You are on page 1of 4

‫‪٣١٥‬‬ ‫‪-٥‬رسالةفي التعصب المذهبي‬

‫[ص‪ ]١‬بخنمم —جاًش‪١‬لرئكج‬

‫من المعلوم بالضرورة من دين اإلس الم أن ال دين ش رع هللا تع الى‪ ،‬فإنم ا يؤخ ذ من‬
‫كتابه وسنة رسوله‪ ،‬مباشرة إذا تيسر ذلك‪ ،‬وإال فبواسطة مخبر موثوق به عنهما‪.‬‬

‫وقد علم هللا تبارك وتعا لى أن العالم قد تعزب عن ه بعض دالالت الكت اب أو الس نة‪،‬‬
‫وقد ال تبلغه السنة‪ ،‬مع أسباب أخرى يقع بها العالم في الخطأ‪ ،‬فتج اوز س بحانه عن الع الم‬
‫وأثابه على اجتهاده المأمور به‪ ،‬وفرض على المخطئ أن يرجع إلى ا لحق إذا ت بين أوبين‬
‫له‪ .‬فكان العلماء من سلف األمة يجتهدون ويقضون ويفتون بما رأوا أنه الحق‪ ،‬مع علم كل‬
‫منهم وغيره أن ه مع رض للخط أ‪ ،‬إذ ق د يغف ل عن بعض دالالت الق رآن‪ ،‬وق د تخفى عن ه‬
‫السنة‪ ،‬وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح‪ ،‬وقد وقد‪...‬‬

‫ومن ادعى لواحد من األئمة انتفاء الخطأ والغلط والزلل عنه‪ ،‬فقد ادعى له العصمة‪،‬‬
‫وكفى بذلك خروجا على اإلسالم!‬

‫ومن كان له ممارسة للسنة وط الع كتب الش افعي رحم ه هللا علم يقين ا أن كث يرا من‬
‫األحاديث الثابتة لم تبلغه البتة‪ ،‬أو بلغته من وجه ال يثبت‪ ،‬وهي ثابتة عن د غ يره من أوج ه‬
‫أخر‪ .‬وإن كان قد بلغه وثبت عنده من األحاديث ما لم يبلغ أستاذه مالكا أو لم يعرف ثبوته‪،‬‬
‫كما بلغ كال منهم ا وثبت عن ده أش ياء لم تبل غ أب ا حنيف ة وم ا لم يع رف ثبوت ه‪ .‬وك انوا هم‬
‫يعرفون هذايقينا ولذلك كان ك ل منهم إذا ت بين ل ه خط أ ق ول من أقوال ه رج ع عن ه‪ ،‬ثم لم‬
‫يعمل ولم يقض ولم يفت إال بما تبين له بعد أنه ا لحق‪ .‬وكان العامي يأخ ذ بفت وى ع ا لم (‬
‫‪ ،) ١‬ثم إذا قيل له‪ :‬إنه أخطأ‪ ،‬رجع فأخذ بما يترجح عنده أو احتاط لدينه‪.‬‬
‫وامتاز جماعة من العلماء بالتوسع في العلم والتجرد لنشره مع الفضل والصالح إلى‬
‫‪٣١٦‬‬ ‫مجموعرسائل أصول الفقه‬

