘﻮﻟﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬ املﻮت ﺟﺴﺪي إﱃ
راﺣﺔ اﻟﻘﱪ وروﺣﻲ إﱃ ﻇﻞ ﷲ.
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺘﻔﺠﱢ ﻌﺔ :ﻓﻘﺪت أﻣﻲ واﻟﺪﻫﺎ ﻓﺒﻘﻴﺖ أﻧﺖ ﻟﻬﺎ ،ﻓﻤﻦ ﻳﺒﻘﻰ ﱄ إذا ﻓﻘﺪﺗﻚ
ﻳﺎ واﻟﺪي؟ ﻣﺎت واﻟﺪﻫﺎ وﻫﻲ ﰲ ﻇﻼل زوج ﻣﺤﺐّ ﻓﺎﺿﻞ أﻣني ،ﻣﺎت واﻟﺪﻫﺎ ﻓﺒﻘﻲ ﻟﻬﺎ ﻃﻔﻠﺔ
ﺗﻐﻤﺮ رأﺳﻬﺎ اﻟﺼﻐري ﺑﺜﺪﻳﻴﻬﺎ وﺗﻄﻮق ﻋﻨﻘﻬﺎ ﺑﺬراﻋﻴﻬﺎ ،ﻓﻤﻦ ﻳﺒﻘﻰ ﱄ إذا ﻓﻘﺪﺗﻚ ﻳﺎ واﻟﺪي؟
أﻧﺖ أﺑﻲ وأﻣﻲ ورﻓﻴﻖ ﺣﺪاﺛﺘﻲ وﻣﻬ ّﺬب ﺷﺒﻴﺒﺘﻲ ،ﻓﺒﻤﻦ أﺳﺘﻌﻴﺾ إذا ﻣﺎ ذﻫﺒﺖ ﻋﻨﻲ؟
ﻗﺎﻟﺖ ﻫﺬا وﺣﻮﱠﻟﺖ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ اﻟﺪاﻣﻌﺘني ﻧﺤﻮي وأﻣﺴﻜﺖ ﺑﻴﻤﻴﻨﻬﺎ ﻃﺮف ﺛﻮﺑﻲ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ:
ﻟﻴﺲ ﱄ ﻏري ﻫﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ ﻳﺎ واﻟﺪي ،وﻟﻦ ﻳﺒﻘﻰ ﱄ ﺳﻮاه إذا ﻣﺎ ﺗﺮﻛﺘﻨﻲ .ﻓﻬﻞ أﺗﻌﺰى ﺑﻪ
وﻫﻮ ﻣﺘﻌﺬﱢب ﻣﺜﲇ؟ ﻫﻞ ﻳﺘﻌﺰى ﻛﺴري اﻟﻘﻠﺐ ﺑﺎﻟﻘﻠﺐ اﻟﻜﺴري؟ إن اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ ﻻ ﺗﺘﺼﱪ ﺑﺤﺰن
ﺟﺎرﺗﻬﺎ ﻛﻤﺎ أن اﻟﺤﻤﺎﻣﺔ ﻻ ﺗﻄري ﺑﺄﺟﻨﺤﺔ ﻣﻜﺴﻮرة .ﻫﻮ رﻓﻴﻖ ﻟﻨﻔﴘ وﻟﻜﻨﻨﻲ ﻗﺪ أﺛﻘﻠﺖ
ﻋﺎﺗﻘﻪ ﺑﺄﺷﺠﺎﻧﻲ ﺣﺘﻰ ﻟ َﻮﻳ ُْﺖ ﻇﻬﺮه وﺳﻤﻠﺖ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﺑﻌﱪاﺗﻲ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺮى ﻏري اﻟﻈﻠﻤﺔ .ﻫﻮ
أخ أﺣﺒﻪ وﻳﺤﺒﻨﻲ ﻣﺜﻞ ﺟﻤﻴﻊ اﻹﺧﻮة ﻳﺸﱰك ﺑﺎملﺼﻴﺒﺔ وﻻ ﻳﺨﻔﻔﻬﺎ ،وﻳﺴﺎﻋﺪ ﺑﺎﻟﺒﻜﺎء ﻓﻴﺰﻳﺪ
ً
اﺣﱰاﻗﺎ. اﻟﺪﻣﻊ ﻣﺮارة واﻟﻘﻠﺐ
ﻛﻨﺖ أﺳﻤﻊ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺘﻜﻠﻤﺔ وﻋﻮاﻃﻔﻲ ﺗﻨﻤﻮ وﺻﺪري ﻳﻀﻴﻖ ﺣﺘﻰ ﺷﻌﺮت ﺑﺄن أﺿﻠﻌﻲ
ﺗﻜﺎد ﺗﺘﻔﺠﺮ ﺣﻨﺎﺟﺮ وﻓﻮّﻫﺎت .أﻣﺎ اﻟﺸﻴﺦ ﻓﻜﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ وﺟﺴﺪه املﻬﺰول ﻳﻬﺒﻂ ﺑﺒﻂء
ﺑني اﻟﻮﺳﺎﺋﺪ واملﺴﺎﻧﺪ ،وﻧﻔﺴﻪ املﺘﻌﺒﺔ ﺗﺮﺗﺠﻒ ﻛﺸﻌﻠﺔ اﻟﴪاج أﻣﺎم اﻟﺮﻳﺢ ،ﺛﻢ ﺑﺴﻂ ذراﻋﻴﻪ
وﻗﺎل ﺑﻬﺪوء :دﻋﻴﻨﻲ أذﻫﺐ ﺑﺴﻼم ﻳﺎ وﻟﺪي ،ﻟﻘﺪ ملﺤﺖ ﻋﻴﻨﺎي ﻣﺎ وراء اﻟﻐﻴﻮم ،ﻓﻠﻦ أﺣﻮّﻟﻬﻤﺎ
ﻧﺤﻮ ﻫﺬه اﻟﻜﻬﻮف .دﻋﻴﻨﻲ أﻃري ﻓﻘﺪ ﻛﴪت ﺑﺄﺟﻨﺤﺘﻲ ﻗﻀﺒﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﻔﺺ … ﻟﻘﺪ ﻧﺎدﺗﻨﻲ
أﻣﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻓﻼ ﺗﻮﻗﻔﻴﻨﻲ … ﻫﺎ ﻗﺪ ﻃﺎﺑﺖ اﻟﺮﻳﺢ وﺗﺒﺪد اﻟﻀﺒﺎب ﻋﻦ وﺟﻪ اﻟﺒﺤﺮ ﻓﺮﻓﻌﺖ
47
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﴍاﻋﻬﺎ وﺗﺄﻫﺒﺖ ﻟﻠﻤﺴري ﻓﻼ ﺗﻮﻗﻴﻔﻬﺎ وﻻ ﺗﻨﺰﻋﻲ دﻓﺘﻬﺎ ،دﻋﻲ ﺟﺴﺪي ﻳﺮﻗﺪ ﻣﻊ
اﻟﺬﻳﻦ رﻗﺪوا ،ودﻋﻲ روﺣﻲ ﺗﺴﺘﻴﻘﻆ ﻷن اﻟﻔﺠﺮ ﻗﺪ ﻻح واﻟﺤﻠﻢ ﻗﺪ اﻧﺘﻬﻰ … ﻗﺒﱢﲇ روﺣﻲ
ﺑﺮوﺣﻚ … ﻗﺒﻠﻴﻨﻲ ﻗﺒﻠﺔ رﺟﺎء وأﻣﻞ وﻻ ﺗﺴﻜﺒﻲ ﻗﻄﺮة ﻣﻦ ﻣﺮارة اﻟﺤﺰن ﻋﲆ ﺟﺴﺪي ﻟﺌﻼ
ﺗﻤﺘﻨﻊ اﻷﻋﺸﺎب واﻷزﻫﺎر ﻋﻦ اﻣﺘﺼﺎص ﻋﻨﺎﴏه ،وﻻ ﺗﺬرﰲ دﻣﻮع اﻟﻴﺄس ﻋﲆ ﻳﺪي ﻷﻧﻬﺎ
ﺗﻨﺒﺖ ﺷﻮ ًﻛﺎ ﻋﲆ ﻗﱪي .وﻻ ﺗﺮﺳﻤﻲ ﺑﺰﻓﺮات اﻷﳻ ﺳﻄ ًﺮا ﻋﲆ ﺟﺒﻬﺘﻲ؛ ﻷن ﻧﺴﻴﻢ اﻟﺴﺤﺮ
ﻳﻤﺮ وﻳﻘﺮأه ﻓﻼ ﻳﺤﻤﻞ ﻏﺒﺎر ﻋﻈﺎﻣﻲ إﱃ املﺮوج اﻟﺨﴬاء … ﻗﺪ أﺣﺒﺒﺘﻚ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ﻳﺎ وﻟﺪي
وﺳﻮف أﺣﺒﻚ ﺑﺎملﻮت ،ﻓﺘﻈﻞ روﺣﻲ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻨﻚ ﻟﺘﺤﻤﻴﻚ وﺗﺮﻋﺎك.
ﻗﻠﻴﻼ ﻓﻠﻢ أﻋﺪ أرى ﺳﻮى ﺧﻄني رﻣﺎدﻳني ﻣﻜﺎن واﻟﺘﻔﺖ اﻟﺸﻴﺦ إﱄ ّ وﻗﺪ اﻧﻄﺒﻘﺖ أﺟﻔﺎﻧﻪ ً
أﺧﺎ ﻟﺴﻠﻤﻰ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻴﻨﻴﻪ ،ﺛﻢ ﻗﺎل وﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻔﻨﺎء ﺗﺴﱰق أﻟﻔﺎﻇﻪ :أﻣﺎ أﻧﺖ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ﻓﻜﻦ ً
ً
ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وﻻ ﺗﺪﻋﻬﺎ ﺗﺤﺰن واﻟﺪك ﱄ .ﻛﻦ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﺸﺪة ،وﻛﻦ
ﻷن اﻟﺤﺰن ﻋﲆ اﻷﻣﻮات ﻏﻠﻄﺔ ﻣﻦ أﻏﻼط اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻐﺎﺑﺮة .ﺑﻞ اﺗْ ُﻞ ﻋﲆ ﻣﺴﻤﻌﻬﺎ أﺣﺎدﻳﺚ
اﻟﻔﺮح وأﻧﺸﺪﻫﺎ أﻏﺎﻧﻲ اﻟﺤﻴﺎة ﻓﺘﺴﻠﻮ وﺗﺘﻨﺎﳻ … ﻗﻞ ﻷﺑﻴﻚ أن ﻳﺬﻛﺮﻧﻲ ،ﺳﻠﻪ ﻓﻴﺨﱪك ﻋﻦ
ﻣﺂﺗﻲ أﻳﺎﻣﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﺸﺒﺎب ﻳﺤ ﱢﻠﻖ ﺑﻨﺎ إﱃ اﻟﻐﻴﻮم … ﻗﻞ ﻟﻪ إﻧﻨﻲ أﺣﺒﺒﺘﻪ ﺑﺸﺨﺺ اﺑﻨﻪ
ﰲ آﺧﺮ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻲ …
وﺳﻜﺖ دﻗﻴﻘﺔ وﻇﻠﺖ أﺷﺒﺎح أﻟﻔﺎﻇﻪ ﺗﺪب ﻋﲆ ﺟﺪران اﻟﻐﺮﻓﺔ ،ﺛﻢ ﻋﺎد ﻓﻨﻈﺮ إﱄ وإﱃ
ﻫﻤﺴﺎ :ﻻ ﺗﺪﻋﻮا ﻃﺒﻴﺒًﺎ ﻟﻴﻄﻴﻞ ﺑﻤﺴﺎﺣﻴﻘﻪ ﺳﺎﻋﺎت ﺳﺠﻨﻲ ،ﻷن أﻳﺎم ﺳﻠﻤﻰ ﺑﻮﻗﺖ واﺣﺪ وﻗﺎل ً
اﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ ﻗﺪ ﻣﻀﺖ ،ﻓﻄﻠﺒﺖ روﺣﻲ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻔﻀﺎء ،وﻻ ﺗﺪﻋﻮا ﻛﺎﻫﻨًﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻓﺮاﳾ ،ﻷن
ﺗﻌﺎزﻳﻤﻪ ﻻ ﺗﻜﻔﺮ ﻋﻦ ذﻧﻮﺑﻲ إن ﻛﻨﺖ ﺧﺎﻃﺌًﺎ ،وﻻ ﺗﴪع ﺑﻲ إﱃ اﻟﺠﻨﺔ إن ﻛﻨﺖ ﺑﺎ ٍّرا .إن
إرادة اﻟﺒﴩ ﻻ ﺗﻐري ﻣﺸﻴﺌﺔ ﷲ ،ﻛﻤﺎ أن املﻨﺠّ ﻤني ﻻ ﻳﺤﻮﻟﻮن ﻣﺴري اﻟﻨﺠﻮم .أﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻲ
ﻓﻠﻴﻔﻌﻞ اﻷﻃﺒﺎء واﻟﻜﻬﺎن ﻣﺎ ﺷﺎءوا ،ﻓﺎﻟﻠﺠّ ﺔ ﺗﻨﺎدي اﻟﻠﺠﺔ ،أﻣﺎ اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻓﺘﻈﻞ ﺳﺎﺋﺮة ﺣﺘﻰ
ﺗﺒﻠﻎ اﻟﺴﺎﺣﻞ …
ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻧﺘﺼﻒ ذﻟﻚ اﻟﻠﻴﻞ املﺨﻴﻒ ﻓﺘﺢ ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ ﻋﻴﻨﻴﻪ اﻟﻐﺎرﻗﺘني ﰲ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﻨﺰع،
ﻓﺘﺤﻬﻤﺎ ﻵﺧﺮ ﻣﺮة ،وﺣﻮﻟﻬﻤﺎ ﻧﺤﻮ اﺑﻨﺘﻪ اﻟﺠﺎﺛﻴﺔ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻣﻀﺠﻌﻪ ،ﺛﻢ ﺣﺎول اﻟﻜﻼم ﻓﻠﻢ
ً
ﻋﻤﻴﻘﺎ ﻣﻦ ﺑني ﺷﻔﺘﻴﻪ: ﻳﺴﺘﻄﻊ ،ﻷن املﻮت ﻛﺎن ﻗﺪ ﺗﴩب ﺻﻮﺗﻪ ﻓﺨﺮﺟﺖ ﻫﺬه اﻷﻟﻔﺎظ ﻟﻬﺎﺛًﺎ
ﻫﺎ ﻗﺪ ذﻫﺐ اﻟﻠﻴﻞ … وﺟﺎء اﻟﺼﺒﺎح … ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ .ﻳﺎ .ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ …
ّ
واﺑﻴﺾ وﺟﻬﻪ واﺑﺘﺴﻤﺖ ﺷﻔﺘﺎه وأﺳﻠﻢ اﻟﺮوح. ﺛﻢ ﻧﻜﺲ رأﺳﻪ
وﻣﺪت ﺳﻠﻤﻰ ﻳﺪﻫﺎ وملﺴﺖ ﻳﺪ واﻟﺪﻫﺎ ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ ﺑﺎردة ﻛﺎﻟﺜﻠﺞ ،ﻓﺮﻓﻌﺖ رأﺳﻬﺎ وﻧﻈﺮت
إﻟﻴﻪ ﻓﺮأت وﺟﻬﻪ ﻣﱪﻗﻌً ﺎ ﺑﻨﻘﺎب املﻮت ،ﻓﺠﻤﺪت اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺟﺴﺪﻫﺎ وﺟﻔﺖ اﻟﺪﻣﻮع ﰲ
48
أﻣﺎم ﻋﺮش املﻮت
ﻣﺤﺎﺟﺮﻫﺎ ،ﻓﻠﻢ ﺗﺘﺤﺮك وﻟﻢ ﺗﴫخ وﻟﻢ ﺗﺘﺄوّه ،ﺑﻞ ﺑﻘﻴﺖ ﻣﺤﺪﻗﺔ ﺑﻪ ﺑﻌﻴﻨني ﺟﺎﻣﺪﺗني ﻛﻌﻴﻨﻲ
اﻟﺘﻤﺜﺎل ،ﺛﻢ ﺗﺮاﺧﺖ أﻋﻀﺎؤﻫﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﱰاﺧﻰ ﻃﻴﺎت اﻟﺜﻮب اﻟﺒﻠﻴﻞ ،وﻫﺒﻄﺖ ﺣﺘﻰ ملﺴﺖ
ﺟﺒﻬﺘﻬﺎ اﻷرض ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ ﺑﻬﺪوء :أﺷﻔﻖ ﻳﺎ رب وﺷﺪد ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة.
