Professional Documents
Culture Documents
4 الفصل الثالث - الركائز الفكرية لأيديولوجية العولمة
4 الفصل الثالث - الركائز الفكرية لأيديولوجية العولمة
الفصل الثالث
الركائز الفكرية أليديولوجية العولمة
تمهيد:
ت بين من الفص ل الس ابق أن تجلي ظ اهرة العولم ة وبروزه ا على س احة
التعاطي الفكري من ناحية والتطبيق العملي من ناحية أخرى ،ارتبط بالنصف
الث اني من الق رن العش رين ،دون إغف ال لإلرهاص ات التاريخي ة للظ اهرة وال تي
ربم ا امت دت لع دة ق رون قب ل بروزه ا ككي ان ذي قس مات ب ارزة .وق د ت زامنت
وتماكنت مع ما يعرف بـ "ما بعد الحداثة" ،Postmodernismفكان لزاما على
الب احث أن يفتش عن طبيع ة عالئقهم ا ،وه ل ثم ة أواص ر اجت ذاب أم أن
الظاهرتين محكومتان بالتنافر والصراع .ومن ثم كان من الضروري التعرض
لما بعد الحداثة من حيث النشأة التاريخية والمقوالت المركزية؛ بغية التوصل
إلى طبيعة العالقة بينها وبين العولمة موضوع الدراسة.
وتع د مقارب ة الس ياق الثق افي الغ ربي ض رورة فى تحدي د مالمح
منتَج
األيديولوجية العولمية ك آخر مخرج ات الثقافة الغربية؛ حيث أنه ال يوجد ْ
يشذ عن سياق إنتاجه فى الغالب .وإ ذا كانت الفكرة المركزية لهذه الدراسة تقوم
على تواثق العالقة بين العولمة وظاهرة ما بعد الحداثة ،وتوحي الداللة المبدئية
لـ "ما بعد الحداثة" أنها تمثل نفيا أو تجاوزا لـ "الحداثة" ،Modernityفإنه من
األهمية بمكان أن ُنسبِّق تناول ما بعد الحداثة بالتعرض للظاهرة األصل وهي
المنقلب عليه.
الحداثة ،فال مجال لفهم ظاهرة االنقالب دون إدراك لحقيقة َ
أوال -الحداثة:
96
-1مفهوم الحداثة:
ال يوج د إجم اع بين م ؤرخي الحداث ة ح ول بداي ة مح ددة لميالده ا؛ فثم ة
من ي ؤرخ له ا ب دءاً من الق رن الس ادس عش ر ،وآخ ر يقص رها – ربم ا – على
قرنين فائتين ،وترجع علة ذلك باألساس إلى تعدد حقولها الداللية التي طالت
ك ل مس تويات الوج ود اإلنس اني وأبع اده الحياتي ة ،فال مج ال إال وطالت ه أص ابع
تش كيلها ،متنقل ة من البع د التق ني إلى البع د الجم الي ،ومن المس توى االقتص ادي
إلى المس توى الفك ري والفلس في ،مم ا ي دفع ك ل ط رف إلى س ْوقها وفق ا لت اريخ
بلوغها فرعه المعرفي .وقد أدى ذلك إلى التباسات جمة أحاطت المفهوم بهالة
من الغم وض Obscurityدفعت البعض إلى اعتب ار الحداث ة غ ير قابل ة لـ
"المفهمة" ،وقد انتقل غموضها هذا إلى َخلَِفها "ما بعد الحداثة" كما سيرد ذكره
بع د ذل ك .وال تختل ف الحداث ة فى ذل ك عن العدي د من مف اهيم العل وم
االجتماعية(.)1
وإ ذا ب دأنا باالش تقاق اللغ وي ،نج د أن كلم ة حداث ة فى اللغ ة العربي ة من
ث
نقيض القُ ْدم ة .ح دث َح َد َ
ُ وث
والح ُد ُ
نقيض الق ديمُ ، ُ فالح ِد ُ
يث الفع ل "ح دث" َ
يث ،وك ذلكوح ِد ٌ
ث َ وأح َدثَ هُ ُه َو ،فَه و ُم ْح َد ٌ
وحداث ةًْ ،
ث ُح ُدوثاً َ
يء َي ْح ُد ُ
الش ُ
اس تَ ْح َدثَهُ( .)2وتُش تق كلم ة Modernityمن الكلمة اإلنجليزية Modernوهي
ْ
مش تقة ب دورها من الكلمة الالتينية Modernusوال تي ترجع إلى كلمة التينية هي
Modusوتع ني مقي اس أو منهج أو نظ ام .ومن الكلم ات المش تقة من نفس الج ذر
كلمة Modoوتع ني "م ؤخراً" أو "لت وه" .ومص طلح "ح ديث" Modernمص طلح
خالفي للغاي ة ،فهي ككلمة من المف ترض أنها محاي دة ،إال أنها ليست ك ذلك فى
الواقع ،فعادةً ما توضع فى مقابل "تقليدي" أو "قديم" وتصبح كلمة معيارية ،وتعنى
1
)(1) Clus Offe: Modernity and the State, East, West (USA: Polity Press,1996
P: 5.
)2(2ابن منظور :لسان العرب ،المجلد الثاني (القاهرة :دار المعارف ،د.ت) ص.796 :
97
أن الح ديث أفضل من الق ديم؛ ويرجع ذلك الرتباطها بكلمة التق دم ( .)1وقد ب دأ
اس تخدام كلمة ح ديث Modernفى اللغة اإلنجليزية منذ عصر إليص ابات حسب
المع نى الج اري كمقابل لكلمة ق ديم ( .)2وك انت الكلمة قد اس تُخدمت بص يغتها
الالتينية Modernusللم رة األولى فى أواخر الق رن الخ امس الميالدي به دف
التمي يز بين الحاضر Presentال ذي أص بح مس يحيا على المس توى الرس مي
والماضي Pastالروماني الوثني (.)3
فعرفها
أما الحداثة اصطالحاً ،فقد تعددت الرؤى وتنوعت حول مفهومهاّ ،
البعض بأنها حقبة تاريخية متواصلة ابتدأت فى الغرب ثم انتقلت آثارها إلى العالم
بأسره ،مع اختالفهم فى تحديد مدة هذه الحقبة ،فمنهم من قال إنها تمتد على مدى
خمسة ق رون كامل ة ،ب دءاً من الق رن الس ادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة
اإلص الح ال ديني ،ثم حركة التن وير Enlightenmentوالث ورة الفرنس ية ،تليهما
الث ورة الص ناعية ،ف الثورة التقني ة ،ثم الث ورة المعلوماتي ة ،ومنهم من جعل ه ذه
الحقبة التاريخية أدنى من ذلك ،حتى رجع إلى قرنين فقط (.)4
وعرف آخرون الحداثة بصفات طبعت عطاء هذه الحقبة ،مع اختالفهم فى
ّ
التعب ير عن ه ذه الص فات وعن أس بابها ونتائجه ا؛ فمن قائل أن الحداثة هي
"النه وض بأس باب العقل والتق دم والتح رر" ،وقائل أنها "ممارسة الس يادات الثالث
)1(1عبد الوهاب المسيري :التحديث والحداثة ،بحث فى كتاب "الحداثة وما بعد الحداثة" (طرابلس:
جمعة الدعوة اإلسالمية العالمية )1989 ،ص.61 – 60 :
)2(2كرين برينتون :تشكيل العقل الحديث (القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب )2001 ،ص.16 :
3
(3) Jürgen Habermas: Modernity versus Post modernity, New German
Critique, No. 22, Special Issue on Modernism. (Winter, 1981), P: 3.
See to, Joseph Natoli and Linda Hutcheon: A Postmodern Reader (New York:
State University of New York Press, 1993) P: 92.
- Krishan Kumar: From Post- industrial to Post-modern Society, New Theories of
the Contemporary World (Oxford: Blackwell Publishing, 1995) P: 91.
)4(4طه عبد ال رحمن :روح الحداث ة ،الم دخل إلى تأس يس الحداثة اإلس المية ،ط( 1ال دار البيض اء:
المركز الثقافي العربي )2006 ،ص.23 :
98
عن طريق العلم والتقني ة :الس يادة على الطبيعة والس يادة على المجتمع والس يادة
طع الصلة
على الذات" ،بل نجد منهم من يقصرها على صفة واحدة ،فيقول إنها "ق ْ
ب التراث" أو إنها "طلب الجدي د" ،أو إنها "محو القدس ية من الع الم" أو إنها "العقلن ة"
أو إنها "الديمقراطي ة" أو إنها "حق وق اإلنس ان" أو "قطع الص لة بال دين" أو إنها
"العلمانية" .Secularismوأمام هذا التعدد والتردد فى تعاريف الحداثة ،ال عجب
أن ُيق ال ك ذلك إنها "مش روع غ ير مكتم ل" وفقا لما أعلنه الفيلس وف األلم اني
"يورغن هابرماس - 1929( Jurgen Habermas؟) (.)1
)1(1طه عبد ال رحمن :روح الحداث ة ،الم دخل إلى تأس يس الحداثة اإلس المية ،مرجع س ابق ،ص:
.23
)2(2محمد سبيال :مدارات الحداثة ،ط( 1بيروت :الشبكة العربية لألبحاث والنشر )2009 ،ص:
.124 – 123
99
العلم والتكنولوجيا واإلدارة من ج انب ،وبين تنظيم المجتمع ال ذي ينظمه الق انون
والحياة الشخصية وتنعشه المصلحة ،وكذلك الرغبة فى التحرر من كل الضغوط
من جانب آخر .ويتساءل على أي شيء تقام هذه الصلة بين ثقافة علمية ومجتمع
منظم وأف راد أح رار إن لم يكن على انتص ار العق ل؟ معت براً أن العقل وح ده هو
الذي يعقد الصلة بين الفعل اإلنساني ونظام العالم ،وهذا ما كان يبحث عنه الفكر
ال ديني من قب ل ،ولكنه ك ان مش لوالً بس بب الغائية الخاصة باألدي ان التوحيدية
القائمة على الوحي .والعقل هو الذي يهب الحياة للعلم وتطبيقاته ،وهو أيضا ال ذي
يتحكم فى تك ييف الحي اة االجتماعية مع الحاج ات الفردية والجماعي ة .وهو أخ يراً
ال ذي يضع س يادة الق انون والدولة محل التعسف والعن ف .وعن دما تتص رف
اإلنسانية وفقا للقانون تتقدم نحو الوفرة والحرية والسعادة (.)1
وفى إطار التناول النقدي للحداثة ،يرى عبد الوهاب المسيري (– 1938
)2008أنه رغم تع دد تعريف ات الحداث ة ،ما بين من يعتبرها دفاع اً عن عظمة
اإلنس ان ومحورية دور العق ل ،ومن يعتبرها اس تنارة ،أو من يؤكد على كونها
استخدام العلم والتكنولوجيا (كما لو كانت هذا التكنولوجيا بدون أيديولوجية) رغم
ه ذا التع دد ،فإنه ي رى أن كل تعريف يحمل ش حنة أيديولوجي ة ،مطالبا بض رورة
)1(1أالن ت ورين :نقد الحداث ة ،ترجمة أن ور مغيث (الق اهرة :المجلس األعلى للثقاف ة )1997 ،ص:
.19
)2(2ع دنان على رضا النح وي :تق ويم نظرية الحداث ة ،ط( 1الس عودية :دار النح وي للنشر
والتوزيع )1992 ،ص.29 :
100
التمييز بين الحداثة كـ "مشروع" والحداثة كـ "تطبيق" ،فالتعريف الس ائد هو تعريف
المش روع وه ذه هي المش كلة الك برى ،مش يرا إلى أن تعريف الحداثة وفقا لما هو
ق ائم يحيل إلى اعتبارها تفكيك اً ،أي رد اإلنس ان إلى ما هو دون اإلنس ان ،أي رد
اإلنسان إلى الطبيعة والمادة (.)1
وي ْرجع المسيري الخلط واالرتباك فى تعريف الحداثة إلى عدة أسباب:
ُ
-1ميل الكث يرين إلى النظر للحداثة باعتبارها نموذج اً ثابت اً ،أو ح تى
نظرية جام دة أو متتالية مح ددة مق دماتها وحلقاته ا ،ونتائجها معروفة مس بقاً
وتتحقق بنفس الشكل تقريبا.
