Professional Documents
Culture Documents
مقدمة المؤلف
5
كتب األدباء النجباء بل أظنها بخست حق الصداقة ولم تعطها قدرها
المأمول ،كل هذا زاد رغبتي اشتعاال في أن أكتب كتابا جامعا يجمع
شتات ما ورد في كل هذه األعمال السابقة مضيفا إليها خبراتي
وجدت كثي ار من
ُ الشخصية في هذا الموضوع وآرائي الخاصة التي
عرجت على علم النفس أجمع منه ما توصل
ُ السابقين أيدوني فيها ثم
إليه النفسيون األفذاذ في هذا الشأن ،كان كل هذا المجهود مضافا إليه
مذهبي ومنحاي ثمرته هذا البحث الجديد الموضوع الفريد التنظيم
والترتيب ليفتح بابا جديدا و يناقش قضية مهجورة ويبعث كن از دفينا أهال
عليه أهل المادة وأهل الدنيا تراب ماديتهم المقيتة حتى صارت الصداقة
! .......الحقيقية بمعناها الحقيقي شيئا عزي از في هذا الزمان
كلفني هذا المبحث زمنا طويال من البحث والتنقيب والتفكير والتحليل حتى
يصل إلى صورته النهائية ولكني لم أبخل عليه بوقتي وفكري لشدة
اهتمامي واعتزازي بهذا األمر مضافا إليها رغبتي الملحة في نشر المعنى
.الحقيقي للصداقة بين الناس
6
لقد أكثر الشعراء وأطال الحكماء في قضية األخوة والخّلة ولم أشأ أن
أذكر كل ما ورد في هذه القضية وال كل ما وقعت عليه عيناي في هذا
الشأن خصوصا األفكار المكررة التي يختلف أصحابها في انتقاء األلفاظ
ويتفقون في المعنى والمأرب ،وذلك االقتضاب كان خشية مني أن أطيل
وأسبب الملل للقارئ حتى صار البحث – وأخاله كذلك – مرّك از وإن بدا
عليه خالف ذلك ! فمسألة الصداقة مسألة ضخمة وواسعة وال يكفي لها
طرقت كل األبواب
ُ كتاب واحد إلعطائها حقها الكامل ،وال أدعي أنني
غت وسعي ولممت كل القضايا المتعلقة بهذا الموضوع ولكنني استفر ُ
ُ
وبذلت ما أستطيع من جهد ألوّفي الصداقة حقها الكامل غير منقوص
ُ
وأرحب بأي إضافات جديدة وأي تعليقات فريدة قد تزيد البحث إشراقا
...وجماال
إن هذا الكتاب بحث أدبي ديني نفسي ،سيجد فيه األديب مأربه ،ويعثر
وسيحصل منه الفيلسوف غايته ،هو بحث
ّ فيه المتدين على مطلبه ،
وفن ،ولعل هذا من
متعدد الشعب ألن موضوعهَ َب َح َثه أكثر من علم ّ
شرف الصداقة وعلو قدرها أن تنافس عليها أهل العلوم لمناقشتها
فجمعت شتات ما ورد في تيك العلوم ليكون هذا البحث دستو ار
ُ وبحثها
7
شامال لألصدقاء المحبين يرجعون إليه وقت الحاجة ويكون قاضيهم
....الذي يحتكمون إليه
إن هذا البحث لهو دعوة صادقة إلى العودة إلى التراث العربي األصيل
بفصاحته وبالغته بعيدا عما لحق بلغتنا من أشعار عامية مبتذلة وأشعار
فالتزمت جهدي
ُ حرة – كذا يزعمون ! – ما أنزل هللا بها من سلطان ،
نقل األشعار العربية الفريدة السهلة المأخذ ودرر الحكم من نثر األدباء
والكتاب والفالسفة غاديا ورائحا على الكتاب والسنة النبوية ولم أجد
حرجا في نقل بعض فصوص الحكمة من األمم السابقة ليكون بحثي
8
شامال وموضوعيا ال ينفك مستمسكا بلغتنا الفصيحة لغة القرآن ولغة
! ..سيد األنام ولغة أهل الجنان
إن هذا البحث شأنه شأن كل بحث يتناول األدب أو تغلب عليه النزعة
األدبية يحتاج في قراءته إلى تمهل القارئ وترويه ليتحقق التذوق األدبي
واإلمتاع الروحي المنشود الذي هو غرض أساسي ال ينفك عن اإلشباع
العقلي بمزيد من المعلومات والخبرات اإلنسانية التي تصقل العقل
وتوسع مدارك الفكر ،فال مجال لقراءة مثل هذه األعمال األدبية في
األوقات الضيقة أو لقرائتها من َقبل المتعجلين الذين يلتهمون الكتب
بغير تدبر وتأمل ،نصيحتي لمن يرجو الفائدة المأمولة من بحثي أن
يعيش في كل فصل من فصوله ويستشعر وقائعه وخطراته في حالة
تامين
..صفاء وهدوء ّ
أخي ار ..إن كثي ار ممن سوف يقرؤون بحثي ويطلعون على صنعتي
سوف يتهمونني بالخيالية و ( اليوتوبيا ) الحالمة أو أنني أبغي العيش
في دنيا غير دنيانا التي ال تستقيم فيها هذه األحالم والتوهمات على
زعمهم ،ولكنني ال أبالي بكثرة االتهامات مهما كثر منتحلوها ومتزعموها
بينته بالحجة العقلية المنطقية
فإنني على يقين من منحاي القويم الذي ُ
9
وعضضته بالشواهد النقلية ألبين إمكانية عيش هذه الفكرة أو على األقل
ُ
وجودها على هذه األرض في زمن ما من األزمان ،وإنني على يقين أن
فئة فاضلة سوف توافقني في آرائي وتشد أزري ،قد تكون فئة أقل من
سابقتها ولكن الكثرة لم تكن يوما من األيام شاهدا على صحة األفكار
! ..لكن الحجة القوية ..الحجة فحسب
..وباهلل التوفيق
10
تعريف الصداقة و مراتب العالقات اإلنسانية
الصديق ........
ما الصديق ؟.........
وما أدراك ما هو؟........
إنه كلمة فوق الكلم ،ومعنى فوق المعاني يعجز المرء العاقل العالم عن وصفه ،فما بالك والمرء البسيط المتواضع يتلعثم لسانه
وتعجز كلماته عن أن يحيط بهذه الكلمة العجيبة ........تلك الكلمة التي أطال الشعراء فيها واختلفوا ،وأطنب الحكماء فيها و
انقسموا ،سئل عنها الفالسفة فأجابوا ،وسئل عنها الحكماء فأفتوا ،أدلى فيها علماء النفس بدلوهم ،وشارك فيها علماء الشرع
برأيهم ،أصاب من أصاب وأخطأ من أخطأ ويبقى المعنى الحقيقي س ار مكنونا بين قلبين متحابين ،ولغ از مبهما للعاجزين عن
معناها المتحيرين في بلوغها ،افتقدها أقوام فظنوها خياال ،وفاز بها أقوام فعدوها سعادة الدنيا ،بحث عنها أقوام فأعياهم
المسير ،وزهد عنها أقوام و رضوا بوحشتهم ووحدتم فكان بئس المصير ،ووجدها أقوام فسعدوا ووجدها آخرون فشقوا و افتقدها
آخرون فهاموا ...فما سر تلك الكلمة ؟ وما حقيقتها ؟ وما أصلها ؟ وما اشتقاقها ؟
ال شك أن الصديق لفظ اشتق من ِ
الصدق فقد قال بذلك الكثير من أهل اللغة ،فالكذابون ال يكونون أصدقاء ..........
قال الراغب :الصداقة صدق االعتقاد في المودة وقال ابن منظور :صدق النصيحة واإلخاء
وقال ابن هالل العسكري :اتفاق الضمائر على المودة
وفصل أبوعامر النجدي فقال :الصديق من صدقك عن نفسه ليكون على نور من أمرك ويصدقك أيضا عنك لتكون على
مثله ألنكما تقتسمان أحوالكما باألخذ والعطاء في السراء والضراء والشدة والرخاء فليس لكما فرحة وال ترحة إال وأنتما
تحتاجان فيهما إلى الصدق واالنكماش والمساعدة على اجتالب الحظ في طلب المعاش.....................
الصدق ألنه يقال رمح َصدق أي ِ
و قيل لألندلسي مم أخذ لفظ الصديق ؟ قال أخذ من الصدق وهو خالف الكذب ومرة قال َ :
صلب وعلى الوجهين الصديق يصدق إذا قال ويكون َصدقا إذا عمل ............
وقال بعض المتفلسفين :إن الصديق ( صاد ) صدق و (دال ) دم واحد و (ياء ) يد واحدة و( قاف) قلب واحد !
والصديق له مرادفات فهو الخليل وقد ورد في القرآن في قوله تعالى ( و اتخذ هللا إبراهيم خليال ) والصديق هو كذلك الخدين
والخدن وهو الصفيّ والجمع أصفياء فقال ناصح الدين األرجاني :
ام إالّ َمع األصـ ـ ـ ـفياء ِ
َحرٌ يش
الع ُ
ص ّفيي من األخالّء و َ
يا َ
السجير و الجمع سجراء ،قال اللواح :
وهو كذلك َّ
ومما يالقي سجيري أالقـ ـي وإني لراض بحكم القضا
ديق بصيغة التصغير أخص األصدقاء. الص ّ
و ُ
وقال السيرافي :الصديق يكون واحدا و جمعا ومذك ار ومؤنثا وعقب المرواني فقال :هذا وهللا من شرف الصديق....
11
ْكلُوا ِمن بيوِت ُكم أَو بي ِ
وت ولفظ صديق ورد جمعا في المرة الوحيدة التي ذكر فيها في القرآن في قوله تعالى ( َوَال َعَلى أ َْنُف ِس ُك ْم أَ ْن تَأ ُ
ْ ُُ ْ ْ ُُ
َخوالِ ُكم أَو بي ِ
وت ِ ِ ِ وت أ ِ وت أَخو ِات ُكم أَو بي ِ
وت ِإ ْخو ِان ُكم أَو بي ِ
ُمه ِات ُكم أَو بي ِ ِ ِ
َع َمام ُك ْم أ َْو ُب ُيوت َع َّمات ُك ْم أ َْو ُب ُيوت أ ْ َ ْ ْ ُ ُ
ْ َ َ ْ ْ ُُ َ ْ ْ ُُ َآبائ ُك ْم أ َْو ُب ُيوت أ َّ َ ْ ْ ُُ
ص ِد ِيق ُك ْم ) أي :بيوت أصدقائكم. ِ خَِ
االت ُك ْم أ َْو َما َمَل ْكتُ ْم َمَفات َح ُه أ َْو َ َ
والعرب أحيانا يطلقون على الصديق ابن ّ
العم ،انظر لقول الشاعر :
خبيئته يوما لساءك غائ ـ ـ ــبه ورب ابن عم تدعيه و لو ترى
وإن كان ش ار فابن عمك صاحبه فإن يك خي ار فالبعيد ينال ـ ــه
هذا في وسط اللغويين و األدباء من الزمن الجميل ،أما علماء النفس المحدثين فمنهم إنجلش عرف الصداقة فقال :الصداقة
عالقة بين شخصين أو أكثر تتسم بالجاذبية المتبادلة المصحوبة بمشاعر وجدانية تخلو من الشهوة.
ومن كل ما سبق يمكن أن نستخلص تعريفا جامعا فنقول :الصداقة صدق متبادل في الحب واإلخاء بين شخصين له لوازمه
و أركانه .
إن ما قدمناه إنما هو تعريف وجيز كل اإليجاز في تعريف الصداقة و تفصيله سيأتي في صفحات بحثنا ،
ولما كنت الصداقة عالقة إنسانية اجتماعية وجب التفريق بينها وبين عالقات أخرى ظنها كثير من الواهمين صداقة واعتبرها
كثير من المخدوعين خّلة – وما أكثر الواهمين و المخدوعين! ،-فوجب التفصيل والتفريق وعلى كل منا أن يصنف عالقاته
مع من حوله في صنف من األصناف التالية الذكر بال تعصب أو تحيز............
ال بد للمرء أن يعلم أن الناس ثالثة أصناف في تعاملهم معه :
-1معارف و زمالء >>>>>> -2أصحاب أو قرناء >>>>>>> -3أصدقاء أو خدناء
وعلينا أن نعلم جيدا أن وجود األصناف الثالثة في حياتنا شيء ضروري الستمرار الحياة ،ولكن العيب كل العيب أن تقتصر
على النوع األول والثاني ونهمل أهمها وهو الثالث .
وال بد أن نعلم أن لكل نوع خصائصه تميزه عن اآلخر ،والمشكلة أن كثي ار من البائسين التعساء قد خلطوا بين كل منها فاختلت
موازين األخوة عندهم فصار النحاس والذهب لديهم سواء !!
ولعل أبا حامد الغزالي كان مقتضبا حين قسم الناس أصدقاء و معاريف ومجاهيل ،فال شك أن هناك حلقة بين األصدقاء و
المعاريف وهم األصحاب ،ولعل علماء النفس كانوا مفصلين منصفين حين قسموا الناس إلى صديق مقرب و صديق اجتماعي
و مشارك في النشاط و معارف ،فهو يؤدي نفس معنى تقسيمنا المذكور آنفا .
-2الصحبة :
الصاحب أو القرين وهو المرحلة التالية بعد الزمالة ؛ فالقرين كان زميال يوما ما ثم تحول إلى صاحب أو قرين ،وهو المالزم
لصاحبه الكثير االقتران به ،
وهنا ملحوظة أن الصحبة ال يشترط لها سابق زمالة فقد تكون لسبب آخر غير الزمالة مثل التعارف عن طريق وسيط آخر
ولكن هذا نادر فقلما وجدت صحبة بغير سابق زمالة....
13
وفي هذه المرحلة تحدث عدة تطورات ينبغي أال نخلط بينها وبين ما يحدث في الصداقة :
-كثرة المقابالت واالتصاالت والحوارات
-وجود قدر من التجاذب بين الطرفين
-عدم اقتصار العالقة على المصلحة االضط اررية
-الدراية األكبر عن أحوالك وظروفك ومعيشتك
-التوافق في بعض األمور
ومن هنا علمنا أن هذه األشياء ليست مؤش ار يدل على الصداقة وإنما مقدمات بين يدي الصداقة الحقيقية ؛ فليس كل من خرج
معك وشاركك فسحك وتنزهاتك بل ضحك معك ومازحك وكثرت مقابلته لك يكون صفيا لك تبث له أدق أسرارك وتشكو له
ويظن من ليس
ويكن لك حبا يمأل األرض ،وهنا تزل األقدام وتكثر التوهمات ُ
ألطف همومك ،يقيل عثرتك و يحمل همومك ّ
بصديق صديقا فالصداقة ميثاق غليظ و عقد رفيع من تعاقد عليه و وقع على شروطه كان أهال له ومن لم يوف شروطه فسمه
صاحبا أو سمه زميال أو سمه أي شيء آخر وال تدنس الصداقة بمن ليس من أهلها................
-3الصداقة :
وهي المنزلة الرفيعة والدرجة السامية التي ضل عنها جل الناس وعساهم أن يكونوا ُجال وإال فهم كلهم وإلى هللا المشتكى.
والصديق أو الخدين هو آخر المحطات بعد معارك طاحنة من أهوال الحياة ،يجدها المرء بين الناس في النهاية وهي منزلة
أسمى وأشرف لمعاني اإلنسانية من مجرد الصحبة الخالية من معاني القرب والعمق الوجداني.
ولكنها عقد وثيق وبناء له أركان من بناه مستكمال أركانه فهي الصداقة ومن نسي ركنا أو بناه فهدمه بطيشه وحماقته فليس من
حب وإيثار ،وبوح باألسرار ،مشاركة في الهموم وتقارب أفكار ،عتاب و تزاور
الصداقة في شيء فأركانها بكل إيجاز (( ٌ
وإحساس بمن تختار! ))
وهذا هو موضوع بحثنا وغاية أملنا ................
14
أركان الصداقة
-1الحب المتبادل
-2المشاركة في الهموم
– 3المشاركة و اإليثار
-4البوح باألسرار
-5تقارب الفكر
-6العتاب
-7التزاور
-8اإلحساس
15
-1الحب المتبادل
الحب .....................
كلمة ال يعرفها إال من جربها ،وال يجهلها إال من حرم منها ،فمتى يجربه المحرومون ويحافظ عليه المجربون ؟!
الحب بين الصديقين هو الركن األعظم لصداقتهما الذي متى افتقداه ضاعت صداقتهما بال رجعة ،
الحب هو الشيء الذي بدونه حياتنا ال طعم لها وال لون .........إن كنت ال تصدق فلتقع في الحب وأخبرني عن طعم الحياة
بعده ثم افقد هذا الحب وأخبرني عن مقدار الكآبة التي ستعيش فيها والفراغ الوجداني الذي لن يمأله إال حب مثل الحب الذي
ضاع .................
بالحب تشعر أن لك هدفا ساميا في الحياة يدفعك للعمل يكون وقودا محركا لقوتك وطاقتك ،بالحب تصبر على آالم الحياة
ومآسيها مادمت لك حبيب عندما ستلقاه ستلقي كل همومك خلف ظهرك فهو بلسمك الشافي عند البأس و منفرجك عند الضيق،
ما أعظمه من شرف حرم منه التعساء ونسي منه حظه الجهالء ...........ولكنه يحتاج إلى قيد عسير ,فنحن قلنا الحب
المتبادل فليس كافيا أن يكون الحب من طرف واحد فحسب ،ال بد أن يكون متبادال بين الطرفين و بنفس المقدار حتى تكون
صداقة حقيقية ،وبغير ذلك يختل الميزان وتسقط الصداقة بعد مشاكل جمة شديدة اآلثار على القلب ،وسوف نتحدث عن كل
ذلك فيما بعد ..............
16
في ظلمة الليل الداجية وإني إلى وجهك المستنير
الحمام :الموت مدنف :مريض ، لقاء ِ
الحمام إلى العافيــة ألشوق من مدنف خائف
فهو يشتاق إلى صديقه أكثر من شوق العليل إلى برئه من علته فصديقه بلسمه الشافي ودواؤه الناجع المريح لقلبه
أليقنت أني في ودادك مخلص وبي برح شوق لو بثثتك كنهه
ال تأس :ال تيأس إلى برد أيام بقربك يخلص وال تأس من روح اجتماع يضمنا
والصديق الينسى صديقه تلك حقيقة ،فالغياب عن العين يعوضه الحضور في القلب ،وعند الفراق تنهمر الدموع دموع األسى
والحزن
وأهل ودي جميعا غير أشتـ ـ ـ ـ ـات قد كنت أبكي على ما فات من سلفي
النوى :الفراق نوى بكيت على أهل الم ـ ـ ـ ـودات
ً فاليوم إذا فرقت بيني وبينـ ـ ـ ـ ــهم
وجوى عليك تضيق عنه األضلع وقال آخر :شوقا إليك تفيض منه األدمع
وأبو الصوفي له قصيدة طويلة يصف فيها فراقه لصديقه وحبيبه وأثر ذلك على قلبه فبعد أن قال في مطلعها :
الصبا :نوع واسم من أسماء الرياح الص ـبا
ف تهاداه َّ ِ ِ
فكأنه َس َع ٌ صـ ـبا
قلب لتَ ْذكار األحبَّة َق ْد َ
ٌ
أرج :نبات طيب الرائحة صده ريح الص ـدود تَ ُّ
نكبا وتَ ُّ اصل نفحةٌتُْدنيه من أرج التو ِ
َ
جوى :داء وغصة في الحلق تلهف متقلبا وبين جوى وبين ٍ هدى وبين ن ـ ـوى فيظل بين ً
فبعد التحير الذي أصابه من تبدل أحواله مع صديقه من صدود بعد طول تواصل لم تجد عيناه إال الدموع لتطفئ لهيب الشوق
لهـ ـ ــُّبا صَلى بنير ِ
ان الفراق َت ّ تَ ْ وم ْه َجت ــِي
لج ْريان الدموع ُ َع َجباً َ
نضب ـ ـا ِ َّ
لتنض َح والدموعُ لتَ ُ
َهذي َ بالح ـ ـ ـ ـ ـشا
كلتاهما نار تَوق ُد َ
الدمع من نار الفـ ـ ـراقِ تصبَّبا لنار الشو ِق ي ِ فاعجب ِ
و ُ ذكيها البكا ُ ْ
فبعد أن ظن الدموع دواء لدائه الذي ألم به من فراق حبيبه إذا الدموع تذكي أي :تشعل نار الشوق في قلبه فكانت مزيدا من
اللهيب بدال من تطفئها..................
فياله من شوق ويا لها من حيرة ...........................
◄ولكن افتراق األبدان ال يعني افتراق األرواح فإن غاب صديقي عني فإنه لم يغب عن قلبي
كتب ابن السراج إلى ابن الحارث الرازي :كتبت إليك من محل قد ابتهج بودك وانزعج بصدك يناديك أال إن القلب قد تألم
لمفارقتك فمتى يلم الشعث بمشاهدتك ؟؟
فأجابه :كال ،وإن امتزج فرح االتصال بترح االنفصال فما ضر مباعدة األشباح مع مساعدة األرواح ...........
أراك بالغيب وإن لم ترني إني و إن لم ترني كأنني وكما قال رؤبة بن العجاج
فصورته ال تغيب عن خياله فهي مطبوعة في قلبه الصقة في ذهنه ،وهل ينسى اإلنسان نفسه ويسهو عن ذاته ؟؟ نعم ربما
يحدث ذلك ولكن الصديق المحب ال يسهو عن حبيبه وإن سها عن نفسه !!
17
لما غبت عن فكري وعن ناظر القلب لئن غبت عن عيني بالبعد والنوى قال علي بن هارون
كما تبصر العينان من ــي على القرب أراك على بعد المسافة والن ـ ــوى
ومنهم من شوقه لحبيبه يذكره بمحاسنه ومآثره في سره وعالنيته فيزداد شوقه كما كتب أبو الحوراء إلى صديقه :هللا يعلم أنك ما
وضنا بك واغتباطا بإخائك ......
ّ خطرت ببالي في وقت من األوقات إال مّثل الذكر منك إلى محاسن تزيدني صبابة إليك
ّ
وقد استغرق بعض األصدقاء المحبين في هذا الشوق حتى أصابهم ذهول الحيرة والتردد بين حقيقة الغياب الحسي وحقيقة
الحضور القلبي
وأسأل عنهم من لقيت وهم معي ومن عجبي أني أحن إلـ ـيهم
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضل ـعي وتطلبهم عيني وهم في سوادها
إذ أنت فيه مكان السر لم ِ
تغب غبت فقلبي ال يصدقنـ ــني
قلت َ
إن ُ وقال متيم آخر :
الطرف : غبت قال الطرف ذا كذب فقد تحيرت بين الصدق والكذب قلت ما َ
وإن ُ
العين
18
غبا تزدد حبا – أي زر يوما واترك يوما – إلى أن سمعتها من
قال أبو هريرة رضي هللا عنه :لقد دارت كلمة العرب :زر ّ
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنه اقتبس الشاعر فقال :
تقلى :تبغض غبا
وإن شئت أن تزداد حبا فزر ّ إن شئت أن تُقلى فزر متوات ار
◄ هذا وإن هنالك نفوسا مريضة ليست كطبائع البشر الطيبين الذين يزدادون حبا ألصدقائهم بالفراق ،فالفراق عندهم ال يولد
االشتياق وإنما يولد النسيان واإلهمال فصديقه صديق اللحظة ،إن غاب عن عينه غاب عن قلبه وكأن عينه هي أداة الحب
حين يحدث الغياب يحدث النسيان فعينه ال ذاكرة لديها ،هو إنسان واقعي من وجهة نظره !! ..يقول لماذا أتعلق بمن أفارقه
سنين طويلة؟! فالحاضر أبقى عندي من الغائب !! ،وهذا الصنف ال وفاء له تتحطم الصداقة عند االرتباط بمثله ،لذلك قال
ذلك الصديق المفارق لصديقه :
طول البعاد وال ضرب من الملل أغيب عنكم بود ال يغ ـ ـ ـيره
وأكد على ذلك أحد الشعراء في فراق صديقه حتى ال تنأى به الظنون فقد استدرك صديقه لئال يظن أنه من ذلك الصنف
خالصتي : ومحض ودي وعهدي كالذي كانا بعدت عنكم بداري دون خالصتي فقال ابن المنجم :
مودتي
إال هموما أعاينها و أح ازنـ ـ ــا تبدلت مذ فارقت قرب ـ ــكم
ُ وما
وليس أحبابه لل ـ ـ ــدار جيرانا وهل يسر بسكنى داره أحـ ـ ــد
أني وإن كنت ال ألقاه ألقاه وكما قال اآلخر :أبلغ أخانا تولى هللا صحبته
وإن تباعد عن سكناي سكناه وأن طرفي موص ـول برؤيته
وكيف أذكره إذ لست أنساه
لست أذكره
يا ليت يعلم أني ُ
فكال الشاعرين تدارك صاحبه من الشك الذي وقع في قلب واحد آخر فأراد توضيح المفهومات لصديقه فيقول :
مخسسا لنصيـ ــبي ال تجعلن بعد داري
إلى الفؤاد قري ــب فرب شخص بعيد
إليك غير حبيــب ورب شخص قريب
ما كان بين القلوب ما البعد والقرب إال
حقا وهللا ما البعد والقرب إال ما كان بين القلوب وماذا يفعل اللقاء ألنفس متنافرة فرق هللا بين قلوبها فال ينفعها جمع بل يزيدها
نفو ار وملال ،وإن كانت نفس واحدة تمّلكها الحب واالشتياق تجاه نفس باردة ال تحس بالمشتاق إليها كان الصدام الحتمي
والحطام األكيد للصداقة على صخرة المالل والجفاء .....................
وفي نهاية الحديث عن الشوق أختم بكالم أبي منصور الثعالبي عن الشوق والحنين إلى الصديق :
صبر،
ضري ،شوقي إليك ال ُيعدى عليه ٌ ونديم فكري ،شوقي إليك زادي في َسفري ،وعتادي في َح َ ◄الشوق إليك َسهير ذكريَ ،
يكاد يكون لِزاماً ،وحنين ُي ُّ
عد َغراماً ،الشوق إليك أمامي وورائي ،وحشو ثوبي وردائي ،شو ٌق ال يفيق صدر ،شو ٌق ُ
ٌ وال َيستقل به
وج َنح جوانحي ،شو ٌق براني َبري
يم ،وحنين ال ينام وال ينيم ،شو ٌق َج َرح جوارحيَ ، ق
مقيمه ،شو مقيم ال َير ُ
ُ سقيمه ،وال يرحل
19
ِ ِ ِ
الصبابة ملء ُجفوني ،شوقي وماء
ضلوعيُ ، نار الشوق َحشو ُ
ويقض المهادُ ،
ُ حق الهالل َشو ٌق يفض الفؤ َاد،
الخالل ،ومحقني َم َ
الغ ِ
وث ،عندي شو ٌق لو قسم على أهل األرض لما كان فيهم إال متيم ولم ير فيهم الغيث ،والملهوف إلى َِ إليك شوق َّ
الرْوض إلى
إال مغرم شوق يهك الحياء ويمري من العين الماء ..................
ٍ حال ذاوي َن ْب ٍت أمسك َم َ ِ حال ُغ ٍ
ط ُرهُ ،وساري ليل غاب ُ
قمره ،قد صن ذوى بعد ارتوائه ،ونج ٍم هوى عند اعتالئه ،ما ُ حالي َب ْع َد َك ُ
ِ
الوجد، وم َع قليل البعد ،كثرة ِ ِ ِ
تحملت مع يسير الفرقة عظيم الحرَقةَ ، ُ عدك قد
عدك أقاسي ُب َ اشتياقك ،وغادرني َب َ تركني ف ارُقك ،قتيل
استصح ْب َت من نفسي فريقاً ،وال سرت ِميالً حتى
َ تصح ْب َت فريقاً من قلبي ما فارقتك بعيداً ،حتى
اس َ جميع صبري ،و ْ َ فارقتني ففرقت
األجل ،لخرجت روحي على ِ الس ِ
هاد ،لوال حصان ُة وجمعت بين عيني و ُّ قت بين جنبي والمها ِد،
َ سرت بقلبي جميعاً ،فارقتَني ففر َ
ِ
بوداعك ودعت ادع َك العافية ،والعيشة الراضية، عجل ودعتني فأودعتني شوقاً يجور حكمه ،وقلقاً ينف ُذ سهمه ،قد ودعت بو ِ
ُ ََ َ ُُْ ُ ََ َّ
كنت أستمتع بها ،وحياتي التي كنت أنتفع بعوائد ِّ
الن َعم فيها نياي التي ُ
ِ
دعت يوم وداع َك ُد َ
الس َعةَ ،و ُ الدعة ،وفارقت بفرِاق َك َّ
الرْو َح و ّ ّ
......
أعان هللا على ِ َّ ِ ّللا لاللتقاء فما أر َّق
ّللا أن ينتقم من أيام الوداعَ ،برّد أيام االستمتاع باالجتماعَ ، يم ُه ،أسأل ّ نسيمهَ ،وألذ َنع َ
َ أعادنا ّ
َ
حرس َّ
مودتك، وي ُوّللا يطيل مدتكَ ، ّللاُ شمل ُسروري ِب َكَ ،
وع ُم َر عمري بالنظر إليكّ ، جمع َّ
الغيبةَ ، تعجيل األ َْوبة ،وتخفيف أيام َ
جعل ّللا باقي عيشي معك ،وأهَلني للنظر إلى ِ
ألالء ُغ ّرِت َك............... ََ َ َ ّ
ِ ذكرت الشو َق فهيجت ما ِ شكوت َّ
األطيار يد
يهيجه تغر ُ
ُ ُ صدري، صفه من صحيفة َ أت َو َالش ْو َق فكأنما ًعّبرت عن َقلبي ،وقر ُ ُ
وجع ٍ الديار ،أما شكوى الشوق فقد شكوت إلى ٍ
صفك
باك ،أما َو ُ وتوجعت إلى ُمتَ ِّ
شاكَّ ، ِ باألسحار ،والوقوف َب ْع َد األحباب على
طرياً ،وورداً جنياًِ ،
أحمل الشوق فهو عبارة عن أحشائي لو
إهداء السالم أهدي السالم غضاً َ ّ َ َُ قت
ص َد ْ نطقت ،وتعبير ُرؤياي لو َ ْ
شائق ومشوق،
ِ الصباِ ،فنعم السفير بين
نسيم َّ
استودعته َ
ُ ٍ
ومحبوب ،و تردَدت بين ُم ِح ِّب ِ
الشمال ،وطالما َّ أنفاس
سالمي عليه َ
.وسالم .............ا.هـ
إن ذلك الحب لهو أحد مقاصد شرع هللا في عالقة المؤمنين مع بعضهم ،ولم ال وقد حكى هللا حال المؤمنين فقال قاص ار ((
إنما المؤمنون إخوة )) فإذا كان هذا هو حال المؤمنين جميعا فما بالك بمن اصطفيناه من دون الناس جميعا ليكون الصديق
المقرب والخدن المحبب ،ال شك سيكون أقرب من األخ واألب والناس جميعا ولنا مع هذا األمر مبحث خاص قريبا.......
أال و إن رسول دين المحبة دين اإلسالم ماترك لنا وسيلة تؤدي إلى هذا المقصود العظيم إال دلنا عليها فقال ( أال أدلكم على
شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السالم بينكم ) وقال كذلك ( تهادوا تحابوا )
◄وال أدل على ذلك أكثر من أن دين اإلسالم قد فضل الذي يحب أخاه أكثر من حب أخيه له !!وما ذلك إال ليتسارع
المتحابون ويزدادوا حبا وائتالفا ،قال – صلى هللا عليه وسلم – ( :ما تحاب أخوان في هللا إال كان أفضلهما أشدهما حبا
لصاحبه ) ....
20
بل ندب رسولنا الكريم عليه صلوات هللا وسالمه أن يبوح المرء بحبه ألخيه إذا وجده في قلبه ،بل لم يكتف بذلك فجعل جزاء
هذا البوح أن يقول له أخوه عندما يعلم أنه يحبه :أحبك الذي أحببتني له !! وهل هناك جزاء خير من أن يحب حبيبك هللاُ عز
وجل ؟! ،قال هللا في الحديث القدسي ( :وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في )
فنعمت الجائزة أن يحبك هللا جزاء حبك للمؤمنين الصالحين..................
◄بل جعل جزاء المتحابين فيه أن يظلهم في ظله يوم ال ظل إال ظله من السبعة المشهورين !! بل يسأل هللا عنهم يوم القيامة
سؤال تشريف (:أين المتحابون بجاللي اليوم أظلهم في ظلي يوم ال ظل إال ظلي ) بل جعل المتحابين فيه على منابر من نور
يوم القيامة ،
وما أحلى أن يكون رفيقك وحبيبك في الدنيا رفيقك يوم القيامة في ظل الرحمن على منبر من نور بل تكونان في نفس الدرجة
والمنزلة في الجنة وإن تفاوتت أعمالكما فبحبك لصديقك العابد التقي تشاركه منزلته في الجنة ال لشيء إال حبك المخلص
الصادق له !!!!!!! لذا يلحق بهم فقال لهم مقولته الشهيرة :المرء مع من أحب ...............
◄بل جعل اإلسالم الحب الصادق عالمة من عالمات اإليمان ،قال صلى هللا عليه وسلم (:من سره أن يجد حالوة اإليمان
فليحب المرء ال يحبه إال هلل ) .
بل جعل ذلك أعظم شعب اإليمان ( ود المؤمن للمؤمن في هللا أعظم شعب اإليمان أال ومن أحب في هللا وأبغض في هللا
وأعطى في هللا ومنع في هللا فهو من أصفياء هللا )
بل جعل الصالحون حبهم شفاعة لهم عند هللا سبحانه وتعالى فقال ابن سماك عند موته ( :اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك
كنت أحب من يطيعك فاجعل ذلك قربة لي إليك !)
بل األعظم من كل هذا أن يغبطك أسياد البشر يوم القيامة !! يقول رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم« :-إن من عباد هللا ألناساً
ما هم بأنبياء وال شهداء يغبطهم األنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من هللا تعالى» قالوا :يا رسول هللا تخبرنا من هم .قال:
«هم قوم تحابوا بروح هللا بينهم ،على غير أرحام بينهم ،وال أموال يتعاطونها ،وهللا إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ال يخافون
إذا خاف الناس ،وال يحزنون إذا حزن الناس»
وليس ذلك بالعجيب فكلما التقى الصديقان الحبيبان انتثرت ذنوبهما وهما ال يشعران فيأتيان يوم القيامة بال ذنوب يقول -صلى
هللا عليه وسلم« :-إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ،فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في
يوم ريح عاصف وإال غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار» ..
فما أعظمه من شرف حرم منه التعساء ونسي حظه منه الجهالء !
إن من العوامل المشتركة في جميع الديانات سواء أكانت سماوية األصل أو وضعية بشرية – نشر المحبة بين أبناء هذا الدين
فالحب يجعل بناء األمة متماسكا مترابطا فيصعب اختراقه أو شقه ويصير من المحال اجتثاثه أوهدمه ،ولما كان حديثنا عن
21
الصداقة التي هي من أعظم صور المحبة كان لزاما علينا استعراض صور الحض على الحب في الديانات األخرى لنرى
الصورة المثالية التي تراها األديان في العالقة المجتمعية .
فإذا أخذنا المسيحية مثاال نجد أن العهد الجديد لخص مسألة الحب في كلمة ( هللا محبة ) ليبين مدى طلب السماء النتشار
ضا َك َما
ض ُك ْم َب ْع ً
يكمْ أ ْ ِ
َن تُحُّبوا َب ْع ُ ُع ِط ُ ِ ِ
الحب بين البشر ونجد في يوحنا مثال على لسان عيسى عليه السالم ( َوصَّي ًة َجد َيدةً أ ََنا أ ْ
َخ ِوَّيةُ َفالَ َح َ
اج َة يع أََّن ُك ْم تَالَ ِم ِيذي ) وفي تسالونيكي ( َوأ َّ
َما اْل َم َحَّبةُ األ َ
ِ
ضا ِبه َذا َي ْع ِر ُ
ف اْل َجم ُ ض ُك ْم َب ْع ً
ضا َب ْع ُ
ِ
َح َب ْبتُ ُك ْم أََنا تُحبُّو َن أ َْنتُ ْم أ َْي ً
أْ
ضا ) بل بالغ اإلنجيل في مسألة نشر المحبة حتى َن أَ ْكتُب ِإَلي ُكم ع ْنها ألََّن ُكم أ َْنُفس ُكم متَعّلِمو َن ِمن هللاِ أ ْ ِ
ض ُك ْم َب ْع ً
َن ُيح َّب َب ْع ُ َ ْ َ ْ َُ ُ َ ْ ْ َ َ َل ُك ْم أ ْ
قال على لسان عيسى ( أحبوا أعداءكم ) ولعله قصد بذلك حب الخير لهم بتبليغهم الدعوة حتى تكتب لهم النجاة من الهالك
.....
وإذا رجعنا لليهودية وجدنا العهد القديم تحدث عن الحب كثي ار ففي سفر األمثال ( البغضة تهيج الخصومات والمحبة تستر كل
العيوب)وفيه أيضا ( أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة )
ومحبة داوود ليوناثان قصة مشهورة في العهد القديم غنية عن التعريف وكذا صداقة النبي اليشع والنبي إيليا و صداقة راعوث
ونعمى ...
أما البوذيون فيسمون دينهم دين الحب ويقولون عن الحب إنه الوسيلة المنشودة لتغذية الحرية الروحية !
وإذا نظرنا للكونفوشيوسية نجد كونفوشيوس نفسه يقول :إن القلب الذي يعمر بالحب ال يخطئ ،وهو شبيه بمقالة أرسطو :إذا
عم الحب فال حاجة للعدل !
أما الديانات القديمة فنجدها قدست الحب لدرجة أنها جعلت للحب إلها خاصا فاليونانيون لهم إله الحب أفروديت ،أما اإلغريق
فإله الحب عندهم كيوبيد أما الرومان فعندهم آلهة الحب والجمال فينوس ،وأما الفراعنة فعندهم قادش آلهة الحب ،أما الهندوس
فلهم كريشنا وفي هذه الديانات كلها الحب شبه مقصور على الحب بين الرجل والمرأة وهم وإن لم يفردوا للصديق إلها كان
للحب عموما منزلة خاصة عندهم.........
وبهذا نكون قد استعرضنا استعراضا سريعا الحب بين الصديقين في اإلسالم وأتبعناه بذكر الحب في الديانات األخرى ليعلم
الجميع منزلة ذلك الشعور الفطري الجميل الذي اعتزت به كل األمم في أدبياتها وأنزلته منزلة خاصة ..........
فما أعظم الحب من شعور حرم منه التعيسون ونسي حظه منه الجاهلون !!
لماذا تحب فالنا ؟؟ ولماذا اخترته صديقا ؟؟ ولماذا لم تحب فالنا اآلخر األكثر منه صالحا ؟؟ لماذا اخترق حبه قلبك من أول
يوم رأيته فيه ؟ ولماذا بادلك نفس الشعور ؟ كلها أسئلة ال محل لها من العقل ،الحب ليس بيدي وليس بيديك وإنما بيد خالق
القلوب ،هذه حقيقة واقعية ليس للبشر فيها حيلة فالقلوب كما قال الصادق المصدوق بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها
كيف يشاء ،وإن أردت خب ار أكثر وضوحا وأعظم دقة وداللة فاسمع قوله – صلى هللا عليه وسلم ( :األرواح جنود مجندة ما
تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف ) وإن تعجب فلتعجب لصحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كيف اجتمعوا بعد
22
افتراق وكيف ائتلفوا بعد شتات مهاجرين وأوسا وخزرجا عربيا و فارسيا وروميا وحبشيا ،ولكن ال عجب فاهلل تعالى مالك القلوب
( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في األرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن هللا ألف بينهم)
قال سيد قطب رحمه هللا ( :ولقد وقعت المعجزة التي ال يقدر عليها إال هللا والتي ال تصنعها إال هذه العقيدة فاستحالت هذه
القلوب النافرة ،وهذه الطباع الشموس ،إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض ،المحب بعضها لبعض ،المتآلف
بعضها مع بعض ،بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة -أو يمهد لحياة الجنة
ِ وسمتها البارزة« :-ون َزعنا ما ِفي صد ِ ِ ِ
ين» .ورِه ْم م ْن غ ٍّل ِإ ْخواناً َعلى ُس ُرٍر ُمتَقاِبل َ ُُ ََ ْ
إن هذه العقيدة عجيبة فعالً .إنها حين تخالط القلوب ،تستحيل إلى مزاج من الحب واأللفة ومودات القلوب ،التي تلين جاسيها،
وترقق حواشيها ،وتندي جفافها ،وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق .فإذا نظرة العين ،ولمسة اليد ،ونطق الجارحة ،وخفقة
القلب ،ترانيم من التعارف والتعاطف ،والوالء والتناصر ،والسماحة والهوادة ،ال يعرف سرها إال من ألف بين هذه القلوب وال
تعرف مذاقها إال هذه القلوب! وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في هللا وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له وااللتقاء
عليه فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي ال يدري سرها إال هللا ،وال يقدر عليها إال هللا )
مهما حاولت ومهما بذلت من جهد لتؤلف بين قلبين فاألمر هلل وحده خلق القلوب واألرواح وجعلها تهفو لمناسبها وانظر لقول
ابن عباس ( :إذا قارب هللا بين القلوب لم يزحزحها شيء ) ........
فال تلمني لم أحببتك وال تلمني لم هفا قلبي إليك فلست أمي ار على قلبي.............
كنت تحبني ولم تجدني لك محبا فال تعنفني فقلبي ليس بيدي.........
وإن َ
والشأن كما قال ناصيف اليازجي :
ليس قلبي في َيدي أهوى ولكن َ
َكنت أرَغ ُب أن أرى قلبي كما
قد ُ
ِ
الصخر الجلمد : العهن :الصوف كالجلم ـ ــَد والقلب مثل ِ
الع ِ
يته َعاص ُ
لكن إذا َجاري ـتَ ُه
إن َ
هن ْ ُ
أسير له ولو أبقت من رّقه تحطمت مهجتي وتشتت شملي وضاقت بي الدنيا كلها على رحابتهاأسير وراء قلبي فأنا ٌ
أنا ُ
…………….
صور من المحبين
إن كثي ار من المحبين الصادقين يغمر الحب جوانبهم وتفيض قلوبهم به ،ولكن ألسنتهم تقصر عن التعبير عنه وإن كانت
مالمحهم وثنايا وجوههم تشرق بالحب ،فربما يكون أ
المر محبا ولكنه ليس بليغا فصيحا ،أال وإن الشعراء والبلغاء كانوا سباقين
للتعبير عن حبهم تجاه أصدقائهم ورفقاء دربهم فوافقت درر ألسنتهم آللئ قلوبهم وكانوا نبراسا يستضيء به المحبون َ
ومعينا
يستلهم منه األصدقاء معاني الحب والوفاء............
وحب لقاك يحدوه اشتياقي مكانك يا أخي في القلب باق
ووحدنا إخـاء في التالق ــي تالقينا على درب المعالـ ــي
23
غياب النور عن قمر المح ـاق يذكرني غيابك عن ع ـيوني
كما األنهار تجري في السواقي ويجري في عروقي منك حب
إن حبك يا أخي يجري مجرى الدم من عروقي ،فهو يالزمني ويتدفق في كل خلية في جسمي ،ولم ال وقد كانت معالي األمور
وسما مشتركا في غاياتنا و مقاصدنا حتى صرت ال أستغني عنك وأصير بدونك كالقمر الذي افتقد شمسه فصار بال نور وال
هادٍ ...............
قال األصمعي :دخلت على الخليل وهو جالس على حصير صغير فقال تعال واجلس فقلت :أضيق عليك ..فقال مه فإن
متحابين !!.....................
َ متباغضين وإن شب ار في شبر يسع
َ الدنيا بأسرها ال تسع
ما ألذها تلك اللقمة الهنية ـ وإن كانت صغيرة ـ إذا اقتسمتها مع صديقك وحبيب قلبك!! فهي خير شبع لك وله ؛ فقبل أن
تشبع البطون قد شبعت العيون بالنظر إلى محبيها ،وما أمتع تلك الفسحة البعيدة عن البذخ القليلة المؤنة إذا كانت في رفقة من
اصطفيته خدينا وخليال فهو لك أغلى كنز استفدته من هذه الدنيا ،وكنوزها مجتمعة ال تساوي فضائله وال توازي شمائله وال تشبع
شوق قلبك له إذا فرقت بينكما األقدار وحالت بينكما حوائل الليل والنهار ..............
(لي أخت لو استبدلوا بها خيرات األرض قاطبة ال أبدلها ....لي أخت هي أنسي ..وسعدي وجنتي في دنياي ..وعدتي
آلخرتي
هي لي كالورد ..بل وأجمل كالماء ..بل وأنقى كالعسل ..بل وأحلى اللهم أدم وجودها في حياتي )......................
من وحي صديقة في حب صديقتها!!..
على اإلخاء وطيب القول قد عبقا الود يبقى وحب هللا يجمعـ ـ ـنا
فصادق الود يجلو الهم واألرق ــا
ُ والقلب يخفق إن هبت نسائمكم
يالها من خفقة يخفقها القلب سعادة بصديقه ويالها من نشوة يحسها المحبون المحبوبون ،سعادة من أروع السعادات في الدنيا ،
وفرح تزول معه الهموم واألحزان فالمحب ليس وحده في الدنيا فشريكه فيها شريكه في أحزانه ومآسيه ..............
في لحظة اخترق فيها حبي لصديقي شغاف قلبي قلت من أعماق فؤادي غير مبالغ وال كاذب :
المقل :العيون فراق عريم يدك المقـ ـل لقد حال بيني وبين األمـ ـل
فجنة ربي ملقى العمـل ولست بطالب رد الق ـضاء
فإن فراقك ال يحتمـ ـ ـل وإن فراقك إن طال ي ـ ـوما
رباع :جمع ربيع بخير رباع حيات ــي األول حييت وأنت رفيق الكت ـاب
ُ
فرؤية وجهك لي كالنـهل فإن ظمأ صدري من األرذلين
فال تنس قولك فاق الجبل وحاولت مدحي بقول هزيل
خلى الثمل :ترك البقاء لغشى السماء وخلى الثمل وإن مديحك إن طار م ـ ــني
24
إن أخشى ما خشيته وأنا غارق في بحار حبي له فراقه يوما من األيام ولكن عوضني عن ذلك الخوف تذكري أن الجنة ملتقى
المتحابين المؤمنين ولم ال أقول ذلك وهو رفيق دراستي في خير وأروع أيام صباي وهو الذي حين ألتقيه ينسيني مشاغبات
األرذلين الباردين الذين ليس لهم مكانة في قلبي ،لقد بادلني نفس حبي له حتى حاول أن يمتدحني ولكن بالغته الهزيلة لم
تسعفه ولكن كلماته على ركاكتها وبساطتها كانت تساوي الدنيا وما فيها بالنسبة إلي ،فألفت له تلك القصيدة وهي غيض من
فيض مما أكنه له في قلبي فلو خرج من قلبي ما يحويه من الحب المتألت السماء من عبير حبي وثنائي عليه ......
حقا وهللا الذي ال إله غيره إن هذا هو الحب .........................................
إنني لم أجد قصيدة تفيض بالحب ومعاني األخوة مثل قصيدة محمد التاجي التي يقول فيها :
وفي خاطري أنت واألضل ـ ـعِ أخي في فؤادي وفي مسمعي
وروحك في الكون تسري معي أخي في حناياك يسري هواي
وإن أنت ُنحت فمن أدمعي أخي إن بسمت فمن مبسمي
تبينت نورك في المطـ ـ ـ ـلعِ أخي إن تراءى لعيني الصباح
سقينا الحياة ومن مش ـ ـ ــرع أخي أنا أنت فمن منهـ ــل
وآالمنا ِفضن من منبـ ـ ـ ـعِ أخي أنا أنت فآمالـ ـ ـ ـ ـنا
فمي ويهش له مسمعـ ـ ـي نغم أنت يحلو بـ ـ ـ ـه
أخي ٌ
وقف أنت والشمس في المطلعِ أخي خذ مكانك فوق النجوم
رنيم الصدى ساحر الموق ـ ـعِ مت باسمك في خلوت ـ ـي
ترّن ُ
عدو البطيء أخو المس ـ ـ ـرعِ أخي حث ركبك إن الزمـ ـان
إذا أنت أشفقت لم يطل ـ ـ ـعِ مزق الليل إن الصبـ ـاحأخي ّ
كما اغترب الزهر في البل ـقعِ غريبان نحن بهذا الوج ـ ـ ـود
الخشعِ
وتصغـ ـي لنجواي في ّ أحس بنجواك في الضارع ـين
يسابق دمعي مـع الركـّـ ـ ـعِ وأرقب دمعك في الساج ـدين
ولست بواعٍ سوى ما تـ ـعيِ أخي لن أحس بما ال تح ـ ـس
وفي المطمأن وفي المف ـ ـ ـ ـزعِ أخي في الرخاء أخي في الرجاء
إن كلمات تلك القصيدة ال ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام فبين ثناياها فكرة إنسانية سامية ومعنى فلسفي راق يعد في أسمى
منازل الحب أنا أنت !! ال فرق بيننا قد نفترق إلى جسدين ماديين ،لكن األرواح متمازجة فهواك يجري في جسدي ،وروحك
مرافقة لحسي ال تغيب عني بسمتي بسمتك ومناحتك مناحتي أراك بين النجوم إذا نظرت إليها وإذا طلعت الشمس خلته نورك
25
الذي ينير حياتي ،إحساسي إحساسك دمعتي وأنا ساجد ترافق دمعتك وأنت مع هللا ،إنها المعية الروحية .......درجة سامية
وحس عال يقودنا إلى نظرية من أرفع نظريات الحب واإلخالص .......نظرية األنا !!
◄إن محمد التاجي حين كتب قصيدته لم يكن بدعا من الشعراء واألدباء في وصفه لمبدأ األنا ،فقد اقتفى أثر سلفه من
المحبين الصادقين ولم ال يفعل وسيد المحبين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد صور ذلك األمر في الحديث الشهير ( مثل
المؤمنين في توادهم و تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )
فالمؤمنان المتحابان الصادق إيمانهما شيء واحد وترجمة ذلك أن ألم أحدهما يؤلم آلخر وهي قضية إحساس الصديق بصديقة
وسوف نتناولها بالتفصيل فيما بعد ،فنظرية األنا لها تطبيقاتها العملية التي تمثل االنعكاس لإليمان بهذا المفهوم .
ولما كان صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أفهم الناس لخطابه نجدهم ترجموه بنظرية األنا ،فهذا أبو بكر الصديق -
فيما روي عنه – كتب لرجل كتابا في شيء جعله قطيعة له ،أي وهبه إياه ،فحمله الرجل إلى عمر ليمضيه فلما نظر فيه
عمر بزق عليه ومحاه ،فعاد الرجل مستع ار إلى أبي بكر فقال :فعل عمر كذا كذا ،وهللا ما أدري أأنت الخليفة أم عمر ؟؟
فقال أبو بكر :هو إال أنه أنا !!!
◄ إن تلك الفلسفة قديمة قدم الحضارة وأتي اإلسالم ومن بعده الشعراء واألدباء فصدقوها وآمنوا بها ؛ فهذا أرسطاطاليس معلم
و مربي اإلسكندر سئل :من الصديق ؟ قال :إنسان هو أنت إال أنه بالشخص غيرك !!
وتابع المتصوفة من المسلمين ذلك المعتقد حتى قيل لصوفي :من الصديق ؟ قال من لم يجدك سواه ولم يفقدك من هواه !!
ليته يوماً على عيني مشـ ـى بابي من هو منى في الحشـا
26
إن يشأ شئت وإن شئت يشا روحه روحي وروحي روحه
وسيد فلسفة الحلول واالتحاد الحالج لم يقصر نظريته على الحب اإللهي حتى تعداها إلى حب الصديق فقال :
نحن روحان حللنا بدن ـ ـ ـا أنا من أهوى ومن أهوى أنا
تضرب األمثال في الناس بنا نحن مذ كنا على عهد الهوى
وإذا أبصرت ـ ـ ـ ـه قلت أنا فإذا أبصرتني أبصرت ـ ـ ـه
وله
يجبل العنبر بالمسك العبق جبلت روحك من روحي كما
فإذا أنت أنا ال نفتـ ـ ـرق فإذا مسك شيء مس ـ ـ ـ ـني
◄وفي مرتع الشعراء واألدباء نجد ذلك الفكر خصبا ،وانظر لقول الثعالبي :
شطن :بعد ط َنا
اك أو ش َ
فأنت عندي َدَنا مثو َ
َ األرض فأ َِق ْم
ِ سليمان ِس ْر في
َ أبا
فأنت أنا
روح َك بل ُروحي َ فديت َ
ُ أنت غيري فأخشى أن أ ِ
ُفارَق ُه ما َ
وإذا نظرنا إلى ابن الرومي وعلى رغم حياته البائسة التعيسة وعلى رغم نظرته التشاؤمية الكفيلة بإقعاده ثالث ليال في بيته بال
طعام أو شراب تشاؤما من رجل أحدب يقعد على باب بيته ! نجده لم يحرم من الصديق الذي ليس بينه وبينه فرق فهي نظرية
األنا كذلك
عند تحصيل قسمة األشـ ـياء ليس بين الصديق والنفس فرق قال
وأخي في الملمة النك ـ ـ ـراء يا سمي الوصي يا شق نفس ـ ــي
أعلى محل أه ـل السنـ ـ ــاء يا أخا حل في المكارم والسـ ـؤدد
والقصيدة طويلة في وصف صديقه لعلنا نتعرض لها فيما بعد ولكنه هنا أدرك أنه وصديقه شيء واحد ال يتج أز وال ينفصل وعبر
عن ذلك بلفظ فريد وهو ( يا شق نفسي ) فما أجمله من تعبير !!
وفي اختالف األجسام واتحاد القلب قال شاعر :
فلي وله جسمان والقلب واحد بنفسي أخ لي في األمور مساعد
ألن فؤادي شطره متباعـ ـ ـ ـد إذا غاب عني لم أجد طعـ ـم لذة
وفهما للفظ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الجسد الواحد قال الشاعر :
كما تقبض الكف بالمعصم وما المرء إال بإخوان ـ ـ ــه
وال خير في الساعد األجذم وال خير في الكف مقطوعة
ولعل نظرية األنا عند بعض الشعراء أعطت تفسي ار منطقيا للشوق للصديق واشتعال النفس شوقا للقائه فصديقك هو نفسك فكيف
وهل يصبر عن بعض نفسه اإلنسان كيف صبري عن بعض نفسي تستغني عنه ؟!
27
◄حتى األعراب الجفاة لم ينسوا حظهم من الصداقة حتى وصلوا لنفس الفكرة فيقول أعرابي عن الصديق :اتخذ من ينظر
بعينيك ويسمع بأذنيك ويبطش بيديك ويمشي بقدميك ،ويحط في هواك وال يرى سواك ،اتخذ من إن نطق فعن فكرك يستملي
و إن هجع فبخيالك يحلم ،وإن انتبه فبك يلوذ ،وإن احتجت له كفاك وإن غبت عنه دعاك ..
وقيل ألعرابي :كيف يكو ن الصديق :قال مثل الروح لصاحبه يحييه بالتنفس ويمتعه بالحياة ويريه من الدنيا نضارتها ويوصل
إليه نعيمها ولذتها !!
◄ونورد هنا قصة عجيبة ذكرها أبو حيان التوحيدي تصف ظاهرة عجيبة بين األصدقاء ليست إال ترجمة لنظرية األنا فيقول
:قلت ألبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازحة نفسية وصداقة عقلية ومساعدة
طبيعية من أين هذا ؟؟وكيف هو ؟؟فقال يا بني اختلطت ثقتي به بثقته بي فاستفدنا طمأنينة وسكونا ال يرثّان على الدهر وال
يحوالن بالقهر ،ومع ذلك فبيننا بالطالع ومواقع النجوم مشاكلة عجيبة وظاهرة غريبة حتى إنا نلتقي كثي ار في اإلرادات
واالختيارات والشهوات والطلبات ،وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في
هذا األوان حتى كأنها قسائم بيني وبينه أو كأني هو فيها أو هو أنا !! وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت
أو قبله بقليل أو بعده بقليل ...................
أقول :إن هذا ليس عجيبا وال مستغربا فكل من جرب الحب يعرف ذلك ،فكم مرة يفكر المحب بأخيه فيفجأ بأنه يتصل به على
الهاتف ،فيتهلل وينشرح ويبادره قائال :لقد كنت أفكر فيك اآلن مشتاقا لرؤيتك ففوجئت باتصالك في نفس اللحظة
..................
في نفس اللحظة التي فكرت فيها في صديقك كان يفكر فيك ،أليس ذلك واقعا يحدث للمتحابين ؟؟!!
إن ذلك سر ال يعرفه إال من ذاقوا حالوة الحب فال تفشوه أيها المتحابون لئال يصفكم الناس بالجنون !! ومن صدقكم فلن تسلموا
من حسده وتمنيه انقالب األحوال ........
بعد كل هذا أيكون مستغربا أن يقول الصديق لصديقه حبيب قلبه وتوأم روحه وشق نفسه :يا أنا ؟؟!!!!!!!
وقبل أن نقلب تلك الصفحة ننوه على أن نظرية األنا لها انعكاسات في واقع الصديقين أساسها االتفاق ،ولن نذكرها بالتفصيل
اآلن فكل انعكاس منها له موضعه في هذا البحث ،وهي :
-1االتفاق في اإلحساس
-2االتفاق في الفكر
-3االتفاق في المال
-4االتفاق في العداوة
28
إن لدوام المحبة والمحافظة عليها بل االزدياد من عبقها ونسيمها أدوات متى داوم عليها المحبون واستمروا يمارسونها ازداد حبهم
وتوطدت صداقتهم وترسخت روابطهم القلبية والروحية وهي وصفات ناجعة جربها األصدقاء من قبل وصدقها أطباء القلوب
فصارت مواد في دستور اإلخاء والمحبة أقسم عليها اإلخوان أال يتنازلوا عنها مادام عصام الصداقة موصوال ...............
29
◄إن سلف المسلمين كان البوح بالحب عندهم سنة متبعة فقد كان زمنهم بحق زمن الحب ،فخذ أمثلة على ذلك ،فقد قالت
امرأة لرابعة العدوية إني ألحبك في هللا قالت :فأطيعي من أحببتني فيه فقالت :من طاعتي له محبتي لمن أطاعه .......
وانظر لذلك العابد الذي قيل له إني أحبك في هللا ،قال أعوذ باهلل أن أكون ممن ُي َحب في هللا وهللا علي ساخط !
وانظر لحال الصالحين الطيبين في اعترافهم لبعض بالحب ،قال ابن شبة :التقى أخوان في هللا فقال أحدهما لصاحبه وهللا يا
أخي إني ألحبك في هللا فقال له اآلخر :لو تعلم مني ما أعلمه من نفسي ألبغضتني في هللا فقال وهللا يا أخي لو علمت منك
ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي !!
إن الوسوسة عند المحب شيء عادي ،فهو أحيانا يأتيه الشك في حب صديقه له فهو يحتاج إلى تكرار ذكر عهد الحب بالقول
والفعل ،بل أكد بعضهم على ذلك حتى قال الفضل بن الربيع :احلف ألخيك أنك تحبه واجتهد في تثبيت ذلك عنده فإنه يستجد
لك حبا ويزداد لك ودا !! ...
(يستجد لك حبا ) إن الحب يحتاج إلى تجديد من حين آلخر ،فكلمة أنا أحبك هي الوقود المحرك لبقاء عجلة الصداقة دائرة
فكلما فتر الود وبدأ يجف القلب وأخذ يتسلل الشك إلى النفوس احتاج الصديقان إلى الوقود ليستكمال مسيرة حبهما وإخالصهما
،إن هذا الكالم ال يفهمه سوى المحبين ........
◄ومع كلمة الحب يزيد الثناء بين األصدقاء المودة والقربى فهو يشعر الصديق الممدوح بعلو منزلته ومكانته عند صديقه
.....
قال إلياس فياض :
أحب هذي االسامي
وهو عندي ُّ يا أميري وسيدي بل حبيبي
َلف ح ـ ار ِم ام عندي وأ ُ حيك حرٌ ِإن شع اًر ُ
يقال في غير م ـد
أنت منهم قد اًر مكان ِإله ـ ـا ِم قوم
المدائح ٌ
َ لقد لعمري نال
إنه اعتراف بالحب مخلوط بالثناء فالثناء شيء ممدوح بين األصدقاء المتواضعين ألصدقائهم وال تقولن إن الثناء في وجه أخيك
مظنة مهلكته ،فهذا يكون بينك وبين الغرباء أما بينك وبين أخيك ،فثناؤك على أخيك يشعره بمنزلته الرفيعة عندك ال عند بقية
الناس فهو ليس بابا للكبر واالختيال ،وهل مدح الزوج لزوجته شيء مذموم في اإلسالم ؟!! ،ال بل هو مطلوب مندوب وكذلك
الخدين ،أما مظنة الهالك فربما تكون مع الزميل أو الصاحب أما من تقول له يا أنا فال ...................
(أخبرني الصديق تشارلز شواب أنه ربح مليون دوالر بواسطة ابتسامته ........كانت ابتسامته أبرز عناصر شخصيته الناجحة
.......االبتسامة الصادقة ضرورة في الحياة فالناس تكره التصنع والمبالغة وهم يميزون بينها وبين االبتسامة النابعة من القلب
وهي ابتسامة دافئة .......يؤكد لنا أهل الصين القدامى وهم المشهورون بحكمتهم وتعقلهم :إن من ال يملك وجها باسما ال
30
ينبغي له أن يفتح مشروعا تجاريا ........فرانج أفرنج فالتشر في إحدى إعالناته عن منتجات شركة أوبنهيم وكولتز وشركائهم
تحدث عن قيمة البسمة حيث إنها ال تكلفك شيئا بل تجني من ورائها الكثير وهي وإن كانت تثري من يتلقاها فال تفقر من
يمنحها !!إنها تبعث البهجة في المنازل وهي توقيع ميالد صداقة وهي راحة لإلنسان المجهد وأمل للبائس وشفاء للمريض وهي
بلسم للمجروح ونور أمام الذي يرى الدنيا ظالما دامسا كما أنها مجانية ال تباع وال يجوز شراؤها أو اقتراضها أو السطو عليها
كن سخيا وامنحها لآلخرين فإن أغلب الناس في حاجة إليها ).........................ديل كارينجي
بهذه الكلمات اختتم ديل كارينجي فصال من كتابه القيم (كيف تكسب األصدقاء وتؤثر في الناس ) وجعله بعنوان ( أسرع الطرق
لكسب محبة اآلخرين ) .
إن تلك البسمة التي تشفي القلوب مفتاح من مفاتيح الصداقة ،فكم من متعارفين ما تعارفا فمالت قلوبهما إال بإشراقة وجهيهما
الذين تقابال فتجاذبا فتصاحبا فتصادقا.............
إن علماء التربية وفن التعامل بين الناس قالوا إن اللقاء األول بين اثنين يؤخذ فيه سبعون بالمائة من االنطباع بين الشخصين ،
فكن حذ ار من اللقاء األول ففيه ترسم مالمح شخصيتك األولى عند من تلقاه فاعلم أن رسمك في ذهنه ألوانه البسمة الصافية
واإلشراقة الصادقة التي يقرر تلقاءها من يلقاك من أنت وهل تصلح لمزيد لقاء ومعاشرة أم ال ؟
إن هموم اإلنسان وتعبه كثيرة في دنيانا ،أعلم ذلك ولكن ال يمنعنك ذلك من ابتسامة عريضة عند أول لقاء فمن يراك ألول مرة
ال يعلم ما بداخلك فليس له إال الظاهر فإن كان ظاهرك الود والبهجة حسبك إنسانا اجتماعيا إلفا مألوفا وإن كان نقيض ذلك
ظنك انطوائيا انعزاليا ال تحب الناس...................
إن كلمة ديل كارينجي ( تثري من يتلقاها وال تفقر من يمنحها ) ال تختلف كثي ار عن قول النبي صلى هللا عليه وسلم ( ابتسامتك
في وجه أخيك صدقة ) إنها منحة عظيمة يعرف أثرها من يحتاجها ولكنها منحة بال مال ،فما أيسرها من صدقة وما أيسرها
من باب للحسنات غفل عنها الواجمون العابسون الذين حملوا هموم الدنيا فوق رؤوسهم فأعيوا أنفسهم وأعيوا من حولهم !!
قال أحد الكتّاب ( :إن أجمل صورة في الكون هي وجه إنسان مبتسم ،ماذا تعني االبتسامة لصاحبها وماذا تعني لمن يراها ؟ ،
االبتسامة هي الترجمة العضلية لإلحساس بالحب ..هي االنسجام الكامل بين العقل والقلب والعضالت ،فهي الحركة التلقائية
لصفاء العقل ونبضات القلب ،فهناك نوعان من األعصاب يغذيان عضالت الوجه أعصاب إرادية يستطيع بها اإلنسان أن
يحرك عضالت الوجه لترسم ابتسامة زائفة وأعصاب أخرى غير إرادية ال سيطرة لإلنسان عليها ،هذه األعصاب تحرك
عضالت الوجه تلقائيا لتخلق االبتسامة الصادقة ،إنها تخضع للسيطرة المباشرة من الفكر والوجدان ،لذا حين تبتسم نفسك
يبتسم وجهك ،وما أعذب ابتسامة النفس ! ماذا تعني لصاحبها ؟ تعني الحب حب اللحظة الحاضرة وحب اللحظة القادمة ،
حب اللحظة الحاضرة هو الرضا ،وحب اللحظة القادمة هو التفاؤل ،وماذا تعني لك االبتسامة حين تراها على وجه إنسان
؟تعني أن صاحب االبتسامة يوجه لك رسالة حب ،رسالة تقول إنك صديقي ،بك ومعك أشعر بالرضا عن حاضري وباألمل
في مستقبلي .......أال تشاركني يا صديقي أن أجمل صورة في الكون هي أن تجد الحب مجسدا ،أن تجد الحب قد تحول
إلى لوحة تصنعها عضالت الوجه )....................
31
◄إننا هنا لسنا بمعرض كيفية اكتساب األصدقاء أو سمات الشخصية الناجحة ولكن كان ال بد من تنويه عن أهمية البسمة في
حياتنا لنسقطها على الصداقة ......................
إن ابتسامة الصديق لصديقه حين يلقاه هو الشيء الذي ينتظره الصديق بعد طول فراق ،فماذا يلطف همومه ومشاكله بعد عناء
طويل أكثر من ابتسامة صافية صادقة من وجه صبوح محب ؟؟............
اسود
إن الصديق الدائم العبوس القنوط من الدنيا و من رحمة هللا لقاؤه غم وهم على صديقه ،وهل يرتجي الصديق لقاء صديق ّ
وجهه وذبلت مالمحه من كثرة العبوس وترك االبتسام..............
قال إيليا أبو ماضي يصف فلسفته في سعادته مع الحياة :
تتبس ـ ـ ـ ـم
تبسمت فعالم ال ّ و ّ الدنيا فما لك واجما ؟
هشت لك ّ
ّ
هيهات يرجعه إليك تنـ ـ ـ ـ ـ ّدم لعز قد مـضـ ـى
إن كنت مكتئبا ّ
تجهـ ـ ـ ـ ـم
تحل ّ
هيهات يمنع أن ّ أو كنت تشفق من حلول مصيبة
وإن تلك اإلشراقة بتلك البسمة ال يشترط لها وجه جميل الخلقة متفتق الحسن أبيض كالقمر حتي يدخل عليك السعادة والبهجة ؛
أَبيض و ِ
جه الـ ـ ُوّد ديق َعـ ِبد
ص ٍ
َ ُ َ ُر َّب َ قال أحمد شوقي فالجمال جمال القلب والروح ال جمال الوجه
الن ِ
فس ِب َ الر ِ
ئيس فديك َك َ
َي َ ِِ
النفي ـس
َو َ
◄ إن ابتسام الخدين في وجه خدينه سجية ال تكلف !! فالبسمة ال تكون إال لفرح ونعمة وانظر للموضع الوحيد في القرآن الذي
ذكر فيه االبتسام حين سمع سليمان حديث النملة تحذر أصحابها من جيش سليمان الجرار ( ال يحطمنكم سليمان وجنوده وهم
ال يشعرون .فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) فتذكر النعمة كان سببا في
ابتسامته ،وحين يلقى الصديق صديقه هل من نعمة تساوي ملء عينيك وإشباعهما برؤية حبيبك رفيق دربك ؟! ال جرم أن
فرؤية وجهك لي كالنه ـل وإن ظمأ صدري من األرذلين االبتسامة ستكون نابعة من قلبك ال يشوبها كدر تصنع ،
ولتشك في أصل صداقتك وروح إخائك !!
ّ وإن لم تجد ذلك مع صديقك فاتهم نفسك
المحب
ّ عبوس
إن البسمة عالمة من عالمات المحبة ،ونظرة الصديق البتسام صديقه تجدد ثقته في حب صديقه له ،خال أن الصديق الدائم
االبتسام قد تعتري ابتسامته لمسة من فتور فتصير ( االبتسامة الفاترة ) وهي ابتسامة ال يميزها كل الناس وإنما يعرفها جيدا
الصديق المقرب الذي يحفظ مالمح وجه صديقه عن ظهر قلب ،فأي تبدل أو تغير في مالمح صديقه يالحظه ويفهمه ويدرك
جيدا أن هناك خط ار ال بد من معرفته وهذا التغير منشؤه سبب من اثنين ال ثالث لهما إما سبب متعلق بالصداقة وإما سبب آخر
متعلق بهموم الدنيا ،وهنا تبرز حقيقة الصدق بين األصدقاء فالبوح باألسرار والهموم – وسيأتي مفصال – سمة بل ركن من
أركان الصداقة ،ومفتاحه تغير البسمة وتبدل مالمح الوجه فحين تجد صديقك قد تغير فستسأله مباد ار ما بك ؟؟ ال أجدك على
حالك المعهود هل بدر مني شيء أغضبك ؟؟ هل أنت مريض ؟ هل هنالك ما يزعجك من شؤون الحياة ؟ وهنا ينهار الصديق
32
أمام صديقه ويبوح بكل شيء فيجد السلوى والراحة والطمأنينة في سعة صدر صديقه إن لم تكن المشورة والرأي السديد
............
وأما إن كانت األخرى فسيعاتب صديقه على خطإ أخطأه بحقه أو تقصير في حق اإلخاء وهنا نجد الصديق اآلخر يسارع إلى
االعتـ ـذار واألسف ويبدي دموع الندم وأنه لم يكن له ليفعل ما يغضب حبيب قلبه وشق نفسه ،ويقول بلسان حاله كيف لي أن
أغضبك وأنت جزء مني كيف لي أن أسيء إليك وأنت منار طريقي وسلوى همومي ؟؟............
هذا هو حال األصدقاء ..........أما من تغير وجهه وتبدلت ابتسامته فسأله من يظن نفسه صديقا له عن السبب فيتهرب من
اإلجابة أو ينفي التغير إما ألنه ال يثق به وال يريد أن يشاركه مشاكله وإما ألنه غاضب منه ويقينه أن بوحه بالمشكلة لن يحلها
فهنا يكون ابتداء الشقاق ،حين تنهار الثقة بين األصدقاء ويخفي الصديق عن صديقه أس ارره وشئونه فيتحير الصاحب بين
لسان صاحبه ولسان حاله فتبدأ المشكالت وتنهار الصداقة وتتحطم على صخرة عدم الثقة وهنا يأتي العبوس..............
وفي ختام حديثنا عن دور البسمة في الصداقة نقول إن األصل في الصديق أن يكون مبساما مهما كانت أحواله من صفاء أو
بالء واالبتسامة الفاترة عارضة – والعبوس ال مكان له في الصداقة وإنما هو عالمة على نهايتها -شأنه كما قال ابن الرومي
:
وتسمو به فـ ـ ـروعُ البنـ ـ ـ ـاء ِ
بمثله ُي ْبتـ ـ ـ ـ ـنى المجـ ـ ُد حي
ْأرَي ٌّ
ِ ِ ِِ باس ُ
على حين ُكـ ـ ْرِهه و ّ
الرضـ ـ ـ ـاء ام
بس ٌ
حك السن َّ ط الوجه ضا ُ
33
حمدل :قال الحمد هلل طلبق حمدل في ضمنها وطلبق هدية من صديق صدق
فأقبل ومسك الختام يعبق قبولها منتهى م ـ ـ ـناه :قال أطال هللا بقاءك
وقبول الهدية سنة متبعة وقد كان صلى هللا عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها وكان يقول لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت
إلى كراع ألجبت !!
◄والهدية بين المتحابين قيمتها في معناها ال في قدرها ،فالمحب حين يهدي إليه حبيبه هدية ولو صغيرة يطير بها فرحا
ويشعر أنه نال الدنيا كلها في يديه فهي تستمد قيمتها من الذي أهداها ال من نفسها ،هذه روح المحبة ال يحسها إال المتحابون
المخلصون !!
قال بعضهم :من امتنع من إهداء القليل لجاللة قدر المهدي إليه انقطعت سبل المودة بينه وبين اخوانه ولزمه الجفاء من حيث
التمس اإلخاء !!!
◄إن أثر الهدية في دوام المحبة ال يخطئه ذو عينين ،وقد دأب السابقون في فعل ذلك ولو بأقل القليل ،وانظر إلى النضر بن
الحارث بعث إلى صديقه نعلين مخصوفتين !! وكتب إليه :
( إني بعثت بهما إليك وأنا أعلم أنك عنهما غني لكنني أحببت أن تعلم أنك مني على بال !!
فأجابه :ما أنا بغني عن برك الذي يحثني على شكرك ويخرطني في سلكك ويزيدني بصيرة بزيادة هللا عنك ،ومحبتي ألن أعلم
أنني منك على بال ويقيني بذلك راسخ وحمدي هلل عليه عائد ورائح ،ال عدمتك لي أخا با ار وال عدمتني لك قائال سا ار !! )
ويبدو أن السابقين كان إهداء النعال عندهم شيئا مشهو ار يجلب الود والحب !! – وهو شيء وجدته في أكثر من مصدر! -وهو
مع ذلك شيء افتقده أصدقاء زماننا حين انخرطوا في الصداقة وظنوا خاطئين أن إزالة الكلفة بينهما تقتضي أال يتهادوا وهو خطأ
فيصر اآلخر على رد هدية أخرى دواليك ،ويصيريصر المهدي إليه على رد الهدية بمثلها لصديقه ّفادح فالكلفة تحدث حين ّ
األمر بينهما كأنهما غرباء ،ال .......الهدية الخالصة تأتي بين الصديقين بال موعد وبال انتظار ولو من جهة واحدة غنية إلى
الجهة األخرى الفقيرة التي ربما ال تملك غير الشكر من اللسان والحب والوفاء من القلب .......................
قال صديق فقير ال يجد ما يهديه :
وهمتي تفضل عن مالي هديتي تقصر عن هم ـتي
أحق ما يهديه أمثـ ـالي الود ومحض الوال
فخالص ّ
انظر لهذا المهدي الذي يهدي حبيبه ويشعر بقصوره نحوه فالدنيا كلها – لو أهداها له – ال تكفي لتوفيه حقه وتبلغ منزلته
عمت أياديه الجميلة يا أيها المولى الذي الرفيعة في قلبه
في حقك الدنيا قليلة اقبل هدية من يرى
فأنت لك سابقة فضل علينا وعلى الناس وأياديك يشهد لفضلها الحاضر والبادي فليتني وفيتك قدرك !
وقال آخر في نفس المعنى :
بشيء فكن له ذا قبـ ـول قد بعثنا إليك أيـ ـ ـدك هللا
وال نيلك الكثير الجلي ـل ال تقسه إلى ندى كفك الغمر
المقل غير قلـ ـيل
ّ إن جهد فاغتفر قلة الهدية مـ ـ ـ ـ ـني
34
◄ إن للهدية عظيم األثر في إنهاء النزاعات بين األصدقاء ولك أن تتخيل صديقين مختلفين متهاجرين أول ما التقيا بعد هجر
أهدى الصديق لصديقه هدية فكيف سيكون الحال بينهما ؟! وأجمل وأزيد أن يكتب له على الهدية يذكره :إني أحبك من كل
قلبي !!
تذوب الخالفات وتنتهي العداءات وترجع المياه إلى مجاريها وقديما قالوا في نشر المهاداة طي
المعاداة.........................
كالسحر تجتلب القلوبا إن الهدية حلـ ـ ـ ـ ــوة
حتى تصيره حبيـ ـ ـ ـبا تدني البغيض من الهوى
وة في تباعده قريـ ـ ـبا وتعيد مضطغن العـ ـدا
وقال الجاحظ :ما استعطف السلطان وال استرضى الغضبان وال أزيلت السخائم وال استدفعت المغارم بمثل
الهدايا................
هديتك تديم المودة و الحب ....تدفع بها الشر بينك وبين صديقك ...تزيل بها التوترات والمغضبات ....تحفظ بها صداقتك
غضة طرية فلماذا تبخل ؟ ولمن تبخل ؟ وهل خير من صديق اصطفيته من بين الناس جميعا ليكون صفيك وكاتم سرك ومفرج
همك ؟!
كلما زادت الكلفة قلت األلفة ......حقيقة ثابتة بين األصدقاء ،كن على سجيتك وأنت مع صديقك ،اترك لقلبك أن يقول ما
شاء ودع لنفسك الحرية وأنت مع صديقك فليس بين الصديق والنفس فرق عند تحصيل قسمة األشياء !
إذا أتي غريب لدارك فال شك أنك ستتهيأ له وتنظم بيتك وترتب أغراضك ،فهي أول مرة يأتي فيها إليك تريد أن يراك بأحسن
صورة وأجمل هيئة ،وهو ما ال تفعله مع صديقك حين يزورك ،فهو معتاد الزيارة يعرف بيتك حق المعرفة ،ال داعي للتجمل
بين الصديقين فبيتكما واحد ،يعرف بيتك أكثر من معرفته لبيته !!
قال بهاء الدين زهير :
طوب َوشانيالخ ِ ِسّي ِ
ان َش ُأن َك في ُ يك ِألََّننا أَخ ـ ــَو ِ
ان أَشكو ِإَل َ
كان َمكانـ ـي سَق َ ُّ
الم ُ
َهل أَهلي َو َ
َواأل ُ ف َوالتَ َج ُّم ُل َب َيننا ط التَ َكل ُ َ
35
ومن أمثلة ذلك في صداقتي – حين عرفت معنى الصداقة – أني كنت أزور صديقي فأجد حجرته غير مرتبة فتفجأ أمه بمنظر
حجرته المبعثرة األشياء فتلومه وتقرعه ،كيف تترك حجرتك على هذا الحال وأنت تعلم أن صديقك سوف يأتيك ؟؟ فيجيبها بما
هو الحال بين األصدقاء :صديقي ليس ضيفا وال غريبا !!
إن صديقي حين يزورني ال يجد حرجا حين يجد طعاما في بيتي من أن يأكل منه دون أن يستأذنني .......
إن هذا المعنى نصا ورد في كتاب هللا تعالى بل هو النص الوحيد الذي ذكر فيه الصديق ذكره مع قلة الكلفة !! قال تعالى
وت ِ
آبائ ُك ْم أ َْو ْكلُوا ِمن بيوِت ُكم أَو بي ِ َن تَأ ُ ِ َع َرِج َح َرٌج وال َعَلى اْلم ِر ِ
ْ ُُ ْ ْ ُُ يض َح َرٌج َوال َعلى أ َْنُفس ُك ْم أ ْ َ َ َعمى َح َرٌج َوال َعَلى ْاأل ْ (َل ْي َس َعَلى ْاأل ْ
ِ
خاالت ُك ْم أ َْو َما وت َخوالِ ُكم أَو بي ِ ِ ِ ِ وت أ ِ وت أَخو ِات ُكم أَو بي ِ
وت ِإ ْخو ِان ُكم أَو بي ِ هات ُكم أَو بي ِ وت أ َّ ِبي ِ
َعمام ُك ْم أ َْو ُب ُيوت َع َّمات ُك ْم أ َْو ُب ُيوت أ ْ ْ ْ ُ ُ ْ َ ْ ْ ُُ ْ ْ ُُ ُم ْ ْ ُ ُ ُُ
ِ ِ
ام َرِته ،ثُ َّم أ َ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َكْل َت م ْن صديق َك م ْن َغ ْي ِر ُم َؤ َ صديق ُك ْم َقتَ َاد َة في َق ْولِه :أَو َصديق ُكم) َق َ
ال قتادة :إ َذا َد َخْل َت َب ْي َت َ َمَل ْكتُ ْم َمفات َح ُه أ َْو َ
ْس. ِ ِِ َ ِِ
ط َعامه ِب َغ ْي ِر ِإ ْذنه َل ْم َي ُك ْن ِب َذل َك َبأ ٌ
ال: ط ًبا ِفي َب ْيِت َك َفأ َ قال معمر :دخْلت بيت َقتادة َفأَبصرت ِف ِ
َكْل ُتَ ،ق َ ص ْر ُت ُر َ
الَ :ما َه َذا؟ َفُقْل ُت :أ َْب َ
آكلُ ُهَ ،فَق َ
ط ًبا َف َج َعْل ُت ُ
يه ُر َ َ َ ُ َْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ
ص ِد ِيق ُك ْم" ،وكأن قتادة يختبر صديقه وينظر فقهه ويبتلي معرفته بمعاني الصداقة الحقيقية ،ولم ال ّللاُ تَ َعاَلى ":أ َْو َ
ال َّ
َح َس ْن َتَ ،ق َ
أْ
يفعل وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سيد المحبين قدوتهم وأسوتهم فقد كان يذهب لحائط أبي طلحة رضي هللا عنه –
بيرحا – ويشرب منه بدون استئذان ،هكذا ينبغي أن تكون العالقة بين األصدقاء ..............
ويتكلف له .
لذلك قال علي رضي هللا عنه :شر األصدقاء من ُيحتشم منه ُ
ووافقه الحسن بن وهب قائال :اعلم أن المودة ال تتم ما دامت الحشمة عليها مسلطة .
◄إن صديقي حين يريد أن يرتاح ال يجد غضاضة في أن ينام على سريري ويلتحف بلحافي .....
إن صديقي حين يكون في بيتي ويريد دخول الخالء ال يجد حرجا في طلب ذلك مني ...............
صديقي حين أعطيه عطاء ال يلزم نفسه برد ذلك العطاء وحين أدعوه لوليمة ال يلزم نفسه برد تلك الوليمة وحين أسدي إليه
جميال ال يرده بمال حتى ال يصير لي جميل عليه !! إن مثل هذه التصرفات ال تصدر إال من نفوس مريضة خلت قلوبها من
معاني الحب والود ،والبشر الذين يتعاملون مع كل الناس بذلك األسلوب ليس لديهم في حياتهم صديق ،لم يعرفوا معنى
قلوبهم الداكنة .
الصداقة ولن يعرفوها حتى يعرف الحبَّ ُ
فالحب والكلفة ضدان ال يجتمعا أبدا ....
قال الصاحب شرف الدين :
ف ُّ
فارتََف َع التًّكلـ ُ َج َّد َ
اله َوى ْ ال َغ ْرَو ِإ ْن ُب ْح َت ِب ِس ِّر ُحِّب ُك ْم
◄ أخي ار إن ارتفاع التكلف بين األصدقاء ال يأتي مرة واحد ،فالتدرج سنة الكون ،والحب كما يزداد درجة درجة فالتكلف كذلك
يرتفع تدريجا والصبر يأتي بالتصبر والحلم يأتي بالتحلم والكلفة في ابتداء العالقة شيء طبيعي فالصديق كان يوما غريبا فصار
زميال فصاحبا فخدينا ،تلك سنن الحياة يعرفها الخبير قبل الكبير ......
شرط الحب
36
للحب الناجح بين األصدقاء شرط بل قيد عسير متى وقع كان ضمانا لنجاح الصداقة ومظنة بقائها واستمرارها ومتى افتقده
الصديقان فليست صداقة وإنما درب من العذاب والشقاء بل الذل والهوان .....إنه وقوع الحب متبادال بين الصديقين بل بنفس
القدر من كال الطرفين وحتى ال نكون مغالين نقول بقدر متقارب بين الخدينين فربما يكون التناسخ محاال ،وأيا كان األمر
فالشيء اليقيني أن الحب إذا كان من طرف واحد فإنه إعالن لنهاية الصداقة التي لم تبدأ وحطام ألركان صداقة لم تنبنِ ،
فالبناء حتى يكون محكما وحتى يستقيم سقفه ال بد لألعمدة واألركان أن تكون متساوية فإذا قل جدار عن جدار سقط السقف
وسقط البناء كله ....فكذلك الصداقة ال تستقيم وال تبقى إال بحب متبادل متساوٍ بين قلبين ............
َوال ُي ِحُّب َك َمن تُّ ِحُب ـ ـ ُه و ِمن البلِي ِ
َّة أَن تُ ِح ـ ـ َّب قال الشافعي:
َ َ َ
التغبه :التقطعه َنت َفال تُ ِغّب ـ ـه َوُتلِ ُّح أ َ نك ِب َوج ِهـ ـ ـ ِه ص ُّد َع ََوَي ُ
حقا إنه شر الباليا أن يتعلق قلبك بمن قلبه ال يمنحك أي اهتمام ....من تتعرض له لترافقه وتحادثه فيبتعد عنك وال يلقي لك
باال بل يرافق غيرك ،من تنتظر منه االبتسامة فيحرمك منها ،من تحاول التحدث معه فينهي الحديث ،من تطلب لقاءه مرات
ومرات فيتعلل باألعذار واالنشغاالت ،من ربما تفوز في النهاية بمصاحبته ولكن ال تفوز بقلبه ،من تنهار أمامه ببوحك له
بحبك فيجيبك بابتسامة باردة :شك ار على هذا الشعور النبيل !! ...............إنه الذل والهوان في أسوأ صوره الذي ينتهي
بصاحبه إلى الحزن والكآبة بل االنهيار
(أنا أحبه وأعامله خير معاملة فلماذا يصد عني ؟؟ لماذا ال يبادلني نفس شعوري وأنا أثبت له كل يوم مدى حبي وإخالصي
له؟؟ لماذا يتركني ويرافق صديقا آخر وقد فرغت له وقتي وظننت أنه سيكون معي اليوم ؟؟ لماذا هذا البرود وهذا التكبر وكأنه
يعامل شحاذا يريد الصدقة؟
إنني أريد الود والحب فلماذا ال يمنحني إياه ؟ وماذا يكلفه ذلك وأنا لم أطلب ماال وال مصلحة ؟؟ لماذا كل هذا ؟؟؟؟؟؟)
ألنه ال يحبك كما تحبه .............
يحب من ال يحـ ـ ــبه ما زلت أسخر ممــن قال العباس بن األحنف :
يحبني و أحبـ ـ ـ ــه حتى ابتلــيت بمن ال
ومنيتي الدهر قربــه يهوى بعادي وهجـري
مثل ما لي قلبـ ـ ــه فليت قلبي له كـ ــان
◄ إن لعدم حب صاحبك لك أو قلة حبه – فربما يحبك بقدر أقل من حبك له – عالمات وشواهد على من يبغي الصداقة أن
يفهمها جيدا فمتى وجدها في من التمسه صديقا فهي صفارة إنذار أن ابتعد وخذ لك ركنا سحيقا فهنا ليس محل صداقة وإنما
محل ذل وهوان ومشاكل لن تنتهي ،ومن أهم هذه العالمات ملله وتأففه من كثرة اهتمامك به ،فال شك أن المحب يهتم بحبيبه
ويحرص على مصلحته و يحاول منحه كل ما يستطيع ويخشى ضرره ويحول دون وقوعه ،ولكنك حين تسرف في هذه
المشاعر والتصرفات مع من ال يحبك بنفس القدر يتضجر منك ويضيق صدره ويشعر أنك تخنقه ،تماما مثلما يحدث بين االبن
وأمه حين تحرص عليه حرصا شديدا وتخاف عليه وتكرر على مسامعه النصائح واإلرشادات حبا له فنجد االبن يصيبه الضيق
من ذلك ويشعر بالخنقة !! وهذا ال يحدث إال ألن حب األم البنها يفضل كثي ار حب االبن ألمه فهنا تحدث الخنقة !
.............وكذلك الصديق الذي يحرص على مصلحة صديقه يخنقه بكثرة اهتمامه به إذا كان الحب الصادق غير متبادل
37
بين الجانبين حتى يصرخ صاحبه في وجهه في النهاية قائال :أليس لك شاغل غيري ؟!! اذهب ولتنشغل بأحد آخر واتركني
...أنا سئمت !! .................
أما العالمة األخرى – وهي قريبة من األولى – هي سأمه من غيرتك عليه ،فحين تلومه على انشغاله بصديق آخر عنك ،أو
ربما استبداله صديقا آخر بك ينظر لك نظرات التعجب ،يتعجب من استفسارك الذي ال محل له عنده ،بل قد يزيد على ذلك
فصرت عبدا لك ؟! أم وقعت عقدا صرتُ بمقتضاه قص ار
ُ قائال :وهل تريدني أال أصاحب أحدا غيرك ؟! أم هل اشتريتني
عليك وملكا لك وحدك ؟!.
إن بعض من يق أر كالمي هذا قد يتعجب ويتساءل :هل الصديق من سماته األثَرة أنه ال يقبل لصديقه شريكا وال يقبل لصديقه
أن يصاحب أحدا غيره ؟؟! أقول ال ليس بالضرورة ولكن ما أريد أن ألفت إليه االنتباه أن ألفاظ الضجر التي أشرت إليها ال
تصدر من صديق محب لصديقه ،بل الصديق المحب المخلص حين يجد صديقه يغار عليه يسرّ بذلك ويزداد فرحه وتتجدد
ثقته بأخيه ويشعر بقيمته عند صديقه التي جعلت صديقه يستأثر به ويغار عليه ،وكذلك اهتمام الصديق بصديقه يفرحه ويشرح
صدره ويشعر أن له سندا في الحياة هو بحق شق نفسه و حبيب قلبه أخوه في الملمة النكراء !!
أما الباردون الغالظ – ومنهم بعض من يق أر كالمي اآلن – يسمون هذا الكالم ( أنانية ) واستئثا ار فهم يسمون المعاني النبيلة
بغير اسمها كمن يسمي الجهاد في سبيل هللا إرهابا أو من يسمي كلمة الحق فتنة وشقا للصف !! وال عجب في ذلك ولست
أكترث ل هم فهم لم يذوقوا حالوة الحب في هللا ولم يجربوه ولو وقعوا فيه لعلموا الحقيقة الغائبة عنهم ولرجعوا إلى الصواب
والفضيلة !!
◄ إن هذه العالمات كفيلة بإنهاء الصداقة – سواء أبدأت أم كانت في أعماقها – أما من اختار المجازفة وقرر أن يسبح ضد
تيار الحقيقة فجزاؤه التعاسة والشقاء ،فإنه سيضطر أن يعيش ذليال أسي ار لحبه ،يرضى بالفتات مما يلقيه إليه صاحبه من بقايا
الود والحب .......
ومن هؤالء الكثير الذين وصفوا ذلهم وهوانهم أمام أصدقائهم ومنهم أبو الفضل الوليد قال :
إذا ضن أصحابي أجود وأسم ـح أراني ضعيفا في الصداقة والهوى
وإن أذنبوا عمدا فأعفو وأصف ـح وإن بعدوا عني دنوت مصافحــا
وأخسر في كل األمور ويرب ـ ـح يحملني خلي الذي فوق طاقت ــي
هذا هو الصديق الضعيف بحق الذي يجود على صاحبه بالود والحب وال يجد إال الضن والمنع ،حتى إذا أخطأ في حقه
صديقه المزعوم فإنه يحاول إقناع نفسه أنه لم يقصد ويجد نفسه مضط ار لمجاراة األمور وغض الطرف بيد أنه لن يسلم من
الوسواس القهري الذي سيؤرقه في نومه ويقظته ويقول له إن صاحبك ال يحبك ال ....قد َ
تغير عن جانبك سيتركك يوما ما ،
سيبيعك ويشتري غيرك ،وهكذا حتى يصيبه االنهيار والوهن ويذبل وجهه وتتوقف حياته فهو رهين بمن يحب يعيش بين نارين
نار فراق من أحب ونار الذل والمهانة من حبيبه .........
وال لك عندي في األنام عديـ ــل تبدل فمالي من هواك بديـ ـ ـ ــل
سول :تخفيف سؤل فأنت هوى لي كيف شئت وسول وكن قاطعا إن شئت لي أو مواصال
38
أعرضت عنك قليــل
ُ قصرت فيك طوي ــل وصبري وإن ُ رجائي وإن
افعل بي ما شئت فأنا في يديك كالخرقة البالية ،خذني واعتن بي وإن شئت ألقني أينما تشاء فلن أفرط فيك ولن أفقد األمل
......لن أنساك ولن أصحب غيرك فأنت الحب األول واألخير !! إنه غاية الذل أمام من لن يرقب فيك ودا وال
صحبة.............
فتعرضت له ،
َ أعرض عنك غيري
فأعرضت عني ،و َ
َ (عرضت عليك مودتي
ُ
أصبت به منك ) كاتب يكتب إلى صديقه الجافي .
ُ فاهلل المستعان على فوت ما أملتُه لديك ،وبه التعزي عما
ومن الصور المريضة لهؤالء األصدقاء الباردين الذين ال يقدرون حب أصدقائهم لهم أنهم يتمادون في إذالل أصدقائهم
ويسوقونهم كما تساق اإلبل يذهبون بهم حيث شاءوا فاألمر لديهم ليس أكثر من تسلية وعبث ،فهؤالء هم ُمحطمو القلوب و
ُمدمرو معاني الحب واإلخاء ........
عتو :تكبر نبوة :بعد يدت نب ـ ـ ّـوة وعت ـ ـ ـوا
تز َ ازددت ذلة لك في الحب
ُ كلما
◄ ولعل الصديق حين يكون على شاطئ الصداقة وقبل أن يبحر فيها وحين يجد مؤشرات قلة حب صاحبه له – وهو
الصديق الذكي الفطن – ينأى بنفسه ويقتل حبه في مهده ويئده في فراشه قبل أن يكبر ويصير كاألفعى التي تطوق عنقه وتدمر
وتصيرها كد ار بعد صفاء......
ّ حياته
قال ابن المقفع تصديقا لذلك :اإلخاء رق وكر ُ
هت أن أملكك رقبتي قبل أن أعرف حسن ملكك !!
وقال الخليل بن أحمد :رغبتك في الزاهد فيك ذل نفس وزهدك في الراغب فيك قصر همة !!
هوة الحب البائس ثعلب حين قال :
ولعل من األصدقاء الحكماء الذين أدركوا أنفسهم قبل الوقوع في ّ
فلم أر فيكم من يدوم على عهد وصلتكم جهدي وزدت على جهدي
وتأبون إال أن تحيدوا عن القصـد تأنيتكم جهد الصديق لتقصـ ــدوا
فبعد اختبار كان في وصلكم زهدي فإن ِ
أمس فيكم زاهدا بعد رغـ ــبة
إن هذا هو الصديق الحكيم الممسك بلجام قلبه الذي وإن كان محبا لكن إعراض الحبيب وقلة عمق حبه أوصاله إلى الزهد في
حبيبه كي ال يسوم نفسه سوء العذاب والهوان ....
ببر فقصر عن حملـ ـ ـ ــه امر جاه ــال بدأت َأً
إذا ما َ
وال يعرف الفضل من أهله ولم تره قابال للجمي ـ ــل
دواء لذي الجهل من جهلـه فسمه الهوان فإن اله ـ ـوان
وصدق القائل :
كمعتذر عذ ار إلى غير عاذر ٍ
ومتخذ ودا لمن ال يـ ــوده
كساع برجليه إلدراك طائر ٍ
وعاش بعينيه لمن ال يب ــاله
حكمة وعاها من وعاها وغفل عنها من غفل ........ولكن ثمن الغفلة عنها كبير فهو الرق والعبودية في أسوأ حاليهما ......
39
بعد كل هذا يسأل سائل :هل الحب ضعف ؟ وهل المحب ضعيف ؟ أقول – وقد ظهر الجواب جليا : -الحب قوة بل دافع
ومحرك يفعل بإرادة صاحبه المعجزات ويجعله يشعر أنه أقوى من في الدنيا كلها ،ولكن كل هذا مرهون بحب صاحبك لك فإن
كان يحبك مثلما تحبه فأنت أقوى من في العالم وإن كان حبك واحد الجانب أو غير مماثل لحبه لك فأنت أضعف من في العالم
!!
فاللهم ال تجعلني أحب من ال يحبني وال تلجئني لمن ال يلقي لي باال فأنت مالك قلبي فقلب قلبي وفق صالح دنياي وآخرتي !!!
إذا كان الحب نا ار محرقة ولظى مدمرة فلماذا نقترب منه فصيبنا األذى أو الهالك ؟!
يكن الدمار حليفه المتلهـ ــفا نار تدق القلب من يتصد لها
إن من يكتو بنار الحب والتعلق فالدمار مالزمه ال محالة ،فال حل سوى البعد وهو ما نسميه االنسحاب ،إذا وقع حب فرد في
قلبك فما عليك سوى التقهقر والنجاء بنفسك من تلك األفعى الرقطاء قبل أن تكبر وتتضخم ويحدث التعلق و يحدث الجفاء من
الحبيب فتنقلب الدنيا سوادا وتقول يا ليت ما كان لم يكن ،تلك هي النظرية ،إنه الهروب ،الهروب من مأساة كثر ضحاياها
وكشفوا عما أصابهم فخرج أصحاب النظرية بفكرتهم وقالوا ال نريد القرب من الحبيب فالسالمة ال يعدلها شيء ،ولماذا نلقى
أنفسنا في أتون المجازفة بقلوبنا في حرب لو خسرناها خسرنا كل شيء ؟!
هذا من جانب ،وفي الجانب اآلخر بعدك عمن تحب سيكون فيه السالمة لصديقك فقربك منه ربما يسبب له المشكالت بثقلك
عليه وتكليفه ما ال يطيق فببعدك عنه تحفظ ما بقي من الود ورؤيتك لحبيبك من بعيد بال إثقال أو حرج خير من قربك من
وتسببك في تعبه وتحميله ما ال يطيق !
وهؤالء يقولون :كثير من الناس أجمل من بعيد ،فحافظ على المسافة بينك وبينهم ،المسافة وحدها جعلت حظ األرض من
الشمس الضوء والدفء ،ولقد علمت األرض أن القرب من الشمس فيه االحتراق................
ولكن مشكلة هؤالء أن األرض تعاملت مع بقية الكواكب بنفس تعاملها مع الشمس فصارت وحيدة بال أنيس سوى القمر الذي
هو ابنها وليس صديقها !!
40
إن هؤالء ال يحبون المواجهة ،ضعاف النفوس ولكنهم محتاطون حذرون يخالون أنفسهم أصحاب حكمة ،ربما تركهم
للمواجهة لما خبروه من آالم غيرهم ممن اكتووا بالحب ،ومنهم من أصابته سهام الحب فأردته جريحا محطما فتعافى بعد جهد
وعمر فأراد أال تتكرر المأساة فتكون الضربة القاضية التي ال قيام بعدها فآثر السالمة ،ولكن السؤال المطروح ألصحاب تلك
ُ
النظرية كيف سيكون لك أصدقاء ؟؟؟ ........بالطبع اإلجابة صعبة وإن كان أسهل جواب ال نريد لنا أصدقاء أو ربما تتحول
النظرية إلى نظرية انعدام فكرة الصداقة وهو ما سوف نناقشه فيما بعد في فصل نظريات الصداقة .........
إنها أحد البدائل ألصحاب النظرية األولى و هو االنتقال من مرتبة الضعيف إلى مرتبة القوي الذي ال خوف عليه ،فتصير
أنت المحبوب المتعَلق بك المتحكم في زمام األمور فإن استمرت العالقة فنعم المطلب وإن لم تستمر خرجت معافى قويا لم
يصبك شيء ويقع األذى على الطرف اآلخر المسكين الذي جهل شرط الحب أو ربما انخدع فأصابه سيئات ما جهل أو انخدع
!! وهذه النظرية – كما هو واضح – لم يتحقق فيها شرط الحب الذي هو ركن الصداقة األعظم فكانت صداقة واهية مصيرها
الفناء والهالك فالبناء كما ذكرنا من قبل سيكون مائال غير مستو فيتهدم ويسقط ،والذي يتعامل مع الناس بهذا المبدأ أي :
بالقلب األغلف الذي هو محصن من الحب ولكنه يستقبل المحبين – ال تستقيم له صداقة وال يبقى له أصدقاء ،فإنه سيشعر
يوما ما بثقل صديقه عليه ويذيقه م اررة الجفاء – رغما عنه -فكيف سيظل يتحمل من ال يحب وكيف سيتركه ضميره وهو
يشعر أنه يتكلف الود مع صاحبه ؟ فيكون من الناس الذين يكتوي الناس بنارهم من جفائهم ،فيهجرهم الناس ويصير في
النهاية بال أصدقاء ،فالخالصة التي يجب أن يعلمها الجميع أنه ال صداقة بال حب متبادل........
41
بل هذان البيتان أكثر األدباء في نسبتها فنسبها بعضهم للمقنع الكندي ونسبها بعضهم لهدبة بن الخشرم وبعضهم ردها مرة
أخرى لعلي بن أبي طالب رضي هللا عنه !!
إن إمام هذه النظرية هو ابن القيم – رحمه هللا – وقد فصل هذه القضية تفصيال عجيبا في الداء والدواء فنجده يقول ( :
والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب وأال يشرك بينه وبين غيره في محبته ،إذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن
يشرك معه محبة غيره في محبته ويمقته لذلك ويعده كاذبا في دعوى محبته ،مع أنه ليس أهال في صرف كل قوة المحبة إليه ،
فكيف بالحبيب األعلى الذي ال تنبغي المحبة إال له وحده وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال ،ولهذا ال يغفر
هللا سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )
فمن وجهة نظر ابن القيم أن الحب ال يصرف إال هلل ومحبة غيره عذاب وشقاء والذي يحب هللا وحده هو المتنعم المرتاح ...
بل عد أن من وقع في حب غيره كان ذلك عقوبة من هللا أن أشرك معه غيره في الحب !! فقال ( :بل من أعرض عن محبة
هللا وذكره والشوق إلى لقائه ابتاله بمحبة غيره فيعذبه بها في الدنيا و في البرزخ وفي اآلخرة ،فإما أن يعذبه بمحبة األوثان أو
بمحبة الصلبان أو بمحبة المردان أو بمحبة النسوان أو بمحبة العشراء واإلخوان أو محبة ما دون ذلك مما هو في غاية الحقارة
والهوان فاإلنسان عبد محبوبه كائنا من كان كما قيل :
فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي ) أنت القتيل بكل من أحببت ـَـ ــه
فحب اإلخوان أو األصدقاء ِ
لذاتهم عند ابن القيم شيء في غاية الحقارة والهوان !! فهو استبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير
وهو يسميه كثي ار عشق الصور فيقول ( :ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية وال دنيوية بل مفسدته الدينية
يقدر فيه من المصلحة وذلك من وجوه أحدها االشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب والدنيوية أضعاف أضعاف ما ّ
تعالى وذكره فال يجتمع بالقلب هذا وهذا إال ويقهر أحدهما اآلخر ويكون السلطان والغلبة له ،الثاني عذاب القلب به فإن من
و إن وجد الهوى حلو المذاق أحب شيئا غير هللا عذب به والبد كما قيل :فما في األرض أشقى من محب
مخافة فرقة أو الشتـ ـ ــياق تراه باكيا في كل ح ـ ـ ـ ــين
ويبكي إن دنوا حذر الفراق فيبكي إن نأوا شوقا إليـ ــهم
وتسخن عينه عند ال ــتالقي فتسخن عينه عند الفـ ـ ـراق
42
الثالث أن قلبه أسير في قبضة غيره يسومه الهوان ولكن لسكرته ال يشعر بمصابه ........فعيش العاشق عيش األسير الموثق
وعيش الخلي عيش المسيب المطلق ،الرابع أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من
ّ
عشق الصور ).......
ثم تابع كالمه قائال ( العشق كما تقدم هو اإلفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق حتى ال يخلو من تخيله
وذكره والفكر فيه بحيث ال يغيب عن خاطره وذهنه فيحدث من اآلفات على البدن والروح ما يعز دواؤه ويتعذر فتتغير أفعاله
وصفاته ومقاصده ويختل جميع ذلك فتعجز البشر عن صالحه كما قيل :
لجاجة ولجج :تجمع صغير من يأتي بها وتسوقه األقـ ـ ــدار الحب أول ما يكون ُلـ ــجا جة
الماء
جاءت أمور التطاق كب ـ ـ ــار حتى إذا خاض الفتى لُجج الهوى
والعشق مبادئه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم والذنب له فهو الجاني على نفسه وقد قعد مقعد المثل السائر :يداك
أوكتا وفوك نفخ !)
ثم في النهاية وبعد تفصيل طويل إلثبات نظريته قال – بعد تصرف وتلخيص طويل – ( اعلم أن أنفع المحبة على اإلطالق
وأوجبها وأجلها محبة من ُجبلت القلوب على محبته وفطرت الخليقة على تأليهه )..........
وخالصة تلك النظرية عند معتنقيها أنهم ال يجدون بديال لمحبة هللا فال مكان ألحد في قلوبهم سوى هللا ومن كان سوى ذلك فقد
أشرك في المحبة ومن حدث له ذلك فهو عقاب من هللا على استبادله محبة غيره بمحبته ومن أراد أن يحب أحدا من الخلق
فسيحبه من أجل هللا ال ألجل نفسه فمدار المحبة هلل وفي هللا وليست ألحد سوى هللا ،وتأتي هنا قضية سأناقشها تاليةً في
المفهومات المغلوطة في الحب وهي فهم مسألة الحب في هللا في النصوص النبوية وآثار متبعيها ......................
لقد تكلمنا من قبل عن منزلة الحب في هللا أو الحب هلل في اإلسالم وكيف عظم اإلسالم هذا المعنى الرفيع ولكن تعبير الحب
أقبل االقتصار عليه وهو أنك تحب المرء ألنه ُيرضي هللا عز
أعترض عليه وال ُ
ُ في هللا وجد تفسي ار ضيقا عند كثير من العلماء
وجل وألنه مداوم على طاعته فسر حبك له هو ظنك أن هللا يحبه فيوافق حبك له حب هللا كذلك وذلك ألن من طاعة هللا حب
من يحبه وبغض من يبغضه
وإليك أمثلة على هذا الرأي :
وب ِم ْن تَ َما ِم ان َه َذا ِم ْن تَما ِم حِّب ِه َِّهللَِ ،فِإ َّن محَّب َة م ْحُب ِ
وب اْلم ْح ُب ِ آخ َرَ ،ف َك َ
ض ََح ُّب اْلم ْخلُو ِق َِّهللِ ال لِ َغ َر ٍ
َ ََ َ َ ُ َ قال ابن تيمية في فتاواه َ :وأ َ
َّه ْم َِّهللِ ال
َحب ُ
آخ َرَ ،فَق ْد أ َ
ٍ ام ِهم ِبمحب ِ
وبات اْل َح ِّق ال لِ َش ْيء َ
ّللاِ ِأل ِ ِ ِ
َجل قَي ْ َ ْ ُ َ اء َّ ْ َح َّب أ َْنِب َياء َّ ِ ِ
ّللا َوأ َْول َي َ َ
ِ ِ
َم َحبَّة اْل َم ْح ُبوب؛ َفِإ َذا أ َ
ره..................... لِ َغ ْي ِِ
وهذا المعنى ما ذهب إليه تلميذه ابن القيم كما ذكرنا من قبل فهو قد اقتفى أثر أستاذه .
43
وقال القسطالني في إرشاد الساري ( :رجالن تحابا في هللا) أي ألجله ال لغرض دنيوي (اجتمعا عليه) سواء كان اجتماعهما
بأجسادهما حقيقة أم ال...........
وفصل هذا المعنى أكثر الشيخ عبد العزيز بن باز فقال :الحب في هللا أن تحب من أجل هللا-تبارك وتعالى-؛ ألنك رأيته ذا
تقوى وإيمان فتحبه في هللا ،وتبغض في هللا ألنك رأيته كاف اًر عاصياً هلل فتبغضه في هللا ،أو عاصياً وإن مسلماً فتبغضه بقدر ما
عنده من المعاصي ،هكذا المؤمن يتسع قلبه لهذا أو هذا يحب في هللا أهل اإليمان والتقوى ،ويبغض في هللا أهل الكفر والشرور
والمعاصي ،ويكون قلبه متسعاً لهذا وهذا ,وإذا كان الرجل في خير وشر كالمسلم العاصي أحبه من أجل إسالمه وأبغضه من
أجل ما عنده من المعاصي ,فيكون فيه األمران الشعبتان شعبة الحب والبغض ,فأهل اإليمان وأهل االستقامة يحبهم حباً كامالً,
وأهل الكفر يبغضهم بغضاً كامالً ،وصاحب الشائبتين صاحب المعاصي يحبه على قدر ما عنده من اإليمان واإلسالم ,ويبغضه
على قدر ما عنده من المعاصي والمخالفات..........
وهذا المذهب الي ذهب إليه لألسف أكثر العلماء أراه تفسي ار قاص ار ضيقا ،فعندهم ليس من الحب في هللا الذي أعد هللا له ثوابا
عده بعضهم شركا هلل في المحبة !!! ولعل
عظيما ومنزلة رفيعة حب الشخص لذاته ولشخصه بال مصالح وال منافع دنيوية بل ّ
سر سوء فهم كثير منهم لهذه القضية أن لفظ (في هللا ) و (هلل ) اقترنت فيه الم التعليل و في السببية – وكالهما بمعنى واحد –
بلفظ الجاللة فظنوا أن أي حب يكون سببه هللا أي رضاه ،وهذا غير صحيح فلفظ في هللا أو هلل بمعناه األعم يعني في مقصد
هللا و غرض هللا وهو فعل الحب بال غرض وال مصلحة وال انتظار مقابل دنيوي فهذا مقصد من مقاصد الشرع ومنه قوله تعالى
( إنما نطعمكم لوجه هللا النريد منكم جزاء وال شكو ار ) فكان مقتضى وجه هللا انتفاء طلب الجزاء والشكر وكذلك الحب في هللا
ينتفي معه أي طلب لجزاء فهو حب لذات الشخص الذي ال شك من األفضل أن يكون مجتهدا في طاعة هللا ،ولكن إن لم يكن
كذلك فهو حب في هللا أيضا ،ولعل ما زاد االلتباس في حديث ( وأخوان تحابا في هللا اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) إبدال( اجتمعا
) و(تفرقا ) من (تحابا ) والبدل كما هو معلوم للتوضيح فكأن توضيح حقيقة هذا الحب االجتماع والتفرق على طاعة هللا ،وهذ
ا المعنى كذلك فيه التباس وخطأ بل من العلماء من فسره تفسي ار غير ذلك فإذا تابعنا كالم القسطالني نجده يقول ( :وللحموي
وتفرقا عليه) أي استم ار على محبتهما ألجله تعالى
والمستملي :اجتمعا على ذلك أي :على الحب في هللا كالضمير في قوله ( ّ
فرق بينهما الموت ،ولم يقطعاها لعارض دنيوي).
حتى ّ
لتحاب فالضمير يعود
التحاب وافترقا على ا ّ
ّ وهذ ا ما ذهب إليه اإلمام مالك أن اجتمعا عليه وتفرقا عليه بمعنى اجتمعا على
على مصدر الفعل السابق ( تحابا ) وال يعود على هللا ،وإن كان هذا المعنى محتمال وال غبار عليه فانعكاس حب الصديقين
لبعضهما أن يجتمعا على طاعة هللا ألن كال منهما يرجو المصلحة ألخيه الذي يحبه كما يرجوها لنفسه ..........
وليت شعري ما الحرج في أن يحب الشخص شخصا آخر لذاته ولتوافق روحي بينهما ( وما تعارف منها ائتلف ) حتى إن لم
يكن المحبوب على طاعة هللا فيدفعه حبه له ان يأخذه بيده إلى طريق طاعة هللا فيلتزم الصراط المستقيم علي يد حبيبه
فيجتمعان في الدنيا على رضا هللا ويجتمعان في اآلخرة في ظل الرحمن ثم في روضات الجنان !! فهل الحب بهذه الصورة ال
يكون حبا في هللا وإنما حب للصور ؟؟!! وهل الحب بهذه الصورة إرضاء لغريزة داخلية بعيد عن ما أمر هللا به ؟! ال شك أن
44
الحب بهذه الصورة من أنبل المعاني وأسمى األخالق التي يحبها هللا ويرضى عنها وتدخل في معنى الحب في هللا الذي هو
الحب لمقصد هللا وهو الحب بال طلب مقابل !!
