You are on page 1of 68

‫ملخص كتاب‬

‫(مختصراقتضاء الصراط املستقيم ملخالفة أصحاب الجحيم)‬


‫للشيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا‬

‫اختصار‬
‫د‪ .‬ناصرالعقل‬

‫إعداد‪ :‬فريق التلخيص –برنامج مساق‬

‫‪1‬‬
‫فصل‬

‫حال الناس قبل اإلسالم‬

‫بعث هللا تعالى محمدا إلى الخلق على فترة من الرسل‪ ،‬وقد مقت أهل األرض‪ :‬عربهم وعجمهم‪ ،‬والناس‬
‫إذ ذاك أحد رجلين‪:‬‬

‫‪ ‬إما كتابي معتصم بكتاب (مبدل أو منسوخ)‪.‬‬

‫‪ ‬وإما أمي من عربي وعجمي‪ ،‬مقبل على عبادة ما استحسنه‪ ،‬من نجم‪ ،‬ووثن‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬

‫فهدى هللا الناس ببركة نبوة محمد ﷺ‪ ،‬فقد بعثه سبحانه بدين اإلسالم‪ ،‬الذي هو الصراط املستقيم‪،‬‬
‫ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم‪ ،‬من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬غير املغضوب‬
‫عليهم وال الضالين‪.‬‬

‫‪ ‬املغضوب عليهم‪ :‬اليهود‪ ،‬وكفرهم من جهة عدم العمل بعلمهم‪ ،‬فهم يعلمون الحق وال يتبعونه‬
‫عمال‪.‬‬

‫‪ ‬الضالين‪ :‬النصارى‪ ،‬وكفرهم من جهة عملهم بال علم‪ ،‬فهم يجتهدون في أصناف العبادات بال‬
‫شريعة من هللا‪.‬‬

‫فاليهود مقصرون عن الحق‪ ،‬والنصارى غالوا فيه‪.‬‬

‫ومع أن هللا قد حذرنا سبيلهم‪ ،‬فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله عليه الصالة والسالم‪ ،‬حيث‬
‫قال‪«(:‬لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬اليهود والنصارى؟ قال‪« :‬فمن؟»)‪ .‬وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ال تقوم الساعة حتى‬
‫تأخذ أمتي مأخذ القرون‪ ،‬شبرا بشبر‪ ،‬وذراعا بذراع» فقيل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬كفارس والروم؟ قال‪« :‬ومن‬
‫الناس إال أولئك؟»"‬

‫فأخبرعليه الصالة والسالم أنه سيكون في أمته‪:‬‬

‫‪ ‬مضاهاة لليهود والنصارى‪ ،‬وهم أهل الكتاب‪.‬‬

‫‪ ‬ومضاهاة لفارس والروم‪ ،‬وهم األعاجم‪.‬‬

‫وليس هذا إخبارا عن جميع األمة‪ ،‬بل قد تواتر عنه‪ :‬أنه ال تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬وأخبر‪« :‬أن هللا ال يجمع هذه األمة على ضاللة»‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ُ‬
‫‪‬مسألة‪ :‬مشابهة بعض املنتسبين لهذه األمة لخلق اليهود والنصارى‪:‬‬
‫ُ‬
‫مشابهة خلق اليهود‪:‬‬

‫‪ ‬حسد الناس على العلم والهدى‪.‬‬


‫‪ ‬كتمان العلم سواء بخال أو خوفا‪.‬‬
‫‪ ‬التعصب الطائفي ونكران الحق ملخالفته أهوائهم‪.‬‬
‫‪ ‬تحريف كالم هللا تأويال وتنزيال‪.‬‬

‫كل هذا داخل تحت أخالق املغضوب عليهم‪ ،‬وقد طال أخالق بعض املنتسبين لهذه األمة من العلماء‬
‫ومن تبعهم أيضا‪ .‬وهو وهللا عين الضالل‪.‬‬
‫ُ‬
‫مشابهة خلق النصارى‪:‬‬

‫‪ ‬الغلو في األنبياء والصالحين‪ ،‬فيأتمرون بأمرهم ال بأمر هللا وينتهون بنهيهم ال بنهي هلل‪.‬‬
‫‪ ‬بناء املساجد على القبور‪.‬‬
‫‪ ‬عامة دينهم إنما يقوم باألصوات املطربة‪ ،‬والصور الجميلة‪ ،‬فال يهتمون بأمر دينهم بأكثر من‬
‫تلحين األصوات‪.‬‬
‫وقد وقع الغلو في طوائف من ضالل املتعبدة واملتصوفة‪ ،‬حتى خالط كثيرا منهم من مذهب الحلول‬
‫واالتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه‪ .‬وابتليت هذه األمة كذلك باتخاذ السماع‬
‫املطرب‪ ،‬بسماع القصائد‪ ،‬وإصالح القلوب واألحوال به‪ ،‬ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين‪.‬‬
‫مشابهة ُخلق اليهود والنصارى ً‬
‫معا‪:‬‬
‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َُْ ُ َ‬
‫ود َعلى ش ْيء{‪.‬‬ ‫ص َارى َعلى ش ْيء َوقالت النصارى ليست اليه‬
‫الن َ‬ ‫ود ل ْي َست‬ ‫}وقالت اليه‬

‫فتجد كثيرا من املتفقهة‪ ،‬إذا رأى املتصوفة واملتعبد‪ ،‬ال يراهم شيئا وال يعدهم إال جهاال ضالال‪ ،‬وال‬
‫يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا‪ ،‬وترى كثيرا من املتصوفة‪ ،‬واملتفقرة‪ ،‬ال يرى الشريعة وال العلم‬
‫شيئا‪ ،‬بل يرى املتمسك بها منقطعا عن هللا‪ ،‬وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند هللا شيئا ‪.‬‬

‫وإنما الصواب‪ :‬أن ما جاء به الكتاب والسنة‪ ،‬من هذا وهذا‪ :‬حق‪ .‬وما خالف الكتاب والسنة من هذا‬
‫وهذا‪ :‬باطل‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فالغرض من الكتاب بيان ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط املستقيم‪ ،‬والصراط املستقيم‬
‫هو‪:‬‬

‫» أمور باطنة في القلب‪ :‬من اعتقادات‪ ،‬وإرادات‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫» وأمور ظاهرة‪ :‬من أقوال أو أفعال قد تكون عبادات‪ ،‬وقد تكون أيضا عادات في الطعام‬
‫واللباس‪ ،‬والنكاح واملسكن‪ ،‬واالجتماع واالفتراق‪ ،‬والسفر واإلقامة‪ ،‬والركوب‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وقد بعث هللا محمدا بالحكمة التي هي سنته‪ ،‬فكان من هذه الحكمة‪:‬‬

‫» أن شرع له من األعمال واألقوال ما يباين سبيل املغضوب عليه والضالين‪ ،‬فأمر بمخالفتهم في‬
‫الهدي الظاهر ألسباب‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪ ‬أن املشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكال بين املتشابهين‪ ،‬يقود إلى موافقة ما في‬
‫األخالق واألعمال‪.‬‬
‫‪ ‬أن املخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب االنقطاع عن موجبات الغضب‪،‬‬
‫والضالل‪ ،‬واالنعطاف على أهل الهدى والرضوان‪.‬‬
‫‪ ‬أن مشاركتهم في الهدي الظاهر‪ ،‬توجب االختالط الظاهر‪ ،‬حتى يرتفع التميز ظاهرا‪.‬‬

‫هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إال مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم‪ ،‬فأما إن كان من موجبات‬
‫كفرهم كان شعبة من شعب الكفر‪ ،‬فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم‪.‬‬

‫فصل‬

‫إن األمر بموافقة قوم‪ ،‬أو بمخالفتهم‪ ،‬قد يكون‪:‬‬

‫» ألن موافقتهم أو مخالفتهم تتضمن مصلحة للعبد‪ ،‬وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به‬
‫املوافقة‪ ،‬أو املخالفة‪ ،‬لو تجرد عن املوافقة واملخالفة‪ ،‬لم يكن فيه تلك املصلحة أو املفسدة‪،‬‬
‫وعلى هذا االعتبار‪ :‬فهو من باب قياس العلة (ما كانت العلة فيه مقتضية للحكم)‪.‬‬
‫» وقد يكون األمر باملوافقة واملخالفة ألن ذلك الفعل الذي يوافق فيه‪ ،‬أو يخالف‪ ،‬متضمن‬
‫للمصلحة أو املفسدة ولو لم يفعلوه‪ ،‬لكن عبر عن ذلك باملوافقة واملخالفة‪ ،‬فتكون موافقتهم‬
‫دليال على املفسدة‪ ،‬ومخالفتهم دليال على املصلحة‪ .‬واعتبار املوافقة واملخالفة على هذا‬
‫التقدير‪ :‬من باب قياس الداللة (االستدالل بأحد النظيرين على االخر)‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وقد يجتمع األمران‪ ،‬أي‪ :‬الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه‪ ،‬ومن نفس‬
‫مشاركتهم فيه‪ ،‬وهذا هو الغالب على املوافقة واملخالفة املأمور بهما‪ ،‬واملنهي عنهما‪ ،‬فالبد من التفطن‬
‫لهذا املعنى‪ ،‬فإنه به يعرف معنى نهي هللا لنا عن اتباعهم وموافقتهم‪ ،‬مطلقا ومقيدا‪.‬‬

‫وحينما بعث النبي ﷺ انقسم الناس إلى ثالثة أصناف‪:‬‬

‫˿ مؤمن‪ ،‬وصفاتهم‪:‬‬
‫‪ -‬يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر‪.‬‬
‫‪ -‬يسعون للخير والنفع‪} ،‬وتؤتون الزكاة{‪ ،‬والزكاة‪ :‬اسم لكل نفع للخلق‪ :‬من نفع بدني‪ ،‬أو‬
‫مالي‪.‬‬
‫‪ -‬يذكرون هللا كثيرا‪} ،‬يقيمون الصالة{‪ ،‬والصالة‪ :‬تعم الصالة املفروضة‪ ،‬والتطوع‪ ،‬وقد‬
‫يدخل فيها كل ذكر هللا ‪ :‬إما لفظا وإما معنى‪.‬‬
‫˿ كافر‪ ،‬وأمره ّبين‪.‬‬
‫˿ منافق‪ ،‬وصفاتهم‪:‬‬
‫‪} -‬يأمرون باملنكروينهون عن املعروف{‬
‫واملعروف‪ :‬اسم جامع لكل ما يحبه هللا‪ ،‬من اإليمان والعمل الصالح‪ .‬واملنكر‪ :‬اسم‬
‫جامع لكل ما نهى هللا عنه‪.‬‬
‫‪ -‬يقبضون أيديهم عن كل خير‪} ،‬ويقبضون أيديهم{‬
‫‪ -‬ال ذكرون هللا إال قليال‪} ،‬نسوا هللا فنسيهم{‬

‫ومن أمثله مشابهة هذه األمة باألمم السابقة‪:‬‬


‫َ ُ ََ‬ ‫اس َت ْم َت ُعوا ب َخ َالقه ْم َف ْ‬
‫اس َت ْم َت ْع ُتم ب َخ َالق ُك ْم َك َما ْ‬
‫اس َت ْم َت َع َّالذ َ‬
‫ين من ق ْبلكم بخالقه ْم‬ ‫قول هللا تعالى‪َ } :‬ف ْ‬
‫اضوا ۚ{‬ ‫ض ُت ْم َك َّالذي َخ ُ‬
‫َو ُخ ْ‬

‫وقد جمع سبحانه في اآلية بين‪:‬‬

‫‪ -‬االستمتاع بالخالق‪ ،‬والخالق‪ :‬قيل نصيبهم من الدنيا‪ ،‬وقيل‪ :‬من األخرة في الدنيا‪.‬‬
‫‪ -‬الخوض في الدين‪.‬‬

‫وهذا يدل على أن فساد الدين‪:‬‬

‫‪ .1‬إما أن يقع باالعتقاد الباطل‪ ،‬والتكلم به‪ ،‬كالبدع‪ ،‬ونحوها‪" .‬الشبهات"‬

‫‪5‬‬
‫‪ .2‬أو يقع في العمل‪ ،‬بخالف االعتقاد الحق‪ ،‬كفسق األعمال ونحوها‪" .‬الشهوات"‬
‫َ ُ ُْ‬ ‫َ ْ َ َ ُ ََ ُ‬
‫ضت ْم‬ ‫است ْمت ْعتم بخالقك ْم{‪ ،‬إشارة إلى اتباع الشهوات‪ ،‬وهو داء العصاة‪ ،‬وقوله‪} :‬وخ‬‫فقوله سبحانه‪} :‬ف‬
‫اضوا{‪ ،‬إشارة إلى اتباع الشبهات‪ ،‬وهو داء املبتدعة وأهل األهواء والخصومات‪ .‬وكثيرا ما‬ ‫َك َّالذي َخ ُ‬

‫يجتمعان‪ ،‬فقل من تجد في اعتقاده فسادا إال وهو يظهر في عمله‪.‬‬

‫‪‬مسألة‪ :‬النهي عن االختالف‪:‬‬


‫ْ َ ُ‬ ‫ْ ََ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ‬
‫ين تف َّرقوا َواختلفوا من َب ْعد َما َج َاء ُه ُم ال َبينات{‪ ،‬إال أن االختالف البد من‬ ‫قال تعالى‪} :‬وال تكونوا كالذ‬
‫وقوعه في األمة‪ ،‬كما أخبر بذلك رسول هللا ﷺ بقوله‪"( :‬وليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل‪ ،‬حذو‬
‫النعل بالنعل‪ ،‬حتى إذا كان منهم من أتى أمة عالنية كان في أمتي من يصنع ذلك‪ ،‬وإن بني إسرائيل‬
‫تفرقت على ثنتين وسبعين ملة‪ ،‬وتفترق أمتي على ثالث وسبعين ملة‪ ،‬كلهم في النار إال ملة واحدة"‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬من هي يا رسول هللا؟ قال ‪" :‬ما أنا عليه اليوم وأصحابي")‪.‬‬

‫أقسام االختالف في القرآن‪:‬‬


‫َّ‬ ‫َ ُ َ َْ َ‬
‫أحدهما‪ :‬يذم الطائفتين جميعا‪ ،‬كما في قوله ‪َ } :‬وال َي َزالون ُمختلفين (‪ )111‬إال َمن َّرح َم َرُّب َك ۚ{‪.‬‬
‫فجعل أهل الرحمة مستثنين من االختالف‪.‬‬

‫وكذلك النبي ﷺ ملا وصف أن األمة ستفترق على ثالث وسبعين فرقة ‪ -‬قال‪( :‬كلها فى النار إال واحدة‪،‬‬
‫وهى الجماعة)‪ ،‬فبين‪ :‬أن عامة املختلفين هالكون من الجانبين‪ ،‬إال فرقة واحدة‪ ،‬وهم أهل السنة‬
‫والجماعة‪.‬‬

‫وهذا القسم نوعان‪:‬‬

‫» اختالف التنوع‪ ،‬وهو على وجوه‪:‬‬


‫‪ -‬ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا‪ ،‬كما في القراءات‪ ،‬وصفة الذان‪،‬‬
‫واالستفتاح‪ ،‬وصالة الخوف‪ ،‬وتكبيرات العيد‪ ،‬إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه‪.‬‬
‫ثم نجد لكثير من األمة في ذلك من االختالف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع‬
‫اإلقامة وإيتارها‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وهذاعين املحرم‪.‬‬
‫‪ -‬ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الخر؛ لكن العبارتان مختلفتان‪ ،‬كما قد يختلف‬
‫كثير من الناس في ألفاظ الحدود‪ ،‬وصيغ األدلة‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ثم الجهل أو الظلم يحمل على‬
‫حمد إحدى املقالتين وذم األخرى‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ -‬ما يكون املعنيان غيرين‪ ،‬لكن ال يتنافيان‪ ،‬فهذا قول صحيح‪ ،‬وهذا قول صحيح‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن معنى أحدهما هو معنى األخر‪ ،‬وهذا كثير في املنازعات جدا‪.‬‬
‫‪ -‬ما يكون طريقتان مشروعتان‪ ،‬ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق‪ ،‬وآخرون قد سلكوا‬
‫األخرى‪ ،‬وكالهما حسن في الدين‪ .‬ثم الجهل أو الظلم‪ :‬يحمل على ذم إحداهما‪ ،‬أو تفضيلها‬
‫بال قصد صالح‪ ،‬أو بال علم‪ ،‬أو بال نية وبال علم‪.‬‬

‫وكل واحد من املختلفين ‪-‬في هذا النوع‪ -‬مصيب فيه بال تردد‪ ،‬لكن الذم واقع على من بغى على الخر فيه‪،‬‬
‫وكما في إقرار النبي ﷺ بني قريظة ـ ملن صلى العصر في وقتها‪ ،‬وملن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة‪.‬‬

‫» اختالف التضاد فهو‪ :‬القوالن املتنافيان‪ ،‬إما في األصول وإما في الفروع‪ ،‬واملصيب واحد‪.‬‬
‫ويدخل في هذا القسم قوله تعالى‪} :‬تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض{ إلى قوله‪} :‬ولو شاء‬
‫هللا ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولـكن اختلفوا فمنهم من ءامن‬
‫ومنهم من كفر ولو شاء هللا ما اقتتلوا{‪ ،‬فحمد فيه إحدى الطائفتين‪ ،‬وهم املؤمنون‪ ،‬وذم فيه‬
‫األخرى‪.‬‬

‫وأكثر االختالف الذي يؤول إلى األهواء بين األمة من القسم األول‪ ،‬وكذلك آل إلى سفك الدماء‪،‬‬
‫واستباحة األموال‪ ،‬والعداوة والبغضاء؛ ألن إحدى الطائفتين ال تعترف لألخرى بما معها من الحق وال‬
‫تنصفها‪ ،‬بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل‪ ،‬واألخرى كذلك‪.‬‬

‫وقريب من هذا الباب‪ :‬ما خرجاه في الصحيحين‪ ،‬عن أبي هريرة‪ :‬أن رسول هللا ﷺ قال‪( :‬ذروني ما‬
‫تركتكم‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا نهيتكم عن ش يء‬
‫فاجتنبوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)‪.‬‬

‫فأمرهم باإلمساك عما لم يؤمروا به‪ ،‬معلال‪ :‬بأن سب هالك األولين إنما كان كثرة السؤال‪ ،‬ثم االختالف‬
‫على الرسل باملعصية‪ ،‬كما أخبرنا هللا عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موس ى في الجهاد وغيره‪ ،‬وفي‬
‫كثرة سؤالهم عن صفات البقرة‪.‬‬

‫وهذا باب واسع الغرض من التنبيه على ما يخاف على األمة من موافقة األمم قبلها؛ إذ األمر في هذا‬
‫الحديث كما قاله رسول هللا أصل هالك بني آدم‪ :‬إنما كان التنازع في القدر‪ ،‬وعنه نشأت الكثير من‬
‫املذاهب التي عطلت كثير من الشرائع‪.‬‬

‫‪-‬ومشابهة بعض طوائف هذه األمة باليهود والنصارى‪ ،‬وفارس والروم‪ ،‬مما ذمه هللا ورسوله‪ ،‬وهو‬
‫املطلوب‪ .‬وال يقال‪ :‬فإذا كان الكتاب والسنة قد دال على وقوع ذلك‪ ،‬فما فائدة النهى عنه؟ ألن الكتاب‬

‫‪7‬‬
‫والسنة ـ أيضا ـ قد دال على أنه ال يزال في هذه األمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد إلى قيام‬
‫الساعة‪ ،‬وأنها ال تجتمع على ضاللة؛ ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة املنصورة‪ ،‬وتثبيتها‪ ،‬وزيادة‬
‫إيمانها‪ .‬فنسأل هللا املجيب أن يجعلنا منها‪.‬‬

‫وأيضا‪ :‬لو فرض أن الناس ال يترك أحد منهم هذه املشابهة املنكرة؛ لكان في العلم بها معرفة القبيح‪،‬‬
‫واإليمان بذلك؛ فإن نفس العلم واإليمان بما كرهه هللا خير‪ ،‬وإن لم يعمل به‪ ،‬بل فائدة العلم واإليمان‬
‫أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم‪ ،‬فإن اإلنسان إذا عرف املعروف وأنكر املنكر‪ ،‬كان‬
‫خيرا من أن يكون ميت القلب‪ ،‬ال يعرف معروفا وال ينكر منكرا‪ ،‬أال ترى أن النبي ﷺ قال‪( :‬من رأى منكم‬
‫منك منكرا فليغيره بيده؛ فإن لـم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اإليمان)‪.‬‬

‫‪‬مسألة‪ :‬األمربمخالفة الكفار‪:‬‬


‫ً‬
‫أوال‪ :‬مخالفة أهل الكتاب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انُ ْرَنا َو ْ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ ُ َ َ ُ ُ‬
‫اس َم ُعوا{‪ ،‬فكلمة راعنا نهي‬ ‫ين َآمنوا ال تقولوا َراعنا َوقولوا‬ ‫‪ ‬قوله تعالى‪ } :‬يا أيها الذ‬
‫املسلمون عن قولها؛ ألن اليهود يقولونها ملا كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار‪ ،‬وتطريقتهم‬
‫إلى بلوغ غرضهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الس َم َوات َو َما في األ ْرض َوإ ْن ُت ْب ُدوا َما في أ ُنفس ُك ْم أ ْو ُت ْخ ُف ُ‬
‫‪ ‬ما نزل قول هللا تعالى‪َّ } :‬لِل َما في َّ‬
‫وه‬
‫الِل{ اشتد ذلك على الصحابة‪ ،‬فقالوا‪ :‬أي رسول هللا‪ ،‬نزلت عليك هذه الية‪ ،‬وال‬ ‫ُي َحاس ْب ُك ْم به َّ ُ‬

‫نطيقها‪ ،‬قال رسول هللا ﷺ‪" :‬أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم‪ :‬سمعنا‬
‫وعصينا؟‪ ،‬بل قولوا‪ :‬سمعنا وأطعنا‪ ،‬غفرانك ربنا وإليك املصير"‪.‬‬
‫فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم‪ ،‬نسخها هللا فأنزل‪} :‬ال يكلف هللا ً‬
‫نفسا إال وسعها{ ‪.‬‬

‫فحذرهم النبي ﷺ أن يتلقوا أمر هللا بما تلقاه أهل الكتابين‪.‬‬

‫‪ ‬كما كان النبي ﷺ يكره مشابهة أهل الكتاب‪ ،‬وزجر أصحابه عن التبتل‪ ،‬وقال‪ :‬ال رهبانية في‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأمر بالسحور‪ ،‬ونهى عن املواصلة‪.‬‬

‫املواالة واملوادة‪ :‬وإن كانت متعلقة بالقلب‪ ،‬لكن املخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين‬
‫ومباينتهم‪.‬‬

‫‪ ‬وكما جاء ودل عليه الكتاب‪ ،‬جاءت سنة رسول هللا ﷺ‪ ،‬وسنة خلفائه الراشدين‪ ،‬بمخالفتهم‬
‫وترك التشبه بهم‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وفي مخالفة الكافرين شيئين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن نفس املخالفة لهم في الهدي الظاهر منفعة ومصلحة لعباد هللا املؤمنين؛ ملا في مخالفتهم‬
‫من املجانبة واملباينة‪ ،‬التي توجب املباعدة عن أعمال أهل الجحيم‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن نفس ما عليهم من الهدى‪ ،‬والخلق‪ ،‬قد يكون مضرا‪ ،‬أو منقصا‪ ،‬فينهى عنه‪ ،‬ويؤمر بضده؛‬
‫ملا فيه من املنفعة والكمال‪.‬‬

‫وحقيقة األمر‪ :‬أن جميع أعمال الكافر وأموره البد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها‪.‬‬

‫والسلف‪ :‬تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب‪ ،‬وتارة بالتشبه باألعاجم‪ ،‬وكال العلتين منصوص‬
‫في السنة‪ ،‬مع أن الصادق صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قد أخبر بوقوع املشابهة لهؤالء وهؤالء‪.‬‬

‫ودلت األحاديث على كثرة ما شرعه هللا لنبيه من مخالفة اليهود‪ ،‬بل‪ :‬على أنه خالفهم في عامة أمورهم‪،‬‬
‫حتى قالوا‪ :‬ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إال خالفنا فيه‪.‬‬

‫واملخالفة تكون في أصل الحكم‪ ،‬وتارة في وصفه‪.‬‬

‫وقد نهى النبي ﷺ‪ ،‬عن الصالة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب‪ ،‬معلال‪ :‬بأنها تطلع وتغرب بين قرني‬
‫شيطان‪ ،‬وأنه حينئذ يسجد لها الكفار‪ ،‬ومعلوم أن املؤمن ال يقصد السجود إال هللا تعالى‪ ،‬وأكثر الناس‬
‫قد ال يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان‪ ،‬وال أن الكفار يسجدون لها‪ ،‬ثم إنه نهى عن الصالة‬
‫في هذا الوقت‪ ،‬حسما ملادة املشابهة بكل طريق‪.‬‬

‫من صور مخالفة أهل الكتاب‪ :‬في وضع امليت في أسفل القبر‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬اللحد لنا والشق لغيرنا)‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬مخالفة أهل الجاهلية‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬الجاهلية صفة لكن مع الزمن أصبحت اسم‪ ،‬والجاهلية منسوبة إلى الجهل‪ ،‬ألن ما كانوا عليه من‬
‫األقوال واألعمال إنما أحدثه لهم جاهل‪ ،‬وإنما يفعله جاهل‪.‬‬

‫اليهودية والنصرانية جاهلية عامة ملخالفتها شرع هللا‪.‬‬

‫وفي الزمان املطلق‪ :‬فال جاهلية بعد مبعث محمد‪ ،‬فإنه ال تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق‪ ،‬إلى‬
‫قيام الساعة‪.‬‬

‫والنهي عن أمرالجاهلية يقتض ي‪:‬‬

‫‪-1‬ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم‪ ،‬فهو مذموم في دين اإلسالم‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-2‬نسبة الفعل إلى الجاهلية صفة ذم‪ ،‬قال تعالى‪( :‬وال تبرجن تبرج الجاهلية األولى)‬
‫ومن حديث‪( :‬إنك امرؤ فيك جاهلية)‪ّ ،‬‬
‫يتبين‪:‬‬

‫˿ أن األخالق الجاهلية التي لم يجيء بها اإلسالم مذمومة‪.‬‬


‫˿ إضافة الحمية إلى الجاهلية‪ :‬اقتض ى ذمها؛ فما كان من أخالقهم وأفعالهم فهو كذلك‪.‬‬

‫من صور مخالفة الجاهلية‪ ،‬النهي عن‪:‬‬

‫» الفخر باألحساب‪.‬‬
‫» الطعن في األنساب‪.‬‬
‫» االستسقاء بالنجوم‪.‬‬
‫» والنياحة ‪ /‬والنائحة إذا لم تتب قبل موتها‪ :‬تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من‬
‫جرب‪.‬‬

‫من صفات الجاهلية التي نهى صلى هللا عليه وسلم عنها‪:‬‬

‫‪ ‬الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة‪.‬‬


‫‪ ‬القتال تحت راية عمية‪ ،‬والغضب لعصبية‪ ،‬أو الدعوة إلى عصبية‪ ،‬أو االنتصار لعصبية‪.‬‬
‫‪ ‬من خرج على األمة ضرب برها وفاجرها‪ ،‬وال يتحاش ى من مؤمنها‪ ،‬وال يفي لذي عهد عهده‪( .‬وقد‬
‫تبرأ عليه الصالة والسالم منه)‬

‫قاعدة‪:‬‬

‫ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصيركافرا الكفراملطلق‪ ،‬حتى تقوم به حقيقة الكفر‬

‫وليس كل من قام به شعبة من شعب اإليمان يصيرمؤمنا‪ ،‬حتى يقوم به أصل اإليمان‪.‬‬

‫وفيه‪ :‬أن الرجل ‪-‬مع فضله وعلمه ودينه‪ -‬قد يكون فيه بعض هذه الخصال‪ ،‬املسماة بجاهلية‪،‬‬
‫وبيهودية‪ ،‬ونصرانية‪ ،‬وال يوجب ذلك كفره وال فسقه ‪.‬‬

