You are on page 1of 57

‫الفصل الثالث‬

‫الركائز الفكرية أليديولوجية العولمة‬


‫أوال‪ -‬الحداثة‪.‬‬
‫ثانيا‪ -‬ما بعد الحداثة‪".‬‬
‫ثالثا‪ -‬العولمة" وما بعد الحداثة‪ "،‬جدلية العالقة‪.‬‬
‫رابع""ا‪ -‬اإلعالم كجه""از أي""ديولوجي وص""ناعة الم""واطن" ما بعد‬
‫الحداثي‪.‬‬
‫‪95‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫الركائز الفكرية أليديولوجية العولمة‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫ت بين من الفص ل الس ابق أن تجلي ظ اهرة العولم ة وبروزه ا على س احة‬
‫التعاطي الفكري من ناحية والتطبيق العملي من ناحية أخرى‪ ،‬ارتبط بالنصف‬
‫الث اني من الق رن العش رين‪ ،‬دون إغف ال لإلرهاص ات التاريخي ة للظ اهرة وال تي‬
‫ربم ا امت دت لع دة ق رون قب ل بروزه ا ككي ان ذي قس مات ب ارزة‪ .‬وق د ت زامنت‬
‫وتماكنت مع ما يعرف بـ "ما بعد الحداثة" ‪ ،Postmodernism‬فكان لزاما على‬
‫الب احث أن يفتش عن طبيع ة عالئقهم ا‪ ،‬وه ل ثم ة أواص ر اجت ذاب أم أن‬
‫الظاهرتين محكومتان بالتنافر والصراع‪ .‬ومن ثم كان من الضروري التعرض‬
‫لما بعد الحداثة من حيث النشأة التاريخية والمقوالت المركزية؛ بغية التوصل‬
‫إلى طبيعة العالقة بينها وبين العولمة موضوع الدراسة‪.‬‬

‫وتع د مقارب ة الس ياق الثق افي الغ ربي ض رورة فى تحدي د مالمح‬
‫منتَج‬
‫األيديولوجية العولمية ك آخر مخرج ات الثقافة الغربية؛ حيث أنه ال يوجد ْ‬
‫يشذ عن سياق إنتاجه فى الغالب‪ .‬وإ ذا كانت الفكرة المركزية لهذه الدراسة تقوم‬
‫على تواثق العالقة بين العولمة وظاهرة ما بعد الحداثة‪ ،‬وتوحي الداللة المبدئية‬
‫لـ "ما بعد الحداثة" أنها تمثل نفيا أو تجاوزا لـ "الحداثة" ‪ ،Modernity‬فإنه من‬
‫األهمية بمكان أن ُنسبِّق تناول ما بعد الحداثة بالتعرض للظاهرة األصل وهي‬
‫المنقلب عليه‪.‬‬
‫الحداثة‪ ،‬فال مجال لفهم ظاهرة االنقالب دون إدراك لحقيقة َ‬

‫أوال‪ -‬الحداثة‪:‬‬
‫‪96‬‬

‫‪ -1‬مفهوم الحداثة‪:‬‬

‫ال يوج د إجم اع بين م ؤرخي الحداث ة ح ول بداي ة مح ددة لميالده ا؛ فثم ة‬
‫من ي ؤرخ له ا ب دءاً من الق رن الس ادس عش ر‪ ،‬وآخ ر يقص رها – ربم ا – على‬
‫قرنين فائتين‪ ،‬وترجع علة ذلك باألساس إلى تعدد حقولها الداللية التي طالت‬
‫ك ل مس تويات الوج ود اإلنس اني وأبع اده الحياتي ة‪ ،‬فال مج ال إال وطالت ه أص ابع‬
‫تش كيلها‪ ،‬متنقل ة من البع د التق ني إلى البع د الجم الي‪ ،‬ومن المس توى االقتص ادي‬
‫إلى المس توى الفك ري والفلس في‪ ،‬مم ا ي دفع ك ل ط رف إلى س ْوقها وفق ا لت اريخ‬
‫بلوغها فرعه المعرفي‪ .‬وقد أدى ذلك إلى التباسات جمة أحاطت المفهوم بهالة‬
‫من الغم وض ‪ Obscurity‬دفعت البعض إلى اعتب ار الحداث ة غ ير قابل ة لـ‬
‫"المفهمة"‪ ،‬وقد انتقل غموضها هذا إلى َخلَِفها "ما بعد الحداثة" كما سيرد ذكره‬
‫بع د ذل ك‪ .‬وال تختل ف الحداث ة فى ذل ك عن العدي د من مف اهيم العل وم‬
‫االجتماعية(‪.)1‬‬

‫وإ ذا ب دأنا باالش تقاق اللغ وي‪ ،‬نج د أن كلم ة حداث ة فى اللغ ة العربي ة من‬
‫ث‬
‫نقيض القُ ْدم ة‪ .‬ح دث َح َد َ‬
‫ُ‬ ‫وث‬
‫والح ُد ُ‬
‫نقيض الق ديم‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فالح ِد ُ‬
‫يث‬ ‫الفع ل "ح دث" َ‬
‫يث‪ ،‬وك ذلك‬‫وح ِد ٌ‬
‫ث َ‬ ‫وأح َدثَ هُ ُه َو‪ ،‬فَه و ُم ْح َد ٌ‬
‫وحداث ةً‪ْ ،‬‬
‫ث ُح ُدوثاً َ‬
‫يء َي ْح ُد ُ‬
‫الش ُ‬
‫اس تَ ْح َدثَهُ(‪ .)2‬وتُش تق كلم ة ‪ Modernity‬من الكلمة اإلنجليزية ‪ Modern‬وهي‬
‫ْ‬
‫مش تقة ب دورها من الكلمة الالتينية ‪ Modernus‬وال تي ترجع إلى كلمة التينية هي‬
‫‪ Modus‬وتع ني مقي اس أو منهج أو نظ ام‪ .‬ومن الكلم ات المش تقة من نفس الج ذر‬
‫كلمة ‪ Modo‬وتع ني "م ؤخراً" أو "لت وه"‪ .‬ومص طلح "ح ديث" ‪ Modern‬مص طلح‬
‫خالفي للغاي ة‪ ،‬فهي ككلمة من المف ترض أنها محاي دة‪ ،‬إال أنها ليست ك ذلك فى‬
‫الواقع‪ ،‬فعادةً ما توضع فى مقابل "تقليدي" أو "قديم" وتصبح كلمة معيارية‪ ،‬وتعنى‬

‫‪1‬‬
‫)‪(1) Clus Offe: Modernity and the State, East, West (USA: Polity Press,1996‬‬
‫‪P: 5.‬‬
‫‪ )2(2‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬المجلد الثاني (القاهرة‪ :‬دار المعارف‪ ،‬د‪.‬ت) ص‪.796 :‬‬
‫‪97‬‬

‫أن الح ديث أفضل من الق ديم؛ ويرجع ذلك الرتباطها بكلمة التق دم (‪ .)1‬وقد ب دأ‬
‫اس تخدام كلمة ح ديث ‪ Modern‬فى اللغة اإلنجليزية منذ عصر إليص ابات حسب‬
‫المع نى الج اري كمقابل لكلمة ق ديم (‪ .)2‬وك انت الكلمة قد اس تُخدمت بص يغتها‬
‫الالتينية ‪ Modernus‬للم رة األولى فى أواخر الق رن الخ امس الميالدي به دف‬
‫التمي يز بين الحاضر ‪ Present‬ال ذي أص بح مس يحيا على المس توى الرس مي‬
‫والماضي ‪ Past‬الروماني الوثني (‪.)3‬‬

‫فعرفها‬
‫أما الحداثة اصطالحاً‪ ،‬فقد تعددت الرؤى وتنوعت حول مفهومها‪ّ ،‬‬
‫البعض بأنها حقبة تاريخية متواصلة ابتدأت فى الغرب ثم انتقلت آثارها إلى العالم‬
‫بأسره‪ ،‬مع اختالفهم فى تحديد مدة هذه الحقبة‪ ،‬فمنهم من قال إنها تمتد على مدى‬
‫خمسة ق رون كامل ة‪ ،‬ب دءاً من الق رن الس ادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة‬
‫اإلص الح ال ديني‪ ،‬ثم حركة التن وير ‪ Enlightenment‬والث ورة الفرنس ية‪ ،‬تليهما‬
‫الث ورة الص ناعية‪ ،‬ف الثورة التقني ة‪ ،‬ثم الث ورة المعلوماتي ة‪ ،‬ومنهم من جعل ه ذه‬
‫الحقبة التاريخية أدنى من ذلك‪ ،‬حتى رجع إلى قرنين فقط (‪.)4‬‬

‫وعرف آخرون الحداثة بصفات طبعت عطاء هذه الحقبة‪ ،‬مع اختالفهم فى‬
‫ّ‬
‫التعب ير عن ه ذه الص فات وعن أس بابها ونتائجه ا؛ فمن قائل أن الحداثة هي‬
‫"النه وض بأس باب العقل والتق دم والتح رر"‪ ،‬وقائل أنها "ممارسة الس يادات الثالث‬

‫‪ )1(1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬التحديث والحداثة‪ ،‬بحث فى كتاب "الحداثة وما بعد الحداثة" (طرابلس‪:‬‬
‫جمعة الدعوة اإلسالمية العالمية‪ )1989 ،‬ص‪.61 – 60 :‬‬
‫‪ )2(2‬كرين برينتون‪ :‬تشكيل العقل الحديث (القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ )2001 ،‬ص‪.16 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪(3) Jürgen Habermas: Modernity versus Post modernity, New German‬‬
‫‪Critique, No. 22, Special Issue on Modernism. (Winter, 1981), P: 3.‬‬
‫‪See to, Joseph Natoli and Linda Hutcheon: A Postmodern Reader (New York:‬‬
‫‪State University of New York Press, 1993) P: 92.‬‬
‫‪- Krishan Kumar: From Post- industrial to Post-modern Society, New Theories of‬‬
‫‪the Contemporary World (Oxford: Blackwell Publishing, 1995) P: 91.‬‬

‫‪ )4(4‬طه عبد ال رحمن‪ :‬روح الحداث ة‪ ،‬الم دخل إلى تأس يس الحداثة اإلس المية‪ ،‬ط‪( 1‬ال دار البيض اء‪:‬‬
‫المركز الثقافي العربي‪ )2006 ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪98‬‬

‫عن طريق العلم والتقني ة‪ :‬الس يادة على الطبيعة والس يادة على المجتمع والس يادة‬
‫طع الصلة‬
‫على الذات"‪ ،‬بل نجد منهم من يقصرها على صفة واحدة‪ ،‬فيقول إنها "ق ْ‬
‫ب التراث" أو إنها "طلب الجدي د"‪ ،‬أو إنها "محو القدس ية من الع الم" أو إنها "العقلن ة"‬
‫أو إنها "الديمقراطي ة" أو إنها "حق وق اإلنس ان" أو "قطع الص لة بال دين" أو إنها‬
‫"العلمانية" ‪ .Secularism‬وأمام هذا التعدد والتردد فى تعاريف الحداثة‪ ،‬ال عجب‬
‫أن ُيق ال ك ذلك إنها "مش روع غ ير مكتم ل" وفقا لما أعلنه الفيلس وف األلم اني‬
‫"يورغن هابرماس ‪ - 1929( Jurgen Habermas‬؟) (‪.)1‬‬

‫والحداثة هي ظه ور مالمح المجتمع الح ديث المتم يز بدرجة معينة من‬


‫ور المجتمع‬ ‫ول آخر هي ظه‬ ‫دد والتفتح‪ .‬وفي ق‬ ‫التقنية والعقالنية والتع‬
‫البورج وازي الغ ربي الح ديث فى إط ار ما يس مى بالنهضة الغربية أو األوروبي ة‪،‬‬
‫ه ذه النهضة ال تي جعلت المجتمع ات المتط ورة ص ناعياً تحقق مس توى عالي اً من‬
‫التط ور م ّكنها ودفعها إلى غ زو وت رويض المجتمع ات األخ رى؛ مما أدى إلى ما‬
‫يس مى بص دمة الحداث ة‪ ،‬وخاصة بالنس بة إلى المجتمع ات ال تي تلقت نت ائج الحداثة‬
‫من دون أن تكون مهدها أو مخاضها المباشر‪ .‬إنها إذن خلخلة تتفاوت قوة وعنف اً‬
‫فى جميع مس تويات الحي اة ال تي ع انت الحداث ة‪ ،‬إما داخليا أو نتيجة ص دمة‬
‫خارجية‪ .‬فالحداثة تُخرج هذه المجتمعات من دائرة التكرار واالجترار والمراوحة‬
‫وتفجر دينامية التح ول‪ .‬بما يستتبع ذلك من اه تزاز فى القيم والع ادات والهوي ات‪،‬‬
‫ومن تقطعات تلحق وتيرة االتصال واالستمرار (‪.)2‬‬

‫وي رى آالن ت ورين أن فك رة الحداثة تتمثل فى التأكيد على أن اإلنس ان هو‬


‫ما يفعله‪ ،‬بما يعني أن ثمة صلة وطيدة بين اإلنتاج الذي أصبح أكثر فعالية بفضل‬

‫‪ )1(1‬طه عبد ال رحمن‪ :‬روح الحداث ة‪ ،‬الم دخل إلى تأس يس الحداثة اإلس المية‪ ،‬مرجع س ابق‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.23‬‬
‫‪ )2(2‬محمد سبيال‪ :‬مدارات الحداثة‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت‪ :‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪ )2009 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.124 – 123‬‬
‫‪99‬‬

‫العلم والتكنولوجيا واإلدارة من ج انب‪ ،‬وبين تنظيم المجتمع ال ذي ينظمه الق انون‬
‫والحياة الشخصية وتنعشه المصلحة‪ ،‬وكذلك الرغبة فى التحرر من كل الضغوط‬
‫من جانب آخر‪ .‬ويتساءل على أي شيء تقام هذه الصلة بين ثقافة علمية ومجتمع‬
‫منظم وأف راد أح رار إن لم يكن على انتص ار العق ل؟ معت براً أن العقل وح ده هو‬
‫الذي يعقد الصلة بين الفعل اإلنساني ونظام العالم‪ ،‬وهذا ما كان يبحث عنه الفكر‬
‫ال ديني من قب ل‪ ،‬ولكنه ك ان مش لوالً بس بب الغائية الخاصة باألدي ان التوحيدية‬
‫القائمة على الوحي‪ .‬والعقل هو الذي يهب الحياة للعلم وتطبيقاته‪ ،‬وهو أيضا ال ذي‬
‫يتحكم فى تك ييف الحي اة االجتماعية مع الحاج ات الفردية والجماعي ة‪ .‬وهو أخ يراً‬
‫ال ذي يضع س يادة الق انون والدولة محل التعسف والعن ف‪ .‬وعن دما تتص رف‬
‫اإلنسانية وفقا للقانون تتقدم نحو الوفرة والحرية والسعادة (‪.)1‬‬