ِ
فأنا يا صديقي العزيز أحبك لشخصك ولذاتك ال لغرض فإن كنت على طاعة هللا فنعم الحب وِنعم الصديق وإن َ
كنت ملتبسا
بمعصية وأنا أحبك بال مصلحة دنيوية ،فلن أتركك وحدك وأبغضك وأزعم أنني ال أحبك وإنما سيدفعني حبي لك أن أرشدك
إلى طريق النجاة لنسير فيه معا إلى الجنة بإذن هللا ، ..فباهلل عليك أليس ذلك من الحب في هللا ؟!! ..
لما كانت الصداقة إحدى أهم العالقات اإلنسانية اهتم علم النفس بها و شملها بالدراسة والقارئ لعلم النفس في هذا الموضوع يجد
مدى استقصاء العلماء النفسيين في دراسة ظاهرة الصداقة وعمل التجارب واألبحاث للخلوص إلى استنتجات علمية قائمة على
المشاهدة من بين عينات تمثل المجتمع كله ،و من بين ما لفت انتباهي في علم النفس حين تكلم عن الصداقة تفرقة عالم
النفس الشهير ( دافيز ) بين عالقة الصداقة وعالقة الحب فنجده يشير إلى اآلتي :
(الحب والصداقة يتشابهان في أمور عديدة غير أنهما يختلفان في أمور أساسية تجعل من الحب عالقة أوفر إثابة إال أنها أقل
استق ار ار ،والحب صداقة إذ يستوعب كل مكونات الصداقة ولكن يزيد عليه بمجموعتين من الخصائص هي الشغف والعناية
......
مجموعة الشغف :وتشمل ثالث خصائص هي : أ-
االفتتان :وهو ميل المحبين إلى االنتباه إلى المحبوب و االنشغال به -1
حتى عندما يتعين عليهم االنخراط في أنشطة أخرى مع الرغبة في إدامة
النظر إليه والتأمل فيه والحديث معه والبقاء بجواره ،واالستمتاع برفقة
المحبوب أكبر من االستمتاع برفقة الصديق .
التفرد :وهو تميز عالقة الحب عن العالقات األخرى والرغبة في االلتزام -2
واإلخالص للمحبوب مع االمتناع عن إقامة عالقة مماثلة مع طرف ثالث
.
الرغبة الجسدية :وتشير إلى رغبة المحب في القرب البدني من الطرف -3
اآلخر ولمسه ومداعبته .
مجموعة العناية :وتحوي خاصيتين هما : ب-
تقديم أقصى ما يمكن :وذلك عندما يشعر أن الحبيب يحتاج إلى العون حتى لو وصل األمر للتضحية بالنفس ! -1
الدفاع والمناصرة :وهو االهتمام والدفاع عن مصالحه والمحاولة اإليجابية لمساعدته على النجاح ) . -2
انتهت نظرية دافيز ..........
45
بعد أن قرأنا نظرية دافيز و بعد استرسال طويل في مناقشة مسألة الحب بين األصدقاء يتبين مدى الخطأ الذي وقع فيه من
التفريق بين الحب والصداقة حتى كأنهما شيئان منفصالن وكأن الصداقة ال تشمل الحب ،وعلى رغم اعتراف علماء النفس
بمدى خصوصية الصداقة ومدى عمق وقرب العالقة بين الصديقين تكلموا عن الحب وأفردوه وكأن عالقة الصديقين عالقة
أمر واقع أو صدفة محضة اقتضتها الظروف بدون أن يكون الحب عمادا لها ،بل بلغ االلتباس عند ديفيز أن ألصق
خصائص الصداقة الحقيقية نفسها بالحب وكأن الصداقة مجردة منها ( االفتتان والتفرد وتقديم أقصى ما يمكن والدفاع
والمناصرة ) فليت شعري كيف تكون صداقة بال شغف وال عناية ؟! وكيف يصير األصدقاء أصدقاء بحق بال دفاع عن
بعضهم أو مناصرة ؟! أم كيف تتحقق الصداقة بغير الحب واإلخالص ؟! وهل الحب بين الرجل والمرأة أسمى وأقوى من
األخوة بين الصديقين ؟! وهل عالقة الرجل والمرأة أوفر إثابة من عالقة أي صديقين مهما بلغا من التحاب والترابط
؟! ...............إن كالم ديفيز بأن الحب أوفر إثابة وأقل استق ار ار من الصداقة يمكن تثقيفه بقولنا الحب أوفر إثابة وأقل
استق ار ار من الصحبة ! ........لماذا ؟ ألن عالقة الحب ( سواء كان بين الصديقين أو الزوجين ) فيها من التداخل
واالندماج ما يجعل العالقة في درجة عالية من االلتصاق والقرب وهو ما يجعلها أقل استق ار ار من الصحبة العادية ألن عمق
االندماج أدعى لحدوث المشاكل والحساسيات والشك والغيرة وهو ما ال يتوفر في الصحبة التي فيها حواجز ال يمكن تخطيها
.....................................................................
بهذا نكون قد تكلمنا عن الحب بين األصدقاء -وما وفيناه حقه -فهو بحق الركن األعظم لبناء الصداقة و وبقي أن نتحدث
عن بقية األركان التي هي فروع للحب وثمرات لشجرته اليانعة الطيبة ............
-2المشاركة في الهموم
مآسيك وأحز ِ
انك وحده بال صديق ..............وكم يخف األلم والحزن حين ِ ◄كم أنت قاسية أيتها الحياة حين يالقي الفرد منا
همك وحزني حزنك ...........ياله يجد اإلنسان من يشاركه حزنه ويقاسمه همومه ولسان حاله يقول :يا أخي ال تحزن ّ
فهمي ّ
من ضياع عاش فيه كثير من الناس حين افتقدوا من يمد لهم يد العون في أحلك اللحظات ........وياله من أسى و تحسر
وقع فيه من وجد من جمعهم من أصحاب ومعارف يتخلون عنه حين احتاجهم فوقعت عينه على الحقيقة المرة أن ليس له
أصدقاء وكل من جمعه في حياته كانوا غثاء كغثاء السيل ال قيمة لهم سوى الضحك والمزاح والمشاركة في السرور أما في
األتراح فال وجود لهم فهم أصدقاء الرخاء فحسب ............
إن من أعظم مهام الصديق أن يكون معك وقت الضيق ،الصديق وقت الضيق ،حكمة قديمة لم تأت من فراغ وإنما استنتجها
من خبروا الحياة وعرفوا معادن الناس ،ولعلهم قالوا ذلك ليميز العاقلون بين الغث والثمين من البشر..................
و ال تدنين إليك اللئام ـ ـ ــا تخير لنفسك من تصطفـ ــيه لذا فقد قال ابن الكيزاني :
46
ولكن إذا قعد الدهر ق ـ ــاما فليس الصديق صديق الرخــاء
ال يستلذ المنام ــا يهمـ ــك تنام وهمـ ـ ـ ـ ـ ــته في الذي
الحمام :الموت تمناك أن لو لقيت الحمـ ـ ــاما وكم ضاحك لك أحشـ ـ ــاؤه
همك ،ال ينام له جفن وال يهنأ بعيش حتى يزيل عنك كربك ،أما غيره من تراب البشر
همه ّ
الصديق الحق الذي يقول لك يا أنا ّ
فهمه نفسه فما دام في خير و رغد فال يضيره شيء ،ربما ُيسمعك بعض كلمات اإلحسان التي يقولها الرجل للشحاذ حين ال
يريد أن يعطيه شيئا ،أما الفعل فهو أبعد ما يكون عنه ................
◄ إن كثي ار من الواهمين الغافلين يظنون أن الصداقة هي الضحك والمزاح ،فسح وأفراح ،لعب ولهو ،فظلوا يجمعون من
األصحاب من هم من هذا النوع وهم كثر أكثر من قطرات البحر !! فإذا أصابتهم هزة عنيفة من هزات الحياة لم يجدوا أحدا
ممن ظنوهم أصدقاء ،وجدوا أنفسهم منفردين بال نصير وال معين ،يطلبون من أصحابهم العون فيجدون الخذالن ،يتصلون
بهم يستنجدون فيجدون التهرب والتعلل ،فأثابهم هللا غما بغم ،غم المصيبة وغم خذالن الناس ،وهذا ما جنته أيديهم ولم يجن
عليهم أحد !! ،هم الذين اختاروا الرخيص من األصحاب ولم يتعبوا أنفسهم بالتنقيب عن المعادن النفيسة من البشر ،وهم قلة ال
شك ،ولكن العاقل الفطن يعمل لوقت شدته ويتخذ األصدقاء األوفياء عدة ليوم كربته ،أما المغبونون فعاشوا لحظات الفرح
المجن ،و يستيقظ الغافلون على الحقيقة المرة التي
ّ واغتروا بها ونسوا حظهم من الصداقة الحقيقية ،لتتقلب الحياة وتقلب ظهر
تغافلوا عنها وهي أنهم ليس لهم أصدقاء وإنما تراب وغثاء .............
◄ وإن فساد االنتهاء من فساد االبتداء ؛ فإن الصاحب المكروب حين يتخلى عنه أصحابه تكون النهاية لتلك العالقة الواهية
المهلهلة التي ال فائدة منها وينقلب الضحك والهزل إلى نكد و جد ،فهو ذنب ال يغتفر ،وال تستقيم معه عالقة بعد ذلك
................
حينئذ تنقلب الصداقة إلى عداوة ،قال ناصيف اليازجي :
طلبت ـ ــه في أوان الضيق لم تجدِ أعدى العداة صديق في الرخـ ــاء
ـدت قلبا ال يدا بي ـ ــد
عاق ـ ـ َ وأوثق العهد ما بين الصحاب لمن
هذه هي الحقيقة ،إن األصدقاء حين يتخلى بعضهم عن بعض وقت الشدة لم يكونوا أصدقاء بحق وصحبتهم لم تكن صحبة
قلوب وأرواح وإنما كانت صحبة أجساد وأشباح ،فبئست العالقة وبئس المورد و المرجع وهنا ال بد من النهاية
المحتومة......................
الكربات كاشفات !
إن سوء اختيار األصدقاء داء دواؤه إصالح النفس وتقويم الفكر والفهم الصحيح لمعنى الصداقة ،أما الخيانة فال دواء لها !!!
47
كثير منا صار له صديق وثق فيه وصار جزءا من حياته ،ولكنه صديق مخدوع خدعه صاحبه ،فصاحبه تقمص دور
الصديق المخلص وأتقن الدور إتقانا ربما لمصلحة يرجوها وربما لتسلية وتضييع وقت ! ،فتأتي الكربات كاشفات تميز بين
الناس ويتضح معها معادن األصدقاء ،فمن ساندك في وقت كربك فهو الصديق ومن تخلى عنك فليس الصديق بل العدو ،
وهو من باب قول هللا تعالى
( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم )
( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل هللا فيه خي ار كثي ار )،
الكشف عن حقائق الناس ،والمنافقون كانوا كث ار في عهد
ُ أيكون الخير الكثير من الكربة ؟! نعم ............إن أعظم خير
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في وقت الرخاء والتمكن فأتى هللا بالشدائد امتحانا للناس وليميز هللا الخبيث من الطيب فقال في
حادثة اإلفك ( ال تحسبوه ش ار لكم بل هو خير لكم) وأي خير في الطعن في شرف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ؟! إنه ظهور
المنافقين وعلم الناس لهم على حقيقتهم ( ،هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزاال شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم
مرض ما وعدنا هللا ورسوله إال غرو ار ) هنا ظهرت الحقيقة وبزغ النفاق ولم يكن ليبزغ لوال الكرب والشدة ،وكذلك المنافقون من
األصدقاء يتجلون حين نحتاجهم في أسوأ صورهم الدميمة ،حتى قال بعض الحكماء :جزى هللا عنا الشدائد خي ار بينت لنا
العدو من الصديق !!..................
وفي سفر يوشع بن سيراخ ( :ال يعرف الصديق في السراء ،وال يخفى العدو في الضراء )..............
و سـأل اإلسكندر ديوجانس :بم يعرف الرجل أصدقاءه ؟ قال بالشدائد ألن كل أحد في الرخاء صديق !
لقد اكتويت أنا نفسي بهذا النوع من البشر وكانت لحظة المكاشفة صعبة عسيرة ،والصدمة ال يستفيق صاحبها بسهولة ،ولكن
(عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم ) يرتاح القلب بعد ذلك من هؤالء المخادعين األفاكين ويعيش الحقيقة بصدر رحب ويقوم
من كبوته ويبحث عن سبل جديدة للحياة ،وتلك هي الحياة عثرات يتعثر بها اإلنسان ،فمن نهض وأكمل السير فهو الناجح
الفالح ومن رقد ونام وانهار فال مكان له في هذه الدنيا ...............................
شكوي الشعراء
مر الشكوى من صدمة األصحاب المزيفين الذين يفرون وقت الكروب كالحمر المستنفرة التي فرت من
لقد اشتكى الشعراء ّ
القسورة!!
فهي ظاهرة قديمة قدم الدهر ،قال الشاعر :
و مالك عند فقرك من صديق صديقك حين تستغني ك ــثير
طوى عنك الزيارة عند ضي ــق فال تحزن على أحـ ــد إذا ما
48
فتعود على األمر وال يصبك الحزن حين تجد من ظننته صديقا يهجرك حين إنها ظاهرة متفشية متكررة وكأنها حقيقة ثابتة ّ ،
حاجتك إليه فهو يخشى على نفسه أن تطلب منه المساعدة وهو ال يريد أن يساعد أحدا ،ستصير عبأ عليه ،وهو يكفيه ما
عليه من أعباء ،حينها سيبحث عن صاحب غيرك يستفيد منه وال يخشى من إثقاله عليه !!!!
وضاقت عليه أرضه وسماؤه إذا قل مال المرء قل صديقه
قال اإلمام الشافعي :
اس دو في ِ
القيـ ـ ـ ِ يب ِمن َع ٍّ
يس َي َنف ُع َيوم بـُ ِ
ؤس َقر ٌ ديق َل َ
ص ٌ
َ َ
ان ِإ ّال ِللتَآسـ ـي وال ِ
كل َع ٍ
اإلخـ ـ ـو ُ
صر ِ
ديق ِب ّ
َ الص ُ َوما ُيبغى َ
ِ ِ ٍ ِ
هر ُملتَ ِمساً ِب ُجهدي
أَخا ثَقة َفأَلهانـ ـ ـ ـي التماسي رت ا َلد َ
َع َم ُ
ِ
ُناسها َليسـ ـ ـ ـوا ِبناسي َكأ َّ
َن أ َ تََن َّك َرت الِب ُ
الد َو َمن َعَلي ـ ـها
لقد استفحلت تلك الظاهرة في زمن الشافعي حتى أعياه البحث والتنقيب عن هذا النوع النادر الفريد من الناس الذين يقفون بجوار
أصدقائهم ويشدون من أزرهم ،وكأن العمر مضى بدون الوصول لهذا النوع من البشر وكأنهم فقدوا صفة بشريتهم وتخلوا عن
إنسانيتهم !!!.
في وقت ضنك العيش ال في رغده قال ناصيف اليازجي :إن الصديق هو المقيم على الوفا
والكل أصحاب الفتى في سع ــده أهل الصداقة في النحوس قالئل
إن الجميل لمن يقوم بعهـ ـ ــده ليس الجميل لمن يعاهد صاح ــبا
من لم يكن للناس حافـــــظ وده ال يحفظ الود السليم لربــــــــه
إن تلك الظاهرة المقيتة كثير من أصحابها يظنون أنهم يرضون هللا عز وجل ! ،فالتدين عنهم ليس أكثر من عبادات شكلية
وعالقة بين العبد وربه وليس للناس من أخالقهم وسلوكهم نصيب فبئس الناس عند هللا من كانوا بئس الناس عند الناس وهو
موضوع سوف يأخذ حجمه في بحثنا حين يأتي موضعه بإذن هللا ..............
وأعجب من هذا كله األصدقاء المخلصون بحق الذين أحبوا بعضهم وتعاهدوا على اإلخالص والوفاء ولكن كل شيء تهدم حين
المجن ،وتهاوت الصداقة أمام الكربات وكأن الصديق بلسان حاله يقول :لقد خضت بح ار ال أجيد السباحة
ّ قلب الزمان ظهر
فيه فحان وقت الرجوع !!!! ،وعن هذا النوع يقول الشاعر :
أشفق من والد على ولــد ٍ
وصاحب كان لي وكنت له
أو كذراع نيطت إلى عضد كنا كساق يمشي بها ق ــدم
ليست بنا وحشة إلى أح ــد وكان لي مؤنسا وكنـت له
كنت كمحتاج يد األس ـ ــد حتى إذا احتاجت يدي يده
وهذا النوع من األصدقاء سماه شاعر آخر صديقا للزمان ! فقال :
وامقا :محبا ناصحا وامقا رفي ــقا شفيــقا وأخ كان لي ودودا مح ـ ـ ـ ــبا
المزن :السحب المزن يرضيك صامت ــا ونطوقا كان أحلى من الجنى عند صوب
المحملة بالمطر
49
منه صار البع ــيد السحيــقا ثم لما أصابني الدهر بالجف ـ ــوة
يا صديقي ما كنت لي بصديــق إنما كنت للزم ــان ص ـ ــديقا
وقال شاعر آخر يصف صديقه المتحول – وما أكثر المتحولين !: -
صاحب أينا غلــبا أخ بيني وبين الدهر
نبا دهر علي نــبا صديق ما استقام فإن
وثبت على الزمــان به فعاد به وقد وثــبا
ُ
حدبا :عطوفا شفيقا لعاد أخا حدبـ ــا ولو عاد الزمان لـنا
(أال ليت الزمان يعود إلى الوراء وليت الكربات لم تقع ليس لهول الكربات وإنما لهول الصدمات من األصدقاء الذين لوال الكربات
لظلوا لنا أصدقاء !! ) هؤالء نوع من االنهزاميين في الصداقة الذين يفضلون أن يعيشوا حلما حلوا بعيدا عن الواقع ،يريدون
العيش في األوهام والخيال ،يفضلون العيش مخدوعين بمن يحبونهم عن أن يعيشوا متبصرين لحقيقة من أحبوهم الخادعة ،يا
لها من هزيمة وياله من خنوع وياله من ذل يفضل أن يقع في أسره الواهمون المخدوعون !! ومن الذين وقعوا في ذلك منصور
بن إسماعيل الفقيه حين قال:
بادي الصداقة ما في وده دغل أيت ام أر في حال عسرته
إذا ر َ
فإنه بانتقال الحال ينتـ ـ ــقل يسر بهـ ــا
فال تمنّ له حاال ُ
لقد وصل الحال بهؤالء المتعلقين بالوهم إلى أن تمنوا دوام شقاء محبيهم لئال يفقدوهم في حال صحتهم ونشاطهم ،فهم يقاومون
وساوس صدورهم بأن الحبيب لن يدوم على حاله إذا زالت الكبوة وأقيلت العثرة ،فيسيطر عليهم هذا الشعور المرضي المتناقض
الجامع بين الحب تارة الذي يدفع صاحبه لتمني عافية محبوبه وبين تمني دوام شقاء المحبوب تارة ليظل ذلك الحب قائما غير
ممسوس بسوء !!
50
والحب العميق الذي ال يكسره كاسر وال يخترقه مخترق ،فكن على حذر وال تعط أخاك منزلته العليا في قلبك قبل االمتحان ويوم
االمتحان يكرم الصديق أو يهان !
في العسر إما كنت واليسر وعليكَ من حااله واح ــدةٌ
العقيان :الذهب الصفر :النحاس بالصفــر ِ
من يخلط العقيان ُ ال تخلطنهـ ــم بغيرهـ ــم
الحال الواحدة ،الثبات على المبدإ ،ال يتغير الصديق المخلص وال يتزعزع مهما عصفت بمركب الصداقة األعاصير فمهما بلغ
عتوها فلن يكسر إيمان الصديق بصديقه وال يهزه قدر حبة من خردل من ثبات وعزيمة !! فهل هذا النوع من ذهب الرجال
يختلط عليك فتخلطه بنحاس البشر فيصير الغث والثمين شيئا واحدا ؟!!
وعن هذا النوع عبر األحنف بن قيس فقال :خير اإلخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك في المودة وإذا احتجت إليه لم
ينقصك !
وأين الشريك في الضر أينا خير إخوانك المشارك في الضر
فإذا غبت كان أذنـا و عينا ال يني جاهدا يحوطك في الحضر
إن صديقك ال ينتظر حتى يقع لك المكروه فهو في غيابك كـ(الرادار) يلتقط عن بعد أي مصدر تهديد لك فيسارع بإخبارك
وتنبيهك كي ال يحدث المكروه ،وال يتعب وال يكل لذلك فهو في سبيل صديقه الحبيب الذي يضحي بوقته وجهده من أجله
...................
الم َرضية للصداقة عند بعض البشر حين يظن المرء المريض أن الحياة ما هي إال عالقة منفعة فما دام إنها إحدى الصور َ
منتفعا منك فأنت صديقه فإذا زالت المنفعة فال صداقة وال ود ! وهؤالء اختلط عندهم مفهوم الزمالة بمفهوم الصداقة ،فياليتهم
جعلوها زمالة إذن الستراحوا وأراحوا ولكنهم بمفهومهم المقيت جعلوا الزمالة صداقة فأوهموا الطرف اآلخر بعمق العالقة التي هي
أضحل من بركة ماء !
فهؤالء من سماتهم أنهم يصاحبون األغنياء و ذوي المكانة ويالزمونهم فهم القوم ال يشقى بهم جليسهم !! فربما يناله حظ وفير
إن لم يكن اآلن ففي وقت آخر ،فإذا تقلبت الظروف وتحول الغني لفقير شدوا رحالهم يبحثون عن غنيمة جديدة !! وفي ذلك
يقول الشاعر :
ما دمت من دنياك في يسر كم من أخ لك لست تنكره
يلقاك بالترحيب والبشـر متصنع لك في مودتـ ـ ـ ـه
يطري الوفاء وذا الوفاء ويلحي الغدر مجتهدا وذا العـ ـذر
ذو ِغير :متقلب فإن عدا -والدهر ذو ِغـَير -دهر عليك عدا مع الدهر
المثري :الغني يقلي المقل :يبغض الفقير المقل ويعشق المث ـري
ّ فارفض يا جمال مودة مـ ـ ـن يقلي
51
إنها صداقة المصلحة في أسوأ صورها التي ربما ال يكتفي الصاحب المتطفل المترمم فيها بهجر صاحبه وخذالنه بل يكون هو
والكربات أعوانا ضده بل ربما يهيئ نفسه لالستفادة من انهيارك وجني الثمرات الحاصلة من وقوعك ومصائب قوم عند قوم فوائد
!!
وهذا النوع كثير قال عنه الشاعر :
وجهه عن وجهك المال الناس أكثر أال ترى َخلـ ــقا ممن زوى َ
إكثار وإقالل :غنى وفقر بين الصديقين إكثار وإق ــالل ما أقبح الوصل يدنيه ويبعده
ما أقبحه من وصل وبئست العالقة أن يبني المرء تعامالته على مدى استفادته من الناس !!
وليس عيبا أن يكون للفرد زمالء تجمعه المصلحة معهم ولكن العيب كل العيب أن تكون عالقتك بالناس كلهم عالقة منفعة
قائمة على البرجماتية المحضة ال مكان فيها للصداقة واإلخاء فتصير بال صديق ....بال أخ ...........بال حبيب...........
ومن هذا النوع تجد من ال يتذكرك بوصل إال عند رومه مصلحة منك فهو كالتمرة الحلوة حين حاجته إليك ووقت استغنائه
حنظل مر
وحنظل كلما استغنيت للجاني كالتمر أنت إذا حاجة عرضــت
وما افتقرت فأنت الواغل الداني تنأى بودك ما استغنيت عن أحد
يالها من نفوس مريضة ويالها من أشكال وضيعة نست حظ قلبها واشتغلت بحظ بدنها وجيوبها !!
وإن رآك غنيا الن واقتربـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا افتقرت نأى واستد جانـ ــبه
َ إذا
أثنى عليك الذي يهوى وإن كـ ــذ با وإن أتاك لمال أو لتن ـ ـ ـ ــصره
وهو البعيد إذا نال الذي طل ـ ـ ـ ــبا مدلي القرابة عند الميل يطل ــبه
على العداوة على ابن العم ما اصطحبا حلو اللسان بعيد القلب مشتمل
إن كثرة رائمي الزمالة في هذا الزمان حطمت أجمل المعاني اإلنسانية ،وليتهم كانوا زمالء بحق فهم ال يفهمون معنى الزمالة
وهي أدنى مراتب العالقة اإلنسانية ،فعندهم الزمالة منفعة واحدية الجانب ،أما من جانبه فال يعين أحدا فشغله الشاغل نفسه ،
فهو المعان غير المعين ،وعلى الجانب اآلخر كثر نوع الزمالء الذين يأخذون ويعطون ،يمنحون ويربحون ،افعل الخير
وستجده بعد ذلك ،من تحتاجه اليوم سيحتاجك غدا فتحتاجه بعد غد ،ولكن هؤالء كذلك حطموا معاني اإلخاء حين عاملوا
الناس كلهم بهذا المنطق البرجماتي ونسوا حظ قلوبهم من معاني الحب و اإلخالص التي هي أعلى وأسمى من عالقة مصلحة
تجري بين رجال أعمال !!
إن اإلنسان حين تقصر به السبل وتغلق دونه األبواب ويستحكم الكرب وتحيط به الهموم من كل جانب حينها قد يلتمس العون
يد عون تمد إليه من أحد
الزئفين بحق الصداقة فال يجدهم ثم يجد بصيصا من نور األمل ،إنه ٌ
فال يجده و يطالب أصدقاءه ا
52
معارفه الذين لم يخطروا له على بال ولم يظن يوما ما من الدهر أنه سيكون سبب فكاك كربه ،حينها يكون كالعطشان الذي
أُعطي كوب ماء فيسقيه ويسقي معه نبتة صداقة جديدة ،نعم تبدأ الصداقة حينئذ ،فاإلنسان ُجبل على حب من يقدم له الخير
فهو – إن كان سويا – سيكون جميل صاحبه عليه شيئا ال ينسى ،ومن قدم له يد العون ربما دفعه إلى ذلك حب مكتوم
تعن له مرة أخرى ،فيبذر بذرة الصداقة التي تنمو على تربة الحب
لصاحبه فعبر عنه بفعل الخير وانتهز الفرصة التي ربما ال ّ
طى الخير لشيء وقر في القلب ال لشيء من أشياء الدنيا ،تتجسد تلك المتبادل ،حب من أسدى لك المعروف وحب من يع َ
الصورة في عقل وكيان المكروب الذي خذله المتخاذلون ولم يخذله قلب طيب نابض بالحب واللطف في زمن اسودت فيه
القلوب وطفح سوادها فغطى السماء ......................
ويرمي بالعداوة من رمانـ ــي صديقي من يقاسمني همومي
وأرجوه لنائبة الزمـ ـ ـ ـ ــان ويحفظني إذا ما غبت ع ــنه
وجدت
َ تحدث المعجزة وتبدأ عالقة رفيعة وميثاق شديد حين يترسخ ذلك الخلق القويم وهو المشاركة في الهموم حينها تكون قد
بغيتك من الناس كن از ثمينا لن تفرط فيه مهما حدث فهو يبذل لك العون دون أن يحرجك أو يشعرك بإثقال عليه .........
وأضعف أضعافا له في جزائه جزى هللا عني صالحا بوفائه
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه أخا إذا ما جئت أبغيه حاجة
فما ازددت إال رغبة في إخائه بلوت رجاال بعده بإخائهم
ُ
ولعلنا نتوسع في هذا الموضوع في فصل ( على شاطئ الصداقة ) فيما بعد ................................
إن من يظن أن الحياة رخاء فحسب فهو واهم ،ومن يظن أن الصداقة استمتاع وترفيه وسعادة وهناء فقط فقد قصر نظره عن
الكيس من يعلم ذلك جيدا ،ولكن بعض الصداقات أحيانا – لسوء
الفهم الصحيح للصداقة ،الحياة ساعة و ساعة ،حلو ومر ّ ،
الحظ – تبدأ بالكرب والشدة ألحد أطراف الصداقة بل قد يطول الكرب والهم ويفقد الطرف اآلخر متعته المرجوة من الصداقة
وربما يتراخى ويكسل وربما ينكص ويتقهقر ويبحث عمن يشبع احتياجه من متعة الصديق !! ولهذا ولغيره نقول ( من صبر
على صديقه وقت الشدة استمتع به وقت الرخاء ) الشدة زائلة ال محالة ولكن األصدقاء انقسموا إلى فائز وخاسر ،فالخاسر من
لم يبلغ في شدة صديقه وقت الرخاء وانسحب قبل حدوث الفرج ففاته متعة الرخاء ،والفائز من عبر نهر الشدائد إلى ّبر الرخاء
فاستمتع بصديقه وفاز به ..........
هذه حقيقة الصداقة ..............وتلك حال الحياة ............................
53
إن اإلسالم في تعاليمه يسرح بنا في عالم اآلخرة معرجا على الدنيا !! فمن أراد اآلخرة بحق فال بد أن يكون له نصيب من الدنيا
ولعل من أكبر هذا النصيب حسن الخلق وحسن التعامل مع البشر الذي هو من مكمالت اإليمان ،فال انفصام بين العبادة
والمعاملة ،ال انفصال بين عالقة اإلنسان بربه وعالقة اإلنسان بإخوانه ،من فهم األولى فهم اآلخرة ومن اكتفى باألولى وترك
اآلخرة فهو قاصر الفهم ضيق العقل قصر الدين على طقوس و شكليات – هي مطلوبة بالفعل – ولكنه ترك جوهر الدين
......................
إن تفريج الكربات أخذ محله من كالم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد قال ( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس
هللا عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر هللا عليه في الدنيا واآلخرة ،ومن ستر مسلما في الدنيا ستره هللا
في اآلخرة ،والراحمون يرحمهم الرحمن ) هذا هو كمال الربط بين الدنيا واآلخرة و كمال الصلة بين عالقة اإلنسان بربه وعالقته
بإخوانه........
يقول سيد قطب رحمه هللا في ظالل آية ( و يمنعون الماعون ) ................( :يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم
في البشرية .يمنعون الماعون عن عباد هللا .ولو كانوا يقيمون الصالة حقا هلل ما منعوا العون عن عباده ،فهذا هو محك العبادة
الصادقة المقبولة عند هللا..
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة ،وأمام طبيعة هذا الدين .ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل .ألنهم لم
يقيموا الصالة حقا .إنما أدوا حركات ال روح فيها .ولم يتجردوا هلل فيها .إنما أدوها رياء .ولم تترك الصالة أثرها في قلوبهم
وأعمالهم فهي إذن هباء .بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء! وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده هللا من
العباد)................................
بل يكون عون المسلم ألخيه وشده من أزره خي ار من العبادة كقوله –صلى هللا عليه وسلم ( -ألن أمشي في حاجة أخي
المسلم خير لي من أن أعتكف شه ار ) وفهم ذلك الحسن فقال ( :ألن أقضي ألخ من إخواني حاجة خير لي من أن أصلي
ألف ركعة !! )
وها َفِإ َذا ِ ِ صهم ِب ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ
الن َع ِم ل َمَناف ِع اْلع َباد ْ َوُيق ُّرَها في ِه ْم َما َب َذلُ َ
اختَ َّ ُ ّ وأثنى النبي على أقوام يفرجون كرب الناس فقال ( :إ َّن َّهلل أَ ْق َو ً
اما ْ
وها َن َزَع َها َع ْن ُه ْم َو َحَّوَل َها ِإَلى َغ ْي ِرِه ْم ) فكان منع النعم عن من يحتاجها مجلبة لزوالها ..........
َم َن ُع َ
وتبعا لقاعدة الجزاء من جنس العمل قال – صلى هللا عليه وسلم ( : -كان هللا في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )
ولعل التشبيه النبوي والتشبيه القرآني لعالقة المؤمنين بالبنيان أو البنيان المرصوص أدل دليل على الشكل المرجو في اإلسالم
للمجتمع المسلم فهو مجتمع متماسك مترابط في األزمات ال يتراخى وال يضعف مهما كانت الظروف واألحوال
.................
حتى غير المسلم أمرنا بمعونته قال تعالى ( وإن استجارك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع كالم هللا ثم أبلغه مأمنه )
وضرب النبي صلى هللا عليه وسلم أروع األمثلة في القيام بحاجات الناس مع أصحابه وغير أصحابه فعن أنس ابن مالك :
كانت الصالة تقام فيكلم النبي صلى هللا عليه وسلم رجل في حاجة له فيقوم بينه وبين القبلة فما يزال يكلمه فربما رأيت بعض
القوم ينعس من طول قيام النبي صلى هللا عليه وسلم له !!!
54
إن كل ما ورد في اإلسالم في هذا الباب عام في كل المسلمين و غير المسلمين فما بالك بخدينك شق نفسك وصفي قلبك !!
إنه أولى الناس بتفريج الكربة وحسن جواره وقت شدته ،ومن كان غير ذلك فليس من اإلسالم في شيء وليس من الصداقة في
شيء ........
قصر الناس في فهم الدين ،بل تركوا دينهم بالكلية علما وعمال ،عبادة ومعاملة ،صار تحلل المجتمع وانفراطه شيئا
ولما ّ
بدهيا فقد بعد الناس عن النبراس الذي ينير لهم حياتهم ،وبدال من أن يكون الصديق وقت الضيق صرنا نقول :وقت الضيق
ُيفقد صديق !!!!!
تحدثنا في مساحة كبيرة عن مشاركة الصديق لصديقه في همومه و أطنبنا في ضرورتها وفضلها وبقي أن نفصح عن حقيقتها
وصورتها التي ينبغي أن تحدث على أرض الواقع ،فهنا يكثر سوء الفهم ،فربما يفهم القاصر النظر أن المشاركة في الهم تكون
بالمادة ،ويقول (:نحن في زمن قلت فيه القدرة المادية فكيف أشارك صديقي وأنا لست من أهل الثراء والمال ،إن هذا الكالم
قطعا ال يعنيني وحين أمتلك المال سأكون صديقا وفيا أساند صديقي وأقف بجواره حينها !!!!!!!! )............وهو إذ يقول
ذلك ال يفهم معنى الحب ،وال يفهم مشاعر الحبيب الذي يريد المشاركة الوجدانية أكثر من المشاركة المادية ،وعموما الدعم
ينقسم إلى قسمين :دعم مادي و دعم معنوي ،وليس الموضع محل كالم عن الدعم المادي فسوف نفرده بالحديث في فصل
اإليثار ،ولكن كالمنا هنا عن الدعم المعنوي النفسي .................
وحتى نفهم طرق الدعم النفسي الوجداني بين الصديقين البد أن نذكر صو ار من الهموم والكربات التي تصيب الناس وطرق
تعامل الصديق المخلص مع كل كربة فيتضح معنى المشاركة في الهموم ............
◄ إن من صور الكربات التي تصيب الناس عموما واألصدقاء خصوصا السفر ..................سفر الحبيب وتركه للديار
واألحباب ،كربة ال شك فيها فالسفر يترك فيه المسافر أهله وبيته ومرتع شبابه وطفولته ،يترك ذكرياته الجميلة وأيامه التي ال
ينساها من ماضيه ،يترك كل هذا مضط ار سعيا وراء العيش و اكتساب ِقوام الحياة ،يسافر حين يوازن بين استق ارره في بلده و
حياته حياة كريمة بقية عمره فيؤثر قلة االستقرار وفراق األهل واألحباب سعيا وراء عيشة كريمة و حال أفضل ربما في جمع
مال أو في جمع علم ،وأيا كانت األسباب فالسفر قطعة من العذاب ،واختبار لألصدقاء الحقيقيين .............
هل سيثبتون على عهد الصداقة أم ينكصون ؟؟؟
هل سيبقون على ذكرى الحبيب أم ينسونه ويبيعون الغائب بالحاضر ؟؟؟
هل سيبقون على االتصال بالصديق الغائب أم ينشغلون بحالهم وأصحابهم الحاضرين ؟؟؟؟
وهنا تأتي المآزرة والمشاركة في الهم ،ربما كانت تلك الصورة صعبة أو محالة في زمن الناقة والفرس ،حين يفصل بين
المسافر وأحبابه مسيرة شهور فينتهي االتصال و يبقى االنشغال في القلب على إيمان بموعد لقاء ويتكلم الشعر مفصحا عن
مشاعر المحبين كما أفصح ابن رشيق القيرواني عن شوقه لصديقه الغائب :
55
آخ ُر َيت وال لهم ـ ـ ـ ـ ـِي ِ ص ـ ـ ـ ْب ِري أَّو ٌل ِ ِ ِ
َّ لما نأ َ إني وحّق َك ما ل َ
نسيت فِإ َّن قلبي ذاك ـ ـ ـر َ ولئن سلوت فِإّن ـ ــَني ِب َك َوالِ ٌه َ فلئن
َ
الدياجي سافـ ـ ُر بدر َّ ِ الصبا ِح ِب ُمس ـ ــِْف ٍر
ع ْندي وال ُ وجه َّوهللا ما ُ
َنت فيه حاض ـ ـ ُر في م ْج ٍ وعجبت لل َكاس ِ
لس ما أ َ َ ات كيف َتب َّس َم ْت َ ُ
يط ُم َس ِاف ُر َقْلبي َفَقْلبي في الخلـ ـ ـ ِ ِ
عندك ْم
ُ َصَب َح ليت ش ْعري كيف أ ْ يا َ
لما َس ُروا َرِك ُبوا وقلبي طائ ـ ـ ـ ُر َن أَحـ ـ ـ ـ ــِبَِّتي
مر يس ِبُق ُه أل َّ بل ّ
َ
اض ُر وغصن ُقربِك ن ِ هجم الفراق ووجه وصِلك ض ِ
الب َع ُاد ُ ْ ُ ْ َ َ ودَنا َُ اح ٌك َ ْ َ َ ُ
ِ
مثل الجْف ِن أ َْيض ـ ـاً َكاس ُر ِ
الجُفو ِن وأ َْن ـ ـ َت لي
بالب ْي ِن ُ
َ أَْل َب ْستَني ُسْق َم ُ
ناصر الخ ْذالن أََّن ـ ـك حسبي من ِ دمع ال تَ ْمتُ ْن علي َبنصـ ـ ــَْرة
ُ ّ يا ُ
وإِذا أَردت ففيك أَل ـ ـ ـف ِ
عاذ ُر فيك ال ٍح واحـ ـ ـٌد
ٌ َْ َ لي في غرامي َ
حتى علمت بأن طـ ـرفك ساحر ما كنت أعلم أن مص ار باب ـ ــل
كان الشعر وسيلة التعزي والسلوى للمحبين بال وصل فهم عاجزون عنه ،أما اآلن فمع تقدم وسائل االتصال الحديثة لم تترك
الحداثة والمدنية عذ ار لصديق في التخلي عن صديقه و قطعه وهجره ...........إن البريد كان من أبسط وسائل االتصال بين
المفترقين وكان الحاضر ينتظر خطابا من الغائب وهو نافذ الصبر ،ينتظر تلك الورقة المكتوبة بخط يد حبيبه ليذيب بها ثلوج
الشوق ويطفئ بها لوعة الف ارق ،وحين يستقر حبيبه في محل سفره فليس للصديق عذر في أن يراسل صديقه في آخر مكان في
أحبابه ،فيصير الخطاب الصغير المكتوب
َ طول الفراق
العالم ليعلمه دائما ويؤكد له حينا بعد حين أنه باق في قلبه لم ُينسه ُ
بالحبر برهان حب و دليل رباط وثيق بين الصديق الحبيب و حبيبه .................
ثم حدثت المعجزة !! يمكن لألصدقاء الذين يفصلهم األميال والفراسخ أن يسمع بعضهم بعضا .............يسمع بعضهم
بعضا ؟؟!! كيف ذلك ؟ إنه الهاتف ......التليفون ........سيسمع الصديق والحبيب صديقه وحبيبه عبر األسالك ،انتفى
دفعت ماال كثي ار فالمكالمة دولية ،وهنا يبرز الصديق الوفي
َ تكلمت
َ العذر ،ولكن بقيت المحنة ،المكالمة ثمنها غال ،وكلما
بالورق في سبيل سماع صوته وا طمئنانه عليه بنفسه ،سيذهب إلى ( السنترال ) ويدفع ثمن الذي ال يبخل على صديقه ِ
المكالمة عن طيب نفس بال ندم أو تردد ،كل هذا المال يهون أمام سماع صوت حبيبه ،وهل هنالك أغلى من أن يسمع
الحبيب صوت حبيبه ؟!!!
ثم توالت معجزات العصر ،وظهر ( اإلنترنت ) وصار بإمكانك إرسال رسائل كثيرة وكبيرة بل يومية بال ثمن مادي يذكر عبر
البريد اإللكتروني و حينها تعرف أخبار غائبك يوما بعد يوم فازداد انتفاء العذر ..........
وأخي ار انتهت األعذار وفنيت حين صار بوسعك الحديث مع غائبك وجها لوجه كأنه معك في بيتك عبر ( الشات ) ومواقع
التواصل االجتماعي صوتا و صورة في أي وقت شئت ،فاجتمع المفترقون و انتهى شتات األحباب .......................
ولكن .....................
مع كل هذا اليسر نجد قلوبا مريضة ال تلقي باال ألصدقائها ،تبخل عن الود والصلة ،تستثقل الوصل وهو بال ثمن !!!
56
يترك الصاحب المقيم صاحبه المسافر األيام والشهور بال اتصال وحين يتفضل ويتذكر صاحبه يكلمه دقائق معدودة وهو فيها
من الزاهدين !!
وحين يلوم الصديق الغائب صاحبه على هجره وانقطاعه نجد العلل الباهتة واألعذار الحامضة التي ال تسمن وال تغني من جوع
بل تزيد الجفاء وتقطع آخر شعرة من شعر الصلة بين صديقين كانا متحابين متالزمين وقت الرخاء والحضر فتباعدا بالجفاء
وقت الشدة والسفر ........
خبرت م اررة السفر وذقت ألم الجفاء ممن ظننتهم أصحابا و أصدقاء ،فافترق الناس عندي فريقين ،فريق صان الود
ُ لقد
والحب واستمسك بعروة المحبة واإلخاء ولم ينسني وإن كنت بعيدا وحيدا ،كنت عندهم الحاضر الغائب !! وفريق وضيع ،لم
يرع األخوة والصداقة وباع البعيد واشترى القريب ،اشترى اللحظة الحاضرة الفانية وترك اللحظة الماضية الباقية ُ
فشرخ بناء
الصداقة ثم ترّنح ثم تهدم وكأن شيئا لم يكن وكأن ذكريات الماضي كانت أحالما !! وكأن معين المحبة كان سرابا !!
..........................الفريق األول علم حقيقة الدنيا ووعى حقيقة الصداقة التي ال تُنهيها المف ّرقات والفريق الثاني لم يعلم
الحقائق فكان ظلوما جهوال ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون )..........
ال يستويان أبدا عندي ،فالفريق الوفي المخلص بات متوجا على عرش قلبي ،فاز بمكانة سامية ال ينازعه فيها أحد ،والفريق
الوضيع الغادر كنستُه من قلبي وألقيته في مزبلة الماضي ال ألوي عليه وال يجد لقلبي بعد ذلك سبيال .............
ثم تمر األيام والسنون وتنقلب األحوال ويصير الغائب حاض ار والحاضر غائبا ،فبعد التئام الشمل وجمع المفترقين ،يصير
صديقي الذي كان معي في محنتي هو المسافر ،سيترك أهله ودياره كما تركتُهم من قبل ،وهنا جاء وقت سداد الدين ،إنه
كنت
موعد رد الجميل بين األحبة ،فأقف بجواره في محنته وأتصل به كما كان وده موصوال من قبل وأتذكر رسالته لي حين ُ
مساف ار يقول فيها :أعذرني يا أخي أقسم لك ليس معي من المال ما يم ّكنني من االتصال بك !! ،فهو قصرت يده عن مكالمتي
ولكن واجب الصداقة لم يمنعه من أن يرسل لي رسالة على الهاتف يعتذر فيها عن فقره وحاجته التي منعته من أن يسمع
صوتي !!! ،أتذكر هذا وأتذكر الخائنين المائنين الذين غدروا بي وتخلوا عني في محنتي وهم أغنياء ،أتذكر كل هذا وأنا
أتواصل مع صديقي الغائب وأنا أشد من أزره وأقويه في محنته و قلبي راض مطمئن ،فهذه هي الصداقة ،وهذا هو الحب
،وهذا هو الوفاء لمن ال يعرفون معاني الوفاء .............................
◄ إن من أشد المحن التي قد تصيب اإلنسان ويحتاج فيها إلى الدعم المعنوي محنة المرض .................
فهذا الصاحب أو الصديق يكون وسط إخوانه ضحوكا بشوشا مرحا ،يشارك أصحابه وزمالءه في أنشطتهم ،يمارس حياته
بصورة طبيعية وفجأة يحدث حادث يغير هذا الوجه الضحوك ويتحول االبتسام إلى عبوس ،إنه المرض الذي يقعد اإلنسان في
فراشه ويحرمه من ممارسة حياته ويوقفه عن دراسته ويمنعه من عمله واكتساب رزقه ،و قد يكون المرض طويال مزمنا وقد
يكون ال يرجى شفاؤه وقد يكون مغي ار لهيئة الجسم يعجز صاحبه عن القيام بأنشطته نتيجة حادث أو إصابه ،وهنا يحتاج
المريض إلى القلب الحنون العطوف الذي يشاركه محنته ويؤنس وحدته ،وليس األهل كافين لهذا الدور ،فالمريض يحتاج
للمؤازرة الخارجية ،مؤازرة من خارج البيت ،قلبا محبا كان مشاركا له في السراء ولن يتخلى عنه في الضراء ،إنه دور
57
الصديق المخلص الذي يديم الزيارة لصديقه وربما يالزمه إن احتاج لذلك ،إنه القلب المخلص الذي يقول بلسان حاله لصديقه
إنك لست وحدك ،هنالك من يحبك ولن يتنازل عنك مهما حدث ...................
في هذه الحال يتميز الصديق عن األصحاب والزمالء ،فاألصحاب والزمالء زيارتهم قليلة لعلهم يزورونك مرة أول مرضك ثم
تنقطع الزيارة ،فماذا يرجون من صاحب مالزم للفراش ،هم يريدون الضحكات والمزاح والسمر بالليالي ،وهذا ما ال يتوفر فيك
اآلن ،فأنت صرت مصدر كآبة وهم ،وهم ال يريدون هما على همومهم ،يكفيهم ما يحملونه من هموم ،فيذهبون يبحثون عن
صاحب مهزار آخر يقضون أوقاتهم معه ،كل هؤالء الغثاء يذهبون ويبقى الصديق المخلص الذي ال يرجو من صديقه نفعا وال
مصلحة ،الذي يريد الحب من صديقه والثواب واألجر من خالقه فهو يعلم أنه حين يزور صديقه يجد هللا عنده !! ويعلم أن
عيادة المريض من حق المسلم على أخيه ويعلم تمام العلم أن زيارة صديقه في مرضه من أسباب دخول الجنة ،يعلم كل هذا
ويقوم بدوره على أكمل وجه ................
ومن دوره األساسي تذكيره لصديقه وهو في محنته بما أعده هللا للصابرين على الشدائد من أجر ومثوبة ،فهو يعلم أن كل
مصيبة تصيب المؤمن يكفر هللا بها عنه ،وأن االبتالء عالمة من عالمات حب هللا لعبده حتى يعلي درجاته وأن المعافين
يغبطون المبتلين يوم القيامة لما يجدون من عظم أجرهم ،كل هذا يذكر الصديق به صديقه ،فالمؤمن حين يكون وحده ربما
أفضل ِمن الصديق ليقوم بهذا الدور العظيم الذي هو ترجمة لألخوة في
ُ يغفل عن تلك اإليمانيات فيحتاج من يذكره بها َ ،ومن
هللا بحق ...............
هنا يصبر المريض و يقبل على الدنيا وعلى ربه غير ناقم وال قانط ،فقد توفرت له سبل الصبر
......................................
ومن أعظم أدوار الصديق إحساس صديقه المبتلى أنه يشعر به ويتألم لمرضه ويرجو هللا أن يزيح همه ويتمنى أن يكون الشفاء
المعتصم إلى عبد هللا بن طاهر : بيده ليزيح عن أخيه كربه شأنه كما كتب ُ
قام نزيالَ أو أن يكون بك َّ
الس ُ َع ِزْر علي بأن أراك َعلـ ـيالأْ
ُعيرها لك ُبكرةً وأَص ـيالفأ َ المـ ـِتي
لس َمالك َ
دد ُت َأني ٌ َف َو ْ
اك َب ِديـ ـال
وأكو َن مما قد َع َر َ فتكو َن تَبقى سالماً بس ـ ـالمتي
َح َّب َخليال وكذا الخليل إذا أ َ أخ لك َي ْشتكي ما تشتكي هذا ٌ
إنه ال يتمنى فقط أن يشفى بل يتمنى أن لو كانت صحته بيده فيعيرها لصديقه فيراه بخير حال فهو يشعر أنه المريض ال
صاحبه وهذا كمال إحساس الصديق بصديقه و هذا تمام الحب .................
بل تمنى أحدهم المرض لنفسه وال يكون صديقه عليال :
يوماً بشهر وأن هللا عافـ ـ ـاه حماه بي كانت مضاع ـفةيا ليت ّ
ويجعل هللا منه البرء عقـ ـباه فيصبح السقم منقوالً إلى جسدي
إن المريض حين يكون له صديق حقيقي من هذا النوع النادر يسعد بمكثه عنده وكالمه معه ويتمنى أن يطول بقاؤه معه فهو
بلسمه الشافي الذي يخفف عنه وطأة مرضه ،وليس الحال مع الزمالء واألصحاب فشتان بين هذا وذلك فالصديق ال غرو ال
يدخل في قول الشاعر :
58
اللحظ بالعين وجلس ٌة لك ِم ْثل َّ يوم ب ـين َي ْومـين ِ
َ الم ْرء ٌ
عيادة َ
ذاك تَ ْسآل ب ـحرفين
يكفيك من َ ال تُْب ِرَم َّن َمريضاً في ُمساءلة
الجلوس عنده :المريض ُيعاد والصحيح ُيزار !!!
َ وليس فيه كذلك قول بكر بن عبد هللا لقوم عادوه في مرضه فأطالوا
المرضى من أمراضهم ،يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس !!!! أشد على َ العّواد ُّ
وال قول سفيان الثوري ُ :ح ْمق ُ
فإن هذا الكالم وأشباهه إنما هو في الزمالء والمعارف من عامة الناس ال في الصديق المقرب ،فال كلفة بين األصدقاء – كما
تكلمنا من قبل – ناهيك بكون قرب الصديق من صديقه قرة عين له و راحة نفس واطمئنان قلب !!
ولعل الحالة الوحيدة التي يجب على الصديق المقرب أن ينصرف فيها مبك ار حين يشاركه الزيارة الزمالء والمعارف فإنه لو
انصرف الزمالء وبقي هو صارت الحساسيات بينهم وبين زميلهم المريض ويشعرون بتفضيله لصديقه عليهم ويحدث الحسد
والشقاق وربما الوقيعة بين الصديقين لذا فعلى الصديقين االحتراس من هذه األمور !!
ومن دور الصديق في مرض صديقه الكلمة الطيبة والثناء الجميل الذي يقوي عزيمة الصديق ويعطيه أمال في نفسه كما قال
الشاعر:
القمر
الشمس ال بل ُي ْخ َسف ُُ قد تُ ْكسف الضرر
ُ السْق ُم و
ال َغ ْرو إن نال منك ُّ
البص ـ ـ ـ ـ ـر
السمع و َ
ُ ِفداً ُلنورك ِّ
مني يا ُغ ّرة القمر ال ّذاوي َغضارتُ ـ ـ ـها
الهصـ ـ ـ ـ ـ ـر
الضرغامة َ وع ُك ًفهكذا ُي َ إن ُيمس جسمك موعوكا بصاليـ ـ ٍة
الحسام فِإن تُْقَلـ ـ ـل مضـارُبه
فقبَله ما ُيَف ّل الص ـ ـ ـ ـ ـ ــّ ِارم ال ّذكـَرأنت ُ
َ
فما أسعده ذاك اإلنسان حين مرضه حين يجد صديقه بجواره يحنو عليه ويغذيه ويقويه بعصارة الحب !!!!!!!!
وما أشقى من عاش مرضه وحده بال معين وال أنيس ........
ببر أو سـ ـ ـ ـ ـ ـالم
يشرفني ّ حر
مرضت فلم يكن في األرض ّ
كأن عيادتي بذل الط ـ ـ ـ ـعام وضنوا بالعيادة وهي أجـ ـ ـ ـر
ّ
لقد عشت تلك اللحظات لحظات المرض ،لحظات قاسية اكتسبت قسوتها من قسوة الناس من حولي حين وجدتهم بين غير
مبال بحالي و بين هاجر ال يلوي علي كأنه وجد بغيته بمرضي وانعزالي ،وبين غير محتمل لمرضي وأزمتي وكأنني صرت
وطيب خاطري .........................
وفي شد من أزري ّ عبأ عليه وبين من تخلى عني وألقاني خلف ظهره وبين مخلص
ّ
هذا حال الناس تظهر معادنهم وقت الشدائد ..
إن ذكريات المحن ذكريات مأساوية ُيعرض المرء عن ذكرها لئال يضع يده على جروح قد التأمت فيؤلم نفسه بتلك الحوادث
المفجعة التي مضت وردمها الزمان ،هذا في المحن عامة ،ولكن من بين تيك المحن كلها هناك محن يسعد المرء بتذكرها ،
59
وينشرح صدره حينما يحكيها ليس للمحنة ذاتها وإنما لشيء حلو المذاق كان في هذه المحنة ،إنها المحنة حين يشترك معك
صديقك وحبيبك فيها ،فهي لم تصبك وحدك وإنما أصابتك وحبيبك سواء ،فتعاونتما وتآزرتما لتخرجا من المحنة ،تتذكر تلك
األيام وصدرك رحب وتشعر بأنها كانت أياما حلوة على رغم م اررتها ،ناعمة على رغم قسوتها ،والفضل في ذلك يرجع
لالشتراك ال الوحدة .................
نظرة تأمل لقول هللا تعالى ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) لماذا قال هللا وهو الخبير بعباده هذا الكالم
؟ قاله ليبين أن اآلخرة تختلف عن الدنيا ،فعذاب اآلخرة ال يخففه االشتراك بين المعذبين بينما عذاب وكربة الدنيا – وهو
المعهود – يخففها شريك لك في الكربة يعاني نفس آالمك ويشكو نفس أحزانك فال تشعر أنك وحيد في هذا الهم فيخف الهم
ويقل األلم !!!
َن التَّأ ِ
َسي ص ِائ ِب ِفي ُّ
الد ْن َياَ ،وَذلِ َك أ َّ َه ُل اْل َم َ
َسى أ ْ
َسي َك َما َيتَأ َّ الن ِ َّ ِ
ار التأ ّ َه َل َّ
ّللاُ تَ َعاَلى أََّن ُه َمَن َع أ َْعَل َم َّ
وفي ذلك قال القرطبي ( :أ ْ
َّ
ِ ِِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اء: ُس َوةٌَ ،ف ُي َس ّك ُن َذل َك م ْن ُح ْزنهَ ،ك َما َقاَلت اْل َخ ْن َس ُ
َح ُد ُه ْم :لي في اْل َب َالء َواْل ُمص َيبة أ ْ ول أ َ َه ُل ُّ
الد ْن َيا َفَيُق ُ َي ْستَ ْرِو َح ُه أ ْ
َعَلى ِإ ْخ َو ِان ِه ْم َلَق َتْل ُت َنْفسـِي ين َح ْولِي ِ
َفَل ْوَال َك ْث َرةُ اْل َباكـ ـ َ
َسي ).... ِ َّ ِ ُع ِّزي َّ َخي َوَل ِك ْنوما يب ُكو َن ِم ْثل أ ِ
النْف َس َع ْن ُه بالتأ ّ أَ َ َ َ َْ
خضم االمتحاناتّ إن كثي ار من الصداقات تبدأ من االشت ارك في المحن ،فكم من صداقة ازدهرت بين زميلي دراسة وهما في
والضغط النفسي حين تعاونا وتشاركا فتحابا وتصادقا ثم زالت المحنة وولدت صداقة غضة نضرة !! ،وكم من صداقة بزغت
بين مجندين في الجيش يعانيان أقسى الظروف بل يخوضان الحرب معا ولكنهما صب ار وتآز ار و خاف كل منهما على صاحبه
وازداد خوف كل منهما على صاحبه حين رأى الموت يتخطف الرفاق من حوله فخشي على رفيقه الفراق األبدي بعد ساعات
األنس و التكاشف !! ،فتحابا فكانت صداقة جديدة وليدة المحنة ولكنها استمرت وقت الرخاء !! ،وكم من زميلين مسافرين
تركا الديار والناس فلم يجد كل منهما سوى صاحبه فصب كل منهما ماء الحب والود فنبعت عين األخوة من بين صخرات
الغربة والعزلة ثم عاد كل منهما من سفره وقد اكتسب شيئا جديدا في حياته لم يكن ليكتسبه لوال محنة الغربة وهو الصديق
المخلص !! ..............وكم من سجينين سجنا ظلما وقه ار -وما أكثر المظلومين في زماننا -كانت ظلمات السجن لهما
نور حب وضياء صداقة كانت تعطي األمل و تحّلي م اررة القهر حتى انفرج الضيق وزال الظلم وبقيت الصداقة الحلوة التي ال
تُنسى أبدا !!
إنها الكربة حين تستحيل فرجة والليمون حين يستحيل عسال ........
إنها المحن اللذيذة والكرب اللطيفة .....
اليفهم هذا الكالم إال من جرب الصداقة و ذاق طعم الحب !!!!
وأخي ار أقول مساكين هؤالء المحبون ،مشتتون في همومهم يحملون همومهم وهموم أحبابهم ،يصيبهم الكربات فيحملونها فوق
ظهورهم ويحملون أضعافها من قبل أخوانهم ،تلك هي المحبة وهذا هو الصدق ّ ،
هم ممزوج بالحب ،ومودة ممزوجة بالكرب ،
و ِمسك ممزوج بال ّرامك األسود !! ...........
60
-3المشاركة واإليثار
هل جربت يوما أن تعطي بال مقابل ؟؟
هل جربت أن يعطيك إنسان بال مقابل ؟؟
هل حدث أن احتجت ثمن الدواء لتنقذ به حياتك فوجدت صديقا مخلصا يضع يده في جيبه فيعطيك كل ما فيه – وهو محتاجه
-راضيا باسما ؟؟
الدين فبادرك صديقك بسداده وهو محتاج لكل قرش يعطيه لك ؟؟ هوة َ
هل سقطت يوما في ّ
إن ذاك هو العطاء ........و هذا هو اإليثار ،شعور نبيل وخلق رفيع سمعنا عنه في كتب السابقين و حكى لنا عنه القرآن
الكريم ،ولكن فقدناه من زماننا التعيس أهلِه المغبون ساكنوه !!
ومن يضر نفسه لينفعك إن أخا الهيجاء من كان معك قال المأمون :
بدد شمل نفسه لينفعـ ــك ومن إذا صرف الزمان صدعك
هذا هو الصديق من يعطي ويبذل بل يفضل صديقه على نفسه حتى إذا كان عليه االختيار بين ضرر نفسه وضرر صديقه
اختار أن يقع الضر عليه وال يصاب خدينه وحبيبه بمكروه أو أذى ............
◄ إن اإليثار خلق أمومي حين يكون بين األصدقاء يكون أسمى من مشاعر األمومة نفسها ؛ فرابطة األمومة خيطها ملون
بينما خيط الصداقة شفاف ال يراه عامة الناس !!
أقصد أن إيثار األمومة شعور فطري جبلي ليس لإلنسان اختيار فيه فالمرأة التي كانت على عهد النبي صلى هللا عليه وسلم
وكان معها ثالث تمرات ولها ابنتان فأعطت كل واحدة تمرة ثم قسمت الثالثة بينهما إنما فعلت ذلك لنداء فطري داخلي خلقها هللا
عليه فالخيط إذن يراه الناس ويعونه أما حين يحدث ذلك بين األصدقاء فاألمر مختلف ؛ فدهماء الناس يظنون ذلك حماقة
ويقولون أمثلة مادية ال عالقة لها بدين وال خلق وال شعور يقولون :ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع !! فما أحتاجه أنا أولى
ادعاء
ً بي من صديقي !! فحين يحدث اإليثار بين قلبين متحابين فالخيط إذن شفاف ال يراه هؤالء البشر الحمقى المبصرون
وإنما يراه أهل البصيرة ال يراه غيرهم!!
◄ إن موقف اإليثار موقف عسير حين يقف اإلنسان بين نارين نار أن يتخلى عن حاجته في سبيل حاجة أخيه ونار أن
يتخلى عن أخيه لينفع نفسه ويهدم الصداقة بيده !! ،إنه اختبار للصداقة وامتحان لمشاعر الصديق ،هل سيفكر في األمر أم
سيؤثر حبيبه بال تردد ؟؟ إنه ربما يؤثر أخاه تحت ضغط سيف الحياء ولكن ...............هل سيكون صادقا مع نفسه
فيعطي بال تردد وال تفكير ؟؟
إن من يفعل ذلك – أعني الباذل غير المتردد -فهو الصديق حقا وصدقا من استمع لقول هللا تعالى ( و يؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) فاستجاب مملوءا بالحب واإليمان والصدق فهذ ا هو
61
المفلح وهذا هو الغريب كذلك في زماننا حين سيصفه الناس بالسذاجة والبالهة ولكنهم في الحقيقة هم المغبونون وهو المفلح
الفائز في الدنيا بسعادة الحب والصداقة وفي اآلخرة بسعادة الجنة ورفقة من أحب ( إخوانا على سرر متقابلين ) .............
إن اإليثار في المواقف الصعبة لهو ترجمة عملية للحب الصادق وتمثيل مرئي لنظرية األنا التي تحدثنا عنها آنفا ،فليعلم
األصدقاء جميعا أن الحب والبخل ال يجتمعان في قلب صديق أبدا ولعل ناظ ار متأمال آلية اإليثار في القرآن يجد أن ذكر
اإليثار جاء بعد ذكر الحب فقال تعالى ( والذين تبوءوا الدار واإليمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ) فأتبعها قائال ( وال
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم )....فهو إشارة واضحة إلى أن اإليثار هو الترجمة العملية للحب
الصادق ومنه ما قال حازم القرطاجني :
ٍ
إخالص وإضمار ِ
كل ٍ َضمرت في ِّ
جل عن ّ
قد َّ معتقد إضمار
َ حبكم ُ أ
خلق فو َق إيث ـ ـاري
إيثار ٍ فلو على قدر ِّ
حب المرِء تؤث ـ ـره
ما كان ُ
غد ْت لي ذات إمرار أن َ اع َذ ْوَذَب ْت ْ
وْ
الدنيا َحَل ْت لكم وما أُبالي إذا ُّ
ِ
كل نعي ٍم ذات تكـ ـ ـ ـرار
أسباب ّ
نعيم فْلتَ ُد ْم لكـُُم
ُ نعيمكم لي ٌ
ْ
وتعجب المتعجبون ممن يزعمون الحب و الصداقة وعند الملمات ال يكونون مؤثرين لمن زعموا حبهم :
وهذا الصديق المحب يستحي من نفسه وهو صادق معها أن يحتاج صديقه لقمة عيش له يحتاجها هو فيمنعها عنه مستأث ار بها
دونه إنه إ ًذا ظلم وفحش وحسنات األبرار سيئات المقربين !!
ظلم لهم وعق ـو ُق
تنال يدي ٌ
ُ األخال ِء بال ـذي
َّ اساة
وتركي مو َ
وأخي ار من لم يعرف اإليثار لم يعرف الحب ومن لم يعرف الحب لم يعرف األصدقاء !!
عند الحقيقة إخوان وأخ ـدان اعا فليس له َمن كان للخير َّ
من ً
62
إن في اإليثار صو ار مشرقة وقصصا متأللئة يستضيء بنورها المحبون الصادقون ،وال حديث عن اإليثار بال كالم عن العالقة
بين صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد كانوا بحق نعم اإلخوة ونعم األصدقاء ،هم تربوا على يد خير البشر فاستقوا
معاني الحب واإلخالص من الوحي اإللهي وكانوا خير ملهمين لمعاني اإليثار ........
(لما أخذ الرسول صلى هللا عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين واألنصار آخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن الربيع
األنصاري فقال سعد ألخيه عبد الرحمن أي أُخي أنا أكثر أهل المدينة ماال وعندي بستانان ولي امرأتان فانظر أي بستاني
ّ ّ
أحب إليك حتى أخرج لك عنه وأي امرأتي أرضى عندك حتى أطلقها لك !! فقال عبد الرحمن بن عوف بارك هللا لك في أهلك
ومالك ولكن دلني على السوق ).......
إنها قصة تضرب أروع المثل في المشاركة في الملك ،فهو عرض عليه نصف ماله بل عرض عليه إحدى نسائه – وإن كان
األمر مبالغا فيه أن يستغني المرء العربي عن زوجته ويعطيها لغيره ولكن األمر محمول على ثقة سعد بن الربيع في أن عبد
الرحمن لن يقبل ذلك – فرد عبد الرحمن بما هو أروع وهو عدم رغبته في حرمان أخيه من ممتلكاته فهو ال يريد أن يستفيد
مقابل حرمان أخيه من بعض ماله ،وربما عزة نفسه منعته من ذلك خصوصا أن الصداقة واألخوة كانت في بدايتها فلم تترسخ
بعد معاني قلة الكلفة بينهما وهو بال شك ما سوف يترسخ فيما بعد ،رسخه القرآن الكريم في نفوسهم كما تكلمنا عن قضية
زوال التكلف بين األصدقاء ................
لم يكن ذلك حال المهاجرين وإخوانهم من األنصار فحسب بل كان حال المؤمنين المتحابين جميعا ،وانظر لقصة أبي هريرة
رضي هللا عنه حين جاءه رجل فقال إني أريد أن أؤاخيك في هللا فقال :أتدري ما حق اإلخاء ؟ قال عرفني قال :أال تكون أحق
بدينارك ودرهمك مني !!
قال :لم أبلغ هذه المنزلة بعد ،قال فاذهب عني !!
إن هذا الرجل لم يفهم معنى الصداقة حقا ،ظن أن اإلخاء متعة ومؤانسة بال حقوق وال واجبات فاستحق أال ينال شرف صداقة
أبي هريرة الذي كان من جيل المحبين وزمن الصداقة واإلخاء !!
يترس علىبل كان الصحابة يؤثرون رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على أنفسهم وهل من شاهد خير من أبي طلحة الذي كان ّ
الرسول يوم أحد ليحميه ويقول ال تشرف يا رسول هللا ال يصيبونك نحري دون نحرك ،فوقى بيده الرسول فأصيبت يده ُ
وشّلت !!
وهل كان أبو طلحة أوفر نصيبا من علي بن أبي طالب الذي نام في فراش الرسول يوم الهجرة وهو يعلم أنه قد يدفع حياته ثمنا
لهذا اإليثار وتلك التضحية !!
بل إن سبب نزول آية ( ويؤثرون على أنفسهم ) أن رجال من الصحابة بات به ضيف أرسله إليه رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم فلم يكن عنده إال قوته وقوت صبيانه فقال المرأته ّنومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك فنزلت تلك اآلية
العظيمة !!
إن ضيفا غريبا نزل عند ذلك األنصاري ال يربطه به سوى أخوة اإلسالم قدمه على أهله وأوالده ،فليت شعري ماذا يفعل
الصديق لصديقه الحبيب ؟ !
63
ودأب على هذا الدرب تالميذ الصحابة من التابعين لهم فنرى علي بن الحسين وكان في زمنهم يقول :هل يدخل أحدكم يده في
كم أخيه وكيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه قالوا ال فقال :فلستم بإخوان !!
وقال الحسن :كان أحدهم يشق إ ازره بينه وبين أخيه !!
ول ننظر لهذه القصة المعبرة التي يحكيها أبو سليمان الداراني يقول :كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب فأقول له
أعطني من مالك شيئا فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد فجئته ذات يوم فقلت أحتاج إلى شيء فقال كم تريد
؟ ........................................فخرجت حالوة إخائه من قلبي!!
سبحان هللا العظيم لحالهم ،لكونه لم يعطه كيس نقوده ليأخذ منه ما يشاء مرة واحدة خرجت حالوة إخائه من قلبه !! هو لم
يمنعه من ماله بل سيعطيه ولكن ليست هذه األخوة عندهم ،األخوة لها منزلة أسمى وأرفع فأي تغير في هذا السمو ال بد له من
وقفة حتى ال تتردى الصداقة وتنزل إلى منازل سافلة تهوي بها في مكان سحيق !
الد ْنيا َّ
كلها لي فجعلتها في فم أخ أن ُّ
و الداراني فهم المعنى الصحيح لإليثار فأراد أن يعامله أحباؤه كما يعاملهم فكان يقول :لو َّ
ِمن إخواني الستقللتها له................
هو يريد أن يرضي حبيبه بكل ما يملك حتى يعطيه ما تضن به األنفس ويعز عندها ..............
لذلك قال بعض العلماء العارفين :إن حق المال بين اإلخوان على ثالث منازل الدنيا اإلقراض من فضل المال والوسطى
المشاركة في المال والثالثة العليا اإليثار بما معك من مال !
ومن حكاياتهم في اإليثار ما حكى أبو الحسن األنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثالثون رجال بقرية من قرى الريّ ومعهم أرغفة
معدودة ال تشبع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منه شيئا إيثا ار
لصاحبه على نفسه !!................
طعمان الحب والصفاء قبل الماء والغذاء !!
فما أجملها من أكلة حلوة هنيئة وإن كانت قليلة حين يشاركك فيها حبيبك فتَ َ
الهذلي الشهير ( هذا التصافي ال
إن العرب قبل اإلسالم عرفوا معنى اإليثار بين األصدقاء وال أدل على ذلك من المثل العربي ُ
تصافي المحلب !) وأصله أن هذيال أصابت دما في بعض العرب ،فأسر أصحاب الدم رجلين من هذيل متصادقين فقالوا لهما
:أيكما أشرف فنقتله بصاحبنا ؟ فقال كل واحد منهما أنا ابن فالن الحسيب النسيب فاقتلوني دون صاحبي !! فكل بذل نفسه
للقتل دون صاحبه فلما أروا من تأبيهما قالوا :هذا التصافي ال تصافي المحلب أي :تصافي المنادمة على الشراب ،فصفحوا
عنهما فكان اإليثار بالنفس وهو أعلى منازل اإليثار سببا في نجاتهما !!
زلفى إليكم وهذا بعض إيثاري ملكت سوى َنفسي ِّ
أقرُبها ُ وما
وهنا الكالم عن أسمى صور اإليثار وهو اإليثار بالنفس ،أن يبلغ حبك صديقك أن تفديه بروحك ،أن تقدم حياته على حياتك
إن تعارضت الحياتان !! وهي صورة إسالمية رفيعة ليست من نسج الخيال وإنما فعلها العرب وفعلها المسلمون وفي قصة
اليرموك الشهيرة – إن صحت – دليل على ذلك ............
قال حذيفة العدوي :انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول :إن كان به رمق سقيته فإذا أنا
به فقلت له أسقيك فأشار برأسه أي نعم فإذا أنا برجل يقول آه آه فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص
64
فقلت أسقيك فأشار برأسه أي نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار إليه هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى
هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات !!!............
فرحمهم هللا أجمعين أعطوا األخوة حقها وهم في آخر أنفاسهم بل آثروا إخوانهم على أنفسهم بحياتهم فنعمت األخوة ونعمت
المحبة !!
والجود بالنفس أقصى غاية الجود يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها وفي ذلك يقول الشاعر :
ومما يحكى في اإليثار بالحياة :
غرقت سفينة صغيرة ،فنجا راكبان ،تعلقا بخشبة واحدة ،،وأخذا يصارعان الموج ،ويتصارعان على الخشبة ،،
ثم التفت أحدهما إلى اآلخر وسأله :ألك أهل ؟ قال :نعم أم ،وزوجة ،وأطفال صغار فقال األول :
إذن سأجتهد أن أسبح ،أما الخشبة فهي لك ،لعلك تصل إلى أهلك وترك الخشبة لصاحبه ،واجتهد أن يسبح ،لكنه غرق !!!
واإليثار والبذل يكون بالمال والممتلكات والنفس وأحيانا بالمنزلة الرفيعة كما قال سيف الدولة الحمداني مؤث ار أخاه :
القصوى :المنزلة العليا وقلت تُرى بيني و بين أخي فرق تركت لك القصوى لتدرك فضلها
تونيت عن حقي فتم لك الحق ولم يك بي عنها نكول وإنـ ـ ــما
ولإليثار عندهم نوادر وطرائف ومنها ما ذكره الواقدي قال :
أضقت إضاقة شديدة ،وهجم شهر رمضان ،وأنا بغير نفقة ،فضاق ذرعي بذلك ،فكتبت إلى صديق لي علوي ،أسأله أن
يقرضني ألف درهم ،فبعث إلي بها في كيس مختوم ،فتركتها عندي فلما كان عشي ذلك اليوم ،وردت علي رقعة صديق لي،
يسألني إسعافه لنفقة شهررمضان ،بألف درهم ،فوجهت إليه بالكيس بخاتمه فلما كان في الغد ،جاءني صديقي الذي اقترض
مني ،والعلوي الذي اقترضت منه ،فسألني العلوي عن خبر الدراهم ،فقلت :صرفتها في مهم فأخرج الكيس بختمه ،وضحك،
وقال :وهللا لقد قرب هذا الشهر وما عندي إال هذه الدراهم ،فلما كتبت إلي ،وجهت بها إليك ،وكتبت إلى صديقنا هذا ،أقترض
منه ألف درهم ،فوجه إلي بالكيس ،فسألته عن القصة ،فشرحها ،وقد جئناك لنقتسمها ،وإلى أن ننفقها يأتي هللا بالفرج
!!.......................
هذه قصص السابقين ،من اختاروا الحب واإلخالص على الدنيا الزائلة ،من رجوا اآلخرة بأعمالهم و طلبوا الود بفعالهم ،كانوا
من زمن غير هذا الزمن وكانوا ناسا غير الناس ،ففازوا بحالوة األخوة الحقيقية التي ال يشعر بحالوتها إال من خبر طعمها ،
لم يكونوا ماديين براجماتيين بالمعنى العصري وإنما كانوا يتاجرون في عالم اآلخرة فأجسادهم في الدنيا وأرواحهم تسبح في
األخرة .............
موانع اإليثار
يجمل ابن قيم الجوزية عدة تهم متهم بها من حرم من خلق اإليثار ،فمن كان له صديق أو يزعم أن له صديقا وينسحب عند
داعي اإليثار فهو موضع شبهة وريبة فليراجع نفسه وضميره واألحرى أن يراجع صداقته كلها !!
65
يقول ابن القيم :موانع اكتساب اإليثَار المتعّلِقة َ
بالخْلق :
سببا في األثرة و ُّ
الشح فإن ضعفه يكون ًالقوي يدفع صاحبه للبذل والعطاء واإليثَارَّ ، َّ أن اإليمان .1ضعف اإليمان واليقين ،فكما َّ
شح نفسه فقد أفلح ِ َّ وجل في اآلية التي مدح فيها أهل اإليثَار َّ الشح المطاع ،لذا ذكر هللا َُّّ . .2
أن َمن ُي َوفق في الوقاية من ِّ عز َّ
النفسُّ ،
وتملك األثرة على القلب .3حب َّ
ُّ
فمن َر َّق قلبه والنت طباعه َس ُهل عليه أمر اإليثَار
.4قسوة القلب وجمودهَ ،
الهمة
.5ضعف َّ
هذه تهم ابن القيم على من تخلى عن صديقه مفضال نفسه و مؤث ار ذاته وهي تهم شديدة غليظة ،ضعف إيمان ،شح مطاع ،
قسوة قلب ،ضعف عزيمة ،ال يقل عنها عندي تهمة ضعف الحب وقلة قدر الصديق في قلب صديقه فلو كان شق نفسه
وسمي روحه بحق ما فرق بينه وبين نفسه أبدا أبدا أبدا ....وكيف يفرق بين نفسه وصديقه وهو يعلم أن كربة صديقه كربته
يتلوى لمحنة خدينه وحبيبه ،كيف يهدأ له بال وكيف ينام له جفن قبل أن تقضى حاجة أخيه وقبل أن يزول
وأن قلبه يتألم و ّ
كربه !! إنه الجسد الواحد في أسمى صوره و أروع تجلياته و أبهى أشكاله ......................
سؤال الصديق
هل صحيح أن طلب المال يهدم الصداقة ؟ وهل الصداقة القوية يصيبها الشقوق والصدوع حين تدخل المعامالت المادية فيها ؟
وهل صدق إسماعيل سري الدهشان حين قال :
الصديق الصديق
َ إلى أن يعوز تظل الصداقة في أوجـ ـ ــها
ولو بره باعتذار رقي ـ ـ ـ ــق فإن طلب الم ـ ــال أودى بها
وبالقلب شك يسد الطري ــق فيقـ ـ ــبل في أدب عـ ــذره
إنه للحديث عن هذه المسألة الحساسة ال بد من التفريق بين الصداقة في أولها والصداقة في أعماقها ،فالصداقة في أولها ال
شك هشة طرية ،يكون فيها الترقب والتبين من الطرفين ،فكل طرف يتوخى أن يكون اآلخر صديقا مخلصا بال منفعة وال
ماديات ،حينها وفي أول الطريق الصعب قد تضطر الظروف طرفا لطلب المال من الطرف اآلخر وحينها قد ال يكون االبتداء
موفقا حين قد يتسرب الشك في قلب الصديق المطلوب منه ويظن أن صاحبه أو صديقه المستقبلي هو صديق مصلحة لم
يعرفه ألنه أحبه وإنما عرفه مثل كثير ممن عرفهم ليقنص منه منفعته ويصل به إلى مآربه ،ومتى تسلل الشك إلى الصداقة
تسلل االنهيار ...................
لذا ال أنصح من كان على شاطئ الصداقة أن يسأل صديقه المال فهو يخرب صداقته بيده ،صحيح أن دافع الحب عند
الصديق قد يدفعه إلى العطاء فهو محب صادق ولج بحر الصداقة بكل جوارحه ومستعد للبذل والعطاء بكل ما يملك – وهذا
النوع قليل في ذلك الزمان – ولكن القدر يخفي أسباب انهيار تلك الصداقة ؛ فالصديق الممنوح قد تقصر به السبل عن رد ما
أخذ و تكون المماطالت والتأجيالت وهنا يتسرب الشك ال محالة إلى قلب الطرف المانح الذي لم ير منذ ابتداء تلك الصداقة
المترنحة سوى أنه المانح الباذل للحب والمادة والطرف اآلخر غارق في ديونه مهموم مشغول البال متردد فال هو باذل للود
66
والحب الذي يكلفه ما فوق طاقته النفسية وال هو باذل للمال الذي اقترضه فتبدأ المنازعات والمشكالت وتتحطم الصداقة على
صخرة الماديات ...................
هذا هو الوضع الصحيح لما قاله إسماعيل الدهشان أما الصداقة بعد تطاول العهد عليها ومرور السنين الطوال فصلبة فوالذية ،
فبعد طول العمر انتهى االختبار ،كل طرف ابتلى صاحبه بما فيه الكفاية ،فالثقة مترسخة بينهما مهما طلب صديق من
صديقه فالمانح سيمنح عن طيب نفس بال تردد وال شك فالحب متجذر في أعماق قلبه منذ زمن بعيد ،والممنوح لن يجد حرجا
في أن يطلب من صديقه فال كلفة بينهما وال شك وحين يأخذ سيبذل أقصى ما يستطيع ليرد ما أخذ فهو ليس بالصديق الثقيل
الذي يثقل كاهل صديقه ويحمله ما ال يطيق سيواصل الليل بالنهار ليجمع ثمن ما أخذه ،بل كلما توفر له مبلغ قليل من المال
أعطاه لصديقه حتى يبرئ ذمته أمام هللا وأمام خدينه
هذا هو الحب وهذه هي الصداقة وقد عاينت ذلك بنفسي ! ......................
وفي هذا الصديق الثقيل الذي يحطم صداقته بيده -وهو ال شك أحمق ال يلج صداقة حتى يخرج منها -قال الشاعر :
وأخو الحوائج وجهه ممل ـ ـ ــول عف خف على الصديق لقاؤه من ّ
فإذا غدرت به فأنت ثق ـ ـ ـ ــيل وأخوك من وفرت ما في كيسـ ــه
ويالشكوى األندلسي الذي قال :
من سداد ال سداد من َع َوز لي صديق هو عندي َع َوز
وما أقرب ذلك الصديق الثقيل من قول الهائم أبي علي حين سئل :من تحب أن يكون صديقك ؟ فقال :من يطعمني إذا ُ
جعت
للت !! فقال له العلي بن الحسين العلوي :أنت إنما تريد إنسانا يكفيك
كللت ويغفر لي إذا ز ُ
يت ويحملني إذا ُويكسوني إذا عر ُ
تمنيت وكيال فسميتَه صديقا !! فما استطاع أن يقول جوابا !!
َ مؤنتك ويكفلك في حالك كأنك
يحمله صديقه ما ال يطيق و يزعم أن له حقوق الصداقة فيثقل عليه و يسقط كاهله بال رعاية ومن هذا النوع اشتكى العتبي الذي ّ
ومع أقل عتب أو شكوى ربما يقدح في صداقته ويتهمه بالتقصير و التخاذل في حق الصديق فقال فيه :
ِ ٍ لي صديق يرى حقوقي عـ ـ ِ
هر َفرض ـ ـ ـا وحَّق ُه َ
الد َ نافالت َ ليه َ َ ٌ ََ ُ
رت َعرضـ ـا ِ ثُ َّم ِمن ب ِ طـ ـوالً إلـ ـ ِ
طولها س ُ عد ُ َ يه البالد ُ
َ عت ط ُلو َق َ
واشتهى أن يز َيد في األرض أرضا لت َغ ـ ـ َير َكـ ـ ـ ٍ
ثير لرأى ما َف َع ُ
وأخي ار فاألخ الثقيل غالبا ال يكون إال في ابتداء الصداقة وبثقله يهدمها فهو ال يفهم الصداقة وال يكون له صديق ما لم يفهم
خطأه أما تطاول العمر على الصداقة فال ثقل فيه فال كلفة فيه وال انعدام ثقة أصال اللهم إال النفوس المتبدلة الناكصة عن
العهد التي تغدر بعد وفاء وتنقلب بعد صفاء وهذا له مبحث خاص فيما بعد ..................
67
وقالوا كذلك :إن األموال كلما كثرت خزانها كان أوثق لها ،أما األسرار فكلما كثرت خزانها كان أضيع لها
.............................
......
تكلمت به ِ
ص ْرت أسيره...................... وقال علي بن أبي طالب رضي هللا عنهِ :س ُّرك أسيرك ،فإن َّ
َ
وقال الشاعر :
بسري َّ
عمن سألني لضنين أجود بمكنون التـالد وإن ـني
كتوم ألسرار العش ـير أمين وإن ضيَّع األقوام سري فإنني
هذا هو السر ،ولنا مع السر بين األصدقاء وقفة .................................
وخبايا صدري و مكنون قلبي قال أسامة الشيزري :لي صديق أفضي إليه بسري
في مناجاته و مضمون كت ــبي ال أرى دونه لسري سـ ــت ار
وقيل البن برد األبهري :من الصديق ؟ قال من سلم لك سره وزين ظاهره بك وبذل ذات يده عند حاجتك وعف عن ذات يدك
عند حاجته !!! .............وقال العتبي :إذا استخار العبد ربه واستشار صديقه واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه لنفسه
ويقضي هللا في أمره ما أحب .....................
يقول الدكتور مصطفى محمود ..... ( :والعالج هو اإلفشاء والمفاتحة والمكاشفة ،والمناجاة الحميمة بين يدي صديق أو
حبيب ...والصداقة الحميمة عالج أحسن من الطب ألن التكاشف فيها يتم عن تراض وعن تعاطف وعن حب وعن ثقة ،
بدون غرض وبدون أجر ،الصداقة لها أيد ناعمة تستل األسرار من مكامنها وتحفظها وتحنو عليها وتضمد الجراح و تزيل
اآلالم ،الصديق طبيب عظيم ال يقدر بثمن ،احتفظ بصديق تفتح له قلبك ،وتكشف له خباياك وجروحك ،صديق تغضب
معه وتثور معه وتكره معه ،إن الصديق أحسن وقاية من الصدمات ،ألنك في كل مرة تكاشفه فيها تتحلل نفسك ثم يتم تركيبها
من جديد في سياق سليم ! ) ا.هـ
68
إذا أردت أن تعرف صديقك ممن هم أدنى منزلة منه فلتنظر إلى إجابتك على أسئلتهم :كيف حالك اليوم ماذا بك أين كنت
وأين تغيبت ؟؟ حين يسألونك وتخشى من المصارحة باإلجابة فاعلم أنهم ليسوا أصدقاءك !! وحين تُسأل عن خصوصياتك تلك
فيسيل لسانك باإلجابة بال تردد وال خجل وال خشية فاعلم أن السائل صديقك !!
حين يصيبك الهم والحزن ويغطي االكتئاب وجهك النضر فتتوارى عن الناس فاعلم أن هؤالء الناس ليسوا أصدقاءك !! وحين
تجد نفسك مضط ار للقائهم فتتصنع االبتسامة لتخفي ما بداخلك من حزن لتتهرب من إفشاء أحوالك فاعلم أن من حولك ليسوا
خدناءك ! وسيعجب بعض من يق أر كالمي حين أقول إن من ستصارحه بعبوسك هو صديقك !! من ستؤثره بتغير وجهك فهو
خدينك ! نعم من لن تخجل من إبداء حزنك وغمك أمام وجهه ،من سيالحظ تغير مالمحك ،من ستنفجر باكيا شاكيا حين
تنفرد به هو الوحيد المستحق للقب الصديق !!
بل الصديق فيه خاصية ألطف من ذلك ،فهو من إن كنت بهذا الحال ولقيتَه ومعه زمالء آخرون فتصنعت االبتسام مؤقتا
لتخفي في نفسك ما ال تريد إبداءه لهم فإنه سيعرف أنك في هم وحزن من دون أن تنبس ببنت شفة وسيتحين الفرصة ليسألك
يصدقها الناس جميعا
عن أحوالك في حال خلوة وانفراد فابتسامتك عنده متغيرة وليست االبتسامة المعهودة ،إنها ابتسامة كاذبة ّ
إال الصديق المحب !!
◄ إن السر بين األصدقاء ليس له حدود وال محرمات !! فما يظنه الناس شيئا ال يجوز البوح به إنما هو في حق الناس ال
الصديق ! حتى األسرار الشرعية التي نهى الدين عن البوح بها تذوب بين األصدقاء !! وهنا يقول قائل أ حتى الطاعات ؟؟
أقول نعم حتى الطاعات !! فإن الشرع حين حث على إخفاء الطاعات إنما أمر بذلك خوفا من الرياء ،وال رياء بين األصدقاء
فهل يرائي اإلنسان نفسه ؟!! وإذا كان صديقك ليس بينك وبينه فرق هو شق نفسك وسمي روحك فهل تعامله مثل بقية الناس
؟؟ إن البوح بالطاعات بين األصدقاء باب للتعاون على طاعة هللا ( وتعاونوا على البر والتقوى ) فقيام الليل يهون و يحلو إن
وذكرت ذلك لصديقك كان في ذلك تشجيع وحث لصديقك فتتسابقان
َ كنت تقوم الليل وحدك
شجعك عليه صديقك وأنت إن َ
لطاعة هللا وتتسارعان في مرضاته ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات واألرض أعدت للمتقين ) ( وسابقوا
إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء واألرض ) فهل التسابق في طاعة هللا والتنافس على الخير يكون دربا من
الرياء ؟ وهل التعاون على البر والتقوى يكون شيئا مذموما ؟؟!!!
وقس على ذلك باب المعاصي فحين تبوح لصديقك بمعصيتك هلل فإنك لست مجاه ار بالذنب ،وإنما أنت في مأزق ترتجي النجاة
إن كثي ار ممن يظنون أنفسهم ملتزمين بالدين يضيعون حقوق الصداقة بسبب سوء فهمهم لدينهم فتحدث المشكالت والنزاعات
ويظن المتحذلق الضيق األفق أنه المطبق لدينه الملتزم بسنة رسوله وهو المفرط المضيع لحقوق األخوة والحب في هللا
!!...................
69
◄ إن حاجة اإلنسان للبوح بسره حاجة فطرية ،فالصدور تضيق بأسرارها وتحتاج إلى منفذ تنفس فيه عن نفسها ،وحين
تضيق الصدور باألسرار وتنفس عن نفسها للصديق تكون الراحة ويكون االطمئنا ن وهذا من أعظم أدوار الصديق !! وهذا من
حالوة الدنيا أن يجد اإلنسان من يشكو إليه أس ارره ويبث إليه همومه وصدق من قال :
وقيل :ال يزال المرء في كربة ووحشة ما لم يجد من يشكو إليه !! وقالوا :المصدور إذا لم ينفث جوى والمهجور إذا لم يشك
ورى !!
وتوصل لتلك الحقيقة الماجنون من أهل الشراب والسكر الذين ظنوا الصداقة ملتقى للعبث واللهو فقالوا :
القيان : المدام :الخمر لشرب المدام و عزف القيان وكان الصديق يزور الصديق
المغنيات
إن عظماء الناس كانوا ذوي أصدقاء وكانوا يبوحون لهم بأسرارهم وليس ذلك بعيب وال نقيصة بل من الحاجات البشرية
الفطرية وهل أعظم من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الذي ضاق صدره بسره فأسر به لحذيفة بن اليمان رضي هللا عنه فسمي
بكاتم سر رسول هللا !! وهل أدل على ذلك من حكاية القرآن إلسرار النبي لعائشة ( وإذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثا فلما
نبأت به وأظهره هللا عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض ) و هاهي أم أنس بن مالك رضي هللا عنها يتأخر عليها ولدها
َّ
تحدثن بسر رسول هللا صلى هللا أنس فتسأله ما َح َب َسك؟ قال بعثني رسول هللا لحاجة.قالت ما حاجته؟قال :إنها سر .قالت :ال
أحدا !!عليه وسلم ً
إن كمال فطرة النبي جعله مثل بقية البشر له أسرار وله كاتمو أسرار !!
◄ إن اإلنسان مع سره يتغير مع تغير مراحله العمرية ،فالطفل حين يولد يولد بال ماض يذكر ،فيخرج إلى الدنيا وال يملك
شيئا حتى األسرار ال يملكها ،ثم يرتقي في العمر وتتنوع حاجاته وال يجد سوى األب واألم فيبوح لهما بهمومه وأس ارره ،وعلى
70
عاتق األم العطوفة الحنونة يقع العبء األكبر ،فتصير مالذ االبن الصغير يلجأ إليها ويشكو إليها همومه وأحزانه – في
الحاالت األسرية السوية – حتى عندما يدخل المدرسة ،فعندما يعود منها ال يجد سوى أمه يحكي لها تفاصيل يومه وأدق
أسرار أحداثه ،ويستمر الحال إلى أن يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ وهنا يحدث التبدل والتغير ،ويجد الفتى نفسه يحتاج إلى
مستودع خارجي يستودعه أس ارره ،وللدقة فالنضج الصداقي يأتي في هذه المرحلة – وهو ما سنتحدث عنه الحقا – فيبدأ الفتى
في االنعزال عن أمه وأهله ويركن إلى أصدقائه ،ومع الصداقة تتولد األسرار التي لم يعد الفتى يستطيع بل يتحرج أن يبوح بها
ألمه فيبوح بها لصديقه ،ويالحظ األباء ذلك فيتذمرون ويضجرون ولكنهم ما يلبثون أن يفهموا حقيقة التحول في حياة ابنهم
فيتقبلون األمور بصدر رحب وتسير الحياة ويتسلم الصديق زمام األمور ...........................
◄ إن إخفاء السر عن الصديق خبث ،وقلة الثقة تؤدي إلى احتجاز األسرار بين الصحاب ،وانظر أخي ار لصرخة من صديق
محب يعرف حق الصداقة يقول :
فما فضل العدو على الصديق إذا كتم الصديق أخاه س ـ ـ ار
و كتمان السر بين الصديقين شيء بدهي فمنذا الذي يزعم الحب و اإلخالص ويفشي سر حبيبه الذي استأمنه على سره ؟!
كتوم ألسرار العشير أمين قال قيس بن حطيم :فإن ضيع اإلخوان س ار فإنني
نسيت !!
ُ حفظت ؟ قال :بل
َ وقديما قالوا :قلوب األحرار قبور األسرار ،كما أفشى بعض السابقين س ار ألخيه ثم قال له
والصديق المخلص ال يفشي سر صاحبه مهما تبدلت األحوال واأليام ،ففي وقت المودة كتوم وفي وقت المشاحنة والقطيعة
يسبه بل
كتوم كذلك فهذا هو المعدن األصيل لألصدقاء يظهر وقت المنازعات والخصومات فهو يقول خي ار عن صاحبه وال ّ
يدعو له بالهداية والرشد وفي ذلك يقول أبو سعيد الثوري :إذا أردت أن تآخي رجال فأغضبه ثم ّ
دس عليه من يسأله عنك فإن
قال خي ار وكتم س ار فاصحبه !!
ويظهر اإلحسانا
يخفي القبيح ُ وترى الكريم إذا َّ
تصرم وصله
ويظهر البهتانا
ُيخفي الجميل ُ وترى اللئيم إذا ّ
تقضي وصله
71
وهو تمام ما قاله الشاعر :
رما
ص َإن َ
صاَفى َو ْ
إن َ
ويحَف ُ ِ
الس َّر ْ
ظ ّ ََ ْ يم ال ـ ـ ِذي تَبَقى َم َوَّدتُ ُه ِإ َّن َ ِ
الكر َ
ـر
فأودعته من ُم ْستََقر الحشا قبـ ًا سر تضمنت ِس َّره
ومستودعي ًا
بر
أحطت به ُخ ًا
ُ يوما ما
من الدهر ً ولكنني أُخفيه عني كأن ـ ـنــي
ألني أرى المدفون ينتظر النشـ ار السر في قلبي كميت بحفرٍة
وما ُّ
إن سر صديقي مدفون في قبر بل في أسفل األرضين السبع ال يعلم عنه أحد شيئا بل أخفيه عن نفسي التي بين جنبي بل
تخفيه أذني التي سمعته عن أذني األخرى وكأني بقول نبي الهدى ( :فال تعلم شماله ما أنفقت يمينه !! ) ............
إن المتخبط في من يستودعه سره هو المتخبط في الصداقة نفسها !! فمن يسيء اختيار من يعطيه سره هو من أساء اختيار
الصديق بل قل هو ليس له صديق حقيقي !! فيشكو المسكين أنه باح بسره لمن أفشاه بعد ذلك وهو األحمق ال غيره ،فسرك
لؤلؤة ثمينة تختار لها خزانتها التي تحفظها فيها فإن أسأت االختيار ضاع مالك و جهدك وثمرة عمرك !!
و إفشاء السر داء من أدواء النفوس فالنفوس المستودعة س ار ال يزال بها هاجس أن ِ
أفش السر و نّفس عن نفسك !! فالسر
عندها كالهواء المكتوم في قربة يجاهد فيها حتى يفجرها ويخرج ! وفي ذلك قيل :أصبر الناس من صبر على كتمان سر ،
72
والصبر على التهاب النار أهون من الصبر على كتمان األس ارر !! ،وأكرر هذا حال غير الصديق المؤمن المحب أما غيره
فهو المريض قلبه المولع بالكالم والمسامرات والمحاورات و القيل والقال !!
أضيق
ُ السر
فصدر الذي يستودع َّ إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
وهؤالء المغلوبون التعساء كثرت شكواهم وطال أنينهم والت ساعة مندم !! فقال أحدهم :
ولكنه في النصح غير مريب أمنت على السر ام أًر غير حازم
ُ
فما تطيق له طياً حواشيها وقال ابن الرومي يشكو صاحبه :كان سري في أحشائه لهبا
فلما كتمنا السر عنهم تقولوا وقال محترق القلب آخر :أناس أمناهم فنموا حديثنا
وال حين هموا بالقطيعة أجملوا ولم يحفظوا الود الذي كان بيننا
وال أترك األسرار تغلي على قلبي وال أكتم األسرار لكن أنمـ ـها
تقلبه األسرار جنباً إلى جنـ ـ ـب وإن قليل العقل من بات ليلة
ومثل قول رجل لصديق له – يحسبه صديقا المسكين : -اكتم سري الذي أفشيتُه! فقال :كال لست أشغل قلبي بنجواك ،وال
وأخي ار يبوح أحدهم بشخصيته المتدنية بال حياء وال وتردد فيقول :
أي :كأنك تصب الماء في وعاء مثقوب ! تصبن مـ ـاء في إناء مثلـ ـم وال تود ِع األسرار قلبي فإنما
ولسان حال هؤالء يقول :أنا بصراحة شديدة قلبي كالغربال مهما تضع فيه من أسرار تنفذ منه من الناحية األخرى فال تشغل
بالي بهمومك ومشاكلك ،عندي من الهموم أضعاف همومك ،ال تثقلني بشكواك وأسرارك ،احتفظ بهمك وألحتفظ بهمي ،
ولنتصاحب على ذلك ،سوف تكون العالقة بيننا أجمل بهذه الصورة !!!!!....................
هؤالء لم يعرفوا يوما الحب ولن يعرفوه فما أتعسهم وما أتعس المخدوعين بهم !!
هنالك من البشر من قد تُسر إليه حديثك ولكنه ليس بصديق ! ،إن طبيعة هؤالء البشر تجعلهم مالذا لنا حين نفقد األصدقاء ،
إنها حكمتهم البالغة و رزانة عقولهم ،إنه الشيخ العالم و المربي الفاضل و المعّلم الوقور ،وكذلك طبيبك النفسي ! ،وهنا أود
التركيز على ظاهرة الطبيب النفسي ،ذلك الشخص العجيب الذي تذهب إليه و تفرغ إناء قلبك أمامه بكل حرية وطالقة ،تفعل
ذلك ملتمسا العالج ،وفي بعض المجتمعات مثل المجتمع األرجنتيني تنتشر ظاهرة الذهاب للطبيب النفسي انتشا ار فاحشا
لحاجة ولغير حاجة ،لمرض نفسي أو للتسلية وقضاء الوقت ! ،وهذه الظاهرة يمكنني تسميتها (الصديق المستأجر) ،
والسؤال المطروح اآلن هل المربي الفاضل حين أبوح له بسري يكون صديقا ؟ وهل الطبيب النفسي حين ال أجد صديقا وتضيق
إن كثرة التجارب المؤلمة في الحياة تورث العقد النفسية ! فكثرة الخيانة تجعل المخون مسيئا للظن بكل الناس من حوله يحسب
كل الناس خائنين ! وقلة األصدقاء األوفياء في هذا الزمان جعلت بعض المرهفي الحس يفقدون الثقة في كل الناس حتى من
يزعمون أنهم أصدقاؤهم فال يبوحون بسر ألحد ويتمثلون قول الشاعر :
صـ ـ ِد ِ
يق ِ ِ حرَك ِ
ات س ِّر َك ع ْن َد ُك ّل َ
ََ ُ ص ِديَق َك -الَ َع ُدَّو َك ِ -إَّن َما
َواح َذ ْر َ
إن هؤالء يعيشون عزلة نفسية شعورية ،يكتمون همومهم في صدورهم فتضيق الصدور وتكاد تنفجر ،وينشأ نوع من الكبت
يؤدي بصاحبه إلى اآلالم النفسية المزمنة ،إن هؤالء معذورون في حالهم ولكنهم أشقياء في حياتهم ،وعليهم أن يستجيبوا لنداء
الصداقة إذاُ مدت يد الصديق يوما لهم ،وأنا رأيت هذا الصنف من الناس الذين انغلقوا على أنفسهم وصاروا بالمصطلح
قبل في حياتهم ،ولكنهم يحتاجون يد العون
اإلنجليزي متمركزين حول أنفسهم ،ابتعدوا عن نار الصداقة الكتوائهم بلظاها من ُ
من إنسان عاطفي ودود محب يجدد لهم الثقة ويشعرهم بالحب ويكون مستودعا – من جديد – ألسرارهم فيخفف وطأ كرباتهم
وينفس كبت الهموم واألحزان........
يمد يده بالعطاء قليل نادر ولكن الحاجة إليهم صارت ضرورة بل فرضا وواجبا
صحيح أن هذا النوع ممن ّ
........................
وما أحسن قول أعرابي لصاحبه :قد درن ذات بيننا فهلم إلى العتاب لنغسل به هذا الدرن .....................
حين تجد في نفسك شيئا من أخيك فال تغض الطرف ،وال تهمل ضغائن صدرك ،ال تدعها تكبر وتتراكم مع تكرار خطأ
صديقك الذي ال يدرك أنه يخطئ في حقك ويؤذيك ما دمت صامتا ال تعاتب وال تلوم ،اكسر حجاب الصمت وأفصح عما
في صدرك فإنك بذلك تكتب النجاة لصداقتك وتكتب لها الدوام أعما ار طويلة ...............
ما أعجب العتاب !! عالمة وأمارة هو على الحب وفي نفس الوقت الزم من لوازم بقائه واستم ارره !! وهو ما عبر عنه عمدة
ذلك الباب قول علي بن الجهم:
إذا ما رابني منه اجتنـ ـاب أعاتب ذا المودة من صدي ـق
ويبقى الود ما بقي العتـاب إذا ذهب العتاب فليس ودا
صحيح .........فإن حبيبك هو من ستعاتبه ،هو من تحرص على استمرار عالقتك معه وال تريد لها نهاية فتبذل ما في
وسعك لئال يكون في صداقتكما خدش ،فحين يحدث الجفاء ال بد أنك ستسارع – وهو كذلك – إلى تدارك األمور لتعود
المياه إلى مجاريها الطبيعية بال حساسيات وال مؤاخذات تتراكم مع تراكم الزمان ...............
القالي :المبغض أال إنما القالي الذي ال يعاتب يعاتبكم يا أم عمر محبكم
وعلى نقيض حال الحبيب ،فإن من ال تحبه حين يخطئ في حق الصداقة إما أنك ستهمله وال تبالي بما بدر منه فال قيمة
له عندك فتستبقيه ،فتقطع عالقتك معه بمشرط دقيق !! وإما أنك ستهاجمه وتوبخه وتقطع حبل عالقتك معه بسكين غليظ
،وفي النهاية سينقطع الحبل ال محالة وإن اختلفت الطريقة ،المهم أن كال الحالين ال يكون بين األصدقاء المتحابين أبدا
..................
76
صديقك يأتي ما أتى وال تعاتبه أعاتب ليلى إنما الهجر أن ترى
إن الصديق الذي اكتسبته بعد عناء مع أمواج الحياة ليس شيئا مزهودا فيه فتفرط فيه مع كل شقاق ونزاع ،بل الحكمة أن
يجلس الطرفان ويعترفان بخطيئتهما ويتذكران الحب والود بينهما ويتفكران في المصير المشئوم لهما لو تهدمت صداقة
العمر ........وفي ذلك يقول الفضل بن يحيى :الصبر على أخ تعتب عليه خير من آخر تستأنف مودته
!!!................
فهذا الذي يفقد صديقه بغبائه وحماقته كأن األصدقاء عنده كذرات الرمل متى فقد واحدا منهم ذهب إلى شاطئ البحر فأخذ
غرفة منهم ،فهذه هي الحماقة فليس بعد ترك العتاب إال فقد األصدقاء وليس بعد فقدهم إال غثاء من الناس ال قيمة لهم !!
ثقافة االعتذار
عرف الصديق الذي وجد في نفسه شيئا من صديقه ثقافة العتاب فبادر صديقه مسرعا إلى لومه ،فقد فعل صديقه فعال
مريبا يخدش الصداقة فأصيب الصديق بالحزن وشك في صدق مودة أخيه فعاتبه ،بذلك يكون قد قطع ثلث الطريق نحو
الصلح ودوام اإلخاء أما الثلث اآلخر من الطريق فهو مهمة صديقه الملوم .........
تخيل أن حبيبك شق نفسك وسمي روحك غضب عليك ماذا ستفعل ؟؟
الحمقى و المغفلون حين يسمعون التهمة من الصديق يبادرون بالدفاع ونفي التهمة بل بعضهم سيتهم الالئم بسوء الظن
والحساسية الزائدة !! وهذه الطريقة هي أقصر الطرق لفقد الصديق و تحطيم أواصر الصداقة .............
بينما الصديق المخلص المحب حين يسمع من صديقه أنه حزين بسببه وبسبب تصرفات سيئة بدرت منه فبكل ذكاء وحب
سيتفوه بكلمة سحرية تحل اإلشكال و تئد الفتنة في مهدها ،إنها كلمة ..........أنا آسف ..
إنها ثقافة االعتذار بين المحبين ،تعتذر لصديقك و إن كنت غير مقتنع بإثمك وخطئك مادام الفعل الذي فعلته قد أغضب
حبيبك فليس بوسعك سوى االعتذار له لتتدارك حزنه وغضبه ،كلمة سهلة يسيرة تحل المشاكل وتُبقي الصداقة لن تكلفك
شيئا ،غفل عنها المغرورون المتكبرون الذين يظنون أنفسهم ال يخطئون معصومين ،فيكون ثمن الكبر و الغرور هو نهاية
العالقة وانقطاع الصداقة !!
بعد أن تم االعتذار وإبداء الندم واألسى وأنني يا صديقي لم أكن ألغضبك أبدا فأنت حبيبي و من أغلى األشياء التي أملك
غال عندي ولن يهدأ لي بال حتى ترضىفي حياتي فكيف أغضبك ؟!! لم أكن أقصد إيذاءك ال تغضب علي فإن غضبك ٍ
ّ
عني وتعود المياه لمجاريها ...................بعد تلك المقدمة الشافية وإبداء فروض الندم واألسى نتناقش تفصيليا في
المشكلة فإن كان هنالك سوء فهم فلنوضحه و إن كان تصرفي مسيئا لك مغضبا لمشاعرك فأعدك أنني لن أفعله مرة أخرى
77
وإن كان غضبك نابعا عن حساسية أو غيرة فهو عالمة حب منك أعتز بها وال أهاجمها بل أطمئنك على حبي لك
وإخالصي الذي سأجدده يوما بعد يوم ولن أجعلك تشك في مرة أخرى .....................هذا هو الحب وتلك هي
ّ
الصداقة ....................
ثقافة العفو
طعت ثلث المسافة لوصل حبل الحب بالعتاب وقطع صديقك الثلث الثاني باالعتذار واألسى وبقي الثلث الثالث الذي ال َق َ
يأتي إال بعد الثلثين األولين أال هو العفو والصفح ..............
أتاك صديقك نادما مستعتبا مق ار بذنبه – وإن لم يقترفه -فما عليك سوى قبول االعتذار و إعطاء صديقك الفرصة ليثبت
لك حبه بعدم تكرار ما اقترف من خطأ ،أما إن كنت غليظا متكب ار فإنك ستتمادى في غضبك و تَفجر في خصومتك
وحينئذ أنت تقطع حبل اإلخاء بيدك على رغم أنك المبتدئ بالعتاب ومن هذا حاله فهو أولى بالعفو والصفح ،فأنت ما
عتبت على صديقك إال لتسمع عذره و ندمه فيطمئن قلبك ببقائك في قلبه ......................كل هذا إنما هو في َ
ابتداء الصداقة مع ابتداء المشكالت وسوء التفاهم ،ال حل الستمرار الصداقة إال بالعتاب فاالعتذار فالعفو ،أما حين تكون
ظر أنهما قد حفظا بعضهما حفظا ،
الصداقة في أوجها فالشأن مختلف ،فاألصدقاء بعد سنين طويلة من الصداقة المنت َ
ومع تكرار المشكالت والعتاب صار كل واحد منهما كتابا مفتوحا أمام صاحبه وحينها حين يرتكب الصديق خطأ في حق
صديقه هو حتما يعرف أن ذلك األمر يغضبه خصوصا أن الخطأ قد يكون متكر ار فعله من قبل وحينها يكون العتاب صعبا
من الطرف المخطأ في حقه فهو لن يثق هذه المرة في صديقه وبالتالي االعتذار لن يحدث من الطرف الذي يدرك عاقبة
خطئه وبالتالي العفو والصفح يكون متعذ ار وحينها تكون الصداقة في موقف حرج ،ولعلنا نتكلم تفصيليا فيما بعد عن هذه
األمور ولكن ما يهمنا هنا أن العفو في األصل سبب من أسباب رأب الصدع واستمرار مسيرة األخوة والخّلة
...................
( خذ العفو وأمر بالعرف ) ( والذين يجتنبون اإلثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) المغفرة والصفح من صفات
المتقين عند الغضب ،والغضب في ذاته ليس مذموما فهو طبيعة بشرية فالمؤمنون يغضبون ولكن الذم يقع على تبعات
الغضب فالمؤمن حين يغضب يضبط غضبه وال يدفعه إلى الفجور في الخصومة وهذا معنى نصيحة النبي صلى هللا عليه
وسلم ( ال تغضب ) أي ال تغضب الغضب المذموم ذا التبعات السيئة ،ولكن كل ذلك – في رأيي الشخصي – مرهون
باعتراف الطرف اآلخر بخطئه ،فحين يقر المخطئ بخطئه فالصديق الحقيقي يعفو ويغفر ،وليس مطالبا بالعفو عن ذنب
اقترفه صديقه ولم يعترف به ولم يقر به فالمشكلة ستظل قائمة وبدون وقفة حاسمة ستكون َبداءة الحساسيات وتغير القلوب
وهي َبداءة النهاية للصداقة ،وعجبا لمن يقترف خطأ في حق صاحبه ويتهم صاحبه بأنه بالغ في الغضب والخصومة في
حين أن البادئ باإلغضاب هو المستحق لّلوم والتقريع ال الغاضب ،ومسبب الضيق والحزن لصاحبه ملزم كما أغضبه أن
سرت القارورة الشفافة المتأللئة عليك أن تعيدها كما كانت ال أن تقول بعد
يسعده ،فمن كسر شيئا فعليه إصالحه ،فكما َك َ
78
كسرها :لقد انكسرت انكسا ار مبالغا فيه ولم يكن ينبغي أن تنكسر بهذا الشكل والقارورات العادية حين تقع ال تنكسر كل
هذا الكسر !! ،أنت أفسدت ما بينك وبين صاحبك فأعده كما كان وإال فال تلومن إال نفسك التي بين جنبيك !!!
ونعود فنقول صديقك الطيب إن اعترف بإثمه في حق الصداقة فما عليك إال العفو ونسيان ما فات فهو بشر وطبع البشر
الخطأ وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وانظر لقول الشاعر :
كفى المرء نبال أن تعد معايبــه فمنذا الذي ترجى سجاياه كلها
ومن يبتغي أخا بال عيب يبتغي المحال كمن يبتغي رائحة البخور وال يريد أن يرى دخانه
وصدق من قال لصاحبه :وهللا ال صفت مودتنا وال عذب شربها لنا إال بعد أن يغفر كل منا لصاحبه ما يغفره لنفسه من
من وال أذى ........................
غير ّ
وفي مسألة العفو عمن أخطأ في حقك -ال سيما ما بعد اعتذاره -قال األستاذ محمد الخضر " (( :وإذا كانت نفس اإلنسان
كل ما يحب،
كل ما يريد ،وال تجيبه إلى طاعته في ّ
ومدبرة باختياره وإرادته ال تعطيه قيادتها في ّ
أخص النفوس بهّ ،
التي هي ّ
فكيف بنفس غيره؟! فحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره ،وفي ذلك يقول ابن ّ
الرومي:
كدر مش ـ ـ ـ ـ ـربا يلم ٍ
بعين أو ُي ّ قذى ُّ ...