ﻣﺎت ﻓﺎرس ﻛﺮاﻣﺔ وﻋﺎﻧﻘﺖ اﻷﺑﺪﻳﺔ روﺣﻪ واﺳﱰﺟﻊ اﻟﱰاب ﺟﺴﺪه ،واﺳﺘﻮﱃ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ
ﻋﲆ أﻣﻮاﻟﻪ ،وﻇﻠﺖ اﺑﻨﺘﻪ أﺳرية ﺗﻌﺎﺳﺘﻬﺎ ﺗﺮى اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺄﺳﺎة ﻫﺎﺋﻠﺔ ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ املﺨﺎوف أﻣﺎم
ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ.
أﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﻜﻨﺖ ﺿﺎﺋﻌً ﺎ ﺑني أﺣﻼﻣﻲ وﻫﻮاﺟﴘ ،ﺗﻨﺘﺎﺑﻨﻲ اﻷﻳﺎم واﻟﻠﻴﺎﱄ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻨﺘﺎب
اﻟﻨﺴﻮر واﻟﻌﻘﺒﺎن ﻟﺤﻤﺎن اﻟﻔﺮﻳﺴﺔ ،ﻓﻜﻢ ﺣﺎوﻟﺖ أن أﻓﻘﺪ ذاﺗﻲ ﺑني ﺻﻔﺤﺎت اﻟﻜﺘﺐ ﻟﻌﻠﻨﻲ
أﺳﺘﺄﻧﺲ ﺑﺄﺧﻴﻠﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻃﻮاﻫﻢ اﻟﺪﻫﺮ ،وﻛﻢ ﺟﺮﺑﺖ أن أﻧﴗ ﺣﺎﴐي ﻷﻋﻮد ﺑﻘﺮاءة اﻷﺳﻔﺎر
إﱃ ﻣﺴﺎرح اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻐﺎﺑﺮة ،ﻓﻠﻢ ﻳُﺠْ ﺪِﻧﻲ ﻛﻞ ذﻟﻚ ﻧﻔﻌً ﺎ ،ﺑﻞ ﻛﻨﺖ ﻛﻤﻦ ﻳﺤﺎول إﺧﻤﺎد اﻟﻨﺎر
ﺑﺎﻟﺰﻳﺖ ،ﻷﻧﻨﻲ ﻟﻢ أﻛﻦ أرى ﻣﻦ ﻣﻮاﻛﺐ اﻷﺟﻴﺎل ﺳﻮى أﺷﺒﺎﺣﻬﺎ اﻟﺴﻮداء ،وﻻ أﺳﻤﻊ ﻣﻦ أﻧﻐﺎم
اﻷﻣﻢ ﻏري اﻟﻨﺪب واﻟﻨﻮاح ،ﻓﺴﻔﺮ أﻳﻮب ﻛﺎن ﻋﻨﺪي أﺟﻤﻞ ﻣﻦ ﻣﺰاﻣري داود ،وﻣﺮاﺛﻲ أرﻣﻴﺎ
ﻛﺎن أﺣﺐ ﻟﺪيّ ﻣﻦ ﻧﺸﻴﺪ ﺳﻠﻴﻤﺎن ،وﻧﻜﺒﺔ اﻟﱪاﻣﻜﺔ أﺷﺪ وﻗﻌً ﺎ ﰲ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ﻋﻈﻤﺔ اﻟﻌﺒﺎﺳﻴني،
وﻗﺼﻴﺪة اﺑﻦ زرﻳﻖ أﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا ﻣﻦ رﺑﺎﻋﻴﺎت اﻟﺨﻴﺎم ،ورواﻳﺔ ﻫﻤﻠﺖ أﻗﺮب إﱃ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻦ ﻛﻞ
ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ اﻹﻓﺮﻧﺞ.
ﻛﺬا ﻳُﻀﻌﻒ اﻟﻘﻨﻮط ﺑﺼريﺗﻨﺎ ،ﻓﻼ ﻧﺮى ﻏري أﺷﺒﺎﺣﻨﺎ اﻟﺮﻫﻴﺒﺔ ،وﻫﻜﺬا ﻳﺼ ّﻢ اﻟﻴﺄس
آذاﻧﻨﺎ ،ﻓﻼ ﻧﺴﻤﻊ ﻏري ﻃﺮﻗﺎت ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ املﻀﻄﺮﺑﺔ.
49
ﺑﲔ ﻋﺸﱰوت واﳌﺴﻴﺢ
ﺑني ﺗﻠﻚ اﻟﺒﺴﺎﺗني واﻟﺘﻠﻮل اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻞ أﻃﺮاف ﺑريوت ﺑﺄذﻳﺎل ﻟﺒﻨﺎن ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻌﺒﺪ ﺻﻐري ﻗﺪﻳﻢ
اﻟﻌﻬﺪ ﻣﺤﻔﻮر ﰲ ﻗﻠﺐ ﺻﺨﺮة ﺑﻴﻀﺎء ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑني أﺷﺠﺎر اﻟﺰﻳﺘﻮن واﻟﻠﻮز واﻟﺼﻔﺼﺎف .وﻣﻊ
أن ﻫﺬا املﻌﺒﺪ ﻻ ﻳﺒﻌﺪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﺼﻒ ﻣﻴﻞ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﺮﻛﺒﺎت ،ﻓﻘﺪ ﻗﻞ ﻣﻦ ﻋﺮﻓﻪ ﻣﻦ
ﻣﺤﺒﻲ اﻵﺛﺎر واﻟﺨﺮاﺋﺐ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،ﻓﻬﻮ ﻣﺜﻞ أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية ﺧﻄرية ﰲ ﺳﻮرﻳﺎ ﻣﺨﺘﺒﺊ وراء
ﺳﺘﺎﺋﺮ اﻹﻫﻤﺎل ،ﻓﻜﺄن اﻹﻫﻤﺎل ﻗﺪ أﺑﻘﺎه ﻣﺤﺠﻮﺑًﺎ ﻋﻦ ﻋﻴﻮن اﻷﺛﺮﻳني ﻟﻴﺠﻌﻠﻪ ﺧﻠﻮة ﻟﻨﻔﻮس
املﺘﻌﺒني وﻣﺰا ًرا ﻟﻠﻤﺤﺒني املﺴﺘﻮﺣﺸني.
واﻟﺪاﺧﻞ إﱃ ﻫﺬا املﻌﺒﺪ اﻟﻌﺠﻴﺐ ﻳﺮى ﻋﲆ اﻟﺠﺪار اﻟﴩﻗﻲ ﻣﻨﻪ ﺻﻮرة ﻓﻴﻨﻴﻘﻴﺔ اﻟﺸﻮاﻫﺪ
واﻟﺒﻴﻨﺎت ،ﻣﺤﻔﻮرة ﰲ اﻟﺼﺨﺮ ،ﻗﺪ ﻣﺤﺖ أﺻﺎﺑﻊ اﻟﺪﻫﺮ ﺑﻌﺾ ﺧﻄﻮﻃﻬﺎ وﻟﻮّﻧﺖ اﻟﻔﺼﻮل
ﻣﻌﺎملﻬﺎ؛ وﻫﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻋﺸﱰوت رﺑﺔ اﻟﺤﺐ واﻟﺠﻤﺎل ﺟﺎﻟﺴﺔ ﻋﲆ ﻋﺮش ﻓﺨﻢ ،وﻣﻦ ﺣﻮﻟﻬﺎ ﺳﺒﻊ
ً
ﻣﺸﻌﻼ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻗﻴﺜﺎرة، ﻋﺬارى ﻋﺎرﻳﺎت واﻗﻔﺎت ﺑﻬﻴﺌﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻓﺎﻟﻮاﺣﺪة ﻣﻨﻬﻦ ﺗﺤﻤﻞ
ً
إﻛﻠﻴﻼ واﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻣﺒﺨﺮة ،واﻟﺮاﺑﻌﺔ ﺟﺮة ﻣﻦ اﻟﺨﻤﺮ ،واﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻏﺼﻨًﺎ ﻣﻦ اﻟﻮرد ،واﻟﺴﺎدﺳﺔ
ﻗﻮﺳﺎ وﺳﻬﺎﻣً ﺎ ،وﺟﻤﻴﻌﻬﻦ ﻧﺎﻇﺮات إﱃ ﻋﺸﱰوت ،وﻋﲆ وﺟﻮﻫﻬﻦ ﺳﻤﺎء ﻣﻦ اﻟﻐﺎر ،واﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ً
اﻟﺨﻀﻮع واﻻﻣﺘﺜﺎل.
وﻋﲆ اﻟﺠﺪار اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺻﻮرة أﺧﺮى أﺣﺪث ﻋﻬﺪًا وأﻛﺜﺮ ﻇﻬﻮ ًرا ،ﺗﻤﺜﱢﻞ ﻳﺴﻮع اﻟﻨﺎﴏي
ﻣﺼﻠﻮﺑًﺎ ،وإﱃ ﺟﺎﻧﺒﻪ أﻣﻪ اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ وﻣﺮﻳﻢ املﺠﺪﻟﻴﺔ واﻣﺮأﺗﺎن ﺛﺎﻧﻴﺘﺎن ﺗﻨﺘﺤﺒﺎن .وﻫﺬه اﻟﺼﻮرة
اﻟﺒﻴﺰﻧﻄﻴﺔ اﻷﺳﻠﻮب واﻟﻘﺮاﺋﻦ ﺗﺪل ﻋﲆ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺣُ ﻔﺮت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ أو اﻟﺴﺎدس ﻟﻠﻤﺴﻴﺢ.
وﰲ اﻟﺠﺪار اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻛﻮﺗﺎن ﻣﺴﺘﺪﻳﺮﺗﺎن ،ﻳﺪﺧﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺷﻌﺎع اﻟﺸﻤﺲ ﻋﻨﺪ أﺻﻴﻞ اﻟﻨﻬﺎر،
وﻳﻨﺴﻜﺐ ﻋﲆ اﻟﺼﻮرﺗني ﻓﺘﻈﻬﺮان ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ُ
ﻃﻠﻴﺘﺎ ﺑﻤﺎء اﻟﺬﻫﺐ.
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
وﰲ وﺳﻂ املﻌﺒﺪ ﺣﺠﺮ ﻣﻦ اﻟﺮﺧﺎم ﻣﺮﺑﻊ اﻟﺸﻜﻞ ﻋﲆ ﺟﻮاﻧﺒﻪ ﻧﻘﻮش ووﺳﺎﻣﺎت ﻗﺪﻳﻤﺔ
اﻟﻄﺮاز ،ﻗﺪ اﻧﺤﺠﺐ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﻛﺘﻼت ﻣﺘﺤﺠﺮة ﻣﻦ اﻟﺪﻣﺎء ،ﺗﺪل ﻋﲆ أن اﻷﻗﺪﻣني ﻛﺎﻧﻮا
ﻳﻨﺤﺮون ذﺑﺎﺋﺤﻬﻢ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺤﺠﺮ ،وﻳﺼﺒﻮن ﻓﻮﻗﻪ ﻗﺮاﺑني اﻟﺨﻤﺮ واﻟﻌﻄﺮ واﻟﺰﻳﺖ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا املﻌﺒﺪ اﻟﺼﻐري ﳾء آﺧﺮ ﺳﻮى ﺳﻜﻴﻨﺔ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺗﻌﺎﻧﻖ اﻟﻨﻔﺲ ،وﻫﻴﺒﺔ
ﺳﺤﺮﻳﺔ ﺗﺒﻴﺢ ﺑﺘﻤﻮﺟﺎﺗﻬﺎ أﴎار اﻵﻟﻬﺔ ،وﺗﺘﻜﻠﻢ ﺑﻼ ﻧﻄﻖ ﻋﻦ ﻣﺂﺗﻲ اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻐﺎﺑﺮة وﻣﺴري
اﻟﺸﻌﻮب ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ وﻣﻦ دﻳﻦ إﱃ دﻳﻦ ،وﺗﺴﺘﻤﻴﻞ اﻟﺸﺎﻋﺮ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ ﻫﺬا
اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﺗﻘﻨﻊ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺑﺄن اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺨﻠﻮق دﻳﱢﻦ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺮاه ،وﻳﺘﺨﻴﻞ ﻣﺎ ﻻ ﺗﻘﻊ
ﻋﻠﻴﻪ ﺣﻮاﺳﻪ ،ﻓريﺳﻢ ﻟﺸﻌﻮره رﻣﻮ ًزا ﺗﺪل ﺑﻤﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺧﻔﺎﻳﺎ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻳﺠﺴﻢ ﺧﻴﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﻜﻼم
واﻷﻧﻐﺎم واﻟﺼﻮر واﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﺄﺷﻜﺎﻟﻬﺎ أﻗﺪس ﻣﻴﻮﻟﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وأﺟﻤﻞ ﻣﺸﺘﻬﻴﺎﺗﻪ
ﺑﻌﺪ املﻮت.