‫مسألة‪ :‬أبغض الناس إلى هللا ثالثة‪ ،‬وذلك ألن الفساد‪:‬‬

‫إما في الدين‪ ،‬وإما في الدنيا‪.‬‬

‫‪ ‬فأعظم فساد الدنيا‪ :‬قتل النفوس بغير الحق‪ ،‬ولهذا كان أكبر الكبائر‪ ،‬بعد أعظم فساد الدين‬
‫الذي هو الكفر‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ ‬وأما فساد الدين فنوعان‪ :‬نوع يتعلق بالعمل‪ ،‬ونوع يتعلق بمحل العمل‪.‬‬
‫فأما املتعلق بالعمل‪ :‬فهو ابتغاء سنة الجاهلية‪ ،‬وأما ما يتعلق ‪ -‬بمحل العمل‪ :‬فاإللحاد في‬
‫الحرم؛ ألن أعظم مجال العمل ‪ :‬الحرم‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬ما يحاول بعض الناس اليوم إحياءه من أمور الجاهلية األولى‪ ،‬على أنها من التراث‬
‫الذي يعتز به‪ ،‬كإحياء اسم عكاظ ‪ :‬وهو سوق من أسواق الجاهلية‪ ،‬ودار الندوة ‪ :‬وهي من‬
‫منتديات قريش في الجاهلية‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬مخالفة األعاجم‪:‬‬

‫ومن صور النهي‪:‬‬

‫‪ ‬النهي عن التغميض في الصالة كما كانت تفعل‪.‬‬


‫‪ ‬لبس قالنس (طاقية) تحت العمامة مخالفة لليهود‪.‬‬
‫‪ ‬إقامة مواقيت الصوم والفطر والنسك بالرؤية عند إمكانها‪ ،‬ال بالكتاب والحساب‪.‬‬
‫‪ ‬وقد ك ِره اإلمام أحمد رحمه هللا لبس نعل األعاجم؛ ألنه من زي األعاجم‪.‬‬
‫‪‬مسألة‪ :‬األدلة على النهي عن مشابهة الكفار‪:‬‬

‫من القرآن‪:‬‬
‫َ َ‬ ‫األمر َف َّاتبعها َوال َت َّتبع َأ َ‬
‫هواء َّال َ‬
‫ذين ال َيعلمون{‪ ،‬فجعل‬
‫ُ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫>> قول هللا تعالى‪} :‬ثم جعلناك على شريعة من‬
‫محمدا على شريعة شرعها له وأمره باتباعها‪ ،‬ونهاه عن اتباع أهواء الذين ال يعلمون‪ ،‬ويدخل في ذلك كل‬
‫من خالف شريعته‪.‬‬
‫احذ ُهم َأن َيفت َ‬
‫نوك َعن َبعض ما‬
‫َ‬ ‫الِل َوال َت َّتبع َأ َ ُ‬
‫احكم َب َين ُهم بما َأ َنز َل َّ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫هواءهم َو ر‬ ‫>> قول هللا تعالى‪َ } :‬وأن‬
‫َأ َنز َل َّ ُ‬
‫الِل إ َل َ‬
‫يك{‬

‫˿ يدخل في اتباع أهوائهم ما عليه املشركين من هديهم الظاهر‪ ،‬الذي هو من موجبات دينهم‬
‫الباطل‪ ،‬وموافقتهم فيه اتباع ملا يهوونه‪ ،‬وموافقتهم فيه قد يكون ذريعة ملوافقتهم في غيره‪.‬‬
‫˿ متابعتهم في هديهم‪ :‬من اتباع ما يهوونه‪ ،‬أو مظنة التباع ما يهوونه‪ ،‬وترك متابعتهم يعين على‬
‫ترك اتباع هديهم‪ ،‬ويحسم مادة اتباعهم في أهوائهم‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫طر املَسجد َ‬ ‫جت َف َول َو َ‬
‫جه َك َش َ‬ ‫َ ُ َ َ َ‬
‫الحرام َو َحيث ما كنتم ف َولوا‬ ‫>> قول هللا تعالى‪َ } :‬ومن حيث خر‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ‬
‫طر ُه لئال َيكون للناس َعليكم ُح َّجة{‪ّ .‬بين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها‪:‬‬‫وجوهكم ش‬
‫مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم؛ ليكون ذلك أقطع ملا يطمعون فيه من الباطل (يطمعون بموافقتنا‬
‫لدينهم كما وافقناهم في قبلتهم)‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫الرسو َل من َبعد ما َت َب َّي َن َل ُه ُ‬
‫الهدى َو َيتبع غ َير َسبيل املؤمنين ن َوله ما ت َولى‬ ‫>> قوله تعالى‪َ } :‬و َمن ُيشاقق َّ‬

‫صيرا{ وما عليه سائر الكافرين من الهدي والعمل هو من غير سبيل املؤمنين‪،‬‬ ‫َو ُنصله َج َه َّن َم َو َ‬
‫ساءت َم ً‬
‫بل ومن سبيل املفسدين‪ ،‬والذين ال يعلمون‪.‬‬

‫>> كثرة النهي في كتاب هللا عن مشابهة األمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه‪ ،‬مثل‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫قوله تعالى ملا ذكر ما فعله بأهل الكتاب من العقوبات‪ } :‬فاعتبروا يا أولي األبصار{ وغيرها كثير‪.‬‬

‫من السنة‪:‬‬
‫ُ‬
‫>>بالنسبة ملشابهة اليهود فقد أخبر النبي ﷺ عن وصل الشعر‪( :‬أن بني إسرائيل هلكوا حين أحديثه‬
‫نساؤهم)‪ ،‬فيحذر أمته من ذلك‪.‬‬

‫>>وكان السلف رض ي هللا عنهم يحذرون من صفات اليهود التي حذر هللا منها في القرآن‪ ،‬مثل قسوة‬
‫القلوب واالختالف وتحريف كالم هللا وغيرها‪.‬‬

‫>>ذكر حال الذين ابتدعوا الرهبانية وما رعوها‪ ،‬فإن اإليمان بالرسول‪ :‬تصديقه وطاعته واتباع‬
‫شريعته‪ ،‬وفي ذلك ُمخالفة للرهبانية؛ ألنه لم ُيبعث بها‪ ،‬بل نهى عن التشدد في الدين بالزيادة على‬
‫املشروع‪.‬‬
‫والتشديد‪:‬‬

‫‪ ‬تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب وال ُمستحب بمنزلة الواجب واملستحب في العبادات‪.‬‬
‫‪ ‬وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم وال مكروه بمنزلة املحرم واملكروه من الطيبات‪.‬‬

‫وإن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد هللا إما بالشرع أو بالقدر‪.‬‬

‫فأما التشديد بالشرع‪ :‬مثل ما كان النبي ﷺ يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم‪ ،‬كنحو سؤالهم‬
‫ّ‬
‫عن أشياء لم تحرم‪ ،‬وما خافه ﷺ ملا اجتمعوا لصالة التراويح‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وأما التشديد بالقدر‪ :‬فكثير ما رأينا من كان يتنطع في أشياء ُ‬
‫فيبتلى بأسباب تشدد عليه األمور في‬
‫اإليجاب أو التحريم‪ ،‬مثل املوسوسين في الطهارة إذا زادوا على املشروع‪ ،‬ابتلوا بأسباب توجب حقيقة‬
‫عليهم أشياء ُمشقة ُمضرة‪.‬‬
‫والغرض هنا بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة‪ ،‬ومخالفة النصارى‬
‫فيما هم عليه من الرهبانية املبتدعة‪.‬‬

‫>>ومن ذلك أنه ﷺ حذرنا من ُمشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين األشراف والضعفاء‪،‬‬
‫وأمر أن ُي َّ‬
‫سوى بين الناس في ذلك‪.‬‬

‫فصل‬

‫>>قال ﷺ‪( :‬كل ش يء من أمرالجاهلية تحت قدمي موضوع‪ ،‬ودماء الجاهلية موضوعة)‪ ،‬وهذا يدخل‬
‫فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات‪ ،‬مثل دعواهم‪ :‬يا لفالن‪ ،‬ومثل أعيادهم‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ثم خص الدماء واألموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ومفهوم من هذا أن املنهي عنه ما كانوا عليه مما لم يقره اإلسالم وإن لم ينه عنه بعينه‪ ،‬وال يدخل في‬
‫هذا اللفظ‪ :‬ما كانوا عليه في الجاهلية وأقره هللا في اإلسالم‪ ،‬كاملناسك‪ ،‬ودية املقتول بمائة وكالقسامة‪.‬‬

‫>>ومثل هذا نهي النبي ﷺ عن الذبح بالظفر ملا ُسئل فقال‪ ...( :‬وليس السن والُفر‪ ..‬أما السن فعُم‪،‬‬
‫وأما الُفرفمدى الحبشة)‪ ،‬فعلل النهي بأنها ُمدى الحبشة‪،‬‬

‫وذلك يقتض ي أن الوصف له تأثيرفي املنع‪:‬‬

‫˿ فإما أن يكون علة‪.‬‬


‫˿ أو دليال على العلة‪.‬‬
‫˿ أو وصفا من أوصاف العلة‪ ،‬أو دليلها‪.‬‬

‫والحبشة في أظفارهم طول ُيذكون بها دون سائر األمم‪ ،‬فيجوز أن يكون نهى عن ذلك ملا فيه من‬
‫مشابهتهم فيما يختصون به‪.‬‬

‫وتبين بذلك أن أصل ظهور الكفرواملعاص ي على دين هللا وشرائعه‪ :‬هو التشبه بالكافرين‪.‬‬

‫وأن أصل كل خير‪ :‬املحافظة على سنن األنبياء وشرائعهم‪.‬‬


‫ُ‬
‫ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار‪ ،‬فكيف إذا جمعت الوصفين‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫اهتم للصالة كيف يجمع الناس لها؟ فذكروا له الناقوس‪،‬‬ ‫>>و ُروي أيضا ما معناه أن رسول هللا ﷺ ّ‬

‫القنع‪ :‬شبور اليهود‪ ،‬فقال‪( :‬هو من أمر اليهود)‪ ،‬فانصرف‬‫فقال‪( :‬هو من فعل النصارى)‪ ،‬فذكروا له ُ‬
‫ُ‬ ‫مهتم ّ‬
‫عبد هللا بن زيد بن عبد ربه وهو ّ‬
‫لهم النبي ﷺ‪ ،‬فأري األذان في منامه‪ ،‬ثم ملا أخبر ﷺ فقال ﷺ‪( :‬يا‬
‫ِ‬
‫بالل‪ ،‬قم فناد بالصالة)‪ ،‬والغرض هنا أن النبي ﷺ كره بوق اليهود املنفوخ فيه بالفم‪ ،‬وناقوس النصارى‬
‫املضروب باليد علل هذا بأنه من أمر اليهود‪ ،‬وعلل هذا بأنه من أمر النصارى‪ ،‬وهذا يقتض ي أمران‪:‬‬

‫‪ ‬يقتض ي نهيه ﷺ عما هو من أمر اليهود والنصارى‪.‬‬


‫‪ ‬ويقتض ي كراهة هذا النوع من األصوات مطلقا في غير الصالة أيضا ألنه من أمر اليهود‬
‫والنصارى‪.‬‬

‫>>وملا رأى ﷺ ثوبين معصفرين على أحد الصحابة قال له‪( :‬إن هذه ثياب الكفار‪ ،‬فال تلبسها)‪ ،‬علل‬
‫النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار‪.‬‬

‫>>وفي الحديث قال إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الخرة‪ ،‬ولذلك كان‬
‫العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار‪.‬‬

‫فصل‬

‫اإلجماع‪:‬‬

‫وأما إجماع الصحابة والتابعين واألئمة من بعدهم على األمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم‬
‫في الجملة فمن وجوه‪:‬‬

‫‪ -‬الوجه األول‪ :‬أن أمير املؤمنين عمر رض ي هللا عنه ثم عامة األئمة من بعده وسائر الفقهاء جعلوا‬
‫في الشروط املشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم‪ ،‬فيما شرطوه على أنفسهم‪ " :‬أن‬
‫نوقر املسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس‪ ،‬وال نتشبه بهم في ش يء‪ ،‬من لباسهم‪:‬‬
‫قلنسوة‪ ،‬أو عمامة‪ ،‬أو نعلين‪ ،‬أو فرق شعر‪ ،‬وال نتكلم بكالمهم‪ ،‬وال نكتني بكناهم‪ ،‬وال نركب‬
‫السروج‪ ،‬وال نتقلد السيوف‪ ،‬وال نتخذ شيئا من السالح وال نحمله‪ ،‬وال ننقش خواتيمنا‬
‫بالعربية‪ ،‬وال نبيع الخمور ‪ " ...‬وفي رواية أخرى رواها الخالل‪ " :‬وأن ال نضرب بنواقيسنا إال ضربا‬
‫خفيا‪ ،‬في جوف كنائسنا‪ ،‬وال نظهر عليها صليبا‪ ،‬وال كتابا في سوق املسلمين‪"....‬‬

‫وهذه الشروط أشهر ش يء في كتب الفقه والعلم‪ ،‬وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من األئمة‬
‫املتبوعين وأصحابهم‪ ،‬وهي أصناف‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ ‬ما مقصوده التمييز عن املسلمين‪ ،‬في الشعور واللباس واألسماء واملراكب والكالم‪ ،‬ونحوها؛‬
‫ليتميز املسلم عن الكافر وال يتشبه أحدهما بالخر في الظاهر‪ ،‬وذلك يقتض ي‪ :‬إجماع املسلمين‬
‫على التمييز عن الكفار ظاهرا‪ ،‬وترك التشبه بهم‪.‬‬
‫‪ ‬ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس‪ ،‬والنيران‬
‫واألعياد ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬ما يعود بإخفاء شعار دينهم‪ ،‬كأصواتهم بكتابهم‪.‬‬
‫‪ ‬ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه هللا تعالى‪.‬‬
‫‪ -‬الوجه الثاني من دالئل اإلجماع‪ :‬أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين‪،‬‬
‫في أوقات متفرقة‪ ،‬وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر‪ ،‬وأمثلتها‪:‬‬
‫‪ ‬عن قيس بن أبي حازم قال‪ " :‬دخل أبو بكر الصديق رض ي هللا عنه‪ ،‬على امرأة من أحمس‪ ،‬يقال‬
‫لها‪ :‬زينب‪ ،‬فرآها ال تتكلم‪ ،‬فقال‪ :‬مالها ال تتكلم؟ قالوا‪ :‬حجت مصمتة‪ ،‬فقال لها تكلمي‪ ،‬فإن‬
‫هذا ال يحل‪ ،‬هذا عمل الجاهلية‪ ،‬فتكلمت ‪ " ...‬إلى آخر الرواية‪.‬‬
‫فأخبر أبو بكر أن الصمت املطلق ال يحل‪ ،‬وعقب ذلك بقوله‪ :‬هذا من عمل الجاهلية‪ ،‬قاصدا‬
‫بذلك عيب هذا العمل وذمه‪.‬‬
‫‪ ‬ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب‪ :‬أنه كتب إلى املسلمين املقيمين ببالد فارس‪:‬‬
‫" إياكم وزي أهل الشرك" ولعمر رض ي هللا عنه في هذا الباب من السياسات املحكمة ما هي‬
‫مناسبة لسائر سيرته املرضية‪.‬‬

‫فهذا عن الخلفاء الراشدين‪ ،‬وأما سائر الصحابة رض ي هللا عنهم فكثير مثل‪:‬‬

‫‪ ‬ما قدمنا عن حذيفة بن اليمان‪ :‬أنه ملا دعي إلى وليمة فرأى شيئا من زي العجم خرج وقال‪ " :‬من‬
‫تشبه بقوم فهو منهم" ‪.‬‬
‫‪ ‬وروى سعيد أيضا عن ابن مسعود‪ :‬أنه كان يكره الصالة في الطاق‪ ،‬وقال‪" :‬إنه في الكنائس‪ ،‬فال‬
‫تشبهوا بأهل الكتاب"‬
‫وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة‪ُ .‬‬
‫فعلم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار واألعاجم‪.‬‬

‫‪ -‬الوجه الثالث في تقريراإلجماع‪ :‬ما ذكره عامة علماء اإلسالم من املتقدمين‪ ،‬واألئمة املتبوعين‬
‫وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار‪ ،‬أو مخالفة النصارى‪ ،‬أو مخالفة‬
‫األعاجم‪ ،‬وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه‪ ،‬وهذا بعد التأمل والنظر يورث علما ضروريا‪،‬‬
‫باتفاق األئمة‪ ،‬على النهي عن موافقة الكفار واألعاجم‪ ،‬واألمر بمخالفتهم‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ ‬فمن ذلك‪ :‬أن األصل املستقر عليه في مذهب أبي حنيفة‪ :‬أن تأخير الصالة أفضل من تعجيلها‪،‬‬
‫إال في مواضع يستثنونها‪.‬‬
‫ثم قالوا‪ :‬يستحب تعجيل املغرب؛ ألن تأخيرها مكروه ملا فيه من التشبه باليهود‪ ،‬وهذا ‪-‬أيضا‪-‬‬
‫قول سائر األئمة‪ ،‬وهذه العلة منصوصة كما تقدم‪.‬‬

‫ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه‪.‬‬

‫‪ ‬وأما مذهب مالك وأصحابه ففيه ما هو أكثر من ذلك‪ ،‬حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم‬
‫في املدونة‪ " :‬ال ُيحرم باألعجمية وال يدعو بها وال يحلف"‬

‫وقال بعض أصحاب مالك‪ :‬من ذبح بطيخة في أعيادهم‪ ،‬فكأنه ذبح خنزيرا‪.‬‬

‫‪ ‬وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا األصل في غير موضع من مسائلهم‪ ،‬مما جاءت به الثار‪،‬‬
‫فذكروا في السحور وتأخيره‪ :‬أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب‪.‬‬
‫‪ ‬وأما كالم أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جدا‪ ،‬أكثر من أن يحصر‪.‬‬

‫مثل قول أحمد‪ " :‬ما أحب ألحد إال أن يغير الشيب وال يتشبه بأهل الكتاب" وكره حلق القفا‪ ،‬وقال‪" :‬‬
‫هو من فعل املجوس‪ ،‬ومن تشبه بقوم فهو منهم"‬

‫وما في هذا الباب عن سائر أئمة املسلمين من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء‪ ،‬أكثر من أن يمكن ذكر‬
‫عشره‪ ،‬وقد قدمنا في أثناء األحاديث كالم بعضهم الذي يدل على كالم الباقين‪ ،‬وبدون ما ذكرناه ُيعلم‬
‫إجماع األمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب واألعاجم في الجملة‪ ،‬وإن كانوا قد يختلفون في بعض‬
‫الفروع‪ ،‬إما العتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار‪ ،‬أو العتقاده أن فيه دليال راجحا‪ ،‬أو لغير ذلك‪،‬‬
‫كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة‪ ،‬وإن كان قد يخالف بعضهم شيئا من ذلك لنوع تأويل‪.‬‬

‫فصل‬

‫‪‬مسألة‪ :‬ما يشبه األمربمخالفة الكفار‪:‬‬

‫‪ ‬األمربمخالفة الشيطان‪ ،‬قال ﷺ‪( :‬ال يأكلن أحدكم بشماله‪ ،‬وال يشربن بها‪ ،‬فإن الشيطان يأكل‬
‫بشماله‪ ،‬ويشرب بها)‪ ،‬فعلل النهي عن األكل والشرب بالشمال‪ :‬بأن الشيطان يفعل ذلك؛ ُ‬
‫فعلم أن‬
‫مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ ‬مخالفة من لم يكمل دينه من األعراب ونحوهم؛ ألن كمال الدين‪ :‬الهجرة‪ ،‬فكان من آمن ولم يهاجر‬
‫ود َما َأ َنز َل َّ ُ‬
‫الِل‬ ‫اب َأ َش ُّد ُك ْف ًرا َون َف ًاقا َو َأ ْج َد ُر َأ َّال َي ْع َل ُموا ُح ُد َ‬ ‫َْ‬
‫األ ْع َر ُ‬‫– من األعراب ونحوهم – ناقصا‪} .‬‬
‫َع َلى َ ُسوله ۗ َو َّ ُ‬
‫الِل َعليم َحكيم{‬ ‫ر‬
‫قال ﷺ‪( :‬ال تغلبنكم األعراب على اسم صالتكم‪ ،‬أال إنها العشاء‪ ،‬وهم يعتمون باإلبل)‪ ،‬وقال ﷺ‪( :‬ال‬
‫تغلبنكم األعراب على اسم صالتكم املغرب) قال‪( :‬واألعراب تقول‪ :‬هي‪ :‬العشاء)‪.‬‬

‫فقد كره موافقة األعراب في اسم املغرب والعشاء‪ ،‬بالعشاء والعتمة‪ ،‬وهذه الكراهة عند بعض العلماء‪:‬‬

‫كراهة هذا االسم مطلقا‪.‬‬ ‫‪.1‬‬

‫كراهة اإلكثار منه حتى يغلب على االسم الخر‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫ففي الحديث النهي عن موافقة األعراب في ذلك‪ ،‬كما نهى عن موافقة األعاجم‪.‬‬

‫فصل‬

‫‪‬مسألة‪ :‬الفرق بين التشبه بالكفاروالشياطين‪ ،‬وبين التشبه باألعراب واألعاجم‪:‬‬

‫‪-‬أن نفس (الكفر‪ ،‬والتشيطن) مذموم في حكم هللا ورسوله وعباده املؤمنين‪.‬‬

‫‪-‬أن (األعرابية‪ ،‬واألعجمية) ليست مذمومة في نفسها عند هللا ورسوله واملؤمنين‪،‬‬

‫فإن األعراب وغيرهم ينقسمون إلى قسمين‪:‬‬

‫أهل جفاء ذمهم هللا في كتابه‪.‬‬ ‫‪.1‬‬

‫أهل إيمان وبر أثنى هللا عليهم في كتابه‪.‬‬ ‫‪.2‬‬


‫وكذلك العجم (وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم) ينقسمون‬
‫إلى املؤمن والكافر‪ ،‬والبروالفاجر‪ ،‬كانقسام األعراب‪.‬‬
‫َْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َُ َ َ َ ََْ ُ ْ ُ ُ ً َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ ُ َّ َ َ ْ َ ُ‬
‫وبا َوق َبائ َل لت َعا َرفوا إ َّن أك َر َمك ْم‬ ‫اس إنا خلقناكم من ذكروأنثى وجعلناكم شع‬ ‫قال هللا تعالى‪} :‬يا أيها الن‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ َ‬
‫الِل َعليم خبير {‬ ‫عند الِل أتقاكم إن‬

‫‪ ‬فالفضل الحقيقي‪ :‬اتباع ما بعث هللا به محمدا ﷺ من اإليمان والعلم باطنا وظاهرا‪ ،‬فكل من‬
‫كان فيه أمكن‪ :‬كان أفضل‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ ‬والفضل إنما هو باألسماء املحمودة في الكتاب والسنة مثل‪ :‬اإلسالم‪ ،‬واإليمان‪ ،‬والبر‪،‬‬
‫والتقوى‪ ،‬والعلم‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬واإلحسان‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ال بمجرد كون اإلنسان عربيا‪ ،‬أو‬
‫عجميا‪ ،‬أو أسود‪ ،‬أو أبيض‪ ،‬وال بكونه قرويا‪ ،‬أو بدويا‪.‬‬

‫وجه النهي عن مشابهة األعراب واألعاجم مبني على أصل وهو‪:‬‬

‫» أن هللا سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتض ي من كمال اإلنسان في العلم والدين‪ ،‬ورقة‬
‫القلوب‪ ،‬ما ال يقتضيه سكنى البادية‪ ،‬وإن جاز تخلف هذا املقتض ى ملانع‪ ،‬وكانت البادية أحيانا‬
‫أنفع من القرى‪.‬‬
‫» جعل هللا الرسل من أهل القرى؛ ألن الرسل لهم الكمال في عامة األمور‪ ،‬حتى في النسب‪َ } .‬و َما‬
‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫أ ْر َسلنا م ْن ق ْبل َك إال ر َجاال نوحي إل ْيه ْم م ْن أ ْهل الق َرى{‪.‬‬
‫الِل َعليم‬ ‫ود َما َأ َنز َل َّ ُ‬
‫الِل َع َلى َ ُسوله ۗ َو َّ ُ‬ ‫اب َأ َش ُّد ُك ْف ًرا َون َف ًاقا َو َأ ْج َد ُر َأ َّال َي ْع َل ُموا ُح ُد َ‬ ‫َْ‬
‫األ ْع َر ُ‬ ‫» }‬
‫ر‬
‫َحكيم{‪ ،‬لهذا‪ :‬روي عن النبي ﷺ أنه قال‪( :‬من سكن البادية جفا‪ ،‬ومن اتبع الصيد غفل‪ ،‬ومن‬
‫أتى السلطان افتتن)‪.‬‬

‫وهذا األصل‪:‬‬

‫‪ .1‬يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية‪ ،‬وإن كان بعض أعيان البادية أفضل‬
‫من أكثر الحاضرة‪ ،‬مثال‪.‬‬

‫‪ .2‬يقتض ي أن ما انفرد به البادية عن جميع جنس الحاضرة ‪ -‬أعني في زمن السلف من الصحابة‬
‫والتابعين ‪ -‬فهو ناقص عن فضل الحاضرة‪ ،‬أو مكروه؛ فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل‬
‫الحاضرة املهاجرين‪ ،‬كان ذلك إما مكروها‪ ،‬أو مفضيا إلى مكروه‪ ،‬وهكذا العرب والعجم‪.‬‬

‫‪‬مسألة‪ :‬التفاضل بين جنس العرب وجنس العجم ‪:‬‬

‫الذي عليه أهل السنة والجماعة‪ :‬اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم‪ ،‬وأن قريشا‬
‫أفضل العرب‪ ،‬وأن بني هاشم‪ :‬أفضل قريش‪ ،‬وأن رسول هللا ﷺ أفضل بني هاشم‪ .‬فهو‪ :‬أفضل الخلق‬
‫نفسا‪ ،‬وأفضلهم نسبا‪ .‬والتفضيل ثابت لهم في حقيقتهم‪ ،‬وليس ملجرد كون النبي ﷺ منهم‪.‬‬

‫قال ﷺ ( إن هللا خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم‪ ،‬ثم خير القبائل‪ ،‬فجعلني في خير قبيلة‪ ،‬ثم خير‬
‫ً‬ ‫البيوت‪ ،‬فجعلني في خير بيوتهم‪ ،‬فأنا خيرهم ً‬
‫نفسا‪ ،‬وخيرهم بيتا)‪ .‬فالحديث صريح بتفضيل العرب‬
‫على غيرهم‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫أسباب تفضيل العرب‪:‬‬

‫‪ .1‬ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخالقهم وأعمالهم‪ ،‬فلما بعث هللا محمدا ﷺ بالهدى‪ :‬تلقوا‬
‫عنه ذلك الهدى العظيم‪ ،‬فأخذوه بتلك الفطرة الجيدة‪ ،‬فاجتمع لهم الكمال بالقوة املخلوقة فيهم‪،‬‬
‫والكمال الذي أنزل هللا إليهم‪ :‬فصار السابقون األولون من املهاجرين واألنصار أفضل خلق هللا بعد‬
‫األنبياء‪ ،‬وصار أفضل الناس بعدهم‪ :‬من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة‪ :‬من العرب والعجم‪.‬‬

‫فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه هللا لهم‪ ،‬وبمخالفة من سواهم؛ إما‬
‫ملعصيته وإما لنقيصته‪ ،‬وإما ألنه مُنة النقيصة‪.‬‬

‫‪ .2‬أن العربية مالزمة للدين الحنيف ‪ -‬اإلسالم ‪ -‬فالعرب هم السابقون لإلسالم‪ ،‬ومن لحقهم من‬
‫الفرس والروم وغيرهم واعتنق اإلسالم وتمسك به؛ دخل معهم في الفضل وإن لم يكن عربي النسب‪.‬‬
‫ومن تخلف عن اإلسالم‪ ،‬أو أخل ببعض أحكامه‪ ،‬ووافق العجم فيما يخالف شعائر اإلسالم وهديه؛‬
‫فإنه ينقص فضله وإن كان عربي النسب‪.‬‬

‫‪ .3‬أنزل هللا كتابه باللسان العربي ‪ +‬وجعل رسوله مبلغا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي ‪ +‬وجعل‬
‫السابقين إلى هذا الدين متكلمين به = لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إال بضبط اللسان‪،‬‬
‫وصارت معرفته من الدين‪ ،‬وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين هللا‪،‬‬
‫وأقرب إلى إقامة شعائر الدين‪ ،‬وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين األولين من املهاجرين واألنصار‪،‬‬
‫في جميع أمورهم‪.‬‬

‫اللسان تقارنه أمور أخرى‪ :‬من العلوم واألخالق؛ فإن العادات لها تأثير عُيم فيما يحبه هللا وفيما‬
‫يكرهه‪ ،‬فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين األولين‪ ،‬في أقوالهم وأعمالهم‪ ،‬وكراهة‬
‫الخروج عنها إلى غيرها من غيرحاجة‪.‬‬

