Professional Documents
Culture Documents
من المعلوم بالضرورة من دين اإلس الم أن ال دين ش رع هللا تع الى ،فإنم ا يؤخ ذ من
كتابه وسنة رسوله ،مباشرة إذا تيسر ذلك ،وإال فبواسطة مخبر موثوق به عنهما.
وقد علم هللا تبارك وتعا لى أن العالم قد تعزب عن ه بعض دالالت الكت اب أو الس نة،
وقد ال تبلغه السنة ،مع أسباب أخرى يقع بها العالم في الخطأ ،فتج اوز س بحانه عن الع الم
وأثابه على اجتهاده المأمور به ،وفرض على المخطئ أن يرجع إلى ا لحق إذا ت بين أوبين
له .فكان العلماء من سلف األمة يجتهدون ويقضون ويفتون بما رأوا أنه الحق ،مع علم كل
منهم وغيره أن ه مع رض للخط أ ،إذ ق د يغف ل عن بعض دالالت الق رآن ،وق د تخفى عن ه
السنة ،وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح ،وقد وقد...
ومن ادعى لواحد من األئمة انتفاء الخطأ والغلط والزلل عنه ،فقد ادعى له العصمة،
وكفى بذلك خروجا على اإلسالم!
ومن كان له ممارسة للسنة وط الع كتب الش افعي رحم ه هللا علم يقين ا أن كث يرا من
األحاديث الثابتة لم تبلغه البتة ،أو بلغته من وجه ال يثبت ،وهي ثابتة عن د غ يره من أوج ه
أخر .وإن كان قد بلغه وثبت عنده من األحاديث ما لم يبلغ أستاذه مالكا أو لم يعرف ثبوته،
كما بلغ كال منهم ا وثبت عن ده أش ياء لم تبل غ أب ا حنيف ة وم ا لم يع رف ثبوت ه .وك انوا هم
يعرفون هذايقينا ولذلك كان ك ل منهم إذا ت بين ل ه خط أ ق ول من أقوال ه رج ع عن ه ،ثم لم
يعمل ولم يقض ولم يفت إال بما تبين له بعد أنه ا لحق .وكان العامي يأخ ذ بفت وى ع ا لم (
،) ١ثم إذا قيل له :إنه أخطأ ،رجع فأخذ بما يترجح عنده أو احتاط لدينه.
وامتاز جماعة من العلماء بالتوسع في العلم والتجرد لنشره مع الفضل والصالح إلى
٣١٦ مجموعرسائل أصول الفقه
أسباب أخر اقتضت أن يكثر أصحابهم ويعنوا بأقوالهم ويمعنوا في ذل ك .فه ؤالء أص حاب
المذاهب.
لم يكن أولئك األئمة يش عرون بأنه ا ستنش أ لهم م ذاهب على ه ذا النح و المش اهد أو
قريب منه ،وأقوالهم وأحوالهم تبين ذلك .ومن ألف منهم الكتب إنما ألفها تبليغا لما فيها من
السنة وتنبيه ا علىم ا تنب ه ل ه من ال دالالت وتعليم ا لوج وه النظ ر واالس تنباط .وك انوا هم
أنفس هم يمتنع ون عن الج واب في كث يرمن المس ائل ،ويتوقف ون عن الج زم في حكمه ا إذا
ذكروها في كتبهم ،ويقولون القول ثم يظهر لهم خط اؤه ف يرجعون عن ه[ ،ص ]٢وينه ون
أصحا بهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم ،ويأمرونهم بالنظر ألنفسهم واتب اع ال دليل كم ا ذك ره
المزني في أول «مختصره» عن الشافعي( ،)٢وذلك فرض هللا تبارك وتعالى على هؤالء
وهؤالء.
وكانوا يقرون العامة على ما جروا عليه إلى زمانهم؛ يستفتي العامي فيم ا ينوب ه من
يلقاه من العلماء بدون تقيي بمعين .وجرى على ذلك أصحابهم
( )١من قوله« :إذا تبين له» إلى هنا ضرب عليه المؤل ف أوال ثم كتب فوق ه« :ص ح» ع دة م رات
لطول الكالم.
( )٢قال« :اختصرت ه ذا الكت اب من علم محم د بن إدريس الش افعي رحم ه هللا ومن مع نى قول ه
ألقربه على من أراده مع إغالميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره ،لينظ ر في ه لدين ه ويحت اط في ه
لنفسه .وباله التوفيق».
