You are on page 1of 270

4

‫مقدمة المؤلف‬

‫عرفت معنى الصداقة بالصورة الحقيقية المثالية في فترة صباي –‬


‫ُ‬ ‫منذ‬
‫صارت قضية الصداقة هي شغلي الشاغل حتى مألت حياتي وغمرت‬
‫قلبي ‪ ،‬ومع مرور الوقت وتوالي الخبرات اإليجابية و السلبية بهذا الشأن‬
‫كان حلمي و مشروع حياتي من أجل تلك القضية أن أضع كتابا جامعا‬
‫يلم أسرار و عجائب هذه العالقة الفريدة بين إنسانين خصوصا أنني لم‬
‫لدي حتى وقع في يدي كتاب (‬ ‫يلبي هذا الطموح ّ‬ ‫أعثر على كتاب ّ‬
‫الصداقة والصديق ) ألبي حيان التوحيدي ‪ ،‬فقر ُأته من البداية إلى‬
‫فألفيته‪ -‬على اعترافي بقيمته األدبية ‪ -‬كتابا غير مرتب وال‬
‫ُ‬ ‫النهاية‬
‫منظم غاية مؤلفه جمع كل ما ورد من أشعار السابقين وأقوال الحكماء‬
‫والفالسفة في مسألة الصداقة ‪ ،‬هكذا بال ترتيب وال تبويب ! ؟ وهو ما‬
‫رجعت إلى كتب األدب العربي‬
‫ُ‬ ‫أحبط مأربي وثبطني تجاه هذا الكتاب ‪ ،‬ثم‬
‫فغرقت في أعماق صفحاتها أقلبها بحثا عن مأربي وحاجتي ‪،‬‬‫ُ‬ ‫األصيل‬
‫فوجدت األبواب المتعلقة بقضية الصداقة وما حولها مبعثرة في كتب‬
‫ُ‬
‫األدباء ال يجمعها جامع وال يربط حباتها خيط عقد واحد لتنتظم في‬
‫الشكل المناسب الفريد !‪ ،‬أما كتب علماء الشرع فلم تكن أفضل حاال من‬

‫‪5‬‬
‫كتب األدباء النجباء بل أظنها بخست حق الصداقة ولم تعطها قدرها‬
‫المأمول ‪ ،‬كل هذا زاد رغبتي اشتعاال في أن أكتب كتابا جامعا يجمع‬
‫شتات ما ورد في كل هذه األعمال السابقة مضيفا إليها خبراتي‬
‫وجدت كثي ار من‬
‫ُ‬ ‫الشخصية في هذا الموضوع وآرائي الخاصة التي‬
‫عرجت على علم النفس أجمع منه ما توصل‬
‫ُ‬ ‫السابقين أيدوني فيها ثم‬
‫إليه النفسيون األفذاذ في هذا الشأن ‪ ،‬كان كل هذا المجهود مضافا إليه‬
‫مذهبي ومنحاي ثمرته هذا البحث الجديد الموضوع الفريد التنظيم‬
‫والترتيب ليفتح بابا جديدا و يناقش قضية مهجورة ويبعث كن از دفينا أهال‬
‫عليه أهل المادة وأهل الدنيا تراب ماديتهم المقيتة حتى صارت الصداقة‬
‫‪ ! .......‬الحقيقية بمعناها الحقيقي شيئا عزي از في هذا الزمان‬

‫كلفني هذا المبحث زمنا طويال من البحث والتنقيب والتفكير والتحليل حتى‬
‫يصل إلى صورته النهائية ولكني لم أبخل عليه بوقتي وفكري لشدة‬
‫اهتمامي واعتزازي بهذا األمر مضافا إليها رغبتي الملحة في نشر المعنى‬
‫‪ .‬الحقيقي للصداقة بين الناس‬

‫‪6‬‬
‫لقد أكثر الشعراء وأطال الحكماء في قضية األخوة والخّلة ولم أشأ أن‬
‫أذكر كل ما ورد في هذه القضية وال كل ما وقعت عليه عيناي في هذا‬
‫الشأن خصوصا األفكار المكررة التي يختلف أصحابها في انتقاء األلفاظ‬
‫ويتفقون في المعنى والمأرب ‪ ،‬وذلك االقتضاب كان خشية مني أن أطيل‬
‫وأسبب الملل للقارئ حتى صار البحث – وأخاله كذلك – مرّك از وإن بدا‬
‫عليه خالف ذلك ! فمسألة الصداقة مسألة ضخمة وواسعة وال يكفي لها‬
‫طرقت كل األبواب‬
‫ُ‬ ‫كتاب واحد إلعطائها حقها الكامل ‪ ،‬وال أدعي أنني‬
‫غت وسعي‬ ‫ولممت كل القضايا المتعلقة بهذا الموضوع ولكنني استفر ُ‬
‫ُ‬
‫وبذلت ما أستطيع من جهد ألوّفي الصداقة حقها الكامل غير منقوص‬
‫ُ‬
‫وأرحب بأي إضافات جديدة وأي تعليقات فريدة قد تزيد البحث إشراقا‬
‫‪ ...‬وجماال‬

‫إن هذا الكتاب بحث أدبي ديني نفسي ‪ ،‬سيجد فيه األديب مأربه ‪ ،‬ويعثر‬
‫وسيحصل منه الفيلسوف غايته ‪ ،‬هو بحث‬
‫ّ‬ ‫فيه المتدين على مطلبه ‪،‬‬
‫وفن ‪ ،‬ولعل هذا من‬
‫متعدد الشعب ألن موضوعهَ َب َح َثه أكثر من علم ّ‬
‫شرف الصداقة وعلو قدرها أن تنافس عليها أهل العلوم لمناقشتها‬
‫فجمعت شتات ما ورد في تيك العلوم ليكون هذا البحث دستو ار‬
‫ُ‬ ‫وبحثها‬

‫‪7‬‬
‫شامال لألصدقاء المحبين يرجعون إليه وقت الحاجة ويكون قاضيهم‬
‫‪ ....‬الذي يحتكمون إليه‬

‫كنت حتما أقصد الذكر‬


‫استخدت لفظة الصديق في بحثي ُ‬
‫ُ‬ ‫إنني كلما‬
‫واأل نثى سواء لئال يتوهم متوهم أنني متحيز إلى جنس دون اآلخر أو‬
‫أنني أقصر المعنى الفريد للصداقة على الذكور دون اإلناث ‪ ،‬ومن حسن‬
‫اء‬
‫حظي أن لفظة الصديق في اللغة تطلق على الذكر وعلى األنثى سو ً‬
‫وهو ما ينجدني في هذا المقام ‪ ،‬ولو لم يكن كذلك فإطالق لفظ الذكر يراد‬
‫منه الذكر واألنثى أسلوب عربي فصيح وجاءت النصوص اإلسالمية وقد‬
‫فلست بدعا إذن في هذا األمر‬
‫ُ‬ ‫‪ ..‬استخدمته بعد ذلك‬

‫إن هذا البحث لهو دعوة صادقة إلى العودة إلى التراث العربي األصيل‬
‫بفصاحته وبالغته بعيدا عما لحق بلغتنا من أشعار عامية مبتذلة وأشعار‬
‫فالتزمت جهدي‬
‫ُ‬ ‫حرة – كذا يزعمون ! – ما أنزل هللا بها من سلطان ‪،‬‬
‫نقل األشعار العربية الفريدة السهلة المأخذ ودرر الحكم من نثر األدباء‬
‫والكتاب والفالسفة غاديا ورائحا على الكتاب والسنة النبوية ولم أجد‬
‫حرجا في نقل بعض فصوص الحكمة من األمم السابقة ليكون بحثي‬

‫‪8‬‬
‫شامال وموضوعيا ال ينفك مستمسكا بلغتنا الفصيحة لغة القرآن ولغة‬
‫‪ ! ..‬سيد األنام ولغة أهل الجنان‬
‫إن هذا البحث شأنه شأن كل بحث يتناول األدب أو تغلب عليه النزعة‬
‫األدبية يحتاج في قراءته إلى تمهل القارئ وترويه ليتحقق التذوق األدبي‬
‫واإلمتاع الروحي المنشود الذي هو غرض أساسي ال ينفك عن اإلشباع‬
‫العقلي بمزيد من المعلومات والخبرات اإلنسانية التي تصقل العقل‬
‫وتوسع مدارك الفكر ‪ ،‬فال مجال لقراءة مثل هذه األعمال األدبية في‬
‫األوقات الضيقة أو لقرائتها من َقبل المتعجلين الذين يلتهمون الكتب‬
‫بغير تدبر وتأمل ‪ ،‬نصيحتي لمن يرجو الفائدة المأمولة من بحثي أن‬
‫يعيش في كل فصل من فصوله ويستشعر وقائعه وخطراته في حالة‬
‫تامين‬
‫‪ ..‬صفاء وهدوء ّ‬

‫أخي ار ‪ ..‬إن كثي ار ممن سوف يقرؤون بحثي ويطلعون على صنعتي‬
‫سوف يتهمونني بالخيالية و ( اليوتوبيا ) الحالمة أو أنني أبغي العيش‬
‫في دنيا غير دنيانا التي ال تستقيم فيها هذه األحالم والتوهمات على‬
‫زعمهم ‪ ،‬ولكنني ال أبالي بكثرة االتهامات مهما كثر منتحلوها ومتزعموها‬
‫بينته بالحجة العقلية المنطقية‬
‫فإنني على يقين من منحاي القويم الذي ُ‬
‫‪9‬‬
‫وعضضته بالشواهد النقلية ألبين إمكانية عيش هذه الفكرة أو على األقل‬
‫ُ‬
‫وجودها على هذه األرض في زمن ما من األزمان ‪ ،‬وإنني على يقين أن‬
‫فئة فاضلة سوف توافقني في آرائي وتشد أزري ‪ ،‬قد تكون فئة أقل من‬
‫سابقتها ولكن الكثرة لم تكن يوما من األيام شاهدا على صحة األفكار‬
‫‪ ! ..‬لكن الحجة القوية ‪ ..‬الحجة فحسب‬

‫‪ ..‬وباهلل التوفيق‬

‫‪10‬‬
‫تعريف الصداقة و مراتب العالقات اإلنسانية‬

‫الصديق ‪........‬‬
‫ما الصديق ؟‪.........‬‬
‫وما أدراك ما هو؟‪........‬‬
‫إنه كلمة فوق الكلم‪ ،‬ومعنى فوق المعاني يعجز المرء العاقل العالم عن وصفه ‪ ،‬فما بالك والمرء البسيط المتواضع يتلعثم لسانه‬
‫وتعجز كلماته عن أن يحيط بهذه الكلمة العجيبة‪ ........‬تلك الكلمة التي أطال الشعراء فيها واختلفوا ‪ ،‬وأطنب الحكماء فيها و‬
‫انقسموا ‪ ،‬سئل عنها الفالسفة فأجابوا ‪ ،‬وسئل عنها الحكماء فأفتوا ‪ ،‬أدلى فيها علماء النفس بدلوهم ‪ ،‬وشارك فيها علماء الشرع‬
‫برأيهم ‪ ،‬أصاب من أصاب وأخطأ من أخطأ ويبقى المعنى الحقيقي س ار مكنونا بين قلبين متحابين ‪ ،‬ولغ از مبهما للعاجزين عن‬
‫معناها المتحيرين في بلوغها ‪ ،‬افتقدها أقوام فظنوها خياال ‪ ،‬وفاز بها أقوام فعدوها سعادة الدنيا ‪ ،‬بحث عنها أقوام فأعياهم‬
‫المسير ‪ ،‬وزهد عنها أقوام و رضوا بوحشتهم ووحدتم فكان بئس المصير ‪ ،‬ووجدها أقوام فسعدوا ووجدها آخرون فشقوا و افتقدها‬
‫آخرون فهاموا ‪ ...‬فما سر تلك الكلمة ؟ وما حقيقتها ؟ وما أصلها ؟ وما اشتقاقها ؟‬
‫ال شك أن الصديق لفظ اشتق من ِ‬
‫الصدق فقد قال بذلك الكثير من أهل اللغة ‪ ،‬فالكذابون ال يكونون أصدقاء ‪..........‬‬
‫قال الراغب ‪ :‬الصداقة صدق االعتقاد في المودة وقال ابن منظور ‪ :‬صدق النصيحة واإلخاء‬
‫وقال ابن هالل العسكري ‪ :‬اتفاق الضمائر على المودة‬
‫وفصل أبوعامر النجدي فقال ‪ :‬الصديق من صدقك عن نفسه ليكون على نور من أمرك ويصدقك أيضا عنك لتكون على‬
‫مثله ألنكما تقتسمان أحوالكما باألخذ والعطاء في السراء والضراء والشدة والرخاء فليس لكما فرحة وال ترحة إال وأنتما‬
‫تحتاجان فيهما إلى الصدق واالنكماش والمساعدة على اجتالب الحظ في طلب المعاش‪.....................‬‬
‫الصدق ألنه يقال رمح َصدق أي‬ ‫ِ‬
‫و قيل لألندلسي مم أخذ لفظ الصديق ؟ قال أخذ من الصدق وهو خالف الكذب ومرة قال ‪َ :‬‬
‫صلب وعلى الوجهين الصديق يصدق إذا قال ويكون َصدقا إذا عمل ‪............‬‬
‫وقال بعض المتفلسفين ‪:‬إن الصديق ( صاد ) صدق و (دال ) دم واحد و (ياء ) يد واحدة و( قاف) قلب واحد !‬
‫والصديق له مرادفات فهو الخليل وقد ورد في القرآن في قوله تعالى ( و اتخذ هللا إبراهيم خليال ) والصديق هو كذلك الخدين‬
‫والخدن وهو الصفيّ والجمع أصفياء فقال ناصح الدين األرجاني ‪:‬‬
‫ام إالّ َمع األصـ ـ ـ ـفياء‬ ‫ِ‬
‫َحرٌ‬ ‫يش‬
‫الع ُ‬
‫ص ّفيي من األخالّء و َ‬
‫يا َ‬
‫السجير و الجمع سجراء ‪ ،‬قال اللواح ‪:‬‬
‫وهو كذلك َّ‬
‫ومما يالقي سجيري أالقـ ـي‬ ‫وإني لراض بحكم القضا‬
‫ديق بصيغة التصغير أخص األصدقاء‪.‬‬ ‫الص ّ‬
‫و ُ‬
‫وقال السيرافي ‪ :‬الصديق يكون واحدا و جمعا ومذك ار ومؤنثا وعقب المرواني فقال ‪ :‬هذا وهللا من شرف الصديق‪....‬‬

‫‪11‬‬
‫ْكلُوا ِمن بيوِت ُكم أَو بي ِ‬
‫وت‬ ‫ولفظ صديق ورد جمعا في المرة الوحيدة التي ذكر فيها في القرآن في قوله تعالى ( َوَال َعَلى أ َْنُف ِس ُك ْم أَ ْن تَأ ُ‬
‫ْ ُُ ْ ْ ُُ‬
‫َخوالِ ُكم أَو بي ِ‬
‫وت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت أ ِ‬ ‫وت أَخو ِات ُكم أَو بي ِ‬
‫وت ِإ ْخو ِان ُكم أَو بي ِ‬
‫ُمه ِات ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َمام ُك ْم أ َْو ُب ُيوت َع َّمات ُك ْم أ َْو ُب ُيوت أ ْ َ ْ ْ ُ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ َ ْ ْ ُُ‬ ‫َ ْ ْ ُُ‬ ‫َآبائ ُك ْم أ َْو ُب ُيوت أ َّ َ ْ ْ ُُ‬
‫ص ِد ِيق ُك ْم ) أي ‪ :‬بيوت أصدقائكم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫خَِ‬
‫االت ُك ْم أ َْو َما َمَل ْكتُ ْم َمَفات َح ُه أ َْو َ‬ ‫َ‬
‫والعرب أحيانا يطلقون على الصديق ابن ّ‬
‫العم ‪ ،‬انظر لقول الشاعر ‪:‬‬
‫خبيئته يوما لساءك غائ ـ ـ ــبه‬ ‫ورب ابن عم تدعيه و لو ترى‬
‫وإن كان ش ار فابن عمك صاحبه‬ ‫فإن يك خي ار فالبعيد ينال ـ ــه‬
‫هذا في وسط اللغويين و األدباء من الزمن الجميل ‪ ،‬أما علماء النفس المحدثين فمنهم إنجلش عرف الصداقة فقال ‪ :‬الصداقة‬
‫عالقة بين شخصين أو أكثر تتسم بالجاذبية المتبادلة المصحوبة بمشاعر وجدانية تخلو من الشهوة‪.‬‬
‫ومن كل ما سبق يمكن أن نستخلص تعريفا جامعا فنقول ‪ :‬الصداقة صدق متبادل في الحب واإلخاء بين شخصين له لوازمه‬
‫و أركانه ‪.‬‬

‫إن ما قدمناه إنما هو تعريف وجيز كل اإليجاز في تعريف الصداقة و تفصيله سيأتي في صفحات بحثنا ‪،‬‬
‫ولما كنت الصداقة عالقة إنسانية اجتماعية وجب التفريق بينها وبين عالقات أخرى ظنها كثير من الواهمين صداقة واعتبرها‬
‫كثير من المخدوعين خّلة – وما أكثر الواهمين و المخدوعين! ‪ ،-‬فوجب التفصيل والتفريق وعلى كل منا أن يصنف عالقاته‬
‫مع من حوله في صنف من األصناف التالية الذكر بال تعصب أو تحيز‪............‬‬
‫ال بد للمرء أن يعلم أن الناس ثالثة أصناف في تعاملهم معه ‪:‬‬
‫‪ -1‬معارف و زمالء >>>>>> ‪ -2‬أصحاب أو قرناء >>>>>>>‪ -3‬أصدقاء أو خدناء‬
‫وعلينا أن نعلم جيدا أن وجود األصناف الثالثة في حياتنا شيء ضروري الستمرار الحياة ‪ ،‬ولكن العيب كل العيب أن تقتصر‬
‫على النوع األول والثاني ونهمل أهمها وهو الثالث ‪.‬‬
‫وال بد أن نعلم أن لكل نوع خصائصه تميزه عن اآلخر‪ ،‬والمشكلة أن كثي ار من البائسين التعساء قد خلطوا بين كل منها فاختلت‬
‫موازين األخوة عندهم فصار النحاس والذهب لديهم سواء !!‬
‫ولعل أبا حامد الغزالي كان مقتضبا حين قسم الناس أصدقاء و معاريف ومجاهيل ‪ ،‬فال شك أن هناك حلقة بين األصدقاء و‬
‫المعاريف وهم األصحاب ‪ ،‬ولعل علماء النفس كانوا مفصلين منصفين حين قسموا الناس إلى صديق مقرب و صديق اجتماعي‬
‫و مشارك في النشاط و معارف ‪ ،‬فهو يؤدي نفس معنى تقسيمنا المذكور آنفا ‪.‬‬

‫‪ -1‬الزمالة و المعرفة ‪:‬‬


‫وهي أدنى مراحل التعامل مع الناس‪ ،‬وهي أول مرحلة في بدء العالقة وهي تقتصر على عالقة اضط اررية حكم بها العمل أو‬
‫العلم أو النشاط االجتماعي أو المسكن‪ -‬فالجار هو زميل المسكن – أو أي ظرف أدى إلى اجتماع اثنين أو أكثر بال سابق‬
‫فهي عالقة جمعتها المصلحة‬ ‫اختيار أو إرادة‪...........‬‬
‫ابتداء ً‪..‬‬
‫‪12‬‬
‫وأصل الزميل في اللغة الرديف على البعير فمن يركب معك بعيرك فهو زميلك والزميل كذلك الرفيق في السفر‬
‫والزمالة أو المعرفة وإن كانت أدنى مراتب العالقات اإلنسانية – ضرورة من ضروريات الحياة ال تكتمل الحياة بدونها ‪ ،‬قال هللا‬
‫تعالى ( وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ) وفي ذلك يقول معروف الرصافي ‪:‬‬
‫فيحدث بينهم طرق انتفاع‬ ‫يعيش الناس في حال اجتماع‬
‫على األيام بينهم الدواعـي‬ ‫وتكثر للدواعي والتف ـ ــادي‬
‫لما كانوا سوى همج رع ــاع‬ ‫ولو ساروا على طرق انفراد‬
‫السياع ‪ :‬الطين الذي تلصق به حجارة البناء ( األسمنت)‬ ‫تسيع بالسي ـ ـ ــاع‬
‫بأحجار ّ‬ ‫رأيت الناس كالبنيان يسمو‬
‫ويمنع جانبيه من التداعـ ــي‬ ‫فيمسك بعضه بعضا فيقوى‬
‫كذاك الناس من عجم وعرب جميعا ب ـ ـين مرعـ ــي وراع‬
‫ّ‬
‫قد اشتبكت مصالحهم فكل لكل في مـ ـجال العيش ساع‬
‫لعاشوا عيش عادية السـ ـباع‬ ‫ولوال سعي بعضهم لبعض‬
‫فالزمالة و التعارف من خصائص اإلنسانية واالقتصار عليها نقص وعيب وقد تتطورالزمالة إلى ما هو أعلى منها ‪ ،‬أال هو‬
‫الصحبة‬
‫ونجد في هذه المرحلة خاصية مميزة وهي أن العالقة سواء أكانت مقابالت أو اتصاالت مقصورة على فترة الدراسة أو العمل فإذا‬
‫زال العمل أو الدراسة بعطلة أو ترك للعمل أو االنتقال إلى مرحلة دراسية أخرى تفتر العالقة بل تنقطع ‪ ،‬وهنا تتمايز الصفوف‬
‫فالصديق يستمر ويدوم مهما اختلفت األحوال ‪ ،‬أما من دون ذلك فهو رهين مرحلة ينقطع بانقطاع المرحلة ‪ ،‬فالصداقة ال‬
‫تنتهي بانتهاء المراحل‪.‬‬
‫وال داعي لمزيد كالم على الفرق بين الزميل والصديق فهو بائن لكل ذي عينين وإن كان أخطأ بعض في التمييز بين‬
‫شكوى الزميل َغضاض ٌة‬ ‫شكواي ُبحت بها إليك وليس في‬ ‫خصائصهما مثل معروف الرصافي حين قال ‪:‬‬
‫لزميله‬
‫ما به لطبيـ ـ ـبه وخليل ـ ـ ـه‬ ‫إن المريض ليستريح إذا اشت ـ ـكى‬
‫حيث أخطأ خطأ فادحا على رغم علمه الفرق بين زميله و خليله إذ إنه بث له شكواه وشبهه في سماع الشكوى بالخليل وشتان‬
‫بين هذا وذاك فال شك أن الصديق يباح له بالشكوى والسر وهو ما ال يستقيم في حق الزميل الذي هو أقل ارتباطا بزميله وأقل‬
‫ونقصا ‪..‬‬
‫ً‬ ‫حبا ووفاء فقد يكشف سره وقد يستثقل شكواه فتصير شكواه مذلة‬

‫‪ -2‬الصحبة ‪:‬‬
‫الصاحب أو القرين وهو المرحلة التالية بعد الزمالة ؛ فالقرين كان زميال يوما ما ثم تحول إلى صاحب أو قرين ‪ ،‬وهو المالزم‬
‫لصاحبه الكثير االقتران به ‪،‬‬
‫وهنا ملحوظة أن الصحبة ال يشترط لها سابق زمالة فقد تكون لسبب آخر غير الزمالة مثل التعارف عن طريق وسيط آخر‬
‫ولكن هذا نادر فقلما وجدت صحبة بغير سابق زمالة‪....‬‬

‫‪13‬‬
‫وفي هذه المرحلة تحدث عدة تطورات ينبغي أال نخلط بينها وبين ما يحدث في الصداقة ‪:‬‬
‫‪ -‬كثرة المقابالت واالتصاالت والحوارات‬
‫‪ -‬وجود قدر من التجاذب بين الطرفين‬
‫‪ -‬عدم اقتصار العالقة على المصلحة االضط اررية‬
‫‪ -‬الدراية األكبر عن أحوالك وظروفك ومعيشتك‬
‫‪ -‬التوافق في بعض األمور‬

‫ومن هنا علمنا أن هذه األشياء ليست مؤش ار يدل على الصداقة وإنما مقدمات بين يدي الصداقة الحقيقية ؛ فليس كل من خرج‬
‫معك وشاركك فسحك وتنزهاتك بل ضحك معك ومازحك وكثرت مقابلته لك يكون صفيا لك تبث له أدق أسرارك وتشكو له‬
‫ويظن من ليس‬
‫ويكن لك حبا يمأل األرض ‪ ،‬وهنا تزل األقدام وتكثر التوهمات ُ‬
‫ألطف همومك ‪ ،‬يقيل عثرتك و يحمل همومك ّ‬
‫بصديق صديقا فالصداقة ميثاق غليظ و عقد رفيع من تعاقد عليه و وقع على شروطه كان أهال له ومن لم يوف شروطه فسمه‬
‫صاحبا أو سمه زميال أو سمه أي شيء آخر وال تدنس الصداقة بمن ليس من أهلها‪................‬‬

‫‪ -3‬الصداقة ‪:‬‬
‫وهي المنزلة الرفيعة والدرجة السامية التي ضل عنها جل الناس وعساهم أن يكونوا ُجال وإال فهم كلهم وإلى هللا المشتكى‪.‬‬
‫والصديق أو الخدين هو آخر المحطات بعد معارك طاحنة من أهوال الحياة‪ ،‬يجدها المرء بين الناس في النهاية وهي منزلة‬
‫أسمى وأشرف لمعاني اإلنسانية من مجرد الصحبة الخالية من معاني القرب والعمق الوجداني‪.‬‬
‫ولكنها عقد وثيق وبناء له أركان من بناه مستكمال أركانه فهي الصداقة ومن نسي ركنا أو بناه فهدمه بطيشه وحماقته فليس من‬
‫حب وإيثار ‪ ،‬وبوح باألسرار ‪ ،‬مشاركة في الهموم وتقارب أفكار ‪ ،‬عتاب و تزاور‬
‫الصداقة في شيء فأركانها بكل إيجاز (( ٌ‬
‫وإحساس بمن تختار! ))‬
‫وهذا هو موضوع بحثنا وغاية أملنا ‪................‬‬

‫‪14‬‬
‫أركان الصداقة‬
‫‪ -1‬الحب المتبادل‬
‫‪ -2‬المشاركة في الهموم‬
‫‪ – 3‬المشاركة و اإليثار‬
‫‪ -4‬البوح باألسرار‬
‫‪ -5‬تقارب الفكر‬
‫‪ -6‬العتاب‬
‫‪ -7‬التزاور‬
‫‪ -8‬اإلحساس‬

‫‪15‬‬
‫‪-1‬الحب المتبادل‬

‫الحب ‪.....................‬‬
‫كلمة ال يعرفها إال من جربها ‪ ،‬وال يجهلها إال من حرم منها ‪ ،‬فمتى يجربه المحرومون ويحافظ عليه المجربون ؟!‬
‫الحب بين الصديقين هو الركن األعظم لصداقتهما الذي متى افتقداه ضاعت صداقتهما بال رجعة ‪،‬‬
‫الحب هو الشيء الذي بدونه حياتنا ال طعم لها وال لون ‪ .........‬إن كنت ال تصدق فلتقع في الحب وأخبرني عن طعم الحياة‬
‫بعده ثم افقد هذا الحب وأخبرني عن مقدار الكآبة التي ستعيش فيها والفراغ الوجداني الذي لن يمأله إال حب مثل الحب الذي‬
‫ضاع ‪.................‬‬
‫بالحب تشعر أن لك هدفا ساميا في الحياة يدفعك للعمل يكون وقودا محركا لقوتك وطاقتك ‪ ،‬بالحب تصبر على آالم الحياة‬
‫ومآسيها مادمت لك حبيب عندما ستلقاه ستلقي كل همومك خلف ظهرك فهو بلسمك الشافي عند البأس و منفرجك عند الضيق‪،‬‬
‫ما أعظمه من شرف حرم منه التعساء ونسي منه حظه الجهالء ‪ ...........‬ولكنه يحتاج إلى قيد عسير‪ ,‬فنحن قلنا الحب‬
‫المتبادل فليس كافيا أن يكون الحب من طرف واحد فحسب ‪ ،‬ال بد أن يكون متبادال بين الطرفين و بنفس المقدار حتى تكون‬
‫صداقة حقيقية‪ ،‬وبغير ذلك يختل الميزان وتسقط الصداقة بعد مشاكل جمة شديدة اآلثار على القلب ‪ ،‬وسوف نتحدث عن كل‬
‫ذلك فيما بعد ‪..............‬‬

‫عالمة الحب ‪:‬‬

‫◄أنت محب ‪ ،‬تقول إن لك حبيبا فما أمارة ذلك ؟‪.....‬‬


‫إنه الحزن لفراقه والشوق للقائه ‪ ،‬فما أصعب الفراق على أنفس المحبين على رغم أنه ضرورة من ضروريات الحياة ‪ ،‬إال أنه‬
‫عالمة الحب الذي هو ركن الصداقة األول ‪....................‬‬
‫قيل للشبلي ‪ :‬من الصاحب ؟ قال من إن غاب تشوقت له األحباب وإن حضر تلقحت به األبواب وقيل له فمن النديم قال من‬
‫إن نأى ذكرك عند الكاس وإن دنا ملك االستئناس !‬
‫وصديقك الحبيب لقاؤه بهجة وسرور ال عيب فيه سوى أنه يتكدر بفراقه !! وانظر لذلك الشاعر الذي يصف عيشه بعد فراق‬
‫صديقه‬
‫لدي إذا غبت بالراضية‬ ‫لعمرك ما عيشة رغـ ـدة‬

‫‪16‬‬
‫في ظلمة الليل الداجية‬ ‫وإني إلى وجهك المستنير‬
‫الحمام ‪ :‬الموت‬ ‫مدنف ‪ :‬مريض ‪،‬‬ ‫لقاء ِ‬
‫الحمام إلى العافيــة‬ ‫ألشوق من مدنف خائف‬
‫فهو يشتاق إلى صديقه أكثر من شوق العليل إلى برئه من علته فصديقه بلسمه الشافي ودواؤه الناجع المريح لقلبه‬
‫أليقنت أني في ودادك مخلص‬ ‫وبي برح شوق لو بثثتك كنهه‬
‫ال تأس ‪ :‬ال تيأس‬ ‫إلى برد أيام بقربك يخلص‬ ‫وال تأس من روح اجتماع يضمنا‬

‫والصديق الينسى صديقه تلك حقيقة ‪ ،‬فالغياب عن العين يعوضه الحضور في القلب ‪ ،‬وعند الفراق تنهمر الدموع دموع األسى‬
‫والحزن‬
‫وأهل ودي جميعا غير أشتـ ـ ـ ـ ـات‬ ‫قد كنت أبكي على ما فات من سلفي‬
‫النوى ‪ :‬الفراق‬ ‫نوى بكيت على أهل الم ـ ـ ـ ـودات‬
‫ً‬ ‫فاليوم إذا فرقت بيني وبينـ ـ ـ ـ ــهم‬
‫وجوى عليك تضيق عنه األضلع‬ ‫وقال آخر ‪ :‬شوقا إليك تفيض منه األدمع‬
‫وأبو الصوفي له قصيدة طويلة يصف فيها فراقه لصديقه وحبيبه وأثر ذلك على قلبه فبعد أن قال في مطلعها ‪:‬‬
‫الصبا ‪ :‬نوع واسم من أسماء الرياح‬ ‫الص ـبا‬
‫ف تهاداه َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫فكأنه َس َع ٌ‬ ‫صـ ـبا‬
‫قلب لتَ ْذكار األحبَّة َق ْد َ‬
‫ٌ‬
‫أرج ‪ :‬نبات طيب الرائحة‬ ‫صده ريح الص ـدود تَ ُّ‬
‫نكبا‬ ‫وتَ ُّ‬ ‫اصل نفحةٌ‬‫تُْدنيه من أرج التو ِ‬
‫َ‬
‫جوى ‪ :‬داء وغصة في الحلق‬ ‫تلهف متقلبا‬ ‫وبين جوى وبين ٍ‬ ‫هدى وبين ن ـ ـوى‬ ‫فيظل بين ً‬
‫فبعد التحير الذي أصابه من تبدل أحواله مع صديقه من صدود بعد طول تواصل لم تجد عيناه إال الدموع لتطفئ لهيب الشوق‬
‫لهـ ـ ــُّبا‬ ‫صَلى بنير ِ‬
‫ان الفراق َت ّ‬ ‫تَ ْ‬ ‫وم ْه َجت ــِي‬
‫لج ْريان الدموع ُ‬ ‫َع َجباً َ‬
‫نضب ـ ـا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫لتنض َح والدموعُ لتَ ُ‬
‫َهذي َ‬ ‫بالح ـ ـ ـ ـ ـشا‬
‫كلتاهما نار تَوق ُد َ‬
‫الدمع من نار الفـ ـ ـراقِ تصبَّبا‬ ‫لنار الشو ِق ي ِ‬ ‫فاعجب ِ‬
‫و ُ‬ ‫ذكيها البكا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫فبعد أن ظن الدموع دواء لدائه الذي ألم به من فراق حبيبه إذا الدموع تذكي أي‪ :‬تشعل نار الشوق في قلبه فكانت مزيدا من‬
‫اللهيب بدال من تطفئها‪..................‬‬
‫فياله من شوق ويا لها من حيرة ‪...........................‬‬
‫◄ولكن افتراق األبدان ال يعني افتراق األرواح فإن غاب صديقي عني فإنه لم يغب عن قلبي‬
‫كتب ابن السراج إلى ابن الحارث الرازي ‪ :‬كتبت إليك من محل قد ابتهج بودك وانزعج بصدك يناديك أال إن القلب قد تألم‬
‫لمفارقتك فمتى يلم الشعث بمشاهدتك ؟؟‬
‫فأجابه ‪:‬كال ‪،‬وإن امتزج فرح االتصال بترح االنفصال فما ضر مباعدة األشباح مع مساعدة األرواح ‪...........‬‬
‫أراك بالغيب وإن لم ترني‬ ‫إني و إن لم ترني كأنني‬ ‫وكما قال رؤبة بن العجاج‬
‫فصورته ال تغيب عن خياله فهي مطبوعة في قلبه الصقة في ذهنه ‪ ،‬وهل ينسى اإلنسان نفسه ويسهو عن ذاته ؟؟ نعم ربما‬
‫يحدث ذلك ولكن الصديق المحب ال يسهو عن حبيبه وإن سها عن نفسه !!‬

‫‪17‬‬
‫لما غبت عن فكري وعن ناظر القلب‬ ‫لئن غبت عن عيني بالبعد والنوى‬ ‫قال علي بن هارون‬
‫كما تبصر العينان من ــي على القرب‬ ‫أراك على بعد المسافة والن ـ ــوى‬
‫ومنهم من شوقه لحبيبه يذكره بمحاسنه ومآثره في سره وعالنيته فيزداد شوقه كما كتب أبو الحوراء إلى صديقه‪ :‬هللا يعلم أنك ما‬
‫وضنا بك واغتباطا بإخائك ‪......‬‬
‫ّ‬ ‫خطرت ببالي في وقت من األوقات إال مّثل الذكر منك إلى محاسن تزيدني صبابة إليك‬
‫ّ‬

‫وقد استغرق بعض األصدقاء المحبين في هذا الشوق حتى أصابهم ذهول الحيرة والتردد بين حقيقة الغياب الحسي وحقيقة‬
‫الحضور القلبي‬
‫وأسأل عنهم من لقيت وهم معي‬ ‫ومن عجبي أني أحن إلـ ـيهم‬
‫ويشتاقهم قلبي وهم بين أضل ـعي‬ ‫وتطلبهم عيني وهم في سوادها‬
‫إذ أنت فيه مكان السر لم ِ‬
‫تغب‬ ‫غبت فقلبي ال يصدقنـ ــني‬
‫قلت َ‬
‫إن ُ‬ ‫وقال متيم آخر ‪:‬‬
‫الطرف ‪:‬‬ ‫غبت قال الطرف ذا كذب فقد تحيرت بين الصدق والكذب‬ ‫قلت ما َ‬
‫وإن ُ‬
‫العين‬

‫◄بل إن هذا الشوق الذي غمر ّ‬


‫اللب والقلب ينعكس على اللسان لسان الصديق المحب فتراه دائم التحدث عن صديقه في غيابه‬
‫فهو يتكلم عنه مع أهله وجيرانه ومعارفه حتى يعرفه كل هؤالء وهم لم يروه ‪ ،‬فيوقن الجميع بمكانة ذلك الصديق في قلب صديقه‬
‫بل يتشوقون لمعرفته من كثرة ذكره على لسان صديقه وانظر لقول الشاعر عبد هللا بن المعتز‬
‫وانظر لقول اآلخر ‪:‬‬ ‫لنلتقي بالذكر إن لم نلتق‬ ‫إنا على البعاد والتفــرق‬
‫فلم تغب المودة واإلخـ ـ ـ ـاء‬ ‫فإن يك عن لقائك غاب وجهي‬
‫بظهر الغيب يتبعه الدعـ ـ ـاء‬ ‫ولم يغب الثناء علي ـ ـ ـ ــك مني‬
‫على الحاالت يحدوها الوفـ ـ ـاء‬ ‫وما زالت تتوق إليك نفس ـ ـ ـي‬
‫فهو ال يذكره ذك ار عاديا فحسب بل إنه يثني عليه ويعدد محاسنه ‪ ،‬بل في أثناء عبادته وعالقته بربه ال ينسى أن يذكره فهو‬
‫يدعو له كما يدعو لنفسه ‪ ،‬فحتى وقت العبادة لم ينسه‪....‬‬
‫وانظر لذلك الصديق يخاطب صديقه‪:‬‬
‫يا أخي إذا ذكرتني ادع لي وإذا ذكرتك أدعو لك فإذا لم نلتق فكأنما قد التقينا فذاك أروع اللقاء‪................‬‬

‫الفراق يولد االشتياق‬


‫◄ال شك أن الفراق عسير على أنفس المحبين الصادقين ‪ ،‬ولكنه نعمة على الصداقة فبدونه يجتمع الصديقان دائما ودوام‬
‫االجتماع يورث المالل ومتى حلت آفة الملل على الصداقة أبادتها وأفنت زهرتها ‪ ،‬وقد فطن لذلك األصدقاء األذكياء فتعمدوا‬
‫الوجد فيزداد الحب‪............‬‬
‫َ‬ ‫التفرق اضط ار ار حتى يبقى الود والشوق فيشعل الشو ُق‬
‫جده‬
‫تكن كثوب تست ـ ّ‬ ‫أقلل زيارتك الصديق‬
‫أال يزال يراك عن ـ ــده‬ ‫إن الصديق يغـ ــمه‬

‫‪18‬‬
‫غبا تزدد حبا – أي زر يوما واترك يوما – إلى أن سمعتها من‬
‫قال أبو هريرة رضي هللا عنه ‪ :‬لقد دارت كلمة العرب ‪ :‬زر ّ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومنه اقتبس الشاعر فقال ‪:‬‬
‫تقلى ‪ :‬تبغض‬ ‫غبا‬
‫وإن شئت أن تزداد حبا فزر ّ‬ ‫إن شئت أن تُقلى فزر متوات ار‬

‫◄ هذا وإن هنالك نفوسا مريضة ليست كطبائع البشر الطيبين الذين يزدادون حبا ألصدقائهم بالفراق ‪ ،‬فالفراق عندهم ال يولد‬
‫االشتياق وإنما يولد النسيان واإلهمال فصديقه صديق اللحظة ‪ ،‬إن غاب عن عينه غاب عن قلبه وكأن عينه هي أداة الحب‬
‫حين يحدث الغياب يحدث النسيان فعينه ال ذاكرة لديها ‪ ،‬هو إنسان واقعي من وجهة نظره !! ‪ ..‬يقول لماذا أتعلق بمن أفارقه‬
‫سنين طويلة؟! فالحاضر أبقى عندي من الغائب !!‪ ،‬وهذا الصنف ال وفاء له تتحطم الصداقة عند االرتباط بمثله ‪ ،‬لذلك قال‬
‫ذلك الصديق المفارق لصديقه ‪:‬‬
‫طول البعاد وال ضرب من الملل‬ ‫أغيب عنكم بود ال يغ ـ ـ ـيره‬
‫وأكد على ذلك أحد الشعراء في فراق صديقه حتى ال تنأى به الظنون فقد استدرك صديقه لئال يظن أنه من ذلك الصنف‬
‫خالصتي ‪:‬‬ ‫ومحض ودي وعهدي كالذي كانا‬ ‫بعدت عنكم بداري دون خالصتي‬ ‫فقال ابن المنجم ‪:‬‬
‫مودتي‬
‫إال هموما أعاينها و أح ازنـ ـ ــا‬ ‫تبدلت مذ فارقت قرب ـ ــكم‬
‫ُ‬ ‫وما‬
‫وليس أحبابه لل ـ ـ ــدار جيرانا‬ ‫وهل يسر بسكنى داره أحـ ـ ــد‬
‫أني وإن كنت ال ألقاه ألقاه‬ ‫وكما قال اآلخر ‪ :‬أبلغ أخانا تولى هللا صحبته‬
‫وإن تباعد عن سكناي سكناه‬ ‫وأن طرفي موص ـول برؤيته‬
‫وكيف أذكره إذ لست أنساه‬
‫لست أذكره‬
‫يا ليت يعلم أني ُ‬
‫فكال الشاعرين تدارك صاحبه من الشك الذي وقع في قلب واحد آخر فأراد توضيح المفهومات لصديقه فيقول ‪:‬‬
‫مخسسا لنصيـ ــبي‬ ‫ال تجعلن بعد داري‬
‫إلى الفؤاد قري ــب‬ ‫فرب شخص بعيد‬
‫إليك غير حبيــب‬ ‫ورب شخص قريب‬
‫ما كان بين القلوب‬ ‫ما البعد والقرب إال‬
‫حقا وهللا ما البعد والقرب إال ما كان بين القلوب وماذا يفعل اللقاء ألنفس متنافرة فرق هللا بين قلوبها فال ينفعها جمع بل يزيدها‬
‫نفو ار وملال ‪ ،‬وإن كانت نفس واحدة تمّلكها الحب واالشتياق تجاه نفس باردة ال تحس بالمشتاق إليها كان الصدام الحتمي‬
‫والحطام األكيد للصداقة على صخرة المالل والجفاء ‪.....................‬‬
‫وفي نهاية الحديث عن الشوق أختم بكالم أبي منصور الثعالبي عن الشوق والحنين إلى الصديق ‪:‬‬
‫صبر‪،‬‬
‫ضري‪ ،‬شوقي إليك ال ُيعدى عليه ٌ‬ ‫ونديم فكري‪ ،‬شوقي إليك زادي في َسفري‪ ،‬وعتادي في َح َ‬ ‫◄الشوق إليك َسهير ذكري‪َ ،‬‬
‫يكاد يكون لِزاماً‪ ،‬وحنين ُي ُّ‬
‫عد َغراماً‪ ،‬الشوق إليك أمامي وورائي‪ ،‬وحشو ثوبي وردائي‪ ،‬شو ٌق ال يفيق‬ ‫صدر‪ ،‬شو ٌق ُ‬
‫ٌ‬ ‫وال َيستقل به‬
‫وج َنح جوانحي‪ ،‬شو ٌق براني َبري‬
‫يم‪ ،‬وحنين ال ينام وال ينيم‪ ،‬شو ٌق َج َرح جوارحي‪َ ،‬‬ ‫ق‬
‫مقيمه‪ ،‬شو مقيم ال َير ُ‬
‫ُ‬ ‫سقيمه‪ ،‬وال يرحل‬

‫‪19‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصبابة ملء ُجفوني‪ ،‬شوقي‬ ‫وماء‬
‫ضلوعي‪ُ ،‬‬ ‫نار الشوق َحشو ُ‬
‫ويقض المهاد‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫حق الهالل َشو ٌق يفض الفؤ َاد‪،‬‬
‫الخالل‪ ،‬ومحقني َم َ‬
‫الغ ِ‬
‫وث‪ ،‬عندي شو ٌق لو قسم على أهل األرض لما كان فيهم إال متيم ولم ير فيهم‬ ‫الغيث‪ ،‬والملهوف إلى َ‬‫ِ‬ ‫إليك شوق َّ‬
‫الرْوض إلى‬
‫إال مغرم شوق يهك الحياء ويمري من العين الماء ‪..................‬‬
‫ٍ‬ ‫حال ذاوي َن ْب ٍت أمسك َم َ‬ ‫ِ‬ ‫حال ُغ ٍ‬
‫ط ُرهُ‪ ،‬وساري ليل غاب ُ‬
‫قمره‪ ،‬قد‬ ‫صن ذوى بعد ارتوائه‪ ،‬ونج ٍم هوى عند اعتالئه‪ ،‬ما ُ‬ ‫حالي َب ْع َد َك ُ‬
‫ِ‬
‫الوجد‪،‬‬ ‫وم َع قليل البعد‪ ،‬كثرة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تحملت مع يسير الفرقة عظيم الحرَقة‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫عدك قد‬
‫عدك أقاسي ُب َ‬ ‫اشتياقك‪ ،‬وغادرني َب َ‬ ‫تركني ف ارُقك‪ ،‬قتيل‬
‫استصح ْب َت من نفسي فريقاً‪ ،‬وال سرت ِميالً حتى‬
‫َ‬ ‫تصح ْب َت فريقاً من قلبي ما فارقتك بعيداً‪ ،‬حتى‬
‫اس َ‬ ‫جميع صبري‪ ،‬و ْ‬ ‫َ‬ ‫فارقتني ففرقت‬
‫األجل‪ ،‬لخرجت روحي على‬ ‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫هاد‪ ،‬لوال حصان ُة‬ ‫وجمعت بين عيني و ُّ‬ ‫قت بين جنبي والمها ِد‪،‬‬
‫َ‬ ‫سرت بقلبي جميعاً‪ ،‬فارقتَني ففر َ‬
‫ِ‬
‫بوداعك‬ ‫ودعت‬ ‫ادع َك العافية‪ ،‬والعيشة الراضية‪،‬‬ ‫عجل ودعتني فأودعتني شوقاً يجور حكمه‪ ،‬وقلقاً ينف ُذ سهمه‪ ،‬قد ودعت بو ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُُْ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َّ‬
‫كنت أستمتع بها‪ ،‬وحياتي التي كنت أنتفع بعوائد ِّ‬
‫الن َعم فيها‬ ‫نياي التي ُ‬
‫ِ‬
‫دعت يوم وداع َك ُد َ‬
‫الس َعة‪َ ،‬و ُ‬ ‫الدعة‪ ،‬وفارقت بفرِاق َك َّ‬
‫الرْو َح و ّ‬ ‫ّ‬
‫‪......‬‬
‫أعان هللا على‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ّللا لاللتقاء فما أر َّق‬
‫ّللا أن ينتقم من أيام الوداع‪َ ،‬برّد أيام االستمتاع باالجتماع‪َ ،‬‬ ‫يم ُه‪ ،‬أسأل ّ‬ ‫نسيمه‪َ ،‬وألذ َنع َ‬
‫َ‬ ‫أعادنا ّ‬
‫َ‬
‫حرس َّ‬
‫مودتك‪،‬‬ ‫وي ُ‬‫وّللا يطيل مدتك‪َ ،‬‬ ‫ّللاُ شمل ُسروري ِب َك‪َ ،‬‬
‫وع ُم َر عمري بالنظر إليك‪ّ ،‬‬ ‫جمع َّ‬
‫الغيبة‪َ ،‬‬ ‫تعجيل األ َْوبة‪ ،‬وتخفيف أيام َ‬
‫جعل ّللا باقي عيشي معك‪ ،‬وأهَلني للنظر إلى ِ‬
‫ألالء ُغ ّرِت َك‪...............‬‬ ‫ََ َ َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ذكرت الشو َق فهيجت ما‬ ‫ِ‬ ‫شكوت َّ‬
‫األطيار‬ ‫يد‬
‫يهيجه تغر ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صدري‪،‬‬ ‫صفه من صحيفة َ‬ ‫أت َو َ‬‫الش ْو َق فكأنما ًعّبرت عن َقلبي‪ ،‬وقر ُ‬ ‫ُ‬
‫وجع ٍ‬ ‫الديار‪ ،‬أما شكوى الشوق فقد شكوت إلى ٍ‬
‫صفك‬
‫باك‪ ،‬أما َو ُ‬ ‫وتوجعت إلى ُمتَ ِّ‬
‫شاك‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫باألسحار‪ ،‬والوقوف َب ْع َد األحباب على‬
‫طرياً‪ ،‬وورداً جنياً‪ِ ،‬‬
‫أحمل‬ ‫الشوق فهو عبارة عن أحشائي لو‬
‫إهداء السالم أهدي السالم غضاً َ ّ َ َ‬‫ُ‬ ‫قت‬
‫ص َد ْ‬ ‫نطقت‪ ،‬وتعبير ُرؤياي لو َ‬ ‫ْ‬
‫شائق ومشوق‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الصبا‪ِ ،‬فنعم السفير بين‬
‫نسيم َّ‬
‫استودعته َ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫ومحبوب‪ ،‬و‬ ‫تردَدت بين ُم ِح ِّب‬ ‫ِ‬
‫الشمال‪ ،‬وطالما َّ‬ ‫أنفاس‬
‫سالمي عليه َ‬
‫‪.‬وسالم ‪ .............‬ا‪.‬هـ‬

‫الحب من مقاصد الشرع ‪:‬‬

‫إن ذلك الحب لهو أحد مقاصد شرع هللا في عالقة المؤمنين مع بعضهم ‪ ،‬ولم ال وقد حكى هللا حال المؤمنين فقال قاص ار ((‬
‫إنما المؤمنون إخوة )) فإذا كان هذا هو حال المؤمنين جميعا فما بالك بمن اصطفيناه من دون الناس جميعا ليكون الصديق‬
‫المقرب والخدن المحبب ‪،‬ال شك سيكون أقرب من األخ واألب والناس جميعا ولنا مع هذا األمر مبحث خاص قريبا‪.......‬‬
‫أال و إن رسول دين المحبة دين اإلسالم ماترك لنا وسيلة تؤدي إلى هذا المقصود العظيم إال دلنا عليها فقال ( أال أدلكم على‬
‫شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السالم بينكم ) وقال كذلك ( تهادوا تحابوا )‬

‫◄وال أدل على ذلك أكثر من أن دين اإلسالم قد فضل الذي يحب أخاه أكثر من حب أخيه له !!وما ذلك إال ليتسارع‬
‫المتحابون ويزدادوا حبا وائتالفا ‪ ،‬قال – صلى هللا عليه وسلم – ‪ ( :‬ما تحاب أخوان في هللا إال كان أفضلهما أشدهما حبا‬
‫لصاحبه ) ‪....‬‬
‫‪20‬‬
‫بل ندب رسولنا الكريم عليه صلوات هللا وسالمه أن يبوح المرء بحبه ألخيه إذا وجده في قلبه ‪ ،‬بل لم يكتف بذلك فجعل جزاء‬
‫هذا البوح أن يقول له أخوه عندما يعلم أنه يحبه ‪ :‬أحبك الذي أحببتني له !! وهل هناك جزاء خير من أن يحب حبيبك هللاُ عز‬
‫وجل ؟! ‪ ،‬قال هللا في الحديث القدسي ‪ ( :‬وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في )‬
‫فنعمت الجائزة أن يحبك هللا جزاء حبك للمؤمنين الصالحين‪..................‬‬
‫◄بل جعل جزاء المتحابين فيه أن يظلهم في ظله يوم ال ظل إال ظله من السبعة المشهورين !! بل يسأل هللا عنهم يوم القيامة‬
‫سؤال تشريف ‪ (:‬أين المتحابون بجاللي اليوم أظلهم في ظلي يوم ال ظل إال ظلي ) بل جعل المتحابين فيه على منابر من نور‬
‫يوم القيامة ‪،‬‬
‫وما أحلى أن يكون رفيقك وحبيبك في الدنيا رفيقك يوم القيامة في ظل الرحمن على منبر من نور بل تكونان في نفس الدرجة‬
‫والمنزلة في الجنة وإن تفاوتت أعمالكما فبحبك لصديقك العابد التقي تشاركه منزلته في الجنة ال لشيء إال حبك المخلص‬
‫الصادق له !!!!!!! لذا يلحق بهم فقال لهم مقولته الشهيرة ‪ :‬المرء مع من أحب ‪...............‬‬

‫◄بل جعل اإلسالم الحب الصادق عالمة من عالمات اإليمان ‪،‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪ (:‬من سره أن يجد حالوة اإليمان‬
‫فليحب المرء ال يحبه إال هلل ) ‪.‬‬
‫بل جعل ذلك أعظم شعب اإليمان ( ود المؤمن للمؤمن في هللا أعظم شعب اإليمان أال ومن أحب في هللا وأبغض في هللا‬
‫وأعطى في هللا ومنع في هللا فهو من أصفياء هللا )‬
‫بل جعل الصالحون حبهم شفاعة لهم عند هللا سبحانه وتعالى فقال ابن سماك عند موته ‪( :‬اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك‬
‫كنت أحب من يطيعك فاجعل ذلك قربة لي إليك !)‬
‫بل األعظم من كل هذا أن يغبطك أسياد البشر يوم القيامة !! يقول رسول هللا‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪« :-‬إن من عباد هللا ألناساً‬
‫ما هم بأنبياء وال شهداء يغبطهم األنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من هللا تعالى» قالوا‪ :‬يا رسول هللا تخبرنا من هم‪ .‬قال‪:‬‬
‫«هم قوم تحابوا بروح هللا بينهم‪ ،‬على غير أرحام بينهم‪ ،‬وال أموال يتعاطونها‪ ،‬وهللا إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور ال يخافون‬
‫إذا خاف الناس‪ ،‬وال يحزنون إذا حزن الناس»‬
‫وليس ذلك بالعجيب فكلما التقى الصديقان الحبيبان انتثرت ذنوبهما وهما ال يشعران فيأتيان يوم القيامة بال ذنوب يقول‪ -‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪« :-‬إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم‪ ،‬فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في‬
‫يوم ريح عاصف وإال غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار» ‪..‬‬
‫فما أعظمه من شرف حرم منه التعساء ونسي حظه منه الجهالء !‬

‫الحب في الديانات األخرى ‪:‬‬

‫إن من العوامل المشتركة في جميع الديانات سواء أكانت سماوية األصل أو وضعية بشرية – نشر المحبة بين أبناء هذا الدين‬
‫فالحب يجعل بناء األمة متماسكا مترابطا فيصعب اختراقه أو شقه ويصير من المحال اجتثاثه أوهدمه ‪ ،‬ولما كان حديثنا عن‬

‫‪21‬‬
‫الصداقة التي هي من أعظم صور المحبة كان لزاما علينا استعراض صور الحض على الحب في الديانات األخرى لنرى‬
‫الصورة المثالية التي تراها األديان في العالقة المجتمعية ‪.‬‬
‫فإذا أخذنا المسيحية مثاال نجد أن العهد الجديد لخص مسألة الحب في كلمة ( هللا محبة ) ليبين مدى طلب السماء النتشار‬
‫ضا َك َما‬
‫ض ُك ْم َب ْع ً‬
‫يكمْ أ ْ ِ‬
‫َن تُحُّبوا َب ْع ُ‬ ‫ُع ِط ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحب بين البشر ونجد في يوحنا مثال على لسان عيسى عليه السالم ( َوصَّي ًة َجد َيدةً أ ََنا أ ْ‬
‫َخ ِوَّيةُ َفالَ َح َ‬
‫اج َة‬ ‫يع أََّن ُك ْم تَالَ ِم ِيذي ) وفي تسالونيكي ( َوأ َّ‬
‫َما اْل َم َحَّبةُ األ َ‬
‫ِ‬
‫ضا ِبه َذا َي ْع ِر ُ‬
‫ف اْل َجم ُ‬ ‫ض ُك ْم َب ْع ً‬
‫ضا َب ْع ُ‬
‫ِ‬
‫َح َب ْبتُ ُك ْم أََنا تُحبُّو َن أ َْنتُ ْم أ َْي ً‬
‫أْ‬
‫ضا ) بل بالغ اإلنجيل في مسألة نشر المحبة حتى‬ ‫َن أَ ْكتُب ِإَلي ُكم ع ْنها ألََّن ُكم أ َْنُفس ُكم متَعّلِمو َن ِمن هللاِ أ ْ ِ‬
‫ض ُك ْم َب ْع ً‬
‫َن ُيح َّب َب ْع ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َُ ُ‬ ‫َ ْ ْ َ َ‬ ‫َل ُك ْم أ ْ‬
‫قال على لسان عيسى ( أحبوا أعداءكم ) ولعله قصد بذلك حب الخير لهم بتبليغهم الدعوة حتى تكتب لهم النجاة من الهالك‬
‫‪.....‬‬
‫وإذا رجعنا لليهودية وجدنا العهد القديم تحدث عن الحب كثي ار ففي سفر األمثال ( البغضة تهيج الخصومات والمحبة تستر كل‬
‫العيوب)وفيه أيضا ( أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة )‬
‫ومحبة داوود ليوناثان قصة مشهورة في العهد القديم غنية عن التعريف وكذا صداقة النبي اليشع والنبي إيليا و صداقة راعوث‬
‫ونعمى ‪...‬‬
‫أما البوذيون فيسمون دينهم دين الحب ويقولون عن الحب إنه الوسيلة المنشودة لتغذية الحرية الروحية !‬
‫وإذا نظرنا للكونفوشيوسية نجد كونفوشيوس نفسه يقول ‪ :‬إن القلب الذي يعمر بالحب ال يخطئ ‪ ،‬وهو شبيه بمقالة أرسطو ‪ :‬إذا‬
‫عم الحب فال حاجة للعدل !‬
‫أما الديانات القديمة فنجدها قدست الحب لدرجة أنها جعلت للحب إلها خاصا فاليونانيون لهم إله الحب أفروديت ‪ ،‬أما اإلغريق‬
‫فإله الحب عندهم كيوبيد أما الرومان فعندهم آلهة الحب والجمال فينوس ‪ ،‬وأما الفراعنة فعندهم قادش آلهة الحب ‪ ،‬أما الهندوس‬
‫فلهم كريشنا وفي هذه الديانات كلها الحب شبه مقصور على الحب بين الرجل والمرأة وهم وإن لم يفردوا للصديق إلها كان‬
‫للحب عموما منزلة خاصة عندهم‪.........‬‬
‫وبهذا نكون قد استعرضنا استعراضا سريعا الحب بين الصديقين في اإلسالم وأتبعناه بذكر الحب في الديانات األخرى ليعلم‬
‫الجميع منزلة ذلك الشعور الفطري الجميل الذي اعتزت به كل األمم في أدبياتها وأنزلته منزلة خاصة ‪..........‬‬
‫فما أعظم الحب من شعور حرم منه التعيسون ونسي حظه منه الجاهلون !!‬

‫الحب ليس بيد البشر ‪:‬‬

‫لماذا تحب فالنا ؟؟ ولماذا اخترته صديقا ؟؟ ولماذا لم تحب فالنا اآلخر األكثر منه صالحا ؟؟ لماذا اخترق حبه قلبك من أول‬
‫يوم رأيته فيه ؟ ولماذا بادلك نفس الشعور ؟ كلها أسئلة ال محل لها من العقل ‪ ،‬الحب ليس بيدي وليس بيديك وإنما بيد خالق‬
‫القلوب ‪ ،‬هذه حقيقة واقعية ليس للبشر فيها حيلة فالقلوب كما قال الصادق المصدوق بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها‬
‫كيف يشاء ‪ ،‬وإن أردت خب ار أكثر وضوحا وأعظم دقة وداللة فاسمع قوله – صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬األرواح جنود مجندة ما‬
‫تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف ) وإن تعجب فلتعجب لصحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كيف اجتمعوا بعد‬

‫‪22‬‬
‫افتراق وكيف ائتلفوا بعد شتات مهاجرين وأوسا وخزرجا عربيا و فارسيا وروميا وحبشيا ‪ ،‬ولكن ال عجب فاهلل تعالى مالك القلوب‬
‫( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في األرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن هللا ألف بينهم)‬
‫قال سيد قطب رحمه هللا ‪( :‬ولقد وقعت المعجزة التي ال يقدر عليها إال هللا والتي ال تصنعها إال هذه العقيدة فاستحالت هذه‬
‫القلوب النافرة‪ ،‬وهذه الطباع الشموس‪ ،‬إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض‪ ،‬المحب بعضها لبعض‪ ،‬المتآلف‬
‫بعضها مع بعض‪ ،‬بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة‪ -‬أو يمهد لحياة الجنة‬
‫ِ‬ ‫وسمتها البارزة‪« :-‬ون َزعنا ما ِفي صد ِ ِ ِ‬
‫ين» ‪.‬‬‫ورِه ْم م ْن غ ٍّل ِإ ْخواناً َعلى ُس ُرٍر ُمتَقاِبل َ‬ ‫ُُ‬ ‫ََ ْ‬
‫إن هذه العقيدة عجيبة فعالً‪ .‬إنها حين تخالط القلوب‪ ،‬تستحيل إلى مزاج من الحب واأللفة ومودات القلوب‪ ،‬التي تلين جاسيها‪،‬‬
‫وترقق حواشيها‪ ،‬وتندي جفافها‪ ،‬وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق‪ .‬فإذا نظرة العين‪ ،‬ولمسة اليد‪ ،‬ونطق الجارحة‪ ،‬وخفقة‬
‫القلب‪ ،‬ترانيم من التعارف والتعاطف‪ ،‬والوالء والتناصر‪ ،‬والسماحة والهوادة‪ ،‬ال يعرف سرها إال من ألف بين هذه القلوب وال‬
‫تعرف مذاقها إال هذه القلوب! وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في هللا وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له وااللتقاء‬
‫عليه فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي ال يدري سرها إال هللا‪ ،‬وال يقدر عليها إال هللا )‬
‫مهما حاولت ومهما بذلت من جهد لتؤلف بين قلبين فاألمر هلل وحده خلق القلوب واألرواح وجعلها تهفو لمناسبها وانظر لقول‬
‫ابن عباس ‪ ( :‬إذا قارب هللا بين القلوب لم يزحزحها شيء ) ‪........‬‬

‫فال تلمني لم أحببتك وال تلمني لم هفا قلبي إليك فلست أمي ار على قلبي‪.............‬‬
‫كنت تحبني ولم تجدني لك محبا فال تعنفني فقلبي ليس بيدي‪.........‬‬
‫وإن َ‬
‫والشأن كما قال ناصيف اليازجي ‪:‬‬
‫ليس قلبي في َيدي‬ ‫أهوى ولكن َ‬
‫َ‬‫كنت أرَغ ُب أن أرى قلبي كما‬
‫قد ُ‬
‫ِ‬
‫الصخر‬ ‫الجلمد ‪:‬‬ ‫العهن ‪ :‬الصوف‬ ‫كالجلم ـ ــَد‬ ‫والقلب مثل ِ‬
‫الع ِ‬
‫يته َ‬‫عاص ُ‬
‫لكن إذا َ‬‫جاري ـتَ ُه‬
‫إن َ‬
‫هن ْ‬ ‫ُ‬
‫أسير له ولو أبقت من رّقه تحطمت مهجتي وتشتت شملي وضاقت بي الدنيا كلها على رحابتها‬‫أسير وراء قلبي فأنا ٌ‬
‫أنا ُ‬
‫……………‪.‬‬

‫صور من المحبين‬

‫إن كثي ار من المحبين الصادقين يغمر الحب جوانبهم وتفيض قلوبهم به ‪ ،‬ولكن ألسنتهم تقصر عن التعبير عنه وإن كانت‬
‫مالمحهم وثنايا وجوههم تشرق بالحب ‪ ،‬فربما يكون أ‬
‫المر محبا ولكنه ليس بليغا فصيحا ‪ ،‬أال وإن الشعراء والبلغاء كانوا سباقين‬

‫للتعبير عن حبهم تجاه أصدقائهم ورفقاء دربهم فوافقت درر ألسنتهم آللئ قلوبهم وكانوا نبراسا يستضيء به المحبون َ‬
‫ومعينا‬
‫يستلهم منه األصدقاء معاني الحب والوفاء‪............‬‬
‫وحب لقاك يحدوه اشتياقي‬ ‫مكانك يا أخي في القلب باق‬
‫ووحدنا إخـاء في التالق ــي‬ ‫تالقينا على درب المعالـ ــي‬

‫‪23‬‬
‫غياب النور عن قمر المح ـاق‬ ‫يذكرني غيابك عن ع ـيوني‬
‫كما األنهار تجري في السواقي‬ ‫ويجري في عروقي منك حب‬
‫إن حبك يا أخي يجري مجرى الدم من عروقي ‪ ،‬فهو يالزمني ويتدفق في كل خلية في جسمي ‪ ،‬ولم ال وقد كانت معالي األمور‬
‫وسما مشتركا في غاياتنا و مقاصدنا حتى صرت ال أستغني عنك وأصير بدونك كالقمر الذي افتقد شمسه فصار بال نور وال‬
‫هادٍ ‪...............‬‬
‫قال األصمعي ‪ :‬دخلت على الخليل وهو جالس على حصير صغير فقال تعال واجلس فقلت ‪ :‬أضيق عليك ‪ ..‬فقال مه فإن‬
‫متحابين !!‪.....................‬‬
‫َ‬ ‫متباغضين وإن شب ار في شبر يسع‬
‫َ‬ ‫الدنيا بأسرها ال تسع‬
‫ما ألذها تلك اللقمة الهنية ـ وإن كانت صغيرة ـ إذا اقتسمتها مع صديقك وحبيب قلبك!! فهي خير شبع لك وله ؛ فقبل أن‬
‫تشبع البطون قد شبعت العيون بالنظر إلى محبيها ‪ ،‬وما أمتع تلك الفسحة البعيدة عن البذخ القليلة المؤنة إذا كانت في رفقة من‬
‫اصطفيته خدينا وخليال فهو لك أغلى كنز استفدته من هذه الدنيا ‪ ،‬وكنوزها مجتمعة ال تساوي فضائله وال توازي شمائله وال تشبع‬
‫شوق قلبك له إذا فرقت بينكما األقدار وحالت بينكما حوائل الليل والنهار ‪..............‬‬
‫(لي أخت لو استبدلوا بها خيرات األرض قاطبة ال أبدلها ‪....‬لي أخت هي أنسي ‪ ..‬وسعدي وجنتي في دنياي ‪ ..‬وعدتي‬
‫آلخرتي‬
‫هي لي كالورد ‪ ..‬بل وأجمل كالماء ‪ ..‬بل وأنقى كالعسل ‪ ..‬بل وأحلى اللهم أدم وجودها في حياتي ‪)......................‬‬
‫من وحي صديقة في حب صديقتها‪!!..‬‬

‫على اإلخاء وطيب القول قد عبقا‬ ‫الود يبقى وحب هللا يجمعـ ـ ـنا‬
‫فصادق الود يجلو الهم واألرق ــا‬
‫ُ‬ ‫والقلب يخفق إن هبت نسائمكم‬
‫يالها من خفقة يخفقها القلب سعادة بصديقه ويالها من نشوة يحسها المحبون المحبوبون ‪ ،‬سعادة من أروع السعادات في الدنيا ‪،‬‬
‫وفرح تزول معه الهموم واألحزان فالمحب ليس وحده في الدنيا فشريكه فيها شريكه في أحزانه ومآسيه ‪..............‬‬

‫في لحظة اخترق فيها حبي لصديقي شغاف قلبي قلت من أعماق فؤادي غير مبالغ وال كاذب ‪:‬‬
‫المقل ‪ :‬العيون‬ ‫فراق عريم يدك المقـ ـل‬ ‫لقد حال بيني وبين األمـ ـل‬
‫فجنة ربي ملقى العمـل‬ ‫ولست بطالب رد الق ـضاء‬
‫فإن فراقك ال يحتمـ ـ ـل‬ ‫وإن فراقك إن طال ي ـ ـوما‬
‫رباع ‪ :‬جمع ربيع‬ ‫بخير رباع حيات ــي األول‬ ‫حييت وأنت رفيق الكت ـاب‬
‫ُ‬
‫فرؤية وجهك لي كالنـهل‬ ‫فإن ظمأ صدري من األرذلين‬
‫فال تنس قولك فاق الجبل‬ ‫وحاولت مدحي بقول هزيل‬
‫خلى الثمل ‪ :‬ترك البقاء‬ ‫لغشى السماء وخلى الثمل‬ ‫وإن مديحك إن طار م ـ ــني‬

‫‪24‬‬
‫إن أخشى ما خشيته وأنا غارق في بحار حبي له فراقه يوما من األيام ولكن عوضني عن ذلك الخوف تذكري أن الجنة ملتقى‬
‫المتحابين المؤمنين ولم ال أقول ذلك وهو رفيق دراستي في خير وأروع أيام صباي وهو الذي حين ألتقيه ينسيني مشاغبات‬
‫األرذلين الباردين الذين ليس لهم مكانة في قلبي ‪ ،‬لقد بادلني نفس حبي له حتى حاول أن يمتدحني ولكن بالغته الهزيلة لم‬
‫تسعفه ولكن كلماته على ركاكتها وبساطتها كانت تساوي الدنيا وما فيها بالنسبة إلي ‪ ،‬فألفت له تلك القصيدة وهي غيض من‬
‫فيض مما أكنه له في قلبي فلو خرج من قلبي ما يحويه من الحب المتألت السماء من عبير حبي وثنائي عليه ‪......‬‬
‫حقا وهللا الذي ال إله غيره إن هذا هو الحب ‪.........................................‬‬

‫إنني لم أجد قصيدة تفيض بالحب ومعاني األخوة مثل قصيدة محمد التاجي التي يقول فيها ‪:‬‬
‫وفي خاطري أنت واألضل ـ ـعِ‬ ‫أخي في فؤادي وفي مسمعي‬
‫وروحك في الكون تسري معي‬ ‫أخي في حناياك يسري هواي‬
‫وإن أنت ُنحت فمن أدمعي‬ ‫أخي إن بسمت فمن مبسمي‬
‫تبينت نورك في المطـ ـ ـ ـلعِ‬ ‫أخي إن تراءى لعيني الصباح‬
‫سقينا الحياة ومن مش ـ ـ ــرع‬ ‫أخي أنا أنت فمن منهـ ــل‬
‫وآالمنا ِفضن من منبـ ـ ـ ـعِ‬ ‫أخي أنا أنت فآمالـ ـ ـ ـ ـنا‬
‫فمي ويهش له مسمعـ ـ ـي‬ ‫نغم أنت يحلو بـ ـ ـ ـه‬
‫أخي ٌ‬
‫وقف أنت والشمس في المطلعِ‬ ‫أخي خذ مكانك فوق النجوم‬
‫رنيم الصدى ساحر الموق ـ ـعِ‬ ‫مت باسمك في خلوت ـ ـي‬
‫ترّن ُ‬
‫عدو البطيء أخو المس ـ ـ ـرعِ‬ ‫أخي حث ركبك إن الزمـ ـان‬
‫إذا أنت أشفقت لم يطل ـ ـ ـعِ‬ ‫مزق الليل إن الصبـ ـاح‬‫أخي ّ‬
‫كما اغترب الزهر في البل ـقعِ‬ ‫غريبان نحن بهذا الوج ـ ـ ـود‬
‫الخشعِ‬
‫وتصغـ ـي لنجواي في ّ‬ ‫أحس بنجواك في الضارع ـين‬
‫يسابق دمعي مـع الركـّـ ـ ـعِ‬ ‫وأرقب دمعك في الساج ـدين‬
‫ولست بواعٍ سوى ما تـ ـعيِ‬ ‫أخي لن أحس بما ال تح ـ ـس‬
‫وفي المطمأن وفي المف ـ ـ ـ ـزعِ‬ ‫أخي في الرخاء أخي في الرجاء‬

‫إن كلمات تلك القصيدة ال ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام فبين ثناياها فكرة إنسانية سامية ومعنى فلسفي راق يعد في أسمى‬
‫منازل الحب أنا أنت !! ال فرق بيننا قد نفترق إلى جسدين ماديين ‪،‬لكن األرواح متمازجة فهواك يجري في جسدي ‪ ،‬وروحك‬
‫مرافقة لحسي ال تغيب عني بسمتي بسمتك ومناحتك مناحتي أراك بين النجوم إذا نظرت إليها وإذا طلعت الشمس خلته نورك‬

‫‪25‬‬
‫الذي ينير حياتي ‪ ،‬إحساسي إحساسك دمعتي وأنا ساجد ترافق دمعتك وأنت مع هللا ‪ ،‬إنها المعية الروحية ‪ .......‬درجة سامية‬
‫وحس عال يقودنا إلى نظرية من أرفع نظريات الحب واإلخالص ‪ .......‬نظرية األنا !!‬

‫نظرية األنا ‪..‬‬


‫ما الفرق بين روحين امتزجا معا بماء الحب والوفاء ؟! ‪........‬‬
‫وما الفرق بين قلبين امتزجت دماؤهما فصا ار يضخان سائل الحياة عبر أبهر واحد إلى جسد واحد لتبقى روح واحدة حية زكية‬
‫؟؟‪........‬‬
‫و ما الفرق بين عينين تبصران حقيقة واحدة وتعيان الحياة وعيا ال تختلف عين فيه عن األخرى ؟!‬
‫إنهما جسدان في المادة جسد واحد في الجوهر‪.......‬‬
‫إننا حين نتدبر ونتفكر نجد أنه ال فرق إال في المظهر ‪..............‬‬
‫إنهما شيء واحد ظنه الماديون شيئين ووجده العارفون شيئا واحدا ‪ ،‬إنه اتحاد الفكر والغايات والوسائل بل اتحاد األرواح وامتزاج‬
‫سمه حلوال واتحادا إن كنت صوفيا ‪ ....‬سمه تناسخا إن كنت هندوسيا ‪ .....‬سمه تقمصا إن كنت درزيا ‪..........‬‬ ‫األنفس ّ‬
‫سمه ما شئت وتبقى الحقيقة لغ از محي ار لمن لم يعرفوا معنى الحب ولم يذوقوا حالوة اإلخالص وس ار خفيا بين قلبين متحدين ال‬
‫يفرق بينهما الموت نفسه !!!!‬

‫◄إن محمد التاجي حين كتب قصيدته لم يكن بدعا من الشعراء واألدباء في وصفه لمبدأ األنا ‪ ،‬فقد اقتفى أثر سلفه من‬
‫المحبين الصادقين ولم ال يفعل وسيد المحبين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد صور ذلك األمر في الحديث الشهير ( مثل‬
‫المؤمنين في توادهم و تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )‬
‫فالمؤمنان المتحابان الصادق إيمانهما شيء واحد وترجمة ذلك أن ألم أحدهما يؤلم آلخر وهي قضية إحساس الصديق بصديقة‬
‫وسوف نتناولها بالتفصيل فيما بعد ‪ ،‬فنظرية األنا لها تطبيقاتها العملية التي تمثل االنعكاس لإليمان بهذا المفهوم ‪.‬‬
‫ولما كان صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أفهم الناس لخطابه نجدهم ترجموه بنظرية األنا ‪ ،‬فهذا أبو بكر الصديق ‪-‬‬
‫فيما روي عنه – كتب لرجل كتابا في شيء جعله قطيعة له ‪ ،‬أي وهبه إياه ‪ ،‬فحمله الرجل إلى عمر ليمضيه فلما نظر فيه‬
‫عمر بزق عليه ومحاه ‪ ،‬فعاد الرجل مستع ار إلى أبي بكر فقال ‪ :‬فعل عمر كذا كذا ‪ ،‬وهللا ما أدري أأنت الخليفة أم عمر ؟؟‬
‫فقال أبو بكر ‪ :‬هو إال أنه أنا !!!‬

‫◄ إن تلك الفلسفة قديمة قدم الحضارة وأتي اإلسالم ومن بعده الشعراء واألدباء فصدقوها وآمنوا بها ؛ فهذا أرسطاطاليس معلم‬
‫و مربي اإلسكندر سئل ‪ :‬من الصديق ؟ قال ‪ :‬إنسان هو أنت إال أنه بالشخص غيرك !!‬
‫وتابع المتصوفة من المسلمين ذلك المعتقد حتى قيل لصوفي ‪ :‬من الصديق ؟ قال من لم يجدك سواه ولم يفقدك من هواه !!‬
‫ليته يوماً على عيني مشـ ـى‬ ‫بابي من هو منى في الحشـا‬

‫‪26‬‬
‫إن يشأ شئت وإن شئت يشا‬ ‫روحه روحي وروحي روحه‬
‫وسيد فلسفة الحلول واالتحاد الحالج لم يقصر نظريته على الحب اإللهي حتى تعداها إلى حب الصديق فقال ‪:‬‬
‫نحن روحان حللنا بدن ـ ـ ـا‬ ‫أنا من أهوى ومن أهوى أنا‬
‫تضرب األمثال في الناس بنا‬ ‫نحن مذ كنا على عهد الهوى‬
‫وإذا أبصرت ـ ـ ـ ـه قلت أنا‬ ‫فإذا أبصرتني أبصرت ـ ـ ـه‬
‫وله‬
‫يجبل العنبر بالمسك العبق‬ ‫جبلت روحك من روحي كما‬
‫فإذا أنت أنا ال نفتـ ـ ـرق‬ ‫فإذا مسك شيء مس ـ ـ ـ ـني‬

‫◄وفي مرتع الشعراء واألدباء نجد ذلك الفكر خصبا ‪ ،‬وانظر لقول الثعالبي ‪:‬‬
‫شطن ‪ :‬بعد‬ ‫ط َنا‬
‫اك أو ش َ‬
‫فأنت عندي َدَنا مثو َ‬
‫َ‬ ‫األرض فأ َِق ْم‬
‫ِ‬ ‫سليمان ِس ْر في‬
‫َ‬ ‫أبا‬
‫فأنت أنا‬
‫روح َك بل ُروحي َ‬ ‫فديت َ‬
‫ُ‬ ‫أنت غيري فأخشى أن أ ِ‬
‫ُفارَق ُه‬ ‫ما َ‬
‫وإذا نظرنا إلى ابن الرومي وعلى رغم حياته البائسة التعيسة وعلى رغم نظرته التشاؤمية الكفيلة بإقعاده ثالث ليال في بيته بال‬
‫طعام أو شراب تشاؤما من رجل أحدب يقعد على باب بيته ! نجده لم يحرم من الصديق الذي ليس بينه وبينه فرق فهي نظرية‬
‫األنا كذلك‬
‫عند تحصيل قسمة األشـ ـياء‬ ‫ليس بين الصديق والنفس فرق‬ ‫قال‬
‫وأخي في الملمة النك ـ ـ ـراء‬ ‫يا سمي الوصي يا شق نفس ـ ــي‬
‫أعلى محل أه ـل السنـ ـ ــاء‬ ‫يا أخا حل في المكارم والسـ ـؤدد‬
‫والقصيدة طويلة في وصف صديقه لعلنا نتعرض لها فيما بعد ولكنه هنا أدرك أنه وصديقه شيء واحد ال يتج أز وال ينفصل وعبر‬
‫عن ذلك بلفظ فريد وهو ( يا شق نفسي ) فما أجمله من تعبير !!‬
‫وفي اختالف األجسام واتحاد القلب قال شاعر ‪:‬‬
‫فلي وله جسمان والقلب واحد‬ ‫بنفسي أخ لي في األمور مساعد‬
‫ألن فؤادي شطره متباعـ ـ ـ ـد‬ ‫إذا غاب عني لم أجد طعـ ـم لذة‬

‫وفهما للفظ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الجسد الواحد قال الشاعر ‪:‬‬
‫كما تقبض الكف بالمعصم‬ ‫وما المرء إال بإخوان ـ ـ ــه‬
‫وال خير في الساعد األجذم‬ ‫وال خير في الكف مقطوعة‬

‫ولعل نظرية األنا عند بعض الشعراء أعطت تفسي ار منطقيا للشوق للصديق واشتعال النفس شوقا للقائه فصديقك هو نفسك فكيف‬
‫وهل يصبر عن بعض نفسه اإلنسان‬ ‫كيف صبري عن بعض نفسي‬ ‫تستغني عنه ؟!‬

‫‪27‬‬
‫◄حتى األعراب الجفاة لم ينسوا حظهم من الصداقة حتى وصلوا لنفس الفكرة فيقول أعرابي عن الصديق ‪ :‬اتخذ من ينظر‬
‫بعينيك ويسمع بأذنيك ويبطش بيديك ويمشي بقدميك ‪ ،‬ويحط في هواك وال يرى سواك ‪ ،‬اتخذ من إن نطق فعن فكرك يستملي‬
‫و إن هجع فبخيالك يحلم ‪ ،‬وإن انتبه فبك يلوذ ‪ ،‬وإن احتجت له كفاك وإن غبت عنه دعاك ‪..‬‬
‫وقيل ألعرابي ‪ :‬كيف يكو ن الصديق ‪ :‬قال مثل الروح لصاحبه يحييه بالتنفس ويمتعه بالحياة ويريه من الدنيا نضارتها ويوصل‬
‫إليه نعيمها ولذتها !!‬
‫◄ونورد هنا قصة عجيبة ذكرها أبو حيان التوحيدي تصف ظاهرة عجيبة بين األصدقاء ليست إال ترجمة لنظرية األنا فيقول‬
‫‪:‬قلت ألبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازحة نفسية وصداقة عقلية ومساعدة‬
‫طبيعية من أين هذا ؟؟وكيف هو ؟؟فقال يا بني اختلطت ثقتي به بثقته بي فاستفدنا طمأنينة وسكونا ال يرثّان على الدهر وال‬
‫يحوالن بالقهر ‪،‬ومع ذلك فبيننا بالطالع ومواقع النجوم مشاكلة عجيبة وظاهرة غريبة حتى إنا نلتقي كثي ار في اإلرادات‬
‫واالختيارات والشهوات والطلبات ‪ ،‬وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في‬
‫هذا األوان حتى كأنها قسائم بيني وبينه أو كأني هو فيها أو هو أنا !! وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت‬
‫أو قبله بقليل أو بعده بقليل ‪...................‬‬

‫أقول ‪ :‬إن هذا ليس عجيبا وال مستغربا فكل من جرب الحب يعرف ذلك ‪ ،‬فكم مرة يفكر المحب بأخيه فيفجأ بأنه يتصل به على‬
‫الهاتف ‪ ،‬فيتهلل وينشرح ويبادره قائال ‪ :‬لقد كنت أفكر فيك اآلن مشتاقا لرؤيتك ففوجئت باتصالك في نفس اللحظة‬
‫‪..................‬‬
‫في نفس اللحظة التي فكرت فيها في صديقك كان يفكر فيك ‪ ،‬أليس ذلك واقعا يحدث للمتحابين ؟؟!!‬
‫إن ذلك سر ال يعرفه إال من ذاقوا حالوة الحب فال تفشوه أيها المتحابون لئال يصفكم الناس بالجنون !! ومن صدقكم فلن تسلموا‬
‫من حسده وتمنيه انقالب األحوال ‪........‬‬
‫بعد كل هذا أيكون مستغربا أن يقول الصديق لصديقه حبيب قلبه وتوأم روحه وشق نفسه‪ :‬يا أنا ؟؟!!!!!!!‬

‫وقبل أن نقلب تلك الصفحة ننوه على أن نظرية األنا لها انعكاسات في واقع الصديقين أساسها االتفاق ‪ ،‬ولن نذكرها بالتفصيل‬
‫اآلن فكل انعكاس منها له موضعه في هذا البحث‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬االتفاق في اإلحساس‬
‫‪ -2‬االتفاق في الفكر‬
‫‪ -3‬االتفاق في المال‬
‫‪ -4‬االتفاق في العداوة‬

‫من أواصر المحبة ‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫إن لدوام المحبة والمحافظة عليها بل االزدياد من عبقها ونسيمها أدوات متى داوم عليها المحبون واستمروا يمارسونها ازداد حبهم‬
‫وتوطدت صداقتهم وترسخت روابطهم القلبية والروحية وهي وصفات ناجعة جربها األصدقاء من قبل وصدقها أطباء القلوب‬
‫فصارت مواد في دستور اإلخاء والمحبة أقسم عليها اإلخوان أال يتنازلوا عنها مادام عصام الصداقة موصوال ‪...............‬‬

‫‪ -1‬البوح بالحب من أواصر المحبة‬


‫أنا أحبك ‪ .............‬أنت حبيبي ‪ ............‬إني أحبك في هللا ‪،‬‬
‫تكتمن حبك له ‪ ،‬وال تكن بخيال عليه بإطراب أذنه‬
‫ّ‬ ‫كلمات هي أقصر الطرق المؤدية إلى الصداقة ‪ ،‬فمتى أحببت شخصا فال‬
‫بتلك الكلمة فإنها لها مفعول مثل مفعول السحر !! ‪ ،‬فكثير من الصداقات بدأت بتلك الكلمة حينما سمعها الصديق من صديقه‬
‫فوجد لها موقعا في قلبه وشعوره ‪ ،‬فقال بال تردد ‪ :‬وهللا إنه نفس شعوري لك فأنا أحبك أكثر من حبك لي ‪ .............‬هنا‬
‫نقول إن الصداقة بدأت فقد بني فيها الركن األعظم من أركان الصداقة الذي سرعان ما يتبعه بقية األركان بناءً فبقية األركان‬
‫هينة ويبقى الحب الركن العسير في بناء الصداقة ‪....................‬‬
‫إن تلك الكلمة كلمة ساحرة تقلب كيان من يسمعها ولو في أحلك المواقف ‪ ،‬وكم من صديقين تعاهدوا على الحب بينهما وتناسوا‬
‫ذلك العهد لحظة من اللحظات ونشبت الثارات بينهما واختلط الغضب بالعراك والنزاع فتذكر أحدهما العهد فبادر صديقه قائال ‪:‬‬
‫يا أخي أنا أحبك وال أستطيع االستغناء عنك ‪ ،‬حياتي بدونك ال قيمة لها !! حينئذ يهدأ غضب صديقك ويجد نفسه لك أسي ار فقد‬
‫وضعت يدك على الجرح جرح الفراق الذي هو شر نهاية للصداقة وأبشع ما يخشاه كل خدين على خدينه ‪..........‬‬
‫لقد اختلفت يوما مع أحد أصدقائي فتشاجرت معه وهجرته ‪ ،‬فخشي صديقي على صداقتنا فتنازل وتواضع وقال لي تلك الكلمة‬
‫‪ .....‬ال أتصور الحياة بدونك فأنت جزء من حياتي ‪ ..........‬فتبدلت األمور ورجعت المياه إلى مجاريها ‪ ....‬وقالها لي‬
‫صديق ‪ ..‬إني أحبك في هللا بعد أن هجرته وقطعته فعاد الوصل بيننا وتناسينا موضع الخالف وعاد الحب يجري من جديد‬
‫‪ ............‬إنه الحب !!‬
‫◄إن البوح بالحب لصديقك سنة نبوية فقد مر رجل بالنبي صلى هللا عليه وسلم وعنده ناس فقال أحدهم ‪:‬إني ألحب هذا في هللا‬
‫فقال النبي أعلمته ؟ فقال ال فقال ‪ :‬قم إليه فأعلمه فقام إليه فأعلمه فقال ‪ :‬أحبك الذي أحببتني له ‪ ،‬فرجع فأخبر الرسول فقال له‬
‫‪ :‬أنت مع من أحببت ولك ما احتسبت ‪.........‬‬
‫للسنة والمتفقهين في الدين‬
‫جميلة تلك الكلمة ( أحبك الذي أحببتني له ) فهو دعاء عظيم وجزاء رفيع ‪ ،‬ولكن أكثر الدارسين ّ‬
‫وقفوا على تلك الكلمة وعدوها سنة ال يجوز الزيادة عليها وال النقصان في حين أن النبي صلى هللا عليه وسلم لم يأمر بها فهي‬
‫ال تزيد عن كونها رد أحد الصحابة ‪ ،‬لماذا أقول ذلك الكالم ؟؟ أقوله ألنه هنالك رد أفضل وأسمى وأكثر إشباعا للقلوب ‪ ،‬وهو‬
‫أن تزيد عليها ( وأنا أحبك أيضا ) أو ( وأنا أحبك قبل أن تحبني ) أو ( وأنا أحبك أكثر من حبك لي ) فبهذا الرد ينعقد ميثاق‬
‫الصداقة وتصبح رابطة األخوة جلية واضحة للصديقين بال ريب وال ظن ‪ ،‬وكم من مجروحين قيل لهم ‪ :‬أحبك الذي أحببتني له‬
‫– مع عظم ذلك الدعاء – عادوا منكسرين فقد كانوا يظنون أحبتهم يبادلونهم نفس الشعور ولكنهم بخلوا بالحب وتظاهروا‬
‫بالتمسك بالسنة ‪ ،‬فضاعت الصداقة وانهدمت قبل أن تنبني ‪ ،‬إنني أعيد وأؤكد أن الصداقة ال تنعقد إال بحب متبادل ‪ ،‬والحب‬
‫من طرف واحد هالك وضياع ‪............‬‬

‫‪29‬‬
‫◄إن سلف المسلمين كان البوح بالحب عندهم سنة متبعة فقد كان زمنهم بحق زمن الحب ‪ ،‬فخذ أمثلة على ذلك ‪ ،‬فقد قالت‬
‫امرأة لرابعة العدوية إني ألحبك في هللا قالت ‪:‬فأطيعي من أحببتني فيه فقالت ‪ :‬من طاعتي له محبتي لمن أطاعه ‪.......‬‬
‫وانظر لذلك العابد الذي قيل له إني أحبك في هللا‪ ،‬قال أعوذ باهلل أن أكون ممن ُي َحب في هللا وهللا علي ساخط !‬
‫وانظر لحال الصالحين الطيبين في اعترافهم لبعض بالحب ‪ ،‬قال ابن شبة ‪ :‬التقى أخوان في هللا فقال أحدهما لصاحبه وهللا يا‬
‫أخي إني ألحبك في هللا فقال له اآلخر ‪ :‬لو تعلم مني ما أعلمه من نفسي ألبغضتني في هللا فقال وهللا يا أخي لو علمت منك‬
‫ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي !!‬

‫إن الوسوسة عند المحب شيء عادي ‪ ،‬فهو أحيانا يأتيه الشك في حب صديقه له فهو يحتاج إلى تكرار ذكر عهد الحب بالقول‬
‫والفعل ‪ ،‬بل أكد بعضهم على ذلك حتى قال الفضل بن الربيع ‪ :‬احلف ألخيك أنك تحبه واجتهد في تثبيت ذلك عنده فإنه يستجد‬
‫لك حبا ويزداد لك ودا !! ‪...‬‬
‫(يستجد لك حبا ) إن الحب يحتاج إلى تجديد من حين آلخر ‪ ،‬فكلمة أنا أحبك هي الوقود المحرك لبقاء عجلة الصداقة دائرة‬
‫فكلما فتر الود وبدأ يجف القلب وأخذ يتسلل الشك إلى النفوس احتاج الصديقان إلى الوقود ليستكمال مسيرة حبهما وإخالصهما‬
‫‪ ،‬إن هذا الكالم ال يفهمه سوى المحبين ‪........‬‬
‫◄ومع كلمة الحب يزيد الثناء بين األصدقاء المودة والقربى فهو يشعر الصديق الممدوح بعلو منزلته ومكانته عند صديقه‬
‫‪.....‬‬
‫قال إلياس فياض ‪:‬‬
‫أحب هذي االسامي‬
‫وهو عندي ُّ‬ ‫يا أميري وسيدي بل حبيبي‬
‫َلف ح ـ ار ِم‬ ‫ام عندي وأ ُ‬ ‫حيك حرٌ‬ ‫ِإن شع اًر ُ‬
‫يقال في غير م ـد‬
‫أنت منهم قد اًر مكان ِإله ـ ـا ِم‬ ‫قوم‬
‫المدائح ٌ‬
‫َ‬ ‫لقد لعمري نال‬
‫إنه اعتراف بالحب مخلوط بالثناء فالثناء شيء ممدوح بين األصدقاء المتواضعين ألصدقائهم وال تقولن إن الثناء في وجه أخيك‬
‫مظنة مهلكته ‪ ،‬فهذا يكون بينك وبين الغرباء أما بينك وبين أخيك ‪ ،‬فثناؤك على أخيك يشعره بمنزلته الرفيعة عندك ال عند بقية‬
‫الناس فهو ليس بابا للكبر واالختيال ‪ ،‬وهل مدح الزوج لزوجته شيء مذموم في اإلسالم ؟!! ‪ ،‬ال بل هو مطلوب مندوب وكذلك‬
‫الخدين ‪ ،‬أما مظنة الهالك فربما تكون مع الزميل أو الصاحب أما من تقول له يا أنا فال ‪...................‬‬

‫‪ -2‬االبتسامة الصادقة من أواصر المحبة‬

‫(أخبرني الصديق تشارلز شواب أنه ربح مليون دوالر بواسطة ابتسامته ‪ ........‬كانت ابتسامته أبرز عناصر شخصيته الناجحة‬
‫‪ .......‬االبتسامة الصادقة ضرورة في الحياة فالناس تكره التصنع والمبالغة وهم يميزون بينها وبين االبتسامة النابعة من القلب‬
‫وهي ابتسامة دافئة ‪ .......‬يؤكد لنا أهل الصين القدامى وهم المشهورون بحكمتهم وتعقلهم ‪ :‬إن من ال يملك وجها باسما ال‬

‫‪30‬‬
‫ينبغي له أن يفتح مشروعا تجاريا ‪ ........‬فرانج أفرنج فالتشر في إحدى إعالناته عن منتجات شركة أوبنهيم وكولتز وشركائهم‬
‫تحدث عن قيمة البسمة حيث إنها ال تكلفك شيئا بل تجني من ورائها الكثير وهي وإن كانت تثري من يتلقاها فال تفقر من‬
‫يمنحها !!إنها تبعث البهجة في المنازل وهي توقيع ميالد صداقة وهي راحة لإلنسان المجهد وأمل للبائس وشفاء للمريض وهي‬
‫بلسم للمجروح ونور أمام الذي يرى الدنيا ظالما دامسا كما أنها مجانية ال تباع وال يجوز شراؤها أو اقتراضها أو السطو عليها‬
‫كن سخيا وامنحها لآلخرين فإن أغلب الناس في حاجة إليها ‪ ).........................‬ديل كارينجي‬
‫بهذه الكلمات اختتم ديل كارينجي فصال من كتابه القيم (كيف تكسب األصدقاء وتؤثر في الناس ) وجعله بعنوان ( أسرع الطرق‬
‫لكسب محبة اآلخرين ) ‪.‬‬
‫إن تلك البسمة التي تشفي القلوب مفتاح من مفاتيح الصداقة ‪ ،‬فكم من متعارفين ما تعارفا فمالت قلوبهما إال بإشراقة وجهيهما‬
‫الذين تقابال فتجاذبا فتصاحبا فتصادقا‪.............‬‬
‫إن علماء التربية وفن التعامل بين الناس قالوا إن اللقاء األول بين اثنين يؤخذ فيه سبعون بالمائة من االنطباع بين الشخصين ‪،‬‬
‫فكن حذ ار من اللقاء األول ففيه ترسم مالمح شخصيتك األولى عند من تلقاه فاعلم أن رسمك في ذهنه ألوانه البسمة الصافية‬
‫واإلشراقة الصادقة التي يقرر تلقاءها من يلقاك من أنت وهل تصلح لمزيد لقاء ومعاشرة أم ال ؟‬
‫إن هموم اإلنسان وتعبه كثيرة في دنيانا ‪ ،‬أعلم ذلك ولكن ال يمنعنك ذلك من ابتسامة عريضة عند أول لقاء فمن يراك ألول مرة‬
‫ال يعلم ما بداخلك فليس له إال الظاهر فإن كان ظاهرك الود والبهجة حسبك إنسانا اجتماعيا إلفا مألوفا وإن كان نقيض ذلك‬
‫ظنك انطوائيا انعزاليا ال تحب الناس‪...................‬‬
‫إن كلمة ديل كارينجي ( تثري من يتلقاها وال تفقر من يمنحها ) ال تختلف كثي ار عن قول النبي صلى هللا عليه وسلم ( ابتسامتك‬
‫في وجه أخيك صدقة ) إنها منحة عظيمة يعرف أثرها من يحتاجها ولكنها منحة بال مال ‪ ،‬فما أيسرها من صدقة وما أيسرها‬
‫من باب للحسنات غفل عنها الواجمون العابسون الذين حملوا هموم الدنيا فوق رؤوسهم فأعيوا أنفسهم وأعيوا من حولهم !!‬
‫قال أحد الكتّاب ‪ ( :‬إن أجمل صورة في الكون هي وجه إنسان مبتسم ‪ ،‬ماذا تعني االبتسامة لصاحبها وماذا تعني لمن يراها ؟ ‪،‬‬
‫االبتسامة هي الترجمة العضلية لإلحساس بالحب ‪ ..‬هي االنسجام الكامل بين العقل والقلب والعضالت ‪،‬فهي الحركة التلقائية‬
‫لصفاء العقل ونبضات القلب ‪ ،‬فهناك نوعان من األعصاب يغذيان عضالت الوجه أعصاب إرادية يستطيع بها اإلنسان أن‬
‫يحرك عضالت الوجه لترسم ابتسامة زائفة وأعصاب أخرى غير إرادية ال سيطرة لإلنسان عليها ‪ ،‬هذه األعصاب تحرك‬
‫عضالت الوجه تلقائيا لتخلق االبتسامة الصادقة ‪ ،‬إنها تخضع للسيطرة المباشرة من الفكر والوجدان ‪ ،‬لذا حين تبتسم نفسك‬
‫يبتسم وجهك ‪ ،‬وما أعذب ابتسامة النفس ! ماذا تعني لصاحبها ؟ تعني الحب حب اللحظة الحاضرة وحب اللحظة القادمة ‪،‬‬
‫حب اللحظة الحاضرة هو الرضا ‪ ،‬وحب اللحظة القادمة هو التفاؤل ‪ ،‬وماذا تعني لك االبتسامة حين تراها على وجه إنسان‬
‫؟تعني أن صاحب االبتسامة يوجه لك رسالة حب ‪ ،‬رسالة تقول إنك صديقي ‪ ،‬بك ومعك أشعر بالرضا عن حاضري وباألمل‬
‫في مستقبلي ‪ .......‬أال تشاركني يا صديقي أن أجمل صورة في الكون هي أن تجد الحب مجسدا ‪ ،‬أن تجد الحب قد تحول‬
‫إلى لوحة تصنعها عضالت الوجه ‪)....................‬‬

‫‪31‬‬
‫◄إننا هنا لسنا بمعرض كيفية اكتساب األصدقاء أو سمات الشخصية الناجحة ولكن كان ال بد من تنويه عن أهمية البسمة في‬
‫حياتنا لنسقطها على الصداقة ‪......................‬‬
‫إن ابتسامة الصديق لصديقه حين يلقاه هو الشيء الذي ينتظره الصديق بعد طول فراق ‪ ،‬فماذا يلطف همومه ومشاكله بعد عناء‬
‫طويل أكثر من ابتسامة صافية صادقة من وجه صبوح محب ؟؟‪............‬‬
‫اسود‬
‫إن الصديق الدائم العبوس القنوط من الدنيا و من رحمة هللا لقاؤه غم وهم على صديقه ‪ ،‬وهل يرتجي الصديق لقاء صديق ّ‬
‫وجهه وذبلت مالمحه من كثرة العبوس وترك االبتسام‪..............‬‬
‫قال إيليا أبو ماضي يصف فلسفته في سعادته مع الحياة ‪:‬‬
‫تتبس ـ ـ ـ ـم‬
‫تبسمت فعالم ال ّ‬ ‫و ّ‬ ‫الدنيا فما لك واجما ؟‬
‫هشت لك ّ‬
‫ّ‬
‫هيهات يرجعه إليك تنـ ـ ـ ـ ـ ّدم‬ ‫لعز قد مـضـ ـى‬
‫إن كنت مكتئبا ّ‬
‫تجهـ ـ ـ ـ ـم‬
‫تحل ّ‬
‫هيهات يمنع أن ّ‬ ‫أو كنت تشفق من حلول مصيبة‬
‫وإن تلك اإلشراقة بتلك البسمة ال يشترط لها وجه جميل الخلقة متفتق الحسن أبيض كالقمر حتي يدخل عليك السعادة والبهجة ؛‬
‫أَبيض و ِ‬
‫جه الـ ـ ُوّد‬ ‫ديق َعـ ِبد‬
‫ص ٍ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُر َّب َ‬ ‫قال أحمد شوقي‬ ‫فالجمال جمال القلب والروح ال جمال الوجه‬
‫الن ِ‬
‫فس‬ ‫ِب َ‬ ‫الر ِ‬
‫ئيس‬ ‫فديك َك َ‬
‫َي َ‬ ‫ِِ‬
‫النفي ـس‬
‫َو َ‬
‫◄ إن ابتسام الخدين في وجه خدينه سجية ال تكلف !! فالبسمة ال تكون إال لفرح ونعمة وانظر للموضع الوحيد في القرآن الذي‬
‫ذكر فيه االبتسام حين سمع سليمان حديث النملة تحذر أصحابها من جيش سليمان الجرار ( ال يحطمنكم سليمان وجنوده وهم‬
‫ال يشعرون ‪ .‬فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) فتذكر النعمة كان سببا في‬
‫ابتسامته ‪ ،‬وحين يلقى الصديق صديقه هل من نعمة تساوي ملء عينيك وإشباعهما برؤية حبيبك رفيق دربك ؟! ال جرم أن‬
‫فرؤية وجهك لي كالنه ـل‬ ‫وإن ظمأ صدري من األرذلين‬ ‫االبتسامة ستكون نابعة من قلبك ال يشوبها كدر تصنع ‪،‬‬
‫ولتشك في أصل صداقتك وروح إخائك !!‬
‫ّ‬ ‫وإن لم تجد ذلك مع صديقك فاتهم نفسك‬

‫المحب‬
‫ّ‬ ‫عبوس‬

‫إن البسمة عالمة من عالمات المحبة ‪ ،‬ونظرة الصديق البتسام صديقه تجدد ثقته في حب صديقه له ‪ ،‬خال أن الصديق الدائم‬
‫االبتسام قد تعتري ابتسامته لمسة من فتور فتصير ( االبتسامة الفاترة ) وهي ابتسامة ال يميزها كل الناس وإنما يعرفها جيدا‬
‫الصديق المقرب الذي يحفظ مالمح وجه صديقه عن ظهر قلب ‪ ،‬فأي تبدل أو تغير في مالمح صديقه يالحظه ويفهمه ويدرك‬
‫جيدا أن هناك خط ار ال بد من معرفته وهذا التغير منشؤه سبب من اثنين ال ثالث لهما إما سبب متعلق بالصداقة وإما سبب آخر‬
‫متعلق بهموم الدنيا ‪ ،‬وهنا تبرز حقيقة الصدق بين األصدقاء فالبوح باألسرار والهموم – وسيأتي مفصال – سمة بل ركن من‬
‫أركان الصداقة ‪ ،‬ومفتاحه تغير البسمة وتبدل مالمح الوجه فحين تجد صديقك قد تغير فستسأله مباد ار ما بك ؟؟ ال أجدك على‬
‫حالك المعهود هل بدر مني شيء أغضبك ؟؟ هل أنت مريض ؟ هل هنالك ما يزعجك من شؤون الحياة ؟ وهنا ينهار الصديق‬

‫‪32‬‬
‫أمام صديقه ويبوح بكل شيء فيجد السلوى والراحة والطمأنينة في سعة صدر صديقه إن لم تكن المشورة والرأي السديد‬
‫‪............‬‬
‫وأما إن كانت األخرى فسيعاتب صديقه على خطإ أخطأه بحقه أو تقصير في حق اإلخاء وهنا نجد الصديق اآلخر يسارع إلى‬
‫االعتـ ـذار واألسف ويبدي دموع الندم وأنه لم يكن له ليفعل ما يغضب حبيب قلبه وشق نفسه ‪ ،‬ويقول بلسان حاله كيف لي أن‬
‫أغضبك وأنت جزء مني كيف لي أن أسيء إليك وأنت منار طريقي وسلوى همومي ؟؟‪............‬‬
‫هذا هو حال األصدقاء ‪ ..........‬أما من تغير وجهه وتبدلت ابتسامته فسأله من يظن نفسه صديقا له عن السبب فيتهرب من‬
‫اإلجابة أو ينفي التغير إما ألنه ال يثق به وال يريد أن يشاركه مشاكله وإما ألنه غاضب منه ويقينه أن بوحه بالمشكلة لن يحلها‬
‫فهنا يكون ابتداء الشقاق ‪ ،‬حين تنهار الثقة بين األصدقاء ويخفي الصديق عن صديقه أس ارره وشئونه فيتحير الصاحب بين‬
‫لسان صاحبه ولسان حاله فتبدأ المشكالت وتنهار الصداقة وتتحطم على صخرة عدم الثقة وهنا يأتي العبوس‪..............‬‬
‫وفي ختام حديثنا عن دور البسمة في الصداقة نقول إن األصل في الصديق أن يكون مبساما مهما كانت أحواله من صفاء أو‬
‫بالء واالبتسامة الفاترة عارضة – والعبوس ال مكان له في الصداقة وإنما هو عالمة على نهايتها ‪ -‬شأنه كما قال ابن الرومي‬
‫‪:‬‬
‫وتسمو به فـ ـ ـروعُ البنـ ـ ـ ـاء‬ ‫ِ‬
‫بمثله ُي ْبتـ ـ ـ ـ ـنى المجـ ـ ُد‬ ‫حي‬
‫ْأرَي ٌّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ باس ُ‬
‫على حين ُكـ ـ ْرِهه و ّ‬
‫الرضـ ـ ـ ـاء‬ ‫ام‬
‫بس ٌ‬
‫حك السن َّ‬ ‫ط الوجه ضا ُ‬

‫‪ -3‬الهدية من أواصر المحبة‬


‫(تهادوا تحابوا ) ‪.......‬نصيحة نبوية غالية ‪ ،‬من اقتدى بها ازداد الحب والوئام بينه وبين حبيبه ؛ فالهدية هي أبسط تعبير عن‬
‫الحب بين المتحابين ‪ ،‬والمحب ال يكف عن إرضاء حبيبه بالقول والعمل معا ‪ ،‬ورضا حبيبه غاية أمله فيحاول إدخال السعادة‬
‫على قلبه ولو بأبسط األشياء ‪........‬‬
‫تَُوّلِ ُد ِفي ُقلُوبِ ِه ُم اْل ِوص ــَ َ‬
‫اال‬ ‫ض‬‫ض ِهم لِ َب ْع ٍ‬‫هدايا َّ ِ ِ‬
‫الناس َب ْع ْ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬ ‫الض ِم ِ‬
‫َوتَ ْزَرعُ ِفي َّ‬
‫اال‬
‫ض ُروا َج َم َ‬ ‫َوتُ ْكس ُب ُه ْم ِإ َذا َح َ‬ ‫ير َه ًوى َوُوًّدا‬
‫وكانت عائشة رضي هللا عنها تقول ‪ :‬اللطفة عطفة تزرع في القلوب المحبة واأللفة‬
‫وقال ضياء الدين بن األثير في رسالة يذكر فيها الهدية ‪ :‬الهدية رسول يخاطب عن مرسله بغير لسان ويدخل على القلوب من‬
‫غير استئذان وبهدية المرء يستدل على عقله‬
‫وقال رجل أهدى نعال لصاحبه‬
‫قدم تسير بها إلى المجـ ـ ـد‬ ‫نعالً بعثت بها لتلبس ـها‬
‫جلدي جعلت شراكها خدي‬ ‫أشركها‬
‫لو كان يحسن ان ّ‬
‫فهو يتمنى لو أعطى لحبيبه جزءا من جسمه تعبي ار عن حبه وإخالصه !!‬
‫المهدي أن يقبل حبيبه هديته ويرضى بها ويسعد فهو يشعر أنه أدى عمال عظيما في حق الصداقة واإلخاء‬
‫ومنى المحب ُ‬
‫◄ ُ‬
‫قال محمد شهاب الدين ‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫حمدل ‪:‬قال الحمد هلل طلبق‬ ‫حمدل في ضمنها وطلبق‬ ‫هدية من صديق صدق‬
‫فأقبل ومسك الختام يعبق‬ ‫قبولها منتهى م ـ ـ ـناه‬ ‫‪ :‬قال أطال هللا بقاءك‬
‫وقبول الهدية سنة متبعة وقد كان صلى هللا عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها وكان يقول لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت‬
‫إلى كراع ألجبت !!‬
‫◄والهدية بين المتحابين قيمتها في معناها ال في قدرها ‪ ،‬فالمحب حين يهدي إليه حبيبه هدية ولو صغيرة يطير بها فرحا‬
‫ويشعر أنه نال الدنيا كلها في يديه فهي تستمد قيمتها من الذي أهداها ال من نفسها ‪ ،‬هذه روح المحبة ال يحسها إال المتحابون‬
‫المخلصون !!‬
‫قال بعضهم ‪ :‬من امتنع من إهداء القليل لجاللة قدر المهدي إليه انقطعت سبل المودة بينه وبين اخوانه ولزمه الجفاء من حيث‬
‫التمس اإلخاء !!!‬
‫◄إن أثر الهدية في دوام المحبة ال يخطئه ذو عينين ‪ ،‬وقد دأب السابقون في فعل ذلك ولو بأقل القليل ‪ ،‬وانظر إلى النضر بن‬
‫الحارث بعث إلى صديقه نعلين مخصوفتين !! وكتب إليه ‪:‬‬
‫( إني بعثت بهما إليك وأنا أعلم أنك عنهما غني لكنني أحببت أن تعلم أنك مني على بال !!‬
‫فأجابه ‪ :‬ما أنا بغني عن برك الذي يحثني على شكرك ويخرطني في سلكك ويزيدني بصيرة بزيادة هللا عنك ‪ ،‬ومحبتي ألن أعلم‬
‫أنني منك على بال ويقيني بذلك راسخ وحمدي هلل عليه عائد ورائح ‪ ،‬ال عدمتك لي أخا با ار وال عدمتني لك قائال سا ار !! )‬
‫ويبدو أن السابقين كان إهداء النعال عندهم شيئا مشهو ار يجلب الود والحب !! – وهو شيء وجدته في أكثر من مصدر! ‪-‬وهو‬
‫مع ذلك شيء افتقده أصدقاء زماننا حين انخرطوا في الصداقة وظنوا خاطئين أن إزالة الكلفة بينهما تقتضي أال يتهادوا وهو خطأ‬
‫فيصر اآلخر على رد هدية أخرى دواليك ‪ ،‬ويصير‬‫يصر المهدي إليه على رد الهدية بمثلها لصديقه ّ‬‫فادح فالكلفة تحدث حين ّ‬
‫األمر بينهما كأنهما غرباء ‪ ،‬ال ‪ .......‬الهدية الخالصة تأتي بين الصديقين بال موعد وبال انتظار ولو من جهة واحدة غنية إلى‬
‫الجهة األخرى الفقيرة التي ربما ال تملك غير الشكر من اللسان والحب والوفاء من القلب ‪.......................‬‬
‫قال صديق فقير ال يجد ما يهديه ‪:‬‬
‫وهمتي تفضل عن مالي‬ ‫هديتي تقصر عن هم ـتي‬
‫أحق ما يهديه أمثـ ـالي‬ ‫الود ومحض الوال‬
‫فخالص ّ‬
‫انظر لهذا المهدي الذي يهدي حبيبه ويشعر بقصوره نحوه فالدنيا كلها – لو أهداها له – ال تكفي لتوفيه حقه وتبلغ منزلته‬
‫عمت أياديه الجميلة‬ ‫يا أيها المولى الذي‬ ‫الرفيعة في قلبه‬
‫في حقك الدنيا قليلة‬ ‫اقبل هدية من يرى‬
‫فأنت لك سابقة فضل علينا وعلى الناس وأياديك يشهد لفضلها الحاضر والبادي فليتني وفيتك قدرك !‬
‫وقال آخر في نفس المعنى ‪:‬‬
‫بشيء فكن له ذا قبـ ـول‬ ‫قد بعثنا إليك أيـ ـ ـدك هللا‬
‫وال نيلك الكثير الجلي ـل‬ ‫ال تقسه إلى ندى كفك الغمر‬
‫المقل غير قلـ ـيل‬
‫ّ‬ ‫إن جهد‬ ‫فاغتفر قلة الهدية مـ ـ ـ ـ ـني‬

‫‪34‬‬
‫◄ إن للهدية عظيم األثر في إنهاء النزاعات بين األصدقاء ولك أن تتخيل صديقين مختلفين متهاجرين أول ما التقيا بعد هجر‬
‫أهدى الصديق لصديقه هدية فكيف سيكون الحال بينهما ؟! وأجمل وأزيد أن يكتب له على الهدية يذكره ‪ :‬إني أحبك من كل‬
‫قلبي !!‬
‫تذوب الخالفات وتنتهي العداءات وترجع المياه إلى مجاريها وقديما قالوا في نشر المهاداة طي‬
‫المعاداة‪.........................‬‬
‫كالسحر تجتلب القلوبا‬ ‫إن الهدية حلـ ـ ـ ـ ــوة‬
‫حتى تصيره حبيـ ـ ـ ـبا‬ ‫تدني البغيض من الهوى‬
‫وة في تباعده قريـ ـ ـبا‬ ‫وتعيد مضطغن العـ ـدا‬
‫وقال الجاحظ ‪:‬ما استعطف السلطان وال استرضى الغضبان وال أزيلت السخائم وال استدفعت المغارم بمثل‬
‫الهدايا‪................‬‬

‫هديتك تديم المودة و الحب ‪ ....‬تدفع بها الشر بينك وبين صديقك ‪ ...‬تزيل بها التوترات والمغضبات ‪ ....‬تحفظ بها صداقتك‬
‫غضة طرية فلماذا تبخل ؟ ولمن تبخل ؟ وهل خير من صديق اصطفيته من بين الناس جميعا ليكون صفيك وكاتم سرك ومفرج‬
‫همك ؟!‬

‫‪ -4‬قلة الكلفة من أواصر المحبة‬

‫كلما زادت الكلفة قلت األلفة ‪ ......‬حقيقة ثابتة بين األصدقاء ‪ ،‬كن على سجيتك وأنت مع صديقك ‪ ،‬اترك لقلبك أن يقول ما‬
‫شاء ودع لنفسك الحرية وأنت مع صديقك فليس بين الصديق والنفس فرق عند تحصيل قسمة األشياء !‬
‫إذا أتي غريب لدارك فال شك أنك ستتهيأ له وتنظم بيتك وترتب أغراضك ‪ ،‬فهي أول مرة يأتي فيها إليك تريد أن يراك بأحسن‬
‫صورة وأجمل هيئة ‪ ،‬وهو ما ال تفعله مع صديقك حين يزورك ‪ ،‬فهو معتاد الزيارة يعرف بيتك حق المعرفة ‪ ،‬ال داعي للتجمل‬
‫بين الصديقين فبيتكما واحد ‪ ،‬يعرف بيتك أكثر من معرفته لبيته !!‬
‫قال بهاء الدين زهير ‪:‬‬
‫طوب َوشاني‬‫الخ ِ‬ ‫ِسّي ِ‬
‫ان َش ُأن َك في ُ‬ ‫يك ِألََّننا أَخ ـ ــَو ِ‬
‫ان‬ ‫أَشكو ِإَل َ‬
‫كان َمكانـ ـي‬ ‫سَق َ ُّ‬
‫الم ُ‬
‫َهل أَهلي َو َ‬
‫َواأل ُ‬ ‫ف َوالتَ َج ُّم ُل َب َيننا‬ ‫ط التَ َكل ُ‬ ‫َ‬

‫وبينه ُمؤن َة‬


‫فيما َبيني َ‬
‫صديق أطرُح َم َع ُه َ‬
‫ٌ‬ ‫يبق لي ل ّذة إالّ‬ ‫ولبسنا الّلين ورِكبنا ِ‬
‫الفارَه ولم َ‬ ‫طّي َب ْ‬
‫أكلنا ال َ‬
‫وفي ذلك قال ثعلب ‪َ":‬قد َ‬
‫التحّفظ"‪.‬‬
‫َ‬

‫‪35‬‬
‫ومن أمثلة ذلك في صداقتي – حين عرفت معنى الصداقة – أني كنت أزور صديقي فأجد حجرته غير مرتبة فتفجأ أمه بمنظر‬
‫حجرته المبعثرة األشياء فتلومه وتقرعه ‪ ،‬كيف تترك حجرتك على هذا الحال وأنت تعلم أن صديقك سوف يأتيك ؟؟ فيجيبها بما‬
‫هو الحال بين األصدقاء ‪ :‬صديقي ليس ضيفا وال غريبا !!‬
‫إن صديقي حين يزورني ال يجد حرجا حين يجد طعاما في بيتي من أن يأكل منه دون أن يستأذنني ‪.......‬‬
‫إن هذا المعنى نصا ورد في كتاب هللا تعالى بل هو النص الوحيد الذي ذكر فيه الصديق ذكره مع قلة الكلفة !! قال تعالى‬
‫وت ِ‬
‫آبائ ُك ْم أ َْو‬ ‫ْكلُوا ِمن بيوِت ُكم أَو بي ِ‬ ‫َن تَأ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َع َرِج َح َرٌج وال َعَلى اْلم ِر ِ‬
‫ْ ُُ ْ ْ ُُ‬ ‫يض َح َرٌج َوال َعلى أ َْنُفس ُك ْم أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َعمى َح َرٌج َوال َعَلى ْاأل ْ‬ ‫(َل ْي َس َعَلى ْاأل ْ‬
‫ِ‬
‫خاالت ُك ْم أ َْو َما‬ ‫وت‬ ‫َخوالِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وت أ ِ‬ ‫وت أَخو ِات ُكم أَو بي ِ‬
‫وت ِإ ْخو ِان ُكم أَو بي ِ‬ ‫هات ُكم أَو بي ِ‬ ‫وت أ َّ ِ‬‫بي ِ‬
‫َعمام ُك ْم أ َْو ُب ُيوت َع َّمات ُك ْم أ َْو ُب ُيوت أ ْ ْ ْ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ْ ُُ‬ ‫ْ ْ ُُ‬ ‫ُم ْ ْ ُ ُ‬ ‫ُُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ام َرِته‪ ،‬ثُ َّم أ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َكْل َت م ْن‬ ‫صديق َك م ْن َغ ْي ِر ُم َؤ َ‬ ‫صديق ُك ْم َقتَ َاد َة في َق ْولِه‪ :‬أَو َصديق ُكم) َق َ‬
‫ال قتادة ‪ :‬إ َذا َد َخْل َت َب ْي َت َ‬ ‫َمَل ْكتُ ْم َمفات َح ُه أ َْو َ‬
‫ْس‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َ ِِ‬
‫ط َعامه ِب َغ ْي ِر ِإ ْذنه َل ْم َي ُك ْن ِب َذل َك َبأ ٌ‬
‫ال‪:‬‬ ‫ط ًبا ِفي َب ْيِت َك َفأ َ‬ ‫قال معمر ‪ :‬دخْلت بيت َقتادة َفأَبصرت ِف ِ‬
‫َكْل ُت‪َ ،‬ق َ‬ ‫ص ْر ُت ُر َ‬
‫ال‪َ :‬ما َه َذا؟ َفُقْل ُت‪ :‬أ َْب َ‬
‫آكلُ ُه‪َ ،‬فَق َ‬
‫ط ًبا َف َج َعْل ُت ُ‬
‫يه ُر َ‬ ‫َ َ ُ َْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ص ِد ِيق ُك ْم" ‪ ،‬وكأن قتادة يختبر صديقه وينظر فقهه ويبتلي معرفته بمعاني الصداقة الحقيقية ‪ ،‬ولم ال‬ ‫ّللاُ تَ َعاَلى‪ ":‬أ َْو َ‬
‫ال َّ‬
‫َح َس ْن َت‪َ ،‬ق َ‬
‫أْ‬
‫يفعل وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سيد المحبين قدوتهم وأسوتهم فقد كان يذهب لحائط أبي طلحة رضي هللا عنه –‬
‫بيرحا – ويشرب منه بدون استئذان ‪ ،‬هكذا ينبغي أن تكون العالقة بين األصدقاء ‪..............‬‬
‫ويتكلف له ‪.‬‬
‫لذلك قال علي رضي هللا عنه ‪ :‬شر األصدقاء من ُيحتشم منه ُ‬
‫ووافقه الحسن بن وهب قائال ‪ :‬اعلم أن المودة ال تتم ما دامت الحشمة عليها مسلطة ‪.‬‬
‫◄إن صديقي حين يريد أن يرتاح ال يجد غضاضة في أن ينام على سريري ويلتحف بلحافي ‪.....‬‬
‫إن صديقي حين يكون في بيتي ويريد دخول الخالء ال يجد حرجا في طلب ذلك مني ‪...............‬‬
‫صديقي حين أعطيه عطاء ال يلزم نفسه برد ذلك العطاء وحين أدعوه لوليمة ال يلزم نفسه برد تلك الوليمة وحين أسدي إليه‬
‫جميال ال يرده بمال حتى ال يصير لي جميل عليه !! إن مثل هذه التصرفات ال تصدر إال من نفوس مريضة خلت قلوبها من‬
‫معاني الحب والود ‪ ،‬والبشر الذين يتعاملون مع كل الناس بذلك األسلوب ليس لديهم في حياتهم صديق ‪ ،‬لم يعرفوا معنى‬
‫قلوبهم الداكنة ‪.‬‬
‫الصداقة ولن يعرفوها حتى يعرف الحبَّ ُ‬
‫فالحب والكلفة ضدان ال يجتمعا أبدا ‪....‬‬
‫قال الصاحب شرف الدين ‪:‬‬
‫ف‬ ‫ُّ‬
‫فارتََف َع التًّكلـ ُ‬ ‫َج َّد َ‬
‫اله َوى ْ‬ ‫ال َغ ْرَو ِإ ْن ُب ْح َت ِب ِس ِّر ُحِّب ُك ْم‬
‫◄ أخي ار إن ارتفاع التكلف بين األصدقاء ال يأتي مرة واحد ‪ ،‬فالتدرج سنة الكون ‪ ،‬والحب كما يزداد درجة درجة فالتكلف كذلك‬
‫يرتفع تدريجا والصبر يأتي بالتصبر والحلم يأتي بالتحلم والكلفة في ابتداء العالقة شيء طبيعي فالصديق كان يوما غريبا فصار‬
‫زميال فصاحبا فخدينا ‪ ،‬تلك سنن الحياة يعرفها الخبير قبل الكبير ‪......‬‬

‫شرط الحب‬

‫‪36‬‬
‫للحب الناجح بين األصدقاء شرط بل قيد عسير متى وقع كان ضمانا لنجاح الصداقة ومظنة بقائها واستمرارها ومتى افتقده‬
‫الصديقان فليست صداقة وإنما درب من العذاب والشقاء بل الذل والهوان ‪ .....‬إنه وقوع الحب متبادال بين الصديقين بل بنفس‬
‫القدر من كال الطرفين وحتى ال نكون مغالين نقول بقدر متقارب بين الخدينين فربما يكون التناسخ محاال ‪ ،‬وأيا كان األمر‬
‫فالشيء اليقيني أن الحب إذا كان من طرف واحد فإنه إعالن لنهاية الصداقة التي لم تبدأ وحطام ألركان صداقة لم تنبنِ ‪،‬‬
‫فالبناء حتى يكون محكما وحتى يستقيم سقفه ال بد لألعمدة واألركان أن تكون متساوية فإذا قل جدار عن جدار سقط السقف‬
‫وسقط البناء كله ‪ ....‬فكذلك الصداقة ال تستقيم وال تبقى إال بحب متبادل متساوٍ بين قلبين ‪............‬‬
‫َوال ُي ِحُّب َك َمن تُّ ِحُب ـ ـ ُه‬ ‫و ِمن البلِي ِ‬
‫َّة أَن تُ ِح ـ ـ َّب‬ ‫قال الشافعي‪:‬‬
‫َ َ َ‬
‫التغبه ‪ :‬التقطعه‬ ‫َنت َفال تُ ِغّب ـ ـه‬ ‫َوُتلِ ُّح أ َ‬ ‫نك ِب َوج ِهـ ـ ـ ِه‬ ‫ص ُّد َع َ‬‫َوَي ُ‬
‫حقا إنه شر الباليا أن يتعلق قلبك بمن قلبه ال يمنحك أي اهتمام ‪ ....‬من تتعرض له لترافقه وتحادثه فيبتعد عنك وال يلقي لك‬
‫باال بل يرافق غيرك ‪ ،‬من تنتظر منه االبتسامة فيحرمك منها ‪ ،‬من تحاول التحدث معه فينهي الحديث ‪ ،‬من تطلب لقاءه مرات‬
‫ومرات فيتعلل باألعذار واالنشغاالت ‪ ،‬من ربما تفوز في النهاية بمصاحبته ولكن ال تفوز بقلبه ‪ ،‬من تنهار أمامه ببوحك له‬
‫بحبك فيجيبك بابتسامة باردة ‪ :‬شك ار على هذا الشعور النبيل !!‪ ...............‬إنه الذل والهوان في أسوأ صوره الذي ينتهي‬
‫بصاحبه إلى الحزن والكآبة بل االنهيار‬
‫(أنا أحبه وأعامله خير معاملة فلماذا يصد عني ؟؟ لماذا ال يبادلني نفس شعوري وأنا أثبت له كل يوم مدى حبي وإخالصي‬
‫له؟؟ لماذا يتركني ويرافق صديقا آخر وقد فرغت له وقتي وظننت أنه سيكون معي اليوم ؟؟ لماذا هذا البرود وهذا التكبر وكأنه‬
‫يعامل شحاذا يريد الصدقة؟‬
‫إنني أريد الود والحب فلماذا ال يمنحني إياه ؟ وماذا يكلفه ذلك وأنا لم أطلب ماال وال مصلحة ؟؟ لماذا كل هذا ؟؟؟؟؟؟)‬
‫ألنه ال يحبك كما تحبه ‪.............‬‬
‫يحب من ال يحـ ـ ــبه‬ ‫ما زلت أسخر ممــن‬ ‫قال العباس بن األحنف ‪:‬‬
‫يحبني و أحبـ ـ ـ ــه‬ ‫حتى ابتلــيت بمن ال‬
‫ومنيتي الدهر قربــه‬ ‫يهوى بعادي وهجـري‬
‫مثل ما لي قلبـ ـ ــه‬ ‫فليت قلبي له كـ ــان‬
‫◄ إن لعدم حب صاحبك لك أو قلة حبه – فربما يحبك بقدر أقل من حبك له – عالمات وشواهد على من يبغي الصداقة أن‬
‫يفهمها جيدا فمتى وجدها في من التمسه صديقا فهي صفارة إنذار أن ابتعد وخذ لك ركنا سحيقا فهنا ليس محل صداقة وإنما‬
‫محل ذل وهوان ومشاكل لن تنتهي ‪ ،‬ومن أهم هذه العالمات ملله وتأففه من كثرة اهتمامك به ‪ ،‬فال شك أن المحب يهتم بحبيبه‬
‫ويحرص على مصلحته و يحاول منحه كل ما يستطيع ويخشى ضرره ويحول دون وقوعه ‪ ،‬ولكنك حين تسرف في هذه‬
‫المشاعر والتصرفات مع من ال يحبك بنفس القدر يتضجر منك ويضيق صدره ويشعر أنك تخنقه ‪ ،‬تماما مثلما يحدث بين االبن‬
‫وأمه حين تحرص عليه حرصا شديدا وتخاف عليه وتكرر على مسامعه النصائح واإلرشادات حبا له فنجد االبن يصيبه الضيق‬
‫من ذلك ويشعر بالخنقة !! وهذا ال يحدث إال ألن حب األم البنها يفضل كثي ار حب االبن ألمه فهنا تحدث الخنقة !‬
‫‪ .............‬وكذلك الصديق الذي يحرص على مصلحة صديقه يخنقه بكثرة اهتمامه به إذا كان الحب الصادق غير متبادل‬

‫‪37‬‬
‫بين الجانبين حتى يصرخ صاحبه في وجهه في النهاية قائال ‪ :‬أليس لك شاغل غيري ؟!! اذهب ولتنشغل بأحد آخر واتركني‬
‫‪ ...‬أنا سئمت !! ‪.................‬‬
‫أما العالمة األخرى – وهي قريبة من األولى – هي سأمه من غيرتك عليه ‪ ،‬فحين تلومه على انشغاله بصديق آخر عنك ‪ ،‬أو‬
‫ربما استبداله صديقا آخر بك ينظر لك نظرات التعجب ‪ ،‬يتعجب من استفسارك الذي ال محل له عنده ‪ ،‬بل قد يزيد على ذلك‬
‫فصرت عبدا لك ؟! أم وقعت عقدا صرتُ بمقتضاه قص ار‬
‫ُ‬ ‫قائال ‪ :‬وهل تريدني أال أصاحب أحدا غيرك ؟! أم هل اشتريتني‬
‫عليك وملكا لك وحدك ؟!‪.‬‬
‫إن بعض من يق أر كالمي هذا قد يتعجب ويتساءل ‪ :‬هل الصديق من سماته األثَرة أنه ال يقبل لصديقه شريكا وال يقبل لصديقه‬
‫أن يصاحب أحدا غيره ؟؟! أقول ال ليس بالضرورة ولكن ما أريد أن ألفت إليه االنتباه أن ألفاظ الضجر التي أشرت إليها ال‬
‫تصدر من صديق محب لصديقه ‪ ،‬بل الصديق المحب المخلص حين يجد صديقه يغار عليه يسرّ بذلك ويزداد فرحه وتتجدد‬
‫ثقته بأخيه ويشعر بقيمته عند صديقه التي جعلت صديقه يستأثر به ويغار عليه ‪ ،‬وكذلك اهتمام الصديق بصديقه يفرحه ويشرح‬
‫صدره ويشعر أن له سندا في الحياة هو بحق شق نفسه و حبيب قلبه أخوه في الملمة النكراء !!‬
‫أما الباردون الغالظ – ومنهم بعض من يق أر كالمي اآلن – يسمون هذا الكالم ( أنانية ) واستئثا ار فهم يسمون المعاني النبيلة‬
‫بغير اسمها كمن يسمي الجهاد في سبيل هللا إرهابا أو من يسمي كلمة الحق فتنة وشقا للصف !! وال عجب في ذلك ولست‬
‫أكترث ل هم فهم لم يذوقوا حالوة الحب في هللا ولم يجربوه ولو وقعوا فيه لعلموا الحقيقة الغائبة عنهم ولرجعوا إلى الصواب‬
‫والفضيلة !!‬

‫◄ إن هذه العالمات كفيلة بإنهاء الصداقة – سواء أبدأت أم كانت في أعماقها – أما من اختار المجازفة وقرر أن يسبح ضد‬
‫تيار الحقيقة فجزاؤه التعاسة والشقاء ‪ ،‬فإنه سيضطر أن يعيش ذليال أسي ار لحبه ‪ ،‬يرضى بالفتات مما يلقيه إليه صاحبه من بقايا‬
‫الود والحب ‪.......‬‬
‫ومن هؤالء الكثير الذين وصفوا ذلهم وهوانهم أمام أصدقائهم ومنهم أبو الفضل الوليد قال ‪:‬‬
‫إذا ضن أصحابي أجود وأسم ـح‬ ‫أراني ضعيفا في الصداقة والهوى‬
‫وإن أذنبوا عمدا فأعفو وأصف ـح‬ ‫وإن بعدوا عني دنوت مصافحــا‬
‫وأخسر في كل األمور ويرب ـ ـح‬ ‫يحملني خلي الذي فوق طاقت ــي‬
‫هذا هو الصديق الضعيف بحق الذي يجود على صاحبه بالود والحب وال يجد إال الضن والمنع ‪ ،‬حتى إذا أخطأ في حقه‬
‫صديقه المزعوم فإنه يحاول إقناع نفسه أنه لم يقصد ويجد نفسه مضط ار لمجاراة األمور وغض الطرف بيد أنه لن يسلم من‬

‫الوسواس القهري الذي سيؤرقه في نومه ويقظته ويقول له إن صاحبك ال يحبك ال ‪....‬قد َ‬
‫تغير عن جانبك سيتركك يوما ما ‪،‬‬
‫سيبيعك ويشتري غيرك ‪ ،‬وهكذا حتى يصيبه االنهيار والوهن ويذبل وجهه وتتوقف حياته فهو رهين بمن يحب يعيش بين نارين‬
‫نار فراق من أحب ونار الذل والمهانة من حبيبه ‪.........‬‬
‫وال لك عندي في األنام عديـ ــل‬ ‫تبدل فمالي من هواك بديـ ـ ـ ــل‬
‫سول ‪ :‬تخفيف سؤل‬ ‫فأنت هوى لي كيف شئت وسول‬ ‫وكن قاطعا إن شئت لي أو مواصال‬

‫‪38‬‬
‫أعرضت عنك قليــل‬
‫ُ‬ ‫قصرت فيك طوي ــل وصبري وإن‬ ‫ُ‬ ‫رجائي وإن‬
‫افعل بي ما شئت فأنا في يديك كالخرقة البالية ‪ ،‬خذني واعتن بي وإن شئت ألقني أينما تشاء فلن أفرط فيك ولن أفقد األمل‬
‫‪......‬لن أنساك ولن أصحب غيرك فأنت الحب األول واألخير !! إنه غاية الذل أمام من لن يرقب فيك ودا وال‬
‫صحبة‪.............‬‬
‫فتعرضت له ‪،‬‬
‫َ‬ ‫أعرض عنك غيري‬
‫فأعرضت عني ‪ ،‬و َ‬
‫َ‬ ‫(عرضت عليك مودتي‬
‫ُ‬
‫أصبت به منك ) كاتب يكتب إلى صديقه الجافي ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فاهلل المستعان على فوت ما أملتُه لديك ‪ ،‬وبه التعزي عما‬
‫ومن الصور المريضة لهؤالء األصدقاء الباردين الذين ال يقدرون حب أصدقائهم لهم أنهم يتمادون في إذالل أصدقائهم‬
‫ويسوقونهم كما تساق اإلبل يذهبون بهم حيث شاءوا فاألمر لديهم ليس أكثر من تسلية وعبث ‪ ،‬فهؤالء هم ُمحطمو القلوب و‬
‫ُمدمرو معاني الحب واإلخاء ‪........‬‬
‫عتو ‪ :‬تكبر‬ ‫نبوة ‪ :‬بعد‬ ‫يدت نب ـ ـ ّـوة وعت ـ ـ ـوا‬
‫تز َ‬ ‫ازددت ذلة لك في الحب‬
‫ُ‬ ‫كلما‬
‫◄ ولعل الصديق حين يكون على شاطئ الصداقة وقبل أن يبحر فيها وحين يجد مؤشرات قلة حب صاحبه له – وهو‬
‫الصديق الذكي الفطن – ينأى بنفسه ويقتل حبه في مهده ويئده في فراشه قبل أن يكبر ويصير كاألفعى التي تطوق عنقه وتدمر‬
‫وتصيرها كد ار بعد صفاء‪......‬‬
‫ّ‬ ‫حياته‬
‫قال ابن المقفع تصديقا لذلك ‪ :‬اإلخاء رق وكر ُ‬
‫هت أن أملكك رقبتي قبل أن أعرف حسن ملكك !!‬
‫وقال الخليل بن أحمد ‪ :‬رغبتك في الزاهد فيك ذل نفس وزهدك في الراغب فيك قصر همة !!‬
‫هوة الحب البائس ثعلب حين قال ‪:‬‬
‫ولعل من األصدقاء الحكماء الذين أدركوا أنفسهم قبل الوقوع في ّ‬
‫فلم أر فيكم من يدوم على عهد‬ ‫وصلتكم جهدي وزدت على جهدي‬
‫وتأبون إال أن تحيدوا عن القصـد‬ ‫تأنيتكم جهد الصديق لتقصـ ــدوا‬
‫فبعد اختبار كان في وصلكم زهدي‬ ‫فإن ِ‬
‫أمس فيكم زاهدا بعد رغـ ــبة‬

‫إن هذا هو الصديق الحكيم الممسك بلجام قلبه الذي وإن كان محبا لكن إعراض الحبيب وقلة عمق حبه أوصاله إلى الزهد في‬
‫حبيبه كي ال يسوم نفسه سوء العذاب والهوان ‪....‬‬
‫ببر فقصر عن حملـ ـ ـ ــه‬ ‫امر جاه ــال‬ ‫بدأت َأً‬
‫إذا ما َ‬
‫وال يعرف الفضل من أهله‬ ‫ولم تره قابال للجمي ـ ــل‬
‫دواء لذي الجهل من جهلـه‬ ‫فسمه الهوان فإن اله ـ ـوان‬
‫وصدق القائل ‪:‬‬
‫كمعتذر عذ ار إلى غير عاذر‬ ‫ٍ‬
‫ومتخذ ودا لمن ال يـ ــوده‬
‫كساع برجليه إلدراك طائر‬ ‫ٍ‬
‫وعاش بعينيه لمن ال يب ــاله‬

‫حكمة وعاها من وعاها وغفل عنها من غفل ‪ ........‬ولكن ثمن الغفلة عنها كبير فهو الرق والعبودية في أسوأ حاليهما ‪......‬‬

‫‪39‬‬
‫بعد كل هذا يسأل سائل ‪ :‬هل الحب ضعف ؟ وهل المحب ضعيف ؟ أقول – وقد ظهر الجواب جليا ‪ : -‬الحب قوة بل دافع‬
‫ومحرك يفعل بإرادة صاحبه المعجزات ويجعله يشعر أنه أقوى من في الدنيا كلها ‪ ،‬ولكن كل هذا مرهون بحب صاحبك لك فإن‬
‫كان يحبك مثلما تحبه فأنت أقوى من في العالم وإن كان حبك واحد الجانب أو غير مماثل لحبه لك فأنت أضعف من في العالم‬
‫!!‬
‫فاللهم ال تجعلني أحب من ال يحبني وال تلجئني لمن ال يلقي لي باال فأنت مالك قلبي فقلب قلبي وفق صالح دنياي وآخرتي !!!‬

‫مشكالت الحب ‪:‬‬


‫نظريات في َ‬
‫من تحبه فابتعد عنه‬ ‫‪-1‬‬
‫صادق من يحبك ال من تحبه‬ ‫‪-2‬‬
‫الحب الهون‬ ‫‪-3‬‬
‫نبذ العشق والتعلق باهلل وحده‬ ‫‪-4‬‬
‫ملحوظة ‪ :‬هذه النظريات ما هي إال عرض لوجهات نظر معتنقيها و ولم أبين رأيي تجاه هذه النظريات ‪ ،‬عرضتها فقط وللقارئ‬
‫أن يعتنق منها ما شاء وفق اقتناعه فأنا لم أرجح فيها ولم أنتقد وأقول ذلك لئال يفهم أحد نقيض ذلك ‪.‬‬

‫◄النظرية األولى ‪ :‬ابتعد عمن تحب !‬

‫إذا كان الحب نا ار محرقة ولظى مدمرة فلماذا نقترب منه فصيبنا األذى أو الهالك ؟!‬
‫يكن الدمار حليفه المتلهـ ــفا‬ ‫نار تدق القلب من يتصد لها‬
‫إن من يكتو بنار الحب والتعلق فالدمار مالزمه ال محالة ‪ ،‬فال حل سوى البعد وهو ما نسميه االنسحاب ‪ ،‬إذا وقع حب فرد في‬
‫قلبك فما عليك سوى التقهقر والنجاء بنفسك من تلك األفعى الرقطاء قبل أن تكبر وتتضخم ويحدث التعلق و يحدث الجفاء من‬
‫الحبيب فتنقلب الدنيا سوادا وتقول يا ليت ما كان لم يكن ‪ ،‬تلك هي النظرية ‪ ،‬إنه الهروب ‪ ،‬الهروب من مأساة كثر ضحاياها‬
‫وكشفوا عما أصابهم فخرج أصحاب النظرية بفكرتهم وقالوا ال نريد القرب من الحبيب فالسالمة ال يعدلها شيء ‪ ،‬ولماذا نلقى‬
‫أنفسنا في أتون المجازفة بقلوبنا في حرب لو خسرناها خسرنا كل شيء ؟!‬
‫هذا من جانب ‪ ،‬وفي الجانب اآلخر بعدك عمن تحب سيكون فيه السالمة لصديقك فقربك منه ربما يسبب له المشكالت بثقلك‬
‫عليه وتكليفه ما ال يطيق فببعدك عنه تحفظ ما بقي من الود ورؤيتك لحبيبك من بعيد بال إثقال أو حرج خير من قربك من‬
‫وتسببك في تعبه وتحميله ما ال يطيق !‬
‫وهؤالء يقولون ‪ :‬كثير من الناس أجمل من بعيد ‪ ،‬فحافظ على المسافة بينك وبينهم ‪ ،‬المسافة وحدها جعلت حظ األرض من‬
‫الشمس الضوء والدفء ‪ ،‬ولقد علمت األرض أن القرب من الشمس فيه االحتراق‪................‬‬
‫ولكن مشكلة هؤالء أن األرض تعاملت مع بقية الكواكب بنفس تعاملها مع الشمس فصارت وحيدة بال أنيس سوى القمر الذي‬
‫هو ابنها وليس صديقها !!‬

‫‪40‬‬
‫إن هؤالء ال يحبون المواجهة ‪ ،‬ضعاف النفوس ولكنهم محتاطون حذرون يخالون أنفسهم أصحاب حكمة ‪ ،‬ربما تركهم‬
‫للمواجهة لما خبروه من آالم غيرهم ممن اكتووا بالحب ‪ ،‬ومنهم من أصابته سهام الحب فأردته جريحا محطما فتعافى بعد جهد‬
‫وعمر فأراد أال تتكرر المأساة فتكون الضربة القاضية التي ال قيام بعدها فآثر السالمة ‪ ،‬ولكن السؤال المطروح ألصحاب تلك‬
‫ُ‬
‫النظرية كيف سيكون لك أصدقاء ؟؟؟ ‪ ........‬بالطبع اإلجابة صعبة وإن كان أسهل جواب ال نريد لنا أصدقاء أو ربما تتحول‬
‫النظرية إلى نظرية انعدام فكرة الصداقة وهو ما سوف نناقشه فيما بعد في فصل نظريات الصداقة ‪.........‬‬

‫◄النظرية الثانية ‪ :‬صادق من يحبك ال من تحبه !‬

‫إنها أحد البدائل ألصحاب النظرية األولى و هو االنتقال من مرتبة الضعيف إلى مرتبة القوي الذي ال خوف عليه ‪ ،‬فتصير‬
‫أنت المحبوب المتعَلق بك المتحكم في زمام األمور فإن استمرت العالقة فنعم المطلب وإن لم تستمر خرجت معافى قويا لم‬
‫يصبك شيء ويقع األذى على الطرف اآلخر المسكين الذي جهل شرط الحب أو ربما انخدع فأصابه سيئات ما جهل أو انخدع‬
‫!! وهذه النظرية – كما هو واضح – لم يتحقق فيها شرط الحب الذي هو ركن الصداقة األعظم فكانت صداقة واهية مصيرها‬
‫الفناء والهالك فالبناء كما ذكرنا من قبل سيكون مائال غير مستو فيتهدم ويسقط ‪،‬والذي يتعامل مع الناس بهذا المبدأ أي ‪:‬‬
‫بالقلب األغلف الذي هو محصن من الحب ولكنه يستقبل المحبين – ال تستقيم له صداقة وال يبقى له أصدقاء ‪ ،‬فإنه سيشعر‬
‫يوما ما بثقل صديقه عليه ويذيقه م اررة الجفاء – رغما عنه ‪ -‬فكيف سيظل يتحمل من ال يحب وكيف سيتركه ضميره وهو‬
‫يشعر أنه يتكلف الود مع صاحبه ؟ فيكون من الناس الذين يكتوي الناس بنارهم من جفائهم ‪ ،‬فيهجرهم الناس ويصير في‬
‫النهاية بال أصدقاء ‪ ،‬فالخالصة التي يجب أن يعلمها الجميع أنه ال صداقة بال حب متبادل‪........‬‬

‫◄النظرية الثالثة ‪ :‬الحب الهون !‬


‫أحب من تشاء ولكن ال تغرق في بحر الحب إلى أذنيك ‪ ،‬ليكن حبا وسطا لعل حبيبك ينقلب حاله و‬
‫إنه الحل الوسط ‪ّ ....‬‬
‫يحدث الجفاء وتنقلب األمور ويصير عدوك وتنكوي بشعلة حب الماضي ‪ ،‬ليكن الحب كالملح في الطعام ال يستغني الطعام‬
‫غص المحب وتتنغص عليه حياته ‪..........‬‬
‫وي ّ‬
‫عنه و ال يزيد عن حده فيحدث التعلق والوله ويغدر الحبيب ٌ‬
‫إن عمدة هذا الباب هو قول علي بن أبي طالب الشهير ‪( :‬أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما ‪ ،‬وأبغض‬
‫بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما !)‬
‫وتابعه الحسن في ذلك فقال ‪ :‬أحبوا هونا وأبغضوا هونا فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا ‪.‬‬
‫إنه الهالك ‪ ........‬هو الشيء الذي يجب أن تحذر منه في عالقتك مع الناس فما عليك سوى أن تمسك العصا من المنتصف‬
‫فال تكون منطويا مبتعدا عن ود الناس وال تكون مولعا ببعضهم فيقودك ولعك إلى حتفك !!‬
‫العجيب في تلك النظرية أنها وجدت صدى عند كثير من األدباء والشعراء فنجد أبا األسود الدؤلي يعتنق تلك النظرية فيقول ‪:‬‬
‫فإنك ال تدري متى أنت نازع‬ ‫أحببت حبا مقاربا‬
‫َ‬ ‫و أحبب إن‬
‫فإنك ال تدري متى أنت راجع‬ ‫أبغضت غير مباين‬
‫َ‬ ‫وأبغض إذا‬

‫‪41‬‬
‫بل هذان البيتان أكثر األدباء في نسبتها فنسبها بعضهم للمقنع الكندي ونسبها بعضهم لهدبة بن الخشرم وبعضهم ردها مرة‬
‫أخرى لعلي بن أبي طالب رضي هللا عنه !!‬

‫وقال النمري بن تولب ‪:‬‬


‫إذا أنت حاولت أن تحكما‬ ‫وأحبب حبيبك هونا رويدا‬
‫أي ‪ :‬إذا حاولت أن تكون حكيما فليكن حبك هونا فإنه عين الحكمة ودرب المحترس المتعقل ‪........‬‬

‫التعلق باهلل وحده !‬ ‫ِ‬


‫◄ النظرية الرابعة ‪ :‬نبذ التعلق بالبشر و عشقهم و ُ‬

‫إن إمام هذه النظرية هو ابن القيم – رحمه هللا – وقد فصل هذه القضية تفصيال عجيبا في الداء والدواء فنجده يقول ‪( :‬‬
‫والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب وأال يشرك بينه وبين غيره في محبته ‪ ،‬إذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن‬
‫يشرك معه محبة غيره في محبته ويمقته لذلك ويعده كاذبا في دعوى محبته ‪ ،‬مع أنه ليس أهال في صرف كل قوة المحبة إليه ‪،‬‬
‫فكيف بالحبيب األعلى الذي ال تنبغي المحبة إال له وحده وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال ‪ ،‬ولهذا ال يغفر‬
‫هللا سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )‬
‫فمن وجهة نظر ابن القيم أن الحب ال يصرف إال هلل ومحبة غيره عذاب وشقاء والذي يحب هللا وحده هو المتنعم المرتاح ‪...‬‬
‫بل عد أن من وقع في حب غيره كان ذلك عقوبة من هللا أن أشرك معه غيره في الحب !! فقال ‪ ( :‬بل من أعرض عن محبة‬
‫هللا وذكره والشوق إلى لقائه ابتاله بمحبة غيره فيعذبه بها في الدنيا و في البرزخ وفي اآلخرة ‪ ،‬فإما أن يعذبه بمحبة األوثان أو‬
‫بمحبة الصلبان أو بمحبة المردان أو بمحبة النسوان أو بمحبة العشراء واإلخوان أو محبة ما دون ذلك مما هو في غاية الحقارة‬
‫والهوان فاإلنسان عبد محبوبه كائنا من كان كما قيل ‪:‬‬
‫فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي )‬ ‫أنت القتيل بكل من أحببت ـَـ ــه‬
‫فحب اإلخوان أو األصدقاء ِ‬
‫لذاتهم عند ابن القيم شيء في غاية الحقارة والهوان !! فهو استبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير‬
‫وهو يسميه كثي ار عشق الصور فيقول ‪ ( :‬ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية وال دنيوية بل مفسدته الدينية‬
‫يقدر فيه من المصلحة وذلك من وجوه أحدها االشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب‬ ‫والدنيوية أضعاف أضعاف ما ّ‬
‫تعالى وذكره فال يجتمع بالقلب هذا وهذا إال ويقهر أحدهما اآلخر ويكون السلطان والغلبة له ‪ ،‬الثاني عذاب القلب به فإن من‬
‫و إن وجد الهوى حلو المذاق‬ ‫أحب شيئا غير هللا عذب به والبد كما قيل ‪ :‬فما في األرض أشقى من محب‬
‫مخافة فرقة أو الشتـ ـ ــياق‬ ‫تراه باكيا في كل ح ـ ـ ـ ــين‬
‫ويبكي إن دنوا حذر الفراق‬ ‫فيبكي إن نأوا شوقا إليـ ــهم‬
‫وتسخن عينه عند ال ــتالقي‬ ‫فتسخن عينه عند الفـ ـ ـراق‬

‫‪42‬‬
‫الثالث أن قلبه أسير في قبضة غيره يسومه الهوان ولكن لسكرته ال يشعر بمصابه ‪........‬فعيش العاشق عيش األسير الموثق‬
‫وعيش الخلي عيش المسيب المطلق ‪ ،‬الرابع أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من‬
‫ّ‬
‫عشق الصور ‪).......‬‬
‫ثم تابع كالمه قائال ( العشق كما تقدم هو اإلفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق حتى ال يخلو من تخيله‬
‫وذكره والفكر فيه بحيث ال يغيب عن خاطره وذهنه فيحدث من اآلفات على البدن والروح ما يعز دواؤه ويتعذر فتتغير أفعاله‬
‫وصفاته ومقاصده ويختل جميع ذلك فتعجز البشر عن صالحه كما قيل ‪:‬‬
‫لجاجة ولجج ‪ :‬تجمع صغير من‬ ‫يأتي بها وتسوقه األقـ ـ ــدار‬ ‫الحب أول ما يكون ُلـ ــجا جة‬
‫الماء‬
‫جاءت أمور التطاق كب ـ ـ ــار‬ ‫حتى إذا خاض الفتى لُجج الهوى‬
‫والعشق مبادئه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم والذنب له فهو الجاني على نفسه وقد قعد مقعد المثل السائر ‪ :‬يداك‬
‫أوكتا وفوك نفخ !)‬
‫ثم في النهاية وبعد تفصيل طويل إلثبات نظريته قال – بعد تصرف وتلخيص طويل – ( اعلم أن أنفع المحبة على اإلطالق‬
‫وأوجبها وأجلها محبة من ُجبلت القلوب على محبته وفطرت الخليقة على تأليهه ‪)..........‬‬
‫وخالصة تلك النظرية عند معتنقيها أنهم ال يجدون بديال لمحبة هللا فال مكان ألحد في قلوبهم سوى هللا ومن كان سوى ذلك فقد‬
‫أشرك في المحبة ومن حدث له ذلك فهو عقاب من هللا على استبادله محبة غيره بمحبته ومن أراد أن يحب أحدا من الخلق‬
‫فسيحبه من أجل هللا ال ألجل نفسه فمدار المحبة هلل وفي هللا وليست ألحد سوى هللا ‪ ،‬وتأتي هنا قضية سأناقشها تاليةً في‬
‫المفهومات المغلوطة في الحب وهي فهم مسألة الحب في هللا في النصوص النبوية وآثار متبعيها ‪......................‬‬

‫مفهومات مغلوطة عن الحب ‪:‬‬


‫‪ -1‬فهم معنى الحب في هللا ‪:‬‬

‫لقد تكلمنا من قبل عن منزلة الحب في هللا أو الحب هلل في اإلسالم وكيف عظم اإلسالم هذا المعنى الرفيع ولكن تعبير الحب‬
‫أقبل االقتصار عليه وهو أنك تحب المرء ألنه ُيرضي هللا عز‬
‫أعترض عليه وال ُ‬
‫ُ‬ ‫في هللا وجد تفسي ار ضيقا عند كثير من العلماء‬
‫وجل وألنه مداوم على طاعته فسر حبك له هو ظنك أن هللا يحبه فيوافق حبك له حب هللا كذلك وذلك ألن من طاعة هللا حب‬
‫من يحبه وبغض من يبغضه‬
‫وإليك أمثلة على هذا الرأي ‪:‬‬
‫وب ِم ْن تَ َما ِم‬ ‫ان َه َذا ِم ْن تَما ِم حِّب ِه َِّهللِ‪َ ،‬فِإ َّن محَّب َة م ْحُب ِ‬
‫وب اْلم ْح ُب ِ‬ ‫آخ َر‪َ ،‬ف َك َ‬
‫ض َ‬‫َح ُّب اْلم ْخلُو ِق َِّهللِ ال لِ َغ َر ٍ‬
‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫قال ابن تيمية في فتاواه ‪َ :‬وأ َ‬
‫َّه ْم َِّهللِ ال‬
‫َحب ُ‬
‫آخ َر‪َ ،‬فَق ْد أ َ‬
‫ٍ‬ ‫ام ِهم ِبمحب ِ‬
‫وبات اْل َح ِّق ال لِ َش ْيء َ‬
‫ّللاِ ِأل ِ ِ ِ‬
‫َجل قَي ْ َ ْ ُ َ‬ ‫اء َّ ْ‬ ‫َح َّب أ َْنِب َياء َّ ِ ِ‬
‫ّللا َوأ َْول َي َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َم َحبَّة اْل َم ْح ُبوب؛ َفِإ َذا أ َ‬
‫ره‪.....................‬‬ ‫لِ َغ ْي ِِ‬
‫وهذا المعنى ما ذهب إليه تلميذه ابن القيم كما ذكرنا من قبل فهو قد اقتفى أثر أستاذه ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫وقال القسطالني في إرشاد الساري ‪( :‬رجالن تحابا في هللا) أي ألجله ال لغرض دنيوي (اجتمعا عليه) سواء كان اجتماعهما‬
‫بأجسادهما حقيقة أم ال‪...........‬‬
‫وفصل هذا المعنى أكثر الشيخ عبد العزيز بن باز فقال ‪ :‬الحب في هللا أن تحب من أجل هللا‪-‬تبارك وتعالى‪-‬؛ ألنك رأيته ذا‬
‫تقوى وإيمان فتحبه في هللا‪ ،‬وتبغض في هللا ألنك رأيته كاف اًر عاصياً هلل فتبغضه في هللا‪ ،‬أو عاصياً وإن مسلماً فتبغضه بقدر ما‬
‫عنده من المعاصي‪ ،‬هكذا المؤمن يتسع قلبه لهذا أو هذا يحب في هللا أهل اإليمان والتقوى‪ ،‬ويبغض في هللا أهل الكفر والشرور‬
‫والمعاصي‪ ،‬ويكون قلبه متسعاً لهذا وهذا‪ ,‬وإذا كان الرجل في خير وشر كالمسلم العاصي أحبه من أجل إسالمه وأبغضه من‬
‫أجل ما عنده من المعاصي‪ ,‬فيكون فيه األمران الشعبتان شعبة الحب والبغض‪ ,‬فأهل اإليمان وأهل االستقامة يحبهم حباً كامالً‪,‬‬
‫وأهل الكفر يبغضهم بغضاً كامالً‪ ،‬وصاحب الشائبتين صاحب المعاصي يحبه على قدر ما عنده من اإليمان واإلسالم‪ ,‬ويبغضه‬
‫على قدر ما عنده من المعاصي والمخالفات‪..........‬‬