‫وي رى البعض أن الحداثة ليست مج رد وج ود ت اريخي أو جغ رافي‪ ،‬أو‬


‫ش يء ي وفر الس تارة الخلفية لت اريخ األفك ار‪ ،‬ولكنها تأس يس للعالق ات االجتماعية‬
‫من خالل معن يين‪ ،‬فمن ناحية هي تش ير إلى المؤسس ات والنم اذج ال تي أقامها‬
‫رجالها االجتم اعيون‪ ،‬ومن ناحية أخ رى هي تمثل س لطة مترابطة توضح كيف‬
‫ُبنيت هذه المؤسسات والنماذج (‪.)2‬‬

‫وفى إطار التناول النقدي للحداثة‪ ،‬يرى عبد الوهاب المسيري (‪– 1938‬‬
‫‪ )2008‬أنه رغم تع دد تعريف ات الحداث ة‪ ،‬ما بين من يعتبرها دفاع اً عن عظمة‬
‫اإلنس ان ومحورية دور العق ل‪ ،‬ومن يعتبرها اس تنارة‪ ،‬أو من يؤكد على كونها‬
‫استخدام العلم والتكنولوجيا (كما لو كانت هذا التكنولوجيا بدون أيديولوجية) رغم‬
‫ه ذا التع دد‪ ،‬فإنه ي رى أن كل تعريف يحمل ش حنة أيديولوجي ة‪ ،‬مطالبا بض رورة‬

‫‪ )1(1‬أالن ت ورين‪ :‬نقد الحداث ة‪ ،‬ترجمة أن ور مغيث (الق اهرة‪ :‬المجلس األعلى للثقاف ة‪ )1997 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.19‬‬
‫‪ )2(2‬ع دنان على رضا النح وي‪ :‬تق ويم نظرية الحداث ة‪ ،‬ط‪( 1‬الس عودية‪ :‬دار النح وي للنشر‬
‫والتوزيع‪ )1992 ،‬ص‪.29 :‬‬
‫‪100‬‬

‫التمييز بين الحداثة كـ "مشروع" والحداثة كـ "تطبيق"‪ ،‬فالتعريف الس ائد هو تعريف‬
‫المش روع وه ذه هي المش كلة الك برى‪ ،‬مش يرا إلى أن تعريف الحداثة وفقا لما هو‬
‫ق ائم يحيل إلى اعتبارها تفكيك اً‪ ،‬أي رد اإلنس ان إلى ما هو دون اإلنس ان‪ ،‬أي رد‬
‫اإلنسان إلى الطبيعة والمادة (‪.)1‬‬

‫وي ْرجع المسيري الخلط واالرتباك فى تعريف الحداثة إلى عدة أسباب‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -1‬ميل الكث يرين إلى النظر للحداثة باعتبارها نموذج اً ثابت اً‪ ،‬أو ح تى‬
‫نظرية جام دة أو متتالية مح ددة مق دماتها وحلقاته ا‪ ،‬ونتائجها معروفة مس بقاً‬
‫وتتحقق بنفس الشكل تقريبا‪.‬‬

‫‪ -2‬الخلط بين الحداثة كمخطط ومش روع وأمل وبين الحداثة كظ اهرة‬
‫تحققت فى الواقع بالفع ل‪ ،‬حيث يعت برون أن آم ال بعض المفك رين بخص وص‬
‫المشروع الحداثي‪ ،‬هي خير تعريف للظاهرة‪ ،‬دون أن يدرسوا المتتالية المتحققة‪،‬‬
‫والتي تكشفت تدريجيا عبر األربعة قرون الماضية‪ ،‬ثم ازدادت تبلوراً في العقود‬
‫األخ يرة مع أزمة الرأس مالية في الثالثيني ات من الق رن العش رين وظه ور النازية‬
‫‪ ،Nazism‬وأزمة النظام االشتراكي وسقوطه‪ ،‬وأزمة المعنى التي أفرزت ثورة‬
‫الشباب‪ ،‬وغيرها من الظواهر‪.‬‬

‫‪ -3‬تحليل ظ اهرة الحداثة من خالل مس توياتها االقتص ادية والسياس ية‬


‫والتربوية‪ ،‬مع إهمال الجوانب الفكرية النهائية والكلية‪ ،‬أي رؤية اإلنسان وهويته‬
‫ومرك زه فى الك ون‪ ،‬واله دف من وج وده‪ ،‬وعالقته بالطبيعة وما وراءه ا‪ .‬وه ذا‬
‫يع ني أن ه ذا الخط اب يهمل الب نى العميقة ل وعي اإلنس ان وانعك اس كث ير من‬
‫ج وانب الحداثة على مرك زه فى الك ون‪ ،‬واله دف من وج وده وعلى إدراكه لنفسه‬

‫‪ )1(1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪101‬‬

‫ولمع نى حيات ه‪ .‬وله ذا يتم إهم ال بعض الج وانب النهائية والكلية للمش روع‬
‫التحديثي‪ ،‬والتناقضات المعرفية الكامنة فيه كنموذج معرفي وكرؤية (‪.)1‬‬

‫‪ -2‬السياق التاريخي للحداثة‪:‬‬

‫يرجع الكثير من الباحثين بداية الحداثة إلى تراجع نظرة العصور الوسطى‬
‫للع الم خالل الق رن الرابع عش ر‪ ،‬حيث أخ ذت تظهر بالت دريج ق وى جدي دة عملت‬
‫على تشكيل العالم الحديث كما نعرفه اليوم‪ .‬فمن الوجهة االجتماعية‪ ،‬أصبح البناء‬
‫اإلقطاعي ‪ Feudality‬للمجتمع الوسيط غير مستقر نتيجة لظهور طبقة قوية من‬
‫التجار الذين تحالفوا مع الحكام ضد ُمالك األرض الخارجين عن كل سلطة‪ .‬ومن‬
‫الوجهة السياسية‪ ،‬فقد النبالء قدرا من حصانتهم مع ظهور األسلحة الجديدة‪ ،‬التي‬
‫جعلت من المستحيل عليهم الصمود فى قالعهم التقليدية(‪.)2‬‬

‫فقد ق امت الحداثة فى الغ رب على أنق اض المجتمع ال زراعي اإلقط اعي‬
‫أوال‪ ،‬وثانيا على تخلخل المف اهيم الدينية والميتافيزيقية والمثالية ال تي ش كلت‬
‫العامل األساسي لرؤية الوج ود واأليديولوجية التاريخية المالزمة له ذا المجتم ع‪.‬‬
‫فقد ك ان المجتمع األوروبي الوس يطي يق وم‪ ،‬من حيث تركيبته السياس ية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬على تفتيت السلطة المركزية‪ ،‬وعلى سيطرة اإلقطاع على مصادر‬
‫ال ثروة األساس ية وهي األراضي الزراعي ة‪ ،‬كما ك ان يق وم على مس توى‬
‫األيديولوجيا الدينية والفكرية على مبادئ ثبات القيم والتحديد المسبق عرفا وقانونا‬
‫للهيراركية ‪ Hierarchy‬الثالثية التي تحكم النظام االجتماعي‪ ،‬وفقا لمبادئ العبادة‬
‫(رجال الدين) والقتال (النبالء) والعمل (الفئة الثالثة وتشمل البرجوازية ومختلف‬
‫فئات الش عب األخ رى)‪ .‬وأخيرا كانت الرؤية الميتافيزيقية للوجود‪ ،‬التي بلورتها‬

‫‪ )1(1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬التحديث والحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.64 – 62 :‬‬


‫‪ )2(2‬برتراند راسل‪ :‬حكمة الغرب‪ ،‬الفلسفة الحديثة والمعاصرة‪ ،‬جـ ‪( 2‬الكويت‪ :‬عالم المعرفة‪ ،‬عدد‬
‫‪ )1983 ،72‬ص‪.17 :‬‬
‫‪102‬‬

‫عل وم الاله وت والفلس فة المدرس ية فى جمعها بين الفلس فة وال دين طريقة كب ار‬
‫فالسفة المسلمين‪ ،‬تشكل الركيزة األساسية ألنساق القيم والمعايير والمثل التي ال‬
‫تنظم فحسب مجمل العالق ات االجتماعية على ه ذه األرض‪ ،‬وإ نما ك ذلك عالقة‬
‫األف راد بحي اتهم األخروية من حيث الرؤية الرأس ية للع الم‪ ،‬ومن حيث مف اهيم‬
‫الخير والشر والطاعة والمعصية والثواب والعقاب(‪.)1‬‬

‫وقد ج اءت قيم الحداثة مواكبة لمعظم التغ يرات ال تي أص ابت هيكل‬
‫المجتمع اإلقطاعي‪ ،‬وأدت إلى خلخلته‪ ،‬ثم إلى انهياره بعد ذلك‪ .‬وأول مظاهر ه ذا‬
‫التغيير سوف ينبثق من عملية التناقض الذي ينشأ من الصراع المتولد بين رجال‬
‫اإلقط اع والس لطة الملكية من جه ة‪ ،‬وبينهم وبين الطبقة البرجوازية الص اعدة من‬
‫جهة أخ رى‪ ،‬خاصة مع ب دايات ازده ار ظ اهرة الم دن وانتع اش التج ارة خالل‬
‫القرنين الثاني عشر والثالث عشر‪ .‬ذلك أن الملكية كانت تسعى جاهدة إلى تثبيت‬
‫الس لطة المركزي ة‪ ،‬ومن ثم القض اء على اإلقط اع ومنظومة القيم والمف اهيم ال تي‬
‫يمثله ا‪ ،‬خاصة ما يتصل منها ب والء األقن ان ألس يادهم اإلقليم يين‪ ،‬والقض اء أيضا‬
‫على التض ارب بين حق وق اإلقط اع وحق وق الملكية الص اعدة‪ ،‬على مس توى‬
‫تحصيل الضرائب والتنظيمات والتشريعات اإلدارية والقضائية والعسكرية (‪.)2‬‬

‫وك انت الطبقة البرجوازية الناش ئة فى الم دن اإلقليمية تع اني من س يطرة‬


‫اإلقط اع‪ ،‬ليس فحسب على األراضي الزراعية المحيطة به ذه المراكز اآلهلة‬
‫بالس كان‪ ،‬وإ نما أيضا على أج زاء هامة من مس احاتها العمراني ة‪ ،‬وهو األمر ال ذي‬
‫دفع ه ذه الفئة من التج ار واألعي ان من أص حاب المناصب البلدية إلى مقايضة‬
‫النظ ام الملكي على تحرير الم دن التجارية الهامة مقابل ِهب ات مالية ض خمة‪،‬‬
‫تساعده على تقوية الحكم المركزي وتدعيم الوضع المادي للخزانة‪ ،‬وهو ما يتيح‬

‫‪ )1(1‬محمد علي الك ردي‪ :‬من الحداثة إلى العولم ة‪ ،‬ط‪( 1‬اإلس كندرية‪ :‬الملتقى المص ري لإلب داع‬
‫والتنمية‪ )2001 ،‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ )2(2‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪103‬‬

‫له تج ييش الجي وش ودفع مرتب ات موظفيه والوق وف أم ام العص يان المحلي‬
‫واالعتداءات الخارجية على البالد (‪.)1‬‬

‫وه ذا ما دعا "الس كي" للق ول‪ :‬ب أن ه ذه البرجوازية الس اعية نحو الق وة‪ ،‬قد‬
‫هدمت فى سبيل سعيها نحو القوة الحواجز التي كانت تجعل االمتياز مترتبا على‬
‫المركز االجتم اعي‪ ،‬وك انت تربط فك رة الحق وق بحي ازة األرض‪ .‬وقد أح دثت‬
‫أيضا تغييرا أساسيا فى العالقات القانونية بين الناس لتصل إلى غايتها‪ ،‬فح ّل العقد‬
‫محل المركز االجتماعي كأساس قانوني للمجتمع‪ .‬وبعد أن كانت األرستقراطية –‬
‫ال تي تق وم س لطتها على حي ازة األرض هي ال تي تتحكم فى السياسة – ش اركها‬
‫رجال يستمدون نفوذهم من رأس المال المنقول وحده‪ ،‬فرجل المصرف والتاجر‬
‫وص احب المص نع ب دأوا يحل ون محل مالك األرض ورجل ال دين والقائد كنم اذج‬
‫للنفوذ االجتماعي السائد (‪.)2‬‬

‫ولقد لعب ه ذا التح الف ال ذي فرض ته الظ روف التاريخية الموض وعية‬
‫والمص الح االقتص ادية والوطنية المش تركة‪ ،‬لعب دورا كب يرا في تأس يس الدولة‬
‫القومية الحديثة فى أخري ات الق رن الخ امس عش ر‪ ،‬وفى تحقيق ه دفين كانا بمثابة‬
‫الشرط األساسي لقيامها‪ ،‬والغاية التاريخية الحتمية التي كان ال مناص من انتهائها‬
‫إليه ا‪ .‬واله دف األول هو االرتب اط العض وي بين وظيفة النظ ام الملكي‪ ،‬ال ذي نشأ‬
‫على أثر تفتت وتص دع اإلمبراطورية الروماني ة‪ ،‬وبين قيام مفهوم األمة ‪Nation‬‬
‫ذات البعد التاريخي واللغوي والمرتبطة بانبثاق الوعي القومي‪.‬‬

‫أما الهدف الثاني‪ ،‬فهو ضرورة تحرير السوق المحلية من سيطرة اإلقطاع‬
‫كطبقة اس تهالكية مب ددة لل ثروات اإلقليمي ة‪ ،‬والتح ول إلى الس وق الوطنية ال تي‬
‫تلتقي عبرها مصالح الطبقات البرجوازية الصاعدة مع المصالح القومية‪ .‬ويشمل‬

‫‪ )1(1‬محمد علي الكردي‪ :‬من الحداثة إلى العولمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪ )2(2‬هارولد السكي‪ :‬نشأة التحررية األوروبية‪ ،‬ترجمة عبد الرحمن صدقي (القاهرة‪ :‬مكتبة مصر‪،‬‬
‫د‪.‬ت) ص‪.5 :‬‬
‫‪104‬‬

‫ك ذلك اله دف الث اني ض رورة تأكيد الحري ات اإلقليمية وحرية االنتق ال وحرية‬
‫األش خاص والتج ارة والتمل ك‪ ،‬وذلك ما تتم يز به ه ذه القيم‪ ،‬بج انب خصوص يتها‬
‫الطبقي ة‪ ،‬من س مات إنس انية يس هل تعميمها فى إط ار تصور ش مولي للوطن كقوة‬
‫قومية ولغوية ودينية متجانس ة‪ .‬وثمة تالزم وثي ق‪ ،‬ليس فقط بين نمو العقلية أو‬
‫األيديولوجية البرجوازية ومبدأ قيام السوق الوطنية‪ ،‬وإ نما أيضا بينها وبين البحث‬
‫عن صيغ قانونية تتالءم مع عملية التوحيد اإلقليمي الذي حققته تاريخيا‪ ،‬وإ ن على‬
‫ف ترات تاريخية متباع دة‪ ،‬النظم الملكية المنبثقة عن تفتت اإلمبراطورية الرومانية‬
‫منذ أواخر القرن الخامس الميالدي وبداية تشكل الدول األوروبية المقبلة (‪.)1‬‬