البد من ً
هم الناس والدنيا و ّ
ُ
ومن قّلة اإلنصاف ّأنك تبتغي الـ ...مه ّذب في الدنيا ولست المه ّذبـ ـا" ))
وفي سياسة العتاب والعفو لسعيد بن حميد أبيات توزن بميزان الذهب فيقول :
79
وتعدم ذنب من تحت التراب فإنك واجد للحي ذن ـ ـ ـبا
العفو عمن يستحق العفو واجب وهو ذو الحزم و هو من أبدى الرجوع واإلياب عما اقترفه أما من لم تجد نفعا من عتابه بل
يقدر
معاتبته زادته عتوا وكب ار وإص ار ار على موقفه فالحل عند سعيد بن حميد واضح وصارم وهو اإلعراض عنه وتركه فهو ال ّ
األصدقاء وال يعرف قيمة األخوة ويدق أول مسمار في نعشها....................
وعن نفسه وطرفه اآلخر يتكلم بهاء بن زهير عن ثقافة العتاب و االعتذار ثم تجدد الحب فيقول :
وقلتم وقلنا والهوى يتجـ ـ ــدد عتبتم علينا واعتذرنا إليـ ـ ـ ـ ــكم
أذلك عتب أم رضى وت ـ ـ ــودد عتبتم فلم نعلم لطيب حديثكـ ـ ــم
ويا طيب عتب بالمحبة يش ـ ــهد وقد كان ذاك العتب عن فرط غَــيرة
وحس ـ ــد
فيا رب ال تُسمع وشاة ّ وأضحى نسيم الروض يروي حديثنا
معارضون للعتاب
يعارض فريق فكرة العتاب ويرونها دربا من الجفاء فأثرها العكسي عندهم شيء ال يستهان به فهو مبدأ الخالف والمشاكل ،
والصديق المحب عندهم من إذا وجد في نفسه شيئا من صديقه كتمه في قلبه وردم عليه التراب فهو قلب صاف يغفر الزالت
مهما حدثت من حبيبه ويلتمس له األعذار دوما وكأن صديقه ال يخطئ !! فيحفظون بذلك الصداقة ويتداركون أن يقع النفور و
اإلصرار من الطرف المعاتَب الذي ربما يؤدي عتابه إلى مزيد من سوء الفهم و ازدياد الموقف سوءا !! ويقولون قول بشار :
مقارف ذنـ ـ ـب مرة ومجانب ـ ــه فعش واحدا أو صل أخاك فإنـ ـ ـه
80
عاتبت
َ عليك أن تحذر من هذا المصير المشئوم الذي قد يجلبه لك معاتبتك ألصدقائك وهو أن تعيش واحدا بال أصدقاء فكلما
جرت فتدفع ضريبة تسرعك و إنكارك على صديقك بفقدك له لألبد ولن ينفعك الندم بعدها ،هذا في رأيهم عين الحكمة !!!
ٌه َ
ـاب
رأيت الهجر مبدؤه العتـ ُ أردت عتابكم فصفحت إني
والعتاب درب من العنف واألذى بين األصدقاء فتوق ذلك وكن رزينا حكيما
مضى :مات لكنا على الباقي من الناس أعتبا ونعتب أحيانا عليه ولو مضى
ويقول اآلخر الذي جرب من بعد فراق صديقه بالعتاب أقواما أراذل جعلوه غارقا في بحور الندم والحسرة بعد عسير المقارنة :
وفي األثر العكسي للعتاب والموازنة بينه وبين المصلحة العائدة منه قال أبو سليمان :أما العتب فربما أصلح ورد الفائت
وشعب الصدع ولم الشعث ،واإلكثار منه ربما عرض بالحقد وأحدث نوعا من النبوة ....
وتوسط بعضهم في المسألة فقال ابن رشيق :العتاب وإن كان حياة المودة وشاهد الوفاء فإنه باب من أبواب الخديعة يسرع إلى
الهجاء وسبب أك يد من أسباب القطيعة والجفاء فإذا قل كان داعية األلفة وقيد الصحبة وإذا كثر خشن جانبه وثقل صاحبه
.......
وقال صاحب رسالة العتاب بين األصدقاء (( :وليس اللوم والعتاب بشيمة ألهل النفوس الكريمة ،وال بمسلك ومذهب ألولي
األلباب واألرب ،ومن كان ذا طبع سليم ،وخلق كريم ،فإنه يربأ بالنفس عن كثرة اللوم والمعاتبة ،لعلمه ما في ذلك من العواقب
هاج ّأوُل ُه ِعتَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب
َ اب َف ُر َّب َش ـ ٍّـر ِ
الموجبة إليراث النفرة ،وتوليد الرهبة ،وإيجاب السآمة والمللَ .ف َد ِع العتَ َ
81
تصل طرفي
ُ وكما أنك ال تجد في عقد الصداقة عقدة هي أودى ببريقه من العتاب ،فإنك لن تعدم في تلك العقدة ش اًر تكفه بأن
حدين )) ِ
العقد ليكتمل حسنه وينتظم رسمه ،وبذلك تدرك أن تلك األداة الحساسة جداً ذات ّ
وهذا صديق المه صديقه وعاتبه فأرشده لترك العتاب وأن يعيش كل منهما في صفاء بال لوم وال عتب فالعمر أقصر من أن
نشغله بالعتاب واللوم والشقاق :
إال بكيت عليه حيـ ـن يزول لم أبك من زمن ذممت صروفه
ِ
حصلوا أفناهم التحصيل والمنتمون إلى اإلخاء جماع ـ ـة
إن ّ
وكثرة العتاب عندهم تجعل الصديق ثقيال ممال على صديقه فيلجأ للكذب في النهاية للتخلص من ملل صديقه اللوام !! فلو كان
اللوم مرة لكفى وبه الفائدة أما أن يتكرر فستكون النتائج عكسية !!
وما كل يوم يبذل السيف بالصـ ـقل وقد تصقل األسياف وهي صديئةٌ
ذكرت عتابا
ُ أخشى القطيعة إن لوال كراهية العتاب وأنـ ـ ـني
فالحل الذي ال حل غيره عند هذا الفريق هو الغض عن الذالت بال مقابل وأن يبقى القلب صافيا مهما فعل صديقك بك !!
مخافة أن تعيش بال صـ ـ ـديق قال أبو رشيد الطائي :وأغمض للصديق عن المساوي
82
أغص
أشرقني بريقي :جعلني ّ وأشرقني على حنق بريـ ـ ـقي وقال آخر :وكنت إذا الصديق أراد غيظي
كلهم يخاف من فقدان الصديق ويبذل ما في وسعه لئال يحدث ذاك المصير المؤلم ويرضى بصديقه على عالته وعيوبه
ويغمض عينه عن مساوئه ويحتملها فذلك الحال خير من الوحدة واالنعزال ويتذرعون بحديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (
ولكن فكن أنت محتاال لزلته عذ ار التمس ألخيك سبعين عذ ار ) ويقولون :إذا ما أتت من صاحبك زلة
.........................................
إنني أتساءل ألسنا بش ار ؟! وأليس من طبع البشر أنهم يحزنون إذا جافاهم أحبتهم ؟ وأليس تراكم األحقاد في القلب سببا
آت من هذا الباب ال محالة فعالم هذا الحرص المتظاهر بالورع للبغضاء والنفور و تدمير الصداقة ؟ إن تحطيم الصداقة إ ًذ ا ٍ
حشو بالحماقة وقلة الخبرة ؟!!........................
الم ّ
إن ترك العتاب على الخطأ ال محالة يؤدي إلى تكرار الخطأ ثم مزيد من إيغار صدر الصديق المخطأ في حقه حتى إن حاول
غض طرفه عن زلة صاحبه أول مرة ثم جاهد نفسه لتمرير األمور في المرة الثانية فبحكم بشرّيته سينفجر في النهاية وحينها لن
يفهم الطرف اآلخر سر هذا االنفجار المفاجئ وسيتهمه بالجنون والعبثية !! وحينها تزددا األمور توت ار وسوءا للفهم وينحل عقد
الصداقة بسهولة..
ومن هؤالء الكاتمين لغيظهم الذين ينفجرون في النهاية من يفاجئ صديقه بتعديد أخطائه الماضية ،فيقول أنت فعلت كذا وكذا
اضيت عما فعلت ثم فعلت وفعلت وغفرت لك ولكن هذه المرة لن أدعها تمر !!! وحينها يشعر الطرف األخرُ من قبل و تغ
بالمن من الطرف األول وأنه يتفضل عليه بعفوه عن زالته التي لم يشعر بها أصال !! بل صار صديقه مليئا بالحقد المكتوم
ّ
المتراكم الذي لم يحسب له حسابا في يوم من األيام !! وتزداد خطورة الموقف بين الصديقين ....
وليت شعري ما هذا الصديق الذليل الكسير أمام زالت صديقه في حقه ،فمهما أخطأ في حقه فهو كالخرقة البالية يقول
لصاحبه افعل بي ما تشاء !! فهو ذليل أسير لهاجس في صدره هاجس خسارة صديقه إذا ما عاتبه فيغضبه فيتركه ويهجره !!
إنه ضعف في الشخصية والصداقة الحقيقية لم تكن يوما ضعفا وإنما عزة وقوة ،والصديق الذي من هذا النوع يصير في النهاية
إمعة لصديقه ال يخالفه في شيء ال يعرف معروفا وال ينكر منك ار بل ربما يرى صديقه في طريق اإلثم والزلل وال ينكر عليه لئال
ّ
يخسره !! ......فيخسر نفسه قبل أن يخسر مبادئه ،والشخص المؤمن ذو مبادئ ال يتخلى عنها ويفرضها على من حوله ال
يفرض من حوله عليه شيئا من أفكارهم ففكره الذي يؤمن به ويعتنقه شيء ثابت راسخ في حياته ال يتزعزع أبدا والصداقة من
تلك المبادئ التي يجب أن يعتنقها المؤمنون !!!................
83
إن الذين يخافون العتاب كثير منهم في الحقيقة ليسوا أصدقاء فصداقتهم التي زعموها هشة متهتكة قليل عتاب يهشمها ويسحقها
فالثقة بينهم معدومة وأوصال المحبة والوفاء واهنة فيتمسكون بها – وما أتعسهم -بأيديهم وبأسنانهم وكأنهم يتامى ليس لهم
سند وال صحب ويتمثلون قول الشاعر :
أخط بأقالمي على الماء أحرفـ ـ ـا إذا أنا عاتبت الملوم فإنـ ـ ـ ـما
مودته طبعاً فصارت تكل ـ ـ ـفا وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن
إن الصديق الذي يعاتبه صديقه فيقابل العتاب بالرفض واإلباء ترك صداقته أولى فهو هم ونكد على صاحبه ،والمتكبرون
المغرورون الذين ال يعترفون بأخطائهم أو ال يلينون بين أيدي إخوانهم وإن لم يخطئوا – ال يصلحون ألن يكونوا أصدقاء فهم قد
يكونون زمالء أو أصحابا أما الصداقة فليسوا منها في شيء !! وصدق القائل :
يعتبك :يسترضيك بودك لم ُيعتبك ح ـين تعاتبــه إذا أنت عاتبت الخليل فلم يكن
أي :صديقك أو من تظنه صديقك حين تلومه وال يعتذر لك وال يعتبك ( أي يقابل عتابك باسترضائك ) فليس محبا لك وليس
لودك مكان في قلبه ،هذه هي الحقيقة المرة فال تتغافل عنها وال تتعلق بحبال ذائبة .................
إن للعتاب عند المتحابين نماذج جميلة تُظهر رقي المحبة واألخوة بينهم ،وهو عتاب ممزوج بالحب والحكمة فال هو تعنيف
وتوبيخ وال هو تهاون وتساهل فالتعنيف مصيره الخسارة والتساهل مصيره الخسارة وبين الطريقين سبيل حكيم أفصح عنه ابن
الرومي بكلمات معبرة توزن بميزان الذهب حيث قال :
ولإلمام الشافعي نصيحة لجليسه يونس في عتاب الصديق فيقول :يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره
بالعداوة وترك الوالية فتكون ممن أزال يقينه بشك ولكن القه وقل له :بلغني عنك كذا وكذا ،واحذر أن ّ
تسمي له المبّلغ فإن
أنكر ذلك فقل له أنت أصدق وأبر ال تزيدن لى ذلك شيئا ،وإن اعترف بذلك فوجدت له في ذلك وجها لعذره فاقبل منه وإن لم
تر ذلك فقل له ماذا أردت بم بلغني عنك ؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه إن لم تر له وجا من العذر وضاق عليك
84
المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة ثم أنت في ذلك بالخيار فإن شئت كافأته بمثله من غير زيادة وإن شئت عفوت عنه و العفو
أقرب للتقوى لقوله تعالى ( وجزاء سيئة بمثلها فمن عفا وأصلح فأجره على هللا إنه ال يحب الظالمين ) فإن نازعتك نفسك
بالمكافأة ففكر بما سبق له لديك من اإلحسان فعدها ثم ابدر له إحسانا بهذه السيئة وال تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة
فشد يدك به فإن اتخاذ الصديق صعب وفراقه سهل !! ...........ا.هـ
فإن ذلك الظلم بعينه ...يا يونس إذا كان لك صديق ّ
ومن أخبار العتاب ما ذكره أبو إسماعيل الخزيمي قال دخلت على عبيد هللا بن عبد هللا بن طاهر – وكنت قد تأخرت عنه –
كأنك غضبان علي مع الدهر ..فقلت أيها األمير لو علمت أني أسمع هذا فقال :رأيت جفاء الدهر بي فجفوتَني
ألعددت له جوابا يناضل عني في االعتذار ويتقدمني بطالئع الشوق إليك ويقوم لي مقام العذر ِقبلك ،وباهلل الذي أسأله الزلفة
عندك ما تأخرت إال لعذر خافيه الشمس وضوحا وغائبه كالحاضر عيانا ومظنونه كالمشاهد يقينا ........أفأنا أجفوك مع
الدهر وأكون إلفا له عليك وأنا ألحاه – أعيبه – على جفائه لك و إنحائه على إرادتك بما خالف هواك ؟؟؟؟ كال والذي شق
فقال :هذا جوابك عما لم تعد له فكيف بنا لو غمرتنا منك الوزر ( الملجأ الحصين ) ...... البصر وجعلك لنا َ
سحابتك الغداقة ومزنتك الدفاقة ؟؟ .............ا.هـ
إذا تأملنا سطور العتاب السابقة وجدناها آية في التو ّاد والحب و تشمل أركان العتاب كاملة ،فنجد أسلوب العتاب الرقيق الطيب
الذي ال يتهجم وال يجهز على الصديق المعاتب ثم وجدنا رد الفعل من المعاتَب المخلوط بمعاني الحب والقرب في القلب و
الثناء المحمود ،ويبرهن في اعتذاره بأن دعواه محالة فهو المحب الواله الذي يسيؤه مساءة أخيه فكيف يفعل ما يغضبه ،ثم
ِ
المعاتب وعفوه وصفحه ودوام المودة واأللفة بل زيادتها واستدامتها !! تأتي تتمة قصة العتاب بقبول العذر من
وإذا بحثنا في أعماق الشعر العربي وجدنا العتاب غرضا شعريا متأخ ار فهو وإن كان من قديم عهد العرب بالشعر لكنه ازدهر
وتبلور في العصر العباسي بصورته الكاملة المستقلة ومن أروع أبيات العتاب التي حفظها األدب وحفظتها الصدور والقلوب
األبيات البديعة التي يعاتب فيها المتنبي صديقه سيف الدولة والتي بدأها بالحب الصافي و الثناء على المعاتَب :
شبم :بارد َو َمن ِب ِجسمي َوحالي ِع َندهُ َسَق ُم اح َّر َقلباهُ ِم َّمن َق ُلب ُه َشِب ـ ـ ُم
وَ
بهذا التمهيد الودود الراقي بدأ المتنبي حواره مع سيف الدولة ثم أتبعه بعتابه غير قلق وال هياب :
85
الحكـَُم ِ ِ ِ
َو َ صم
الخ ُ َنت َ صام َوأ َ
فيك الخ ُ َ عامَلتي
َعد َل النـ ـ ـاس إ ّال في ُم َ يا أ َ
َوَرُم حم ُه ات ِمن ـ ـ ـك ِ ظر ٍ
فيمن َش ُ حم َ الش َ حس َب َأَن تَ َ صادَق ًة َ أُعي ُذها َن َ
ناظره :عينه ظـ ـ ـَل ُمِإذا ِاستََوت ِع َندهُ األَنو ُار َوال ُ اظ ِِرهوما ِا ِنتفاع أَخي الدنيا ِبنـ ـ ـ ِ
ُ ُ َ
فلما تحقق غرض العتاب ووصلت الرسالة ،خشي المتنبي أن يظن سيف الدولة أن يكون حبه له ضعفا وهوانا وأن يكون عتابه
الممزوج باالستعطاف دربا من التزلف والمداهنة فاستدرك المديح والعتاب بفخره بنفسه وتذكيره لسيف الدولة بمقامه – أي مقام
المتنبي نفسه -ومنزلته الرفيعة التي شهد بها القاصي والداني فقال مادحا نفسه :
وبعد العزة واالعتزاز يعود المتنبي لنبرته الرقيقة الحانية التي ُتلين الحديد وتذيب جبال الثلج بين المتخاصمين فيقول :
وأبيات المتنبي في هذه القصيدة الطويلة كثيرة ولكننا اختصرناها بأفضل األبيات فيها وأقلها وعورة في األلفاظ والمعاني
..............
َوأُكِب ُر َق َ
در َك أَن أَستَري ـ ـ ـبا يء تَأتي ِب ـ ـ ـ ِه
الش ُ
ُير ُيبني َ
غتر ٍار َفأَلقى ُشعوبـا بيل ِا ِ
س ِ َكرهُ أَن أَتَمادى َعل ـ ـ ـى
َ َوأ َ
86
ظّني َكذوبا َعه ُد َ نت أ َ َت َوما ُك ُ ظّني ِبأَن َقد َس ِخط ُك ِّذ ُب َ
أَ
الخطوبا مان َوأَشكو ُ أَ ُذ ُّم َ وَلو َلم تَ ُكن ِ
الز َ َكن
ساخطاً َلم أ ُ َ
عَليك ِبها م ِ ٍ ِ
خطئاً أَو ُمصـيبا ُ َ َ َوال ُب َّد من َل َ
ومة أَنتَح ـ ـي
الش ُّك في أَن أَتوبا تَخاَل َجني َ ف َذنباً َلم ـا نت أ ِ
َعر ُ َوَلو ُك ُ
َك ِإ ّما َبعيداً َوإِ ّما َقري ـ ـ ـ ـبا َسأَصِب ُر َحتّى أُالقي ِرض ـ ـا
طف َك َحتّى َيثوبـ ـا
ظ ُر َع َ
َوأَن ُ أُرِاقب رأيك حتّى ي ِ
صـ ـ َّح ُ َََ َ َ
للبحتري في العتاب مراحل عجيبة ،فالمرحلة األولى مرحلة التردد فهو بين نارين نار مالحظته لتغير صديقه وإتيانه ما يريبه
ونار تهمة الشك في صديقه الذي يثق فيه تمام الثقة وال فرق بينه وبين نفسه وفي نفس اآلن يخشى اإلفصاح عما بصدره فيلقى
صدود صديقه ،ولكن صدود الصديق واضح وظاهر وهو سبب اسوداد الدنيا في عينيّ فال مفر إذن من المرحلة األخرى وهي
العتاب فهو الدواء الشافي الذي يشفي الصدر ويلطف الفكر فإن كان سبب الجفوة ذنب ألممتُ به فالبد من مرحلة أخرى هي
مرحلة التوبة والرجوع عما يغضب الصديق فإن تعقدت األمور وهجرني الصديق فأنا في مرحلة الصبر والعيش على ذكرى
صديقي أنتظره مهما طالت الجفوة حتى يعود ويلتئم الشمل .....
إن غنائم المسلمين التي غنمها الرسول والصحابة في معاركهم مع أعداء اإلسالم ليست بشيء في مقابل ما غنموه من ُحنين
وحدها بعد فتح مكة ،فلقد كانت تلك المعركة أم اًر استثنائياً له حساباته الخاصة.
وها هو الرسول األعظم يقسم الغنائم فيعطي أبا سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية ،وحكيم بن حزام والنضر بن الحارث
وغيرهم من رجاالت قريش والعرب ،إال ذلك الحي من األنصار لم يكن لهم من القسمة حظوة وال نصيب!
فلقد وجد هذا الحي من األنصار في أنفسهم لما ما نالهم من القسمة الذي نال غيرهم ،فكثرت منهم القالةُ حتى قال قائلهم :لقي
َ
حسان وهللاِ
األول ّ
قومه ،أي :من لقي أهله وأحبابه نسي أصحابه !! بالمعنى الدارج ،وفي ذلك قال شاعر اإلسالم ّ رسول هللا َ
ُ
بن ثابت معاتبا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :
النزر ِ
وشر وصال الواصل ُ نز ار ّ اء إ ْذ كانت مودتهـ ـا
شم َ
دع عنك ّ
ْ
للمؤمنين إذا ما عدد البش ـ ـ ُر وأت الرسول فقل :يا خير مؤتمن
هم آووا وهم نصروا
قدام قوم ْ
ّ عالم تُدعى سليم وهي نازح ـة
تستعر
ُ دين الهدى وعوان الحرب سماهم هللا أنصا ار بنصره ـ ـم
ّ
و في النهاية كان ال بد من جلسة عتاب صريحة حسمها سعد بن عبادة فدخل على رسول هللا صّلى هللا عليه وسّلم ،فقال :يا
قسمت في قومك
َ أصبت،
َ صنعت في هذا الفيء الذي
َ رسول هللا ،إن هذا الحي من األنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ،لما
87
أعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ،ولم يكن في هذا الحي من األنصار منها شيء .قال :فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال:
َ و
يا رسول هللا ،ما أنا إال من قومي.
عتاب تار ٍ
يخية يتحادث الناس عنها ٍ قال :فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة .فخرج سعد وجمع األنصار ،وبعد ٍ
قليل ستُعقد جلس ُة
ده اًر طويالً.
سعد رسول هللا مخب اًر باجتماع القوم ،فأتاهم الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وحمد هللا وأثنى عليه بما هو أهله ،ثم
لما اجتمعوا أتى ٌ
قال:
وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضالّالً فهداكم هللا ،وعالة فأغناكم هللا، وجدةٌ ّ
"يا معشر األنصار ،ما قال ٌة بلغتني عنكمَ ،
ّ
أمن وأفضل" .قال" :أال تجيبونني يا معشر األنصار"؟ قالوا" :بم نجيبك أعداء فأّلف هللا بين قلوبكم"؟ قالوا" :بلى ،هللا ورسوله ّ و َ
يا رسول هللا ،هللِ ولرسوله المن والفضل" .قال صلى هللا عليه وسلم" :أما وهللا لو شئتم لقلتم ،فلص َدقتم ولص ّدقتم :أتيتَنا َّ
مكذباً ُ َ
ٍ
اعة من الدنيا ِ ِ
األنصار في أنفسكم على ل َع َ فصدقناك ،ومخذوالً فنصرناك ،وطريداً فآويناك ،وعائالً فواسيناك؛ أ ََو َج ْدتُ ْم يا معشر ّ
بالش ِاة والبعير ،وترجعوا برسول
الناس ّيذهب َُ معش َر األنصار ،أن ترضون يا َ ِ ِ
فت بها قوماً لُي ْسلموا ووكلتُ ُك ْم إلى إسالمكم .أال َ
تأّل ُ
هللا إلى رحالكم؟
الناس شعباً وسلكت األنصار شعباً ،لسلكت شعب ٍ
من األنصار ،ولو سَل َك ُ
امر َ
لكنت أ
محمد بيده لوال الهجرة ُ
نفس ّ
فو الذي ُ
األنصار.
اللهم ارحم األنصار ،وأبناء األنصار ،وأبناء أبناء األنصار" فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ،وقالوا" :رضينا برسول هللا قسماً
وحظاً"
في هذه القصة لفتة بديعة لألسلوب العتابي بين الصحابة والرسول ،فسعد بن عبادة لم يترك نفسه للشكوك تعبث في صدره هو
وإخوانه وإنما قطع الشك باليقين باألسلوب الذي اعتدناه في مسألة العتاب ،وكان رد الرسول الذي هو أعلى ردا فريدا من نوعه
فصدقناك ،ومخذوالً فنصرناك، فقد قابل العتاب بعتاب آخر حين قال ( :أما وهللا لو شئتم لقلتم ،فلص َدقتم ولص ّدقتم :أتيتنا َّ
مكذباً ّ ُ َ
وطريداً فآويناك ،وعائالً فواسيناك ) وهنا استحيى الصحابة من الرسول وا ستحيوا من أنفسهم حين وجدوا أنفسهم بأسلوب
الرسول الفريد كأنهم هم المستحقون للوم ال هو !! ثم أتبع ذلك اللوم اللطيف بتفسير فعله وهو تأليف قلوب حدثاء عهد باإلسالم
الموحى إليه من السماء أن
َ بل أتبع ذلك بمدح األنصار وهو هنا في حقيقته اعتذار ولكنه اعتذار غير مباشر فليس حريا بالقائد
يعتذر عن أمر يجب عليه فعله ولكنه استبدل االعتذار المباشر – وهو المفترض أن يكون بين بقية األصدقاء – باالعتذار
الضمني الذي ظاهره المدح والثناء واالمتنان بالفضل ليضرب لنا هو وصحابته مثال يحتذى به في قضية العتاب واالعتذار
...........................
88
من منا يجرؤ على العتاب ؟ اإلجابة بسيطة إنه من تمكنت الصداقة منه ومن صديقه فصارت الثقة بينهما متبادلة فالصداقة إ ًذا
المعاتب بصدر رحب على لوم أخيه متوقعا خي ار ،فهو قد عهد من أخيه كل خير من قبل على مرِ في قمتها وأوجها فيقدم
سنين طويلة في معترك الحياة ،فلومه بال شك عنده سيؤتي أكله ،لكن المشكلة الحقيقية في مسألة العتاب عند مبتدأ الصداقة
و صدر العالقة ،حينها يكون الحب هو الرابط بين الطرفين ،الحب فقط !! و المحب الواله بطبعه متشكك دائما في حبيبه
يخشى أن يجفوه و يتركه و يريد من حين آلخر أن يتأكد من صدق حب حبيبه ،فتكون المعضلة حين يقع سوء الفهم بين
الطرفين ،وهنا يتعامل المحب بحساسية شديدة ،فحين يقع الخطأ من حبيبه يظن جاهال أن حبيبه كان يجب أال يخطئ هذا
الخطأ أصال ،وكأن ذلك الخطأ من نواقض الحب عنده ،فيتسرب الشك لقلبه أن حبيبه إنما فعل ذلك التصرف المسيء ألنه لم
يعد يحبه أو ألنه قل حبه في قلبه ،وهنا يرتكب المحب المتعلق بحبيبه الخطأ األعظم بأنه يترك العتاب ظنا منه أن العتاب لن
يفيد فالجريمة واضحة عنده ال تحتاج لتفسير من الطرف اآلخر !! (إنه لم يعد يحبني وربما مّلني ويريد التخلص مني فلماذا
أعاتبه ؟؟!!! ) ،وألنه ذلك المحب المسكين لن يستطيع أن يخادع صديقه بعالقة فاترة في النفس منها شيء فإنه يلجأ لالجتناب
!! نعم إنه يترك صديقه غاضبا مغتاظا فيفجأ الصديق اآلخر بتصرف صديقه الذي ال يستطيع تفسيره !! فربما هو أصال لم
يخطر له ببال أنه أغضب صديقه ،وهنا تتبين المحبة وتظهر حقيقة المودة فإن هذا الصديق الذي فوجئ بجفاء صديقه إن كان
محبا مخلصا فإن لن يهدأ له بال حتى يذهب لصديقه ويعرف ما الحقيقة ؟ لماذا هجرتني يا أخي ؟ هل أذنب ُت في حقك ؟ إن
فبح لي بما في صدرك وسأعتذر إليك ،إنني ال يسعدني أن أجدك غاضبا مني فأنت نور حياتي الذي ينير كان األمر كذلك ُ
ِ
المجتنب ألخيه بما في صدره ويحدث االعتذار ال األنفة واالستكبار !! وتستمر عجلة الصداقة لي الطريق ! وهنا يبوح الصديق
دائرة دائبة وكأن شيئا حدث لم يكن !!...............
وهذا واقع ال شك من بعض المحبين الشديدي الحساسية وفي هذا يقول األستاذ محمد الخضر :
ويرجي منه أن يسير على ما يرضي صديقه في كل حال، "يرى الباحثون في طبائع البشر ،أن ليس فيهم من يتخذ صديقاً ّ
أخذت
َ ودلتهم التجارب على أن الصديق -وإن بلغت صداقته المنتهى -قد يظهر لك من أمره ما ال يالئم صلة الصداقة ،فلو
صديق غير نفسك التي
ٌ هج ُر من إخوانك كل من صدرت منه هفوة ،لم تلبث أن تفقدهم جميعا ،وال يبقى لك على ظهر األرض
تَ ُ
أي الرجال المهذب "
لمه ...على شعث ّ ٍ
بمستبق أخاً ال تُ ّ بين جنبيك ،عرف هذا المعنى الشاعر الذي يقول :ولست
وتأتي المشكلة الثانية حين يتكرر االجتناب من ذلك الصديق الحساس الذي كلما وجد شيئا أنكره من صديقه لجأ لالجتناب
والهجر ويبدأ سأم ومالل الطرف اآلخر الذي صار ال يعرف كيف يرضي صديقه ؟ وهنا يكون معول هدم في بناء الصداقة !!
وربما يقول قائل إن الهجر وسيلة مجدية لردع الصديق الجاني في بعض األحيان ،وأقول نعم هذا صحيح ولكن ما تلك األحيان
التي يكون من حق الصديق فيها الهجر ؟؟ إن الحالة األولى أال يعترف الصديق الجاني بخطئه وال ينبس ببنت شفة من اعتذار
المجفو أيا كانت النتائج التالية فإما أن يرجع الصديق المعتدي و يقدم فروض االعتذار وإما فهي
ّ حينها الهجر من حق الصديق
المجفو بتصرفه وإنما أنهاها الجافي المبتدئ باالعتداء فالبادئ هو األظلم ......
ّ نهاية الصداقة لم ينهها
89
أما الحالة الثانية التي يحسن فيها الهجر فهي تكرار الخطأ من الصديق الذي كلما عاتبه صديقه على خطئه وقع فيه مرة أخرى
وكأنه لم يع الدرس ولم يفهم صديقه حق الفهم ،فهذا في الحقيقة ال يحترم مشاعر صديقه ويجني على صداقته بيده فاستحق
الهجر .............
ساعة العتاب
أقول :أحسن الكاتب في هذه األوقات التي اختارها للعتاب فحال مواقعة الذنب حين تقابله بالعتاب في وقتها يكون أدعى
لالستكبار واإلصرار على الخطأ ،ولكن حين يمر الخطأ ويصبح ماضيا يكون الحاضر أنسب للعتاب فاإلنسان يدافع عن
حاضره أكثر من دفاعه عن ماضيه !! ،أما وقت المساء والعشاء فهو وقت هدوء البال واألعصاب بعد مشقة يوم طويل حافل
بالعمل والعناء حينها يكون الذهن صافيا والبال مرتاحا فيكون مستعدا للتعاتب والتناقش وسعة الصدر أما في وسط العمل فال
يتوفر أي من هذه األشياء فيكون العتاب غير مثمر ويأتي بنتائج عكسية سببها اختيار الوقت غير المناسب ،وكذا وقت الشدة
والكربة ال تكن ُمجه از على صديقك حين يكون أضعف ما يكون فإنك بذلك تذله و تحطمه وما أحسن ما قال يوسف عليه
السالم في عتابه إلخوته على ما مضى منهم حين جاءوه أذالء ضعفاء ( ال تثريب عليكم اليوم يغفر هللا لكم وهو أرحم
الراحمين ) أي ال لوم وال عتاب فليس الوقت وقت عتاب بل وقت رحمة ومغفرة وأحسن من قال :أشد الجفا الجفا وقت الصفا
!!
وأما في أسلوب العتاب فيقول التميمي (( :وفي األسلوب تفصيل؛ فعتاب الكتاب أقرب للقبول ،واإلشارة بالفعل أنسب من
للعتب مريح ،والتلميح أنجع من التصريح ،قال ابن مشرف السني في نغمة األغاني:
القول ،والهدية تجعل طريقك ْ
في الوسع والمضـ ـ ِ
يق ِ
الصديق حافظ على
90
سئ خطاب ـهـ ْم
فال تُ ْ هم
ترد عتاب ـ ـ ْ
وإن ْ
ِّ
بالبر واإلحس ـ ـ ـان عاتب أخـاك الجانيْ
ما كان في كت ـ ـ ِ
اب وأحسن الع ـ ـ ِ
تاب
المس ـافهة
من ُضر ٌب َ
ْ بالمش ـاَفهة
العت ُب ُ
و ْ
أقول :وما أجمل أن يكون العتاب كتابة ،رسالة نصية يكتبها المعاتب لصديقه ،يقول فيها كل ما يجول بصدره بال حرج وال
خجل ،ال شك أن مواجهة الصديق بذنبه وجها لوجه ربما يستثقلها المحبون فلماذا ال نجرب العتاب بالورقة والقلم
؟!................
إنني ابتكرت طريقة جميلة للتحسين من أنفسنا ولتحسين عالقاتنا بيننا وبين أصدقائنا ،كنت أحفز أصدقائي أن يكتبوا لي في
ورقة قائمة بعيوبي الشخصية التي أقع فيها دائما من وحي تجارب السنين التي قضوها معي ،وأنا كذلك بدأت أكتب ألصدقائي
كل ما الحظته فيهم من عيوب ليجتنبوها و لتكون الصداقة بيننا أكمل وأفضل وبهذا يكون قد تحقق المعنى النبوي اللطيف (
المؤمن مرآة أخيه ! )..........
إنني حين أختم هذا الفصل أكرر وأقول إن العتاب جزء من حياة األصدقاء وركن ركين من بنائها ،ال ُيستغنى عنه ،به تستقيم
وهو المحك لذي وفي العتاب حياة بي ـن أقوام الصداقة وبدونه ينحل عقدها وأحسن وأجاد الشاعر القائل :
لبس وإبهام !!
91
وال يتعاتبان على الع ـ ـقوق فما يتزاوران بغير ع ـ ـ ـ ـذر
على موت الصداقة والخفوق فقد جعال سالمهما ع ـ ـ ـزاء
أبيات قالها ابن الخيمي صارخا مستغيثا بالنفوس المؤمنة السوية أن تعود إلى رشدها وأن تعيش في السمات الصادقة للصداقة
الجميلة المتينة وخاشيا من أن تموت معاني األخوة وينتهي معنى جميل من الدنيا ،إنه ال صداقة بال عتاب كما أنه ال صداقة
بال تزاور وإال فإنه موت تلك الصداقة وخفوق في العالقات اإلنسانية السامية !!...................
إن التزاور بين األصدقاء هو مطفأة لهيب االفتراق و مسكن ألم الجوى من البعاد ،وبلسم القلوب المشتاقة المتلهفة للقاء أحبتها
لقاء كبقية اللقاء ،إنه لقاء بالحبيب في بيته أو لقاؤه بك في بيتك ،حين تذوب معاني التكلف وتسقط كل الحجب
،ولكنه ليس ً
ويصير بيتك بيته وبيته بيتك ،إنه لقاء فريد يقرب عالقة المتحابين من عالقة األهل والنسب ثم يسمو عليها قاف از من فوقها
لتصبح ّأم العالقات بال منازع ...............
إن زيارتك صديقك في بيته نعمة حرم منها األشقياء التعساء ،هؤالء المنغلقون البائسون الذين ال تتعدى عالقتهم بأصحابهم
لقاءهم في المتنزهات و المقاهي وإذا ُذكرت البيوت واللقاء فيها تجدهم يفرون كالحمر المستنفرة التي فرت من القسورة !! إذا
دعاهم الداعي للزيارة في بيته تجد وجوههم تتلون وأصواتهم تتحشرج ،يتهربون ويراوغون من تلك الزيارة ويقولون لقاؤنا خارج
البيت أفضل ،ثم يتحججون قائلين :مللنا من البيوت وجدرانها دعنا ننطلق في أرض هللا الواسعة ،وهم بذلك يتهربون من
الزمها أنك إذا زرته اليوم فإنه سوف يزورك الغد ،وهو ليس عنده استعداد الستضافة أحد في بيته ،هذا حده
عاقبة الزيارة التي ُ
في العالقة بالناس وهذا سور منيع لديه ليس من حق أحد أن يتخطاه ،فلبيته خصوصية ال يريد ألحد أن يتعداها ،وهذا النوع
في الحقيقة – و هي حقيقة مرة بائسة – ليس له أصدقاء وإن زعم ذلك وتوهم وكذب على الناس وعلى نفسه !!
إن هذا الصنف من الناس لو زار أصحابه يوما ما فإنه سوف يزورهم لعيادة مرض أو على فراش الموت !! مثله مثل بقية
الناس من المجاملين العامة ليس له وضع خاص وال مكانة مختلفة عند صديقه وهذا ما سوف يحدث معه كذلك ..
أما في عالم الصداقة واألصدقاء فما أجمل وأحلى أن يكون للصديقين لقاء أسبوعي بيتي و غير بيتي يجددان فيه عهد المودة
قران أعينهما من بعضهما ال سيما لو كان في آخر األسبوع حين يستريحان من عناء أسبوع حافل وي ّ
وينهالن من نبع المحبة ُ
بالعمل والكد يكلالن أسبوع العمل بزيارة ودودة ينتظرانها من األسبوع لألسبوع ليفرغا قلبهما من هموم الدنيا ومشاكل العمل
واألسرة !!
حبا
غبا تزدد ّ
إن الزيارة واللقاء ال بد أن يتكر ار بصورة دورية متباعدة ال متقاربة ،فكما ذكرنا من قبل ،العرب الحكماء قالوا ُزر ّ
،فتباعد موعد اللقاء أدعى إلشعال لهيب الشوق وهو ما يزيد الحب و يعمق الترابط و األلفة ................
وما أجمل تصوير أبي تمام :
لديباجتيه ،فاغترب تتجـ ـ ـ ـ ـ ِ
دد وطول مقام المرء في الحي مخ ـلق
92
ِ
بسرمد إلى الناس أن ليست عليهم فإني رأيت الشمس زيدت محبة
◄ إن زيارتك لصديقك سبب من أسباب دخول الجنة ،أال تسمع قول النبي صلى هللا عليه وسلم (:أال أخبركم برجالكم من
الصديق في فالجنة والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة !! )
أهل الجنة ؟ النبي في الجنة والشهيد في الجنة و ّ
..........
يالها من منزلة حين يقرن رسولنا بين النبي والشهيد واَلصديق الذي يزور صاحبه حبا فيه لوجه هللا ،وإن تعجب فلتعلم أن تزاور
األصدقاء ولقاءهم سبب لتكفير الذنوب قال األوزاعي ( :إذا التقى المتحابان في هللا فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه
تحاتت خطاياهم كما تحاتت أوراق الشجر !! )
إن تزاور األصدقاء كان محط أنظار و اهتمام المالئكة !! صدقني ال أكذب عليك أما سمعت ذلك الحديث النبوي ( :إن رجال
زار أخا له في قرية أخرى فأرسل هللا له ملكا على مدرجته فلما أتى عليه قال أين تريد قال أخا لي في هذه القرية قال فهل له
نعمة عليك ترّبها ؟قال ال إال أني أحبه في هللا عز وجل قال فإني رسول هللا إليك ،إن هللا أحبك كما أحببته فيه !! )
.................
يسخر هللا ملكا ليتتبع رجال يزور صديقه ليبشره بما عند هللا له !! فلماذا إ ًذا ال يزور بعضنا بعضا ،ولماذا انشغلنا
تخيل أن ّ
بالدنيا المادية عن حقوق األخوة والوصال ؟ أزهدا في المحبة وحياة الروح أم إعراضا عن ثواب هللا ومنزلته المدخرة !!
طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة
ولماذا غفلنا عن قول رسولنا ( :إذا عاد المسلم أخاه أو ازره قال هللا تبارك وتعالى َ :
منزال !! )
إن السلف الطاهرين المتحابين كانت الدنيا ال تشغلهم عن إخوانهم وهم وإن تباعدت بينهم الديار لم تتباعد عندهم القلوب ،
كانت أسباب القطع عندهم وافرة فوسائل النقل واالتصال كانت قاصرة ولكنهم كانوا يبذلون الجهد و يغصبون أبدانهم بتحمل
السفرالشاق لتحيا قلوبهم برؤية محبيهم ،وكثير منا في زمن الطائرات والصواريخ يبخل على أخيه بزيارة لن تكلفه جهدا وال ماال
ويدخر وقتها لتحصيل منفعة دنيوية رخيصة ،بل ربما يبخل بمكالمة هاتفية أو رسالة إلكترونية ويتحجج بمشاغل الدنيا !!
فسحقا لهؤالء الجفاة وبعدا لهؤالء المغبونين الضائعين الغافلين !!
إن أحد هؤالء الصالحين الطيبين الذين كانوا في زمن الناقة والفرس وهو أحمد بن حنبل قال للقاسم بن سالم معتذ ار متأث ار :إن
لي إخوانا ال ألقاهم في كل سنة إال مرة أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم !! ............قال له هذا الكالم حين مدحه قائال
:لو كنت أتيتك على نحو ما تستحق ألتيتك كل يوم !!.......................
93
فيالشوق المحبين المعذورين الذين حالت األقدار دون زيارة أحبتهم
شطت :بعدت جامعة :قريبة طت ال ــدار
في كل حال فلما ش ّ كنا نزوركم وال ــدار جامعـة
وليس للشوق في األحشاء مقدار نقدر وقتا في زيارتكم
صرنا ّ
ٍ
لمتمن زيارة أحبته وهو غير قادر عليها و آخر بينه وبين صديقه شبر وال يلقي له باال منشغال بالدنيا عنه وعن بره وعجبا
َك ِ
طائ ٍر سلخوهُ من َجناح ــَْي ِن هللاً ُِ يعَل ُم أَِّني بعد ُفرَقِتك ـ ــُْم
حيني :هالكي نك ْم َقد َجنى َح ْيني ألن ُبعدي ِم ُ
َّ الري ِح زرتُ ُك ُم كوب ِّ ِ
ولو قدرت ُر َ
فرق واسع بين من تبادله الزيارة ومن بينك وبين بيته حاجز مانع فهذا وهللا الصديق وذاك من إخوان الطريق !! وهو مصطلح
جديد عبر عنه يحيى بن معاذ إذ يقول :من لم يزرك و لم يؤاسك ولم يتحفك فهو من إخوان الطريق !! أي :من أصحاب
أجل من هؤالء ........
الشوارع من أهل اللهو واللعب سمهم زمالء أو أصحابا ولكن ابتعد عن مقام الصداقة فهو ّ
وفي ذلك المعنى قال الشاعر :
إن زرت زار وإن عدت عادا ومن لم يكن منصفا في اإلخاء
وإن كان أعلى قريش عـمادا اإلباء َأبيت عليه أش ـ ــد
وهنا يجدر بنا المرور على صنف غريب من البشر ،يستحل لنفسه زيارة بيوت الناس ولكنه يأبى أن يدخلهم بيتَه ،ويتحجج
بالحجج الواهية أن بيته ضيق ال يسع الغرباء أو أن له أخوات بنات يخشى عليهن وشأن هؤالء قريب ممن قال هللا فيهم (
يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إال ف ار ار ) وربما ألن الصداقة والمحبة لم تتغلغل إلى قلبه يخشى أن يطلع
صاحبه على مستواه االجتماعي المتواضع الذي ال يريد ألحد أن يعرف عنه شيئا ،وهو بذلك يعزل نفسه عن صديقه وهو
خارق من خوارق اإلخاء بال شك ..................
وازن بين هذا وبين بشار بن برد يقول عن صديقه :
هل يستوي مثال هذا وذاك ؟! هل يستوي من يفتح باب بيته لصديقه يدخله متى شاء بال خجل وال تحفظ بال ستر وال حجاب ال
يكتمه س ار وال يرى في ذلك عيبا هل يستوي مع من جعل دونه ودون أصحابه األبواب واألبواب ووضع أمامها ُ
الح ّجاب ؟!!
94
محبه المرة تلو المرة ولكنه يبخل على صديقه بدخول بيته وفي ذلك يقول المكلوم
وعلى نقيض ذلك النوع هناك نوع آخر يزوره ُّ
عبيد هللا بن جعفر اإلشبيلي بنبرات األسى وقد كتب تلك الكلمات على باب حبيبه :
يزورنا مرة ما بين م ـ ـ ـرات يا من يزار على بعد المحـ ـل وال
تقول عنك :فتى يؤتى وال ياتي زر من يزورك واحذر قول عاتبة
إن هذا النوع ما هو إال الجفاء بعينه ،وإن وجدته في حياتك فاعلم أنك تحبه وال يحبك ،ولو كان محبا لك كما تحبه لبادلك
ودك بود ولكنه لم يذق طعم الحب فكان منه الجفاء فما عليك سوى االنسحاب .......فما أنت حين تزوره سوى ضيف ثقيل
غير مرغوب فيه فانء بنفسك عن موطن تطرد فيه شر طرد وحينها تكون أنت المحب الجريح الذي سينسكب الدم من جرحه
شهو ار وسنينا قبل أن يلتئم وتنسى تلك التجربة األليمة ،تجربة الجفاء ممن تظن فيهم الود واإلخاء ،وال تقل لي كيف أعرف
وأميز من يحب زيارتي ومن يستثقلها فإن سيماهم ستكون على وجوههم وإن تجاهلت تلك السيمى فأنت األحمق المغلوب على
أمرك .......
وقابلني منه البشاشة والبـ ـ ـشر أزور خليلي ما بدا لي هـ ـ ـ ُّشه
ولو كان في ُّاللقيا الوالية والي ـسر فإن لم يكن هشا وبشا ترك ـ ـته
وترك صديقك لزيارتك فجأة قد يكون عن جفوة ألمت به وشيء في نفسه منك فراجع نفسك وانظر هل أغضبته أو آذيته وبادره
بالزيارة فإن تلك الزيارة أول المصالحة وفي ذلك يقول الشاعر :
ِ
وده بمري ـ ـ ـ ـب َّ
إذا لم يكن في ّ لزو ٌار لمن ال يزورن ـ ـ ـي
فإني َّ
وما دار من أبغضته بقري ـ ـب ومستقرب دار الحبيب وإن نأت ٌ
سنة التزاور بين الصديقين ال شك ليس بالهين ،وإذابة الجليد بين الطرفين تحتاج إلى نار حب مستعرة لتكفي في
◄ إن ابتداء ّ
إزالة حاجز التزاور ،واألمر يحتاج لطرف جريء يكون هو البادئ بالعرض يعرض بشجاعة على الطرف اآلخر أن يزوره في
بيته ،وحينها يكون الطرف اآلخر في امتحان فإن نجح فيه وإال فهي بداءة حاجز منيع يحول دون تعمق الصلة بين الطرفين ،
يسوف األمرفالناجح سيرحب بالعرض بل يقابله بعرض مماثل للزيارة و يذوب الجليد بسهولة وليونة ،أما الخاسر هو من ّ
ابتداء رفضا قاطعا لهذا المبدأ
ً ويتحجج بالحجج لئال تحدث تلك الزيارة التي يلزمها رد مثلها وهو ما ال يريد ،وربما يرفض
واضعا حدا واضحا فاصال لحدود العالقة بين الطرفين ،وربما تحت إلحاح شديد يقبل الزيارة ولكن يفجأ الطرف اآلخر بعدم
طلب زيارته لبيته مثلما فعل معه ،والنهاية في كل هذه االحتماالت واحدة وصريحة .....................ليست صداقة !!
◄ أما عن موعد الزيارة فهنالك مواعيد مفضلة عند األصدقاء ففي األسبوع يجتمع الشمل في آخره بعد عناء أسبوع من العمل ،
وفي اليوم يفضل األصدقاء الليل لالجتماع بعد انقضاء الصلوات وبعد االنتهاء من وجبة الغداء فحينها يكون البال خاليا والذهن
صافيا ...........
95
وقديما – أعني قبل وسائل االتصاالت – كانت الزيارات بين األصدقاء ال عن سابق موعد فكان الصديق يأتي في األوقات التي
يظن فيها صديقه فارغا ويطرق الباب ويرحب به صديقه ويستضيفه ،لذا شرع اإلسالم االستئذان ( يا أيها الذين ءامنوا ال
ِ ِ ِ
وها
َح ًدا َف َال تَ ْد ُخُل َ تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون َفإ ْن َل ْم تَج ُدوا ف َ
يها أ َ
ِ يل َل ُكم ْار ِج ُعوا َف ْار ِج ُعوا ُهو أ َْزَكى َل ُكم و َّ ِ ِ َّ
يم ) فحين يأتي الصديق صديقه إما أن يرحب به ّللاُ ب َما تَ ْع َملُو َن َعل ٌ ْ َ َ َحتى ُي ْؤَذ َن َل ُك ْم َوإِ ْن ق َ ُ
ويدخله بيته وإما أن يشرح له ظروفه التي تمنع من الزيارة بال حساسيات وال تكلف وال تهرب والطرف الآلخر يقبل العذر بحكم
ثقته في صديقه ،أما اآلن فاألمر يختلف كثي ار فالهاتف والرسائل اإللكترونية والشات جعلت الزيارات بمواعيد يختارها الصديقان
ٍ
وحينئذ تصير الزيارة بال موعد سابق ال معنى لها بل دربا من قلة الذوق واألدب ،وهو ما قبل لقائهما متى شاءا وكيف شاءا ،
قد يثير المشاكل بين الصديقين ويكدر صفو عالقتهما ،و األمر إن رضي به الصديق ادعاء لنزع التكلف فإن أهله ربما ال
يرضون بذلك ويثيرون االنتقادات لصديقه ويوغرون صدره وهو ما ال ينبغي أن يحدث بين األصدقاء ............
أما احترام المواعيد المختارة بين الصديقين فهو شيء مفروغ منه ! فالصديق المحب المخلص ينتظر موعد لقاء حبيبه وقد نفذ
صبره ،ويعد الساعات والدقائق التي تسبق موعدهما كالظمآن الذي ينتظر الماء الذي يرويه وينعشه ! أما من يتهاون في احترام
موعد لقاء صديقه ويأتيه متأخ ار بال عذر وال سبب فهو ال يحترم صديقه خصوصا إذا تكرر ذلك منه ،فالغريب ال ينبغي أن
يتعامل معه هكذا فما بالك بالصديق ! ولو كان موعده مهما لديه ما تأخر عنه بل جاء قبل الموعد متحسبا للطارئات مثل
التلميذ الذي يأتي قبل موعد االمتحان وربما ال ينام الليل خوفا من فوات موعده ! فهل صارت الماديات عند المستهتَرين أكثر
قيمة واحتراما من البشر ؟! والعجب من الحجج الزائفة التي يرددونها كقولهم ( :إن عدم االلتزام بالموعد من قلة التكلف
والصديق دائما يعذر صديقه !! ) وهؤالء الحمقى إنما قلبوا الموازين وجعلوا الفوضى محل النظام وجعلوا العبث محل االنضباط
،وال أدري كيف لرجل يضع البنزين بجوار شمعة ويثق في الشمعة أنها لن تحرق البيت وحينما تحدث المصيبة يلوم الشمعة
ويلوم الزمن وهو الملوم ال ملوم غيره !! ...........إن الواقع يقول إن كثي ار من الصداقات حدثت بها المشكالت بسبب قلة
احترام المواعيد ،ومعظم النيران من مستصغر الشرر كما يقولون .................
◄ إن لتزاور األصدقاء بركة و روحا جربها األصدقاء تلك الروح التي تسري بين الصديقين فتنتقل إلى اآلباء واألمهات ،
أمي الصديقين تتعارفان لتعارف أبنائهما وتجد اآلباء كذلك -وإن كانوا أقلّ -تتولد بينهم عالقات بفضل عالقة األبناء ،
فتجد ّ
وهذا أمر رأيتُه بيعيني بين األصدقاء ،والصديق حين يدخل بيت صديقه يصير جزءا من العائلة فيعرف إخوة صديقه و يعرف
أمه وأباه ،فهو وجه مألوف بالبيت ال يمر أسبوع أو شهر حتى يدخل البيت فال غرو أن تسري تلك األلفة بين العائلتين كلهما ،
ّ
وربما يحدث النقيض فصداقات اآلباء قد تسري إلى األبناء !! فاألبوان الصديقان حين يتزاوران يصحبان أبناءهما فيرون األبناء
اآلخرين فتتولد معرفة وصحبة مبدؤها اللهو واللعب بين األطفال سرعان ما تكبر وتتعمق مع كبر سنهم فيصيرون أصدقاء بحق
بفضل اآلباء ،وهذه هي الصداقة مثمرة يانعة تؤلف بين األسر و تجعل المجتمع وحدة مترابطة متماسكة مبدؤها الحب و ثمرتها
التعاون ............
وأخي ار .......التزاور ال غنى عنه للصديقين يتزاوران وقت الفراغ ووقت االنشغال ،ال ينقطع ّخل عن خليله بال سبب كما ال
تنقطع المودة بال مقدمات يتالقيان في السراء والضراء فإن كان التالقي وقت الصحة فوقت المرض أولى بالزيارة بل وقت الموت
96
ال تنقطع الزيارة فالصديق الذي فجع بموت صديقه ال ينساه وال يسكن ببلواه يتعهده بزيارة قبره مادام حيا وذاك ار أليامه
الناضرة فحبل البر موصول لم ينقطع فاالتصال اتصال األرواح ال األبدان وعند هللا يجتمع المحبون أخي ار تحت ظله يوم ال
ظل إال ظله ...........
أقل الواج ـب ولك الزيارة من ّ علي م ـ ـسّلماً قد زرت قبرك يا
ّ
حملت نوائ ـ ـ ـ ـبي
َ عني
فلطالما ّ حملت عنك ترابه ُ استطعت
ُ ولو
يسقي ثراك سقاه صوب الصائب ودمي فلو أني علمت بأن ـ ـ ـه
وجعلت ذاك مكان دم ٍع ساك ـب
ُ لسكبته أسفاً عليك وحسـ ـ ـرة
لجميل ما أبقيت ليس بذاه ـب ذهبت بملء قبرك سـ ـؤدداً
ُ ولئن
-7اإلحساس بالصديق
97
شفاءهُ َف َشف ـاني
وأنا شربت َ فشفـي ِب ِه
اءهُ ُ
رب الحبيب دو َ
َش َ
سيقول بعض المغفلين :هذه مبالغة غريبة !! ،وما الغريب إال هؤالء الغافلون التعيسون الذين لم يذوقوا حالوة الحب لم يذوقوا
إال ما يمأل بطونهم ولم يأخذوا إال ما يمأل جيوبهم ،عديمو اإلحساس قلوبهم قاسية مريضة وشر الداء داء القلوب
..................
ألم يسمع هؤالء تلك القصة العجيبة التي كان بطلها نبينا و صاحبه أبو بكر !! حين خطب النبي في الناس يقول ( :إن هللا
خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند هللا ،فبكى أبو بكر ،فعجب الناس لبكائه فعلموا أن رسول هللا هو المخير
!!!!
سبحان هللا ! الوحيد الذي فهم اللغز الذي لم يفهمه الناس هو أبو بكر ،إن هذا هو اإلحساس واتصال األرواح بين المتحابين ،
أمن الناس علي في صحبتي مالي أبو بكر ولو كنت متخذا خليالوال عجب حينئذ أن يقول سيد األنبياء في أبي بكر ( إن ّ
سد إال باب أبي بكر ! ) ...................
يبقي ّن باب في المسجد إال ّ
التخذت أبا بكر خليال ولكن أخوة اإلسالم ومودته ،ال َ
وفي قضية اإلحساس -خصوصا مسأل َة المرض -مساجالت فهذا محمد بن عبد هللا بن طاهر مرض فافتقد أخاه عبيد هللا بن
عبد هللا فحزن وغضب وظن ظن السوء بصديقه كيف يهجره إذ عاده الناس ولكنه رجع إلى نفسه فقرر أن يلزم مبدأ العتاب
فكتب له معاتبا :
عالك شاهــَِدا ِ
ئك من ف َ وجدت َعَلى َجَفا ُ ِّإني
ُت ِسوى َرسـولك عائدا اعتللت فما َف ـَق ْد
ُ إني
سبباً إليك ُمساع ـ ـ ـداً اعتللت فلم أَ ِج ْد
َ ولو
الكرى :النعاس ودك راقـ ـ ـ ـدا
َع َ
حتى أ ُ الك َرى
الستشعرت عيني َ
ْ
يتساءل ويتعجب كيف يفعل معي ذلك وهو صديقي المالزم وحبيبي المفضل وأنا الذي إن مرض عدتُه وبذلت ما في وسعي
لمساعدته ففوجئ برده عليه قائال :
القتاد :شجر له ِ
شوك الرقاد
ط ْعم ُّ لم أذق ُم ْذ ُح ِم ْم َت َ بشوك الَقتادُك ِحلت ُمْقلتي َ
مكان ال ـ ـسواد
زل من مقلتي َ َ المودة وال ـنا
ّ يا أخي الباذل
من ُدخولي إليك في ال ـ ُعّواد من َع ْتني عليك ِرَّق ُة قل ـ ـ ـبي
َ
تفرى :تقطع لتََف َّرى مع األنين ف ـ ـ ـؤادي سمعت منك أن ـيناً ُ ْلو ِبأُ ْذني
إن هذا الصديق المغرق في اإلحساس والشعور رقته الزائدة منعته من أن يرى حبيبه في موضع أذى لئال يتمزق قلبه و يسري
المرض في أعضائه ،فمنع الزيارة وهو مخطئ ال شك فاإلحساس هنا نتيجته مبالغ فيها وإن كان عالمة على صدق الحب
واإلخالص ،فالصديق العطوف يجازف بنفسه و روحه ،يعرض قلبه للتمزق والتأوه ،من أجل عيادة صديقه الحبيب أقول
ذلك لئال يتعلل الجفاة الغالظ على عدم عيادتهم ألصدقائهم قائلين نحن حساسون أرّقاء بل هي حجج واهية مثل خيوط
العنكبوت ..........................
98
وإن لم يدنه مني ق ارب ـ ـ ـ ــة أخو ثقة يسر بحسن حالـ ــي
إذا ما أزمـة نزلت رح ـ ـ ــابه يسر بما أسر به ويشجـ ـ ــي
بنات صدورهم لي مست ارب ــة ألفي قريـ ــب
أحب إلي من َ
إن اإلحساس بالصديق ال يكون بالضراء فحسب وإنما يكون بالسراء كذلك ،وكما أن الضراء ال تنزل بالناس متساوية فالسراء
كذلك وهنا يبرز المحب الحقيقي الذي نال صديقه من الخير ما لم ينله هو فيجد نفسه مسرو ار مبتهجا كأنه هو الفائز صاحب
سر ؟!! أما الصاحب الحسود النعمة وإن لم تصبه النعمة مادةً ولكنها أصابت سمي نفسه وشق روحه وحبيب قلبه فلم ال ُي ّ
الحقود فحين يجد صاحبه قد ترقى في المنازل و ارتفع في درجة أو وظيفة أو منصب فإنه يجد نفسه حزينة متأذية حتى إن لم
ينعكس ذلك الشعور السلبي على تصرفاته إال أنه عالمة على ضعف الحب ووهن الصداقة بل انعدامها .........إنها لحظات
مكاشفة يعرف بها المرء نفسه هل هو صديق حقيقي يتعامل مع األرواح أم صديق دنيا ولذة أوقات من أصحاب الطريق كما
عبر العارفون !!..............
كما تقبض الكف بالمعصم وما المرء إال بإخـ ـ ـ ـوانه
وال خير في الساعد األجـذم وال خير في الكف مقطوعة
وكما أن الصديق يفرح لنعمة صاحبه بدافع اإلحساس – صاحب النعمة كذلك له من اإلحساس ما يجعله متأزما لتأخر صاحبه
واستئثاره هو بالنعمة دون حبيبه فيجعله غير مكتمل الفرحة ينقصه شيء كبير ،ذلك الشيء هو رغبته الخير لصاحبه ،وهو إذ
أنعم هللا عليه وحرم صديقه عليه أال يبالغ في االبتهاج واالحتفال أمام صديقه لئال يجرحه ويزيد عليه همومه بل يفرح بمقدار ال
يثير أسى صاحبه بل يمد يد العون لصاحبه ويحدثه عن مشكلته أكثر من حديثه عن درجته التي نالها ،بذلك تحدث المؤازرة
أي باإلحساس المتبادل ،فاإلحساس من طرف واحد ال يكفي !!
إن ذلك اإلحساس والشعور يتعمق لدى الطرف المحب حتى إذا سأله حبيبه حاجة فقصرت يده عن إعطائها أصابه الهم والحزن
وانظر ألبي عمرو بن العالء الذي سأله رجل شيئا فوعده أبو عمرو بها ثم لقيه الرجل فقال يا أبا عمر و وعدتني وعدا ولم
تنجزه فقال أبو عمرو :فمن أولى بالغم أنا أم أنت ؟؟ فقال الرجل :أنا ،فرد أبو عمرو :بل أنا ،فقال له الرجل :وكيف ذلك
وبت ليلتك فرحا ُّ
وبت ليلتي مهموما مغموما ثم عاق أبت بهم اإلنجاز َّ
فأبت بفرح الوعد و ُ
أصلحك هللا ؟ قال :ألني وعدتك وعدا َ
مدال ولقيتُك محتشما فمن هنا صرت أولى بالغم !!..............
القدر عن بلوغ اإلرادة فلقيتَني ّ
ما أحسن أبا نواس إذ أجاد قائال :
الح َدث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
ان ِ ِ ِ كان لي ِإ ٌ
ه ل َريب َ لف أ َُرج ـّ ـ ـ ـ ــّي َ
َيحتَوينا َج َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
دان روح ُه روحي َوَل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِكن ُ
ان َه ُّم ُه في ُك ِّل شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ َه ُّم ُه َه ّمي َو َه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّمي
قال َكفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاني ِ
صيه ما َ يس َيعصينـ ـ ـ ـ ـ ـي َوال أَع َل َ
99
◄ لنا في صاحبين عظة وعبرة أحدهما أصابه المرض بل اجتمعت عليه األسقام المقعدة حتى لزم الفراش فعاده صاحبه
واتصل به سائال عنه ثم لما عاد إلى عمله والمرض مازال ملما به وجد صاحبه و هو يضحك لهذا و يثرثر مع هذا ،يمزح
ويقهقه ،وقد ترك صاحبه مهموما مكروبا ،جعله مرضه وحيدا منطويا فهو ال يقوى على مجاراة الناس فالتزم مكانه إلى أن
صاحبه المكروب تركه وحيدا وانشغل عنه بالناس وممازحتهم ،وفي نهاية اليوم
َ الصاحب
ُ يمضي اليوم ،وبدال من أن يالزم
فوجئ الصاحب المعافى بصاحبه المريض وقد خرج بدون أن يسلم عليه أو يكلمه وبدأ الصاحب المكروب يتجنب صاحبه
القاسي القلب ،أما صاحبنا الغافل الالهي فبدا متعجبا غير متفهم لصاحبه الذي انطوى فجأة وهجره وخاصمه ،ثم بدأ يتساءل
ما بال هذا الصاحب المنطوي الحساس الذي يخاصمني بال أسباب ياله إ ًذا من مريض نفسيا يحتاج إلى طبيب يعالجه !! ،
وفي الحقيقة إن هذا الالهي هو المحتاج إلى طبيب ولكنه طبيب لألرواح ال لألبدان !!
وصلت الرسالة أم لم تصل ؟؟ عندما تصل تلك الرسالة لكل األصدقاء سوف يتجنبون كثي ار من المشاكل والمنازعات
...................
انظر لهذا المثال وانظر لقول أحمد الحكيم الكاتب يكتب إلى بعض أصحابه في مرض :
همول :فائض القيت منك ه ـمول
َ ودمعي لما مرضت طويل
َ فديتُك ليلي مذ
ويفجعني ظبي الفالت كحي ـل أشرب كأساً أو أسـ ـ ـ ُر بلذة
أ ُ
وأصبوا إلى لهو وأنت عل ـ ـيل ويضحك سني أو تجف مدامعي
وغال حياتي عند ذلك غ ـ ـول
ثكلت إذن نفسي وقامت قيامتيُ
سأبقى على حزني ضحى وأصيل فإن ينقطع منك الرجاء فإنـ ـه
حرم على نفسه اللذات من شرب و لقد سهر الليالي الطوال مشغوال ببأس صاحبه وعيناه لم تفارق الدمع حزنا على مصابه ّ ،
وعد قيامته أهون عليه من أن يخون صاحبه بالسرور وقت ألمه ،وإن طال األلم وانقطع الرجاء فتلك فاجعتي
ضحك ولهو ّ
مادمت مبتلى مصابا !!
َ الكبرى التي لن أفيق منها أبدا
أظن أن الفارق بين المثالين أوضح وأكثر تأللؤا من الذهب تحت شمس الضحى !
حسا و مادةً فأتى دور الصديق الذي أبى أن يفطر بدون أن يشارك صديقه في طعامه وشرابه الذي تعده له أمه التي ّ
تتفهم ّ
100
األمور جيدا وتقدرها فيدعو صديقه من حين آلخر لتناول اإلفطار في بيته ،ليجد المواساة من صديقه و الحنان من أمه التي
جعلت نفسها أما له بعد أمه ،فيعلم الصديق أن هنالك من يشعر به ويلطف أحزانه ،ولم ينس الصديق ذو اإلحساس اللطيف
في العيد أن صديقه لن يجد أما تصنع له كعكا مثل العام الماضي فإذا هو يهدي له علبة من الكعك من صنع أمه ليسد الفراغ
ويمأل الفجوة وتُصنع البهجة بأناس لنا أصدقاء ميزهم عن غيرهم فرط شعور بغيرهم من إخوانهم !!
◄ وهذا زميالن في الدراسة توطدت الزمالة بينهما حتى صا ار نعم األصدقاء ،كانا يتنافسان في التفوق والنجاح وكأنهما فرسا
رهان كل يعمل ما عليه لينول ما قسمه له هللا ،يعيشان لحظات الدراسة لحظة لحظة بين فترات انفراج وسعة وفترات ضيق
وكربة حتى جاء وقت الحصاد يوم النتيجة وهنا – بعد أن كانا متساويين في كل شيء -اختلفت النتائج فهذا وفقه هللا لمجموع
عال يدخله كلية عالية واآلخر كان ذا مجموع منخفض يدخله كلية دون مستوى األول ،األول في قمة النشوى ،والثاني في
منحدر اليأس ،صحيح أنه يحب الخير لصديقه لكنه فجأة شعر أنه دون مستواه فقرر االنسحاب ،وهنا في هذا االمتحان يأتي
دور الصديق الناجح ذو الشعور في نفس الوقت ليفهم نفسية صديقه و يحسن تفسير انسحابه وانطوائه ،إحساس الصديق
المحب يدله على أن صديقه الذي يثق فيه إنما فعل ذلك ليس حقدا وال حسدا وإنما دفعه لذلك كسرةٌ نفس أرادت منه أن يختبر
صديقه و مدى وفائه له فقرر االبتعاد فترة لينظر كيف يكون رد فعل صديقه ؟ هل يتمسك به ويتشبث بصداقته أم تأخذه أضواء
المحس ذو الشعور اللماح يسارع لصديقه
ّ الدنيا وأبراج التفوق ويبحث له عن صديق جديد يناسب مستواه العلمي ،وهنا الصديق
ويأخذه من يده ويجدد عهد المودة والصفاء ويطمئنه أن ليس شيء في الدنيا يفرق بيننا مهما حدث ومهما فرقت بيننا طبقات
الدنيا فالقلبان يسكنان بطابق واحد وإن اختلفت طبقات المجتمع المادي !!.............
◄ شيء من اإلحساس !
من عدوك الذي تجتنبه وتبغضه ؟ هل هو من أساء إليك فقط أم من أساء إلى حبيبك كذلك يدخل في زمرة أعدائك ؟ إن
صديقك حين يعادي إنسانا ال بد أن تعاديه كذلك ألن ذلك من كمال الحب بين الصديقين ،ومن عالمات اإلحساس بمشاعر
عدوه ،وليت شعري كيف تزعم أن تحب صديقك وأنت ٍ
مبق على ود من صديقك الذي لن ُيسر بعالقتك الحميمة بينك وبين ّ
أساء إليه ؟! هل هذا من الوالء أم إنه درب من انعدام الشعور واإلحساس وعدم تقدير صديقك ،إن ثقتك في صديقك تقتضي
ثقتك في عداواته فهو ال غرو محق في اجتناب شخص ما فما عليك سوى احترام شعوره واجتناب من يجتنب لتحفظ وده على
األقل في لحظة حضوره أما في غيابه فعليك االجتناب كذلك إال في الضروريات التي تجبرك على االحتكاك بذلك الشخص في
غير والء فالوالء هو الوالء األول !!!
وإني لِمن ود الصديـ ـ ــق ودود عدو صديقي داخل في عداوت ــي
أصادقه فالخير مــنك بعـ ـ ـ ــيد فال تقترب مني وأنت عـ ــدو من
وقال اآلخر في صديقه
كأنه مني في ه ـواء شق ـ ـ ـ ــيق أعادي الذي عادى وأهوى له الهوى
101
المجن فال تلومن إال نفسك
ّ ذلك هو اإلخاء وهذا هو حق الوفاء ،وأما إذا لم تفعل ذلك فاغتاظ منك صديقك وقلب لك ظهر
فأنت المائع غير المبالي بل الخائن المستهتَر وعليك أن تدفع ثمن خطئك في حق صاحبك الذي يصرخ قائال :
عازب :غائب صديقك إن الرأي عنك لعازب تود عدوي ثم تزعـ ـ ــم أنني
ّ
ولكن أخي من ودني وهو غائب وليس أخي من ودني رأي عينه
والعجب كل العجب ممن وقع في إثم وصال عدو صديقه فعاتبه صديقه المكلوم مستصرخا بالصداقة واألخوة فإذا به يهاجم
صديقه ويصفه بالحساسية الزائدة ويتعلل بالمصالح والضروريات ثم يتبجح و يقول ال يلزمني أن أخاصم الناس من أجل
قاطعت إنسانا بسبب تهورك واندفاعك تلزمني أن أقاطعه حتى أخسر الناس جميعا ؟! ثم يندفع ذلك َ خصوماتك وهل كلما
الصاحب األخرق متهما لصديقه ذي القلب الرقيق باألناوية ( األنانية )وحب االستئثار به دون الناس وأنه يريده أن ينعزل عن
الناس جميعا وينفرد هو به ويضعه في قفصه ليصير من مقتنياته الشخصية وربما تحذلق و قال شع ار مثل من قال :
تراه بــي إذ ال يـ ـ ـراك قطعت
َ دعني أواصل من
ال أضــر به سـ ـ ـ ـواك إني متى أحقد لحقد ك
أطعت فيه غدا أخـ ــاكُ وإذا أطعتُك في أخـيك
يوما لذا وغد ا لـ ــذاك حتى أُرى متق ـ ــسما
إنها المبررات اإلبليسية المدروسة ،هو يبرر وصاله لذلك الشخص المعادي بأن ذلك يصب في مصلحة الصداقة وأن قطيعته
قد تضرك أنت ،ثم يصبغ حجته بصبغة دينية زائفة بأن ذلك الشخص الذي تطالبني بمقاطعته كما قاطعتَه إنما هو أخوك في
اإلسالم وال ينبغي لنا أن نقطع حبال األخوة والوحدة العامة ثم يختم كالمه ببواطنه الخبيثة التى فاضت رغما عنه أنني لو
كنت أنا الخاسر فدعني وشأني أصاحب من
قاطعت عدوك اليوم فسوف أقاطع غيره غدا وغيره بعد غد فكلما تعددت خصوماتك َ
أريد وال تقيدني بحبال الحب التي سئمتُها..
الوسواس
◄ بين اإلحساس و َ
يسر وكيف يكون حين يحزن ،ولصديقه في عقله صورة الصديق المقرب يعرف صديقه حق المعرفة ،يعرف كيف يكون حين ّ
براقة عن شخص محب ودود مشرق الوجه فياض بالمشاعر له نكهة خاصة وروح متميزة متى افتقدها منه لحظة ما عرف أن
في األمر شيئا ،فتأتي لحظات يقول الصديق لصديقه :مالك يا أخي اليوم ؟ إنك متغير عن بقية األيام ،هل أحزنك شيء ما ؟
هل عندك مشاكل تؤرقك ؟ أم إنك مريض أو مرهق تحتاج لراحة أو عالج ؟ والصديق المخلص أحيانا حين يصاب بشيء من
هذه األمور يجاري الناس ويظهر لهم االبتسامة الكاذبة لئال يظهر عليه شيء متغير فيثير تساؤالتهم أما صديقه فال يعامله تلك
المعاملة وإنما يتعمد التغير بشكل ما أمامه – ربما في عقله غير الواعي كما يعبر علماء النفس – ليفتح له باب التساؤل عن
102
سر تغيره فينفجر أمامه شاكيا همه باكيا حاله فينفث ما في صدره ويفرغ كباتا داخليا ليس ألحد دور إيجابي في تنفيسه مثل
صديقه الحبيب .................هذا في األصدقاء .....
الصديق ال يستطيع إ ًذا أن يخفي شيئا عن صديقه ولو حاول فإنه حتما سينكشف .........وحين يخفي الصديق شيئا عن
صديقه يكون ابتداء لنزاع بينهما حين يحس الصديق أن صديقه يخفي شيئا عنه ،فحاسته الصداقية ال تكذب أبدا حينها يبدأ في
التشكك في أمره ويظن أن صديقه بدأ يتغير من ناحيته فصار ال يأتمنه كما كان من قبل أو ربما هو غاضب منه وال يريد أن
يفصح عن غضبه زهدا فيه أو ربما هي عالمة من عالمات الجفاء التي يورثه المالل ..................كل هذه األفكار تدور
بخلد الصديق المرهف الحس الذي لمس تغير صديقه ولم يجد منه تفسي ار ُمرضيا غير النفي واإلنكار الذي ال يمكن له أن
يصدقه بسهولة ،وحينها ال يصح االستدالل بحديث التمس ألخيك سبعين عذ ار ألنه في هذه الحال موجود وليس غائبا ُيلتمس
له العذر فهو لم يعط تفسي ار مقنعا ولم ُيزل اللبس فهو لم يجعل نفسه في موضع التماس عذر وإنما موطن شبهة وريبة فهو
الملوم أوال وأخي ار وصديقه المحب المسكين هو المتضرر المتشكك التائه في دوامة الشك والتظنن والدائر في رحى الوسواس
المدمر ................
الناس أشتات وأضداد ،زمر و جماعات ،كلهم مختلفون ،كل له فكره ورأيه الذي يميزه عن بقية الناس واالختالف سنة كونية
وضعها هللا على ظهر األرض ليبتلي الناس ويميزهم فقال ( وال يزالون مختلفين إال من رحم ربك ولذلك خلقهم ) والمستثنى عند
عامة النحاة أقل من المستثنى منه عددا فهو القليل والنادر ،فالمتفقون قلة وإن اتفقوا في أشياء كالمذهب واأليديولوجية
فسيختلفون حتما في الطباع كحب أشياء وبغض أشياء ،والتقارب الفكري إ ًذا هو المخرج لمن يريدون الصداقة ،فالتناسخ
محدود والتقارب – وإن عز – موجود ،ومن أسباب نجاح الصداقة وسرمديتها ذلك التقارب الذي ربما كان من االبتداء سببا
لتجاذب االصدقاء ،والصديق يميل لمن هو قريب منه في السلوك والعقيدة ،والطيور على أشكالها تقع ،وكما قال الحراني :
مجالسة األشكال تدعو إلى الوصال ومجالسة األضداد تذيب األكباد !!
وقال أحمد بن عطاء :مجالسة األضداد ذوبان الروح ومجالسة األشكال تلقيح العقول !! ............
ولهذا األمر لفت بعض العارفين نظرهم عن فكر وعن نظر وتجربة أن الصالحين المفكرين أصدقاؤهم قلة فهو متفردون في
زمان الغربة والوحشة فقلما يجدون المقارب لهم فقال الماوردي يناقش ذلك األمر ( :إذا كان التجانس والتشاكل من قواعد األخوة
وأسباب المودة كان وفور العقل وظهور الفضل يقتضي من حال صاحبه قلة إخوانه ألنه يروم مثله ويطلب شكله وأمثاله من
ذوي العقل والفضل وألن الخيار من كل جنس هو األقل فلذلك قل وفور العقل والفضل ).......
وقال أحد الحكماء (:كل إنسان يألف إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه وإذا اصطحب اثنان برهة من الزمن ولم
يتشاكال فالبد أن يفترقا !) ..............
103
وهذا القول – أعني ( ولم يتشاكال ) -يضيف لنا فائدة جليلة وهي عالقة التأثير والتأثر بين األصدقاء ............
التأثير والتأثر
إذا كان من شروط نجاح الصداقة وقوتها التشاكل فالحب ال يشترط ذلك !! القلب يهوى من شاء هللا أن يهواه ،وشباك الحب
تأسر بال تمييز وال شروط ،والمحب ليس قلبه في يده ،وهنا يقع االلتباس ،كيف يكون الحب بريد الصداقة ثم يختلف معها
في مسألة التشاكل ؟! أقول :إن الحب المتبادل مبتدأ الصداقة فإن كان االتفاق والوحدة الفكرية من االبتداء فنعم االبتداء وإن
كان االختالف بين الصديقين بار از فإ ًذا هي معركة !! نعم هي معركة التأثير والتأثر بين الصديقين ،أيهما يفلح في استمالة
صديقه لتياره ؟ فأقواهما شخصية ونفوذا يغلب اآلخر و يأخذه في اتجاهه فإن كان أحد الصديقين صالحا مؤمنا واآلخر بعيدا
عن الطريق فإن أحد االثنين حتما سوف يقود اآلخر لسربه ومنهجه فيصيران إما صالحين وإما بعيدين عن الهداية ،يحدث
الصراع في ابتداء الصداقة فإن كان الصالح متمسكا بصالحه والبعيد معترفا بخطئه راغبا في تغيير نفسه فسوف يجد نفسه قد
ارتمى في أحضان أخيه وتبعه إلى الهدى وترافقا في سبيل الخير والرشاد ،وإما إن كان البعيد عنيدا يرى نفسه صاحب عقل
وفكر مجادل متفيهق معتد بذاته فإن التوافق يكون حينئذ صعبا وشاقا ،ومصير تلك الصداقة مهدد ،فاالختالف يزيد الفجوة
يوما بعد يوم وكلما اتسعت الفجوة زادت الفرقة وتنافرت القلوب وانهار بناء الصداقة قبل أن يبدأ .......................
والطالح الذي صاحب صالحا عموما عنده االستعداد للصالح ،القلب فيه طيبة وروح خيرة وعندما وجد شخصا صالحا صادف
قلبه المحب كان له كطوق نجاة أخذه بسهولة بدون عناء ،والذي يصاحب طالحا كذلك عنده استعداد للفساد – وإن لم يكن
فاسدا من قبل – فهو في أعماق عقله الباطن يريد من يضعه على طريق االنحراف فوجد في صاحبه الطالح فرصته فكان
التشاكل في هذا المثال وذاك ،وبذلك تكون اكتملت صورة التقارب بين األصدقاء التي أرغب في توضيحها ............
ومن أجل قضية التأثير والتأثر حث اإلسالم على حسن اختيار الخليل فقال رسولنا الكريم صلى هللا عليه وسلم ( المرء على دين
خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) وشبه الجليس الصالح وجليس السوء بحامل المسك ونافخ الكير ،وهو إدراك دقيق لهذه
المسألة االجتماعية الحساسة التي تحرف طريق اإلنسان في حياته من إنسان سوي إلنسان معوج وال ّ
ض ّد صحيح ....
ولهذا جمع الشاعر بين الحسنيين حسنى االتفاق وحسنى الصالح فقال :
ذا حياء وعفاف وكـ ـ ـ ـ ــرم صاحبت فاصحب ماجـ ــدا َ وإذا
قلت نعم ق ـ ـ ــال نعم
وإذا َ ـت ال
قوله للشيء ال إن قل ـ ـ ـ َ
ِ إمعة أمام صديقه ،ولكن المعنى أن يكون االتفاق قلبيا
مصادفا ال ماديا متكلفا ،فكلما وليس معنى ذلك أن يكون الصديق ّ
تآلفت القلوب تقاربت العقول بال تكلف وال قصد وإنما هو حب صادق غير شعوري انعكس على العقل والجوارح !! وهو من باب
نظرية األنا الشهيرة !! ولعل اختالف الفكر والطبع عالمة على اختالف القلب و اتهام شنيع بتكلف الود ..
عليك وال في صاحب ال توافقه وال خير في ود امرئ متك ــاره
104
أما المحبون الصادقون الذين تخلل الحب خاليا جسدهم فأفناهم بالعشق فشأنهم ولسان حالهم يقول :
ومن أشكر نعماه أخي أنت وموالي
فإني الدهر أهواه أحببت من أمر
َ وما
لست أرضاهفإني ُ وما تكره من شيء
لك هللا ل ــك هللا لك هللا على ذاك
لك هللا أي :عهد علي بيني وبين هللا أال نختلف في شيء أبدا ،وكيف نختلف واالختالف بريد الفرقة ولو كان اختالفا في
الطعام أو الشراب أو الملبس والذوق !! إنني أثق في قلبي الذي لن يطاوعني في شيء خالف هواك كما أثق في قلبك الذي لن
يخالف قلبي أبدا ..
من هنا كان المؤمن مرآة أخيه ،وصدق قولهم قل لي من تصاحب أقل لك من أنت !
فإن القرين بالمقارن م ـ ـ ِ
ـقتد عن المرء ال تسأل وأبصر قرينه
َ
أسمي صديقي توأم روحي !! فالوجوه والجينات متباينة ولكن األرواح نسخ متطابقة .................. ومن هنا أيضا ّ
إذا ما الم أر ماش ـ ــاه يقاس المرء بالمـ ــرء
مقاييس وأشـ ـ ــباه وللشيء على الشيء
دليل حين يلق ـ ــاه وللقلب على القلب
ونعود لمسألة الصراع صراع التلوين والتلون صراع صديق يرسم صديقه بريشته واألخر يضع على صديقه لمساته الفنية فينتج
شهور طويلة إيجاد نقاط
ا المزيج فريدا مبه ار متوحدا في نفس الوقت ،ولكن ما العمل إذا فشل التشاكل ؟ لقد حاول الصديقان
توافق وأرض مشتركة تجمع بينهما ولكن ال أمل ،األمزجة مختلفة ،وما يحبه هذا يبغضه ذاك وما يظنه هذا فالحا وصالحا
يظنه اآلخر خيبة وحماقة ،إن الشقاق قائم ال شك والنزاع متزايد حتما والنهاية قريبة البد ،و يأتي الالئمون المتعجبون يتساءلون
لماذا لم تستمر الصداقة ؟ واإلجابة بكل بساطة أن البذرة إنما وضعت في أرض بائرة فأنى يكون الثمر ؟!................
فقلت قوال فيه إنـصاف
ُ ٍ
وقائل كيف تفارقـ ــتما
والناس أش ــكال و ّأالف يك من شكلي ففارُقته
لم ُ
إن من عجائب األصدقاء أن الصديق المشابه صديق الدنيا له امتداد في عالم اآلخر ! فقرينك في الدنيا قرينك في اآلخرة !
فالصالحون المتحابون بجالل هللا يظلهم هللا في ظله يوم ال ظل إال ظله ،ثم في جنة عرضها السماء واألرض على سرر
متقابلين ،ينزع من قلوبهم الغل يحمدون هللا أن أذهب عنهم الحزن بينما الصديقان الفاسدان الشقيان يحشران معا إلى صراط
الجحيم ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون هللا فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) وأزواجهم هنا أصنافهم ،ثم
105
في العذاب هما معا ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) الفرق الواضح بين الصديقين الصالحين
والصديقين الشقيين أن الصداقة األولى تنفع أصحابها في عالم اآلخرة بينما األخرى ال تنفعهما بل توردهما المهالك فيصرخ
الصديق متأوها متحس ار على تلك الصداقة الهباوية ( فما لنا من شافعين وال صديق حميم ) بل ربما يتوه عنه صديقه الذي أورده
المهالك في زحام جهنم فيقول ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيال يا ويلتى ليتني لم أتخذ
فالنا خليال لقد أضلني عن الذكر إذ جاءني وكان الشيطان لإلنسان خذوال ) ذلك الصديق شيطان اإلنس يخذل صاحبه يوم
يمنيه في الدنيا ويحبب له الشهوات ويزين له الباطل والظلم يخذله شر خذالن وال ينفعه فهو منشغل بكارثته الدين وهو الذي كان ّ
وحاله البائس بينما في الجانب المقابل يشفع الصديق الصالح لصديقه عند هللا لعله يتجاوز عنه فنعمت المنفعة في الدنيا
ام ِة ِ
ين َفِإ َّن َل ُه ْم َشَف َ
اع ًة َي ْوَم اْلقَي َ
ِ واآلخرة ولذلك َقال اْلحسن :استَ ْكِثروا ِمن ْاأل ِ ِ
َصدَقاء اْل ُم ْؤ ِمن َ
ْ َ ََُ ْ ُ َ
وإيـ ـ ـ ــاك وإي ـ ــاه فال تصحب أخا الجهل
حليما حين آخ ـ ـ ــاه وكم من جــاهل أردى
ومن عجائب المواقف موقف ذكره القرآن عن الصالحين المؤمنين في الجنة يتذكرون الفاسدين ممن كانوا يتعرضون لهم يغرونهم
ين أَِإذا ِم ْتنا ين يُقول أَِإَّنك َل ِمن اْلم ِ ِ ِ ِ
ص ّدق َ كان لي َق ِر ٌ َ ُ َ َ ُ َ ويرغبونهم في الشهوات والفاسد من المعتقدات فيقول الواحد منهم ِ ( :إّني َ
ين َوَل ْوال ِن ْع َم ُة َرّبِياهللِ ِإ ْن ِك ْد َت َلتُْرِد ِ ِ ِ ِ َّ َّ ِ ِ
َوُكَّنا تُراباً َو ِعظاماً أَِإَّنا َل َمد ُينو َن َ
قال َه ْل أ َْنتُ ْم ُمطل ُعو َن َفاطَل َع َف َرآهُ في َسواء اْل َجحي ِم َ
قال تَ َّ
ض ِرين) يحمد الواحد منهم ربه أن وقاه شره وأن جعله يبتعد عن هذا الصديق ،ذلك الصنف الذي ال يأتي من ِ
َل ُك ْن ُت م َن اْل ُم ْح َ
ورائه سوى الهالك والدمار !
ثمرات التشاكل
المتشاكالن إما صالحان وإما مغبونان ،وشتان ما بين الصنفين شتان ! تجد صنفا من األصدقاء يجتمعان في بيت هللا على
الصالة ،أو يجتمعان على حفظ كتاب هللا ومراجعته ومدارسته ،وربما كان لهما لقاء أسبوعي ثقافي يقرآن فيه كتابا يتناقشان
حول مسائله ويضيف كل منهما لآلخر معلومة وفائدة فيثري كل منهما صاحبه ،تجد لقاءهما إما في المسجد أو في المكتبة أو
في المنزل ،وعندما يريدان الترفيه ينطلقان إلى المنتزهات والحدائق يتنسمان الهواء النقي مع نسيم األزهار ،يقفان أمام البحر
يتدبران ،لهما في الطبيعة الخالبة تأمل وإلهام يستلهمان منها الحب والخير ،يمارسان الرياضة النافعة ،يحضران المحاضرات
المفيدة والندوات القيمة ودروس العلم النافع ،يتعاونان على الخير والحب فنعمت الصحبة ونعم اإلخاء ............
وصنف آخر صاحبان هائمان تائهان في الحياة ،حياتهما لهو ولعب بال انضباط وال حدود ،فسحتهما المقاهي والشرب و
اللعب المنبوذ و في األعياد يذهبون إلى السينمات ،يطبلون ويزمرون مع المطبلين والمزمرين ،لم يدخال بيت هللا قط ولم
يجتمعا على صالة وربما ال يعرفون طريق المسجد ،يقضون الليالي في المالهي الليلية يشربون ويرقصون ويسمعون ويشاهدون
،لقاؤهما اكتساب لآلثام وتضييع لألوقات وتبديد لألموال ،عند عودة أحدهم لبيته يسمع الشتائم واللعنات وال ضير عنده في هذا
فقد اعتاد أسوأ منها بينه وبين صاحبه الذي ال مزاح عنده سوى الشتم باألباء واألمهات والسب في األعراض واللعنات ،وهما
106
بطبيعة تلك الحال ال يعرفان طريق بيتيهما فعالقتهما عالقة شوارع وطرقات ال يتزاوران أبدا وال يتعاتبان ،فبئست الصحبة وما
أبعدها عن الصداقة !
ومن عجيب األمر أن من ثمرات التشاكل معرفة حقيقة الناس عيانا بدون منظار وال عدسة مكبرة ! فإذا رأيت مجموعة تريد أن
فدس فيها صالحا وطالحا أياما وانظر فمن صاحب الصالح منهم واطمأن إليه وجاراه وانشرح صدره تعرف صالحها من طالحها ّ
له فهو الصالح ومن كان هذا حاله مع الطالح فهو نظيره وانظر لقول إياس حين نزل بقوم :قدمنا بالدكم فعرفنا خياركم من
كل شكله !!
شراركم في يومين .قيل له :كيف؟قال :كان معنا خيار وشرار ،فلحق خيارنا بخياركم ،وش اررنا بشراركم ،فألف ٌ
(وذكر بعض الحكماء أنه ال يقع العشق إال لمجانس ،وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل واستدل بقول النبي صلى هللا عليه
ّ
جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف ،وما تناكر منها اختلف" .قال :وقد كانت األرواح موجودة قبل األجسام ،فمال
وسلم! "األرواح ٌ
الجنس إلى
الجنس .فلما افترقت في األجساد ،بقي في كل نفس حب ما كان مقارناً لها .فإذا شاهدت النفس من ٍ
نفس نوع موافقة ،مالت
ومودة ،وإن كان في معنى يتعلق بالصورة، إليها َّ
ظانة أنها هي التي كانت قرينتها .فإن كان التشاكل في المعاني كانت صداق ًة ّ
كان عشقاً .وإنما يوجد
الملل واإلعراض من بعض الناس ألن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة وأنشدوا على ذلك
إنصاف
ُ فقلت قوالً فيه ٍ :
وقائل :كيف تهاجرت ـما؟
ف َّ
والناس أشكال واُال ُ .لم يك من شكلي ففارقته،
فإن قيل إذا كان سبب العشق نوع موافقة بين شخصين في الطباع ،فكيف يحب أحدهما صاحبه قال أبو الفرج بن الجوز ّي:
واآلخر ال يحبه؟ فالجواب أنه يتفق في طبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق ،وال يتفق في طبع العاشق ما يالئم طبع المعشوق.
فإذا كان سبب
العشق اتفاقاً في الطباع بطل قول من قال :إن العشق ال يكون إال لألشياء المستحسنة .إنما يكون العشق لنوع مناسبة ومالءمة،
ثم قد يكون الشيء حسناً عند شخص غير حسن عند آخر .وحكي على ذلك حكاية رفعها بالسند إلى علي بن الحسين القرشي،
ّ ّ
عن
رجل من أهل المدينة كان أديباً ظريفاً طالَّباً لألدب والملح ،قال :كنت يوماً في مجلس رجل من قريش ومعنا قينة ظريفة حسنة
الصورة ،ومعنا فتى من أقبح ما رأته العين ،والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها .فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن
ً ً
الناس وجهاً ،وأثراهم ثوباً ،وأطيبهم ريحاً ،فأقبل علي صاحب البيت ،فقال :إن في أمر هذين لعجبا! قلت :وما ذاك؟ قال :هذه
ّ
107
الجارية تحب هذا (يعني القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة ،وهذا الحسن الوجه يحبها ،وليس له في قلبها محبةٌ .فبينما نحن
سر الفتى الحسن الوجه ِّ
فتغنى وقال : على شرابنا إذ ّ
السْقم
فرج الذي ألقى من ُّ بيد الذي ُشغف الفؤاد بهم
ثم افعلي ما شئت عن علم فاستيقني أن قد كلفت بكم
فأقبلت عليه ،وقالت :قد علمنا ذاك ،فمه! ثم تركته ،وأقبلت على القبيح الوجه ،فلبثنا
ساعة ،ثم تغنى الفتى أيضاً
علي كالمها
بثينة ال يخفى َّ أصم تقودني
أال ليتني أعمى ُّ
ِّ
المصرين ،على هذا الذي هو فقالت :اللهم أعط عبدك ما سأل! فغاظتني ،فقلت لها :يا فاجرة تختارين هذا ،وهو أقبح من ذنوب
:أحسن من توبة التائبين ،فقالت لي :ليس الهوى باالختيار! ثم أنشأت تغني وتقول :
كلف عم ـ ـ ِيد
فكل متي ٍم ٍ حب على هواهالم َّ
فال تلم ُ
وإن كان الحبيب من القرود ) ظ ُّن حبيبه حسناً جميالً،
!ي ُ
نظرة مختلفة
يقول أصحاب تلك النظرة إن التشاكل بين األصدقاء محال ،ورائم التقارب رائم للمنازعات بال جدوى ،فليس من السهل أن يتفق
اثنان في كل شيء والحل إ ًذا أن نرضى باالختالف أم ار واقعا ونستثمر ذلك التنوع لصالح الصداقة ولصالح المجتمع ..
مث ـلك لم تقرن بأمـ ـ ــثالكا كنت ال تصحب إال فتــى
إن َ ويقول شاعر هؤالء :
الرامك :مادة سوداء فالمسك قد تستصحب الرامكا فأغض عينيك على ما تــرى
تخلط بالمسك
فالذي يبحث عن مثله – عندهم -يعيش وحيدا أبد الدهر ،وزاد علي بن عبيدة في هذا األمر فقال :ال دواء لمن ال حياء له
وال حياء لمن ال وفاء له ،وال وفاء لمن ال إخاء له وال إخاء لمن يريد أن يجمع هوى أخالئه حتى يحبوا ما أحب ويكرهوا ما كره
وحتى ال يرى منهم زلال وال خلال !!
فصار أحد هؤالء في عالقته بصديقه كمن قال :
معاشرتي على خلق ممضي ولست مكلفا أبدا صدي ــقا
ُ
ويغفر بعض أحوالي لبعض وال أن يستقيم على اعوجاج
على عالته أرضى وأغضـي ولكني له عبد مطـ ـ ـ ــيع
ولعل من ذلك ما ذكره الزمخشري في ربيع األبرار ( :لم ير الناس أعجب حاالً من الكميت والطرماح كان الكميت عدنانيا
عصيباً ،وشيعيا من الغالية ،ومتعصباً ألهل الكوفة ،والطرماح قحطانيا عصبيا ،وخارجيا من الصفرية ،ومتعصباً ألهل الشام،
وبينهما من الخالصة والمخالصة ما لم يكن بين نفسين قط ،لم يكن بينهما صرم وال جفوة؛ وقيل لهما :عالم تصادقتما؟ قاال على
بغض العامة
عرى المجد واسترخى عنان القصائد ) وللكميت :إذا قبضت نفس الطرماح أخلقت
108
وللرد على وجهة النظر تلك أشير إلى أن التشاكل الذي ننشده لم نقصد به صناعة نسخ متطابقة فهذا صعب ونادر – وإن كان
وإن كرهنا بدا قلت قال في س ـ ـ ــرع
أيام ُ قد وقع وأخبر عنه بعض المحبين مثل القائل :
تأب ـ ــيه
ّ
سمعت بأذني من يقول إلنسان عن صديقه الغائب :إنني حينما أرى صديقك وأقف أمامه أشعر أني أقف أمامك !! ُ وقد
ولكن الفروق بين البشر طبيعة خلقنا هللا بها لينوعنا ويميزنا ولكن ما نقصده هو التوافق في الهيكل العام للفكر والصورة العامة
للمذهب وما سوى ذلك من دقائق الفروق الشخصية فإن حدث التوافق فيها فنعم الشكل وإن لم يحدث فال بأس المهم أن تلك
الدقائق ال تصنع حساسيات وال نعرات فيحدث الوفاق القلبي والتوأمة الروحية السرمدية وإذا نظرنا لواقع الصداقات نجد
الشيوعي مثال يصاحب ماركسيا مثله وتنجح الصداقة بينهما كما نشأت في النصف األول من القرن العشرين الصداقات المتينة
بين الفاشيين ،وأفراد الحزب الواحد عموما تنشأ الصداقات بينهما ورفاق السالح والنضال تجدهم بنيانا مرصوصا لوحدة منهجهم
وتطابق توجههم ،واإلسالمي النزعة تهفو روحه إلسالمي مثله كالمرأة المحجبة تستأنس بمثيلتها ،والنباتي يحب مصاحبة نباتي
ويصبر بعضما بعضا وإن كان المثال
ّ مثله ليشاركه وجباته بال حرج ! بل المعاق يفضل صداقة معاق مثله ليتآز ار فيما بينهما
األخير ال يقاس عليه ألن مصدر الوفاق هنا اضطراري ال اختياري مثل األمثلة السابقة !
حتى عند االختالف المذهبي قد تنشأ الصداقة ولكن بشرط االتفاق أيضا على أدب االختالف وعذر كل طرف لصاحبه فهما
ممتثالن لقول حسن البنا رحمه هللا ( :نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ! ) فهما وإن اختلفا في فروع
ولكن عندهما أصل كبير يجمعهما ال يتفرقان بعده مهما اختلفت وجهات النظر ،فأصل التشاكل عندهما وإن اختلفا
ظاه ار................
واآلن بالتشاكل نكون قد أنهينا حديثنا عن أعمدة وأركان الصداقة التي يقوم عليها بناؤها المتين ،من أقام تلك األعمدة أضمن له
صداقة ناجحة مثمرة في الدنيا واآلخرة ومن أسقط عمودا منها فهو الملوم ال ملوم سواه ،تحدثت عن األركان وبقي للقارئ
اإليمان ..........
نظــــــريات الصداقـــــــة
للناس من حياتهم خبرات ،تنمو مع نمو أعمارهم ،تتراكم مع تتابع أحداثهم و مواقفهم ،تغذيها المحن تارة ،وتصقلها المسرات
فتسود في عيونهم ،و تحنو عليهم لحظات فتشرق الحياة في نفوسهم ،ومن تراكم القسوة والحنو تأتيّ تارة ،تقسو عليهم الدنيا
الخبرة وتتبلور الحكمة والنظرة ،خلقنا هللا ال نعلم شيئا ،ال نعلم من الطيب وال من الشرير ،ما الجيد وما السيء ،وعندما
نجرب هذه األشياء في طفولتنا تُحفظ خبرة في عقولنا تضاف إلى خبرة ،فهذا الطفل يرى النار مضيئة مبهرة فيظنها شيئا جميال
109
فيدنو منها ويقرب يده حتى يلمسها فتحرقه فيستيقظ على الحقيقة أن األشياء ال تؤخذ بظاهرها وإنما حين نجربها وألنه جرب
االقتراب من النار مرة فلن يقع في هذا الخطأ ثانيا ،وبهذا نشأت خبرة عنده من خبرات الحياة ،ومع تقدم العمر تزداد الخبرة
إلى أن يأتي عمر المشيب حينها يعتبره الناس العاقل الحكيم الذي رأى من الدنيا ما لم يره غيره ،وليس العمر دائما مقياسا
فربما القى األصغر عم ار من تجارب الحياة ما لم يلقه من هو أكبر منه ومنها قول إبراهيم ألبيه ( :يا أبت إني قد جاءني من
العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ) ،فعقل اإلنسان هنا له دور في ترجمة خبرات الحياة فربما تجارب قليلة يستفيد
منها إنسان فوائد كثيرة نتيجة لفرط تأمله فيها مثل التاريخ تماما فليس حفظ التاريخ وحوادثه كافيا لنيل خبرة كبيرة في الحياة
فالتأمل واالستنباط والتقصي والتفسير يعطي للتاريخ فوائد أعمق وخبرة أكبر بالحياة عموما ...............
فعقلية اإلنسان لها دور في تفسير حوادث الحياة ومن ذلك ينشأ شكل الخبرة التي اكتسبها وهذا دور من أدوار العقل
.............
ض ّد
كذلك نوع الخبرات له تأثير في النزعة العامة لعقلية البشر فالخبرات السارة المتصادفة تجعل اإلنسان متفائال من شيء ما وال ّ
صحيح فتوالي الخبرات السيئة يترك أسوأ االنطباع عند البشر .........................
واإلمكانيات المتاحة لإلنسان أو أي كائن تؤثر على خبراته ولعل من ذلك قول الهدهد لسليمان عليه السالم ( أحطت بما لم
تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) .............
ِ
أدرك هذا الكالم جيدا وقس عليه في مسألة الصداقة ،فالناس من قضية الصداقة أشتات ،منهم من جادت عليه الدنيا بصديق
ومنهم من ضنت عليه إال بالخائنين الجفاة الماديين ،منهم من عاش وحيدا في حياته بال إخوة وال أحباب ومنهم من التف
الناس حوله أشكاال وألوانا ،منهم من عاش فراغا روحيا ففكر في البحث عن صديق ومنهم من طحنته الحياة فلم يفكر في نفسه
قبل أن يفكر في غيره
ومن هنا جاء االختالف والتنوع في فهم الناس لقضية الصداقة فقائل :الصداقة خيال ،وقائل :عسيرة يمكن تحقيقها وقائل :كائنة
ومتاحة للجميع وقائل :نادرة ندرة الذهب ومتوقف في المسألة و إنسان ال يعنيه هذا األمر وال يشغل به باله وإليكم تفصيل هذه
النظريات وحجج كل معتنق لها وأنا هنا لن أرجح نظرية على األخرى وأترك للقارئ أن يختار بعقله وقلبه ما يراه صوابا و حقا
............
الخل الوفي !! فمن يبحث يرى هذا الفريق أن الصداقة درب من الخيال ال أساس لها من واقع ،والمحاالت عندهم ثالثة منها ّ
عن صديق إنما يبحث عن سراب ويتتبع أوهاما ،ومن يشغل حياته بالبحث عن صديق إنما هو مضيع لعمره فيما ال يفيد وإنما
يعبث عبث الصبيان ومن يبحث عن الصديق في هذه الحياة الطاحنة إنما هو كالمجنون الذي يبحث عن الذهب والآللئ بين
الرمال ،أما سر هذه الحقيقة عندهم فاألسباب مختلفة والطرق متشعبة ولكنها ذات نهاية واحدة وطريق واحد ،ال صديق في
هذه الحياة !!
110
منهم من كان يوما ما من الدهر يبحث عن الصديق ولكنه تحطم أمله و تكسرت عزيمته وأدرك في النهاية أنه كان واهما عابثا
ومن هؤالء جميل بن مرة الذي لزم بيته واعتزل الخاصة والعامة فقيل له في ذلك فقال :لقد صحبت الناس أربعين سنة فما
رأيتهم غفروا لي ذنبا وال ستروا لي عيبا وال حفظوا لي غيبا وال أقالوا بي عثرة وال رحموا لي َعبرة وال قبلوا مني معذرة وال فكوني
من أسرة وال جبروا لي من كسرة وال بذلوا لي من نصرة !!........................
خليال فهل من صاحب أستجده صحبت بني الدنيا طويال فلم أجد
وده
اليت لم يغـ ــن ّ
وأكثر من و ُ القيت لم يصف قلـ ــبه
ُ فأكثر من
ومن طلب المعدوم أعياه وجـده أطالب أيامي بما ليس ع ـ ــندها
تجربة مريرة مع الناس كانت نتيجتها أنه ال صداقة وبنفس تلك التجربة مر إبرهيم بن هالل الذي أنشد قائال :
أبناء علة :ذوو أب واحد وأمهات شتى أما نعثر الدنيا لنا بصـ ــديق أال يا رب كل الناس أبناء عّلة
أديم صفيق :جلد غليظ ذوات أديم في النفاق صــفيق مضمر الغل شاهــد
َ وجوه بها
شجى :غصة قذى للعيون أو شجى للحلوق إذا اعترضوا دون اللقاء فإنهم
أسروا من الشحناء حر حري ـق وإن أظهروا برد الوداد وظـ ــله
القطا :طائر كاليمام بأقصى محل بالفـ ــالة سحـيق أال ليتني حين انتوت أفرخ القطا
ب ـها نازل في معشري وفريقي أخو وحدة قد آنستني كأن ــني
مسبعة :أرض سباع بمسبعة من صاحب و رفيق فذلك خير للفتى من ث ـ ـوائه
يتعجب الشاعر مر التعجب بعد أن وصل لحقيقة انعدام الصداقة لماذا ال يتصادق الناس على رغم أنهم إخوة في اإلنسانية
أبوهم واحد وهو آدم وإن اختلفت أشكالهم وألوانهم فهو هنا وصل للنظرية ولكنه عجز عن إيجاد تفسير مقنع لها ألن دواعي
الصداقة أصال موجودة ،ولكنه أوجد تفسي ار لمن قد يعترض على تلك النظرية بأن يقول إن هناك من البشر من تجدهم ودودين
طيبين ملِحين فلماذا ال تتخذ منهم أصدقاء ؟! ،فيفاجئنا الشاعر أن هؤالء ظاهرهم فيه الرحمة وباطنهم العذاب فهم إنما
يظهرون بوجه ويضمرون في أعماق نفوسهم وجها آخر فهم في الحقيقة منافقون ربما دفعهم لذلك مصلحة دنيوية وربما هم
مضطرون لذلك لتسيير عجلة الحياة ولكنهم ال يصلحون للصداقة ،ثم انتقل الشاعر لنتيجة تلقائية وهي االنعزال عن الناس
واتخاذ بديل عن األصدقاء وهو هنا القطا أو اليمام – وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد – فذلك خير بديل عن العيش
بين الوحوش البشرية !
جميل .........الشاعر هنا أعطانا تفسي ار لمن يبدون صالحين للصداقة ولكن ال صداقة !! وهو أنهم ُيظهرون خالف ما
يبطنون وهناك تفسير آخر لمن ُينخدع بهم وهو أنهم طيبون فعال و قلوبهم صافية حقيقة و يحبونك كما تحبهم واقعا ،ولكنهم
لن يدوموا على العهد وسوف يتغيرون ويتبدلون إن عاجال أو آجال وإن كانوا أصدقاء اآلن فإنهم سيصيرون في النهاية شر
األعداء هذه قاعدة عندهم و منتهاها أنه كذلك أن ال صداقة !! وقد جسد هذا الرأي عبد الكريم البسطي بقوله :
يق مخـْلِ ِ مئن إلى ِ إن شئت من دنياك حسن ُّ
تخل ِ
ص صد ٍ ُ َ ط َّ
الت ْ ص َ َ َ
ص نهارك ُع َّده ِ
كاألبر َ
َ الناس كالمجذوم أو
في ّ وإذا تخالط ـ ـ ـ ــُه َ
111
صي منك الكالم بما اقتضاه ترب ِ زم سكوتَ َك عنده وإذا اقتضى
َّ َ َ واْل ْ
األح ِ
وص ويتيه إعجاباً بعـ ـين ْ ُ محاسن ُه التي َي ْزهو بهـ ـ ـا َ انظر
و ْ
صفيجيء ِم ْن ُع ْدوانه بمل ـ ـ ّخ ِ تحيل تَ َغٌّي اًر
الصديق َل َيس ـ ـ ُ
َ إنَّ
ُ
صلما تغّير ساءنـ ـ ـ ـ ـي بتََنُّق ِ
ّ صديق َس َّرني ِبتَ َع ـظـُّ ٍم
َ َك ْم من
أخصــُ ِ
ص ولو َّانني أحداً بها لم ْ أن الصداق َة لم تك ـ ْن ُّ
فوددت َل ْو َّ
أح ـ ـ ِر ِ
ص ِ
وعلى القيام بحّقها لم ْ أعتَ ـ ِم ْد وعلى الوفاء بشرطها لم ْ
ِ
فلماذا نخوض غمار الحب واألخوة مادامت النهاية كاالبتداء ؟! ولماذا نشقي أنفسنا باللوعة واألسى و العاقب ُة معلومة لدينا ال
البس فيها جربناها بأنفسنا وجربها غيرنا والجميع احترق بنارها المتلظية !
وانظر لحال ابن معتوق الموسوي البائس الذي كانت أمنية حياته نيل صديق حقيقي مخلص ،ولكنه أشرف على منتهى عمره
ولم يحقق أمنيته فباء بالحسرة واألسى وبئس التحسر و بئس المنتهى ...فيقول :
112
والعسجدي هنا يعطينا تفسي ار النعدام الصداقة عنده وهو أن األصدقاء ماتوا وفنوا ،والصداقة كانت موجودة فعال في الزمن
الجميل فهم أهل زمن غير الزمن وربما أهل مكان غير المكان ،المهم أن ذلك الحس شيء من الماضي كأفالم األبيض
واألسود !!
خوان وقل من ترى في الزمان إال من إذا دعي مان ،نسخ في هذا الزمان
وأخي ار قال ابن الجوزي :هيهات رحل اإلخوان وأقام ال ّ
رسم األخوة وحكمه فلم يبق إال الحديث عن القدماء فإذا سمعت بإخوان صدق فال تصدق !!
113
بين علي و الشافعي !
◄ أصحاب تلك النظرية كثر ومنهم – على عهدة الراوي – علي بن أبي طالب رضي هللا عنه فله في هذا االستنتاج الكثير
فقال :
فالناس بين مخاتل وم ـ ـ ـوارب ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب
وقلوبهم محشوة بعق ـ ـ ـ ــارب يفشون بينهم المودة والصـ ـ ــفا
وعلي رضي هللا عنه هنا وصل لنفس نتيجة إبراهيم بن هالل بأن من ظاهره الود والحب ال بد أن تك ّذب عينيك معه وتصدق
عقلك فما ذلك سوى تظاهر والباطن يعلمه هللا ،ولعل سر استنتاجه لذلك كثرة تجاربه السلبية مع الناس فنجده يقول :
ال ترك هللا له واضـحة فكم خليل لك خاللتَه
فكلهم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة
وهو هنا أرجع الضمير للمخاطب وكأن هذا األمر ظاهرة مخاطب بها كل الناس ولكنه صرح في أبيات أخرى بتجربته القاسية
التي استنتج منها استنتاجا نهائيا أن ال صداقة في زمانه فماباله بزماننا !! فقال يحكي تجربته :
العجب كل العجب أن يصل علي بن أبي طالب على كرمه وفضله ونسبه إلى هذه النتيجة فالناس من حوله لم يراعوا فيه طهر
نسبه وال شرف حسبه وال تاريخا ناصعا ساهم فيه وال شرف الخالفة التي اختاره الصحابة لها ،بل أعجب من ذلك نوعية
الناس التي كانت حوله ! فعلي كان حوله صحابة وتابعون و حديثو عهد بإسالم اختاروا اإلسالم بإرادتهم وقريبون من عهد
النبوة ،كل هؤالء لم يجد فيهم علي صديقه الذي كان يتمناه بل منهم من قاله وجفاه فقال هذا الكالم المشحون فليت شعري
114
كيف يكون حاله لو أنه عاش إلى زماننا ورأى حال أهله مع بعدهم عن الدين فعال و عقيدة وزمنا .........إن هذا الكالم
يحتاج لتأمل وتمحيص ونظرة مدققة !
وسار على درب علي بن أبي طالب فقيه آخر – على عهدة الراوي – مر بنفس ظروفه و مالبساته فاستنتج نفس استنتاجاته
إنه اإلمام الشافعي صاحب المذهب الشهير فقال يحكي تجربته :
وكنت أحسب أني قد مألت يدي إني صحبت أناسا ما لهم ع ـ ــدد
كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحد بلوت أخالئي وجدت ـُ ـ ـ ــهم
لما ُ
وإن مرضت فخير الناس لم يـ ــعد غبت عنهم فشر الناس يشتمني إن ُ
وإن رأوني بشر سرهم ن ـ ــكدي وإن رأوني بخير ساءهم فرح ـ ــي
فهنا الشافعي عاش دور المخدوع الذي ظن أنه حصل على األصدقاء بل امتألت يده منهم فجاءت الكربات الكاشفات – كما
ذكرنا من قبل – و أطلعته على الحقيقة الصادمة أن كل هؤالء كانوا غثاء وأنه كان يعيش في حلم جميل استيقظ منه فجأة
......