-2الخلط بين الحداثة كمخطط ومش روع وأمل وبين الحداثة كظ اهرة
تحققت فى الواقع بالفع ل ،حيث يعت برون أن آم ال بعض المفك رين بخص وص
المشروع الحداثي ،هي خير تعريف للظاهرة ،دون أن يدرسوا المتتالية المتحققة،
والتي تكشفت تدريجيا عبر األربعة قرون الماضية ،ثم ازدادت تبلوراً في العقود
األخ يرة مع أزمة الرأس مالية في الثالثيني ات من الق رن العش رين وظه ور النازية
،Nazismوأزمة النظام االشتراكي وسقوطه ،وأزمة المعنى التي أفرزت ثورة
الشباب ،وغيرها من الظواهر.
)1(1عبد الوهاب المسيري :الحداثة وما بعد الحداثة ،مرجع سابق ،ص.12 :
101
ولمع نى حيات ه .وله ذا يتم إهم ال بعض الج وانب النهائية والكلية للمش روع
التحديثي ،والتناقضات المعرفية الكامنة فيه كنموذج معرفي وكرؤية (.)1
يرجع الكثير من الباحثين بداية الحداثة إلى تراجع نظرة العصور الوسطى
للع الم خالل الق رن الرابع عش ر ،حيث أخ ذت تظهر بالت دريج ق وى جدي دة عملت
على تشكيل العالم الحديث كما نعرفه اليوم .فمن الوجهة االجتماعية ،أصبح البناء
اإلقطاعي Feudalityللمجتمع الوسيط غير مستقر نتيجة لظهور طبقة قوية من
التجار الذين تحالفوا مع الحكام ضد ُمالك األرض الخارجين عن كل سلطة .ومن
الوجهة السياسية ،فقد النبالء قدرا من حصانتهم مع ظهور األسلحة الجديدة ،التي
جعلت من المستحيل عليهم الصمود فى قالعهم التقليدية(.)2
فقد ق امت الحداثة فى الغ رب على أنق اض المجتمع ال زراعي اإلقط اعي
أوال ،وثانيا على تخلخل المف اهيم الدينية والميتافيزيقية والمثالية ال تي ش كلت
العامل األساسي لرؤية الوج ود واأليديولوجية التاريخية المالزمة له ذا المجتم ع.
فقد ك ان المجتمع األوروبي الوس يطي يق وم ،من حيث تركيبته السياس ية
واالجتماعية ،على تفتيت السلطة المركزية ،وعلى سيطرة اإلقطاع على مصادر
ال ثروة األساس ية وهي األراضي الزراعي ة ،كما ك ان يق وم على مس توى
األيديولوجيا الدينية والفكرية على مبادئ ثبات القيم والتحديد المسبق عرفا وقانونا
للهيراركية Hierarchyالثالثية التي تحكم النظام االجتماعي ،وفقا لمبادئ العبادة
(رجال الدين) والقتال (النبالء) والعمل (الفئة الثالثة وتشمل البرجوازية ومختلف
فئات الش عب األخ رى) .وأخيرا كانت الرؤية الميتافيزيقية للوجود ،التي بلورتها
عل وم الاله وت والفلس فة المدرس ية فى جمعها بين الفلس فة وال دين طريقة كب ار
فالسفة المسلمين ،تشكل الركيزة األساسية ألنساق القيم والمعايير والمثل التي ال
تنظم فحسب مجمل العالق ات االجتماعية على ه ذه األرض ،وإ نما ك ذلك عالقة
األف راد بحي اتهم األخروية من حيث الرؤية الرأس ية للع الم ،ومن حيث مف اهيم
الخير والشر والطاعة والمعصية والثواب والعقاب(.)1
وقد ج اءت قيم الحداثة مواكبة لمعظم التغ يرات ال تي أص ابت هيكل
المجتمع اإلقطاعي ،وأدت إلى خلخلته ،ثم إلى انهياره بعد ذلك .وأول مظاهر ه ذا
التغيير سوف ينبثق من عملية التناقض الذي ينشأ من الصراع المتولد بين رجال
اإلقط اع والس لطة الملكية من جه ة ،وبينهم وبين الطبقة البرجوازية الص اعدة من
جهة أخ رى ،خاصة مع ب دايات ازده ار ظ اهرة الم دن وانتع اش التج ارة خالل
القرنين الثاني عشر والثالث عشر .ذلك أن الملكية كانت تسعى جاهدة إلى تثبيت
الس لطة المركزي ة ،ومن ثم القض اء على اإلقط اع ومنظومة القيم والمف اهيم ال تي
يمثله ا ،خاصة ما يتصل منها ب والء األقن ان ألس يادهم اإلقليم يين ،والقض اء أيضا
على التض ارب بين حق وق اإلقط اع وحق وق الملكية الص اعدة ،على مس توى
تحصيل الضرائب والتنظيمات والتشريعات اإلدارية والقضائية والعسكرية (.)2
)1(1محمد علي الك ردي :من الحداثة إلى العولم ة ،ط( 1اإلس كندرية :الملتقى المص ري لإلب داع
والتنمية )2001 ،ص.11 :
)2(2نفس المرجع ،ص.12 :
103
له تج ييش الجي وش ودفع مرتب ات موظفيه والوق وف أم ام العص يان المحلي
واالعتداءات الخارجية على البالد (.)1
وه ذا ما دعا "الس كي" للق ول :ب أن ه ذه البرجوازية الس اعية نحو الق وة ،قد
هدمت فى سبيل سعيها نحو القوة الحواجز التي كانت تجعل االمتياز مترتبا على
المركز االجتم اعي ،وك انت تربط فك رة الحق وق بحي ازة األرض .وقد أح دثت
أيضا تغييرا أساسيا فى العالقات القانونية بين الناس لتصل إلى غايتها ،فح ّل العقد
محل المركز االجتماعي كأساس قانوني للمجتمع .وبعد أن كانت األرستقراطية –
ال تي تق وم س لطتها على حي ازة األرض هي ال تي تتحكم فى السياسة – ش اركها
رجال يستمدون نفوذهم من رأس المال المنقول وحده ،فرجل المصرف والتاجر
وص احب المص نع ب دأوا يحل ون محل مالك األرض ورجل ال دين والقائد كنم اذج
للنفوذ االجتماعي السائد (.)2
ولقد لعب ه ذا التح الف ال ذي فرض ته الظ روف التاريخية الموض وعية
والمص الح االقتص ادية والوطنية المش تركة ،لعب دورا كب يرا في تأس يس الدولة
القومية الحديثة فى أخري ات الق رن الخ امس عش ر ،وفى تحقيق ه دفين كانا بمثابة
الشرط األساسي لقيامها ،والغاية التاريخية الحتمية التي كان ال مناص من انتهائها
إليه ا .واله دف األول هو االرتب اط العض وي بين وظيفة النظ ام الملكي ،ال ذي نشأ
على أثر تفتت وتص دع اإلمبراطورية الروماني ة ،وبين قيام مفهوم األمة Nation
ذات البعد التاريخي واللغوي والمرتبطة بانبثاق الوعي القومي.
أما الهدف الثاني ،فهو ضرورة تحرير السوق المحلية من سيطرة اإلقطاع
كطبقة اس تهالكية مب ددة لل ثروات اإلقليمي ة ،والتح ول إلى الس وق الوطنية ال تي
تلتقي عبرها مصالح الطبقات البرجوازية الصاعدة مع المصالح القومية .ويشمل
)1(1محمد علي الكردي :من الحداثة إلى العولمة ،مرجع سابق ،ص.12 :
)2(2هارولد السكي :نشأة التحررية األوروبية ،ترجمة عبد الرحمن صدقي (القاهرة :مكتبة مصر،
د.ت) ص.5 :
104
ك ذلك اله دف الث اني ض رورة تأكيد الحري ات اإلقليمية وحرية االنتق ال وحرية
األش خاص والتج ارة والتمل ك ،وذلك ما تتم يز به ه ذه القيم ،بج انب خصوص يتها
الطبقي ة ،من س مات إنس انية يس هل تعميمها فى إط ار تصور ش مولي للوطن كقوة
قومية ولغوية ودينية متجانس ة .وثمة تالزم وثي ق ،ليس فقط بين نمو العقلية أو
األيديولوجية البرجوازية ومبدأ قيام السوق الوطنية ،وإ نما أيضا بينها وبين البحث
عن صيغ قانونية تتالءم مع عملية التوحيد اإلقليمي الذي حققته تاريخيا ،وإ ن على
ف ترات تاريخية متباع دة ،النظم الملكية المنبثقة عن تفتت اإلمبراطورية الرومانية
منذ أواخر القرن الخامس الميالدي وبداية تشكل الدول األوروبية المقبلة (.)1
)1(1محمد علي الكردي :من الحداثة إلى العولمة ،مرجع سابق ،ص.13 – 12 :
)1(2ج ورج س باين :تط ور الفكر السياس ي ،ترجمة راشد ال براوي ،جـ( 3الق اهرة :الهيئة المص رية
العامة للكتاب ،د.ت) ص.57 :
105
خطيرة تهدد عروش األمراء ونفوذ اإلقطاعيين الذين سارعوا بعقد حلف مقدس
لص دها .وهي تمثل أمال ألص حاب المظ الم وللق وى االقتص ادية الص اعدة ال تي
أعاقها النمط التقلي دي عن النمو والتعب ير السياسي عن مص الحها( .)1ولقد انعكس
أثر ه ذه التح والت فى البينة السياس ية للدولة والب نى االقتص ادية واالجتماعية
للتجمع ات اإلثنية المكونة لش عوبها ،ليس فقط على عملية إع ادة توظيف ال دين،
ال ذي ك ان يمثل الرؤية األيديولوجية الس ائدة لمجتمع ات العص ور الوس طى ،وإ نما
انعكست أيضا على تش كيل المف اهيم الفكرية واألدبية والفنية المواكبة لقي ام الع الم
الح ديث .ذلك أن ال دين ك ان يش كل – فى العص ور الوس طى – القاع دة األساس ية
لنظ رة األمم المس يحية إلى الك ون والحي اة .إال أن ه ذه الش مولية الدينية أخ ذت فى
التفكك التدريجي مع بدايات العصور الحديثة (.)2
وعلى الص عيد الفك ري ،فإنه يمكن الت أريخ لبداية الحداثة بأعم ال كل من
بيك ون ) Francis Bacon (1561 - 1626وديك ارت Rene Descartes
) ،(1596 - 1650حيث يمكن تلمس مع الم الحداثة فى األورج انون الجديد لـ
"بيك ون" ومق ال فى المنهج لـ "ديك ارت" ( . )3ويمكن اعتب ار أن أك ثر مس تويات
الحداثة بطئا هي الحداثة الفكري ة .لقد ابت دأت الحداثة الفكرية ب اإلحالل الت دريجي
لمب دأ معقولية جديد فى مي دان الطبيع ة ،حيث أدى التط ور الت دريجي للفيزي اء إلى
إب راز ميكانيكية الطبيعة وإ لى الكشف عن الق وانين المختلفة ال تي تخضع لها من
دون إض افة ،ثم أخذ ه ذا المب دأ يرتسم فى مج ال اإلنس انيات .وما يس مى بث ورة
العلوم اإلنسانية أو االجتماعية ليس إال إدخاال لمبدأ الحتمية إلى الميدان اإلنساني
لفهم المجتمع والفرد والتاريخ فى ضوئه (.)4
)2(1ك ريم خميس :م أزق الحداث ة ،نظ رة أولي ة ،بحث فى كت اب الحداثة وما بعد الحداث ة ،مرجع
سابق ،ص.114 :
)3(2محمد علي الكردي :من الحداثة إلى العولمة ،مرجع سابق ،ص.14 – 13 :
(1) Krishan Kumar: From Post-Industrial to Post-Modern society, op. cit, P: 99.