ُ
ﰲ ﻫﺬا اﻟﻬﻴﻜﻞ املﺠﻬﻮل ﻛﻨﺖ أﻟﺘﻘﻲ ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻣﺮة ﰲ اﻟﺸﻬﺮ ،ﻓﻨﴫف اﻟﺴﺎﻋﺎت
اﻟﻄﻮال ﻧﺎﻇﺮﻳﻦ إﱃ اﻟﺼﻮرﺗني اﻟﻐﺮﻳﺒﺘني ﻣﻔﻜﺮﻳﻦ ﺑﻔﺘﻰ اﻷﺟﻴﺎل املﺼﻠﻮب ﻓﻮق اﻟﺠﻠﺠﻠﺔ،
ﻣﺴﺘﺤﴬﻳﻦ إﱃ ﻣﺨﻴﻠﺘﻴﻨﺎ أﺷﺒﺎح اﻟﻔﺘﻴﺎن واﻟﺼﺒﺎﻳﺎ اﻟﻔﻴﻨﻴﻘﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺎﺷﻮا وﻋﺸﻘﻮا وﻋﺒﺪوا
اﻟﺠﻤﺎل ﺑﺸﺨﺺ ﻋﺸﱰوت ،ﻓﺤﺮﻗﻮا اﻟﺒﺨﻮر أﻣﺎم ﺗﻤﺎﺛﻴﻠﻬﺎ ،وﻫﺮﻗﻮا اﻟﻄﻴﻮب ﻋﲆ ﻣﺬاﺑﺤﻬﺎ،
ﻳﺒﻖ ﻣﻨﻬﻢ ﺳﻮى اﺳﻢ ﺗﺮدده اﻷﻳﺎم أﻣﺎم وﺟﻪ اﻷﺑﺪﻳﺔ. ﺛﻢ ﻃﻮﺗﻬﻢ اﻷرض ﻓﻠﻢ َ
ﻛﻢ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﲇ ﱠ اﻵن أن أدوّن ﺑﺎﻟﻜﻼم ذﻛﺮى ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺠﻤﻌﻨﻲ
ﺑﺴﻠﻤﻰ ،ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺎت اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ املﻜﺘﻨﻔﺔ ﺑﺎﻟﻠﺬة واﻷﻟﻢ ،واﻟﻔﺮح واﻟﺤﺰن ،واﻷﻣﻞ واﻟﻴﺄس،
وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن إﻧﺴﺎﻧًﺎ واﻟﺤﻴﺎة ﻟﻐ ًﺰا أﺑﺪﻳٍّﺎ .وﻟﻜﻦ ﻛﻢ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﲇ ّ أن أذﻛﺮﻫﺎ وﻻ
ﺧﻴﺎﻻ ﻣﻦ أﺧﻴﻠﺘﻬﺎ ﻟﻴﺒﻘﻰ ً
ﻣﺜﻼ ﻷﺑﻨﺎء اﻟﺤﺐ واﻟﻜﺂﺑﺔ. ً أرﺳﻢ ﺑﺎﻟﻜﻼم اﻟﻀﺌﻴﻞ
ﻛﻨﺎ ﻧﺨﺘﲇ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻬﻴﻜﻞ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،ﻓﻨﺠﻠﺲ ﰲ ﺑﺎﺑﻪ ﺳﺎﻧﺪﻳﻦ ﻇﻬﺮﻳﻨﺎ إﱃ ﺟﺪاره ﻣﺮدﱢدﻳﻦ
ﺻﺪى ﻣﺎﺿﻴﻨﺎ ،ﻣﺴﺘﻘﺼني ﻣﺂﺗﻲ ﺣﺎﴐﻧﺎ ،ﺧﺎﺋﻔني ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻨﺎ ،ﺛﻢ ﻧﺘﺪرج إﱃ إﻇﻬﺎر ﻣﺎ ﰲ
أﻋﻤﺎق ﻧﻔﺴﻴﻨﺎ ،ﻓﻴﺸﻜﻮ ﻛﻞ ﻣﻨﺎ َﻟﻮْﻋﺘﻪ وﺣﺮﻗﺔ ﻗﻠﺒﻪ وﻣﺎ ﻳﻘﺎﺳﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺠﺰع واﻟﺤﴪة ،ﺛﻢ
ﻄﺎ أﻣﺎﻣﻪ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ ﺟﻴﻮب اﻷﻣﻞ ﻣﻦ اﻷوﻫﺎم املﻔﺮﺣﺔ واﻷﺣﻼم ﻳﺼﱪ واﺣﺪﻧﺎ اﻵﺧﺮ ،ﺑﺎﺳ ً ّ
اﻟﻌﺬﺑﺔ ،ﻓﻴﻬﺪأ روﻋﻨﺎ وﺗﺠﻒ دﻣﻮﻋﻨﺎ وﺗﻨﻔﺮج ﻣﻼﻣﺤﻨﺎ ،ﺛﻢ ﻧﺒﺘﺴﻢ ﻣﺘﻨﺎﺳني ﻛﻞ ﳾء ﺳﻮى
ً
ﺷﻐﻔﺎ وﻫﻴﺎﻣً ﺎ. اﻟﺤﺐ وأﻓﺮاﺣﻪ ،ﻣﻨﴫﻓني ﻋﻦ ﻛﻞ أﻣﺮ إﻻ اﻟﻨﻔﺲ وﻣﻴﻮﻟﻬﺎ .ﺛﻢ ﻧﺘﻌﺎﻧﻖ ﻓﻨﺬوب
ﺛﻢ ﺗﻘﺒﱢﻞ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﻔﺮق ﺷﻌﺮي ﺑﻄﻬﺮ واﻧﻌﻄﺎف ،ﻓﺘﻤﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﺷﻌﺎﻋً ﺎ ،وأﻗﺒﱢﻞ أﻃﺮاف أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ
اﻟﺒﻴﻀﺎء ،ﻓﺘﻐﻤﺾ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ،وﺗﻠﻮي ﻋﻨﻘﻬﺎ اﻟﻌﺎﺟﻲ ،وﺗﺘﻮرد وﺟﻨﺘﺎﻫﺎ ﺑﺎﺣﻤﺮار ﻟﻄﻴﻒ ﻳﺸﺎﺑﻪ
ﻃﻮﻳﻼ ﻧﺤﻮ اﻟﺸﻔﻖً اﻷﺷﻌﺔ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ ﻳﻠﻘﻴﻬﺎ اﻟﻔﺠﺮ ﻋﲆ ﺟﺒﺎه اﻟﺮواﺑﻲ .ﺛﻢ ﻧﺴﻜﺖ وﻧﻨﻈﺮ
اﻟﺒﻌﻴﺪ ﺣﻴﺚ اﻟﻐﻴﻮم املﺘﻠﻮﱢﻧﺔ ﺑﺄﻧﻮار املﻐﺮب اﻟﱪﺗﻘﺎﻟﻴﺔ.
52
ﺑني ﻋﺸﱰوت واملﺴﻴﺢ
وﺑﺚ اﻟﺸﻜﻮى ،ﺑﻞ ﻛﻨﺎ ﻧﻨﺘﻘﻞ وﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﺟﺘﻤﺎﻋﺎﺗﻨﺎ ﻣﻘﺘﴫة ﻋﲆ ﻣﺒﺎدﻟﺔ اﻟﻌﻮاﻃﻒ ّ
ﻋﲆ ﻏري ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻨﺎ إﱃ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺎت ،ﻓﻨﺘﺒﺎدل اﻵراء واﻷﻓﻜﺎر ﰲ ﺷﺆون ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻐﺮﻳﺐ،
وﻧﺘﺒﺎﺣﺚ ﰲ ﻣﺮاﻣﻲ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺎ ﻧﻘﺮأﻫﺎ ذاﻛﺮﻳﻦ ﺣﺴﻨﺎﺗﻬﺎ وﺳﻴﺌﺎﺗﻬﺎ ،وﻣﺎ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ
ﻣﻦ اﻟﺼﻮر اﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ واملﺒﺎدئ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﺘﺘﻜﻠﻢ ﺳﻠﻤﻰ ﻋﻦ ﻣﻨﺰﻟﺔ املﺮأة ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ
وﻋﻦ ﺗﺄﺛري اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻐﺎﺑﺮة ﻋﲆ أﺧﻼﻗﻬﺎ وﻣﻴﻮﻟﻬﺎ ،وﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺰوﺟﻴﺔ ﰲ أﻳﺎﻣﻨﺎ ﻫﺬه وﻣﺎ
ﻳﺤﻴﻂ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﺮاض واملﻔﺎﺳﺪ .وإﻧﻲ أذﻛﺮ ﻗﻮﻟﻬﺎ ﻣﺮة :إن اﻟﻜﺘّﺎب واﻟﺸﻌﺮاء ﻳﺤﺎوﻟﻮن
إدراك ﺣﻘﻴﻘﺔ املﺮأة ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻶن ﻟﻢ ﻳﻔﻬﻤﻮا أﴎار ﻗﻠﺒﻬﺎ وﻣﺨﺒّﺂت ﺻﺪرﻫﺎ ،ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻨﻈﺮون
إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ وراء ﻧﻘﺎب اﻟﺸﻬﻮات ،ﻓﻼ ﻳﺮون ﻏري ﺧﻄﻮط ﺟﺴﺪﻫﺎ ،أو ﻳﻀﻌﻮﻧﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﻣﻜﱪات
اﻟﻜﺮه ،ﻓﻼ ﻳﺠﺪون ﻓﻴﻬﺎ ﻏري اﻟﻀﻌﻒ واﻻﺳﺘﺴﻼم.
وﻗﻮﻟﻬﺎ ﱄ ﻣﺮة أﺧﺮى وﻗﺪ أﺷﺎرت ﺑﻴﺪﻫﺎ إﱃ اﻟﺮﺳﻤني املﺤﻔﻮرﻳﻦ ﻋﲆ ﺟﺪران اﻟﻬﻴﻜﻞ:
ﰲ ﻗﻠﺐ ﻫﺬه اﻟﺼﺨﺮة ﻗﺪ ﻧﻘﺸﺖ اﻷﺟﻴﺎل رﻣﺰﻳﻦ ﻳُﻈﻬﺮان ﺧﻼﺻﺔ ﻣﻴﻮل املﺮأة وﻳﺴﺘﺠﻠﻴﺎن
ﻏﻮاﻣﺾ ﻧﻔﺴﻬﺎ املﺮاوﺣﺔ ﺑني اﻟﺤﺐ واﻟﺤﺰن ،ﺑني اﻻﻧﻌﻄﺎف واﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ،ﺑني ﻋﺸﱰوت
اﻟﺠﺎﻟﺴﺔ ﻋﲆ اﻟﻌﺮش وﻣﺮﻳﻢ اﻟﻮاﻗﻔﺔ أﻣﺎم اﻟﺼﻠﻴﺐ … إن اﻟﺮﺟﻞ ﻳﺸﱰي املﺠﺪ واﻟﻌﻈﻤﺔ
واﻟﺸﻬﺮة ،وﻟﻜﻦ ﻫﻲ املﺮأة اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻊ اﻟﺜﻤﻦ.
ﻳﺪر ﺑﺎﺟﺘﻤﺎﻋﺎﺗﻨﺎ اﻟﴪﻳﺔ أﺣﺪ ﺳﻮى ﷲ وأﴎاب اﻟﻌﺼﺎﻓري املﺘﻄﺎﻳﺮة ﺑني ﺗﻠﻚ وﻟﻢ ِ
اﻟﺒﺴﺎﺗني ،ﻓﺴﻠﻤﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺠﻲء ﺑﻤﺮﻛﺒﺘﻬﺎ إﱃ املﻜﺎن املﺪﻋﻮّ ﺑﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﺒﺎﺷﺎ ،ﺛﻢ ﺗﺴري اﻟﻬﻮﻳﻨﺎء
ﻋﲆ املﻤﺮات املﻨﻔﺮدة ﺣﺘﻰ ﺗﺒﻠﻎ املﻌﺒﺪ اﻟﺼﻐري ،ﻓﺘﺪﺧﻠﻪ ﻣﺴﺘﻨﺪة إﱃ ﻣﻈﻠﺘﻬﺎ ،وﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ
ﻣﺸﺘﺎﻗﺎ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﺸﻮق ﻣﻦ اﻟﺠﻮع ً ﻟﻮاﺋﺢ اﻷﻣﻦ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ،ﻓﺘﺠﺪﻧﻲ ﻣﻨﺘﻈ ًﺮا ﻣﱰﻗﺒًﺎ
واﻟﻌﻄﺶ.
ﻧﺨﻒ ﻗﻂ ﻋني اﻟﺮﻗﻴﺐ وﻻ ﺷﻌﺮﻧﺎ ﺑﻮﺧﺰ اﻟﻀﻤري؛ ﻷن اﻟﻨﻔﺲ إذا ﺗﻄﻬّ ﺮت ﺑﺎﻟﻨﺎر وﻟﻢ َ
واﻏﺘﺴﻠﺖ ﺑﺎﻟﺪﻣﻮع ﺗﱰﻓﻊ ﻋﻤﺎ ﻳﺪﻋﻮه اﻟﻨﺎس ﻋﻴﺒًﺎ وﻋﺎ ًرا ،وﺗﺘﺤﺮر ﻣﻦ ﻋﺒﻮدﻳﺔ اﻟﴩاﺋﻊ
واﻟﻨﻮاﻣﻴﺲ اﻟﺘﻲ ﺳﻨّﺘﻬﺎ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﻘﻠﺐ اﻟﺒﴩي ،وﺗﻘﻒ ﺑﺮأس ﻣﺮﻓﻮع أﻣﺎم ﻋﺮوش
اﻵﻟﻬﺔ.
إن اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻗﺪ اﺳﺘﺴﻠﻤﺖ ﺳﺒﻌني ﻗﺮﻧًﺎ إﱃ اﻟﴩاﺋﻊ اﻟﻔﺎﺳﺪة ،ﻓﻠﻢ ﺗﻌﺪ ﻗﺎدرة
ﻋﲆ إدراك ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟﻨﻮاﻣﻴﺲ اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ اﻷوﻟﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة .وﻗﺪ ﺗﻌﻮدت ﺑﺼرية اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻨﻈﺮ إﱃ
ﺿﻮء اﻟﺸﻤﻮع اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻌﺪ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺤﺪق إﱃ ﻧﻮر اﻟﺸﻤﺲ .ﻟﻘﺪ ﺗﻮارﺛﺖ اﻷﺟﻴﺎل
اﻷﻣﺮاض واﻟﻌﺎﻫﺎت اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ،ﺑﻞ ﺻﺎرت ﻣﻦ
اﻟﺼﻔﺎت املﻼزﻣﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن ،ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺪ اﻟﻨﺎس ﻳﻨﻈﺮون إﻟﻴﻬﺎ ﻛﻌﺎﻫﺎت وأﻣﺮاض ،ﺑﻞ ﻳﻌﺘﱪوﻧﻬﺎ
53
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ً
ﻧﺎﻗﺼﺎ ﺧﺎل ﻣﻨﻬﺎ ﻇﻨﻮه
ﻛﺨﻼل ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻧﺒﻴﻠﺔ أﻧﺰﻟﻬﺎ ﷲ ﻋﲆ آدم ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻓﺮد ٍ
ﻣﺤﺮوﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎﻻت اﻟﺮوﺣﻴﺔ.
أﻣﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﺳﻴﻌﻴﺒﻮن ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻣﺤﺎوﻟني ﺗﻠﻮﻳﺚ اﺳﻤﻬﺎ ،ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﱰك ﻣﻨﺰل
زوﺟﻬﺎ اﻟﴩﻋﻲ ﻟﺘﺨﺘﲇ ﺑﺮﺟﻞ آﺧﺮ ،ﻓﻬﻢ اﻟﺴﻘﻤﺎء اﻟﻀﻌﻔﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺴﺒﻮن اﻷﺻﺤﺎء
ﻣﺠﺮﻣني وﻛﺒﺎر اﻟﻨﻔﻮس ﻣﺘﻤ ﱢﺮدﻳﻦ ،ﺑﻞ ﻫﻢ ﻛﺎﻟﺤﴩات اﻟﺘﻲ ﺗﺪبّ ﰲ اﻟﻈﻠﻤﺔ وﺗﺨﴙ اﻟﺨﺮوج
إﱃ ﻧﻮر اﻟﻨﻬﺎر ﻛﻴﻼ ﺗﺪوﺳﻬﺎ أﻗﺪام اﻟﻌﺎﺑﺮﻳﻦ.