ولما ضاقت به الدنيا ذهب يواصل البحث عن صديق مخلص لعه يجد مبتغاه فإذا به يقول :
ثقة عند ابتالء الشـ ـ ـ ـ ــدائد أتيت أطلب عنده ــم أخا
ولما ُ
وناديت في األحياء هل من مساعدُ تقلبت في دهري رخاء وش ــدة
ُ
ولم أر فيما سرن ـ ـ ــي غير حاسد فلم أر فيما ساءني غير شامــت
ثم في النهاية وبعد طريق شاق من البحث ذهب إلى بديل عن الفراغ الروحي الذي يعانيه شأنه شأن كل أصحاب تلك النظرية
فلجأ إلى الوحدة والخلوة ثم التعبد والتنسك
غوي أعاشره
ألذ وأشهى من ّ إذا لم أجد خال وفيا فوحدتي
أقر لعيني من جليــس أحاذره وأجلس وحدي للعبادة آمــنا
هذا ما وصل إليه الشافعي ولنا كذلك وقفة متعجبة مما وصل إليه وجلساؤه هم طلبة العلم والعباد والزهاد وأهل الشرف والسؤدد
هذا حاله فماذا نحن قائلون في زمان انتشر فيه الغوغاء و الجهالء !!
هذا ملخص لتجربة علي بن أبي طالب السابق والشافعي الالحق وعلى دربهما يسير محدثون و معاصرون رأوه في تلك النظرية
مالذا آمنا بعد عمق تجربة خلفت آالما ومآسي ال يمحوها الزمان .......................
ذهب أصحاب ذاك المسلك لقرن الصديق بالعدو ،فمنهم من ظن ما يسمى الصديق مدخال سائغا للعدو ،منه يخلص إليك
ويطعنك في ظهرك شأنه شأن حصان طروادة تظنه خي ار ومنه يأتيك الهالك والدمار فمثال قال ابن الرومي :
115
فال تكثرن من الص ــحاب عدوك من صديقك مستفاد
يكون من الطعام أو الشراب فإن الداء أك ـ ــثر ما تراه
وابن الرومي ليس من أعداء الصداقة فله أشعار في الصديق والحب ولكنه هنا يحكي ظاهرة رآها وخبرها من الحياة المتقلبة وهي
انخداعك باألصدقاء الكثر الذين جمعتهم من كل حدب وصوب بال تدقيق وال تمحيص فمنهم يأتي الهالك فيصيرون جواسيس
ألعدائك.
وعندما نعود لمانعي الصداقة ال نجدهم إال مؤمنين بهذا المنطق بل متشددين أكثر يظنون الصديق نفسه هو العدو بل منهم من
جعله ش ار من العدو فاألبيوردي مثال يقول :
بك من عدوك في المضرة أعلم تخلدن إلى الصـ ــديق فإنه
ّ ال
فهذا الذي تخاله خدينا عنده من سرك ما ليس عند عدوك فهو قنبلة زمنية حين يحين موعد انفجارها – وهي منفجرة ال محالة
– سوف يكون الثمن غاليا ،عدوك تعلمه حق العلم أما من هو بجوارك فأنت تأمنه وتطمئن إليه وسيغدر بك يوما ما والت
ساعة مندم !!!
فالحل الذي ال حل سواه أال تطمئن بودك وسرك ألحد مهما خدعك الظاهر ومهما وجدت من ود كاذب فالناس كلها عقارب كل
يبحث عن مصلحته ال مكان في قلب أحد منهم لود وال إخالص !!
بل ذهب بعضهم لشكر العدو و زجر الصديق كالطغرائي الذي يقول :
أحبو بخالص شكري األعـداء من خص بالشكر الصديق فإنني
ونفيت عن أخالقي األق ــذاء نكروا علي معايبي فحذرت ــها
األعداء صرحاء ! يواجهونك بأخطائك و مسالبك فتصحح نفسك وتوجهها للطريق الصحيح حتى يحتار فيك أعداؤك أما من
يسمون أصدقاء فيتملقونك ويداهنونك ويصورون لك صورتك كأفضل ما يكون فتطمئن إلى نفسك وترضى بوضعك الدوني وهم
يترقون في الخفاء وأنت ال تعلم فتصير في النهاية في أسفل سافلين وهم في أعلى عليين وفي النهاية يتركونك بل يدوسون عليك
حين تنتهي حاجتهم منك فتصير الخاسر وبئس الخسران !!
محالية الصداقة والصديق بأوصافه التي تكلم عنها األدباء والشعراء ومن قبلهم أهل الدين والعلماء وصف
ّ أغلب من تكلم عن
أصل لنتيجتها ولكن أكثر من تكلم وفصل لم يضع تفسي ار معقوال لهذا األمر ،بل منهم من
تلك الظاهرة وفصل في حكايتها و ّ
تعجب النعدام تلك الفضيلة التي مقتضياتها موجودة وأسبابها قائمة فبقي التعجب و طال التأسف و تمادت الشجون
............
116
وممن وصف تلك الحال من السابقين الفضيل بن عياض حين قال له ابن المبارك :ما أعياني شيء كما أعياني أال أجد أخا
الفتوة !!
في هللا فقال :ال يهمك فقد خبثت السرائر وتنكرت الظواهر وفني ميراث النبوة وُفقد ما كان عليه أهل ّ
وقال أبو حيان التوحيدي :إذا أردت الحق علمت أن الصداقة واأللفة واألخوة والمودة والرعاية والمحافظة قد نبذت نبذا ووطئت
باألقدام ولويت دونها الشفاه وصرفت عنها الرغبات ! ...............................
إذن عند هؤالء الصداقة فنت من نفوس الناس لسببين خبث النفوس و انصراف العقل والقلب عنها ،ويأتي هنا السؤال الملح
لماذا خبثت النفوس ولماذا انصرفت همة الناس عن طلب الصداقة مع أن األصل نقيض ذلك ؟!
اإلجابة تتطلب النظر في الظروف المحيطة بالبشر الذين ال يفكرون في الصداقة فأغلبهم أصبحت لقمة عيشهم هي ّ
جل فكرهم
هم ألحدهم سوى تحصيل المال ليطعم نفسه وأهله ،هو إنما كل سعيه وكده لتحصيل حاجاته األساسية
وشغلهم الشاغل ،ال ّ
من مأكل ومشرب و ملبس حتى ال يفكر في رفاهيات وال فسح ،عقله مشغول برزقه فتجده ال يجد وقتا للراحة وال للجلوس مع
أبنائه وزوجته تجده قلقا مضطربا يفكر دائما في المستقبل وكلما ازداد تفكيره ازداد سعيه وكده لتحصيل المزيد خوفا من
الحرمان والفاقة ،إن مثل هؤالء كما ال يفكرون في الصداقة – وهي التي أصبحت نوعا من الترف و المتاع الخيالي – ال
يفكرون كذلك في السياسيات وأمورها ،هذه أمور ال تعنيه في شيء وكفاه ما هو فيه من دوامة الحياة وساقية الكد والتعب ،
وكذلك هو أبعد ما يكون عن االبتكار والتطوير واالختراع واالكتشاف ،ولماذا يضيع وقته في هذه األمور وهي لن تعود عليه
بمال فمن فوقه لن يقدره ولن يشجعه ،كل ما يريده السادة من العبيد أن ينصرفوا عنهم و أن يعملوا فقط ،أن يسيروا في
الساقية مثل البهائم أن يجروا بأقصى سرعتهم وعليهم النير ليعطوهم بقايا العلف والبرسيم !! كل هذا باختصار سمات مالزمة
لألمم التي يعيش فيها سادة و عبيد .
حتى األمم التي ال تعيش تحت هذا التصنيف وتنعم بالحرية المطلقة استغلت حريتها بطيش وعبث وصارت المادية مذهبهم
الذي يعتنقونه وصارت شهواتهم آلهتهم التي يعبدونها ،يبحث كل عن مصلحته و مرتبته وتفوقه ،يبحث عن شهوته وكأسه و
صارت حياتهم إما عمال محضا وإما عبثا وسك ار فأين الصداقة إذن في حياة هؤالء ؟! ال صداقة بل عبثيه وسكر
ْ لعبه وعبثه ،
وتيه !
بعد كل هذا يأتي شاب حالم رومانسي و يتساءل أين الصداقة ؟؟!!
الصداقة ذهبت في طي النسيان وتقطعت كما تقطعت األرحام وصار الباحث عنها أحمق مضيعا لوقته فيما ال يفيد وصدق
الفيلسوف الذي سئل :من أطول الناس سف ار فقال :من سافر في طلب صديق !!
بل عجبا لمن يسأل عن سر تقصير الناس في حق الصداقة وهم فعلوا أكبر من ذلك فقصروا في حق هللا عز و جل ،فهم لما
هانت عليهم حقوق ربهم هانت عليهم حقوق خلقه من البشر والحيوان والنبات بل الجماد !
بل انتكست الفطرة و فقد الناس المشاعر الفطرية التي جبلهم هللا عليها فصار األب ال يحب ابنه واألم ال تلوي على ابنتها
جبلية األصل توجد في كل الكائنات ،فقدوها وصاروا أدنى من الوحوش والسباع فمابالك بالحب الصداقي
وهي مشاعر ّ
المكتسب !!
117
كل يفكر في نفسه ،كل يبحث عن رغباته ومصالحه ،أناإن كل ذلك صبغ قلوب الناس بالسواد و حقنها قسوة وغلظة وأَثَرة ٌ ،
ثم أنا ثم أنا ! ،فمن كان هذا حاله فمن سيفكر في صديقه أو صاحبه ؟ َمن ِمن هؤالء سيشعر بصديقه ويشتكي كما يشتكي
كأنه نفسه التي بين جنبيه ؟ ومن سيؤثر ومن سيكرم ؟ ومن سيحب و يتعلق ؟ بل من سيشارك في الهموم بل من سيفكر في
صديق غائب أو يحزن على حبيب مات ؟ إنها مفقودات بين مفقودات وأوهام في أوهام !!!..........
قال بعض الزهاد لو أن الدنيا ملئت سباعاً ما خفتُها ولو بقى واحد من الناس لخفته !
وقالوا استعذ من شرار الناس وكن من خيارهم على حذر !
وقال آخر ما بقي في الناس إال حمار رامح أو كلب نابح أو أخ فاضح !
وقال أبو الدرداء كان الناس ورقاً ال شوك فيه فصاروا شوكاً ال ورق فيه !
وقال سلمان الناس أربعة أصناف آساد وذئاب وثعالب وضأن فاآلساد الملوك والذئاب التجار والثعالب القراء المخادعون
والضأن المؤمن ينهشه كل من يراه ...............
وقال بعض الحكماء احذروا الناس فما ركبوا سنام بعير إال أدبروه وال ظهر جواد إال عقروه وال قلب مؤمن إال أخربوه !
وقال خالد بن صفوان الناس أجياف فمنهم كالكلب ال تراه الدهر إال ه ار اًر على الناس ومنهم كالقرد يضحك من نفسه
وإن كان لك مائة صديق فاطرح منهم تسعة وقال جعفر الصادق لبعض اخوانه أقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم
وتسعين وكن من الواحد على حذر..............
بلوت الناس ط اًر فلم أجد إال من يرى الحق باطالً والباطل حقاً واللئيم مرفوعاً
وقال بعض البلغاء ُ
والكريم ملقى والنصح غشاً والغش نصحاً والمدح هجاء والهجاء مدحاً
قال العتابي في مثل ذلك :
فما يستحسنون سوى القبيح تساوي أهل دهرك في المسـ ـاوي
رجون لألمر النج ـ ـيح
فما ُي َ وصار الناس كلهم غثـ ـ ـ ـ ـاء
فما يستعقلون سوى الشحيح وأضحى الجود عندهم جنـ ـوناً
األهاجي :الذم والهجاء فصاروا يغضبون من الم ـديح وكانوا يغضبون من األهاجـ ـي
وقال حكيم :مصاحبة الناس خطر فمن صبر على صحبتهم فقد بالغ في العذر إنما هو كراكب بحر إن سلم بدنه من الغرق لم
الف َرق أي :الخوف .
يسلم قلبه من َ
وصف بعض البلغاء أهل زمانه فقال أحظى الناس لديهم من أحسن إليهم فإن قصر عنهم رفضوه وأبغضوه ووتروه ولم يعذروه
إن حضروا داهنوا وإن غابو شاحنوا ،غنيهم شحيح وفقيرهم مجيح ( أي متكبر )إن أروا خي اًر دفنوه وإن ظنوا ش ار أعلنوه الواثق
منهم على غرر والمتمسك بهم على خطر هم بين طاعن ثالب ومتقول كاذب وحسود موارب إن اختبرتهم تكشفوا وإن اعتبرتهم
تزيفوا !!..................
118
عواقب امتناع الصداقة
-1اعتزال الناس
إن من ابتلته الدنيا بالتجارب المأساوية مع األصدقاء خاصة وبقية الناس عامة فانتحل فكرة أن الصداقة وهم وخيال ال بد أن
سينتهي به الحالُ منعزال عن الناس يلجأ للوحدة ويستمسك بها بقية عمره فهي المالذ اآلمن من سباع البشر وحيات وعقارب
بني آدم األشرار ،والعزلة واالنطواء ال يأتيان فجأة بل لهما مقدمات وأولها انغالق القلب واستعصاؤه على تغلغل الحب فيه ،فقد
األناوية ( األنانية) على
ّ ألف ذلك القلب المسكين الغدر والجفاء من البشر فلن يلدغ من ذلك الجحر مرة أخرى وثانيها غشيان
العقل فيبدأ بالتفكير في نفسه وشئونه الخاصة ،ولسان حاله يقول :لن ينفعني أحد سوى نفسي فلماذا ال أفكر بنفسي وحالي
وأدع الناس ،وماذا كسبت من االهتمام بشئون اآلخرين سوى النذالة والجفاء ،إنه ال أحد يهتم بي وال بحالي ولن يرجى نفع من
وراء الناس فعلي بنفسي ،سأقوي نفسي وأطورها وأعلو وأصير أفضل ما يكون حتى ال أحتاج ألحد و حينها كذلك لن أفكر في
ّ
أحد آخر !!......
واتخاذ قرار اعتزال الناس ليس أم ار سهال فيكون المبتدأ فقط تمني اعتزال البشر فيقول ٍ
متمن :
وأننا ال نرى ممن نرى أح ـ ـ ـدا ليت الكالب لنا مجـ ـ ـ ـ ــاورة
بهاد شره ــم أبداوالناس ليس ٍ إن الكالب لتهدأ في م اربــضها
وأنت السعيد إذا ما كنت منفردا فأنج نفسك واستأنس بوحدتها
ثم يتحول التمني إلى اعتزال شعوري نفسي حين يشعر المعتزل أنه بعيد عن الناس ،والناس كذلك بعيدون بعد المشرق !!
ويبدأ التمني القلبي يترجم لتصرفات صبيانية لطيفة مثل ذلك الرجل الذي روي أنه كتب على باب داره :جزى هللا من لم نعرفه
ولم يعرفنا خي ار فإنا ما أُتينا في نكبتنا هذه إال من المعارف !! ....
وبعضهم سيقول شع ار يفصح به عن نيته االعتزالية كمن قال :
وال بينه ود به نتع ـ ـ ـ ـ ـ ــرف جزى هللا عنا الخير من ليس بيننا
من الناس إال من نود ونأل ـ ــف فما سامنا ضيما وال سام ــنا أذى
في النهاية سينجرف المكلوم إلى العزلة وترك الناس والخلوة بالنفس وربما االكتفاء باألهل – إن وجدوا – وربما يعتزل األهل
كذلك
وارض بالخلوة أنـ ـ ـ ـسا كن لقعر البيت جل ـ ـساً
هد مهما شئت غ ـ ـ ـرسا واغرس الناس بأرض الز
ترس :درع طمع الكاذب ترس ـ ـ ـ ـا وليكن بأس ـ ـك دون ال
أو :إلى أن ترد اليوم أم ـ ـ ـ ـ ـسا
أو َ لسـ ـ ـ ـت بالواجد ح اًر
يقرعونه و يوبخونه لماذا تترك الناس فيكون جوابه وحاله وعند تلك المرحلة سيبدأ الالئمون في إتيانه ّ
119
ولي فيما أالم عليه عـ ـ ـذر أالم على التفرد كل وق ـ ـت
وليس على قرين السوء صبر وكل أذى فمصبور ع ـ ـ ـليه
و تزداد الوحدة ويتعمق الفكر الفلسفي عند صاحبه فيصير فقيها في العزلة من استشاره واشتكى إليه أوصاه باالعتزال وترك
صبر نفسه وذكرها بمصير خلطة الناس ومفاسدها وحث غيره عليها كقول أبي
الناس بل هو نفسه إذا شعر بالوحشة أحيانا ّ
حامد الغزالي :
ومن التفرد في زمانك فازدد عن لوحدة وتـ ـ ـ ـفرد
ال تجز ّ
إال التملق باللسان وباليـد ثم أخـ ـوة
ذهب األخاء فليس ّ
سم األسود
ثم نقيع ّ
فإذا كشفت ضمير ما بصدورهم أبصرت ّ
أما الصبيان الحدثاء والفتيان القليلو الخبرة إذا جاءوه واستشاروه في األصدقاء سارعهم بدواء لكل داء ووقاية خير من أي عالج
إنه االنفراد بالنفس فينشد قائال :
فهيهات منك الذي تطلب طلبت أخاً مخل ـ ـصاً
َ إذا ما
فما في زمانك من تصحب فكن بانفرادك ذا غب ـ ـطة
ثم بعد خبرة بالوحدة والعزلة يشعر المعتزل باللذة والنشوة ويشعر أن عمره الماضي ضاع هباء في مجالسة من ال يستحقون و
معاشرة من لذلك ال يرتقون ومحبة من أعدمت من صدورهم المحبة وإيثار من تجذرت فيهم األناوية وحب الذات ،فيزداد رضاه
بوحدته ويحمد هللا على هذه النعمة التي ال يرجو زوالها ....................
صرت في وحدتي لكتبي جليسا ُ تطعمت لذة العيش حتـ ـ ـى
ُ ما
سي فال أبتغي سواها أنيس ـ ـا ليس شيء ألذ عنـ ـدي من نف
س فدعها وعش كريماً رئيـ ـسا إنما الذل في مداخـ ـ ـ ـ ـلة النا
بل يتعمق ذلك الشعور لديه حتى يخشى على نفسه أن يقع في أخطاء الماضي وينجرف لمصاحبة الناس فيذ ّكر نفسه قائال
حذ ار :
أخاف عليه إال خفـ ـت منه وما ظفرت يدي بصديق صدق
أميل إليه إال ملـ ـ ـ ـت عنه ولم تدع التجارب لي صـديقاً
رأيت األنس ألستوحشت منه أنست بوحدتي حت ـى لو اني
هكذا كانت الوحدة نبراسا يضيء لآليسين من البشر و مضايقاتهم ،يخلون بأنفسهم يتفكرون في شئونهم يحاسبون أنفسهم
ويتدبرون حالهم فلم يعد بينهم وبين الناس باب يرجى فتحه ولم يعد بينهم وبين أحد شعرة مثل شعرة معاوية فيبقون عليها
.................
120
-2التماس بدائل لألصدقاء
بماذا أفادني سمر الليالي مع الخالن غير تضييع الوقت وإهدار الطاقة لكن الصمت مع صديقي الكتاب خير وأنفع ويعود علي
بالخير أزمانا ،وصحيح أن الكتب كاألصدقاء يجب أن تتخير منها الصالح ولكن اختيار الصالح من الكتب أسهل كثي ار من
انتقاء الصديق المخلص التقي النقي الذي سمعنا عنه في الكتب و الروايات ولم نجده في الواقع ،قال أحد المصادقين للكتب :
جعلت المؤانس لي دفـ ـ ـتري
ُ خلوت من المؤن ـسين
ُ إذا ما
ومن مضحك طيب م ـ ـ ـندر فلم أخل من شاعر مـحسن
فوائد للناظر المفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكر ومن حكم بين أثنائ ـ ـ ـها
وأودعته السر لم ُيظ ـ ـ ـ ـ ـهر فإن ضاق صدري بأسـ ـ ارره
حييت
ُ فلست أرى مؤث اًر ما
عليه ن ـ ـديماً إلى المحـ ـ ـ ـ ـشر
صديق يثري فكرك يبهجك ويسعدك ،تتلو عليه أسرارك فال يفشيها فهل تؤثر عليه غيره من البشر الذين خلت قلوبهم من الوفاء
،كال سأظل لكتابي وفيا ما حييت فهو خير صاحب وخير أنيس !!
ولذا كان علي الطنطاوي يقول :لقد جربت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب !!
121
المحالية ويصل إلى نفس النتيجة
أما ابن حمديس فيحكي حاله مع البشر الذئاب الذين أقنعوه أن الصديق مثل العنقاء في ُ
وهي مصادقة الكتاب واتخاذه جليسا و أنيسا فيقول :
حابة ال صحابا ذئاباً في الص ِ لت بعد َس َرِاة قومـي ِ
ّ وقد ُب ّد ُ
تابا ِ ِ
فلس ُت مجالساً ّإال كـ ـ ـ َ ْ الجليس على خالفي َ ألفيت
و ُ
الزمان عليك طابا ُ إذا َخ ُب َث ٍ
صديق أعوز من العنقاء ُ
ُ وما
عبرت عنه أنا في طور من أطوار حياتي حين ضاقت علي الدنيا بسبب
ُ ومن هؤالء من التمس كتاب هللا صديقا ،وهذا ما
أصدقائي فقلت:
أما الجواب فكل خـ ـير محتفى سأل الصديق صديقه أيـ ـن الوفا
فكتاب ربك قبل ذلك يصطفى كنت تبحث عن صديق مخلص إن َ
ليس التباعد عن خدينك متلفا إن التعلق بالحبيب لمهـ ـ ـ ـ ـلك
كغثاء طل فوق بحر قد ط ـ ــفا فصفاء قلب في زمان م ـ ـ ــثل ذا
ومن هؤالء من جعل األنس باهلل بديال للصداقة ففزع إلى العبادة والتنسك وكانت ركعات بالليل خير أنيس للوحدة وهذا ما عبر
أقر لعيني من جليــس أحاذره عنه الشافعي كما ذكرنا من قبل :وأجلس وحدي للعبادة آمــنا
وكأن لسان حال هؤالء يقول ( وأعتزلكم و ماتدعون من دون هللا وأدعو ربي عسى أال أكون بدعاء ربي شقيا )
واستبدل هؤالء بحب األصدقاء حب رب األصدقاء ،فتفرغوا له وشمروا أكمامهم وبذلوا هممهم من أجل األنس بخلوتهم معه في
صلواتهم وتسبيحاتهم واستغرقوا في ذلك كقول رابعة العدوية الشهير تخاطب ربها :
وح ـ ـبا ألنك أهل لـ ـ ـذاك أحبك حبين حب اله ـ ـ ـوى
فشغلي بذكرك عمن ســـواك فأما الذي هو حب اله ـ ـوى
ومن هؤالء من جعل التأمل والتدبر في الحياة والكون أنيسا له عن األصدقاء فالمسلمون يعدون ذلك عبادة حين يتفكر الم أر في
خلق هللا فيزداد بذلك إيمانا بالخالق ( ويتفكرون في خلق السموات واألرض ربنا ما خلقت هذا باطال ) والبوذيون يعدون ذلك
رياضة روحية واالستغراق عندهم في التأمل هو طريق الخالص من آالم الدنيا والوصول إلى الحقيقة ودرجة االستنارة أو
النرفانا كما يعبرون !! كما أن الرهبنة في المسيحية كانت على ّ
بدعيتها سبيال العتزال الناس و التأمل والتدبر بعيدا عنهم
وعن ظلمهم و منغصاتهم !!.............
ومنهم من اتخذ البحر صديقا وسمي ار فكلما ضاقت به الدنيا فزع إلى شاطئ البحر يجلس عنده أو على صخرة من صخوره
الجميلة ،يبوح له بأس ارره وهمومه ويلقي عن عاتقه أثقاال أقضت مضجعه وآلمته في معاشه بعيدا عن األصحاب وبعيدا عن
البشر كلهم ..
وممن خاطبوا البحر وناجوه علي محمود طه حين قال :
وأين المنجي بتلك الرح ـ ـ ِ
اب الليل
أيها البحر كيف تنجو من ْ
اب منك موجاً في ٍ
جيئة وذه ـ ـ ـ ِ لجاً وأط ـ ـ ـ ـ ـغى
أطم ّ
بحر ُّ
هو ٌ
122
ابالهي ـ ـ ـ ـ ـ ِ
المروع ّ
أنين َّ
َليل َ بحر ما أنينـ ـ ـ ـك في ال
ويك يا ُ
وترى الكو َن زخرةً من ُعبـ ـ ِ
اب المدائن غرقـ ـ ـى
َ ا ِ
مض حتى ترى
ِ
العقاب الجو مسرى اغمر في ِّ ِ ِ
الك و ْ السماء واطغ على األف امض عبر
ومنهم من وجد أنسه وبهجته في الجلوس مع قطته الصغيرة التي يحبها ويألفها ويعدها خي ار من ألف صديق فالبشر ينكرون
الجميل وهذه الهرة الصغيرة الوفية تحفظ الجميل له فكلما أطعمها وسقاها ازدادت له حبا ووفاء ،وفوق ذلك آنست وحدته
وعوضته عن األصحاب واإلخوة واألبناء ،مالعبتها و معاكستها تخفف عنه هموم الحياة و نومها على حجره يسد فراغا كبي ار
في حياته لم يشغله البشر !!
عسى يوماً يكون لها انفراج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا
دفاتر لي ومعشوقي السراج نديمي ّهرتي وأنيس نفـ ـسي
ومنهم من جعل من بعض نفسه أنيسا لنفسه وال عجب في ذلك إذا كان المتحدث من اليونان ! فهذا ديوجانيس قيل له :ألك
صديق ؟ قال :نعم ولكني قليل الطاعة له ،قيل لعله غير ناصح فلذلك أنت على ذاك قال :ال بل هو غاية في النصح ،نهاية
في الشفقة ،قيل :فلم أنت على دأبك هذا المذموم مع إقرارك بفضل صديقك؟ قال :ألن جهلي طباع ،وعلمي مكسوب ،والطبع
سابق ،والمكسوب تابع ،قيل :فدلنا على صديقك هذا الناصح المشفق حتى نخطب إليه صداقته ،ونجتهد في الطاعة له ،والقبول
منه ،قال :صديقي هو العقل ،وهو صديقكم أيضاً ،ولو أطعتموه لسعدتم ورشدتم ،ونلتم مناكم في أوالكم وأخراكم ،فأما الصديق
الذي هو إنسان مثلك فقلما تجده ،فإن وجدته لم يف لك بما يفي به العقل ،ولم يبلغ بك ما يبلغ بك العقل ،وربما أتعبك ،وربما
حزبك ،وربما أشقاك ،فاكبحوا أعنتكم عن الصديق الذي يكون من لحم ودم وعظم ،فإنه يغضب فيفرط ،ويرضى فيسرف،
.ويحسن فيعدد ،ويسيء فيحتج ،ويشكك فيضل .......................
وعلى مستوى األطفال األبرياء حين ينعزل الطفل وال يجد أحدا متجاوبا معه يتخذ من لعبته الصغيرة أو عروسته الجميلة صديقا
و أنيسا يشغل معها جل وقته وكأنه مع صاحب يلعب ويلهو معه ،فتصير تلك اللعبة فردا من أفراد العائلة عنده ،وجزءا ال
يتج أز من حياته الطفولية البريئة التي ال يستغني عنها ،وال أدل على ذلك من بكائه الشديد حين يأخذها أحد األشرار منه أو
حين تنكسر فيشعر ببراءته و فطرته الصافية أنه فقد الدنيا و مافيها !!.............
123
أساطير وحكايات سمعنا بها عن شيء اسمه الصديق ،لم نجده في حياتنا ولم يجده أحد ممن حولنا ولم نجده سوى في الورق ،
فهل الورق وحده يكفي إلثبات أسطورة يضحي بعض الواهمين بعمره من أجل البحث عنها ؟!!....................إنني لن أترك
نفسي ألنزلق في هذه الحفرة مرة أخرى ،سأعتزل الناس ....نعم سأعتزلهم جميعا ،إن لم يكن بجسدي فسيكون بشعوري
ض ّد والنقيض إلى
بعد أن عشنا معا في نظرية أن الصديق محال وأن البحث عنه بحث عن سراب لننتقل اآلن نقلة كبيرة إلى ال ّ
البار ،يقول:
فكرة أن الصديق موجود وأن الصداقة حق ال وهم ،كذا قال من يقول إنه وجد الصديق المخلص والخدن ّ
صدقوني الصداقة واقع لذيذ ومعنى قائم بالمتعة والسرور جربته بنفسي ورأيته بعيني ،كيف أقول ال صداقة و قد نهلت من ّ
نبعها وكيف أصدق البائسين المتشائمين الذي ينفون وجود الآللئ والبالتين ليس إال ألنهم لم تقع أعينهم عليه ،لم يوفقوا لنيل
صديق محب إما لقصور لديهم وإما لضنين الحياة عليهم و إما لظروفهم االجتماعية الطاحنة التي حرمتهم من أعظم المشاعر
وأسمى المعاني الراقية ،الصداقة عندنا واقع والقصور عن نيلها بؤس وشقاء والحرمان منها هم و اكتئاب واسألوا مجربا وال
تسألوا متفلسفا !!
وأنتم في سواد الليل سمـ ـ ـ ـاري أنتم سروري وأنتم مشتكي حزني
نوازل بين أسراري وت ـ ـ ـذكاري أنتم وإن بعدت عنا منازلـ ـ ـكم
وإن سكت فأنتم عقد إض ـم ـاري فإن تكلمت لم ألفظ بغيركـ ـ ـم
فيكم وحبي لكم من هجركم جاري هللا جاركم مما أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاذره
الصديق هو البهجة في الحياة ،إليه نأنس وإليه نلجأ في الكربات صاحب بالنهار ،ومسامر بالليل ،ال عيب في هؤالء
األصدقاء سوى الحذر الدا ئم من فقدهم إما بتقلبات الدهر وحوادثه وإما بهادم اللذات و مشتت أنس الجماعات ..............
والبن المعتز أبيات يقر فيها بالصداقة بعد أن جادت عليه الدنيا بالصديق الجوهرة ! فيقول :
ما إن لها قيمة عندي وال ثـ ــمن إني رزقت من اإلخوان جوهرة
وال يزال الدهر عندي يختـ ـ ــزن فلست معتذ ار من أن أشح بهم
124
وال يطور بها عتب وال ض ــغن بحيث ال يهتدي هجر وال ملل
وليس عندي لها عـ ــين وال أذن فما الخيانة من شأني و من خلقي
يا من ليس لكم أصدقاء هذا ابن المعتز قد فاز بالجوهرة صديق رقيق رفيق ،لو وزنت له الدنيا كلها ما رجحت أمام ذلك الكنز
ومن عليه به ،ولجزاء هذه النعمة لن يفرط فيها أبدا ولعل هللا يعطيه المزيد منها ،صداقة صافية نقية ،ال
الذي وهبه هللا إياه ّ
يكدرها الشحناء والمالل ،وال يأتيها العتاب المضطجر و ال يتخلل النفوس فيها الضغائن ،وليس للخيانة فيها مكان ،فهل
هنالك أحلى من ذلك ؟؟ وهل ألحد أن يقول إن الصداقة وهم كذوب ؟!
التنيسي يتفاخر بصديقه قائال : وابن وكيع ّ
صداَق ٌة ِمثلِ ِه َن َس ـ ـ ـ ُب
َ ديق لي َلـ ـ ـ ـ ُه أ ََد ُب
ص ٌ َ
ِ
َوج َب َفو َق ما َيج ـ ُب َرعى لي َفو َق ما ُيرعـ ـى
َوأ َ
هرَج ِع َندها ال َذ َه ـ ـ ُب تََب َ
َفَلو ن ِق ـ ـ ـدت خ ِ
الئُق ُه َ َ َ
وهو هنا يشبه الصداقة بالنسب من باب توكيد الحقوق ووجوبها مثل حق التوارث ال يعني أن النسب يعلو رتبة الصداقة فنقيض
ذلك هو المتفق عليه عند العلماء واألدباء وأولي األلباب !
وألبي فراس الحمداني في صديقه مقال :
طوب َرفي ـ ـقي الخ ِ فيق َم َع ُ
َوَر ٌ صديقي الز ِ
مان َ ديق َعلى َ ص ٌ لي َ
صبو ٍح َذ َكرتُ ُه أَو َغبـ ـ ـو ِقفي َ َلو تَراني ِإذا ِاستَ َهَّلت ُدموع ـي
العقيق :حجر كريمِ العقيان :الذهب قيانها ِب َعقي ـ ـ ـ ـق ِ مع َمع َنديمي ِب َكأسي
ُحّلي ع َ َوأ َ الد َ
َشر ُب َ
أ َ
وألم تسمع ما قال ابن المقفع :اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا هم زينة في الرخاء وعدة في الشدة ومعونة في
المعاش والمعاد فال تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوصالت واألسباب إليهم ..........
و الحياة بال أصدقاء عند هذا الفريق محالة بل ال يمكن تصورها ،وانظر لقائلهم
الهيجا :الحرب كساع إلى الهيجا بغير سالح أخاك أخاك إن من ال أخا له
وأبو حاتم السجستاني صور مأساة فقد الصديق بقوله :إذا مات لنا صديق يسقط منا عضو !!
والخليل بن أحمد صور الرجل بال صديق كاليمين بال شمال !! ...
أما الوحدة واعتزال الناس فهو انطوائية مذمومة و مرض نفسي ينبغي عالجه فقالوا (:الغريب من لم يكن له حبيب ! )
واستدلوا على أن الخلطة أعقل من االنعزال بحديث نبوي يقول فيه ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من
المؤمن الذي ال يخالطهم وال يصبر على أذاهم وفي كلٍ الخير ) والحديث بين الصحيح والحسن ولكنه لم ينكر على من اعتزل
الناس على كل حال !
وقالوا إن هللا وعد المتحابين في جالله ظله يوم القيامة فهل يخلو ظل الرحمن من األصدقاء المتحابين ؟! وهو كالم وجيه
لمؤيدي نظرية الصداقة ولكن الرد عليه من الفريق المقابل يسير وهو أن أهل الحب والوفاء كانوا أهل الماضي من الزمن الجميل
فلعلهم انفردوا بظل الرحمن ! أما أهل زماننا ومكاننا فليسوا من أهل هذا الحديث في شيء ولعلهم ليس لهم في ظل الرحمن
ذراع وال شبر !! ................
125
وعند أصحاب هذا المذهب أن من ليس له صديق إنسان عاجز فيقولون :أعجز الناس من قصر في طلب اإلخوان وأعجز
منه من ضيع من ظفر به منهم !
ورد التوحيدي على من يذهبون مذهب اعتزال الناس بقوله :لست أرى هذا المذهب محيطا بالحق وال معلقا للصواب وال داخال
في اإلنصاف فإن اإلنسان ال يمكنه أن يعيش وحده يستوي له أن يأوي إلى المقابر وال بد من أسباب بها يحيا وبأعمالها يعيش
!..........
ولهم في صداقاتهم وعالقاتهم مقاالت فهذا رجل قال لصديقه :فإن كان إخوان الثقة كثي ار فأنت أولهم وإن كانوا قليال فأنت
أوثقهم وإن كانوا واحدا فأنت هو !!
وهذا علي بن عبيدة الريحاني قال لصديقه :كان خوفي من أال ألقاك متمكنا ورجائي خاط ار فإذا تمكن الخوف طنيت أي :
مرضت وإذا حضر الرجاء حييت !!
و مدح أعرابي صديقاً فقال :مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومؤاخاته كريمة ،هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق !!
وقال متيم آخر يصف صديقه :
تراه الدهر مغموماً لغ ـ ـمي أخ لي لم يلده أبي وأم ـ ـ ـي
ويأخذ عند همي شطـر همي يشاطرني سروري في ابتهاجي
كاشح :مسرع مخافة كاشح لهـِـ ـ ـ ٍج بذمي يبصرني عيوبي حين ت ـ ـبدو
ويمنع من معاداتي وظلم ـي ويصفي الود منه أه ـ ـل ودي
كما في ماله يرضى بحكمـي وينفذ حكمه في كل مالـ ـ ـي
إذا لفديته بدمي ولحم ـ ـ ـي فلو أحد من المحذور يف ـ ـدي
إنها الصداقة مكللة و موشاة بأغلب أركانها ،هو صديق يده في يدي عند همي و ثغره باسم عند فرحتي ،ناصح أمين شفوق
فأحب
َ رفيق يخشى أن يرى العدو عيوبي فيطير بها فرحا وينشرها لينشر مذمتي معها بين الناس ،تحقق في فؤاده الحب لجانبي
أحب من أهل الخير وكره من كرهت من أهل السوء ،ماله هو مالي أقضي في ماله كيف أشاء ويفعل بمالي ما يريد ! وفي
من ُ
النهاية نهاية الحب واإلخاء كل منا مستعد بالتضحية بنفسه من أجل اآلخر ،إنه الفداء بين المحبين أفديه بروحي ويفديني
بنفسه !!
وهذا اآلخر الذي اختلط عليه األصدقاء فسمى جمعا ممن عرفهم واقترب منهم صديقا ولكن تقلبات الدهر – وهذه عادتها –
كشفت له الحقيقة فاعترف لصديقه بفضله وبره وصّفى قلبه من شوائب البشر الذين ال يستحقون البر فقال :
نبوة الدهر كان خير ص ـ ـديق لي صديق إذا نبا بي صديقي
ال يؤدي وقد قضى لي حق ـوقي حقه واجب علي مق ـ ـ ـيم
ّ
126
وده بص ـ ـ ـ ـدوق
صديق في ّ الود واألخاء وما ك ـل
صادق ّ
ن وكالوالد الشفيق الرف ـ ـيق فهو كاألم في اللـ ـطافة واللـي
ن بعيداً مني وفوق الـ ـ ـشفيق والشقيق الوصول واَلبـر إن كا
حيث ال يهتدي مجاري الع ـروق قد جرى في مفاصل الحب منه
بح دون االخوان وهو صديقي خف ثقلي على صديقي مذ أص
زمان فماله من عقـ ـ ـ ـ ـوق هو جاري إن جار دهر وإن عق
إنه الصديق في أبهى صوره وذروة تجلياته ،إنه الشخص الذي يجمع محاسن كل البشر الخيرين الذين جبلوا على الخير فجمع
محاسن األم اللطيفة الرقيقة الحنون و محاسن األب المسئول الراعي ومحاسن األخ الذي ال يفارق أخاه بحكم مسكنه والجار
الذي جبل على بر جاره واإلحسان إليه ومساندته وقت كربته
تفرق في األحباب ما هو جامعه أم شفيـ ـ ـ ـقةٌ
أب لي ثم ٌ
أخ و ٌ
ٌ
وأذهلني عن ٍ
كائن هو تابع ـ ـه سلوت به عن كل من كان قبله ُ
فال عجب حينئذ أن يتخلل حبه كل مفاصلي و أن يجري عشقه في أوردتي و شراييني وأن يضخ قلبي اسمه وذكره كلما نبض
بالدم في أوعيتي فيكون ذكره في كل خلية من خاليا جسمي حاض ار !! وذلك الوصف قريب منه قول الشاعر :
وبذا سمي الخليل خـ ـ ـليال تخللت مسلك الروح مني
َ قد
تفسير عجيب الشتقاق لفظ الخليل وشعور سا ٍم و لذة غائبة عن كثير من البشر مّثلها كذلك البحتري في وصف خليله قائال :
أي :عالقة الماء بالهواء والنسيم هي المصافاة بين الماء وال ـراح وجدت نفسك من نفسي بمنز ٍ
لة
هو عود إلى نظرية األنا التي تركناها في غمار صفحات بحثنا ،ولكنها شاهدة حاضرة ال تغيب عنا في معرفة حقيقة الصداقة
الخالدة ،نذكرها في صفحات ثم نغفل عنها قليال ثم نتذكرها معا لئال ننسى المعنى الجوهري للحب و اإلخاء !!
كتب بعض األصدقاء المتيمين :
(الصداقة بحر من بحور الحياة نركب قاربه ونخدر أمواجه .....
الصداقه مدينة مفتاحها الوفاء وسكانها األوفياء .........
الصداقه شجره بذورها الوفاء وأغصانها األمل وأوراقها السعادة ............
الصداقة هي طاقة ال يمكن إلنسان العيش بدونها ..................
هي متنفس حيث يجد المرئ منا كل راحته في التعبير عن أريه )................................
عشنا الصداقة وجربنها ،ارتشفنا من رحيقها ،وتنسمنا عبيرها ،حياتنا قبلها كانت عدما و حياتنا بعدها صارت معنى وهدفا ،
حياتنا بدونها تصير بال معنى وال قيمة ،هي التي جعلت لحياتنا المعنى والقيمة ،لو حرمونا منها كنا كالجنين الذي قطع عنه
127
حبل الحيا ة !! أو كالسمك الذي خرج من دفء البحر إلى برد الهواء ! كنوز الدنيا كلها ال تساوي صديقنا ،ومسرات الحياة
وبهرجتها ال تساوي سعادة األنس بالحبيب ،و ساعة صفاء نجلسها مع أحبتنا خير لنا من العمر كله – ما خال ساعات عبادة
الحساد و الوشاة الذين حرموا من
هللا ! – منغصاتنا في الحياة لحظات الفراق والوداع بيننا وبين أحبتنا ،و أسوأ البشر لدينا ّ
األصدقاء فجاءوا يكدرون سعادتنا يريدون أن يسلبونا أغلى ما نملك ،ذكرياتنا الحلوة التي ال تنساها قلوبنا وال عقولنا هي أحلى
ما لدينا من ميراث ،أفضل الفعال ما تشاركنا فيه مع أحبتنا وأفضل الكالم ما قلناه لهم وما سمعناه منهم ،مشاعر دفاقة ال
تتسع الدنيا لوصفها وال يكفي المداد للتعبير عنها ،وإن كان لدينا عجب فالعجب ممن ينفون الصداقة وقد خبرناها وتلذذنا بها
فاللهم ال تحرم منها أحدا كما لم تحرمنا منها يا رب القلوب و مذلل الدروب !!!
هذا الفريق يرى قلة األصدقاء في حياة الفرد ولكنهم صنفان في هذا الرأي صنف يرى الندرة اإلجبارية و الصنف اآلخر يراها
ندرة اختيارية ومع كل رأي منهما لنا تفصيل ...
الندرة اإلجبارية
األصدقاء المخلصون ندرة وقلة في هذه الحياة كاآللئ واأللماس متى وجدت أحدهم و اتفقت القلوب والضمائر بينكما فال تفرطن
فيه فهو هدية سماوية وكنز طبيعي وهبك هللا إياه فرصة اهتبلها وال تضيعها فلو ضاعت منك فلن تعوضها مرة أخرى ،وهذه
القلة ليست بأيدينا و ال خاطرنا وإنما هي أحكام الزمان والمكان وفي هذا يقول اليزيدي المشتاق المتأوه :
فهل لي إلى ذاك القلي ــل سبيل أال إن إخوان الصفاء قلـ ـ ـ ـ ــيل
فكل عليـ ـ ـ ـ ــه شاهد ودليل
ٌ قس الناس تعرف غثهم من سمينهم ِ
أصدقاء الوفاء ليسوا دربا من الخيال وال طيفا من األوهام ،هم حقيقة موجودة ولكنها نادرة ثمينة ،لم أهتد إليها حتى اآلن وأرجو
أن أنالها في يوم من األيام ولن أقصر في البحث عنها حتى أهتدي في النهاية إليها ................
وفي هذا المعنى قال جعفر بن يحيى ألحد ندمائه :كم لك من صديق ؟ قال صديقان قال إنك لمكثر من األصدقاء !!
ياله من محظوظ من رزق في هذا الزمان صديقا ،واألحظ منه من له فوق ذلك واألكثر حظا من االثنين من حافظ على
أصدقائه وأوثق عليهم رباطه .
128
وسؤالك أحد الناس كم لك من صديق ؟ سؤال له مدلوالت ،فمن إجابته تعرف مدى نجاح المسئول في حياته ،فال شك أن
اكتساب األصدقاء الحقيقيين من نجاحات الحيا ة ! ومن إجابته تعرف وجهة نظره في الصداقة ومن إجابته تعرف كذلك هل هو
محظوظ أم تعيس ! سؤال يبين مدى رضى المسئول عن عالقاته بالبشر ،سؤال يكشف حقائق النفس ويجّلي الخبايا و يبرز
المكنونات !!
وفي معنى الندرة قال الشاعر :
فهو المراد وأين ذاك الواحد وإذا صفا لك في زمانك واحد
وفي معنى قريب قال سفيان الثوري :إن استطعت أن تستفيد مائة أخ حتى إذا أخلصوا لك تسقط منهم تسعة وتسعين وتكون
في الواحد شا ّكا فافعل !! ..
وهو كالم فيه منطق التظنن والشك فهو وإن كان يعترف بقلة األصدقاء لكنه يشك كذلك في القليل ويخشى من تقلبهم وتلونهم !
وعموما هذا الفريق يؤمن بتحقق الصداقة ولكن بصعوبة ...
الندرة االختيارية
يؤمن هذا الفريق بضرورة اإلقالل من األصدقاء باختيار اإلنسان – وإن كثر وجودهم – ألن كثرة اتخاذ األصدقاء لها من
المفاسد الكثير أولها أن هللا ما جعل لرجل من قلبين في جوفه ،فالقلب واحد وهو غالبا ال يتسع ألكثر من صديق فالحب ال
يتج أز وال يفرق بالتساوي على أكثر من شخص ولو اتسع ألكثر فينبغي أن يتسع بحدود معقولة ال أن يفتح على مصراعيه وإال
جلب اإلنسان لنفسه التشتت وثانيها أن كثرة الصديق تجعل اإلنسان يقصر في حق أصدقائه فربما وفى بحق واحد فأدى ذلك
للتقصير في حق اآلخر وربما أدى ذلك في النهاية للغيرة المنبثقة من أحدهم تجاه اآلخر الذي أخذ حقه واستأثر بصديقه وفي
ذلك يقول الشاعر :
ُمراعيها مقيم في مض ـ ــيق إذا اتسع اإلخاء عرت حقوق
فإذا خصت رعايته ف ـ ـ ـريقا أخل بما عليه في فري ـ ـ ـ ــق
بشرط الود لم يك بالمطـ ــيق وإن رام القـ ـ ــيام لهم جميعا
عدوا كان في عدد الصــديق وأوحش بعضهم فأف ــيد منه
وقدر فتح أبواب الحق ـ ــوق فخذ مما تآخيه بق ـ ـ ـ ــصد
في نهاية مطاف تعدد الصداقات يحول الصداقات إلى مشاحنات ومغالبات تنتهي بقطع حبال الصداقة ونهاية عقد األخوة !
ولعل في نفس المعنى قال شاعر آخر :
معونته في صرف دهر وغدره إذا كثر اإلخوان للمرء وابتغوا
وكثرتهم ال تستقل بض ـ ـره فوحدته ال تستقل بحقـ ـ ــهم
129
وفصل ابن مسكويه في هذه القضية فقال :لتكتف بواحد إن وجد فإن الكمال عزيز وأيضا من كثر أصدقاؤه لم يف بحقوقهم
واضطر إلى اإلغضاء عن بعض ما يجب عليه والتقصير في بعضه وربما تراوحت عليه أحوال متضادة أعني أن تدعوه مساندة
صديق إلى أن يسر بسروره ومساندة صديق آخر فيغتم بغمه .........
يعني ابن مسكويه أن صاحب الصديقين قد يقع في تناقض نفسي بسبب اختالف األجواء النفسية بين صديقيه فيقع بين سعادة
فأنى له ذلك !! ..........ما جعل هللا لرجل من قلبين في جوفه
صديق واغتمام صديق وهو مطالب باإلحساس باالثنين كليهما ّ
!
و ثالثها أن كثرة اإلخوان عند بعض هؤالء المتظننين تجعلهم يخافون من حولهم يوما ما من الدهر أن يتغير ودهم وينقلب
حالهم فيصيروا أعداء ويتحقق المثل الهولندي الشهير :إذا انقلب الحب إلى كراهية فإنه ال يعرف حدودا ! ،فحينها تكون
العداوة نا ار تلظى تحرق األخضر واليابس وحين تتحد العداوات وينفرد الم أر بمجابهتها يكون هو الخاسر في النهاية ومن هذا
قيل :كثرة األعداء من كثرة األصدقاء !!
اكتفاء بالواحد ..
وعموما هذا الفريق يؤمن بتحقق الصداقة ولكنه ال يفضل تعددها اقتناعا بذلك و ً
يقول هذا الفريق إن الصديق الذي وصفوه في الكتب وذكروا مالمحه في غابر الدهر ربما يكون هو المحال عينه فلماذا ال
نبحث عن صديق ليس محاال ؟! لماذا ال نرضى بصديق تحقق فيه بعض شروط الصداقة دون بقيتها ؟! أوليس الصديق الذي
تكلموا عنه نزيال من نزالء المدينة الفاضلة أو أحد ساكني جنة الخلد ؟! فلماذا نعذب نفوسنا بالسعي وراء الفضائل المفتقدة و
اليوتوبيا المعقدة وال نرضى بما هو أقل من هذا ويكفي ؟! أليس الكمال من سمات هللا والنقص من سمات البشر ومنذا الذي
ترجى سجاياه كلها ....كذا قالوا ،ربما يتحقق الحب ويمأل كيان الصديقين ولكن قدر الحب ال يكون متماثال وبالتالي ال يكون
الشعور واإلحساس بنفس القوة و ال يكون العتاب مناسبا في كل األحوال فتحدث الهفوة و الجفوة فهل الحياة حينها تتوقف
وينتهي كل شيء وتنهار عالقة أخوين لقصور في أحدهما أم األنسب أن يغض طرف طرفه عن مسالب أخيه ويرضى بحظه
منه لتستمر عجلة الحياة بال مطبات وال حواجز مرورية ؟؟!!
وهل حين يخفي صاحبي عني بعض أسراره على رغم حبه لي وحبي له يعني ذلك قطع خيوط الحب المتبادل ؟ ولماذا ال يكون
حبي له شفيعا وملتمسا لألعذار وسببا للتضحية بحظ النفس ؟! ولماذا ال أعيش على حبه ال أريد منه شيئا أكثر من ذلك مهما
فعل معي وقصر في جانبي!
130
هذه فقط مجرد أمثلة في جوانب القصور في بناء الصداقة المثالية التي يحكون عنها وال نجدها في عالمنا فهل حين نرضى
أهنا أنفسنا و خضنا بها مواطن الضعف
بالدنية و ّ
ّ بذلك من أجل إعالء كلمة الحب و تغليبا للعقل والحكمة نكون قد رضينا
والمذلة ؟!
ولماذا ال نأخذ بقول األعرابي الذي سئل :ألك صديق فقال :أما الصديق فال ولكن نصف صديق ! فقيل كيف انتفاعك به قال
انتفاع العريان بالثوب البالي !!
إن جواب ذلك األعرابي يحمل في طياته معاني عسيرة وهي أن تشدد المرء في سمات صديقه تجعله في كثير من األحيان بال
أصدقاء فإما ال يعثر في طريقه على صديقه الذي ينشده وإما حين يجد صاحبا سرعان ما يفقده بدعوى أنه ليس صديق األحالم
وهيهات أن يجده سوى في أحالمه الهنيئة على فراشه الناعم الدافئ ،وحين نخشى ذلك المصير البائس نرضى بالقليل فهو
ينفعنا حين نحتاجه وحين ال نجد له بديال كذلك العريان الذي لم يجد له سوى ثوب بال يغطي سوأته و يصرف أعين الناس عنه
به وربما يحميه من برد الشتاء وإن لم يكن سابغا سليما أنيقا ولكنه خير من عدمه على أي حال ......
وفي هذه النظرية أبيات البن الرومي يحكي فيها حاله مع أحد أصدقائه فيقول :
أو رأى يوم َن ْوبتي َذ ّب ع ـني صديق إذا تُ ـنوول ِعرضيٌ لي
ط مني أو رأى يوم غبطتي ح ـ َّ فإذا ما رأى ُم ِش ـيداً بذك ـري
شذا يدي :أذاي فهو لي كالطبيب ال كالم ـغني نفعه في َشذا ي ـدي ال رجـائي
منصلي ومجني :سيفي و درعي علي في يوم ِسْلمي وهو في الحرب ُم ْنصلي و ِم َجِّني ليس ُيجدي َّ
شديد وضـ ـني
واعتدادي به ٌ ضدين مـ ـنهلست أنفك بين َّ
ص َّوْر كصورة المتم ـ ـ ـني
لم ُي َ ليل ِعْلم نفسي َّ
بأن كل خـ ـ ـ ٍ
إذا كان كل ما يتمني الم أر ليس يدركه فلماذا ال يسكن ويطمئن لما قسمه له هللا ويستفيد من ميزات صديقه و يتجنب عيوبه
غاضا الطرف عنها كأنه ال يراها ففي ذلك السالمة ،وشراع قارب الحياة ربما يكون فيه رقاع و خروق ولكنه يسير بسالم فلماذا
نحطمه بأيدينا ونغرق في بحر الحياة وقد كنا من قبل في سالم وأمان فما أغرقنا سوى األماني البعيدة والعقول المثالية الحالمة
ّ
التي ال تتناسب مع الزمان وال المكان !!
بين
إنه مذهب يمسك العصا من المنتصف ال فرط في األصدقاء وال زعم أن الصداقة المثلى حاضرة في عالمنا المشهود ،رأي َ
بين يزعم الوسطية في نظرته للخلة وأن من يرى رأيه يعيش مرتاح البال صافي الذهن ،لم يعان من الوحدة والغربة ،ولم يكتو
َ
بنار الصداقة العميقة التي تكوي مرتادها بنارها الملتهبة ،الفرق بين هذه األصناف وأصحاب تلك النظرية أن اآلخرين أغرقوا
عقولهم في دوامات من الفكر ،صارعوا أمواج الحياة إما بأبدانهم وإما بعقولهم ،فماذا ال نستعمل السياسة في مجاراة أمورنا كي
نحيا حياة أفضل خالية من المنغصات وفي نفس الوقت يملؤها أصحاب أو قل أصدقاء غير مثاليين أو أخالء غير كاملين ال
تخلو الدنيا من الحاجة إليهم ،
131
هذا ملخص تلك النظرة ............
وكانت هذه نظريات في الصداقة بين كل فريق واآلخر خالف ولكنه خالف يصعب الفصل فيه ،والترجيح بينهم ليس لمثلي أن
يقطع فيه خصوصا أنني انتحلت أكثر من نظرية في أكثر من فترة من فترات حياتي ولكل فترة ظروفها التي جعلتني أنتهج
فيها نهجا محددا لذا تركت للقارئ – بعد طول قراءة وتمعن منه – أن ينظر لكل رأي منها ويتخذ لنفسه سبيال بعد أن يح ّكم
عقله و يستفتي قلبه ،و طول التأمل و خبرة الحياة و استخارة هللا أشياء كافية لهداية الحيران إلى رشده ومبتغاه ،ولكن إن
وعم وتلقاها كثير من البشر بالقبول وهي في رأيي أفكار ال يسهل التشنيع أو النقد الالذع إلحداها
كانت تلك النظريات مما شاع ّ
مجه از بإحداها على األخرى – هنالك تصورات أخرى للصداقة عند بعض البشر إنما هي تصورات شاذة و صور َم َ
رضية ال
يمكن قبولها بحال من األحوال وهذا ما سأتكلم عنه في الفصل التالي بعنوان ( صور َم َرضية من الصداقة ) .............
-1الصداقة الغثائية
شخص يعرف المئات من الناس ،كلهم يعرفونه جيدا ،تعارف إليهم في مناسبات كثيرة ،في كل مناسبة يقتنص الفرصة
ليتعرف إلى المزيد من الناس ،شغله الشاغل ونهمه المتزايد بزيادة معارفه وتراكم رصيده من الناس ،ضحكة لهذا وابتسامة
لذاك مزاح مع هذا و نكتة مع ذاك ،يجتذب الناس بابتسامته الالمعة وترحيبه البراق ،يصفه الناس بأنه شخصية اجتماعية
ممتازة ! فهو – كما يظنون – يلقى القبول من أغلب الناس من حوله ،وهو في الغالب شخصية مشهورة وربما هو شخصية
ِ
المحاضرين المتألقين أو الدعاة البارزين أو الكتاب المرموقين أو نجوم الفن ورموز المجتمع ، عامة كالسياسيين المشهورين و
ينظر إليه كثير من الناس أنه بعيد المنال فهو في القمة وهم في القاع ،هو الشخص الناجح اجتماعيا والبارز مجتمعيا وهم
الخجولون المتواروون عن المنابر ..........................
كل هذا عظيم ،وكم من قائل بعدما ق أر عن هذه الشخصية :يالها من شخصية ناجحة ،ثم يأتي التعجب :كيف لي أن أصف
هذه الشخصية أنها صورة َمرضية من الصداقة ؟!!
ولإلجابة على هذا التساؤل أحب أن ألفت االنتباه إلى أن أغلب الناس – من الظاهر – ال يجدون عيبا في هذا النوع من الناس
وللتعبير األدق ال يشعرون بمأساته الحقيقية ،بل هو نفسه ربما ال يشعر إلى أن يأتي الوقت الذي يعرف فيه الحقيقة
.............
هذا الوقت الذي أعنيه هو وقت الكارثة ! هو وقت تحل به مصيبة كبيرة ،يصيبه الهم والضيق ،تضيق به الدنيا على رحابتها
وحينئذ يكتشف أنه ليس له أصدقاء إطالقا ! ...إطالقا ؟؟ نعم ليس له صديق واحد يقف معه في محنته ،فمال بال كل هؤالء
الضاحكين الالعبين المازحين الذين يلتفون من حوله صباح مساء يزيدونه ّأبهةً و مخيلة ويحسده الناس عليهم ؟! ..كل هؤالء
غثاء كغثاء السيل ال يزنون في ميزان الصداقة جناح بعوضة ،ليس منهم من يرتاح إليه قلبه فيشكو إليه سره بصراحة وبال
132
حرج ! ليس منهم من يجرؤ على أن يصارحه بكبوته التي أصابته فتلك المصارحة قد تجعله يسقط من نظره وربما يفضحه لبقية
الزمالء والمعارف ! ولو جرؤ وأزاح الستار عما في صدره ألحد منهم لِتََو ُّه ِمه الثقة فيه و طلب منه المساعدة والمآزرة فإنه
سيخذله ويتعلل له باألعذار والشواغل ويتخلى عنه وربما يهجره و يفر منه لئال يسأله شيئا مرة ثانية وال يراه مرة أخرى بعد
اليوم !!
السؤال اآلن ماذا استفاد هذا الشخص الناجح في زعم الناس من معارفه الكثر ؟؟ ألم يكونوا عليه حسرة وندامة ؟ وألم يكن ذلك
الشخص الهيا غافال عن المعنى الحقيقي للصداقة فقادته غفلته إلى مصيره المحتوم البائس ؟ وأليس شخص ذو صديق حق
واحد أغنى من هذا اإلنسان البائس الذي يعرف اآلالف من البشر ولكنهم هباء منثور ؟ وهل النجاح في جمع الناس يكون
الكم والكيف ،أثبت الكم أنه ال يجدي أمام
بعددهم أم بقدر عالقة اإلنسان وتوطدها مع هؤالء البشر ؟ إنها نظرية المفاضلة بين ّ
الكيف ،تلك النظرية التي طبقها في الحرب نابليون بونابرت باإلعداد قبل األعداد ومن بعده أدولف هتلر في حروبه ومن قبلهما
– على غفلة من المؤرخين – طبق اإلسالم هذه النظرية الفريدة فما انتصر المسلمون في فجر اإلسالم إال وكانوا قلة ولكن
إيمانهم جعلهم أقوى وأكثر تأثي ار ونفوذا وهذا ما سطره القرآن عن المؤمنين السابقين ( قال الذين يظنون أنهم مالقو هللا كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن هللا ) .................
وفي المقابل حين تكون الكثرة جوفاء تكون الهزيمة واالنتكاس ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت
عليكم األرض بما رحبت ثم وليت مدبرين ) على ذلك قس في مسألة الصداقة ،األصدقاء ال يوزنون بأعدادهم وال أحجامهم وال
مراكزهم االجتماعية وإنما يوزنون بقدرهم في القلب وقدرنا في قلوبهم ،حينما تتغلغل الصداقة في أعماق قلبين تكون صداقة
قوية صلبة تطيح أمامها الزماالت والصحبة الهشة و الصداقات المزعومة ويكون صاحبها هو الفائز ،وحينما ينظر ذلك الفائز
إلى أصحاب الصداقات الهبائية التي ال وزن لها وال قيمة ولكنها أمام الناس منتفشة وملفتة وبراقة يقول الحمد هلل الذي هدانا لهذا
وينعي أخاه المغبون الذي لم يهتد إلى الحقيقة وبينه وبينها زمن وطريق طويل نهايته صدمة موجعة و هزة مؤلمة ثمنها غال
وعاقبتها الحسرة واألسى والت ساعة مندم !!
-2الصداقة الموسمية !
هذا نوع من الناس فريد ! قد يوقعك حظك العاثر في أحدهم فتظنه صديقا ،وقد يكون حظك سعيدا فال تصادف هذا النوع
مطلقا ألنه قليل ! هذا الصنف من البشر يحتاج لنوع خاص من الناس ليكتشفوه ويظهروه على صفته الحقيقية وإن كان كثير
من العارفين لمعنى الصداقة يعجز لسانه و قلمه عن وصفه ووضعه في مكانه الصحيح ! ،هذا النوع يعرف الصداقة في موسم
معين من السنة و ينساها تمام النسيان في وقت آخر منها ،فهو – في المثال األشهر – صديق في موسم الدراسة يعرف
صديقه حق المعرفة يبادله االتصاالت بل الزيارات ،يظهر من الحب والود ما ال يظهره اآلخرون ،يبوح بأس ارره كاملة بال حرج
ويتلقى أسرار صديقه كذلك كالصديق الحقيقي ،يتأثر بصديقه في سبل الخير ويقتفي أثره فيما يرضي هللا حتى تلفيهما أخوين
متحابين في هللا ال تظن أنهما يفترقان أبدا ! حتى يتهامس الناس عليهم و يرشقونهما بنظرات الغبطة والحسد أحيانا ! ،وتمتد
133
تلك القصة السعيدة إلى أن ينتهي موسم الدراسة وتأتي اإلجازة السنوية التي – من المحسوب – أن األصدقاء ينتظرونها ليقضوا
فيها أحلى األوقات في اللعب والترفيه واالنطالق ويفجأ الصديق المحب بصديقه الموسمي ينسحب فجأة ! بل يختفي اختفاء
مريبا ! فينادي الصديق المصدوم أين أنت يا صديقي ؟ لماذا اختفيت فجأة ؟ لماذا ال تشاركني إجازتي الصيفية التي أجدها بال
طعم بدونك ؟! فيرد عليه صديقه الموسمي – في التليفون طبعا – يتحجج بالحجج الكثيرة الطويلة ويصف ظروفه الصعبة التي
وي ِعد صديقه – طبعا – أنه حين ينتهي من مشاغلة سيتصل به في أقرب وقت ليقابله ويقضيا وقتا
تحول دون مقابلة أحد َ ،
سعيدا ،ثم ينقطع هذا الموسمي الطبع وينتظر الصديق المسكين صديقه أن يتصل به ولكن ال حياة لمن تنادي ،ويظل
المسكين في انتظار ويضغط على نفسه و أعصابه ويحاول االتصال بصديقه فال يرد عليه ! ويظل هذا الحال طول العطلة
وعرضها ،المسكين في انتظار على نار والصديق البارد يراوغ كالثعلب المكار ! إلى أن تنتهي العطلة ويلتئم الشمل مرة أخرى
ِ
المعاتب في حين أن هذا وحين يتقابل المفترقان أول مرة بعد طول الغياب يقابل الصديق المسكين صديقه الموسمي بعبوس
الموسمي الطبع ربما يتعجب من سوء مقابلة صديقه ،ويرد هذه النظرات الالئمة بوابل من اللوم المقابل قائال :أهكذا تقابل
صديقك بعد طول انقطاع ؟! أيكون العبوس أول ما تلقاني به بعد فراق طويل ؟! فتتغير نظرات العبوس واللوم من المسكين إلى
نظرات تعجب و شخوص ! ويقول المسكين بلسان حاله و في مكنون قلبه :يالك من إنسان بارد ال تحس منعدم المشاعر
منتفي الحياء ! ،وبدال من أن يواجه الصديق المصدوم صديقه الموسمي بجرمه و أن يواجهه بخلله الذي ال يحس به في فهمه
للصداقة يلجأ هذا المسكين إلى االجتناب و الهجران لعل هذا الموسمي البارد يعود إلى رشده ويفهم جرمه ويعتذر ويقدم فروض
الندم واألسف ! ولكن سرعان ما تتطور األزمة فالموسمي حتى اآلن ال يفهم ما المشكلة وال يحس أنه ارتكب خطأ وتدخل
العالقة كلها في دوامة ( من بدأ االعتداء ؟! ) فالمسكين يزعم أن صديقه هو من بدأ بالعدوان حين هجره و تجنبه ،واآلخر
يظن أن صديقه بدأ االعتداء حين لم يلتمس له العذر وقابله أول مقابلة بعد طول فراق بالوجوم والغلظة ،و في الحقيقة المشكلة
من االبتداء كاد يسهل حلها لو أن الصديق المسكين قام بتحليل المادة الوراثية لصديقه وق أر نتيجة التحليل التي تقول :أنا
الصديق الموسمي ! أنا صديق في وقت محدد من العام وال تبحث عني في الوقت اآلخر ! أنا كلي لك في وقت الدراسة أما
وقت اإلجازة فأنا ألناس آخرين ومشاغل أخرى !.................
وهنا يتساءل متسائل :ما الفرق بين هذا الموسمي والزميل ؟ واإلجابة على هذا السؤال أن هذا الشخص في فترة معينة من العام
أسلفت عميق في الحب عميق
ُ يتطبع بطباع الصديق كاملة غير منقوصة ،فهو ليس كالزميل ذي العالقة السطحية وإنما كما
في األسرار عميق في التقارب عميق في اإليثار عميق اللوم والعتاب ،له كل سمات الصداقة – تقريبا – ولكنها مجتمعة ال
تظهر إال في وقت موسم معين ،وهذا ما ال يتفق مع الزميل الذي هو موسمي بطبعه كذلك ولكن عالقته سطحية في حدود
العمل ليس فيها من عمق الصداقة وال الصحبة شيء مطلقا ..............
اصطدمت به في النهاية ولكن بال جدوى وال فائدة
ُ احتككت به بل
ُ وعانيت من عالقته و
ُ هذا النوع الغريب من البشر رأيتُه بعيني
حاولت بكل الطرق تغييره وإصالحه ولكن هو كما هو ال يتغير وال يتبدل يقول بلسان حاله :أنا موسمي لألبد ! أنا غير قابل
ُ ،
للتغّير!
134
ولعل بعض القارئين يقول :فلماذا ال نكون صرحاء مع هذا النوع ونواجهه بالخطأ والمشكلة حتى يلتئم الجرح سريعا ويعود إلى
صوابه ولماذا ال نلتمس فعال األعذار الشاغلة التي تشغل الصديق عن صديقه في وقت غيابه ؟!
واإلجابة أن هذا الصنف الغريب – بحكم تجربتي معه – نوع من اثنين إما أنه غير صريح ،عنده من الشواغل السرية التي ال
يستطيع البوح بها أو ربما يتحرج منها فيتهرب من اإلجابة أو يتعلل بحجج وهمية ظاهرية ليست هي األساس وبهذا يكون خلل
كبير في الصداقة التي من أركانها البوح باألسرار ،وإما أن يكون من النوع الصريح الذي ال يخجل من إفشاء واقعه فيقول
الحقيقة كاملة ولكنه مع ذلك ال يتغير وال يحاول كسر الجمود ،ويجد في حججه سببا لالنقطاع الدائم في موسم البيات الصيفي
شئت وكأنك تنفخ في الرماد !!
الذي يختفي فيه !! وبذلك مهما واجهتَه فهو يقدم حججه على طبق من ذهب وافعل ما َ
وعلى نقيض الصورة التي ذكرتها كما أن هنالك صديقا موسميا في فترة الدراسة والعمل هناك صديق موسمي في فترة العطلة
فقط!! وهذا النوع احتككت به كذلك ورأيت منه العجب وما يستعصي على الوصف ! فهذا النوع وقت اإلجازة صديق حميم ،
يتصل بك يقابلك بانتظام يمدحك بأنك صديقه وأخوه المخلص الذي ضنت عليه الدنيا بمثلك حتى لقيك ! ثم فجأة انتهت اإلجازة
وجاء وقت الكد واالجتهاد حينها لن يعرفك هذا الشخص مطلقا فأنت عنده صديق اللهو واللعب أما وقت الدراسة والمذاكرة
تعاملت معه بنفسي كان التزامه بقانونه الموسمي صارما ! ففي الدراسة كان
ُ واالجتهاد فله أصدقاء آخرون ،وهذا النوع الذي
حاولت أن أكسر
ُ يأتي رمضان من أوله آلخره فال يتصل بي وال يعرفني ! ويأتي العيد تلو العيد وال يكاد يذكرني في باله ! حتى
الصد و المنع فال هو يبادلني اتصالي وال هو يقبل لقائي ! حتى إذا جاءت
ّ الجمود وأتصل به في هذه المناسبات فلم أجد سوى
اإلجازة مرة أخرى عاد صديقا حميما وديعا يبادرني إلى الوصال و يتلهف للقائي و اللعب والترفيه معي ،تعود الزيارات وتوضع
الوالئم و يتعمق األنس و الود ،فها عادت اإلجازة وأنا بالنسبة له صديق اإلجازة ! .........
ولعل تفسير هذه الصورة الغريبة هو أنني لم أكن في نفس السنة الدراسية بل كنت أسبقه سنة واحدة ،ولكن عموما هذه كذلك
صورة طريفة من صور الصداقة الموسمية !
وفي النهاية أود أن أنوه على أن هذا النوع من الصداقة ال يستمر طويال فمصيره غالبا الفشل واالندثار بعد موجات متالطمة من
الشجار والمشاحنات ،وفي قلة من هذه الصداقات تستمر العالقة بعد رضا أحد الطرفين باألمر الواقع بعدما يئس من تغيير
حل آخر لديه !!
صاحبه الذي ستضطره الظروف لإلبقاء عليه على هذا الوضع ألنه ال ّ
-3الصداقة النفعية
صداقة ال مكان فيها للعواطف ال موضع فيها لألحاسيس ،إنها عالقة المنفعة ،لعبة الكبار كما يدعون ،كيف تستخلص أكبر
قدر من المصلحة من الشخص الذي أمامك بكل الوسائل ،صادق إنسانا وتقرب منه فكلما دنوت منه دنا منك النفع ،إنها
البرجماتية في صورتها الصداقية ،شخص لن تستفيد منه إال بعد أن تدنو منه وتتوطد الصالت وتُعقد الصداقة ومن بعدها
تستخلص ما تشاء منه بكل يسر وبال عناء فقد ملكت قلبه و استحوذت على زمام أمره ،حين يتعلق بك ويذوب في اإلعجاب
135
بك حينها سيجود بكل ما لديه من أجلك وأنت الرابح في النهاية ،لن يكلفك األمر الكثير من العناء سوى كلمات منتقاة من
الثناء الفياض و عبارات براقة من الحب واأللفة واالرتباط بعدها يفتح لك صديقك أبوابه ويمنحك ما تريد ،وبعد أن تنال منه كل
ما بوسعه إعطاؤه فما عليك إال الهروب والبعد فأي عالقة تربطك به بعد ذلك درب من مضيعة األوقات التي يجب عليك أن
تستثمرها في عالقة برجماتية جديدة تدر عليك ماال وفي ار أو تجلب لك منصبا حساسا أو تدني منك جاها براقا ،أيا كانت
المنفعة فهي رصيد جديد يضاف لحسابك في الدنيا !!!
إن الصديق البرجماتي ليس كالبرغوث حينما يمأل وعاءه من دم عائله ينصرف سعيدا راضيا بما حصل عليه ،فالبشر أكثر
دهاء من الحشرات والهو ّام ،فهذا النوع يفكر دائما للمستقبل يفكر كيف يجمع أكبر قدر من األموال والمكاسب ليتزود بها في
المستقبل ،لذا هو ال يترك فريسته بعد أول منفعة منها وإما يستمر في مص دمها إلى أن يتيقن أنه قد صّفى دمها تماما حتى
تصير جثة هامدة أو ربما يجود عليها عطفا وشفقة ببعض دمها لئال يكون ظالما غاشما !! المهم أن رشفة واحدة ال تكفي
ومادام شخص ساذج تستطيع االنتفاع منه أكثر من مرة فلماذا تقنع منه برشفة واحدة !!
إن البرجماتيين في صداقاتهم حين يجتمعون ببعضهم من أمثالهم تكون صداقة هادئة مثمرة مرضية لجميع األطراف – في
زعمهم ، -فطرف يبغي المنفعة وفي مقابلها ينفع صديقه المزعوم بمقابل آخر ،هي عالقة تكاملية ،كما يقول العامة ( نّفع
واستنفع ) ،لذا تمر هادئة بال تشويش وال ضجيج وحين تنتهي المصلحة يترك كل طرف اآلخر في سالم وهدوء
...............
وإنما تأتي العواصف والصواعق والبراكين حين يصادق البرجماتي صديقا يعرف معنى الصداقة الحقيقي ويمنحها قدرها ولها
مكانتها المقدسة عنده حينها حين يتعلق ذلك المسكين بهذا النفعي الوصولي يعيش وهما كبي ار أنه وجد الصديق المخلص الذي
يمثل دوره النفعي ببراعة و تخطيط محكم ،و يظل هذا المسكين يعيش في هذه األكذوبة كأنه في حلم جميل حتى يستيقظ فجأة
على فاجعة ثقيلة أن صديقه المزعوم قد هجره و ارتحل عنه فينظر أمامه مذهوال فال يجد سوى سراب صاحبه الذي وّلى وينظر
خلفه مشدوها فيكتشف أنه أنفق كل ما لديه من أجل هذا الصديق المخادع فلم يبق لديه شيء يلوي عليه ! وهنا ُيكتب فصل
النهاية لهذه الصداقة المنكوبة !!
إن أسهل فريسة لهذا النفعي المقيت هو الصديق المرهف الحس ،المتشبع بفكر الصداقة واإلخاء الذي يبحث عن قلب مخلص
فيطل عليه صاحبنا بوجهه الثعلبي ويعطيه ما يريد من كلمات الرغبة في الصداقة والبحث عن المثالية ومزيج
ّ يشاركه حياته ،
من المديح و ألفاظ المحبة والمودة وبذلك وبكل بساطة يكون قد نسج شباكه على ضحيته وأحكم قبضته – ويالها من قبضة !-
حين حصل على قلب صاحبه المسكين في يده الدنيئة فيقلبه كما يشاء ويلهو به كما يحلو له ،وهذا نوع من الفرائس !
وأما النوع السهل الثاني من الفرائس هو المتدينون الطيبون ،الذين يعرفون معاني اإليثار والعطاء والبذل في سبيل هللا وحب
عمل الخير بال مقابل و كذلك معاني األخوة في هللا ،وهؤالء مدخلهم معروف ،فقليل من التظاهر بالدين و التزام الطاعات
والمواظبة على حضور الصلوات والفرائض معهم يستميل قلوبهم حين يجدون من يشاركهم اهتمامهم بطاعة هللا و التمسك بدينه
في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ،وبذلك وقعت الفريسة في المصيدة ،ويبدأ النفعي في االقتناص !
136
كم خّلف هؤالء النفعيون وراءهم من الضحايا ،وكم سببوا أنينا ونشيجا وعويال ،وكم زعموا أنهم رجال ناجحون وصدقهم الناس
فوسموهم بأعلى األوسمة و أبلغ األوصاف فهم لديهم رجال المجتمع بال منازع أهل السطوة والقوة التي ما حققوها إال على أشالء
قلوب معذبة لم يكن لها ذنب سوى أنها ّ
صدقت كلمات اإلخاء والوفاء والحب فصارت ضحايا على عتبات الصداقة
.............
إن جريمة هؤالء النفعيين ليست فقط أنهم يسلبونك مالك ووقتك و جهدك وفكرك بل ظلمهم األعظم أنهم يسلبونك قلبك وعقلك!
ويقلبون كيانك ويحطمون زهرتك التي منحتها لهم بطيب خاطر و بحسن ظن وفي لحظة حب واهمة !
-4انعدام المباالة !
هذا نوع آخر من الصور غير الطبيعية للتعامل مع الناس ،نوع ال يراعي اآلخرين مطلقا ،ال يضعهم في حساباته وتقديراته ،
ال يأبه لجرح اآلخرين بتصرفاته السلبية ،ال يشعر أنه ارتكب خطأ حين َي ِعد ويخلف وال يتألم ضميره حين يتفق مع صاحبه
على موعد ثم يخلفه بل يتركه ساعات طواال ينتظره حتى إذا أيس من لقائه انصرف غير مأسوف عليه ! ،المانع عنده أن
يعد ! ،واألعجب واألشد أنه ال يتصل بمن يكون بينه وبين صاحبه لقاء ثم يلوذ بالنوم في فراشه ال يعبأ بصاحبه وكأنه لم ِ
تصرف معه ذلك التصرف ليعتذر بل يتركه للظروف وكأن الشيء لم يكن ،وبعد هذه التصرفات حين يقع اللوم من الطرف
اآلخر فإنه سيجد ألف حجة للتعلل ،هذا النوع باختصار شديد ليس للصداقة مكان في حياته ،وليس في قلبه فراغ لملئه بإنسان
،هو ال يشعر بأحد سوى نفسه ،تشغله نفسه عن اآلخرين ،يفقد اآلخرين بسهولة و يصنع عداوات متراكمة بسلبيته وقلة
مباالته ولكنه ال يلوي على أحد ففكرة الصداقة عموما غير متبلورة في فكره فهو يعتمد غالبا على الزماالت و المعارف العابرة ،
ربما اكتفى في حياته بإخوته في بيته فظن أال داعي للخّلة واإلخاء السببي ،وربما هو منشغل بزوجة وأبناء ويظن أن الزوجة
تحل محل الصداقة ،وربما له صاحب أو نصف صاحب ركن إليه واكتفى به اكتفاء من ال يرغب في مزيد نعمة ! إنه ال يفوز
بقلبه أحد وإن سعى كثير ممن حوله لنيله .................
مشكلة عقلية هذا النوع أنها ال تستوعب الخطأ ،فالخطأ عادة يقع بفعل شيء سيء ،وهذا النوع مشكلته أنه يخطئ بترك الفعل
المعتدى على
َ الجيد ال بالفعل السيء ،فهو خطأ يقع بالسلب والترك ال باالرتكاب ،وهنا تحدث دوامة الحوار بين الصديق
حقه وبين هذا الشخص السلبي الذي ال يراعي األخرين ويعيش بال مباالة عقيمة ..........
هذا النوع العقيم من البشر قابلته في حياتي وأصابني بالتحير والتشتت الذهني حين كنت ال أتصور أن هنالك من الناس من
يكون هذا تصرفهم ،والذي يزيد المشكلة أنه يقابلك بابتسامة عريضة ووجه مليح وترحاب غامر فيخدعك بشكله ومظهره وتظن
أنه يصلح للصداقه فيتابعك بالصدمة تلو الصدمة حتى تذهل وتتشتت ثم تيأس من وداده في النهاية بعد أن صرت أحد
لست أولهم وال آخرهم فتعلم أخي ار أنك غير مرغوب فيك فتنصرف وتختفي في واد سحيق !
المكلومين من مكلوميه الكثر الذين َ
كانت هذه بعض صور مريضة للعالقات بين الناس ،وال أدعي أني ذكرتها كلها ،فهنالك الكثير والكثير فكما قالوا :الجنون
فنون ! ولكني فقط فصلت في بعض هذه الصداقات التي احتككت بها عن قرب ورأيتها بعيني وأصابني العجب واالندهاش في
137
كل مرة أقترب فيها من نوع من هذه األنواع الفاسدة ولكني في النهاية اكتشفت أنه ال عجب من شيء في هذه الحياة فقد جمعت
األشكال واألضداد ،المستقيم والمعوج ،الطيب والخبيث ،الصحيح والعليل ،ولحكمة يعلمها هللا انتشر الخبيث وصار غالبا –
بصوره المتنوعة – والعاقل من يتعامل مع كل هذا بحكمة ويعالج األمور بهدوء وسكينة نفس ويعلم أن كل شيء في الدنيا كان
قد ار مقدو ار بأقالم رفعت وصحف جفت ،هذه هي الدنيا النقص من خصائصها التي ال تنفك عنها ما دامت الحياة !
موانع الصداقة
هل للصداقة أسباب مانعة تحول دون الجمع بين صديقين ؟وهل هناك قوة تمنع ترابط قلبين وقرب حبيبين ؟
اإلجابة نعم ! هناك أشياء ليست بيد البشر تمنع الصداقة ،ومن سوء الحظ أنها ليست بيدنا ،وكأنها حواجز طبيعية كسالسل
الجبال الشاهقة تحول دون عبور الناس ،ومن أراد أن يتحدى الطبيعة فعليه أن يدفع ثمنا باهظا ليس في قدرة البشر تحمله ؟،
فتعالوا معا نستعرض تلك الحواجز ونستقرئها بحيادية تامة !
-1حاجز العمر
سنه ،فترى ّ
الشبان يجتمع بعضهم ببعض ويألف من طبيعة اإلنسان التي خلقه هللا عليها أنه دائما يميل لمن هو في نفس ّ
بعضهم بعضا يتشاركون الدراسة و الفسحة والمتعة ،والطفل مهما تعلق بأبويه فإنها حين يجد طفال مثله سرعان ما يقفز إليه
و سرعان ما يتآلف معه بسهولة وحين ينتهي وقت اللقاء تجد الطفلين متشبثين ببعضهما وال يريدان االفتراق وربما يستغرقان في
البكاء وينتظر كل واحد منهما موعد لقاء آخر للهو واللعب !
أما عن الشيوخ فال شك في تآلفهم واجتماعهم ونفرة من هم دونهم في السن من صحبتهم و فترة التقاعد لكبار السن تغرقهم في
فراغ طويل ليس له مالئ سوى صحبة متقاعد آخر ،وجلسة مع هؤالء ال تناسب شابا يافعا فالطيور على أشكالها تقع !
ابتداء هذه الميول العمرية أسبابها االجتماعية واضحة ،فالمجتمع يصنف الناس على حسب أعمارهم ،فاألطفال من سن
ً
الروضة إلى أن يشبوا ويصلوا للجامعة جميعا مصنفون على حسب أعمارهم فكل األطفال في صف معين من عمر معين
مجتمعون في فصل واحد ويدرس لهم نفس المدرسين يتشاركون نفس المواد ويعانون من نفس االمتحانات ،تجدهم بحكم
دراستهم المفروضة يتشاركون أوقات السراء والضراء مما يخلق حالة من االئتالف والتحاب في أحوال كثيرة تنقل كثي ار من
األطراف من حالة الزمالة إلى الصحبة ثم الصداقة ! وهنا ينبغي التفريق ،فال يحسبن أحد أني بكالمي هذا أعلي من قيمة
138
الزمالة على حساب الصداقة ،هذا ال ينبغي أبدا وإنما أنا هنا أشير ألهمية الزمالة في التمهيد لعالقة أسمى وأقوى منها ربما
تكون الصحبة وقد تصير صداقة خالصة غضة !
قس على ذلك الشبان الذين يميلون ألقرانهم من أيام الدراسة إلى فترات التجنيد اإلجباري إلى ما بعدها من العمل والكفاح ،في
كل هذه المراحل فرض المجتمع على األعمار أن تتشاكل فصادق المجتمع الفطرة التي تقتضي ميل المتقاربين عم ار ! ومع
اجتماع األقران ينشأ التواد ومنه تنشأ أسمى عالقة بين طرفين عالقة الصداقة !
وفي مرحلة التقاعد بعد عمر طويل من الكفاح والشقاء لن يجد المتقاعد أحدا خالي البال له وال فارغ الوقت وال تارك عمل سوى
متقاعد مثله في نفس عمره يشاركه نفس المرحلة بنفس آالمها النفسية و الصحية ،من معاناة الفراغ وهجر الناس و التحسر
على ما فات من عمر ثم األمراض النفسية والعصبية المصاحبة لهذا السن ثم التدهور الصحي الذي يالزم ذلك العمر ال محالة
،عند كل هذا لن يميل الم أر إال لمن هو في نفس تلك الظروف فتنشأ الصداقات في هذا الجو سهلة يسيرة !
إن الواقع يشهد بقوة أن أغلب الصداقات أو جميعها كانت بين طرفين أعمارهما متقاربة أو متساوية ومن ينكر ذلك إنما ينكر
حقيقة ماثلة بارزة ال يمكن إخفاءها ومن يتحداها إنما يتحدى شيئا أقوى منه و ينحت في الصخر بيديه عاريتين ويزعم أنه
يستطيع أن يغير في موازين الحياة وليس بقادر وإنما يتتبع السراب واألوهام !
139
هذا يسمى الحب يا إخواني ،وفرق كبير بين الصداقة والحب ،فكل صداقة تحتوي الحب بل ال صداقة بال حب حقيقي متبادل
،ولكن ليس كل حب يحتوي على صداقة فهنالك الحب بين االبن وأمه وبين األخ وأخيه وبين األب وأبنائه وبين الزوجة وزوجها
وكل ذلك ليس صداقة ! وكذلك هناك حب بين المعلم وتلميذه فهل يصح أن نقفز بذلك الحب إلى مرتبة الصداقة ؟! كال
.........
وهنا قد يحدث االلتباس و يتوهم أحد الطرفين أن الصداقة جائزة فمن جانب التلميذ الذي يتودد ألستاذه ويتقرب إليه بشتى الطرق
يظن بعد طول وقت من قربه منه أن الحواجز قد زالت وأن الصداقة تحققت وأن له من الحقوق مثل حقوق الصديق فيبدأ يعامل
أستاذه معاملة ٍند ٍ
لند ،فها أنا قد اتصلت بك مرة فماذا لم تتصل بي بعدها ؟! لماذا ال تحكي لي أسرارك كما أحكي لك أسراري
؟ لماذا لم تعد تدعوني لبيتك كما كنت من قبل ؟ وربما يتخطى ذلك بأن ينادي أستاذه باسمه بال ألقاب وربما يمّلحه ! يقول
ذلك ويزعم أن له حقا مثل حق الصديق ،ويفجأ في النهاية أنه واهم حين يجد رد أستاذه إما تهربي وإما استنكاري ،والتهرب
يأتي حين ال يصارح األستاذ تلميذه بسوء فهمه ليصححه له إشفاقا عليه ويأتي االستنكار حين يضيق األستاذ ذرعا به فيصدمه
ليصحح له مفهومه ولئال يتعدى حدوده مرة أخرى !
و ّأنى ألستاذ مهما بلغت العالقة من قربى مع طالبه أن يتنازل عن أس ارره له وأن يبوح له بعيوبه ومسالبه فيحدث االنتقاص من
جانب الطالب الذي كان يوما ما ينظر له كأنه إنسان كامل مثالي فينهل من علمه وأدبه ويزداد له إكبا ار و إجالال ،ال شك أن
هذا سيؤثر سلبيا على العلم والتعلم ،ولعل هذا ما دفع أحد السلف أن يقول :اللهم أخف عيوب شيخي عني وال تذهب بركة
علمه مني !
المهم أن تلك الحالة من طلب الصداقة الخاطئة ستؤدي إلى الصدام الحتمي بين الطرفين ....................
وفي النهاية ما النتيجة ؟ النتيجة هي النهاية المؤلمة لهذه العالقة الجميلة التي كان يحفها الحب والود واالحترام ،وخسارة كبيرة
فحل الكدر
ّ خسرها التلميذ قبل أستاذه ولم يكن ذلك إال حين تُخطيت الحدود و انقلبت الموازين ووضع الشيء في غير موضعه
محل الصفاء !
والحالة المعاكسة لتلك التي ذكرناها حين يبتغي األستاذ أن ينزل لمستوى تلميذه ،حين يظن نفسه متواضعا منفتحا فيصيبه سهم
الحب من تلميذه ،وخصوصا أن تلميذه يبادله البسمات والضحكات الدالة على الحب واإلعجاب ،فيتودد له ويدنيه منه ويدعوه
لبيته يوما بعد يوم ،ثم ينزلق بقدمه في الهاوية حين يدعو تلميذه ألن يزيل التكلف بينهما فيدعوه باسمه و يمزح معه مزاحه مع
أصحابه ثم تتوطد الصلة بالحب من جانب األستاذ واإلعجاب من التلميذ – وهو الشعور المساء فهمه من جانب األستاذ -ثم
يتطور األمر فيظن أنه قد امتلكه لنفسه وأن ال حق ألحد أن يشاركه فيه ! فيغار عليه من أصدقائه التالميذ ويعاتبه على
المكوث مع فالن أكثر من مكثه معه ! وربما يسيء فهم ضحكاته و بسماته مع بقية الناس من دونه ! وهنا يكون األمر قد
وصل لمرحلة الخطر التي ال بد أن يعقبها صدمة موجعة من جانب ذلك التلميذ الذي في النهاية يضيق ذرعا بهذا األستاذ
المتصابي الذي يريد أن يشتريه لنفسه ويريد أن يفرق بينه وبين أصدقائه من أجله ! وهنا تأتي النهاية الحزينة بفرار ذلك التلميذ
140
من هذا األستاذ المتهور الذي وضع األمور في غير مواضعها ودفعه الحب إلقامة عالقة في نصاب خاطئ وال عزاء للمغفلين
التائهين !!
إنني أعرف شخصا ممن أرادوا تحدي الطبيعة و تخطي حواجز الفطرة فأراد أن يصادق من هم أدنى منه عم ار ،بل إنه ال
يتعلق قلبه إال بهذه الفئة من الناس ! ،فوجدته ليس إال مترنحا بين صدمة تلو صدمة ،ال يكاد يفيق من أثر واحدة حتى
يذهب بقدميه إلى ما يجلب له صدمة أخرى ،قضى سنوات طواال في هذا الصراع بينه وبين من ال يناسبه وال يليق به ،فألفيته
مشتتا مبعث ار ،يهيم على وجهه بين شعاب الحياة ،ال يتعلم الدرس و ال يستفيد من التجارب السابقة ُ ،يلقي اللوم دائما على من
خانوه وغدروا به ،يظن أن كل أصحاب تجاربه جفاة غالظ ال يعرفون معنى الحب والوفاء ،يتهم الحياة بالقسوة والعنف مع من
يحبون الحياة بحب وإخالص ،لم يتهم نفسه مرة واحدة أنه في كل مرة يسيء االختيار و يسير معصوب العينين أمام قلبه
فيتأبى عليه الطرف اآلخر بحكم فطرته وسجيته ،ولو كان
المحب الذي يتعلق بصغار السن ويترجم هذا الحب إلى صداقة ّ
ٍ
وتساو بين أطراف لم يخلقها حكيما متزنا لوضع الحب في موضعه الوقور ،حب أخوي بين أخ أكبر وأخ أصغر ال حب تناظر
هللا متساوية !! ولن تتساوى أبدا مهما امتد بها العمر !!
◄ إن قضية تنافر المختلفين عم ار تتجلى و تبزغ بال خفاء عند المتأخرين دراسيا حين يلتحقون بالمدرسة أو الجامعة ،والتأخر
عن الدراسة له أسبابه القاهرة التي تمنع إنسانا من اللحاق بركب بني عمره من الفتيان في سنة دراسية معينة فمنهم من داسهم
الفقر بقدمه القاسية ومنهم من تشتتت أسرته فتشتت أمره بينها وضاعت قضية تعليمه وسط الزحام ومنهم من التحق بكلية
وأنهاها ولكنه أراد مزيدا من الترقي والشهادات فالتحق بكلية أخرى بعد كبر سنه لينهل من العلم و يحسن مستواه االجتماعي ،
أيا كانت األسباب كل هؤالء حين يعودون للتعليم بعد زوال الموانع وتحسن األحوال يجابهون ّ
سدا منيعا في العالقة بينهم وبين
زمالئهم الجدد في الدراسة ،فهؤالء الزمالء ينظرون نظرات التعجب لهذا الشخص الذي يكبرهم و يحسون نحوه بنفور داخلي
غير إرادي يمنعهم من إدماجه وسطهم ،وربما يتندرون عليه و يصير حديث مجالسهم متسائلين عن سر تأخره الدراسي الذي
ربما ال يبوح به خوفا من اإلحراج وربما يفصح عنه ولكنه ال يجد عقوال مصدقة أو يصادف أناسا مستهتَرين ال يبالون بشأنه وال
يهمهم حاله ،فيندمجون معا ويتركونه وحده فريسة لإلهمال والوحدة ،ومن هذا حاله في ابتداء أمره يحاول االندماج وتكوين
عالقات وتنحية شأن السن جانبا ولكنه ال يظفر غالبا سوى بزمالء محدودين من ذوي العالقات السطحية التي ال تسمن وال
تشفي ،فيعيش في دوامة من العزلة النفسية فرضتها عليه الظروف و ساعدها في اإلجهاز عليه فتيان ال يأبهون سوى بأنفسهم
و مستقبلهم ،وهو إما أنه يرضى بالوضع القائم ويحاول التكيف معه مع م اررة وغصة في حلقه يحاول التغاضي عنها وإما أنه
يستسلم لشجونه ووحدته فينهار وينسحب ويراجع ق ارره في التعلم و يترك تعليمه ويبحث عن مخرج آخر ،وهذا النوع من النفوس
الطرية الحساسة التي تبحث عن العالقات السامية و تريد مأل فراغها العاطفي ال ذنب لها في قلبها الطيب وال في حسها
المرهف وال في الظروف الحديدية التي تحيطه كالقفص المنيع وإنما هي ضحية أحوال اضط اررية فرضها القدر عليها دون أن
يسألها عن رأيها فيها .................
141
-2حاجز الدين
إن الدارس لألديان بعمق يعلم جيدا أن إحدى الخصائص العامة لألديان أنها استثنائية ،بمعنى أنها تستثني أتباعها من
العذاب والهالك المحقق ،ومن ليس من أتباعها فمصيره الجحيم السرمدي الذي ال رحمة فيه وينعتون حينئذ بلفظ الكفار وفي
القرآن إشارة واضحة إلى ذلك األمر ( إال من تولى و كفر فيعذبه هللا العذاب األكبر ) ( ويتجنبها األشقى الذي يصلى النار
الكبرى ثم ال يموت فيها وال يحيى ) ثم يستكمل القرآن الصورة الجحيمية ألهل الكفر بتوعدهم بعذاب دائم ال موت وال نهاية له (
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) إن هذا المصير البائس ليس لمن ال
يؤمنون باهلل فحسب وإنما لمن آمن ببعض أنبيائه وكتبه ولم يؤمن بالنبي الخاتم محمد عليه الصالة والسالم ( والذي نفسي بيده
ال يسمع بي أحد من هذه األمة يهودي وال نصراني ثم ال يؤمن بي إال كان من أصحاب النار )
وإذا نظرنا للمسيحية التي أبهم فيها اإلنجيل قضية الحياة األخروية نجد في يوحنا مثال ( الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله
حياة أبدية)
وفي موضع آخر يقول (الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كالمي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة ابدية وال يأتي الى دينونة بل
قد انتقل من الموت الى الحياة ) ويقول المسيح في موضع آخر :اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا باإلنجيل للخليقة كلها من آمن
واعتمد خلص ومن ال يؤمن يدن )
فإجماال و فهما من ه ذه النصوص من ال يؤمن بالمسيح فلن يحيا تلك الحياة األبدية الموعودة وستناله تلك الدينونة التي هي
شر مؤكد ....
ثم نجد المسيح يقولها صريحة في النهاية في لوقا :أتظنون أني جئت ألعطي سالما على االرض كال أقول لكم بل
انقساما............
أما اليهودية التي قد ال تجد فيها ذك ار لآلخرة وال حساب وال عذاب نجد في تلمودها عبارات الكراهية الصريحة لغير اليهود (
يجب على اليهود أال يتركوا بهيمة في بيوت الجوييم ( غير اليهود ) ألنه ......................وال تنفرد مع الجوييم امرأة ألنه
.........................وال ينفرد رجل معهم ألنه يشك في سفكهم للدماء وال يجوز أن ّتولد اإلسرائيلية األجنبية ألنها ستولد
ابنا لألوثان ولكن األجنبية يجوز أن تولد اإلسرائيلية ) وفي موضع آخر يقول ( إذا نطح ثور اإلسرائيلي ثور الغريب فإنه يعفى
من التعويض أما إذا نطح ثور الغريب ثور اإلسرائيلي فإن الغريب يدفع تعويضا كامال لإلسرائيلي )
لذا في النهاية عبر القرآن عن هذه العداوات الدفينة ( ولن ترضى عنك اليهود وال النصارى حتى تتبع ملتهم ) وقد ترجمت هذه
العداوات جلية صارخة من جانب النصرانية الغربية في الحروب الصليبية الوحشية البربرية التي أبادت األخضر واليابس أمامها
ولم ترع إنسانية وال حقوقا وإنما القتل والسلب والتدمير ثم أظهرت العداوة بشاعتها في محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا التي
أعملت أبشع صور السادية من ذبح وتعذيب بطيء وطرد وتهجير فعلوا ذلك مع المسلمين واليهود والمسيحيين كذلك من
المذاهب األخرى !
142
بل حين نتكلم عن أديان النصرانية ومذاهبها نذكر مآسي االضطهاد التي تعرض لها البروتستانت على أيدي الكاثوليك في
أوروبا و طوفان الهجرة والهروب البروتستانتي من العنت الكاثوليكي ثم حرب الثالثين عاما بين البروتستانت والكاثوليك ،وفي
ذلك السياق نذكر االضطهاد األوروبي المسيحي التاريخي لليهود سواء في بريطانيا أو فرنسا أو روسيا والذي تبلور في شكله
النهائي الفريد في أوروبا الهتلرية التي أدرجت اليهود في قوائم معسكرات اإلبادة في صورة لم تتكرر في التاريخ من قبل وال من
بعد ،ثم تكتمل صورة العداوة الدينية بعد قيام الدولة الصهيونية حين مارسوا أبشع صور الظلم واالضطهاد تجاه المسلمين
المشتتين المهجرين الذين سلبت أرضهم وأموالهم بال ذنب وال حق – والعرب المسيحيون نالهم ذلك كالمسلمين ، -حتى
الديانات الشرقية التي تزعم التسامح مع ذوي األديان األخرى أرينا منها انعدام التسامح كالهندوس الذي اختلفوا مع المسلمين في
الهند فنشأ صراع وثأر وانقسمت الهند لثالث دول أو كالبوذيين الذي أقاموا المذابح البشعة للمسلمين في بورما ،ويأتي التساؤل
أين التسامح و الرقة ونبذ التعصب ؟!! ال وجود لها هنا إطالقا ..........................
يتساءل متسائل :لماذا تلك المقدمة التاريخية للصراعات الدينية وما عالقتها بموضوعنا اآلن ؟
العالقة واضحة وال تقبل الجدل ،الصداقة ممتنعة بين صاحبي دينين مختلفين ! ،كيف إلنسان يرى شخصا من أهل الجحيم و
الهالك أن يتخذه خدينا ،وكيف يقبل ذلك ولو قبله فكيف لآلخر الذي يرى نفس المذهب في صاحبه أن يقبل و يعطي أس ارره
مرد له ومن يزعم
و مكامن نفسه لمن يعرف أن دينه حثه على عدم قبوله ؟ إن انتفاء األلفة بين متضادين متنافرين واقع ال ّ
خالفه إنما هو إما يحاول التهرب من الواقع وإما ال يفهم دينه جيدا ! وأي غض للطرف عن هذه الحقائق سرعان ما يمثل
يفور الدماء في العروق ويذكر العقول الثاملة بماض ال يمكن التغافل عنه !
أمامه الواقع التاريخي الثأري بين الديانات الذي ّ
التسامح موجود والدين الحق يحث عليه والعدل من المسّلمات التي ال جدال بشأنها ،ولكن يظل مبدأ ( لكم دينكم ولي دين )
جدا ار عازال عن تطور العالقة بين أصحاب دينين مختلفين لما هو فوق ّ
البر والتسامح ،فكما ذكرنا من أركان الصداقة الشامخة
تقارب الفكر ،وأي تقارب ينشأ بين اثنين يكّفر كل منهما اآلخر ويطرده من دائرة الرحمة ؟!
ال داعي لألوهام البعيدة والدعوات المغرقة في اليوتوبيا البعيدة عن التصور ،الصداقة عالقة تحتاج لملسائية و تدفق سهل
فياض معطاء خال من الحساسيات والثأريات ،لسنا دعاة للكراهية ولكن دعاة للتعقل والتفهم ،دعونا نتحدث ونتحاور ونتجادل
بالحكمة والموعظة الحسنة ولتكن زمالة يفصلها مسافة من العقيدة بهذا تستمر الحياة ببساطة بدون إفراط وال تفريط !
وأخي ار أقول :الخالفات الدينية ليست بالخالفات السهلة التي يمكن التجاوز عنها والقفز فوقها إلى عالقة وطيدة تسمى الصداقة
،الخالفات المذهبية بين أصحاب دين واحد كافية للحساسيات و صعوبة نشوء صداقة صافية فما بالك بمن اختلفا وجهة و
عقال و مصي ار !
-3حاجز الجنس
143
العالقة بين الرجل والمرأة عالقة ال بد أن تكتنفها ضوابط صارمة قيدها الدين قبل كل شيء وأيدتها الفطرة السليمة و تقبلتها
األعراف السوية ولعل أبلغ تعبير عبر عنه القرآن في وصف العالقة القويمة بين الرجل والمرأة الغريبة عنه ( وإذا سألتموهن متعا
فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن ) فاهلل تعالى أقام حجابا مانعا بين الرجل والمرأة ال يجوز تخطيه ،وهذا
الحجاب قبل أن يكون ماديا يجب أن يكون معنويا كذلك فما يجوز في العالقة من انبساط و تداخل بين رجلين أو امرأتين ال
يصح وال يمضي سهال في عالقة رجل بامرأة ،والستار المعنوي في عالقة الجنسين ال شك يقف حائال دون توطد العالقة بينها
إلى منزلة الصداقة التي من مقتضياتها العمق والتداخل المادي والمعنوي الذي ال يليق كثي ار بين رجل وامرأة أجنبيين
.............
فليت شعري أليس االنف ارد بين الصديقين سمة مميزة لتلك العالقة الوثيقة الذي حينها يدلي كل صديق بدلوه و يبوح بسره و يسرد
همومه وآهاته ؟! كيف يحدث ذلك االنفراد بين رجل وامرأة و ما خال رجل بامرأة إال كان الشيطان ثالثهما ؟!..................
إن كل انفراد بين فتى وفتاة يؤدي غالبا إلى تفكير غريزي أملته علينا فطرتنا و أبداننا ،ومهما حاولنا إنكار ذلك بدعوى التمدن
واالنفتاح والتخلص من العقد النفسية فإننا نضحك على أنفسنا و نهرب من الحقيقة ،وال ينبئك مثل خبير ! وأنا هنا ال أنكر أن
هناك حبا عذريا طاه ار قد ينشأ بين فتى وفتاة فهذا موجود ال شك ،ولكن من مقتضيات ذلك الحب أن يصون الفتى فتاته وأن
تصون هي فتاها عن موارد الهالك ،وكما في الحديث ليس للمتحابين مثل الزواج ! وهنا تنشأ عالقة أخرى مختلفة تسمى
الزواج ال يجوز خلطها بالصداقة فالصداقة شيء والزواج شيء آخر ،كالهما ضروري من ضرورات الحياة و ال يغني أحدهما
عن اآلخر حتما ،و أنا هنا ال أفاضل بين الزوج و الصديقة أو الزوجة والصديق ،فالموازنة تتعذر بينهما لنقول أيهما أقرب
و أشد في العالقة ،فالموازنة بينهما موازنة بين شيئين ال تصح الموازنة بينهما كمن يقارن بين الملح والسكر ويقول أيهما أفضل
وأحب للمتذوقين ،فهذا له موضعه وهذا له موضعه ال ينبغي الخلط بينهما وال المفاضلة كذلك .............
إن االختالف العقلي والنفسي بين الرجل وامرأة شاسع بحيث يجعل قضية الفهم المتبادل ليست مسألة سهلة ،فالرجل ال يفهمه
أحد كما يفهمه الرجل ،والمرأة ال يفهمها أحد كما تفهمها امرأة مثلها ،و لعل هذا االختالف العقلي والوجداني كثي ار ما يسبب
المشكالت بين الزوجين لعدم تقدير كل طرف للطبيعة المختلفة للطرف اآلخر حتى لخص جون جراي هذا االختالف العميق
بعنوان كتابه ( الرجال من المريخ والنساء من الزهرة ) وكأنهما من عالمين مختلفين لذا كان هنالك علم كامل يدرس الفروق
النفسية بينهما لتخطي المشكالت و فهم ما يستعصي فهمه ،لذلك كله كانت الصداقة أنسب و أعقل حين كانت بين رجل ورجل
و بين فتاة وفتاة ،هو من يستطيع فهمه و اإلحساس به وبشعوره وبمشكالته ،وهي من تقدرها جيدا وتسبر أغوارها وتعلم ما
يناسبها ،هذه هي الطبيعة التي خلقها هللا نوعين مختلفين كان وجودهما سببا في التكامل من ناحية ،ووجود األقران من الجنس
الواحد سببا في االلتقاء والتصادق من ناحية أخرى !!
144
بعد أن استعرضنا الحواجز الطبيعية التي كانت قد ار مقدو ار كان ال بد من أن نعرج على أسباب وهمية ال أساس لها اصطنعها
بعض الناس لمنع الصداقة ،هي أسباب في جملتها مادية اختلقها الناس لتبرير الهجر والجفاء ،أسباب متى حرم منها بعض
وحل عرى الصداقة ظنا منه أنهما لم يعودا مناسبين لبعضهما بعضالتائهين ظن نفسه عبأ على صديقه فقطعه وانطوى بعيدا ّ
أن أذرى به الدهر دون صاحبه فقل مقامه وارتفع مقام خدينه ،إنها الحواجز الطبقية العقيمة ،حاجز الفقر والغنى ،حاجز
الجاه والمنصب ،وأخي ار حاجز الشهادات والمؤهالت الدراسية ،وإذا تكلمنا عن الفقر والغنى وجدنا الفقير ينظر نظرات اإلكبار
ويصم أذاننا بشعارات ما أنزل بها من سلطان فيقول :العين ال تعلو على الحاجب ! فقط حينّ واإلجالل لصاحبه األغنى منه ،
يحاول صاحبه الغني أن يقترب منه ويسبر أغواره ويعمق العالقة ليس لشيء سوى حب وإعجاب وقع في قلبه والحب سلطان !
ّ
فيتراجع صاحبنا الفقير وينأى بنفسه متعلال باألعذار فهو ال يريد أن يكون ثقيال على أخيه ،ال يريدها عالقة أخذ بال عطاء ،
عزة نفسه تمنعه من أن يكون صاحب اليد السفلى ،وأخي ار ال
ال يريد أن يظهر بمظهر الحاجة الدائمة أمام صاحبه الشبعان ّ ،
يريد أن يفتتن بالدنيا الغرورة التي رفعت صاحبه وأذرت به ،ال يريد أن تمتلئ عيناه برؤية مظاهر الجاه التي قد تؤلمه و توغر
المشفق عليه من قبل
َ صدره ،ال يريد أن يراه صديقا بملبس دون ملبسه وال يأكل طعاما دون طعامه ،ال يريد أن يلعب دور
صاحبه فيمد له يد العون دائما وهو يقبلها كسي ار أسي ار الحول له وال قوة ! ،لكل هذه األسباب ينأى صاحبنا عن أهل الغنى و
يندمج مع من مثله من ذوي المستويات المتوسطة المتواضعة ،فيهم يشعر بنفسه ! ومعهم ال يشعر بدونية وال ينظر إليهم بحرج
،هم وهو في مركب واحد ،ال فضل ألحد على أحد ،ولينعم أهل النعيم بنعيمهم ،وليجتمع أهل الفقر يواسي بعضهم بعضا !!
ولهدم هذه الحواجز الوهمية ينبغي أن أبين أن أمثال هؤالء عندهم مشاكل نفسية عسيرة يجب عالجها وإال استمرت معهم طول
الحياة !!
145
فهؤالء يعانون من عقدة النقص ،وهي عقدة قديمة وعالجها ليس بالشيء الهين ،ولكن ما نؤمن به أن مثل هذه العقد ال
محب ،الذي دخل الحب شغاف قلبه ال يعرف مشاعر الحسد والحقد ،فمن تحبه مثل نفسك تتمنى له الخير تترسب في قلب ّ
لهمه ،هذه مسّلمات تحدثنا عنها من قبل ،ومن ذاق طعم الحب الذي ال يفرق بين غني وفقير وال بين هتم ّوتسعد لسعادته وت ّ
ٍ
نطوعها من أجلعال و منخفض يعلم يقينيا أن هذه الماديات الدنيوية الزائلة ال تقطع عرى اإلخاء و إنما تجعلنا نستفيد منها و ّ
خدمتنا و سعادتنا ال نجعلها سببا في شقائنا وتعاستنا ،صحيح أن الحياة أخذ وعطاء ولكن ليس العطاء واألخذ ماال فقط فهناك
عطاءات روحية وعقلية ،فالحب عطاء ،والعلم و المعرفة والثقافة كذلك عطاء ،والنصيحة السديدة والرأي الرشيد كذلك عطاء
،كلها عطاءات قد يعطيها الفقير ويقصر عنها الغني !
و الشهادات العلمية كلها سواسية فال فضل لعلم على علم فكلها علوم نافعة تخدم البشرية وبدون واحد منها تختل الحياة ،
والنظرة الطبقية للجامعات والشهادات هي نظرات من صناعة دول العالم الثالث التي كبتت شعوبها و أورثتهم العقد النفسية
الكد ،الناجح من ينجح في
بسبب هذه التقسيمات العقيمة ،والعالم المتقدم ال يعترف بمجاميع و شهادات وإنما يعترف بالعمل و ّ
عمله ويطوره وينهض ببلده في تخصصه ومجاله ،هذا هو الرقي وهذا هو التقدم لذا تجدهم متقدمين في جميع المجاالت
فكل يعمل بكل طاقته إلثبات ذاته والرقي بجتمعه ............
والتخصصات ٌ
فلماذا بعد كل ذلك نزعم أن اختالف الشهادة العلمية أو الفروق المادية الطبقية تكون سببا في منع صداقات طيبة ينبني بها
المجتمع ويلتئم شمله و تثمر تعاونا مشتركا على الخير وطاعة هللا ؟! ،ولماذا ترد يدا مدها إليك صديقك يقول بلسان الحال :
إني أنا أخوك فال تبتئس بحال الدنيا و لن تغيرنا الحياة المادية و لن يقف أي تغير اجتماعي أمام صداقتنا الصافية النقية إلى
األبد ..إلى األبد ..
البحث عن الصديق
146
إن أول خطوة في طريق الصداقة هي البحث عن الصديق ،و من هداه هللا لفكرة الصداقة فستدفعه الفكرة للبحث الدؤوب وليس
ذلك إال بعد مشاعر متدفقة تغمر الم أر وتشعره أنه ينقصه شيء مهم في حياته ،شيء لو فرغت منه الحياة ما كان لها طعم وال
لون !!
نعم إنه يشعر أنه يفتقر لشيء ،ليس هو بالمال و ليس بالطعام وال الملذات ،إنه شيء روحي يدفع إليه فراغ عاطفي ال بد أن
يسد ! لم يسده هؤالء الغثاء من الناس الذين ال يسمنون وال يغنون من جوع ! إنني أحتاج لشخص آخر يمأل علي حياتي ال أن
ّ
ّ
هباء في هباء مثل هؤالء الغثاء ! شخص يشاركني السعادة فبئست السعادة أن تسعد وحدك ! وشخص يشاركنييضيعها ً
األحزان فياله من هالك أن تفتك بك أحزانك بال شريك وال مؤنس ! إنني ينتابني نقص ال يجبره اإلخوة األشقاء وال الجيران
عم ،إنه قرين قريب من قلبي ،من سني ،أحواله مقاربة ألحوالي
اللصقاء ،ال تكفي له األم وال األب وال يغني فيه خال وال ّ
أقومه ويقومني ،نسير معا في دروب الحياة نؤنس وحشة بعض ونتشبث بحبل اإلخاء إلى أن ندرك النجاء ،أفهمه ويفهمني ّ ،
!
