Professional Documents
Culture Documents
اختصار
د .ناصرالعقل
1
فصل
بعث هللا تعالى محمدا إلى الخلق على فترة من الرسل ،وقد مقت أهل األرض :عربهم وعجمهم ،والناس
إذ ذاك أحد رجلين:
وإما أمي من عربي وعجمي ،مقبل على عبادة ما استحسنه ،من نجم ،ووثن ،أو غير ذلك.
فهدى هللا الناس ببركة نبوة محمد ﷺ ،فقد بعثه سبحانه بدين اإلسالم ،الذي هو الصراط املستقيم،
ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم ،من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،غير املغضوب
عليهم وال الضالين.
املغضوب عليهم :اليهود ،وكفرهم من جهة عدم العمل بعلمهم ،فهم يعلمون الحق وال يتبعونه
عمال.
الضالين :النصارى ،وكفرهم من جهة عملهم بال علم ،فهم يجتهدون في أصناف العبادات بال
شريعة من هللا.
ومع أن هللا قد حذرنا سبيلهم ،فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله عليه الصالة والسالم ،حيث
قال«(:لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» .قالوا:
يا رسول هللا ،اليهود والنصارى؟ قال« :فمن؟») .وقال عليه الصالة والسالم« :ال تقوم الساعة حتى
تأخذ أمتي مأخذ القرون ،شبرا بشبر ،وذراعا بذراع» فقيل :يا رسول هللا ،كفارس والروم؟ قال« :ومن
الناس إال أولئك؟»"
وليس هذا إخبارا عن جميع األمة ،بل قد تواتر عنه :أنه ال تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى
تقوم الساعة ،وأخبر« :أن هللا ال يجمع هذه األمة على ضاللة».
2
ُ
مسألة :مشابهة بعض املنتسبين لهذه األمة لخلق اليهود والنصارى:
ُ
مشابهة خلق اليهود:
كل هذا داخل تحت أخالق املغضوب عليهم ،وقد طال أخالق بعض املنتسبين لهذه األمة من العلماء
ومن تبعهم أيضا .وهو وهللا عين الضالل.
ُ
مشابهة خلق النصارى:
الغلو في األنبياء والصالحين ،فيأتمرون بأمرهم ال بأمر هللا وينتهون بنهيهم ال بنهي هلل.
بناء املساجد على القبور.
عامة دينهم إنما يقوم باألصوات املطربة ،والصور الجميلة ،فال يهتمون بأمر دينهم بأكثر من
تلحين األصوات.
وقد وقع الغلو في طوائف من ضالل املتعبدة واملتصوفة ،حتى خالط كثيرا منهم من مذهب الحلول
واالتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه .وابتليت هذه األمة كذلك باتخاذ السماع
املطرب ،بسماع القصائد ،وإصالح القلوب واألحوال به ،ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.
مشابهة ُخلق اليهود والنصارى ً
معا:
َّ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َُْ ُ َ
ود َعلى ش ْيء{. ص َارى َعلى ش ْيء َوقالت النصارى ليست اليه
الن َ ود ل ْي َست }وقالت اليه
فتجد كثيرا من املتفقهة ،إذا رأى املتصوفة واملتعبد ،ال يراهم شيئا وال يعدهم إال جهاال ضالال ،وال
يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا ،وترى كثيرا من املتصوفة ،واملتفقرة ،ال يرى الشريعة وال العلم
شيئا ،بل يرى املتمسك بها منقطعا عن هللا ،وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند هللا شيئا .
وإنما الصواب :أن ما جاء به الكتاب والسنة ،من هذا وهذا :حق .وما خالف الكتاب والسنة من هذا
وهذا :باطل.
3
فالغرض من الكتاب بيان ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط املستقيم ،والصراط املستقيم
هو:
» وأمور ظاهرة :من أقوال أو أفعال قد تكون عبادات ،وقد تكون أيضا عادات في الطعام
واللباس ،والنكاح واملسكن ،واالجتماع واالفتراق ،والسفر واإلقامة ،والركوب ،وغير ذلك.
وقد بعث هللا محمدا بالحكمة التي هي سنته ،فكان من هذه الحكمة:
» أن شرع له من األعمال واألقوال ما يباين سبيل املغضوب عليه والضالين ،فأمر بمخالفتهم في
الهدي الظاهر ألسباب ،منها:
أن املشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكال بين املتشابهين ،يقود إلى موافقة ما في
األخالق واألعمال.
أن املخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب االنقطاع عن موجبات الغضب،
والضالل ،واالنعطاف على أهل الهدى والرضوان.
أن مشاركتهم في الهدي الظاهر ،توجب االختالط الظاهر ،حتى يرتفع التميز ظاهرا.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إال مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم ،فأما إن كان من موجبات
كفرهم كان شعبة من شعب الكفر ،فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم.
فصل
» ألن موافقتهم أو مخالفتهم تتضمن مصلحة للعبد ،وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به
املوافقة ،أو املخالفة ،لو تجرد عن املوافقة واملخالفة ،لم يكن فيه تلك املصلحة أو املفسدة،
وعلى هذا االعتبار :فهو من باب قياس العلة (ما كانت العلة فيه مقتضية للحكم).
» وقد يكون األمر باملوافقة واملخالفة ألن ذلك الفعل الذي يوافق فيه ،أو يخالف ،متضمن
للمصلحة أو املفسدة ولو لم يفعلوه ،لكن عبر عن ذلك باملوافقة واملخالفة ،فتكون موافقتهم
دليال على املفسدة ،ومخالفتهم دليال على املصلحة .واعتبار املوافقة واملخالفة على هذا
التقدير :من باب قياس الداللة (االستدالل بأحد النظيرين على االخر).
4
وقد يجتمع األمران ،أي :الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ،ومن نفس
مشاركتهم فيه ،وهذا هو الغالب على املوافقة واملخالفة املأمور بهما ،واملنهي عنهما ،فالبد من التفطن
لهذا املعنى ،فإنه به يعرف معنى نهي هللا لنا عن اتباعهم وموافقتهم ،مطلقا ومقيدا.
˿ مؤمن ،وصفاتهم:
-يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر.
-يسعون للخير والنفع} ،وتؤتون الزكاة{ ،والزكاة :اسم لكل نفع للخلق :من نفع بدني ،أو
مالي.
-يذكرون هللا كثيرا} ،يقيمون الصالة{ ،والصالة :تعم الصالة املفروضة ،والتطوع ،وقد
يدخل فيها كل ذكر هللا :إما لفظا وإما معنى.
˿ كافر ،وأمره ّبين.
˿ منافق ،وصفاتهم:
} -يأمرون باملنكروينهون عن املعروف{
واملعروف :اسم جامع لكل ما يحبه هللا ،من اإليمان والعمل الصالح .واملنكر :اسم
جامع لكل ما نهى هللا عنه.
-يقبضون أيديهم عن كل خير} ،ويقبضون أيديهم{
-ال ذكرون هللا إال قليال} ،نسوا هللا فنسيهم{
-االستمتاع بالخالق ،والخالق :قيل نصيبهم من الدنيا ،وقيل :من األخرة في الدنيا.
-الخوض في الدين.
5
.2أو يقع في العمل ،بخالف االعتقاد الحق ،كفسق األعمال ونحوها" .الشهوات"
َ ُ ُْ َ ْ َ َ ُ ََ ُ
ضت ْم است ْمت ْعتم بخالقك ْم{ ،إشارة إلى اتباع الشهوات ،وهو داء العصاة ،وقوله} :وخفقوله سبحانه} :ف
اضوا{ ،إشارة إلى اتباع الشبهات ،وهو داء املبتدعة وأهل األهواء والخصومات .وكثيرا ما َك َّالذي َخ ُ
وكذلك النبي ﷺ ملا وصف أن األمة ستفترق على ثالث وسبعين فرقة -قال( :كلها فى النار إال واحدة،
وهى الجماعة) ،فبين :أن عامة املختلفين هالكون من الجانبين ،إال فرقة واحدة ،وهم أهل السنة
والجماعة.
6
-ما يكون املعنيان غيرين ،لكن ال يتنافيان ،فهذا قول صحيح ،وهذا قول صحيح ،وإن لم
يكن معنى أحدهما هو معنى األخر ،وهذا كثير في املنازعات جدا.
-ما يكون طريقتان مشروعتان ،ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق ،وآخرون قد سلكوا
األخرى ،وكالهما حسن في الدين .ثم الجهل أو الظلم :يحمل على ذم إحداهما ،أو تفضيلها
بال قصد صالح ،أو بال علم ،أو بال نية وبال علم.
وكل واحد من املختلفين -في هذا النوع -مصيب فيه بال تردد ،لكن الذم واقع على من بغى على الخر فيه،
وكما في إقرار النبي ﷺ بني قريظة ـ ملن صلى العصر في وقتها ،وملن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة.
» اختالف التضاد فهو :القوالن املتنافيان ،إما في األصول وإما في الفروع ،واملصيب واحد.
ويدخل في هذا القسم قوله تعالى} :تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض{ إلى قوله} :ولو شاء
هللا ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولـكن اختلفوا فمنهم من ءامن
ومنهم من كفر ولو شاء هللا ما اقتتلوا{ ،فحمد فيه إحدى الطائفتين ،وهم املؤمنون ،وذم فيه
األخرى.
وأكثر االختالف الذي يؤول إلى األهواء بين األمة من القسم األول ،وكذلك آل إلى سفك الدماء،
واستباحة األموال ،والعداوة والبغضاء؛ ألن إحدى الطائفتين ال تعترف لألخرى بما معها من الحق وال
تنصفها ،بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ،واألخرى كذلك.
وقريب من هذا الباب :ما خرجاه في الصحيحين ،عن أبي هريرة :أن رسول هللا ﷺ قال( :ذروني ما
تركتكم ،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم ،فإذا نهيتكم عن ش يء
فاجتنبوه ،وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
فأمرهم باإلمساك عما لم يؤمروا به ،معلال :بأن سب هالك األولين إنما كان كثرة السؤال ،ثم االختالف
على الرسل باملعصية ،كما أخبرنا هللا عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موس ى في الجهاد وغيره ،وفي
كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.
وهذا باب واسع الغرض من التنبيه على ما يخاف على األمة من موافقة األمم قبلها؛ إذ األمر في هذا
الحديث كما قاله رسول هللا أصل هالك بني آدم :إنما كان التنازع في القدر ،وعنه نشأت الكثير من
املذاهب التي عطلت كثير من الشرائع.
-ومشابهة بعض طوائف هذه األمة باليهود والنصارى ،وفارس والروم ،مما ذمه هللا ورسوله ،وهو
املطلوب .وال يقال :فإذا كان الكتاب والسنة قد دال على وقوع ذلك ،فما فائدة النهى عنه؟ ألن الكتاب
7
والسنة ـ أيضا ـ قد دال على أنه ال يزال في هذه األمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد إلى قيام
الساعة ،وأنها ال تجتمع على ضاللة؛ ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة املنصورة ،وتثبيتها ،وزيادة
إيمانها .فنسأل هللا املجيب أن يجعلنا منها.
وأيضا :لو فرض أن الناس ال يترك أحد منهم هذه املشابهة املنكرة؛ لكان في العلم بها معرفة القبيح،
واإليمان بذلك؛ فإن نفس العلم واإليمان بما كرهه هللا خير ،وإن لم يعمل به ،بل فائدة العلم واإليمان
أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم ،فإن اإلنسان إذا عرف املعروف وأنكر املنكر ،كان
خيرا من أن يكون ميت القلب ،ال يعرف معروفا وال ينكر منكرا ،أال ترى أن النبي ﷺ قال( :من رأى منكم
منك منكرا فليغيره بيده؛ فإن لـم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اإليمان).
نطيقها ،قال رسول هللا ﷺ" :أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم :سمعنا
وعصينا؟ ،بل قولوا :سمعنا وأطعنا ،غفرانك ربنا وإليك املصير".
فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم ،نسخها هللا فأنزل} :ال يكلف هللا ً
نفسا إال وسعها{ .
كما كان النبي ﷺ يكره مشابهة أهل الكتاب ،وزجر أصحابه عن التبتل ،وقال :ال رهبانية في
اإلسالم ،وأمر بالسحور ،ونهى عن املواصلة.
املواالة واملوادة :وإن كانت متعلقة بالقلب ،لكن املخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين
ومباينتهم.
وكما جاء ودل عليه الكتاب ،جاءت سنة رسول هللا ﷺ ،وسنة خلفائه الراشدين ،بمخالفتهم
وترك التشبه بهم.
8
وفي مخالفة الكافرين شيئين:
أحدهما :أن نفس املخالفة لهم في الهدي الظاهر منفعة ومصلحة لعباد هللا املؤمنين؛ ملا في مخالفتهم
من املجانبة واملباينة ،التي توجب املباعدة عن أعمال أهل الجحيم.
والثاني :أن نفس ما عليهم من الهدى ،والخلق ،قد يكون مضرا ،أو منقصا ،فينهى عنه ،ويؤمر بضده؛
ملا فيه من املنفعة والكمال.
وحقيقة األمر :أن جميع أعمال الكافر وأموره البد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها.
والسلف :تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب ،وتارة بالتشبه باألعاجم ،وكال العلتين منصوص
في السنة ،مع أن الصادق صلى هللا عليه وسلم ،قد أخبر بوقوع املشابهة لهؤالء وهؤالء.
ودلت األحاديث على كثرة ما شرعه هللا لنبيه من مخالفة اليهود ،بل :على أنه خالفهم في عامة أمورهم،
حتى قالوا :ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إال خالفنا فيه.
وقد نهى النبي ﷺ ،عن الصالة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب ،معلال :بأنها تطلع وتغرب بين قرني
شيطان ،وأنه حينئذ يسجد لها الكفار ،ومعلوم أن املؤمن ال يقصد السجود إال هللا تعالى ،وأكثر الناس
قد ال يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ،وال أن الكفار يسجدون لها ،ثم إنه نهى عن الصالة
في هذا الوقت ،حسما ملادة املشابهة بكل طريق.
من صور مخالفة أهل الكتاب :في وضع امليت في أسفل القبر ،قال رسول هللا ( :اللحد لنا والشق لغيرنا)
ً
ثانيا :مخالفة أهل الجاهلية:
ً
أوال :الجاهلية صفة لكن مع الزمن أصبحت اسم ،والجاهلية منسوبة إلى الجهل ،ألن ما كانوا عليه من
األقوال واألعمال إنما أحدثه لهم جاهل ،وإنما يفعله جاهل.
وفي الزمان املطلق :فال جاهلية بعد مبعث محمد ،فإنه ال تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق ،إلى
قيام الساعة.
9
-2نسبة الفعل إلى الجاهلية صفة ذم ،قال تعالى( :وال تبرجن تبرج الجاهلية األولى)
ومن حديث( :إنك امرؤ فيك جاهلية)ّ ،
يتبين:
» الفخر باألحساب.
» الطعن في األنساب.
» االستسقاء بالنجوم.
» والنياحة /والنائحة إذا لم تتب قبل موتها :تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من
جرب.
من صفات الجاهلية التي نهى صلى هللا عليه وسلم عنها:
قاعدة:
ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصيركافرا الكفراملطلق ،حتى تقوم به حقيقة الكفر
وليس كل من قام به شعبة من شعب اإليمان يصيرمؤمنا ،حتى يقوم به أصل اإليمان.
وفيه :أن الرجل -مع فضله وعلمه ودينه -قد يكون فيه بعض هذه الخصال ،املسماة بجاهلية،
وبيهودية ،ونصرانية ،وال يوجب ذلك كفره وال فسقه .
فأعظم فساد الدنيا :قتل النفوس بغير الحق ،ولهذا كان أكبر الكبائر ،بعد أعظم فساد الدين
الذي هو الكفر.
11
وأما فساد الدين فنوعان :نوع يتعلق بالعمل ،ونوع يتعلق بمحل العمل.
فأما املتعلق بالعمل :فهو ابتغاء سنة الجاهلية ،وأما ما يتعلق -بمحل العمل :فاإللحاد في
الحرم؛ ألن أعظم مجال العمل :الحرم.
ومن ذلك :ما يحاول بعض الناس اليوم إحياءه من أمور الجاهلية األولى ،على أنها من التراث
الذي يعتز به ،كإحياء اسم عكاظ :وهو سوق من أسواق الجاهلية ،ودار الندوة :وهي من
منتديات قريش في الجاهلية.
ً
ثالثا :مخالفة األعاجم:
من القرآن:
َ َ األمر َف َّاتبعها َوال َت َّتبع َأ َ
هواء َّال َ
ذين ال َيعلمون{ ،فجعل
ُ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ
>> قول هللا تعالى} :ثم جعلناك على شريعة من
محمدا على شريعة شرعها له وأمره باتباعها ،ونهاه عن اتباع أهواء الذين ال يعلمون ،ويدخل في ذلك كل
من خالف شريعته.
احذ ُهم َأن َيفت َ
نوك َعن َبعض ما
َ الِل َوال َت َّتبع َأ َ ُ
احكم َب َين ُهم بما َأ َنز َل َّ ُ
ُ َ
هواءهم َو ر >> قول هللا تعالىَ } :وأن
َأ َنز َل َّ ُ
الِل إ َل َ
يك{
˿ يدخل في اتباع أهوائهم ما عليه املشركين من هديهم الظاهر ،الذي هو من موجبات دينهم
الباطل ،وموافقتهم فيه اتباع ملا يهوونه ،وموافقتهم فيه قد يكون ذريعة ملوافقتهم في غيره.
˿ متابعتهم في هديهم :من اتباع ما يهوونه ،أو مظنة التباع ما يهوونه ،وترك متابعتهم يعين على
ترك اتباع هديهم ،ويحسم مادة اتباعهم في أهوائهم.
11
ُ ُ َ ُ طر املَسجد َ جت َف َول َو َ
جه َك َش َ َ ُ َ َ َ
الحرام َو َحيث ما كنتم ف َولوا >> قول هللا تعالىَ } :ومن حيث خر
َ ُ َ ُ َ ُ َ َ َ
طر ُه لئال َيكون للناس َعليكم ُح َّجة{ّ .بين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها:وجوهكم ش
مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم؛ ليكون ذلك أقطع ملا يطمعون فيه من الباطل (يطمعون بموافقتنا
لدينهم كما وافقناهم في قبلتهم).
َ َ ُ ُ َّ َ الرسو َل من َبعد ما َت َب َّي َن َل ُه ُ
الهدى َو َيتبع غ َير َسبيل املؤمنين ن َوله ما ت َولى >> قوله تعالىَ } :و َمن ُيشاقق َّ
صيرا{ وما عليه سائر الكافرين من الهدي والعمل هو من غير سبيل املؤمنين، َو ُنصله َج َه َّن َم َو َ
ساءت َم ً
بل ومن سبيل املفسدين ،والذين ال يعلمون.
>> كثرة النهي في كتاب هللا عن مشابهة األمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه ،مثل
َ ُ َ َ
قوله تعالى ملا ذكر ما فعله بأهل الكتاب من العقوبات } :فاعتبروا يا أولي األبصار{ وغيرها كثير.
من السنة:
ُ
>>بالنسبة ملشابهة اليهود فقد أخبر النبي ﷺ عن وصل الشعر( :أن بني إسرائيل هلكوا حين أحديثه
نساؤهم) ،فيحذر أمته من ذلك.
>>وكان السلف رض ي هللا عنهم يحذرون من صفات اليهود التي حذر هللا منها في القرآن ،مثل قسوة
القلوب واالختالف وتحريف كالم هللا وغيرها.
>>ذكر حال الذين ابتدعوا الرهبانية وما رعوها ،فإن اإليمان بالرسول :تصديقه وطاعته واتباع
شريعته ،وفي ذلك ُمخالفة للرهبانية؛ ألنه لم ُيبعث بها ،بل نهى عن التشدد في الدين بالزيادة على
املشروع.
والتشديد:
تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب وال ُمستحب بمنزلة الواجب واملستحب في العبادات.
وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم وال مكروه بمنزلة املحرم واملكروه من الطيبات.
وإن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد هللا إما بالشرع أو بالقدر.
فأما التشديد بالشرع :مثل ما كان النبي ﷺ يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم ،كنحو سؤالهم
ّ
عن أشياء لم تحرم ،وما خافه ﷺ ملا اجتمعوا لصالة التراويح.