‫ولقد س اهمت حركة اإلص الح ال ديني ‪ Reformation‬فى زي ادة س لطة‬


‫الملكي ات ودعمه ا‪ ،‬حيث أيقن رج االت اإلص الح أن الكنيسة غ ير ق ادرة على‬
‫تحقيق اإلص الح من داخله ا‪ ،‬وأنه لن يك ون ثمة إص الح ن اجح دون االس تعانة‬
‫بالحك ام الزمن يين‪ .‬لقد اكتشف م ارتن ل وثر )‪Martin Luther (1483 - 1546‬‬
‫فى وقت مبكر أن نج اح اإلص الح فى ألمانيا ك ان يتوقف على نيل مس اعدة‬
‫األم راء‪ .‬وفى إنجل ترا تحقق اإلص الح عن طريق س لطة ه نري الث امن ش به‬
‫المطلق ة‪ ،‬وك انت النتيجة المباش رة ل ذلك مزي دا من الق وة للس لطة الملكي ة‪ .‬وفى‬
‫أوروبا بوجه ع ام‪ ،‬ك ان الملك هو النقطة الواح دة ال تي يمكن أن تتجمع حولها‬
‫الوحدة الوطنية (‪.)2‬‬

‫وفى ظل ه ذه الظ روف ال تي ش هدت ث ورات على ص عيد الفكر ال ديني‬


‫(كالفن – مارتن لوثر) أو على صعيد العلم (كوبرنيك – جاليليو) كان قيام الثورة‬
‫جس دت وتوجت نضاال‬
‫الفرنسية ‪ 1789‬حدثا تاريخيا بحق؛ فهي من ناحية أولى ّ‬
‫ط ويال ضد س ياق التخلف والجم ود‪ .‬ومن ناحية ثانية اعت برت نقلة موض وعية‬

‫‪ )1(1‬محمد علي الكردي‪ :‬من الحداثة إلى العولمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.13 – 12 :‬‬
‫‪ )1(2‬ج ورج س باين‪ :‬تط ور الفكر السياس ي‪ ،‬ترجمة راشد ال براوي‪ ،‬جـ‪( 3‬الق اهرة‪ :‬الهيئة المص رية‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬د‪.‬ت) ص‪.57 :‬‬
‫‪105‬‬

‫خطيرة تهدد عروش األمراء ونفوذ اإلقطاعيين الذين سارعوا بعقد حلف مقدس‬
‫لص دها‪ .‬وهي تمثل أمال ألص حاب المظ الم وللق وى االقتص ادية الص اعدة ال تي‬
‫أعاقها النمط التقلي دي عن النمو والتعب ير السياسي عن مص الحها(‪ .)1‬ولقد انعكس‬
‫أثر ه ذه التح والت فى البينة السياس ية للدولة والب نى االقتص ادية واالجتماعية‬
‫للتجمع ات اإلثنية المكونة لش عوبها‪ ،‬ليس فقط على عملية إع ادة توظيف ال دين‪،‬‬
‫ال ذي ك ان يمثل الرؤية األيديولوجية الس ائدة لمجتمع ات العص ور الوس طى‪ ،‬وإ نما‬
‫انعكست أيضا على تش كيل المف اهيم الفكرية واألدبية والفنية المواكبة لقي ام الع الم‬
‫الح ديث‪ .‬ذلك أن ال دين ك ان يش كل – فى العص ور الوس طى – القاع دة األساس ية‬
‫لنظ رة األمم المس يحية إلى الك ون والحي اة‪ .‬إال أن ه ذه الش مولية الدينية أخ ذت فى‬
‫التفكك التدريجي مع بدايات العصور الحديثة (‪.)2‬‬

‫وعلى الص عيد الفك ري‪ ،‬فإنه يمكن الت أريخ لبداية الحداثة بأعم ال كل من‬
‫بيك ون )‪ Francis Bacon (1561 - 1626‬وديك ارت ‪Rene Descartes ‬‬
‫)‪ ،(1596 - 1650‬حيث يمكن تلمس مع الم الحداثة فى األورج انون الجديد لـ‬
‫"بيك ون" ومق ال فى المنهج لـ "ديك ارت" (‪ . )3‬ويمكن اعتب ار أن أك ثر مس تويات‬
‫الحداثة بطئا هي الحداثة الفكري ة‪ .‬لقد ابت دأت الحداثة الفكرية ب اإلحالل الت دريجي‬
‫لمب دأ معقولية جديد فى مي دان الطبيع ة‪ ،‬حيث أدى التط ور الت دريجي للفيزي اء إلى‬
‫إب راز ميكانيكية الطبيعة وإ لى الكشف عن الق وانين المختلفة ال تي تخضع لها من‬
‫دون إض افة‪ ،‬ثم أخذ ه ذا المب دأ يرتسم فى مج ال اإلنس انيات‪ .‬وما يس مى بث ورة‬
‫العلوم اإلنسانية أو االجتماعية ليس إال إدخاال لمبدأ الحتمية إلى الميدان اإلنساني‬
‫لفهم المجتمع والفرد والتاريخ فى ضوئه (‪.)4‬‬

‫‪ )2(1‬ك ريم خميس‪ :‬م أزق الحداث ة‪ ،‬نظ رة أولي ة‪ ،‬بحث فى كت اب الحداثة وما بعد الحداث ة‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص‪.114 :‬‬
‫‪ )3(2‬محمد علي الكردي‪ :‬من الحداثة إلى العولمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14 – 13 :‬‬
‫‪(1) Krishan Kumar: From Post-Industrial to Post-Modern society, op. cit, P: 99.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ )2(4‬محمد سبيال‪ :‬مدارات الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.128 :‬‬


‫‪106‬‬

‫‪ -3‬األسس الفلسفية للحداثة‪:‬‬


‫أ‪ -‬النزعة اإلنسانية‪:‬‬

‫لم تكن كلمة "هيوم انزم" ‪ Humanism‬معروفة ال للق دماء وال لعصر‬
‫النهض ة‪ ،‬وإ نما ص اغها المفكر األلم اني "نيث امر" ‪ F. J. Nietjammer‬أثن اء‬
‫مجادلة ح ول مكانة الدراس ات الكالس يكية فى التعليم الث انوي‪ ،‬أما من طبقها على‬
‫عصر النهضة‪ ،‬فقد كان المؤرخان بروك هاردت‪ Bruch Hardt‬وفويجت ‪G.‬‬
‫‪ Voigt‬فى كتاب "إحياء الكالسيكيات القديمة أو القرن األول للهيومانزم" ‪1859‬‬
‫(‪.)1‬‬

‫وتع ني النزعة اإلنس انية مركزية ال ذات ومرجعيته ا‪ ،‬فهي كل نظرية أو‬
‫فلس فة تتخذ من اإلنس ان مح ورا لتفكيرها وغايتها وقيمها العلي ا‪ ،‬أو بمع نى آخ ر‪،‬‬
‫فهي كل فلس فة تخص اإلنس ان بمكانة ممت ازة فى ه ذا الع الم‪ ،‬وتع زو إليه الق درة‬
‫على المبادرة الحرة واإلبداع‪ ،‬وتعتبره متجليا بالوعي وباإلرادة؛ وبالتالي مسئوال‬
‫(‪)2‬‬
‫عن أفعاله وعن تحرره ‪ .‬ويعرفها هايدجر)‪M. Heidegger (1889 – 1976‬‬
‫بأنها تص ور خ اص عن ماهية اإلنس ان‪ ،‬لم ينشأ إال فى أحض ان الفلس فة الحديث ة‪،‬‬
‫ويتح دد ميالده بالعصر ال ذي أص بح فيه اإلنس ان ذاتا ‪ Subject‬اعت برت هي‬
‫األساس والمركز‪ .‬وتعد لحظة الفلسفة الديكارتية (القرن السابع عشر) بداية فعلية‬
‫لحلول عهد اإلنسان (‪.)3‬‬

‫لذا يمكن القول أن مفهوم الذاتية ‪ Subjective‬هو أول المفاهيم التي شكلت‬
‫قاعدة الحداثة فى الحقل الفلسفي‪ .‬يقول "فيتو"‪" :‬الحداثة هي أولوية الذات‪ ،‬انتصار‬

‫‪ )3(1‬ع اطف أحمد (مح رراً)‪ :‬النزعة اإلنس انية فى الفكر الع ربي‪ ،‬دراس ات فى النزعة اإلنس انية فى‬
‫الفكر العربي الوسيط (القاهرة‪ :‬مركز القاهرة لدراسات حقوق اإلنسان‪ )1999 ،‬ص‪.11 :‬‬
‫‪ )1(2‬عبد الرازق الداوي‪ :‬موت اإلنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‬
‫للطباعة والنشر‪ )1992 ،‬ص‪.191 :‬‬
‫‪ )2(3‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.43 :‬‬
‫‪107‬‬

‫ال ذات‪ ،‬ورؤية ذاتية للع الم"‪ ،‬ومع نى ذلك أن إنس ان العصر الح ديث أض حى ي رى‬
‫نفسه ك ذات مس تقلة‪ ،‬ذاته هي عالمة على ص احبها وبي ان لحامله ا‪ ،‬إنية ال تكتفي‬
‫ب أن تعلن عما يميزها عن الطبيع ة‪ ،‬بل ت روض ه ذا الع الم وتغ زوه لكي تجعل ه‪،‬‬
‫بمختلف كائناته ومس تويات إدراك ه‪ُ ،‬مقاسا بالمقي اس اإلنس اني (‪ .)1‬ول ذا أص بحت‬
‫مركزية اإلنس ان هي الس مة األساس ية الهتمام ات اإلنس انيين فى عصر النهض ة‪،‬‬
‫وهي ال تي جعلت موض وعات كتاب اتهم ت دور فى فض اء جديد يع بر عن رؤية‬
‫مختلفة وعن حس مختلف للحياة (‪.)2‬‬

‫ويش ير مص طلح النزعة اإلنس انية إلى معن يين‪ :‬أح دهما ت اريخي‪ ،‬واآلخر‬
‫م ذهبي‪ ،‬فهو عند ييجر وأتب اع مدرس ته ال ذين يكون ون النزعة اإلنس انية ال تي‬
‫ظهرت فى أوروبا من القرن الرابع عشر حتى السادس عشر ذو معنى تاريخي‪،‬‬
‫وذلك بإحي اء ال تراث اليون اني من جديد ومعان اة تجربة حية عن طريق ه‪ ،‬وهو ما‬
‫يتم بتمثله ونقله من الماضي إلى التط بيق على الحاض ر‪ .‬أما المع نى الم ذهبي‪،‬‬
‫فيمثله أنص ار الم ذهب الوج ودي‪ ،‬وتختلف النزعة اإلنس انية ل ديهم عن أص حاب‬
‫المعنى التاريخي؛ ألنه ال يعتمد على تجربة روحية تاريخية‪ ،‬بل على مذهب قائم‬
‫برأسه فى فهم الوج ود على أس اس أن مركز المنظ ور فيه هو اإلنس ان‪ ،‬وأن‬
‫الوجود الحق أو الوحيد هو الوجود اإلنساني(‪.)3‬‬

‫لقد كان مشروع اإلنسانية موجها للتحرر من أسر عالم العصور الوسطى‬
‫وقي وده وخرافات ه‪ ،‬دفاعا عن حق اإلنس ان فى أن يمتلك الحرية لتحديد مش روع‬
‫حياته بطريقة مستقلة‪ .‬ذلك أن الدين المسيحي – إبان العصور الوسطى – غرس‬

‫‪ )3(1‬محمد الشيخ وياسر الطائري‪ :‬مقارب ات فى الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬ح وارات منتق اة من الفكر‬
‫األلماني المعاصر‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت‪ :‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ )1996 ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪ )4(2‬عاطف أحمد‪ :‬النزعة اإلنسانية فى الفكر العربي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.13 – 12 :‬‬
‫‪ )1(3‬عبد ال رحمن ب دوي‪ :‬اإلنس انية والوجودية فى الفكر الع ربي (ب يروت‪ :‬دار القلم‪ )1982 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.16 – 15‬‬
‫‪108‬‬

‫فى العقول جميعا نزعة زهدية تحيل إلى اعتبار إنكار الذات مثال أعلى‪ ،‬يجب أن‬
‫ُيتخذ أساسا لكل كم ال شخصي واجتم اعي‪ ،‬بحيث لم يبق متسع لتحس ين النظم‬
‫واألح وال السياس ية واالجتماعية واألخالقي ة‪ .‬وك انت الكنيسة والنظ ام‬
‫اإلم براطوري واإلقط اع يتبن ون نظ رة للبن اء الك وني‪ ،‬يس تتبعها نظ ام من القيم‬
‫والمعتق دات والع ادات والس لوكيات‪ ،‬يت وجب على الجميع إتباعه ا‪ .‬وك ان الش غل‬
‫الش اغل للفلس فة المدرسية هو المق والت المنطقية والتس اؤالت الميتافيزيقي ة‪ ،‬حيث‬
‫تم يزت باس تدالالتها العقلية المج ردة البعي دة تماما عن الحي اة اإلنس انية العادي ة‪،‬‬
‫فك انت مس تعدة دائما لتق ديم إجاب ات عن مس ائل‪ ،‬ح تى لو ك انت إجاباتها غ ير‬
‫صحيحة‪ ،‬فلن تسهم بأي صورة من الصور فى إثراء معرفتنا بحياتنا‪ ،‬بينما كانت‬
‫ال مبالية بالمسائل الحيوية مثل طبيعة اإلنسان وهدف حياته ومصيره (‪.)1‬‬

‫إال أن هايدجر يؤكد على أنه لم تحدث قطيعة مطلقة بين فكر الحداثة وفكر‬
‫العص ور الوس طى‪ ،‬بل ك ان ثمة تع الق بينهم ا‪ ،‬ف إن ك انت الحداثة ح اولت ن زع‬
‫الطابع الالهوتي عن تعريف اإلنسان‪ ،‬فإنه يحق القول‪ ،‬من هذه الجهة ذاتها‪ ،‬أنها‬
‫حافظت على مبدأ "التعالي" الالهوتي‪ ،‬وإ ن عوضت السعي إلى الجنة بالسعي إلى‬
‫تحقيق السعادة الدنيوية أو غيرها‪ .‬وقصاراها أنها استعاضت عن السعادة الدنيوية‬
‫بالديني ة‪ ،‬وعن الرب اط االجتم اعي ب األخوة الديني ة‪ ،‬فك انت ب ذلك ض ربا من علمنة‬
‫المس يحية ش كال واالحتف اظ بها ج وهراً؛ مثلما استعاضت بالك ائن "المنتج" عن‬
‫الكائن "المخلوق"‪ ،‬فأحلت بذلك اإلنسان الحديث محل اإلله وأنزلته منزلته (‪.)2‬‬