3
لم تكن كلمة "هيوم انزم" Humanismمعروفة ال للق دماء وال لعصر
النهض ة ،وإ نما ص اغها المفكر األلم اني "نيث امر" F. J. Nietjammerأثن اء
مجادلة ح ول مكانة الدراس ات الكالس يكية فى التعليم الث انوي ،أما من طبقها على
عصر النهضة ،فقد كان المؤرخان بروك هاردت Bruch Hardtوفويجت G.
Voigtفى كتاب "إحياء الكالسيكيات القديمة أو القرن األول للهيومانزم" 1859
(.)1
وتع ني النزعة اإلنس انية مركزية ال ذات ومرجعيته ا ،فهي كل نظرية أو
فلس فة تتخذ من اإلنس ان مح ورا لتفكيرها وغايتها وقيمها العلي ا ،أو بمع نى آخ ر،
فهي كل فلس فة تخص اإلنس ان بمكانة ممت ازة فى ه ذا الع الم ،وتع زو إليه الق درة
على المبادرة الحرة واإلبداع ،وتعتبره متجليا بالوعي وباإلرادة؛ وبالتالي مسئوال
()2
عن أفعاله وعن تحرره .ويعرفها هايدجر)M. Heidegger (1889 – 1976
بأنها تص ور خ اص عن ماهية اإلنس ان ،لم ينشأ إال فى أحض ان الفلس فة الحديث ة،
ويتح دد ميالده بالعصر ال ذي أص بح فيه اإلنس ان ذاتا Subjectاعت برت هي
األساس والمركز .وتعد لحظة الفلسفة الديكارتية (القرن السابع عشر) بداية فعلية
لحلول عهد اإلنسان (.)3
لذا يمكن القول أن مفهوم الذاتية Subjectiveهو أول المفاهيم التي شكلت
قاعدة الحداثة فى الحقل الفلسفي .يقول "فيتو"" :الحداثة هي أولوية الذات ،انتصار
)3(1ع اطف أحمد (مح رراً) :النزعة اإلنس انية فى الفكر الع ربي ،دراس ات فى النزعة اإلنس انية فى
الفكر العربي الوسيط (القاهرة :مركز القاهرة لدراسات حقوق اإلنسان )1999 ،ص.11 :
)1(2عبد الرازق الداوي :موت اإلنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر ،ط( 1بيروت :دار الطليعة
للطباعة والنشر )1992 ،ص.191 :
)2(3نفس المرجع ،ص.43 :
107
ال ذات ،ورؤية ذاتية للع الم" ،ومع نى ذلك أن إنس ان العصر الح ديث أض حى ي رى
نفسه ك ذات مس تقلة ،ذاته هي عالمة على ص احبها وبي ان لحامله ا ،إنية ال تكتفي
ب أن تعلن عما يميزها عن الطبيع ة ،بل ت روض ه ذا الع الم وتغ زوه لكي تجعل ه،
بمختلف كائناته ومس تويات إدراك هُ ،مقاسا بالمقي اس اإلنس اني ( .)1ول ذا أص بحت
مركزية اإلنس ان هي الس مة األساس ية الهتمام ات اإلنس انيين فى عصر النهض ة،
وهي ال تي جعلت موض وعات كتاب اتهم ت دور فى فض اء جديد يع بر عن رؤية
مختلفة وعن حس مختلف للحياة (.)2
ويش ير مص طلح النزعة اإلنس انية إلى معن يين :أح دهما ت اريخي ،واآلخر
م ذهبي ،فهو عند ييجر وأتب اع مدرس ته ال ذين يكون ون النزعة اإلنس انية ال تي
ظهرت فى أوروبا من القرن الرابع عشر حتى السادس عشر ذو معنى تاريخي،
وذلك بإحي اء ال تراث اليون اني من جديد ومعان اة تجربة حية عن طريق ه ،وهو ما
يتم بتمثله ونقله من الماضي إلى التط بيق على الحاض ر .أما المع نى الم ذهبي،
فيمثله أنص ار الم ذهب الوج ودي ،وتختلف النزعة اإلنس انية ل ديهم عن أص حاب
المعنى التاريخي؛ ألنه ال يعتمد على تجربة روحية تاريخية ،بل على مذهب قائم
برأسه فى فهم الوج ود على أس اس أن مركز المنظ ور فيه هو اإلنس ان ،وأن
الوجود الحق أو الوحيد هو الوجود اإلنساني(.)3
لقد كان مشروع اإلنسانية موجها للتحرر من أسر عالم العصور الوسطى
وقي وده وخرافات ه ،دفاعا عن حق اإلنس ان فى أن يمتلك الحرية لتحديد مش روع
حياته بطريقة مستقلة .ذلك أن الدين المسيحي – إبان العصور الوسطى – غرس
)3(1محمد الشيخ وياسر الطائري :مقارب ات فى الحداثة وما بعد الحداثة ،ح وارات منتق اة من الفكر
األلماني المعاصر ،ط( 1بيروت :دار الطليعة للطباعة والنشر )1996 ،ص.12 :
)4(2عاطف أحمد :النزعة اإلنسانية فى الفكر العربي ،مرجع سابق ،ص.13 – 12 :
)1(3عبد ال رحمن ب دوي :اإلنس انية والوجودية فى الفكر الع ربي (ب يروت :دار القلم )1982 ،ص:
.16 – 15
108
فى العقول جميعا نزعة زهدية تحيل إلى اعتبار إنكار الذات مثال أعلى ،يجب أن
ُيتخذ أساسا لكل كم ال شخصي واجتم اعي ،بحيث لم يبق متسع لتحس ين النظم
واألح وال السياس ية واالجتماعية واألخالقي ة .وك انت الكنيسة والنظ ام
اإلم براطوري واإلقط اع يتبن ون نظ رة للبن اء الك وني ،يس تتبعها نظ ام من القيم
والمعتق دات والع ادات والس لوكيات ،يت وجب على الجميع إتباعه ا .وك ان الش غل
الش اغل للفلس فة المدرسية هو المق والت المنطقية والتس اؤالت الميتافيزيقي ة ،حيث
تم يزت باس تدالالتها العقلية المج ردة البعي دة تماما عن الحي اة اإلنس انية العادي ة،
فك انت مس تعدة دائما لتق ديم إجاب ات عن مس ائل ،ح تى لو ك انت إجاباتها غ ير
صحيحة ،فلن تسهم بأي صورة من الصور فى إثراء معرفتنا بحياتنا ،بينما كانت
ال مبالية بالمسائل الحيوية مثل طبيعة اإلنسان وهدف حياته ومصيره (.)1
إال أن هايدجر يؤكد على أنه لم تحدث قطيعة مطلقة بين فكر الحداثة وفكر
العص ور الوس طى ،بل ك ان ثمة تع الق بينهم ا ،ف إن ك انت الحداثة ح اولت ن زع
الطابع الالهوتي عن تعريف اإلنسان ،فإنه يحق القول ،من هذه الجهة ذاتها ،أنها
حافظت على مبدأ "التعالي" الالهوتي ،وإ ن عوضت السعي إلى الجنة بالسعي إلى
تحقيق السعادة الدنيوية أو غيرها .وقصاراها أنها استعاضت عن السعادة الدنيوية
بالديني ة ،وعن الرب اط االجتم اعي ب األخوة الديني ة ،فك انت ب ذلك ض ربا من علمنة
المس يحية ش كال واالحتف اظ بها ج وهراً؛ مثلما استعاضت بالك ائن "المنتج" عن
الكائن "المخلوق" ،فأحلت بذلك اإلنسان الحديث محل اإلله وأنزلته منزلته (.)2
ب -العقالنية:
)2(1عاطف أحمد :النزعة اإلنسانية فى الفكر العربي ،مرجع سابق ،ص.12-11 :
)1(2محمد الش يخ :نقد الحداثة فى فكر هاي دجر ،ط( 1ب يروت :الش بكة العربية لألبح اث والنش ر،
)2008ص.382-381 :
109
مس تقال ب ذلك عن سلس لة التبعي ات القروس طية ،فقد غ دا اإلنس ان الموض وع
المركزي للتفكر ،وكانت هذه خطوة نحو إحالل سيادة العقل اإلنساني محل سيادة
اهلل (.)1
(2) John Scott: Social Theory, Central Issues in Sociology (London: SAGE
1
ترجع جذور العقالنية إلى القرن السادس عشر ،حيث دعا رينيه ديكارت
) René Descartes ( 1596 – 1650إلتاحة الفرصة أمام العقل لكي يعمل فى
بعض المس احات المعرفي ة ،بيد أن إيمانويل كانط Immanuel Kant (1724 -
) 1804يعت بر بحق رائد ث ورة العقالنية من خالل إعالنه المش هور فى كت اب "نقد
العقل الخالص" عن إيمانه بوجود فواصل ما بين الطبيعة وما وراءها ،مش يرا إلى
إمكانية إخض اع األولى للعقل العلمي ( .)1وي رى كانط أن العقل هو الملكة ال تي
تمدنا بمبادئ المعرفة ،وأنه ال يبحث فى طبيعة األشياء الخارجية ،وإ نما هو الذي
يش رع لها ( ،)2ج اعال من العقل المحكمة العليا ال تي يجب أن َي ْمثل أمامه ا ،بش كل
عام ،ما يدعي مصداقية ما ليبرر إدعاءه (.)3
ويصف الح داثيون دع وة كانط بأنها تح ول فلس في أدى إلى تحرير العقل
الغ ربي من هيمنة الاله وت ،Theologyوأدت إلى ميالد فلس فة علمية تهيمن
على الق رن التاسع عشر وب دايات الق رن العش رين .كما ي رى الح داثيون أن
أهلته
الب نى القائمة حتّمت ص عود العقل وهيمنته بدرجة ّ
التغ يرات ال تي ط الت ُ
ليلعب دور المب ادر فى تط وير ع دد مهم من النظري ات والمف اهيم ،حيث ظه رت
مف اهيم تتعلق بعقلنة التنظيم المجتمعي .واقتحم العقل س احة المف اهيم القديمة
كالعدل والمساواة والديمقراطية ليعيد بناءها مجددا (.)4
واس تمر س عي العقل فى تحرير نفسه من كافة أش كال االس تالب ال تي
حرمته من العمل اإليجابي لعصور طويلة ،األمر الذي أدى إلى ظهور العديد من
العلم اء الطبيع يين ال ذين أسس وا كث يرا من النظري ات المعروفة اآلن بالكالس يكية،
)3(1الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة) ،ص.116 :
)1(2عطيات أبو السعود :الحصاد الفلسفي للقرن العشرين (اإلسكندرية :منشأة المعارف)2002 ،
ص.62 :
)2(3هابرماس :القول الفلسفي للحداثة ،ترجمة فاطمة الجيوشي (دمشق :منشورات وزارة الثقافة،
)1995ص.33 :
)3(4الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة) ،مرجع سابق :ص.116 :
111
كما ظهر فى اإلط ار ذاته ل وك وهيجل وم اركس وآخ رون من علم اء االجتم اع
والمفكرين ،والذين اتفقوا -برغم اختالفهم الذي يصل فى بعض الحاالت لدرجة
التناقض – على ضرورة إعطاء العقل حقه فى وضع تصوره عن الحياة والكون.