12
وأما التشديد بالقدر :فكثير ما رأينا من كان يتنطع في أشياء ُ
فيبتلى بأسباب تشدد عليه األمور في
اإليجاب أو التحريم ،مثل املوسوسين في الطهارة إذا زادوا على املشروع ،ابتلوا بأسباب توجب حقيقة
عليهم أشياء ُمشقة ُمضرة.
والغرض هنا بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة ،ومخالفة النصارى
فيما هم عليه من الرهبانية املبتدعة.
>>ومن ذلك أنه ﷺ حذرنا من ُمشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين األشراف والضعفاء،
وأمر أن ُي َّ
سوى بين الناس في ذلك.
فصل
>>قال ﷺ( :كل ش يء من أمرالجاهلية تحت قدمي موضوع ،ودماء الجاهلية موضوعة) ،وهذا يدخل
فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات ،مثل دعواهم :يا لفالن ،ومثل أعيادهم ،وغيرها.
ُ
ثم خص الدماء واألموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية.
ٌ
ومفهوم من هذا أن املنهي عنه ما كانوا عليه مما لم يقره اإلسالم وإن لم ينه عنه بعينه ،وال يدخل في
هذا اللفظ :ما كانوا عليه في الجاهلية وأقره هللا في اإلسالم ،كاملناسك ،ودية املقتول بمائة وكالقسامة.
>>ومثل هذا نهي النبي ﷺ عن الذبح بالظفر ملا ُسئل فقال ...( :وليس السن والُفر ..أما السن فعُم،
وأما الُفرفمدى الحبشة) ،فعلل النهي بأنها ُمدى الحبشة،
والحبشة في أظفارهم طول ُيذكون بها دون سائر األمم ،فيجوز أن يكون نهى عن ذلك ملا فيه من
مشابهتهم فيما يختصون به.
وتبين بذلك أن أصل ظهور الكفرواملعاص ي على دين هللا وشرائعه :هو التشبه بالكافرين.
القنع :شبور اليهود ،فقال( :هو من أمر اليهود) ،فانصرففقال( :هو من فعل النصارى) ،فذكروا له ُ
ُ مهتم ّ
عبد هللا بن زيد بن عبد ربه وهو ّ
لهم النبي ﷺ ،فأري األذان في منامه ،ثم ملا أخبر ﷺ فقال ﷺ( :يا
ِ
بالل ،قم فناد بالصالة) ،والغرض هنا أن النبي ﷺ كره بوق اليهود املنفوخ فيه بالفم ،وناقوس النصارى
املضروب باليد علل هذا بأنه من أمر اليهود ،وعلل هذا بأنه من أمر النصارى ،وهذا يقتض ي أمران:
>>وملا رأى ﷺ ثوبين معصفرين على أحد الصحابة قال له( :إن هذه ثياب الكفار ،فال تلبسها) ،علل
النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار.
>>وفي الحديث قال إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الخرة ،ولذلك كان
العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار.
فصل
اإلجماع:
وأما إجماع الصحابة والتابعين واألئمة من بعدهم على األمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم
في الجملة فمن وجوه:
-الوجه األول :أن أمير املؤمنين عمر رض ي هللا عنه ثم عامة األئمة من بعده وسائر الفقهاء جعلوا
في الشروط املشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ،فيما شرطوه على أنفسهم " :أن
نوقر املسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ،وال نتشبه بهم في ش يء ،من لباسهم:
قلنسوة ،أو عمامة ،أو نعلين ،أو فرق شعر ،وال نتكلم بكالمهم ،وال نكتني بكناهم ،وال نركب
السروج ،وال نتقلد السيوف ،وال نتخذ شيئا من السالح وال نحمله ،وال ننقش خواتيمنا
بالعربية ،وال نبيع الخمور " ...وفي رواية أخرى رواها الخالل " :وأن ال نضرب بنواقيسنا إال ضربا
خفيا ،في جوف كنائسنا ،وال نظهر عليها صليبا ،وال كتابا في سوق املسلمين"....
وهذه الشروط أشهر ش يء في كتب الفقه والعلم ،وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من األئمة
املتبوعين وأصحابهم ،وهي أصناف ،منها:
14
ما مقصوده التمييز عن املسلمين ،في الشعور واللباس واألسماء واملراكب والكالم ،ونحوها؛
ليتميز املسلم عن الكافر وال يتشبه أحدهما بالخر في الظاهر ،وذلك يقتض ي :إجماع املسلمين
على التمييز عن الكفار ظاهرا ،وترك التشبه بهم.
ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس ،والنيران
واألعياد ونحو ذلك.
ما يعود بإخفاء شعار دينهم ،كأصواتهم بكتابهم.
ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه هللا تعالى.
-الوجه الثاني من دالئل اإلجماع :أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين،
في أوقات متفرقة ،وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر ،وأمثلتها:
عن قيس بن أبي حازم قال " :دخل أبو بكر الصديق رض ي هللا عنه ،على امرأة من أحمس ،يقال
لها :زينب ،فرآها ال تتكلم ،فقال :مالها ال تتكلم؟ قالوا :حجت مصمتة ،فقال لها تكلمي ،فإن
هذا ال يحل ،هذا عمل الجاهلية ،فتكلمت " ...إلى آخر الرواية.
فأخبر أبو بكر أن الصمت املطلق ال يحل ،وعقب ذلك بقوله :هذا من عمل الجاهلية ،قاصدا
بذلك عيب هذا العمل وذمه.
ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب :أنه كتب إلى املسلمين املقيمين ببالد فارس:
" إياكم وزي أهل الشرك" ولعمر رض ي هللا عنه في هذا الباب من السياسات املحكمة ما هي
مناسبة لسائر سيرته املرضية.
فهذا عن الخلفاء الراشدين ،وأما سائر الصحابة رض ي هللا عنهم فكثير مثل:
ما قدمنا عن حذيفة بن اليمان :أنه ملا دعي إلى وليمة فرأى شيئا من زي العجم خرج وقال " :من
تشبه بقوم فهو منهم" .
وروى سعيد أيضا عن ابن مسعود :أنه كان يكره الصالة في الطاق ،وقال" :إنه في الكنائس ،فال
تشبهوا بأهل الكتاب"
وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابةُ .
فعلم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار واألعاجم.
-الوجه الثالث في تقريراإلجماع :ما ذكره عامة علماء اإلسالم من املتقدمين ،واألئمة املتبوعين
وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار ،أو مخالفة النصارى ،أو مخالفة
األعاجم ،وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه ،وهذا بعد التأمل والنظر يورث علما ضروريا،
باتفاق األئمة ،على النهي عن موافقة الكفار واألعاجم ،واألمر بمخالفتهم.
15
فمن ذلك :أن األصل املستقر عليه في مذهب أبي حنيفة :أن تأخير الصالة أفضل من تعجيلها،
إال في مواضع يستثنونها.
ثم قالوا :يستحب تعجيل املغرب؛ ألن تأخيرها مكروه ملا فيه من التشبه باليهود ،وهذا -أيضا-
قول سائر األئمة ،وهذه العلة منصوصة كما تقدم.
وأما مذهب مالك وأصحابه ففيه ما هو أكثر من ذلك ،حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم
في املدونة " :ال ُيحرم باألعجمية وال يدعو بها وال يحلف"
وقال بعض أصحاب مالك :من ذبح بطيخة في أعيادهم ،فكأنه ذبح خنزيرا.
وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا األصل في غير موضع من مسائلهم ،مما جاءت به الثار،
فذكروا في السحور وتأخيره :أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب.
وأما كالم أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جدا ،أكثر من أن يحصر.
مثل قول أحمد " :ما أحب ألحد إال أن يغير الشيب وال يتشبه بأهل الكتاب" وكره حلق القفا ،وقال" :
هو من فعل املجوس ،ومن تشبه بقوم فهو منهم"
وما في هذا الباب عن سائر أئمة املسلمين من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء ،أكثر من أن يمكن ذكر
عشره ،وقد قدمنا في أثناء األحاديث كالم بعضهم الذي يدل على كالم الباقين ،وبدون ما ذكرناه ُيعلم
إجماع األمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب واألعاجم في الجملة ،وإن كانوا قد يختلفون في بعض
الفروع ،إما العتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار ،أو العتقاده أن فيه دليال راجحا ،أو لغير ذلك،
كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة ،وإن كان قد يخالف بعضهم شيئا من ذلك لنوع تأويل.
فصل
األمربمخالفة الشيطان ،قال ﷺ( :ال يأكلن أحدكم بشماله ،وال يشربن بها ،فإن الشيطان يأكل
بشماله ،ويشرب بها) ،فعلل النهي عن األكل والشرب بالشمال :بأن الشيطان يفعل ذلك؛ ُ
فعلم أن
مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به.
16
مخالفة من لم يكمل دينه من األعراب ونحوهم؛ ألن كمال الدين :الهجرة ،فكان من آمن ولم يهاجر
ود َما َأ َنز َل َّ ُ
الِل اب َأ َش ُّد ُك ْف ًرا َون َف ًاقا َو َأ ْج َد ُر َأ َّال َي ْع َل ُموا ُح ُد َ َْ
األ ْع َر ُ– من األعراب ونحوهم – ناقصا} .
َع َلى َ ُسوله ۗ َو َّ ُ
الِل َعليم َحكيم{ ر
قال ﷺ( :ال تغلبنكم األعراب على اسم صالتكم ،أال إنها العشاء ،وهم يعتمون باإلبل) ،وقال ﷺ( :ال
تغلبنكم األعراب على اسم صالتكم املغرب) قال( :واألعراب تقول :هي :العشاء).
فقد كره موافقة األعراب في اسم املغرب والعشاء ،بالعشاء والعتمة ،وهذه الكراهة عند بعض العلماء:
ففي الحديث النهي عن موافقة األعراب في ذلك ،كما نهى عن موافقة األعاجم.
فصل
-أن نفس (الكفر ،والتشيطن) مذموم في حكم هللا ورسوله وعباده املؤمنين.
-أن (األعرابية ،واألعجمية) ليست مذمومة في نفسها عند هللا ورسوله واملؤمنين،
فالفضل الحقيقي :اتباع ما بعث هللا به محمدا ﷺ من اإليمان والعلم باطنا وظاهرا ،فكل من
كان فيه أمكن :كان أفضل.
17
والفضل إنما هو باألسماء املحمودة في الكتاب والسنة مثل :اإلسالم ،واإليمان ،والبر،
والتقوى ،والعلم ،والعمل الصالح ،واإلحسان ،ونحو ذلك ،ال بمجرد كون اإلنسان عربيا ،أو
عجميا ،أو أسود ،أو أبيض ،وال بكونه قرويا ،أو بدويا.
» أن هللا سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتض ي من كمال اإلنسان في العلم والدين ،ورقة
القلوب ،ما ال يقتضيه سكنى البادية ،وإن جاز تخلف هذا املقتض ى ملانع ،وكانت البادية أحيانا
أنفع من القرى.
» جعل هللا الرسل من أهل القرى؛ ألن الرسل لهم الكمال في عامة األمور ،حتى في النسبَ } .و َما
ُْ َ َ ُ َ َ َْ
أ ْر َسلنا م ْن ق ْبل َك إال ر َجاال نوحي إل ْيه ْم م ْن أ ْهل الق َرى{.
الِل َعليم ود َما َأ َنز َل َّ ُ
الِل َع َلى َ ُسوله ۗ َو َّ ُ اب َأ َش ُّد ُك ْف ًرا َون َف ًاقا َو َأ ْج َد ُر َأ َّال َي ْع َل ُموا ُح ُد َ َْ
األ ْع َر ُ » }
ر
َحكيم{ ،لهذا :روي عن النبي ﷺ أنه قال( :من سكن البادية جفا ،ومن اتبع الصيد غفل ،ومن
أتى السلطان افتتن).
وهذا األصل:
.1يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية ،وإن كان بعض أعيان البادية أفضل
من أكثر الحاضرة ،مثال.
.2يقتض ي أن ما انفرد به البادية عن جميع جنس الحاضرة -أعني في زمن السلف من الصحابة
والتابعين -فهو ناقص عن فضل الحاضرة ،أو مكروه؛ فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل
الحاضرة املهاجرين ،كان ذلك إما مكروها ،أو مفضيا إلى مكروه ،وهكذا العرب والعجم.
الذي عليه أهل السنة والجماعة :اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم ،وأن قريشا
أفضل العرب ،وأن بني هاشم :أفضل قريش ،وأن رسول هللا ﷺ أفضل بني هاشم .فهو :أفضل الخلق
نفسا ،وأفضلهم نسبا .والتفضيل ثابت لهم في حقيقتهم ،وليس ملجرد كون النبي ﷺ منهم.
قال ﷺ ( إن هللا خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ،ثم خير القبائل ،فجعلني في خير قبيلة ،ثم خير
ً البيوت ،فجعلني في خير بيوتهم ،فأنا خيرهم ً
نفسا ،وخيرهم بيتا) .فالحديث صريح بتفضيل العرب
على غيرهم.
18
أسباب تفضيل العرب:
.1ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخالقهم وأعمالهم ،فلما بعث هللا محمدا ﷺ بالهدى :تلقوا
عنه ذلك الهدى العظيم ،فأخذوه بتلك الفطرة الجيدة ،فاجتمع لهم الكمال بالقوة املخلوقة فيهم،
والكمال الذي أنزل هللا إليهم :فصار السابقون األولون من املهاجرين واألنصار أفضل خلق هللا بعد
األنبياء ،وصار أفضل الناس بعدهم :من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة :من العرب والعجم.
فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه هللا لهم ،وبمخالفة من سواهم؛ إما
ملعصيته وإما لنقيصته ،وإما ألنه مُنة النقيصة.
.2أن العربية مالزمة للدين الحنيف -اإلسالم -فالعرب هم السابقون لإلسالم ،ومن لحقهم من
الفرس والروم وغيرهم واعتنق اإلسالم وتمسك به؛ دخل معهم في الفضل وإن لم يكن عربي النسب.
ومن تخلف عن اإلسالم ،أو أخل ببعض أحكامه ،ووافق العجم فيما يخالف شعائر اإلسالم وهديه؛
فإنه ينقص فضله وإن كان عربي النسب.
.3أنزل هللا كتابه باللسان العربي +وجعل رسوله مبلغا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي +وجعل
السابقين إلى هذا الدين متكلمين به = لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إال بضبط اللسان،
وصارت معرفته من الدين ،وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين هللا،
وأقرب إلى إقامة شعائر الدين ،وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين األولين من املهاجرين واألنصار،
في جميع أمورهم.
اللسان تقارنه أمور أخرى :من العلوم واألخالق؛ فإن العادات لها تأثير عُيم فيما يحبه هللا وفيما
يكرهه ،فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين األولين ،في أقوالهم وأعمالهم ،وكراهة
الخروج عنها إلى غيرها من غيرحاجة.
ب .ما عليه األعاجم املسلمون ،مما لم يكن عليه السابقون األولون.
ج .الجاهلية العربية :ما كان عليه أهل الجاهلية قبل اإلسالم ،وما عاد إليه كثير من العرب من
الجاهلية التي كانوا عليها.
19
فحاصله :أن النهي عن التشبيه بهم؛ ملا يفض ي إليه من فوت الفضائل ،التي جعلها هللا للسابقين
األولين ،أو حصول النقائص التي كانت في غيرهم.
ولهذا :ملا علم املؤمنون من أبناء فارس وغيرهم ،هذا األمر ،أخذ من وفقه هللا منهم نفسه باالجتهاد
في تحقيق املشابهة بالسابقين ،فصارأولئك من أفضل التابعين بإحسان إلى يوم القيامة ،وصاركثير
منهم أئمة لكثيرمن غيرهم.
انقسام العرب:
_3دارهم (مسكنهم) جزيرة العرب _2نسلهم(نسبهم) من أوالد العرب _1لسانهم باللغة العربية
.1االنقسام في الدار :ملا جاء اإلسالم وفتحت األمصار :سكنوا سائر البالد ،ثم انقسمت هذه
البالد إلى ثالثة أقسام:
_3ما هو عجمي _2ما هو عربي انتقاال (متحول) _1ما هو عربي ابتداء (أصلي)
قوم من نسل العرب بقوا على العربية :لسانا ودارا ،أو لسانا ال دارا ،أو دارا ال لسانا. 1
قوم من نسل العرب تحولوا إلى العجمية :لسانا ودارا ،أو لسانا ال دارا ،أو دارا ال لسانا. 2
قوم مجهولو األصل ال يدرى من نسل العرب هم ،أم من نسل العجم ،وهم إما :عرب الدار واللسان، 3
أو عرب الدار عجم اللسان ،أو عجم الدار عرب اللسان.
_1قوم يتكلمون بالعربية لفظا _2قوم يتكلمون بالعربية لفظا _3قوم ال يتكلمون بها إال قليال.
ال نغمة(املتعربون). ونغمة.
ف منهم من تغلب عليه العربية ،ومنهم من تغلب عليه العجمية ،ومنهم من قد يتكافأ في حقه األمران :إما
قدرة ،وإما عادة.
إذا كانت العربية قد انقسمت :نسبا ولسانا ودارا = فإن األحكام تختلف باختالف هذه
األقسام ،خصوصا النسب واللسان.
21
واملقصود هنا :أن ما ذكرته من النهي عن التشبه باألعاجم :إنما العبرة بما كان عليه صدر اإلسالم ،من
السابقين األولين ،فكل ما كان إلى هداهم أقرب فهو املفضل ،وكل ما خالف ذلك فهو املخالف ،سواء
كان املخالف لذلك اليوم عربي النسب ،أو عربي اللسان.
فصل
من األدلة ما يوجب إتباع شرع من قبلنا؛ ألن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخالفه ،ودليل
ذلك:
من القرآن:
قوله تعالى} :فبهداهم اقتده{ ،وقوله تعالى} :اتبع ملة ابراهيم{.
من السنة:
-أن الرسول ﷺ قدم املدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ،فقال لهم رسول هللا ﷺ( :ما هذا اليوم
الذي تصومونه؟) قالوا :هذا يوم عظيم ،أنجى هللا فيه موس ى وقومه ،وأغرق فرعون وقومه ،فصامه
موس ى شكرا هلل ،فنحن نصومه تعظيما له .فقال رسول هللا ﷺ( :فنحن أحق بموس ى منكم .فصامه
رسول هللا ﷺ وأمربصيامه).
-وأيضا كان الرسول ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بش يء.
ُ
فهذه األدلة يجب أن تبني على شرطين كالهما منفي:
األول :أن يثبت أن ذلك شرع لهم بنقل موثوق به؛ كأن يخبرنا هللا تعالى في كتابه أو ينقل بالتواتر ،أ ّما
الرجوع إلى قولهم أو إلى ما في كتبهم فال يجوز باالتفاق.
ُ
الثاني :أن ال يكون بشرعنا بيان خاص لذلك ،أ ّما باملخالفة (فنحن أمرنا أن نتبع هدي الرسول ﷺ) ،أو
باملوافقة (تكون املوافقة في بعض األحكام العارضة ال ِ
بالشعار الدائم.
-أ ّما حديث عاشوراء فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رض ي هللا عنها قالت( :كانت قريش تصوم يوم
عاشوراء في الجاهلية ،وكان رسول هللا ﷺ يصومه ،فلما هاجر إلى املدينة صامه وأمر بصيامه ،فلما
فرض صوم شهر رمضان ،قال "من شاء صامه ومن شاء تركه").
-أ ّما إن قيل كان رسول هللا ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بش يء ،فهذا له وجوه:
ً
أوال :هذا األمر كان متقدما ،ثم نسخ هللا ذلك وشرع له مخالفة أهل الكتاب ،مثال :استقبال بيت
املقدس نسخ باستقبال الكعبة.
21
واألمثلة عن ذلك كثيرة وكلها تدل على أن ما جاء في التشبه كان في صدر الهجرة عندما كان املسلمون
ضعفاء ،ثم نسخ األمر وشرعت املخالفة بعد ظهور الدين وعلوه؛ كالجهاد.
ً
تطبيقا لذلك:
املسلم بدار كفر ليس مأمورا باملخالفة في الهدي الظاهر ،بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه
مشاركتهم أحيانا في هديهم الظاهر إذ كان في ذلك مصلحة دينية .أ ّما في دار اإلسالم التي أعز هللا فيها
دينه ففيها شرعت املخالفة.