‫ب‪ -‬العقالنية‪:‬‬

‫يعت بر مب دأ العقالنية ‪ Rationality‬هو الرك يزة الثانية من رك ائز الحداث ة‪،‬‬


‫والتي تقوم باألساس على مبدأ الذاتية الذي جعل اإلنسان ذاتا لها وجودها المتيقن‪،‬‬

‫‪ )2(1‬عاطف أحمد‪ :‬النزعة اإلنسانية فى الفكر العربي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.12-11 :‬‬
‫‪ )1(2‬محمد الش يخ‪ :‬نقد الحداثة فى فكر هاي دجر‪ ،‬ط‪( 1‬ب يروت‪ :‬الش بكة العربية لألبح اث والنش ر‪،‬‬
‫‪ )2008‬ص‪.382-381 :‬‬
‫‪109‬‬

‫مس تقال ب ذلك عن سلس لة التبعي ات القروس طية‪ ،‬فقد غ دا اإلنس ان الموض وع‬
‫المركزي للتفكر‪ ،‬وكانت هذه خطوة نحو إحالل سيادة العقل اإلنساني محل سيادة‬
‫اهلل (‪.)1‬‬

‫والعقالنية هي إخض اع كل ش يء لحاكمية العق ل‪ ،‬مما ي ترتب عليه تنظيم‬


‫وض بط الحي اة االجتماعية واالقتص ادية والفكرية ض بطا عقالني اً‪ ،‬ال ف رق فى ذلك‬
‫بين شأن ديني أو دنيوي (‪ .)2‬ويعرف برينتون الحركة العقالنية بأنها مجموعة من‬
‫األفك ار ال تي تفضي إلى االعتق اد ب أن الك ون يعمل على نحو ما يعمل العقل حين‬
‫يفكر بص ورة منطقية وموض وعية؛ وله ذا ف إن اإلنس ان يمكنه فى نهاية األمر أن‬
‫يفهم كل ما ي دخل خبرته مثلما يفهم مش كلة رياض ية أو ميكانيكية بس يطة‪ .‬وت نزع‬
‫العقالنية إلى إس قاط كل ما هو خ ارق للطبيعة أو غي بي من الك ون‪ ،‬وأبقت فقط‬
‫على الط بيعي‪ ،‬ال ذي ي ؤمن المفكر العقالني أنه قابل للفهم فى النهاي ة‪ ،‬وأن س بيلنا‬
‫إلى فهمه فى الغ الب األعم الوس ائل ال تي يعرفها أكثرنا باسم من اهج البحث العلمي‬
‫(‪.)3‬‬

‫لكن يجب اإلشارة إلى ما يقصده الحداثيون بالعقل ‪ ،Mind‬حيث يشيرون‬


‫إلى العقل فى حدود معطيات االستقراء واالختبار والتجربة‪ ،‬وليس العقل بالمعنى‬
‫الت أملي التجري دي‪ ،‬فالحداثة تتم يز بتط وير طرائق وأس اليب جدي دة فى المعرف ة‪،‬‬
‫قوامها االنتق ال الت دريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقني ة‪ .‬والمعرفة‬
‫التقنية هي نمط من المعرفة ق ائم على إعم ال العقل بمعن اه الحس ابي‪ ،‬أي معرفة‬
‫عمادها المالحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتحكيم (‪.)4‬‬

‫‪(2) John Scott: Social Theory, Central Issues in Sociology (London: SAGE‬‬
‫‪1‬‬

‫‪Publications L.T.D, 2006) P: 187.‬‬


‫‪ )3(2‬انظر في ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬طه عبد الرحمن‪ :‬روح الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.27-26 :‬‬
‫‪ -‬آالن تورين‪ :‬نقد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪ -‬محمد سبيال‪ :‬الحداثة وما بعد الحداثة (الدار البيضاء‪ :‬دار توبقال للنشر‪ )2000 ،‬ص‪.26 :‬‬
‫‪ )1(3‬كرين برينتون‪ :‬تشكيل العقل الحديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71-70 :‬‬
‫‪ )2(4‬محمد سبيال‪ :‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.9 :‬‬
‫‪110‬‬

‫ترجع جذور العقالنية إلى القرن السادس عشر‪ ،‬حيث دعا رينيه ديكارت‬
‫)‪ René Descartes ( 1596 – 1650‬إلتاحة الفرصة أمام العقل لكي يعمل فى‬
‫بعض المس احات المعرفي ة‪ ،‬بيد أن إيمانويل كانط ‪Immanuel Kant (1724 -‬‬
‫)‪ 1804‬يعت بر بحق رائد ث ورة العقالنية من خالل إعالنه المش هور فى كت اب "نقد‬
‫العقل الخالص" عن إيمانه بوجود فواصل ما بين الطبيعة وما وراءها‪ ،‬مش يرا إلى‬
‫إمكانية إخض اع األولى للعقل العلمي (‪ .)1‬وي رى كانط أن العقل هو الملكة ال تي‬
‫تمدنا بمبادئ المعرفة‪ ،‬وأنه ال يبحث فى طبيعة األشياء الخارجية‪ ،‬وإ نما هو الذي‬
‫يش رع لها (‪ ،)2‬ج اعال من العقل المحكمة العليا ال تي يجب أن َي ْمثل أمامه ا‪ ،‬بش كل‬
‫عام‪ ،‬ما يدعي مصداقية ما ليبرر إدعاءه (‪.)3‬‬

‫ويصف الح داثيون دع وة كانط بأنها تح ول فلس في أدى إلى تحرير العقل‬
‫الغ ربي من هيمنة الاله وت ‪ ،Theology‬وأدت إلى ميالد فلس فة علمية تهيمن‬
‫على الق رن التاسع عشر وب دايات الق رن العش رين‪ .‬كما ي رى الح داثيون أن‬
‫أهلته‬
‫الب نى القائمة حتّمت ص عود العقل وهيمنته بدرجة ّ‬
‫التغ يرات ال تي ط الت ُ‬
‫ليلعب دور المب ادر فى تط وير ع دد مهم من النظري ات والمف اهيم‪ ،‬حيث ظه رت‬
‫مف اهيم تتعلق بعقلنة التنظيم المجتمعي‪ .‬واقتحم العقل س احة المف اهيم القديمة‬
‫كالعدل والمساواة والديمقراطية ليعيد بناءها مجددا (‪.)4‬‬

‫واس تمر س عي العقل فى تحرير نفسه من كافة أش كال االس تالب ال تي‬
‫حرمته من العمل اإليجابي لعصور طويلة‪ ،‬األمر الذي أدى إلى ظهور العديد من‬
‫العلم اء الطبيع يين ال ذين أسس وا كث يرا من النظري ات المعروفة اآلن بالكالس يكية‪،‬‬
‫‪ )3(1‬الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة)‪ ،‬ص‪.116 :‬‬
‫‪ )1(2‬عطيات أبو السعود‪ :‬الحصاد الفلسفي للقرن العشرين (اإلسكندرية‪ :‬منشأة المعارف‪)2002 ،‬‬
‫ص‪.62 :‬‬
‫‪ )2(3‬هابرماس‪ :‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ترجمة فاطمة الجيوشي (دمشق‪ :‬منشورات وزارة الثقافة‪،‬‬
‫‪ )1995‬ص‪.33 :‬‬
‫‪ )3(4‬الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة)‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص‪.116 :‬‬
‫‪111‬‬

‫كما ظهر فى اإلط ار ذاته ل وك وهيجل وم اركس وآخ رون من علم اء االجتم اع‬
‫والمفكرين‪ ،‬والذين اتفقوا ‪ -‬برغم اختالفهم الذي يصل فى بعض الحاالت لدرجة‬
‫التناقض – على ضرورة إعطاء العقل حقه فى وضع تصوره عن الحياة والكون‪.‬‬
‫وبانتص ار ه ذا االتج اه أص بح العقل هو الحكم الوحيد على ص حة األش ياء‪ ،‬بحيث‬
‫تمت مرادفة السالمة اإلدراكية والتفسيرية لألشياء بالمعقولية؛ على أساس أن هذه‬
‫األخ يرة تطلق على ما يتفق وقواعد العق ل‪ .‬ونظ را له ذه المكانة العليا ال تي احتلها‬
‫العقل فى الخط اب الح داثي‪ ،‬فقد أص بح اإلنس ان "حامل العق ل" فى مواجهة مع‬
‫الطبيعة‪ ،‬دون حاجة إلى ما وراءها (‪.)1‬‬

‫جـ‪ -‬التقدم‪:‬‬

‫تع ني فك رة التق دم ‪ Progress‬أن الحض ارة قد تح ركت فى الماض ي‪،‬‬


‫وتتحرك اآلن‪ ،‬وسوف تتحرك مستقبال صوب اتجاه مرغوب فيه‪ .‬وقد غلب على‬
‫ظن الكث يرين أن النتيجة المرج وة من التق دم البش ري هي الحالة ال تي ينعم فيها‬
‫سكان كوكب األرض بالحياة الهانئة (‪ .)2‬وبمعنى آخر‪ ،‬فإن عقيدة التقدم تعني أن‬
‫البشرية تتقدم نحو الكمال‪ ،‬الذي كانت تقوم به دائما‪ ،‬وسوف تستمر فى ذلك‪ .‬فال‬
‫يكفي أن نتص ور أن الحض ارة ‪ Civilization‬قد تق دمت فى الماض ي‪ ،‬بل من‬
‫الضروري أن نؤمن بأن الحضارة يجب أن تمضي قدما فى سبيل تقدمها (‪.)3‬‬

‫ومن الواضح أن الع الم الق ديم لم تكن لديه أية فك رة عن التق دم‪ ،‬فاليون ان‬
‫والروم ان ك انوا يعتق دون أن العصر ال ذهبي قد حصل فى الماضي ثم انحط‬
‫اإلنسان بعده‪ ،‬ولم يكن بوسع القرون الوسطى بالطبع أن تحمل مثل هذه الفكرة(‪،)4‬‬
‫حيث كانت النظرية المسيحية التي نادى بها آباء الكنيسة‪ ،‬وعلى وجه الخصوص‬

‫‪ )1(1‬الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة)‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص‪.117-116 :‬‬


‫‪2‬‬
‫)‪(2) J. B. Bury: The Idea of Progress (London: Macmillan and Co, Limited, 1920‬‬
‫‪P: 2.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪(3) Robert Shafer: Progress and Science. Essays in Criticism (London: Yale‬‬
‫‪University Press, 1923) P: 2.‬‬
‫‪112‬‬

‫الق ديس أوغس طين‪ ،‬ك انت تعت بر أن حركة الت اريخ بأكملها ته دف باألس اس إلى‬
‫ت أمين الس عادة لع دد مح دود من الجنس البش ري فى الع الم اآلخ ر‪ ،‬ولم تُس لّم ب أي‬
‫تطور إضافي للتاريخ البشري على األرض (‪.)1‬‬

‫ولم تظهر فك رة التق دم فى عصر النهضة – رغم تحقيقه إلنج ازات عدي دة‬
‫– ألنه لم يتص ور إمك ان ارتف اع اإلنس ان ثانية إلى مس توى العص ور القديمة‬
‫المجي دة‪ ،‬إذ إن جميع أفكارها تتجه ص وب الماض ي‪ .‬ولم يج رؤ الن اس على مثل‬
‫ه ذا الطم وح ال ذي ال يع رف ح دا إال بعد نمو العلم فى الق رن الس ابع عشر (‪ .)2‬إال‬
‫أن البعض ي رى أنه رغم ع دم ب روز فك رة التق دم جلية فى عصر النهض ة‪ ،‬ف إن‬
‫فرنس يس بيك ون قد وضع األسس ال تي ق امت عليه ا‪ ،‬لكن م ذهب التق دم لم يتم‬
‫التعبير عنه بشكل محدد قبل بلوغ القرن السابع عشر‪ ،‬وظلت الفكرة حتى بدايات‬
‫القرن الثامن عشر حكرا على عدد بسيط‪ ،‬وإ ن كانت قد اكتسبت أهمية وقوة خالل‬
‫الق رن الث امن عش ر‪ ،‬لكنها لم تتح ول إلى عقي دة ش عبية قبل حل ول الق رن التاسع‬
‫عشر بعد أن دعمتها نتائج العلم الحديث (‪.)3‬‬

‫وتجس دت فك رة التق دم على ي دي كوندورس يه ‪- ١٧٤٣( Condorcet‬‬


‫‪ )١٧٩٤‬في كتابه "تق دم العقل البش ري" ال ذي يع رض فيه تفس يرا ك امال للمراحل‬
‫داء من الحي اة البربرية إلى حافة مرحلة‬
‫العشر ال تي انتقلت البش رية عبره ا‪ ،‬ابت ً‬
‫الكم ال على األرض‪ .‬وك ان التفس ير المفضل عند المثقفين فى الق رن الث امن عشر‬
‫يس ر للبشر‬
‫هو أن التق دم مرجعه إلى انتش ار العقل وذي وع التن وير ب اطراد‪ ،‬مما ّ‬
‫التحكم فى بيئتهم على نحو أفضل (‪.)4‬‬
‫‪ )4(4‬جون هرمان راندال‪ :‬تكوين العقل الحديث‪ ،‬ترجمة جورج طعمة‪ ،‬جـ‪( 1‬بيروت‪ :‬دار الثقافة‪،‬‬
‫د‪ .‬ت) ص‪ .548 :‬وانظر فى ذلك أيضاً‪:‬‬
‫‪- W. R. Inge: The Idea of Progress (Oxford: Clarndon Press, 1920) P: 3.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪(1) J. B. Bury: The Idea of Progress, op. cit, P: 21.‬‬
‫‪ )2(2‬جون هرمان راندال‪ :‬تكوين العقل الحديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.548 :‬‬
‫‪(3) Robert Shafer: Progress and Science, op. cit, P: 2.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ )4(4‬كرين برينتون‪ :‬تشكيل العقل الحديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.126-125 :‬‬


‫‪113‬‬

‫وال شك أن انبث اق نظرية التق دم خالل الق رن الث امن عشر قد ارتبط ب روح‬
‫التف اؤل ال تي أوج دتها الكش وف العلمية المختلف ة‪ ،‬وانتص ار النزعة العقالني ة‪،‬‬
‫واتساع مجال الكفاح فى سبيل الحريات السياسية والدينية‪ ،‬وبتراجع فكرة القوانين‬
‫الطبيعية الثابتة‪ .‬فبهذه الروح المتفائلة ازداد وعي إنسان القرن الثامن عشر بذاته‬
‫كذات صانعة للتاريخ‪ ،‬وأنه يمثل أعلى مراحل تطور التاريخ البشري‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬ما بعد الحداثة‪:‬‬