‫وهذا المذهب الي ذهب إليه لألسف أكثر العلماء أراه تفسي ار قاص ار ضيقا ‪ ،‬فعندهم ليس من الحب في هللا الذي أعد هللا له ثوابا‬
‫عده بعضهم شركا هلل في المحبة !!! ولعل‬
‫عظيما ومنزلة رفيعة حب الشخص لذاته ولشخصه بال مصالح وال منافع دنيوية بل ّ‬
‫سر سوء فهم كثير منهم لهذه القضية أن لفظ (في هللا ) و (هلل ) اقترنت فيه الم التعليل و في السببية – وكالهما بمعنى واحد –‬
‫بلفظ الجاللة فظنوا أن أي حب يكون سببه هللا أي رضاه ‪ ،‬وهذا غير صحيح فلفظ في هللا أو هلل بمعناه األعم يعني في مقصد‬
‫هللا و غرض هللا وهو فعل الحب بال غرض وال مصلحة وال انتظار مقابل دنيوي فهذا مقصد من مقاصد الشرع ومنه قوله تعالى‬
‫( إنما نطعمكم لوجه هللا النريد منكم جزاء وال شكو ار ) فكان مقتضى وجه هللا انتفاء طلب الجزاء والشكر وكذلك الحب في هللا‬
‫ينتفي معه أي طلب لجزاء فهو حب لذات الشخص الذي ال شك من األفضل أن يكون مجتهدا في طاعة هللا ‪ ،‬ولكن إن لم يكن‬
‫كذلك فهو حب في هللا أيضا ‪ ،‬ولعل ما زاد االلتباس في حديث ( وأخوان تحابا في هللا اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) إبدال( اجتمعا‬
‫) و(تفرقا ) من (تحابا ) والبدل كما هو معلوم للتوضيح فكأن توضيح حقيقة هذا الحب االجتماع والتفرق على طاعة هللا ‪ ،‬وهذ‬
‫ا المعنى كذلك فيه التباس وخطأ بل من العلماء من فسره تفسي ار غير ذلك فإذا تابعنا كالم القسطالني نجده يقول ‪( :‬وللحموي‬
‫وتفرقا عليه) أي استم ار على محبتهما ألجله تعالى‬
‫والمستملي‪ :‬اجتمعا على ذلك أي‪ :‬على الحب في هللا كالضمير في قوله ( ّ‬
‫فرق بينهما الموت‪ ،‬ولم يقطعاها لعارض دنيوي‪).‬‬
‫حتى ّ‬
‫لتحاب فالضمير يعود‬
‫التحاب وافترقا على ا ّ‬
‫ّ‬ ‫وهذ ا ما ذهب إليه اإلمام مالك أن اجتمعا عليه وتفرقا عليه بمعنى اجتمعا على‬
‫على مصدر الفعل السابق ( تحابا ) وال يعود على هللا ‪ ،‬وإن كان هذا المعنى محتمال وال غبار عليه فانعكاس حب الصديقين‬
‫لبعضهما أن يجتمعا على طاعة هللا ألن كال منهما يرجو المصلحة ألخيه الذي يحبه كما يرجوها لنفسه ‪..........‬‬
‫وليت شعري ما الحرج في أن يحب الشخص شخصا آخر لذاته ولتوافق روحي بينهما ( وما تعارف منها ائتلف ) حتى إن لم‬
‫يكن المحبوب على طاعة هللا فيدفعه حبه له ان يأخذه بيده إلى طريق طاعة هللا فيلتزم الصراط المستقيم علي يد حبيبه‬
‫فيجتمعان في الدنيا على رضا هللا ويجتمعان في اآلخرة في ظل الرحمن ثم في روضات الجنان !! فهل الحب بهذه الصورة ال‬
‫يكون حبا في هللا وإنما حب للصور ؟؟!! وهل الحب بهذه الصورة إرضاء لغريزة داخلية بعيد عن ما أمر هللا به ؟! ال شك أن‬

‫‪44‬‬
‫الحب بهذه الصورة من أنبل المعاني وأسمى األخالق التي يحبها هللا ويرضى عنها وتدخل في معنى الحب في هللا الذي هو‬
‫الحب لمقصد هللا وهو الحب بال طلب مقابل !!‬
‫ِ‬
‫فأنا يا صديقي العزيز أحبك لشخصك ولذاتك ال لغرض فإن كنت على طاعة هللا فنعم الحب وِنعم الصديق وإن َ‬
‫كنت ملتبسا‬
‫بمعصية وأنا أحبك بال مصلحة دنيوية ‪،‬فلن أتركك وحدك وأبغضك وأزعم أنني ال أحبك وإنما سيدفعني حبي لك أن أرشدك‬
‫إلى طريق النجاة لنسير فيه معا إلى الجنة بإذن هللا‪ ، ..‬فباهلل عليك أليس ذلك من الحب في هللا ؟!! ‪..‬‬

‫‪ -2‬التفريق بين الصداقة والحب في علم النفس ‪:‬‬

‫لما كانت الصداقة إحدى أهم العالقات اإلنسانية اهتم علم النفس بها و شملها بالدراسة والقارئ لعلم النفس في هذا الموضوع يجد‬
‫مدى استقصاء العلماء النفسيين في دراسة ظاهرة الصداقة وعمل التجارب واألبحاث للخلوص إلى استنتجات علمية قائمة على‬
‫المشاهدة من بين عينات تمثل المجتمع كله ‪ ،‬و من بين ما لفت انتباهي في علم النفس حين تكلم عن الصداقة تفرقة عالم‬
‫النفس الشهير ( دافيز ) بين عالقة الصداقة وعالقة الحب فنجده يشير إلى اآلتي ‪:‬‬
‫(الحب والصداقة يتشابهان في أمور عديدة غير أنهما يختلفان في أمور أساسية تجعل من الحب عالقة أوفر إثابة إال أنها أقل‬
‫استق ار ار ‪ ،‬والحب صداقة إذ يستوعب كل مكونات الصداقة ولكن يزيد عليه بمجموعتين من الخصائص هي الشغف والعناية‬
‫‪......‬‬
‫مجموعة الشغف ‪ :‬وتشمل ثالث خصائص هي ‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫االفتتان ‪ :‬وهو ميل المحبين إلى االنتباه إلى المحبوب و االنشغال به‬ ‫‪-1‬‬
‫حتى عندما يتعين عليهم االنخراط في أنشطة أخرى مع الرغبة في إدامة‬
‫النظر إليه والتأمل فيه والحديث معه والبقاء بجواره ‪ ،‬واالستمتاع برفقة‬
‫المحبوب أكبر من االستمتاع برفقة الصديق ‪.‬‬
‫التفرد ‪ :‬وهو تميز عالقة الحب عن العالقات األخرى والرغبة في االلتزام‬ ‫‪-2‬‬
‫واإلخالص للمحبوب مع االمتناع عن إقامة عالقة مماثلة مع طرف ثالث‬
‫‪.‬‬
‫الرغبة الجسدية ‪ :‬وتشير إلى رغبة المحب في القرب البدني من الطرف‬ ‫‪-3‬‬
‫اآلخر ولمسه ومداعبته ‪.‬‬
‫مجموعة العناية ‪ :‬وتحوي خاصيتين هما ‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫تقديم أقصى ما يمكن ‪ :‬وذلك عندما يشعر أن الحبيب يحتاج إلى العون حتى لو وصل األمر للتضحية بالنفس !‬ ‫‪-1‬‬
‫الدفاع والمناصرة ‪ :‬وهو االهتمام والدفاع عن مصالحه والمحاولة اإليجابية لمساعدته على النجاح ‪) .‬‬ ‫‪-2‬‬
‫انتهت نظرية دافيز ‪..........‬‬

‫‪45‬‬
‫بعد أن قرأنا نظرية دافيز و بعد استرسال طويل في مناقشة مسألة الحب بين األصدقاء يتبين مدى الخطأ الذي وقع فيه من‬
‫التفريق بين الحب والصداقة حتى كأنهما شيئان منفصالن وكأن الصداقة ال تشمل الحب ‪ ،‬وعلى رغم اعتراف علماء النفس‬
‫بمدى خصوصية الصداقة ومدى عمق وقرب العالقة بين الصديقين تكلموا عن الحب وأفردوه وكأن عالقة الصديقين عالقة‬
‫أمر واقع أو صدفة محضة اقتضتها الظروف بدون أن يكون الحب عمادا لها ‪ ،‬بل بلغ االلتباس عند ديفيز أن ألصق‬
‫خصائص الصداقة الحقيقية نفسها بالحب وكأن الصداقة مجردة منها ( االفتتان والتفرد وتقديم أقصى ما يمكن والدفاع‬
‫والمناصرة ) فليت شعري كيف تكون صداقة بال شغف وال عناية ؟! وكيف يصير األصدقاء أصدقاء بحق بال دفاع عن‬
‫بعضهم أو مناصرة ؟! أم كيف تتحقق الصداقة بغير الحب واإلخالص ؟! وهل الحب بين الرجل والمرأة أسمى وأقوى من‬
‫األخوة بين الصديقين ؟! وهل عالقة الرجل والمرأة أوفر إثابة من عالقة أي صديقين مهما بلغا من التحاب والترابط‬
‫؟!‪ ...............‬إن كالم ديفيز بأن الحب أوفر إثابة وأقل استق ار ار من الصداقة يمكن تثقيفه بقولنا الحب أوفر إثابة وأقل‬
‫استق ار ار من الصحبة ! ‪ ........‬لماذا ؟ ألن عالقة الحب ( سواء كان بين الصديقين أو الزوجين ) فيها من التداخل‬
‫واالندماج ما يجعل العالقة في درجة عالية من االلتصاق والقرب وهو ما يجعلها أقل استق ار ار من الصحبة العادية ألن عمق‬
‫االندماج أدعى لحدوث المشاكل والحساسيات والشك والغيرة وهو ما ال يتوفر في الصحبة التي فيها حواجز ال يمكن تخطيها‬
‫‪.....................................................................‬‬

‫بهذا نكون قد تكلمنا عن الحب بين األصدقاء ‪-‬وما وفيناه حقه ‪ -‬فهو بحق الركن األعظم لبناء الصداقة و وبقي أن نتحدث‬
‫عن بقية األركان التي هي فروع للحب وثمرات لشجرته اليانعة الطيبة ‪............‬‬

‫‪ -2‬المشاركة في الهموم‬

‫مآسيك وأحز ِ‬
‫انك وحده بال صديق ‪ ..............‬وكم يخف األلم والحزن حين‬ ‫ِ‬ ‫◄كم أنت قاسية أيتها الحياة حين يالقي الفرد منا‬
‫همك وحزني حزنك ‪ ...........‬ياله‬ ‫يجد اإلنسان من يشاركه حزنه ويقاسمه همومه ولسان حاله يقول ‪ :‬يا أخي ال تحزن ّ‬
‫فهمي ّ‬
‫من ضياع عاش فيه كثير من الناس حين افتقدوا من يمد لهم يد العون في أحلك اللحظات ‪ ........‬وياله من أسى و تحسر‬
‫وقع فيه من وجد من جمعهم من أصحاب ومعارف يتخلون عنه حين احتاجهم فوقعت عينه على الحقيقة المرة أن ليس له‬
‫أصدقاء وكل من جمعه في حياته كانوا غثاء كغثاء السيل ال قيمة لهم سوى الضحك والمزاح والمشاركة في السرور أما في‬
‫األتراح فال وجود لهم فهم أصدقاء الرخاء فحسب ‪............‬‬

‫إن من أعظم مهام الصديق أن يكون معك وقت الضيق ‪ ،‬الصديق وقت الضيق ‪ ،‬حكمة قديمة لم تأت من فراغ وإنما استنتجها‬
‫من خبروا الحياة وعرفوا معادن الناس ‪ ،‬ولعلهم قالوا ذلك ليميز العاقلون بين الغث والثمين من البشر‪..................‬‬
‫و ال تدنين إليك اللئام ـ ـ ــا‬ ‫تخير لنفسك من تصطفـ ــيه‬ ‫لذا فقد قال ابن الكيزاني ‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫ولكن إذا قعد الدهر ق ـ ــاما‬ ‫فليس الصديق صديق الرخــاء‬
‫ال يستلذ المنام ــا‬ ‫يهمـ ــك‬ ‫تنام وهمـ ـ ـ ـ ـ ــته في الذي‬
‫الحمام ‪ :‬الموت‬ ‫تمناك أن لو لقيت الحمـ ـ ــاما‬ ‫وكم ضاحك لك أحشـ ـ ــاؤه‬
‫همك ‪ ،‬ال ينام له جفن وال يهنأ بعيش حتى يزيل عنك كربك ‪ ،‬أما غيره من تراب البشر‬
‫همه ّ‬
‫الصديق الحق الذي يقول لك يا أنا ّ‬
‫فهمه نفسه فما دام في خير و رغد فال يضيره شيء ‪ ،‬ربما ُيسمعك بعض كلمات اإلحسان التي يقولها الرجل للشحاذ حين ال‬
‫يريد أن يعطيه شيئا ‪ ،‬أما الفعل فهو أبعد ما يكون عنه ‪................‬‬

‫◄ إن كثي ار من الواهمين الغافلين يظنون أن الصداقة هي الضحك والمزاح ‪ ،‬فسح وأفراح ‪ ،‬لعب ولهو ‪ ،‬فظلوا يجمعون من‬
‫األصحاب من هم من هذا النوع وهم كثر أكثر من قطرات البحر !! فإذا أصابتهم هزة عنيفة من هزات الحياة لم يجدوا أحدا‬
‫ممن ظنوهم أصدقاء ‪ ،‬وجدوا أنفسهم منفردين بال نصير وال معين ‪ ،‬يطلبون من أصحابهم العون فيجدون الخذالن ‪ ،‬يتصلون‬
‫بهم يستنجدون فيجدون التهرب والتعلل ‪ ،‬فأثابهم هللا غما بغم ‪ ،‬غم المصيبة وغم خذالن الناس ‪ ،‬وهذا ما جنته أيديهم ولم يجن‬
‫عليهم أحد !!‪ ،‬هم الذين اختاروا الرخيص من األصحاب ولم يتعبوا أنفسهم بالتنقيب عن المعادن النفيسة من البشر ‪ ،‬وهم قلة ال‬
‫شك ‪ ،‬ولكن العاقل الفطن يعمل لوقت شدته ويتخذ األصدقاء األوفياء عدة ليوم كربته ‪ ،‬أما المغبونون فعاشوا لحظات الفرح‬
‫المجن ‪ ،‬و يستيقظ الغافلون على الحقيقة المرة التي‬
‫ّ‬ ‫واغتروا بها ونسوا حظهم من الصداقة الحقيقية ‪ ،‬لتتقلب الحياة وتقلب ظهر‬
‫تغافلوا عنها وهي أنهم ليس لهم أصدقاء وإنما تراب وغثاء ‪.............‬‬

‫◄ وإن فساد االنتهاء من فساد االبتداء ؛ فإن الصاحب المكروب حين يتخلى عنه أصحابه تكون النهاية لتلك العالقة الواهية‬
‫المهلهلة التي ال فائدة منها وينقلب الضحك والهزل إلى نكد و جد ‪ ،‬فهو ذنب ال يغتفر ‪ ،‬وال تستقيم معه عالقة بعد ذلك‬
‫‪................‬‬
‫حينئذ تنقلب الصداقة إلى عداوة ‪ ،‬قال ناصيف اليازجي ‪:‬‬
‫طلبت ـ ــه في أوان الضيق لم تجدِ‬ ‫أعدى العداة صديق في الرخـ ــاء‬
‫ـدت قلبا ال يدا بي ـ ــد‬
‫عاق ـ ـ َ‬ ‫وأوثق العهد ما بين الصحاب لمن‬
‫هذه هي الحقيقة ‪ ،‬إن األصدقاء حين يتخلى بعضهم عن بعض وقت الشدة لم يكونوا أصدقاء بحق وصحبتهم لم تكن صحبة‬
‫قلوب وأرواح وإنما كانت صحبة أجساد وأشباح ‪ ،‬فبئست العالقة وبئس المورد و المرجع وهنا ال بد من النهاية‬
‫المحتومة‪......................‬‬

‫الكربات كاشفات !‬

‫إن سوء اختيار األصدقاء داء دواؤه إصالح النفس وتقويم الفكر والفهم الصحيح لمعنى الصداقة ‪ ،‬أما الخيانة فال دواء لها !!!‬

‫‪47‬‬
‫كثير منا صار له صديق وثق فيه وصار جزءا من حياته ‪ ،‬ولكنه صديق مخدوع خدعه صاحبه ‪ ،‬فصاحبه تقمص دور‬
‫الصديق المخلص وأتقن الدور إتقانا ربما لمصلحة يرجوها وربما لتسلية وتضييع وقت ! ‪ ،‬فتأتي الكربات كاشفات تميز بين‬
‫الناس ويتضح معها معادن األصدقاء ‪ ،‬فمن ساندك في وقت كربك فهو الصديق ومن تخلى عنك فليس الصديق بل العدو ‪،‬‬
‫وهو من باب قول هللا تعالى‬
‫( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم )‬
‫( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل هللا فيه خي ار كثي ار )‪،‬‬
‫الكشف عن حقائق الناس ‪ ،‬والمنافقون كانوا كث ار في عهد‬
‫ُ‬ ‫أيكون الخير الكثير من الكربة ؟! نعم ‪ ............‬إن أعظم خير‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في وقت الرخاء والتمكن فأتى هللا بالشدائد امتحانا للناس وليميز هللا الخبيث من الطيب فقال في‬
‫حادثة اإلفك ( ال تحسبوه ش ار لكم بل هو خير لكم) وأي خير في الطعن في شرف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ؟! إنه ظهور‬
‫المنافقين وعلم الناس لهم على حقيقتهم ‪ ( ،‬هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزاال شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم‬
‫مرض ما وعدنا هللا ورسوله إال غرو ار ) هنا ظهرت الحقيقة وبزغ النفاق ولم يكن ليبزغ لوال الكرب والشدة ‪ ،‬وكذلك المنافقون من‬
‫األصدقاء يتجلون حين نحتاجهم في أسوأ صورهم الدميمة ‪ ،‬حتى قال بعض الحكماء ‪ :‬جزى هللا عنا الشدائد خي ار بينت لنا‬
‫العدو من الصديق !!‪..................‬‬
‫وفي سفر يوشع بن سيراخ ‪ ( :‬ال يعرف الصديق في السراء ‪ ،‬وال يخفى العدو في الضراء )‪..............‬‬
‫و سـأل اإلسكندر ديوجانس ‪ :‬بم يعرف الرجل أصدقاءه ؟ قال بالشدائد ألن كل أحد في الرخاء صديق !‬

‫لقد اكتويت أنا نفسي بهذا النوع من البشر وكانت لحظة المكاشفة صعبة عسيرة ‪ ،‬والصدمة ال يستفيق صاحبها بسهولة ‪ ،‬ولكن‬
‫(عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم ) يرتاح القلب بعد ذلك من هؤالء المخادعين األفاكين ويعيش الحقيقة بصدر رحب ويقوم‬
‫من كبوته ويبحث عن سبل جديدة للحياة ‪ ،‬وتلك هي الحياة عثرات يتعثر بها اإلنسان ‪ ،‬فمن نهض وأكمل السير فهو الناجح‬
‫الفالح ومن رقد ونام وانهار فال مكان له في هذه الدنيا ‪...............................‬‬

‫شكوي الشعراء‬

‫مر الشكوى من صدمة األصحاب المزيفين الذين يفرون وقت الكروب كالحمر المستنفرة التي فرت من‬
‫لقد اشتكى الشعراء ّ‬
‫القسورة!!‬
‫فهي ظاهرة قديمة قدم الدهر ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫و مالك عند فقرك من صديق‬ ‫صديقك حين تستغني ك ــثير‬
‫طوى عنك الزيارة عند ضي ــق‬ ‫فال تحزن على أحـ ــد إذا ما‬

‫‪48‬‬
‫فتعود على األمر وال يصبك الحزن حين تجد من ظننته صديقا يهجرك حين‬ ‫إنها ظاهرة متفشية متكررة وكأنها حقيقة ثابتة ‪ّ ،‬‬
‫حاجتك إليه فهو يخشى على نفسه أن تطلب منه المساعدة وهو ال يريد أن يساعد أحدا ‪ ،‬ستصير عبأ عليه ‪ ،‬وهو يكفيه ما‬
‫عليه من أعباء ‪ ،‬حينها سيبحث عن صاحب غيرك يستفيد منه وال يخشى من إثقاله عليه !!!!‬
‫وضاقت عليه أرضه وسماؤه‬ ‫إذا قل مال المرء قل صديقه‬
‫قال اإلمام الشافعي ‪:‬‬
‫اس‬ ‫دو في ِ‬
‫القيـ ـ ـ ِ‬ ‫يب ِمن َع ٍّ‬
‫يس َي َنف ُع َيوم بـُ ِ‬
‫ؤس‬ ‫َقر ٌ‬ ‫ديق َل َ‬
‫ص ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ان ِإ ّال ِللتَآسـ ـي‬ ‫وال ِ‬
‫كل َع ٍ‬
‫اإلخـ ـ ـو ُ‬
‫صر‬ ‫ِ‬
‫ديق ِب ّ‬
‫َ‬ ‫الص ُ‬ ‫َوما ُيبغى َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫هر ُملتَ ِمساً ِب ُجهدي‬
‫أَخا ثَقة َفأَلهانـ ـ ـ ـي التماسي‬ ‫رت ا َلد َ‬
‫َع َم ُ‬
‫ِ‬
‫ُناسها َليسـ ـ ـ ـوا ِبناسي‬ ‫َكأ َّ‬
‫َن أ َ‬ ‫تََن َّك َرت الِب ُ‬
‫الد َو َمن َعَلي ـ ـها‬
‫لقد استفحلت تلك الظاهرة في زمن الشافعي حتى أعياه البحث والتنقيب عن هذا النوع النادر الفريد من الناس الذين يقفون بجوار‬
‫أصدقائهم ويشدون من أزرهم ‪ ،‬وكأن العمر مضى بدون الوصول لهذا النوع من البشر وكأنهم فقدوا صفة بشريتهم وتخلوا عن‬
‫إنسانيتهم ‪!!!.‬‬
‫في وقت ضنك العيش ال في رغده‬ ‫قال ناصيف اليازجي ‪ :‬إن الصديق هو المقيم على الوفا‬
‫والكل أصحاب الفتى في سع ــده‬ ‫أهل الصداقة في النحوس قالئل‬
‫إن الجميل لمن يقوم بعهـ ـ ــده‬ ‫ليس الجميل لمن يعاهد صاح ــبا‬
‫من لم يكن للناس حافـــــظ وده‬ ‫ال يحفظ الود السليم لربــــــــه‬
‫إن تلك الظاهرة المقيتة كثير من أصحابها يظنون أنهم يرضون هللا عز وجل ! ‪ ،‬فالتدين عنهم ليس أكثر من عبادات شكلية‬
‫وعالقة بين العبد وربه وليس للناس من أخالقهم وسلوكهم نصيب فبئس الناس عند هللا من كانوا بئس الناس عند الناس وهو‬
‫موضوع سوف يأخذ حجمه في بحثنا حين يأتي موضعه بإذن هللا ‪..............‬‬
‫وأعجب من هذا كله األصدقاء المخلصون بحق الذين أحبوا بعضهم وتعاهدوا على اإلخالص والوفاء ولكن كل شيء تهدم حين‬
‫المجن ‪ ،‬وتهاوت الصداقة أمام الكربات وكأن الصديق بلسان حاله يقول ‪ :‬لقد خضت بح ار ال أجيد السباحة‬
‫ّ‬ ‫قلب الزمان ظهر‬
‫فيه فحان وقت الرجوع !!!! ‪ ،‬وعن هذا النوع يقول الشاعر ‪:‬‬
‫أشفق من والد على ولــد‬ ‫ٍ‬
‫وصاحب كان لي وكنت له‬
‫أو كذراع نيطت إلى عضد‬ ‫كنا كساق يمشي بها ق ــدم‬
‫ليست بنا وحشة إلى أح ــد‬ ‫وكان لي مؤنسا وكنـت له‬
‫كنت كمحتاج يد األس ـ ــد‬ ‫حتى إذا احتاجت يدي يده‬
‫وهذا النوع من األصدقاء سماه شاعر آخر صديقا للزمان ! فقال ‪:‬‬
‫وامقا ‪ :‬محبا‬ ‫ناصحا وامقا رفي ــقا شفيــقا‬ ‫وأخ كان لي ودودا مح ـ ـ ـ ــبا‬
‫المزن ‪ :‬السحب‬ ‫المزن يرضيك صامت ــا ونطوقا‬ ‫كان أحلى من الجنى عند صوب‬
‫المحملة بالمطر‬

‫‪49‬‬
‫منه صار البع ــيد السحيــقا‬ ‫ثم لما أصابني الدهر بالجف ـ ــوة‬
‫يا صديقي ما كنت لي بصديــق إنما كنت للزم ــان ص ـ ــديقا‬
‫وقال شاعر آخر يصف صديقه المتحول – وما أكثر المتحولين !‪: -‬‬
‫صاحب أينا غلــبا‬ ‫أخ بيني وبين الدهر‬
‫نبا دهر علي نــبا‬ ‫صديق ما استقام فإن‬
‫وثبت على الزمــان به فعاد به وقد وثــبا‬
‫ُ‬
‫حدبا ‪ :‬عطوفا شفيقا‬ ‫لعاد أخا حدبـ ــا‬ ‫ولو عاد الزمان لـنا‬

‫(أال ليت الزمان يعود إلى الوراء وليت الكربات لم تقع ليس لهول الكربات وإنما لهول الصدمات من األصدقاء الذين لوال الكربات‬
‫لظلوا لنا أصدقاء !! ) هؤالء نوع من االنهزاميين في الصداقة الذين يفضلون أن يعيشوا حلما حلوا بعيدا عن الواقع ‪ ،‬يريدون‬
‫العيش في األوهام والخيال ‪ ،‬يفضلون العيش مخدوعين بمن يحبونهم عن أن يعيشوا متبصرين لحقيقة من أحبوهم الخادعة ‪ ،‬يا‬
‫لها من هزيمة وياله من خنوع وياله من ذل يفضل أن يقع في أسره الواهمون المخدوعون !! ومن الذين وقعوا في ذلك منصور‬
‫بن إسماعيل الفقيه حين قال‪:‬‬
‫بادي الصداقة ما في وده دغل‬ ‫أيت ام أر في حال عسرته‬
‫إذا ر َ‬
‫فإنه بانتقال الحال ينتـ ـ ــقل‬ ‫يسر بهـ ــا‬
‫فال تمنّ له حاال ُ‬
‫لقد وصل الحال بهؤالء المتعلقين بالوهم إلى أن تمنوا دوام شقاء محبيهم لئال يفقدوهم في حال صحتهم ونشاطهم ‪ ،‬فهم يقاومون‬
‫وساوس صدورهم بأن الحبيب لن يدوم على حاله إذا زالت الكبوة وأقيلت العثرة ‪ ،‬فيسيطر عليهم هذا الشعور المرضي المتناقض‬
‫الجامع بين الحب تارة الذي يدفع صاحبه لتمني عافية محبوبه وبين تمني دوام شقاء المحبوب تارة ليظل ذلك الحب قائما غير‬
‫ممسوس بسوء !!‬

‫نصائح الحكماء ‪:‬‬


‫إن بحر الصداقة بحر عظيم من خاض فيه فعليه التزود بالمعين من الصديق الذي يشارك صديقه األفراح واألتراح سواء بسواء‬
‫فهو يعرف حقيقة الحياة وتقلباتها ‪ ،‬وكان الحكماء على وعي بذلك فبذلوا النصح لمن على شاطئ الصداقة لئال يخوضوا البحر‬
‫على غير عدة وال عتاد !!‬
‫قيل لثيفانوس ‪ :‬من صديقك ؟ قال الذي إذا صرت إليه في حاجتي وجدته أشد مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها !‬
‫وقال أنكساغروس ‪ :‬إن الشدائد التي تنزل بالمرء محنة إخوانه ‪..............‬‬
‫وال يسبق السيل منك المطر‬ ‫وقال شاعر ‪ :‬وال تحمد المرء قبل البالء‬
‫وإني ألعرف سيما الرجال كما يعرف القائفون األثــر‬
‫ألم بصديقه ؟! إنها المحنة الكاشفة التي تضع‬
‫إنها المحنة ‪ ،‬وأي محنة تلك التي يخضع لها الصديق حين يجد الضيق قد ّ‬
‫النقاط على الحروف حينها – وليس حينا آخر – يتيقن الصديق من صدق إخاء صديقه وتفتح صفحة جديدة من الثقة المتبادلة‬

‫‪50‬‬
‫والحب العميق الذي ال يكسره كاسر وال يخترقه مخترق ‪ ،‬فكن على حذر وال تعط أخاك منزلته العليا في قلبك قبل االمتحان ويوم‬
‫االمتحان يكرم الصديق أو يهان !‬
‫في العسر إما كنت واليسر‬ ‫وعليكَ من حااله واح ــدةٌ‬
‫العقيان ‪ :‬الذهب الصفر ‪ :‬النحاس‬ ‫بالصفــر‬ ‫ِ‬
‫من يخلط العقيان ُ‬ ‫ال تخلطنهـ ــم بغيرهـ ــم‬
‫الحال الواحدة ‪ ،‬الثبات على المبدإ ‪ ،‬ال يتغير الصديق المخلص وال يتزعزع مهما عصفت بمركب الصداقة األعاصير فمهما بلغ‬
‫عتوها فلن يكسر إيمان الصديق بصديقه وال يهزه قدر حبة من خردل من ثبات وعزيمة !! فهل هذا النوع من ذهب الرجال‬
‫يختلط عليك فتخلطه بنحاس البشر فيصير الغث والثمين شيئا واحدا ؟!!‬
‫وعن هذا النوع عبر األحنف بن قيس فقال ‪ :‬خير اإلخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك في المودة وإذا احتجت إليه لم‬
‫ينقصك !‬
‫وأين الشريك في الضر أينا‬ ‫خير إخوانك المشارك في الضر‬
‫فإذا غبت كان أذنـا و عينا‬ ‫ال يني جاهدا يحوطك في الحضر‬
‫إن صديقك ال ينتظر حتى يقع لك المكروه فهو في غيابك كـ(الرادار) يلتقط عن بعد أي مصدر تهديد لك فيسارع بإخبارك‬
‫وتنبيهك كي ال يحدث المكروه ‪،‬وال يتعب وال يكل لذلك فهو في سبيل صديقه الحبيب الذي يضحي بوقته وجهده من أجله‬
‫‪...................‬‬

‫صداقة المصلحة ‪:‬‬

‫الم َرضية للصداقة عند بعض البشر حين يظن المرء المريض أن الحياة ما هي إال عالقة منفعة فما دام‬ ‫إنها إحدى الصور َ‬
‫منتفعا منك فأنت صديقه فإذا زالت المنفعة فال صداقة وال ود ! وهؤالء اختلط عندهم مفهوم الزمالة بمفهوم الصداقة ‪ ،‬فياليتهم‬
‫جعلوها زمالة إذن الستراحوا وأراحوا ولكنهم بمفهومهم المقيت جعلوا الزمالة صداقة فأوهموا الطرف اآلخر بعمق العالقة التي هي‬
‫أضحل من بركة ماء !‬
‫فهؤالء من سماتهم أنهم يصاحبون األغنياء و ذوي المكانة ويالزمونهم فهم القوم ال يشقى بهم جليسهم !! فربما يناله حظ وفير‬
‫إن لم يكن اآلن ففي وقت آخر ‪ ،‬فإذا تقلبت الظروف وتحول الغني لفقير شدوا رحالهم يبحثون عن غنيمة جديدة !! وفي ذلك‬
‫يقول الشاعر ‪:‬‬
‫ما دمت من دنياك في يسر‬ ‫كم من أخ لك لست تنكره‬
‫يلقاك بالترحيب والبشـر‬ ‫متصنع لك في مودتـ ـ ـ ـه‬
‫يطري الوفاء وذا الوفاء ويلحي الغدر مجتهدا وذا العـ ـذر‬
‫ذو ِغير ‪ :‬متقلب‬ ‫فإن عدا‪ -‬والدهر ذو ِغـَير‪ -‬دهر عليك عدا مع الدهر‬
‫المثري ‪ :‬الغني‬ ‫يقلي المقل ‪ :‬يبغض الفقير‬ ‫المقل ويعشق المث ـري‬
‫ّ‬ ‫فارفض يا جمال مودة مـ ـ ـن يقلي‬

‫‪51‬‬
‫إنها صداقة المصلحة في أسوأ صورها التي ربما ال يكتفي الصاحب المتطفل المترمم فيها بهجر صاحبه وخذالنه بل يكون هو‬
‫والكربات أعوانا ضده بل ربما يهيئ نفسه لالستفادة من انهيارك وجني الثمرات الحاصلة من وقوعك ومصائب قوم عند قوم فوائد‬
‫!!‬
‫وهذا النوع كثير قال عنه الشاعر ‪:‬‬
‫وجهه عن وجهك المال‬ ‫الناس أكثر أال ترى َخلـ ــقا ممن زوى َ‬
‫إكثار وإقالل ‪ :‬غنى وفقر‬ ‫بين الصديقين إكثار وإق ــالل‬ ‫ما أقبح الوصل يدنيه ويبعده‬
‫ما أقبحه من وصل وبئست العالقة أن يبني المرء تعامالته على مدى استفادته من الناس !!‬
‫وليس عيبا أن يكون للفرد زمالء تجمعه المصلحة معهم ولكن العيب كل العيب أن تكون عالقتك بالناس كلهم عالقة منفعة‬
‫قائمة على البرجماتية المحضة ال مكان فيها للصداقة واإلخاء فتصير بال صديق ‪ ....‬بال أخ ‪ ...........‬بال حبيب‪...........‬‬
‫ومن هذا النوع تجد من ال يتذكرك بوصل إال عند رومه مصلحة منك فهو كالتمرة الحلوة حين حاجته إليك ووقت استغنائه‬
‫حنظل مر‬
‫وحنظل كلما استغنيت للجاني‬ ‫كالتمر أنت إذا حاجة عرضــت‬
‫وما افتقرت فأنت الواغل الداني‬ ‫تنأى بودك ما استغنيت عن أحد‬
‫يالها من نفوس مريضة ويالها من أشكال وضيعة نست حظ قلبها واشتغلت بحظ بدنها وجيوبها !!‬
‫وإن رآك غنيا الن واقتربـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫افتقرت نأى واستد جانـ ــبه‬
‫َ‬ ‫إذا‬
‫أثنى عليك الذي يهوى وإن كـ ــذ با‬ ‫وإن أتاك لمال أو لتن ـ ـ ـ ــصره‬
‫وهو البعيد إذا نال الذي طل ـ ـ ـ ــبا‬ ‫مدلي القرابة عند الميل يطل ــبه‬
‫على العداوة على ابن العم ما اصطحبا‬ ‫حلو اللسان بعيد القلب مشتمل‬
‫إن كثرة رائمي الزمالة في هذا الزمان حطمت أجمل المعاني اإلنسانية ‪ ،‬وليتهم كانوا زمالء بحق فهم ال يفهمون معنى الزمالة‬
‫وهي أدنى مراتب العالقة اإلنسانية ‪ ،‬فعندهم الزمالة منفعة واحدية الجانب ‪ ،‬أما من جانبه فال يعين أحدا فشغله الشاغل نفسه ‪،‬‬
‫فهو المعان غير المعين ‪ ،‬وعلى الجانب اآلخر كثر نوع الزمالء الذين يأخذون ويعطون ‪ ،‬يمنحون ويربحون ‪ ،‬افعل الخير‬
‫وستجده بعد ذلك ‪ ،‬من تحتاجه اليوم سيحتاجك غدا فتحتاجه بعد غد ‪ ،‬ولكن هؤالء كذلك حطموا معاني اإلخاء حين عاملوا‬
‫الناس كلهم بهذا المنطق البرجماتي ونسوا حظ قلوبهم من معاني الحب و اإلخالص التي هي أعلى وأسمى من عالقة مصلحة‬
‫تجري بين رجال أعمال !!‬

‫بذل العون وابتداء صداقة !‬

‫إن اإلنسان حين تقصر به السبل وتغلق دونه األبواب ويستحكم الكرب وتحيط به الهموم من كل جانب حينها قد يلتمس العون‬
‫يد عون تمد إليه من أحد‬
‫الزئفين بحق الصداقة فال يجدهم ثم يجد بصيصا من نور األمل ‪ ،‬إنه ٌ‬
‫فال يجده و يطالب أصدقاءه ا‬

‫‪52‬‬
‫معارفه الذين لم يخطروا له على بال ولم يظن يوما ما من الدهر أنه سيكون سبب فكاك كربه ‪ ،‬حينها يكون كالعطشان الذي‬
‫أُعطي كوب ماء فيسقيه ويسقي معه نبتة صداقة جديدة ‪ ،‬نعم تبدأ الصداقة حينئذ ‪ ،‬فاإلنسان ُجبل على حب من يقدم له الخير‬
‫فهو – إن كان سويا – سيكون جميل صاحبه عليه شيئا ال ينسى ‪ ،‬ومن قدم له يد العون ربما دفعه إلى ذلك حب مكتوم‬
‫تعن له مرة أخرى ‪ ،‬فيبذر بذرة الصداقة التي تنمو على تربة الحب‬
‫لصاحبه فعبر عنه بفعل الخير وانتهز الفرصة التي ربما ال ّ‬
‫طى الخير لشيء وقر في القلب ال لشيء من أشياء الدنيا ‪ ،‬تتجسد تلك‬ ‫المتبادل ‪ ،‬حب من أسدى لك المعروف وحب من يع َ‬
‫الصورة في عقل وكيان المكروب الذي خذله المتخاذلون ولم يخذله قلب طيب نابض بالحب واللطف في زمن اسودت فيه‬
‫القلوب وطفح سوادها فغطى السماء ‪......................‬‬
‫ويرمي بالعداوة من رمانـ ــي‬ ‫صديقي من يقاسمني همومي‬
‫وأرجوه لنائبة الزمـ ـ ـ ـ ــان‬ ‫ويحفظني إذا ما غبت ع ــنه‬
‫وجدت‬
‫َ‬ ‫تحدث المعجزة وتبدأ عالقة رفيعة وميثاق شديد حين يترسخ ذلك الخلق القويم وهو المشاركة في الهموم حينها تكون قد‬
‫بغيتك من الناس كن از ثمينا لن تفرط فيه مهما حدث فهو يبذل لك العون دون أن يحرجك أو يشعرك بإثقال عليه ‪.........‬‬
‫وأضعف أضعافا له في جزائه‬ ‫جزى هللا عني صالحا بوفائه‬
‫رجعت بما أبغي ووجهي بمائه‬ ‫أخا إذا ما جئت أبغيه حاجة‬
‫فما ازددت إال رغبة في إخائه‬ ‫بلوت رجاال بعده بإخائهم‬
‫ُ‬
‫ولعلنا نتوسع في هذا الموضوع في فصل ( على شاطئ الصداقة ) فيما بعد ‪................................‬‬

‫صبر في الشدة ومتعة في الرخاء !‬

‫إن من يظن أن الحياة رخاء فحسب فهو واهم ‪ ،‬ومن يظن أن الصداقة استمتاع وترفيه وسعادة وهناء فقط فقد قصر نظره عن‬
‫الكيس من يعلم ذلك جيدا ‪ ،‬ولكن بعض الصداقات أحيانا – لسوء‬
‫الفهم الصحيح للصداقة ‪ ،‬الحياة ساعة و ساعة ‪ ،‬حلو ومر ‪ّ ،‬‬
‫الحظ – تبدأ بالكرب والشدة ألحد أطراف الصداقة بل قد يطول الكرب والهم ويفقد الطرف اآلخر متعته المرجوة من الصداقة‬
‫وربما يتراخى ويكسل وربما ينكص ويتقهقر ويبحث عمن يشبع احتياجه من متعة الصديق !! ولهذا ولغيره نقول ( من صبر‬
‫على صديقه وقت الشدة استمتع به وقت الرخاء ) الشدة زائلة ال محالة ولكن األصدقاء انقسموا إلى فائز وخاسر ‪ ،‬فالخاسر من‬
‫لم يبلغ في شدة صديقه وقت الرخاء وانسحب قبل حدوث الفرج ففاته متعة الرخاء ‪ ،‬والفائز من عبر نهر الشدائد إلى ّبر الرخاء‬
‫فاستمتع بصديقه وفاز به ‪..........‬‬
‫هذه حقيقة الصداقة ‪ ..............‬وتلك حال الحياة ‪............................‬‬

‫تفريج الكربات من مقاصد الشرع‬

‫‪53‬‬
‫إن اإلسالم في تعاليمه يسرح بنا في عالم اآلخرة معرجا على الدنيا !! فمن أراد اآلخرة بحق فال بد أن يكون له نصيب من الدنيا‬
‫ولعل من أكبر هذا النصيب حسن الخلق وحسن التعامل مع البشر الذي هو من مكمالت اإليمان ‪ ،‬فال انفصام بين العبادة‬
‫والمعاملة ‪ ،‬ال انفصال بين عالقة اإلنسان بربه وعالقة اإلنسان بإخوانه ‪ ،‬من فهم األولى فهم اآلخرة ومن اكتفى باألولى وترك‬
‫اآلخرة فهو قاصر الفهم ضيق العقل قصر الدين على طقوس و شكليات – هي مطلوبة بالفعل – ولكنه ترك جوهر الدين‬
‫‪......................‬‬
‫إن تفريج الكربات أخذ محله من كالم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد قال ( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس‬
‫هللا عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر هللا عليه في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ومن ستر مسلما في الدنيا ستره هللا‬
‫في اآلخرة‪ ،‬والراحمون يرحمهم الرحمن ) هذا هو كمال الربط بين الدنيا واآلخرة و كمال الصلة بين عالقة اإلنسان بربه وعالقته‬
‫بإخوانه‪........‬‬
‫يقول سيد قطب رحمه هللا في ظالل آية ( و يمنعون الماعون ) ‪................( :‬يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم‬
‫في البشرية‪ .‬يمنعون الماعون عن عباد هللا‪ .‬ولو كانوا يقيمون الصالة حقا هلل ما منعوا العون عن عباده‪ ،‬فهذا هو محك العبادة‬
‫الصادقة المقبولة عند هللا‪..‬‬
‫وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة‪ ،‬وأمام طبيعة هذا الدين‪ .‬ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل‪ .‬ألنهم لم‬
‫يقيموا الصالة حقا‪ .‬إنما أدوا حركات ال روح فيها‪ .‬ولم يتجردوا هلل فيها‪ .‬إنما أدوها رياء‪ .‬ولم تترك الصالة أثرها في قلوبهم‬
‫وأعمالهم فهي إذن هباء‪ .‬بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء! وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده هللا من‬
‫العباد‪)................................‬‬
‫بل يكون عون المسلم ألخيه وشده من أزره خي ار من العبادة كقوله –صلى هللا عليه وسلم ‪ ( -‬ألن أمشي في حاجة أخي‬
‫المسلم خير لي من أن أعتكف شه ار ) وفهم ذلك الحسن فقال ‪ ( :‬ألن أقضي ألخ من إخواني حاجة خير لي من أن أصلي‬
‫ألف ركعة !! )‬
‫وها َفِإ َذا‬ ‫ِ ِ‬ ‫صهم ِب ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫الن َع ِم ل َمَناف ِع اْلع َباد ْ َوُيق ُّرَها في ِه ْم َما َب َذلُ َ‬
‫اختَ َّ ُ ّ‬ ‫وأثنى النبي على أقوام يفرجون كرب الناس فقال ‪( :‬إ َّن َّهلل أَ ْق َو ً‬
‫اما ْ‬
‫وها َن َزَع َها َع ْن ُه ْم َو َحَّوَل َها ِإَلى َغ ْي ِرِه ْم ) فكان منع النعم عن من يحتاجها مجلبة لزوالها ‪..........‬‬
‫َم َن ُع َ‬
‫وتبعا لقاعدة الجزاء من جنس العمل قال – صلى هللا عليه وسلم ‪ ( : -‬كان هللا في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )‬
‫ولعل التشبيه النبوي والتشبيه القرآني لعالقة المؤمنين بالبنيان أو البنيان المرصوص أدل دليل على الشكل المرجو في اإلسالم‬
‫للمجتمع المسلم فهو مجتمع متماسك مترابط في األزمات ال يتراخى وال يضعف مهما كانت الظروف واألحوال‬
‫‪.................‬‬
‫حتى غير المسلم أمرنا بمعونته قال تعالى ( وإن استجارك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع كالم هللا ثم أبلغه مأمنه )‬

‫وضرب النبي صلى هللا عليه وسلم أروع األمثلة في القيام بحاجات الناس مع أصحابه وغير أصحابه فعن أنس ابن مالك ‪:‬‬
‫كانت الصالة تقام فيكلم النبي صلى هللا عليه وسلم رجل في حاجة له فيقوم بينه وبين القبلة فما يزال يكلمه فربما رأيت بعض‬
‫القوم ينعس من طول قيام النبي صلى هللا عليه وسلم له !!!‬

‫‪54‬‬
‫إن كل ما ورد في اإلسالم في هذا الباب عام في كل المسلمين و غير المسلمين فما بالك بخدينك شق نفسك وصفي قلبك !!‬
‫إنه أولى الناس بتفريج الكربة وحسن جواره وقت شدته ‪ ،‬ومن كان غير ذلك فليس من اإلسالم في شيء وليس من الصداقة في‬
‫شيء ‪........‬‬
‫قصر الناس في فهم الدين ‪ ،‬بل تركوا دينهم بالكلية علما وعمال ‪ ،‬عبادة ومعاملة ‪ ،‬صار تحلل المجتمع وانفراطه شيئا‬
‫ولما ّ‬
‫بدهيا فقد بعد الناس عن النبراس الذي ينير لهم حياتهم ‪ ،‬وبدال من أن يكون الصديق وقت الضيق صرنا نقول ‪ :‬وقت الضيق‬
‫ُيفقد صديق !!!!!‬

‫صور المشاركة في الهموم وأنواع الدعم‬

‫تحدثنا في مساحة كبيرة عن مشاركة الصديق لصديقه في همومه و أطنبنا في ضرورتها وفضلها وبقي أن نفصح عن حقيقتها‬
‫وصورتها التي ينبغي أن تحدث على أرض الواقع ‪ ،‬فهنا يكثر سوء الفهم ‪ ،‬فربما يفهم القاصر النظر أن المشاركة في الهم تكون‬
‫بالمادة ‪ ،‬ويقول ‪ (:‬نحن في زمن قلت فيه القدرة المادية فكيف أشارك صديقي وأنا لست من أهل الثراء والمال ‪ ،‬إن هذا الكالم‬
‫قطعا ال يعنيني وحين أمتلك المال سأكون صديقا وفيا أساند صديقي وأقف بجواره حينها !!!!!!!!‪ )............‬وهو إذ يقول‬
‫ذلك ال يفهم معنى الحب ‪ ،‬وال يفهم مشاعر الحبيب الذي يريد المشاركة الوجدانية أكثر من المشاركة المادية ‪ ،‬وعموما الدعم‬
‫ينقسم إلى قسمين ‪ :‬دعم مادي و دعم معنوي ‪ ،‬وليس الموضع محل كالم عن الدعم المادي فسوف نفرده بالحديث في فصل‬
‫اإليثار ‪ ،‬ولكن كالمنا هنا عن الدعم المعنوي النفسي ‪.................‬‬
‫وحتى نفهم طرق الدعم النفسي الوجداني بين الصديقين البد أن نذكر صو ار من الهموم والكربات التي تصيب الناس وطرق‬
‫تعامل الصديق المخلص مع كل كربة فيتضح معنى المشاركة في الهموم ‪............‬‬

‫◄ إن من صور الكربات التي تصيب الناس عموما واألصدقاء خصوصا السفر ‪ ..................‬سفر الحبيب وتركه للديار‬
‫واألحباب ‪ ،‬كربة ال شك فيها فالسفر يترك فيه المسافر أهله وبيته ومرتع شبابه وطفولته ‪ ،‬يترك ذكرياته الجميلة وأيامه التي ال‬
‫ينساها من ماضيه ‪ ،‬يترك كل هذا مضط ار سعيا وراء العيش و اكتساب ِقوام الحياة ‪ ،‬يسافر حين يوازن بين استق ارره في بلده و‬
‫حياته حياة كريمة بقية عمره فيؤثر قلة االستقرار وفراق األهل واألحباب سعيا وراء عيشة كريمة و حال أفضل ربما في جمع‬
‫مال أو في جمع علم ‪ ،‬وأيا كانت األسباب فالسفر قطعة من العذاب ‪ ،‬واختبار لألصدقاء الحقيقيين ‪.............‬‬
‫هل سيثبتون على عهد الصداقة أم ينكصون ؟؟؟‬
‫هل سيبقون على ذكرى الحبيب أم ينسونه ويبيعون الغائب بالحاضر ؟؟؟‬
‫هل سيبقون على االتصال بالصديق الغائب أم ينشغلون بحالهم وأصحابهم الحاضرين ؟؟؟؟‬
‫وهنا تأتي المآزرة والمشاركة في الهم ‪ ،‬ربما كانت تلك الصورة صعبة أو محالة في زمن الناقة والفرس ‪ ،‬حين يفصل بين‬
‫المسافر وأحبابه مسيرة شهور فينتهي االتصال و يبقى االنشغال في القلب على إيمان بموعد لقاء ويتكلم الشعر مفصحا عن‬
‫مشاعر المحبين كما أفصح ابن رشيق القيرواني عن شوقه لصديقه الغائب ‪:‬‬

‫‪55‬‬
‫آخ ُر‬ ‫َيت وال لهم ـ ـ ـ ـ ـِي ِ‬ ‫ص ـ ـ ـ ْب ِري أَّو ٌل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫لما نأ َ‬ ‫إني وحّق َك ما ل َ‬
‫نسيت فِإ َّن قلبي ذاك ـ ـ ـر‬ ‫َ‬ ‫ولئن‬ ‫سلوت فِإّن ـ ــَني ِب َك َوالِ ٌه‬ ‫َ‬ ‫فلئن‬
‫َ‬
‫الدياجي سافـ ـ ُر‬ ‫بدر َّ‬ ‫ِ‬ ‫الصبا ِح ِب ُمس ـ ــِْف ٍر‬
‫ع ْندي وال ُ‬ ‫وجه َّ‬‫وهللا ما ُ‬
‫َنت فيه حاض ـ ـ ُر‬ ‫في م ْج ٍ‬ ‫وعجبت لل َكاس ِ‬
‫لس ما أ َ‬ ‫َ‬ ‫ات كيف َتب َّس َم ْت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يط ُم َس ِاف ُر‬ ‫َقْلبي َفَقْلبي في الخلـ ـ ـ ِ‬ ‫ِ‬
‫عندك ْم‬
‫ُ‬ ‫َصَب َح‬ ‫ليت ش ْعري كيف أ ْ‬ ‫يا َ‬
‫لما َس ُروا َرِك ُبوا وقلبي طائ ـ ـ ـ ُر‬ ‫َن أَحـ ـ ـ ـ ــِبَِّتي‬
‫مر يس ِبُق ُه أل َّ‬ ‫بل ّ‬
‫َ‬
‫اض ُر‬ ‫وغصن ُقربِك ن ِ‬ ‫هجم الفراق ووجه وصِلك ض ِ‬
‫الب َع ُاد ُ ْ ُ ْ َ َ‬ ‫ودَنا ُ‬‫َ‬ ‫اح ٌك‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫مثل الجْف ِن أ َْيض ـ ـاً َكاس ُر‬ ‫ِ‬
‫الجُفو ِن وأ َْن ـ ـ َت لي‬
‫بالب ْي ِن ُ‬
‫َ‬ ‫أَْل َب ْستَني ُسْق َم ُ‬
‫ناصر‬ ‫الخ ْذالن أََّن ـ ـك‬ ‫حسبي من ِ‬ ‫دمع ال تَ ْمتُ ْن علي َبنصـ ـ ــَْرة‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يا ُ‬
‫وإِذا أَردت ففيك أَل ـ ـ ـف ِ‬
‫عاذ ُر‬ ‫فيك ال ٍح واحـ ـ ـٌد‬
‫ٌ‬ ‫َْ َ‬ ‫لي في غرامي َ‬
‫حتى علمت بأن طـ ـرفك ساحر‬ ‫ما كنت أعلم أن مص ار باب ـ ــل‬
‫كان الشعر وسيلة التعزي والسلوى للمحبين بال وصل فهم عاجزون عنه ‪ ،‬أما اآلن فمع تقدم وسائل االتصال الحديثة لم تترك‬
‫الحداثة والمدنية عذ ار لصديق في التخلي عن صديقه و قطعه وهجره ‪ ...........‬إن البريد كان من أبسط وسائل االتصال بين‬
‫المفترقين وكان الحاضر ينتظر خطابا من الغائب وهو نافذ الصبر ‪ ،‬ينتظر تلك الورقة المكتوبة بخط يد حبيبه ليذيب بها ثلوج‬
‫الشوق ويطفئ بها لوعة الف ارق ‪ ،‬وحين يستقر حبيبه في محل سفره فليس للصديق عذر في أن يراسل صديقه في آخر مكان في‬
‫أحبابه ‪ ،‬فيصير الخطاب الصغير المكتوب‬
‫َ‬ ‫طول الفراق‬
‫العالم ليعلمه دائما ويؤكد له حينا بعد حين أنه باق في قلبه لم ُينسه ُ‬
‫بالحبر برهان حب و دليل رباط وثيق بين الصديق الحبيب و حبيبه ‪.................‬‬
‫ثم حدثت المعجزة !! يمكن لألصدقاء الذين يفصلهم األميال والفراسخ أن يسمع بعضهم بعضا ‪ .............‬يسمع بعضهم‬
‫بعضا ؟؟!! كيف ذلك ؟ إنه الهاتف ‪ ......‬التليفون ‪ ........‬سيسمع الصديق والحبيب صديقه وحبيبه عبر األسالك ‪ ،‬انتفى‬
‫دفعت ماال كثي ار فالمكالمة دولية ‪ ،‬وهنا يبرز الصديق الوفي‬
‫َ‬ ‫تكلمت‬
‫َ‬ ‫العذر ‪ ،‬ولكن بقيت المحنة ‪ ،‬المكالمة ثمنها غال ‪ ،‬وكلما‬
‫بالورق في سبيل سماع صوته وا طمئنانه عليه بنفسه ‪ ،‬سيذهب إلى ( السنترال ) ويدفع ثمن‬ ‫الذي ال يبخل على صديقه ِ‬
‫المكالمة عن طيب نفس بال ندم أو تردد ‪ ،‬كل هذا المال يهون أمام سماع صوت حبيبه ‪ ،‬وهل هنالك أغلى من أن يسمع‬
‫الحبيب صوت حبيبه ؟!!!‬
‫ثم توالت معجزات العصر ‪ ،‬وظهر ( اإلنترنت ) وصار بإمكانك إرسال رسائل كثيرة وكبيرة بل يومية بال ثمن مادي يذكر عبر‬
‫البريد اإللكتروني و حينها تعرف أخبار غائبك يوما بعد يوم فازداد انتفاء العذر ‪..........‬‬
‫وأخي ار انتهت األعذار وفنيت حين صار بوسعك الحديث مع غائبك وجها لوجه كأنه معك في بيتك عبر ( الشات ) ومواقع‬
‫التواصل االجتماعي صوتا و صورة في أي وقت شئت ‪ ،‬فاجتمع المفترقون و انتهى شتات األحباب ‪.......................‬‬
‫ولكن ‪.....................‬‬
‫مع كل هذا اليسر نجد قلوبا مريضة ال تلقي باال ألصدقائها ‪ ،‬تبخل عن الود والصلة ‪ ،‬تستثقل الوصل وهو بال ثمن !!!‬

‫‪56‬‬
‫يترك الصاحب المقيم صاحبه المسافر األيام والشهور بال اتصال وحين يتفضل ويتذكر صاحبه يكلمه دقائق معدودة وهو فيها‬
‫من الزاهدين !!‬
‫وحين يلوم الصديق الغائب صاحبه على هجره وانقطاعه نجد العلل الباهتة واألعذار الحامضة التي ال تسمن وال تغني من جوع‬
‫بل تزيد الجفاء وتقطع آخر شعرة من شعر الصلة بين صديقين كانا متحابين متالزمين وقت الرخاء والحضر فتباعدا بالجفاء‬
‫وقت الشدة والسفر ‪........‬‬
‫خبرت م اررة السفر وذقت ألم الجفاء ممن ظننتهم أصحابا و أصدقاء ‪ ،‬فافترق الناس عندي فريقين ‪ ،‬فريق صان الود‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫والحب واستمسك بعروة المحبة واإلخاء ولم ينسني وإن كنت بعيدا وحيدا ‪ ،‬كنت عندهم الحاضر الغائب !! وفريق وضيع ‪ ،‬لم‬
‫يرع األخوة والصداقة وباع البعيد واشترى القريب ‪ ،‬اشترى اللحظة الحاضرة الفانية وترك اللحظة الماضية الباقية ُ‬
‫فشرخ بناء‬
‫الصداقة ثم ترّنح ثم تهدم وكأن شيئا لم يكن وكأن ذكريات الماضي كانت أحالما !! وكأن معين المحبة كان سرابا !!‬
‫‪ ..........................‬الفريق األول علم حقيقة الدنيا ووعى حقيقة الصداقة التي ال تُنهيها المف ّرقات والفريق الثاني لم يعلم‬
‫الحقائق فكان ظلوما جهوال ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون )‪..........‬‬
‫ال يستويان أبدا عندي ‪ ،‬فالفريق الوفي المخلص بات متوجا على عرش قلبي ‪ ،‬فاز بمكانة سامية ال ينازعه فيها أحد ‪ ،‬والفريق‬
‫الوضيع الغادر كنستُه من قلبي وألقيته في مزبلة الماضي ال ألوي عليه وال يجد لقلبي بعد ذلك سبيال ‪.............‬‬
‫ثم تمر األيام والسنون وتنقلب األحوال ويصير الغائب حاض ار والحاضر غائبا ‪ ،‬فبعد التئام الشمل وجمع المفترقين ‪ ،‬يصير‬
‫صديقي الذي كان معي في محنتي هو المسافر ‪ ،‬سيترك أهله ودياره كما تركتُهم من قبل ‪ ،‬وهنا جاء وقت سداد الدين ‪ ،‬إنه‬
‫كنت‬
‫موعد رد الجميل بين األحبة ‪ ،‬فأقف بجواره في محنته وأتصل به كما كان وده موصوال من قبل وأتذكر رسالته لي حين ُ‬
‫مساف ار يقول فيها ‪ :‬أعذرني يا أخي أقسم لك ليس معي من المال ما يم ّكنني من االتصال بك !! ‪ ،‬فهو قصرت يده عن مكالمتي‬
‫ولكن واجب الصداقة لم يمنعه من أن يرسل لي رسالة على الهاتف يعتذر فيها عن فقره وحاجته التي منعته من أن يسمع‬
‫صوتي !!! ‪ ،‬أتذكر هذا وأتذكر الخائنين المائنين الذين غدروا بي وتخلوا عني في محنتي وهم أغنياء ‪ ،‬أتذكر كل هذا وأنا‬
‫أتواصل مع صديقي الغائب وأنا أشد من أزره وأقويه في محنته و قلبي راض مطمئن ‪ ،‬فهذه هي الصداقة ‪ ،‬وهذا هو الحب‬
‫‪،‬وهذا هو الوفاء لمن ال يعرفون معاني الوفاء ‪.............................‬‬

‫◄ إن من أشد المحن التي قد تصيب اإلنسان ويحتاج فيها إلى الدعم المعنوي محنة المرض ‪.................‬‬
‫فهذا الصاحب أو الصديق يكون وسط إخوانه ضحوكا بشوشا مرحا ‪ ،‬يشارك أصحابه وزمالءه في أنشطتهم ‪ ،‬يمارس حياته‬
‫بصورة طبيعية وفجأة يحدث حادث يغير هذا الوجه الضحوك ويتحول االبتسام إلى عبوس ‪ ،‬إنه المرض الذي يقعد اإلنسان في‬
‫فراشه ويحرمه من ممارسة حياته ويوقفه عن دراسته ويمنعه من عمله واكتساب رزقه ‪ ،‬و قد يكون المرض طويال مزمنا وقد‬
‫يكون ال يرجى شفاؤه وقد يكون مغي ار لهيئة الجسم يعجز صاحبه عن القيام بأنشطته نتيجة حادث أو إصابه ‪ ،‬وهنا يحتاج‬
‫المريض إلى القلب الحنون العطوف الذي يشاركه محنته ويؤنس وحدته ‪ ،‬وليس األهل كافين لهذا الدور ‪ ،‬فالمريض يحتاج‬
‫للمؤازرة الخارجية ‪ ،‬مؤازرة من خارج البيت ‪ ،‬قلبا محبا كان مشاركا له في السراء ولن يتخلى عنه في الضراء ‪ ،‬إنه دور‬

‫‪57‬‬
‫الصديق المخلص الذي يديم الزيارة لصديقه وربما يالزمه إن احتاج لذلك ‪ ،‬إنه القلب المخلص الذي يقول بلسان حاله لصديقه‬
‫إنك لست وحدك ‪ ،‬هنالك من يحبك ولن يتنازل عنك مهما حدث ‪...................‬‬
‫في هذه الحال يتميز الصديق عن األصحاب والزمالء ‪ ،‬فاألصحاب والزمالء زيارتهم قليلة لعلهم يزورونك مرة أول مرضك ثم‬
‫تنقطع الزيارة ‪ ،‬فماذا يرجون من صاحب مالزم للفراش ‪ ،‬هم يريدون الضحكات والمزاح والسمر بالليالي ‪ ،‬وهذا ما ال يتوفر فيك‬
‫اآلن ‪ ،‬فأنت صرت مصدر كآبة وهم ‪ ،‬وهم ال يريدون هما على همومهم ‪ ،‬يكفيهم ما يحملونه من هموم ‪ ،‬فيذهبون يبحثون عن‬
‫صاحب مهزار آخر يقضون أوقاتهم معه ‪ ،‬كل هؤالء الغثاء يذهبون ويبقى الصديق المخلص الذي ال يرجو من صديقه نفعا وال‬
‫مصلحة ‪ ،‬الذي يريد الحب من صديقه والثواب واألجر من خالقه فهو يعلم أنه حين يزور صديقه يجد هللا عنده !! ويعلم أن‬
‫عيادة المريض من حق المسلم على أخيه ويعلم تمام العلم أن زيارة صديقه في مرضه من أسباب دخول الجنة ‪ ،‬يعلم كل هذا‬
‫ويقوم بدوره على أكمل وجه ‪................‬‬
‫ومن دوره األساسي تذكيره لصديقه وهو في محنته بما أعده هللا للصابرين على الشدائد من أجر ومثوبة ‪ ،‬فهو يعلم أن كل‬
‫مصيبة تصيب المؤمن يكفر هللا بها عنه ‪ ،‬وأن االبتالء عالمة من عالمات حب هللا لعبده حتى يعلي درجاته وأن المعافين‬
‫يغبطون المبتلين يوم القيامة لما يجدون من عظم أجرهم ‪ ،‬كل هذا يذكر الصديق به صديقه ‪ ،‬فالمؤمن حين يكون وحده ربما‬
‫أفضل ِمن الصديق ليقوم بهذا الدور العظيم الذي هو ترجمة لألخوة في‬
‫ُ‬ ‫يغفل عن تلك اإليمانيات فيحتاج من يذكره بها ‪َ ،‬ومن‬
‫هللا بحق ‪...............‬‬
‫هنا يصبر المريض و يقبل على الدنيا وعلى ربه غير ناقم وال قانط ‪ ،‬فقد توفرت له سبل الصبر‬
‫‪......................................‬‬
‫ومن أعظم أدوار الصديق إحساس صديقه المبتلى أنه يشعر به ويتألم لمرضه ويرجو هللا أن يزيح همه ويتمنى أن يكون الشفاء‬
‫المعتصم إلى عبد هللا بن طاهر ‪:‬‬ ‫بيده ليزيح عن أخيه كربه شأنه كما كتب ُ‬
‫قام نزيالَ‬ ‫أو أن يكون بك َّ‬
‫الس ُ‬ ‫َع ِزْر علي بأن أراك َعلـ ـيال‬‫أْ‬
‫ُعيرها لك ُبكرةً وأَص ـيال‬‫فأ َ‬ ‫المـ ـِتي‬
‫لس َ‬‫مالك َ‬
‫دد ُت َأني ٌ‬ ‫َف َو ْ‬
‫اك َب ِديـ ـال‬
‫وأكو َن مما قد َع َر َ‬ ‫فتكو َن تَبقى سالماً بس ـ ـالمتي‬
‫َح َّب َخليال‬ ‫وكذا الخليل إذا أ َ‬ ‫أخ لك َي ْشتكي ما تشتكي‬ ‫هذا ٌ‬
‫إنه ال يتمنى فقط أن يشفى بل يتمنى أن لو كانت صحته بيده فيعيرها لصديقه فيراه بخير حال فهو يشعر أنه المريض ال‬
‫صاحبه وهذا كمال إحساس الصديق بصديقه و هذا تمام الحب ‪.................‬‬
‫بل تمنى أحدهم المرض لنفسه وال يكون صديقه عليال ‪:‬‬
‫يوماً بشهر وأن هللا عافـ ـ ـاه‬ ‫حماه بي كانت مضاع ـفة‬‫يا ليت ّ‬
‫ويجعل هللا منه البرء عقـ ـباه‬ ‫فيصبح السقم منقوالً إلى جسدي‬
‫إن المريض حين يكون له صديق حقيقي من هذا النوع النادر يسعد بمكثه عنده وكالمه معه ويتمنى أن يطول بقاؤه معه فهو‬
‫بلسمه الشافي الذي يخفف عنه وطأة مرضه ‪ ،‬وليس الحال مع الزمالء واألصحاب فشتان بين هذا وذلك فالصديق ال غرو ال‬
‫يدخل في قول الشاعر ‪:‬‬

‫‪58‬‬
‫اللحظ بالعين‬ ‫وجلس ٌة لك ِم ْثل َّ‬ ‫يوم ب ـين َي ْومـين‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫الم ْرء ٌ‬
‫عيادة َ‬
‫ذاك تَ ْسآل ب ـحرفين‬
‫يكفيك من َ‬ ‫ال تُْب ِرَم َّن َمريضاً في ُمساءلة‬
‫الجلوس عنده‪ :‬المريض ُيعاد والصحيح ُيزار !!!‬
‫َ‬ ‫وليس فيه كذلك قول بكر بن عبد هللا لقوم عادوه في مرضه فأطالوا‬
‫المرضى من أمراضهم‪ ،‬يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس !!!!‬ ‫أشد على َ‬ ‫العّواد ُّ‬
‫وال قول سفيان الثوري ‪ُ :‬ح ْمق ُ‬
‫فإن هذا الكالم وأشباهه إنما هو في الزمالء والمعارف من عامة الناس ال في الصديق المقرب ‪ ،‬فال كلفة بين األصدقاء – كما‬
‫تكلمنا من قبل – ناهيك بكون قرب الصديق من صديقه قرة عين له و راحة نفس واطمئنان قلب !!‬
‫ولعل الحالة الوحيدة التي يجب على الصديق المقرب أن ينصرف فيها مبك ار حين يشاركه الزيارة الزمالء والمعارف فإنه لو‬
‫انصرف الزمالء وبقي هو صارت الحساسيات بينهم وبين زميلهم المريض ويشعرون بتفضيله لصديقه عليهم ويحدث الحسد‬
‫والشقاق وربما الوقيعة بين الصديقين لذا فعلى الصديقين االحتراس من هذه األمور !!‬
‫ومن دور الصديق في مرض صديقه الكلمة الطيبة والثناء الجميل الذي يقوي عزيمة الصديق ويعطيه أمال في نفسه كما قال‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫القمر‬
‫الشمس ال بل ُي ْخ َسف ُ‬‫ُ‬ ‫قد تُ ْكسف‬ ‫الضرر‬
‫ُ‬ ‫السْق ُم و‬
‫ال َغ ْرو إن نال منك ُّ‬
‫البص ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫السمع و َ‬
‫ُ‬ ‫ِفداً ُلنورك ِّ‬
‫مني‬ ‫يا ُغ ّرة القمر ال ّذاوي َغضارتُ ـ ـ ـها‬
‫الهصـ ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫الضرغامة َ‬ ‫وع ُك ً‬‫فهكذا ُي َ‬ ‫إن ُيمس جسمك موعوكا بصاليـ ـ ٍة‬
‫الحسام فِإن تُْقَلـ ـ ـل مضـارُبه‬
‫فقبَله ما ُيَف ّل الص ـ ـ ـ ـ ـ ــّ ِارم ال ّذكـَر‬‫أنت ُ‬
‫َ‬
‫فما أسعده ذاك اإلنسان حين مرضه حين يجد صديقه بجواره يحنو عليه ويغذيه ويقويه بعصارة الحب !!!!!!!!‬
‫وما أشقى من عاش مرضه وحده بال معين وال أنيس ‪........‬‬

‫ببر أو سـ ـ ـ ـ ـ ـالم‬
‫يشرفني ّ‬ ‫حر‬
‫مرضت فلم يكن في األرض ّ‬
‫كأن عيادتي بذل الط ـ ـ ـ ـعام‬ ‫وضنوا بالعيادة وهي أجـ ـ ـ ـر‬
‫ّ‬

‫لقد عشت تلك اللحظات لحظات المرض ‪ ،‬لحظات قاسية اكتسبت قسوتها من قسوة الناس من حولي حين وجدتهم بين غير‬
‫مبال بحالي و بين هاجر ال يلوي علي كأنه وجد بغيته بمرضي وانعزالي ‪ ،‬وبين غير محتمل لمرضي وأزمتي وكأنني صرت‬
‫وطيب خاطري ‪.........................‬‬
‫وفي شد من أزري ّ‬ ‫عبأ عليه وبين من تخلى عني وألقاني خلف ظهره وبين مخلص‬
‫ّ‬
‫هذا حال الناس تظهر معادنهم وقت الشدائد ‪..‬‬

‫المحنة اللذيذة !!‬

‫إن ذكريات المحن ذكريات مأساوية ُيعرض المرء عن ذكرها لئال يضع يده على جروح قد التأمت فيؤلم نفسه بتلك الحوادث‬
‫المفجعة التي مضت وردمها الزمان ‪ ،‬هذا في المحن عامة ‪ ،‬ولكن من بين تيك المحن كلها هناك محن يسعد المرء بتذكرها ‪،‬‬

‫‪59‬‬
‫وينشرح صدره حينما يحكيها ليس للمحنة ذاتها وإنما لشيء حلو المذاق كان في هذه المحنة ‪ ،‬إنها المحنة حين يشترك معك‬
‫صديقك وحبيبك فيها ‪ ،‬فهي لم تصبك وحدك وإنما أصابتك وحبيبك سواء ‪ ،‬فتعاونتما وتآزرتما لتخرجا من المحنة ‪ ،‬تتذكر تلك‬
‫األيام وصدرك رحب وتشعر بأنها كانت أياما حلوة على رغم م اررتها ‪ ،‬ناعمة على رغم قسوتها ‪ ،‬والفضل في ذلك يرجع‬
‫لالشتراك ال الوحدة ‪.................‬‬
‫نظرة تأمل لقول هللا تعالى ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) لماذا قال هللا وهو الخبير بعباده هذا الكالم‬
‫؟ قاله ليبين أن اآلخرة تختلف عن الدنيا ‪ ،‬فعذاب اآلخرة ال يخففه االشتراك بين المعذبين بينما عذاب وكربة الدنيا – وهو‬
‫المعهود – يخففها شريك لك في الكربة يعاني نفس آالمك ويشكو نفس أحزانك فال تشعر أنك وحيد في هذا الهم فيخف الهم‬
‫ويقل األلم !!!‬
‫َن التَّأ ِ‬
‫َسي‬ ‫ص ِائ ِب ِفي ُّ‬
‫الد ْن َيا‪َ ،‬وَذلِ َك أ َّ‬ ‫َه ُل اْل َم َ‬
‫َسى أ ْ‬
‫َسي َك َما َيتَأ َّ‬ ‫الن ِ َّ ِ‬
‫ار التأ ّ‬ ‫َه َل َّ‬
‫ّللاُ تَ َعاَلى أََّن ُه َمَن َع أ ْ‬‫َعَل َم َّ‬
‫وفي ذلك قال القرطبي ‪( :‬أ ْ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اء‪:‬‬ ‫ُس َوةٌ‪َ ،‬ف ُي َس ّك ُن َذل َك م ْن ُح ْزنه‪َ ،‬ك َما َقاَلت اْل َخ ْن َس ُ‬
‫َح ُد ُه ْم‪ :‬لي في اْل َب َالء َواْل ُمص َيبة أ ْ‬ ‫ول أ َ‬ ‫َه ُل ُّ‬
‫الد ْن َيا َفَيُق ُ‬ ‫َي ْستَ ْرِو َح ُه أ ْ‬
‫َعَلى ِإ ْخ َو ِان ِه ْم َلَق َتْل ُت َنْفسـِي‬ ‫ين َح ْولِي‬ ‫ِ‬
‫َفَل ْوَال َك ْث َرةُ اْل َباكـ ـ َ‬
‫َسي ‪)....‬‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ُع ِّزي َّ‬ ‫َخي َوَل ِك ْن‬‫وما يب ُكو َن ِم ْثل أ ِ‬
‫النْف َس َع ْن ُه بالتأ ّ‬ ‫أَ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫خضم االمتحانات‬‫ّ‬ ‫إن كثي ار من الصداقات تبدأ من االشت ارك في المحن ‪ ،‬فكم من صداقة ازدهرت بين زميلي دراسة وهما في‬
‫والضغط النفسي حين تعاونا وتشاركا فتحابا وتصادقا ثم زالت المحنة وولدت صداقة غضة نضرة !! ‪ ،‬وكم من صداقة بزغت‬
‫بين مجندين في الجيش يعانيان أقسى الظروف بل يخوضان الحرب معا ولكنهما صب ار وتآز ار و خاف كل منهما على صاحبه‬
‫وازداد خوف كل منهما على صاحبه حين رأى الموت يتخطف الرفاق من حوله فخشي على رفيقه الفراق األبدي بعد ساعات‬
‫األنس و التكاشف !! ‪ ،‬فتحابا فكانت صداقة جديدة وليدة المحنة ولكنها استمرت وقت الرخاء !! ‪ ،‬وكم من زميلين مسافرين‬
‫تركا الديار والناس فلم يجد كل منهما سوى صاحبه فصب كل منهما ماء الحب والود فنبعت عين األخوة من بين صخرات‬
‫الغربة والعزلة ثم عاد كل منهما من سفره وقد اكتسب شيئا جديدا في حياته لم يكن ليكتسبه لوال محنة الغربة وهو الصديق‬
‫المخلص !!‪ ..............‬وكم من سجينين سجنا ظلما وقه ار‪ -‬وما أكثر المظلومين في زماننا ‪ -‬كانت ظلمات السجن لهما‬
‫نور حب وضياء صداقة كانت تعطي األمل و تحّلي م اررة القهر حتى انفرج الضيق وزال الظلم وبقيت الصداقة الحلوة التي ال‬
‫تُنسى أبدا !!‬
‫إنها الكربة حين تستحيل فرجة والليمون حين يستحيل عسال ‪........‬‬
‫إنها المحن اللذيذة والكرب اللطيفة ‪.....‬‬
‫اليفهم هذا الكالم إال من جرب الصداقة و ذاق طعم الحب !!!!‬

‫وأخي ار أقول مساكين هؤالء المحبون ‪ ،‬مشتتون في همومهم يحملون همومهم وهموم أحبابهم ‪ ،‬يصيبهم الكربات فيحملونها فوق‬

‫ظهورهم ويحملون أضعافها من قبل أخوانهم ‪ ،‬تلك هي المحبة وهذا هو الصدق ‪ّ ،‬‬
‫هم ممزوج بالحب ‪ ،‬ومودة ممزوجة بالكرب ‪،‬‬
‫و ِمسك ممزوج بال ّرامك األسود !! ‪...........‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ -3‬المشاركة واإليثار‬
‫هل جربت يوما أن تعطي بال مقابل ؟؟‬
‫هل جربت أن يعطيك إنسان بال مقابل ؟؟‬
‫هل حدث أن احتجت ثمن الدواء لتنقذ به حياتك فوجدت صديقا مخلصا يضع يده في جيبه فيعطيك كل ما فيه – وهو محتاجه‬
‫‪ -‬راضيا باسما ؟؟‬
‫الدين فبادرك صديقك بسداده وهو محتاج لكل قرش يعطيه لك ؟؟‬ ‫هوة َ‬
‫هل سقطت يوما في ّ‬
‫إن ذاك هو العطاء ‪ ........‬و هذا هو اإليثار ‪ ،‬شعور نبيل وخلق رفيع سمعنا عنه في كتب السابقين و حكى لنا عنه القرآن‬
‫الكريم ‪ ،‬ولكن فقدناه من زماننا التعيس أهلِه المغبون ساكنوه !!‬
‫ومن يضر نفسه لينفعك‬ ‫إن أخا الهيجاء من كان معك‬ ‫قال المأمون ‪:‬‬
‫بدد شمل نفسه لينفعـ ــك‬ ‫ومن إذا صرف الزمان صدعك‬
‫هذا هو الصديق من يعطي ويبذل بل يفضل صديقه على نفسه حتى إذا كان عليه االختيار بين ضرر نفسه وضرر صديقه‬
‫اختار أن يقع الضر عليه وال يصاب خدينه وحبيبه بمكروه أو أذى ‪............‬‬
‫◄ إن اإليثار خلق أمومي حين يكون بين األصدقاء يكون أسمى من مشاعر األمومة نفسها ؛ فرابطة األمومة خيطها ملون‬
‫بينما خيط الصداقة شفاف ال يراه عامة الناس !!‬
‫أقصد أن إيثار األمومة شعور فطري جبلي ليس لإلنسان اختيار فيه فالمرأة التي كانت على عهد النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫وكان معها ثالث تمرات ولها ابنتان فأعطت كل واحدة تمرة ثم قسمت الثالثة بينهما إنما فعلت ذلك لنداء فطري داخلي خلقها هللا‬
‫عليه فالخيط إذن يراه الناس ويعونه أما حين يحدث ذلك بين األصدقاء فاألمر مختلف ؛ فدهماء الناس يظنون ذلك حماقة‬
‫ويقولون أمثلة مادية ال عالقة لها بدين وال خلق وال شعور يقولون ‪ :‬ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع !! فما أحتاجه أنا أولى‬
‫ادعاء‬
‫ً‬ ‫بي من صديقي !! فحين يحدث اإليثار بين قلبين متحابين فالخيط إذن شفاف ال يراه هؤالء البشر الحمقى المبصرون‬
‫وإنما يراه أهل البصيرة ال يراه غيرهم!!‬

‫◄ إن موقف اإليثار موقف عسير حين يقف اإلنسان بين نارين نار أن يتخلى عن حاجته في سبيل حاجة أخيه ونار أن‬
‫يتخلى عن أخيه لينفع نفسه ويهدم الصداقة بيده !! ‪ ،‬إنه اختبار للصداقة وامتحان لمشاعر الصديق ‪ ،‬هل سيفكر في األمر أم‬
‫سيؤثر حبيبه بال تردد ؟؟ إنه ربما يؤثر أخاه تحت ضغط سيف الحياء ولكن ‪ ...............‬هل سيكون صادقا مع نفسه‬
‫فيعطي بال تردد وال تفكير ؟؟‬
‫إن من يفعل ذلك – أعني الباذل غير المتردد ‪ -‬فهو الصديق حقا وصدقا من استمع لقول هللا تعالى ( و يؤثرون على‬
‫أنفسهم ولو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) فاستجاب مملوءا بالحب واإليمان والصدق فهذ ا هو‬

‫‪61‬‬
‫المفلح وهذا هو الغريب كذلك في زماننا حين سيصفه الناس بالسذاجة والبالهة ولكنهم في الحقيقة هم المغبونون وهو المفلح‬
‫الفائز في الدنيا بسعادة الحب والصداقة وفي اآلخرة بسعادة الجنة ورفقة من أحب ( إخوانا على سرر متقابلين ) ‪.............‬‬

‫إن اإليثار في المواقف الصعبة لهو ترجمة عملية للحب الصادق وتمثيل مرئي لنظرية األنا التي تحدثنا عنها آنفا ‪ ،‬فليعلم‬
‫األصدقاء جميعا أن الحب والبخل ال يجتمعان في قلب صديق أبدا ولعل ناظ ار متأمال آلية اإليثار في القرآن يجد أن ذكر‬
‫اإليثار جاء بعد ذكر الحب فقال تعالى ( والذين تبوءوا الدار واإليمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ) فأتبعها قائال ( وال‬
‫يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ‪ )....‬فهو إشارة واضحة إلى أن اإليثار هو الترجمة العملية للحب‬
‫الصادق ومنه ما قال حازم القرطاجني ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫إخالص وإضمار‬ ‫ِ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫َضمرت في ِّ‬
‫جل عن ّ‬
‫قد َّ‬ ‫معتقد‬ ‫إضمار‬
‫َ‬ ‫حبكم‬ ‫ُ‬ ‫أ‬
‫خلق فو َق إيث ـ ـاري‬
‫إيثار ٍ‬ ‫فلو على قدر ِّ‬
‫حب المرِء تؤث ـ ـره‬
‫ما كان ُ‬
‫غد ْت لي ذات إمرار‬ ‫أن َ‬ ‫اع َذ ْوَذَب ْت ْ‬
‫وْ‬
‫الدنيا َحَل ْت لكم‬ ‫وما أُبالي إذا ُّ‬
‫ِ‬
‫كل نعي ٍم ذات تكـ ـ ـ ـرار‬
‫أسباب ّ‬
‫نعيم فْلتَ ُد ْم لكـُُم‬
‫ُ‬ ‫نعيمكم لي ٌ‬
‫ْ‬
‫وتعجب المتعجبون ممن يزعمون الحب و الصداقة وعند الملمات ال يكونون مؤثرين لمن زعموا حبهم ‪:‬‬

‫ضمت عليه األصاب ـ ـ ُع‬


‫ويمنع ما َّ‬
‫ُ‬ ‫ذل َّ‬
‫وده‬ ‫الن ِ‬
‫اس يبـ ـ ُ‬ ‫ِ‬
‫لبعض َّ‬ ‫عجبت‬
‫ُ‬

‫بعد ذلك مان ـ ـ ـ ـ ُع‬


‫فليس لمالي َ‬ ‫الخليل مـ ـ ـ َّ‬
‫ودتي‬ ‫َ‬ ‫أعطيت‬
‫ُ‬ ‫إذا أنا‬

‫وهذا الصديق المحب يستحي من نفسه وهو صادق معها أن يحتاج صديقه لقمة عيش له يحتاجها هو فيمنعها عنه مستأث ار بها‬
‫دونه إنه إ ًذا ظلم وفحش وحسنات األبرار سيئات المقربين !!‬
‫ظلم لهم وعق ـو ُق‬
‫تنال يدي ٌ‬
‫ُ‬ ‫األخال ِء بال ـذي‬
‫َّ‬ ‫اساة‬
‫وتركي مو َ‬

‫بحال ِاتّسا ٍع و َّ‬


‫الصديق ُمضيق‬ ‫و ِّإني ألستحيي ِمن هللا أن أ َُرى‬

‫وأخي ار من لم يعرف اإليثار لم يعرف الحب ومن لم يعرف الحب لم يعرف األصدقاء !!‬

‫عند الحقيقة إخوان وأخ ـدان‬ ‫اعا فليس له‬ ‫َمن كان للخير َّ‬
‫من ً‬

‫صور من اإليثار والمشاركة‬

‫‪62‬‬
‫إن في اإليثار صو ار مشرقة وقصصا متأللئة يستضيء بنورها المحبون الصادقون ‪ ،‬وال حديث عن اإليثار بال كالم عن العالقة‬
‫بين صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد كانوا بحق نعم اإلخوة ونعم األصدقاء ‪ ،‬هم تربوا على يد خير البشر فاستقوا‬
‫معاني الحب واإلخالص من الوحي اإللهي وكانوا خير ملهمين لمعاني اإليثار ‪........‬‬
‫(لما أخذ الرسول صلى هللا عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين واألنصار آخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن الربيع‬
‫األنصاري فقال سعد ألخيه عبد الرحمن أي أُخي أنا أكثر أهل المدينة ماال وعندي بستانان ولي امرأتان فانظر أي بستاني‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحب إليك حتى أخرج لك عنه وأي امرأتي أرضى عندك حتى أطلقها لك !! فقال عبد الرحمن بن عوف بارك هللا لك في أهلك‬
‫ومالك ولكن دلني على السوق ‪).......‬‬
‫إنها قصة تضرب أروع المثل في المشاركة في الملك ‪ ،‬فهو عرض عليه نصف ماله بل عرض عليه إحدى نسائه – وإن كان‬
‫األمر مبالغا فيه أن يستغني المرء العربي عن زوجته ويعطيها لغيره ولكن األمر محمول على ثقة سعد بن الربيع في أن عبد‬
‫الرحمن لن يقبل ذلك – فرد عبد الرحمن بما هو أروع وهو عدم رغبته في حرمان أخيه من ممتلكاته فهو ال يريد أن يستفيد‬
‫مقابل حرمان أخيه من بعض ماله ‪ ،‬وربما عزة نفسه منعته من ذلك خصوصا أن الصداقة واألخوة كانت في بدايتها فلم تترسخ‬
‫بعد معاني قلة الكلفة بينهما وهو بال شك ما سوف يترسخ فيما بعد ‪ ،‬رسخه القرآن الكريم في نفوسهم كما تكلمنا عن قضية‬
‫زوال التكلف بين األصدقاء ‪................‬‬

‫لم يكن ذلك حال المهاجرين وإخوانهم من األنصار فحسب بل كان حال المؤمنين المتحابين جميعا ‪ ،‬وانظر لقصة أبي هريرة‬
‫رضي هللا عنه حين جاءه رجل فقال إني أريد أن أؤاخيك في هللا فقال ‪ :‬أتدري ما حق اإلخاء ؟ قال عرفني قال ‪ :‬أال تكون أحق‬
‫بدينارك ودرهمك مني !!‬
‫قال ‪ :‬لم أبلغ هذه المنزلة بعد ‪ ،‬قال فاذهب عني !!‬
‫إن هذا الرجل لم يفهم معنى الصداقة حقا ‪ ،‬ظن أن اإلخاء متعة ومؤانسة بال حقوق وال واجبات فاستحق أال ينال شرف صداقة‬
‫أبي هريرة الذي كان من جيل المحبين وزمن الصداقة واإلخاء !!‬
‫يترس على‬‫بل كان الصحابة يؤثرون رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على أنفسهم وهل من شاهد خير من أبي طلحة الذي كان ّ‬
‫الرسول يوم أحد ليحميه ويقول ال تشرف يا رسول هللا ال يصيبونك نحري دون نحرك ‪ ،‬فوقى بيده الرسول فأصيبت يده ُ‬
‫وشّلت !!‬
‫وهل كان أبو طلحة أوفر نصيبا من علي بن أبي طالب الذي نام في فراش الرسول يوم الهجرة وهو يعلم أنه قد يدفع حياته ثمنا‬
‫لهذا اإليثار وتلك التضحية !!‬
‫بل إن سبب نزول آية ( ويؤثرون على أنفسهم ) أن رجال من الصحابة بات به ضيف أرسله إليه رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم فلم يكن عنده إال قوته وقوت صبيانه فقال المرأته ّنومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك فنزلت تلك اآلية‬
‫العظيمة !!‬
‫إن ضيفا غريبا نزل عند ذلك األنصاري ال يربطه به سوى أخوة اإلسالم قدمه على أهله وأوالده ‪ ،‬فليت شعري ماذا يفعل‬
‫الصديق لصديقه الحبيب ؟ !‬

‫‪63‬‬
‫ودأب على هذا الدرب تالميذ الصحابة من التابعين لهم فنرى علي بن الحسين وكان في زمنهم يقول ‪ :‬هل يدخل أحدكم يده في‬
‫كم أخيه وكيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه قالوا ال فقال ‪ :‬فلستم بإخوان !!‬
‫وقال الحسن ‪ :‬كان أحدهم يشق إ ازره بينه وبين أخيه !!‬
‫ول ننظر لهذه القصة المعبرة التي يحكيها أبو سليمان الداراني يقول ‪ :‬كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب فأقول له‬
‫أعطني من مالك شيئا فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد فجئته ذات يوم فقلت أحتاج إلى شيء فقال كم تريد‬
‫؟‪ ........................................‬فخرجت حالوة إخائه من قلبي!!‬
‫سبحان هللا العظيم لحالهم ‪ ،‬لكونه لم يعطه كيس نقوده ليأخذ منه ما يشاء مرة واحدة خرجت حالوة إخائه من قلبه !! هو لم‬
‫يمنعه من ماله بل سيعطيه ولكن ليست هذه األخوة عندهم ‪ ،‬األخوة لها منزلة أسمى وأرفع فأي تغير في هذا السمو ال بد له من‬
‫وقفة حتى ال تتردى الصداقة وتنزل إلى منازل سافلة تهوي بها في مكان سحيق !‬
‫الد ْنيا َّ‬
‫كلها لي فجعلتها في فم أخ‬ ‫أن ُّ‬
‫و الداراني فهم المعنى الصحيح لإليثار فأراد أن يعامله أحباؤه كما يعاملهم فكان يقول ‪ :‬لو َّ‬
‫ِمن إخواني الستقللتها له‪................‬‬
‫هو يريد أن يرضي حبيبه بكل ما يملك حتى يعطيه ما تضن به األنفس ويعز عندها ‪..............‬‬
‫لذلك قال بعض العلماء العارفين ‪ :‬إن حق المال بين اإلخوان على ثالث منازل الدنيا اإلقراض من فضل المال والوسطى‬
‫المشاركة في المال والثالثة العليا اإليثار بما معك من مال !‬
‫ومن حكاياتهم في اإليثار ما حكى أبو الحسن األنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثالثون رجال بقرية من قرى الريّ ومعهم أرغفة‬
‫معدودة ال تشبع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منه شيئا إيثا ار‬
‫لصاحبه على نفسه !!‪................‬‬
‫طعمان الحب والصفاء قبل الماء والغذاء !!‬
‫فما أجملها من أكلة حلوة هنيئة وإن كانت قليلة حين يشاركك فيها حبيبك فتَ َ‬
‫الهذلي الشهير ( هذا التصافي ال‬
‫إن العرب قبل اإلسالم عرفوا معنى اإليثار بين األصدقاء وال أدل على ذلك من المثل العربي ُ‬
‫تصافي المحلب !) وأصله أن هذيال أصابت دما في بعض العرب ‪ ،‬فأسر أصحاب الدم رجلين من هذيل متصادقين فقالوا لهما‬
‫‪ :‬أيكما أشرف فنقتله بصاحبنا ؟ فقال كل واحد منهما أنا ابن فالن الحسيب النسيب فاقتلوني دون صاحبي !! فكل بذل نفسه‬
‫للقتل دون صاحبه فلما أروا من تأبيهما قالوا ‪ :‬هذا التصافي ال تصافي المحلب أي‪ :‬تصافي المنادمة على الشراب ‪ ،‬فصفحوا‬
‫عنهما فكان اإليثار بالنفس وهو أعلى منازل اإليثار سببا في نجاتهما !!‬
‫زلفى إليكم وهذا بعض إيثاري‬ ‫ملكت سوى َنفسي ِّ‬
‫أقرُبها‬ ‫ُ‬ ‫وما‬
‫وهنا الكالم عن أسمى صور اإليثار وهو اإليثار بالنفس ‪ ،‬أن يبلغ حبك صديقك أن تفديه بروحك ‪ ،‬أن تقدم حياته على حياتك‬
‫إن تعارضت الحياتان !! وهي صورة إسالمية رفيعة ليست من نسج الخيال وإنما فعلها العرب وفعلها المسلمون وفي قصة‬
‫اليرموك الشهيرة – إن صحت – دليل على ذلك ‪............‬‬
‫قال حذيفة العدوي ‪ :‬انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول ‪ :‬إن كان به رمق سقيته فإذا أنا‬
‫به فقلت له أسقيك فأشار برأسه أي نعم فإذا أنا برجل يقول آه آه فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص‬

‫‪64‬‬
‫فقلت أسقيك فأشار برأسه أي نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار إليه هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى‬
‫هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات !!!‪............‬‬
‫فرحمهم هللا أجمعين أعطوا األخوة حقها وهم في آخر أنفاسهم بل آثروا إخوانهم على أنفسهم بحياتهم فنعمت األخوة ونعمت‬
‫المحبة !!‬
‫والجود بالنفس أقصى غاية الجود‬ ‫يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها‬ ‫وفي ذلك يقول الشاعر ‪:‬‬
‫ومما يحكى في اإليثار بالحياة ‪:‬‬
‫غرقت سفينة صغيرة ‪ ،‬فنجا راكبان ‪ ،‬تعلقا بخشبة واحدة ‪،،‬وأخذا يصارعان الموج ‪ ،‬ويتصارعان على الخشبة ‪،،‬‬
‫ثم التفت أحدهما إلى اآلخر وسأله ‪ :‬ألك أهل ؟ قال ‪ :‬نعم أم ‪ ،‬وزوجة ‪ ،‬وأطفال صغار فقال األول ‪:‬‬
‫إذن سأجتهد أن أسبح ‪ ،‬أما الخشبة فهي لك ‪ ،‬لعلك تصل إلى أهلك وترك الخشبة لصاحبه ‪ ،‬واجتهد أن يسبح ‪ ،‬لكنه غرق !!!‬
‫واإليثار والبذل يكون بالمال والممتلكات والنفس وأحيانا بالمنزلة الرفيعة كما قال سيف الدولة الحمداني مؤث ار أخاه ‪:‬‬
‫القصوى ‪ :‬المنزلة العليا‬ ‫وقلت تُرى بيني و بين أخي فرق‬ ‫تركت لك القصوى لتدرك فضلها‬
‫تونيت عن حقي فتم لك الحق‬ ‫ولم يك بي عنها نكول وإنـ ـ ــما‬
‫ولإليثار عندهم نوادر وطرائف ومنها ما ذكره الواقدي قال ‪:‬‬
‫أضقت إضاقة شديدة‪ ،‬وهجم شهر رمضان‪ ،‬وأنا بغير نفقة‪ ،‬فضاق ذرعي بذلك‪ ،‬فكتبت إلى صديق لي علوي‪ ،‬أسأله أن‬
‫يقرضني ألف درهم‪ ،‬فبعث إلي بها في كيس مختوم‪ ،‬فتركتها عندي فلما كان عشي ذلك اليوم‪ ،‬وردت علي رقعة صديق لي‪،‬‬
‫يسألني إسعافه لنفقة شهررمضان‪ ،‬بألف درهم‪ ،‬فوجهت إليه بالكيس بخاتمه فلما كان في الغد‪ ،‬جاءني صديقي الذي اقترض‬
‫مني‪ ،‬والعلوي الذي اقترضت منه‪ ،‬فسألني العلوي عن خبر الدراهم‪ ،‬فقلت‪ :‬صرفتها في مهم فأخرج الكيس بختمه‪ ،‬وضحك‪،‬‬
‫وقال‪ :‬وهللا لقد قرب هذا الشهر وما عندي إال هذه الدراهم‪ ،‬فلما كتبت إلي‪ ،‬وجهت بها إليك‪ ،‬وكتبت إلى صديقنا هذا‪ ،‬أقترض‬
‫منه ألف درهم‪ ،‬فوجه إلي بالكيس‪ ،‬فسألته عن القصة‪ ،‬فشرحها‪ ،‬وقد جئناك لنقتسمها‪ ،‬وإلى أن ننفقها يأتي هللا بالفرج‬
‫!!‪.......................‬‬

‫هذه قصص السابقين ‪ ،‬من اختاروا الحب واإلخالص على الدنيا الزائلة ‪ ،‬من رجوا اآلخرة بأعمالهم و طلبوا الود بفعالهم ‪ ،‬كانوا‬
‫من زمن غير هذا الزمن وكانوا ناسا غير الناس ‪ ،‬ففازوا بحالوة األخوة الحقيقية التي ال يشعر بحالوتها إال من خبر طعمها ‪،‬‬
‫لم يكونوا ماديين براجماتيين بالمعنى العصري وإنما كانوا يتاجرون في عالم اآلخرة فأجسادهم في الدنيا وأرواحهم تسبح في‬
‫األخرة ‪.............‬‬
‫موانع اإليثار‬

‫يجمل ابن قيم الجوزية عدة تهم متهم بها من حرم من خلق اإليثار ‪ ،‬فمن كان له صديق أو يزعم أن له صديقا وينسحب عند‬
‫داعي اإليثار فهو موضع شبهة وريبة فليراجع نفسه وضميره واألحرى أن يراجع صداقته كلها !!‬

‫‪65‬‬
‫يقول ابن القيم ‪ :‬موانع اكتساب اإليثَار المتعّلِقة َ‬
‫بالخْلق ‪:‬‬
‫سببا في األثرة و ُّ‬
‫الشح‬ ‫فإن ضعفه يكون ً‬‫القوي يدفع صاحبه للبذل والعطاء واإليثَار‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن اإليمان‬ ‫‪.1‬ضعف اإليمان واليقين‪ ،‬فكما َّ‬
‫شح نفسه فقد أفلح‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫وجل في اآلية التي مدح فيها أهل اإليثَار َّ‬ ‫الشح المطاع‪ ،‬لذا ذكر هللا َّ‬‫‪ُّ . .2‬‬
‫أن َمن ُي َوفق في الوقاية من ِّ‬ ‫عز َّ‬
‫النفس‪ُّ ،‬‬
‫وتملك األثرة على القلب‬ ‫‪.3‬حب َّ‬
‫ُّ‬
‫فمن َر َّق قلبه والنت طباعه َس ُهل عليه أمر اإليثَار‬
‫‪.4‬قسوة القلب وجموده‪َ ،‬‬
‫الهمة‬
‫‪.5‬ضعف َّ‬
‫هذه تهم ابن القيم على من تخلى عن صديقه مفضال نفسه و مؤث ار ذاته وهي تهم شديدة غليظة ‪ ،‬ضعف إيمان ‪ ،‬شح مطاع ‪،‬‬
‫قسوة قلب ‪ ،‬ضعف عزيمة ‪ ،‬ال يقل عنها عندي تهمة ضعف الحب وقلة قدر الصديق في قلب صديقه فلو كان شق نفسه‬
‫وسمي روحه بحق ما فرق بينه وبين نفسه أبدا أبدا أبدا ‪ ....‬وكيف يفرق بين نفسه وصديقه وهو يعلم أن كربة صديقه كربته‬
‫يتلوى لمحنة خدينه وحبيبه ‪ ،‬كيف يهدأ له بال وكيف ينام له جفن قبل أن تقضى حاجة أخيه وقبل أن يزول‬
‫وأن قلبه يتألم و ّ‬
‫كربه !! إنه الجسد الواحد في أسمى صوره و أروع تجلياته و أبهى أشكاله ‪......................‬‬

‫سؤال الصديق‬

‫هل صحيح أن طلب المال يهدم الصداقة ؟ وهل الصداقة القوية يصيبها الشقوق والصدوع حين تدخل المعامالت المادية فيها ؟‬
‫وهل صدق إسماعيل سري الدهشان حين قال ‪:‬‬
‫الصديق الصديق‬
‫َ‬ ‫إلى أن يعوز‬ ‫تظل الصداقة في أوجـ ـ ــها‬
‫ولو بره باعتذار رقي ـ ـ ـ ــق‬ ‫فإن طلب الم ـ ــال أودى بها‬
‫وبالقلب شك يسد الطري ــق‬ ‫فيقـ ـ ــبل في أدب عـ ــذره‬
‫إنه للحديث عن هذه المسألة الحساسة ال بد من التفريق بين الصداقة في أولها والصداقة في أعماقها ‪ ،‬فالصداقة في أولها ال‬
‫شك هشة طرية ‪ ،‬يكون فيها الترقب والتبين من الطرفين ‪ ،‬فكل طرف يتوخى أن يكون اآلخر صديقا مخلصا بال منفعة وال‬
‫ماديات ‪ ،‬حينها وفي أول الطريق الصعب قد تضطر الظروف طرفا لطلب المال من الطرف اآلخر وحينها قد ال يكون االبتداء‬
‫موفقا حين قد يتسرب الشك في قلب الصديق المطلوب منه ويظن أن صاحبه أو صديقه المستقبلي هو صديق مصلحة لم‬
‫يعرفه ألنه أحبه وإنما عرفه مثل كثير ممن عرفهم ليقنص منه منفعته ويصل به إلى مآربه ‪ ،‬ومتى تسلل الشك إلى الصداقة‬
‫تسلل االنهيار ‪...................‬‬
‫لذا ال أنصح من كان على شاطئ الصداقة أن يسأل صديقه المال فهو يخرب صداقته بيده ‪ ،‬صحيح أن دافع الحب عند‬
‫الصديق قد يدفعه إلى العطاء فهو محب صادق ولج بحر الصداقة بكل جوارحه ومستعد للبذل والعطاء بكل ما يملك – وهذا‬
‫النوع قليل في ذلك الزمان – ولكن القدر يخفي أسباب انهيار تلك الصداقة ؛ فالصديق الممنوح قد تقصر به السبل عن رد ما‬
‫أخذ و تكون المماطالت والتأجيالت وهنا يتسرب الشك ال محالة إلى قلب الطرف المانح الذي لم ير منذ ابتداء تلك الصداقة‬
‫المترنحة سوى أنه المانح الباذل للحب والمادة والطرف اآلخر غارق في ديونه مهموم مشغول البال متردد فال هو باذل للود‬

‫‪66‬‬
‫والحب الذي يكلفه ما فوق طاقته النفسية وال هو باذل للمال الذي اقترضه فتبدأ المنازعات والمشكالت وتتحطم الصداقة على‬
‫صخرة الماديات ‪...................‬‬
‫هذا هو الوضع الصحيح لما قاله إسماعيل الدهشان أما الصداقة بعد تطاول العهد عليها ومرور السنين الطوال فصلبة فوالذية ‪،‬‬
‫فبعد طول العمر انتهى االختبار ‪ ،‬كل طرف ابتلى صاحبه بما فيه الكفاية ‪ ،‬فالثقة مترسخة بينهما مهما طلب صديق من‬
‫صديقه فالمانح سيمنح عن طيب نفس بال تردد وال شك فالحب متجذر في أعماق قلبه منذ زمن بعيد ‪ ،‬والممنوح لن يجد حرجا‬
‫في أن يطلب من صديقه فال كلفة بينهما وال شك وحين يأخذ سيبذل أقصى ما يستطيع ليرد ما أخذ فهو ليس بالصديق الثقيل‬
‫الذي يثقل كاهل صديقه ويحمله ما ال يطيق سيواصل الليل بالنهار ليجمع ثمن ما أخذه ‪ ،‬بل كلما توفر له مبلغ قليل من المال‬
‫أعطاه لصديقه حتى يبرئ ذمته أمام هللا وأمام خدينه‬
‫هذا هو الحب وهذه هي الصداقة وقد عاينت ذلك بنفسي ! ‪......................‬‬
‫وفي هذا الصديق الثقيل الذي يحطم صداقته بيده ‪-‬وهو ال شك أحمق ال يلج صداقة حتى يخرج منها ‪ -‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫وأخو الحوائج وجهه ممل ـ ـ ــول‬ ‫عف خف على الصديق لقاؤه‬ ‫من ّ‬
‫فإذا غدرت به فأنت ثق ـ ـ ـ ــيل‬ ‫وأخوك من وفرت ما في كيسـ ــه‬
‫ويالشكوى األندلسي الذي قال ‪:‬‬
‫من سداد ال سداد من َع َوز‬ ‫لي صديق هو عندي َع َوز‬
‫وما أقرب ذلك الصديق الثقيل من قول الهائم أبي علي حين سئل ‪ :‬من تحب أن يكون صديقك ؟ فقال ‪ :‬من يطعمني إذا ُ‬
‫جعت‬
‫للت !! فقال له العلي بن الحسين العلوي ‪ :‬أنت إنما تريد إنسانا يكفيك‬
‫كللت ويغفر لي إذا ز ُ‬
‫يت ويحملني إذا ُ‬‫ويكسوني إذا عر ُ‬
‫تمنيت وكيال فسميتَه صديقا !! فما استطاع أن يقول جوابا !!‬
‫َ‬ ‫مؤنتك ويكفلك في حالك كأنك‬
‫يحمله صديقه ما ال يطيق و يزعم أن له حقوق الصداقة فيثقل عليه و يسقط كاهله بال رعاية‬ ‫ومن هذا النوع اشتكى العتبي الذي ّ‬
‫ومع أقل عتب أو شكوى ربما يقدح في صداقته ويتهمه بالتقصير و التخاذل في حق الصديق فقال فيه ‪:‬‬
‫ِ ٍ‬ ‫لي صديق يرى حقوقي عـ ـ ِ‬
‫هر َفرض ـ ـ ـا‬ ‫وحَّق ُه َ‬
‫الد َ‬ ‫نافالت َ‬ ‫ليه‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ ََ ُ‬
‫رت َعرضـ ـا‬ ‫ِ‬ ‫ثُ َّم ِمن ب ِ‬ ‫طـ ـوالً إلـ ـ ِ‬
‫طولها س ُ‬ ‫عد ُ‬ ‫َ‬ ‫يه‬ ‫البالد ُ‬
‫َ‬ ‫عت‬ ‫ط ُ‬‫لو َق َ‬
‫واشتهى أن يز َيد في األرض أرضا‬ ‫لت َغ ـ ـ َير َكـ ـ ـ ٍ‬
‫ثير‬ ‫لرأى ما َف َع ُ‬
‫وأخي ار فاألخ الثقيل غالبا ال يكون إال في ابتداء الصداقة وبثقله يهدمها فهو ال يفهم الصداقة وال يكون له صديق ما لم يفهم‬
‫خطأه أما تطاول العمر على الصداقة فال ثقل فيه فال كلفة فيه وال انعدام ثقة أصال اللهم إال النفوس المتبدلة الناكصة عن‬
‫العهد التي تغدر بعد وفاء وتنقلب بعد صفاء وهذا له مبحث خاص فيما بعد ‪..................‬‬

‫‪ -4‬السر بين األصدقاء‬


‫وجودا من أمناء األموال‪ ،‬وحفظ األموال أيسر من كتمان األسرار؛ ألن أحراز األموال منيعة‬
‫ً‬ ‫قديما قالوا‪ :‬إن أمناء األسرار أقل‬
‫ً‬
‫باألبواب واألقفال‪ ،‬وأحراز األسرار بارزة يذيعها لسان ناطق‪ ،‬ويشيعها كالم سابق‪...................................‬‬

‫‪67‬‬
‫وقالوا كذلك‪ :‬إن األموال كلما كثرت خزانها كان أوثق لها‪ ،‬أما األسرار فكلما كثرت خزانها كان أضيع لها‬
‫‪.............................‬‬
‫‪......‬‬
‫تكلمت به ِ‬
‫ص ْرت أسيره‪......................‬‬ ‫وقال علي بن أبي طالب رضي هللا عنه‪ِ :‬س ُّرك أسيرك‪ ،‬فإن َّ‬
‫َ‬
‫وقال الشاعر ‪:‬‬
‫بسري َّ‬
‫عمن سألني لضنين‬ ‫أجود بمكنون التـالد وإن ـني‬
‫كتوم ألسرار العش ـير أمين‬ ‫وإن ضيَّع األقوام سري فإنني‬
‫هذا هو السر ‪ ،‬ولنا مع السر بين األصدقاء وقفة ‪.................................‬‬

‫سر بين الصديقين !! فال صديق صادق المودة واإلخاء‬ ‫فابتداء ال ّ‬


‫ً‬ ‫إننا حين نتكلم عن السر ال بد أن نتكلم عن الصداقة ‪،‬‬
‫يخفي شيئا عن صديقه ‪ ،‬وصديقه مثله ال يخفي شيئا عنه ‪ ،‬القلبان قلب واحد يجري فيهما دم واحد فال خفاء و ال دهاء ‪،‬‬
‫متحابين ‪ ،‬وإنك إن صنعت الحواجز بينك وبين الناس جميعا فال وجود لها بينك وبين‬
‫َ‬ ‫الحجب زائلة واألستار ال وجود لها بين‬
‫خدينك ‪ ،‬فسرك الذي حجبتَه عن عامة الناس ال ينحجب عن الصديق وخصوصيتك التي تخجل منها أمام أغلب البشر هي‬
‫كتاب مفتوح أمام صديقك يقرؤه كيف شاء !!‬

‫وخبايا صدري و مكنون قلبي‬ ‫قال أسامة الشيزري ‪ :‬لي صديق أفضي إليه بسري‬

‫في مناجاته و مضمون كت ــبي‬ ‫ال أرى دونه لسري سـ ــت ار‬

‫قلت خذها فانظر قبائح ذنبي‬


‫ُ‬ ‫لو أتتني صحيفتي في حياتي‬

‫وقيل البن برد األبهري ‪ :‬من الصديق ؟ قال من سلم لك سره وزين ظاهره بك وبذل ذات يده عند حاجتك وعف عن ذات يدك‬
‫عند حاجته !!!‪ .............‬وقال العتبي ‪ :‬إذا استخار العبد ربه واستشار صديقه واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه لنفسه‬
‫ويقضي هللا في أمره ما أحب ‪.....................‬‬

‫يقول الدكتور مصطفى محمود ‪ ..... ( :‬والعالج هو اإلفشاء والمفاتحة والمكاشفة ‪ ،‬والمناجاة الحميمة بين يدي صديق أو‬
‫حبيب ‪ ...‬والصداقة الحميمة عالج أحسن من الطب ألن التكاشف فيها يتم عن تراض وعن تعاطف وعن حب وعن ثقة ‪،‬‬
‫بدون غرض وبدون أجر ‪ ،‬الصداقة لها أيد ناعمة تستل األسرار من مكامنها وتحفظها وتحنو عليها وتضمد الجراح و تزيل‬
‫اآلالم ‪ ،‬الصديق طبيب عظيم ال يقدر بثمن ‪ ،‬احتفظ بصديق تفتح له قلبك ‪،‬وتكشف له خباياك وجروحك ‪ ،‬صديق تغضب‬
‫معه وتثور معه وتكره معه ‪ ،‬إن الصديق أحسن وقاية من الصدمات ‪،‬ألنك في كل مرة تكاشفه فيها تتحلل نفسك ثم يتم تركيبها‬
‫من جديد في سياق سليم ! ) ا‪.‬هـ‬

‫‪68‬‬
‫إذا أردت أن تعرف صديقك ممن هم أدنى منزلة منه فلتنظر إلى إجابتك على أسئلتهم ‪ :‬كيف حالك اليوم ماذا بك أين كنت‬
‫وأين تغيبت ؟؟ حين يسألونك وتخشى من المصارحة باإلجابة فاعلم أنهم ليسوا أصدقاءك !! وحين تُسأل عن خصوصياتك تلك‬
‫فيسيل لسانك باإلجابة بال تردد وال خجل وال خشية فاعلم أن السائل صديقك !!‬

‫حين يصيبك الهم والحزن ويغطي االكتئاب وجهك النضر فتتوارى عن الناس فاعلم أن هؤالء الناس ليسوا أصدقاءك !! وحين‬
‫تجد نفسك مضط ار للقائهم فتتصنع االبتسامة لتخفي ما بداخلك من حزن لتتهرب من إفشاء أحوالك فاعلم أن من حولك ليسوا‬
‫خدناءك ! وسيعجب بعض من يق أر كالمي حين أقول إن من ستصارحه بعبوسك هو صديقك !! من ستؤثره بتغير وجهك فهو‬
‫خدينك ! نعم من لن تخجل من إبداء حزنك وغمك أمام وجهه ‪ ،‬من سيالحظ تغير مالمحك ‪ ،‬من ستنفجر باكيا شاكيا حين‬
‫تنفرد به هو الوحيد المستحق للقب الصديق !!‬

‫بل الصديق فيه خاصية ألطف من ذلك ‪ ،‬فهو من إن كنت بهذا الحال ولقيتَه ومعه زمالء آخرون فتصنعت االبتسام مؤقتا‬
‫لتخفي في نفسك ما ال تريد إبداءه لهم فإنه سيعرف أنك في هم وحزن من دون أن تنبس ببنت شفة وسيتحين الفرصة ليسألك‬
‫يصدقها الناس جميعا‬
‫عن أحوالك في حال خلوة وانفراد فابتسامتك عنده متغيرة وليست االبتسامة المعهودة ‪ ،‬إنها ابتسامة كاذبة ّ‬
‫إال الصديق المحب !!‬

‫◄ إن السر بين األصدقاء ليس له حدود وال محرمات !! فما يظنه الناس شيئا ال يجوز البوح به إنما هو في حق الناس ال‬
‫الصديق ! حتى األسرار الشرعية التي نهى الدين عن البوح بها تذوب بين األصدقاء !! وهنا يقول قائل أ حتى الطاعات ؟؟‬
‫أقول نعم حتى الطاعات !! فإن الشرع حين حث على إخفاء الطاعات إنما أمر بذلك خوفا من الرياء ‪ ،‬وال رياء بين األصدقاء‬
‫فهل يرائي اإلنسان نفسه ؟!! وإذا كان صديقك ليس بينك وبينه فرق هو شق نفسك وسمي روحك فهل تعامله مثل بقية الناس‬
‫؟؟ إن البوح بالطاعات بين األصدقاء باب للتعاون على طاعة هللا ( وتعاونوا على البر والتقوى ) فقيام الليل يهون و يحلو إن‬
‫وذكرت ذلك لصديقك كان في ذلك تشجيع وحث لصديقك فتتسابقان‬
‫َ‬ ‫كنت تقوم الليل وحدك‬
‫شجعك عليه صديقك وأنت إن َ‬
‫لطاعة هللا وتتسارعان في مرضاته ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات واألرض أعدت للمتقين ) ( وسابقوا‬
‫إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء واألرض ) فهل التسابق في طاعة هللا والتنافس على الخير يكون دربا من‬
‫الرياء ؟ وهل التعاون على البر والتقوى يكون شيئا مذموما ؟؟!!!‬

‫وقس على ذلك باب المعاصي فحين تبوح لصديقك بمعصيتك هلل فإنك لست مجاه ار بالذنب ‪ ،‬وإنما أنت في مأزق ترتجي النجاة‬

‫وتبحث عن السبيل ‪ ،‬تريد يد العون وخير يد تُمد إليك يد صديقك الصالح ّ‬


‫الخير الذي سيرشدك إلى طريق الرشاد وسيبحث لك‬
‫عن مخرج من معصيتك وسيدلك على باب النجاة ‪ ،‬فهل هذا البوح المحمود يكون مجاهرة بالمعاصي تستوجب الذم ؟؟!!!‬

‫إن كثي ار ممن يظنون أنفسهم ملتزمين بالدين يضيعون حقوق الصداقة بسبب سوء فهمهم لدينهم فتحدث المشكالت والنزاعات‬
‫ويظن المتحذلق الضيق األفق أنه المطبق لدينه الملتزم بسنة رسوله وهو المفرط المضيع لحقوق األخوة والحب في هللا‬
‫!!‪...................‬‬

‫‪69‬‬
‫◄ إن حاجة اإلنسان للبوح بسره حاجة فطرية ‪ ،‬فالصدور تضيق بأسرارها وتحتاج إلى منفذ تنفس فيه عن نفسها ‪ ،‬وحين‬
‫تضيق الصدور باألسرار وتنفس عن نفسها للصديق تكون الراحة ويكون االطمئنا ن وهذا من أعظم أدوار الصديق !! وهذا من‬
‫حالوة الدنيا أن يجد اإلنسان من يشكو إليه أس ارره ويبث إليه همومه وصدق من قال ‪:‬‬

‫يفضي إليه بسره‬ ‫من لم يكن ذا صديق‬


‫في خير أمره وشره‬ ‫ويستريح إليـ ـ ــه‬
‫لحلو عيش و مره‬ ‫فليس يعرف طعما‬
‫وجرعتُه من م ـ ـ ـر ما أتج ـ ــرع‬ ‫أبثثت عم ار بعض ما في حوائجي‬
‫و ُ‬ ‫وقال آخر ‪:‬‬
‫إذا جعلت أسـ ـ ـرار نفس تطّلع‬ ‫وال بد من شكوى إلى ذي حفي ـظة‬

‫وقيل ‪ :‬ال يزال المرء في كربة ووحشة ما لم يجد من يشكو إليه !! وقالوا ‪ :‬المصدور إذا لم ينفث جوى والمهجور إذا لم يشك‬
‫ورى !!‬

‫وتوصل لتلك الحقيقة الماجنون من أهل الشراب والسكر الذين ظنوا الصداقة ملتقى للعبث واللهو فقالوا ‪:‬‬

‫القيان ‪:‬‬ ‫المدام ‪ :‬الخمر‬ ‫لشرب المدام و عزف القيان‬ ‫وكان الصديق يزور الصديق‬
‫المغنيات‬

‫لبث الهموم وشكوى الزمان‬ ‫فصار الصديق يزور الصديق‬

‫إن عظماء الناس كانوا ذوي أصدقاء وكانوا يبوحون لهم بأسرارهم وليس ذلك بعيب وال نقيصة بل من الحاجات البشرية‬
‫الفطرية وهل أعظم من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الذي ضاق صدره بسره فأسر به لحذيفة بن اليمان رضي هللا عنه فسمي‬
‫بكاتم سر رسول هللا !! وهل أدل على ذلك من حكاية القرآن إلسرار النبي لعائشة ( وإذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثا فلما‬
‫نبأت به وأظهره هللا عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض ) و هاهي أم أنس بن مالك رضي هللا عنها يتأخر عليها ولدها‬
‫َّ‬
‫تحدثن بسر رسول هللا صلى هللا‬ ‫أنس فتسأله ما َح َب َسك؟ قال بعثني رسول هللا لحاجة‪.‬قالت ما حاجته؟قال‪ :‬إنها سر‪ .‬قالت‪ :‬ال‬
‫أحدا !!‬‫عليه وسلم ً‬

‫إن كمال فطرة النبي جعله مثل بقية البشر له أسرار وله كاتمو أسرار !!‬

‫◄ إن اإلنسان مع سره يتغير مع تغير مراحله العمرية ‪ ،‬فالطفل حين يولد يولد بال ماض يذكر ‪ ،‬فيخرج إلى الدنيا وال يملك‬
‫شيئا حتى األسرار ال يملكها ‪ ،‬ثم يرتقي في العمر وتتنوع حاجاته وال يجد سوى األب واألم فيبوح لهما بهمومه وأس ارره ‪ ،‬وعلى‬

‫‪70‬‬
‫عاتق األم العطوفة الحنونة يقع العبء األكبر ‪ ،‬فتصير مالذ االبن الصغير يلجأ إليها ويشكو إليها همومه وأحزانه – في‬
‫الحاالت األسرية السوية – حتى عندما يدخل المدرسة ‪ ،‬فعندما يعود منها ال يجد سوى أمه يحكي لها تفاصيل يومه وأدق‬
‫أسرار أحداثه ‪ ،‬ويستمر الحال إلى أن يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ وهنا يحدث التبدل والتغير ‪ ،‬ويجد الفتى نفسه يحتاج إلى‬
‫مستودع خارجي يستودعه أس ارره ‪ ،‬وللدقة فالنضج الصداقي يأتي في هذه المرحلة – وهو ما سنتحدث عنه الحقا – فيبدأ الفتى‬
‫في االنعزال عن أمه وأهله ويركن إلى أصدقائه ‪ ،‬ومع الصداقة تتولد األسرار التي لم يعد الفتى يستطيع بل يتحرج أن يبوح بها‬
‫ألمه فيبوح بها لصديقه ‪ ،‬ويالحظ األباء ذلك فيتذمرون ويضجرون ولكنهم ما يلبثون أن يفهموا حقيقة التحول في حياة ابنهم‬
‫فيتقبلون األمور بصدر رحب وتسير الحياة ويتسلم الصديق زمام األمور ‪...........................‬‬

‫◄ إن إخفاء السر عن الصديق خبث ‪ ،‬وقلة الثقة تؤدي إلى احتجاز األسرار بين الصحاب ‪ ،‬وانظر أخي ار لصرخة من صديق‬
‫محب يعرف حق الصداقة يقول ‪:‬‬

‫فما فضل العدو على الصديق‬ ‫إذا كتم الصديق أخاه س ـ ـ ار‬

‫و كتمان السر بين الصديقين شيء بدهي فمنذا الذي يزعم الحب و اإلخالص ويفشي سر حبيبه الذي استأمنه على سره ؟!‬

‫كتوم ألسرار العشير أمين‬ ‫قال قيس بن حطيم ‪ :‬فإن ضيع اإلخوان س ار فإنني‬

‫مكان بسوداء الفؤاد مكين‬ ‫وعندي له يوما إذا ما ائتُمنته‬

‫نسيت !!‬
‫ُ‬ ‫حفظت ؟ قال ‪ :‬بل‬
‫َ‬ ‫وقديما قالوا ‪ :‬قلوب األحرار قبور األسرار ‪ ،‬كما أفشى بعض السابقين س ار ألخيه ثم قال له‬

‫وقيل ألديب كيف حفظك للسر قال ‪ :‬أنا قبره !!‬

‫والصديق المخلص ال يفشي سر صاحبه مهما تبدلت األحوال واأليام ‪ ،‬ففي وقت المودة كتوم وفي وقت المشاحنة والقطيعة‬
‫يسبه بل‬
‫كتوم كذلك فهذا هو المعدن األصيل لألصدقاء يظهر وقت المنازعات والخصومات فهو يقول خي ار عن صاحبه وال ّ‬
‫يدعو له بالهداية والرشد وفي ذلك يقول أبو سعيد الثوري ‪ :‬إذا أردت أن تآخي رجال فأغضبه ثم ّ‬
‫دس عليه من يسأله عنك فإن‬
‫قال خي ار وكتم س ار فاصحبه !!‬

‫وفي ذلك يقول الشاعر ‪:‬‬

‫ويظهر اإلحسانا‬
‫يخفي القبيح ُ‬ ‫وترى الكريم إذا َّ‬
‫تصرم وصله‬

‫ويظهر البهتانا‬
‫ُيخفي الجميل ُ‬ ‫وترى اللئيم إذا ّ‬
‫تقضي وصله‬
‫‪71‬‬
‫وهو تمام ما قاله الشاعر ‪:‬‬

‫رما‬
‫ص َ‬‫إن َ‬
‫صاَفى َو ْ‬
‫إن َ‬
‫ويحَف ُ ِ‬
‫الس َّر ْ‬
‫ظ ّ‬ ‫ََ ْ‬ ‫يم ال ـ ـ ِذي تَبَقى َم َوَّدتُ ُه‬ ‫ِإ َّن َ ِ‬
‫الكر َ‬

‫َسر ِاره َعلِ َما‬ ‫ب ـ َّث ِ‬


‫الذي َك ِ‬ ‫الكريم ِ‬
‫الذي إن َزَّل ص ِ‬
‫ان م ْن أ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اح ُب ُه‬ ‫َ‬ ‫يس َ ُ‬
‫َل َ‬

‫وبالغ بعضهم في مسألة كتمان السر فقال الشاعر ‪:‬‬

‫ـر‬
‫فأودعته من ُم ْستََقر الحشا قبـ ًا‬ ‫سر تضمنت ِس َّره‬
‫ومستودعي ًا‬

‫بر‬
‫أحطت به ُخ ًا‬
‫ُ‬ ‫يوما ما‬
‫من الدهر ً‬ ‫ولكنني أُخفيه عني كأن ـ ـنــي‬

‫ألني أرى المدفون ينتظر النشـ ار‬ ‫السر في قلبي كميت بحفرٍة‬
‫وما ُّ‬

‫الخ َب ِر‬ ‫ِ‬ ‫ِم ّن ِّ ِِي ُّ‬


‫الضلوعُ م َن األ َْسر ِار و َ‬ ‫ملت‬
‫اشتَ ْ‬ ‫َوَلو َق َد َر ْت َعَلى ِن ْس َي ِ‬
‫ان ما ْ‬ ‫وقال وفي آخر ‪:‬‬
‫ّ‬

‫ِإ ْذ ُك ْن ُت ِم ْن َن ْش ِرَها َيوماً َعلى َخ َ‬


‫ط ِر‬ ‫ِ‬
‫نسـ ـى َسرائرهُ‬
‫نت َّأو َل َم ْن َي َ‬
‫َل ُك ُ‬

‫وقال وفي آخر هو جعفر بن عثمان ‪:‬‬

‫ال ترج أن تسمعه مني‬ ‫يا ذا الذي أودعني سره‬

‫كأنه لم يجر في أذنـ ـي‬ ‫لم أجره قط على فكرتي‬

‫إن سر صديقي مدفون في قبر بل في أسفل األرضين السبع ال يعلم عنه أحد شيئا بل أخفيه عن نفسي التي بين جنبي بل‬
‫تخفيه أذني التي سمعته عن أذني األخرى وكأني بقول نبي الهدى ‪ ( :‬فال تعلم شماله ما أنفقت يمينه !! ) ‪............‬‬

‫◄ المتخبطون في استيداع أسرارهم !‬

‫إن المتخبط في من يستودعه سره هو المتخبط في الصداقة نفسها !! فمن يسيء اختيار من يعطيه سره هو من أساء اختيار‬
‫الصديق بل قل هو ليس له صديق حقيقي !! فيشكو المسكين أنه باح بسره لمن أفشاه بعد ذلك وهو األحمق ال غيره ‪ ،‬فسرك‬
‫لؤلؤة ثمينة تختار لها خزانتها التي تحفظها فيها فإن أسأت االختيار ضاع مالك و جهدك وثمرة عمرك !!‬

‫و إفشاء السر داء من أدواء النفوس فالنفوس المستودعة س ار ال يزال بها هاجس أن ِ‬
‫أفش السر و نّفس عن نفسك !! فالسر‬
‫عندها كالهواء المكتوم في قربة يجاهد فيها حتى يفجرها ويخرج ! وفي ذلك قيل ‪ :‬أصبر الناس من صبر على كتمان سر ‪،‬‬

‫‪72‬‬
‫والصبر على التهاب النار أهون من الصبر على كتمان األس ارر !! ‪ ،‬وأكرر هذا حال غير الصديق المؤمن المحب أما غيره‬
‫فهو المريض قلبه المولع بالكالم والمسامرات والمحاورات و القيل والقال !!‬

‫وفي ذلك المسكين قال الشاعر ‪:‬‬

‫أضيق‬
‫ُ‬ ‫السر‬
‫فصدر الذي يستودع َّ‬ ‫إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه‬

‫وتبغي لسرك من يكتم‬ ‫وقال بشار‪ :‬تبوح بسرك ضيقاً به‬

‫ضيع السر أذنـب‬


‫فإنك ممن ّ‬ ‫مضيع‬
‫ّ‬ ‫وقال دعامة بن يزيد الطائي‪ :‬إذا ما جعل َت السر عند‬

‫وهؤالء المغلوبون التعساء كثرت شكواهم وطال أنينهم والت ساعة مندم !! فقال أحدهم ‪:‬‬

‫ولكنه في النصح غير مريب‬ ‫أمنت على السر ام أًر غير حازم‬
‫ُ‬

‫بعلياء نار أوقدت بثقوب‬ ‫أذاع به في الناس حتى كأنـ ـه‬

‫فما تطيق له طياً حواشيها‬ ‫وقال ابن الرومي يشكو صاحبه ‪ :‬كان سري في أحشائه لهبا‬

‫فلما كتمنا السر عنهم تقولوا‬ ‫وقال محترق القلب آخر ‪ :‬أناس أمناهم فنموا حديثنا‬

‫وال حين هموا بالقطيعة أجملوا‬ ‫ولم يحفظوا الود الذي كان بيننا‬

‫فيتقول عليك ثم حين تهجره كارها له ومغتاظا يزداد في‬


‫ياله من صنف حقير من البشر تستأمنه على سرك فيفشيه فتخفيه عنه ّ‬
‫الفجر والبغي و يهيج عليك الناس ويثير أحقادهم عليك انتقاما منك وتشفيا !!!‬

‫وقال العتبي يصف تلك المشكلة عند بعض الناس ‪:‬‬

‫فإنك إن أودعته منه‬ ‫َّ‬


‫تودعن الدهر سرك أحــمقا‬ ‫فال‬
‫أحم ـ ـ ــق‬

‫من القول ما قال‬ ‫وحسبك في ستر األحاديث واعظا‬


‫األديب الموفق‬

‫فسر الذي يستودع‬ ‫إذا ضاق صدر الم إر عن سر نفسه‬


‫السر أضيق‬
‫‪73‬‬
‫وإن تعجب فعجب قول بعض المتبجحين ممن ال يعرفون أخوة وال حبا ممن ال وفاء عندهم وال صفاء ‪:‬‬

‫وال أترك األسرار تغلي على قلبي‬ ‫وال أكتم األسرار لكن أنمـ ـها‬

‫تقلبه األسرار جنباً إلى جنـ ـ ـب‬ ‫وإن قليل العقل من بات ليلة‬

‫ومثل قول رجل لصديق له – يحسبه صديقا المسكين ‪ : -‬اكتم سري الذي أفشيتُه! فقال‪ :‬كال لست أشغل قلبي بنجواك‪ ،‬وال‬

‫ويبيت بحره قلبي جريحاً‪!!!!!.‬‬


‫ُ‬ ‫فتبيت بإفشائه مستريحاً‬
‫َ‬ ‫أجعل صدري خزانة شكواك‪ ،‬فيقلقني ما أقلقك‪ ،‬ويؤرقني ما أرقك‪،‬‬

‫وأخي ار يبوح أحدهم بشخصيته المتدنية بال حياء وال وتردد فيقول ‪:‬‬

‫أي ‪ :‬كأنك تصب الماء في وعاء مثقوب !‬ ‫تصبن مـ ـاء في إناء مثلـ ـم‬ ‫وال تود ِع األسرار قلبي فإنما‬

‫ولسان حال هؤالء يقول ‪ :‬أنا بصراحة شديدة قلبي كالغربال مهما تضع فيه من أسرار تنفذ منه من الناحية األخرى فال تشغل‬
‫بالي بهمومك ومشاكلك ‪ ،‬عندي من الهموم أضعاف همومك ‪ ،‬ال تثقلني بشكواك وأسرارك ‪ ،‬احتفظ بهمك وألحتفظ بهمي ‪،‬‬
‫ولنتصاحب على ذلك ‪ ،‬سوف تكون العالقة بيننا أجمل بهذه الصورة !!!!!‪....................‬‬

‫هؤالء لم يعرفوا يوما الحب ولن يعرفوه فما أتعسهم وما أتعس المخدوعين بهم !!‬

‫* إسرار لغير الصديق !‬

‫هنالك من البشر من قد تُسر إليه حديثك ولكنه ليس بصديق ! ‪ ،‬إن طبيعة هؤالء البشر تجعلهم مالذا لنا حين نفقد األصدقاء ‪،‬‬
‫إنها حكمتهم البالغة و رزانة عقولهم ‪ ،‬إنه الشيخ العالم و المربي الفاضل و المعّلم الوقور ‪ ،‬وكذلك طبيبك النفسي ! ‪ ،‬وهنا أود‬
‫التركيز على ظاهرة الطبيب النفسي ‪ ،‬ذلك الشخص العجيب الذي تذهب إليه و تفرغ إناء قلبك أمامه بكل حرية وطالقة ‪ ،‬تفعل‬
‫ذلك ملتمسا العالج ‪ ،‬وفي بعض المجتمعات مثل المجتمع األرجنتيني تنتشر ظاهرة الذهاب للطبيب النفسي انتشا ار فاحشا‬
‫لحاجة ولغير حاجة ‪ ،‬لمرض نفسي أو للتسلية وقضاء الوقت ! ‪ ،‬وهذه الظاهرة يمكنني تسميتها (الصديق المستأجر) ‪،‬‬
‫والسؤال المطروح اآلن هل المربي الفاضل حين أبوح له بسري يكون صديقا ؟ وهل الطبيب النفسي حين ال أجد صديقا وتضيق‬

‫أسراري داخل ضلوعي وأذهب إليه ّ‬


‫ألسرب كبتي وأعطيه أج ار على ذلك يسمى حينئذٍ صديقا ؟ ‪ ،‬الجواب ال ‪ ..‬ال ‪...‬ال ‪،‬‬
‫فليس المربي بصديق وليس العالم المتكلم بصديق وليس الطبيب الحكيم بصديق فكل هؤالء أشباه أصدقاء ‪ ،‬أتدري لماذا ؟ ‪،‬‬
‫ألنه في الصداقة وظيفة البوح باألسرار تحدث في االتجاهين بينما في حالة الطبيب والمعلم والمربي تحدث في اتجاه واحد ! ‪،‬‬
‫إنك لست وحدك من تستودع طبيبك سرك بل أنت واحد من ألوف ! مثلك مثلهم ال ميزة لك عنهم ‪ ،‬كما أنك ال تستطيع تخطي‬
‫حدودك مع طبيبك أو مربيك وتسأله عن أس ارره ‪ ،‬إ ًذا ال صداقة من جانب واحد ! ‪ ،‬كما أن الصداقة لم تكن ولن تكون يوما من‬
‫األيام بأجر كما هو الحال مع الطبيب الحكيم الذي يتكسب من إعطائه حكمته ووقته لك ‪ ،‬كما أن وظيفة اإلحساس بين‬
‫‪74‬‬
‫الصديقين ال تتحقق في هذه األمثلة ‪ ،‬فالطبيب النفسي حين يشكو له مريضه عنده قاعدة ذهبية وهي‬
‫‪ empathy no sympathy‬وهي التفهم والشعور بحال المريض ولكن بال تأثر وال تعاطف ‪ ،‬فتعاطف الطبيب مع كل‬
‫مريض يزور عيادته سوف يجعله في النهاية مريضا نفسيا آخر يحتاج لعالج ‪ ،‬وهذا التحفظ ال تجده في الصديق الذي ينتحل‬
‫نظرية األنا ‪ ،‬فألمه ألم صديقه و معاناته معاناة حبيبه ‪ ..‬اتضحت اآلن الصورة فلم يعد مجال للخلط ‪..‬‬

‫* تعميم حاكته الظروف !‬

‫إن كثرة التجارب المؤلمة في الحياة تورث العقد النفسية ! فكثرة الخيانة تجعل المخون مسيئا للظن بكل الناس من حوله يحسب‬
‫كل الناس خائنين ! وقلة األصدقاء األوفياء في هذا الزمان جعلت بعض المرهفي الحس يفقدون الثقة في كل الناس حتى من‬
‫يزعمون أنهم أصدقاؤهم فال يبوحون بسر ألحد ويتمثلون قول الشاعر ‪:‬‬

‫ص َار َغ َير صـَِد ِ‬


‫يق‬ ‫يق َف َ‬
‫خان َّ ِ‬
‫الصد ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ص ِد ِيق َك َح ِاذ اًر َفَل ُربَّمـ ــَا‬ ‫ِ‬
‫ُك ْن م ْن َ‬

‫صـ ـ ِد ِ‬
‫يق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حرَك ِ‬
‫ات س ِّر َك ع ْن َد ُك ّل َ‬
‫ََ ُ‬ ‫ص ِديَق َك ‪ -‬الَ َع ُدَّو َك ‪ِ -‬إَّن َما‬
‫َواح َذ ْر َ‬

‫إن هؤالء يعيشون عزلة نفسية شعورية ‪ ،‬يكتمون همومهم في صدورهم فتضيق الصدور وتكاد تنفجر ‪ ،‬وينشأ نوع من الكبت‬
‫يؤدي بصاحبه إلى اآلالم النفسية المزمنة ‪ ،‬إن هؤالء معذورون في حالهم ولكنهم أشقياء في حياتهم ‪ ،‬وعليهم أن يستجيبوا لنداء‬
‫الصداقة إذاُ مدت يد الصديق يوما لهم ‪ ،‬وأنا رأيت هذا الصنف من الناس الذين انغلقوا على أنفسهم وصاروا بالمصطلح‬
‫قبل في حياتهم ‪ ،‬ولكنهم يحتاجون يد العون‬
‫اإلنجليزي متمركزين حول أنفسهم ‪ ،‬ابتعدوا عن نار الصداقة الكتوائهم بلظاها من ُ‬
‫من إنسان عاطفي ودود محب يجدد لهم الثقة ويشعرهم بالحب ويكون مستودعا – من جديد – ألسرارهم فيخفف وطأ كرباتهم‬
‫وينفس كبت الهموم واألحزان‪........‬‬

‫يمد يده بالعطاء قليل نادر ولكن الحاجة إليهم صارت ضرورة بل فرضا وواجبا‬
‫صحيح أن هذا النوع ممن ّ‬
‫‪........................‬‬

‫‪ -5‬العتاب بين األصدقاء‬


‫تظنن أن تكون صداقة بال عتاب ؟ وهل تستمر صداقة أعواما وعقودا بال وقفات يقفها الصديقان مع أنفسهما‬
‫ّ‬ ‫كيف‬
‫فيتعاتبان ويتداركان الخطأ ؟ وهل يفهم الصديق صديقه حق الفهم ويدرك حقيقة شخصيته و نزعاته ومحبوباته ومبغضاته‬
‫إال بعد تجربة تسمى العتاب ؟ وأليس العتاب مستحقا ألن يكون ركنا حصينا من أركان الصداقة واإلخاء ؟ بلى‬
‫‪...................‬‬
‫‪75‬‬
‫إن العتاب بين المتحابين ركن ثابت من أركان دوام الصداقة واأللفة ‪ ،‬فبه يتدارك األصدقاء سوء الفهم ‪ ،‬وسوء الفهم وارد‬
‫بين األخالء خصوصا فترة ابتداء الصداقة حين ال يكون الطرفان على قدر تام من التفاهم المتبادل و المعرفة التفصيلية‬
‫لشخصية الطرف اآلخر ‪ ،‬فيقع الخطأ من أحد الطرفين ويقع سوء الفهم من الطرف اآلخر و يجب حينها وقفة حاسمة لرأب‬
‫طأ في حقه ويدعو صديقه إلى‬
‫الصدع من أوله لئال يتسع ويستطيل مع مرور الزمان فيصعب تداركه ‪ ،‬يقف الطرف المخ َ‬
‫الحوار المتبادل ‪ ،‬يفصح له عما في نفسه من حزن وألم أصابه من تصرفه السيء تجاهه ‪ ،‬يبين له أن هذا التصرف‬
‫يغضبه ويسيئه و يسأله بلطف أال يعود لذلك أبدا حتى ال تتغير القلوب و تتأثر النفوس و تترنح الصداقة ونفقد عالقتنا‬
‫الجميلة التي صارت جزءا مهما في حياتنا وال نستطيع االستغناء عنها وحينها سوف يكون الندم ولن يجدي حين تتطور‬
‫األمور وتضيع الصداقة ونضيع جميعا في متاهة النزاع واالفتراق ‪................‬‬
‫إنها وقفة حتمية لقتل أي سوس يهاجم صرح األخوة وإن تركناه نخر في بنائها الشامخ فأرداها حطاما وكثيبا مهيال‬
‫‪....................‬‬

‫وما أحسن قول أعرابي لصاحبه ‪ :‬قد درن ذات بيننا فهلم إلى العتاب لنغسل به هذا الدرن ‪.....................‬‬

‫حين تجد في نفسك شيئا من أخيك فال تغض الطرف ‪ ،‬وال تهمل ضغائن صدرك ‪ ،‬ال تدعها تكبر وتتراكم مع تكرار خطأ‬
‫صديقك الذي ال يدرك أنه يخطئ في حقك ويؤذيك ما دمت صامتا ال تعاتب وال تلوم ‪ ،‬اكسر حجاب الصمت وأفصح عما‬
‫في صدرك فإنك بذلك تكتب النجاة لصداقتك وتكتب لها الدوام أعما ار طويلة ‪...............‬‬

‫ما أعجب العتاب !! عالمة وأمارة هو على الحب وفي نفس الوقت الزم من لوازم بقائه واستم ارره !! وهو ما عبر عنه عمدة‬
‫ذلك الباب قول علي بن الجهم‪:‬‬
‫إذا ما رابني منه اجتنـ ـاب‬ ‫أعاتب ذا المودة من صدي ـق‬
‫ويبقى الود ما بقي العتـاب‬ ‫إذا ذهب العتاب فليس ودا‬

‫صحيح ‪ .........‬فإن حبيبك هو من ستعاتبه ‪ ،‬هو من تحرص على استمرار عالقتك معه وال تريد لها نهاية فتبذل ما في‬
‫وسعك لئال يكون في صداقتكما خدش ‪ ،‬فحين يحدث الجفاء ال بد أنك ستسارع – وهو كذلك – إلى تدارك األمور لتعود‬
‫المياه إلى مجاريها الطبيعية بال حساسيات وال مؤاخذات تتراكم مع تراكم الزمان ‪...............‬‬

‫القالي ‪ :‬المبغض‬ ‫أال إنما القالي الذي ال يعاتب‬ ‫يعاتبكم يا أم عمر محبكم‬

‫وعلى نقيض حال الحبيب ‪ ،‬فإن من ال تحبه حين يخطئ في حق الصداقة إما أنك ستهمله وال تبالي بما بدر منه فال قيمة‬
‫له عندك فتستبقيه ‪ ،‬فتقطع عالقتك معه بمشرط دقيق !! وإما أنك ستهاجمه وتوبخه وتقطع حبل عالقتك معه بسكين غليظ‬
‫‪ ،‬وفي النهاية سينقطع الحبل ال محالة وإن اختلفت الطريقة ‪ ،‬المهم أن كال الحالين ال يكون بين األصدقاء المتحابين أبدا‬
‫‪..................‬‬

‫‪76‬‬
‫صديقك يأتي ما أتى وال تعاتبه‬ ‫أعاتب ليلى إنما الهجر أن ترى‬

‫إن الصديق الذي اكتسبته بعد عناء مع أمواج الحياة ليس شيئا مزهودا فيه فتفرط فيه مع كل شقاق ونزاع ‪ ،‬بل الحكمة أن‬
‫يجلس الطرفان ويعترفان بخطيئتهما ويتذكران الحب والود بينهما ويتفكران في المصير المشئوم لهما لو تهدمت صداقة‬
‫العمر ‪ ........‬وفي ذلك يقول الفضل بن يحيى ‪ :‬الصبر على أخ تعتب عليه خير من آخر تستأنف مودته‬
‫!!!‪................‬‬

‫فهذا الذي يفقد صديقه بغبائه وحماقته كأن األصدقاء عنده كذرات الرمل متى فقد واحدا منهم ذهب إلى شاطئ البحر فأخذ‬
‫غرفة منهم ‪ ،‬فهذه هي الحماقة فليس بعد ترك العتاب إال فقد األصدقاء وليس بعد فقدهم إال غثاء من الناس ال قيمة لهم !!‬

‫ثقافة االعتذار‬

‫عرف الصديق الذي وجد في نفسه شيئا من صديقه ثقافة العتاب فبادر صديقه مسرعا إلى لومه ‪ ،‬فقد فعل صديقه فعال‬
‫مريبا يخدش الصداقة فأصيب الصديق بالحزن وشك في صدق مودة أخيه فعاتبه ‪ ،‬بذلك يكون قد قطع ثلث الطريق نحو‬
‫الصلح ودوام اإلخاء أما الثلث اآلخر من الطريق فهو مهمة صديقه الملوم ‪.........‬‬

‫تخيل أن حبيبك شق نفسك وسمي روحك غضب عليك ماذا ستفعل ؟؟‬

‫الحمقى و المغفلون حين يسمعون التهمة من الصديق يبادرون بالدفاع ونفي التهمة بل بعضهم سيتهم الالئم بسوء الظن‬
‫والحساسية الزائدة !! وهذه الطريقة هي أقصر الطرق لفقد الصديق و تحطيم أواصر الصداقة ‪.............‬‬

‫بينما الصديق المخلص المحب حين يسمع من صديقه أنه حزين بسببه وبسبب تصرفات سيئة بدرت منه فبكل ذكاء وحب‬
‫سيتفوه بكلمة سحرية تحل اإلشكال و تئد الفتنة في مهدها ‪ ،‬إنها كلمة ‪ ..........‬أنا آسف ‪..‬‬

‫إنها ثقافة االعتذار بين المحبين ‪ ،‬تعتذر لصديقك و إن كنت غير مقتنع بإثمك وخطئك مادام الفعل الذي فعلته قد أغضب‬
‫حبيبك فليس بوسعك سوى االعتذار له لتتدارك حزنه وغضبه ‪ ،‬كلمة سهلة يسيرة تحل المشاكل وتُبقي الصداقة لن تكلفك‬
‫شيئا ‪ ،‬غفل عنها المغرورون المتكبرون الذين يظنون أنفسهم ال يخطئون معصومين ‪ ،‬فيكون ثمن الكبر و الغرور هو نهاية‬
‫العالقة وانقطاع الصداقة !!‬

‫بعد أن تم االعتذار وإبداء الندم واألسى وأنني يا صديقي لم أكن ألغضبك أبدا فأنت حبيبي و من أغلى األشياء التي أملك‬
‫غال عندي ولن يهدأ لي بال حتى ترضى‬‫في حياتي فكيف أغضبك ؟!! لم أكن أقصد إيذاءك ال تغضب علي فإن غضبك ٍ‬
‫ّ‬
‫عني وتعود المياه لمجاريها‪ ...................‬بعد تلك المقدمة الشافية وإبداء فروض الندم واألسى نتناقش تفصيليا في‬
‫المشكلة فإن كان هنالك سوء فهم فلنوضحه و إن كان تصرفي مسيئا لك مغضبا لمشاعرك فأعدك أنني لن أفعله مرة أخرى‬

‫‪77‬‬
‫وإن كان غضبك نابعا عن حساسية أو غيرة فهو عالمة حب منك أعتز بها وال أهاجمها بل أطمئنك على حبي لك‬
‫وإخالصي الذي سأجدده يوما بعد يوم ولن أجعلك تشك في مرة أخرى ‪ .....................‬هذا هو الحب وتلك هي‬
‫ّ‬
‫الصداقة ‪....................‬‬

‫ثقافة العفو‬

‫طعت ثلث المسافة لوصل حبل الحب بالعتاب وقطع صديقك الثلث الثاني باالعتذار واألسى وبقي الثلث الثالث الذي ال‬ ‫َق َ‬
‫يأتي إال بعد الثلثين األولين أال هو العفو والصفح ‪..............‬‬

‫أتاك صديقك نادما مستعتبا مق ار بذنبه – وإن لم يقترفه ‪ -‬فما عليك سوى قبول االعتذار و إعطاء صديقك الفرصة ليثبت‬
‫لك حبه بعدم تكرار ما اقترف من خطأ ‪ ،‬أما إن كنت غليظا متكب ار فإنك ستتمادى في غضبك و تَفجر في خصومتك‬
‫وحينئذ أنت تقطع حبل اإلخاء بيدك على رغم أنك المبتدئ بالعتاب ومن هذا حاله فهو أولى بالعفو والصفح ‪ ،‬فأنت ما‬
‫عتبت على صديقك إال لتسمع عذره و ندمه فيطمئن قلبك ببقائك في قلبه ‪ ......................‬كل هذا إنما هو في‬ ‫َ‬
‫ابتداء الصداقة مع ابتداء المشكالت وسوء التفاهم‪ ،‬ال حل الستمرار الصداقة إال بالعتاب فاالعتذار فالعفو ‪ ،‬أما حين تكون‬
‫ظر أنهما قد حفظا بعضهما حفظا ‪،‬‬
‫الصداقة في أوجها فالشأن مختلف ‪ ،‬فاألصدقاء بعد سنين طويلة من الصداقة المنت َ‬
‫ومع تكرار المشكالت والعتاب صار كل واحد منهما كتابا مفتوحا أمام صاحبه وحينها حين يرتكب الصديق خطأ في حق‬
‫صديقه هو حتما يعرف أن ذلك األمر يغضبه خصوصا أن الخطأ قد يكون متكر ار فعله من قبل وحينها يكون العتاب صعبا‬
‫من الطرف المخطأ في حقه فهو لن يثق هذه المرة في صديقه وبالتالي االعتذار لن يحدث من الطرف الذي يدرك عاقبة‬
‫خطئه وبالتالي العفو والصفح يكون متعذ ار وحينها تكون الصداقة في موقف حرج ‪ ،‬ولعلنا نتكلم تفصيليا فيما بعد عن هذه‬
‫األمور ولكن ما يهمنا هنا أن العفو في األصل سبب من أسباب رأب الصدع واستمرار مسيرة األخوة والخّلة‬
‫‪...................‬‬

‫( خذ العفو وأمر بالعرف ) ( والذين يجتنبون اإلثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) المغفرة والصفح من صفات‬
‫المتقين عند الغضب ‪ ،‬والغضب في ذاته ليس مذموما فهو طبيعة بشرية فالمؤمنون يغضبون ولكن الذم يقع على تبعات‬
‫الغضب فالمؤمن حين يغضب يضبط غضبه وال يدفعه إلى الفجور في الخصومة وهذا معنى نصيحة النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم ( ال تغضب ) أي ال تغضب الغضب المذموم ذا التبعات السيئة ‪ ،‬ولكن كل ذلك – في رأيي الشخصي – مرهون‬
‫باعتراف الطرف اآلخر بخطئه ‪ ،‬فحين يقر المخطئ بخطئه فالصديق الحقيقي يعفو ويغفر ‪ ،‬وليس مطالبا بالعفو عن ذنب‬
‫اقترفه صديقه ولم يعترف به ولم يقر به فالمشكلة ستظل قائمة وبدون وقفة حاسمة ستكون َبداءة الحساسيات وتغير القلوب‬
‫وهي َبداءة النهاية للصداقة ‪ ،‬وعجبا لمن يقترف خطأ في حق صاحبه ويتهم صاحبه بأنه بالغ في الغضب والخصومة في‬
‫حين أن البادئ باإلغضاب هو المستحق لّلوم والتقريع ال الغاضب ‪ ،‬ومسبب الضيق والحزن لصاحبه ملزم كما أغضبه أن‬
‫سرت القارورة الشفافة المتأللئة عليك أن تعيدها كما كانت ال أن تقول بعد‬
‫يسعده ‪ ،‬فمن كسر شيئا فعليه إصالحه ‪ ،‬فكما َك َ‬

‫‪78‬‬
‫كسرها ‪ :‬لقد انكسرت انكسا ار مبالغا فيه ولم يكن ينبغي أن تنكسر بهذا الشكل والقارورات العادية حين تقع ال تنكسر كل‬
‫هذا الكسر !! ‪ ،‬أنت أفسدت ما بينك وبين صاحبك فأعده كما كان وإال فال تلومن إال نفسك التي بين جنبيك !!!‬

‫ونعود فنقول صديقك الطيب إن اعترف بإثمه في حق الصداقة فما عليك إال العفو ونسيان ما فات فهو بشر وطبع البشر‬
‫الخطأ وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وانظر لقول الشاعر ‪:‬‬

‫كفى المرء نبال أن تعد معايبــه‬ ‫فمنذا الذي ترجى سجاياه كلها‬

‫ومن يبتغي أخا بال عيب يبتغي المحال كمن يبتغي رائحة البخور وال يريد أن يرى دخانه‬

‫عود يفوح بال دخان؟!‬


‫وهل ٌ‬ ‫تريد مه ّذباً ال عيب فيه‬

‫وصدق من قال لصاحبه ‪ :‬وهللا ال صفت مودتنا وال عذب شربها لنا إال بعد أن يغفر كل منا لصاحبه ما يغفره لنفسه من‬
‫من وال أذى ‪........................‬‬
‫غير ّ‬

‫وفي مسألة العفو عمن أخطأ في حقك ‪ -‬ال سيما ما بعد اعتذاره ‪ -‬قال األستاذ محمد الخضر ‪" (( :‬وإذا كانت نفس اإلنسان‬
‫كل ما يحب‪،‬‬
‫كل ما يريد‪ ،‬وال تجيبه إلى طاعته في ّ‬
‫ومدبرة باختياره وإرادته ال تعطيه قيادتها في ّ‬
‫أخص النفوس به‪ّ ،‬‬
‫التي هي ّ‬
‫فكيف بنفس غيره؟! فحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره‪ ،‬وفي ذلك يقول ابن ّ‬
‫الرومي‪:‬‬
‫كدر مش ـ ـ ـ ـ ـربا‬ ‫يلم ٍ‬
‫بعين أو ُي ّ‬ ‫قذى ‪ُّ ...‬‬
‫البد من ً‬
‫هم الناس والدنيا و ّ‬
‫ُ‬
‫ومن قّلة اإلنصاف ّأنك تبتغي الـ ‪ ...‬مه ّذب في الدنيا ولست المه ّذبـ ـا" ))‬