ثانيا :لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فإنه يخص النبي ﷺ؛ ألنه كان يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه هللا ً
إياه ونحن نتبعهّ ،
فأما نحن فال يجوز أن نأخذ شيئا من الدين عنهم.
ُ ً
ثالثا :أن نقول إن الرسول ﷺ كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بش يء ،ثم إنه أمر
ّ
بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه ،أي أنا منهيون عن التشبه في ما لم يكن سلف األمة عليه ،أ ّما إن
كان سلف األمة عليه فال ريب فيه.
فصل
ثانيا :قسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن ،فاملوافقة في هذا محرمة.ً
ً
ثالثا :قسم لم يكن مشروعا إنما أحدثوه ،فاملوافقة فيه ظاهره القبح.
فصل
الطريق العام :فموافقة أهل الكتاب فيما ليس من ديننا ،وال عادة سلفنا مفسدة ومخالفتهم مصلحة.
من جهة أخرى أنها من البدع املحدثة ،فأقل أحوال التشبه بهم مكروه ،كما أقل أحوال البدع مكروه،
بدليل قوله ﷺ( :من تشبه بقوم فهو منهم) ،فهذا يوجب عدم التشبه بهم مطلقا.
فكل الدالئل تشير إلى أن التحريم يقع في األعمال التي من دينهم أو شعارا لهم ،لكن ما لم يكن من دينهم
أو شعارا لهم فإنه جائز؛ كنزع النعلين في الصالة.
22
الطريق الثاني الخاص ،فاألدلة:
من القرآن:
قوله تعالى} :والذين ال يشهدون الزوروإذا مروا باللغو مروا كراما{،فأكثر من واحد من التابعين فسر
–يشهدون الزور -بأعياد املشركين.
من السنة:
ً
أوال :روى أنس بن مالك رض ي هللا عنه قال :قدم رسول هللا ﷺ املدينة ،ولهم يومان يلعبون
فيهما .فقال( :ما هذان اليومان؟) فقالوا :كنا نلعب فيهما في الجاهلية .فقال رسول هللا ﷺ( :إن
خيرا منهما :يوم األضحى ويوم الفطر) .فوجه الداللة :أن الرسول ﷺ لم هللا أبدلكم بهما ً
يقرهما ،بل أبدلها لهم بالعيدين ،واإلبدال من الش يء يقتض ي ترك املبدل منه.
ً
ثانيا :ما رواه أبو داود :أنه نذر رجل على عهد رسول هللا ﷺ أن ينحر إبال ببوانة ،فأتى النبي ﷺ،
فقال :إني نذرت أن أنحر إبال ببوانة .فقال النبي ﷺ( :هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية
يعبد؟) قالوا :ال ،فقال ﷺ( :هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) قالوا :ال ،فقال النبي ﷺ( :أوف
بنذرك فإنه ال وفاء لنذر في معصية هللا وال فيما ال يملك ابن آدم) ،وبوانة :موضع قريب من
مكة ،وهذا الحديث يدل على:
-أن الذبح بمكان أعيادهم وأوثانهم معصية من وجوه:
األول :قوله (أوف بنذرك) ،فسبب األمر بالوفاء وجود النذر خالي من الوصفين.
الثاني :تعقيب (ال وفاء لنذرفي معصية هللا) يدل على أن هاذين الوصفين مشمولين في معصية هللا.
الثالث :إذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه ،فكيف املوافقة بنفس العيد!
-أن العيد :اسم ملا يعود من االجتماع العام على وجه معتاد عائد .فهو يجمع أمورا:
23
ً
ثالثا :دل هذا الحديث وغيره ،على أن الناس كان لهم في الجاهلية أعيادا ،وبمبعث رسول هللا
ﷺ محا هللا ذلك عنهم ،ولوال نهيه ملا تركها الناس؛ ألن املقتض ى لها قائم ،ومن جهة إلف العادة.
وقد بالغ رسول هللا ﷺ في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من املباحات ،وصفات الطاعات؛ كيال يكون ذريعة
إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم.
ابعا :ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رض ي هللا عنها قالت" :دخل علي أبوبكر رض ي هللا ر ً
عنه وعندي جاريتان من جواري األنصار تغنيان بما تقاولت به األنصار يوم بعاث ،قالت:
وليستا بمغنيتين ،فقال أبوبكر رض ي هللا عنه :أبمزمور الشيطان في بيت رسول هللا ﷺ؟ وذلك
يوم عيد ،فقال رسول هللا( :يا أبابكر ،إن لكل قوم عيدا ،وهذا عيدنا)"!
فالداللة من وجوه:
الوجه األول :قوله ﷺ( :إن لكل قوم عيدا ،وهذا عيدنا) ،فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم،
وذلك أن الالم تورث االختصاص ،فلكل عيده فال نشركهم فيه ،كما ال نشركهم في قبلتهم وشرعتهم.
الوجه الثاني :قوله ﷺ( :وهذا عيدنا؟) فإنه يقتض ي حصر عيدنا في هذا ،فليس لنا عيد سواه ،وليس
غرضه في الحصر في عين ذلك اليوم ،بل اإلشارة إلى جنس املشروع.
ومن هذا الباب :حديث عقبة بن عامر رض ي هللا عنه ،عن النبي ﷺ أنه قال( :يوم عرفة ويوم النحر،
وأيام منى ،عيدنا أهل اإلسالم ،وهي أيام أكل وشرب).
الوجه الثالث :أنه رخص في لعب الجواري بالدف ،وتغنيهن ،معلال بأن لكل قوم عيدا ،وأن هذا عيدنا،
وذلك يقتض ي :أن الرخصة معللة بكونه عيد املسلمين ،وأنها ال تتعدى إلى أعياد الكفار.
فلو كانت الرخصة معلقة باسم (عيد) لكان األعم مستقال بالحكم ،فيكون األخص عدم التأثير ،فلما
علل باألخص ُعلم أن الحكم ال يثبت بالوصف األعم ،وهو مسمى :عيد .وهذا فيه داللة على النهى عن
التشبه بهم في اللعب ونحوه.
ً
خامسا :أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى ،حتى أجالهم عمر رض ي هللا عنه في خالفته.
ومن املعلوم :أن هؤالء كانت لهم أعياد يتخذونها ،ومن كانت له خبرة بالسيرة ،علم يقينا أن املسلمين
على عهده ما كانوا يشركونهم في ش يء من أمرهم.
غاية ما كان يوجد :ذهاب البعض إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم ،فنهى عمر ،وغيره من
الصحابة عن ذلك ،فكيف لو كان بعض الناس يفعل ما يفعلونه؟
24
بل ،ملا ظهر من بعض املسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم ،مخالفة لهم ،نهاه كثير من الفقهاء عن
ذلك؛ ألجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم ،أفال يستدل بهذا على أن املسلمين تلقوا عن نبيهم الـمنع عن
مشاركتهم في أعيادهم؟.
سادسا :عن أبي هريرة ،وحذيفة رض ي هللا عنهما ،قاال :قال رسول هللا ﷺ( :أضل هللا عنً
الجمعة من كان قبلنا ،فكان لليهود يوم السبت ،وكان للنصارى األحد ،فجاء هللا بنا فهدانا
ليوم الجمعة ،فجعل الجمعة والسبت واألحد ،وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ،نحن
األخرون من أهل الدنيا ،واألولون يوم القيامة املقض ي لهم) وفي رواية ( :بينهم ـ قبل الخالئق).
وقد سمى النبي ﷺ الجمعة :عيدا ،في غير موضع ،ونهى عن إفراده بالصوم؛ ملا فيه من معنى العيد.
ثم إنه في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا ،كما أن السبت لليهود ،واألحد للنصارى ،والالم تقتض ي
االختصاص ،ثم هذا الكالم يقتض ي االقتسام ،فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت ،أو عيد يوم
األحد ،خالفنا هذا الحديث وإذا كان هذا في العيد األسبوعي فكذلك في العيد الحولي ،إذ ال فرق.
سابعا :ما روى كريب مولى ابن عباس رض ي هللا عنهما قال :وأرسلني ابن عباس وناس من ً
أصحاب النبي ﷺ إلى أم سلمة رض ي هللا عنها ،أسألها :أي األيام كان النبي ﷺ أكثرها صياما؟
قالت" :كان يصوم يوم السبت ،ويوم األحد ،أكثر ما يصوم من األيام ،ويقول( :إنهما يوما عيد
للمشركين ،فأنا أحب أن أخالفهم).
وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم ،وإن كان على طريق االستحباب ،وتعليل ذلك أيضا بمخالفتهم.
وإنما اختلفوا :هل مخالفتهم يوم عيدهم بالصوم ملخالفة فعلهم فيه ،أو باإلهمال حتى ال يقصد بصوم
وال بفطر ،أو يفرق بين العيد العربي ،والعيد العجمي؟
الوجه األول :أن اليهود والنصارى واملجوس ما زالوا في أمصار املسلمين بالجزية ،يفعلون أعيادهم التي
لهم ،ثم لم يكن على عهد السابقين من املسلمين من يشركهم في ش يء من ذلك ،فعلم وجود املانع ،واملانع
هو :دين اإلسالم ،وهو املطلوب.
الوجه الثاني :أنه قد تقدم في شروط عمر رض ي هللا عنه ،أن أهل الذمة من أهل الكتاب ال يظهرون
أعيادهم في دار اإلسالم ،فإذا كان املسلمون قد اتفقوا على منعهم من اظهارها ،فكيف يسوغ للمسلمين
فعلها؟
ولو لم يكن في فعل املسلم لها من الشر إال تجرئة الكافر إذا فعلها ،فكيف وفيها من الشر ما فيها؟
25
الوجه الثالث :النهي عن مشابهتهم في اللغة واألعياد ،فقد روي عن عمر رض ي هللا عنه أنه قال« :إياكم
ورطانة األعاجم ،وأن تدخلوا على املشركين يوم عيدهم فـي كنائسهم» ،فقد نهى عمر رض ي هللا عنه عن
ّ
تعلم لسانهم ،وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم ،فكيف بفعل بعض أفعالهم؟
وكذلك علي رض ي هللا عنه فقد كره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به ،فكيف بموافقتهم في
العمل؟
ُ
وعن تحدث العرب باألعجمية ،فأكثر ما يفعلون ذلك ،إما لكون املخاطب أعجميا أو قد اعتاد عليها
فيريدون تقريب األفهام عليه.
وأما اعتياد الخطاب بغيرالعربية التي هي شعار اإلسالم حتى يصير ذلك عادة فال ريب أنه مكروه ،فهو
من التشبه باألعاجم .ولهذا ملا سكن املسلمون املتقدمون أرض الشام ومصر وغيرها من البالد التي كانت
لغات أهلها غير العربية عودوهم –أي املسلمون -العربية حتى غلبت على أهل هذه األمصار ،مسلمهم
وكافرهم.
واعلم أن:
-اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين ،ويؤثر في مشابهة صدر هذه األمة من الصحابة والتابعين.
-وأن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض ،فإن فهم الكتاب والسنة فرض ،وال يفهم إال بفهم
ٌ
واجب ٌ
واجب على األعيان ومنها ما هو العربية ،وما ال يتم الواجب إال به فهو واجبّ .
ثم إن منها ما هو
على الكفاية.
الوجه األول :أن األعياد في جملة الشرع واملناهج واملناسك ،كالقبلة والصالة ،التي قال هللا ُسبحانه
ُ ً
فيها} :لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه{،فال فرق بين مشاركتهم في العيد وبين ُمشاركتهم في سائر
املناهج.
ُ
-فاملوافقة في جميع العيد :موافقة في الكفر.
ُ ُ
-واملوافقة في بعض فروعه :موافقه في بعض شعب الكفر .بل األعياد مما تتميز به الشرائع؛ فاملوافقة
فيه موافقة في أخص شرائع الكفر.
26
وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية ،وهي أقبح من ُمشاركتهم في ليس الزنار ونحوه من عالماتهم؛
ألن تلك عالمة وضعية ليست من الدين ،أما العيد وتوابعه فإنه من الدين امللعون هو وأهله ،واملوافقة
فيه من أسباب سخط هلل وعقابه.
وبالقياس التمثيلي أنه من شرائع الكفر أو شعائره ،فحرمت موافقتهم فيه كسائر شرائع الكفر
وشعائره.
الوجه الثاني :أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية هلل؛ ألنه إن كان:
-مما يتدين به فإما أن يكون ُ :محدث مبتدع ،وإما منسوخ ،وإما بمنزلة صالة املسلم إلى بيت املقدس.
-وإن كان مما يتبع ذلك من التوسع في العادات –من الطعام واللعب -فهو تابع لذلك العيد الديني.
ُ
ولو كره املسلم ذلك لكن غير عادته ذلك اليوم –كصنعة طعام أو بزينة ولباس -من غير تعبد بتلك
العادة لكان ذلك من أقبح املنكرات؛ فاملسلم ال يقر على مبتدع وال منسوخ ،ومشابهة الكفار أشد.
الوجه الثالث :إذا ُسوغ فعل القليل أدى إلى فعل الكثير ،ثم إذا اشتهر الش يء دخل فيه عوام الناس
فتناسوا أصله حتى يصير عادة ،بل غيدا ،حتى يضاهى بعيد هللا ،حتى يكاد يفض ي إلى موت اإلسالم
وحياة الكفر.
واعلم َّأنا لو لم نر موافقتهم أفضت إلى هذه القبائح لكان استداللنا بأصول الشريعة يوجب النهي عن
هذه الذريعة ،ولهذا الوجه مقدمتان:
.1أن املشابهة تفض ي إلى كفر أو معصية غالبا وهذا شهد به الواقع ،وما أفض ى إلى ذلك كان محرما.
.2أن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دال على أن ما أفض ى إلى الكفر ُ
حرم ،وما أفض ى إليه على
حرم ،وما أفض ى إليه في الجملة ُ
حرم. وجه خفي ُ
الوجه الرابع :أن األعياد واملواسم في الجملة لها منفعة عُيمة في دين الخلق ودنياهم ،ولهذا جاءت
به كل شريعة ،وهو في ديننا ّ
أتم الوجوه ،فإنه ال عيد في النوع أتم من عيد النحر الذي يجتمع في املكان
والزمان .وإذا أخذ العبد من غير األعمال املشروعة بعض حاجته قلت رغبته في املشروع وانتقاعه به،
همته إلى املشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إس ُ
المه ،ولهذا بخالف من صرف ّ
جاء في الحديث (ما ابتدع قوم بدعة إال نزع هللا عنهم من السنة مثلها) ،فلذلك عظمت الشريعة النكير
على من أحدث البدع؛ ألنها توجب فسادا ،منه :نقص منفعة الشريعة في حقه.
وإذا ّ
تبين هذا فال يخفى ما جعل هللا في القلوب من التشوق إلى العيد واالهتمام بأمره ،وغير ذلك مما
وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على االنتفاع باملخصوص يوجب تعظيمه؛ وصار مما ّ
27
من العبادات الشرعية ،فإذا أعطيت النفوس حقها في غير ذلك اليوم فترت عن الرغبة في عيد هللا،
وزال ما كان له من املحبة والتعظيم ،فخسرت النفوس خسرانا مبينا ،ولو قيل أن في القلوب ما يسع
اإلثنين قيل :لو تجردت ألحدهما لكان أكمل.
الوجه الخامس :أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرورقلوبهم بما هم عليه من الباطل ،وربما
أمر محسوس. أطمعهم في ذلك انتهاز الفرص واستذالل الضعفاء ،وهذا أيضا ُ
الوجه السادس :أن ما يفعلونه في عيدهم إما كفر ،أو حرام ،أو مباح إذا تجرد عن مفسدة املشابهة،
والتميز بينها ظاهر غالبا ،إال أنه يخفى على كثير من العامة؛ فاملشابهة فيما لم يُهر تحريمه للعالم
يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام.
* والفرق بين هذا الوجه ووجه الذريعة :أن وجه الذريعة املوافقة في القليل تدعو للموافقة في الكثير،
ّأما هنا فجنس املشابهة يلبس على العامة دينهم.
الوجه السابع :أن هللا تعالى جبل سائراملخلوقات على التفاعل بين الشيئين املتشابهين ،وكلما كانت
املشابهة أكثر كان التفاعل في األخالق والصفات أتم ،وألجل ذلك وقع التأثر والتأثير في بني آدم ،واكتساب
بعضهم أخالق بعض باملعاشرة ،فاملشابهة في األمور الظاهرة :توجب املشابهة في األمور الباطنة بالتدرج
الخفي.
الوجه الثامن :أن املشابهة في الُاهر تورث مودة ومحبة ،ومواالة في الباطن ،كما أن املحبة في
الباطن تورث املشابهة في الُاهر ،وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ كأن يكون رجالن من بلد واحد
واجتمعا في دار غربة يكون بينما من املودة واالئتالف أمر عظين ،وإن لم يكونا غير متعارفين .وإذا كانت
املشابهة في أمور دنيوية –كأهل البلد الواحد أو الصنعة الواحدة -تورث املحبة واملواالة لهم ،فكيف
باملشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى املواالة أشد ،واملحبة واملواالة لهم تنافي اإليمان الذي يستلزم
واد الكفار ليس بمؤمن ،واملشابهة الظاهرة مظنة املودة فتكون محرمة. عدم واليتهم ،فمن ّ
فصل
» العلم بأن هذا العمل من خصائص دينهم فإما أن ُيفعل (للموافقة/شهوة/شبهة) وكلها محرمة.
ودرجة التحريم فيها تتفاوت فقد يبلغ تحريم بعضها إلى أن يكون من الكبائر ،أو يصير كفرا.
28
» الجهل بأن هذا العمل من عملهم ،وهو نوعان:
• ما كان مأخوذا عنهم على الوجه الذي يفعلونه مع تغيير في الزمان أو املكان أو الفعل.
• ما ليس مأخوذا عنهم ،لكنهم يفعلونه فهذا ليس مشابهة لهم ،ولكن قد يفوت فيه منفعة املخالفة.
فصل
العيد :اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع ،وكل عمل يحدثونه في هذه األزمنة
واألمكنة.
˿ أن النهي ليس عن خصوص أعيادهم ،بل ما يعظمونه من األوقات واألمكنة واألعمال .فعلى
املسلم أن ال يستغرق في معرفة أعياد الكفار ،بل يكفيه أن يعلم وقتها ومكانها وأنها من جهتهم.
وأعيادهم ال أصل لها في اإلسالم؛ فأقل أحوالها أن تكون بدعة؛ ألنه ُمحدث ،ومأخوذة عنهم.
˿ النهي عن تخصيص هذا اليوم بما يميزه ،بل ُيجعل يوما كسائر األيام.
˿ النهي عن إعانة املسلم في التشبه بهؤالء في أعيادهم.
˿ النهي عن بيع املسلم لهؤالء ما ُيعينهم على إقامة عيدهم املحرم ،إال أنه يجوز على املسلم شهود
أسواقهم.
˿ كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم ،ونهى عنه من غير تحريم ،العلة :أن أكله من تعظيم
شركهم.
عن أحمد روايتان :أشهرهما في نصوصه :أنه ال يباح أكله وإن لم يسم عليه غير هللا تعالى ،ونقل النهي
عن ذلك عن عائشة وعبد هللا بن عمر.
والرواية الثانية :أن ذلك مكروه غيرمحرم ،وهذه التي ذكرها القاض ي وغيره.
ونقلت الرخصة في ذبائح األعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رض ي هللا عنهم وهذا فيما إذا لم
يسموا غيرهللا.
فإذا سموا غير هللا في عيدهم أو غير عيدهم ،حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور .والثانية:
ال يحرم ،وإن سموا غير هللا ،وهذا قول عطاء ومجاهد ومكحول واألوزاعي والليث.
فصل
فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم ،فقد اختلف فيها ألجل أن املخالفة:
29
» تحصل بالصوم.
» أو بترك تخصيصه بعمل أصال.
-روي عن الصماء ،أن النبي ﷺ قال( :ال تصوموا يوم السبت إال فيما افترض عليكم ،وإن لم يجد
أحدكم إال لحاء عنب ،أو عود شجرة – وفي لفظ :إال عود عنب أو لحاء شجرة-فليمضغه)
ومعناه :أن من قصد يوم السبت -وكذلك يوم األحد؛ ألنه عيد النصارى-بعينه في الفرض ال يكره،
بخالف قصده بعينه في النفل ،فإنه يكره ،وال تزول الكراهة إال بضم غيره إليه أو موافقته عادة ،وقد
قال بذلك كثير من أهل العلم.