‫فإذا نهت الشريعة عن مشابهة األعاجم؛ دخل في ذلك‪:‬‬

‫أ‪ .‬ما عليه األعاجم الكفار‪ ،‬قديما وحديثا‪.‬‬

‫ب‪ .‬ما عليه األعاجم املسلمون‪ ،‬مما لم يكن عليه السابقون األولون‪.‬‬

‫ج‪ .‬الجاهلية العربية‪ :‬ما كان عليه أهل الجاهلية قبل اإلسالم‪ ،‬وما عاد إليه كثير من العرب من‬
‫الجاهلية التي كانوا عليها‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫فحاصله‪ :‬أن النهي عن التشبيه بهم؛ ملا يفض ي إليه من فوت الفضائل‪ ،‬التي جعلها هللا للسابقين‬
‫األولين‪ ،‬أو حصول النقائص التي كانت في غيرهم‪.‬‬

‫ولهذا‪ :‬ملا علم املؤمنون من أبناء فارس وغيرهم‪ ،‬هذا األمر‪ ،‬أخذ من وفقه هللا منهم نفسه باالجتهاد‬
‫في تحقيق املشابهة بالسابقين‪ ،‬فصارأولئك من أفضل التابعين بإحسان إلى يوم القيامة‪ ،‬وصاركثير‬
‫منهم أئمة لكثيرمن غيرهم‪.‬‬

‫انقسام العرب‪:‬‬

‫أصل اسم العرب اسم لقوم اجتمعت فيهم ثالثة أوصاف‪:‬‬

‫‪_3‬دارهم (مسكنهم) جزيرة العرب‬ ‫‪_2‬نسلهم(نسبهم) من أوالد العرب‬ ‫‪_1‬لسانهم باللغة العربية‬

‫‪ .1‬االنقسام في الدار‪ :‬ملا جاء اإلسالم وفتحت األمصار‪ :‬سكنوا سائر البالد‪ ،‬ثم انقسمت هذه‬
‫البالد إلى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫‪ _3‬ما هو عجمي‬ ‫‪_2‬ما هو عربي انتقاال (متحول)‬ ‫‪_1‬ما هو عربي ابتداء (أصلي)‬

‫‪ .2‬االنقسام في النسب إلى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫قوم من نسل العرب بقوا على العربية‪ :‬لسانا ودارا‪ ،‬أو لسانا ال دارا‪ ،‬أو دارا ال لسانا‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫قوم من نسل العرب تحولوا إلى العجمية‪ :‬لسانا ودارا‪ ،‬أو لسانا ال دارا‪ ،‬أو دارا ال لسانا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫قوم مجهولو األصل ال يدرى من نسل العرب هم‪ ،‬أم من نسل العجم‪ ،‬وهم إما‪ :‬عرب الدار واللسان‪،‬‬ ‫‪3‬‬
‫أو عرب الدار عجم اللسان‪ ،‬أو عجم الدار عرب اللسان‪.‬‬

‫‪ .3‬االنقسام في اللسان إلى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫‪_1‬قوم يتكلمون بالعربية لفظا ‪_2‬قوم يتكلمون بالعربية لفظا ‪_3‬قوم ال يتكلمون بها إال قليال‪.‬‬
‫ال نغمة(املتعربون)‪.‬‬ ‫ونغمة‪.‬‬

‫ف منهم من تغلب عليه العربية‪ ،‬ومنهم من تغلب عليه العجمية‪ ،‬ومنهم من قد يتكافأ في حقه األمران‪ :‬إما‬
‫قدرة‪ ،‬وإما عادة‪.‬‬

‫‪ ‬إذا كانت العربية قد انقسمت‪ :‬نسبا ولسانا ودارا = فإن األحكام تختلف باختالف هذه‬
‫األقسام‪ ،‬خصوصا النسب واللسان‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫واملقصود هنا‪ :‬أن ما ذكرته من النهي عن التشبه باألعاجم‪ :‬إنما العبرة بما كان عليه صدر اإلسالم‪ ،‬من‬
‫السابقين األولين‪ ،‬فكل ما كان إلى هداهم أقرب فهو املفضل‪ ،‬وكل ما خالف ذلك فهو املخالف‪ ،‬سواء‬
‫كان املخالف لذلك اليوم عربي النسب‪ ،‬أو عربي اللسان‪.‬‬

‫فصل‬

‫من األدلة ما يوجب إتباع شرع من قبلنا؛ ألن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخالفه‪ ،‬ودليل‬
‫ذلك‪:‬‬

‫‪ ‬من القرآن‪:‬‬
‫قوله تعالى‪} :‬فبهداهم اقتده{‪ ،‬وقوله تعالى‪} :‬اتبع ملة ابراهيم{‪.‬‬

‫‪ ‬من السنة‪:‬‬
‫‪-‬أن الرسول ﷺ قدم املدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء‪ ،‬فقال لهم رسول هللا ﷺ‪( :‬ما هذا اليوم‬
‫الذي تصومونه؟) قالوا‪ :‬هذا يوم عظيم‪ ،‬أنجى هللا فيه موس ى وقومه‪ ،‬وأغرق فرعون وقومه‪ ،‬فصامه‬
‫موس ى شكرا هلل‪ ،‬فنحن نصومه تعظيما له‪ .‬فقال رسول هللا ﷺ‪( :‬فنحن أحق بموس ى منكم‪ .‬فصامه‬
‫رسول هللا ﷺ وأمربصيامه)‪.‬‬

‫‪-‬وأيضا كان الرسول ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بش يء‪.‬‬
‫ُ‬
‫فهذه األدلة يجب أن تبني على شرطين كالهما منفي‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن يثبت أن ذلك شرع لهم بنقل موثوق به؛ كأن يخبرنا هللا تعالى في كتابه أو ينقل بالتواتر‪ ،‬أ ّما‬
‫الرجوع إلى قولهم أو إلى ما في كتبهم فال يجوز باالتفاق‪.‬‬
‫ُ‬
‫الثاني‪ :‬أن ال يكون بشرعنا بيان خاص لذلك‪ ،‬أ ّما باملخالفة (فنحن أمرنا أن نتبع هدي الرسول ﷺ)‪ ،‬أو‬
‫باملوافقة (تكون املوافقة في بعض األحكام العارضة ال ِ‬
‫بالشعار الدائم‪.‬‬

‫‪-‬أ ّما حديث عاشوراء فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رض ي هللا عنها قالت‪( :‬كانت قريش تصوم يوم‬
‫عاشوراء في الجاهلية‪ ،‬وكان رسول هللا ﷺ يصومه‪ ،‬فلما هاجر إلى املدينة صامه وأمر بصيامه‪ ،‬فلما‬
‫فرض صوم شهر رمضان‪ ،‬قال "من شاء صامه ومن شاء تركه")‪.‬‬

‫‪-‬أ ّما إن قيل كان رسول هللا ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بش يء‪ ،‬فهذا له وجوه‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬هذا األمر كان متقدما‪ ،‬ثم نسخ هللا ذلك وشرع له مخالفة أهل الكتاب‪ ،‬مثال‪ :‬استقبال بيت‬
‫املقدس نسخ باستقبال الكعبة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫واألمثلة عن ذلك كثيرة وكلها تدل على أن ما جاء في التشبه كان في صدر الهجرة عندما كان املسلمون‬
‫ضعفاء‪ ،‬ثم نسخ األمر وشرعت املخالفة بعد ظهور الدين وعلوه؛ كالجهاد‪.‬‬
‫ً‬
‫تطبيقا لذلك‪:‬‬

‫املسلم بدار كفر ليس مأمورا باملخالفة في الهدي الظاهر‪ ،‬بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه‬
‫مشاركتهم أحيانا في هديهم الظاهر إذ كان في ذلك مصلحة دينية‪ .‬أ ّما في دار اإلسالم التي أعز هللا فيها‬
‫دينه ففيها شرعت املخالفة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فإنه يخص النبي ﷺ؛ ألنه كان يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه هللا‬ ‫ً‬
‫إياه ونحن نتبعه‪ّ ،‬‬
‫فأما نحن فال يجوز أن نأخذ شيئا من الدين عنهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬أن نقول إن الرسول ﷺ كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بش يء‪ ،‬ثم إنه أمر‬
‫ّ‬
‫بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه‪ ،‬أي أنا منهيون عن التشبه في ما لم يكن سلف األمة عليه‪ ،‬أ ّما إن‬
‫كان سلف األمة عليه فال ريب فيه‪.‬‬

‫فصل‬

‫أعمال الكفارعلى ثالثة أقسام‪ ،‬وتقع في العبادات والعادات أو كليهما‪:‬‬


‫ً‬
‫أوال‪ :‬قسم مشروع في ديننا مع كونه يفعلونه الن؛ كصوم يوم عاشوراء‪ ،‬فهنا تقع املخالفة في صفة ذلك‬
‫العمل‪ ،‬فنصوم تاسوعاء وعاشوراء‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬قسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن‪ ،‬فاملوافقة في هذا محرمة‪.‬‬‫ً‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬قسم لم يكن مشروعا إنما أحدثوه‪ ،‬فاملوافقة فيه ظاهره القبح‪.‬‬

‫فصل‬

‫موافقة الكفارفي أعيادهم ال يجوز من طريقين‪:‬‬

‫الطريق العام‪ :‬فموافقة أهل الكتاب فيما ليس من ديننا‪ ،‬وال عادة سلفنا مفسدة ومخالفتهم مصلحة‪.‬‬

‫من جهة أخرى أنها من البدع املحدثة‪ ،‬فأقل أحوال التشبه بهم مكروه‪ ،‬كما أقل أحوال البدع مكروه‪،‬‬
‫بدليل قوله ﷺ‪( :‬من تشبه بقوم فهو منهم)‪ ،‬فهذا يوجب عدم التشبه بهم مطلقا‪.‬‬

‫فكل الدالئل تشير إلى أن التحريم يقع في األعمال التي من دينهم أو شعارا لهم‪ ،‬لكن ما لم يكن من دينهم‬
‫أو شعارا لهم فإنه جائز؛ كنزع النعلين في الصالة‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الطريق الثاني الخاص‪ ،‬فاألدلة‪:‬‬

‫‪ ‬من القرآن‪:‬‬
‫قوله تعالى‪} :‬والذين ال يشهدون الزوروإذا مروا باللغو مروا كراما{‪،‬فأكثر من واحد من التابعين فسر‬
‫–يشهدون الزور‪ -‬بأعياد املشركين‪.‬‬

‫‪ ‬من السنة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬أوال‪ :‬روى أنس بن مالك رض ي هللا عنه قال‪ :‬قدم رسول هللا ﷺ املدينة‪ ،‬ولهم يومان يلعبون‬
‫فيهما‪ .‬فقال‪( :‬ما هذان اليومان؟) فقالوا‪ :‬كنا نلعب فيهما في الجاهلية‪ .‬فقال رسول هللا ﷺ‪( :‬إن‬
‫خيرا منهما‪ :‬يوم األضحى ويوم الفطر)‪ .‬فوجه الداللة‪ :‬أن الرسول ﷺ لم‬ ‫هللا أبدلكم بهما ً‬
‫يقرهما‪ ،‬بل أبدلها لهم بالعيدين‪ ،‬واإلبدال من الش يء يقتض ي ترك املبدل منه‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬ما رواه أبو داود‪ :‬أنه نذر رجل على عهد رسول هللا ﷺ أن ينحر إبال ببوانة‪ ،‬فأتى النبي ﷺ‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫فقال‪ :‬إني نذرت أن أنحر إبال ببوانة‪ .‬فقال النبي ﷺ‪( :‬هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية‬
‫يعبد؟) قالوا‪ :‬ال‪ ،‬فقال ﷺ‪( :‬هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) قالوا‪ :‬ال‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪( :‬أوف‬
‫بنذرك فإنه ال وفاء لنذر في معصية هللا وال فيما ال يملك ابن آدم)‪ ،‬وبوانة‪ :‬موضع قريب من‬
‫مكة‪ ،‬وهذا الحديث يدل على‪:‬‬
‫‪-‬أن الذبح بمكان أعيادهم وأوثانهم معصية من وجوه‪:‬‬

‫األول‪ :‬قوله (أوف بنذرك)‪ ،‬فسبب األمر بالوفاء وجود النذر خالي من الوصفين‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬تعقيب (ال وفاء لنذرفي معصية هللا) يدل على أن هاذين الوصفين مشمولين في معصية هللا‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬إذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه‪ ،‬فكيف املوافقة بنفس العيد!‬

‫‪-‬أن العيد‪ :‬اسم ملا يعود من االجتماع العام على وجه معتاد عائد‪ .‬فهو يجمع أمورا‪:‬‬

‫˿ أنه يوم عائد‪.‬‬


‫˿ االجتماع‪.‬‬
‫˿ فيه أعمال مخصوصة‪ ،‬من العبادات والعادات‪.‬‬
‫وأعياد الكتابيين التي تتخذ دينا وعبادة أعظم تحريما من عيد ُيتخذ لهوا ولعبا؛ ألن التعبد بما يسخطه‬
‫هللا ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬ثالثا‪ :‬دل هذا الحديث وغيره‪ ،‬على أن الناس كان لهم في الجاهلية أعيادا‪ ،‬وبمبعث رسول هللا‬
‫ﷺ محا هللا ذلك عنهم‪ ،‬ولوال نهيه ملا تركها الناس؛ ألن املقتض ى لها قائم‪ ،‬ومن جهة إلف العادة‪.‬‬
‫وقد بالغ رسول هللا ﷺ في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من املباحات‪ ،‬وصفات الطاعات؛ كيال يكون ذريعة‬
‫إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم‪.‬‬

‫ابعا‪ :‬ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رض ي هللا عنها قالت‪" :‬دخل علي أبوبكر رض ي هللا‬ ‫‪ ‬ر ً‬
‫عنه وعندي جاريتان من جواري األنصار تغنيان بما تقاولت به األنصار يوم بعاث‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫وليستا بمغنيتين‪ ،‬فقال أبوبكر رض ي هللا عنه‪ :‬أبمزمور الشيطان في بيت رسول هللا ﷺ؟ وذلك‬
‫يوم عيد‪ ،‬فقال رسول هللا‪( :‬يا أبابكر‪ ،‬إن لكل قوم عيدا‪ ،‬وهذا عيدنا)"!‬
‫فالداللة من وجوه‪:‬‬

‫الوجه األول‪ :‬قوله ﷺ‪( :‬إن لكل قوم عيدا‪ ،‬وهذا عيدنا)‪ ،‬فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم‪،‬‬

‫وذلك أن الالم تورث االختصاص‪ ،‬فلكل عيده فال نشركهم فيه‪ ،‬كما ال نشركهم في قبلتهم وشرعتهم‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬قوله ﷺ‪( :‬وهذا عيدنا؟) فإنه يقتض ي حصر عيدنا في هذا‪ ،‬فليس لنا عيد سواه‪ ،‬وليس‬
‫غرضه في الحصر في عين ذلك اليوم‪ ،‬بل اإلشارة إلى جنس املشروع‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬حديث عقبة بن عامر رض ي هللا عنه‪ ،‬عن النبي ﷺ أنه قال‪( :‬يوم عرفة ويوم النحر‪،‬‬
‫وأيام منى‪ ،‬عيدنا أهل اإلسالم‪ ،‬وهي أيام أكل وشرب)‪.‬‬

‫الوجه الثالث‪ :‬أنه رخص في لعب الجواري بالدف‪ ،‬وتغنيهن‪ ،‬معلال بأن لكل قوم عيدا‪ ،‬وأن هذا عيدنا‪،‬‬
‫وذلك يقتض ي‪ :‬أن الرخصة معللة بكونه عيد املسلمين‪ ،‬وأنها ال تتعدى إلى أعياد الكفار‪.‬‬

‫فلو كانت الرخصة معلقة باسم (عيد) لكان األعم مستقال بالحكم‪ ،‬فيكون األخص عدم التأثير‪ ،‬فلما‬
‫علل باألخص ُعلم أن الحكم ال يثبت بالوصف األعم‪ ،‬وهو مسمى‪ :‬عيد‪ .‬وهذا فيه داللة على النهى عن‬
‫التشبه بهم في اللعب ونحوه‪.‬‬
‫ً‬
‫خامسا‪ :‬أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى‪ ،‬حتى أجالهم عمر رض ي هللا عنه في خالفته‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ومن املعلوم‪ :‬أن هؤالء كانت لهم أعياد يتخذونها‪ ،‬ومن كانت له خبرة بالسيرة‪ ،‬علم يقينا أن املسلمين‬
‫على عهده ما كانوا يشركونهم في ش يء من أمرهم‪.‬‬

‫غاية ما كان يوجد‪ :‬ذهاب البعض إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم‪ ،‬فنهى عمر‪ ،‬وغيره من‬
‫الصحابة عن ذلك‪ ،‬فكيف لو كان بعض الناس يفعل ما يفعلونه؟‬

‫‪24‬‬
‫بل‪ ،‬ملا ظهر من بعض املسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم‪ ،‬مخالفة لهم‪ ،‬نهاه كثير من الفقهاء عن‬
‫ذلك؛ ألجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم‪ ،‬أفال يستدل بهذا على أن املسلمين تلقوا عن نبيهم الـمنع عن‬
‫مشاركتهم في أعيادهم؟‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬عن أبي هريرة‪ ،‬وحذيفة رض ي هللا عنهما‪ ،‬قاال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪( :‬أضل هللا عن‬‫ً‬ ‫‪‬‬
‫الجمعة من كان قبلنا‪ ،‬فكان لليهود يوم السبت‪ ،‬وكان للنصارى األحد‪ ،‬فجاء هللا بنا فهدانا‬
‫ليوم الجمعة‪ ،‬فجعل الجمعة والسبت واألحد‪ ،‬وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة‪ ،‬نحن‬
‫األخرون من أهل الدنيا‪ ،‬واألولون يوم القيامة املقض ي لهم) وفي رواية ‪( :‬بينهم ـ قبل الخالئق)‪.‬‬
‫وقد سمى النبي ﷺ الجمعة‪ :‬عيدا‪ ،‬في غير موضع‪ ،‬ونهى عن إفراده بالصوم؛ ملا فيه من معنى العيد‪.‬‬

‫ثم إنه في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا‪ ،‬كما أن السبت لليهود‪ ،‬واألحد للنصارى‪ ،‬والالم تقتض ي‬
‫االختصاص‪ ،‬ثم هذا الكالم يقتض ي االقتسام‪ ،‬فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت‪ ،‬أو عيد يوم‬
‫األحد‪ ،‬خالفنا هذا الحديث وإذا كان هذا في العيد األسبوعي فكذلك في العيد الحولي‪ ،‬إذ ال فرق‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬ما روى كريب مولى ابن عباس رض ي هللا عنهما قال‪ :‬وأرسلني ابن عباس وناس من‬ ‫ً‬ ‫‪‬‬
‫أصحاب النبي ﷺ إلى أم سلمة رض ي هللا عنها‪ ،‬أسألها‪ :‬أي األيام كان النبي ﷺ أكثرها صياما؟‬
‫قالت‪" :‬كان يصوم يوم السبت‪ ،‬ويوم األحد‪ ،‬أكثر ما يصوم من األيام‪ ،‬ويقول‪( :‬إنهما يوما عيد‬
‫للمشركين‪ ،‬فأنا أحب أن أخالفهم)‪.‬‬
‫وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم‪ ،‬وإن كان على طريق االستحباب‪ ،‬وتعليل ذلك أيضا بمخالفتهم‪.‬‬

‫وإنما اختلفوا‪ :‬هل مخالفتهم يوم عيدهم بالصوم ملخالفة فعلهم فيه‪ ،‬أو باإلهمال حتى ال يقصد بصوم‬
‫وال بفطر‪ ،‬أو يفرق بين العيد العربي‪ ،‬والعيد العجمي؟‬

‫وأما اإلجماع واآلثار‪ ،‬فمن وجوه‪:‬‬

‫الوجه األول‪ :‬أن اليهود والنصارى واملجوس ما زالوا في أمصار املسلمين بالجزية‪ ،‬يفعلون أعيادهم التي‬
‫لهم‪ ،‬ثم لم يكن على عهد السابقين من املسلمين من يشركهم في ش يء من ذلك‪ ،‬فعلم وجود املانع‪ ،‬واملانع‬
‫هو‪ :‬دين اإلسالم‪ ،‬وهو املطلوب‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أنه قد تقدم في شروط عمر رض ي هللا عنه‪ ،‬أن أهل الذمة من أهل الكتاب ال يظهرون‬
‫أعيادهم في دار اإلسالم‪ ،‬فإذا كان املسلمون قد اتفقوا على منعهم من اظهارها‪ ،‬فكيف يسوغ للمسلمين‬
‫فعلها؟‬

‫ولو لم يكن في فعل املسلم لها من الشر إال تجرئة الكافر إذا فعلها‪ ،‬فكيف وفيها من الشر ما فيها؟‬
‫‪25‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬النهي عن مشابهتهم في اللغة واألعياد‪ ،‬فقد روي عن عمر رض ي هللا عنه أنه قال‪« :‬إياكم‬
‫ورطانة األعاجم‪ ،‬وأن تدخلوا على املشركين يوم عيدهم فـي كنائسهم»‪ ،‬فقد نهى عمر رض ي هللا عنه عن‬
‫ّ‬
‫تعلم لسانهم‪ ،‬وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم‪ ،‬فكيف بفعل بعض أفعالهم؟‬

‫وكذلك علي رض ي هللا عنه فقد كره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به‪ ،‬فكيف بموافقتهم في‬
‫العمل؟‬
‫ُ‬
‫وعن تحدث العرب باألعجمية‪ ،‬فأكثر ما يفعلون ذلك‪ ،‬إما لكون املخاطب أعجميا أو قد اعتاد عليها‬
‫فيريدون تقريب األفهام عليه‪.‬‬

‫وأما اعتياد الخطاب بغيرالعربية التي هي شعار اإلسالم حتى يصير ذلك عادة فال ريب أنه مكروه‪ ،‬فهو‬
‫من التشبه باألعاجم‪ .‬ولهذا ملا سكن املسلمون املتقدمون أرض الشام ومصر وغيرها من البالد التي كانت‬
‫لغات أهلها غير العربية عودوهم –أي املسلمون‪ -‬العربية حتى غلبت على أهل هذه األمصار‪ ،‬مسلمهم‬
‫وكافرهم‪.‬‬

‫واعلم أن‪:‬‬

‫‪ -‬اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين‪ ،‬ويؤثر في مشابهة صدر هذه األمة من الصحابة والتابعين‪.‬‬
‫‪ -‬وأن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض‪ ،‬فإن فهم الكتاب والسنة فرض‪ ،‬وال يفهم إال بفهم‬
‫ٌ‬
‫واجب‬ ‫ٌ‬
‫واجب على األعيان ومنها ما هو‬ ‫العربية‪ ،‬وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪ّ .‬‬
‫ثم إن منها ما هو‬
‫على الكفاية‪.‬‬

‫وأما االعتبارفي مسألة العيد فمن وجوه‪:‬‬

‫الوجه األول‪ :‬أن األعياد في جملة الشرع واملناهج واملناسك‪ ،‬كالقبلة والصالة‪ ،‬التي قال هللا ُسبحانه‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫فيها‪} :‬لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه{‪،‬فال فرق بين مشاركتهم في العيد وبين ُمشاركتهم في سائر‬
‫املناهج‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬فاملوافقة في جميع العيد‪ :‬موافقة في الكفر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪-‬واملوافقة في بعض فروعه‪ :‬موافقه في بعض شعب الكفر‪ .‬بل األعياد مما تتميز به الشرائع؛ فاملوافقة‬
‫فيه موافقة في أخص شرائع الكفر‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية‪ ،‬وهي أقبح من ُمشاركتهم في ليس الزنار ونحوه من عالماتهم؛‬
‫ألن تلك عالمة وضعية ليست من الدين‪ ،‬أما العيد وتوابعه فإنه من الدين امللعون هو وأهله‪ ،‬واملوافقة‬
‫فيه من أسباب سخط هلل وعقابه‪.‬‬

‫وبالقياس التمثيلي أنه من شرائع الكفر أو شعائره‪ ،‬فحرمت موافقتهم فيه كسائر شرائع الكفر‬
‫وشعائره‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية هلل؛ ألنه إن كان‪:‬‬

‫‪ -‬مما يتدين به فإما أن يكون ‪ُ :‬محدث مبتدع‪ ،‬وإما منسوخ‪ ،‬وإما بمنزلة صالة املسلم إلى بيت املقدس‪.‬‬
‫‪ -‬وإن كان مما يتبع ذلك من التوسع في العادات –من الطعام واللعب‪ -‬فهو تابع لذلك العيد الديني‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولو كره املسلم ذلك لكن غير عادته ذلك اليوم –كصنعة طعام أو بزينة ولباس‪ -‬من غير تعبد بتلك‬
‫العادة لكان ذلك من أقبح املنكرات؛ فاملسلم ال يقر على مبتدع وال منسوخ‪ ،‬ومشابهة الكفار أشد‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬إذا ُسوغ فعل القليل أدى إلى فعل الكثير‪ ،‬ثم إذا اشتهر الش يء دخل فيه عوام الناس‬
‫فتناسوا أصله حتى يصير عادة‪ ،‬بل غيدا‪ ،‬حتى يضاهى بعيد هللا‪ ،‬حتى يكاد يفض ي إلى موت اإلسالم‬
‫وحياة الكفر‪.‬‬

‫واعلم َّأنا لو لم نر موافقتهم أفضت إلى هذه القبائح لكان استداللنا بأصول الشريعة يوجب النهي عن‬
‫هذه الذريعة‪ ،‬ولهذا الوجه مقدمتان‪:‬‬

‫‪ .1‬أن املشابهة تفض ي إلى كفر أو معصية غالبا وهذا شهد به الواقع‪ ،‬وما أفض ى إلى ذلك كان محرما‪.‬‬
‫‪ .2‬أن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دال على أن ما أفض ى إلى الكفر ُ‬
‫حرم‪ ،‬وما أفض ى إليه على‬
‫حرم‪ ،‬وما أفض ى إليه في الجملة ُ‬
‫حرم‪.‬‬ ‫وجه خفي ُ‬

‫الوجه الرابع‪ :‬أن األعياد واملواسم في الجملة لها منفعة عُيمة في دين الخلق ودنياهم‪ ،‬ولهذا جاءت‬
‫به كل شريعة‪ ،‬وهو في ديننا ّ‬
‫أتم الوجوه‪ ،‬فإنه ال عيد في النوع أتم من عيد النحر الذي يجتمع في املكان‬
‫والزمان‪ .‬وإذا أخذ العبد من غير األعمال املشروعة بعض حاجته قلت رغبته في املشروع وانتقاعه به‪،‬‬
‫همته إلى املشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إس ُ‬
‫المه‪ ،‬ولهذا‬ ‫بخالف من صرف ّ‬
‫جاء في الحديث (ما ابتدع قوم بدعة إال نزع هللا عنهم من السنة مثلها)‪ ،‬فلذلك عظمت الشريعة النكير‬
‫على من أحدث البدع؛ ألنها توجب فسادا‪ ،‬منه‪ :‬نقص منفعة الشريعة في حقه‪.‬‬
‫وإذا ّ‬
‫تبين هذا فال يخفى ما جعل هللا في القلوب من التشوق إلى العيد واالهتمام بأمره‪ ،‬وغير ذلك مما‬
‫وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على االنتفاع باملخصوص‬ ‫يوجب تعظيمه؛ وصار مما ّ‬

‫‪27‬‬
‫من العبادات الشرعية‪ ،‬فإذا أعطيت النفوس حقها في غير ذلك اليوم فترت عن الرغبة في عيد هللا‪،‬‬
‫وزال ما كان له من املحبة والتعظيم‪ ،‬فخسرت النفوس خسرانا مبينا‪ ،‬ولو قيل أن في القلوب ما يسع‬
‫اإلثنين قيل‪ :‬لو تجردت ألحدهما لكان أكمل‪.‬‬

‫الوجه الخامس‪ :‬أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرورقلوبهم بما هم عليه من الباطل‪ ،‬وربما‬
‫أمر محسوس‪.‬‬ ‫أطمعهم في ذلك انتهاز الفرص واستذالل الضعفاء‪ ،‬وهذا أيضا ُ‬

‫الوجه السادس‪ :‬أن ما يفعلونه في عيدهم إما كفر‪ ،‬أو حرام‪ ،‬أو مباح إذا تجرد عن مفسدة املشابهة‪،‬‬
‫والتميز بينها ظاهر غالبا‪ ،‬إال أنه يخفى على كثير من العامة؛ فاملشابهة فيما لم يُهر تحريمه للعالم‬
‫يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام‪.‬‬

‫* والفرق بين هذا الوجه ووجه الذريعة‪ :‬أن وجه الذريعة املوافقة في القليل تدعو للموافقة في الكثير‪،‬‬
‫ّأما هنا فجنس املشابهة يلبس على العامة دينهم‪.‬‬