‫وفي سياسة العتاب والعفو لسعيد بن حميد أبيات توزن بميزان الذهب فيقول ‪:‬‬

‫فقفه بين وصل واجتـناب‬ ‫إذا كثرت ذنوب من خـ ـليل‬

‫بذلك كل ماضي العزم نابي‬ ‫وأنظره فلأليام حكـ ـ ــم‬

‫جلية مشكل بعد ارتيــاب‬ ‫وعاتبه فكم أبدى عـ ـ ـتاب‬

‫إذا أخفقت من نفع العتاب‬ ‫ورّج النفع في اإلعراض عنه‬

‫عنانا للرجوع أو اإليـ ـ ــاب‬ ‫وراجعه بعفوك حين يثـ ـني‬

‫إذا قدرت يداك على العقاب‬ ‫فإن العفو عن ذي الحزم أولى‬

‫‪79‬‬
‫وتعدم ذنب من تحت التراب‬ ‫فإنك واجد للحي ذن ـ ـ ـبا‬

‫العفو عمن يستحق العفو واجب وهو ذو الحزم و هو من أبدى الرجوع واإلياب عما اقترفه أما من لم تجد نفعا من عتابه بل‬
‫يقدر‬
‫معاتبته زادته عتوا وكب ار وإص ار ار على موقفه فالحل عند سعيد بن حميد واضح وصارم وهو اإلعراض عنه وتركه فهو ال ّ‬
‫األصدقاء وال يعرف قيمة األخوة ويدق أول مسمار في نعشها‪....................‬‬

‫وعن نفسه وطرفه اآلخر يتكلم بهاء بن زهير عن ثقافة العتاب و االعتذار ثم تجدد الحب فيقول ‪:‬‬

‫فذلك ود بيننا يتج ـ ـ ـ ـ ــدد‬ ‫إذا ما تعاتبنا وع ـ ـ ــدنا إلى الرضى‬

‫وقلتم وقلنا والهوى يتجـ ـ ــدد‬ ‫عتبتم علينا واعتذرنا إليـ ـ ـ ـ ــكم‬

‫أذلك عتب أم رضى وت ـ ـ ــودد‬ ‫عتبتم فلم نعلم لطيب حديثكـ ـ ــم‬

‫ويا طيب عتب بالمحبة يش ـ ــهد‬ ‫وقد كان ذاك العتب عن فرط غَــيرة‬

‫الجمان المنضد ‪ :‬اللؤلؤ‬ ‫المنض ــد‬


‫ّ‬ ‫عتاب كما انحل الجمان‬ ‫وبتنا كما نهوى حبيبين بي ـ ـ ـ ــننا‬
‫المتناسق‬

‫وحس ـ ــد‬
‫فيا رب ال تُسمع وشاة ّ‬ ‫وأضحى نسيم الروض يروي حديثنا‬

‫معارضون للعتاب‬

‫يعارض فريق فكرة العتاب ويرونها دربا من الجفاء فأثرها العكسي عندهم شيء ال يستهان به فهو مبدأ الخالف والمشاكل ‪،‬‬
‫والصديق المحب عندهم من إذا وجد في نفسه شيئا من صديقه كتمه في قلبه وردم عليه التراب فهو قلب صاف يغفر الزالت‬
‫مهما حدثت من حبيبه ويلتمس له األعذار دوما وكأن صديقه ال يخطئ !! فيحفظون بذلك الصداقة ويتداركون أن يقع النفور و‬
‫اإلصرار من الطرف المعاتَب الذي ربما يؤدي عتابه إلى مزيد من سوء الفهم و ازدياد الموقف سوءا !! ويقولون قول بشار ‪:‬‬

‫لم تلق ال ـ ـ ـذي ال تعاتبـ ـ ــه‬ ‫كنت في كل األمور معاتب ـ ـ ـا‬


‫إذا َ‬

‫مقارف ذنـ ـ ـب مرة ومجانب ـ ــه‬ ‫فعش واحدا أو صل أخاك فإنـ ـ ـه‬

‫أي الناس تصفو مشاربه‬


‫ظمئت و ّ‬ ‫إذا أنت لم تشرب م ار اًر على القذى‬

‫‪80‬‬
‫عاتبت‬
‫َ‬ ‫عليك أن تحذر من هذا المصير المشئوم الذي قد يجلبه لك معاتبتك ألصدقائك وهو أن تعيش واحدا بال أصدقاء فكلما‬
‫جرت فتدفع ضريبة تسرعك و إنكارك على صديقك بفقدك له لألبد ولن ينفعك الندم بعدها ‪ ،‬هذا في رأيهم عين الحكمة !!!‬
‫ٌه َ‬

‫واحذر من شهوة العتاب حين تعرض لك في قلبك وكلما َّ‬


‫حدثتك نفسك بهذا فأعرض !!‬

‫ـاب‬
‫رأيت الهجر مبدؤه العتـ ُ‬ ‫أردت عتابكم فصفحت إني‬

‫والعتاب درب من العنف واألذى بين األصدقاء فتوق ذلك وكن رزينا حكيما‬

‫فتوق من عنف العتاب‬ ‫ـجة‬


‫عنف العتاب ملـ ـ ّ‬

‫فذاك أدنى لإليـ ــاب‬ ‫واستبق خلة من يـدوم‬

‫عالته هتك الحج ـ ــاب‬


‫ّ‬ ‫واصفح عن األمر الذي‬

‫كدرتها بالعتب واللوم ولو‬


‫وتذكر يوما تفقد فيه صديقك إما بالهجر وإما بالموت وحينها ستبكيه بدموع الندم واألسى و تنعى أياما ّ‬
‫تركت ذلك الستمتعت بصفاء تلك األيام وأنت بجوار صديقك الذي فقدته اآلن !!‬

‫مضى ‪ :‬مات‬ ‫لكنا على الباقي من الناس أعتبا‬ ‫ونعتب أحيانا عليه ولو مضى‬

‫ويقول اآلخر الذي جرب من بعد فراق صديقه بالعتاب أقواما أراذل جعلوه غارقا في بحور الندم والحسرة بعد عسير المقارنة ‪:‬‬

‫بكيت على سل ِم‬


‫بت أقواما ُ‬
‫وجر ُ‬ ‫عتبت على سَلم فلما فقدتُه‬
‫ُ‬

‫وفي األثر العكسي للعتاب والموازنة بينه وبين المصلحة العائدة منه قال أبو سليمان ‪ :‬أما العتب فربما أصلح ورد الفائت‬
‫وشعب الصدع ولم الشعث ‪ ،‬واإلكثار منه ربما عرض بالحقد وأحدث نوعا من النبوة ‪....‬‬

‫وتوسط بعضهم في المسألة فقال ابن رشيق ‪ :‬العتاب وإن كان حياة المودة وشاهد الوفاء فإنه باب من أبواب الخديعة يسرع إلى‬
‫الهجاء وسبب أك يد من أسباب القطيعة والجفاء فإذا قل كان داعية األلفة وقيد الصحبة وإذا كثر خشن جانبه وثقل صاحبه‬
‫‪.......‬‬

‫وقال صاحب رسالة العتاب بين األصدقاء ‪(( :‬وليس اللوم والعتاب بشيمة ألهل النفوس الكريمة‪ ،‬وال بمسلك ومذهب ألولي‬
‫األلباب واألرب‪ ،‬ومن كان ذا طبع سليم‪ ،‬وخلق كريم‪ ،‬فإنه يربأ بالنفس عن كثرة اللوم والمعاتبة‪ ،‬لعلمه ما في ذلك من العواقب‬
‫هاج ّأوُل ُه ِعتَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب‬
‫َ‬ ‫اب َف ُر َّب َش ـ ٍّـر‬ ‫ِ‬
‫الموجبة إليراث النفرة‪ ،‬وتوليد الرهبة‪ ،‬وإيجاب السآمة والملل‪َ .‬ف َد ِع العتَ َ‬

‫‪81‬‬
‫تصل طرفي‬
‫ُ‬ ‫وكما أنك ال تجد في عقد الصداقة عقدة هي أودى ببريقه من العتاب‪ ،‬فإنك لن تعدم في تلك العقدة ش اًر تكفه بأن‬
‫حدين ))‬ ‫ِ‬
‫العقد ليكتمل حسنه وينتظم رسمه‪ ،‬وبذلك تدرك أن تلك األداة الحساسة جداً ذات ّ‬

‫أن رغوة الصابون‬


‫إن العتاب هو صابون القلوب‪ ،‬أخبره ّ‬
‫وهؤالء المتوسطون في مسألة العتاب يقولون ‪ :‬عندما يقول لك صديقك ّ‬
‫قد تحرق العيون !!!!!!‬

‫وهذا صديق المه صديقه وعاتبه فأرشده لترك العتاب وأن يعيش كل منهما في صفاء بال لوم وال عتب فالعمر أقصر من أن‬
‫نشغله بالعتاب واللوم والشقاق ‪:‬‬

‫والدهر يعدل تارة ويميـ ــل‬ ‫أقلل عتابك فالزمان قليــل‬

‫إال بكيت عليه حيـ ـن يزول‬ ‫لم أبك من زمن ذممت صروفه‬

‫ِ‬
‫حصلوا أفناهم التحصيل‬ ‫والمنتمون إلى اإلخاء جماع ـ ـة‬
‫إن ّ‬

‫باق عليه من الوفاء دل ــيل‬ ‫ولذاك نكلف بالعتاب وودنا‬

‫فعالم يكثر عتبنا ويطـ ــول‬ ‫ولعل أيام الحياة قص ـ ـ ـيرة‬

‫وكثرة العتاب عندهم تجعل الصديق ثقيال ممال على صديقه فيلجأ للكذب في النهاية للتخلص من ملل صديقه اللوام !! فلو كان‬
‫اللوم مرة لكفى وبه الفائدة أما أن يتكرر فستكون النتائج عكسية !!‬

‫ألجا ‪ :‬ألجأ‬ ‫مسالكه ألجا إلى الكذب السـ ـ ـهل‬ ‫ٍ‬


‫عتاب كان صعباً وضيـ ـقت‬ ‫وكل‬

‫وما كل يوم يبذل السيف بالصـ ـقل‬ ‫وقد تصقل األسياف وهي صديئةٌ‬

‫يمنون على من تركوا عتابهم قائلين ‪:‬‬


‫وترك العتاب عندهم جعلهم في النهاية يستعلون و ّ‬

‫ذكرت عتابا‬
‫ُ‬ ‫أخشى القطيعة إن‬ ‫لوال كراهية العتاب وأنـ ـ ـني‬

‫ما لو يمر على الفطيم لشـ ـابا‬ ‫لذكرت من عثراتكم وذنوبكم‬


‫ُ‬

‫فالحل الذي ال حل غيره عند هذا الفريق هو الغض عن الذالت بال مقابل وأن يبقى القلب صافيا مهما فعل صديقك بك !!‬

‫مخافة أن تعيش بال صـ ـ ـديق‬ ‫قال أبو رشيد الطائي ‪ :‬وأغمض للصديق عن المساوي‬

‫‪82‬‬
‫أغص‬
‫أشرقني بريقي ‪ :‬جعلني ّ‬ ‫وأشرقني على حنق بريـ ـ ـقي‬ ‫وقال آخر ‪ :‬وكنت إذا الصديق أراد غيظي‬

‫مخافة أن أعيش بال صدي ـ ـق‬ ‫وت عنه‬


‫غفرت ذنوبه وعفـ ـ ُ‬
‫ُ‬

‫كلهم يخاف من فقدان الصديق ويبذل ما في وسعه لئال يحدث ذاك المصير المؤلم ويرضى بصديقه على عالته وعيوبه‬
‫ويغمض عينه عن مساوئه ويحتملها فذلك الحال خير من الوحدة واالنعزال ويتذرعون بحديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (‬
‫ولكن‬ ‫فكن أنت محتاال لزلته عذ ار‬ ‫التمس ألخيك سبعين عذ ار ) ويقولون ‪ :‬إذا ما أتت من صاحبك زلة‬
‫‪.........................................‬‬

‫إنني أتساءل ألسنا بش ار ؟! وأليس من طبع البشر أنهم يحزنون إذا جافاهم أحبتهم ؟ وأليس تراكم األحقاد في القلب سببا‬
‫آت من هذا الباب ال محالة فعالم هذا الحرص المتظاهر بالورع‬ ‫للبغضاء والنفور و تدمير الصداقة ؟ إن تحطيم الصداقة إ ًذ ا ٍ‬
‫حشو بالحماقة وقلة الخبرة ؟!!‪........................‬‬
‫الم ّ‬

‫إن ترك العتاب على الخطأ ال محالة يؤدي إلى تكرار الخطأ ثم مزيد من إيغار صدر الصديق المخطأ في حقه حتى إن حاول‬
‫غض طرفه عن زلة صاحبه أول مرة ثم جاهد نفسه لتمرير األمور في المرة الثانية فبحكم بشرّيته سينفجر في النهاية وحينها لن‬
‫يفهم الطرف اآلخر سر هذا االنفجار المفاجئ وسيتهمه بالجنون والعبثية !! وحينها تزددا األمور توت ار وسوءا للفهم وينحل عقد‬
‫الصداقة بسهولة‪..‬‬

‫ومن هؤالء الكاتمين لغيظهم الذين ينفجرون في النهاية من يفاجئ صديقه بتعديد أخطائه الماضية ‪ ،‬فيقول أنت فعلت كذا وكذا‬
‫اضيت عما فعلت ثم فعلت وفعلت وغفرت لك ولكن هذه المرة لن أدعها تمر !!! وحينها يشعر الطرف األخر‬‫ُ‬ ‫من قبل و تغ‬
‫بالمن من الطرف األول وأنه يتفضل عليه بعفوه عن زالته التي لم يشعر بها أصال !! بل صار صديقه مليئا بالحقد المكتوم‬
‫ّ‬
‫المتراكم الذي لم يحسب له حسابا في يوم من األيام !! وتزداد خطورة الموقف بين الصديقين ‪....‬‬

‫وليت شعري ما هذا الصديق الذليل الكسير أمام زالت صديقه في حقه ‪ ،‬فمهما أخطأ في حقه فهو كالخرقة البالية يقول‬
‫لصاحبه افعل بي ما تشاء !! فهو ذليل أسير لهاجس في صدره هاجس خسارة صديقه إذا ما عاتبه فيغضبه فيتركه ويهجره !!‬
‫إنه ضعف في الشخصية والصداقة الحقيقية لم تكن يوما ضعفا وإنما عزة وقوة ‪ ،‬والصديق الذي من هذا النوع يصير في النهاية‬
‫إمعة لصديقه ال يخالفه في شيء ال يعرف معروفا وال ينكر منك ار بل ربما يرى صديقه في طريق اإلثم والزلل وال ينكر عليه لئال‬
‫ّ‬
‫يخسره !! ‪ ......‬فيخسر نفسه قبل أن يخسر مبادئه ‪،‬والشخص المؤمن ذو مبادئ ال يتخلى عنها ويفرضها على من حوله ال‬
‫يفرض من حوله عليه شيئا من أفكارهم ففكره الذي يؤمن به ويعتنقه شيء ثابت راسخ في حياته ال يتزعزع أبدا والصداقة من‬
‫تلك المبادئ التي يجب أن يعتنقها المؤمنون !!!‪................‬‬

‫‪83‬‬
‫إن الذين يخافون العتاب كثير منهم في الحقيقة ليسوا أصدقاء فصداقتهم التي زعموها هشة متهتكة قليل عتاب يهشمها ويسحقها‬
‫فالثقة بينهم معدومة وأوصال المحبة والوفاء واهنة فيتمسكون بها – وما أتعسهم ‪ -‬بأيديهم وبأسنانهم وكأنهم يتامى ليس لهم‬
‫سند وال صحب ويتمثلون قول الشاعر ‪:‬‬

‫أخط بأقالمي على الماء أحرفـ ـ ـا‬ ‫إذا أنا عاتبت الملوم فإنـ ـ ـ ـما‬
‫مودته طبعاً فصارت تكل ـ ـ ـفا‬ ‫وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن‬

‫إن الصديق الذي يعاتبه صديقه فيقابل العتاب بالرفض واإلباء ترك صداقته أولى فهو هم ونكد على صاحبه ‪ ،‬والمتكبرون‬
‫المغرورون الذين ال يعترفون بأخطائهم أو ال يلينون بين أيدي إخوانهم وإن لم يخطئوا – ال يصلحون ألن يكونوا أصدقاء فهم قد‬
‫يكونون زمالء أو أصحابا أما الصداقة فليسوا منها في شيء !! وصدق القائل ‪:‬‬

‫يعتبك ‪ :‬يسترضيك‬ ‫بودك لم ُيعتبك ح ـين تعاتبــه‬ ‫إذا أنت عاتبت الخليل فلم يكن‬

‫أي ‪ :‬صديقك أو من تظنه صديقك حين تلومه وال يعتذر لك وال يعتبك ( أي يقابل عتابك باسترضائك ) فليس محبا لك وليس‬
‫لودك مكان في قلبه ‪ ،‬هذه هي الحقيقة المرة فال تتغافل عنها وال تتعلق بحبال ذائبة ‪.................‬‬

‫صور من عتاب األحبة‬

‫إن للعتاب عند المتحابين نماذج جميلة تُظهر رقي المحبة واألخوة بينهم ‪ ،‬وهو عتاب ممزوج بالحب والحكمة فال هو تعنيف‬
‫وتوبيخ وال هو تهاون وتساهل فالتعنيف مصيره الخسارة والتساهل مصيره الخسارة وبين الطريقين سبيل حكيم أفصح عنه ابن‬
‫الرومي بكلمات معبرة توزن بميزان الذهب حيث قال ‪:‬‬

‫أعتب حتى أ َّ‬


‫ُعد مجـ ـترما‬ ‫ُ‬ ‫أهمل الصديق وال‬
‫وكنت ال ُ‬
‫ُ‬

‫ُم َن ِّخ ٌل في عتابه َ‬


‫الكلـ ـما‬ ‫لكنني قائـ ـ ـ ـ ـ ٌل له َسدداً‬

‫أخر ُق حتى أز َيدهُ سق ـ ـما‬ ‫الصاحب السقيم وال‬


‫َ‬ ‫أعالج‬
‫ُ‬

‫أعنف في َغمزه لينحط ـما‬


‫ُ‬ ‫يقوم وال‬
‫العود ك ـي َ‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫أثّق ُ‬

‫ولإلمام الشافعي نصيحة لجليسه يونس في عتاب الصديق فيقول ‪ :‬يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره‬

‫بالعداوة وترك الوالية فتكون ممن أزال يقينه بشك ولكن القه وقل له ‪ :‬بلغني عنك كذا وكذا ‪ ،‬واحذر أن ّ‬
‫تسمي له المبّلغ فإن‬
‫أنكر ذلك فقل له أنت أصدق وأبر ال تزيدن لى ذلك شيئا ‪ ،‬وإن اعترف بذلك فوجدت له في ذلك وجها لعذره فاقبل منه وإن لم‬
‫تر ذلك فقل له ماذا أردت بم بلغني عنك ؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبل منه إن لم تر له وجا من العذر وضاق عليك‬

‫‪84‬‬
‫المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة ثم أنت في ذلك بالخيار فإن شئت كافأته بمثله من غير زيادة وإن شئت عفوت عنه و العفو‬
‫أقرب للتقوى لقوله تعالى ( وجزاء سيئة بمثلها فمن عفا وأصلح فأجره على هللا إنه ال يحب الظالمين ) فإن نازعتك نفسك‬
‫بالمكافأة ففكر بما سبق له لديك من اإلحسان فعدها ثم ابدر له إحسانا بهذه السيئة وال تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة‬
‫فشد يدك به فإن اتخاذ الصديق صعب وفراقه سهل !! ‪ ...........‬ا‪.‬هـ‬
‫فإن ذلك الظلم بعينه ‪ ...‬يا يونس إذا كان لك صديق ّ‬

‫ومن أخبار العتاب ما ذكره أبو إسماعيل الخزيمي قال دخلت على عبيد هللا بن عبد هللا بن طاهر – وكنت قد تأخرت عنه –‬
‫كأنك غضبان علي مع الدهر ‪ ..‬فقلت أيها األمير لو علمت أني أسمع هذا‬ ‫فقال ‪ :‬رأيت جفاء الدهر بي فجفوتَني‬
‫ألعددت له جوابا يناضل عني في االعتذار ويتقدمني بطالئع الشوق إليك ويقوم لي مقام العذر ِقبلك ‪ ،‬وباهلل الذي أسأله الزلفة‬
‫عندك ما تأخرت إال لعذر خافيه الشمس وضوحا وغائبه كالحاضر عيانا ومظنونه كالمشاهد يقينا ‪ ........‬أفأنا أجفوك مع‬
‫الدهر وأكون إلفا له عليك وأنا ألحاه – أعيبه – على جفائه لك و إنحائه على إرادتك بما خالف هواك ؟؟؟؟ كال والذي شق‬
‫فقال ‪ :‬هذا جوابك عما لم تعد له فكيف بنا لو غمرتنا منك‬ ‫الوزر ( الملجأ الحصين ) ‪......‬‬ ‫البصر وجعلك لنا َ‬
‫سحابتك الغداقة ومزنتك الدفاقة ؟؟‪ .............‬ا‪.‬هـ‬

‫إذا تأملنا سطور العتاب السابقة وجدناها آية في التو ّاد والحب و تشمل أركان العتاب كاملة ‪ ،‬فنجد أسلوب العتاب الرقيق الطيب‬
‫الذي ال يتهجم وال يجهز على الصديق المعاتب ثم وجدنا رد الفعل من المعاتَب المخلوط بمعاني الحب والقرب في القلب و‬
‫الثناء المحمود ‪ ،‬ويبرهن في اعتذاره بأن دعواه محالة فهو المحب الواله الذي يسيؤه مساءة أخيه فكيف يفعل ما يغضبه ‪ ،‬ثم‬
‫ِ‬
‫المعاتب وعفوه وصفحه ودوام المودة واأللفة بل زيادتها واستدامتها !!‬ ‫تأتي تتمة قصة العتاب بقبول العذر من‬

‫وإذا بحثنا في أعماق الشعر العربي وجدنا العتاب غرضا شعريا متأخ ار فهو وإن كان من قديم عهد العرب بالشعر لكنه ازدهر‬
‫وتبلور في العصر العباسي بصورته الكاملة المستقلة ومن أروع أبيات العتاب التي حفظها األدب وحفظتها الصدور والقلوب‬
‫األبيات البديعة التي يعاتب فيها المتنبي صديقه سيف الدولة والتي بدأها بالحب الصافي و الثناء على المعاتَب ‪:‬‬

‫شبم ‪ :‬بارد‬ ‫َو َمن ِب ِجسمي َوحالي ِع َندهُ َسَق ُم‬ ‫اح َّر َقلباهُ ِم َّمن َق ُلب ُه َشِب ـ ـ ُم‬
‫وَ‬

‫الدوَل ِة األ َُم ُم‬


‫يف َ‬‫وتََّدعي ح َّب س ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُكِتّ ُم ُحّباً َقد َبرى َج َسدي‬
‫مالي أ َ‬

‫الح ـ ـ ـ ِّب َنقتَ ِس ُم‬


‫در ُ‬‫يت أَّنا ِبَق ِ‬
‫َفَل َ‬ ‫جم ُعنا ُحـ ـ ٌّب لِ ُغ َّرِت ِه‬ ‫ِإن َ‬
‫كان َي َ‬

‫وف َد ُم‬ ‫ظ ِ ِ‬ ‫ِِ‬


‫السيـ ـ ـ ُ‬
‫رت إَليه َو ُ‬
‫َوَقد َن َ ُ‬ ‫غم َدة‬
‫يوف الهند ُم َ‬
‫َقد ُزرتُ ُه َو ُس ُ‬

‫وكان أَحسن مافي األَحس ِن ِ‬


‫الش َي ُم‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََ‬ ‫ّللاِ ُكِّل ِه ِم‬
‫َحس َن َخل ـ ِق َ‬
‫كان أ َ‬
‫َف َ‬

‫بهذا التمهيد الودود الراقي بدأ المتنبي حواره مع سيف الدولة ثم أتبعه بعتابه غير قلق وال هياب ‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫الحكـَُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َو َ‬ ‫صم‬
‫الخ ُ‬ ‫َنت َ‬ ‫صام َوأ َ‬
‫فيك الخ ُ‬ ‫َ‬ ‫عامَلتي‬
‫َعد َل النـ ـ ـاس إ ّال في ُم َ‬ ‫يا أ َ‬
‫َوَرُم‬ ‫حم ُه‬ ‫ات ِمن ـ ـ ـك ِ‬ ‫ظر ٍ‬
‫فيمن َش ُ‬ ‫حم َ‬ ‫الش َ‬ ‫حس َب َ‬‫أَن تَ َ‬ ‫صادَق ًة‬ ‫َ‬ ‫أُعي ُذها َن َ‬
‫ناظره ‪ :‬عينه‬ ‫ظـ ـ ـَل ُم‬‫ِإذا ِاستََوت ِع َندهُ األَنو ُار َوال ُ‬ ‫اظ ِِره‬‫وما ِا ِنتفاع أَخي الدنيا ِبنـ ـ ـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫فلما تحقق غرض العتاب ووصلت الرسالة ‪ ،‬خشي المتنبي أن يظن سيف الدولة أن يكون حبه له ضعفا وهوانا وأن يكون عتابه‬
‫الممزوج باالستعطاف دربا من التزلف والمداهنة فاستدرك المديح والعتاب بفخره بنفسه وتذكيره لسيف الدولة بمقامه – أي مقام‬
‫المتنبي نفسه ‪-‬ومنزلته الرفيعة التي شهد بها القاصي والداني فقال مادحا نفسه ‪:‬‬

‫صمـ ـ ــَُم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫أَنا َّالذي َن َ‬


‫ظ َر األَعمى ِإلى أ ََدبي‬
‫َسم َعت َكلماتي َمن به َ‬
‫َوأ َ‬

‫لق َج ّراها َوَيختَصـ ـ ــُِم‬ ‫لء ُجفوني َعن َشو ِارِدها‬ ‫أ ِ‬


‫الخ ُ‬
‫سه ُر َ‬
‫َوَي َ‬ ‫َنام م َ‬
‫ُ‬

‫يث ُمبتَـ ـ ـ ـ ـ ـ ِس ُم‬ ‫ظرت نيوب الَل ِ‬


‫ظَّن َّن أ َّ‬
‫َن الَل َ‬ ‫َفال تَ ُ‬ ‫يث ِ‬
‫بارَزةً‬ ‫ِإذا َن َ َ ُ َ‬

‫رطاس َوالَقَل ُم‬ ‫ِ‬ ‫البيداء تَ ِ‬


‫مح َوالق ُ‬
‫الر ُ‬
‫يف َو ُ‬
‫الس ُ‬
‫َو َ‬ ‫عرُفني‬ ‫يل َو َ ُ‬
‫يل َوالَل ُ‬
‫الخ ُ‬
‫َف َ‬

‫وبعد العزة واالعتزاز يعود المتنبي لنبرته الرقيقة الحانية التي ُتلين الحديد وتذيب جبال الثلج بين المتخاصمين فيقول ‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫يا َمن َي ِع ُّز َعَلينا أَن ُن ِ‬


‫عد ُكم َع ـ ـ َد ُم‬
‫جداننا ُك َّل َشيء َب َ‬ ‫ِو ُ‬ ‫فارَقـ ـ ُهم‬
‫فارَقهم َفالر ِ‬ ‫ِإذا تَ َر َّح َ‬
‫احلو َن ُه ـ ـ ُم‬ ‫أَن ال تُ ِ ُ‬ ‫لت َعن َقو ٍم َوَقد َق َدروا‬
‫نسان ما َيصـُِم‬ ‫اإل ُ‬ ‫كس ُب ِ‬ ‫و َش ُّر ما ي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫صديـ ـ َق ِب ِه‬ ‫كان ال َ‬
‫ِ‬
‫َش ُّر الِبالد َم ٌ‬
‫مقة ‪ :‬حب‬ ‫الدَّر ِإ ّال أََّن ُه َكلِـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫ِ‬ ‫تاب َك ِإ ّال أََّن ُه ِمَق ـ ـ ـ ــة َقد‬ ‫ِ‬
‫ض ّم َن ُ‬
‫ُ‬ ‫َهذا ع ُ‬

‫وأبيات المتنبي في هذه القصيدة الطويلة كثيرة ولكننا اختصرناها بأفضل األبيات فيها وأقلها وعورة في األلفاظ والمعاني‬
‫‪..............‬‬

‫وللبحتري في العتاب أبيات جميلة رقيقة يقول فيها ‪:‬‬

‫َوأُكِب ُر َق َ‬
‫در َك أَن أَستَري ـ ـ ـبا‬ ‫يء تَأتي ِب ـ ـ ـ ِه‬
‫الش ُ‬
‫ُير ُيبني َ‬
‫غتر ٍار َفأَلقى ُشعوبـا‬ ‫بيل ِا ِ‬
‫س ِ‬ ‫َكرهُ أَن أَتَمادى َعل ـ ـ ـى‬
‫َ‬ ‫َوأ َ‬
‫‪86‬‬
‫ظّني َكذوبا‬ ‫َعه ُد َ‬ ‫نت أ َ‬ ‫َت َوما ُك ُ‬ ‫ظّني ِبأَن َقد َس ِخط‬ ‫ُك ِّذ ُب َ‬
‫أَ‬
‫الخطوبا‬ ‫مان َوأَشكو ُ‬ ‫أَ ُذ ُّم َ‬ ‫وَلو َلم تَ ُكن ِ‬
‫الز َ‬ ‫َكن‬
‫ساخطاً َلم أ ُ‬ ‫َ‬
‫عَليك ِبها م ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫خطئاً أَو ُمصـيبا‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َوال ُب َّد من َل َ‬
‫ومة أَنتَح ـ ـي‬
‫الش ُّك في أَن أَتوبا‬ ‫تَخاَل َجني َ‬ ‫ف َذنباً َلم ـا‬ ‫نت أ ِ‬
‫َعر ُ‬ ‫َوَلو ُك ُ‬
‫َك ِإ ّما َبعيداً َوإِ ّما َقري ـ ـ ـ ـبا‬ ‫َسأَصِب ُر َحتّى أُالقي ِرض ـ ـا‬
‫طف َك َحتّى َيثوبـ ـا‬
‫ظ ُر َع َ‬
‫َوأَن ُ‬ ‫أُرِاقب رأيك حتّى ي ِ‬
‫صـ ـ َّح‬ ‫ُ َََ َ َ‬

‫للبحتري في العتاب مراحل عجيبة ‪ ،‬فالمرحلة األولى مرحلة التردد فهو بين نارين نار مالحظته لتغير صديقه وإتيانه ما يريبه‬
‫ونار تهمة الشك في صديقه الذي يثق فيه تمام الثقة وال فرق بينه وبين نفسه وفي نفس اآلن يخشى اإلفصاح عما بصدره فيلقى‬
‫صدود صديقه ‪ ،‬ولكن صدود الصديق واضح وظاهر وهو سبب اسوداد الدنيا في عينيّ فال مفر إذن من المرحلة األخرى وهي‬
‫العتاب فهو الدواء الشافي الذي يشفي الصدر ويلطف الفكر فإن كان سبب الجفوة ذنب ألممتُ به فالبد من مرحلة أخرى هي‬
‫مرحلة التوبة والرجوع عما يغضب الصديق فإن تعقدت األمور وهجرني الصديق فأنا في مرحلة الصبر والعيش على ذكرى‬
‫صديقي أنتظره مهما طالت الجفوة حتى يعود ويلتئم الشمل ‪.....‬‬

‫عتاب النبي و صحابته !‬

‫إن غنائم المسلمين التي غنمها الرسول والصحابة في معاركهم مع أعداء اإلسالم ليست بشيء في مقابل ما غنموه من ُحنين‬
‫وحدها بعد فتح مكة ‪ ،‬فلقد كانت تلك المعركة أم اًر استثنائياً له حساباته الخاصة‪.‬‬
‫وها هو الرسول األعظم يقسم الغنائم فيعطي أبا سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية‪ ،‬وحكيم بن حزام والنضر بن الحارث‬
‫وغيرهم من رجاالت قريش والعرب‪ ،‬إال ذلك الحي من األنصار لم يكن لهم من القسمة حظوة وال نصيب!‬
‫فلقد وجد هذا الحي من األنصار في أنفسهم لما ما نالهم من القسمة الذي نال غيرهم‪ ،‬فكثرت منهم القالةُ حتى قال قائلهم‪ :‬لقي‬
‫َ‬
‫حسان‬ ‫وهللاِ‬
‫األول ّ‬
‫قومه‪ ،‬أي ‪ :‬من لقي أهله وأحبابه نسي أصحابه !! بالمعنى الدارج ‪ ،‬وفي ذلك قال شاعر اإلسالم ّ‬ ‫رسول هللا َ‬
‫ُ‬
‫بن ثابت معاتبا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫النزر‬ ‫ِ‬
‫وشر وصال الواصل ُ‬ ‫نز ار ّ‬ ‫اء إ ْذ كانت مودتهـ ـا‬
‫شم َ‬
‫دع عنك ّ‬
‫ْ‬
‫للمؤمنين إذا ما عدد البش ـ ـ ُر‬ ‫وأت الرسول فقل‪ :‬يا خير مؤتمن‬
‫هم آووا وهم نصروا‬
‫قدام قوم ْ‬
‫ّ‬ ‫عالم تُدعى سليم وهي نازح ـة‬
‫تستعر‬
‫ُ‬ ‫دين الهدى وعوان الحرب‬ ‫سماهم هللا أنصا ار بنصره ـ ـم‬
‫ّ‬
‫و في النهاية كان ال بد من جلسة عتاب صريحة حسمها سعد بن عبادة فدخل على رسول هللا صّلى هللا عليه وسّلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫قسمت في قومك‬
‫َ‬ ‫أصبت‪،‬‬
‫َ‬ ‫صنعت في هذا الفيء الذي‬
‫َ‬ ‫رسول هللا‪ ،‬إن هذا الحي من األنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم‪ ،‬لما‬

‫‪87‬‬
‫أعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب‪ ،‬ولم يكن في هذا الحي من األنصار منها شيء‪ .‬قال‪ :‬فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫و‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬ما أنا إال من قومي‪.‬‬
‫عتاب تار ٍ‬
‫يخية يتحادث الناس عنها‬ ‫ٍ‬ ‫قال‪ :‬فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة‪ .‬فخرج سعد وجمع األنصار‪ ،‬وبعد ٍ‬
‫قليل ستُعقد جلس ُة‬
‫ده اًر طويالً‪.‬‬
‫سعد رسول هللا مخب اًر باجتماع القوم‪ ،‬فأتاهم الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وحمد هللا وأثنى عليه بما هو أهله‪ ،‬ثم‬
‫لما اجتمعوا أتى ٌ‬
‫قال‪:‬‬
‫وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضالّالً فهداكم هللا‪ ،‬وعالة فأغناكم هللا‪،‬‬ ‫وجدةٌ ّ‬
‫"يا معشر األنصار‪ ،‬ما قال ٌة بلغتني عنكم‪َ ،‬‬
‫ّ‬
‫أمن وأفضل"‪ .‬قال‪" :‬أال تجيبونني يا معشر األنصار"؟ قالوا‪" :‬بم نجيبك‬ ‫أعداء فأّلف هللا بين قلوبكم"؟ قالوا‪" :‬بلى‪ ،‬هللا ورسوله ّ‬ ‫و َ‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬هللِ ولرسوله المن والفضل"‪ .‬قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أما وهللا لو شئتم لقلتم‪ ،‬فلص َدقتم ولص ّدقتم‪ :‬أتيتَنا َّ‬
‫مكذباً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫اعة من الدنيا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األنصار في أنفسكم على ل َع َ‬ ‫فصدقناك‪ ،‬ومخذوالً فنصرناك‪ ،‬وطريداً فآويناك‪ ،‬وعائالً فواسيناك؛ أ ََو َج ْدتُ ْم يا معشر‬ ‫ّ‬
‫بالش ِاة والبعير‪ ،‬وترجعوا برسول‬
‫الناس ّ‬‫يذهب ُ‬‫َ‬ ‫معش َر األنصار‪ ،‬أن‬ ‫ترضون يا َ‬ ‫ِ ِ‬
‫فت بها قوماً لُي ْسلموا ووكلتُ ُك ْم إلى إسالمكم‪ .‬أال َ‬
‫تأّل ُ‬
‫هللا إلى رحالكم؟‬
‫الناس شعباً وسلكت األنصار شعباً‪ ،‬لسلكت شعب‬ ‫ٍ‬
‫من األنصار‪ ،‬ولو سَل َك ُ‬
‫امر َ‬
‫لكنت أ‬
‫محمد بيده لوال الهجرة ُ‬
‫نفس ّ‬
‫فو الذي ُ‬
‫األنصار‪.‬‬
‫اللهم ارحم األنصار‪ ،‬وأبناء األنصار‪ ،‬وأبناء أبناء األنصار" فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم‪ ،‬وقالوا‪" :‬رضينا برسول هللا قسماً‬
‫وحظاً"‬

‫في هذه القصة لفتة بديعة لألسلوب العتابي بين الصحابة والرسول ‪ ،‬فسعد بن عبادة لم يترك نفسه للشكوك تعبث في صدره هو‬
‫وإخوانه وإنما قطع الشك باليقين باألسلوب الذي اعتدناه في مسألة العتاب ‪ ،‬وكان رد الرسول الذي هو أعلى ردا فريدا من نوعه‬
‫فصدقناك‪ ،‬ومخذوالً فنصرناك‪،‬‬ ‫فقد قابل العتاب بعتاب آخر حين قال ‪( :‬أما وهللا لو شئتم لقلتم‪ ،‬فلص َدقتم ولص ّدقتم‪ :‬أتيتنا َّ‬
‫مكذباً ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وطريداً فآويناك‪ ،‬وعائالً فواسيناك ) وهنا استحيى الصحابة من الرسول وا ستحيوا من أنفسهم حين وجدوا أنفسهم بأسلوب‬
‫الرسول الفريد كأنهم هم المستحقون للوم ال هو !! ثم أتبع ذلك اللوم اللطيف بتفسير فعله وهو تأليف قلوب حدثاء عهد باإلسالم‬
‫الموحى إليه من السماء أن‬
‫َ‬ ‫بل أتبع ذلك بمدح األنصار وهو هنا في حقيقته اعتذار ولكنه اعتذار غير مباشر فليس حريا بالقائد‬
‫يعتذر عن أمر يجب عليه فعله ولكنه استبدل االعتذار المباشر – وهو المفترض أن يكون بين بقية األصدقاء – باالعتذار‬
‫الضمني الذي ظاهره المدح والثناء واالمتنان بالفضل ليضرب لنا هو وصحابته مثال يحتذى به في قضية العتاب واالعتذار‬
‫‪...........................‬‬

‫بين العتاب واالجتناب‬

‫‪88‬‬
‫من منا يجرؤ على العتاب ؟ اإلجابة بسيطة إنه من تمكنت الصداقة منه ومن صديقه فصارت الثقة بينهما متبادلة فالصداقة إ ًذا‬
‫المعاتب بصدر رحب على لوم أخيه متوقعا خي ار ‪ ،‬فهو قد عهد من أخيه كل خير من قبل على مر‬‫ِ‬ ‫في قمتها وأوجها فيقدم‬
‫سنين طويلة في معترك الحياة ‪ ،‬فلومه بال شك عنده سيؤتي أكله ‪ ،‬لكن المشكلة الحقيقية في مسألة العتاب عند مبتدأ الصداقة‬
‫و صدر العالقة ‪ ،‬حينها يكون الحب هو الرابط بين الطرفين ‪ ،‬الحب فقط !! و المحب الواله بطبعه متشكك دائما في حبيبه‬
‫يخشى أن يجفوه و يتركه و يريد من حين آلخر أن يتأكد من صدق حب حبيبه ‪ ،‬فتكون المعضلة حين يقع سوء الفهم بين‬
‫الطرفين ‪ ،‬وهنا يتعامل المحب بحساسية شديدة ‪ ،‬فحين يقع الخطأ من حبيبه يظن جاهال أن حبيبه كان يجب أال يخطئ هذا‬
‫الخطأ أصال ‪ ،‬وكأن ذلك الخطأ من نواقض الحب عنده ‪ ،‬فيتسرب الشك لقلبه أن حبيبه إنما فعل ذلك التصرف المسيء ألنه لم‬
‫يعد يحبه أو ألنه قل حبه في قلبه ‪ ،‬وهنا يرتكب المحب المتعلق بحبيبه الخطأ األعظم بأنه يترك العتاب ظنا منه أن العتاب لن‬
‫يفيد فالجريمة واضحة عنده ال تحتاج لتفسير من الطرف اآلخر !! (إنه لم يعد يحبني وربما مّلني ويريد التخلص مني فلماذا‬
‫أعاتبه ؟؟!!! ) ‪ ،‬وألنه ذلك المحب المسكين لن يستطيع أن يخادع صديقه بعالقة فاترة في النفس منها شيء فإنه يلجأ لالجتناب‬
‫!! نعم إنه يترك صديقه غاضبا مغتاظا فيفجأ الصديق اآلخر بتصرف صديقه الذي ال يستطيع تفسيره !! فربما هو أصال لم‬
‫يخطر له ببال أنه أغضب صديقه ‪ ،‬وهنا تتبين المحبة وتظهر حقيقة المودة فإن هذا الصديق الذي فوجئ بجفاء صديقه إن كان‬
‫محبا مخلصا فإن لن يهدأ له بال حتى يذهب لصديقه ويعرف ما الحقيقة ؟ لماذا هجرتني يا أخي ؟ هل أذنب ُت في حقك ؟ إن‬
‫فبح لي بما في صدرك وسأعتذر إليك ‪ ،‬إنني ال يسعدني أن أجدك غاضبا مني فأنت نور حياتي الذي ينير‬ ‫كان األمر كذلك ُ‬
‫ِ‬
‫المجتنب ألخيه بما في صدره ويحدث االعتذار ال األنفة واالستكبار !! وتستمر عجلة الصداقة‬ ‫لي الطريق ! وهنا يبوح الصديق‬
‫دائرة دائبة وكأن شيئا حدث لم يكن !!‪...............‬‬
‫وهذا واقع ال شك من بعض المحبين الشديدي الحساسية وفي هذا يقول األستاذ محمد الخضر ‪:‬‬
‫ويرجي منه أن يسير على ما يرضي صديقه في كل حال‪،‬‬ ‫"يرى الباحثون في طبائع البشر‪ ،‬أن ليس فيهم من يتخذ صديقاً ّ‬
‫أخذت‬
‫َ‬ ‫ودلتهم التجارب على أن الصديق ‪ -‬وإن بلغت صداقته المنتهى ‪ -‬قد يظهر لك من أمره ما ال يالئم صلة الصداقة‪ ،‬فلو‬
‫صديق غير نفسك التي‬
‫ٌ‬ ‫هج ُر من إخوانك كل من صدرت منه هفوة‪ ،‬لم تلبث أن تفقدهم جميعا‪ ،‬وال يبقى لك على ظهر األرض‬
‫تَ ُ‬
‫أي الرجال المهذب "‬
‫لمه ‪ ...‬على شعث ّ‬ ‫ٍ‬
‫بمستبق أخاً ال تُ ّ‬ ‫بين جنبيك‪ ،‬عرف هذا المعنى الشاعر الذي يقول‪ :‬ولست‬

‫وتأتي المشكلة الثانية حين يتكرر االجتناب من ذلك الصديق الحساس الذي كلما وجد شيئا أنكره من صديقه لجأ لالجتناب‬
‫والهجر ويبدأ سأم ومالل الطرف اآلخر الذي صار ال يعرف كيف يرضي صديقه ؟ وهنا يكون معول هدم في بناء الصداقة !!‬
‫وربما يقول قائل إن الهجر وسيلة مجدية لردع الصديق الجاني في بعض األحيان ‪ ،‬وأقول نعم هذا صحيح ولكن ما تلك األحيان‬
‫التي يكون من حق الصديق فيها الهجر ؟؟ إن الحالة األولى أال يعترف الصديق الجاني بخطئه وال ينبس ببنت شفة من اعتذار‬
‫المجفو أيا كانت النتائج التالية فإما أن يرجع الصديق المعتدي و يقدم فروض االعتذار وإما فهي‬
‫ّ‬ ‫حينها الهجر من حق الصديق‬
‫المجفو بتصرفه وإنما أنهاها الجافي المبتدئ باالعتداء فالبادئ هو األظلم ‪......‬‬
‫ّ‬ ‫نهاية الصداقة لم ينهها‬

‫‪89‬‬
‫أما الحالة الثانية التي يحسن فيها الهجر فهي تكرار الخطأ من الصديق الذي كلما عاتبه صديقه على خطئه وقع فيه مرة أخرى‬
‫وكأنه لم يع الدرس ولم يفهم صديقه حق الفهم ‪،‬فهذا في الحقيقة ال يحترم مشاعر صديقه ويجني على صداقته بيده فاستحق‬
‫الهجر ‪.............‬‬

‫ساعة العتاب‬

‫أما الوقت المناسب للعتاب فبابه واسع‪ ،‬غير ّأنه ال بد‬


‫قال صاحب رسالة العتاب بين األصدقاء علي بن محمد التميمي ‪(( :‬و ّ‬
‫تجنب المعاتبة حال مواقعة الذنب‪ ،‬أو مسايرة الصحب‪ ،‬ووقت المساء أنسب من وقت الصباح‪ ،‬وساعة العشاء أنسب من‬ ‫من ّ‬
‫ساعة العصر‪ ،‬وربما تفاوتت األوقات بحسب الظروف واألشخاص‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خطب‬ ‫ِ‬
‫المعاتب أن ال يلجأ إلى عتاب الصديق إذا ما كان في ضيق من الوقت أو‬ ‫كما يحسن ‪ -‬بل يوشك أن يجب ‪ -‬على‬
‫الود من أصولها‪ ،‬وربما أفسد كل أرض خصبة تصلح إلعادة النماء‪ ،‬قال‬
‫جرٌار يقتلع شجرة ّ‬
‫وسيل ّ‬
‫ٌ‬ ‫طوفان هادم‬
‫ٌ‬ ‫ملمٍ‪ ،‬فإن ذلك‬
‫األول‪:‬‬
‫ّ‬
‫وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري‬ ‫خليلي لو كان الزمان مسالمي‬
‫ّ‬
‫فال تجمعا أن تؤذياني مع الدهـ ـر‬ ‫فأما إذا كان الزمان مح ـ ـاربي‬
‫ّ‬
‫وباعتبار أحسن األحوال فإنه سيجيبك كما قال هذا‪:‬‬
‫َوكل َلذيذ ال مساغَ َل ُه ُمـ ـر ))‬ ‫أسغه وإن حال‬
‫ُ‬ ‫أتاني عتاب لم‬

‫أقول ‪ :‬أحسن الكاتب في هذه األوقات التي اختارها للعتاب فحال مواقعة الذنب حين تقابله بالعتاب في وقتها يكون أدعى‬
‫لالستكبار واإلصرار على الخطأ ‪ ،‬ولكن حين يمر الخطأ ويصبح ماضيا يكون الحاضر أنسب للعتاب فاإلنسان يدافع عن‬
‫حاضره أكثر من دفاعه عن ماضيه !! ‪ ،‬أما وقت المساء والعشاء فهو وقت هدوء البال واألعصاب بعد مشقة يوم طويل حافل‬
‫بالعمل والعناء حينها يكون الذهن صافيا والبال مرتاحا فيكون مستعدا للتعاتب والتناقش وسعة الصدر أما في وسط العمل فال‬
‫يتوفر أي من هذه األشياء فيكون العتاب غير مثمر ويأتي بنتائج عكسية سببها اختيار الوقت غير المناسب ‪،‬وكذا وقت الشدة‬
‫والكربة ال تكن ُمجه از على صديقك حين يكون أضعف ما يكون فإنك بذلك تذله و تحطمه وما أحسن ما قال يوسف عليه‬
‫السالم في عتابه إلخوته على ما مضى منهم حين جاءوه أذالء ضعفاء ( ال تثريب عليكم اليوم يغفر هللا لكم وهو أرحم‬
‫الراحمين ) أي ال لوم وال عتاب فليس الوقت وقت عتاب بل وقت رحمة ومغفرة وأحسن من قال ‪ :‬أشد الجفا الجفا وقت الصفا‬
‫!!‬

‫وأما في أسلوب العتاب فيقول التميمي ‪(( :‬وفي األسلوب تفصيل؛ فعتاب الكتاب أقرب للقبول‪ ،‬واإلشارة بالفعل أنسب من‬
‫للعتب مريح‪ ،‬والتلميح أنجع من التصريح‪ ،‬قال ابن مشرف السني في نغمة األغاني‪:‬‬
‫القول‪ ،‬والهدية تجعل طريقك ْ‬
‫في الوسع والمضـ ـ ِ‬
‫يق‬ ‫ِ‬
‫الصديق‬ ‫حافظ على‬

‫‪90‬‬
‫سئ خطاب ـهـ ْم‬
‫فال تُ ْ‬ ‫هم‬
‫ترد عتاب ـ ـ ْ‬
‫وإن ْ‬
‫ِّ‬
‫بالبر واإلحس ـ ـ ـان‬ ‫عاتب أخـاك الجاني‬‫ْ‬
‫ما كان في كت ـ ـ ِ‬
‫اب‬ ‫وأحسن الع ـ ـ ِ‬
‫تاب‬
‫المس ـافهة‬
‫من ُ‬‫ضر ٌب َ‬
‫ْ‬ ‫بالمش ـاَفهة‬
‫العت ُب ُ‬
‫و ْ‬

‫يتوصلون إلى فكرتك‪ ،‬فمن ّ‬


‫ثم يتبين للمخطئ خطأه بالتلميح‪ ،‬فإن ذلك أبلغ في قبول العتاب‪ ،‬وأدعى إلى‬ ‫جعلت اآلخرين ّ‬
‫َ‬ ‫ومتى‬
‫ترك الخطأ باالجتناب‪ ،‬وكذلك فإنه مؤذن بتعجيل االعتذار وطلب العفو‪.‬‬
‫ُيذكر أن رجالً في الهند كان يعادي إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب عداءاً شديداً‪ ،‬ويحارب كتبه ومؤلفاته ويحذر منها‪ ،‬فاحتال‬
‫غير بها اسم الشيخ من‪ :‬محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬إلى‪ :‬محمد بن سليمان التميمي! وأهدى جملة كتب الشيخ‬ ‫أحد الفضالء حيلة‪ّ ،‬‬
‫فلما قرأها أعجب بها‪ ،‬ووجدت في قلبه قبوالً وأث اًر حسناً؛ فأعلمه هذه الحكيم أن هذه الكتب من مؤلفات محمد‬
‫لهذا العالم الهندي ّ‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬فما كان من هذا العالم الهندي إال أن جثا على ركبتيه من البكاء والحسرة واأللم على ما كان منه من عداء‬
‫لإلمام‪ ،‬فصار من أكثر الناس دعوة وتوزيعا ونش ار لكتبه في محيطه‪)).‬‬

‫أقول ‪ :‬وما أجمل أن يكون العتاب كتابة ‪ ،‬رسالة نصية يكتبها المعاتب لصديقه ‪ ،‬يقول فيها كل ما يجول بصدره بال حرج وال‬
‫خجل ‪ ،‬ال شك أن مواجهة الصديق بذنبه وجها لوجه ربما يستثقلها المحبون فلماذا ال نجرب العتاب بالورقة والقلم‬
‫؟!‪................‬‬
‫إنني ابتكرت طريقة جميلة للتحسين من أنفسنا ولتحسين عالقاتنا بيننا وبين أصدقائنا ‪ ،‬كنت أحفز أصدقائي أن يكتبوا لي في‬
‫ورقة قائمة بعيوبي الشخصية التي أقع فيها دائما من وحي تجارب السنين التي قضوها معي ‪ ،‬وأنا كذلك بدأت أكتب ألصدقائي‬
‫كل ما الحظته فيهم من عيوب ليجتنبوها و لتكون الصداقة بيننا أكمل وأفضل وبهذا يكون قد تحقق المعنى النبوي اللطيف (‬
‫المؤمن مرآة أخيه ! )‪..........‬‬

‫إنني حين أختم هذا الفصل أكرر وأقول إن العتاب جزء من حياة األصدقاء وركن ركين من بنائها ‪،‬ال ُيستغنى عنه ‪ ،‬به تستقيم‬
‫وهو المحك لذي‬ ‫وفي العتاب حياة بي ـن أقوام‬ ‫الصداقة وبدونه ينحل عقدها وأحسن وأجاد الشاعر القائل ‪:‬‬
‫لبس وإبهام !!‬

‫‪ -6‬التزاور بين األصدقاء‬

‫بمتفق السالم على الطري ـق‬ ‫إذا رضي الصديق من الصديق‬

‫‪91‬‬
‫وال يتعاتبان على الع ـ ـقوق‬ ‫فما يتزاوران بغير ع ـ ـ ـ ـذر‬
‫على موت الصداقة والخفوق‬ ‫فقد جعال سالمهما ع ـ ـ ـزاء‬

‫أبيات قالها ابن الخيمي صارخا مستغيثا بالنفوس المؤمنة السوية أن تعود إلى رشدها وأن تعيش في السمات الصادقة للصداقة‬
‫الجميلة المتينة وخاشيا من أن تموت معاني األخوة وينتهي معنى جميل من الدنيا ‪ ،‬إنه ال صداقة بال عتاب كما أنه ال صداقة‬
‫بال تزاور وإال فإنه موت تلك الصداقة وخفوق في العالقات اإلنسانية السامية !!‪...................‬‬
‫إن التزاور بين األصدقاء هو مطفأة لهيب االفتراق و مسكن ألم الجوى من البعاد ‪ ،‬وبلسم القلوب المشتاقة المتلهفة للقاء أحبتها‬
‫لقاء كبقية اللقاء ‪ ،‬إنه لقاء بالحبيب في بيته أو لقاؤه بك في بيتك ‪ ،‬حين تذوب معاني التكلف وتسقط كل الحجب‬
‫‪ ،‬ولكنه ليس ً‬
‫ويصير بيتك بيته وبيته بيتك ‪ ،‬إنه لقاء فريد يقرب عالقة المتحابين من عالقة األهل والنسب ثم يسمو عليها قاف از من فوقها‬
‫لتصبح ّأم العالقات بال منازع ‪...............‬‬

‫إن زيارتك صديقك في بيته نعمة حرم منها األشقياء التعساء ‪ ،‬هؤالء المنغلقون البائسون الذين ال تتعدى عالقتهم بأصحابهم‬
‫لقاءهم في المتنزهات و المقاهي وإذا ُذكرت البيوت واللقاء فيها تجدهم يفرون كالحمر المستنفرة التي فرت من القسورة !! إذا‬
‫دعاهم الداعي للزيارة في بيته تجد وجوههم تتلون وأصواتهم تتحشرج ‪ ،‬يتهربون ويراوغون من تلك الزيارة ويقولون لقاؤنا خارج‬
‫البيت أفضل ‪ ،‬ثم يتحججون قائلين ‪ :‬مللنا من البيوت وجدرانها دعنا ننطلق في أرض هللا الواسعة ‪ ،‬وهم بذلك يتهربون من‬
‫الزمها أنك إذا زرته اليوم فإنه سوف يزورك الغد ‪ ،‬وهو ليس عنده استعداد الستضافة أحد في بيته ‪ ،‬هذا حده‬
‫عاقبة الزيارة التي ُ‬
‫في العالقة بالناس وهذا سور منيع لديه ليس من حق أحد أن يتخطاه ‪ ،‬فلبيته خصوصية ال يريد ألحد أن يتعداها ‪ ،‬وهذا النوع‬
‫في الحقيقة – و هي حقيقة مرة بائسة – ليس له أصدقاء وإن زعم ذلك وتوهم وكذب على الناس وعلى نفسه !!‬
‫إن هذا الصنف من الناس لو زار أصحابه يوما ما فإنه سوف يزورهم لعيادة مرض أو على فراش الموت !! مثله مثل بقية‬
‫الناس من المجاملين العامة ليس له وضع خاص وال مكانة مختلفة عند صديقه وهذا ما سوف يحدث معه كذلك ‪..‬‬

‫أما في عالم الصداقة واألصدقاء فما أجمل وأحلى أن يكون للصديقين لقاء أسبوعي بيتي و غير بيتي يجددان فيه عهد المودة‬
‫قران أعينهما من بعضهما ال سيما لو كان في آخر األسبوع حين يستريحان من عناء أسبوع حافل‬ ‫وي ّ‬
‫وينهالن من نبع المحبة ُ‬
‫بالعمل والكد يكلالن أسبوع العمل بزيارة ودودة ينتظرانها من األسبوع لألسبوع ليفرغا قلبهما من هموم الدنيا ومشاكل العمل‬
‫واألسرة !!‬

‫حبا‬
‫غبا تزدد ّ‬
‫إن الزيارة واللقاء ال بد أن يتكر ار بصورة دورية متباعدة ال متقاربة ‪ ،‬فكما ذكرنا من قبل ‪ ،‬العرب الحكماء قالوا ُزر ّ‬
‫‪ ،‬فتباعد موعد اللقاء أدعى إلشعال لهيب الشوق وهو ما يزيد الحب و يعمق الترابط و األلفة ‪................‬‬
‫وما أجمل تصوير أبي تمام ‪:‬‬
‫لديباجتيه‪ ،‬فاغترب تتجـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫دد‬ ‫وطول مقام المرء في الحي مخ ـلق‬

‫‪92‬‬
‫ِ‬
‫بسرمد‬ ‫إلى الناس أن ليست عليهم‬ ‫فإني رأيت الشمس زيدت محبة‬

‫وما أجمل تصوير بهاء الدين زهير إذ يقول ‪:‬‬


‫الضحى وفي األ ِ‬
‫َصيل‬ ‫َ‬ ‫ُزرتُ َك في ُ‬ ‫يل‬ ‫ّللاِ َلوال َ‬
‫خيف ُة التَثقـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫َو َ‬
‫رت ِمن تَطفيلي‬ ‫ض ِج َ‬
‫نت َقد َ‬
‫َوُك َ‬ ‫ساع َة المق ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫يل‬ ‫ذاك َ َ‬ ‫ين َ‬ ‫َوَب َ‬
‫وَلست في ِ‬
‫العشرِة ِبالثَقـ ـ ـ ِ‬ ‫ِ‬
‫يل‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫خفيف َعن َخليلي‬ ‫َلكن أَرى التَ َ‬

‫◄ إن زيارتك لصديقك سبب من أسباب دخول الجنة ‪ ،‬أال تسمع قول النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ (:‬أال أخبركم برجالكم من‬
‫الصديق في فالجنة والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة !! )‬
‫أهل الجنة ؟ النبي في الجنة والشهيد في الجنة و ّ‬
‫‪..........‬‬
‫يالها من منزلة حين يقرن رسولنا بين النبي والشهيد واَلصديق الذي يزور صاحبه حبا فيه لوجه هللا ‪ ،‬وإن تعجب فلتعلم أن تزاور‬
‫األصدقاء ولقاءهم سبب لتكفير الذنوب قال األوزاعي ‪( :‬إذا التقى المتحابان في هللا فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه‬
‫تحاتت خطاياهم كما تحاتت أوراق الشجر !! )‬
‫إن تزاور األصدقاء كان محط أنظار و اهتمام المالئكة !! صدقني ال أكذب عليك أما سمعت ذلك الحديث النبوي ‪( :‬إن رجال‬
‫زار أخا له في قرية أخرى فأرسل هللا له ملكا على مدرجته فلما أتى عليه قال أين تريد قال أخا لي في هذه القرية قال فهل له‬
‫نعمة عليك ترّبها ؟قال ال إال أني أحبه في هللا عز وجل قال فإني رسول هللا إليك ‪ ،‬إن هللا أحبك كما أحببته فيه !! )‬
‫‪.................‬‬
‫يسخر هللا ملكا ليتتبع رجال يزور صديقه ليبشره بما عند هللا له !! فلماذا إ ًذا ال يزور بعضنا بعضا ‪ ،‬ولماذا انشغلنا‬
‫تخيل أن ّ‬
‫بالدنيا المادية عن حقوق األخوة والوصال ؟ أزهدا في المحبة وحياة الروح أم إعراضا عن ثواب هللا ومنزلته المدخرة !!‬
‫طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة‬
‫ولماذا غفلنا عن قول رسولنا ‪ ( :‬إذا عاد المسلم أخاه أو ازره قال هللا تبارك وتعالى ‪َ :‬‬
‫منزال !! )‬

‫إن السلف الطاهرين المتحابين كانت الدنيا ال تشغلهم عن إخوانهم وهم وإن تباعدت بينهم الديار لم تتباعد عندهم القلوب ‪،‬‬
‫كانت أسباب القطع عندهم وافرة فوسائل النقل واالتصال كانت قاصرة ولكنهم كانوا يبذلون الجهد و يغصبون أبدانهم بتحمل‬
‫السفرالشاق لتحيا قلوبهم برؤية محبيهم ‪ ،‬وكثير منا في زمن الطائرات والصواريخ يبخل على أخيه بزيارة لن تكلفه جهدا وال ماال‬
‫ويدخر وقتها لتحصيل منفعة دنيوية رخيصة‪ ،‬بل ربما يبخل بمكالمة هاتفية أو رسالة إلكترونية ويتحجج بمشاغل الدنيا !!‬
‫فسحقا لهؤالء الجفاة وبعدا لهؤالء المغبونين الضائعين الغافلين !!‬
‫إن أحد هؤالء الصالحين الطيبين الذين كانوا في زمن الناقة والفرس وهو أحمد بن حنبل قال للقاسم بن سالم معتذ ار متأث ار ‪ :‬إن‬
‫لي إخوانا ال ألقاهم في كل سنة إال مرة أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم !! ‪ ............‬قال له هذا الكالم حين مدحه قائال‬
‫‪ :‬لو كنت أتيتك على نحو ما تستحق ألتيتك كل يوم !!‪.......................‬‬

‫‪93‬‬
‫فيالشوق المحبين المعذورين الذين حالت األقدار دون زيارة أحبتهم‬
‫شطت ‪ :‬بعدت‬ ‫جامعة ‪ :‬قريبة‬ ‫طت ال ــدار‬
‫في كل حال فلما ش ّ‬ ‫كنا نزوركم وال ــدار جامعـة‬
‫وليس للشوق في األحشاء مقدار‬ ‫نقدر وقتا في زيارتكم‬
‫صرنا ّ‬
‫ٍ‬
‫لمتمن زيارة أحبته وهو غير قادر عليها و آخر بينه وبين صديقه شبر وال يلقي له باال منشغال بالدنيا عنه وعن بره‬ ‫وعجبا‬

‫َك ِ‬
‫طائ ٍر سلخوهُ من َجناح ــَْي ِن‬ ‫هللاً ُِ يعَل ُم أَِّني بعد ُفرَقِتك ـ ــُْم‬
‫حيني ‪ :‬هالكي‬ ‫نك ْم َقد َجنى َح ْيني‬ ‫ألن ُبعدي ِم ُ‬
‫َّ‬ ‫الري ِح زرتُ ُك ُم‬ ‫كوب ِّ‬ ‫ِ‬
‫ولو قدرت ُر َ‬

‫ما بين السماء واألرض !‬

‫فرق واسع بين من تبادله الزيارة ومن بينك وبين بيته حاجز مانع فهذا وهللا الصديق وذاك من إخوان الطريق !! وهو مصطلح‬
‫جديد عبر عنه يحيى بن معاذ إذ يقول ‪ :‬من لم يزرك و لم يؤاسك ولم يتحفك فهو من إخوان الطريق !! أي ‪ :‬من أصحاب‬
‫أجل من هؤالء ‪........‬‬
‫الشوارع من أهل اللهو واللعب سمهم زمالء أو أصحابا ولكن ابتعد عن مقام الصداقة فهو ّ‬
‫وفي ذلك المعنى قال الشاعر ‪:‬‬
‫إن زرت زار وإن عدت عادا‬ ‫ومن لم يكن منصفا في اإلخاء‬
‫وإن كان أعلى قريش عـمادا‬ ‫اإلباء‬ ‫َأبيت عليه أش ـ ــد‬

‫وهنا يجدر بنا المرور على صنف غريب من البشر ‪ ،‬يستحل لنفسه زيارة بيوت الناس ولكنه يأبى أن يدخلهم بيتَه ‪ ،‬ويتحجج‬
‫بالحجج الواهية أن بيته ضيق ال يسع الغرباء أو أن له أخوات بنات يخشى عليهن وشأن هؤالء قريب ممن قال هللا فيهم (‬
‫يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إال ف ار ار ) وربما ألن الصداقة والمحبة لم تتغلغل إلى قلبه يخشى أن يطلع‬
‫صاحبه على مستواه االجتماعي المتواضع الذي ال يريد ألحد أن يعرف عنه شيئا ‪ ،‬وهو بذلك يعزل نفسه عن صديقه وهو‬
‫خارق من خوارق اإلخاء بال شك ‪..................‬‬
‫وازن بين هذا وبين بشار بن برد يقول عن صديقه ‪:‬‬

‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫تر َعَل َّي َوال حجـ ُ‬‫َوال س ٌ‬ ‫طويالً‬
‫زورني َده اًر َ‬‫نت تَ ُ‬‫َوُك َ‬
‫عاب‬ ‫خيل أَمري‬ ‫ِ‬
‫يس َل ُه َم ُ‬
‫بت َل َ‬ ‫َحب َ‬
‫َكما أ َ‬ ‫َف َهذي خبأَتي َوَد ُ‬
‫تاب‬ ‫ِ‬ ‫َعلى َ ٍ‬ ‫ظ َّل أَ َ ِ‬
‫ِسوى َشو ٍق أَ َ‬
‫َضعُف ُه الك ُ‬
‫ط َرب َوأ َ‬ ‫نه‬
‫ظ ُّل م ُ‬

‫هل يستوي مثال هذا وذاك ؟! هل يستوي من يفتح باب بيته لصديقه يدخله متى شاء بال خجل وال تحفظ بال ستر وال حجاب ال‬

‫يكتمه س ار وال يرى في ذلك عيبا هل يستوي مع من جعل دونه ودون أصحابه األبواب واألبواب ووضع أمامها ُ‬
‫الح ّجاب ؟!!‬

‫‪94‬‬
‫محبه المرة تلو المرة ولكنه يبخل على صديقه بدخول بيته وفي ذلك يقول المكلوم‬
‫وعلى نقيض ذلك النوع هناك نوع آخر يزوره ُّ‬
‫عبيد هللا بن جعفر اإلشبيلي بنبرات األسى وقد كتب تلك الكلمات على باب حبيبه ‪:‬‬
‫يزورنا مرة ما بين م ـ ـ ـرات‬ ‫يا من يزار على بعد المحـ ـل وال‬
‫تقول عنك‪ :‬فتى يؤتى وال ياتي‬ ‫زر من يزورك واحذر قول عاتبة‬
‫إن هذا النوع ما هو إال الجفاء بعينه ‪ ،‬وإن وجدته في حياتك فاعلم أنك تحبه وال يحبك ‪ ،‬ولو كان محبا لك كما تحبه لبادلك‬
‫ودك بود ولكنه لم يذق طعم الحب فكان منه الجفاء فما عليك سوى االنسحاب‪ .......‬فما أنت حين تزوره سوى ضيف ثقيل‬
‫غير مرغوب فيه فانء بنفسك عن موطن تطرد فيه شر طرد وحينها تكون أنت المحب الجريح الذي سينسكب الدم من جرحه‬
‫شهو ار وسنينا قبل أن يلتئم وتنسى تلك التجربة األليمة ‪ ،‬تجربة الجفاء ممن تظن فيهم الود واإلخاء ‪ ،‬وال تقل لي كيف أعرف‬
‫وأميز من يحب زيارتي ومن يستثقلها فإن سيماهم ستكون على وجوههم وإن تجاهلت تلك السيمى فأنت األحمق المغلوب على‬
‫أمرك ‪.......‬‬
‫وقابلني منه البشاشة والبـ ـ ـشر‬ ‫أزور خليلي ما بدا لي هـ ـ ـ ُّشه‬
‫ولو كان في ُّاللقيا الوالية والي ـسر‬ ‫فإن لم يكن هشا وبشا ترك ـ ـته‬

‫وترك صديقك لزيارتك فجأة قد يكون عن جفوة ألمت به وشيء في نفسه منك فراجع نفسك وانظر هل أغضبته أو آذيته وبادره‬
‫بالزيارة فإن تلك الزيارة أول المصالحة وفي ذلك يقول الشاعر ‪:‬‬

‫ِ‬
‫وده بمري ـ ـ ـ ـب‬ ‫َّ‬
‫إذا لم يكن في ّ‬ ‫لزو ٌار لمن ال يزورن ـ ـ ـي‬
‫فإني َّ‬
‫وما دار من أبغضته بقري ـ ـب‬ ‫ومستقرب دار الحبيب وإن نأت‬ ‫ٌ‬
‫سنة التزاور بين الصديقين ال شك ليس بالهين ‪ ،‬وإذابة الجليد بين الطرفين تحتاج إلى نار حب مستعرة لتكفي في‬
‫◄ إن ابتداء ّ‬
‫إزالة حاجز التزاور ‪ ،‬واألمر يحتاج لطرف جريء يكون هو البادئ بالعرض يعرض بشجاعة على الطرف اآلخر أن يزوره في‬
‫بيته ‪ ،‬وحينها يكون الطرف اآلخر في امتحان فإن نجح فيه وإال فهي بداءة حاجز منيع يحول دون تعمق الصلة بين الطرفين ‪،‬‬
‫يسوف األمر‬‫فالناجح سيرحب بالعرض بل يقابله بعرض مماثل للزيارة و يذوب الجليد بسهولة وليونة ‪ ،‬أما الخاسر هو من ّ‬
‫ابتداء رفضا قاطعا لهذا المبدأ‬
‫ً‬ ‫ويتحجج بالحجج لئال تحدث تلك الزيارة التي يلزمها رد مثلها وهو ما ال يريد ‪ ،‬وربما يرفض‬
‫واضعا حدا واضحا فاصال لحدود العالقة بين الطرفين ‪ ،‬وربما تحت إلحاح شديد يقبل الزيارة ولكن يفجأ الطرف اآلخر بعدم‬
‫طلب زيارته لبيته مثلما فعل معه ‪ ،‬والنهاية في كل هذه االحتماالت واحدة وصريحة ‪ .....................‬ليست صداقة !!‬

‫◄ أما عن موعد الزيارة فهنالك مواعيد مفضلة عند األصدقاء ففي األسبوع يجتمع الشمل في آخره بعد عناء أسبوع من العمل ‪،‬‬
‫وفي اليوم يفضل األصدقاء الليل لالجتماع بعد انقضاء الصلوات وبعد االنتهاء من وجبة الغداء فحينها يكون البال خاليا والذهن‬
‫صافيا ‪...........‬‬

‫‪95‬‬
‫وقديما – أعني قبل وسائل االتصاالت – كانت الزيارات بين األصدقاء ال عن سابق موعد فكان الصديق يأتي في األوقات التي‬
‫يظن فيها صديقه فارغا ويطرق الباب ويرحب به صديقه ويستضيفه ‪ ،‬لذا شرع اإلسالم االستئذان ( يا أيها الذين ءامنوا ال‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وها‬
‫َح ًدا َف َال تَ ْد ُخُل َ‬ ‫تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون َفإ ْن َل ْم تَج ُدوا ف َ‬
‫يها أ َ‬
‫ِ‬ ‫يل َل ُكم ْار ِج ُعوا َف ْار ِج ُعوا ُهو أ َْزَكى َل ُكم و َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫يم ) فحين يأتي الصديق صديقه إما أن يرحب به‬ ‫ّللاُ ب َما تَ ْع َملُو َن َعل ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َحتى ُي ْؤَذ َن َل ُك ْم َوإِ ْن ق َ ُ‬
‫ويدخله بيته وإما أن يشرح له ظروفه التي تمنع من الزيارة بال حساسيات وال تكلف وال تهرب والطرف الآلخر يقبل العذر بحكم‬
‫ثقته في صديقه ‪ ،‬أما اآلن فاألمر يختلف كثي ار فالهاتف والرسائل اإللكترونية والشات جعلت الزيارات بمواعيد يختارها الصديقان‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ تصير الزيارة بال موعد سابق ال معنى لها بل دربا من قلة الذوق واألدب ‪ ،‬وهو ما‬ ‫قبل لقائهما متى شاءا وكيف شاءا ‪،‬‬
‫قد يثير المشاكل بين الصديقين ويكدر صفو عالقتهما ‪ ،‬و األمر إن رضي به الصديق ادعاء لنزع التكلف فإن أهله ربما ال‬
‫يرضون بذلك ويثيرون االنتقادات لصديقه ويوغرون صدره وهو ما ال ينبغي أن يحدث بين األصدقاء ‪............‬‬
‫أما احترام المواعيد المختارة بين الصديقين فهو شيء مفروغ منه ! فالصديق المحب المخلص ينتظر موعد لقاء حبيبه وقد نفذ‬
‫صبره ‪ ،‬ويعد الساعات والدقائق التي تسبق موعدهما كالظمآن الذي ينتظر الماء الذي يرويه وينعشه ! أما من يتهاون في احترام‬
‫موعد لقاء صديقه ويأتيه متأخ ار بال عذر وال سبب فهو ال يحترم صديقه خصوصا إذا تكرر ذلك منه ‪ ،‬فالغريب ال ينبغي أن‬
‫يتعامل معه هكذا فما بالك بالصديق ! ولو كان موعده مهما لديه ما تأخر عنه بل جاء قبل الموعد متحسبا للطارئات مثل‬
‫التلميذ الذي يأتي قبل موعد االمتحان وربما ال ينام الليل خوفا من فوات موعده ! فهل صارت الماديات عند المستهتَرين أكثر‬
‫قيمة واحتراما من البشر ؟! والعجب من الحجج الزائفة التي يرددونها كقولهم‪ ( :‬إن عدم االلتزام بالموعد من قلة التكلف‬
‫والصديق دائما يعذر صديقه !! ) وهؤالء الحمقى إنما قلبوا الموازين وجعلوا الفوضى محل النظام وجعلوا العبث محل االنضباط‬
‫‪ ،‬وال أدري كيف لرجل يضع البنزين بجوار شمعة ويثق في الشمعة أنها لن تحرق البيت وحينما تحدث المصيبة يلوم الشمعة‬
‫ويلوم الزمن وهو الملوم ال ملوم غيره !!‪ ...........‬إن الواقع يقول إن كثي ار من الصداقات حدثت بها المشكالت بسبب قلة‬
‫احترام المواعيد ‪ ،‬ومعظم النيران من مستصغر الشرر كما يقولون ‪.................‬‬
‫◄ إن لتزاور األصدقاء بركة و روحا جربها األصدقاء تلك الروح التي تسري بين الصديقين فتنتقل إلى اآلباء واألمهات ‪،‬‬
‫أمي الصديقين تتعارفان لتعارف أبنائهما وتجد اآلباء كذلك ‪-‬وإن كانوا أقلّ ‪ -‬تتولد بينهم عالقات بفضل عالقة األبناء ‪،‬‬
‫فتجد ّ‬
‫وهذا أمر رأيتُه بيعيني بين األصدقاء ‪ ،‬والصديق حين يدخل بيت صديقه يصير جزءا من العائلة فيعرف إخوة صديقه و يعرف‬
‫أمه وأباه ‪ ،‬فهو وجه مألوف بالبيت ال يمر أسبوع أو شهر حتى يدخل البيت فال غرو أن تسري تلك األلفة بين العائلتين كلهما ‪،‬‬
‫ّ‬
‫وربما يحدث النقيض فصداقات اآلباء قد تسري إلى األبناء !! فاألبوان الصديقان حين يتزاوران يصحبان أبناءهما فيرون األبناء‬
‫اآلخرين فتتولد معرفة وصحبة مبدؤها اللهو واللعب بين األطفال سرعان ما تكبر وتتعمق مع كبر سنهم فيصيرون أصدقاء بحق‬
‫بفضل اآلباء ‪ ،‬وهذه هي الصداقة مثمرة يانعة تؤلف بين األسر و تجعل المجتمع وحدة مترابطة متماسكة مبدؤها الحب و ثمرتها‬
‫التعاون ‪............‬‬

‫وأخي ار ‪ .......‬التزاور ال غنى عنه للصديقين يتزاوران وقت الفراغ ووقت االنشغال ‪ ،‬ال ينقطع ّخل عن خليله بال سبب كما ال‬
‫تنقطع المودة بال مقدمات يتالقيان في السراء والضراء فإن كان التالقي وقت الصحة فوقت المرض أولى بالزيارة بل وقت الموت‬

‫‪96‬‬
‫ال تنقطع الزيارة فالصديق الذي فجع بموت صديقه ال ينساه وال يسكن ببلواه يتعهده بزيارة قبره مادام حيا وذاك ار أليامه‬
‫الناضرة فحبل البر موصول لم ينقطع فاالتصال اتصال األرواح ال األبدان وعند هللا يجتمع المحبون أخي ار تحت ظله يوم ال‬
‫ظل إال ظله ‪...........‬‬

‫أقل الواج ـب‬ ‫ولك الزيارة من ّ‬ ‫علي م ـ ـسّلماً‬ ‫قد زرت قبرك يا‬
‫ّ‬
‫حملت نوائ ـ ـ ـ ـبي‬
‫َ‬ ‫عني‬
‫فلطالما ّ‬ ‫حملت عنك ترابه‬ ‫ُ‬ ‫استطعت‬
‫ُ‬ ‫ولو‬
‫يسقي ثراك سقاه صوب الصائب‬ ‫ودمي فلو أني علمت بأن ـ ـ ـه‬
‫وجعلت ذاك مكان دم ٍع ساك ـب‬
‫ُ‬ ‫لسكبته أسفاً عليك وحسـ ـ ـرة‬
‫لجميل ما أبقيت ليس بذاه ـب‬ ‫ذهبت بملء قبرك سـ ـؤدداً‬
‫ُ‬ ‫ولئن‬

‫‪ -7‬اإلحساس بالصديق‬

‫حين يمرض الصديق ويجد له معينا ال يكفي ‪..................‬‬


‫حين يصيب الصديق الكرب والحزن ويجد من يصبره ويسليه ال يكفي ‪............‬‬
‫ح ين تضيق بالصديق الدنيا ويدمع دمع القهر والحرمان ويجد يدا حانية تشد أزره ال يكفي ‪..........................‬‬
‫إن ما يحتاجه الصديق فوق كل ما ذكرنا شخصا يحس أنه يشعر به ‪ ،‬يتألم أللمه ‪ ،‬يحزن ألحزانه ‪ ،‬يكتئب لهمومه ‪ ،‬ال يذوق‬
‫النوم ألرقه ‪ ،‬إنه اإلحساس ‪ ...........‬سمة بشرية جعلها هللا في أرواح األحياء من البشر ‪ ،‬والحياة حياة القلوب ‪ ،‬ومن مات‬
‫قلبه وجمد وتصلب فليس حيا بالحب ‪ ،‬والحب خير وقود لحياة القلوب ‪ ،‬من أحب إنسانا فإنه – كما أسلفنا ‪ -‬يجعله بمنزلة‬
‫نفسه حتى يقول له يا أنا ‪ ،‬وتأتي ترجمة ذلك عند الخطوب حين يكون جسد األخوة مريضا عضو من أعضائه فما على بقية‬
‫الجسد إال األسى واأللم ‪ ......‬وهذا مصداق الحديث النبوي الشريف ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل‬
‫الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) فالرسول هنا يريد أن ُيفهم أنصاف المتحابين أن‬
‫شعور داخليا‬
‫ا‬ ‫الحب ليس تعاطفا ظاهريا في األزمات وليس مواساة بالمال والمادة فحسب وليس كلمات باللسان وعزاء بالشفاه بل‬
‫ألم‬
‫يك آلمه ما ّ‬
‫ينعكس على الجوارح حين يشعر صديق المصاب أنه المصاب فيشعر المصاب أنه ليس مصابا وحده بل له شر ٌ‬
‫عبر عنه اإلمام الشافعي بكلمات رقيقة قال فيها ‪:‬‬
‫به فصار مصابا مثله ‪ ،‬شعور عجيب ّ‬
‫فمرضت من حذري علـ ــيه‬
‫ُ‬ ‫مرض الحبيب فعدت ـُ ـ ــه‬
‫ئت من نظري إل ـ ـ ــيه‬
‫فبر ُ‬ ‫وأتى الحبيب يعودنـ ـ ــي‬
‫وتابعه خليل بن ناصيف اليازجي من بعده قائال ‪:‬‬
‫ِ‬
‫الولهان‬ ‫معه ِبَقلبي‬ ‫بجسمه من ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫رضت ُ‬‫فم ُ‬ ‫لطفه‬ ‫الحبيب‬
‫مرض َ‬
‫َ‬

‫‪97‬‬
‫شفاءهُ َف َشف ـاني‬
‫وأنا شربت َ‬ ‫فشفـي ِب ِه‬
‫اءهُ ُ‬
‫رب الحبيب دو َ‬
‫َش َ‬
‫سيقول بعض المغفلين‪ :‬هذه مبالغة غريبة !! ‪ ،‬وما الغريب إال هؤالء الغافلون التعيسون الذين لم يذوقوا حالوة الحب لم يذوقوا‬
‫إال ما يمأل بطونهم ولم يأخذوا إال ما يمأل جيوبهم ‪ ،‬عديمو اإلحساس قلوبهم قاسية مريضة وشر الداء داء القلوب‬
‫‪..................‬‬
‫ألم يسمع هؤالء تلك القصة العجيبة التي كان بطلها نبينا و صاحبه أبو بكر !! حين خطب النبي في الناس يقول ‪ ( :‬إن هللا‬
‫خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند هللا ‪ ،‬فبكى أبو بكر ‪ ،‬فعجب الناس لبكائه فعلموا أن رسول هللا هو المخير‬
‫!!!!‬
‫سبحان هللا ! الوحيد الذي فهم اللغز الذي لم يفهمه الناس هو أبو بكر ‪ ،‬إن هذا هو اإلحساس واتصال األرواح بين المتحابين ‪،‬‬
‫أمن الناس علي في صحبتي مالي أبو بكر ولو كنت متخذا خليال‬‫وال عجب حينئذ أن يقول سيد األنبياء في أبي بكر ( إن ّ‬
‫سد إال باب أبي بكر ! ) ‪...................‬‬
‫يبقي ّن باب في المسجد إال ّ‬
‫التخذت أبا بكر خليال ولكن أخوة اإلسالم ومودته ‪ ،‬ال َ‬

‫وفي قضية اإلحساس ‪-‬خصوصا مسأل َة المرض‪ -‬مساجالت فهذا محمد بن عبد هللا بن طاهر مرض فافتقد أخاه عبيد هللا بن‬
‫عبد هللا فحزن وغضب وظن ظن السوء بصديقه كيف يهجره إذ عاده الناس ولكنه رجع إلى نفسه فقرر أن يلزم مبدأ العتاب‬
‫فكتب له معاتبا ‪:‬‬
‫عالك شاهــَِدا‬ ‫ِ‬
‫ئك من ف َ‬ ‫وجدت َعَلى َجَفا‬ ‫ُ‬ ‫ِّإني‬
‫ُت ِسوى َرسـولك عائدا‬ ‫اعتللت فما َف ـَق ْد‬
‫ُ‬ ‫إني‬
‫سبباً إليك ُمساع ـ ـ ـداً‬ ‫اعتللت فلم أَ ِج ْد‬
‫َ‬ ‫ولو‬
‫الكرى ‪ :‬النعاس‬ ‫ودك راقـ ـ ـ ـدا‬
‫َع َ‬
‫حتى أ ُ‬ ‫الك َرى‬
‫الستشعرت عيني َ‬
‫ْ‬
‫يتساءل ويتعجب كيف يفعل معي ذلك وهو صديقي المالزم وحبيبي المفضل وأنا الذي إن مرض عدتُه وبذلت ما في وسعي‬
‫لمساعدته ففوجئ برده عليه قائال ‪:‬‬

‫القتاد ‪ :‬شجر له ِ‬
‫شوك‬ ‫الرقاد‬
‫ط ْعم ُّ‬ ‫لم أذق ُم ْذ ُح ِم ْم َت َ‬ ‫بشوك الَقتاد‬‫ُك ِحلت ُمْقلتي َ‬
‫مكان ال ـ ـسواد‬
‫زل من مقلتي َ‬ ‫َ‬ ‫المودة وال ـنا‬
‫ّ‬ ‫يا أخي الباذل‬
‫من ُدخولي إليك في ال ـ ُعّواد‬ ‫من َع ْتني عليك ِرَّق ُة قل ـ ـ ـبي‬
‫َ‬
‫تفرى ‪ :‬تقطع‬ ‫لتََف َّرى مع األنين ف ـ ـ ـؤادي‬ ‫سمعت منك أن ـيناً‬ ‫ُ‬ ‫ْلو ِبأُ ْذني‬
‫إن هذا الصديق المغرق في اإلحساس والشعور رقته الزائدة منعته من أن يرى حبيبه في موضع أذى لئال يتمزق قلبه و يسري‬
‫المرض في أعضائه ‪ ،‬فمنع الزيارة وهو مخطئ ال شك فاإلحساس هنا نتيجته مبالغ فيها وإن كان عالمة على صدق الحب‬
‫واإلخالص ‪ ،‬فالصديق العطوف يجازف بنفسه و روحه ‪ ،‬يعرض قلبه للتمزق والتأوه ‪ ،‬من أجل عيادة صديقه الحبيب أقول‬
‫ذلك لئال يتعلل الجفاة الغالظ على عدم عيادتهم ألصدقائهم قائلين نحن حساسون أرّقاء بل هي حجج واهية مثل خيوط‬
‫العنكبوت ‪..........................‬‬

‫‪98‬‬
‫وإن لم يدنه مني ق ارب ـ ـ ـ ــة‬ ‫أخو ثقة يسر بحسن حالـ ــي‬
‫إذا ما أزمـة نزلت رح ـ ـ ــابه‬ ‫يسر بما أسر به ويشجـ ـ ــي‬
‫بنات صدورهم لي مست ارب ــة‬ ‫ألفي قريـ ــب‬
‫أحب إلي من َ‬

‫إن اإلحساس بالصديق ال يكون بالضراء فحسب وإنما يكون بالسراء كذلك ‪ ،‬وكما أن الضراء ال تنزل بالناس متساوية فالسراء‬
‫كذلك وهنا يبرز المحب الحقيقي الذي نال صديقه من الخير ما لم ينله هو فيجد نفسه مسرو ار مبتهجا كأنه هو الفائز صاحب‬
‫سر ؟!! أما الصاحب الحسود‬ ‫النعمة وإن لم تصبه النعمة مادةً ولكنها أصابت سمي نفسه وشق روحه وحبيب قلبه فلم ال ُي ّ‬
‫الحقود فحين يجد صاحبه قد ترقى في المنازل و ارتفع في درجة أو وظيفة أو منصب فإنه يجد نفسه حزينة متأذية حتى إن لم‬
‫ينعكس ذلك الشعور السلبي على تصرفاته إال أنه عالمة على ضعف الحب ووهن الصداقة بل انعدامها ‪ .........‬إنها لحظات‬
‫مكاشفة يعرف بها المرء نفسه هل هو صديق حقيقي يتعامل مع األرواح أم صديق دنيا ولذة أوقات من أصحاب الطريق كما‬
‫عبر العارفون !!‪..............‬‬
‫كما تقبض الكف بالمعصم‬ ‫وما المرء إال بإخـ ـ ـ ـوانه‬
‫وال خير في الساعد األجـذم‬ ‫وال خير في الكف مقطوعة‬
‫وكما أن الصديق يفرح لنعمة صاحبه بدافع اإلحساس – صاحب النعمة كذلك له من اإلحساس ما يجعله متأزما لتأخر صاحبه‬
‫واستئثاره هو بالنعمة دون حبيبه فيجعله غير مكتمل الفرحة ينقصه شيء كبير ‪،‬ذلك الشيء هو رغبته الخير لصاحبه ‪ ،‬وهو إذ‬
‫أنعم هللا عليه وحرم صديقه عليه أال يبالغ في االبتهاج واالحتفال أمام صديقه لئال يجرحه ويزيد عليه همومه بل يفرح بمقدار ال‬
‫يثير أسى صاحبه بل يمد يد العون لصاحبه ويحدثه عن مشكلته أكثر من حديثه عن درجته التي نالها ‪ ،‬بذلك تحدث المؤازرة‬
‫أي باإلحساس المتبادل ‪ ،‬فاإلحساس من طرف واحد ال يكفي !!‬

‫إن ذلك اإلحساس والشعور يتعمق لدى الطرف المحب حتى إذا سأله حبيبه حاجة فقصرت يده عن إعطائها أصابه الهم والحزن‬
‫وانظر ألبي عمرو بن العالء الذي سأله رجل شيئا فوعده أبو عمرو بها ثم لقيه الرجل فقال يا أبا عمر و وعدتني وعدا ولم‬
‫تنجزه فقال أبو عمرو ‪ :‬فمن أولى بالغم أنا أم أنت ؟؟ فقال الرجل‪ :‬أنا ‪ ،‬فرد أبو عمرو‪ :‬بل أنا ‪،‬فقال له الرجل ‪:‬وكيف ذلك‬
‫وبت ليلتك فرحا ُّ‬
‫وبت ليلتي مهموما مغموما ثم عاق‬ ‫أبت بهم اإلنجاز َّ‬
‫فأبت بفرح الوعد و ُ‬
‫أصلحك هللا ؟ قال‪ :‬ألني وعدتك وعدا َ‬
‫مدال ولقيتُك محتشما فمن هنا صرت أولى بالغم !!‪..............‬‬
‫القدر عن بلوغ اإلرادة فلقيتَني ّ‬
‫ما أحسن أبا نواس إذ أجاد قائال ‪:‬‬
‫الح َدث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ان‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫كان لي ِإ ٌ‬
‫ه ل َريب َ‬ ‫لف أ َُرج ـّ ـ ـ ـ ــّي‬ ‫َ‬
‫َيحتَوينا َج َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫دان‬ ‫روح ُه روحي َوَل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِكن‬ ‫ُ‬
‫ان‬ ‫َه ُّم ُه في ُك ِّل شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫َه ُّم ُه َه ّمي َو َه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّمي‬
‫قال َكفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاني‬ ‫ِ‬
‫صيه ما َ‬ ‫يس َيعصينـ ـ ـ ـ ـ ـي َوال أَع‬ ‫َل َ‬
‫‪99‬‬
‫◄ لنا في صاحبين عظة وعبرة أحدهما أصابه المرض بل اجتمعت عليه األسقام المقعدة حتى لزم الفراش فعاده صاحبه‬
‫واتصل به سائال عنه ثم لما عاد إلى عمله والمرض مازال ملما به وجد صاحبه و هو يضحك لهذا و يثرثر مع هذا‪ ،‬يمزح‬
‫ويقهقه ‪ ،‬وقد ترك صاحبه مهموما مكروبا ‪ ،‬جعله مرضه وحيدا منطويا فهو ال يقوى على مجاراة الناس فالتزم مكانه إلى أن‬
‫صاحبه المكروب تركه وحيدا وانشغل عنه بالناس وممازحتهم ‪ ،‬وفي نهاية اليوم‬
‫َ‬ ‫الصاحب‬
‫ُ‬ ‫يمضي اليوم ‪ ،‬وبدال من أن يالزم‬
‫فوجئ الصاحب المعافى بصاحبه المريض وقد خرج بدون أن يسلم عليه أو يكلمه وبدأ الصاحب المكروب يتجنب صاحبه‬
‫القاسي القلب ‪ ،‬أما صاحبنا الغافل الالهي فبدا متعجبا غير متفهم لصاحبه الذي انطوى فجأة وهجره وخاصمه ‪ ،‬ثم بدأ يتساءل‬
‫ما بال هذا الصاحب المنطوي الحساس الذي يخاصمني بال أسباب ياله إ ًذا من مريض نفسيا يحتاج إلى طبيب يعالجه !! ‪،‬‬
‫وفي الحقيقة إن هذا الالهي هو المحتاج إلى طبيب ولكنه طبيب لألرواح ال لألبدان !!‬
‫وصلت الرسالة أم لم تصل ؟؟ عندما تصل تلك الرسالة لكل األصدقاء سوف يتجنبون كثي ار من المشاكل والمنازعات‬
‫‪...................‬‬
‫انظر لهذا المثال وانظر لقول أحمد الحكيم الكاتب يكتب إلى بعض أصحابه في مرض ‪:‬‬
‫همول ‪ :‬فائض‬ ‫القيت منك ه ـمول‬
‫َ‬ ‫ودمعي لما‬ ‫مرضت طويل‬
‫َ‬ ‫فديتُك ليلي مذ‬
‫ويفجعني ظبي الفالت كحي ـل‬ ‫أشرب كأساً أو أسـ ـ ـ ُر بلذة‬
‫أ ُ‬
‫وأصبوا إلى لهو وأنت عل ـ ـيل‬ ‫ويضحك سني أو تجف مدامعي‬
‫وغال حياتي عند ذلك غ ـ ـول‬
‫ثكلت إذن نفسي وقامت قيامتي‬‫ُ‬
‫سأبقى على حزني ضحى وأصيل‬ ‫فإن ينقطع منك الرجاء فإنـ ـه‬
‫حرم على نفسه اللذات من شرب و‬ ‫لقد سهر الليالي الطوال مشغوال ببأس صاحبه وعيناه لم تفارق الدمع حزنا على مصابه ‪ّ ،‬‬
‫وعد قيامته أهون عليه من أن يخون صاحبه بالسرور وقت ألمه ‪ ،‬وإن طال األلم وانقطع الرجاء فتلك فاجعتي‬
‫ضحك ولهو ّ‬
‫مادمت مبتلى مصابا !!‬
‫َ‬ ‫الكبرى التي لن أفيق منها أبدا‬
‫أظن أن الفارق بين المثالين أوضح وأكثر تأللؤا من الذهب تحت شمس الضحى !‬

‫نبع الحب والحنان في الحياة ‪ ،‬صار في بيته فراغ كبير‬


‫فقد َ‬
‫◄ ولنا في صديقين آخرين نظرة تأمل ‪ ،‬فهذا صديق ماتت أمه ‪َ ،‬‬
‫ال يملؤه مالئ فقد البسمة الحنون التي كانت تستقبله حين يدخل بيته والكلمة الطيبة التي كانت تهون عليه مصائب الدنيا ومن‬
‫كان هذا حاله فإن أشد عام يمر عليه بعد ذلك أول عام من وفاة والدته فمع كل مناسبة أو عيد تتجدد الذكريات و يمتلئ القلب‬
‫بالشجون وتُفقد فرحة المناسبة وهنا يأتي دور الصديق الذي ربما ال يحكي له صديقه كل هذه المشاعر الحزينة فربما يعجز‬
‫فهم تلك األمور جيدا وأحس بها تمام اإلحساس وكأنه هو المصاب فعندما‬
‫لسانه عن وصفها ولكن لحسن حظه وهبه هللا صديقا َ‬
‫أتى رمضان تذكر صديقه وتذكر أن فرحة رمضان ومذاقه الخاص ال يتم بغير اجتماع العائلة وتذكر أن أم صديقه هي من‬
‫كانت تحضر له الطعام والشراب الذي افتقده اآلن وكانت تمأل مائدته بنفسها وصنيعها روحا وبهجة ‪ ،‬فضاعت لذة رمضان‬

‫حسا و مادةً فأتى دور الصديق الذي أبى أن يفطر بدون أن يشارك صديقه في طعامه وشرابه الذي تعده له أمه التي ّ‬
‫تتفهم‬ ‫ّ‬
‫‪100‬‬
‫األمور جيدا وتقدرها فيدعو صديقه من حين آلخر لتناول اإلفطار في بيته ‪ ،‬ليجد المواساة من صديقه و الحنان من أمه التي‬
‫جعلت نفسها أما له بعد أمه ‪،‬فيعلم الصديق أن هنالك من يشعر به ويلطف أحزانه ‪ ،‬ولم ينس الصديق ذو اإلحساس اللطيف‬
‫في العيد أن صديقه لن يجد أما تصنع له كعكا مثل العام الماضي فإذا هو يهدي له علبة من الكعك من صنع أمه ليسد الفراغ‬
‫ويمأل الفجوة وتُصنع البهجة بأناس لنا أصدقاء ميزهم عن غيرهم فرط شعور بغيرهم من إخوانهم !!‬

‫◄ وهذا زميالن في الدراسة توطدت الزمالة بينهما حتى صا ار نعم األصدقاء ‪ ،‬كانا يتنافسان في التفوق والنجاح وكأنهما فرسا‬
‫رهان كل يعمل ما عليه لينول ما قسمه له هللا ‪ ،‬يعيشان لحظات الدراسة لحظة لحظة بين فترات انفراج وسعة وفترات ضيق‬
‫وكربة حتى جاء وقت الحصاد يوم النتيجة وهنا – بعد أن كانا متساويين في كل شيء‪ -‬اختلفت النتائج فهذا وفقه هللا لمجموع‬
‫عال يدخله كلية عالية واآلخر كان ذا مجموع منخفض يدخله كلية دون مستوى األول ‪ ،‬األول في قمة النشوى ‪ ،‬والثاني في‬
‫منحدر اليأس ‪ ،‬صحيح أنه يحب الخير لصديقه لكنه فجأة شعر أنه دون مستواه فقرر االنسحاب ‪ ،‬وهنا في هذا االمتحان يأتي‬
‫دور الصديق الناجح ذو الشعور في نفس الوقت ليفهم نفسية صديقه و يحسن تفسير انسحابه وانطوائه ‪ ،‬إحساس الصديق‬
‫المحب يدله على أن صديقه الذي يثق فيه إنما فعل ذلك ليس حقدا وال حسدا وإنما دفعه لذلك كسرةٌ نفس أرادت منه أن يختبر‬
‫صديقه و مدى وفائه له فقرر االبتعاد فترة لينظر كيف يكون رد فعل صديقه ؟ هل يتمسك به ويتشبث بصداقته أم تأخذه أضواء‬
‫المحس ذو الشعور اللماح يسارع لصديقه‬
‫ّ‬ ‫الدنيا وأبراج التفوق ويبحث له عن صديق جديد يناسب مستواه العلمي ‪ ،‬وهنا الصديق‬
‫ويأخذه من يده ويجدد عهد المودة والصفاء ويطمئنه أن ليس شيء في الدنيا يفرق بيننا مهما حدث ومهما فرقت بيننا طبقات‬
‫الدنيا فالقلبان يسكنان بطابق واحد وإن اختلفت طبقات المجتمع المادي !!‪.............‬‬

‫◄ شيء من اإلحساس !‬

‫من عدوك الذي تجتنبه وتبغضه ؟ هل هو من أساء إليك فقط أم من أساء إلى حبيبك كذلك يدخل في زمرة أعدائك ؟ إن‬
‫صديقك حين يعادي إنسانا ال بد أن تعاديه كذلك ألن ذلك من كمال الحب بين الصديقين ‪ ،‬ومن عالمات اإلحساس بمشاعر‬
‫عدوه ‪ ،‬وليت شعري كيف تزعم أن تحب صديقك وأنت ٍ‬
‫مبق على ود من‬ ‫صديقك الذي لن ُيسر بعالقتك الحميمة بينك وبين ّ‬
‫أساء إليه ؟! هل هذا من الوالء أم إنه درب من انعدام الشعور واإلحساس وعدم تقدير صديقك ‪ ،‬إن ثقتك في صديقك تقتضي‬
‫ثقتك في عداواته فهو ال غرو محق في اجتناب شخص ما فما عليك سوى احترام شعوره واجتناب من يجتنب لتحفظ وده على‬
‫األقل في لحظة حضوره أما في غيابه فعليك االجتناب كذلك إال في الضروريات التي تجبرك على االحتكاك بذلك الشخص في‬
‫غير والء فالوالء هو الوالء األول !!!‬
‫وإني لِمن ود الصديـ ـ ــق ودود‬ ‫عدو صديقي داخل في عداوت ــي‬
‫أصادقه فالخير مــنك بعـ ـ ـ ــيد‬ ‫فال تقترب مني وأنت عـ ــدو من‬
‫وقال اآلخر في صديقه‬
‫كأنه مني في ه ـواء شق ـ ـ ـ ــيق‬ ‫أعادي الذي عادى وأهوى له الهوى‬

‫‪101‬‬
‫المجن فال تلومن إال نفسك‬
‫ّ‬ ‫ذلك هو اإلخاء وهذا هو حق الوفاء ‪ ،‬وأما إذا لم تفعل ذلك فاغتاظ منك صديقك وقلب لك ظهر‬
‫فأنت المائع غير المبالي بل الخائن المستهتَر وعليك أن تدفع ثمن خطئك في حق صاحبك الذي يصرخ قائال ‪:‬‬
‫عازب ‪ :‬غائب‬ ‫صديقك إن الرأي عنك لعازب‬ ‫تود عدوي ثم تزعـ ـ ــم أنني‬
‫ّ‬
‫ولكن أخي من ودني وهو غائب‬ ‫وليس أخي من ودني رأي عينه‬

‫والعجب كل العجب ممن وقع في إثم وصال عدو صديقه فعاتبه صديقه المكلوم مستصرخا بالصداقة واألخوة فإذا به يهاجم‬
‫صديقه ويصفه بالحساسية الزائدة ويتعلل بالمصالح والضروريات ثم يتبجح و يقول ال يلزمني أن أخاصم الناس من أجل‬
‫قاطعت إنسانا بسبب تهورك واندفاعك تلزمني أن أقاطعه حتى أخسر الناس جميعا ؟! ثم يندفع ذلك‬ ‫َ‬ ‫خصوماتك وهل كلما‬
‫الصاحب األخرق متهما لصديقه ذي القلب الرقيق باألناوية ( األنانية )وحب االستئثار به دون الناس وأنه يريده أن ينعزل عن‬
‫الناس جميعا وينفرد هو به ويضعه في قفصه ليصير من مقتنياته الشخصية وربما تحذلق و قال شع ار مثل من قال ‪:‬‬
‫تراه بــي إذ ال يـ ـ ـراك‬ ‫قطعت‬
‫َ‬ ‫دعني أواصل من‬
‫ال أضــر به سـ ـ ـ ـواك‬ ‫إني متى أحقد لحقد ك‬
‫أطعت فيه غدا أخـ ــاك‬‫ُ‬ ‫وإذا أطعتُك في أخـيك‬
‫يوما لذا وغد ا لـ ــذاك‬ ‫حتى أُرى متق ـ ــسما‬

‫إنها المبررات اإلبليسية المدروسة ‪ ،‬هو يبرر وصاله لذلك الشخص المعادي بأن ذلك يصب في مصلحة الصداقة وأن قطيعته‬
‫قد تضرك أنت ‪ ،‬ثم يصبغ حجته بصبغة دينية زائفة بأن ذلك الشخص الذي تطالبني بمقاطعته كما قاطعتَه إنما هو أخوك في‬
‫اإلسالم وال ينبغي لنا أن نقطع حبال األخوة والوحدة العامة ثم يختم كالمه ببواطنه الخبيثة التى فاضت رغما عنه أنني لو‬
‫كنت أنا الخاسر فدعني وشأني أصاحب من‬
‫قاطعت عدوك اليوم فسوف أقاطع غيره غدا وغيره بعد غد فكلما تعددت خصوماتك َ‬
‫أريد وال تقيدني بحبال الحب التي سئمتُها‪..‬‬

‫الوسواس‬
‫◄ بين اإلحساس و َ‬

‫يسر وكيف يكون حين يحزن ‪ ،‬ولصديقه في عقله صورة‬ ‫الصديق المقرب يعرف صديقه حق المعرفة ‪ ،‬يعرف كيف يكون حين ّ‬
‫براقة عن شخص محب ودود مشرق الوجه فياض بالمشاعر له نكهة خاصة وروح متميزة متى افتقدها منه لحظة ما عرف أن‬
‫في األمر شيئا ‪،‬فتأتي لحظات يقول الصديق لصديقه ‪ :‬مالك يا أخي اليوم ؟ إنك متغير عن بقية األيام ‪ ،‬هل أحزنك شيء ما ؟‬
‫هل عندك مشاكل تؤرقك ؟ أم إنك مريض أو مرهق تحتاج لراحة أو عالج ؟ والصديق المخلص أحيانا حين يصاب بشيء من‬
‫هذه األمور يجاري الناس ويظهر لهم االبتسامة الكاذبة لئال يظهر عليه شيء متغير فيثير تساؤالتهم أما صديقه فال يعامله تلك‬
‫المعاملة وإنما يتعمد التغير بشكل ما أمامه – ربما في عقله غير الواعي كما يعبر علماء النفس – ليفتح له باب التساؤل عن‬

‫‪102‬‬
‫سر تغيره فينفجر أمامه شاكيا همه باكيا حاله فينفث ما في صدره ويفرغ كباتا داخليا ليس ألحد دور إيجابي في تنفيسه مثل‬
‫صديقه الحبيب ‪ .................‬هذا في األصدقاء ‪.....‬‬
‫الصديق ال يستطيع إ ًذا أن يخفي شيئا عن صديقه ولو حاول فإنه حتما سينكشف ‪ .........‬وحين يخفي الصديق شيئا عن‬
‫صديقه يكون ابتداء لنزاع بينهما حين يحس الصديق أن صديقه يخفي شيئا عنه ‪ ،‬فحاسته الصداقية ال تكذب أبدا حينها يبدأ في‬
‫التشكك في أمره ويظن أن صديقه بدأ يتغير من ناحيته فصار ال يأتمنه كما كان من قبل أو ربما هو غاضب منه وال يريد أن‬
‫يفصح عن غضبه زهدا فيه أو ربما هي عالمة من عالمات الجفاء التي يورثه المالل ‪ ..................‬كل هذه األفكار تدور‬
‫بخلد الصديق المرهف الحس الذي لمس تغير صديقه ولم يجد منه تفسي ار ُمرضيا غير النفي واإلنكار الذي ال يمكن له أن‬
‫يصدقه بسهولة ‪ ،‬وحينها ال يصح االستدالل بحديث التمس ألخيك سبعين عذ ار ألنه في هذه الحال موجود وليس غائبا ُيلتمس‬
‫له العذر فهو لم يعط تفسي ار مقنعا ولم ُيزل اللبس فهو لم يجعل نفسه في موضع التماس عذر وإنما موطن شبهة وريبة فهو‬
‫الملوم أوال وأخي ار وصديقه المحب المسكين هو المتضرر المتشكك التائه في دوامة الشك والتظنن والدائر في رحى الوسواس‬
‫المدمر ‪................‬‬

‫‪ -8‬التقارب الفكري بين األصدقاء‬

‫الناس أشتات وأضداد ‪ ،‬زمر و جماعات ‪ ،‬كلهم مختلفون ‪ ،‬كل له فكره ورأيه الذي يميزه عن بقية الناس واالختالف سنة كونية‬
‫وضعها هللا على ظهر األرض ليبتلي الناس ويميزهم فقال ( وال يزالون مختلفين إال من رحم ربك ولذلك خلقهم ) والمستثنى عند‬
‫عامة النحاة أقل من المستثنى منه عددا فهو القليل والنادر ‪ ،‬فالمتفقون قلة وإن اتفقوا في أشياء كالمذهب واأليديولوجية‬
‫فسيختلفون حتما في الطباع كحب أشياء وبغض أشياء ‪ ،‬والتقارب الفكري إ ًذا هو المخرج لمن يريدون الصداقة ‪ ،‬فالتناسخ‬
‫محدود والتقارب – وإن عز – موجود ‪ ،‬ومن أسباب نجاح الصداقة وسرمديتها ذلك التقارب الذي ربما كان من االبتداء سببا‬
‫لتجاذب االصدقاء ‪ ،‬والصديق يميل لمن هو قريب منه في السلوك والعقيدة ‪ ،‬والطيور على أشكالها تقع ‪ ،‬وكما قال الحراني ‪:‬‬
‫مجالسة األشكال تدعو إلى الوصال ومجالسة األضداد تذيب األكباد !!‬
‫وقال أحمد بن عطاء ‪ :‬مجالسة األضداد ذوبان الروح ومجالسة األشكال تلقيح العقول !! ‪............‬‬
‫ولهذا األمر لفت بعض العارفين نظرهم عن فكر وعن نظر وتجربة أن الصالحين المفكرين أصدقاؤهم قلة فهو متفردون في‬
‫زمان الغربة والوحشة فقلما يجدون المقارب لهم فقال الماوردي يناقش ذلك األمر ‪ ( :‬إذا كان التجانس والتشاكل من قواعد األخوة‬
‫وأسباب المودة كان وفور العقل وظهور الفضل يقتضي من حال صاحبه قلة إخوانه ألنه يروم مثله ويطلب شكله وأمثاله من‬
‫ذوي العقل والفضل وألن الخيار من كل جنس هو األقل فلذلك قل وفور العقل والفضل ‪).......‬‬
‫وقال أحد الحكماء ‪ (:‬كل إنسان يألف إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه وإذا اصطحب اثنان برهة من الزمن ولم‬
‫يتشاكال فالبد أن يفترقا !) ‪..............‬‬

‫‪103‬‬
‫وهذا القول – أعني ( ولم يتشاكال ) ‪ -‬يضيف لنا فائدة جليلة وهي عالقة التأثير والتأثر بين األصدقاء ‪............‬‬

‫التأثير والتأثر‬

‫إذا كان من شروط نجاح الصداقة وقوتها التشاكل فالحب ال يشترط ذلك !! القلب يهوى من شاء هللا أن يهواه ‪ ،‬وشباك الحب‬
‫تأسر بال تمييز وال شروط ‪ ،‬والمحب ليس قلبه في يده ‪ ،‬وهنا يقع االلتباس ‪ ،‬كيف يكون الحب بريد الصداقة ثم يختلف معها‬
‫في مسألة التشاكل ؟! أقول ‪ :‬إن الحب المتبادل مبتدأ الصداقة فإن كان االتفاق والوحدة الفكرية من االبتداء فنعم االبتداء وإن‬
‫كان االختالف بين الصديقين بار از فإ ًذا هي معركة !! نعم هي معركة التأثير والتأثر بين الصديقين ‪ ،‬أيهما يفلح في استمالة‬
‫صديقه لتياره ؟ فأقواهما شخصية ونفوذا يغلب اآلخر و يأخذه في اتجاهه فإن كان أحد الصديقين صالحا مؤمنا واآلخر بعيدا‬
‫عن الطريق فإن أحد االثنين حتما سوف يقود اآلخر لسربه ومنهجه فيصيران إما صالحين وإما بعيدين عن الهداية ‪ ،‬يحدث‬
‫الصراع في ابتداء الصداقة فإن كان الصالح متمسكا بصالحه والبعيد معترفا بخطئه راغبا في تغيير نفسه فسوف يجد نفسه قد‬
‫ارتمى في أحضان أخيه وتبعه إلى الهدى وترافقا في سبيل الخير والرشاد ‪ ،‬وإما إن كان البعيد عنيدا يرى نفسه صاحب عقل‬
‫وفكر مجادل متفيهق معتد بذاته فإن التوافق يكون حينئذ صعبا وشاقا ‪ ،‬ومصير تلك الصداقة مهدد ‪ ،‬فاالختالف يزيد الفجوة‬
‫يوما بعد يوم وكلما اتسعت الفجوة زادت الفرقة وتنافرت القلوب وانهار بناء الصداقة قبل أن يبدأ ‪.......................‬‬
‫والطالح الذي صاحب صالحا عموما عنده االستعداد للصالح ‪ ،‬القلب فيه طيبة وروح خيرة وعندما وجد شخصا صالحا صادف‬
‫قلبه المحب كان له كطوق نجاة أخذه بسهولة بدون عناء ‪ ،‬والذي يصاحب طالحا كذلك عنده استعداد للفساد – وإن لم يكن‬
‫فاسدا من قبل – فهو في أعماق عقله الباطن يريد من يضعه على طريق االنحراف فوجد في صاحبه الطالح فرصته فكان‬
‫التشاكل في هذا المثال وذاك ‪ ،‬وبذلك تكون اكتملت صورة التقارب بين األصدقاء التي أرغب في توضيحها ‪............‬‬

‫ومن أجل قضية التأثير والتأثر حث اإلسالم على حسن اختيار الخليل فقال رسولنا الكريم صلى هللا عليه وسلم ( المرء على دين‬
‫خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) وشبه الجليس الصالح وجليس السوء بحامل المسك ونافخ الكير ‪ ،‬وهو إدراك دقيق لهذه‬
‫المسألة االجتماعية الحساسة التي تحرف طريق اإلنسان في حياته من إنسان سوي إلنسان معوج وال ّ‬
‫ض ّد صحيح ‪....‬‬
‫ولهذا جمع الشاعر بين الحسنيين حسنى االتفاق وحسنى الصالح فقال ‪:‬‬
‫ذا حياء وعفاف وكـ ـ ـ ـ ــرم‬ ‫صاحبت فاصحب ماجـ ــدا‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫قلت نعم ق ـ ـ ــال نعم‬
‫وإذا َ‬ ‫ـت ال‬
‫قوله للشيء ال إن قل ـ ـ ـ َ‬
‫ِ‬ ‫إمعة أمام صديقه ‪ ،‬ولكن المعنى أن يكون االتفاق قلبيا‬
‫مصادفا ال ماديا متكلفا ‪ ،‬فكلما‬ ‫وليس معنى ذلك أن يكون الصديق ّ‬
‫تآلفت القلوب تقاربت العقول بال تكلف وال قصد وإنما هو حب صادق غير شعوري انعكس على العقل والجوارح !! وهو من باب‬
‫نظرية األنا الشهيرة !! ولعل اختالف الفكر والطبع عالمة على اختالف القلب و اتهام شنيع بتكلف الود ‪..‬‬
‫عليك وال في صاحب ال توافقه‬ ‫وال خير في ود امرئ متك ــاره‬

‫‪104‬‬
‫أما المحبون الصادقون الذين تخلل الحب خاليا جسدهم فأفناهم بالعشق فشأنهم ولسان حالهم يقول ‪:‬‬
‫ومن أشكر نعماه‬ ‫أخي أنت وموالي‬
‫فإني الدهر أهواه‬ ‫أحببت من أمر‬
‫َ‬ ‫وما‬
‫لست أرضاه‬‫فإني ُ‬ ‫وما تكره من شيء‬
‫لك هللا ل ــك هللا‬ ‫لك هللا على ذاك‬

‫لك هللا أي ‪ :‬عهد علي بيني وبين هللا أال نختلف في شيء أبدا ‪ ،‬وكيف نختلف واالختالف بريد الفرقة ولو كان اختالفا في‬
‫الطعام أو الشراب أو الملبس والذوق !! إنني أثق في قلبي الذي لن يطاوعني في شيء خالف هواك كما أثق في قلبك الذي لن‬
‫يخالف قلبي أبدا ‪..‬‬

‫من هنا كان المؤمن مرآة أخيه ‪ ،‬وصدق قولهم قل لي من تصاحب أقل لك من أنت !‬
‫فإن القرين بالمقارن م ـ ـ ِ‬
‫ـقتد‬ ‫عن المرء ال تسأل وأبصر قرينه‬
‫َ‬
‫أسمي صديقي توأم روحي !! فالوجوه والجينات متباينة ولكن األرواح نسخ متطابقة ‪..................‬‬ ‫ومن هنا أيضا ّ‬
‫إذا ما الم أر ماش ـ ــاه‬ ‫يقاس المرء بالمـ ــرء‬
‫مقاييس وأشـ ـ ــباه‬ ‫وللشيء على الشيء‬
‫دليل حين يلق ـ ــاه‬ ‫وللقلب على القلب‬
‫ونعود لمسألة الصراع صراع التلوين والتلون صراع صديق يرسم صديقه بريشته واألخر يضع على صديقه لمساته الفنية فينتج‬
‫شهور طويلة إيجاد نقاط‬
‫ا‬ ‫المزيج فريدا مبه ار متوحدا في نفس الوقت ‪ ،‬ولكن ما العمل إذا فشل التشاكل ؟ لقد حاول الصديقان‬
‫توافق وأرض مشتركة تجمع بينهما ولكن ال أمل ‪ ،‬األمزجة مختلفة ‪ ،‬وما يحبه هذا يبغضه ذاك وما يظنه هذا فالحا وصالحا‬
‫يظنه اآلخر خيبة وحماقة ‪ ،‬إن الشقاق قائم ال شك والنزاع متزايد حتما والنهاية قريبة البد ‪،‬و يأتي الالئمون المتعجبون يتساءلون‬
‫لماذا لم تستمر الصداقة ؟ واإلجابة بكل بساطة أن البذرة إنما وضعت في أرض بائرة فأنى يكون الثمر ؟!‪................‬‬
‫فقلت قوال فيه إنـصاف‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وقائل كيف تفارقـ ــتما‬
‫والناس أش ــكال و ّأالف‬ ‫يك من شكلي ففارُقته‬
‫لم ُ‬

‫التشاكل وعالم الغيب !‬

‫إن من عجائب األصدقاء أن الصديق المشابه صديق الدنيا له امتداد في عالم اآلخر ! فقرينك في الدنيا قرينك في اآلخرة !‬
‫فالصالحون المتحابون بجالل هللا يظلهم هللا في ظله يوم ال ظل إال ظله ‪ ،‬ثم في جنة عرضها السماء واألرض على سرر‬
‫متقابلين ‪ ،‬ينزع من قلوبهم الغل يحمدون هللا أن أذهب عنهم الحزن بينما الصديقان الفاسدان الشقيان يحشران معا إلى صراط‬
‫الجحيم ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون هللا فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) وأزواجهم هنا أصنافهم ‪،‬ثم‬

‫‪105‬‬
‫في العذاب هما معا ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) الفرق الواضح بين الصديقين الصالحين‬
‫والصديقين الشقيين أن الصداقة األولى تنفع أصحابها في عالم اآلخرة بينما األخرى ال تنفعهما بل توردهما المهالك فيصرخ‬
‫الصديق متأوها متحس ار على تلك الصداقة الهباوية ( فما لنا من شافعين وال صديق حميم ) بل ربما يتوه عنه صديقه الذي أورده‬
‫المهالك في زحام جهنم فيقول ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيال يا ويلتى ليتني لم أتخذ‬
‫فالنا خليال لقد أضلني عن الذكر إذ جاءني وكان الشيطان لإلنسان خذوال ) ذلك الصديق شيطان اإلنس يخذل صاحبه يوم‬
‫يمنيه في الدنيا ويحبب له الشهوات ويزين له الباطل والظلم يخذله شر خذالن وال ينفعه فهو منشغل بكارثته‬ ‫الدين وهو الذي كان ّ‬
‫وحاله البائس بينما في الجانب المقابل يشفع الصديق الصالح لصديقه عند هللا لعله يتجاوز عنه فنعمت المنفعة في الدنيا‬
‫ام ِة‬ ‫ِ‬
‫ين َفِإ َّن َل ُه ْم َشَف َ‬
‫اع ًة َي ْوَم اْلقَي َ‬
‫ِ‬ ‫واآلخرة ولذلك َقال اْلحسن‪ :‬استَ ْكِثروا ِمن ْاأل ِ ِ‬
‫َصدَقاء اْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ْ‬ ‫َ ََُ ْ ُ َ‬
‫وإيـ ـ ـ ــاك وإي ـ ــاه‬ ‫فال تصحب أخا الجهل‬
‫حليما حين آخ ـ ـ ــاه‬ ‫وكم من جــاهل أردى‬
‫ومن عجائب المواقف موقف ذكره القرآن عن الصالحين المؤمنين في الجنة يتذكرون الفاسدين ممن كانوا يتعرضون لهم يغرونهم‬
‫ين أَِإذا ِم ْتنا‬ ‫ين يُقول أَِإَّنك َل ِمن اْلم ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ّدق َ‬ ‫كان لي َق ِر ٌ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ويرغبونهم في الشهوات والفاسد من المعتقدات فيقول الواحد منهم ‪ِ ( :‬إّني َ‬
‫ين َوَل ْوال ِن ْع َم ُة َرّبِي‬‫اهللِ ِإ ْن ِك ْد َت َلتُْرِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوُكَّنا تُراباً َو ِعظاماً أَِإَّنا َل َمد ُينو َن َ‬
‫قال َه ْل أ َْنتُ ْم ُمطل ُعو َن َفاطَل َع َف َرآهُ في َسواء اْل َجحي ِم َ‬
‫قال تَ َّ‬
‫ض ِرين) يحمد الواحد منهم ربه أن وقاه شره وأن جعله يبتعد عن هذا الصديق ‪ ،‬ذلك الصنف الذي ال يأتي من‬ ‫ِ‬
‫َل ُك ْن ُت م َن اْل ُم ْح َ‬
‫ورائه سوى الهالك والدمار !‬

‫ثمرات التشاكل‬

‫المتشاكالن إما صالحان وإما مغبونان ‪ ،‬وشتان ما بين الصنفين شتان ! تجد صنفا من األصدقاء يجتمعان في بيت هللا على‬
‫الصالة ‪ ،‬أو يجتمعان على حفظ كتاب هللا ومراجعته ومدارسته ‪ ،‬وربما كان لهما لقاء أسبوعي ثقافي يقرآن فيه كتابا يتناقشان‬
‫حول مسائله ويضيف كل منهما لآلخر معلومة وفائدة فيثري كل منهما صاحبه ‪ ،‬تجد لقاءهما إما في المسجد أو في المكتبة أو‬
‫في المنزل ‪ ،‬وعندما يريدان الترفيه ينطلقان إلى المنتزهات والحدائق يتنسمان الهواء النقي مع نسيم األزهار ‪ ،‬يقفان أمام البحر‬
‫يتدبران ‪ ،‬لهما في الطبيعة الخالبة تأمل وإلهام يستلهمان منها الحب والخير ‪ ،‬يمارسان الرياضة النافعة ‪ ،‬يحضران المحاضرات‬
‫المفيدة والندوات القيمة ودروس العلم النافع ‪ ،‬يتعاونان على الخير والحب فنعمت الصحبة ونعم اإلخاء ‪............‬‬
‫وصنف آخر صاحبان هائمان تائهان في الحياة ‪ ،‬حياتهما لهو ولعب بال انضباط وال حدود ‪ ،‬فسحتهما المقاهي والشرب و‬
‫اللعب المنبوذ و في األعياد يذهبون إلى السينمات ‪ ،‬يطبلون ويزمرون مع المطبلين والمزمرين ‪ ،‬لم يدخال بيت هللا قط ولم‬
‫يجتمعا على صالة وربما ال يعرفون طريق المسجد ‪ ،‬يقضون الليالي في المالهي الليلية يشربون ويرقصون ويسمعون ويشاهدون‬
‫‪ ،‬لقاؤهما اكتساب لآلثام وتضييع لألوقات وتبديد لألموال ‪ ،‬عند عودة أحدهم لبيته يسمع الشتائم واللعنات وال ضير عنده في هذا‬
‫فقد اعتاد أسوأ منها بينه وبين صاحبه الذي ال مزاح عنده سوى الشتم باألباء واألمهات والسب في األعراض واللعنات ‪ ،‬وهما‬

‫‪106‬‬
‫بطبيعة تلك الحال ال يعرفان طريق بيتيهما فعالقتهما عالقة شوارع وطرقات ال يتزاوران أبدا وال يتعاتبان ‪ ،‬فبئست الصحبة وما‬
‫أبعدها عن الصداقة !‬

‫ومن عجيب األمر أن من ثمرات التشاكل معرفة حقيقة الناس عيانا بدون منظار وال عدسة مكبرة ! فإذا رأيت مجموعة تريد أن‬
‫فدس فيها صالحا وطالحا أياما وانظر فمن صاحب الصالح منهم واطمأن إليه وجاراه وانشرح صدره‬ ‫تعرف صالحها من طالحها ّ‬
‫له فهو الصالح ومن كان هذا حاله مع الطالح فهو نظيره وانظر لقول إياس حين نزل بقوم ‪ :‬قدمنا بالدكم فعرفنا خياركم من‬
‫كل شكله !!‬
‫شراركم في يومين‪ .‬قيل له ‪ :‬كيف؟قال‪ :‬كان معنا خيار وشرار‪ ،‬فلحق خيارنا بخياركم‪ ،‬وش اررنا بشراركم‪ ،‬فألف ٌ‬

‫كالم عجيب في التشاكل‬

‫قال النويري في نهاية األرب ‪:‬‬

‫(وذكر بعض الحكماء أنه ال يقع العشق إال لمجانس ‪ ،‬وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل واستدل بقول النبي صلى هللا عليه‬
‫ّ‬
‫جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف"‪ .‬قال‪ :‬وقد كانت األرواح موجودة قبل األجسام‪ ،‬فمال‬
‫وسلم! "األرواح ٌ‬
‫الجنس إلى‬
‫الجنس‪ .‬فلما افترقت في األجساد‪ ،‬بقي في كل نفس حب ما كان مقارناً لها‪ .‬فإذا شاهدت النفس من ٍ‬
‫نفس نوع موافقة‪ ،‬مالت‬
‫ومودة‪ ،‬وإن كان في معنى يتعلق بالصورة‪،‬‬ ‫إليها َّ‬
‫ظانة أنها هي التي كانت قرينتها‪ .‬فإن كان التشاكل في المعاني كانت صداق ًة ّ‬
‫كان عشقاً‪ .‬وإنما يوجد‬
‫الملل واإلعراض من بعض الناس ألن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة وأنشدوا على ذلك‬
‫إنصاف‬
‫ُ‬ ‫فقلت قوالً فيه‬ ‫‪ٍ :‬‬
‫وقائل‪ :‬كيف تهاجرت ـما؟‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫والناس أشكال واُال ُ‬ ‫‪.‬لم يك من شكلي ففارقته‪،‬‬
‫فإن قيل إذا كان سبب العشق نوع موافقة بين شخصين في الطباع‪ ،‬فكيف يحب أحدهما صاحبه‬ ‫قال أبو الفرج بن الجوز ّي‪:‬‬
‫واآلخر ال يحبه؟ فالجواب أنه يتفق في طبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق‪ ،‬وال يتفق في طبع العاشق ما يالئم طبع المعشوق‪.‬‬
‫فإذا كان سبب‬
‫العشق اتفاقاً في الطباع بطل قول من قال‪ :‬إن العشق ال يكون إال لألشياء المستحسنة‪ .‬إنما يكون العشق لنوع مناسبة ومالءمة‪،‬‬
‫ثم قد يكون الشيء حسناً عند شخص غير حسن عند آخر‪ .‬وحكي على ذلك حكاية رفعها بالسند إلى علي بن الحسين القرشي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عن‬
‫رجل من أهل المدينة كان أديباً ظريفاً طالَّباً لألدب والملح‪ ،‬قال‪ :‬كنت يوماً في مجلس رجل من قريش ومعنا قينة ظريفة حسنة‬
‫الصورة‪ ،‬ومعنا فتى من أقبح ما رأته العين‪ ،‬والقينة مقبلة عليه بحديثها وغنائها‪ .‬فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا فتى من أحسن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الناس وجهاً‪ ،‬وأثراهم ثوباً‪ ،‬وأطيبهم ريحاً‪ ،‬فأقبل علي صاحب البيت‪ ،‬فقال‪ :‬إن في أمر هذين لعجبا! قلت‪ :‬وما ذاك؟ قال‪ :‬هذه‬
‫ّ‬
‫‪107‬‬
‫الجارية تحب هذا (يعني القبيح الوجه) وليس لها في قلبه محبة‪ ،‬وهذا الحسن الوجه يحبها‪ ،‬وليس له في قلبها محبةٌ‪ .‬فبينما نحن‬
‫سر الفتى الحسن الوجه ِّ‬
‫فتغنى وقال ‪:‬‬ ‫على شرابنا إذ ّ‬
‫السْقم‬
‫فرج الذي ألقى من ُّ‬ ‫بيد الذي ُشغف الفؤاد بهم‬
‫ثم افعلي ما شئت عن علم‬ ‫فاستيقني أن قد كلفت بكم‬
‫فأقبلت عليه‪ ،‬وقالت‪ :‬قد علمنا ذاك‪ ،‬فمه! ثم تركته‪ ،‬وأقبلت على القبيح الوجه‪ ،‬فلبثنا‬
‫ساعة‪ ،‬ثم تغنى الفتى أيضاً‬
‫علي كالمها‬
‫بثينة ال يخفى َّ‬ ‫أصم تقودني‬
‫أال ليتني أعمى ُّ‬
‫ِّ‬
‫المصرين‪ ،‬على هذا الذي هو‬ ‫فقالت‪ :‬اللهم أعط عبدك ما سأل! فغاظتني‪ ،‬فقلت لها‪ :‬يا فاجرة تختارين هذا‪ ،‬وهو أقبح من ذنوب‬
‫‪:‬أحسن من توبة التائبين‪ ،‬فقالت لي‪ :‬ليس الهوى باالختيار! ثم أنشأت تغني وتقول ‪:‬‬
‫كلف عم ـ ـ ِيد‬
‫فكل متي ٍم ٍ‬ ‫حب على هواه‬‫الم َّ‬
‫فال تلم ُ‬
‫وإن كان الحبيب من القرود )‬ ‫ظ ُّن حبيبه حسناً جميالً‪،‬‬
‫!ي ُ‬

‫نظرة مختلفة‬
‫يقول أصحاب تلك النظرة إن التشاكل بين األصدقاء محال ‪ ،‬ورائم التقارب رائم للمنازعات بال جدوى ‪ ،‬فليس من السهل أن يتفق‬
‫اثنان في كل شيء والحل إ ًذا أن نرضى باالختالف أم ار واقعا ونستثمر ذلك التنوع لصالح الصداقة ولصالح المجتمع ‪..‬‬
‫مث ـلك لم تقرن بأمـ ـ ــثالكا‬ ‫كنت ال تصحب إال فتــى‬
‫إن َ‬ ‫ويقول شاعر هؤالء ‪:‬‬
‫الرامك ‪:‬مادة سوداء‬ ‫فالمسك قد تستصحب الرامكا‬ ‫فأغض عينيك على ما تــرى‬
‫تخلط بالمسك‬
‫فالذي يبحث عن مثله – عندهم ‪ -‬يعيش وحيدا أبد الدهر ‪ ،‬وزاد علي بن عبيدة في هذا األمر فقال ‪ :‬ال دواء لمن ال حياء له‬
‫وال حياء لمن ال وفاء له ‪ ،‬وال وفاء لمن ال إخاء له وال إخاء لمن يريد أن يجمع هوى أخالئه حتى يحبوا ما أحب ويكرهوا ما كره‬
‫وحتى ال يرى منهم زلال وال خلال !!‬
‫فصار أحد هؤالء في عالقته بصديقه كمن قال ‪:‬‬
‫معاشرتي على خلق ممضي‬ ‫ولست مكلفا أبدا صدي ــقا‬
‫ُ‬
‫ويغفر بعض أحوالي لبعض‬ ‫وال أن يستقيم على اعوجاج‬
‫على عالته أرضى وأغضـي‬ ‫ولكني له عبد مطـ ـ ـ ــيع‬
‫ولعل من ذلك ما ذكره الزمخشري في ربيع األبرار ‪ ( :‬لم ير الناس أعجب حاالً من الكميت والطرماح كان الكميت عدنانيا‬
‫عصيباً‪ ،‬وشيعيا من الغالية‪ ،‬ومتعصباً ألهل الكوفة‪ ،‬والطرماح قحطانيا عصبيا‪ ،‬وخارجيا من الصفرية‪ ،‬ومتعصباً ألهل الشام‪،‬‬
‫وبينهما من الخالصة والمخالصة ما لم يكن بين نفسين قط‪ ،‬لم يكن بينهما صرم وال جفوة؛ وقيل لهما‪ :‬عالم تصادقتما؟ قاال على‬
‫بغض العامة‬
‫عرى المجد واسترخى عنان القصائد )‬ ‫وللكميت ‪:‬إذا قبضت نفس الطرماح أخلقت‬

‫‪108‬‬
‫وللرد على وجهة النظر تلك أشير إلى أن التشاكل الذي ننشده لم نقصد به صناعة نسخ متطابقة فهذا صعب ونادر – وإن كان‬
‫وإن كرهنا بدا‬ ‫قلت قال في س ـ ـ ــرع‬
‫أيام ُ‬ ‫قد وقع وأخبر عنه بعض المحبين مثل القائل ‪:‬‬
‫تأب ـ ــيه‬
‫ّ‬
‫سمعت بأذني من يقول إلنسان عن صديقه الغائب ‪ :‬إنني حينما أرى صديقك وأقف أمامه أشعر أني أقف أمامك !!‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫ولكن الفروق بين البشر طبيعة خلقنا هللا بها لينوعنا ويميزنا ولكن ما نقصده هو التوافق في الهيكل العام للفكر والصورة العامة‬
‫للمذهب وما سوى ذلك من دقائق الفروق الشخصية فإن حدث التوافق فيها فنعم الشكل وإن لم يحدث فال بأس المهم أن تلك‬
‫الدقائق ال تصنع حساسيات وال نعرات فيحدث الوفاق القلبي والتوأمة الروحية السرمدية وإذا نظرنا لواقع الصداقات نجد‬
‫الشيوعي مثال يصاحب ماركسيا مثله وتنجح الصداقة بينهما كما نشأت في النصف األول من القرن العشرين الصداقات المتينة‬
‫بين الفاشيين ‪ ،‬وأفراد الحزب الواحد عموما تنشأ الصداقات بينهما ورفاق السالح والنضال تجدهم بنيانا مرصوصا لوحدة منهجهم‬
‫وتطابق توجههم ‪ ،‬واإلسالمي النزعة تهفو روحه إلسالمي مثله كالمرأة المحجبة تستأنس بمثيلتها ‪ ،‬والنباتي يحب مصاحبة نباتي‬
‫ويصبر بعضما بعضا وإن كان المثال‬
‫ّ‬ ‫مثله ليشاركه وجباته بال حرج ! بل المعاق يفضل صداقة معاق مثله ليتآز ار فيما بينهما‬
‫األخير ال يقاس عليه ألن مصدر الوفاق هنا اضطراري ال اختياري مثل األمثلة السابقة !‬
‫حتى عند االختالف المذهبي قد تنشأ الصداقة ولكن بشرط االتفاق أيضا على أدب االختالف وعذر كل طرف لصاحبه فهما‬
‫ممتثالن لقول حسن البنا رحمه هللا ‪ ( :‬نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ! ) فهما وإن اختلفا في فروع‬
‫ولكن عندهما أصل كبير يجمعهما ال يتفرقان بعده مهما اختلفت وجهات النظر ‪ ،‬فأصل التشاكل عندهما وإن اختلفا‬
‫ظاه ار‪................‬‬

‫واآلن بالتشاكل نكون قد أنهينا حديثنا عن أعمدة وأركان الصداقة التي يقوم عليها بناؤها المتين ‪ ،‬من أقام تلك األعمدة أضمن له‬
‫صداقة ناجحة مثمرة في الدنيا واآلخرة ومن أسقط عمودا منها فهو الملوم ال ملوم سواه ‪ ،‬تحدثت عن األركان وبقي للقارئ‬
‫اإليمان ‪..........‬‬

‫نظــــــريات الصداقـــــــة‬

‫للناس من حياتهم خبرات ‪ ،‬تنمو مع نمو أعمارهم ‪ ،‬تتراكم مع تتابع أحداثهم و مواقفهم ‪ ،‬تغذيها المحن تارة ‪ ،‬وتصقلها المسرات‬
‫فتسود في عيونهم ‪ ،‬و تحنو عليهم لحظات فتشرق الحياة في نفوسهم ‪ ،‬ومن تراكم القسوة والحنو تأتي‬‫ّ‬ ‫تارة ‪ ،‬تقسو عليهم الدنيا‬
‫الخبرة وتتبلور الحكمة والنظرة ‪ ،‬خلقنا هللا ال نعلم شيئا ‪ ،‬ال نعلم من الطيب وال من الشرير‪ ،‬ما الجيد وما السيء ‪ ،‬وعندما‬
‫نجرب هذه األشياء في طفولتنا تُحفظ خبرة في عقولنا تضاف إلى خبرة ‪ ،‬فهذا الطفل يرى النار مضيئة مبهرة فيظنها شيئا جميال‬

‫‪109‬‬
‫فيدنو منها ويقرب يده حتى يلمسها فتحرقه فيستيقظ على الحقيقة أن األشياء ال تؤخذ بظاهرها وإنما حين نجربها وألنه جرب‬
‫االقتراب من النار مرة فلن يقع في هذا الخطأ ثانيا ‪ ،‬وبهذا نشأت خبرة عنده من خبرات الحياة ‪ ،‬ومع تقدم العمر تزداد الخبرة‬
‫إلى أن يأتي عمر المشيب حينها يعتبره الناس العاقل الحكيم الذي رأى من الدنيا ما لم يره غيره ‪ ،‬وليس العمر دائما مقياسا‬
‫فربما القى األصغر عم ار من تجارب الحياة ما لم يلقه من هو أكبر منه ومنها قول إبراهيم ألبيه ‪ ( :‬يا أبت إني قد جاءني من‬
‫العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ) ‪ ،‬فعقل اإلنسان هنا له دور في ترجمة خبرات الحياة فربما تجارب قليلة يستفيد‬
‫منها إنسان فوائد كثيرة نتيجة لفرط تأمله فيها مثل التاريخ تماما فليس حفظ التاريخ وحوادثه كافيا لنيل خبرة كبيرة في الحياة‬
‫فالتأمل واالستنباط والتقصي والتفسير يعطي للتاريخ فوائد أعمق وخبرة أكبر بالحياة عموما ‪...............‬‬
‫فعقلية اإلنسان لها دور في تفسير حوادث الحياة ومن ذلك ينشأ شكل الخبرة التي اكتسبها وهذا دور من أدوار العقل‬
‫‪.............‬‬
‫ض ّد‬
‫كذلك نوع الخبرات له تأثير في النزعة العامة لعقلية البشر فالخبرات السارة المتصادفة تجعل اإلنسان متفائال من شيء ما وال ّ‬
‫صحيح فتوالي الخبرات السيئة يترك أسوأ االنطباع عند البشر ‪.........................‬‬
‫واإلمكانيات المتاحة لإلنسان أو أي كائن تؤثر على خبراته ولعل من ذلك قول الهدهد لسليمان عليه السالم ( أحطت بما لم‬
‫تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) ‪.............‬‬
‫ِ‬
‫أدرك هذا الكالم جيدا وقس عليه في مسألة الصداقة ‪ ،‬فالناس من قضية الصداقة أشتات ‪ ،‬منهم من جادت عليه الدنيا بصديق‬
‫ومنهم من ضنت عليه إال بالخائنين الجفاة الماديين ‪ ،‬منهم من عاش وحيدا في حياته بال إخوة وال أحباب ومنهم من التف‬
‫الناس حوله أشكاال وألوانا ‪ ،‬منهم من عاش فراغا روحيا ففكر في البحث عن صديق ومنهم من طحنته الحياة فلم يفكر في نفسه‬
‫قبل أن يفكر في غيره‬
‫ومن هنا جاء االختالف والتنوع في فهم الناس لقضية الصداقة فقائل‪ :‬الصداقة خيال‪ ،‬وقائل‪ :‬عسيرة يمكن تحقيقها وقائل‪ :‬كائنة‬
‫ومتاحة للجميع وقائل‪ :‬نادرة ندرة الذهب ومتوقف في المسألة و إنسان ال يعنيه هذا األمر وال يشغل به باله وإليكم تفصيل هذه‬
‫النظريات وحجج كل معتنق لها وأنا هنا لن أرجح نظرية على األخرى وأترك للقارئ أن يختار بعقله وقلبه ما يراه صوابا و حقا‬
‫‪............‬‬

‫‪ -1‬نظرية انعدام الصداقة‬

‫الخل الوفي !! فمن يبحث‬ ‫يرى هذا الفريق أن الصداقة درب من الخيال ال أساس لها من واقع ‪ ،‬والمحاالت عندهم ثالثة منها ّ‬
‫عن صديق إنما يبحث عن سراب ويتتبع أوهاما ‪ ،‬ومن يشغل حياته بالبحث عن صديق إنما هو مضيع لعمره فيما ال يفيد وإنما‬
‫يعبث عبث الصبيان ومن يبحث عن الصديق في هذه الحياة الطاحنة إنما هو كالمجنون الذي يبحث عن الذهب والآللئ بين‬
‫الرمال ‪ ،‬أما سر هذه الحقيقة عندهم فاألسباب مختلفة والطرق متشعبة ولكنها ذات نهاية واحدة وطريق واحد ‪ ،‬ال صديق في‬
‫هذه الحياة !!‬

‫‪110‬‬
‫منهم من كان يوما ما من الدهر يبحث عن الصديق ولكنه تحطم أمله و تكسرت عزيمته وأدرك في النهاية أنه كان واهما عابثا‬
‫ومن هؤالء جميل بن مرة الذي لزم بيته واعتزل الخاصة والعامة فقيل له في ذلك فقال ‪ :‬لقد صحبت الناس أربعين سنة فما‬
‫رأيتهم غفروا لي ذنبا وال ستروا لي عيبا وال حفظوا لي غيبا وال أقالوا بي عثرة وال رحموا لي َعبرة وال قبلوا مني معذرة وال فكوني‬
‫من أسرة وال جبروا لي من كسرة وال بذلوا لي من نصرة !!‪........................‬‬
‫خليال فهل من صاحب أستجده‬ ‫صحبت بني الدنيا طويال فلم أجد‬
‫وده‬
‫اليت لم يغـ ــن ّ‬
‫وأكثر من و ُ‬ ‫القيت لم يصف قلـ ــبه‬
‫ُ‬ ‫فأكثر من‬
‫ومن طلب المعدوم أعياه وجـده‬ ‫أطالب أيامي بما ليس ع ـ ــندها‬
‫تجربة مريرة مع الناس كانت نتيجتها أنه ال صداقة وبنفس تلك التجربة مر إبرهيم بن هالل الذي أنشد قائال ‪:‬‬
‫أبناء علة ‪ :‬ذوو أب واحد وأمهات شتى‬ ‫أما نعثر الدنيا لنا بصـ ــديق‬ ‫أال يا رب كل الناس أبناء عّلة‬
‫أديم صفيق ‪ :‬جلد غليظ‬ ‫ذوات أديم في النفاق صــفيق‬ ‫مضمر الغل شاهــد‬
‫َ‬ ‫وجوه بها‬
‫شجى ‪ :‬غصة‬ ‫قذى للعيون أو شجى للحلوق‬ ‫إذا اعترضوا دون اللقاء فإنهم‬
‫أسروا من الشحناء حر حري ـق‬ ‫وإن أظهروا برد الوداد وظـ ــله‬
‫القطا ‪ :‬طائر كاليمام‬ ‫بأقصى محل بالفـ ــالة سحـيق‬ ‫أال ليتني حين انتوت أفرخ القطا‬
‫ب ـها نازل في معشري وفريقي‬ ‫أخو وحدة قد آنستني كأن ــني‬
‫مسبعة ‪ :‬أرض سباع‬ ‫بمسبعة من صاحب و رفيق‬ ‫فذلك خير للفتى من ث ـ ـوائه‬
‫يتعجب الشاعر مر التعجب بعد أن وصل لحقيقة انعدام الصداقة لماذا ال يتصادق الناس على رغم أنهم إخوة في اإلنسانية‬
‫أبوهم واحد وهو آدم وإن اختلفت أشكالهم وألوانهم فهو هنا وصل للنظرية ولكنه عجز عن إيجاد تفسير مقنع لها ألن دواعي‬
‫الصداقة أصال موجودة ‪ ،‬ولكنه أوجد تفسي ار لمن قد يعترض على تلك النظرية بأن يقول إن هناك من البشر من تجدهم ودودين‬
‫طيبين ملِحين فلماذا ال تتخذ منهم أصدقاء ؟! ‪ ،‬فيفاجئنا الشاعر أن هؤالء ظاهرهم فيه الرحمة وباطنهم العذاب فهم إنما‬
‫يظهرون بوجه ويضمرون في أعماق نفوسهم وجها آخر فهم في الحقيقة منافقون ربما دفعهم لذلك مصلحة دنيوية وربما هم‬
‫مضطرون لذلك لتسيير عجلة الحياة ولكنهم ال يصلحون للصداقة ‪ ،‬ثم انتقل الشاعر لنتيجة تلقائية وهي االنعزال عن الناس‬
‫واتخاذ بديل عن األصدقاء وهو هنا القطا أو اليمام – وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد – فذلك خير بديل عن العيش‬
‫بين الوحوش البشرية !‬
‫جميل ‪ .........‬الشاعر هنا أعطانا تفسي ار لمن يبدون صالحين للصداقة ولكن ال صداقة !! وهو أنهم ُيظهرون خالف ما‬
‫يبطنون وهناك تفسير آخر لمن ُينخدع بهم وهو أنهم طيبون فعال و قلوبهم صافية حقيقة و يحبونك كما تحبهم واقعا ‪ ،‬ولكنهم‬
‫لن يدوموا على العهد وسوف يتغيرون ويتبدلون إن عاجال أو آجال وإن كانوا أصدقاء اآلن فإنهم سيصيرون في النهاية شر‬
‫األعداء هذه قاعدة عندهم و منتهاها أنه كذلك أن ال صداقة !! وقد جسد هذا الرأي عبد الكريم البسطي بقوله ‪:‬‬
‫يق مخـْلِ ِ‬ ‫مئن إلى ِ‬ ‫إن شئت من دنياك حسن ُّ‬
‫تخل ِ‬
‫ص‬ ‫صد ٍ ُ‬ ‫َ‬ ‫ط َّ‬
‫الت ْ‬ ‫ص‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ص‬ ‫نهارك ُع َّده‬ ‫ِ‬
‫كاألبر َ‬
‫َ‬ ‫الناس كالمجذوم أو‬
‫في ّ‬ ‫وإذا تخالط ـ ـ ـ ــُه َ‬
‫‪111‬‬
‫صي‬ ‫منك الكالم بما اقتضاه ترب ِ‬ ‫زم سكوتَ َك عنده وإذا اقتضى‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫واْل ْ‬
‫األح ِ‬
‫وص‬ ‫ويتيه إعجاباً بعـ ـين ْ‬ ‫ُ‬ ‫محاسن ُه التي َي ْزهو بهـ ـ ـا‬ ‫َ‬ ‫انظر‬
‫و ْ‬
‫ص‬‫فيجيء ِم ْن ُع ْدوانه بمل ـ ـ ّخ ِ‬ ‫تحيل تَ َغٌّي اًر‬
‫الصديق َل َيس ـ ـ ُ‬
‫َ‬ ‫إن‬‫َّ‬
‫ُ‬
‫ص‬‫لما تغّير ساءنـ ـ ـ ـ ـي بتََنُّق ِ‬
‫ّ‬ ‫صديق َس َّرني ِبتَ َع ـظـُّ ٍم‬
‫َ‬ ‫َك ْم من‬
‫أخصــُ ِ‬
‫ص‬ ‫ولو َّانني أحداً بها لم ْ‬ ‫أن الصداق َة لم تك ـ ْن‬ ‫ُّ‬
‫فوددت َل ْو َّ‬
‫أح ـ ـ ِر ِ‬
‫ص‬ ‫ِ‬
‫وعلى القيام بحّقها لم ْ‬ ‫أعتَ ـ ِم ْد‬ ‫وعلى الوفاء بشرطها لم ْ‬
‫ِ‬
‫فلماذا نخوض غمار الحب واألخوة مادامت النهاية كاالبتداء ؟! ولماذا نشقي أنفسنا باللوعة واألسى و العاقب ُة معلومة لدينا ال‬
‫البس فيها جربناها بأنفسنا وجربها غيرنا والجميع احترق بنارها المتلظية !‬
‫وانظر لحال ابن معتوق الموسوي البائس الذي كانت أمنية حياته نيل صديق حقيقي مخلص ‪ ،‬ولكنه أشرف على منتهى عمره‬
‫ولم يحقق أمنيته فباء بالحسرة واألسى وبئس التحسر و بئس المنتهى ‪ ...‬فيقول ‪:‬‬

‫فات أكثَ ُرهُ‬ ‫وعمري َ‬ ‫أدرْك ُت ُسؤلي ُ‬ ‫َ‬ ‫الشباب وال‬


‫ُ‬ ‫عي قد وّلى‬
‫الس ِ‬
‫يا َخيب َة ّ‬
‫خليل كن ـ ـ ُت أُوِث ُره‬
‫صفا لي ٌ‬ ‫وال َ‬ ‫كنت أعش ــَُقه‬
‫حبيب ُ‬‫ٌ‬ ‫فما َوفى لي‬
‫ص ْر ُت أحـ ـ َذ ُره‬ ‫صفو السريرِة ّإال ِ‬ ‫نحه‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫كنت أم ـ ـ ُ‬
‫ُِوال اختَ ْبر ُت صديقاً ُ‬
‫أشـ ـ ـ ـ ـ ُك ُرهُ‬
‫بك يؤذيني و ْ‬ ‫ذم ٍم َ‬
‫ُم َّ‬ ‫إن الموت أهـ ـو ُن من‬ ‫ويحك ّ‬
‫َ‬ ‫هر‬
‫يا َد ُ‬
‫لقد ُخدع كثي ار و انكشفت الوجوه الكاذبة أمامه بعد سقوط أقنعتها الزائفة بعد أن عاش زمنا مخدوعا و أهان نفسه وأذلها لمن ال‬
‫يستحق وباع نفسه لمن زهد فيها فكانت الحسرة ثقيلة و المحزنة قاتلة !‬
‫المرة التي جاب خاللها اآلفاق لهثا وراء صديق دفعته في النهاية لتعديل نفسه حيث اعتبر‬
‫أما ناصح الدين األرجاني فتجربته ّ‬
‫ألم بقلبه فعمد إليه مستأصال قبل أن يفتك ببقية جسده فيهلك ملتزما بالحكمة النبوية الشريفة ‪( :‬‬
‫الرجاء في الصديق ورما خبيثا ّ‬
‫ال يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) فقال ‪:‬‬
‫ضو فاسـ ـ ـد‬ ‫ط ُع ِط ـ ُّب ُك ِّل ُع ٍ‬ ‫والَق ْ‬ ‫قطع ُت من قلبي َرجائي في الهوى‬ ‫ْ‬
‫وب َد ْهر َي ُ‬
‫المعانـ ـ ـ ـد‬ ‫أَْلَقى خطـ ـ َ‬ ‫فهل فتى ُيعيرني قـ ـ ـ ـ ـلباً به‬
‫ً‬
‫ُم ِفتّشاً عن صاح ـ ٍب ُمساعـ ـ ـ ـد‬ ‫البالد طـ ـالب ًا‬‫ِ‬ ‫بت في‬ ‫كم قد َ ْ ُ‬
‫ر‬ ‫ض‬
‫غير حاسـد‬ ‫ير َ‬ ‫ولم أَ ِج ْد في َ‬
‫الخـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫غير شام ـ ـ ٍت‬ ‫الش ِّر َ‬ ‫فلم أَ ِج ْد في ّ‬
‫رب من ـ ـ ـهم زاهد‬ ‫َذ َّم فتى في الُق ِ‬ ‫ذم ْمتُـ ـ ـ ـهم‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُك ُّل بني الحضرة قد َ‬
‫من م ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ما فيهم ِرّقةُ قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ناكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬ ‫لفاضل في َز ٍ ُ‬ ‫لب َبتّ ًة‬ ‫ُ‬
‫أخو الرخاء من أخي الش ـ ــدائد‬ ‫في حالة يبين في خ ـ ـ ـ ـ ــاللها‬
‫ويتابع العسجدي تأكيد تلك النظرية فيقول ‪ :‬الصداقة مرفوضة والحفاظ معدوم والوفاء اسم ال حقيقة له والرعاية موقوفة على‬
‫البذل والكرم قد مات وهللاُ يحيي الموتى ‪..............‬‬

‫‪112‬‬
‫والعسجدي هنا يعطينا تفسي ار النعدام الصداقة عنده وهو أن األصدقاء ماتوا وفنوا ‪ ،‬والصداقة كانت موجودة فعال في الزمن‬
‫الجميل فهم أهل زمن غير الزمن وربما أهل مكان غير المكان ‪ ،‬المهم أن ذلك الحس شيء من الماضي كأفالم األبيض‬
‫واألسود !!‬

‫هم وقصص للتسلية ومنهم بهاء الدين العاملي حين‬


‫هذا الفريق منه من قال عن الصديق محال من المحاالت ومنهم من قال َو ٌ‬
‫قال ‪:‬‬
‫نخله إال خياال كان في الحلم‬ ‫وقد سمعنا حكايات الصديق ولم‬
‫ومنهم من اعتبره تعبي ار مجازيا كمن قال ‪:‬‬
‫على التحقيق يوجد باألنام‬ ‫سمعنا بالصديق وال ن ـ ـراه‬
‫على وجه المجاز من الكالم‬ ‫وأحـتـ ــسبه مـُحاال جوزوه‬
‫فال حجة إذن لمن قال الصديق ورد في اللغة إذن فهو حقيقة !! ‪ ،‬فالكالم في اللغة حقيقي ومجازي والصديق من هذا النوع !‬
‫وبعضهم عده لفظا غير معلوم المعنى كالحروف المقطعة في أوائل سور القرآن فقال روح بن زنباع عندما سئل عن الصديق ‪:‬‬
‫لفظ بال معنى !!‬
‫ومن األبيات الجامعة لكل هذه األوصاف النافية للصداقة أبيات صالح الشرنوبي حين قال ‪:‬‬
‫بعد طول التجريب واإلحكام‬ ‫وإذا ما سألتني َمن صديقـ ـ ـي‬
‫ألبسه ثوبي ولم أقاسم ـه جامي‬ ‫فهو من لم أطعـ ـ ـمه زادي ولم‬
‫لمه أمرى في ثورتي ونظامي‬ ‫وهو من لم أبحه س ـ ـ ـرى ولم أُع‬
‫كنه قلبي ولم أعره اهتم ـ ـامي‬ ‫وهو من لم أهبه ح ـ ـبي ولم اس‬
‫وهو وهم كس ـ ـ ـائر األوهام‬ ‫وهو حلم كهذه األح ـ ـ ـ ـالم‬
‫وسر الصديق طي المـ ـ ـعامي‬ ‫شابت األرض وانحنى كاهل الدهر‬
‫ّ‬
‫ت وتطوى صحائف األي ـ ـام‬ ‫وستفنى الدنيا وتجري النه ـ ـ ـايا‬
‫حائر في الشفاه واألق ـ ـ ـالم‬ ‫وهو ما زال كاألس ـ ـ ـ ـاطير لفظ‬
‫كاألحاديث عن وجود السالم‬ ‫واألحاديث عن وجود ص ـ ـ ـديق‬
‫يا من تتحدث عن الصديق واألصدقاء كفاك كالما عن خياالت ال أساس لها وال تجعل قصص الخيال العلمي التي تقرؤها‬
‫يصدع رؤوسنا بالحديث عن السالم فكالهما خيال وأساطير فالصديق على‬
‫تؤثر على عقلك ال تكلمني عن الصداقة كثي ار كمن ّ‬
‫األرض كالماء على القمر !! ‪...............‬‬