-ومن قال بعدم الكراهة استدل بما رواه كريب مولى ابن عباس رض ي هللا عنه قال :أرسلني ابن عباس،
وناس من أصحاب النبي ﷺ إلى أم سلمة أسألها :أي األيام كان رسول هللا ﷺ أكثرها صياما؟ قالت" :كان
يصوم السبت ويوم األحد ،أكثر ما يصوم من األيام ،ويقول( :إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن
أخالفهم) وهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم ألجل قصد مخالفتهم.
فصل
-فمن لم يكره صوم السبت من األصحاب وغيرهم ،قد ال يكره صوم ذلك اليوم ،بل ربما يستحبه
ألجل مخالفتهم
-وكرههما أكثر األصحاب ،وعللوا ذلك بأنهما يومان تعظمهما الكفار ،فيكون تخصيصهما
بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت.
-وقد يقال يكره صوم النيروز واملهرجان التي ال تعرف بحساب العرب؛ ألنه إذا قصد صوم مثل
هذه األيام العجمية أو الجاهلية كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه األيام وإحياء أمرها ،وإظهار
حالها بخالف السبت واألحد ،فإنهما من حساب املسلمين ،فليس في صومهما مفسدة.
فصل
سائراألعياد واملواسم املبتدعة من املنكرات املكروهات ،سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه.
31
الثاني :أنها من البدع.
وما أحدث من املواسم واألعياد منكر ،وإن لم يكن فيها مشابهة ألهل الكتاب ،لوجهين:
الوجه األول :أنها من البدع املحدثة ،ملا حدث فيها من الدين الذي يتقرب به املتقربون.
-عبادات يتخذونها دينا ،ينتفعون بها في الخرة ،أو في الدنيا والخرة .واألصل فيها (أن ال يشرع منها إال ما
شرعه هللا)
-العادات ينتفعون بها في معايشهم .واألصل فيها (أن ال يحظر منها إال ما حظره هللا)
فما أحدث في جانب العبادات فهو بدعة محدثة ،وهي منكرة إذ ال أصل لها في شرع هللا.
ومن الناس من يقسم البدع إلى قسمين( :حسنة وقبيحة) ،ولهم في ذلك مقامين:
املقام األول :أن القبيح منها ما نهى عنه الشارع ،وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح ،بل قد يكون
حسنا.
املقام الثاني :أن يقال عن بدعة معينة بأنها حسنة؛ ألن فيها من املصلحة كيت وكيت ،وعليه فليس كل
بدعة ضاللة.
وأدلتهم:
ً
أوال :استداللهم بقول عمر رض ي هللا عنه في صالة التراويح( :نعمت البدعة هذه).
ثانيا :أن من األقوال واألفعال أحدثت بعد رسول هللا ﷺ ،وليست مكروه ،أو هي حسنة. ً
ً
ثالثا :ومنهم من لم يحكم أصول العلم يضم إليها ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها.
» أن القول (إن شر األمور محدثاتها ،وإن كل بدعة ضاللة) ،هو نص رسول هللا ﷺ ،فال يحل
ألحد أن يدفع داللته على ذم ،ومن نازع في داللته فهو مراغم.
أما املعارضات فالجواب عنها بأحد الجوابين:
إما أن يقال :إن ما ثبت حسنه فليس من البدع ،فيبقى العموم محفوظا ال خصوص فيه.
31
وإما أن يقال :ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم ،والعام املخصوص دليل فيما عدا
صورة التخصيص ،فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم ،احتاج إلى دليل
شرعي يصلح للتخصيص ،وإال كان ذلك العموم اللفظي املعنوي موجبا للنهي .وأما العادات فال
يصلح أن تكون معارضا لكالم رسول هللا ﷺ.
» ال يجوز حمل قوله ﷺ( :كل بدعة ضاللة) على البدعة التي نهى عنها بخصوصها؛ ألن هذا
تعطيل لفائدة الحديث ،فإذا كان ال منكر في الدين إال ما نهى عنه بخصوصه ،صار وصف
البدعة عديم التأثير ،ال يدل وجوده على القبح ،وال عدمه على الحسن ،وهذا من تعطيل
النصوص وهو نوع من التحريف واإللحاد ،وليس من نوع التأويل السائغ ،وهذا فيه مفاسد،
هي:
األول :سقوط االعتماد على هذا الحديث ،فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه فقد علم حكمه بذلك
النهي ،وما لم يعلم ال يندرج في هذا الحديث ،فال يبقى في هذا الحديث فائدة!
الثاني :أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير ،فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو املعنى ،تعليق
له بما ال تأثير له.
الثالث :أن الخطاب بمثل هذا ،إذا لم يقصد إال الوصف الخر –كونه منهيا عنه -كتمان ملا يجب بيانه،
وبيان ملا لم يقصد ظاهره ،فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص ،إذ ليس كل بدعة عنها
نهي خاص ،وليس كل ما فيه نهي خاص بدعة؛ فالتكلم بأحد االسمين وإرادة الخر تلبيس محض ال
يسوغ للمتكلم ،إال أن يكون مدلسا.
الرابع :أن قوله (كل بدعة ضاللة) ،و(إياكم ومحدثات األمور) ،إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص ،كان قد
أحالهم في معرفة املراد بهذا الحديث على ما ال يكاد يحيط به أحد ،وال يحيط بأكثره إال خواص األمة،
ومثل هذا ال يجوز بحال.
ٌ
الخامس :أنه إذا أريد به ما فيه النهي ،كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع ،واللفظ العام
ال يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة.
وهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد ،ال يجوز حمل الحديث عليه.
» أن هذا الحديث داال على قبح الجميع ،فإن ثبت أن هذا حسن ،يكون مستثنى من العموم ،وإال
فاألصل أن كل بدعة ضاللة.
32
» أن كل ما يعارض به من أنه حسن ،وهو بدعة :فإما أنه ليس بدعة ،وإما أنه مخصوص ،وبهذا
تسلم داللة الحديث .وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه.
» وأما األمور األخرى التي قد يظن أنها حسنة ،فال تصلح املعارضة بها ،بل يجاب عنها بالجواب
ً
مخصوصا ،وإن لم يثبت أنه املركب ،وهو :إن ثبت أن هذا حسن ،فال يكون بدعة ،أو يكون
حسن ،فهو داخل في العموم.
الجواب على االستدالل بقول عمررض ي هللا عنه:
أن صالة التراويح ،فليست بدعة في الشريعة ،بل سنة بقول الرسول ﷺ وفعله ،وال صالتها في الجماعة
بدعة ،بل هي سنة في الشريعة.
وأما تسمية عمر رض ي هللا عنه لها بأنها بدعة ،فهي تسمية لغوية ،ال تسمية شرعية؛ وذلك أن البدعة
في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق ،وأما البدعة الشريعة :فما لم يدل عليه دليل شرعي.
والضابط في الباب:
أن الناس ال يحدثون شيئا إال ألنهم يرونه مصلحة ،إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه ،فإنه ال يدعو
إليه عقل وال دين.
فإن كان السبب املحوج إليه أمرا حدث بعد النبي ﷺ من غير تفريط منا ،فهنا قد يجوز إحداث
ما تدعو الحاجة إليه.
وإن كان املقتض ي لفعله قائما على عهد رسول هللا ﷺ ،لكن تركه النبي ﷺ ملعارض زال بموته،
فيجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.
وإن كان السبب املحوج إليه لم يحدث ،أو كان السبب املحوج إليه بعض ذنوب العباد ،فهنا ال
يجوز اإلحداث.
الوجه الثاني :ما تشتمل عليه من الفساد في الدين ،ومنها:
» أن من أحدث عمال في يوم ،فالبد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب؛ وذلك ألنه ال بد أن يعتقد
أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ،إذ لوال قيام هذا االعتقاد ملا انبعث القلب لتخصيص هذا
اليوم.
33
-فإ ن هذا العمل املبتدع مستلزم :إما العتقاد هو ضالل في الدين ،أو عمل دين لغير هللا.
والتدين بهما ال يجوز.
-أن هذه البدع مستلزمة قطعا أو ظاهرا لفعل ال يجوز ،فأقل أحوال املستلزم أن يكون
مكروها.
-وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية ،لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية ،فكما أن
إثبات الفضيلة الشرعية مقصود ،فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضا.
» أن جميع املبتدعات ال بد أن تشتمل على ّ
شر راجح على ما فيهما من الخير ،إذ لو كان خيرهما
راجحا ملا أهملتها الشريعة ،فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها ،وذلك هو
املوجب للنهي.
» أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن ،فتنتقص عنايتها بالفرائض والسنن.
» ما فيها من مصير املعروف منكرا ،واملنكر معروفا ،وجهالة أكثر الناس بدين املرسلين.
» اشتمالهما على أنواع من املكروهات في الشريعة.
» مسارقة الطبع إلى االنحالل من ربقة االتباع ،وفوات سلوك الصراط املستقيم ،وذلك أن
النفس فيها نوع من الكبر ،فتحب أن تخرج من العبودية واالتباع بحسب اإلمكان.
» ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أه الكتاب من املفاسد التي توجد في كال النوعين املحدثين ،النوع
الذي فيه مشابهة ،والنوع الذي ال مشابهة فيه.
فصل
العيد يكون اسما لنفس املكان ولنفس الزمان ولنفس االجتماع ،وهذه الثالثة قد أحدث منها أشياء.
مثل :أول خميس من رجب والحديث املوضوع عن فضل صيامه ،وفضل اإلطعام فيه.
والصواب :النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم ،وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة طعام
وإظهار زينة وغير ذلك ،حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من األيام وال يكون له مزية أصال.
ً
موسما. النوع الثاني :ما جرى فيه حادثة ،من غيرأن يوجب ذلك جعله
مثل :ثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي ﷺ فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع.
والصواب :اتخاذ هذا اليوم عيدا ُمحدث ال أصل له.
34
إذ األعياد الشرعية من الشرائع فيجب فيها االتباع ال االبتداع ،وإنما يفعل ذلك النصارى الذين يتخذون
أمثال أيام حوادث عيس ى عليه السالم أعيادا ،أو اليهود.
ومثل :ما ُيحدثه الناس من اتخاذ مولد النبي ﷺ عيدا؛ ّإما مضاهاة للنصارى في ميالد عيس ى ،وإما محبة
للنبي ﷺ ،فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام املقتض ي له وعدم املانع منه.
ُ
وأكثر الحريصين على أمثال هذه البدع تجدهم فاترين عما أمروا بالنشاط فيه؛ فاالشتغال عن املشروع
ُيفسد حال صاحبه.
واعلم أن من األعمال ما يكون فيه خير الشتماله على أنواع املشروع ،وفيه شر من بدعة وغيرها،
فعليك بأدبين:
ّ
بالسنة ظاهرا وباطنا. .1أن يكون حرصك على التمسك
خير ّ
فعوض عنه من الخير املشروع .2أن تدعو الناس إلى ّ
السنة بحسب اإلمكان ،وإذا كان في البدعة ٌ
بحسب اإلمكان.
وإذا كان الفاعلين للبدع معيبون قد أتوا ً
منكرا؛ فالتاركون للسنن مذمومون ،فالسنن يكون منها:
ٌ
واجب على التقييد ،كصالة النافلة فهي ال تجب ،لكن من يصليها يجب ٌ
واجب على اإلطالق أو -ما هو
أن يأتي بأركانها.
-ومنها ما ُيكره تركه ،أو يجب فعله على األئمة دون غيرهم.
وعامتها يجب تعليمها والدعاء إليها ،وكثير من منكري البدع تجدهم مقصرين في فعل السنن ،فانظر
ملا اشتملت عليه األفعال من املصالح الشرعية واملفاسد؛ بحيث تعرف مراتب املعروف ومراتب املنكر
ومراتب الدليل؛ فتقدم أهمها عند االزدحام.
واملراتب ثالث:
األول :العمل الصالح املشروع الذي ال كراهة فيه ،وهذا هو سنة رسول هللا ﷺ ،وهو الذي يجب
تعلمه وتعليمه واألمر به ،والغالب على هذا الضرب :أعمال السابقين األولين.
35
كثير في طرق املتأخرين ،وهؤالء ٌ
خير ممن ال يعمل عمال والثاني :العمل الصالح من بعض وجوهه ،وهو ٌ
صالحا مشروعا وال غير مشروع؛ فمن تعبد ببعض العبادات املشتملة على نوع من الكراهة (كالوصال
ّ
في الصيام) قد يكون حاله خيرا من حال البطال الذي ال يحرص على العبادة.
ً
والثالث :ما ليس فيه صالح أصال ،لكونه تركا للعمل الصالح مطلقا ،أو لكونه عمال فاسدا.
فهذا الضرب قد يحدث فيه ما ُيعتقد أن له أفضلية ،وتوابع ذلك ما يصير منكرا ُينهى عنه ،مثل ما
أحدث بعض أهل األهواء في يوم عاشوراء خالف ما أمر هللا به من التحزن والتجمع؛ فاتخاذ أيام
املصائب مآتم ليس من دين املسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب ،ثم فوتوا بذلك ما في صوم هذا
اليوم من الفضل .وكذلك الرافضة التي تظهر الفرح والسرور يوم عاشوراء فهو من البدع املحدثة،
فكال الطائفتين فيه ٌ
بدع وضالل؛ والشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط املستقيم وال ُيبالي
إلى أي الشقين صاروا .فينبغي اجتناب جميع هذه املحدثات.
-ليلة النصف من شعبان :والذي عليه أكثر أهل العلم هو تفضيلها ،أما االجتماع العالم للصالة
ُمحدث ،والحديث الوارد في الصالة األلفية موضوع باتفاق.1
ً
مفردا :مكروه ال أصل له ،واتخاذه موسما تصنع في األطعمة هو من املواسم -صوم يوم النصف
املبتدعة. املحدثة
ُ
كصالة يصلونها مثل املغرب يسمونها "بر الوالدين"
ٍ -بعض الصلوات الجماعية التي لم تشرع:
ويصلونها جماعة بعد املغرب ،ونحوها.
وعليك أن تعلم :إذ استحب التطوع في وقت معين وجوز التطوع في جماعة لم يلزم تسويغ جماعة
راتبة غيرمشروعة.
( )1وأما العمومات الدالة على استحباب الصالة فحق ,لكن العمل المعين ال يُوجب جعل خصوصها مستحبًا ,بل يُكره التخصيص لما ال
خصوص له.
36
والفرق :أن االجتماع لصالة تطوع أو استماع قرآن أو ذكر إذا كان يفعل أحيانا فهذا حسن ،أما اتخاذ
اجتماع راتب يعود ُويتخذ سنة غير االجتماعات املشروعة فإن ذلك ُيضاهي االجتماع املشروع -
ُ
كاالجتماع للصلوات الخمس والجمعة والعيدين -وذلك هو املبتدع .فهذا هو الفرق املنصوص عن
اإلمام أحمد وغيره :إذا لم ُيتخذ عادة .إال أن الناس أفرطوا في هذا جدا –كاالجتماع عند قبر الحسين-
وهذا االعتياد الذي كرهه أحمد وغيره.
وأصل هذا :أن العبادات املشروعة التي تتكرر حتى تصير ُسننا شرع هللا منها ما فيه كفاية العباد ،فإذا
ُ
حدث اجتماع زائد كان ذلك مضاهاة ملا شرعه هللا ،وفيه من الفساد ما تقدم ،بخالف ما يفعله الرجل ا ِ
ُ
أو الجماعة أحيانا فهو مشروع –كتطوع القراءة والذكر جماعة وفرادى ،-لكن البدعة :اتخاذه عادة
الزمة حتى يصير كأنه واجب.
وأما ما ُيفعل في املواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع –كرفع األصوات في املساجد واختالط الرجال
بالنساء -فهذا ال ُيحتاج إلى ذكره فقبحه ظاهر لكل ُمسلم.
فالعبادات ثالث:
فصل
وقد يجتمع مع العيد العملي املحدث العيد املكاني فيزيد قبحا ويصير خروجا عن الشريعة.
37
السفر إلى بيت املقدس للتعريف فيه ،فزيارته مستحبة مشروعة للصالة فيه واالعتكاف ،وهو
أحد املساجد الثالثة التي تشد إليها الرحال ،لكن قصد إتيانه يوم الحج هو املكروه ،وفيه
مضاهاة للحج إلى املسجد الحرام وتشبيه له بالكعبة.
فأما قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر اختلف فيه العلماء ،ففعله بعضهم
(كابن عباس) ،وكرهه بعضهم (كأبي حنيفة ومالك) وعدوه من البدع .وما يزاد على ذلك رفع
األصوات في املساجد بالدعاء فمكروه في هذا اليوم وغيره.
التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا ،وهذا بنفسه محرم سواء كان فيه شد للرحل أو لم يكن،
سواء كان في يوم عرفة أو في غيره ،وهو من األعياد املكانية مع الزمان.
أما ما أحدث باألعياد من ضرب الطبول مكروه في العيد وغيره ،وكذلك املنهي عنه بالشرع وترك
السنن من جنس فعل البدع فينبغي إقامة املواسم على ما كان السابقون األولون يقيمونها.
فصل
فاألول ال فضل له في الشريعة أصال ،وال فيه ما يوجب تفضيله ،بل هو كسائر األمكنة ،فقصد االجتماع
فيه لصالة أو دعاء ضالل مبين .فإن هذا يشبه عبادة األوثان أو ذريعة إليها ،فمن قصد بقعة ليصلي أو
ليدعو ،أي ليخصها بنوع من العبادة لم يشرع تخصيص تلك البقعة به فهو من املنكرات.
وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به ،أو ماال للسدنةأاو الجاورين العاكفين بتلك البقعة،
فهو نذر معصية ،وفيه شبه من النذر لسندة الالت و العزى.
وأيضا من صور هذه األمكنة ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح ،وليس كذلك ،أو مواضع يقال أن فيها
أثر النبي ﷺ.
فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من اإلسالم تعظيمها ،ويجب تجنب الصالة
فيها وإن كان املصلي ال يقصد تعظيمها.
38
فصل
أما النوع الثاني من األمكنة :وهو ما له خصيصة لكن ال يقتض ي اتخاذها عيدا أو العبادة عنده.
ً
مثال:
قبور األنبياء والصالحين فقد نهى عن ذلك النبي ﷺ حيث قال (ال تجعلو بيوتكم ً
قبورا و ال
تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صالتكم تبلغني حيثما كنتم) .فقبر النبي ﷺ أفضل قبر
على وجه األرض ،وقد نهى عن اتخاذه عيدا ،فقبر غيره أولى بالنهي ،وقوله (ال تتخذو بيوتكم
قبورا) ،أي ال تعطلوها عن الصالة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور.
وقوله (فان تسليمكم يبلغني اينما كنتم) ،أي أن ما ينالني منكم من الصالة يحصل مع قربكم
أو بعدكم من قبري فال حاجة في اتخاذه عيدا.
أما زيارة القبور فهي جائزة ،حتى قبور الكفار ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رض ي هللا عنه
قال :قال رسول هللا ﷺ( :استأذنت ربي أن استغفرألمي فلم يأذن لي ،واستأذنته أن أزورقبرها
فأذن لي) ،فزيارة القبور تذكر باملوت واألخرة ،وأما ما يختص به قبور املسلمين دون قبور
الكفار فهو الدعاء لهم واالستغفار.
مسألة :السفرلزيارة القبور:
الوجه األول :ال يجوز ،واملسافرة لزيارتها معصية ،وال يجوز قصر الصالة فيها ،وهذا قول ابن بطة وابن
عقيل وغيرهما؛ ألن هذا السفر بدعة لم يكن في عصر السلف ،وألن في الصحيحين عن النبي ﷺ قال:
(ال تشد الرحال إال إلى ثالثة مساجد :املسجد الحرام ،واملسجد األقص ى ،ومسجدي هذا).
الوجه الثاني :أنه يجوز السفر إليها ،قاله طائفة من املتأخرين ،منهم أبو حامد الغزالي ،بناء على أن
الحديث لم يتناول النهي عن ذلك ،كما لم يتناول النهي عن السفر إلى األمكنة التي فيها الوالدان،
والعلماء واملشايخ ،واإلخوان ،أو بعض املقاصد من األمور الدنيوية املباحة.