‫الوجه السابع‪ :‬أن هللا تعالى جبل سائراملخلوقات على التفاعل بين الشيئين املتشابهين‪ ،‬وكلما كانت‬
‫املشابهة أكثر كان التفاعل في األخالق والصفات أتم‪ ،‬وألجل ذلك وقع التأثر والتأثير في بني آدم‪ ،‬واكتساب‬
‫بعضهم أخالق بعض باملعاشرة‪ ،‬فاملشابهة في األمور الظاهرة‪ :‬توجب املشابهة في األمور الباطنة بالتدرج‬
‫الخفي‪.‬‬
‫الوجه الثامن‪ :‬أن املشابهة في الُاهر تورث مودة ومحبة‪ ،‬ومواالة في الباطن‪ ،‬كما أن املحبة في‬
‫الباطن تورث املشابهة في الُاهر‪ ،‬وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ كأن يكون رجالن من بلد واحد‬
‫واجتمعا في دار غربة يكون بينما من املودة واالئتالف أمر عظين‪ ،‬وإن لم يكونا غير متعارفين‪ .‬وإذا كانت‬
‫املشابهة في أمور دنيوية –كأهل البلد الواحد أو الصنعة الواحدة‪ -‬تورث املحبة واملواالة لهم‪ ،‬فكيف‬
‫باملشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى املواالة أشد‪ ،‬واملحبة واملواالة لهم تنافي اإليمان الذي يستلزم‬
‫واد الكفار ليس بمؤمن‪ ،‬واملشابهة الظاهرة مظنة املودة فتكون محرمة‪.‬‬ ‫عدم واليتهم‪ ،‬فمن ّ‬

‫واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة‪ ،‬فلنقتصر على ما نبهنا عليه‪.‬‬

‫فصل‬

‫املشابهة فيما ليس من شرعنا قسمان‪:‬‬

‫» العلم بأن هذا العمل من خصائص دينهم فإما أن ُيفعل (للموافقة‪/‬شهوة‪/‬شبهة) وكلها محرمة‪.‬‬
‫ودرجة التحريم فيها تتفاوت فقد يبلغ تحريم بعضها إلى أن يكون من الكبائر‪ ،‬أو يصير كفرا‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫» الجهل بأن هذا العمل من عملهم‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫• ما كان مأخوذا عنهم على الوجه الذي يفعلونه مع تغيير في الزمان أو املكان أو الفعل‪.‬‬

‫• ما ليس مأخوذا عنهم‪ ،‬لكنهم يفعلونه فهذا ليس مشابهة لهم‪ ،‬ولكن قد يفوت فيه منفعة املخالفة‪.‬‬

‫فصل‬

‫العيد‪ :‬اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع‪ ،‬وكل عمل يحدثونه في هذه األزمنة‬
‫واألمكنة‪.‬‬

‫والنهي عن مشابهتهم في أعيادهم على عدة أوجه‪:‬‬

‫˿ أن النهي ليس عن خصوص أعيادهم‪ ،‬بل ما يعظمونه من األوقات واألمكنة واألعمال‪ .‬فعلى‬
‫املسلم أن ال يستغرق في معرفة أعياد الكفار‪ ،‬بل يكفيه أن يعلم وقتها ومكانها وأنها من جهتهم‪.‬‬
‫وأعيادهم ال أصل لها في اإلسالم؛ فأقل أحوالها أن تكون بدعة؛ ألنه ُمحدث‪ ،‬ومأخوذة عنهم‪.‬‬

‫˿ النهي عن تخصيص هذا اليوم بما يميزه‪ ،‬بل ُيجعل يوما كسائر األيام‪.‬‬
‫˿ النهي عن إعانة املسلم في التشبه بهؤالء في أعيادهم‪.‬‬
‫˿ النهي عن بيع املسلم لهؤالء ما ُيعينهم على إقامة عيدهم املحرم‪ ،‬إال أنه يجوز على املسلم شهود‬
‫أسواقهم‪.‬‬
‫˿ كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم‪ ،‬ونهى عنه من غير تحريم‪ ،‬العلة‪ :‬أن أكله من تعظيم‬
‫شركهم‪.‬‬
‫عن أحمد روايتان‪ :‬أشهرهما في نصوصه‪ :‬أنه ال يباح أكله وإن لم يسم عليه غير هللا تعالى‪ ،‬ونقل النهي‬
‫عن ذلك عن عائشة وعبد هللا بن عمر‪.‬‬
‫والرواية الثانية‪ :‬أن ذلك مكروه غيرمحرم‪ ،‬وهذه التي ذكرها القاض ي وغيره‪.‬‬
‫ونقلت الرخصة في ذبائح األعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رض ي هللا عنهم وهذا فيما إذا لم‬
‫يسموا غيرهللا‪.‬‬

‫فإذا سموا غير هللا في عيدهم أو غير عيدهم‪ ،‬حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور‪ .‬والثانية‪:‬‬
‫ال يحرم‪ ،‬وإن سموا غير هللا‪ ،‬وهذا قول عطاء ومجاهد ومكحول واألوزاعي والليث‪.‬‬

‫فصل‬

‫فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم‪ ،‬فقد اختلف فيها ألجل أن املخالفة‪:‬‬

‫‪29‬‬
‫» تحصل بالصوم‪.‬‬
‫» أو بترك تخصيصه بعمل أصال‪.‬‬
‫‪-‬روي عن الصماء‪ ،‬أن النبي ﷺ قال‪( :‬ال تصوموا يوم السبت إال فيما افترض عليكم‪ ،‬وإن لم يجد‬
‫أحدكم إال لحاء عنب‪ ،‬أو عود شجرة – وفي لفظ‪ :‬إال عود عنب أو لحاء شجرة‪-‬فليمضغه)‬

‫ومعناه‪ :‬أن من قصد يوم السبت ‪-‬وكذلك يوم األحد؛ ألنه عيد النصارى‪-‬بعينه في الفرض ال يكره‪،‬‬
‫بخالف قصده بعينه في النفل‪ ،‬فإنه يكره‪ ،‬وال تزول الكراهة إال بضم غيره إليه أو موافقته عادة‪ ،‬وقد‬
‫قال بذلك كثير من أهل العلم‪.‬‬

‫‪-‬ومن قال بعدم الكراهة استدل بما رواه كريب مولى ابن عباس رض ي هللا عنه قال‪ :‬أرسلني ابن عباس‪،‬‬
‫وناس من أصحاب النبي ﷺ إلى أم سلمة أسألها‪ :‬أي األيام كان رسول هللا ﷺ أكثرها صياما؟ قالت‪" :‬كان‬
‫يصوم السبت ويوم األحد‪ ،‬أكثر ما يصوم من األيام‪ ،‬ويقول‪( :‬إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن‬
‫أخالفهم) وهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم ألجل قصد مخالفتهم‪.‬‬

‫فصل‬

‫وأما النيروزواملهرجان ونحوهما من أعياد املشركين‪:‬‬

‫‪ -‬فمن لم يكره صوم السبت من األصحاب وغيرهم‪ ،‬قد ال يكره صوم ذلك اليوم‪ ،‬بل ربما يستحبه‬
‫ألجل مخالفتهم‬

‫‪ -‬وكرههما أكثر األصحاب‪ ،‬وعللوا ذلك بأنهما يومان تعظمهما الكفار‪ ،‬فيكون تخصيصهما‬
‫بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت‪.‬‬

‫‪ -‬وقد يقال يكره صوم النيروز واملهرجان التي ال تعرف بحساب العرب؛ ألنه إذا قصد صوم مثل‬
‫هذه األيام العجمية أو الجاهلية كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه األيام وإحياء أمرها‪ ،‬وإظهار‬
‫حالها بخالف السبت واألحد‪ ،‬فإنهما من حساب املسلمين‪ ،‬فليس في صومهما مفسدة‪.‬‬

‫فصل‬

‫سائراألعياد واملواسم املبتدعة من املنكرات املكروهات‪ ،‬سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه‪.‬‬

‫وقد نهي عن أعياد أهل الكتاب واألعاجم لسببين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن فيها مشابهة الكفار‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫الثاني‪ :‬أنها من البدع‪.‬‬

‫وما أحدث من املواسم واألعياد منكر‪ ،‬وإن لم يكن فيها مشابهة ألهل الكتاب‪ ،‬لوجهين‪:‬‬

‫الوجه األول‪ :‬أنها من البدع املحدثة‪ ،‬ملا حدث فيها من الدين الذي يتقرب به املتقربون‪.‬‬

‫ومعلوم أن أعمال الخلق تنقسم إلى‪:‬‬

‫‪-‬عبادات يتخذونها دينا‪ ،‬ينتفعون بها في الخرة‪ ،‬أو في الدنيا والخرة‪ .‬واألصل فيها (أن ال يشرع منها إال ما‬
‫شرعه هللا)‬

‫‪-‬العادات ينتفعون بها في معايشهم‪ .‬واألصل فيها (أن ال يحظر منها إال ما حظره هللا)‬

‫فما أحدث في جانب العبادات فهو بدعة محدثة‪ ،‬وهي منكرة إذ ال أصل لها في شرع هللا‪.‬‬

‫ومن الناس من يقسم البدع إلى قسمين‪( :‬حسنة وقبيحة)‪ ،‬ولهم في ذلك مقامين‪:‬‬
‫املقام األول‪ :‬أن القبيح منها ما نهى عنه الشارع‪ ،‬وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح‪ ،‬بل قد يكون‬
‫حسنا‪.‬‬

‫املقام الثاني‪ :‬أن يقال عن بدعة معينة بأنها حسنة؛ ألن فيها من املصلحة كيت وكيت‪ ،‬وعليه فليس كل‬
‫بدعة ضاللة‪.‬‬

‫وأدلتهم‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬استداللهم بقول عمر رض ي هللا عنه في صالة التراويح‪( :‬نعمت البدعة هذه)‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أن من األقوال واألفعال أحدثت بعد رسول هللا ﷺ‪ ،‬وليست مكروه‪ ،‬أو هي حسنة‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬ومنهم من لم يحكم أصول العلم يضم إليها ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها‪.‬‬

‫والجواب عليها بما يلي‪:‬‬

‫الجواب على املقام األول‪:‬‬

‫» أن القول (إن شر األمور محدثاتها‪ ،‬وإن كل بدعة ضاللة)‪ ،‬هو نص رسول هللا ﷺ‪ ،‬فال يحل‬
‫ألحد أن يدفع داللته على ذم‪ ،‬ومن نازع في داللته فهو مراغم‪.‬‬
‫أما املعارضات فالجواب عنها بأحد الجوابين‪:‬‬

‫‪ ‬إما أن يقال‪ :‬إن ما ثبت حسنه فليس من البدع‪ ،‬فيبقى العموم محفوظا ال خصوص فيه‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪ ‬وإما أن يقال‪ :‬ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم‪ ،‬والعام املخصوص دليل فيما عدا‬
‫صورة التخصيص‪ ،‬فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم‪ ،‬احتاج إلى دليل‬
‫شرعي يصلح للتخصيص‪ ،‬وإال كان ذلك العموم اللفظي املعنوي موجبا للنهي‪ .‬وأما العادات فال‬
‫يصلح أن تكون معارضا لكالم رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫» ال يجوز حمل قوله ﷺ‪( :‬كل بدعة ضاللة) على البدعة التي نهى عنها بخصوصها؛ ألن هذا‬
‫تعطيل لفائدة الحديث‪ ،‬فإذا كان ال منكر في الدين إال ما نهى عنه بخصوصه‪ ،‬صار وصف‬
‫البدعة عديم التأثير‪ ،‬ال يدل وجوده على القبح‪ ،‬وال عدمه على الحسن‪ ،‬وهذا من تعطيل‬
‫النصوص وهو نوع من التحريف واإللحاد‪ ،‬وليس من نوع التأويل السائغ‪ ،‬وهذا فيه مفاسد‪،‬‬
‫هي‪:‬‬
‫األول‪ :‬سقوط االعتماد على هذا الحديث‪ ،‬فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه فقد علم حكمه بذلك‬
‫النهي‪ ،‬وما لم يعلم ال يندرج في هذا الحديث‪ ،‬فال يبقى في هذا الحديث فائدة!‬

‫الثاني‪ :‬أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير‪ ،‬فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو املعنى‪ ،‬تعليق‬
‫له بما ال تأثير له‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن الخطاب بمثل هذا‪ ،‬إذا لم يقصد إال الوصف الخر –كونه منهيا عنه‪ -‬كتمان ملا يجب بيانه‪،‬‬
‫وبيان ملا لم يقصد ظاهره‪ ،‬فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص‪ ،‬إذ ليس كل بدعة عنها‬
‫نهي خاص‪ ،‬وليس كل ما فيه نهي خاص بدعة؛ فالتكلم بأحد االسمين وإرادة الخر تلبيس محض ال‬
‫يسوغ للمتكلم‪ ،‬إال أن يكون مدلسا‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن قوله (كل بدعة ضاللة)‪ ،‬و(إياكم ومحدثات األمور)‪ ،‬إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص‪ ،‬كان قد‬
‫أحالهم في معرفة املراد بهذا الحديث على ما ال يكاد يحيط به أحد‪ ،‬وال يحيط بأكثره إال خواص األمة‪،‬‬
‫ومثل هذا ال يجوز بحال‪.‬‬
‫ٌ‬
‫الخامس‪ :‬أنه إذا أريد به ما فيه النهي‪ ،‬كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع‪ ،‬واللفظ العام‬
‫ال يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة‪.‬‬

‫وهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد‪ ،‬ال يجوز حمل الحديث عليه‪.‬‬

‫الجواب على املقام الثاني‪:‬‬

‫» أن هذا الحديث داال على قبح الجميع‪ ،‬فإن ثبت أن هذا حسن‪ ،‬يكون مستثنى من العموم‪ ،‬وإال‬
‫فاألصل أن كل بدعة ضاللة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫» أن كل ما يعارض به من أنه حسن‪ ،‬وهو بدعة‪ :‬فإما أنه ليس بدعة‪ ،‬وإما أنه مخصوص‪ ،‬وبهذا‬
‫تسلم داللة الحديث‪ .‬وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه‪.‬‬
‫» وأما األمور األخرى التي قد يظن أنها حسنة‪ ،‬فال تصلح املعارضة بها‪ ،‬بل يجاب عنها بالجواب‬
‫ً‬
‫مخصوصا‪ ،‬وإن لم يثبت أنه‬ ‫املركب‪ ،‬وهو‪ :‬إن ثبت أن هذا حسن‪ ،‬فال يكون بدعة‪ ،‬أو يكون‬
‫حسن‪ ،‬فهو داخل في العموم‪.‬‬
‫الجواب على االستدالل بقول عمررض ي هللا عنه‪:‬‬

‫أن صالة التراويح‪ ،‬فليست بدعة في الشريعة‪ ،‬بل سنة بقول الرسول ﷺ وفعله‪ ،‬وال صالتها في الجماعة‬
‫بدعة‪ ،‬بل هي سنة في الشريعة‪.‬‬

‫وأما تسمية عمر رض ي هللا عنه لها بأنها بدعة‪ ،‬فهي تسمية لغوية‪ ،‬ال تسمية شرعية؛ وذلك أن البدعة‬
‫في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق‪ ،‬وأما البدعة الشريعة‪ :‬فما لم يدل عليه دليل شرعي‪.‬‬

‫والضابط في الباب‪:‬‬

‫أن الناس ال يحدثون شيئا إال ألنهم يرونه مصلحة‪ ،‬إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه‪ ،‬فإنه ال يدعو‬
‫إليه عقل وال دين‪.‬‬

‫فما رآه الناس مصلحة‪:‬‬

‫نظر في السبب املحوج إليه‪:‬‬

‫‪ ‬فإن كان السبب املحوج إليه أمرا حدث بعد النبي ﷺ من غير تفريط منا‪ ،‬فهنا قد يجوز إحداث‬
‫ما تدعو الحاجة إليه‪.‬‬
‫‪ ‬وإن كان املقتض ي لفعله قائما على عهد رسول هللا ﷺ‪ ،‬لكن تركه النبي ﷺ ملعارض زال بموته‪،‬‬
‫فيجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه‪.‬‬
‫‪ ‬وإن كان السبب املحوج إليه لم يحدث‪ ،‬أو كان السبب املحوج إليه بعض ذنوب العباد‪ ،‬فهنا ال‬
‫يجوز اإلحداث‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬ما تشتمل عليه من الفساد في الدين‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫» أن من أحدث عمال في يوم‪ ،‬فالبد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب؛ وذلك ألنه ال بد أن يعتقد‬
‫أن هذا اليوم أفضل من أمثاله‪ ،‬إذ لوال قيام هذا االعتقاد ملا انبعث القلب لتخصيص هذا‬
‫اليوم‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ -‬فإ ن هذا العمل املبتدع مستلزم‪ :‬إما العتقاد هو ضالل في الدين‪ ،‬أو عمل دين لغير هللا‪.‬‬
‫والتدين بهما ال يجوز‪.‬‬
‫‪ -‬أن هذه البدع مستلزمة قطعا أو ظاهرا لفعل ال يجوز‪ ،‬فأقل أحوال املستلزم أن يكون‬
‫مكروها‪.‬‬
‫‪ -‬وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية‪ ،‬لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية‪ ،‬فكما أن‬
‫إثبات الفضيلة الشرعية مقصود‪ ،‬فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضا‪.‬‬
‫» أن جميع املبتدعات ال بد أن تشتمل على ّ‬
‫شر راجح على ما فيهما من الخير‪ ،‬إذ لو كان خيرهما‬
‫راجحا ملا أهملتها الشريعة ‪ ،‬فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها‪ ،‬وذلك هو‬
‫املوجب للنهي‪.‬‬
‫» أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن‪ ،‬فتنتقص عنايتها بالفرائض والسنن‪.‬‬
‫» ما فيها من مصير املعروف منكرا‪ ،‬واملنكر معروفا‪ ،‬وجهالة أكثر الناس بدين املرسلين‪.‬‬
‫» اشتمالهما على أنواع من املكروهات في الشريعة‪.‬‬
‫» مسارقة الطبع إلى االنحالل من ربقة االتباع‪ ،‬وفوات سلوك الصراط املستقيم‪ ،‬وذلك أن‬
‫النفس فيها نوع من الكبر‪ ،‬فتحب أن تخرج من العبودية واالتباع بحسب اإلمكان‪.‬‬
‫» ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أه الكتاب من املفاسد التي توجد في كال النوعين املحدثين‪ ،‬النوع‬
‫الذي فيه مشابهة‪ ،‬والنوع الذي ال مشابهة فيه‪.‬‬
‫فصل‬

‫العيد يكون اسما لنفس املكان ولنفس الزمان ولنفس االجتماع‪ ،‬وهذه الثالثة قد أحدث منها أشياء‪.‬‬

‫أما الزمان فثالثة أنواع‪:‬‬


‫ً‬
‫النوع األول‪ :‬يوم لم تعُمه الشريعة أصال‪.‬‬

‫مثل‪ :‬أول خميس من رجب والحديث املوضوع عن فضل صيامه‪ ،‬وفضل اإلطعام فيه‪.‬‬
‫والصواب‪ :‬النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم‪ ،‬وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة طعام‬
‫وإظهار زينة وغير ذلك‪ ،‬حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من األيام وال يكون له مزية أصال‪.‬‬
‫ً‬
‫موسما‪.‬‬ ‫النوع الثاني‪ :‬ما جرى فيه حادثة‪ ،‬من غيرأن يوجب ذلك جعله‬

‫مثل‪ :‬ثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي ﷺ فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع‪.‬‬
‫والصواب‪ :‬اتخاذ هذا اليوم عيدا ُمحدث ال أصل له‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫إذ األعياد الشرعية من الشرائع فيجب فيها االتباع ال االبتداع‪ ،‬وإنما يفعل ذلك النصارى الذين يتخذون‬
‫أمثال أيام حوادث عيس ى عليه السالم أعيادا‪ ،‬أو اليهود‪.‬‬

‫ومثل‪ :‬ما ُيحدثه الناس من اتخاذ مولد النبي ﷺ عيدا؛ ّإما مضاهاة للنصارى في ميالد عيس ى‪ ،‬وإما محبة‬
‫للنبي ﷺ‪ ،‬فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام املقتض ي له وعدم املانع منه‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأكثر الحريصين على أمثال هذه البدع تجدهم فاترين عما أمروا بالنشاط فيه؛ فاالشتغال عن املشروع‬
‫ُيفسد حال صاحبه‪.‬‬

‫واعلم أن من األعمال ما يكون فيه خير الشتماله على أنواع املشروع‪ ،‬وفيه شر من بدعة وغيرها‪،‬‬
‫فعليك بأدبين‪:‬‬
‫ّ‬
‫بالسنة ظاهرا وباطنا‪.‬‬ ‫‪ .1‬أن يكون حرصك على التمسك‬
‫خير ّ‬
‫فعوض عنه من الخير املشروع‬ ‫‪ .2‬أن تدعو الناس إلى ّ‬
‫السنة بحسب اإلمكان‪ ،‬وإذا كان في البدعة ٌ‬
‫بحسب اإلمكان‪.‬‬
‫وإذا كان الفاعلين للبدع معيبون قد أتوا ً‬
‫منكرا؛ فالتاركون للسنن مذمومون‪ ،‬فالسنن يكون منها‪:‬‬
‫ٌ‬
‫واجب على التقييد‪ ،‬كصالة النافلة فهي ال تجب‪ ،‬لكن من يصليها يجب‬ ‫ٌ‬
‫واجب على اإلطالق أو‬ ‫‪ -‬ما هو‬
‫أن يأتي بأركانها‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها ما ُيكره املداومة على تركه كراهة شديدة‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها ما ُيكره تركه‪ ،‬أو يجب فعله على األئمة دون غيرهم‪.‬‬

‫وعامتها يجب تعليمها والدعاء إليها‪ ،‬وكثير من منكري البدع تجدهم مقصرين في فعل السنن‪ ،‬فانظر‬
‫ملا اشتملت عليه األفعال من املصالح الشرعية واملفاسد؛ بحيث تعرف مراتب املعروف ومراتب املنكر‬
‫ومراتب الدليل؛ فتقدم أهمها عند االزدحام‪.‬‬

‫واملراتب ثالث‪:‬‬

‫األول‪ :‬العمل الصالح املشروع الذي ال كراهة فيه‪ ،‬وهذا هو سنة رسول هللا ﷺ‪ ،‬وهو الذي يجب‬
‫تعلمه وتعليمه واألمر به‪ ،‬والغالب على هذا الضرب‪ :‬أعمال السابقين األولين‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫كثير في طرق املتأخرين‪ ،‬وهؤالء ٌ‬
‫خير ممن ال يعمل عمال‬ ‫والثاني‪ :‬العمل الصالح من بعض وجوهه‪ ،‬وهو ٌ‬
‫صالحا مشروعا وال غير مشروع؛ فمن تعبد ببعض العبادات املشتملة على نوع من الكراهة (كالوصال‬
‫ّ‬
‫في الصيام) قد يكون حاله خيرا من حال البطال الذي ال يحرص على العبادة‪.‬‬
‫ً‬
‫والثالث‪ :‬ما ليس فيه صالح أصال‪ ،‬لكونه تركا للعمل الصالح مطلقا‪ ،‬أو لكونه عمال فاسدا‪.‬‬

‫النوع الثالث‪ :‬ما هو معُم في الشريعة‪.‬‬

‫مثل‪ :‬يومي العيدين ويوم عرفة ونحوها من األوقات الفاضلة‪.‬‬

‫فهذا الضرب قد يحدث فيه ما ُيعتقد أن له أفضلية‪ ،‬وتوابع ذلك ما يصير منكرا ُينهى عنه‪ ،‬مثل ما‬
‫أحدث بعض أهل األهواء في يوم عاشوراء خالف ما أمر هللا به من التحزن والتجمع؛ فاتخاذ أيام‬
‫املصائب مآتم ليس من دين املسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب‪ ،‬ثم فوتوا بذلك ما في صوم هذا‬
‫اليوم من الفضل‪ .‬وكذلك الرافضة التي تظهر الفرح والسرور يوم عاشوراء فهو من البدع املحدثة‪،‬‬
‫فكال الطائفتين فيه ٌ‬
‫بدع وضالل؛ والشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط املستقيم وال ُيبالي‬
‫إلى أي الشقين صاروا‪ .‬فينبغي اجتناب جميع هذه املحدثات‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪:‬‬


‫ٌ‬
‫‪ -‬شهررجب‪ :‬عامة األحاديث املأثورة فيه كذب‪ ،‬ولم يثبت عن النبي صلى هللا عليه وسلم حديث في فضل‬
‫رجب إال قوله إذا دخل شهر رجب‪( :‬هللا بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)‪.‬‬

‫‪ -‬ليلة النصف من شعبان‪ :‬والذي عليه أكثر أهل العلم هو تفضيلها‪ ،‬أما االجتماع العالم للصالة‬
‫ُمحدث‪ ،‬والحديث الوارد في الصالة األلفية موضوع باتفاق‪.1‬‬
‫ً‬
‫مفردا‪ :‬مكروه ال أصل له‪ ،‬واتخاذه موسما تصنع في األطعمة هو من املواسم‬ ‫‪ -‬صوم يوم النصف‬
‫املبتدعة‪.‬‬ ‫املحدثة‬
‫ُ‬
‫كصالة يصلونها مثل املغرب يسمونها "بر الوالدين"‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬بعض الصلوات الجماعية التي لم تشرع‪:‬‬
‫ويصلونها جماعة بعد املغرب‪ ،‬ونحوها‪.‬‬

‫وعليك أن تعلم‪ :‬إذ استحب التطوع في وقت معين وجوز التطوع في جماعة لم يلزم تسويغ جماعة‬
‫راتبة غيرمشروعة‪.‬‬

‫(‪ )1‬وأما العمومات الدالة على استحباب الصالة فحق‪ ,‬لكن العمل المعين ال يُوجب جعل خصوصها مستحبًا‪ ,‬بل يُكره التخصيص لما ال‬
‫خصوص له‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫والفرق‪ :‬أن االجتماع لصالة تطوع أو استماع قرآن أو ذكر إذا كان يفعل أحيانا فهذا حسن‪ ،‬أما اتخاذ‬
‫اجتماع راتب يعود ُويتخذ سنة غير االجتماعات املشروعة فإن ذلك ُيضاهي االجتماع املشروع ‪-‬‬
‫ُ‬
‫كاالجتماع للصلوات الخمس والجمعة والعيدين‪ -‬وذلك هو املبتدع‪ .‬فهذا هو الفرق املنصوص عن‬
‫اإلمام أحمد وغيره‪ :‬إذا لم ُيتخذ عادة‪ .‬إال أن الناس أفرطوا في هذا جدا –كاالجتماع عند قبر الحسين‪-‬‬
‫وهذا االعتياد الذي كرهه أحمد وغيره‪.‬‬

‫وأصل هذا‪ :‬أن العبادات املشروعة التي تتكرر حتى تصير ُسننا شرع هللا منها ما فيه كفاية العباد‪ ،‬فإذا‬
‫ُ‬
‫حدث اجتماع زائد كان ذلك مضاهاة ملا شرعه هللا‪ ،‬وفيه من الفساد ما تقدم‪ ،‬بخالف ما يفعله الرجل‬ ‫ا ِ‬
‫ُ‬
‫أو الجماعة أحيانا فهو مشروع –كتطوع القراءة والذكر جماعة وفرادى‪ ،-‬لكن البدعة‪ :‬اتخاذه عادة‬
‫الزمة حتى يصير كأنه واجب‪.‬‬

‫وأما ما ُيفعل في املواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع –كرفع األصوات في املساجد واختالط الرجال‬
‫بالنساء‪ -‬فهذا ال ُيحتاج إلى ذكره فقبحه ظاهر لكل ُمسلم‪.‬‬

‫فالعبادات ثالث‪:‬‬

‫‪ .1‬ما هو مستحب بخصوصه‪ ،‬وهو أقسام‪:‬‬

‫‪ -‬النفل املقيد‪ :‬مثل ركعتي الفجر‪.‬‬

‫‪ -‬النفل املؤقت‪ :‬كقيام الليل‪.‬‬

‫‪ -‬النفل املقيد بسبب‪ :‬كصالة االستسقاء‪.‬‬

‫‪ -‬النفل املقدر بعدد‪ :‬كالوتر‪.‬‬

‫‪ -‬النفل املطلق مع فضل الوقت‪ :‬كالصالة يوم الجمعة قبل الصالة‪.‬‬


‫ُ‬
‫‪ .2‬ما هومستحب بعموم معناه‪ ،‬كالنفل املطلق‪ :‬فإن الشمس إذا طلعت فالصالة مشهودة حتى العصر‪.‬‬
‫‪ .3‬ما هو مكروه تخصيصه ال مع غيره‪ ،‬كقيام ليلة ُ‬
‫الجمعة‪ ،‬وقد ُيكره ُمطلقا إال في أحوال مخصوصة‪،‬‬
‫كالصالة في أوقات النهي‪.‬‬