‫خوان وقل من ترى في الزمان إال من إذا دعي مان ‪ ،‬نسخ في هذا الزمان‬
‫وأخي ار قال ابن الجوزي ‪ :‬هيهات رحل اإلخوان وأقام ال ّ‬
‫رسم األخوة وحكمه فلم يبق إال الحديث عن القدماء فإذا سمعت بإخوان صدق فال تصدق !!‬

‫‪113‬‬
‫بين علي و الشافعي !‬

‫◄ أصحاب تلك النظرية كثر ومنهم – على عهدة الراوي – علي بن أبي طالب رضي هللا عنه فله في هذا االستنتاج الكثير‬
‫فقال ‪:‬‬
‫فالناس بين مخاتل وم ـ ـ ـوارب‬ ‫ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب‬
‫وقلوبهم محشوة بعق ـ ـ ـ ــارب‬ ‫يفشون بينهم المودة والصـ ـ ــفا‬
‫وعلي رضي هللا عنه هنا وصل لنفس نتيجة إبراهيم بن هالل بأن من ظاهره الود والحب ال بد أن تك ّذب عينيك معه وتصدق‬
‫عقلك فما ذلك سوى تظاهر والباطن يعلمه هللا ‪ ،‬ولعل سر استنتاجه لذلك كثرة تجاربه السلبية مع الناس فنجده يقول ‪:‬‬
‫ال ترك هللا له واضـحة‬ ‫فكم خليل لك خاللتَه‬
‫فكلهم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة‬
‫وهو هنا أرجع الضمير للمخاطب وكأن هذا األمر ظاهرة مخاطب بها كل الناس ولكنه صرح في أبيات أخرى بتجربته القاسية‬
‫التي استنتج منها استنتاجا نهائيا أن ال صداقة في زمانه فماباله بزماننا !! فقال يحكي تجربته ‪:‬‬

‫دق َواِنَق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫جاء‬
‫الر ُ‬ ‫ط َع َ‬ ‫َوَق َّل الص ُ‬ ‫الم َوَّدةُ َواإلخ ـ ـ ـ ُ‬
‫اء‬ ‫تَ َغي ََّرت َ‬
‫اء‬ ‫الغ ِ‬ ‫َك ِ‬ ‫ص ٍ‬ ‫الز ُ ِ‬
‫يس َل ُه َرع ـ ـ ُ‬ ‫در َل َ‬ ‫ثير َ‬ ‫ديق‬ ‫مان إلى َ‬ ‫وأَسَل َمني َ‬
‫ِ‬ ‫يت َل ُه ِب َحـ ـ ٍّق‬
‫اء‬
‫دوم َل ُه َوف ـ ـ ـ ُ‬
‫َوَلكن ال ُي ُ‬ ‫َوُر َّب أَ ٍخ َوَف َ‬
‫ِ‬ ‫أِ‬
‫الء‬ ‫َعداء ِإذا َن َزَل َ‬
‫البـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫َوأ ٌ‬ ‫يت َعن ـ ُهم‬ ‫غن ُ‬‫َخ ّال ٌء ِإذا استَ َ‬
‫ِ ِ‬
‫الوُّد ما َبق َي اللقـ ـ ُ‬
‫اء‬ ‫َوَيبقى ُ‬ ‫الم َوَّد َة ما َرأون ـ ـ ـي‬ ‫ُيديمو َن َ‬
‫فاء‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وإِن غنيت ع ـ ـن أ ٍ‬
‫َحد َقالني َوعاَق َبني بما فيه اكتـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُّ ُ َ‬
‫اء‬
‫دوم َوال ثَـ ـ ـر ُ‬‫قر َي ُ‬ ‫َفال َف ٌ‬ ‫َس ُيغنيني َّالذي أَغناهُ َعنـ ــّي‬
‫خاء‬ ‫الف ِ ِ‬
‫سق اال ُ‬
‫وال يصفو مع ِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َوُك ُّل َم َوَّد ٍة ِّهللِ تَصـ ـ ـ ـ ـفو‬
‫اء‬ ‫الخ ِ‬ ‫وُك ُّل ِجر ٍ‬
‫لق َلي ـ َس َل ُه َدو ُ‬ ‫سوء ُ‬ ‫َو ُ‬ ‫اء‬
‫احة َفَل ـ ـ ـ ـها َدو ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اء‬ ‫ِ‬ ‫وَل َ ِ‬
‫يس َل ُه َبق ـ ُ‬ ‫ؤس َل َ‬ ‫الب ُ‬ ‫ذاك ُ‬
‫َك َ‬ ‫يم‬
‫يس بدائ ٍم أََبداً َنع ـ ـ ـ ٌ‬ ‫َ‬
‫اء‬ ‫ِ‬ ‫ِإذا أ َ‬
‫الحـي ُ‬‫َففي َنفسي التَ َك ُّرُم َو َ‬ ‫رت َعهداً من َحـ ـمي ٍم‬ ‫َنك ُ‬
‫اء‬
‫الجفـ ُ‬‫الناس َ‬‫ِ‬ ‫َبدا َل ُه ُم ِم َن‬ ‫البيـ ـ ِت َوّلى‬ ‫ِ‬
‫أس أَهل َ‬ ‫ِإذا ما َر ُ‬

‫العجب كل العجب أن يصل علي بن أبي طالب على كرمه وفضله ونسبه إلى هذه النتيجة فالناس من حوله لم يراعوا فيه طهر‬
‫نسبه وال شرف حسبه وال تاريخا ناصعا ساهم فيه وال شرف الخالفة التي اختاره الصحابة لها ‪ ،‬بل أعجب من ذلك نوعية‬
‫الناس التي كانت حوله ! فعلي كان حوله صحابة وتابعون و حديثو عهد بإسالم اختاروا اإلسالم بإرادتهم وقريبون من عهد‬
‫النبوة ‪ ،‬كل هؤالء لم يجد فيهم علي صديقه الذي كان يتمناه بل منهم من قاله وجفاه فقال هذا الكالم المشحون فليت شعري‬

‫‪114‬‬
‫كيف يكون حاله لو أنه عاش إلى زماننا ورأى حال أهله مع بعدهم عن الدين فعال و عقيدة وزمنا ‪ .........‬إن هذا الكالم‬
‫يحتاج لتأمل وتمحيص ونظرة مدققة !‬

‫وسار على درب علي بن أبي طالب فقيه آخر – على عهدة الراوي – مر بنفس ظروفه و مالبساته فاستنتج نفس استنتاجاته‬
‫إنه اإلمام الشافعي صاحب المذهب الشهير فقال يحكي تجربته ‪:‬‬
‫وكنت أحسب أني قد مألت يدي‬ ‫إني صحبت أناسا ما لهم ع ـ ــدد‬
‫كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحد‬ ‫بلوت أخالئي وجدت ـُ ـ ـ ــهم‬
‫لما ُ‬
‫وإن مرضت فخير الناس لم يـ ــعد‬ ‫غبت عنهم فشر الناس يشتمني‬ ‫إن ُ‬
‫وإن رأوني بشر سرهم ن ـ ــكدي‬ ‫وإن رأوني بخير ساءهم فرح ـ ــي‬
‫فهنا الشافعي عاش دور المخدوع الذي ظن أنه حصل على األصدقاء بل امتألت يده منهم فجاءت الكربات الكاشفات – كما‬
‫ذكرنا من قبل – و أطلعته على الحقيقة الصادمة أن كل هؤالء كانوا غثاء وأنه كان يعيش في حلم جميل استيقظ منه فجأة‬
‫‪......‬‬
‫ولما ضاقت به الدنيا ذهب يواصل البحث عن صديق مخلص لعه يجد مبتغاه فإذا به يقول ‪:‬‬
‫ثقة عند ابتالء الشـ ـ ـ ـ ــدائد‬ ‫أتيت أطلب عنده ــم أخا‬
‫ولما ُ‬
‫وناديت في األحياء هل من مساعد‬‫ُ‬ ‫تقلبت في دهري رخاء وش ــدة‬
‫ُ‬
‫ولم أر فيما سرن ـ ـ ــي غير حاسد‬ ‫فلم أر فيما ساءني غير شامــت‬

‫ثم في النهاية وبعد طريق شاق من البحث ذهب إلى بديل عن الفراغ الروحي الذي يعانيه شأنه شأن كل أصحاب تلك النظرية‬
‫فلجأ إلى الوحدة والخلوة ثم التعبد والتنسك‬
‫غوي أعاشره‬
‫ألذ وأشهى من ّ‬ ‫إذا لم أجد خال وفيا فوحدتي‬
‫أقر لعيني من جليــس أحاذره‬ ‫وأجلس وحدي للعبادة آمــنا‬
‫هذا ما وصل إليه الشافعي ولنا كذلك وقفة متعجبة مما وصل إليه وجلساؤه هم طلبة العلم والعباد والزهاد وأهل الشرف والسؤدد‬
‫هذا حاله فماذا نحن قائلون في زمان انتشر فيه الغوغاء و الجهالء !!‬
‫هذا ملخص لتجربة علي بن أبي طالب السابق والشافعي الالحق وعلى دربهما يسير محدثون و معاصرون رأوه في تلك النظرية‬
‫مالذا آمنا بعد عمق تجربة خلفت آالما ومآسي ال يمحوها الزمان ‪.......................‬‬

‫مقارنة بين األصدقاء واألعداء !!‬

‫ذهب أصحاب ذاك المسلك لقرن الصديق بالعدو ‪ ،‬فمنهم من ظن ما يسمى الصديق مدخال سائغا للعدو ‪ ،‬منه يخلص إليك‬
‫ويطعنك في ظهرك شأنه شأن حصان طروادة تظنه خي ار ومنه يأتيك الهالك والدمار فمثال قال ابن الرومي ‪:‬‬

‫‪115‬‬
‫فال تكثرن من الص ــحاب‬ ‫عدوك من صديقك مستفاد‬
‫يكون من الطعام أو الشراب‬ ‫فإن الداء أك ـ ــثر ما تراه‬

‫وابن الرومي ليس من أعداء الصداقة فله أشعار في الصديق والحب ولكنه هنا يحكي ظاهرة رآها وخبرها من الحياة المتقلبة وهي‬
‫انخداعك باألصدقاء الكثر الذين جمعتهم من كل حدب وصوب بال تدقيق وال تمحيص فمنهم يأتي الهالك فيصيرون جواسيس‬
‫ألعدائك‪.‬‬
‫وعندما نعود لمانعي الصداقة ال نجدهم إال مؤمنين بهذا المنطق بل متشددين أكثر يظنون الصديق نفسه هو العدو بل منهم من‬
‫جعله ش ار من العدو فاألبيوردي مثال يقول ‪:‬‬
‫بك من عدوك في المضرة أعلم‬ ‫تخلدن إلى الصـ ــديق فإنه‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫فهذا الذي تخاله خدينا عنده من سرك ما ليس عند عدوك فهو قنبلة زمنية حين يحين موعد انفجارها – وهي منفجرة ال محالة‬
‫– سوف يكون الثمن غاليا ‪ ،‬عدوك تعلمه حق العلم أما من هو بجوارك فأنت تأمنه وتطمئن إليه وسيغدر بك يوما ما والت‬
‫ساعة مندم !!!‬
‫فالحل الذي ال حل سواه أال تطمئن بودك وسرك ألحد مهما خدعك الظاهر ومهما وجدت من ود كاذب فالناس كلها عقارب كل‬
‫يبحث عن مصلحته ال مكان في قلب أحد منهم لود وال إخالص !!‬
‫بل ذهب بعضهم لشكر العدو و زجر الصديق كالطغرائي الذي يقول ‪:‬‬
‫أحبو بخالص شكري األعـداء‬ ‫من خص بالشكر الصديق فإنني‬
‫ونفيت عن أخالقي األق ــذاء‬ ‫نكروا علي معايبي فحذرت ــها‬

‫األعداء صرحاء ! يواجهونك بأخطائك و مسالبك فتصحح نفسك وتوجهها للطريق الصحيح حتى يحتار فيك أعداؤك أما من‬
‫يسمون أصدقاء فيتملقونك ويداهنونك ويصورون لك صورتك كأفضل ما يكون فتطمئن إلى نفسك وترضى بوضعك الدوني وهم‬
‫يترقون في الخفاء وأنت ال تعلم فتصير في النهاية في أسفل سافلين وهم في أعلى عليين وفي النهاية يتركونك بل يدوسون عليك‬
‫حين تنتهي حاجتهم منك فتصير الخاسر وبئس الخسران !!‬

‫محاولة تفسير فكرة انعدام الصداقة !‬

‫محالية الصداقة والصديق بأوصافه التي تكلم عنها األدباء والشعراء ومن قبلهم أهل الدين والعلماء وصف‬
‫ّ‬ ‫أغلب من تكلم عن‬
‫أصل لنتيجتها ولكن أكثر من تكلم وفصل لم يضع تفسي ار معقوال لهذا األمر ‪ ،‬بل منهم من‬
‫تلك الظاهرة وفصل في حكايتها و ّ‬
‫تعجب النعدام تلك الفضيلة التي مقتضياتها موجودة وأسبابها قائمة فبقي التعجب و طال التأسف و تمادت الشجون‬
‫‪............‬‬

‫‪116‬‬
‫وممن وصف تلك الحال من السابقين الفضيل بن عياض حين قال له ابن المبارك ‪ :‬ما أعياني شيء كما أعياني أال أجد أخا‬
‫الفتوة !!‬
‫في هللا فقال ‪ :‬ال يهمك فقد خبثت السرائر وتنكرت الظواهر وفني ميراث النبوة وُفقد ما كان عليه أهل ّ‬
‫وقال أبو حيان التوحيدي ‪ :‬إذا أردت الحق علمت أن الصداقة واأللفة واألخوة والمودة والرعاية والمحافظة قد نبذت نبذا ووطئت‬
‫باألقدام ولويت دونها الشفاه وصرفت عنها الرغبات ! ‪...............................‬‬

‫إذن عند هؤالء الصداقة فنت من نفوس الناس لسببين خبث النفوس و انصراف العقل والقلب عنها ‪ ،‬ويأتي هنا السؤال الملح‬
‫لماذا خبثت النفوس ولماذا انصرفت همة الناس عن طلب الصداقة مع أن األصل نقيض ذلك ؟!‬

‫اإلجابة تتطلب النظر في الظروف المحيطة بالبشر الذين ال يفكرون في الصداقة فأغلبهم أصبحت لقمة عيشهم هي ّ‬
‫جل فكرهم‬
‫هم ألحدهم سوى تحصيل المال ليطعم نفسه وأهله ‪ ،‬هو إنما كل سعيه وكده لتحصيل حاجاته األساسية‬
‫وشغلهم الشاغل ‪ ،‬ال ّ‬
‫من مأكل ومشرب و ملبس حتى ال يفكر في رفاهيات وال فسح ‪ ،‬عقله مشغول برزقه فتجده ال يجد وقتا للراحة وال للجلوس مع‬
‫أبنائه وزوجته تجده قلقا مضطربا يفكر دائما في المستقبل وكلما ازداد تفكيره ازداد سعيه وكده لتحصيل المزيد خوفا من‬
‫الحرمان والفاقة ‪ ،‬إن مثل هؤالء كما ال يفكرون في الصداقة – وهي التي أصبحت نوعا من الترف و المتاع الخيالي – ال‬
‫يفكرون كذلك في السياسيات وأمورها ‪ ،‬هذه أمور ال تعنيه في شيء وكفاه ما هو فيه من دوامة الحياة وساقية الكد والتعب ‪،‬‬
‫وكذلك هو أبعد ما يكون عن االبتكار والتطوير واالختراع واالكتشاف‪ ،‬ولماذا يضيع وقته في هذه األمور وهي لن تعود عليه‬
‫بمال فمن فوقه لن يقدره ولن يشجعه ‪ ،‬كل ما يريده السادة من العبيد أن ينصرفوا عنهم و أن يعملوا فقط ‪،‬أن يسيروا في‬
‫الساقية مثل البهائم أن يجروا بأقصى سرعتهم وعليهم النير ليعطوهم بقايا العلف والبرسيم !! كل هذا باختصار سمات مالزمة‬
‫لألمم التي يعيش فيها سادة و عبيد ‪.‬‬
‫حتى األمم التي ال تعيش تحت هذا التصنيف وتنعم بالحرية المطلقة استغلت حريتها بطيش وعبث وصارت المادية مذهبهم‬
‫الذي يعتنقونه وصارت شهواتهم آلهتهم التي يعبدونها ‪ ،‬يبحث كل عن مصلحته و مرتبته وتفوقه ‪ ،‬يبحث عن شهوته وكأسه و‬
‫صارت حياتهم إما عمال محضا وإما عبثا وسك ار فأين الصداقة إذن في حياة هؤالء ؟! ال صداقة بل عبثيه وسكر‬
‫ْ‬ ‫لعبه وعبثه ‪،‬‬
‫وتيه !‬
‫بعد كل هذا يأتي شاب حالم رومانسي و يتساءل أين الصداقة ؟؟!!‬
‫الصداقة ذهبت في طي النسيان وتقطعت كما تقطعت األرحام وصار الباحث عنها أحمق مضيعا لوقته فيما ال يفيد وصدق‬
‫الفيلسوف الذي سئل ‪ :‬من أطول الناس سف ار فقال ‪ :‬من سافر في طلب صديق !!‬
‫بل عجبا لمن يسأل عن سر تقصير الناس في حق الصداقة وهم فعلوا أكبر من ذلك فقصروا في حق هللا عز و جل ‪ ،‬فهم لما‬
‫هانت عليهم حقوق ربهم هانت عليهم حقوق خلقه من البشر والحيوان والنبات بل الجماد !‬
‫بل انتكست الفطرة و فقد الناس المشاعر الفطرية التي جبلهم هللا عليها فصار األب ال يحب ابنه واألم ال تلوي على ابنتها‬
‫جبلية األصل توجد في كل الكائنات ‪ ،‬فقدوها وصاروا أدنى من الوحوش والسباع فمابالك بالحب الصداقي‬
‫وهي مشاعر ّ‬
‫المكتسب !!‬

‫‪117‬‬
‫كل يفكر في نفسه ‪ ،‬كل يبحث عن رغباته ومصالحه ‪ ،‬أنا‬‫إن كل ذلك صبغ قلوب الناس بالسواد و حقنها قسوة وغلظة وأَثَرة ‪ٌ ،‬‬
‫ثم أنا ثم أنا ! ‪ ،‬فمن كان هذا حاله فمن سيفكر في صديقه أو صاحبه ؟ َمن ِمن هؤالء سيشعر بصديقه ويشتكي كما يشتكي‬
‫كأنه نفسه التي بين جنبيه ؟ ومن سيؤثر ومن سيكرم ؟ ومن سيحب و يتعلق ؟ بل من سيشارك في الهموم بل من سيفكر في‬
‫صديق غائب أو يحزن على حبيب مات ؟ إنها مفقودات بين مفقودات وأوهام في أوهام !!!‪..........‬‬

‫بعض من وصفوا حال الناس البعيدة عن األخوة‬

‫قال بعض الزهاد لو أن الدنيا ملئت سباعاً ما خفتُها ولو بقى واحد من الناس لخفته !‬
‫وقالوا استعذ من شرار الناس وكن من خيارهم على حذر !‬
‫وقال آخر ما بقي في الناس إال حمار رامح أو كلب نابح أو أخ فاضح !‬
‫وقال أبو الدرداء كان الناس ورقاً ال شوك فيه فصاروا شوكاً ال ورق فيه !‬
‫وقال سلمان الناس أربعة أصناف آساد وذئاب وثعالب وضأن فاآلساد الملوك والذئاب التجار والثعالب القراء المخادعون‬
‫والضأن المؤمن ينهشه كل من يراه ‪...............‬‬
‫وقال بعض الحكماء احذروا الناس فما ركبوا سنام بعير إال أدبروه وال ظهر جواد إال عقروه وال قلب مؤمن إال أخربوه !‬
‫وقال خالد بن صفوان الناس أجياف فمنهم كالكلب ال تراه الدهر إال ه ار اًر على الناس ومنهم كالقرد يضحك من نفسه‬
‫وإن كان لك مائة صديق فاطرح منهم تسعة‬ ‫وقال جعفر الصادق لبعض اخوانه أقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم‬
‫وتسعين وكن من الواحد على حذر‪..............‬‬
‫بلوت الناس ط اًر فلم أجد إال من يرى الحق باطالً والباطل حقاً واللئيم مرفوعاً‬
‫وقال بعض البلغاء ُ‬
‫والكريم ملقى والنصح غشاً والغش نصحاً والمدح هجاء والهجاء مدحاً‬
‫قال العتابي في مثل ذلك ‪:‬‬
‫فما يستحسنون سوى القبيح‬ ‫تساوي أهل دهرك في المسـ ـاوي‬
‫رجون لألمر النج ـ ـيح‬
‫فما ُي َ‬ ‫وصار الناس كلهم غثـ ـ ـ ـ ـاء‬
‫فما يستعقلون سوى الشحيح‬ ‫وأضحى الجود عندهم جنـ ـوناً‬
‫األهاجي ‪ :‬الذم والهجاء‬ ‫فصاروا يغضبون من الم ـديح‬ ‫وكانوا يغضبون من األهاجـ ـي‬
‫وقال حكيم‪ :‬مصاحبة الناس خطر فمن صبر على صحبتهم فقد بالغ في العذر إنما هو كراكب بحر إن سلم بدنه من الغرق لم‬
‫الف َرق أي ‪ :‬الخوف ‪.‬‬
‫يسلم قلبه من َ‬
‫وصف بعض البلغاء أهل زمانه فقال أحظى الناس لديهم من أحسن إليهم فإن قصر عنهم رفضوه وأبغضوه ووتروه ولم يعذروه‬
‫إن حضروا داهنوا وإن غابو شاحنوا ‪ ،‬غنيهم شحيح وفقيرهم مجيح ( أي متكبر )إن أروا خي اًر دفنوه وإن ظنوا ش ار أعلنوه الواثق‬
‫منهم على غرر والمتمسك بهم على خطر هم بين طاعن ثالب ومتقول كاذب وحسود موارب إن اختبرتهم تكشفوا وإن اعتبرتهم‬
‫تزيفوا !!‪..................‬‬

‫‪118‬‬
‫عواقب امتناع الصداقة‬
‫‪ -1‬اعتزال الناس‬

‫إن من ابتلته الدنيا بالتجارب المأساوية مع األصدقاء خاصة وبقية الناس عامة فانتحل فكرة أن الصداقة وهم وخيال ال بد أن‬
‫سينتهي به الحالُ منعزال عن الناس يلجأ للوحدة ويستمسك بها بقية عمره فهي المالذ اآلمن من سباع البشر وحيات وعقارب‬
‫بني آدم األشرار‪ ،‬والعزلة واالنطواء ال يأتيان فجأة بل لهما مقدمات وأولها انغالق القلب واستعصاؤه على تغلغل الحب فيه ‪ ،‬فقد‬
‫األناوية ( األنانية) على‬
‫ّ‬ ‫ألف ذلك القلب المسكين الغدر والجفاء من البشر فلن يلدغ من ذلك الجحر مرة أخرى وثانيها غشيان‬
‫العقل فيبدأ بالتفكير في نفسه وشئونه الخاصة ‪ ،‬ولسان حاله يقول ‪ :‬لن ينفعني أحد سوى نفسي فلماذا ال أفكر بنفسي وحالي‬
‫وأدع الناس ‪ ،‬وماذا كسبت من االهتمام بشئون اآلخرين سوى النذالة والجفاء ‪ ،‬إنه ال أحد يهتم بي وال بحالي ولن يرجى نفع من‬
‫وراء الناس فعلي بنفسي ‪ ،‬سأقوي نفسي وأطورها وأعلو وأصير أفضل ما يكون حتى ال أحتاج ألحد و حينها كذلك لن أفكر في‬
‫ّ‬
‫أحد آخر !!‪......‬‬
‫واتخاذ قرار اعتزال الناس ليس أم ار سهال فيكون المبتدأ فقط تمني اعتزال البشر فيقول ٍ‬
‫متمن ‪:‬‬
‫وأننا ال نرى ممن نرى أح ـ ـ ـدا‬ ‫ليت الكالب لنا مجـ ـ ـ ـ ــاورة‬
‫بهاد شره ــم أبدا‬‫والناس ليس ٍ‬ ‫إن الكالب لتهدأ في م اربــضها‬
‫وأنت السعيد إذا ما كنت منفردا‬ ‫فأنج نفسك واستأنس بوحدتها‬
‫ثم يتحول التمني إلى اعتزال شعوري نفسي حين يشعر المعتزل أنه بعيد عن الناس ‪ ،‬والناس كذلك بعيدون بعد المشرق !!‬

‫ويبدأ التمني القلبي يترجم لتصرفات صبيانية لطيفة مثل ذلك الرجل الذي روي أنه كتب على باب داره ‪ :‬جزى هللا من لم نعرفه‬
‫ولم يعرفنا خي ار فإنا ما أُتينا في نكبتنا هذه إال من المعارف !! ‪....‬‬
‫وبعضهم سيقول شع ار يفصح به عن نيته االعتزالية كمن قال ‪:‬‬
‫وال بينه ود به نتع ـ ـ ـ ـ ـ ــرف‬ ‫جزى هللا عنا الخير من ليس بيننا‬
‫من الناس إال من نود ونأل ـ ــف‬ ‫فما سامنا ضيما وال سام ــنا أذى‬
‫في النهاية سينجرف المكلوم إلى العزلة وترك الناس والخلوة بالنفس وربما االكتفاء باألهل – إن وجدوا – وربما يعتزل األهل‬
‫كذلك‬
‫وارض بالخلوة أنـ ـ ـ ـسا‬ ‫كن لقعر البيت جل ـ ـساً‬
‫هد مهما شئت غ ـ ـ ـرسا‬ ‫واغرس الناس بأرض الز‬
‫ترس ‪ :‬درع‬ ‫طمع الكاذب ترس ـ ـ ـ ـا‬ ‫وليكن بأس ـ ـك دون ال‬
‫أو ‪ :‬إلى أن‬ ‫ترد اليوم أم ـ ـ ـ ـ ـسا‬
‫أو َ‬ ‫لسـ ـ ـ ـت بالواجد ح اًر‬
‫يقرعونه و يوبخونه لماذا تترك الناس فيكون جوابه وحاله‬ ‫وعند تلك المرحلة سيبدأ الالئمون في إتيانه ّ‬
‫‪119‬‬
‫ولي فيما أالم عليه عـ ـ ـذر‬ ‫أالم على التفرد كل وق ـ ـت‬
‫وليس على قرين السوء صبر‬ ‫وكل أذى فمصبور ع ـ ـ ـليه‬

‫و تزداد الوحدة ويتعمق الفكر الفلسفي عند صاحبه فيصير فقيها في العزلة من استشاره واشتكى إليه أوصاه باالعتزال وترك‬
‫صبر نفسه وذكرها بمصير خلطة الناس ومفاسدها وحث غيره عليها كقول أبي‬
‫الناس بل هو نفسه إذا شعر بالوحشة أحيانا ّ‬
‫حامد الغزالي ‪:‬‬
‫ومن التفرد في زمانك فازدد‬ ‫عن لوحدة وتـ ـ ـ ـفرد‬
‫ال تجز ّ‬
‫إال التملق باللسان وباليـد‬ ‫ثم أخـ ـوة‬
‫ذهب األخاء فليس ّ‬
‫سم األسود‬
‫ثم نقيع ّ‬
‫فإذا كشفت ضمير ما بصدورهم أبصرت ّ‬
‫أما الصبيان الحدثاء والفتيان القليلو الخبرة إذا جاءوه واستشاروه في األصدقاء سارعهم بدواء لكل داء ووقاية خير من أي عالج‬
‫إنه االنفراد بالنفس فينشد قائال ‪:‬‬
‫فهيهات منك الذي تطلب‬ ‫طلبت أخاً مخل ـ ـصاً‬
‫َ‬ ‫إذا ما‬
‫فما في زمانك من تصحب‬ ‫فكن بانفرادك ذا غب ـ ـطة‬

‫ثم بعد خبرة بالوحدة والعزلة يشعر المعتزل باللذة والنشوة ويشعر أن عمره الماضي ضاع هباء في مجالسة من ال يستحقون و‬
‫معاشرة من لذلك ال يرتقون ومحبة من أعدمت من صدورهم المحبة وإيثار من تجذرت فيهم األناوية وحب الذات ‪ ،‬فيزداد رضاه‬
‫بوحدته ويحمد هللا على هذه النعمة التي ال يرجو زوالها ‪....................‬‬

‫صرت في وحدتي لكتبي جليسا‬ ‫ُ‬ ‫تطعمت لذة العيش حتـ ـ ـى‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫سي فال أبتغي سواها أنيس ـ ـا‬ ‫ليس شيء ألذ عنـ ـدي من نف‬
‫س فدعها وعش كريماً رئيـ ـسا‬ ‫إنما الذل في مداخـ ـ ـ ـ ـلة النا‬
‫بل يتعمق ذلك الشعور لديه حتى يخشى على نفسه أن يقع في أخطاء الماضي وينجرف لمصاحبة الناس فيذ ّكر نفسه قائال‬
‫حذ ار ‪:‬‬
‫أخاف عليه إال خفـ ـت منه‬ ‫وما ظفرت يدي بصديق صدق‬
‫أميل إليه إال ملـ ـ ـ ـت عنه‬ ‫ولم تدع التجارب لي صـديقاً‬
‫رأيت األنس ألستوحشت منه‬ ‫أنست بوحدتي حت ـى لو اني‬

‫هكذا كانت الوحدة نبراسا يضيء لآليسين من البشر و مضايقاتهم ‪ ،‬يخلون بأنفسهم يتفكرون في شئونهم يحاسبون أنفسهم‬
‫ويتدبرون حالهم فلم يعد بينهم وبين الناس باب يرجى فتحه ولم يعد بينهم وبين أحد شعرة مثل شعرة معاوية فيبقون عليها‬
‫‪.................‬‬

‫‪120‬‬
‫‪ -2‬التماس بدائل لألصدقاء‬

‫إن المستغرق في الوحدة واالنطواء ال بد أن يصيبه الملل ويشعر أحيانا ّ‬


‫بردة في الفكر وجنوح نحو الصداقة مرة أخرى فيندفع ال‬
‫محالة اللتماس بديل للصديق ‪ ،‬فيعود للمصادقة مرة أخرى ولكن هذه المرة بعد أن جرب صداقة البشر يجنح لصداقة من هم‬
‫دونهم ‪ ،‬فمن هؤالء من يذهب للكتاب يلتمس فيه الصديق الوفي الذي ينهل منه بال حدود ‪ ،‬يعطي وال يأخذ ‪ ،‬مجالسته منفعة‬
‫وتركه قلة علم ‪ ،‬سعادة الدنيا عنده أن يمسك كتابا في يده يتجرع منه صنوف المعارف واآلداب يشبع عقله وفكره و يداوي قلبه‬
‫ونفسه يق أر بنهم بال توقف كلما ترك الكتاب ازداد حنينه له فعاد له ثانيا ‪ ،‬إنها صداقة ال ضرر منها أبدا فنعمت الصداقة ونعم‬
‫الصديق وفي ذلك يقول أحمد شوقي ‪:‬‬
‫َلم أَ ِجد لي وافـ ــِياً ِإ ّال ِ‬
‫الكتابا‬ ‫الصحابا‬ ‫تب ِ‬ ‫الكـ ـ ِ‬
‫أَنا َمن َب َّد َل ِب ُ‬
‫اح ِب عابا‬ ‫َليس ِبالوا ِجـ ـ ِد لِلص ـ ِ‬ ‫صاح ٌب ِإن ِعبتَ ُه أَو َلم تَع ــِب‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫الفضـ ـ ِل ِثيابا‬‫َوَكساني ِمن ِحلى َ‬ ‫ُكَّلما أَخلـ ـ ـ ــَقتُ ُه َجـ ـ َّدَدني‬
‫داد َلم ُي َكِّل ـ ـ ـ ـفني ِع ـ ـتابا‬
‫َوِو ٌ‬ ‫َشك ِمنـ ـها ريـ ـ َب ًة‬ ‫حب ٌة َلم أ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫طال َعلى الصــَمت َوطابا‬ ‫َس َم ٍر َ‬ ‫صر فيه َع ـن‬ ‫ُر َّب َليل َلم ُنَقـ ـ ّ‬
‫اإلخ ـ ـوان ِ‬ ‫تَ ِج ُد ِ‬ ‫الكـ ـتب على الن ِ‬
‫صدقاً َو ِكـ ـذابا‬ ‫َ‬ ‫قد َكما‬ ‫َ‬ ‫تَ ِج ُد ُ َ َ‬
‫تب اللُبابا‬ ‫الك ِ‬
‫حب َو ُ‬ ‫واِ َّد ِخر في الص ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫تارهُ‬
‫َفتَخ ــَيَّرها َكما تَخ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫الصـ ـوابا‬ ‫الك ِ‬ ‫اإلخو ِ‬ ‫صالِ ُح ِ‬
‫بغيك َ‬ ‫تب َي َ‬ ‫شيد ُ‬ ‫َوَر ُ‬ ‫بغيك الـ ـتُقى‬ ‫ان َي َ‬

‫بماذا أفادني سمر الليالي مع الخالن غير تضييع الوقت وإهدار الطاقة لكن الصمت مع صديقي الكتاب خير وأنفع ويعود علي‬
‫بالخير أزمانا ‪،‬وصحيح أن الكتب كاألصدقاء يجب أن تتخير منها الصالح ولكن اختيار الصالح من الكتب أسهل كثي ار من‬
‫انتقاء الصديق المخلص التقي النقي الذي سمعنا عنه في الكتب و الروايات ولم نجده في الواقع ‪ ،‬قال أحد المصادقين للكتب ‪:‬‬
‫جعلت المؤانس لي دفـ ـ ـتري‬
‫ُ‬ ‫خلوت من المؤن ـسين‬
‫ُ‬ ‫إذا ما‬
‫ومن مضحك طيب م ـ ـ ـندر‬ ‫فلم أخل من شاعر مـحسن‬
‫فوائد للناظر المفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكر‬ ‫ومن حكم بين أثنائ ـ ـ ـها‬
‫وأودعته السر لم ُيظ ـ ـ ـ ـ ـهر‬ ‫فإن ضاق صدري بأسـ ـ ارره‬
‫حييت‬
‫ُ‬ ‫فلست أرى مؤث اًر ما‬
‫عليه ن ـ ـديماً إلى المحـ ـ ـ ـ ـشر‬
‫صديق يثري فكرك يبهجك ويسعدك ‪ ،‬تتلو عليه أسرارك فال يفشيها فهل تؤثر عليه غيره من البشر الذين خلت قلوبهم من الوفاء‬
‫‪ ،‬كال سأظل لكتابي وفيا ما حييت فهو خير صاحب وخير أنيس !!‬
‫ولذا كان علي الطنطاوي يقول ‪ :‬لقد جربت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب !!‬

‫‪121‬‬
‫المحالية ويصل إلى نفس النتيجة‬
‫أما ابن حمديس فيحكي حاله مع البشر الذئاب الذين أقنعوه أن الصديق مثل العنقاء في ُ‬
‫وهي مصادقة الكتاب واتخاذه جليسا و أنيسا فيقول ‪:‬‬
‫حابة ال صحابا‬ ‫ذئاباً في الص ِ‬ ‫لت بعد َس َرِاة قومـي‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫وقد ُب ّد ُ‬
‫تابا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلس ُت مجالساً ّإال كـ ـ ـ َ‬ ‫ْ‬ ‫الجليس على خالفي‬ ‫َ‬ ‫ألفيت‬
‫و ُ‬
‫الزمان عليك طابا‬ ‫ُ‬ ‫إذا َخ ُب َث‬ ‫ٍ‬
‫صديق‬ ‫أعوز من‬ ‫العنقاء ُ‬
‫ُ‬ ‫وما‬
‫عبرت عنه أنا في طور من أطوار حياتي حين ضاقت علي الدنيا بسبب‬
‫ُ‬ ‫ومن هؤالء من التمس كتاب هللا صديقا ‪ ،‬وهذا ما‬
‫أصدقائي فقلت‪:‬‬
‫أما الجواب فكل خـ ـير محتفى‬ ‫سأل الصديق صديقه أيـ ـن الوفا‬
‫فكتاب ربك قبل ذلك يصطفى‬ ‫كنت تبحث عن صديق مخلص‬ ‫إن َ‬
‫ليس التباعد عن خدينك متلفا‬ ‫إن التعلق بالحبيب لمهـ ـ ـ ـ ـلك‬
‫كغثاء طل فوق بحر قد ط ـ ــفا‬ ‫فصفاء قلب في زمان م ـ ـ ــثل ذا‬

‫ومن هؤالء من جعل األنس باهلل بديال للصداقة ففزع إلى العبادة والتنسك وكانت ركعات بالليل خير أنيس للوحدة وهذا ما عبر‬
‫أقر لعيني من جليــس أحاذره‬ ‫عنه الشافعي كما ذكرنا من قبل ‪ :‬وأجلس وحدي للعبادة آمــنا‬
‫وكأن لسان حال هؤالء يقول ( وأعتزلكم و ماتدعون من دون هللا وأدعو ربي عسى أال أكون بدعاء ربي شقيا )‬
‫واستبدل هؤالء بحب األصدقاء حب رب األصدقاء ‪ ،‬فتفرغوا له وشمروا أكمامهم وبذلوا هممهم من أجل األنس بخلوتهم معه في‬
‫صلواتهم وتسبيحاتهم واستغرقوا في ذلك كقول رابعة العدوية الشهير تخاطب ربها ‪:‬‬
‫وح ـ ـبا ألنك أهل لـ ـ ـذاك‬ ‫أحبك حبين حب اله ـ ـ ـوى‬
‫فشغلي بذكرك عمن ســـواك‬ ‫فأما الذي هو حب اله ـ ـوى‬
‫ومن هؤالء من جعل التأمل والتدبر في الحياة والكون أنيسا له عن األصدقاء فالمسلمون يعدون ذلك عبادة حين يتفكر الم أر في‬
‫خلق هللا فيزداد بذلك إيمانا بالخالق ( ويتفكرون في خلق السموات واألرض ربنا ما خلقت هذا باطال ) والبوذيون يعدون ذلك‬
‫رياضة روحية واالستغراق عندهم في التأمل هو طريق الخالص من آالم الدنيا والوصول إلى الحقيقة ودرجة االستنارة أو‬
‫النرفانا كما يعبرون !! كما أن الرهبنة في المسيحية كانت على ّ‬
‫بدعيتها سبيال العتزال الناس و التأمل والتدبر بعيدا عنهم‬
‫وعن ظلمهم و منغصاتهم !!‪.............‬‬
‫ومنهم من اتخذ البحر صديقا وسمي ار فكلما ضاقت به الدنيا فزع إلى شاطئ البحر يجلس عنده أو على صخرة من صخوره‬
‫الجميلة ‪ ،‬يبوح له بأس ارره وهمومه ويلقي عن عاتقه أثقاال أقضت مضجعه وآلمته في معاشه بعيدا عن األصحاب وبعيدا عن‬
‫البشر كلهم ‪..‬‬
‫وممن خاطبوا البحر وناجوه علي محمود طه حين قال ‪:‬‬
‫وأين المنجي بتلك الرح ـ ـ ِ‬
‫اب‬ ‫الليل‬
‫أيها البحر كيف تنجو من ْ‬
‫اب‬ ‫منك موجاً في ٍ‬
‫جيئة وذه ـ ـ ـ ِ‬ ‫لجاً وأط ـ ـ ـ ـ ـغى‬
‫أطم ّ‬
‫بحر ُّ‬
‫هو ٌ‬
‫‪122‬‬
‫اب‬‫الهي ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫المروع ّ‬
‫أنين َّ‬
‫َليل َ‬ ‫بحر ما أنينـ ـ ـ ـك في ال‬
‫ويك يا ُ‬
‫وترى الكو َن زخرةً من ُعبـ ـ ِ‬
‫اب‬ ‫المدائن غرقـ ـ ـى‬
‫َ‬ ‫ا ِ‬
‫مض حتى ترى‬
‫ِ‬
‫العقاب‬ ‫الجو مسرى‬ ‫اغمر في ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الك و ْ‬ ‫السماء واطغ على األف‬ ‫امض عبر‬
‫ومنهم من وجد أنسه وبهجته في الجلوس مع قطته الصغيرة التي يحبها ويألفها ويعدها خي ار من ألف صديق فالبشر ينكرون‬
‫الجميل وهذه الهرة الصغيرة الوفية تحفظ الجميل له فكلما أطعمها وسقاها ازدادت له حبا ووفاء ‪ ،‬وفوق ذلك آنست وحدته‬
‫وعوضته عن األصحاب واإلخوة واألبناء ‪ ،‬مالعبتها و معاكستها تخفف عنه هموم الحياة و نومها على حجره يسد فراغا كبي ار‬
‫في حياته لم يشغله البشر !!‬
‫عسى يوماً يكون لها انفراج‬ ‫إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا‬
‫دفاتر لي ومعشوقي السراج‬ ‫نديمي ّهرتي وأنيس نفـ ـسي‬
‫ومنهم من جعل من بعض نفسه أنيسا لنفسه وال عجب في ذلك إذا كان المتحدث من اليونان ! فهذا ديوجانيس قيل له ‪ :‬ألك‬
‫صديق ؟ قال ‪:‬نعم ولكني قليل الطاعة له ‪ ،‬قيل لعله غير ناصح فلذلك أنت على ذاك قال‪ :‬ال بل هو غاية في النصح‪ ،‬نهاية‬
‫في الشفقة‪ ،‬قيل‪ :‬فلم أنت على دأبك هذا المذموم مع إقرارك بفضل صديقك؟ قال‪ :‬ألن جهلي طباع‪ ،‬وعلمي مكسوب‪ ،‬والطبع‬
‫سابق‪ ،‬والمكسوب تابع‪ ،‬قيل‪ :‬فدلنا على صديقك هذا الناصح المشفق حتى نخطب إليه صداقته‪ ،‬ونجتهد في الطاعة له‪ ،‬والقبول‬
‫منه‪ ،‬قال‪ :‬صديقي هو العقل‪ ،‬وهو صديقكم أيضاً‪ ،‬ولو أطعتموه لسعدتم ورشدتم‪ ،‬ونلتم مناكم في أوالكم وأخراكم‪ ،‬فأما الصديق‬
‫الذي هو إنسان مثلك فقلما تجده‪ ،‬فإن وجدته لم يف لك بما يفي به العقل‪ ،‬ولم يبلغ بك ما يبلغ بك العقل‪ ،‬وربما أتعبك‪ ،‬وربما‬
‫حزبك‪ ،‬وربما أشقاك‪ ،‬فاكبحوا أعنتكم عن الصديق الذي يكون من لحم ودم وعظم‪ ،‬فإنه يغضب فيفرط‪ ،‬ويرضى فيسرف‪،‬‬
‫‪.‬ويحسن فيعدد‪ ،‬ويسيء فيحتج‪ ،‬ويشكك فيضل ‪.......................‬‬

‫وعلى مستوى األطفال األبرياء حين ينعزل الطفل وال يجد أحدا متجاوبا معه يتخذ من لعبته الصغيرة أو عروسته الجميلة صديقا‬
‫و أنيسا يشغل معها جل وقته وكأنه مع صاحب يلعب ويلهو معه ‪ ،‬فتصير تلك اللعبة فردا من أفراد العائلة عنده ‪ ،‬وجزءا ال‬
‫يتج أز من حياته الطفولية البريئة التي ال يستغني عنها ‪ ،‬وال أدل على ذلك من بكائه الشديد حين يأخذها أحد األشرار منه أو‬
‫حين تنكسر فيشعر ببراءته و فطرته الصافية أنه فقد الدنيا و مافيها !!‪.............‬‬

‫وخالصة رأي من رأى انعدام الصداقة ‪:‬‬


‫(( إني لن أسلم قلبي ألحد أبدا ‪ ،‬قلبي جوهرة مكنونة ال يستحقها أحد ‪ ،‬لن أعرضه للخطر ‪ ،‬جربت تلك التجربة مع البشر من‬
‫تعلمت من الحياة أال أفكر في أحد سوى نفسي ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قبل بال جدوى ‪ ،‬جربها من قبلي كثيرون بال فائدة اللهم إال التعاسة والشقاء ‪،‬‬
‫فكرت فيه ‪ ،‬لن أساعد أحدا مساعدة تعود علي بالضرر فالناس ال يستحقون مني أن أفضلهم على‬ ‫ُ‬ ‫فال أحد يفكر في كما لو‬
‫ّ‬
‫نفسي ولن يعود علي سوى الهم والفكر واألذى ‪ ،‬الحب والتعلق فناء وهالك ‪ ،‬مساعدة اآلخرين واالهتمام بهم على حساب نفسي‬
‫ودنية ‪ ،‬لن‬
‫حماقة وخسارة ‪ ،‬التقارب واالتفاق مع شخص وهم و خيال ‪ ،‬عتاب من ال يستحق العتاب – وهم كل الناس – مذلة ّ‬
‫أخوض تجربة الحب والصداقة مرة أخرى ‪ ،‬لن أخاطر بقارب حياتي وعمري ليتحطم شراعه أمام أعاصير البشر من أجل‬

‫‪123‬‬
‫أساطير وحكايات سمعنا بها عن شيء اسمه الصديق ‪ ،‬لم نجده في حياتنا ولم يجده أحد ممن حولنا ولم نجده سوى في الورق ‪،‬‬
‫فهل الورق وحده يكفي إلثبات أسطورة يضحي بعض الواهمين بعمره من أجل البحث عنها ؟!!‪....................‬إنني لن أترك‬
‫نفسي ألنزلق في هذه الحفرة مرة أخرى ‪ ،‬سأعتزل الناس ‪ ....‬نعم سأعتزلهم جميعا ‪ ،‬إن لم يكن بجسدي فسيكون بشعوري‬

‫وخاطري ‪ ،‬سأجعل بيني وبينهم حجابا خفيا ‪ ،‬سأستغني عن البشر ّ‬


‫بمعية رب البشر سأنشغل بطاعته ومناجاته إلى أن ألقاه‬
‫راضيا عني ‪ ،‬سأتخذ بدائل حسية لألصحاب ‪ ،‬سأنشغل بهواياتي وأنشطتي الخاصة ‪ ،‬سأنشغل بعملي و كدي وكفاحي ‪ ،‬سأرقي‬
‫نفسي ألصبح في أعلى الدرجات ‪ ،‬لن أنظر للخلف ولن أشتت قلبي وعقلي ونفسي بالنظر للناس فلن ينفعوني ‪ ،‬هذا عهد بيني‬
‫وبين نفسي ‪ ،‬لن أتنازل عنه إلى أن ألقى هللا وأترك دنيا البشر إلى آخرة الحقيقة ‪...................‬‬
‫وداعا لوهم الصداقة ‪..............‬‬
‫وإعراضا عن أكذوبة الصديق ‪)) .............‬‬

‫‪ -2‬نظرية وجود الصديق و البحث عنه‬

‫ض ّد والنقيض إلى‬
‫بعد أن عشنا معا في نظرية أن الصديق محال وأن البحث عنه بحث عن سراب لننتقل اآلن نقلة كبيرة إلى ال ّ‬
‫البار ‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫فكرة أن الصديق موجود وأن الصداقة حق ال وهم ‪ ،‬كذا قال من يقول إنه وجد الصديق المخلص والخدن ّ‬
‫صدقوني الصداقة واقع لذيذ ومعنى قائم بالمتعة والسرور جربته بنفسي ورأيته بعيني ‪ ،‬كيف أقول ال صداقة و قد نهلت من‬ ‫ّ‬
‫نبعها وكيف أصدق البائسين المتشائمين الذي ينفون وجود الآللئ والبالتين ليس إال ألنهم لم تقع أعينهم عليه ‪ ،‬لم يوفقوا لنيل‬
‫صديق محب إما لقصور لديهم وإما لضنين الحياة عليهم و إما لظروفهم االجتماعية الطاحنة التي حرمتهم من أعظم المشاعر‬
‫وأسمى المعاني الراقية ‪ ،‬الصداقة عندنا واقع والقصور عن نيلها بؤس وشقاء والحرمان منها هم و اكتئاب واسألوا مجربا وال‬
‫تسألوا متفلسفا !!‬
‫وأنتم في سواد الليل سمـ ـ ـ ـاري‬ ‫أنتم سروري وأنتم مشتكي حزني‬
‫نوازل بين أسراري وت ـ ـ ـذكاري‬ ‫أنتم وإن بعدت عنا منازلـ ـ ـكم‬
‫وإن سكت فأنتم عقد إض ـم ـاري‬ ‫فإن تكلمت لم ألفظ بغيركـ ـ ـم‬
‫فيكم وحبي لكم من هجركم جاري‬ ‫هللا جاركم مما أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاذره‬
‫الصديق هو البهجة في الحياة ‪ ،‬إليه نأنس وإليه نلجأ في الكربات صاحب بالنهار ‪ ،‬ومسامر بالليل ‪ ،‬ال عيب في هؤالء‬
‫األصدقاء سوى الحذر الدا ئم من فقدهم إما بتقلبات الدهر وحوادثه وإما بهادم اللذات و مشتت أنس الجماعات ‪..............‬‬
‫والبن المعتز أبيات يقر فيها بالصداقة بعد أن جادت عليه الدنيا بالصديق الجوهرة ! فيقول ‪:‬‬
‫ما إن لها قيمة عندي وال ثـ ــمن‬ ‫إني رزقت من اإلخوان جوهرة‬
‫وال يزال الدهر عندي يختـ ـ ــزن‬ ‫فلست معتذ ار من أن أشح بهم‬

‫‪124‬‬
‫وال يطور بها عتب وال ض ــغن‬ ‫بحيث ال يهتدي هجر وال ملل‬
‫وليس عندي لها عـ ــين وال أذن‬ ‫فما الخيانة من شأني و من خلقي‬
‫يا من ليس لكم أصدقاء هذا ابن المعتز قد فاز بالجوهرة صديق رقيق رفيق ‪ ،‬لو وزنت له الدنيا كلها ما رجحت أمام ذلك الكنز‬
‫ومن عليه به ‪ ،‬ولجزاء هذه النعمة لن يفرط فيها أبدا ولعل هللا يعطيه المزيد منها ‪ ،‬صداقة صافية نقية ‪ ،‬ال‬
‫الذي وهبه هللا إياه ّ‬
‫يكدرها الشحناء والمالل ‪ ،‬وال يأتيها العتاب المضطجر و ال يتخلل النفوس فيها الضغائن ‪ ،‬وليس للخيانة فيها مكان ‪ ،‬فهل‬
‫هنالك أحلى من ذلك ؟؟ وهل ألحد أن يقول إن الصداقة وهم كذوب ؟!‬
‫التنيسي يتفاخر بصديقه قائال ‪:‬‬ ‫وابن وكيع ّ‬
‫صداَق ٌة ِمثلِ ِه َن َس ـ ـ ـ ُب‬
‫َ‬ ‫ديق لي َلـ ـ ـ ـ ُه أ ََد ُب‬
‫ص ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َوج َب َفو َق ما َيج ـ ُب‬ ‫َرعى لي َفو َق ما ُيرعـ ـى‬
‫َوأ َ‬
‫هرَج ِع َندها ال َذ َه ـ ـ ُب‬ ‫تََب َ‬
‫َفَلو ن ِق ـ ـ ـدت خ ِ‬
‫الئُق ُه‬ ‫َ َ َ‬
‫وهو هنا يشبه الصداقة بالنسب من باب توكيد الحقوق ووجوبها مثل حق التوارث ال يعني أن النسب يعلو رتبة الصداقة فنقيض‬
‫ذلك هو المتفق عليه عند العلماء واألدباء وأولي األلباب !‬
‫وألبي فراس الحمداني في صديقه مقال ‪:‬‬
‫طوب َرفي ـ ـقي‬ ‫الخ ِ‬ ‫فيق َم َع ُ‬
‫َوَر ٌ‬ ‫صديقي‬ ‫الز ِ‬
‫مان َ‬ ‫ديق َعلى َ‬ ‫ص ٌ‬ ‫لي َ‬
‫صبو ٍح َذ َكرتُ ُه أَو َغبـ ـ ـو ِق‬‫في َ‬ ‫َلو تَراني ِإذا ِاستَ َهَّلت ُدموع ـي‬
‫العقيق ‪ :‬حجر كريمِ‬ ‫العقيان ‪ :‬الذهب‬ ‫قيانها ِب َعقي ـ ـ ـ ـق‬ ‫ِ‬ ‫مع َمع َنديمي ِب َكأسي‬
‫ُحّلي ع َ‬ ‫َوأ َ‬ ‫الد َ‬
‫َشر ُب َ‬
‫أ َ‬
‫وألم تسمع ما قال ابن المقفع ‪ :‬اعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا هم زينة في الرخاء وعدة في الشدة ومعونة في‬
‫المعاش والمعاد فال تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوصالت واألسباب إليهم ‪..........‬‬
‫و الحياة بال أصدقاء عند هذا الفريق محالة بل ال يمكن تصورها ‪ ،‬وانظر لقائلهم‬
‫الهيجا ‪ :‬الحرب‬ ‫كساع إلى الهيجا بغير سالح‬ ‫أخاك أخاك إن من ال أخا له‬
‫وأبو حاتم السجستاني صور مأساة فقد الصديق بقوله ‪ :‬إذا مات لنا صديق يسقط منا عضو !!‬
‫والخليل بن أحمد صور الرجل بال صديق كاليمين بال شمال !! ‪...‬‬
‫أما الوحدة واعتزال الناس فهو انطوائية مذمومة و مرض نفسي ينبغي عالجه فقالوا ‪ (:‬الغريب من لم يكن له حبيب ! )‬
‫واستدلوا على أن الخلطة أعقل من االنعزال بحديث نبوي يقول فيه ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من‬
‫المؤمن الذي ال يخالطهم وال يصبر على أذاهم وفي كلٍ الخير ) والحديث بين الصحيح والحسن ولكنه لم ينكر على من اعتزل‬
‫الناس على كل حال !‬
‫وقالوا إن هللا وعد المتحابين في جالله ظله يوم القيامة فهل يخلو ظل الرحمن من األصدقاء المتحابين ؟! وهو كالم وجيه‬
‫لمؤيدي نظرية الصداقة ولكن الرد عليه من الفريق المقابل يسير وهو أن أهل الحب والوفاء كانوا أهل الماضي من الزمن الجميل‬
‫فلعلهم انفردوا بظل الرحمن ! أما أهل زماننا ومكاننا فليسوا من أهل هذا الحديث في شيء ولعلهم ليس لهم في ظل الرحمن‬
‫ذراع وال شبر !! ‪................‬‬

‫‪125‬‬
‫وعند أصحاب هذا المذهب أن من ليس له صديق إنسان عاجز فيقولون ‪ :‬أعجز الناس من قصر في طلب اإلخوان وأعجز‬
‫منه من ضيع من ظفر به منهم !‬
‫ورد التوحيدي على من يذهبون مذهب اعتزال الناس بقوله ‪ :‬لست أرى هذا المذهب محيطا بالحق وال معلقا للصواب وال داخال‬
‫في اإلنصاف فإن اإلنسان ال يمكنه أن يعيش وحده يستوي له أن يأوي إلى المقابر وال بد من أسباب بها يحيا وبأعمالها يعيش‬
‫‪!..........‬‬

‫من صور وصفهم ألصدقائهم !‬

‫ولهم في صداقاتهم وعالقاتهم مقاالت فهذا رجل قال لصديقه ‪ :‬فإن كان إخوان الثقة كثي ار فأنت أولهم وإن كانوا قليال فأنت‬
‫أوثقهم وإن كانوا واحدا فأنت هو !!‬
‫وهذا علي بن عبيدة الريحاني قال لصديقه ‪ :‬كان خوفي من أال ألقاك متمكنا ورجائي خاط ار فإذا تمكن الخوف طنيت أي ‪:‬‬
‫مرضت وإذا حضر الرجاء حييت !!‬
‫و مدح أعرابي صديقاً فقال‪ :‬مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومؤاخاته كريمة‪ ،‬هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق !!‬
‫وقال متيم آخر يصف صديقه ‪:‬‬
‫تراه الدهر مغموماً لغ ـ ـمي‬ ‫أخ لي لم يلده أبي وأم ـ ـ ـي‬
‫ويأخذ عند همي شطـر همي‬ ‫يشاطرني سروري في ابتهاجي‬
‫كاشح ‪ :‬مسرع‬ ‫مخافة كاشح لهـِـ ـ ـ ٍج بذمي‬ ‫يبصرني عيوبي حين ت ـ ـبدو‬
‫ويمنع من معاداتي وظلم ـي‬ ‫ويصفي الود منه أه ـ ـل ودي‬
‫كما في ماله يرضى بحكمـي‬ ‫وينفذ حكمه في كل مالـ ـ ـي‬
‫إذا لفديته بدمي ولحم ـ ـ ـي‬ ‫فلو أحد من المحذور يف ـ ـدي‬

‫إنها الصداقة مكللة و موشاة بأغلب أركانها ‪ ،‬هو صديق يده في يدي عند همي و ثغره باسم عند فرحتي ‪ ،‬ناصح أمين شفوق‬
‫فأحب‬
‫َ‬ ‫رفيق يخشى أن يرى العدو عيوبي فيطير بها فرحا وينشرها لينشر مذمتي معها بين الناس ‪ ،‬تحقق في فؤاده الحب لجانبي‬
‫أحب من أهل الخير وكره من كرهت من أهل السوء ‪ ،‬ماله هو مالي أقضي في ماله كيف أشاء ويفعل بمالي ما يريد ! وفي‬
‫من ُ‬
‫النهاية نهاية الحب واإلخاء كل منا مستعد بالتضحية بنفسه من أجل اآلخر ‪ ،‬إنه الفداء بين المحبين أفديه بروحي ويفديني‬
‫بنفسه !!‬
‫وهذا اآلخر الذي اختلط عليه األصدقاء فسمى جمعا ممن عرفهم واقترب منهم صديقا ولكن تقلبات الدهر – وهذه عادتها –‬
‫كشفت له الحقيقة فاعترف لصديقه بفضله وبره وصّفى قلبه من شوائب البشر الذين ال يستحقون البر فقال ‪:‬‬
‫نبوة الدهر كان خير ص ـ ـديق‬ ‫لي صديق إذا نبا بي صديقي‬
‫ال يؤدي وقد قضى لي حق ـوقي‬ ‫حقه واجب علي مق ـ ـ ـيم‬
‫ّ‬
‫‪126‬‬
‫وده بص ـ ـ ـ ـدوق‬
‫صديق في ّ‬ ‫الود واألخاء وما ك ـل‬
‫صادق ّ‬
‫ن وكالوالد الشفيق الرف ـ ـيق‬ ‫فهو كاألم في اللـ ـطافة واللـي‬
‫ن بعيداً مني وفوق الـ ـ ـشفيق‬ ‫والشقيق الوصول واَلبـر إن كا‬
‫حيث ال يهتدي مجاري الع ـروق‬ ‫قد جرى في مفاصل الحب منه‬
‫بح دون االخوان وهو صديقي‬ ‫خف ثقلي على صديقي مذ أص‬
‫زمان فماله من عقـ ـ ـ ـ ـوق‬ ‫هو جاري إن جار دهر وإن عق‬

‫إنه الصديق في أبهى صوره وذروة تجلياته ‪ ،‬إنه الشخص الذي يجمع محاسن كل البشر الخيرين الذين جبلوا على الخير فجمع‬
‫محاسن األم اللطيفة الرقيقة الحنون و محاسن األب المسئول الراعي ومحاسن األخ الذي ال يفارق أخاه بحكم مسكنه والجار‬
‫الذي جبل على بر جاره واإلحسان إليه ومساندته وقت كربته‬
‫تفرق في األحباب ما هو جامعه‬ ‫أم شفيـ ـ ـ ـقةٌ‬
‫أب لي ثم ٌ‬
‫أخ و ٌ‬
‫ٌ‬
‫وأذهلني عن ٍ‬
‫كائن هو تابع ـ ـه‬ ‫سلوت به عن كل من كان قبله‬ ‫ُ‬
‫فال عجب حينئذ أن يتخلل حبه كل مفاصلي و أن يجري عشقه في أوردتي و شراييني وأن يضخ قلبي اسمه وذكره كلما نبض‬
‫بالدم في أوعيتي فيكون ذكره في كل خلية من خاليا جسمي حاض ار !! وذلك الوصف قريب منه قول الشاعر ‪:‬‬
‫وبذا سمي الخليل خـ ـ ـليال‬ ‫تخللت مسلك الروح مني‬
‫َ‬ ‫قد‬
‫تفسير عجيب الشتقاق لفظ الخليل وشعور سا ٍم و لذة غائبة عن كثير من البشر مّثلها كذلك البحتري في وصف خليله قائال ‪:‬‬
‫أي ‪ :‬عالقة الماء بالهواء والنسيم‬ ‫هي المصافاة بين الماء وال ـراح‬ ‫وجدت نفسك من نفسي بمنز ٍ‬
‫لة‬
‫هو عود إلى نظرية األنا التي تركناها في غمار صفحات بحثنا ‪ ،‬ولكنها شاهدة حاضرة ال تغيب عنا في معرفة حقيقة الصداقة‬
‫الخالدة ‪ ،‬نذكرها في صفحات ثم نغفل عنها قليال ثم نتذكرها معا لئال ننسى المعنى الجوهري للحب و اإلخاء !!‬
‫كتب بعض األصدقاء المتيمين ‪:‬‬
‫(الصداقة بحر من بحور الحياة نركب قاربه ونخدر أمواجه ‪.....‬‬
‫الصداقه مدينة مفتاحها الوفاء وسكانها األوفياء ‪.........‬‬
‫الصداقه شجره بذورها الوفاء وأغصانها األمل وأوراقها السعادة ‪............‬‬
‫الصداقة هي طاقة ال يمكن إلنسان العيش بدونها ‪..................‬‬

‫هي متنفس حيث يجد المرئ منا كل راحته في التعبير عن أريه ‪)................................‬‬

‫خالصة تلك النظرية ‪:‬‬

‫عشنا الصداقة وجربنها ‪ ،‬ارتشفنا من رحيقها ‪ ،‬وتنسمنا عبيرها ‪ ،‬حياتنا قبلها كانت عدما و حياتنا بعدها صارت معنى وهدفا ‪،‬‬
‫حياتنا بدونها تصير بال معنى وال قيمة ‪ ،‬هي التي جعلت لحياتنا المعنى والقيمة ‪ ،‬لو حرمونا منها كنا كالجنين الذي قطع عنه‬

‫‪127‬‬
‫حبل الحيا ة !! أو كالسمك الذي خرج من دفء البحر إلى برد الهواء ! كنوز الدنيا كلها ال تساوي صديقنا ‪ ،‬ومسرات الحياة‬
‫وبهرجتها ال تساوي سعادة األنس بالحبيب ‪ ،‬و ساعة صفاء نجلسها مع أحبتنا خير لنا من العمر كله – ما خال ساعات عبادة‬
‫الحساد و الوشاة الذين حرموا من‬
‫هللا ! – منغصاتنا في الحياة لحظات الفراق والوداع بيننا وبين أحبتنا ‪ ،‬و أسوأ البشر لدينا ّ‬
‫األصدقاء فجاءوا يكدرون سعادتنا يريدون أن يسلبونا أغلى ما نملك ‪ ،‬ذكرياتنا الحلوة التي ال تنساها قلوبنا وال عقولنا هي أحلى‬
‫ما لدينا من ميراث ‪ ،‬أفضل الفعال ما تشاركنا فيه مع أحبتنا وأفضل الكالم ما قلناه لهم وما سمعناه منهم ‪ ،‬مشاعر دفاقة ال‬
‫تتسع الدنيا لوصفها وال يكفي المداد للتعبير عنها ‪ ،‬وإن كان لدينا عجب فالعجب ممن ينفون الصداقة وقد خبرناها وتلذذنا بها‬
‫فاللهم ال تحرم منها أحدا كما لم تحرمنا منها يا رب القلوب و مذلل الدروب !!!‬

‫‪ -3‬نظرية ندرة األصدقاء‬

‫هذا الفريق يرى قلة األصدقاء في حياة الفرد ولكنهم صنفان في هذا الرأي صنف يرى الندرة اإلجبارية و الصنف اآلخر يراها‬
‫ندرة اختيارية ومع كل رأي منهما لنا تفصيل ‪...‬‬

‫الندرة اإلجبارية‬
‫األصدقاء المخلصون ندرة وقلة في هذه الحياة كاآللئ واأللماس متى وجدت أحدهم و اتفقت القلوب والضمائر بينكما فال تفرطن‬
‫فيه فهو هدية سماوية وكنز طبيعي وهبك هللا إياه فرصة اهتبلها وال تضيعها فلو ضاعت منك فلن تعوضها مرة أخرى ‪ ،‬وهذه‬
‫القلة ليست بأيدينا و ال خاطرنا وإنما هي أحكام الزمان والمكان وفي هذا يقول اليزيدي المشتاق المتأوه ‪:‬‬

‫فهل لي إلى ذاك القلي ــل سبيل‬ ‫أال إن إخوان الصفاء قلـ ـ ـ ـ ــيل‬
‫فكل عليـ ـ ـ ـ ــه شاهد ودليل‬
‫ٌ‬ ‫قس الناس تعرف غثهم من سمينهم‬ ‫ِ‬
‫أصدقاء الوفاء ليسوا دربا من الخيال وال طيفا من األوهام ‪ ،‬هم حقيقة موجودة ولكنها نادرة ثمينة ‪ ،‬لم أهتد إليها حتى اآلن وأرجو‬
‫أن أنالها في يوم من األيام ولن أقصر في البحث عنها حتى أهتدي في النهاية إليها ‪................‬‬
‫وفي هذا المعنى قال جعفر بن يحيى ألحد ندمائه ‪ :‬كم لك من صديق ؟ قال صديقان قال إنك لمكثر من األصدقاء !!‬
‫ياله من محظوظ من رزق في هذا الزمان صديقا ‪ ،‬واألحظ منه من له فوق ذلك واألكثر حظا من االثنين من حافظ على‬
‫أصدقائه وأوثق عليهم رباطه ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫وسؤالك أحد الناس كم لك من صديق ؟ سؤال له مدلوالت ‪ ،‬فمن إجابته تعرف مدى نجاح المسئول في حياته ‪ ،‬فال شك أن‬
‫اكتساب األصدقاء الحقيقيين من نجاحات الحيا ة ! ومن إجابته تعرف وجهة نظره في الصداقة ومن إجابته تعرف كذلك هل هو‬
‫محظوظ أم تعيس ! سؤال يبين مدى رضى المسئول عن عالقاته بالبشر ‪ ،‬سؤال يكشف حقائق النفس ويجّلي الخبايا و يبرز‬
‫المكنونات !!‬
‫وفي معنى الندرة قال الشاعر ‪:‬‬
‫فهو المراد وأين ذاك الواحد‬ ‫وإذا صفا لك في زمانك واحد‬
‫وفي معنى قريب قال سفيان الثوري ‪ :‬إن استطعت أن تستفيد مائة أخ حتى إذا أخلصوا لك تسقط منهم تسعة وتسعين وتكون‬
‫في الواحد شا ّكا فافعل !! ‪..‬‬
‫وهو كالم فيه منطق التظنن والشك فهو وإن كان يعترف بقلة األصدقاء لكنه يشك كذلك في القليل ويخشى من تقلبهم وتلونهم !‬
‫وعموما هذا الفريق يؤمن بتحقق الصداقة ولكن بصعوبة ‪...‬‬

‫الندرة االختيارية‬

‫يؤمن هذا الفريق بضرورة اإلقالل من األصدقاء باختيار اإلنسان – وإن كثر وجودهم – ألن كثرة اتخاذ األصدقاء لها من‬
‫المفاسد الكثير أولها أن هللا ما جعل لرجل من قلبين في جوفه ‪ ،‬فالقلب واحد وهو غالبا ال يتسع ألكثر من صديق فالحب ال‬
‫يتج أز وال يفرق بالتساوي على أكثر من شخص ولو اتسع ألكثر فينبغي أن يتسع بحدود معقولة ال أن يفتح على مصراعيه وإال‬
‫جلب اإلنسان لنفسه التشتت وثانيها أن كثرة الصديق تجعل اإلنسان يقصر في حق أصدقائه فربما وفى بحق واحد فأدى ذلك‬
‫للتقصير في حق اآلخر وربما أدى ذلك في النهاية للغيرة المنبثقة من أحدهم تجاه اآلخر الذي أخذ حقه واستأثر بصديقه وفي‬
‫ذلك يقول الشاعر ‪:‬‬
‫ُمراعيها مقيم في مض ـ ــيق‬ ‫إذا اتسع اإلخاء عرت حقوق‬
‫فإذا خصت رعايته ف ـ ـ ـريقا أخل بما عليه في فري ـ ـ ـ ــق‬
‫بشرط الود لم يك بالمطـ ــيق‬ ‫وإن رام القـ ـ ــيام لهم جميعا‬
‫عدوا كان في عدد الصــديق‬ ‫وأوحش بعضهم فأف ــيد منه‬
‫وقدر فتح أبواب الحق ـ ــوق‬ ‫فخذ مما تآخيه بق ـ ـ ـ ــصد‬
‫في نهاية مطاف تعدد الصداقات يحول الصداقات إلى مشاحنات ومغالبات تنتهي بقطع حبال الصداقة ونهاية عقد األخوة !‬
‫ولعل في نفس المعنى قال شاعر آخر ‪:‬‬
‫معونته في صرف دهر وغدره‬ ‫إذا كثر اإلخوان للمرء وابتغوا‬
‫وكثرتهم ال تستقل بض ـ ـره‬ ‫فوحدته ال تستقل بحقـ ـ ــهم‬

‫‪129‬‬
‫وفصل ابن مسكويه في هذه القضية فقال ‪ :‬لتكتف بواحد إن وجد فإن الكمال عزيز وأيضا من كثر أصدقاؤه لم يف بحقوقهم‬
‫واضطر إلى اإلغضاء عن بعض ما يجب عليه والتقصير في بعضه وربما تراوحت عليه أحوال متضادة أعني أن تدعوه مساندة‬
‫صديق إلى أن يسر بسروره ومساندة صديق آخر فيغتم بغمه ‪.........‬‬
‫يعني ابن مسكويه أن صاحب الصديقين قد يقع في تناقض نفسي بسبب اختالف األجواء النفسية بين صديقيه فيقع بين سعادة‬
‫فأنى له ذلك !!‪ ..........‬ما جعل هللا لرجل من قلبين في جوفه‬
‫صديق واغتمام صديق وهو مطالب باإلحساس باالثنين كليهما ّ‬
‫!‬
‫و ثالثها أن كثرة اإلخوان عند بعض هؤالء المتظننين تجعلهم يخافون من حولهم يوما ما من الدهر أن يتغير ودهم وينقلب‬
‫حالهم فيصيروا أعداء ويتحقق المثل الهولندي الشهير ‪ :‬إذا انقلب الحب إلى كراهية فإنه ال يعرف حدودا ! ‪ ،‬فحينها تكون‬
‫العداوة نا ار تلظى تحرق األخضر واليابس وحين تتحد العداوات وينفرد الم أر بمجابهتها يكون هو الخاسر في النهاية ومن هذا‬
‫قيل ‪ :‬كثرة األعداء من كثرة األصدقاء !!‬
‫اكتفاء بالواحد ‪..‬‬
‫وعموما هذا الفريق يؤمن بتحقق الصداقة ولكنه ال يفضل تعددها اقتناعا بذلك و ً‬

‫‪ -4‬نظرية الصديق غير المثالي‬

‫يقول هذا الفريق إن الصديق الذي وصفوه في الكتب وذكروا مالمحه في غابر الدهر ربما يكون هو المحال عينه فلماذا ال‬
‫نبحث عن صديق ليس محاال ؟! لماذا ال نرضى بصديق تحقق فيه بعض شروط الصداقة دون بقيتها ؟! أوليس الصديق الذي‬
‫تكلموا عنه نزيال من نزالء المدينة الفاضلة أو أحد ساكني جنة الخلد ؟! فلماذا نعذب نفوسنا بالسعي وراء الفضائل المفتقدة و‬
‫اليوتوبيا المعقدة وال نرضى بما هو أقل من هذا ويكفي ؟! أليس الكمال من سمات هللا والنقص من سمات البشر ومنذا الذي‬
‫ترجى سجاياه كلها ‪ ....‬كذا قالوا ‪ ،‬ربما يتحقق الحب ويمأل كيان الصديقين ولكن قدر الحب ال يكون متماثال وبالتالي ال يكون‬
‫الشعور واإلحساس بنفس القوة و ال يكون العتاب مناسبا في كل األحوال فتحدث الهفوة و الجفوة فهل الحياة حينها تتوقف‬
‫وينتهي كل شيء وتنهار عالقة أخوين لقصور في أحدهما أم األنسب أن يغض طرف طرفه عن مسالب أخيه ويرضى بحظه‬
‫منه لتستمر عجلة الحياة بال مطبات وال حواجز مرورية ؟؟!!‬
‫وهل حين يخفي صاحبي عني بعض أسراره على رغم حبه لي وحبي له يعني ذلك قطع خيوط الحب المتبادل ؟ ولماذا ال يكون‬
‫حبي له شفيعا وملتمسا لألعذار وسببا للتضحية بحظ النفس ؟! ولماذا ال أعيش على حبه ال أريد منه شيئا أكثر من ذلك مهما‬
‫فعل معي وقصر في جانبي!‬

‫‪130‬‬
‫هذه فقط مجرد أمثلة في جوانب القصور في بناء الصداقة المثالية التي يحكون عنها وال نجدها في عالمنا فهل حين نرضى‬
‫أهنا أنفسنا و خضنا بها مواطن الضعف‬
‫بالدنية و ّ‬
‫ّ‬ ‫بذلك من أجل إعالء كلمة الحب و تغليبا للعقل والحكمة نكون قد رضينا‬
‫والمذلة ؟!‬
‫ولماذا ال نأخذ بقول األعرابي الذي سئل ‪:‬ألك صديق فقال ‪ :‬أما الصديق فال ولكن نصف صديق ! فقيل كيف انتفاعك به قال‬
‫انتفاع العريان بالثوب البالي !!‬
‫إن جواب ذلك األعرابي يحمل في طياته معاني عسيرة وهي أن تشدد المرء في سمات صديقه تجعله في كثير من األحيان بال‬
‫أصدقاء فإما ال يعثر في طريقه على صديقه الذي ينشده وإما حين يجد صاحبا سرعان ما يفقده بدعوى أنه ليس صديق األحالم‬
‫وهيهات أن يجده سوى في أحالمه الهنيئة على فراشه الناعم الدافئ ‪ ،‬وحين نخشى ذلك المصير البائس نرضى بالقليل فهو‬
‫ينفعنا حين نحتاجه وحين ال نجد له بديال كذلك العريان الذي لم يجد له سوى ثوب بال يغطي سوأته و يصرف أعين الناس عنه‬
‫به وربما يحميه من برد الشتاء وإن لم يكن سابغا سليما أنيقا ولكنه خير من عدمه على أي حال ‪......‬‬

‫وفي هذه النظرية أبيات البن الرومي يحكي فيها حاله مع أحد أصدقائه فيقول ‪:‬‬
‫أو رأى يوم َن ْوبتي َذ ّب ع ـني‬ ‫صديق إذا تُ ـنوول ِعرضي‬‫ٌ‬ ‫لي‬
‫ط مني‬ ‫أو رأى يوم غبطتي ح ـ َّ‬ ‫فإذا ما رأى ُم ِش ـيداً بذك ـري‬
‫شذا يدي ‪ :‬أذاي‬ ‫فهو لي كالطبيب ال كالم ـغني‬ ‫نفعه في َشذا ي ـدي ال رجـائي‬
‫منصلي ومجني ‪ :‬سيفي و درعي‬ ‫علي في يوم ِسْلمي وهو في الحرب ُم ْنصلي و ِم َجِّني‬ ‫ليس ُيجدي َّ‬
‫شديد وضـ ـني‬
‫واعتدادي به ٌ‬ ‫ضدين مـ ـنه‬‫لست أنفك بين َّ‬
‫ص َّوْر كصورة المتم ـ ـ ـني‬
‫لم ُي َ‬ ‫ليل‬ ‫ِعْلم نفسي َّ‬
‫بأن كل خـ ـ ـ ٍ‬

‫إذا كان كل ما يتمني الم أر ليس يدركه فلماذا ال يسكن ويطمئن لما قسمه له هللا ويستفيد من ميزات صديقه و يتجنب عيوبه‬
‫غاضا الطرف عنها كأنه ال يراها ففي ذلك السالمة ‪ ،‬وشراع قارب الحياة ربما يكون فيه رقاع و خروق ولكنه يسير بسالم فلماذا‬
‫نحطمه بأيدينا ونغرق في بحر الحياة وقد كنا من قبل في سالم وأمان فما أغرقنا سوى األماني البعيدة والعقول المثالية الحالمة‬
‫ّ‬
‫التي ال تتناسب مع الزمان وال المكان !!‬

‫بين‬
‫إنه مذهب يمسك العصا من المنتصف ال فرط في األصدقاء وال زعم أن الصداقة المثلى حاضرة في عالمنا المشهود ‪ ،‬رأي َ‬
‫بين يزعم الوسطية في نظرته للخلة وأن من يرى رأيه يعيش مرتاح البال صافي الذهن ‪ ،‬لم يعان من الوحدة والغربة ‪ ،‬ولم يكتو‬
‫َ‬
‫بنار الصداقة العميقة التي تكوي مرتادها بنارها الملتهبة ‪ ،‬الفرق بين هذه األصناف وأصحاب تلك النظرية أن اآلخرين أغرقوا‬
‫عقولهم في دوامات من الفكر ‪ ،‬صارعوا أمواج الحياة إما بأبدانهم وإما بعقولهم ‪ ،‬فماذا ال نستعمل السياسة في مجاراة أمورنا كي‬
‫نحيا حياة أفضل خالية من المنغصات وفي نفس الوقت يملؤها أصحاب أو قل أصدقاء غير مثاليين أو أخالء غير كاملين ال‬
‫تخلو الدنيا من الحاجة إليهم ‪،‬‬

‫‪131‬‬
‫هذا ملخص تلك النظرة ‪............‬‬
‫وكانت هذه نظريات في الصداقة بين كل فريق واآلخر خالف ولكنه خالف يصعب الفصل فيه ‪،‬والترجيح بينهم ليس لمثلي أن‬
‫يقطع فيه خصوصا أنني انتحلت أكثر من نظرية في أكثر من فترة من فترات حياتي ولكل فترة ظروفها التي جعلتني أنتهج‬
‫فيها نهجا محددا لذا تركت للقارئ – بعد طول قراءة وتمعن منه – أن ينظر لكل رأي منها ويتخذ لنفسه سبيال بعد أن يح ّكم‬
‫عقله و يستفتي قلبه‪ ،‬و طول التأمل و خبرة الحياة و استخارة هللا أشياء كافية لهداية الحيران إلى رشده ومبتغاه ‪ ،‬ولكن إن‬
‫وعم وتلقاها كثير من البشر بالقبول وهي في رأيي أفكار ال يسهل التشنيع أو النقد الالذع إلحداها‬
‫كانت تلك النظريات مما شاع ّ‬
‫مجه از بإحداها على األخرى – هنالك تصورات أخرى للصداقة عند بعض البشر إنما هي تصورات شاذة و صور َم َ‬
‫رضية ال‬
‫يمكن قبولها بحال من األحوال وهذا ما سأتكلم عنه في الفصل التالي بعنوان ( صور َم َرضية من الصداقة ) ‪.............‬‬

‫صور َمَرضية من الصداقة‬

‫‪ -1‬الصداقة الغثائية‬

‫شخص يعرف المئات من الناس ‪ ،‬كلهم يعرفونه جيدا ‪ ،‬تعارف إليهم في مناسبات كثيرة ‪ ،‬في كل مناسبة يقتنص الفرصة‬
‫ليتعرف إلى المزيد من الناس ‪ ،‬شغله الشاغل ونهمه المتزايد بزيادة معارفه وتراكم رصيده من الناس ‪ ،‬ضحكة لهذا وابتسامة‬
‫لذاك مزاح مع هذا و نكتة مع ذاك ‪ ،‬يجتذب الناس بابتسامته الالمعة وترحيبه البراق ‪ ،‬يصفه الناس بأنه شخصية اجتماعية‬
‫ممتازة ! فهو – كما يظنون – يلقى القبول من أغلب الناس من حوله ‪ ،‬وهو في الغالب شخصية مشهورة وربما هو شخصية‬
‫ِ‬
‫المحاضرين المتألقين أو الدعاة البارزين أو الكتاب المرموقين أو نجوم الفن ورموز المجتمع ‪،‬‬ ‫عامة كالسياسيين المشهورين و‬
‫ينظر إليه كثير من الناس أنه بعيد المنال فهو في القمة وهم في القاع ‪ ،‬هو الشخص الناجح اجتماعيا والبارز مجتمعيا وهم‬
‫الخجولون المتواروون عن المنابر ‪..........................‬‬
‫كل هذا عظيم ‪ ،‬وكم من قائل بعدما ق أر عن هذه الشخصية ‪ :‬يالها من شخصية ناجحة ‪ ،‬ثم يأتي التعجب ‪ :‬كيف لي أن أصف‬
‫هذه الشخصية أنها صورة َمرضية من الصداقة ؟!!‬
‫ولإلجابة على هذا التساؤل أحب أن ألفت االنتباه إلى أن أغلب الناس – من الظاهر – ال يجدون عيبا في هذا النوع من الناس‬
‫وللتعبير األدق ال يشعرون بمأساته الحقيقية ‪ ،‬بل هو نفسه ربما ال يشعر إلى أن يأتي الوقت الذي يعرف فيه الحقيقة‬
‫‪.............‬‬
‫هذا الوقت الذي أعنيه هو وقت الكارثة ! هو وقت تحل به مصيبة كبيرة ‪ ،‬يصيبه الهم والضيق ‪ ،‬تضيق به الدنيا على رحابتها‬
‫وحينئذ يكتشف أنه ليس له أصدقاء إطالقا ! ‪ ...‬إطالقا ؟؟ نعم ليس له صديق واحد يقف معه في محنته ‪ ،‬فمال بال كل هؤالء‬
‫الضاحكين الالعبين المازحين الذين يلتفون من حوله صباح مساء يزيدونه ّأبهةً و مخيلة ويحسده الناس عليهم ؟! ‪ ..‬كل هؤالء‬
‫غثاء كغثاء السيل ال يزنون في ميزان الصداقة جناح بعوضة ‪ ،‬ليس منهم من يرتاح إليه قلبه فيشكو إليه سره بصراحة وبال‬

‫‪132‬‬
‫حرج ! ليس منهم من يجرؤ على أن يصارحه بكبوته التي أصابته فتلك المصارحة قد تجعله يسقط من نظره وربما يفضحه لبقية‬
‫الزمالء والمعارف ! ولو جرؤ وأزاح الستار عما في صدره ألحد منهم لِتََو ُّه ِمه الثقة فيه و طلب منه المساعدة والمآزرة فإنه‬
‫سيخذله ويتعلل له باألعذار والشواغل ويتخلى عنه وربما يهجره و يفر منه لئال يسأله شيئا مرة ثانية وال يراه مرة أخرى بعد‬
‫اليوم !!‬
‫السؤال اآلن ماذا استفاد هذا الشخص الناجح في زعم الناس من معارفه الكثر ؟؟ ألم يكونوا عليه حسرة وندامة ؟ وألم يكن ذلك‬
‫الشخص الهيا غافال عن المعنى الحقيقي للصداقة فقادته غفلته إلى مصيره المحتوم البائس ؟ وأليس شخص ذو صديق حق‬
‫واحد أغنى من هذا اإلنسان البائس الذي يعرف اآلالف من البشر ولكنهم هباء منثور ؟ وهل النجاح في جمع الناس يكون‬
‫الكم والكيف ‪ ،‬أثبت الكم أنه ال يجدي أمام‬
‫بعددهم أم بقدر عالقة اإلنسان وتوطدها مع هؤالء البشر ؟ إنها نظرية المفاضلة بين ّ‬
‫الكيف ‪ ،‬تلك النظرية التي طبقها في الحرب نابليون بونابرت باإلعداد قبل األعداد ومن بعده أدولف هتلر في حروبه ومن قبلهما‬
‫– على غفلة من المؤرخين – طبق اإلسالم هذه النظرية الفريدة فما انتصر المسلمون في فجر اإلسالم إال وكانوا قلة ولكن‬
‫إيمانهم جعلهم أقوى وأكثر تأثي ار ونفوذا وهذا ما سطره القرآن عن المؤمنين السابقين ( قال الذين يظنون أنهم مالقو هللا كم من‬
‫فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن هللا ) ‪.................‬‬
‫وفي المقابل حين تكون الكثرة جوفاء تكون الهزيمة واالنتكاس ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت‬
‫عليكم األرض بما رحبت ثم وليت مدبرين ) على ذلك قس في مسألة الصداقة ‪ ،‬األصدقاء ال يوزنون بأعدادهم وال أحجامهم وال‬
‫مراكزهم االجتماعية وإنما يوزنون بقدرهم في القلب وقدرنا في قلوبهم ‪ ،‬حينما تتغلغل الصداقة في أعماق قلبين تكون صداقة‬
‫قوية صلبة تطيح أمامها الزماالت والصحبة الهشة و الصداقات المزعومة ويكون صاحبها هو الفائز ‪ ،‬وحينما ينظر ذلك الفائز‬
‫إلى أصحاب الصداقات الهبائية التي ال وزن لها وال قيمة ولكنها أمام الناس منتفشة وملفتة وبراقة يقول الحمد هلل الذي هدانا لهذا‬
‫وينعي أخاه المغبون الذي لم يهتد إلى الحقيقة وبينه وبينها زمن وطريق طويل نهايته صدمة موجعة و هزة مؤلمة ثمنها غال‬
‫وعاقبتها الحسرة واألسى والت ساعة مندم !!‬

‫‪ -2‬الصداقة الموسمية !‬

‫هذا نوع من الناس فريد ! قد يوقعك حظك العاثر في أحدهم فتظنه صديقا ‪ ،‬وقد يكون حظك سعيدا فال تصادف هذا النوع‬
‫مطلقا ألنه قليل ! هذا الصنف من البشر يحتاج لنوع خاص من الناس ليكتشفوه ويظهروه على صفته الحقيقية وإن كان كثير‬
‫من العارفين لمعنى الصداقة يعجز لسانه و قلمه عن وصفه ووضعه في مكانه الصحيح ! ‪ ،‬هذا النوع يعرف الصداقة في موسم‬
‫معين من السنة و ينساها تمام النسيان في وقت آخر منها ‪ ،‬فهو – في المثال األشهر – صديق في موسم الدراسة يعرف‬
‫صديقه حق المعرفة يبادله االتصاالت بل الزيارات ‪ ،‬يظهر من الحب والود ما ال يظهره اآلخرون ‪ ،‬يبوح بأس ارره كاملة بال حرج‬
‫ويتلقى أسرار صديقه كذلك كالصديق الحقيقي ‪ ،‬يتأثر بصديقه في سبل الخير ويقتفي أثره فيما يرضي هللا حتى تلفيهما أخوين‬
‫متحابين في هللا ال تظن أنهما يفترقان أبدا ! حتى يتهامس الناس عليهم و يرشقونهما بنظرات الغبطة والحسد أحيانا ! ‪ ،‬وتمتد‬

‫‪133‬‬
‫تلك القصة السعيدة إلى أن ينتهي موسم الدراسة وتأتي اإلجازة السنوية التي – من المحسوب – أن األصدقاء ينتظرونها ليقضوا‬
‫فيها أحلى األوقات في اللعب والترفيه واالنطالق ويفجأ الصديق المحب بصديقه الموسمي ينسحب فجأة ! بل يختفي اختفاء‬
‫مريبا ! فينادي الصديق المصدوم أين أنت يا صديقي ؟ لماذا اختفيت فجأة ؟ لماذا ال تشاركني إجازتي الصيفية التي أجدها بال‬
‫طعم بدونك ؟! فيرد عليه صديقه الموسمي – في التليفون طبعا – يتحجج بالحجج الكثيرة الطويلة ويصف ظروفه الصعبة التي‬
‫وي ِعد صديقه – طبعا – أنه حين ينتهي من مشاغلة سيتصل به في أقرب وقت ليقابله ويقضيا وقتا‬
‫تحول دون مقابلة أحد ‪َ ،‬‬
‫سعيدا ‪ ،‬ثم ينقطع هذا الموسمي الطبع وينتظر الصديق المسكين صديقه أن يتصل به ولكن ال حياة لمن تنادي ‪ ،‬ويظل‬
‫المسكين في انتظار ويضغط على نفسه و أعصابه ويحاول االتصال بصديقه فال يرد عليه ! ويظل هذا الحال طول العطلة‬
‫وعرضها ‪،‬المسكين في انتظار على نار والصديق البارد يراوغ كالثعلب المكار ! إلى أن تنتهي العطلة ويلتئم الشمل مرة أخرى‬
‫ِ‬
‫المعاتب في حين أن هذا‬ ‫وحين يتقابل المفترقان أول مرة بعد طول الغياب يقابل الصديق المسكين صديقه الموسمي بعبوس‬
‫الموسمي الطبع ربما يتعجب من سوء مقابلة صديقه ‪ ،‬ويرد هذه النظرات الالئمة بوابل من اللوم المقابل قائال ‪ :‬أهكذا تقابل‬
‫صديقك بعد طول انقطاع ؟! أيكون العبوس أول ما تلقاني به بعد فراق طويل ؟! فتتغير نظرات العبوس واللوم من المسكين إلى‬
‫نظرات تعجب و شخوص ! ويقول المسكين بلسان حاله و في مكنون قلبه ‪ :‬يالك من إنسان بارد ال تحس منعدم المشاعر‬
‫منتفي الحياء ! ‪ ،‬وبدال من أن يواجه الصديق المصدوم صديقه الموسمي بجرمه و أن يواجهه بخلله الذي ال يحس به في فهمه‬
‫للصداقة يلجأ هذا المسكين إلى االجتناب و الهجران لعل هذا الموسمي البارد يعود إلى رشده ويفهم جرمه ويعتذر ويقدم فروض‬
‫الندم واألسف ! ولكن سرعان ما تتطور األزمة فالموسمي حتى اآلن ال يفهم ما المشكلة وال يحس أنه ارتكب خطأ وتدخل‬
‫العالقة كلها في دوامة ( من بدأ االعتداء ؟! ) فالمسكين يزعم أن صديقه هو من بدأ بالعدوان حين هجره و تجنبه ‪ ،‬واآلخر‬
‫يظن أن صديقه بدأ االعتداء حين لم يلتمس له العذر وقابله أول مقابلة بعد طول فراق بالوجوم والغلظة ‪ ،‬و في الحقيقة المشكلة‬
‫من االبتداء كاد يسهل حلها لو أن الصديق المسكين قام بتحليل المادة الوراثية لصديقه وق أر نتيجة التحليل التي تقول ‪ :‬أنا‬
‫الصديق الموسمي ! أنا صديق في وقت محدد من العام وال تبحث عني في الوقت اآلخر ! أنا كلي لك في وقت الدراسة أما‬
‫وقت اإلجازة فأنا ألناس آخرين ومشاغل أخرى !‪.................‬‬

‫وهنا يتساءل متسائل ‪ :‬ما الفرق بين هذا الموسمي والزميل ؟ واإلجابة على هذا السؤال أن هذا الشخص في فترة معينة من العام‬
‫أسلفت عميق في الحب عميق‬
‫ُ‬ ‫يتطبع بطباع الصديق كاملة غير منقوصة ‪ ،‬فهو ليس كالزميل ذي العالقة السطحية وإنما كما‬
‫في األسرار عميق في التقارب عميق في اإليثار عميق اللوم والعتاب ‪ ،‬له كل سمات الصداقة – تقريبا – ولكنها مجتمعة ال‬
‫تظهر إال في وقت موسم معين ‪ ،‬وهذا ما ال يتفق مع الزميل الذي هو موسمي بطبعه كذلك ولكن عالقته سطحية في حدود‬
‫العمل ليس فيها من عمق الصداقة وال الصحبة شيء مطلقا ‪..............‬‬
‫اصطدمت به في النهاية ولكن بال جدوى وال فائدة‬
‫ُ‬ ‫احتككت به بل‬
‫ُ‬ ‫وعانيت من عالقته و‬
‫ُ‬ ‫هذا النوع الغريب من البشر رأيتُه بعيني‬
‫حاولت بكل الطرق تغييره وإصالحه ولكن هو كما هو ال يتغير وال يتبدل يقول بلسان حاله ‪ :‬أنا موسمي لألبد ! أنا غير قابل‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬
‫للتغّير!‬

‫‪134‬‬
‫ولعل بعض القارئين يقول ‪ :‬فلماذا ال نكون صرحاء مع هذا النوع ونواجهه بالخطأ والمشكلة حتى يلتئم الجرح سريعا ويعود إلى‬
‫صوابه ولماذا ال نلتمس فعال األعذار الشاغلة التي تشغل الصديق عن صديقه في وقت غيابه ؟!‬
‫واإلجابة أن هذا الصنف الغريب – بحكم تجربتي معه – نوع من اثنين إما أنه غير صريح ‪ ،‬عنده من الشواغل السرية التي ال‬
‫يستطيع البوح بها أو ربما يتحرج منها فيتهرب من اإلجابة أو يتعلل بحجج وهمية ظاهرية ليست هي األساس وبهذا يكون خلل‬
‫كبير في الصداقة التي من أركانها البوح باألسرار ‪ ،‬وإما أن يكون من النوع الصريح الذي ال يخجل من إفشاء واقعه فيقول‬
‫الحقيقة كاملة ولكنه مع ذلك ال يتغير وال يحاول كسر الجمود ‪ ،‬ويجد في حججه سببا لالنقطاع الدائم في موسم البيات الصيفي‬
‫شئت وكأنك تنفخ في الرماد !!‬
‫الذي يختفي فيه !! وبذلك مهما واجهتَه فهو يقدم حججه على طبق من ذهب وافعل ما َ‬

‫وعلى نقيض الصورة التي ذكرتها كما أن هنالك صديقا موسميا في فترة الدراسة والعمل هناك صديق موسمي في فترة العطلة‬
‫فقط!! وهذا النوع احتككت به كذلك ورأيت منه العجب وما يستعصي على الوصف ! فهذا النوع وقت اإلجازة صديق حميم ‪،‬‬
‫يتصل بك يقابلك بانتظام يمدحك بأنك صديقه وأخوه المخلص الذي ضنت عليه الدنيا بمثلك حتى لقيك ! ثم فجأة انتهت اإلجازة‬
‫وجاء وقت الكد واالجتهاد حينها لن يعرفك هذا الشخص مطلقا فأنت عنده صديق اللهو واللعب أما وقت الدراسة والمذاكرة‬
‫تعاملت معه بنفسي كان التزامه بقانونه الموسمي صارما ! ففي الدراسة كان‬
‫ُ‬ ‫واالجتهاد فله أصدقاء آخرون ‪ ،‬وهذا النوع الذي‬
‫حاولت أن أكسر‬
‫ُ‬ ‫يأتي رمضان من أوله آلخره فال يتصل بي وال يعرفني ! ويأتي العيد تلو العيد وال يكاد يذكرني في باله ! حتى‬
‫الصد و المنع فال هو يبادلني اتصالي وال هو يقبل لقائي ! حتى إذا جاءت‬
‫ّ‬ ‫الجمود وأتصل به في هذه المناسبات فلم أجد سوى‬
‫اإلجازة مرة أخرى عاد صديقا حميما وديعا يبادرني إلى الوصال و يتلهف للقائي و اللعب والترفيه معي ‪ ،‬تعود الزيارات وتوضع‬
‫الوالئم و يتعمق األنس و الود ‪ ،‬فها عادت اإلجازة وأنا بالنسبة له صديق اإلجازة ! ‪.........‬‬
‫ولعل تفسير هذه الصورة الغريبة هو أنني لم أكن في نفس السنة الدراسية بل كنت أسبقه سنة واحدة ‪ ،‬ولكن عموما هذه كذلك‬
‫صورة طريفة من صور الصداقة الموسمية !‬

‫وفي النهاية أود أن أنوه على أن هذا النوع من الصداقة ال يستمر طويال فمصيره غالبا الفشل واالندثار بعد موجات متالطمة من‬
‫الشجار والمشاحنات ‪ ،‬وفي قلة من هذه الصداقات تستمر العالقة بعد رضا أحد الطرفين باألمر الواقع بعدما يئس من تغيير‬
‫حل آخر لديه !!‬
‫صاحبه الذي ستضطره الظروف لإلبقاء عليه على هذا الوضع ألنه ال ّ‬

‫‪ -3‬الصداقة النفعية‬

‫صداقة ال مكان فيها للعواطف ال موضع فيها لألحاسيس ‪ ،‬إنها عالقة المنفعة ‪ ،‬لعبة الكبار كما يدعون ‪ ،‬كيف تستخلص أكبر‬
‫قدر من المصلحة من الشخص الذي أمامك بكل الوسائل ‪ ،‬صادق إنسانا وتقرب منه فكلما دنوت منه دنا منك النفع ‪ ،‬إنها‬
‫البرجماتية في صورتها الصداقية ‪ ،‬شخص لن تستفيد منه إال بعد أن تدنو منه وتتوطد الصالت وتُعقد الصداقة ومن بعدها‬
‫تستخلص ما تشاء منه بكل يسر وبال عناء فقد ملكت قلبه و استحوذت على زمام أمره ‪ ،‬حين يتعلق بك ويذوب في اإلعجاب‬

‫‪135‬‬
‫بك حينها سيجود بكل ما لديه من أجلك وأنت الرابح في النهاية ‪ ،‬لن يكلفك األمر الكثير من العناء سوى كلمات منتقاة من‬
‫الثناء الفياض و عبارات براقة من الحب واأللفة واالرتباط بعدها يفتح لك صديقك أبوابه ويمنحك ما تريد ‪ ،‬وبعد أن تنال منه كل‬
‫ما بوسعه إعطاؤه فما عليك إال الهروب والبعد فأي عالقة تربطك به بعد ذلك درب من مضيعة األوقات التي يجب عليك أن‬
‫تستثمرها في عالقة برجماتية جديدة تدر عليك ماال وفي ار أو تجلب لك منصبا حساسا أو تدني منك جاها براقا ‪ ،‬أيا كانت‬
‫المنفعة فهي رصيد جديد يضاف لحسابك في الدنيا !!!‬
‫إن الصديق البرجماتي ليس كالبرغوث حينما يمأل وعاءه من دم عائله ينصرف سعيدا راضيا بما حصل عليه ‪ ،‬فالبشر أكثر‬
‫دهاء من الحشرات والهو ّام ‪ ،‬فهذا النوع يفكر دائما للمستقبل يفكر كيف يجمع أكبر قدر من األموال والمكاسب ليتزود بها في‬
‫المستقبل ‪ ،‬لذا هو ال يترك فريسته بعد أول منفعة منها وإما يستمر في مص دمها إلى أن يتيقن أنه قد صّفى دمها تماما حتى‬
‫تصير جثة هامدة أو ربما يجود عليها عطفا وشفقة ببعض دمها لئال يكون ظالما غاشما !! المهم أن رشفة واحدة ال تكفي‬
‫ومادام شخص ساذج تستطيع االنتفاع منه أكثر من مرة فلماذا تقنع منه برشفة واحدة !!‬
‫إن البرجماتيين في صداقاتهم حين يجتمعون ببعضهم من أمثالهم تكون صداقة هادئة مثمرة مرضية لجميع األطراف – في‬
‫زعمهم ‪ ، -‬فطرف يبغي المنفعة وفي مقابلها ينفع صديقه المزعوم بمقابل آخر ‪ ،‬هي عالقة تكاملية ‪ ،‬كما يقول العامة ( نّفع‬
‫واستنفع ) ‪ ،‬لذا تمر هادئة بال تشويش وال ضجيج وحين تنتهي المصلحة يترك كل طرف اآلخر في سالم وهدوء‬
‫‪...............‬‬
‫وإنما تأتي العواصف والصواعق والبراكين حين يصادق البرجماتي صديقا يعرف معنى الصداقة الحقيقي ويمنحها قدرها ولها‬
‫مكانتها المقدسة عنده حينها حين يتعلق ذلك المسكين بهذا النفعي الوصولي يعيش وهما كبي ار أنه وجد الصديق المخلص الذي‬
‫يمثل دوره النفعي ببراعة و تخطيط محكم‪ ،‬و يظل هذا المسكين يعيش في هذه األكذوبة كأنه في حلم جميل حتى يستيقظ فجأة‬
‫على فاجعة ثقيلة أن صديقه المزعوم قد هجره و ارتحل عنه فينظر أمامه مذهوال فال يجد سوى سراب صاحبه الذي وّلى وينظر‬
‫خلفه مشدوها فيكتشف أنه أنفق كل ما لديه من أجل هذا الصديق المخادع فلم يبق لديه شيء يلوي عليه ! وهنا ُيكتب فصل‬
‫النهاية لهذه الصداقة المنكوبة !!‬

‫إن أسهل فريسة لهذا النفعي المقيت هو الصديق المرهف الحس ‪ ،‬المتشبع بفكر الصداقة واإلخاء الذي يبحث عن قلب مخلص‬
‫فيطل عليه صاحبنا بوجهه الثعلبي ويعطيه ما يريد من كلمات الرغبة في الصداقة والبحث عن المثالية ومزيج‬
‫ّ‬ ‫يشاركه حياته ‪،‬‬
‫من المديح و ألفاظ المحبة والمودة وبذلك وبكل بساطة يكون قد نسج شباكه على ضحيته وأحكم قبضته – ويالها من قبضة !‪-‬‬
‫حين حصل على قلب صاحبه المسكين في يده الدنيئة فيقلبه كما يشاء ويلهو به كما يحلو له ‪ ،‬وهذا نوع من الفرائس !‬
‫وأما النوع السهل الثاني من الفرائس هو المتدينون الطيبون ‪ ،‬الذين يعرفون معاني اإليثار والعطاء والبذل في سبيل هللا وحب‬
‫عمل الخير بال مقابل و كذلك معاني األخوة في هللا ‪ ،‬وهؤالء مدخلهم معروف ‪ ،‬فقليل من التظاهر بالدين و التزام الطاعات‬
‫والمواظبة على حضور الصلوات والفرائض معهم يستميل قلوبهم حين يجدون من يشاركهم اهتمامهم بطاعة هللا و التمسك بدينه‬
‫في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ‪ ،‬وبذلك وقعت الفريسة في المصيدة ‪ ،‬ويبدأ النفعي في االقتناص !‬

‫‪136‬‬
‫كم خّلف هؤالء النفعيون وراءهم من الضحايا ‪ ،‬وكم سببوا أنينا ونشيجا وعويال ‪ ،‬وكم زعموا أنهم رجال ناجحون وصدقهم الناس‬
‫فوسموهم بأعلى األوسمة و أبلغ األوصاف فهم لديهم رجال المجتمع بال منازع أهل السطوة والقوة التي ما حققوها إال على أشالء‬
‫قلوب معذبة لم يكن لها ذنب سوى أنها ّ‬
‫صدقت كلمات اإلخاء والوفاء والحب فصارت ضحايا على عتبات الصداقة‬
‫‪.............‬‬

‫إن جريمة هؤالء النفعيين ليست فقط أنهم يسلبونك مالك ووقتك و جهدك وفكرك بل ظلمهم األعظم أنهم يسلبونك قلبك وعقلك!‬
‫ويقلبون كيانك ويحطمون زهرتك التي منحتها لهم بطيب خاطر و بحسن ظن وفي لحظة حب واهمة !‬
‫‪ -4‬انعدام المباالة !‬

‫هذا نوع آخر من الصور غير الطبيعية للتعامل مع الناس ‪ ،‬نوع ال يراعي اآلخرين مطلقا ‪ ،‬ال يضعهم في حساباته وتقديراته ‪،‬‬
‫ال يأبه لجرح اآلخرين بتصرفاته السلبية ‪ ،‬ال يشعر أنه ارتكب خطأ حين َي ِعد ويخلف وال يتألم ضميره حين يتفق مع صاحبه‬
‫على موعد ثم يخلفه بل يتركه ساعات طواال ينتظره حتى إذا أيس من لقائه انصرف غير مأسوف عليه ! ‪ ،‬المانع عنده أن‬
‫يعد ! ‪ ،‬واألعجب واألشد أنه ال يتصل بمن‬ ‫يكون بينه وبين صاحبه لقاء ثم يلوذ بالنوم في فراشه ال يعبأ بصاحبه وكأنه لم ِ‬
‫تصرف معه ذلك التصرف ليعتذر بل يتركه للظروف وكأن الشيء لم يكن ‪ ،‬وبعد هذه التصرفات حين يقع اللوم من الطرف‬
‫اآلخر فإنه سيجد ألف حجة للتعلل ‪ ،‬هذا النوع باختصار شديد ليس للصداقة مكان في حياته ‪ ،‬وليس في قلبه فراغ لملئه بإنسان‬
‫‪ ،‬هو ال يشعر بأحد سوى نفسه ‪ ،‬تشغله نفسه عن اآلخرين ‪ ،‬يفقد اآلخرين بسهولة و يصنع عداوات متراكمة بسلبيته وقلة‬
‫مباالته ولكنه ال يلوي على أحد ففكرة الصداقة عموما غير متبلورة في فكره فهو يعتمد غالبا على الزماالت و المعارف العابرة ‪،‬‬
‫ربما اكتفى في حياته بإخوته في بيته فظن أال داعي للخّلة واإلخاء السببي ‪ ،‬وربما هو منشغل بزوجة وأبناء ويظن أن الزوجة‬
‫تحل محل الصداقة ‪ ،‬وربما له صاحب أو نصف صاحب ركن إليه واكتفى به اكتفاء من ال يرغب في مزيد نعمة ! إنه ال يفوز‬
‫بقلبه أحد وإن سعى كثير ممن حوله لنيله ‪.................‬‬
‫مشكلة عقلية هذا النوع أنها ال تستوعب الخطأ ‪ ،‬فالخطأ عادة يقع بفعل شيء سيء ‪ ،‬وهذا النوع مشكلته أنه يخطئ بترك الفعل‬
‫المعتدى على‬
‫َ‬ ‫الجيد ال بالفعل السيء ‪ ،‬فهو خطأ يقع بالسلب والترك ال باالرتكاب ‪ ،‬وهنا تحدث دوامة الحوار بين الصديق‬
‫حقه وبين هذا الشخص السلبي الذي ال يراعي األخرين ويعيش بال مباالة عقيمة ‪..........‬‬
‫هذا النوع العقيم من البشر قابلته في حياتي وأصابني بالتحير والتشتت الذهني حين كنت ال أتصور أن هنالك من الناس من‬
‫يكون هذا تصرفهم ‪ ،‬والذي يزيد المشكلة أنه يقابلك بابتسامة عريضة ووجه مليح وترحاب غامر فيخدعك بشكله ومظهره وتظن‬
‫أنه يصلح للصداقه فيتابعك بالصدمة تلو الصدمة حتى تذهل وتتشتت ثم تيأس من وداده في النهاية بعد أن صرت أحد‬
‫لست أولهم وال آخرهم فتعلم أخي ار أنك غير مرغوب فيك فتنصرف وتختفي في واد سحيق !‬
‫المكلومين من مكلوميه الكثر الذين َ‬

‫كانت هذه بعض صور مريضة للعالقات بين الناس ‪ ،‬وال أدعي أني ذكرتها كلها ‪ ،‬فهنالك الكثير والكثير فكما قالوا ‪ :‬الجنون‬
‫فنون ! ولكني فقط فصلت في بعض هذه الصداقات التي احتككت بها عن قرب ورأيتها بعيني وأصابني العجب واالندهاش في‬

‫‪137‬‬
‫كل مرة أقترب فيها من نوع من هذه األنواع الفاسدة ولكني في النهاية اكتشفت أنه ال عجب من شيء في هذه الحياة فقد جمعت‬
‫األشكال واألضداد ‪ ،‬المستقيم والمعوج ‪ ،‬الطيب والخبيث ‪ ،‬الصحيح والعليل ‪ ،‬ولحكمة يعلمها هللا انتشر الخبيث وصار غالبا –‬
‫بصوره المتنوعة – والعاقل من يتعامل مع كل هذا بحكمة ويعالج األمور بهدوء وسكينة نفس ويعلم أن كل شيء في الدنيا كان‬
‫قد ار مقدو ار بأقالم رفعت وصحف جفت ‪ ،‬هذه هي الدنيا النقص من خصائصها التي ال تنفك عنها ما دامت الحياة !‬

‫موانع الصداقة‬

‫هل للصداقة أسباب مانعة تحول دون الجمع بين صديقين ؟وهل هناك قوة تمنع ترابط قلبين وقرب حبيبين ؟‬
‫اإلجابة نعم ! هناك أشياء ليست بيد البشر تمنع الصداقة ‪ ،‬ومن سوء الحظ أنها ليست بيدنا ‪ ،‬وكأنها حواجز طبيعية كسالسل‬
‫الجبال الشاهقة تحول دون عبور الناس ‪ ،‬ومن أراد أن يتحدى الطبيعة فعليه أن يدفع ثمنا باهظا ليس في قدرة البشر تحمله ؟‪،‬‬
‫فتعالوا معا نستعرض تلك الحواجز ونستقرئها بحيادية تامة !‬

‫‪ -1‬حاجز العمر‬

‫سنه ‪ ،‬فترى ّ‬
‫الشبان يجتمع بعضهم ببعض ويألف‬ ‫من طبيعة اإلنسان التي خلقه هللا عليها أنه دائما يميل لمن هو في نفس ّ‬
‫بعضهم بعضا يتشاركون الدراسة و الفسحة والمتعة ‪،‬والطفل مهما تعلق بأبويه فإنها حين يجد طفال مثله سرعان ما يقفز إليه‬
‫و سرعان ما يتآلف معه بسهولة وحين ينتهي وقت اللقاء تجد الطفلين متشبثين ببعضهما وال يريدان االفتراق وربما يستغرقان في‬
‫البكاء وينتظر كل واحد منهما موعد لقاء آخر للهو واللعب !‬
‫أما عن الشيوخ فال شك في تآلفهم واجتماعهم ونفرة من هم دونهم في السن من صحبتهم و فترة التقاعد لكبار السن تغرقهم في‬
‫فراغ طويل ليس له مالئ سوى صحبة متقاعد آخر ‪ ،‬وجلسة مع هؤالء ال تناسب شابا يافعا فالطيور على أشكالها تقع !‬

‫ابتداء هذه الميول العمرية أسبابها االجتماعية واضحة ‪ ،‬فالمجتمع يصنف الناس على حسب أعمارهم ‪ ،‬فاألطفال من سن‬
‫ً‬
‫الروضة إلى أن يشبوا ويصلوا للجامعة جميعا مصنفون على حسب أعمارهم فكل األطفال في صف معين من عمر معين‬
‫مجتمعون في فصل واحد ويدرس لهم نفس المدرسين يتشاركون نفس المواد ويعانون من نفس االمتحانات ‪ ،‬تجدهم بحكم‬
‫دراستهم المفروضة يتشاركون أوقات السراء والضراء مما يخلق حالة من االئتالف والتحاب في أحوال كثيرة تنقل كثي ار من‬
‫األطراف من حالة الزمالة إلى الصحبة ثم الصداقة ! وهنا ينبغي التفريق ‪ ،‬فال يحسبن أحد أني بكالمي هذا أعلي من قيمة‬

‫‪138‬‬
‫الزمالة على حساب الصداقة ‪،‬هذا ال ينبغي أبدا وإنما أنا هنا أشير ألهمية الزمالة في التمهيد لعالقة أسمى وأقوى منها ربما‬
‫تكون الصحبة وقد تصير صداقة خالصة غضة !‬
‫قس على ذلك الشبان الذين يميلون ألقرانهم من أيام الدراسة إلى فترات التجنيد اإلجباري إلى ما بعدها من العمل والكفاح ‪ ،‬في‬
‫كل هذه المراحل فرض المجتمع على األعمار أن تتشاكل فصادق المجتمع الفطرة التي تقتضي ميل المتقاربين عم ار ! ومع‬
‫اجتماع األقران ينشأ التواد ومنه تنشأ أسمى عالقة بين طرفين عالقة الصداقة !‬
‫وفي مرحلة التقاعد بعد عمر طويل من الكفاح والشقاء لن يجد المتقاعد أحدا خالي البال له وال فارغ الوقت وال تارك عمل سوى‬
‫متقاعد مثله في نفس عمره يشاركه نفس المرحلة بنفس آالمها النفسية و الصحية ‪ ،‬من معاناة الفراغ وهجر الناس و التحسر‬
‫على ما فات من عمر ثم األمراض النفسية والعصبية المصاحبة لهذا السن ثم التدهور الصحي الذي يالزم ذلك العمر ال محالة‬
‫‪ ،‬عند كل هذا لن يميل الم أر إال لمن هو في نفس تلك الظروف فتنشأ الصداقات في هذا الجو سهلة يسيرة !‬

‫إن الواقع يشهد بقوة أن أغلب الصداقات أو جميعها كانت بين طرفين أعمارهما متقاربة أو متساوية ومن ينكر ذلك إنما ينكر‬
‫حقيقة ماثلة بارزة ال يمكن إخفاءها ومن يتحداها إنما يتحدى شيئا أقوى منه و ينحت في الصخر بيديه عاريتين ويزعم أنه‬
‫يستطيع أن يغير في موازين الحياة وليس بقادر وإنما يتتبع السراب واألوهام !‬

‫صورة واقعية للحاجز العمري‬


‫إن من لم تقع عيناه على الحقيقة التي ذكرناها أن الصداقة الناجحة الحقيقية لها شرط غليظ هو تقارب العمر – ربما يتيه بين‬
‫أمواج الحياة تالطمه وتصفعه ويظن الصداقة في غير موضعها ‪ ،‬و هذا الموضع الخطأ الذي نتحدث عنه يحدث كثي ار في‬
‫صورة مشهورة وهي‬
‫عالقة التلميذ بمعلمه ‪ ،‬وهي صورة صارخة المتناع الصداقة بين طرفين أحدهما أكثر علما وهو ما يجعله أكثر مهابة و أرفع‬
‫مكانة وأبعد نيال ‪ ،‬يجبره موقعه على تطبيق مبدأ الثواب والعقاب أحيانا والطرف اآلخر طالب علم ‪ ،‬علمه ضئيل يتلقى من‬
‫معلمه يحتاج إليه دائما و يأتيه سائال متعلما هو الضعيف بال شك يجبره ضعفه وقلة علمه على النظر ألستاذه نظرات االحترام‬
‫يكن له اإلجالل ويشعر نحوه بمهابة و احترام ‪ ،‬بينهما من سني العمر الكثير ‪ ،‬وهنا ينشأ حاجز نفسي يمتنع معه‬
‫والتقدير ‪ّ ،‬‬
‫نشوء عالقة الصداقة بين األستاذ و تلميذه!‬
‫ولكن العالقة بين تلميذ متميز من بين التالميذ العاديين وأستاذه قد تتطور إلى ما هو أعلى من طالب علم ومانح علم ‪ ،‬حينها‬
‫قد يحدث تجاذب بين الطرفين فالتلميذ منبهر بأستاذه معتد به يعتبره مثال أعلى يشعر نحوه بحب غامر واألستاذ حين يجد من‬
‫هذا التلميذ تفوقا بار از ورغبة ملحة في السؤال و االستزادة من علمه – وهي يدفعها في المقام األول حب – ينجذب إليه ويفضله‬
‫قلبيا على بقية زمالئه ‪......‬‬
‫ثم تتطور العالقة لما هو أعلى من ذلك فنجد التلميذ يلجأ ألستاذه عند الكربات ‪ ،‬يستشيره في أدق أموره الخاصة ‪ ،‬يجد فيه قلبا‬
‫طيبا حانيا يسكب فيه همومه ومشكالته بل عبراته و أنينه !‪ ...........................‬إذن ما اسم هذه العالقة ؟ هل هي‬
‫صداقة ؟ كال !‬

‫‪139‬‬
‫هذا يسمى الحب يا إخواني ‪ ،‬وفرق كبير بين الصداقة والحب ‪ ،‬فكل صداقة تحتوي الحب بل ال صداقة بال حب حقيقي متبادل‬
‫‪ ،‬ولكن ليس كل حب يحتوي على صداقة فهنالك الحب بين االبن وأمه وبين األخ وأخيه وبين األب وأبنائه وبين الزوجة وزوجها‬
‫وكل ذلك ليس صداقة ! وكذلك هناك حب بين المعلم وتلميذه فهل يصح أن نقفز بذلك الحب إلى مرتبة الصداقة ؟! كال‬
‫‪.........‬‬

‫وهنا قد يحدث االلتباس و يتوهم أحد الطرفين أن الصداقة جائزة فمن جانب التلميذ الذي يتودد ألستاذه ويتقرب إليه بشتى الطرق‬
‫يظن بعد طول وقت من قربه منه أن الحواجز قد زالت وأن الصداقة تحققت وأن له من الحقوق مثل حقوق الصديق فيبدأ يعامل‬
‫أستاذه معاملة ٍند ٍ‬
‫لند ‪ ،‬فها أنا قد اتصلت بك مرة فماذا لم تتصل بي بعدها ؟! لماذا ال تحكي لي أسرارك كما أحكي لك أسراري‬
‫؟ لماذا لم تعد تدعوني لبيتك كما كنت من قبل ؟ وربما يتخطى ذلك بأن ينادي أستاذه باسمه بال ألقاب وربما يمّلحه ! يقول‬
‫ذلك ويزعم أن له حقا مثل حق الصديق ‪ ،‬ويفجأ في النهاية أنه واهم حين يجد رد أستاذه إما تهربي وإما استنكاري ‪ ،‬والتهرب‬
‫يأتي حين ال يصارح األستاذ تلميذه بسوء فهمه ليصححه له إشفاقا عليه ويأتي االستنكار حين يضيق األستاذ ذرعا به فيصدمه‬
‫ليصحح له مفهومه ولئال يتعدى حدوده مرة أخرى !‬
‫و ّأنى ألستاذ مهما بلغت العالقة من قربى مع طالبه أن يتنازل عن أس ارره له وأن يبوح له بعيوبه ومسالبه فيحدث االنتقاص من‬
‫جانب الطالب الذي كان يوما ما ينظر له كأنه إنسان كامل مثالي فينهل من علمه وأدبه ويزداد له إكبا ار و إجالال ‪ ،‬ال شك أن‬
‫هذا سيؤثر سلبيا على العلم والتعلم ‪ ،‬ولعل هذا ما دفع أحد السلف أن يقول ‪ :‬اللهم أخف عيوب شيخي عني وال تذهب بركة‬
‫علمه مني !‬
‫المهم أن تلك الحالة من طلب الصداقة الخاطئة ستؤدي إلى الصدام الحتمي بين الطرفين ‪....................‬‬
‫وفي النهاية ما النتيجة ؟ النتيجة هي النهاية المؤلمة لهذه العالقة الجميلة التي كان يحفها الحب والود واالحترام ‪ ،‬وخسارة كبيرة‬
‫فحل الكدر‬
‫ّ‬ ‫خسرها التلميذ قبل أستاذه ولم يكن ذلك إال حين تُخطيت الحدود و انقلبت الموازين ووضع الشيء في غير موضعه‬
‫محل الصفاء !‬

‫والحالة المعاكسة لتلك التي ذكرناها حين يبتغي األستاذ أن ينزل لمستوى تلميذه ‪ ،‬حين يظن نفسه متواضعا منفتحا فيصيبه سهم‬
‫الحب من تلميذه ‪ ،‬وخصوصا أن تلميذه يبادله البسمات والضحكات الدالة على الحب واإلعجاب ‪ ،‬فيتودد له ويدنيه منه ويدعوه‬
‫لبيته يوما بعد يوم ‪ ،‬ثم ينزلق بقدمه في الهاوية حين يدعو تلميذه ألن يزيل التكلف بينهما فيدعوه باسمه و يمزح معه مزاحه مع‬
‫أصحابه ثم تتوطد الصلة بالحب من جانب األستاذ واإلعجاب من التلميذ – وهو الشعور المساء فهمه من جانب األستاذ ‪ -‬ثم‬
‫يتطور األمر فيظن أنه قد امتلكه لنفسه وأن ال حق ألحد أن يشاركه فيه ! فيغار عليه من أصدقائه التالميذ ويعاتبه على‬
‫المكوث مع فالن أكثر من مكثه معه ! وربما يسيء فهم ضحكاته و بسماته مع بقية الناس من دونه ! وهنا يكون األمر قد‬
‫وصل لمرحلة الخطر التي ال بد أن يعقبها صدمة موجعة من جانب ذلك التلميذ الذي في النهاية يضيق ذرعا بهذا األستاذ‬
‫المتصابي الذي يريد أن يشتريه لنفسه ويريد أن يفرق بينه وبين أصدقائه من أجله ! وهنا تأتي النهاية الحزينة بفرار ذلك التلميذ‬

‫‪140‬‬
‫من هذا األستاذ المتهور الذي وضع األمور في غير مواضعها ودفعه الحب إلقامة عالقة في نصاب خاطئ وال عزاء للمغفلين‬
‫التائهين !!‬

‫إنني أعرف شخصا ممن أرادوا تحدي الطبيعة و تخطي حواجز الفطرة فأراد أن يصادق من هم أدنى منه عم ار ‪ ،‬بل إنه ال‬
‫يتعلق قلبه إال بهذه الفئة من الناس ! ‪ ،‬فوجدته ليس إال مترنحا بين صدمة تلو صدمة ‪ ،‬ال يكاد يفيق من أثر واحدة حتى‬
‫يذهب بقدميه إلى ما يجلب له صدمة أخرى ‪ ،‬قضى سنوات طواال في هذا الصراع بينه وبين من ال يناسبه وال يليق به ‪ ،‬فألفيته‬
‫مشتتا مبعث ار ‪ ،‬يهيم على وجهه بين شعاب الحياة ‪ ،‬ال يتعلم الدرس و ال يستفيد من التجارب السابقة ‪ُ ،‬يلقي اللوم دائما على من‬
‫خانوه وغدروا به ‪ ،‬يظن أن كل أصحاب تجاربه جفاة غالظ ال يعرفون معنى الحب والوفاء ‪ ،‬يتهم الحياة بالقسوة والعنف مع من‬
‫يحبون الحياة بحب وإخالص ‪ ،‬لم يتهم نفسه مرة واحدة أنه في كل مرة يسيء االختيار و يسير معصوب العينين أمام قلبه‬
‫فيتأبى عليه الطرف اآلخر بحكم فطرته وسجيته ‪ ،‬ولو كان‬
‫المحب الذي يتعلق بصغار السن ويترجم هذا الحب إلى صداقة ّ‬
‫ٍ‬
‫وتساو بين أطراف لم يخلقها‬ ‫حكيما متزنا لوضع الحب في موضعه الوقور ‪ ،‬حب أخوي بين أخ أكبر وأخ أصغر ال حب تناظر‬
‫هللا متساوية !! ولن تتساوى أبدا مهما امتد بها العمر !!‬

‫◄ إن قضية تنافر المختلفين عم ار تتجلى و تبزغ بال خفاء عند المتأخرين دراسيا حين يلتحقون بالمدرسة أو الجامعة ‪ ،‬والتأخر‬
‫عن الدراسة له أسبابه القاهرة التي تمنع إنسانا من اللحاق بركب بني عمره من الفتيان في سنة دراسية معينة فمنهم من داسهم‬
‫الفقر بقدمه القاسية ومنهم من تشتتت أسرته فتشتت أمره بينها وضاعت قضية تعليمه وسط الزحام ومنهم من التحق بكلية‬
‫وأنهاها ولكنه أراد مزيدا من الترقي والشهادات فالتحق بكلية أخرى بعد كبر سنه لينهل من العلم و يحسن مستواه االجتماعي ‪،‬‬
‫أيا كانت األسباب كل هؤالء حين يعودون للتعليم بعد زوال الموانع وتحسن األحوال يجابهون ّ‬
‫سدا منيعا في العالقة بينهم وبين‬
‫زمالئهم الجدد في الدراسة ‪ ،‬فهؤالء الزمالء ينظرون نظرات التعجب لهذا الشخص الذي يكبرهم و يحسون نحوه بنفور داخلي‬
‫غير إرادي يمنعهم من إدماجه وسطهم ‪ ،‬وربما يتندرون عليه و يصير حديث مجالسهم متسائلين عن سر تأخره الدراسي الذي‬
‫ربما ال يبوح به خوفا من اإلحراج وربما يفصح عنه ولكنه ال يجد عقوال مصدقة أو يصادف أناسا مستهتَرين ال يبالون بشأنه وال‬
‫يهمهم حاله ‪ ،‬فيندمجون معا ويتركونه وحده فريسة لإلهمال والوحدة ‪ ،‬ومن هذا حاله في ابتداء أمره يحاول االندماج وتكوين‬
‫عالقات وتنحية شأن السن جانبا ولكنه ال يظفر غالبا سوى بزمالء محدودين من ذوي العالقات السطحية التي ال تسمن وال‬
‫تشفي ‪ ،‬فيعيش في دوامة من العزلة النفسية فرضتها عليه الظروف و ساعدها في اإلجهاز عليه فتيان ال يأبهون سوى بأنفسهم‬
‫و مستقبلهم ‪ ،‬وهو إما أنه يرضى بالوضع القائم ويحاول التكيف معه مع م اررة وغصة في حلقه يحاول التغاضي عنها وإما أنه‬
‫يستسلم لشجونه ووحدته فينهار وينسحب ويراجع ق ارره في التعلم و يترك تعليمه ويبحث عن مخرج آخر‪ ،‬وهذا النوع من النفوس‬
‫الطرية الحساسة التي تبحث عن العالقات السامية و تريد مأل فراغها العاطفي ال ذنب لها في قلبها الطيب وال في حسها‬
‫المرهف وال في الظروف الحديدية التي تحيطه كالقفص المنيع وإنما هي ضحية أحوال اضط اررية فرضها القدر عليها دون أن‬
‫يسألها عن رأيها فيها ‪.................‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -2‬حاجز الدين‬

‫إن الدارس لألديان بعمق يعلم جيدا أن إحدى الخصائص العامة لألديان أنها استثنائية ‪ ،‬بمعنى أنها تستثني أتباعها من‬
‫العذاب والهالك المحقق ‪ ،‬ومن ليس من أتباعها فمصيره الجحيم السرمدي الذي ال رحمة فيه وينعتون حينئذ بلفظ الكفار وفي‬
‫القرآن إشارة واضحة إلى ذلك األمر ( إال من تولى و كفر فيعذبه هللا العذاب األكبر ) ( ويتجنبها األشقى الذي يصلى النار‬
‫الكبرى ثم ال يموت فيها وال يحيى ) ثم يستكمل القرآن الصورة الجحيمية ألهل الكفر بتوعدهم بعذاب دائم ال موت وال نهاية له (‬
‫إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) إن هذا المصير البائس ليس لمن ال‬
‫يؤمنون باهلل فحسب وإنما لمن آمن ببعض أنبيائه وكتبه ولم يؤمن بالنبي الخاتم محمد عليه الصالة والسالم ( والذي نفسي بيده‬
‫ال يسمع بي أحد من هذه األمة يهودي وال نصراني ثم ال يؤمن بي إال كان من أصحاب النار )‬
‫وإذا نظرنا للمسيحية التي أبهم فيها اإلنجيل قضية الحياة األخروية نجد في يوحنا مثال ( الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله‬
‫حياة أبدية)‬
‫وفي موضع آخر يقول (الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كالمي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة ابدية وال يأتي الى دينونة بل‬
‫قد انتقل من الموت الى الحياة ) ويقول المسيح في موضع آخر‪ :‬اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا باإلنجيل للخليقة كلها من آمن‬
‫واعتمد خلص ومن ال يؤمن يدن )‬
‫فإجماال و فهما من ه ذه النصوص من ال يؤمن بالمسيح فلن يحيا تلك الحياة األبدية الموعودة وستناله تلك الدينونة التي هي‬
‫شر مؤكد ‪....‬‬

‫ثم نجد المسيح يقولها صريحة في النهاية في لوقا ‪ :‬أتظنون أني جئت ألعطي سالما على االرض كال أقول لكم بل‬
‫انقساما‪............‬‬
‫أما اليهودية التي قد ال تجد فيها ذك ار لآلخرة وال حساب وال عذاب نجد في تلمودها عبارات الكراهية الصريحة لغير اليهود (‬
‫يجب على اليهود أال يتركوا بهيمة في بيوت الجوييم ( غير اليهود ) ألنه ‪......................‬وال تنفرد مع الجوييم امرأة ألنه‬
‫‪ .........................‬وال ينفرد رجل معهم ألنه يشك في سفكهم للدماء وال يجوز أن ّتولد اإلسرائيلية األجنبية ألنها ستولد‬
‫ابنا لألوثان ولكن األجنبية يجوز أن تولد اإلسرائيلية ) وفي موضع آخر يقول ( إذا نطح ثور اإلسرائيلي ثور الغريب فإنه يعفى‬
‫من التعويض أما إذا نطح ثور الغريب ثور اإلسرائيلي فإن الغريب يدفع تعويضا كامال لإلسرائيلي )‬
‫لذا في النهاية عبر القرآن عن هذه العداوات الدفينة ( ولن ترضى عنك اليهود وال النصارى حتى تتبع ملتهم ) وقد ترجمت هذه‬
‫العداوات جلية صارخة من جانب النصرانية الغربية في الحروب الصليبية الوحشية البربرية التي أبادت األخضر واليابس أمامها‬
‫ولم ترع إنسانية وال حقوقا وإنما القتل والسلب والتدمير ثم أظهرت العداوة بشاعتها في محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا التي‬
‫أعملت أبشع صور السادية من ذبح وتعذيب بطيء وطرد وتهجير فعلوا ذلك مع المسلمين واليهود والمسيحيين كذلك من‬
‫المذاهب األخرى !‬

‫‪142‬‬
‫بل حين نتكلم عن أديان النصرانية ومذاهبها نذكر مآسي االضطهاد التي تعرض لها البروتستانت على أيدي الكاثوليك في‬
‫أوروبا و طوفان الهجرة والهروب البروتستانتي من العنت الكاثوليكي ثم حرب الثالثين عاما بين البروتستانت والكاثوليك ‪ ،‬وفي‬
‫ذلك السياق نذكر االضطهاد األوروبي المسيحي التاريخي لليهود سواء في بريطانيا أو فرنسا أو روسيا والذي تبلور في شكله‬
‫النهائي الفريد في أوروبا الهتلرية التي أدرجت اليهود في قوائم معسكرات اإلبادة في صورة لم تتكرر في التاريخ من قبل وال من‬
‫بعد ‪ ،‬ثم تكتمل صورة العداوة الدينية بعد قيام الدولة الصهيونية حين مارسوا أبشع صور الظلم واالضطهاد تجاه المسلمين‬
‫المشتتين المهجرين الذين سلبت أرضهم وأموالهم بال ذنب وال حق – والعرب المسيحيون نالهم ذلك كالمسلمين ‪ ، -‬حتى‬
‫الديانات الشرقية التي تزعم التسامح مع ذوي األديان األخرى أرينا منها انعدام التسامح كالهندوس الذي اختلفوا مع المسلمين في‬
‫الهند فنشأ صراع وثأر وانقسمت الهند لثالث دول أو كالبوذيين الذي أقاموا المذابح البشعة للمسلمين في بورما ‪ ،‬ويأتي التساؤل‬
‫أين التسامح و الرقة ونبذ التعصب ؟!! ال وجود لها هنا إطالقا ‪..........................‬‬

‫يتساءل متسائل ‪ :‬لماذا تلك المقدمة التاريخية للصراعات الدينية وما عالقتها بموضوعنا اآلن ؟‬
‫العالقة واضحة وال تقبل الجدل ‪ ،‬الصداقة ممتنعة بين صاحبي دينين مختلفين ! ‪ ،‬كيف إلنسان يرى شخصا من أهل الجحيم و‬
‫الهالك أن يتخذه خدينا ‪ ،‬وكيف يقبل ذلك ولو قبله فكيف لآلخر الذي يرى نفس المذهب في صاحبه أن يقبل و يعطي أس ارره‬
‫مرد له ومن يزعم‬
‫و مكامن نفسه لمن يعرف أن دينه حثه على عدم قبوله ؟ إن انتفاء األلفة بين متضادين متنافرين واقع ال ّ‬
‫خالفه إنما هو إما يحاول التهرب من الواقع وإما ال يفهم دينه جيدا ! وأي غض للطرف عن هذه الحقائق سرعان ما يمثل‬
‫يفور الدماء في العروق ويذكر العقول الثاملة بماض ال يمكن التغافل عنه !‬
‫أمامه الواقع التاريخي الثأري بين الديانات الذي ّ‬

‫التسامح موجود والدين الحق يحث عليه والعدل من المسّلمات التي ال جدال بشأنها ‪ ،‬ولكن يظل مبدأ ( لكم دينكم ولي دين )‬

‫جدا ار عازال عن تطور العالقة بين أصحاب دينين مختلفين لما هو فوق ّ‬
‫البر والتسامح ‪ ،‬فكما ذكرنا من أركان الصداقة الشامخة‬
‫تقارب الفكر ‪ ،‬وأي تقارب ينشأ بين اثنين يكّفر كل منهما اآلخر ويطرده من دائرة الرحمة ؟!‬
‫ال داعي لألوهام البعيدة والدعوات المغرقة في اليوتوبيا البعيدة عن التصور ‪ ،‬الصداقة عالقة تحتاج لملسائية و تدفق سهل‬
‫فياض معطاء خال من الحساسيات والثأريات ‪ ،‬لسنا دعاة للكراهية ولكن دعاة للتعقل والتفهم ‪ ،‬دعونا نتحدث ونتحاور ونتجادل‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة ولتكن زمالة يفصلها مسافة من العقيدة بهذا تستمر الحياة ببساطة بدون إفراط وال تفريط !‬
‫وأخي ار أقول ‪ :‬الخالفات الدينية ليست بالخالفات السهلة التي يمكن التجاوز عنها والقفز فوقها إلى عالقة وطيدة تسمى الصداقة‬
‫‪ ،‬الخالفات المذهبية بين أصحاب دين واحد كافية للحساسيات و صعوبة نشوء صداقة صافية فما بالك بمن اختلفا وجهة و‬
‫عقال و مصي ار !‬

‫‪ -3‬حاجز الجنس‬

‫‪143‬‬
‫العالقة بين الرجل والمرأة عالقة ال بد أن تكتنفها ضوابط صارمة قيدها الدين قبل كل شيء وأيدتها الفطرة السليمة و تقبلتها‬
‫األعراف السوية ولعل أبلغ تعبير عبر عنه القرآن في وصف العالقة القويمة بين الرجل والمرأة الغريبة عنه ( وإذا سألتموهن متعا‬
‫فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن ) فاهلل تعالى أقام حجابا مانعا بين الرجل والمرأة ال يجوز تخطيه ‪ ،‬وهذا‬
‫الحجاب قبل أن يكون ماديا يجب أن يكون معنويا كذلك فما يجوز في العالقة من انبساط و تداخل بين رجلين أو امرأتين ال‬
‫يصح وال يمضي سهال في عالقة رجل بامرأة ‪ ،‬والستار المعنوي في عالقة الجنسين ال شك يقف حائال دون توطد العالقة بينها‬
‫إلى منزلة الصداقة التي من مقتضياتها العمق والتداخل المادي والمعنوي الذي ال يليق كثي ار بين رجل وامرأة أجنبيين‬
‫‪.............‬‬
‫فليت شعري أليس االنف ارد بين الصديقين سمة مميزة لتلك العالقة الوثيقة الذي حينها يدلي كل صديق بدلوه و يبوح بسره و يسرد‬
‫همومه وآهاته ؟! كيف يحدث ذلك االنفراد بين رجل وامرأة و ما خال رجل بامرأة إال كان الشيطان ثالثهما ؟!‪..................‬‬
‫إن كل انفراد بين فتى وفتاة يؤدي غالبا إلى تفكير غريزي أملته علينا فطرتنا و أبداننا ‪ ،‬ومهما حاولنا إنكار ذلك بدعوى التمدن‬
‫واالنفتاح والتخلص من العقد النفسية فإننا نضحك على أنفسنا و نهرب من الحقيقة ‪ ،‬وال ينبئك مثل خبير ! وأنا هنا ال أنكر أن‬
‫هناك حبا عذريا طاه ار قد ينشأ بين فتى وفتاة فهذا موجود ال شك ‪ ،‬ولكن من مقتضيات ذلك الحب أن يصون الفتى فتاته وأن‬
‫تصون هي فتاها عن موارد الهالك ‪ ،‬وكما في الحديث ليس للمتحابين مثل الزواج ! وهنا تنشأ عالقة أخرى مختلفة تسمى‬
‫الزواج ال يجوز خلطها بالصداقة فالصداقة شيء والزواج شيء آخر ‪ ،‬كالهما ضروري من ضرورات الحياة و ال يغني أحدهما‬
‫عن اآلخر حتما ‪ ،‬و أنا هنا ال أفاضل بين الزوج و الصديقة أو الزوجة والصديق ‪ ،‬فالموازنة تتعذر بينهما لنقول أيهما أقرب‬
‫و أشد في العالقة ‪ ،‬فالموازنة بينهما موازنة بين شيئين ال تصح الموازنة بينهما كمن يقارن بين الملح والسكر ويقول أيهما أفضل‬
‫وأحب للمتذوقين ‪ ،‬فهذا له موضعه وهذا له موضعه ال ينبغي الخلط بينهما وال المفاضلة كذلك ‪.............‬‬

‫إن االختالف العقلي والنفسي بين الرجل وامرأة شاسع بحيث يجعل قضية الفهم المتبادل ليست مسألة سهلة ‪ ،‬فالرجل ال يفهمه‬
‫أحد كما يفهمه الرجل ‪ ،‬والمرأة ال يفهمها أحد كما تفهمها امرأة مثلها ‪ ،‬و لعل هذا االختالف العقلي والوجداني كثي ار ما يسبب‬
‫المشكالت بين الزوجين لعدم تقدير كل طرف للطبيعة المختلفة للطرف اآلخر حتى لخص جون جراي هذا االختالف العميق‬
‫بعنوان كتابه ( الرجال من المريخ والنساء من الزهرة ) وكأنهما من عالمين مختلفين لذا كان هنالك علم كامل يدرس الفروق‬
‫النفسية بينهما لتخطي المشكالت و فهم ما يستعصي فهمه ‪ ،‬لذلك كله كانت الصداقة أنسب و أعقل حين كانت بين رجل ورجل‬
‫و بين فتاة وفتاة ‪ ،‬هو من يستطيع فهمه و اإلحساس به وبشعوره وبمشكالته ‪ ،‬وهي من تقدرها جيدا وتسبر أغوارها وتعلم ما‬
‫يناسبها ‪ ،‬هذه هي الطبيعة التي خلقها هللا نوعين مختلفين كان وجودهما سببا في التكامل من ناحية ‪ ،‬ووجود األقران من الجنس‬
‫الواحد سببا في االلتقاء والتصادق من ناحية أخرى !!‬

‫* حواجز وهمية للصداقة !‬

‫‪144‬‬
‫بعد أن استعرضنا الحواجز الطبيعية التي كانت قد ار مقدو ار كان ال بد من أن نعرج على أسباب وهمية ال أساس لها اصطنعها‬
‫بعض الناس لمنع الصداقة ‪ ،‬هي أسباب في جملتها مادية اختلقها الناس لتبرير الهجر والجفاء ‪ ،‬أسباب متى حرم منها بعض‬
‫وحل عرى الصداقة ظنا منه أنهما لم يعودا مناسبين لبعضهما بعض‬‫التائهين ظن نفسه عبأ على صديقه فقطعه وانطوى بعيدا ّ‬
‫أن أذرى به الدهر دون صاحبه فقل مقامه وارتفع مقام خدينه ‪ ،‬إنها الحواجز الطبقية العقيمة ‪ ،‬حاجز الفقر والغنى ‪ ،‬حاجز‬
‫الجاه والمنصب ‪ ،‬وأخي ار حاجز الشهادات والمؤهالت الدراسية ‪ ،‬وإذا تكلمنا عن الفقر والغنى وجدنا الفقير ينظر نظرات اإلكبار‬
‫ويصم أذاننا بشعارات ما أنزل بها من سلطان فيقول ‪ :‬العين ال تعلو على الحاجب ! فقط حين‬‫ّ‬ ‫واإلجالل لصاحبه األغنى منه ‪،‬‬
‫يحاول صاحبه الغني أن يقترب منه ويسبر أغواره ويعمق العالقة ليس لشيء سوى حب وإعجاب وقع في قلبه والحب سلطان !‬
‫ّ‬
‫فيتراجع صاحبنا الفقير وينأى بنفسه متعلال باألعذار فهو ال يريد أن يكون ثقيال على أخيه ‪ ،‬ال يريدها عالقة أخذ بال عطاء ‪،‬‬
‫عزة نفسه تمنعه من أن يكون صاحب اليد السفلى ‪ ،‬وأخي ار ال‬
‫ال يريد أن يظهر بمظهر الحاجة الدائمة أمام صاحبه الشبعان ‪ّ ،‬‬
‫يريد أن يفتتن بالدنيا الغرورة التي رفعت صاحبه وأذرت به ‪ ،‬ال يريد أن تمتلئ عيناه برؤية مظاهر الجاه التي قد تؤلمه و توغر‬
‫المشفق عليه من قبل‬
‫َ‬ ‫صدره ‪ ،‬ال يريد أن يراه صديقا بملبس دون ملبسه وال يأكل طعاما دون طعامه ‪ ،‬ال يريد أن يلعب دور‬
‫صاحبه فيمد له يد العون دائما وهو يقبلها كسي ار أسي ار الحول له وال قوة ! ‪ ،‬لكل هذه األسباب ينأى صاحبنا عن أهل الغنى و‬
‫يندمج مع من مثله من ذوي المستويات المتوسطة المتواضعة ‪ ،‬فيهم يشعر بنفسه ! ومعهم ال يشعر بدونية وال ينظر إليهم بحرج‬
‫‪ ،‬هم وهو في مركب واحد ‪ ،‬ال فضل ألحد على أحد ‪ ،‬ولينعم أهل النعيم بنعيمهم ‪ ،‬وليجتمع أهل الفقر يواسي بعضهم بعضا !!‬

‫يحصلون مجموعا كبي ار قبل الجامعة ‪ ،‬فيلقيهم مجموعهم في كليات يسميها‬


‫نفس المنطق يحدث عند بعض الفتيان الذين ال ّ‬
‫المجتمع الجائر كليات القاع !‪ ،‬بينما ينعم هللا على صديق بمجموع كبير فيلتحق بكلية عالية سموها ظلما كلية قمة ! وهنا ال‬
‫يحتمل القلب الضعيف المسكين ذلك الفارق ويشعر صاحبنا بالدونية وتتملكه عقدة نقص ستغير مجرى عالقاته مع بقية الناس‬
‫‪ ،‬فيقرر أن ينزوي بعيدا عمن صار من وجهاء المجتمع بكليته التي التحق بها ! و يضع لنفسه أسسا جديدة في حياته المحطمة‬
‫‪ ،‬فهو سيبدأ عالقات جديدة مع من في كليته الجديدة و ينسى الماضي األليم الذي فرق بينه وبين صديقه ‪ ،‬هذا عنده هو الحل‬
‫الوحيد لأللم النفسي الذي لن يحتمله لو ظل مبقيا على صداقة من فرقت بينهما الدرجات والشهادات ‪ ،‬يتصور نفسه وهو‬
‫يصحب صديق الماضي في طريق واحد ‪ ،‬ثم فجأة يتشعب الطريق ويذهب هذا إلى القمة وهذا إلى القاع ! مشهد أليم يدمي‬
‫قلب صاحبنا المسكين فيزيده إص ار ار على ق ارره بتجنب صديقه الذي لم يعد مالئما له بعد اآلن !!‬
‫ومثله من رسب في الثانوية ودخل أصدقاؤه الجامعة كيف له أن يتكيف على هذا الوضع الجديد و يغض الطرف عنه بال‬
‫حساسية ودون أن يكتوي قلبه بنيران الغيرة والحسد ! إنهم سيصيرون نجوم المجتمع تشخص إليهم األبصار وأنا سأصير في‬
‫أسفل سافلين أتوارى من القوم من سوء ما وصلت إليه فما العمل ؟! ‪ ........‬إنه إذن الفرار !!‪...........‬‬

‫ولهدم هذه الحواجز الوهمية ينبغي أن أبين أن أمثال هؤالء عندهم مشاكل نفسية عسيرة يجب عالجها وإال استمرت معهم طول‬
‫الحياة !!‬

‫‪145‬‬
‫فهؤالء يعانون من عقدة النقص ‪ ،‬وهي عقدة قديمة وعالجها ليس بالشيء الهين ‪ ،‬ولكن ما نؤمن به أن مثل هذه العقد ال‬
‫محب ‪ ،‬الذي دخل الحب شغاف قلبه ال يعرف مشاعر الحسد والحقد ‪ ،‬فمن تحبه مثل نفسك تتمنى له الخير‬ ‫تترسب في قلب ّ‬
‫لهمه ‪ ،‬هذه مسّلمات تحدثنا عنها من قبل ‪ ،‬ومن ذاق طعم الحب الذي ال يفرق بين غني وفقير وال بين‬ ‫هتم ّ‬‫وتسعد لسعادته وت ّ‬
‫ٍ‬
‫نطوعها من أجل‬‫عال و منخفض يعلم يقينيا أن هذه الماديات الدنيوية الزائلة ال تقطع عرى اإلخاء و إنما تجعلنا نستفيد منها و ّ‬
‫خدمتنا و سعادتنا ال نجعلها سببا في شقائنا وتعاستنا ‪ ،‬صحيح أن الحياة أخذ وعطاء ولكن ليس العطاء واألخذ ماال فقط فهناك‬
‫عطاءات روحية وعقلية ‪ ،‬فالحب عطاء ‪ ،‬والعلم و المعرفة والثقافة كذلك عطاء ‪ ،‬والنصيحة السديدة والرأي الرشيد كذلك عطاء‬
‫‪ ،‬كلها عطاءات قد يعطيها الفقير ويقصر عنها الغني !‬
‫و الشهادات العلمية كلها سواسية فال فضل لعلم على علم فكلها علوم نافعة تخدم البشرية وبدون واحد منها تختل الحياة ‪،‬‬
‫والنظرة الطبقية للجامعات والشهادات هي نظرات من صناعة دول العالم الثالث التي كبتت شعوبها و أورثتهم العقد النفسية‬
‫الكد ‪ ،‬الناجح من ينجح في‬
‫بسبب هذه التقسيمات العقيمة ‪ ،‬والعالم المتقدم ال يعترف بمجاميع و شهادات وإنما يعترف بالعمل و ّ‬
‫عمله ويطوره وينهض ببلده في تخصصه ومجاله ‪ ،‬هذا هو الرقي وهذا هو التقدم لذا تجدهم متقدمين في جميع المجاالت‬
‫فكل يعمل بكل طاقته إلثبات ذاته والرقي بجتمعه ‪............‬‬
‫والتخصصات ٌ‬
‫فلماذا بعد كل ذلك نزعم أن اختالف الشهادة العلمية أو الفروق المادية الطبقية تكون سببا في منع صداقات طيبة ينبني بها‬
‫المجتمع ويلتئم شمله و تثمر تعاونا مشتركا على الخير وطاعة هللا ؟! ‪ ،‬ولماذا ترد يدا مدها إليك صديقك يقول بلسان الحال ‪:‬‬
‫إني أنا أخوك فال تبتئس بحال الدنيا و لن تغيرنا الحياة المادية و لن يقف أي تغير اجتماعي أمام صداقتنا الصافية النقية إلى‬
‫األبد ‪ ..‬إلى األبد ‪..‬‬

‫على شاطئ الصداقة‬


‫البر اآلمن قبل أن نخوض بحر الصداقة ‪...................‬‬‫ونحن على ّ‬
‫قبل أن نخوض غمار التجربة وتدفعنا األمواج إلى المجهول ‪.........................‬‬
‫ونحن على الشاطئ قبل أن تسوقنا الرياح بما نشتهيه وما ال نشتهيه ‪............................‬‬
‫قبل أن يكون لنا أصدقاء ولم نعرف حينها معنى الصداقة وال طعمها ال بد من وقفة ‪ ،‬وال مفر من تدبر حكيم و نصيحة عليم‬
‫يرشدنا إلى الدرب السليم والمسلك القويم ‪ ،‬كيف يكون لنا أصدقاء ؟ وكيف نحسن االختيار ؟ وكيف نتجنب الصداقات‬
‫المأساوية التي ال تجلب سوى الدمار والهالك ! إنه طريق ليس محفوفا بالورد والرياحين بل طريق مدفون فيه األلغام تنتظر‬
‫صاحب الحظ العسر لتنفجر فيه وتحوله إلى أشالء ! إنه من أحسن االختيار أو من سهلت له ذلك األقدار فقد نعم وهنئ ‪،‬‬
‫ومن ضنت عليه الحياة باالختيار الصحيح شقي وتعس وبئست التعاسة وبئس المهلك !!‬

‫البحث عن الصديق‬

‫‪146‬‬
‫إن أول خطوة في طريق الصداقة هي البحث عن الصديق ‪ ،‬و من هداه هللا لفكرة الصداقة فستدفعه الفكرة للبحث الدؤوب وليس‬
‫ذلك إال بعد مشاعر متدفقة تغمر الم أر وتشعره أنه ينقصه شيء مهم في حياته ‪ ،‬شيء لو فرغت منه الحياة ما كان لها طعم وال‬
‫لون !!‬
‫نعم إنه يشعر أنه يفتقر لشيء ‪ ،‬ليس هو بالمال و ليس بالطعام وال الملذات ‪ ،‬إنه شيء روحي يدفع إليه فراغ عاطفي ال بد أن‬
‫يسد ! لم يسده هؤالء الغثاء من الناس الذين ال يسمنون وال يغنون من جوع ! إنني أحتاج لشخص آخر يمأل علي حياتي ال أن‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫هباء في هباء مثل هؤالء الغثاء ! شخص يشاركني السعادة فبئست السعادة أن تسعد وحدك ! وشخص يشاركني‬‫يضيعها ً‬
‫األحزان فياله من هالك أن تفتك بك أحزانك بال شريك وال مؤنس ! إنني ينتابني نقص ال يجبره اإلخوة األشقاء وال الجيران‬
‫عم ‪ ،‬إنه قرين قريب من قلبي ‪ ،‬من سني ‪ ،‬أحواله مقاربة ألحوالي‬
‫اللصقاء ‪ ،‬ال تكفي له األم وال األب وال يغني فيه خال وال ّ‬
‫أقومه ويقومني ‪ ،‬نسير معا في دروب الحياة نؤنس وحشة بعض ونتشبث بحبل اإلخاء إلى أن ندرك النجاء‬ ‫‪ ،‬أفهمه ويفهمني ‪ّ ،‬‬
‫!‬

‫إن أول األمر خاطر يطرق باب القلب قبل العقل متى وجدته في خاطرك فاحمد هللا فقد حسنت فطرتك واستقامت طبيعتك عبر‬
‫عنه الشاعر الرقيق بمعان فياضة حساسة قلما نجد مثلها في هذا الزمان حتى أنشدها المنشدون وحداها واستنار بدربها‬
‫الحادون‪....‬‬
‫و أرسلت طرفي بفكر عمـيق‬ ‫تفكرت يوما بمعنى الصــديق‬
‫ومنذا سيغدو كظلي رفي ــقي‬ ‫تُرى من سيرسو عليه اختياري‬
‫فجهزت نفسي لبحث دقيـق‬ ‫وقالوا سيضنيك بحث دقـ ــيق‬
‫ركبت البحار وخضت الصحارى وسرت النهار وقد جف ريقي‬
‫وفي قمة قرب و ٍاد سحي ـ ــق‬ ‫ويممت شطر الجبال الرواســي‬
‫سواه بأن أهتدي للطـ ـ ـريق‬ ‫دعوت اإلله ال ـ ـ ــذي ال إله‬
‫ذلك الفكر العميق الذي يمأل الكيان ويستولي على الوجدان ينتهي بالحائر التائه إلى أن يبحث وينقب في كل مكان حتى ال‬
‫يعييه التفتيش فإرهاق الوحدة والفكر أكبر من إرهاق التنقيب والسير ! ثم ال ينسى أن يدعو ربه الذي هو مستجيب الدعوات ال‬
‫َّ‬
‫المتمن َِ ِّى العزيز !!‬ ‫ينسى عبده ويلبي طلبه فال مانع من إلحاح و تأوه في ظلمات الليل وفي أسحار الغفلة من أجل ذلك‬
‫ثم تشرق شمس ذات أمل و تظهر بادرة فيها رجاء فيستكمل الشاعر قائال ‪:‬‬

‫بشيخ وقور حكيم رفيـ ـ ــق‬ ‫فإذ بي على حين يأس وصمت‬
‫محياه ‪ :‬وجهه‬ ‫وعيناه أوحت بماض عريـ ــق‬ ‫محياه آثار دهـ ـ ـ ــر‬
‫بدت في ّ‬
‫من بين كل األنام ص ــديقي‬ ‫فبادرته سائال كيـ ـ ــف أختار‬
‫لقد طال صبري وما زال بحري عميقا وهذا نداء الط ـ ـ ـ ـريق‬
‫وكَّفي طلي ـ ــق‬
‫بعيني بص ــير َ‬
‫َ‬ ‫أسير فهـ ــل لي‬
‫كأني لليلي ٌ‬
‫‪147‬‬
‫إنني مشتاق للصديق المخلص الحق أكثر من اشتياق الظمآن للماء و من تلهف الجائع لقليل الغذاء ‪ ،‬وهذا رجل كبير السن‬
‫خبر الحياة عن طول مراس ساعده عليه عمره الطويل وتجاربه التي ال حصر لها فلماذا ال أسأله لعله يجد لي حال ؟! فيجيبه‬
‫بكلمات عذبة رائعة ‪:‬‬
‫حقوق التآخي كعقد وثي ـ ــق‬ ‫فقال استمـ ــع إنه من ي ـؤدي‬
‫وغم وح ـزن وكرب وضـ ـ ـيق‬ ‫ومن حين تفضي إليه به ـ ـ ـ ٍم‬
‫ورأي رشيد ونص ـح رقي ـ ـ ـق‬ ‫تجد منه جودا بصدر رحيـ ـ ـب‬
‫فهل نال إال ارتشـاف الرحي ـق‬ ‫وما النحل إال صدي ـق الل ـقاح‬
‫كما الليل إذ صاحب النجم ده ار فهل كان يحلو بغ ـير ال ـ ـبريق‬
‫فصاحبه للخير والعقل والصدق والنصح تل ـق الصديق الحقيقي‬