‫أسباب أخر اقتضت أن يكثر أصحابهم ويعنوا بأقوالهم ويمعنوا في ذل ك‪ .‬فه ؤالء أص حاب‬
‫المذاهب‪.‬‬
‫لم يكن أولئك األئمة يش عرون بأنه ا ستنش أ لهم م ذاهب على ه ذا النح و المش اهد أو‬
‫قريب منه‪ ،‬وأقوالهم وأحوالهم تبين ذلك‪ .‬ومن ألف منهم الكتب إنما ألفها تبليغا لما فيها من‬
‫السنة وتنبيه ا علىم ا تنب ه ل ه من ال دالالت وتعليم ا لوج وه النظ ر واالس تنباط‪ .‬وك انوا هم‬
‫أنفس هم يمتنع ون عن الج واب في كث يرمن المس ائل‪ ،‬ويتوقف ون عن الج زم في حكمه ا إذا‬
‫ذكروها في كتبهم‪ ،‬ويقولون القول ثم يظهر لهم خط اؤه ف يرجعون عن ه‪[ ،‬ص ‪ ]٢‬وينه ون‬
‫أصحا بهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم‪ ،‬ويأمرونهم بالنظر ألنفسهم واتب اع ال دليل كم ا ذك ره‬
‫المزني في أول «مختصره» عن الشافعي( ‪ ،)٢‬وذلك فرض هللا تبارك وتعالى على هؤالء‬
‫وهؤالء‪.‬‬
‫وكانوا يقرون العامة على ما جروا عليه إلى زمانهم؛ يستفتي العامي فيم ا ينوب ه من‬
‫يلقاه من العلماء بدون تقيي بمعين‪ .‬وجرى على ذلك أصحابهم‬

‫(‪ )١‬من قوله‪« :‬إذا تبين له» إلى هنا ضرب عليه المؤل ف أوال ثم كتب فوق ه‪« :‬ص ح» ع دة م رات‬
‫لطول الكالم‪.‬‬
‫( ‪ )٢‬قال‪« :‬اختصرت ه ذا الكت اب من علم محم د بن إدريس الش افعي رحم ه هللا ومن مع نى قول ه‬
‫ألقربه على من أراده مع إغالميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره‪ ،‬لينظ ر في ه لدين ه ويحت اط في ه‬
‫لنفسه‪ .‬وباله التوفيق»‪.‬‬
‫وأصحاب أصحابهم‪ ،‬ثم أخذت الهمم تضعف والعلماء يقلون وأسباب ا لهوى تشرى‪ ،‬فنش أ‬
‫التقيد بالمذاهب‪ ،‬ثم استحكم وصار ا لمتفقهة يتنافسون؛ كل يحاول الزيادة في أتباع مذهبه‪،‬‬
‫وأوقع ذلك في إحن ومحن وفتن معروفة‪.‬‬

‫وأخذ متفقهة كل مذهب يحاولون أن يجعل وه كافي ا ب أن يوج دوا في ه أحكام ا للف روع‬
‫‪٣١٦‬‬ ‫مجموعرسائل أصول الفقه‬

‫الكثيرة التي لم يذكرها اإلمام‪ ،‬فأخذوا في االجتهاد جاعلين أقوال اإلمام أصوال يلحقون بها‬
‫م ا لم ي ذكره بالمقايس ة والتش بيه وال رأي المحض م ع التفنن في ف زض ص ورنادرة ب ل‬
‫مستحيلة‪ .‬ثم تتخذ الطبقة الثانية أقوال من قبلها أصوال يلحقون بها ما لم يذكر من الف روع‪،‬‬
‫وهلم جرا‪.‬‬
‫حتى في عصرنا هذا — رغما عن تضخم المذهب — فما أكثر الوقائع التي تقع فال‬
‫يجدها المتفقه في كتب مذهبه‪ ،‬فيش مر لالجته اد متخ ذا أق وال من قبل ه ‪ -‬ول و عن ق رب ‪-‬‬
‫أصوال [ص‪ ]٣‬يستنبط منها ويقيس ويشبه ويتكل ف‪ .‬ومن ش أن تل ك االجته ادات أن ت ؤدي‬
‫كث يرا إلى م ا يخ الف نص وص الش رع ومقاص ده‪ ،‬وإلى م ا يخ الف كالم األئم ة وق دماء‬
‫أصحابهم‪ ،‬وهذا هو الواقع‪.‬‬
‫فأما كثرة االختالف في كل م ذهب وتع ارض التص حيح وال ترجيح فح دث عن ه وال‬
‫حرج‪ ،‬وإن حاول المتأخرون التخفيف من ذلك! ومع هذا كله‪ ،‬فلم تطب ق األم ة على هج ر‬
‫الكت اب والس نة‪ ،‬ب ل بقي النظ ر في التفس ير وجم ع الس نة وترتيبه ا والكالم في الرواي ات‬
‫وجم ع األدل ة واس تنباطها من الكت اب والس نة مس تمرا وإن تف اوتت المقاص د؛ فمن ع الم‬
‫مستقل وإن انتسب إ لى مذهب فنسبة اسمية فقط‪ ،‬وثان منتسب ملتزم‪ ،‬غير أن ه إذا ب ان ل ه‬
‫في مسألة رجحان خالف مذهبه دليال أخذ بالدليل‪ ،‬وثالث متقيد بمذهب ال يستطيع التخلص‬
‫من شيء منه‪ .‬والمل تزمون كث يرون‪ ،‬وال يك اد يخلوواح د منهم عن الرغب ة في االنتص ار‬
‫للمذهب‪ ،‬ولكنهم متفاوتون في هذه الرغبة وفي مراتبها‪ ،‬وبحس ب التف اوت في ذل ك يك ون‬
‫التفاوت في إنصاف ا ألدلة وا لحيف عليها‪.‬‬