وبانتص ار ه ذا االتج اه أص بح العقل هو الحكم الوحيد على ص حة األش ياء ،بحيث
تمت مرادفة السالمة اإلدراكية والتفسيرية لألشياء بالمعقولية؛ على أساس أن هذه
األخ يرة تطلق على ما يتفق وقواعد العق ل .ونظ را له ذه المكانة العليا ال تي احتلها
العقل فى الخط اب الح داثي ،فقد أص بح اإلنس ان "حامل العق ل" فى مواجهة مع
الطبيعة ،دون حاجة إلى ما وراءها (.)1
جـ -التقدم:
ومن الواضح أن الع الم الق ديم لم تكن لديه أية فك رة عن التق دم ،فاليون ان
والروم ان ك انوا يعتق دون أن العصر ال ذهبي قد حصل فى الماضي ثم انحط
اإلنسان بعده ،ولم يكن بوسع القرون الوسطى بالطبع أن تحمل مثل هذه الفكرة(،)4
حيث كانت النظرية المسيحية التي نادى بها آباء الكنيسة ،وعلى وجه الخصوص
الق ديس أوغس طين ،ك انت تعت بر أن حركة الت اريخ بأكملها ته دف باألس اس إلى
ت أمين الس عادة لع دد مح دود من الجنس البش ري فى الع الم اآلخ ر ،ولم تُس لّم ب أي
تطور إضافي للتاريخ البشري على األرض (.)1
ولم تظهر فك رة التق دم فى عصر النهضة – رغم تحقيقه إلنج ازات عدي دة
– ألنه لم يتص ور إمك ان ارتف اع اإلنس ان ثانية إلى مس توى العص ور القديمة
المجي دة ،إذ إن جميع أفكارها تتجه ص وب الماض ي .ولم يج رؤ الن اس على مثل
ه ذا الطم وح ال ذي ال يع رف ح دا إال بعد نمو العلم فى الق رن الس ابع عشر ( .)2إال
أن البعض ي رى أنه رغم ع دم ب روز فك رة التق دم جلية فى عصر النهض ة ،ف إن
فرنس يس بيك ون قد وضع األسس ال تي ق امت عليه ا ،لكن م ذهب التق دم لم يتم
التعبير عنه بشكل محدد قبل بلوغ القرن السابع عشر ،وظلت الفكرة حتى بدايات
القرن الثامن عشر حكرا على عدد بسيط ،وإ ن كانت قد اكتسبت أهمية وقوة خالل
الق رن الث امن عش ر ،لكنها لم تتح ول إلى عقي دة ش عبية قبل حل ول الق رن التاسع
عشر بعد أن دعمتها نتائج العلم الحديث (.)3
وال شك أن انبث اق نظرية التق دم خالل الق رن الث امن عشر قد ارتبط ب روح
التف اؤل ال تي أوج دتها الكش وف العلمية المختلف ة ،وانتص ار النزعة العقالني ة،
واتساع مجال الكفاح فى سبيل الحريات السياسية والدينية ،وبتراجع فكرة القوانين
الطبيعية الثابتة .فبهذه الروح المتفائلة ازداد وعي إنسان القرن الثامن عشر بذاته
كذات صانعة للتاريخ ،وأنه يمثل أعلى مراحل تطور التاريخ البشري.
ظه رت "ما بعد الحداث ة" Post-modernityك رد فعل على إعالن فشل
المش روع الح داثي فى أن يحقق الطموح ات ال تي أطلقها خالل ع دة ق رون – هي
عم ره – س واء فى ال داخل األوروبي ال ذي اكت وى بن يران الح ربين الع الميتين
األولى والثاني ة ،أو الخ ارج الع المي ال ذي خسر اس تقالله على م ذبح المش روع
الحداثي ،الذي تم تصديره للعالم تحت رايات رسالة الرجل األبيض التنويرية .ل ذا
سيحاول الباحث التعرض لـ "ما بعد الحداثة" ومشروعها – إن جاز استخدام لفظة
مشروع معها – لعرض حالة التعالق بينها وبين العولمة؛ بهدف بحث أيديولوجية
الغرب الجديدة تحت أردية النهايات والمابعديات.
)1(1نقد العقل الغربي ،الحداثة ما بعد الحداثة (بيروت :دار اإلنماء القومي )1990 ،ص.223 :
114
الراس خة لـ "المع نى" ،فليس ثمة مع نى ث ابت س واء لما بعد الحداثة أو غيره ا ،كما
سيأتي بيانه بعد ذلك .لذا فإن محاولة تحديد مفهوم لما بعد الحداثة هو سباحة ضد
مق والت ما بعد الحداثة ذاته ا .وي رى البعض أن مهمة تعريف ما بعد الحداثة
مس تحيلة ،مؤك دين على أن ما بعد الحداثة ت رى أنه ال ينبغي القي ام بها على
اإلطالق (.)1
لكن قبل التط رق لمص طلح ما بعد الحداثة فى كليته التركيبي ة ،البد من
اإلشارة إلى أنه ال ُيقصد بـ "ما بعد" Postأن ما بعد الحداثة تتبع الحداثة من حيث
ال زمن؛ حيث ال يقر الفكر ما بعد الح داثي به ذه الخطية الزمني ة ،وال بغيرها من
أن واع الخطي ة ،وال يض يره فى ش يء أن يلجأ إلى ما قبل الحداثة ُمنقّبا عما ي ؤازر
توجهاته ويعضد مواقفه (.)2
االمتالك الكامل والمتج دد (ع بر التفس ير وإ ع ادة التفس ير) ألسس الفكر وقواع ده.
وبه ذا المع نى ،ف إن الحداثة تتم يز بخاص ية ال وعي بض رورة تج اوز تفاس ير
الماضي ومفاهيم ه ،والس عي ال دائب نحو اس تمرار ه ذا التج اوز فى المس تقبل؛
وذلك لتحقيق اإلدراك المطرد باألسس الحقيقية والمتج ددة ال تي تبطن الممارسات
اإلنسانية ،وتضفي الشرعية عليها ،سواء فى مجاالت العلوم والفنون واألخالق،
أو غيرها من المجاالت الفكرية والعملية(.)1
)1(1نك كاي :ما بعد الحداثية والفنون األدائية ،مرجع سابق ،ص :ج – د.
)2(2المرجع السابق ،ص :د.
116
مص طلح نفي س لبي ،فهي بعد شيء م ا ،وليست ش يئاً فى حد ذات ه؛ ول ذا فهي تقف
خارج الزمان وال تشير إلى ذات أو إلى موضوع (.)1
وفى ه ذا الس ياق يس هل علينا إدراك عناصر القلق والت وتر ال تي تكتنف
مصطلح ما بعد الحداثة ،فإذا كانت ما بعد الحداثة تعني التشكيك فى إيمان الحداثة
بوج ود أسس ش رعية ،فإنها تجعل من الهج وم على الحداثة غايتها ونهاية مس عاها
ب دالً من أن تتخ ذه منطلق اً للس عي الحقيقي إلى تجاوزها بحث اً عن جدي د .ومن ثم
يمكننا اعتب ار خط اب ما بعد الحداثة مج رد مح اوالت لتفكيك وكشف ادع اءات
"الش رعية" ال تي طرحتها الحداث ة .ومن ه ذا المنظ ور ،يتجلى مص طلح ما بعد
الحداثة كمفه وم م ركب ،متع دد األوجه يتجلى فى ع دد من الظواهر المنوعة ال تي
يجمع بينها ه دف واح د ،هو محاص رة وتخ ريب فرض يات الحداث ة ،وما ينب ني
عليها من مواقف ونتاج ثقافي .وإ ذا كان هذا هو الحال ،فال يمكن القول بأن تيار
ما بعد الحداثة قد تح رر تمام اً من تي ار الحداث ة ،فالحداثة هي األرض ال تي تقف
عليها ما بعد الحداثة وتش تبك معها فى ج دال ون زاع دائم ،وهي األرض تمكنها
أيضاً من الدخول فى حوار وجدل مع نفسها(.)2
وم على نقد بل رفض وتمثل ما بعد الحداثة عند البعض حركة فكرية تق
األسس ال تي تركز عليها الحض ارة الغربية الحديث ة ،كما ت رفض المس لمات ال تي
تقوم عليها هذه الحضارة ،أو على األقل ترى الزمن قد تجاوزها وتخطاها .ولذا
ي ذهب الكث يرون من مفك ري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من
الرأس مالية ،فلقد انتهى ل ديهم عصر الحداث ة ،وما بعد الحداثة ته يئ باعتبارها نق داً
ل ه ،لقي ام مجتمع جديد يرتكز على أسس جدي دة غ ير تلك ال تي عرفها المجتمع
الغربي الحديث (.)3
ويعرفها منظ رو ما بعد الحداثة على أنها مجم وع الظ روف والش روط
المختلفة والمتع ددة ،ال تي تختلط فيها المظ اهر االجتماعية بالمظ اهر الثقافي ة ،فال
يمكن التمي يز بين ما هو اجتم اعي وما هو ثق افي ،فتتالشى المس افة بين النظرية
وموض وعها ،ويتع ذر الفصل بين النظرية التأويلية والواقع االجتم اعي ال ذي
تح اول النظرية إدراكه وتوص يفه .وله ذا ي رى منظ رو ما بعد الحداثة أن ج زءاً
كب يراً من مفه وم ما بعد الحداثة يعتمد على ص عوبة الفصل بين البنية المعرفية
وبين ما تس عى إلى دراس ته ،كما أن موض وع المعرفة ي ؤثر ت أثيراً جوهري اً فى
أشكال المعرفة نفسها ،مثلما يؤثر فى منهجيتها وينطلق منها (.)1
)1(3أحمد عبد الحليم عطية :ما بعد الحداثة والتفكيك ،مقاالت فلسفية (القاهرة :دار الثقافة العربية،
)2008ص.23 :
)2(1ميج ان ال رويلي وس عد الب ازغي :دليل الناقد األدبي ،ط( 3ال دار البيض اء :المركز الثق افي
العربي )2002 ،ص.224 :
)1(2ت يري إيجلت ون :أوه ام ما بعد الحداث ة ،ترجمة م نى س الم (الق اهرة :أكاديمية الفن ون ،سلس لة
دراسات نقدية ،د .ت) ص.7 :
118
فقد ج اءت مق والت ما بعد الحداثة لتقلب مق والت الحداثة وفرض ياتها
تمام ا ،فليس ثمة ث ابت يحكم المتح ول ،وليس ثمة عقل يفسر تفس يراً غ ير متح يز
أوجه النش اط الثق افي البش ري ،كما ال وج ود لثقافة عالية نخبوية وأخ رى دونية
جماهيرية ،بل كل ما هنالك هو تشكيل مستمر ال يمكن تبريره أو تفسيره باإلحالة
على أنم وذج متع ال ،وإ نما يقبل التفس ير فقط من داخله مما يجعل التفس ير نفسه
محكوم اً بأش كال مادته الخاصة وليس نتيجة ث وابت ال تتح ول أو تتب دل ،فالث ابت
نفسه ش كل من أش كال المتح ول ،بما أن المعرفة تعتمد كلي اً على مادتها وعلى