‫لخص ذلك الحكيم القديم سنه العتيق علمه معنى الصداقة في ركن من أركانها هو المشاركة في الحزن والهم بال ضجر وال‬
‫تأفف ولم ينس أن يذكر بالصديق الصالح وأثره العميق في صديقه الذي البد أن يصير صالحا مثله كحامل المسك والمنتفعين‬
‫فيقوم‬
‫برائحته الزكية الطاهرة ثم ذكر التعقل والحكمة وصدق الحديث والقيام بدور المرآة التي تعكس لصاحبها عيوبه ومسالبه ّ‬
‫نفسه ويصلحها ‪................‬‬

‫وإذا كانت الفكرة أولى خطوات الطريق الصحيح للصداقة و البحث هو ثاني خطوة سليمة على ذلك الطريق فال بد من ومضات‬
‫يستضيء بها الباحث في طريقه الشاق وهذا حديثنا اآلن‪.‬‬

‫ومضات يستضيء بها الباحث عن الصديق‬


‫محطات نلتقي أو ال نلتقي فيها باألصدقاء ‪:‬‬

‫إن حياة اإلنسان ما هي إال مراحل ما أشبهها بمحطات القطار ‪ ،‬فأول انطالق القطار يشبه اللحظات األولى من حياة اإلنسان‬
‫حينها تكون لحظات االبتداء بسرعة بطيئة ال تلبث أن تتزايد تشبه رغبات الطفل الرضيع القليلة التي تتزايد مع تقدم عمره ‪ ،‬ثم‬
‫تنتظم السرعة في منتصف المسافة بين محطة ومحطة لتشبه انخراط اإلنسان في الحياة ومعاناته لمتطلباتها و انطحانه بين‬
‫رغباته و ملذاته ‪ ،‬ثم يقف القطار في محطة جديدة فيرى الراكبون وجوها لم يألفوها و معالم لم يروها قبل ذلك وكذلك اإلنسان‬
‫في حياته له محطات هي محاور في طريق حياته تتغير فيها معالمها تغي ار جذريا يحاول التكيف معها مثل القطار الذي يعود‬
‫لينطلق بسرعة بطيئة متزايدة حتى ينتظم فيعني ذلك انخراطا جديدا لإلنسان يعيش في دوامة ال يعرف أولها من آخرها إلى أن‬
‫تأتي محطة النهاية فيسكن القطار وتتوقف محركاته و يخبو دخانه تماما كما تخبو حركات اإلنسان و تزهق روحه ويدخل مرحلة‬
‫طويلة من الجمود هي مرحلة الموت ‪.................‬‬

‫‪148‬‬
‫وللصداقة مع هذه المحطات أشكال وتنوعات تتغير بتغير مرحلة العمر بين فترة يتزايد فيها حاجة اإلنسان للصديق وفترات تخبو‬
‫تلك الروح في نفسه فال يعود قاد ار على اكتساب مزيد من األصدقاء ‪ ،‬ونحن في عرضنا لهذه التقلبات و النزعات المختلفة ال‬
‫نتحدث عن مثالية نصفها وندعو للتخلق بها ولكن نصف واقعا يحدث ويكرره اإلنسان تتبعه النفسيون ووصفوه ووضعوا له علما‬
‫تماما مثل علم النفس القائم على التتبع والمالحظة وسرد تلك المشاهدات و تدوينها ‪..‬‬
‫‪-‬إن أولى تلك المراحل في حياة اإلنسان هي مرحلة الطفولة ‪ ،‬وهي مرحلة بدائية في جميع نواحيها فكما أن األكل والشراب‬
‫وحاجات اإلنسان تكون في أبسط صورها تكون حاجاته االجتماعية بسيطة فال تجد مسألة الصداقة مطروحة في فكر الطفل‬
‫الصغير الذي ال يجد سوى أمه وأبيه فينشغل بهما ألنهما كل حياته سواء أشاء أم أبى فيتعلق بهما كثي ار فيحبهما كما يحبانه‬
‫ويلبون له رغباته ‪ ،‬وعند هذه المرحلة ال مانع من رؤية بعض األطفال اآلخرين الذين يجذبون الطفل نحوهم سواء أكانوا جيرانا‬
‫أم أقارب حتى اإلخوة ولكن ذلك التجاذب ليس سوى رغبة في المزيد من اللعب واالنطالق بل المشاكسة يشاركه فيها األطفال‬
‫اآلخرون ال يصل مطلقا لمرحلة الصحبة وال الصداقة ولمزيد من التدقيق نقسم الطفولة إلى فترتين ‪:‬‬
‫فترة من ‪ 0‬إلى ‪ 4‬سنوات ‪ :‬وهي فترة ال يوجد فيها تقريبا احتكاك اجتماعي سوى األبوين و االقارب فينصب كل اهتمام الطفل‬
‫بأبويه زاهدا تماما في قضية الصحبة والصداقة ‪.‬‬
‫فترة من ‪ 15 -4‬سنة ‪ :‬وهي فترة الطفولة التي تسبق فترة المراهقة ‪ ،‬وهي الفترة التي تبزغ فيها مقدرة الطفل على عمل عالقات‬
‫مع األطفال الغرباء المماثلين له عمريا ال تعدو تكوين جماعات للعب مع األقران وهي القدرة التي يفتقدها الطفل قبل سن الرابعة‬
‫الذي يلوذ فيه الطفل إما باالنفراد أو االندماج مع األم واألب ‪ ،‬وفي هذه الفترة األطول يزداد استقالل الطفل عن الراشدين مع‬
‫عودة ثقته فيهم و تظهر تلك العودة في امتثاله ألوامرهم ومحاولة إرضائهم كما تظهر نزعته للمثل األعلى الذي يكون هو األب‬
‫أو المدرس كما يختاره خيال الطفل وما يدفعه إلى ذلك كثرة تساؤالته عن الحياة و الدنيا التي يجد فيها اإلجابة عند أبيه وأمه‬
‫ومدرسه فهم األعلم منه في كل شيء فيتخذ منهم القدوة التي ينشدها ‪ ،‬ومن المالحظات التي توطد فكرة عدم تبلور الصداقة هنا‬
‫عدم استقرار العالقات بين األطفال فهي سريعة االنقطاع ‪ ،‬فحينما يبدأ فصل دراسي جديد ويختلف األقران يبدأ الطفل ينسى‬
‫أقرانه الماضين ويندمج مع الجدد وكأن شيئا ماضيا لم يكن ‪ ،‬وهو األغلب في حين أن حاالت قليلة نادرة يرتبط فيها طفالن‬
‫ببعضهما وتستمر صداقتهما إلى المراهقة وما بعد المراهقة وهو ما يمكن اعتباره نوعا من النضج المبكر السابق ألوانه ‪.‬‬
‫بعد مرحلة الطفولة وما قبل المراهقة تأتي المرحلة الجديدة الصعبة الفهم على اآلباء واألمهات وهي مرحلة المراهقة ما بين ‪-16‬‬
‫يشب فيها الطفل عن الطوق ‪ ،‬ويعتبر نفسه أنه صار رجال أو امرأة ‪ ،‬وهو ما ال يفهمه اآلباء الذين‬
‫‪ 20‬سنة وهي المرحلة التي ّ‬
‫ال يزالون يعاملون أبناءهم على أنهم أطفال وهو ما ينفر منه االبن فيعلن العصيان والتمرد بدعوى أنه صار كبي ار ‪ ،‬وهنا لم يعد‬
‫يثق المراهق في الكبار وخصوصا اآلباء واألمهات ليكونوا أصحابه بينما يجد ذلك في أبناء سنه فتتبلور عنده فكرة الصداقة ‪،‬‬
‫ويبدأ رحلة البحث عن الصديق ربما في عقله الباطن و أحيانا في عقله الواعي وهو الشيء األكثر نضجا في وجهة نظري وهو‬
‫الفطرة عينها ‪ ،‬وهنا تحدث عدة أشياء دقيقة‪:‬‬
‫‪ -1‬لم يعد االبن يحكي ألمه كل شيء في حياته اليومية كما كان يفعل من قبل ‪ ،‬فهو قد بدأ يستبدل األصدقاء باآلباء في‬
‫القيام بهذه المهمة ‪ ،‬حيث بدأ يشعر بفارق السن الذي يعتبره حاج از دون البوح بكل شيء لألبوين مضافا إليه استمرار نزعة‬
‫اآلباء إلى االستعالء على أبنائهم باعتبارهم ناقصي الخبرة في الحياة وهو ما لم يعد مقبوال عند معظم المراهقين – ومنهم من‬

‫‪149‬‬
‫يقبل هذا األمر لفترة أطول في تلك المرحلة لزيادة تعلقه بأمه وهو قليل ‪ ، -‬وهنا يلحظ اآلباء هذا التغير ويعتبره كثير منهم‬
‫نوعا من العصيان وقلة الحب بل الجحود والجفاء ‪ ،‬ومنهم من يظن أن ابنه قد ضاع منه وفقد السيطرة عليه ‪ ،‬وهؤالء ينبغي أن‬
‫يدركوا طبيعة هذه المرحلة العمرية ويتعاملوا معها بحكمة وتعقل خصوصا أنهم حين يواجهون أبناءهم بهذه المشاعر لن يجدوا‬
‫ردودا مرضية منهم ‪ ،‬وهم الذين ركنوا إلى األصدقاء الذين صاروا أكثر جاذبية و أكثر إشباعا للقلب والروح ممن سواهم ‪.‬‬
‫‪ -2‬تغير نوع العالقة بين المراهق و أقرانه من عالقة قائمة على اللعب و التسلية – وهو ما كان في فترة ما قبل المراهقة – إلى‬
‫سموا من الناحية االجتماعية و النفسية ‪ ،‬فيجد المراهق في صديقه المالذ عند الشكوى والمشاركة في العسر واليسر‬
‫عالقة أكثر ّ‬
‫ويوطد ذلك تقارب ظروف األصدقاء الذين غالبا من نفس المرحلة الدراسية فيتشاركان المعاناة ولحظات التفوق واإلخفاق وينشأ‬
‫ما يسميه النفسيون التصديق االجتماعي وهو نوع من تقارب األفكار بل تطابقها أحيانا يؤدي لعمق العالقة ‪،‬فتنشأ الصداقة‬
‫المتطورة من الصحبة والزمالة بين فردين من بين كل أفراد الفصل الدراسي ‪.‬‬
‫‪ -3‬مازال في هذه المرحلة تائهون عابثون لم تتبلور لديهم فكرة الصداقة الحقيقية أو ربما صداقة مشوهة يظنونها الصداقة وهي‬
‫ليست الصداقة المنشودة ‪ ،‬يفهمون الصداقة أنها الصحبة فمن تخرج معه وتشاركه فسحك و تمزح و تضيع وقتك معه فهو‬
‫الصديق لديهم ‪ ،‬وهنالك نوع تعيس آخر يبحث عن الصديق ولكنه ال يجده ربما لحظه العسر وربما ألسباب في شخصيته ‪،‬‬
‫وهذا النوع تتأجج مشاعره حين يرى صديقين خدينين يربطهما الحب المتبادل في حين أنه هو ال يجد من يبادله تلك المشاعر‬
‫فينشأ لديه مشاعر النقص والبؤس وإن لم تكن الحقد و الحسد ‪.‬‬
‫إن مرحلة المراهقة بال مبالغة هي أخطر مراحل العمر الصداقية ‪ ،‬فمن لم يفز فيها بصديق مخلص فلن يحصل غالبا على‬
‫العدة والتزود باألصدقاء تأهبا لمراحل العمر األخرى التي يضن فيها الحظ بصديق ‪ ،‬فالفائز من‬
‫أصدقاء بعد ذلك ‪ ،‬إنها مرحلة ُ‬
‫اهتبل صديقا في مراهقته يرافقه طول عمره بعد ذلك ‪ ،‬والتعيس من انتهت مراهقته بال صديق ليحكم على نفسه بالوحدة بقية‬
‫عمره في رشده وشيخوخته !‬

‫‪ -‬تأتي بعد مرحلة المراهقة مرحلة طويلة هي أطول مراحل العمر وهي مرحلة الرشد ‪ ،‬من‪ 60-21‬عاما وعلماء النفس قسموها‬
‫لثالث مراحل ‪:‬‬
‫‪ -3‬الرشد المتأخر ‪60 -41‬‬ ‫‪ -2‬النضج ‪40-31‬‬ ‫‪ -1‬الرشد المبكر ‪30-21‬‬
‫وهذه المرحلة في بدايتها – أعني الرشد المبكر – غالبا ما تكون امتدادا لمرحلة المراهقة فهي ال تختلف كثي ار عنها نفسيا و‬
‫اجتماعيا فيمكن فيها جمع ما لم يمكن جمعه فيما مضى من األصدقاء ‪ ،‬والمشكلة فيما بعد ذلك من أواخر العشرينات إلى‬
‫مرحلة الشيخوخة ‪ ،‬حيث تقل الرغبة في اكتساب أصدقاء وذلك تابع لتغير األحداث في هذه الفترة ‪ ،‬وأنا أميل لتصنيف الرغبة‬
‫في الصداقة على أساس األحداث ال العمر وهي كالتالي ‪:‬‬
‫مرحلة الزواج ‪ :‬وهي مرحلة الميل والجنوح للجنس اآلخر بالشكل الرسمي وفيها يبدأ ميل الفرد لالرتباط قلبيا بالجنس اآلخر‬
‫الخطبة انتهاء بالزواج ‪ ،‬وهنا يبدأ الفرد يزهد في اكتساب األصدقاء خصوصا بعد الزواج ‪ ،‬حينها يشعر الم أر‬ ‫ابتداء من مرحلة ِ‬
‫بامتالء قلبه وشغل عاطفته بفرد جديد من الجنس اآلخر مما يزهده في طلب ارتباط ببني جنسه وإن كان مازال مبقيا على‬
‫أصدقائه القدماء الذين – وهو الواجب المفترض‪ -‬يواصلهم ويبقي على عهد الصداقة معهم على رغم زواجه ‪ ،‬وفي هذه المرحلة‬

‫‪150‬‬
‫تحدث تغيرات منها قلة معدل زيارة األصدقاء عما كان من قبل ‪ ،‬وهو ما قد يسيء فهمه األصدقاء ‪ ،‬وهنا يأتي دور التفاهم بين‬
‫الصديقين و تقدير الظروف المادية ال العاطفية والنفسية ‪ ،‬فانشغال المتزوج بزوجته معه انشغال بتحمل المسئولية و اإلنفاق‬
‫ابتداء فهم األمور جيدا عن طريق الإلفصاح‬
‫ً‬ ‫عليها وعلى البيت وهو ما قد ال يدركه صديقه األعزب ‪ ،‬فيجب على الصديقين‬
‫عنها بشفافية حتى تستمر عجلة الصداقة بجوار عجلة الزواج ‪ ،‬وهما شيئان ضروريان من ضروريات النفس والروح ال يستغنى‬
‫بأحدهما عن اآلخر ‪ ،‬وأنا هنا لست في مقام موازنة بين الصديق والزوجة أو الزوج والصديقة إنما أصف حاال واقعا يجب فيه‬
‫فهم االلتباس وإدراك أبعاد األمور ‪..........‬‬
‫ولعل هذه القضية – أقصد قلة اكتساب األصدقاء بعد االرتباط بالجنس اآلخر ‪ -‬عبر عنها عنترة قبل مئات السنين حين قال ‪:‬‬
‫قليل الصديق كثير األعادي‬‫كنت لوال هواك‬
‫عبل ما ُ‬
‫أيا َ‬
‫المهم أن األمور تزداد تعقيدا ببزوغ مولود جديد في حياة الزوج ثم مولود آخر ‪ ،‬وحينها تقل شديدا رغبته في اكتساب مزيد من‬
‫األصدقاء وقد تصل لحد الزهد في أصدقاء جدد ‪ ،‬ولكن هذا ال يعني كذلك إهماله ألصدقائه وإنما الموازنة بين األمرين ‪ ،‬فما‬
‫يصح أن يساء فهمه من جانب الصديق هو ترك صديقه له تماما بعد الزواج واإلنجاب ‪ ،‬وهو ما يؤدي طبعا إلى الشقاق‬
‫والجفاء وهو ما يجب تجنبه ‪........‬‬
‫وعموما فإن ذلك الشعور السلبي على الصداقة يزداد بازدياد األعباء و المسئويات بعد الزواج إلى أن تأتي مرحلة الشيخوخة‬
‫‪.....‬‬
‫وبعد عرض أحداث فترة الرشد الجسيمة التي لها أثر سلبي على فكرة الصداقة عند الكثير ينبغي ويتأكد اقتناص الصديق قبل‬
‫هذه المرحلة المليئة باالزدحام واألعباء كما ينبغي التشبث باألصدقاء القدماء الذين فقد أحدهم يعني فقد الماضي وذكرياته و‬
‫يعني كذلك عدم عودته مرة ثانية ألن اكتساب الصديق صعب وفقدانه سهل ‪ ،‬فما ضاع لن يعوض ‪ ،‬والذكي الماهر من وازن‬
‫بين بيته وأعبائه و بين عالقاته االجتماعية التي يأتي الصديق على ذروتها ‪...‬‬
‫‪ -‬ولعل من أسباب عدم إقبال الراشدين على اكتساب أصدقاء جدد – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – أنهم يكتفون بما جنوه‬
‫وحصدوه من أصدقاء الماضي حيث يعتبرونهم أكثر مودة وعمقا ممن يمكن اكتسابهم فيما بعد ‪....‬‬
‫ولعل الراشدين الذين لم يتزوجوا سواء ألسباب مادية أو نفسية نجدهم أكثر إقباال على األصدقاء حيث يحاولون جبر النقص‬
‫االجتماعي الذي وقعوا فيه كما أنهم عندهم فراغ عاطفي يحتاج للصديق أكثر لملئه ناهيك بالفراغ العملي المادي الذي يجعلهم‬
‫أقل تحمال للمسئولية وأقل انشغاال من أصدقائهم المتزوجين ‪ ،‬وهو ال شك عالمة إيجابية ساعدت عليها الظروف و من عندهم‬
‫استعداد نفسي لذلك سيكونون سباقين لهذا األمر ‪...‬‬
‫‪ -‬أخي ار مرحلة الشيخوخة ‪:‬‬
‫في هذه المرحلة الحرجة من العمر يصاب المسن بالعديد من المشاكل في حياته التي تؤثر على عالقاته االجتماعية وأهمها‬
‫تقاعده عن العمل الذي كان المضمار األكبر للتعامالت واكتساب العالقات الجديدة ‪ ،‬وهنا تظهر معادن األصحاب ‪ ،‬فمع‬
‫انتقال اإلنسان من مرحلة ألخرى يظهر الصديق الحقيقي من الصديق الزائف ‪ ،‬فها قد انتهى رابط العمل ويبقى رابط األخوة‬
‫فمن كان أخا بصدق يظل أخا مهما تغيرت الظروف ومن كان غير ذلك فسينسحب ليبحث عن تسلية أخرى !‪......‬‬

‫‪151‬‬
‫المهم في هذه المرحلة أن اإلنسان يحصد ما زرعه طول عمره فكلما جمع أصدقاء أوفياء في شبابه صاروا له عونا في‬
‫شيخوخته وسلوى في ضيقه الذي يتزايد بترك العمل و فقدان األقارب بالموت وتزايد األمراض بل قد تزداد الكآبة بموت الزوج أو‬
‫الزوجة وموت الصديق وهنا يجد اإلنسان نفسه وحيدا خصوصا أن الشبان ينفرون من صداقة كبار السن وأن األبناء منشغلون‬
‫عن آبائهم بمسئولياتهم ومشاكلهم فيشعر المسن أنه صار عبئا على من حوله وتتزايد حاجته لصديق من عمره يبث له شكواه‬
‫التي يشاركه فيها غالبا ‪ ،‬واالكتئاب متزايد حدوثه في تلك المرحلة وخير من ُيخرج اإلنسان من ذلك صديق مخلص قديم على‬
‫عهد المودة والبذل ‪............‬‬
‫يتضح اآلن أن المسن فرصته في اكتساب أصدقاء جدد قليلة فهي مهمة الماضي وليست مهمة تلك المرحلة خصوصا أن حركة‬
‫المسن تقل تدريجيا مع تقدم عمره وهو ما يقلل فرص خروجه وزياراته ‪...‬‬
‫وهناك من يتحدى تلك الظروف ويواصل انطالقه ويحاول عقد عالقات جديدة وربما تكون صداقات عن طريق النوادي والمقاهي‬
‫والمساجد ولكن تلك العالقات حتما لن تكون مثل عالقة بصديق قديم له تاريخ وذكريات ‪..‬‬
‫وقد يتخيل المرء أن عالقة المسن بأوالده وأقاربه وتبادل الزيارات قد تكون معوضا عن الصديق ‪ ،‬وهو الخطأ عينه ؛ فالمسن‬
‫يؤدي تلك العالقات بدافع ضرورات اجتماعية وأحيانا يصيبها الحساسيات مثل أن يظن المسن أن صار عبئا على أبنائه وأقاربه‬
‫و ربما األقارب أنفسهم يستثقلون قريبهم المسن الذي تتزايد احتياجاته النفسية والمادية ‪ ،‬وكل هذا ال يحدث مع األصدقاء‬
‫المقربين الذين يشاركون المسن نفس ظروفه ويتجرعون نفس الكأس ّ‬
‫فيعدهم خير أنيس و خير جليس فهم الذين يفهمونه ويفهمهم‬
‫ويخففون عنه آالمه ومحنه ‪..‬‬

‫إن الراشد العاقل ال بد أن يعمل لهذا اليوم ألنه في الواقع كثير من المسنين صاروا بائسين أشقياء و حالهم يثير الرثاء من‬
‫الحالة التي وصلوا لها بعد أن فقدوا األهل واألقارب وربما شريك الحياة كذلك فينطوون على أنفسهم بال أنيس وال ونيس وهم‬
‫الذين جنوا على أنفسهم حين ساروا مع دوامة الحياة ولم يتخذوا صديقا شريكا في الماضي والحاضر والمستقبل فيقضون ما تبقى‬
‫لهم من الحياة وحدهم ال يسمع عنهم أحد وال يراهم أحد ال مواسي ال سميع ال جليس فبئس المورد وبئس المصير !‬

‫خالصة التطور العمري للصداقة ‪:‬‬


‫فكرة الصداقة ‪ -‬إن وجدت – أو الصحبة يمثلها منحنى صاعد له ذروة ثم منحنى هابط له قاع ! فابتداءً بالطفولة ‪ ،‬يميل‬
‫الطفل لالنطواء على نفسه وتأمل الكون وكل ما حوله ثم يرتبط بأبويه منصرفا انصرافا تاما عن مسألة الصداقة ثم يتطور األمر‬
‫إلى عالقات لعبية مع األطفال األقران ال تتعدى مسألة اللهو و الترفيه ثم ينمو هذا األمر تدريجيا إلى أن يصل إلى الذروة‬
‫ممثال الصداقة الناضجة الغضة في أبهى صورها أحيانا وفي صورة ناقصة أحيانا أخرى وذلك عند المراهقة التي تتطور في‬
‫النهاية إلى االنشغال النسبي عن مسألة اكتساب األصدقاء بعد هموم الحياة و الزواج ثم يهبط المنحدر أكثر مع اإلنجاب و نمو‬
‫أسرة جديدة وبعد طول تلك المرحلة تأتي مرحلة أكثر بعدا عن اكتساب األصدقاء – عند الكثير من الناس – وهي مرحلة السن‬
‫الكبير التي تعتبر مرحلة الحصاد لما تم زرعه من صداقات في ما مضى من أيام العمر بينما هي مرحلة ٍ‬
‫تحد عند بعض‬
‫المحبين للحياة الذين ال يأبهون للعمر ويعيشون حياتهم كأنهم شبان فتستمر عالقاتهم االجتماعية ويحاولون كسر الجمود في‬

‫‪152‬‬
‫مسألة الصداقة فيتمتعون بما جنوا من أصدقاء الماضي ويتزودون بالمزيد من األصحاب واألصدقاء ما استطاعوا إلى آخر‬
‫َنَفس لديهم !!‬
‫طرق الحصول على األصدقاء‬

‫أتت مرحلة الشباب و تفتحت أزهار المراهقين متلهفين لرفاق الدرب ‪ ،‬متشوقين لألحبة ‪ ،‬ولكن ما السبيل لذلك ؟! إنها في‬
‫الحقيقة سبل متعددة تأتي منها الصداقة بتلقائية وبدون تعمد اختيار ‪ ،‬وهذا أمر مهم ‪ ،‬ال تتكلف مشقة اختيار الصديق فإنه‬
‫سيأتيك حين يشاء هللا ‪ ،‬حين تلتقي القلوب التي ال نملكها وليس لنا سلطان على أبوابها‪ ،‬تلتقي األرواح قبل األشكال بمشيئة‬
‫بارئ األرواح ‪ ،‬و سبل الجمع بين صديقين مستقبليين سبل معروفة وبدهية لكن تحتاج لوقفات وتأمالت لنعيها ونتدبرها‬
‫‪...........‬‬

‫‪ -1‬الزمالء ‪:‬‬
‫وقد تقدم التعريف عنهم ‪ ،‬وهم أشخاص لقاؤهم جبري ‪ ،‬جمعتنا بهم ظروف ضرورية ‪ ،‬كضرورة الدراسة وهي أول ملتقى الزمالء‬
‫وكضرورة العمل وهي منتهى لقاء الزمالء ‪ ،‬الذكي من فاز بصديق من بين هؤالء الزمالء الكثر والغبي الشقي من ربط بين‬
‫الزمالء والمصلحة ربطا تاما بال تقدم في العالقة وبال استثمار لهذه الزماالت في زراعة صداقات ستمتد طول الحياة ال ترتبط‬
‫بدراسة وال عمل!‬
‫وعند نهاية الزمالة – بنهاية مرحلة دراسية أو نهاية العمل أو االنتقال إلى محل عمل آخر – يستيقظ اإلنسان على حقيقة‬
‫تعامالته فتتكشف له وجوه الناس و تتكشف له حقيقة نفسه ‪ ،‬فالصديق الحق حبل وده متصل وإن انقطع العمل أو الدراسة‬
‫والزميل المحض ينتهي و يمحى أثره بانتهاء رابطة المصلحة ‪ ،‬فيا من التبس عليك األصدقاء جاءت اللحظة الفارقة التي‬
‫ستعرف فيها الغث من السمين ‪ ،‬ويا من ال تعرف الصداقة وال تدرك حقيقتها جاءت اللحظة القارعة التي تفيقك من غفلتك‬
‫لتعرف أنك بال أصدقاء وأنك غرقت في دوامة العمل والمصلحة وحياة البدن ولم تعمل لحياة الروح والنفس التي ال تنقطع مع‬
‫استمرار األنفاس والدقات !‬
‫إنها لحظة صادمة تترقبها األنفس الطيبة الودودة المرهفة بخوف و وجل فهي لحظة مفترق طرق إما معك وإما في طريق آخر ‪،‬‬
‫هنا تتمزق القلوب الرقيقة بصدمتها في أناس ضيعوا أوقاتهم من أجلهم وهم ال يستحقون ‪ ،‬و تتشتت النفوس الوديعة بمفاجئتها‬
‫بأناس تعلقوا بهم وظنوهم أهل حب و وصال وهم أهل قطع وجفاء ‪ ،‬وهي محنة بين صفحاتها منحة ليكون الفتى على بينة من‬

‫الناس ( ال تحسبوه ش ار لكم بل هو خير لكم ) فال معنى للتلذذ بوصل أناس يخدعوننا بتملقهم سوى الحماقة و ُ‬
‫السكر‬
‫‪..................‬‬

‫هنا نالحظ ربطا بين المرحلة العمرية و مسألة الزمالة ‪............‬‬


‫فانتهاء مرحلة دراسية في فترة مبكرة من العمر ال يثمر أصدقاء وتعد نهاية المرحلة نهاية العالقة بالزمالء ‪ ،‬و المثال المرحلة‬
‫االبتدائية فغالبا زمالء تلك المرحلة يخرجون منها بدون توطد عالقة وهو ما يعني عدم حصول صداقة ‪ ،‬وذلك لقلة النضج‬

‫‪153‬‬
‫العقلي والقلبي في هذه المرحلة كما ذكرنا من قبل ‪ ،‬وهو ما يختلف اختالفا تاما عن المراحل المتزامنة مع فترة الم ارهقة ‪،‬‬
‫والمرحلة الثانوية مثال ينتج منها أفضل صداقات العمر التي تستمر باستمرار الحياة ‪ ،‬وهو أمر مشاهد غالب وإن كان له‬
‫استثناءات ‪..........‬‬
‫كثير من المشكالت تحدث حين يقع سوء الفهم بين طرفين يظن أحدهما اآلخر صديقا بينما األول ال تتعدى عالقته به عالقة‬
‫الزمالة والمصلحة هكذا يظن ! وهذا اإلشكال يجب تجنبه ابتداءً لئال تتطور األمور بعواقب نفسية سيئة على الراجي الصورة‬
‫األفضل للعالقة ‪..‬‬
‫المبوح بها من قبل الزمالء‬
‫ووسط الزمالء حين تزدهر فيه صداقة حلوة غضة ال يخلو من نظرات ومشاعر الغيرة المكتومة و َ‬
‫الذين لم يفوزوا بأصدقاء حقيقيين خصوصا أن الصديقين المتالزمين يوجهان األنظار إليهما بكثرة لقائهما وتقاربهما وهو ما‬
‫يتطلب الحذر والحيطة من جانب األصدقاء و كذلك تطهير النفس وإصالحها واالطالع على عيوبها من جانب الزمالء الذين لم‬
‫يجد الزمان عليهم بالصديق !‬
‫ُ‬

‫والصديق الزميل له سمات تميزه عن الصداقات األخرى بأنه تتاح له فرصة مقابلة صديقه بصورة دائمة ومنتظمة وهو شيء‬
‫طيب يبقي حبل الود موصوال ويجعل الصديقين على اطالع بأدق تفاصيل الحياة اليومية ولكنه في نفس اآلن له عيبه فصداقة‬
‫الزميلين معرضة للخطر أكثر من األصدقاء الذين يتقابلون في فترات أبعد فهما يتقابالن كثي ار فيقل وهج الشوق في قلوبهما الذي‬
‫هو المحرك والمولد للحب الصافي الدائم وهو ما قد يترك أث ار سلبيا يتمثل في بعض مشاعر الزهد من الطرف اآلخر الذي صار‬
‫سهل اللقاء والمنال كما أن كثرة المالزمة في العمل أو الدراسة يكثر معها الخالفات والشجارات مع كثرة االحتكاك وهو ما ال‬
‫يريده الصديقان طبعا ‪ ،‬ولكن الصداقة المتوطدة العتيقة تستطيع أن تصمد أمام تلك السلبيات بالحب والتفاهم وتنمية الجانب‬
‫اإليجابي فيها ‪...........‬‬

‫هذه هي الزمالة حين يستطيع المرء إحسان استثمارها بجلب األخالء واإلبقاء عليهم ‪ ،‬وجودها ضروري للحياة ولكنها ال تغني‬
‫عن الصداقة وإن كانت قد تصبح محطة سابقة للصداقة يفصل بينها وبين الصداقة محطة وسط هي الصحبة ‪ ،‬بيناها من قبل‬
‫ووضحنا الفرق بينها وبين الصداقة المكتملة األركان ‪ ،‬فمتى فقدت الصداقة ركنا من أركانها فهي الصحبة ومتى اقتصرت‬
‫العالقة على المصلحة والضرورة فهي الزمالة ‪........‬‬

‫‪ -2‬الجيران‬

‫الجيرة أرض طيبة لزراعة العالقات االجتماعية ولكنها تزدهر في هذه المهمة لدى فئتين من الناس ‪..‬األطفال والنساء‬
‫‪ ......................‬فالطفولة لعب وانطالق ورؤية الطفل لطفل آخر في المسكن المجاور تجذبه للعب معه و مشاركته يومه‬
‫خصوصا وقت الصيف وقت اإلجازة والفراغ والمرح فيظل الطفل الذي ينشغل وقت الدراسة بزمالئه ينتظر وقت اإلجازة‬
‫الستكمال مسيرة المرتع والملعب مع أقرانه من الجيران ‪ ،‬ومع نمو المستوى العقلي والوجداني للطفل حتى يصير مراهقا تتوطد‬

‫‪154‬‬
‫عالقته بأحد جيرانه إلى درجة قصوى فيتحول الهزل إلى جد واللعب إلى مشاركة وجدانية و سلوى روحية – طبعا عند من لديهم‬
‫نضج صداقي !‪ -‬لكن الجيرة عند األطفال تحتاج إلى استقرار وثبات حتى تأتي مرحلة النضج لتتحول إلى صداقة ‪ ،‬فإذا حدث‬
‫انقطاع في عالقة األطفال عموما بنقل أهل الطفل لمسكنهم فإن عالقة الطفلين حتما ستنقطع ألن الطفل غير البالغ ال حول له‬
‫وال قوة في ق اررات األهل فال يستطيع تركهم وحده لمالقاة جاره وصاحبه القديم فهو مرتبط بأهله ال يستطيع التنقل بحرية ‪،‬‬
‫وحينها ينقطع األمل في استمرار العالقة و انقطاع األمل في بلوغها ذروة النضج بالتحول إلى إخاء حقيقي ‪...‬‬
‫أما النساء فيكثر لديهن تكون الصداقات من الجيران وذلك لطبيعة المرأة المالزمة للبيت بعد الزواج ‪ ،‬فبعد الزواج تكون قد‬
‫ويحكم األناء أكثر حين تقرر الفتاة الزواج والتفرغ للبيت‬
‫انتهت دراسة الفتاة و تبعا ُقفل إناء ينضح باألصدقاء وهو الجامعة ‪ُ ،‬‬
‫بال عمل خارجي فال تجد المرأة سوى صديقاتها القديمات تتواصل معهن ولكن هي في حاجة لمزيد من الروابط االجتماعية‬
‫ومزيد من الصديقات المالصقات لها فتلجأ للتعرف على الجارات المتزوجات وتدريجيا تتوطد العالقة وتنشأ الصداقة التي وجدت‬
‫تسعين لملء فراغهن وتسلية وحدتهن والظروف متشابهة وليس للصديقة مثيل في‬
‫المناخ المناسب والتربة المهيئة في ربات بيوت َ‬
‫القيام بتلك المهمة ‪.......‬‬
‫وهنا ينبغي لألزواج الترحيب بهذه الصداقات الخاصة بزوجاتهم ألنها تجعل الزوجة أكثر انفتاحا وتشغل وقتها وال تشعرها‬
‫بحاجتها الدائمة لزوجها في غيابه فيأتي دور الصديقة لتلطف هذه الرغبة وتجعل الزوجة كأنها في وسط ميزان كفتاه الزوج‬
‫والصديقة !!‬

‫‪ -3‬المسجد‬
‫ال شك أن المسجد كان له الدور األعظم في نشأة النواة األولى للصحابة في المدينة ‪،‬فتوطدت روابطهم ‪ ،‬واشتدت حبائل‬
‫عالقاتهم من خير مكان و أفضل ملتقى ‪ ،‬ولعل ذلك كان من األسباب الرئيسية لمسارعة النبي – صلى هللا عليه وسلم – ببناء‬
‫المسجد بل جعله أول خطوة يخطوها في بناء صرح المدينة عاصمة اإلسالم حينئذ ليكون المنطلق في كل شيء ويكون مجمع‬
‫الروابط ومصنع اإلخاء و الصداقة اإليمانية كما هو مصنع الرجال الذين تظهر معادنهم عند الشدائد !‬
‫واليوم حين بدأت الصحوة اإلسالمية أعادت دور المسجد مرة أخرى ليكون ملتقى األحبة و ملجأ الصدور الظمأى و القلوب‬
‫الوالهة فكان بديال عمليا لتكوين الروابط عن المقاهي و المالهي التي يكثر فيها الفساد واإلفساد ‪ ،‬كما صار مكانا يتجمع فيه‬
‫األطفال والغلمان لتعلم كتاب هللا وحفظه ومنه تنشأ صحبة رائعة لم تزهر إال في طاعة هللا ‪ ،‬وكان التقاء األصحاب بالنسبة‬
‫للفتيان و الفتيات محف از خفيا لهؤالء األشبال للتمسك بالحضور في المسجد ‪ ،‬فنفوسهم اليافعة تحتاج لفسحة و بهجة فتتعلق‬
‫قلوبهم بتلك الفسحة بلقاء األصحاب فتتعلق نفوسهم بكتاب هللا وبيته وهو ما يفهمونه فيما بعد حين يكبرون فيكتشفون أنهم في‬
‫صغرهم كانوا يذهبون للمسجد لملتقى األصحاب للعب والفسحة والترويح – كذا كانت نياتهم و نفوسهم الصغيرة – أما اآلن فقد‬
‫فازوا بكتاب هللا و امتثال دينه كما فازوا بصداقات حقيقية لم يكونوا يلتفتون إليها في صغرهم ولم تكن سوى روابط مرح وفرح‬
‫ووفاء !‬
‫ً‬ ‫صارت اليوم بعد مرور الزمان صداقة‬

‫‪155‬‬
‫كذا للفتاة و المرأة التي يكثر مكثها في بيتها خصوصا ما بعد الزواج تحتاج من حين آلخر للذهاب لبيت هللا لحضور مجالس‬
‫العلم ولقاء الصديقات الحبيبات الالتي لن يفزن بمثلهن سوى لقائهن في المسجد فيكون المسجد سببا النفتاح المرأة وانطالقها‬
‫وخروجها عن دائرة منزلها الضيقة التي قد تصيبها بالملل و الضيق فيكون لقاء الصديقات هو المنفرج والفسحة التي ال تقتصر‬
‫على المسجد حتى تتعمق الروابط وتصير الصداقات قوية حقيقية فيبدأن يتزاورن و يحققن العمق االجتماعي المنشود !‬

‫فجل العالقات‬
‫إذن المسجد منهل للخّلة واإلخاء ولكنه تكثر فيه ظاهرة غير مرغوبة وهي ما سميته من قبل ( الصداقة الغثائية ) ّ‬
‫الكم كثي ار ما يحطم الكيف ! فتنشأ‬
‫التي تنشأ في المسجد تتسم بالجماعية ‪،‬وكما هو معلوم الجماعية تطغى على الفردية ‪ ،‬و ّ‬
‫هشة ال تصل إلى درجة الصداقة الحقيقية العميقة بأركانها المعروفة ‪ ،‬لذا على اإلنسان االنتباه‬
‫عالقات جماعية ولكنها ّ‬
‫والحرص ‪ ،‬وعندما نلحظ هذا األمر ينبغي البحث عن مصدر مساعد للصداقة حتى ال يستيقظ المرء على حقيقة أنه ليس لديه‬
‫أصدقاء حقيقيون وبالطبع تلك الحقيقة ال تنجلي إال في أوقات الشدائد و أوقات الظمأ العاطفي التي فيها يحتاج الم أر إلنسان‬
‫لصيق بقلبه ال فرق بينه وبينه ‪ ،‬وحين يحدث ذلك وال تجد األنفس الرقيقة الخليل المساند تصاب بالفراغ العاطفي الذي تنشأ عنه‬
‫الهموم والتعب ثم االكتئاب والكرب العظيم ‪ ،‬فعلينا الحذر!‬

‫‪ -4‬الوسطاء‬
‫الوسيط طريق نادر للوصول إلى األصدقاء ولكنه حقيقي إذا ساعدت عليه الظروف وهناك صورتان لهذا الوسيط ‪:‬‬
‫‪ -1‬وساطة صديق ‪:‬‬
‫وهي أن يتسبب صديق مقرب في نشوء عالقة بين صديقه و شخص آخر من معارفه أو صديق آخر من أصدقائه ‪ ،‬وهذه‬
‫الطريقة تمهد بسهولة للقبول بين الطرفين حيث يثق كل طرف في اآلخر ابتداء لثقة كل منهما في الوسيط الذي له مكانة كبيرة‬
‫في قلب كل منهما ‪ ،‬وهذا النوع ينشأ في ابتداء األمر من التقاء الثالثة بصورة متكررة ثم تتوطد عالقة الطرفين فيشرعان‬
‫يلتقيان في عدم وجود الطرف الوسيط ‪ ،‬وهذا النوع من الصداقة محفوف بالمخاطر ‪ ،‬فحين يكون الوسيط سببا في صداقة‬
‫صديقه بطرف آخر – على شعور أو على غير شعور منه – قد يؤدي ذلك إلى الغيرة واإلحساس بأن هذا الطرف قد نازعه في‬
‫صديقه وخطفه منه ‪ ،‬خصوصا حين يكثر اللقاء بين الصديقين الجديدين منفردين و يؤثر ذلك على معدل لقاء الصديقين‬
‫القديمين ‪ ،‬وقد تتطور النزاعات بعد الشد و الجذب إلى انتهاء العالقة بين الصديقين القديمين لتحل على أنقاضها الصداقة‬

‫الجديدة ‪ ،‬وهي صورة يكون فيها الوسيط أشبه بمن نال جزاء سنمار أو بمن ّ‬
‫سمن كلبه ليأكله !‬
‫‪ -2‬وساطة الزوج أو الزوجة ‪:‬‬
‫وفي هذه الصورة يريد الصديق المتزوج تعميق العالقة بينه وبين صديقه المتزوج مثله فيدعوه إلحضار زوجته معه لبيته للتعرف‬
‫بزوجته ‪ ،‬وهي مثال لمن ضرب عصفورين بحجر واحد ! فهي توطيد لعالقة الصديقين من جهة و من جهة أخرى يتفادى‬
‫الصديق فراغ زوجته بانشغاله بصديقه ‪ ،‬فالزوجة حين ينشغل عنها زوجها بصديقه تصاب بالفراغ والملل – في أخف الحاالت‬
‫‪ -‬إن لم تصب بالغيرة من هذا الصديق الذي انتزع زوجها منها و استولى على أغلب وقته ! فيقوم زوجها ببراعة بشغل وقتها‬

‫‪156‬‬
‫أثناء لقاء صديقه بلقائها لزوجته في نفس الوقت وفي نفس المنزل ‪ ،‬واألمر قد يتطور بصورة تدريجية إن سمحت الظروف‬
‫بنشوء صحبة أو عالقة لعب بين أبناء األسرتين فيزداد االندماج و يتوغل العمق حتى تصير الصداقة ما نسميه الصداقة‬
‫األُسرية ‪ ،‬وهي صداقة كاملة بين أسرتين كاملتين !‬

‫وال مانع أن يحدث النقيض وتكون الزوجتان هما السبب في نشوء الصداقة األسرية ‪،‬و ٌ‬
‫كل على قدر ذكائه و فطنته !‬

‫‪ -5‬األقارب‬
‫الصداقة قد تنشأ أحيانا بين األقارب فكم إنسان صديقه ابن عمه أو ابن خاله أو غيرهم ممن هم في نفس المرحلة العمرية ‪،‬‬
‫وهنا يجب أن نلحظ أن الصداقة مرحلة علياء من العالقة اإلنسانية ‪ ،‬والصداقة بال شك أعلى وأسمى من القرابة والنسب حتى‬
‫األخ واألخت ال يرتقيان فوق الصديق المقرب اللهم إال أن يتحول األخ إلى صديق حينها يكون وصل للمنزلة العلياء ‪ ،‬هكذا‬
‫أجمع أهل األدب والعلم‬
‫ولنا في هذه المسألة مقال ‪........‬‬
‫الصداقة أعظم من القرابة والنسب‬
‫لعل من أهم األسباب التي تجعل الخليل أهم وأقرب من القريب وإن كان األخ الشقيق أنك إنما تختار صديقك بنفسك أما أخوك‬
‫فهو مفروض عليك لم يكن لك إرادة في اختياره ‪ ،‬فتميز الصديق على األخ والقريب أنه اصطفائي بينما القريب إجباري ‪،‬‬
‫فصديقك إنما يصنع على عينك و قريبك يوجد على رغم أنفك ! وما كان فيه اختيار أسمى مما كان فيه إجبار وهذا ما ميز آدم‬
‫وبنيه على المالئكة األبرار فالمالئكة وإن كانوا ال يعصون هللا ما أمرهم مجبرون على الطاعة بينما آدم يفعلها باختياره فتميز‬
‫عليهم وكان حقا عليهم أن يسجدوا له ‪ ،‬وكذا الصديق المصطفى من بين البشر كان في اصطفائه كالعسل المصّفى في نقائه‬
‫تعد ‪ ،‬فإذا نظرنا ألركان الصداقة نجدها تسمو بالصديق على بقية البشر‬
‫فال يضاهيه القريب أبدا واألدلة على ذلك أكثر من أن ّ‬
‫ومنهم األهل فشقيقك قد تخجل منه في مسائل ال تخجل منها أمام صديقك و تفتح صدرك لصديقك وتغلقه أحيانا أمام شقيقك ‪،‬‬
‫تشتاق ألخيك السببي أكثر من اشتياقك ألخيك النسبي ! ترتاح للقاء حبيبك أكثر من ارتياحك ألهلك و إخوتك ‪ ،‬فهل هنالك من‬
‫شك في تميز الصديق وارتقائه فوق األهل والنسباء ؟!‬
‫ولعل الشاعر قالها حقيقة صارخة مدوية ترتطم باآلذان ‪:‬‬
‫وأنطق الناس في نظم وفي خطب‬ ‫يا أكرم الناس في ضيق وفي سعة‬
‫فرتبة الود تعلو رتبة النس ـ ــب‬ ‫إنا وإن لم يكن بيننا نسـ ـ ــب‬
‫هذا – االصطفاء – سبب صارخ لتفوق الصديق على القريب و من األسباب األخرى ما قاله الحسن ‪:‬‬
‫إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأوالدنا ألن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا باآلخرة !‬

‫‪157‬‬
‫وأكد على تلك الحقيقة األوزاعي حين سئل ‪ :‬أيبلغ من حب الرجل ألخيه أن يكون أحب إليه من أخيه ألمه وأبيه ؟؟ قال نعم‬
‫وهللا ومن أمه وأبيه !‬
‫وأكد ابن عباس على تلك الحقيقة الصارخة بتعبير قاس ‪ ( :‬الرحم تقطع والنعم تُكفر ولم ير كتقارب القلوب ) !‬
‫و حاكى الشاعر كالم ابن عباس قائال ‪:‬‬
‫اء َوَال َكتََق ُار ِب اْلَقْل َب ْي ِن‬ ‫طع َّ ِ‬
‫َّ‬ ‫الرح ُم اْلَق ِر ُ‬
‫يب َوتُ ْكَف ُر النـ ْـع َم ُ‬ ‫َق ْد ُيْق َ ُ‬
‫َفِإ َذا ُه َما َنْف ٌس تَُرى َنَف َس ْي ِن‬ ‫ُي ْب ِدي اْل َه َوى َه َذا َوُي ْب ِدي َذا اْل َهو ى‬
‫ولعل أفضل تعبير عبر به ابن المقفع حين سئل‪ :‬الصديق أحب إليك أم القريب ؟ قال ‪ :‬القريب يحب أن يكون صديقا !‬
‫وأبو تمام ذكر االلتباس في هذه المسـألة ولعله خانه لفظه في هذه القضية فقال ‪:‬‬
‫لم تدر أي ــهما ذوو أرحام‬ ‫وإذا رأيت صديقه و شقيقه‬
‫شاهدت في عالم الصداقة أن األخ قد يقترض من أخيه شقيقه ثم يقترض من صديقه المقرب ليسدد دينه ألخيه !‬
‫ُ‬ ‫ومن أعجب ما‬
‫وكأنه بلسان حاله يقول ‪ :‬أن أكون مدينا لصديقي أهون علي من أن أكون مدينا لشقيقي ‪ ،‬فشقيقي شيء وأنا شيء بينما أنا‬
‫ّ‬
‫وصديقي شيء واحد ! ‪ ،‬بل األعجب من ذلك في تلك الدنيا العجيبة أن يطلب الشقيق من شقيقه قرضا فيتغافل عنه ويتناسى‬
‫طلبه فيفزع إلى صديقه الذي يجود عليه بكل ٍ‬
‫غال ونفيس بال حرج وال تردد !! ‪..‬‬
‫خلفت والدا‬
‫ُ‬ ‫خلفت وراءك فقال‬
‫َ‬ ‫وفصل في أسباب تفضيل الصديق على األهل ذلك األعرابي الذي ذهب إلى الشام فقيل له ‪ :‬من‬
‫ووالدة وأختا وابن عم وعشيقا وصديقا فقيل له كيف حنينهم إليك قال ‪ :‬أشد الحنين‪ ....‬فذكرهم كلهم وعندما ذكر الصديق قال ‪:‬‬
‫وأما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك ألني أصارحه بما أجلّ أبي عنه وأجبأ من أمي فيه وأطويه عن أختي‬
‫خجال منها وأداجي ابن عمي عليه خوفا من حسد يفقأ ما بيني وبينه وكل هؤالء على شرف موقعهم مني دون الصديق الذي‬
‫ذللت له عز بي !‬
‫عززت له ذل لي وإذا ُ‬
‫ُ‬ ‫دنوت إذا‬
‫ُ‬ ‫أرى الدنيا بعينه إذا ر ُ‬
‫نوت وأجد فائتي عنده إذا‬
‫وهنا يجدر بنا الحديث عن مسألة قد يحدث فيها خلط ‪ ،‬أيهما أقرب الصديق أم األم ؟ ‪...............‬‬
‫وأنا أقولها صريحة مدوية ال أواري بها وال أستحي منها ‪ :‬الصديق في رأيي أقرب من األم !‬
‫فإن قيل فما ردك على حديث النبي صلى هللا عليه وسلم – حين سئل ‪ :‬من أحق الناس بصحبتي يا رسول هللا قال أمك ثالث‬
‫مرات ثم قال أبوك ؟؟ ‪ ،‬فالرد عندي جلي وهو أنه قال صحبتي ولم يقل صداقتي ! والصداقة أقوى وأقرب من الصحبة كما‬
‫ّ‬
‫ذكرنا آنفا ‪......‬‬
‫فإن قيل ما السبب ؟ أقول مكر ار ‪ :‬إن النفس تهوي إلى قرينتها فالشاب يميل للشاب من سنه و الصبي يميل للصبي من عمره‬
‫والرجل يميل لمقاربه سنا والفتاة تميل لقرينتها القريبة من عمرها ‪ ،‬العامل العمري من أهم عوامل القرب النفسي والفكري بين‬
‫اثنين وهما الصديقان ‪ ،‬وميل اإلنسان ألمه وأبيه يكون في المراحل المبكرة من العمر ولكنه سرعان ما ينقلب ويتغير مع نضج‬
‫اإلنسان و تقدمه في العمر فيميل الم أر ألقرانه وينصرف عن والديه الذين يعدان ذلك جحودا – إن لم يتفهما حقيقة األمر –‬
‫سنة من سنن الحياة تماما مثل الزوجة التي تخطف االبن من بين أحضان أمه فيقع الصراع ‪ ،‬وأنا أقول إن الص ارع‬
‫فهذه ّ‬
‫الصداقي األسري مبكر أكثر فالذي يختطف االبن من والديه قبل الزوجة هو الصديق ‪ ،‬حقيقة علمية واجتماعية ونفسية ‪،‬‬
‫فليفهمها وليقبلها الجميع وإما فالبؤس والهم والحزن !‬

‫‪158‬‬
‫نعود مرة أخرى لموضوعنا ونقول إن القريب يحب أن يكون صديقا ‪ ،‬وحينما يصير القريب صديقا تزداد حقوقه على صديقه‬
‫وتزداد أكثر حين يكون كذلك جا ار ‪ ،‬وهو أمر غير واجب بمعنى أنه ال يجب أن تتعمق العالقة بين األقارب لتصير صداقة ‪،‬‬
‫المسألة كما نكرر كثي ار مسألة قلوب والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء ‪ ،‬ولكن القريب الصديق يجب تسميته بالمرتبة األعلى‬
‫‪ ،‬فابن عمك حين يصير صديقك عليك أن تقول قابلت صديقي ال أن تقول قابلت ابن عمي حتى يعرف الجميع منزلته السامية‬
‫عندك تماما مثل الضابط الذي يترقى من عقيد إلى عميد ال يناديه الناس يا عقيد وإنما يعرفونه بالرتبة الجديدة العلياء فيقولون‬
‫المحبة !‬
‫ّ‬ ‫هو عميد ‪ ،‬هذه مسائل يظنها بعض الناس رسميات ولكنها في الحقيقة لها أعظم األثر على األنفس‬

‫ظروف نشأة الصداقة ( لحظات جوهرية ! )‬


‫للصداقة حين بدايتها أحوال وأشكال ‪ ،‬تلك األحوال التي تنقل العالقة من الصحبة إلى الصداقة ‪ ،‬ظروف محورية في حياة‬
‫المخلصين تبدأ عندها نقطة تحول ‪ ،‬عندها تتخذ العالقة صورة جديدة في حياة القرينين ‪ ،‬عندها تجب واجبات و تقع على‬
‫عاتقيهما مسئوليات فقط عند تلك اللحظة الفارقة الصادقة التي تنكشف فيها الحجب ويصير القلبان قلبا واحدا ‪...............‬‬

‫‪ -1‬لحظة حب !‬

‫تأتي تلك اللحظة بعد فترة طويلة من اللقاء والمصاحبة ‪،‬في لحظة لقاء منفرد بينهما يخيم الصفاء و يزدان الصاحب في عين‬
‫صاحبه ‪ ،‬ويشعر القرين بأن الدنيا مبتسمة من حوله وأن اآلفاق قد اتسعت مشرقة متأللئة ‪ ،‬وصاحبه قد صار ملكا متوجا ‪،‬‬
‫حينها يرى الصاحب صاحبه في أبهى صوره و أجمل تألقاته ‪ ،‬فال يجد تعبي ار الئقا وال كلمة معبرة وال امتنانا حقيقيا سوى أن‬
‫يقول ‪ :‬إني أحبك !‪ .........‬نعم أحبك في هللا ‪ ...........‬كتمتها طويال ولكني ال أستطيع االنتظار أكثر من ذلك‬
‫‪ ............‬هذه أنسب لحظة ألقولها لك ‪ .......‬هذه ليست كلمة معيبة وال لفظا مشينا بل كلمة رّغب فيها اإلسالم و تحتاجها‬
‫اإلنسانية المع ّذبة التي شقت كثي ار وأظلمت أركانها حين خلت من معاني ذلك الحب وتلك األلفة ‪ ............‬تلك المعاني التي‬
‫أحتاجها اآلن بيني وبينك ‪ .............‬نعم أنت من بين الناس أحببتك ‪ ،‬كثرت األسباب ‪ ،‬و اإلبهام كذا قائم ‪ ،‬فال تسألني‬
‫لماذا أنت بالذات دون غيرك وإن اشتركوا في تلك األسباب ‪ ،‬فهذا ال أعلمه وال أملك اإلجابة عنه ‪ ،‬فيض من المشاعر يجيش‬
‫بخاطري و دفقة من العاطفة تنبعث من أحشائي كضوء الشمس المتأللئ كتمتها كثي ار وفي تلك اللحظة ُبحت بها ألستريح ‪،‬‬
‫ولك االختيار أحببتك لنفسك ال أريد منك جزاء وال شكو ار !!‪.................‬‬
‫المحب الذي أصابه سهم الحب كما أصاب صاحبه ال يملك حينها إال أن‬
‫ّ‬ ‫حينما يسمع تلك الكلمات العذبة الصاحب الودود‬
‫تنفجر شفتاه قائلة ‪ :‬ووهللا أنا أحبك كذلك بل أحبك أكثر مما تحبني ‪ ،‬وترددت في البوح بها ولكنك كنت صاحب الفضل حين‬
‫سبقتني وأعلنتها واضحة صريحة ‪ ،‬إنني ال يسعني الكون اآلن حين أسمعها منك ‪ ،‬إنني أكاد أفقد عقلي بكلماتك الرقيقة التي أنا‬
‫بحب شخص عظيم مثلك ! جزيت خي ار أن أرحت قلبي و مألت علي دنياي و جعلت للدنيا‬ ‫بها أسعد الناس وأكثرهم حظا بفوزي ّ‬
‫طعما حلوا بعد م اررتها كثي ار كثي ار ‪..................‬‬

‫‪159‬‬
‫فيرد الصاحب الواله الذي ال يصدق أذنه وال عينه ‪ :‬اآلن أنت صديقي ‪ ،‬اآلن ابتداء عهد جديد بيننا وصفحة جديدة من حياتنا‬
‫‪ ،‬اآلن لن تفترق قلوبنا ‪ ،‬سنخوض غمار الدنيا معا ‪ ،‬سنحطم صخور الحياة ّ‬
‫سويا ‪ ،‬سنتعاون على البر والتقوى ‪ ،‬سننمي حبنا‬
‫و نحيطه بالرعاية و االهتمام ‪ ،‬سنعمق أواصرنا إلى األرض السابعة ! و نعلو ببناء أخوتنا إلى أبعد سماء ! لن نسمح ألحد أن‬
‫يتدخل بيننا ولن نرضى بأي مشكلة تكدر علينا صفو حياتنا ‪ ،‬ستظل أيادينا متشابكة سأظل نصيبك وستظل نصيبي من الدنيا‬
‫إلى أن نلقى هللا فنلتقي تحت ظله يوم تزول الظالل و تنتهي وال يبقى إال ظله الظليل فيشملنا الحب في جنة اآلخرة كما شملنا‬
‫في جنتنا في الدنيا !!‪............‬‬
‫إنه ابتداء أخوة جديدة تزدان بها الدنيا و تتلون بها الحياة ‪ ،‬حياة كانت بال طعم فصارت حلوة عذبة المذاق ‪ ،‬ترفرف من‬
‫حولهما طيور السعادة و تحيط بجوانبهم نسائم الصفاء ‪ ،‬يتعرف من خاللها الرفيقان يوما بعد يوم على حقوق األخوة فيزداد‬
‫أخوة العمر !‬
‫العمق و يشتد عود الصداقة وتنبني صداقة السنين و ّ‬

‫‪ -2‬لحظة كرب !‬

‫إن لحظات الكرب و وقت الشدة لحظات داكنة كئيبة تضيق علينا فيها الدنيا بما رحبت ونكون فيها كالغرقى المنتظرين للموت‬
‫ظر شاركت فيه الدنيا‬‫يجد بهذا الطوق في هذه المحنة فقد أحيانا بعد الموت المحقق ‪ ،‬موت منت َ‬ ‫نحتاج لطوق نجاة ‪ ،‬فمن ُ‬
‫وساهم فيه الناس ‪ ،‬أولئك البشر القريبون منا الذين التمسنا منهم طوق النجاة فبخلوا به علينا فكانوا أسوأ معين لتقلبات الحياة و‬
‫مكدرات الدهر وكانوا كخنجر العدو المسموم الذيٌ يجهز علينا في جراحنا ‪ ،‬خنجر يطعننا من عامة الناس – وهو معتاد –‬
‫وخنجر يطعننا من أراذل الناس – وهو متوقع – ولكن أقسى خنجر يأتي في مقتل هو خنجر (بروتس) الشكسبيري الشهير ‪،‬‬
‫إنه ليس خنج ار إيجابيا وإنما هو خنجر سلبي ‪ ،‬يقتل بعدم الفعل ‪ ،‬يجهز علينا بالتخلي ال بالتحلي ‪ ،‬وحينها يأتي بصيص من‬
‫أكنوا لنا الحب بال مقابل ‪ ،‬أناس مستترون ‪ ،‬يمثلون أدوا ار ثانوية‬
‫نور األمل يأتي ممن ظنناهم أبعد ممن ظنناهم أقرب !! أناس ّ‬
‫في حياتنا ‪ ،‬ظنناهم في الهامش ‪ ،‬بل تعمدنا وضعهم في غير مقامهم ‪ ،‬فأتت اللحظة المناسبة الفارقة ليجعلونا نفيق من غفلتنا‬
‫‪ ،‬وليجبرونا على معرفة مقامهم و وضعهم في المكان الصحيح ! مبلغ من المال بخل علينا به كل الناس األقارب واألباعد‬
‫ضن بها الناس علينا اللهم سوى كلمات التعزية الجوفاء الخالية من‬
‫كأنهم سواء ‪ ،‬همسة مشاركة وجدانية و مشاعر متدفقة ّ‬
‫حسي ومشاركة جسدية ال مادية تخلى عنها أكثرهم متذرعين بالمشاغل و دوامات الحياة ‪ ،‬تخلى عنا كل هؤالء‬‫الشعور ‪ ،‬تواجد ّ‬
‫‪ ،‬وأعطانا كل ذلك شخص طيب القلب حاضر الذهن يقول بلسان حاله ‪ :‬أنا لها ‪ ..‬أنا لها ‪..‬‬
‫سنحل سويا في دائرة‬
‫ّ‬ ‫سأعطيك ما بخل عليك به الناس ‪ ،‬سأواسيك بمالي و إحساسي وشعوري سأتواجد معك في مربع محنتك و‬
‫كربك ووحشتك ‪ .............‬ثم تمر المحنة كعاصفة هوجاء محت كثي ار من آثار الحياة ‪ ،‬حطمت الديار و اآلبار ‪ ،‬أزالت‬
‫البيوت الكرتونية الخاوية و أخذت معها النباتات الضعيفة الهاوية ‪ ،‬وبرز بعد زوال العاصفة مبنى شامخ أو نبات أصيل صمد‬
‫أمام اإلعصار وكان الملجأ والمالذ بعد انتهاء الكارثة ‪ ،‬إنه الصديق الجديد ‪ ...........‬ولد من رحم المحنة والمعاناة فكان‬
‫متاعا في الرخاء كما كان ذخ ار في العناء ‪...................‬‬

‫‪160‬‬
‫غضضت طرفي عنك كثي ار وما كان ذلك إال لقصور عقلي و قصر‬
‫ُ‬ ‫غفلت عنك طويال و‬
‫ُ‬ ‫لقد َّ‬
‫أثبت أنك أحق الناس بصداقتي ‪،‬‬
‫نظري ‪ ،‬إنني لن أتخلى عنك أبدا مهما دار الزمان بل إنني أرجوك أن تقبلني صديقا فلم يعد لي سند سواك ‪ ،‬إن حبك اخترق‬
‫قلبي قه ار و غصبا بعدما استعصى على كثير من الغزاة من قبلك ! وما ذلك إال لمقامك وشرفك ونبلك ‪ ،‬إنك خير ما جادت‬
‫علي به المحنة ‪................‬‬
‫َّ‬

‫‪ -3‬لحظة مشاركة‬

‫حين تطحن الدنيا اإلنسان بطواحينها ويوم تمزقه بمخالبها و أسنانها ‪،‬و ساع ًة تقطعه بتروسها و ُمداها – ساعتها ال يصاب‬
‫تكسر الدنيا الناس جماعات ال أفرادا ! وهذا من بأسها وشدتها وجبروتها الذي يستعصي على‬ ‫اإلنسان بأذاها وحده ‪ ،‬بل ّ‬
‫الجماعة أحيانا ! فساعة إصابتك بكارثة ال بد لك من رفيق محنة ‪ ،‬ظروفه مثل ظروفك ومبتاله مثل مصابك ‪ ،‬قد تغفل عنه‬
‫عيناك ‪ ،‬ولكن عقلك الباحث ال بد أال يغفل عنه ! فالنفوس ُجبلت على التقرب من شريك المحنة ‪ ،‬فمعه تشعر حينها بذاتك !‬
‫ولحظات حديث معه لحظات ملطفة للقلب و مبردة لنار العقل والفكر ! لحظات بريئة خالية من نظرات الحقد والحسد فالحال‬
‫واحدة ! و أوقات بريئة من أوحال المقارنة والتعجب والتسخط فالبلية غير مختلفة ! بل أعجب من ذلك أن بعض النفوس في‬
‫أذل و أقل حاال وأشد بؤسا فمعهم تشعر النفس بنعمة هللا التي أنعم بها علينا وتتمثل‬
‫تحن لمن هو أضعف منها و ّ‬
‫تلك اللحظات ّ‬
‫تمد لهم‬
‫قول رسوله الكريم ( انظروا لمن هو أسفل منكم وال تنظروا لمن هو فوقكم فهو أجدر أال تزدروا نعمة هللا عليكم ! ) بل ّ‬
‫يد العون الكسيرة شأنها شأن المثل العربي الشهير ( ظالع يعود كسيرا!)‬
‫المبت َل ِْين تتآلف القلوب وتختلط األرواح ‪ ،‬وتمتزج نسائم النفوس ‪ ،‬وتولد صداقات جديدة‬
‫للممتحنين َ‬
‫َ‬ ‫في تلك األوقات الجامعة‬
‫المحنة الجامعة أساسها ولكنها تستمر بعد المحنة إلى نهاية الحياة ‪........‬‬
‫أرأيتم السجناء المظلمين ؟! حين يجتمعون على الكربة تجتمع قلوبهم في يسر بالغ ‪ ،‬فهم يقضون كل أوقاتهم جميعا ‪ ..‬فيكثر‬
‫وسره ‪ ،‬بل تظهر معان جديدة راقية بينهم مثل‬
‫الحوار و تنكشف األسرار وتتعمق الرابطة و يأتمن كل واحد اآلخر على نفسه ّ‬
‫تكبر بل يشغلون أوقاتهم بطاعة هللا بذكره واالجتماع على الصالة وقيام‬
‫معنى اإليثار و معنى التشارك في الطعام بال أَثَرة أو ّ‬
‫الليل ‪ ،‬تلك اللحظات اإليمانية الراقية التي ربما افتقدوها خارج السجن و بعيدا عن محيط المحنة ‪ ،‬بل الرابط األعظم هو‬
‫االشتراك في األمنية ووحدة الهدف و انتظار شيء واحد هو فرج هللا تعالى ‪ .........‬أليس كل ذلك كافيا لنشأة صداقة دائمة‬
‫فوالذية ؟! إذا أردتم فهم هذا الشعور فاسألوا سجناء تزمامرت و جوانتانامو فعندهم اإلجابة !‬
‫ومثل السجن المنفى خارج الوطن سواء أكان إجباريا أم اختياريا فهو في النهاية ضد رغبة النفس التي تجنح إلى االستقرار وسط‬
‫أهلها وأصحابها فتجد المتنفس في المرافقين الجدد في رحلة الحياة الجديدة المليئة بالغموض والتوقعات الغيبية ‪ ،‬نفس المأساة و‬
‫نفس المعاناة في من معنا من المنفيين تحفز جنوحا إليهم و استئناسا بهم من وعثاء السفروالغربة ومع كثرة االقتران يحدث‬
‫االئتالف وتتولد مشاعر أخوية راقية تذيب جمود الوحشة و تكسر معاني الغربة وتنمو صداقة جديدة روتها الظروف و منحتها‬
‫الحياة على رغم جدب األرض وصالبتها!‬

‫‪161‬‬
‫وحين يعود الرفقاء إلى الديار ال ينسون بعضا وال يفترقون روحا ‪ ،‬فال يلبثون أن يعاودوا االجتماع لينثروا الذكريات و يخططوا‬
‫لحياة جديدة وواقع مشرق ‪ ،‬تلك النفوس الطيبة الهينة التي تألف وتؤلف ال تتنكر للماضي بل تحتضنه و تتشبث به ‪ ،‬أما‬
‫النفوس البرجماتية المحضة فال تستثمر المحن في اكتساب أصدقاء يستمرون طول الحياة وإنما تستثمرها لمنافع مؤقتة زائلة‬
‫تحكمها المادة وليس لهم من متاع الروح نصيب ! وإذا أردتم فهم شعور المحبين الطيبين فاسألوا أصحاب ( ُعرابي )فعندهم‬
‫ّ‬
‫الخبر اليقين !‬
‫أما رفقاء السالح فلهم شأن آخر ! فهم رفقة في مكان يحّفه الموت من كل جانب ‪ ،‬أناس ينتظرون الموت في أي لحظة ‪ ،‬طلقة‬
‫رصاص واحدة تنهي كل شيء ! يذهبون للنوم معا وال يدرون أهو آخر منام لهم في فراشهم أم تجود عليهم الدنيا بمنام آخر !‬
‫يتفحص كل منهم صاحبه ورفيقه منذ سنوات وال يدري هل سيراه بعد لحظات أم تأتيه رصاصة طائشة أو طلقة مدفع وينتهي كل‬
‫شيء ؟! أناس أجبروا على مجابهة الموت معا ليس لهم رغبة فيه بل له رغبة فيهم ! في تلك اللحظات التي يختلط فيها الموت‬
‫بالحياة واليأس باألمل تتولد عالقات قوية بين نفوس حين تلتقي تغشاها الرقة المفرطة و الحنان األخوي السابغ ‪ ،‬يطرح كل منهم‬
‫أس ارره بال خجل وال حرج يبوح بكل ما لديه فال شيء يبكي عليه ‪ ،‬تنشأ روح التعاون والتآزر بل ينبثق نسيم الحب المنعش الذي‬
‫يهون الجراح و يهدئ النفوس ولم ال يقع ذلك و هؤالء الرفقاء قد نفقدهم في أي لحظة ؟! أليست تلك اللحظات الباقية من حياتنا‬
‫ّ‬
‫وحياتهم جديرة بشمولها بأعلى روح أخوية صداقية لنعيش أسمى إحساس وأرقى شعور ؟؟!! وعلى الجانب اآلخر تملك اليأس‬
‫بعض الرفقاء الذين نظروا للموقف نظرة مختلفة ‪ ،‬فقالوا كيف نتعلق بأحياء اليوم وموتى الغد ؟! أليس ذلك ضربا من الحماقة‬
‫وتعذيب النفس ؟! أنحب اليوم ونبكي وننتحب غدا ؟! كال ‪ ..‬ليكن بيننا وبين رفقائنا حجاب مستور يصد الريح التي ال يعلم‬
‫مداها ومنتهاها ‪ ،‬لنغلق قلوبنا و ننطو على أنفسنا لئال نكتوي بنار الفراق و النحيب ! تلك المشاعر المتعاكسة ال يعلمها إال من‬
‫جربها إذا أردت أن تعرف حقيقة تلك المشاعر فاسأل جنود الحرب العالمية األولى فعندهم أعجب خبر !! ‪.............‬‬
‫تلك أمثلة على المتشاركين في المحن واألمثلة ال تنتهي كما أن الكربات ال تنقطع ما دامت السموات واألرض !!‬

‫‪ -4‬لحظة إفصاح !‬

‫في لحظات يشتد فيها الكرب و يضيق الصدر بما فيه و ال يجد اإلنسان صديقا بجواره تطمئن نفسه إلنسان آخر التمس فيه‬
‫نبل الخلق وطيب النفس و ذكاء العقل وحكمة الحكماء فيطلبه ليستشيره ‪ ،‬فيتسع صدر ذلك اإلنسان – وإن لم يكن صديقا –‬
‫لشيء في نفسه و شيء في نفس الشخص البائح ‪ ،‬يفيض بكل ما عنده من آالم وشجون و ينّفس عن نفسه كبتا يخنقه و ضيقا‬
‫حل و يجود عليه في‬
‫يؤرقه ‪ ،‬فيجد صدر صاحبه رحبا فيجد منه التجاوب واالهتمام والسؤال عن أدق التفاصيل للوصول إلى ّ‬
‫النهاية بكل ما عنده من نصائح و خيارات يراها األفضل لحل مشكلته ‪ ،‬فتطمئن نفس األول لصاحبه الطيب الناصح ‪ ،‬ويشعر‬
‫الكرة ويعود الشخص الناصح فيطلب النصيحة من صاحبه كما طلبها‬ ‫ِ‬
‫الناصح بمكانة علياء عند صاحبه المشتكي‪ ،‬و تنقلب ّ‬
‫منه أول مرة ‪ ،‬فتنشأ صورة جديدة من العالقة ماهي سوى ابتداء صداقة انبنت على ركن من أركانها هو البوح باألسرار الذي‬
‫سرعان ما يتطور للحب المتبادل العميق ثم التزاور والترابط ‪ ،‬وماكان ذلك لوال الظروف التي ألجأت مصدو ار لصاحبه فالتقى‬

‫‪162‬‬
‫االثنان على غير موعد تماما مثل أغلب الصداقات الناجحة التي تلعب فيها األحوال الغريبة و المالبسات العجيبة دو ار محوريا‬
‫في بناء جديد ألخوة صادقة ‪....................‬‬

‫تحول‬
‫‪ -5‬لحظة ّ‬

‫اختالف اآلراء مع قلة سعة الصدر نتيجته الكراهية والنفور ! ومع كل لحظة اختالف وصدام وتأجج للنقاش تزداد الكراهية بل قد‬
‫تصل لحد التطرف واإلقصاء والرغبة في القضاء على الخصم ‪ ،‬ولكن ذلك الخصم قد يكون على الحق المبين و اختالف‬
‫خصمه معه إنما نشأ نتيجة لظروف تربيته ومجتمعه و نشأته الخاطئة ‪ ،‬ولكن خصمه المحق ألنه على الصواب يتحرى‬
‫األخالق الفاضلة والمثل العليا في سلوكه وتصرفاته وهو ما يحرج صاحبه الشرير الذي في ابتداء األمر يضيق ذرعا باستفزاز‬
‫المقابلة بمثلها من جانبه هو ولكنه ال يلبث أن يقف مع نفسه وقفة تأمل‬
‫َ‬ ‫خصمه الطيب له بأخالقه الفاضلة غير المتوقعة وغير‬
‫و رجوع للعقل والقلب ‪ ،‬لحظة مالكية تنصرف فيها الشياطين ‪ ،‬لحظة تحوم فيها نسائم الجنان و يتبخر فيها سرادق الجحيم !‬
‫حينها يعود ذلك الم أر إلى صوابه و يعود لمناقشة صاحبه بهدوء واطمئنان ورغبة جديدة في التلقي ومعرفة الصواب وهنا تحدث‬
‫اللحظة الفارقة ‪ ،‬لحظة التبدل والتغير والعودة إلى الفطرة والصواب ويتحول الخصم العنيد إلى متفاهم بل موافق لرأي صاحبه ‪،‬‬
‫وبعدها يتأمل ذلك الموقف العجيب ويشعر بخطئه ويشعر كذلك باإلعجاب بذلك اإلنسان الذي اتخذه عدوا من قبل أن قد وصل‬
‫إلى الحق والحقيقة قبله بل دله عليها وأخذ بيده ليصل إليها ‪ ،‬وتدريجيا يتغلغل الحب بعد كنس شوائب الكراهية من القلب‬
‫ويتحقق قول هللا تعالى ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) وحينها يحصل التجاذب بعد طول التنافر والحب بعد‬
‫حب إال بعد عداوة ) كما قال أبو بكر الخالدي ‪:‬‬ ‫الكره ‪ ،‬ويتحقق قول القائل ‪ ( :‬من ّ‬
‫س ُم ْع ِظما‬
‫صديقاً م ِجالًّ في المجالِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫داوٍة‬
‫صا َر َب ْع َد َعـ ـ َ‬
‫ٍ‬ ‫َ ِ‬
‫وك ْم م ْن َع ُدّو َ‬
‫ان ِحصـِْرما‬ ‫ِ‬
‫ُيرى ع َنباً من َب ْعد ما َك َ‬ ‫عود َك ْرَم ٍة‬
‫قود ِم ْن ِ‬ ‫الع ْن ُ‬
‫وال َغ ْرَو َف ُ‬
‫ويتعجب المتعجبون و يصير الصديقان الجديدان مضرب المثل و مثار الدهشة والعجب كما قال عبيد بن أيوب العنبري ‪:‬‬
‫وللد ِ‬
‫هر‬ ‫ِ‬
‫صفاء بعد طول عداوٍة‬
‫لتقليب الُقلُوب َّ‬ ‫أال يا‬ ‫خليال َ‬
‫هذا المشهد الرائع رأيته بعيني والتبست به بنفسي وكان المشهد هو مشهد الملتزم المتدين حين يكرهه ويعاديه المتحرر المتحلل‬
‫الذي يصف صاحبه بالتشدد والضالل ولكنه ال يلبث أن يلين قلبه ويضعف أمام الحق والحقيقة فينصاع لطريق الهداية و‬
‫يكتسب منه صديقا عزي از قلما يجود به الدهر وهذه هي حقا روعة الحياة !‪............‬‬

‫‪ -6‬لحظة إعجاب‬
‫شخص تشخص إليه األبصار ‪ ،‬تحيط به األضواء من كل جانب ‪ ،‬ينتقل من نجاح إلى نجاح فيرمقه الناس بنظرات اإلعجاب‬
‫واالنبهار ولمَ ال ينبهرون وهو يتميز على الجميع بل تتراكم مؤهالت تميزه يوما بعد يوم ليصير في القمة و تتجمع أشكال‬
‫موهبته و نبوغه ليرقى إلى سماء فيراقبه الناس كما يراقبون القمر المنير والنجوم المتأللئة ‪ ،‬منهم من يتحول إعجابه إلى حسد‬

‫‪163‬‬
‫وحقد دفين ربما ال يستطيع البوح به ومنهم من يتحول إعجابه إلى حسرة على نفسه بعد طول مقارنة وموازنة بينه وبينه ‪ ،‬ولكن‬
‫من بين الناس من يتحول إعجابه إلى حب حقيقي تتبعه رغبة صادقة في التقرب من هذا الشخص الناجح ليشبع حاجاته‬
‫النفسية أوال بصديق ناجح راجح العقل متميز الفكر ‪ ،‬وهنا يحاول الشخص المنبهر التقرب من ذلك الناجح تقرب مودة وحب ال‬
‫المتقرب منه بحال صاحبه ويلتمس فيه رغبة صادقة في عالقة ودية طيبة ويشعر بإحساس جديد لم‬
‫َّ‬ ‫منفعة وتملق ‪ ،‬فيشعر‬
‫يشعر به من قبل‪ ،‬إحساس بشيءمفقود وسط زحام النجاح لم يأبه له ولم يشغل باله في ما مضى ولكنه شغل باله اآلن وحان‬
‫وقته بعد طول مغيب إنه الصديق الصدوق !! تدور عجلة الزمن بباله و يقلب صور معارفه في ذهنه فيكتشف أنه ليس له‬
‫صديق حقيقي من بين كل هؤالء ‪ ،‬كلهم غثاء كلهم هباء ‪ ،‬ربطتني بهم المصالح المشتركة ‪ ،‬ونسيت حظ نفسي من الخدين‬
‫انشغلت بماديات الدنيا و معاملة من ال يصلحون للصداقة ‪ ....‬ولكن ال بأس ها هي هبة وهبها هللا لي صديق‬
‫ُ‬ ‫المحب حين‬
‫شعرت منه بما لم أشعر به من قبل تجاه هؤالء المعارف الماديين ‪ ،‬فلم ال أهتبل الفرصة و‬
‫ُ‬ ‫مستقبلي يضع والءه وحبه أمامي ‪،‬‬
‫أفوز بما خسرته من قبل ؟؟!!‬
‫إنها لحظة إشباع متبادل بين مفتقر للصداقة يحتاج إليها فجاءته على غير موعد و آخر معجب به أحبه حبا صادقا فيحتاج له‬
‫و يريده خدينا له ويتمنى ذلك بل يحلم به أن يفوز بقلبه من بين كل البشر فيطلع على كل خصوصياته وأس ارره وينهل من علمه‬
‫وفنه ‪ ...‬وكذلك حبه !‬

‫إن تلك اللحظة غير مأمونة العواقب !! ألن الشخص الواله المتعلق قد يتعلق بالسراب ويظن صاحبه قابال للصداقة وهو غير‬
‫يصر على نبذ الصداقة و نسيانها بل االنشغال بهؤالء الغثاء من الناس و‬
‫ذلك !! فربما يظل منشغال بنجاحه و تفوقه و ّ‬
‫فيشبع في داخله مشاعر تحقيق الذات وتقديس النفس‬ ‫االنشراح الجتماعهم حوله ُيشعرونه بمكانته العليا و ّأبهته الطاغية ُ‬
‫ويتناسى الصداقة التي ستأتيه يوما ما ‪ -‬ال شك ‪ -‬كالشبح المخيف حين يكبر سنه ويترك عمله ويصير بال مؤهالت الجتماع‬
‫الناس حوله فينفضون عنه وينصرفون إلى غيره ‪...........‬‬
‫وي ْعَلق بالحبال الذائبة راجيا القبول والمودة فيسقط على عنقه جريحا متألما آسفا‬
‫المهم هو صاحبنا المسكين الذي يأمل السراب َ‬
‫غير مأسوف عليه ‪ ....‬ذلك هو األلم المبين و الحزن الشديد ‪...............‬‬

‫‪ -7‬لحظة جرأة‬
‫وتجمع بغير حساب ‪ ،‬الذكي من يقتنص الفرص الحلوة الكتساب األصدقاء‬
‫ّ‬ ‫إن الحياة تجمع القلوب على غير ميعاد ‪ ،‬و تفرق‬
‫المناسبين و الالهي الخاسر من ينطوي على نفسه و يظن أن الصديق سيأتيه إلى باب داره بال مجهود منه ‪ ،‬والمتردد سيخسر‬
‫الكثير من الوقت وربما يخسر من يحبه ويريد التقرب منه ‪ ،‬وهنا تأتي ضرورة لحظة الجرأة !! يجتمع اثنان جمعتهما ظروف‬
‫الحياة بينهما أشياء كثيرة مشتركة عمرية وفكرية وثقافية و أدبية يزداد تعلقهما ببعض و لكن مازال هنالك شد و جذب في‬
‫عالقتهما ‪ ،‬لم تتحقق الصداقة المتينة بعد ! فيتخذ الجريء منهما خطوة حاسمة و يكسر الجمود ويذيب ألواح الثلج بينهما فيبني‬
‫ركنا من أركان الصداقة بذكائه وموهبته فيدعو صاحبه لزيارته في بيته بل تناول الطعام معه في البيت ‪ ،‬فينتهز صاحبه المتردد‬

‫‪164‬‬
‫الفرصة ويستجيب لدعوته ثم يجد األمر سهال بعد ذلك في أن يدعوه كذلك لزيارته في بيته فيزداد العمق وتتوطد الصالت وتولد‬
‫صداقة بخطوة جريئة اتخذها إنسان محب !‬
‫ومنهم من يبدأ صاحبه باالتصال بالهاتف ال لمصلحة وإنما للسؤال و بذر المودة و التعبير عن الحب فيبادله صاحبه خطوته‬
‫‪.............‬‬
‫وكذلك لحظة البوح بالحب ما هي إال خطوة جريئة في بناء الصداقة الجديدة ال يفعلها إال األذكياء األقوياء !!‬
‫خطورة هذه الجرأة أن تُفعل في غير موضعها فيالقي الصاحب المتقرب نكوصا و نفو ار من صاحبه كأن يدعوه للزيارة فيرفضها‬
‫رفضا تاما وهذا أقسى الرفض وأعنف طرق غلق باب الصداقة ‪ ،‬ومنهم من يوارب الباب كأن يقبل الدعوة ولكن يمتنع عن ّ‬
‫رد‬
‫المحب‬
‫ّ‬ ‫رد قاس ولكنه غير مباشر ويجب فهمه و إدراك أبعاده ‪ ،‬وهنا قد يحاول‬ ‫الدعوة وفتح بيته لصاحبه كما فعل هو !! وهو ّ‬
‫مرة أخرى لعله يجد القبول فيقابل بنفس الرد ‪ ،‬وهنا عليه االنسحاب السريع وعدم تكرار المحاولة لئال يجرح كرامته و لئال يكلم‬
‫قلبه الضعيف ‪...........‬‬

‫تصورات عامة للصديق المستقبلي‬

‫ألهل الحب و الصفاء تصورات و تخيالت للصديق ‪ ،‬هم ربما لم يحصلوا عليه بعد ‪ ،‬ولكن تشتاق إليه أنفسهم الطيبة ‪،‬‬
‫عيونهم ‪ ،‬دنياهم تحتاج إلى لمسة جمال سحرية لتزهر‬
‫الوجوه بحثا عنه ُ‬
‫َ‬ ‫يتنسمون نسيمه من بعيد ‪ ،‬تتلهف إليه قلوبهم ‪ ،‬و تقلب‬
‫و لتكتمل حالوتها ‪ ،‬فأخذوا يهيمون و يشتاقون ‪ ،‬يتخيلون و يتساءلون ‪ ،‬ونحن هنا على موعد مع تصوراتهم نجمع شتاتها و‬
‫نؤلف متباعدها لتكتمل لنا اللوحة الفنية الرائعة للصديق الرقيق ‪....‬‬
‫ونبدأ بابن المقفع الذي له آراؤه في مسألة الصداقة ‪ ،‬فقد قيل له بأي شيء يعرف األخ ؟؟ قال أن ترى وجهه منبسطا ولسانه‬
‫بمودته ناطقا وقلبه ببشره ضاحكا ولقربه في المجلس مجيبا وعلى مجاورته حريصا ‪........‬‬
‫فعند ابن المقفع عالمات الصديق المميزة لمن أراد أن يتبين و يتحقق ممن حوله ‪ -1 :‬انبساط الوجه ( وهو من أواصر‬
‫المحبة )‪ -2 .‬حالوة اللسان ‪ -3‬انبثاق ما في قلبه إلى جوارحه ‪ -4 .‬الحرص على القرب من صديقه و التماس السبل لقضاء‬
‫الوقت معه ‪.‬‬
‫أما البنوي فله مقال آخر ‪ ،‬فقد سئل ‪ :‬من تحب أن يكون صديقك ؟ قال من يقيلني إذا عثرت ويقومني إذا ازوررت –‬
‫اعوججت‪ -‬ويهديني إذا ضللت ويصبر علي إذا مللت ويكفيني ما ال أعلم و ما علمت ‪...‬‬
‫فالبنوي له أولويات في صفة الصديق دينية وهي التعاون على التزام الطريق السوي المستقيم والنصح هلل‪ ،‬ودنيوية وهي تفريج‬
‫الكرب و منع األذى وصده ‪ ،‬وكل ذلك سبق ذكره تفصيليا ولكن تذكير لعل الذكرى تنفع المؤمنين !‪...‬‬
‫ومنهم من رأى أن أهم عالمات الصديق أن يعلو بصاحبه ‪ ،‬و يرتقي به إلى أعلى الدرجات علما وعمال ‪ ،‬وإال فال فائدة منه و‬
‫صحبته مضيعة للعمر و خسارة للنفس فقال قائلهم ‪ :‬صديق ال تنفعك حياته ال يضرك موته ! و قال شاعرهم ‪:‬‬
‫ودفع ألواء من اإلخـ ـوان‬ ‫من كان ال ُيرجى لرفع شأن‬
‫وليس في الدنيا بمست ــعان فعيشه و مـ ـ ــوته سيان‬

‫‪165‬‬
‫إن قضية الحياة والموت قضية شائكة في مسألة الصداقة خصوصا و في باب الحب عموما و بدون خوض في تفاصيل لها‬
‫وقتها و محلها الصديق الحق من ليس حياته و مماته سواء ‪ ،‬حياته تمأل عليك حياتك بهجة ‪ ،‬فهو بلسم النفس و ترياق القلب ‪،‬‬
‫ال يخسر صاحبه أبدا فهو ال بد ناهل من كنوزه التي ال يبخل بها على صديق وال لصيق مجاورته عموما لها طعم خاص ‪،‬‬
‫وحين يغيب عن الحياة يفتقده الصديق و يشعر بخلو مكانه الذي ال يملؤه غيره ‪ ،‬يخسر خسارة فادحة ال يساويها أي تعويض‬
‫‪ ،‬ناهيك بألم النفس وتمزق القلب و تشتت الفكر ‪!...‬‬
‫أما من حياته وموته سيان ‪ ،‬وجوده فوق األرض مثل وجوده تحت األرض ‪ -‬ولن تعرف ذلك إال عند موته –‬ ‫هذا هو الصديق ّ‬
‫فإنه لم يكن الصديق المرغوب ‪ ،‬وليس مثله صديق األحالم الذي تشتهيه النفوس الطيبة المخلصة !‬
‫وقال متصور آخر للصديق ‪:‬‬
‫دعني من المرء وأعراقـ ـ ـ ـ ـه وماله الجم وأوراقـ ـ ـ ـ ـه‬
‫فما الفتى كل الفتى غير م ـن يستعبد الناس بأخـ ـ ـالقه‬
‫آماقه ‪ :‬عيناه‬ ‫حللت منه بين آمـ ـ ـ ـاقه‬ ‫َ‬ ‫أخوك من إن خفت من حادث‬
‫وال كذوب الـ ـوعد م ّذاقه‬ ‫ليس بغدار وال خ ـ ـ ـ ـائن‬
‫والفعل ال يأت ـ ـي بمصداقه‬ ‫وال الذي ي ـ ـ ـخبر عن وده‬
‫حتى إذا ارتاب بأسـ ـ ـواقه‬ ‫دمت له سـ ـ ـوقة‬
‫طوعك ما َ‬
‫وأبصر الشر بدا مقـ ـ ــبال شمر للمكروه عن س ـ ـ ــاقه‬
‫هذا الشاعر لفت االنتباه لقضية جديدة و داء عضال يصيب بعض مدعي الصداقة ‪ ،‬إذا وجدته فيهم فاطرحهم بعيدا وأعد‬
‫تفكيرك وحساباتك معهم إنه داء كثرة القول وقلة الفعل ‪ ،‬ادعاءات براقة بالحب واإلخالص و الواقع يختلف تماما عما يردده ‪،‬‬
‫فإذا واجهته تعلل باألعذار ومشاغل الحياة التي ال آخر لها ‪ ،‬وإذا سئمت منه و هجرته زاج ار ازداد في غيه و تناقضه بل تمسك‬
‫برد فعلك و اعتبره دليال ضدك ونسي فعله األصلي الذي أدى إلى رد الفعل ‪ ،‬فيدخل صديقه المسكين معه في دوامات ال آخر‬
‫ّ‬
‫لها ‪ ،‬ويتساوى ُ‬
‫اآلثم مع الضحية بعد أن رمى صاحبه بدائه وانسل !! كل من هذا حاله فهو مجلبة للغم والهم وال يرجى منه‬
‫سوى نكد العيش فال تعده صديقا و ابحث عن الصديق الحق في مكان آخر و دع األوهام ‪!!!..‬‬

‫ومن المحبين الطيبين من تكلم عن سمات صديق األحالم في نفسه وشخصه معرضا بغيره فقال الشاعر ‪:‬‬
‫صفو المودة مني آخر األب ــد‬ ‫ـت له‬
‫ما ودني أحــد إال بذلـ ُ‬
‫إال دعوت له الرحمــن بالرشد‬ ‫وال قالني وإن كنــت المحب له‬
‫مددت إلى غير الجميل يدي‬‫ُ‬ ‫فبحت به وال‬
‫ُ‬ ‫ائتمنت على سر‬ ‫ُ‬ ‫وال‬
‫وال أقول نع ـ ــم يوما فأتبعها منعا ولو ذهبت بالمــال والولد‬

‫وال أخون خلـ ــيلي في حليلته حتى ّ‬


‫أغيب في األكفان واللحد‬

‫‪166‬‬
‫مقابلة الود بالود أدعى الكتساب األصدقاء فالناس يحبون َمن هذا شأنه و يقبلون عليه حيث يعتبرون ودهم لم يذهب هباء بل‬
‫كان في موضعه و في أهله ‪ ،‬ومقابلة الكراهية بطيب النفس و حب الخير و الدعاء للكاره من شيم الكرام و انعكاسها األخالقي‬
‫يحرج القالي و يجعله يعاود التفكير في موقفه فيتحول البغض إلى حب ومودة ‪ ،‬ولكن ما أضافه الشاعر لنا في سمات الصديق‬
‫هنا هو التشدد في الوفاء بالوعد خصوصا أن يكون الوعد منحا للصديق في شدته ‪ ،‬فالصديق المصاب بالبلية حين يعده صديقه‬
‫بمد يد العون يشعر الصديق أنه التقط حب النجاء الذي سينجيه من بحر البلية فيعتمد على صديقه و يتوقف عن طلب العون‬
‫يحس أن حبل‬
‫هزة مزلزلة ألركانه حينها ّ‬ ‫من غيره ويؤمل طويال فإن تراجع الصديق عن وعده كانت صدمة عنيفة لصديقه و ّ‬
‫النجاة أفلت من يده و صار مصيره مجهوال بعد أن كان مبش ار‪ ،‬و ال ُيستبعد أن يكون ذلك موديا بالعالقة بينهما كلها – إن كانا‬
‫أصدقاء ُفسخت الصداقة وإن كانا زمالء صارت الصداقة محاال ! ‪ -‬وما ذلك إال ألنه وعد فأخلف مثل المنافق ‪ ،‬والصديق إذا‬
‫يسألن عن صديقه بعد ذلك فهو الذي باع صديقه و حطم بناء صداقته بيده ولو أنه لم يمنح وعده‬
‫ّ‬ ‫صار فيه سمة المنافقين فال‬
‫المشئوم ما كان عليه من حرج فال يكلف هللا نفسا إال ما آتاها ولكنه سوء تقدير منه بأنه بوعده سيلطف الجو حول صاحبه و‬
‫يهدئ روعه و ما هو إال الوبال على الصداقة والصديق !‬

‫ثم يسرح الفكر بأرباب المحبة ورائمي اإلخاء ليبدعوا صورة بالغية رائعة للصديق فيقولون ‪:‬‬
‫لتضربه لم يستغشك في الـ ــود‬ ‫أخوك لو جئت بالسيف قاص ــدا‬
‫يردك إشفاقا علـ ــيك من الرد‬ ‫ولو جئت تدعوه إلى الموت لم يكن‬
‫على أنه قد آل جهــدا على جهد‬ ‫يرى أنه في ذاك و ٍ‬
‫ان مقـ ـ ـ ــصر‬
‫المرجو أنه يضحي بأي شيء غال من أجل صديقه ‪ ،‬مهما غال الثمن فالصديق أغلى و أثمن ! لو دعاه‬
‫ّ‬ ‫من سمات ذلك األخ‬
‫يرده في أي شيء دائما على ذلك‬
‫فداء لألخوة و قربانا للصداقة ! هو ال ّ‬
‫للتضحية بحياته من أجله للبى النداء راضيا مطمئنا ً‬
‫ومهما بذل وضحى من أجل محبوبه فإنه يرى نفسه مقص ار متوانيا لم يفعل ما ينبغي فعله حتى يكاد يهلك نفسه ليتيقن من رضا‬
‫سيفه يهدده ما صدق عينه وال أذنه بل قال بملء فيه ‪:‬‬
‫حبيبه و اطمئنانه ‪،‬يثق بصديقه وحبه ووفائه حتى لو أمسك صديُقه َ‬
‫كذبت عيناي وأذناي وصدق قلبي ! ‪ ،‬هذه هي األنفس المحبة كانت كثيرة في زمانهم كالتمر عددا و كالمسك عبقا ولكنها نادرة‬
‫المن والسلوى عددا وقيمة فيا حسرة على العباد !‪........................‬‬
‫في زماننا مثل ّ‬
‫سكت عذرك‬
‫صدقك وإن ّ‬ ‫قلت ّ‬‫قال أبو المتيم الرقي البن الموله ‪ :‬من أجلس إليه وأشتمل بسري وعالنيتي ؟ قال اصحب من إن َ‬
‫وإن بذلت شكرك وإن منعت سّلم لك (رضي بذلك ) قال ‪ :‬يا سيدي من لي بمن هذا نعته ؟ قال ‪ :‬كن أنت ذاك تجد مثلك على‬
‫ذاك ‪ ،‬كأنك إنما تحب أن يكون غيرك لك وال تحب أن تكون أنت لغيرك !!‪...........‬‬
‫في هذه المحادثة اللطيفة مسألتان األولى من يريد الصديق الحميد بسمات الخلفاء الراشدين وهو من أهل أسفل سافلين !! يشترط‬
‫أحدهم الشروط في صديقه و يضع قواعد و أسسا ينبغي أن يسير عليها خليله وهو أبعد الناس عنها ‪ ........‬تلك إذن قسمة‬
‫ضيزى !‪ ......‬يريد كامل حقوقه لنفسه أما هو فال يسأل نفسه كم أدى لصديقه من حقوق اإلخاء ! يضع من يصاحبه تحت‬
‫المجهر بينما هو منزه عن الوضع تحته ! مثله كمن قال هللا فيهم ( وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) وما أشبهه بمن قال‬
‫المولى فيهم ( الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) ومثله كمثل الرعية الظالمة لنفسها تبتغي‬

‫‪167‬‬
‫وية وعدم الصدق مع النفس ‪ ،‬ومن هذا حاله فمصيره مع صديقه مهدد وفشله في‬ ‫حاكما عادال صالحا ! ‪ ،‬إنه التناقض و األنا ّ‬
‫عالقته معه حتمي إذا كان صديقه يفهم الصداقة حق الفهم و يعي حقوقه وواجباته حق الوعي ‪..........‬‬
‫أما المسألة الثانية فهي كثرة سؤال السابقين األولين لشيوخهم وحكمائهم عن الصديق وسماته ! فقد رأينا ابن المقفع و البنوي قد‬
‫سئال في هذا األمر وهذا ابن الموله سئل نفس السؤال ‪ ،‬وكأن صديق المستقبل و خدين األحالم كان شغال شاغال لهؤالء‬
‫الطيبين الذي ال يتوانون في معرفة أسبابه و عالماته ليبلغوه فيحققوا فو از عظيما في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬سؤال إن سأله أحد منا في‬
‫تعجب المسئول‬
‫زماننا َل َ‬
‫وربما كتم ضحكاته وهو يسمع هذا السؤال الغريب ‪ ،‬وإن لم يتعجب فإنه إما أن يتلعثم عند اإلجابة وال يعطي ردا شافيا مثاليا و‬
‫ضيقي األفق كثروا في زماننا بين مدعي الفقه والعلم !‬
‫إما أن يرد ردا قاص ار ال يعطي الصديق حقه خصوصا أن ّ‬

‫ويرى غيرهم سمات يجب أال تقع عند صديق ألنها تهدد بنيان الصداقة فقال أحدهم ‪:‬‬
‫خلقان ال أرضاهما لصـ ــديق‬ ‫أما المزاحة و المراء فدع ـ ــهما‬
‫لمجاور ج ـ ــا ار أو لرفـ ـ ــيق‬ ‫إني بلوتهما فلم أحم ـ ــدهما‬

‫تهزه ه از كالزلزال المخيف ‪ ،‬أولهما الممازحة الزائدة و الضحك الكثير ال الدعابة الوسطية و‬
‫سمتان تهددان بنيان الصداقة و ّ‬
‫الضحك المعقول الذي مثل الملح في الطعام ‪ ،‬فمتى كثر المزاح و زاد وطغى حتى تصير العالقة كلها لعبا ولهوا صارت‬
‫هشة و هزيلة ال ترقى لمستوى الصداقة التي فيها في األصل الصديق صديق ّ‬
‫جد ُيعتمد عليه في الحياة و ُيتكأ عليه‬ ‫العالقة ّ‬
‫في المحن و نعيش معه حياتنا الدنيا ليكون ذخ ار للحياة األخرى ‪ ،‬والمزحة من حين آلخر شيء ضروري الستمرار الود و‬
‫إشعال المحبة و استدامتها وأصحاب ( الدم الخفيف ) كما يقولون من أكثر الناس ألفة ولكن بميزان و معيار ال يطغى على‬
‫الصداقة فيصيرها كعالقة الصبيان الطائشين المائعين الذين ال يشغلهم غير اللهو و قتل األوقات ‪ ،‬ومتى وجدت بينك وبين‬
‫صديقك مساحة اللهو و الممازحة زادت عن ساعات الجد و العمل المفيد فعليك الحذر و تدارك األمر قبل أن تضيع الصداقة‬
‫!! ‪ ..........‬هذا محظور ‪ ،‬أما السمة األخرى التي ّ‬
‫تصدع بنيان األخوة هي الجدال الذميم الذي هو بريد الشقاق و بذرة‬
‫بين َيدي صديقه ! يحتمل منه ما ال يحتمل من‬‫الخالف التي متى نمت وترعرعت أكلت حظ نبتة المحبة واإلخاء ! الصديق ّلين َ‬
‫غيره ! متى وقع الخالف بينهما فلن يرقى لمنزلة النزاع و البغضاء ‪ ،‬ومتى وجد الصديق صديقه قد استمسك برأيه و أعلن راية‬
‫ا النتصار لنفسه خضع له والن ولم يتماد في الجدال وإنما أنهى الموضوع في هدوء ‪ ،‬فإذا كان النقاش في هذا األمر يكدر صفو‬
‫عالقتنا فلنطرحه جانبا و لنبتعد عنه لألبد فصداقتنا أغلى ما نملك والعمر ليس فيه متسع للشقاق والعداوة و صداقتنا هي مصدر‬
‫سعادتنا و انطالقنا فلن نجعلها مصد ار للشقاوة والتعاسة ! وهنا تجدر اإلشادة بقول حسن البنا – رحمه هللا‪ (-‬نجتمع في ما اتفقنا‬
‫فيه ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه) ‪ ،‬والخالف شر كله كما قال ابن مسعود ‪ ،‬فلماذا نؤجج شعلة الشر بيننا ولنا متسع‬
‫في الرخاء والسالم بيننا لذلك فلندع المراء جانبا و ال ينتصرّن كل منا لنفسه إن كان يحب صديقه حقا وصدقا ‪ ،‬ومادام الحب‬
‫قائما فحب الحق والفضيلة سيتبعه مؤكدا وسينصاع كل طرف للحق أينما كان و ستتفق اآلراء بعد اختالفها و تجتمع العقليات‬

‫‪168‬‬
‫بعد شتاتها بال إجهاز أو استئساد من طرف‪ ،‬فال ُيجهز المحب على حبيبه و ال ينتصر حبيب إال لما وافق الحق ليسود العالقة‬
‫الفضيلة و الحق !‬
‫ومن جوامع الكلم في سمات الصديق قول عبد هللا بن جعفر ‪ :‬إن لم تجد من صحبة الرجال ُبدا فعليك بصحبة من إذا صحبته‬
‫زانك وإن حققت له ( اختصمت إليه ) صانك وإن احتجت إليه مانك ( أعطاك المؤنة ) وإن رأى منك خلة سدها أو حسنة عدها‬
‫و إن وعدك لم يحرضك ( يخلف وعده ) وإن كبرت عليه لم يرفضك و إن سألته أعطاك وإن أمسكت عنه ابتداك‬
‫‪...................‬‬
‫هنا لنا وقفات مع هذه الدرر الثمينة ‪............‬‬
‫(من إذا صحبته زانك ) الصديق الحق زينة لصاحبه ! فصديقك معروف بالفضيلة والعدل و يشهد له القاصي والداني‬
‫بالمعروف‪ ،‬يشير إليه الناس ببنانهم ‪ ،‬فمتى سرت معه في طريق فسيزيدك شرفا إلى شرفك و تصير بفضله مشهو ار بالخير ‪،‬‬
‫فالصالح ال يصحب إال صالحا ‪ ،‬هكذا يستنتج الناس لذا أنت تتزين بالسير معه و تفتخر بصحبته أمام الناس وتشعر بكيانك و‬
‫قوتك معه أمام بقية الخلق بل تشعر بالزهو والخيالء أحيانا أن قد سار معك هذا الشخص من دون الناس ‪ ،‬فيزيدك ع از فوق‬
‫عزك وجالال فوق جاللك ‪ ،‬ووازن بين مثل ذلك الصديق وصديق سيء آخر تتحرج من السير معه في الطريق و تخجل أن‬
‫يعرفه أبواك و أهلك فتحرص على مقابلته في الخفاء لئال يشينك و ينقص من قدرك فتصير صحبته عا ار و مرافقته مجلبة‬
‫التهكم والقيل والقال فيمسخك كما مسخ نفسه ! ‪ ......‬هما صنفان من الصديق فاختر منهما ما شئت ‪.................‬‬
‫( إن حققت له صانك ) حينما تلجأ إليه مستشي ار فأنت على يقين أنه سيعطيك النصيحة المجدية النافعة ‪ ،‬وإن لم يستطع‬
‫ٍ‬
‫مرض لمشكلتك فإنه لن يبخل عليك بتخفيف همك و التهدئة لروعك فترتاح للشكوى إليه وتشعر أن هموم الدنيا‬ ‫إسعافك بحل‬
‫حين تبوح له بها تذوب كالجليد حين يقترب من النار ! الشكوى إليه أنس و بلسم و راحة فحين تُغلق األبواب أمامك فبابه – بعد‬

‫باب هللا – ملجؤك و مثواك ‪ ،‬وازن بين مثل هذا وبين من إن شكوت له زادك هما إلى همك و ّ‬
‫حملك الكرة األرضية فوق رأسك‬
‫و غلق لك األبواب المفتحة بل ربما يتهمك أنت و يلقي اللوم عليك ويحملك تبعات همك و كربك وكأنك أنت من تريد الهم‬
‫لنفسك ! فيقول لك لماذا لم تفعل ‪ ........‬ولماذا لم تحرص ‪ ...........‬ولماذا لم تفكر ‪ ...........‬ولماذا ولماذا ؟؟‬
‫فتنصرف عنه تحمل أحزانا مع أحزانك وتشعر أنك تريد االنتحار لتتخلص من حياتك لتريحها من تلك المشكلة المنعدمة الحلول‬
‫‪ ..................‬هما صنفان من الخدناء فاختر لنفسك !‬
‫( وإن رأى منك حسنة عدها ) إنه أسعد الناس بسعادتك ‪ ،‬يطير فرحا بفرحك ‪ ،‬أي فوز تحقق ينشره بين الناس و يحكي للقريب‬
‫والبعيد عما بذلته ونلته كأنه هو الفائز ! ‪،‬لو استطاع أن يخبر الدنيا كلها بما نلتَه و حققتَه لفعل ! ال تسعه األرض من الفرحة‬
‫‪ ......‬يحقق نظرية األنا بحذافيرها في الرخاء كما كان يحققها في الشده ‪ ،‬ووازن بين هذا وبين من إذا رأى نجاحك مصمص‬
‫شفتيه وكتم في قلبه غيظه وحنقه وود لو أنه كان مكانك وكنت أنت تسمع عن خبره ! ال تشعر بفرحه لفرحك وال لمشاركته لك‬

‫وإنما عبارات تهنئة مملة تسمعها من بقية الناس الُ تخفي وراءها سوى الحسد الدفين ! صنفان من الناس ّ‬
‫فتحر منهما ما يليق‬
‫بك ! ‪.....‬‬
‫( وإن وعدك لم يحرضك ) خلف الوعد صار في الناس شيمة و تفشيه صار عادة وعرفا ‪ ،‬حتى صار من يلتزم بوعده هو الشاذ‬
‫النادر الذي يتعجب الناس منه ويجعلونه أحاديث أسمارهم ! ‪ ،‬وخلف الوعد يدمر الصداقة و ال يبقي لها ركنا ‪ ،‬فحين تعطي‬

‫‪169‬‬
‫مثال موعدا لصديقك و يتأخر عنه مرة و اثنتين و عشرة ‪ ،‬فهو ال محالة ال يحترمك وال يعطيك قدرك ‪ ،‬بل ال يحبك حق الحب‬
‫‪ ،‬فالمحب يتشوق للقاء حبيبه وال يتأخر عنه بل يعد الدقائق والساعات قبل لقائه فيأتيه قبل الموعد شوقا و حبا ! و من كان من‬
‫أهل التأخر و إخالف المواعيد فهو قليل المباالة قليل االحترام ولو كان موعد امتحان الحترمه ولو كان موعدا مع رئيس العمل‬
‫الشّقة ) ! هما نوعان من البشر‬
‫لجاءه حبوا ولكن من باب ( لو كان عرضا قريبا وسف ار قاصدا التبعوك ولكن بعدت عليهم ُ‬
‫فاصطف من شئت !!‪....‬‬
‫كبرت عليه لم يرفضك ) كنتما تسيران في طريق واحد منذ الصبا لتحقيق غاية و هدف فنجح هو ولم تفلح أنت ‪ ،‬فلن‬
‫َ‬ ‫( وإن‬
‫تعز عليك نفسك حينها إن كنت صديقا بحق بل ستواصل الصداقة و يزداد تعلقك و حبك له لنجاحه وتفوقه فتدعو له بالتوفيق‬
‫ّ‬
‫بل حين يمد لك يد العون – وهو المعين دائما ال يتخلف عن واجب – سيزداد تعلقك به و إيمانك بصداقته وحين تنظر لصنف‬
‫أحسنت إليهم ابتعدوا عنك وجفوك ألنهم ال يريدون أن يروا من أحسن إليهم وال يريدون أن يكون‬
‫َ‬ ‫آخر خبيث من البشر متى‬
‫طى ‪ ،‬لماذا يكون هو اليد العليا وأكون‬ ‫ِ‬
‫المعطي وأن المع َ‬ ‫ألحد عليهم جميل فنفوسهم الخبيثة تتهم القدر ! تقول لماذا يكون هو‬
‫رد الجميل في أسرع وقت بطرق َّ‬
‫متكلفة‬ ‫أنا اليد السفلى ؟! فتدفعهم تساؤالتهم لمزيد من الحقد والبغض و االجتناب ‪ ،‬بل يحاولون ّ‬
‫مبتذلة ليرفعوا عنهم هذا الجميل الثقيل على نفوسهم بإباء واستكبار ‪ !!!..‬هذا نوع من البشر نقابله في حياتنا ‪ ،‬فتخير لنفسك‬
‫من تصطفيه من هذا وذاك !‬

‫واستم ار ار لسؤال السابقين و تلهفهم على الصديق سئل ابن برد األبهري ‪ :‬من الصديق ؟ قال من ّسلم سره لك وزين ظاهره بك‬
‫وبذل ذات يده عند حاجتك وعف عن ذات يدك عند حاجته يراك منصفا وإن كنت جائ ار ومفضال وإن كنت ممانعا رضاه منوط‬
‫عجزت آداك ( أعانك ) يبين عنك بالجسم والرسم ويشاركك‬
‫َ‬ ‫ظمئت أرواك وإن‬
‫َ‬ ‫للت هداك وإن‬
‫برضاك وهواه محوط بهواك إن ض َ‬
‫في القسم ( الخلق ) والوسم ( السمة ) ‪..................‬‬
‫(يراك منصفا وإن كنت جائ ار ومفضال وإن كنت ممانعا ) إنه يراك في أحسن صورة ‪ ،‬أبهى منظر لك مطبوع في عقله و‬
‫تغيرت أمام عينيه فلن تتغير‬
‫َ‬ ‫فرسمت تلك الطبيعة في ذهنه ‪ ،‬فمهما‬
‫محفور في ذاكرته ‪ ،‬عرفك حق المعرفة في حالتك الطبيعية ُ‬
‫أمام قلبه ‪ ،‬هو يعلم علم اليقين أن هذا التغير الطارئ ما هو إال وضع مؤقت اضطرتك الظروف إليه ولكنك حتما ستعود إلى‬
‫سجيتك الطيبة المثالية وحينها سيتنعم بك مرة أخرى و يستمتع بطبيعتك كرة ثانية فليس غضبك حين الغضب من شيمك وال‬
‫جزعك وقت الكارثة من حلمك ولكن هي أوضاع اضط اررية سرعان ما تنقشع مع انقشاع الغمة وإن لم يحدث ذلك فأنا المقصر‬
‫فإني لم أقومك حق التقويم و لم أكن لك المرآة التي ترى فيها نفسك فتصحح فعالك وتقوم سلوكك ‪ ،‬إننا شريكان في كل شيء‬
‫في السيئة والحسنة فحسنتك تصبغني كما تصبغك ولي منها نصيب و ربما هي من تأثيري عليك ‪ ،‬وسيئتك كذلك لي دور فيها‬
‫تغيرت ‪ ........‬إنها فلسفة ال‬
‫َ‬ ‫إما متأث ار وإما مؤث ار فاللوم علي كما هو عليك لذا أراك في أبهى ما يكون مهما َ‬
‫فعلت ومهما‬
‫يفهمها سوى من جرب طعم الحب !!‬
‫الن َسخ ! تشابه في السلوك و التعامل و تطابق في التفكير و‬
‫فن صناعة ُ‬
‫(يبين عنك بالجسم والرسم ويشاركك في القسم ) إنه ّ‬
‫النقاش‬

‫‪170‬‬
‫محاكاة لطريقة الكالم والحوار بل أحيانا في طريقة اللبس و المعيشة ! حتى يراك الرائي فيقول إنني حين أكلم صديقك أشعر‬
‫أنني أكلمك !‬
‫فعلت فيه ؟ هل فعلت له سح ار لتقلب كيانه‬
‫أشعر أنني أمامك ! ما هذا التشابك الروحي ؟! وما هذا التناسخ العقلي ؟! ماذا َ‬
‫وتدمجه إلى كيانك ؟! إنها أمارات الحب و التعلق وقرائن المخادنة والمعاشرة ‪ ،‬من كثرة حبك له أشبهتَه ! من كثرة كالمك معه‬
‫حفظت كل معالمه لتحاكيها ببراعة وبال‬
‫َ‬ ‫وحفظت مالبسه و‬
‫َ‬ ‫حفظت كلماته‬
‫َ‬ ‫فصرت تتكلم مثله وبنفس عباراته !‬
‫َ‬ ‫اقتبست طريقته‬
‫تكلف ! إنه الحب األعمى في أل ّذ صوره وأمتع أشكاله ‪ .....‬يراكم الناس و يتحاكون بحكاياتكم و يتسامرون بنوادركم و طرائفكم‬
‫! إنها الصداقة والحب !!‬
‫(رضاه منوط برضاك وهواه محوط بهواك ) ال يصدر عن فعل حتى يستشيرك في أمره ‪ ،‬ال يهدأ له بال حتى يرى رأيك قبل أن‬
‫طمأنه و أنت ُمستكانه ! إذا عرض عليه أحد عرضا في حضورك التفت إليك سريعا ليشاورك في األمر فكيف‬ ‫يقدم عليه أنت ُم ّ‬
‫يقدم على خطوة لم يستشرك فيها ؟! إنها الشورى على المستوى الفردي و الديمقراطية على المستوى الصداقي ‪ ،‬مشورة‬
‫وديمقراطية ال تقتصر على األمور المشتركة بينكما بل في األمور الفردية كذلك إنها روعة اتخاذ القرار بعد الرجوع لخير‬
‫مستشار !!‪...............‬‬

‫وعودة إلى قائمة المحظورات في الصديق قال محمد علي الباقر راويا عن أبيه ‪ :‬يا بني ال تصحب فاسقا فإنه بائعك بأكلة فما‬
‫قلت ‪ :‬فما دونها ؟ قال يطمع فيها فال ينالها ‪ ..‬وال تصحب بخيال فإنه يطمع بك في مالك أحوج ما تكون إليه وال تصحب‬
‫دونها ُ‬
‫يقرب منك البعيد وال تصحب أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وال تصحب قاطع رحم فإني وجدتُه‬ ‫كذابا فإنه بمنزلة السراب ّ‬
‫ملعونا في ثالثة مواضع في كتاب هللا ‪.....................‬‬
‫داء البخل‪ :‬يتعارض تعارضا صارخا مع اإليثار الذي هو أحد أعمدة الخّلة و المحبة ‪ ،‬وهو إن أحبك يوما في وقت رخاء‬
‫فستأتي الشدائد وتخيره بينك وبين المال وحينها سيختار المال تلبية لمرضه النفسي فيفتضح حبه الزائف الذي لم ينتصر على‬
‫الكرم ! فالحب مدرسة كبرى‬
‫َ‬ ‫شحه المطاع لديه ‪ ،‬لذلك ابتعد عنه من االبتداء ‪ ....‬وهذا ال ينفي أن البخيل قد يتعلم من الحب‬
‫ّ‬
‫تصهر معادن الناس وتش ّكلها أفضل ما تكون ‪ ،‬فتحول الطالح إلى صالح و الفاسد إلى ُمصلح والحب سلطان يدخل بوابات‬
‫القلب بال استئذان وعلى غير موعد فينشر سحره و مفعوله العجيب فيغير البشر على غير توقعاتهم !‬
‫أما الكذاب ‪ :‬فمسلكه و مسلك الصداقة ال يجتمعان أبدا فالصديق كما ذكرت آنفا اشتق من الصدق ‪ ،‬و الصديق ال ُيخفي عن‬
‫صديقه أدق تفاصيل حياته فإن أراد إخفاء أشياء عنه ضاربا بحق الصداقة عرض الحائط فواجهه صديقه بما يفر منه فإنه حتما‬
‫سيلجأ للكذب مالذا و ملتحدا ليهرب مما يخشى اإلفصاح عنه فتصير الصداقة حطاما و فتاتا يرقص على أطاللها شياطين‬
‫الكذب والمواراة والخبث !‬
‫أما داء الحماقة ‪ :‬فهو وبال على من يصاحب صاحبه ! فإن األحمق يسير إلى حتفه معصوب العينين فإذا صحب أحدا أخذه‬
‫معه إلى مصيره المشئوم ! واألحمق عبء على صاحبه ال فائدة منه سوى الهم والخسار ‪ ،‬وإن استشير أجاب بما ال يعلم‬
‫فيضل و ُيضل ‪ ،‬والجهل سمته و رسمه وصديق جاهل أسرع هدما من عشرة أصدقاء عالمين بنائين ! وهو يورث صديقه‬ ‫َ‬
‫الجهل والكسل وقلة العمل والتواكل و كل سمات الضياع والخيبة ‪ ،‬واالتفاق الفكري والعقلي من أركان الصداقة وهو ما ال يتوافق‬

‫‪171‬‬
‫مع صحبة أحمق و عاقل فاألحمق سينجذب حتما ألحمق مثله والعاقل سيتبع عاقال يشبه ‪ ،‬هذا هو األصل في الحياة الصداقية‬
‫!‬
‫أما قاطع الرحم ‪ :‬فهو إنسان مقطع األوصال ‪ ،‬من يريد صداقته ال بد أن ينظر إليه نظرة الريبة و القلق ‪ ،‬فهو ال يراعي حق‬
‫أقربائه وهو أدعى لئال يراعي حق صديقه ‪ ،‬فالذكي ينبغي أن يفر منه ف ارره من األسد لينجو بنفسه اللهم إال الحاالت الخاصة‬
‫التي لألسف كثرت في زماننا من تقطع العائالت و تشرذم األنساب حتى يحاول التقي الورع أن يجمع الشتات العائلي و يوفق‬
‫بين الخصوم من عائلته فيجد نفسه منبوذا مقطوعا بال ذنب وال جريرة منه إال أنه ابن لفالن أو فالنة ‪ ،‬فيؤخذ األبناء بذنب‬
‫اآلباء بال رحمة وال عدل وال مراعاة لحق فرضه هللا في كتابه وعلى لسان نبيه ‪ ،‬فهو فعل ما عليه وبذل جهده ولكن جهوده‬
‫كانت رمادا بين نيران الفتنة والشقاق ‪ ،‬ومثل هذا اإلنسان الذي فقد روابطه العائلية بال ذنب منه يجد السلوى و السرور في‬
‫الصداقة واألصدقاء ‪ ،‬فهو أحوج من غيره لصديق يمأل الفراغات التي حدثت من ضياع العائلة فتجده يكثر من األصحاب‬
‫واألصدقاء ليعوض ما فاته من ود العائلة وهو خير بديل و أفضل حل ناجع لمشكلته االجتماعية !!‬
‫وذلك أيضا ال يعني أن ذا العالقات العائلية الجيدة يفرط في حق الصداقة وينسى نصيبه من أروع عالقة اجتماعية ! ينبغي هنا‬
‫الحذر من هؤالء الذين يقدمون عائلتهم على صديقهم فيهملونه و يقطعونه بدعوى صلة الرحم وصلة الرحم منهم براء ! فالصلة‬
‫صلة األقرباء و األصدقاء بال إفراط و ال تقصير وبدون أن يطغى جانب على جانب ناهيك بأن الصديق أقرب من القريب‬
‫والنسيب بأجماع أهل العلم واألدب لم أر في ذلك أحدا مخالفا إال أهل الهوى و البرود !!‬

‫بعد أن استعرضنا كل هذه اآلمال في صديق األحالم من الطيبين الصالحين الذين حيت قلوبهم و أزهرت نفوسهم و أشرقت‬
‫سرائرهم أقول إن من يجد صديقا فيه كل هذه الصفات الطيبة يدين له بعمره ! و يضعه فوق رأسه و يستمسك به بنواجذه ما‬
‫حي ! و يطلق له عنان الوفاء و اإلخالص ويدعو رب الناس أن يديم عليه صحبته وأال يحرمه منه أبدا و يبذل له الغالي‬
‫ّ‬
‫والنفيس ليستمتع به طول عمره وما أحسن قول القائل ‪:‬‬
‫وكل غضيض الطرف عن عثراتي‬ ‫أحب من اإلخوان كل مـ ـ ـو ٍ‬
‫ات‬
‫ويحفظني حيا و بـ ـ ـ ــعد وفاتي‬ ‫يساعدني في كل أم ـ ـ ـ ــر أحبه‬
‫فقاسمته مالي من الح ـ ـ ـ ــسنات‬ ‫فمن لي بهذا ليت أني وجـ ــدته‬

‫كالم جامع البن حزم األندلسي في سمات الصديق من كتابه( طوق الحمامة) ‪:‬‬

‫طول‪ ،‬حسن المأخذ‪،‬‬


‫((ومن األسباب المتمناة في الحب أن يهب هللا عز وجل لإلنسان صديقاً مخلصاً‪ ،‬لطيف القول‪ ،‬بسيط ال َ‬
‫دقيق المنفذ‪ ،‬متمكن البيان‪ ،‬مرهف اللسان‪ ،‬جليل الحلم‪ ،‬واسع العلم‪ ،‬قليل المخالفة‪ ،‬عظيم المساعفة‪ ،‬شديد االحتمال‪ ،‬صاب اًر‬
‫على اإلدالل‪ ،‬جم الموافقة‪ ،‬جميل المخالفة‪ ،‬مستوي المطابقة‪ ،‬محمود الخالئق‪ ،‬مكفوف البوائق‪ ،‬محتوم المساعدة‪ ،‬كارهاً‬
‫للمباعدة‪ ،‬نبيل المداخل‪ ،‬مصروف الغوائل‪ ،‬غامض المعاني‪ ،‬عارفاً باألماني‪ ،‬طيب األخالق‪ ،‬سر ّي األعراق‪ ،‬مكتوم السر‪ ،‬كثير‬
‫البر‪ ،‬صحيح األمانة‪ ،‬مأمون الخيانة‪ ،‬كريم النفس‪ ،‬صحيح الحدس‪ ،‬مضمون العون‪ ،‬كامل الصون‪ ،‬مشهور الوفاء‪ ،‬ظاهر‬

‫‪172‬‬
‫الغناء‪ ،‬ثابت القريحة‪ ،‬مبذول النصيحة‪ ،‬مستيقن الوداد‪ ،‬سهل االنقياد‪ ،‬حسن االعتقاد‪ ،‬صادق اللهجة‪ ،‬خفيف المهجة‪ ،‬عفيف‬
‫الطباع‪ ،‬رحب الذراع‪ ،‬واسع الصدر‪ ،‬متخلقاً بالصبر‪ ،‬يألف اإلمحاض‪ ،‬وال يعرف اإلعراض‪ ،‬يستريح إليه ببالبله ( همومه‬
‫ووساوسه)‪ ،‬ويشاركه في خلوة فكره‪ ،‬ويفاوضه في مكتوماته‪ ،‬وإن فيه للمحب ألعظم الراحات‪ ،‬وأين هذا ؟؟ فإن ظفرت به يداك‬
‫فشدهما عليه شد الضنين‪ ،‬وأمسك بهما إمساك البخيل‪ ،‬وصنه بطارفك وتالدك‪ ،‬فمعه يكمل األنس‪ ،‬وتنجلي األحزان ويقصر‬
‫الزمان‪ ،‬وتطيب األحوال‪.‬‬
‫ولن يفقد االنسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميالً‪ ،‬ورأياً حسناً‪ ،‬ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخالء كي يخففوا عنهم بعض‬
‫ما حملوه من شديد األمور وطوقوه من باهظ األحمال‪ ،‬ولكي يستغنوا بآرائهم‪ ،‬ويستمدوا بكفايتهم‪ ،‬وإال فليس في قوة الطبيعة أن‬
‫تقاوم كل ما يرد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها‪)).‬‬

‫كالم فلسفي نفيس للدكتور مصطفى محمود عن الصداقة وسماتها وضروريتها ‪:‬‬
‫يقول في مقال بعنوان (الرجل و الرجل ) ‪:‬‬
‫(حياة كل منا مدفن واسع نضع فيه أنفسنا ‪ ،‬منذ اللحظة األولى التي نصحو فيها تستولي علينا مئات الهموم الصغيرة‬
‫واالنشغاالت التافهة والواجبات ( الروتينية ) والمجامالت واألمور التي نأتيها كل يوم بحكم العادة بدون تفكير ‪ ،‬ندخل الحمام‬
‫نفطر نشرب الشاي نلبس ثيابنا نجلس على نفس المكتب في نفس الكرسي ونقول نفس الكالم لنفس الذي يجلس أمامنا في مكان‬
‫عملنا ‪ ،‬نعود إلى البيت من نفس الطريق ونفتح البيت بنفس المفتاح ونقول السالم عليكم لنفس اإلخوة واألقارب الذين نلقاهم في‬
‫كل مرة ‪ ..‬ألف شيء تافه!‬
‫زمن طويل ال نعيشه وإنما نحمل جثثنا التي تفوح منها رائحة الملل من لحظة للحظة ‪ .....‬حتى تأتي لحظة حرجة نفقد فيها‬
‫الصبر واالحتمال وننفجر ونبحث عن آدمي ننفجر فيه نفتح له قلوبنا ونفوسنا ونلقي أمامه أس اررنا ‪....‬‬
‫وهذه اللحظة هي بداية البحث عن صديق ‪ ،‬والصداقة ليست عالقة عادية بين رجل ورجل ‪ ،‬إن أول شيء يعمد األصدقاء إلى‬
‫قتله هو العادة ‪ ،‬الصداقة ثورة على العادة وعلى دكتاتورية المجتمع والناس وخلوة يتطارح فيها نفسان ‪....‬ولذة الصداقة هي هذا‬
‫العري النفسي والمكاشفة والصراحة ‪ ،‬إن المهر الذي يقدمه الرجل للرجل ومقدم الصداق الذي يدفعه هو إعفاؤه من التكلف‬
‫ُ‬
‫والمجاملة ‪ ،‬إنه يقول ‪ :‬كن نفسك ال تتنازل من أجلي عن شيء من حريتك ‪ ،‬وهو يفعل ما هو أكثر من ذلك يقدم له المعونة‬
‫ليصل إلى نفسه ويعبر عنها ‪.....‬‬
‫إن الصديق الحقيقي ال تكون له مصلحة خاصة من صداقته سوى أن يفهم نفسه أكثر وأكثر ويصل إلى حريته ويعطي صديقه‬
‫نفس الفرصة في أن يبلغ حريته ويفهم نفسه ‪ ،‬إن غاية الصداقة هي النجاة بالحرية من اختناق المجتمع وصفاقة الناس وثقل‬
‫العادة ‪ ،‬وأنا ال يزعجني من صديقي أفعاله التي تجرحني ولكن يزعجني أفعاله التي يفقد بها حريته وأفقد أنا بها حريتي ألنها‬
‫تهدد الصداقة في جوهرها ‪..‬‬
‫والفيلسوف الوجودي سارتر له نظرية خاصة في الصداقة ‪ ،‬إنه يعتقد أنها تحوي العداوة والخوف والتربص ‪ ،‬كل واحد يتربص‬
‫باآلخر ليستولي عليه ويبتلع إمكانياته وهو يشعر بالحاجة إليه و بالخوف منه في نفس الوقت ‪ ،‬وفي رواية التعلق يقول دانيل‬

‫‪173‬‬
‫لصديقه ماتيو ‪ :‬هل ستصدقني حينما أقول لك إني لم أكن أفهم من أنا ومن أكون وما رذائلي وكأنما يعترض أنفي طر َ‬
‫يق رؤيتي‬
‫فال أستطيع أن أتراجع عنها مبتعدا عنها بما يكفي لكي أراها ‪ ،‬وكنت أنت في تلك اللحظة الوسيط بيني وبين نفسي ‪..‬‬
‫وهذا أثمن شيء لدي إذ إن هذا الكائن الجامد الصفيق الذي هو أنا استطعت أنت أن ت اره في بساطة كما أراك أنت ‪..‬‬
‫وفي مسرحية الذباب يقول إيجست لرعاياه ‪ :‬إنني أريد أن يحمل كل واحد من رعاياي صورتي في نفسه وأن يشعر في وحدته‬
‫بنظرتي القاسية تجثم على أشد أفكاره سرّية ! ‪ ،‬وأقول وأنا حزين إنني أنا نفسي أصبحت أول ضحية لذلك فلم أعد أرى نفسي إال‬
‫كما يراني هؤالء الرعايا ‪ ،‬وإني ألنحني في بئر نفوسهم فأشعر أنها تنفرني وتجذبني ‪ ،‬إلهي أيها القادر من أنا سوى الخوف‬
‫الذي يشعر به اآلخرون نحوي ؟! ‪..‬‬
‫والحب في نظر سارتر ما هو إال قناع إلرادة االمتالك والسيطرة ‪ ،‬العاشق ال يبتغي إال امتالك المعشوق بكل الوسائل وينتهي‬
‫الصراع بأن يبتلع الواحد اآلخر وأفكار سارتر فيها عداوة أكثر من كونها فيها صداقة ‪ .............‬إن السعادة في الصداقة وفي‬
‫الحب التي جربها كل منا تدل على إمكان قيام العالقة اإلنسانية ‪ ،‬والصداقة في نظري صراع عاشق العداوة فيها عداوة فاضلة‬
‫تحفز و تشحذ وتدفع وتستنهض للعمل وليست عداوة تهدم وتهزم وتبتلع وتسيطر وتشل القوى إنها كعداوة المتسابَقين تتحدى كل‬
‫واحد أن يبذل أقصى سرعته ‪ ،‬الصداقة صراع متبادل من أجل أن يرتفع االثنان إلى معرفة أكثر ودراية أكثر بنفسيهما ‪ ،‬ومعونة‬
‫متبادلة مليئة بالرجاء واألمل والحب ‪ ،‬وحينما ال نجد الحب وحينما ال نجد الصداقة فليس معنى ذلك أنه ال يوجد حب وال توجد‬
‫صداقة ‪ ..‬وإنما معنى ذلك أننا لم نجد الرجل الناضج ولم نجد المرأة الناضجة بعد ! ‪ ،‬والقلوب الكبيرة قليلة نادرة مثل كل شيء‬
‫نادر ‪ ،‬والقلوب الصغيرة موجودة مثل كثرة النمل !! )‬

‫عالمات يسترشد بها السالك لطريق الصداقة‬

‫طريق الصداقة طريق طويل يحتاج إلى صبر و حلم ‪ ،‬كما أنه طريق وعر شاق ال يسلكه إال أصحاب الحقيقة ‪ ،‬وهو كذلك يتيه‬
‫فيه من ليس له دراية به ‪ ،‬فهو متشعب المسالك وال بد لسالكه من خارطة يستنير برسمها وإشاراتها أو دليل مرشد يهدي إلى‬
‫المقصد المرغوب !!‬
‫هذا الكالم ال بد أن يعيه جيدا من هم في أول الطريق من هم على الشاطئ قبل أن يبحروا في محيط الصداقة ‪ ،‬هم على ّبر‬
‫األمان و سيخوضون بح ار فيه المجهول كماهو فيه الخير والرشد لمن أبحر فيه على دراية و رشد !‪................‬‬
‫والخارطة التي تهدي السبيل أو الدليل الذي يرشد إلى المقصود هي خبرات السالكين السابقين الذين نعموا بالصداقة أحيانا وشقوا‬
‫بها أحيانا أخرى ‪ ،‬هم بدءوا الرحلة من قبل ومنهم من لم يزل فيها ومنهم من انتهى منها ليصل إلى نهايتها ‪ ،‬جميعهم عندهم‬
‫من الخبرات ما لم يعهده المبتدءون وما ال يعيه الهواة منهم ! ‪ ...‬وهاك بين يديك أخي العزيز بعضا من هذه الخبرات لعلك‬
‫تسترشد بها ‪.........‬‬
‫ومعارف !‬
‫ُ‬ ‫وللحب آيات ترى‬ ‫خليلي للبغضاء حال مبينة‬
‫ّ‬
‫دليل العيون ونظرات المودة !‬

‫‪174‬‬
‫هذا إنسان جيد الطباع ‪ ،‬حسن األخالق ‪ ،‬جمعنا الزمان والمكان وآن األوان لنحسم المسألة ‪ ،‬أصدقاء أم أصحاب أم زمالء ؟؟‬
‫إنني أفكر فيه و في صداقته فإنني أحبه و أعجبني أكثر من غيره وفيه من سماتي الكثير واجتمعنا على غير موعد فلماذا ال‬
‫نكون أصدقاء ؟ ترى هل يبادلني نفس المشاعر وهى تلك الروح الطيبة التي أتنسم عبقها يشعر بها هو كما أشعر أنا ؟؟ إنني‬
‫أريد االقتراب منه أكثر فهل يقبل قربي أم ينبذني و يرفضني ؟ إنني سأتج أر وأقترب منه اقتراب الصديق من صديقه وليكن ما‬
‫يكون !! ولكن أال يوجد دالئل أطمئن إليها تجعلني أقترب وأنا مطمئن لقبوله لي ؟؟ نعم عندي دليل ‪ ....‬إن مالمح وجهه‬
‫ونظرات عينيه خير دليل على ذلك ‪ ،‬فهو يبتسم لي كأنه بدر ليلة التمام ! إنه يسعد برؤيتي كما أسعد برؤيته ‪ ،‬إنني ألقى من‬
‫ترحابه ما يرفعني إلى السماء من فرحي به وإقبالنا المشترك على بعض ! إن عيونه خير دليل ! إن عين اإلنسان ال تكذب أبدا‬
‫! قد يكذب اللسان وقد يكذب البدن ولكن العين ال تعرف الكذب هي الكاشفة لما في النفوس الطيبة والفاضحة لما في النفوس‬
‫الخبيثة !! العين دليلي ومرشدي !! وقال في ذلك األصمعي ‪:‬‬
‫الشناءة ‪ :‬البغض‬ ‫من الشناءة أو ود إذا كان ـ ـ ــا‬ ‫تبدي لك العين ما في نفس صاحبها‬
‫ال يستطيع لها في الصدر كتـمانا‬ ‫إن البغيض له عين يص ـ ـ ــد بها‬
‫محجر ‪ :‬الصندوق العظمي المحيط بالعين‬ ‫ترى لها محج ار بشا وإنس ـ ــانا‬ ‫وعين ذي الود ما تنفك مقب ـ ـ ــلة‬
‫حتى ترى من ضمير القلب تبيانا‬ ‫والعين تنطق واألفواه ص ـ ـ ــامتة‬
‫إن إنسان عينه ينطق بقبوله لي ! بل َعظم محجرها يشع رضا وسرو ار بصحبتي ! فلتكن تلك البداية إذن ! ولكن‬
‫‪............................‬‬
‫قبل التسرع في الحكم واإلقبال غير المدروس عليك أيها المحب الطيب أن تتأكد أن تلك النظرات لك وحدك من دون بقية‬
‫الزمالء واألصحاب ! أتدري لماذا ؟؟ إن كانت نظراته الودودة التي تشع حبا يشاركك فيها اآلخرون وال تتميز بها عليهم فهو‬
‫إنسان بشوش بطبعه يعطي الود لكل الناس بال مقابل ‪ ،‬يحب كسب العالقات بأسرع وقت ‪ ،‬وأسهل طريق لجذب المعارف هو‬
‫البشاشة وطالقة الوجه بل سطوع العينين و بريقهما ! إنه يعطي تلك اإلشراقة للجميع ليكسب عالقة الجميع وأنت منهم ! هو‬
‫غالبا من أنصار الصداقة الغثائية ‪ ،‬هو من هواة جمع الناس و اكتساب عالقتهم االسمية أما المضمون فليس في حسبانه ‪ ،‬قد‬
‫يكون إنسانا ناجحا ومن مدعمات نجاحه من وجهة نظره ّلم الناس حوله هو يطمئن لذلك ويشعر بقوته و ّأبهته وسطهم !!‬
‫فالتظنن حينها أنه اصطفاك لصداقته وإنما أراد ضمك لقائمة معارفه ‪ ،‬وحتى تتأكد أن هذا الشخص من هذا النوع انظر لعالقته‬
‫معك بعد مدة ‪ ،‬شهر شهرين سنة ! ستجد عالقته بك قد فترت عن ما كان من قبل ‪ ...‬هو نال منك ما أراده ووضعك في جيبه‬
‫كما يقولون فستجده أقل اتصاال و أكثر بعدا و إهماال وربما يعود فيصلك في المناسبات أو المصالح المشتركة ‪ ،‬لذا احترس من‬
‫هذا النوع وحاذر وال تقترب من حماه ! فإنه له حمى ال يسمح ألحد بتجاوزه ولو تجاوزته فسيأمر حراسه بإطالق النيران عليك !!‬
‫صد و إحراج و جفاء !!‬
‫هذه النيران ليس من رصاص أو قنابل وإنما هي من ّ‬
‫يعامل ! نعم ‪ .............‬هذه قاعدة مع كل الناس اتبعها لتستريح نفسك‬
‫فال تضع نفسك في هذا الموقف وعامله كما يحب أن َ‬
‫‪ ،‬عامل الناس كما يحبون أن يعاملوا ! هذا إن كنت من أهل الود و معتنقي مذهب الصداقة واإلخاء ‪ ،‬أنت تدخل فقط دار َمن‬
‫داره مفتوحة وال تقتحمها وال تعتل أسوارها لتطرد شر طردة ! أنت من أصحاب القلوب الرقيقة ‪ ،‬قلبك ال يقوى على الصدمات و‬

‫‪175‬‬
‫ال يحتمل الجفاء و النكران فعامله بقدر تعامله وال تعطه أكثر من مقامه فهو ال يستحقه وكذلك أنت ال تستحق اإلحراج واأللم‬
‫النفسي !!‬

‫هذا نوع من الناس ‪ -‬أعني من يعطون نظرات الحب بال حساب و ال مقدار الكتساب معارف جديدة ال أكثر ‪ -‬ولكن هناك‬
‫نوع آخر من تلك الفئة الكريمة النظرات ‪ ،‬نوع يعطي نظرات الحب وهو محروم منه ! نوع يجود بالود والطيبة وهو يائس منه !‬
‫نوع ال يستطيع اكتساب أصدقاء لظروفه الصعبة وحياته الضيقة ‪ ،‬حياته من وجهة نظره ال تتسع لصديق مخلص ‪ ،‬فوقته كله‬
‫مشغول بمتطلبات الحياة ! إنه العمل والكد ليل نهار ليسد رمقه و يشبع أساسياته هو وأسرته ‪ ،‬ترى من يصادق وهو ليس عنده‬
‫من الوقت ما يصل به األصدقاء ؟؟!! ومن يدنيه منه وهو ذو حال بسيطة متواضعة يتوارى من الناس بها لئال يعرفوها فيشفقون‬
‫عليه وهو ال يحب نظرات اإلشفاق !! متى يقترب من الناس وكيف يقترب وهم منشغلون عنه بحياتهم ومالهيهم ‪ ،‬هل يفضي‬
‫بسره إلنسان ال يطيق مزيدا من الهموم على همومه ؟! هل يثقل عاتق الناس بما هم في غنى عنه ؟! لذا هو يعطي الحب وهو‬
‫محرم عليه فما العمل معه ؟؟؟‬
‫يعرف أنه ال يستطيع نيله وكأنه ّ‬
‫إن هذا الشخص يحتاج إلى محب جريء يخترق جدران حياته بلباقة و ذكاء ‪ ،‬يقترب منه – بعد أن علم أخي ار حال – ويهدم كل‬
‫الحواجز المصطنعة من ِقَبله و يقول له بجراءة ‪ :‬إن كل ذلك ال يعنيني في شيء إنني أحببتك لذاتك ولوجه هللا واخترق حبك‬
‫فأحببت صداقتك مهما كانت أحوالك فأنا سأقبلها ‪ ،‬سأحمل عنك همك ‪ ،‬سأشد أزرك سأكون لك الملجأ والمالذ حين تضيق‬‫ُ‬ ‫قلبي‬
‫بك الدنيا ‪ ،‬سأحتملك ألنني أحبك وأعذرك فيما ليس لك فيه يد !! ‪ ...........................‬إنها القدرة على االختراق !‬
‫اختراق األبواب المغلقة اضط ار ار ! و فن اختراق الناس موهبة من هللا ال يستطيعها كلنا لذلك فإن هذا الشخص المنغلق على‬
‫رغم أنفه وبال يد منه غالبا ما يزهد في صداقته المخلصون حين يجدون بابه مغلقا فينصرفون لظنهم الظنون فيه وهو المسكين‬
‫يحتاج لمن يساعده في فتح بابه فهو ال يقوى على فتحه بنفسه !!‬

‫أما النوع الثالث من الفئة الكريمة النظرات فهو نوع يائس من الصديق !! جرب الصداقة من قبل ففشلت أو ربما بحث عنها‬
‫حتى يئس منها فانتحل مذهب انعدام الصديق ‪ ،‬ولم يعد يشغل باله البحث عن األصدقاء فهو بحث عن سراب بالنسبة إليه ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مرض –‬ ‫فقرر أن ينثر وده في كل مكان ليكتسب معارف و زمالء و تنشأ صالت متعددة تكون بديال – وإن كان غير‬
‫للصداقة ‪ ،‬فوضع الحواجز أمام قلبه و بنى الجدران والحصون حوله وإن كان الناظر غير المتأني يظنه لبشاشته وانطالقه‬
‫شخصا اجتماعيا من الدرجة األولى !!‪....................‬‬
‫وهذا النوع إذا أحببته وأردت صداقته واكتشفت قصته و ُعقدته من األصدقاء – وهو أمر كذلك ليس بالسهل – فهو مثل النوع‬
‫السابق يحتاج إلى اختراق ‪ ،‬وبراعة االختراق تكون على قدر مهارتك وفنك في التغلغل في نفوس الناس حتى يسلموا لك أنفسهم‬
‫ويرفعوا راية اإلذعان واالستسالم !!‬

‫الصداقة السريعة و الحسرة الطويلة !‬

‫‪176‬‬
‫اإلنسان بطبعه يحب المكاسب السهلة السريعة وذلك ألنه جبل على التعجل ( وخلق اإلنسان عجوال ) بيد أن تلك المكاسب‬
‫السريعة كما أنها سهلة المنال سهلة الزوال ! ‪ ..‬والشيء الذي تحصل عليه بدون جهد يزول كذلك بدون جهد ! ولئن كانت‬
‫الصداقة الطيبة الطاهرة من خير مكاسب الدنيا هي يسري عليها هذا المبدأ النفيس ‪ ،‬لذلك اترك لنفسك ولصاحبك مساحة من‬
‫الزمن قبل أن تقعا في بحر الصداقة ‪ ،‬ليكن التأني والتروي سبيال إلى الصداقة ‪ ،‬ولنفسك أنت عليك التحقق والتثبت ممن تختاره‬
‫صفي نفسك و مالزم ظلك !‬
‫ّ‬
‫قال أبو قيس الرقيات ‪:‬‬
‫حتى تَبين ما طبـ ــاعه‬ ‫ال يعجبنك صاح ــب‬
‫وما يجود به اتسـ ــاعه‬ ‫ماذا يضن به علـ ــيك‬
‫وما يضيق به ذ ارعـ ــه‬ ‫أو ما الذي يقوى عـليه‬
‫تك بالحوادث ما دفاعـه‬ ‫وإذا الزمان رمـى صـفا‬
‫اتضاعه ‪ :‬انخفاضه‬ ‫هوى أخيك وما اتّضاعه‬ ‫فهناك تعرف ما ارتـفاع‬

‫صاحبك بين يديك ستلقاه مرة تلو المرة ابله مرة بعد مرة و ال تتسرع وال تترك التبين من ُخلقه فإنه ليس َملبسا ستلبسه زمنا فيبلى‬
‫فترميه ! وليس طعاما ستخزنه ثم تأكله ! وليس متاعا ماديا زائال ستأخذ منه متعتك ثم تتركه ! إنه رفيق دهر و صديق عمر و‬
‫أنيس درب !‬
‫إن التجارب االجتماعية أثبتت أن الصداقات السريعة أكثر الصداقات فشال ! فهي ال تبدأ حتى سرعان ما تبزغ المشاكل‬
‫والنزاعات فيها التي ال تلتئم حتى تثعب دما مرة أخرى ! وما ذلك إال للتسرع ‪ ،‬والتسرع هنا هو تسرع القلب ‪ ،‬القلب الذي يتعلق‬
‫بمحبوبه كالطفل الذي تعجبه اللعبة أو الطفلة التي ترى الدمية كالهما يمسك اللعبة بيديه وأسنانه ويظن ساعتها أن سعادة الدنيا‬
‫كلها في اقتناء تلك اللعبة فما يمتلكها حتى يكتشف عيوبها الفنية فيعانيها ثم ال يلبث أن يزهد فيها وربما يكسرها في النهاية !!‬
‫وكذلك الصديق الذي تغلغل في القلب بسرعة وبال استئذان يجذب صديقه إليه أسرع من جذب المغناطيس لقطعة المعدن التي‬
‫تفجأ بأنها ال تستطيع اإلفالت من مجال المغناطيس بسهولة فتعاني منه و يصيبها األسى من شدته !! إنه الحب األعمى الذي‬
‫يقود صاحبه إلى طريق مجهول !‬
‫إنه حب الصورة والمظهر ال المكنون والجوهر !! إنه انبهار بحسن الوجه و استبشار ببريق العين و استحسان لحلو الكالم بال‬
‫تفتيش عن مضمون اإلنسان !! وهذا هو طريق الضياع و مسلك الهالكين !!‬
‫وانظرن بعد ابتــالء من تود‬ ‫ال تودن ام أًر لم تبلـ ـ ـ ــه‬
‫ال يغرنك ثيـاب وج ـ ــسد‬ ‫خالق الناس على أحسابهم‬
‫نال ذما ودمـيما قد ُح ـ ــمد‬ ‫رب محمود على الصورة قد‬
‫جمعا يوما لإلنس ـ ــان سعد‬ ‫فإذا الصورة والحمد م ــعا‬
‫ليس معنى الحذر من الوسماء النضراء أنهم تحوم حولهم الظنون ‪ ،‬ولكن هو الحذر ‪ ....‬وليكن اجتماع الوسامة الحسية‬
‫فوز بالخيرين ولكن ليس ذلك إال بعد التفحص والتثبت !‬
‫والوسامة المعنوية جمعا بين الحسنيين و ا‬

‫‪177‬‬
‫إن الصداقات السريعة لها مواطنها التي ُيخطف فيها الناس ‪ ،‬و ذلك في األوقات الضيقة التي يكون فيها التقاؤك بمن أحببت‬
‫وبه ائتنست في وقت ضيق و مساحة محدودة ‪ ،‬فأنت ستراه في أيام معدودة أو أسابيع محدودة لو فاتت بدون أن تكسبه فقدته‬
‫إلى األبد !! وهنا يتفوق القلب على العقل بسهولة و يحدث التسرع في طلب اكتساب الصداقة ‪ ،‬وهي حادثة مشتهرة للصداقات‬
‫المروعة !! يكتبها علينا القدر و تلح بها علينا الظروف و يصير‬
‫ّ‬ ‫المتسرعة ‪ ،‬اشتهرت كذلك بكثرة الفشل و النهايات المأساوية‬
‫اإلنسان العاقل مشتتا بين عقله وقلبه فيفوز قلبه في النهاية ألن قلبه ليس بيده كما أن عقله لن يتركه هادئا لو فاته مراده !!‬
‫فتحسم المعركة للقلب و تحسم كذلك مخاطرة غير مأمونة العواقب !!‬
‫المتعجلة قبل أوانها بكلمات دقيقة ‪ ،‬فهو وصفها من خالل ذلك المتسرع الذي يأتي لمن‬
‫َ‬ ‫وصف أبو األسود الدؤلي تلك الصداقة‬
‫أعجبه شكله و ووجهه ويطلب صداقته ولكن هذه المرة يكون المقتَ َرح عليه الصداقة هو المخطئ لو قبل سريعا بال حذر وتأنٍ‬
‫وإنه سوف يدفع الثمن كذلك لو اهتبل فرصة قبل أوانها و قطف ثمرة قبل نضجها ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫أتاني فقال اتخذني خليال‬ ‫ِأريت امـ ـ أًر لم أب ـ ــله‬
‫فلم أستفد من لونه فتيال‬ ‫فخاللته ثم ص ــافيـ ــته‬
‫وال ذاكر هللا إال قلي ـ ــال‬ ‫فألفيته غير مســتعـ ِـتب‬
‫وأتبع ذلك هج ار جمـ ــيال‬ ‫ألست حقيقا بتوديـ ــعه‬
‫إنه الهجر ‪ ،‬وإنها القطيعة ‪ ،‬المصير المشئوم للعالقة المتهورة المتسرعة ‪ ،‬وما كان إال للحظة ضعف من القلب تسلط فيها على‬
‫عبد له طريق الهوان والحسرة !!‬
‫كيان اإلنسان فشرده و شتته و ّ‬

‫صناعة ِ‬
‫الثقل !‬
‫االنفتاح بين األصدقاء و نبذ الكلفة سمات أساسية في الصداقة ولكن حذار أن يسري ذلك المبدأ على كل الناس ! فليس كل‬
‫الناس أهال لسعتك و مرحك وليس كل من هب ودب يكون حريا بانبساطك التام له الذي قد يشعره – إن لم يكن راغبا في‬
‫صداقتك – بصيرورتك عبئا ويشعره بتثاقلك عليه وهو موقف ضعف لك فستصير مثا ار لالزدراء حتى تشتهر بثقل الدم فينفر‬
‫الناس منك و يجتنبونك !!‬
‫قال األحوص المدني ‪ :‬اجعل أنسك آخر ما تبذل من ودك ومن االسترسال حتى تجد له مستحقا !! ‪..................‬‬
‫الثقل ممتنع بين الخدناء ‪ ،‬واجب بين الزمالء واألصحاب ‪ ،‬وفرق كبير بين الثقل والتثاقل ! تزيد األخيرة عن األولى حرفيا‬
‫ضعة و مهانة وصغار !! وكما يقولون ‪ :‬الثقل صنعة ! هي حرفة‬ ‫بالتاء واأللف ومعنويا األولى عزة و منعة ووقار والثانية ِ‬
‫يجيدها أهل الحكمة والذكاء ويعرفون مواضعها و يدركون مواطن امتناعها ‪...........‬‬
‫ومن الناس من يمكن أن نطلق عليهم ( مشاريع أصدقاء ) وهؤالء أنت ما زلت تختبرهم ويختبرونك ‪ ،‬لم تتيقن من صداقتهم ولم‬
‫يجزموا بصداقتك وهؤالء عليك أن تفتح لهم الباب مواربا ‪ ،‬بين االنفتاح وبين االنغالق حتى تحين اللحظة المناسبة للقرب‬
‫الحقيقي منهم فقط حين تتيقن من حبهم لك و رغبتهم في االئتناس بك حينها تعمق العالقة و توطد الصلة غير هياب وال متردد‬
‫‪................‬‬

‫‪178‬‬
‫وإياك أن تندفع للمغريات الوهمية من بعض األناس فانبساط شخص لك مرة ال يعني رغبته في صداقتك طول العمر !! فربما‬
‫الصد و التعنيف المعنوي – وقد يكون لفظيا أحيانا ‪ -‬منه على غير‬
‫ّ‬ ‫ينبسط لك مرة لسبب ما فتنبسط له عشر مرات فتجني‬
‫توقع منك !! هناك روح تسري بين المتحابين ال يسهل وصفها ومهما تكلمنا عنها فلن تصل صورتها كاملة إال بعد أن تجربها‬
‫وتشم عبقها و تسمع دبيبها حينها يكون االنبساط حقا وصدقا !! ‪..‬‬
‫توغل معهم فيترددون ! في صورة مليحة ودودة يشعر بها المتودد‬
‫ُ‬ ‫ومن مشاريع الصداقة من يأتي وقت قطف ثمرتهم فيتمنعون !‬
‫المتقرب وهؤالء اصبر عليهم فهم أهل عزة ومنعة ولكنهم سرعان ما يقعون في بئر الصداقة بعد ذلك وللتخذ منهم قدوة في‬
‫تعاملك مع اآلخرين الذين ينوون التقرب منك لتكون عزي از في مواطن العزة غير متشدد في عزتك لئال تفقد من أراد وصلك ولئال‬
‫تقطع من أدلى إليك حبل الود !‬
‫إن بدء صداقة حقيقية باطمئنان قلب و هدوء بال قد يحتاج الختبارات قبل نزع الثقل ‪ ،‬و هي اختبارات تدريجية تحس بها نبض‬
‫صاحبك فطلب رقم تليفونه إزالة للحواجز بينكما قد تتج أر وتطلبه وقد تتعلل بحجة لتأخذه منه بال حساسيات ‪ ،‬المهم أن اتصالك‬
‫طعم ويبادلك اتصاال بعد اتصال وإما أن يتجاهلك‬
‫األول به إزالة لثاني حاجز بينكما بعدها عليك االنتظار ‪ .....‬فإما أن يلتقط ال ُ‬
‫و ال يبادلك اتصالك فإن كانت األولى فستتوالى االتصاالت و تتعمق الصالت و تسير العالقة صاعدة إلى القمة و يفاجئك أنه‬
‫يريدك أن تزوره في بيته فتلبي دعوته و تدخل بيته و دواليك تحدث الصداقة ‪..........‬وإن كانت األخرى فال تضيع وقتك و ال‬
‫تشغل بالك بمن ال يأبه لك وكن عزي از وانسحب برفق وكأن خاطرك لم يخطر و كأن اتصالك لم يحدث ‪ ....‬إنه فن المعاملة‬
‫بالمثل ‪.....‬‬
‫وإن كان النقيض حادثا فبدأك هو بطلب رقم تليفونك فاتصل بك مرة فال تتعجل بوابل من االتصاالت كأنك المتلهف المسكين‬
‫الذي ال يجد صديقا يصادقه ولكن كن هادئا و اتصل به مرة كما اتصل بك مرة فإذا هو يبادلك اتصاال باتصال وتبدأ العالقة‬
‫في التعمق والصلة في التوطد ‪ ......‬إنه كذلك فن المعاملة بالمثل ‪..‬‬
‫وأبتذل الم أر الذي ال يصونـ ــها‬ ‫وإني لمكرام لمكرم نف ـ ـ ـ ــسه‬
‫أهنه وال ُيكرم علي مهينـ ـ ــها‬ ‫متى ما تهن نفسي على من أوده‬
‫ّ‬
‫هذا هو المي ازن وهذا هو العدل في التعامل وهو كذلك الحكمة التي تورد صاحبها موارد السالمة بعيدا عن ذل النفس و إهانتها‬
‫‪......‬‬