إن اﻟﺴﺠني املﻈﻠﻮم اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻬﺪم ﺟﺪران ﺳﺠﻨﻪ وﻻ ﻳﻔﻌﻞ ﻳﻜﻮن ﺟﺒﺎﻧًﺎ.
وﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺠﻴﻨﺔ ﻣﻈﻠﻮﻣﺔ ،وﻟﻢ ﺗﺴﺘﻄﻊ اﻻﻧﻌﺘﺎق ،ﻓﻬﻞ ﺗُﻼم ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﻈﺮ ﻣﻦ
وراء ﻧﺎﻓﺬة اﻟﺴﺠﻦ إﱃ اﻟﺤﻘﻮل اﻟﺨﴬاء واﻟﻔﻀﺎء اﻟﻮاﺳﻊ؟ ﻫﻞ ﻳﺤﺴﺒﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺧﺎﺋﻨﺔ ﻷﻧﻬﺎ
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺠﻲء ﻣﻦ ﻣﻨﺰل ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻏﺎﻟﺐ ﻟﺘﺠﻠﺲ ﺑﺠﺎﻧﺒﻲ ﺑني ﻋﺸﱰوت املﻘﺪﺳﺔ واﻟﺠﺒﺎر
املﺼﻠﻮب؟ ﻟﻴﻘﻞ اﻟﻨﺎس ﻣﺎ ﺷﺎؤوا؛ ﻓﺴﻠﻤﻰ ﻗﺪ اﺟﺘﺎزت املﺴﺘﻨﻘﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻤﺮ أرواﺣﻬﻢ،
وﺑﻠﻐﺖ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺒﻠﻐﻪ ﻋﻮاء اﻟﺬﺋﺎب وﻓﺤﻴﺢ اﻷﻓﺎﻋﻲ .وﻟﻴﻘﻞ اﻟﻨﺎس ﻣﺎ أرادوا
ﻋﻨﻲ؛ ﻓﺎﻟﻨﻔﺲ اﻟﺘﻲ ﺷﺎﻫﺪت وﺟﻪ املﻮت ﻻ ﺗﺬﻋﺮﻫﺎ وﺟﻮه اﻟﻠﺼﻮص ،واﻟﺠﻨﺪي اﻟﺬي رأى
اﻟﺴﻴﻮف ﻣﺤﺘﺒﻜﺔ ﻓﻮق رأﺳﻪ وﺳﻮاﻗﻲ اﻟﺪﻣﺎء ﺗﺠﺮي ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻴﻪ ﻻ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎرة اﻟﺘﻲ
ﻳﺮﺷﻘﻪ ﺑﻬﺎ ﺻﺒﻴﺎن اﻷ َ ِز ﱠﻗﺔ.
54
اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ
ﻓﻔﻲ ﻳﻮم ﻣﻦ أواﺧﺮ ﺣﺰﻳﺮان ،وﻗﺪ ﺛﻘﻠﺖ وﻃﺄة اﻟﺤﺮ ﰲ اﻟﺴﻮاﺣﻞ وﻃﻠﺐ اﻟﻨﺎس أﻋﺎﱄ اﻟﺠﺒﺎل،
ﺣﺎﻣﻼ ﺑﻴﺪي ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﺻﻐريًاً ﴎت ﻛﻌﺎدﺗﻲ ﻧﺤﻮ ذﻟﻚ املﻌﺒﺪ واﻋﺪًا ﻧﻔﴘ ﺑﻠﻘﺎء ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ
ﻣﻦ املﻮﺷﺤﺎت اﻷﻧﺪﻟﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ — وﻟﻢ ﺗﺰل إﱃ اﻵن — ﺗﺴﺘﻤﻴﻞ روﺣﻲ.
ﺑﻠﻐﺖ املﻌﺒﺪ ﻋﻨﺪ اﻷﺻﻴﻞ ،ﻓﺠﻠﺴﺖ أرﻗﺐ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﻨﺴﺎﺑﺔ ﺑني أﺷﺠﺎر اﻟﻠﻴﻤﻮن
ﻫﺎﻣﺴﺎ ﰲ ﻣﺴﺎﻣﻊ اﻷﺛري أﺑﻴﺎت ً واﻟﺼﻔﺼﺎف ،وأﻧﻈﺮ ﻣﻦ وﻗﺖ إﱃ آﺧﺮ إﱃ وﺟﻪ ﻛﺘﺎﺑﻲ
ﺗﻠﻚ املﻮﺷﺤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻬﻮي اﻟﻘﻠﺐ ﺑﺮﺷﺎﻗﺔ ﺗﺮاﻛﻴﺒﻬﺎ ورﻧﺔ أوزاﻧﻬﺎ ،وﺗﻌﻴﺪ إﱃ اﻟﻨﻔﺲ
ذﻛﺮى أﻣﺠﺎد املﻠﻮك واﻟﺸﻌﺮاء واﻟﻔﺮﺳﺎن اﻟﺬﻳﻦ ودﻋﻮا ﻏﺮﻧﺎﻃﺔ وﻗﺮﻃﺒﺔ وإﺷﺒﻴﻠﻴﺔ ﺗﺎرﻛني
ﰲ ﻗﺼﻮرﻫﺎ وﻣﻌﺎﻫﺪﻫﺎ وﺣﺪاﺋﻘﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ أرواﺣﻬﻢ ﻣﻦ اﻵﻣﺎل واملﻴﻮل ،ﺛﻢ ﺗﻮاروا وراء
ﺣﺠﺐ اﻟﺪﻫﺮ واﻟﺪﻣﻊ ﰲ أﺟﻔﺎﻧﻬﻢ واﻟﺤﴪة ﰲ أﻛﺒﺎدﻫﻢ.
وﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﺘﻔﺖ ،ﻓﺈذا ﺑﺴﻠﻤﻰ ﺗﻤﻴﺲ ﺑﻘﺪﱢﻫﺎ اﻟﻨﺤﻴﻞ ﺑني اﻷﺷﺠﺎر املﺤﺘﺒﻜﺔ ،وﺗﻘﱰب
ﻧﺤﻮي ﻣﺴﺘﻨﺪة ﻋﲆ ﻣﻈﻠﺘﻬﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺤﻤﻞ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ اﻟﻬﻤﻮم واملﺘﺎﻋﺐ ،وملﺎ ﺑﻠﻐﺖ
ﻧﻈﺮت إﱃ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ اﻟﻜﺒريﺗني ،ﻓﺮأﻳﺖ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻣﻌﺎﻧﻲ وأﴎا ًرا ُ ﺑﺎب اﻟﻬﻴﻜﻞ وﺟﻠﺴﺖ ﺑﻘﺮﺑﻲ
ﺟﺪﻳﺪة ﻏﺮﻳﺒﺔ ﺗﻮﺣﻲ اﻟﺘﺤﺬر واﻻﻧﺘﺒﺎه ،وﺗﺜري ﺣﺐﱠ اﻻﺳﺘﻄﻼع واﻻﺳﺘﻘﺼﺎء.
وﺷﻌﺮت ﺳﻠﻤﻰ ﺑﻤﺎ ﻳﺠﻮل ﰲ ﺧﺎﻃﺮي ،ﻓﻠﻢ ﺗﺸﺄ أن ﻳﻄﻮل اﻟﴫاع ﺑني ﻇﻨﻮﻧﻲ
وﻫﻮاﺟﴘ ،ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻳﺪﻫﺎ ﻋﲆ ﺷﻌﺮي وﻗﺎﻟﺖ :اﻗﱰب ﻣﻨّﻲ ،اﻗﱰب ﻣﻨﻲ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ،اﻗﱰب
ودﻋﻨﻲ أزود ﻧﻔﴘ ﻣﻨﻚ ،ﻓﻘﺪ دﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺮﻗﻨﺎ إﱃ اﻷﺑﺪ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎذا ﺗﻘﻮﻟني ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ؟! وأﻳﺔ ﻗﻮة ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻔﺮﻗﻨﺎ إﱃ اﻷﺑﺪ؟!ﻓﴫﺧﺖ ً
ُ
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ :إن اﻟﻘﻮة اﻟﻌﻤﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻓﺮﻗﺘﻨﺎ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﺳﺘﻔﺮﻗﻨﺎ اﻟﻴﻮم .اﻟﻘﻮة اﻟﺨﺮﺳﺎء اﻟﺘﻲ
ﺗﺘﺨﺬ اﻟﴩاﺋﻊ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺗﺮﺟﻤﺎﻧًﺎ ﻋﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺑﻨﺖ ﺑﺄﻳﺪي ﻋﺒﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة ﺣﺎﺟ ًﺰا ﻣﻨﻴﻌً ﺎ ﺑﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻚ،
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ أوﺟﺪت اﻟﺸﻴﺎﻃني وأﻗﺎﻣﺘﻬﻢ أوﻟﻴﺎء ﻋﲆ أرواح اﻟﻨﺎس ﻗﺪ ﺣﺘﻤﺖ ﻋﲇ ّ أن ﻻ أﺧﺮج
ﻣﻦ ذﻟﻚ املﻨﺰل املﺒﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﻌﻈﺎم واﻟﺠﻤﺎﺟﻢ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻞ ﻋﻠﻢ زوﺟﻚ ﺑﺎﺟﺘﻤﺎﻋﺎﺗﻨﺎ ﻓﴫت ﺗﺨﺸني ﻏﻀﺒﻪ واﻧﺘﻘﺎﻣﻪ؟ ﻓﺴﺄﻟﺘﻬﺎ ً
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ :إن زوﺟﻲ ﻻ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﻲ وﻻ ﻳﺪري ﻛﻴﻒ أﴏف أﻳﺎﻣﻲ؛ ﻓﻬﻮ ﻣﺸﻐﻮل ﻋﻨﻲ
ﻄﺮن وﻳﻜﺘﺤﻠﻦ اﻟﻨﺨﺎﺳني ﻓﻴﺘﻌ ّ ﺑﺄوﻟﺌﻚ اﻟﺼﺒﺎﻳﺎ املﺴﻜﻴﻨﺎت اﻟﻠﻮاﺗﻲ ﺗﻘﻮدﻫﻦ اﻟﻔﺎﻗﺔ إﱃ أﺳﻮاق ّ
ﻟﻴﺒﻌﻦ أﺟﺴﺎدﻫﻦ ﺑﺎﻟﺨﺒﺰ املﻌﺠﻮن ﺑﺎﻟﺪﻣﺎء واﻟﺪﻣﻮع.
ﻓﻘﻠﺖ :إذًا ﻣﺎذا ﻳﺼﺪك ﻋﻦ املﺠﻲء إﱃ ﻫﺬا املﻌﺒﺪ واﻟﺠﻠﻮس ﺑﺠﺎﻧﺒﻲ أﻣﺎم ﻫﻴﺒﺔ ﷲ
ﻓﻄﻠﺒﺖ روﺣﻚ اﻟﻮداع واﻟﺘﻔﺮﻳﻖ؟ْ وأﺷﺒﺎح اﻷﺟﻴﺎل؟ ﻫﻞ ﻣﻠﻠﺖ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺧﻔﺎﻳﺎ ﻧﻔﴘ
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ واﻟﺪﻣﻊ ﻳﺮاود أﺟﻔﺎﻧﻬﺎ :ﻻ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ .إن روﺣﻲ ﻟﻢ ﺗﻄﻠﺐ ﻓﺮاﻗﻚ ﻷﻧﻚ ﺷﻄﺮﻫﺎ،
وﻻ ﻣ ّﻠﺖ ﻋﻴﻨﺎي اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻚ ﻷﻧﻚ ﻧﻮرﻫﻤﺎ .وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎن اﻟﻘﻀﺎء ﻗﺪ ﺣﻜﻢ ﻋﲇ ّ أن أﺳري ﻋﲆ
ﻋﻘﺒﺎت اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺜﻘﻠﺔ ﺑﺎﻟﻘﻴﻮد وﺑﺎﻟﺴﻼﺳﻞ ،ﻓﻬﻞ أرﴇ أن ﻳﻜﻮن ﻧﺼﻴﺒﻚ ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎء ﻣﺜﻞ
ﻧﺼﻴﺒﻲ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﺗﻜﻠﻤﻲ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ وأﺧﱪﻳﻨﻲ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ،وﻻ ﺗﱰﻛﻴﻨﻲ ﺿﺎﺋﻌً ﺎ ﺑني ﻫﺬه املﻌﻤﻴﺎت.
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ :ﻻ أﻗﺪر أن أﻗﻮل ﻛﻞ ﳾء؛ ﻷن اﻟﻠﺴﺎن اﻟﺬي أﺧﺮﺳﺘﻪ اﻷوﺟﺎع ﻻ ﻳﺘﻜﻠﻢ،
واﻟﺸﻔﺎه اﻟﺘﻲ ﺧﺘﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻴﺄس ﻻ ﺗﺘﺤﺮك ،وﻛﻞ ﻣﺎ أﻗﺪر أن أﻗﻮﻟﻪ ﻟﻚ ﻫﻮ أﻧﻲ أﺧﺎف ﻋﻠﻴﻚ
ﻣﻦ اﻟﻮﻗﻮع ﰲ ﴍك اﻟﺬﻳﻦ ﻧﺼﺒﻮا ﱄ اﻟﺤﺒﺎﺋﻞ واﺻﻄﺎدوﻧﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎذا ﺗﻌﻨني ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ؟ وﻣَ ﻦ ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺨﺎﻓني ﻋﲇ ّ ﻣﻨﻬﻢ؟
ﻓﺴﱰت وﺟﻬﻬﺎ ﺑﻴﺪﻫﺎ وﺗﺄوّﻫﺖ ﻣﻠﺘﺎﻋﺔ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ ﻣﱰددة :إن املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ﻗﺪ
ﺻﺎر ﻳﻌﻠﻢ ﺑﺄﻧﻨﻲ أﺧﺮج ﻣﺮة ﰲ اﻟﺸﻬﺮ ﻣﻦ اﻟﻘﱪ اﻟﺬي وﺿﻌﻨﻲ ﻓﻴﻪ.
ﻓﻘﻠﺖ :وﻫﻞ ﻋﻠﻢ املﻄﺮان ﺑﺄﻧﻚ ﺗﻠﺘﻘني ﺑﻲ ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن؟
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ :ﻟﻮ ﻋﻠﻢ ﺑﺬﻟﻚ ملﺎ رأﻳﺘﻨﻲ اﻵن ﺟﺎﻟﺴﺔ ﺑﻘﺮﺑﻚ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺸﻜﻮك ﺗﺨﺎﻣﺮه واﻟﻈﻨﻮن
ﺗﺘﻼﻋﺐ ﺑﺄﻓﻜﺎره ،وﻗﺪ ﺑﺚ ﻋﲇ ّ اﻟﻌﻴﻮن ﻟﱰﻗﺒﻨﻲ ،وأوﻋﺰ إﱃ ﺧﺪﻣﻪ ﻟﻴﺘﺠﺴﺴﻮا ﺣﺮﻛﺎﺗﻲ ﺣﺘﻰ
ﴏت أﺷﻌﺮ ﺑﺄن ﻟﻠﻤﻨﺰل اﻟﺬي أﺳﻜﻨﻪ واﻟﻄﺮﻗﺎت اﻟﺘﻲ أﺳري ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻮاﻇﺮ ﺗﺤﺪّق ﺑﻲ وأﺻﺎﺑﻊ
ﺗﺸري إﱄ ّ وآذاﻧًﺎ ﺗﺴﻤﻊ ﻫﻤﺲ أﻓﻜﺎري.