‫ظه رت "ما بعد الحداث ة" ‪ Post-modernity‬ك رد فعل على إعالن فشل‬
‫المش روع الح داثي فى أن يحقق الطموح ات ال تي أطلقها خالل ع دة ق رون – هي‬
‫عم ره – س واء فى ال داخل األوروبي ال ذي اكت وى بن يران الح ربين الع الميتين‬
‫األولى والثاني ة‪ ،‬أو الخ ارج الع المي ال ذي خسر اس تقالله على م ذبح المش روع‬
‫الحداثي‪ ،‬الذي تم تصديره للعالم تحت رايات رسالة الرجل األبيض التنويرية‪ .‬ل ذا‬
‫سيحاول الباحث التعرض لـ "ما بعد الحداثة" ومشروعها – إن جاز استخدام لفظة‬
‫مشروع معها – لعرض حالة التعالق بينها وبين العولمة؛ بهدف بحث أيديولوجية‬
‫الغرب الجديدة تحت أردية النهايات والمابعديات‪.‬‬

‫‪ -1‬مفهوم ما بعد الحداثة‪:‬‬

‫يقول "مطاع صفدي"‪ ،‬وهو بصدد تعرضه لمفهوم "الحداثة" ‪Modernity‬‬


‫إنها مفه وم متم رد على "المفهمة (‪ ،)1‬ويب دو أن التم رد على المفهمة يص دق على‬
‫"ما بعد الحداث ة" ‪ Post-Modernity‬أك ثر من ص دقه على الحداثة ذاته ا‪ ،‬ف إلى‬
‫جانب الصعوبات المنبثقة عن تعدد المجاالت التي يغطيها المفهوم‪ ،‬والتي أورثته‬
‫رؤى متعددة يصعب حصرها أو إخضاعها لمقاربة واحدة‪ ،‬إال أن األكثر إشكاالً‬
‫من ذلك فيما يتعلق بما بعد الحداث ة‪ ،‬هو الخ روج ما بعد الح داثي على التقاليد‬

‫‪ )1(1‬نقد العقل الغربي‪ ،‬الحداثة ما بعد الحداثة (بيروت‪ :‬دار اإلنماء القومي‪ )1990 ،‬ص‪.223 :‬‬
‫‪114‬‬

‫الراس خة لـ "المع نى"‪ ،‬فليس ثمة مع نى ث ابت س واء لما بعد الحداثة أو غيره ا‪ ،‬كما‬
‫سيأتي بيانه بعد ذلك‪ .‬لذا فإن محاولة تحديد مفهوم لما بعد الحداثة هو سباحة ضد‬
‫مق والت ما بعد الحداثة ذاته ا‪ .‬وي رى البعض أن مهمة تعريف ما بعد الحداثة‬
‫مس تحيلة‪ ،‬مؤك دين على أن ما بعد الحداثة ت رى أنه ال ينبغي القي ام بها على‬
‫اإلطالق (‪.)1‬‬

‫لكن قبل التط رق لمص طلح ما بعد الحداثة فى كليته التركيبي ة‪ ،‬البد من‬
‫اإلشارة إلى أنه ال ُيقصد بـ "ما بعد" ‪ Post‬أن ما بعد الحداثة تتبع الحداثة من حيث‬
‫ال زمن؛ حيث ال يقر الفكر ما بعد الح داثي به ذه الخطية الزمني ة‪ ،‬وال بغيرها من‬
‫أن واع الخطي ة‪ ،‬وال يض يره فى ش يء أن يلجأ إلى ما قبل الحداثة ُمنقّبا عما ي ؤازر‬
‫توجهاته ويعضد مواقفه (‪.)2‬‬

‫لقد طرح الفيلسوف اإليطالي جياني فاتيمو ‪- 1934( Gianni Vattimo‬‬


‫(‪)3‬‬
‫فى كتابه نهاية الحداثة ‪The End of Modernity‬‬ ‫؟) مصطلح ما بعد الحداثة‬
‫وق ام بتفس ير المص طلح من خالل تمحيص داللة المقطع األول من المص طلح‪ ،‬أي‬
‫"ما بع د" ‪ Post‬وهو تمحيص يتطلب ب دوره تعريف مفه وم الحداث ة‪ ،‬حيث ي رى‬
‫ف اتيمو الحداثة هي حالة وتوجه فك ري تس يطر عليهما فك رة رئيس ية فحواها أن‬
‫تاريخ تطور الفكر اإلنساني يمثل عملية استنارة مطردة‪ ،‬تتنامى وتسعى قدماً نحو‬
‫‪1‬‬
‫‪(1) Kenneth Allan: The Meaning of Culture: Moving the Postmodern Critique‬‬
‫‪forward (USA: Greenwood Publishing Group, 1998) P: 13.‬‬
‫‪ )2(2‬نبيل علي‪ :‬الثقافة العربية وعصر المعلومات‪ ،‬رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي (الكويت‪:‬‬
‫عالم المعرفة‪ ،‬عدد ‪ )2001 ،265‬ص‪.173-172 :‬‬
‫‪ )3(3‬تُ ترجم كلمة ‪ Post modernity‬و ‪ Postmodernism‬فى الغ الب إلى ما بعد الحداث ة‪ ،‬إال أن‬
‫‪ Post modernity‬تش ير إلى تي ار أو توجه فك ري ع ام ارتبط بف ترة تاريخية معينة وانعكس فى‬
‫نتاجها الفني والفكري‪ ،‬سواء وعاه المبدعون أم ال‪ .‬بينما يشير المصطلح الثاني ‪Postmodernism‬‬
‫واع لهذا التوجه وانتماء شبه مذهبي له‪ ،‬ولذا ُيضاف مقطع (‪ )Ism‬إلى الكلمة‪ .‬انظر فى‬
‫إلى إدراك ٍ‬
‫ذلك‪ :‬نك كاي‪ :‬ما بعد الحداثية والفنون األدائية‪ ،‬ترجمة نهاد صليحة‪ ،‬ط‪( 2‬القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية‬
‫العامة للكتاب‪ )1999 ،‬المقدمة‪ ،‬ص‪ :‬ج‪.‬‬
‫‪115‬‬

‫االمتالك الكامل والمتج دد (ع بر التفس ير وإ ع ادة التفس ير) ألسس الفكر وقواع ده‪.‬‬
‫وبه ذا المع نى‪ ،‬ف إن الحداثة تتم يز بخاص ية ال وعي بض رورة تج اوز تفاس ير‬
‫الماضي ومفاهيم ه‪ ،‬والس عي ال دائب نحو اس تمرار ه ذا التج اوز فى المس تقبل؛‬
‫وذلك لتحقيق اإلدراك المطرد باألسس الحقيقية والمتج ددة ال تي تبطن الممارسات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وتضفي الشرعية عليها‪ ،‬سواء فى مجاالت العلوم والفنون واألخالق‪،‬‬
‫أو غيرها من المجاالت الفكرية والعملية(‪.)1‬‬

‫إال أنه فى حالة تس ليمنا به ذا التعريف للحداث ة‪ ،‬ومحاولتنا تفس ير مص طلح‬


‫ما بعد الحداثة فى س ياقه‪ ،‬فس وف نجد أنفس نا إزاء مفارقة مح يرة‪ ،‬فمقطع "ما بع د"‬
‫يع ني "التج اوز"‪ ،‬تج اوز الماضي والس عي نحو المس تقبل‪ ،‬لكن "ما بعد الحداث ة"‬
‫حين تس عى إلى تج اوز "الحداث ة"‪ ،‬بمفهومها الس ابق ال ذي يع ني تج اوز الماضي‬
‫نحو المستقبل‪ ،‬فإنها تبدو وكأنها تعارض عملية التجاوز ذاتها‪ ،‬وتشير إلى هذا فى‬
‫مقطع "ما بع د"‪ ،‬أي أنها قد تع ني "تج اوز التج اوز"‪ .‬والحق أن اس تخدام مص طلح‬
‫"ما بعد الحداث ة" بمعن اه الح رفي للداللة على تج اوز الحداث ة‪ ،‬إنما يع ني فى نهاية‬
‫األمر ترس يخ مفه وم الحداثة ال ذي يس عى المص طلح الجديد (ما بعد الحداث ة) إلى‬
‫نفيه وتج اوزه‪ ،‬وي ترتب على ه ذا منطقي اً أن مص طلح ما بعد الحداثة (بمع نى‬
‫تجاوز الحداثة) كعملية "تجاوز" مستمر للماضي‪ ،‬إنما يطعن ‪ -‬فى حقيقة األمر –‬
‫فى مص داقية التوجه الح داثي نحو المس تقبل‪ ،‬وفى س عيه ال دائب والمتج دد إلع ادة‬
‫اكتشاف أسس الفكر والممارسة‪ .‬وتيار ما بعد الحداثة بهذا المعنى يمثل معارضة‬
‫لتي ار الحداث ة‪ ،‬وتش كيكاً فى ش رعية مش روعه ال ذي يس عى إلى إحالل الجديد‬
‫و"المشروع"‪ ،‬محل القديم المرفوض (‪ .)2‬ويرى "المسيري" أن ما بعد الحداثة هي‬

‫‪ )1(1‬نك كاي‪ :‬ما بعد الحداثية والفنون األدائية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ :‬ج – د‪.‬‬
‫‪ )2(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪ :‬د‪.‬‬
‫‪116‬‬

‫مص طلح نفي س لبي‪ ،‬فهي بعد شيء م ا‪ ،‬وليست ش يئاً فى حد ذات ه؛ ول ذا فهي تقف‬
‫خارج الزمان وال تشير إلى ذات أو إلى موضوع (‪.)1‬‬

‫وفى ه ذا الس ياق يس هل علينا إدراك عناصر القلق والت وتر ال تي تكتنف‬
‫مصطلح ما بعد الحداثة‪ ،‬فإذا كانت ما بعد الحداثة تعني التشكيك فى إيمان الحداثة‬
‫بوج ود أسس ش رعية‪ ،‬فإنها تجعل من الهج وم على الحداثة غايتها ونهاية مس عاها‬
‫ب دالً من أن تتخ ذه منطلق اً للس عي الحقيقي إلى تجاوزها بحث اً عن جدي د‪ .‬ومن ثم‬
‫يمكننا اعتب ار خط اب ما بعد الحداثة مج رد مح اوالت لتفكيك وكشف ادع اءات‬
‫"الش رعية" ال تي طرحتها الحداث ة‪ .‬ومن ه ذا المنظ ور‪ ،‬يتجلى مص طلح ما بعد‬
‫الحداثة كمفه وم م ركب‪ ،‬متع دد األوجه يتجلى فى ع دد من الظواهر المنوعة ال تي‬
‫يجمع بينها ه دف واح د‪ ،‬هو محاص رة وتخ ريب فرض يات الحداث ة‪ ،‬وما ينب ني‬
‫عليها من مواقف ونتاج ثقافي‪ .‬وإ ذا كان هذا هو الحال‪ ،‬فال يمكن القول بأن تيار‬
‫ما بعد الحداثة قد تح رر تمام اً من تي ار الحداث ة‪ ،‬فالحداثة هي األرض ال تي تقف‬
‫عليها ما بعد الحداثة وتش تبك معها فى ج دال ون زاع دائم‪ ،‬وهي األرض تمكنها‬
‫أيضاً من الدخول فى حوار وجدل مع نفسها(‪.)2‬‬

‫وم على نقد بل رفض‬ ‫وتمثل ما بعد الحداثة عند البعض حركة فكرية تق‬
‫األسس ال تي تركز عليها الحض ارة الغربية الحديث ة‪ ،‬كما ت رفض المس لمات ال تي‬
‫تقوم عليها هذه الحضارة‪ ،‬أو على األقل ترى الزمن قد تجاوزها وتخطاها‪ .‬ولذا‬
‫ي ذهب الكث يرون من مفك ري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من‬
‫الرأس مالية‪ ،‬فلقد انتهى ل ديهم عصر الحداث ة‪ ،‬وما بعد الحداثة ته يئ باعتبارها نق داً‬
‫ل ه‪ ،‬لقي ام مجتمع جديد يرتكز على أسس جدي دة غ ير تلك ال تي عرفها المجتمع‬
‫الغربي الحديث (‪.)3‬‬

‫‪ )1(1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬التحديث والحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.61 :‬‬


‫‪ )2(2‬نك كاي‪ :‬ما بعد الحداثية والفنون األدائية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ :‬هـ‪.‬‬
‫‪117‬‬

‫ويعرفها منظ رو ما بعد الحداثة على أنها مجم وع الظ روف والش روط‬
‫المختلفة والمتع ددة‪ ،‬ال تي تختلط فيها المظ اهر االجتماعية بالمظ اهر الثقافي ة‪ ،‬فال‬
‫يمكن التمي يز بين ما هو اجتم اعي وما هو ثق افي‪ ،‬فتتالشى المس افة بين النظرية‬
‫وموض وعها‪ ،‬ويتع ذر الفصل بين النظرية التأويلية والواقع االجتم اعي ال ذي‬
‫تح اول النظرية إدراكه وتوص يفه‪ .‬وله ذا ي رى منظ رو ما بعد الحداثة أن ج زءاً‬
‫كب يراً من مفه وم ما بعد الحداثة يعتمد على ص عوبة الفصل بين البنية المعرفية‬
‫وبين ما تس عى إلى دراس ته‪ ،‬كما أن موض وع المعرفة ي ؤثر ت أثيراً جوهري اً فى‬
‫أشكال المعرفة نفسها‪ ،‬مثلما يؤثر فى منهجيتها وينطلق منها (‪.)1‬‬

‫ويرى "تيري إيجلتون" أن كلمة "ما بعد الحداثة" ‪ Postmodernism‬تشير‬


‫إلى ن وع من الثقافة المعاص رة‪ ،‬بينما يش ير مص طلح "ما بعد التح ديث"‬
‫‪ Postmodernity‬إلى ف ترة تاريخية معين ة‪ .‬مؤك داً على أن فكر ما بعد التح ديث‬
‫هو أس لوب فك ري يتش كك فى المف اهيم التقليدية للحقيق ة‪ ،‬والعق ل‪ ،‬والهوي ة‪،‬‬
‫والموض وعية‪ ،‬وفى فك رة اتج اه الع الم نحو التق دم والتح رر‪ ،‬وفى مج االت العمل‬
‫ال تي ال خي ار س واها‪ ،‬وفى القصص الش مولي‪ ،‬أو فى التفس يرات النهائي ة‪ .‬وهو‬
‫يرى أن العالم على عكس أنماط التنوير هذه كشيء عرضي‪ ،‬وبال أساس ثابت‪،‬‬
‫ومتن وع‪ ،‬وغ ير مس تقر‪ ،‬وغ ير حتمي‪ ،‬فهو عب ارة عن مجموعة من الثقافة غ ير‬
‫الموح دة‪ ،‬أو التفس يرات ال تي يتولد عنها درج ات من التش كك فى موض وعية‬
‫الحقيقة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والمفاهيم‪ ،‬ومعطيات الطبيعة‪ ،‬وثبات الهويات(‪.)2‬‬