‫اللقاء األول و فلسفته !!‬


‫حينما يجلس الصديقان القديما العهد بصداقتهما ويقلبان أوراق الماضي في ساعة صفاء يتذكران اللقاء األول بينهما ! فيقول‬
‫أحدهما ‪ :‬أتذكر يا أخي أول يوم التقينا فيه ؟ ‪....‬فيرد اآلخر بتعجب ‪ :‬يااااااااااااه هذا شيء قديم جدا ياله من لقاء عزيز كتب‬
‫هللا لنا فيه االلتقاء لنصير خير أصدقاء ! ‪.....‬فيبادره صديقه قائال ‪ :‬يا لها من مصادفات عجيبة جمعتنا لنلتقي ببعضنا على‬
‫غير موعد ! فيرد عليه ‪ :‬ترى لو لم نتقابل ذلك اليوم فهل كانت صداقتنا تتم ؟!‪ .......‬فيبادره متعجبا ‪ :‬لو لم نتقابل ما عرفنا‬
‫حينئذ ؟؟؟ ومن سيكون جالسا اآلن معي نشرب الشاي و ننثر ذكريات الماضي ؟‬ ‫ٍ‬ ‫بعضا وما تصادقنا ولكن من سيكون صديقي‬
‫‪ ...‬فيجيبه مسرعا ‪ :‬لو لم نعرف بعضا ما كان لحياتي طعم ولكنت تعيسا جدا !‪ ....‬فيبادره مختب ار ‪ :‬لو لم تعرفني لعوضك هللا‬

‫‪179‬‬
‫صديقا خي ار مني ربما تكون معه حينئذ أسعد وأهنأ !! فيعاجله صديقه الحبيب قائال ‪ :‬ال وهللا ال أتصور أن شخصا آخر‬
‫سيعوضني عنك ولو عاد بي الزمان الزددت تمسكا بصحبتك فأنت مكانك لدي اآلن ال يملؤه أحد غيرك ‪ ........‬فيطرق‬
‫صديقه مبتسما ثم يقول ‪ :‬نفس إحساسي ونفس مشاعري ‪ ...................‬فيالحالوة األخوة في هللا !!‬
‫إن لكل صديقين منا لقاؤهما األول الخاص الذي له حوادثه المميزة و مالبساته الفريدة وتذكر ذلك اللقاء يبعث النشوة والراحة و‬
‫تتأجج مشاعر متناقضة بين االطمئنان والفرح بهذا اليوم وبين الحسرة واألسى على الذكريات الجميلة التي ال تعوض والتي لن‬
‫تتكرر ثانيا !!‬
‫أمر ما فيها أنها لن تعود أبدا !!‪...............................‬‬
‫أحلى ما في ذكريات الماضي أنها أجمل من الحاضر و ّ‬
‫وقصص اللقاءات األولى تجارب وخبرات تضاف للرصيد اإلنساني وسماعها يزيد معرفة اإلنسان بأحوال الصداقة العجيبة فإن لم‬
‫القدر التي تجري بمقدار وتعطي من حيث ال يحتسب اإلنسان ‪...‬‬ ‫يكن قد فاز بصديق فإنه ال ييأس و يحسن الظن بأحوال َ‬
‫الملتقيين ال يحسبان حسابا لهذا اللقاء فهو من عالم الغيب ال يعلمه إال هللا كما‬
‫َ‬ ‫وللقاء األول سمات مميزة فأول هذه السمات أن‬
‫أنهما ال يعلمان عواقب ذلك اللقاء من زمالة أو صداقة أو انقطاع أو عداوة ! وثاني سماته أن من تلتقي به اللقاء األول تأخذ‬
‫انطباعا عن شخصيته بنسبة سبعين بالمائة وبقية القرار يأخذه اإلنسان تجاه اآلخر من خالل تعامالته التالية التي إما تؤكد‬
‫انطباعه وإما تنفيها ‪ ،‬المهم أن عماد االنطباع هو اللقاء األول لذا على اإلنسان دائما حين يلتقي بإنسان غريب عنه أن يظهر‬
‫في أحسن أحواله وأبهى صوره لئال يأخذ اآلخر عنه انطباعا سيئا سيصعب إزالته في ما بعد ‪ .......‬وسيئو الحظ من يالقون‬
‫فيسيء مالقيهم فهم شخصيتهم ويظنهم أناسا منقبضين عابسين ال‬ ‫الغرباء وهم في أحوال بائسة معها الحزن والغم والضيق ُ‬
‫يرحبون بصداقة اآلخرين وليس لهم أصدقاء بل انطوائيون مكتئبون ال خير في مصاحبتهم وهنا تتنافر األرواح و تتفرق النفوس‬
‫و تصبح العالقة محاال ! لذا صاحب الضيق والهم ال بد إذا التقى بغريب أن يجبر نفسه على االنبساط و االبتسام ألن مالقيه‬
‫ال يعلم ظروفه وإنما يعلم ظاهره فقط الذي سيحكم عليه بتلقائية تامة ‪......‬‬

‫التبين والتحقق عند فقيه الصداقة ابن الرومي !‬


‫ابن الرومي له سبيل طويلة مع الصداقة مرصعة بالجواهر والآللئ من أقوله الفريدة وحكمه البراقة الزاهرة ومنها هذه القصيدة‬
‫الطويلة التي استهّلها بمنهج حكيم في معرفة الصديق الحق ثم شرع يحكي قصة صداقته الفريدة مع أبي القاسم الذي من كثرة ما‬
‫قال فيه تتشوق النفس لرؤيته و تهفو لمعرفته و مصاحبته ولكن ابن الرومي بعد أن ظفر بهذا الصديق الذي قلما يجود الدهر‬
‫بمثله لم يبخل علينا بأن يمحصنا النصيحة التي تكون لنا مشعال يهدينا ونحن على الطريق ! ‪ ،‬اخترت من قصيدته هذه‬
‫دره ‪:‬‬
‫األبيات اكتفاءا ‪ ،‬فيقول هلل ّ‬
‫واضحات التجريب واالبتـ ـ ِ‬
‫الء‬ ‫طوية األص ـ ـ ـ ِ‬
‫دقاء‬
‫ُ‬ ‫حت عن َ ّ‬
‫صر ْ‬
‫َّ‬
‫مهذ ٍب أو ُغثَ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫اء‬ ‫عن صري ٍح َّ‬ ‫ف إال‬ ‫ِ‬
‫أن ُي َك ّشـ ـ ـ َ‬
‫ض ْ‬‫المخ ُ‬
‫وأبى ْ‬
‫حب غير التَّ ْكشيف واالجـ ـ ِ‬
‫تالء‬ ‫ض َم ِر الدخيل من َّ‬
‫الصا‬ ‫للم ْ‬
‫ليس ُ‬
‫ِ‬
‫باإليماء‬ ‫قبل السم ـ ـ ـ ـ ـاع‬
‫قل َ‬‫ُ‬ ‫بيء الفؤاد يعلـ ـ ـ ـ ـمه العا‬
‫وخ ُ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫باإليحاء‬ ‫هاب فيما يري ـ ـ ـ ـ ـد‬ ‫ولهذا اكتفى البليـ ـ ـ ُغ من اإلس‬

‫‪180‬‬
‫سهاماً من رؤية األغ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫بياء‬ ‫الذكي أ َْنفذ في الح ـ ـ ِ‬
‫قق‬ ‫ِ‬ ‫وظنو ُن‬
‫ّ‬

‫ِ‬
‫الغطاء‬ ‫وأخلصتَه بكش ـ ـ ـ ـف‬ ‫شيء عرْفتَ ُه بالتَّجـ ـ ــَاريب‬ ‫ثم‬
‫ٌ‬
‫الصالء ‪ :‬النارِ‬ ‫بالصـ ـ ـ ــِالء‬
‫َم ْعتها ّ‬ ‫ها إذا ما أ َ‬ ‫الجواه ـ ـ ـ ـ ــُِر ما في‬
‫إنما تُْبرز َ‬
‫ِ‬ ‫ال يغ َّرَّنك الم ِ‬
‫المماذقة ‪ :‬الكذب فهو ممذوق ّ‬
‫الود‬ ‫هر في حال م ـ ـ ـ ـ ـدة االلتقاء‬ ‫ماذ ُق بال ـ ـ ـ ـ ـظا‬ ‫َُ َ ُ‬
‫الصهباء ‪ :‬ذات حمرة في سو ِاد‬ ‫الص ـ ـ ــَهباء‬
‫وحديث كالقهوة ّ‬
‫ٍ‬ ‫وشى بمدح ج ـ ـ ـ ٍ‬
‫ميل‬ ‫من كالم ُي َ‬
‫َكل اللحم وارتعى في ال ـ ـ ِ‬
‫دماء‬ ‫أَ‬ ‫تغي َّْبـ ـ ـ ـ ـ َت عنه‬
‫عب ُد َع ْين فإن َ‬
‫ْ‬

‫وأخي ار ‪.......‬الصداقة بيد هللا و قدر مقدور !‬


‫األرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف ‪ .................‬لندع أرواحنا تجتمع على ما أراده هللا ‪،‬‬
‫لنسر على طبيعتنا و سجيتنا بال تكلف ‪ ،‬أفضل صداقة ما كانت بتلقائية بال ترتيبات وال تكلفات ‪ ،‬وهذا ال ينفي وجود صداقات‬
‫مرجو‬
‫ّ‬ ‫مخطط لها من طرف ينجح في استمالة الطرف اآلخر بعد شد وجذب ولكني أعتقد أن الصداقة التلقائية أمثل شكل‬
‫للعالقة األخوية فهي عالقة ال فضل ألحد فيها على أحد وإنما عالقة نشأت بمشيئة هللا وعلى مراد هللا ندعو هللا ليل نهار أن‬
‫يرزقنا إياها و أن يذيقنا حالوتها ‪ ،‬نعيش على أرض األحالم و نمضي على طريق الرجاء تهفو النفس لمرادها و تأتينا‬
‫األقدار بما رجوناه من حيث ال ندري وال نحتسب ‪............‬‬

‫مسائل متفرقة في الصداقة‬


‫‪ -1‬الصداقة واالكتئاب‬
‫مرض االكتئاب من األمراض المدمرة التي ال تقل تدمي ار عن اإليدز والسرطان ! ‪ ...‬هل تصدق ذلك ؟؟ ال يصدق كالمي وال‬
‫يفهمه حق الفهم إال من جرب مرض االكتئاب ‪ ..‬مرض االكتئاب في تعريف وجيز هو أن تكره الحياة وتتمنى الموت ‪ ،‬أن‬
‫يكون الموت أعز أمنية تتمناها ‪ ،‬الحياة سوداء قاتمة ال طعم لها بل هي مصدر تعاسة المريض إنه االنهيار و الحطام بسبب‬
‫وبال سبب المهم أن النتيجة تدمير حياة اإلنسان وتحولها إلى جحيم ال يخلص منه سوى التخلص من الحياة والشعور األفظع‬
‫أن تطلب الموت وال تناله ! والمشكلة العظمى أن هذا المريض ال يشعر به أحد ‪ ،‬ال يقدر أحد معاناته فهم يرونه في أفضل‬
‫حال وال يجدون مبر ار لكآبته و انهياره وينصحونه نصائح ال تجدي و يعامله المجتمع على أنه إنسان سوي صحيح فيكلفه‬
‫بتكاليف اإلنسان الصحيح وهو ال يطيق فيتهمه الناس باإلهمال وقلة المباالة وسوء األخالق بل العقوق و التكبر و االنطوائية !‬
‫وكل هذا يزيد معاناته أضعافا فوق األضعاف ‪ ....‬هذا ملخص لحال المكتئب ‪....‬‬

‫‪ -‬وللحديث عن العالقات بين االكتئاب والصداقة ينبغي أن ندرك أن االكتئاب يحطم الحياة االجتماعية لإلنسان ‪ ،‬يدمرها تدمي ار‬
‫‪ ،‬فالمكتئب زاهد في التعامل مع البشر بل نافر منهم يميل لالختالء بنفسه ليعيش شجونه وأحزانه بعيدا عن الناس ‪ ،‬هو ال يريد‬

‫‪181‬‬
‫مقابلة أحد بل هو ال يستطيع معاملة أحد ‪ ،‬ال يجرؤ على أن يقف وجها لوجه مع أحد من البشر ‪ ،‬لو حاول جاهدا مقاومة ذلك‬
‫الشعور فسيكون هناك آثار سلبية لتلك المقاومة فإما أنه بعد شد وجذب مؤلم لنفسيته يفشل في إجبار نفسه على لقاء األقران‬
‫فيتلقى جرعات من اللوم والتوبيخ على سوء تصرفه غير المفهوم و ُيتهم بعدم المباالة وقلة االحترام و العبثية !‪ ،‬وإما أنه ينجح‬
‫في إجبار نفسه على لقاء قرين أو قريب فيالحظ عليه مالقيه تغيره و تبدل مالمحه ‪ ،‬يرى عبوسا غير مبرر و انقباضا مريبا‬
‫ليس له سبب ظاهر وعندما يواجه صاحبه المكتئب بتساؤالته عن حاله فلن يجد المكتئب مبر ار مقنعا لحاله ولن يستطيع البوح‬
‫بمرضه و أساه ليقينه أن صاحبه لن يفهمه ولن يعذره ‪ ،‬فهو جرب البوح بأساه لغيره من قبل فلم يجد سوى التجاهل واإلهمال ‪،‬‬
‫فلماذا يعود لتلك الدوامة مرة أخرى ؟! والمشكلة األكبر أن يكون المكتئب نفسه ال يفهم أنه مكتئب ‪ ،‬ال يعرف أن ما به من‬
‫انقباض ويأس هو مرض نفسي َيعرض صاحبه نفسه على الطبيب ‪ ،‬هو نفسه ال يفهم ما به وال يتصور أن يكون ما به مرض‬
‫‪ ....‬المهم أن مقابلة المكتئب لغيره دوامة غير مأمونة العواقب فيركن إلى االنعزال عن الناس ليريح نفسه من العناء الذي لن‬
‫يتحمله فوق ما به من عناء أصلي ‪..............‬‬
‫أيت مجموعة من الطلبة في الجامعة ورأيت كل طالب منشغال مع زميله كالما و نقاشا وضحكا ‪ ،‬ومن بين هؤالء جميعا‬‫إذا ر َ‬
‫رأيت واحدا جالسا وحده بال أنيس وال رفيق يهيم وحده في عالمه يسرح في دنياه بغير صديق يؤنسه ‪ ،‬يشعر أنه غريب وسط‬
‫قرنائه ‪ ،‬يشعر أنه مرفوض ‪ ،‬يحس أنه ال يستطيع االندماج مع من حوله ‪ ،‬إذا رأيت شخصا بهذه الصفة فاعلم أنه مريض‬
‫االكتئاب ! وهذا النوع موجود في كل مجتمع كائن في كل وسط ولكن ال يشعر به أحد !‪...‬‬
‫أظن أن الرسالة وصلت اآلن ‪ ..................‬المكتئب ليس له صديق جديد ‪ ،‬المكتئب ال يستطيع اكتساب أصدقاء ‪ ،‬هو ال‬
‫يريد وفي نفس اآلن مجبر على ذلك ال إرادة له في ذلك ‪ ،‬واآلخرون لن يستسيغوه وسطهم و لن يستطيع أن يدخل قلب أحد‬
‫منهم بوجهه الشاحب ومالمحه المنقبضة ‪ .....‬إن فترة مرضه باالكتئاب التي قد تطول إلى سنين طويلة ستكون مرحلة توقف‬
‫في رحلة الصداقة ‪ ،‬فتلك المرحلة قبلها أصدقاء وبعدها أصدقاء أما هي فال ! كصحراء مقفرة ممتدة قبلها مروج و بساتين‬
‫وبعدها زروع وأزاهير !‬
‫رصيد مريض االكتئاب من األصدقاء ثابت إلى أن تزول تلك الحال ‪ ،‬فإن كان قد فاز بصديق قبل ضرب االكتئاب له فإنه‬
‫سيجد فيه الملجأ والمالذ ‪ ،‬سيشعر عنده بالمطمأنّ واالنشراح ‪ ،‬ينتظر لقاءه ليخفف عن نفسه ضيقها ‪ ،‬فهو الوحيد الذي فيه‬
‫بلسمي و تخفيف ألمي ‪ ،‬هو الوحيد الذي يفهمني ‪ ،‬هو الوحيد الذي رآني و عرفني قبل مرضي و أحبني وأنا صحيح في خير‬
‫يروح عني أنتظر لقاءه كل أسبوع لنقضي وقتا مختلفا أنسى فيه ألمي ‪ ،‬صحيح أن األلم سيعود‬‫حال ‪ ،‬هو الذي سيأخذ بيدي و ّ‬
‫بعد فراقه ولكني سأكون على أمل في اللقاء القادم ‪...‬‬
‫إن من يعيشون معي في بيت واحد يتجرعون الم اررة واألسى مني ومن حالي فهم يالزمونني و يرونني في ضيق دائما و يتلقون‬
‫مني الصراخ و العصبية و المزاج السيء ‪ ،‬ضاقوا بي وبحالي ‪ ،‬هم حائط يصد كل عصبيتي وانفعالي و أخالقي المتهورة ‪،‬‬
‫الصد واالنطواء والجفاء ‪ ،‬ليس ذلك ألني أبغضهم ولكن ألنهم يالزمونني في البيت فيرون كل‬
‫ّ‬ ‫وهم يأخذون النصيب األوفر من‬
‫الصد‬
‫ّ‬ ‫تقلباتي و تدهوري بأعينهم ‪ ،‬هم ليس لهم ذنب في ذلك ‪ ،‬وأنا أيضا ليس لي ذنب في ذلك ‪ ،‬ولكن صديقي ال يتلقى مني‬
‫فأعد نفسي للقائه وأنا في أحسن حال‬
‫الذي يتلقاه أهلي مني ‪ ،‬ألنه ليس مالزما لي في بيت واحد وإنما ألقاه مرة في األسبوع ّ‬
‫وخصوصا أنني أتطلع للقائه الذي سيخفف عني و يهدئ روعي ‪ ،‬أهلي يغارون من صديقي ويقولون وهم ال يزالون مستمرين‬

‫‪182‬‬
‫في مسلسل سوء الفهم ‪ :‬أنت معنا عابس مكفهر ضيق الخلق ال تطيق لنا كلمة وال نلقى منك خي ار وعندما تلقى صديقك يتغير‬
‫أح َم ٌل وديع مع صديقك ذئب مفترس مع أهلك ؟؟!! يصرخ مريض االكتئاب ويحاول إقناعهم‬
‫كل ذلك وتصير مالكا وديعا ؟؟!! َ‬
‫بمرضه و طبيعته و يحاول إفهامهم أن األهل هم من يدفعون ثمنا باهظا في سبيل تحمل مريضهم لطبيعة مالزمتهم له في بيت‬
‫واحد بين جدران واحدة وتحت سقف واحد ‪ ،‬والصديق ال يرى تلك الصورة من صديقه وإنما يرى االنشراح والقبول لطبيعة عدم‬
‫مالزمته لصديقه المريض الذي يتطلع للحظات رؤيته ليروي ظمأه فيراه على أقل حال سوءا فيمارس دوره في التخفيف عن‬
‫صاحبه و المساهمة في إخراجه من حال االغتمام إلى حال االنسجام !!‬

‫‪ -‬إن دور الصديق مع صديقه المكتئب دور محوري ‪ ،‬ومهمته عسيرة ‪ ،‬فمهمته أن يخرج صديقه من اكتئابه و أن يجدد له‬
‫األمل في الحياة وأن يقول له بحاله قبل لسانه ‪ :‬أنا معك لن أتركك لن أتخلى عنك ‪ ،‬عبوسك الحالي لن ينسيني مرحك‬
‫الماضي و ضيقك اليوم لن يجعلني أكفر سعتك و انبساطك األمس ‪ ،‬سأكون سلواك و مستراحك ‪ ،‬ستُغلق أبواب الخلق أمامك‬
‫وبابي لن ُيغلق أبدا !!‪...‬‬
‫المغتم و‬
‫ّ‬ ‫إن تلك المشاعر لن تتحقق من جانب الصديق إال بعد أن يفهم صديقه و أن يفهم طبيعة مرضه وأن يدرك أن حاله‬
‫عبوسه الدائم و كسله ومالزمته لبيته و وتقصيره الشديد في حق الصداقة إنما هو ليس بيده ‪ ،‬هو مقهور بمرض جاثم على‬
‫صدره ‪ ،‬مقيد بأغالل ال يستطيع االنفكاك منها ‪ ،‬فكانت هنا أهمية الفهم والوعي بأن هناك مرضا مدم ار اسمه االكتئاب نسبته‬
‫في المجتمع كبيرة و تأثيره على الفرد كارثي على عالقاته و عمله وأسرته بل حياته كلها التي تتحول إلى جحيم مستعر و نار‬
‫ظى !!‪.............‬‬
‫تل ّ‬
‫إن الصديق إن استطاع عالج صديقه بحضوره و مآزرته و شعوره و حكمته فسيكون قد حقق معجزة ال تكفي كنوز الدنيا‬
‫لمكافأته عليها !‬

‫‪ -‬هذا هو دور الصديق في عالج االكتئاب وذكرنا تأثير االكتئاب على الصداقة والعالقات االجتماعية وبقي الحديث عن دور‬
‫الصداقة في إحداث االكتئاب ‪ .............. !!!.‬الصداقة قد تعالج االكتئاب ولكنها كذلك قد تكون السبب األساسي لالكتئاب‬
‫!! ‪ ،‬هل يعقل أن تكون عالقة الصداقة الفاضلة الطيبة سببا لهذا المرض المدمر ؟!! اإلجابة ‪ :‬نعم !‪............‬‬
‫صديق ملك عليك قلبك ‪ ،‬سيطر على حياتك ‪ ،‬صار جزءا أساسيا منها ‪ ،‬صببت عليه حبك صبا و تيقنت أنه يبادلك حبا بحب‬
‫و إخالصا بإخالص حتى صرت ال تتخيل الحياة بدونه ‪ ،‬وفجأة ‪ .................‬تقلبت أمواج الحياة و أطلقت الريح‬
‫أعاصيرها و قذفت السماء أمطارها وثلوجها ‪ ،‬تبدل الحال و خرج صديقك من حياتك ‪ .........‬نعم خرج من حياتك كما يخرج‬
‫لف به أو كما تقتلع شجرة عتيقة من أرضها ‪ ...........‬بعد أيام الصفاء والوفاء أتى النفور والجفاء ‪ ،‬إنها‬
‫الصباّر من قماش ّ‬
‫هز ‪ ،‬أتاك ما لم تكن تتصور ‪ ،‬زهد‬ ‫يهز النفس ّا‬
‫حوادث الدهر التي تقلب حياة اإلنسان وتزلزل أركانه ‪ ..‬نعم إنه زلزال رهيب ّ‬
‫صرت بال صديق !‬
‫َ‬ ‫صديقك فيك وتركك ‪ ،‬اندلعت نيران المشاكل والمشاحنات بينكما لتصير العالقة بينكما محاال ‪ ،‬وفجأة‬
‫كالزرع بال ماء ‪ ،‬وكالسمك بال بحر ‪ ،‬تشتت عقلك و حار فكرك وانهارت روحك و نفسك ‪ ،‬إن من لم تستغن عنه يوما من‬
‫األيام هجرك وتركك وحيدا لتالقي مصي ار مظلما ‪ ،‬إنه االنهيار التام ‪ ......‬إنه النتيجة الفظيعة ‪ ...‬االكتئاب !‬

‫‪183‬‬
‫إن ذلك الجرح العميق الذي أدى إلى االكتئاب بفقد الصديق جرح لن يندمل بسهولة إنه أليم شديد و طويل األثر قد تستمر معه‬
‫المعاناة و األلم والكآبة شهو ار بل سنينا ‪ ،‬سنين من المعناة و المقاومة سنين من محاولة اإلفالت من براثن االكتئاب ‪ ،‬و قد ال‬
‫يداوي الجرح إال صديق مكان الصديق ‪ ،‬إن ذلك الفراغ الذي تركه الصديق األول يحتاج لمن يملؤه ‪ ،‬يحتاج القلب بعد فقد حبه‬
‫األول أن ينشغل بحب آخر ينسيه الماضي بل يزهده فيه ‪ ،‬حينها يبدأ اإلنسان حياة جديدة بأخوة جديدة ويسلو عن الماضي‬
‫بالحاضر البهيج ‪..........‬‬
‫ولكن أناسا منكوبين ال تتركهم الحياة ليهنؤوا و ال يستفيقون من ألم حتى يصيبهم ألم جديد ‪ ،‬تتكرر المأساة ‪ ،‬نفس القصة‬
‫الحزينة األولى يراها المنكوب مرة أخرى ‪ ،‬تتدهور العالقة و تتدحرج الصداقة على منحدر الشقاق والنزاع إلى أن تصل إلى‬
‫النهاية المأساوية ‪ ...‬ال يصدق المسكين نفسه !! ال يتصور ما يحدث له ‪ ،‬يا إلهي ‪ ......‬مرة أخرة !! أتجرع كأس السم ثانيا‬
‫!! إن نفسي الرقيقة الجريحة ال تقوى على ذلك ‪ ،‬إنني ال أتحمل تلك الصاعقة مرة أخرى ‪ ............‬إنه االنهيار التام و‬
‫االكتئاب المضاعف الذي تتوقف معه الحياة ‪ .....‬حينها يحتاج ألضعاف الفترة األولى ليتعافى وقد ال يتعافى أبدا ! و بعدها قد‬
‫يفقد الرغبة الصداقية أبدا ويقرر أن يغلق قلبه إلى األبد بال عودة ‪.............‬‬

‫قد يتعجب بعض القراء ويقول ‪ :‬من هذا الذي يكتئب وينهار لترك صديقه له ؟! هل االكتئاب يحدث لهذه األشياء التافهة ؟! أي‬
‫صداقة تلك التي يهتم لها اإلنسان و تؤثر فيه حتى يصاب باالكتئاب ؟! هل هذا أحمق أم مريض ؟؟!‬
‫واإلجابة أنه ليس أحمق وال مريضا وإنما هو إنسان رقيق القلب ُيعلي قدر األحاسيس الجميلة والمشاعر الفياضة ‪ ،‬إنسان يعيش‬
‫بالحب ومع الحب ‪ ،‬إنسان قلبه فوق عقله ‪ ،‬يؤمن بالصديق و يؤمن باإلخاء ‪ ،‬والحمقى المرضى حقا من تركوا نصيبهم من‬
‫حياة القلوب ليعيشوا جفاةً ماديين يلهثون وراء الدنيا والمتاح الحسي ‪ ،‬وهم معذورون في تعجبهم وتندرهم ألنهم يعيشون بال قلوب‬
‫ولم يذوقوا طعم الحياة الحقيقية طعم الحب ! ذلك الطعم الذي من ذاقه مرة فلن يرضى عنه بديال طول حياته !!‬
‫المحبة ‪ ،‬رفيق الدرب و حبيب القلب‬
‫ّ‬ ‫جرح آخر ال يقل عن األول شدة وهو فقد الصديق بموته ! إنها صدمة ال تتحملها األنفس‬
‫أفقده إلى األبد في الدنيا ؟!! كيف سأعيش من بعده وكيف ستحلو الحياة لي ‪ ،‬كيف أنساه وهو يجري في عروقي ؟! وماذا‬
‫ينسيني وماذا يسّليني ؟! ‪..‬‬
‫إن الكارثة هذه المرة أعظم من األولى ففقد الصديق بالهجر قد يعوضه صديق جديد يحل محله ليهيل عليه التراب و يلقيه خلف‬
‫ظهره ‪ ،‬أما فقد الصديق بالموت فال معوض له ‪ ،‬فغيابه ليس بإرادته وإنما بإرادة فوق البشر ‪ ،‬إرادة فوق كل اإلرادات ‪ ،‬غياب‬
‫ليس له فيه يد ‪ ،‬وغياب ليس فيه أمل – في الحياة الدنيا أعني ‪ -‬فما السلوى وما الجدوى ؟! يقع المسكين حينها فريسة‬
‫لالكتئاب ليعاني مصي ار مظلما ال يعلم نهايته إال هللا سوى أن يتغمده هللا برحمة منه وفضل !‬
‫وصف ابن رشيق القيرواني اكتئابه لموت صديقه في قصيدة طويلة آخرها هذه األبيات الرقيقة ‪:‬‬
‫اإللتـ ـ ـقاء‬‫اور و ِ‬
‫وزال التـز ُ‬ ‫تصرَم ما بيننا و ْانَق ـ ـضـى‬
‫َّ‬
‫ومالك ِمـ ـ ـني ِإالَّ ُّ‬
‫الد َع ـاء‬ ‫ِ‬
‫االكتئاب‬ ‫فمالي منك سـوى‬
‫َ‬
‫القريض ‪ :‬القيء‬ ‫الب ـ ـ َكـاء‬
‫مقلتي ُ‬
‫َّ‬ ‫قل ِم ْن‬
‫ِإذا َّ‬ ‫عليك َفمي بالَقر ِ‬
‫يض‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ويبكي‬
‫وأَعطاك من بي ِ‬
‫طاء‬
‫ديه الع ـ ـ ُ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫عني خــَْير الجز ِاء‬ ‫يت ِّ‬ ‫َف ِ‬
‫جوز َ‬
‫‪184‬‬
‫اء‬ ‫ظ ْمِئها و ُّ‬ ‫لك ِّ‬
‫الر ُّي من َ‬ ‫وال ِ ْزلت بالَق ـب ِر في جـ ـ ِ‬
‫الرو ُ‬ ‫نة‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أما الطريق الثالث الذي تسببه الصداقة لالكتئاب فهو السعي وراء من ال يسعى إليك ‪ ،‬إنه التعلق بمن ال يشغل باَله بك ‪ ،‬إنه‬
‫الحب من طرف واحد بال أمل وبال جدوى ‪ ،‬يبذل المسكين كل جهد ليستميل حبيبه لصداقته ومبادلته الود والحب فال يجد سوى‬
‫الصد إما ألنه ال يحبه وإما ألنه ال مجال عنده للصداقة وال يعرف معناها أصال ‪ ،‬فيسلك المسكين طريقا وع ار نهايته حافة‬
‫النبذ و ّ‬
‫جبل ! فيكبت صاحبنا مشاعره في قلبه و يكبت حزنه وهمه خصوصا لو تكررت معه تلك التجربة المريرة فتختزن مشاعره‬
‫المصدودة في جسده الذي ال يقوى على التحمل فينهار الجسد و تنهار النفس ويحدث االكتئاب الذي قد يالزمه طول حياته‬
‫‪!!....‬‬
‫والبن دقيق العيد أبيات جامعة ألسباب االكتئاب الصداقية حيث قال ‪:‬‬
‫وبعضهم ِفي البالء غائ ـ ْب‬ ‫ميـ ـتاً‬
‫بعض أخالئي ص ـار ْ‬
‫ويقصى وال يق ـارب‬ ‫ُيحصى ُ‬ ‫وبعضهم حاضر ولكـ ـ ـن‬‫ُ‬
‫فال قريب وال مـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ناسب‬ ‫وصرت َب ْي َن ال ـورى وحيداً‬
‫ٌ‬
‫جائب‬‫سرور مثلي من الع ـ ـ ِ‬ ‫اكتـ ـئابي‬‫فال َتُلمني عل ـى ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫ََ‬
‫إنه المصير المشئوم بعد طول مسير في الحياة بين الناس ‪ ،‬الوحدة ‪ .......‬الوحشة ‪ .............‬الغربة ‪ ،‬فال يجد اإلنسان‬
‫سوى الحزن المتزايد والشجن المتراكم الذي ُيهال عليه كتراب من الذكريات الخالية تجتمع عليه حتى تخنقه وتقتله كمدا وغما !!‬

‫‪ -2‬بين الصديق والزوجة‬

‫زوجك ؟ سؤال صعب ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫صديقتك أم‬ ‫ِ‬
‫بروحك‬ ‫ِ‬
‫نفسك و ألصق‬ ‫لديك الصديق أم الزوجة ؟ وأيهما أقرب إلى‬
‫أيهما أكثر حظوة َ‬
‫رد حاسم يحسم هذه الموازنة و يريح‬
‫ترو و اتئاد في الحكم حتى نصل إلى جواب فصل و ّ‬
‫يحتاج لتفكير طويل وحكمة بالغة و ّ‬
‫ابتداء الناس أصناف وأشكال ‪ ،‬منهم من يرى الزواج شيئا قدسيا فال يضاهيه شيء في القرب وال‬
‫ً‬ ‫النفس و يثلج القلب !‪........‬‬
‫ينازعه شيء في الحب ‪ ،‬ومنهم من يرى الصديق قبل كل شيء هو رفيق الدرب قبل الزوجة و أنيس القلب عند الشدة فيلجأ إليه‬
‫ويجد عنده ما ال يجده عند زوجته !‪ ،‬إنهما رأيان متضادان تماما ‪ ،‬وبينهما رأي وسط يقول ‪ :‬إن الصديق والزوجة ال ينبغي‬
‫الخلط بينهما وال يصح الموازنة بينهما فهما شيئان مختلفان ال يخضعان للمفاضلة ‪ ،‬كما ال يصح المفاضلة بين الس ّكر والملح‬
‫فهذا أفضل في مواضع وذاك أفضل في مواضع فال مفاضلة مطلقة ! ومنهم من يفضل الصديق إذا لم تكن الزوجة صديقة‬
‫ويفضل الزوجة إذا كانت زوجة وصديقة !ويستدل بقول جميل الزهاوي ‪:‬‬
‫جل‬
‫عما يريب يـ ـ ـ ُّ‬ ‫إن ِاجتماعي ِبَلي ـلى‬
‫خل‬
‫س ـاع ًة ما ي ـُ ـ ـ ُ‬ ‫مافي اجتماع صديقين‬
‫رأي الدكتور مصطفى محمود ‪:‬‬
‫يقول الكاتب الكبير مصطفى محمود في كتاب ( األحالم ) ‪ .... ( :‬وصداقة الرجل بالرجل أكثر صفاء ووضوحا من عالقة‬
‫الرجل بالمرأة ألن عالقة الرجل بالمرأة تتدخل فيها الطبيعة طرفا ثالثا له مصلحة ‪ ،‬الطبيعة لها غرض من التقاء الرجل بالمرأة‬

‫‪185‬‬
‫فهي تريد طفال من التقاء االثنين ‪ ،‬ولهذا تشوش عليهما بمطالبها ‪ ،‬وهي غير موجودة في عالقة الرجل بالرجل ‪ ،‬إن الرجل‬
‫يطلب الرجل لحاجة روحية صرفة ‪)....‬‬

‫مناظرة لطيفة ‪:‬‬


‫فلدي محاورة لطيفة ومناظرة ظريفة بين مناصر ألفضلية الصديق و مناصر‬ ‫هي آراء متباينة ‪ ،‬و أيا كان الرأي الصحيح ّ‬
‫ألفضلية الزوجة يعرض كل منهما رأيه وعلى المشاهدين المتابعين الرأي والحكم !!‪............‬‬
‫أ ‪ :‬أخي العزيز يا من تفضل الصديق على الزوجة ‪ ،‬الصديق اليصل إلي مرتبة الزوجة مهما كان األمر فالميثاق الغليظ الذي‬
‫ذكره هللا في كتابه كان للزوجة ال للصديق قال تعالى ‪ (:‬وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا‬
‫)‬
‫ب ‪ :‬أخي العزيز يا من تفضل الزوجة على الصديق ‪ ،‬ذكر رسولنا الكريم من الفضل العظيم لألصدقاء المتحابين في هللا ما لم‬
‫يذكره في حق الزوجين ‪ ..‬هل تنكر ذلك ؟؟؟ المتحابون في هللا يظلهم هللا في ظله يوم ال ظل إال ظله و المتحابون في هللا على‬
‫منابر من نور يوم القيامة فهل الزوجان المتحابان لهما مثل ذلك الثواب ؟؟؟ طبعا ال تستطيع ادعاء ذلك ‪ ،‬و الميثاق الغليظ‬
‫الذي جعله هللا إنما هو أمر جبلي فطري بينما الحب في هللا هو أمر مكتسب فلذلك له من الثواب العظيم ما ليس لألزواج الذين‬
‫تتعلق بهم عالقة الشهوة وهو ما تتنزه عنه الصداقة‪..‬‬
‫فظل هللا هذا لم يذكر في بر الوالدين وهو أعظم‬
‫أ‪ :‬ال يشترط ما تقول فنحن نتكلم في عالقة لها ثوابتها ال نتكلم عن فضلها وإال ّ‬
‫منزلة من الحب في هللا لعموم األحاديث الدالة علي ذلك‪...‬‬
‫ب ‪ :‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪ (:‬من سره أن يجد حالوة اإليمان فليحب المرء ال يحبه إال هلل ) بل جعل ذلك أعظم شعب‬
‫اإليمان ( ود المؤمن للمؤمن في هللا أعظم شعب اإليمان ) السؤال اآلن هل حب الزوجة من أعظم شعب اإليمان ؟؟‬

‫أ ‪ :‬عندما سئل النبي صلي هللا عليه وسلم عن أحب الناس إليه ذكرعائشة قبل أن يذكر أباها وهذا دليل كاف علي أن حب‬
‫الزوجة مقدم علي غيره !‬
‫ب ‪ :‬سبحان هللا العظيم !! فضل العمل وثوابه دليل على عظمه عند هللا وكلما زاد الثواب واألجر زادت عظمة العمل وأهميته وال‬
‫داعي للسفسطة بقولك إن بر الوالدين لم يذكر له ذلك األجر ‪ ،‬فأنت تعترف بعضلة لسانك وتقول بر الوالدين ال حب الوالدين‬
‫فحب المؤمن للمؤمن أعظم من حب الوالدين بال شك فهذا حب اختياري واآلخر حب إجباري‪...........‬‬
‫أ ‪ :‬كيف تقول ذلك؟ حب المرء ألوالده عظيم ومع ذلك لم يأت دليل واحد علي فضل له ووصف هللا كيد النساء بأنه عظيم وال‬
‫فضل له‬
‫ب ‪ :‬حب األوالد بالنص النبوي الشريف ال يرقى لمنزلة الصديقين المتحابين في هللا فلماذا المماراة ؟؟ ثم إنك تقول إن أحب‬
‫الناس للنبي عائشة وتستدل بذلك على أن حب الزوجة مقدم على حب الصديق فليت شعري هل حب الدباء ( القرع ) مقدم على‬
‫حب بقية الطعام ألن النبي كان يحبه ؟؟؟ يا أخي الفاضل ال تخلط بين األشياء البشرية للرسول و األشياء التشريعية وكفاك‬
‫خلطا لألمور ‪....‬‬

‫‪186‬‬
‫أ ‪ :‬ال أخلط األمور ألن النبي صلي هللا عليه وسلم سأله عمرو بن العاص سؤاال صريحا عن أحب الناس إليه على اإلطالق‬
‫فذكر زوجته ثم ذكر له من يليه في المنزلة وهذا ربط واضح جلي لكنك ذكرت لي مثاال ليس فيه ربط بين الدباء وبقية أنواع‬
‫الطعام !‬
‫ب ‪ :‬بالمناسبة ( إن كيدكن عظيم ) ليس وصف هللا يا أخي وإنما هو وصف العزيز ‪ ،‬كيف تأخذ وصف العزيز وتستدل به‬
‫على مسألة شرعية إنسانية ؟؟!! ناقص أنك تستدل بأقوال فرعون والنمرود وتزعم أنها أوصاف قرآنية !!!‬
‫أ ‪ :‬لكن النص القرآني ما نفي قوله أو انتقده فكان هذا بمثابة التقرير‬
‫ب ‪ :‬وهل النص القرآني انتقد قول قوم أصحاب الكهف ( لنتخذن عليهم مسجدا ) أو أنكر عمل آل داود للتماثيل ؟؟!!! وهذه‬
‫أشياء محرمة في شريعتنا ولكنها ذكرت في سياق الحكاية عن األقوام السابقين‬
‫أ ‪ :‬هذا اختالف شرائع (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)فالتماثيل كانت مباحة آنذاك ومحرمة في شريعتنا‬
‫ب ‪ :‬أنت تقول إنه لم ينكر على قول العزيز إق ار ار بقوله فهل عدم إنكاره على قول قوم أهل الكهف و عمل آل داوود إقرار بذلك‬
‫؟؟؟‬
‫ثم تعال هنا كيف تقارن عالقة الزوجين التي تتخللها الشهوة بعالقة الصديقين الطاهرة ؟؟؟ ال شك إذن أن عالقة الصديقين‬
‫أشرف و أنبل ‪ ،‬كما أن االفتراق يولد االشتياق كما علمنا أهل األدب فافتراق الصديقين ثم لقاؤهما يولد حبا مستم ار و شوقا دائما‬
‫وهو ما تفتقره عالقة الزواج حيث يتالزم الزوجان مدى الحياة فيقل الحب ويفتر الشوق و يحدث الجمود !‬
‫أ ‪ :‬وصفك للعالقة بين الزوجين بالشهوة وبعدم الطهارة بمفهوم المخالفة لديك وصف يعتليه النقص والقصر ألنها أنبل وأعظم‬
‫من ذلك بكثير كما أن االشتياق ال يشترط له فراق بل من كمال الحب أن تشتاق إلي محبوبك وإن كان بين عينيك لمجرد غفلة‬
‫جفنك عنه لحظة من اللحظات‬
‫ب ‪ :‬ما أراك إال مجانبا للصواب ‪ ،‬صحيح أن قمة الحب أال تمل من طول اللقاء ولكن قال أبو هريرة رضي هللا عنه ‪ :‬لقد‬
‫غبا تزدد حبا – أي زر يوما واترك يوما – إلى أن سمعتها من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومنه‬
‫دارت كلمة العرب ‪ :‬زر ّ‬
‫اقتبس الشاعر فقال ‪:‬‬
‫غبا !‬
‫وإن شئت أن تزداد حبا فزر ّ‬ ‫إن شئت أن تُقلى فزر متوات ار‬
‫أ ‪ :‬العالقات تتفاوت في هذا الشأن ربما يسري هذا علي العالقة بين الصديقين ألن الرفاق كثير لكن يستثني من ذلك الخلة أما‬
‫العشق بين الزوجين فليس له إال اللوعة لمجرد االفتقاد المعتاد‬
‫ب ‪ :‬لقد تراجعت أيها الفتى عن كالمك عندما وجدته مصادما لكالم الصحابة وكالم النبي وكالم العرب الحكماء ‪ ،‬ولكنك‬
‫وقعت في مغالطة جديدة حين قلت ( ربما يسري هذا علي العالقة بين الصديقين ألن الرفاق كثير ) ولكن يا عزيزي الزوجات‬
‫قد يتعددن فأنت مباح لك ‪ 4‬زوجات ‪ ،‬إذن بكالمك تنطبق هذه القاعدة على الزوجة مع التعدد ‪ ،‬والحظ أن تعدد الزوجات يجزئ‬
‫العشق و يفتته !‬
‫كالسكر وا نظر إلي قول الشاعر‬
‫أ ‪ :‬واعلم جيدا أن العشق بين الزوجين ال يحتاج إلي فرقة ليزيد أو يتجدد ألنه ُ‬
‫العشق ال يستفيق الدهر صاحبه ‪.......‬وإنما يصرع المجنون بال ـ ـحين‬

‫‪187‬‬
‫ب ‪ :‬ما شاء هللا تستدل بأشعار السكرى و المخمورين و الماجنين ّ‬
‫وترد بذلك كالم الرسول والصحابة وحكماء العرب ‪..........‬‬
‫هداك هللا !‬
‫أ ‪ :‬لكن النبي صلي هللا عليه وسلم استدل بشعر لبيد وكان كاف ار !‬
‫ب ‪ :‬ال يا أخي ‪ ،‬هناك فرق بين كافر قال حكمة وماجن سكران يهذي من الخمر والعربدة !‬
‫‪...................................................................‬‬

‫وكل على رأيه ‪ ،‬وكل ال يقتنع برأي اآلخر والرأي في النهاية للقراء لهم الحكم‬
‫وتستمر المناظرة الشائقة ‪ ،‬ويتواصل النقاش ٌ‬
‫النهائي !‬

‫‪ -3‬هل القلب يسع صديقين ؟!‬

‫قبل أن ندلف إلى هذه المسألة الشائكة نقول إن تعدد الزمالء بال شك أمر واقعي ال جدال فيه وال يحتاج لشواهد ‪ ،‬أما تعدد‬
‫بالصاحبين ابن المقرب العيوني‬
‫َ‬ ‫أقر‬
‫أقره الشعراء جميعهم ‪ ،‬فممن ّ‬ ‫األصحاب فدلت األحداث وتواترت األخبار على وقوعه ‪ ،‬و ّ‬
‫قائال ‪:‬‬
‫قلوصي ‪ :‬ناقتي الونى ‪ :‬التعب‬ ‫َوَلو َع َرفا ما َفوَقها َع ـ ـ َذراها‬ ‫الونى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باي َعلى َ‬ ‫وم َقلُوصي صاح َ‬ ‫َيلُ ُ‬
‫يه َقراها‬ ‫وما ُك ُّل ذا يقوى عَلـ ـ ِ‬ ‫ضب ًة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َلَقد َح َمَلت َبح اًر َوَبد اًر َو َه َ‬
‫وقال البحتري ‪:‬‬
‫طريقي‬ ‫وَقد سَلكا ِباأل ِ‬
‫َمس َغ َير َ‬ ‫باي ِإرَادتي‬‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َقول َو َخّلى صاحـ ـ ـ َ‬
‫أ ُ‬
‫خلي ‪ :‬صديقي‬ ‫ميماس ‪ :‬نهر بحمص‬ ‫مص ِي ِج ُّد َمشـو ِق‬‫الح ِ‬
‫ِإلى ِخّلِي ِ‬ ‫ماس ِح ِ‬
‫مص َفِإَّنني‬ ‫ُخذاني َعلى مي ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫فرق بين رفيقيه بوصفهما بالصاحبين وبين المسافر إليه بوصفه ّ‬
‫خال أي خليال و صديقا ‪ ،‬وهو ما‬ ‫والمالحظ هنا أن البحتري ّ‬
‫يدل على التفرقة بين الصاحب والصديق ! وأن مكانتيهما مختلفتان ! فتنبه إلى ذلك ‪..‬‬
‫ولم يكتف الشعراء بصاحبين فقط حتى أقروا األصحاب تعددا بلفظ ( أصحابي) فقال ابن الوردي ‪:‬‬
‫اغتنموا علـ ـ ـمي وآدابي‬ ‫معشر أصح ـ ـ ـابي‬
‫َ‬ ‫باهللِ يا‬
‫أقسم ال يرحـ ـ ـل إالّ بي‬
‫َ‬ ‫وقد‬
‫حل برأسي ْ‬ ‫فالشيب ْقد َّ‬
‫ُ‬
‫وقال أبو الطمحان القيني ‪:‬‬
‫غودرت في َلحـ ٍد عَل َّي ص ِ‬
‫فائ ـحي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو ِ ُ‬ ‫موع ُهم‬
‫فيض ُد ُ‬ ‫اح أَصحابي تَ ُ‬ ‫ِإذا ر َ‬
‫الف ِ‬
‫ضاء ِبصالِ ِح‬ ‫اللحد في األ ِ‬
‫َرض َ‬ ‫َوما‬ ‫َيقولو َن َهل أَصَلحتُم ألَخيـ ـ ُكم‬
‫ُ‬
‫أما ذكر تعدد األصدقاء فأكاد ال أجده في الشعر العربي القديم ‪ ،‬بل لم أجد شاع ار قديما وصف أناسا بلفظ ( أصدقائي) أو (‬
‫صديقاي ) بل في الشعر الحديث لم أجد ذلك اللفظ إال على لسان علي محمود طه وهو شاعر مصري في القرن العشرين‬
‫يقول ‪:‬‬

‫‪188‬‬
‫ِِلم أنسكم ُّ‬ ‫عنكم إخـ ـ ـائي‬ ‫يح ْل‬
‫قط أصدقـ ـائي‬ ‫ُ‬ ‫ولم ُ‬
‫ِ‬
‫كل ٍّ‬
‫حب‬ ‫ُحبكم فـ ـ ـوق ّ‬
‫أ ُ‬ ‫وهان في حبكم فنـ ـ ـائي‬
‫َ‬
‫وقبل أن نتسرع و نحكم بأن تعدد األصدقاء عند العرب ممتنع نفجأ بأن مرادف الصديق ثبت تعدده عندهم ‪ ،‬فإذا كان لفظ‬
‫الصديق لم يتعدد فلفظ الخليل تعدد كثي ار في شعرهم ! فذا ابن الرومي وهو الصديق الصدوق يقول ‪:‬‬
‫صرم‬ ‫ال الخليل وإن‬ ‫ُ ِ‬
‫ْ‬ ‫وص َ‬
‫كنت َّ‬
‫وقد ُ‬ ‫وه ْم َيصــلونني‬
‫وصارمت خ ّالني ُ‬
‫ترم‬ ‫مشاهده نفسي ولم ِ‬
‫أدر ما اجـ ـ ْ‬ ‫ُ‬ ‫فقد الجــليس و أوحشت‬ ‫وآنسني ُ‬
‫وهذا الفقيه الشوكاني يعبر عن إضافة خليل إلى قائمة الخالن فيقول ‪:‬‬
‫يف ِم ْن ِخالّني‬ ‫الشر ُ‬‫ص َار َهذا َّ‬
‫َ‬ ‫َق ْد تََيَّق ْن ُت أََّنني َّ‬
‫الس ْع ُد َل ّما‬
‫َه ِل َه َذا َّ‬
‫الزم ــان‬ ‫َر ِ‬
‫ان يا َف ْرَد أ ْ‬ ‫ان يا َسِّي َد األ ْ‬
‫َق‬ ‫يع األو ِ‬ ‫يا َقر َ‬
‫أما بشار بن برد فصرح بوجود الخليلين بقوله ‪:‬‬
‫ناء‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫قائ ِه‬
‫وخير خليَليك اَلذي في لِ ِ‬
‫حين َشط َغ ـ ـ ُ‬ ‫اح َوفيه َ‬ ‫َرو ٌ‬ ‫ََ ُ َ َ‬
‫وما الُقرب إال لِ ِ‬
‫الء‬
‫صـ ـ ُ‬ ‫ته ُجرُه ٌم َو َ‬ ‫َوَلو َوَل َد ُ‬ ‫لمَق ِّرب َن َ‬
‫فس ُه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬
‫صف ـ ُ‬‫داد َ‬ ‫الو ُ‬‫يس فيه و ِ‬
‫َ‬ ‫ِبما َل َ‬ ‫صّن ٍع‬ ‫مرىء ُمتَ َ‬ ‫َوال َخ َير في ُوّد ا ِ‬
‫ِ‬ ‫ُعتب خ ّالني وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬
‫الغَل ـو ُ‬
‫فس َو ُ‬ ‫الن ُ‬
‫ته َ‬ ‫ِبما َغَل َب ُ‬ ‫صاحبي‬ ‫َعذ ُر‬ ‫َ‬ ‫َسأ ُ ُ‬
‫ساء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫داي تُ ُ‬ ‫ساءني َوَنفسي بما تَجني َي َ‬ ‫كان َ‬ ‫َوما ل َي ال أَعفو َوإِن َ‬

‫يال ِأل َّ‬


‫َن َم َحبَّتَ ُه تَتَ َخَّل ُل اْلَقْل َب‬ ‫يل َخلِ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والخليل بال شك هو الصديق بذا صرح اللغويون فقد قال القرطبي عن ثعلب ‪ِ :‬إَّن َما ُس ّم َي اْل َخل ُ‬
‫ار‪:‬‬ ‫َف َال تدع ِف ِ‬
‫يه َخَل ًال ِإ َّال َم َأل َْت ُه‪َ ،‬وأ َْن َش َد َق ْو َل َب َّش ٍ‬ ‫ََ ُ‬
‫يل َخلِي ـ ًال‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الرو ِح ِمِّني‬ ‫َق ْد تَ َخَّلْل َت َم ْسَل َك ُّ‬
‫َوبِه ُس ّم َي اْل َخل ُ‬
‫الص َداَقةُ‪ ،‬م ْشتََّقةٌ ِم ْن تَ َخُّل ِل ْاألُسر ِار بين اْلمتَ َخاّلِين‪ .‬وِقيل‪ِ :‬هي ِمن اْل َخَّل ِة َف ُك ُّل و ِ‬
‫اح ٍد ِم َن اْل َخلِيَل ْي ِن َي ُس ُّد َخَّل َة‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َْ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ين َّ‬ ‫َواْل ُخلةُ َب ْي َن ْاآل َدمِّي َ‬
‫اح ِب ِه‪..............‬‬ ‫ص ِ‬
‫َ‬

‫ال حاجة لنا إذن في مزيد من الجدال بشأن تعدد الصديق ‪ ،‬ولكن كثي ار من المحبين الصادقين يعترضون ويقولون ‪ :‬ليس هذا‬
‫حالنا ! فلي صديق واحد ال أعدل به أحدا وال يصل لمقامه في نفسي واصل ‪ ،‬لو وزن بجميع أصحابي ومعارفي لرجح بهم‬
‫جميعا ! فكيف تقول بالتعدد وهو محال عندنا ؟! ‪ .......‬ولإلجابة على هذا التساؤل نقول ‪ :‬الصديق يتعدد ولكن منازل الحب‬
‫قد ال تتعدد !! قد يكون لك أكثر من صديق بحكم أن كال منهم تحققت فيه شروط الصداقة وأقام أركانها ركنا بركن و تم أعلى‬
‫تلك األعمدة وهو الحب المتبادل ولكن ‪ ............‬ما مقدار ذلك الحب في قلبك ؟؟ المقادير تتفاوت من صديق لصديق فتعلو‬
‫جذوة الحب و تلتهب تجاه أحد األصدقاء أكثر من غيره فيتميز عن بقية الصديق وإن كانوا أصدقاء في حكمه وهنا ينشأ‬
‫مصطلح الصديق المقرب ! فكلهم أصدقائي ولكنهم في قربهم من قلبي درجات ولهم في تحقيق أركان األخوة مسافات وبذلك‬
‫تكون المعضلة قد انحلت و المشكلة قد زالت ‪ ،‬وإن كان واقع كثيرين فعال أن لهم صديقا واحدا بحكم ندرة األصدقاء و قلة‬

‫‪189‬‬
‫أصحاب الوفاء والصفاء‪ ،‬و الحاصف البارع من يفرق بين منازل الناس ويضع كل شخص في موضعه الذي يليق به قربا‬
‫وبعدا ‪ ..........‬فالخالصة أنه إذا كان الصديق الواحد ناد ار وثمينا فاألخالء العدد واقع أندر وأثمن و حظوظ الناس في الدنيا‬
‫من الصديق تتفاوت ‪ ،‬هذا كله عند من يرى وجود الصديق أما من يرى عدمية الصديق فله شأن آخر‬
‫‪...........................‬‬

‫‪ -4‬الصداقة الجماعية‬

‫هل تنشأ عالقة خلة بين أكثر من فرد في آن واحد أم إن عالقة الصداقة عالقة تستلزم الخصوصية بين فردين ال ثالث لهما‬
‫؟‪ .................‬إن تعدد الصديق ممكن ولكن اشتراك أكثر من صديق في عالقة واحدة فيه نظر عندي !! ‪ ..‬إن عالقة‬
‫المجموعة دائما يغلب عليها سمة السطحية فهي ال ترقى لمستوى فوق الزمالة والصحبة ‪ ،‬ومن يكتف بهذه الصورة الناقصة‬
‫للصداقة في تصوره إنما يقع في مغواة الصداقة الغثائية التي ذكرناها من قبل ‪ ،‬صحيح أن الصورة الجماعية قد تشملها األخوة‬
‫في هللا من المنظور اإلسالمي ولكن االكتفاء بها نقص و عيب وتطورها لصداقة حقيقية صعب نظريا ! فمعلوم أن عالقة‬
‫الصداقة تحتاج لمراحل وخطوات و إزالة حواجز و إضافة محبة فوق محبة واسترسال في محو الخصوصية وهذا حجر الزاوية‬
‫في إشكالية الصداقة الجماعية ‪ ،‬فالبوح بالسر ال يكون في الجماعة وإنما يكون أمام فرد واحد ‪ ،‬فربما من دون الجماعة كلها‬
‫تصطفي فردا لتعطيه سرك ولكن عند الجماعة تعود فتتحفظ في كلماتك و خصوصياتك وتعامل الجماعة وصديُقك فيها كأنه‬
‫غير موجود بينهم ! ‪..‬كما أن لحظات الحب العالية و أوقات الصفاء الروحية ال تكون إال في خلوة بين اثنين فبين كلمة من‬
‫واحد وكلمة من اآلخر لحظات سكون وتأمل و سروح وشرود للذهن يساعد عليه سكوت اآلخر فهو يعين صديقه على‬
‫الحب و تتأجج‬
‫السمو الروحي ‪ ،‬في هذه األوقات التي تتحقق فيها الخلوة يهبط وحي ّ‬‫ّ‬ ‫استحضار الغائب و استلهام النشوة و‬
‫المشاعر و تتكون الروابط وتعلو المنازل وتترقى العالقة على درجات سلم القلب ‪ .....‬تلك الخلوة التي يصفو فيها الذهن و‬
‫الود و استرجاع الذكريات و البوح بما ال يجوز البوح به في عامة البشر ! إنها لحظات‬
‫ينتظرها القلب بين الحين والحين لتجديد ّ‬
‫راقية ال تُستَحضر في زحام الجماعة وإنما تحتاج النفراد بحبيب واحد ‪............‬‬
‫إن الصديقين يعلمان جيدا الفرق في عالقتهما بين حالة انفرادهما وحالة اجتماعهما بغيرهما ‪ ،‬فوجود غريب بينهما ّ‬
‫يكدر عليهما‬
‫صفو االجتماع و معه يسري شعور جبري برغبة في زوال هذا الغريب ليستمتعا بوقتهما معا بال منغص و ال عازل !‪ ..‬فليت‬
‫شعري كيف تنشأ الصداقة بين جماعة كاملة ومنهم الصديقان المتصافيان الراغبان في االنفراد دون الجماعة ؟! وإن خلت‬
‫الجماعة من متصافيين كذلك فكيف تنشأ عالقة التصافي في جو االجتماع والضوضاء والثرثرة ؟! ‪ .........‬ال شك أنه كلما‬
‫زاد العدد زاد التشتت و صارت الصداقة الجماعية محاال ‪ ،‬هذا رأيي و مذهبي و هللا هو الهادي الموفق للصواب !‪.............‬‬

‫‪ -5‬الصداقة بالمراسلة‬

‫‪190‬‬
‫هل هنالك صداقة تنشأ بين بعيدين ؟ و أليس الغياب سببا كافيا لمنع نشوء صداقة ؟ وأليست العين واألذن بوابة ينفذ منها‬
‫مريد الصداقة إلى قلب محبوبه ؟! ‪ ..........‬إن المراسلة بال شك سبب الستمرار الصداقة و وسيلة لتوطيدها حين يتعذر اللقاء‬
‫فيحتاج الصديق لاللتقاء بصديقه عن طريق الغيب ذلك الغيب الذي يتمثل روحيا في صالت قلبية ال يراها الناس وال يشعرون‬
‫بها بيد أن المتصادقين المتباعدين جسديا يدركانها جيدا وال تبلى مع مرور الزمان و تقلب الجديدين ! تلك الروابط الذي يدفعها‬
‫الشوق إلى طلب صالت مادية تؤكد العالقة و ال تتعارض مع روحيتها ‪ ،‬من باب ( أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) !!‬
‫فتحدث المراسلة و يحصل المحب على أثر مادي من آثار حبيبه هي ورقة مكتوبة بخط يده ممزوجة بعبق روحه !!‬
‫أما نشوء صداقة بدايةً بالمراسلة وبدون لقاء مادي كاف إلثمارها فهو محل نظر عندي ! فالحب مكمنه القلب و القلب في‬
‫صدر اإلنسان يحتاج لباب يلج منه ذلك الحب و أفضل تلك األبواب حواس اإلنسان المادية التي تحتاج لرؤية وسمع ولمس‬
‫الود ‪ ،‬أما الغيب فال يثمر أصدقاء ‪ ،‬ألنه مدعى للغش والخداع و عدم اطمئنان القلب‬
‫حقيقي ليتغلغل منها الحب و ينشأ منها ّ‬
‫ً‬
‫‪ ......‬ولئن كان عصرنا الحديث قد طور المراسلة في صورة إلكترونية حاضرة سريعة عن طريق ما يسمى ( الشات ) ومواقع‬
‫التواصل االجتماعي َليثمرّن عالقات هوائية ّ‬
‫هشة مغزاها التسلية والعبث ال التصادق والتصافي ‪ ،‬صحيح أنها كالمراسلة بين‬
‫المتباعدين جسدا بكونها دليال على الصلة و عدم النسيان و اإلصرار على‬
‫َ‬ ‫الغائبين في دورها في توطيد و استمرار صداقة‬
‫تدعم الصداقة وال تنشئها ! ‪....‬‬
‫العالقة واطمئنان الصديقين ‪ ..‬ولكنها كالمراسلة ّ‬

‫‪ -‬من أجمل ما قرأت في أدب الرسائل بين األصدقاء من رسائل منظومة في شعر السابقين الطيبين أبيات المعولي العماني إذ‬
‫يقول ‪:‬‬
‫خل وصاح ـ ـ ـ ِب‬ ‫ٍ‬ ‫حب ُمصاحـ ـ ـ ِب‬
‫كتاب من م ٍّ‬
‫وفي خير ّ‬
‫صفي ٍ‬
‫ّ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أتاني ٌ‬
‫قوي ِ‬
‫باسل ذي مواهـ ـ ـ ِب‬ ‫محب ـ ـ ـ ٍب‬ ‫كري ٍم ظر ٍ‬
‫شجا ٍع ٍّ‬ ‫يف في القلوب َّ‬
‫ِ‬
‫وودي ومودودي وخ ـ ـ ـير أقاربي‬
‫ّ‬ ‫ومـ ـساعدي‬ ‫صديق صدوق ساعدي ُ‬ ‫ٍ‬
‫تسلل من ٍ‬
‫أصل كري ِم المناس ـ ـ ِب‬ ‫ماده‬ ‫ٍ‬
‫النجل من بيت رف ـ ـي ٍع عـ ُ‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫العَلى والمرات ـ ـ ِب‬ ‫فتى صالح أهل ُ‬ ‫حليف الندى أعنى بذاك مح ـ ـمـداً‬
‫ُ‬
‫ط ِح الرفي ِع الجو ِ‬
‫انب‬ ‫الس ْ‬
‫وقعت من َّ‬
‫ُ‬ ‫كتابك وافاني سمعـ ـ ـ َت بأن ـ ـ ـني‬
‫بثوب أُصِّلي بالتر ِ‬
‫اب لجانـ ـ ـ ـبي‬ ‫زمالً‬‫غت شه اًر في الفراش ُمـ ـ ـ َّ‬ ‫تمر ُ‬
‫َّ‬
‫وجّلي مص ـ ـ ـائبي‬ ‫وبعد فم َّن هللا ربـ ـ ـى برحـ ـ ـ ٍ‬
‫َعَل َّي وعافاني َ‬ ‫مة‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫وفيت من كل األ َذى والنوائ ـ ِب‬
‫ُع ُ‬ ‫يت بفضل هللا من ك ـ ـل عـ ـّل ِة‬ ‫بر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جانب‬ ‫وخذ نصيباً من األف ار ِح من كل‬ ‫ف األ َذى‬ ‫ص ِر َ‬ ‫فط ْب يا أخي نفسا فقد ُ‬

‫‪ -‬ونحن هنا في فصل المراسلة أهتبل الفرصة ألذكر أمثلة لألصدقاء المتراسلين ‪ ،‬وأدب الرسائل أدب كبير له مساحة كبيرة في‬
‫كتب األدباء السابقين ولكني هنا أورد أمثلة على رسائل لمعاصرين استخدموا الرسالة للتدليل على الحب واأللفة و كانوا قدوة‬
‫سنة الرسائل التي لها مذاق مختلف وطعم خاص ال يعرفه سوى من جربه !!‬
‫لغيرهم من األصدقاء ليحيوا ّ‬
‫‪191‬‬
‫و هاك ثالث رسائل بليغة بين الشيخ محمد الخضر الحسين و القاضي محمد الطاهر بن عاشور في النصف األول من القرن‬
‫العشرين‬
‫‪ -1‬رحل الشيخ محمد الخضر حسين من تونس فتشوق له صديقه محمد الطاهر بن عاشور قاضي تونس فكتب له تلك الرسالة‬
‫‪(( :‬‬
‫قصيد‬
‫ُ‬ ‫فلم يغن عنها في الحنــان‬ ‫تصيد‬
‫ُ‬ ‫بعدت ونفسي في ه ـ ـواك‬
‫َ‬
‫لها بين أحشاء الض ـ ــلوع وقـود‬ ‫وخلفت ما بين الجـ ـوانح غصــة‬
‫َ‬
‫ومر الليالي ِ‬
‫ضعف ـ ـ ــها سيـزيد‬ ‫وأضحت أماني القرب منك ضئيلة‬
‫ُ‬
‫يموج بها أنـ ـ ـ ـ ــس لنا وبرود‬ ‫أتذكر إذ ودعتَنا صبح لي ـ ـ ـ ــلة‬
‫وهل بعد هذا البين سوف يعــود‬ ‫وهل كان ذا رم از لتوديع أنـ ــسنا‬
‫بالدر وهو ن ـ ــضيد‬
‫أصـ ــابعه ّ‬ ‫ألم تر هذا الدهر كيف تالع ــبت‬
‫تجلى لنا مـ ـ ـ ـرآك وهو بعـ ــيد‬ ‫إذا ذكروا للود شخصا محاف ـ ــظا‬
‫ذكرتُك إيقانا بأنْـ ـ ـ ـ ــك فريد‬ ‫إذا قيل من للعلم والفــكر والتقى‬
‫فحسبك ما قد كان فهو ش ـ ــديد‬ ‫ِ‬ ‫فقل لليالي جددي من نظـ ـ ــامنا‬
‫هذا كلمات جاشت بها النفس اآلن عند إرادة الكتابة إليكم فأبثها على عالتها ‪ ،‬وهي وإن لم يكن لها رونق البالغة والفصاحة‬
‫فإن الود واإلخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها ))‬
‫فلما وصلت له الرسالة كتب يرد على صديقه ‪(( :‬‬
‫وأسلو بطيف والمـ ـ ــنام شريد‬ ‫أينعم لي بال وأنت بـ ـ ـ ــعيد‬
‫لع َمري بدمع المقلـ ـ ــتين خدود‬ ‫إذا أججت ذكراك شوقي أ ِ‬
‫لت َ‬‫ُخض ْ‬
‫بعدت وآماد الحـ ـ ـ ـ ــياة كثيرة ولألمد األسمى علي عهـ ـ ـ ــود‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫بعدت بجثماني و روحي ره ــينة لديك وللود الصـ ـ ـ ــميم قيود‬ ‫ُ‬
‫عرفتُك إذ زرت ال ــوزير وقد حنا علي بإقبال وأنت شهـ ـ ـ ـ ــيد‬
‫فكان غروب الشمس فجر صداقة لها بين أحناء الضـ ـ ـ ـلوع خلود‬
‫لقيت الوداد الحر من قل ـب ماجد وأصدق من ُيصفى الوداد مجـ ـ ـيد‬ ‫ُ‬
‫يحين صدور أو يحـ ـ ـ ـ ـين ورود‬ ‫أتذكر إذ كنا قرينين عن ـ ـ ـ ـدما‬
‫تبل بها عند الظماء كـ ـ ـ ـ ـبود‬
‫ّ‬ ‫فأين ليالينا و أسمـ ـ ـ ـ ـارها التي‬
‫ليال قضيناها بتونس ليت ـ ـ ـ ـها تعود وجيش الغاصـ ـ ـبين طريد‬
‫‪ -2‬و تلك رسالة صافية أدبية بليغة في زمن قلت فيه البالغة أخرى كتبها الخضر الحسين لصديقه ابن عاشور ‪ (( :‬صديقي‬
‫الوحيد الشيخ سيدي الطاهر بن عاشور ‪ ،‬تحية كاملة وتشوقا مفرطا ‪ ،‬ثبطني عن مكاتبتكم أيها الصديق مع قوة الباعث على‬
‫األخذ بأطراف الحديث بيننا ما هتف على خاطري من أنها قصرت بها األهمية أن تطأ موطئا ينال من االلتفات نيال !!‬

‫‪192‬‬
‫‪ .........‬عّلك أيها َّ‬
‫الن َِ ِّقاد تعلق على هذا االعتذار مالما أطول ينال مما قبله مما يلوح على ظاهره من مبدأ سوء الظنة‬
‫فأعترف بأنه هاتف خيالي وما كنت بالرجل الذي تؤثر عليه عوامل الخيال ‪..‬‬
‫أخشى أن ألقي إليك بمعذرة تزاحم الشواغل علي فال تدفع حرج المالمة من المالمة دفعا بليغا ‪.‬‬
‫ّ‬
‫ال أمتري أن من األشغال حقوقا ال يرضى أربابها غير اقتضائها خالف شأن الحقوق الودادية من التربص بها إلى مساعفة‬
‫الغرض وال جناح ‪ ،‬بيد أني يتمثل لي فراغ بعض دقائق من الوقت فأراها فرصة مساعفة على عمارتها بمناجاة ذلك الودود فيتردد‬
‫مع النفس هاجس عتاب ال يسكن إال بعد حين أن أغالب فيه الخيال ‪ ،‬من ههنا آثرت ذلك االعتذار وإن كان محال للتعليق ‪،‬‬
‫منبع اآلداب في تمام الشفا واالرتياح ‪ ،‬وعراني أسف على ما عرض‬
‫بشرتموني باقتراب وفائكم بموعد الزيارة عندما يأخذ الشيخ ُ‬
‫للشيخ من السقم فنرجو له مزيد العافية والسالمة ‪ ................‬والسالم من أخيكم محمد الخضر حسين ))‬
‫أال رحمة هللا عليهم جميعا جمعوا بين األخوة والبالغة فكان مزيجا مبه ار و أسوة صارخة ألرباب زمن يكاد يخلو من كليهما !!‬

‫‪ -6‬الصداقة ومواقع التواصل االجتماعي‬

‫تقدم البشر في جميع المناحي ليلبوا احتياجاتهم المتزايدة ‪ ،‬ولما كان الترابط و العالقات البشرية –‬
‫ازدادت الحضارة قوة وعمقا و ّ‬
‫الود والرابطة بين الناس وكان من ذلك ما‬
‫منها الصداقة – من إحدى هذه االحتياجات استخدم البشر تقدمهم لتعميق أواصر ّ‬
‫يسمى مواقع التواصل االجتماعي التي كان من المفترض أن أصحابها أبدعوها لتأصيل الرابطة بين الناس و تقوية عالقاتهم‬
‫الحظت أثر‬
‫ُ‬ ‫تابعت و‬
‫ُ‬ ‫تسر اآلكلين ! ‪ ،‬هكذا‬
‫ولكن يا حسرة ! ‪ ...‬لم تؤت هذه األعجوبة الحديثة ثمراتها وكانت ثمرتها حامضة ال ّ‬
‫هذه المواقع السلبي على مجتمعي و بالدي – على نقيض ما يعتقد كثير من الواهمين العابثين !‪ -‬فاستخدام الشبان لهذه‬
‫المواقع صرف بعضهم عن االتصال الحقيقي ببعض ‪ ،‬أعني االتصال الهاتفي والتزاور واللقاء ‪ ،‬و كان اتصاال وهميا‬
‫(افتراضيا) ال واقعيا أوهمهم أنهم متصلون ملتقون وهم ليسوا كذلك !‬
‫فصار الشاب منهم يكفيه ليتصل بصديقه أن يرسل إليه رسالة باخال عليه بإسماعه صوته وكأن االتصال الهاتفي صار مجهودا‬
‫كبي ار وعبئا ثقيال على شبان اليوم حتى استبدلوا به تواصال افتراضيا ال حقيقيا ألداء الغرض و تحقيق المصلحة ‪ ،‬بل‬
‫المناسبات كذلك كاألعياد لم يعد األصدقاء يتصلون ببعضهم فيها ويلتقون كما كانوا من قبل بل يستكفون برسائل باهتة عديمة‬
‫الطعم للتهنئة وكأن أحدهم بذلك قد بلغ الرسالة وأدى األمانة ورفع ما عليه من حرج ! ‪ ...‬حتى ما يسمى ( الشات) لم يلب‬
‫االحتياجات القلبية العاطفية التي كانت تغمر الصديَقين في أزمنة الود والمحبة حين كانا يلتقيان و يتبادالن الحديث وجها لوجه‬
‫ابتسامة بابتسامة و شعو ار بشعور ! ‪ ،‬إن شبان أمتي اليوم استحوذ عليهم القعود أمام هذه المواقع ليل نهار حتى صار شغلهم‬
‫الشاغل وتسليتهم في فراغهم و في شغلهم ! و صار أداة لقتل األوقات بل نسفها نسفا ! ‪ ،‬صرفتهم عما ينفعهم في دنياهم‬
‫وآخرتهم بل صرفتهم عن الثقافة الحقيقية و طرحت أمامهم ثقافة وهمية طفيفة ال تسمن وال تغني اقتنعوا بأنها ثقافة و توهموا من‬
‫بعدها أنهم مثقفون حتى تبلدت عقولهم و ُمسخت قريحتهم وصار شر القطيعة عن األصدقاء مضافا لشر الجهل المستتر ! ‪،‬‬
‫قلبا صل ًة و قربى و زيادة في أواصر الصداقة واألخوة فإن‬‫مكانا المتقارَبين ً‬
‫المتباعدين ً‬
‫َ‬ ‫إنه إذا كان التراسل في قديم الزمان بين‬
‫التراسل االفتراضي اليوم بين المتقارَبين مكانا صار قطيعة وتباعدا واندثا ار لمعاني الصداقة واألخوة ! ‪..‬‬

‫‪193‬‬
‫الهم ال يجد واحدا منهم يقف معه‬
‫إن المسكين الذي يتباهي بصداقة اآلالف على موقع التواصل حينما يغشاه الكرب و ينزل به ّ‬
‫في محنته يكتشف حينها أنه وحيد بال أصدقاء وأن كل ما بناه من صداقات سرابية انكشف أمرها وظهرت على حقيقتها فأفاق‬
‫من غفلته على الحقيقة المرة ‪ ،‬حتى ِس ّره الذي تضيق به جوانحه يجد نفسه وحيدا به ال يجرؤ على إذاعته أمام أصدقائه‬
‫االفتراضيين والسبب في ذلك أنهم ليسوا أصدقاء وإنما أشباح أصدقاء !‪..‬‬
‫إن مواقع التواصل يا سادة ال تصنع مثقفين وال أنصاف مثقفين وال أعشار مثقفين إن شئتم ‪ ،‬كذا هي ال تصنع أنصاف أصدقاء‬
‫عام والبريق جذاب ! ‪..‬‬
‫وال أعشار أصدقاء ولكن الوهم غالب و االنخداع ّ‬
‫تنبه لهذا األمر األصدقاء األوفياء األصفياء ورفضوه من قلوبهم و لم يستغنوا به بديال عن المالقاة و المكالمة حتى يستكملوا‬
‫مسيرة الحب واألخوة إلى أن يلقوا هللا متآخين مترابطين ال تخدعهم الحداثة البراقة وإنما تخلب لبهم معاني المخادنة واأللفة !‬
‫‪.............‬‬

‫‪ -7‬الصداقة والغربة‬

‫الغربة في حياتنا الدنيا نوعان غربة حقيقية وغربة شعورية ‪...‬‬


‫‪ -‬الغربة الحقيقية ‪ :‬حين ينتقل الم أر من دار إلى دار‪ ،‬من دار مولده ومعيشته و أحبابه إلى دار غريبة عنه لم يألفها ‪ ،‬حينها‬
‫يترك كل الناس الذي ألفهم طول عمره ومنهم الصديق ‪ ..‬ولكن كيف يكون شعوره حين ينأى عن صديقه وحبيبه ؟! ‪ ،‬إنه‬
‫شعور بالقهر حين يفتقد اإلنسان صديقه وال يستطيع الوصول إليه ! حين يريد لقاءه و تحول دونه الموانع الجبرية القاهرة ‪،‬‬
‫حينها تختلط المشاعر اإلنسانية ‪ ،‬الشعور بالشوق للصديق و الشعور بقيمة الصديق وتفرده الذي لواله ما شعر بفراغ كبير في‬
‫حياته تركه محفو ار غائ ار فيها ! ‪ ،‬والشعور بالمشقة النابعة من ندرة فرصته في اكتساب صديق جديد يواسيه و يشغل جزءا من‬
‫بالمحالية ! نعم حينها يشعر الم أر بمحالية تعويض صديقه المفتقد فيزداد يأسا إلى يأسه و ضنكا‬
‫الفراغ المتروك ! والشعور ُ‬
‫إلى غربته ! ‪ ،‬إنها لحظات تترسخ فيها فكرة الصداقة لدى الم أر أكثر و يشعر بأهميتها و روعتها بعد أن يشعر بالشوق ثم‬
‫القيمة ثم القهر ثم المشقة ثم المحالية !‬
‫‪ -‬الغربة الشعورية ‪ :‬وهي غربة معنوية أشد وأقسى على الم أر من الغربة الحقيقية ! ‪ ،‬حين يشعر اإلنسان أنه غريب وهو وسط‬
‫أهله و سكنه و وطنه ! ‪ ،‬حين يشعر أنه صار منبوذا موسوما ممن حوله من ناسه ومعارفه وخلطائه ! حين تضيق عليه الدنيا‬
‫مع سعتها ‪ ،‬تلك الغربة التي تحدث عنها النبي صلى هللا عليه وسلم فقال ( بدأ اإلسالم غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى‬
‫للغرباء ) و يكون في تلك الغربة القابض على دينه كالقابض على الجمر ! ‪ ،‬في تلك الحالة العصيبة و األسى و الوحدة التي‬
‫تصيب اإلنسان ال يجد اإلنسان السلوى إال في صديقه المنتحل لنفس فكره وعقيدته ‪ ،‬العقدية جمعتهما فصا ار أصدقاء و الغربة‬
‫قربتهما أكثر لتزداد الصداقة متانة و شدة ‪ ،‬حينها يعرف الم أر معنى األخوة اإليمانية التي تصبره على بالئه في الدنيا وتكون له‬
‫العزاء الوحيد بعد ترقب ثواب هللا وموعوده !‬

‫‪194‬‬
‫فما بالك حين تجتمع الغربة الحقيقية والغربة الثقافية حين ينتقل اإلنسان إلى قوم ليسوا على دينه وال ثقافته و ال أخالقه ‪،‬‬
‫فيضطهدونه و ينبذونه ‪،‬فتضاف شدة الغربة إلى قسوة البشر حينها يشرئب العنق نحو الصداقة و تتلهف النفوس للصديق وتجد‬
‫فيها الر ّي من ظمأ قسوة الحياة ! ‪..‬‬

‫‪ -8‬الصداقة والصحة العامة‬

‫هل تعلم أن الصداقة تعلو بحالتك النفسية والجسدية ؟! ‪ ،‬الحالة النفسية لشخص له صديق أعلى من شخص وحيد منعزل عن‬
‫البشر ‪ ،‬حبه لصديقه يعطيه دافعا له في حياته ‪ ،‬سعادة قلبه بخدينه تنير له الدنيا وتصبغها بأزهى األلوان ‪ ،‬كما أن األبحاث‬
‫أثبتت أن الصداقة قد تكون عامال وقائيا من أمراض القلب والعدوى الفيروسية والسرطان ! بل وجدت األبحاث أن معدل‬
‫الوفيات أكثر فيمن ليس لهم أصدقاء ويعيشون منعزلين ! لذا سموا الصداقة (المصل السلوكي ) ‪ ،‬هو وقاية من المرض‬
‫النفسي والمرض العضوي ّ‬
‫سويا ! ‪...‬‬
‫الصداقة إ ًذا شيء رائع لرائمي الصحة الجيدة ولكن بعض البشر حرمتهم حالتهم الصحية من اكتساب األصدقاء ! ‪ ،‬فمثال‬
‫مريض ( التوحد ) ‪-‬وهو مرض سلوكي شهير يصيب األطفال – عصي على اكتساب األصدقاء ! ‪ ،‬أما مرض ( اضطراب‬
‫ّ‬
‫نقص االنتباه وفرط النشاط ) وهو مرض سلوكي كذلك على رغم أنه ال يمنع من اكتساب األصدقاء – يكون عائقا عن استمرار‬
‫الصداقة ! ‪ ،‬أما األمراض العصابية مثل االكتئاب فقد أفردنا له فصال كامال ألهميته الشديدة ‪.‬‬

‫الخالفات بين األصدقاء‬

‫يسير الصديقان في درب التصافي والتصادق يشّقانه معا سعيدين بحبهما و مبتهجين باجتماعهما ‪ ،‬وتشق سفينة الصداقة ماء‬
‫الحياة تحدوها نسائم الصفاء والوفاء وتدفع شراع الحب والتالطف ! ولكن ‪ .....‬تأبى الدنيا أن تسير بنفس النهج و تتقلب‬
‫تقلبات الدهر ‪ ،‬و تأتي العواصف الطائشة لتعوق سير سفينة األخوة في هدوء وسالم فإما أن تعطلها عن السير الهادئ وقتا من‬
‫الزمن ال تلبث أن تعود إلى مجراها و هدوئها واطمئنانها بعده وإما أن تتحطم سفينة الصداقة وتغرق و تندثر ويبقى حطامها‬
‫شاهدا على وجودها يوما ما من الزمان فتصير خب ار بعد أثر !! ‪ ..........‬هذا هو حال الدنيا المريرة ال تبقي شيئا على حاله‬

‫وكأن الكدر و الحزن كتاب مكتوب عليها لتتحقق فيها سمة التدنية بعد حين من سمة ّ‬
‫الدنو !! وما ذلك إال لتتميز الدار اآلخرة‬
‫ألهل الفردوس و النعيم بخلوها من الكدر ‪ ،‬وانعدام الشقاق واالختالف فيها فيتحقق قول هللا –تعالى ‪ -‬في أهل الجنة ‪( :‬‬
‫ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم األنهار وقالوا الحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا هللا) و‬
‫قوله ‪ -‬جل شأنه ‪ ( : -‬ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) وانظر للفظ ( نزعنا ) الذي عبر هللا به‬

‫‪195‬‬
‫عن كيفية إزالة الغل من البشر وكيف أنه كان متج ّذ ار عميقا و يتم نزعه و جذبه بشدة و عنف مثل قبض روح الكافرين‬
‫المعاندين الظالمين !! وكأن القدرة على الخالف و النزاع المتولد عن الغل سمة متواترة بين أجيال البشر ‪ ،‬كما تعتري المعارف‬
‫و األقارب تعتري الصديقين على قرب منزلهما من بعضهما ‪ ...‬فهو قدر مقدور نكرهه ولكن علينا التعامل معه ‪ ،‬بعد َوَل ٍه و‬
‫تعجب لحدوث ما لم يكن في الحساب وال في الخاطر وال على موعد !‬
‫تصــفو و تطي ـ ـ ـ ــب‬ ‫يا فتى كانت به دني ـ ـ ــاي‬
‫بي حــين يغ ـ ـ ـ ـ ــيب‬ ‫وله كانت تضـ ــيق األرض‬
‫واأليــام ما زالت تريــب‬ ‫ما الذي اربـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك‬

‫وتصير الصداقة كالطعام اللذيذ الذي يشتهيه اإلنسان كل االشتهاء ولكن بين الحين والحين يكون ذلك الطعام الحلو ذا ّ‬
‫غصة‬
‫صة الصداقة ! كما عبر ابن الرومي‬
‫تكدر على الصديقين صداقتهما فتستحيل الحالوة إلى انقباض و كربة ! ‪ ..‬إنها إذن ُغ ّ‬
‫يصف هذه الحال العجيبة‪:‬‬

‫ِق بماء إخائه متغصـ ـ ـ ُ‬


‫ـص !‬ ‫َشر ٌ‬ ‫مرها فص ــديقه‬
‫حلو الصداقة ّ‬

‫إن قضية االختالف بين األصدقاء قضية شائكة أكتب عنها و أصابعي ترتجف لهول ما يرى األصدقاء منها ولهول ما ال قيته‬
‫هياب ولنا هللا من هذا العناء ‪....‬‬
‫علي أن أخوض فيها غير مكترث وال ّ‬ ‫قضاء واقعاً كان لزاما‬
‫ً‬ ‫كذلك بسببها ! ولكن لما كانت‬
‫ّ‬
‫لنا هللا !! ‪.....‬‬

‫سمات الخالفات بين األصدقاء‬


‫إن الخالفات بين الصديقين ليست كالخالفات بين غيرهما كما أن العالقة بينهما ليست كباقي العالقات ومن هنا تأتي سمات‬
‫مميزة للمشكلة بين متصادَقين ‪......‬‬
‫قال لي أحد الناس ‪ :‬المشكالت بين النساء دائما هي أكبر وأشد من المشكالت بين الرجال !! فلما سمعت مقالته بادرته مجيبا‬
‫بحسي الصداقي قائال ‪ :‬ألن العالقة بين امرأتين تكون أعمق من كثير من عالقات الرجال ّ‬
‫فهن أقرب للصداقة بينهن من الرجال‬ ‫ّ‬
‫بينهم ! والعالقة الصداقية كلما كانت أعمق كانت داعيا لكثرة النزاعات والمشكالت ! ‪.....‬‬
‫أظن أن رسالتي وصلت اآلن ‪ ،‬األصدقاء بينهم المشكالت والمنغصات أكثر من بقية الناس ولكن ذلك ليس عالمة سلبية‬
‫تنتقص من قدر الصداقة وإنما عالمة إيجابية تنتج أوال من كثرة االحتكاك و االحتكاك بين جسمين يوّلد الشرر ! والجسمان‬
‫المتباعدان ال شرر بينهما !‬
‫كذا األصدقاء كثرة لقاءاتهم تعني مشاركة في الحياة ومشاركك في الحياة ال بد من شرر في عالقتك به ‪ ،‬ثانيا عمق العالقة‬
‫أدعى إلى كثرة النزاع من سطحيتها ‪ ،‬ألن العالقة الصداقية العميقة تنكشف فيها الحجب بين الخدنين انكشافا ليس ألحد سواهما‬
‫‪ ،‬ومع مشاركة تفاصيل الحياة و دقائقها تكثر الحوادث و تنبت األخطاء التي تكون بداية للشرر بين الصديقين كما أن القريب‬
‫بخَلدك أنه يخطئ في حقك يوما ما ‪ ،‬وألنه ال بد مخطئ بطبيعته البشرية يحدث‬
‫من نفسك دائما تتوقع منه كل خير بل ال يدور َ‬
‫خيب ظنك الحلو فيه و ألنه – في لحظات الخطأ‪-‬‬
‫ذلك في نفسك عظيم األثر و يوّلد غضبك و حزنك واجتنابك له ألنه ّ‬
‫‪196‬‬
‫ُيشعرك أن الدنيا ليس فيها خير أبدا ! فإذا كان شق نفسي وصفي قلبي أخطأ في حقي و بخل بالود تجاهي فمن يرعايني و من‬
‫ّ‬
‫يصونني ومن يكرمني ؟؟!! أمن بحت له بكل أسراري و بثثته كل خواطري وأفكاري يفعل ذلك بي ؟!! في تلك اللحظات‬
‫تسود الدنيا أمام الصديق و تحدث الجفوة و تبدأ المشكلة ‪...........‬‬
‫الداكنة ّ‬
‫السمة الثانية لخالفات الصديق أنها عنيفة شديدة تزلزل النفس ‪ ،‬فهذا الصديق الذي جفاه صديقه باإلضافة إلكسابه إحساس‬
‫اليأس من الناس و عدم توقع الخير من أحد أبدا و عدم توقع ذلك الخطإ من أقرب الناس من قلبه – يحس كذلك بالغربة‬
‫جل وقته واصطفاه بمرافقته و لقائه المطول من بين بقية الناس حين تحدث معه القطيعة تكون‬
‫فرغ له ّ‬‫والوحشة فاإلنسان الذي ّ‬
‫الخسارة كبيرة و األمر جلال ‪ ،‬فالخسارة القلبية جرح مؤلم يدمي القلب ويزلزل الكيان كما أن انشغالك به أغلب وقتك عزلك عن‬
‫بقية الناس فلما جفاك شعرت بالوحدة و الغربة فال تكاد تجد من يسليك ويسري عنك كما كنت من قبل فتصير أيام الشقاق‬
‫والخالف أياما حالكة شديدة الدكانة و عميقة األثر فتهتز نفسك و تزداد حيرتك فال تجد مهربا من صديقك إال إليه !! ‪.......‬‬
‫و لعل هذه هي السمة الثالثة لنزاع الصديق فالفراق االختياري اإلشكالي شديد الم اررة ولكن ال يكاد ينتهي وتعود المياه الصافية‬
‫يحس الصديق أن الدنيا قد اتسعت عليه بعد ضيق و انفرجت بعد حبس ! و تكون السعادة غامرة من‬
‫المعبد حتى ّ‬
‫ّ‬ ‫إلى مجراها‬
‫الطرفين فبقدر ابتعادهما عن بعض وقت الخالف يكون قدر تالصقهما و تآزرهما بعد الصفاء ! ‪ ،‬وهنا تتجلى الحقيقة‬
‫المكتومة في نفس الصديق الذي نقم على صديقه ‪ ،‬وهي أنه وقت الخالف كان يزعم رغبته في القطيعة و يتظاهر برغبته في‬
‫االجتناب وعدم رغبته في عودة العالقة من شدة الغضب و الحنق ‪ ،‬ولكنه في نفسه يناقض ظاهره ! فنفسه متلهفة لعودة اللقاء‬
‫متشوقه إلشراق الشمس بعد طول كسوفها ‪ ،‬هو واقع في التناقض ظاه ار وباطنا ‪ ،‬فهو في الظاهر ينكر رغبته في العود الحميد‬
‫و في باطنه يقاوم الرغبة في العود ويحاول إقناع نفسه أن هذه أوهام وخواطر ال محل لها فيظل ذلك الصراع إلى أن تنقشع‬
‫يقر بأنه ال يستطيع االستغناء عن صديقه بل‬‫الغمامة و تشرق الشمس و يعود الصفاء بعد طول جفاء فيعترف بحقيقة نفسه و ّ‬
‫حياته ال طعم لها بدونه و ما حدث بينهما لم يكن إال لحظات شيطانية غشيهم فيها إبليس بعباءته إلى أن تحر ار منها و عادا‬
‫إلى الظالل المالكية مرة أخرى !!‬
‫السمة الرابعة في في منازعة الصديق اختالف تعددها خالل مسيرة الصداقة ‪ ،‬فمرات الخالف في بداية الصداقة ليست مثلها‬
‫في عميقها ‪ ،‬فعند ابتداء صداقة غضة فتية ال يكون التفاهم بين الصديقين عميقا ‪ ،‬ال يخب ارن بعضا جيدا ‪ ،‬صحيح أن الصداقة‬
‫نشأت ولكنها ينقصها مزيد معلومات عن طباع كل صديق ما يحبه وما يكرهه ‪ ،‬ما يعجبه و ما ينّفره ‪ ،‬وهذه الطبائع تتجلى‬
‫على حسب المواقف ‪ ،‬وكلما مشى الصديقان في مسيرة اإلخاء تكشفت حقائق جديدة عن طبع كل منهما وأحيانا ال يظهر الطبع‬
‫إال بعد مشكلة و نزاع يكون درسا ألحد الصديقين ليتجنب ما يغضب صديقه وليفعل ما يرضيه ‪ ...‬هذه هي الصداقة وتلك‬
‫الحياة عموما في كل البدايات ‪ ..‬ولكن في أعماق الصداقة وبعد طول السنين يكون الفهم قد اكتمل و تكون الصورة الكلية‬
‫لصديقك قد انطبعت في ذهنك فتقل المشكالت المسببة من سوء التفاهم وتتسم العالقة باالستقرار النسبي الذي ال يخلو كذلك‬
‫من مشكالت بين حين و حين وهو كالبحر ذي األمواج الهادئة وهو خالف البحر الهائج غير المستقر الذي هو سمة الصداقة‬
‫الفتية !!‬
‫ّ‬
‫إن استمرار الخالفات الكثيرة المتتابعة بين الصديقين على رغم طول العهد بالصداقة مؤشر خطر عظيم ينذر باحتمالية تحطم‬
‫هذه الصداقة و نهايتها نهاية مأساوية وهو ما يحدثه عدم التقارب الطبعي بين الصديقين الذين حاوال بكل الطرق أن يحافظا‬

‫‪197‬‬
‫على صداقتهما ولكن القدر أبى إال فشلها !! إنهما تعلقا بركن واحد من أركان الصداقة هو الحب ‪ ،‬الحب الذي جمع بينهما‬
‫على غير موعد فتقاربت القلوب و توطدت العالقة ولكن الصداقة لم تكتمل أركانها والحب وحده ال يكفي ! وركن واحد كالتقارب‬
‫الفكري والخلقي بين الصديقين فقده كاف لهدم الصداقة وانهيارها ‪ ،‬فعلينا االنتباه لمؤشرات الخطر ‪....‬‬

‫إن هذه السمات مؤشرات لمعرفة حدود العالقة بين اثنين ‪..‬‬
‫فالصديقان أو من اختا ار الصداقة عالقة بينهما كما يظنان – حينما تنعدم الخالفات بينهما في بداية العالقة قد تكون تلك عالمة‬
‫على ضعف العالقة و َو ْهي الصداقة أو بقائها في مرحلة الصحبة دون الصداقة فالتجانس بينهما لم يتزايد والتشابك بين‬
‫حياتيهما ال يزال بسيطا إلى مرحلة أنهما ال يسيئان فهم بعضهما لوهن االرتباط وقلة التشابك ! ‪...‬‬
‫سيقول قارئ ‪ :‬يا للعجب ! ‪ ..‬أتريد مني إ ًذا أن أرجو أو أتمنى أن تكثر الخالفات بين حبيبي حتى يكون ذلك برهانا على‬
‫الصداقة ؟! بل ربما تريدني أن أدعو في صالتي أن يزيد هللا ويبارك في الشجار بين إخواني حتى أتيقن من صدق اإلخاء ؟!‬
‫‪ ...‬فأقول ‪ :‬ال أنا لم أطلب من أحد أن يرجو ذلك وإنما هو من باب ( ال تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاصبروا ) ‪....‬‬
‫كما أن الخالف بين اثنين يزعمان أنهما صديقان حين ال يكون ملتهبا و حين يكون الطرف منهما بعد هجره لآلخر ال يشعر‬
‫بم اررة ما حدث و ال يجد كيانه مهت از لما وقع يكون ذلك مؤش ار لهشاشة الصلة و وهن الرابطة !! ولو كانت صداقة بحق‬
‫ألججت النيران و ألسهرت الليالي وألبادت األخضر واليابس !! ‪ ،‬تماما مثل مرحلة االحتضار في عالقة الصديقين حين تكثر‬
‫النزاعات بينهما و تصير صداقتهما حطاما يصالن لتلك المرحلة البائسة مرحلة يغيب فيها االحتراق للفراق ولرغبة التالق ليبزغ‬
‫فيها االحتراق للغيظ و لرغبة الثأر واالنتقام !! ‪....‬‬

‫التفسيرات اإلسالمية لقضية الخالف بين األصدقاء‬


‫إن نظرة المؤمن لألحوال تختلف عن نظرة بقية الناس حتى يقال ‪ :‬إن للمؤمن شأنا وللناس شأن ! ففي الوقت الذي تطغى فيه‬
‫الماديات عند العامة تطغى الروحانيات عند الخاصة ! وحين تحدث القطيعة بسبب ظاهر من اإلشكال والخصومة يتعلق أهل‬
‫الظاهر بذلك السبب السطحي بينما يكون ألهل الباطن حال آخر من استقراء بواطن األمور وتفسيرها تفسي ار دينيا شرعيا ّ‬
‫ردنا‬
‫إليه اإلسالم ليشفي صدورنا ويؤلف أحوالنا ‪ ..‬وهذه جملة من األسباب الدينية للخالف بين الصديقين عليهما أن يحذ ار منها‬
‫ويجعالها نصب أعينهما لئال يتوها في متاهات الداء و قد ضال كل الضالل عن الدواء ! ‪..‬‬
‫‪ -1‬الذنوب و المعاصي‬

‫الذنب نار ال تبقي الديار وال تبقي الجباب بين الشعاب !! ‪ ..‬هكذا كان يؤمن المخلصون الصادقون في كل أحوالهم عامة فكانوا‬
‫رجاعين ّأوابين هلل يلتزمون بحدوده مخافة غضبه ومخافة تحول نعمته وهي في الصداقة كذلك ! أخبرنا بذلك رسول هللا صلى‬ ‫ّ‬
‫هللا عليه وسلم بقوله ‪ ( :‬والذي نفس محمد بيده ما تو ّاد اثنان ُففرق بينهما إال بذنب يحدثه أحدهما ) ‪...‬‬
‫إنه شؤم المعصية و انعكاس سوء العالقة بين العبد وربه على العالقة بينه وبين إخوانه فيحرم اإلنسان التوفيق مع من أحب من‬
‫أهل األرض لحرمانه من التوفيق مع من أحبه في السماء !‪....‬‬

‫‪198‬‬
‫قال موسى الكاظم ‪ :‬إذا تغير صاحبك عليك فاعلم أن ذلك من ذنب أحدثته فتب إلى هللا من كل ذنب يستقم لك وده !‬
‫وقال المزني ‪ :‬إذا وجدت من إخوانك جفاء فتب إلى هللا فإنك أحدثت ذنبا وإذا وجدت منهم زيادة ود فذلك لطاعة أحدثتها فاشكر‬
‫هللا ‪..‬‬
‫إنه ليس تقاذف االتهامات و ليس تبرئة النفس من الخطأ بل اتهام النفس والتواضع أمام الصديق والبدء بالنفس بداية اإلصالح‬
‫‪..‬‬
‫ومع ذلك فإنني ال أرى أن يستغرق الصديق في هذا المعنى االتهامي للنفس حتى يتهم نفسه غيبيا دون أن يواجه صديقه بخطئه‬
‫و يحاول إصالح اإلشكال فالسبب الباطني إصالحه وحده ال يكفي وإنما يحتاج إلصالح السبب الظاهري معه فتحل العقدة‬
‫ظاه ار وباطنا ! ‪..‬‬

‫أخي وصديقي إن ذروة المودة بيننا كانت في أيام كنا فيها من هللا أقرب ولحدوده أحفظ وعن معصيته أبعد فلماذا ال يراجع كالنا‬
‫نفسه و يفتش في صدره و يراجع أيامه الماضية لعله يجد ما ال يرضي هللا فيعود لتعود عالقتنا كما كانت ‪ ،‬فليتّهم كالنا نفسه‬
‫وليحسن الظن بأخيه وليبدأ بنفسه و عمال بمبدأ الصراحة بيننا هيا نعالج ما بدر منا في حق هللا ولنتعاون على طاعة هللا‬
‫لتستمر عالقتنا في هللا وباهلل ! ‪ .....‬هذا حوار ‪.‬‬
‫وحوار آخر يحدث بين صديقين طال عليهما عهد الصداقة واستطال أمدها حتى بعدا بعد قرب ‪ ...‬أخي العزيز إننا لسنا كما‬
‫كنا من قبل لم تعد عرى الود بيننا وثيقة كما كانت أيام الماضي‪ ،‬أتذكر في الماضي حين كنا على طاعة هللا ‪ ،‬حين كنا‬
‫نجتمع فيما يحب ‪ ،‬حين كنا نبدأ لقاءنا بقراءة كتاب هللا ! حين كان لنا لقاء أسبوعي في مجلس من مجالس العلم ! حين كنا‬
‫نجلس سويا نق أر كتابا نافعا نستفيد منه فيصير لنا ذخ ار إلى لقائنا القادم ! أتذكر اجتماعنا على الصلوات و انفرادنا في ظلمات‬
‫فتؤمن من ورائي ‪ :‬اللهم ال تحرمنا من‬
‫الليل نبتهل إلى هللا أن يزيد روابط الود والحب واإلخالص بيننا ! أتذكر حين كنت أدعو ّ‬
‫بعضنا أبدا ‪ ،‬اللهم أحينا معا وأمتنا معا فال نفترق حياة وال مماتا ! اللهم كما جمعتنا على هذه األرض ّ‬
‫خالنا متحابين اجمعنا في‬
‫أتذكر تلك الليالي الصافية و هل الحظت التحول التدريجي في عالقتنا باهلل فصرنا أبعد‬ ‫جنتك إخوانا على سرر متقابلين !! ‪ُ ..‬‬
‫ما نكون عن تلك الحال المزهرة ! أما آن لنا أن نعود ؟! أما آن للقلوب أن تؤوب إلى العهد القديم ؟! أم إننا سنترك أنفسنا‬
‫مستسلمين لدوامة الحياة وعواصف الدهر تعصف بنا كيف شاءت فنضيع ؟!‪......‬‬
‫هيا بنا يا أخي ننهض لنبدأ صفحة جديدة في عالقتنا باهلل لتكون عهدا جديدا على أرض صداقتنا و تحت سماء محبتنا ‪......‬‬

‫‪ -2‬نزغ الشيطان‬
‫َح َس ُن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان لإلنسان عدوا‬ ‫َِّ ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫قال هللا تعالى وهو أصدق القائلين ‪َ ( :‬وُق ْل لعبادي َيُقولُوا التي ه َي أ ْ‬
‫مبينا )‬
‫إن الشيطان منذ خلق هللا آدم يتربص باإلنسان هو وقبيله حقدا و حسدا فال يهنأ له بال إال بتعاسة بني البشر ‪ ،‬ومن تلك‬
‫التعاسة فساد الود بين المؤمنين المتحابين ‪ ،‬فهو يحزن حين يجد صديقين َ‬
‫مؤمنين في مودة و محبة فيجتهد بنزغه أي بإفساده‬
‫يقصر في وسيلة لذلك وقد ذكر هللا بعض وسائله لتحقيق هذا الغرض الدنيء في قوله تعالى (‬
‫تحاب وتآلف وال ّ‬
‫ّ‬ ‫لما بينهما من‬

‫‪199‬‬
‫إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) فاالجتماع على ما حرمه هللا يؤدي للخالف والتشاحن‬
‫حل نزغ الشيطان ذكره هللا ( وقل‬
‫ألنه من البداية لم يكن اجتماعا هلل وإنما فيما يغضب هللا ‪ ...‬وما من مشكلة إال ولها حل ‪ ،‬و ّ‬
‫لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) قال سيد قطب رحمه هللا ‪ ( :‬على وجه اإلطالق وفي كل مجال‪ .‬فيختارون أحسن ما يقال‬
‫ليقولوه‪ ..‬بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة‪ .‬فالشيطان ينزغ بين اإلخوة بالكلمة الخشنة تفلت‪ ،‬وبالرد السيء يتلوها‬
‫ّ‬
‫تندي جفافها‪ ،‬وتجمعها‬‫فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخالف ثم بالجفوة ثم بالعداء‪ .‬والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب‪ّ ،‬‬
‫سان َع ُدًّوا ُمِبيناً» ‪.‬يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه‪ ،‬فيغري بها العداوة والبغضاء بين‬ ‫كان لِ ْ ِ‬
‫إل ْن ِ‬ ‫طان َ‬ ‫على الود الكريم‪ِ«.‬إ َّن َّ‬
‫الش ْي َ‬
‫المرء وأخيه‪ .‬والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات‪ ،‬وتقطع عليه الطريق‪ ،‬وتحفظ حرم األخوة آمنا من نزغاته ونفثاته‪......).‬‬
‫والحل الثاني اجتناب أسباب العداوة الشيطانية التي يستخدمها ببراعة لإليقاع بين األصفياء ( في الخمر والميسر ) أي بسبب‬
‫تأمل‬
‫الخمر والميسر ‪ ،‬فكالهما يذهب العقل وإذا ذهب العقل ذهب الحب وانطفأة جذوة األلفة فسهلت الشحناء والبغضاء ‪ ..‬وهنا ٌ‬
‫يسير في مسألة الميسر تكلم عنه علماء النفس وهي ما يسمى ( نفسية المقامر !) وهي الشهوة الدائمة والرغبة الجامحة في‬
‫المقامرة ‪ ،‬تلك الرغبة المدمرة التي ال تترك اإلنسان حتى يفقد كل ما لديه من مال بل أضف إلى ذلك أنها ال تتركه حتى يفقد‬
‫أصدقاءه ! ‪...‬حينها يستريح قلبه و تخبو جذوة شهوته إلى أن يجد ماال جديدا ونديما جديدا ليعاود الكرة فيفقد ماله و نديمه ! ‪..‬‬
‫وأنا هنا ال أقصد القمار عينه وإنما أقصد نفسية المقامر وهي الرغبة الدائمة في التنافس على لعبة معينة – وإن كانت حالال‪-‬‬
‫ليكون هو الفائز و ليقهر من يالعبه فيتنسم قلبه نسيم االنتصار و تنتفش نفسه المزهوة بالنصر المبين ‪ ...‬إن تكرار اجتماع‬
‫الصديقين على اللهو واللعب وخصوصا األلعاب التي يخرج منها منتصر و خاسر من أعظم األسباب المؤدية للشقاق حيث‬
‫توغر الصدور و مع تكرارها كثي ار يتحول اللعب إلى جد وكأنه مكسب وخسارة حقيقية فيحزن المهزوم ويغتم وتثور أحقاده ‪...‬‬

‫ود ‪ ،‬بينما يكون المنتصر مز ّ‬


‫هوا فرحا مستعليا ‪ ..‬ولكن‬ ‫ولكن على من تثور ؟؟ إنها تثور على حبيبه ورفيقه فيفسد ما بينهما من ّ‬
‫صفيه فتتقابل حالتان نفسيتان متضادتان حالة االغتمام والحقد أمام‬
‫ّ‬ ‫على من يكون ذلك االستعالء ؟؟ إنه استعالء على خدينه و‬
‫حالة النشوة واالستعالء ‪ ..‬فتندلع الشحناء والبغضاء ألسباب طفولية ‪ ...‬إنه جزاء اللعب الكثير واللهو الطويل العابث بال فائدة‬
‫الك ِدرة بين األصدقاء ورأيت عاقبتها‬
‫وبتضييع لألوقات الثمينة و ببعد عن طاعة هللا و تحصيل رضاه ‪ ..‬إنني رأيت تلك الروح َ‬
‫من شحناء و انقطاع للصالت ألتفه األسباب ‪ ..‬أرى ذلك بين إخواني فأتذكر قول هللا تعالى مرددا ( إنما يريد الشيطان أن يوقع‬
‫بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) ‪......................‬‬

‫‪ -3‬حسد الحاسدين‬

‫( العين حق ولو كان شيء سابقا للقدر لكان العين ! ) كلمات قالها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن شيء غيبي ال تدركه‬
‫العقول وال العلوم ‪ ،‬وهو الحسد الذي حين ينبعث من قلب حاقد و من عين كائد يكون له أثر متلف على النعمة المحسودة ‪ ،‬وإن‬
‫وسره ومالزمته ‪ ،‬ولما كانت‬
‫بوده و محبته ّ‬
‫من أعظم النعم التي يمن بها على إنسان صديق مخلص يصطفيه من بين الناس ّ‬
‫قل فيه اإلخالص و ثَمن فيه الوفاء – على رأي من رأى ذلك – كانت أدعى إلى حسد الحاسدين من‬
‫تلك النعمة نادرة في زمن ّ‬
‫ينمي تعجبهم‬
‫الزمالء ‪ ،‬فوجود صديقين متالزمين في وسط الدراسة أو العمل يثير مالحظة الناس و يوجه انتباههم إليهما بل ّ‬
‫‪200‬‬
‫حتى يصير الصديقان المتالزمان اللذان ال يفترقان صباح مساء حديث الزمالء و سمر السامرين ! ولو كان كل زميل له صديق‬
‫مثلهما النشغل به ولترك الناس لحالهم ولكن األمر ليس كذلك !! فأغلب هؤالء الحاسدين لم يجد صديقا حقيقيا يموت فيه حبا و‬
‫تعلقا وارتباطا فلما رأى ذلك األمر في اثنين من زمالئه شعر بافتقاده لتلك النعمة التي ربما لم يلتفت إليها من قبل حتى رأى ما‬
‫رأى فيتحسر على حاله و يبكي على انفراده ويتحول حزنه إلى حسد دفين يتحين الفرصة ليطفو على السطح ّبينا للناظرين ! ‪...‬‬
‫إن هؤالء الذين نسوا حظهم من بهجة النفوس وأنس القلوب َل ْيتهم انشغلوا بأنفسهم وأصلحوا أحوالهم وسألوا هللا التوفيق للصديق‬
‫الحقيقي ‪ ..‬ولكنهم حين ساءت نفوسهم اشتعلت فيها نيران الحسد‪..‬‬
‫قد أمكنا الحب من قيادهما‬ ‫إلفان داما عـلى ودادهما‬
‫أن يحفـظاه إلى معادهم ـ ــا‬ ‫تحالفا إن صـفا الهوى لهما‬
‫إال سعى الناس في فسادهـما‬‫محبين جاه ار بهوى‬
‫ما من َ‬
‫ومنهم من اشتعلت في قلبه نار الغيرة حيث كان يرتجي أحد الصديقين صديقا له ومؤنسا فجاء إنسان آخر فسرق منه من كان‬
‫يرجوه صديقا ليس عمدا وإنما بتوفيق من هللا وهو الموفق بين القلوب ال موفق سواه فإذا هو يكبت حزنه وغمه و يحاول إطفاء‬
‫نار غيرته – إن كان صالحا – بالدعاء واالبتهال إلى المولى سائال إياه السعادة للصديقين ‪ ،‬فهو يرجو كل خير لصاحبه وإن لم‬
‫يفز بصداقته ‪ ،‬ولكن نزعة الغيرة تالحقه ‪ ،‬يخالف نفسه و يوهمها أنه ليس في قلبه حسد والحسد آتيه ال محالة قبل أن يصل‬
‫الظل بعيدا عن الصديقين ليتجنب إثارة الكامن في قلبه من حزن واغتمام ولكنه ال يلبث أن‬
‫لمرحلة االنفجار ! ‪ ..‬قد يتولى إلى ّ‬
‫الهم والحسرة ‪....‬‬
‫يحتك بهما فيعاوده ّ‬
‫ّ‬
‫إنه إنسان تعيس بال شك ‪ ،‬مثله مثل الحاسدين الحاقدين الذين ذكرتهم آنفا ‪ ،‬هم سواء في البؤس ‪ ،‬ولكن المصيبة أن يتراكم كل‬
‫الطيبين ‪ ،‬فتنشب بينهما الن ازعات و يفترقان بال‬
‫َ‬ ‫هذا الكم من االغتمام مع مزيج من الحسد والغيرة فيؤثر على عالقة الصديَقين‬
‫ذنب !! ‪..‬‬

‫إنني أعلم أصدقاء أخالء انتبهوا لتلك القضية حين كثرت الخالفات بينهم ‪ ،‬خشوا على صداقتهم الطيبة النضرة و انتبهوا‬
‫لمالحظة الناس لهم و القيل والقال فخشوا على أنفسهم من عاقبة حسد الناس وخشوا على الناس من عاقبة الحزن في قلوبهم‬
‫جلية أمام الناس لئال يوغروا صدورهم و اتفقا على أال يتالزما تالزما ملحوظا أمام‬
‫فاتفق الصديقان على أال يظه ار مشاعرهما ّ‬
‫الزمالء ليتقوا حسدهم ولئال يتسببا في إحزان الناس ! بتلك المشاعر النبيلة وبذلك الحرص الجميل تستمر الصداقة في هدوء‬
‫وسالم فيما بينهما وفيما بين الناس !‪......‬‬

‫األسباب النفسية لوقوع المشكالت بين الصديقين‬


‫النفس البشرية شديدة التعقيد ال يدرك حقيقتها أصحابها أنفسهم فمن األولى أن يجهلها غيرهم ممن يتعاملون معهم والجهل أصل‬
‫الشرور ‪ ،‬وحين يصير التفاهم عسي ار بين إنسانين تتأجج النفوس وتدفع حامليها للغضب و التنازع ‪ ،‬ولما كانت النفس موطن‬
‫لتحول الصفاء إلى قذاء و السماء الصافية إلى غمام عابس‬
‫الداء وحجر الزاوية كان لنا أن نعرض بعض أسباب تلك النفس ّ‬
‫باسر !‬

‫‪201‬‬
‫‪ -1‬اإلباء عن االعتذار ‪:‬‬

‫األصل في أي مشكلة والمعتاد أن تكون ذات طرف واحد ‪ ،‬ذلك الطرف آلمه الطرف اآلخر ‪ ،‬أغضبه وأثار حنقه ‪ ،‬فعل فعال‬
‫أحزن نفسه ‪ ،‬قد يكون ذلك الفعل مقنعا لك بأنه له الحق في الحزن وقد ال يكون كذلك ‪ ،‬في كال الحالين النتيجة واحدة وهي أن‬
‫صديقك غاضب عليك فماذا عليك أن تفعل ؟ النفوس الطيبة المحبة تبادر إلى إطفاء النار ال إذكائها بكلمة ساحرة تحيل الكدر‬
‫صفاء و البحر المالح عذبا هي ( أنا آسف ) ‪ ،‬إنه امتصاص الغضب بأيسر وسيلة و جالء الحزن بأسهل طريقة بعدها يسهل‬
‫النقاش و تتيسر األمور ويزول الخالف في هدوء تام ‪ ،‬إنه فقه البدء باالعتذار شيء يسير على من يسره هللا عليه ولكن افتقده‬
‫كثير من األشقياء ‪ ،‬وهم من يحولون المشكلة ذات الطرف الواحد إلى ذات طرفين ! ‪ ،‬إذا غضب عليهم صديقهم لم يبادروا‬
‫إلى طلب العفو وإنما عرضوا األمر على عقولهم أوال فيديرونه في رؤوسهم متسائلين هل له الحق في الغضب أم إنه أمر ال‬
‫يستحق ذلك وما هو إال إنسان حساس مبالغ ! ولألسف في ثوان معدودة من التفكير اللحظي يصلون للنتيجة السيئة وهي عدم‬
‫اقتناعهم بسبب هذا الغضب فيأبون االعتذار ويبادلون الهجوم بهجوم و االتهام باتهام ‪ ،‬يواجهون من يشد الحبل بشد الحبل‬
‫بشدة وعنف أكبر ! وتتحول المشكلة إلى مناظرة و مجادلة ويقع الخالف و الهجر ‪ ....‬ويقول قائلهم – وبئس القائل ! ‪: -‬‬
‫عليا‬
‫وتعتب من غير ج ــرم ّ‬ ‫إذا كنت تغضب من غير ذنبٍ‬
‫كنت حيـ ــا‬
‫عددتُك ميتا وإن َ‬ ‫عز ب ـ ـ ــي‬
‫طلبت رضاك فإن ّ‬
‫إنه اإلباء واالستكبار ‪ ،‬إنه االستنكاف عن الوقوف في موضع المقصر المخطئ ‪ ،‬إنها النرجسية المستترة الدفينة في النفوس‬
‫التي ال تتصور نفسها مخطئة فتكون العاقبة مؤلمة ‪...‬‬
‫إن النفوس المحبة حقا تتواضع أمام أحبائها وال يضيرها كونها العليا أو السفلى مادام ذلك أمام الحبيب ‪ ،‬تلك القلوب الطيبة التي‬
‫ليست قضيتها حين تالم أو تعاتب هل هي فعال مخطئة أم ليست كذلك ‪ ،‬وإنما قضيتها كيف لصديقي وحبيبي أن أكون سببا‬
‫في حزنه وأن أكدر حياته بفعلي سواء أكان عن قصد أم عن غير قصد ؟! حينها تلين النفوس وتطلب الصفح مستكينة يملؤها‬
‫الحب وطلب الرضا ‪ ،‬وبعد تلك المقدمة الرائعة من االعتذار وطلب العفو تعال يا أخي الحبيب نتناقش في سبب غضبك فإن‬
‫فعلت شيئا لم أكن أعلم أنه يغضبك فها قد‬
‫كنت ُ‬‫أعددت العدة المرة القادمة لئال أقع في هذا الخطأ وإن ُ‬
‫ُ‬ ‫كنت غير قاصد لذلك‬
‫ُ‬
‫علمتُه اآلن وسوف أتحرى بعد ذلك أال أفعله لئال أسيء إليك مرة أخرى ‪ ....‬ذلك هو الحب الجميل العظيم !‬
‫إن هذا السلوك الجميل اللطيف من ِقوام حفظ الصداقة وبقائها غضة ناضرة ولكنه مع ذلك قد ال يحدث بين األصدقاء فيكون‬
‫سببا للنزاع والخصام وليس عيبا أن يحدث مرة أو مرتين ولكن العيب األكبر أن يكون سمة مميزة لكل خالف بين الصديقين‬
‫فدوام ذلك السلوك دليل على ترسخ الكبر و النرجسية ‪ ،‬اإلباء واالستنكاف ‪ ،‬وأصحاب تلك الصفات تفشل صداقاتهم وتتحطم‬
‫حتى ال يبقى لهم صديق !! ‪..‬‬

‫برد الفعل والغفلة عن الفعل ‪:‬‬


‫‪ -2‬التمسك ّ‬

‫‪202‬‬
‫يقول أحدهم ‪( :‬لقد تغير صديقي فجأة ‪ ..‬تجهم في وجهي ‪ ..‬انصرف بدون أن يسلم علي ‪ ..‬هكذا بغير مقدمات !! ‪ ..‬ذهبت‬
‫ّ‬
‫إليه أخطب وده فإذا هو ينهرني و ينفعل انفعاال أغضبني منه ‪ ..‬لم أفعل له شيئا ليفعل ذلك ‪ ..‬ياله من صديق سيء ! أنا ال‬
‫أستحق منه أن يفعل ما فعل ‪ ..‬هو بدأ بالعداوة و سأجابهه لعداوته لي بعداوة أخرى فهو البادئ والبادئ أظلم ! ‪ ..‬هذه ليست‬
‫أول مرة يفعلها ‪ ..‬لقد فعلها معي مرة من قبل حين اشتد غضبه واحمر وجهه وانصرف عني ‪ ..‬وبعد شد وجذب اكتشفت أنه‬
‫فعل ذلك لسبب تافه من وجهة نظري ال يستحق منه ذلك التصرف العدائي ‪ ..‬إنني لم أكن مخطئا حينها ولو كنت مخطئا‬
‫حساس يحزن ألقل األشياء أو ألشياء لم أرتكبها‬
‫حينها أو اآلن فإنه ليس من حقه أن يتصرف ذلك التصرف ‪ ..‬إنه إنسان ّ‬
‫أصال سأقف متصلبا أمامه هذه المرة ولن أتنازل عن حقي بل سأطالبه أن يعتذر لي حتى تعود مياه الود والصفاء إلى مجاريها‬
‫!!‪)......................‬‬
‫ما رأيكم في هذه الكلمات ؟ وما رأيكم في موقف ذلك الصديق الشاكي ؟ كثير منا أول وهلة يتسرع باعتقاده أن موقفه سليم وأن‬
‫الحق معه ‪ ..‬ولكن الحق غير ذلك و هذا الصديق ما هو إال مسعر حرب ستأكل األخضر واليابس إن لم يراجع نفسه و يتحلى‬
‫تصير البرق بريقا والبركان بركات !! ‪......‬‬
‫الهينة التي تحول النار نو ار و تحول السيول سالما و ّ‬
‫بالروح الصداقية الطيبة ّ‬
‫برد فعل صديقه و تغافل عن فعله هو‬ ‫إن هذا الشاكي التعيس خطؤه األعظم أنه استمسك برد الفعل و تناسى الفعل ! ‪ ..‬تشبث ّ‬
‫الذي دفع صديقه ليقوم بما قام به من مظاهر غضب و حزن ‪ ...‬إن صديقه الغاضب يتبع فلسفة تقول ‪ :‬إن صديقي أخطأ في‬
‫حقي خطأ ليس لصديق أن يخطئه ‪ ..‬إنه قصر في حقي وما كان له أن يفعل ذلك ‪ ..‬إن خطأه أوضح من الشمس ُق َبْيل الزوال‬
‫!! سأقاطعه ليراجع نفسه ويعتذر لي سألومه لوما سلبيا بتركه لنفسه وضميره !! ‪..‬‬
‫قد يكون لنا على هذه الفلسفة مآخذ ‪ ..‬ولكن هذا ما انتهجه ذلك الصديق الذي يسمونه حساسا ومبالغا في تصرفاته فماذا على‬
‫الطرف اآلخر أن يفعل أمام ذلك ؟؟ هل يلوم صاحبه على تصرفه المباَلغ فيه – من وجهة نظره – بل يطالبه باالعتذار على‬
‫رغم أنه فعل ذلك ردا لفعله ؟؟ لنجيب على هذا التساؤل أذكر مثاال ظريفا فيه اإلجابة ‪ ،‬ما بال إنسان وقف بجوار قارورة‬
‫زجاجية يملكها صاحبه يتحاور معه فإذا هو يطيح بتلك القارورة بغير قصد منه في لحظة غفلة فوقعت القارورة وانكسرت مائة‬
‫قطعة !! فماذا يكون ّ‬
‫رد فعله الصحيح ؟ إنه أمامه حالن األول أن يقول ‪ :‬عفوا يا أخي أنا آسف لم أكن أقصد سامحني‬
‫سأعوضك سأصلح لك القارورة أو سأشتري لك أخرى ‪.....‬‬
‫أما الحل اآلخر أن يقول ‪ :‬ما هذه القارورة اللعينة ؟؟ لماذا وقعت بهذه السهولة ؟؟ وكيف يحق لها أن تنكسر مائة قطعة ؟؟‬
‫القوارير من مثيالتها تنكسر قطعتين أو ثالثة ال مائة قطعة ! ‪ ..‬إنني لم أرتكب خطأ وإنما العيب في هذه القارورة الحساسة‬
‫والعيب فيك أنت أنك اشتريت قارورة تنكسر بسهولة !! ‪..............‬‬
‫ما الجواب المنطقي من هاتين اإلجابتين ؟ ‪ ..‬ال عاقل يقول إن اإلجابة الثانية فيها شيء من المنطق فضال عن أن تكون أصال‬
‫ُيحتكم إليه ويقاس عليه والجواب األول هو المنطق السليم بال نزاع يحل المشكلة ويرضي الطرف اآلخر ‪....‬‬
‫أغضبت صديقك فكان له رد فعل صاخب بل غير متوقع بل غير مكافئ لفعلك‬
‫َ‬ ‫قضيتنا هنا مثل قضية القارورة تماما ! أنت‬
‫هشمت القارورة أصلحها ‪ ...‬كما أغضبته‬
‫كسرت صاحبك أصلحه ! ‪ ،‬كما ّ‬ ‫َ‬ ‫كسرت بحكمة ولين ‪ ،‬كما‬
‫َ‬ ‫فما عليك إال أن تصلح ما‬
‫رده راضيا عنك مرة أخرى ‪ ..‬أنت سبب المشكلة ال هو ‪ ..‬ربما يكون فعله أكثر من الالزم ولكنك أنت من دفعته لذلك ‪ ..‬إنك‬
‫ّ‬

‫‪203‬‬
‫وحولت المشكلة ذات الطرف الواحد إلى ذات‬
‫أبيت االنكسار واالعتذار فما بالك إن طالبته هو باالعتذار ّ‬
‫مخطئ أشد الخطأ إذا َ‬
‫طرفين ؟! ‪...‬‬
‫إن هذا الصديق الذي غضب على صديقه الذي يحبه كثي ار برد فعل عنيف بال عتاب أي بال لوم إيجابي – ربما يكون إنسانا‬
‫حساسا بتعبير العامة ولكنه في الحقيقة إنسان ذو حس مرهف رقيق يكبت مشاعره إلى أن ينفجر بدون أن يواجه صديقه‬
‫النفسيون فيه سمات ُعصابية ويميل لالنجراف لالكتئاب والقلق ‪ ..‬هذا حاله وهذه طبيعته ربما‬
‫ّ‬ ‫بمشاعره ‪ ..‬هذا اإلنسان كما يقول‬
‫يحتاج لعالج نفسي ودوائي ولكن صديقه المستنكف اآلبي ال يقل عنه حاجة إلى عالج عقلي وقلبي ليعرف كيف يتعامل مع‬
‫صديقه الذي يدخر له كل حب وود وما فعل هذا إال ألنه يحبه ولو كان ال يحبه ما التفت إليه وما غضب عليه ‪ ،‬إنه ال يحزن‬
‫إال ممن له مكانة سامية في قلبه وبقدر مكانته في قلبه يكون قدر أساه وشجنه لتقصيره في حقه ‪ ...‬إنه فقه صداقي قل من‬
‫يحسن التعامل به في زماننا و حكمة رفيعة وهي كما قال المولى (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خي ار‬
‫كثي ار وما يذكر إال أولو األلباب ) ‪.............‬‬

‫‪ -3‬انتظار المبادرة من الطرف اآلخر ‪:‬‬


‫تظرت أن يتصل بك بعد ذلك ولكنه لم يفعل ! طال‬ ‫بعد أن اتصلت بصديقك اتصاال حميما تبادلتما فيه المودة والمحبة ان َ‬
‫دعوت صديقك ألن يزورك في بيتك التزاما بركن الصداقة القويم التزاور ‪ ،‬كان‬
‫يرد عليك اتصالك ولكنه أبى ! ‪َ ....‬‬ ‫انتظارك ألن ّ‬
‫انتظرت من‬
‫َ‬ ‫المحب العاقل سوى تك ارره ازداد فيه القرب و تج ّذر فيه ّ‬
‫الود ‪ ،‬ولكن بعد ذلك اليوم الرائع‬ ‫ُ‬ ‫يوما ممتعا ال يروم‬
‫فعلت أنت ولكن يبدو أنه ال يهمه ذلك األمر ! بل قد يكون التزاور متبادال فعال ولكنك مرة دعوتَه‬
‫صديقك أن يدعوك لبيته كما َ‬
‫يثت مستشرفا أن يدعوك يوما‬ ‫ودا ! ولكنك تر َ‬
‫لوجبة الغذاء في بيتك لتتشاركا الطعام والشراب وكأنكما تأكالن ُحبا و تتناوالن ّ‬
‫لمثل هذا الغذاء في بيته ولكن يبدو أنه نسي !‬
‫الود و تطلب أن يرده صديقك ودا بود ‪ ،‬اتصاال باتصال ‪ ،‬دعوة بدعوة ‪ ،‬مائدة بمائدة ‪ ،‬وتأتي الرياح بما ال تشتهي‬
‫بذلت ّ‬
‫إنك َ‬
‫فتكبت المشاعر السلبية في قلبك تجاه حبيبك الجافي الذي في ظنك يقطع حبال‬ ‫ُ‬ ‫رجاءك‬
‫َ‬ ‫ويخيب صديُقك‬
‫أردت ّ‬‫السفن وال تجد ما َ‬
‫بعدك أو تنتظر اللحظة المناسبة التي تنفجر فيها‬‫الود بسكين غير مرئي فال تجد سوى أن تهجر صديقك معاتبا إياه به ِجرك و ِ‬
‫فيه صارخا في وجهه قائال ‪ :‬إنك ال تعرف معنى الصداقة وال تقدرها قدرها !‪...‬‬
‫إن هذه المواقف التي ذكرتُها آنفا يختلف تفسيرها من موقف آلخر فرد الفعل السلبي من صاحبك قد يكون فعال دليال على‬
‫الجفاء و نبذ اإلخاء وهذا إن حدث في في بداية الصداقة أو وقت إرهاصاتها فهو نذير بإنهائها قبل بدايتها وتحطيمها قبل‬
‫إنشائها إذا تيقن الصاحب المبادر واستقر في قلبه جفاء صاحبه له ‪ ،‬ولكن حدوث ذلك في بداية الصداقة قد يكون مشي ار لشيء‬
‫آخر لم يدر بخلد الصاحب المبادر ‪ ،‬وهو أن الصاحب الذي لم يبادل ود صاحبه بود قد يكون له المعذرة التي دفعتُه لذلك‬
‫ولكنه – بحكم بداية الصداقة – استشعر الحرج أن يبوح لصاحبه بسر عدم فعله لما يجب عليه فصاحبنا الملوم قد يكون متوسط‬
‫الحال بيته ضيق على من فيه فال يستطيع أن يدعو صديقه لبيته الضيق فال مكان فيه للزيارات أصال ولكنه يتحرج أن يبوح‬
‫بتلك الحقيقة لصاحبه بل قلبه يحترق أنه عاجز عن دعوة حبيبه لبيته ولكنه في نفس الوقت يغشاه الخجل من حاله فال يصارح‬
‫متسم ار في مكانه ال يستطيع الفعل – بدعوة صديقه لبيته – وال‬
‫ّ‬ ‫صديقه بحاله ليرفع عن نفسه الحرج فتكون النتيجة أنه يقف‬

‫‪204‬‬
‫يستطيع القول – ببوحه بسره و ضيق عيشه ‪ ،‬فيسيء صديقه المسكين فهم تصرفاته خصوصا أنه ال يستطيع مواجهته بلومه‬
‫مستشع ار للحرج هو كذلك ‪ ،‬فيفهم المسكين أن تصرفات صاحبه دليل على عدم الرغبة في استكمال تلك الصداقة وهو تصرف‬
‫عملي على إنهاء تلك العالقة من بدايتها لئال تتعمق في غير محلها ! فتنتهي صداقة جميلة غضة في مهدها بغير ذنب و ال‬
‫جرم سوى أن القدر أجرى عليها قلمه ولم يشأ هللا لها استم ار ار وال استق ار ار ! ‪....‬‬
‫الود انتظر ود صديقه في رد زيارته فلم يجب ولكن حب صديقه في قلبه يطغى‬
‫ولكن من بين تلك الحاالت صديق مبادر إلى ّ‬
‫يحدثه بخالف ما يرى ‪ ،‬يحدثه أن لصديقه سببا في ذلك بل نظرات عين صديقه و قسمات وجهه الصابح‬
‫على كيانه و قلبه ّ‬
‫تفصح عن حقيقة غامضة في نفس صاحبه تحتاج للحظات مكاشفة ‪ ،‬لحظات روحية قد تكشفها األيام وقد تكشفها لحظة جرأة‬
‫من الصديق المبادر يواجه فيها صاحبه الطيب المسكين بلطف ورفق فتتجلى الحقائق في رقة و هدوء في موقف يغشاه نور‬
‫ضع األمور في مواضعها وتستمر الصداقة في سكينة ويسر ال توقفها عواصف الحياة‬
‫الصداقة و تتخلله مياه األخوة العذبة فتُ َ‬
‫وال أحكام المجتمع ! ‪..‬‬
‫إن هذه المشكلة – أعني مصادقة الصديق المتوسط الحال الذي ال يستطيع مجاراة صديقه األيسر منه حاال في بداية الصداقة –‬
‫قد تسير على هذا النهج الذي ذكرتُه آنفا ‪ ،‬ولكنها لها نهج آخر وهو االمتناع و عدم االنسياق ! ‪ ،‬رفض التوغل من البداية ‪،‬‬
‫رفض دعوة الصاحب للزيارة في بيته ‪ ،‬رفض دعوة الصاحب لتناول الطعام ‪ ،‬يرفض ذلك و قلبه يتألم ألنه يعلم علم اليقين أنه‬
‫يرد تلك الدعوات بمثيالتها دعوة بدعوة ‪ ،‬فيقف الصديق المصدود مصدوما متعجبا يتملكه الشيطان بسوء الظن‬‫ال يستطيع أن ّ‬
‫فينصرف حزينا وتنصرف معه الصداقة بال رجعة ‪ ،‬ولكنه قد ينصرف ملتمسا لعذر وينتظر األيام الحبلى لتأتيه باألنباء التي‬
‫خفيت عليه اليوم حين يكون ملتبسا بالحب يغشاه من كل جانب ! ‪.‬‬
‫إن الصداقة بين صديقين قد تكون ضحية للظروف وللمجتمع وضحية كذلك للحاالت النفسية غير المستقرة فال تنجدها غير‬
‫عناية هللا‪.‬‬
‫الصد جليا وواضحا من الطرف اآلخر الذي ال يأبه له وال لصداقته‬
‫ّ‬ ‫ولكن نهاية الصداقة في مهدها قد تكون مطلبا ّ‬
‫ملحا إذا كان‬
‫جئت فإنك ال تالئمني‬
‫تجاوزت حدودك ‪ُ ،‬عد من حيث َ‬
‫َ‬ ‫ردا (دبلوماسيا ) سلبيا يقول بلسان حاله ‪ :‬ال تتماد في القربى فقد‬
‫فيرده ّ‬
‫ّ‬
‫وال أالئمك ‪ ،‬والفرق بين الحالين أعني حال الصد الحقيقي والصد الظاهري يعرفه الحكيم ذو القلب النابض بالحب والصفاء فهو‬
‫ال يخطئ صديقه الحقيقي ويعرفه مهما كانت الظروف ومهما ادلهمت الليالي ومهما اشتدت الخطوب !! ‪.....‬‬

‫كان ما ذكرت متعلقا بالصداقة في مهدها ‪ ،‬ولكن مشكلة انتظار المبادرة مشكلة تحدث بين الصديقين القديمي العهد بالصداقة !‬
‫وذلك حين تطول مدة االنقطاع بينهما فيتساءل كالهما تساؤال شيطانيا ‪ :‬من األولى باالتصال باآلخر ؟ وال يكتفي ذلك‬
‫لست ملزما باالتصال أوال !! ‪...‬‬
‫الشيطان بالسؤال حتى يبادر متطوعا باإلجابة ‪ :‬هو الذي يجب عليه االتصال ‪ ،‬أنا ُ‬
‫إن هذه المشكلة من أكثر المشاكل تعقيدا ومنشؤها ِ‬
‫الك ْبر من جهة والوسوسة من جهة أخرى ‪ ،‬فالكبر يجعل صاحبه يظن نفسه‬
‫وده – انظر‬
‫أنه ما قصر في حق صديقه وأنه بذل ما في وسعه من أجل صلته وأنه لن يتنازل أكثر من ذلك من أجل خطب ّ‬
‫ط من النفس !‪ -‬والكبر آّفة مدمرة مهلكة للصداقة‬
‫للفظ (لن يتنازل) وكأن االتصال أكثر من مرة نوع من التنازل والتردي و الح ّ‬
‫أصدقاء وتواضع الصديَقين بين يدي كليهما ضرورة الزمة إلبقاء‬
‫َ‬ ‫ذكرت من قبل وأظل أذكر دائما ال يكونون‬
‫ُ‬ ‫فالمتكبرون كما‬

‫‪205‬‬
‫الحل لهذه الوساوس الشيطانية التي يتلوها الشيطان بحكم أنه أول مخلوق متكبر في‬
‫تسبح بحمد ربها ! و ّ‬
‫الصداقة حية نابضة ّ‬
‫الوجود أن تُصحح المفهومات لدى الصديقين و ليتفقا من أول يوم في صداقتهما أن عالقتهما ليست عالقة مقايضة وال عالقة‬
‫مادي حينها‬
‫بيع وشراء ! ليست عالقة شيء مقابل شيء ! وإنما عالقة قوامها بذل الود بال حدود وبال ترّفع وبال انتظار مقابل ّ‬
‫صفيا وخليال‬ ‫وتذل النفوس وتصير هينة لينة وهي إن علت على بقية البشر فال تعلو على من اختارته‬ ‫تُمحى آفة الكبر المهلكة ِ‬
‫ّ‬
‫!‪..‬‬
‫أما الوسوسة فهي آفة ال تقل فتكا عن صاحبتها بل تفتك بالصديق المو ِ‬
‫سوس و تفتك بصديقه كذلك ‪ ،‬فالصديق الطيب ذو‬ ‫َُ‬
‫يمل منه ولم ينشغل عنه فيتربص‬
‫المتورد الحساس يحتاج في كل يوم أن يتأكد أن صديقه ما زال يحبه وأنه لم ّ‬
‫ّ‬ ‫القلب الخافق‬
‫عقله الباطن أي فرصة ليشير بأصابع االتهام نحو صديقه أنه جفاه ولم يعد يبادله الحب والصداقة المنشودة ومن هذه الفرص‬
‫ٍ‬
‫متساو حذو الق ّذة بالق ّذة‬ ‫ود‬
‫لود متبادل واحدة بواحدة ّ‬
‫مسألة انتظار اتصال صديقه به بعد أن اتصل به من قبل فهو يحتاج دائما ّ‬
‫المدعي و‬ ‫! ليتيقن من محبة صديقه له ‪ ،‬فإذا أخطأ صديقه مرة في تطبيق ذلك القانون نصب له محاكمة صداقية كان هو فيها ّ‬
‫بحبه ال‬
‫القاضي والشهود والمجني عليه في آن واحد !! وهنا على صديقه الحكيم أن يواجه تلك المحاكمة بقلبه ال بعقله ‪ّ ،‬‬
‫فحل تلك المسألة الشائكة أوال في طمأنة الصديق المتسربل بسربال المجني عليه بأنه ما زال يحبه و مازال على العهد‬
‫بمنطقه ! ّ‬
‫الصداقي لم ينقضه ولن ينقضه ما تعاقبت األنفاس وما خفق القلب ! وأن ظن صديقه في جفائه ليس في محله وإنما هي‬
‫التباسات ال حقيقة حينها يهدأ قلب الصديق و يبرد دمه الملتهب وتعود ثقته بحبيبه و بصداقته ثم بعد ذلك تعال لنتناقش في‬
‫قضية االتصال وهيا بنا نصحح المفهومات ولنضع قاعدة صداقية ُمرضية نتفق عليها لئال نختلف بعد ذلك ‪ ،‬قاعدة األنا ! أنا‬
‫أبدأت أنا‬
‫ُ‬ ‫هو أنت ال اختالف بيننا هكذا علمتنا األخوة في اإلحساس والشعور واآلن تعال نقتد بها في العمل والسلوك ! سواء‬

‫باالتصال أم أنت فال فرق وال حساسية وال نزاع ما دامت الثقة بيننا متبادلة ‪ ،‬ما دمنا متيقنين من ّ‬
‫حبنا و ألفتنا ‪ ،‬ما دام نبع‬
‫الود متصلة متينة على طول‬‫التصافي العذب جاريا متدفقا فال حساسية وال اختالف في هذه المسائل ‪ ،‬أهم شيء أن تظل حبال ّ‬
‫أكنت أنا الواصل أم أنت ‪ ،‬وليس ذلك ذريعة لهجر طرف للطرف اآلخر وإنما تواصل دائم من الطرفين ولكن بغير‬
‫الزمان سواء ُ‬
‫المتصل ! ‪.‬‬
‫مكيال وال ميزان ! ‪ ،‬العبرة بدوام االتصال ال بهوية ُ‬

‫أسباب طول االنقطاع‬


‫ها قد أحطنا بالظاهرة ووضعنا حلوال عملية لها وبقي لنا أن نضع أيدينا على أسبابها بين األصدقاء المتصافين ‪ ،‬وهي هنا في‬
‫مصر على‬
‫ّ‬ ‫المقام األول أسباب نفسية ال مادية ‪ ،‬فالصديق الالئم حين يلوم صديقه على طول بعده – وهو معترف بتقصيره ال‬
‫إبائه – يتعلل باالنشغال ‪ ،‬واالنشغال لفظة مبهمة ال تسمن وال تغني ‪ ،‬وكثي ار ما تزيد التباس األمر ‪ ،‬فكما ذكرنا سابقا ال شيء‬
‫يستطيع أن يشغل صديقا محبا عن صديقه الحبيب والوسائل االتصالية الحديثة لم تدع ألحد عذ ار وبضع دقائق من االتصال‬
‫لمد حبال الوصل ‪،‬‬
‫كافية ّ‬
‫ولكن ‪............‬‬
‫ذلك الصديق المتعلل – وهي أول مرة يتعلل فيها فليس من طبعه انشغاله عن صديقه ولو كان طبعا لكان سببا إلضعاف‬
‫الصداقة و إبالئها – ذكر االنشغال سببا لطول انقطاعه وهو قصد باالنشغال هنا االنشغال النفسي ال االنشغال المادي ولكن‬

‫‪206‬‬
‫نفسه وال يحسن اإلفصاح عنها ! واالنشغال المادي ليس عذ ار ولكن‬
‫لسانه قصر عن حسن التعبير بل هو نفسه ال يفهم َ‬
‫االنشغال النفسي عذر ضخم له احترامه ويجب حسن تفهمه ! ‪ ،‬إن ضغوط الحياة و مصاعب الدنيا وكثرة األحمال قد تصيب‬
‫الصديق باالنقباض الذي يقوده للهم واالكتئاب فيركن حينها لالنعزال والخلوة بالنفس و االنشغال وطول التفكير في همومه‬
‫المعتزل‬
‫َ‬ ‫وأحزانه ‪ ،‬يفعل ذلك بغير إرادة منه ‪ ،‬يجد نفسه منساقا لذلك ‪ ،‬في تلك اللحظات ينعزل عن صديقه ‪ ،‬ويسيء الصديق‬
‫فهم األمر خصوصا أنه لن يفهم ولن يجد سببا مقنعا من صديقه الذي عجز عن التعبير وخانته فصاحته ! فتحدث المشكلة‬
‫‪....‬‬
‫سيعقب أحد القراء الطيبين الغارقين إلى آذانهم في نهر الصداقة قائلين ‪ :‬أليس الصديق هو الملجأ والمالذ عند أي هم يصيب‬
‫اإلنسان ‪ ،‬أليس االمتناع عن البوح بالهم والكرب للصديق قصو ار في الصداقة وخلال يجب عالجه ؟ فكيف وقع هذا الصديق‬
‫ِ‬
‫المعتزل للناس في مساواة صديقة ببقية الناس في االنعزال عنه ؟ ‪ ،‬أقول ‪ :‬إن هذا الصديق – على غير عادته ‪ -‬حين ثقلت‬
‫عليه همومه وقع في لحظة ضعف شديدة ‪ ،‬لحظة ضعف أذهلته عن نفسه بل أذهلته عن صديقه المخلص حتى عجز عن‬
‫التفكير في مشاركة صديقه له في همه !!‪ ،‬فاستسلم لذلك الضعف ووقع في شباك همه واكتئابه ‪ ،‬وهنا يأتي دور الصديق الذي‬
‫يحس آالمه ‪ ،‬يفطن لهذا الضعف و يفهم الوضع الحرج الذي صار إليه صديقه فيسارع إليه لينتشله‬
‫يحس آالم صديقه كأنه ّ‬ ‫ّ‬
‫ويرد عليه نضارته و يكون نعم ُ‬
‫المعين ونعم الحبيب !‬ ‫من بئر األحزان و يقوم بدوره األكمل في أن يعيد إليه بهجته ّ‬
‫إن هذه األمور النفسية الدقيقة قد ال يفهمها كثير من األصدقاء فبدال من أن يمدوا يد العون ألصدقائهم ُيجهزون عليهم برشقهم‬
‫باالتهامات و وسمهم بالتقصير في حق الصداقة وتبقى الحكمة هي المفتاح الوحيد حينها يفهم الصديق أغوار نفس صديقه‬
‫وتُفتح كل األبواب وتزول كل االلتباسات ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خي ار كثي ار ) ‪....‬‬
‫وصلت إليها أخي ار ‪ ،‬وصلت إليها بعد سنوات طويلة من الخسائر الباهظة واالعتراك‬
‫ُ‬ ‫افتقدت تلك الحكمة زمنا طويال ‪ ،‬ولكني‬
‫ُ‬ ‫((‬
‫المضني و الصراع المربك بيني وبين أصدقائي ‪ ،‬خسائر نفسية وخسائر مادية شغلتنا و حيرت عقولنا ونفوسنا وما كان ذلك إال‬
‫لقلة الفهم وغياب الحكمة عني وعن أصدقائي فخسرنا جميعا !!‪))....‬‬

‫مسألة ‪ :‬مراتب االتصال بين الصديقين‬


‫ليست كل وسائل الصلة بين الخدينين متساوية بل منازل و مراتب وليست في كل األحيان إحداها مغنية عن األخرى ‪ ،‬فإذا‬
‫كانت الوسيلة المفضولة في محل الوسيلة الفاضلة فأهال بالشقاق واالختالف وتشتت األمر ! وحتى نكون على بينة من هذا‬
‫األمر الدقيق اللطيف فهاك تلك المراتب ‪:‬‬
‫األولى وهي الدنيا ‪ :‬االتصال الكتابي‬
‫الثانية وهي الوسطى ‪ :‬االتصال الصوتي‬
‫الثالثة وهي أعلى االتصال ‪ :‬االتصال اللقائي‬
‫بعض الواهمين العابثين المخطئين طريق الصداقة الحقة يظنون كل هذه الوسائل اتصاال مغنيا رافعا للحرج مؤديا للواجب وفاتهم‬
‫أن إحدى هذه الوسائل إذا حلت محل الوسيلة التي تليها فهي عالمة على الجفاء و دليل على قلة األهمية والقيمة ‪ ،‬فإذا أمكن‬
‫االتصال الصوتي بالهاتف فال يجوز العدول عنه إلى االتصال الكتابي بالرسائل ( الهاتفية أو اإللكترونية في عصرنا الحديث )‬

‫‪207‬‬
‫مر ذات يوم فال يمر في بقية األيام حتى يصير عادة وليس بعادة وإنما جفاء وهجر وإن كان في ظاهره الصلة فباطنه من‬
‫وإذا ّ‬
‫ِقَبله القطع والهجر ! ‪ ،‬كذا من يتواصل مع صاحبه باالتصاالت الهاتفية في مواقيت متباعدة بدون أن يطلب اللقاء أو أن‬
‫يحرص عليه فهو ليس بصديق وإنما صاحب على أقصى تقدير ‪ ،‬هذا في من استبدل باالتصال الصوتي االتصال الكتابي و‬
‫الهاتف فما الشأن في من استبدل باللقاء كتابة ورسالة باهتة قاتمة يشع منها الهجر و تصرخ في وجه من‬
‫َ‬ ‫من استبدل باللقاء‬
‫لست بصديقي !! ‪...‬‬‫يتلقاها أن َ‬
‫استبدال‬
‫ٌ‬ ‫وإذا عدنا إلى مسألتنا هنا وهي انتظار المبادرة من الطرف اآلخر فالقطع الذي يتبعه انتظار الصلة على شاكلته‬
‫باتصال أعلى اتصاال أدنى ‪ ،‬فالصديق الذي اتصل بصديقه هاتفيا أكثر من مرة سيجد في نفسه الغضاضة حين يجد صديقه‬
‫يرد له تلك االتصاالت رسائل إلكترونية ويشعر حينها أن صديقه لم يعد يكلف نفسه عناء االتصال فيشعر بالحزن واألسى وكذا‬
‫من طلب اللقاء أكثر من مرة فلم يجد سوى اتصاالت هاتفية يمتنع فيها الصديق عن الرغبة في اللقاء فهذا يحزن و يؤلم‬
‫الصديق الحبيب الذي ينتظر من حبيبه أكثر من ذلك ‪....‬‬
‫مجفو أو مهجور ‪ ،‬من ال يسمح للشيطان أن يوسوس في‬
‫ّ‬ ‫أقول أخي ار إن الصديق الحق من ال ُيلجئ صديقه إلى أن يشعر أنه‬
‫بت فهجر ! والصديقان اللذان ما زاال يختلفان من الذي عليه أن يتصل باآلخر أوال و‬
‫وصلت فقطع و قر َ‬
‫َ‬ ‫أذن صديقه بأنك‬
‫أبشرهما بأن صداقتهما لن تستمر طويال !! ‪.................‬‬
‫يتنازعان في ذلك ّ‬
‫( ليس الصديق من يكثر االعتذار ولكن الصديق من ال يضع نفسه في محل االعتذار !! )‬

‫‪ -4‬اختالف األجواء النفسية‬

‫صديقان أحدهما أصابه الفرح الغامر فإذا هو يسارع إلى صديقه الحبيب –على عادته – ليشاركه فرحه وليبشره بما أنعم هللا‬
‫عليه ولكنه حين يطلع صديقه على سبب فرحه يجد منه ابتهاجا باهتا و ابتسامة ظاهرها التكلف و قلب صديقنا الشديد الفرح‬
‫يحدثه أن صديقه ليس فرحا لفرحه ‪ ،‬إنه يتظاهر بالفرح ولكن تعبيرات وجهه الخادعة ال تنطلي عليه ‪ ،‬ولكن لماذا صديقي‬
‫توقعت ؟! ‪ ..‬هنا تأتي اللحظات اإلبليسية التي تسيء التفسير ليحدث التكدير !‬
‫ُ‬ ‫الذي عليه أن يشاركني فرحي ليس مبتهجا كما‬
‫‪ ،‬تقول النفس األمارة بالسوء ‪ :‬إن صديقي لم يعد يهمه أمري كما كان من قبل ‪ ،‬لم يعد يحس بإحساسي ويشعر بشعوري ‪ ،‬إنه‬
‫بدأ ينشغل بنفسه وال يبالي بمن حوله حتى صديقه اللصيق ! بل ربما بدأ الحقد يتسلل إلى قلبه من تفوقي ونجاحي ‪ ،‬إنه لم يعد‬
‫يرجو الخير لي كما يرجوه لنفسه فيا حسرة على الصديق !! ‪..‬‬
‫أقول محاكيا صاحبنا ‪ :‬حقا يا حسرة على الصديق ! ولكن الصديق المقصود هنا هو أنت ال هو ! ‪ ،‬فليس هو الناقص الشعور‬
‫حولت القضية إلى قضية شخصية ونسيت االعتبارات األخرى ‪ ،‬ألنك غفلت‬ ‫وإنما أنت المتهم بتلك التهمة ! أتدري لماذا ؟ ألنك ّ‬
‫عن مشكلة نفسية ال ينبغي للصديق أن يغفل عنها وهي اختالف األجواء النفسية ‪ ،‬فأنت شخص قد اعتلى قمة الفرح والسعادة‬
‫حرفت حزن صديقك الدفين إلى‬ ‫تل من الهم والحزن ّ‬
‫فأنى لكما أن تلتقيا ؟! ‪ ،‬إن نفسك األمارة بالسوء قد ّ‬ ‫واآلخر كان واقفا تحت ّ‬
‫حسك الصداقي مازال متيقظا بدليل‬ ‫ص ِرفك عما هو واجب عليك من المبادرة إلى السؤال عن سبب حزنه ‪ّ ،‬‬
‫إن ّ‬ ‫جفاء و إهمال لتَ ْ‬
‫‪208‬‬
‫أنك الحظت حزنه على رغم تظاهره بالفرح وهو أمارة إيجابية لحسن إحساسك بصديقك ‪ ،‬ولكنك لم تواصل الطريق الصداقية‬
‫سره و األخذ بيده ‪ ،‬ولتعلم أن صديقك الطيب قد احتنكته نفسه األمارة بالسوء مثلك‬
‫القويمة بالقيام بدورك في االطالع على ّ‬
‫واستفزته واستنفرته ليشعر باألسى تجاهك و يشعر بالحظ العسر والدونية التي جعلته بائسا وجعلتك مبتهجا !! حينها هو في‬
‫اختبار إما أن ينجح فيه بأن ينفض غبار هذه الوساوس بأن يفرح و يبارك بهجتك ونجاحك ‪ ،‬وإما أن يعثر و يسقط في مغواة‬
‫التأثر والشعور بالحسد ‪ ،‬إنها لحظات تكثر فيها شياطين النفوس لتحدث الوقيعة بين األحباب ‪ ،‬ولكن وقفة حكيمة تكتنفها‬
‫مشاعر األصدقاء األوفياء ستستدرك األمر وتعيد الصديقين إلى رشدهما ‪ ،‬الصديق ِ‬
‫الفرح بأن تجعله يضبط فرحه لئال يؤذي‬
‫ألم به ‪ ،‬والصديق الحزِن بأن تجعله يتغلب على شيطانه ويصرف مشاعر الحسد من قلبه‬ ‫شعور صديقه بعد أن يسأله و يعلم ما ّ‬
‫مبتغيا الخير لصديقه ! ويقعد الصديقان في هذه اللحظة لحظة المكاشفة ليقوما بدورهما في البوح بما في النفوس من جهة و‬
‫إزالة الهم والمشاركة في الحزن من جهة أخرى ‪......‬‬
‫قد تختلف األجواء النفسية بصورة أخرى حين يكون كال الصديقين مهموما ّ‬
‫ولكن رد فعل كليهما يختلف عن اآلخر ‪ ،‬فاألول‬
‫ألمت به خطوب أقعدته في بيته إما مرض وإما مشاكل بيتية وإما لحظة ضعف أدت إلى انطواء وانعزال كما تحدثنا عنها من‬
‫قبل ‪ ،‬أما اآلخر فقد سلك المسلك القويم في اللجوء لصديقه عند كربه وهمه فسارع إلى االتصال به يطلب منه مقابلته من فوره‬
‫ليحدثه عن مشكلته ! ‪ ،‬ولكن الصديق المهموم اآلخر ليس مستعدا لتلطيف هم صديقه فهو مكروب بكرب آخر ومنشغل بشاغل‬
‫مختلف ال يستطيع معه مقابلة صديقه ليسمعه و ينشرح له صدره ‪ ،‬فيوضح له في إيجاز أنه ال يستطيع اآلن السماع منه وال‬
‫لقاءه واإليجاز تقتضيه المكالمة الهاتفية ويقتضيه ضيق الوقت أحيانا ‪ ،‬وهنا تحدث المشكلة ! صديقنا المتّصل يشعر بخيبة أمل‬
‫في صديقه فقد زينت له نفسه األمارة بالسوء أنه يتخاذل عنه وال يقوم بدوره المنشود وأنه بلغ درجة من الصدود تجعله يتخلى‬
‫عنه في أحوج وقت يحتاج إليه فيه ! ‪ ،‬فتحدث الجفوة من الصديق الحزين واآلخر يلحظ هجر صديقه له وهو ال يدري ما أحزنه‬
‫فيسيء الظن به ‪ ،‬والعجيب أن هموم الصديقين قد تزول وال تزول الجفوة التي نجمت عنها ! ‪ ،‬وحل هذه المشكلة هو الوقاية‬
‫فهي أنجع من أي عالج ‪ ،‬فالصديق المهموم حين يحتاج لصديقه ال بد من أن يختار الحين المناسب لبث همومه وشجونه ‪،‬‬
‫وعليه أن يعلم أنه ليس كل حين يناسب بث الهموم كما أنه ليس كل حين يناسب زيارة صديقه ‪ ،‬فكالهما يحتاج لموعد و يحتاج‬
‫الستئذان ليس من نوع التكلف – حاشا هلل ‪ -‬ولكن من نوع رفع الحرج عن الصديق الذي قد يكون فعال وقته ال يناسب‬
‫االستماع وال يناسب الزيارة ‪ ،‬والصديق الذي تهمه مصلحته ال بد أن يبحث عن مصلحة صديقه كذلك فال يسبب له الحرج ‪،‬‬
‫هكذا يكون التفاهم بين األصدقاء ‪ ،‬أما الفوضوية في العالقة بأن يكون كل شيء ليس له وقت ‪ ،‬فالزيارة ليست لها وقت‬
‫والمكاشفة ليست لها وقت و النصيحة ليست لها وقت ‪ ....‬كل هذا نذير بأن تهوي الريح بالصداقة في مكان سحيق !! ‪.....‬‬