أش كالها المنهجي ة ،والم ادة ال تي يتعامل معها التفس ير والتأويل هي المتح ول وال
شيء سواه (.)1
ولئن دعت الحداثة إلى الفصل بين الثابت كقاعدة تفسيرية والمتحول كمادة
للتفس ير ،ف إن ما بعد الحداثة قد وص لت الفصل وجعلت من المح ال تمي يز أو
اختالف األول عن الث اني .بل إن ما بعد الحداثة ال ت ؤمن بالفواصل والف وارق
الثقافية المعرفي ة؛ ألن أش كال المعرفة هي نفس ها تتبع أش كال الم ادة المدروسة
نفس ها وتت أثر به ا ،وليست كما تف ترض الحداث ة ،أي أن أش كال المعرفة تتسم
بالعلمية والتجرد غير المتحيز .ولهذا ألغت ما بعد الحداثة كل الفواصل التي تسم
الثنائي ات الض دية .ف إن ك انت الحداثة قد احتفت ب العمق والمع نى ،ف إن ما بعد
الحداثة ن ادت بع دم ثب ات المع نى وع دم جوهريت ه ،فال ش يء تحت الس طح س وى
السطح والسطحية والمبتذل اليومي ،وحاربت ثقافة النخبة والنخبوية(.)2
وت ؤمن ما بعد الحداثة أن الثنائي ات ال تي ت دين بها الحداثة هي ال دافع وراء
القمع والقسر واإلره اب (هي الج واهر ال تي حرصت الحداثة على ص يانتها
والمحافظة عليه ا) .ول ذلك ح اولت ما بعد الحداثة إلغ اء التم يزات الهرمية عن
طريق اس تبعاد م بررات وجوده ا ،فب دالً من الق ول ب الفوارق والفواصل الهرمية
)2(1ميجان الرويلي وسعد البازغي :دليل الناقد األدبي ،مرجع سابق ،ص.226 :
)1(2ميجان الرويلي وسعد البازغي :دليل الناقد األدبي ،مرجع سابق ،ص.226 :
119
(المهم وغ ير المهم ،األصل والف رع) س عت ما بعد الحداثة وتس عى إلى تق ويض
الساللم الهرمية واالحتفاء بالعرضية والتالعب والمفارقة والسخرية واالنفصامية
ولغة السوق والتجارة ،كما حاربت وتحارب العرف والتقليد الثقافي بكل أشكاله،
واهتمت بأش كال التعددية اهتمام اً ش ديداً ك أقوى وس ائل االنعت اق من القي ود
الماورائية وأهم مبررات إعادة تعريف الخطاب الثقافي ودراسته (.)1
وب الطبع ال يمكن أن تنطبق التس مية عليهم جميع اً بنفس الدرج ة ،فهن اك
اختالف ات بينهم ،ليس على ص عيد التفص يالت فق ط ،بل أيض اً فى األسس العامة
لفلسفاتهم ،رغم عدم انضواء هؤالء الفالسفة – الذين يسميهم فيليب مانع بفالسفة
االختالف – تحت ل واء مدرسة توح دهم ،ف إن هن اك خيط اً س رياً يجمع بينهم،
فجميعهم فى خدمة االختالف والمغ ايرة ،ومن الب ديهي أن بين أعم الهم تم ايزاً،
وبحسب هؤالء فإن سعي الفلسفة كان دائما ينحو إلى رد ما هو متعدد إلى
الوحدة ،وإ ذا كانت الفلسفة على المستوى النظري تحجب التناقض لتبرز الوحدة،
وعلى المس توى السياسي ت برر الوضع الق ائم ،ف إن فلس فة االختالف Diversity
تطمح إلى تغي ير بنية وعي األف راد ب أن تص دهم عن الرغبة فى الح نين إلى بن اء
وح دة ش مولية ،إنها فلس فة تح ترز وتحت اط من كل ما هو مش روع توحي دي تك ون
الدولة هي التجس يد الفعلي ل ه .وفالس فة االختالف إذ يح ترزون من مثل ه ذه
المشاريع ،فألنهم يخافون أن يؤدي ذلك إلى االنغالق(.)2
وغالب اً ما تس تخدم ما بعد الحداثة كمص طلح ت اريخي للداللة على الحقبة
ال تي أعقبت الحداث ة ،ال تي ب دأت فى عصر التن وير وانتهت فى الس تينيات أو
السبعينيات من القرن الماضي .وما تشترك به هذه التفسيرات هو إصرارها على
أن التغ يرات الثقافية واالجتماعية ال تي أنتجت ما بعد الحداثة ترتبط ارتباط اً ال
ينفصم ب التغيرات فى الرأس مالية :من الترك يز األساسي على اإلنت اج إلى
االستهالك ،وتغير تاريخي فى الغرب من مجتمعات قائمة على إنتاج األشياء إلى
مجتمع ق ائم على إنت اج المعلوم ات ،من رأس مالية "منظم ة" حديثة إلى رأس مالية
"مفكك ة" ما بعد حديث ة ،من الق ومي إلى الع المي ،ال ذي حقق منعطف "الض غط
الزم اني المك اني" ال ذي تولد عن التس ارع فى كل من الس فر واالتص االت البعي دة
(.)1
ويمكن الق ول أن الم زاج ما بعد الح داثي ب دأ يتش كل فى عقد الس تينيات من
القرن العشرين ،عندما تصادف وقوع تغيرات فى المجتمعات الغربية مع تغيرات
فى التعب ير الف ني واألدبي .تمثلت التغ يرات األولى فى ظه ور ما بعد التص نيع
والهيمنة المتزاي دة للتكنولوجي ا ،والنزعة االس تهالكية المتس عة ،وإ عالن ات
الموض ة ،وانتش ار الديمقراطي ة ،وزي ادة ع دد المتعلمين بالمراحل الثانوية
والجامع ات ،وظه ور أص وات الثقاف ات التابع ة ،وانتش ار تكنولوجيا المعلوم ات
ووس ائل االتص ال وص ناعة المعرف ة ،فض الً عن ال تراجع عن كل من االس تعمار
والمثالية فى السياس ة ،وظه ور سياس ات جدي دة تتعلق بالهوية وتق وم على الع رق
والهوية الجنس ية .بينما تمثلت التغ يرات ال تي ط رأت على التعب ير الف ني واألدبي
-إيهاب حسن :نحو مفهوم لما بعد الحداثة ،ضمن كتاب ما بعد الحداثة ،جـ ،2ط( 1الدار البيضاء:
دار توبقال للنشر )2007 ،ص.9-8 :
-ميجان الرويلي وسعد البازغي :دليل الناقد األدبي ،مرجع سابق ،ص.223 :
- Stuart Sim (Editor): The Routledge Companion to Postmodernism (USA:
Routlege, 2005) Introduction.
)1(1طوني بينيت وآخرون :مفاتيح اصطالحية جديدة ،معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع ،ترجمة
سعد الغانمي ،ط( 1بيروت :المنظمة العربية للترجمة )2010 ،ص.578 :
122
فى فن الب وب ومع اداة الحداثة فى فن العم ارة .وتمثلت فى األدب فى إنت اج
نصوص أدبية تتأمل ذاتها ،أي تجعل من فعل الكتابة جزءاً من موضوع الكتابة.
وقد ص احب ه ذه التغ يرات جميع اً شك جديد تج اه العلم والوض عية المنطقية فى
التفك ير .وب دا أن ه ذه التغ يرات ك انت تزي د ،بش كل ت دريجي ،من ح دة رفض
الحداثة والتنكر ألفكار العقالنية المرتبطة بالتنوير وما بعده ،السيما ما يتعلق منها
بوحدة الذات وفكرة العدالة فى السياسة ،ودور الدولة وفكرة إمكانية قيام يقين فى
الفكر والعلم (.)1
)2(1ب .ووه :ما بعد الحداثة ،ضمن كتاب ما بعد الحداثة ،جـ ،2مرجع سابق ،ص.47 :
)1(2عص ام عبد اهلل :الج ذور النيتش وية لما بعد الحداث ة ،بحث ض من كت اب "نيتشه وج ذور ما بعد
الحداثة ،ط( 1بيروت :دار الفارابي )2010 ،ص.131-130 :
123
وقد دشن "ي ورغن هابرم اس" هجوم اً ض ارياً على حركة ما بعد الحداثة
وأنصارها ،بعد صدور كتاب ليوتار عام ،1979متهماً إياهم بالمحافظين الجدد،
معت براً أن التنظ ير لما بعد الحداثة ردة فعل محافظة Conservatistويائسة ضد
التنوير .وأشار إلى أن معنى البادئة Postفى لفظ ما بعد الحداثة ،إنما يمثل رغبة
ل دى دع اة ما بعد الحداثة فى االبتع اد عن م ٍ
اض بعين ه ،وفى ال وقت نفسه عج زهم
عن تس مية حاض رهم؛ ألننا ح تى اآلن لم نجد حالً للمش اكل ال تي تترقبنا فى
المستقبل ،مؤكداً على أن الحل ليس فى تجاوز الحداثة ،بل فى استكمال مشروعها
الذي لم يكتمل بعد؛ بهدف إثراء التنظيم العقالني للحياة االجتماعية اليومية (.)1
فى سياق العرض السابق ،يمكن القول أن حركة ما بعد الحداثة ولدت فى
س تينيات الق رن الماض ي ،لكن فى ال وقت نفسه ال ينفي ذلك وج ود إرهاص ات
للحركة منذ نهاي ات الق رن التاسع عشر على يد نيتشه Friedrich Nietzsche
) (1844 - 1900باألساس ،والذي ساهم بدور فعال فى ضرب األسس الحداثية،
وعلى وجه الخصوص العقالنية .كما ساهمت ظروف الحربين العالميتين األولى
والثانية فى خلق من اخ خصب لنقض الحداث ة ،وفى أحسن الظ روف نق دها .حيث
ض ربت نت ائج ه اتين الح ربين طموح ات الحداث ة ،ح ول دور العقل واإلمكان ات
المستمرة فى التقدم.
وترى ما بعد الحداثة أن اإلنسان كما تصورناه من قبل لم يعد له وجود ،أو
على وشك االختف اء .ولقد أض حى تص ورنا عن ه ،ك ذات وعقل وإ رادة ،وكق درة
على الخلق واإلب داع ،متهافت اً .ومع الم ص ورته المألوفة ل دينا ب دأت فى التالش ي،
وهويته تش ظت ،وأص بحت فى ع داد ما هو ع ابر فى ه ذا الواقع الالنه ائي .وما
)1(1عبد الرزاق الدواي :موت اإلنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر ،مرجع سابق ،ص.15 :
)1(2الس يد يس ين :أس ئلة الق رن الح ادي والعش رين ،الكونية واألص ولية وما بعد الحداث ة ،جـ ،1ط1
(القاهرة :المكتبة األكاديمية )1996 ،ص.70 :
125
النزعة اإلنس انية إال خط اب مت داع ال ي زال يتغ نى بتلك الص ورة المحتض رة.