‫‪ )1(3‬أحمد عبد الحليم عطية‪ :‬ما بعد الحداثة والتفكيك‪ ،‬مقاالت فلسفية (القاهرة‪ :‬دار الثقافة العربية‪،‬‬
‫‪ )2008‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ )2(1‬ميج ان ال رويلي وس عد الب ازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬ط‪( 3‬ال دار البيض اء‪ :‬المركز الثق افي‬
‫العربي‪ )2002 ،‬ص‪.224 :‬‬
‫‪ )1(2‬ت يري إيجلت ون‪ :‬أوه ام ما بعد الحداث ة‪ ،‬ترجمة م نى س الم (الق اهرة‪ :‬أكاديمية الفن ون‪ ،‬سلس لة‬
‫دراسات نقدية‪ ،‬د‪ .‬ت) ص‪.7 :‬‬
‫‪118‬‬

‫فقد ج اءت مق والت ما بعد الحداثة لتقلب مق والت الحداثة وفرض ياتها‬
‫تمام ا‪ ،‬فليس ثمة ث ابت يحكم المتح ول‪ ،‬وليس ثمة عقل يفسر تفس يراً غ ير متح يز‬
‫أوجه النش اط الثق افي البش ري‪ ،‬كما ال وج ود لثقافة عالية نخبوية وأخ رى دونية‬
‫جماهيرية‪ ،‬بل كل ما هنالك هو تشكيل مستمر ال يمكن تبريره أو تفسيره باإلحالة‬
‫على أنم وذج متع ال‪ ،‬وإ نما يقبل التفس ير فقط من داخله مما يجعل التفس ير نفسه‬
‫محكوم اً بأش كال مادته الخاصة وليس نتيجة ث وابت ال تتح ول أو تتب دل‪ ،‬فالث ابت‬
‫نفسه ش كل من أش كال المتح ول‪ ،‬بما أن المعرفة تعتمد كلي اً على مادتها وعلى‬
‫أش كالها المنهجي ة‪ ،‬والم ادة ال تي يتعامل معها التفس ير والتأويل هي المتح ول وال‬
‫شيء سواه (‪.)1‬‬

‫ولئن دعت الحداثة إلى الفصل بين الثابت كقاعدة تفسيرية والمتحول كمادة‬
‫للتفس ير‪ ،‬ف إن ما بعد الحداثة قد وص لت الفصل وجعلت من المح ال تمي يز أو‬
‫اختالف األول عن الث اني‪ .‬بل إن ما بعد الحداثة ال ت ؤمن بالفواصل والف وارق‬
‫الثقافية المعرفي ة؛ ألن أش كال المعرفة هي نفس ها تتبع أش كال الم ادة المدروسة‬
‫نفس ها وتت أثر به ا‪ ،‬وليست كما تف ترض الحداث ة‪ ،‬أي أن أش كال المعرفة تتسم‬
‫بالعلمية والتجرد غير المتحيز‪ .‬ولهذا ألغت ما بعد الحداثة كل الفواصل التي تسم‬
‫الثنائي ات الض دية‪ .‬ف إن ك انت الحداثة قد احتفت ب العمق والمع نى‪ ،‬ف إن ما بعد‬
‫الحداثة ن ادت بع دم ثب ات المع نى وع دم جوهريت ه‪ ،‬فال ش يء تحت الس طح س وى‬
‫السطح والسطحية والمبتذل اليومي‪ ،‬وحاربت ثقافة النخبة والنخبوية(‪.)2‬‬

‫وت ؤمن ما بعد الحداثة أن الثنائي ات ال تي ت دين بها الحداثة هي ال دافع وراء‬
‫القمع والقسر واإلره اب (هي الج واهر ال تي حرصت الحداثة على ص يانتها‬
‫والمحافظة عليه ا)‪ .‬ول ذلك ح اولت ما بعد الحداثة إلغ اء التم يزات الهرمية عن‬
‫طريق اس تبعاد م بررات وجوده ا‪ ،‬فب دالً من الق ول ب الفوارق والفواصل الهرمية‬

‫‪ )2(1‬ميجان الرويلي وسعد البازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.226 :‬‬
‫‪ )1(2‬ميجان الرويلي وسعد البازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.226 :‬‬
‫‪119‬‬

‫(المهم وغ ير المهم‪ ،‬األصل والف رع) س عت ما بعد الحداثة وتس عى إلى تق ويض‬
‫الساللم الهرمية واالحتفاء بالعرضية والتالعب والمفارقة والسخرية واالنفصامية‬
‫ولغة السوق والتجارة‪ ،‬كما حاربت وتحارب العرف والتقليد الثقافي بكل أشكاله‪،‬‬
‫واهتمت بأش كال التعددية اهتمام اً ش ديداً ك أقوى وس ائل االنعت اق من القي ود‬
‫الماورائية وأهم مبررات إعادة تعريف الخطاب الثقافي ودراسته (‪.)1‬‬

‫وتش ير ك ارل نيكلس ون إلى أن أطروحة ما بعد الحداثة فى الفلس فة تش مل‬


‫ع دداً من المقارب ات النظري ة‪ ،‬من بينه ا‪ :‬النزعة البنيوية ‪Structuralism‬‬
‫والبرجماتية الجدي دة ‪ .New Pragmatism‬وهي مقارب ات تس عى إلى تج اوز‬
‫التص ورات العقلية ومفه وم ال ذات العارفة باعتبارها تمثل أس اس التقليد الفلس في‬
‫الح داثي ال ذي خط معالمه األولى ديك ارت وكان ط‪ .‬وي رى ديفيد الين أن مص طلح‬
‫ما بعد الحداثة قد دخل االستخدام العام بعد ظهور كتاب "ليوتار"‪Jean François‬‬
‫)‪" Lyotared (1924 – 1998‬الوضع ما بعد الحداثي"‪ ،‬ولكن تأسيس هذا التيار‬
‫التحق به ُكتّ اب آخ رون –معظمهم فرنس يون – خالل ثمانيني ات الق رن العش رين‪،‬‬
‫ورغم أن العديد منهم قد تج اهلوا ه ذا المص طلح أو نف وه أو ابتع دوا عن ه‪ ،‬إال أنه‬
‫بقي عالق اً بأس مائهم‪ ،‬ومن بينهم‪ :‬ج ان بودري ار ‪ Boudrilard‬وج اك دري دا‬
‫‪ Derrida‬وفوكو وليوتار نفسه‪ ،‬وال يمكن تجاهل كتاب آخرين مثل‪ :‬جيل دولوز‬
‫وجياتي فاتيمو وريتشارد رورتي (‪.)2‬‬

‫وب الطبع ال يمكن أن تنطبق التس مية عليهم جميع اً بنفس الدرج ة‪ ،‬فهن اك‬
‫اختالف ات بينهم‪ ،‬ليس على ص عيد التفص يالت فق ط‪ ،‬بل أيض اً فى األسس العامة‬
‫لفلسفاتهم‪ ،‬رغم عدم انضواء هؤالء الفالسفة – الذين يسميهم فيليب مانع بفالسفة‬
‫االختالف – تحت ل واء مدرسة توح دهم‪ ،‬ف إن هن اك خيط اً س رياً يجمع بينهم‪،‬‬
‫فجميعهم فى خدمة االختالف والمغ ايرة‪ ،‬ومن الب ديهي أن بين أعم الهم تم ايزاً‪،‬‬

‫‪ )2(1‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.227-226 :‬‬


‫‪ )1(2‬أحمد عبد الحليم عطية‪ :‬ما بعد الحداثة والتفكيك‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪120‬‬

‫هم واحد يش غلهم وهو تف تيت الفلس فة الغربية‬


‫لكنهم يلتق ون من حولها ح ول ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وتفكيكها إلى أبسط عناصرها‪ ،‬ومن ثم إمكانية الخروج عليها ‪.‬‬

‫وبحسب هؤالء فإن سعي الفلسفة كان دائما ينحو إلى رد ما هو متعدد إلى‬
‫الوحدة‪ ،‬وإ ذا كانت الفلسفة على المستوى النظري تحجب التناقض لتبرز الوحدة‪،‬‬
‫وعلى المس توى السياسي ت برر الوضع الق ائم‪ ،‬ف إن فلس فة االختالف ‪Diversity‬‬
‫تطمح إلى تغي ير بنية وعي األف راد ب أن تص دهم عن الرغبة فى الح نين إلى بن اء‬
‫وح دة ش مولية‪ ،‬إنها فلس فة تح ترز وتحت اط من كل ما هو مش روع توحي دي تك ون‬
‫الدولة هي التجس يد الفعلي ل ه‪ .‬وفالس فة االختالف إذ يح ترزون من مثل ه ذه‬
‫المشاريع‪ ،‬فألنهم يخافون أن يؤدي ذلك إلى االنغالق(‪.)2‬‬

‫‪ -2‬السياق التاريخي لـ "ما بعد الحداثة"‪:‬‬

‫يعت بر مص طلح ما بعد الحداثة من أهم المص طلحات ال تي ش اعت منذ‬


‫خمس ينيات الق رن العش رين‪ ،‬ولم يهتد أحد بعد إلى تحديد مص دره‪ ،‬فهن اك من يعيد‬
‫المف ردة إلى الم ؤرخ البريط اني أرنولد توين بي‪ ،‬حيث اس تخدم مص طلح ما بعد‬
‫الحديث ‪ Postmodern‬عام ‪ 1954‬قاصداً به الحقبة األخيرة من التاريخ الغربي‪،‬‬
‫ال تي تتسم بالالعقالنية والقلق وفق دان األمل (‪ .)3‬وهن اك من يربطها بالش اعر‬
‫والناقد األم ريكي تش ارلز أولس ون فى خمس ينيات الق رن الماض ي‪ ،‬وهن اك من‬
‫يحيلها إلى ناقد الثقافة ل يزلي مي دلر ويح دد زمانها ‪ .1965‬على أن البحث عن‬
‫أص ول المف ردة أفضى إلى اكتش اف اس تخدامها قبل ه ذه الت واريخ بكث ير‪ ،‬كما فى‬
‫اس تخدام ج ون واتك نز تش ابمان لمص طلح "الرسم ما بعد الح داثي" فى ‪،1870‬‬
‫وظهور مصطلح ما بعد الحداثة عند رودولف بايفنز فى عام ‪.)4( 1917‬‬

‫‪ )2(1‬نفس المرجع‪ ،‬نفس المكان‪.‬‬


‫‪ )3(2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.24-23 :‬‬
‫‪(1) Robert B. Pippin: Modernism as a Philosophical Problem, on the‬‬
‫‪3‬‬

‫‪Dissatisfactions of European High culture (USA: Blackwell Publishers INC,‬‬


‫‪1991) P: 136.‬‬
‫‪ )2(4‬انظر فى ذلك‪:‬‬
‫‪121‬‬

‫وغالب اً ما تس تخدم ما بعد الحداثة كمص طلح ت اريخي للداللة على الحقبة‬
‫ال تي أعقبت الحداث ة‪ ،‬ال تي ب دأت فى عصر التن وير وانتهت فى الس تينيات أو‬
‫السبعينيات من القرن الماضي‪ .‬وما تشترك به هذه التفسيرات هو إصرارها على‬
‫أن التغ يرات الثقافية واالجتماعية ال تي أنتجت ما بعد الحداثة ترتبط ارتباط اً ال‬
‫ينفصم ب التغيرات فى الرأس مالية‪ :‬من الترك يز األساسي على اإلنت اج إلى‬
‫االستهالك‪ ،‬وتغير تاريخي فى الغرب من مجتمعات قائمة على إنتاج األشياء إلى‬
‫مجتمع ق ائم على إنت اج المعلوم ات‪ ،‬من رأس مالية "منظم ة" حديثة إلى رأس مالية‬
‫"مفكك ة" ما بعد حديث ة‪ ،‬من الق ومي إلى الع المي‪ ،‬ال ذي حقق منعطف "الض غط‬
‫الزم اني المك اني" ال ذي تولد عن التس ارع فى كل من الس فر واالتص االت البعي دة‬
‫(‪.)1‬‬

‫ويمكن الق ول أن الم زاج ما بعد الح داثي ب دأ يتش كل فى عقد الس تينيات من‬
‫القرن العشرين‪ ،‬عندما تصادف وقوع تغيرات فى المجتمعات الغربية مع تغيرات‬
‫فى التعب ير الف ني واألدبي‪ .‬تمثلت التغ يرات األولى فى ظه ور ما بعد التص نيع‬
‫والهيمنة المتزاي دة للتكنولوجي ا‪ ،‬والنزعة االس تهالكية المتس عة‪ ،‬وإ عالن ات‬
‫الموض ة‪ ،‬وانتش ار الديمقراطي ة‪ ،‬وزي ادة ع دد المتعلمين بالمراحل الثانوية‬
‫والجامع ات‪ ،‬وظه ور أص وات الثقاف ات التابع ة‪ ،‬وانتش ار تكنولوجيا المعلوم ات‬
‫ووس ائل االتص ال وص ناعة المعرف ة‪ ،‬فض الً عن ال تراجع عن كل من االس تعمار‬
‫والمثالية فى السياس ة‪ ،‬وظه ور سياس ات جدي دة تتعلق بالهوية وتق وم على الع رق‬
‫والهوية الجنس ية‪ .‬بينما تمثلت التغ يرات ال تي ط رأت على التعب ير الف ني واألدبي‬
‫‪ -‬إيهاب حسن‪ :‬نحو مفهوم لما بعد الحداثة‪ ،‬ضمن كتاب ما بعد الحداثة‪ ،‬جـ‪ ،2‬ط‪( 1‬الدار البيضاء‪:‬‬
‫دار توبقال للنشر‪ )2007 ،‬ص‪.9-8 :‬‬
‫‪ -‬ميجان الرويلي وسعد البازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.223 :‬‬
‫‪- Stuart Sim (Editor): The Routledge Companion to Postmodernism (USA:‬‬
‫‪Routlege, 2005) Introduction.‬‬
‫‪ )1(1‬طوني بينيت وآخرون‪ :‬مفاتيح اصطالحية جديدة‪ ،‬معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع‪ ،‬ترجمة‬
‫سعد الغانمي‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪ )2010 ،‬ص‪.578 :‬‬
‫‪122‬‬

‫فى فن الب وب ومع اداة الحداثة فى فن العم ارة‪ .‬وتمثلت فى األدب فى إنت اج‬
‫نصوص أدبية تتأمل ذاتها‪ ،‬أي تجعل من فعل الكتابة جزءاً من موضوع الكتابة‪.‬‬
‫وقد ص احب ه ذه التغ يرات جميع اً شك جديد تج اه العلم والوض عية المنطقية فى‬
‫التفك ير‪ .‬وب دا أن ه ذه التغ يرات ك انت تزي د‪ ،‬بش كل ت دريجي‪ ،‬من ح دة رفض‬
‫الحداثة والتنكر ألفكار العقالنية المرتبطة بالتنوير وما بعده‪ ،‬السيما ما يتعلق منها‬
‫بوحدة الذات وفكرة العدالة فى السياسة‪ ،‬ودور الدولة وفكرة إمكانية قيام يقين فى‬
‫الفكر والعلم (‪.)1‬‬