‫إنني في هذا المقام أكرر الكالم عن مسألة (عبوس المحب ) فليس معنى عبوس حبيبك وانقباضه أمامك بعد بسمته وانطالقه‬
‫أمام غيرك ليس معنى ذلك الوحيد المالل والجفاء بل له معنى صداقي عميق يفهمه األصدقاء الذين تمكن الحب من نفوسهم‬

‫وتمكنت الثقة من قلوبهم ‪ ،‬ذلك المعنى هو اصطفاؤك أنت من دون الناس بإثارة مالحظتك ّ‬
‫لهمه وحزنه الدفين لتسأله عنه فيفتح‬
‫لك قلبه يبوح بمكنون سره و بضائقة نفسه فهو يثق بك وحدك و يطمئن إليك وحدك و يلقي بسمته أمام الغثاء من الناس ألنهم‬

‫‪209‬‬
‫ال قيمة لهم عنده وإنما القيمة الغالية فيك أنت الذي ستكون له خير معين و خير عضد ونصير هذا ما وجده فيك ولم يجده في‬
‫اآلخرين فكنت أنت الصديق وكان غيرك ذا الوجه الصفيق ! ‪....‬‬

‫‪ -5‬الخطأ السلبي‬

‫يقول أحدهم ‪ :‬لقد اجتنبني صديقي فجأة و ابتعد عني ‪ ،‬ال أدري ما السبب ؟ ‪ ،‬لم أرتكب ذنبا ‪ ،‬ولم أطأ له طرفا ! إنني لم أفعل‬
‫شيئا يجعله يجتنبني ! ‪........‬‬
‫والجواب ‪ :‬حقا أنت صادق ‪ ،‬إنك لم تفعل شيئا ‪ ،‬ولكن هذه هي المصيبة ! ‪ ،‬عدم فعلك هذا كان سبب غضبه وحزنه ! ‪،‬‬
‫ما جعله يجتنبك أنك تركت فعل شيء كان ينبغي لك أن تفعله فغفلت عنه ! ‪ ،‬إن سوء فهمك مكمنه أنك تؤمن بالخطأ‬
‫اإليجابي فقط ولكنك ال تلقي باال للخطأ السلبي ‪ ،‬وحزن صديقك قد يكون بفعل المكروه وقد يكون كذلك بترك الواجب ‪....‬‬
‫الترك ‪ ...‬عدم الفعل ‪ ...‬التغافل عن واجب ‪ ...‬نسيان مكرمه ‪ ..‬و لنفهم هذه المسألة المغفول عنها هاكم مثاال ‪:‬‬
‫القدم يتوغل في أعماق النفس تعمق زمن العالقة به ‪ ،‬وهذا شيء من أروع‬‫صديقان لصيقان لهما في صداقتهما تاريخ وصديق ِ‬
‫األشياء ‪ ،‬ولكن صاحبا جديدا لهما بدأ يبزغ في األفق ‪ ،‬وحاول – في حين غفلة منه – أن يخترق أسوار صداقتهما وأن يعتلي‬
‫قلعتهما الحصينة فتقرب منهما وبدأ يالزمهما ووجد انجذابا من أحد الصديقين الذي حاول أن يقربه منهما وفي لحظة طيبة قال‬
‫الصديق لصديقه في حضور الصاحب الثالث ‪ :‬إننا سنتقابل الليلة في بيتك ‪ ،‬أليس كذلك ؟ فرد صديقه – في حضور صاحبنا‬
‫– نعم طبعا هذا لقاؤنا األسبوعي الذي اعتدناه ‪ ،‬فقال األول ‪ :‬فما رأيك أن يأتي معنا صاحبنا فالن ؟؟ ‪ -‬يقصد الصاحب‬
‫الثالث ‪ ،‬فسكت صديقه ولم يجب السؤال ثم أدار دّفة الحوار وصاحبنا ينتظر في لهفة ممزوجة باألسى من موقف الصديق‬
‫البارد !! ‪ ،‬فتعلل صاحبنا ببعض شأنه ليستأذن في االنصراف ‪ ،‬وانصرف حزينا مكلوما وقرر أن يبتعد عن هذين الصديقين إلى‬
‫األبد !! ‪ ...‬أما الصديق البارد فتساءل بعد زمن عن سر ابتعاد الصاحب عنهما على غير عادته ‪ ،‬ولم يدر في َخَلده أنه هو‬
‫السبب في بعده عنهما على رغم أن السبب أوضح من شمس الظهيرة ألصحاب اإلحساس والقلوب المشبعة بالدماء ! ‪ ..‬إنه‬
‫أخطأ خطأ سلبيا بأنه ترك ما ينبغي له قوله بأن يوافق على اقتراح صديقه باصطحاب الصاحب معهما ‪ ،‬لو فعل ذلك النتهت‬
‫المشكلة من البداية ولكنه آثر االنغالق مع صديقه و رفض محاولة صاحبنا االنضمام إلى ركب صداقتهما و ّأنى له ذلك وهو‬
‫ليس له من الزمن و ذكريات الماضي ما يؤهله لهذا !! ‪ ...‬القضية هنا معقدة ؛ فحسن ظن صاحبنا جعله يندفع ويطلب مكانا‬
‫منفردين كعادتهما‬
‫َ‬ ‫ليس له ! كما أن الصديق البارد كان بين نارين نار التضحية بتلك الليلة الجميلة التي سيقضيها مع صديقه‬
‫المحبوبة و نار إحراج ذلك الصاحب الدخيل عليهما ! فاختار إحراجه لئال يضحي تلك التضحية الغالية !! ‪..‬‬
‫الدرس المستفاد من هذه القصة القصيرة أن الخطأ السلبي قد يكون له أثر مؤذ و مدمر أكثر من الخطأ اإليجابي ؛ فالخطأ‬
‫اإليجابي أوضح عند أغلب الناس من السلبي فيغفلون عن الثاني أكثر من األول فتكثر معه المشكالت كما أن رد فعل المَق َّ‬
‫صر‬
‫في حقه غالبا سيكون من جنس الخطأ السلبي أي سلبي مثله بأن يجتنب صديقه فجأة بال لوم أو عتاب فتتعقد األمور أكثر‬
‫أكثر ‪......‬‬

‫‪210‬‬
‫على األصدقاء أن ينتبهوا للخطأ السلبي ‪ ،‬فالصديق الذي يهجره صديقه فجأة عليه أوال قبل كل شيء أن يحسن الظن بصديقه‬
‫يقدم له االعتذار قبل أن يعرف السبب ألنه يحبه و ال يجد طعما للحياة‬
‫و يتهم نفسه ويراجع نفسه ويعزم حين أول لقاء به أن ّ‬
‫بدونه ولنقعد سويا و لنتناقش ولنتحاور لنجد مخرجا لألزمة بكل تواضع وحلم من الجانبين ‪ ...‬أما الصديق الذي ارتكب صديقه‬
‫خطأ سلبيا تجاهه عليه أن يتذكر الركن األصيل من أركان الصداقة وهو العتاب الذي ال تهلك معه صداقة ! فعليه حين يجد‬
‫شيئا من صديقه أن يذهب إليه ويواجهه بخطئه لتُحل المشكلة في أولها بكل لين ويسر وعليه أن يترك االجتناب المفاجئ ما‬
‫استطاع إلى ذلك سبيال وما استمرت الثقة بينهما ‪ ،‬ألن كبت األحقاد في النفس و ترك العتاب من أجلها يجعلها تتراكم يوما بعد‬
‫يوم حتى تصير جباال من الكراهية وتنتظر اللحظة المناسبة لالنفجار كأفظع بركان ثائر فيهلك األخضر واليابس !!‬

‫‪ -6‬كبت مشاعر اللوم‬

‫خزنوا ذلك الغضب والحزن في خزائن نفوسهم وكبتوا مشاعر الحزن‬ ‫أحبائهم ّ‬
‫ابتلى هللا صنفا من البشر بأنهم إذا ما غضبوا من ّ‬
‫بين ضلوعهم ولم يواجهوا الحبيب باللوم أو العتاب بل سايروه حتى سارت عجلة الحياة و التعامل كما هي كأن األمور لم تتغير‬
‫ِ‬
‫تشتك أو تئنّ !! ولعل هذا الصنف له أسبابه في ذلك الظاهرة والباطنة ! فمنهم من يعجز عن المواجهة ‪ ،‬هو‬ ‫وكأن النفس لم‬
‫أصال غير قادر على أن يواجه صديقه بما يدور في صدره ‪ ،‬ربما لضعف في نفسه أو ضعف أمام صديقه يجعله مغلوال ساكنا‬
‫غير متجرئ على اإلفصاح والمواجهة !‬
‫و هذا هو السبب الباطن أما السبب الظاهر فمنهم يتعلل بأنه على تلك الحال ألنه يلتزم بالعفو و الصفح و يزعم أن كثرة‬
‫العتاب واللوم تكدر صفو العالقة و تثير النفوس الساكنة المطمئنة فهو يلزم السكوت عن صديقه مدعيا أن ذلك يحفظ له اإلخاء‬
‫والصداقة !! ‪..‬‬
‫وقد رددنا على تلك الشبهة بما يكفي من قبل ‪ ،‬وأكدنا على أن دوام األلفة والمحبة من دوام العتاب و المراجعة ‪ ،‬ولكن األمر‬
‫الواقع أمامنا اآلن هو ترك العتاب إما لسبب باطني و إما لسبب ظاهري ‪ ،‬وتحليل هذا األمر كما يلي ‪:‬‬
‫أوال هذان الصنفان من الساكتين عن إخوانهم ال شك أنهم أناس طيبون نفوسهم زكية وطبائعهم راقية عالية ! فأصحاب السبب‬
‫الباطني النفسي بلغت نفوسهم درجة من الطيبة أنهم صاروا ضعفاء أمام إخوانهم فالطيبة أورثتهم الضعف والخوف ! وأما‬
‫أصحاب السبب الظاهري فعندهم من روح الحب و الصفاء ما جعلهم يتصدقون بأنفسهم في سبيل إخوانهم وكأنهم بلسان حالهم‬
‫صفحت !! ‪...‬‬
‫ُ‬ ‫غفرت و‬
‫ُ‬ ‫يقولون ‪ ،‬يا صديقي افعل ما شئت فقد‬
‫ثانيا أصحاب السبب النفسي غالبا هم يعانون من االكتئاب الظاهري أو ّ‬
‫المقنع ‪ ،‬فعدم الجرأة على مواجهة الناس عموما و كبت‬
‫مشاعر اإلنكار و الحزن من السمات االكتئابية التي وصفها النفسيون بناء على مشاهداتهم و استماعهم لمرضاهم ‪..‬‬
‫ثالثا كبت المشاعر السلبية عموما قبل أن تكون من سمات المكتئبين هي من سمات المرأة أو الصفات َ‬
‫الزْهرية – على حسب‬
‫تعبير جون جراي – فالمرأة عنده تتعامل بمبدأ النقاط مع الطرف اآلخر فهي تبذل الود بقدر أربعين نقطة مثال ثم تجد الطرف‬
‫اآلخر قد رد بعشر نقاط فتكون الحصيلة ثالثين مقابل صفر ! أو ربما يرد الطرف اآلخر بنقاط سالبة أو تصرفات تثير حزنها و‬
‫غضبها فتكبتها و يزداد عندها فرق النقاط و تظل تكتم ذلك الشعور إلى اللحظة المناسبة ! ‪...‬‬

‫‪211‬‬
‫ولكن ما نتيجة كل تلك التخزينات و ما ثمرة هذا الكبت المتزايد ؟؟؟ ‪....‬‬
‫إن الكبت يولد األلم النفسي المتزايد في نفس صاحبه فيجد نفسه يغلي و يهتز وهو ال يدري السبب الواضح لذلك ! فيحدث‬
‫االكتئاب الظاهري أحيانا والمقنع أحيانا أخرى وهو الذي يعبر عن نفسه بأعراض جسمية بدنية بدل النفسية فتزداد حيرته ودوامته‬
‫التي ال يفهم من أين جاءت إلى أن يتغمده هللا برحمته ! ‪ ...‬ولكن الكبت المتزايد كذلك نتيجته االنفجار ! ‪ ،‬انفجار الصديق في‬
‫المروع الذي يقف أمامه الصديق اآلخر مذهوال ال يجد سببا مقنعا لهذا االنفجار ! حتى أصحاب‬
‫ّ‬ ‫وجه صديقه وصراخه الهائل‬
‫العّلة الطيبة في السكوت عن أصدقائهم ‪ -‬بأنهم ال يريدون العتاب خوفا من الشقاق ‪ -‬يأتي اليوم الذي ينفجرون فيه من حيث‬
‫ال يدرون حينها يكون قد وقع الكبت بل تراكم و تعاظم فانقلبت حجتهم الطيبة البريئة إلى نتيجة االنفجار البركاني الذي سكن‬
‫حملوا نفوسهم ما هو فوق طاقتها و وسعها ‪ ،‬وأما الفتيات الزهريات المعتادات على‬‫السنوات الطوال ! وما ذلك إال ألنهم ّ‬
‫تخزين المشاعر السلبية بمبدأ النقاط يأتي اليوم الذي يتعاظم فيه فرق النقاط عندهنّ فتنفجر باكية منتحبة أمام صديقتها أو أمام‬
‫زوجها ولعل هذا – يا للطرفة – سبب التعبير النبوي عن النساء بقوله – صلى هللا عليه وسلم – ( يكفرن العشير ) وهو قولها (‬
‫ما رأيت منك خي ار قط ) وما هذه األلفاظ والتعبيرات إال نتاج تراكم فرق النقاط الذي أدى إلى االنفجار !! سواء في وجه‬
‫الصديقة أو وجه الزوج ! ‪....‬‬
‫المنف َجر فيه ليس بالهين ويحتاج لنفوس طيبة هادئة مطمئنة تفكر تفكي ار عميقا لتستطيع إيجاد سبب‬
‫إن االنفجار عالجه عند َ‬
‫االنفجار ‪ ،‬إن االنفجار ال يحدث بدون مشعل ‪ ،‬هناك سبب ‪ ،‬ال بد من سبب ‪ ،‬العقول المتزنة تستنتج ذلك و تحاول عالج‬
‫األمر بتهدئة الطرف اآلخر ووضع اليد على سبب المشكلة ال مقابلة االنفجار البركاني بانفجار نووي !! ‪ ،‬حين تحدث التهدئة‬
‫وتوّقع الهدنة بين الطرفين يبدأ الحوار والنقاش وتحل كل عقدة و يعود األصدقاء إلى الركن الحصين و المسكن األمين إنه‬
‫العتاب ‪ ....‬ثم العتاب ‪ ...‬ثم العتاب ‪...‬‬

‫‪ -7‬ال َغيرة‬

‫الغيرة ‪ ..‬ما الغيرة ؟ ما كنهها و ما طبيعتها ؟ ما سببها ودافعها ؟ و ما أثرها على الصداقة ؟‬
‫إن الصديق الذي يغار على صديقه في المقام األول هو المحب الذي يتدفق حب صديقه في مجرى دمه حتى يصل إلى كل‬
‫خلية من خاليا جسمه ! هو اإلنسان الذي تمكن حب صديقه منه حتى استولى عليه و غمر كل أركانه ! ‪ ،‬هو الذي يحب بال‬
‫حدود ‪ ،‬بل حب صديقه يزداد يوما فيوما في قلبه حتى يتضخم قلبه مما يسعه من محبة وعشق ! ‪ ،‬حب صديقه ملكه و‬
‫استعبده وهو راض سعيد مطيع يجد المتعة والبهجة في هذه الحال ! بل كما ملكه ذلك الحب شعر هو أنه امتلك صديقه كذلك‬
‫المحب الغارق في‬
‫ّ‬ ‫الحد بل جعل‬
‫فصار له هو وحده وليس من حق أحد أن يشاركه فيه ! ولكن هذا الحب لم يقف عند هذا ّ‬
‫حبه يهمل كل الناس سوى صديقه حبيبه وكلما ازداد حبه لصديقه ازداد بعده عن الناس حتى صار صديقه األنيس الوحيد و‬
‫السمير المتفرد والرفيق ال رفيق سواه ‪ ،‬وعندما وصل ذلك المحب إلى تلك الحال ازداد تشبثه بصديقه خوفا من أن يفقده ‪ ،‬تأتي‬
‫في باله فكرة ترك صديقه له فتتزلزل أركانه ويصيبه الرعب والهلع من هول هذا المشهد التخيلي الذي يكاد يخنقه و يكتم أنفاسه‬

‫‪212‬‬
‫! ‪ ،‬فيزداد إمساكه به ألن فقده معناه الضياع ! تركه معناه فقد كل شيء ‪ ،‬إنه َب ُعد عن بقية الناس ليتفرغ له و ينشغل به فإن‬
‫ضاع الصديق ضاعت معه الصلة بكل البشر ! إن فقد صديقه سيعيش من بعده وحيدا ضائعا ال أنيس له وال جليس ‪ ،‬كل تلك‬
‫الهواجس جعلت ذلك الصديق يخشى على صديقه من أي شيء ! ‪ ،‬يخشى عليه من أي خطر يهدد صداقتهما ‪ ،‬أي إنسان‬
‫يحاول االقتراب من صديقه ويشعر بميل صديقه إليه يشعر بالتهديد لصداقته من هذا اإلنسان ‪ ،‬بل تزداد مخاوفه وتكاد تدهس‬
‫صدره حين يشعر بأدنى تفضيل ظاهري من صديقه لهذا اإلنسان عليه ! حينها تثور ثائرته و يلبس أل َمته ( سالحه ) ويمتطي‬
‫ويختطف منه ! ولكن إلى من سيوجه صديقنا سالحه ؟ هل‬ ‫وينهب ُ‬‫جواده و يحارب مدافعا عن حماه الذي يشعر أنه ُيسلب ُ‬
‫صبا ‪،‬‬
‫سيوجهه نحو العدو الذي أراد اختطاف صديقه ؟ ‪ ،‬ال ‪ ،‬إنه سيوجه سالحه نحو صديقه نفسه ! ‪ ،‬سيصب عليه الغضب ّ‬
‫سيوبخه ويؤنبه و يمطره باالتهامات ‪ ،‬وهنا تحدث المشكلة بين الصديقين بين صديق أصابه االندهاش من رد فعل صديقه‬
‫الهجومي عليه بال ذنب و ال جرم ظاهر سوى هواجس ال أصل لها وال دليل انقلبت إلى اتهامات قاسية ال تطاق وال تحتمل وبين‬
‫صديق آخر بدأ يفقد الثقة في صديقه و بدأ يشعر بدنو أجل تلك الصداقة الجميلة فانفجر صارخا لعله ينقذ آخر أمل فيها !! ‪..‬‬
‫إن حديثنا هنا ليس عن الغيرة التي لها أصل فمصير صداقة صاحبها إلى الهالك ‪ ،‬وإنما حديثي عن الغيرة التي يوقن المغير‬
‫عليه أنها هواجس و أخيلة ال أساس لها فيحتاج لموقف سليم أمام صديقه ‪ ،‬إن الصديق الذي يغار عليه صديقه حتي يصير‬
‫مغيا ار ‪-‬عليه في المقام األول أن ينتبه أن موّلد تلك الغيرة األول هو الحب العارم ‪ ،‬والغيرة ما هي إال عالمة إيجابية و مؤشر‬
‫ناضج على قوة العالقة و تعمق االرتباط والتعلق ‪ ،‬لذا إذا وجد من صديقه مالمة نابعة من َغيرة فعليه أن يفرح أشد الفرح فقد‬
‫بلغ المقام األسمى والدرجة العليا لدى قلب صديقه ‪ ،‬لقد نجحت الصداقة أشد النجاح و بلغت الذروة واعتلت القمة فهل هذا‬
‫يجلب الغضب أم يجلب السرور والحبور ؟؟؟؟‬

‫إن النفسيين يعبرون عن الغيرة المرضية بأنها حب التملك واالستحواذ على المحبوب وإنني هنا أتساءل ّ‬
‫ملحا لماذا يرغب‬
‫اللعب نابع من‬
‫اإلنسان في امتالك إنسان آخر ؟ إن حب امتالك المال عند البشر نابع من حبهم للمال وحب األطفال المتالك َ‬
‫حبهم لذات اللعب وحب المرأة المتالك الحلي ما هو إال ترجمة لحب الحلي حبا جما فلماذا نسيء قضية حب االمتالك ونعتبر‬
‫ّ‬
‫حب امتالك األشخاص جريمة تستحق أشد العقاب وتنصب من أجلها المشانق !!‪....‬‬
‫المغير عليه فطن هذا األمر وأدرك مغزى الغيرة فسارع إلى صديقه الغضبان مداويا الجرح وملطفا األلم علم أن شك‬
‫إن صاحبنا َ‬
‫صديقه في حبه وإخالصه في لحظة ضعف جعله يخشى انشغاله بغيره فبادره بترديد و تأكيد معاني الود واالعتراف بالحب ‪،‬‬
‫أسمعه كلمة الحب التي كان يحتاج لسماعها لتزول مخاوفه ‪ ،‬والصداقة تحتاج إلى تجديد ‪ ،‬والحب يحتاج إلى جالء ‪ ،‬وجالء‬
‫التحاب و يتج ّذر التآخي ‪...‬‬
‫ّ‬ ‫الحب والصداقة تكرار االعتراف بالحب لئال يجد الشيطان مدخال إلى ثغور النفس الضعيفة فيبقى‬
‫وية أو أنانية شديدة تجعل الغائر يريد أن يحبس‬
‫إن الغيرة المرضية بصورة مبالغ فيها عرض نفسي شائع قد يتحول فعال إلى أنا ّ‬
‫المغير عليه و يستولي عليه وحده بغير متنفس مع زمالء أو أقارب فيكتم أنفاسه و يحيطه بسياج محكمة مخافة أن يفلت من‬
‫قبضته ‪ ،‬إنه الحب الجارف حين تجاوز الحد المحمود إلى الحد المذموم ‪ ،‬ولكن المحب المخلص المتعلق بصديقه الغيور‬
‫حين تظهر عليه أمارات الغيرة الالفحة يسارع بإطفاء النار و إخماد جذوتها بماء الحب ‪ ،‬أما الصديق الزائف فيجد غيرة‬
‫المج ِهز ليجد ذلك علة للتخلص منه وكأنه بلسان حاله يقول ‪ :‬قد صبرت‬
‫صديقه عليه ُحجة إلمطاره باالتهامات النفسية والهجوم ُ‬

‫‪213‬‬
‫عليك صديقا ورضيت بنصيبي صامتا أما اآلن وقد تجاوزت حدودك فهي فرصتي ألنال حريتي من رق تلك الصداقة فلن أحتمل‬
‫أكثر من ذاك !! ‪ ....‬فشتان ما بين صديق حق وصديق زائف !! ‪.....‬‬
‫إن الصديق المغيار كما أن حبه عارم و أنه يخاف ضياع صداقته ويرتعد لذلك و تقل ثقته في حب صديقه له في لحظات –‬
‫مهتزة فهو في عقله غير الواعي يرى نفسه صغي ار أو يخشى أن يتحول إلى صغير ‪ ،‬ال يثق بأنه يكفي أن‬
‫كذلك ثقته في نفسه ّ‬
‫يكون خليال لخليله ويخشى أن يكون غيره سابقا له و عاليا فوقه – خصوصا الشخص الذي يغار منه – فيتجلى جزء من العالج‬
‫هنا بحاجة ذلك الصديق إلى الرفع من شأنه على لسان صديقه لتتجدد عنده الثقة في مكانته العليا عند نفسه وعند صديقه‬
‫فيرتاح باله وتهدأ نفسه وتستقر الصداقة !!‬
‫أخي ار ‪..‬اإلنسان الغيور صنف من البشر يحتاج لتعامل خاص وإن لم يجد تلك الخصوصية من صديقه وحبيبه فأين يجدها ؟؟‬
‫‪ ..‬تلك هي الحكمة في التعامل بين األصدقاء المخلصين ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خي ار كثي ار وما يذكر إال أولو األلباب )‬
‫‪...................‬‬

‫بوادر الصفاء و بوادر الخطر !‬

‫حينما ينسج العنكبوت شباك الخالف والقطيعة بين الصديقين يبادر أحد الصديقين بتقطيع تلك الخيوط الخبيثة و ينسفها نسفا‬
‫مباد ار صديقه بالصلة والمودة ‪ ،‬يأتي إليه متواضعا مستكينا طالبا الصلة وراجيا عود العالقة كما كانت ليس ضعفا وال حماقة‬
‫وإنما إبقاء للصداقة و حرص على استمرارها وخوف بل رعب من تحطمها ‪ ،‬في هذا الحين الذي تستولي فيه روح اإلخاء على‬
‫ذلك الصديق المبادر يقبل صديقه اآلخر صلته حياء منه و لوما لنفسه وازديادا في اإلعجاب بصديقه الوفي الواصل ‪ ،‬يقعد كال‬
‫الصديقين قعدة صفاء و هدوء و يتناسيان أسباب الخالف والشقاق بل يدفنانها دفنا سحيقا غير آبهين لها ‪ ،‬في تلك القعدة‬
‫الصافية تتراقص قلوب كال الصديقين ابتهاجا ومسرة بذلك اللقاء الذي حال طول الشقاق دونه ! إنها نشوة ولذة مجالسة الصديق‬
‫التي َح َرَمهما منها الخالف والقطيعة ! ‪ ،‬صحيح أن مدة البعد كانت قصيرة بمقاييس الزمن ولكنها كانت طويلة قاسية على‬
‫نفوس المحبين الصادقين ‪ ،‬يجلس الصديقان ينهالن من ينابيع األخوة الفاضلة يعوضان ما فاتهما ‪ ،‬نعم إنها جلسة تعويض‬
‫‪ ....‬لقد فاتتهما أحداث كثيرة لم يتدارسانها في مدة القطيعة يتذكرانها حدثا حدثا ويلبي كل منهما رغبة اآلخر في معرفة ما فاته‬
‫من متعلقات صديقه التي كان كالهما في وقت الصفاء يعرفانها قذة قذة ال يمر شيء في حياة صديقه بدون أن يعرفه ! ‪ ،‬أخي ار‬
‫اجتمع األحبة وتم لم الشمل و التأم الجرح وطاب محله وعادت المياه إلى مجاريها ! ‪......‬‬

‫ولكن تلك الحكاية الفاضلة المريحة قد ال تحدث ‪ ..‬وحينها تقع عيوننا على بوادر الخطر !! ‪..‬‬
‫حينما تطول مدة القطيعة بين الصديقين يكون ذلك إشارة خطر عظيم ‪ ،‬وياله من خطر ! لقد بدأت تتسلل آفة الجفاء والمالل‬
‫بين الصديقين ‪ ،‬لقد بدأ كالهما يعتاد الفراق و يألفه حتى كاد يستغني عن صديقه ويحيا بدونه و ال يشعر أن شيئا قيما يعوزه‬
‫في حياته !‬

‫‪214‬‬
‫وتسود ويكون الخطر !‬
‫تلك الحال السيئة قد يصل إليها الصديقان من كثرة الخالفات والقطيعة بال نهاية فتقسو القلوب ّ‬
‫بل األخطر أن تحدث تلك الجفوة القلبية من طرف واحد دون اآلخر فيصير الطرف الجافي متنعما بجفائه واآلخر متلظيا بنار‬
‫الحب الباقي في قلبه ! ‪ ...‬فبئس الخطر !‬
‫وحينما تصطبغ خالفات الصديقين بصبغة مادية دنيوية ال نفسية – كما ذكرنا األسباب النفسية من قبل – تكون الصداقة قد‬
‫خرجت عن النص المكتوب لها و تكون على شفا الهاوية ‪ ،‬فاألصدقاء الطيبون أسباب خالفهم دائما قلبية روحية عمادها‬
‫الخوف على ضياع الحب ال الخوف على ضياع نصيب من الدنيا ‪ ،‬الدنيا محلها الزمالة أما الصداقة فليس في وسعها حمل‬
‫ِ‬
‫فأعظم به خط ار !‬ ‫مثقال ذرة من الدنيا ! ‪..‬‬
‫حينما تصيب أمراض القلوب قلب صديق مثل الكبر والغرور يصير عسي ار عليه اللين و الرفق بصاحبه فهو مستمسك بحقه‬
‫المزعوم ال يرضى بأقل منه ‪ ،‬ال يقبل فكرة أنه مخطئ بل يدفعه كبره لعدم التنازل والذهاب لصديقه إلنهاء األمر ‪ ،‬هو في نظره‬
‫منبع الفضيلة معصوم من الزلل أما صديقه فهو المذنب المقصر فال بديل عن أن يأتي ذلك الصديق كسي ار ذليال معترفا بجرمه‬
‫وإال فال صداقة وال وصال !!‬
‫حين يصير اإلنسان ينظر لغيره من برج عال – وغيره قد يكون مقبوال إال الصديق ! – فهذه أكبر إشارة خطر !‬
‫حينما يسيطر الجدال على عالقة الصديقين المختلفين و اإللحاح في الوصول لطرف آثم يجب أن تنزل به العقوبة حينها يكون‬
‫النذير بإضرام نار ال تنطفئ بسهولة وال تخبو ولو انهمر عليها ماء المحيط ! فياله من خطر !‬
‫أفما آن لألصدقاء األصفياء أن يعرفوا إشارات الخطر فيجتنبوها لألبد ؟! ‪...‬‬

‫نموذج للعتاب والتدارك من األدب العربي‬


‫ابن الرومي يعاتب صديقه أبا القاسم الشطرنجي‬

‫يعد بحق من أعظم فقهاء الصداقة وذلك لكثرة شعره في هذه المسألة وهو ما يجعلنا نشعر بامتالكه لنزعة‬
‫إن ابن الرومي ّ‬
‫ص َر َح ْت عن طوية األصدقاء ) في اختيار‬
‫صداقية عالية ‪ ،‬فقد وصلت إلينا مئات األبيات له في هذا الشأن مثل أبيات ( َ‬
‫الصديق والبحث عنه ‪ ،‬وهنا تجلت نزعته الساطعة في عتابه لصديقه الذي كادت تنحل عرى الصداقة بينهما ‪ ،‬وقد ذكرنا من‬
‫قبل أبياته في كيفية عتاب الصديق مجملة في فصل العتاب فكانت كميزان الذهب لنفاستها ودقتها و حان اآلن آوان التفصيل‬
‫في منحى ابن الرومي في عتابه في درس عملي مفصل فيه العظة و االقتداء ‪ ،‬في مائة وخمسين بيتا يعاتب صديقه في روعة‬
‫آثرت أن أقتضبها وآخذ أنفس ما فيها لتصير متوسطة الطول سهلة لآلخذين ‪ ،‬هذه األبيات ليست قصة منفردة‬
‫وبالغة أخاذة ُ‬
‫صة الصداقة بين جميع األصدقاء في كل زمان كما عبرنا من قبل ‪ ،‬هي قصة حدثت‬ ‫لغ ّ‬
‫حدثت وانقضت وإنما هي تجسيد ُ‬
‫وعشت فيها مبح ار بخاطري و ذهني أستحضر أحداثا مضت و شجونا وّلت‬
‫ُ‬ ‫تتبعت أبياتها‬
‫ُ‬ ‫وتتكرر في كثير من الصداقات ‪،‬‬
‫وبقي أثرها إلى اآلن ‪................‬‬
‫فيقول ابن الرومي في مطلع قصيدته ‪:‬‬

‫‪215‬‬
‫ِ‬
‫وعودة‬ ‫ريع ‪ :‬رجوع‬ ‫أين ما كان بين ـنا من صـ ـ ـفاء‬ ‫يا أخي أين ريع ذاك الّلِـ ـ ـ ـ ِ‬
‫قاء‬ ‫َْ ُ‬
‫الصحيح اإلخاء‬ ‫لص‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫أنك المخـ ـ ُ‬ ‫شاهد كان يح ـ ـكي‬ ‫مصداق‬
‫ُ‬ ‫أين‬

‫إنها كلمات تنبع منها الحسرة واألسى ممزوجة بلون االستعطاف ‪ ،‬فالحسرة على تلك اللقاءات المتجددة الماضية التي كانت‬
‫تشرق على حياة الصديقين وتضيء ما بينها من فترات خالية من اللقاء ‪ ،‬حسرة على العالقة الصافية النقية الخالية من كل كدر‬
‫المرجو أنه ال يجف أبد الدهر !‬
‫ّ‬ ‫و المصفاة من كل شائبة ‪ ،‬حسرة على أيام اإلخالص والوفاء المتدفقين في نهر صداقة كان‬
‫‪ ...‬تلك الحسرة أما االستعطاف فواضح من تذكيره صديقه بهذه األشياء الماضية الغالية التي ال ترضى النفس بالتخلي عنها وال‬
‫الزهد فيها مهما حدثت المتغيرات ومهما طرأت الخالفات والمكدرات ‪ ...‬إنه ينطق بتلك الكلمات مشدوها تائها وجال ‪ ،‬يتجلى‬
‫وجله و َش َدهه في تكرار االستفهام أين ‪ ...‬أين ‪ ....‬أين‬
‫إنها الحيرة المخيفة و الكابوس الرابض فوق صدره من انحالل تلك العالقة المشرقة فتظلم الدنيا بكسوفها ويختنق القلب بدخانها‬
‫!‬
‫ِِ‬
‫هنوات ‪ :‬خصاال سيئة‬ ‫يت بره ًة بحسن الل ـ ـ ِ‬
‫قاء‬ ‫ط ْ‬ ‫ُغ ِّ‬ ‫كشفت منك حاجتي هن ـ ـ ـو ٍ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫أسيء الظنو َن باألصـ ـ ـ ِ‬
‫دقاء‬ ‫ُ‬ ‫ئ الـ ـ ـ ـظن‬‫تركتني ولم أكن َسِّي َ‬
‫ْ‬
‫ر َّب شوهاء في حشا حس ـ ـناءِ‬ ‫يني ُش ْنعاً‬ ‫بدت لعـ ـ ـ ـ ـ‬
‫لما ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قلت ّ‬
‫ُ‬
‫فثويتُ َّن تحت ذاك الغـ ـ ـ ـ ِ‬
‫طاء‬ ‫هتكت عنكـ ـ ـن ِست اًر‬ ‫ليتني ما‬
‫ُ‬
‫هة قت ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ماء‬ ‫ظلماء ُشب ٍ‬ ‫قلن لوال انكشاُفنا ما تج ـ ـ ـَّلت‬
‫عنك َ َ ُ ْ‬
‫كاشفات َغو ِاشي الظـ ـ ـ ـ ِ‬
‫لماء‬ ‫ٍ‬ ‫بكن من كاسـ ٍ‬
‫فات‬ ‫أعجب َّ‬ ‫قلت‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫أنه لم يزل على عم ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ياء‬ ‫بم ْهتٍَد يتم ـ ـ ـ ـ َّنى‬ ‫قلن َ ِ‬
‫أعج ْب ُ‬
‫ضالالً وحيرة باهتـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫داء‬ ‫تاهلل ليس مثلي مـ ـ ـ ْن َود‬ ‫قلت َّ‬
‫ًَ‬ ‫َ‬
‫بدالً باستفادة األْنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫باء‬ ‫صـ ـ ـديقي‬ ‫غير ِّأني ِ‬
‫ْ‬ ‫ستر َ‬
‫دت َ‬ ‫ود ُ‬
‫وخل الهوى لقْل ٍب هـ ـ ـ ـ ـو ِاء‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫فعرْج على الـحق‬ ‫هوى ّ‬ ‫ُقْلن هذا ً‬
‫الدهر كامـ ـ ـ ـ ـ ُن األدو ِاء‬ ‫َ‬ ‫َّأن ُه‬ ‫تود لخ ـ ـ ـ ـ ٍّل‬
‫الحق أن ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ليس في‬
‫و َّإال فأنت كالب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ِ‬ ‫الحق أن تُنِّقر عن ـ ــْهن‬
‫داء‬ ‫ُ َ‬ ‫ِّ‬ ‫بل من‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫الش ِ‬ ‫ُس ِّ‬‫ِء َأل ُّ‬ ‫بيب عن ِ‬ ‫َّ‬
‫الشفاء‬ ‫فاء قب ـ ـ ـل‬ ‫داء ذي َّ‬
‫الدا‬ ‫إن َب ْح َث الط ِ ْ‬
‫بهما ُك َّل خَّل ٍة عوج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫اء‬ ‫فقوم‬ ‫اب ِّ‬
‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫ف والعتـ ـ َ‬ ‫الك ْش َ‬
‫ُدونك َ‬
‫ت بمستعذب لدى األحـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ياء‬ ‫ُقْل ُت في ذاك َم ْوتُكـ ــُ َّن وما المو‬
‫ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫تزد في المـ ـ ـ ـ ـ ـر ِاء‬ ‫بحق فال ْ‬ ‫ن ٍّ‬ ‫الموت بالكـ ـ ـريه إذا كا‬ ‫ُ‬ ‫ُقْلن ما‬
‫ثم يضع صاحبنا يده على مكمن الجرح و مسبب األلم ‪ ،‬فيفصح متألما أن الكربات التي خلت منها الصداقة طويال لم تلبث أن‬
‫عرت صديقه و أوضحت سوء خلقه و سوء تصرفه ‪ ،‬فكأنه أفاق من حلم طويل حتى‬
‫جاءت بأثقالها فجاءت كاشفة فاضحة ‪ّ ،‬‬
‫‪216‬‬
‫استيقظ على الحقيقة التي طالت تغطيتها عينيه حين كان ال يحسب لها حسابا وال يتخيل أن الصديق يكون في هذا الموضع‬
‫الشائن لحسن ظنه المطلق في من اصطفاه خليال مقربا حبيبا !! ‪...‬‬
‫ثم أتى صاحبنا بمحاورة لطيفة بينه وبين الكربات الكاشفات وهي التي وصفها بأدق وصف بأنها كالروح القبيحة الكالحة السوداء‬
‫التي يغطيها في الظاهر جسد امرأة جميلة حسناء ‪ ،‬فكان الظاهر محمودا وكان الباطن كريها كباب المنافقين يوم القيامة‬
‫ولكنه ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب !! ‪ ،‬هي حسناء محمودة ألنها كشفت له صديقه وعرته عن كسائه الزائف و‬
‫لكنها شوهاء ألنها صدمت قلبه وحطمت مهجته وقلبت كيانه فياليت الكربة ما حدثت لئال أفيق من هذا الحلم الجميل !! ‪....‬‬
‫منت عليه بأنهن من جّلين له الحقيقة واضحة فما هذا التناقض و ما ذاك التخبط ؟ أيتمنى‬ ‫فتعجبت الكربات من تمنيه زوالهن و ّ‬
‫اإلنسان أن يسير أعمى وبيده أن يسير بصي ار ؟ فرد بأنه ليس بمتمني الضالل ولكنه يريد راحة الخاطر والبال ! يريد أن يستمر‬
‫حلمه المزهر دائما فقد اعتاد حالوته و راق له طيبه وال يتصور الحياة بغير صديقه و احتضار الصداقة احتضار للجسد معا !‬
‫و أحيانا يكون ستر الحقائق مريحا للبال و إغالقا ألبواب قد تجلب الريح العاتية فياليت تلك األبواب ما انفتحت ! فبادرته‬
‫ألم بالصداقة داء وأول العالج لذاك الداء هو تشخيصه ومعرفته معرفة ممحصة مدققة فالتشخيص هو‬ ‫الكربات مجيبة بأنه قد ّ‬
‫أول الطريق في رحلة البرء والعالج وهاك العالج أيها التائه المسكين هو حبل تعلق به لعلك ال تغرق ‪ ،‬هو العتاب والكشف ذلك‬
‫العالج الذي ما حاد عنه صديقان إال خس ار صداقتهما سريعا عالج يسير على من يسر هللا له ولكنها النفوس التائهة العابثة‬
‫التي تفر من دوائها وتستجير من الرمضاء باللهيب ! ‪ ..‬ولكن صاحبنا استغرق في الجدال وتعجب قائال ‪ :‬كيف أيتها الكربات‬
‫موتكن ؟ أتؤثرن الموت على عالم الحياة ؟! فأفحمنه ردا ‪ :‬إن الموت قد يكون حقا كما أن‬
‫ّ‬ ‫تنصحنني بشيء فيه زوالكن و‬
‫الحياة قد تكون حقا !! ‪..‬‬

‫يك حظاً كسـ ـ ـ ـائر الب ِ‬


‫خالء‬ ‫تهب لي من َسع‬ ‫يا أخي َه ْب َك لم‬
‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫للنفس راحـ ـ ـ ـ ٌة من ع ِ‬
‫ناء‬ ‫فيه ّ‬ ‫يل‬ ‫أََفال كان منك ٌّ‬
‫َ‬ ‫رد جم ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫وة حتَى يظ ـ ّل كالعـ ـ ـ ـ ـ ْشو ِاء‬ ‫إيطاؤهُ العـِشـ‬ ‫ُ‬ ‫الصديق‬ ‫اء َّ‬ ‫أجز ُ‬‫َ‬
‫الصحاب والشــُّ ِ‬
‫فعاء‬ ‫ِ‬
‫يك دون ّ‬ ‫َ‬ ‫سعَيه ِاتّ ـ ـكاالً على َس ْعـ‬ ‫تاركاً ْ‬
‫الس ـ ـ ـ ِ‬
‫قاء‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫َيل حتى هراق ما في ّ‬ ‫السراب بما خ ـ ـيـ‬ ‫غره َّ‬ ‫كالذي َّ‬
‫الر ِ‬
‫جاء‬ ‫ط ْع َت َم ْتـ ـ ـن َّ‬ ‫دهري َق َ‬ ‫هل ْ‬ ‫يا أبا القاسم الذي كنت أرجـو‬
‫نمرت لي مع األع ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫داء‬ ‫سألت أخـ ـرى َعواناً‬
‫ََ‬ ‫لتَ َّ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َق َسماً لو‬
‫ض أَجفانـ ـ ـ ـها على األ ْق ِ‬
‫ذاء‬ ‫َغ ُّ‬ ‫أنت عيني وليس من حق َعـيني‬ ‫َ‬
‫ر َي ُح ُّل الفتى ُذ ار اْلعـ ـ ـ ـ ـْلياء‬ ‫أمثال ما أتيت مـ ـ ـن األم‬ ‫ما ِب ِ‬
‫س وال يشتري جميل الث ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ناء‬ ‫المحامد في النـ ـا‬ ‫ِ‬ ‫يكسب‬ ‫ال وال ْ‬
‫َ‬

‫يسلك ابن الرومي هنا مسلكا جديدا للولوغ إلى قلب صديقه فهو يريده أن يتخيل أنه ليس بصديقه وليس صفيا خليال ولكنه كبقية‬
‫الناس من المعارف والزمالء – وهو هنا يستفزه ويثيره ويهيجه بوضعه في منزلة أدنى من منزلته األصلية فيرجع رجوعا حميدا‪-‬‬

‫‪217‬‬
‫يقول ‪ :‬لو لم أكن أخاك وصفيك أفال كنت تعاملني معاملة البر و حسن الجوار كما تعامل بقية الناس ؟! يا أخي أنت هذه‬
‫بمديته الحادة فهو تخلى عنه في‬
‫فهال جعلتني مثلهم ؟!! ‪ ،‬ثم يعود ليضغط على الجرح الذي شقه صديقه ُ‬
‫حالك مع بقية الناس ّ‬
‫وقت شدته ولو كان األمر كذا وكفى لكان أهون ولكن المصيبة أن ابن الرومي ظن صديقه هو المعين الوحيد الذي سيتكئ عليه‬
‫فتخلى عن بقية أسباب النجاة مؤمال في صديقه ففوجئ بصديقه يتركه حتى انقطعت كل أسباب النجاة تماما مثل الذي رأى‬
‫السراب في المفازة فهرول إليه ملقيا كل بقايا الماء معه مؤمال أن الماء سيغنيه عن تلك البقايا القليلة فراحت البقايا و ظهر‬
‫السراب على حقيقته ففني الماء وانقطعت أسباب النجاء !! و انتهى آخر أمل وآخر رجاء ! ‪.....‬‬
‫فيهز قلب صديقه بتشبيه مكانته عنده بمكانة عينه التي ال يرضى فيها بأي قذى تماما مثل صديقه الذي ال‬
‫ثم يعود ابن الرومي ّ‬
‫يحتمل منه أقل جفاء أو ترك وفاء !‬
‫ثم يضرب ابن الرومي على وتر آخر بعيد عن مسألة الصداقة وهو مكارم األخالق و الشرف والسؤدد و يخاطب عقله متسائال‬
‫هل ما فعلتَه معي يرفعك عند هللا وعند الناس أم يضعك في أسفل األسافل من الناس األوغاد األنذال ؟؟!!! ‪....‬‬

‫وحاء ‪ :‬سرعةِ‬ ‫ف خمسين ضرب ًة في َو َح ـ ـ ـاء‬ ‫ُخْل َ‬


‫الضربة التي هي غيـ ـ ـ ـ ٌب‬ ‫أتُرى َّ‬
‫بالصناديد أيَّما إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ِاء‬
‫َّ‬‫وتْلوي‬ ‫دياً ُ‬ ‫هزم الجمع أوحـ ـ ـ ـ ـ ّ‬ ‫تَ ُ‬
‫الفرزون ‪ :‬الحصانِ‬ ‫الرخ ‪ :‬الطابية‬ ‫شدة استـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعالء‬ ‫ط ِّ‬ ‫وتح ُّ‬
‫ن فتزداد َ‬ ‫الفـ ـ ـ ـ ارزيـ‬
‫اخ بعد َ‬ ‫الر َخ َ‬ ‫َ ُ‬
‫الالعبين بالبـ ـ ـ ـ ـ ـأسـ ِ‬
‫اء‬ ‫أخ ُذ َك ّ‬
‫ْ‬ ‫ُربَّما هالني وحيَّر عـ ـ ـ ـ ـ ـقلِي‬
‫رقعة األدم ‪ :‬رقعة الشطرن ِج‬ ‫ض َعَّللتـ ـ ـ ـ ـ ـها بدماء‬‫ـمر ْأر ٌ‬ ‫األح ـ‬
‫أن رقـ ـ ـ ـع َة األ ََد ِم ْ‬ ‫وأرى ّ‬
‫الل ِ‬
‫عباء‬ ‫بأنفـ ـ ـ ـ ـس ُّ‬ ‫ـرنج لكن ُ‬ ‫بالشـِط‬
‫الناس لست تلعب ّ‬ ‫ط ُ‬ ‫غل َ‬
‫النكر ِاء‬ ‫طبَّا ِ‬
‫بالقتـ ـ ـ ـ ـ ـْلة ّ‬ ‫عة َ‬ ‫الشاه حيث ِشئ ـت من ُّ‬
‫الرق‬ ‫تَْق ُتل َّ‬
‫ُ‬

‫اللب فصديقه العب بارع في الشطرنج يهزم من يالعبه أشد الهزائم‬


‫ثم يأتي ابن الرومي – وهي عادته – بصورة بيانية تأخذ ّ‬
‫يهزمهم فرادى و جمعا غير آبه وال هياب ‪ ،‬فتعجب ابن الرومي من بأسه في الشطرنج الذي انعكس على روحه وخلقه مع‬
‫صديقه المقربين فصار كما يحطم اللعباء بقهرهم وإذاللهم يحطم ويذل أصدقاءه و يقهر قلوبهم و يأسر مهجهم وخواطرهم ‪،‬‬
‫وكما ُيسيل دماء قطع الشطرنج يسيل دماء قلوب أخالئه المساكين الذين يقعون فرائس وضحايا لتالعبه بهم ‪ ،‬فأنت يا أخي كما‬
‫تالعبت بمالعبيك وقهرتهم تالعبت بي و حطمت قلبي الجريح حتى أرديتني صريعا تماما مثل الشاه الذي تحاصره وتقتله القتلة‬
‫النكراء !! ‪...‬‬
‫ط ٍة عوصـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫اء‬ ‫عنه مكنو ُن خ َّ‬ ‫يا أبا القاسم الذي ليس يخ ـ ـ ـَفى‬
‫َْ‬ ‫ُ ُ‬
‫ِ‬
‫األنحاء‬ ‫وسواهُ من غامـ ـ ـ ـ ـض‬ ‫ذكرت ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّلياً‬ ‫أتَ َرى كل ما‬
‫ُ‬
‫بالغ ِ‬
‫الء‬ ‫عز ِمثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُله َ‬
‫ُرَّبما َّ‬ ‫ديق‬
‫ثم َي ْخَفى عليك ّأني ص ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫ت بصي اًر في ل ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫يلة َقمر ِاء‬ ‫مر اإلله لكن تعـ ـ ـ ـ ـاشيـ‬
‫َ‬ ‫ال َل َع ُ‬
‫غر ِاء‬
‫ضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـحوٍة ّ‬ ‫نها اًر في َ‬ ‫تعام ْي َت غير أعمى عن الحـ ـق‬ ‫بل َ‬
‫‪218‬‬
‫حقو َق الكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام ُّللؤماء‬ ‫ِ‬
‫الزمان الذي ابـ ـ ـتَز‬ ‫ظالماً لي مع‬
‫ثم ينتقل ابن الرومي بعد نبرات االستعطاف و الذم والتحامل و التهكم إلى نبرة االعتزاز بالنفس و الترفع واالستعالء – مثل‬
‫المتنبي كما مر بنا في عتابه سيف الدولة – فأنا يا صديقي العزيز صديق مخلص يعرف حق الصداقة و أنت تعلم جيدا أن‬
‫تلك الصفات عزت و ندرت في هذا الزمان كما أن تفردي و شرفي و سالمة قلبي و مشاعري الصداقية العالية أوضح من ضوء‬
‫الشمس ساعة الضحى فلماذا تدعي أنك أعشى مخطوف البصر للتتوارى عني بجفائك و قسوتك ؟!‬
‫وهي عبء من فاد ِح األع ـ ـ ـ ِ‬
‫باء‬ ‫حت‬‫لت حاجتي عليك فأض ـ ـ ـ ْ‬ ‫ثَُق ْ‬
‫ٌ‬
‫اللفاء ‪ :‬كل يسير خسيس حقير‬ ‫ظي لديك دو َن َّ‬
‫الل ـ ـ ـفاء‬ ‫كان ح ّ‬ ‫خفيف ولـ ـ ـ ـ ـ ـكن‬ ‫ولها ِ‬
‫محم ٌل‬
‫ٌ‬
‫تافه األشـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ياء‬ ‫سك شيئاً من ِ‬ ‫مقدار ُحرمتي بك في ن ـ ـفـ‬ ‫كان‬
‫ُ‬
‫الوطـ ِ‬
‫اء‬ ‫لكنه َذم ـ ـ ـ ـ ـيم ِ‬
‫هر َّ‬‫ظ ِ‬ ‫يء ال‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فتَو َان ْيت والتواني َوط ـ ـ ـ ُ‬
‫ِ‬
‫اإلرج ـ ـ ـ ـاء‬
‫لت في حاجتي إلى ْ‬ ‫م َ‬ ‫لكن‬
‫ُّع ْ‬‫كنت ممن يرى التشـ ـ ـ ـي َ‬

‫إنك حين تخليت عني وأهملت حاجتي جفاء منك و قسوة إنما هانت مكانتي عندك في قلبك فصار طلبي منك ثقيال مري ار‬
‫والمحب الصادق حين تعلو مكانة حبيبه تصير طلباته خفيفة هينة محببة إلى النفس يسعى اإلنسان لتلبيتها إلرضاء حبيبه‬
‫متلهفا مشتاقا مبتغيا رضا حبيبه عنه و إن كان اإلنسان ال مكانة له في القلب يصير طلبه من أثقل األشياء على النفس فهو‬
‫تخليت عن‬
‫َ‬ ‫يفر منه ف ارره من األسد وإن أداه أداه مغتما كظيما كاإلنسان الغارم يؤدي دينه مرغما مغلوبا !! ‪ ،‬صحيح أنك حين‬
‫حاجتي خفت األحمال واألعباء عليك ولكن المذمة والعار و المالمة التي ستلحقك ثقيلة ثقيلة فيا حسرة عليك آيبا بخزي فعلك‬
‫وشنيع صنيعك !‬
‫ثم يعود ابن الرومي ليصيغ صورة بيانية خالبة فهو يصور صديقه حين كان يعرف حقوق األخوة بمنتحل التشيع ‪ ،‬والمتشيع‬
‫يرى نصرة آل علي و الصديق الوفي يناصر أخاه و يؤازره و ويذب عنه ويهلك دونه مشابها للشيعة ! ‪ ،‬ولكنه لم يلبث أن ترك‬
‫التشيع وانتحل اإلرجاء ‪ ،‬والمرجئة يؤخرون العمل ويتكئون على اإليمان بغير عمل ‪ ،‬تماما مثل صاحبنا الذي ترك العمل بتركه‬
‫واجبه نحو صديقه وتخليه عن أداء دور الصديق الوفي راكنا إلى ادعائه أنه يحب صديقه و الحب محله القلب تماما مثل‬
‫المرجئة يدعون اإليمان بغير ترجمة عملية من عمل صالح!‬
‫زادني وحش ًة من الخ ـ ـ ـ ِ‬
‫لطاء‬ ‫فأظهرت َبخ ـ ـساً‬ ‫كنت مستوحشاً‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ولكن أصبت صدري ب ـ ِ‬
‫داء‬ ‫يك باللو‬ ‫يز َّ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ضـــــ َ‬‫علي َع ّ‬ ‫وعز ٌ‬
‫فث إنه كالـ ـ ـدو ِاء‬ ‫الن ِ‬‫ه على َّ‬ ‫يت صدر ِخّلِك فاعـ ـ ـذر‬
‫ُ‬ ‫أنت ْأدَو َ‬
‫سم أفديك يا عز َيز الـ ـ ـ ِ‬
‫فداء‬ ‫وأُناديك عائذاً يا أبا ال ـ ـ ـ ـ ـقا‬
‫اللبانة ‪ :‬الحاجةِ‬ ‫وجميل تَعاتُ ُب األكـ ـ ـ ـ ـفاء‬
‫ٌ‬ ‫قد قضينا ُلبان ًة من ع ـ ـ ـ ـ ـتاب‬
‫حاضر الصفح واسع اإلع ـ ِ‬
‫فاء‬ ‫ومع الع ْتب و ِ‬
‫العتاب فإن ـ ـ ـ ـي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫الفهـ ـ ـ ـماءِ‬
‫يك َّأو َل ُ‬ ‫ِ‬
‫تُك َع ّد َ‬ ‫والذي أطلق اللس ـ ـ ـان فعاتَ ْب‬
‫تُك تدعو العتاب باسم الهـ ِ‬
‫جاء‬ ‫أخف منك غلط ًة حين عات ـب‬
‫َ‬ ‫لم ْ‬
‫‪219‬‬
‫صفوِة األص ـ ـفياء‬ ‫غير َ‬
‫صاحباً َ‬ ‫أسوم عتـ ـ ـ ـ ـابي‬
‫وأنا المرُء ال ُ‬
‫ِم وجهل مالم ُة الجهـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫الء‬ ‫الحجا منهم وذا ِ‬
‫الحل ِم وال ـعلـ‬ ‫ذا ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُُ‬
‫داء عي ـ ـ ـ ـ ـاءِ‬
‫يتعاطى عالج ٍ‬ ‫بيب‬ ‫ِِإن من الم جاهالً َل َ‬
‫طـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫منزل قواء ‪ :‬ال أنيس بهِ‬ ‫ٍ‬
‫خالء َقـ ـ ـ ـ ـواء‬ ‫ِم على ٍ‬
‫منزل‬ ‫باللو‬
‫يظل يرَبـ ـ ـ ـع ْ‬‫ممن ُّ‬ ‫لست ّ‬
‫ُ‬

‫إن ابن الرومي يتحدث عن ظاهرة مدمرة للصديق الذي جفاه صديقه ‪ ،‬إنه االستيحاش من بقية الناس ‪ ،‬فالصديق المقرب‬
‫لصديقه هو كل الناس بل كل شيء لديه ! ‪ ،‬الصديق حين يالزم صديقه يهمل بقية البشر ويقل لقاؤه بهم و يزهد فيهم فتقل‬
‫تسود الدنيا في وجهه ويعيش بال أنيس وال جليس ! فال يجد ملجأ إال‬
‫رابطته بكل الناس ما عدا صديقه الذي حين يهجره ويجفوه ّ‬
‫إليه ! وابن الرومي قال في قصيدة أخرى يحكي عن حاله تلك ‪:‬‬
‫علي وما فيـهم ناف ـ ـ ُع‬
‫َّ‬ ‫ولي أصدقاء كثيرو السالم‬
‫لها مطلب نازٌح شاس ـع‬ ‫إذا أنا أدلجت في حـ ـ ـاجة‬
‫وتسليمة وقتها ضائ ــع‬ ‫فلي أبداً معهم وقـ ـ ـ ـفة‬
‫وهذا هنا حال ابن الرومي الذي سيطرت عليه الوحشة فاضطر لكل هذه القصيدة من العتاب الئما تارة و ذاما ومتحامال تارة‬
‫وبدأت‬
‫َ‬ ‫ومستعطفا تارة ‪ ،‬إنه هنا يعلل عتابه الطويل و يضع أسبابا لتهجمه وتحامله على صديقه فأنت يا أخي من دفعتني لذاك‬
‫فت بإثمك وجرمك وإنك‬ ‫ٍ‬
‫بالظلم فال تلمني فالبادئ دائما هو األظلم ! ‪ ،‬إنني حين أعاتبك فال بد أني عاف صافح عنك إذا اعتر َ‬
‫حين تقسم لي أنك أخطأت وأنك لن تعود لذاك تارة أخرى فإنني سأكون أسعد البشر وكيف ال يسعد اإلنسان بعودة روحه إليه‬
‫بعد طول غياب ؟! إنني سأكون مباد ار للصفح – وهو بينه وبين نفسه ليس لديه خيار آخر !– ولن أعاقبك بسوء فعلك سوءا‬
‫بسوء وغلظة بغلظة ‪......‬‬
‫أخي ار يا صديقي الكريم عليك أن تعلم جيدا أنني ما عاتبتك و ما عنفتك إال الستبقائي لك ومكانتك الغالية عندي ‪ ،‬فالعتاب‬
‫مثل الحب ال يمنح إال من يستحقه ! أما الجهول اللئيم فعتابه وضع له في منزلة ال يستحقها ورفع لشأنه وهو وضيع الشأن !‬
‫العتاب يا أخي كالدواء المر تعطيه األم الشفوق لولدها لحبها له ورغبة في شفائه فيظنها بادئ األمر تؤذيه وتعاقبه ولكنه ال‬
‫يلبث أن يعرف الحقيقة حين يشفى ويعرف كيف كانت أمه تحبه و تعطيه الشفاء ال اإليذاء ! الصديق كذلك ال بد أن يتجرع‬
‫يقوم نفسه وتستقيم الصداقة هنيئة قوية تصمد أمام الريح الصرصر العاتية ! ‪..‬‬
‫العتاب من صديقه م ار علقما حتى ّ‬

‫البين !‬
‫أوشك َ‬
‫حينما تزداد المشكالت بين الخدنين ‪ ،‬ووقتما تتعقد األحوال بينهما فتتعسر الحلول ‪ ،‬وحينما يشعر الصديق بألم قلبه و توجعه‬
‫بالجو‬
‫ّ‬ ‫ابتداء في صداقته بصديقه ‪ ،‬حينها تحيط‬
‫ً‬ ‫بدال من النشوة والحبور المقصودين أصال في الصداقة والذين كانا متحققين‬
‫أشباح سود وغربان ُدهم تنذر بتغير كبير و تحول مخيف ‪ ،‬إنها بداية النهاية ! أوشك البين ‪ .....‬ذلك الشعور المرير الذي‬
‫قلت منتحبا ‪:‬‬
‫دهمني وصار غصة ال تنتقل و كد ار ال يندثر يوما من األيام حينها ُ‬
‫أال أوشك البين ال ُم ـ ـ ـ ـ ـعتَ َذر فقلب سقيم كمثل الح ـَ ـ َجر‬

‫‪220‬‬
‫المريد ‪ :‬المتمر‬ ‫أما لمت قلب العنيد الـ ـ ـ ـمريد وإال سـ ـ ـتبكي الـفراق األَ َمر‬
‫اغتدى ‪ :‬صار‬ ‫وكيف الفراق اعتدى واغتـ ـ ـدى نسيم الصباح كحـ ـ ـلم َه َجر‬
‫عنت ‪ :‬ظهرت‬ ‫وعنت براثن ذئب غـ ـ ـَـ َـدر‬
‫ّ‬ ‫أجّفت دموع القطيط الوديـ ـ ــع‬
‫عجر ‪ :‬غلظ‬ ‫ـتد وقل لي أتذكر من قد َع َج ـ ــر‬ ‫فقل لي بربك من معـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫الحدر ‪ :‬الحول‬ ‫فحب صديقك عين الـ ـ َـح َدر‬
‫ّ‬ ‫أذنبي بأني وهبت ـ ـ ـ ـ ــك حبي‬
‫كصفو بماء فصرت الكَـ ـ ـ َـدر‬ ‫ولجت بداري أتذك ـ ـ ـ ــر يوما‬
‫َ‬
‫العبر ‪ :‬الدموع‬ ‫وليتك تذكر تلك الل ـ ـ ـ ــيالي ليالي الضياء فيهوي الـ ـ ـ َـعبر‬
‫دامن ‪ :‬مصلح‬ ‫وإن البكاء على مـ ـ ـ ـ ـ ــندم كدامن قفر وأنى الثم ـ ـ ـ ــر‬
‫أخي عد – وإن لم تعد – ال أبالي متى احتاجت الشمس نور القمر‬

‫بدايـــــــة النهايـــــــة‬

‫كل قصة جميلة شائقة ال بد لها من نهاية وقصة الصداقة كذلك ‪ ،‬والصداقة في دنيانا تنتهي نهاية من اثنتين ‪ ،‬إما نهاية هادئة‬
‫خاطفة وهي الموت وإما نهاية صاخبة مزلزلة وهي القطيعة ‪ ،‬كلتا النهايتين مدمرتان صاعقتان وهنا حديثنا عن النهاية الثانية ‪،‬‬
‫انتهاء العالقة بين الصديقين الختيارهما ذلك أو الختيار أحد الطرفين ذلك بعد طول صراع و عناء و اختالف ولكن ‪.......‬‬
‫كيف يتصور الم أر أن تلك العالقة الفريدة العظيمة القوية تنتهي بمأساة ؟؟ كيف بعد أن عرضنا أركان الصداقة الشامخة‬
‫الحديدية أن يسقط بناؤها وتتهدم أعمدتها و تصير خب ار بعد أثر و ماضيا بعد حال ؟ إن العقل قد يعجز أحيانا أن يتخيل ذلك ‪،‬‬
‫ويصاب من يق أر قصة الصداقة بالصدمة و الحيرة حين يفجأ بنهاية تعيسة بائسة لصديقين كانت صداقتهما حديث القاصي‬
‫والداني ! وكما كانت صداقتهما والتقاؤهما مثار الحديث والسمر بين الناس تكون النهاية المؤلمة الفاجعة كذلك مثار النقاش و‬
‫حوار المجالس !‪....‬‬
‫إننا أمام قضية شائكة مفزعة تحتاج لطول الوصف ومزيد التأني والتقصي لنتابع كيف هي حال الدنيا المريرة التي ال تبقي شيئا‬
‫على حاله!‬

‫بين الحب والبغض !‬

‫إن أرض الحب مدفون في باطنها البغض ! الحب الحلو يحتوي داخله البغض المر ! البغض كامن مستتر في جوف الحب‬
‫ينتظر ويتربص باللحظة المناسبة ليطفو و ينبثق ! ‪ ....‬هذه خواطر فلسفية ال تلبث أن تتحول إلى حقائق منظورة تغشى أعيننا‬
‫فتذهلنا و تصدمنا ! ‪ ،‬ال نفهم هذا الكالم إال حين نعيش في مالبسات التقلبات الصداقية وتفاصيلها الدقيقة ‪ ،‬فمثال ال حص ار‬

‫‪221‬‬
‫الصديق الذي يحزنه صديقه ويأتي له بما لم يتوقعه منه يتحول حزنه إلى مغضبة شديدة وبقدر حبه في قلبه يكون قدر شدته‬
‫المال الجافي رد فعل صديقه الشديد‬
‫ّ‬ ‫وبغضه ! ‪ ....‬يستحيل العسل علقما كما يستحيل الحب كراهية ! فيجد الطرف اآلخر‬
‫فيزداد مالله و يصير بغضاء سوداء أشد وأحلك وكأنه لم يكن حب و كأنها لم تنبن صداقة فتختلف مسببات البغضاء عند كل‬
‫طرف ولكن المصير في نفس الدكانة و الغيامة !‬
‫ويزدهر يحتاج إلى تجديد وجالء يحتاج إلى عناية وتنمية ‪ ،‬يحتاج إلى سقاء وعناية كالزهرة المورقة البديعة إذا‬ ‫يستمر‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫إن الحب ل َ‬
‫اعتنى بها صاحبها بقيت على بهائها أطول مدة ‪ ،‬أما إهمالها و نسيانها فنتاجه ذبولها وارتخاؤها كذا الحب في قلوب‬
‫األصدقاء ‪ ،‬إهماله و إرجاؤه نتيجته التضاؤل شيئا فشيئا فيتناقص الحب و يخالطه المخالطات فيبهت و يخف إلى أن يبلى‬
‫ويفنى و تكون المفاجأة بنهاية ( درامية ) لم يتوقعها أصحابها قبل مراقبيها ومتابعيها !‬
‫إن هللا عز وجل تكلم عن أقوام بائسين قائال ( فطال عليهم األمد فقست قلوبهم ) ذلك األمد تلك األيام المتتابعة تقسي القلوب و‬
‫تجعل اإليمان عادة ال عبادة فتتساقط حبات اإليمان فال يبقى منها بعد ذلك حبة ‪ ،‬ذلك أثر األيام والليالي في اإليمان والحب‬
‫اإللهي ‪ ،‬وكذا صنيعها مع الحب البشري ‪ ،‬اختالف النهار والليل ُينسي ‪ ،‬نعم ينسي الصديق عهد اإلخاء والمودة والخّلة ! ‪،‬‬
‫عاديا ‪ ،‬يصير شيئا يوميا معتادا ‪ ،‬لم يعد شيئا فريدا كما كان من قبل‬
‫يتراكم على قلبه أغشية القسوة و المالل ‪ ،‬فيصير صديقه ّ‬
‫‪ ،‬لم يعد يرى البهاء و الفرحة بل النشوة والحبور في صورته و طلله ‪ ،‬أين بهجة الماضي و أين لذة األيام الخالية ‪ ،‬وهنت‬
‫وضعفت حتى خارت و فنيت ‪ ،‬تماما مثل فكرة الصداقة نفسها ‪ ،‬لقد كانت فكرة الصداقة عقيدة راسخة في فؤاده و روحا‬
‫مستحوذة على عقله ‪ ،‬بدأت قضية الصداقة لديه تصير شيئا هامشيا في حاشية كتاب الحياة لديه ‪ ،‬صار كتاب الحياة ممتلئا‬
‫بأشياء أخر تحتل فكره وتملك عقله ‪ ،‬يالها من أيام وسنين قاسية أذهبت المبادئ وتاهت معها الفضيلة و حلت مكانها المادة‬
‫الزائلة الفانية ! ‪ ،‬فيا حسرة على العباد ‪................‬‬
‫إن الترجمة العملية لقسوة القلوب وتطاول العمر عليها هي الجفاء وهو بداية النهاية للصداقة ‪............‬‬

‫قضية الجفاء‬
‫الجفاء هو تقطع أوصال الصداقة من طرف واحد ال طرفين ‪ ،‬طرف نأى وابتعد فجأة بال مقدمات ربما ابتعاده حسي وربما‬
‫معنوي روحي !‪ ،‬انقطعت رسائلة وتوقفت مكالماته ‪ ،‬فبادره الطرف اآلخر المبقي على عهد الحب باالتصال فلم يجد الرد مكافئا‬
‫مناسبا كما كان العهد في سابق األوان ‪ ،‬إنه ٍ‬
‫مبق على عهد اإلخاء مستبق لصديقه يسير في درب الصداقة وليس في خلده‬
‫شيء منكر من صديقه ‪ ،‬فإذا صديقه يتبدل ويتغير فتغشاه الحيرة و يصيبه الدهشة و يصرخ في صديقه مستغيثا قائال ‪:‬‬
‫وجعلت شأنك غير شـ ــاني‬
‫َ‬ ‫أجفوتَني في من جـ ـ ــفاني‬
‫لك لم يكن ل ـ ــك فيه ثاني‬ ‫ونسيت مني موضـ ـ ـ ــعا‬
‫َ‬
‫أال أراك وال تـ ـ ـ ـ ـ ـراني‬ ‫وسررت يوما واحـ ـ ـ ــدا‬
‫َ‬
‫قلى ‪ :‬أبغض‬ ‫وقليتني في من ق ـ ـ ـ ــالني‬ ‫وهجرتني و قطعـ ـ ـ ــتني‬
‫هللا أفضل مس ـ ـ ـ ـ ـ ــتعان‬ ‫أفعلتها فالمسـ ـ ـ ـ ــتعان‬

‫‪222‬‬
‫قبضت يدك‬
‫َ‬ ‫فمددت يدي فلماذا‬
‫ُ‬ ‫لت على درب الوفاء‬ ‫كنت صديقك وحبيبك وماز ُ‬‫فعلت معك يا صديقي لتجفوني ؟! ‪ ،‬لقد ُ‬
‫ماذا ُ‬
‫تناسيت أيام الصفاء والمحبة واإلخالص التي كانت تضيء‬
‫َ‬ ‫تغيرت مكانتي أنا في قلبك ؟ هل‬
‫ْ‬ ‫أنسيت مكانتك في قلبي أم‬
‫َ‬ ‫عني ؟‬
‫لنا حياتنا ؟؟‬
‫صرت وحيدا شريدا ليس لي ملجأ ‪ ،‬ولكني سألجأ إلى ربي‬
‫ُ‬ ‫تركت الناس وتركوني من أجلك ‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫أين أذهب يا صديقي ؟! وقد‬
‫لعله يجعل لي مخرجا‬
‫وال لك في حسن الضــيعة مرغب‬ ‫لقد ساءني أن ليس عنك مذه ـ ــب‬
‫وفي دونه قربى لمن يتق ـ ـ ـ ــرب‬ ‫أفكر في ود تقادم بينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنا‬
‫وخير من الود السقيم التجــنب‬ ‫رث حـ ـ ـ ـ ــباله‬
‫وأنت سقيم الود ّ‬
‫بحسني وتلقاني كأن ـ ـ ــي مذنب‬ ‫تسيء وتأبى أن تعقب بع ـ ـ ـ ــده‬
‫كما خاب راجي البرق والبرق خلب‬ ‫فخبت من الود الذي كنت أرتــجي‬
‫ُ‬
‫لقد خذلتني يا صديقي و جعلتني كمن تعلق بسراب ‪ ،‬أو كمن مد يده لينهل من ضوء البرق فخاب ظنه ‪ ،‬فصار ماضينا الجميل‬
‫فاستيقظت على واقع مرير ال أطيقه وال أحتمله وأتمنى أن يكون كابوسا ألرجع منه إلى واقعي المحبب‬
‫ُ‬ ‫حلما عاب ار مضى وانتهى‬
‫المفضل !‬

‫من ذكري عند نائبات الح ــقوق‬ ‫ـدهر‬


‫يا أخا كان يرهب ال ـ ـ ـ ـ َ‬
‫وتجري مجرى دمي من عروقـ ــي‬ ‫كنت تحتل حبة القلب من قــلبي‬ ‫َ‬
‫العيوق ‪ :‬اسم نجم بعيد‬ ‫عي ـ ـ ــوق‬
‫فأصبحت في مدى ال ّ‬ ‫َ‬ ‫كنت مني مكان بعض من بعضي‬ ‫َ‬
‫محل البعيد منك السحـ ـ ـ ــيق‬ ‫بدت حاجة إليك أح ـ ــلتني‬
‫أم ْ‬
‫تحوي ‪ :‬تغير الطريق‬ ‫وتحوي إذا سلكت طريـ ـ ـ ــقي‬
‫ّ‬ ‫صرت تشري إذا التحفت بثوبي‬
‫َ‬
‫ما زال الصديق يذكر صديقه بأيام المحبة والوفاء لعله يرق قلبه و يعود إلى رشده ‪ ،‬ويتساءل ما الشيء الذي صرفك عني ؟ ما‬
‫الذي يجعل صديقا يرى صديقه يسير في طريق فيسلك طريقا آخر لئال يلقاه وجها إلى وجه ؟! هل الدنيا تفعل ذلك ؟ وهل‬
‫القلوب تتقلب كذلك ؟‬
‫ودالئل الهجران ال تخف ـ ــى‬ ‫مالي ُجفيت وكنت ال أُجفى‬
‫ولقد عهدتك تذكر اإللـ ــفا‬ ‫مالي أراك نسيتني بط ـ ـ ـ ار‬

‫المجفو بعد جفاء صديقه له ‪ ،‬مرحلة التساؤل والبحث عن علة ولكن يعجز العقل و يتحير القلب فال‬
‫ّ‬ ‫هذه أول مرحلة يسير فيها‬
‫يجد جوابا شافيا منطقيا يسكن روعه و يهدئ نفسه ‪......‬‬

‫أحوال من فقد الصديق ‪..‬‬

‫‪223‬‬
‫المجفو بين باسط وقابض ‪ ،‬بين قوي صارم وضعيف كسير ‪ ،‬تختلف الردود باختالف النفوس‬
‫ّ‬ ‫ثم تختلف ردود فعل الصديق‬
‫البشرية و تنوع الطباع اإلنسانية ‪ ،‬فمن بين الصارمين األشداء الذين ال يرضون الدنية في الحب واإلخاء صديق مجفو يقول ‪:‬‬
‫ولم أر في وده مط ـمـ ــعا‬ ‫فكنت إذا ملني صـ ـ ــاحبي‬
‫ُ‬
‫البيت كناية عن موت الصديق في قلبه‬ ‫وكبرت من فوقــه أربــعا‬
‫ُ‬ ‫الكلى شـ ــقه‬
‫غسلت بماء ُ‬
‫ُ‬
‫وكان التناسي له مضجــعا‬ ‫وكان التغافل أكـ ـ ـ ــفانه‬
‫أقل إن من مات لن يرجعا‬ ‫إذا قال لي الناس صل حبله‬
‫إنها المعاملة بالمثل ‪ ،‬العين بالعين والسن بالسن والبادئ دائما هو األظلم ‪ ،‬هذه سياسة من يرون أنفسهم أقوياء ‪ ،‬ال يرضون‬
‫الذل ‪ ،‬فهم يرون المسكنة أمام من يجفوهم مذلة ومهانة ‪ ،‬إنهم يطئون قلوبهم و يكبتون حبهم دفاعا عن عزتهم وكبريائهم ‪،‬‬
‫ويلَقون صديقهم الجافي كمثل ما قال قائلهم ‪:‬‬

‫صرما ‪ :‬قطعا‬ ‫صرما ومل اإلخاء أو قطـعا‬ ‫إني إذا ما الخليل أحدث لي‬
‫رنق ‪ :‬كدر‬ ‫بينه ‪ :‬فراقه‬ ‫وال يراني لبينه جزعـ ـ ــا‬ ‫ال أحتسي ماءه على رن ــق‬
‫سأقيد حبي باألغالل ‪ ،‬سأغشي قلبي بأغشية من القسوة ‪ ،‬سألون وجهي بألوان الصدود و اإلهمال ‪ ،‬لن أدعه يظنني ضعيفا في‬
‫حبه ‪ ،‬سأواصل حياتي ‪ ،‬سيستمر معاشي ‪ ،‬لن تتوقف دنياي بسبب غادر مثله ‪ ،‬إنه ال يستحق ذلك أبدا ! ‪...‬‬
‫وأسرف بعضهم في وصف حالهم الصلبة مع الصديق اآلبي الجافي قائال ‪:‬‬
‫أضحى عدوا وفي الصداقة عاثا‬ ‫قل لمن كان صديـ ـ ـ ـ ــقا وقد‬
‫الالتي عليكم طلقتهن ثــالثا‬ ‫دم على الهجر إن حاجـ ـ ـ ــاتي‬
‫الشياهين ‪ :‬طيور تشبه الصقور البغاث ‪ :‬طائر صغير‬ ‫الشياهين ال تخاف الب ـ ـ ــغاثا‬ ‫وإذا ما عاديتني فاعلم ـ ـ ــن أن‬
‫لو بال في الطـ ـ ـ ـريق وراثا‬ ‫وكذا الليث ال يخاف من الثعلب‬
‫هذا الصنف من البشر يغلق باب الود في وجه من باعه فال يفتحه أبدا ‪ ،‬و هناك صنف آخر قوي شديد يعز نفسه وال يذلها ‪،‬‬
‫ولكن أبوابه على رغم ذلك قد تنفتح إذا عاد الصديق عودا حميدا ‪ ،‬والمغفرة عندهم من شيم الكرام فيقول قائلهم ‪:‬‬
‫وبدل سوءا بالذي كنت أفعل‬ ‫وكنت إذا ما صاحب رام طيتي‬
‫ُ‬
‫على ذاك إال ريثما يتحــول‬ ‫المجن فلم يــدم‬
‫ّ‬ ‫قلبت له ظهر‬
‫ُ‬

‫المجفوين نفوسهم صلبة و أرواحهم راسخة وأقدامهم ثابتة وقلوبهم فوالذية فيحتملون و يتحملون ويردون في‬
‫ّ‬ ‫هذه حال من أحوال‬
‫صالبة وإباء ‪ ،‬وليت ذاك حال كل الناس ‪ ،‬فهناك صنف آخر سيتحطم و ينكسر ويصيبه التصدع ثم االنهيار ‪ ،‬تضيق األرض‬
‫عليهم بما رحبت وتسود الحياة وتكتئب النفوس‬
‫ضاقت علي برحب األرض أوطاني‬ ‫أيت ازو ار ار من أخي ثقـ ـ ــة‬
‫إذا ر ُ‬
‫فالعين غضبى وقلبي غير غضبـ ــان‬ ‫صدرت بوجهي كي أكافئـ ـ ــه‬ ‫ُ‬ ‫فإن‬

‫‪224‬‬
‫إنني لدي نوع يسير من العزة يدفعني للعبوس عند لقائه توبيخا له و تأنيبا ولكن قلبي حاله غير ذلك ‪ ،‬إن قلبي يتمزق ‪ ،‬وروحي‬
‫أظهر خالف ما أبطن وفي قلبي نار حامية تحرقني بالليل والنهار عاج از هامدا مبعث ار ال أجد حيلة وال أهتدي إلى مخرج‬
‫ُ‬ ‫تتشتت‬
‫‪...‬‬
‫ال يستوي هادم يوما وبن ــاء‬ ‫ٍ‬
‫وصاحب لي أبنيه ويهدمني‬
‫لقد بنيته بالحب والعاطفة الجارفة و المشاعر النبيلة ‪ ،‬وضعت قلبي على خوانه متصدقا به عليه زاهدا فيه على من سواه ضانا‬
‫به على غيره فإذا هو يقابل بنائي له بهدمه لي حطم مشاعري مزق أعصابي أسهر عيني المرهقتين الذابلتين ‪،‬فيا بئس مصيري‬
‫ويا تعسا لي !!‬

‫هذان حاالن مختلفان اختالف البشر ‪ ،‬ولكن هناك شيء لطيف من استغرق في مسألة الصداقة ورأى أحوال األصدقاء وتابعه‬
‫عرفه و لحظه ‪،‬وهو أن حال الصالبة قد يتبدل حال انكسار كما أن حال االنكسار قد يتبدل حال صالبة !‪ ،‬فهذا القوي‬
‫المتصلب الممتنع تمر عليه األيام والليالي فيفيق من حاله ويستيقظ على حقيقة تغافل عنها وداراها بقوته المزعومة ‪ ،‬إنه فقد كل‬
‫شيء !! إنه صار بال صديق ‪ ،‬بال روح ‪ ،‬كالزهرة بال ماء ‪ ،‬كالريحانة بال سقاء وال هواء ‪ ،‬كيف سيعيش اآلن ؟ كيف سيواجه‬
‫مصيره في تلك الحياة األليمة بغير عونه وسنده القديم ‪ ،‬كيف سيعيش لياليه البطيئة التي كان ينورها سمر الصديق و تسليته ؟!‬
‫من سيهون عليه شدة الدراسة ومعاناة المذاكرة ؟ لقد كان تسليته الوحيدة وأنسه الفريد أن يجد من يؤازره ويشاركه ألمه ومعاناته !‬
‫كيف سيتحمل تلك المعاناة وحده ؟! لقد كان هو وصديقه كمثل عودين مربوطين متآزرين كلما امتدت إليهما يد الحياة لتكسرهما‬
‫صعب عليها ذلك لوحدتهما و معيتهما فتتركهما يائسة مخزية ! كيف سيصمد أمام يد الحياة البئيسة اآلن ؟! إنها ال ترحم وال‬
‫ترؤف إال األصدقاء األقوياء األشداء ! إنها حكمة الصداقة تتجلى عند فقدانها وتشرق وقت أفولها مثلها مثل كل إنسان ال يشعر‬
‫بالنعمة إال حين يفقدها ‪ ،‬إنه كان يخدع نفسه بأنه قوي ال يلين وال ينكسر ولكن سرعان ما تجلت الحقيقة عبوسة مكفهرة كعجوز‬
‫شوهاء ! فصار مصيره مثل مصير اآلخر الذي انهار من البداية وانكسر بال مقاومة ‪ ،‬الفرق بين االثنين أن اآلخر سلك‬
‫الطريق األقصر لالنهيار أم صاحبنا فقد سلك طريقا أطول مثل طريق يد جحا حين قصدت أذنه !! ‪.....‬‬

‫وعلى النقيض نجد أن المنهار ابتداء قد يطول انهياره و يمتد انكساره وذبوله ‪ ،‬ولكن اختالف الليل والنهار ينسيه ألمه و يلتئم‬
‫جرحه ‪ ،‬فتمضي السنين على انكساره فينهض فجأة قويا معافى تحمله ساقاه يبدأ الحياة من جديد في أمل وتفاؤل ‪ ،‬يبحث عن‬
‫صديق جديد ‪ ،‬يظن الحياة حبلى باألصدقاء ‪ ،‬تعوض المجفوين ‪ ،‬وتداوي المجروحين ‪ ،‬عنده أمل واألمل هو حياته ‪ ،‬قد ال‬
‫تخيب الحياة ظنه فعال وتجود عليه بصديق حق جديد يعوضه عن كل ما فات ‪ ،‬وقد ال تفعل فيعيش على ذكرى الوفاء‬
‫ّ‬
‫للمجهول يحدوه األمل ويسوقه الرجاء !!‪....‬‬

‫هذا وإذا كان هذان حالين متناقضين فهنالك حال آخر غريب تدفع إليه النفس دفعا ‪ ،‬إنه حال االستبدال ‪ ،‬حال يستنفر فيه‬
‫صاحبه إلى إيجاد بديل سريع للصديق المفقود ‪ ،‬إنه يريد صديقا بديال في أسرع وقت وبأي ثمن ليطفئ ناره ويثلج صدره ‪ ،‬إنه‬
‫انتقام بشكل فريد عجيب ‪ ،‬إنه أخذ بالثأر في صورة نفسية معقدة إنه يظن أنه باكتساب صديق جديد سيشعل نار الغيرة والحقد‬

‫‪225‬‬
‫في نفس غريم اليوم صديق األمس ‪ ،‬بهذا األمر يشعر أنه سيمزق قلبه ويشتت لبه ويرد له الصاع صاعين ‪ ،‬ولكنه إنسان‬
‫مسكين ‪ ،‬سيدفع ثمن تسرعه في اختطاف صديق جديد ‪ ،‬إنه سيتثاقل على الناس يستجديهم ليشتري صديقا جديدا بأي ثمن‬
‫ليحقق غرضه ‪ ،‬وعاقبة السرعة معروفة إما أن يجد صديقا ظاهره الصديق وباطنه النقيض فينقلب عليه ويصير وباال جديدا‬
‫وإما أن يظن الصديق في من ليس يرغب في أن يكون صديقا فتكون النتيجة صدمته وحسرته الجديدة ‪ ،‬وإما أن يصادق من ال‬
‫يحب ومن ال يخفق له قلبه ‪ ،‬فيصير عبئا عليه وحمال ثقيال مضط ار لحمله إلشباع رغبته االنتقامية التعيسة التي ال تُحدث‬
‫االنتقام إال في نفسه هو ‪ ،‬هو البائس المسكين الذي يمزق نفسه بنفسه ‪ ،‬إنه يبحث عن مخرج أي مخرج وما هو بمخرج وإنما‬
‫جحيم جديد يعيشه بسبب طيشه و تيهه ! ‪ ،‬الصديق يا سادة ال يكتسب في يوم أو يومين ‪ ،‬الصديق ليال وشهور طويلة تصنعه‬
‫وتصوغه ‪ ،‬إنه تحفة نادرة يحتاج ليد ماهرة حاذقة تسهر الليالي والشهور لتخرجه في أروع صورة وأنفس منظر ‪ ،‬الصديق ال‬
‫ُيكتسب تكلفا و حمال على النفس ‪ ،‬وإنما يأتي في صورة تلقائية ربانية ‪ ،‬تهوي فيها القلوب إلى بعضها كما شاء ربها ال كما‬
‫شاء أصحابها ‪ ،‬هذا ما تعلمناه من األيام وهذا ما اكتسبناه من خبرة الصداقة ‪ ،‬أما من سوى ذلك من المتسرعين الضالين‬
‫طريقهم فهو حاطب بليل قد يلتقط أفعى يظنها حطبا وما هي سوى الحتف المميت !! ‪...‬‬

‫الجفاء والمالل‬

‫لغيرك عنه منتـ ـ ـ ـ ــقل‬ ‫أتعجب إن جـ ـ ـ ــفاك أخ‬


‫لت فمّلك الرجـ ـ ــل‬
‫فال عجب لجف ـ ـ ـ ـ ــوته ثُق َ‬
‫بهذه الكلمات القاسية يضع شاعرنا تفسي ار عسي ار لجفاء الصديق و ابتعاده ‪ ،‬إنها الماللة ‪ ،‬آفة الصداقة الفتاكة ‪ ،‬و قد مررنا من‬
‫قبل على أحد عالجات ذلك الداء ‪ ،‬وهو االفتراق االختياري ‪ ،‬فالصديقان بإرادتهما يستعذبان الفراق وإن كان في ظاهره األلم‬
‫والشدة ليجددا شوقهما فيزداد حبهما ‪ ،‬ومعه يجافيهما الملل ‪ ،‬شر قادم ينتظر من األصدقاء األحباء ‪ ،‬و عجبا لذاك الصديق‬
‫المجفو الذي يتعجب من الجفاء وقد ذكر السر في نفس كلماته ‪:‬‬
‫ّ‬
‫أشكو إلى هللا جفاء امرئ ما كان بالــجافي وال بالملول‬
‫ذكر كلمة الملول بعد الجافي وهي سر تعجبه و مفتاح حل مشكلته ‪ ،‬ولكن الحل عسير ‪ ،‬فالعالج هو الوقاية ! أي إن العالج‬
‫كان شيئا ماضيا من قبل ‪ ،‬فات أوانه فباء الصديق المسكين بمصيبته بال حل حاضر ! ويتساءل حينئذ المجفو التعيس بال أمل‬
‫‪:‬‬
‫أخلقت ‪ :‬أبلت‬ ‫كيف لي عنده بوجه جديـد‬‫أخَلَق ْت عنده الماللة وجـهي‬
‫كيف ؟‪ ...‬كيف ؟ ‪ ...‬كيف؟‪ ...‬األمر ال يحتاج إلى تكييف أو تمثيل ‪ ،‬األمر مر وانقضى وما عليك أيها البائس سوى أن‬
‫تفعل فعل سالفك ‪:‬‬
‫صددت وبعض الصد في الحب أمثل‬ ‫ُ‬ ‫مل صح ـ ــبتي‬ ‫وكنت إذا ما صاحب ّ‬
‫إذا كان لم يأت التي ه ـ ـ ـ ــي أجمل‬ ‫وقلت جميال حين أصرم حب ـ ـ ـ ــله‬

‫‪226‬‬
‫شئت فلن يقبل منك صاحبك كالمك الجميل ‪ ،‬كلماتك في أذنه لن تحوله عن مذهبه قيد شبر ! ‪ ،‬الداء ليس في‬ ‫قل جميال كما َ‬
‫أذنه وإنما الداء في قلبه داء المالل ‪ ،‬ذلك الدرن الذي تفشى في سائر أعضائه بعدما أجاز لها القلب ذلك ‪ ،‬فمّلتك عينه حين‬
‫يراك ‪ ،‬وملتك أذنه حين يسمعك ‪ ،‬و مّلك فمه حين تخاطبه منتظ ار لجواب ‪ ،‬ذلك هو مفعول القلب ‪ ،‬قائد و ( مايسترو)‬
‫األعضاء ‪ ،‬تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه‬
‫والشيء مملول إذا ما يرخ ــص‬ ‫رخصت عليه حتى ملني‬
‫ُ‬ ‫وأخٍ‬
‫صرت سلعة دائمة الحضور لديه يجدك دائما أمامه ‪ ،‬لم تعد هنالك لوعة‬
‫َ‬ ‫لقد صارت قيمتك طفيفة في ميزان قلبه ‪ ،‬ربما حين‬
‫الفراق التي تعلو بثمنك و ترتفع بقيمتك ‪ ،‬ميزان الحب الذي هو القلب يزن كما يشاء ال كما تشاء ‪ ،‬فال تضيع وقتك كثي ار‬
‫وانسحب في هدوء بال أنين صاخب وال ضجيج ملفت ‪ ،‬وعد إلى مهجعك آيبا بالحسرة واألسى !! ‪...‬‬

‫ولكن لكي ال يسيء قارئ الفهم ‪ ،‬إنني ال ألتمس عذ ار للجافي الملول ‪ ،‬فليس لصديق جفى صديقه ابتداء لمالله إياه عذر أو‬
‫قسته األيام والليالي ‪ ،‬هو من ترك نفسه ألعوبة في أيدي‬
‫معشار عذر ‪ ،‬إنه هو الجاني األول ‪ ،‬هو من تغير قلبه ‪ ،‬هو من ّ‬
‫وحش المالل الفتاك ‪ ،‬إنه مخطئ آثم ربما وقع ضحية قلبه السقيم ‪ ،‬ولكنه في النهاية قلبه ‪ ،‬هو المسئول عنه وعن تهذيبه و‬
‫ٍ‬
‫وجان اعتذر عن جرمه وخطيئته بأن قلبه الضعيف من دفعه لذلك لما وجدنا من يستحق العقاب‬ ‫توجيهه ‪ ،‬ولو أن كل مجرم‬
‫إشفاقا عليهم والعتبرناهم ضحايا مثل الضحايا التي فتكوا بها ولصارت الدنيا غابة يرتكب فيها كل من شاء ما شاء بدافع قلبه‬
‫المتوحش ولضاعت الدنيا بذلك المعيار المثير للضحك !!‬
‫لذا قال ابن رشيق القيرواني موبخا صديقه السقيم الجافي – وهو يستحق أعظم التوبيخ ‪: -‬‬
‫كتبت ولو بع ـ ــذر‬
‫عما ُ‬ ‫أجبت ولو ب ـ ــنثر‬
‫َ‬ ‫لم ال‬
‫لقد تحير في ـ ـ ــك أمري‬ ‫يا من له أم ـ ـ ــر علي‬
‫ووضعت قــدري‬
‫َ‬ ‫صداقتي‬ ‫ـت‬
‫صب ار عليك فقد أضع َ‬
‫ما فيه تصحيف لع ـ ــذر‬ ‫هذا هو ال ـ ــغدر الذي‬
‫المجفو المهجور ‪ ،‬فهو في الحقيقة ال يجد سببا منطقيا‬
‫ّ‬ ‫إن صديقه المريض القلب بلغ من الجفاء أنه لم يرد على رسالة صديقه‬
‫يتعلل به ‪ ،‬وهو يعلم علم اليقين أنه لو تعلل بالمالل لصار في نظر صديقه نذال وغدا فآثر السكوت ليزداد اإلبهام والغموض‬
‫أمام صديقه التعيس ويزداد إيماننا بجرم من دفعه مالله المصطنع إلى هجر صفيه وسجيره !!‬

‫هذا في ملل الطرف الواحد ‪ ،‬وطرفه الثاني هنا هو الضحية البريئة ‪ ،‬ولكن هناك نوع آخر هو مالل الطرفين ! ملل تسلل إلى‬
‫قلبي الصاحبين – وهو في األصحاب أقرب من األصدقاء ‪ -‬مع طول الزمن بنفس المقدار فتباعدت القلوب ‪ ،‬وتجافت النفوس‬
‫‪ ،‬وهنا يركن الصديقان كالهما إلى التباعد والتنافر ‪ ،‬يتباعدان تدريجيا شيئا فشيئا ‪ ،‬تهن العالقة وتبهت إلى أن تحدث قطيعة‬
‫هادئة ذات طرفين باالتفاق بكل هدوء بال تنازع وال تالوم ‪ ،‬في تلقائية عجيبة تتقطع الحبال وتندثر العالقة باختيارهما ‪ ،‬وهنا ال‬
‫ضحية إطالقا وإنما على النقيض راحة واطمئنان و صفاء بال عجيب ! ولست بداع إلى ذلك ولكنها حكاية واقع ‪..... .....‬‬

‫‪227‬‬
‫صرخة أمل !‬
‫إنها صرخة الصديق بعد أن تبين الجفاء ‪ ،‬صرخة العتاب واللوم على أعتاب األبواب ‪ ،‬صديق يعرف أن العتاب ركن ركين من‬
‫أركان الصداقة فأخذ به وتشبث بحباله يحدوه األمل ‪ ،‬يحاول أن يلم شعث صداقته المهدمة ‪ ،‬يحاول قدر طاقته أن ينقذ صداقته‬
‫من الغرق ‪ ،‬يعاتب صديقه وهو يعلم أنها اللحظة األخيرة بينه وبين صديقه ‪ ،‬بعدها إما رجوع وأوب حميد وإما القطيعة والفراق‬
‫الشديد ! وتمثل هذا النهج كأي صديق طيب حميد شاعرنا المجفوّ سبط بن التعاويذي يبذل أقصى ما في وسعه معاتبا ‪ ،‬يقول‬
‫لجافيه ‪:‬‬
‫نك َذرعـي‬ ‫َقد ضاق ِب ِ‬ ‫يا ِ‬
‫البعد َع َ‬ ‫َ ُ‬ ‫موسعي َج َفوةً َوص ـ ــَّدا‬
‫س َوُك ـ ِّل َ‬
‫ط ـ ـ ـب ِع‬ ‫كل ِح ٍّ‬‫ِ‬
‫َو ّ‬ ‫س‬‫بيب لِ ُك ِّل َنف ـ ـ ـ ٍ‬ ‫َنت َح ٌ‬ ‫أ َ‬
‫ظ َسمـ ـعي‬ ‫َفال تََدعني في َح ِّ‬ ‫ظ َع ـ ـ ـيني‬ ‫َقد فاتَني ِمنك ح ُّ‬
‫َ َ‬
‫أَنجدني ِبالب ِ‬ ‫َّ‬
‫كاء َدم ـ ـ ـ ـعي‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫يب‬‫نت ِإذا َملني َحب ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫ُك ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفَل ِ‬
‫َي َش ـ ـ ـ ـرع‬ ‫بن َعل ٍّي َوأ ِّ‬ ‫َيا َ‬ ‫َي ُحـ ـ ـك ٍم‬ ‫يت شعري بأ ِّ‬ ‫َ‬
‫عمداً وبعد الع ِ‬
‫طاء َمن ـ ـعي‬ ‫َ ََ َ َ‬ ‫صال َهـجري‬ ‫الو ِ‬ ‫عد ِ‬ ‫غت َب َ‬ ‫ِِ َسَّو َ‬
‫َخاك َعن َج َفوٍة َوَقطـ ـ ـ ـع‬ ‫خاء َواِكـ ـ ـ ِرم‬ ‫اإل ِ‬ ‫هود ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َ‬ ‫ع ُع َ‬ ‫َفار َ‬
‫امنا ِب َسلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع‬ ‫ِِ‬ ‫امنا ِبس ـ ـ ـ ــَل ٍع‬ ‫ِ‬
‫َّهلل أَّي ُ‬ ‫نس أَّي َ‬ ‫ِال تَ َ‬
‫لشو ِق ِمن َحرَق ٍة َوَلـ ـ ـذ ِع‬ ‫لِ َ‬ ‫قياك ما ِبَقل ـ ـ ـبي‬ ‫ِ ِ‬
‫ِ َواِشف ِبلُ َ‬
‫من َلم يزر في الح ِ‬ ‫زور َقب ـ ـ ـ ـ ـري‬
‫ياة َربـ ـعي‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫َفما أَراهُ َي ُ‬

‫إنه استعطاف من ليس في قلبه عطف ! إنه موقف صعب و ُمذل أن تطلب الود ممن هو به بخيل ‪ ،‬إنه استجداء بذكر‬
‫مكانته في القلب ودموع العين لهجره وبعده ‪ ،‬ثم ذكر عهد اإلخاء القديم وما أقدمه ! ثم ما أبعده ! ثم تذكير بليالي الصفاء وما‬
‫أكثرها ! ثم ما أسهل نسيانها ! ثم تليين القلب بذكر الموت الذي تتجلى عنده الحقائق وتلين القلوب و تصفو الصدور ‪ ،‬ولكن ما‬
‫يمني نفسه ويبذل كل‬‫أبعد الموت في ذهن صديقه الجافي ! ‪ ،‬إنها قضية محسومة وقضاء مقدور ولكن اإلنسان التعيس دائما ّ‬
‫سبل تحقيق أ ََربه يتعلق بخيوط العنكبوت ويمني نفسه بالنجاء ‪ ،‬ذلك شأن من ليس لديه خيار سوى النجاء أو الفناء !!‬

‫الود !‬
‫قضية تكّلف ّ‬

‫عودة سريعة إلى الماضي إلى بداية الصداقة و مهد العالقة ‪ ،‬كيف بدأت عالقتنا ؟! إنها بدأت حين ظننتُك صديقا وفيا ‪،‬‬
‫وخاب الظن وتاه الرجاء ! لقد غرتني ضحكاتك وبسماتك األخاذة ‪ ،‬ظننتها لي وحدي ‪ ،‬خلتُها دليال ساطعا على رغبتك في‬
‫صداقتي ‪ ،‬وما زادني اختياال وتبخت ار بصحبتك بل خّلتك دوام تلك البسمات المصطنعة ‪ ،‬التي كنت محترفا في صياغتها‬
‫فبت سعيدا وأنا مخدوع ‪ ،‬وما أروع ذلك االنخداع ! ‪ ،‬انخداع لذيذ وسكرة جميلة لم تلبث أن زالت‬
‫وتزييفها ‪ّ ،‬منيتني بالود واإلخاء ُ‬
‫األستار بعدها وتجلت الوقائع و انقلبت النشوة إلى حسرة بتحول الغفلة إلى صحوة !‬

‫‪228‬‬
‫لم تجد غير بارقـ ـ ــات كواذب‬‫تشم بارقة الص ـ ـ ــداقة منه‬
‫قال أبو الصوفي يصف تلك الحال ‪ :‬إن ّ‬
‫الخداعون يفعلون ذلك بضحاياهم ؟ لنفهم أوال صنيعهم ثم لن ِع تفسيره وتوضيحه ‪ ،‬إن‬ ‫ولكن لماذا كان هذا الحلم ؟ ولماذا هؤالء ّ‬
‫صنيعهم هو تكلف الود ‪ ،‬تصنع المحبة واألخوة ‪ ،‬والسبب واحد من اثنين إما المصلحة المؤقتة التي تجبره على صنيعه المشئوم‬
‫وإما التسلية الفارغة التي يشغل بها ساعات من عمره ثم يسلوها بقية ساعات عمره ! ‪ ،‬صداقة المنفعة تحدثنا عنها وتقصينا‬
‫يضيع فيها الجاني وقته و يبعثره على‬
‫حال الصديق البرجماتي و هنا نتحدث عن حال ضحيته البريئة ‪ ،‬و عالقة التسلية التي ّ‬
‫كالك َح ِل ) ولكن‬
‫حساب صديقه المسكين ‪ ،‬حاالن عجيبان نتيجتهما تكلف المحبة ‪ ،‬وقديما قالوا ‪ ( :‬ليس التكحل في العينين َ‬
‫الطرف اآلخر المسكين رقيق القلب و طيب الروح يبحث عن الصديق ربما هي أول مرة في حياته يصادف صديقا حديث عهد‬
‫بتلك القضية ‪ ،‬لم يتشبع بخبرات الحياة ‪ ،‬فتخدعه المظاهر البراقة ‪ ،‬وتأخذ لبه البسمات المصطنعة ويلتبس عليه التكحل في‬
‫بالك َحل فتكون بئس العاقبة وبئست الصدمة !‬
‫العينين َ‬
‫متفق األول واآلخ ـ ـ ـ ـ ــر‬ ‫كم من صديق صادق الظ ــاهر‬
‫من خاطري ال كان في خاطـري‬ ‫ـمع‬
‫أطمعني في وده مطـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫بمثله فوز يد المق ـ ـ ـ ـ ــامر‬ ‫قلت فازت ي ـ ـ ــدي‬
‫حتى إذا ُ‬
‫قد ملئت منه يد الـ ـ ـ ـزامر‬ ‫وجدت في كفي منه ك ـ ـ ــما‬
‫وكما أن التكحل ليس كالكحل الصديق المتكلف الود له أمارات و إرهاصات يجدها المخدوع في أول عالقته ومنها ما أنشده أبو‬
‫سائل ‪:‬‬
‫وأنت صديق كالذي أنا واصف‬ ‫أرى فيك أخالقا ح ـسنا قبي ـ ــحة‬
‫سخي بخيل مست ـ ــقيم مخالف‬ ‫قريب بعيد أبله ذو ف ـ ـ ـ ـ ــطانة‬
‫ّ‬
‫كما أنا قلبي جاهل بك عـ ــارف‬ ‫كذاك لساني شاتم لـ ـ ـ ــك مادح‬
‫لست أدري من العمى أريح جنوب أنت أم أنت عاصف‬ ‫تلونت حتى ُ‬
‫َ‬
‫ولست بذي غش ولس ــت بناصح وإني لمن جهل بشأنـ ــك واقف‬

‫وقال تائه هائم آخر ‪:‬‬


‫أناصح أم على غـش يداجـ ــيني‬ ‫قل للذي لست أدري من تل ـ ــونه‬
‫يد شح وأخرى منك تأسـ ــوني‬‫ٌ‬ ‫إني ألكثر مما سمتَني عجـ ـ ـ ـ ـ ــبا‬
‫وكل عن ـ ـ ــك يأتيني‬
‫في آخرين ٌ‬ ‫تغتابني عند أقوام وتمدحـ ـ ـ ـ ــني‬
‫فاكفف لسانك عن ذمي وتزيــيني‬ ‫هذان أمران شتى البون بين ـ ــهما‬

‫يالصعوبة تلك الحال ‪ ،‬ويالبأساء ذلك الصديق المتحير الذي ابتلي بصديق من هذا النوع ‪ ،‬إنه يعيش مشتتا ‪ ،‬قلبه تائه متحير‬
‫ال يستقر في قرار ‪ ،‬هل هذا صديقي بحق راغب في إخائي أم إنه ال يريدني وال يستحب صداقتي ‪ ،‬أبتعد عنه لبعده وجفائه‬
‫ساعات فال يطاوعني قلبي الذي ما زال يحبه و يجله فأجدني أقترب منه ثانيا منجذبا نحو سحره ألكتوي بناره مرة أخرى فأبتعد‬

‫‪229‬‬
‫جريحا مكلوما محزونا في دوامة ال أول لها وال آخر ‪ ،‬ياله من تشتت ‪ ،‬ويالها من حيرة ‪ ،‬إن القلق بدأ يصيبني إن فكري‬
‫مشغول دائما بهذا الصديق المتلون المتغير ‪ ،‬إن النوم جافى عيني ‪ ،‬والهدوء واالستقرار هج ار الفكر والبال ‪ ،‬ليت شعري متى‬
‫ينتهي هذا الجحيم ؟! ‪...‬‬
‫إن هذه البدايات في الصداقة ال تبشر بخير أبدا ‪ ،‬يسير الصديق في طريقها أعمى واستم ارره في السير يجلب له المزيد من‬
‫التعاسة والشقاء فال حل سوى نهاية تلك العالقة قبل أن تأتي الصدمة الكبرى فجأة وبدون انتظار ‪ ،‬مسيري إلى تلك النهاية‬
‫باختياري وبإرادتي خير من أن يحسمها ذلك اإلنسان المتلون كالحرباء فينسف عالقتنا وينسف معها قلبي المحطم المكتوي‬
‫مل منها وقضى حاجته ألقاها بل كسرها شر تكسير ‪ ،‬لن‬‫بنيران تعلقي به ‪ ،‬إنه يلعب بي كما يلعب الطفل الصغير باللعبة متى ّ‬
‫أنتظر ذلك المصير البائس رغما عني ‪ ،‬سأنهي تلك اللعبة اآلن لتستريح نفسي ويهدأ قلبي ‪.....‬‬
‫التصنع‬
‫ّ‬ ‫التكاشر ‪:‬‬ ‫فهجر جميل للفريقين صـ ـ ــالح‬ ‫تقضى الود إال تكاش ـ ـ ـ ـ ـ ار‬
‫إذا ما ّ‬
‫تلونت ألوانا علي كـ ـ ـ ـ ـ ـ ــثير ة ومازَج عذبا من إخـ ـ ـ ــائك مالح‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫ولي عنك مستغنى وفي األرض مذهب فسيح ورزق هللا ٍ‬
‫غاد و ارئ ـ ـ ـ ــح‬

‫إنني لن أذل نفسي بالوقوف أمامه مرة أخرى ‪ ،‬لن أطلب عودة عالقتنا مرة أخرى ‪ ،‬إنه قد يوافق على العود ليواصل تالعبه بي‬
‫وبأعصابي ولكني لن أسمح له بذلك فعوده تكلف وتكاشر كما كانت عالقته ابتداء تكلفا وتكاش ار !!‬
‫أخطط في ٍ‬
‫جار من الماء أحـ ـ ـرفا‬ ‫عاتبت المل ـ ـ ـ ــول فإنما‬
‫ُ‬ ‫إذا أنا‬
‫ارعوى ‪ّ :‬‬
‫انكف‬ ‫ظ ّن‬
‫هب ‪ُ :‬‬ ‫مودته طبعا فصــارت تكـ ـ ــلفا‬ ‫فهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكـن‬

‫ثم يأتي الوسطاء المخدوعون مثلي يظنونها صداقة حقا و يظنون ذلك القطع موجة عاتية مرت وانقضت ال بد بعدها من هدوء‬
‫واستقرار فيسعون للصلح بيننا ويتمادى ذلك الصديق المتلون في لعبته الدنيئة فيتصنع قبوله العود كما تصنع الحب من قبل‬
‫ليواصل لعبته متسليا بي و بقلبي وعقلي و ليرفع عنه الحرج أمام الناس ليظهر بمظهر الطيب المصلح وما هو إال شيطان‬
‫تسربل بسربال إنسان !‬
‫فال خير في ود يكون بشــافع !‬ ‫إذا أنت لم تعطفك إال شــفاعة‬

‫إن ما ذكرنا من االبتالء بالمتكلفي الود و ما طرحنا من حل ودواء وصفه اإلمام الشافعي الذي طال جرحه من هذا النوع من‬
‫األصدقاء في أبيات متأللئة زاهية سجلها التاريخ وحفظها األدب لتكون نبراسا لرائمي راحة القلب ‪:‬‬
‫َس ـ ـ ـفا‬ ‫كثر عَل ِ‬
‫يه التَأ ُّ‬ ‫َفدعه وال تُ ِ‬ ‫عاك ِإ ّال تَ َكـ ـ ـ ـُّلفاً‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫المرُء ال َير َ‬ ‫إذا َ‬
‫بيب َوَلو َجفا‬ ‫بر لِلح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صٌ َ‬ ‫َوفي الَقلب َ‬ ‫احةٌ‬
‫َبدال َوفي التَرك ر َ‬ ‫الناس أ ٌ‬ ‫َففي‬
‫َوال ُك ُّل َمن صاَفيتَ ُه َل َك َقد صــَفا‬ ‫اك َق ُلب ُه‬ ‫َفما ُك ُّل َمن تَهواهُ َيهـ ـ ـو َ‬
‫جيء تَ َكـ ـ ـ ـُّلفا‬ ‫ٍِ‬ ‫الو ِ‬ ‫ِإذا َلم َي ُكن صفو ِ‬
‫َفال َخ َير في وّد َي ُ‬ ‫بيع ًة‬
‫طـ ـ َ‬ ‫داد َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫الم َوَّدة ِبالج ـ ـ ــَفا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َوال َخ َير في ِخ ٍّل َيخو ُن َخ ـ ـليَل ُه‬
‫َوَيلقاهُ من َبعد َ‬
‫‪230‬‬
‫كان ِباألَمـ ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وي ِ‬
‫س َقد َخفا‬ ‫َوُيظ ِه ُر س ّاًر َ‬ ‫هدهُ‬
‫قاد َم َع ـ ـ ـ ُ‬
‫نك ُر َعيشاً َقد تَ َ‬ ‫َُ‬
‫عد م ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدنيا ِإذا َلم َي ُكن ِبها‬
‫نصفا‬ ‫الو ُ‬ ‫صدو ٌق صاد ُق َ‬ ‫ديق َ‬
‫ص ٌ‬ ‫َ‬ ‫الم َعلى ُ‬‫َس ٌ‬

‫مواقف النهايــــــــــــة !‬
‫أهيلوا التراب على هؤالء الصحاب !‬
‫إن كل ما سبق ذكره من جفاء ومالل وتصنع إنما هو نهاية للعالقة من طرف واحد ‪ ،‬وذلك الطرف هو الطرف الجاني ‪ ،‬ذلك‬
‫الطرف البارد الذي يسعى إلنهاء عقد اإلخاء ببروده و ابتعاده ‪ ،‬إنه يفعل ذلك بقصد أو بغير قصد ‪ ،‬بقصد حينما يقرر عقله‬
‫الواعي االستغناء عن صديقه وطرحه ‪ ،‬عقله اتخذ القرار بصراحة ووضوح وقوة إرادة أشبه بقوة الصخرة التي سيتحطم فوقها‬
‫المجفو المهجور ولكنه سلك ذلك المسلك غير المباشر – أعني البعد والجفاء – ليوصل الرسالة لصديقه بطريقة‬
‫ّ‬ ‫عنق صديقه‬
‫المجفو حين ييأس‬
‫ّ‬ ‫مهذبة لبقة اتبع فيها األساليب السياسية ( الدبلوماسية ) لتحقيق هدفه بدون صدام عنيف ‪ ،‬يظن أن صديقه‬
‫منه سيبتعد هو كذلك ليحفظ ماء وجه وتنتهي األمور في سالم وهدوء !! و ّأنى له ذلك ؟! إنه كمن أطلق رصاصته بمسدس كاتم‬
‫للصوت يظن أنه بذلك سيقتل ضحيته في سكون وبال ضجيج فيفجأ أن الرصاصة ال تصيب ضحيته في مقتل وإنما تسبب له‬
‫جراحا غير مميتة فيستغيث صارخا بل يمأل األرض صراخا وعويال من هول األلم الذي يشعر به ال هو يموت وال هو يحيى !‬
‫‪،‬فتنقلب الدنيا فوق رأس ذلك الجاني األحمق !!‬
‫أما النوع اآلخر من ذلك الجفاء فهو بغير قصد ‪ ،‬أعني أنه يجد نفسه بصورة تلقائية يبتعد عن صديقه ‪ ،‬هو يعترف بفضل‬
‫صديقه و طيبته و رقته هو يقر بذلك وال ينكره ‪ ،‬ولكنه يجد شعو ار داخليا بالنفور منه ‪ ،‬شعو ار يحاول إنكاره يحاول أن يدوس‬
‫عليه ليقتله وما هو بمستطيع ! إنه ال يريد لنفسه دور الجافي الهاجر ولكنه يقع فيه رغما عنه ! عقله غير الواعي يوجهه نحو‬
‫الجفاء بغير إرادته ‪ ،‬إنه يريد أن يستمر صديقا فاضال ولكنه يفشل ! قلبه أقوى منه ‪ ،‬شعور الملل سيطر عليه و احتواه و‬

‫حاصره فاضطر أن يكون جافيا هاج ار فتساوى من هجر وجفا واعيا بمن هجر وجفا غير وا ٍع كالهما ّ‬
‫سيان عند المجروح قلبه‬
‫المكسور خاطره !‬

‫كل هذا إنما هو نهاية لصداقة من طرف واحد هو الجاني ‪ ،‬وهنا نتحدث عن صورة أخرى وهي نهاية الصداقة بيد المجني عليه‬
‫ّ‬
‫‪ ،‬ذلك المكسور المجروح الذي يجهز على قلبه بيده ‪ ،‬ينهي عالقته بصديقه حين يأتي بما ال يتفق والصداقة ‪ ،‬حينما يعظم‬
‫الجرم و يتعمق الجرح يصير استمرار العالقة محاال والسير في دربها هالكا وتتحطم الصداقة بيدي ال بيد عمرو !! ‪....‬‬

‫‪ -1‬موقف االستبدال !‬
‫كل باآلخر ‪ ،‬لقد كان‬
‫تركنا الناس لنخلو وحدنا نستمتع بصداقتنا و نأتنس ٌ‬
‫متالزمين مترافَقين ْ‬
‫َ‬ ‫يقول صاحبنا المكلوم ‪ ((:‬لقد كنا‬
‫لحالنا تفردات ‪ ،‬كان لنا أماكن معتادة نذهب إليها معا ال يشاركنا أحد ‪ ،‬كانت لنا حوارات خاصة ال يطلع عليها سوانا ‪ ،‬كانت‬

‫‪231‬‬
‫لعالقتنا خصوصية ال يخترقها أحد كأننا حولنا سور منيع طالما حاول الناس اجتيازه بال جدوى وال أمل ‪ ،‬لقد كنا صديقين‬
‫تركت غثاء الناس آلتنس بك كان هذا حالنا ‪ ...‬كان ‪ ...‬كان !‬
‫ُ‬ ‫غت لي ‪،‬‬
‫غت لك وتفر َ‬
‫توأمين اثنين ال ثالث لهما ‪ ،‬لقد تفر ُ‬
‫فت إليه يوما ثم تقابلتما‬
‫ولكن ما الذي حدث اآلن ؟! لقد دخل شخص جديد في حياتنا أو خصوصا في حياتك أنت ‪ ،‬لقد تعر َ‬
‫مني‬
‫انشغلت به أياما ثم صارت أيامه على حساب أيامي بل كادت تندثر أيامي من حياتك ! لقد اختطفك هذا اإلنسان ّ‬ ‫َ‬ ‫يوما ثم‬
‫! ‪ .........‬إن ما أقوله ليس أوهاما وال ظنونا كاذبة ‪ ،‬لقد تغيرت معاملتك لي في الفترة األخيرة ‪ ،‬لم أعد أفوز بشغل بالك‬
‫كنت من قبل ‪ ،‬لقد صارت ابتسامتك لي باهتة ومقابلتك لي جافة بينما أنت منطلق الوجه باسم الثغر مع غيري‬‫ووقتك كما ُ‬
‫وصرت أنا بالنسبة إليك صديق العادة ‪ ،‬الضحك‬
‫ُ‬ ‫خصوصا ذلك الطرف الجديد ! ‪ ،‬لقد تطاول العمر على عالقتنا حتى اعتدتَها‬
‫والبهجة مع بقية الناس والعبوس والفتور معي من دونهم ! إنني حين أراك مع صديقك الجديد أرثي حالي البائسة وأقارن بين‬
‫عالقتك به وعالقتك بي فأجد فارقا كما بين السماء واألرض ! إنه لم يأخذ مساحة كبيرة من حياتك فحسب بل اعتدى علي وأخذ‬
‫ّ‬
‫صرت تصطحب‬‫َ‬ ‫أعرفها لك‬
‫معظم مساحتي من عالقتي بك ! إن األماكن التي زرناها معا من قبل ولم تكن تعرفها قبل أن ّ‬
‫صديقك الجديد إليها ! ‪ ،‬أما عادت تلك األماكن تذ ّكرك بصديقك القديم الذي لم يكن لك رفيق فيها سواه؟! ألهذه الدرجة‬
‫استبدلت بحبي حب صديقك الجديد ؟! هل سهل عليك أن تركلني عن قلبك وتُجلس ذلك اإلنسان مكاني ؟! أبلغ منك الملل مني‬
‫َ‬
‫أنك بحثت عن غيري حتى وجدت البديل و وضعتني على ّ‬
‫الرف كما وضعت صداقتنا القديمة العظيمة في طي النسيان ! ‪..‬‬
‫ترد علي بكل‬
‫صرت ألومك على عالقتك الزائدة مع هذا اإلنسان أسمع منك كلمات جديدة ال عهد لي بها ‪ ،‬إنك ّ‬
‫ُ‬ ‫إنني حينما‬
‫برود وتوبيخ تقول لي ‪ :‬وهل تريدني أال أعرف أحدا غيرك ؟! هل تريدني أن أجلس معك ليل نهار وأترك بقية الناس ؟! هل‬
‫ذهلت حين‬
‫ُ‬ ‫سمعت منك هذه الكلمات ‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫دمت حين‬
‫ص ُ‬ ‫صرت شيئا من مقتنياتك ؟! ‪ .............‬إنني ُ‬
‫ُ‬ ‫اشتريتني بمالك حتى‬
‫تغيرت يا صديقي ‪ ،‬إنك لست صديقي الذي عرفتُه منذ سنوات ‪ ،‬إنك بعتَني‬
‫َ‬ ‫وية في عالقتي معك ‪ ،‬لقد‬
‫وجدتُك تتهمني باألنا ّ‬
‫أردت أن تُبقي على عالقتي في‬
‫تماديت في هذا األمر حتى َ‬
‫َ‬ ‫غير مأسوف علي ! ولكنك‬
‫في فطرحتني َ‬ ‫يت غيري ‪ ،‬زهدت‬‫واشتر َ‬
‫ّ‬ ‫َ ّ‬
‫كنت صديقك األوحد المتفرد ‪ ،‬ألصير شيئا من‬
‫صورتها الجديدة ‪ ،‬في صورتها الفاترة الباهتة ألصير واحدا من معارفك بعد أن ُ‬
‫أشيائك ومقتنياتك ألكثّر عدد عالقاتك فتبدو اجتماعيا صاحب عالقات ! إنك تريدني أن أرضى بنصيبي الخسيس منك وأحمد‬
‫هللا على ذلك كسي ار ذليال ‪ ...‬ولكن ال يا من كنت صديقي ‪..‬ال ‪!..‬‬
‫كنت فوق قمة قلبك فلن أرضى أن أكون اآلن في السفح ! إنني ُ‬
‫كنت األوحد المتفرد في قلب حياتك فلن أرضى اآلن أن‬ ‫إنني ُ‬
‫أكون في هامشها ‪ ...‬إنني لن أرضى بالدنية في عالقتي بك ‪ ،‬إما أن أعود إلى مكانتي وإال فال حاجة لي فيك لسان حالي يقول‬
‫‪:‬‬
‫مقسمــا‬
‫أعرضت لما كان نهبا ّ‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫وصلتك لما كان ودك خالــــصا‬
‫ُ‬
‫الوراد أن يتهـ ــدما‬
‫على كثرة ّ‬ ‫ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه‬
‫األخس ! لن أستطيع أن‬
‫ّ‬ ‫لن أقبل أن يكون لي شريك في صداقتك خصوصا أن هذا الشريك له النصيب األح ّ‬
‫ظ ولي النصيب‬
‫أرى صديقك الجديد يفوز بك دوني وأرضى وأستكين ‪ ،‬إن هذا اإلنسان حين دخل حياتك حطم صداقتنا وحطمني حتى كرهتُه‬
‫أشد الكره كما كرهتُك أنت ‪ ،‬لقد استولت علي تلك الكراهية وأحاطتني من كل جانب حتى حاصرتني و قلبت كياني ‪ ،‬إنني بقدر‬
‫ّ‬
‫حنقي وغيظي من هذا اإلنسان الجديد الذي اختطفك مني أشفق عليه منك ! نعم أشفق عليه من مصيره ‪ ،‬إن مصيره من‬

‫‪232‬‬
‫عالقتك سيكون نفس مصيري حتما ‪ ،‬فإن شأنك معي سيصير طبعا لك وسوف تكرر التجربة معه كما فعلتَها معي فيصير‬
‫تعيسا مثلي وبئست التعاسة ! ‪...............‬‬
‫أخي ار ‪ ....‬هنيئا لك يا أخي صديقك الجديد وهنيئا لك فقدي وفقد صداقتنا الفريدة ‪....‬وداعا يا أخي غير مأس ٍي عليك‬
‫ّ‬
‫‪.....‬وداعا ‪)) ......‬‬
‫مسألة ملتبسة ‪:‬‬
‫يقولون ‪ :‬لماذا تقبل األمر الواقع كما هو وتستجيب إلرادة صديقك القديم بأن تنزله منزلة أدنى مما كانت عليه بكل هدوء وبكل‬
‫سالمة نفس ‪ ،‬ألن يكون السالم العام أفضل ؟ وألن يكون السالم النفسي الداخلي عندك أفضل وأنبل ؟‬
‫فيقول صاحبنا التعيس ‪ (( :‬إن إنزال شخص منزلة أدنى من منزلته السابقة على نوعين نوع مقبول و آخر غير مقبول ‪ ،‬النوع‬
‫األول ناشئ من الخطأ واللبس ! ‪ ،‬ينشأ هذا النوع حينما يحب إنسان إنسانا آخر ويظن من فرط حبه و زغللة عينيه أن هذا‬
‫اإلنسان يبادله نفس الشعور ويرغب في القرب منه فيصاحبه و يداعبه و يتقرب منه ويحاول التوغل في حياته ولكنه فجأة‬
‫يستيقظ من سكرته حين يصدمه صاحبه بدفعه دفعا و يرفض توغله في حياته بل ربما يصر على اإلقامة مع غيره بينما يحاول‬
‫التقليل من لقائه ملال و دفعا ‪ ،‬يقول بلسان حاله ‪ :‬زميلي الفاضل كفاك تقربا مني فلدي انشغال بمن هو أولى منك ! إنك ال‬
‫تروق لي وقلبي ال يفضلك ‪ ،‬هو مشغول بغيرك و له اهتمامات أخرى أنت لست منها ‪ ،‬لنكن زمالء يكن أفضل ! ‪ .....‬حينها‬
‫على صاحبنا المصدوم أن يتقهقر راجعا بكرامته و ماء وجهه ويحترم رغبة ذلك اإلنسان الذي أحبه وينزله المنزلة األدنى‬
‫استجابة لمراده واحتراما لقلبه ‪ ،‬وتستمر العالقة بحواجزها بال حرج وال ألم ‪ ،‬هذا هنا مطلوب بكل بساطة ألن هذا الصاحب‬
‫اآلبي الرافض إنما أعلن رفضه من البداية بال تزييف وال خداع واللوم والعتب على الطرف اآلخر الملتبس عليه أمره ‪ ،‬هو الذي‬
‫المرجو يرضى بالقليل من وده راضيا حامدا !!‬ ‫يع ْش على حب صديقه‬ ‫أخطأ التقدير ‪ ،‬كان أعشى فال يلومن سوى عشاه ! وَل ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪...‬‬
‫أما النوع الثاني الذي نحن نتكلم عنه هنا فهو أن يتعاهد الصديقان على اإلخاء ويبوحان بالحب والوفاء و يسيران معا في درب‬
‫الحياة متالزمين متصافيين متفقين على استمرار الصداقة أبد الدهر ثم فجأة ينقض صديق عهده مع صديقه ويتخلى عنه زاهدا‬
‫فيه راغبا في غيره يريد أن يرفع الحرج عن نفسه بإبقاء عالقة سطحية مع صديقه القديم المسكين ‪ ،‬هنا نفس الصديق األبية‬
‫ترفض هذا الوضع المهين و يربأ بنفسه أن يكون اإلنسان الثاني بعد أن كان اإلنسان األول وترفض عيناه المتقدتان أن تريا‬
‫صديقا جديدا يخطف صديقه منه ويشعل نار غيرته ‪ ،‬هذان نوعان مختلفان ال يختلطان أبدا !‪....‬‬

‫يقولون ‪ :‬أليست الرغبة في دوام انعزالك مع صديقك عن بقية الناس زمنا وتفردكما ده ار نوعا من األنا ّ‬
‫وية وحب التملك للحبيب‬
‫؟؟ ثم من قال إن تعدد الصديق ممنوع ؟ ألم نقل من قبل إن التعدد في األصدقاء واقع جائز بينما التعدد في قدر الحب هو‬
‫المتعذر ؟!‬
‫فيقول صاحبنا ‪ :‬إن صديقي هو الذي عاهدني على ذلك و اتفقنا على التالزم إلى أن نلقى هللا في ظله يوم ال ظل إال ظله –‬
‫ولعل التالزم وعدم التعدد واضح في حديث ( وأخوان تحابا في هللا اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) ! أخوان فقط ‪ ،‬الحظ ! ‪، -‬‬
‫فنحن اعتدنا ذلك حتى صارت حياتنا بهذا الشكل و حتى صار خالف ذلك محاال ال يحتمله القلب ‪ ،‬وأنا كذلك قلبي ال يحتمل‬

‫‪233‬‬
‫أقر أن تعدد األصدقاء مباح ولكني لن أسمح ألحد أن يحتل مكانتي في قلب صديقي وال أن يزيحني قدر أنملة من قلبه و‬ ‫وأنا ّ‬
‫سأقاتل دون ذلك ألنني ليس عندي خيار آخر ولست أناويا ‪ ،‬تماما مثل الزوجة التي أباح هللا لزوجها أن يتزوج ثانية بعدها فإذا‬

‫استأذنها لرغبته في الزواج من أخرى فغضبت ورفضت أشد الرفض وطلبت الطالق أفتكون حينئذ أنا ّ‬
‫وية وتعارض ما أحّله هللا أم‬
‫إنها بشر لها قلب وشعور و عندها من الحب والغيرة ما اليقبل ذلك ؟؟!! ‪.....‬‬

‫‪ -2‬موقف الخذالن !‬
‫يقول الصديق الحزين ‪ (( :‬كنا نتالقى في أيام سعتنا وسرورنا خير صديقين و كأحلى عصفورين صادحين ‪ ،‬كانت أيام الصبى‬
‫والمراهقة ‪ ،‬لم نكن نعرف أيامها معنى المحنة ‪ ،‬لم تُدر لنا الحياة ظهرها كما تفعل مع من هو أكبر منا سنا ‪ ،‬لم َي ْخ ُبر صديقي‬
‫السن ولهو الصبى ‪ ،‬لعب ومرح وانطالق ‪ ،‬ولكن‬ ‫شكل المحنة ليعرف كيف يتعامل معها التعامل الصحيح ‪ ،‬هذه هي حداثة ّ‬
‫الدنيا متقلبة متغيرة ‪ ،‬تظهر لنا السرور والسعادة وتخبئ في باطنها المكاره والمآسي ‪ ،‬وهي بهذا تختبر وتبتلي لتظهر حقائق‬
‫الناس الباطنة في األوقات القاتمة ‪ ،‬وهذا ما حدث مع صديقي ‪ ،‬فقد انتهت المرحلة الثانوية وظهرت نتيجة التنسيق وجاءت‬
‫كليتي بعيدا عن الديار في مدينة أخرى ‪ ،‬إنني سأنأى عن حبيبي ‪ ،‬سأتركه ألواجه حياة جديدة أواجهها وحدي بال صديق وال‬
‫معين إال أشباح الطريق الذين اختلط فيهم الطيب بالخبيث ‪ ،‬ولكن بحسبي أن أظل أتذكر صديقي ويظل يتذكرني ويسأل عني‬
‫دوما ليذ ّكرني برباطنا الوثيق ‪ ،‬ولكن ‪.....‬‬
‫مرت األيام والليالي علي ثقيلة وأنا خارج وطني أنتظر من صديقي اتصاال فال أجد ! أتثاقل و أتحامل على نفسي و أوثر‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫انتظار اتصاله مترفعا متشوقا في نفس اآلن ‪ ،‬أترفع عن االتصال به ألنه واجبه هو ألنني أنا الذي في الموقف الضعيف‬
‫وأحتاج ليد العون الحانية وهو في بلده قويا معافى ال يعاني ألم الغربة مثلي ‪ ،‬لقد طال االنتظار و طال خفوق قلبي من إشفاقي‬
‫على نفسي و حسرتي على صديقي ‪ ،‬تُرى لماذا تغيب اتصال صديقي بي ؟ لماذا هجرني و تخلى عن دوره ؟ هل نسي‬
‫صداقتي وحبي بهذه السهولة ؟ هل كان فراق األبدان سببا في فراق القلوب ؟! هل القلب يحتاج إلى العين ليبقى وده متصال‬
‫دائما ؟! هل المادية تصل إلى هذه الدرجة ؟! ‪..‬‬
‫ولكني قبل أن ينهار قلبي وتضاف محنة الغربة إلى محنة هجر األحبة سأسلك آخر مسلك فيه التماس عذر ‪ ،‬سأتبين خبره‬
‫وأسأل عن شأنه لعله مريض في الفراش – وليس عذ ار ! – أو لعله فقد عزي از غاليا فشغله انتحابه عليه – وليس عذ ار ! – أخي ار‬
‫فاهتبلت الفرصة أسأله‬
‫ُ‬ ‫كنت أظنه ال يتصل ألنه األبعد فيا عجبا من الدنيا !‪-‬‬
‫جاءني اتصال من زميل له يسأل عني – و قد ُ‬
‫أولست تعرف أحوال صديقك وقرينك الذي لم يكن يفارقك لحظة‬ ‫َ‬ ‫عن حال صديقي المنقطع عني ‪ ،‬فلكمني ذلك الزميل بتعجبه ‪:‬‬
‫فحاولت تغيير صيغة السؤال ألداري حالي و ألكتم شجوني فعر ُ‬
‫فت منه الحقيقة ‪ ،‬إنه صحيح معافى‬ ‫ُ‬ ‫من اللحظات ؟!!! ‪،‬‬
‫يذهب إلى كليته منتظما ‪ ،‬بسمته ظلت كما هي ال تفارقه ‪ ،‬يجتهد في دراسته كما كان عهده من قبل ‪ ،‬ال شيء يعكر صفو باله‬
‫تفجر رأسي من كثرة ترددها فيه ‪ ،‬و‬
‫مغتما ‪ ،‬تكاد كلمة ( لماذا ) ّ‬
‫فأغلقت الهاتف كسي ار ّ‬
‫ُ‬ ‫وال يشغله عن أحبائه القدماء ! ‪،‬‬
‫قررت أن أقطع الشك باليقين و أن أسأل المتهم بنفسي و أسمع‬
‫ُ‬ ‫عالمات التعجب صارت تطبع كل رقعة من وجهي ! ‪ ،‬أخي ار‬
‫دفاعه عن نفسه لعله يكون آخر خيط يربطنا و ينقذ صداقتنا ‪ ،‬كلمتُه بالهاتف متحامال على نفسي و دائسا على كرامتي‬
‫رد علي فسألته بصوت منتحب ‪ :‬أين أنت يا أخي لماذا ال تسأل عن صديقك ؟! ‪ ،‬فإجابني بكل برود ‪ :‬وهللا‬ ‫وكبريائي ‪ ،‬أخي ار ّ‬
‫‪234‬‬
‫مشاغل ! أنت تعرف الدراسة والمذاكرة والمواصالت يا أخي ( الدنيا ٍ‬
‫تاله ) ! ‪ .........‬حينها وصلت الرسالة كالصاعقة ! ‪،‬‬
‫إنها األعذار الباهتة التي ال تسمن وال تروي ‪ ،‬إنها الواجهة المزيفة التي يحفظ بها الهاجر الجافي ماء وجهه الملطخ ! ‪،‬و لماذا‬
‫لم تكن المشاغل من قبل في أيامنا السالفة تشغلك عني كما شغلتك اآلن ؟! ‪ ،‬حجتك داحضة يا أستاذ ! ‪ ،‬هناك غيرك ممن‬
‫كنت أظنهم أقل صداقة ووفاء لي ظل حبل ودهم متصال بي بعد سفري و رحيلي ‪ ،‬هؤالء تراب أقدامهم أغلى عندي منك !‬
‫ُ‬
‫هؤالء سأحمل جميل صنعهم فوق رأسي طول حياتي ‪ ،‬أما أنت يا أخي الناكص فعوضي منك على ربي وخالقي يخلفني خي ار‬
‫منك و هو على كل شيء قدير !! ‪)) ...‬‬

‫فأقلعن منا عن ظلوم وص ــارِخ‬ ‫سعت ُنوب األيام بيني وبـ ـ ــينه‬
‫كملتمس إطفاء نار بنافـ ـ ـ ـ ِخ !!‬ ‫وإني وإعدادي لدهري صاحـ ــبي‬

‫‪ -3‬موقف االستعالء !‬

‫يقول المكلوم ‪ (( :‬الناس سواسية كأسنان المشط هذا حال المؤمنين و هو نفس الحال الذي خبرته بيني وبين صديقي – وتلك‬
‫حال الصداقة منذ خلق هللا الناس ‪ ، -‬لقد شببنا معا في مستوى واحد ‪ ،‬في دراسة واحدة ‪ ،‬في مدرسة واحدة بل في فصل واحد‬
‫يضن بماله و‬
‫ّ‬ ‫بوده كما ال‬
‫‪ ،‬نشأنا وظروفنا االجتماعية متقاربة يواسي بعضنا بعضا بما لديه ‪ ،‬ال يبخل صديق على صديقه ّ‬
‫أهلته لكّلية عالية‬
‫من هللا على صديقي بدرجات عالية ّ‬
‫ماعونه ! حتى إذا انتهت الدراسة بعد طول عناء ومدارسة وسهر لليالي ّ‬
‫أقل منه فدنت درجاتي فدنت كّليتي من كليات القاع – كما يسمونها ‪ ، ! -‬كان‬
‫القمة بينما كان نصيبي ّ‬
‫مما يسمونها كليات ّ‬
‫هذا هو الَق َدر الذي أصيبت فيه نفسي باأللم واالنكسار ‪ ،‬وكنت أحوج ما أكون إلى قلب طيب يواسي قلبي و ينشف دموعه‬
‫ويمد يده إلي من علٍ يخفف أحزاني و يطمئن‬
‫ويس ّكن جرحه ! و كان عشمي في صديقي المحبب أن ينتشلني من بئر أحزاني ّ‬
‫ّ‬
‫روحي ‪ ،‬ولكن ‪..................‬‬
‫فوجئت أني ال أجد أحدا يبرد دمعي ‪ ...‬ال أحد يطمئنني على المستقبل ‪ ...‬ال أحد يسقيني رشفات من األمل تسكن ظمئي‬
‫العدة لمجده الجديد ‪،‬‬
‫يعد ّ‬‫إلى السكينة واالطمئنان ! ‪ ....‬ال أحد ‪ ...‬ال أحد ‪ .....‬حتى صديقي المخلص – كان – ‪ ،‬لقد انطلق ّ‬
‫وسطه الجديد الذي يليق به و بدرجته و بنجاحه ‪ ،‬إنني‬
‫انفلت يبحث عن َ‬
‫غدا ينضم إلى نظرائه من ركب المتفوقين الناجحين ‪َ ،‬‬
‫ال أحسده على ما هو فيه ؛ فنجاحه و علوه من أحلى أمنياتي ‪ ،‬وكيف أحسده وهو جزء مني – كان‪ -‬وهل الجزء يحسد جزأه ؟!‬
‫علوك وارتقاءك على رغم هبوطي وانحطاطي – في أعين الناس ! – كنت أعتبره شرفا ورفعة فأنت زينتي و مصدر فخري‬
‫‪ ،‬إن ّ‬
‫وزهوي – كان ‪........... -‬‬
‫علو البدر في أفق الس ـماء‬
‫ّ‬ ‫ّللا أن تعلو م ـحالً‬
‫دعوت ّ‬
‫ُ‬
‫فكان إذاً على نفسي دعائي‬ ‫لوت عني‬‫علوت ع ـ َ‬
‫َ‬ ‫فلما أن‬

‫‪235‬‬
‫صرت من نشوة نجاحك ال تشعر بألم صديقك‬ ‫َ‬ ‫وخيبت ظني ورجائي ‪ ،‬انعدم الشعور عندك حتى‬
‫َ‬ ‫لقد ار َّتد ْت رغبتي فيك علي ‪،‬‬
‫ّ‬
‫وظننت كأنك فزت بالفردوس األعلى ! وهي دنيا زائلة تفنى ويفنى من فيها وتفنى نجاحاتهم وال‬
‫َ‬ ‫النجاح‬ ‫أسك َرتك نشوى‬
‫وم اررته ‪َ ،‬‬
‫يبقى إال الحب واألنس و الذكرى الطيبة ‪ ،‬إنك من فرط ارتفاعك المزعوم َ‬
‫فقدت القدرة على الشعور بقرينك الذي هبط و انحدر‬
‫و عالك الغرور واالستنكاف حتى كأنك تظنني لم أعد من مستواك و مرتبتك فال أليق لك صديقا مالزما ! ‪....‬‬
‫صدقت أيها الشافعي حين قلت ‪ :‬أظلم الناس لنفسه اللئيم فإنه إذا ارتفع جفا أقاربه وأنكر معارفه واستخف باألشراف وتكبر‬
‫َ‬
‫على ذوي الفضل ‪......‬‬
‫وداعا أيها الشريف العظيم انعم بشرفك وسؤددك و انعم كذاك بفقدك صداقة عظيمة قّلما يجود بها الزمان !! ‪))..‬‬

‫المدمية في الصداقة في زماننا كثرت أشكالها وتنوعت صورها لتنوع صور زينة وبهرج زماننا ‪،‬‬
‫أقول ‪ :‬إن تلك الظاهرة ُ‬
‫فالموظف الذي صار مدي ار صار ينظر باستعالء إلى أصدقائه وربما يحاول كسرهم بأوامره المتعنتة لفرض هيبته و صالحيته‬
‫الجديدة ‪ ،‬والذي ُرزق ماال وفي ار بعد طول مالزمة للفقر مع أصدقائه الفقراء تراه يتبدل ويتغير وينقض عهود اإلخاء منشغال بماله‬
‫النتاج واحد ‪ ،‬ترك الصديق لصديقه و تقطع الروابط و تشوه الذكرى‬ ‫و مستعليا بنصيبه من رزق هللا ! ‪ ،‬هي صور مختلفة و َ‬
‫الجميلة واأليام السعيدة في زمن علت فيه المادة و سيطرت فيه البرجماتية المقيتة التي مزقت الصداقة وأفسدت كل عالقة ‪ ،‬هذا‬
‫وإنه في زمن مضى – وال يزال – كانت تلك الظاهرة بازغة في من يتولى اإلمارة من األصدقاء حين تسيطر عليه لذة السطوة و‬
‫فيسود قلبه و يخلد إلى انعزاله عن الصديق والرفيق‬
‫ّ‬ ‫السلطة وتجعل على بصره الغشاوة حتى كأنه ال أحد يدانيه وال ينافسه‬
‫مترفعا مستنكفا مكتفيا بسلطانه ونفوذه كأنه سيخلد فيه !‬
‫قال أبو زبيد الطائي يصف تلك الحال المحزنة ‪:‬‬
‫العيوق ‪ :‬نجم بعيد يضرب به المثل في البعد‬ ‫العيوق بالسبب الوثي ـق‬
‫إلى ّ‬ ‫نلت اإلمارة فاس ـم منها‬ ‫إذا َ‬
‫مغيرة الصديق على الصديق‬ ‫وكل إمارة إال قلـ ـ ـ ـ ـيالً‬
‫وقال اآلخر متعجبا من حال صديقه المغرور المستكبر ‪:‬‬
‫وعهدي به من قبل ذا وهو صاحب‬ ‫تغير عني ح ـين وّلوه منصـ ـ ـباً‬
‫و ّأول رجل غيرته المناصـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫بأول صاحـ ـب‬
‫وما هو في الدنيا ّ‬
‫وقال اآلخر يصف خالف ذاك الحال من أصدقاء المروءة والقلوب المطمئنة الصافية الذين ال يتغيرون وال يتبدلون مهما تحولت‬
‫الدنيا من حولهم وهم األحرار بحق الذين نجو من عبودية وأسر الدنيا ‪:‬‬
‫فضالً وطوالً على إخوانه ت ـاها‬ ‫ليس الكريم الذي إن نال منزلة‬
‫إن نال حظاً من السلطان أو جاها‬ ‫الحر يزداد لإلخوان م ـ ـ ـكرمة‬
‫ّ‬

‫تظل تلك العبودية للمنصب و ال تبرح تلك الغشاوة على بصره وبصيرته إلى أن ينتهي كل شيء ! يزول منصبه ويفقد ّأبهته و‬
‫سلطانه ‪ ،‬فجأة يفيق من سكرته و يستيقظ بعد سبات على حقيقة نفسه والناس من حوله ‪ ،‬إنه صار عاريا بعد كساء ! ‪َ ،‬فَق َد‬
‫سلطته وقد فقد قبلها أصدقاءه وأهله جميعا ويدرك لحظة فواقه أنه يحتاج لصديقه الذي هجره و ألهله الذين تنكر لهم وازدراهم‬

‫‪236‬‬
‫يمد يده إلى صديقه القديم مؤمال وراجيا في برود و سماجة ‪ ...‬ويحكي‬
‫فيعود كسي ار بوجهه الكالح يطلب الصلة والقربى و ّ‬
‫الصديق القديم ذاك الحال قائال ‪:‬‬
‫وكنت منه مكان العين في الراس‬ ‫ُ‬ ‫ورب ذي ثقة قد كان لي سـ ـكناً‬
‫ّ‬
‫وخانه سوء بنيان وآس ـ ـ ـ ـاس‬ ‫ولى وأعرض عني إذا أفاد غ ـ ـنى‬
‫فيما أحب من اللذات وال ـكاس‬ ‫حتى إذا ما قضى من ماله وط ـ اًر‬
‫وده من بعد إفـ ـ ـ ـالس‬
‫وعاد في ّ‬ ‫غدا إلي بوجه ضاحك ط ـ ـ ـلق‬
‫ّ‬

‫ولكن هيهات هيهات !! فات وقت الرجوع والت ساع َة مندم ! ‪ ....‬لقد جرحتني و وطئت كرامتي و هجرتني في حين سعتك‬
‫وحين ضيقي ثم تدور األيام وتأتيني في وقت ضيقك ووقت سعتي وترجو إيابي و سماحي ؟!! يالك من أحمق سافل بلغت‬
‫أسمى درجات الدناءة ثم خلطتها بالبرود والسماجة لتنتج مرّكبا وضيعا ال يستسيغه الكالب واألولى أال يستسيغه أمثالي من بني‬
‫البشر ‪ ،‬إنني إنسان له روح وقلب ‪ ،‬روحي تكرهك وتزدريك و قلبي يمقتك و يشمئز منك ‪ ،‬وكيف لي أن أتحامل على قلبي‬
‫وروحي ولماذا أرضى بك ولي عنك غنىً ‪ ،‬إن من يغدر مرة يغدر ألف مرة وأمثالك يذ ّكرون بقول العلي الحميد ( ولو ردوا‬
‫لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) ‪ ،‬اخرج مطرودا مدحو ار وال تُرني وجهك الكالح مرة أخرى وأغلق الباب خلفك وال تحاول‬
‫رحبا !! ‪....‬‬
‫طرقه ثانيا فلن تجد ُمجيبا وال ُم ّ‬

‫‪ -4‬موقف النكوص واالرتداد !‬

‫ابتداء طيبة رقيقة ‪ ،‬سلكنا معا سبيل الهداية والرشد ‪ ،‬اجتمعت قلوبنا على صراط هللا ‪،‬‬
‫ً‬ ‫المتحسر ‪ (( :‬كانت صداقتنا‬
‫ّ‬ ‫يقول‬
‫اجتمعنا على طاعته وافترقنا على غير معصيته ‪ ،‬كان التزامنا بدين هللا هو النور الذي يهدينا في طريق صداقتنا ويحصننا من‬
‫تجمعنا بعد تفرق ‪ ،‬و تحول دون الشقاق والنزاع كان ذلك إلى أن تغير كل شيء‬
‫االنجراف والضياع ‪ ،‬كانت أخالقنا الدينية ّ‬
‫!!‪................................‬‬
‫مني يوما‬
‫جو العبادة والطاعة معي ‪ ،‬كان يؤديها وكأنه مضطر ‪ ،‬ثم بدأ يتفلت ّ‬ ‫بدأت سلوكيات صديقي تتغير ‪ ،‬لم يعد يألف ّ‬
‫بعد يوم ‪ ،‬لم يعد يالقيني دوريا كما كان من قبل ‪ ،‬كان يتعلل بالمشاغل لئال يلقاني ‪ ،‬ماذا حدث ؟ لماذا تغير من ناحيتي فجأة‬

‫؟ ماذا ألهاه عني ؟ ‪ ،‬ثم بدأت ألتمس أنباءه بعد أن يئست منه و تمزق قلبي من فقده فبدأت تتضح الصورة التي كانت ّ‬
‫مشوشة‬
‫من قبل ‪ ،‬لقد استهوته مجموعة من الشباب ليسوا من طباعنا وال أخالقنا ‪ ،‬ال يعرفون طريق المسجد و ال يقيمون وزنا لمحارم‬
‫بدأت أراقبه خلسة وأزداد ترقبا ألنبائه‬
‫مني انتزاعا ‪ ،‬ولكن ما الذي جذبه إلى هذا الجو ؟ ُ‬
‫هللا ‪ ،‬مجموعة فاسدة مستهتَرة انتزعته ّ‬
‫حتى أصابتني الصاعقة ! ‪..‬إنه و زمالءه الجديدين يسهرون في لعب ولهو ‪ ،‬يشربون الخمر و يرقصون ويصاحبون الفتيات !‬
‫‪ ،‬استحوذ عليه الشيطان وغلبته شهوته حتى صرفته عني وعن مبادئي التي لم يعد يطيقها ‪ ،‬لقد كان اتباعه لهواه أقوى من‬
‫حبه لي ! ولو تبقى حب لي في قلبه لكان عامال يحفز ما بقي في قلبه من خير ‪ ،‬ولكن التيار كان جارفا وأقوى من إيمانه‬
‫وأعتى من صداقتنا الطيبة النبيلة ! فضاع وضاعت المبادئ وضاعت األخوة وضاع كل شيء !‬

‫‪237‬‬
‫ردي على صنيعه ؟ ‪ ،‬هل أتركه بين براثن الفساد وأتخلى عنه متعصبا ألخالقي و تديني وأزعم أن‬ ‫ولكن ‪ ......‬ماذا سيكون ّ‬
‫ذلك غضبة هلل ؟! ‪..‬كال إن واجب الصديق أن يقف بجوار صديقه في المحن ‪ ،‬وهذه أشد المحن ‪ ،‬إنه في سكرة وعلي أن‬
‫ّ‬
‫أجعله يفيق منها ‪ ،‬علي أن أعاتبه أوال بعهد اإلخاء والمحبة لعله يكون في قلبه بقية منها ! ثم أذكره باهلل و حرماته و عاقبة‬
‫ّ‬
‫جلست‬
‫ُ‬ ‫ذهبت إليه و‬
‫ُ‬ ‫أهز ذرة من الخير كامنة في قلبه تحتاج من يستحثّها ! ‪،‬‬ ‫معصيته و وقوفه بين يدي هللا يوم التغابن لعلي ّ‬
‫معنف ‪ ،‬ذ ّكرته بهذه األشياء ففوجئت به يتكلم كلمات ال عهد لي بها من قبل ‪،‬‬ ‫ود غير ٍ‬
‫قاس وال ّ‬ ‫حب وبكل ّ‬‫معه وخاطبته بكل ّ‬
‫قال لي في نبرة غريبة لم آلفها منه ‪ :‬كفاك نصائح ومواعظ هل أنت ولي أمري لتأمرني وتنهاني ؟! هل بعثك هللا علي رقيبا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عمن صادقته وعرفته من‬ ‫أدركت أنني كنت أمام إنسان آخر مختلف ّ‬
‫ُ‬ ‫فت حزينا وقد‬
‫لتحاسبني حساب المَل َكين ؟! ‪ .....‬فانصر ُ‬
‫وقررت في النهاية أن‬
‫ُ‬ ‫رت متأمال‬
‫خرجت مهموما مشدوها على صداقتي البائسة و على حال صديقي المنكر ‪ ،‬ثم ف ّك ُ‬ ‫ُ‬ ‫قبل !‪ ،‬لقد‬
‫يحن إلى وإلي أيامي الحلوة فيردعه حبه وتجذبه‬ ‫أسلك مسلكا جديدا ‪ ،‬مسلك الزجر بالهجر ‪ ،‬أتركه وشأنه فترة من الزمن لعله‬
‫ّ ّ‬
‫نفسه اللوامة إلى صديقه المخلص ثم إلى تدينه ومبادئه ‪ ،..‬ولكني بؤت بالفشل الكبير ‪ ،‬لقد زاده بعدي عنه بعدا ‪ ،‬بل لقد‬
‫استعملت مبدأ الهجر المؤقت ظانا أنه يعود‬
‫ُ‬ ‫أخطأت في تقديري و‬
‫ُ‬ ‫استعذب بعدي لئال آمره وأنهاه – كما يعبر هو !‪ ، -‬لقد‬
‫ماد َِ ِّا يدي إليه ‪ ،‬فنظر إلى‬
‫فعدت إليه َ‬
‫ُ‬ ‫بالمكسب المؤبد ‪ ،‬ولكن خاب ظني ‪ ،‬فطال الفراق و َع ُسر األمر ‪ ،‬وتاه األمل ‪،‬‬
‫ذراعي المفتوحتين و ُحضني المرحب نظرة تردد ‪ ،‬ثم أطرق لحظة في خجل و خسوف ُي ُِشعر باعترافه بخطئه و فقده إلرادته‬
‫ّ‬
‫مادا إليه ذراعي‬
‫مد يده إلى ليصافحني ثم انصرف ! ‪ ..‬لم يستحوذ علي اليأس منه و كررت المواجهة بنفس الصورة ّ‬
‫! ‪ ،‬ثم ّ‬
‫ّ‬
‫الرد في نفس المشهد ‪.....‬‬
‫فكرر نفس ّ‬

‫لقد كانت رسالة ضمنية فهمتُها ووعيتُها بعقلي المشدوه وقلبي المحترق ‪ :‬هذه هي حياتي الجديدة ال محيص عنها ‪ ،‬وهؤالء‬
‫قرنائي الجدد لن أتركهم ‪ ،‬إما أن ترضى بصورتي الجديدة و عالقتنا الفاترة وإما أن تنسحب من حياتي وتريحني ولك الخيار !!‬
‫‪....‬‬
‫لقد هان عليه ميثاق رّبه فهان عليه ميثاق صداقتي وهو أولى بالهوان ! ‪ ....‬لقد آن لي أن أنسحب انسحابا نهائيا من حياته‬
‫فقدت األمل فيه ‪ ،‬لن يجتمع طريق الهداية و طريق الضاللة في سبيل واحد ! سيظالن مفترقين إلى أن تقوم الساعة !‬
‫بعد أن ُ‬
‫))‬

‫المتدين الذي‬
‫ّ‬ ‫أقول ‪ :‬في خالف هذا الموقف السابق موقف مختلف تنتهي معه الصداقة بسبب الحماقة ! ‪ ...‬هو موقف الشاب‬
‫ترك تدينه ونكص على عقبيه – مثل الحال السابق – ولكنه هذه المرة لن يجد يد الصديق ممتدة إليه وإنما سيشيح صديقه‬
‫سيعده مر ّتدا مغضوبا عليه ال ينبغي وصله وال رؤيته ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بوجهه ويديه معا عنه !! ‪ ،‬سيهجره هج ار بال محاولة إلثنائه وإرجاعه ‪،‬‬
‫كأنه صار موبوءا مجذوما يخاف من عدواه أن تنتقل إليه ‪ ،‬هذا األسلوب الغليظ الجافي هو أسلوب بعض المنتسبين إلى بعض‬
‫يعد الواحد منهم كل منسحب غلبه هواه منبوذا‬
‫تدين ظاهر ‪ّ ،‬‬
‫الجماعات المذهبية التي أوغلت في التعصب لفكرها ورأيها مع ّ‬
‫مطرودا يقول لسان حاله الكلمة العامية الشهيرة ‪ ( :‬كلب وراح ! ) مع أن هذا الناكص المغلوب من هواه ربما وقوف أصدقائه‬