واعت برت ما بعد الحداثة أن اإلنس ان لم يكن أك ثر من ومضة ش اردة ،وبريق
خ اطف ،وتعلم أن حض ارات إنس انية عريقة تم تش ييدها ،وتاريخ اً عظيم اً عنيف اً
ومتنوع اً ،قد تحقق خالل ذلك العب ور .ولكن التي ارات ما بعد الحداثية ت أبى إال أن
ت رى فى تلك الحض ارات وذلك الت اريخ نفس ه ،ن واتج لنظ ام موض وعي ،ال دخل
إلرادة اإلنسان فيه ،إنه نظام بنيات الوجود الخفية والحتمية وإ مكانياتها (.)1
ومن هن ا ،فالمف اهيم الحديثة س واء ك انت علمية (مثل الواقع الخ ارجي ،أو
النظري ة ،أو الس ببية ،أو المالحظة العلمي ة) أو سياس ية (مثل سياسة حق وق
اإلنسان ،أو التمثيل الديمقراطي ،أو التحرر) كلها تفترض ذاتاً مستقلة .وإ ذا ألغينا
ال ذات ،فمع نى ذلك إلغ اء تلق ائي لكل المف اهيم الحديثة المرتبطة به ا ،فمثالً بغ ير
ذات ،تختفي األهمية الكبرى ال تي ك ان يعطيها الماركسيون واللي براليون للمفاهيم
الفكرية الحديثة مثل الوضع االجتم اعي ،والجماع ة ،والش خص ،والطبق ة .ف إذا
ألغينا مقولة الذات ،فإن األدوات الرئيسية للبحث بصورته الحديثة ،مثل السببية أو
إرادة الفاعل س تختفي ،باإلض افة إلى أن إنك ار ال ذات يؤكد نزعة التش اؤم ما بعد
الحداثية فيما يتعلق بفعالية الت دخل اإلنس اني ،والمخطط ات اإلنس انية ،والعقالني ة،
والعقل فى الع الم الح ديث .ل ذلك كله تنتقد ما بعد الحداثة ال دور المرك زي ال ذي
تلعبه الذات فى تحليالت العلوم االجتماعية ،والتي تصور اإلنسان باعتباره قادراً
وف اعالً ويس تطيع االختي ار ،مع أنه فى الواقع ليس س وى عنصر يخضع لوقع
النسق االقتصادي والسياسي والثقافي على وجوده (.)2
)2(1عبد الرزاق الداوي :موت اإلنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر ،مرجع سابق ،ص.16 :
)1(2السيد يسين :أسئلة القرن الحادي والعشرين ،مرجع سابق ،ص.71-70 :
126
أعلن "ليوت ار" في بحث عن ما بعد الحداثة نهاية األنس اق أو الرواي ات
الك برى ،قاص داً ب ذلك أن جميع النظري ات ال تي ت ّدعي تفس ير الع الم بطريقة
ص حيحة وكامل ة ،وتصف النش اط البش ري من منظ ور المركزي ة ،قد فق دت
مص داقيتها ( .)1وقد س عت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم الس لطة الفكرية
الظاهرة لألنساق الكبرى المغلقة ،والتي عادة ما تأخذ شكل األيديولوجيات ،على
أس اس أنها – فى زعمها – تق ديم تفس ير كلي للظ واهر ،قد ألغت حقيقة التن وع
اإلنساني ،وانطلقت من حتمية وهمية ال أساس لها (.)2
ولم تقنع ما بعد الحداثة بمج رد إعالن س قوط األنس اق الفكري ة ،بل أعلنت
فى ال وقت نفسه "م وت المؤل ف" ،وتقصد بم وت المؤلف أنه ال يعنينا ت اريخ حي اة
المؤلف أو المفكر أو ميوله الفكرية أو اتجاهاته السياس ية ،أو العصر ال ذي ع اش
في ه؛ ذلك أن دوره ينتهي بكتابة النص ،ويقع العبء بعد ذلك على الق ارئ ،وال ذي
من خالل تأويل النص يش ارك فى كتابته فى الواق ع .ال هيمنة من المؤلف إذن
على النص ،وليس من حقه أن يص در بيان اً يح دد فيه المع اني ال تي قص دها ،وال
نياته من كتابته ،فالنص يصبح ملك اً للقارئ .بل إن النص نفسه ،فيما ترى ما بعد
الحداث ة ،ال يكتبه فى الع ادة مؤلف واح د ،ذلك أن أي نص هو عملية تفاعل بين
نصوص متعددة يستشهد بها أو يستحضرها المؤلف(.)3
ويدعو أنصار ما بعد الحداثة إلى أن المؤلف ال ينبغي أن يقدم نص اً مغلق اً،
محمالً باألحك ام القاطع ة ،زاخ راً بالنت ائج النهائي ة ،وال تي ع ادة ما تق وم على وهم
ّ
مف اده أن المؤلف يمتلك "اليقين" أو "الحقيقة المطلق ة" .وعلى المؤلف – فى رأيهم
– أن يقدم نصاً مفتوح اً ،بمعنى أال يكتب كتابة واضحة ومباشرة ،بل يستحسن أن
(2) Michael Weinrich (Ed): Contextually in Reformed Europe, the Mission of the
1
Church in the Transformation of European Culture (New York: Rodopi, 2004) P:
135.
)3(2السيد يسين :أسئلة القرن الحادي والعشرين ،مرجع سابق ،ص.68 :
)1(3السيد يسين :الكونية واألصولية وما بعد الحداثة ،مرجع سابق ،ص.69-68 :
127
تك ون غامضة نوع اً م ا ،ح تى يت اح للق ارئ أن يش ارك بفعالية من خالل عملية
التأويل Interpretationفي كتابة النص (.)1
ومن ناحية أخ رى ،ف إذا ك ان فى إط ار مش روع الحداثة الغ ربي ،قد لعب
المؤلف دور "المش ِّرع" فى المجتم ع ،بمع نى ط رح القيم واألفك ار والمع ايير ال تي
على الن اس أن يتبعوه ا ،ف إن حركة ما بعد الحداثة ت رى أن "م وت المؤل ف" ال ذي
أعلنت ه ،بمع نى زوال س لطته الفكري ة ،ال يع ادل إال انهي ار دور "المش ّرع" فى
المجتم ع .فقد انتهى عصر الحداثة ال ذي ك ان يق وم فيه المش ّرع بتحديد أه داف
المجتمع وغاياته من خالل نسق فك ري مغلق ووحي د ،فنحن اآلن نعيش عصر
التن وع ال ذي ال ينبغي إلغ اؤه باسم الوح دة ،نحيا عصر التعددية ال تي ال يج وز
حصارها تحت أي مسمى (.)2
من زاوية تختلف عن اريخ" History تنظر ما بعد الحداثة إلى "الت
الحداثة ،حيث تسعى إلى إنزاله من موقعه ،وتقلل من أهميته ،وال يرون له أهمية
سواء فى كونه شاهداً على االستمرار ،أو دليالً على فكرة التقدم ،أو وس يلة للبحث
عن الج ذور ،أو أساس اً للفهم الس ببي للوق ائع .الت اريخ بالنس بة لما بعد الحداثة هو
مجال لألساطير واأليديولوجيات والتحيز ،وأحد اختراعات األمم الغربية الحديثة،
قام بدوره فى قمع شعوب العالم الثالث ،والمنتمين لحضارات أخرى غير غربية.
والتقليل من أهمية الت اريخ ُي رد إلى فك رة أساس ية مفادها أن الحاضر ال ذي نعيشه
باعتب اره نص اً ينبغي أن يك ون مح ور اهتمامن ا ،ه ذا الحاضر ال ذي يتش كل من
)2(1عصام عبد اهلل :الجذور النيتشوية لما بعد الحداثة ،مرجع سابق ،ص.143-142 :
)1(2عصام عبد اهلل :الجذور النيتشوية لما بعد الحداثة ،مرجع سابق ،ص.143 :
128
"سلس لة من الحواض ر" اإلدراكية المش تتة .وليس الت اريخ مهم اً إال بالق در ال ذي
يلقي فيه الضوء على األحوال المعاصرة (.)1
وفى س ياق الح ديث عن الحداث ة ،س بق وأش ير إلى أن مش روع الحداثة ق ام
على فك رة التق دم الخطي ،الحق ائق المطلق ة ،التخطيط العقلي لألنظمة االجتماعية
المثالي ة ،والتوحيد بين المعرفة واإلنت اج ( .)2وعلى ال رغم من بريق ومثالية ه ذه
المفاهيم والشعارات ،إال أن الحداثة اصطدمت بالحياة الواقعية المتمثلة فى تجربة
الق رن العش رين المري رة ،إذ ك ان حص يلتها لس عادة اإلنس ان حروب اً ومش احنات
طاحنة ،واستعماراً وإ رهاباً وهيمنة وقمعاً لآلخر ،وتفاوتاً طبقياً واقتصادياً ،وقمع اً
عس كرياً وقنابل ذرية وخط راً نووي اً ،إض افة إلى الظلم االجتم اعي وانهي ار الثقة
بفك رة المس اواة والعدالة للجميع ( .)3ول ذا أنك رت ما بعد الحداثة فك رة التق دم ال تي
رفعت الحداثة رايته ا ،ولم تر في الق رن العش رين س وى قباح ات وح روب بلغت
أقصى بشاعتها فى الستالينية والنازية ،وهما من مشاريع الحداثة والركض وراء
التقدم (.)4
ويتح ول الت اريخ ،وفقا لما بعد الحداث ة ،إلى مج رد لحظ ات جام دة ،وزمن
مس طح ال عمق ل ه ،ملتف ح ول نفسه ال قس مات له وال مع نى .وي تزامن الحاضر
والماضي والمس تقبل ،وتتس اوى تمام اً مثل تس اوي ال ذات والموض وع واإلنس ان
واألش ياء ،ولكنه ت زامن دون اس تمرارية ،فثمة انقط اع كام ل .ومن هن ا ،يتح دث
أنص ار ما بعد الحداثة عن إحالل القصص الص غيرة أو الجزئي ة ،محل القصص
الكب يرة أو الش املة أو الكلي ة ،أي أن اإلنس ان غ ير ق ادر على الوص ول إلى رؤية
)2(1السيد يسين :الكونية واألصولية وما بعد الحداثة ،مرجع سابق ،ص.71 :
(3) Madan Sarup: Identity, Culture, and the Postmodern World (Great Britain:
2
تاريخية شاملة تضم البشر كافة ،ولكنه قادر على خوض تجارب جزئية يمكنه أن
يقص ها ب درجات متفاوت ة ،ولكنها ال ت رقى قط إلى مس توى ت اريخ ع ام للبش ر،
فليست لها أية شرعية خارج نطاق تجربته (.)1
إن ما بعد الحداثة تعلن نهاية الت اريخ ونهاية اإلنس ان كك ائن م ركب
اجتم اعي ق ادر على االختي ار األخالقي الح ر؛ ليحل محله إنس ان ذو بعد واحد
ي دور فى إط ار المرجعية الكامن ة ،أو دون أية مرجعي ات ،يعيش منكفئ اً إما على
ذاته الطبيعية ال تي ال عالقة لها بما هو خارجه ا ،فهي مرجعية نفس ها ،أو على
كليات ال إنسانية مجردة ال عالقة لها باإلنسان كما نعرفه .وهذا اإلنسان ال ذاكرة
ل ه ،فهو يعيش فى اللحظة دائم اً ،فى قص ته الص غرى .ول ذا لخص أح دهم ما بعد
الحداثة بأنها نس يان نشط لل ذاكرة التاريخي ة ،وهي طريقة للق ول بنهاية الت اريخ.
ويمكننا الق ول :إنه إذا ك ان فوكوياما اكتشف نهاية الت اريخ ،ف إن ما بعد الحداثة
تقوم بقتله (.)2
وي رى "س مير أمين" أن حركة الت اريخ ليست بمثابة التنقل على خط
مس تقيم ،له اتج اه مع روف مس بقاً ،بل تتك ون ه ذه الحركة من لحظ ات متتالي ة،
بعضها تمثل خطوات تقدم فى اتجاه معين ،وبعضها التوقف عند نقطة معينة ،بل
ردات إلى ال وراء أو انغالق فى م آزق .فهن اك نق اط تق اطع تف رض الخي ار بين
ّ
احتماالت متباينة ،حتى صار "الخط العام" للتاريخ غير معروف مسبقاً (.)3
وفى مراحل التق دم اله ادئ والمس تديم ،عن دما تفعل التوازن ات المالئمة
فعلها لتيسر إعادة إنتاج التراكم المتوسع ،ثمة ميل قوي يدفع الفكر نحو نظريات
تط ور خطي .فالت اريخ يب دو فى ه ذه اللحظ ات كما لو ك ان يتجه بالض رورة نحو
)3(1عبد الوهاب المسيري :الفلسفة المادية وتفكيك اإلنسان ،ط( 2دمشق :دار الفكر )2003 ،ص:
.168
)1(2عبد الوهاب المسيري :الفلسفة المادية وتفكيك اإلنسان ،مرجع سابق ،ص.169-168 :
)2(3سمير أمين :مناخ العصر ،رؤية نقدية ،ط( 1دار سينا للنشر )1999 ،ص.36 :
130
هدف "طبيعي" ال محالة .وفى هذه المراحل نجد إذن ميالً قوي اً نحو بناء نظريات
كلية – أطلق عليها ناقدوها المحدثون تسمية "الخطابات الكبرى" – مثل المشروع
ال برجوازي أو المش روع االش تراكي أو المش روع الوط ني للتح ديث ،وفى ه ذه
الظروف تندرج المعارف الجزئية فى إطار األطروحات النظرية الكلية ،أو على
األقل يبدو ذلك يسيراً (.)1
ثم تأتي لحظة األزمة فتنحل التوازنات التي كانت تضمن سابقاً إعادة بناء
التراكم ،دون أن يحل محلها فوراً توازنات جديدة ،والتأخر فى تبلور هذه األخيرة
يفضح نق اط الض عف فى النظري ات الكلية الس ابقة الس يادة ،فتنه ار مص داقيتها.