‫فصل‬

‫وقد يجتمع مع العيد العملي املحدث العيد املكاني فيزيد قبحا ويصير خروجا عن الشريعة‪.‬‬

‫من أمثلة ذلك‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ ‬السفر إلى بيت املقدس للتعريف فيه‪ ،‬فزيارته مستحبة مشروعة للصالة فيه واالعتكاف‪ ،‬وهو‬
‫أحد املساجد الثالثة التي تشد إليها الرحال‪ ،‬لكن قصد إتيانه يوم الحج هو املكروه‪ ،‬وفيه‬
‫مضاهاة للحج إلى املسجد الحرام وتشبيه له بالكعبة‪.‬‬

‫فأما قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر اختلف فيه العلماء‪ ،‬ففعله بعضهم‬
‫(كابن عباس)‪ ،‬وكرهه بعضهم (كأبي حنيفة ومالك) وعدوه من البدع‪ .‬وما يزاد على ذلك رفع‬
‫األصوات في املساجد بالدعاء فمكروه في هذا اليوم وغيره‪.‬‬

‫‪ ‬التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا‪ ،‬وهذا بنفسه محرم سواء كان فيه شد للرحل أو لم يكن‪،‬‬
‫سواء كان في يوم عرفة أو في غيره‪ ،‬وهو من األعياد املكانية مع الزمان‪.‬‬
‫‪ ‬أما ما أحدث باألعياد من ضرب الطبول مكروه في العيد وغيره‪ ،‬وكذلك املنهي عنه بالشرع وترك‬
‫السنن من جنس فعل البدع فينبغي إقامة املواسم على ما كان السابقون األولون يقيمونها‪.‬‬
‫فصل‬

‫األعياد املكانية تنقسم كالزمانية إلى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫األول‪ :‬ما ال خصوص له في الشريعة‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬ما له خصيصة ال تقتض ي قصده للعبادة فيه‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬ما يشرع العبادة فيه لكن ال يتخذ عيدا‪.‬‬

‫فاألول ال فضل له في الشريعة أصال‪ ،‬وال فيه ما يوجب تفضيله‪ ،‬بل هو كسائر األمكنة‪ ،‬فقصد االجتماع‬
‫فيه لصالة أو دعاء ضالل مبين‪ .‬فإن هذا يشبه عبادة األوثان أو ذريعة إليها‪ ،‬فمن قصد بقعة ليصلي أو‬
‫ليدعو‪ ،‬أي ليخصها بنوع من العبادة لم يشرع تخصيص تلك البقعة به فهو من املنكرات‪.‬‬

‫وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به‪ ،‬أو ماال للسدنةأاو الجاورين العاكفين بتلك البقعة‪،‬‬
‫فهو نذر معصية‪ ،‬وفيه شبه من النذر لسندة الالت و العزى‪.‬‬

‫وأيضا من صور هذه األمكنة ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬أو مواضع يقال أن فيها‬
‫أثر النبي ﷺ‪.‬‬

‫فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من اإلسالم تعظيمها‪ ،‬ويجب تجنب الصالة‬
‫فيها وإن كان املصلي ال يقصد تعظيمها‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫فصل‬

‫أما النوع الثاني من األمكنة‪ :‬وهو ما له خصيصة لكن ال يقتض ي اتخاذها عيدا أو العبادة عنده‪.‬‬
‫ً‬
‫مثال‪:‬‬
‫‪ ‬قبور األنبياء والصالحين فقد نهى عن ذلك النبي ﷺ حيث قال (ال تجعلو بيوتكم ً‬
‫قبورا و ال‬
‫تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صالتكم تبلغني حيثما كنتم)‪ .‬فقبر النبي ﷺ أفضل قبر‬
‫على وجه األرض‪ ،‬وقد نهى عن اتخاذه عيدا‪ ،‬فقبر غيره أولى بالنهي‪ ،‬وقوله (ال تتخذو بيوتكم‬
‫قبورا)‪ ،‬أي ال تعطلوها عن الصالة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور‪.‬‬
‫وقوله (فان تسليمكم يبلغني اينما كنتم)‪ ،‬أي أن ما ينالني منكم من الصالة يحصل مع قربكم‬
‫أو بعدكم من قبري فال حاجة في اتخاذه عيدا‪.‬‬
‫‪ ‬أما زيارة القبور فهي جائزة‪ ،‬حتى قبور الكفار ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رض ي هللا عنه‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪( :‬استأذنت ربي أن استغفرألمي فلم يأذن لي‪ ،‬واستأذنته أن أزورقبرها‬
‫فأذن لي)‪ ،‬فزيارة القبور تذكر باملوت واألخرة‪ ،‬وأما ما يختص به قبور املسلمين دون قبور‬
‫الكفار فهو الدعاء لهم واالستغفار‪.‬‬
‫مسألة‪ :‬السفرلزيارة القبور‪:‬‬

‫قد اختلف أصحابنا وغيرهم هل يجوز السفر لزيارتها على قولين‪:‬‬

‫الوجه األول‪ :‬ال يجوز‪ ،‬واملسافرة لزيارتها معصية‪ ،‬وال يجوز قصر الصالة فيها‪ ،‬وهذا قول ابن بطة وابن‬
‫عقيل وغيرهما؛ ألن هذا السفر بدعة لم يكن في عصر السلف‪ ،‬وألن في الصحيحين عن النبي ﷺ قال‪:‬‬
‫(ال تشد الرحال إال إلى ثالثة مساجد‪ :‬املسجد الحرام‪ ،‬واملسجد األقص ى‪ ،‬ومسجدي هذا)‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أنه يجوز السفر إليها‪ ،‬قاله طائفة من املتأخرين‪ ،‬منهم أبو حامد الغزالي‪ ،‬بناء على أن‬
‫الحديث لم يتناول النهي عن ذلك‪ ،‬كما لم يتناول النهي عن السفر إلى األمكنة التي فيها الوالدان‪،‬‬
‫والعلماء واملشايخ‪ ،‬واإلخوان‪ ،‬أو بعض املقاصد من األمور الدنيوية املباحة‪.‬‬

‫ما سوى ذلك من املحدثات فأمور‪:‬‬

‫الصالة عند القبور مطلقا‪ ،‬واتخاذها مساجد‪ ،‬وبناء املساجد عليها‪ ،‬فقد تواترت النصوص عن النبي‬
‫ﷺ بالنهي عن ذلك‪ ،‬والتغليظ فيه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -‬فأما بناء املساجد على القبور‪ :‬فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه‪ ،‬متابعة لألحاديث‬
‫وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه في رواية ملسلم‪( :‬لعن‬
‫هللا اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساج)‪.‬‬
‫‪ -‬الصالة عندها‪ :‬وإن لم يبن هناك مسجد‪ ،‬فإن ذلك أيضا اتخاذها مسجدا‪ ،‬وكل موضع قصدت‬
‫الصالة فيه فقد اتخذ مسجدا‪ ،‬بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدا‪ ،‬وإن لم يكن هناك‬
‫بناء‪.‬‬
‫ومن الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصالة في املقبرة ليس إال كونها مظنة النجاسة؛ ملا يختلط‬
‫ً‬
‫بالتراب من صديد املوتى لكن املقصود األكبر بالنهي عن الصالة عند القبور هو مُنة اتخاذها أوثانا‪،‬‬
‫ً‬
‫وروي عنه ﷺ أنه قال‪( :‬اللهم ال تجعل قبري وثنا يعبد‪ ،‬اشتد غضب هللا على قوم اتخذوا قبور‬
‫أنبيائهم مساجد)‪.‬‬

‫‪ -‬قصد القبور للدعاء عندها أو بها‪ :‬الدعاء عند القبور وغيرها من األماكن ينقسم إلى نوعين‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم االتفاق‪ ،‬ال لقصد الدعاء فيها‪ ،‬كمن يدعو هللا في‬
‫طريقه ويتفق أن يمر بالقبور‪ ،‬أو كمن يزورها فيسلم عليها‪ ،‬ويسأل هللا العافية له وللموتى كما جاءت‬
‫به السنة فهذا ونحوه ال بأس به‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬أن يتحرى الدعاء‪ ،‬بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا النوع منهي‬
‫عنه‪ ،‬إما نهي تحريم‪ ،‬أو تنزيه وهو إلى تحريم أقرب‪.‬‬

‫قال تعالى‪} :‬قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن واإلثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا‬
‫ً‬
‫باهلل ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على هللا ما ال تعلمون{‬

‫وهذه العبادة عند املقابر نوع من أن يشرك باهلل ما لم ينزل به سلطانا؛ ألن هللا لم ينزل حجة تتضمن‬
‫استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره‪ ،‬ومن جعل ذلك من دين هللا فقد قال على هللا ما‬
‫ال يعلم‪.‬‬

‫رد ابن تيمية رحمه هللا على حجج املقبريين‪:‬‬

‫‪ -‬الذي ذكرنا كراهته ال ينقل في استحبابه ‪-‬فيما علمناه‪ -‬ش يء ثابت‪ ،‬عن القرون الثالثة التي أثنى‬
‫عليها النبي ﷺ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ -‬أما من بعد هؤالء‪ ،‬فأكثر ما يفرض‪ :‬أن األمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى‬
‫فعل ذلك‪ ،‬وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يقال‪ :‬قد اجتمعت األمة على‬
‫استحسان ذلك لوجوه‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن كثيرا من األمة كره ذلك وأنكره قديما وحديثا‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬إذا اختلف املتأخرون فالفاصل بينهما‪ :‬هو الكتاب والسنة‪ ،‬وإجماع املتقدمين‬
‫نصا واستنباطا‪.‬‬
‫‪ -‬لم ينقل هذا عن إمام معروف وال عالم متبع‪ ،‬بل املنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه‪،‬‬
‫وإما أن يكون املنقول من هذه الحكايات عن مجهول ال يعرف‪ ،‬ومنها ما قد يكون صاحبه قال‪،‬‬
‫أو فعله‪ ،‬باجتهاد يخطئ ويصيب أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه ال محذور فيه‪ ،‬فحرف‬
‫النقل عنه‪.‬‬
‫‪ -‬سائر هذه الحجج دائرة بين نقل ال يجوز إثبات الشرع به‪ ،‬أو قياس ال يجوز استحباب العبادات‬
‫بمثلة‪.‬‬
‫‪ -‬املتبع في إثبات أحكام هللا‪ :‬كتاب هللا‪ ،‬وسنة رسوله ﷺ‪ ،‬وسبيل السابقين أو األولين‪ ،‬ال يجوز‬
‫إثبات حكم شرعي بدون هذه األصول الثالثة نصا واستنباطا بحال‪.‬‬
‫فهذه األدعية ونحوها وإن كان قد يحصل صاحبها أحيانا غرضه‪ ،‬لكنها محرمة؛ ملا فيها من الفساد الذي‬
‫يربى على منفعتها‪ ،‬ولهذا كانت فتنة في حق من لم يفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع‪ ،‬ويفرق بين‬
‫القدروالشرع‪ ،‬ويعلم أن األقسام ثالثة‪:‬‬

‫‪ ‬القسم األول‪ :‬أمور قدرها هللا‪ ،‬وهو ال يحبها وال يرضاها‪ ،‬فإن األسباب املحصلة لهذه تكون‬
‫محرمة موجبة لعقابه‪.‬‬
‫‪ ‬القسم الثاني‪ :‬أمور شرعها‪ ،‬فهو يحبها من العبد ويرضاها‪ ،‬لكن لم يعنه على حصولها‪ ،‬فهذه‬
‫محمودة عنده مرضية‪ ،‬وإن لم توجد‪.‬‬
‫‪ ‬القسم الثالث‪ :‬أن يعين هللا العبد على ما يحبه منه‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬إعانة هللا‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬عبادة هللا‪.‬‬


‫الثالث‪ :‬جمع له بين العبادة واإلعانة‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬إياك ُ‬
‫نعبد وإياك نستعين{‪.‬‬

‫فما كان من الدعاء غير املباح إذا أثر‪ :‬فهو من باب اإلعانة ال العبادة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ومن رحمة هللا تعالى أن الدعاء املتضمن شركا‪ ،‬كدعاء غيره أن يفعل‪ ،‬أو دعائه أن يدعو ونحو ذلك؛ ال‬
‫يحصل غرض صاحبها‪ ،‬وال يورث حصول الغرض شبهة إال في األمور الحقيرة‪ ،‬أما األمور العظيمة ال‬
‫يدل على توحيده‪ ،‬وقطع شبهة من أشرك به‪ ،‬وعلم بذلك أن ما دون‬ ‫يستجيب فيها إال هو سبحانه‪ ،‬وهذا ّ‬
‫هذا أيضا من اإلجابات إنما فعلها هو سبحانه وحده ال شريك له‪.‬‬

‫وأعلم أن‪:‬‬

‫● كل ما ُيظن أنه سبب لحصول املطالب مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره؛ البد فيه من أحد‬
‫أمرين‪:‬‬

‫• إما أن يكون سببا صحيحا‪ ،‬ومنفعته أكثر من مضرته‪ ،‬فال ينهى عنه الشرع بحال‪ ،‬وكل ما لم يشرع من‬
‫العبادات مع قيام املقتض ي لفعله من غير مانع‪ ،‬فإنه من باب املنهي عنه‪.‬‬

‫• وإما أن ال يكون سببا صحيحا‪ ،‬كدعاء من ال يسمع وال يبصره‪ ،‬وال يغني شيئا‪ ،‬أو يكون ضرره أكثر من‬
‫نفعه‪.‬‬

‫مسألة‪ :‬من آداب زيارة قبرالنبي عليه السالم‪:‬‬


‫َّ‬
‫تحيته والصالة والسالم عليه‪ ،‬مستقبال قبره بوجهك‪.‬‬ ‫˿‬
‫˿ عند الدعاء‪ :‬استقبال القبلة‪.‬‬
‫˿ جعل الحجرة عن يسارك؛ لئال تستدبره‪.‬‬
‫˿ ثم الدعاء للنفس‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والدعاء عند القبرال يكره إن كان ضمنا وتبعا‪.‬‬

‫واملكروه فيه‪ :‬هو قصد املجيء إلى القبر للدعاء‪.‬‬

‫الوجه الثالث‪ :‬في كراهة قصدها للدعاء‪ ،‬فقد كره السلف ذلك‪ ،‬متأولين في ذلك بقول ﷺ‪( :‬ال تتخذوا‬
‫قبري عيدا)‪ ،‬ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ذكر شيئا في فضل الدعاء عند ش يء من القبور‪.‬‬

‫واإلنكار على من يقول ويأمر به‪ ،‬كائنا من كان‪ ،‬فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه املسألة‪ ،‬أو‬
‫مقلدا‪ ،‬فيعفو هللا عنه‪.‬‬
‫ُ‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله‪ ،‬قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد‪ ،‬وينهى عنها‬
‫ألمور‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫‪ ‬تخصيصه بعينه بالزيارة‪ ،‬واالجتماع عنده في مواسم معينة‪ ،‬وهذا بعينه منهي عنه؛ ألنه يدخل‬
‫في معنى اتخاذه عيدا‪.‬‬
‫‪ ‬تحريم قصد القبور للدعاء عندها؛ ملا يجر هذا من مفاسد شركية تفتن الخلق في دينهم‪.‬‬
‫فصل‬

‫ليس في ذكر هللا عند القبر أو القراءة أو الصيام أو الذبح فضل على غيره من البقاع‪ ،‬وال قصد ذلك‬
‫مستحبا‪.‬‬

‫أما مسألة‪ :‬انتفاع امليت بالدعاء والذكرفالعلماء على قولين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن ثواب العبادات البدنية‪ :‬من الصالة والقراءة يصل إلى امليت‪ ،‬كما يصل إليه ثواب العبادات‬
‫املالية باإلجماع‪( .‬مذهب أبي حنيفة وأحمد)‬

‫الثاني‪ :‬أن ثواب العبادات البدنية‪ :‬ال يصل إليه بحال (مذهب أصحاب الشافعي ومالك)‪.‬‬

‫وامليت ُينعم أو ُيعذب في قبره بحسب‪:‬‬

‫‪ -‬ما كان عليه عمله‪.‬‬

‫‪ -‬ما ُيعمل عليه بعد املوت من أثره‪ ،‬كالنياحة‪.‬‬

‫‪ -‬ما ُيعامل به‪ ،‬كالدعاء والصدقة‪.‬‬

‫ومسألة‪ :‬استماع امليت لألصوات حق‪ ،‬لكنه ال ُيثاب لسماعه القرآن بعد موته؛ النقطاع عمله‪.‬‬

‫نعم بسماعه للقرآن والذكر كما يتألم بما ُيفعل عنده من معاص ي؛ لم يوجب‬
‫• حتى لو صح أن امليت ُي ّ‬
‫ذلك استحباب القراءة عنده‪ ،‬إذ لو كان مشروعا لسنه رسول هللا ألمته‪.‬‬

‫أما القراءة عند القبور‪ :‬هل تكره‪ ،‬أم ال تكره؟‬

‫اختلفوا على أكثر من قول‪:‬‬


‫ُ‬
‫األول‪ :‬ال بأس بها‪ ،‬ن ِقل عن ابن عمر رض ي هللا عنهما أنه أوص ى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح‬
‫البقرة وخواتيمها‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬مكروهه‪ ،‬واختلفوا هل تقرأ الفاتحة في صالة الجنازة إذا صلي عليها في املقبرة؟‬

‫يقول مالك‪« :‬ما علمت أحدا يفعل ذلك»‪ ،‬الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ُ‬
‫الثالث‪ :‬القراءة عند وقت الدفن ال بأس بها‪ ،‬ن ِقل عن ابن عمر رض ي هللا عنهما‪.‬‬

‫ومن املسائل املنهي عنها في زيارات القبور‪:‬‬

‫● قصد القبر للقراءة عنده مكروه‪.‬‬

‫● ذكر هللا هناك غير مكروه‪ ،‬ولكن قصد البقعة للذكر بدعة مكروهة‪.‬‬

‫● قصدها للصيام عندها مكروه‪.‬‬

‫● الذبح عندها منهي عنه مطلقا‪ ،‬بدليل‪( :‬ال عقر في اإلسالم)‪.‬‬

‫فصل‬

‫من املحرمات‪:‬‬

‫» العكوف عند القبر واملجاورة عنده‪ ،‬وتعليق الستور عليه‪.‬‬


‫‪ ‬من املقابريين من كان العكوف عند القبر أحب إليه من العكوف في املسجد الحرام‪ ،‬بل حرمة‬
‫ذلك املسجد املبني على القبر الذي حرمه هللا ورسوله‪ ،‬أعظم عندهم من حرمة بيوت هللا‪.‬‬
‫‪ ‬ومنهم من يعتقد أن زيارة املشاهد التي على القبور أفضل من حج البيت الحرام‪ ،‬ويسمونها‬
‫(الحج األكبر)‪.‬‬
‫‪ ‬ومنهم من يرى بأن السفر لزيارة قبر النبي ﷺ أفضل من حج بيت هللا الحرام‪.‬‬
‫املقصود من زيارة القبور ً‬
‫شرعا‪ :‬الصالة على امليت‪ ،‬والدعاء له‪.‬‬

‫أما املقابريون فيقصدون بزيارتهم‪:‬‬

‫الدعاء عند القبر والنذر له‪ ،‬أو للسدنة العاكفين عليه‪ ،‬أو املجاورين عنده‪ ،‬من أقاربه أو غيرهم‪،‬‬
‫واعتقاد أنه بالنذر له تقض ى الحاجة‪ ،‬أو يكشف البالء‪.‬‬

‫ومنهم من يقصد بالزيارة سؤال امليت‪ ،‬أو اإلقسام به على هللا‪.‬‬

‫واعلم‪ :‬أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن‪ ،‬وأنها ما اشتغلت بالعبادات املبتدعة‪ ،‬إال‬
‫إلعراضها عن املشروع‪ ،‬وإال فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه‪ ،‬عاقال ملا اشتملت عليه‬
‫من الكلم الطيب‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬متهما بها كل االهتمام‪ ،‬أغنته عن كل ما يتوهم فيه خير من‬
‫جنسها‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ومن أصغى إلى كالم هللا وكالم رسوله بعقله‪ ،‬وتدبره بقلبه‪ ،‬وجد فيه من الفهم والحالوة والبركة‬
‫واملنفعة ما ال يجده في ش يء من الكالم ال منظومة‪ ،‬وال منثورة‪.‬‬

‫ومن اعتاد الدعاء املشروع في أوقاته‪ ،‬كاألسحار‪ ،‬وإدبار الصلوات والسجود‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬أغناه عن كل‬
‫دعاء مبتدع في ذاته‪ ،‬أو بعض صفاته‪.‬‬

‫فصل‬

‫أما مقامات األنبياء والصالحين‪ ،‬وهي األمكنة التي أقاموا‪ ،‬أو عبدوا هللا فيها‪ ،‬لكنهم لم يتخذوها‬
‫مساجد‪ ،‬فقد اختلف في حكم اتيانها للعبادة على قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬النهي عن ذلك وكراهته‪ ،‬وأنه ال يستحب قصد بقعة للعبادة‪ ،‬إال أن يكون قصدها للعبادة‬
‫مما جاء به الشرع‪ ،‬وأدلتهم‪:‬‬

‫‪ -‬ما روي عن عمر رض ي هللا عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال‪( :‬أين يذهب هؤالء؟) فقيل‪:‬‬
‫يا أمير املؤمنين‪ ،‬مسجد صلى فيه النبي ﷺ‪ ،‬فهم يصلون فيه فقال‪( :‬إنما هلك من كان قبلكم‬
‫بمثل هذا‪ ،‬كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا‪ ،‬فمن أدركته الصالة منكم في هذه‬
‫املساجد فليصل‪ ،‬ومن فليمض‪ ،‬وال يتعمدها)‪.‬‬
‫فقد كره عمر رض ي هللا عنه اتخاذ مصلى النبي ﷺ عيدا‪ّ ،‬‬
‫وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا‪.‬‬
‫‪ -‬ما روي بأن عمر رض ي هللا عنه أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ؛ ألن الناس كانوا‬
‫يذهبون تحتها‪ ،‬فخاف عمر الفتنة عليهم‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه ال بأس باليسير من ذلك‪ ،‬وأدلتهم‪:‬‬

‫‪ -‬أن ابن عمر رض ي هللا عنه كان يتحرى قصد املواضع التي سلكها النبي ﷺ‪ ،‬وإن كان النبي ﷺ‬
‫قد سلكها اتفاقا ال قصدا‪.‬‬
‫‪ -‬أن ابن أم مكتوم سأل النبي ﷺ أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في إتيان املشاهد على أقوال‪:‬‬

‫‪ ‬القول بكراهة إتيان مساجد وآثار األنبياء والصالحين‪ ،‬فقد روي عن مالك وغيره من علماء‬
‫ُ‬
‫املدينة كرهوا إتيان تلك املساجد وتلك الثار التي باملدينة‪ ،‬ما عدا ِقباء وأحد‪ ،‬ودليلهم‪:‬‬
‫‪ -‬حديث عمر رض ي هللا عنه السابق‪.‬‬
‫‪ -‬ألن ذلك يشبه الصالة عند املقابر‪ ،‬إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا‪.‬‬
‫‪ -‬أن فيها تشبه بأهل الكتاب‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫‪ -‬ألن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة‪ ،‬فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين وال‬
‫غيرهم من املهاجرين واألنصار أنهم كانوا يتحرون قصد األمكنة التي نزلها النبي ﷺ‪.‬‬
‫‪ ‬القول باستحباب إتيانها‪ ،‬وهو قول العلماء املتأخرين‪.‬‬
‫‪ ‬وأما أحمد فرخص منها فيما جاء األثر من ذلك‪ ،‬إال إذا اتخذت عيدا‪ ،‬ومستند هذا القول‪:‬‬
‫‪ -‬الجمع بين الثار الواردة في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬حديث عتبان بن مالك في الصحيحين‪ ،‬والذي يدل على أن من قصد أن يبني مسجده في موضع‬
‫صالة رسول هللا ﷺ فال بأس به‪ ،‬وكذلك قصد الصالة في موضع صالته‪ ،‬لكن هذا كان أصل‬
‫قصده بناء مسجد‪ ،‬فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي ﷺ‪ ،‬بخالف مكان صلى فيه‬
‫النبي ﷺ اتفاقا فاتخذ مسجدا ال لحاجة إلى املسجد‪ ،‬لكن ألجل صالته فيه‪.‬‬
‫فيجب التفريق بين اتباع النبي ﷺ‪ ،‬واالستنان به فيما فعله‪ ،‬وبين ابتداع بدعة لم يسنها ألجل تعلقها به‪.‬‬
‫فعال من املباحات لسبب‪ ،‬وفعلناه نحن ً‬ ‫ً‬
‫تشبها به‪ ،‬مع انتفاء ذلك السبب‪،‬‬ ‫مسألة‪ :‬لو فعل النبي ﷺ‬
‫فما حكم هذا التشبه؟‬

‫اختلف العلماء على قولين‪:‬‬

‫‪ ‬منهم من يستحب ذلك‪.‬‬


‫‪ ‬ومنهم ما ال يستحبه‪ ،‬وأدلتهم‪:‬‬
‫‪ -‬أن عموم الصحابة من املهاجرين واألنصار لم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصالة في مصليات‬
‫النبي ﷺ‪ ،‬ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق‪ ،‬فإنهم أعلم بسنته وأتبع‬
‫لها من غيرهم‪ ،‬فالفعل مبتدع‪.‬‬
‫‪ -‬أن تحري الصالة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد‪ ،‬والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه‬
‫بهم فيه‪.‬‬
‫‪ -‬أن فيها ذريعة إلى الشرك باهلل‪ ،‬والشارع قد حسم هذه املادة بالنهي عن الصالة عند طلوع‬
‫الشمس‪ ،‬وعند غروبها‪ ،‬وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد‪ ،‬فإذا كان قد نهى عن الصالة‬
‫املشروعة في هذا املكان وهذا الزمان‪ ،‬سدا للذريعة‪ ،‬فكيف يستحب قصد الصالة والدعاء في‬
‫مكان اتفق قيامهم فيه‪ ،‬أو صالتهم فيه‪ ،‬من غير أن يكونوا قد قصدوه للصالة فيه والدعاء‬
‫فيه؟‬
‫‪ -‬أنه لو ساغ هذا الستحب قصد جبل حراء والصالة فيه‪ ،‬وقصد جبل ثور والصالة فيه‪ ،‬وقصد‬
‫األماكن التي يقال إن األنبياء قاموا فيها‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ -‬ثم إن ذلك يفض ي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور‪ ،‬من اتخاذ املقام مسجدا‪ ،‬فيصير وثنا يعبد‬
‫من دون هللا‪.‬‬
‫الدعاء عند قبرالنبي ﷺ‪:‬‬
‫لم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر النبي ﷺ وال غيره‪ ،‬ألجل الدعاء عنده‪ ،‬وال كان الصحابة يقصدون‬
‫الدعاء عند قبر النبي ﷺ‪ ،‬وال عند قبر غيره من األنبياء‪ ،‬وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي ﷺ وعلى‬
‫صاحبيه‪.‬‬

‫وقد اتفق األئمة على أنه إذا دعاء بمسجد النبي ﷺ ال يستقبل قبره‪ ،‬واختلفوا عند السالم عليه على‬
‫أقوال‪:‬‬

‫‪ ‬قال مالك وأحمد وغيرهما‪ :‬يستقبل قبره ويسلم عليه‪ ،‬وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي‪.‬‬
‫‪ ‬وقال أبو حنيفة‪ :‬بل يستقبل القبلة ويسلم عليه‪ ،‬وهكذا في كتب أصحابه‪.‬‬
‫‪ ‬وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في املبسوط والقاض ي عياض وغيرهما‪ :‬ال أرى أن‬
‫يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو‪ ،‬ولكن يسلم ويمض ي‪.‬‬
‫ما استحبه السلف واألئمة من أعمال عند قبرالنبي ﷺ‪:‬‬

‫‪ -‬يستحبون ما هو من جنس الدعاء له والتحية‪ :‬كالصالة والسالم‪ ،‬ويكرهون قصده للدعاء‪،‬‬


‫والوقوف عنده للدعاء‪ ،‬ومن رخص في ذلك‪ ،‬إنما رخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء‪ ،‬أن‬
‫يدعو مستقبال القبلة‪.‬‬
‫ً‬
‫فعل العمل املنهي عنه جهال‪:‬‬

‫وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا‪ ،‬وال يكون عاملا أنه منهي عنه‪ ،‬فيثاب على حسن قصده‪،‬‬
‫ويعفى عنه لعدم علمه‪ .‬وهذا باب واسع‪.‬‬