الصالة عند القبور مطلقا ،واتخاذها مساجد ،وبناء املساجد عليها ،فقد تواترت النصوص عن النبي
ﷺ بالنهي عن ذلك ،والتغليظ فيه.
39
-فأما بناء املساجد على القبور :فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه ،متابعة لألحاديث
وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه في رواية ملسلم( :لعن
هللا اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساج).
-الصالة عندها :وإن لم يبن هناك مسجد ،فإن ذلك أيضا اتخاذها مسجدا ،وكل موضع قصدت
الصالة فيه فقد اتخذ مسجدا ،بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدا ،وإن لم يكن هناك
بناء.
ومن الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصالة في املقبرة ليس إال كونها مظنة النجاسة؛ ملا يختلط
ً
بالتراب من صديد املوتى لكن املقصود األكبر بالنهي عن الصالة عند القبور هو مُنة اتخاذها أوثانا،
ً
وروي عنه ﷺ أنه قال( :اللهم ال تجعل قبري وثنا يعبد ،اشتد غضب هللا على قوم اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد).
-قصد القبور للدعاء عندها أو بها :الدعاء عند القبور وغيرها من األماكن ينقسم إلى نوعين:
النوع األول :أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم االتفاق ،ال لقصد الدعاء فيها ،كمن يدعو هللا في
طريقه ويتفق أن يمر بالقبور ،أو كمن يزورها فيسلم عليها ،ويسأل هللا العافية له وللموتى كما جاءت
به السنة فهذا ونحوه ال بأس به.
النوع الثاني :أن يتحرى الدعاء ،بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا النوع منهي
عنه ،إما نهي تحريم ،أو تنزيه وهو إلى تحريم أقرب.
قال تعالى} :قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن واإلثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا
ً
باهلل ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على هللا ما ال تعلمون{
وهذه العبادة عند املقابر نوع من أن يشرك باهلل ما لم ينزل به سلطانا؛ ألن هللا لم ينزل حجة تتضمن
استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره ،ومن جعل ذلك من دين هللا فقد قال على هللا ما
ال يعلم.
-الذي ذكرنا كراهته ال ينقل في استحبابه -فيما علمناه -ش يء ثابت ،عن القرون الثالثة التي أثنى
عليها النبي ﷺ.
41
-أما من بعد هؤالء ،فأكثر ما يفرض :أن األمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى
فعل ذلك ،وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك ،فإنه ال يمكن أن يقال :قد اجتمعت األمة على
استحسان ذلك لوجوه:
الوجه األول :أن كثيرا من األمة كره ذلك وأنكره قديما وحديثا.
الوجه الثاني :إذا اختلف املتأخرون فالفاصل بينهما :هو الكتاب والسنة ،وإجماع املتقدمين
نصا واستنباطا.
-لم ينقل هذا عن إمام معروف وال عالم متبع ،بل املنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه،
وإما أن يكون املنقول من هذه الحكايات عن مجهول ال يعرف ،ومنها ما قد يكون صاحبه قال،
أو فعله ،باجتهاد يخطئ ويصيب أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه ال محذور فيه ،فحرف
النقل عنه.
-سائر هذه الحجج دائرة بين نقل ال يجوز إثبات الشرع به ،أو قياس ال يجوز استحباب العبادات
بمثلة.
-املتبع في إثبات أحكام هللا :كتاب هللا ،وسنة رسوله ﷺ ،وسبيل السابقين أو األولين ،ال يجوز
إثبات حكم شرعي بدون هذه األصول الثالثة نصا واستنباطا بحال.
فهذه األدعية ونحوها وإن كان قد يحصل صاحبها أحيانا غرضه ،لكنها محرمة؛ ملا فيها من الفساد الذي
يربى على منفعتها ،ولهذا كانت فتنة في حق من لم يفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع ،ويفرق بين
القدروالشرع ،ويعلم أن األقسام ثالثة:
القسم األول :أمور قدرها هللا ،وهو ال يحبها وال يرضاها ،فإن األسباب املحصلة لهذه تكون
محرمة موجبة لعقابه.
القسم الثاني :أمور شرعها ،فهو يحبها من العبد ويرضاها ،لكن لم يعنه على حصولها ،فهذه
محمودة عنده مرضية ،وإن لم توجد.
القسم الثالث :أن يعين هللا العبد على ما يحبه منه.
فاألول :إعانة هللا.
فما كان من الدعاء غير املباح إذا أثر :فهو من باب اإلعانة ال العبادة.
41
ومن رحمة هللا تعالى أن الدعاء املتضمن شركا ،كدعاء غيره أن يفعل ،أو دعائه أن يدعو ونحو ذلك؛ ال
يحصل غرض صاحبها ،وال يورث حصول الغرض شبهة إال في األمور الحقيرة ،أما األمور العظيمة ال
يدل على توحيده ،وقطع شبهة من أشرك به ،وعلم بذلك أن ما دون يستجيب فيها إال هو سبحانه ،وهذا ّ
هذا أيضا من اإلجابات إنما فعلها هو سبحانه وحده ال شريك له.
وأعلم أن:
● كل ما ُيظن أنه سبب لحصول املطالب مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره؛ البد فيه من أحد
أمرين:
• إما أن يكون سببا صحيحا ،ومنفعته أكثر من مضرته ،فال ينهى عنه الشرع بحال ،وكل ما لم يشرع من
العبادات مع قيام املقتض ي لفعله من غير مانع ،فإنه من باب املنهي عنه.
• وإما أن ال يكون سببا صحيحا ،كدعاء من ال يسمع وال يبصره ،وال يغني شيئا ،أو يكون ضرره أكثر من
نفعه.
الوجه الثالث :في كراهة قصدها للدعاء ،فقد كره السلف ذلك ،متأولين في ذلك بقول ﷺ( :ال تتخذوا
قبري عيدا) ،ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ذكر شيئا في فضل الدعاء عند ش يء من القبور.
واإلنكار على من يقول ويأمر به ،كائنا من كان ،فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه املسألة ،أو
مقلدا ،فيعفو هللا عنه.
ُ
الوجه الرابع :أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله ،قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد ،وينهى عنها
ألمور:
42
تخصيصه بعينه بالزيارة ،واالجتماع عنده في مواسم معينة ،وهذا بعينه منهي عنه؛ ألنه يدخل
في معنى اتخاذه عيدا.
تحريم قصد القبور للدعاء عندها؛ ملا يجر هذا من مفاسد شركية تفتن الخلق في دينهم.
فصل
ليس في ذكر هللا عند القبر أو القراءة أو الصيام أو الذبح فضل على غيره من البقاع ،وال قصد ذلك
مستحبا.
األول :أن ثواب العبادات البدنية :من الصالة والقراءة يصل إلى امليت ،كما يصل إليه ثواب العبادات
املالية باإلجماع( .مذهب أبي حنيفة وأحمد)
الثاني :أن ثواب العبادات البدنية :ال يصل إليه بحال (مذهب أصحاب الشافعي ومالك).
ومسألة :استماع امليت لألصوات حق ،لكنه ال ُيثاب لسماعه القرآن بعد موته؛ النقطاع عمله.
نعم بسماعه للقرآن والذكر كما يتألم بما ُيفعل عنده من معاص ي؛ لم يوجب
• حتى لو صح أن امليت ُي ّ
ذلك استحباب القراءة عنده ،إذ لو كان مشروعا لسنه رسول هللا ألمته.
الثاني :مكروهه ،واختلفوا هل تقرأ الفاتحة في صالة الجنازة إذا صلي عليها في املقبرة؟
يقول مالك« :ما علمت أحدا يفعل ذلك» ،الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.
43
ُ
الثالث :القراءة عند وقت الدفن ال بأس بها ،ن ِقل عن ابن عمر رض ي هللا عنهما.
● ذكر هللا هناك غير مكروه ،ولكن قصد البقعة للذكر بدعة مكروهة.
فصل
من املحرمات:
الدعاء عند القبر والنذر له ،أو للسدنة العاكفين عليه ،أو املجاورين عنده ،من أقاربه أو غيرهم،
واعتقاد أنه بالنذر له تقض ى الحاجة ،أو يكشف البالء.
واعلم :أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن ،وأنها ما اشتغلت بالعبادات املبتدعة ،إال
إلعراضها عن املشروع ،وإال فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه ،عاقال ملا اشتملت عليه
من الكلم الطيب ،والعمل الصالح ،متهما بها كل االهتمام ،أغنته عن كل ما يتوهم فيه خير من
جنسها.
44
ومن أصغى إلى كالم هللا وكالم رسوله بعقله ،وتدبره بقلبه ،وجد فيه من الفهم والحالوة والبركة
واملنفعة ما ال يجده في ش يء من الكالم ال منظومة ،وال منثورة.
ومن اعتاد الدعاء املشروع في أوقاته ،كاألسحار ،وإدبار الصلوات والسجود ،ونحو ذلك ،أغناه عن كل
دعاء مبتدع في ذاته ،أو بعض صفاته.
فصل
أما مقامات األنبياء والصالحين ،وهي األمكنة التي أقاموا ،أو عبدوا هللا فيها ،لكنهم لم يتخذوها
مساجد ،فقد اختلف في حكم اتيانها للعبادة على قولين:
القول األول :النهي عن ذلك وكراهته ،وأنه ال يستحب قصد بقعة للعبادة ،إال أن يكون قصدها للعبادة
مما جاء به الشرع ،وأدلتهم:
-ما روي عن عمر رض ي هللا عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال( :أين يذهب هؤالء؟) فقيل:
يا أمير املؤمنين ،مسجد صلى فيه النبي ﷺ ،فهم يصلون فيه فقال( :إنما هلك من كان قبلكم
بمثل هذا ،كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا ،فمن أدركته الصالة منكم في هذه
املساجد فليصل ،ومن فليمض ،وال يتعمدها).
فقد كره عمر رض ي هللا عنه اتخاذ مصلى النبي ﷺ عيداّ ،
وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا.
-ما روي بأن عمر رض ي هللا عنه أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ؛ ألن الناس كانوا
يذهبون تحتها ،فخاف عمر الفتنة عليهم.
القول الثاني :أنه ال بأس باليسير من ذلك ،وأدلتهم:
-أن ابن عمر رض ي هللا عنه كان يتحرى قصد املواضع التي سلكها النبي ﷺ ،وإن كان النبي ﷺ
قد سلكها اتفاقا ال قصدا.
-أن ابن أم مكتوم سأل النبي ﷺ أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى.
وقد اختلف العلماء في إتيان املشاهد على أقوال:
القول بكراهة إتيان مساجد وآثار األنبياء والصالحين ،فقد روي عن مالك وغيره من علماء
ُ
املدينة كرهوا إتيان تلك املساجد وتلك الثار التي باملدينة ،ما عدا ِقباء وأحد ،ودليلهم:
-حديث عمر رض ي هللا عنه السابق.
-ألن ذلك يشبه الصالة عند املقابر ،إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا.
-أن فيها تشبه بأهل الكتاب.
45
-ألن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة ،فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين وال
غيرهم من املهاجرين واألنصار أنهم كانوا يتحرون قصد األمكنة التي نزلها النبي ﷺ.
القول باستحباب إتيانها ،وهو قول العلماء املتأخرين.
وأما أحمد فرخص منها فيما جاء األثر من ذلك ،إال إذا اتخذت عيدا ،ومستند هذا القول:
-الجمع بين الثار الواردة في ذلك.
-حديث عتبان بن مالك في الصحيحين ،والذي يدل على أن من قصد أن يبني مسجده في موضع
صالة رسول هللا ﷺ فال بأس به ،وكذلك قصد الصالة في موضع صالته ،لكن هذا كان أصل
قصده بناء مسجد ،فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي ﷺ ،بخالف مكان صلى فيه
النبي ﷺ اتفاقا فاتخذ مسجدا ال لحاجة إلى املسجد ،لكن ألجل صالته فيه.
فيجب التفريق بين اتباع النبي ﷺ ،واالستنان به فيما فعله ،وبين ابتداع بدعة لم يسنها ألجل تعلقها به.
فعال من املباحات لسبب ،وفعلناه نحن ً ً
تشبها به ،مع انتفاء ذلك السبب، مسألة :لو فعل النبي ﷺ
فما حكم هذا التشبه؟
46
-ثم إن ذلك يفض ي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور ،من اتخاذ املقام مسجدا ،فيصير وثنا يعبد
من دون هللا.
الدعاء عند قبرالنبي ﷺ:
لم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر النبي ﷺ وال غيره ،ألجل الدعاء عنده ،وال كان الصحابة يقصدون
الدعاء عند قبر النبي ﷺ ،وال عند قبر غيره من األنبياء ،وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي ﷺ وعلى
صاحبيه.
وقد اتفق األئمة على أنه إذا دعاء بمسجد النبي ﷺ ال يستقبل قبره ،واختلفوا عند السالم عليه على
أقوال:
قال مالك وأحمد وغيرهما :يستقبل قبره ويسلم عليه ،وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي.
وقال أبو حنيفة :بل يستقبل القبلة ويسلم عليه ،وهكذا في كتب أصحابه.
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في املبسوط والقاض ي عياض وغيرهما :ال أرى أن
يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو ،ولكن يسلم ويمض ي.
ما استحبه السلف واألئمة من أعمال عند قبرالنبي ﷺ:
وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ،وال يكون عاملا أنه منهي عنه ،فيثاب على حسن قصده،
ويعفى عنه لعدم علمه .وهذا باب واسع.
-قد يفعل بعض الناس العبادات املبتدعة املنهي عنها ،ويحصل له بها نوع من الفائدة ،وذلك ال
يدل على أنها مشروعة ،بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها ،ملا نهي عنها.
-أن الفاعل قد يكون متأوال ،أو مخطئا ،مجتهدا أو مقلدا ،فيغفر له خطؤه ويثاب على ما يفعله
من الخير املشروع املقرون بغير املشروع.
التوسل بدعاء الصالحين:
47
عن أنس رض ي هللا عنه( :أ ،عمر استسقى بالعباس ،وقال" :اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا
فتسقينا ،وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" ،فيسقون).
فكان الصحابة يستسقون بالنبي ﷺ في حياته ،فلما مات استقوا بالعباس ،وهو أنهم يتوسلوا بدعائه
وشفاعته لهم ،فيدعو لهم ويدعون معه ،كاألمام واملأمومين ،من غير أن يكونوا يقسمون على هللا
بمخلوق.
لذلك قال الفقهاء باستحباب االستسقاء بأهل الخير والدين ،واألفضل أن يكون من أهل بيت النبي ﷺ.
-نجاسة التراب باختالطه بصديد املوتى ،وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة ،وهذه العلة
في صحتها نزاع الختالف العلماء في نجاسة تراب القبور.
-ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصالة عند القبور ،ملا يفض ي إليه ذلك من الشرك ،وهذه العلة
صحيحة باتفاقهم.
ثم إن النبي ﷺ ملا نهى عن الصالة التي تتضمن الدعاء هلل وحده خالصا عند القبور؛ لئال يفض ي ذلك
إلى نوع من الشرك بربهم ،فكيف إذا وجد ما هو نوع الشرك من الرغبة إليهم ،سواء طلب منه قضاء
الحاجات ،وتفريج الكربات ،أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من هللا؟
وقد اختلف العلماء في الحلف بالنبي ﷺ ،والقول الصواب هوالذي عليه جمهور األئمة :أنه ال ينعقد
اليمين بمخلو ٍق البتة ،وال ُيقسم بمخلوق البتة.
-واإلقسام على هللا بنبيه محمد ﷺ ٌ
مبني على هذا األصل ،فالصحيح أنه ال ينعقد اليمين به.
-وأما غيره :فقد صرح العلماء بالنهي عن ذلك ،واتفقوا على أن هللا ُيسأل ُويقسم عليه بأسمائه وصفاته
كاألدعية املعروفة في السنن.
وأما إذا قال( :أسألك بمعاقد العز من عرشك) فهذا فيه نزاع؛ رخص فيه غير واحد ملجيء األثر به،
وقال آخرون بكراهته ،وأما قولهم :بحق فالن ،أو بحق البيت ،وبحق أنبيائك و ُرسلك وهكذا فقالوا
جميعا :فاملسألة بخلقه ال تجوز؛ ألنه ال حق للخلق على الخالق فال ُيسأل بما ليس ُمستحقا.
وقد نازع في هذا بعض الناس للحديث( :اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) ،ولقوله تعالى} :واتقوا
هللا الذي تسائلون به واألرحام{ -بقراءة خفض األرحام -وتفسيرها :يتساءلون به وباألرحام.
والجواب عن هذا:
48
-ال ريب أن هللا جعل على نفسه حقا لعباده املؤمنين (حقهم عليه أن ال يعذبهم) ،واتفق العلماء على
وجوب ما يجب بوعده الصداق ،وكتب هللا على نفسه وحرم على نفسه ال أن العبد نفسه يستحق على
شيئا. هللا
وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إال بما َّ
من به من فضله وإحسانه ،وليس من باب املعاوضة وال من
باب ما أوجبه غيره عليه؛ فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك.
فإذا ُسئل بما جعله هو ً
سببا للمطلوب -من األعمال الصالحة -فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا.
وإذا ُسئل بش يء ليس ً
سببا للمطلوب:
-التوسل إلى هللا وسؤاله باألعمال الصالحة وبدعاء األنبياء والصالحين وشفاعتهم ،فهذا ال نزاع فيه،
بل هو من الوسيلة التي أمر هللا بها في قوله تعالى} :يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا وابتغوا إليه الوسيلة{،
فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو :طلب من يتوسل به ،أي يتوصل ويتقرب إليه سبحانه ،سواء كان على
وجه العبادة وامتثال األمر ،أو كان على وجه السؤال له واالستعاذة به ،رغبة إليه في جلب املنافع ودفع
املضار.
ولفظ الدعاء في القرآن :يتناول الدعاء بمعنى العبادة ،أو الدعاء بمعنى املسألة ،وإن كان كل منهما
الخر: يستلزم
-فالعبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجته –حصول رزق أو نصر أو عافية -فيسعى في
ذلك بالسؤال والتضرع –وهو من العبادة -فيفتح له الدعاء من أبواب اإليمان باهلل ما يكون أحب إليه
وأعظم قدرا من تلك الحاجة.
-أو يفعل العبد ما أمر به ابتداء ألجل العبادة هلل وطاعته –وهذا يتضمن حصول الرزق والنصر
والعافية-
ففي قوله تعالى} :وإذا سألك عبادي :{..أخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ،ثم أمرهم
باالستجابة له وباإليمان به ،فتحصل إجابة الدعوة بهذين السبيلين:
49
ب .حصة اإليمان بربوبيته. أ .كمال الطاعة أللوهيته
فمن دعاه موقنا أنه يجيبه إذا دعاه :أجابه ،وإن كان مشركا أو فاسقا ،يستجيب لهؤالء إلقرارهم
بربوبيته وإن لم يكونوا مخلصين له الدين ،فيعطيهم بدعائهم متاعا في الدنيا وما لهم في الخرة من خالق.
لدعاء أو بدون ذلك -يكون ممن يحبه هللا؛ بل هو سبحانهٍ فليس كل من متعه هللا برزق ونصر –إجابة
يرزق املؤمن والكافر والبر والفاجر.
ومن هذا الباب :من قد يدعو دعاء يعتدي فيه ،فإذا حصل بعض غرضه ظن أن ذلك دليل على أن
عمله صالح ،وليس كذلك.
فاملقصود:
-أن دعاء هللا قد يكون دعاء عبادة هللُ ،
فيثاب العبد عليه في الخرة مع ما يحصل له في الدنيا.
-وقد يكون دعاء مسألة تقض ي به حاجته ،ثم قد يثاب عليه إن كان مما يحبه هللا ،وقد ال يحصل له إال
تلك الحاجة.
فالوسيلة التي أمر هللا بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته.
ومن هذا الباب :استشفاع الناس بالنبي ﷺ يوم القيامة ،ومنه استسقاء ُعمر رض ي هللا عنه بدعاء
العباس .ومعناه :نتوسل إليك بشفاعته ودعاءه وسؤاله ،وليس املراد أنا نقسم عليك به.