‫ويعت بر "ج ان فرانس وا ليوت ار" هو من أعلن م وت الحداثة وميالد ما بعد‬


‫الحداث ة‪ ،‬وذلك فى كتابه "الوضع ما بعد الح داثي‪ ،‬تقرير عن المعرف ة"‪ ،‬وج اء فى‬
‫ه ذا الكت اب أن أهم مع الم المرحلة الراهنة من مراحل المعرفة اإلنس انية‪ ،‬هو‬
‫س قوط النظرية الك برى‪ ،‬وعجزها عن ق راءة الع الم‪ ،‬قاص داً ب ذلك أن األنس اق‬
‫الفكرية المغلقة جام دة وغ ير ق ادرة على التفس ير الكلي للع الم أو المجتم ع‪ .‬من‬
‫ناحية أخ رى س قطت فك رة "الحتمي ة" ‪ Determinism‬س واء في العل وم الطبيعي ة‪،‬‬
‫كما ع برت عن ذلك فلس فة العل وم المعاص رة‪ ،‬أو فى الت اريخ المعاص ر‪ ،‬فليست‬
‫هناك –كما أثبتت أحداث القرن العشرين‪ -‬حتمية فى التطور التاريخي من مرحلة‬
‫إلى أخرى‪ ،‬على العكس – كما ترى حركة ما بعد الحداثة – فإن التاريخ اإلنس اني‬
‫مفت وح على احتم االت متع ددة‪ .‬من هنا ي رفض ليوت ار فك رة التق دم‪ ،‬كما ص اغتها‬
‫الحداثة الغربي ة‪ ،‬التي كانت تصور تاريخ اإلنسان وفق نم وذج خطي ص اعد من‬
‫األدنى إلى األعلى‪ ،‬وي رى أنه ليس هن اك دليل على ذل ك‪ ،‬فالت اريخ البش ري قد‬
‫يتقدم‪ ،‬ولكنه قد يتراجع أيضاً (‪.)2‬‬

‫‪ )2(1‬ب‪ .‬ووه‪ :‬ما بعد الحداثة‪ ،‬ضمن كتاب ما بعد الحداثة‪ ،‬جـ‪ ،2‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.47 :‬‬
‫‪ )1(2‬عص ام عبد اهلل‪ :‬الج ذور النيتش وية لما بعد الحداث ة‪ ،‬بحث ض من كت اب "نيتشه وج ذور ما بعد‬
‫الحداثة‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت‪ :‬دار الفارابي‪ )2010 ،‬ص‪.131-130 :‬‬
‫‪123‬‬

‫وقد دشن "ي ورغن هابرم اس" هجوم اً ض ارياً على حركة ما بعد الحداثة‬
‫وأنصارها‪ ،‬بعد صدور كتاب ليوتار عام ‪ ،1979‬متهماً إياهم بالمحافظين الجدد‪،‬‬
‫معت براً أن التنظ ير لما بعد الحداثة ردة فعل محافظة ‪ Conservatist‬ويائسة ضد‬
‫التنوير‪ .‬وأشار إلى أن معنى البادئة ‪ Post‬فى لفظ ما بعد الحداثة‪ ،‬إنما يمثل رغبة‬
‫ل دى دع اة ما بعد الحداثة فى االبتع اد عن م ٍ‬
‫اض بعين ه‪ ،‬وفى ال وقت نفسه عج زهم‬
‫عن تس مية حاض رهم؛ ألننا ح تى اآلن لم نجد حالً للمش اكل ال تي تترقبنا فى‬
‫المستقبل‪ ،‬مؤكداً على أن الحل ليس فى تجاوز الحداثة‪ ،‬بل فى استكمال مشروعها‬
‫الذي لم يكتمل بعد؛ بهدف إثراء التنظيم العقالني للحياة االجتماعية اليومية (‪.)1‬‬

‫فى سياق العرض السابق‪ ،‬يمكن القول أن حركة ما بعد الحداثة ولدت فى‬
‫س تينيات الق رن الماض ي‪ ،‬لكن فى ال وقت نفسه ال ينفي ذلك وج ود إرهاص ات‬
‫للحركة منذ نهاي ات الق رن التاسع عشر على يد نيتشه ‪Friedrich Nietzsche‬‬
‫)‪ (1844 - 1900‬باألساس‪ ،‬والذي ساهم بدور فعال فى ضرب األسس الحداثية‪،‬‬
‫وعلى وجه الخصوص العقالنية‪ .‬كما ساهمت ظروف الحربين العالميتين األولى‬
‫والثانية فى خلق من اخ خصب لنقض الحداث ة‪ ،‬وفى أحسن الظ روف نق دها‪ .‬حيث‬
‫ض ربت نت ائج ه اتين الح ربين طموح ات الحداث ة‪ ،‬ح ول دور العقل واإلمكان ات‬
‫المستمرة فى التقدم‪.‬‬

‫‪ -3‬أسس ما بعد الحداثة‪:‬‬

‫ك ان لـ "ما بعد الحداث ة" ع دد من األسس ال تي انطلقت منها فى رحلتها‬


‫لتج اوز الحداث ة‪ ،‬وقد ج اءت تلك األسس الما بعد حداثية كنقض لألسس ال تي أقيم‬
‫عليها البناء الحداثي‪ ،‬وعلى رأس تلك األسس الما بعد الحداثية ما يلي‪:‬‬

‫أ‪ -‬موت اإلنسان أو نهاية النزعة اإلنسانية‪:‬‬

‫‪ )2(1‬المرجع ذاته‪ ،‬ص‪.133-132 :‬‬


‫‪124‬‬

‫داء من الس تينيات‪،‬‬


‫ع رف الفكر المعاص ر‪ ،‬وبص فة خاصة فرنسا ابت ً‬
‫ازده اراً ملحوظ اً للتي ارات الفلس فية المنتق دة للنزعة اإلنس انية‪ ،‬ربما لم يش هد له‬
‫مثيل من قبل فى ت اريخ الفكر والفلس فة‪ .‬لقد تك اثرت تلك التي ارات فى أش كال‬
‫وأل وان متع ددة‪ ،‬وداخل مي ادين معرفية وثقافية متنوع ة‪ .‬وك ان القاسم المش ترك‬
‫بينها جميعاً هو هيمنة روح التقويض والتفكيك‪ ،‬تفكيك العقل والعقالنية‪ ،‬والمبادئ‬
‫والقيم‪ ،‬والمع نى وال دالالت‪ ،‬واأله داف والغاي ات‪ ،‬والت اريخ‪ ،‬وفى عب ارة جامع ة‪:‬‬
‫تفكيك اإلنسان وعالمه الثقافي (‪.)1‬‬

‫وتعد ثنائية ال ذات ‪ Subject‬والموض وع ‪ Object‬من م يراث عصر‬


‫الحداث ة؛ ل ذا تس عى ما بعد الحداثة إلى القض اء على تلك الثنائية ‪ Dualism‬ع بر‬
‫إلغائها لـ "ال ذات"‪ .‬وت برر إلغاءها لل ذات اس تناداً إلى ع دة أس باب‪ ،‬أوله ا‪ :‬أن ه ذه‬
‫ال ذات من اختراع ات عصر الحداث ة‪ ،‬وثاني اً‪ :‬أن أي ترك يز على ال ذات يف ترض‬
‫وج ود فلس فة إنس انية يعارض ها المفك رون ما بعد الح داثيون‪ ،‬وثالثه ا‪ :‬أنه لو قلنا‬
‫بوجود الذات‪ ،‬فذلك يفترض وجود موضوع‪ ،‬وما بعد الحداثة ترفض هذه الثنائية‬
‫بين ال ذات والموض وع‪ .‬وتربط ما بعد الحداثة بين ال ذات والحداث ة‪ ،‬وت رى أن‬
‫الذات من اختراع المجتمع الحديث‪ ،‬وهي ربيبة عصر التنوير والعقالنية‪ .‬ذلك أن‬
‫العلم الحديث حين ح ّل محل الدين‪ ،‬فإن الفرد العقالني (ونعني الذات الحديثة) ح ّل‬
‫محل اهلل‪ ،‬كما كان يرى المشروع الحداثي (‪.)2‬‬

‫وترى ما بعد الحداثة أن اإلنسان كما تصورناه من قبل لم يعد له وجود‪ ،‬أو‬
‫على وشك االختف اء‪ .‬ولقد أض حى تص ورنا عن ه‪ ،‬ك ذات وعقل وإ رادة‪ ،‬وكق درة‬
‫على الخلق واإلب داع‪ ،‬متهافت اً‪ .‬ومع الم ص ورته المألوفة ل دينا ب دأت فى التالش ي‪،‬‬
‫وهويته تش ظت‪ ،‬وأص بحت فى ع داد ما هو ع ابر فى ه ذا الواقع الالنه ائي‪ .‬وما‬

‫‪ )1(1‬عبد الرزاق الدواي‪ :‬موت اإلنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪ )1(2‬الس يد يس ين‪ :‬أس ئلة الق رن الح ادي والعش رين‪ ،‬الكونية واألص ولية وما بعد الحداث ة‪ ،‬جـ‪ ،1‬ط‪1‬‬
‫(القاهرة‪ :‬المكتبة األكاديمية‪ )1996 ،‬ص‪.70 :‬‬
‫‪125‬‬

‫النزعة اإلنس انية إال خط اب مت داع ال ي زال يتغ نى بتلك الص ورة المحتض رة‪.‬‬
‫واعت برت ما بعد الحداثة أن اإلنس ان لم يكن أك ثر من ومضة ش اردة‪ ،‬وبريق‬
‫خ اطف‪ ،‬وتعلم أن حض ارات إنس انية عريقة تم تش ييدها‪ ،‬وتاريخ اً عظيم اً عنيف اً‬
‫ومتنوع اً‪ ،‬قد تحقق خالل ذلك العب ور‪ .‬ولكن التي ارات ما بعد الحداثية ت أبى إال أن‬
‫ت رى فى تلك الحض ارات وذلك الت اريخ نفس ه‪ ،‬ن واتج لنظ ام موض وعي‪ ،‬ال دخل‬
‫إلرادة اإلنسان فيه‪ ،‬إنه نظام بنيات الوجود الخفية والحتمية وإ مكانياتها (‪.)1‬‬

‫ومن هن ا‪ ،‬فالمف اهيم الحديثة س واء ك انت علمية (مثل الواقع الخ ارجي‪ ،‬أو‬
‫النظري ة‪ ،‬أو الس ببية‪ ،‬أو المالحظة العلمي ة) أو سياس ية (مثل سياسة حق وق‬
‫اإلنسان‪ ،‬أو التمثيل الديمقراطي‪ ،‬أو التحرر) كلها تفترض ذاتاً مستقلة‪ .‬وإ ذا ألغينا‬
‫ال ذات‪ ،‬فمع نى ذلك إلغ اء تلق ائي لكل المف اهيم الحديثة المرتبطة به ا‪ ،‬فمثالً بغ ير‬
‫ذات‪ ،‬تختفي األهمية الكبرى ال تي ك ان يعطيها الماركسيون واللي براليون للمفاهيم‬
‫الفكرية الحديثة مثل الوضع االجتم اعي‪ ،‬والجماع ة‪ ،‬والش خص‪ ،‬والطبق ة‪ .‬ف إذا‬
‫ألغينا مقولة الذات‪ ،‬فإن األدوات الرئيسية للبحث بصورته الحديثة‪ ،‬مثل السببية أو‬
‫إرادة الفاعل س تختفي‪ ،‬باإلض افة إلى أن إنك ار ال ذات يؤكد نزعة التش اؤم ما بعد‬
‫الحداثية فيما يتعلق بفعالية الت دخل اإلنس اني‪ ،‬والمخطط ات اإلنس انية‪ ،‬والعقالني ة‪،‬‬
‫والعقل فى الع الم الح ديث‪ .‬ل ذلك كله تنتقد ما بعد الحداثة ال دور المرك زي ال ذي‬
‫تلعبه الذات فى تحليالت العلوم االجتماعية‪ ،‬والتي تصور اإلنسان باعتباره قادراً‬
‫وف اعالً ويس تطيع االختي ار‪ ،‬مع أنه فى الواقع ليس س وى عنصر يخضع لوقع‬
‫النسق االقتصادي والسياسي والثقافي على وجوده (‪.)2‬‬

‫ب‪ -‬نهاية األنساق الكبرى‪:‬‬

‫‪ )2(1‬عبد الرزاق الداوي‪ :‬موت اإلنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.16 :‬‬
‫‪ )1(2‬السيد يسين‪ :‬أسئلة القرن الحادي والعشرين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71-70 :‬‬
‫‪126‬‬

‫أعلن "ليوت ار" في بحث عن ما بعد الحداثة نهاية األنس اق أو الرواي ات‬
‫الك برى‪ ،‬قاص داً ب ذلك أن جميع النظري ات ال تي ت ّدعي تفس ير الع الم بطريقة‬
‫ص حيحة وكامل ة‪ ،‬وتصف النش اط البش ري من منظ ور المركزي ة‪ ،‬قد فق دت‬
‫مص داقيتها (‪ .)1‬وقد س عت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم الس لطة الفكرية‬
‫الظاهرة لألنساق الكبرى المغلقة‪ ،‬والتي عادة ما تأخذ شكل األيديولوجيات‪ ،‬على‬
‫أس اس أنها – فى زعمها – تق ديم تفس ير كلي للظ واهر‪ ،‬قد ألغت حقيقة التن وع‬
‫اإلنساني‪ ،‬وانطلقت من حتمية وهمية ال أساس لها (‪.)2‬‬

‫ولم تقنع ما بعد الحداثة بمج رد إعالن س قوط األنس اق الفكري ة‪ ،‬بل أعلنت‬
‫فى ال وقت نفسه "م وت المؤل ف"‪ ،‬وتقصد بم وت المؤلف أنه ال يعنينا ت اريخ حي اة‬
‫المؤلف أو المفكر أو ميوله الفكرية أو اتجاهاته السياس ية‪ ،‬أو العصر ال ذي ع اش‬
‫في ه؛ ذلك أن دوره ينتهي بكتابة النص‪ ،‬ويقع العبء بعد ذلك على الق ارئ‪ ،‬وال ذي‬
‫من خالل تأويل النص يش ارك فى كتابته فى الواق ع‪ .‬ال هيمنة من المؤلف إذن‬
‫على النص‪ ،‬وليس من حقه أن يص در بيان اً يح دد فيه المع اني ال تي قص دها‪ ،‬وال‬
‫نياته من كتابته‪ ،‬فالنص يصبح ملك اً للقارئ‪ .‬بل إن النص نفسه‪ ،‬فيما ترى ما بعد‬
‫الحداث ة‪ ،‬ال يكتبه فى الع ادة مؤلف واح د‪ ،‬ذلك أن أي نص هو عملية تفاعل بين‬
‫نصوص متعددة يستشهد بها أو يستحضرها المؤلف(‪.)3‬‬