وبالت الي تسم المرحلة بص فة التش تت فى الفكر االجتم اعي ،األمر ال ذي يتجلي
أيضا فى ظواهر انزالق تعوق إعادة تركيب فكر عام متجانس مجدد يستفيد من
ع بر الت اريخ ،ويعمل حس اباً ص حيحاً لتق دم المع ارف الفرعية في دمجها فى بنائه
العام (.)2
إذا اعتبرن ا الفك ر الغ ربي بني ة متكامل ة من ع دة عناص ر ،فإن ه يمكن
اعتب ار الرأس مالية أح د العناص ر المركزي ة المكون ة لتل ك البني ة ،وه ذا م ا ذهب
إلي ه س يرج الت وش حين ع رض لمكون ات الغ رب ،من حيث الجغرافي ا وال دين
والفلسفة والعرق والنظام االقتصادي ،فيرى أنه ينبغي النظر إلى الغرب ضمن
كيان جغرافي :أوروبا ،وضمن ديانة :المسيحية ،وضمن فلسفة :التنوير ،وضمن
ع رق :الع رق األبيض ،وض من نظ ام اقتص ادي :الرأس مالية .مؤك داً على أن
ومن خالل قراءة السياق التطوري لتلك العناصر المكونة للبنية الغربي ة،
نج د أن ه ليس من قبي ل المبالغ ة إذا اعتبرن ا الرأس مالية تمث ل مرك ز تل ك البني ة
الفكرية الغربية ،بما جعل منتجات هذا الغرب الثقافية تتحرك في فلكها ( .)2إال
أنها كانت منذ نشوئها في حاجة دائمة أليديولوجية تمثل الغطاء ومسوغ القبول،
وه ذا م ا ح دا بـ "الس كي" أن يق ول عن جي ل الرأس ماليين المعاص رين لـ "ج ون
ل وك"" :لق د ك ان جيل ه في حاج ة إلى أن ُيق ال ل ه إن الطبيع ة ت برر حاج اتهم
االجتماعي ة ،فأم دهم ب ذلك الت برير ،لق د أعط اهم نوع اً من النظ ام تس مح ح دوده
بالحري ات ال تي هم في حاج ة إليه ا ،لق د أعط اهم نظري ة للتس امح تمكنهم من
اس تبعاد من يري دون اس تبعاده بالض بط من التمت ع بفوائ دها ،وأعط اهم نظري ة
للملكي ة جعلت أص حابها ج ديرين بالحماي ة بس بب المجه ود ال ذي يتض منه
تجميعه ا ،والص الح االجتم اعي ال ذي يمثل ه ه ذا المجه ود .إن ه وفَّق بين الس لطة
والحرية بطريقة تعطى للطبقة المتوسطة الناشئة كل األفكار التي تنشدها" (.)3
على جذب اآلخرين ،فتستطيع من خالل هذا السياق أن تضمن تحقيق مطالبها
في حرية العمل والتحرك ،دون أن تثير تحركاتها ردود فعل رافضة.
وإ ذا ك انت الليبرالية قد دعت للحرية في بداية العصر الص ناعي ،إال أن
ه ذه ال دعوة ك انت زائفة وأيديولوجية ويكمن ورائها أه داف أخ رى ،فقد ك ان على
الف رد أن يتح رر من اإلقط اع ومن ارتباطه بكنيسة أو م ذهب أو طائفة أو ع رق؛
أجيرا في ظل النظام الرأسمالي .فقد أدى مبدأ الحرية كما
ً وذلك لكي يصبح عاملاً
اس تخدمه المجتمع الص ناعي مهمة قطع ص لة الف رد بكل ما ك ان يربطه بوح دات
اجتماعية س ابقة على الرأس مالية ،وذلك ليتمكن النظ ام من إدخاله س وق العمل
ويصبح سلعة فيه (.)1
وه ذا التأكي د على دور اإلنس ان ال يت أتى إال بتحوي ل مرك ز الفع ل من
السماء ،التي كانت تمثل المرجعية لكيانات القرون الوسطى ،إلى مركز جديد
ق ادر على دعم تل ك الفعالي ة اإلنس انية أال وه و العق ل ،فتح ولت الحاكمي ة
Gubernatorialمن السماء إلى العقل ،فأصبح حاكماً ومقياس اً للمشروعية ،بل
وهذا الدور الجديد الذي حصل عليه اإلنسان دعمته الكشوف الجغرافية
والعلمية التي كانت الدعامة األساسية للرأسمالية ،حيث يعتبر تراكم رأس المال
ع امالً أساس ياً لنج اح أي نم و ص ناعي أو اقتص ادي عموم اً .ف رأس الم ال
ض روري لتموي ل الدراس ات واألبح اث واالختراع ات واالبتك ارات وإ ج راء
التجارب ،وهو كذلك الزم لتحويل تكاليف اإلنتاج وعمليات التسويق .لذلك لم
يكن من الممكن أن تق وم الث ورة الص ناعية ل و لم تت وفر للبالد األوروبي ة ال تي
قامت فيها هذه الثورة األموال الالزمة للتمويل .ولعل أهم المصادر التي مكنت
ه ذه ال دول من توف ير رؤوس األم وال الالزم ة ،ك انت الفتوح ات االس تعمارية
واالكتشافات البحرية التي حدثت على األخص في السنوات األخيرة من القرن
الخامس عشر والسنوات األولى من القرن السادس عشر(.)1
)1(1أحم د حس ن ال برعي :الث ورة الص ناعية وآثاره ا االجتماعي ة والقانوني ة ،مرج ع س ابق ،ص:
.16
134
أجلن ا أيض ا افتق رت قارات بأكمله ا ( .)2وب ذلك ت راكمت ال ثروات بفع ل عملي ات
النهب المنظم ة ال تي قاده ا األوروبي ،وبفعله ا تحققت نهض ة علمي ة ،ك انت
الرأسمالية الناشئة في أشد الحاجة إليها.
وُأطلق على المرحلة التي ارتكنت على األسس الثالثة السابقة (الذاتي ة –
العقالني ة – التق دم) مرحل ة الحداث ة ،حيث ك انت األس اس الفك ري ال ذي مثّ ل
الظه ير األي ديولوجي للرأس مالية في مواجهته ا لم يراث الماض ي ومراك ز
السيطرة اإلقطاعية والدينية عليه ،وكان لهذه األفكار بريقها في الداخل الغربي
آنذاك والخارج العالمي بعد ذلك على حد سواء ،فعاش الغربي في سياق حلم
تحقي ق كمال ه اإلنس اني في ه ذا الع الم دون حاج ة لتأجي ل أخ روي ،في ال وقت
الذي مثّلت طموحاً لدى الشعوب غير الغربية للحاق بركب حضارتها؛ مما أدى
إلى قبوله ا – في الغ الب – دون مس اءلة أو نق د لعل ل النش أة الغربي ة لمنظوم ة
الحداثة الفكرية.
وبعد أن حقق الغرب كثيراً مما سعى إليه ،معتمداً فى ذلك على اإليمان
بالعقل وقدراته غير المحدودة في تحقيق التقدم ،ظهرت نتائج على الصعيدين
الداخلي والخارجي ضربت هذه الثقة المطلقة في العقل وقدراته ،فعلى الصعيد
الداخلي كانت الحربان العالميتان األولى والثانية ،من بين أسباب أخرى ،حافزاً
للبحث فى العقل ودوره ،ومدى إمكاناته في تحقيق الطموحات التي ُعلّقت عليه
خالل مرحل ة الحداث ة .وعلى الص عيد الخ ارجي ،أدى جش ع الرأس مالية الغربي ة
ونهبه ا ل ثروات الش عوب وتجويعه ا للماليين إلى رفض منتج الغ رب الح داثي
بغث ه وس مينه ،حيث لم يحق ق لمنك وبي الع الم أي ة حداث ة حقيقي ة ،فال أك ثر من
تغ يرات ش كلية أص ابتهم ،هي أق رب للتش وهات منه ا إلى التغ يرات الحقيقي ة.
وك انت الب دائل فى الغ الب مش روعات أص ولية Fundamentalismتتعل ق
بالماضي حماية للهوية ،فى ظل هذا الطغيان الحداثي.
الهيمن ة الغربي ة ،معت برين أنهم غ ير ق ادرين على مواجه ة تل ك الهيمن ة إال
باألدوات الغربية ذاتها ،وبنفس ذات السالح الحداثي.
األولى :أنه ا ب اتت غ ير مص َّدقة على الص عيد ال داخلي – على األق ل –
بعد الكوارث التي تسببت فيها ،وبالتالي لم تعد هي األيديولوجية المالئمة لخدمة
الرأسمالية.
تبني المستعمرات القديمة لها يهدد بقيام مشروعات وطنية الثانية :بات ّ
في هذه الدول تؤمن بفعالية اإلنسان وإ مكانات التقدم المفتوحة؛ مما يهدد الغ رب
في تفرده بتحقيق تلك المكاسب.
ويش ير "المس يري" إلي ع دة أس باب دفعت الغ رب إلى تغي ير آليات ه فى
مواجهة العالم ،وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد ،وهي كالتالي:
137
-أدرك الغرب أن تخلّ ف شعوب آسيا وأفريقيا يجعلها غير قادرة على
االس تهالك ،وبالت الي الب د من تق دم ه ذه الش عوب لتص بح ش به منتج ة ش به
مستهلكة.
-أدرك الغرب أنه برغم هذه الصحوة ،فثمة عوامل تفكك بدأت تظهر
توعبة تمام اً في المنظوم ة
في دول الع الم الث الث ،فق د ظه رت نخب ة محلي ة مس َ
القيمية والمعرفية واالستهالكية الغربية يمكنه أن يتعاون معها ويجندها ،وهي
نخب يمكن أن تحقق له من خالل السالم واالستسالم ما فشل في تحقيقه هو من
خالل المواجهة والغزو العسكري (.)1
تسعى لتحويل العالم بأسره إلى مصنع وسوق .لتحقيق هذا قرر الغرب اللجوء
لإلغ راء واإلغ واء ب دالً من القم ع والقس ر ،واالس تفادة من التفك ك لض رب
التماسك ،أي إن التفكيك وااللتفاف أجدى وأرخص من التدمير والمواجهة ،وبذا
يمكن للغ رب ح ل إش كالية عج زه عن المواجه ة وب أن يتخلى عن مركزيت ه
الواضحة وهيمنته المعلنة ليحل محلها هيمنة بنيوية كامنة (.)1
بما فيه العقل نفسه ،ففي التحليل كانت الغاية ضبط العبارة وإ حكام اللفظ تمني اً
لإلنشائية والخطابة ،وفى التفكيك تبدأ الكتابة من درجة الصفر (بارت) ،فالفكر
مج رد وح دات كتابي ة ال تع بر عن مع نى س ابق ،وال تفي د مع نى الحق اً ،الفك ر
أجراس اللغة وأصوات األلفاظ .وحضارات الهامش تحاول التجميع والتركيب
خوف اً من التفتت والتش رذم والض ياع باس م ِ
المل ل والنح ل واألع راف ،وبحج ة
الطوائف واألجناس(.)1
ولو توقفنا أمام مقولة نهاية اإلنسان أو موته التي رفعتها ما بعد الحداثة،
نج د أنه ا موجه ة باألس اس لخدم ة الرأس مالية العالمي ة بش كلها الجدي د المس مى بـ
"العولم ة" ،على اعتب ار أن العولم ة ال تري د ف رداً ف اعالً ق ادراً على تحقي ق
منج زات من خالل إيمان ه بذات ه وقدرات ه العقلي ة ،وال تري د له ذا الف رد أن يرس م
مستقبالً يستطيع بلوغه عبر إيمانه بمقولة التقدم ،بل تريد فرداً ال يمثل سوى
كيان هش ،مج رد عنصر مفعول ب ه ،تتحكم في ه كيان ات أكبر ال راد لقض ائها،
تتمث ل فى الش ركات متعدي ة الجنس يات .فـ "م ا بع د الحداث ة" من خالل إعالنه ا
م وت اإلنس ان تُق دم كائن اً غ ير ق ادر على مقاوم ة العولم ة ممثل ة في الش ركات
متعدي ة الجنس يات وآالته ا اإلعالمي ة ،فيص بح مج رد ك ائن داجن ال يحلم س وى
باالستمتاع بالمنتجات التي تطرحها عليه الشركات العالمية ،مختزالً حريته فى
االختيار بين ما تطرح تلك الشركات.