إن أول األمر خاطر يطرق باب القلب قبل العقل متى وجدته في خاطرك فاحمد هللا فقد حسنت فطرتك واستقامت طبيعتك عبر
عنه الشاعر الرقيق بمعان فياضة حساسة قلما نجد مثلها في هذا الزمان حتى أنشدها المنشدون وحداها واستنار بدربها
الحادون....
و أرسلت طرفي بفكر عمـيق تفكرت يوما بمعنى الصــديق
ومنذا سيغدو كظلي رفي ــقي تُرى من سيرسو عليه اختياري
فجهزت نفسي لبحث دقيـق وقالوا سيضنيك بحث دقـ ــيق
ركبت البحار وخضت الصحارى وسرت النهار وقد جف ريقي
وفي قمة قرب و ٍاد سحي ـ ــق ويممت شطر الجبال الرواســي
سواه بأن أهتدي للطـ ـ ـريق دعوت اإلله ال ـ ـ ــذي ال إله
ذلك الفكر العميق الذي يمأل الكيان ويستولي على الوجدان ينتهي بالحائر التائه إلى أن يبحث وينقب في كل مكان حتى ال
يعييه التفتيش فإرهاق الوحدة والفكر أكبر من إرهاق التنقيب والسير ! ثم ال ينسى أن يدعو ربه الذي هو مستجيب الدعوات ال
َّ
المتمن َِ ِّى العزيز !! ينسى عبده ويلبي طلبه فال مانع من إلحاح و تأوه في ظلمات الليل وفي أسحار الغفلة من أجل ذلك
ثم تشرق شمس ذات أمل و تظهر بادرة فيها رجاء فيستكمل الشاعر قائال :
بشيخ وقور حكيم رفيـ ـ ــق فإذ بي على حين يأس وصمت
محياه :وجهه وعيناه أوحت بماض عريـ ــق محياه آثار دهـ ـ ـ ــر
بدت في ّ
من بين كل األنام ص ــديقي فبادرته سائال كيـ ـ ــف أختار
لقد طال صبري وما زال بحري عميقا وهذا نداء الط ـ ـ ـ ـريق
وكَّفي طلي ـ ــق
بعيني بص ــير َ
َ أسير فهـ ــل لي
كأني لليلي ٌ
147
إنني مشتاق للصديق المخلص الحق أكثر من اشتياق الظمآن للماء و من تلهف الجائع لقليل الغذاء ،وهذا رجل كبير السن
خبر الحياة عن طول مراس ساعده عليه عمره الطويل وتجاربه التي ال حصر لها فلماذا ال أسأله لعله يجد لي حال ؟! فيجيبه
بكلمات عذبة رائعة :
حقوق التآخي كعقد وثي ـ ــق فقال استمـ ــع إنه من ي ـؤدي
وغم وح ـزن وكرب وضـ ـ ـيق ومن حين تفضي إليه به ـ ـ ـ ٍم
ورأي رشيد ونص ـح رقي ـ ـ ـق تجد منه جودا بصدر رحيـ ـ ـب
فهل نال إال ارتشـاف الرحي ـق وما النحل إال صدي ـق الل ـقاح
كما الليل إذ صاحب النجم ده ار فهل كان يحلو بغ ـير ال ـ ـبريق
فصاحبه للخير والعقل والصدق والنصح تل ـق الصديق الحقيقي
لخص ذلك الحكيم القديم سنه العتيق علمه معنى الصداقة في ركن من أركانها هو المشاركة في الحزن والهم بال ضجر وال
تأفف ولم ينس أن يذكر بالصديق الصالح وأثره العميق في صديقه الذي البد أن يصير صالحا مثله كحامل المسك والمنتفعين
فيقوم
برائحته الزكية الطاهرة ثم ذكر التعقل والحكمة وصدق الحديث والقيام بدور المرآة التي تعكس لصاحبها عيوبه ومسالبه ّ
نفسه ويصلحها ................
وإذا كانت الفكرة أولى خطوات الطريق الصحيح للصداقة و البحث هو ثاني خطوة سليمة على ذلك الطريق فال بد من ومضات
يستضيء بها الباحث في طريقه الشاق وهذا حديثنا اآلن.
إن حياة اإلنسان ما هي إال مراحل ما أشبهها بمحطات القطار ،فأول انطالق القطار يشبه اللحظات األولى من حياة اإلنسان
حينها تكون لحظات االبتداء بسرعة بطيئة ال تلبث أن تتزايد تشبه رغبات الطفل الرضيع القليلة التي تتزايد مع تقدم عمره ،ثم
تنتظم السرعة في منتصف المسافة بين محطة ومحطة لتشبه انخراط اإلنسان في الحياة ومعاناته لمتطلباتها و انطحانه بين
رغباته و ملذاته ،ثم يقف القطار في محطة جديدة فيرى الراكبون وجوها لم يألفوها و معالم لم يروها قبل ذلك وكذلك اإلنسان
في حياته له محطات هي محاور في طريق حياته تتغير فيها معالمها تغي ار جذريا يحاول التكيف معها مثل القطار الذي يعود
لينطلق بسرعة بطيئة متزايدة حتى ينتظم فيعني ذلك انخراطا جديدا لإلنسان يعيش في دوامة ال يعرف أولها من آخرها إلى أن
تأتي محطة النهاية فيسكن القطار وتتوقف محركاته و يخبو دخانه تماما كما تخبو حركات اإلنسان و تزهق روحه ويدخل مرحلة
طويلة من الجمود هي مرحلة الموت .................
148
وللصداقة مع هذه المحطات أشكال وتنوعات تتغير بتغير مرحلة العمر بين فترة يتزايد فيها حاجة اإلنسان للصديق وفترات تخبو
تلك الروح في نفسه فال يعود قاد ار على اكتساب مزيد من األصدقاء ،ونحن في عرضنا لهذه التقلبات و النزعات المختلفة ال
نتحدث عن مثالية نصفها وندعو للتخلق بها ولكن نصف واقعا يحدث ويكرره اإلنسان تتبعه النفسيون ووصفوه ووضعوا له علما
تماما مثل علم النفس القائم على التتبع والمالحظة وسرد تلك المشاهدات و تدوينها ..
-إن أولى تلك المراحل في حياة اإلنسان هي مرحلة الطفولة ،وهي مرحلة بدائية في جميع نواحيها فكما أن األكل والشراب
وحاجات اإلنسان تكون في أبسط صورها تكون حاجاته االجتماعية بسيطة فال تجد مسألة الصداقة مطروحة في فكر الطفل
الصغير الذي ال يجد سوى أمه وأبيه فينشغل بهما ألنهما كل حياته سواء أشاء أم أبى فيتعلق بهما كثي ار فيحبهما كما يحبانه
ويلبون له رغباته ،وعند هذه المرحلة ال مانع من رؤية بعض األطفال اآلخرين الذين يجذبون الطفل نحوهم سواء أكانوا جيرانا
أم أقارب حتى اإلخوة ولكن ذلك التجاذب ليس سوى رغبة في المزيد من اللعب واالنطالق بل المشاكسة يشاركه فيها األطفال
اآلخرون ال يصل مطلقا لمرحلة الصحبة وال الصداقة ولمزيد من التدقيق نقسم الطفولة إلى فترتين :
فترة من 0إلى 4سنوات :وهي فترة ال يوجد فيها تقريبا احتكاك اجتماعي سوى األبوين و االقارب فينصب كل اهتمام الطفل
بأبويه زاهدا تماما في قضية الصحبة والصداقة .
فترة من 15 -4سنة :وهي فترة الطفولة التي تسبق فترة المراهقة ،وهي الفترة التي تبزغ فيها مقدرة الطفل على عمل عالقات
مع األطفال الغرباء المماثلين له عمريا ال تعدو تكوين جماعات للعب مع األقران وهي القدرة التي يفتقدها الطفل قبل سن الرابعة
الذي يلوذ فيه الطفل إما باالنفراد أو االندماج مع األم واألب ،وفي هذه الفترة األطول يزداد استقالل الطفل عن الراشدين مع
عودة ثقته فيهم و تظهر تلك العودة في امتثاله ألوامرهم ومحاولة إرضائهم كما تظهر نزعته للمثل األعلى الذي يكون هو األب
أو المدرس كما يختاره خيال الطفل وما يدفعه إلى ذلك كثرة تساؤالته عن الحياة و الدنيا التي يجد فيها اإلجابة عند أبيه وأمه
ومدرسه فهم األعلم منه في كل شيء فيتخذ منهم القدوة التي ينشدها ،ومن المالحظات التي توطد فكرة عدم تبلور الصداقة هنا
عدم استقرار العالقات بين األطفال فهي سريعة االنقطاع ،فحينما يبدأ فصل دراسي جديد ويختلف األقران يبدأ الطفل ينسى
أقرانه الماضين ويندمج مع الجدد وكأن شيئا ماضيا لم يكن ،وهو األغلب في حين أن حاالت قليلة نادرة يرتبط فيها طفالن
ببعضهما وتستمر صداقتهما إلى المراهقة وما بعد المراهقة وهو ما يمكن اعتباره نوعا من النضج المبكر السابق ألوانه .
بعد مرحلة الطفولة وما قبل المراهقة تأتي المرحلة الجديدة الصعبة الفهم على اآلباء واألمهات وهي مرحلة المراهقة ما بين -16
يشب فيها الطفل عن الطوق ،ويعتبر نفسه أنه صار رجال أو امرأة ،وهو ما ال يفهمه اآلباء الذين
20سنة وهي المرحلة التي ّ
ال يزالون يعاملون أبناءهم على أنهم أطفال وهو ما ينفر منه االبن فيعلن العصيان والتمرد بدعوى أنه صار كبي ار ،وهنا لم يعد
يثق المراهق في الكبار وخصوصا اآلباء واألمهات ليكونوا أصحابه بينما يجد ذلك في أبناء سنه فتتبلور عنده فكرة الصداقة ،
ويبدأ رحلة البحث عن الصديق ربما في عقله الباطن و أحيانا في عقله الواعي وهو الشيء األكثر نضجا في وجهة نظري وهو
الفطرة عينها ،وهنا تحدث عدة أشياء دقيقة:
-1لم يعد االبن يحكي ألمه كل شيء في حياته اليومية كما كان يفعل من قبل ،فهو قد بدأ يستبدل األصدقاء باآلباء في
القيام بهذه المهمة ،حيث بدأ يشعر بفارق السن الذي يعتبره حاج از دون البوح بكل شيء لألبوين مضافا إليه استمرار نزعة
اآلباء إلى االستعالء على أبنائهم باعتبارهم ناقصي الخبرة في الحياة وهو ما لم يعد مقبوال عند معظم المراهقين – ومنهم من
149
يقبل هذا األمر لفترة أطول في تلك المرحلة لزيادة تعلقه بأمه وهو قليل ، -وهنا يلحظ اآلباء هذا التغير ويعتبره كثير منهم
نوعا من العصيان وقلة الحب بل الجحود والجفاء ،ومنهم من يظن أن ابنه قد ضاع منه وفقد السيطرة عليه ،وهؤالء ينبغي أن
يدركوا طبيعة هذه المرحلة العمرية ويتعاملوا معها بحكمة وتعقل خصوصا أنهم حين يواجهون أبناءهم بهذه المشاعر لن يجدوا
ردودا مرضية منهم ،وهم الذين ركنوا إلى األصدقاء الذين صاروا أكثر جاذبية و أكثر إشباعا للقلب والروح ممن سواهم .
-2تغير نوع العالقة بين المراهق و أقرانه من عالقة قائمة على اللعب و التسلية – وهو ما كان في فترة ما قبل المراهقة – إلى
سموا من الناحية االجتماعية و النفسية ،فيجد المراهق في صديقه المالذ عند الشكوى والمشاركة في العسر واليسر
عالقة أكثر ّ
ويوطد ذلك تقارب ظروف األصدقاء الذين غالبا من نفس المرحلة الدراسية فيتشاركان المعاناة ولحظات التفوق واإلخفاق وينشأ
ما يسميه النفسيون التصديق االجتماعي وهو نوع من تقارب األفكار بل تطابقها أحيانا يؤدي لعمق العالقة ،فتنشأ الصداقة
المتطورة من الصحبة والزمالة بين فردين من بين كل أفراد الفصل الدراسي .
-3مازال في هذه المرحلة تائهون عابثون لم تتبلور لديهم فكرة الصداقة الحقيقية أو ربما صداقة مشوهة يظنونها الصداقة وهي
ليست الصداقة المنشودة ،يفهمون الصداقة أنها الصحبة فمن تخرج معه وتشاركه فسحك و تمزح و تضيع وقتك معه فهو
الصديق لديهم ،وهنالك نوع تعيس آخر يبحث عن الصديق ولكنه ال يجده ربما لحظه العسر وربما ألسباب في شخصيته ،
وهذا النوع تتأجج مشاعره حين يرى صديقين خدينين يربطهما الحب المتبادل في حين أنه هو ال يجد من يبادله تلك المشاعر
فينشأ لديه مشاعر النقص والبؤس وإن لم تكن الحقد و الحسد .
إن مرحلة المراهقة بال مبالغة هي أخطر مراحل العمر الصداقية ،فمن لم يفز فيها بصديق مخلص فلن يحصل غالبا على
العدة والتزود باألصدقاء تأهبا لمراحل العمر األخرى التي يضن فيها الحظ بصديق ،فالفائز من
أصدقاء بعد ذلك ،إنها مرحلة ُ
اهتبل صديقا في مراهقته يرافقه طول عمره بعد ذلك ،والتعيس من انتهت مراهقته بال صديق ليحكم على نفسه بالوحدة بقية
عمره في رشده وشيخوخته !
-تأتي بعد مرحلة المراهقة مرحلة طويلة هي أطول مراحل العمر وهي مرحلة الرشد ،من 60-21عاما وعلماء النفس قسموها
لثالث مراحل :
-3الرشد المتأخر 60 -41 -2النضج 40-31 -1الرشد المبكر 30-21
وهذه المرحلة في بدايتها – أعني الرشد المبكر – غالبا ما تكون امتدادا لمرحلة المراهقة فهي ال تختلف كثي ار عنها نفسيا و
اجتماعيا فيمكن فيها جمع ما لم يمكن جمعه فيما مضى من األصدقاء ،والمشكلة فيما بعد ذلك من أواخر العشرينات إلى
مرحلة الشيخوخة ،حيث تقل الرغبة في اكتساب أصدقاء وذلك تابع لتغير األحداث في هذه الفترة ،وأنا أميل لتصنيف الرغبة
في الصداقة على أساس األحداث ال العمر وهي كالتالي :
مرحلة الزواج :وهي مرحلة الميل والجنوح للجنس اآلخر بالشكل الرسمي وفيها يبدأ ميل الفرد لالرتباط قلبيا بالجنس اآلخر
الخطبة انتهاء بالزواج ،وهنا يبدأ الفرد يزهد في اكتساب األصدقاء خصوصا بعد الزواج ،حينها يشعر الم أر ابتداء من مرحلة ِ
بامتالء قلبه وشغل عاطفته بفرد جديد من الجنس اآلخر مما يزهده في طلب ارتباط ببني جنسه وإن كان مازال مبقيا على
أصدقائه القدماء الذين – وهو الواجب المفترض -يواصلهم ويبقي على عهد الصداقة معهم على رغم زواجه ،وفي هذه المرحلة
150
تحدث تغيرات منها قلة معدل زيارة األصدقاء عما كان من قبل ،وهو ما قد يسيء فهمه األصدقاء ،وهنا يأتي دور التفاهم بين
الصديقين و تقدير الظروف المادية ال العاطفية والنفسية ،فانشغال المتزوج بزوجته معه انشغال بتحمل المسئولية و اإلنفاق
ابتداء فهم األمور جيدا عن طريق الإلفصاح
ً عليها وعلى البيت وهو ما قد ال يدركه صديقه األعزب ،فيجب على الصديقين
عنها بشفافية حتى تستمر عجلة الصداقة بجوار عجلة الزواج ،وهما شيئان ضروريان من ضروريات النفس والروح ال يستغنى
بأحدهما عن اآلخر ،وأنا هنا لست في مقام موازنة بين الصديق والزوجة أو الزوج والصديقة إنما أصف حاال واقعا يجب فيه
فهم االلتباس وإدراك أبعاد األمور ..........
ولعل هذه القضية – أقصد قلة اكتساب األصدقاء بعد االرتباط بالجنس اآلخر -عبر عنها عنترة قبل مئات السنين حين قال :
قليل الصديق كثير األعاديكنت لوال هواك
عبل ما ُ
أيا َ
المهم أن األمور تزداد تعقيدا ببزوغ مولود جديد في حياة الزوج ثم مولود آخر ،وحينها تقل شديدا رغبته في اكتساب مزيد من
األصدقاء وقد تصل لحد الزهد في أصدقاء جدد ،ولكن هذا ال يعني كذلك إهماله ألصدقائه وإنما الموازنة بين األمرين ،فما
يصح أن يساء فهمه من جانب الصديق هو ترك صديقه له تماما بعد الزواج واإلنجاب ،وهو ما يؤدي طبعا إلى الشقاق
والجفاء وهو ما يجب تجنبه ........
وعموما فإن ذلك الشعور السلبي على الصداقة يزداد بازدياد األعباء و المسئويات بعد الزواج إلى أن تأتي مرحلة الشيخوخة
.....
وبعد عرض أحداث فترة الرشد الجسيمة التي لها أثر سلبي على فكرة الصداقة عند الكثير ينبغي ويتأكد اقتناص الصديق قبل
هذه المرحلة المليئة باالزدحام واألعباء كما ينبغي التشبث باألصدقاء القدماء الذين فقد أحدهم يعني فقد الماضي وذكرياته و
يعني كذلك عدم عودته مرة ثانية ألن اكتساب الصديق صعب وفقدانه سهل ،فما ضاع لن يعوض ،والذكي الماهر من وازن
بين بيته وأعبائه و بين عالقاته االجتماعية التي يأتي الصديق على ذروتها ...
-ولعل من أسباب عدم إقبال الراشدين على اكتساب أصدقاء جدد – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – أنهم يكتفون بما جنوه
وحصدوه من أصدقاء الماضي حيث يعتبرونهم أكثر مودة وعمقا ممن يمكن اكتسابهم فيما بعد ....
ولعل الراشدين الذين لم يتزوجوا سواء ألسباب مادية أو نفسية نجدهم أكثر إقباال على األصدقاء حيث يحاولون جبر النقص
االجتماعي الذي وقعوا فيه كما أنهم عندهم فراغ عاطفي يحتاج للصديق أكثر لملئه ناهيك بالفراغ العملي المادي الذي يجعلهم
أقل تحمال للمسئولية وأقل انشغاال من أصدقائهم المتزوجين ،وهو ال شك عالمة إيجابية ساعدت عليها الظروف و من عندهم
استعداد نفسي لذلك سيكونون سباقين لهذا األمر ...
-أخي ار مرحلة الشيخوخة :
في هذه المرحلة الحرجة من العمر يصاب المسن بالعديد من المشاكل في حياته التي تؤثر على عالقاته االجتماعية وأهمها
تقاعده عن العمل الذي كان المضمار األكبر للتعامالت واكتساب العالقات الجديدة ،وهنا تظهر معادن األصحاب ،فمع
انتقال اإلنسان من مرحلة ألخرى يظهر الصديق الحقيقي من الصديق الزائف ،فها قد انتهى رابط العمل ويبقى رابط األخوة
فمن كان أخا بصدق يظل أخا مهما تغيرت الظروف ومن كان غير ذلك فسينسحب ليبحث عن تسلية أخرى !......
151
المهم في هذه المرحلة أن اإلنسان يحصد ما زرعه طول عمره فكلما جمع أصدقاء أوفياء في شبابه صاروا له عونا في
شيخوخته وسلوى في ضيقه الذي يتزايد بترك العمل و فقدان األقارب بالموت وتزايد األمراض بل قد تزداد الكآبة بموت الزوج أو
الزوجة وموت الصديق وهنا يجد اإلنسان نفسه وحيدا خصوصا أن الشبان ينفرون من صداقة كبار السن وأن األبناء منشغلون
عن آبائهم بمسئولياتهم ومشاكلهم فيشعر المسن أنه صار عبئا على من حوله وتتزايد حاجته لصديق من عمره يبث له شكواه
التي يشاركه فيها غالبا ،واالكتئاب متزايد حدوثه في تلك المرحلة وخير من ُيخرج اإلنسان من ذلك صديق مخلص قديم على
عهد المودة والبذل ............
يتضح اآلن أن المسن فرصته في اكتساب أصدقاء جدد قليلة فهي مهمة الماضي وليست مهمة تلك المرحلة خصوصا أن حركة
المسن تقل تدريجيا مع تقدم عمره وهو ما يقلل فرص خروجه وزياراته ...
وهناك من يتحدى تلك الظروف ويواصل انطالقه ويحاول عقد عالقات جديدة وربما تكون صداقات عن طريق النوادي والمقاهي
والمساجد ولكن تلك العالقات حتما لن تكون مثل عالقة بصديق قديم له تاريخ وذكريات ..
وقد يتخيل المرء أن عالقة المسن بأوالده وأقاربه وتبادل الزيارات قد تكون معوضا عن الصديق ،وهو الخطأ عينه ؛ فالمسن
يؤدي تلك العالقات بدافع ضرورات اجتماعية وأحيانا يصيبها الحساسيات مثل أن يظن المسن أن صار عبئا على أبنائه وأقاربه
و ربما األقارب أنفسهم يستثقلون قريبهم المسن الذي تتزايد احتياجاته النفسية والمادية ،وكل هذا ال يحدث مع األصدقاء
المقربين الذين يشاركون المسن نفس ظروفه ويتجرعون نفس الكأس ّ
فيعدهم خير أنيس و خير جليس فهم الذين يفهمونه ويفهمهم
ويخففون عنه آالمه ومحنه ..
إن الراشد العاقل ال بد أن يعمل لهذا اليوم ألنه في الواقع كثير من المسنين صاروا بائسين أشقياء و حالهم يثير الرثاء من
الحالة التي وصلوا لها بعد أن فقدوا األهل واألقارب وربما شريك الحياة كذلك فينطوون على أنفسهم بال أنيس وال ونيس وهم
الذين جنوا على أنفسهم حين ساروا مع دوامة الحياة ولم يتخذوا صديقا شريكا في الماضي والحاضر والمستقبل فيقضون ما تبقى
لهم من الحياة وحدهم ال يسمع عنهم أحد وال يراهم أحد ال مواسي ال سميع ال جليس فبئس المورد وبئس المصير !
152
مسألة الصداقة فيتمتعون بما جنوا من أصدقاء الماضي ويتزودون بالمزيد من األصحاب واألصدقاء ما استطاعوا إلى آخر
َنَفس لديهم !!
طرق الحصول على األصدقاء
أتت مرحلة الشباب و تفتحت أزهار المراهقين متلهفين لرفاق الدرب ،متشوقين لألحبة ،ولكن ما السبيل لذلك ؟! إنها في
الحقيقة سبل متعددة تأتي منها الصداقة بتلقائية وبدون تعمد اختيار ،وهذا أمر مهم ،ال تتكلف مشقة اختيار الصديق فإنه
سيأتيك حين يشاء هللا ،حين تلتقي القلوب التي ال نملكها وليس لنا سلطان على أبوابها ،تلتقي األرواح قبل األشكال بمشيئة
بارئ األرواح ،و سبل الجمع بين صديقين مستقبليين سبل معروفة وبدهية لكن تحتاج لوقفات وتأمالت لنعيها ونتدبرها
...........
-1الزمالء :
وقد تقدم التعريف عنهم ،وهم أشخاص لقاؤهم جبري ،جمعتنا بهم ظروف ضرورية ،كضرورة الدراسة وهي أول ملتقى الزمالء
وكضرورة العمل وهي منتهى لقاء الزمالء ،الذكي من فاز بصديق من بين هؤالء الزمالء الكثر والغبي الشقي من ربط بين
الزمالء والمصلحة ربطا تاما بال تقدم في العالقة وبال استثمار لهذه الزماالت في زراعة صداقات ستمتد طول الحياة ال ترتبط
بدراسة وال عمل!
وعند نهاية الزمالة – بنهاية مرحلة دراسية أو نهاية العمل أو االنتقال إلى محل عمل آخر – يستيقظ اإلنسان على حقيقة
تعامالته فتتكشف له وجوه الناس و تتكشف له حقيقة نفسه ،فالصديق الحق حبل وده متصل وإن انقطع العمل أو الدراسة
والزميل المحض ينتهي و يمحى أثره بانتهاء رابطة المصلحة ،فيا من التبس عليك األصدقاء جاءت اللحظة الفارقة التي
ستعرف فيها الغث من السمين ،ويا من ال تعرف الصداقة وال تدرك حقيقتها جاءت اللحظة القارعة التي تفيقك من غفلتك
لتعرف أنك بال أصدقاء وأنك غرقت في دوامة العمل والمصلحة وحياة البدن ولم تعمل لحياة الروح والنفس التي ال تنقطع مع
استمرار األنفاس والدقات !
إنها لحظة صادمة تترقبها األنفس الطيبة الودودة المرهفة بخوف و وجل فهي لحظة مفترق طرق إما معك وإما في طريق آخر ،
هنا تتمزق القلوب الرقيقة بصدمتها في أناس ضيعوا أوقاتهم من أجلهم وهم ال يستحقون ،و تتشتت النفوس الوديعة بمفاجئتها
بأناس تعلقوا بهم وظنوهم أهل حب و وصال وهم أهل قطع وجفاء ،وهي محنة بين صفحاتها منحة ليكون الفتى على بينة من
الناس ( ال تحسبوه ش ار لكم بل هو خير لكم ) فال معنى للتلذذ بوصل أناس يخدعوننا بتملقهم سوى الحماقة و ُ
السكر
..................
153
العقلي والقلبي في هذه المرحلة كما ذكرنا من قبل ،وهو ما يختلف اختالفا تاما عن المراحل المتزامنة مع فترة الم ارهقة ،
والمرحلة الثانوية مثال ينتج منها أفضل صداقات العمر التي تستمر باستمرار الحياة ،وهو أمر مشاهد غالب وإن كان له
استثناءات ..........
كثير من المشكالت تحدث حين يقع سوء الفهم بين طرفين يظن أحدهما اآلخر صديقا بينما األول ال تتعدى عالقته به عالقة
الزمالة والمصلحة هكذا يظن ! وهذا اإلشكال يجب تجنبه ابتداءً لئال تتطور األمور بعواقب نفسية سيئة على الراجي الصورة
األفضل للعالقة ..
المبوح بها من قبل الزمالء
ووسط الزمالء حين تزدهر فيه صداقة حلوة غضة ال يخلو من نظرات ومشاعر الغيرة المكتومة و َ
الذين لم يفوزوا بأصدقاء حقيقيين خصوصا أن الصديقين المتالزمين يوجهان األنظار إليهما بكثرة لقائهما وتقاربهما وهو ما
يتطلب الحذر والحيطة من جانب األصدقاء و كذلك تطهير النفس وإصالحها واالطالع على عيوبها من جانب الزمالء الذين لم
يجد الزمان عليهم بالصديق !
ُ
والصديق الزميل له سمات تميزه عن الصداقات األخرى بأنه تتاح له فرصة مقابلة صديقه بصورة دائمة ومنتظمة وهو شيء
طيب يبقي حبل الود موصوال ويجعل الصديقين على اطالع بأدق تفاصيل الحياة اليومية ولكنه في نفس اآلن له عيبه فصداقة
الزميلين معرضة للخطر أكثر من األصدقاء الذين يتقابلون في فترات أبعد فهما يتقابالن كثي ار فيقل وهج الشوق في قلوبهما الذي
هو المحرك والمولد للحب الصافي الدائم وهو ما قد يترك أث ار سلبيا يتمثل في بعض مشاعر الزهد من الطرف اآلخر الذي صار
سهل اللقاء والمنال كما أن كثرة المالزمة في العمل أو الدراسة يكثر معها الخالفات والشجارات مع كثرة االحتكاك وهو ما ال
يريده الصديقان طبعا ،ولكن الصداقة المتوطدة العتيقة تستطيع أن تصمد أمام تلك السلبيات بالحب والتفاهم وتنمية الجانب
اإليجابي فيها ...........
هذه هي الزمالة حين يستطيع المرء إحسان استثمارها بجلب األخالء واإلبقاء عليهم ،وجودها ضروري للحياة ولكنها ال تغني
عن الصداقة وإن كانت قد تصبح محطة سابقة للصداقة يفصل بينها وبين الصداقة محطة وسط هي الصحبة ،بيناها من قبل
ووضحنا الفرق بينها وبين الصداقة المكتملة األركان ،فمتى فقدت الصداقة ركنا من أركانها فهي الصحبة ومتى اقتصرت
العالقة على المصلحة والضرورة فهي الزمالة ........
-2الجيران
الجيرة أرض طيبة لزراعة العالقات االجتماعية ولكنها تزدهر في هذه المهمة لدى فئتين من الناس ..األطفال والنساء
......................فالطفولة لعب وانطالق ورؤية الطفل لطفل آخر في المسكن المجاور تجذبه للعب معه و مشاركته يومه
خصوصا وقت الصيف وقت اإلجازة والفراغ والمرح فيظل الطفل الذي ينشغل وقت الدراسة بزمالئه ينتظر وقت اإلجازة
الستكمال مسيرة المرتع والملعب مع أقرانه من الجيران ،ومع نمو المستوى العقلي والوجداني للطفل حتى يصير مراهقا تتوطد
154
عالقته بأحد جيرانه إلى درجة قصوى فيتحول الهزل إلى جد واللعب إلى مشاركة وجدانية و سلوى روحية – طبعا عند من لديهم
نضج صداقي ! -لكن الجيرة عند األطفال تحتاج إلى استقرار وثبات حتى تأتي مرحلة النضج لتتحول إلى صداقة ،فإذا حدث
انقطاع في عالقة األطفال عموما بنقل أهل الطفل لمسكنهم فإن عالقة الطفلين حتما ستنقطع ألن الطفل غير البالغ ال حول له
وال قوة في ق اررات األهل فال يستطيع تركهم وحده لمالقاة جاره وصاحبه القديم فهو مرتبط بأهله ال يستطيع التنقل بحرية ،
وحينها ينقطع األمل في استمرار العالقة و انقطاع األمل في بلوغها ذروة النضج بالتحول إلى إخاء حقيقي ...
أما النساء فيكثر لديهن تكون الصداقات من الجيران وذلك لطبيعة المرأة المالزمة للبيت بعد الزواج ،فبعد الزواج تكون قد
ويحكم األناء أكثر حين تقرر الفتاة الزواج والتفرغ للبيت
انتهت دراسة الفتاة و تبعا ُقفل إناء ينضح باألصدقاء وهو الجامعة ُ ،
بال عمل خارجي فال تجد المرأة سوى صديقاتها القديمات تتواصل معهن ولكن هي في حاجة لمزيد من الروابط االجتماعية
ومزيد من الصديقات المالصقات لها فتلجأ للتعرف على الجارات المتزوجات وتدريجيا تتوطد العالقة وتنشأ الصداقة التي وجدت
تسعين لملء فراغهن وتسلية وحدتهن والظروف متشابهة وليس للصديقة مثيل في
المناخ المناسب والتربة المهيئة في ربات بيوت َ
القيام بتلك المهمة .......
وهنا ينبغي لألزواج الترحيب بهذه الصداقات الخاصة بزوجاتهم ألنها تجعل الزوجة أكثر انفتاحا وتشغل وقتها وال تشعرها
بحاجتها الدائمة لزوجها في غيابه فيأتي دور الصديقة لتلطف هذه الرغبة وتجعل الزوجة كأنها في وسط ميزان كفتاه الزوج
والصديقة !!
-3المسجد
ال شك أن المسجد كان له الدور األعظم في نشأة النواة األولى للصحابة في المدينة ،فتوطدت روابطهم ،واشتدت حبائل
عالقاتهم من خير مكان و أفضل ملتقى ،ولعل ذلك كان من األسباب الرئيسية لمسارعة النبي – صلى هللا عليه وسلم – ببناء
المسجد بل جعله أول خطوة يخطوها في بناء صرح المدينة عاصمة اإلسالم حينئذ ليكون المنطلق في كل شيء ويكون مجمع
الروابط ومصنع اإلخاء و الصداقة اإليمانية كما هو مصنع الرجال الذين تظهر معادنهم عند الشدائد !
واليوم حين بدأت الصحوة اإلسالمية أعادت دور المسجد مرة أخرى ليكون ملتقى األحبة و ملجأ الصدور الظمأى و القلوب
الوالهة فكان بديال عمليا لتكوين الروابط عن المقاهي و المالهي التي يكثر فيها الفساد واإلفساد ،كما صار مكانا يتجمع فيه
األطفال والغلمان لتعلم كتاب هللا وحفظه ومنه تنشأ صحبة رائعة لم تزهر إال في طاعة هللا ،وكان التقاء األصحاب بالنسبة
للفتيان و الفتيات محف از خفيا لهؤالء األشبال للتمسك بالحضور في المسجد ،فنفوسهم اليافعة تحتاج لفسحة و بهجة فتتعلق
قلوبهم بتلك الفسحة بلقاء األصحاب فتتعلق نفوسهم بكتاب هللا وبيته وهو ما يفهمونه فيما بعد حين يكبرون فيكتشفون أنهم في
صغرهم كانوا يذهبون للمسجد لملتقى األصحاب للعب والفسحة والترويح – كذا كانت نياتهم و نفوسهم الصغيرة – أما اآلن فقد
فازوا بكتاب هللا و امتثال دينه كما فازوا بصداقات حقيقية لم يكونوا يلتفتون إليها في صغرهم ولم تكن سوى روابط مرح وفرح
ووفاء !
ً صارت اليوم بعد مرور الزمان صداقة
155
كذا للفتاة و المرأة التي يكثر مكثها في بيتها خصوصا ما بعد الزواج تحتاج من حين آلخر للذهاب لبيت هللا لحضور مجالس
العلم ولقاء الصديقات الحبيبات الالتي لن يفزن بمثلهن سوى لقائهن في المسجد فيكون المسجد سببا النفتاح المرأة وانطالقها
وخروجها عن دائرة منزلها الضيقة التي قد تصيبها بالملل و الضيق فيكون لقاء الصديقات هو المنفرج والفسحة التي ال تقتصر
على المسجد حتى تتعمق الروابط وتصير الصداقات قوية حقيقية فيبدأن يتزاورن و يحققن العمق االجتماعي المنشود !
فجل العالقات
إذن المسجد منهل للخّلة واإلخاء ولكنه تكثر فيه ظاهرة غير مرغوبة وهي ما سميته من قبل ( الصداقة الغثائية ) ّ
الكم كثي ار ما يحطم الكيف ! فتنشأ
التي تنشأ في المسجد تتسم بالجماعية ،وكما هو معلوم الجماعية تطغى على الفردية ،و ّ
هشة ال تصل إلى درجة الصداقة الحقيقية العميقة بأركانها المعروفة ،لذا على اإلنسان االنتباه
عالقات جماعية ولكنها ّ
والحرص ،وعندما نلحظ هذا األمر ينبغي البحث عن مصدر مساعد للصداقة حتى ال يستيقظ المرء على حقيقة أنه ليس لديه
أصدقاء حقيقيون وبالطبع تلك الحقيقة ال تنجلي إال في أوقات الشدائد و أوقات الظمأ العاطفي التي فيها يحتاج الم أر إلنسان
لصيق بقلبه ال فرق بينه وبينه ،وحين يحدث ذلك وال تجد األنفس الرقيقة الخليل المساند تصاب بالفراغ العاطفي الذي تنشأ عنه
الهموم والتعب ثم االكتئاب والكرب العظيم ،فعلينا الحذر!
-4الوسطاء
الوسيط طريق نادر للوصول إلى األصدقاء ولكنه حقيقي إذا ساعدت عليه الظروف وهناك صورتان لهذا الوسيط :
-1وساطة صديق :
وهي أن يتسبب صديق مقرب في نشوء عالقة بين صديقه و شخص آخر من معارفه أو صديق آخر من أصدقائه ،وهذه
الطريقة تمهد بسهولة للقبول بين الطرفين حيث يثق كل طرف في اآلخر ابتداء لثقة كل منهما في الوسيط الذي له مكانة كبيرة
في قلب كل منهما ،وهذا النوع ينشأ في ابتداء األمر من التقاء الثالثة بصورة متكررة ثم تتوطد عالقة الطرفين فيشرعان
يلتقيان في عدم وجود الطرف الوسيط ،وهذا النوع من الصداقة محفوف بالمخاطر ،فحين يكون الوسيط سببا في صداقة
صديقه بطرف آخر – على شعور أو على غير شعور منه – قد يؤدي ذلك إلى الغيرة واإلحساس بأن هذا الطرف قد نازعه في
صديقه وخطفه منه ،خصوصا حين يكثر اللقاء بين الصديقين الجديدين منفردين و يؤثر ذلك على معدل لقاء الصديقين
القديمين ،وقد تتطور النزاعات بعد الشد و الجذب إلى انتهاء العالقة بين الصديقين القديمين لتحل على أنقاضها الصداقة
الجديدة ،وهي صورة يكون فيها الوسيط أشبه بمن نال جزاء سنمار أو بمن ّ
سمن كلبه ليأكله !
-2وساطة الزوج أو الزوجة :
وفي هذه الصورة يريد الصديق المتزوج تعميق العالقة بينه وبين صديقه المتزوج مثله فيدعوه إلحضار زوجته معه لبيته للتعرف
بزوجته ،وهي مثال لمن ضرب عصفورين بحجر واحد ! فهي توطيد لعالقة الصديقين من جهة و من جهة أخرى يتفادى
الصديق فراغ زوجته بانشغاله بصديقه ،فالزوجة حين ينشغل عنها زوجها بصديقه تصاب بالفراغ والملل – في أخف الحاالت
-إن لم تصب بالغيرة من هذا الصديق الذي انتزع زوجها منها و استولى على أغلب وقته ! فيقوم زوجها ببراعة بشغل وقتها
156
أثناء لقاء صديقه بلقائها لزوجته في نفس الوقت وفي نفس المنزل ،واألمر قد يتطور بصورة تدريجية إن سمحت الظروف
بنشوء صحبة أو عالقة لعب بين أبناء األسرتين فيزداد االندماج و يتوغل العمق حتى تصير الصداقة ما نسميه الصداقة
األُسرية ،وهي صداقة كاملة بين أسرتين كاملتين !
وال مانع أن يحدث النقيض وتكون الزوجتان هما السبب في نشوء الصداقة األسرية ،و ٌ
كل على قدر ذكائه و فطنته !
-5األقارب
الصداقة قد تنشأ أحيانا بين األقارب فكم إنسان صديقه ابن عمه أو ابن خاله أو غيرهم ممن هم في نفس المرحلة العمرية ،
وهنا يجب أن نلحظ أن الصداقة مرحلة علياء من العالقة اإلنسانية ،والصداقة بال شك أعلى وأسمى من القرابة والنسب حتى
األخ واألخت ال يرتقيان فوق الصديق المقرب اللهم إال أن يتحول األخ إلى صديق حينها يكون وصل للمنزلة العلياء ،هكذا
أجمع أهل األدب والعلم
ولنا في هذه المسألة مقال ........
الصداقة أعظم من القرابة والنسب
لعل من أهم األسباب التي تجعل الخليل أهم وأقرب من القريب وإن كان األخ الشقيق أنك إنما تختار صديقك بنفسك أما أخوك
فهو مفروض عليك لم يكن لك إرادة في اختياره ،فتميز الصديق على األخ والقريب أنه اصطفائي بينما القريب إجباري ،
فصديقك إنما يصنع على عينك و قريبك يوجد على رغم أنفك ! وما كان فيه اختيار أسمى مما كان فيه إجبار وهذا ما ميز آدم
وبنيه على المالئكة األبرار فالمالئكة وإن كانوا ال يعصون هللا ما أمرهم مجبرون على الطاعة بينما آدم يفعلها باختياره فتميز
عليهم وكان حقا عليهم أن يسجدوا له ،وكذا الصديق المصطفى من بين البشر كان في اصطفائه كالعسل المصّفى في نقائه
تعد ،فإذا نظرنا ألركان الصداقة نجدها تسمو بالصديق على بقية البشر
فال يضاهيه القريب أبدا واألدلة على ذلك أكثر من أن ّ
ومنهم األهل فشقيقك قد تخجل منه في مسائل ال تخجل منها أمام صديقك و تفتح صدرك لصديقك وتغلقه أحيانا أمام شقيقك ،
تشتاق ألخيك السببي أكثر من اشتياقك ألخيك النسبي ! ترتاح للقاء حبيبك أكثر من ارتياحك ألهلك و إخوتك ،فهل هنالك من
شك في تميز الصديق وارتقائه فوق األهل والنسباء ؟!
ولعل الشاعر قالها حقيقة صارخة مدوية ترتطم باآلذان :
وأنطق الناس في نظم وفي خطب يا أكرم الناس في ضيق وفي سعة
فرتبة الود تعلو رتبة النس ـ ــب إنا وإن لم يكن بيننا نسـ ـ ــب
هذا – االصطفاء – سبب صارخ لتفوق الصديق على القريب و من األسباب األخرى ما قاله الحسن :
إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأوالدنا ألن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا باآلخرة !
157
وأكد على تلك الحقيقة األوزاعي حين سئل :أيبلغ من حب الرجل ألخيه أن يكون أحب إليه من أخيه ألمه وأبيه ؟؟ قال نعم
وهللا ومن أمه وأبيه !
وأكد ابن عباس على تلك الحقيقة الصارخة بتعبير قاس ( :الرحم تقطع والنعم تُكفر ولم ير كتقارب القلوب ) !
و حاكى الشاعر كالم ابن عباس قائال :
اء َوَال َكتََق ُار ِب اْلَقْل َب ْي ِن طع َّ ِ
َّ الرح ُم اْلَق ِر ُ
يب َوتُ ْكَف ُر النـ ْـع َم ُ َق ْد ُيْق َ ُ
َفِإ َذا ُه َما َنْف ٌس تَُرى َنَف َس ْي ِن ُي ْب ِدي اْل َه َوى َه َذا َوُي ْب ِدي َذا اْل َهو ى
ولعل أفضل تعبير عبر به ابن المقفع حين سئل :الصديق أحب إليك أم القريب ؟ قال :القريب يحب أن يكون صديقا !
وأبو تمام ذكر االلتباس في هذه المسـألة ولعله خانه لفظه في هذه القضية فقال :
لم تدر أي ــهما ذوو أرحام وإذا رأيت صديقه و شقيقه
شاهدت في عالم الصداقة أن األخ قد يقترض من أخيه شقيقه ثم يقترض من صديقه المقرب ليسدد دينه ألخيه !
ُ ومن أعجب ما
وكأنه بلسان حاله يقول :أن أكون مدينا لصديقي أهون علي من أن أكون مدينا لشقيقي ،فشقيقي شيء وأنا شيء بينما أنا
ّ
وصديقي شيء واحد ! ،بل األعجب من ذلك في تلك الدنيا العجيبة أن يطلب الشقيق من شقيقه قرضا فيتغافل عنه ويتناسى
طلبه فيفزع إلى صديقه الذي يجود عليه بكل ٍ
غال ونفيس بال حرج وال تردد !! ..
خلفت والدا
ُ خلفت وراءك فقال
َ وفصل في أسباب تفضيل الصديق على األهل ذلك األعرابي الذي ذهب إلى الشام فقيل له :من
ووالدة وأختا وابن عم وعشيقا وصديقا فقيل له كيف حنينهم إليك قال :أشد الحنين ....فذكرهم كلهم وعندما ذكر الصديق قال :
وأما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك ألني أصارحه بما أجلّ أبي عنه وأجبأ من أمي فيه وأطويه عن أختي
خجال منها وأداجي ابن عمي عليه خوفا من حسد يفقأ ما بيني وبينه وكل هؤالء على شرف موقعهم مني دون الصديق الذي
ذللت له عز بي !
عززت له ذل لي وإذا ُ
ُ دنوت إذا
ُ أرى الدنيا بعينه إذا ر ُ
نوت وأجد فائتي عنده إذا
وهنا يجدر بنا الحديث عن مسألة قد يحدث فيها خلط ،أيهما أقرب الصديق أم األم ؟ ...............
وأنا أقولها صريحة مدوية ال أواري بها وال أستحي منها :الصديق في رأيي أقرب من األم !
فإن قيل فما ردك على حديث النبي صلى هللا عليه وسلم – حين سئل :من أحق الناس بصحبتي يا رسول هللا قال أمك ثالث
مرات ثم قال أبوك ؟؟ ،فالرد عندي جلي وهو أنه قال صحبتي ولم يقل صداقتي ! والصداقة أقوى وأقرب من الصحبة كما
ّ
ذكرنا آنفا ......
فإن قيل ما السبب ؟ أقول مكر ار :إن النفس تهوي إلى قرينتها فالشاب يميل للشاب من سنه و الصبي يميل للصبي من عمره
والرجل يميل لمقاربه سنا والفتاة تميل لقرينتها القريبة من عمرها ،العامل العمري من أهم عوامل القرب النفسي والفكري بين
اثنين وهما الصديقان ،وميل اإلنسان ألمه وأبيه يكون في المراحل المبكرة من العمر ولكنه سرعان ما ينقلب ويتغير مع نضج
اإلنسان و تقدمه في العمر فيميل الم أر ألقرانه وينصرف عن والديه الذين يعدان ذلك جحودا – إن لم يتفهما حقيقة األمر –
سنة من سنن الحياة تماما مثل الزوجة التي تخطف االبن من بين أحضان أمه فيقع الصراع ،وأنا أقول إن الص ارع
فهذه ّ
الصداقي األسري مبكر أكثر فالذي يختطف االبن من والديه قبل الزوجة هو الصديق ،حقيقة علمية واجتماعية ونفسية ،
فليفهمها وليقبلها الجميع وإما فالبؤس والهم والحزن !
158
نعود مرة أخرى لموضوعنا ونقول إن القريب يحب أن يكون صديقا ،وحينما يصير القريب صديقا تزداد حقوقه على صديقه
وتزداد أكثر حين يكون كذلك جا ار ،وهو أمر غير واجب بمعنى أنه ال يجب أن تتعمق العالقة بين األقارب لتصير صداقة ،
المسألة كما نكرر كثي ار مسألة قلوب والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء ،ولكن القريب الصديق يجب تسميته بالمرتبة األعلى
،فابن عمك حين يصير صديقك عليك أن تقول قابلت صديقي ال أن تقول قابلت ابن عمي حتى يعرف الجميع منزلته السامية
عندك تماما مثل الضابط الذي يترقى من عقيد إلى عميد ال يناديه الناس يا عقيد وإنما يعرفونه بالرتبة الجديدة العلياء فيقولون
المحبة !
ّ هو عميد ،هذه مسائل يظنها بعض الناس رسميات ولكنها في الحقيقة لها أعظم األثر على األنفس
-1لحظة حب !
تأتي تلك اللحظة بعد فترة طويلة من اللقاء والمصاحبة ،في لحظة لقاء منفرد بينهما يخيم الصفاء و يزدان الصاحب في عين
صاحبه ،ويشعر القرين بأن الدنيا مبتسمة من حوله وأن اآلفاق قد اتسعت مشرقة متأللئة ،وصاحبه قد صار ملكا متوجا ،
حينها يرى الصاحب صاحبه في أبهى صوره و أجمل تألقاته ،فال يجد تعبي ار الئقا وال كلمة معبرة وال امتنانا حقيقيا سوى أن
يقول :إني أحبك ! .........نعم أحبك في هللا ...........كتمتها طويال ولكني ال أستطيع االنتظار أكثر من ذلك
............هذه أنسب لحظة ألقولها لك .......هذه ليست كلمة معيبة وال لفظا مشينا بل كلمة رّغب فيها اإلسالم و تحتاجها
اإلنسانية المع ّذبة التي شقت كثي ار وأظلمت أركانها حين خلت من معاني ذلك الحب وتلك األلفة ............تلك المعاني التي
أحتاجها اآلن بيني وبينك .............نعم أنت من بين الناس أحببتك ،كثرت األسباب ،و اإلبهام كذا قائم ،فال تسألني
لماذا أنت بالذات دون غيرك وإن اشتركوا في تلك األسباب ،فهذا ال أعلمه وال أملك اإلجابة عنه ،فيض من المشاعر يجيش
بخاطري و دفقة من العاطفة تنبعث من أحشائي كضوء الشمس المتأللئ كتمتها كثي ار وفي تلك اللحظة ُبحت بها ألستريح ،
ولك االختيار أحببتك لنفسك ال أريد منك جزاء وال شكو ار !!.................
المحب الذي أصابه سهم الحب كما أصاب صاحبه ال يملك حينها إال أن
ّ حينما يسمع تلك الكلمات العذبة الصاحب الودود
تنفجر شفتاه قائلة :ووهللا أنا أحبك كذلك بل أحبك أكثر مما تحبني ،وترددت في البوح بها ولكنك كنت صاحب الفضل حين
سبقتني وأعلنتها واضحة صريحة ،إنني ال يسعني الكون اآلن حين أسمعها منك ،إنني أكاد أفقد عقلي بكلماتك الرقيقة التي أنا
بحب شخص عظيم مثلك ! جزيت خي ار أن أرحت قلبي و مألت علي دنياي و جعلت للدنيا بها أسعد الناس وأكثرهم حظا بفوزي ّ
طعما حلوا بعد م اررتها كثي ار كثي ار ..................
159
فيرد الصاحب الواله الذي ال يصدق أذنه وال عينه :اآلن أنت صديقي ،اآلن ابتداء عهد جديد بيننا وصفحة جديدة من حياتنا
،اآلن لن تفترق قلوبنا ،سنخوض غمار الدنيا معا ،سنحطم صخور الحياة ّ
سويا ،سنتعاون على البر والتقوى ،سننمي حبنا
و نحيطه بالرعاية و االهتمام ،سنعمق أواصرنا إلى األرض السابعة ! و نعلو ببناء أخوتنا إلى أبعد سماء ! لن نسمح ألحد أن
يتدخل بيننا ولن نرضى بأي مشكلة تكدر علينا صفو حياتنا ،ستظل أيادينا متشابكة سأظل نصيبك وستظل نصيبي من الدنيا
إلى أن نلقى هللا فنلتقي تحت ظله يوم تزول الظالل و تنتهي وال يبقى إال ظله الظليل فيشملنا الحب في جنة اآلخرة كما شملنا
في جنتنا في الدنيا !!............
إنه ابتداء أخوة جديدة تزدان بها الدنيا و تتلون بها الحياة ،حياة كانت بال طعم فصارت حلوة عذبة المذاق ،ترفرف من
حولهما طيور السعادة و تحيط بجوانبهم نسائم الصفاء ،يتعرف من خاللها الرفيقان يوما بعد يوم على حقوق األخوة فيزداد
أخوة العمر !
العمق و يشتد عود الصداقة وتنبني صداقة السنين و ّ
-2لحظة كرب !
إن لحظات الكرب و وقت الشدة لحظات داكنة كئيبة تضيق علينا فيها الدنيا بما رحبت ونكون فيها كالغرقى المنتظرين للموت
ظر شاركت فيه الدنيايجد بهذا الطوق في هذه المحنة فقد أحيانا بعد الموت المحقق ،موت منت َ نحتاج لطوق نجاة ،فمن ُ
وساهم فيه الناس ،أولئك البشر القريبون منا الذين التمسنا منهم طوق النجاة فبخلوا به علينا فكانوا أسوأ معين لتقلبات الحياة و
مكدرات الدهر وكانوا كخنجر العدو المسموم الذيٌ يجهز علينا في جراحنا ،خنجر يطعننا من عامة الناس – وهو معتاد –
وخنجر يطعننا من أراذل الناس – وهو متوقع – ولكن أقسى خنجر يأتي في مقتل هو خنجر (بروتس) الشكسبيري الشهير ،
إنه ليس خنج ار إيجابيا وإنما هو خنجر سلبي ،يقتل بعدم الفعل ،يجهز علينا بالتخلي ال بالتحلي ،وحينها يأتي بصيص من
أكنوا لنا الحب بال مقابل ،أناس مستترون ،يمثلون أدوا ار ثانوية
نور األمل يأتي ممن ظنناهم أبعد ممن ظنناهم أقرب !! أناس ّ
في حياتنا ،ظنناهم في الهامش ،بل تعمدنا وضعهم في غير مقامهم ،فأتت اللحظة المناسبة الفارقة ليجعلونا نفيق من غفلتنا
،وليجبرونا على معرفة مقامهم و وضعهم في المكان الصحيح ! مبلغ من المال بخل علينا به كل الناس األقارب واألباعد
ضن بها الناس علينا اللهم سوى كلمات التعزية الجوفاء الخالية من
كأنهم سواء ،همسة مشاركة وجدانية و مشاعر متدفقة ّ
حسي ومشاركة جسدية ال مادية تخلى عنها أكثرهم متذرعين بالمشاغل و دوامات الحياة ،تخلى عنا كل هؤالءالشعور ،تواجد ّ
،وأعطانا كل ذلك شخص طيب القلب حاضر الذهن يقول بلسان حاله :أنا لها ..أنا لها ..
سنحل سويا في دائرة
ّ سأعطيك ما بخل عليك به الناس ،سأواسيك بمالي و إحساسي وشعوري سأتواجد معك في مربع محنتك و
كربك ووحشتك .............ثم تمر المحنة كعاصفة هوجاء محت كثي ار من آثار الحياة ،حطمت الديار و اآلبار ،أزالت
البيوت الكرتونية الخاوية و أخذت معها النباتات الضعيفة الهاوية ،وبرز بعد زوال العاصفة مبنى شامخ أو نبات أصيل صمد
أمام اإلعصار وكان الملجأ والمالذ بعد انتهاء الكارثة ،إنه الصديق الجديد ...........ولد من رحم المحنة والمعاناة فكان
متاعا في الرخاء كما كان ذخ ار في العناء ...................
160
غضضت طرفي عنك كثي ار وما كان ذلك إال لقصور عقلي و قصر
ُ غفلت عنك طويال و
ُ لقد َّ
أثبت أنك أحق الناس بصداقتي ،
نظري ،إنني لن أتخلى عنك أبدا مهما دار الزمان بل إنني أرجوك أن تقبلني صديقا فلم يعد لي سند سواك ،إن حبك اخترق
قلبي قه ار و غصبا بعدما استعصى على كثير من الغزاة من قبلك ! وما ذلك إال لمقامك وشرفك ونبلك ،إنك خير ما جادت
علي به المحنة ................
َّ
-3لحظة مشاركة
حين تطحن الدنيا اإلنسان بطواحينها ويوم تمزقه بمخالبها و أسنانها ،و ساع ًة تقطعه بتروسها و ُمداها – ساعتها ال يصاب
تكسر الدنيا الناس جماعات ال أفرادا ! وهذا من بأسها وشدتها وجبروتها الذي يستعصي على اإلنسان بأذاها وحده ،بل ّ
الجماعة أحيانا ! فساعة إصابتك بكارثة ال بد لك من رفيق محنة ،ظروفه مثل ظروفك ومبتاله مثل مصابك ،قد تغفل عنه
عيناك ،ولكن عقلك الباحث ال بد أال يغفل عنه ! فالنفوس ُجبلت على التقرب من شريك المحنة ،فمعه تشعر حينها بذاتك !
ولحظات حديث معه لحظات ملطفة للقلب و مبردة لنار العقل والفكر ! لحظات بريئة خالية من نظرات الحقد والحسد فالحال
واحدة ! و أوقات بريئة من أوحال المقارنة والتعجب والتسخط فالبلية غير مختلفة ! بل أعجب من ذلك أن بعض النفوس في
أذل و أقل حاال وأشد بؤسا فمعهم تشعر النفس بنعمة هللا التي أنعم بها علينا وتتمثل
تحن لمن هو أضعف منها و ّ
تلك اللحظات ّ
تمد لهم
قول رسوله الكريم ( انظروا لمن هو أسفل منكم وال تنظروا لمن هو فوقكم فهو أجدر أال تزدروا نعمة هللا عليكم ! ) بل ّ
يد العون الكسيرة شأنها شأن المثل العربي الشهير ( ظالع يعود كسيرا!)
المبت َل ِْين تتآلف القلوب وتختلط األرواح ،وتمتزج نسائم النفوس ،وتولد صداقات جديدة
للممتحنين َ
َ في تلك األوقات الجامعة
المحنة الجامعة أساسها ولكنها تستمر بعد المحنة إلى نهاية الحياة ........
أرأيتم السجناء المظلمين ؟! حين يجتمعون على الكربة تجتمع قلوبهم في يسر بالغ ،فهم يقضون كل أوقاتهم جميعا ..فيكثر
وسره ،بل تظهر معان جديدة راقية بينهم مثل
الحوار و تنكشف األسرار وتتعمق الرابطة و يأتمن كل واحد اآلخر على نفسه ّ
تكبر بل يشغلون أوقاتهم بطاعة هللا بذكره واالجتماع على الصالة وقيام
معنى اإليثار و معنى التشارك في الطعام بال أَثَرة أو ّ
الليل ،تلك اللحظات اإليمانية الراقية التي ربما افتقدوها خارج السجن و بعيدا عن محيط المحنة ،بل الرابط األعظم هو
االشتراك في األمنية ووحدة الهدف و انتظار شيء واحد هو فرج هللا تعالى .........أليس كل ذلك كافيا لنشأة صداقة دائمة
فوالذية ؟! إذا أردتم فهم هذا الشعور فاسألوا سجناء تزمامرت و جوانتانامو فعندهم اإلجابة !
ومثل السجن المنفى خارج الوطن سواء أكان إجباريا أم اختياريا فهو في النهاية ضد رغبة النفس التي تجنح إلى االستقرار وسط
أهلها وأصحابها فتجد المتنفس في المرافقين الجدد في رحلة الحياة الجديدة المليئة بالغموض والتوقعات الغيبية ،نفس المأساة و
نفس المعاناة في من معنا من المنفيين تحفز جنوحا إليهم و استئناسا بهم من وعثاء السفروالغربة ومع كثرة االقتران يحدث
االئتالف وتتولد مشاعر أخوية راقية تذيب جمود الوحشة و تكسر معاني الغربة وتنمو صداقة جديدة روتها الظروف و منحتها
الحياة على رغم جدب األرض وصالبتها!
161
وحين يعود الرفقاء إلى الديار ال ينسون بعضا وال يفترقون روحا ،فال يلبثون أن يعاودوا االجتماع لينثروا الذكريات و يخططوا
لحياة جديدة وواقع مشرق ،تلك النفوس الطيبة الهينة التي تألف وتؤلف ال تتنكر للماضي بل تحتضنه و تتشبث به ،أما
النفوس البرجماتية المحضة فال تستثمر المحن في اكتساب أصدقاء يستمرون طول الحياة وإنما تستثمرها لمنافع مؤقتة زائلة
تحكمها المادة وليس لهم من متاع الروح نصيب ! وإذا أردتم فهم شعور المحبين الطيبين فاسألوا أصحاب ( ُعرابي )فعندهم
ّ
الخبر اليقين !
أما رفقاء السالح فلهم شأن آخر ! فهم رفقة في مكان يحّفه الموت من كل جانب ،أناس ينتظرون الموت في أي لحظة ،طلقة
رصاص واحدة تنهي كل شيء ! يذهبون للنوم معا وال يدرون أهو آخر منام لهم في فراشهم أم تجود عليهم الدنيا بمنام آخر !
يتفحص كل منهم صاحبه ورفيقه منذ سنوات وال يدري هل سيراه بعد لحظات أم تأتيه رصاصة طائشة أو طلقة مدفع وينتهي كل
شيء ؟! أناس أجبروا على مجابهة الموت معا ليس لهم رغبة فيه بل له رغبة فيهم ! في تلك اللحظات التي يختلط فيها الموت
بالحياة واليأس باألمل تتولد عالقات قوية بين نفوس حين تلتقي تغشاها الرقة المفرطة و الحنان األخوي السابغ ،يطرح كل منهم
أس ارره بال خجل وال حرج يبوح بكل ما لديه فال شيء يبكي عليه ،تنشأ روح التعاون والتآزر بل ينبثق نسيم الحب المنعش الذي
يهون الجراح و يهدئ النفوس ولم ال يقع ذلك و هؤالء الرفقاء قد نفقدهم في أي لحظة ؟! أليست تلك اللحظات الباقية من حياتنا
ّ
وحياتهم جديرة بشمولها بأعلى روح أخوية صداقية لنعيش أسمى إحساس وأرقى شعور ؟؟!! وعلى الجانب اآلخر تملك اليأس
بعض الرفقاء الذين نظروا للموقف نظرة مختلفة ،فقالوا كيف نتعلق بأحياء اليوم وموتى الغد ؟! أليس ذلك ضربا من الحماقة
وتعذيب النفس ؟! أنحب اليوم ونبكي وننتحب غدا ؟! كال ..ليكن بيننا وبين رفقائنا حجاب مستور يصد الريح التي ال يعلم
مداها ومنتهاها ،لنغلق قلوبنا و ننطو على أنفسنا لئال نكتوي بنار الفراق و النحيب ! تلك المشاعر المتعاكسة ال يعلمها إال من
جربها إذا أردت أن تعرف حقيقة تلك المشاعر فاسأل جنود الحرب العالمية األولى فعندهم أعجب خبر !! .............
تلك أمثلة على المتشاركين في المحن واألمثلة ال تنتهي كما أن الكربات ال تنقطع ما دامت السموات واألرض !!
-4لحظة إفصاح !
في لحظات يشتد فيها الكرب و يضيق الصدر بما فيه و ال يجد اإلنسان صديقا بجواره تطمئن نفسه إلنسان آخر التمس فيه
نبل الخلق وطيب النفس و ذكاء العقل وحكمة الحكماء فيطلبه ليستشيره ،فيتسع صدر ذلك اإلنسان – وإن لم يكن صديقا –
لشيء في نفسه و شيء في نفس الشخص البائح ،يفيض بكل ما عنده من آالم وشجون و ينّفس عن نفسه كبتا يخنقه و ضيقا
حل و يجود عليه في
يؤرقه ،فيجد صدر صاحبه رحبا فيجد منه التجاوب واالهتمام والسؤال عن أدق التفاصيل للوصول إلى ّ
النهاية بكل ما عنده من نصائح و خيارات يراها األفضل لحل مشكلته ،فتطمئن نفس األول لصاحبه الطيب الناصح ،ويشعر
الكرة ويعود الشخص الناصح فيطلب النصيحة من صاحبه كما طلبها ِ
الناصح بمكانة علياء عند صاحبه المشتكي ،و تنقلب ّ
منه أول مرة ،فتنشأ صورة جديدة من العالقة ماهي سوى ابتداء صداقة انبنت على ركن من أركانها هو البوح باألسرار الذي
سرعان ما يتطور للحب المتبادل العميق ثم التزاور والترابط ،وماكان ذلك لوال الظروف التي ألجأت مصدو ار لصاحبه فالتقى
162
االثنان على غير موعد تماما مثل أغلب الصداقات الناجحة التي تلعب فيها األحوال الغريبة و المالبسات العجيبة دو ار محوريا
في بناء جديد ألخوة صادقة ....................
تحول
-5لحظة ّ
اختالف اآلراء مع قلة سعة الصدر نتيجته الكراهية والنفور ! ومع كل لحظة اختالف وصدام وتأجج للنقاش تزداد الكراهية بل قد
تصل لحد التطرف واإلقصاء والرغبة في القضاء على الخصم ،ولكن ذلك الخصم قد يكون على الحق المبين و اختالف
خصمه معه إنما نشأ نتيجة لظروف تربيته ومجتمعه و نشأته الخاطئة ،ولكن خصمه المحق ألنه على الصواب يتحرى
األخالق الفاضلة والمثل العليا في سلوكه وتصرفاته وهو ما يحرج صاحبه الشرير الذي في ابتداء األمر يضيق ذرعا باستفزاز
المقابلة بمثلها من جانبه هو ولكنه ال يلبث أن يقف مع نفسه وقفة تأمل
َ خصمه الطيب له بأخالقه الفاضلة غير المتوقعة وغير
و رجوع للعقل والقلب ،لحظة مالكية تنصرف فيها الشياطين ،لحظة تحوم فيها نسائم الجنان و يتبخر فيها سرادق الجحيم !
حينها يعود ذلك الم أر إلى صوابه و يعود لمناقشة صاحبه بهدوء واطمئنان ورغبة جديدة في التلقي ومعرفة الصواب وهنا تحدث
اللحظة الفارقة ،لحظة التبدل والتغير والعودة إلى الفطرة والصواب ويتحول الخصم العنيد إلى متفاهم بل موافق لرأي صاحبه ،
وبعدها يتأمل ذلك الموقف العجيب ويشعر بخطئه ويشعر كذلك باإلعجاب بذلك اإلنسان الذي اتخذه عدوا من قبل أن قد وصل
إلى الحق والحقيقة قبله بل دله عليها وأخذ بيده ليصل إليها ،وتدريجيا يتغلغل الحب بعد كنس شوائب الكراهية من القلب
ويتحقق قول هللا تعالى ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) وحينها يحصل التجاذب بعد طول التنافر والحب بعد
حب إال بعد عداوة ) كما قال أبو بكر الخالدي : الكره ،ويتحقق قول القائل ( :من ّ
س ُم ْع ِظما
صديقاً م ِجالًّ في المجالِ ِ
َ ُ َ داوٍة
صا َر َب ْع َد َعـ ـ َ
ٍ َ ِ
وك ْم م ْن َع ُدّو َ
ان ِحصـِْرما ِ
ُيرى ع َنباً من َب ْعد ما َك َ عود َك ْرَم ٍة
قود ِم ْن ِ الع ْن ُ
وال َغ ْرَو َف ُ
ويتعجب المتعجبون و يصير الصديقان الجديدان مضرب المثل و مثار الدهشة والعجب كما قال عبيد بن أيوب العنبري :
وللد ِ
هر ِ
صفاء بعد طول عداوٍة
لتقليب الُقلُوب َّ أال يا خليال َ
هذا المشهد الرائع رأيته بعيني والتبست به بنفسي وكان المشهد هو مشهد الملتزم المتدين حين يكرهه ويعاديه المتحرر المتحلل
الذي يصف صاحبه بالتشدد والضالل ولكنه ال يلبث أن يلين قلبه ويضعف أمام الحق والحقيقة فينصاع لطريق الهداية و
يكتسب منه صديقا عزي از قلما يجود به الدهر وهذه هي حقا روعة الحياة !............
-6لحظة إعجاب
شخص تشخص إليه األبصار ،تحيط به األضواء من كل جانب ،ينتقل من نجاح إلى نجاح فيرمقه الناس بنظرات اإلعجاب
واالنبهار ولمَ ال ينبهرون وهو يتميز على الجميع بل تتراكم مؤهالت تميزه يوما بعد يوم ليصير في القمة و تتجمع أشكال
موهبته و نبوغه ليرقى إلى سماء فيراقبه الناس كما يراقبون القمر المنير والنجوم المتأللئة ،منهم من يتحول إعجابه إلى حسد
163
وحقد دفين ربما ال يستطيع البوح به ومنهم من يتحول إعجابه إلى حسرة على نفسه بعد طول مقارنة وموازنة بينه وبينه ،ولكن
من بين الناس من يتحول إعجابه إلى حب حقيقي تتبعه رغبة صادقة في التقرب من هذا الشخص الناجح ليشبع حاجاته
النفسية أوال بصديق ناجح راجح العقل متميز الفكر ،وهنا يحاول الشخص المنبهر التقرب من ذلك الناجح تقرب مودة وحب ال
المتقرب منه بحال صاحبه ويلتمس فيه رغبة صادقة في عالقة ودية طيبة ويشعر بإحساس جديد لم
َّ منفعة وتملق ،فيشعر
يشعر به من قبل ،إحساس بشيءمفقود وسط زحام النجاح لم يأبه له ولم يشغل باله في ما مضى ولكنه شغل باله اآلن وحان
وقته بعد طول مغيب إنه الصديق الصدوق !! تدور عجلة الزمن بباله و يقلب صور معارفه في ذهنه فيكتشف أنه ليس له
صديق حقيقي من بين كل هؤالء ،كلهم غثاء كلهم هباء ،ربطتني بهم المصالح المشتركة ،ونسيت حظ نفسي من الخدين
انشغلت بماديات الدنيا و معاملة من ال يصلحون للصداقة ....ولكن ال بأس ها هي هبة وهبها هللا لي صديق
ُ المحب حين
شعرت منه بما لم أشعر به من قبل تجاه هؤالء المعارف الماديين ،فلم ال أهتبل الفرصة و
ُ مستقبلي يضع والءه وحبه أمامي ،
أفوز بما خسرته من قبل ؟؟!!
إنها لحظة إشباع متبادل بين مفتقر للصداقة يحتاج إليها فجاءته على غير موعد و آخر معجب به أحبه حبا صادقا فيحتاج له
و يريده خدينا له ويتمنى ذلك بل يحلم به أن يفوز بقلبه من بين كل البشر فيطلع على كل خصوصياته وأس ارره وينهل من علمه
وفنه ...وكذلك حبه !
إن تلك اللحظة غير مأمونة العواقب !! ألن الشخص الواله المتعلق قد يتعلق بالسراب ويظن صاحبه قابال للصداقة وهو غير
يصر على نبذ الصداقة و نسيانها بل االنشغال بهؤالء الغثاء من الناس و
ذلك !! فربما يظل منشغال بنجاحه و تفوقه و ّ
فيشبع في داخله مشاعر تحقيق الذات وتقديس النفس االنشراح الجتماعهم حوله ُيشعرونه بمكانته العليا و ّأبهته الطاغية ُ
ويتناسى الصداقة التي ستأتيه يوما ما -ال شك -كالشبح المخيف حين يكبر سنه ويترك عمله ويصير بال مؤهالت الجتماع
الناس حوله فينفضون عنه وينصرفون إلى غيره ...........
وي ْعَلق بالحبال الذائبة راجيا القبول والمودة فيسقط على عنقه جريحا متألما آسفا
المهم هو صاحبنا المسكين الذي يأمل السراب َ
غير مأسوف عليه ....ذلك هو األلم المبين و الحزن الشديد ...............
-7لحظة جرأة
وتجمع بغير حساب ،الذكي من يقتنص الفرص الحلوة الكتساب األصدقاء
ّ إن الحياة تجمع القلوب على غير ميعاد ،و تفرق
المناسبين و الالهي الخاسر من ينطوي على نفسه و يظن أن الصديق سيأتيه إلى باب داره بال مجهود منه ،والمتردد سيخسر
الكثير من الوقت وربما يخسر من يحبه ويريد التقرب منه ،وهنا تأتي ضرورة لحظة الجرأة !! يجتمع اثنان جمعتهما ظروف
الحياة بينهما أشياء كثيرة مشتركة عمرية وفكرية وثقافية و أدبية يزداد تعلقهما ببعض و لكن مازال هنالك شد و جذب في
عالقتهما ،لم تتحقق الصداقة المتينة بعد ! فيتخذ الجريء منهما خطوة حاسمة و يكسر الجمود ويذيب ألواح الثلج بينهما فيبني
ركنا من أركان الصداقة بذكائه وموهبته فيدعو صاحبه لزيارته في بيته بل تناول الطعام معه في البيت ،فينتهز صاحبه المتردد
164
الفرصة ويستجيب لدعوته ثم يجد األمر سهال بعد ذلك في أن يدعوه كذلك لزيارته في بيته فيزداد العمق وتتوطد الصالت وتولد
صداقة بخطوة جريئة اتخذها إنسان محب !
ومنهم من يبدأ صاحبه باالتصال بالهاتف ال لمصلحة وإنما للسؤال و بذر المودة و التعبير عن الحب فيبادله صاحبه خطوته
.............
وكذلك لحظة البوح بالحب ما هي إال خطوة جريئة في بناء الصداقة الجديدة ال يفعلها إال األذكياء األقوياء !!
خطورة هذه الجرأة أن تُفعل في غير موضعها فيالقي الصاحب المتقرب نكوصا و نفو ار من صاحبه كأن يدعوه للزيارة فيرفضها
رفضا تاما وهذا أقسى الرفض وأعنف طرق غلق باب الصداقة ،ومنهم من يوارب الباب كأن يقبل الدعوة ولكن يمتنع عن ّ
رد
المحب
ّ رد قاس ولكنه غير مباشر ويجب فهمه و إدراك أبعاده ،وهنا قد يحاول الدعوة وفتح بيته لصاحبه كما فعل هو !! وهو ّ
مرة أخرى لعله يجد القبول فيقابل بنفس الرد ،وهنا عليه االنسحاب السريع وعدم تكرار المحاولة لئال يجرح كرامته و لئال يكلم
قلبه الضعيف ...........
ألهل الحب و الصفاء تصورات و تخيالت للصديق ،هم ربما لم يحصلوا عليه بعد ،ولكن تشتاق إليه أنفسهم الطيبة ،
عيونهم ،دنياهم تحتاج إلى لمسة جمال سحرية لتزهر
الوجوه بحثا عنه ُ
َ يتنسمون نسيمه من بعيد ،تتلهف إليه قلوبهم ،و تقلب
و لتكتمل حالوتها ،فأخذوا يهيمون و يشتاقون ،يتخيلون و يتساءلون ،ونحن هنا على موعد مع تصوراتهم نجمع شتاتها و
نؤلف متباعدها لتكتمل لنا اللوحة الفنية الرائعة للصديق الرقيق ....
ونبدأ بابن المقفع الذي له آراؤه في مسألة الصداقة ،فقد قيل له بأي شيء يعرف األخ ؟؟ قال أن ترى وجهه منبسطا ولسانه
بمودته ناطقا وقلبه ببشره ضاحكا ولقربه في المجلس مجيبا وعلى مجاورته حريصا ........
فعند ابن المقفع عالمات الصديق المميزة لمن أراد أن يتبين و يتحقق ممن حوله -1 :انبساط الوجه ( وهو من أواصر
المحبة ) -2 .حالوة اللسان -3انبثاق ما في قلبه إلى جوارحه -4 .الحرص على القرب من صديقه و التماس السبل لقضاء
الوقت معه .
أما البنوي فله مقال آخر ،فقد سئل :من تحب أن يكون صديقك ؟ قال من يقيلني إذا عثرت ويقومني إذا ازوررت –
اعوججت -ويهديني إذا ضللت ويصبر علي إذا مللت ويكفيني ما ال أعلم و ما علمت ...
فالبنوي له أولويات في صفة الصديق دينية وهي التعاون على التزام الطريق السوي المستقيم والنصح هلل ،ودنيوية وهي تفريج
الكرب و منع األذى وصده ،وكل ذلك سبق ذكره تفصيليا ولكن تذكير لعل الذكرى تنفع المؤمنين !...
ومنهم من رأى أن أهم عالمات الصديق أن يعلو بصاحبه ،و يرتقي به إلى أعلى الدرجات علما وعمال ،وإال فال فائدة منه و
صحبته مضيعة للعمر و خسارة للنفس فقال قائلهم :صديق ال تنفعك حياته ال يضرك موته ! و قال شاعرهم :
ودفع ألواء من اإلخـ ـوان من كان ال ُيرجى لرفع شأن
وليس في الدنيا بمست ــعان فعيشه و مـ ـ ــوته سيان
165
إن قضية الحياة والموت قضية شائكة في مسألة الصداقة خصوصا و في باب الحب عموما و بدون خوض في تفاصيل لها
وقتها و محلها الصديق الحق من ليس حياته و مماته سواء ،حياته تمأل عليك حياتك بهجة ،فهو بلسم النفس و ترياق القلب ،
ال يخسر صاحبه أبدا فهو ال بد ناهل من كنوزه التي ال يبخل بها على صديق وال لصيق مجاورته عموما لها طعم خاص ،
وحين يغيب عن الحياة يفتقده الصديق و يشعر بخلو مكانه الذي ال يملؤه غيره ،يخسر خسارة فادحة ال يساويها أي تعويض
،ناهيك بألم النفس وتمزق القلب و تشتت الفكر !...
أما من حياته وموته سيان ،وجوده فوق األرض مثل وجوده تحت األرض -ولن تعرف ذلك إال عند موته – هذا هو الصديق ّ
فإنه لم يكن الصديق المرغوب ،وليس مثله صديق األحالم الذي تشتهيه النفوس الطيبة المخلصة !
وقال متصور آخر للصديق :
دعني من المرء وأعراقـ ـ ـ ـ ـه وماله الجم وأوراقـ ـ ـ ـ ـه
فما الفتى كل الفتى غير م ـن يستعبد الناس بأخـ ـ ـالقه
آماقه :عيناه حللت منه بين آمـ ـ ـ ـاقه َ أخوك من إن خفت من حادث
وال كذوب الـ ـوعد م ّذاقه ليس بغدار وال خ ـ ـ ـ ـائن
والفعل ال يأت ـ ـي بمصداقه وال الذي ي ـ ـ ـخبر عن وده
حتى إذا ارتاب بأسـ ـ ـواقه دمت له سـ ـ ـوقة
طوعك ما َ
وأبصر الشر بدا مقـ ـ ــبال شمر للمكروه عن س ـ ـ ــاقه
هذا الشاعر لفت االنتباه لقضية جديدة و داء عضال يصيب بعض مدعي الصداقة ،إذا وجدته فيهم فاطرحهم بعيدا وأعد
تفكيرك وحساباتك معهم إنه داء كثرة القول وقلة الفعل ،ادعاءات براقة بالحب واإلخالص و الواقع يختلف تماما عما يردده ،
فإذا واجهته تعلل باألعذار ومشاغل الحياة التي ال آخر لها ،وإذا سئمت منه و هجرته زاج ار ازداد في غيه و تناقضه بل تمسك
برد فعلك و اعتبره دليال ضدك ونسي فعله األصلي الذي أدى إلى رد الفعل ،فيدخل صديقه المسكين معه في دوامات ال آخر
ّ
لها ،ويتساوى ُ
اآلثم مع الضحية بعد أن رمى صاحبه بدائه وانسل !! كل من هذا حاله فهو مجلبة للغم والهم وال يرجى منه
سوى نكد العيش فال تعده صديقا و ابحث عن الصديق الحق في مكان آخر و دع األوهام !!!..
ومن المحبين الطيبين من تكلم عن سمات صديق األحالم في نفسه وشخصه معرضا بغيره فقال الشاعر :
صفو المودة مني آخر األب ــد ـت له
ما ودني أحــد إال بذلـ ُ
إال دعوت له الرحمــن بالرشد وال قالني وإن كنــت المحب له
مددت إلى غير الجميل يديُ فبحت به وال
ُ ائتمنت على سر ُ وال
وال أقول نع ـ ــم يوما فأتبعها منعا ولو ذهبت بالمــال والولد
166
مقابلة الود بالود أدعى الكتساب األصدقاء فالناس يحبون َمن هذا شأنه و يقبلون عليه حيث يعتبرون ودهم لم يذهب هباء بل
كان في موضعه و في أهله ،ومقابلة الكراهية بطيب النفس و حب الخير و الدعاء للكاره من شيم الكرام و انعكاسها األخالقي
يحرج القالي و يجعله يعاود التفكير في موقفه فيتحول البغض إلى حب ومودة ،ولكن ما أضافه الشاعر لنا في سمات الصديق
هنا هو التشدد في الوفاء بالوعد خصوصا أن يكون الوعد منحا للصديق في شدته ،فالصديق المصاب بالبلية حين يعده صديقه
بمد يد العون يشعر الصديق أنه التقط حب النجاء الذي سينجيه من بحر البلية فيعتمد على صديقه و يتوقف عن طلب العون
يحس أن حبل
هزة مزلزلة ألركانه حينها ّ من غيره ويؤمل طويال فإن تراجع الصديق عن وعده كانت صدمة عنيفة لصديقه و ّ
النجاة أفلت من يده و صار مصيره مجهوال بعد أن كان مبش ار ،و ال ُيستبعد أن يكون ذلك موديا بالعالقة بينهما كلها – إن كانا
أصدقاء ُفسخت الصداقة وإن كانا زمالء صارت الصداقة محاال ! -وما ذلك إال ألنه وعد فأخلف مثل المنافق ،والصديق إذا
يسألن عن صديقه بعد ذلك فهو الذي باع صديقه و حطم بناء صداقته بيده ولو أنه لم يمنح وعده
ّ صار فيه سمة المنافقين فال
المشئوم ما كان عليه من حرج فال يكلف هللا نفسا إال ما آتاها ولكنه سوء تقدير منه بأنه بوعده سيلطف الجو حول صاحبه و
يهدئ روعه و ما هو إال الوبال على الصداقة والصديق !
ثم يسرح الفكر بأرباب المحبة ورائمي اإلخاء ليبدعوا صورة بالغية رائعة للصديق فيقولون :
لتضربه لم يستغشك في الـ ــود أخوك لو جئت بالسيف قاص ــدا
يردك إشفاقا علـ ــيك من الرد ولو جئت تدعوه إلى الموت لم يكن
على أنه قد آل جهــدا على جهد يرى أنه في ذاك و ٍ
ان مقـ ـ ـ ــصر
المرجو أنه يضحي بأي شيء غال من أجل صديقه ،مهما غال الثمن فالصديق أغلى و أثمن ! لو دعاه
ّ من سمات ذلك األخ
يرده في أي شيء دائما على ذلك
فداء لألخوة و قربانا للصداقة ! هو ال ّ
للتضحية بحياته من أجله للبى النداء راضيا مطمئنا ً
ومهما بذل وضحى من أجل محبوبه فإنه يرى نفسه مقص ار متوانيا لم يفعل ما ينبغي فعله حتى يكاد يهلك نفسه ليتيقن من رضا
سيفه يهدده ما صدق عينه وال أذنه بل قال بملء فيه :
حبيبه و اطمئنانه ،يثق بصديقه وحبه ووفائه حتى لو أمسك صديُقه َ
كذبت عيناي وأذناي وصدق قلبي ! ،هذه هي األنفس المحبة كانت كثيرة في زمانهم كالتمر عددا و كالمسك عبقا ولكنها نادرة
المن والسلوى عددا وقيمة فيا حسرة على العباد !........................
في زماننا مثل ّ
سكت عذرك
صدقك وإن ّ قلت ّقال أبو المتيم الرقي البن الموله :من أجلس إليه وأشتمل بسري وعالنيتي ؟ قال اصحب من إن َ
وإن بذلت شكرك وإن منعت سّلم لك (رضي بذلك ) قال :يا سيدي من لي بمن هذا نعته ؟ قال :كن أنت ذاك تجد مثلك على
ذاك ،كأنك إنما تحب أن يكون غيرك لك وال تحب أن تكون أنت لغيرك !!...........
في هذه المحادثة اللطيفة مسألتان األولى من يريد الصديق الحميد بسمات الخلفاء الراشدين وهو من أهل أسفل سافلين !! يشترط
أحدهم الشروط في صديقه و يضع قواعد و أسسا ينبغي أن يسير عليها خليله وهو أبعد الناس عنها ........تلك إذن قسمة
ضيزى ! ......يريد كامل حقوقه لنفسه أما هو فال يسأل نفسه كم أدى لصديقه من حقوق اإلخاء ! يضع من يصاحبه تحت
المجهر بينما هو منزه عن الوضع تحته ! مثله كمن قال هللا فيهم ( وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) وما أشبهه بمن قال
المولى فيهم ( الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) ومثله كمثل الرعية الظالمة لنفسها تبتغي
167
وية وعدم الصدق مع النفس ،ومن هذا حاله فمصيره مع صديقه مهدد وفشله في حاكما عادال صالحا ! ،إنه التناقض و األنا ّ
عالقته معه حتمي إذا كان صديقه يفهم الصداقة حق الفهم و يعي حقوقه وواجباته حق الوعي ..........
أما المسألة الثانية فهي كثرة سؤال السابقين األولين لشيوخهم وحكمائهم عن الصديق وسماته ! فقد رأينا ابن المقفع و البنوي قد
سئال في هذا األمر وهذا ابن الموله سئل نفس السؤال ،وكأن صديق المستقبل و خدين األحالم كان شغال شاغال لهؤالء
الطيبين الذي ال يتوانون في معرفة أسبابه و عالماته ليبلغوه فيحققوا فو از عظيما في الدنيا واآلخرة ،سؤال إن سأله أحد منا في
تعجب المسئول
زماننا َل َ
وربما كتم ضحكاته وهو يسمع هذا السؤال الغريب ،وإن لم يتعجب فإنه إما أن يتلعثم عند اإلجابة وال يعطي ردا شافيا مثاليا و
ضيقي األفق كثروا في زماننا بين مدعي الفقه والعلم !
إما أن يرد ردا قاص ار ال يعطي الصديق حقه خصوصا أن ّ
ويرى غيرهم سمات يجب أال تقع عند صديق ألنها تهدد بنيان الصداقة فقال أحدهم :
خلقان ال أرضاهما لصـ ــديق أما المزاحة و المراء فدع ـ ــهما
لمجاور ج ـ ــا ار أو لرفـ ـ ــيق إني بلوتهما فلم أحم ـ ــدهما
تهزه ه از كالزلزال المخيف ،أولهما الممازحة الزائدة و الضحك الكثير ال الدعابة الوسطية و
سمتان تهددان بنيان الصداقة و ّ
الضحك المعقول الذي مثل الملح في الطعام ،فمتى كثر المزاح و زاد وطغى حتى تصير العالقة كلها لعبا ولهوا صارت
هشة و هزيلة ال ترقى لمستوى الصداقة التي فيها في األصل الصديق صديق ّ
جد ُيعتمد عليه في الحياة و ُيتكأ عليه العالقة ّ
في المحن و نعيش معه حياتنا الدنيا ليكون ذخ ار للحياة األخرى ،والمزحة من حين آلخر شيء ضروري الستمرار الود و
إشعال المحبة و استدامتها وأصحاب ( الدم الخفيف ) كما يقولون من أكثر الناس ألفة ولكن بميزان و معيار ال يطغى على
الصداقة فيصيرها كعالقة الصبيان الطائشين المائعين الذين ال يشغلهم غير اللهو و قتل األوقات ،ومتى وجدت بينك وبين
صديقك مساحة اللهو و الممازحة زادت عن ساعات الجد و العمل المفيد فعليك الحذر و تدارك األمر قبل أن تضيع الصداقة
!! ..........هذا محظور ،أما السمة األخرى التي ّ
تصدع بنيان األخوة هي الجدال الذميم الذي هو بريد الشقاق و بذرة
بين َيدي صديقه ! يحتمل منه ما ال يحتمل منالخالف التي متى نمت وترعرعت أكلت حظ نبتة المحبة واإلخاء ! الصديق ّلين َ
غيره ! متى وقع الخالف بينهما فلن يرقى لمنزلة النزاع و البغضاء ،ومتى وجد الصديق صديقه قد استمسك برأيه و أعلن راية
ا النتصار لنفسه خضع له والن ولم يتماد في الجدال وإنما أنهى الموضوع في هدوء ،فإذا كان النقاش في هذا األمر يكدر صفو
عالقتنا فلنطرحه جانبا و لنبتعد عنه لألبد فصداقتنا أغلى ما نملك والعمر ليس فيه متسع للشقاق والعداوة و صداقتنا هي مصدر
سعادتنا و انطالقنا فلن نجعلها مصد ار للشقاوة والتعاسة ! وهنا تجدر اإلشادة بقول حسن البنا – رحمه هللا (-نجتمع في ما اتفقنا
فيه ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه) ،والخالف شر كله كما قال ابن مسعود ،فلماذا نؤجج شعلة الشر بيننا ولنا متسع
في الرخاء والسالم بيننا لذلك فلندع المراء جانبا و ال ينتصرّن كل منا لنفسه إن كان يحب صديقه حقا وصدقا ،ومادام الحب
قائما فحب الحق والفضيلة سيتبعه مؤكدا وسينصاع كل طرف للحق أينما كان و ستتفق اآلراء بعد اختالفها و تجتمع العقليات
168
بعد شتاتها بال إجهاز أو استئساد من طرف ،فال ُيجهز المحب على حبيبه و ال ينتصر حبيب إال لما وافق الحق ليسود العالقة
الفضيلة و الحق !
ومن جوامع الكلم في سمات الصديق قول عبد هللا بن جعفر :إن لم تجد من صحبة الرجال ُبدا فعليك بصحبة من إذا صحبته
زانك وإن حققت له ( اختصمت إليه ) صانك وإن احتجت إليه مانك ( أعطاك المؤنة ) وإن رأى منك خلة سدها أو حسنة عدها
و إن وعدك لم يحرضك ( يخلف وعده ) وإن كبرت عليه لم يرفضك و إن سألته أعطاك وإن أمسكت عنه ابتداك
...................
هنا لنا وقفات مع هذه الدرر الثمينة ............
(من إذا صحبته زانك ) الصديق الحق زينة لصاحبه ! فصديقك معروف بالفضيلة والعدل و يشهد له القاصي والداني
بالمعروف ،يشير إليه الناس ببنانهم ،فمتى سرت معه في طريق فسيزيدك شرفا إلى شرفك و تصير بفضله مشهو ار بالخير ،
فالصالح ال يصحب إال صالحا ،هكذا يستنتج الناس لذا أنت تتزين بالسير معه و تفتخر بصحبته أمام الناس وتشعر بكيانك و
قوتك معه أمام بقية الخلق بل تشعر بالزهو والخيالء أحيانا أن قد سار معك هذا الشخص من دون الناس ،فيزيدك ع از فوق
عزك وجالال فوق جاللك ،ووازن بين مثل ذلك الصديق وصديق سيء آخر تتحرج من السير معه في الطريق و تخجل أن
يعرفه أبواك و أهلك فتحرص على مقابلته في الخفاء لئال يشينك و ينقص من قدرك فتصير صحبته عا ار و مرافقته مجلبة
التهكم والقيل والقال فيمسخك كما مسخ نفسه ! ......هما صنفان من الصديق فاختر منهما ما شئت .................
( إن حققت له صانك ) حينما تلجأ إليه مستشي ار فأنت على يقين أنه سيعطيك النصيحة المجدية النافعة ،وإن لم يستطع
ٍ
مرض لمشكلتك فإنه لن يبخل عليك بتخفيف همك و التهدئة لروعك فترتاح للشكوى إليه وتشعر أن هموم الدنيا إسعافك بحل
حين تبوح له بها تذوب كالجليد حين يقترب من النار ! الشكوى إليه أنس و بلسم و راحة فحين تُغلق األبواب أمامك فبابه – بعد
باب هللا – ملجؤك و مثواك ،وازن بين مثل هذا وبين من إن شكوت له زادك هما إلى همك و ّ
حملك الكرة األرضية فوق رأسك
و غلق لك األبواب المفتحة بل ربما يتهمك أنت و يلقي اللوم عليك ويحملك تبعات همك و كربك وكأنك أنت من تريد الهم
لنفسك ! فيقول لك لماذا لم تفعل ........ولماذا لم تحرص ...........ولماذا لم تفكر ...........ولماذا ولماذا ؟؟
فتنصرف عنه تحمل أحزانا مع أحزانك وتشعر أنك تريد االنتحار لتتخلص من حياتك لتريحها من تلك المشكلة المنعدمة الحلول
..................هما صنفان من الخدناء فاختر لنفسك !
( وإن رأى منك حسنة عدها ) إنه أسعد الناس بسعادتك ،يطير فرحا بفرحك ،أي فوز تحقق ينشره بين الناس و يحكي للقريب
والبعيد عما بذلته ونلته كأنه هو الفائز ! ،لو استطاع أن يخبر الدنيا كلها بما نلتَه و حققتَه لفعل ! ال تسعه األرض من الفرحة
......يحقق نظرية األنا بحذافيرها في الرخاء كما كان يحققها في الشده ،ووازن بين هذا وبين من إذا رأى نجاحك مصمص
شفتيه وكتم في قلبه غيظه وحنقه وود لو أنه كان مكانك وكنت أنت تسمع عن خبره ! ال تشعر بفرحه لفرحك وال لمشاركته لك
وإنما عبارات تهنئة مملة تسمعها من بقية الناس الُ تخفي وراءها سوى الحسد الدفين ! صنفان من الناس ّ
فتحر منهما ما يليق
بك ! .....
( وإن وعدك لم يحرضك ) خلف الوعد صار في الناس شيمة و تفشيه صار عادة وعرفا ،حتى صار من يلتزم بوعده هو الشاذ
النادر الذي يتعجب الناس منه ويجعلونه أحاديث أسمارهم ! ،وخلف الوعد يدمر الصداقة و ال يبقي لها ركنا ،فحين تعطي
169
مثال موعدا لصديقك و يتأخر عنه مرة و اثنتين و عشرة ،فهو ال محالة ال يحترمك وال يعطيك قدرك ،بل ال يحبك حق الحب
،فالمحب يتشوق للقاء حبيبه وال يتأخر عنه بل يعد الدقائق والساعات قبل لقائه فيأتيه قبل الموعد شوقا و حبا ! و من كان من
أهل التأخر و إخالف المواعيد فهو قليل المباالة قليل االحترام ولو كان موعد امتحان الحترمه ولو كان موعدا مع رئيس العمل
الشّقة ) ! هما نوعان من البشر
لجاءه حبوا ولكن من باب ( لو كان عرضا قريبا وسف ار قاصدا التبعوك ولكن بعدت عليهم ُ
فاصطف من شئت !!....
كبرت عليه لم يرفضك ) كنتما تسيران في طريق واحد منذ الصبا لتحقيق غاية و هدف فنجح هو ولم تفلح أنت ،فلن
َ ( وإن
تعز عليك نفسك حينها إن كنت صديقا بحق بل ستواصل الصداقة و يزداد تعلقك و حبك له لنجاحه وتفوقه فتدعو له بالتوفيق
ّ
بل حين يمد لك يد العون – وهو المعين دائما ال يتخلف عن واجب – سيزداد تعلقك به و إيمانك بصداقته وحين تنظر لصنف
أحسنت إليهم ابتعدوا عنك وجفوك ألنهم ال يريدون أن يروا من أحسن إليهم وال يريدون أن يكون
َ آخر خبيث من البشر متى
طى ،لماذا يكون هو اليد العليا وأكون ِ
المعطي وأن المع َ ألحد عليهم جميل فنفوسهم الخبيثة تتهم القدر ! تقول لماذا يكون هو
رد الجميل في أسرع وقت بطرق َّ
متكلفة أنا اليد السفلى ؟! فتدفعهم تساؤالتهم لمزيد من الحقد والبغض و االجتناب ،بل يحاولون ّ
مبتذلة ليرفعوا عنهم هذا الجميل الثقيل على نفوسهم بإباء واستكبار !!!..هذا نوع من البشر نقابله في حياتنا ،فتخير لنفسك
من تصطفيه من هذا وذاك !
واستم ار ار لسؤال السابقين و تلهفهم على الصديق سئل ابن برد األبهري :من الصديق ؟ قال من ّسلم سره لك وزين ظاهره بك
وبذل ذات يده عند حاجتك وعف عن ذات يدك عند حاجته يراك منصفا وإن كنت جائ ار ومفضال وإن كنت ممانعا رضاه منوط
عجزت آداك ( أعانك ) يبين عنك بالجسم والرسم ويشاركك
َ ظمئت أرواك وإن
َ للت هداك وإن
برضاك وهواه محوط بهواك إن ض َ
في القسم ( الخلق ) والوسم ( السمة ) ..................
(يراك منصفا وإن كنت جائ ار ومفضال وإن كنت ممانعا ) إنه يراك في أحسن صورة ،أبهى منظر لك مطبوع في عقله و
تغيرت أمام عينيه فلن تتغير
َ فرسمت تلك الطبيعة في ذهنه ،فمهما
محفور في ذاكرته ،عرفك حق المعرفة في حالتك الطبيعية ُ
أمام قلبه ،هو يعلم علم اليقين أن هذا التغير الطارئ ما هو إال وضع مؤقت اضطرتك الظروف إليه ولكنك حتما ستعود إلى
سجيتك الطيبة المثالية وحينها سيتنعم بك مرة أخرى و يستمتع بطبيعتك كرة ثانية فليس غضبك حين الغضب من شيمك وال
جزعك وقت الكارثة من حلمك ولكن هي أوضاع اضط اررية سرعان ما تنقشع مع انقشاع الغمة وإن لم يحدث ذلك فأنا المقصر
فإني لم أقومك حق التقويم و لم أكن لك المرآة التي ترى فيها نفسك فتصحح فعالك وتقوم سلوكك ،إننا شريكان في كل شيء
في السيئة والحسنة فحسنتك تصبغني كما تصبغك ولي منها نصيب و ربما هي من تأثيري عليك ،وسيئتك كذلك لي دور فيها
تغيرت ........إنها فلسفة ال
َ إما متأث ار وإما مؤث ار فاللوم علي كما هو عليك لذا أراك في أبهى ما يكون مهما َ
فعلت ومهما
يفهمها سوى من جرب طعم الحب !!
الن َسخ ! تشابه في السلوك و التعامل و تطابق في التفكير و
فن صناعة ُ
(يبين عنك بالجسم والرسم ويشاركك في القسم ) إنه ّ
النقاش
170
محاكاة لطريقة الكالم والحوار بل أحيانا في طريقة اللبس و المعيشة ! حتى يراك الرائي فيقول إنني حين أكلم صديقك أشعر
أنني أكلمك !
فعلت فيه ؟ هل فعلت له سح ار لتقلب كيانه
أشعر أنني أمامك ! ما هذا التشابك الروحي ؟! وما هذا التناسخ العقلي ؟! ماذا َ
وتدمجه إلى كيانك ؟! إنها أمارات الحب و التعلق وقرائن المخادنة والمعاشرة ،من كثرة حبك له أشبهتَه ! من كثرة كالمك معه
حفظت كل معالمه لتحاكيها ببراعة وبال
َ وحفظت مالبسه و
َ حفظت كلماته
َ فصرت تتكلم مثله وبنفس عباراته !
َ اقتبست طريقته
تكلف ! إنه الحب األعمى في أل ّذ صوره وأمتع أشكاله .....يراكم الناس و يتحاكون بحكاياتكم و يتسامرون بنوادركم و طرائفكم
! إنها الصداقة والحب !!
(رضاه منوط برضاك وهواه محوط بهواك ) ال يصدر عن فعل حتى يستشيرك في أمره ،ال يهدأ له بال حتى يرى رأيك قبل أن
طمأنه و أنت ُمستكانه ! إذا عرض عليه أحد عرضا في حضورك التفت إليك سريعا ليشاورك في األمر فكيف يقدم عليه أنت ُم ّ
يقدم على خطوة لم يستشرك فيها ؟! إنها الشورى على المستوى الفردي و الديمقراطية على المستوى الصداقي ،مشورة
وديمقراطية ال تقتصر على األمور المشتركة بينكما بل في األمور الفردية كذلك إنها روعة اتخاذ القرار بعد الرجوع لخير
مستشار !!...............
وعودة إلى قائمة المحظورات في الصديق قال محمد علي الباقر راويا عن أبيه :يا بني ال تصحب فاسقا فإنه بائعك بأكلة فما
قلت :فما دونها ؟ قال يطمع فيها فال ينالها ..وال تصحب بخيال فإنه يطمع بك في مالك أحوج ما تكون إليه وال تصحب
دونها ُ
يقرب منك البعيد وال تصحب أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وال تصحب قاطع رحم فإني وجدتُه كذابا فإنه بمنزلة السراب ّ
ملعونا في ثالثة مواضع في كتاب هللا .....................
داء البخل :يتعارض تعارضا صارخا مع اإليثار الذي هو أحد أعمدة الخّلة و المحبة ،وهو إن أحبك يوما في وقت رخاء
فستأتي الشدائد وتخيره بينك وبين المال وحينها سيختار المال تلبية لمرضه النفسي فيفتضح حبه الزائف الذي لم ينتصر على
الكرم ! فالحب مدرسة كبرى
َ شحه المطاع لديه ،لذلك ابتعد عنه من االبتداء ....وهذا ال ينفي أن البخيل قد يتعلم من الحب
ّ
تصهر معادن الناس وتش ّكلها أفضل ما تكون ،فتحول الطالح إلى صالح و الفاسد إلى ُمصلح والحب سلطان يدخل بوابات
القلب بال استئذان وعلى غير موعد فينشر سحره و مفعوله العجيب فيغير البشر على غير توقعاتهم !
أما الكذاب :فمسلكه و مسلك الصداقة ال يجتمعان أبدا فالصديق كما ذكرت آنفا اشتق من الصدق ،و الصديق ال ُيخفي عن
صديقه أدق تفاصيل حياته فإن أراد إخفاء أشياء عنه ضاربا بحق الصداقة عرض الحائط فواجهه صديقه بما يفر منه فإنه حتما
سيلجأ للكذب مالذا و ملتحدا ليهرب مما يخشى اإلفصاح عنه فتصير الصداقة حطاما و فتاتا يرقص على أطاللها شياطين
الكذب والمواراة والخبث !
أما داء الحماقة :فهو وبال على من يصاحب صاحبه ! فإن األحمق يسير إلى حتفه معصوب العينين فإذا صحب أحدا أخذه
معه إلى مصيره المشئوم ! واألحمق عبء على صاحبه ال فائدة منه سوى الهم والخسار ،وإن استشير أجاب بما ال يعلم
فيضل و ُيضل ،والجهل سمته و رسمه وصديق جاهل أسرع هدما من عشرة أصدقاء عالمين بنائين ! وهو يورث صديقه َ
الجهل والكسل وقلة العمل والتواكل و كل سمات الضياع والخيبة ،واالتفاق الفكري والعقلي من أركان الصداقة وهو ما ال يتوافق
171
مع صحبة أحمق و عاقل فاألحمق سينجذب حتما ألحمق مثله والعاقل سيتبع عاقال يشبه ،هذا هو األصل في الحياة الصداقية
!
أما قاطع الرحم :فهو إنسان مقطع األوصال ،من يريد صداقته ال بد أن ينظر إليه نظرة الريبة و القلق ،فهو ال يراعي حق
أقربائه وهو أدعى لئال يراعي حق صديقه ،فالذكي ينبغي أن يفر منه ف ارره من األسد لينجو بنفسه اللهم إال الحاالت الخاصة
التي لألسف كثرت في زماننا من تقطع العائالت و تشرذم األنساب حتى يحاول التقي الورع أن يجمع الشتات العائلي و يوفق
بين الخصوم من عائلته فيجد نفسه منبوذا مقطوعا بال ذنب وال جريرة منه إال أنه ابن لفالن أو فالنة ،فيؤخذ األبناء بذنب
اآلباء بال رحمة وال عدل وال مراعاة لحق فرضه هللا في كتابه وعلى لسان نبيه ،فهو فعل ما عليه وبذل جهده ولكن جهوده
كانت رمادا بين نيران الفتنة والشقاق ،ومثل هذا اإلنسان الذي فقد روابطه العائلية بال ذنب منه يجد السلوى و السرور في
الصداقة واألصدقاء ،فهو أحوج من غيره لصديق يمأل الفراغات التي حدثت من ضياع العائلة فتجده يكثر من األصحاب
واألصدقاء ليعوض ما فاته من ود العائلة وهو خير بديل و أفضل حل ناجع لمشكلته االجتماعية !!
وذلك أيضا ال يعني أن ذا العالقات العائلية الجيدة يفرط في حق الصداقة وينسى نصيبه من أروع عالقة اجتماعية ! ينبغي هنا
الحذر من هؤالء الذين يقدمون عائلتهم على صديقهم فيهملونه و يقطعونه بدعوى صلة الرحم وصلة الرحم منهم براء ! فالصلة
صلة األقرباء و األصدقاء بال إفراط و ال تقصير وبدون أن يطغى جانب على جانب ناهيك بأن الصديق أقرب من القريب
والنسيب بأجماع أهل العلم واألدب لم أر في ذلك أحدا مخالفا إال أهل الهوى و البرود !!
بعد أن استعرضنا كل هذه اآلمال في صديق األحالم من الطيبين الصالحين الذين حيت قلوبهم و أزهرت نفوسهم و أشرقت
سرائرهم أقول إن من يجد صديقا فيه كل هذه الصفات الطيبة يدين له بعمره ! و يضعه فوق رأسه و يستمسك به بنواجذه ما
حي ! و يطلق له عنان الوفاء و اإلخالص ويدعو رب الناس أن يديم عليه صحبته وأال يحرمه منه أبدا و يبذل له الغالي
ّ
والنفيس ليستمتع به طول عمره وما أحسن قول القائل :
وكل غضيض الطرف عن عثراتي أحب من اإلخوان كل مـ ـ ـو ٍ
ات
ويحفظني حيا و بـ ـ ـ ــعد وفاتي يساعدني في كل أم ـ ـ ـ ــر أحبه
فقاسمته مالي من الح ـ ـ ـ ــسنات فمن لي بهذا ليت أني وجـ ــدته
كالم جامع البن حزم األندلسي في سمات الصديق من كتابه( طوق الحمامة) :
172
الغناء ،ثابت القريحة ،مبذول النصيحة ،مستيقن الوداد ،سهل االنقياد ،حسن االعتقاد ،صادق اللهجة ،خفيف المهجة ،عفيف
الطباع ،رحب الذراع ،واسع الصدر ،متخلقاً بالصبر ،يألف اإلمحاض ،وال يعرف اإلعراض ،يستريح إليه ببالبله ( همومه
ووساوسه) ،ويشاركه في خلوة فكره ،ويفاوضه في مكتوماته ،وإن فيه للمحب ألعظم الراحات ،وأين هذا ؟؟ فإن ظفرت به يداك
فشدهما عليه شد الضنين ،وأمسك بهما إمساك البخيل ،وصنه بطارفك وتالدك ،فمعه يكمل األنس ،وتنجلي األحزان ويقصر
الزمان ،وتطيب األحوال.
ولن يفقد االنسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميالً ،ورأياً حسناً ،ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخالء كي يخففوا عنهم بعض
ما حملوه من شديد األمور وطوقوه من باهظ األحمال ،ولكي يستغنوا بآرائهم ،ويستمدوا بكفايتهم ،وإال فليس في قوة الطبيعة أن
تقاوم كل ما يرد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها)).
كالم فلسفي نفيس للدكتور مصطفى محمود عن الصداقة وسماتها وضروريتها :
يقول في مقال بعنوان (الرجل و الرجل ) :
(حياة كل منا مدفن واسع نضع فيه أنفسنا ،منذ اللحظة األولى التي نصحو فيها تستولي علينا مئات الهموم الصغيرة
واالنشغاالت التافهة والواجبات ( الروتينية ) والمجامالت واألمور التي نأتيها كل يوم بحكم العادة بدون تفكير ،ندخل الحمام
نفطر نشرب الشاي نلبس ثيابنا نجلس على نفس المكتب في نفس الكرسي ونقول نفس الكالم لنفس الذي يجلس أمامنا في مكان
عملنا ،نعود إلى البيت من نفس الطريق ونفتح البيت بنفس المفتاح ونقول السالم عليكم لنفس اإلخوة واألقارب الذين نلقاهم في
كل مرة ..ألف شيء تافه!
زمن طويل ال نعيشه وإنما نحمل جثثنا التي تفوح منها رائحة الملل من لحظة للحظة .....حتى تأتي لحظة حرجة نفقد فيها
الصبر واالحتمال وننفجر ونبحث عن آدمي ننفجر فيه نفتح له قلوبنا ونفوسنا ونلقي أمامه أس اررنا ....
وهذه اللحظة هي بداية البحث عن صديق ،والصداقة ليست عالقة عادية بين رجل ورجل ،إن أول شيء يعمد األصدقاء إلى
قتله هو العادة ،الصداقة ثورة على العادة وعلى دكتاتورية المجتمع والناس وخلوة يتطارح فيها نفسان ....ولذة الصداقة هي هذا
العري النفسي والمكاشفة والصراحة ،إن المهر الذي يقدمه الرجل للرجل ومقدم الصداق الذي يدفعه هو إعفاؤه من التكلف
ُ
والمجاملة ،إنه يقول :كن نفسك ال تتنازل من أجلي عن شيء من حريتك ،وهو يفعل ما هو أكثر من ذلك يقدم له المعونة
ليصل إلى نفسه ويعبر عنها .....
إن الصديق الحقيقي ال تكون له مصلحة خاصة من صداقته سوى أن يفهم نفسه أكثر وأكثر ويصل إلى حريته ويعطي صديقه
نفس الفرصة في أن يبلغ حريته ويفهم نفسه ،إن غاية الصداقة هي النجاة بالحرية من اختناق المجتمع وصفاقة الناس وثقل
العادة ،وأنا ال يزعجني من صديقي أفعاله التي تجرحني ولكن يزعجني أفعاله التي يفقد بها حريته وأفقد أنا بها حريتي ألنها
تهدد الصداقة في جوهرها ..
والفيلسوف الوجودي سارتر له نظرية خاصة في الصداقة ،إنه يعتقد أنها تحوي العداوة والخوف والتربص ،كل واحد يتربص
باآلخر ليستولي عليه ويبتلع إمكانياته وهو يشعر بالحاجة إليه و بالخوف منه في نفس الوقت ،وفي رواية التعلق يقول دانيل
173
لصديقه ماتيو :هل ستصدقني حينما أقول لك إني لم أكن أفهم من أنا ومن أكون وما رذائلي وكأنما يعترض أنفي طر َ
يق رؤيتي
فال أستطيع أن أتراجع عنها مبتعدا عنها بما يكفي لكي أراها ،وكنت أنت في تلك اللحظة الوسيط بيني وبين نفسي ..
وهذا أثمن شيء لدي إذ إن هذا الكائن الجامد الصفيق الذي هو أنا استطعت أنت أن ت اره في بساطة كما أراك أنت ..
وفي مسرحية الذباب يقول إيجست لرعاياه :إنني أريد أن يحمل كل واحد من رعاياي صورتي في نفسه وأن يشعر في وحدته
بنظرتي القاسية تجثم على أشد أفكاره سرّية ! ،وأقول وأنا حزين إنني أنا نفسي أصبحت أول ضحية لذلك فلم أعد أرى نفسي إال
كما يراني هؤالء الرعايا ،وإني ألنحني في بئر نفوسهم فأشعر أنها تنفرني وتجذبني ،إلهي أيها القادر من أنا سوى الخوف
الذي يشعر به اآلخرون نحوي ؟! ..
والحب في نظر سارتر ما هو إال قناع إلرادة االمتالك والسيطرة ،العاشق ال يبتغي إال امتالك المعشوق بكل الوسائل وينتهي
الصراع بأن يبتلع الواحد اآلخر وأفكار سارتر فيها عداوة أكثر من كونها فيها صداقة .............إن السعادة في الصداقة وفي
الحب التي جربها كل منا تدل على إمكان قيام العالقة اإلنسانية ،والصداقة في نظري صراع عاشق العداوة فيها عداوة فاضلة
تحفز و تشحذ وتدفع وتستنهض للعمل وليست عداوة تهدم وتهزم وتبتلع وتسيطر وتشل القوى إنها كعداوة المتسابَقين تتحدى كل
واحد أن يبذل أقصى سرعته ،الصداقة صراع متبادل من أجل أن يرتفع االثنان إلى معرفة أكثر ودراية أكثر بنفسيهما ،ومعونة
متبادلة مليئة بالرجاء واألمل والحب ،وحينما ال نجد الحب وحينما ال نجد الصداقة فليس معنى ذلك أنه ال يوجد حب وال توجد
صداقة ..وإنما معنى ذلك أننا لم نجد الرجل الناضج ولم نجد المرأة الناضجة بعد ! ،والقلوب الكبيرة قليلة نادرة مثل كل شيء
نادر ،والقلوب الصغيرة موجودة مثل كثرة النمل !! )
طريق الصداقة طريق طويل يحتاج إلى صبر و حلم ،كما أنه طريق وعر شاق ال يسلكه إال أصحاب الحقيقة ،وهو كذلك يتيه
فيه من ليس له دراية به ،فهو متشعب المسالك وال بد لسالكه من خارطة يستنير برسمها وإشاراتها أو دليل مرشد يهدي إلى
المقصد المرغوب !!
هذا الكالم ال بد أن يعيه جيدا من هم في أول الطريق من هم على الشاطئ قبل أن يبحروا في محيط الصداقة ،هم على ّبر
األمان و سيخوضون بح ار فيه المجهول كماهو فيه الخير والرشد لمن أبحر فيه على دراية و رشد !................
والخارطة التي تهدي السبيل أو الدليل الذي يرشد إلى المقصود هي خبرات السالكين السابقين الذين نعموا بالصداقة أحيانا وشقوا
بها أحيانا أخرى ،هم بدءوا الرحلة من قبل ومنهم من لم يزل فيها ومنهم من انتهى منها ليصل إلى نهايتها ،جميعهم عندهم
من الخبرات ما لم يعهده المبتدءون وما ال يعيه الهواة منهم ! ...وهاك بين يديك أخي العزيز بعضا من هذه الخبرات لعلك
تسترشد بها .........
ومعارف !