‫املصلحة في الفعل املنهي عنه‪:‬‬

‫‪ -‬قد يفعل بعض الناس العبادات املبتدعة املنهي عنها‪ ،‬ويحصل له بها نوع من الفائدة‪ ،‬وذلك ال‬
‫يدل على أنها مشروعة‪ ،‬بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها‪ ،‬ملا نهي عنها‪.‬‬
‫‪ -‬أن الفاعل قد يكون متأوال‪ ،‬أو مخطئا‪ ،‬مجتهدا أو مقلدا‪ ،‬فيغفر له خطؤه ويثاب على ما يفعله‬
‫من الخير املشروع املقرون بغير املشروع‪.‬‬
‫التوسل بدعاء الصالحين‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫عن أنس رض ي هللا عنه‪( :‬أ‪ ،‬عمر استسقى بالعباس‪ ،‬وقال‪" :‬اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا‬
‫فتسقينا‪ ،‬وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"‪ ،‬فيسقون)‪.‬‬

‫فكان الصحابة يستسقون بالنبي ﷺ في حياته‪ ،‬فلما مات استقوا بالعباس‪ ،‬وهو أنهم يتوسلوا بدعائه‬
‫وشفاعته لهم‪ ،‬فيدعو لهم ويدعون معه‪ ،‬كاألمام واملأمومين‪ ،‬من غير أن يكونوا يقسمون على هللا‬
‫بمخلوق‪.‬‬

‫لذلك قال الفقهاء باستحباب االستسقاء بأهل الخير والدين‪ ،‬واألفضل أن يكون من أهل بيت النبي ﷺ‪.‬‬

‫كره الفقهاء الصالة في املقبرة لعلتين‪:‬‬

‫‪ -‬نجاسة التراب باختالطه بصديد املوتى‪ ،‬وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة‪ ،‬وهذه العلة‬
‫في صحتها نزاع الختالف العلماء في نجاسة تراب القبور‪.‬‬
‫‪ -‬ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصالة عند القبور‪ ،‬ملا يفض ي إليه ذلك من الشرك‪ ،‬وهذه العلة‬
‫صحيحة باتفاقهم‪.‬‬
‫ثم إن النبي ﷺ ملا نهى عن الصالة التي تتضمن الدعاء هلل وحده خالصا عند القبور؛ لئال يفض ي ذلك‬
‫إلى نوع من الشرك بربهم‪ ،‬فكيف إذا وجد ما هو نوع الشرك من الرغبة إليهم‪ ،‬سواء طلب منه قضاء‬
‫الحاجات‪ ،‬وتفريج الكربات‪ ،‬أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من هللا؟‬

‫وقد اختلف العلماء في الحلف بالنبي ﷺ‪ ،‬والقول الصواب هوالذي عليه جمهور األئمة‪ :‬أنه ال ينعقد‬
‫اليمين بمخلو ٍق البتة‪ ،‬وال ُيقسم بمخلوق البتة‪.‬‬
‫‪ -‬واإلقسام على هللا بنبيه محمد ﷺ ٌ‬
‫مبني على هذا األصل‪ ،‬فالصحيح أنه ال ينعقد اليمين به‪.‬‬

‫‪ -‬وأما غيره‪ :‬فقد صرح العلماء بالنهي عن ذلك‪ ،‬واتفقوا على أن هللا ُيسأل ُويقسم عليه بأسمائه وصفاته‬
‫كاألدعية املعروفة في السنن‪.‬‬

‫وأما إذا قال‪( :‬أسألك بمعاقد العز من عرشك) فهذا فيه نزاع؛ رخص فيه غير واحد ملجيء األثر به‪،‬‬
‫وقال آخرون بكراهته‪ ،‬وأما قولهم‪ :‬بحق فالن‪ ،‬أو بحق البيت‪ ،‬وبحق أنبيائك و ُرسلك وهكذا فقالوا‬
‫جميعا‪ :‬فاملسألة بخلقه ال تجوز؛ ألنه ال حق للخلق على الخالق فال ُيسأل بما ليس ُمستحقا‪.‬‬

‫وقد نازع في هذا بعض الناس للحديث‪( :‬اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك)‪ ،‬ولقوله تعالى‪} :‬واتقوا‬
‫هللا الذي تسائلون به واألرحام{ ‪-‬بقراءة خفض األرحام‪ -‬وتفسيرها‪ :‬يتساءلون به وباألرحام‪.‬‬

‫والجواب عن هذا‪:‬‬

‫‪48‬‬
‫‪ -‬ال ريب أن هللا جعل على نفسه حقا لعباده املؤمنين (حقهم عليه أن ال يعذبهم)‪ ،‬واتفق العلماء على‬
‫وجوب ما يجب بوعده الصداق‪ ،‬وكتب هللا على نفسه وحرم على نفسه ال أن العبد نفسه يستحق على‬
‫شيئا‪.‬‬ ‫هللا‬
‫وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إال بما َّ‬
‫من به من فضله وإحسانه‪ ،‬وليس من باب املعاوضة وال من‬
‫باب ما أوجبه غيره عليه؛ فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك‪.‬‬
‫فإذا ُسئل بما جعله هو ً‬
‫سببا للمطلوب ‪-‬من األعمال الصالحة‪ -‬فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا‪.‬‬
‫وإذا ُسئل بش يء ليس ً‬
‫سببا للمطلوب‪:‬‬

‫‪ -‬فإما أن يكون إقساما عليه به ‪ >--‬فال ُيقسم على هللا بمخلوق‪.‬‬


‫‪ -‬وإما أن يكون سؤاال بما ال يقتض ي املطلوب ‪ >--‬فيكون عديم الفائدة‪.‬‬
‫فإذا قال‪ :‬أسألك بحق فالن وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص‪ ،‬لم يكن قد سأله بسبب يوجب‬
‫املطلوب‪.‬‬
‫وحينئذ ُيقال‪:‬‬

‫‪ -‬التوسل إلى هللا وسؤاله باألعمال الصالحة وبدعاء األنبياء والصالحين وشفاعتهم‪ ،‬فهذا ال نزاع فيه‪،‬‬
‫بل هو من الوسيلة التي أمر هللا بها في قوله تعالى‪} :‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا وابتغوا إليه الوسيلة{‪،‬‬
‫فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو‪ :‬طلب من يتوسل به‪ ،‬أي يتوصل ويتقرب إليه سبحانه‪ ،‬سواء كان على‬
‫وجه العبادة وامتثال األمر‪ ،‬أو كان على وجه السؤال له واالستعاذة به‪ ،‬رغبة إليه في جلب املنافع ودفع‬
‫املضار‪.‬‬

‫ولفظ الدعاء في القرآن‪ :‬يتناول الدعاء بمعنى العبادة‪ ،‬أو الدعاء بمعنى املسألة‪ ،‬وإن كان كل منهما‬
‫الخر‪:‬‬ ‫يستلزم‬
‫‪ -‬فالعبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجته –حصول رزق أو نصر أو عافية‪ -‬فيسعى في‬
‫ذلك بالسؤال والتضرع –وهو من العبادة‪ -‬فيفتح له الدعاء من أبواب اإليمان باهلل ما يكون أحب إليه‬
‫وأعظم قدرا من تلك الحاجة‪.‬‬

‫‪ -‬أو يفعل العبد ما أمر به ابتداء ألجل العبادة هلل وطاعته –وهذا يتضمن حصول الرزق والنصر‬
‫والعافية‪-‬‬
‫ففي قوله تعالى‪} :‬وإذا سألك عبادي‪ :{..‬أخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه‪ ،‬ثم أمرهم‬
‫باالستجابة له وباإليمان به‪ ،‬فتحصل إجابة الدعوة بهذين السبيلين‪:‬‬

‫‪49‬‬
‫ب‪ .‬حصة اإليمان بربوبيته‪.‬‬ ‫أ‪ .‬كمال الطاعة أللوهيته‬

‫فمن دعاه موقنا أنه يجيبه إذا دعاه‪ :‬أجابه‪ ،‬وإن كان مشركا أو فاسقا‪ ،‬يستجيب لهؤالء إلقرارهم‬
‫بربوبيته وإن لم يكونوا مخلصين له الدين‪ ،‬فيعطيهم بدعائهم متاعا في الدنيا وما لهم في الخرة من خالق‪.‬‬
‫لدعاء أو بدون ذلك‪ -‬يكون ممن يحبه هللا؛ بل هو سبحانه‬‫ٍ‬ ‫فليس كل من متعه هللا برزق ونصر –إجابة‬
‫يرزق املؤمن والكافر والبر والفاجر‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬من قد يدعو دعاء يعتدي فيه‪ ،‬فإذا حصل بعض غرضه ظن أن ذلك دليل على أن‬
‫عمله صالح‪ ،‬وليس كذلك‪.‬‬

‫فاملقصود‪:‬‬
‫‪-‬أن دعاء هللا قد يكون دعاء عبادة هلل‪ُ ،‬‬
‫فيثاب العبد عليه في الخرة مع ما يحصل له في الدنيا‪.‬‬

‫‪ -‬وقد يكون دعاء مسألة تقض ي به حاجته‪ ،‬ثم قد يثاب عليه إن كان مما يحبه هللا‪ ،‬وقد ال يحصل له إال‬
‫تلك الحاجة‪.‬‬

‫فالوسيلة التي أمر هللا بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬استشفاع الناس بالنبي ﷺ يوم القيامة‪ ،‬ومنه استسقاء ُعمر رض ي هللا عنه بدعاء‬
‫العباس‪ .‬ومعناه‪ :‬نتوسل إليك بشفاعته ودعاءه وسؤاله‪ ،‬وليس املراد أنا نقسم عليك به‪.‬‬
‫وهذا التوسل مما يفعله األحياء دون األموات‪ ،‬فامليب ال ُيطلب منه دعاء وال غيره‪.‬‬

‫وأما النداء باستحضار املنادي بالقلب وتصوره وإن لم يكن في الخارج يسمع الخطاب‪ :‬فلفظ التوسل‬
‫والتوجه والسؤال به فيه إجمال واشتراك‪:‬‬

‫‪ -‬فأما اإلقسام به والتوسل بذاته واإلقسام به على هللا فهذا كرهه الصحابة ونهوا عنه‪.‬‬

‫‪ -‬وأما التسبب به لكون الداعي مطيعا هلل‪ ،‬فيكون التسبب ملحبة السائل واتباعه أو بدعاء الوسيلة‬
‫وشفاعته‪ ،‬فهذا مقصود الصحابة رض ي هللا عنهم‪.‬‬

‫ومن هذا‪ :‬حديث الثالثة الذين أووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة فدعوا هللا بصالح األعمال‬
‫فانفرجت عنهم وخرجوا‪.‬‬

‫ومنه‪ :‬سؤال هللا بأسمائه وصفاته‪ ،‬فيكون من باب التسبب‪ ،‬وهو سبب لقضاء املطلوبات‪ .‬وقد يتضمن‬
‫معنى ذلك اإلقسام عليه بأسمائه وصفاته‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫وأما حديث (أسألك بحق السائلين) ففيه ضعف‪ ،‬وعلى تقدير ثبوته فهو من هذا الباب؛ فحق السائلين‬
‫عليه أن يجيبهم‪ ،‬فهو من التوسل به والتسبب به‪.‬‬

‫وإقسام اإلنسان على غيره بش يء يكون إما‪:‬‬


‫ٌ‬
‫‪ -‬من باب تعُيم املقسم للمقسم به‪ ،‬وهذا الذي جاء به الحديث من االمر بإبرار القسم‪ ،‬وهذا حلف‬
‫ُيقصد به الحض واملنع‪.‬‬

‫‪ -‬وقد يكون من باب تعُيم املسؤول به‪ ،‬ملا عند املسؤول من محبة وتعظيم للمسؤول به؛ فإن كان‬
‫مما يقتض ي حصول مقصود السائل ُ‬
‫حسن السؤال‪ ،‬كسؤال اإلنسان بالرحم‪ ،‬وسؤال هللا باألعمال‬
‫الصالحة‪.‬‬
‫‪ -‬وأما بمجرد األنبياء والصالحين محبة هللا وتعظيمه لهم فليس مما يوجب حصول مقصود السائل إال‬
‫بسبب بين السائل وبينهم؛ إما محبتهم وطاعتهم ُ‬
‫فيثاب على ذلك‪ ،‬وإما دعاؤهم له فيستجيب هللا‬ ‫ٍ‬
‫فيه‪.‬‬ ‫شفاعتهم‬
‫‪ -‬وأما مجرد دعائه بهم من غير طاعة له منهم فال ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند هللا‪.‬‬
‫ُ‬
‫واملقصود هنا‪ :‬أنه إذا كان السلف واألئمة قالوا في سؤال الل هباملخلوق ما ذكر فكيف بسؤال امليت؟‪،‬‬
‫وصاحب الشريعة سد الذريعة بلعنه من يتخذ قبور األنبياء والصالحين مساجد‪ ،‬وأن ال ُيصلي عندها‬
‫هلل‪ ،‬وال يسال إال هللا‪ ،‬وحذر امته من ذلك‪ ،‬فكيف إذا وقع نفس املحذور من الشرك وأسباب الشرك؟‬
‫ُ‬
‫وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك‪ ،‬إال ما نقل عن ابن عمر‪( :‬أنه كان يتحرى النزول في‬
‫ّ‬
‫املواضع التي نزل فيها النبي ﷺ‪ ،‬والصالة في املواضع التي صلى فيها ﷺ‪ ،‬فإن ابن ُعمر قصد أن يفعل مثل‬
‫فعله ﷺ ولم يقصد الصالة والدعاء في املواضع التي نزلها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهنا ثالث مسائل‪:‬‬

‫األولى‪ :‬أن التأس ي به في صورة الفعل الذي فعله من غيرأن ُيعلم قصده فيه أومع عدم السبب الذي‬
‫فعله‪ :‬فهذا فيه نزاع‪ ،‬واملعروف عن املهاجرين واألنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رض ي‬
‫عنهم‪.‬‬ ‫هللا‬
‫ً‬
‫الثانية‪ :‬أن يتحرى تلك البقعة للصالة عندها من غيرأن يكون وقتا للصالة؛ بل أنشأ الصالة والدعاء‬
‫ألجل البقعة‪ ،‬فهذا لم ُينقل عن ابن عمروال غيره‪ ،‬بل ثبت عن أبيه ُعمر أنه نهى عن ذلك‪ ،‬وتواتر عن‬
‫املهاجرين واألنصار أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن ال تكون هذه البقة في طريقه بل يعدل عن طريقه إليها –مثل أن يذهب إلى غار حراء أو‬
‫ٌ‬
‫ومعلوم‬ ‫جبل ثور ليصلي ويدعو فيها‪ ،-‬فهذه األماكن لم يقصدها رسول هللا ﷺ وال أصحابه من بعده‪.‬‬
‫صالة أو دعاء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أن مقامات غيره من االنبياء أبعد عن أن يشرع قصها والسفر إليها ٍ‬
‫كما ثبت أن النبي ﷺ ملا حج البيت لم يستلم إال الركن اليماني‪ ،‬ولم يقبل إال الحجر األسود‪.‬‬
‫وال نزاع بين األئمة األربعة أن الرجل ال يقبل الركنين الشاميين وال جوانب البيت وال مقام إبراهيم‪ ،‬وعلى‬
‫هذا عامة السلف‪ .‬فإذا كان هذا بالسنة املتواترة فغيره من مقامات األنبياء أولى أن ال ُيشرع تقبيلها وال‬
‫مسحها باليد‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬أن هللا أمرأن نتخذ مقام إبراهم مصلى فيقاس غيره عليه‪.‬‬

‫قيل له‪ :‬هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم سواء أريد به املقام موضع قيام إبراهيم‪ ،‬أو أريد به املشاعر‪:‬‬
‫ُ‬
‫عرفة ومزدلفة ومنى‪ ،‬فال نزاع بين املسلمين أن املشاعر خصت بعبادات ال يشركها فيها سائر البقاع‪،‬‬
‫فال يقاس بها غيرها‪ ،‬وما لم ُيشرع فيها أولى أن ال ُيشرع في غيرها‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬القبة التي عند باب عرفات وسائر املساجد املبنية هناك فقصد تلك الباقع للصالة‪ ،‬ورقي‬
‫جبل الرحمة في عرفات‪ ،‬ذلك ليس مشروعا باتفاق‪ ،‬وإنما السنة الوقوف بعرفات‪ .‬وأما تقبيل ش يء من‬
‫ذلك والتسمح به فقد ُعلم باالضطرار من دين اإلسالم أن هذا ليس من شريعة رسول هللا ﷺ‪.‬‬

‫وما يفعله الرجل في تلك البقاع من صالة ودعاء إذا فعله في املسجد الحرام كان خيرا له بل هو سنة‬
‫مشروعة‪ ،‬وأما قصد مسجد غيره تحريا لفضله فبدعة غير مشروعة‪.‬‬

‫وأصل هذا‪ :‬أن املساجد التي تشد الرحال إليها هي املساجد الثالثة للحديث الثابت عن النبي ﷺ باتفاق‬
‫أهل العلم‪ ،‬فالسفر للمساجد الثالثة للصالة والدعاء والذكر فيها من األعمال الصالحة‪ ،‬وما سواها ال‬
‫ُيشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم‪ ،‬حتى مسجد قباء‪ُ :‬يستحب قصده إذا كان قريبا منه وال ُيشرع شد‬
‫الرحال إليه‪.‬‬

‫وأما املساجد الثالثة‪ :‬فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصالة ونحوها‪ ،‬ولو نذر إتيان غيرها فال‬
‫يجب عليه النذر باتفاق األئمة‪.‬‬

‫فإذا كان هذا في املساجد التي صلى فيها ﷺ ُوبنيت بإذنه لم ُيشرع قصدها بخصوصها ‪-‬إال مسجد قباء‬
‫بالتفصيل الذي ّبينا‪ -‬فكيف بما سواها؟‬

‫‪52‬‬
‫فصل‬

‫في املسجد األقص ى‬

‫املسجد األقص ى‪ :‬فهو أحد املساجد الثالثة‪ ،‬التي تشد إليها الرحال‪.‬‬

‫فتح املسلمون بيت املقدس في عهد عمر بن الخطاب فبنى مصلى املسلمين في صدر املسجد في القبلة‪،‬‬
‫وهو ما يسمى األقص ى‪ ،‬واألقص ى‪ :‬اسم للمسجد كله‪ ،‬وال يسمى هو وال غيره حرما‪ ،‬وإنما الحرم بمكة‬
‫واملدينة خاصة‪.‬‬

‫‪ ‬كانت الصخرة مكشوفة‪ ،‬ولم يصل عمر وال املسلمون عند الصخرة‪ ،‬وال تمسحوا بها‪ ،‬وال‬
‫قبلوها‪ ،‬لم يرد ذلك عن أحد الصحابة‪ ،‬والعن السلف املعتبرين؛ ألن سائر بقاع املسجد ال مزية‬
‫لبعضها عن بعض‪ ،‬إال ما بنى عمر رض ي هللا عنه ملصلى املسلمين‪.‬‬

‫‪ ‬إذا كان املسجد الحرام‪ ،‬ومسجد املدينة‪ ،‬اللذان هما أفضل من املسجد األقص ى باإلجماع‪،‬‬
‫قب ُل بالفم وال ُيست ُ‬
‫لم باليد‪ ،‬إال ما جعله هللا في األرض بمنزلة اليمين‬ ‫ومع هذا‪ ،‬فليس فيهما ما ُي َّ‬
‫وهو الحجر األسود‪ ،‬فكيف يكون في املسجد األقص ى ما ُي ُ‬
‫ستلم أو ُي َّ‬
‫قب ُل؟‬

‫‪ ‬ظهر تعظيم الصخرة وبيت املقدس في عهد عبد امللك على وجه لم يكن املسلمون يعرفونه‪ ،‬فهو‬
‫الذي بنى القبة على الصخرة‪ ،‬وجرت الفتنة بينه وبين ابن الزبير‪ ،‬قيل‪ :‬إن الناس كانوا يقصدون‬
‫ّ‬
‫الحج فيجتمعون بابن الزبير‪ ،‬أو يقصدونه بحجة الحج‪ ،‬فعظم عبد امللك شأن الصخرة‪ ،‬بما‬
‫بناه عليها من القبة‪ ،‬وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف‪ ،‬ليكثر قصد الناس للبيت‬
‫املقدس‪ ،‬فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير‪( ،‬والناس على دين امللك) ‪ .‬وجاء بعض الناس‬
‫ينقل اإلسرائيليات في تعظيمها‪.‬‬

‫‪ ‬كانت الصخرة قبلة ثم نسخت‪ ،‬فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم‪ ،‬كما ليس في‬
‫شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت‪.‬‬

‫‪ ‬الصخرة قبلة اليهود‪ ،‬وفي تخصيصها بالتعظيم مشابهة لهم‪ ،‬وقد تقدم كالم العلماء في يوم‬
‫السبت وعاشوراء ونحو ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قيل‪ :‬أن اليمين تغلظ ببيت املقدس‪ ،‬بالتحليف عند الصخرة‪ ،‬كما تغلظ في املسجد الحرام‬
‫بالتحليف بين الركن واملقام‪ ،‬وكما تغلظ في مسجده ﷺ بالتحليف عند قبره‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫ليس لهذا أصل‪ ،‬بل السنة أن تغلظ اليمين فيها كما تغلظ في سائر املساجد عند املنبر‪ ،‬وال تغلظ اليمين‬
‫بالتحليف عند ما لم يشرع للمسلمين تعظيمه‪ ،‬كما ال تغلظ بالتحليف عند املشاهد ومقامات األنبياء‪،‬‬
‫ونحو ذلك‪ .‬ومن فعل ذلك فهو مبتدع ضال‪ ،‬مخالف للشريعة‪.‬‬

‫‪ ‬وقد صنف طائفة من الناس مصنفات من فضائل بيت املقدس‪ ،‬وغيره من البقاع التي بالشام‪،‬‬
‫وذكروا فيها من الثار املنقولة عن أهل الكتاب‪ ،‬وعمن أخذ عنهم ما ال يحل للمسلمين أن يبنوا‬
‫عليه دينهم‪.‬‬

‫‪ ‬املوقف من اإلسرائيليات ‪ :‬قال ﷺ‪( :‬إذا حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم‪،‬‬
‫فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه‪ ،‬وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه)‪.‬‬

‫‪ ‬من العجب أن هذه الشريعة املحفوظة املحروسة مع هذه األمة املعصومة التي ال تجتمع على‬
‫ضاللة‪ :‬إذا حدث بعض أعيان التابعين (من خيار علماء املسلمين) عن النبي ﷺ بحديث =‬
‫توقف أهل العلم في مراسيلهم‪ ،‬فمنهم‪:‬‬

‫‪ .1‬من يرد املراسيل مطلقا‪.‬‬

‫‪ .2‬من يتقبلها بشروط‪.‬‬

‫‪ .3‬من يميز بين من عادته ال يرسل إال عن ثقة‪ ،‬وبين من عرف عنه أنه قد يرسل عن غير ثقة‪.‬‬

‫وهؤالء ليس بين أحدهم وبين النبي ﷺ إال رجل أو رجالن‪ ،‬أو ثالثة مثال‪.‬‬

‫وأما ما يوجد في كتب املسلمين في هذه األوقات من األحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة؛ فال‬
‫يجوز الحكم بصحتها باتفاق أهل العلم‪ ،‬إال أن يعرف أن ذلك من نقل أهل العلم بالحديث‪ ،‬الذين ال‬
‫يحدثون إال بما صح‪ ،‬كالبخاري‪.‬‬

‫‪ ‬ومعلوم أن أصحاب رسول هللا ﷺ من السابقين األولين‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬قد فتحوا‬
‫البالد بعد موت النبي ﷺ‪ ،‬وسكنوا بالشام والعراق ومصر‪ ،‬وغير هذه األمصار‪ ،‬وهم كانوا أعلم‬
‫بالدين‪ ،‬وأتبع له ممن بعدهم‪ ،‬فليس ألحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه‪ ،‬فما كان من هذه البقاع‬
‫لم يعظموه‪ ،‬أو لم يقصدوا تخصيصه بصالة أو دعاء‪ ،‬أو نحو ذلك = لم يكن لنا أن نخالفهم‬
‫في ذلك‪ ،‬وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ ألن اتباع سبيلهم‬
‫أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم‪ ،‬وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إال وقد نقل‬

‫‪54‬‬
‫عن غيره ممن هو أعلم وأفضل منه‪ ،‬أنه خالف سبيل هذا املخالف‪ .‬وهذه جملة جامعة ال يتسع‬
‫هذا املوضع لتفصيلها‪.‬‬

‫‪ ‬ثبت في الصحيح‪( :‬أن النبي ﷺ ملا أتى بيت املقدس ليلة اإلسراء صلى فيه ركعتين) ولم يصل‬
‫بمكان غيره وال زاره‪ .‬وحديث املعراج فيه ما هو في الصحيح‪ ،‬وفيه ما هو في السنن واملسانيد‪،‬‬
‫وفيه ما هو ضعيف‪ ،‬وفيه ما هو من املوضوعات املختلقات‪.‬‬

‫‪ -‬بيت لحم‪ :‬كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند املسلمين‪ ،‬سواء كان مولد عيس ى‬
‫أو لم يكن‪.‬‬

‫‪ -‬قبر إبراهيم الخليل‪ :‬لم يكن في الصحابة وال التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصالة عنده‪ ،‬وال الدعاء‬
‫وال كانوا يقصدونه للزيارة أصال‪ .‬فكان اتخاذه معبدا مما أحدثته النصارى عندما استولوا على هذه‬
‫األمكنة في أواخر املائة الرابعة‪ ،‬وليس من عمل سلف األمة وخيارها‪.‬‬

‫فصل‬

‫في عدم اختصاص بقعة بقصد العبادة إال املساجد‬

‫‪ ‬أصل دين املسلمين‪ :‬أنه ال تختص بقعة بقصد العبادة فيها إال املساجد خاصة‪ ،‬وما عليه‬
‫املشركون وأهل الكتاب‪ ،‬من تعظيم بقاع للعبادة غير املساجد ‪-‬كما كانوا في الجاهلية يعظمون‬
‫حراء‪ ،‬ونحوه من البقاع‪ -‬فهو مما جاء اإلسالم بمحوه وإزالته ونسخه‪.‬‬

‫ثم املساجد جميعها تشترك في العبادات‪ ،‬فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر املساجد‪ ،‬إال ما خص‬
‫به املسجد الحرام ‪ ،‬من الطواف ونحوه‪ ،‬فإن خصائص املسجد الحرام ال يشاركه فيها ش يء من‬
‫املساجد‪ ،‬كما أنه ال يصلى إلى غيره‪.‬‬

‫وأما مسجد النبي ﷺ‪ ،‬واملسجد األقص ى‪ :‬فكل ما يشرع فيهما من العبادات‪ ،‬يشرع في سائر املساجد‪:‬‬
‫كالصالة والدعاء والذكر والقراءة واالعتكاف‪ ،‬وال يشرع فيهما جنس ال يشرع في غيرهما‪ :‬ال تقبيل ش يء‪،‬‬
‫وال استالمه‪ ،‬وال الطواف به ونحو ذلك‪ .‬لكنـهما أفضل من غيرهما‪ ،‬فالصالة فيهما تضاعف على الصالة‬
‫في غيرهما‪.‬‬

‫أما مسجد النبي ﷺ‪ :‬في الصحيح‪ :‬قال ﷺ‪( :‬صالة في مسجدي هذا خير من ألف صالة في غيره من‬
‫املساجد‪ ،‬إال املسجد الحرام؛ فإني آخراألنبياء‪ ،‬وإن مسجدي هذا آخراملساجد)‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ولهذا جاءت الشريعة باالعتكاف الشرعي في املساجد‪ ،‬بدل ما كان يفعل قبل اإلسالم من املجاورة بغار‬
‫حراء‪ ،‬فكان النبي ﷺ يعتكف العشر األواخر من رمضان‪ ،‬حتى قبضه هللا‪.‬‬
‫ََ َُ ُ ُ َُْ‬
‫وه َّن َوأنت ْم‬‫واالعتكاف من العبادات املشروعة باملساجد باتفاق األئمة‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬وال تباشر‬
‫ُ َ َْ‬
‫َعاكفون في امل َساجد{ أي‪ :‬في حال عكوفكم في املساجد ال تباشروهن‪ ،‬وإن كانت املباشرة خارج املسجد‪.‬‬
‫ولهذا قال الفقهاء‪ :‬إن ركن االعتكاف‪ :‬لزوم املسجد لعبادة هللا‪ .‬ومحظورة الذي يبطله‪ :‬مباشرة النساء‪.‬‬