وأصحاب أصحابهم ،ثم أخذت الهمم تضعف والعلماء يقلون وأسباب ا لهوى تشرى ،فنش أ
التقيد بالمذاهب ،ثم استحكم وصار ا لمتفقهة يتنافسون؛ كل يحاول الزيادة في أتباع مذهبه،
وأوقع ذلك في إحن ومحن وفتن معروفة.
وأخذ متفقهة كل مذهب يحاولون أن يجعل وه كافي ا ب أن يوج دوا في ه أحكام ا للف روع
٣١٦ مجموعرسائل أصول الفقه
الكثيرة التي لم يذكرها اإلمام ،فأخذوا في االجتهاد جاعلين أقوال اإلمام أصوال يلحقون بها
م ا لم ي ذكره بالمقايس ة والتش بيه وال رأي المحض م ع التفنن في ف زض ص ورنادرة ب ل
مستحيلة .ثم تتخذ الطبقة الثانية أقوال من قبلها أصوال يلحقون بها ما لم يذكر من الف روع،
وهلم جرا.
حتى في عصرنا هذا — رغما عن تضخم المذهب — فما أكثر الوقائع التي تقع فال
يجدها المتفقه في كتب مذهبه ،فيش مر لالجته اد متخ ذا أق وال من قبل ه -ول و عن ق رب -
أصوال [ص ]٣يستنبط منها ويقيس ويشبه ويتكل ف .ومن ش أن تل ك االجته ادات أن ت ؤدي
كث يرا إلى م ا يخ الف نص وص الش رع ومقاص ده ،وإلى م ا يخ الف كالم األئم ة وق دماء
أصحابهم ،وهذا هو الواقع.
فأما كثرة االختالف في كل م ذهب وتع ارض التص حيح وال ترجيح فح دث عن ه وال
حرج ،وإن حاول المتأخرون التخفيف من ذلك! ومع هذا كله ،فلم تطب ق األم ة على هج ر
الكت اب والس نة ،ب ل بقي النظ ر في التفس ير وجم ع الس نة وترتيبه ا والكالم في الرواي ات
وجم ع األدل ة واس تنباطها من الكت اب والس نة مس تمرا وإن تف اوتت المقاص د؛ فمن ع الم
مستقل وإن انتسب إ لى مذهب فنسبة اسمية فقط ،وثان منتسب ملتزم ،غير أن ه إذا ب ان ل ه
في مسألة رجحان خالف مذهبه دليال أخذ بالدليل ،وثالث متقيد بمذهب ال يستطيع التخلص
من شيء منه .والمل تزمون كث يرون ،وال يك اد يخلوواح د منهم عن الرغب ة في االنتص ار
للمذهب ،ولكنهم متفاوتون في هذه الرغبة وفي مراتبها ،وبحس ب التف اوت في ذل ك يك ون
التفاوت في إنصاف ا ألدلة وا لحيف عليها.
ش هود ال زور ومحاول ة ج رح ش هود المخ الف الع دول؛ وق ع ه ذا وأك ثر من ه من ه ؤالء
المحامين عن المذاهب .نعم ،إنهم متف اوتون ولكن أحس بهم( )٣إلى أص حاب مذهب ه أل دهم
وألجهم؛ يطرونه بقوة العارضة ،والصالبة في المذهب ،وشدة الوطأة على المخ الفين ،م ع
أنهم يرم ون من خ الفهم -وإن ك ان مس تقال أو ملتزم ا غ ير متقي د — بالتعص ب واتب اع
الهوى والتعامي عن الحق وأشباه ذلك.
ومن وطن نفس ه على اإلنص اف وتح ري ا لح ق على ك ل ح ال ،علم -وإن ك ان
متقيدا -بأن الملتزمين والمتقيدين من علماء مذهبه كغ يرهم في أن ه يق ع منهم في كث ير من
المواطن ميل عن اإلنصاف وحيف على األدلة؛ يوقعهم في ذل ك حرص هم على االنتص ار
للمذهب .وإذ كان كل مذهب من المذاهب غير معصوم ،فال بد أن يكون وقع في ك ل منه ا
فروع مخالفة للحق ،يقع محاول االنتصار لها في الميل والحيف والبد(.)٤