وأﻃﺮﻗﺖ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﺛﻢ زادت واﻟﺪﻣﻊ ﻳﻨﺴﻜﺐ ﻋﲆ وﺟﻨﺘﻴﻬﺎ :أﻧﺎ ﻻ أﺧﺎف ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ْ
املﻄﺮان؛ ﻷن اﻟﻐﺮﻳﻖ ﻻ ﻳﺨﴙ اﻟﺒﻠﻞ ،وﻟﻜﻨﻨﻲ أﺧﺎف ﻋﻠﻴﻚ وأﻧﺖ ﺣ ّﺮ ﻛﻨﻮر اﻟﺸﻤﺲ أن ﺗﻘﻊ
ﻣﺜﲇ ﰲ أﴍاﻛﻪ ،ﻓﻴﻘﺒﺾ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﺄﻇﺎﻓﺮه وﻳﻨﻬﺸﻚ ﺑﺄﻧﻴﺎﺑﻪ ،أﻧﺎ ﻻ أﺧﺎف ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺮ ﻷﻧﻪ أﻓﺮغ
ﺟﻤﻴﻊ ﺳﻬﺎﻣﻪ ﰲ ﺻﺪري ،وﻟﻜﻨﻨﻲ أﺧﺎف ﻋﻠﻴﻚ وأﻧﺖ ﰲ رﺑﻴﻊ اﻟﻌﻤﺮ أن ﺗَﻠﺴﻊ اﻷﻓﻌﻰ ﻗﺪﻣﻴﻚ
وﺗﻮﻗﻔﻚ ﻋﻦ املﺴري ﻧﺤﻮ ﻗﻤﺔ اﻟﺠﺒﻞ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻨﺘﻈﺮك املﺴﺘﻘﺒﻞ ﺑﺄﻓﺮاﺣﻪ وأﻣﺠﺎده.
56
اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ
ُ
ﻓﻘﻠﺖ :إن ﻣﻦ ﻻ ﺗﻠﺴﻌﻪ أﻓﺎﻋﻲ اﻷﻳﺎم وﺗﻨﻬﺸﻪ ذﺋﺎب اﻟﻠﻴﺎﱄ ﻳﻈﻞ ﻣﻐﺮو ًرا ﺑﺎﻷﻳﺎم واﻟﻠﻴﺎﱄ.
وﻟﻜﻦ اﺳﻤﻌﻲ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ،اﺳﻤﻌﻴﻨﻲ ﺟﻴﺪًا ،أﻟﻴﺲ أﻣﺎﻣﻨﺎ ﻏري اﻟﻔﺮاق ﻟﻨﺘﻘﻲ ﺻﻐﺎر َة اﻟﻨﺎس
ﻳﺒﻖ ﻏري اﻻﺳﺘﺴﻼم إﱃ وﴍورﻫﻢ؟ ﻫﻞ ُﺳﺪﱠت أﻣﺎﻣﻨﺎ ﺳﺒﻞ اﻟﺤﺐ واﻟﺤﻴﺎة واﻟﺤﺮﻳﺔ ،ﻓﻠﻢ َ
ﻣﺸﻴﺌﺔ ﻋﺒﻴﺪ املﻮت؟
َ
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ ﺑﻠﻬﺠﺔ ﻳﺴﺎورﻫﺎ اﻟﻘﻨﻮط واﻟﺤﴪة :ﻟﻢ ﻳﺒﻖ أﻣﺎﻣﻨﺎ ﻏري اﻟﻮداع واﻟﺘﻔﺮق.
ﻓﺄﺧﺬت ﻳﺪﻫﺎ وﻗﺪ ﺗﻤ ّﺮدت روﺣﻲ ﰲ داﺧﲇ وﺗﺒﺪّد اﻟﺪﺧﺎن ﻋﻦ ﺷﻌﻠﺔ ﻓﺘﻮﺗﻲ ،ﻓﻘﻠﺖ
ﻃﻮﻳﻼ إﱃ أﻫﻮاء اﻟﻨﺎس ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ … ﻣﻨﺬ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻤﻌﺘﻨﺎ ً ﻣﺘﻬﻴﺠً ﺎ :ﻟﻘﺪ اﺳﺘﺴﻠﻤﻨﺎ
ﺣﺘﻰ اﻵن وﻧﺤﻦ ﻧﻨﻘﺎد إﱃ اﻟﻌﻤﻴﺎن وﻧﺮﻛﻊ أﻣﺎم أﺻﻨﺎﻣﻬﻢ .ﻣﺬ ﻋﺮﻓﺘﻚ ،وﻧﺤﻦ ﰲ ﻳﺪ املﻄﺮان
ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ﻣﺜﻞ ﻛﺮﺗني ﻳﻠﻌﺐ ﺑﻨﺎ ﻛﻴﻔﻤﺎ أراد ،وﻳﻘﺬﻓﻨﺎ ﺣﻴﺜﻤﺎ ﺷﺎء ،ﻓﻬﻞ ﻧﺒﻘﻰ ﺧﺎﺿﻌني
ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺤﺪﻗني ﺑﻈﻠﻤﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻠﻮﻛﻨﺎ اﻟﻘﱪ وﺗﺒﺘﻠﻌﻨﺎ اﻷرض؟ ﻫﻞ وﻫﺒﻨﺎ ﷲ ﻧﺴﻤﺔ اﻟﺤﻴﺎة
ﻇﻼ ﻟﻼﺳﺘﻌﺒﺎد؟ إن ﻣﻦ ﻳﺨﻤﺪ ﻧﺎر ﻟﻨﻀﻌﻬﺎ ﺗﺤﺖ أﻗﺪام املﻮت؟ وأﻋﻄﺎﻧﺎ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻟﻨﺠﻌﻠﻬﺎ ٍّ
ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻴﺪه ﻳﻜﻮن ﻛﺎﻓ ًﺮا ﺑﺎﻟﺴﻤﺎء اﻟﺘﻲ أوﻗﺪﺗﻬﺎ .وﻣﻦ ﻳﺼﱪ ﻋﲆ اﻟﻀﻴﻢ وﻻ ﻳﺘﻤﺮد ﻋﲆ
اﻟﺴﻔﺎﺣني ﺑﻘﺘﻞ اﻷﺑﺮﻳﺎء .ﻗﺪ أﺣﺒﺒﺘﻚ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰّ اﻟﻈﻠﻢ ﻳﻜﻮن ﺣﻠﻴﻒ اﻟﺒﻄﻞ ﻋﲆ اﻟﺤﻖ وﴍﻳﻚ
وأﺣﺒﺒﺘِﻨﻲ ،واﻟﺤﺐ ﻛﻨﺰ ﺛﻤني ﻳﻮدِﻋﻪ ﷲ اﻟﻨﻔﻮس اﻟﻜﺒرية اﻟﺤﺴﺎﺳﺔ ،ﻓﻬﻞ ﻧﺮﻣﻲ ﺑﻜﻨﺰﻧﺎ إﱃ
ﺣﻈﺎﺋﺮ اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ﻟﺘﺒﻌﺜﺮه ﺑﺄﻧﻮﻓﻬﺎ وﺗﺬرﻳﻪ ﺑﺄرﺟﻠﻬﺎ؟ أﻣﺎﻣﻨﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﴪﺣً ﺎ واﺳﻌً ﺎ ﻣﻤﻠﻮءًا
ﺑﺎملﺤﺎﺳﻦ واﻟﻐﺮاﺋﺐ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﻧﺴﻜﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻔﻖ اﻟﻀﻴﻖ اﻟﺬي ﺣﻔﺮه املﻄﺮان وأﻋﻮاﻧﻪ؟ أﻣﺎﻣﻨﺎ
اﻟﺤﻴﺎة وﻣﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ وﻣﺎ ﰲ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﺒﻄﺔ واﻟﺴﻌﺎدة ،ﻓﻠﻤﺎذا ﻻ ﻧﺨﻠﻊ اﻟﻨري
اﻟﺜﻘﻴﻞ ﻋﻦ ﻋﺎﺗﻘﻴﻨﺎ وﻧﻜﴪ اﻟﻘﻴﻮد املﻮﺛﻘﺔ ﺑﺄرﺟﻠﻨﺎ ،وﻧﺴري إﱃ ﺣﻴﺚ اﻟﺮاﺣﺔ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ؟
ﻗﻮﻣﻲ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻧﺬﻫﺐ ﻣﻦ ﻫﺬا املﻌﺒﺪ اﻟﺼﻐري إﱃ ﻫﻴﻜﻞ ﷲ اﻷﻋﻈﻢ .ﻫﻠﻤﻲ ﻧﺮﺣﻞ ﻣﻦ ﻫﺬه
اﻟﺒﻼد وﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ واﻟﻐﺒﺎوة إﱃ ﺑﻼد ﺑﻌﻴﺪة ﻻ ﺗﻄﺎﻟﻬﺎ أﻳﺪي اﻟﻠﺼﻮص وﻻ ﻳﺒﻠﻐﻬﺎ
ﻟﻬﺎث اﻷﺑﺎﻟﺴﺔ ،ﺗﻌﺎﱄ ْ ﻧﴪع إﱃ اﻟﺸﺎﻃﺊ ﻣﺴﺘﱰﻳﻦ ﺑﻮﺷﺎح اﻟﻠﻴﻞ ،ﻓﻨﻌﺘﲇ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﺗﻘ ّﻠﻨﺎ إﱃ ﻣﺎ
وراء اﻟﺒﺤﺎر ،وﻫﻨﺎك ﻧﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎة ﻣﻜﺘﻨﻔﺔ ﺑﺎﻟﻄﻬﺮ واﻟﺘﻔﺎﻫﻢ ،ﻓﻼ ﺗﻨﻔﺜﻨﺎ اﻟﺜﻌﺎﺑني ﺑﺄﻧﻔﺎﺳﻬﺎ،
وﻻ ﺗﺪوﺳﻨﺎ اﻟﻀﻮاري ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﺎ .ﻻ ﺗﱰددي ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ،ﻓﻬﺬه اﻟﺪﻗﺎﺋﻖ أﺛﻤﻦ ﻣﻦ ﺗﻴﺠﺎن املﻠﻮك
وأﺳﻤﻰ ﻣﻦ ﴎاﺋﺮ املﻼﺋﻜﺔ .ﻗﻮﻣﻲ ﻧﺘﺒﻊ ﻋﻤﻮد اﻟﻨﻮر ﻓﻴﻘﻮدﻧﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻘﺎﺣﻠﺔ إﱃ
ﺣﻘﻮل ﺗﻨﺒﺖ اﻷزاﻫﺮ واﻟﺮﻳﺎﺣني.
ﻓﻬﺰت رأﺳﻬﺎ وﻗﺪ ﺷﺨﺼﺖ ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ﺑﴚء ﻏري ﻣﻨﻈﻮر ﰲ ﻓﻀﺎء ذﻟﻚ اﻟﻬﻴﻜﻞ ،وﺳﺎﻟﺖ
ﻋﲆ ﺷﻔﺘﻴﻬﺎ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺤﺰﻧﺔ ﺗﻌﻠﻦ ﻣﺎ ﰲ داﺧﻞ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﺪة واﻷﻟﻢ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ ﺑﻬﺪوء:
ﻛﺄﺳﺎ ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﺎﻟﺨﻞ واﻟﻌﻠﻘﻢ ،وﻗﺪ ﺗﺠﺮﻋﺘﻬﺎ ﻻ ،ﻻ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ،إن اﻟﺴﻤﺎء ﻗﺪ وﺿﻌﺖ ﰲ ﻳﺪي ً
57
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻳﺒﻖ ﻓﻴﻬﺎ ﻏري ﻗﻄﺮات ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺳﻮف أﴍﺑﻬﺎ ﻣﺘﺠ ﱢﻠﺪة ﻷرى ﻣﺎ ﰲ ﻗﻌﺮ اﻟﻜﺄس ﻣﻦ ﴏﻓﺎ ،وﻟﻢ ًَ
اﻷﴎار واﻟﺨﻔﺎﻳﺎ .أﻣﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ املﻜﺘﻨﻔﺔ ﺑﺎملﺤﺒﺔ واﻟﺮاﺣﺔ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ
أﺳﺘﺤﻘﻬﺎ وﻻ أﻗﻮى ﻋﲆ اﺣﺘﻤﺎل أﻓﺮاﺣﻬﺎ وﻣﻠﺬاﺗﻬﺎ؛ ﻷن اﻟﻄﺎﺋﺮ املﻜﺴﻮر اﻟﺠﻨﺎﺣني ّ ﻓﺄﻧﺎ ﻻ
ً
ﻣﺤﻠﻘﺎ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ،واﻟﻌﻴﻮن اﻟﺮﻣﺪاء ً
ﻣﺘﻨﻘﻼ ﺑني اﻟﺼﺨﻮر وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺴﺒﺢ ﻳﺪبّ
ﺗﺤﺪق إﱃ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﻘﻮى ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻷﻧﻮار اﻟﺴﺎﻃﻌﺔ ،ﻓﻼ ﺗﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ
اﻟﺴﻌﺎدة ﻷن ذﻛﺮﻫﺎ ﻳﺆملﻨﻲ ﻛﺎﻟﺘﻌﺎﺳﺔ ،وﻻ ﺗﺼﻮّر ﱄ اﻟﻬﻨﺎء ﻷن ﻇﻠﻪ ﻳﺨﻴﻔﻨﻲ ﻛﺎﻟﺸﻘﺎء …
وﻟﻜﻦ اﻧﻈﺮ إﱄ ّ ﻷرﻳﻚ اﻟﺸﻌﻠﺔ املﻘﺪﺳﺔ اﻟﺘﻲ أوﻗﺪﺗﻬﺎ اﻟﺴﻤﺎء ﺑني رﻣﺎد ﺻﺪري … أﻧﺖ
ﺗﻌﻠﻢ ﺑﺄﻧﻨﻲ أﺣﺒﻚ ﻣﺤﺒﺔ اﻷم وﺣﻴﺪﻫﺎ ،وﻫﻲ املﺤﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻤﺘﻨﻲ أن أﺣﻤﻴﻚ ﺣﺘﻰ وﻣﻦ
ﻧﻔﴘ .ﻫﻲ املﺤﺒﺔ املﻄﻬﺮة ﺑﺎﻟﻨﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﻮﻗﻔﻨﻲ اﻵن ﻋﻦ اﺗﺒﺎﻋﻚ إﱃ أﻗﺎﴆ اﻷرض ،وﺗﺠﻌﻠﻨﻲ
أُﻣﻴﺖ ﻋﻮاﻃﻔﻲ وﻣﻴﻮﱄ ﻟﻜﻲ ﺗﺤﻴﺎ أﻧﺖ ﺣ ٍّﺮا ﻧﺰﻳﻬً ﺎ ،وﺗﻈﻞ ﰲ ﻣﺄﻣﻦ ﻣﻦ ﻟﻮم اﻟﻨﺎس وﺗﻘﻮﱡﻻﺗﻬﻢ
اﻟﻔﺎﺳﺪة.