‫‪238‬‬
‫يرده ردا جميال و ينتشله من بئر الضياع والفساد !! ولكنه – يالبؤسه !‪ -‬ابتلي بأصدقاء‬
‫معه و أخذهم يديه و التفافهم حوله ّ‬
‫جفاة غالظ لم يتمكن الحب والصداقة من قلوبهم كما لم يتمكن الفهم الصحيح للدين من عقولهم ! يظن أحدهم أن هجره لذلك‬
‫الصديق المنحرف إنما هو غضبة هلل و إعمال لما يسمونه الوالء والبراء ! ‪ ،‬فصار هذا المسكين ضحية للتيار الفاسد الجارف‬

‫من جهة والتيار المتشدد المتحجر من جهة أخرى ! ولو عرف أحدهم معنى ّ‬
‫الحب الحقيقي واإلخالص والوفاء لما ترك صديقه‬
‫في بئر عميقة مظلمة ويقول هو الذي أوقع نفسه فيها وعليه أن ينقذ نفسه ! ‪ ،‬إن هؤالء المتعصبين مع نقص فهمهم لمعاني‬
‫األخوة في هللا و مع نقص علمهم بمدارج السالكين المتقين يسلكون نفس هذا السلوك الشائن مع من ترك مذهبهم وتحول إلى‬ ‫ّ‬
‫مذهب آخر وكأنه ار ّتد من دائرة الدين و خرج من زمرة المسلمين ! ‪ ،‬ومثل هذه األوساط التي تنتشر فيها هذه العقليات‬
‫المتحجرة ال تجد فيها المعاني الصحيحة للصداقة و الخّلة فيصيرون منبعا للتفرق والتشرذم والعصبية التي ال تختلف عن‬
‫ّ‬
‫العصبية الجاهلية الغابرة ‪ ،‬اختلفت األسماء و المضمون واحد ‪ ،‬وتاهت األخوة في ظلمات تلك الطرق المفترقة المتشابكة !!‬
‫‪....‬‬

‫أخي ار ُحكي عن صديقين من السلف الصالحين أن أحدهما انقلب عن االستقامة فقيل ألخيه ‪ :‬أال تقطعه وتهجره ؟ فقال ‪ :‬أحوج‬
‫ما كان إلي في هذا الوقت لماّ وقع في عثرته أن آخذ بيديه وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان فيه ! ‪......‬‬
‫ّ‬
‫المتحجرة !‬
‫ّ‬ ‫عسا ألصحاب العقول والقلوب‬
‫عدا وتَ ً‬
‫وب ً‬
‫فيالهم من أناس أنعم هللا عليهم بفقه األخوة والصداقة ! ُ‬

‫التدين !‬
‫‪ -5‬موقف ّ‬

‫يقول الواله المتحير ‪ (( :‬إنني أستوعب أن يكون البعد عن هللا سببا في تقطع أوصال الصداقة ؛ فالمعصية شؤم على صاحبها‬
‫التدين واإليغال فيه سببا لتمزق الصداقة و اندحارها !‪ ..‬هذا ما حدث مع‬
‫أتفهم أن يكون ّ‬
‫ولكني ال ّ‬ ‫وعلى أصحابه كذلك ‪ّ ،‬‬
‫كنت إنسانا متدينا – على ما أظن !‪ -‬و كان لي الكثير من الزمالء ولكن لم يلفت انتباهي أحد منهم غيره ‪،‬‬
‫صديقي الغريب ‪ُ ،‬‬
‫فقمت بدوري األخوي في أخذي يده‬ ‫شاء هللا أن نتجاذب بعد أن اجتمعنا على غير ميعاد ‪ ،‬وكان فرق التمسك بالدين بيننا واسعا ُ‬
‫لم َس ْت صداقتنا قلبه الطيب فوجدته قلبا مفتوحا للهداية ‪ ،‬علمتُه ما أعانني هللا عليه من‬ ‫إلى الطريق المستقيم ‪ ،‬وكان ِمطواعا ّ‬
‫لينا َ‬
‫التدين وكان حبه لي ينمو مع حبه هلل وقربه منه ‪ ،‬كان واجبا علي أن أحيط صديقي الحبيب الذي لم يكن يفارقني‬
‫أمور الدين و ّ‬
‫ّ‬
‫أبدا أن أحيطه بوسط من المعارف الطيبين الصالحين الذين يوفرون له ّ‬
‫الجو األنسب للقرب من هللا و معرفة طريقه ؛ فالذئب‬
‫يأكل من الغنم القاصية مثل الشيطان الذي ينفرد بالمنفرد فيفتك به ! ‪ ،‬كان ذلك مقصدي الشريف من تعريفه بالمؤمنين‬
‫المخلصين ولكن ‪....................‬‬
‫يبدو أن مقصدي انقلب علي وأتى بما لم ترغبه نفسي ! ‪ ،‬لقد بدأ ينشغل صديقي بالوسط الجديد ‪ ،‬ويستزيد من المعارف‬
‫ّ‬
‫قلبه‬
‫قوة يوما بعد يوم بإحاطة الناس به – في ظنه ! ‪ -‬منشغال عن صديقه القديم و منصرفا عقُله و ُ‬‫واألصحاب ‪ ،‬ويزداد ّ‬
‫ينحيني من وقته و لقاءاته ‪ ،‬يبدو أنني بغير قصد صرت‬
‫عمن دله على ذاك الطريق ‪ ،‬لقد قل اهتمامه بي بل كاد ينساني و ّ‬
‫ّ‬
‫أنهيت مهمتي و تم الغرض والقصد مني رماني و انشغل‬
‫ُ‬ ‫أداة موصلة له إلى الناس وإلى الدنيا المفتوحة الغرورة ‪ ،‬حتى إذا ما‬

‫‪239‬‬
‫بحياته الجديدة حياة االنطالق واألضواء بين المعارف واألصحاب ! ‪ ،‬هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان ؟! ‪ ،‬إنني يا أخي‬
‫الفاضل ال أريد منك جزاء وال شكو ار وال أبغي تذكي ار لي على الدوام بفضلي فالفضل كله بيد هللا ‪ ،‬ولكني أريدك صديقا دائما كما‬
‫اذم المعارف واألصحاب الذين هم هباء وغثاء‬
‫كنت من قبل ‪ ،‬أريد أن تعود أيام األخوة الصافية الطيبة التي ال تعوضك إياها شر ُ‬
‫َ‬
‫كغثاء المطر ‪ ،‬إنني يا أخي ال أريدك أن تنقطع لي وحدي من دون الناس لتصير مغمو ار مجهوال – كما َ‬
‫كنت من قبل أن‬
‫وصلك لما أنت فيه – ولكني أريدك أن تعدل في القسمة بأن تعطيني نصيبي الصحيح وقدري المعهود الذي ال‬ ‫تعرفني و أُ ِ‬

‫أرضى أن يناله أحد غيري ! ‪ ،‬هؤالء ال يحبونك مثلي وعالقتهم بك عالقة ّ‬


‫هشة لم تكن لتضارع عالقتنا العميقة المتج ّذرة ‪،‬‬
‫عالقتي بك كانت عالقة قلوب وأرواح وعالقتك اآلن بهم عالقة أجسام وأشباح ! ‪ ،‬فليت ّأنا بقدر الحب والعالقة نقتسم ! ‪..‬‬
‫هذه كانت بداية عالقتنا من قبل وال أرضى لهذا الوضع بديال ‪ ،‬إما أن تعود لسابق العهد وإال فإليك عني وعوضني هللا خي ار‬
‫منك !‪....‬‬
‫ولكنك حتما ستعود حينما تشعر بفراغ القلب ‪ ،‬فراغك الروحي الذي ال يعوضه غثاء وإنما يعوضه األصدقاء ‪ ..‬األصدقاء فحسب‬
‫ّ‬
‫!!‬
‫حينها ستعلم أن القوة التي اكتسبتَها من شهرتك ومعارفك الكثر ما هي إال هواء في هواء كالبالون المنتفخ حجم ظاهر بال‬
‫محتوى و ُذخر!‬
‫التدين فليس الجفاء من الدين في شيء‬
‫للدين و ّ‬
‫أودعك خذ مني نصيحة لعلك تعود إلى عقلك ورشادك ‪ ،‬راجع فهمك ّ‬ ‫وقبل أن ّ‬
‫الدين في شيء!!‪)) ..............‬‬
‫الدين في شيء ‪ ...‬وليس مقابلة اإلحسان بالهجران من ّ‬
‫‪ ....‬وليس نبذ الصداقة من ّ‬

‫تساءلت عن تفسيرها لغرابتها و كثرة‬


‫ُ‬ ‫المتدينين ‪ ،‬خبرتها و سمعت عنها من غيري ‪ ،‬و‬ ‫ّ‬ ‫أقول ‪ :‬إن هذه القصة متكررة في وسط‬
‫تعجبي منها ‪ ،‬فكيف للقرب من هللا أن يتحول إلى بعد عمن قربك من هللا؟! ‪ ،‬وكيف لتغلغل الدين في النفس أن يطرد محبة‬
‫الكبر ! ‪ِ ،‬‬
‫الكبر الذي يستولي على النفوس بعلّوها‬ ‫الصديق من نفس النفس ؟! ‪ ...‬وصلت في النهاية إلى أن السر في ذلك هو ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تدين حديثا في بيئة قل فيها‬ ‫ِ‬
‫بعد ض َعتها وضياعها ! إنه االختيال والتعالي بنعمة هللا التي لم ينعم بها سواه ! ‪ ،‬إن الذي ّ‬
‫المتدينون يصعب على الشيطان أن يصرفه عن طريق هللا فيسلك طريقا آخر هو طريق االغترار بالنفس و النظر لبقية الناس‬ ‫ّ‬
‫الذين لم ينعم هللا عليهم بالتوبة نظرة االزدراء كأنه فوق برج عال وهم في القاع ما زالوا في الظلمات وهو في النور ! و يزيد هذا‬
‫الشعور الخفي ازدياد علمه بدينه وتعمقه في فقهه ومسائله وعلومه ‪ ،‬فيزداد علمه و يزداد معه كبره ‪ ،‬ولكن هذا االنتفاخ‬
‫ّ‬
‫واالنتفاش النفسي ال يلبث أن ير ّتد إلى الصديق الذي أوصله إلى الطريق ! فهو يشعر أنه تخطاه مراحل عديدة وأنه لم يعد‬
‫يساويه و يضاهيه ‪ ،‬فيدفعه غروره إلى التنكر لمن أخذ بيده من قبل ‪ ،‬كل هذا يتحرك في العقل الباطن ‪ ،‬و النتيجة المزيد من‬
‫يخس نصيبه تدريجيا مبخوسا حقه من قبل العقل الجامد المتمرد ‪ ،‬فتكون‬
‫االنغالق و النقص من حظ القلب ‪ ،‬القلب الذي ّ‬
‫النهاية بعد زمن طويل أن يصرخ القلب صريخا مدويا و يستيقظ العقل من سكرته حين يفيق على ضياع كل شيء ‪ ...‬كل‬
‫التفرد وإنما يغذيه أشياء روحية معنوية‬
‫شيء و أعظم ما ضاع نصيب القلب الذي ال يغذيه الشهرة وال المعارف وال التكبر وال ّ‬
‫غفل عنها كثير من البشر ! ‪..........‬‬

‫‪240‬‬
‫‪ -6‬موقف الخيانة !‬
‫يقول صاحبنا الجريح ‪ (( :‬لقد سارت صداقتنا هادئة مطمئنة ‪ ،‬وما زاد اطمئنانها اطمئنان قلبي إلى صديقي الذي صار قلبي‬
‫يسري عني و ينسيني مصائب دنياي ‪ ،‬وما ذاك إال بسبب المكاشفة‬
‫مفتوحا على قلبه بال حواجز وال موانع ‪ ،‬لقد كان لقائي به ّ‬
‫و المصارحة التي هي دواء العقل الَقلِق المشتت حين تعجز معه األدوية ! ‪،‬و أسرار األصدقاء بغير حاجة إلى تصريح في طي‬
‫ّ‬
‫أخص وأجدر ‪ ،‬ولكن صديقي كان له شأن آخر‬‫الكتمان ‪ ،‬فقلوب األحرار قبور األسرار ‪ ،‬هذا مع عامة الناس وفي الصديق ّ‬
‫!!‪................‬‬
‫ففوجئت‬
‫ُ‬ ‫ففي لقائي مع أحد الزمالء – واألسوار قائمة بين الزمالء – كان يمزح هذا الزميل معي على عادته في وسط زمالئنا‬
‫وصمت مشدوها‬
‫ّ‬ ‫فاحمر وجهي‬
‫ّ‬ ‫به يذكر في مزاحه س ار لي من أسراري الشخصية الحساسة التي لم أبح بها ألحد إال لصديقي ! ‪،‬‬
‫مصدوما و انعقد لساني من شدة اإلحراج ‪ ،‬ومرت علي الثواني ساعات ثقيلة وأنا ُمطرق واجم إلى أن انتهى الجمع و يبدو أن‬
‫صداقتي انتهت معه !‬
‫إن صديقي المحترم يذيع أسراري بين الزمالء ‪ ،‬إنه خان عهد األخوة ولم يراعني صديقا وال إنسانا له خصوصية ! ‪ ،‬إنه كثير‬
‫الضحك والمداعبة بطبعه ‪ ،‬ولكن مزاحه وهزله َع َبر منطقة الخطر ‪ ،‬عبر إلى معتديا جارحا ! ‪ ،‬إن الصداقة أيها المحترم َج ّد‬
‫ّ‬
‫في َج ّد ‪ ،‬ولكن الجد تحول معك إلى هزل ‪ ،‬كثرة هزلك جعلتك لم تعد تفرق بين وقت الجد ووقت الهزل ‪ ،‬إنك لم تصن عهد‬
‫آدميتي ‪ ،‬إن لسانك السقيم شهوته في الضحك والمزاح ولو من األصدقاء المقربين أشد و أغلب من‬
‫األخوة ولم تصن كرامتي و ّ‬
‫السر لم أنبهك إلى ضرورة‬
‫قلت لك هذا ّ‬‫صيانتك لصديقك و احترامك لعهده و اإلخالص له ! ‪ ،‬أرجوك ال تتعلل بأنني حين ُ‬
‫كتمانه ‪ ،‬فالصديق الصدوق يعلم األسرار جيدا ويميزها من بين هزل الكالم بال توضيح وال تصريح ‪ ،‬إنني حين آمنتك على‬
‫سري آمنتك واثقا من أنك لو هجرتني و قطعتني فستمنعك مكارم أخالقك من إذاعة أسراري صيانة للعهد و اعتبا ار للماضي‬
‫الجميل ‪ ،‬فما بالك وقد أذعت سري ونحن أصدقاء بال شجار وال عراك ! ‪ ،‬إنك إنسان غير أمين ‪ ،‬ولسانك منفلت ‪ ،‬إنك خنتني‬
‫‪ ،‬ومن هذا حاله فال يصلح أن يكون أخا مخلصا في حال ّ‬
‫الجد وإنما للزمالة واللهو والمزاح وتافه األشياء ! ‪ ،‬وداعا يا زميلي و‬
‫حظ سعيد مع أمثالك من الهازلين التافهين !! ‪))..‬‬

‫أقول ‪ :‬إن هذا المثال من الخيانة بين الصديقين هو مثال صغير لما قد يحدث من غدر وانتهاك لحقوق الخّلة وإال فهناك أشد‬
‫وأعتى ‪ ،‬فكثرة اختالطك بمن يعاديه صديقك ضرب من الخيانة ‪ ،‬وصداقة الخليل و صداقة عدوه معا ازدواج ال تستمر معه‬
‫سجل لنا أن الصديق‬
‫سجله لنا التاريخ المظلم بين مشاهير األصدقاء ‪ ،‬فالتاريخ ّ‬
‫صداقة أبدا ‪ ،‬ومن صور الخيانة العظمى ما ّ‬
‫يدس له السم لينهي حياته ! ‪ ،‬كما أخبرنا التاريخ أن الصديق قد يقتل صديقه ورفيقه وهو – أي ‪ :‬القاتل ‪-‬‬
‫يسجن صديقه بل ّ‬
‫السر عند صديق موبقة‬
‫تحت تهديد السالح ! ‪ ،‬الخيانة في الصداقة ليس لها حدود في زماننا التعيس أهله ‪ ،‬ولئن كان إفشاء ّ‬
‫كبرى ال تغتفر لكان السجن والقتل هو الكفر البواح ! ‪ ،‬لكن دعوني أؤكد لكم أن الصديق الحق المخلص ال يخون صديقه – ال‬
‫خير بين موته و خيانة صديقه ألبى ضميره و‬
‫أقول‪ -‬لشهوته و مصلحته ! بل ال يخونه ولو وضع المسدس في رأسه ! ولو ّ‬
‫روحه الزكية أن يكون صديقه ً‬
‫فداء له ‪ ،‬هذه هي األخوة وهذا هو الضمير اإلنساني في زمن صار الضمير فيه أسطورة من‬
‫أساطير األولين كما صارت األخوة السببية عند أناس نوعا من المحاالت ! ‪....‬‬

‫‪241‬‬
‫‪ -7‬موقف االنشغال و النسيان !‬

‫يقول الصديق المغبون ‪ (( :‬لقد سافر صديقي وتركني وحدي بعد طول ائتناس به و انشغال بأحواله وحكاياته ‪ ،‬ولم أكن‬
‫الممتحن ويشتري الحاضر بالغائب ! ‪...‬كال ‪ ،‬لم أنشغل بأصحابي الحاضرين ملقيا‬
‫َ‬ ‫ألصير الصديق الخذول الذي ينسى صديقه‬
‫حققت واجب الصلة‬
‫ُ‬ ‫حييت على ذكراه ‪ ،‬بقي نسيمه يحيطني من كل جانب أتذكر أيامه و أحلم بلقائه ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صديقي خلف ظهري بل‬
‫مع صديقي فلم يمض أسبوع حتى آنسته باتصال أو رساله بين طياتها دوام العهد بيننا إلى أن ينتهي االفتراق ويجتمع األحباب‬
‫أحسست بنبرة صوته متغيرة معي ‪ ،‬إنه لم يعد متلهفا مشتاقا‬
‫ُ‬ ‫يرد على رسائلي بل‬‫‪ ،‬ولكني ال حظت في الفترة األخيرة أنه ال ّ‬
‫ملت على نفسي‬‫لصوتي و حواري ‪ ،‬لم يعد الهاتف يشع ح اررة و التهابا كما كان من قبل ‪ ...‬إنها بوادر الجفاء ! ولكنني تحا ُ‬
‫أزود ! ‪ ،‬عرفت بالمصادفة أن صديقي‬ ‫الود متصال لئال أكون ظاهريا بادئا بالعداء ولكن أخي ار أتاني باألنباء من لم ّ‬
‫أبقيت حبل ّ‬
‫و ُ‬
‫المحترم قد رجع إلى ديارنا في إجازة سالما منذ أسبوع كامل وكنت أنا آخر من يعلم ! أنا‪ ..‬أنا ‪ ..‬الذي كنت ال أفارقه في يوم‬
‫من األيام ال أعلم أنه حاضر بعد غياب ‪ ،‬لم ُيعلمني نية حضوره برسالة أو اتصال قبل مجيئه بل عندما حضر لم يعلمني‬
‫حضوره ألستقبله أحسن استقبال و أبادره باالنشراح و القبالت واألحضان ! ‪ ،‬ماذا جرى ؟! ماذا حدث ؟! ‪ ..‬اإلجابة واضحة‬
‫اآلن ‪ ،‬إن صديقي إنسان واقعي – كما يزعم من سلك مسلكه – إن غيابه عن بلده سوف يطول بل قد يكون أغلب حياته ‪،‬‬
‫فلماذا يشغل نفسه بصديق هو الوهم ذاته ؟! صديق لن يراه في عمره إال مرات معدودة ‪ ،‬صديق سيظل على اتصال وهمي به‬
‫خالل أسالك الهاتف و تيارات اإلنترنت ! صديق لن تنال عينه منه الحظ الوفير كما ستنال أذنه ! لماذا إذن االشتغال بالخيال‬
‫؟! ولماذا ال يعيش على أرض الواقع والحقيقة فيشتري أصدقاء آخرين في أرضه الجديدة وعالمه الحالي ؟! ‪ ،‬إن مشكلتي‬
‫كنت غافال عن الحقيقة التي‬
‫الود متصال من ناحيتي بينما قطعه هو بال رجعة من ناحيته ‪ ،‬لقد ُ‬ ‫أبقيت حبل ّ‬
‫ُ‬ ‫الشخصية أنني‬
‫دت بازغة أمام ناظريه ‪ ،‬هذه هي الواقعية وهؤالء هم أرباب المذهب الواقعي وال مكان للروحانيات و ال سبيل لعالم القلوب و يا‬
‫ب ْ‬
‫حسرة علينا نحن أصحاب األحالم والخياالت نتعلق بالسراب و نزعم أننا معتنقون المثل والفضائل فيا حسرة علينا ‪ ..‬يا حسرة !!‬
‫))‬
‫أقول ‪ :‬يا أخي الطيب ال تتحسر على نفسك وإنما تحسر على صديقك الذي غرق في بحر المادة إلى أذنيه حتى مات قلبه و‬
‫سكر عقله ‪ ،‬إن الحياة الحقيقية هي حياة األرواح ال حياة األبدان ‪ ،‬األبدان زائلة فانية واألرواح باقية خالدة ‪ ،‬فمن تعلق بالمادة‬
‫أعد له منه عدة فهو ال يخسر أبدا ‪ ،‬فهو إنما يغذي شيئا باقيا‬
‫إنما يشبع بدنه ال روحه فهو خاسر ‪ ،‬ومن تعلق بغذاء الروح و ّ‬
‫سرمديا ‪ ،‬وأرباب الصداقة و أصحاب مذهب الخّلة أبدانهم معنا في الدنيا منظورة وأرواحهم تسبح حول عرش الرحمن ‪ ،‬إنهم وإن‬
‫حرموا من أصدقائهم في الدنيا فهم على يقين أنهم ال يحرمونهم في اآلخرة تحت ظل الرحمن يوم تفنى بقية الظالل ‪ ،‬هذه أنفس‬
‫تؤمن بالغيب القادم الباقي وتلك أنفس تؤمن بالمادة الحاضرة الماضية فمن األولى بالشفقة عليه؟!‬

‫‪ -8‬موقف مبهم !‬

‫‪242‬‬
‫تعمق ‪ ،‬لم أكن أتخيل أننا نفترق في الدنيا‬
‫يقول الحائر ‪ (( :‬كنت أنا وخليلي في أحسن األحوال من قربى و مودة و ترابط و ّ‬
‫ق‬ ‫ق‬
‫طأ فهنالك طر أخرى تفر األحباب و ُ‬
‫السجراء ‪ ،‬منها طريقتي المشئومة التي ال أفهمها‬ ‫تخيلي كان خ ً‬
‫إال بموت أحدنا ! ولكن ّ‬
‫عني فجأة وكنت كعادتي في الثّقل المتصنع أنتظره ليتصل هو فألومه و‬ ‫حتى اآلن ‪ ،‬والقصة تبدأ حين طال انقطاع صديقي ّ‬
‫اتصلت‬
‫ُ‬ ‫فردت علي والدته و قالت إنه غير موجود ‪ ،‬حسنا أخبريه أنني‬
‫أعاتبه ‪ ،‬ولكن االنقطاع طال هذه المرة فبادرته باالتصال ّ‬
‫ّ‬
‫كررت االتصال و ردت علي والدته وأجابتني بنفس اإلجابة ‪،‬‬‫ُ‬ ‫لت مرة أخرى و‬
‫به ‪ ،‬فانتظرتُه ليتصل بي ولكنه لم يتصل ! فتناز ُ‬
‫يردوا علي هذه المرة ‪ ،‬هم يعرفون رقمي الذي يظهر عندهم وال‬
‫ثم طال انتظاري و كررت االتصال مغتاظا يائسا ولكنهم لم ّ‬
‫أجرمت في حقه ليقطع عالقته بي بهذه الصورة‬
‫ُ‬ ‫يردون !! لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ ال أدري ‪ ،‬لماذا يتهرب عني صديقي ؟ وماذا‬
‫عني و ال يريد أن يعطيني فرصة للتناقش‬
‫الجافية المريرة ؟ ال جواب منطقي يشفي حيرتي و يلين جمود عقلي ! ‪ ،‬إنه انقطع ّ‬
‫والتفاهم ‪ ،‬إنني ال أتذكر أي سبب سابق لهذا الموقف يفسر موقفه الغامض ‪ ،‬كل ما أعيه أننا كنا على وفاق تام قبل هذا‬
‫تشتت عقلي و دارت األسئلة في رأسي دوران النحل بال جواب ألقعد حزينا بائسا في‬
‫َ‬ ‫طالت حيرتي و‬
‫ْ‬ ‫االنقطاع المفاجئ ‪ ،‬لقد‬
‫رد صديقي و أقصر عن فهم حاله وحالي ! ))‬ ‫النهاية أعجز عن ّ‬

‫لست أول من يصاب بهذا الخطب فهي قصة متكررة في أحداثها‬ ‫أقول ‪ :‬إنني أفهم حيرتك يا صاحبي البائس وأطمئنك أنك َ‬
‫ووجدت منها أن الصديق قد يم ّل صديقه و يصبح عبئا ثقيال عليه‬
‫ُ‬ ‫فكرت كثي ار في تحليل هذه األسباب‬
‫ُ‬ ‫مختلفة في أسبابها ‪ ،‬وقد‬
‫بعد أن يكّلفه صديقه ما ال يطيق دائما على ذلك ‪ ،‬غير عابئ بإحساس صديقه و غير مقدر لطاقته وقدرته و متواكال على‬
‫مهمة الصديق في تفريج الكربة و معونة الصديق معتب ار ذلك حقا مكتسبا واجبا مفروضا عليه أن يؤديه صديقه في كل وقت بال‬
‫ملل وال اعتراض وإلى النهاية حتى يصير صديقه – و كذا شعوره – عبدا يجب عليه تنفيذ األوامر و حمل األمتعة و تحمل‬
‫المشاق بغير شكوى وال ألم ! ولكن ‪....‬‬
‫ـدوا‬ ‫إذا هيج فارق ذاك ُ‬
‫اله ـ ـ ـ ـ ّ‬ ‫وال تغترر بهدوء امـ ـ ـ ـ ــرئ‬
‫إنه لن يحتملك في النهاية وسينفجر حتما ‪ ،‬ولكن انفجاره معك هذه المرة سيكون صامتا بال صراخ أو ضجيج ‪ ،‬سيغلق عليه‬
‫خسرت صديقك إلى اآلبد ! ‪ ..‬هذه طريقة‬
‫َ‬ ‫بابه ويمنعك من الدخول إلى حياته مرة أخرى لعلك تفيء وتفهم ولن يفيدك الفهم فقد‬
‫سببت موقف النهاية ال هو ‪ ......‬وهذا سبب محتمل ‪..‬‬
‫َ‬ ‫بعض الناس في االعتراض ‪ ،‬والمخطئ هنا أنت ال هو وأنت من‬
‫ومن تلك األسباب الغامضة التي يعسر فهمها إال بعد حين ضغط األبوين على االبن الصغير ليترك صديقه مجب ار مقهو ار على‬
‫ذلك ! وذلك حين يرى األب المستبد أن مصلحة ابنه كما يزعمها تتعارض مع تلك الصداقة التي ستضره أكثر مما تنفعه ! ‪،‬‬
‫متدينا على غير رغبة أبويه الذين يخشون التدين على ابنهم ويرونه داءا‬
‫وهذا األسلوب القهري رأيناه حين يصاحب الشاب شابا ّ‬
‫خبيثا يجب االبتعاد عنه بكل السبل !! ‪ ،‬بل ربما يقنعانه فعال بخطورة هذه الصداقة بقهرهم و استبدادهم ! ‪ ....‬وهذا سبب ‪.‬‬
‫ومن األسباب الغامضة المعّقدة كذلك – كما أظن ‪ -‬أن يكون هذا الصديق المفاجئ بالقطع والهجر مريضا نفسيا ! وهو‬
‫ألسباب نفسية معقدة يرى ضرورة التخلص من هذا الصديق و إنهاء العالقة معه والبحث عن عالقة أخرى ‪ ،‬وهذا النوع تجده‬
‫دائما يسلك هذا المسلك الهجري مع أكثر من صديق فهي تجربة أليمة متكررة متجددة و دور مسرحي يؤديه بصورة متكررة على‬

‫‪243‬‬
‫خشبة مسرح حياته ولكن يختلف البطل معه في كل عرض جديد ! ‪ ...‬وهذا سبب ‪ ،‬وهللا أعلم ببواطن النفوس وبواطن الظروف‬
‫!‬

‫عواقب نهاية الصداقة‬

‫فترة األلم !‬
‫يقول المسكين ‪ (( :‬يا إلهي ماذا وقع ؟؟ ‪ ،‬ماذا جرى و ماذا انقضى ؟؟ لقد أ ِ‬
‫ظلمت الدنيا في عيني بعد صديقي ‪ ،‬لم أعد أشعر‬
‫ّ‬
‫يغيم حولي ‪،‬‬
‫ببهجة الحياة بعد تلك التجربة األليمة ! لم أعد أستطعم طعاما وال أشعر بحالوته ولذته ! ‪ ،‬ما ذاك االسوداد الذي ّ‬
‫لماذا صارت الدنيا قاتمة ال طعم لها وال معنى عندي ؟! ‪ ،‬أشعر أنني فقدت الدافع في الحياة ‪ ،‬فقدت الحادي الذي كان يحدوني‬
‫نحو طلب التفوق والنجاح ‪ ،‬لقد كان هناك من قبل شعور في داخلي يدفعني نحو االنطالق والبحث عن سبل الحياة و الغوص‬
‫محفز لي‬
‫ّا‬ ‫فيها و اهتبال فرصها وسلوك دروبها ‪ ،‬لكن هذا الشعور ذبل في داخلي اآلن حتى صرت ال أُقِبل إلى الحياة و ال أجد‬

‫ّ‬ ‫الكد ‪ ،‬لقد كان هذا الشعور السحري هو ّ‬


‫الحب ‪ ،‬نعم الحب الذي مأل الحياة علي بهجة وحبو ار ‪ ،‬مأل كياني‬ ‫لمواصلة العمل و ّ‬
‫شعرت أني أملك الدنيا كلها وأنه ال أحد يدانيني في سعادتي و نشاطي ولكن ‪ ....‬اآلن خال قلبي من هذا‬
‫ُ‬ ‫وغشى أركاني حتى‬
‫ّ‬
‫أحس أني أتعس البشر و أسأم إنسان في‬
‫صرت ّ‬
‫ُ‬ ‫اغت عن حياتي حتى‬
‫ضلت سبيل قلبي و ز ْ‬
‫ْ‬ ‫فانقشعت معه البهجة و‬
‫ْ‬ ‫الشعور‬
‫الوجود ! ‪............‬‬
‫لقد أحاط بي الملل من كل جانب ‪ ،‬الملل ذلك الشعور الرهيب الفظيع الذي كاد يقتلني كاد يمزق قلبي بسكينه الثلم ! ‪ ،‬إنني‬
‫فقدت القدرة على شغل وقتي ‪ ،‬أوقاتي التي كنت أقضيها معه صارت فراغا في فراغ ‪ ،‬في أي شيء أقضيها وكيف أقضيها ؟‬
‫إنني صرت عاج از وأنا قادر ! ال أستطيع فعل شيئا وأنا مستطيع ! صار أي عمل لي ثقيال وهو ليس بثقيل ! ‪ ،‬إنني لم أتخيل‬
‫أن تركي لصديقي سوف يترك كل هذا الفراغ في حياتي ‪ ،‬فراغا زمنيا وفراغا نفسيا وفراغا عقليا ‪.............‬‬
‫إن صورته تطل على عقلي كالشبح المخيف ‪ ،‬شبحه يطاردني ليل نهار في اليقظة قبل المنام ‪ ،‬مجرد تذكر صورته في عقلي‬
‫يشعل النار في قلبي وجسدي ‪ ،‬يؤرق منامي و يعذب صحوي ‪ ،‬تزيد صورته غيظي و غّلي ‪ ،‬أنا مبتعد عنه و لكن انجذابا‬
‫داخليا له يمزق أحشائي و يربك تفكيري ‪ ،‬أهرب منه و أنا ذاهب إليه ! أنحي خياله عن طريقي و هو رابض في صدري يخنق‬
‫أنفاسي ! ‪ ،‬هل الصداقة تفعل ذلك بالبشر ؟ وهل التعلق الشديد يحول حياة اإلنسان إلى علقم و جحيم بعد أن كانت ياسمينا و‬
‫نعيما ؟! ‪ ،‬وهل الصداقة تكون سببا في أن أصل إلى االكتئاب وأذهب إلى األطباء النفسيين وأتناول األدوية المهدئة بال جدوى‬
‫فت صديقا !‪...‬‬
‫صادقت وليتني ما عر ُ‬
‫ُ‬ ‫وال أمل ؟! ‪ ،‬ليتني ما‬
‫إن أمنيتي اآلن ال أمنية غيرها أن أنساه ‪ ،‬أنساه بال رجعة ‪ ،‬نسيانه هو الحل الوحيد لمشكلتي ‪ ،‬ولكن كيف ؟ ال أدري ‪ ،‬سأرفع‬
‫يدي إلى هللا داعيا مبتهال ‪ ،‬سأتوسل إليه في صالتي وسجودي ‪ ،‬سأقف بين يديه في جنح الظالم في وقت السحر لعلي‬
‫ألح في دعائي أن يخرج هذا اإلنسان من قلبي أن يمحو تعلقي بهذا اإلنسان‬
‫أصادف وقتا مستجاب الدعوة ‪ ،‬سأدعوه وحده و ّ‬

‫‪244‬‬
‫حر طليقا ‪ ،‬اللهم انتزع حبي له و تعلقي به من قلبي وال تجعلني أتعلق بأحد سواك أبدا أبدا !! أنت آخر أمل لي ال‬‫وأكون ّا‬
‫أمل لي سواك يا هللا ! ‪))..........‬‬

‫انتفاضة الوسط المحيط !‬


‫السمار‬
‫بعد أن كانت صداقتهما الغضة اليانعة مضرب األمثال بين الناس و حديث القاصي والداني و قضية الثرثارين و حديث ّ‬
‫كانت نهايتها المفاجئة كذلك صارخة كما كانت بدايتها وذروتها ! ‪ ،‬سيتعجب المتعجبون و يثرثر الثرثارون و يكثر القيل والقال‬
‫عند من ليس لهم شاغل سوى الحديث عن الناس وتقفي أخبارهم ‪ ،‬كما ستنطفئ نار الحاسدين الحاقدين الذين حرموا من‬
‫الصداقة و طالما جحظت عيونهم ضيقا وحسدا كلما أروا صديقين متالزمين قلما يجود الزمان بمثل عالقتهما الفريدة !‬
‫‪..............................‬‬
‫متصنعوه كذلك سيسارعون إلى كل طرف محاولين إصالح الصدع و لمّ الشمل وهنا يحاولون محاوالت‬‫ّ‬ ‫أما رائمو اإلصالح أو‬
‫يائسة يذكرون الطرفين أن هذه القطيعة يرفضها الدين و يحذر منها يستشهدون بقول الرسول صلى هللا عليه وسلم ( ال يحل‬
‫لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثالث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسالم ) و قوله ( ثالثة‬
‫الترفع صالتهم فوق رؤوسهم شب ار ومنهم أخوان متصارمان ) ولكن كيف سيكون رد الصديق المكلوم ؟؟‬
‫عت للتعاون‬
‫إذا كان الوسيط المصلح فقيها فإن رافض الصلح سيكون أفقه منه ! يقول أحدهم ‪ :‬إن الصداقة واألخوة إنما شر ْ‬
‫على طاعة الرحمن و الزلفى من هللا و زيادة الحسنات ولكن هذا لم يعد في صداقتنا المنصرمة ! ‪ ،‬إن عالقتي بصديقي‬
‫صرت ال‬
‫ُ‬ ‫شتتت عقلي حتى‬
‫ْ‬ ‫أصبحت سببا في بعدي عن هللا ! كثرة الخالفات والنزاعات والتشاحن بيننا صرفتني عن العبادة بل‬
‫أستطيع الخشوع في صالتي وال التدبر في ذكري ‪ ،‬وتقول إن افتراقنا يغضب هللا ؟! بل إن افتراقنا هو عين الحكمة و السداد‬
‫لعلي أفيء إلى ربي و حبه بعد أن صرفني حب صديقي واالنشغال به عن ربي وعن حبه و االنشغال به !! )‬

‫أقول ‪ :‬على هؤالء الوسطاء الطيبين أال يضيعوا أوقاتهم في محاولة اإلصالح بين صديقين مقربين تفرقا ! فالصديقان‬
‫المفترقان ال يستطيع أهل الدنيا جمعاء أن يجمعوهما مرة أخرى ‪ ،‬لماذا ؟ ‪ ،‬ألن عالقة الصديقين المتقاربين كانت شديدة العمق‬
‫بالغة التج ّذر فيها من األسرار و األحوال الخبيئة ما ال يمكن إذاعته ‪ ،‬لذا ال يتبين للمصلحين السبب الحقيقي للخصومة ولو‬
‫حاول التفتيش فإنه سيفشل ! وأعجب من الزميل المصلح بنفسه الزميل الذي يريد أن يتحاكم الصديقان المتخاصمان إلى شيخ‬
‫حكيم أو عالم ٍ‬
‫مرب فيسعى لجمعهما عنده ليكون قاضيا بينهما وياله من أحمق زاد قضيته تعس ار و تعث ار فهيهات لألباعد أن‬
‫يطيبوا جرح صديقين ولو كان أعلم العلماء و أزكى المرّبين !‬
‫وعليك أن تفهم أيها الطيب المصلح أن الصديقين المتالزمين إذا بلغا مرحلة النهاية فإن األمر خطير و الخطب عظيم ولوال‬
‫الحسي وإما الموت المعنوي ! فلست أنت أيها الزميل من‬
‫عظمتة ودقته ما تفرقا أبدا ‪ ،‬فال تنتهي صداقة إال بالموت إما الموت ّ‬
‫ستحيي الموتى و لست أنت أيها األبعد من سيحضر الذئب من ذيله ! وإن كنت في كل األحوال ستنال شرف المحاولة !‬

‫‪245‬‬
‫يحضرني هنا موقف متناقض ‪ ،‬فقد كان لي زميل له صديق مقرب ال يفارقه إلى أن اشتعلت نيران الجفاء والشقاق بينهما فافترقا‬
‫ذكرت بال فائدة ! ‪...‬‬
‫ُ‬ ‫ضنا بأن تزول تلك الصداقة المبهجة ولكن كما‬
‫و سعى المعارف والزمالء إلرجاع المياه إلى مجراها ّ‬
‫دب الشقاق بين صديقين آخرين من المجموعة و انتهت عالقتهما كما انتهت عالقة سابَق ْيهما فإذا زميلنا الذي‬ ‫ومرت األيام و ّ‬
‫الرد واضحا ومتوقعا ‪ :‬اذهب أصلح‬‫ترك صديقه يسعى هو نفسه لإلصالح بين الصديقين المتخاصمين – سبحان هللا ! ‪ -‬وكان ّ‬
‫ولكنكما لستما مثلنا فأنتما‬
‫عالقتك مع صديقك أوال قبل أن تعظنا وتريد اإلصالح بيننا ! ‪ ،‬ولكنه أجاب إجابة جدلية قائال ‪ّ :‬‬
‫صالحان حافظان لكتاب هللا تعلمان دين هللا أكثر منا وأولى بكما أال تقعا فيما وقعنا فيه !! فأطرق الزميل قليال ثم انصرف بال‬
‫جواب !! ‪ ........‬صحيح صدق هللا ( وكان اإلنسان أكثر شيء جدال ) ‪!!..‬‬
‫طع أوصال المحبة كما أن مصائب قوم عند قوم فوائد ‪-‬مصيبة نهاية صداقة بريئة‬
‫وعلى جانب آخر من شط نهر الخصومة وتق ّ‬
‫كذلك ! ‪ ،‬وذلك يحدث حين يحاول زميل التقرب من أحد صديقين بأقصى ما في وسعه ‪ ،‬يحاول اختراق قلب أحدهما ولكنه‬
‫يفشل ! ‪ ،‬يحب ذلك اإلنسان ويوقره و ينشغل به ولكن اآلخر له صديق قريب محبب ال يدانيه صديق آخر ‪ ،‬يقول بلسان حاله‬
‫‪ :‬مهما حاول َت اختراق قلبي فلن تستطيع إلى ذلك سبيال ؛ ذلك ألن قلبي مشغول ممتلئ بحب صديقي ‪ ،‬يحزن الزميل ولكنه‬
‫يرجو الخير لحبيبه المنصرف عنه ويرجو له األخير ‪ ،‬ولكن األيام تدور وتنتهي تلك الصداقة الجميلة وتتحطم على صخرة‬
‫الحياة المتقلبة ‪ ،‬ويخلو الجو للزميل ويسهل عليه اختراق قلب حبيبه الذي لم تعد فيه ذرة حب لصديقه القديم !‬
‫المتخاصمين و قلبه يرجو خالف ذلك ‪ ،‬ولكن كانت‬
‫َ‬ ‫هو ال يتمنى الشر ألحد بل حاول وهو متحامل على قلبه أن يصلح بين‬
‫القطيعة النهائية قد ار مقدو ار ‪ ،‬جاءته الفرصة إليه دون أن يسعى إليها فهل يتركها ؟! ‪ ،‬هذا هو حال الدنيا تبخل على أناس‬
‫لتجود على آخرين ‪ ،‬وتتعس بش ار لتسعد غيرهم ‪ ،‬لذا هي دنيا !! ‪....‬‬

‫قبل أن أنهي الحديث عن الوسط المحيط ألفت االنتباه إلى نوع آخر من المحيطين بالصديقين المفترقين ‪ ،‬إنه نوع يؤجج النيران‬
‫لينحي هذا الصديق عن‬‫ليقسيه على صديقه و يوغر صدره ‪ ،‬يهتبل الفرصة ّ‬
‫و ويروم ازدياد الفرقة والجفوة فيعمد إلى الصديق ّ‬
‫طريقه بالتحقير من شأنه و التسفيه من شخصه وعقله ‪ ،‬و الصديق المخلص يجب أن ينتبه إلى هذا النوع الخبيث من ُزباالت‬
‫فيصده ويوقفه عند حده بل يذكر صديقه السابق بكل خير و يسمه‬
‫ّ‬ ‫البشر بأال يسمح له أن يتكلم عن صديقه السابق هذا الكالم‬
‫بكل مكرمة فهذا يؤجج غيظ المغتاظين الحاسدين و أخطر شيء هنا يجب االنتباه إليه أال تدفعه خصومته مع صديقه إلى‬
‫إفشاء أسرار له فليس هذا حفظ العهد وال صيانة الصداقة بل يكتمها في صدره إلى األبد وكأنه ال يعلمها هذا هو اإلخالص وإن‬
‫وقعت الشحناء والبغضاء ‪ ،‬هذا حال الصالحين المتقين يعلمون أن الصداقة مسؤولية عظمى وهذا أخطر وقت وأكثره حساسية‬
‫للحفاظ على تلك المسؤولية ! ‪..‬‬

‫السالم النفسي !‬

‫ال شك أن تحطم صداقة بعد توطدها و طول عمقها قد يولد االنعكاسات السلبية على فكر اإلنسان و سلوكه فالتجربة المريرة‬
‫التي تعصف باإلنسان قد تورثه عقدة نفسية يصعب االنفكاك منها ‪ ،‬وقد ذكرنا ذلك من قبل و أوردنا حال من ينتحلون مذهب‬

‫‪246‬‬
‫انعدام الصداقة وبينا أن ذلك في األغلب نتيجة للتجارب السوداء التي خبروها و مروا بها و ذكرنا كيف يميل جزء من هؤالء‬
‫لالنعزال عن البشر بعد فقد الثقة فيهم ومنهم من يلتمس بديال للصديق من الجمادات والحيوانات و منهم كما ذكرنا في فصل‬
‫الجفاء من تحيط به الرغبة االنتقامية الشنيعة حيث يتمنى الثأر لنفسه ولكرامته بكل سبيل و برد الصاع صاعين إن لزم األمر و‬
‫تتملكه رغبة شديدة في استبداله بصديقه الغابر صديقا جديدا بأقصى سرعة و بأي ثمن ليشبع رغبته الجائعة في امتالك صديق‬
‫يسد الفراغ الناشئ عن انقطاع عالقته بصديقه و ليثبت لصديقه الغابر قدرته على العيش بدونه و أنه حصل على من هو خير‬
‫منه ‪،‬ولكن هيهات فتلك الرغبة االنتقامية التسرعية عاقبتها الخسارة والندم والمزيد من التعثر وخيبة األمل و تحطم القلب !‬
‫وهذا فريق يعيش فيما يمكن تسميته االشتعال النفسي ! ‪..‬‬
‫جثو و انحناء قام ونفض الغبار عن‬
‫ولكن على الجانب اآلخر فريق هادئ النفس مطمئن القلب ‪ ،‬انكسر و وهن قلبه ولكنه بعد ّ‬
‫الحب من قلبه ذهابا تاما ولكن بقي الحب ‪ ،‬لقد قرر هذا الصديق أن يعيش‬
‫ثيابه واسترجع و فوض أمره إلى هللا ‪ ،‬لم يذهب ّ‬
‫حب صديقه الهاجر وعلى ذكراه ‪ ،‬و أن يتنسم روح صديقه أينما حل أو ارتحل ! ‪ ،‬إنه لن ينتقم ولن تغمره الكراهية والحقد‬‫على ّ‬
‫ولكنه سيستبدل بالكراهية مزيدا من الحب و بالرغبة في االنتقام مزيدا من العفو والصفح ! ‪ ،‬إنه ال ينظر لصديقه الهاجر بأنه‬
‫ظالم جاحد يستحق اللعنات و الطرد من أي رحمة ! بل ينظر إليه بأنه مسكين تائه ضل الصواب و يحتاج لمن يأخذ يده إلى‬
‫الطريق القويم ‪ ،‬إنه ينظر إليه نظرة عطف وشفقة فهو يراه محروما من الحب محروما من السعادة ويدعو هللا له أن يعيده إلى‬
‫رشده ويلين قلبه ويرجعه إلى صديقه ! صديقه الذي يحبه و يوده ! صديقه الذي يعرف مصلحته أكثر من أي أحد ! صديقه‬
‫الذي أيامه معه كانت خير األيام و سعادته في ظله ال تعدلها سعادة أهل الدنيا بدنياهم ! ولكنه مسكين ترك سبيل السعادة وركن‬
‫إلى الضغينة و الكراهية والهجر فأصابه الحرمان من تلك النعمة العظيمة نعمة الصديق المخلص الوفي الذي ال يضارعه أحد‬
‫من الغثاء من البشر ! إنه حتما سوف يعود إلي ‪ ..‬إنني أحلم برجوعه رجوعا حميدا ‪ ..‬إنه سيأتي يوما يشعر فيه بأهميتي و‬
‫ّ‬
‫يفتقر فيه إلى خّلتي وحبي ! ستبدي له األيام ما كان يجهل حتما سوف يعود إلى رشده وصوابه حتما ‪ ..‬حتما ‪...‬‬
‫بت غـ ـ ــيري وتعلم أنني لك ُ‬
‫كنت كن ـ ـ ـ از‬ ‫ستذكرني إذا جر َ‬
‫الجبز ‪ :‬البخيل‬ ‫هويت فصرتَ ِجب از‬ ‫َ‬ ‫وكنت كما‬
‫ُ‬ ‫ود‬
‫بذلت لك الصفاء بك ـ ــل ّ‬
‫ُ‬
‫وكنت ممـ ــن يهون إذا أخوه عل ـ ـ ـ ــيه ّا‬
‫عز‬ ‫ُ‬ ‫عززت‬
‫َ‬ ‫وهنت إذا‬
‫ُ‬
‫مدية ‪ :‬سكين حز ‪ :‬قطع‬ ‫ـز‬
‫فحززت ح ـ ــبلي بها ومودتي بيديك ح ـ ـ ـ ـ ّا‬ ‫َ‬ ‫بمدية‬
‫فرحت ُ‬
‫َ‬
‫فلم تترك إلى صلح م ـ ـ ــجا از وال فيه لمط ـ ـ ــلبه مهـ ـ ـ ـ از‬
‫ستنكت نادما في األرض بعـدي وتعلم أن رأيك كان ع ـ ـ ــج از‬
‫ُ‬

‫أنتظرك يا صديقي الهاجر ويداي ممدودتان مفتوحتان ! ممدودتان إليك راغبة و مفتوحتان إلى السماء داعية ! أنتظرك وكلي‬
‫شوق ولهفة أنظرك و كّلي حب ‪ ،‬سوف أعيش في سالمي النفسي محبا لك سواء أرجعت أم لم ترجع !!‬

‫التردد وإذالل النفس !‬

‫‪247‬‬
‫هذه حال صعبة مسكين صاحبها ‪ ،‬حال اللين واالنكسار من ِقَبل صديق تقابله حال التصّلب والقسوة من الصديق اآلخر ! ‪،‬‬
‫يصر الصديق المسكين على ترك صديقه‬ ‫فحين يزداد الخطب اشتدادا بين الصديقين و تصبح استم اررية الصداقة محاال ّ‬
‫وصديقه مثله حازم في األمر مستمسك بك ولكن ‪ .....‬بعد أن تمر األيام على القطع و تتوالى الليالي بعد الهجر يصيب األلم‬
‫النفسي قلب صاحبنا ! يشعر بفداحة األمر والثمن الغالي الذي دفعه من أجل راحة مزعومة لم لتبث أن تحولت إلى نار‬

‫مضطرمة تكاد تمزق أحشاءه ّ‬


‫وتكسر ضلوعه ! إنه شعر أنه ال يستغني عن صديقه و حياته بدونه محال على رغم أنه توهم من‬
‫قبل أن استمرار صداقته هو المحال ! ‪ ،‬لقد لعب لعبة ليس أهال لها ! إنه ضعيف جدا ‪ ،‬أضعف من أن يتعنتر أمام صديقه‬
‫وينبذه و يظهر كرهه و رغبة قطعه ! لقد كانت حماقة غير محسوبة العواقب ‪ ،‬إنني أنهار وأتقطع وليس لي ملجأ إال إلى‬
‫فررت منه واآلن سأعود إليه‪.....‬ويذهب صاحبنا المنكسر إلى باب‬‫ُ‬ ‫صديقي ‪ ،‬فليس من حل سوى اللجوء إليه مرة أخرى !‬
‫صديقه طارقا واصال يريد العود مرة أخرى ولكن هيهات !!‪ ........‬إن ضعفه ولينه وانكساره أمام نفسه وأمام صديقه لم يقابله‬
‫ضعف مماثل من الجانب اآلخر وإنما على النقيض غلظة وشدة و ٍ‬
‫تماد في الرغبة في القطيعة ‪ ،‬إن إتيان صاحبنا لصديقه‬
‫بالعلو و االنتصار ! بل نفخ في غروره و زاده اقتناعا بصوابه هو وخطأ‬
‫ّ‬ ‫المغرور منكس ار ذليال زاد الصديق المريض قلبه شعو ار‬
‫أقر بجرمه فأنا على‬
‫إلي إال ألنه اعترف بخطئه و ّ‬ ‫صديقه المنكسر الضعيف ‪ ،‬إنه يقول في صدره ‪ :‬إن صديقي لم يأت‬
‫ّ‬
‫سأرده‬
‫الصواب وهو على الخطأ ! ولكنني سأزيد إذاله و كسره وتحطيمه ! لن أعفو عنه فجرمه ليس من النوع الذي يغتفر ! ّ‬
‫ويجل مقامي ! ‪......‬‬
‫ّ‬ ‫خائبا وضيعا ألحطم قلبه وأكويه بناري المستعرة ليعرف قدري‬
‫آب بال صديق وال حميم ‪ ،‬يا لها من حسرة‬‫لقد خرج صديقنا مطرودا محطما ‪ ،‬لقد فقد آخر أمل في استرجاع صديقه ‪ ،‬إنه َ‬
‫ذل و عبودية وقع فيها ذلك المسكين المهان الذي فقد كرامته بعد أن فقد صداقته ! إنه سيزداد‬
‫وياله من انهيار ! ويا له من ّ‬
‫تحطما وانهيا ار واكتئابا ‪ ،‬وسيذهب لينضاف إلى قائمة المترددين على العيادات النفسية لعله يجد أمال أو بقية من أمل !! ‪...‬‬
‫ذل وانكسار بطريقة و هنالك قصة أخرى ال تقل إذالال و كس ار بطريقة أخرى ! ‪ ،‬وهو نفس الصديق الضعيف‬
‫هذه قصة ّ‬
‫المنكسر – وطغيان حبه لصديقه هو سبب ضعفه !‪ -‬ذهب لصديقه مستغيثا ولكنه هذه المرة َقِبَله و لم ّ‬
‫يرده ولكن‬
‫‪..............‬‬
‫لقد َقِبله بصورة جديدة ! ‪ ،‬قبله في عالقة لها حدود و حواجز لم يعهدها الصديق المسكين من قبل ! ‪ ،‬ال مانع من عودتنا مرة‬
‫أخرى ولكن بشروط – ربما ال يذكرها بلسانه ولكن بسلوكه وتصرفه – فلست أنت اآلن الصديق المتفرد الذي أشغل كل وقتي‬
‫معه و آتمنه على أسراري ‪ ،‬هنالك أصدقاء آخرون سيحلون محلك ويقومون بهذا الدور ! وكل ما عليك أن تقبل الفتات من‬
‫ودي و أن ترضى بذلك قسمة ونصيبا هذا هو الوضع الجيد فإن قبلت أهال وسهال و إن رفضت فال داعي لتضييع‬ ‫وقتي و ّ‬
‫وقتي فلدي مشاغل و لدي أصدقاء آخرون ينتظرونني ! ‪ ..........‬إنه التحطيم البطيء و التعذيب النفسي التدريجي الذي‬
‫يحار معه العقل و ويتشتت معه الذهن و ينزف معه القلب والنهاية هي نفس النهاية السابقة مزيد من التحطم واالنهيار ! إنه‬
‫الذل ‪ ،‬هكذا فقط‬
‫الضعف الذي هو وليد الحب غير المتكافئ ‪ ،‬حب كثير يقابله حب ضئيل أو عدم الحب فنتاجه الصغار و ّ‬
‫يصير الحب ضعفا وإن كان من أسمى المشاعر اإلنسانية !! ‪.....‬‬
‫ٍ‬
‫ال يستـ ـ ــوي هادم يوما و ّبن ُ‬
‫اء !‬ ‫صاحب لي أبنـ ـ ــيه ويهدمني‬ ‫و‬

‫‪248‬‬
‫العبثية !‬
‫السكر و َ‬
‫ُّ‬
‫رجت كيانه بقوة فدفعته بتلقائية تامة للبديل ‪ ،‬ولكن ما‬
‫هذا حال من أحوال من فقدوا الصديق بال أمل و ال رجاء ‪ ،‬تجربة مزلزلة ّ‬
‫الحب ؟! إنه حال التخبط و العبث ! حال استبداله بالصداقة‬‫البديل اآلن بعد أن ذاق أحلى معاني األخوة و أصفى مشاعر ّ‬
‫كثرة المعارف والزمالء ‪ ،‬ضاعت منه الصداقة فأراد أن يشبع جوعه ونهمه بالغثاء من البشر الذين ال قيمة لهم ‪ ،‬وكلما زادت‬
‫حرقته من ذكريات الماضي الصداقي ازداد رغبة في جمع الزمالء و المعارف الذين هم هباء في هباء ! حاله كمثل من أراد‬
‫أن يروي عطشه فأخذ يشرب ماء البحر وكلما ازداد عطشه من ملوحة الماء شرب أكثر وأكثر إلى أن يسقط مغشيا عليه في‬
‫متوجا بالنسبة إلى صديقه ‪ ،‬اكتسب‬
‫النهاية ! ‪ ،‬إنه حال من أحوال العقل الباطن شديد التعقيد ‪ ،‬إنه حين كان صديقا كان ملكا ّ‬
‫علو شأنه من تلك العالقة السامية التي لم تكن تحوي سوى اثنين ! فلما فقد قيمته بفقد الصداقة راح يبحث لنفسه عن‬
‫قيمته و ّ‬
‫فعد أنه كلما ازدادت معاريفه عال شأنه و قويت‬
‫مورد آخر الستعادة مكانته وقيمته ‪ ،‬فخال القيمة والمكانة في الشهرة بين الناس ّ‬
‫عز أعظم وشرف‬ ‫عز جاهه ! فلزمه أن يعرف ألفا من غثاء البشر ليحقق هذا الهدف الوهمي في حين أنه كان في ّ‬ ‫شوكته و ّ‬
‫أرفع بمعرفته إنسانا واحدا من قبل لو ُوضع في كفة ميزان أمام األلف الذين يعرفهم اآلن لرجح و طاشوا ! ‪ ،‬إنه – ال بد –‬
‫مستيقظ على الحقيقة التي يتغافل عنها ‪ ،‬إنه صار وحيدا وإن كان في الظاهر حوله كثير من الناس ولكنهم أشباح سرعان ما‬
‫الجد فيجد نفسه وحيدا في هذا العالم المتسع يزيده اتساع الكون وحدة و يزيده غثاء البشر ألما و جرحا و‬
‫يختفون في وقت ّ‬
‫تقض مضجعه ! فيصير محاطا بأعدائه المتربصين ليفتكوا به من كل جانب ال يستطيع هربا‬ ‫تغشاه كوابيس الماضي فتخنقه و ّ‬
‫وال انسالال !‬

‫هل تعود الصداقة مرة أخرى ؟!‬

‫بالهين و عدم هونه أكسبه خصائص و صفات ‪،‬‬‫أقول نعم قد تعود ! ‪ .........‬ولكن عود الصداقة بعد تحطمها وانهيارها ليس ّ‬
‫فأوالً لن تعود الصداقة المحطمة إلى سابق عهدها قبل أن تلتئم الجراح ! وجراح النفس أطول و أوقع من جراح البدن ! وكما أن‬
‫جراح البدن تحتاج األيام والشهور والسنين اللتئامها وزوال آثرها جراح النفس التي تتركها جفوة الصديق و هجره تحتاج زمنا‬
‫أطول ‪ ،‬لن ينهدم بناء في يوم ثم يعود في ليلة شامخا كما كان ! ‪ ،‬إنه الزمن الطويل الذي يمحو األسى و يجلو الحزن و‬
‫يذهب الغيظ ‪ ،‬زمن طويل تتغير معه األحوال ‪ ،‬تتغير الشخصيات ‪ ،‬تتغير مالمح األماكن يولد أناس ويموت آخرون ‪ ،‬يعمل‬
‫عاطل و يعطل عامل ‪ ،‬يغتني فقير ويفتقر غني ‪ ،‬أحوال متبدلة مع دوران عقارب الساعة العجيبة التي كلما تحركت تحرك‬
‫معها الكون و تغيرت معالمه ‪ ،‬سبحان الملك ! ( كل يوم هو في شأن ) ‪ ،‬مع تغير األحوال ينسى اإلنسان و تلتئم جراحه و‬
‫اختالف النهار والليل ُينسي ! ‪ ،‬حينما ينسى اإلنسان آالمه التي سببها له شخص يصير ذاك اإلنسان عاديا فإنه لم يعد‬
‫مصدر ألم كما كان من قبل ‪ ،‬حينها يسهل التقارب مرة أخرى بال حساسيات و ال ممانعات ‪.............‬‬
‫ولكن كيف يحدث التقارب بعد طول تباعد ؟! ‪ ....‬إنها رغبة تأتي ألحد الطرفين المتباعدين ‪ ،‬رغبة في ساعة صفاء و هدوء ‪،‬‬
‫رغبة تحوم حوله أثناءها روح مالكية صافية تدفعه و تسوقه إلى تجديد أيام الماضي الجميل ‪ ،‬تحدوه إلى التاريخ ‪ ،‬تجذبه نحو‬
‫الذكريات ‪ ،‬وتتساءل لماذا ال تعود أيام الماضي الصافية كما كانت ؟! لقد تغير كل شيء ‪ ،‬ولم يعد هناك مانع من العود‬

‫‪249‬‬
‫فيطرق الطرف اآلخر و يفكر‬
‫الحميد ‪ ،‬حينها يجرؤ الطرف المتنبه المستيقظ ويمد يده بالسالم والصفاء نحو صديقه القديم ‪ُ ،‬‬
‫مليا و قد حامت حوله نفس األرواح المالكية الطاهرة فال يجد مانعا من الرجوع فقد ذابت اآلهات و تاهت المحن و كان‬
‫ّ‬
‫التناسي مضجعا للماضي الداكن ‪ ،‬فيمد يده ليلبي نداء صديقه القديم و هنا تبدأ بداية جديدة !! ‪.............‬‬
‫قد يكون العود متيس ار لتيسر سبل االتصال ‪ ،‬وقد يكون محاال النقطاع سبل االتصال ‪ ،‬وحينها تكون المصادفة الطيبة سببا في‬
‫وصل حبل الماضي الغابر الذي يكون عماده الَقدر ‪ ،‬فكما بدأت الصداقة بوحي الَقدر و انتهت في ظل الَقدر ‪ ،‬تعود مرة أخرى‬
‫تحت تيسير الَقدر !‬
‫ولكن ‪ ....‬هل تصافح اليدين و تقابل الوجوه و تعانق األصوات يؤذن بعود كامل للعالقة الماضية الفاضلة بكل قوتها و كل‬
‫عمقها ؟! ‪ ،‬ال ‪ ....‬هنالك ما يسمى فترة النقوه ! ‪ ،‬تلك الفترة التي تعقب الشفاء من المرض ولكن آثا ار له تظل كائنة ‪ ،‬الصداقة‬
‫كالجسم يعتل و ينقه ويشفى ! ‪ ،‬في فترة النقوه تلك يعيش الطرفان في عالقتهما الجديدة في حالة تردد و ترقب !‪ ،‬تردد في‬
‫اإلقبال مخافة إحجام الطرف اآلخر و ترقب لود الطرف اآلخر لمبادلته بود مثله ! إن أشباح الماضي ما زالت تحوم في عقل‬
‫كل طرف يخشى من تجددها و إطاللها بوجهها القبيح ‪ ،‬يخشى كل طرف اإلقبال على بحر الصداقة بقوة فيغرق ‪ ،‬يغرق في‬
‫موج الصدود و الجفاء الذي يخشى وقوعه مرة أخرى من الطرف اآلخر ‪ ،‬إن النار التي اكتوى بها من قبل لم يشف منها في‬
‫فيقبل اآلخر ذراعا‬
‫يوم وليلة وإنما في دهر فهل تلك مخاطرة مأمونة النتائج ؟! ‪ ،‬يظل الجانبان مترددين إلى أن ُيقبل جانب شب ار ُ‬
‫و تزول أشباح الماضي و تعود المياه إلى مج ارها ولكن بصورة جديدة قد تختلف عن صورة الصداقة القديمة ! ‪............‬‬
‫إن الصورة الجديدة للصداقة المتجددة حديثا هي صورة حكيمة ‪ ،‬تخلو من طيش الماضي ‪ ،‬تستفيد من أخطاء الصداقة القديمة‬
‫‪ ،‬تتجنب مواضع إثارة الغضب و الشحناء ‪ ،‬هي حكمة منحتها الخبرات المتراكمة كما أعطتها رزانة العمر ووقار السنين ! ‪،‬‬
‫هي صداقة تجمع مميزات الصداقة القديمة وتخلو من عيوبها ‪ ،‬تحوي صفاءها و تخلو من كدرها ‪ ،‬قد تكون أقل عمقا‬
‫بالمفهوم الصداقي الدقيق ولكنها أكثر استق ار ار و هدوءا ‪ ،‬الهدوء الذي طال انتظاره بعد طول الزوابع و طيش األعاصير و‬
‫غليان البراكين ‪ ،‬هدوء يبقى و يستمر ال يخلو من المنغصات ولكنه سرعان ما يعود لهدوئه واطمئنانه سائرين في درب الحياة‬
‫إلى أن يلقى كل منهما خالق الحياة !! ‪............‬‬

‫موت الصديق ‪ ..‬نهاية الطريق !‬

‫أعبر عما يدور في خاطري اآلن ! ‪ ،‬إن كلماتي تتذبذب و إن قلمي ليرتعش و إن قلبي لينسحب من بين‬ ‫إنني ال أدري كيف ّ‬
‫ضلوعي وأنا أصف هذا الفصل األخير ! ‪ ،‬إنه الفصل األخير من حكاية الصداقة في الحياة الدنيا ! ‪ ،‬إنها آخر صفحات من‬
‫كتاب األخوة و آخر شعاعات ضوء شمس النهار التي سيطول غروبها و غرقها في بحر كربات الحياة إلى أن تقوم الساعة !‬
‫‪ ..‬إنها النهاية المقدورة التي كتبها هللا على بني البشر منذ أن خلقهم و منذ أن حيوا على سطح هذه األرض ‪ ..‬هذه الحقيقة‬
‫تهرب منها ‪ ،‬الحقيقة األليمة التي ذكرها جبريل – عليه السالم – لنبينا محمد – صلى هللا‬
‫مفر منها وال إنكار لها و ال ّ‬
‫التي ال ّ‬

‫‪250‬‬
‫عليه وسلم ‪ ( : -‬عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه ! ) إنها كلمات صاعقة ‪ ،‬تأتي كالصدمة ‪ ،‬تنبه‬
‫فمفرقها النهائي هو الموت ! ‪،‬‬
‫للحقيقة المتغاَفل عنها ‪ ،‬إن الصداقة في هذه الدنيا ال بد منتهية وإن لم تنته بالهجر والفراق ّ‬
‫وإنها وإن لم تنته في وقت غضب وجفوة و قسوة – وهو شيء أليم – سوف تنتهي في وقت صفاء ورّقة وشفقة وانتحاب – وهو‬
‫شيء آلم ! ‪ ، -‬إن الفرق بين الحالين حال الفراق بالشقاق و حال الفراق بالموت أن الحال األول مهما كانت ّ‬
‫شدته و مهما كان‬
‫تعّقده و محالية الرجوع فيه فإنه هنالك شيء من األمل ! أما الثاني فال أمل فيه في الدنيا أبدا ! ‪..‬‬

‫أيها األصدقاء الغافلون ‪ ..‬يا من اعتدتم الصداقة و صارت شيئا عاديا عندكم قفوا وقفة تدبر وتأمل ‪ ..‬إنكم في نعمة عظيمة لن‬
‫تشعروا بها ولن توفوها قدرها إال حينما تفقدونها ‪ ..‬وأنتم ال ّبد فاقدوها ! ‪ ،‬أيها الصديق تمتع بوقتك مع صديقك العزيز ‪ ،‬استمتع‬
‫بالنظر إلى وجهه الصبوح ‪ ،‬استشعر نعمة سماع صوته واالئتناس بروحه ‪ ،‬استمسك به وال تنغص عيشك و عيشه بهجره و‬
‫مضايقته ‪ ،‬ال تضيع جزءا من عمر صداقتك في النكد والهم‪..‬‬
‫كفا بالممات فرقةً وت ـ ــنائيا‬
‫الدهر ما دمتما معا‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫فأكرم أخاك‬
‫ال تطرح جزءا من رصيد صداقتك في الشقاق والخصام ‪ ،‬إن عمر صداقتك في الدنيا محدود ‪ ،‬وكل ساعة تضيعها في‬
‫الخصام تقربك من النهاية و تقلل وقت السعادة وتخسس نصيب الصفاء والبهجة – وهو في الواقع قليل عند العارفين الحصيفين‬
‫ولكن الغفلة هي السمة الغالبة ال يوقظ منها إلى الواقعة الفاجعة !‬
‫‪ّ -‬‬
‫إننا إذا أردنا أن نذكر عيبا حقيقيا للصداقة المثالية لم نجد مهما بحثنا إال هذا العيب ! ‪ ،‬عيب ال إصالح له ‪ ،‬ومصيبة ال‬
‫مهون له بين المحبين‬
‫منجى منها ‪ ،‬وكأس ال بد من ذوقه ‪ ،‬إنه الفراق اإلجباري الذي حكم به رب البشر على البشر ال ّ‬
‫الصادقين إال أن يتمنى المحب أن يكون يوم موته قبل يوم موت حبيبه لئال يذوق عذاب فراقه و لئال يكتوي بنار الحرمان منه‬
‫الذي هو ال يحتمله إنسان محب أبدا ! ‪...‬‬
‫جربتُه !‪-‬‬
‫أجرب هذا األمر – ال ّ‬
‫خبرت كثي ار من آالمها ومنغصاتها ولكني لم ّ‬
‫ُ‬ ‫ذقت كثي ار من مصائب الصداقة وأهوالها و‬
‫إنني ُ‬
‫أبدا ‪...‬‬
‫يصور لي مقدار الفاجعة و ينبه إلى عظم الهول وهذا ما سأستعرضه‬
‫ولكني عندي من خبرات السابقين و أدبيات السالفين ما ّ‬
‫بمحل قلبي مشفقا على نفسي وعلى كل محب مخلص صادق ! ‪...................‬‬ ‫ّ‬ ‫ممسكا‬

‫لهيب العيون !‬
‫إن ممن اكتوى بلهيب موت الصديق حافظ إبراهيم الذي نظم قصيدة في صديقه ابن عبد السالم يرثيه بذكر مكارمه وشرفه و‬
‫صفاته الحميدة ثم يختم قصيدته بهذه الكلمات الحزينة الباكية ‪:‬‬
‫لهف نفسي ‪ :‬خان تلهفها‬
‫خان َ‬ ‫صـََر ْت أَشع ـاري‬‫هف َنفسي َفَق ّ‬
‫َل َ‬ ‫خان نُطقي َوَلم تَ ُخّني ُدم ـ ـوعي‬ ‫َ‬
‫غير بدع ‪ :‬ليس جديدا‬ ‫الدموِع الجـَواري‬ ‫ِ‬ ‫مت ِرث ـ ـ ـ ـائي‬ ‫ير ِبد ٍع ِإذا َن َ‬
‫صديقي م َن ُ‬ ‫في َ‬ ‫ظ ُ‬ ‫َغ ُ‬
‫ِ‬
‫الضواري ‪ :‬اإلبل‬ ‫الرواسي ‪ :‬الجبال‬ ‫الحزِن ما َي ُه ُّد َ‬
‫الض ـ ـواري‬ ‫َو ِم َن ُ‬ ‫الرواس ـ ـ ـي‬ ‫ك َ‬‫الحزِن ما َي ُد ُّ‬
‫َفم َن ُ‬

‫‪251‬‬
‫إن حافظ إبراهيم على رغم قوة شعره و سعة َمَلكته َع َجز لسانه أن يصف هول هذه الفاجعة المزلزلة ألركانه ‪ ،‬لقد ُش ّل اللسان و‬
‫جف الحلق ‪ ،‬ولم يستطع صوته المجهش أن يصف الفاجعة ‪ ،‬ولكن عينيه لم تخنه ! فاضت العينان بالدموع المنهمرة وهي‬ ‫ّ‬
‫المتأوه ‪ ،‬ذلك القلب الذي تشتت‬
‫ّ‬ ‫تشتكي وتترجم حال الصديق المفجوع ‪ ،‬سيول من العبرات التلقائية تعبر عما في القلب الحزين‬
‫و أصابه التيه والذهول من شدة الكارثة ‪ ،‬مات الصديق ‪ ...‬يالها من نكبة يعجز اإلنسان عن وصفها و توفيتها حقها ولكن‬
‫فجرته صاعقة من السماء ! ‪،‬‬ ‫تنكف و ال تنضب وكأنها نبع ماء منفجر ّ‬
‫ّ‬ ‫يكفي للوصف أنهار من الدموع تمأل مآقي العينين ال‬
‫معبر عن المصيبة وقد كانت خير شاهد على الصديق المفقود ‪ ،‬لقد كانت العين هي معبر‬ ‫ولم ال تكون عين الصديق خير ّ‬
‫الود من الصديق إلى قلب صديقه ‪ ،‬لقد كانت أكثر عضو نهل من نبع الصداقة وأكثر ِعضة تل ّذذت بلقاء‬‫الحب و سبيل ّ‬
‫الصديق فال جرم أن تكون خير نائحة إذا عجزت األعضاء األخرى عن النوح ! ‪ .....‬إنه حزن ّ‬
‫يدك الجبال و يزلزل الممالك و‬
‫حاولت استجماع قواي و إسكان نفسي‬
‫ُ‬ ‫يقصم ظهر اإلبل و يحطم أقسى الصخور ‪ ،‬وال أملك سوى دمعي تعبي ار وإفصاحا ‪ ،‬لقد‬
‫والتظاهر بالقوة والتماسك ولكن صورته ال تغيب عن عقلي ولو غابت لحظات أذهب إلى صوره التي أحفظها عندي ألراها و‬
‫ليتجدد دمعي مرة أخرى ‪ ،‬يواسيني الناس بذكره و مديحه أمامي فيعصرون عيني لتجود بالدموع مرة أخرى بال توقف وال‬
‫نضوب ! ‪ ،‬كيف أملك دمع عيني وأنا ال أملك خطام قلبي ؟!! ‪...............‬‬
‫أما ابن رشيق القيرواني فكان له شأن مع عيونه ودموعه بعد فناء صديقه و رفيقه فقال منتحبا ‪:‬‬
‫عيف وال الواني‬ ‫بالض ِ‬ ‫وَق ْد َن َز ُحوا الَ َّ‬ ‫تك ْن َب ْع َد ِإ ْخ َوان ـي‬
‫دمع َع ْيني ال ُ‬
‫أيا َ‬
‫ان‬‫بماء ال فـ َؤ ِادي ِبن ـ ـ ـ ـير ِ‬
‫جُفوني ٍ‬
‫ُ‬ ‫أَِب ْن ُح ْس َن َع ْهدي ِإن عهدي تُِبينـه‬
‫العاني ‪ :‬الحبيس في الصدر‬ ‫الع ـ ـ ـ ِاني‬ ‫كع ْذ ِرك واض ـ ـ ٌح‬ ‫ِ‬
‫طليق والفؤ ُاد هو َ‬ ‫ٌ‬ ‫فأَنت‬ ‫عذر فؤادي ال ُ‬‫و ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫لخَّوان‬‫لواف وِق ْد َماً كم َو ْفي ـ ـ ـ ـت َ‬ ‫امـعي‬‫وحاشاك من أَن ال تفي يا َمَد َ‬
‫ط ِإ ْنس ـ ــَاني‬ ‫َبصرت في الناس غيرهم فما أ َْنت يا ِإنسانها َق ُّ‬ ‫ِ‬ ‫عين ِإن أ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ويا ُ‬
‫َع َوان ـ ـي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وقد َعد َم ْت مّني ُع ُيوني وأ ْ‬ ‫الناس َب ْع َدهم‬
‫تبصر َ‬ ‫ُ‬ ‫بال عيني‬ ‫وما ُ‬
‫سأصرخ بأعلى صوتي منتحبا سأسمع الدنيا جميعا صراخي وستكون عيني هي شفيعي وشاهدي أمام هللا وأمام البشر ‪ ،‬سأُعلم‬
‫المهمة‬
‫ّ‬ ‫نت أحبه ‪ ..‬كم كان صديقا عزي از ونعم الصديق ! ‪ ..‬فال تتوان يا دمع عيني في القيام بتلك‬
‫الدنيا كلها بماء عيوني كم ك ُ‬
‫غال جدا ال يعوضه سكب مياه أنهار الدنيا دموعا من أجله ! ‪ ،‬أنت الظاهر أمام الناس أنت انعكاس نيران‬‫غال ‪ٍ ..‬‬
‫فإن المفقود ٍ‬

‫قلبي الحبيس في صدري ‪ ،‬قلبي الذي يريد أن ّ‬


‫يشق ضلوعي ويطير ويصرخ بأعلى صوته ‪ :‬لقد مات الحبيب ‪ ..‬لقد ماتت‬
‫األخوة وفنيت المحبة ! ‪....‬‬
‫إنه ال إنسان بعد صديقي يستحق أن تراه عيني !!‪ ..‬عيني التي امتألت بصورته ‪ ،‬وتلذذت بطلعته واآلن افتقدت لذتها وبهجتها‬
‫كيف لها أن يطاوعها إنسانها فيعكس صورة إنسان آخر ؟! سأرى الناس اليوم بعيني دون أن أنظر إليهم ! دون أن يراهم قلبي‬
‫! لن تخونك عيناي بعد غيابك يا نبع الوفاء و مصدر اإلخاء ‪.........‬‬
‫أخي ار يا صديقي الحبيب ‪.....‬‬
‫أتوجع‬
‫ُ‬ ‫ويش ــفي مني الدمع ما‬
‫ُ‬ ‫سأبكيك حتى تُنفد العين ماءها‬

‫‪252‬‬
‫قدر !‬
‫لوم اَل َ‬

‫يهد‬
‫الصديق عقله ! ُ يخرج اإلنسان عن شعوره يشتت جماع النفس ‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫أعز الناس ُيفقد‬
‫إن وقع الصدمة و بأس المصيبة بفقد ّ‬
‫أركان الجسد ‪ ،‬يزلزل جدران القلب ‪ ،‬تفور الدماء في قلب المسكين كالبركان الكامن يرجو له نقطة ضعف حتى ينفجر و‬
‫فياض‬
‫تنبجس حممه ولظاه ! عن هذا المشهد العسير أتحدث و أمّثل له بحال ناصيف اليازجي الذي فقد صديقه العزيز ابن ّ‬
‫فأفقده معه شعوره و ّلبه فأنشد يقول ‪:‬‬
‫تمع ِ‬
‫العتـ ـ ـ ـابا‬ ‫ِ‬ ‫ن ِ‬
‫ليس َي ْس ُ‬ ‫َزماناً َ‬ ‫حيث ال نرجو الج ـ ــَوابا‬ ‫عات ُب ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫اضطـ ـ ـ َرابا‬ ‫إلى َمو ٍج يزيـ ُد بها‬ ‫لم ُه شكوى َغريـ ـ ـ ـ ٍق‬ ‫ظَ‬
‫ونشكو ُ‬
‫فيه اعوجاجاً و ِان ـ ـ ـقالبا‬ ‫نرى ِ‬ ‫كل يـ ـ ـ ـ ـ ـو ٍم‬‫ليس نبرُح َّ‬
‫ََ‬ ‫مان َ‬ ‫َز ٌ‬
‫الع ـ ـقابا‬ ‫ويقتنـص الغر ِ‬ ‫ِ‬ ‫يز إلى َذلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍل‬ ‫ِ‬
‫اب به ُ‬ ‫ُ َُ ُ‬ ‫قاد به العز ُ‬ ‫ُي ُ‬
‫الشب ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفلو ِ‬ ‫يموت َّ‬
‫ال َب َشم ‪ :‬التخمة‬ ‫الكـ ـ ـالبا‬ ‫وتُبش ُم َك ْث َرةُ َّ َ‬ ‫ات جـ ـوعاً‬ ‫الل ْي ُث في َ‬ ‫ُ‬
‫له َذهـ ـ ـ ـ ـابا‬
‫يد ُ‬ ‫ويبَقى َمن ُنر ُ‬ ‫َ‬ ‫اء‬
‫له َبقـ ـ ـ ـ ـ ً‬ ‫يد ُ‬
‫هب من ُنر ُ‬ ‫وي ْذ ُ‬

‫حملها ذنب مصيبته في‬ ‫لقد أخذت منه المصيبة كل مأخذ حتى ما وجد متهما يتهمه وال الئما يلومه سوى األقدار ‪ ،‬األقدار التي ّ‬
‫المتدين المتعبد عقله وتقواه فيقول‬
‫ّ‬ ‫لحظة يأس وعجز وهي لحظة تأتي كثي ار منا أحيانا ‪ ،‬يفقد فيها الحكيم حكمته و يفقد فيها‬
‫بلسانه حاال ومقاال ‪:‬‬
‫َنسب مصابي و فاجعتي ؟ ليست مصيبتي من صنع البشر و ليس ثأري من إنسان ظالم ٍ‬
‫معتد ‪ ،‬وإنما ثأري مع‬ ‫((إلى من أ ِ‬
‫الزمن ! مع األقدار التي تأتينا بما ال نشتهي ! ذلك القدر الذي ال يستمع الشكوى وال يقبل التماسا و ال يرحم باكيا كسي ار ! ‪ ،‬إنه‬
‫قهر الزمان الذي تنقلب فيه األوضاع و تختل معه الموازين إنه القدر الذي سلب مني حبيبي في حين أنه أبقى األوغاد و‬
‫الهمج من الناس ‪ ،‬إنها األحوال األليمة واألوضاع الفظيعة التي ال يحتملها اإلنسان وكذا قلبي يتساءل لماذا تفعل األقدار بنا‬
‫ذلك ؟ لماذا تحزننا ولماذا تشقينا ؟؟ ال جواب !!))‬
‫وفي نفس تلك اللحظات الداكنة عانى ابن المعتز واشتكى إلى األقدار م اررة خطفه صديقه منه واحدا بعد اآلخر قائال ‪:‬‬
‫عاشرتُ ُه َده اًر َوال ِمن َشفـ ـيق‬
‫َ‬ ‫صديق‬ ‫ِ‬
‫يت لي من َ‬ ‫هر ما أَبَق َ‬
‫يا َد ُ‬
‫صفي ـ ـ ـ ـ ِق‬ ‫ِ ٍ‬ ‫أك ُل أَصحابي َوتَفـ ـ ـ ـني ِه ُم‬
‫ثُ َّم َتلقاني ب َوجه َ‬ ‫تَ ُ‬
‫والطغرائي كان له نصيبه من هذا الموقف المزلزل فأنشد في صديقه المتوّفى منتحبا قائال ‪:‬‬
‫الك ـ ـ ـ ـلوم‬
‫آثار ُ‬
‫علي ُ‬ ‫لبان َّ‬
‫َ‬ ‫كلم َن جس ـ ـماً‬
‫الهموم ْ‬
‫َ‬ ‫ولو َّ‬
‫أن‬
‫الن ـجو ِم‬ ‫تكامل واستوى بين ُّ‬ ‫لما‬ ‫قد ِ‬
‫البدر َّ‬ ‫لفقد أ ٍخ كفـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ِِ ِ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫فصار بنا ِإلى ُوّد ك ـ ـ ـ ـري ِم‬ ‫تصاحب َنا على ح ٍب عف ـ ـ ـ ٍ‬
‫يف‬ ‫ُّ‬ ‫َْ‬
‫الجسـو ِم‬ ‫ِ‬
‫جنايات القلوب على ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولكن‬
‫يك شكلُه شكـ ـلي ْ‬ ‫ولم ُ‬
‫فيه من خص ـومي‬ ‫فصار الدهر ِ‬ ‫يت به من الدنيا نصــِيباً‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َرض ُ‬
‫‪253‬‬
‫المعتز في تلك اللحظات السوداء التي يضعف فيها القلب والعقل معا كان عندهم الدهر من‬
‫ّ‬ ‫الطغرائي و ناصيف و ابن‬
‫خصومهم على اختالف أزمنتهم وعلى اختالف أديانهم ‪ ،‬كلهم وقعوا في بئر الضعف اإلنساني حين يعجز القلب والجسد عن‬
‫االحتمال والتجّلد!‬
‫إنها لحظات قنوط من رحمة هللا تغشى الكافر كثي ار والمؤمن أحيانا حين يضعف و ينهار ويفقد إيمانه في تلك اللحظة فقط ! ‪،‬‬
‫إنه سرد مني لواق ٍع حادث ومتكرر وليس رضاء بهذا الحال حاشا هلل ! ‪ ...‬ولكن مع ذلك يبدأ المؤمن يتذكر هللا و حكمته في‬
‫كل شيء وأنه هو الخالق وهو المالك لكل النفوس هو الذي برأها وهو الذي يتوفاها وقتما شاء ‪ ،‬نفوسنا كلها ملكه يفعل بها ما‬
‫يشاء ‪ ،‬هو الملك ال ملك سواه وال رّاد لحكمه و ال معترض لقضائه ‪ ،‬حين يعود العقل و يؤوب الرشد تتطلع العقول والقلوب‬
‫سواء على تلك الحقيقة التي غابت في لحظات سيطر فيها الشيطان على عقل اإلنسان وقلبه معا !!‬
‫لذا قال بعد ذلك ناصيف اليازجي في لحظة فواق و تعقل ‪:‬‬
‫الصبر حزناً و ِ‬
‫انت ـحابا‬ ‫دعيت صبري‬ ‫ب َكيت ِ‬
‫فصار َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫است ُ‬ ‫عليه و ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ط َبر اغتـصابا‬ ‫الع ْج ُز فاص َ‬ ‫ِ‬ ‫ط ـ ـ ْوعاً تََوَّلى‬ ‫ومن لم َيصطِب ْر َ‬
‫عليه َ‬ ‫َ‬
‫ثم مضى في مرثاته منتحبا باكيا يفرغ أنينه في البكاء وهو ليس بحرام وال معيب مادام بال قنوط وال لعن لألقدار !‬
‫تحكي ‪ :‬تحاكي وتشابه‬ ‫السـ ـحابا‬
‫دامع تحكي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ابن في ٍ‬ ‫مضى َّ‬
‫عليه َم ٌ‬ ‫ففاضـ ْت‬
‫َّاض َ‬ ‫عنا ُ‬ ‫َ‬
‫صارت ِح َرابا‬‫ولكن في ال َحشا َ‬ ‫دود َج َر ْت ِمي ـاهاً‬ ‫الخ ِ‬ ‫دامع في ُ‬ ‫َم ُ‬
‫فمن ْيدعوهُ منصو اًر أص ـ ـابا‬ ‫حرب َدنياهُ ع ـ ـ ـزي اًز‬ ‫نجا من ِ‬
‫له ِق ـ ـ ـ ـبابا‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بأجنحة َرَف ْع َن ُ‬ ‫تُظّللُ ُه المالئ ُك في ثَـ ـ ـ ـ ـ َراهُ‬
‫الصح ـ ـابا‬‫ِ ِ‬ ‫كريم ما عرْفنا ِ‬
‫سؤ به ّ‬ ‫وال ُخُلقاً َي ُ‬ ‫فيه َع ـ ـ ـ ـيباً‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫عد ُيوِه ُمنا اقت ـ ـراباَ‬ ‫ِ‬
‫الب ُ‬
‫فكان ُ‬
‫َ‬ ‫َفَق ْدناهُ ولم َنْفق ْد ثَنـ ـ ـ ـ ـ ـاهُ‬
‫تَُراباً َليتنا ُكَّنا تَُرابـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫لوبنا إ ْذ ْأوَدع ـ ـ ـ ـوهُ‬ ‫تقول ُق ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫حين شـ ـابا‬
‫الصداق َة َ‬ ‫ينس َّ‬ ‫ولم َ‬ ‫صدو ٌق من صـ ـباهُ‬ ‫صديق لي َ‬‫ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫الصـ ـحابا‬ ‫كريم ما عرْفنا فـ ـ ـ ـ ِ‬
‫وال ُخلُقاً َيسوءُ به ّ‬ ‫يه َعـيباً‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫الغضابا‬ ‫ولكن كان يسترضي ِ‬ ‫نفس َر ٍ‬
‫اض‬ ‫ُّ ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫يك َقط ُيغص ُب َ‬ ‫ولم ُ‬

‫يعزي الصديق ويكون له سلوى و معينا له في فقد صديقه القريب أن الدنيا كلها دار بالء و شدائد ‪ ،‬ولعل ترك هذه‬
‫إن مما ّ‬
‫الدنيا يكون مستراحا من عنائها و ظلمها ‪ ،‬مستراح من جور البشر مرتحل إلى عدل الحكم العدل الذي ال يظلم مثقال ذرة ! ‪،‬‬
‫تبشر بنوله‬
‫انتقال من دار المحنة و القسوة إلى دار رحمة الرحمن ‪ ،‬ثم يستعرض الصديق الجريح محامد صديقه و فضائله التي ّ‬
‫ابتداء المتنعم بنعيم‬
‫ً‬ ‫الجنة بإذن هللا ‪ ،‬خير مستقر و أهنأ مآل ‪ ،‬فلماذا نحزن عليه و لماذا نبكيه وهو المستريح من عناء الدنيا‬
‫انتهاء ؟! ‪...‬‬
‫ً‬ ‫جنة الفردوس – إن شاء هللا –‬
‫هذه األفكار العابرة تروح وتجيء ببال الصديق المنكوب فتلطف ألمه و تهون خطبه وتسرح به في عالم اآلخرة بعيدا عن الدنيا‬
‫المريرة !‬

‫‪254‬‬
‫المحبة ‪ ،‬كيف لنفسي أن تحتمل فراقه الطويل األبدي ؟! إنني حين كان حيا‬
‫ّ‬ ‫ولكنه الفراق الطويل الذي هو شاق على األنفس‬
‫ّ‬
‫كنت أنظر لقاءه بلهفة وشوق ‪ ،‬كنت أطير فرحا و نشوى بموعد لقائه ‪ ،‬ذلك اللقاء الذي يجدد الحب و الود و يطفئ نار الشوق‬
‫‪ ،‬فمن لي بمطفأة للهيب قلبي ؟! فليتني إذن كنت الثرى الذي سيواري أخي حتى أحتضنه و ألتصق به وال أتركه أبدا إلى أن‬
‫تقوم الساعة ! ‪ ..‬إنها أماني عسيرة وأحالم طفولية و رجاء عبثي ‪ ،‬إنه رجاء المحبين المخلصين ‪ ..‬وإنه كذلك فراق ال أمل فيه‬
‫في دنيانا وال رجاء اللهم إال انتظار وعد هللا للمحبين الصادقين حين يجعلهم على منابر من نور يوم يظلهم في ظله يوم ال ظل‬
‫إال ظله ! ‪....................‬‬

‫بين الحياة والفناء ! ‪..‬‬


‫كان سبب الهناء فصار سبب الشقاء !‬

‫مررت‬
‫َ‬ ‫ما قيمة الحياة بعدك يا أخي الفقيد ؟! وكيف أهنأ بعيش بعد أن رحلت وأخذت معك كل الهناء ؟! كيف سأمر بواضع‬
‫فيها من قبل و أماكن التقيتك فيها يوما من الدهر ؟! لقد صارت من بعدك مواضع موحشة و ذكرى للموت والفناء ‪ ..‬كيف‬
‫بالملمات الموجعات ! ‪ ،‬كيف سأشغل‬
‫ّ‬ ‫سألقى أقاربك الذين هم من لحمك ودمك ؟! إنهم ذكرى لي ولكنهم حسرة و أسى وتذكير‬
‫كنت تلقاني فيه كل أسبوع ؟! ذلك الوقت من حياتي الذي كان لك وحدك دون أحد سواك ‪ ..‬كيف سيمر علي اآلن‬
‫وقتك الذي َ‬
‫ّ‬
‫؟ قد كان يمر علي في الماضي في حضرتك أسرع من ومضة البرق واآلن سيمر علي أثقل من يوم عاصف مطير يوقف حال‬
‫ّ‬
‫العباد ! ‪ ،‬كل تلك التصورات تؤرقني و تهدمني حتى صرت ال أجد للحياة طعما و ال صورة بعدك ‪....‬‬
‫يصف تلك الحال ابن رشيق القيرواني مع صديقه الفقيد فيقول ‪:‬‬
‫ِ ِ‬
‫َشَق ـ ـ ـاني‬
‫ون َّعمني ده اًر به ثم أ ْ‬
‫َ‬ ‫اءني‬ ‫سرني َد ْهري به ثُ َّم س ـ ـ َ‬
‫وك ْم َّ‬ ‫َ‬
‫هم يا ُغ ْرَبتي َبين أَوط ـ ــَاني‬ ‫عبرت غريباً بينهم غير آل ـ ـ ـ ٍ‬
‫لغير ُ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫هم يا ُخَّلتي بعد خـ ـ ـ ـالَّني‬ ‫ِ ِ‬
‫لم ْثل ُ‬ ‫غير واجـ ـ ٍد‬ ‫وع ْد ُت فقي اًر بعدهم َ‬‫ُ‬
‫ص ـاني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحال ِّ‬
‫ِ‬
‫للحال ُنْق َ‬‫ومذ بان َعّني بان َ‬ ‫مني زيادت ـ ـي‬ ‫ظ َه َر ْت في‬
‫به َ‬
‫إنه السرور الذي يعقبه الكآبة ‪ ..‬واألنس الذي تعقبه الوحشة ‪ ،‬والنقصان بعد التمام ‪...‬كان مصدر سعادتي فصار مصدر‬
‫تعاستي !‬
‫إنها الوح دة اإلجبارية و الغربة الشعورية ‪ ،‬أنا وحيد وإن كنت حولي الكثير من البشر وأنا الغريب وإن كنت في وطني ‪،‬وأنا‬
‫فأني لي األنس ؟! ولن يغنيني سوى عودة تمّلكه فأنى لي الغنى ؟!‬
‫الفقير وإن كنت أملك مال الدنيا ‪ ،‬لن يؤنسني إال عودته ّ‬
‫ِ‬
‫المعضلة ؟ وما المخرج من هذا الجحيم ؟ إنه الموت ! نعم الموت مثله الذي سيقربني منه و يبعدني عن‬ ‫الحل لتلك‬
‫إذن ما ّ‬
‫وحشتي ولكن ّأنى لي الموت ؟!‬
‫َسقـَاني‬ ‫ِ‬
‫ان أ ْ‬
‫َسَقاهم َك َ‬‫فيا ليت من أ ْ‬ ‫المنية والـ ـ ـ َّردى‬ ‫أس‬
‫ام ُسُقوا َك َ‬
‫كرٌ‬
‫َبالهم أَبـ ـ ـ ـالني‬ ‫وما حكم ْت فيهم ُ َّ‬
‫فيا ليت من أ ُ‬ ‫يد البلى‬ ‫فشل ْت ُ‬ ‫َ َ‬
‫َف َلنْف ِسي كيف تَ ْس ُك ُن جثماني‬
‫ٍ‬
‫وأ ّ‬ ‫ويح َقلبي كيف يأ ِْوي أل ْ‬
‫َض ـلعي‬ ‫ويا َ‬
‫‪255‬‬
‫نفسي ِإيمـ ـاني‬ ‫قتل ِ‬ ‫وصبرني عن ِ‬ ‫صدني‬‫النفس فيكم َف َّ‬ ‫رمت َق ْت َل َّ‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫وكم ُ‬
‫مالك ‪ :‬خازن جهنم ‪،‬رضوان ‪ :‬خازن الجنة‬ ‫في ْغتَ َّم منه َقْل ُبه عند ِرضـ ـ ــَْوان‬ ‫ضي ِإلى عـ ـ ـند مالك‬ ‫وخوفي أَن أَم ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫وفي قصيدة أخرى يقول ابن رشيق محاكيا نفس الموقف ولكن هذه المرة يتمنى تبدل الحال ‪ ،‬يتمنى موت نفسه ومحيا حبيبه ‪:‬‬
‫العفاء‬ ‫ِ‬ ‫الع ِ‬ ‫لقد ِعْفت عيشي بع َد الع ِف ِ‬
‫يش َب ْع َد العفيف َ‬ ‫على َ‬ ‫يف‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫قبيح وإِ َّن ِ‬
‫حياتي ج ـ ـ ـ ـ ـ ـفاء‬ ‫ٌ‬ ‫وإِ َّن َبَق ِائي من بع ـ ـ ـ ـ ـ ِده‬
‫فاء‬ ‫عني ِإ َ َّ‬
‫ليك الش ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫وي ْنَق ُل ِّ‬
‫ُ‬ ‫قام‬
‫لي الس ـ ـ َ‬ ‫ولِم ال نقلت ِإ‬
‫ْ ََ ْ َ ّ‬
‫رد القـ ـ ـ ـضاء‬ ‫وهيهات لي ـس ُي ُّ‬ ‫َ‬ ‫ضاء‬
‫رددت الق ـ َ‬ ‫ُ‬ ‫وكيـف ولِ ْم ال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء‬
‫يت ولكن بق ـ ـ ـ ـ ـائي َف َن ُ‬ ‫َبق ُ‬ ‫يت‬‫فال تَ ْح َس ُبوا أََّنني ق ـد َبق ـ ُ‬
‫قاء‬ ‫َّ‬
‫نعيمي فهو الش ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫َ‬
‫َما‬
‫وأ َّ‬ ‫يل‬
‫الرح ـ ـ ـ ـ ُ‬‫فه َو ّ‬ ‫امي ُ‬ ‫وأَما مق‬
‫َّ ُ َ َ‬
‫فأين اإلباء وأيـن الح ـ ـ ـ ـ ـ ـياء‬ ‫تالومت ِإ ْن عشت من بع ـ ِده‬ ‫ُ‬
‫يدب عليها ؟! وأشرب ماء‬
‫أين حياء النفس وأين عهد اإلخاء ؟! أأعيش من بعده أتنفس هواء ال يتنفسه ؟! وأسير على أرض ال ّ‬
‫ال يالمس شفاهه؟! أين حيائي ‪ ..‬أين حيائي ‪ .......‬إنني أرفض تلك الحياة التي ال يحيى فيها و آبى العيش بدونه أشد اإلباء‬
‫! ‪.....‬‬
‫فذاك كذوب في الهوى غير صادق‬ ‫ـحبه‬
‫إذا بان محبوب وعاش م ـ ـ ّ‬
‫ـت بعد فراقه‬
‫أوليس من إحدى العجائب أنني فارقته وحييـ ـ ـ ـ ُ‬

‫ولكن على النقيض هناك نظرة متمهلة متحلية بالحكمة نفضت غبار المحنة و تخطت عقبة الصدمة األولى تقول ‪ :‬إنها‬
‫لحظات يائسة يظن اإلنسان فيها أن الموت هو المخرج من فراق الحبيب الفقيد ‪ ،‬ولكن ترى هل تلك األمنية ترضي الحبيب‬
‫المفقود ؟! إن صديقي الحبيب الغائب ال يتمنى لي الموت أبدا وهو وإن مات فهو يريدني حيا ‪ ،‬يريدني ح ار صامدا ‪ ،‬أحطم‬
‫عقبات الحياة من بعده ‪ ،‬أحقق ما لم يستطع تحقيقه ‪ ،‬أفعل ما فاته فعله ‪ ،‬أكمل مسيرته في الحياة ‪ ،‬أنصر القيم والمبادئ ‪،‬‬
‫أُعلي راية الحق ‪ ،‬أتمم ما تعاهدنا على إتمامه ‪ ،‬هذا هو مراده وهو في قبره ‪ ،‬هو ينتظرني في يوم نقف فيه في ظل الرحمن‬
‫كما أخبر رسوله ووعد ‪ ،‬ولكن ذلك الوعد سوف يتحقق حين تقوم القيامة وتبدل األرض غير األرض والسموات ‪ ،‬إذن ليس اآلن‬
‫؛ فال داعي الستعجال الموت ! ‪...‬أنا على قنطرة الحياة الدنيا و هو على قنطرة حياة البرزخ و ملتقانا األخير ننتظره معا في‬
‫ظل الرحمن وإن كنا افترقنا بين العوالم !! ‪...‬‬
‫اء !!‬ ‫ِ ِ‬
‫المعاد الّلَق ـ ـ ـ ُ‬
‫لت َنعم في َ‬
‫َفُق ُ‬ ‫َماني هل َنلتَـ ـ ـ ـ ـ ـقي‬
‫تقول أ َّ‬

‫قبر الصديق !‬
‫لن تدوم الصدمة طويال حتى تتحتم مواراة الحبيب تحت الثرى ! وياله من واجب عسير ! وياله من موكب أليم ! ‪ ،‬سأذهب‬
‫ألنظر لصديقي النظرة األخيرة قبل تكفينه ويالعسرها من نظرة !‪ ،‬إنها ليست نظرة كبقية النظرات التي تبادلناها من قبل ‪ ،‬كلها‬
‫كانت من طرفين متحابين أما اآلن فهي نظرة من طرف واحد حي واله لحبيب فاضت روحه وبقي جسده ‪ ،‬إنها النظرة األخيرة‬

‫‪256‬‬
‫نظرة الوداع بعدها نحمله فوق أكتافنا إلى منتهاه في تلك الدنيا الغرورة ! تلك الدنيا التي من سننها فراق األحبة على رغم بقاء‬
‫المبغض الكريه من البشر ! ‪ ،‬إن ذلك المشهد الرهيب أبشع ما فيه عيون المحيطين ! ‪ ،‬كيف أواجه الناس بوجهي المحمر‬ ‫َ‬
‫وعيني المنهكتين و جسدي المحطم ؟! ‪ ،‬إن فراق الحبيب يلزمه فراق الناس فراقا طويال أستعيد فيه عافيتي و أتناسى فيه بعض‬
‫مصابي ‪ ،‬إن رؤية البشر وقد خلوا من الحبيب لمرأى كئيب ‪ ،‬ونظراتهم إليك في تعجب و انبهار لجهلهم معنى الحب والصداقة‬
‫من جهة و نظراتهم في شماتة و كراهية لنقمتهم للحب والصداقة من جهة أخرى تأكل جسدي أكال و تدمي قلبي دما فوق دم !‬
‫أصبر نفسي متحامال وبعدها أهجر الناس ده ار إلى أن‬
‫مفر منها ‪ ،‬ال أبد أن أتماسك متظاه ار ‪ ،‬و ّ‬
‫ولكنها مواجهة محتومة ال ّ‬
‫تجف مدامعي و يلتئم جرح قلبي و تعود الصحة إلى جسدي وإن كنت ال أتصور كيف يحدث ذلك ؟! ‪ .............‬إن صالتي‬
‫عليه في جنازته لهي أخشع صالة صليتها في حياتي ‪ ،‬صالة لم أغفل فيها لحظة ولم أهف فيها هفوة ‪ ،‬كل تركيزي كان في‬
‫فضون وأنا‬ ‫ِ‬
‫حييت دعاء أصدق من ذاك الدعاء في ذلك اليوم العسير ‪ ،‬لقد انتهت الصالة وبدأ الناس ين ّ‬
‫ُ‬ ‫الدعاء له ‪ ،‬لم أدع ما‬
‫لت أدعو ال أنتبه لنهاية الصالة حتى نبهني ضجيج الناس ودبيبهم ! ‪ ،‬أسرعت لحمله مع الحاملين ‪ ،‬أسير مسي ار وئيدا هو‬
‫ماز ُ‬
‫أثقل مسير علي في حياتي إلى أن وصلنا إلى المقبرة ‪ ،‬بيته الجديد على هذه األرض ! ‪ ،‬كل من ينتقل في هذه الدنيا ينتقل من‬
‫ّ‬
‫دار قديمة عليها عالمات الفناء إلى دار جديدة أنيقة عليها عالمات البهاء إال هذا االنتقال من دار جميلة إلى دار دفينة ! من‬
‫دار مأهولة إلى دار مهجورة ! ‪ ،‬حين هموا بحمله ودفنه ومواراته لم أستطع أن أنظر بل وقفت مطرقا مشدوها إلى أن انتهوا‬
‫استكملت دعائي الملتهب و تضرعي المتقد‬
‫ُ‬ ‫وتحاملت ُِ على نفسي ألستطيع الوقوف بين الناس و‬
‫ُ‬ ‫فشعرت حينها بنهاية كل شيء‬
‫ُ‬
‫استكملت أنيني و نشيجي ‪..........‬‬
‫ُ‬ ‫احتضنت قبره و‬
‫ُ‬ ‫انتظرت إلى أن انصرف الناس حتى‬
‫ُ‬ ‫و‬
‫يقول ابن رشيق في وصف دفنه لصديق عمره ‪:‬‬
‫اء‬
‫علي الع ـ ـ ــََز ُ‬ ‫فصار عزي ـ اًز َّ‬
‫َ‬ ‫برغمي دَف ْن ُت عـ ـ ـ ـ ـزي اًز علي‬
‫ّ‬
‫الء‬
‫وما َرْب ُعه في فـَُؤادي َخ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫مررت على َرب ـ ـ ـ ـ ـ ـعه َخالياً‬ ‫ُ‬
‫اء‬ ‫ِ‬ ‫ور َي في َق ْبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره‬ ‫سر ِ‬
‫فما ل َي في ذا وال َذا رج ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫دفنت ُ‬ ‫ُ‬
‫اء‬
‫السن ـ ـ ـ ُ‬ ‫الســَنا و َّ‬ ‫وإِ ْن َكان فيه ّ‬ ‫ُطيق أَر َى ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ َبره‬
‫ولست أ ُ‬
‫الب ـ ـ ـالَ ُء‬
‫مني َ‬ ‫فقد َد َار بالق ـلب ِّ‬ ‫ُس ِك ْن َت َد َار الب ـ ـ ـلى‬ ‫كنت أ ْ‬
‫لئن َ‬
‫اء‬ ‫ِ‬
‫ال من ُمْقَلتَ َّي د َم ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫فقد َس ـ َ‬ ‫دم واح ـ ـ ـ ـ ـٌد‬ ‫فيك ٌ‬‫جف َ‬ ‫وِإن َّ‬
‫اء‬ ‫الر ُّي من َ ِ‬ ‫لك ِّ‬ ‫وال ِ ْزلت بالَقبـ ِر في ج ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫نة ِِ‬
‫ظمـْئها وال ـ ـ ـ ُّرو ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫عني في‬
‫لن يطول احتضاني لقبره كثي ار حتى أضطر لالنصراف ! االنصراف ؟! ولكن كيف أنصرف عن حبيبي وما انصرف ّ‬
‫حياته أبدا ؟! إنه انصراف المجبر المقهور الذي صارت حياته مختلفة عن حياة صديقه ‪ ،‬حياتي تحتاج الطعام والشراب‬
‫الكد والعمل أما حياة حبيبي فقد خلت من كل ذاك ‪ ،‬إنها حياة بال عمل ؟‪ ،‬انتهى وقت العمل وجاء وقت الحساب‬
‫والملبس و ّ‬
‫أشق ولكني أثق في أرحم الراحمين الذي ال يظلم عنده أحد ! أثق في عالم‬
‫وانتظار البعث والجزاء ‪ ،‬إنه حساب شاق وانتظار ّ‬
‫بملماتها أحيانا‬
‫اآلخرة أكثر من عالم الدنيا الجائرة ‪ ،‬لقد تفرقنا بين عالمين ‪ ،‬حتى لم تكتف الدنيا بالتفريق بيني وبين صديقي ّ‬
‫المهمة وفرق بيننا التفريق األخير ليطول أملي في االجتماع به في حضرة الملك يوم الدين ‪ ..‬سأعود إلى‬
‫ّ‬ ‫حتى أكمل الموت‬

‫‪257‬‬
‫متأوها وأنا صامت ‪ ،‬أغلي بال دخان و أفور بال ترغية ! ألكمل لحظات التأمل المدمية بين حسرتي‬
‫بيتي مذهوال من الدنيا ّ‬
‫وشجني ويظل مشهد قبر صديقي مطبوعا في ذهني ال يفارقه أبدا ليكون شاهدا على صداقتنا وشاهدا على حقيقة الدنيا كذلك‬
‫‪.........‬‬
‫يكمل ابن رشيق المشهد في قصيدة أخرى في صديقه الفقيد ‪:‬‬
‫َش َج ـ ـاني‬‫بها لفؤادي نا ُر قلبي وأ ْ‬ ‫مثل الكواكب تَ ْهت ـ ـ ِدي‬‫هم ُ‬ ‫قبور لُ ْ‬
‫ٌ‬
‫هاتيك المقاِبر ُسـ ـ ـ َّكاني‬
‫َ‬ ‫ان‬
‫فسك ُ‬‫َّ‬ ‫هم‬ ‫ِ‬
‫ض المقابر فيـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫على أََّنني َب ْع ُ‬
‫صان‬
‫َغ َ‬
‫ض َرة أ ْ‬‫فيا تُْر ُب ما أَنصْف َت ُن ْ‬ ‫َغصانهم َو ْهي َغ َّ‬
‫ض ٌة‬ ‫ُ‬ ‫وت في الثَّرى أ‬ ‫َذ ْ‬
‫يحاني‬ ‫ِ‬ ‫َخ لي كان ر ِ‬
‫كما أَنه قد كان َرْوح ـ ـي َوَر َ‬ ‫وحي وراحـ ـتي‬ ‫ُ‬ ‫وفيهم أ ٌ‬
‫ِ‬
‫المقدار عـ ـ ـ ـالي َة الشان‬ ‫َّ‬
‫معظ َم َة‬ ‫برغمي أ َْوَد ْع ُت الثَّرى منه ُم ْهـ ـ َج ًة‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وس ـْل َواني‬‫ص ْبري ُ‬ ‫ووسدتُه ما بين َ‬ ‫َّ‬ ‫ولكني َشَقْق ُت له الثـ ـرى‬ ‫شقيقي ّ‬
‫وخالَّني‬‫اح َ‬ ‫ف َر َ‬ ‫وبالرغ ِم منه كي ـ ـ َ‬ ‫مضى‬ ‫َقمت وَق ْد َ‬ ‫الرغم ِّ‬
‫مني ِإذ أ ُ‬ ‫على َّ‬
‫اح بأَ ْكـ ـ ـ ـَف ِ‬
‫ان‬ ‫ور ْحت بأَثو ٍ‬
‫اب ور َ‬ ‫َمـ ـ ـ ْت‬
‫ُ‬ ‫مات ولم أ ُ‬
‫مت فيه حين َ‬
‫تالء ُ‬
‫َ‬

‫كنت ال أنساك في عالمي الحالي ‪ ،‬قد كنا نتزاور في الدنيا زيارة‬


‫صديقي في العالم اآلخر ‪ ،‬لن أنساك في عالمك التالي كما ُ‬
‫حييت ‪ ،‬وآتيك دوما ما دق قلبي وما تحرك صدري ‪ ،‬ألجدد عهد اإلخاء بيننا ‪ ،‬ذلك‬‫ُ‬ ‫عجزت عنها اآلن فسأزورك ما‬
‫َ‬ ‫بزيارة ‪ ،‬فلما‬
‫العهد الذي هو أقوى من كل شيء ‪ ،‬أقوى من الموت نفسه ! ‪ ،‬سأقوم على قبرك أدعو هللا لك ‪ ،‬سأقف أمام َج َدثك أتذكر‬
‫ذكريات الماضي ‪ ،‬كما كان لنا لقاء أسبوعي في الحياة سيكون لنا لقاء أسبوعي بعد الموت ‪ ،‬إنه اتصال النفوس و األرواح ال‬
‫األجساد واألشباح ! ‪ ،‬إنه الوفاء إلى النهاية ‪ ،‬الوفاء إلى آخر نفس و آخر نبضة قلب ! ‪ ..‬ولم ال وجلوسي على قبرك هو راحة‬
‫قلبي وشفاء صدري ‪ ،‬هو سميري من بعدك و بلسمي بعد دواء رؤيتك‪..‬‬

‫يقول أبو بكر التونسي في الجلوس على قبر الحبيب ‪:‬‬


‫الحبيب َعلى سريره‬‫كما أوصى َ‬ ‫جلست َيوما‬
‫ُ‬ ‫الحبيب‬
‫َعلى َقبر َ‬
‫يفتش بالتلهف عن عش ـ ـيره‬ ‫َوفي طيات أم ــسي راح َقلبي‬
‫المرء َيقضي من ن ـ ـذيره‬
‫َيكاد َ‬ ‫َويشخص في غدي أم ار مريـعا‬

‫السالم عليك يا صديقي يا أهل الدار أنت سابقي وأنا الحقك ال محالة ‪ ،‬السالم عليك من قلبي قبل لساني ‪ ،‬السالم عليك في‬
‫ترد علي من قبل ؟!! ‪ ،‬لماذا ال تجيب‬
‫كنت ّ‬
‫ترد علي كما َ‬
‫دنياك وبعد موتك وحين تبعث حيا ! ‪ ...‬ولكن مالي أسّلم عليك وال ّ‬
‫لت صديقك اآلن‬‫؟ ‪ ،‬أال تسمعني ؟ أال تشعر بي ‪ ،‬أال تحس بأني جوارك اآلن ؟ هل أنستك غمرات الموت صداقتنا ؟ هل ما ز ُ‬
‫رد علي ! أجبني‪ .....‬أجبني ‪........‬أجبني ولو بكلمة تشفي بها صدري و تريح بها قلبي ‪.....‬‬
‫كنت صديقي األمس ‪ّ ،‬‬
‫كما َ‬
‫وهذا المشهد المؤلم قد عبر عنه علي بن أبي طالب في صديقه الفقيد حين وقف على قبره يسلم وال مجيب ‪:‬‬

‫‪258‬‬
‫َقبر الح ِ‬
‫بيب َفلـَم َي ُرَّد َج ـ ـوابي‬ ‫َ َ‬ ‫بور ُم َسّلِماً‬ ‫فت َعلى الُق ِ‬ ‫مالِي َوَق ُ‬
‫سيت َبعدي ِخَّل َة األَحـ ـ ـ ِ‬
‫باب‬ ‫اََن َ‬ ‫بيب ماَل َك ال تَ ُرُّد َجو َابـ ـ ـنا‬‫َح ُ‬ ‫أَ‬
‫وأَنا رهين ج ـ ِ‬
‫ناد ٍل وتُـ ـ ـ ـر ِ‬
‫اب‬ ‫يف لِي ِب َجواِبـ ُكم‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫بيب َوَك َ‬‫الح ُ‬‫قال َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫بت َعن أَه ـلي َو َعن أَترابي‬ ‫َو ُح ِج ُ‬ ‫اب َمحاسني َفَنسيتُـ ـ ُكم‬ ‫َك َل التُر ُ‬‫أَ‬
‫ِمّني و ِمنكـ ـم ِخَّل َة األَحـ ـ ـ ِ‬
‫باب‬ ‫طعـ ــَت‬ ‫يكم ِمّني السالم تََق َّ‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َف َعَل ُ ُ‬
‫مهما يكن األمر فلن ألهو عنك لن أسلو عنك ‪ ،‬لن يغيب قبرك عن خاطري ليظل شاهدا على الحقيقة التي لن تغيب عن‬
‫عيني إلى أن ألحق بك !‪....‬‬

‫قصة واقعية و عبرة حقيقية !‬


‫يحكي الشيخ المتعجب يقول ‪ :‬جاءني في يوم من األيام جنازة لشاب لم يبلغ األربعين‪،‬ومع الشاب مجموعة من أقاربه ‪،‬لفت‬
‫انتباهي‬
‫شاب في مثل سن الميت يبكي بحرقة ‪،‬شاركني الغسيل ‪ ،‬وهو بين خنين ونشيج وبكاء رهيب يحاول كتمانه ‪،‬أما دموعه فكانت‬
‫ٍ‬
‫لحظة وأخرى أصبره وأذكره بعظم أجر الصبر ولسانه اليتوقف عن قول إنا هلل وإنا إليه راجعون ‪ ،‬الحول‬ ‫تجري بال انقطاع وبين‬
‫والقوة إال باهلل‬
‫هتفت بالشاب إن هللا أرحم بأخيك منك ‪ ،‬وعليك‬
‫ُ‬ ‫هذه الكلمات كانت تريحني قليال ‪،‬بكاؤه أفقدني التركيز ‪،‬‬
‫بالصبر‪...................‬‬
‫التفت نحوي وقال إنه ليس أخي! ‪ ،‬ألجمتني المفاجأة ‪ ،‬محال ‪ ،‬وهذا البكاء وهذا النحيب؟! نعم إنه ليس أخي ‪ ،‬لكنه أغلى‬ ‫َ‬
‫ورحت أنظر إليه بتعجب ‪ ،‬بينما واصل حديثه إنه صديق الطفولة ‪ ،‬زميل الدراسة ‪ ،‬نجلس معاً‬ ‫سكت ‪ُ ،‬‬‫ُّ‬ ‫وأعز علي من أخي ‪،‬‬
‫ّ‬
‫في الصف وفي ساحة المدرسة ‪ ،‬ونلعب سوياً في الحارة ‪ ،‬تجمعنا براءة األطفال مرحهم ولهوهم ‪.......‬‬
‫وكبرنا وكبرت العالقة بيننا ‪ ،‬أصبحنا ال نفترق إال دقائق معدودة ‪ ،‬ثم نعود لنلتقي ‪َّ ،‬‬
‫تخرجنا في المرحلة الثانوية ثم الجامعة معاً‬
‫التحقنا بعمل واحد ‪ ،‬تزوجنا أختين ‪ ،‬وسكنا في شقتين متقابلتين ‪........‬‬
‫رزقني هللا ابنا وبنتا ‪ ،‬وهو أيضاً ُرزق بنتا وابنا عشنا معاً أفراحنا وأحزاننا ‪ ،‬يزيد الفرح عندما يجمعنا ‪ ،‬وتنتهي األحزان عندما‬
‫نلتقي‬
‫اشتركنا في الطعام والشراب والسيارة نذهب سوياً ونعود سوياً واليوم‪.................‬‬
‫توقفت الكلمة على شفتيه وأجهش بالبكاء‬
‫يا شيخ هل يوجد في الدنيا مثلنا ؟؟‬
‫ثاء‬
‫أخذت أردد ‪ ،‬سبحان هللا ‪ ،‬سبحان هللا ‪ ،‬وأبكي ر ً‬
‫ُ‬ ‫العبرة ‪ ،‬تذكرت أخي البعيد عني وقلت ‪ ، :‬ال ‪ ..‬ال يوجد مثلكما‬
‫خنقتني َ‬
‫لحاله‬
‫ظننت أنه سيهلك في‬‫ُ‬ ‫نتهيت من غسله ‪ ،‬وأقبل ذلك الشاب يقبله لقد كان المشهد مؤث اًر ‪ ،‬فقد كان ينشق من شدة البكاء ‪ ،‬حتى‬
‫ا ُ‬
‫تلك اللحظة راح يقبل وجهه ورأسه ‪ ،‬أمسك به الحاضرون وأخرجوه لكي نصلي عليه وبعد الصالة توجهنا بالجنازة إلى المقبرة‬

‫‪259‬‬
‫أما الشاب فقد أحاط به أقاربه فكانت جنازة تحمل على األكتاف ‪ ،‬وهو جنازة تدب على األرض دبيبا وعند القبر وقف باكياً ‪،‬‬
‫يسنده بعض أقاربه‬
‫دت إلى المنزل وبي من الحزن العظيم ما ال يعلمه إالهللا‪ ،‬وتقف عنده‬
‫سكن قليالً ‪ ،‬وقام يدعو ‪ ،‬ويدعو انصرف الجميع ع ُ‬
‫أخذت أتأملها ‪ ،‬الوجه ليس‬
‫ُ‬ ‫الكلمات عاجزة عن التعبير وفي اليوم الثاني وبعد صالة العصر ‪ ،‬حضرت جنازة لشاب آخر ‪،‬‬
‫شعرت أنني أعرفه ‪ ،‬ولكن أين شاهدته ؟ نظرت إلى األب المكلوم ‪ ،‬تقاطر الدمع على خديه ‪ ،‬وانطلق الصوت حزينا‬
‫ُ‬ ‫غريب ‪،‬‬
‫يا شيخ لقد كان باألمس مع صديقه يا شيخ باألمس كان يناول المقص والكفن ‪ ،‬يقلب صديقه ‪ ،‬يمسك بيده ‪ ،‬باألمس كان‬
‫يبكي فراق صديق طفولته وشبابه ‪،‬‬
‫عرضت زوجته عليه‬
‫ْ‬ ‫ددت بصوت مرتفع كيف مات ؟‬
‫تذكرت بكاءه ونحيبه ر ُ‬
‫ُ‬ ‫ثم انخرط في البكاء انقشع الحجاب ‪ ،‬تذكرتُه ‪،‬‬
‫فوجدته‬
‫ْ‬ ‫الطعام ‪ ،‬فلم يسطع تناوله ‪ ،‬قرر أن ينام ‪ ،‬وعند صالة العصر جاءت لتوقظه‬
‫‪....................................................‬‬
‫وهنا سكت األب ومسح دمعاً تحدر على خديه ‪ ،‬رحمه هللا لم يتحمل الصدمة في وفاة صديقه ‪ ،‬وأخذ يردد إنا هلل وإنا إليه‬
‫راجعون ‪ ...‬إنا هلل وإنا إليه راجعون ُ‬
‫قلت ‪ :‬اصبر واحتسب ‪ ،‬اسأل هللا أن يجمعه مع رفيقه في الجنة ‪ ،‬يوم أن ينادي الجبار عز‬
‫قمت بتغسيله ‪ ،‬وتكفينه ‪ ،‬ثم صلينا عليه توجهنا‬
‫في ؟ ‪ ..‬اليوم أظلهم في ظلي يوم الظل إال ظلي ‪ُ ،‬‬‫وجل أين المتحابون ِ‬
‫ّ‬
‫بالجنازة إلى القبر ‪ ،‬وهناك كانت المفاجأة لقد وجدنا القبر المجاور لقبر صديقه فارغاً قلت في نفسي محال ‪ :‬أمنذ األمس لم‬
‫وضعت يدي على الجدار الذي يفصل بينهما ‪ ،‬وأنا أردد ‪ ،‬يالها من‬‫ُ‬ ‫تأت جنازة؟! ‪ ،‬لم يحدث هذا من قبل ‪ ،‬أنزلناه في قبره ‪،‬‬
‫ووقفت أ دعو لهما اللهم أغفر‬ ‫خرجت من القبر‬ ‫ِ‬
‫وجمعت القبور بينهما أمواتا‬ ‫قصة عجيبة ‪ ،‬اجتمعا في الحياة صغا اًر وكبا اًر ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لهما وأرحمهما ‪ ،‬اللهم واجمع بينهما في جنات النعيم على سرر متقابلين ‪،‬‬
‫انطلقت أعزي أقاربهما وقد أصابني الذهول ‪ ،‬وتملكتني الدهشة‬
‫ُ‬ ‫جرت ‪ ،‬ثم‬
‫ومسحت دمعة ْ‬
‫ُ‬ ‫في مقعد صدق عند مليك مقتدر ‪،‬‬
‫‪.......‬‬

‫اختطاف األصدقاء !‬
‫حينما يمر العمر و تمضي السنون و تنفرط أيام اإلنسان كما تنفرط حبات العقد ّ‬
‫يمد هللا عمر من يشاء من عباده ليرى أصدقاءه‬
‫يتساقطون واحدا تلو واحد كما تتساقط أوراق الشجرة اليابسة ‪ ،‬حينها يختلط اليأس بالرجاء ‪ ،‬و يتضاعف القلق واالكتئاب ‪،‬‬
‫وتصير الدنيا غير الدنيا حين تصير سوداء كالحة فال يجد اإلنسان مسليا وال معزيا ‪ ،‬إنه خريف العمر كما أنه خريف‬
‫األصدقاء فتصير أيام الم أر ذكريات كما هي أيام األصدقاء ذكريات من الماضي لم يبق منها إال الخبر واألثر ! إنه اختطاف‬
‫األصدقاء ‪....‬‬
‫يخاطب ابن المعتز األيام والسنين يلومها لوم العاجز المسكين وقد فقد أصدقاءه ‪:‬‬
‫عاشرتُ ُه َده اًر َوال ِمن َشفـ ـيق‬
‫َ‬ ‫صديق‬ ‫ِ‬
‫يت لي من َ‬ ‫هر ما أَبَق َ‬
‫يا َد ُ‬
‫صف ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫يق‬ ‫ِ ٍ‬ ‫أك ُل أَصحابي َوتَفنيـ ـ ـ ـ ِه ُم‬
‫ثُ َّم َتلقاني ب َوجه َ‬ ‫تَ ُ‬
‫‪260‬‬
‫حين تتوالى الصدمات و تتابع أمواج الدمار والحطام و تتكاثر المراثي حتى تصير عادة وإلفا يقول خليل مطران ‪:‬‬

‫َصـ ـ ـ ـ ِدَق ِائي‬


‫تَُرِّو ُعـني ُمَن َايا أ ْ‬
‫َي امِتد ٍاد في الب ـ ـ ـَق ِ‬
‫اء‬ ‫َ‬ ‫إلى أ ِّ ْ َ‬
‫الدم ِع ِمن َفر ِط الب َك ِ‬ ‫ضَّن ْت َق ِديماً‬
‫اء‬ ‫وب َّ ْ ْ ْ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ُن ُ‬ ‫َش َك ْت َع ْين ّي َو َما َ‬
‫الرثَ ـ ـ ِ‬
‫اء‬ ‫ظ ِم ِّ‬ ‫ِمن ِ‬
‫التّ ْك َر ِار في َن ْ‬ ‫اإلْل َها ِم ِف ـ ْك ِري‬
‫أخَل َق ِج َّد َة ِ‬‫َو ْ‬
‫َ‬
‫وتُْن ِكؤها رِز َيئةُ ُكـ ـ ـ ـ ـ ِل ن ِ‬
‫اء‬ ‫ّ َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫ظ ُّل تُْد َم ـي‬ ‫اح تَ َ‬‫ام ال ِجر ُ‬ ‫َّ‬
‫َف َحت َ‬

‫أي جدار يستطيع الصمود أمام هذه األمواج المتتابعة المدمرة ؟ وأي بشر يحتمل كل تلك الرزايا التي يردف بعضها بعضا ‪،‬‬
‫وأي عين تستطيع أن تجد ماء يكفي لرثاء فقد كل هؤالء األحباب وأي عقل يستطيع معها الصمود بغير تيه وال جنون ؟! ولكنها‬
‫الحقيقة التي غفلنا عنها طول سنين العمر ‪ ،‬وانشغلنا عنها بلحظات السعادة مع أصدقائنا ‪ ،‬كان لهونا معهم ُيغفلنا عن نفاستهم‬
‫و قيمتهم حتى تنبهنا في النهاية وبئس التنبه ‪ ..‬وبئست الكربة ‪ ..‬وساءت الوحشة !‬
‫يقول عبد العزيز الزمزمي محاكيا من قبله في تساقط األصدقاء ولكن مع استيقاظ على الحقيقة وفهم واع للواقع القاسي ‪:‬‬
‫إن بالنوم يقظة الناس أش ـبه‬ ‫أيها الغافل الغبي تـ ـ ـ ـ ـنبه‬
‫دار دنياهم لهم دار غـ ـ ـربـة‬ ‫وتأمل فإنما الناس س ـ ـ ـ ـفر‬
‫يشتكي دائماً فراق األحـ ـبـة‬ ‫كيف يهنى الفتى بها وهو فيها‬
‫للفنى يالكربة أث ـ ـ ـر كربة‬ ‫واحد أثر واحد قد تـ ـ ـداعوا‬
‫فحياتي من بعدهم غير عذبـة‬ ‫كل حلو بعد األح ـ ـ ـ ـبة مر‬
‫إنه في حالة من االستيقاظ أتى عند الكربة دعاه ألن يوقظ بقية الناس ليعرفوا الحقيقة الغائبة و يعرفوا طعم فقد األصدقاء ‪ ،‬ذلك‬
‫الطعم الشديد الم اررة ‪ ،‬العلقم األسود و الغصة األعظم التي ال تضارعها غصة من غصص الصداقة من قبل ‪............‬‬

‫واجب الصداقة بال صديق !‬

‫واجبي نحوك يا صديقي لم ينته ‪ ..‬بل ممتد امتداد عمري ‪..‬بل هو اآلن أوجب و أحق ‪ ،‬وكيف أسلو واجبي نحوك ولم تفعل‬
‫يت واجبي غير منقوص فكيف أنقص حقك ؟! سأحفظ حقك علي في‬ ‫كنت مكانك لوّف َ‬
‫ذاك مدة عمرك المنصرم ؟! ولو أنني ُ‬
‫الدنيا واآلخرة ! أما من حقك اآلخر ّي – وهو أجدر حق – أنني سأدخر من مالي جزءا وأتصدق به واهبا ثوابه إليك ‪ ،‬فبذا وردت‬
‫السنة النبوية وبينت مشروعيتها ‪ ،‬بل سأجعل لك صدقة جارية مستمرة توضع ثمراتها في ميزان حسناتك ‪ ،‬فكما كان مالي ليس‬
‫ّ‬
‫يعز علي بعد موتك وأنت إلى ثوابه اليوم أحوج ! ‪ ،‬إن من عجائب األمور أن يموت اإلنسان وال‬
‫بالعزيز عليك في حياتك فلن ّ‬
‫محب مثلي يواصل فعل الخيرات ويهبها لصديقه الفقيد‬ ‫ِ‬
‫ينقطع عمله ؟! وإن أعجب مواصالت األعمال بعد الموت صديق ّ‬
‫المنقطع عمله ‪ ،‬سأواصل الدعاء لك في كل صالة أن ينجيك هللا في قبرك وأن ينجيك بعد قيامك وبعثك ‪ ،‬لن أفتر عن دعائي‬
‫لك ‪ ،‬سأجعل لي وردا مخصصا لك ‪ ،‬وأنا أعلم علم اليقين أن المالئكة تردد خلفي وتدعو ( ولك مثله ‪ ..‬ولك مثله ) ‪ ،‬سأبتهل‬

‫‪261‬‬
‫الغل من الصدور ويعم المستراح‬
‫إلى هللا أن يجمعنا في الجنة كما جمعنا في الدنيا إخوانا على سرر متقابلين يوم ينزع هللا ّ‬
‫أحج و أهبهما لك ‪ ،‬لن يثنيني وعثاء السفر و فراق البيت واألهل عن أن أجتهد في إيصال الثواب إليك ‪،‬‬
‫والحبور ‪ ،‬سأعتمر و ّ‬
‫وهذا بعض حقك علي من شئون اآلخرة ‪...‬‬
‫ّ‬
‫أما في الدنيا فسأظل أُحسن إلى أهلك وأقاربك فهم مجسدو ذكراك و لن ّ‬
‫أكف عن الثناء عليك أمام الناس ألذكرهم بذكراك‬

‫الطيبة وألنبههم إلى قدرك ومقامك الرفيع وموقعك الخالي الذي ال يملؤه غيرك وإن اجتهد المجتهدون ‪ ،‬لن ّ‬
‫يمل لساني حسن‬
‫ذكرك و جمال سيرتك ما حييتُ ‪................‬‬
‫يكمل ابن رشيق قصيدته في مرثاة صديقه بهذا المديح العذب يقول ‪:‬‬
‫ناء‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وم بما َي ْستَحـ ُّق الثـ ـ ـ ـ ُ‬
‫َيُق ُ‬ ‫سأُ ْثِني َعَل ْي َك وما قـ ـ ـ َّل مـا‬
‫الكباء ‪ :‬الجري والعدوُ‬ ‫حياء وي ْكبو َلديه ِ‬
‫الكـ ـ ـ َباء‬ ‫ثناء ُي َن ُّد به َّ‬
‫الن ـ ـ ـ ـ ـ ُّد عنه‬
‫ً َ ُ ْ‬ ‫ٌ‬
‫اء‬ ‫طت ُه ِّ‬
‫السم ـ ـ ُ‬ ‫دت ُه َّ‬ ‫ك قد َح َس ْ‬ ‫وَق ْب ُر ُ‬ ‫اض‬ ‫الريـ ـ ـ ُ‬ ‫ثنائي قد َغَب ْ‬
‫َ‬
‫تقاء‬ ‫ِ‬
‫اور واإللـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫وزال التز ُ‬ ‫تصرَم ما بيننا و ْانَقض ـ ـ ـى‬
‫َّ‬
‫اء‬ ‫ومالك ِمني ِإالَّ ُّ‬
‫الد َع ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫فمالي منك سوى االك ـ ِ‬
‫تئاب‬
‫َ‬
‫اء‬ ‫ِ‬ ‫ِإذا َّ‬ ‫عليك َفمي بالَقريـ ِ‬ ‫ِ‬
‫الب َك ُ‬
‫تي ُ‬ ‫قل م ْن مقل ـ ـ ـ َّ‬ ‫ض‬ ‫َ‬ ‫ويبكي‬
‫وأَعطاك من بي ِ‬
‫القريض ‪ :‬القيء‬ ‫طاء‬
‫ديه العـ ـ ـ ُ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫عني َخ ْير الـ ـجز ِاء‬ ‫يت ِّ‬ ‫َف ِ‬
‫جوز َ‬

‫أما ناصيف اليازجي فقد قام بواجب الثناء في حق صديقه الفقيد يقول ‪:‬‬
‫الصح ـ ـ ـ ـابا‬ ‫ِ ِ‬ ‫كريم ما عرْفنا ِ‬
‫وال ُخُلقاً َيسوء به ّ‬ ‫فيه َعيبـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫يس َترضي الغ ـ ـ ـضابا‬ ‫يك َقط ُيغض ُب نف ـ َس َر ٍ‬ ‫ُّ‬
‫كان ْ‬ ‫ولكن َ‬ ‫اض‬ ‫ولم ُ‬
‫فكان البعد يوِهمنا ِ‬
‫اقتـ ـ ـ ـ ـراباَ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ ُ ُ ُ‬ ‫َفَق ْدناهُ ولم َنْفق ْد ثَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـناهُ‬
‫تَُراباً َليـ ـ ـتنا ُكَّنا تـ ـ ـ ـ ــَُرابا‬ ‫لوبنا إ ْذ ْأوَدعـ ـ ـ ـ ـ ـوهُ‬ ‫تقول ُق ُ‬
‫ُ‬

‫وكنت أنت‬
‫َ‬ ‫كنت أسيؤك‬
‫وكنت أنت دواء شافيا ! كم ُ‬
‫َ‬ ‫كنت جافيا‬
‫كنت مقص ار في حقك يا صديقي في دنياك ! ‪ ،‬كم ُ‬ ‫ولكن كم ُ‬
‫حاولت إغضابك فيها‬
‫ُ‬ ‫تحتملني و تغفر لي تقصيري ‪ ،‬وهللا ما وفيتُك حقك في حياتك ‪ ،‬وندمي قائم أمام عيني على كل لحظة‬
‫‪ ،‬ليت الزمان يعود يوما فأتدارك تقصيري في حقك و إغفالي لقدرك ! ليته يعود ‪ ..‬ليته يعود ولكن هيهات ‪...............‬‬
‫يقول ابن رشيق في هذا الموقف المتمني المتندم ‪:‬‬

‫لكنه َي َّ‬
‫ترضـ ـ ـ ـ ـ ـاني‬ ‫ُغضبه َّ‬
‫وأ ُ‬ ‫َجفوهُ وكان ُيحب ـ ـني‬ ‫كن ُت أ ُ‬
‫وكم ْ‬
‫َح َس ُبه في قبره ْلي َس َي ْنس ـ ـ ـاني‬ ‫وأ ْ‬ ‫الصبا‬
‫وهيهات أَن أَنساهُ ما هبَّت َّ‬
‫ضميري َق ِائماً َي َتلقـ ـ ــَّاني‬‫ِ‬ ‫بع ْي ِن‬
‫َ‬ ‫قبره ف أرَيت ـ ـ ــُه‬
‫زرت منه َ‬‫وك ْم ُ‬
‫َ‬
‫األردان ‪ :‬األكمام ‪ ،‬الرواح ‪ :‬الرجوع‬ ‫الرواح بأ َْرداني‬ ‫وي ْم ِس ُكِني ِع ْن ـ ـد َّ‬
‫ُ‬ ‫َي َك ُاد ِإذا ما جئتُه أَن يضـ ـ ـ ـ َّمني‬

‫‪262‬‬
‫أعد محامدك وهي ال تحصى و ال تجمع ‪ ،‬ولكنه لساني العاجز يجمع ما يستطيع جمعه لعله يكون شفيعا لي ‪ ،‬إن‬ ‫كيف ّ‬
‫شعري هو أداتي للوفاء لك ‪ ،‬سأستخدمه ببراعة لتصوير روحك الغائبة وتجسيد نسيمك المفقود ‪.....‬‬
‫يكمل عبد العزيز الزمزمي مرثاته الطويلة لصديقه بهذه األوصاف الجامعة الالمعة ‪:‬‬

‫على األنفس الكريمة ص ـعبه‬ ‫يا خليلي فرقة الخ ـ ـ ـل وهللا‬


‫يزل بالجنب منك يلصق جـنبه‬ ‫سيما خلك الخصيص الذي لم‬ ‫ّ‬
‫إن يسؤك الزمان يوماً بنـ ـكبه‬ ‫الوفي الذي يسرك فعـ ـ ـ ـله‬
‫حين يملي يمأل القلوب محـ ـبه‬ ‫الحبيب الذي حوى كل وصف‬
‫بعده في الحياة والعيش رغب ـه‬ ‫حامد حميداً فمـ ـالي‬
‫قد مضى ٌ‬
‫محياه ‪ :‬وجهه‬ ‫آءيت في محياه غض ـ ـ ـبه‬ ‫ما تر ُ‬ ‫صاحبي من قريب خمسين عاماً‬
‫منطقي نطقه وقلـ ـ ـ ـبي قلبه‬ ‫زجت روحه بروحي فأ ضحى‬ ‫ُم ْ‬
‫صدوقاً عليه ما ع ـ ـ ـد كذبه‬ ‫ذو حفاظ تلقيه في الهزل والجـد‬
‫من الناس واحد قد س ـ ـ ـبه‬ ‫لم يكن فاحشاً لم يسب ولم يلق‬
‫الدربة ‪ :‬الجرأة في الحرب‬ ‫ودربـ ـ ـ ـه‬
‫فيه مع غرمه أناة ُ‬ ‫حازم الرأي ثابت الجأش شهم‬
‫فتسامى بها ألرفع رتبـ ـ ـ ـه‬ ‫من جميع العلوم حاز ف ـ ـنوناً‬
‫كان فيه هللا أعظـ ـ ـ ـم رهبه‬ ‫لم يكن راهباً سوى هللا لك ـن‬
‫آخذاً بالنصيب من كل ق ـربه‬ ‫كان يحيي إلى الممات الل ـيالي‬
‫قام عن فرشه لها وتنبـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫كم صالة يطول وصفي فيـها‬
‫كان يعصي الهوى وي ـعبد ربه‬ ‫بكت األرض والسماء فقد عبد‬
‫رمضان إذا أتى أي أه ـ ـ ـبه‬ ‫وسيبكيه حين يفقـ ـ ـ ـد منه‬
‫كان وهللا ماء زمزم ش ـ ـ ـربه‬ ‫كيف يظمأ غداً وفي ك ـل يوم‬
‫للتفاني من بعده مـ ـ ـشرئبه‬ ‫فجعتني فيه المنون فنـ ـ ـفسي‬

‫درك أيها الشاعر المحب ‪ ،‬كم لصديقك من مكارم و محاسن قلما جمعها في هذا الزمان جامع ‪ ،‬ومن لنا بمثل صديقك الذي‬ ‫هلل ّ‬
‫لو كان لكل منا صديق مثله المتألت األرض محبة وسالما وعدال ‪ ،‬ولكنه المنون الذي يسلب الدنيا أجمل ما فيها و يكدر فيها‬
‫كل صفاء ‪ ،‬فيذهب األصدقاء المخلصون بغير رجعة ويبقى األراذل من الناس الذين يذكرنا سوؤهم و تدنيهم ونذالتهم بقدرك‬
‫المأسو عليه !‬
‫ّ‬ ‫المفتقد و عبقك‬

‫‪263‬‬
‫ولكن ‪ .....‬كيف أوّفي صديقي حقه وقد عجز لساني عن الوصف ؟! إن ضعف بالغتي و ووهن لغتي ُيعجزني أن آتي بما‬
‫كنت شاع ار حاذقا حتى أنقش محامدك بمداد من نور يستضيء به الحجر ويستنير به البشر ! ‪ ،‬ولكن وا‬‫يليق بك ‪ ،‬ليتني ُ‬
‫حجي‬
‫ص َدقتي وال ّ‬‫أديت لك حقك ‪ ،‬وال َ‬
‫أسفاه ال كلماتي البليغة تجدي ‪ ،‬وال رثائي الفصيح يغني ‪ ،‬وال دعائي لك يشعرني بأنني ُ‬
‫اجتهدت فسيعييني وجدي و ينهكني ألمي و يعصرني حزني فوا أسفاه ‪.....‬‬
‫ُ‬ ‫تبرئ سقمي من فقدك ! ‪ ،‬إنني مهما ُ‬
‫فعلت ومهما‬
‫وا أسفاه ‪..........‬‬

‫أخي ار أخي المفقود أقولها وقالتها العرب من قبل في أصدقائها ‪ ( :‬ما عقالك بأنشوطة ! ) ‪ ،‬رباطنا الوثيق لن ينقطع أبدا ‪،‬‬
‫هد كياني و أرهق أركاني‬
‫افتقدتك عيني ! ‪ ،‬وأساي و مبلغ حزني الذي ّ‬
‫ْ‬ ‫أخوتي و صداقتي لك لم تنته بعد ‪ ،‬لن تفقدك ذاكرتي إذ‬
‫لن يهدأ حتى ألقاك ! ال يستطيع شيء مهما بلغت قوته أن يفرق بيننا حتى الموت ! فالموت ليس أقوى من صداقتنا وإن ْ‬
‫كانت‬
‫هذه هي نهاية قصتنا عند الناس فقصتنا الحقيقية لم تنته بعد فملتقانا سيتجدد تحت ظل الرحمن في منابر من نور يوم القيامة‬
‫ثم على سرر متقابلين في جنة رب العالمين ‪ ..‬فإلى اللقاء في جنة الفردوس بإذن هللا ‪......‬‬
‫إلى اللقاء ‪.......‬‬
‫إلى اللقاء ‪............‬‬
‫إلى اللقاء ‪.............‬‬

‫‪...................................................................................................‬‬
‫‪........................................................................................................................‬‬

‫تم االنتهاء من كتابته ومراجعته يوم الجمعة‬


‫الموافق للسادس والعشرين من ربيع األول عام ‪ 1437‬هـ‬
‫الموافق للخامس من فبراير عام ‪ 2016‬م‬
‫أرحب بأي تعليقات أو إضافات أو اعتراضات من القراء األفاضل‬
‫للتواصل معي ‪:‬‬
‫‪draegram8.gmail.com‬‬

‫‪264‬‬
‫قائمة المراجع التي استعين بها على شواهد البحث‬
‫الصداقة والصديق – أبو حيان التوحيدي ‪1-‬‬
‫الصداقة من منظور علم النفس –د‪ .‬أسامة سعد أبو سريع ‪2-‬‬
‫الحب في هللا وحقوق األخوة – أحمد فريد ‪3-‬‬
‫الموسوعة الشعرية –المجمع الثقافي ‪4-‬‬
‫كيف تكسب األصدقاء وتؤثر في الناس – ديل كارينجي ‪5-‬‬
‫الجامع ألحكام القرآن – القرطبي ‪6-‬‬
‫في ظالل القرآن – سيد قطب ‪7-‬‬
‫غرر الخصائص الواضحة ‪ -‬الوطواط ‪8-‬‬
‫ديواني الشعري الخاص ‪9-‬‬
‫الداء والدواء – ابن القيم ‪10-‬‬
‫فتح القدير – الشوكاني ‪11-‬‬
‫محاضرات األدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء – األصفهاني ‪12-‬‬
‫الفتاوى – ابن تيمية ‪13-‬‬
‫إرشاد الساري – القسطالني ‪14-‬‬
‫العقد الفريد ‪ -‬ابن عبد ربه ‪15-‬‬
‫الفرج بعد الشدة – القاضي التنوخي ‪16-‬‬
‫لباب األدباء – أسامة بن منقذ ‪17-‬‬
‫المستطرف في كل فن مستظرف – األبشيهي ‪18-‬‬
‫الدرر السنية – موقع إلكتروني – ‪19‬‬
‫لباب اآلداب – أبو منصور الثعالبي ‪20-‬‬
‫العمدة ‪ -‬ابن رشيق ‪21-‬‬
‫العتاب بين األصدقاء ‪ -‬علي بن محمد التميمي ‪22-‬‬
‫الموشى ‪ -‬الوشاء ‪23-‬‬
‫بهجة المجالس وأنس المجالس ‪ -‬ابن عبد البر القرطبي – ‪24‬‬
‫نهاية األرب في فنون األدب ‪ -‬النويري ‪25-‬‬
‫ربيع األبرار ‪ -‬الزمخشري ‪26-‬‬
‫الصداقة بين العلماء – محمد بن إبراهيم الحمد ‪27-‬‬
‫الكبت – سيجموند فرويد ‪28-‬‬

‫‪265‬‬
‫الرجال من المريخ والنساء من الزهرة – جون جراي ‪29-‬‬
‫األحالم – د \ مصطفى محمود – ‪30‬‬
‫اإلخوان – ابن أبي الدنيا ‪31-‬‬
‫طوق الحمامة – ابن حزم األندلسي ‪32-‬‬
‫موسوعة ويكيبديا اإلنجليزية ‪33-‬‬

‫مصادر يمكن العودة إليها لالستزادة‪:‬‬


‫كتاب المتحابين في هللا – ابن قدامة‬
‫الحب في هللا – أبو محمد عبد الكريم‬
‫الصداقة عند الشباب الجامعي – عيسى الشماس‬
‫في أدب الصداقة – عبد الرحمن منيف و مروان قصاب باشي‬

‫تحية إعجاب و إجالل ألبرز أبطال البحث‪:‬‬


‫ابن أبي حيان التوحيدي ‪1-‬‬
‫ابن الرومي ‪2-‬‬
‫علي بن أبي طالب ‪3-‬‬
‫محمد بن إدريس الشافعي ‪4-‬‬
‫المعتز ‪5-‬‬
‫ابن رشيق القيرواني ‪6-‬‬

‫‪266‬‬
‫الفه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرس‬

‫المقدمة‬
‫تعريف الصداقة و مراتب العالقات اإلنسانية‬
‫‪1-‬الزمالة و المعرفة‬
‫‪2-‬الصحبة‬
‫‪3-‬الصداقة‬
‫أركان الصداقة‬
‫‪1-‬الحب المتبادل‬
‫عالمة الحب‬
‫الفراق يولد االشتياق‬
‫الحب من مقاصد الشرع‬
‫الحب في الديانات األخرى‬
‫الحب ليس بيد البشر‬
‫صور من المحبين‬
‫نظرية األنا‪..‬‬
‫من أواصر المحبة‬
‫‪1-‬البوح بالحب من أواصر المحبة‬
‫‪2-‬االبتسامة الصادقة من أواصر المحبة‬
‫المحب‬
‫ّ‬ ‫عبوس‬
‫‪3-‬الهدية من أواصر المحبة‬
‫‪4-‬قلة الكلفة من أواصر المحبة‬
‫شرط الحب‬
‫نظريات في مشكالت الحب‬
‫النظرية األولى ‪ :‬ابتعد عمن تحب!‬
‫النظرية الثانية ‪ :‬صادق من يحبك ال من تحبه!‬
‫النظرية الثالثة ‪ :‬الحب الهون!‬
‫النظرية الرابعة ‪ :‬نبذ التعلق بالبشر و عشقهم والتعلق باهلل وحده!‬
‫مفهومات مغلوطة عن الحب‪:‬‬

‫‪267‬‬
‫‪1-‬فهم معنى الحب في هللا‪:‬‬
‫‪2-‬التفريق بين الصداقة والحب في علم النفس‬
‫‪2-‬المشاركة في الهموم‬
‫الكربات كاشفات!‬
‫شكوي الشعراء‬
‫نصائح الحكماء‬
‫صداقة المصلحة‬
‫بذل العون وابتداء صداقة!‬
‫صبر في الشدة ومتعة في الرخاء!‬
‫تفريج الكربات من مقاصد الشرع‬
‫صور المشاركة في الهموم وأنواع الدعم‬
‫المحنة اللذيذة !!‬
‫‪3-‬المشاركة واإليثار‬
‫صور من اإليثار والمشاركة‬
‫موانع اإليثار‬
‫سؤال الصديق‬
‫‪4-‬السر بين األصدقاء‬
‫المتخبطون في استيداع أسرارهم!‬
‫تعميم حاكته الظروف!‬

‫‪5-‬العتاب بين األصدقاء‬


‫ثقافة االعتذار‬
‫ثقافة العفو‬
‫معارضون للعتاب‬
‫صور من عتاب األحبة‬
‫عتاب النبي و صحابته‬
‫بين العتاب واالجتناب‬
‫ساعة العتاب‬
‫‪6-‬التزاور بين األصدقاء‬
‫ما بين السماء واألرض!‬

‫‪268‬‬
‫‪7-‬اإلحساس بالصديق‬
‫شيء من اإلحساس!‬
‫الوسواس‬
‫بين اإلحساس و َ‬
‫‪8-‬التقارب الفكري بين األصدقاء‬
‫التأثير والتأثر‬
‫التشاكل وعالم الغيب!‬
‫ثمرات التشاكل‬
‫كالم عجيب في التشاكل‬
‫نظرة مختلفة‬
‫نظ ـ ـ ـريات الصداق ـ ـ ــة‬
‫‪1-‬نظرية انعدام الصداقة‬
‫بين علي والشافعي‬
‫مقارنة بين األصدقاء واألعداء!!‬
‫محاولة تفسير فكرة انعدام الصداقة!‬
‫بعض من وصفوا حال الناس البعيدة عن األخوة‬
‫عواقب امتناع الصداقة‬
‫‪1-‬اعتزال الناس‬
‫‪2-‬التماس بدائل لألصدقاء‬
‫وخالصة رأي من رأى انعدام الصداقة‬
‫‪2-‬نظرية وجود الصديق و البحث عنه‬
‫من صور وصفهم ألصدقائهم!‬
‫خالصة تلك النظرية‬
‫‪3-‬نظرية ندرة األصدقاء‬
‫الندرة اإلجبارية‬
‫الندرة االختيارية‬
‫‪4-‬نظرية الصديق غير المثالي‬
‫صور َم َرضية من الصداقة‬
‫‪1-‬الصداقة الغثائية‬
‫‪2-‬الصداقة الموسمية!‬
‫‪3-‬الصداقة النفعية‬

‫‪269‬‬
‫‪4-‬انعدام المباالة!‬
‫موانع الصداقة‬
‫‪1-‬حاجز العمر‬
‫صورة واقعية للحاجز العمري‬
‫‪2-‬حاجز الدين‬
‫‪3-‬حاجز الجنس‬
‫*حواجز وهمية للصداقة!‬
‫على شاطئ الصداقة‬
‫البحث عن الصديق‬
‫ومضات يستضيء بها الباحث عن الصديق‬
‫محطات نلتقي أو ال نلتقي فيها باألصدقاء‬
‫خالصة التطور العمري للصداقة‬
‫طرق الحصول على األصدقاء‬
‫‪1-‬الزمالء‬
‫‪2-‬الجيران‬
‫‪3-‬المسجد‬
‫‪4-‬الوسطاء‬
‫‪5-‬األقارب‬
‫الصداقة أعظم من القرابة والنسب‬
‫ظروف نشأة الصداقة ( لحظات جوهرية ! )‬
‫‪1-‬لحظة حب!‬
‫‪2-‬لحظة كرب !‬
‫‪3-‬لحظة مشاركة‬
‫‪4-‬لحظة إفصاح!‬
‫تحول‬
‫‪5-‬لحظة ّ‬
‫‪6-‬لحظة إعجاب‬
‫‪7-‬لحظة جرأة‬
‫تصورات عامة للصديق المستقبلي‬
‫عالمات يسترشد بها السالك لطريق الصداقة‬
‫دليل العيون ونظرات المودة!‬

‫‪270‬‬
‫الصداقة السريعة و الحسرة الطويلة!‬
‫صناعة ِ‬
‫الثقل!‬
‫اللقاء األول و فلسفته!!‬
‫التبين والتحقق عند فقيه الصداقة ابن الرومي!‬
‫مسائل متفرقة في الصداقة‬
‫‪1-‬الصداقة واالكتئاب‬
‫‪2-‬بين الصديق والزوجة‬
‫‪3-‬هل القلب يسع صديقين ؟ !‬
‫‪4-‬الصداقة الجماعية‬
‫‪5-‬الصداقة بالمراسلة‬
‫‪6-‬الصداقة ومواقع التواصل االجتماعي‬
‫الخالفات بين األصدقاء‬
‫سمات الخالفات بين األصدقاء‬
‫التفسيرات اإلسالمية لقضية الخالف بين األصدقاء ‪:‬‬
‫‪1-‬الذنوب و المعاصي‬
‫‪2-‬نزغ الشيطان‬
‫‪3-‬حسد الحاسدين‬
‫األسباب النفسية لوقوع المشكالت بين الصديقين‪:‬‬
‫‪1-‬اإلباء عن االعتذار‪:‬‬
‫برد الفعل والغفلة عن الفعل‬
‫‪2-‬التمسك ّ‬
‫‪3-‬انتظار المبادرة من الطرف اآلخر‬
‫أسباب طول االنقطاع‬
‫مسألة ‪ :‬مراتب االتصال بين الصديقين‬
‫‪4-‬اختالف األجواء النفسية‬
‫‪5-‬الخطأ السلبي‬
‫‪6-‬كبت مشاعر اللوم‬
‫الغيرة‬
‫‪َ 7-‬‬
‫بوادر الصفاء و بوادر الخطر!‬
‫نموذج للعتاب والتدارك من األدب العربي‬
‫ابن الرومي يعاتب صديقه أبا القاسم الشطرنجي‬

‫‪271‬‬
‫أوشك البين!‬
‫بداي ـ ـ ــة النهاي ـ ـ ــة‬
‫بين الحب والبغض‬
‫قضية الجفاء‬
‫أحوال من فقد الصديق‪..‬‬
‫الجفاء والمالل‬
‫صرخة أمل!‬
‫الود!‬
‫قضية تكّلف ّ‬
‫مواقف النهايـ ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬
‫أهيلوا التراب على هؤالء الصحاب‪:‬‬
‫‪1-‬موقف االستبدال !‬
‫مسألة ملتبسة‪:‬‬
‫‪2-‬موقف الخذالن !‬
‫‪ 3-‬موقف االستعالء!‬
‫‪4-‬موقف النكوص واالرتداد!‬
‫التدين!‬
‫‪5-‬موقف ّ‬
‫‪6-‬موقف الخيانة!‬

‫‪7-‬موقف االنشغال و النسيان!‬


‫‪8-‬موقف مبهم!‬
‫عواقب نهاية الصداقة ‪:‬‬
‫فترة األلم!‬
‫انتفاضة الوسط المحيط!‬
‫السالم النفسي!‬
‫التردد وإذالل النفس!‬
‫العبثية!‬
‫السكر و َ‬
‫ُّ‬
‫هل تعود الصداقة مرة أخرى ؟!‬
‫موت الصديق ‪ ..‬نهاية الطريق!‬
‫لهيب العيون!‬
‫لوم اَل َقدر!‬

‫‪272‬‬
‫بين الحياة والفناء‪! ..‬‬
‫كان سبب الهناء فصار سبب الشقاء!‬
‫قبر الصديق!‬
‫قصة واقعية و عبرة حقيقية!‬
‫اختطاف األصدقاء!‬
‫واجب الصداقة بال صديق!‬
‫قائمة المراجع‬
‫الفهرس‬

‫‪273‬‬

You might also like