وهذا التوسل مما يفعله األحياء دون األموات ،فامليب ال ُيطلب منه دعاء وال غيره.
وأما النداء باستحضار املنادي بالقلب وتصوره وإن لم يكن في الخارج يسمع الخطاب :فلفظ التوسل
والتوجه والسؤال به فيه إجمال واشتراك:
-فأما اإلقسام به والتوسل بذاته واإلقسام به على هللا فهذا كرهه الصحابة ونهوا عنه.
-وأما التسبب به لكون الداعي مطيعا هلل ،فيكون التسبب ملحبة السائل واتباعه أو بدعاء الوسيلة
وشفاعته ،فهذا مقصود الصحابة رض ي هللا عنهم.
ومن هذا :حديث الثالثة الذين أووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة فدعوا هللا بصالح األعمال
فانفرجت عنهم وخرجوا.
ومنه :سؤال هللا بأسمائه وصفاته ،فيكون من باب التسبب ،وهو سبب لقضاء املطلوبات .وقد يتضمن
معنى ذلك اإلقسام عليه بأسمائه وصفاته.
51
وأما حديث (أسألك بحق السائلين) ففيه ضعف ،وعلى تقدير ثبوته فهو من هذا الباب؛ فحق السائلين
عليه أن يجيبهم ،فهو من التوسل به والتسبب به.
-وقد يكون من باب تعُيم املسؤول به ،ملا عند املسؤول من محبة وتعظيم للمسؤول به؛ فإن كان
مما يقتض ي حصول مقصود السائل ُ
حسن السؤال ،كسؤال اإلنسان بالرحم ،وسؤال هللا باألعمال
الصالحة.
-وأما بمجرد األنبياء والصالحين محبة هللا وتعظيمه لهم فليس مما يوجب حصول مقصود السائل إال
بسبب بين السائل وبينهم؛ إما محبتهم وطاعتهم ُ
فيثاب على ذلك ،وإما دعاؤهم له فيستجيب هللا ٍ
فيه. شفاعتهم
-وأما مجرد دعائه بهم من غير طاعة له منهم فال ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند هللا.
ُ
واملقصود هنا :أنه إذا كان السلف واألئمة قالوا في سؤال الل هباملخلوق ما ذكر فكيف بسؤال امليت؟،
وصاحب الشريعة سد الذريعة بلعنه من يتخذ قبور األنبياء والصالحين مساجد ،وأن ال ُيصلي عندها
هلل ،وال يسال إال هللا ،وحذر امته من ذلك ،فكيف إذا وقع نفس املحذور من الشرك وأسباب الشرك؟
ُ
وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك ،إال ما نقل عن ابن عمر( :أنه كان يتحرى النزول في
ّ
املواضع التي نزل فيها النبي ﷺ ،والصالة في املواضع التي صلى فيها ﷺ ،فإن ابن ُعمر قصد أن يفعل مثل
فعله ﷺ ولم يقصد الصالة والدعاء في املواضع التي نزلها.
ُ
وهنا ثالث مسائل:
األولى :أن التأس ي به في صورة الفعل الذي فعله من غيرأن ُيعلم قصده فيه أومع عدم السبب الذي
فعله :فهذا فيه نزاع ،واملعروف عن املهاجرين واألنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رض ي
عنهم. هللا
ً
الثانية :أن يتحرى تلك البقعة للصالة عندها من غيرأن يكون وقتا للصالة؛ بل أنشأ الصالة والدعاء
ألجل البقعة ،فهذا لم ُينقل عن ابن عمروال غيره ،بل ثبت عن أبيه ُعمر أنه نهى عن ذلك ،وتواتر عن
املهاجرين واألنصار أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك.
51
الثالثة :أن ال تكون هذه البقة في طريقه بل يعدل عن طريقه إليها –مثل أن يذهب إلى غار حراء أو
ٌ
ومعلوم جبل ثور ليصلي ويدعو فيها ،-فهذه األماكن لم يقصدها رسول هللا ﷺ وال أصحابه من بعده.
صالة أو دعاء. ُ
أن مقامات غيره من االنبياء أبعد عن أن يشرع قصها والسفر إليها ٍ
كما ثبت أن النبي ﷺ ملا حج البيت لم يستلم إال الركن اليماني ،ولم يقبل إال الحجر األسود.
وال نزاع بين األئمة األربعة أن الرجل ال يقبل الركنين الشاميين وال جوانب البيت وال مقام إبراهيم ،وعلى
هذا عامة السلف .فإذا كان هذا بالسنة املتواترة فغيره من مقامات األنبياء أولى أن ال ُيشرع تقبيلها وال
مسحها باليد.
فإن قيل :أن هللا أمرأن نتخذ مقام إبراهم مصلى فيقاس غيره عليه.
قيل له :هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم سواء أريد به املقام موضع قيام إبراهيم ،أو أريد به املشاعر:
ُ
عرفة ومزدلفة ومنى ،فال نزاع بين املسلمين أن املشاعر خصت بعبادات ال يشركها فيها سائر البقاع،
فال يقاس بها غيرها ،وما لم ُيشرع فيها أولى أن ال ُيشرع في غيرها.
ومن ذلك :القبة التي عند باب عرفات وسائر املساجد املبنية هناك فقصد تلك الباقع للصالة ،ورقي
جبل الرحمة في عرفات ،ذلك ليس مشروعا باتفاق ،وإنما السنة الوقوف بعرفات .وأما تقبيل ش يء من
ذلك والتسمح به فقد ُعلم باالضطرار من دين اإلسالم أن هذا ليس من شريعة رسول هللا ﷺ.
وما يفعله الرجل في تلك البقاع من صالة ودعاء إذا فعله في املسجد الحرام كان خيرا له بل هو سنة
مشروعة ،وأما قصد مسجد غيره تحريا لفضله فبدعة غير مشروعة.
وأصل هذا :أن املساجد التي تشد الرحال إليها هي املساجد الثالثة للحديث الثابت عن النبي ﷺ باتفاق
أهل العلم ،فالسفر للمساجد الثالثة للصالة والدعاء والذكر فيها من األعمال الصالحة ،وما سواها ال
ُيشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم ،حتى مسجد قباءُ :يستحب قصده إذا كان قريبا منه وال ُيشرع شد
الرحال إليه.
وأما املساجد الثالثة :فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصالة ونحوها ،ولو نذر إتيان غيرها فال
يجب عليه النذر باتفاق األئمة.
فإذا كان هذا في املساجد التي صلى فيها ﷺ ُوبنيت بإذنه لم ُيشرع قصدها بخصوصها -إال مسجد قباء
بالتفصيل الذي ّبينا -فكيف بما سواها؟
52
فصل
املسجد األقص ى :فهو أحد املساجد الثالثة ،التي تشد إليها الرحال.
فتح املسلمون بيت املقدس في عهد عمر بن الخطاب فبنى مصلى املسلمين في صدر املسجد في القبلة،
وهو ما يسمى األقص ى ،واألقص ى :اسم للمسجد كله ،وال يسمى هو وال غيره حرما ،وإنما الحرم بمكة
واملدينة خاصة.
كانت الصخرة مكشوفة ،ولم يصل عمر وال املسلمون عند الصخرة ،وال تمسحوا بها ،وال
قبلوها ،لم يرد ذلك عن أحد الصحابة ،والعن السلف املعتبرين؛ ألن سائر بقاع املسجد ال مزية
لبعضها عن بعض ،إال ما بنى عمر رض ي هللا عنه ملصلى املسلمين.
إذا كان املسجد الحرام ،ومسجد املدينة ،اللذان هما أفضل من املسجد األقص ى باإلجماع،
قب ُل بالفم وال ُيست ُ
لم باليد ،إال ما جعله هللا في األرض بمنزلة اليمين ومع هذا ،فليس فيهما ما ُي َّ
وهو الحجر األسود ،فكيف يكون في املسجد األقص ى ما ُي ُ
ستلم أو ُي َّ
قب ُل؟
ظهر تعظيم الصخرة وبيت املقدس في عهد عبد امللك على وجه لم يكن املسلمون يعرفونه ،فهو
الذي بنى القبة على الصخرة ،وجرت الفتنة بينه وبين ابن الزبير ،قيل :إن الناس كانوا يقصدون
ّ
الحج فيجتمعون بابن الزبير ،أو يقصدونه بحجة الحج ،فعظم عبد امللك شأن الصخرة ،بما
بناه عليها من القبة ،وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف ،ليكثر قصد الناس للبيت
املقدس ،فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير( ،والناس على دين امللك) .وجاء بعض الناس
ينقل اإلسرائيليات في تعظيمها.
كانت الصخرة قبلة ثم نسخت ،فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم ،كما ليس في
شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت.
الصخرة قبلة اليهود ،وفي تخصيصها بالتعظيم مشابهة لهم ،وقد تقدم كالم العلماء في يوم
السبت وعاشوراء ونحو ذلك.
قيل :أن اليمين تغلظ ببيت املقدس ،بالتحليف عند الصخرة ،كما تغلظ في املسجد الحرام
بالتحليف بين الركن واملقام ،وكما تغلظ في مسجده ﷺ بالتحليف عند قبره:
53
ليس لهذا أصل ،بل السنة أن تغلظ اليمين فيها كما تغلظ في سائر املساجد عند املنبر ،وال تغلظ اليمين
بالتحليف عند ما لم يشرع للمسلمين تعظيمه ،كما ال تغلظ بالتحليف عند املشاهد ومقامات األنبياء،
ونحو ذلك .ومن فعل ذلك فهو مبتدع ضال ،مخالف للشريعة.
وقد صنف طائفة من الناس مصنفات من فضائل بيت املقدس ،وغيره من البقاع التي بالشام،
وذكروا فيها من الثار املنقولة عن أهل الكتاب ،وعمن أخذ عنهم ما ال يحل للمسلمين أن يبنوا
عليه دينهم.
املوقف من اإلسرائيليات :قال ﷺ( :إذا حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم،
فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ،وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه).
من العجب أن هذه الشريعة املحفوظة املحروسة مع هذه األمة املعصومة التي ال تجتمع على
ضاللة :إذا حدث بعض أعيان التابعين (من خيار علماء املسلمين) عن النبي ﷺ بحديث =
توقف أهل العلم في مراسيلهم ،فمنهم:
.3من يميز بين من عادته ال يرسل إال عن ثقة ،وبين من عرف عنه أنه قد يرسل عن غير ثقة.
وهؤالء ليس بين أحدهم وبين النبي ﷺ إال رجل أو رجالن ،أو ثالثة مثال.
وأما ما يوجد في كتب املسلمين في هذه األوقات من األحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة؛ فال
يجوز الحكم بصحتها باتفاق أهل العلم ،إال أن يعرف أن ذلك من نقل أهل العلم بالحديث ،الذين ال
يحدثون إال بما صح ،كالبخاري.
ومعلوم أن أصحاب رسول هللا ﷺ من السابقين األولين ،والتابعين لهم بإحسان ،قد فتحوا
البالد بعد موت النبي ﷺ ،وسكنوا بالشام والعراق ومصر ،وغير هذه األمصار ،وهم كانوا أعلم
بالدين ،وأتبع له ممن بعدهم ،فليس ألحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه ،فما كان من هذه البقاع
لم يعظموه ،أو لم يقصدوا تخصيصه بصالة أو دعاء ،أو نحو ذلك = لم يكن لنا أن نخالفهم
في ذلك ،وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ ألن اتباع سبيلهم
أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم ،وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إال وقد نقل
54
عن غيره ممن هو أعلم وأفضل منه ،أنه خالف سبيل هذا املخالف .وهذه جملة جامعة ال يتسع
هذا املوضع لتفصيلها.
ثبت في الصحيح( :أن النبي ﷺ ملا أتى بيت املقدس ليلة اإلسراء صلى فيه ركعتين) ولم يصل
بمكان غيره وال زاره .وحديث املعراج فيه ما هو في الصحيح ،وفيه ما هو في السنن واملسانيد،
وفيه ما هو ضعيف ،وفيه ما هو من املوضوعات املختلقات.
-بيت لحم :كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند املسلمين ،سواء كان مولد عيس ى
أو لم يكن.
-قبر إبراهيم الخليل :لم يكن في الصحابة وال التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصالة عنده ،وال الدعاء
وال كانوا يقصدونه للزيارة أصال .فكان اتخاذه معبدا مما أحدثته النصارى عندما استولوا على هذه
األمكنة في أواخر املائة الرابعة ،وليس من عمل سلف األمة وخيارها.
فصل
أصل دين املسلمين :أنه ال تختص بقعة بقصد العبادة فيها إال املساجد خاصة ،وما عليه
املشركون وأهل الكتاب ،من تعظيم بقاع للعبادة غير املساجد -كما كانوا في الجاهلية يعظمون
حراء ،ونحوه من البقاع -فهو مما جاء اإلسالم بمحوه وإزالته ونسخه.
ثم املساجد جميعها تشترك في العبادات ،فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر املساجد ،إال ما خص
به املسجد الحرام ،من الطواف ونحوه ،فإن خصائص املسجد الحرام ال يشاركه فيها ش يء من
املساجد ،كما أنه ال يصلى إلى غيره.
وأما مسجد النبي ﷺ ،واملسجد األقص ى :فكل ما يشرع فيهما من العبادات ،يشرع في سائر املساجد:
كالصالة والدعاء والذكر والقراءة واالعتكاف ،وال يشرع فيهما جنس ال يشرع في غيرهما :ال تقبيل ش يء،
وال استالمه ،وال الطواف به ونحو ذلك .لكنـهما أفضل من غيرهما ،فالصالة فيهما تضاعف على الصالة
في غيرهما.
أما مسجد النبي ﷺ :في الصحيح :قال ﷺ( :صالة في مسجدي هذا خير من ألف صالة في غيره من
املساجد ،إال املسجد الحرام؛ فإني آخراألنبياء ،وإن مسجدي هذا آخراملساجد).
55
ولهذا جاءت الشريعة باالعتكاف الشرعي في املساجد ،بدل ما كان يفعل قبل اإلسالم من املجاورة بغار
حراء ،فكان النبي ﷺ يعتكف العشر األواخر من رمضان ،حتى قبضه هللا.
ََ َُ ُ ُ َُْ
وه َّن َوأنت ْمواالعتكاف من العبادات املشروعة باملساجد باتفاق األئمة ،كما قال تعالى} :وال تباشر
ُ َ َْ
َعاكفون في امل َساجد{ أي :في حال عكوفكم في املساجد ال تباشروهن ،وإن كانت املباشرة خارج املسجد.
ولهذا قال الفقهاء :إن ركن االعتكاف :لزوم املسجد لعبادة هللا .ومحظورة الذي يبطله :مباشرة النساء.
فأما العكوف واملجاورة عند شجرة أو حجر ،تمثال أو غير تمثال ،أو العكوف واملجاورة عند قبر نبي ،أو
غير نبي ،أو مقام نبي ،أو غير نبي ،فليس هذا من دين املسلمين ،بل هو من جنس دين املشركين ،الذين
َ ْ ُ َّ َ َو َل َق ْد َآت ْي َنا إ ْب َراه َ ْ َ
يم ُرشد ُه م ْن ق ْب ُل َوكنا به َعاملين * إذ أخبر هللا عنهم بما ذكره في كتابه ،حيث قال} :
َ
َ َ
ال لق ْد
َ
ين * قيل َّالتي َأ ْن ُت ْم َل َها َعاك ُفو َن * قالوا َو َج ْد َنا َآب َاء َنا ل َها َعابد َ
َ ُ َ َّ
الت َماث ُ َ َ َ َ
ال ألبيه َوق ْومه َما َهذه ق
ُ َ
الالعب َين * ق َ َ ْ ْ َ َ َّ َ َ ْ ََْ َ ُ َ َ َ ُُ َ
ُُْ ُْ
ال َبل َرُّبك ْم َر ُّب كنت ْم أنت ْم َو َآباؤك ْم في ضالل ُمبين -قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من
َ َْ َ َ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ َ ُ َّ ََ َ َ ُ َ َ َّ َْ
صن َامك ْم َب ْعد أن الس َم َاوات َواأل ْرض الذي فط َر ُه َّن َوأنا َعلى ذلك ْم م َن الشاهدين * وتالِل ألكيدن أ َّ
َ َ ً َّ َ َ َ َّ َ ُ َ ُّ ُ ْ َ َ َ
ين * ف َج َعل ُه ْم ُجذاذا إال كب ًيرا ل ُه ْم ل َعل ُه ْم إل ْيه َي ْرج ُعون{ وغير ذلك من اليات. تولوا مدبر
فهذا عكوف املشركين ،وذاك عكوف املسلمين ،فعكوف املؤمنين في املساجد لعبادة هللا وحده ال شريك
له ،وعكوف املشركين على ما يرجونه ،ويخافونه من دون هللا ،وما يتخذونهم شركاء وشفعاء ،فإن
املشركين لم يكن أحد منهم يقول :إن العالم له خالقان وال إن هللا له شريك يساويه في صفاته ،هذا لم
يقله أحد من املشركين ،بل كانوا يقرون بأن خالق السماوات واألرض واحد ،كما أخبر هللا عنهم بقوله
َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ُ ُ
ول َّن َّ ُ
الِل{. }ولئن سألتهم من خلق السماوات واألرض ليق
مسألة الشفاعة:
-كانوا يقولون في تلبيتهم " :لبيك ال شريك لك ،إال شريكا هو لك تملكه وما ملك "
ُ َ ََ ْ َ ُُ َُ َْ ُ ُ َ َ ُ ًَ
= فقال تعالى لهم} :ض َر َب لك ْم َمثال م ْن أنفسك ْم َه ْل لك ْم م ْن َما َملكت أ ْي َمانك ْم م ْن ش َرك َاء في َما
َ َ ُ َ َ َ ُ َْ ُ ُ َ َْ ُ ََُْ
َرزقناك ْم فأنت ْم فيه َس َواء تخافون ُه ْم كخيفتك ْم أنف َسك ْم{.
-كانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى هللا زلفى ،وتشفع لهم.
ُ َ ُ ُ َ َ ً َ ُ َ َ َ ُ َ ْ ُ ن َّ ُ َ َ َّ َ ُ
الِل شف َع َاء ق ْل أ َول ْو كانوا ال َي ْملكون ش ْيئا َوال َي ْعقلون -ق ْل َّلِل = قال تعالى{ :أم اتخذوا من دو
َْ يعا َل ُه ُم ْل ُك َّ
اع ُة َجم ً
الش َف َ
َّ
الس َم َاوات َواأل ْرض} .
56
.1فاملشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب ،كالنصارى ،ومبتدعة هذه األمة :أثبتوا
الشفاعة التي نفاه القرآن.
.2الخوارج واملعتزلة :أنكروا شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر من أمته ،بل أنكر طائفة من أهل
البدع انتفاع اإلنسان بشفاعة غيره ودعائه ،كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه.
وأنكروا الشفاعة بقوله تعالى} :م ْن َق ْبل َأ ْن َي ْأت َي َي ْوم َال َب ْيع فيه َوَال ُخ َّلة َوَال َش َف َ
اعة{.
.3سلف األمة وأئمتها ،ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة :أثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي
ﷺ ،من شفاعته ألهل الكبائر من أمته ،وغير ذلك من أنواع شفاعاته ،وشفاعة غيره من
النبيين واملالئكة.
وقالوا :إنه ال يخلد في النار من أهل التوحيد أحد ،وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع اإلنسان بدعاء
غيره وشفاعته ،والصدقة عنه ،بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء ،كما ثبتت به السنة الصحيحة
الصريحة ،وما كان في معنى الصوم.
َ َّ
وقالوا :إن الشفيع يطلب من هللا ويسأل ،وال تنفع الشفاعة عنده إال بإذنه .قال تعالىَ } :م ْن ذا الذي
َ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ ْ
َيشف ُع عند ُه إال بإذنه{ } َوال َيشف ُعون إال ملن ا ْرتض ى{.
قال ﷺ ( :أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة :من قال :ال إله إال هللا ،يبتغي بها وجه هللا).
شفاعة املخلوق "عند" املخلوق :تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن املشفوع عنده،
بل يشفع إما لحاجة املشفوع عنده إليه ،وإما لخوفه منه = فيحتاج أن يقبل شفاعته.