‫[ص ‪ ]٤‬وأم ا المتقي د فق د أعلن عن نفس ه بأن ه « مح امي»( ‪ .) ١‬وق د ك ان عم ل‬


‫المح امي األل د قاص را على م ا ذك ره إي اس بن معاوي ة‪ ،‬عن ص الح السدوس ي أن ه يق ول‬
‫لموكله‪« :‬اجحذ ما عليك‪ ،‬وادع ما ليس لك‪ ،‬واستشهد الغيب»( ‪ .)٢‬فزاد بعد ذلك باستشهاد‬
‫‪٣١٦‬‬ ‫مجموعرسائل أصول الفقه‬

‫ش هود ال زور ومحاول ة ج رح ش هود المخ الف الع دول؛ وق ع ه ذا وأك ثر من ه من ه ؤالء‬
‫المحامين عن المذاهب‪ .‬نعم‪ ،‬إنهم متف اوتون ولكن أحس بهم(‪ )٣‬إلى أص حاب مذهب ه أل دهم‬
‫وألجهم؛ يطرونه بقوة العارضة‪ ،‬والصالبة في المذهب‪ ،‬وشدة الوطأة على المخ الفين‪ ،‬م ع‬
‫أنهم يرم ون من خ الفهم ‪ -‬وإن ك ان مس تقال أو ملتزم ا غ ير متقي د — بالتعص ب واتب اع‬
‫الهوى والتعامي عن الحق وأشباه ذلك‪.‬‬
‫ومن وطن نفس ه على اإلنص اف وتح ري ا لح ق على ك ل ح ال‪ ،‬علم ‪ -‬وإن ك ان‬
‫متقيدا‪ -‬بأن الملتزمين والمتقيدين من علماء مذهبه كغ يرهم في أن ه يق ع منهم في كث ير من‬
‫المواطن ميل عن اإلنصاف وحيف على األدلة؛ يوقعهم في ذل ك حرص هم على االنتص ار‬
‫للمذهب‪ .‬وإذ كان كل مذهب من المذاهب غير معصوم‪ ،‬فال بد أن يكون وقع في ك ل منه ا‬
‫فروع مخالفة للحق‪ ،‬يقع محاول االنتصار لها في الميل والحيف والبد(‪.)٤‬‬

‫(‪ )١‬كذافي األصل بإثبات الياء‪ ،‬وهو جائز في لوقف‪.‬‬


‫(‪ )٢‬انظر «أخبار القضاة» ( ‪ )٣٥٠/١‬و«تاريخ بغداد» (‪.)١٢/٦‬‬
‫(‪ )٣‬كذا في األصل‪ ،‬وله وجه‪ .‬ويمكن أن يقرأ «أحسنهم» بالنون‪.‬‬
‫(‪ )٤‬هنا ينتهي ما وجد من كالم الشيخ بخطه‪.‬‬

You might also like