ُ وللحب آيات ترى خليلي للبغضاء حال مبينة
ّ
دليل العيون ونظرات المودة !
174
هذا إنسان جيد الطباع ،حسن األخالق ،جمعنا الزمان والمكان وآن األوان لنحسم المسألة ،أصدقاء أم أصحاب أم زمالء ؟؟
إنني أفكر فيه و في صداقته فإنني أحبه و أعجبني أكثر من غيره وفيه من سماتي الكثير واجتمعنا على غير موعد فلماذا ال
نكون أصدقاء ؟ ترى هل يبادلني نفس المشاعر وهى تلك الروح الطيبة التي أتنسم عبقها يشعر بها هو كما أشعر أنا ؟؟ إنني
أريد االقتراب منه أكثر فهل يقبل قربي أم ينبذني و يرفضني ؟ إنني سأتج أر وأقترب منه اقتراب الصديق من صديقه وليكن ما
يكون !! ولكن أال يوجد دالئل أطمئن إليها تجعلني أقترب وأنا مطمئن لقبوله لي ؟؟ نعم عندي دليل ....إن مالمح وجهه
ونظرات عينيه خير دليل على ذلك ،فهو يبتسم لي كأنه بدر ليلة التمام ! إنه يسعد برؤيتي كما أسعد برؤيته ،إنني ألقى من
ترحابه ما يرفعني إلى السماء من فرحي به وإقبالنا المشترك على بعض ! إن عيونه خير دليل ! إن عين اإلنسان ال تكذب أبدا
! قد يكذب اللسان وقد يكذب البدن ولكن العين ال تعرف الكذب هي الكاشفة لما في النفوس الطيبة والفاضحة لما في النفوس
الخبيثة !! العين دليلي ومرشدي !! وقال في ذلك األصمعي :
الشناءة :البغض من الشناءة أو ود إذا كان ـ ـ ــا تبدي لك العين ما في نفس صاحبها
ال يستطيع لها في الصدر كتـمانا إن البغيض له عين يص ـ ـ ــد بها
محجر :الصندوق العظمي المحيط بالعين ترى لها محج ار بشا وإنس ـ ــانا وعين ذي الود ما تنفك مقب ـ ـ ــلة
حتى ترى من ضمير القلب تبيانا والعين تنطق واألفواه ص ـ ـ ــامتة
إن إنسان عينه ينطق بقبوله لي ! بل َعظم محجرها يشع رضا وسرو ار بصحبتي ! فلتكن تلك البداية إذن ! ولكن
............................
قبل التسرع في الحكم واإلقبال غير المدروس عليك أيها المحب الطيب أن تتأكد أن تلك النظرات لك وحدك من دون بقية
الزمالء واألصحاب ! أتدري لماذا ؟؟ إن كانت نظراته الودودة التي تشع حبا يشاركك فيها اآلخرون وال تتميز بها عليهم فهو
إنسان بشوش بطبعه يعطي الود لكل الناس بال مقابل ،يحب كسب العالقات بأسرع وقت ،وأسهل طريق لجذب المعارف هو
البشاشة وطالقة الوجه بل سطوع العينين و بريقهما ! إنه يعطي تلك اإلشراقة للجميع ليكسب عالقة الجميع وأنت منهم ! هو
غالبا من أنصار الصداقة الغثائية ،هو من هواة جمع الناس و اكتساب عالقتهم االسمية أما المضمون فليس في حسبانه ،قد
يكون إنسانا ناجحا ومن مدعمات نجاحه من وجهة نظره ّلم الناس حوله هو يطمئن لذلك ويشعر بقوته و ّأبهته وسطهم !!
فالتظنن حينها أنه اصطفاك لصداقته وإنما أراد ضمك لقائمة معارفه ،وحتى تتأكد أن هذا الشخص من هذا النوع انظر لعالقته
معك بعد مدة ،شهر شهرين سنة ! ستجد عالقته بك قد فترت عن ما كان من قبل ...هو نال منك ما أراده ووضعك في جيبه
كما يقولون فستجده أقل اتصاال و أكثر بعدا و إهماال وربما يعود فيصلك في المناسبات أو المصالح المشتركة ،لذا احترس من
هذا النوع وحاذر وال تقترب من حماه ! فإنه له حمى ال يسمح ألحد بتجاوزه ولو تجاوزته فسيأمر حراسه بإطالق النيران عليك !!
صد و إحراج و جفاء !!
هذه النيران ليس من رصاص أو قنابل وإنما هي من ّ
يعامل ! نعم .............هذه قاعدة مع كل الناس اتبعها لتستريح نفسك
فال تضع نفسك في هذا الموقف وعامله كما يحب أن َ
،عامل الناس كما يحبون أن يعاملوا ! هذا إن كنت من أهل الود و معتنقي مذهب الصداقة واإلخاء ،أنت تدخل فقط دار َمن
داره مفتوحة وال تقتحمها وال تعتل أسوارها لتطرد شر طردة ! أنت من أصحاب القلوب الرقيقة ،قلبك ال يقوى على الصدمات و
175
ال يحتمل الجفاء و النكران فعامله بقدر تعامله وال تعطه أكثر من مقامه فهو ال يستحقه وكذلك أنت ال تستحق اإلحراج واأللم
النفسي !!
هذا نوع من الناس -أعني من يعطون نظرات الحب بال حساب و ال مقدار الكتساب معارف جديدة ال أكثر -ولكن هناك
نوع آخر من تلك الفئة الكريمة النظرات ،نوع يعطي نظرات الحب وهو محروم منه ! نوع يجود بالود والطيبة وهو يائس منه !
نوع ال يستطيع اكتساب أصدقاء لظروفه الصعبة وحياته الضيقة ،حياته من وجهة نظره ال تتسع لصديق مخلص ،فوقته كله
مشغول بمتطلبات الحياة ! إنه العمل والكد ليل نهار ليسد رمقه و يشبع أساسياته هو وأسرته ،ترى من يصادق وهو ليس عنده
من الوقت ما يصل به األصدقاء ؟؟!! ومن يدنيه منه وهو ذو حال بسيطة متواضعة يتوارى من الناس بها لئال يعرفوها فيشفقون
عليه وهو ال يحب نظرات اإلشفاق !! متى يقترب من الناس وكيف يقترب وهم منشغلون عنه بحياتهم ومالهيهم ،هل يفضي
بسره إلنسان ال يطيق مزيدا من الهموم على همومه ؟! هل يثقل عاتق الناس بما هم في غنى عنه ؟! لذا هو يعطي الحب وهو
محرم عليه فما العمل معه ؟؟؟
يعرف أنه ال يستطيع نيله وكأنه ّ
إن هذا الشخص يحتاج إلى محب جريء يخترق جدران حياته بلباقة و ذكاء ،يقترب منه – بعد أن علم أخي ار حال – ويهدم كل
الحواجز المصطنعة من ِقَبله و يقول له بجراءة :إن كل ذلك ال يعنيني في شيء إنني أحببتك لذاتك ولوجه هللا واخترق حبك
فأحببت صداقتك مهما كانت أحوالك فأنا سأقبلها ،سأحمل عنك همك ،سأشد أزرك سأكون لك الملجأ والمالذ حين تضيقُ قلبي
بك الدنيا ،سأحتملك ألنني أحبك وأعذرك فيما ليس لك فيه يد !! ...........................إنها القدرة على االختراق !
اختراق األبواب المغلقة اضط ار ار ! و فن اختراق الناس موهبة من هللا ال يستطيعها كلنا لذلك فإن هذا الشخص المنغلق على
رغم أنفه وبال يد منه غالبا ما يزهد في صداقته المخلصون حين يجدون بابه مغلقا فينصرفون لظنهم الظنون فيه وهو المسكين
يحتاج لمن يساعده في فتح بابه فهو ال يقوى على فتحه بنفسه !!
أما النوع الثالث من الفئة الكريمة النظرات فهو نوع يائس من الصديق !! جرب الصداقة من قبل ففشلت أو ربما بحث عنها
حتى يئس منها فانتحل مذهب انعدام الصديق ،ولم يعد يشغل باله البحث عن األصدقاء فهو بحث عن سراب بالنسبة إليه ،
ٍ
مرض – فقرر أن ينثر وده في كل مكان ليكتسب معارف و زمالء و تنشأ صالت متعددة تكون بديال – وإن كان غير
للصداقة ،فوضع الحواجز أمام قلبه و بنى الجدران والحصون حوله وإن كان الناظر غير المتأني يظنه لبشاشته وانطالقه
شخصا اجتماعيا من الدرجة األولى !!....................
وهذا النوع إذا أحببته وأردت صداقته واكتشفت قصته و ُعقدته من األصدقاء – وهو أمر كذلك ليس بالسهل – فهو مثل النوع
السابق يحتاج إلى اختراق ،وبراعة االختراق تكون على قدر مهارتك وفنك في التغلغل في نفوس الناس حتى يسلموا لك أنفسهم
ويرفعوا راية اإلذعان واالستسالم !!
176
اإلنسان بطبعه يحب المكاسب السهلة السريعة وذلك ألنه جبل على التعجل ( وخلق اإلنسان عجوال ) بيد أن تلك المكاسب
السريعة كما أنها سهلة المنال سهلة الزوال ! ..والشيء الذي تحصل عليه بدون جهد يزول كذلك بدون جهد ! ولئن كانت
الصداقة الطيبة الطاهرة من خير مكاسب الدنيا هي يسري عليها هذا المبدأ النفيس ،لذلك اترك لنفسك ولصاحبك مساحة من
الزمن قبل أن تقعا في بحر الصداقة ،ليكن التأني والتروي سبيال إلى الصداقة ،ولنفسك أنت عليك التحقق والتثبت ممن تختاره
صفي نفسك و مالزم ظلك !
ّ
قال أبو قيس الرقيات :
حتى تَبين ما طبـ ــاعه ال يعجبنك صاح ــب
وما يجود به اتسـ ــاعه ماذا يضن به علـ ــيك
وما يضيق به ذ ارعـ ــه أو ما الذي يقوى عـليه
تك بالحوادث ما دفاعـه وإذا الزمان رمـى صـفا
اتضاعه :انخفاضه هوى أخيك وما اتّضاعه فهناك تعرف ما ارتـفاع
صاحبك بين يديك ستلقاه مرة تلو المرة ابله مرة بعد مرة و ال تتسرع وال تترك التبين من ُخلقه فإنه ليس َملبسا ستلبسه زمنا فيبلى
فترميه ! وليس طعاما ستخزنه ثم تأكله ! وليس متاعا ماديا زائال ستأخذ منه متعتك ثم تتركه ! إنه رفيق دهر و صديق عمر و
أنيس درب !
إن التجارب االجتماعية أثبتت أن الصداقات السريعة أكثر الصداقات فشال ! فهي ال تبدأ حتى سرعان ما تبزغ المشاكل
والنزاعات فيها التي ال تلتئم حتى تثعب دما مرة أخرى ! وما ذلك إال للتسرع ،والتسرع هنا هو تسرع القلب ،القلب الذي يتعلق
بمحبوبه كالطفل الذي تعجبه اللعبة أو الطفلة التي ترى الدمية كالهما يمسك اللعبة بيديه وأسنانه ويظن ساعتها أن سعادة الدنيا
كلها في اقتناء تلك اللعبة فما يمتلكها حتى يكتشف عيوبها الفنية فيعانيها ثم ال يلبث أن يزهد فيها وربما يكسرها في النهاية !!
وكذلك الصديق الذي تغلغل في القلب بسرعة وبال استئذان يجذب صديقه إليه أسرع من جذب المغناطيس لقطعة المعدن التي
تفجأ بأنها ال تستطيع اإلفالت من مجال المغناطيس بسهولة فتعاني منه و يصيبها األسى من شدته !! إنه الحب األعمى الذي
يقود صاحبه إلى طريق مجهول !
إنه حب الصورة والمظهر ال المكنون والجوهر !! إنه انبهار بحسن الوجه و استبشار ببريق العين و استحسان لحلو الكالم بال
تفتيش عن مضمون اإلنسان !! وهذا هو طريق الضياع و مسلك الهالكين !!
وانظرن بعد ابتــالء من تود ال تودن ام أًر لم تبلـ ـ ـ ــه
ال يغرنك ثيـاب وج ـ ــسد خالق الناس على أحسابهم
نال ذما ودمـيما قد ُح ـ ــمد رب محمود على الصورة قد
جمعا يوما لإلنس ـ ــان سعد فإذا الصورة والحمد م ــعا
ليس معنى الحذر من الوسماء النضراء أنهم تحوم حولهم الظنون ،ولكن هو الحذر ....وليكن اجتماع الوسامة الحسية
فوز بالخيرين ولكن ليس ذلك إال بعد التفحص والتثبت !
والوسامة المعنوية جمعا بين الحسنيين و ا
177
إن الصداقات السريعة لها مواطنها التي ُيخطف فيها الناس ،و ذلك في األوقات الضيقة التي يكون فيها التقاؤك بمن أحببت
وبه ائتنست في وقت ضيق و مساحة محدودة ،فأنت ستراه في أيام معدودة أو أسابيع محدودة لو فاتت بدون أن تكسبه فقدته
إلى األبد !! وهنا يتفوق القلب على العقل بسهولة و يحدث التسرع في طلب اكتساب الصداقة ،وهي حادثة مشتهرة للصداقات
المروعة !! يكتبها علينا القدر و تلح بها علينا الظروف و يصير
ّ المتسرعة ،اشتهرت كذلك بكثرة الفشل و النهايات المأساوية
اإلنسان العاقل مشتتا بين عقله وقلبه فيفوز قلبه في النهاية ألن قلبه ليس بيده كما أن عقله لن يتركه هادئا لو فاته مراده !!
فتحسم المعركة للقلب و تحسم كذلك مخاطرة غير مأمونة العواقب !!
المتعجلة قبل أوانها بكلمات دقيقة ،فهو وصفها من خالل ذلك المتسرع الذي يأتي لمن
َ وصف أبو األسود الدؤلي تلك الصداقة
أعجبه شكله و ووجهه ويطلب صداقته ولكن هذه المرة يكون المقتَ َرح عليه الصداقة هو المخطئ لو قبل سريعا بال حذر وتأنٍ
وإنه سوف يدفع الثمن كذلك لو اهتبل فرصة قبل أوانها و قطف ثمرة قبل نضجها ،فيقول :
أتاني فقال اتخذني خليال ِأريت امـ ـ أًر لم أب ـ ــله
فلم أستفد من لونه فتيال فخاللته ثم ص ــافيـ ــته
وال ذاكر هللا إال قلي ـ ــال فألفيته غير مســتعـ ِـتب
وأتبع ذلك هج ار جمـ ــيال ألست حقيقا بتوديـ ــعه
إنه الهجر ،وإنها القطيعة ،المصير المشئوم للعالقة المتهورة المتسرعة ،وما كان إال للحظة ضعف من القلب تسلط فيها على
عبد له طريق الهوان والحسرة !!
كيان اإلنسان فشرده و شتته و ّ
صناعة ِ
الثقل !
االنفتاح بين األصدقاء و نبذ الكلفة سمات أساسية في الصداقة ولكن حذار أن يسري ذلك المبدأ على كل الناس ! فليس كل
الناس أهال لسعتك و مرحك وليس كل من هب ودب يكون حريا بانبساطك التام له الذي قد يشعره – إن لم يكن راغبا في
صداقتك – بصيرورتك عبئا ويشعره بتثاقلك عليه وهو موقف ضعف لك فستصير مثا ار لالزدراء حتى تشتهر بثقل الدم فينفر
الناس منك و يجتنبونك !!
قال األحوص المدني :اجعل أنسك آخر ما تبذل من ودك ومن االسترسال حتى تجد له مستحقا !! ..................
الثقل ممتنع بين الخدناء ،واجب بين الزمالء واألصحاب ،وفرق كبير بين الثقل والتثاقل ! تزيد األخيرة عن األولى حرفيا
ضعة و مهانة وصغار !! وكما يقولون :الثقل صنعة ! هي حرفة بالتاء واأللف ومعنويا األولى عزة و منعة ووقار والثانية ِ
يجيدها أهل الحكمة والذكاء ويعرفون مواضعها و يدركون مواطن امتناعها ...........
ومن الناس من يمكن أن نطلق عليهم ( مشاريع أصدقاء ) وهؤالء أنت ما زلت تختبرهم ويختبرونك ،لم تتيقن من صداقتهم ولم
يجزموا بصداقتك وهؤالء عليك أن تفتح لهم الباب مواربا ،بين االنفتاح وبين االنغالق حتى تحين اللحظة المناسبة للقرب
الحقيقي منهم فقط حين تتيقن من حبهم لك و رغبتهم في االئتناس بك حينها تعمق العالقة و توطد الصلة غير هياب وال متردد
................
178
وإياك أن تندفع للمغريات الوهمية من بعض األناس فانبساط شخص لك مرة ال يعني رغبته في صداقتك طول العمر !! فربما
الصد و التعنيف المعنوي – وقد يكون لفظيا أحيانا -منه على غير
ّ ينبسط لك مرة لسبب ما فتنبسط له عشر مرات فتجني
توقع منك !! هناك روح تسري بين المتحابين ال يسهل وصفها ومهما تكلمنا عنها فلن تصل صورتها كاملة إال بعد أن تجربها
وتشم عبقها و تسمع دبيبها حينها يكون االنبساط حقا وصدقا !! ..
توغل معهم فيترددون ! في صورة مليحة ودودة يشعر بها المتودد
ُ ومن مشاريع الصداقة من يأتي وقت قطف ثمرتهم فيتمنعون !
المتقرب وهؤالء اصبر عليهم فهم أهل عزة ومنعة ولكنهم سرعان ما يقعون في بئر الصداقة بعد ذلك وللتخذ منهم قدوة في
تعاملك مع اآلخرين الذين ينوون التقرب منك لتكون عزي از في مواطن العزة غير متشدد في عزتك لئال تفقد من أراد وصلك ولئال
تقطع من أدلى إليك حبل الود !
إن بدء صداقة حقيقية باطمئنان قلب و هدوء بال قد يحتاج الختبارات قبل نزع الثقل ،و هي اختبارات تدريجية تحس بها نبض
صاحبك فطلب رقم تليفونه إزالة للحواجز بينكما قد تتج أر وتطلبه وقد تتعلل بحجة لتأخذه منه بال حساسيات ،المهم أن اتصالك
طعم ويبادلك اتصاال بعد اتصال وإما أن يتجاهلك
األول به إزالة لثاني حاجز بينكما بعدها عليك االنتظار .....فإما أن يلتقط ال ُ
و ال يبادلك اتصالك فإن كانت األولى فستتوالى االتصاالت و تتعمق الصالت و تسير العالقة صاعدة إلى القمة و يفاجئك أنه
يريدك أن تزوره في بيته فتلبي دعوته و تدخل بيته و دواليك تحدث الصداقة ..........وإن كانت األخرى فال تضيع وقتك و ال
تشغل بالك بمن ال يأبه لك وكن عزي از وانسحب برفق وكأن خاطرك لم يخطر و كأن اتصالك لم يحدث ....إنه فن المعاملة
بالمثل .....
وإن كان النقيض حادثا فبدأك هو بطلب رقم تليفونك فاتصل بك مرة فال تتعجل بوابل من االتصاالت كأنك المتلهف المسكين
الذي ال يجد صديقا يصادقه ولكن كن هادئا و اتصل به مرة كما اتصل بك مرة فإذا هو يبادلك اتصاال باتصال وتبدأ العالقة
في التعمق والصلة في التوطد ......إنه كذلك فن المعاملة بالمثل ..
وأبتذل الم أر الذي ال يصونـ ــها وإني لمكرام لمكرم نف ـ ـ ـ ــسه
أهنه وال ُيكرم علي مهينـ ـ ــها متى ما تهن نفسي على من أوده
ّ
هذا هو المي ازن وهذا هو العدل في التعامل وهو كذلك الحكمة التي تورد صاحبها موارد السالمة بعيدا عن ذل النفس و إهانتها
......
179
صديقا خي ار مني ربما تكون معه حينئذ أسعد وأهنأ !! فيعاجله صديقه الحبيب قائال :ال وهللا ال أتصور أن شخصا آخر
سيعوضني عنك ولو عاد بي الزمان الزددت تمسكا بصحبتك فأنت مكانك لدي اآلن ال يملؤه أحد غيرك ........فيطرق
صديقه مبتسما ثم يقول :نفس إحساسي ونفس مشاعري ...................فيالحالوة األخوة في هللا !!
إن لكل صديقين منا لقاؤهما األول الخاص الذي له حوادثه المميزة و مالبساته الفريدة وتذكر ذلك اللقاء يبعث النشوة والراحة و
تتأجج مشاعر متناقضة بين االطمئنان والفرح بهذا اليوم وبين الحسرة واألسى على الذكريات الجميلة التي ال تعوض والتي لن
تتكرر ثانيا !!
أمر ما فيها أنها لن تعود أبدا !!...............................
أحلى ما في ذكريات الماضي أنها أجمل من الحاضر و ّ
وقصص اللقاءات األولى تجارب وخبرات تضاف للرصيد اإلنساني وسماعها يزيد معرفة اإلنسان بأحوال الصداقة العجيبة فإن لم
القدر التي تجري بمقدار وتعطي من حيث ال يحتسب اإلنسان ... يكن قد فاز بصديق فإنه ال ييأس و يحسن الظن بأحوال َ
الملتقيين ال يحسبان حسابا لهذا اللقاء فهو من عالم الغيب ال يعلمه إال هللا كما
َ وللقاء األول سمات مميزة فأول هذه السمات أن
أنهما ال يعلمان عواقب ذلك اللقاء من زمالة أو صداقة أو انقطاع أو عداوة ! وثاني سماته أن من تلتقي به اللقاء األول تأخذ
انطباعا عن شخصيته بنسبة سبعين بالمائة وبقية القرار يأخذه اإلنسان تجاه اآلخر من خالل تعامالته التالية التي إما تؤكد
انطباعه وإما تنفيها ،المهم أن عماد االنطباع هو اللقاء األول لذا على اإلنسان دائما حين يلتقي بإنسان غريب عنه أن يظهر
في أحسن أحواله وأبهى صوره لئال يأخذ اآلخر عنه انطباعا سيئا سيصعب إزالته في ما بعد .......وسيئو الحظ من يالقون
فيسيء مالقيهم فهم شخصيتهم ويظنهم أناسا منقبضين عابسين ال الغرباء وهم في أحوال بائسة معها الحزن والغم والضيق ُ
يرحبون بصداقة اآلخرين وليس لهم أصدقاء بل انطوائيون مكتئبون ال خير في مصاحبتهم وهنا تتنافر األرواح و تتفرق النفوس
و تصبح العالقة محاال ! لذا صاحب الضيق والهم ال بد إذا التقى بغريب أن يجبر نفسه على االنبساط و االبتسام ألن مالقيه
ال يعلم ظروفه وإنما يعلم ظاهره فقط الذي سيحكم عليه بتلقائية تامة ......
180
سهاماً من رؤية األغ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
بياء الذكي أ َْنفذ في الح ـ ـ ِ
قق ِ وظنو ُن
ّ
ِ
الغطاء وأخلصتَه بكش ـ ـ ـ ـف شيء عرْفتَ ُه بالتَّجـ ـ ــَاريب ثم
ٌ
الصالء :النارِ بالصـ ـ ـ ــِالء
َم ْعتها ّ ها إذا ما أ َ الجواه ـ ـ ـ ـ ــُِر ما في
إنما تُْبرز َ
ِ ال يغ َّرَّنك الم ِ
المماذقة :الكذب فهو ممذوق ّ
الود هر في حال م ـ ـ ـ ـ ـدة االلتقاء ماذ ُق بال ـ ـ ـ ـ ـظا َُ َ ُ
الصهباء :ذات حمرة في سو ِاد الص ـ ـ ــَهباء
وحديث كالقهوة ّ
ٍ وشى بمدح ج ـ ـ ـ ٍ
ميل من كالم ُي َ
َكل اللحم وارتعى في ال ـ ـ ِ
دماء أَ تغي َّْبـ ـ ـ ـ ـ َت عنه
عب ُد َع ْين فإن َ
ْ
-وللحديث عن العالقات بين االكتئاب والصداقة ينبغي أن ندرك أن االكتئاب يحطم الحياة االجتماعية لإلنسان ،يدمرها تدمي ار
،فالمكتئب زاهد في التعامل مع البشر بل نافر منهم يميل لالختالء بنفسه ليعيش شجونه وأحزانه بعيدا عن الناس ،هو ال يريد
181
مقابلة أحد بل هو ال يستطيع معاملة أحد ،ال يجرؤ على أن يقف وجها لوجه مع أحد من البشر ،لو حاول جاهدا مقاومة ذلك
الشعور فسيكون هناك آثار سلبية لتلك المقاومة فإما أنه بعد شد وجذب مؤلم لنفسيته يفشل في إجبار نفسه على لقاء األقران
فيتلقى جرعات من اللوم والتوبيخ على سوء تصرفه غير المفهوم و ُيتهم بعدم المباالة وقلة االحترام و العبثية ! ،وإما أنه ينجح
في إجبار نفسه على لقاء قرين أو قريب فيالحظ عليه مالقيه تغيره و تبدل مالمحه ،يرى عبوسا غير مبرر و انقباضا مريبا
ليس له سبب ظاهر وعندما يواجه صاحبه المكتئب بتساؤالته عن حاله فلن يجد المكتئب مبر ار مقنعا لحاله ولن يستطيع البوح
بمرضه و أساه ليقينه أن صاحبه لن يفهمه ولن يعذره ،فهو جرب البوح بأساه لغيره من قبل فلم يجد سوى التجاهل واإلهمال ،
فلماذا يعود لتلك الدوامة مرة أخرى ؟! والمشكلة األكبر أن يكون المكتئب نفسه ال يفهم أنه مكتئب ،ال يعرف أن ما به من
انقباض ويأس هو مرض نفسي َيعرض صاحبه نفسه على الطبيب ،هو نفسه ال يفهم ما به وال يتصور أن يكون ما به مرض
....المهم أن مقابلة المكتئب لغيره دوامة غير مأمونة العواقب فيركن إلى االنعزال عن الناس ليريح نفسه من العناء الذي لن
يتحمله فوق ما به من عناء أصلي ..............
أيت مجموعة من الطلبة في الجامعة ورأيت كل طالب منشغال مع زميله كالما و نقاشا وضحكا ،ومن بين هؤالء جميعاإذا ر َ
رأيت واحدا جالسا وحده بال أنيس وال رفيق يهيم وحده في عالمه يسرح في دنياه بغير صديق يؤنسه ،يشعر أنه غريب وسط
قرنائه ،يشعر أنه مرفوض ،يحس أنه ال يستطيع االندماج مع من حوله ،إذا رأيت شخصا بهذه الصفة فاعلم أنه مريض
االكتئاب ! وهذا النوع موجود في كل مجتمع كائن في كل وسط ولكن ال يشعر به أحد !...
أظن أن الرسالة وصلت اآلن ..................المكتئب ليس له صديق جديد ،المكتئب ال يستطيع اكتساب أصدقاء ،هو ال
يريد وفي نفس اآلن مجبر على ذلك ال إرادة له في ذلك ،واآلخرون لن يستسيغوه وسطهم و لن يستطيع أن يدخل قلب أحد
منهم بوجهه الشاحب ومالمحه المنقبضة .....إن فترة مرضه باالكتئاب التي قد تطول إلى سنين طويلة ستكون مرحلة توقف
في رحلة الصداقة ،فتلك المرحلة قبلها أصدقاء وبعدها أصدقاء أما هي فال ! كصحراء مقفرة ممتدة قبلها مروج و بساتين
وبعدها زروع وأزاهير !
رصيد مريض االكتئاب من األصدقاء ثابت إلى أن تزول تلك الحال ،فإن كان قد فاز بصديق قبل ضرب االكتئاب له فإنه
سيجد فيه الملجأ والمالذ ،سيشعر عنده بالمطمأنّ واالنشراح ،ينتظر لقاءه ليخفف عن نفسه ضيقها ،فهو الوحيد الذي فيه
بلسمي و تخفيف ألمي ،هو الوحيد الذي يفهمني ،هو الوحيد الذي رآني و عرفني قبل مرضي و أحبني وأنا صحيح في خير
يروح عني أنتظر لقاءه كل أسبوع لنقضي وقتا مختلفا أنسى فيه ألمي ،صحيح أن األلم سيعودحال ،هو الذي سيأخذ بيدي و ّ
بعد فراقه ولكني سأكون على أمل في اللقاء القادم ...
إن من يعيشون معي في بيت واحد يتجرعون الم اررة واألسى مني ومن حالي فهم يالزمونني و يرونني في ضيق دائما و يتلقون
مني الصراخ و العصبية و المزاج السيء ،ضاقوا بي وبحالي ،هم حائط يصد كل عصبيتي وانفعالي و أخالقي المتهورة ،
الصد واالنطواء والجفاء ،ليس ذلك ألني أبغضهم ولكن ألنهم يالزمونني في البيت فيرون كل
ّ وهم يأخذون النصيب األوفر من
الصد
ّ تقلباتي و تدهوري بأعينهم ،هم ليس لهم ذنب في ذلك ،وأنا أيضا ليس لي ذنب في ذلك ،ولكن صديقي ال يتلقى مني
فأعد نفسي للقائه وأنا في أحسن حال
الذي يتلقاه أهلي مني ،ألنه ليس مالزما لي في بيت واحد وإنما ألقاه مرة في األسبوع ّ
وخصوصا أنني أتطلع للقائه الذي سيخفف عني و يهدئ روعي ،أهلي يغارون من صديقي ويقولون وهم ال يزالون مستمرين
182
في مسلسل سوء الفهم :أنت معنا عابس مكفهر ضيق الخلق ال تطيق لنا كلمة وال نلقى منك خي ار وعندما تلقى صديقك يتغير
أح َم ٌل وديع مع صديقك ذئب مفترس مع أهلك ؟؟!! يصرخ مريض االكتئاب ويحاول إقناعهم
كل ذلك وتصير مالكا وديعا ؟؟!! َ
بمرضه و طبيعته و يحاول إفهامهم أن األهل هم من يدفعون ثمنا باهظا في سبيل تحمل مريضهم لطبيعة مالزمتهم له في بيت
واحد بين جدران واحدة وتحت سقف واحد ،والصديق ال يرى تلك الصورة من صديقه وإنما يرى االنشراح والقبول لطبيعة عدم
مالزمته لصديقه المريض الذي يتطلع للحظات رؤيته ليروي ظمأه فيراه على أقل حال سوءا فيمارس دوره في التخفيف عن
صاحبه و المساهمة في إخراجه من حال االغتمام إلى حال االنسجام !!
-إن دور الصديق مع صديقه المكتئب دور محوري ،ومهمته عسيرة ،فمهمته أن يخرج صديقه من اكتئابه و أن يجدد له
األمل في الحياة وأن يقول له بحاله قبل لسانه :أنا معك لن أتركك لن أتخلى عنك ،عبوسك الحالي لن ينسيني مرحك
الماضي و ضيقك اليوم لن يجعلني أكفر سعتك و انبساطك األمس ،سأكون سلواك و مستراحك ،ستُغلق أبواب الخلق أمامك
وبابي لن ُيغلق أبدا !!...
المغتم و
ّ إن تلك المشاعر لن تتحقق من جانب الصديق إال بعد أن يفهم صديقه و أن يفهم طبيعة مرضه وأن يدرك أن حاله
عبوسه الدائم و كسله ومالزمته لبيته و وتقصيره الشديد في حق الصداقة إنما هو ليس بيده ،هو مقهور بمرض جاثم على
صدره ،مقيد بأغالل ال يستطيع االنفكاك منها ،فكانت هنا أهمية الفهم والوعي بأن هناك مرضا مدم ار اسمه االكتئاب نسبته
في المجتمع كبيرة و تأثيره على الفرد كارثي على عالقاته و عمله وأسرته بل حياته كلها التي تتحول إلى جحيم مستعر و نار
ظى !!.............
تل ّ
إن الصديق إن استطاع عالج صديقه بحضوره و مآزرته و شعوره و حكمته فسيكون قد حقق معجزة ال تكفي كنوز الدنيا
لمكافأته عليها !
-هذا هو دور الصديق في عالج االكتئاب وذكرنا تأثير االكتئاب على الصداقة والعالقات االجتماعية وبقي الحديث عن دور
الصداقة في إحداث االكتئاب .............. !!!.الصداقة قد تعالج االكتئاب ولكنها كذلك قد تكون السبب األساسي لالكتئاب
!! ،هل يعقل أن تكون عالقة الصداقة الفاضلة الطيبة سببا لهذا المرض المدمر ؟!! اإلجابة :نعم !............
صديق ملك عليك قلبك ،سيطر على حياتك ،صار جزءا أساسيا منها ،صببت عليه حبك صبا و تيقنت أنه يبادلك حبا بحب
و إخالصا بإخالص حتى صرت ال تتخيل الحياة بدونه ،وفجأة .................تقلبت أمواج الحياة و أطلقت الريح
أعاصيرها و قذفت السماء أمطارها وثلوجها ،تبدل الحال و خرج صديقك من حياتك .........نعم خرج من حياتك كما يخرج
لف به أو كما تقتلع شجرة عتيقة من أرضها ...........بعد أيام الصفاء والوفاء أتى النفور والجفاء ،إنها
الصباّر من قماش ّ
هز ،أتاك ما لم تكن تتصور ،زهد يهز النفس ّا
حوادث الدهر التي تقلب حياة اإلنسان وتزلزل أركانه ..نعم إنه زلزال رهيب ّ
صرت بال صديق !
َ صديقك فيك وتركك ،اندلعت نيران المشاكل والمشاحنات بينكما لتصير العالقة بينكما محاال ،وفجأة
كالزرع بال ماء ،وكالسمك بال بحر ،تشتت عقلك و حار فكرك وانهارت روحك و نفسك ،إن من لم تستغن عنه يوما من
األيام هجرك وتركك وحيدا لتالقي مصي ار مظلما ،إنه االنهيار التام ......إنه النتيجة الفظيعة ...االكتئاب !
183
إن ذلك الجرح العميق الذي أدى إلى االكتئاب بفقد الصديق جرح لن يندمل بسهولة إنه أليم شديد و طويل األثر قد تستمر معه
المعاناة و األلم والكآبة شهو ار بل سنينا ،سنين من المعناة و المقاومة سنين من محاولة اإلفالت من براثن االكتئاب ،و قد ال
يداوي الجرح إال صديق مكان الصديق ،إن ذلك الفراغ الذي تركه الصديق األول يحتاج لمن يملؤه ،يحتاج القلب بعد فقد حبه
األول أن ينشغل بحب آخر ينسيه الماضي بل يزهده فيه ،حينها يبدأ اإلنسان حياة جديدة بأخوة جديدة ويسلو عن الماضي
بالحاضر البهيج ..........
ولكن أناسا منكوبين ال تتركهم الحياة ليهنؤوا و ال يستفيقون من ألم حتى يصيبهم ألم جديد ،تتكرر المأساة ،نفس القصة
الحزينة األولى يراها المنكوب مرة أخرى ،تتدهور العالقة و تتدحرج الصداقة على منحدر الشقاق والنزاع إلى أن تصل إلى
النهاية المأساوية ...ال يصدق المسكين نفسه !! ال يتصور ما يحدث له ،يا إلهي ......مرة أخرة !! أتجرع كأس السم ثانيا
!! إن نفسي الرقيقة الجريحة ال تقوى على ذلك ،إنني ال أتحمل تلك الصاعقة مرة أخرى ............إنه االنهيار التام و
االكتئاب المضاعف الذي تتوقف معه الحياة .....حينها يحتاج ألضعاف الفترة األولى ليتعافى وقد ال يتعافى أبدا ! و بعدها قد
يفقد الرغبة الصداقية أبدا ويقرر أن يغلق قلبه إلى األبد بال عودة .............
قد يتعجب بعض القراء ويقول :من هذا الذي يكتئب وينهار لترك صديقه له ؟! هل االكتئاب يحدث لهذه األشياء التافهة ؟! أي
صداقة تلك التي يهتم لها اإلنسان و تؤثر فيه حتى يصاب باالكتئاب ؟! هل هذا أحمق أم مريض ؟؟!
واإلجابة أنه ليس أحمق وال مريضا وإنما هو إنسان رقيق القلب ُيعلي قدر األحاسيس الجميلة والمشاعر الفياضة ،إنسان يعيش
بالحب ومع الحب ،إنسان قلبه فوق عقله ،يؤمن بالصديق و يؤمن باإلخاء ،والحمقى المرضى حقا من تركوا نصيبهم من
حياة القلوب ليعيشوا جفاةً ماديين يلهثون وراء الدنيا والمتاح الحسي ،وهم معذورون في تعجبهم وتندرهم ألنهم يعيشون بال قلوب
ولم يذوقوا طعم الحياة الحقيقية طعم الحب ! ذلك الطعم الذي من ذاقه مرة فلن يرضى عنه بديال طول حياته !!
المحبة ،رفيق الدرب و حبيب القلب
ّ جرح آخر ال يقل عن األول شدة وهو فقد الصديق بموته ! إنها صدمة ال تتحملها األنفس
أفقده إلى األبد في الدنيا ؟!! كيف سأعيش من بعده وكيف ستحلو الحياة لي ،كيف أنساه وهو يجري في عروقي ؟! وماذا
ينسيني وماذا يسّليني ؟! ..
إن الكارثة هذه المرة أعظم من األولى ففقد الصديق بالهجر قد يعوضه صديق جديد يحل محله ليهيل عليه التراب و يلقيه خلف
ظهره ،أما فقد الصديق بالموت فال معوض له ،فغيابه ليس بإرادته وإنما بإرادة فوق البشر ،إرادة فوق كل اإلرادات ،غياب
ليس له فيه يد ،وغياب ليس فيه أمل – في الحياة الدنيا أعني -فما السلوى وما الجدوى ؟! يقع المسكين حينها فريسة
لالكتئاب ليعاني مصي ار مظلما ال يعلم نهايته إال هللا سوى أن يتغمده هللا برحمة منه وفضل !
وصف ابن رشيق القيرواني اكتئابه لموت صديقه في قصيدة طويلة آخرها هذه األبيات الرقيقة :
اإللتـ ـ ـقاءاور و ِ
وزال التـز ُ تصرَم ما بيننا و ْانَق ـ ـضـى
َّ
ومالك ِمـ ـ ـني ِإالَّ ُّ
الد َع ـاء ِ
االكتئاب فمالي منك سـوى
َ
القريض :القيء الب ـ ـ َكـاء
مقلتي ُ
َّ قل ِم ْن
ِإذا َّ عليك َفمي بالَقر ِ
يض ِ
َ ويبكي
وأَعطاك من بي ِ
طاء
ديه الع ـ ـ ُ َ َْ َ ْ عني خــَْير الجز ِاء يت ِّ َف ِ
جوز َ
184
اء ظ ْمِئها و ُّ لك ِّ
الر ُّي من َ وال ِ ْزلت بالَق ـب ِر في جـ ـ ِ
الرو ُ نة ْ َ
أما الطريق الثالث الذي تسببه الصداقة لالكتئاب فهو السعي وراء من ال يسعى إليك ،إنه التعلق بمن ال يشغل باَله بك ،إنه
الحب من طرف واحد بال أمل وبال جدوى ،يبذل المسكين كل جهد ليستميل حبيبه لصداقته ومبادلته الود والحب فال يجد سوى
الصد إما ألنه ال يحبه وإما ألنه ال مجال عنده للصداقة وال يعرف معناها أصال ،فيسلك المسكين طريقا وع ار نهايته حافة
النبذ و ّ
جبل ! فيكبت صاحبنا مشاعره في قلبه و يكبت حزنه وهمه خصوصا لو تكررت معه تلك التجربة المريرة فتختزن مشاعره
المصدودة في جسده الذي ال يقوى على التحمل فينهار الجسد و تنهار النفس ويحدث االكتئاب الذي قد يالزمه طول حياته
!!....
والبن دقيق العيد أبيات جامعة ألسباب االكتئاب الصداقية حيث قال :
وبعضهم ِفي البالء غائ ـ ْب ميـ ـتاً
بعض أخالئي ص ـار ْ
ويقصى وال يق ـارب ُيحصى ُ وبعضهم حاضر ولكـ ـ ـنُ
فال قريب وال مـ ـ ـ ـ ِ
ناسب وصرت َب ْي َن ال ـورى وحيداً
ٌ
جائبسرور مثلي من الع ـ ـ ِ اكتـ ـئابيفال َتُلمني عل ـى ِ
ُ ُ ََ
إنه المصير المشئوم بعد طول مسير في الحياة بين الناس ،الوحدة .......الوحشة .............الغربة ،فال يجد اإلنسان
سوى الحزن المتزايد والشجن المتراكم الذي ُيهال عليه كتراب من الذكريات الخالية تجتمع عليه حتى تخنقه وتقتله كمدا وغما !!
185
فهي تريد طفال من التقاء االثنين ،ولهذا تشوش عليهما بمطالبها ،وهي غير موجودة في عالقة الرجل بالرجل ،إن الرجل
يطلب الرجل لحاجة روحية صرفة )....
أ :عندما سئل النبي صلي هللا عليه وسلم عن أحب الناس إليه ذكرعائشة قبل أن يذكر أباها وهذا دليل كاف علي أن حب
الزوجة مقدم علي غيره !
ب :سبحان هللا العظيم !! فضل العمل وثوابه دليل على عظمه عند هللا وكلما زاد الثواب واألجر زادت عظمة العمل وأهميته وال
داعي للسفسطة بقولك إن بر الوالدين لم يذكر له ذلك األجر ،فأنت تعترف بعضلة لسانك وتقول بر الوالدين ال حب الوالدين
فحب المؤمن للمؤمن أعظم من حب الوالدين بال شك فهذا حب اختياري واآلخر حب إجباري...........
أ :كيف تقول ذلك؟ حب المرء ألوالده عظيم ومع ذلك لم يأت دليل واحد علي فضل له ووصف هللا كيد النساء بأنه عظيم وال
فضل له
ب :حب األوالد بالنص النبوي الشريف ال يرقى لمنزلة الصديقين المتحابين في هللا فلماذا المماراة ؟؟ ثم إنك تقول إن أحب
الناس للنبي عائشة وتستدل بذلك على أن حب الزوجة مقدم على حب الصديق فليت شعري هل حب الدباء ( القرع ) مقدم على
حب بقية الطعام ألن النبي كان يحبه ؟؟؟ يا أخي الفاضل ال تخلط بين األشياء البشرية للرسول و األشياء التشريعية وكفاك
خلطا لألمور ....
186
أ :ال أخلط األمور ألن النبي صلي هللا عليه وسلم سأله عمرو بن العاص سؤاال صريحا عن أحب الناس إليه على اإلطالق
فذكر زوجته ثم ذكر له من يليه في المنزلة وهذا ربط واضح جلي لكنك ذكرت لي مثاال ليس فيه ربط بين الدباء وبقية أنواع
الطعام !
ب :بالمناسبة ( إن كيدكن عظيم ) ليس وصف هللا يا أخي وإنما هو وصف العزيز ،كيف تأخذ وصف العزيز وتستدل به
على مسألة شرعية إنسانية ؟؟!! ناقص أنك تستدل بأقوال فرعون والنمرود وتزعم أنها أوصاف قرآنية !!!
أ :لكن النص القرآني ما نفي قوله أو انتقده فكان هذا بمثابة التقرير
ب :وهل النص القرآني انتقد قول قوم أصحاب الكهف ( لنتخذن عليهم مسجدا ) أو أنكر عمل آل داود للتماثيل ؟؟!!! وهذه
أشياء محرمة في شريعتنا ولكنها ذكرت في سياق الحكاية عن األقوام السابقين
أ :هذا اختالف شرائع (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)فالتماثيل كانت مباحة آنذاك ومحرمة في شريعتنا
ب :أنت تقول إنه لم ينكر على قول العزيز إق ار ار بقوله فهل عدم إنكاره على قول قوم أهل الكهف و عمل آل داوود إقرار بذلك
؟؟؟
ثم تعال هنا كيف تقارن عالقة الزوجين التي تتخللها الشهوة بعالقة الصديقين الطاهرة ؟؟؟ ال شك إذن أن عالقة الصديقين
أشرف و أنبل ،كما أن االفتراق يولد االشتياق كما علمنا أهل األدب فافتراق الصديقين ثم لقاؤهما يولد حبا مستم ار و شوقا دائما
وهو ما تفتقره عالقة الزواج حيث يتالزم الزوجان مدى الحياة فيقل الحب ويفتر الشوق و يحدث الجمود !
أ :وصفك للعالقة بين الزوجين بالشهوة وبعدم الطهارة بمفهوم المخالفة لديك وصف يعتليه النقص والقصر ألنها أنبل وأعظم
من ذلك بكثير كما أن االشتياق ال يشترط له فراق بل من كمال الحب أن تشتاق إلي محبوبك وإن كان بين عينيك لمجرد غفلة
جفنك عنه لحظة من اللحظات
ب :ما أراك إال مجانبا للصواب ،صحيح أن قمة الحب أال تمل من طول اللقاء ولكن قال أبو هريرة رضي هللا عنه :لقد
غبا تزدد حبا – أي زر يوما واترك يوما – إلى أن سمعتها من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومنه
دارت كلمة العرب :زر ّ
اقتبس الشاعر فقال :
غبا !
وإن شئت أن تزداد حبا فزر ّ إن شئت أن تُقلى فزر متوات ار
أ :العالقات تتفاوت في هذا الشأن ربما يسري هذا علي العالقة بين الصديقين ألن الرفاق كثير لكن يستثني من ذلك الخلة أما
العشق بين الزوجين فليس له إال اللوعة لمجرد االفتقاد المعتاد
ب :لقد تراجعت أيها الفتى عن كالمك عندما وجدته مصادما لكالم الصحابة وكالم النبي وكالم العرب الحكماء ،ولكنك
وقعت في مغالطة جديدة حين قلت ( ربما يسري هذا علي العالقة بين الصديقين ألن الرفاق كثير ) ولكن يا عزيزي الزوجات
قد يتعددن فأنت مباح لك 4زوجات ،إذن بكالمك تنطبق هذه القاعدة على الزوجة مع التعدد ،والحظ أن تعدد الزوجات يجزئ
العشق و يفتته !
كالسكر وا نظر إلي قول الشاعر
أ :واعلم جيدا أن العشق بين الزوجين ال يحتاج إلي فرقة ليزيد أو يتجدد ألنه ُ
العشق ال يستفيق الدهر صاحبه .......وإنما يصرع المجنون بال ـ ـحين
187
ب :ما شاء هللا تستدل بأشعار السكرى و المخمورين و الماجنين ّ
وترد بذلك كالم الرسول والصحابة وحكماء العرب ..........
هداك هللا !
أ :لكن النبي صلي هللا عليه وسلم استدل بشعر لبيد وكان كاف ار !
ب :ال يا أخي ،هناك فرق بين كافر قال حكمة وماجن سكران يهذي من الخمر والعربدة !
...................................................................
وكل على رأيه ،وكل ال يقتنع برأي اآلخر والرأي في النهاية للقراء لهم الحكم
وتستمر المناظرة الشائقة ،ويتواصل النقاش ٌ
النهائي !
قبل أن ندلف إلى هذه المسألة الشائكة نقول إن تعدد الزمالء بال شك أمر واقعي ال جدال فيه وال يحتاج لشواهد ،أما تعدد
بالصاحبين ابن المقرب العيوني
َ أقر
أقره الشعراء جميعهم ،فممن ّ األصحاب فدلت األحداث وتواترت األخبار على وقوعه ،و ّ
قائال :
قلوصي :ناقتي الونى :التعب َوَلو َع َرفا ما َفوَقها َع ـ ـ َذراها الونى ِ ِ
باي َعلى َ وم َقلُوصي صاح َ َيلُ ُ
يه َقراها وما ُك ُّل ذا يقوى عَلـ ـ ِ ضب ًة
َ َ َ َلَقد َح َمَلت َبح اًر َوَبد اًر َو َه َ
وقال البحتري :
طريقي وَقد سَلكا ِباأل ِ
َمس َغ َير َ باي ِإرَادتيِ
َ َ َقول َو َخّلى صاحـ ـ ـ َ
أ ُ
خلي :صديقي ميماس :نهر بحمص مص ِي ِج ُّد َمشـو ِقالح ِ
ِإلى ِخّلِي ِ ماس ِح ِ
مص َفِإَّنني ُخذاني َعلى مي ِ
ّ َ
فرق بين رفيقيه بوصفهما بالصاحبين وبين المسافر إليه بوصفه ّ
خال أي خليال و صديقا ،وهو ما والمالحظ هنا أن البحتري ّ
يدل على التفرقة بين الصاحب والصديق ! وأن مكانتيهما مختلفتان ! فتنبه إلى ذلك ..
ولم يكتف الشعراء بصاحبين فقط حتى أقروا األصحاب تعددا بلفظ ( أصحابي) فقال ابن الوردي :
اغتنموا علـ ـ ـمي وآدابي معشر أصح ـ ـ ـابي
َ باهللِ يا
أقسم ال يرحـ ـ ـل إالّ بي
َ وقد
حل برأسي ْ فالشيب ْقد َّ
ُ
وقال أبو الطمحان القيني :
غودرت في َلحـ ٍد عَل َّي ص ِ
فائ ـحي َ َ َو ِ ُ موع ُهم
فيض ُد ُ اح أَصحابي تَ ُ ِإذا ر َ
الف ِ
ضاء ِبصالِ ِح اللحد في األ ِ
َرض َ َوما َيقولو َن َهل أَصَلحتُم ألَخيـ ـ ُكم
ُ
أما ذكر تعدد األصدقاء فأكاد ال أجده في الشعر العربي القديم ،بل لم أجد شاع ار قديما وصف أناسا بلفظ ( أصدقائي) أو (
صديقاي ) بل في الشعر الحديث لم أجد ذلك اللفظ إال على لسان علي محمود طه وهو شاعر مصري في القرن العشرين
يقول :
188
ِِلم أنسكم ُّ عنكم إخـ ـ ـائي يح ْل
قط أصدقـ ـائي ُ ولم ُ
ِ
كل ٍّ
حب ُحبكم فـ ـ ـوق ّ
أ ُ وهان في حبكم فنـ ـ ـائي
َ
وقبل أن نتسرع و نحكم بأن تعدد األصدقاء عند العرب ممتنع نفجأ بأن مرادف الصديق ثبت تعدده عندهم ،فإذا كان لفظ
الصديق لم يتعدد فلفظ الخليل تعدد كثي ار في شعرهم ! فذا ابن الرومي وهو الصديق الصدوق يقول :
صرم ال الخليل وإن ُ ِ
ْ وص َ
كنت َّ
وقد ُ وه ْم َيصــلونني
وصارمت خ ّالني ُ
ترم مشاهده نفسي ولم ِ
أدر ما اجـ ـ ْ ُ فقد الجــليس و أوحشت وآنسني ُ
وهذا الفقيه الشوكاني يعبر عن إضافة خليل إلى قائمة الخالن فيقول :
يف ِم ْن ِخالّني الشر ُص َار َهذا َّ
َ َق ْد تََيَّق ْن ُت أََّنني َّ
الس ْع ُد َل ّما
َه ِل َه َذا َّ
الزم ــان َر ِ
ان يا َف ْرَد أ ْ ان يا َسِّي َد األ ْ
َق يع األو ِ يا َقر َ
أما بشار بن برد فصرح بوجود الخليلين بقوله :
ناء َّ ِ قائ ِه
وخير خليَليك اَلذي في لِ ِ
حين َشط َغ ـ ـ ُ اح َوفيه َ َرو ٌ ََ ُ َ َ
وما الُقرب إال لِ ِ
الء
صـ ـ ُ ته ُجرُه ٌم َو َ َوَلو َوَل َد ُ لمَق ِّرب َن َ
فس ُه ُ ُ َ
ِ ِ ٍ ِ ِ
اء
صف ـ ُداد َ الو ُيس فيه و ِ
َ ِبما َل َ صّن ٍع مرىء ُمتَ َ َوال َخ َير في ُوّد ا ِ
ِ ُعتب خ ّالني وأ ِ ِ
اء
الغَل ـو ُ
فس َو ُ الن ُ
ته َ ِبما َغَل َب ُ صاحبي َعذ ُر َ َسأ ُ ُ
ساء ِ ِ
داي تُ ُ ساءني َوَنفسي بما تَجني َي َ كان َ َوما ل َي ال أَعفو َوإِن َ
ال حاجة لنا إذن في مزيد من الجدال بشأن تعدد الصديق ،ولكن كثي ار من المحبين الصادقين يعترضون ويقولون :ليس هذا
حالنا ! فلي صديق واحد ال أعدل به أحدا وال يصل لمقامه في نفسي واصل ،لو وزن بجميع أصحابي ومعارفي لرجح بهم
جميعا ! فكيف تقول بالتعدد وهو محال عندنا ؟! .......ولإلجابة على هذا التساؤل نقول :الصديق يتعدد ولكن منازل الحب
قد ال تتعدد !! قد يكون لك أكثر من صديق بحكم أن كال منهم تحققت فيه شروط الصداقة وأقام أركانها ركنا بركن و تم أعلى
تلك األعمدة وهو الحب المتبادل ولكن ............ما مقدار ذلك الحب في قلبك ؟؟ المقادير تتفاوت من صديق لصديق فتعلو
جذوة الحب و تلتهب تجاه أحد األصدقاء أكثر من غيره فيتميز عن بقية الصديق وإن كانوا أصدقاء في حكمه وهنا ينشأ
مصطلح الصديق المقرب ! فكلهم أصدقائي ولكنهم في قربهم من قلبي درجات ولهم في تحقيق أركان األخوة مسافات وبذلك
تكون المعضلة قد انحلت و المشكلة قد زالت ،وإن كان واقع كثيرين فعال أن لهم صديقا واحدا بحكم ندرة األصدقاء و قلة
189
أصحاب الوفاء والصفاء ،و الحاصف البارع من يفرق بين منازل الناس ويضع كل شخص في موضعه الذي يليق به قربا
وبعدا ..........فالخالصة أنه إذا كان الصديق الواحد ناد ار وثمينا فاألخالء العدد واقع أندر وأثمن و حظوظ الناس في الدنيا
من الصديق تتفاوت ،هذا كله عند من يرى وجود الصديق أما من يرى عدمية الصديق فله شأن آخر
...........................
-4الصداقة الجماعية
هل تنشأ عالقة خلة بين أكثر من فرد في آن واحد أم إن عالقة الصداقة عالقة تستلزم الخصوصية بين فردين ال ثالث لهما
؟ .................إن تعدد الصديق ممكن ولكن اشتراك أكثر من صديق في عالقة واحدة فيه نظر عندي !! ..إن عالقة
المجموعة دائما يغلب عليها سمة السطحية فهي ال ترقى لمستوى فوق الزمالة والصحبة ،ومن يكتف بهذه الصورة الناقصة
للصداقة في تصوره إنما يقع في مغواة الصداقة الغثائية التي ذكرناها من قبل ،صحيح أن الصورة الجماعية قد تشملها األخوة
في هللا من المنظور اإلسالمي ولكن االكتفاء بها نقص و عيب وتطورها لصداقة حقيقية صعب نظريا ! فمعلوم أن عالقة
الصداقة تحتاج لمراحل وخطوات و إزالة حواجز و إضافة محبة فوق محبة واسترسال في محو الخصوصية وهذا حجر الزاوية
في إشكالية الصداقة الجماعية ،فالبوح بالسر ال يكون في الجماعة وإنما يكون أمام فرد واحد ،فربما من دون الجماعة كلها
تصطفي فردا لتعطيه سرك ولكن عند الجماعة تعود فتتحفظ في كلماتك و خصوصياتك وتعامل الجماعة وصديُقك فيها كأنه
غير موجود بينهم ! ..كما أن لحظات الحب العالية و أوقات الصفاء الروحية ال تكون إال في خلوة بين اثنين فبين كلمة من
واحد وكلمة من اآلخر لحظات سكون وتأمل و سروح وشرود للذهن يساعد عليه سكوت اآلخر فهو يعين صديقه على
الحب و تتأجج
السمو الروحي ،في هذه األوقات التي تتحقق فيها الخلوة يهبط وحي ّّ استحضار الغائب و استلهام النشوة و
المشاعر و تتكون الروابط وتعلو المنازل وتترقى العالقة على درجات سلم القلب .....تلك الخلوة التي يصفو فيها الذهن و
الود و استرجاع الذكريات و البوح بما ال يجوز البوح به في عامة البشر ! إنها لحظات
ينتظرها القلب بين الحين والحين لتجديد ّ
راقية ال تُستَحضر في زحام الجماعة وإنما تحتاج النفراد بحبيب واحد ............
إن الصديقين يعلمان جيدا الفرق في عالقتهما بين حالة انفرادهما وحالة اجتماعهما بغيرهما ،فوجود غريب بينهما ّ
يكدر عليهما
صفو االجتماع و معه يسري شعور جبري برغبة في زوال هذا الغريب ليستمتعا بوقتهما معا بال منغص و ال عازل ! ..فليت
شعري كيف تنشأ الصداقة بين جماعة كاملة ومنهم الصديقان المتصافيان الراغبان في االنفراد دون الجماعة ؟! وإن خلت
الجماعة من متصافيين كذلك فكيف تنشأ عالقة التصافي في جو االجتماع والضوضاء والثرثرة ؟! .........ال شك أنه كلما
زاد العدد زاد التشتت و صارت الصداقة الجماعية محاال ،هذا رأيي و مذهبي و هللا هو الهادي الموفق للصواب !.............
-5الصداقة بالمراسلة
190
هل هنالك صداقة تنشأ بين بعيدين ؟ و أليس الغياب سببا كافيا لمنع نشوء صداقة ؟ وأليست العين واألذن بوابة ينفذ منها
مريد الصداقة إلى قلب محبوبه ؟! ..........إن المراسلة بال شك سبب الستمرار الصداقة و وسيلة لتوطيدها حين يتعذر اللقاء
فيحتاج الصديق لاللتقاء بصديقه عن طريق الغيب ذلك الغيب الذي يتمثل روحيا في صالت قلبية ال يراها الناس وال يشعرون
بها بيد أن المتصادقين المتباعدين جسديا يدركانها جيدا وال تبلى مع مرور الزمان و تقلب الجديدين ! تلك الروابط الذي يدفعها
الشوق إلى طلب صالت مادية تؤكد العالقة و ال تتعارض مع روحيتها ،من باب ( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) !!
فتحدث المراسلة و يحصل المحب على أثر مادي من آثار حبيبه هي ورقة مكتوبة بخط يده ممزوجة بعبق روحه !!
أما نشوء صداقة بدايةً بالمراسلة وبدون لقاء مادي كاف إلثمارها فهو محل نظر عندي ! فالحب مكمنه القلب و القلب في
صدر اإلنسان يحتاج لباب يلج منه ذلك الحب و أفضل تلك األبواب حواس اإلنسان المادية التي تحتاج لرؤية وسمع ولمس
الود ،أما الغيب فال يثمر أصدقاء ،ألنه مدعى للغش والخداع و عدم اطمئنان القلب
حقيقي ليتغلغل منها الحب و ينشأ منها ّ
ً
......ولئن كان عصرنا الحديث قد طور المراسلة في صورة إلكترونية حاضرة سريعة عن طريق ما يسمى ( الشات ) ومواقع
التواصل االجتماعي َليثمرّن عالقات هوائية ّ
هشة مغزاها التسلية والعبث ال التصادق والتصافي ،صحيح أنها كالمراسلة بين
المتباعدين جسدا بكونها دليال على الصلة و عدم النسيان و اإلصرار على
َ الغائبين في دورها في توطيد و استمرار صداقة
تدعم الصداقة وال تنشئها ! ....
العالقة واطمئنان الصديقين ..ولكنها كالمراسلة ّ
-من أجمل ما قرأت في أدب الرسائل بين األصدقاء من رسائل منظومة في شعر السابقين الطيبين أبيات المعولي العماني إذ
يقول :
خل وصاح ـ ـ ـ ِب ٍ حب ُمصاحـ ـ ـ ِب
كتاب من م ٍّ
وفي خير ّ
صفي ٍ
ّ ّ
ٍ ُ أتاني ٌ
قوي ِ
باسل ذي مواهـ ـ ـ ِب محب ـ ـ ـ ٍب كري ٍم ظر ٍ
شجا ٍع ٍّ يف في القلوب َّ
ِ
وودي ومودودي وخ ـ ـ ـير أقاربي
ّ ومـ ـساعدي صديق صدوق ساعدي ُ ٍ
تسلل من ٍ
أصل كري ِم المناس ـ ـ ِب ماده ٍ
النجل من بيت رف ـ ـي ٍع عـ ُ
ُ هو
العَلى والمرات ـ ـ ِب فتى صالح أهل ُ حليف الندى أعنى بذاك مح ـ ـمـداً
ُ
ط ِح الرفي ِع الجو ِ
انب الس ْ
وقعت من َّ
ُ كتابك وافاني سمعـ ـ ـ َت بأن ـ ـ ـني
بثوب أُصِّلي بالتر ِ
اب لجانـ ـ ـ ـبي زمالًغت شه اًر في الفراش ُمـ ـ ـ َّ تمر ُ
َّ
وجّلي مص ـ ـ ـائبي وبعد فم َّن هللا ربـ ـ ـى برحـ ـ ـ ٍ
َعَل َّي وعافاني َ مة ُ ُ َ
وفيت من كل األ َذى والنوائ ـ ِب
ُع ُ يت بفضل هللا من ك ـ ـل عـ ـّل ِة بر ُ
ِ ِ
جانب وخذ نصيباً من األف ار ِح من كل ف األ َذى ص ِر َ فط ْب يا أخي نفسا فقد ُ
-ونحن هنا في فصل المراسلة أهتبل الفرصة ألذكر أمثلة لألصدقاء المتراسلين ،وأدب الرسائل أدب كبير له مساحة كبيرة في
كتب األدباء السابقين ولكني هنا أورد أمثلة على رسائل لمعاصرين استخدموا الرسالة للتدليل على الحب واأللفة و كانوا قدوة
سنة الرسائل التي لها مذاق مختلف وطعم خاص ال يعرفه سوى من جربه !!
لغيرهم من األصدقاء ليحيوا ّ
191
و هاك ثالث رسائل بليغة بين الشيخ محمد الخضر الحسين و القاضي محمد الطاهر بن عاشور في النصف األول من القرن
العشرين
-1رحل الشيخ محمد الخضر حسين من تونس فتشوق له صديقه محمد الطاهر بن عاشور قاضي تونس فكتب له تلك الرسالة
(( :
قصيد
ُ فلم يغن عنها في الحنــان تصيد
ُ بعدت ونفسي في ه ـ ـواك
َ
لها بين أحشاء الض ـ ــلوع وقـود وخلفت ما بين الجـ ـوانح غصــة
َ
ومر الليالي ِ
ضعف ـ ـ ــها سيـزيد وأضحت أماني القرب منك ضئيلة
ُ
يموج بها أنـ ـ ـ ـ ــس لنا وبرود أتذكر إذ ودعتَنا صبح لي ـ ـ ـ ــلة
وهل بعد هذا البين سوف يعــود وهل كان ذا رم از لتوديع أنـ ــسنا
بالدر وهو ن ـ ــضيد
أصـ ــابعه ّ ألم تر هذا الدهر كيف تالع ــبت
تجلى لنا مـ ـ ـ ـرآك وهو بعـ ــيد إذا ذكروا للود شخصا محاف ـ ــظا
ذكرتُك إيقانا بأنْـ ـ ـ ـ ــك فريد إذا قيل من للعلم والفــكر والتقى
فحسبك ما قد كان فهو ش ـ ــديد ِ فقل لليالي جددي من نظـ ـ ــامنا
هذا كلمات جاشت بها النفس اآلن عند إرادة الكتابة إليكم فأبثها على عالتها ،وهي وإن لم يكن لها رونق البالغة والفصاحة
فإن الود واإلخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها ))
فلما وصلت له الرسالة كتب يرد على صديقه (( :
وأسلو بطيف والمـ ـ ــنام شريد أينعم لي بال وأنت بـ ـ ـ ــعيد
لع َمري بدمع المقلـ ـ ــتين خدود إذا أججت ذكراك شوقي أ ِ
لت َُخض ْ
بعدت وآماد الحـ ـ ـ ـ ــياة كثيرة ولألمد األسمى علي عهـ ـ ـ ــود
ُ
ّ
بعدت بجثماني و روحي ره ــينة لديك وللود الصـ ـ ـ ــميم قيود ُ
عرفتُك إذ زرت ال ــوزير وقد حنا علي بإقبال وأنت شهـ ـ ـ ـ ــيد
فكان غروب الشمس فجر صداقة لها بين أحناء الضـ ـ ـ ـلوع خلود
لقيت الوداد الحر من قل ـب ماجد وأصدق من ُيصفى الوداد مجـ ـ ـيد ُ
يحين صدور أو يحـ ـ ـ ـ ـين ورود أتذكر إذ كنا قرينين عن ـ ـ ـ ـدما
تبل بها عند الظماء كـ ـ ـ ـ ـبود
ّ فأين ليالينا و أسمـ ـ ـ ـ ـارها التي
ليال قضيناها بتونس ليت ـ ـ ـ ـها تعود وجيش الغاصـ ـ ـبين طريد
-2و تلك رسالة صافية أدبية بليغة في زمن قلت فيه البالغة أخرى كتبها الخضر الحسين لصديقه ابن عاشور (( :صديقي
الوحيد الشيخ سيدي الطاهر بن عاشور ،تحية كاملة وتشوقا مفرطا ،ثبطني عن مكاتبتكم أيها الصديق مع قوة الباعث على
األخذ بأطراف الحديث بيننا ما هتف على خاطري من أنها قصرت بها األهمية أن تطأ موطئا ينال من االلتفات نيال !!
192
.........عّلك أيها َّ
الن َِ ِّقاد تعلق على هذا االعتذار مالما أطول ينال مما قبله مما يلوح على ظاهره من مبدأ سوء الظنة
فأعترف بأنه هاتف خيالي وما كنت بالرجل الذي تؤثر عليه عوامل الخيال ..
أخشى أن ألقي إليك بمعذرة تزاحم الشواغل علي فال تدفع حرج المالمة من المالمة دفعا بليغا .
ّ
ال أمتري أن من األشغال حقوقا ال يرضى أربابها غير اقتضائها خالف شأن الحقوق الودادية من التربص بها إلى مساعفة
الغرض وال جناح ،بيد أني يتمثل لي فراغ بعض دقائق من الوقت فأراها فرصة مساعفة على عمارتها بمناجاة ذلك الودود فيتردد
مع النفس هاجس عتاب ال يسكن إال بعد حين أن أغالب فيه الخيال ،من ههنا آثرت ذلك االعتذار وإن كان محال للتعليق ،
منبع اآلداب في تمام الشفا واالرتياح ،وعراني أسف على ما عرض
بشرتموني باقتراب وفائكم بموعد الزيارة عندما يأخذ الشيخ ُ
للشيخ من السقم فنرجو له مزيد العافية والسالمة ................والسالم من أخيكم محمد الخضر حسين ))
أال رحمة هللا عليهم جميعا جمعوا بين األخوة والبالغة فكان مزيجا مبه ار و أسوة صارخة ألرباب زمن يكاد يخلو من كليهما !!
تقدم البشر في جميع المناحي ليلبوا احتياجاتهم المتزايدة ،ولما كان الترابط و العالقات البشرية –
ازدادت الحضارة قوة وعمقا و ّ
الود والرابطة بين الناس وكان من ذلك ما
منها الصداقة – من إحدى هذه االحتياجات استخدم البشر تقدمهم لتعميق أواصر ّ
يسمى مواقع التواصل االجتماعي التي كان من المفترض أن أصحابها أبدعوها لتأصيل الرابطة بين الناس و تقوية عالقاتهم
الحظت أثر
ُ تابعت و
ُ تسر اآلكلين ! ،هكذا
ولكن يا حسرة ! ...لم تؤت هذه األعجوبة الحديثة ثمراتها وكانت ثمرتها حامضة ال ّ
هذه المواقع السلبي على مجتمعي و بالدي – على نقيض ما يعتقد كثير من الواهمين العابثين ! -فاستخدام الشبان لهذه
المواقع صرف بعضهم عن االتصال الحقيقي ببعض ،أعني االتصال الهاتفي والتزاور واللقاء ،و كان اتصاال وهميا
(افتراضيا) ال واقعيا أوهمهم أنهم متصلون ملتقون وهم ليسوا كذلك !
فصار الشاب منهم يكفيه ليتصل بصديقه أن يرسل إليه رسالة باخال عليه بإسماعه صوته وكأن االتصال الهاتفي صار مجهودا
كبي ار وعبئا ثقيال على شبان اليوم حتى استبدلوا به تواصال افتراضيا ال حقيقيا ألداء الغرض و تحقيق المصلحة ،بل
المناسبات كذلك كاألعياد لم يعد األصدقاء يتصلون ببعضهم فيها ويلتقون كما كانوا من قبل بل يستكفون برسائل باهتة عديمة
الطعم للتهنئة وكأن أحدهم بذلك قد بلغ الرسالة وأدى األمانة ورفع ما عليه من حرج ! ...حتى ما يسمى ( الشات) لم يلب
االحتياجات القلبية العاطفية التي كانت تغمر الصديَقين في أزمنة الود والمحبة حين كانا يلتقيان و يتبادالن الحديث وجها لوجه
ابتسامة بابتسامة و شعو ار بشعور ! ،إن شبان أمتي اليوم استحوذ عليهم القعود أمام هذه المواقع ليل نهار حتى صار شغلهم
الشاغل وتسليتهم في فراغهم و في شغلهم ! و صار أداة لقتل األوقات بل نسفها نسفا ! ،صرفتهم عما ينفعهم في دنياهم
وآخرتهم بل صرفتهم عن الثقافة الحقيقية و طرحت أمامهم ثقافة وهمية طفيفة ال تسمن وال تغني اقتنعوا بأنها ثقافة و توهموا من
بعدها أنهم مثقفون حتى تبلدت عقولهم و ُمسخت قريحتهم وصار شر القطيعة عن األصدقاء مضافا لشر الجهل المستتر ! ،
قلبا صل ًة و قربى و زيادة في أواصر الصداقة واألخوة فإنمكانا المتقارَبين ً
المتباعدين ً
َ إنه إذا كان التراسل في قديم الزمان بين
التراسل االفتراضي اليوم بين المتقارَبين مكانا صار قطيعة وتباعدا واندثا ار لمعاني الصداقة واألخوة ! ..
193
الهم ال يجد واحدا منهم يقف معه
إن المسكين الذي يتباهي بصداقة اآلالف على موقع التواصل حينما يغشاه الكرب و ينزل به ّ
في محنته يكتشف حينها أنه وحيد بال أصدقاء وأن كل ما بناه من صداقات سرابية انكشف أمرها وظهرت على حقيقتها فأفاق
من غفلته على الحقيقة المرة ،حتى ِس ّره الذي تضيق به جوانحه يجد نفسه وحيدا به ال يجرؤ على إذاعته أمام أصدقائه
االفتراضيين والسبب في ذلك أنهم ليسوا أصدقاء وإنما أشباح أصدقاء !..
إن مواقع التواصل يا سادة ال تصنع مثقفين وال أنصاف مثقفين وال أعشار مثقفين إن شئتم ،كذا هي ال تصنع أنصاف أصدقاء
عام والبريق جذاب ! ..
وال أعشار أصدقاء ولكن الوهم غالب و االنخداع ّ
تنبه لهذا األمر األصدقاء األوفياء األصفياء ورفضوه من قلوبهم و لم يستغنوا به بديال عن المالقاة و المكالمة حتى يستكملوا
مسيرة الحب واألخوة إلى أن يلقوا هللا متآخين مترابطين ال تخدعهم الحداثة البراقة وإنما تخلب لبهم معاني المخادنة واأللفة !
.............
-7الصداقة والغربة
194
فما بالك حين تجتمع الغربة الحقيقية والغربة الثقافية حين ينتقل اإلنسان إلى قوم ليسوا على دينه وال ثقافته و ال أخالقه ،
فيضطهدونه و ينبذونه ،فتضاف شدة الغربة إلى قسوة البشر حينها يشرئب العنق نحو الصداقة و تتلهف النفوس للصديق وتجد
فيها الر ّي من ظمأ قسوة الحياة ! ..
هل تعلم أن الصداقة تعلو بحالتك النفسية والجسدية ؟! ،الحالة النفسية لشخص له صديق أعلى من شخص وحيد منعزل عن
البشر ،حبه لصديقه يعطيه دافعا له في حياته ،سعادة قلبه بخدينه تنير له الدنيا وتصبغها بأزهى األلوان ،كما أن األبحاث
أثبتت أن الصداقة قد تكون عامال وقائيا من أمراض القلب والعدوى الفيروسية والسرطان ! بل وجدت األبحاث أن معدل
الوفيات أكثر فيمن ليس لهم أصدقاء ويعيشون منعزلين ! لذا سموا الصداقة (المصل السلوكي ) ،هو وقاية من المرض
النفسي والمرض العضوي ّ
سويا ! ...
الصداقة إ ًذا شيء رائع لرائمي الصحة الجيدة ولكن بعض البشر حرمتهم حالتهم الصحية من اكتساب األصدقاء ! ،فمثال
مريض ( التوحد ) -وهو مرض سلوكي شهير يصيب األطفال – عصي على اكتساب األصدقاء ! ،أما مرض ( اضطراب
ّ
نقص االنتباه وفرط النشاط ) وهو مرض سلوكي كذلك على رغم أنه ال يمنع من اكتساب األصدقاء – يكون عائقا عن استمرار
الصداقة ! ،أما األمراض العصابية مثل االكتئاب فقد أفردنا له فصال كامال ألهميته الشديدة .
يسير الصديقان في درب التصافي والتصادق يشّقانه معا سعيدين بحبهما و مبتهجين باجتماعهما ،وتشق سفينة الصداقة ماء
الحياة تحدوها نسائم الصفاء والوفاء وتدفع شراع الحب والتالطف ! ولكن .....تأبى الدنيا أن تسير بنفس النهج و تتقلب
تقلبات الدهر ،و تأتي العواصف الطائشة لتعوق سير سفينة األخوة في هدوء وسالم فإما أن تعطلها عن السير الهادئ وقتا من
الزمن ال تلبث أن تعود إلى مجراها و هدوئها واطمئنانها بعده وإما أن تتحطم سفينة الصداقة وتغرق و تندثر ويبقى حطامها
شاهدا على وجودها يوما ما من الزمان فتصير خب ار بعد أثر !! ..........هذا هو حال الدنيا المريرة ال تبقي شيئا على حاله
وكأن الكدر و الحزن كتاب مكتوب عليها لتتحقق فيها سمة التدنية بعد حين من سمة ّ
الدنو !! وما ذلك إال لتتميز الدار اآلخرة
ألهل الفردوس و النعيم بخلوها من الكدر ،وانعدام الشقاق واالختالف فيها فيتحقق قول هللا –تعالى -في أهل الجنة ( :
ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم األنهار وقالوا الحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا هللا) و
قوله -جل شأنه ( : -ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) وانظر للفظ ( نزعنا ) الذي عبر هللا به
195
عن كيفية إزالة الغل من البشر وكيف أنه كان متج ّذ ار عميقا و يتم نزعه و جذبه بشدة و عنف مثل قبض روح الكافرين
المعاندين الظالمين !! وكأن القدرة على الخالف و النزاع المتولد عن الغل سمة متواترة بين أجيال البشر ،كما تعتري المعارف
و األقارب تعتري الصديقين على قرب منزلهما من بعضهما ...فهو قدر مقدور نكرهه ولكن علينا التعامل معه ،بعد َوَل ٍه و
تعجب لحدوث ما لم يكن في الحساب وال في الخاطر وال على موعد !
تصــفو و تطي ـ ـ ـ ــب يا فتى كانت به دني ـ ـ ــاي
بي حــين يغ ـ ـ ـ ـ ــيب وله كانت تضـ ــيق األرض
واأليــام ما زالت تريــب ما الذي اربـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك
وتصير الصداقة كالطعام اللذيذ الذي يشتهيه اإلنسان كل االشتهاء ولكن بين الحين والحين يكون ذلك الطعام الحلو ذا ّ
غصة
صة الصداقة ! كما عبر ابن الرومي
تكدر على الصديقين صداقتهما فتستحيل الحالوة إلى انقباض و كربة ! ..إنها إذن ُغ ّ
يصف هذه الحال العجيبة:
إن قضية االختالف بين األصدقاء قضية شائكة أكتب عنها و أصابعي ترتجف لهول ما يرى األصدقاء منها ولهول ما ال قيته
هياب ولنا هللا من هذا العناء ....
علي أن أخوض فيها غير مكترث وال ّ قضاء واقعاً كان لزاما
ً كذلك بسببها ! ولكن لما كانت
ّ
لنا هللا !! .....
197
على صداقتهما ولكن القدر أبى إال فشلها !! إنهما تعلقا بركن واحد من أركان الصداقة هو الحب ،الحب الذي جمع بينهما
على غير موعد فتقاربت القلوب و توطدت العالقة ولكن الصداقة لم تكتمل أركانها والحب وحده ال يكفي ! وركن واحد كالتقارب
الفكري والخلقي بين الصديقين فقده كاف لهدم الصداقة وانهيارها ،فعلينا االنتباه لمؤشرات الخطر ....
إن هذه السمات مؤشرات لمعرفة حدود العالقة بين اثنين ..
فالصديقان أو من اختا ار الصداقة عالقة بينهما كما يظنان – حينما تنعدم الخالفات بينهما في بداية العالقة قد تكون تلك عالمة
على ضعف العالقة و َو ْهي الصداقة أو بقائها في مرحلة الصحبة دون الصداقة فالتجانس بينهما لم يتزايد والتشابك بين
حياتيهما ال يزال بسيطا إلى مرحلة أنهما ال يسيئان فهم بعضهما لوهن االرتباط وقلة التشابك ! ...
سيقول قارئ :يا للعجب ! ..أتريد مني إ ًذا أن أرجو أو أتمنى أن تكثر الخالفات بين حبيبي حتى يكون ذلك برهانا على
الصداقة ؟! بل ربما تريدني أن أدعو في صالتي أن يزيد هللا ويبارك في الشجار بين إخواني حتى أتيقن من صدق اإلخاء ؟!
...فأقول :ال أنا لم أطلب من أحد أن يرجو ذلك وإنما هو من باب ( ال تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاصبروا ) ....
كما أن الخالف بين اثنين يزعمان أنهما صديقان حين ال يكون ملتهبا و حين يكون الطرف منهما بعد هجره لآلخر ال يشعر
بم اررة ما حدث و ال يجد كيانه مهت از لما وقع يكون ذلك مؤش ار لهشاشة الصلة و وهن الرابطة !! ولو كانت صداقة بحق
ألججت النيران و ألسهرت الليالي وألبادت األخضر واليابس !! ،تماما مثل مرحلة االحتضار في عالقة الصديقين حين تكثر
النزاعات بينهما و تصير صداقتهما حطاما يصالن لتلك المرحلة البائسة مرحلة يغيب فيها االحتراق للفراق ولرغبة التالق ليبزغ
فيها االحتراق للغيظ و لرغبة الثأر واالنتقام !! ....
الذنب نار ال تبقي الديار وال تبقي الجباب بين الشعاب !! ..هكذا كان يؤمن المخلصون الصادقون في كل أحوالهم عامة فكانوا
رجاعين ّأوابين هلل يلتزمون بحدوده مخافة غضبه ومخافة تحول نعمته وهي في الصداقة كذلك ! أخبرنا بذلك رسول هللا صلى ّ
هللا عليه وسلم بقوله ( :والذي نفس محمد بيده ما تو ّاد اثنان ُففرق بينهما إال بذنب يحدثه أحدهما ) ...
إنه شؤم المعصية و انعكاس سوء العالقة بين العبد وربه على العالقة بينه وبين إخوانه فيحرم اإلنسان التوفيق مع من أحب من
أهل األرض لحرمانه من التوفيق مع من أحبه في السماء !....
198
قال موسى الكاظم :إذا تغير صاحبك عليك فاعلم أن ذلك من ذنب أحدثته فتب إلى هللا من كل ذنب يستقم لك وده !
وقال المزني :إذا وجدت من إخوانك جفاء فتب إلى هللا فإنك أحدثت ذنبا وإذا وجدت منهم زيادة ود فذلك لطاعة أحدثتها فاشكر
هللا ..
إنه ليس تقاذف االتهامات و ليس تبرئة النفس من الخطأ بل اتهام النفس والتواضع أمام الصديق والبدء بالنفس بداية اإلصالح
..
ومع ذلك فإنني ال أرى أن يستغرق الصديق في هذا المعنى االتهامي للنفس حتى يتهم نفسه غيبيا دون أن يواجه صديقه بخطئه
و يحاول إصالح اإلشكال فالسبب الباطني إصالحه وحده ال يكفي وإنما يحتاج إلصالح السبب الظاهري معه فتحل العقدة
ظاه ار وباطنا ! ..
أخي وصديقي إن ذروة المودة بيننا كانت في أيام كنا فيها من هللا أقرب ولحدوده أحفظ وعن معصيته أبعد فلماذا ال يراجع كالنا
نفسه و يفتش في صدره و يراجع أيامه الماضية لعله يجد ما ال يرضي هللا فيعود لتعود عالقتنا كما كانت ،فليتّهم كالنا نفسه
وليحسن الظن بأخيه وليبدأ بنفسه و عمال بمبدأ الصراحة بيننا هيا نعالج ما بدر منا في حق هللا ولنتعاون على طاعة هللا
لتستمر عالقتنا في هللا وباهلل ! .....هذا حوار .
وحوار آخر يحدث بين صديقين طال عليهما عهد الصداقة واستطال أمدها حتى بعدا بعد قرب ...أخي العزيز إننا لسنا كما
كنا من قبل لم تعد عرى الود بيننا وثيقة كما كانت أيام الماضي ،أتذكر في الماضي حين كنا على طاعة هللا ،حين كنا
نجتمع فيما يحب ،حين كنا نبدأ لقاءنا بقراءة كتاب هللا ! حين كان لنا لقاء أسبوعي في مجلس من مجالس العلم ! حين كنا
نجلس سويا نق أر كتابا نافعا نستفيد منه فيصير لنا ذخ ار إلى لقائنا القادم ! أتذكر اجتماعنا على الصلوات و انفرادنا في ظلمات
فتؤمن من ورائي :اللهم ال تحرمنا من
الليل نبتهل إلى هللا أن يزيد روابط الود والحب واإلخالص بيننا ! أتذكر حين كنت أدعو ّ
بعضنا أبدا ،اللهم أحينا معا وأمتنا معا فال نفترق حياة وال مماتا ! اللهم كما جمعتنا على هذه األرض ّ
خالنا متحابين اجمعنا في
أتذكر تلك الليالي الصافية و هل الحظت التحول التدريجي في عالقتنا باهلل فصرنا أبعد جنتك إخوانا على سرر متقابلين !! ُ ..
ما نكون عن تلك الحال المزهرة ! أما آن لنا أن نعود ؟! أما آن للقلوب أن تؤوب إلى العهد القديم ؟! أم إننا سنترك أنفسنا
مستسلمين لدوامة الحياة وعواصف الدهر تعصف بنا كيف شاءت فنضيع ؟!......
هيا بنا يا أخي ننهض لنبدأ صفحة جديدة في عالقتنا باهلل لتكون عهدا جديدا على أرض صداقتنا و تحت سماء محبتنا ......
-2نزغ الشيطان
َح َس ُن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان لإلنسان عدوا َِّ ِ ِِ ِ
قال هللا تعالى وهو أصدق القائلين َ ( :وُق ْل لعبادي َيُقولُوا التي ه َي أ ْ
مبينا )
إن الشيطان منذ خلق هللا آدم يتربص باإلنسان هو وقبيله حقدا و حسدا فال يهنأ له بال إال بتعاسة بني البشر ،ومن تلك
التعاسة فساد الود بين المؤمنين المتحابين ،فهو يحزن حين يجد صديقين َ
مؤمنين في مودة و محبة فيجتهد بنزغه أي بإفساده
يقصر في وسيلة لذلك وقد ذكر هللا بعض وسائله لتحقيق هذا الغرض الدنيء في قوله تعالى (
تحاب وتآلف وال ّ
ّ لما بينهما من
199
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) فاالجتماع على ما حرمه هللا يؤدي للخالف والتشاحن
حل نزغ الشيطان ذكره هللا ( وقل
ألنه من البداية لم يكن اجتماعا هلل وإنما فيما يغضب هللا ...وما من مشكلة إال ولها حل ،و ّ
لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) قال سيد قطب رحمه هللا ( :على وجه اإلطالق وفي كل مجال .فيختارون أحسن ما يقال
ليقولوه ..بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة .فالشيطان ينزغ بين اإلخوة بالكلمة الخشنة تفلت ،وبالرد السيء يتلوها
ّ
تندي جفافها ،وتجمعهافإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخالف ثم بالجفوة ثم بالعداء .والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوبّ ،
سان َع ُدًّوا ُمِبيناً» .يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه ،فيغري بها العداوة والبغضاء بين كان لِ ْ ِ
إل ْن ِ طان َ على الود الكريمِ«.إ َّن َّ
الش ْي َ
المرء وأخيه .والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات ،وتقطع عليه الطريق ،وتحفظ حرم األخوة آمنا من نزغاته ونفثاته......).
والحل الثاني اجتناب أسباب العداوة الشيطانية التي يستخدمها ببراعة لإليقاع بين األصفياء ( في الخمر والميسر ) أي بسبب
تأمل
الخمر والميسر ،فكالهما يذهب العقل وإذا ذهب العقل ذهب الحب وانطفأة جذوة األلفة فسهلت الشحناء والبغضاء ..وهنا ٌ
يسير في مسألة الميسر تكلم عنه علماء النفس وهي ما يسمى ( نفسية المقامر !) وهي الشهوة الدائمة والرغبة الجامحة في
المقامرة ،تلك الرغبة المدمرة التي ال تترك اإلنسان حتى يفقد كل ما لديه من مال بل أضف إلى ذلك أنها ال تتركه حتى يفقد
أصدقاءه ! ...حينها يستريح قلبه و تخبو جذوة شهوته إلى أن يجد ماال جديدا ونديما جديدا ليعاود الكرة فيفقد ماله و نديمه ! ..
وأنا هنا ال أقصد القمار عينه وإنما أقصد نفسية المقامر وهي الرغبة الدائمة في التنافس على لعبة معينة – وإن كانت حالال-
ليكون هو الفائز و ليقهر من يالعبه فيتنسم قلبه نسيم االنتصار و تنتفش نفسه المزهوة بالنصر المبين ...إن تكرار اجتماع
الصديقين على اللهو واللعب وخصوصا األلعاب التي يخرج منها منتصر و خاسر من أعظم األسباب المؤدية للشقاق حيث
توغر الصدور و مع تكرارها كثي ار يتحول اللعب إلى جد وكأنه مكسب وخسارة حقيقية فيحزن المهزوم ويغتم وتثور أحقاده ...
-3حسد الحاسدين
( العين حق ولو كان شيء سابقا للقدر لكان العين ! ) كلمات قالها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن شيء غيبي ال تدركه
العقول وال العلوم ،وهو الحسد الذي حين ينبعث من قلب حاقد و من عين كائد يكون له أثر متلف على النعمة المحسودة ،وإن
وسره ومالزمته ،ولما كانت
بوده و محبته ّ
من أعظم النعم التي يمن بها على إنسان صديق مخلص يصطفيه من بين الناس ّ
قل فيه اإلخالص و ثَمن فيه الوفاء – على رأي من رأى ذلك – كانت أدعى إلى حسد الحاسدين من
تلك النعمة نادرة في زمن ّ
ينمي تعجبهم
الزمالء ،فوجود صديقين متالزمين في وسط الدراسة أو العمل يثير مالحظة الناس و يوجه انتباههم إليهما بل ّ
200
حتى يصير الصديقان المتالزمان اللذان ال يفترقان صباح مساء حديث الزمالء و سمر السامرين ! ولو كان كل زميل له صديق
مثلهما النشغل به ولترك الناس لحالهم ولكن األمر ليس كذلك !! فأغلب هؤالء الحاسدين لم يجد صديقا حقيقيا يموت فيه حبا و
تعلقا وارتباطا فلما رأى ذلك األمر في اثنين من زمالئه شعر بافتقاده لتلك النعمة التي ربما لم يلتفت إليها من قبل حتى رأى ما
رأى فيتحسر على حاله و يبكي على انفراده ويتحول حزنه إلى حسد دفين يتحين الفرصة ليطفو على السطح ّبينا للناظرين ! ...
إن هؤالء الذين نسوا حظهم من بهجة النفوس وأنس القلوب َل ْيتهم انشغلوا بأنفسهم وأصلحوا أحوالهم وسألوا هللا التوفيق للصديق
الحقيقي ..ولكنهم حين ساءت نفوسهم اشتعلت فيها نيران الحسد..
قد أمكنا الحب من قيادهما إلفان داما عـلى ودادهما
أن يحفـظاه إلى معادهم ـ ــا تحالفا إن صـفا الهوى لهما
إال سعى الناس في فسادهـمامحبين جاه ار بهوى
ما من َ
ومنهم من اشتعلت في قلبه نار الغيرة حيث كان يرتجي أحد الصديقين صديقا له ومؤنسا فجاء إنسان آخر فسرق منه من كان
يرجوه صديقا ليس عمدا وإنما بتوفيق من هللا وهو الموفق بين القلوب ال موفق سواه فإذا هو يكبت حزنه وغمه و يحاول إطفاء
نار غيرته – إن كان صالحا – بالدعاء واالبتهال إلى المولى سائال إياه السعادة للصديقين ،فهو يرجو كل خير لصاحبه وإن لم
يفز بصداقته ،ولكن نزعة الغيرة تالحقه ،يخالف نفسه و يوهمها أنه ليس في قلبه حسد والحسد آتيه ال محالة قبل أن يصل
الظل بعيدا عن الصديقين ليتجنب إثارة الكامن في قلبه من حزن واغتمام ولكنه ال يلبث أن
لمرحلة االنفجار ! ..قد يتولى إلى ّ
الهم والحسرة ....
يحتك بهما فيعاوده ّ
ّ
إنه إنسان تعيس بال شك ،مثله مثل الحاسدين الحاقدين الذين ذكرتهم آنفا ،هم سواء في البؤس ،ولكن المصيبة أن يتراكم كل
الطيبين ،فتنشب بينهما الن ازعات و يفترقان بال
َ هذا الكم من االغتمام مع مزيج من الحسد والغيرة فيؤثر على عالقة الصديَقين
ذنب !! ..
إنني أعلم أصدقاء أخالء انتبهوا لتلك القضية حين كثرت الخالفات بينهم ،خشوا على صداقتهم الطيبة النضرة و انتبهوا
لمالحظة الناس لهم و القيل والقال فخشوا على أنفسهم من عاقبة حسد الناس وخشوا على الناس من عاقبة الحزن في قلوبهم
جلية أمام الناس لئال يوغروا صدورهم و اتفقا على أال يتالزما تالزما ملحوظا أمام
فاتفق الصديقان على أال يظه ار مشاعرهما ّ
الزمالء ليتقوا حسدهم ولئال يتسببا في إحزان الناس ! بتلك المشاعر النبيلة وبذلك الحرص الجميل تستمر الصداقة في هدوء
وسالم فيما بينهما وفيما بين الناس !......
201
-1اإلباء عن االعتذار :
األصل في أي مشكلة والمعتاد أن تكون ذات طرف واحد ،ذلك الطرف آلمه الطرف اآلخر ،أغضبه وأثار حنقه ،فعل فعال
أحزن نفسه ،قد يكون ذلك الفعل مقنعا لك بأنه له الحق في الحزن وقد ال يكون كذلك ،في كال الحالين النتيجة واحدة وهي أن
صديقك غاضب عليك فماذا عليك أن تفعل ؟ النفوس الطيبة المحبة تبادر إلى إطفاء النار ال إذكائها بكلمة ساحرة تحيل الكدر
صفاء و البحر المالح عذبا هي ( أنا آسف ) ،إنه امتصاص الغضب بأيسر وسيلة و جالء الحزن بأسهل طريقة بعدها يسهل
النقاش و تتيسر األمور ويزول الخالف في هدوء تام ،إنه فقه البدء باالعتذار شيء يسير على من يسره هللا عليه ولكن افتقده
كثير من األشقياء ،وهم من يحولون المشكلة ذات الطرف الواحد إلى ذات طرفين ! ،إذا غضب عليهم صديقهم لم يبادروا
إلى طلب العفو وإنما عرضوا األمر على عقولهم أوال فيديرونه في رؤوسهم متسائلين هل له الحق في الغضب أم إنه أمر ال
يستحق ذلك وما هو إال إنسان حساس مبالغ ! ولألسف في ثوان معدودة من التفكير اللحظي يصلون للنتيجة السيئة وهي عدم
اقتناعهم بسبب هذا الغضب فيأبون االعتذار ويبادلون الهجوم بهجوم و االتهام باتهام ،يواجهون من يشد الحبل بشد الحبل
بشدة وعنف أكبر ! وتتحول المشكلة إلى مناظرة و مجادلة ويقع الخالف و الهجر ....ويقول قائلهم – وبئس القائل ! : -
عليا
وتعتب من غير ج ــرم ّ إذا كنت تغضب من غير ذنبٍ
كنت حيـ ــا
عددتُك ميتا وإن َ عز ب ـ ـ ــي
طلبت رضاك فإن ّ
إنه اإلباء واالستكبار ،إنه االستنكاف عن الوقوف في موضع المقصر المخطئ ،إنها النرجسية المستترة الدفينة في النفوس
التي ال تتصور نفسها مخطئة فتكون العاقبة مؤلمة ...
إن النفوس المحبة حقا تتواضع أمام أحبائها وال يضيرها كونها العليا أو السفلى مادام ذلك أمام الحبيب ،تلك القلوب الطيبة التي
ليست قضيتها حين تالم أو تعاتب هل هي فعال مخطئة أم ليست كذلك ،وإنما قضيتها كيف لصديقي وحبيبي أن أكون سببا
في حزنه وأن أكدر حياته بفعلي سواء أكان عن قصد أم عن غير قصد ؟! حينها تلين النفوس وتطلب الصفح مستكينة يملؤها
الحب وطلب الرضا ،وبعد تلك المقدمة الرائعة من االعتذار وطلب العفو تعال يا أخي الحبيب نتناقش في سبب غضبك فإن
فعلت شيئا لم أكن أعلم أنه يغضبك فها قد
كنت ُأعددت العدة المرة القادمة لئال أقع في هذا الخطأ وإن ُ
ُ كنت غير قاصد لذلك
ُ
علمتُه اآلن وسوف أتحرى بعد ذلك أال أفعله لئال أسيء إليك مرة أخرى ....ذلك هو الحب الجميل العظيم !
إن هذا السلوك الجميل اللطيف من ِقوام حفظ الصداقة وبقائها غضة ناضرة ولكنه مع ذلك قد ال يحدث بين األصدقاء فيكون
سببا للنزاع والخصام وليس عيبا أن يحدث مرة أو مرتين ولكن العيب األكبر أن يكون سمة مميزة لكل خالف بين الصديقين
فدوام ذلك السلوك دليل على ترسخ الكبر و النرجسية ،اإلباء واالستنكاف ،وأصحاب تلك الصفات تفشل صداقاتهم وتتحطم
حتى ال يبقى لهم صديق !! ..
202
يقول أحدهم ( :لقد تغير صديقي فجأة ..تجهم في وجهي ..انصرف بدون أن يسلم علي ..هكذا بغير مقدمات !! ..ذهبت
ّ
إليه أخطب وده فإذا هو ينهرني و ينفعل انفعاال أغضبني منه ..لم أفعل له شيئا ليفعل ذلك ..ياله من صديق سيء ! أنا ال
أستحق منه أن يفعل ما فعل ..هو بدأ بالعداوة و سأجابهه لعداوته لي بعداوة أخرى فهو البادئ والبادئ أظلم ! ..هذه ليست
أول مرة يفعلها ..لقد فعلها معي مرة من قبل حين اشتد غضبه واحمر وجهه وانصرف عني ..وبعد شد وجذب اكتشفت أنه
فعل ذلك لسبب تافه من وجهة نظري ال يستحق منه ذلك التصرف العدائي ..إنني لم أكن مخطئا حينها ولو كنت مخطئا
حساس يحزن ألقل األشياء أو ألشياء لم أرتكبها
حينها أو اآلن فإنه ليس من حقه أن يتصرف ذلك التصرف ..إنه إنسان ّ
أصال سأقف متصلبا أمامه هذه المرة ولن أتنازل عن حقي بل سأطالبه أن يعتذر لي حتى تعود مياه الود والصفاء إلى مجاريها
!!)......................
ما رأيكم في هذه الكلمات ؟ وما رأيكم في موقف ذلك الصديق الشاكي ؟ كثير منا أول وهلة يتسرع باعتقاده أن موقفه سليم وأن
الحق معه ..ولكن الحق غير ذلك و هذا الصديق ما هو إال مسعر حرب ستأكل األخضر واليابس إن لم يراجع نفسه و يتحلى
تصير البرق بريقا والبركان بركات !! ......
الهينة التي تحول النار نو ار و تحول السيول سالما و ّ
بالروح الصداقية الطيبة ّ
برد فعل صديقه و تغافل عن فعله هو إن هذا الشاكي التعيس خطؤه األعظم أنه استمسك برد الفعل و تناسى الفعل ! ..تشبث ّ
الذي دفع صديقه ليقوم بما قام به من مظاهر غضب و حزن ...إن صديقه الغاضب يتبع فلسفة تقول :إن صديقي أخطأ في
حقي خطأ ليس لصديق أن يخطئه ..إنه قصر في حقي وما كان له أن يفعل ذلك ..إن خطأه أوضح من الشمس ُق َبْيل الزوال
!! سأقاطعه ليراجع نفسه ويعتذر لي سألومه لوما سلبيا بتركه لنفسه وضميره !! ..
قد يكون لنا على هذه الفلسفة مآخذ ..ولكن هذا ما انتهجه ذلك الصديق الذي يسمونه حساسا ومبالغا في تصرفاته فماذا على
الطرف اآلخر أن يفعل أمام ذلك ؟؟ هل يلوم صاحبه على تصرفه المباَلغ فيه – من وجهة نظره – بل يطالبه باالعتذار على
رغم أنه فعل ذلك ردا لفعله ؟؟ لنجيب على هذا التساؤل أذكر مثاال ظريفا فيه اإلجابة ،ما بال إنسان وقف بجوار قارورة
زجاجية يملكها صاحبه يتحاور معه فإذا هو يطيح بتلك القارورة بغير قصد منه في لحظة غفلة فوقعت القارورة وانكسرت مائة
قطعة !! فماذا يكون ّ
رد فعله الصحيح ؟ إنه أمامه حالن األول أن يقول :عفوا يا أخي أنا آسف لم أكن أقصد سامحني
سأعوضك سأصلح لك القارورة أو سأشتري لك أخرى .....
أما الحل اآلخر أن يقول :ما هذه القارورة اللعينة ؟؟ لماذا وقعت بهذه السهولة ؟؟ وكيف يحق لها أن تنكسر مائة قطعة ؟؟
القوارير من مثيالتها تنكسر قطعتين أو ثالثة ال مائة قطعة ! ..إنني لم أرتكب خطأ وإنما العيب في هذه القارورة الحساسة
والعيب فيك أنت أنك اشتريت قارورة تنكسر بسهولة !! ..............
ما الجواب المنطقي من هاتين اإلجابتين ؟ ..ال عاقل يقول إن اإلجابة الثانية فيها شيء من المنطق فضال عن أن تكون أصال
ُيحتكم إليه ويقاس عليه والجواب األول هو المنطق السليم بال نزاع يحل المشكلة ويرضي الطرف اآلخر ....
أغضبت صديقك فكان له رد فعل صاخب بل غير متوقع بل غير مكافئ لفعلك
َ قضيتنا هنا مثل قضية القارورة تماما ! أنت
هشمت القارورة أصلحها ...كما أغضبته
كسرت صاحبك أصلحه ! ،كما ّ َ كسرت بحكمة ولين ،كما
َ فما عليك إال أن تصلح ما
رده راضيا عنك مرة أخرى ..أنت سبب المشكلة ال هو ..ربما يكون فعله أكثر من الالزم ولكنك أنت من دفعته لذلك ..إنك
ّ
203
وحولت المشكلة ذات الطرف الواحد إلى ذات
أبيت االنكسار واالعتذار فما بالك إن طالبته هو باالعتذار ّ
مخطئ أشد الخطأ إذا َ
طرفين ؟! ...
إن هذا الصديق الذي غضب على صديقه الذي يحبه كثي ار برد فعل عنيف بال عتاب أي بال لوم إيجابي – ربما يكون إنسانا
حساسا بتعبير العامة ولكنه في الحقيقة إنسان ذو حس مرهف رقيق يكبت مشاعره إلى أن ينفجر بدون أن يواجه صديقه
النفسيون فيه سمات ُعصابية ويميل لالنجراف لالكتئاب والقلق ..هذا حاله وهذه طبيعته ربما
ّ بمشاعره ..هذا اإلنسان كما يقول
يحتاج لعالج نفسي ودوائي ولكن صديقه المستنكف اآلبي ال يقل عنه حاجة إلى عالج عقلي وقلبي ليعرف كيف يتعامل مع
صديقه الذي يدخر له كل حب وود وما فعل هذا إال ألنه يحبه ولو كان ال يحبه ما التفت إليه وما غضب عليه ،إنه ال يحزن
إال ممن له مكانة سامية في قلبه وبقدر مكانته في قلبه يكون قدر أساه وشجنه لتقصيره في حقه ...إنه فقه صداقي قل من
يحسن التعامل به في زماننا و حكمة رفيعة وهي كما قال المولى (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خي ار
كثي ار وما يذكر إال أولو األلباب ) .............
204
يستطيع القول – ببوحه بسره و ضيق عيشه ،فيسيء صديقه المسكين فهم تصرفاته خصوصا أنه ال يستطيع مواجهته بلومه
مستشع ار للحرج هو كذلك ،فيفهم المسكين أن تصرفات صاحبه دليل على عدم الرغبة في استكمال تلك الصداقة وهو تصرف
عملي على إنهاء تلك العالقة من بدايتها لئال تتعمق في غير محلها ! فتنتهي صداقة جميلة غضة في مهدها بغير ذنب و ال
جرم سوى أن القدر أجرى عليها قلمه ولم يشأ هللا لها استم ار ار وال استق ار ار ! ....
الود انتظر ود صديقه في رد زيارته فلم يجب ولكن حب صديقه في قلبه يطغى
ولكن من بين تلك الحاالت صديق مبادر إلى ّ
يحدثه بخالف ما يرى ،يحدثه أن لصديقه سببا في ذلك بل نظرات عين صديقه و قسمات وجهه الصابح
على كيانه و قلبه ّ
تفصح عن حقيقة غامضة في نفس صاحبه تحتاج للحظات مكاشفة ،لحظات روحية قد تكشفها األيام وقد تكشفها لحظة جرأة
من الصديق المبادر يواجه فيها صاحبه الطيب المسكين بلطف ورفق فتتجلى الحقائق في رقة و هدوء في موقف يغشاه نور
ضع األمور في مواضعها وتستمر الصداقة في سكينة ويسر ال توقفها عواصف الحياة
الصداقة و تتخلله مياه األخوة العذبة فتُ َ
وال أحكام المجتمع ! ..
إن هذه المشكلة – أعني مصادقة الصديق المتوسط الحال الذي ال يستطيع مجاراة صديقه األيسر منه حاال في بداية الصداقة –
قد تسير على هذا النهج الذي ذكرتُه آنفا ،ولكنها لها نهج آخر وهو االمتناع و عدم االنسياق ! ،رفض التوغل من البداية ،
رفض دعوة الصاحب للزيارة في بيته ،رفض دعوة الصاحب لتناول الطعام ،يرفض ذلك و قلبه يتألم ألنه يعلم علم اليقين أنه
يرد تلك الدعوات بمثيالتها دعوة بدعوة ،فيقف الصديق المصدود مصدوما متعجبا يتملكه الشيطان بسوء الظنال يستطيع أن ّ
فينصرف حزينا وتنصرف معه الصداقة بال رجعة ،ولكنه قد ينصرف ملتمسا لعذر وينتظر األيام الحبلى لتأتيه باألنباء التي
خفيت عليه اليوم حين يكون ملتبسا بالحب يغشاه من كل جانب ! .
إن الصداقة بين صديقين قد تكون ضحية للظروف وللمجتمع وضحية كذلك للحاالت النفسية غير المستقرة فال تنجدها غير
عناية هللا.
الصد جليا وواضحا من الطرف اآلخر الذي ال يأبه له وال لصداقته
ّ ولكن نهاية الصداقة في مهدها قد تكون مطلبا ّ
ملحا إذا كان
جئت فإنك ال تالئمني
تجاوزت حدودك ُ ،عد من حيث َ
َ ردا (دبلوماسيا ) سلبيا يقول بلسان حاله :ال تتماد في القربى فقد
فيرده ّ
ّ
وال أالئمك ،والفرق بين الحالين أعني حال الصد الحقيقي والصد الظاهري يعرفه الحكيم ذو القلب النابض بالحب والصفاء فهو
ال يخطئ صديقه الحقيقي ويعرفه مهما كانت الظروف ومهما ادلهمت الليالي ومهما اشتدت الخطوب !! .....
كان ما ذكرت متعلقا بالصداقة في مهدها ،ولكن مشكلة انتظار المبادرة مشكلة تحدث بين الصديقين القديمي العهد بالصداقة !
وذلك حين تطول مدة االنقطاع بينهما فيتساءل كالهما تساؤال شيطانيا :من األولى باالتصال باآلخر ؟ وال يكتفي ذلك
لست ملزما باالتصال أوال !! ...
الشيطان بالسؤال حتى يبادر متطوعا باإلجابة :هو الذي يجب عليه االتصال ،أنا ُ
إن هذه المشكلة من أكثر المشاكل تعقيدا ومنشؤها ِ
الك ْبر من جهة والوسوسة من جهة أخرى ،فالكبر يجعل صاحبه يظن نفسه
وده – انظر
أنه ما قصر في حق صديقه وأنه بذل ما في وسعه من أجل صلته وأنه لن يتنازل أكثر من ذلك من أجل خطب ّ
ط من النفس ! -والكبر آّفة مدمرة مهلكة للصداقة
للفظ (لن يتنازل) وكأن االتصال أكثر من مرة نوع من التنازل والتردي و الح ّ
أصدقاء وتواضع الصديَقين بين يدي كليهما ضرورة الزمة إلبقاء
َ ذكرت من قبل وأظل أذكر دائما ال يكونون
ُ فالمتكبرون كما
205
الحل لهذه الوساوس الشيطانية التي يتلوها الشيطان بحكم أنه أول مخلوق متكبر في
تسبح بحمد ربها ! و ّ
الصداقة حية نابضة ّ
الوجود أن تُصحح المفهومات لدى الصديقين و ليتفقا من أول يوم في صداقتهما أن عالقتهما ليست عالقة مقايضة وال عالقة
مادي حينها
بيع وشراء ! ليست عالقة شيء مقابل شيء ! وإنما عالقة قوامها بذل الود بال حدود وبال ترّفع وبال انتظار مقابل ّ
صفيا وخليال وتذل النفوس وتصير هينة لينة وهي إن علت على بقية البشر فال تعلو على من اختارته تُمحى آفة الكبر المهلكة ِ
ّ
!..
أما الوسوسة فهي آفة ال تقل فتكا عن صاحبتها بل تفتك بالصديق المو ِ
سوس و تفتك بصديقه كذلك ،فالصديق الطيب ذو َُ
يمل منه ولم ينشغل عنه فيتربص
المتورد الحساس يحتاج في كل يوم أن يتأكد أن صديقه ما زال يحبه وأنه لم ّ
ّ القلب الخافق
عقله الباطن أي فرصة ليشير بأصابع االتهام نحو صديقه أنه جفاه ولم يعد يبادله الحب والصداقة المنشودة ومن هذه الفرص
ٍ
متساو حذو الق ّذة بالق ّذة ود
لود متبادل واحدة بواحدة ّ
مسألة انتظار اتصال صديقه به بعد أن اتصل به من قبل فهو يحتاج دائما ّ
المدعي و ! ليتيقن من محبة صديقه له ،فإذا أخطأ صديقه مرة في تطبيق ذلك القانون نصب له محاكمة صداقية كان هو فيها ّ
بحبه ال
القاضي والشهود والمجني عليه في آن واحد !! وهنا على صديقه الحكيم أن يواجه تلك المحاكمة بقلبه ال بعقله ّ ،
فحل تلك المسألة الشائكة أوال في طمأنة الصديق المتسربل بسربال المجني عليه بأنه ما زال يحبه و مازال على العهد
بمنطقه ! ّ
الصداقي لم ينقضه ولن ينقضه ما تعاقبت األنفاس وما خفق القلب ! وأن ظن صديقه في جفائه ليس في محله وإنما هي
التباسات ال حقيقة حينها يهدأ قلب الصديق و يبرد دمه الملتهب وتعود ثقته بحبيبه و بصداقته ثم بعد ذلك تعال لنتناقش في
قضية االتصال وهيا بنا نصحح المفهومات ولنضع قاعدة صداقية ُمرضية نتفق عليها لئال نختلف بعد ذلك ،قاعدة األنا ! أنا
أبدأت أنا
ُ هو أنت ال اختالف بيننا هكذا علمتنا األخوة في اإلحساس والشعور واآلن تعال نقتد بها في العمل والسلوك ! سواء
باالتصال أم أنت فال فرق وال حساسية وال نزاع ما دامت الثقة بيننا متبادلة ،ما دمنا متيقنين من ّ
حبنا و ألفتنا ،ما دام نبع
الود متصلة متينة على طولالتصافي العذب جاريا متدفقا فال حساسية وال اختالف في هذه المسائل ،أهم شيء أن تظل حبال ّ
أكنت أنا الواصل أم أنت ،وليس ذلك ذريعة لهجر طرف للطرف اآلخر وإنما تواصل دائم من الطرفين ولكن بغير
الزمان سواء ُ
المتصل ! .
مكيال وال ميزان ! ،العبرة بدوام االتصال ال بهوية ُ
206
نفسه وال يحسن اإلفصاح عنها ! واالنشغال المادي ليس عذ ار ولكن
لسانه قصر عن حسن التعبير بل هو نفسه ال يفهم َ
االنشغال النفسي عذر ضخم له احترامه ويجب حسن تفهمه ! ،إن ضغوط الحياة و مصاعب الدنيا وكثرة األحمال قد تصيب
الصديق باالنقباض الذي يقوده للهم واالكتئاب فيركن حينها لالنعزال والخلوة بالنفس و االنشغال وطول التفكير في همومه
المعتزل
َ وأحزانه ،يفعل ذلك بغير إرادة منه ،يجد نفسه منساقا لذلك ،في تلك اللحظات ينعزل عن صديقه ،ويسيء الصديق
فهم األمر خصوصا أنه لن يفهم ولن يجد سببا مقنعا من صديقه الذي عجز عن التعبير وخانته فصاحته ! فتحدث المشكلة
....
سيعقب أحد القراء الطيبين الغارقين إلى آذانهم في نهر الصداقة قائلين :أليس الصديق هو الملجأ والمالذ عند أي هم يصيب
اإلنسان ،أليس االمتناع عن البوح بالهم والكرب للصديق قصو ار في الصداقة وخلال يجب عالجه ؟ فكيف وقع هذا الصديق
ِ
المعتزل للناس في مساواة صديقة ببقية الناس في االنعزال عنه ؟ ،أقول :إن هذا الصديق – على غير عادته -حين ثقلت
عليه همومه وقع في لحظة ضعف شديدة ،لحظة ضعف أذهلته عن نفسه بل أذهلته عن صديقه المخلص حتى عجز عن
التفكير في مشاركة صديقه له في همه !! ،فاستسلم لذلك الضعف ووقع في شباك همه واكتئابه ،وهنا يأتي دور الصديق الذي
يحس آالمه ،يفطن لهذا الضعف و يفهم الوضع الحرج الذي صار إليه صديقه فيسارع إليه لينتشله
يحس آالم صديقه كأنه ّ ّ
ويرد عليه نضارته و يكون نعم ُ
المعين ونعم الحبيب ! من بئر األحزان و يقوم بدوره األكمل في أن يعيد إليه بهجته ّ
إن هذه األمور النفسية الدقيقة قد ال يفهمها كثير من األصدقاء فبدال من أن يمدوا يد العون ألصدقائهم ُيجهزون عليهم برشقهم
باالتهامات و وسمهم بالتقصير في حق الصداقة وتبقى الحكمة هي المفتاح الوحيد حينها يفهم الصديق أغوار نفس صديقه
وتُفتح كل األبواب وتزول كل االلتباسات ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خي ار كثي ار ) ....