إن املﺤﺒﺔ املﺤﺪودة ﺗﻄﻠﺐ اﻣﺘﻼك املﺤﺒﻮب ،أﻣﺎ املﺤﺒﺔ ﻏري املﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻓﻼ ﺗﻄﻠﺐ ﻏري
ذاﺗﻬﺎ .املﺤﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻲء ﺑني ﻳﻘﻈﺔ اﻟﺸﺒﺎب وﻏﻔﻠﺘﻪ ﺗﺴﺘﻜﻔﻲ ﺑﺎﻟﻠﻘﺎء وﺗﻘﻨﻊ ﺑﺎﻟﻮﺻﻞ وﺗﻨﻤﻮ
ﺑﺎﻟﻘﺒﻞ واﻟﻌﻨﺎق .أﻣﺎ املﺤﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﻟﺪ ﰲ أﺣﻀﺎن اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ وﺗﻬﺒﻂ ﻣﻊ أﴎار اﻟﻠﻴﻞ ،ﻓﻼ ﺗﻘﻨﻊ
ﺑﻐري اﻷﺑﺪﻳﺔ ،وﻻ ﺗﺴﺘﻜﻔﻲ ﺑﻐري اﻟﺨﻠﻮد ،وﻻ ﺗﻘﻒ ﻣﺘﻬﻴﱢﺒﺔ أﻣﺎم ﳾء ﺳﻮى اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ …
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﺑﺎﻷﻣﺲ أن املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻤﻨﻌﻨﻲ ﻋﻦ اﻟﺨﺮوج ﻣﻦ ﻣﻨﺰل
اﺑﻦ أﺧﻴﻪ وﻳﺴﻠﺒﻨﻲ اﻟﻠﺬة اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﺘﻬﺎ ﻣﺬ ﺗﺰوﺟﺖ ،وﻗﻔﺖ أﻣﺎم ﻧﺎﻓﺬة ﻏﺮﻓﺘﻲ
وﻧﻈﺮت ﻧﺤﻮ اﻟﺒﺤﺮ ﻣﻔﻜﺮة ﺑﻤﺎ وراءه ﻣﻦ اﻟﺒﻼد اﻟﻮاﺳﻌﺔ واﻟﺤﺮﻳﺔ املﻌﻨﻮﻳﺔ واﻻﺳﺘﻘﻼل
اﻟﺸﺨﴢ ،وﺗﺨﻴّﻠﺖ ﻧﻔﴘ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺑﻘﺮﺑﻚ ﻣﺤﺎﻃﺔ ﺑﺄﺧﻴﻠﺔ روﺣﻚ ،ﻣﻐﻤﻮرة ﺑﺎﻧﻌﻄﺎﻓﻚ،
ّ
وﺗﺠﻌﻠﻬﻦ ﻳﺘﻤﺮدن ﻋﲆ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻷﺣﻼم اﻟﺘﻲ ﺗﻨري ﺻﺪور اﻟﻨﺴﺎء املﻈﻠﻮﻣﺎت
اﻟﺒﺎﻃﻠﺔ ﻟﻴﻌﺸﻦ ﰲ ﻇﻞ اﻟﺤﻖ واﻟﺤﺮﻳﺔ ﻟﻢ ﺗﻤ ﱠﺮ ﰲ ﺧﺎﻃﺮي ﺣﺘﻰ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ أﺳﺘﺼﻐﺮ ﻧﻔﴘ
وأﺳﺘﻀﻌﻔﻬﺎ ،وأرى ﻣﺤﺒﺘﻨﺎ واﻫﻴﺔ ﻣﺤﺪدة ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻮﻗﻮف أﻣﺎم وﺟﻪ اﻟﺸﻤﺲ .ﻓﺒﻜﻴﺖ
ﺑﻜﺎء ﻣﻠﻚ أﺿﺎع ﻣﻠﻜﻪ وﻏﻨﻲ َﻓ َﻘ َﺪ ﻛﻨﻮزه ،وﻟﻜﻨﻨﻲ ﻣﺎ ﻟﺒﺜﺖ أن رأﻳﺖ وﺟﻬﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل
دﻣﻮﻋﻲ ،وأﺑﴫت ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻣﺤﺪﻗﺘني إﱄ ّ ،ﻓﺘﺬﻛﺮت ﻣﺎ ﻗﻠﺘﻪ ﱄ ﻣﺮة وﻫﻮ :ﻫﻠﻤﻲ ﻳﺎ ﺳﻠﻤﻰ ﻧﻘﻒ
أﻣﺎم اﻷﻋﺪاء ﻣﺘﻠﻘني ﺷﻔﺎر اﻟﺴﻴﻮف ﺑﺼﺪورﻧﺎ ،ﻓﺈن ُﴏﻋﻨﺎ ﻧَﻤُﺖ ﻛﺎﻟﺸﻬﺪاء وإن ﺗﻐ ّﻠﺒﻨﺎ ﻧﻌِ ﺶ
ﻛﺎﻷﺑﻄﺎل؛ ﻷن ﻋﺬاب اﻟﻨﻔﺲ ﺑﺜﺒﺎﺗﻬﺎ أﻣﺎم املﺼﺎﻋﺐ واملﺘﺎﻋﺐ ﻫﻮ أﴍف ﻣﻦ ﺗﻘﻬﻘﺮﻫﺎ إﱃ
ﺣﻴﺚ اﻷﻣﻦ واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ …
ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻗﻠﺘﻬﺎ ﱄ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﺟﻨﺤﺔ املﻮت ﺗﺮﻓﺮف ﺣﻮل ﻣﻀﺠﻊ
ﺗﺼﻔﻖ ﺣﻮل رأﳼ ،ﻓﺘﻘﻮﻳﺖ وﺗﺸﺠﻌﺖ ﱢ واﻟﺪي ،وﻗﺪ ذﻛﺮﺗﻬﺎ ﺑﺎﻷﻣﺲ وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﺟﻨﺤﺔ اﻟﻴﺄس
58
اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ
وﺷﻌﺮت وأﻧﺎ ﰲ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﺴﺠﻦ ﺑﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻬﻮن اﻟﺸﺪاﺋﺪ وﺗﺴﺘﺼﻐﺮ
ﻋﻤﻴﻘﺎ ﻛﺎﻟﺒﺤﺮ ،ﻋﺎﻟﻴًﺎ ﻛﺎﻟﻨﺠﻮم ،ﻣﺘﺴﻌً ﺎ ﻛﺎﻟﻔﻀﺎء ،وﻗﺪ ﺟﺌﺖ اﻟﻴﻮم ً اﻷﺣﺰان ،ورأﻳﺖ ﺣﺒﻨﺎ
إﻟﻴﻚ ،وﰲ ﻧﻔﴘ املﺘﻮﺟﻌﺔ املﻨﻬﻮﻛﺔ ﻗﻮة ﺟﺪﻳﺪة ،وﻫﻲ املﻘﺪرة ﻋﲆ ﺗﻀﺤﻴﺔ اﻷﻣﺮ اﻟﻌﻈﻴﻢ
ﴍﻳﻔﺎ ﺑﻌﺮف اﻟﻨﺎس ً ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ أﻣﺮ أﻋﻈﻢ ،ﺗﻀﺤﻴﺔ ﺳﻌﺎدﺗﻲ ﺑﻘﺮﺑﻚ ﻟﻜﻲ ﺗﺒﻘﻰ أﻧﺖ
ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻏﺪرﻫﻢ واﺿﻄﻬﺎدﻫﻢ …
ﻗﺪﻣﻲ اﻟﻀﻌﻴﻔﺘني ،أﻣﺎ اﻟﻴﻮم
ّ ﻛﻨﺖ أﺟﻲء ﺑﺎﻷﻣﺲ إﱃ ﻫﺬا املﻜﺎن واﻟﻘﻴﻮد اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﺗﻐﻞ
ﻓﻘﺪ ﺟﺌﺖ ﺷﺎﻋﺮة ﺑﻌﺰم ﻳﻬﺰأ ﺑﺜﻘﻞ اﻟﻘﻴﻮد وﻳﺴﺘﻘﴫ اﻟﻄﺮﻳﻖ .ﻛﻨﺖ أﺟﻲء ﻣﺜﻞ ﻃﻴﻒ ﻃﺎرق
ﺧﺎﺋﻒ ،أﻣﺎ اﻟﻴﻮم ﻓﻘﺪ ﺟﺌﺖ ﻣﺜﻞ اﻣﺮأة ﺣﻴﺔ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﻮﺟﻮب اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ وﺗﻌﺮف ﻗﻴﻤﺔ اﻷوﺟﺎع،
وﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺤﻤﻲ ﻣﻦ ﺗﺤﺒﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس اﻷﻏﺒﻴﺎء وﻣﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺠﺎﺋﻌﺔ .ﻛﻨﺖ أﺟﻠﺲ ﺣﺬاءك ﻣﺜﻞ
ﻇﻞ ﻣﺮﺗﺠﻒ ،وﻗﺪ أﺗﻴﺖ اﻟﻴﻮم ﻷرﻳﻚ ﺣﻘﻴﻘﺘﻲ أﻣﺎم ﻋﺸﱰوت املﻘﺪﺳﺔ وﻳﺴﻮع املﺼﻠﻮب .أﻧﺎ
ﺷﺠﺮة ﻧﺎﺑﺘﺔ ﰲ اﻟﻈﻞ ،وﻗﺪ ﻣﺪدت أﻏﺼﺎﻧﻲ اﻟﻴﻮم ﻟﻜﻲ ﺗﺮﺗﻌﺶ ﺳﺎﻋﺔ ﰲ ﻧﻮر اﻟﻨﻬﺎر … ﻗﺪ
ً
وﻫﺎﺋﻼ ﻣﺜﻞ ﺣﺒﻨﺎ ،ﻟﻴﻜﻦ وداﻋﻨﺎ ﻛﺎﻟﻨﺎر اﻟﺘﻲ ﺟﺌﺖ ﻷودﻋﻚ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ،ﻓﻠﻴﻜﻦ وداﻋﻨﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ
ﺗﺼﻬﺮ اﻟﺬﻫﺐ ﻟﺘﺠﻌﻠﻪ أﺷﺪ ملﻌﺎﻧًﺎ.
ْ
ﺑﺮﻗﺖ ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ، ﻣﺠﺎﻻ ﻟﻠﻜﻼم واﻻﺣﺘﺠﺎج ،ﺑﻞ ﻧﻈﺮت إﱄ ّ وﻗﺪ ً وﻟﻢ ﺗﱰك ﱄ ﺳﻠﻤﻰ
ﻓﺄﺣﺎﻃﺖ أﺷﻌﺘﻬﺎ ﺑﻮﺟﺪاﻧﻲ ،واﺗﱠ َﺸﺤﺖ ﻣﻼﻣﺢ وﺟﻬﻬﺎ ﺑﻨﻘﺎب ﻣﻦ اﻟﻬﻴﺒﺔ واﻟﺠﻼل ،ﻓﺒﺎﻧﺖ
ﻛﻤﻠﻴﻜﺔ ﺗﻮﺣﻲ اﻟﺼﻤﺖ واﻟﺘﺨﺸﻊ .ﺛﻢ ارﺗﻤﺖ ﻋﲆ ﺻﺪري ﺑﺎﻧﻌﻄﺎف ﻛﲇ ﻣﺎ ﻋﻬﺪﺗﻪ ﻓﻴﻬﺎ
ﻗﺒﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ ،وﻃﻮّﻗﺖ ﻋﻨﻘﻲ ﺑﺰﻧﺪﻫﺎ اﻷﻣﻠﺲ ،وﻗﺒﱠﻠﺖ ﺷﻔﺘﻲ ﻗﺒﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﻣﺤﺮﻗﺔ
أﻳﻘﻈﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺟﺴﺪي ،وأﺛﺎرت اﻷﴎار اﻟﺨﻔﻴﺔ ﰲ ﻧﻔﴘ ،وﺟﻌﻠﺖ اﻟﺬات اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ
أدﻋﻮﻫﺎ »أﻧﺎ« ﺗﺘﻤﺮد ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺄﴎه ﻟﺘﺨﻀﻊ ﺻﺎﻣﺘﺔ أﻣﺎم اﻟﻨﺎﻣﻮس اﻟﻌﻠﻮي اﻟﺬي اﺗﺨﺬ
ﻫﻴﻜﻼ وﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﺬﺑﺤً ﺎ.ً ﺻﺪر ﺳﻠﻤﻰ
وملﺎ ﻏﺮﺑﺖ اﻟﺸﻤﺲ واﻣﱠ ﺤَ ﺖ أﺷﻌﺘﻬﺎ اﻷﺧرية ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪاﺋﻖ واﻟﺒﺴﺎﺗني اﻧﺘﻔﻀﺖ ﺳﻠﻤﻰ
ً
ﻃﻮﻳﻼ إﱃ ﺟﺪراﻧﻪ وزواﻳﺎه ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺴﻜﺐ ﻧﻮر ووﻗﻔﺖ ﰲ وﺳﻂ اﻟﻬﻴﻜﻞ ،وﻧﻈﺮت
ﻗﻠﻴﻼ وﺟﺜﺖ ﺧﺎﺿﻌﺔ أﻣﺎم ﺻﻮرة ﻳﺴﻮع املﺼﻠﻮب، ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ﻋﲆ رﺳﻮﻣﻪ ورﻣﻮزه ،ﺛﻢ ﺗﻘﺪﻣﺖ ً
وﻗﺒﱠﻠﺖ ﻗﺪﻣﻴﻪ املﻜﻠﻮﻣﺘني ﻣﺮات ﻣﺘﻮاﻟﻴﺔ ،ﺛﻢ ﻫﻤﺴﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻫﺎ ﻗﺪ اﺧﱰت ﺻﻠﻴﺒﻚ ﻳﺎ ﻳﺴﻮع
اﻟﻨﺎﴏي ،وﺗﺮﻛﺖ ﻣﴪات ﻋﺸﱰوت وأﻓﺮاﺣﻬﺎ ،ﻗﺪ ﻛﻠﻠﺖ رأﳼ ﺑﺎﻷﺷﻮاك ً
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻐﺎر،
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻌﻄﻮر واﻟﻄﻴﻮب ،وﺗﺠﺮﻋﺖ اﻟﺨﻞ واﻟﻌﻠﻘﻢ ﺑﺎﻟﻜﺄس اﻟﺘﻲواﻏﺘﺴﻠﺖ ﺑﺪﻣﻲ ودﻣﻮﻋﻲ ً
ﺻﻨﻌﺖ ﻟﻠﺨﻤﺮ واﻟﻜﻮﺛﺮ ،ﻓﺎﻗﺒَ ْﻠﻨﻲ ﺑني ﺗﺎﺑﻌﻴﻚ اﻷﻗﻮﻳﺎء ﺑﻀﻌﻔﻬﻢ ،وﺳريﻧﻲ ﻧﺤﻮ اﻟﺠﻠﺠﻠﺔ
ﺑﺮﻓﻘﺔ ﻣﺨﺘﺎرﻳﻚ املﺴﺘﻜﻔني ﺑﺄوﺟﺎﻋﻬﻢ املﻐﺒﻮﻃني ﻋﲆ ﻛﺂﺑﺔ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ.