‫فأما العكوف واملجاورة عند شجرة أو حجر‪ ،‬تمثال أو غير تمثال‪ ،‬أو العكوف واملجاورة عند قبر نبي‪ ،‬أو‬
‫غير نبي‪ ،‬أو مقام نبي‪ ،‬أو غير نبي‪ ،‬فليس هذا من دين املسلمين‪ ،‬بل هو من جنس دين املشركين‪ ،‬الذين‬
‫َ ْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َو َل َق ْد َآت ْي َنا إ ْب َراه َ ْ َ‬
‫يم ُرشد ُه م ْن ق ْب ُل َوكنا به َعاملين * إذ‬ ‫أخبر هللا عنهم بما ذكره في كتابه‪ ،‬حيث قال‪} :‬‬
‫َ‬
‫َ َ‬
‫ال لق ْد‬
‫َ‬
‫ين * ق‬‫يل َّالتي َأ ْن ُت ْم َل َها َعاك ُفو َن * قالوا َو َج ْد َنا َآب َاء َنا ل َها َعابد َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الت َماث ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ال ألبيه َوق ْومه َما َهذه‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الالعب َين * ق َ‬ ‫َ ْ ْ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬
‫ُُْ ُْ‬
‫ال َبل َرُّبك ْم َر ُّب‬ ‫كنت ْم أنت ْم َو َآباؤك ْم في ضالل ُمبين ‪ -‬قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من‬
‫َ َْ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬
‫صن َامك ْم َب ْعد أن‬ ‫الس َم َاوات َواأل ْرض الذي فط َر ُه َّن َوأنا َعلى ذلك ْم م َن الشاهدين * وتالِل ألكيدن أ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ ً َّ َ َ َ َّ َ‬ ‫ُ َ ُّ ُ ْ َ َ َ‬
‫ين * ف َج َعل ُه ْم ُجذاذا إال كب ًيرا ل ُه ْم ل َعل ُه ْم إل ْيه َي ْرج ُعون{ وغير ذلك من اليات‪.‬‬ ‫تولوا مدبر‬

‫فهذا عكوف املشركين‪ ،‬وذاك عكوف املسلمين‪ ،‬فعكوف املؤمنين في املساجد لعبادة هللا وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬وعكوف املشركين على ما يرجونه‪ ،‬ويخافونه من دون هللا‪ ،‬وما يتخذونهم شركاء وشفعاء‪ ،‬فإن‬
‫املشركين لم يكن أحد منهم يقول‪ :‬إن العالم له خالقان وال إن هللا له شريك يساويه في صفاته‪ ،‬هذا لم‬
‫يقله أحد من املشركين‪ ،‬بل كانوا يقرون بأن خالق السماوات واألرض واحد‪ ،‬كما أخبر هللا عنهم بقوله‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ ُ‬
‫ول َّن َّ ُ‬
‫الِل{‪.‬‬ ‫}ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض ليق‬

‫مسألة الشفاعة‪:‬‬

‫‪ -‬كانوا يقولون في تلبيتهم‪ " :‬لبيك ال شريك لك‪ ،‬إال شريكا هو لك تملكه وما ملك "‬
‫ُ َ‬ ‫ََ ْ َ ُُ‬ ‫َُ‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫َ َ ُ ًَ‬
‫= فقال تعالى لهم‪} :‬ض َر َب لك ْم َمثال م ْن أنفسك ْم َه ْل لك ْم م ْن َما َملكت أ ْي َمانك ْم م ْن ش َرك َاء في َما‬
‫َ َ ُ َ َ َ ُ َْ ُ ُ‬ ‫َ َْ ُ ََُْ‬
‫َرزقناك ْم فأنت ْم فيه َس َواء تخافون ُه ْم كخيفتك ْم أنف َسك ْم{‪.‬‬

‫‪ -‬كانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى هللا زلفى‪ ،‬وتشفع لهم‪.‬‬
‫ُ َ ُ‬ ‫ُ َ َ ً َ‬ ‫ُ َ َ َ ُ َ‬ ‫ْ ُ ن َّ ُ َ‬ ‫َ َّ َ ُ‬
‫الِل شف َع َاء ق ْل أ َول ْو كانوا ال َي ْملكون ش ْيئا َوال َي ْعقلون ‪ -‬ق ْل َّلِل‬ ‫= قال تعالى‪{ :‬أم اتخذوا من دو‬
‫َْ‬ ‫يعا َل ُه ُم ْل ُك َّ‬
‫اع ُة َجم ً‬
‫الش َف َ‬
‫َّ‬
‫الس َم َاوات َواأل ْرض} ‪.‬‬

‫وهذا املوضع افترق الناس فيه ثالث فرق‪ :‬طرفان‪ ،‬ووسط‪:‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ .1‬فاملشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب‪ ،‬كالنصارى‪ ،‬ومبتدعة هذه األمة‪ :‬أثبتوا‬
‫الشفاعة التي نفاه القرآن‪.‬‬

‫‪ .2‬الخوارج واملعتزلة‪ :‬أنكروا شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر من أمته‪ ،‬بل أنكر طائفة من أهل‬
‫البدع انتفاع اإلنسان بشفاعة غيره ودعائه‪ ،‬كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه‪.‬‬
‫وأنكروا الشفاعة بقوله تعالى‪} :‬م ْن َق ْبل َأ ْن َي ْأت َي َي ْوم َال َب ْيع فيه َوَال ُخ َّلة َوَال َش َف َ‬
‫اعة{‪.‬‬

‫‪ .3‬سلف األمة وأئمتها‪ ،‬ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة‪ :‬أثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي‬
‫ﷺ ‪ ،‬من شفاعته ألهل الكبائر من أمته‪ ،‬وغير ذلك من أنواع شفاعاته‪ ،‬وشفاعة غيره من‬
‫النبيين واملالئكة‪.‬‬

‫وقالوا‪ :‬إنه ال يخلد في النار من أهل التوحيد أحد‪ ،‬وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع اإلنسان بدعاء‬
‫غيره وشفاعته‪ ،‬والصدقة عنه‪ ،‬بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء‪ ،‬كما ثبتت به السنة الصحيحة‬
‫الصريحة‪ ،‬وما كان في معنى الصوم‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫وقالوا‪ :‬إن الشفيع يطلب من هللا ويسأل‪ ،‬وال تنفع الشفاعة عنده إال بإذنه‪ .‬قال تعالى‪َ } :‬م ْن ذا الذي‬
‫َ ْ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َّ ْ‬
‫َيشف ُع عند ُه إال بإذنه{ } َوال َيشف ُعون إال ملن ا ْرتض ى{‪.‬‬

‫قال ﷺ ‪( :‬أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة‪ :‬من قال‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬يبتغي بها وجه هللا)‪.‬‬

‫فكلما كان الرجل أتم إخالصا هلل = كان أحق بالشفاعة‪.‬‬


‫ّ‬
‫أما من علق قلبه بأحد من املخلوقين‪ ،‬يرجوه ويخافه= فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة‪.‬‬

‫‪ ‬شفاعة املخلوق "عند" املخلوق ‪ :‬تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن املشفوع عنده‪،‬‬
‫بل يشفع إما لحاجة املشفوع عنده إليه‪ ،‬وإما لخوفه منه = فيحتاج أن يقبل شفاعته‪.‬‬

‫‪ ‬شفاعة املخلوق عند الخالق‪ :‬هللا تعالى غني عن العاملين‪ ،‬وهو وحده سبحانه يدبر العاملين‬
‫كلهم‪ ،‬فما من شفيع إال من بعد إذنه‪ ،‬فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة‪ ،‬وهو يقبل شفاعته‪،‬‬
‫كما يلهم الداعي الدعاء‪ ،‬ثم يجيب دعاءه‪ ،‬فاألمر كله له‪.‬‬

‫فإذا كان العبد يرجو شفيعا من املخلوقين‪ ،‬فقد ال يختار ذلك الشفيع أن يشفع له‪ ،‬وإن اختار فقد ال‬
‫يأذن هللا له في الشفاعة‪ ،‬وال يقبل شفاعته‪.‬‬

‫وأفضل الخلق‪ :‬محمد ﷺ ‪ ،‬ثم إبراهيم ﷺ ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫‪ -‬امتنع النبي ﷺ أن يستغفر لعمه أبي طالب‪ ،‬بعد أن قال‪" :‬ألستغفرن لك ما لم أنه عنك" وقد صلى‬
‫َ َُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ُ َ َ َ‬
‫صل َعلى أ َحد م ْن ُه ْم َمات أ َب ًدا َوال تق ْم َعلى ق ْبره{‪.‬‬ ‫على املنافقين ودعا لهم‪ ،‬فقيل له‪} :‬وال ت‬
‫َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫الر ْو ُع َو َج َاءت ُه ال ُبش َرى ُي َجادلنا في ق ْوم لوط ‪ -‬إ َّن‬ ‫يم َّ‬‫‪ -‬إبراهيم ‪ ،‬قال تعالى‪َ } :‬ق َل َّما َذ َه َب َع ْن إ ْب َراه َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫يم َأ ْعر ْ‬‫يم َل َحليم َأ َّواه ُمنيب * َيا إ ْب َراه ُ‬
‫ض َع ْن َهذا إن ُه ق ْد َج َاء أ ْم ُر َرب َك َوإ َّن ُه ْم آتيه ْم َعذاب غ ْي ُر‬ ‫إ ْب َراه َ‬
‫ََ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ َ َّ‬
‫يم ألبيه إال َع ْن َم ْوعدة َو َعد َها إ َّي ُاه فل َّما ت َب َّين‬ ‫َم ْر ُدود{ ‪ .‬وفي استغفاره ألبيه‪ } :‬وما كان استغفارإبراه‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ َ َّ‬
‫ل ُه أن ُه َع ُد ٌّو َّلِل ت َب َّرأ من ُه{‪.‬‬

‫وهللا سبحانه له حقوق ال يشركه فيها غيره‪ ،‬وللرسل حقوق ال يشركهم فيها غيرهم‪ ،‬وللمؤمنين بعضهم‬
‫على بعض حقوق مشتركة‪.‬‬

‫حق هللا ورسوله‪:‬‬

‫‪ ‬أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب‪ :‬أن نعبد هللا وال نشرك به شيئا‪ ،‬وهذا‬
‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫هو أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل‪ ،‬وأنزلت به الكتب‪ ،‬قال هللا تعالى } َو َما أ ْر َسلنا م ْن ق ْبل َك‬
‫اع ُب ُدون {‪ .‬يدخل في ذلك‪ :‬أن ال نخش ى وال نتقي إال‬ ‫م ْن َر ُسول إ َّال ُنوحي إ َل ْيه َأ َّن ُه َال إ َل َه إ َّال َأ َنا َف ْ‬
‫ون{‪ ،‬ال نتحسب إال به } وَقالوا َح ْس ُب َنا َّ ُ‬ ‫َ ْ َ َّ َ َ َ َّ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ ُ َ‬
‫الِل{‪،‬‬ ‫هللا }ويخش الِل ويتقه فأولئك هم الفائز‬
‫َ‬
‫الِل َراغ ُبون{‬ ‫والرغبة هلل وحده }إ َّنا إ َلى َّ‬

‫فاهلل‪ :‬هو الذي يتوكل عليه ُويستعان به‪ُ ،‬ويستغاث به ُويخاف ُويرجى‪ُ ،‬ويعبد وتنيب القلوب إليه‪ ،‬ال‬
‫حول وال قوة إال به‪ ،‬وال ملجأ منه إال إليه‪ ،‬والقرآن كله يحقق هذا األصل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولم يأمرهللا قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا‪ ،‬وإن كان قد أباح في موضع من املواضع ذلك لكنه لم يأمر‬
‫به‪ ،‬بل األفضل للعبد أن ال يسأل قط إال هللا‪.‬‬

‫وقد قال ﷺ البن عباس‪" :‬إذا سألت فاسأل هللا‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل"‪.‬‬

‫ضوا‬ ‫‪ ‬الطاعة حق هلل ورسوله }قل أطيعوا هللا والرسول{‪ ،‬واإليتاء حق هلل ورسوله } َو َل ْو َأ َّن ُه ْم َ ُ‬
‫ر‬
‫َ َ ُ ُ َّ ُ َ َ ُ ُ ُ َ َ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ُ ُ َّ َ َّ َ ُ َ‬
‫ما آتاهم الِل ورسوله وقالوا حسبنا الِل سيؤتينا الِل من فضله ورسوله إنا إلى الِل راغبون{‬
‫َ ُ‬
‫‪ ،‬والحالل ما حلله الرسول‪ ،‬والحرام‪ :‬ما حرمه الرسول‪ ،‬والدين‪ :‬ما شرعه الرسول } َو َما آتاك ُم‬
‫َّ ُ ُل َ ُ ُ ُ َ ُ ْ َ ْ‬
‫وه َو َما ن َهاك ْم َعن ُه فان َت ُهوا {‬‫الرسو فخذ‬
‫َّ‬
‫والرسول ﷺ ُيطاع ُويح ُّب ُويرض ى‪ُ ،‬ويسلم إليه حكمه‪ ،‬ويعزر‪ ،‬ويوقر‪ ،‬ويتبع‪ ،‬ويؤمن به وبما جاء به‪ ،‬قال‬
‫وه{‪ ،‬وقال ﷺ ‪( :‬والذي نفس ي‬ ‫ول ُه َأ َح ُّق َأ ْن ُي ْر ُ‬
‫ض ُ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َّ ُ َ َ ُ ُ‬
‫تعالى‪َ } :‬م ْن ُيطع الرسول فقد أطاع الِل{‪} ،‬والِل ورس‬
‫بيده ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)‬

‫‪58‬‬
‫َّ‬ ‫ُ ْ ْ ُ ُ َّ ُ َ َ ْ ْ َ ُ ْ ُ ُ َ ُ‬ ‫ُ ْ ْ ُ ْ ُ ْ ُ ُّ َن َّ َ َ َّ‬
‫وبك ْم{‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬إنا‬ ‫الِل فاتب ُعوني يحببكم الِل ويغفر لكم ذن‬ ‫وقال تعالى‪} :‬قل إن كنتم تحبو‬
‫َُ َ ُ ُ َُ َ ُ ُ َُ َ ُ ُ ُ ْ ًَ ََ ً‬ ‫َأ ْ َس ْل َن َ‬
‫اك َشاه ًدا َو ُم َبش ًرا َو َنذ ًيرا ‪ -‬ل ُت ْؤم ُنوا ب َّ‬
‫الِل َو َر ُسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيال{‬ ‫ر‬
‫فاإليمان باهلل والرسول‪ ،‬والتعزير والتوقير للرسول‪ ،‬والتسبيح هلل وحده‪.‬‬

‫الرسالة‪:‬‬

‫وقد بعث هللا محمدا ﷺ بتحقيق التوحيد وتجريده‪ ،‬ونفي الشرك بكل وجه‪ ،‬حتى في األلفاظ‪ ،‬كقوله‬
‫ﷺ‪( :‬ال يقولن أحدكم ما شاء هللا وشاء محمد‪ ،‬بل‪ :‬ما شاء هللا ثم شاء محمد)‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫والعبادات التي شرعها هللا كلها تتضمن إخالص الدين كله هلل‪ ،‬تحقيقا لقوله تعالى‪َ } :‬و َما أم ُروا إال‬
‫َّ َ َ َ َ َ ُ ْ َ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ‬ ‫الِل ُم ْخلص َين َل ُه الد َ‬
‫ين ُح َن َف َاء َو ُيق ُ‬ ‫َ ْ ُ ُ َّ َ‬
‫ين القي َمة{ فالصالة هلل‬ ‫الصالة َو ُيؤتوا الزكاة وذلك د‬ ‫يموا‬ ‫ليعبدوا‬
‫وحده‪ ،‬والصدقة هلل وحده‪ ،‬والصيام هلل وحده‪ ،‬والحج هلل وحده‪ ،‬وإلى بيت هللا وحده‪.‬‬
‫َُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ودا َأ ْو َن َ‬ ‫َ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َّ َ ْ َ َ‬
‫ص َارى تل َك أ َمان ُّي ُه ْم ق ْل َهاتوا ُب ْر َهانك ْم إن‬ ‫ان ُه ً‬‫وقال تعالى‪} :‬وقالوا لن يدخل الجنة إال من ك‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُك ْن ُت ْم َ‬
‫صادقين * َبلى َم ْن أ ْسل َم َو ْج َه ُه َّلِل َو ُه َو ُم ْحسن فل ُه أ ْج ُر ُه عند َربه َوال خ ْوف َعل ْيه ْم َوال ُه ْم َي ْح َزنون{‬

‫وقد فسرإسالم الوجه هلل بما يتضمن إخالص قصده هلل‪ ،‬وهو محسن بالعمل الصالح املأمور به‪.‬‬

‫وهذان األصالن جماع الدين‪ :‬أن ال نعبد إال هللا‪ ،‬وأن نعبده بما شرع‪ ،‬ال نعبده بالبدع‪.‬‬

‫وهذان األصالن هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس اإلسالم‪ :‬شهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬وشهادة أن‬
‫محمدا رسول هللا‪ .‬فإن الشهادة هلل بأنه ال إله إال هو تتضمن إخالص اإللهية له‪ ،‬فال يجوز أن يتأله‬
‫القلب غيره‪ ،‬ال بحب وال خوف وال رجاء‪ ،‬وال إجالل وال إكرام وال رغبة وال رهبة؛ بل ال بد أن يكون الدين‬
‫ُ ُ ُّ‬ ‫َ َُ َ َْ ُ َ‬ ‫كله هلل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬و َقات ُل ُ‬
‫ين كل ُه َّلِل{‪.‬‬ ‫وه ْم َح َّتى ال تكون فتنة َو َيكون الد‬

‫فإذا كان بعض الدين هلل وبعضه لغيرهللا= كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك‪.‬‬

‫وكمال الدين كما جاء في الحديث‪( :‬من أحب هلل وأبغض هلل‪ ،‬وأعطى هلل ومنع هلل؛ فقد استكمل‬
‫اإليمان)‪.‬‬
‫الناس َم ْن َي َّتخ ُذ م ْن ُدون َّ‬
‫الِل‬
‫َ َ َّ‬
‫فاملؤمنون يحبون هلل‪ ،‬واملشركون يحبون مع هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬ومن‬
‫َّ َ َّ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َ‬
‫ين َآمنوا أش ُّد ُحبا َّلِل{‬ ‫أند ًادا ُيح ُّبون ُه ْم ك ُحب الِل والذ‬
‫ً‬
‫محمدا رسول هللا‪ ،‬تتضمن‪ :‬تصديقه في كل ما أخبر‪ ،‬وطاعته في كل ما أمر‪ .‬فما أثبته‬ ‫والشهادة بأن‬
‫وجب إثباته‪ ،‬وما نفاه وجب نفيه‪ ،‬كما يجب على الخلق أن يثبتوا هلل ما أثبته من األسماء والصفات‪،‬‬
‫وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة املخلوقات‪ ،‬فيخلصوا من التعطيل والتمثيل‪ ،‬ويكونوا في إثبات بال‬

‫‪59‬‬
‫تشبيه‪ ،‬وتنزيه بال تعطيل‪ .‬وعليهم أن يفعلوا ما أمر به وأن ينتهوا عما نهى عنه‪ ،‬ويحللوا ما حلله‪ ،‬ويحرموا‬
‫ما حرمه؛ فال حرام إال ما حرمه هللا ورسوله‪ ،‬وال دين إال ما شرعه هللا ورسوله‪.‬‬

‫حرموا ما لم يحرمه هللا‪ ،‬ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به هللا‪ ،‬كما في‬ ‫‪ ‬ولهذا ذم هللا املشركين لكونهم ّ‬
‫َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫قوله تعالى‪َ } :‬و َج َعلوا َّلِل م َّما ذ َرأ م َن ال َح ْرث َواألن َعام نص ًيبا{ ‪ ..‬إلى آخر السورة‪} .‬أ ْم ل ُه ْم ش َرك ُاء‬
‫َش َر ُعوا َل ُه ْم م َن الدين َما َل ْم َي ْأ َذ ْن به َّ ُ‬
‫الِل{‪.‬‬
‫الِل بإ ْذنه َوس َر ً‬
‫اجا ُمن ًيرا{‬ ‫‪ ‬وقد قال تعالى لنبيه ﷺ }إ َّنا َأ ْ َس ْل َن َ‬
‫اك َشاه ًدا َو ُم َبش ًرا َو َنذ ًيرا * َو َداع ًيا إ َلى َّ‬
‫ر‬
‫داعيا ‪ -2‬إليه ‪ -3‬بإذنه‪.‬‬ ‫فأخبره أنه أرسله‪ً -1 :‬‬

‫‪ ‬فمن دعا إلى غيرهللا = فقد أشرك‪ ،‬ومن دعا إليه بغيرإذنه = فقد ابتدع‪،‬‬

‫‪ ‬والشرك بدعة > واملبتدع يؤول إلى الشرك‪ ،‬ولم يوجد مبتدع إال وفيه نوع من الشرك‪ ،‬كما‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ُ َ‬
‫يح ْاب َن َم ْرَي َم َو َما أم ُروا إال‬
‫املس َ‬ ‫قال تعالى‪} :‬اتخذوا أ ْح َبا َر ُه ْم َو ُر ْه َبان ُه ْم أ ْرَب ًابا م ْن ُدون الِل و‬
‫ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َّ‬ ‫َ‬
‫ل َي ْع ُب ُدوا إل ًها َواح ًدا ال إله إال ُه َو ُس ْب َحان ُه َع َّما ُيشركون{ وكان من إشراكهم بهم‪ :‬أنهم أحلوا‬
‫لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحالل فأطاعوهم‪.‬‬
‫ُ َ‬ ‫الِل َوَال ب ْال َي ْوم ْاآلخر َوَال ُي َحر ُمو َن َما َح َّر َم َّ ُ‬
‫ين َال ُي ْؤم ُنو َن ب َّ‬
‫وقد قال تعالى‪َ } :‬قات ُلوا َّالذ َ‬
‫الِل َو َر ُسول ُه َوال‬
‫صاغ ُرون{ فـ قرن بعدم‬
‫َ‬ ‫اب َح َّتى ُي ْع ُطوا ْالج ْزَي َة َع ْن َيد َو ُه ْم َ‬ ‫ين ُأ ُوتوا ْالك َت َ‬‫ين ْال َحق م َن َّالذ َ‬‫َيد ُينو َن د َ‬
‫إيمانهم باهلل واليوم اآلخر‪ :‬أنهم ال يحرمون ما حرمه هللا ورسوله‪ ،‬وال يدينون دين الحق‪.‬‬

‫‪ ‬واملؤمنون صدقوا الرسول ﷺ فيما أخبر به عن هللا‪ ،‬وعن اليوم الخر= فآمنوا باهلل واليوم الخر‬
‫وأطاعوه فيما أمر ونهى‪ ،‬وحلل وحرم‪ ،‬فحرموا ما حرم هللا ورسوله‪ ،‬ودانوا دين الحق‪ ،‬فإن هللا بعث‬
‫الرسول يأمرهم باملعروف وينهاهم عن املنكر‪ ،‬ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‪ ،‬فأمرهم‬
‫بكل معروف‪ ،‬ونهاهم عن كل منكر‪ ،‬وأحل لهم كل طيب‪ ،‬وحرم عليهم كل خبيث‪.‬‬
‫َ َ َ َّ ُ َ ً‬
‫الِل َمثال‬ ‫‪ ‬ولفظ اإلسالم‪ :‬يتضمن االستسالم واالنقياد‪ ،‬ويتضمن اإلخالص‪ ،‬من قوله تعالى‪} :‬ضرب‬
‫ً َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ‬ ‫ً‬
‫َر ُجال فيه ش َرك ُاء ُمتشاك ُسون َو َر ُجال َسل ًما ل َر ُجل{‪ .‬فال بد في اإلسالم من االستسالم هلل وحده‪ ،‬وترك‬
‫االستسالم ملا سواه‪ ،‬وهذا حقيقة قولنا‪ " :‬ال إله إال هللا " فمن استسلم هلل ولغيره ‪ :‬فهو مشرك‪ ،‬وهللا‬
‫ََ َ ُ‬
‫ال َرُّبك ُم‬‫ال يغفر أن يشرك به‪ ،‬ومن لم يستسلم له ‪ :‬فهو مستكبر عن عبادته‪ ،‬وقد قال تعالى‪} :‬وق‬
‫ْ ُ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ون َع ْن ع َبا َدتي َس َي ْد ُخ ُلو َن َج َه َّن َم َداخر َ‬
‫ين{‪.‬‬ ‫ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبر‬

‫‪61‬‬
‫وثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال‪" :‬ال يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر‪ ،‬وال يدخل النار من‬
‫في قلبه مثقال ذرة من إيمان"‪ .‬فقيل له‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا‪ ،‬ونعله حسنا‪،‬‬
‫أفمن الكبر ذاك؟ فقال‪ " :‬ال‪ ،‬إن هللا جميل يحب الجمال‪ ،‬الكبر‪ :‬بطر الحق‪ ،‬وغمط الناس" بطر الحق‪:‬‬
‫جحده ودفعه‪ ،‬وغمط الناس‪ :‬ازدراؤهم واحتقارهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُ َّ‬
‫فاليهود موصوفون بالكبر‪ ،‬والنصارى موصوفون بالشرك‪ ،‬قال تعالى في نعت اليهود‪} :‬أفكل َما َج َاءك ْم‬
‫َ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ً َ َّ ُ َ ً َ ْ ُ ُ َ‬
‫استك َب ْرت ْم ففريقا كذ ْبت ْم َوفريقا تقتلون{‪.‬‬ ‫َر ُسول بما ال تهوى أنفسكم‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ ُ َ‬
‫يح ْاب َن َم ْرَي َم َو َما أم ُروا إال‬
‫املس َ‬ ‫وقال في نعت النصارى‪} :‬اتخذوا أ ْح َبا َر ُه ْم َو ُر ْه َبان ُه ْم أ ْرَب ًابا م ْن ُدون الِل و‬
‫ْ ُ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ َ َّ‬ ‫ُ َ‬
‫ل َي ْع ُبدوا إل ًها َواح ًدا ال إله إال ُه َو ُس ْب َحانه َع َّما ُيشركون{‪.‬‬

‫‪ ‬أصل دين األنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع‪ :‬قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‪( :‬إنا معاشر‬
‫األنبياء ديننا واحد)‪( ،‬األنبياء إخوة لعالت)‪( ،‬وأنا أولى الناس بابن مريم‪ ،‬فإنه ليس بيني‬
‫وبينه نبي)‬
‫ًَ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫اع َم ُلوا َ‬
‫صال ًحا إني ب َما ت ْع َملون َعليم * َوإ َّن َهذه أ َّمتك ْم أ َّمة َواحدة‬
‫َ َّ‬
‫الطي َبات َو ْ‬ ‫ُُ‬ ‫} َيا َأ ُّي َها ُّ‬
‫الر ُس ُل كلوا من‬
‫َ َ ُ َ َّ ُ‬
‫َوأنا َرُّبك ْم فاتقون{‬
‫فدينهم واحد‪ :‬وهو عبادة هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وهو ُي ُ‬
‫عبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت‪ ،‬وذلك‬
‫هو دين اإلسالم في ذلك الوقت‪.‬‬

‫‪ ‬وتنوع الشرائع في الناسخ واملنسوخ من املشروع كتنوع الشريعة الواحدة‪ ،‬فكما أن دين اإلسالم‬
‫الذي بعث هللا به محمدا ﷺ هو دين واحد‪ ،‬مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت املقدس في‬
‫الصالة‪ ،‬كما أمر املسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا‪ ،‬وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة‪،‬‬
‫ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته‪ ،‬فهكذا شرع هللا تعالى‬
‫لبني إسرائيل السبت‪ ،‬ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة‪ ،‬فكان االجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك‪ ،‬ثم‬
‫صار الواجب هو االجتماع يوم الجمعة‪ ،‬وحرم االجتماع يوم السبت‪.‬‬

‫فمن خرج عن شريعة موس ى قبل النسخ‪ ،‬لم يكن مسلما‪ ،‬ومن لم يدخل في شريعة ﷺ بعد النسخ لم‬
‫يكن مسلما‪.‬‬
‫َ َ َُ‬
‫‪ ‬ولم يشرع هللا لنبي من األنبياء أن يعبد غيرهللا البتة‪ ،‬قال تعالى‪} :‬ش َرع لك ْم م َن الدين َما َو َّص ى به‬
‫َ َ َََ ُ‬
‫ين َوال تتف َّرقوا فيه‬ ‫يموا الد‬‫يس ى َأ ْن َأق ُ‬
‫وس ى َوع َ‬ ‫وحا َو َّالذي َأ ْو َح ْي َنا إ َل ْي َك َو َما َو َّ‬
‫ص ْي َنا به إ ْب َراه َ‬
‫يم َو ُم َ‬ ‫ُن ً‬
‫َ ُ َ ََ ُْ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬
‫وه ْم إل ْيه{ فأمرالرسل أن يقيموا الدين وال يتفرقوا فيه‪.‬‬ ‫كبرعلى املشركين ما تدع‬