وصلت إليها أخي ار ،وصلت إليها بعد سنوات طويلة من الخسائر الباهظة واالعتراك
ُ افتقدت تلك الحكمة زمنا طويال ،ولكني
ُ ((
المضني و الصراع المربك بيني وبين أصدقائي ،خسائر نفسية وخسائر مادية شغلتنا و حيرت عقولنا ونفوسنا وما كان ذلك إال
لقلة الفهم وغياب الحكمة عني وعن أصدقائي فخسرنا جميعا !!))....
207
مر ذات يوم فال يمر في بقية األيام حتى يصير عادة وليس بعادة وإنما جفاء وهجر وإن كان في ظاهره الصلة فباطنه من
وإذا ّ
ِقَبله القطع والهجر ! ،كذا من يتواصل مع صاحبه باالتصاالت الهاتفية في مواقيت متباعدة بدون أن يطلب اللقاء أو أن
يحرص عليه فهو ليس بصديق وإنما صاحب على أقصى تقدير ،هذا في من استبدل باالتصال الصوتي االتصال الكتابي و
الهاتف فما الشأن في من استبدل باللقاء كتابة ورسالة باهتة قاتمة يشع منها الهجر و تصرخ في وجه من
َ من استبدل باللقاء
لست بصديقي !! ...يتلقاها أن َ
استبدال
ٌ وإذا عدنا إلى مسألتنا هنا وهي انتظار المبادرة من الطرف اآلخر فالقطع الذي يتبعه انتظار الصلة على شاكلته
باتصال أعلى اتصاال أدنى ،فالصديق الذي اتصل بصديقه هاتفيا أكثر من مرة سيجد في نفسه الغضاضة حين يجد صديقه
يرد له تلك االتصاالت رسائل إلكترونية ويشعر حينها أن صديقه لم يعد يكلف نفسه عناء االتصال فيشعر بالحزن واألسى وكذا
من طلب اللقاء أكثر من مرة فلم يجد سوى اتصاالت هاتفية يمتنع فيها الصديق عن الرغبة في اللقاء فهذا يحزن و يؤلم
الصديق الحبيب الذي ينتظر من حبيبه أكثر من ذلك ....
مجفو أو مهجور ،من ال يسمح للشيطان أن يوسوس في
ّ أقول أخي ار إن الصديق الحق من ال ُيلجئ صديقه إلى أن يشعر أنه
بت فهجر ! والصديقان اللذان ما زاال يختلفان من الذي عليه أن يتصل باآلخر أوال و
وصلت فقطع و قر َ
َ أذن صديقه بأنك
أبشرهما بأن صداقتهما لن تستمر طويال !! .................
يتنازعان في ذلك ّ
( ليس الصديق من يكثر االعتذار ولكن الصديق من ال يضع نفسه في محل االعتذار !! )
صديقان أحدهما أصابه الفرح الغامر فإذا هو يسارع إلى صديقه الحبيب –على عادته – ليشاركه فرحه وليبشره بما أنعم هللا
عليه ولكنه حين يطلع صديقه على سبب فرحه يجد منه ابتهاجا باهتا و ابتسامة ظاهرها التكلف و قلب صديقنا الشديد الفرح
يحدثه أن صديقه ليس فرحا لفرحه ،إنه يتظاهر بالفرح ولكن تعبيرات وجهه الخادعة ال تنطلي عليه ،ولكن لماذا صديقي
توقعت ؟! ..هنا تأتي اللحظات اإلبليسية التي تسيء التفسير ليحدث التكدير !
ُ الذي عليه أن يشاركني فرحي ليس مبتهجا كما
،تقول النفس األمارة بالسوء :إن صديقي لم يعد يهمه أمري كما كان من قبل ،لم يعد يحس بإحساسي ويشعر بشعوري ،إنه
بدأ ينشغل بنفسه وال يبالي بمن حوله حتى صديقه اللصيق ! بل ربما بدأ الحقد يتسلل إلى قلبه من تفوقي ونجاحي ،إنه لم يعد
يرجو الخير لي كما يرجوه لنفسه فيا حسرة على الصديق !! ..
أقول محاكيا صاحبنا :حقا يا حسرة على الصديق ! ولكن الصديق المقصود هنا هو أنت ال هو ! ،فليس هو الناقص الشعور
حولت القضية إلى قضية شخصية ونسيت االعتبارات األخرى ،ألنك غفلت وإنما أنت المتهم بتلك التهمة ! أتدري لماذا ؟ ألنك ّ
عن مشكلة نفسية ال ينبغي للصديق أن يغفل عنها وهي اختالف األجواء النفسية ،فأنت شخص قد اعتلى قمة الفرح والسعادة
حرفت حزن صديقك الدفين إلى تل من الهم والحزن ّ
فأنى لكما أن تلتقيا ؟! ،إن نفسك األمارة بالسوء قد ّ واآلخر كان واقفا تحت ّ
حسك الصداقي مازال متيقظا بدليل ص ِرفك عما هو واجب عليك من المبادرة إلى السؤال عن سبب حزنه ّ ،
إن ّ جفاء و إهمال لتَ ْ
208
أنك الحظت حزنه على رغم تظاهره بالفرح وهو أمارة إيجابية لحسن إحساسك بصديقك ،ولكنك لم تواصل الطريق الصداقية
سره و األخذ بيده ،ولتعلم أن صديقك الطيب قد احتنكته نفسه األمارة بالسوء مثلك
القويمة بالقيام بدورك في االطالع على ّ
واستفزته واستنفرته ليشعر باألسى تجاهك و يشعر بالحظ العسر والدونية التي جعلته بائسا وجعلتك مبتهجا !! حينها هو في
اختبار إما أن ينجح فيه بأن ينفض غبار هذه الوساوس بأن يفرح و يبارك بهجتك ونجاحك ،وإما أن يعثر و يسقط في مغواة
التأثر والشعور بالحسد ،إنها لحظات تكثر فيها شياطين النفوس لتحدث الوقيعة بين األحباب ،ولكن وقفة حكيمة تكتنفها
مشاعر األصدقاء األوفياء ستستدرك األمر وتعيد الصديقين إلى رشدهما ،الصديق ِ
الفرح بأن تجعله يضبط فرحه لئال يؤذي
ألم به ،والصديق الحزِن بأن تجعله يتغلب على شيطانه ويصرف مشاعر الحسد من قلبه شعور صديقه بعد أن يسأله و يعلم ما ّ
مبتغيا الخير لصديقه ! ويقعد الصديقان في هذه اللحظة لحظة المكاشفة ليقوما بدورهما في البوح بما في النفوس من جهة و
إزالة الهم والمشاركة في الحزن من جهة أخرى ......
قد تختلف األجواء النفسية بصورة أخرى حين يكون كال الصديقين مهموما ّ
ولكن رد فعل كليهما يختلف عن اآلخر ،فاألول
ألمت به خطوب أقعدته في بيته إما مرض وإما مشاكل بيتية وإما لحظة ضعف أدت إلى انطواء وانعزال كما تحدثنا عنها من
قبل ،أما اآلخر فقد سلك المسلك القويم في اللجوء لصديقه عند كربه وهمه فسارع إلى االتصال به يطلب منه مقابلته من فوره
ليحدثه عن مشكلته ! ،ولكن الصديق المهموم اآلخر ليس مستعدا لتلطيف هم صديقه فهو مكروب بكرب آخر ومنشغل بشاغل
مختلف ال يستطيع معه مقابلة صديقه ليسمعه و ينشرح له صدره ،فيوضح له في إيجاز أنه ال يستطيع اآلن السماع منه وال
لقاءه واإليجاز تقتضيه المكالمة الهاتفية ويقتضيه ضيق الوقت أحيانا ،وهنا تحدث المشكلة ! صديقنا المتّصل يشعر بخيبة أمل
في صديقه فقد زينت له نفسه األمارة بالسوء أنه يتخاذل عنه وال يقوم بدوره المنشود وأنه بلغ درجة من الصدود تجعله يتخلى
عنه في أحوج وقت يحتاج إليه فيه ! ،فتحدث الجفوة من الصديق الحزين واآلخر يلحظ هجر صديقه له وهو ال يدري ما أحزنه
فيسيء الظن به ،والعجيب أن هموم الصديقين قد تزول وال تزول الجفوة التي نجمت عنها ! ،وحل هذه المشكلة هو الوقاية
فهي أنجع من أي عالج ،فالصديق المهموم حين يحتاج لصديقه ال بد من أن يختار الحين المناسب لبث همومه وشجونه ،
وعليه أن يعلم أنه ليس كل حين يناسب بث الهموم كما أنه ليس كل حين يناسب زيارة صديقه ،فكالهما يحتاج لموعد و يحتاج
الستئذان ليس من نوع التكلف – حاشا هلل -ولكن من نوع رفع الحرج عن الصديق الذي قد يكون فعال وقته ال يناسب
االستماع وال يناسب الزيارة ،والصديق الذي تهمه مصلحته ال بد أن يبحث عن مصلحة صديقه كذلك فال يسبب له الحرج ،
هكذا يكون التفاهم بين األصدقاء ،أما الفوضوية في العالقة بأن يكون كل شيء ليس له وقت ،فالزيارة ليست لها وقت
والمكاشفة ليست لها وقت و النصيحة ليست لها وقت ....كل هذا نذير بأن تهوي الريح بالصداقة في مكان سحيق !! .....
إنني في هذا المقام أكرر الكالم عن مسألة (عبوس المحب ) فليس معنى عبوس حبيبك وانقباضه أمامك بعد بسمته وانطالقه
أمام غيرك ليس معنى ذلك الوحيد المالل والجفاء بل له معنى صداقي عميق يفهمه األصدقاء الذين تمكن الحب من نفوسهم
وتمكنت الثقة من قلوبهم ،ذلك المعنى هو اصطفاؤك أنت من دون الناس بإثارة مالحظتك ّ
لهمه وحزنه الدفين لتسأله عنه فيفتح
لك قلبه يبوح بمكنون سره و بضائقة نفسه فهو يثق بك وحدك و يطمئن إليك وحدك و يلقي بسمته أمام الغثاء من الناس ألنهم
209
ال قيمة لهم عنده وإنما القيمة الغالية فيك أنت الذي ستكون له خير معين و خير عضد ونصير هذا ما وجده فيك ولم يجده في
اآلخرين فكنت أنت الصديق وكان غيرك ذا الوجه الصفيق ! ....
-5الخطأ السلبي
يقول أحدهم :لقد اجتنبني صديقي فجأة و ابتعد عني ،ال أدري ما السبب ؟ ،لم أرتكب ذنبا ،ولم أطأ له طرفا ! إنني لم أفعل
شيئا يجعله يجتنبني ! ........
والجواب :حقا أنت صادق ،إنك لم تفعل شيئا ،ولكن هذه هي المصيبة ! ،عدم فعلك هذا كان سبب غضبه وحزنه ! ،
ما جعله يجتنبك أنك تركت فعل شيء كان ينبغي لك أن تفعله فغفلت عنه ! ،إن سوء فهمك مكمنه أنك تؤمن بالخطأ
اإليجابي فقط ولكنك ال تلقي باال للخطأ السلبي ،وحزن صديقك قد يكون بفعل المكروه وقد يكون كذلك بترك الواجب ....
الترك ...عدم الفعل ...التغافل عن واجب ...نسيان مكرمه ..و لنفهم هذه المسألة المغفول عنها هاكم مثاال :
القدم يتوغل في أعماق النفس تعمق زمن العالقة به ،وهذا شيء من أروعصديقان لصيقان لهما في صداقتهما تاريخ وصديق ِ
األشياء ،ولكن صاحبا جديدا لهما بدأ يبزغ في األفق ،وحاول – في حين غفلة منه – أن يخترق أسوار صداقتهما وأن يعتلي
قلعتهما الحصينة فتقرب منهما وبدأ يالزمهما ووجد انجذابا من أحد الصديقين الذي حاول أن يقربه منهما وفي لحظة طيبة قال
الصديق لصديقه في حضور الصاحب الثالث :إننا سنتقابل الليلة في بيتك ،أليس كذلك ؟ فرد صديقه – في حضور صاحبنا
– نعم طبعا هذا لقاؤنا األسبوعي الذي اعتدناه ،فقال األول :فما رأيك أن يأتي معنا صاحبنا فالن ؟؟ -يقصد الصاحب
الثالث ،فسكت صديقه ولم يجب السؤال ثم أدار دّفة الحوار وصاحبنا ينتظر في لهفة ممزوجة باألسى من موقف الصديق
البارد !! ،فتعلل صاحبنا ببعض شأنه ليستأذن في االنصراف ،وانصرف حزينا مكلوما وقرر أن يبتعد عن هذين الصديقين إلى
األبد !! ...أما الصديق البارد فتساءل بعد زمن عن سر ابتعاد الصاحب عنهما على غير عادته ،ولم يدر في َخَلده أنه هو
السبب في بعده عنهما على رغم أن السبب أوضح من شمس الظهيرة ألصحاب اإلحساس والقلوب المشبعة بالدماء ! ..إنه
أخطأ خطأ سلبيا بأنه ترك ما ينبغي له قوله بأن يوافق على اقتراح صديقه باصطحاب الصاحب معهما ،لو فعل ذلك النتهت
المشكلة من البداية ولكنه آثر االنغالق مع صديقه و رفض محاولة صاحبنا االنضمام إلى ركب صداقتهما و ّأنى له ذلك وهو
ليس له من الزمن و ذكريات الماضي ما يؤهله لهذا !! ...القضية هنا معقدة ؛ فحسن ظن صاحبنا جعله يندفع ويطلب مكانا
منفردين كعادتهما
َ ليس له ! كما أن الصديق البارد كان بين نارين نار التضحية بتلك الليلة الجميلة التي سيقضيها مع صديقه
المحبوبة و نار إحراج ذلك الصاحب الدخيل عليهما ! فاختار إحراجه لئال يضحي تلك التضحية الغالية !! ..
الدرس المستفاد من هذه القصة القصيرة أن الخطأ السلبي قد يكون له أثر مؤذ و مدمر أكثر من الخطأ اإليجابي ؛ فالخطأ
اإليجابي أوضح عند أغلب الناس من السلبي فيغفلون عن الثاني أكثر من األول فتكثر معه المشكالت كما أن رد فعل المَق َّ
صر
في حقه غالبا سيكون من جنس الخطأ السلبي أي سلبي مثله بأن يجتنب صديقه فجأة بال لوم أو عتاب فتتعقد األمور أكثر
أكثر ......
210
على األصدقاء أن ينتبهوا للخطأ السلبي ،فالصديق الذي يهجره صديقه فجأة عليه أوال قبل كل شيء أن يحسن الظن بصديقه
يقدم له االعتذار قبل أن يعرف السبب ألنه يحبه و ال يجد طعما للحياة
و يتهم نفسه ويراجع نفسه ويعزم حين أول لقاء به أن ّ
بدونه ولنقعد سويا و لنتناقش ولنتحاور لنجد مخرجا لألزمة بكل تواضع وحلم من الجانبين ...أما الصديق الذي ارتكب صديقه
خطأ سلبيا تجاهه عليه أن يتذكر الركن األصيل من أركان الصداقة وهو العتاب الذي ال تهلك معه صداقة ! فعليه حين يجد
شيئا من صديقه أن يذهب إليه ويواجهه بخطئه لتُحل المشكلة في أولها بكل لين ويسر وعليه أن يترك االجتناب المفاجئ ما
استطاع إلى ذلك سبيال وما استمرت الثقة بينهما ،ألن كبت األحقاد في النفس و ترك العتاب من أجلها يجعلها تتراكم يوما بعد
يوم حتى تصير جباال من الكراهية وتنتظر اللحظة المناسبة لالنفجار كأفظع بركان ثائر فيهلك األخضر واليابس !!
خزنوا ذلك الغضب والحزن في خزائن نفوسهم وكبتوا مشاعر الحزن أحبائهم ّ
ابتلى هللا صنفا من البشر بأنهم إذا ما غضبوا من ّ
بين ضلوعهم ولم يواجهوا الحبيب باللوم أو العتاب بل سايروه حتى سارت عجلة الحياة و التعامل كما هي كأن األمور لم تتغير
ِ
تشتك أو تئنّ !! ولعل هذا الصنف له أسبابه في ذلك الظاهرة والباطنة ! فمنهم من يعجز عن المواجهة ،هو وكأن النفس لم
أصال غير قادر على أن يواجه صديقه بما يدور في صدره ،ربما لضعف في نفسه أو ضعف أمام صديقه يجعله مغلوال ساكنا
غير متجرئ على اإلفصاح والمواجهة !
و هذا هو السبب الباطن أما السبب الظاهر فمنهم يتعلل بأنه على تلك الحال ألنه يلتزم بالعفو و الصفح و يزعم أن كثرة
العتاب واللوم تكدر صفو العالقة و تثير النفوس الساكنة المطمئنة فهو يلزم السكوت عن صديقه مدعيا أن ذلك يحفظ له اإلخاء
والصداقة !! ..
وقد رددنا على تلك الشبهة بما يكفي من قبل ،وأكدنا على أن دوام األلفة والمحبة من دوام العتاب و المراجعة ،ولكن األمر
الواقع أمامنا اآلن هو ترك العتاب إما لسبب باطني و إما لسبب ظاهري ،وتحليل هذا األمر كما يلي :
أوال هذان الصنفان من الساكتين عن إخوانهم ال شك أنهم أناس طيبون نفوسهم زكية وطبائعهم راقية عالية ! فأصحاب السبب
الباطني النفسي بلغت نفوسهم درجة من الطيبة أنهم صاروا ضعفاء أمام إخوانهم فالطيبة أورثتهم الضعف والخوف ! وأما
أصحاب السبب الظاهري فعندهم من روح الحب و الصفاء ما جعلهم يتصدقون بأنفسهم في سبيل إخوانهم وكأنهم بلسان حالهم
صفحت !! ...
ُ غفرت و
ُ يقولون ،يا صديقي افعل ما شئت فقد
ثانيا أصحاب السبب النفسي غالبا هم يعانون من االكتئاب الظاهري أو ّ
المقنع ،فعدم الجرأة على مواجهة الناس عموما و كبت
مشاعر اإلنكار و الحزن من السمات االكتئابية التي وصفها النفسيون بناء على مشاهداتهم و استماعهم لمرضاهم ..
ثالثا كبت المشاعر السلبية عموما قبل أن تكون من سمات المكتئبين هي من سمات المرأة أو الصفات َ
الزْهرية – على حسب
تعبير جون جراي – فالمرأة عنده تتعامل بمبدأ النقاط مع الطرف اآلخر فهي تبذل الود بقدر أربعين نقطة مثال ثم تجد الطرف
اآلخر قد رد بعشر نقاط فتكون الحصيلة ثالثين مقابل صفر ! أو ربما يرد الطرف اآلخر بنقاط سالبة أو تصرفات تثير حزنها و
غضبها فتكبتها و يزداد عندها فرق النقاط و تظل تكتم ذلك الشعور إلى اللحظة المناسبة ! ...
211
ولكن ما نتيجة كل تلك التخزينات و ما ثمرة هذا الكبت المتزايد ؟؟؟ ....
إن الكبت يولد األلم النفسي المتزايد في نفس صاحبه فيجد نفسه يغلي و يهتز وهو ال يدري السبب الواضح لذلك ! فيحدث
االكتئاب الظاهري أحيانا والمقنع أحيانا أخرى وهو الذي يعبر عن نفسه بأعراض جسمية بدنية بدل النفسية فتزداد حيرته ودوامته
التي ال يفهم من أين جاءت إلى أن يتغمده هللا برحمته ! ...ولكن الكبت المتزايد كذلك نتيجته االنفجار ! ،انفجار الصديق في
المروع الذي يقف أمامه الصديق اآلخر مذهوال ال يجد سببا مقنعا لهذا االنفجار ! حتى أصحاب
ّ وجه صديقه وصراخه الهائل
العّلة الطيبة في السكوت عن أصدقائهم -بأنهم ال يريدون العتاب خوفا من الشقاق -يأتي اليوم الذي ينفجرون فيه من حيث
ال يدرون حينها يكون قد وقع الكبت بل تراكم و تعاظم فانقلبت حجتهم الطيبة البريئة إلى نتيجة االنفجار البركاني الذي سكن
حملوا نفوسهم ما هو فوق طاقتها و وسعها ،وأما الفتيات الزهريات المعتادات علىالسنوات الطوال ! وما ذلك إال ألنهم ّ
تخزين المشاعر السلبية بمبدأ النقاط يأتي اليوم الذي يتعاظم فيه فرق النقاط عندهنّ فتنفجر باكية منتحبة أمام صديقتها أو أمام
زوجها ولعل هذا – يا للطرفة – سبب التعبير النبوي عن النساء بقوله – صلى هللا عليه وسلم – ( يكفرن العشير ) وهو قولها (
ما رأيت منك خي ار قط ) وما هذه األلفاظ والتعبيرات إال نتاج تراكم فرق النقاط الذي أدى إلى االنفجار !! سواء في وجه
الصديقة أو وجه الزوج ! ....
المنف َجر فيه ليس بالهين ويحتاج لنفوس طيبة هادئة مطمئنة تفكر تفكي ار عميقا لتستطيع إيجاد سبب
إن االنفجار عالجه عند َ
االنفجار ،إن االنفجار ال يحدث بدون مشعل ،هناك سبب ،ال بد من سبب ،العقول المتزنة تستنتج ذلك و تحاول عالج
األمر بتهدئة الطرف اآلخر ووضع اليد على سبب المشكلة ال مقابلة االنفجار البركاني بانفجار نووي !! ،حين تحدث التهدئة
وتوّقع الهدنة بين الطرفين يبدأ الحوار والنقاش وتحل كل عقدة و يعود األصدقاء إلى الركن الحصين و المسكن األمين إنه
العتاب ....ثم العتاب ...ثم العتاب ...
-7ال َغيرة
الغيرة ..ما الغيرة ؟ ما كنهها و ما طبيعتها ؟ ما سببها ودافعها ؟ و ما أثرها على الصداقة ؟
إن الصديق الذي يغار على صديقه في المقام األول هو المحب الذي يتدفق حب صديقه في مجرى دمه حتى يصل إلى كل
خلية من خاليا جسمه ! هو اإلنسان الذي تمكن حب صديقه منه حتى استولى عليه و غمر كل أركانه ! ،هو الذي يحب بال
حدود ،بل حب صديقه يزداد يوما فيوما في قلبه حتى يتضخم قلبه مما يسعه من محبة وعشق ! ،حب صديقه ملكه و
استعبده وهو راض سعيد مطيع يجد المتعة والبهجة في هذه الحال ! بل كما ملكه ذلك الحب شعر هو أنه امتلك صديقه كذلك
المحب الغارق في
ّ الحد بل جعل
فصار له هو وحده وليس من حق أحد أن يشاركه فيه ! ولكن هذا الحب لم يقف عند هذا ّ
حبه يهمل كل الناس سوى صديقه حبيبه وكلما ازداد حبه لصديقه ازداد بعده عن الناس حتى صار صديقه األنيس الوحيد و
السمير المتفرد والرفيق ال رفيق سواه ،وعندما وصل ذلك المحب إلى تلك الحال ازداد تشبثه بصديقه خوفا من أن يفقده ،تأتي
في باله فكرة ترك صديقه له فتتزلزل أركانه ويصيبه الرعب والهلع من هول هذا المشهد التخيلي الذي يكاد يخنقه و يكتم أنفاسه
212
! ،فيزداد إمساكه به ألن فقده معناه الضياع ! تركه معناه فقد كل شيء ،إنه َب ُعد عن بقية الناس ليتفرغ له و ينشغل به فإن
ضاع الصديق ضاعت معه الصلة بكل البشر ! إن فقد صديقه سيعيش من بعده وحيدا ضائعا ال أنيس له وال جليس ،كل تلك
الهواجس جعلت ذلك الصديق يخشى على صديقه من أي شيء ! ،يخشى عليه من أي خطر يهدد صداقتهما ،أي إنسان
يحاول االقتراب من صديقه ويشعر بميل صديقه إليه يشعر بالتهديد لصداقته من هذا اإلنسان ،بل تزداد مخاوفه وتكاد تدهس
صدره حين يشعر بأدنى تفضيل ظاهري من صديقه لهذا اإلنسان عليه ! حينها تثور ثائرته و يلبس أل َمته ( سالحه ) ويمتطي
ويختطف منه ! ولكن إلى من سيوجه صديقنا سالحه ؟ هل وينهب ُجواده و يحارب مدافعا عن حماه الذي يشعر أنه ُيسلب ُ
صبا ،
سيوجهه نحو العدو الذي أراد اختطاف صديقه ؟ ،ال ،إنه سيوجه سالحه نحو صديقه نفسه ! ،سيصب عليه الغضب ّ
سيوبخه ويؤنبه و يمطره باالتهامات ،وهنا تحدث المشكلة بين الصديقين بين صديق أصابه االندهاش من رد فعل صديقه
الهجومي عليه بال ذنب و ال جرم ظاهر سوى هواجس ال أصل لها وال دليل انقلبت إلى اتهامات قاسية ال تطاق وال تحتمل وبين
صديق آخر بدأ يفقد الثقة في صديقه و بدأ يشعر بدنو أجل تلك الصداقة الجميلة فانفجر صارخا لعله ينقذ آخر أمل فيها !! ..
إن حديثنا هنا ليس عن الغيرة التي لها أصل فمصير صداقة صاحبها إلى الهالك ،وإنما حديثي عن الغيرة التي يوقن المغير
عليه أنها هواجس و أخيلة ال أساس لها فيحتاج لموقف سليم أمام صديقه ،إن الصديق الذي يغار عليه صديقه حتي يصير
مغيا ار -عليه في المقام األول أن ينتبه أن موّلد تلك الغيرة األول هو الحب العارم ،والغيرة ما هي إال عالمة إيجابية و مؤشر
ناضج على قوة العالقة و تعمق االرتباط والتعلق ،لذا إذا وجد من صديقه مالمة نابعة من َغيرة فعليه أن يفرح أشد الفرح فقد
بلغ المقام األسمى والدرجة العليا لدى قلب صديقه ،لقد نجحت الصداقة أشد النجاح و بلغت الذروة واعتلت القمة فهل هذا
يجلب الغضب أم يجلب السرور والحبور ؟؟؟؟
إن النفسيين يعبرون عن الغيرة المرضية بأنها حب التملك واالستحواذ على المحبوب وإنني هنا أتساءل ّ
ملحا لماذا يرغب
اللعب نابع من
اإلنسان في امتالك إنسان آخر ؟ إن حب امتالك المال عند البشر نابع من حبهم للمال وحب األطفال المتالك َ
حبهم لذات اللعب وحب المرأة المتالك الحلي ما هو إال ترجمة لحب الحلي حبا جما فلماذا نسيء قضية حب االمتالك ونعتبر
ّ
حب امتالك األشخاص جريمة تستحق أشد العقاب وتنصب من أجلها المشانق !!....
المغير عليه فطن هذا األمر وأدرك مغزى الغيرة فسارع إلى صديقه الغضبان مداويا الجرح وملطفا األلم علم أن شك
إن صاحبنا َ
صديقه في حبه وإخالصه في لحظة ضعف جعله يخشى انشغاله بغيره فبادره بترديد و تأكيد معاني الود واالعتراف بالحب ،
أسمعه كلمة الحب التي كان يحتاج لسماعها لتزول مخاوفه ،والصداقة تحتاج إلى تجديد ،والحب يحتاج إلى جالء ،وجالء
التحاب و يتج ّذر التآخي ...
ّ الحب والصداقة تكرار االعتراف بالحب لئال يجد الشيطان مدخال إلى ثغور النفس الضعيفة فيبقى
وية أو أنانية شديدة تجعل الغائر يريد أن يحبس
إن الغيرة المرضية بصورة مبالغ فيها عرض نفسي شائع قد يتحول فعال إلى أنا ّ
المغير عليه و يستولي عليه وحده بغير متنفس مع زمالء أو أقارب فيكتم أنفاسه و يحيطه بسياج محكمة مخافة أن يفلت من
قبضته ،إنه الحب الجارف حين تجاوز الحد المحمود إلى الحد المذموم ،ولكن المحب المخلص المتعلق بصديقه الغيور
حين تظهر عليه أمارات الغيرة الالفحة يسارع بإطفاء النار و إخماد جذوتها بماء الحب ،أما الصديق الزائف فيجد غيرة
المج ِهز ليجد ذلك علة للتخلص منه وكأنه بلسان حاله يقول :قد صبرت
صديقه عليه ُحجة إلمطاره باالتهامات النفسية والهجوم ُ
213
عليك صديقا ورضيت بنصيبي صامتا أما اآلن وقد تجاوزت حدودك فهي فرصتي ألنال حريتي من رق تلك الصداقة فلن أحتمل
أكثر من ذاك !! ....فشتان ما بين صديق حق وصديق زائف !! .....
إن الصديق المغيار كما أن حبه عارم و أنه يخاف ضياع صداقته ويرتعد لذلك و تقل ثقته في حب صديقه له في لحظات –
مهتزة فهو في عقله غير الواعي يرى نفسه صغي ار أو يخشى أن يتحول إلى صغير ،ال يثق بأنه يكفي أن
كذلك ثقته في نفسه ّ
يكون خليال لخليله ويخشى أن يكون غيره سابقا له و عاليا فوقه – خصوصا الشخص الذي يغار منه – فيتجلى جزء من العالج
هنا بحاجة ذلك الصديق إلى الرفع من شأنه على لسان صديقه لتتجدد عنده الثقة في مكانته العليا عند نفسه وعند صديقه
فيرتاح باله وتهدأ نفسه وتستقر الصداقة !!
أخي ار ..اإلنسان الغيور صنف من البشر يحتاج لتعامل خاص وإن لم يجد تلك الخصوصية من صديقه وحبيبه فأين يجدها ؟؟
..تلك هي الحكمة في التعامل بين األصدقاء المخلصين ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خي ار كثي ار وما يذكر إال أولو األلباب )
...................
حينما ينسج العنكبوت شباك الخالف والقطيعة بين الصديقين يبادر أحد الصديقين بتقطيع تلك الخيوط الخبيثة و ينسفها نسفا
مباد ار صديقه بالصلة والمودة ،يأتي إليه متواضعا مستكينا طالبا الصلة وراجيا عود العالقة كما كانت ليس ضعفا وال حماقة
وإنما إبقاء للصداقة و حرص على استمرارها وخوف بل رعب من تحطمها ،في هذا الحين الذي تستولي فيه روح اإلخاء على
ذلك الصديق المبادر يقبل صديقه اآلخر صلته حياء منه و لوما لنفسه وازديادا في اإلعجاب بصديقه الوفي الواصل ،يقعد كال
الصديقين قعدة صفاء و هدوء و يتناسيان أسباب الخالف والشقاق بل يدفنانها دفنا سحيقا غير آبهين لها ،في تلك القعدة
الصافية تتراقص قلوب كال الصديقين ابتهاجا ومسرة بذلك اللقاء الذي حال طول الشقاق دونه ! إنها نشوة ولذة مجالسة الصديق
التي َح َرَمهما منها الخالف والقطيعة ! ،صحيح أن مدة البعد كانت قصيرة بمقاييس الزمن ولكنها كانت طويلة قاسية على
نفوس المحبين الصادقين ،يجلس الصديقان ينهالن من ينابيع األخوة الفاضلة يعوضان ما فاتهما ،نعم إنها جلسة تعويض
....لقد فاتتهما أحداث كثيرة لم يتدارسانها في مدة القطيعة يتذكرانها حدثا حدثا ويلبي كل منهما رغبة اآلخر في معرفة ما فاته
من متعلقات صديقه التي كان كالهما في وقت الصفاء يعرفانها قذة قذة ال يمر شيء في حياة صديقه بدون أن يعرفه ! ،أخي ار
اجتمع األحبة وتم لم الشمل و التأم الجرح وطاب محله وعادت المياه إلى مجاريها ! ......
ولكن تلك الحكاية الفاضلة المريحة قد ال تحدث ..وحينها تقع عيوننا على بوادر الخطر !! ..
حينما تطول مدة القطيعة بين الصديقين يكون ذلك إشارة خطر عظيم ،وياله من خطر ! لقد بدأت تتسلل آفة الجفاء والمالل
بين الصديقين ،لقد بدأ كالهما يعتاد الفراق و يألفه حتى كاد يستغني عن صديقه ويحيا بدونه و ال يشعر أن شيئا قيما يعوزه
في حياته !
214
وتسود ويكون الخطر !
تلك الحال السيئة قد يصل إليها الصديقان من كثرة الخالفات والقطيعة بال نهاية فتقسو القلوب ّ
بل األخطر أن تحدث تلك الجفوة القلبية من طرف واحد دون اآلخر فيصير الطرف الجافي متنعما بجفائه واآلخر متلظيا بنار
الحب الباقي في قلبه ! ...فبئس الخطر !
وحينما تصطبغ خالفات الصديقين بصبغة مادية دنيوية ال نفسية – كما ذكرنا األسباب النفسية من قبل – تكون الصداقة قد
خرجت عن النص المكتوب لها و تكون على شفا الهاوية ،فاألصدقاء الطيبون أسباب خالفهم دائما قلبية روحية عمادها
الخوف على ضياع الحب ال الخوف على ضياع نصيب من الدنيا ،الدنيا محلها الزمالة أما الصداقة فليس في وسعها حمل
ِ
فأعظم به خط ار ! مثقال ذرة من الدنيا ! ..
حينما تصيب أمراض القلوب قلب صديق مثل الكبر والغرور يصير عسي ار عليه اللين و الرفق بصاحبه فهو مستمسك بحقه
المزعوم ال يرضى بأقل منه ،ال يقبل فكرة أنه مخطئ بل يدفعه كبره لعدم التنازل والذهاب لصديقه إلنهاء األمر ،هو في نظره
منبع الفضيلة معصوم من الزلل أما صديقه فهو المذنب المقصر فال بديل عن أن يأتي ذلك الصديق كسي ار ذليال معترفا بجرمه
وإال فال صداقة وال وصال !!
حين يصير اإلنسان ينظر لغيره من برج عال – وغيره قد يكون مقبوال إال الصديق ! – فهذه أكبر إشارة خطر !
حينما يسيطر الجدال على عالقة الصديقين المختلفين و اإللحاح في الوصول لطرف آثم يجب أن تنزل به العقوبة حينها يكون
النذير بإضرام نار ال تنطفئ بسهولة وال تخبو ولو انهمر عليها ماء المحيط ! فياله من خطر !
أفما آن لألصدقاء األصفياء أن يعرفوا إشارات الخطر فيجتنبوها لألبد ؟! ...
يعد بحق من أعظم فقهاء الصداقة وذلك لكثرة شعره في هذه المسألة وهو ما يجعلنا نشعر بامتالكه لنزعة
إن ابن الرومي ّ
ص َر َح ْت عن طوية األصدقاء ) في اختيار
صداقية عالية ،فقد وصلت إلينا مئات األبيات له في هذا الشأن مثل أبيات ( َ
الصديق والبحث عنه ،وهنا تجلت نزعته الساطعة في عتابه لصديقه الذي كادت تنحل عرى الصداقة بينهما ،وقد ذكرنا من
قبل أبياته في كيفية عتاب الصديق مجملة في فصل العتاب فكانت كميزان الذهب لنفاستها ودقتها و حان اآلن آوان التفصيل
في منحى ابن الرومي في عتابه في درس عملي مفصل فيه العظة و االقتداء ،في مائة وخمسين بيتا يعاتب صديقه في روعة
آثرت أن أقتضبها وآخذ أنفس ما فيها لتصير متوسطة الطول سهلة لآلخذين ،هذه األبيات ليست قصة منفردة
وبالغة أخاذة ُ
صة الصداقة بين جميع األصدقاء في كل زمان كما عبرنا من قبل ،هي قصة حدثت لغ ّ
حدثت وانقضت وإنما هي تجسيد ُ
وعشت فيها مبح ار بخاطري و ذهني أستحضر أحداثا مضت و شجونا وّلت
ُ تتبعت أبياتها
ُ وتتكرر في كثير من الصداقات ،
وبقي أثرها إلى اآلن ................
فيقول ابن الرومي في مطلع قصيدته :
215
ِ
وعودة ريع :رجوع أين ما كان بين ـنا من صـ ـ ـفاء يا أخي أين ريع ذاك الّلِـ ـ ـ ـ ِ
قاء َْ ُ
الصحيح اإلخاء لص ٍ
ُ أنك المخـ ـ ُ شاهد كان يح ـ ـكي مصداق
ُ أين
إنها كلمات تنبع منها الحسرة واألسى ممزوجة بلون االستعطاف ،فالحسرة على تلك اللقاءات المتجددة الماضية التي كانت
تشرق على حياة الصديقين وتضيء ما بينها من فترات خالية من اللقاء ،حسرة على العالقة الصافية النقية الخالية من كل كدر
المرجو أنه ال يجف أبد الدهر !
ّ و المصفاة من كل شائبة ،حسرة على أيام اإلخالص والوفاء المتدفقين في نهر صداقة كان
...تلك الحسرة أما االستعطاف فواضح من تذكيره صديقه بهذه األشياء الماضية الغالية التي ال ترضى النفس بالتخلي عنها وال
الزهد فيها مهما حدثت المتغيرات ومهما طرأت الخالفات والمكدرات ...إنه ينطق بتلك الكلمات مشدوها تائها وجال ،يتجلى
وجله و َش َدهه في تكرار االستفهام أين ...أين ....أين
إنها الحيرة المخيفة و الكابوس الرابض فوق صدره من انحالل تلك العالقة المشرقة فتظلم الدنيا بكسوفها ويختنق القلب بدخانها
!
ِِ
هنوات :خصاال سيئة يت بره ًة بحسن الل ـ ـ ِ
قاء ط ْ ُغ ِّ كشفت منك حاجتي هن ـ ـ ـو ٍ
ات َ َْ
أسيء الظنو َن باألصـ ـ ـ ِ
دقاء ُ ئ الـ ـ ـ ـظنتركتني ولم أكن َسِّي َ
ْ
ر َّب شوهاء في حشا حس ـ ـناءِ يني ُش ْنعاً بدت لعـ ـ ـ ـ ـ
لما ْ
َ َ ُ َ قلت ّ
ُ
فثويتُ َّن تحت ذاك الغـ ـ ـ ـ ِ
طاء هتكت عنكـ ـ ـن ِست اًر ليتني ما
ُ
هة قت ـ ـ ـ ـ ِ
ماء ظلماء ُشب ٍ قلن لوال انكشاُفنا ما تج ـ ـ ـَّلت
عنك َ َ ُ ْ
كاشفات َغو ِاشي الظـ ـ ـ ـ ِ
لماء ٍ بكن من كاسـ ٍ
فات أعجب َّ قلت
َ ْ
أنه لم يزل على عم ـ ـ ـ ـ ـ ِ
ياء بم ْهتٍَد يتم ـ ـ ـ ـ َّنى قلن َ ِ
أعج ْب ُ
ضالالً وحيرة باهتـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
داء تاهلل ليس مثلي مـ ـ ـ ْن َود قلت َّ
ًَ َ
بدالً باستفادة األْنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
باء صـ ـ ـديقي غير ِّأني ِ
ْ ستر َ
دت َ ود ُ
وخل الهوى لقْل ٍب هـ ـ ـ ـ ـو ِاء ِ
ّ فعرْج على الـحق هوى ّ ُقْلن هذا ً
الدهر كامـ ـ ـ ـ ـ ُن األدو ِاء َ َّأن ُه تود لخ ـ ـ ـ ـ ٍّل
الحق أن ّ ِّ ليس في
و َّإال فأنت كالب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ِ الحق أن تُنِّقر عن ـ ــْهن
داء ُ َ ِّ بل من
ْ
ِ الش ِ ُس ِِّء َأل ُّ بيب عن ِ َّ
الشفاء فاء قب ـ ـ ـل داء ذي َّ
الدا إن َب ْح َث الط ِ ْ
بهما ُك َّل خَّل ٍة عوج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
اء فقوم اب ِّ
َ َْ َ ف والعتـ ـ َ الك ْش َ
ُدونك َ
ت بمستعذب لدى األحـ ـ ـ ـ ِ
ياء ُقْل ُت في ذاك َم ْوتُكـ ــُ َّن وما المو
ْ ُ ُ
تزد في المـ ـ ـ ـ ـ ـر ِاء بحق فال ْ ن ٍّ الموت بالكـ ـ ـريه إذا كا ُ ُقْلن ما
ثم يضع صاحبنا يده على مكمن الجرح و مسبب األلم ،فيفصح متألما أن الكربات التي خلت منها الصداقة طويال لم تلبث أن
عرت صديقه و أوضحت سوء خلقه و سوء تصرفه ،فكأنه أفاق من حلم طويل حتى
جاءت بأثقالها فجاءت كاشفة فاضحة ّ ،
216
استيقظ على الحقيقة التي طالت تغطيتها عينيه حين كان ال يحسب لها حسابا وال يتخيل أن الصديق يكون في هذا الموضع
الشائن لحسن ظنه المطلق في من اصطفاه خليال مقربا حبيبا !! ...
ثم أتى صاحبنا بمحاورة لطيفة بينه وبين الكربات الكاشفات وهي التي وصفها بأدق وصف بأنها كالروح القبيحة الكالحة السوداء
التي يغطيها في الظاهر جسد امرأة جميلة حسناء ،فكان الظاهر محمودا وكان الباطن كريها كباب المنافقين يوم القيامة
ولكنه ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب !! ،هي حسناء محمودة ألنها كشفت له صديقه وعرته عن كسائه الزائف و
لكنها شوهاء ألنها صدمت قلبه وحطمت مهجته وقلبت كيانه فياليت الكربة ما حدثت لئال أفيق من هذا الحلم الجميل !! ....
منت عليه بأنهن من جّلين له الحقيقة واضحة فما هذا التناقض و ما ذاك التخبط ؟ أيتمنى فتعجبت الكربات من تمنيه زوالهن و ّ
اإلنسان أن يسير أعمى وبيده أن يسير بصي ار ؟ فرد بأنه ليس بمتمني الضالل ولكنه يريد راحة الخاطر والبال ! يريد أن يستمر
حلمه المزهر دائما فقد اعتاد حالوته و راق له طيبه وال يتصور الحياة بغير صديقه و احتضار الصداقة احتضار للجسد معا !
و أحيانا يكون ستر الحقائق مريحا للبال و إغالقا ألبواب قد تجلب الريح العاتية فياليت تلك األبواب ما انفتحت ! فبادرته
ألم بالصداقة داء وأول العالج لذاك الداء هو تشخيصه ومعرفته معرفة ممحصة مدققة فالتشخيص هو الكربات مجيبة بأنه قد ّ
أول الطريق في رحلة البرء والعالج وهاك العالج أيها التائه المسكين هو حبل تعلق به لعلك ال تغرق ،هو العتاب والكشف ذلك
العالج الذي ما حاد عنه صديقان إال خس ار صداقتهما سريعا عالج يسير على من يسر هللا له ولكنها النفوس التائهة العابثة
التي تفر من دوائها وتستجير من الرمضاء باللهيب ! ..ولكن صاحبنا استغرق في الجدال وتعجب قائال :كيف أيتها الكربات
موتكن ؟ أتؤثرن الموت على عالم الحياة ؟! فأفحمنه ردا :إن الموت قد يكون حقا كما أن
ّ تنصحنني بشيء فيه زوالكن و
الحياة قد تكون حقا !! ..
يسلك ابن الرومي هنا مسلكا جديدا للولوغ إلى قلب صديقه فهو يريده أن يتخيل أنه ليس بصديقه وليس صفيا خليال ولكنه كبقية
الناس من المعارف والزمالء – وهو هنا يستفزه ويثيره ويهيجه بوضعه في منزلة أدنى من منزلته األصلية فيرجع رجوعا حميدا-
217
يقول :لو لم أكن أخاك وصفيك أفال كنت تعاملني معاملة البر و حسن الجوار كما تعامل بقية الناس ؟! يا أخي أنت هذه
بمديته الحادة فهو تخلى عنه في
فهال جعلتني مثلهم ؟!! ،ثم يعود ليضغط على الجرح الذي شقه صديقه ُ
حالك مع بقية الناس ّ
وقت شدته ولو كان األمر كذا وكفى لكان أهون ولكن المصيبة أن ابن الرومي ظن صديقه هو المعين الوحيد الذي سيتكئ عليه
فتخلى عن بقية أسباب النجاة مؤمال في صديقه ففوجئ بصديقه يتركه حتى انقطعت كل أسباب النجاة تماما مثل الذي رأى
السراب في المفازة فهرول إليه ملقيا كل بقايا الماء معه مؤمال أن الماء سيغنيه عن تلك البقايا القليلة فراحت البقايا و ظهر
السراب على حقيقته ففني الماء وانقطعت أسباب النجاء !! و انتهى آخر أمل وآخر رجاء ! .....
فيهز قلب صديقه بتشبيه مكانته عنده بمكانة عينه التي ال يرضى فيها بأي قذى تماما مثل صديقه الذي ال
ثم يعود ابن الرومي ّ
يحتمل منه أقل جفاء أو ترك وفاء !
ثم يضرب ابن الرومي على وتر آخر بعيد عن مسألة الصداقة وهو مكارم األخالق و الشرف والسؤدد و يخاطب عقله متسائال
هل ما فعلتَه معي يرفعك عند هللا وعند الناس أم يضعك في أسفل األسافل من الناس األوغاد األنذال ؟؟!!! ....
إنك حين تخليت عني وأهملت حاجتي جفاء منك و قسوة إنما هانت مكانتي عندك في قلبك فصار طلبي منك ثقيال مري ار
والمحب الصادق حين تعلو مكانة حبيبه تصير طلباته خفيفة هينة محببة إلى النفس يسعى اإلنسان لتلبيتها إلرضاء حبيبه
متلهفا مشتاقا مبتغيا رضا حبيبه عنه و إن كان اإلنسان ال مكانة له في القلب يصير طلبه من أثقل األشياء على النفس فهو
تخليت عن
َ يفر منه ف ارره من األسد وإن أداه أداه مغتما كظيما كاإلنسان الغارم يؤدي دينه مرغما مغلوبا !! ،صحيح أنك حين
حاجتي خفت األحمال واألعباء عليك ولكن المذمة والعار و المالمة التي ستلحقك ثقيلة ثقيلة فيا حسرة عليك آيبا بخزي فعلك
وشنيع صنيعك !
ثم يعود ابن الرومي ليصيغ صورة بيانية خالبة فهو يصور صديقه حين كان يعرف حقوق األخوة بمنتحل التشيع ،والمتشيع
يرى نصرة آل علي و الصديق الوفي يناصر أخاه و يؤازره و ويذب عنه ويهلك دونه مشابها للشيعة ! ،ولكنه لم يلبث أن ترك
التشيع وانتحل اإلرجاء ،والمرجئة يؤخرون العمل ويتكئون على اإليمان بغير عمل ،تماما مثل صاحبنا الذي ترك العمل بتركه
واجبه نحو صديقه وتخليه عن أداء دور الصديق الوفي راكنا إلى ادعائه أنه يحب صديقه و الحب محله القلب تماما مثل
المرجئة يدعون اإليمان بغير ترجمة عملية من عمل صالح!
زادني وحش ًة من الخ ـ ـ ـ ِ
لطاء فأظهرت َبخ ـ ـساً كنت مستوحشاً
َ ُ
م ولكن أصبت صدري ب ـ ِ
داء يك باللو يز َّ ِ
َ ْ ضـــــ َعلي َع ّ وعز ٌ
فث إنه كالـ ـ ـدو ِاء الن ِه على َّ يت صدر ِخّلِك فاعـ ـ ـذر
ُ أنت ْأدَو َ
سم أفديك يا عز َيز الـ ـ ـ ِ
فداء وأُناديك عائذاً يا أبا ال ـ ـ ـ ـ ـقا
اللبانة :الحاجةِ وجميل تَعاتُ ُب األكـ ـ ـ ـ ـفاء
ٌ قد قضينا ُلبان ًة من ع ـ ـ ـ ـ ـتاب
حاضر الصفح واسع اإلع ـ ِ
فاء ومع الع ْتب و ِ
العتاب فإن ـ ـ ـ ـي
ُ ُ َ َ
الفهـ ـ ـ ـماءِ
يك َّأو َل ُ ِ
تُك َع ّد َ والذي أطلق اللس ـ ـ ـان فعاتَ ْب
تُك تدعو العتاب باسم الهـ ِ
جاء أخف منك غلط ًة حين عات ـب
َ لم ْ
219
صفوِة األص ـ ـفياء غير َ
صاحباً َ أسوم عتـ ـ ـ ـ ـابي
وأنا المرُء ال ُ
ِم وجهل مالم ُة الجهـ ـ ـ ـ ـ ِ
الء الحجا منهم وذا ِ
الحل ِم وال ـعلـ ذا ِ
ُ َ ٌ ُُ
داء عي ـ ـ ـ ـ ـاءِ
يتعاطى عالج ٍ بيب ِِإن من الم جاهالً َل َ
طـ ـ ـ ـ ـ ٌ
منزل قواء :ال أنيس بهِ ٍ
خالء َقـ ـ ـ ـ ـواء ِم على ٍ
منزل باللو
يظل يرَبـ ـ ـ ـع ْممن ُّ لست ّ
ُ
إن ابن الرومي يتحدث عن ظاهرة مدمرة للصديق الذي جفاه صديقه ،إنه االستيحاش من بقية الناس ،فالصديق المقرب
لصديقه هو كل الناس بل كل شيء لديه ! ،الصديق حين يالزم صديقه يهمل بقية البشر ويقل لقاؤه بهم و يزهد فيهم فتقل
تسود الدنيا في وجهه ويعيش بال أنيس وال جليس ! فال يجد ملجأ إال
رابطته بكل الناس ما عدا صديقه الذي حين يهجره ويجفوه ّ
إليه ! وابن الرومي قال في قصيدة أخرى يحكي عن حاله تلك :
علي وما فيـهم ناف ـ ـ ُع
َّ ولي أصدقاء كثيرو السالم
لها مطلب نازٌح شاس ـع إذا أنا أدلجت في حـ ـ ـاجة
وتسليمة وقتها ضائ ــع فلي أبداً معهم وقـ ـ ـ ـفة
وهذا هنا حال ابن الرومي الذي سيطرت عليه الوحشة فاضطر لكل هذه القصيدة من العتاب الئما تارة و ذاما ومتحامال تارة
وبدأت
َ ومستعطفا تارة ،إنه هنا يعلل عتابه الطويل و يضع أسبابا لتهجمه وتحامله على صديقه فأنت يا أخي من دفعتني لذاك
فت بإثمك وجرمك وإنك ٍ
بالظلم فال تلمني فالبادئ دائما هو األظلم ! ،إنني حين أعاتبك فال بد أني عاف صافح عنك إذا اعتر َ
حين تقسم لي أنك أخطأت وأنك لن تعود لذاك تارة أخرى فإنني سأكون أسعد البشر وكيف ال يسعد اإلنسان بعودة روحه إليه
بعد طول غياب ؟! إنني سأكون مباد ار للصفح – وهو بينه وبين نفسه ليس لديه خيار آخر !– ولن أعاقبك بسوء فعلك سوءا
بسوء وغلظة بغلظة ......
أخي ار يا صديقي الكريم عليك أن تعلم جيدا أنني ما عاتبتك و ما عنفتك إال الستبقائي لك ومكانتك الغالية عندي ،فالعتاب
مثل الحب ال يمنح إال من يستحقه ! أما الجهول اللئيم فعتابه وضع له في منزلة ال يستحقها ورفع لشأنه وهو وضيع الشأن !
العتاب يا أخي كالدواء المر تعطيه األم الشفوق لولدها لحبها له ورغبة في شفائه فيظنها بادئ األمر تؤذيه وتعاقبه ولكنه ال
يلبث أن يعرف الحقيقة حين يشفى ويعرف كيف كانت أمه تحبه و تعطيه الشفاء ال اإليذاء ! الصديق كذلك ال بد أن يتجرع
يقوم نفسه وتستقيم الصداقة هنيئة قوية تصمد أمام الريح الصرصر العاتية ! ..
العتاب من صديقه م ار علقما حتى ّ
البين !
أوشك َ
حينما تزداد المشكالت بين الخدنين ،ووقتما تتعقد األحوال بينهما فتتعسر الحلول ،وحينما يشعر الصديق بألم قلبه و توجعه
بالجو
ّ ابتداء في صداقته بصديقه ،حينها تحيط
ً بدال من النشوة والحبور المقصودين أصال في الصداقة والذين كانا متحققين
أشباح سود وغربان ُدهم تنذر بتغير كبير و تحول مخيف ،إنها بداية النهاية ! أوشك البين .....ذلك الشعور المرير الذي
قلت منتحبا :
دهمني وصار غصة ال تنتقل و كد ار ال يندثر يوما من األيام حينها ُ
أال أوشك البين ال ُم ـ ـ ـ ـ ـعتَ َذر فقلب سقيم كمثل الح ـَ ـ َجر
220
المريد :المتمر أما لمت قلب العنيد الـ ـ ـ ـمريد وإال سـ ـ ـتبكي الـفراق األَ َمر
اغتدى :صار وكيف الفراق اعتدى واغتـ ـ ـدى نسيم الصباح كحـ ـ ـلم َه َجر
عنت :ظهرت وعنت براثن ذئب غـ ـ ـَـ َـدر
ّ أجّفت دموع القطيط الوديـ ـ ــع
عجر :غلظ ـتد وقل لي أتذكر من قد َع َج ـ ــر فقل لي بربك من معـ ـ ـ ـ ـ ٍ
الحدر :الحول فحب صديقك عين الـ ـ َـح َدر
ّ أذنبي بأني وهبت ـ ـ ـ ـ ــك حبي
كصفو بماء فصرت الكَـ ـ ـ َـدر ولجت بداري أتذك ـ ـ ـ ــر يوما
َ
العبر :الدموع وليتك تذكر تلك الل ـ ـ ـ ــيالي ليالي الضياء فيهوي الـ ـ ـ َـعبر
دامن :مصلح وإن البكاء على مـ ـ ـ ـ ـ ــندم كدامن قفر وأنى الثم ـ ـ ـ ــر
أخي عد – وإن لم تعد – ال أبالي متى احتاجت الشمس نور القمر
بدايـــــــة النهايـــــــة
كل قصة جميلة شائقة ال بد لها من نهاية وقصة الصداقة كذلك ،والصداقة في دنيانا تنتهي نهاية من اثنتين ،إما نهاية هادئة
خاطفة وهي الموت وإما نهاية صاخبة مزلزلة وهي القطيعة ،كلتا النهايتين مدمرتان صاعقتان وهنا حديثنا عن النهاية الثانية ،
انتهاء العالقة بين الصديقين الختيارهما ذلك أو الختيار أحد الطرفين ذلك بعد طول صراع و عناء و اختالف ولكن .......
كيف يتصور الم أر أن تلك العالقة الفريدة العظيمة القوية تنتهي بمأساة ؟؟ كيف بعد أن عرضنا أركان الصداقة الشامخة
الحديدية أن يسقط بناؤها وتتهدم أعمدتها و تصير خب ار بعد أثر و ماضيا بعد حال ؟ إن العقل قد يعجز أحيانا أن يتخيل ذلك ،
ويصاب من يق أر قصة الصداقة بالصدمة و الحيرة حين يفجأ بنهاية تعيسة بائسة لصديقين كانت صداقتهما حديث القاصي
والداني ! وكما كانت صداقتهما والتقاؤهما مثار الحديث والسمر بين الناس تكون النهاية المؤلمة الفاجعة كذلك مثار النقاش و
حوار المجالس !....
إننا أمام قضية شائكة مفزعة تحتاج لطول الوصف ومزيد التأني والتقصي لنتابع كيف هي حال الدنيا المريرة التي ال تبقي شيئا
على حاله!
إن أرض الحب مدفون في باطنها البغض ! الحب الحلو يحتوي داخله البغض المر ! البغض كامن مستتر في جوف الحب
ينتظر ويتربص باللحظة المناسبة ليطفو و ينبثق ! ....هذه خواطر فلسفية ال تلبث أن تتحول إلى حقائق منظورة تغشى أعيننا
فتذهلنا و تصدمنا ! ،ال نفهم هذا الكالم إال حين نعيش في مالبسات التقلبات الصداقية وتفاصيلها الدقيقة ،فمثال ال حص ار
221
الصديق الذي يحزنه صديقه ويأتي له بما لم يتوقعه منه يتحول حزنه إلى مغضبة شديدة وبقدر حبه في قلبه يكون قدر شدته
المال الجافي رد فعل صديقه الشديد
ّ وبغضه ! ....يستحيل العسل علقما كما يستحيل الحب كراهية ! فيجد الطرف اآلخر
فيزداد مالله و يصير بغضاء سوداء أشد وأحلك وكأنه لم يكن حب و كأنها لم تنبن صداقة فتختلف مسببات البغضاء عند كل
طرف ولكن المصير في نفس الدكانة و الغيامة !
ويزدهر يحتاج إلى تجديد وجالء يحتاج إلى عناية وتنمية ،يحتاج إلى سقاء وعناية كالزهرة المورقة البديعة إذا يستمر ِ
َ إن الحب ل َ
اعتنى بها صاحبها بقيت على بهائها أطول مدة ،أما إهمالها و نسيانها فنتاجه ذبولها وارتخاؤها كذا الحب في قلوب
األصدقاء ،إهماله و إرجاؤه نتيجته التضاؤل شيئا فشيئا فيتناقص الحب و يخالطه المخالطات فيبهت و يخف إلى أن يبلى
ويفنى و تكون المفاجأة بنهاية ( درامية ) لم يتوقعها أصحابها قبل مراقبيها ومتابعيها !
إن هللا عز وجل تكلم عن أقوام بائسين قائال ( فطال عليهم األمد فقست قلوبهم ) ذلك األمد تلك األيام المتتابعة تقسي القلوب و
تجعل اإليمان عادة ال عبادة فتتساقط حبات اإليمان فال يبقى منها بعد ذلك حبة ،ذلك أثر األيام والليالي في اإليمان والحب
اإللهي ،وكذا صنيعها مع الحب البشري ،اختالف النهار والليل ُينسي ،نعم ينسي الصديق عهد اإلخاء والمودة والخّلة ! ،
عاديا ،يصير شيئا يوميا معتادا ،لم يعد شيئا فريدا كما كان من قبل
يتراكم على قلبه أغشية القسوة و المالل ،فيصير صديقه ّ
،لم يعد يرى البهاء و الفرحة بل النشوة والحبور في صورته و طلله ،أين بهجة الماضي و أين لذة األيام الخالية ،وهنت
وضعفت حتى خارت و فنيت ،تماما مثل فكرة الصداقة نفسها ،لقد كانت فكرة الصداقة عقيدة راسخة في فؤاده و روحا
مستحوذة على عقله ،بدأت قضية الصداقة لديه تصير شيئا هامشيا في حاشية كتاب الحياة لديه ،صار كتاب الحياة ممتلئا
بأشياء أخر تحتل فكره وتملك عقله ،يالها من أيام وسنين قاسية أذهبت المبادئ وتاهت معها الفضيلة و حلت مكانها المادة
الزائلة الفانية ! ،فيا حسرة على العباد ................
إن الترجمة العملية لقسوة القلوب وتطاول العمر عليها هي الجفاء وهو بداية النهاية للصداقة ............
قضية الجفاء
الجفاء هو تقطع أوصال الصداقة من طرف واحد ال طرفين ،طرف نأى وابتعد فجأة بال مقدمات ربما ابتعاده حسي وربما
معنوي روحي ! ،انقطعت رسائلة وتوقفت مكالماته ،فبادره الطرف اآلخر المبقي على عهد الحب باالتصال فلم يجد الرد مكافئا
مناسبا كما كان العهد في سابق األوان ،إنه ٍ
مبق على عهد اإلخاء مستبق لصديقه يسير في درب الصداقة وليس في خلده
شيء منكر من صديقه ،فإذا صديقه يتبدل ويتغير فتغشاه الحيرة و يصيبه الدهشة و يصرخ في صديقه مستغيثا قائال :
وجعلت شأنك غير شـ ــاني
َ أجفوتَني في من جـ ـ ــفاني
لك لم يكن ل ـ ــك فيه ثاني ونسيت مني موضـ ـ ـ ــعا
َ
أال أراك وال تـ ـ ـ ـ ـ ـراني وسررت يوما واحـ ـ ـ ــدا
َ
قلى :أبغض وقليتني في من ق ـ ـ ـ ــالني وهجرتني و قطعـ ـ ـ ــتني
هللا أفضل مس ـ ـ ـ ـ ـ ــتعان أفعلتها فالمسـ ـ ـ ـ ــتعان
222
قبضت يدك
َ فمددت يدي فلماذا
ُ لت على درب الوفاء كنت صديقك وحبيبك وماز ُفعلت معك يا صديقي لتجفوني ؟! ،لقد ُ
ماذا ُ
تناسيت أيام الصفاء والمحبة واإلخالص التي كانت تضيء
َ تغيرت مكانتي أنا في قلبك ؟ هل
ْ أنسيت مكانتك في قلبي أم
َ عني ؟
لنا حياتنا ؟؟
صرت وحيدا شريدا ليس لي ملجأ ،ولكني سألجأ إلى ربي
ُ تركت الناس وتركوني من أجلك ،لقد
ُ أين أذهب يا صديقي ؟! وقد
لعله يجعل لي مخرجا
وال لك في حسن الضــيعة مرغب لقد ساءني أن ليس عنك مذه ـ ــب
وفي دونه قربى لمن يتق ـ ـ ـ ــرب أفكر في ود تقادم بينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنا
وخير من الود السقيم التجــنب رث حـ ـ ـ ـ ــباله
وأنت سقيم الود ّ
بحسني وتلقاني كأن ـ ـ ــي مذنب تسيء وتأبى أن تعقب بع ـ ـ ـ ــده
كما خاب راجي البرق والبرق خلب فخبت من الود الذي كنت أرتــجي
ُ
لقد خذلتني يا صديقي و جعلتني كمن تعلق بسراب ،أو كمن مد يده لينهل من ضوء البرق فخاب ظنه ،فصار ماضينا الجميل
فاستيقظت على واقع مرير ال أطيقه وال أحتمله وأتمنى أن يكون كابوسا ألرجع منه إلى واقعي المحبب
ُ حلما عاب ار مضى وانتهى
المفضل !
المجفو بعد جفاء صديقه له ،مرحلة التساؤل والبحث عن علة ولكن يعجز العقل و يتحير القلب فال
ّ هذه أول مرحلة يسير فيها
يجد جوابا شافيا منطقيا يسكن روعه و يهدئ نفسه ......
223
المجفو بين باسط وقابض ،بين قوي صارم وضعيف كسير ،تختلف الردود باختالف النفوس
ّ ثم تختلف ردود فعل الصديق
البشرية و تنوع الطباع اإلنسانية ،فمن بين الصارمين األشداء الذين ال يرضون الدنية في الحب واإلخاء صديق مجفو يقول :
ولم أر في وده مط ـمـ ــعا فكنت إذا ملني صـ ـ ــاحبي
ُ
البيت كناية عن موت الصديق في قلبه وكبرت من فوقــه أربــعا
ُ الكلى شـ ــقه
غسلت بماء ُ
ُ
وكان التناسي له مضجــعا وكان التغافل أكـ ـ ـ ــفانه
أقل إن من مات لن يرجعا إذا قال لي الناس صل حبله
إنها المعاملة بالمثل ،العين بالعين والسن بالسن والبادئ دائما هو األظلم ،هذه سياسة من يرون أنفسهم أقوياء ،ال يرضون
الذل ،فهم يرون المسكنة أمام من يجفوهم مذلة ومهانة ،إنهم يطئون قلوبهم و يكبتون حبهم دفاعا عن عزتهم وكبريائهم ،
ويلَقون صديقهم الجافي كمثل ما قال قائلهم :
صرما :قطعا صرما ومل اإلخاء أو قطـعا إني إذا ما الخليل أحدث لي
رنق :كدر بينه :فراقه وال يراني لبينه جزعـ ـ ــا ال أحتسي ماءه على رن ــق
سأقيد حبي باألغالل ،سأغشي قلبي بأغشية من القسوة ،سألون وجهي بألوان الصدود و اإلهمال ،لن أدعه يظنني ضعيفا في
حبه ،سأواصل حياتي ،سيستمر معاشي ،لن تتوقف دنياي بسبب غادر مثله ،إنه ال يستحق ذلك أبدا ! ...
وأسرف بعضهم في وصف حالهم الصلبة مع الصديق اآلبي الجافي قائال :
أضحى عدوا وفي الصداقة عاثا قل لمن كان صديـ ـ ـ ـ ــقا وقد
الالتي عليكم طلقتهن ثــالثا دم على الهجر إن حاجـ ـ ـ ــاتي
الشياهين :طيور تشبه الصقور البغاث :طائر صغير الشياهين ال تخاف الب ـ ـ ــغاثا وإذا ما عاديتني فاعلم ـ ـ ــن أن
لو بال في الطـ ـ ـ ـريق وراثا وكذا الليث ال يخاف من الثعلب
هذا الصنف من البشر يغلق باب الود في وجه من باعه فال يفتحه أبدا ،و هناك صنف آخر قوي شديد يعز نفسه وال يذلها ،
ولكن أبوابه على رغم ذلك قد تنفتح إذا عاد الصديق عودا حميدا ،والمغفرة عندهم من شيم الكرام فيقول قائلهم :
وبدل سوءا بالذي كنت أفعل وكنت إذا ما صاحب رام طيتي
ُ
على ذاك إال ريثما يتحــول المجن فلم يــدم
ّ قلبت له ظهر
ُ
المجفوين نفوسهم صلبة و أرواحهم راسخة وأقدامهم ثابتة وقلوبهم فوالذية فيحتملون و يتحملون ويردون في
ّ هذه حال من أحوال
صالبة وإباء ،وليت ذاك حال كل الناس ،فهناك صنف آخر سيتحطم و ينكسر ويصيبه التصدع ثم االنهيار ،تضيق األرض
عليهم بما رحبت وتسود الحياة وتكتئب النفوس
ضاقت علي برحب األرض أوطاني أيت ازو ار ار من أخي ثقـ ـ ــة
إذا ر ُ
فالعين غضبى وقلبي غير غضبـ ــان صدرت بوجهي كي أكافئـ ـ ــه ُ فإن
224
إنني لدي نوع يسير من العزة يدفعني للعبوس عند لقائه توبيخا له و تأنيبا ولكن قلبي حاله غير ذلك ،إن قلبي يتمزق ،وروحي
أظهر خالف ما أبطن وفي قلبي نار حامية تحرقني بالليل والنهار عاج از هامدا مبعث ار ال أجد حيلة وال أهتدي إلى مخرج
ُ تتشتت
...
ال يستوي هادم يوما وبن ــاء ٍ
وصاحب لي أبنيه ويهدمني
لقد بنيته بالحب والعاطفة الجارفة و المشاعر النبيلة ،وضعت قلبي على خوانه متصدقا به عليه زاهدا فيه على من سواه ضانا
به على غيره فإذا هو يقابل بنائي له بهدمه لي حطم مشاعري مزق أعصابي أسهر عيني المرهقتين الذابلتين ،فيا بئس مصيري
ويا تعسا لي !!
هذان حاالن مختلفان اختالف البشر ،ولكن هناك شيء لطيف من استغرق في مسألة الصداقة ورأى أحوال األصدقاء وتابعه
عرفه و لحظه ،وهو أن حال الصالبة قد يتبدل حال انكسار كما أن حال االنكسار قد يتبدل حال صالبة ! ،فهذا القوي
المتصلب الممتنع تمر عليه األيام والليالي فيفيق من حاله ويستيقظ على حقيقة تغافل عنها وداراها بقوته المزعومة ،إنه فقد كل
شيء !! إنه صار بال صديق ،بال روح ،كالزهرة بال ماء ،كالريحانة بال سقاء وال هواء ،كيف سيعيش اآلن ؟ كيف سيواجه
مصيره في تلك الحياة األليمة بغير عونه وسنده القديم ،كيف سيعيش لياليه البطيئة التي كان ينورها سمر الصديق و تسليته ؟!
من سيهون عليه شدة الدراسة ومعاناة المذاكرة ؟ لقد كان تسليته الوحيدة وأنسه الفريد أن يجد من يؤازره ويشاركه ألمه ومعاناته !
كيف سيتحمل تلك المعاناة وحده ؟! لقد كان هو وصديقه كمثل عودين مربوطين متآزرين كلما امتدت إليهما يد الحياة لتكسرهما
صعب عليها ذلك لوحدتهما و معيتهما فتتركهما يائسة مخزية ! كيف سيصمد أمام يد الحياة البئيسة اآلن ؟! إنها ال ترحم وال
ترؤف إال األصدقاء األقوياء األشداء ! إنها حكمة الصداقة تتجلى عند فقدانها وتشرق وقت أفولها مثلها مثل كل إنسان ال يشعر
بالنعمة إال حين يفقدها ،إنه كان يخدع نفسه بأنه قوي ال يلين وال ينكسر ولكن سرعان ما تجلت الحقيقة عبوسة مكفهرة كعجوز
شوهاء ! فصار مصيره مثل مصير اآلخر الذي انهار من البداية وانكسر بال مقاومة ،الفرق بين االثنين أن اآلخر سلك
الطريق األقصر لالنهيار أم صاحبنا فقد سلك طريقا أطول مثل طريق يد جحا حين قصدت أذنه !! .....
وعلى النقيض نجد أن المنهار ابتداء قد يطول انهياره و يمتد انكساره وذبوله ،ولكن اختالف الليل والنهار ينسيه ألمه و يلتئم
جرحه ،فتمضي السنين على انكساره فينهض فجأة قويا معافى تحمله ساقاه يبدأ الحياة من جديد في أمل وتفاؤل ،يبحث عن
صديق جديد ،يظن الحياة حبلى باألصدقاء ،تعوض المجفوين ،وتداوي المجروحين ،عنده أمل واألمل هو حياته ،قد ال
تخيب الحياة ظنه فعال وتجود عليه بصديق حق جديد يعوضه عن كل ما فات ،وقد ال تفعل فيعيش على ذكرى الوفاء
ّ
للمجهول يحدوه األمل ويسوقه الرجاء !!....
هذا وإذا كان هذان حالين متناقضين فهنالك حال آخر غريب تدفع إليه النفس دفعا ،إنه حال االستبدال ،حال يستنفر فيه
صاحبه إلى إيجاد بديل سريع للصديق المفقود ،إنه يريد صديقا بديال في أسرع وقت وبأي ثمن ليطفئ ناره ويثلج صدره ،إنه
انتقام بشكل فريد عجيب ،إنه أخذ بالثأر في صورة نفسية معقدة إنه يظن أنه باكتساب صديق جديد سيشعل نار الغيرة والحقد
225
في نفس غريم اليوم صديق األمس ،بهذا األمر يشعر أنه سيمزق قلبه ويشتت لبه ويرد له الصاع صاعين ،ولكنه إنسان
مسكين ،سيدفع ثمن تسرعه في اختطاف صديق جديد ،إنه سيتثاقل على الناس يستجديهم ليشتري صديقا جديدا بأي ثمن
ليحقق غرضه ،وعاقبة السرعة معروفة إما أن يجد صديقا ظاهره الصديق وباطنه النقيض فينقلب عليه ويصير وباال جديدا
وإما أن يظن الصديق في من ليس يرغب في أن يكون صديقا فتكون النتيجة صدمته وحسرته الجديدة ،وإما أن يصادق من ال
يحب ومن ال يخفق له قلبه ،فيصير عبئا عليه وحمال ثقيال مضط ار لحمله إلشباع رغبته االنتقامية التعيسة التي ال تُحدث
االنتقام إال في نفسه هو ،هو البائس المسكين الذي يمزق نفسه بنفسه ،إنه يبحث عن مخرج أي مخرج وما هو بمخرج وإنما
جحيم جديد يعيشه بسبب طيشه و تيهه ! ،الصديق يا سادة ال يكتسب في يوم أو يومين ،الصديق ليال وشهور طويلة تصنعه
وتصوغه ،إنه تحفة نادرة يحتاج ليد ماهرة حاذقة تسهر الليالي والشهور لتخرجه في أروع صورة وأنفس منظر ،الصديق ال
ُيكتسب تكلفا و حمال على النفس ،وإنما يأتي في صورة تلقائية ربانية ،تهوي فيها القلوب إلى بعضها كما شاء ربها ال كما
شاء أصحابها ،هذا ما تعلمناه من األيام وهذا ما اكتسبناه من خبرة الصداقة ،أما من سوى ذلك من المتسرعين الضالين
طريقهم فهو حاطب بليل قد يلتقط أفعى يظنها حطبا وما هي سوى الحتف المميت !! ...
الجفاء والمالل
226
شئت فلن يقبل منك صاحبك كالمك الجميل ،كلماتك في أذنه لن تحوله عن مذهبه قيد شبر ! ،الداء ليس في قل جميال كما َ
أذنه وإنما الداء في قلبه داء المالل ،ذلك الدرن الذي تفشى في سائر أعضائه بعدما أجاز لها القلب ذلك ،فمّلتك عينه حين
يراك ،وملتك أذنه حين يسمعك ،و مّلك فمه حين تخاطبه منتظ ار لجواب ،ذلك هو مفعول القلب ،قائد و ( مايسترو)
األعضاء ،تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه
والشيء مملول إذا ما يرخ ــص رخصت عليه حتى ملني
ُ وأخٍ
صرت سلعة دائمة الحضور لديه يجدك دائما أمامه ،لم تعد هنالك لوعة
َ لقد صارت قيمتك طفيفة في ميزان قلبه ،ربما حين
الفراق التي تعلو بثمنك و ترتفع بقيمتك ،ميزان الحب الذي هو القلب يزن كما يشاء ال كما تشاء ،فال تضيع وقتك كثي ار
وانسحب في هدوء بال أنين صاخب وال ضجيج ملفت ،وعد إلى مهجعك آيبا بالحسرة واألسى !! ...
ولكن لكي ال يسيء قارئ الفهم ،إنني ال ألتمس عذ ار للجافي الملول ،فليس لصديق جفى صديقه ابتداء لمالله إياه عذر أو
قسته األيام والليالي ،هو من ترك نفسه ألعوبة في أيدي
معشار عذر ،إنه هو الجاني األول ،هو من تغير قلبه ،هو من ّ
وحش المالل الفتاك ،إنه مخطئ آثم ربما وقع ضحية قلبه السقيم ،ولكنه في النهاية قلبه ،هو المسئول عنه وعن تهذيبه و
ٍ
وجان اعتذر عن جرمه وخطيئته بأن قلبه الضعيف من دفعه لذلك لما وجدنا من يستحق العقاب توجيهه ،ولو أن كل مجرم
إشفاقا عليهم والعتبرناهم ضحايا مثل الضحايا التي فتكوا بها ولصارت الدنيا غابة يرتكب فيها كل من شاء ما شاء بدافع قلبه
المتوحش ولضاعت الدنيا بذلك المعيار المثير للضحك !!
لذا قال ابن رشيق القيرواني موبخا صديقه السقيم الجافي – وهو يستحق أعظم التوبيخ : -
كتبت ولو بع ـ ــذر
عما ُ أجبت ولو ب ـ ــنثر
َ لم ال
لقد تحير في ـ ـ ــك أمري يا من له أم ـ ـ ــر علي
ووضعت قــدري
َ صداقتي ـت
صب ار عليك فقد أضع َ
ما فيه تصحيف لع ـ ــذر هذا هو ال ـ ــغدر الذي
المجفو المهجور ،فهو في الحقيقة ال يجد سببا منطقيا
ّ إن صديقه المريض القلب بلغ من الجفاء أنه لم يرد على رسالة صديقه
يتعلل به ،وهو يعلم علم اليقين أنه لو تعلل بالمالل لصار في نظر صديقه نذال وغدا فآثر السكوت ليزداد اإلبهام والغموض
أمام صديقه التعيس ويزداد إيماننا بجرم من دفعه مالله المصطنع إلى هجر صفيه وسجيره !!
هذا في ملل الطرف الواحد ،وطرفه الثاني هنا هو الضحية البريئة ،ولكن هناك نوع آخر هو مالل الطرفين ! ملل تسلل إلى
قلبي الصاحبين – وهو في األصحاب أقرب من األصدقاء -مع طول الزمن بنفس المقدار فتباعدت القلوب ،وتجافت النفوس
،وهنا يركن الصديقان كالهما إلى التباعد والتنافر ،يتباعدان تدريجيا شيئا فشيئا ،تهن العالقة وتبهت إلى أن تحدث قطيعة
هادئة ذات طرفين باالتفاق بكل هدوء بال تنازع وال تالوم ،في تلقائية عجيبة تتقطع الحبال وتندثر العالقة باختيارهما ،وهنا ال
ضحية إطالقا وإنما على النقيض راحة واطمئنان و صفاء بال عجيب ! ولست بداع إلى ذلك ولكنها حكاية واقع ..... .....
227
صرخة أمل !
إنها صرخة الصديق بعد أن تبين الجفاء ،صرخة العتاب واللوم على أعتاب األبواب ،صديق يعرف أن العتاب ركن ركين من
أركان الصداقة فأخذ به وتشبث بحباله يحدوه األمل ،يحاول أن يلم شعث صداقته المهدمة ،يحاول قدر طاقته أن ينقذ صداقته
من الغرق ،يعاتب صديقه وهو يعلم أنها اللحظة األخيرة بينه وبين صديقه ،بعدها إما رجوع وأوب حميد وإما القطيعة والفراق
الشديد ! وتمثل هذا النهج كأي صديق طيب حميد شاعرنا المجفوّ سبط بن التعاويذي يبذل أقصى ما في وسعه معاتبا ،يقول
لجافيه :
نك َذرعـي َقد ضاق ِب ِ يا ِ
البعد َع َ َ ُ موسعي َج َفوةً َوص ـ ــَّدا
س َوُك ـ ِّل َ
ط ـ ـ ـب ِع كل ِح ٍِّ
َو ّ سبيب لِ ُك ِّل َنف ـ ـ ـ ٍ َنت َح ٌ أ َ
ظ َسمـ ـعي َفال تََدعني في َح ِّ ظ َع ـ ـ ـيني َقد فاتَني ِمنك ح ُّ
َ َ
أَنجدني ِبالب ِ َّ
كاء َدم ـ ـ ـ ـعي ُ ََ يبنت ِإذا َملني َحب ـ ـ ـ ـ ٌ ُك ُ
ِ ِ ِ َفَل ِ
َي َش ـ ـ ـ ـرع بن َعل ٍّي َوأ ِّ َيا َ َي ُحـ ـ ـك ٍم يت شعري بأ ِّ َ
عمداً وبعد الع ِ
طاء َمن ـ ـعي َ ََ َ َ صال َهـجري الو ِ عد ِ غت َب َ ِِ َسَّو َ
َخاك َعن َج َفوٍة َوَقطـ ـ ـ ـع خاء َواِكـ ـ ـ ِرم اإل ِ هود ِ ِ
أ َ ع ُع َ َفار َ
امنا ِب َسلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ِِ امنا ِبس ـ ـ ـ ــَل ٍع ِ
َّهلل أَّي ُ نس أَّي َ ِال تَ َ
لشو ِق ِمن َحرَق ٍة َوَلـ ـ ـذ ِع لِ َ قياك ما ِبَقل ـ ـ ـبي ِ ِ
ِ َواِشف ِبلُ َ
من َلم يزر في الح ِ زور َقب ـ ـ ـ ـ ـري
ياة َربـ ـعي َ َُ َ َفما أَراهُ َي ُ
إنه استعطاف من ليس في قلبه عطف ! إنه موقف صعب و ُمذل أن تطلب الود ممن هو به بخيل ،إنه استجداء بذكر
مكانته في القلب ودموع العين لهجره وبعده ،ثم ذكر عهد اإلخاء القديم وما أقدمه ! ثم ما أبعده ! ثم تذكير بليالي الصفاء وما
أكثرها ! ثم ما أسهل نسيانها ! ثم تليين القلب بذكر الموت الذي تتجلى عنده الحقائق وتلين القلوب و تصفو الصدور ،ولكن ما
يمني نفسه ويبذل كلأبعد الموت في ذهن صديقه الجافي ! ،إنها قضية محسومة وقضاء مقدور ولكن اإلنسان التعيس دائما ّ
سبل تحقيق أ ََربه يتعلق بخيوط العنكبوت ويمني نفسه بالنجاء ،ذلك شأن من ليس لديه خيار سوى النجاء أو الفناء !!
الود !
قضية تكّلف ّ
عودة سريعة إلى الماضي إلى بداية الصداقة و مهد العالقة ،كيف بدأت عالقتنا ؟! إنها بدأت حين ظننتُك صديقا وفيا ،
وخاب الظن وتاه الرجاء ! لقد غرتني ضحكاتك وبسماتك األخاذة ،ظننتها لي وحدي ،خلتُها دليال ساطعا على رغبتك في
صداقتي ،وما زادني اختياال وتبخت ار بصحبتك بل خّلتك دوام تلك البسمات المصطنعة ،التي كنت محترفا في صياغتها
فبت سعيدا وأنا مخدوع ،وما أروع ذلك االنخداع ! ،انخداع لذيذ وسكرة جميلة لم تلبث أن زالت
وتزييفها ّ ،منيتني بالود واإلخاء ُ
األستار بعدها وتجلت الوقائع و انقلبت النشوة إلى حسرة بتحول الغفلة إلى صحوة !
228
لم تجد غير بارقـ ـ ــات كواذبتشم بارقة الص ـ ـ ــداقة منه
قال أبو الصوفي يصف تلك الحال :إن ّ
الخداعون يفعلون ذلك بضحاياهم ؟ لنفهم أوال صنيعهم ثم لن ِع تفسيره وتوضيحه ،إن ولكن لماذا كان هذا الحلم ؟ ولماذا هؤالء ّ
صنيعهم هو تكلف الود ،تصنع المحبة واألخوة ،والسبب واحد من اثنين إما المصلحة المؤقتة التي تجبره على صنيعه المشئوم
وإما التسلية الفارغة التي يشغل بها ساعات من عمره ثم يسلوها بقية ساعات عمره ! ،صداقة المنفعة تحدثنا عنها وتقصينا
يضيع فيها الجاني وقته و يبعثره على
حال الصديق البرجماتي و هنا نتحدث عن حال ضحيته البريئة ،و عالقة التسلية التي ّ
كالك َح ِل ) ولكن
حساب صديقه المسكين ،حاالن عجيبان نتيجتهما تكلف المحبة ،وقديما قالوا ( :ليس التكحل في العينين َ
الطرف اآلخر المسكين رقيق القلب و طيب الروح يبحث عن الصديق ربما هي أول مرة في حياته يصادف صديقا حديث عهد
بتلك القضية ،لم يتشبع بخبرات الحياة ،فتخدعه المظاهر البراقة ،وتأخذ لبه البسمات المصطنعة ويلتبس عليه التكحل في
بالك َحل فتكون بئس العاقبة وبئست الصدمة !
العينين َ
متفق األول واآلخ ـ ـ ـ ـ ــر كم من صديق صادق الظ ــاهر
من خاطري ال كان في خاطـري ـمع
أطمعني في وده مطـ ـ ـ ـ ـ ٌ
بمثله فوز يد المق ـ ـ ـ ـ ــامر قلت فازت ي ـ ـ ــدي
حتى إذا ُ
قد ملئت منه يد الـ ـ ـ ـزامر وجدت في كفي منه ك ـ ـ ــما
وكما أن التكحل ليس كالكحل الصديق المتكلف الود له أمارات و إرهاصات يجدها المخدوع في أول عالقته ومنها ما أنشده أبو
سائل :
وأنت صديق كالذي أنا واصف أرى فيك أخالقا ح ـسنا قبي ـ ــحة
سخي بخيل مست ـ ــقيم مخالف قريب بعيد أبله ذو ف ـ ـ ـ ـ ــطانة
ّ
كما أنا قلبي جاهل بك عـ ــارف كذاك لساني شاتم لـ ـ ـ ــك مادح
لست أدري من العمى أريح جنوب أنت أم أنت عاصف تلونت حتى ُ
َ
ولست بذي غش ولس ــت بناصح وإني لمن جهل بشأنـ ــك واقف
يالصعوبة تلك الحال ،ويالبأساء ذلك الصديق المتحير الذي ابتلي بصديق من هذا النوع ،إنه يعيش مشتتا ،قلبه تائه متحير
ال يستقر في قرار ،هل هذا صديقي بحق راغب في إخائي أم إنه ال يريدني وال يستحب صداقتي ،أبتعد عنه لبعده وجفائه
ساعات فال يطاوعني قلبي الذي ما زال يحبه و يجله فأجدني أقترب منه ثانيا منجذبا نحو سحره ألكتوي بناره مرة أخرى فأبتعد
229
جريحا مكلوما محزونا في دوامة ال أول لها وال آخر ،ياله من تشتت ،ويالها من حيرة ،إن القلق بدأ يصيبني إن فكري
مشغول دائما بهذا الصديق المتلون المتغير ،إن النوم جافى عيني ،والهدوء واالستقرار هج ار الفكر والبال ،ليت شعري متى
ينتهي هذا الجحيم ؟! ...
إن هذه البدايات في الصداقة ال تبشر بخير أبدا ،يسير الصديق في طريقها أعمى واستم ارره في السير يجلب له المزيد من
التعاسة والشقاء فال حل سوى نهاية تلك العالقة قبل أن تأتي الصدمة الكبرى فجأة وبدون انتظار ،مسيري إلى تلك النهاية
باختياري وبإرادتي خير من أن يحسمها ذلك اإلنسان المتلون كالحرباء فينسف عالقتنا وينسف معها قلبي المحطم المكتوي
مل منها وقضى حاجته ألقاها بل كسرها شر تكسير ،لنبنيران تعلقي به ،إنه يلعب بي كما يلعب الطفل الصغير باللعبة متى ّ
أنتظر ذلك المصير البائس رغما عني ،سأنهي تلك اللعبة اآلن لتستريح نفسي ويهدأ قلبي .....
التصنع
ّ التكاشر : فهجر جميل للفريقين صـ ـ ــالح تقضى الود إال تكاش ـ ـ ـ ـ ـ ار
إذا ما ّ
تلونت ألوانا علي كـ ـ ـ ـ ـ ـ ــثير ة ومازَج عذبا من إخـ ـ ـ ــائك مالح
َ
ّ
ولي عنك مستغنى وفي األرض مذهب فسيح ورزق هللا ٍ
غاد و ارئ ـ ـ ـ ــح
إنني لن أذل نفسي بالوقوف أمامه مرة أخرى ،لن أطلب عودة عالقتنا مرة أخرى ،إنه قد يوافق على العود ليواصل تالعبه بي
وبأعصابي ولكني لن أسمح له بذلك فعوده تكلف وتكاشر كما كانت عالقته ابتداء تكلفا وتكاش ار !!
أخطط في ٍ
جار من الماء أحـ ـ ـرفا عاتبت المل ـ ـ ـ ــول فإنما
ُ إذا أنا
ارعوى ّ :
انكف ظ ّن
هب ُ : مودته طبعا فصــارت تكـ ـ ــلفا فهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكـن
ثم يأتي الوسطاء المخدوعون مثلي يظنونها صداقة حقا و يظنون ذلك القطع موجة عاتية مرت وانقضت ال بد بعدها من هدوء
واستقرار فيسعون للصلح بيننا ويتمادى ذلك الصديق المتلون في لعبته الدنيئة فيتصنع قبوله العود كما تصنع الحب من قبل
ليواصل لعبته متسليا بي و بقلبي وعقلي و ليرفع عنه الحرج أمام الناس ليظهر بمظهر الطيب المصلح وما هو إال شيطان
تسربل بسربال إنسان !
فال خير في ود يكون بشــافع ! إذا أنت لم تعطفك إال شــفاعة
إن ما ذكرنا من االبتالء بالمتكلفي الود و ما طرحنا من حل ودواء وصفه اإلمام الشافعي الذي طال جرحه من هذا النوع من
األصدقاء في أبيات متأللئة زاهية سجلها التاريخ وحفظها األدب لتكون نبراسا لرائمي راحة القلب :
َس ـ ـ ـفا كثر عَل ِ
يه التَأ ُّ َفدعه وال تُ ِ عاك ِإ ّال تَ َكـ ـ ـ ـُّلفاً ِ
َ َ َُ المرُء ال َير َ إذا َ
بيب َوَلو َجفا بر لِلح ِ ِ ِ ِ
صٌ َ َوفي الَقلب َ احةٌ
َبدال َوفي التَرك ر َ الناس أ ٌ َففي
َوال ُك ُّل َمن صاَفيتَ ُه َل َك َقد صــَفا اك َق ُلب ُه َفما ُك ُّل َمن تَهواهُ َيهـ ـ ـو َ
جيء تَ َكـ ـ ـ ـُّلفا ٍِ الو ِ ِإذا َلم َي ُكن صفو ِ
َفال َخ َير في وّد َي ُ بيع ًة
طـ ـ َ داد َ َ ُ
ِ
الم َوَّدة ِبالج ـ ـ ــَفا ِ ِ َوال َخ َير في ِخ ٍّل َيخو ُن َخ ـ ـليَل ُه
َوَيلقاهُ من َبعد َ
230
كان ِباألَمـ ـ ِ ِ وي ِ
س َقد َخفا َوُيظ ِه ُر س ّاًر َ هدهُ
قاد َم َع ـ ـ ـ ُ
نك ُر َعيشاً َقد تَ َ َُ
عد م ِِ ِ الدنيا ِإذا َلم َي ُكن ِبها
نصفا الو ُ صدو ٌق صاد ُق َ ديق َ
ص ٌ َ الم َعلى َُس ٌ
مواقف النهايــــــــــــة !
أهيلوا التراب على هؤالء الصحاب !
إن كل ما سبق ذكره من جفاء ومالل وتصنع إنما هو نهاية للعالقة من طرف واحد ،وذلك الطرف هو الطرف الجاني ،ذلك
الطرف البارد الذي يسعى إلنهاء عقد اإلخاء ببروده و ابتعاده ،إنه يفعل ذلك بقصد أو بغير قصد ،بقصد حينما يقرر عقله
الواعي االستغناء عن صديقه وطرحه ،عقله اتخذ القرار بصراحة ووضوح وقوة إرادة أشبه بقوة الصخرة التي سيتحطم فوقها
المجفو المهجور ولكنه سلك ذلك المسلك غير المباشر – أعني البعد والجفاء – ليوصل الرسالة لصديقه بطريقة
ّ عنق صديقه
المجفو حين ييأس
ّ مهذبة لبقة اتبع فيها األساليب السياسية ( الدبلوماسية ) لتحقيق هدفه بدون صدام عنيف ،يظن أن صديقه
منه سيبتعد هو كذلك ليحفظ ماء وجه وتنتهي األمور في سالم وهدوء !! و ّأنى له ذلك ؟! إنه كمن أطلق رصاصته بمسدس كاتم
للصوت يظن أنه بذلك سيقتل ضحيته في سكون وبال ضجيج فيفجأ أن الرصاصة ال تصيب ضحيته في مقتل وإنما تسبب له
جراحا غير مميتة فيستغيث صارخا بل يمأل األرض صراخا وعويال من هول األلم الذي يشعر به ال هو يموت وال هو يحيى !
،فتنقلب الدنيا فوق رأس ذلك الجاني األحمق !!
أما النوع اآلخر من ذلك الجفاء فهو بغير قصد ،أعني أنه يجد نفسه بصورة تلقائية يبتعد عن صديقه ،هو يعترف بفضل
صديقه و طيبته و رقته هو يقر بذلك وال ينكره ،ولكنه يجد شعو ار داخليا بالنفور منه ،شعو ار يحاول إنكاره يحاول أن يدوس
عليه ليقتله وما هو بمستطيع ! إنه ال يريد لنفسه دور الجافي الهاجر ولكنه يقع فيه رغما عنه ! عقله غير الواعي يوجهه نحو
الجفاء بغير إرادته ،إنه يريد أن يستمر صديقا فاضال ولكنه يفشل ! قلبه أقوى منه ،شعور الملل سيطر عليه و احتواه و
حاصره فاضطر أن يكون جافيا هاج ار فتساوى من هجر وجفا واعيا بمن هجر وجفا غير وا ٍع كالهما ّ
سيان عند المجروح قلبه
المكسور خاطره !
كل هذا إنما هو نهاية لصداقة من طرف واحد هو الجاني ،وهنا نتحدث عن صورة أخرى وهي نهاية الصداقة بيد المجني عليه
ّ
،ذلك المكسور المجروح الذي يجهز على قلبه بيده ،ينهي عالقته بصديقه حين يأتي بما ال يتفق والصداقة ،حينما يعظم
الجرم و يتعمق الجرح يصير استمرار العالقة محاال والسير في دربها هالكا وتتحطم الصداقة بيدي ال بيد عمرو !! ....
-1موقف االستبدال !
كل باآلخر ،لقد كان
تركنا الناس لنخلو وحدنا نستمتع بصداقتنا و نأتنس ٌ
متالزمين مترافَقين ْ
َ يقول صاحبنا المكلوم ((:لقد كنا
لحالنا تفردات ،كان لنا أماكن معتادة نذهب إليها معا ال يشاركنا أحد ،كانت لنا حوارات خاصة ال يطلع عليها سوانا ،كانت
231
لعالقتنا خصوصية ال يخترقها أحد كأننا حولنا سور منيع طالما حاول الناس اجتيازه بال جدوى وال أمل ،لقد كنا صديقين
تركت غثاء الناس آلتنس بك كان هذا حالنا ...كان ...كان !
ُ غت لي ،
غت لك وتفر َ
توأمين اثنين ال ثالث لهما ،لقد تفر ُ
فت إليه يوما ثم تقابلتما
ولكن ما الذي حدث اآلن ؟! لقد دخل شخص جديد في حياتنا أو خصوصا في حياتك أنت ،لقد تعر َ
مني
انشغلت به أياما ثم صارت أيامه على حساب أيامي بل كادت تندثر أيامي من حياتك ! لقد اختطفك هذا اإلنسان ّ َ يوما ثم
! .........إن ما أقوله ليس أوهاما وال ظنونا كاذبة ،لقد تغيرت معاملتك لي في الفترة األخيرة ،لم أعد أفوز بشغل بالك
كنت من قبل ،لقد صارت ابتسامتك لي باهتة ومقابلتك لي جافة بينما أنت منطلق الوجه باسم الثغر مع غيريووقتك كما ُ
وصرت أنا بالنسبة إليك صديق العادة ،الضحك
ُ خصوصا ذلك الطرف الجديد ! ،لقد تطاول العمر على عالقتنا حتى اعتدتَها
والبهجة مع بقية الناس والعبوس والفتور معي من دونهم ! إنني حين أراك مع صديقك الجديد أرثي حالي البائسة وأقارن بين
عالقتك به وعالقتك بي فأجد فارقا كما بين السماء واألرض ! إنه لم يأخذ مساحة كبيرة من حياتك فحسب بل اعتدى علي وأخذ
ّ
صرت تصطحبَ أعرفها لك
معظم مساحتي من عالقتي بك ! إن األماكن التي زرناها معا من قبل ولم تكن تعرفها قبل أن ّ
صديقك الجديد إليها ! ،أما عادت تلك األماكن تذ ّكرك بصديقك القديم الذي لم يكن لك رفيق فيها سواه؟! ألهذه الدرجة
استبدلت بحبي حب صديقك الجديد ؟! هل سهل عليك أن تركلني عن قلبك وتُجلس ذلك اإلنسان مكاني ؟! أبلغ منك الملل مني
َ
أنك بحثت عن غيري حتى وجدت البديل و وضعتني على ّ
الرف كما وضعت صداقتنا القديمة العظيمة في طي النسيان ! ..
ترد علي بكل
صرت ألومك على عالقتك الزائدة مع هذا اإلنسان أسمع منك كلمات جديدة ال عهد لي بها ،إنك ّ
ُ إنني حينما
برود وتوبيخ تقول لي :وهل تريدني أال أعرف أحدا غيرك ؟! هل تريدني أن أجلس معك ليل نهار وأترك بقية الناس ؟! هل
ذهلت حين
ُ سمعت منك هذه الكلمات ،لقد
ُ دمت حين
ص ُ صرت شيئا من مقتنياتك ؟! .............إنني ُ
ُ اشتريتني بمالك حتى
تغيرت يا صديقي ،إنك لست صديقي الذي عرفتُه منذ سنوات ،إنك بعتَني
َ وية في عالقتي معك ،لقد
وجدتُك تتهمني باألنا ّ
أردت أن تُبقي على عالقتي في
تماديت في هذا األمر حتى َ
َ غير مأسوف علي ! ولكنك
في فطرحتني َ يت غيري ،زهدتواشتر َ
ّ َ ّ
كنت صديقك األوحد المتفرد ،ألصير شيئا من
صورتها الجديدة ،في صورتها الفاترة الباهتة ألصير واحدا من معارفك بعد أن ُ
أشيائك ومقتنياتك ألكثّر عدد عالقاتك فتبدو اجتماعيا صاحب عالقات ! إنك تريدني أن أرضى بنصيبي الخسيس منك وأحمد
هللا على ذلك كسي ار ذليال ...ولكن ال يا من كنت صديقي ..ال !..
كنت فوق قمة قلبك فلن أرضى أن أكون اآلن في السفح ! إنني ُ
كنت األوحد المتفرد في قلب حياتك فلن أرضى اآلن أن إنني ُ
أكون في هامشها ...إنني لن أرضى بالدنية في عالقتي بك ،إما أن أعود إلى مكانتي وإال فال حاجة لي فيك لسان حالي يقول
:
مقسمــا
أعرضت لما كان نهبا ّ ُ و وصلتك لما كان ودك خالــــصا
ُ
الوراد أن يتهـ ــدما
على كثرة ّ ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه
األخس ! لن أستطيع أن
ّ لن أقبل أن يكون لي شريك في صداقتك خصوصا أن هذا الشريك له النصيب األح ّ
ظ ولي النصيب
أرى صديقك الجديد يفوز بك دوني وأرضى وأستكين ،إن هذا اإلنسان حين دخل حياتك حطم صداقتنا وحطمني حتى كرهتُه
أشد الكره كما كرهتُك أنت ،لقد استولت علي تلك الكراهية وأحاطتني من كل جانب حتى حاصرتني و قلبت كياني ،إنني بقدر
ّ
حنقي وغيظي من هذا اإلنسان الجديد الذي اختطفك مني أشفق عليه منك ! نعم أشفق عليه من مصيره ،إن مصيره من
232
عالقتك سيكون نفس مصيري حتما ،فإن شأنك معي سيصير طبعا لك وسوف تكرر التجربة معه كما فعلتَها معي فيصير
تعيسا مثلي وبئست التعاسة ! ...............
أخي ار ....هنيئا لك يا أخي صديقك الجديد وهنيئا لك فقدي وفقد صداقتنا الفريدة ....وداعا يا أخي غير مأس ٍي عليك
ّ
.....وداعا )) ......
مسألة ملتبسة :
يقولون :لماذا تقبل األمر الواقع كما هو وتستجيب إلرادة صديقك القديم بأن تنزله منزلة أدنى مما كانت عليه بكل هدوء وبكل
سالمة نفس ،ألن يكون السالم العام أفضل ؟ وألن يكون السالم النفسي الداخلي عندك أفضل وأنبل ؟
فيقول صاحبنا التعيس (( :إن إنزال شخص منزلة أدنى من منزلته السابقة على نوعين نوع مقبول و آخر غير مقبول ،النوع
األول ناشئ من الخطأ واللبس ! ،ينشأ هذا النوع حينما يحب إنسان إنسانا آخر ويظن من فرط حبه و زغللة عينيه أن هذا
اإلنسان يبادله نفس الشعور ويرغب في القرب منه فيصاحبه و يداعبه و يتقرب منه ويحاول التوغل في حياته ولكنه فجأة
يستيقظ من سكرته حين يصدمه صاحبه بدفعه دفعا و يرفض توغله في حياته بل ربما يصر على اإلقامة مع غيره بينما يحاول
التقليل من لقائه ملال و دفعا ،يقول بلسان حاله :زميلي الفاضل كفاك تقربا مني فلدي انشغال بمن هو أولى منك ! إنك ال
تروق لي وقلبي ال يفضلك ،هو مشغول بغيرك و له اهتمامات أخرى أنت لست منها ،لنكن زمالء يكن أفضل ! .....حينها
على صاحبنا المصدوم أن يتقهقر راجعا بكرامته و ماء وجهه ويحترم رغبة ذلك اإلنسان الذي أحبه وينزله المنزلة األدنى
استجابة لمراده واحتراما لقلبه ،وتستمر العالقة بحواجزها بال حرج وال ألم ،هذا هنا مطلوب بكل بساطة ألن هذا الصاحب
اآلبي الرافض إنما أعلن رفضه من البداية بال تزييف وال خداع واللوم والعتب على الطرف اآلخر الملتبس عليه أمره ،هو الذي
المرجو يرضى بالقليل من وده راضيا حامدا !! يع ْش على حب صديقه أخطأ التقدير ،كان أعشى فال يلومن سوى عشاه ! وَل ِ
ّ ّ
...
أما النوع الثاني الذي نحن نتكلم عنه هنا فهو أن يتعاهد الصديقان على اإلخاء ويبوحان بالحب والوفاء و يسيران معا في درب
الحياة متالزمين متصافيين متفقين على استمرار الصداقة أبد الدهر ثم فجأة ينقض صديق عهده مع صديقه ويتخلى عنه زاهدا
فيه راغبا في غيره يريد أن يرفع الحرج عن نفسه بإبقاء عالقة سطحية مع صديقه القديم المسكين ،هنا نفس الصديق األبية
ترفض هذا الوضع المهين و يربأ بنفسه أن يكون اإلنسان الثاني بعد أن كان اإلنسان األول وترفض عيناه المتقدتان أن تريا
صديقا جديدا يخطف صديقه منه ويشعل نار غيرته ،هذان نوعان مختلفان ال يختلطان أبدا !....
يقولون :أليست الرغبة في دوام انعزالك مع صديقك عن بقية الناس زمنا وتفردكما ده ار نوعا من األنا ّ
وية وحب التملك للحبيب
؟؟ ثم من قال إن تعدد الصديق ممنوع ؟ ألم نقل من قبل إن التعدد في األصدقاء واقع جائز بينما التعدد في قدر الحب هو
المتعذر ؟!
فيقول صاحبنا :إن صديقي هو الذي عاهدني على ذلك و اتفقنا على التالزم إلى أن نلقى هللا في ظله يوم ال ظل إال ظله –
ولعل التالزم وعدم التعدد واضح في حديث ( وأخوان تحابا في هللا اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) ! أخوان فقط ،الحظ ! ، -
فنحن اعتدنا ذلك حتى صارت حياتنا بهذا الشكل و حتى صار خالف ذلك محاال ال يحتمله القلب ،وأنا كذلك قلبي ال يحتمل
233
أقر أن تعدد األصدقاء مباح ولكني لن أسمح ألحد أن يحتل مكانتي في قلب صديقي وال أن يزيحني قدر أنملة من قلبه و وأنا ّ
سأقاتل دون ذلك ألنني ليس عندي خيار آخر ولست أناويا ،تماما مثل الزوجة التي أباح هللا لزوجها أن يتزوج ثانية بعدها فإذا
استأذنها لرغبته في الزواج من أخرى فغضبت ورفضت أشد الرفض وطلبت الطالق أفتكون حينئذ أنا ّ
وية وتعارض ما أحّله هللا أم
إنها بشر لها قلب وشعور و عندها من الحب والغيرة ما اليقبل ذلك ؟؟!! .....
-2موقف الخذالن !
يقول الصديق الحزين (( :كنا نتالقى في أيام سعتنا وسرورنا خير صديقين و كأحلى عصفورين صادحين ،كانت أيام الصبى
والمراهقة ،لم نكن نعرف أيامها معنى المحنة ،لم تُدر لنا الحياة ظهرها كما تفعل مع من هو أكبر منا سنا ،لم َي ْخ ُبر صديقي
السن ولهو الصبى ،لعب ومرح وانطالق ،ولكن شكل المحنة ليعرف كيف يتعامل معها التعامل الصحيح ،هذه هي حداثة ّ
الدنيا متقلبة متغيرة ،تظهر لنا السرور والسعادة وتخبئ في باطنها المكاره والمآسي ،وهي بهذا تختبر وتبتلي لتظهر حقائق
الناس الباطنة في األوقات القاتمة ،وهذا ما حدث مع صديقي ،فقد انتهت المرحلة الثانوية وظهرت نتيجة التنسيق وجاءت
كليتي بعيدا عن الديار في مدينة أخرى ،إنني سأنأى عن حبيبي ،سأتركه ألواجه حياة جديدة أواجهها وحدي بال صديق وال
معين إال أشباح الطريق الذين اختلط فيهم الطيب بالخبيث ،ولكن بحسبي أن أظل أتذكر صديقي ويظل يتذكرني ويسأل عني
دوما ليذ ّكرني برباطنا الوثيق ،ولكن .....
مرت األيام والليالي علي ثقيلة وأنا خارج وطني أنتظر من صديقي اتصاال فال أجد ! أتثاقل و أتحامل على نفسي و أوثر ّ
ّ
انتظار اتصاله مترفعا متشوقا في نفس اآلن ،أترفع عن االتصال به ألنه واجبه هو ألنني أنا الذي في الموقف الضعيف
وأحتاج ليد العون الحانية وهو في بلده قويا معافى ال يعاني ألم الغربة مثلي ،لقد طال االنتظار و طال خفوق قلبي من إشفاقي
على نفسي و حسرتي على صديقي ،تُرى لماذا تغيب اتصال صديقي بي ؟ لماذا هجرني و تخلى عن دوره ؟ هل نسي
صداقتي وحبي بهذه السهولة ؟ هل كان فراق األبدان سببا في فراق القلوب ؟! هل القلب يحتاج إلى العين ليبقى وده متصال
دائما ؟! هل المادية تصل إلى هذه الدرجة ؟! ..
ولكني قبل أن ينهار قلبي وتضاف محنة الغربة إلى محنة هجر األحبة سأسلك آخر مسلك فيه التماس عذر ،سأتبين خبره
وأسأل عن شأنه لعله مريض في الفراش – وليس عذ ار ! – أو لعله فقد عزي از غاليا فشغله انتحابه عليه – وليس عذ ار ! – أخي ار
فاهتبلت الفرصة أسأله
ُ كنت أظنه ال يتصل ألنه األبعد فيا عجبا من الدنيا !-
جاءني اتصال من زميل له يسأل عني – و قد ُ
أولست تعرف أحوال صديقك وقرينك الذي لم يكن يفارقك لحظة َ عن حال صديقي المنقطع عني ،فلكمني ذلك الزميل بتعجبه :
فحاولت تغيير صيغة السؤال ألداري حالي و ألكتم شجوني فعر ُ
فت منه الحقيقة ،إنه صحيح معافى ُ من اللحظات ؟!!! ،
يذهب إلى كليته منتظما ،بسمته ظلت كما هي ال تفارقه ،يجتهد في دراسته كما كان عهده من قبل ،ال شيء يعكر صفو باله
تفجر رأسي من كثرة ترددها فيه ،و
مغتما ،تكاد كلمة ( لماذا ) ّ
فأغلقت الهاتف كسي ار ّ
ُ وال يشغله عن أحبائه القدماء ! ،
قررت أن أقطع الشك باليقين و أن أسأل المتهم بنفسي و أسمع
ُ عالمات التعجب صارت تطبع كل رقعة من وجهي ! ،أخي ار
دفاعه عن نفسه لعله يكون آخر خيط يربطنا و ينقذ صداقتنا ،كلمتُه بالهاتف متحامال على نفسي و دائسا على كرامتي
رد علي فسألته بصوت منتحب :أين أنت يا أخي لماذا ال تسأل عن صديقك ؟! ،فإجابني بكل برود :وهللا وكبريائي ،أخي ار ّ
234
مشاغل ! أنت تعرف الدراسة والمذاكرة والمواصالت يا أخي ( الدنيا ٍ
تاله ) ! .........حينها وصلت الرسالة كالصاعقة ! ،
إنها األعذار الباهتة التي ال تسمن وال تروي ،إنها الواجهة المزيفة التي يحفظ بها الهاجر الجافي ماء وجهه الملطخ ! ،و لماذا
لم تكن المشاغل من قبل في أيامنا السالفة تشغلك عني كما شغلتك اآلن ؟! ،حجتك داحضة يا أستاذ ! ،هناك غيرك ممن
كنت أظنهم أقل صداقة ووفاء لي ظل حبل ودهم متصال بي بعد سفري و رحيلي ،هؤالء تراب أقدامهم أغلى عندي منك !
ُ
هؤالء سأحمل جميل صنعهم فوق رأسي طول حياتي ،أما أنت يا أخي الناكص فعوضي منك على ربي وخالقي يخلفني خي ار
منك و هو على كل شيء قدير !! )) ...
فأقلعن منا عن ظلوم وص ــارِخ سعت ُنوب األيام بيني وبـ ـ ــينه
كملتمس إطفاء نار بنافـ ـ ـ ـ ِخ !! وإني وإعدادي لدهري صاحـ ــبي
-3موقف االستعالء !
يقول المكلوم (( :الناس سواسية كأسنان المشط هذا حال المؤمنين و هو نفس الحال الذي خبرته بيني وبين صديقي – وتلك
حال الصداقة منذ خلق هللا الناس ، -لقد شببنا معا في مستوى واحد ،في دراسة واحدة ،في مدرسة واحدة بل في فصل واحد
يضن بماله و
ّ بوده كما ال
،نشأنا وظروفنا االجتماعية متقاربة يواسي بعضنا بعضا بما لديه ،ال يبخل صديق على صديقه ّ
أهلته لكّلية عالية
من هللا على صديقي بدرجات عالية ّ
ماعونه ! حتى إذا انتهت الدراسة بعد طول عناء ومدارسة وسهر لليالي ّ
أقل منه فدنت درجاتي فدنت كّليتي من كليات القاع – كما يسمونها ، ! -كان
القمة بينما كان نصيبي ّ
مما يسمونها كليات ّ
هذا هو الَق َدر الذي أصيبت فيه نفسي باأللم واالنكسار ،وكنت أحوج ما أكون إلى قلب طيب يواسي قلبي و ينشف دموعه
ويمد يده إلي من علٍ يخفف أحزاني و يطمئن
ويس ّكن جرحه ! و كان عشمي في صديقي المحبب أن ينتشلني من بئر أحزاني ّ
ّ
روحي ،ولكن ..................
فوجئت أني ال أجد أحدا يبرد دمعي ...ال أحد يطمئنني على المستقبل ...ال أحد يسقيني رشفات من األمل تسكن ظمئي
العدة لمجده الجديد ،
يعد ّإلى السكينة واالطمئنان ! ....ال أحد ...ال أحد .....حتى صديقي المخلص – كان – ،لقد انطلق ّ
وسطه الجديد الذي يليق به و بدرجته و بنجاحه ،إنني
انفلت يبحث عن َ
غدا ينضم إلى نظرائه من ركب المتفوقين الناجحين َ ،
ال أحسده على ما هو فيه ؛ فنجاحه و علوه من أحلى أمنياتي ،وكيف أحسده وهو جزء مني – كان -وهل الجزء يحسد جزأه ؟!
علوك وارتقاءك على رغم هبوطي وانحطاطي – في أعين الناس ! – كنت أعتبره شرفا ورفعة فأنت زينتي و مصدر فخري
،إن ّ
وزهوي – كان ........... -
علو البدر في أفق الس ـماء
ّ ّللا أن تعلو م ـحالً
دعوت ّ
ُ
فكان إذاً على نفسي دعائي لوت عنيعلوت ع ـ َ
َ فلما أن
235
صرت من نشوة نجاحك ال تشعر بألم صديقك َ وخيبت ظني ورجائي ،انعدم الشعور عندك حتى
َ لقد ار َّتد ْت رغبتي فيك علي ،
ّ
وظننت كأنك فزت بالفردوس األعلى ! وهي دنيا زائلة تفنى ويفنى من فيها وتفنى نجاحاتهم وال
َ النجاح أسك َرتك نشوى
وم اررته َ ،
يبقى إال الحب واألنس و الذكرى الطيبة ،إنك من فرط ارتفاعك المزعوم َ
فقدت القدرة على الشعور بقرينك الذي هبط و انحدر
و عالك الغرور واالستنكاف حتى كأنك تظنني لم أعد من مستواك و مرتبتك فال أليق لك صديقا مالزما ! ....
صدقت أيها الشافعي حين قلت :أظلم الناس لنفسه اللئيم فإنه إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه واستخف باألشراف وتكبر
َ
على ذوي الفضل ......
وداعا أيها الشريف العظيم انعم بشرفك وسؤددك و انعم كذاك بفقدك صداقة عظيمة قّلما يجود بها الزمان !! ))..