59
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
60
اﳌﻨﻘﺬ
وﻣﺮت ﺧﻤﺴﺔ أﻋﻮام ﻋﲆ زواج ﺳﻠﻤﻰ وﻟﻢ ﺗُﺮزق وﻟﺪًا ﻟﻴﻮﺟﺪ ﺑﻜﻴﺎﻧﻪ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ
وﺑني ﺑﻌﻠﻬﺎ ،وﻳﻘﺮب ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻪ ﻧﻔﺴﻴﻬﻤﺎ املﺘﻨﺎﻓﺮﺗني ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺠﻤﻊ اﻟﻔﺠﺮ أواﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ وأواﺋﻞ
اﻟﻨﻬﺎر.
واملﺮأة اﻟﻌﺎﻗﺮ ﻣﻜﺮوﻫﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن؛ ﻷن اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ ﺗﺼﻮر ﻷﻛﺜﺮ اﻟﺮﺟﺎل دوام اﻟﺤﻴﺎة ﰲ
أﺟﺴﺎد اﻷﺑﻨﺎء ،ﻓﻴﻄﻠﺒﻮن اﻟﻨﺴﻞ ﻟﻴﻈ ﱡﻠﻮا ﺧﺎﻟﺪﻳﻦ ﻋﲆ اﻷرض.
إن اﻟﺮﺟﻞ املﺎدي ﻳﻨﻈﺮ إﱃ زوﺟﺘﻪ اﻟﻌﺎﻗﺮ ﺑﺎﻟﻌني اﻟﺘﻲ ﻳﺮى ﺑﻬﺎ اﻻﻧﺘﺤﺎر اﻟﺒﻄﻲء،
ﻓﻴﻤﻘﺘﻬﺎ وﻳﻬﺠﺮﻫﺎ وﻳﻄﻠﺐ ﺣﺘﻔﻬﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﺪوّ ﻏﺪار ﻳﺮﻳﺪ اﻟﻔﺘﻚ ﺑﻪ ،وﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻏﺎﻟﺐ ﻛﺎن
ﻣﺎدﻳٍّﺎ ﻛﺎﻟﱰاب وﻗﺎﺳﻴًﺎ ﻛﺎﻟﻔﻮﻻذ وﻃﺎﻣﻌً ﺎ ﻛﺎملﻘﱪة ،وﻛﺎﻧﺖ رﻏﺒﺘﻪ ﺑﺎﺑﻦ ﻳﺮث اﺳﻤﻪ وﺳﺆدده
ﺗﻜ ﱢﺮ ُﻫﻪ ﺑﺴﻠﻤﻰ املﺴﻜﻴﻨﺔ وﺗﺤﻮّل ﻣﺤﺎﺳﻨﻬﺎ ﰲ ﻋﻴﻨﻴﻪ إﱃ ﻋﻴﻮب ﺟﻬﻨﻤﻴﺔ.
إن اﻟﺸﺠﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺒﺖ ﰲ اﻟﻜﻬﻒ ﻻ ﺗﻌﻄﻲ ﺛﻤ ًﺮا ،وﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻇﻞ اﻟﺤﻴﺎة
ﻋﺸﺎ ﰲ اﻟﻘﻔﺺ ﻛﻴﻼ ﻳﻮرث اﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ ﻟﻔﺮاﺧﻪ ،وﺳﻠﻤﻰ أﻃﻔﺎﻻ .إن اﻟﺒﻠﺒﻞ ﻻ ﻳﺤﻮك ٍّ
ً ﻓﻠﻢ ﺗﺜﻤﺮ
ﻛﺮاﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺠﻴﻨﺔ اﻟﺸﻘﺎء ،ﻓﻠﻢ ﺗﻘﺴﻢ اﻟﺴﻤﺎء ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ إﱃ أﺳريﻳﻦ .إن أزاﻫﺮ اﻷودﻳﺔ ﻫﻲ
أﻃﻔﺎل ﻳﻠﺪﻫﺎ اﻧﻌﻄﺎف اﻟﺸﻤﺲ وﺷﻐﻒ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وأﻃﻔﺎل اﻟﺒﴩ أزاﻫﺮ ﻳﻠﺪﻫﺎ اﻟﺤﺐ واﻟﺤﻨﻮ،
ﻓﺴﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻟﻢ ﺗﺸﻌﺮ ﻗﻂ ﺑﺄﻧﻔﺎس اﻟﺤﻨﻮ وﻣﻼﻣﺲ اﻻﻧﻌﻄﺎف ﰲ ذﻟﻚ املﻨﺰل اﻟﻔﺨﻢ اﻟﻘﺎﺋﻢ
ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﺒﺤﺮ ﰲ رأس ﺑريوت ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺼﲇ ﰲ ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻠﻴﺎﱄ ﺿﺎرﻋﺔ أﻣﺎم
ﻳﺠﻔﻒ ﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻪ اﻟﻮردﻳﺔ دﻣﻮﻋﻬﺎ ،وﻳﺰﻳﻞ ﺑﻨﻮر ﻋﻴﻨﻴﻪ ﺧﻴﺎل اﻟﺴﻤﺎء ﻟﺘﺒﻌﺚ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻄﻔﻞ ﱢ
املﻮت ﻋﻦ ﻗﻠﺒﻬﺎ.
واﺑﺘﻬﺎﻻ ،وﺗﴬﻋﺖ ﻣﺴﺘﻐﻴﺜﺔً وﻗﺪ ﺻﻠﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻣﺘﻮﺟﻌﺔ ﺣﺘﻰ ﻣﻸت اﻟﻔﻀﺎء ﺻﻼة
ﺣﺘﻰ ﺑﺪّد ﴏاﺧﻬﺎ اﻟﻐﻴﻮم ،ﻓﺴﻤﻌﺖ اﻟﺴﻤﺎء ﻧﺪاءﻫﺎ وﺑﺜ ﱠ ْﺖ ﰲ أﺣﺸﺎﺋﻬﺎ ﻧﻐﻤﺔ ﻣﺨﺘﻤﺮة
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ّ
ﻟﺘﺼريﻫﺎ أﻣٍّ ﺎ وﺗﻤﺤﻮ ذﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻼوة واﻟﻌﺬوﺑﺔ ،وأﻋﺪﺗﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﺧﻤﺴﺔ أﻋﻮام ﻣﻦ زواﺟﻬﺎ
وﻋﺎرﻫﺎ.
اﻟﺸﺠﺮة اﻟﻨﺎﺑﺘﺔ ﰲ اﻟﻜﻬﻒ ﻗﺪ أزﻫﺮت ﻟﺘﺜﻤﺮ.
ﻋﺸﺎ ﻣﻦ رﻳﺶ ﺟﻨﺎﺣﻴﻪ. اﻟﺒﻠﺒﻞ املﺴﺠﻮن ﰲ اﻟﻘﻔﺺ ﻗﺪ َﻫ ّﻢ ﻟﻴﺤﻮك ٍّ
اﻟﻘﻴﺜﺎرة اﻟﺘﻲ ﻃﺮﺣﺖ ﺗﺤﺖ اﻷﻗﺪام ﻗﺪ وﺿﻌﺖ ﰲ ﻣﻬﺐّ ﻧﺴﻴﻢ املﴩق ﻟﻴﺤﺮك ﺑﺄﻣﻮاﺟﻪ
ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ أوﺗﺎرﻫﺎ.
ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ املﺴﻜﻴﻨﺔ ﻗﺪ ﻣﺪّت ذراﻋﻴﻬﺎ املﻜﺒّﻠﺘني ﺑﺎﻟﺴﻼﺳﻞ ﻟﺘﻘﺘﺒﻞ ﻣﻮﻫﺒﺔ اﻟﺴﻤﺎء.
وﻟﻴﺲ ﺑني أﻓﺮاح اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺎ ﻳﻀﺎرع ﻓﺮح املﺮأة اﻟﻌﺎﻗﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻬﻴﺌﻬﺎ اﻟﻨﻮاﻣﻴﺲ اﻷزﻟﻴﺔ
ﻟﺘﺼريﻫﺎ أﻣٍّ ﺎ .ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ ﻳﻘﻈﺔ اﻟﺮﺑﻴﻊ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎل ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ ﻣﺠﻲء اﻟﻔﺠﺮ ﻣﻦ املﴪة ﱢ
ﻳﺠﺘﻤﻊ ﺑني أﺿﻠﻊ املﺮأة اﻟﺘﻲ ﺣَ َﺮﻣَ ﻬﺎ ﷲ ﺛﻢ أﻋﻄﺎﻫﺎ.
ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻧﻮر أﺷﺪ ﺳﻄﻮﻋً ﺎ وأﻛﺜﺮ ملﻌﺎﻧًﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﻌﺜﻬﺎ اﻟﺠﻨني اﻟﺴﺠني ﰲ
ﻇﻠﻤﺔ اﻷﺣﺸﺎء.
ﻣﺘﻨﻘﻼ ﺑني اﻟﺮواﺑﻲ واملﻨﺤﺪرات ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻤﺖ أﻳﺎم ﺳﻠﻤﻰ ﻟﺘﻠﺪ ً وﻛﺎن ﻧﻴﺴﺎن ﻗﺪ ﺟﺎء
ﺑﻜﺮﻫﺎ ،وﻛﺄن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ واﻓﻘﺘﻬﺎ وﻋﺎﻫﺪﺗﻬﺎ ،ﻓﺄﺧﺬت ﺗﻀﻊ ﺣﻤﻞ أزاﻫﺮﻫﺎ وﺗﻠﻒ ﺑﺄﻗﻤﻄﺔ
اﻟﺤﺮارة أﻃﻔﺎل اﻷﻋﺸﺎب واﻟﺮﻳﺎﺣني.
ﻣﻀﺖ ﺷﻬﻮر اﻻﻧﺘﻈﺎر وﺳﻠﻤﻰ ﺗﱰﻗﺐ اﻟﺨﻼص ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﱰﻗﺐ املﺴﺎﻓﺮ ﻃﻠﻮع ﻛﻮﻛﺐ
اﻟﺼﺒﺎح ،وﺗﻨﻈﺮ إﱃ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻦ وراء دﻣﻮﻋﻬﺎ ،ﻓﱰاه ﻣﺸﻌﺸﻌً ﺎ ،وﻗﺪ ﻃﺎملﺎ ﻇﻬﺮت اﻷﺷﻴﺎء
اﻟﻘﺎﺗﻤﺔ ﻣﺘﻠﻤﻌﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺪﻣﻮع.
ﻓﻔﻲ ﻟﻴﻠﺔ وﻗﺪ ﻃﺎﻓﺖ أﺷﺒﺎح اﻟﻈﻼم ﺑني ﺗﻠﻚ املﻨﺎزل ﰲ رأس ﺑريوت ،اﻧﻄﺮﺣﺖ ﺳﻠﻤﻰ
ﻋﲆ ﻣﻀﺠﻊ املﺨﺎض واﻷوﺟﺎع ،ﻓﺎﻧﺘﺼﺐ املﻮت واﻟﺤﻴﺎة ﻳﺘﺼﺎرﻋﺎن ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻓﺮاﺷﻬﺎ ،ووﻗﻒ
ﺿﻴﻔﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ،وﺳﻜﻨﺖ ﺣﺮﻛﺔ ﻋﺎﺑﺮي اﻟﻄﺮﻳﻖ ً اﻟﻄﺒﻴﺐ واﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻴﻘﺪﻣﺎ إﱃ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ
واﻧﺨﻔﻀﺖ ﻧﻐﻤﺔ أﻣﻮاج اﻟﺒﺤﺮ ،وﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﺴﻤﻊ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺤﻲ ﺳﻮى ﴏاخ ﻫﺎﺋﻞ ﻳﺘﺼﺎﻋﺪ
ﻣﻦ ﻧﻮاﻓﺬ ﻣﻨﺰل ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻏﺎﻟﺐ … ﴏاخ اﻧﻔﺼﺎل اﻟﺤﻴﺎة ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة … ﴏاخ ﻣﺤﺒﺔ
اﻟﺒﻘﺎء ﰲ ﻓﻀﺎء اﻟﻼﳾء واﻟﻌﺪم … ﴏاخ ﻗﻮة اﻹﻧﺴﺎن املﺤﺪودة أﻣﺎم ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﻘﻮى ﻏري
املﺘﻨﺎﻫﻴﺔ … ﴏاخ ﺳﻠﻤﻰ اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ املﻨﻄﺮﺣﺔ ﺗﺤﺖ أﻗﺪام ﺟﺒﺎرﻳﻦ :املﻮت واﻟﺤﻴﺎة.
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻح اﻟﻔﺠﺮ وﻟﺪت ﺳﻠﻤﻰ اﺑﻨًﺎ ،وملﺎ ﺳﻤﻌﺖ إﻫﻼﻟﻪ ﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ املﻐﻠﻘﺘني ﺑﺎﻷﻟﻢ،
وﻧﻈﺮت ﺣﻮاﻟﻴﻬﺎ ،ﻓﺮأت اﻷوﺟﻪ ﻣﺘﻬﻠﻠﺔ ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺮﻓﺔ … وملﺎ ﻧﻈﺮت ﺛﺎﻧﻴﺔ رأت
اﻟﺤﻴﺎة واملﻮت ﻣﺎ زاﻻ ﻳﺘﺼﺎرﻋﺎن ﺑﻘﺮب ﻣﻀﺠﻌﻬﺎ ،ﻓﻌﺎدت وأﻏﻤﻀﺖ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ وﴏﺧﺖ ﻷول
ﻣﺮة :ﻳﺎ وﻟﺪي.
62
املﻨﻘﺬ
وﻟﻔﺖ اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ اﻟﻄﻔﻞ ﺑﺎﻷﻗﻤﻄﺔ ووﺿﻌﺘﻪ ﺣﺬاء أﻣﻪ ،أﻣﺎ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻓﻈﻞ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻌﻴﻨني ّ
ﺣﺰﻳﻨﺘني ﻧﺤﻮ ﺳﻠﻤﻰ وﻳﻬﺰ رأﺳﻪ ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﺑني اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ واﻷﺧﺮى.
وأﻳﻘﻈﺖ ﻧﻐﻤﺔ اﻟﻔﺮح ﺑﻌﺾ اﻟﺠريان ﻓﺠﺎؤوا ﺑﻤﻼﺑﺲ اﻟﻨﻮم ﻟﻴﻬﻨﺌﻮا اﻟﻮاﻟﺪ ﺑﻮﻟﺪه .أﻣﺎ
اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻓﺒﻘﻲ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻌﻴﻨني ﻛﺌﻴﺒﺘني ﻧﺤﻮ اﻟﻮاﻟﺪة وﻃﻔﻠﻬﺎ.
وأﴎع اﻟﺨﺪم ﻧﺤﻮ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻟﻴﺒﴩوه ﺑﻘﺪوم ورﻳﺜﻪ وﻳﻤﻠﺌﻮا أﻳﺪﻳﻬﻢ ﻣﻦ ﻋﻄﺎﻳﺎه.