)2(1حس ن حنفي :الثقاف ة العربي ة بين العولم ة والخصوص ية ،اإلش كال النظ ري ،بحث فى كت اب
(العولمة والهوية الثقافية) (القاهرة :المجلس األعلى للثقافة )1998 ،ص.460 :
140
وبي ان أوج ه فش له وبين أس باب انهي ار المش روع الس وفييتي كنم ط ت اريخي
للمشروع االشتراكي (.)1
العالقة جد وثيقة بين فكر "ما بعد الحداث ة" والفكر االقتص ادي اللي برالي،
فه ذا األخ ير يؤكد على تحرير ق وى الس وق العالمي ة ،المب ادرة الفردي ة ،نفي أي
مشروع اجتماعي عام ،فى هذه النظرية ال مكان إال لألفراد ،للشركات ،للمنافس ة.
وفكر "ما بعد الحداث ة" ك ذلك يعلن م وت وال ش رعية جميع األنس اق الك برى
والمش اريع المتول دة عن الحداث ة ،كالعقالنية واالش تراكية .بل وليس ثمة وج ود
لنظ ام رأس مالي أو لت اريخ أو لمجتم ع ،ال يوجد س وى أح داث متفرق ة :أف راد
متج اورون ،وص راعات شخص ية ،البشر ع اجزون عن فهم الت اريخ ،دعك عن
صنعه بحسب رغباتهم (.)2
ضمناً لحظة تفوق الغربي على غيره من الثقافات .ولذا يعمل خطاب العولمة
Globalismالمنبثقة عن فلسفة ما بعد الحداثة على تقليص اإلحساس بالهوية
المش تركة فى اس تهانته بالت اريخ المش ترك لألم ة؛ لتحوي ل االهتم ام من ه ذا
الت اريخ المش ّكل للهوي ة إلى الحاض ر ال ذي تس ّيره ق وانين الس وق والتطلع ات
االس تهالكية ( .)1كم ا أن إلغ اء الفعالي ة اإلنس انية تع ني أن الحاج ة أو الفع ل
البش ري ليس ه و المح رك للت اريخ ،ب ل كم ا أش ار ألتوس ير لوج ود بني ة خارج ة
عن اإلرادة اإلنس انية هي ال تي تق وم ب دور الفاع ل .فم ع إعالن م وت اإلل ه
واإلنس ان لم يع د هن اك مرك ز م رجعي يتم االس تناد إلي ه ،ويمكنن ا أن نس تمد من
خالله المعنى والداللة ،ويجعلنا مطمئنين لشرعية قراءتنا وتفسيراتنا .وفى ظل
هذه الحالة السائلة تقوم الشركات متعدية الجنسيات بممارسة دورها من خالل
آلتها اإلعالمية من أجل توظيف تلك الحالة لصالحها.
وتنش أ بالض رورة عن رفض األنس اق الك برى والفعالي ة اإلنس انية
واإليم ان بالعق ل وفك رة التق دم حال ة من الس يولة ،وك ان الب د من تنظيره ا
وتق ديمها على أنه ا آخ ر م ا توص ل إلي ه الفك ر اإلنس اني ،فك انت فلس فة التفكي ك
الم ا بع د حداثي ة ،حيث أن المطل وب للرأس مالية العولمي ة ه و عملي ة تس ييل
الكيانات القديمة الممثلة في الدولة القومية والمشروعات الوطنية والقضاء على
ال ذاكرة الوطني ة للش عوب ،وك ذلك نق ل الفعالي ة إلى كيان ات جدي دة بال مرك ز
وطني ،حيث أن هذه المركزية تكلف الرأسمالية ما ال تريده ،ممثالً فى مطالب
عمالي ة داخ ل دوله ا ،ومط الب رعاي ة اجتماعي ة ال تري د أن تتحمله ا أو تس اهم
فيه ا ،فمن خالل إلغ اء ه ذه المركزي ة القديم ة س وف تتخلص من مس ئولياتها
)1(1م اري تري ز عب د المس يح :الثقاف ة القومي ة بين العالمي ة والعولم ة (الق اهرة :الهيئ ة المص رية
العامة للكتاب )2009 ،ص.29 :
143
غالب ا م ا ي أتي الت برير والتض ليل فى مقدم ة وظ ائف األي ديولوجيا (،)1
بهدف خلق حالة من الوعي الزائف ،يتم خاللها قلب حقائق األشياء ووضعيات
األش خاص ،فأحيان اً تص ور الس يد خادم اً والمس ود س يداً؛ مس تهدفة ب ذلك تحقي ق
مص الح ش خص أو فئ ة معين ة .ورغم ك ل ش هادات الوف اة ال تي تم اس تخراجها
من المع روف أن الرأس مالية تؤك د على محوري ة دور الف رد ،فى مقاب ل
غيرها من األيديولوجيات التي تعلي من شأن الجماعي على الفردي ،مع العلم
أن لك ٍل مغ زاه األي ديولوجي وراء عملي تي التق ديم والت أخير بين الف ردي
والجم اعي ،لكن م ا يهمن ا هن ا ه و "الف رد" ل دى الرأس مالية بكاف ة أش كالها –
الكالس يكية ،الموجه ة ،والعولمي ة – م ع األخ ذ فى االعتب ار أن الس ياق
األيديولوجي للرأسمالية اقتضى بعض التحورات فى توصيفه لحقيقة هذا الفرد؛
وذلك وفقاً لما يقتضيه الصالح الرأسمالي بالطبع ،حيث كان المطلوب فى بداية
النش أة ،وبم وازاة الس ياق الح داثي ،أن يك ون الف رد ف اعالً منتج اً مؤمن اً بذات ه
وبقدرات ه على قه ر الطبيع ة واألنظم ة الفكري ة والسياس ية والديني ة القروس طية
)2(1راجع فى ذلك:
-هرب رت ش يلر :المتالعب ون ب العقول ،كي ف يج ذب محرك و ال دمى الكب ار فى السياس ة واإلعالن
ووسائل االتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟ ترجمة عبد السالم رضوان ،ط( 2الكويت :عالم
المعرفة ،عدد )1999 ،243ص.42 -13 :
-ن اعوم تشومس كي :الس يطرة على اإلعالم ،اإلنج ازات الهائل ة للبروباجن دا ،ترجم ة أميم ة عب د
اللطيف ،ط( 1القاهرة :مكتبة الشروق الدولية.)2003 ،
145
التي تعوق حركته ،ولكن بعد أن استقر الوضع للرأسمالية ،للدرجة التي دعت
البعض إلى اعتبارها نهاية التاريخ (.)2
وانقلب الوض ع من المش روع الف ردي البس يط إلى الش ركات العمالق ة
متعدي ة الجنس يات ،ك ان من الض روري أن تتغ ير تل ك النظ رة للف رد ،حيث أن
الفاعل حالياً تجاوز نطاق الفردي بمعناه التقليدي ليتحول إلى الشركات العمالقة
ال مج رد المش روعات الص غيرة ال تي ي ديرها أف راد متس اوون تقريب اً ،فس عت
الرأس مالية إلى تحوي ل الف رد من وض عه الس ابق ليلعب دور "المس تهلك"
Consumerال المنتج Producerأو الفاع ل ،وض روري لتحول ه من إيمان ه
بقدرات ه وفعاليت ه إلى مج رد متل ق س لبي أن يتم التحكم ب ه وخداع ه من خالل
عملي ة إيه ام ك برى ،تؤك د على حريت ه وتعلي راي ة المس اواة ،Equalityلكنه ا
في الوقت نفسه – تكاد – تقلص هذه الحرية فى االختيار بين البضائع والسلع
المتاحة فى السوق ،واختزال المساواة فى المساواة االستهالكية ،حيث من حق
الجميع أن يستهلك ويستهلك دون حدود.
)1(1وق د الح ظ ج ورج جيرب نر ،فى مق ال ل ه بمجل ة "س ينتفيك أميرك ان" ،أن الس ؤال الحقيقي ال
يتمثل فيما إذا كانت أدوات االتصال الجماهيري حرة أم الن وإ نما يتمثل فى كيف ،وألي هدف،
وعن طريق من ،وبأي نتائج مترتبة ،تتم ممارسة عمليات التوجيه والسيطرة التي ال محيد عنها؟
انظر فى ذلك ،هربرت شيلر :المتالعبون بالعقول ،مرجع سابق ،ص.30 :
)1(2هربرت ماركوز :اإلنسان ذو البعد الواحد ،مرجع سابق ،ص.12 :
147
أهم الدراس ات في حق ل
( )2تع ّد أعم ال الفيلس وف الفرنس ي المعاص ر ج ان بودري ار من ّ
1
اإلنسانيات .ويتناول جانب كبير من هذه األعمال نقداً لمجتمع االستهالك .فإلى جانب كتابه الذي
يحم ل عن وان "المجتم ع االس تهالكي" ،هن اك مجموع ة أخ رى من الدراس ات المنتش رة ع بر كتب ه
األخ رى ،وال تي يتن اول فيه ا نفس الموض وع مث ل "م رآة اإلنت اج" و"نح و نق د لالقتص اد السياس ي
للعالمة" و"التبادل الرمزي والموت".
)1(2سمير الزغبي :االستهالك وإ ستراتيجية الهيمنة الليبرالية ،مرجع سابق.
148
ومادي ( .)1وهذا البع د قد ركزت عليه مدرس ة فرانكفورت بشكل كب ير ،حيث
بين زعماؤه ا كي ف انح ط العم ل الف ني في ظ ل المجتم ع الص ناعي وظ روف
صناعة الثقافة وعمالئها وأجهزة إنتاجها واإلعالم عنها ،إلى حضيض السلعة
في س وق االس تهالك والمزاي دة ،مم ا أفق ده أص الته وش موله وفعل ه المباش ر في
القل وب والعق ول ،بحيث أص بح مج رد "ش يء" يقص د ب ه االس تمتاع الس طحي
والتسلية في أوقات الفراغ ،ولم يبق أثر للعالقة الحية بالعمل الفني ،وال للفهم
المباشر لوظيفته بوصفه تعبيرا عما كان يسمى يوماً باسم الحقيقة.
)2(1عبد الغفار مكاوي :النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ،تمهيد وتعقيب نقدي ،حوليات كلية
اآلداب ،العدد ،1993 ،13ص .27 - 26 :ولمزيد من التفاصيل انظر:
-م اكس هوركه ايمر وثي ودور أدورن و :ج دل التن وير ،ترجم ة ج ورج كت ورة ،ط( 1لبن ان :دار
الكتاب الجديد المتحدة )2006 ،ص.195 – 143 :
-كمال بومنير :النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ،من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث،
ط( 1الجزائر :منشورات االختالف )2010 ،ص.33 – 32 :
)1(2راجع في ذلك ،مايك فيزرستون :ثقافة االستهالك وما بعد الحداثة ،ترجمة فلاير حسن خليفة
(القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب )2010 ،ص.82 - 57 :
149
يخل ق مواطن اً غ ير قاب ل للتنمي ط والتالعب برغبات ه بس هولة ،ول ذلك ف إن الح ل
األمث ل س وف يك ون بعملي ة تهبي ط وتدني ة مس توى المنتج الثق افي ح تى يناس ب
مستوى المستهلك العادي؛ وبذلك تتحقق فائدتان متالزمتان ،األولى زيادة مع دل
االس تهالك ،والثاني ة االس تمرار فى التحكم فى الف رد /المس تهلك دون خط ورة
وعيوية تضرب منظومة التالعب بأكملها.
)2(1ميجان الرويلي وسعد البازغي :دليل الناقد األدبي ،مرجع سابق ،ص.226 :
150
جوهريت ه ،فال ش يء تحت الس طح س وى الس طح والس طحية والمبت ذل الي ومي،
وحاربت ثقافة النخبة والنخبوية.