شفاعة املخلوق عند الخالق :هللا تعالى غني عن العاملين ،وهو وحده سبحانه يدبر العاملين
كلهم ،فما من شفيع إال من بعد إذنه ،فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة ،وهو يقبل شفاعته،
كما يلهم الداعي الدعاء ،ثم يجيب دعاءه ،فاألمر كله له.
فإذا كان العبد يرجو شفيعا من املخلوقين ،فقد ال يختار ذلك الشفيع أن يشفع له ،وإن اختار فقد ال
يأذن هللا له في الشفاعة ،وال يقبل شفاعته.
57
-امتنع النبي ﷺ أن يستغفر لعمه أبي طالب ،بعد أن قال" :ألستغفرن لك ما لم أنه عنك" وقد صلى
َ َُ َ َ َ َ ََ ُ َ َ َ
صل َعلى أ َحد م ْن ُه ْم َمات أ َب ًدا َوال تق ْم َعلى ق ْبره{. على املنافقين ودعا لهم ،فقيل له} :وال ت
َ ُ َُ ْ ْ ْ
الر ْو ُع َو َج َاءت ُه ال ُبش َرى ُي َجادلنا في ق ْوم لوط -إ َّن يم َّ -إبراهيم ،قال تعالىَ } :ق َل َّما َذ َه َب َع ْن إ ْب َراه َ
َ َ َ َ َّ َ يم َأ ْعر ْيم َل َحليم َأ َّواه ُمنيب * َيا إ ْب َراه ُ
ض َع ْن َهذا إن ُه ق ْد َج َاء أ ْم ُر َرب َك َوإ َّن ُه ْم آتيه ْم َعذاب غ ْي ُر إ ْب َراه َ
ََ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ َ َّ
يم ألبيه إال َع ْن َم ْوعدة َو َعد َها إ َّي ُاه فل َّما ت َب َّين َم ْر ُدود{ .وفي استغفاره ألبيه } :وما كان استغفارإبراه
َ َ ْ َ َ َّ
ل ُه أن ُه َع ُد ٌّو َّلِل ت َب َّرأ من ُه{.
وهللا سبحانه له حقوق ال يشركه فيها غيره ،وللرسل حقوق ال يشركهم فيها غيرهم ،وللمؤمنين بعضهم
على بعض حقوق مشتركة.
أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب :أن نعبد هللا وال نشرك به شيئا ،وهذا
َ َ َْ
هو أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل ،وأنزلت به الكتب ،قال هللا تعالى } َو َما أ ْر َسلنا م ْن ق ْبل َك
اع ُب ُدون { .يدخل في ذلك :أن ال نخش ى وال نتقي إال م ْن َر ُسول إ َّال ُنوحي إ َل ْيه َأ َّن ُه َال إ َل َه إ َّال َأ َنا َف ْ
ون{ ،ال نتحسب إال به } وَقالوا َح ْس ُب َنا َّ ُ َ ْ َ َّ َ َ َ َّ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ ُ َ
الِل{، هللا }ويخش الِل ويتقه فأولئك هم الفائز
َ
الِل َراغ ُبون{ والرغبة هلل وحده }إ َّنا إ َلى َّ
فاهلل :هو الذي يتوكل عليه ُويستعان بهُ ،ويستغاث به ُويخاف ُويرجىُ ،ويعبد وتنيب القلوب إليه ،ال
حول وال قوة إال به ،وال ملجأ منه إال إليه ،والقرآن كله يحقق هذا األصل.
ً ً
ولم يأمرهللا قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا ،وإن كان قد أباح في موضع من املواضع ذلك لكنه لم يأمر
به ،بل األفضل للعبد أن ال يسأل قط إال هللا.
وقد قال ﷺ البن عباس" :إذا سألت فاسأل هللا ،وإذا استعنت فاستعن باهلل".
ضوا الطاعة حق هلل ورسوله }قل أطيعوا هللا والرسول{ ،واإليتاء حق هلل ورسوله } َو َل ْو َأ َّن ُه ْم َ ُ
ر
َ َ ُ ُ َّ ُ َ َ ُ ُ ُ َ َ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ُ ْ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ ُ ُ ُ َّ َ َّ َ ُ َ
ما آتاهم الِل ورسوله وقالوا حسبنا الِل سيؤتينا الِل من فضله ورسوله إنا إلى الِل راغبون{
َ ُ
،والحالل ما حلله الرسول ،والحرام :ما حرمه الرسول ،والدين :ما شرعه الرسول } َو َما آتاك ُم
َّ ُ ُل َ ُ ُ ُ َ ُ ْ َ ْ
وه َو َما ن َهاك ْم َعن ُه فان َت ُهوا {الرسو فخذ
َّ
والرسول ﷺ ُيطاع ُويح ُّب ُويرض ىُ ،ويسلم إليه حكمه ،ويعزر ،ويوقر ،ويتبع ،ويؤمن به وبما جاء به ،قال
وه{ ،وقال ﷺ ( :والذي نفس ي ول ُه َأ َح ُّق َأ ْن ُي ْر ُ
ض ُ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َّ ُ َ َ ُ ُ
تعالىَ } :م ْن ُيطع الرسول فقد أطاع الِل{} ،والِل ورس
بيده ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)
58
َّ ُ ْ ْ ُ ُ َّ ُ َ َ ْ ْ َ ُ ْ ُ ُ َ ُ ُ ْ ْ ُ ْ ُ ْ ُ ُّ َن َّ َ َ َّ
وبك ْم{ ،وقال تعالى{ :إنا الِل فاتب ُعوني يحببكم الِل ويغفر لكم ذن وقال تعالى} :قل إن كنتم تحبو
َُ َ ُ ُ َُ َ ُ ُ َُ َ ُ ُ ُ ْ ًَ ََ ً َأ ْ َس ْل َن َ
اك َشاه ًدا َو ُم َبش ًرا َو َنذ ًيرا -ل ُت ْؤم ُنوا ب َّ
الِل َو َر ُسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيال{ ر
فاإليمان باهلل والرسول ،والتعزير والتوقير للرسول ،والتسبيح هلل وحده.
الرسالة:
وقد بعث هللا محمدا ﷺ بتحقيق التوحيد وتجريده ،ونفي الشرك بكل وجه ،حتى في األلفاظ ،كقوله
ﷺ( :ال يقولن أحدكم ما شاء هللا وشاء محمد ،بل :ما شاء هللا ثم شاء محمد)
َّ ُ
والعبادات التي شرعها هللا كلها تتضمن إخالص الدين كله هلل ،تحقيقا لقوله تعالىَ } :و َما أم ُروا إال
َّ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ ْ ُ الِل ُم ْخلص َين َل ُه الد َ
ين ُح َن َف َاء َو ُيق ُ َ ْ ُ ُ َّ َ
ين القي َمة{ فالصالة هلل الصالة َو ُيؤتوا الزكاة وذلك د يموا ليعبدوا
وحده ،والصدقة هلل وحده ،والصيام هلل وحده ،والحج هلل وحده ،وإلى بيت هللا وحده.
َُ ْ ُ ُ ْ َ ودا َأ ْو َن َ َ َ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َّ َ َّ َ ْ َ َ
ص َارى تل َك أ َمان ُّي ُه ْم ق ْل َهاتوا ُب ْر َهانك ْم إن ان ُه ًوقال تعالى} :وقالوا لن يدخل الجنة إال من ك
ُ َ َ َ َ َ َْ َ َ َ َ َ َ َ ُك ْن ُت ْم َ
صادقين * َبلى َم ْن أ ْسل َم َو ْج َه ُه َّلِل َو ُه َو ُم ْحسن فل ُه أ ْج ُر ُه عند َربه َوال خ ْوف َعل ْيه ْم َوال ُه ْم َي ْح َزنون{
وقد فسرإسالم الوجه هلل بما يتضمن إخالص قصده هلل ،وهو محسن بالعمل الصالح املأمور به.
وهذان األصالن جماع الدين :أن ال نعبد إال هللا ،وأن نعبده بما شرع ،ال نعبده بالبدع.
وهذان األصالن هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس اإلسالم :شهادة أن ال إله إال هللا ،وشهادة أن
محمدا رسول هللا .فإن الشهادة هلل بأنه ال إله إال هو تتضمن إخالص اإللهية له ،فال يجوز أن يتأله
القلب غيره ،ال بحب وال خوف وال رجاء ،وال إجالل وال إكرام وال رغبة وال رهبة؛ بل ال بد أن يكون الدين
ُ ُ ُّ َ َُ َ َْ ُ َ كله هلل ،كما قال تعالىَ } :و َقات ُل ُ
ين كل ُه َّلِل{. وه ْم َح َّتى ال تكون فتنة َو َيكون الد
فإذا كان بعض الدين هلل وبعضه لغيرهللا= كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك.
وكمال الدين كما جاء في الحديث( :من أحب هلل وأبغض هلل ،وأعطى هلل ومنع هلل؛ فقد استكمل
اإليمان).
الناس َم ْن َي َّتخ ُذ م ْن ُدون َّ
الِل
َ َ َّ
فاملؤمنون يحبون هلل ،واملشركون يحبون مع هللا ،كما قال تعالى} :ومن
َّ َ َّ َ ُ َ َ َ َ َْ َ
ين َآمنوا أش ُّد ُحبا َّلِل{ أند ًادا ُيح ُّبون ُه ْم ك ُحب الِل والذ
ً
محمدا رسول هللا ،تتضمن :تصديقه في كل ما أخبر ،وطاعته في كل ما أمر .فما أثبته والشهادة بأن
وجب إثباته ،وما نفاه وجب نفيه ،كما يجب على الخلق أن يثبتوا هلل ما أثبته من األسماء والصفات،
وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة املخلوقات ،فيخلصوا من التعطيل والتمثيل ،ويكونوا في إثبات بال
59
تشبيه ،وتنزيه بال تعطيل .وعليهم أن يفعلوا ما أمر به وأن ينتهوا عما نهى عنه ،ويحللوا ما حلله ،ويحرموا
ما حرمه؛ فال حرام إال ما حرمه هللا ورسوله ،وال دين إال ما شرعه هللا ورسوله.
حرموا ما لم يحرمه هللا ،ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به هللا ،كما في ولهذا ذم هللا املشركين لكونهم ّ
َ َ ُ َ َ ْ َْ ْ َ َ ُ
قوله تعالىَ } :و َج َعلوا َّلِل م َّما ذ َرأ م َن ال َح ْرث َواألن َعام نص ًيبا{ ..إلى آخر السورة} .أ ْم ل ُه ْم ش َرك ُاء
َش َر ُعوا َل ُه ْم م َن الدين َما َل ْم َي ْأ َذ ْن به َّ ُ
الِل{.
الِل بإ ْذنه َوس َر ً
اجا ُمن ًيرا{ وقد قال تعالى لنبيه ﷺ }إ َّنا َأ ْ َس ْل َن َ
اك َشاه ًدا َو ُم َبش ًرا َو َنذ ًيرا * َو َداع ًيا إ َلى َّ
ر
داعيا -2إليه -3بإذنه. فأخبره أنه أرسلهً -1 :
فمن دعا إلى غيرهللا = فقد أشرك ،ومن دعا إليه بغيرإذنه = فقد ابتدع،
والشرك بدعة > واملبتدع يؤول إلى الشرك ،ولم يوجد مبتدع إال وفيه نوع من الشرك ،كما
َّ ُ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ َ
يح ْاب َن َم ْرَي َم َو َما أم ُروا إال
املس َ قال تعالى} :اتخذوا أ ْح َبا َر ُه ْم َو ُر ْه َبان ُه ْم أ ْرَب ًابا م ْن ُدون الِل و
ْ ُ َ َ َ َ َ َّ َ
ل َي ْع ُب ُدوا إل ًها َواح ًدا ال إله إال ُه َو ُس ْب َحان ُه َع َّما ُيشركون{ وكان من إشراكهم بهم :أنهم أحلوا
لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحالل فأطاعوهم.
ُ َ الِل َوَال ب ْال َي ْوم ْاآلخر َوَال ُي َحر ُمو َن َما َح َّر َم َّ ُ
ين َال ُي ْؤم ُنو َن ب َّ
وقد قال تعالىَ } :قات ُلوا َّالذ َ
الِل َو َر ُسول ُه َوال
صاغ ُرون{ فـ قرن بعدم
َ اب َح َّتى ُي ْع ُطوا ْالج ْزَي َة َع ْن َيد َو ُه ْم َ ين ُأ ُوتوا ْالك َت َين ْال َحق م َن َّالذ ََيد ُينو َن د َ
إيمانهم باهلل واليوم اآلخر :أنهم ال يحرمون ما حرمه هللا ورسوله ،وال يدينون دين الحق.
واملؤمنون صدقوا الرسول ﷺ فيما أخبر به عن هللا ،وعن اليوم الخر= فآمنوا باهلل واليوم الخر
وأطاعوه فيما أمر ونهى ،وحلل وحرم ،فحرموا ما حرم هللا ورسوله ،ودانوا دين الحق ،فإن هللا بعث
الرسول يأمرهم باملعروف وينهاهم عن املنكر ،ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ،فأمرهم
بكل معروف ،ونهاهم عن كل منكر ،وأحل لهم كل طيب ،وحرم عليهم كل خبيث.
َ َ َ َّ ُ َ ً
الِل َمثال ولفظ اإلسالم :يتضمن االستسالم واالنقياد ،ويتضمن اإلخالص ،من قوله تعالى} :ضرب
ً َ َ ُ َ َ َ ً
َر ُجال فيه ش َرك ُاء ُمتشاك ُسون َو َر ُجال َسل ًما ل َر ُجل{ .فال بد في اإلسالم من االستسالم هلل وحده ،وترك
االستسالم ملا سواه ،وهذا حقيقة قولنا " :ال إله إال هللا " فمن استسلم هلل ولغيره :فهو مشرك ،وهللا
ََ َ ُ
ال َرُّبك ُمال يغفر أن يشرك به ،ومن لم يستسلم له :فهو مستكبر عن عبادته ،وقد قال تعالى} :وق
ْ ُ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ
ون َع ْن ع َبا َدتي َس َي ْد ُخ ُلو َن َج َه َّن َم َداخر َ
ين{. ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبر
61
وثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال" :ال يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ،وال يدخل النار من
في قلبه مثقال ذرة من إيمان" .فقيل له :يا رسول هللا ،الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ،ونعله حسنا،
أفمن الكبر ذاك؟ فقال " :ال ،إن هللا جميل يحب الجمال ،الكبر :بطر الحق ،وغمط الناس" بطر الحق:
جحده ودفعه ،وغمط الناس :ازدراؤهم واحتقارهم.
ُ َ َ ُ َّ
فاليهود موصوفون بالكبر ،والنصارى موصوفون بالشرك ،قال تعالى في نعت اليهود} :أفكل َما َج َاءك ْم
َ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ً َ َّ ُ َ ً َ ْ ُ ُ َ
استك َب ْرت ْم ففريقا كذ ْبت ْم َوفريقا تقتلون{. َر ُسول بما ال تهوى أنفسكم
َّ ُ َّ َ ْ َ َ َ َّ َ ُ َ
يح ْاب َن َم ْرَي َم َو َما أم ُروا إال
املس َ وقال في نعت النصارى} :اتخذوا أ ْح َبا َر ُه ْم َو ُر ْه َبان ُه ْم أ ْرَب ًابا م ْن ُدون الِل و
ْ ُ َ َُ َ َ َ َّ ُ َ
ل َي ْع ُبدوا إل ًها َواح ًدا ال إله إال ُه َو ُس ْب َحانه َع َّما ُيشركون{.
أصل دين األنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع :قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح( :إنا معاشر
األنبياء ديننا واحد)( ،األنبياء إخوة لعالت)( ،وأنا أولى الناس بابن مريم ،فإنه ليس بيني
وبينه نبي)
ًَ ً ُ ُُ ُ َ ُ َ اع َم ُلوا َ
صال ًحا إني ب َما ت ْع َملون َعليم * َوإ َّن َهذه أ َّمتك ْم أ َّمة َواحدة
َ َّ
الطي َبات َو ْ ُُ } َيا َأ ُّي َها ُّ
الر ُس ُل كلوا من
َ َ ُ َ َّ ُ
َوأنا َرُّبك ْم فاتقون{
فدينهم واحد :وهو عبادة هللا وحده ال شريك له ،وهو ُي ُ
عبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت ،وذلك
هو دين اإلسالم في ذلك الوقت.
وتنوع الشرائع في الناسخ واملنسوخ من املشروع كتنوع الشريعة الواحدة ،فكما أن دين اإلسالم
الذي بعث هللا به محمدا ﷺ هو دين واحد ،مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت املقدس في
الصالة ،كما أمر املسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا ،وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة،
ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته ،فهكذا شرع هللا تعالى
لبني إسرائيل السبت ،ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة ،فكان االجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك ،ثم
صار الواجب هو االجتماع يوم الجمعة ،وحرم االجتماع يوم السبت.
فمن خرج عن شريعة موس ى قبل النسخ ،لم يكن مسلما ،ومن لم يدخل في شريعة ﷺ بعد النسخ لم
يكن مسلما.
َ َ َُ
ولم يشرع هللا لنبي من األنبياء أن يعبد غيرهللا البتة ،قال تعالى} :ش َرع لك ْم م َن الدين َما َو َّص ى به
َ َ َََ ُ
ين َوال تتف َّرقوا فيه يموا الديس ى َأ ْن َأق ُ
وس ى َوع َ وحا َو َّالذي َأ ْو َح ْي َنا إ َل ْي َك َو َما َو َّ
ص ْي َنا به إ ْب َراه َ
يم َو ُم َ ُن ً
َ ُ َ ََ ُْ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ
وه ْم إل ْيه{ فأمرالرسل أن يقيموا الدين وال يتفرقوا فيه. كبرعلى املشركين ما تدع
61
َ ُ َ ْ َ َ َّ
فأهل اإلشراك متفرقون ،وأهل اإلخالص متفقون ،وقد قال تعالىَ } :وال َي َزالون ُمختلفين -إال َم ْن
َََ َ
َرح َم َرُّب َك َولذل َك خلق ُه ْم{ فأهل الرحمة متفقون مجتمعون ،واملشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا.
» ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع ،يفترق أهله؛ فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت،
يتخذونه ندا من دون هللا ،فيقربون له ويستشفعون به ويشركون به .وهؤالء ينفرون عن طاغوت هؤالء،
وهؤالء وهؤالء ينفرون عن طاغوت هؤالء ،بل قد يكون ألهل هذا الطاغوت شريعة ليست لآلخرين ،كما
كان أهل املدينة الذين يهلون ملناة الثالثة األخرى ،ويتحرجون من الطواف بين الصفا واملروة ،حتى أنزل
َّ َّ َ َ ْ َ
امل ْر َو َة م ْن َش َعائر َّ
الِل{. هللا تعالى} :إن الصفا و
يعبدون هللا ال يشركون به ،في بيوته التي قد أذن هللا أن ترفع ويذكر فيها اسمه ،مع أنه قد جعلت
لهم األرض مسجدا وطهورا.
ً ً
وإن حصل بينهم تنازع في ش يء مما يسوغ فيه االجتهاد :لم يوجب ذلك تفرقا وال اختالفا ،بل هم
يعلمون أن املصيب منهم له أجران ،وأن املجتهد املخطئ له أجر على اجتهاده ،وخطؤه مغفور له.
وهللا هو معبودهم إياه يعبدون وعليه يتوكلون ،وله يخشون ويرجون ،وبه يستعينون ويستغيثون،
وله يدعون ويسألون ،فإن خرجوا إلى الصالة في املساجد ،كانوا مبتغين فضال منه ورضوانا ،كما
َّ ُ ُ َّ ُ َّ
قال تعالى في نعتهم﴿ :تراهم ُركعا سجدا يبتغون فضال ِمن ِ
اَّلل و ِرضوانا﴾
وإذا سافروا إلى أحد املساجد الثالثة ،ال سيما املسجد الحرام ،الذي أمروا بالحج إليه ،قال تعالى:
َّ َّ ُ ُّ ُ َّ
اَّلل وال الشهر الحرام وال الهدي وال القال ِئد وال ِّآمين البيت
﴿يا أ ُّيها ال ِذين آمنوا ال ت ِحلوا شعا ِئر ِ
ً ُ
الحرام يبتغون فضال ِمن ِرّب ِهم و ِرضوانا﴾ فهم يؤمون بيته ويبتغون فضال من ربهم ورضوانا ،ال
يرغبون إلى غيره ،وال يرجون سواه ،وال يخافون إال إياه.
وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم واستزلهم عن إخالص الدين هلل إلى أنواع
من الشرك:
فيقصدون بالسفر والزيارة :الرجاء لغير هللا ،والرغبة إليه.
ويشدون الرحال :إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح ،أو من يظن أنه نبي ،أو صاحب أو صالح،
داعين له راغبين إليه.
62
ومنهم :من يظن أن املقصود من الحج هو هذا ،فال يستشعر إال قصد املخلوق املقبور ،ومنه من
يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت.
ومن شيوخهم :من يحج ،فإذا دخل املدينة ،رجع وظن أن هذا أبلغ.
ومن جهالهم :من يتوهم أن زيارة القبور واجبة ،ومنهم من يسأل املقبور امليت ،كما يسأل الحي الذي
ال يموت!
وقد ينذرون أوالدهم للمقبور ،ويسيبون له السوائب ،من البقر وغيرها ،كما كان املشركون يسيبون
السوائب لطواغيتهم.
ومن السدنة :من يضل الجهال ،فيقول :أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح ،وهو يذكرها للنبي صلى
هللا عليه وسلم ،والنبي يذكرها هلل !
وما أكثر من يرى من هؤالء :أن صالته عند هذا القبر املضاف إلى بعض املعظمين أعظم من صالته
في املساجد بيوت هللا ،فيزدحمون للصالة في مواضع اإلشراك املبتدعة ،التي نهى النبي ﷺ عن
اتخاذها مساجد ،ويهجرون الصالة في البيوت التي أذن هللا أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
ومن أكابرهم :من يقول " :الكعبة في الصالة قبلة العامة ،والصالة إلى قبر الشيخ فالن -مع استدبار
الكعبة -قبلة الخاصة "!
وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء املسلمين ،ولم نفصل هنا في هذه املسائل ،وإنما نبهنا هنا
على رؤوس املسائل ،وجنس الدالئل ،والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخالص الدين هلل،
ّ
وعبادته وحده ال شريك له ،وما سدته من الذريعة إلى الشرك ،دقه وجله ،فإن هذا هو أصل الدين،
وحقيقة دين املرسلين وتوحيد رب العاملين.
فطائفة :ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات ،بل نفي األسماء الحسنى أيضا ،وأثبتوا ذاتا مجردة
عن الصفات ،ووجودا مطلقا بشرط اإلطالق .وسموا أنفسهم :أهل التوحيد .
63
وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه (تركيبا) وظنوا أن العقل ينفيه ،وقد ُعلم بصريح املعقول
املطابق لصحيح املنقول :أن ذلك ال يكون إال في األذهان ،ال في األعيان .كما قد كشفنا أسرارهم وبينا
فرط جهلهم ،وما أضلهم من األلفاظ املجملة املشتركة في غير هذا املوضع.
وطائفة :ظنوا أن التوحيد ليس إال اإلقرار بتوحيد الربوبية ،وأن هللا خلق كل ش يء ،وهو الذي
يسمونه توحيد األفعال .
ومن أهل الكالم :من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد إما بدليل أن االشتراك يوجب نقص القدرة
وفوات الكمال ،وبأن استقالل كل من الفاعلين باملفعول محال ،وإما بغير ذلك من الدالئل ،ويظن أنه
بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه ال إله إال هو ،وأن اإللهية هي :القدرة على االختراع أو نحو ذلك ،فإذا
ثبت أنه ال يقدر على االختراع إال هللا ،وأنه ال شريك له في الخلق ،كان هذا معنى قولنا :ال إله إال هللا ،ولم
َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ
ض ل َيقول َّنيعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد} :ولئن سألتهم من خلق السماوات واألر
َّ ُ ُ ْ
الِل قل ال َح ْم ُد َّلِل{.
وهذا التوحيد [الربوبية] هو من التوحيد الواجب ،لكن ال يحصل به الواجب ،وال يخلص بمجرده عن
اإلشراك الذي هو أكبر الكبائر ،الذي ال يغفره هللا ،بل ال بد أن يخلص هلل الدين فال يعبد إال إياه فيكون
دينه كله هلل.
ٌ
مستلزم لصفات الكمال ،فال يستحق أن واإلله :هو املألوه الذي تألهه القلوب ،وكونه يستحق اإللهية
يكون معبودا محبوبا لذاته إال هو ،وكل عمل ال ُيراد به وجهه فهو باطل ،وعبادة غيره وحب غيره يوجب
َ ْ َ َ َ َ َّ َّ ُ َ َ َ َ
الِل لف َسدتا{. الفساد ،كما قال تعالى }لو كان فيهما آلهة إال
وبينا أن هذه الية ليس املقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكالم ،من ذكر دليل التمانع الدال على
وحدانية الرب تعالى ،فإن التمانع يمنع وجود املفعول ال يوجب فساده بعد وجوده ،وذلك يذكر في
األسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعالت ،والثاني يذكر في الحكم والنهايات التي تذكر في
َّ َ َ ْ ُ ُ َ َّ َ َ َ ُ
اك ن ْستعين{ فقدم الغاية املقصودة على الوسيلة العلل التي هي الغايات ،كما في قوله} :إياك نعبد وإي
املوصلة.
ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف ،ظن أن توحيد الربوبية هو
الغاية ،والفناء فيه هو النهاية ،وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح،
فآل بهم األمر إلى تعطيل األمر والنهي ،والوعد والوعيد ،ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع
64
املخلوقات ،وبين محبته ورضاه املختص بالطاعات ،وبين كلماته الكونيات التي ال يجاوزها بروال
فاجر -لشمول القدرلكل مخلوق -وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه.
فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر ،والبروالفاجر ،عليه أن يشهد ألوهيته
التي اختص بها عباده املؤمنين ،الذين عبدوه وأطاعوا أمره ،واتبعوا رسله.
ْ ُ َّ َ َ ْ ُ َ َْ َ َ َ ُْْ قال تعالى } َأ ْم َن ْج َع ُل َّالذ َ
ين َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ
ين في األ ْرض أ ْم ن ْج َع ُل املتقين كالف َّجار{ الصال َحات كاملفسد
ومن لم يفرق بين أولياء هللا وأعدائه ،وبين ما أمربه وأحبه من اإليمان واألعمال الصالحة وما كرهه
ونهى عنه وأبغضه :من الكفر والفسوق والعصيان مع شمول قدرته ،ومشيئته ،وخلقه لكل ش يء،
َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ْ َ َ ُ َ َ
الِل َما أش َركنا َوال َآباؤنا َوال َح َّر ْمنا م ْن ش ْيء{ وإال وقع في دين املشركين ،الذين قالوا }لو شاء
والقدر يؤمن به وال يحتج به ،بل العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند املصائب ،ويستغفر هللا عند
َ ْ ْ َّ َ ْ َ َّ َ ٌّ َ ْ َ ْ َ ْ
استغف ْرلذنب َك{ ولهذا حج آدم موس ى عليهماالذنوب واملعايب كما قال تعالى }فاصبرإن وعد الِل حق و
السالم ،ملا الم موس ى آدم ألجل املصيبة التي حصلت لهم بأكله من الشجرة ،فذكر له آدم" :أن هذا كان
َ َْ ُ ُ َْ آدم موس ى" كما قال تعالى } َما َأ َ
اب م ْن ُمص َيبة في األ ْرض َوال في أنفسك ْم ص َ مكتوبا قبل أن أخلق .فحج ُ
اب م ْن ُمص َيبة إ َّال بإ ْذن َّ
الِل َو َم ْن ص َالِل َيسير{ وقالَ } :ما َأ َ إ َّال في ك َتاب م ْن َق ْبل َأ ْن َن ْب َرَأ َها إ َّن َذل َك َع َلى َّ
َْ ُي ْؤم ْن ب َّ
الِل َي ْهد قل َب ُه{ قال بعض السلف" :هو الرجل تصيبه املصيبة ،فيعلم أنها من عند هللا فيرض ى
ويسلم".
فهذا هو جهة احتجاج آدم بالقدر ،ومعاذ هللا أن يحتج آدم -أو من هو دونه من املؤمنين -على
املعاص ي بالقدر ،فإنه لوساغ هذا :لساغ أن يحتج إبليس ومن اتبعه من الجن واإلنس بذلك ،ويحتج
به قوم نوح وعاد وثمود ،وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان ،ولم يعاقب أحد ،وهذا مما يعلم
فساده باالضطرارشرعا وعقال.
فإن هذا القول ال يطرده أحد من العقالء ،فإن طرده يوجب أن ال يالم أحد على ش يء ،وال يعاقب
عليه .وهذا املحتج بالقدر لو جنى عليه جان لطالبه ،فإن كان القدر حجة للجاني عليه ،وإال فليس
حجة ال لهذا وال لهذا.
ولو كان االحتجاج بالقدر مقبوال ،لم يمكن للناس أن يعيشوا ،إذا كان لكل من اعتدى عليهم أن يحتج
بذلك ،فيقبلوا عذره وال يعاقبوه ،وال يمكن اثنان من أهل هذا القول أن يعيشا إذ لكل منهما أن يقتل
الخر ،ويفسد جميع أموره ،محتجا على ذلك بالقدر.
65
ثم إن أولئك املبتدعين ،الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات ،وهؤالء الذين أخرجوا عنه متابعة
األمر ،إذا حققوا القولين= أفض ى بهم األمر إلى أن ال يفرقوا بين الخالق واملخلوق ،بل يقولون بوحدة
الوجود كما قاله أهل اإللحاد القائلين بالوحدة والحلول واالتحاد الذين يعظمون األصنام وعابديها،
وفرعون وهامان وقومهما ،ويجعلون وجود خالق األرض والسماوات هو وجود كل ش يء من املوجودات
ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان ،وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان.
يقول عارفهم :السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة واملعصية ( نظرا إلى األمر) ثم يرى طاعة بال معصية
( نظرا إلى القدر) ثم ال طاعة وال معصية (نظرا إلى أن الوجود واحد) وال يفرقون بين الواحد بالعين
والواحد بالنوع ،فإن املوجودات مشتركة في مسمى الوجود.
وهذا مقام زلت فيه أقدام ،وضلت فيه أحالم ،وهللا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومن أحكم األصلين املتقدمين في الصفات ،والخلق واألمر -1 :يميز بين املأمور املحبوب
املرض ي هلل ،وبين غيره +مع شمول القدر لهما -2 ،وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي
توجب مباينته للمخلوقات ،وأنه ليس في مخلوقاته ش يء من ذاته ،وال في ذاته ش يء من
مخلوقاته= أثبت التوحيد الذي بعث هللا به رسله ،وأنزل به كتبه ،كما نبه على ذلك في سورتي
اإلخالص والكافرون.
خبرا عن وحدانية هللا ،ففيها التوحيد الِل َأ َحد﴾ تعدل ثلث القرآن" في كونها ً
ُق ْل ُه َو َّ ُ
-فإن "﴿
َ ا لقولي العملي ،الذي تدل عليه األسماء والصفات ،ولهذا قال تعالىُ ﴿ :ق ْل ُه َو َّ ُ
الِل أ َحد * َّ ُ
الِل
الص َم ُد﴾.
َّ
وعدل الش يء :ما سواه ،من غير جنسه ،وذلك يقتض ي :أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر،
ً
وال يكون مثله في الصفة ،لهذا يحتاج إلى سائرالقرآن ،وال تغني عنه هذه السورة مطلقا.
َ َ َْ ُ َ َ َْ ُ
-و ﴿ق ْل َيا أ ُّي َها الكاف ُرون﴾ فيها التوحيد القصدي العملي ،كما قال تعالى ﴿ق ْل َيا أ ُّي َها الكاف ُرون *
َ َ َ َ
ال أ ْع ُب ُد َما ت ْع ُب ُدون﴾؛ وبهذا يتميز من يعبد هللا ممن يعبد غيره وإن كان كالهما يقر بأن هللا رب
كل ش يء ،ويتميز عباد هللا املخلصون الذين لم يعبدوا إال إياه ،ممن عبد غيره وأشرك به ،أو نُر
إلى القدرالشامل لكل ش يء ،فسوى بين املؤمنين والكفار ،كما كان يفعل املشركون من العرب.
ولهذا قال ﷺ ( :إنها براءة من الشرك).
ُ ْ ُ َ َّ ُ َ
الِل أ َحد﴾ فيها إثبات الذات ،وما لها من األسماء والصفات التي يتميزبها مثبتو الرب وسورة ﴿قل هو
الخالق ،األحد الصمد ،عن املعطلين له بالحقيقة ،نفاة األسماء والصفات ،املضاهين لفرعون
66
وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود لإلله املعبود ،وإن كان في الباطن يقر به ،كما قال تعالى
ُ ُْ َ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َْ ُ
است ْيقن ْت َها أنف ُس ُه ْم ظل ًما َو ُعلوا﴾.﴿وجحدوا بها و
وهللا سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل ،ونفي مجمل ،فأثبتوا له األسماء والصفات ،ونفوا عنه
مماثلة املخلوقات .ومن خالفهم من املعطلة املتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية ،فجاءوا بنفي
مفصل وإثبات مجمل ،يقولون ليس كذا ،ليس كذا ،ليس كذا.
فإذا أرادوا إثباته قالوا :وجود مطلق بشرط النفي ،أو بشرط اإلطالق ،وهم يقرون في منطقهم اليوناني:
أن املطلق بشرط اإلطالق ال يكون في الخارج ،بخالف املطلق ال بشرط الذي يقال :إنه في الخارج ال يكون
إال معينا مشخصا ،أو يقولون إنه الوجود املشروط بنفي كل ثبوت عنه= فيكون مشاركا لسائر
املوجودات في مسمى الوجود ،متميزا عنها بالعدم.
وكل موجود متميز بأمر ثبوتي +والوجود خير من العدم = فيكون أحقر املوجودات خيرا من هذا الذي
ظنوه وجودا واجبا > هذا إذا أمكن تحقيقه في الخارج ،فكيف وذلك ممتنع؛ ألن املتميز بين املوجودين
ال يكون عدما محضا ،بل ال يكون إال وجودا؟
فهؤالء يقولون :في وجود واجب الوجود ،ما يعلم بصريح املعقول املوافق لقوانينهم املنطقية :أنه قول
بامتناع الوجود الواجب وأنه جمع بين النقيضين ،وهذا في غاية الجهل والضالل.
ْ َ
وأما الرسل صلوات هللا عليهم :فطريقتهم طريقة القرآن ،قال سبحانه وتعالىُ } :س ْب َحان َرب َك َرب الع َّزة
ْ َ َ َ ْ َ ُْ َ ُ َ
َع َّما َيصفون * َو َسالم َعلى امل ْر َسلين * َوال َح ْم ُد َّلِل َرب ال َعاملين{
#اثبات :هللا تعالى يخبر في كتابه أنه :حي ،قيوم ،عليم ،حكيم ،غفور ،رحيم ،سميع ،بصير ،علي،
عُيم ،خلق السماوات واألرض وما بينهما في ستة أيام ،ثم استوى على العرش ،وكلم موس ى تكليما،
وتجلى للجبل فجعله دكا ،يرض ى عن املؤمنين ،ويغضب على الكافرين إلى أمثال ذلك من األسماء
والصفات.
ََ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ُُ َ َْ َ َ ْ َ
س كمثله ش ْيء﴾َ ﴿ ،ول ْم َيك ْن ل ُه كف ًوا أ َحد﴾َ ﴿ ،ه ْل ت ْعل ُم ل ُه َسميا﴾﴿ ،فال ت ْج َعلوا َّلِل #نفي ﴿ :لي
َْ َ
أند ًادا﴾ فنفى بذلك -1 :أن تكون صفاته كصفات املخلوقين -2 ،وأنه ليس كمثله ش يء ال في نفسه
َ َ َ
املقدسة ،املذكورة بأسمائه وصفاته ،وال في ش يء من صفاته وال أفعالهُ ﴿ :س ْب َحان ُه َوت َعالى َع َّما
َّ َ ْ َ ُ ُ َ ُ ُ َ ً ُ َ ُ َ ُ َّ َ َ ُ َّ ْ ُ َ ْ َ
ض َو َم ْن فيه َّن َوإن م ْن ش ْيء إال ُي َسب ُح ب َح ْمده
األ ْر ُ يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع و
يما َغ ُف ً َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َن َ ْ َ ُ ْ َّ ُ َ َ
ان َحل ً
ورا﴾ . ولكن ال تفقهو تسبيحهم إنه ك
67
فاملؤمن :يؤمن باهلل ،وما له من األسماء الحسنى ،ويدعوه بها ،ويجتنب اإللحاد في أسمائه وآياته،
َ َّ َّ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ُ َّ َ ْ
ين ُيلح ُدون ين ُيلح ُدون في أ ْس َمائه﴾ ﴿إن الذ قال تعالى ﴿ولِل األسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذ
َ َ َْ َ َ َ
في َآياتنا ال َيخف ْون َعل ْينا﴾ .وهو يدعو هللا وحده ،ويعبده وحده ال يشرك بعبادة ربه أحدا ،ويجتنب
ف ُّ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ ُ ْ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ
الضر طريق املشركين الذين قال هللا تعالى فيهم ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فال يملكون كش
ُ َ َ ْ َََ َْ َ ُ َ َ َع ْن ُك ْم َوَال َت ْحو ًيال * ُأ َولئ َك َّالذ َ
ين َي ْد ُعون َي ْب َتغون إلى َربه ُم ال َوسيلة أ ُّي ُه ْم أق َر ُب َو َي ْر ُجون َر ْح َم َت ُه َو َي َخافون
ُ َ َ
اب َرب َك كان َم ْحذو ًرا﴾. َع َذ َاب ُه إ َّن َع َذ َ
َ َْ ال َذ َّرة في َّ الِل َال َي ْمل ُكو َن م ْث َق َ
ين َ َع ْم ُت ْم م ْن ُدون ََّّ َ ُ
الس َم َاوات َوال في األ ْرض َو َما وقال تعالى ﴿قل ْاد ُعوا الذ ز
َ ُ َ الش َف َ ُ ْ َ َّ َ َ َ َ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ َ َ
ل ُه ْم فيه َما م ْن ش ْرك َو َما ل ُه م ْن ُه ْم م ْن ظهير * وال تنفع
َ
اعة عند ُه إال مل ْن أذن له َح َّتى إذا فزع َع ْن
َْ ْ ُُ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ
ال َرُّبك ْم قالوا ال َح َّق َو ُه َو ال َعل ُّي الكب ُير﴾ . قلوبهم قالوا ماذا ق
وصية:
فليجتهد املؤمن في تحقيق العلم واإليمان ،وليتخذ هللا هاديا ونصيرا ،وحاكما ووليا ،فإنه نعم املولى ونعم
النصير ،وكفى بربك هاديا ونصيرا .وإن أحب دعا بالدعاء الذي صح عن النبي أنه "كان إذا قام يصلي من
الليل يقول " :اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ،فاطر السماوات واألرض ،عالم الغيب والشهادة،
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،اهدني ملا اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من
ًَ َ َ َّ ُ ُ ً
اس أ َّمة َواحدة﴾ أي :فاختلفوا ،وقد قيل: تشاء إلى صراط مستقيم" وذلك أن هللا تعالى يقول﴿ :كان الن
ُ َ َُْ َ َ َْ َ َ َُ ُ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ َّ َ
اب بال َحق ل َي ْحك َم الِل النبيين ُم َبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكت إنها كذلك في قراءة عبد هللا ﴿ :فبعث
ْ َ ُ ْ ُ
ين أ ُوت ُ َ َ ْ ََ َ
ف فيه إ َّال َّالذ َ َ ْ ََ ُ َ َّ
وه م ْن َب ْعد َما َج َاء ْت ُه ُم ال َبينات َبغ ًيا َب ْي َن ُه ْم يما اختلفوا فيه وما اختل َب ْين الناس ف
َ َ َ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ ُ َ ْ
اخ َت َل ُفوا فيه م َن ْال َحق بإ ْذنه َو َّ ُ
الِل َي ْهدي َم ْن َيش ُاء إلى ص َراط ُم ْستقيم﴾ . فهدى الِل الذين آمنوا ملا
68