‫‪61‬‬
‫َ ُ َ ْ َ َ َّ‬
‫‪ ‬فأهل اإلشراك متفرقون‪ ،‬وأهل اإلخالص متفقون‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ } :‬وال َي َزالون ُمختلفين ‪ -‬إال َم ْن‬
‫َََ‬ ‫َ‬
‫َرح َم َرُّب َك َولذل َك خلق ُه ْم{ فأهل الرحمة متفقون مجتمعون‪ ،‬واملشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا‪.‬‬

‫» ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع‪ ،‬يفترق أهله؛ فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت‪،‬‬
‫يتخذونه ندا من دون هللا‪ ،‬فيقربون له ويستشفعون به ويشركون به‪ .‬وهؤالء ينفرون عن طاغوت هؤالء‪،‬‬
‫وهؤالء وهؤالء ينفرون عن طاغوت هؤالء‪ ،‬بل قد يكون ألهل هذا الطاغوت شريعة ليست لآلخرين‪ ،‬كما‬
‫كان أهل املدينة الذين يهلون ملناة الثالثة األخرى‪ ،‬ويتحرجون من الطواف بين الصفا واملروة‪ ،‬حتى أنزل‬
‫َّ َّ َ َ ْ َ‬
‫امل ْر َو َة م ْن َش َعائر َّ‬
‫الِل{‪.‬‬ ‫هللا تعالى‪} :‬إن الصفا و‬

‫« بخالف أهل التوحيد‪ ،‬فإنهم ‪:‬‬

‫‪ ‬يعبدون هللا ال يشركون به ‪ ،‬في بيوته التي قد أذن هللا أن ترفع ويذكر فيها اسمه‪ ،‬مع أنه قد جعلت‬
‫لهم األرض مسجدا وطهورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وإن حصل بينهم تنازع في ش يء مما يسوغ فيه االجتهاد ‪ :‬لم يوجب ذلك تفرقا وال اختالفا‪ ،‬بل هم‬
‫يعلمون أن املصيب منهم له أجران‪ ،‬وأن املجتهد املخطئ له أجر على اجتهاده‪ ،‬وخطؤه مغفور له‪.‬‬

‫وهللا هو معبودهم إياه يعبدون وعليه يتوكلون‪ ،‬وله يخشون ويرجون‪ ،‬وبه يستعينون ويستغيثون‪،‬‬
‫وله يدعون ويسألون‪ ،‬فإن خرجوا إلى الصالة في املساجد‪ ،‬كانوا مبتغين فضال منه ورضوانا‪ ،‬كما‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ ُ َّ‬
‫قال تعالى في نعتهم‪﴿ :‬تراهم ُركعا سجدا يبتغون فضال ِمن ِ‬
‫اَّلل و ِرضوانا﴾‬

‫‪ ‬وإذا سافروا إلى أحد املساجد الثالثة‪ ،‬ال سيما املسجد الحرام‪ ،‬الذي أمروا بالحج إليه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫اَّلل وال الشهر الحرام وال الهدي وال القال ِئد وال ِّآمين البيت‬
‫﴿يا أ ُّيها ال ِذين آمنوا ال ت ِحلوا شعا ِئر ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الحرام يبتغون فضال ِمن ِرّب ِهم و ِرضوانا﴾ فهم يؤمون بيته ويبتغون فضال من ربهم ورضوانا‪ ،‬ال‬
‫يرغبون إلى غيره‪ ،‬وال يرجون سواه‪ ،‬وال يخافون إال إياه‪.‬‬

‫‪ ‬وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم واستزلهم عن إخالص الدين هلل إلى أنواع‬
‫من الشرك‪:‬‬
‫‪ ‬فيقصدون بالسفر والزيارة‪ :‬الرجاء لغير هللا‪ ،‬والرغبة إليه‪.‬‬

‫‪ ‬ويشدون الرحال‪ :‬إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح‪ ،‬أو من يظن أنه نبي‪ ،‬أو صاحب أو صالح‪،‬‬
‫داعين له راغبين إليه‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫‪ ‬ومنهم‪ :‬من يظن أن املقصود من الحج هو هذا‪ ،‬فال يستشعر إال قصد املخلوق املقبور‪ ،‬ومنه من‬
‫يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت‪.‬‬

‫‪ ‬ومن شيوخهم‪ :‬من يحج‪ ،‬فإذا دخل املدينة‪ ،‬رجع وظن أن هذا أبلغ‪.‬‬

‫‪ ‬ومن جهالهم‪ :‬من يتوهم أن زيارة القبور واجبة‪ ،‬ومنهم من يسأل املقبور امليت‪ ،‬كما يسأل الحي الذي‬
‫ال يموت!‬
‫‪ ‬وقد ينذرون أوالدهم للمقبور‪ ،‬ويسيبون له السوائب‪ ،‬من البقر وغيرها‪ ،‬كما كان املشركون يسيبون‬
‫السوائب لطواغيتهم‪.‬‬

‫‪ ‬ومن السدنة‪ :‬من يضل الجهال‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح‪ ،‬وهو يذكرها للنبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬والنبي يذكرها هلل !‬

‫‪ ‬وما أكثر من يرى من هؤالء‪ :‬أن صالته عند هذا القبر املضاف إلى بعض املعظمين أعظم من صالته‬
‫في املساجد بيوت هللا‪ ،‬فيزدحمون للصالة في مواضع اإلشراك املبتدعة‪ ،‬التي نهى النبي ﷺ عن‬
‫اتخاذها مساجد‪ ،‬ويهجرون الصالة في البيوت التي أذن هللا أن ترفع ويذكر فيها اسمه‪.‬‬

‫‪ ‬ومن أكابرهم‪ :‬من يقول‪ " :‬الكعبة في الصالة قبلة العامة‪ ،‬والصالة إلى قبر الشيخ فالن ‪ -‬مع استدبار‬
‫الكعبة‪ -‬قبلة الخاصة "!‬

‫وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء املسلمين‪ ،‬ولم نفصل هنا في هذه املسائل‪ ،‬وإنما نبهنا هنا‬
‫على رؤوس املسائل‪ ،‬وجنس الدالئل‪ ،‬والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخالص الدين هلل‪،‬‬
‫ّ‬
‫وعبادته وحده ال شريك له‪ ،‬وما سدته من الذريعة إلى الشرك‪ ،‬دقه وجله‪ ،‬فإن هذا هو أصل الدين‪،‬‬
‫وحقيقة دين املرسلين وتوحيد رب العاملين‪.‬‬

‫‪ ‬غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك‪:‬‬


‫غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكالم‪ ،‬ومن أهل اإلرادة والعبادة‪ ،‬حتى قلبوا حقيقته‬
‫‪:‬‬

‫‪ ‬فطائفة‪ :‬ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات‪ ،‬بل نفي األسماء الحسنى أيضا‪ ،‬وأثبتوا ذاتا مجردة‬
‫عن الصفات‪ ،‬ووجودا مطلقا بشرط اإلطالق‪ .‬وسموا أنفسهم‪ :‬أهل التوحيد ‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه (تركيبا) وظنوا أن العقل ينفيه‪ ،‬وقد ُعلم بصريح املعقول‬
‫املطابق لصحيح املنقول‪ :‬أن ذلك ال يكون إال في األذهان‪ ،‬ال في األعيان‪ .‬كما قد كشفنا أسرارهم وبينا‬
‫فرط جهلهم‪ ،‬وما أضلهم من األلفاظ املجملة املشتركة في غير هذا املوضع‪.‬‬

‫‪ ‬وطائفة‪ :‬ظنوا أن التوحيد ليس إال اإلقرار بتوحيد الربوبية‪ ،‬وأن هللا خلق كل ش يء‪ ،‬وهو الذي‬
‫يسمونه توحيد األفعال ‪.‬‬

‫ومن أهل الكالم‪ :‬من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد إما بدليل أن االشتراك يوجب نقص القدرة‬
‫وفوات الكمال‪ ،‬وبأن استقالل كل من الفاعلين باملفعول محال‪ ،‬وإما بغير ذلك من الدالئل‪ ،‬ويظن أنه‬
‫بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه ال إله إال هو‪ ،‬وأن اإللهية هي‪ :‬القدرة على االختراع أو نحو ذلك‪ ،‬فإذا‬
‫ثبت أنه ال يقدر على االختراع إال هللا‪ ،‬وأنه ال شريك له في الخلق‪ ،‬كان هذا معنى قولنا‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬ولم‬
‫َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ‬
‫ض ل َيقول َّن‬‫يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد‪} :‬ولئن سألتهم من خلق السماوات واألر‬
‫َّ ُ ُ ْ‬
‫الِل قل ال َح ْم ُد َّلِل{‪.‬‬

‫وهذا التوحيد [الربوبية] هو من التوحيد الواجب‪ ،‬لكن ال يحصل به الواجب‪ ،‬وال يخلص بمجرده عن‬
‫اإلشراك الذي هو أكبر الكبائر‪ ،‬الذي ال يغفره هللا‪ ،‬بل ال بد أن يخلص هلل الدين فال يعبد إال إياه فيكون‬
‫دينه كله هلل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مستلزم لصفات الكمال‪ ،‬فال يستحق أن‬ ‫واإلله‪ :‬هو املألوه الذي تألهه القلوب‪ ،‬وكونه يستحق اإللهية‬
‫يكون معبودا محبوبا لذاته إال هو‪ ،‬وكل عمل ال ُيراد به وجهه فهو باطل‪ ،‬وعبادة غيره وحب غيره يوجب‬
‫َ ْ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ‬
‫الِل لف َسدتا{‪.‬‬ ‫الفساد‪ ،‬كما قال تعالى }لو كان فيهما آلهة إال‬

‫وبينا أن هذه الية ليس املقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكالم‪ ،‬من ذكر دليل التمانع الدال على‬
‫وحدانية الرب تعالى‪ ،‬فإن التمانع يمنع وجود املفعول ال يوجب فساده بعد وجوده‪ ،‬وذلك يذكر في‬
‫األسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعالت‪ ،‬والثاني يذكر في الحكم والنهايات التي تذكر في‬
‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ‬
‫اك ن ْستعين{ فقدم الغاية املقصودة على الوسيلة‬ ‫العلل التي هي الغايات‪ ،‬كما في قوله‪} :‬إياك نعبد وإي‬
‫املوصلة‪.‬‬

‫‪ ‬ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف‪ ،‬ظن أن توحيد الربوبية هو‬
‫الغاية‪ ،‬والفناء فيه هو النهاية‪ ،‬وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح‪،‬‬
‫فآل بهم األمر إلى تعطيل األمر والنهي‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع‬

‫‪64‬‬
‫املخلوقات‪ ،‬وبين محبته ورضاه املختص بالطاعات‪ ،‬وبين كلماته الكونيات التي ال يجاوزها بروال‬
‫فاجر‪ -‬لشمول القدرلكل مخلوق‪ -‬وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه‪.‬‬

‫فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر‪ ،‬والبروالفاجر‪ ،‬عليه أن يشهد ألوهيته‬
‫التي اختص بها عباده املؤمنين‪ ،‬الذين عبدوه وأطاعوا أمره‪ ،‬واتبعوا رسله‪.‬‬
‫ْ ُ َّ َ َ ْ ُ‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫َ ُْْ‬ ‫قال تعالى } َأ ْم َن ْج َع ُل َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ‬
‫ين في األ ْرض أ ْم ن ْج َع ُل املتقين كالف َّجار{‬ ‫الصال َحات كاملفسد‬

‫ومن لم يفرق بين أولياء هللا وأعدائه‪ ،‬وبين ما أمربه وأحبه من اإليمان واألعمال الصالحة وما كرهه‬
‫ونهى عنه وأبغضه‪ :‬من الكفر والفسوق والعصيان مع شمول قدرته‪ ،‬ومشيئته‪ ،‬وخلقه لكل ش يء‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ْ َ َ ُ َ َ‬
‫الِل َما أش َركنا َوال َآباؤنا َوال َح َّر ْمنا م ْن ش ْيء{‬ ‫وإال وقع في دين املشركين‪ ،‬الذين قالوا }لو شاء‬
‫والقدر يؤمن به وال يحتج به‪ ،‬بل العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند املصائب‪ ،‬ويستغفر هللا عند‬
‫َ ْ ْ َّ َ ْ َ َّ َ ٌّ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫استغف ْرلذنب َك{ ولهذا حج آدم موس ى عليهما‬‫الذنوب واملعايب كما قال تعالى }فاصبرإن وعد الِل حق و‬
‫السالم‪ ،‬ملا الم موس ى آدم ألجل املصيبة التي حصلت لهم بأكله من الشجرة‪ ،‬فذكر له آدم‪" :‬أن هذا كان‬
‫َ َْ ُ ُ‬ ‫َْ‬ ‫آدم موس ى" كما قال تعالى } َما َأ َ‬
‫اب م ْن ُمص َيبة في األ ْرض َوال في أنفسك ْم‬ ‫ص َ‬ ‫مكتوبا قبل أن أخلق‪ .‬فحج ُ‬
‫اب م ْن ُمص َيبة إ َّال بإ ْذن َّ‬
‫الِل َو َم ْن‬ ‫ص َ‬‫الِل َيسير{ وقال‪َ } :‬ما َأ َ‬ ‫إ َّال في ك َتاب م ْن َق ْبل َأ ْن َن ْب َرَأ َها إ َّن َذل َك َع َلى َّ‬
‫َْ‬ ‫ُي ْؤم ْن ب َّ‬
‫الِل َي ْهد قل َب ُه{ قال بعض السلف‪" :‬هو الرجل تصيبه املصيبة‪ ،‬فيعلم أنها من عند هللا فيرض ى‬
‫ويسلم"‪.‬‬

‫فهذا هو جهة احتجاج آدم بالقدر‪ ،‬ومعاذ هللا أن يحتج آدم ‪ -‬أو من هو دونه من املؤمنين‪ -‬على‬
‫املعاص ي بالقدر‪ ،‬فإنه لوساغ هذا‪ :‬لساغ أن يحتج إبليس ومن اتبعه من الجن واإلنس بذلك‪ ،‬ويحتج‬
‫به قوم نوح وعاد وثمود‪ ،‬وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ولم يعاقب أحد‪ ،‬وهذا مما يعلم‬
‫فساده باالضطرارشرعا وعقال‪.‬‬

‫فإن هذا القول ال يطرده أحد من العقالء‪ ،‬فإن طرده يوجب أن ال يالم أحد على ش يء‪ ،‬وال يعاقب‬
‫عليه‪ .‬وهذا املحتج بالقدر لو جنى عليه جان لطالبه‪ ،‬فإن كان القدر حجة للجاني عليه‪ ،‬وإال فليس‬
‫حجة ال لهذا وال لهذا‪.‬‬

‫ولو كان االحتجاج بالقدر مقبوال ‪ ،‬لم يمكن للناس أن يعيشوا‪ ،‬إذا كان لكل من اعتدى عليهم أن يحتج‬
‫بذلك‪ ،‬فيقبلوا عذره وال يعاقبوه‪ ،‬وال يمكن اثنان من أهل هذا القول أن يعيشا إذ لكل منهما أن يقتل‬
‫الخر‪ ،‬ويفسد جميع أموره‪ ،‬محتجا على ذلك بالقدر‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ثم إن أولئك املبتدعين‪ ،‬الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات‪ ،‬وهؤالء الذين أخرجوا عنه متابعة‬
‫األمر‪ ،‬إذا حققوا القولين= أفض ى بهم األمر إلى أن ال يفرقوا بين الخالق واملخلوق‪ ،‬بل يقولون بوحدة‬
‫الوجود كما قاله أهل اإللحاد القائلين بالوحدة والحلول واالتحاد الذين يعظمون األصنام وعابديها‪،‬‬
‫وفرعون وهامان وقومهما‪ ،‬ويجعلون وجود خالق األرض والسماوات هو وجود كل ش يء من املوجودات‬
‫ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان‪ ،‬وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان‪.‬‬

‫يقول عارفهم‪ :‬السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة واملعصية ( نظرا إلى األمر) ثم يرى طاعة بال معصية‬
‫( نظرا إلى القدر) ثم ال طاعة وال معصية (نظرا إلى أن الوجود واحد) وال يفرقون بين الواحد بالعين‬
‫والواحد بالنوع‪ ،‬فإن املوجودات مشتركة في مسمى الوجود‪.‬‬

‫وهذا مقام زلت فيه أقدام‪ ،‬وضلت فيه أحالم‪ ،‬وهللا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‪.‬‬

‫‪‬ومن أحكم األصلين املتقدمين في الصفات‪ ،‬والخلق واألمر‪ -1 :‬يميز بين املأمور املحبوب‬
‫املرض ي هلل‪ ،‬وبين غيره ‪ +‬مع شمول القدر لهما‪ -2 ،‬وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي‬
‫توجب مباينته للمخلوقات ‪ ،‬وأنه ليس في مخلوقاته ش يء من ذاته‪ ،‬وال في ذاته ش يء من‬
‫مخلوقاته= أثبت التوحيد الذي بعث هللا به رسله‪ ،‬وأنزل به كتبه‪ ،‬كما نبه على ذلك في سورتي‬
‫اإلخالص والكافرون‪.‬‬

‫خبرا عن وحدانية هللا‪ ،‬ففيها التوحيد‬ ‫الِل َأ َحد﴾ تعدل ثلث القرآن" في كونها ً‬
‫ُق ْل ُه َو َّ ُ‬
‫‪ -‬فإن "﴿‬
‫َ‬ ‫ا لقولي العملي‪ ،‬الذي تدل عليه األسماء والصفات‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ُ ﴿ :‬ق ْل ُه َو َّ ُ‬
‫الِل أ َحد * َّ ُ‬
‫الِل‬
‫الص َم ُد﴾‪.‬‬
‫َّ‬

‫وعدل الش يء ‪ :‬ما سواه‪ ،‬من غير جنسه‪ ،‬وذلك يقتض ي‪ :‬أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر‪،‬‬
‫ً‬
‫وال يكون مثله في الصفة‪ ،‬لهذا يحتاج إلى سائرالقرآن‪ ،‬وال تغني عنه هذه السورة مطلقا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬و ﴿ق ْل َيا أ ُّي َها الكاف ُرون﴾ فيها التوحيد القصدي العملي‪ ،‬كما قال تعالى ﴿ق ْل َيا أ ُّي َها الكاف ُرون *‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾؛ وبهذا يتميز من يعبد هللا ممن يعبد غيره وإن كان كالهما يقر بأن هللا رب‬
‫كل ش يء‪ ،‬ويتميز عباد هللا املخلصون الذين لم يعبدوا إال إياه‪ ،‬ممن عبد غيره وأشرك به‪ ،‬أو نُر‬
‫إلى القدرالشامل لكل ش يء‪ ،‬فسوى بين املؤمنين والكفار‪ ،‬كما كان يفعل املشركون من العرب‪.‬‬
‫ولهذا قال ﷺ ‪( :‬إنها براءة من الشرك)‪.‬‬
‫ُ ْ ُ َ َّ ُ َ‬
‫الِل أ َحد﴾ فيها إثبات الذات‪ ،‬وما لها من األسماء والصفات التي يتميزبها مثبتو الرب‬ ‫وسورة ﴿قل هو‬
‫الخالق‪ ،‬األحد الصمد‪ ،‬عن املعطلين له بالحقيقة‪ ،‬نفاة األسماء والصفات‪ ،‬املضاهين لفرعون‬

‫‪66‬‬
‫وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود لإلله املعبود‪ ،‬وإن كان في الباطن يقر به‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َْ ُ‬
‫است ْيقن ْت َها أنف ُس ُه ْم ظل ًما َو ُعلوا﴾‪.‬‬‫﴿وجحدوا بها و‬

‫وهللا سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل‪ ،‬ونفي مجمل‪ ،‬فأثبتوا له األسماء والصفات‪ ،‬ونفوا عنه‬
‫مماثلة املخلوقات‪ .‬ومن خالفهم من املعطلة املتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية‪ ،‬فجاءوا بنفي‬
‫مفصل وإثبات مجمل‪ ،‬يقولون ليس كذا‪ ،‬ليس كذا‪ ،‬ليس كذا‪.‬‬

‫فإذا أرادوا إثباته قالوا‪ :‬وجود مطلق بشرط النفي‪ ،‬أو بشرط اإلطالق‪ ،‬وهم يقرون في منطقهم اليوناني‪:‬‬
‫أن املطلق بشرط اإلطالق ال يكون في الخارج‪ ،‬بخالف املطلق ال بشرط الذي يقال‪ :‬إنه في الخارج ال يكون‬
‫إال معينا مشخصا‪ ،‬أو يقولون إنه الوجود املشروط بنفي كل ثبوت عنه= فيكون مشاركا لسائر‬
‫املوجودات في مسمى الوجود‪ ،‬متميزا عنها بالعدم‪.‬‬

‫وكل موجود متميز بأمر ثبوتي ‪ +‬والوجود خير من العدم = فيكون أحقر املوجودات خيرا من هذا الذي‬
‫ظنوه وجودا واجبا > هذا إذا أمكن تحقيقه في الخارج‪ ،‬فكيف وذلك ممتنع؛ ألن املتميز بين املوجودين‬
‫ال يكون عدما محضا‪ ،‬بل ال يكون إال وجودا؟‬
‫فهؤالء يقولون‪ :‬في وجود واجب الوجود‪ ،‬ما يعلم بصريح املعقول املوافق لقوانينهم املنطقية‪ :‬أنه قول‬
‫بامتناع الوجود الواجب وأنه جمع بين النقيضين‪ ،‬وهذا في غاية الجهل والضالل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وأما الرسل صلوات هللا عليهم‪ :‬فطريقتهم طريقة القرآن‪ ،‬قال سبحانه وتعالى‪ُ } :‬س ْب َحان َرب َك َرب الع َّزة‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫َع َّما َيصفون * َو َسالم َعلى امل ْر َسلين * َوال َح ْم ُد َّلِل َرب ال َعاملين{‬

‫‪#‬اثبات‪ :‬هللا تعالى يخبر في كتابه أنه‪ :‬حي‪ ،‬قيوم‪ ،‬عليم‪ ،‬حكيم‪ ،‬غفور‪ ،‬رحيم‪ ،‬سميع‪ ،‬بصير‪ ،‬علي‪،‬‬
‫عُيم‪ ،‬خلق السماوات واألرض وما بينهما في ستة أيام‪ ،‬ثم استوى على العرش‪ ،‬وكلم موس ى تكليما‪،‬‬
‫وتجلى للجبل فجعله دكا‪ ،‬يرض ى عن املؤمنين‪ ،‬ويغضب على الكافرين إلى أمثال ذلك من األسماء‬
‫والصفات‪.‬‬
‫ََ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُ َ ُُ َ‬ ‫َْ َ َ ْ َ‬
‫س كمثله ش ْيء﴾‪َ ﴿ ،‬ول ْم َيك ْن ل ُه كف ًوا أ َحد﴾‪َ ﴿ ،‬ه ْل ت ْعل ُم ل ُه َسميا﴾‪﴿ ،‬فال ت ْج َعلوا َّلِل‬ ‫‪ #‬نفي ‪﴿ :‬لي‬
‫َْ َ‬
‫أند ًادا﴾ فنفى بذلك ‪ -1 :‬أن تكون صفاته كصفات املخلوقين‪ -2 ،‬وأنه ليس كمثله ش يء ال في نفسه‬
‫َ َ َ‬
‫املقدسة‪ ،‬املذكورة بأسمائه وصفاته‪ ،‬وال في ش يء من صفاته وال أفعاله‪ُ ﴿ :‬س ْب َحان ُه َوت َعالى َع َّما‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ُ َ ُ ُ َ ً ُ َ ُ َ ُ َّ َ َ ُ َّ ْ ُ َ ْ َ‬
‫ض َو َم ْن فيه َّن َوإن م ْن ش ْيء إال ُي َسب ُح ب َح ْمده‬
‫األ ْر ُ‬ ‫يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع و‬
‫يما َغ ُف ً‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َن َ ْ َ ُ ْ َّ ُ َ َ‬
‫ان َحل ً‬
‫ورا﴾ ‪.‬‬ ‫ولكن ال تفقهو تسبيحهم إنه ك‬

‫‪67‬‬
‫فاملؤمن ‪ :‬يؤمن باهلل‪ ،‬وما له من األسماء الحسنى‪ ،‬ويدعوه بها‪ ،‬ويجتنب اإللحاد في أسمائه وآياته‪،‬‬
‫َ‬ ‫َّ َّ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ ْ َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ُ َّ َ ْ‬
‫ين ُيلح ُدون‬ ‫ين ُيلح ُدون في أ ْس َمائه﴾ ﴿إن الذ‬ ‫قال تعالى ﴿ولِل األسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذ‬
‫َ َ َْ َ َ َ‬
‫في َآياتنا ال َيخف ْون َعل ْينا﴾ ‪ .‬وهو يدعو هللا وحده‪ ،‬ويعبده وحده ال يشرك بعبادة ربه أحدا‪ ،‬ويجتنب‬
‫ف ُّ‬ ‫ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ ُ ْ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ‬
‫الضر‬ ‫طريق املشركين الذين قال هللا تعالى فيهم ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فال يملكون كش‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َََ َْ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َع ْن ُك ْم َوَال َت ْحو ًيال * ُأ َولئ َك َّالذ َ‬
‫ين َي ْد ُعون َي ْب َتغون إلى َربه ُم ال َوسيلة أ ُّي ُه ْم أق َر ُب َو َي ْر ُجون َر ْح َم َت ُه َو َي َخافون‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫اب َرب َك كان َم ْحذو ًرا﴾‪.‬‬ ‫َع َذ َاب ُه إ َّن َع َذ َ‬
‫َ َْ‬ ‫ال َذ َّرة في َّ‬ ‫الِل َال َي ْمل ُكو َن م ْث َق َ‬
‫ين َ َع ْم ُت ْم م ْن ُدون َّ‬‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫الس َم َاوات َوال في األ ْرض َو َما‬ ‫وقال تعالى ﴿قل ْاد ُعوا الذ ز‬
‫َ ُ َ‬ ‫الش َف َ ُ ْ َ َّ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل ُه ْم فيه َما م ْن ش ْرك َو َما ل ُه م ْن ُه ْم م ْن ظهير * وال تنفع‬
‫َ‬
‫اعة عند ُه إال مل ْن أذن له َح َّتى إذا فزع َع ْن‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُُ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ‬
‫ال َرُّبك ْم قالوا ال َح َّق َو ُه َو ال َعل ُّي الكب ُير﴾ ‪.‬‬ ‫قلوبهم قالوا ماذا ق‬

‫وهذه جمل لها تفاصيل‪ ،‬ونكت تشيرإلى خطب جليل‪.‬‬

‫وصية‪:‬‬

‫فليجتهد املؤمن في تحقيق العلم واإليمان‪ ،‬وليتخذ هللا هاديا ونصيرا‪ ،‬وحاكما ووليا‪ ،‬فإنه نعم املولى ونعم‬
‫النصير‪ ،‬وكفى بربك هاديا ونصيرا‪ .‬وإن أحب دعا بالدعاء الذي صح عن النبي أنه "كان إذا قام يصلي من‬
‫الليل يقول‪ " :‬اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السماوات واألرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪،‬‬
‫أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪ ،‬اهدني ملا اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من‬
‫ًَ‬ ‫َ َ َّ ُ ُ ً‬
‫اس أ َّمة َواحدة﴾ أي‪ :‬فاختلفوا‪ ،‬وقد قيل‪:‬‬ ‫تشاء إلى صراط مستقيم" وذلك أن هللا تعالى يقول‪﴿ :‬كان الن‬
‫ُ‬ ‫َ َُْ َ َ َْ َ َ َُ ُ ْ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َّ َ‬
‫اب بال َحق ل َي ْحك َم‬ ‫الِل النبيين ُم َبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكت‬ ‫إنها كذلك في قراءة عبد هللا ‪﴿ :‬فبعث‬
‫ْ َ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ين أ ُوت ُ‬ ‫َ َ ْ ََ َ‬
‫ف فيه إ َّال َّالذ َ‬ ‫َ ْ ََ ُ‬ ‫َ َّ‬
‫وه م ْن َب ْعد َما َج َاء ْت ُه ُم ال َبينات َبغ ًيا َب ْي َن ُه ْم‬ ‫يما اختلفوا فيه وما اختل‬ ‫َب ْين الناس ف‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َّ َ َ ُ َ ْ‬
‫اخ َت َل ُفوا فيه م َن ْال َحق بإ ْذنه َو َّ ُ‬
‫الِل َي ْهدي َم ْن َيش ُاء إلى ص َراط ُم ْستقيم﴾ ‪.‬‬ ‫فهدى الِل الذين آمنوا ملا‬

‫تم بحمد هللا وفضله ♥‬

‫‪68‬‬

You might also like