أﻣﺎ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻓﻠﺒﺚ ً
واﻗﻔﺎ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻌﻴﻨني ﻳﺎﺋﺴﺘني إﱃ ﺳﻠﻤﻰ واﺑﻨﻬﺎ.
وملﺎ ﻃﻠﻌﺖ اﻟﺸﻤﺲ ﻗﺮﺑﺖ ﺳﻠﻤﻰ وﻟﺪﻫﺎ ﻣﻦ ﺛﺪﻳﻬﺎ ﻓﻔﺘﺢ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻷول ﻣﺮة وﻧﻈﺮ ﰲ
ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ واﺧﺘﻠﺞ وأﻏﻤﻀﻬﺎ ﻵﺧﺮ ﻣﺮة ،ﻓﺪﻧﺎ اﻟﻄﺒﻴﺐ وأﺧﺬه ﻣﻦ ﺑني ذراﻋﻴﻬﺎ ،واﻧﺴﻜﺒﺖ ﻋﲆ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻮ زاﺋﺮ راﺣﻞ!وﺟﻨﺘﻴﻪ دﻣﻌﺘﺎن ﻛﺒريﺗﺎن ﺛﻢ ﻫﻤﺲ ﰲ ﴎه ً
ﻣﺎت اﻟﻄﻔﻞ وﺳﻜﺎن اﻟﺤﻲ ﻳﻔﺮﺣﻮن ﻣﻊ اﻟﻮاﻟﺪ ﰲ اﻟﻘﺎﻋﺔ اﻟﻜﱪى وﻳﴩﺑﻮن ﻧﺨﺒﻪ
ﻃﻮﻳﻼ ،وﺳﻠﻤﻰ املﺴﻜﻴﻨﺔ ﺗﺤﺪق إﱃ اﻟﻄﺒﻴﺐ وﺗﴫخ ﻗﺎﺋﻠﺔ :أﻋﻄﻨﻲ وﻟﺪي ﻷﺿﻤﻪ، ً ﻟﻴﻌﻴﺶ
ﺛﻢ ﺗﺤﺪق ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻓﱰى املﻮت واﻟﺤﻴﺎة ﻳﺘﺼﺎرﻋﺎن ﺑﺠﺎﻧﺐ ﴎﻳﺮﻫﺎ.
ﻣﺎت اﻟﻄﻔﻞ ورﻧﺎت اﻟﻜﺆوس ﺗﻨﻤﻮ وﺗﺘﻜﺎﺛﺮ ﺑني أﻳﺪي اﻟﻔﺮﺣني ﺑﻤﺠﻴﺌﻪ.
وُﻟﺪ ﻣﻊ اﻟﻔﺠﺮ ،وﻣﺎت ﻋﻨﺪ ﻃﻠﻮع اﻟﺸﻤﺲ ،ﻓﺄي ﺑﴩي ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻘﻴﺲ اﻟﺰﻣﻦ
ﻟﻴﺨﱪﻧﺎ ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤ ّﺮ ﺑني ﻣﺠﻲء اﻟﻔﺠﺮ وﻃﻠﻮع اﻟﺸﻤﺲ ﻫﻲ أﻗﴫ ﻣﻦ
اﻟﺪﻫﺮ اﻟﺬي ﻳﻤﺮ ﺑني ﻇﻬﻮر اﻷﻣﻢ وﺗﻮارﻳﻬﺎ؟
وﻟﺪ ﻛﺎﻟﻔﻜﺮ ،وﻣﺎت ﻛﺎﻟﺘﻨﻬّ ﺪة ،واﺧﺘﻔﻰ ﻛﺎﻟﻈﻞ ،ﻓﺄذاق ﺳﻠﻤﻰ ﻛﺮاﻣﺔ ﻃﻌﻢ اﻷﻣﻮﻣﺔ،
وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ َ
ﻳﺒﻖ ﻟﻴﺴﻌﺪﻫﺎ وﻳﺰﻳﻞ ﻳﺪ املﻮت ﻋﻦ ﻗﻠﺒﻬﺎ.
ﺣﻴﺎة ﻗﺼرية اﺑﺘﺪأت ﺑﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﻠﻴﻞ واﻧﻘﻀﺖ ﺑﺎﺑﺘﺪاء اﻟﻨﻬﺎر ،ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻣﺜﻞ ﻗﻄﺮة اﻟﻨﺪى
اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻜﺒﻬﺎ أﺟﻔﺎن اﻟﻈﻼم ﺛﻢ ﺗﺠﻔﻔﻬﺎ ﻣﻼﻣﺲ اﻟﻨﻮر.
ﻛﻠﻤﺔ ﻟﻔﻈﺘﻬﺎ اﻟﻨﻮاﻣﻴﺲ اﻷزﻟﻴﺔ ،ﺛﻢ ﻧﺪﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ وأﻋﺎدﺗﻬﺎ إﱃ ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻷﺑﺪﻳﺔ …
ﻟﺆﻟﺆة ﻗﺬﻓﻬﺎ املﺪ إﱃ اﻟﺸﺎﻃﺊ ﺛﻢ ﺟﺮﻓﻬﺎ اﻟﺠ ْﺰر إﱃ اﻷﻋﻤﺎق …
زﻧﺒﻘﺔ ﻣﺎ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻣﻦ أﻛﻤﺎم اﻟﺤﻴﺎة ﺣﺘﻰ اﻧﺴﺤﻘﺖ ﺗﺤﺖ أﻗﺪام املﻮت …
ﺿﻴﻒ ﻋﺰﻳﺰ ﺗﺮﻗﺒﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻗﺪوﻣﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﺎ ﺣﻞ ﺣﺘﻰ ارﺗﺤﻞ ،وﻣﺎ ﻓﺘﺢ ﻣﴫاﻋﻲ
اﻟﺒﺎب ﺣﺘﻰ اﺧﺘﻔﻰ.
ﻃﻔﻼ ﺣﺘﻰ ﺻﺎر ﺗﺮاﺑًﺎ … وﻫﺬه ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻞ ﺣﻴﺎة اﻟﺸﻌﻮب ،ﺑﻞ ﺟﻨني ﻣﺎ ﺻﺎر ً
ﺣﻴﺎة اﻟﺸﻤﻮس واﻷﻗﻤﺎر واﻟﻜﻮاﻛﺐ … وﺣﻮﱠﻟﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﻄﺒﻴﺐ ،وﺗﻨﻬﺪت ﺑﺸﻮق
ﺟﺎرح ﺛﻢ ﴏﺧﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :أﻋﻄﻨﻲ اﺑﻨﻲ ﻷﺿﻤﻪ ﺑﺬراﻋﻲ … أﻋﻄﻨﻲ وﻟﺪي ﻷرﺿﻌﻪ …
63
اﻷﺟﻨﺤﺔ املﺘﻜﴪة
ﻓﻨﻜﺲ اﻟﻄﺒﻴﺐ رأﺳﻪ وﻗﺎل واﻟﻐﺼﺎت ﺗﺨﺮﺳﻪ :ﻗﺪ ﻣﺎت ﻃﻔﻠﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪﺗﻲ ﻓﺘﺠ ﱠﻠﺪي
وﺗﺼﱪي ﻟﻜﻲ ﺗﻌﻴﴚ ﺑﻌﺪه. ﱠ
ﻓﴫﺧﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﺑﺼﻮت ﻫﺎﺋﻞ ،ﺛﻢ ﺳﻜﺘﺖ ﻫﻨﻴﻬﺔ ،ﺛﻢ اﺑﺘﺴﻤﺖ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻓﺮح وﻣﴪة،
ﺛﻢ ﺗﻬﻠﻞ وﺟﻬﻬﺎ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻌﺮﻓﻪ وﻗﺎﻟﺖ ﺑﻬﺪوء :أﻋﻄﻨﻲ ﺟﺜﺔ وﻟﺪي …
ﻗﺮﺑﻪ ﻣﻨﻲ ﻣﻴﺘًﺎ.
ﻓﺤﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﺐ اﻟﻄﻔﻞ املﻴﺖ ووﺿﻌﻪ ﺑني ذراﻋﻴﻬﺎ ،ﻓﻀﻤﺘﻪ إﱃ ﺻﺪرﻫﺎ وﺣﻮﱠﻟﺖ وﺟﻬﻬﺎ
ﻧﺤﻮ اﻟﺤﺎﺋﻂ وﻗﺎﻟﺖ ﺗﺨﺎﻃﺒﻪ :ﻗﺪ ﺟﺌﺖ ﻟﺘﺄﺧﺬﻧﻲ ﻳﺎ وﻟﺪي .ﺟﺌﺖ ﻟﺘﺪﻟﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﺆدﻳﺔ
ﻓﴪ أﻣﺎﻣﻲ ﻟﻨﺬﻫﺐ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﻬﻒ املﻈﻠﻢ. إﱃ اﻟﺴﺎﺣﻞ .ﻫﺎ أﻧﺎ ذا ﻳﺎ وﻟﺪي ِ ْ
وﺑﻌﺪ دﻗﻴﻘﺔ دﺧﻠﺖ أﺷﻌﺔ اﻟﺸﻤﺲ ﻣﻦ ﺑني ﺳﺘﺎﺋﺮ اﻟﻨﺎﻓﺬة ،واﻧﺴﻜﺒﺖ ﻋﲆ ﺟﺴﺪﻳﻦ
ﻫﺎﻣﺪﻳﻦ ﻣﻨﻄﺮﺣني ﻋﲆ ﻣﻀﺠﻊ ﺗﺨﻔﺮه ﻫﻴﺒﺔ اﻷﻣﻮﻣﺔ وﺗﻈ ﱢﻠﻠﻪ أﺟﻨﺤﺔ املﻮت.
ﻓﺨﺮج اﻟﻄﺒﻴﺐ ﺑﺎﻛﻴًﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺮﻓﺔ ،وملﺎ ﺑﻠﻎ اﻟﻘﺎﻋﺔ اﻟﻜﱪى ﺗﺒﺪّﻟﺖ ﺗﻬﺎﻟﻴﻞ املﻬﻨﺌني
ﺑﺎﻟﴫاخ واﻟﻌﻮﻳﻞ .أﻣﺎ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻏﺎﻟﺐ ﻓﻠﻢ ﻳﴫخ وﻟﻢ ﻳﺘﻨﻬّ ﺪ وﻟﻢ ﻳﺬرف دﻣﻌﺔ وﻟﻢ ﻳﻔﻪ
ﻗﺎﺑﻀﺎ ﺑﻴﻤﻴﻨﻪ ﻋﲆ ﻛﺄس اﻟﴩاب. ً ﺑﻜﻠﻤﺔ ،ﺑﻞ ﻟﺒﺚ ﺟﺎﻣﺪًا ﻣﻨﺘﺼﺒًﺎ ﻛﺎﻟﺼﻨﻢ
ﻣﻮﳽ ﺑﺎملﺨﻤﻞ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ُﻛﻔﻨﺖ ﺳﻠﻤﻰ ﺑﺄﺛﻮاب ﻋﺮﺳﻬﺎ اﻟﺒﻴﻀﺎء ،وُوﺿﻌﺖ ﰲ ﺗﺎﺑﻮت ٍّ
اﻟﻨﺎﺻﻊ .أﻣﺎ ﻃﻔﻠﻬﺎ ﻓﻜﺎﻧﺖ أﻛﻔﺎﻧﻪ أﻗﻤﻄﺘﻪ وﺗﺎﺑﻮﺗﻪ ذراﻋﻲ أﻣﻪ وﻗﱪه ﺻﺪرﻫﺎ اﻟﻬﺎدئ.
ﺣﻤﻠﻮا اﻟﺠﺜﺘني ﰲ ﻧﻌﺶ واﺣﺪ ،وﻣﺸﻮا ﺑﺒﻂء ﻣﺘﻠﻒ ﻳﺸﺎﺑﻪ ﻃﺮﻗﺎت اﻟﻘﻠﻮب ﰲ ﺻﺪور
املﻨﺎزﻋني ،ﻓﺴﺎر املﺸﻴﱢﻌﻮن ِ ْ
وﴎت ﺑﻴﻨﻬﻢ ،وﻫﻢ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮﻧﻨﻲ وﻻ ﻳﺪرون ﻣﺎ ﺑﻲ.
ﻳﻨﻐﻤﻮن ﺑﻠﻐﻮا املﻘﱪة ﻓﺎﻧﺘﺼﺐ املﻄﺮان ﺑﻮﻟﺲ ﻏﺎﻟﺐ ﻳﺮﺗﻞ وﻳﻌﺰم ،ووﻗﻒ اﻟﻜﻬّ ﺎن ﺣﻮﻟﻪ ّ
وﻳﺴﺒﺤﻮن ،وﻋﲆ وﺟﻮﻫﻬﻢ اﻟﻜﺎﻟﺤﺔ ﻧﻘﺎب ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻮ واﻟﻐﻔﻮل.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬه أول ﻣﺮة رأﻳﺖ وملﺎ أﻧﺰﻟﻮا اﻟﺘﺎﺑﻮت إﱃ أﻋﻤﺎق اﻟﺤﻔﺮة ﻫﻤﺲ أﺣﺪ اﻟﻮاﻗﻔني ً
ﻓﻴﻬﺎ ﺟﺴﺪﻳﻦ ﻳﻀﻤﻬﻤﺎ ﺗﺎﺑﻮت واﺣﺪ …
وﻗﺎل آﺧﺮ :ﻛﺄن ﻃﻔﻠﻬﺎ ﻗﺪ ﺟﺎء ﻟﻴﺄﺧﺬﻫﺎ وﻳﻨﻘﺬﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻟﻢ زوﺟﻬﺎ وﻗﺴﺎوﺗﻪ.
وﻗﺎل آﺧﺮ :ﺗﺄﻣﻠﻮا ﺑﻮﺟﻪ ﻣﻨﺼﻮر ﺑﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻔﻀﺎء ﺑﻌﻴﻨني زﺟﺎﺟﻴﺘني ﻛﺄﻧﻪ ﻟﻢ
ﻳﻔﻘﺪ زوﺟﺘﻪ وﻃﻔﻠﻪ ﰲ ﻳﻮم واﺣﺪ.
وﻗﺎل آﺧﺮ :ﻏﺪًا ﻳﺰوﺟﻪ ﻋﻤﻪ املﻄﺮان ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻣﺮأة أﺧﺮى أوﻓﺮ ﺛﺮوة وأﻗﻮى ﺟﺴﻤً ﺎ.
وﻇﻞ اﻟﻜﻬﺎن ﻳﺮﺗﻠﻮن وﻳﺴﺒّﺤﻮن ﺣﺘﻰ ﻓﺮغ ﺣﻔﺎر اﻟﻘﺒﻮر ﻣﻦ ردم اﻟﺤﻔﺮة ،ﻓﺄﺧﺬ
املﺸﻴﻌﻮن إذ ذاك ﻳﻘﱰﺑﻮن واﺣﺪًا واﺣﺪًا ﻣﻦ املﻄﺮان واﺑﻦ أﺧﻴﻪ ،ﻳﺼﱪوﻧﻬﻤﺎ وﻳﺆاﺳﻮﻧﻬﻤﺎ
64
املﻨﻘﺬ
65