المدمية في الصداقة في زماننا كثرت أشكالها وتنوعت صورها لتنوع صور زينة وبهرج زماننا ،
أقول :إن تلك الظاهرة ُ
فالموظف الذي صار مدي ار صار ينظر باستعالء إلى أصدقائه وربما يحاول كسرهم بأوامره المتعنتة لفرض هيبته و صالحيته
الجديدة ،والذي ُرزق ماال وفي ار بعد طول مالزمة للفقر مع أصدقائه الفقراء تراه يتبدل ويتغير وينقض عهود اإلخاء منشغال بماله
النتاج واحد ،ترك الصديق لصديقه و تقطع الروابط و تشوه الذكرى و مستعليا بنصيبه من رزق هللا ! ،هي صور مختلفة و َ
الجميلة واأليام السعيدة في زمن علت فيه المادة و سيطرت فيه البرجماتية المقيتة التي مزقت الصداقة وأفسدت كل عالقة ،هذا
وإنه في زمن مضى – وال يزال – كانت تلك الظاهرة بازغة في من يتولى اإلمارة من األصدقاء حين تسيطر عليه لذة السطوة و
فيسود قلبه و يخلد إلى انعزاله عن الصديق والرفيق
ّ السلطة وتجعل على بصره الغشاوة حتى كأنه ال أحد يدانيه وال ينافسه
مترفعا مستنكفا مكتفيا بسلطانه ونفوذه كأنه سيخلد فيه !
قال أبو زبيد الطائي يصف تلك الحال المحزنة :
العيوق :نجم بعيد يضرب به المثل في البعد العيوق بالسبب الوثي ـق
إلى ّ نلت اإلمارة فاس ـم منها إذا َ
مغيرة الصديق على الصديق وكل إمارة إال قلـ ـ ـ ـ ـيالً
وقال اآلخر متعجبا من حال صديقه المغرور المستكبر :
وعهدي به من قبل ذا وهو صاحب تغير عني ح ـين وّلوه منصـ ـ ـباً
و ّأول رجل غيرته المناصـ ـ ـ ـ ـب بأول صاحـ ـب
وما هو في الدنيا ّ
وقال اآلخر يصف خالف ذاك الحال من أصدقاء المروءة والقلوب المطمئنة الصافية الذين ال يتغيرون وال يتبدلون مهما تحولت
الدنيا من حولهم وهم األحرار بحق الذين نجو من عبودية وأسر الدنيا :
فضالً وطوالً على إخوانه ت ـاها ليس الكريم الذي إن نال منزلة
إن نال حظاً من السلطان أو جاها الحر يزداد لإلخوان م ـ ـ ـكرمة
ّ
تظل تلك العبودية للمنصب و ال تبرح تلك الغشاوة على بصره وبصيرته إلى أن ينتهي كل شيء ! يزول منصبه ويفقد ّأبهته و
سلطانه ،فجأة يفيق من سكرته و يستيقظ بعد سبات على حقيقة نفسه والناس من حوله ،إنه صار عاريا بعد كساء ! َ ،فَق َد
سلطته وقد فقد قبلها أصدقاءه وأهله جميعا ويدرك لحظة فواقه أنه يحتاج لصديقه الذي هجره و ألهله الذين تنكر لهم وازدراهم
236
يمد يده إلى صديقه القديم مؤمال وراجيا في برود و سماجة ...ويحكي
فيعود كسي ار بوجهه الكالح يطلب الصلة والقربى و ّ
الصديق القديم ذاك الحال قائال :
وكنت منه مكان العين في الراس ُ ورب ذي ثقة قد كان لي سـ ـكناً
ّ
وخانه سوء بنيان وآس ـ ـ ـ ـاس ولى وأعرض عني إذا أفاد غ ـ ـنى
فيما أحب من اللذات وال ـكاس حتى إذا ما قضى من ماله وط ـ اًر
وده من بعد إفـ ـ ـ ـالس
وعاد في ّ غدا إلي بوجه ضاحك ط ـ ـ ـلق
ّ
ولكن هيهات هيهات !! فات وقت الرجوع والت ساع َة مندم ! ....لقد جرحتني و وطئت كرامتي و هجرتني في حين سعتك
وحين ضيقي ثم تدور األيام وتأتيني في وقت ضيقك ووقت سعتي وترجو إيابي و سماحي ؟!! يالك من أحمق سافل بلغت
أسمى درجات الدناءة ثم خلطتها بالبرود والسماجة لتنتج مرّكبا وضيعا ال يستسيغه الكالب واألولى أال يستسيغه أمثالي من بني
البشر ،إنني إنسان له روح وقلب ،روحي تكرهك وتزدريك و قلبي يمقتك و يشمئز منك ،وكيف لي أن أتحامل على قلبي
وروحي ولماذا أرضى بك ولي عنك غنىً ،إن من يغدر مرة يغدر ألف مرة وأمثالك يذ ّكرون بقول العلي الحميد ( ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) ،اخرج مطرودا مدحو ار وال تُرني وجهك الكالح مرة أخرى وأغلق الباب خلفك وال تحاول
رحبا !! ....
طرقه ثانيا فلن تجد ُمجيبا وال ُم ّ
ابتداء طيبة رقيقة ،سلكنا معا سبيل الهداية والرشد ،اجتمعت قلوبنا على صراط هللا ،
ً المتحسر (( :كانت صداقتنا
ّ يقول
اجتمعنا على طاعته وافترقنا على غير معصيته ،كان التزامنا بدين هللا هو النور الذي يهدينا في طريق صداقتنا ويحصننا من
تجمعنا بعد تفرق ،و تحول دون الشقاق والنزاع كان ذلك إلى أن تغير كل شيء
االنجراف والضياع ،كانت أخالقنا الدينية ّ
!!................................
مني يوما
جو العبادة والطاعة معي ،كان يؤديها وكأنه مضطر ،ثم بدأ يتفلت ّ بدأت سلوكيات صديقي تتغير ،لم يعد يألف ّ
بعد يوم ،لم يعد يالقيني دوريا كما كان من قبل ،كان يتعلل بالمشاغل لئال يلقاني ،ماذا حدث ؟ لماذا تغير من ناحيتي فجأة
؟ ماذا ألهاه عني ؟ ،ثم بدأت ألتمس أنباءه بعد أن يئست منه و تمزق قلبي من فقده فبدأت تتضح الصورة التي كانت ّ
مشوشة
من قبل ،لقد استهوته مجموعة من الشباب ليسوا من طباعنا وال أخالقنا ،ال يعرفون طريق المسجد و ال يقيمون وزنا لمحارم
بدأت أراقبه خلسة وأزداد ترقبا ألنبائه
مني انتزاعا ،ولكن ما الذي جذبه إلى هذا الجو ؟ ُ
هللا ،مجموعة فاسدة مستهتَرة انتزعته ّ
حتى أصابتني الصاعقة ! ..إنه و زمالءه الجديدين يسهرون في لعب ولهو ،يشربون الخمر و يرقصون ويصاحبون الفتيات !
،استحوذ عليه الشيطان وغلبته شهوته حتى صرفته عني وعن مبادئي التي لم يعد يطيقها ،لقد كان اتباعه لهواه أقوى من
حبه لي ! ولو تبقى حب لي في قلبه لكان عامال يحفز ما بقي في قلبه من خير ،ولكن التيار كان جارفا وأقوى من إيمانه
وأعتى من صداقتنا الطيبة النبيلة ! فضاع وضاعت المبادئ وضاعت األخوة وضاع كل شيء !
237
ردي على صنيعه ؟ ،هل أتركه بين براثن الفساد وأتخلى عنه متعصبا ألخالقي و تديني وأزعم أن ولكن ......ماذا سيكون ّ
ذلك غضبة هلل ؟! ..كال إن واجب الصديق أن يقف بجوار صديقه في المحن ،وهذه أشد المحن ،إنه في سكرة وعلي أن
ّ
أجعله يفيق منها ،علي أن أعاتبه أوال بعهد اإلخاء والمحبة لعله يكون في قلبه بقية منها ! ثم أذكره باهلل و حرماته و عاقبة
ّ
جلست
ُ ذهبت إليه و
ُ أهز ذرة من الخير كامنة في قلبه تحتاج من يستحثّها ! ، معصيته و وقوفه بين يدي هللا يوم التغابن لعلي ّ
معنف ،ذ ّكرته بهذه األشياء ففوجئت به يتكلم كلمات ال عهد لي بها من قبل ، ود غير ٍ
قاس وال ّ حب وبكل ّمعه وخاطبته بكل ّ
قال لي في نبرة غريبة لم آلفها منه :كفاك نصائح ومواعظ هل أنت ولي أمري لتأمرني وتنهاني ؟! هل بعثك هللا علي رقيبا
ّ ّ
عمن صادقته وعرفته من أدركت أنني كنت أمام إنسان آخر مختلف ّ
ُ فت حزينا وقد
لتحاسبني حساب المَل َكين ؟! .....فانصر ُ
وقررت في النهاية أن
ُ رت متأمال
خرجت مهموما مشدوها على صداقتي البائسة و على حال صديقي المنكر ،ثم ف ّك ُ ُ قبل ! ،لقد
يحن إلى وإلي أيامي الحلوة فيردعه حبه وتجذبه أسلك مسلكا جديدا ،مسلك الزجر بالهجر ،أتركه وشأنه فترة من الزمن لعله
ّ ّ
نفسه اللوامة إلى صديقه المخلص ثم إلى تدينه ومبادئه ،..ولكني بؤت بالفشل الكبير ،لقد زاده بعدي عنه بعدا ،بل لقد
استعملت مبدأ الهجر المؤقت ظانا أنه يعود
ُ أخطأت في تقديري و
ُ استعذب بعدي لئال آمره وأنهاه – كما يعبر هو ! ، -لقد
ماد َِ ِّا يدي إليه ،فنظر إلى
فعدت إليه َ
ُ بالمكسب المؤبد ،ولكن خاب ظني ،فطال الفراق و َع ُسر األمر ،وتاه األمل ،
ذراعي المفتوحتين و ُحضني المرحب نظرة تردد ،ثم أطرق لحظة في خجل و خسوف ُي ُِشعر باعترافه بخطئه و فقده إلرادته
ّ
مادا إليه ذراعي
مد يده إلى ليصافحني ثم انصرف ! ..لم يستحوذ علي اليأس منه و كررت المواجهة بنفس الصورة ّ
! ،ثم ّ
ّ
الرد في نفس المشهد .....
فكرر نفس ّ
لقد كانت رسالة ضمنية فهمتُها ووعيتُها بعقلي المشدوه وقلبي المحترق :هذه هي حياتي الجديدة ال محيص عنها ،وهؤالء
قرنائي الجدد لن أتركهم ،إما أن ترضى بصورتي الجديدة و عالقتنا الفاترة وإما أن تنسحب من حياتي وتريحني ولك الخيار !!
....
لقد هان عليه ميثاق رّبه فهان عليه ميثاق صداقتي وهو أولى بالهوان ! ....لقد آن لي أن أنسحب انسحابا نهائيا من حياته
فقدت األمل فيه ،لن يجتمع طريق الهداية و طريق الضاللة في سبيل واحد ! سيظالن مفترقين إلى أن تقوم الساعة !
بعد أن ُ
))
المتدين الذي
ّ أقول :في خالف هذا الموقف السابق موقف مختلف تنتهي معه الصداقة بسبب الحماقة ! ...هو موقف الشاب
ترك تدينه ونكص على عقبيه – مثل الحال السابق – ولكنه هذه المرة لن يجد يد الصديق ممتدة إليه وإنما سيشيح صديقه
سيعده مر ّتدا مغضوبا عليه ال ينبغي وصله وال رؤيته ،
ّ بوجهه ويديه معا عنه !! ،سيهجره هج ار بال محاولة إلثنائه وإرجاعه ،
كأنه صار موبوءا مجذوما يخاف من عدواه أن تنتقل إليه ،هذا األسلوب الغليظ الجافي هو أسلوب بعض المنتسبين إلى بعض
يعد الواحد منهم كل منسحب غلبه هواه منبوذا
تدين ظاهر ّ ،
الجماعات المذهبية التي أوغلت في التعصب لفكرها ورأيها مع ّ
مطرودا يقول لسان حاله الكلمة العامية الشهيرة ( :كلب وراح ! ) مع أن هذا الناكص المغلوب من هواه ربما وقوف أصدقائه
238
يرده ردا جميال و ينتشله من بئر الضياع والفساد !! ولكنه – يالبؤسه ! -ابتلي بأصدقاء
معه و أخذهم يديه و التفافهم حوله ّ
جفاة غالظ لم يتمكن الحب والصداقة من قلوبهم كما لم يتمكن الفهم الصحيح للدين من عقولهم ! يظن أحدهم أن هجره لذلك
الصديق المنحرف إنما هو غضبة هلل و إعمال لما يسمونه الوالء والبراء ! ،فصار هذا المسكين ضحية للتيار الفاسد الجارف
من جهة والتيار المتشدد المتحجر من جهة أخرى ! ولو عرف أحدهم معنى ّ
الحب الحقيقي واإلخالص والوفاء لما ترك صديقه
في بئر عميقة مظلمة ويقول هو الذي أوقع نفسه فيها وعليه أن ينقذ نفسه ! ،إن هؤالء المتعصبين مع نقص فهمهم لمعاني
األخوة في هللا و مع نقص علمهم بمدارج السالكين المتقين يسلكون نفس هذا السلوك الشائن مع من ترك مذهبهم وتحول إلى ّ
مذهب آخر وكأنه ار ّتد من دائرة الدين و خرج من زمرة المسلمين ! ،ومثل هذه األوساط التي تنتشر فيها هذه العقليات
المتحجرة ال تجد فيها المعاني الصحيحة للصداقة و الخّلة فيصيرون منبعا للتفرق والتشرذم والعصبية التي ال تختلف عن
ّ
العصبية الجاهلية الغابرة ،اختلفت األسماء و المضمون واحد ،وتاهت األخوة في ظلمات تلك الطرق المفترقة المتشابكة !!
....
أخي ار ُحكي عن صديقين من السلف الصالحين أن أحدهما انقلب عن االستقامة فقيل ألخيه :أال تقطعه وتهجره ؟ فقال :أحوج
ما كان إلي في هذا الوقت لماّ وقع في عثرته أن آخذ بيديه وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان فيه ! ......
ّ
المتحجرة !
ّ عسا ألصحاب العقول والقلوب
عدا وتَ ً
وب ً
فيالهم من أناس أنعم هللا عليهم بفقه األخوة والصداقة ! ُ
التدين !
-5موقف ّ
يقول الواله المتحير (( :إنني أستوعب أن يكون البعد عن هللا سببا في تقطع أوصال الصداقة ؛ فالمعصية شؤم على صاحبها
التدين واإليغال فيه سببا لتمزق الصداقة و اندحارها ! ..هذا ما حدث مع
أتفهم أن يكون ّ
ولكني ال ّ وعلى أصحابه كذلك ّ ،
كنت إنسانا متدينا – على ما أظن ! -و كان لي الكثير من الزمالء ولكن لم يلفت انتباهي أحد منهم غيره ،
صديقي الغريب ُ ،
فقمت بدوري األخوي في أخذي يده شاء هللا أن نتجاذب بعد أن اجتمعنا على غير ميعاد ،وكان فرق التمسك بالدين بيننا واسعا ُ
لم َس ْت صداقتنا قلبه الطيب فوجدته قلبا مفتوحا للهداية ،علمتُه ما أعانني هللا عليه من إلى الطريق المستقيم ،وكان ِمطواعا ّ
لينا َ
التدين وكان حبه لي ينمو مع حبه هلل وقربه منه ،كان واجبا علي أن أحيط صديقي الحبيب الذي لم يكن يفارقني
أمور الدين و ّ
ّ
أبدا أن أحيطه بوسط من المعارف الطيبين الصالحين الذين يوفرون له ّ
الجو األنسب للقرب من هللا و معرفة طريقه ؛ فالذئب
يأكل من الغنم القاصية مثل الشيطان الذي ينفرد بالمنفرد فيفتك به ! ،كان ذلك مقصدي الشريف من تعريفه بالمؤمنين
المخلصين ولكن ....................
يبدو أن مقصدي انقلب علي وأتى بما لم ترغبه نفسي ! ،لقد بدأ ينشغل صديقي بالوسط الجديد ،ويستزيد من المعارف
ّ
قلبه
قوة يوما بعد يوم بإحاطة الناس به – في ظنه ! -منشغال عن صديقه القديم و منصرفا عقُله و ُواألصحاب ،ويزداد ّ
ينحيني من وقته و لقاءاته ،يبدو أنني بغير قصد صرت
عمن دله على ذاك الطريق ،لقد قل اهتمامه بي بل كاد ينساني و ّ
ّ
أنهيت مهمتي و تم الغرض والقصد مني رماني و انشغل
ُ أداة موصلة له إلى الناس وإلى الدنيا المفتوحة الغرورة ،حتى إذا ما
239
بحياته الجديدة حياة االنطالق واألضواء بين المعارف واألصحاب ! ،هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان ؟! ،إنني يا أخي
الفاضل ال أريد منك جزاء وال شكو ار وال أبغي تذكي ار لي على الدوام بفضلي فالفضل كله بيد هللا ،ولكني أريدك صديقا دائما كما
اذم المعارف واألصحاب الذين هم هباء وغثاء
كنت من قبل ،أريد أن تعود أيام األخوة الصافية الطيبة التي ال تعوضك إياها شر ُ
َ
كغثاء المطر ،إنني يا أخي ال أريدك أن تنقطع لي وحدي من دون الناس لتصير مغمو ار مجهوال – كما َ
كنت من قبل أن
وصلك لما أنت فيه – ولكني أريدك أن تعدل في القسمة بأن تعطيني نصيبي الصحيح وقدري المعهود الذي ال تعرفني و أُ ِ
240
-6موقف الخيانة !
يقول صاحبنا الجريح (( :لقد سارت صداقتنا هادئة مطمئنة ،وما زاد اطمئنانها اطمئنان قلبي إلى صديقي الذي صار قلبي
يسري عني و ينسيني مصائب دنياي ،وما ذاك إال بسبب المكاشفة
مفتوحا على قلبه بال حواجز وال موانع ،لقد كان لقائي به ّ
و المصارحة التي هي دواء العقل الَقلِق المشتت حين تعجز معه األدوية ! ،و أسرار األصدقاء بغير حاجة إلى تصريح في طي
ّ
أخص وأجدر ،ولكن صديقي كان له شأن آخرالكتمان ،فقلوب األحرار قبور األسرار ،هذا مع عامة الناس وفي الصديق ّ
!!................
ففوجئت
ُ ففي لقائي مع أحد الزمالء – واألسوار قائمة بين الزمالء – كان يمزح هذا الزميل معي على عادته في وسط زمالئنا
وصمت مشدوها
ّ فاحمر وجهي
ّ به يذكر في مزاحه س ار لي من أسراري الشخصية الحساسة التي لم أبح بها ألحد إال لصديقي ! ،
مصدوما و انعقد لساني من شدة اإلحراج ،ومرت علي الثواني ساعات ثقيلة وأنا ُمطرق واجم إلى أن انتهى الجمع و يبدو أن
صداقتي انتهت معه !
إن صديقي المحترم يذيع أسراري بين الزمالء ،إنه خان عهد األخوة ولم يراعني صديقا وال إنسانا له خصوصية ! ،إنه كثير
الضحك والمداعبة بطبعه ،ولكن مزاحه وهزله َع َبر منطقة الخطر ،عبر إلى معتديا جارحا ! ،إن الصداقة أيها المحترم َج ّد
ّ
في َج ّد ،ولكن الجد تحول معك إلى هزل ،كثرة هزلك جعلتك لم تعد تفرق بين وقت الجد ووقت الهزل ،إنك لم تصن عهد
آدميتي ،إن لسانك السقيم شهوته في الضحك والمزاح ولو من األصدقاء المقربين أشد و أغلب من
األخوة ولم تصن كرامتي و ّ
السر لم أنبهك إلى ضرورة
قلت لك هذا ّصيانتك لصديقك و احترامك لعهده و اإلخالص له ! ،أرجوك ال تتعلل بأنني حين ُ
كتمانه ،فالصديق الصدوق يعلم األسرار جيدا ويميزها من بين هزل الكالم بال توضيح وال تصريح ،إنني حين آمنتك على
سري آمنتك واثقا من أنك لو هجرتني و قطعتني فستمنعك مكارم أخالقك من إذاعة أسراري صيانة للعهد و اعتبا ار للماضي
الجميل ،فما بالك وقد أذعت سري ونحن أصدقاء بال شجار وال عراك ! ،إنك إنسان غير أمين ،ولسانك منفلت ،إنك خنتني
،ومن هذا حاله فال يصلح أن يكون أخا مخلصا في حال ّ
الجد وإنما للزمالة واللهو والمزاح وتافه األشياء ! ،وداعا يا زميلي و
حظ سعيد مع أمثالك من الهازلين التافهين !! ))..
أقول :إن هذا المثال من الخيانة بين الصديقين هو مثال صغير لما قد يحدث من غدر وانتهاك لحقوق الخّلة وإال فهناك أشد
وأعتى ،فكثرة اختالطك بمن يعاديه صديقك ضرب من الخيانة ،وصداقة الخليل و صداقة عدوه معا ازدواج ال تستمر معه
سجل لنا أن الصديق
سجله لنا التاريخ المظلم بين مشاهير األصدقاء ،فالتاريخ ّ
صداقة أبدا ،ومن صور الخيانة العظمى ما ّ
يدس له السم لينهي حياته ! ،كما أخبرنا التاريخ أن الصديق قد يقتل صديقه ورفيقه وهو – أي :القاتل -
يسجن صديقه بل ّ
السر عند صديق موبقة
تحت تهديد السالح ! ،الخيانة في الصداقة ليس لها حدود في زماننا التعيس أهله ،ولئن كان إفشاء ّ
كبرى ال تغتفر لكان السجن والقتل هو الكفر البواح ! ،لكن دعوني أؤكد لكم أن الصديق الحق المخلص ال يخون صديقه – ال
خير بين موته و خيانة صديقه ألبى ضميره و
أقول -لشهوته و مصلحته ! بل ال يخونه ولو وضع المسدس في رأسه ! ولو ّ
روحه الزكية أن يكون صديقه ً
فداء له ،هذه هي األخوة وهذا هو الضمير اإلنساني في زمن صار الضمير فيه أسطورة من
أساطير األولين كما صارت األخوة السببية عند أناس نوعا من المحاالت ! ....
241
-7موقف االنشغال و النسيان !
يقول الصديق المغبون (( :لقد سافر صديقي وتركني وحدي بعد طول ائتناس به و انشغال بأحواله وحكاياته ،ولم أكن
الممتحن ويشتري الحاضر بالغائب ! ...كال ،لم أنشغل بأصحابي الحاضرين ملقيا
َ ألصير الصديق الخذول الذي ينسى صديقه
حققت واجب الصلة
ُ حييت على ذكراه ،بقي نسيمه يحيطني من كل جانب أتذكر أيامه و أحلم بلقائه ،
ُ صديقي خلف ظهري بل
مع صديقي فلم يمض أسبوع حتى آنسته باتصال أو رساله بين طياتها دوام العهد بيننا إلى أن ينتهي االفتراق ويجتمع األحباب
أحسست بنبرة صوته متغيرة معي ،إنه لم يعد متلهفا مشتاقا
ُ يرد على رسائلي بل ،ولكني ال حظت في الفترة األخيرة أنه ال ّ
ملت على نفسيلصوتي و حواري ،لم يعد الهاتف يشع ح اررة و التهابا كما كان من قبل ...إنها بوادر الجفاء ! ولكنني تحا ُ
أزود ! ،عرفت بالمصادفة أن صديقي الود متصال لئال أكون ظاهريا بادئا بالعداء ولكن أخي ار أتاني باألنباء من لم ّ
أبقيت حبل ّ
و ُ
المحترم قد رجع إلى ديارنا في إجازة سالما منذ أسبوع كامل وكنت أنا آخر من يعلم ! أنا ..أنا ..الذي كنت ال أفارقه في يوم
من األيام ال أعلم أنه حاضر بعد غياب ،لم ُيعلمني نية حضوره برسالة أو اتصال قبل مجيئه بل عندما حضر لم يعلمني
حضوره ألستقبله أحسن استقبال و أبادره باالنشراح و القبالت واألحضان ! ،ماذا جرى ؟! ماذا حدث ؟! ..اإلجابة واضحة
اآلن ،إن صديقي إنسان واقعي – كما يزعم من سلك مسلكه – إن غيابه عن بلده سوف يطول بل قد يكون أغلب حياته ،
فلماذا يشغل نفسه بصديق هو الوهم ذاته ؟! صديق لن يراه في عمره إال مرات معدودة ،صديق سيظل على اتصال وهمي به
خالل أسالك الهاتف و تيارات اإلنترنت ! صديق لن تنال عينه منه الحظ الوفير كما ستنال أذنه ! لماذا إذن االشتغال بالخيال
؟! ولماذا ال يعيش على أرض الواقع والحقيقة فيشتري أصدقاء آخرين في أرضه الجديدة وعالمه الحالي ؟! ،إن مشكلتي
كنت غافال عن الحقيقة التي
الود متصال من ناحيتي بينما قطعه هو بال رجعة من ناحيته ،لقد ُ أبقيت حبل ّ
ُ الشخصية أنني
دت بازغة أمام ناظريه ،هذه هي الواقعية وهؤالء هم أرباب المذهب الواقعي وال مكان للروحانيات و ال سبيل لعالم القلوب و يا
ب ْ
حسرة علينا نحن أصحاب األحالم والخياالت نتعلق بالسراب و نزعم أننا معتنقون المثل والفضائل فيا حسرة علينا ..يا حسرة !!
))
أقول :يا أخي الطيب ال تتحسر على نفسك وإنما تحسر على صديقك الذي غرق في بحر المادة إلى أذنيه حتى مات قلبه و
سكر عقله ،إن الحياة الحقيقية هي حياة األرواح ال حياة األبدان ،األبدان زائلة فانية واألرواح باقية خالدة ،فمن تعلق بالمادة
أعد له منه عدة فهو ال يخسر أبدا ،فهو إنما يغذي شيئا باقيا
إنما يشبع بدنه ال روحه فهو خاسر ،ومن تعلق بغذاء الروح و ّ
سرمديا ،وأرباب الصداقة و أصحاب مذهب الخّلة أبدانهم معنا في الدنيا منظورة وأرواحهم تسبح حول عرش الرحمن ،إنهم وإن
حرموا من أصدقائهم في الدنيا فهم على يقين أنهم ال يحرمونهم في اآلخرة تحت ظل الرحمن يوم تفنى بقية الظالل ،هذه أنفس
تؤمن بالغيب القادم الباقي وتلك أنفس تؤمن بالمادة الحاضرة الماضية فمن األولى بالشفقة عليه؟!
-8موقف مبهم !
242
تعمق ،لم أكن أتخيل أننا نفترق في الدنيا
يقول الحائر (( :كنت أنا وخليلي في أحسن األحوال من قربى و مودة و ترابط و ّ
ق ق
طأ فهنالك طر أخرى تفر األحباب و ُ
السجراء ،منها طريقتي المشئومة التي ال أفهمها تخيلي كان خ ً
إال بموت أحدنا ! ولكن ّ
عني فجأة وكنت كعادتي في الثّقل المتصنع أنتظره ليتصل هو فألومه و حتى اآلن ،والقصة تبدأ حين طال انقطاع صديقي ّ
اتصلت
ُ فردت علي والدته و قالت إنه غير موجود ،حسنا أخبريه أنني
أعاتبه ،ولكن االنقطاع طال هذه المرة فبادرته باالتصال ّ
ّ
كررت االتصال و ردت علي والدته وأجابتني بنفس اإلجابة ،ُ لت مرة أخرى و
به ،فانتظرتُه ليتصل بي ولكنه لم يتصل ! فتناز ُ
يردوا علي هذه المرة ،هم يعرفون رقمي الذي يظهر عندهم وال
ثم طال انتظاري و كررت االتصال مغتاظا يائسا ولكنهم لم ّ
أجرمت في حقه ليقطع عالقته بي بهذه الصورة
ُ يردون !! لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ ال أدري ،لماذا يتهرب عني صديقي ؟ وماذا
عني و ال يريد أن يعطيني فرصة للتناقش
الجافية المريرة ؟ ال جواب منطقي يشفي حيرتي و يلين جمود عقلي ! ،إنه انقطع ّ
والتفاهم ،إنني ال أتذكر أي سبب سابق لهذا الموقف يفسر موقفه الغامض ،كل ما أعيه أننا كنا على وفاق تام قبل هذا
تشتت عقلي و دارت األسئلة في رأسي دوران النحل بال جواب ألقعد حزينا بائسا في
َ طالت حيرتي و
ْ االنقطاع المفاجئ ،لقد
رد صديقي و أقصر عن فهم حاله وحالي ! )) النهاية أعجز عن ّ
لست أول من يصاب بهذا الخطب فهي قصة متكررة في أحداثها أقول :إنني أفهم حيرتك يا صاحبي البائس وأطمئنك أنك َ
ووجدت منها أن الصديق قد يم ّل صديقه و يصبح عبئا ثقيال عليه
ُ فكرت كثي ار في تحليل هذه األسباب
ُ مختلفة في أسبابها ،وقد
بعد أن يكّلفه صديقه ما ال يطيق دائما على ذلك ،غير عابئ بإحساس صديقه و غير مقدر لطاقته وقدرته و متواكال على
مهمة الصديق في تفريج الكربة و معونة الصديق معتب ار ذلك حقا مكتسبا واجبا مفروضا عليه أن يؤديه صديقه في كل وقت بال
ملل وال اعتراض وإلى النهاية حتى يصير صديقه – و كذا شعوره – عبدا يجب عليه تنفيذ األوامر و حمل األمتعة و تحمل
المشاق بغير شكوى وال ألم ! ولكن ....
ـدوا إذا هيج فارق ذاك ُ
اله ـ ـ ـ ـ ّ وال تغترر بهدوء امـ ـ ـ ـ ــرئ
إنه لن يحتملك في النهاية وسينفجر حتما ،ولكن انفجاره معك هذه المرة سيكون صامتا بال صراخ أو ضجيج ،سيغلق عليه
خسرت صديقك إلى اآلبد ! ..هذه طريقة
َ بابه ويمنعك من الدخول إلى حياته مرة أخرى لعلك تفيء وتفهم ولن يفيدك الفهم فقد
سببت موقف النهاية ال هو ......وهذا سبب محتمل ..
َ بعض الناس في االعتراض ،والمخطئ هنا أنت ال هو وأنت من
ومن تلك األسباب الغامضة التي يعسر فهمها إال بعد حين ضغط األبوين على االبن الصغير ليترك صديقه مجب ار مقهو ار على
ذلك ! وذلك حين يرى األب المستبد أن مصلحة ابنه كما يزعمها تتعارض مع تلك الصداقة التي ستضره أكثر مما تنفعه ! ،
متدينا على غير رغبة أبويه الذين يخشون التدين على ابنهم ويرونه داءا
وهذا األسلوب القهري رأيناه حين يصاحب الشاب شابا ّ
خبيثا يجب االبتعاد عنه بكل السبل !! ،بل ربما يقنعانه فعال بخطورة هذه الصداقة بقهرهم و استبدادهم ! ....وهذا سبب .
ومن األسباب الغامضة المعّقدة كذلك – كما أظن -أن يكون هذا الصديق المفاجئ بالقطع والهجر مريضا نفسيا ! وهو
ألسباب نفسية معقدة يرى ضرورة التخلص من هذا الصديق و إنهاء العالقة معه والبحث عن عالقة أخرى ،وهذا النوع تجده
دائما يسلك هذا المسلك الهجري مع أكثر من صديق فهي تجربة أليمة متكررة متجددة و دور مسرحي يؤديه بصورة متكررة على
243
خشبة مسرح حياته ولكن يختلف البطل معه في كل عرض جديد ! ...وهذا سبب ،وهللا أعلم ببواطن النفوس وبواطن الظروف
!
فترة األلم !
يقول المسكين (( :يا إلهي ماذا وقع ؟؟ ،ماذا جرى و ماذا انقضى ؟؟ لقد أ ِ
ظلمت الدنيا في عيني بعد صديقي ،لم أعد أشعر
ّ
يغيم حولي ،
ببهجة الحياة بعد تلك التجربة األليمة ! لم أعد أستطعم طعاما وال أشعر بحالوته ولذته ! ،ما ذاك االسوداد الذي ّ
لماذا صارت الدنيا قاتمة ال طعم لها وال معنى عندي ؟! ،أشعر أنني فقدت الدافع في الحياة ،فقدت الحادي الذي كان يحدوني
نحو طلب التفوق والنجاح ،لقد كان هناك من قبل شعور في داخلي يدفعني نحو االنطالق والبحث عن سبل الحياة و الغوص
محفز لي
ّا فيها و اهتبال فرصها وسلوك دروبها ،لكن هذا الشعور ذبل في داخلي اآلن حتى صرت ال أُقِبل إلى الحياة و ال أجد
244
حر طليقا ،اللهم انتزع حبي له و تعلقي به من قلبي وال تجعلني أتعلق بأحد سواك أبدا أبدا !! أنت آخر أمل لي الوأكون ّا
أمل لي سواك يا هللا ! ))..........
أقول :على هؤالء الوسطاء الطيبين أال يضيعوا أوقاتهم في محاولة اإلصالح بين صديقين مقربين تفرقا ! فالصديقان
المفترقان ال يستطيع أهل الدنيا جمعاء أن يجمعوهما مرة أخرى ،لماذا ؟ ،ألن عالقة الصديقين المتقاربين كانت شديدة العمق
بالغة التج ّذر فيها من األسرار و األحوال الخبيئة ما ال يمكن إذاعته ،لذا ال يتبين للمصلحين السبب الحقيقي للخصومة ولو
حاول التفتيش فإنه سيفشل ! وأعجب من الزميل المصلح بنفسه الزميل الذي يريد أن يتحاكم الصديقان المتخاصمان إلى شيخ
حكيم أو عالم ٍ
مرب فيسعى لجمعهما عنده ليكون قاضيا بينهما وياله من أحمق زاد قضيته تعس ار و تعث ار فهيهات لألباعد أن
يطيبوا جرح صديقين ولو كان أعلم العلماء و أزكى المرّبين !
وعليك أن تفهم أيها الطيب المصلح أن الصديقين المتالزمين إذا بلغا مرحلة النهاية فإن األمر خطير و الخطب عظيم ولوال
الحسي وإما الموت المعنوي ! فلست أنت أيها الزميل من
عظمتة ودقته ما تفرقا أبدا ،فال تنتهي صداقة إال بالموت إما الموت ّ
ستحيي الموتى و لست أنت أيها األبعد من سيحضر الذئب من ذيله ! وإن كنت في كل األحوال ستنال شرف المحاولة !
245
يحضرني هنا موقف متناقض ،فقد كان لي زميل له صديق مقرب ال يفارقه إلى أن اشتعلت نيران الجفاء والشقاق بينهما فافترقا
ذكرت بال فائدة ! ...
ُ ضنا بأن تزول تلك الصداقة المبهجة ولكن كما
و سعى المعارف والزمالء إلرجاع المياه إلى مجراها ّ
دب الشقاق بين صديقين آخرين من المجموعة و انتهت عالقتهما كما انتهت عالقة سابَق ْيهما فإذا زميلنا الذي ومرت األيام و ّ
الرد واضحا ومتوقعا :اذهب أصلحترك صديقه يسعى هو نفسه لإلصالح بين الصديقين المتخاصمين – سبحان هللا ! -وكان ّ
ولكنكما لستما مثلنا فأنتما
عالقتك مع صديقك أوال قبل أن تعظنا وتريد اإلصالح بيننا ! ،ولكنه أجاب إجابة جدلية قائال ّ :
صالحان حافظان لكتاب هللا تعلمان دين هللا أكثر منا وأولى بكما أال تقعا فيما وقعنا فيه !! فأطرق الزميل قليال ثم انصرف بال
جواب !! ........صحيح صدق هللا ( وكان اإلنسان أكثر شيء جدال ) !!..
طع أوصال المحبة كما أن مصائب قوم عند قوم فوائد -مصيبة نهاية صداقة بريئة
وعلى جانب آخر من شط نهر الخصومة وتق ّ
كذلك ! ،وذلك يحدث حين يحاول زميل التقرب من أحد صديقين بأقصى ما في وسعه ،يحاول اختراق قلب أحدهما ولكنه
يفشل ! ،يحب ذلك اإلنسان ويوقره و ينشغل به ولكن اآلخر له صديق قريب محبب ال يدانيه صديق آخر ،يقول بلسان حاله
:مهما حاول َت اختراق قلبي فلن تستطيع إلى ذلك سبيال ؛ ذلك ألن قلبي مشغول ممتلئ بحب صديقي ،يحزن الزميل ولكنه
يرجو الخير لحبيبه المنصرف عنه ويرجو له األخير ،ولكن األيام تدور وتنتهي تلك الصداقة الجميلة وتتحطم على صخرة
الحياة المتقلبة ،ويخلو الجو للزميل ويسهل عليه اختراق قلب حبيبه الذي لم تعد فيه ذرة حب لصديقه القديم !
المتخاصمين و قلبه يرجو خالف ذلك ،ولكن كانت
َ هو ال يتمنى الشر ألحد بل حاول وهو متحامل على قلبه أن يصلح بين
القطيعة النهائية قد ار مقدو ار ،جاءته الفرصة إليه دون أن يسعى إليها فهل يتركها ؟! ،هذا هو حال الدنيا تبخل على أناس
لتجود على آخرين ،وتتعس بش ار لتسعد غيرهم ،لذا هي دنيا !! ....
قبل أن أنهي الحديث عن الوسط المحيط ألفت االنتباه إلى نوع آخر من المحيطين بالصديقين المفترقين ،إنه نوع يؤجج النيران
لينحي هذا الصديق عنليقسيه على صديقه و يوغر صدره ،يهتبل الفرصة ّ
و ويروم ازدياد الفرقة والجفوة فيعمد إلى الصديق ّ
طريقه بالتحقير من شأنه و التسفيه من شخصه وعقله ،و الصديق المخلص يجب أن ينتبه إلى هذا النوع الخبيث من ُزباالت
فيصده ويوقفه عند حده بل يذكر صديقه السابق بكل خير و يسمه
ّ البشر بأال يسمح له أن يتكلم عن صديقه السابق هذا الكالم
بكل مكرمة فهذا يؤجج غيظ المغتاظين الحاسدين و أخطر شيء هنا يجب االنتباه إليه أال تدفعه خصومته مع صديقه إلى
إفشاء أسرار له فليس هذا حفظ العهد وال صيانة الصداقة بل يكتمها في صدره إلى األبد وكأنه ال يعلمها هذا هو اإلخالص وإن
وقعت الشحناء والبغضاء ،هذا حال الصالحين المتقين يعلمون أن الصداقة مسؤولية عظمى وهذا أخطر وقت وأكثره حساسية
للحفاظ على تلك المسؤولية ! ..
السالم النفسي !
ال شك أن تحطم صداقة بعد توطدها و طول عمقها قد يولد االنعكاسات السلبية على فكر اإلنسان و سلوكه فالتجربة المريرة
التي تعصف باإلنسان قد تورثه عقدة نفسية يصعب االنفكاك منها ،وقد ذكرنا ذلك من قبل و أوردنا حال من ينتحلون مذهب
246
انعدام الصداقة وبينا أن ذلك في األغلب نتيجة للتجارب السوداء التي خبروها و مروا بها و ذكرنا كيف يميل جزء من هؤالء
لالنعزال عن البشر بعد فقد الثقة فيهم ومنهم من يلتمس بديال للصديق من الجمادات والحيوانات و منهم كما ذكرنا في فصل
الجفاء من تحيط به الرغبة االنتقامية الشنيعة حيث يتمنى الثأر لنفسه ولكرامته بكل سبيل و برد الصاع صاعين إن لزم األمر و
تتملكه رغبة شديدة في استبداله بصديقه الغابر صديقا جديدا بأقصى سرعة و بأي ثمن ليشبع رغبته الجائعة في امتالك صديق
يسد الفراغ الناشئ عن انقطاع عالقته بصديقه و ليثبت لصديقه الغابر قدرته على العيش بدونه و أنه حصل على من هو خير
منه ،ولكن هيهات فتلك الرغبة االنتقامية التسرعية عاقبتها الخسارة والندم والمزيد من التعثر وخيبة األمل و تحطم القلب !
وهذا فريق يعيش فيما يمكن تسميته االشتعال النفسي ! ..
جثو و انحناء قام ونفض الغبار عن
ولكن على الجانب اآلخر فريق هادئ النفس مطمئن القلب ،انكسر و وهن قلبه ولكنه بعد ّ
الحب من قلبه ذهابا تاما ولكن بقي الحب ،لقد قرر هذا الصديق أن يعيش
ثيابه واسترجع و فوض أمره إلى هللا ،لم يذهب ّ
حب صديقه الهاجر وعلى ذكراه ،و أن يتنسم روح صديقه أينما حل أو ارتحل ! ،إنه لن ينتقم ولن تغمره الكراهية والحقدعلى ّ
ولكنه سيستبدل بالكراهية مزيدا من الحب و بالرغبة في االنتقام مزيدا من العفو والصفح ! ،إنه ال ينظر لصديقه الهاجر بأنه
ظالم جاحد يستحق اللعنات و الطرد من أي رحمة ! بل ينظر إليه بأنه مسكين تائه ضل الصواب و يحتاج لمن يأخذ يده إلى
الطريق القويم ،إنه ينظر إليه نظرة عطف وشفقة فهو يراه محروما من الحب محروما من السعادة ويدعو هللا له أن يعيده إلى
رشده ويلين قلبه ويرجعه إلى صديقه ! صديقه الذي يحبه و يوده ! صديقه الذي يعرف مصلحته أكثر من أي أحد ! صديقه
الذي أيامه معه كانت خير األيام و سعادته في ظله ال تعدلها سعادة أهل الدنيا بدنياهم ! ولكنه مسكين ترك سبيل السعادة وركن
إلى الضغينة و الكراهية والهجر فأصابه الحرمان من تلك النعمة العظيمة نعمة الصديق المخلص الوفي الذي ال يضارعه أحد
من الغثاء من البشر ! إنه حتما سوف يعود إلي ..إنني أحلم برجوعه رجوعا حميدا ..إنه سيأتي يوما يشعر فيه بأهميتي و
ّ
يفتقر فيه إلى خّلتي وحبي ! ستبدي له األيام ما كان يجهل حتما سوف يعود إلى رشده وصوابه حتما ..حتما ...
بت غـ ـ ــيري وتعلم أنني لك ُ
كنت كن ـ ـ ـ از ستذكرني إذا جر َ
الجبز :البخيل هويت فصرتَ ِجب از َ وكنت كما
ُ ود
بذلت لك الصفاء بك ـ ــل ّ
ُ
وكنت ممـ ــن يهون إذا أخوه عل ـ ـ ـ ــيه ّا
عز ُ عززت
َ وهنت إذا
ُ
مدية :سكين حز :قطع ـز
فحززت ح ـ ــبلي بها ومودتي بيديك ح ـ ـ ـ ـ ّا َ بمدية
فرحت ُ
َ
فلم تترك إلى صلح م ـ ـ ــجا از وال فيه لمط ـ ـ ــلبه مهـ ـ ـ ـ از
ستنكت نادما في األرض بعـدي وتعلم أن رأيك كان ع ـ ـ ــج از
ُ
أنتظرك يا صديقي الهاجر ويداي ممدودتان مفتوحتان ! ممدودتان إليك راغبة و مفتوحتان إلى السماء داعية ! أنتظرك وكلي
شوق ولهفة أنظرك و كّلي حب ،سوف أعيش في سالمي النفسي محبا لك سواء أرجعت أم لم ترجع !!
247
هذه حال صعبة مسكين صاحبها ،حال اللين واالنكسار من ِقَبل صديق تقابله حال التصّلب والقسوة من الصديق اآلخر ! ،
يصر الصديق المسكين على ترك صديقه فحين يزداد الخطب اشتدادا بين الصديقين و تصبح استم اررية الصداقة محاال ّ
وصديقه مثله حازم في األمر مستمسك بك ولكن .....بعد أن تمر األيام على القطع و تتوالى الليالي بعد الهجر يصيب األلم
النفسي قلب صاحبنا ! يشعر بفداحة األمر والثمن الغالي الذي دفعه من أجل راحة مزعومة لم لتبث أن تحولت إلى نار
248
العبثية !
السكر و َ
ُّ
رجت كيانه بقوة فدفعته بتلقائية تامة للبديل ،ولكن ما
هذا حال من أحوال من فقدوا الصديق بال أمل و ال رجاء ،تجربة مزلزلة ّ
الحب ؟! إنه حال التخبط و العبث ! حال استبداله بالصداقةالبديل اآلن بعد أن ذاق أحلى معاني األخوة و أصفى مشاعر ّ
كثرة المعارف والزمالء ،ضاعت منه الصداقة فأراد أن يشبع جوعه ونهمه بالغثاء من البشر الذين ال قيمة لهم ،وكلما زادت
حرقته من ذكريات الماضي الصداقي ازداد رغبة في جمع الزمالء و المعارف الذين هم هباء في هباء ! حاله كمثل من أراد
أن يروي عطشه فأخذ يشرب ماء البحر وكلما ازداد عطشه من ملوحة الماء شرب أكثر وأكثر إلى أن يسقط مغشيا عليه في
متوجا بالنسبة إلى صديقه ،اكتسب
النهاية ! ،إنه حال من أحوال العقل الباطن شديد التعقيد ،إنه حين كان صديقا كان ملكا ّ
علو شأنه من تلك العالقة السامية التي لم تكن تحوي سوى اثنين ! فلما فقد قيمته بفقد الصداقة راح يبحث لنفسه عن
قيمته و ّ
فعد أنه كلما ازدادت معاريفه عال شأنه و قويت
مورد آخر الستعادة مكانته وقيمته ،فخال القيمة والمكانة في الشهرة بين الناس ّ
عز أعظم وشرف عز جاهه ! فلزمه أن يعرف ألفا من غثاء البشر ليحقق هذا الهدف الوهمي في حين أنه كان في ّ شوكته و ّ
أرفع بمعرفته إنسانا واحدا من قبل لو ُوضع في كفة ميزان أمام األلف الذين يعرفهم اآلن لرجح و طاشوا ! ،إنه – ال بد –
مستيقظ على الحقيقة التي يتغافل عنها ،إنه صار وحيدا وإن كان في الظاهر حوله كثير من الناس ولكنهم أشباح سرعان ما
الجد فيجد نفسه وحيدا في هذا العالم المتسع يزيده اتساع الكون وحدة و يزيده غثاء البشر ألما و جرحا و
يختفون في وقت ّ
تقض مضجعه ! فيصير محاطا بأعدائه المتربصين ليفتكوا به من كل جانب ال يستطيع هربا تغشاه كوابيس الماضي فتخنقه و ّ
وال انسالال !
بالهين و عدم هونه أكسبه خصائص و صفات ،أقول نعم قد تعود ! .........ولكن عود الصداقة بعد تحطمها وانهيارها ليس ّ
فأوالً لن تعود الصداقة المحطمة إلى سابق عهدها قبل أن تلتئم الجراح ! وجراح النفس أطول و أوقع من جراح البدن ! وكما أن
جراح البدن تحتاج األيام والشهور والسنين اللتئامها وزوال آثرها جراح النفس التي تتركها جفوة الصديق و هجره تحتاج زمنا
أطول ،لن ينهدم بناء في يوم ثم يعود في ليلة شامخا كما كان ! ،إنه الزمن الطويل الذي يمحو األسى و يجلو الحزن و
يذهب الغيظ ،زمن طويل تتغير معه األحوال ،تتغير الشخصيات ،تتغير مالمح األماكن يولد أناس ويموت آخرون ،يعمل
عاطل و يعطل عامل ،يغتني فقير ويفتقر غني ،أحوال متبدلة مع دوران عقارب الساعة العجيبة التي كلما تحركت تحرك
معها الكون و تغيرت معالمه ،سبحان الملك ! ( كل يوم هو في شأن ) ،مع تغير األحوال ينسى اإلنسان و تلتئم جراحه و
اختالف النهار والليل ُينسي ! ،حينما ينسى اإلنسان آالمه التي سببها له شخص يصير ذاك اإلنسان عاديا فإنه لم يعد
مصدر ألم كما كان من قبل ،حينها يسهل التقارب مرة أخرى بال حساسيات و ال ممانعات .............
ولكن كيف يحدث التقارب بعد طول تباعد ؟! ....إنها رغبة تأتي ألحد الطرفين المتباعدين ،رغبة في ساعة صفاء و هدوء ،
رغبة تحوم حوله أثناءها روح مالكية صافية تدفعه و تسوقه إلى تجديد أيام الماضي الجميل ،تحدوه إلى التاريخ ،تجذبه نحو
الذكريات ،وتتساءل لماذا ال تعود أيام الماضي الصافية كما كانت ؟! لقد تغير كل شيء ،ولم يعد هناك مانع من العود
249
فيطرق الطرف اآلخر و يفكر
الحميد ،حينها يجرؤ الطرف المتنبه المستيقظ ويمد يده بالسالم والصفاء نحو صديقه القديم ُ ،
مليا و قد حامت حوله نفس األرواح المالكية الطاهرة فال يجد مانعا من الرجوع فقد ذابت اآلهات و تاهت المحن و كان
ّ
التناسي مضجعا للماضي الداكن ،فيمد يده ليلبي نداء صديقه القديم و هنا تبدأ بداية جديدة !! .............
قد يكون العود متيس ار لتيسر سبل االتصال ،وقد يكون محاال النقطاع سبل االتصال ،وحينها تكون المصادفة الطيبة سببا في
وصل حبل الماضي الغابر الذي يكون عماده الَقدر ،فكما بدأت الصداقة بوحي الَقدر و انتهت في ظل الَقدر ،تعود مرة أخرى
تحت تيسير الَقدر !
ولكن ....هل تصافح اليدين و تقابل الوجوه و تعانق األصوات يؤذن بعود كامل للعالقة الماضية الفاضلة بكل قوتها و كل
عمقها ؟! ،ال ....هنالك ما يسمى فترة النقوه ! ،تلك الفترة التي تعقب الشفاء من المرض ولكن آثا ار له تظل كائنة ،الصداقة
كالجسم يعتل و ينقه ويشفى ! ،في فترة النقوه تلك يعيش الطرفان في عالقتهما الجديدة في حالة تردد و ترقب ! ،تردد في
اإلقبال مخافة إحجام الطرف اآلخر و ترقب لود الطرف اآلخر لمبادلته بود مثله ! إن أشباح الماضي ما زالت تحوم في عقل
كل طرف يخشى من تجددها و إطاللها بوجهها القبيح ،يخشى كل طرف اإلقبال على بحر الصداقة بقوة فيغرق ،يغرق في
موج الصدود و الجفاء الذي يخشى وقوعه مرة أخرى من الطرف اآلخر ،إن النار التي اكتوى بها من قبل لم يشف منها في
فيقبل اآلخر ذراعا
يوم وليلة وإنما في دهر فهل تلك مخاطرة مأمونة النتائج ؟! ،يظل الجانبان مترددين إلى أن ُيقبل جانب شب ار ُ
و تزول أشباح الماضي و تعود المياه إلى مج ارها ولكن بصورة جديدة قد تختلف عن صورة الصداقة القديمة ! ............
إن الصورة الجديدة للصداقة المتجددة حديثا هي صورة حكيمة ،تخلو من طيش الماضي ،تستفيد من أخطاء الصداقة القديمة
،تتجنب مواضع إثارة الغضب و الشحناء ،هي حكمة منحتها الخبرات المتراكمة كما أعطتها رزانة العمر ووقار السنين ! ،
هي صداقة تجمع مميزات الصداقة القديمة وتخلو من عيوبها ،تحوي صفاءها و تخلو من كدرها ،قد تكون أقل عمقا
بالمفهوم الصداقي الدقيق ولكنها أكثر استق ار ار و هدوءا ،الهدوء الذي طال انتظاره بعد طول الزوابع و طيش األعاصير و
غليان البراكين ،هدوء يبقى و يستمر ال يخلو من المنغصات ولكنه سرعان ما يعود لهدوئه واطمئنانه سائرين في درب الحياة
إلى أن يلقى كل منهما خالق الحياة !! ............
أعبر عما يدور في خاطري اآلن ! ،إن كلماتي تتذبذب و إن قلمي ليرتعش و إن قلبي لينسحب من بين إنني ال أدري كيف ّ
ضلوعي وأنا أصف هذا الفصل األخير ! ،إنه الفصل األخير من حكاية الصداقة في الحياة الدنيا ! ،إنها آخر صفحات من
كتاب األخوة و آخر شعاعات ضوء شمس النهار التي سيطول غروبها و غرقها في بحر كربات الحياة إلى أن تقوم الساعة !
..إنها النهاية المقدورة التي كتبها هللا على بني البشر منذ أن خلقهم و منذ أن حيوا على سطح هذه األرض ..هذه الحقيقة
تهرب منها ،الحقيقة األليمة التي ذكرها جبريل – عليه السالم – لنبينا محمد – صلى هللا
مفر منها وال إنكار لها و ال ّ
التي ال ّ
250
عليه وسلم ( : -عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه ! ) إنها كلمات صاعقة ،تأتي كالصدمة ،تنبه
فمفرقها النهائي هو الموت ! ،
للحقيقة المتغاَفل عنها ،إن الصداقة في هذه الدنيا ال بد منتهية وإن لم تنته بالهجر والفراق ّ
وإنها وإن لم تنته في وقت غضب وجفوة و قسوة – وهو شيء أليم – سوف تنتهي في وقت صفاء ورّقة وشفقة وانتحاب – وهو
شيء آلم ! ، -إن الفرق بين الحالين حال الفراق بالشقاق و حال الفراق بالموت أن الحال األول مهما كانت ّ
شدته و مهما كان
تعّقده و محالية الرجوع فيه فإنه هنالك شيء من األمل ! أما الثاني فال أمل فيه في الدنيا أبدا ! ..
أيها األصدقاء الغافلون ..يا من اعتدتم الصداقة و صارت شيئا عاديا عندكم قفوا وقفة تدبر وتأمل ..إنكم في نعمة عظيمة لن
تشعروا بها ولن توفوها قدرها إال حينما تفقدونها ..وأنتم ال ّبد فاقدوها ! ،أيها الصديق تمتع بوقتك مع صديقك العزيز ،استمتع
بالنظر إلى وجهه الصبوح ،استشعر نعمة سماع صوته واالئتناس بروحه ،استمسك به وال تنغص عيشك و عيشه بهجره و
مضايقته ،ال تضيع جزءا من عمر صداقتك في النكد والهم..
كفا بالممات فرقةً وت ـ ــنائيا
الدهر ما دمتما معا
َ ِ
فأكرم أخاك
ال تطرح جزءا من رصيد صداقتك في الشقاق والخصام ،إن عمر صداقتك في الدنيا محدود ،وكل ساعة تضيعها في
الخصام تقربك من النهاية و تقلل وقت السعادة وتخسس نصيب الصفاء والبهجة – وهو في الواقع قليل عند العارفين الحصيفين
ولكن الغفلة هي السمة الغالبة ال يوقظ منها إلى الواقعة الفاجعة !
ّ -
إننا إذا أردنا أن نذكر عيبا حقيقيا للصداقة المثالية لم نجد مهما بحثنا إال هذا العيب ! ،عيب ال إصالح له ،ومصيبة ال
مهون له بين المحبين
منجى منها ،وكأس ال بد من ذوقه ،إنه الفراق اإلجباري الذي حكم به رب البشر على البشر ال ّ
الصادقين إال أن يتمنى المحب أن يكون يوم موته قبل يوم موت حبيبه لئال يذوق عذاب فراقه و لئال يكتوي بنار الحرمان منه
الذي هو ال يحتمله إنسان محب أبدا ! ...
جربتُه !-
أجرب هذا األمر – ال ّ
خبرت كثي ار من آالمها ومنغصاتها ولكني لم ّ
ُ ذقت كثي ار من مصائب الصداقة وأهوالها و
إنني ُ
أبدا ...
يصور لي مقدار الفاجعة و ينبه إلى عظم الهول وهذا ما سأستعرضه
ولكني عندي من خبرات السابقين و أدبيات السالفين ما ّ
بمحل قلبي مشفقا على نفسي وعلى كل محب مخلص صادق ! ................... ّ ممسكا
لهيب العيون !
إن ممن اكتوى بلهيب موت الصديق حافظ إبراهيم الذي نظم قصيدة في صديقه ابن عبد السالم يرثيه بذكر مكارمه وشرفه و
صفاته الحميدة ثم يختم قصيدته بهذه الكلمات الحزينة الباكية :
لهف نفسي :خان تلهفها
خان َ صـََر ْت أَشع ـاريهف َنفسي َفَق ّ
َل َ خان نُطقي َوَلم تَ ُخّني ُدم ـ ـوعي َ
غير بدع :ليس جديدا الدموِع الجـَواري ِ مت ِرث ـ ـ ـ ـائي ير ِبد ٍع ِإذا َن َ
صديقي م َن ُ في َ ظ ُ َغ ُ
ِ
الضواري :اإلبل الرواسي :الجبال الحزِن ما َي ُه ُّد َ
الض ـ ـواري َو ِم َن ُ الرواس ـ ـ ـي ك َالحزِن ما َي ُد ُّ
َفم َن ُ
251
إن حافظ إبراهيم على رغم قوة شعره و سعة َمَلكته َع َجز لسانه أن يصف هول هذه الفاجعة المزلزلة ألركانه ،لقد ُش ّل اللسان و
جف الحلق ،ولم يستطع صوته المجهش أن يصف الفاجعة ،ولكن عينيه لم تخنه ! فاضت العينان بالدموع المنهمرة وهي ّ
المتأوه ،ذلك القلب الذي تشتت
ّ تشتكي وتترجم حال الصديق المفجوع ،سيول من العبرات التلقائية تعبر عما في القلب الحزين
و أصابه التيه والذهول من شدة الكارثة ،مات الصديق ...يالها من نكبة يعجز اإلنسان عن وصفها و توفيتها حقها ولكن
فجرته صاعقة من السماء ! ، تنكف و ال تنضب وكأنها نبع ماء منفجر ّ
ّ يكفي للوصف أنهار من الدموع تمأل مآقي العينين ال
معبر عن المصيبة وقد كانت خير شاهد على الصديق المفقود ،لقد كانت العين هي معبر ولم ال تكون عين الصديق خير ّ
الود من الصديق إلى قلب صديقه ،لقد كانت أكثر عضو نهل من نبع الصداقة وأكثر ِعضة تل ّذذت بلقاءالحب و سبيل ّ
الصديق فال جرم أن تكون خير نائحة إذا عجزت األعضاء األخرى عن النوح ! .....إنه حزن ّ
يدك الجبال و يزلزل الممالك و
حاولت استجماع قواي و إسكان نفسي
ُ يقصم ظهر اإلبل و يحطم أقسى الصخور ،وال أملك سوى دمعي تعبي ار وإفصاحا ،لقد
والتظاهر بالقوة والتماسك ولكن صورته ال تغيب عن عقلي ولو غابت لحظات أذهب إلى صوره التي أحفظها عندي ألراها و
ليتجدد دمعي مرة أخرى ،يواسيني الناس بذكره و مديحه أمامي فيعصرون عيني لتجود بالدموع مرة أخرى بال توقف وال
نضوب ! ،كيف أملك دمع عيني وأنا ال أملك خطام قلبي ؟!! ...............
أما ابن رشيق القيرواني فكان له شأن مع عيونه ودموعه بعد فناء صديقه و رفيقه فقال منتحبا :
عيف وال الواني بالض ِ وَق ْد َن َز ُحوا الَ َّ تك ْن َب ْع َد ِإ ْخ َوان ـي
دمع َع ْيني ال ُ
أيا َ
انبماء ال فـ َؤ ِادي ِبن ـ ـ ـ ـير ِ
جُفوني ٍ
ُ أَِب ْن ُح ْس َن َع ْهدي ِإن عهدي تُِبينـه
العاني :الحبيس في الصدر الع ـ ـ ـ ِاني كع ْذ ِرك واض ـ ـ ٌح ِ
طليق والفؤ ُاد هو َ ٌ فأَنت عذر فؤادي ال ُو ُ
ِ ٍ
لخَّوانلواف وِق ْد َماً كم َو ْفي ـ ـ ـ ـت َ امـعيوحاشاك من أَن ال تفي يا َمَد َ
ط ِإ ْنس ـ ــَاني َبصرت في الناس غيرهم فما أ َْنت يا ِإنسانها َق ُّ ِ عين ِإن أ
َ َ ويا ُ
َع َوان ـ ـي ِِ ِ
وقد َعد َم ْت مّني ُع ُيوني وأ ْ الناس َب ْع َدهم
تبصر َ ُ بال عيني وما ُ
سأصرخ بأعلى صوتي منتحبا سأسمع الدنيا جميعا صراخي وستكون عيني هي شفيعي وشاهدي أمام هللا وأمام البشر ،سأُعلم
المهمة
ّ نت أحبه ..كم كان صديقا عزي از ونعم الصديق ! ..فال تتوان يا دمع عيني في القيام بتلك
الدنيا كلها بماء عيوني كم ك ُ
غال جدا ال يعوضه سكب مياه أنهار الدنيا دموعا من أجله ! ،أنت الظاهر أمام الناس أنت انعكاس نيرانغال ٍ ..
فإن المفقود ٍ
252
قدر !
لوم اَل َ
يهد
الصديق عقله ! ُ يخرج اإلنسان عن شعوره يشتت جماع النفس ّ ،
َ أعز الناس ُيفقد
إن وقع الصدمة و بأس المصيبة بفقد ّ
أركان الجسد ،يزلزل جدران القلب ،تفور الدماء في قلب المسكين كالبركان الكامن يرجو له نقطة ضعف حتى ينفجر و
فياض
تنبجس حممه ولظاه ! عن هذا المشهد العسير أتحدث و أمّثل له بحال ناصيف اليازجي الذي فقد صديقه العزيز ابن ّ
فأفقده معه شعوره و ّلبه فأنشد يقول :
تمع ِ
العتـ ـ ـ ـابا ِ ن ِ
ليس َي ْس ُ َزماناً َ حيث ال نرجو الج ـ ــَوابا عات ُب ُ ُ
ِ
اضطـ ـ ـ َرابا إلى َمو ٍج يزيـ ُد بها لم ُه شكوى َغريـ ـ ـ ـ ٍق ظَ
ونشكو ُ
فيه اعوجاجاً و ِان ـ ـ ـقالبا نرى ِ كل يـ ـ ـ ـ ـ ـو ٍمليس نبرُح َّ
ََ مان َ َز ٌ
الع ـ ـقابا ويقتنـص الغر ِ ِ يز إلى َذلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍل ِ
اب به ُ ُ َُ ُ قاد به العز ُ ُي ُ
الشب ِع ِ ِ الفلو ِ يموت َّ
ال َب َشم :التخمة الكـ ـ ـالبا وتُبش ُم َك ْث َرةُ َّ َ ات جـ ـوعاً الل ْي ُث في َ ُ
له َذهـ ـ ـ ـ ـابا
يد ُ ويبَقى َمن ُنر ُ َ اء
له َبقـ ـ ـ ـ ـ ً يد ُ
هب من ُنر ُ وي ْذ ُ
حملها ذنب مصيبته في لقد أخذت منه المصيبة كل مأخذ حتى ما وجد متهما يتهمه وال الئما يلومه سوى األقدار ،األقدار التي ّ
المتدين المتعبد عقله وتقواه فيقول
ّ لحظة يأس وعجز وهي لحظة تأتي كثي ار منا أحيانا ،يفقد فيها الحكيم حكمته و يفقد فيها
بلسانه حاال ومقاال :
َنسب مصابي و فاجعتي ؟ ليست مصيبتي من صنع البشر و ليس ثأري من إنسان ظالم ٍ
معتد ،وإنما ثأري مع ((إلى من أ ِ
الزمن ! مع األقدار التي تأتينا بما ال نشتهي ! ذلك القدر الذي ال يستمع الشكوى وال يقبل التماسا و ال يرحم باكيا كسي ار ! ،إنه
قهر الزمان الذي تنقلب فيه األوضاع و تختل معه الموازين إنه القدر الذي سلب مني حبيبي في حين أنه أبقى األوغاد و
الهمج من الناس ،إنها األحوال األليمة واألوضاع الفظيعة التي ال يحتملها اإلنسان وكذا قلبي يتساءل لماذا تفعل األقدار بنا
ذلك ؟ لماذا تحزننا ولماذا تشقينا ؟؟ ال جواب !!))
وفي نفس تلك اللحظات الداكنة عانى ابن المعتز واشتكى إلى األقدار م اررة خطفه صديقه منه واحدا بعد اآلخر قائال :
عاشرتُ ُه َده اًر َوال ِمن َشفـ ـيق
َ صديق ِ
يت لي من َ هر ما أَبَق َ
يا َد ُ
صفي ـ ـ ـ ـ ِق ِ ٍ أك ُل أَصحابي َوتَفـ ـ ـ ـني ِه ُم
ثُ َّم َتلقاني ب َوجه َ تَ ُ
والطغرائي كان له نصيبه من هذا الموقف المزلزل فأنشد في صديقه المتوّفى منتحبا قائال :
الك ـ ـ ـ ـلوم
آثار ُ
علي ُ لبان َّ
َ كلم َن جس ـ ـماً
الهموم ْ
َ ولو َّ
أن
الن ـجو ِم تكامل واستوى بين ُّ لما قد ِ
البدر َّ لفقد أ ٍخ كفـ ـ ـ ـ ـ ِ
ِِ ِ
َ
ٍ
فصار بنا ِإلى ُوّد ك ـ ـ ـ ـري ِم تصاحب َنا على ح ٍب عف ـ ـ ـ ٍ
يف ُّ َْ
الجسـو ِم ِ
جنايات القلوب على ُ ُ ولكن
يك شكلُه شكـ ـلي ْ ولم ُ
فيه من خص ـومي فصار الدهر ِ يت به من الدنيا نصــِيباً ِ
ُ َرض ُ
253
المعتز في تلك اللحظات السوداء التي يضعف فيها القلب والعقل معا كان عندهم الدهر من
ّ الطغرائي و ناصيف و ابن
خصومهم على اختالف أزمنتهم وعلى اختالف أديانهم ،كلهم وقعوا في بئر الضعف اإلنساني حين يعجز القلب والجسد عن
االحتمال والتجّلد!
إنها لحظات قنوط من رحمة هللا تغشى الكافر كثي ار والمؤمن أحيانا حين يضعف و ينهار ويفقد إيمانه في تلك اللحظة فقط ! ،
إنه سرد مني لواق ٍع حادث ومتكرر وليس رضاء بهذا الحال حاشا هلل ! ...ولكن مع ذلك يبدأ المؤمن يتذكر هللا و حكمته في
كل شيء وأنه هو الخالق وهو المالك لكل النفوس هو الذي برأها وهو الذي يتوفاها وقتما شاء ،نفوسنا كلها ملكه يفعل بها ما
يشاء ،هو الملك ال ملك سواه وال رّاد لحكمه و ال معترض لقضائه ،حين يعود العقل و يؤوب الرشد تتطلع العقول والقلوب
سواء على تلك الحقيقة التي غابت في لحظات سيطر فيها الشيطان على عقل اإلنسان وقلبه معا !!
لذا قال بعد ذلك ناصيف اليازجي في لحظة فواق و تعقل :
الصبر حزناً و ِ
انت ـحابا دعيت صبري ب َكيت ِ
فصار َّ ُ َ است ُ عليه و ْ َ ُ
ط َبر اغتـصابا الع ْج ُز فاص َ ِ ط ـ ـ ْوعاً تََوَّلى ومن لم َيصطِب ْر َ
عليه َ َ
ثم مضى في مرثاته منتحبا باكيا يفرغ أنينه في البكاء وهو ليس بحرام وال معيب مادام بال قنوط وال لعن لألقدار !
تحكي :تحاكي وتشابه السـ ـحابا
دامع تحكي َّ ِ ابن في ٍ مضى َّ
عليه َم ٌ ففاضـ ْت
َّاض َ عنا ُ َ
صارت ِح َراباولكن في ال َحشا َ دود َج َر ْت ِمي ـاهاً الخ ِ دامع في ُ َم ُ
فمن ْيدعوهُ منصو اًر أص ـ ـابا حرب َدنياهُ ع ـ ـ ـزي اًز نجا من ِ
له ِق ـ ـ ـ ـبابا ِ ٍ ِ ِ
بأجنحة َرَف ْع َن ُ تُظّللُ ُه المالئ ُك في ثَـ ـ ـ ـ ـ َراهُ
الصح ـ ـاباِ ِ كريم ما عرْفنا ِ
سؤ به ّ وال ُخُلقاً َي ُ فيه َع ـ ـ ـ ـيباً َ ٌ
ِ
عد ُيوِه ُمنا اقت ـ ـراباَ ِ
الب ُ
فكان ُ
َ َفَق ْدناهُ ولم َنْفق ْد ثَنـ ـ ـ ـ ـ ـاهُ
تَُراباً َليتنا ُكَّنا تَُرابـ ـ ـ ـ ـ ـا لوبنا إ ْذ ْأوَدع ـ ـ ـ ـوهُ تقول ُق ُ
ُ
ِ
حين شـ ـابا
الصداق َة َ ينس َّ ولم َ صدو ٌق من صـ ـباهُ صديق لي ٌَ
ِ ِ
الصـ ـحابا كريم ما عرْفنا فـ ـ ـ ـ ِ
وال ُخلُقاً َيسوءُ به ّ يه َعـيباً َ ٌ
الغضابا ولكن كان يسترضي ِ نفس َر ٍ
اض ُّ ِ
َ ْ َ يك َقط ُيغص ُب َ ولم ُ
يعزي الصديق ويكون له سلوى و معينا له في فقد صديقه القريب أن الدنيا كلها دار بالء و شدائد ،ولعل ترك هذه
إن مما ّ
الدنيا يكون مستراحا من عنائها و ظلمها ،مستراح من جور البشر مرتحل إلى عدل الحكم العدل الذي ال يظلم مثقال ذرة ! ،
تبشر بنوله
انتقال من دار المحنة و القسوة إلى دار رحمة الرحمن ،ثم يستعرض الصديق الجريح محامد صديقه و فضائله التي ّ
ابتداء المتنعم بنعيم
ً الجنة بإذن هللا ،خير مستقر و أهنأ مآل ،فلماذا نحزن عليه و لماذا نبكيه وهو المستريح من عناء الدنيا
انتهاء ؟! ...
ً جنة الفردوس – إن شاء هللا –
هذه األفكار العابرة تروح وتجيء ببال الصديق المنكوب فتلطف ألمه و تهون خطبه وتسرح به في عالم اآلخرة بعيدا عن الدنيا
المريرة !
254
المحبة ،كيف لنفسي أن تحتمل فراقه الطويل األبدي ؟! إنني حين كان حيا
ّ ولكنه الفراق الطويل الذي هو شاق على األنفس
ّ
كنت أنظر لقاءه بلهفة وشوق ،كنت أطير فرحا و نشوى بموعد لقائه ،ذلك اللقاء الذي يجدد الحب و الود و يطفئ نار الشوق
،فمن لي بمطفأة للهيب قلبي ؟! فليتني إذن كنت الثرى الذي سيواري أخي حتى أحتضنه و ألتصق به وال أتركه أبدا إلى أن
تقوم الساعة ! ..إنها أماني عسيرة وأحالم طفولية و رجاء عبثي ،إنه رجاء المحبين المخلصين ..وإنه كذلك فراق ال أمل فيه
في دنيانا وال رجاء اللهم إال انتظار وعد هللا للمحبين الصادقين حين يجعلهم على منابر من نور يوم يظلهم في ظله يوم ال ظل
إال ظله ! ....................
مررت
َ ما قيمة الحياة بعدك يا أخي الفقيد ؟! وكيف أهنأ بعيش بعد أن رحلت وأخذت معك كل الهناء ؟! كيف سأمر بواضع
فيها من قبل و أماكن التقيتك فيها يوما من الدهر ؟! لقد صارت من بعدك مواضع موحشة و ذكرى للموت والفناء ..كيف
بالملمات الموجعات ! ،كيف سأشغل
ّ سألقى أقاربك الذين هم من لحمك ودمك ؟! إنهم ذكرى لي ولكنهم حسرة و أسى وتذكير
كنت تلقاني فيه كل أسبوع ؟! ذلك الوقت من حياتي الذي كان لك وحدك دون أحد سواك ..كيف سيمر علي اآلن
وقتك الذي َ
ّ
؟ قد كان يمر علي في الماضي في حضرتك أسرع من ومضة البرق واآلن سيمر علي أثقل من يوم عاصف مطير يوقف حال
ّ
العباد ! ،كل تلك التصورات تؤرقني و تهدمني حتى صرت ال أجد للحياة طعما و ال صورة بعدك ....
يصف تلك الحال ابن رشيق القيرواني مع صديقه الفقيد فيقول :
ِ ِ
َشَق ـ ـ ـاني
ون َّعمني ده اًر به ثم أ ْ
َ اءني سرني َد ْهري به ثُ َّم س ـ ـ َ
وك ْم َّ َ
هم يا ُغ ْرَبتي َبين أَوط ـ ــَاني عبرت غريباً بينهم غير آل ـ ـ ـ ٍ
لغير ُ ف َ َ َْ ُ
هم يا ُخَّلتي بعد خـ ـ ـ ـالَّني ِ ِ
لم ْثل ُ غير واجـ ـ ٍد وع ْد ُت فقي اًر بعدهم َُ
ص ـاني ِ ِ الحال ِّ
ِ
للحال ُنْق َومذ بان َعّني بان َ مني زيادت ـ ـي ظ َه َر ْت في
به َ
إنه السرور الذي يعقبه الكآبة ..واألنس الذي تعقبه الوحشة ،والنقصان بعد التمام ...كان مصدر سعادتي فصار مصدر
تعاستي !
إنها الوح دة اإلجبارية و الغربة الشعورية ،أنا وحيد وإن كنت حولي الكثير من البشر وأنا الغريب وإن كنت في وطني ،وأنا
فأني لي األنس ؟! ولن يغنيني سوى عودة تمّلكه فأنى لي الغنى ؟!
الفقير وإن كنت أملك مال الدنيا ،لن يؤنسني إال عودته ّ
ِ
المعضلة ؟ وما المخرج من هذا الجحيم ؟ إنه الموت ! نعم الموت مثله الذي سيقربني منه و يبعدني عن الحل لتلك
إذن ما ّ
وحشتي ولكن ّأنى لي الموت ؟!
َسقـَاني ِ
ان أ ْ
َسَقاهم َك َفيا ليت من أ ْ المنية والـ ـ ـ َّردى أس
ام ُسُقوا َك َ
كرٌ
َبالهم أَبـ ـ ـ ـالني وما حكم ْت فيهم ُ َّ
فيا ليت من أ ُ يد البلى فشل ْت ُ َ َ
َف َلنْف ِسي كيف تَ ْس ُك ُن جثماني
ٍ
وأ ّ ويح َقلبي كيف يأ ِْوي أل ْ
َض ـلعي ويا َ
255
نفسي ِإيمـ ـاني قتل ِ وصبرني عن ِ صدنيالنفس فيكم َف َّ رمت َق ْت َل َّ
َ
َّ وكم ُ
مالك :خازن جهنم ،رضوان :خازن الجنة في ْغتَ َّم منه َقْل ُبه عند ِرضـ ـ ــَْوان ضي ِإلى عـ ـ ـند مالك وخوفي أَن أَم ِ
َ ْ ْ
وفي قصيدة أخرى يقول ابن رشيق محاكيا نفس الموقف ولكن هذه المرة يتمنى تبدل الحال ،يتمنى موت نفسه ومحيا حبيبه :
العفاء ِ الع ِ لقد ِعْفت عيشي بع َد الع ِف ِ
يش َب ْع َد العفيف َ على َ يف َ ْ َ ُ
قبيح وإِ َّن ِ
حياتي ج ـ ـ ـ ـ ـ ـفاء ٌ وإِ َّن َبَق ِائي من بع ـ ـ ـ ـ ـ ِده
فاء عني ِإ َ َّ
ليك الش ـ ـ ـ ـ ـ ُ وي ْنَق ُل ِّ
ُ قام
لي الس ـ ـ َ ولِم ال نقلت ِإ
ْ ََ ْ َ ّ
رد القـ ـ ـ ـضاء وهيهات لي ـس ُي ُّ َ ضاء
رددت الق ـ َ ُ وكيـف ولِ ْم ال
ِ ِ
اء
يت ولكن بق ـ ـ ـ ـ ـائي َف َن ُ َبق ُ يتفال تَ ْح َس ُبوا أََّنني ق ـد َبق ـ ُ
قاء َّ
نعيمي فهو الش ـ ـ ـ ـ ـ ُ َ
َما
وأ َّ يل
الرح ـ ـ ـ ـ ُفه َو ّ امي ُ وأَما مق
َّ ُ َ َ
فأين اإلباء وأيـن الح ـ ـ ـ ـ ـ ـياء تالومت ِإ ْن عشت من بع ـ ِده ُ
يدب عليها ؟! وأشرب ماء
أين حياء النفس وأين عهد اإلخاء ؟! أأعيش من بعده أتنفس هواء ال يتنفسه ؟! وأسير على أرض ال ّ
ال يالمس شفاهه؟! أين حيائي ..أين حيائي .......إنني أرفض تلك الحياة التي ال يحيى فيها و آبى العيش بدونه أشد اإلباء
! .....
فذاك كذوب في الهوى غير صادق ـحبه
إذا بان محبوب وعاش م ـ ـ ّ
ـت بعد فراقه
أوليس من إحدى العجائب أنني فارقته وحييـ ـ ـ ـ ُ
ولكن على النقيض هناك نظرة متمهلة متحلية بالحكمة نفضت غبار المحنة و تخطت عقبة الصدمة األولى تقول :إنها
لحظات يائسة يظن اإلنسان فيها أن الموت هو المخرج من فراق الحبيب الفقيد ،ولكن ترى هل تلك األمنية ترضي الحبيب
المفقود ؟! إن صديقي الحبيب الغائب ال يتمنى لي الموت أبدا وهو وإن مات فهو يريدني حيا ،يريدني ح ار صامدا ،أحطم
عقبات الحياة من بعده ،أحقق ما لم يستطع تحقيقه ،أفعل ما فاته فعله ،أكمل مسيرته في الحياة ،أنصر القيم والمبادئ ،
أُعلي راية الحق ،أتمم ما تعاهدنا على إتمامه ،هذا هو مراده وهو في قبره ،هو ينتظرني في يوم نقف فيه في ظل الرحمن
كما أخبر رسوله ووعد ،ولكن ذلك الوعد سوف يتحقق حين تقوم القيامة وتبدل األرض غير األرض والسموات ،إذن ليس اآلن
؛ فال داعي الستعجال الموت ! ...أنا على قنطرة الحياة الدنيا و هو على قنطرة حياة البرزخ و ملتقانا األخير ننتظره معا في
ظل الرحمن وإن كنا افترقنا بين العوالم !! ...
اء !! ِ ِ
المعاد الّلَق ـ ـ ـ ُ
لت َنعم في َ
َفُق ُ َماني هل َنلتَـ ـ ـ ـ ـ ـقي
تقول أ َّ
قبر الصديق !
لن تدوم الصدمة طويال حتى تتحتم مواراة الحبيب تحت الثرى ! وياله من واجب عسير ! وياله من موكب أليم ! ،سأذهب
ألنظر لصديقي النظرة األخيرة قبل تكفينه ويالعسرها من نظرة ! ،إنها ليست نظرة كبقية النظرات التي تبادلناها من قبل ،كلها
كانت من طرفين متحابين أما اآلن فهي نظرة من طرف واحد حي واله لحبيب فاضت روحه وبقي جسده ،إنها النظرة األخيرة
256
نظرة الوداع بعدها نحمله فوق أكتافنا إلى منتهاه في تلك الدنيا الغرورة ! تلك الدنيا التي من سننها فراق األحبة على رغم بقاء
المبغض الكريه من البشر ! ،إن ذلك المشهد الرهيب أبشع ما فيه عيون المحيطين ! ،كيف أواجه الناس بوجهي المحمر َ
وعيني المنهكتين و جسدي المحطم ؟! ،إن فراق الحبيب يلزمه فراق الناس فراقا طويال أستعيد فيه عافيتي و أتناسى فيه بعض
مصابي ،إن رؤية البشر وقد خلوا من الحبيب لمرأى كئيب ،ونظراتهم إليك في تعجب و انبهار لجهلهم معنى الحب والصداقة
من جهة و نظراتهم في شماتة و كراهية لنقمتهم للحب والصداقة من جهة أخرى تأكل جسدي أكال و تدمي قلبي دما فوق دم !
أصبر نفسي متحامال وبعدها أهجر الناس ده ار إلى أن
مفر منها ،ال أبد أن أتماسك متظاه ار ،و ّ
ولكنها مواجهة محتومة ال ّ
تجف مدامعي و يلتئم جرح قلبي و تعود الصحة إلى جسدي وإن كنت ال أتصور كيف يحدث ذلك ؟! .............إن صالتي
عليه في جنازته لهي أخشع صالة صليتها في حياتي ،صالة لم أغفل فيها لحظة ولم أهف فيها هفوة ،كل تركيزي كان في
فضون وأنا ِ
حييت دعاء أصدق من ذاك الدعاء في ذلك اليوم العسير ،لقد انتهت الصالة وبدأ الناس ين ّ
ُ الدعاء له ،لم أدع ما
لت أدعو ال أنتبه لنهاية الصالة حتى نبهني ضجيج الناس ودبيبهم ! ،أسرعت لحمله مع الحاملين ،أسير مسي ار وئيدا هو
ماز ُ
أثقل مسير علي في حياتي إلى أن وصلنا إلى المقبرة ،بيته الجديد على هذه األرض ! ،كل من ينتقل في هذه الدنيا ينتقل من
ّ
دار قديمة عليها عالمات الفناء إلى دار جديدة أنيقة عليها عالمات البهاء إال هذا االنتقال من دار جميلة إلى دار دفينة ! من
دار مأهولة إلى دار مهجورة ! ،حين هموا بحمله ودفنه ومواراته لم أستطع أن أنظر بل وقفت مطرقا مشدوها إلى أن انتهوا
استكملت دعائي الملتهب و تضرعي المتقد
ُ وتحاملت ُِ على نفسي ألستطيع الوقوف بين الناس و
ُ فشعرت حينها بنهاية كل شيء
ُ
استكملت أنيني و نشيجي ..........
ُ احتضنت قبره و
ُ انتظرت إلى أن انصرف الناس حتى
ُ و
يقول ابن رشيق في وصف دفنه لصديق عمره :
اء
علي الع ـ ـ ــََز ُ فصار عزي ـ اًز َّ
َ برغمي دَف ْن ُت عـ ـ ـ ـ ـزي اًز علي
ّ
الء
وما َرْب ُعه في فـَُؤادي َخ ـ ـ ـ ـ ُ مررت على َرب ـ ـ ـ ـ ـ ـعه َخالياً ُ
اء ِ ور َي في َق ْبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره سر ِ
فما ل َي في ذا وال َذا رج ـ ـ ـ ـ ـ ُ دفنت ُ ُ
اء
السن ـ ـ ـ ُ الســَنا و َّ وإِ ْن َكان فيه ّ ُطيق أَر َى ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ َبره
ولست أ ُ
الب ـ ـ ـالَ ُء
مني َ فقد َد َار بالق ـلب ِّ ُس ِك ْن َت َد َار الب ـ ـ ـلى كنت أ ْ
لئن َ
اء ِ
ال من ُمْقَلتَ َّي د َم ـ ـ ـ ـ ـ ُ
فقد َس ـ َ دم واح ـ ـ ـ ـ ـٌد فيك ٌجف َ وِإن َّ
اء الر ُّي من َ ِ لك ِّ وال ِ ْزلت بالَقبـ ِر في ج ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
نة ِِ
ظمـْئها وال ـ ـ ـ ُّرو ُ ْ َ
عني في
لن يطول احتضاني لقبره كثي ار حتى أضطر لالنصراف ! االنصراف ؟! ولكن كيف أنصرف عن حبيبي وما انصرف ّ
حياته أبدا ؟! إنه انصراف المجبر المقهور الذي صارت حياته مختلفة عن حياة صديقه ،حياتي تحتاج الطعام والشراب
الكد والعمل أما حياة حبيبي فقد خلت من كل ذاك ،إنها حياة بال عمل ؟ ،انتهى وقت العمل وجاء وقت الحساب
والملبس و ّ
أشق ولكني أثق في أرحم الراحمين الذي ال يظلم عنده أحد ! أثق في عالم
وانتظار البعث والجزاء ،إنه حساب شاق وانتظار ّ
بملماتها أحيانا
اآلخرة أكثر من عالم الدنيا الجائرة ،لقد تفرقنا بين عالمين ،حتى لم تكتف الدنيا بالتفريق بيني وبين صديقي ّ
المهمة وفرق بيننا التفريق األخير ليطول أملي في االجتماع به في حضرة الملك يوم الدين ..سأعود إلى
ّ حتى أكمل الموت
257
متأوها وأنا صامت ،أغلي بال دخان و أفور بال ترغية ! ألكمل لحظات التأمل المدمية بين حسرتي
بيتي مذهوال من الدنيا ّ
وشجني ويظل مشهد قبر صديقي مطبوعا في ذهني ال يفارقه أبدا ليكون شاهدا على صداقتنا وشاهدا على حقيقة الدنيا كذلك
.........
يكمل ابن رشيق المشهد في قصيدة أخرى في صديقه الفقيد :
َش َج ـ ـانيبها لفؤادي نا ُر قلبي وأ ْ مثل الكواكب تَ ْهت ـ ـ ِديهم ُ قبور لُ ْ
ٌ
هاتيك المقاِبر ُسـ ـ ـ َّكاني
َ ان
فسك َُّ هم ِ
ض المقابر فيـ ـ ـ ـ ُ على أََّنني َب ْع ُ
صان
َغ َ
ض َرة أ ْفيا تُْر ُب ما أَنصْف َت ُن ْ َغصانهم َو ْهي َغ َّ
ض ٌة ُ وت في الثَّرى أ َذ ْ
يحاني ِ َخ لي كان ر ِ
كما أَنه قد كان َرْوح ـ ـي َوَر َ وحي وراحـ ـتي ُ وفيهم أ ٌ
ِ
المقدار عـ ـ ـ ـالي َة الشان َّ
معظ َم َة برغمي أ َْوَد ْع ُت الثَّرى منه ُم ْهـ ـ َج ًة
َ
َّ ِ
وس ـْل َوانيص ْبري ُ ووسدتُه ما بين َ َّ ولكني َشَقْق ُت له الثـ ـرى شقيقي ّ
وخالَّنياح َ ف َر َ وبالرغ ِم منه كي ـ ـ َ مضى َقمت وَق ْد َ الرغم ِّ
مني ِإذ أ ُ على َّ
اح بأَ ْكـ ـ ـ ـَف ِ
ان ور ْحت بأَثو ٍ
اب ور َ َمـ ـ ـ ْت
ُ مات ولم أ ُ
مت فيه حين َ
تالء ُ
َ
السالم عليك يا صديقي يا أهل الدار أنت سابقي وأنا الحقك ال محالة ،السالم عليك من قلبي قبل لساني ،السالم عليك في
ترد علي من قبل ؟!! ،لماذا ال تجيب
كنت ّ
ترد علي كما َ
دنياك وبعد موتك وحين تبعث حيا ! ...ولكن مالي أسّلم عليك وال ّ
لت صديقك اآلن؟ ،أال تسمعني ؟ أال تشعر بي ،أال تحس بأني جوارك اآلن ؟ هل أنستك غمرات الموت صداقتنا ؟ هل ما ز ُ
رد علي ! أجبني .....أجبني ........أجبني ولو بكلمة تشفي بها صدري و تريح بها قلبي .....
كنت صديقي األمس ّ ،
كما َ
وهذا المشهد المؤلم قد عبر عنه علي بن أبي طالب في صديقه الفقيد حين وقف على قبره يسلم وال مجيب :
258
َقبر الح ِ
بيب َفلـَم َي ُرَّد َج ـ ـوابي َ َ بور ُم َسّلِماً فت َعلى الُق ِ مالِي َوَق ُ
سيت َبعدي ِخَّل َة األَحـ ـ ـ ِ
باب اََن َ بيب ماَل َك ال تَ ُرُّد َجو َابـ ـ ـناَح ُ أَ
وأَنا رهين ج ـ ِ
ناد ٍل وتُـ ـ ـ ـر ِ
اب يف لِي ِب َجواِبـ ُكم
َ َ َ ُ َ بيب َوَك َالح ُقال َ َ
ِ
بت َعن أَه ـلي َو َعن أَترابي َو ُح ِج ُ اب َمحاسني َفَنسيتُـ ـ ُكم َك َل التُر ُأَ
ِمّني و ِمنكـ ـم ِخَّل َة األَحـ ـ ـ ِ
باب طعـ ــَت يكم ِمّني السالم تََق َّ
َ ُ َ َ َف َعَل ُ ُ
مهما يكن األمر فلن ألهو عنك لن أسلو عنك ،لن يغيب قبرك عن خاطري ليظل شاهدا على الحقيقة التي لن تغيب عن
عيني إلى أن ألحق بك !....
259
أما الشاب فقد أحاط به أقاربه فكانت جنازة تحمل على األكتاف ،وهو جنازة تدب على األرض دبيبا وعند القبر وقف باكياً ،
يسنده بعض أقاربه
دت إلى المنزل وبي من الحزن العظيم ما ال يعلمه إالهللا ،وتقف عنده
سكن قليالً ،وقام يدعو ،ويدعو انصرف الجميع ع ُ
أخذت أتأملها ،الوجه ليس
ُ الكلمات عاجزة عن التعبير وفي اليوم الثاني وبعد صالة العصر ،حضرت جنازة لشاب آخر ،
شعرت أنني أعرفه ،ولكن أين شاهدته ؟ نظرت إلى األب المكلوم ،تقاطر الدمع على خديه ،وانطلق الصوت حزينا
ُ غريب ،
يا شيخ لقد كان باألمس مع صديقه يا شيخ باألمس كان يناول المقص والكفن ،يقلب صديقه ،يمسك بيده ،باألمس كان
يبكي فراق صديق طفولته وشبابه ،
عرضت زوجته عليه
ْ ددت بصوت مرتفع كيف مات ؟
تذكرت بكاءه ونحيبه ر ُ
ُ ثم انخرط في البكاء انقشع الحجاب ،تذكرتُه ،
فوجدته
ْ الطعام ،فلم يسطع تناوله ،قرر أن ينام ،وعند صالة العصر جاءت لتوقظه
....................................................
وهنا سكت األب ومسح دمعاً تحدر على خديه ،رحمه هللا لم يتحمل الصدمة في وفاة صديقه ،وأخذ يردد إنا هلل وإنا إليه
راجعون ...إنا هلل وإنا إليه راجعون ُ
قلت :اصبر واحتسب ،اسأل هللا أن يجمعه مع رفيقه في الجنة ،يوم أن ينادي الجبار عز
قمت بتغسيله ،وتكفينه ،ثم صلينا عليه توجهنا
في ؟ ..اليوم أظلهم في ظلي يوم الظل إال ظلي ُ ،وجل أين المتحابون ِ
ّ
بالجنازة إلى القبر ،وهناك كانت المفاجأة لقد وجدنا القبر المجاور لقبر صديقه فارغاً قلت في نفسي محال :أمنذ األمس لم
وضعت يدي على الجدار الذي يفصل بينهما ،وأنا أردد ،يالها منُ تأت جنازة؟! ،لم يحدث هذا من قبل ،أنزلناه في قبره ،
ووقفت أ دعو لهما اللهم أغفر خرجت من القبر ِ
وجمعت القبور بينهما أمواتا قصة عجيبة ،اجتمعا في الحياة صغا اًر وكبا اًر ،
ُ ُ
لهما وأرحمهما ،اللهم واجمع بينهما في جنات النعيم على سرر متقابلين ،
انطلقت أعزي أقاربهما وقد أصابني الذهول ،وتملكتني الدهشة
ُ جرت ،ثم
ومسحت دمعة ْ
ُ في مقعد صدق عند مليك مقتدر ،
.......
اختطاف األصدقاء !
حينما يمر العمر و تمضي السنون و تنفرط أيام اإلنسان كما تنفرط حبات العقد ّ
يمد هللا عمر من يشاء من عباده ليرى أصدقاءه
يتساقطون واحدا تلو واحد كما تتساقط أوراق الشجرة اليابسة ،حينها يختلط اليأس بالرجاء ،و يتضاعف القلق واالكتئاب ،
وتصير الدنيا غير الدنيا حين تصير سوداء كالحة فال يجد اإلنسان مسليا وال معزيا ،إنه خريف العمر كما أنه خريف
األصدقاء فتصير أيام الم أر ذكريات كما هي أيام األصدقاء ذكريات من الماضي لم يبق منها إال الخبر واألثر ! إنه اختطاف
األصدقاء ....
يخاطب ابن المعتز األيام والسنين يلومها لوم العاجز المسكين وقد فقد أصدقاءه :
عاشرتُ ُه َده اًر َوال ِمن َشفـ ـيق
َ صديق ِ
يت لي من َ هر ما أَبَق َ
يا َد ُ
صف ـ ـ ـ ـ ِ
يق ِ ٍ أك ُل أَصحابي َوتَفنيـ ـ ـ ـ ِه ُم
ثُ َّم َتلقاني ب َوجه َ تَ ُ
260
حين تتوالى الصدمات و تتابع أمواج الدمار والحطام و تتكاثر المراثي حتى تصير عادة وإلفا يقول خليل مطران :
أي جدار يستطيع الصمود أمام هذه األمواج المتتابعة المدمرة ؟ وأي بشر يحتمل كل تلك الرزايا التي يردف بعضها بعضا ،
وأي عين تستطيع أن تجد ماء يكفي لرثاء فقد كل هؤالء األحباب وأي عقل يستطيع معها الصمود بغير تيه وال جنون ؟! ولكنها
الحقيقة التي غفلنا عنها طول سنين العمر ،وانشغلنا عنها بلحظات السعادة مع أصدقائنا ،كان لهونا معهم ُيغفلنا عن نفاستهم
و قيمتهم حتى تنبهنا في النهاية وبئس التنبه ..وبئست الكربة ..وساءت الوحشة !
يقول عبد العزيز الزمزمي محاكيا من قبله في تساقط األصدقاء ولكن مع استيقاظ على الحقيقة وفهم واع للواقع القاسي :
إن بالنوم يقظة الناس أش ـبه أيها الغافل الغبي تـ ـ ـ ـ ـنبه
دار دنياهم لهم دار غـ ـ ـربـة وتأمل فإنما الناس س ـ ـ ـ ـفر
يشتكي دائماً فراق األحـ ـبـة كيف يهنى الفتى بها وهو فيها
للفنى يالكربة أث ـ ـ ـر كربة واحد أثر واحد قد تـ ـ ـداعوا
فحياتي من بعدهم غير عذبـة كل حلو بعد األح ـ ـ ـ ـبة مر
إنه في حالة من االستيقاظ أتى عند الكربة دعاه ألن يوقظ بقية الناس ليعرفوا الحقيقة الغائبة و يعرفوا طعم فقد األصدقاء ،ذلك
الطعم الشديد الم اررة ،العلقم األسود و الغصة األعظم التي ال تضارعها غصة من غصص الصداقة من قبل ............
واجبي نحوك يا صديقي لم ينته ..بل ممتد امتداد عمري ..بل هو اآلن أوجب و أحق ،وكيف أسلو واجبي نحوك ولم تفعل
يت واجبي غير منقوص فكيف أنقص حقك ؟! سأحفظ حقك علي في كنت مكانك لوّف َ
ذاك مدة عمرك المنصرم ؟! ولو أنني ُ
الدنيا واآلخرة ! أما من حقك اآلخر ّي – وهو أجدر حق – أنني سأدخر من مالي جزءا وأتصدق به واهبا ثوابه إليك ،فبذا وردت
السنة النبوية وبينت مشروعيتها ،بل سأجعل لك صدقة جارية مستمرة توضع ثمراتها في ميزان حسناتك ،فكما كان مالي ليس
ّ
يعز علي بعد موتك وأنت إلى ثوابه اليوم أحوج ! ،إن من عجائب األمور أن يموت اإلنسان وال
بالعزيز عليك في حياتك فلن ّ
محب مثلي يواصل فعل الخيرات ويهبها لصديقه الفقيد ِ
ينقطع عمله ؟! وإن أعجب مواصالت األعمال بعد الموت صديق ّ
المنقطع عمله ،سأواصل الدعاء لك في كل صالة أن ينجيك هللا في قبرك وأن ينجيك بعد قيامك وبعثك ،لن أفتر عن دعائي
لك ،سأجعل لي وردا مخصصا لك ،وأنا أعلم علم اليقين أن المالئكة تردد خلفي وتدعو ( ولك مثله ..ولك مثله ) ،سأبتهل
261
الغل من الصدور ويعم المستراح
إلى هللا أن يجمعنا في الجنة كما جمعنا في الدنيا إخوانا على سرر متقابلين يوم ينزع هللا ّ
أحج و أهبهما لك ،لن يثنيني وعثاء السفر و فراق البيت واألهل عن أن أجتهد في إيصال الثواب إليك ،
والحبور ،سأعتمر و ّ
وهذا بعض حقك علي من شئون اآلخرة ...
ّ
أما في الدنيا فسأظل أُحسن إلى أهلك وأقاربك فهم مجسدو ذكراك و لن ّ
أكف عن الثناء عليك أمام الناس ألذكرهم بذكراك
الطيبة وألنبههم إلى قدرك ومقامك الرفيع وموقعك الخالي الذي ال يملؤه غيرك وإن اجتهد المجتهدون ،لن ّ
يمل لساني حسن
ذكرك و جمال سيرتك ما حييتُ ................
يكمل ابن رشيق قصيدته في مرثاة صديقه بهذا المديح العذب يقول :
ناء َّ ِ
وم بما َي ْستَحـ ُّق الثـ ـ ـ ـ ُ
َيُق ُ سأُ ْثِني َعَل ْي َك وما قـ ـ ـ َّل مـا
الكباء :الجري والعدوُ حياء وي ْكبو َلديه ِ
الكـ ـ ـ َباء ثناء ُي َن ُّد به َّ
الن ـ ـ ـ ـ ـ ُّد عنه
ً َ ُ ْ ٌ
اء طت ُه ِّ
السم ـ ـ ُ دت ُه َّ ك قد َح َس ْ وَق ْب ُر ُ اض الريـ ـ ـ ُ ثنائي قد َغَب ْ
َ
تقاء ِ
اور واإللـ ـ ـ ـ ُ وزال التز ُ تصرَم ما بيننا و ْانَقض ـ ـ ـى
َّ
اء ومالك ِمني ِإالَّ ُّ
الد َع ـ ـ ـ ـ ُ
فمالي منك سوى االك ـ ِ
تئاب
َ
اء ِ ِإذا َّ عليك َفمي بالَقريـ ِ ِ
الب َك ُ
تي ُ قل م ْن مقل ـ ـ ـ َّ ض َ ويبكي
وأَعطاك من بي ِ
القريض :القيء طاء
ديه العـ ـ ـ ُ َ َْ َ ْ عني َخ ْير الـ ـجز ِاء يت ِّ َف ِ
جوز َ
أما ناصيف اليازجي فقد قام بواجب الثناء في حق صديقه الفقيد يقول :
الصح ـ ـ ـ ـابا ِ ِ كريم ما عرْفنا ِ
وال ُخُلقاً َيسوء به ّ فيه َعيبـ ـ ـ ـ ـ ـاً َ ٌ
ِ
يس َترضي الغ ـ ـ ـضابا يك َقط ُيغض ُب نف ـ َس َر ٍ ُّ
كان ْ ولكن َ اض ولم ُ
فكان البعد يوِهمنا ِ
اقتـ ـ ـ ـ ـراباَ ِ
َ ُ ُ ُ ُ َفَق ْدناهُ ولم َنْفق ْد ثَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـناهُ
تَُراباً َليـ ـ ـتنا ُكَّنا تـ ـ ـ ـ ــَُرابا لوبنا إ ْذ ْأوَدعـ ـ ـ ـ ـ ـوهُ تقول ُق ُ
ُ
وكنت أنت
َ كنت أسيؤك
وكنت أنت دواء شافيا ! كم ُ
َ كنت جافيا
كنت مقص ار في حقك يا صديقي في دنياك ! ،كم ُ ولكن كم ُ
حاولت إغضابك فيها
ُ تحتملني و تغفر لي تقصيري ،وهللا ما وفيتُك حقك في حياتك ،وندمي قائم أمام عيني على كل لحظة
،ليت الزمان يعود يوما فأتدارك تقصيري في حقك و إغفالي لقدرك ! ليته يعود ..ليته يعود ولكن هيهات ...............
يقول ابن رشيق في هذا الموقف المتمني المتندم :
لكنه َي َّ
ترضـ ـ ـ ـ ـ ـاني ُغضبه َّ
وأ ُ َجفوهُ وكان ُيحب ـ ـني كن ُت أ ُ
وكم ْ
َح َس ُبه في قبره ْلي َس َي ْنس ـ ـ ـاني وأ ْ الصبا
وهيهات أَن أَنساهُ ما هبَّت َّ
ضميري َق ِائماً َي َتلقـ ـ ــَّانيِ بع ْي ِن
َ قبره ف أرَيت ـ ـ ــُه
زرت منه َوك ْم ُ
َ
األردان :األكمام ،الرواح :الرجوع الرواح بأ َْرداني وي ْم ِس ُكِني ِع ْن ـ ـد َّ
ُ َي َك ُاد ِإذا ما جئتُه أَن يضـ ـ ـ ـ َّمني
262
أعد محامدك وهي ال تحصى و ال تجمع ،ولكنه لساني العاجز يجمع ما يستطيع جمعه لعله يكون شفيعا لي ،إن كيف ّ
شعري هو أداتي للوفاء لك ،سأستخدمه ببراعة لتصوير روحك الغائبة وتجسيد نسيمك المفقود .....
يكمل عبد العزيز الزمزمي مرثاته الطويلة لصديقه بهذه األوصاف الجامعة الالمعة :
درك أيها الشاعر المحب ،كم لصديقك من مكارم و محاسن قلما جمعها في هذا الزمان جامع ،ومن لنا بمثل صديقك الذي هلل ّ
لو كان لكل منا صديق مثله المتألت األرض محبة وسالما وعدال ،ولكنه المنون الذي يسلب الدنيا أجمل ما فيها و يكدر فيها
كل صفاء ،فيذهب األصدقاء المخلصون بغير رجعة ويبقى األراذل من الناس الذين يذكرنا سوؤهم و تدنيهم ونذالتهم بقدرك
المأسو عليه !
ّ المفتقد و عبقك
263
ولكن .....كيف أوّفي صديقي حقه وقد عجز لساني عن الوصف ؟! إن ضعف بالغتي و ووهن لغتي ُيعجزني أن آتي بما
كنت شاع ار حاذقا حتى أنقش محامدك بمداد من نور يستضيء به الحجر ويستنير به البشر ! ،ولكن وايليق بك ،ليتني ُ
حجي
ص َدقتي وال ّأديت لك حقك ،وال َ
أسفاه ال كلماتي البليغة تجدي ،وال رثائي الفصيح يغني ،وال دعائي لك يشعرني بأنني ُ
اجتهدت فسيعييني وجدي و ينهكني ألمي و يعصرني حزني فوا أسفاه .....
ُ تبرئ سقمي من فقدك ! ،إنني مهما ُ
فعلت ومهما
وا أسفاه ..........
أخي ار أخي المفقود أقولها وقالتها العرب من قبل في أصدقائها ( :ما عقالك بأنشوطة ! ) ،رباطنا الوثيق لن ينقطع أبدا ،
هد كياني و أرهق أركاني
افتقدتك عيني ! ،وأساي و مبلغ حزني الذي ّ
ْ أخوتي و صداقتي لك لم تنته بعد ،لن تفقدك ذاكرتي إذ
لن يهدأ حتى ألقاك ! ال يستطيع شيء مهما بلغت قوته أن يفرق بيننا حتى الموت ! فالموت ليس أقوى من صداقتنا وإن ْ
كانت
هذه هي نهاية قصتنا عند الناس فقصتنا الحقيقية لم تنته بعد فملتقانا سيتجدد تحت ظل الرحمن في منابر من نور يوم القيامة
ثم على سرر متقابلين في جنة رب العالمين ..فإلى اللقاء في جنة الفردوس بإذن هللا ......
إلى اللقاء .......
إلى اللقاء ............
إلى اللقاء .............
...................................................................................................
........................................................................................................................
264
قائمة المراجع التي استعين بها على شواهد البحث
الصداقة والصديق – أبو حيان التوحيدي 1-
الصداقة من منظور علم النفس –د .أسامة سعد أبو سريع 2-
الحب في هللا وحقوق األخوة – أحمد فريد 3-
الموسوعة الشعرية –المجمع الثقافي 4-
كيف تكسب األصدقاء وتؤثر في الناس – ديل كارينجي 5-
الجامع ألحكام القرآن – القرطبي 6-
في ظالل القرآن – سيد قطب 7-
غرر الخصائص الواضحة -الوطواط 8-
ديواني الشعري الخاص 9-
الداء والدواء – ابن القيم 10-
فتح القدير – الشوكاني 11-
محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء – األصفهاني 12-
الفتاوى – ابن تيمية 13-
إرشاد الساري – القسطالني 14-
العقد الفريد -ابن عبد ربه 15-
الفرج بعد الشدة – القاضي التنوخي 16-
لباب األدباء – أسامة بن منقذ 17-
المستطرف في كل فن مستظرف – األبشيهي 18-
الدرر السنية – موقع إلكتروني – 19
لباب اآلداب – أبو منصور الثعالبي 20-
العمدة -ابن رشيق 21-
العتاب بين األصدقاء -علي بن محمد التميمي 22-
الموشى -الوشاء 23-
بهجة المجالس وأنس المجالس -ابن عبد البر القرطبي – 24
نهاية األرب في فنون األدب -النويري 25-
ربيع األبرار -الزمخشري 26-
الصداقة بين العلماء – محمد بن إبراهيم الحمد 27-
الكبت – سيجموند فرويد 28-
265
الرجال من المريخ والنساء من الزهرة – جون جراي 29-
األحالم – د \ مصطفى محمود – 30
اإلخوان – ابن أبي الدنيا 31-
طوق الحمامة – ابن حزم األندلسي 32-
موسوعة ويكيبديا اإلنجليزية 33-
266
الفه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرس
المقدمة
تعريف الصداقة و مراتب العالقات اإلنسانية
1-الزمالة و المعرفة
2-الصحبة
3-الصداقة
أركان الصداقة
1-الحب المتبادل
عالمة الحب
الفراق يولد االشتياق
الحب من مقاصد الشرع
الحب في الديانات األخرى
الحب ليس بيد البشر
صور من المحبين
نظرية األنا..
من أواصر المحبة
1-البوح بالحب من أواصر المحبة
2-االبتسامة الصادقة من أواصر المحبة
المحب
ّ عبوس
3-الهدية من أواصر المحبة
4-قلة الكلفة من أواصر المحبة
شرط الحب
نظريات في مشكالت الحب
النظرية األولى :ابتعد عمن تحب!
النظرية الثانية :صادق من يحبك ال من تحبه!
النظرية الثالثة :الحب الهون!
النظرية الرابعة :نبذ التعلق بالبشر و عشقهم والتعلق باهلل وحده!
مفهومات مغلوطة عن الحب:
267
1-فهم معنى الحب في هللا:
2-التفريق بين الصداقة والحب في علم النفس
2-المشاركة في الهموم
الكربات كاشفات!
شكوي الشعراء
نصائح الحكماء
صداقة المصلحة
بذل العون وابتداء صداقة!
صبر في الشدة ومتعة في الرخاء!
تفريج الكربات من مقاصد الشرع
صور المشاركة في الهموم وأنواع الدعم
المحنة اللذيذة !!
3-المشاركة واإليثار
صور من اإليثار والمشاركة
موانع اإليثار
سؤال الصديق
4-السر بين األصدقاء
المتخبطون في استيداع أسرارهم!
تعميم حاكته الظروف!
268
7-اإلحساس بالصديق
شيء من اإلحساس!
الوسواس
بين اإلحساس و َ
8-التقارب الفكري بين األصدقاء
التأثير والتأثر
التشاكل وعالم الغيب!
ثمرات التشاكل
كالم عجيب في التشاكل
نظرة مختلفة
نظ ـ ـ ـريات الصداق ـ ـ ــة
1-نظرية انعدام الصداقة
بين علي والشافعي
مقارنة بين األصدقاء واألعداء!!
محاولة تفسير فكرة انعدام الصداقة!
بعض من وصفوا حال الناس البعيدة عن األخوة
عواقب امتناع الصداقة
1-اعتزال الناس
2-التماس بدائل لألصدقاء
وخالصة رأي من رأى انعدام الصداقة
2-نظرية وجود الصديق و البحث عنه
من صور وصفهم ألصدقائهم!
خالصة تلك النظرية
3-نظرية ندرة األصدقاء
الندرة اإلجبارية
الندرة االختيارية
4-نظرية الصديق غير المثالي
صور َم َرضية من الصداقة
1-الصداقة الغثائية
2-الصداقة الموسمية!
3-الصداقة النفعية
269
4-انعدام المباالة!
موانع الصداقة
1-حاجز العمر
صورة واقعية للحاجز العمري
2-حاجز الدين
3-حاجز الجنس
*حواجز وهمية للصداقة!
على شاطئ الصداقة
البحث عن الصديق
ومضات يستضيء بها الباحث عن الصديق
محطات نلتقي أو ال نلتقي فيها باألصدقاء
خالصة التطور العمري للصداقة
طرق الحصول على األصدقاء
1-الزمالء
2-الجيران
3-المسجد
4-الوسطاء
5-األقارب
الصداقة أعظم من القرابة والنسب
ظروف نشأة الصداقة ( لحظات جوهرية ! )
1-لحظة حب!
2-لحظة كرب !
3-لحظة مشاركة
4-لحظة إفصاح!
تحول
5-لحظة ّ
6-لحظة إعجاب
7-لحظة جرأة
تصورات عامة للصديق المستقبلي
عالمات يسترشد بها السالك لطريق الصداقة
دليل العيون ونظرات المودة!
270
الصداقة السريعة و الحسرة الطويلة!
صناعة ِ
الثقل!
اللقاء األول و فلسفته!!
التبين والتحقق عند فقيه الصداقة ابن الرومي!
مسائل متفرقة في الصداقة
1-الصداقة واالكتئاب
2-بين الصديق والزوجة
3-هل القلب يسع صديقين ؟ !
4-الصداقة الجماعية
5-الصداقة بالمراسلة
6-الصداقة ومواقع التواصل االجتماعي
الخالفات بين األصدقاء
سمات الخالفات بين األصدقاء
التفسيرات اإلسالمية لقضية الخالف بين األصدقاء :
1-الذنوب و المعاصي
2-نزغ الشيطان
3-حسد الحاسدين
األسباب النفسية لوقوع المشكالت بين الصديقين:
1-اإلباء عن االعتذار:
برد الفعل والغفلة عن الفعل
2-التمسك ّ
3-انتظار المبادرة من الطرف اآلخر
أسباب طول االنقطاع
مسألة :مراتب االتصال بين الصديقين
4-اختالف األجواء النفسية
5-الخطأ السلبي
6-كبت مشاعر اللوم
الغيرة
َ 7-
بوادر الصفاء و بوادر الخطر!
نموذج للعتاب والتدارك من األدب العربي
ابن الرومي يعاتب صديقه أبا القاسم الشطرنجي
271
أوشك البين!
بداي ـ ـ ــة النهاي ـ ـ ــة
بين الحب والبغض
قضية الجفاء
أحوال من فقد الصديق..
الجفاء والمالل
صرخة أمل!
الود!
قضية تكّلف ّ
مواقف النهايـ ـ ـ ـ ـ ــة:
أهيلوا التراب على هؤالء الصحاب:
1-موقف االستبدال !
مسألة ملتبسة:
2-موقف الخذالن !
3-موقف االستعالء!
4-موقف النكوص واالرتداد!
التدين!
5-موقف ّ
6-موقف الخيانة!
272
بين الحياة والفناء! ..
كان سبب الهناء فصار سبب الشقاء!
قبر الصديق!
قصة واقعية و عبرة حقيقية!
اختطاف األصدقاء!
واجب الصداقة بال صديق!
قائمة المراجع
الفهرس
273