‫ويدعو أنصار ما بعد الحداثة إلى أن المؤلف ال ينبغي أن يقدم نص اً مغلق اً‪،‬‬
‫محمالً باألحك ام القاطع ة‪ ،‬زاخ راً بالنت ائج النهائي ة‪ ،‬وال تي ع ادة ما تق وم على وهم‬
‫ّ‬
‫مف اده أن المؤلف يمتلك "اليقين" أو "الحقيقة المطلق ة"‪ .‬وعلى المؤلف – فى رأيهم‬
‫– أن يقدم نصاً مفتوح اً‪ ،‬بمعنى أال يكتب كتابة واضحة ومباشرة‪ ،‬بل يستحسن أن‬

‫‪(2) Michael Weinrich (Ed): Contextually in Reformed Europe, the Mission of the‬‬
‫‪1‬‬

‫‪Church in the Transformation of European Culture (New York: Rodopi, 2004) P:‬‬
‫‪135.‬‬
‫‪ )3(2‬السيد يسين‪ :‬أسئلة القرن الحادي والعشرين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.68 :‬‬
‫‪ )1(3‬السيد يسين‪ :‬الكونية واألصولية وما بعد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.69-68 :‬‬
‫‪127‬‬

‫تك ون غامضة نوع اً م ا‪ ،‬ح تى يت اح للق ارئ أن يش ارك بفعالية من خالل عملية‬
‫التأويل ‪ Interpretation‬في كتابة النص (‪.)1‬‬

‫ومن ناحية أخ رى‪ ،‬ف إذا ك ان فى إط ار مش روع الحداثة الغ ربي‪ ،‬قد لعب‬
‫المؤلف دور "المش ِّرع" فى المجتم ع‪ ،‬بمع نى ط رح القيم واألفك ار والمع ايير ال تي‬
‫على الن اس أن يتبعوه ا‪ ،‬ف إن حركة ما بعد الحداثة ت رى أن "م وت المؤل ف" ال ذي‬
‫أعلنت ه‪ ،‬بمع نى زوال س لطته الفكري ة‪ ،‬ال يع ادل إال انهي ار دور "المش ّرع" فى‬
‫المجتم ع‪ .‬فقد انتهى عصر الحداثة ال ذي ك ان يق وم فيه المش ّرع بتحديد أه داف‬
‫المجتمع وغاياته من خالل نسق فك ري مغلق ووحي د‪ ،‬فنحن اآلن نعيش عصر‬
‫التن وع ال ذي ال ينبغي إلغ اؤه باسم الوح دة‪ ،‬نحيا عصر التعددية ال تي ال يج وز‬
‫حصارها تحت أي مسمى (‪.)2‬‬

‫جـ‪ -‬التاريخ ما بعد الحداثي ونهاية التقدم‪:‬‬

‫من زاوية تختلف عن‬ ‫اريخ" ‪History‬‬ ‫تنظر ما بعد الحداثة إلى "الت‬
‫الحداثة‪ ،‬حيث تسعى إلى إنزاله من موقعه‪ ،‬وتقلل من أهميته‪ ،‬وال يرون له أهمية‬
‫سواء فى كونه شاهداً على االستمرار‪ ،‬أو دليالً على فكرة التقدم‪ ،‬أو وس يلة للبحث‬
‫عن الج ذور‪ ،‬أو أساس اً للفهم الس ببي للوق ائع‪ .‬الت اريخ بالنس بة لما بعد الحداثة هو‬
‫مجال لألساطير واأليديولوجيات والتحيز‪ ،‬وأحد اختراعات األمم الغربية الحديثة‪،‬‬
‫قام بدوره فى قمع شعوب العالم الثالث‪ ،‬والمنتمين لحضارات أخرى غير غربية‪.‬‬
‫والتقليل من أهمية الت اريخ ُي رد إلى فك رة أساس ية مفادها أن الحاضر ال ذي نعيشه‬
‫باعتب اره نص اً ينبغي أن يك ون مح ور اهتمامن ا‪ ،‬ه ذا الحاضر ال ذي يتش كل من‬

‫‪ )2(1‬عصام عبد اهلل‪ :‬الجذور النيتشوية لما بعد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.143-142 :‬‬
‫‪ )1(2‬عصام عبد اهلل‪ :‬الجذور النيتشوية لما بعد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.143 :‬‬
‫‪128‬‬

‫"سلس لة من الحواض ر" اإلدراكية المش تتة‪ .‬وليس الت اريخ مهم اً إال بالق در ال ذي‬
‫يلقي فيه الضوء على األحوال المعاصرة (‪.)1‬‬

‫وفى س ياق الح ديث عن الحداث ة‪ ،‬س بق وأش ير إلى أن مش روع الحداثة ق ام‬
‫على فك رة التق دم الخطي‪ ،‬الحق ائق المطلق ة‪ ،‬التخطيط العقلي لألنظمة االجتماعية‬
‫المثالي ة‪ ،‬والتوحيد بين المعرفة واإلنت اج (‪ .)2‬وعلى ال رغم من بريق ومثالية ه ذه‬
‫المفاهيم والشعارات‪ ،‬إال أن الحداثة اصطدمت بالحياة الواقعية المتمثلة فى تجربة‬
‫الق رن العش رين المري رة‪ ،‬إذ ك ان حص يلتها لس عادة اإلنس ان حروب اً ومش احنات‬
‫طاحنة‪ ،‬واستعماراً وإ رهاباً وهيمنة وقمعاً لآلخر‪ ،‬وتفاوتاً طبقياً واقتصادياً‪ ،‬وقمع اً‬
‫عس كرياً وقنابل ذرية وخط راً نووي اً‪ ،‬إض افة إلى الظلم االجتم اعي وانهي ار الثقة‬
‫بفك رة المس اواة والعدالة للجميع (‪ .)3‬ول ذا أنك رت ما بعد الحداثة فك رة التق دم ال تي‬
‫رفعت الحداثة رايته ا‪ ،‬ولم تر في الق رن العش رين س وى قباح ات وح روب بلغت‬
‫أقصى بشاعتها فى الستالينية والنازية‪ ،‬وهما من مشاريع الحداثة والركض وراء‬
‫التقدم (‪.)4‬‬

‫ويتح ول الت اريخ‪ ،‬وفقا لما بعد الحداث ة‪ ،‬إلى مج رد لحظ ات جام دة‪ ،‬وزمن‬
‫مس طح ال عمق ل ه‪ ،‬ملتف ح ول نفسه ال قس مات له وال مع نى‪ .‬وي تزامن الحاضر‬
‫والماضي والمس تقبل‪ ،‬وتتس اوى تمام اً مثل تس اوي ال ذات والموض وع واإلنس ان‬
‫واألش ياء‪ ،‬ولكنه ت زامن دون اس تمرارية‪ ،‬فثمة انقط اع كام ل‪ .‬ومن هن ا‪ ،‬يتح دث‬
‫أنص ار ما بعد الحداثة عن إحالل القصص الص غيرة أو الجزئي ة‪ ،‬محل القصص‬
‫الكب يرة أو الش املة أو الكلي ة‪ ،‬أي أن اإلنس ان غ ير ق ادر على الوص ول إلى رؤية‬

‫‪ )2(1‬السيد يسين‪ :‬الكونية واألصولية وما بعد الحداثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71 :‬‬
‫‪(3) Madan Sarup: Identity, Culture, and the Postmodern World (Great Britain:‬‬
‫‪2‬‬

‫‪The Cromwell Press, 2005) P: 94.‬‬


‫‪ )1(3‬ميجان الرويلي وسعد البازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.226 :‬‬
‫‪ )2(4‬رزق اهلل هيالن‪ :‬خطاب العولمة وفكرة التقدم‪ ،‬ضمن كتاب العولمة والهوية الثقافية (القاهرة‪:‬‬
‫المجلس األعلى للثقافة‪ )1998 ،‬ص‪.491 :‬‬
‫‪129‬‬

‫تاريخية شاملة تضم البشر كافة‪ ،‬ولكنه قادر على خوض تجارب جزئية يمكنه أن‬
‫يقص ها ب درجات متفاوت ة‪ ،‬ولكنها ال ت رقى قط إلى مس توى ت اريخ ع ام للبش ر‪،‬‬
‫فليست لها أية شرعية خارج نطاق تجربته (‪.)1‬‬

‫إن ما بعد الحداثة تعلن نهاية الت اريخ ونهاية اإلنس ان كك ائن م ركب‬
‫اجتم اعي ق ادر على االختي ار األخالقي الح ر؛ ليحل محله إنس ان ذو بعد واحد‬
‫ي دور فى إط ار المرجعية الكامن ة‪ ،‬أو دون أية مرجعي ات‪ ،‬يعيش منكفئ اً إما على‬
‫ذاته الطبيعية ال تي ال عالقة لها بما هو خارجه ا‪ ،‬فهي مرجعية نفس ها‪ ،‬أو على‬
‫كليات ال إنسانية مجردة ال عالقة لها باإلنسان كما نعرفه‪ .‬وهذا اإلنسان ال ذاكرة‬
‫ل ه‪ ،‬فهو يعيش فى اللحظة دائم اً‪ ،‬فى قص ته الص غرى‪ .‬ول ذا لخص أح دهم ما بعد‬
‫الحداثة بأنها نس يان نشط لل ذاكرة التاريخي ة‪ ،‬وهي طريقة للق ول بنهاية الت اريخ‪.‬‬
‫ويمكننا الق ول‪ :‬إنه إذا ك ان فوكوياما اكتشف نهاية الت اريخ‪ ،‬ف إن ما بعد الحداثة‬
‫تقوم بقتله (‪.)2‬‬

‫وي رى "س مير أمين" أن حركة الت اريخ ليست بمثابة التنقل على خط‬
‫مس تقيم‪ ،‬له اتج اه مع روف مس بقاً‪ ،‬بل تتك ون ه ذه الحركة من لحظ ات متتالي ة‪،‬‬
‫بعضها تمثل خطوات تقدم فى اتجاه معين‪ ،‬وبعضها التوقف عند نقطة معينة‪ ،‬بل‬
‫ردات إلى ال وراء أو انغالق فى م آزق‪ .‬فهن اك نق اط تق اطع تف رض الخي ار بين‬
‫ّ‬
‫احتماالت متباينة‪ ،‬حتى صار "الخط العام" للتاريخ غير معروف مسبقاً (‪.)3‬‬

‫وفى مراحل التق دم اله ادئ والمس تديم‪ ،‬عن دما تفعل التوازن ات المالئمة‬
‫فعلها لتيسر إعادة إنتاج التراكم المتوسع‪ ،‬ثمة ميل قوي يدفع الفكر نحو نظريات‬
‫تط ور خطي‪ .‬فالت اريخ يب دو فى ه ذه اللحظ ات كما لو ك ان يتجه بالض رورة نحو‬

‫‪ )3(1‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬الفلسفة المادية وتفكيك اإلنسان‪ ،‬ط‪( 2‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ )2003 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.168‬‬
‫‪ )1(2‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬الفلسفة المادية وتفكيك اإلنسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.169-168 :‬‬
‫‪ )2(3‬سمير أمين‪ :‬مناخ العصر‪ ،‬رؤية نقدية‪ ،‬ط‪( 1‬دار سينا للنشر‪ )1999 ،‬ص‪.36 :‬‬
‫‪130‬‬

‫هدف "طبيعي" ال محالة‪ .‬وفى هذه المراحل نجد إذن ميالً قوي اً نحو بناء نظريات‬
‫كلية – أطلق عليها ناقدوها المحدثون تسمية "الخطابات الكبرى" – مثل المشروع‬
‫ال برجوازي أو المش روع االش تراكي أو المش روع الوط ني للتح ديث‪ ،‬وفى ه ذه‬
‫الظروف تندرج المعارف الجزئية فى إطار األطروحات النظرية الكلية‪ ،‬أو على‬
‫األقل يبدو ذلك يسيراً (‪.)1‬‬

‫ثم تأتي لحظة األزمة فتنحل التوازنات التي كانت تضمن سابقاً إعادة بناء‬
‫التراكم‪ ،‬دون أن يحل محلها فوراً توازنات جديدة‪ ،‬والتأخر فى تبلور هذه األخيرة‬
‫يفضح نق اط الض عف فى النظري ات الكلية الس ابقة الس يادة‪ ،‬فتنه ار مص داقيتها‪.‬‬
‫وبالت الي تسم المرحلة بص فة التش تت فى الفكر االجتم اعي‪ ،‬األمر ال ذي يتجلي‬
‫أيضا فى ظواهر انزالق تعوق إعادة تركيب فكر عام متجانس مجدد يستفيد من‬
‫ع بر الت اريخ‪ ،‬ويعمل حس اباً ص حيحاً لتق دم المع ارف الفرعية في دمجها فى بنائه‬
‫العام (‪.)2‬‬

‫ثالثا‪ -‬العولمة وما بعد الحداثة‪ ،‬جدلية العالقة‪:‬‬

‫إذا اعتبرن ا الفك ر الغ ربي بني ة متكامل ة من ع دة عناص ر‪ ،‬فإن ه يمكن‬
‫اعتب ار الرأس مالية أح د العناص ر المركزي ة المكون ة لتل ك البني ة‪ ،‬وه ذا م ا ذهب‬
‫إلي ه س يرج الت وش حين ع رض لمكون ات الغ رب‪ ،‬من حيث الجغرافي ا وال دين‬
‫والفلسفة والعرق والنظام االقتصادي‪ ،‬فيرى أنه ينبغي النظر إلى الغرب ضمن‬
‫كيان جغرافي‪ :‬أوروبا‪ ،‬وضمن ديانة‪ :‬المسيحية‪ ،‬وضمن فلسفة‪ :‬التنوير‪ ،‬وضمن‬
‫ع رق‪ :‬الع رق األبيض‪ ،‬وض من نظ ام اقتص ادي‪ :‬الرأس مالية‪ .‬مؤك داً على أن‬

‫‪ )3(1‬نفسه المرجع‪ ،‬ص‪.37-36 :‬‬


‫‪ )1(2‬سمير أمين‪ :‬مناخ العصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.37 :‬‬
‫‪131‬‬

‫الغرب ال يتطابق مع أي من تلك الظواهر منفردة‪ ،‬بقدر ما يشكل جماعها الغرب‬


‫(‪.)1‬‬

‫ومن خالل قراءة السياق التطوري لتلك العناصر المكونة للبنية الغربي ة‪،‬‬
‫نج د أن ه ليس من قبي ل المبالغ ة إذا اعتبرن ا الرأس مالية تمث ل مرك ز تل ك البني ة‬
‫الفكرية الغربية‪ ،‬بما جعل منتجات هذا الغرب الثقافية تتحرك في فلكها (‪ .)2‬إال‬
‫أنها كانت منذ نشوئها في حاجة دائمة أليديولوجية تمثل الغطاء ومسوغ القبول‪،‬‬
‫وه ذا م ا ح دا بـ "الس كي" أن يق ول عن جي ل الرأس ماليين المعاص رين لـ "ج ون‬
‫ل وك"‪" :‬لق د ك ان جيل ه في حاج ة إلى أن ُيق ال ل ه إن الطبيع ة ت برر حاج اتهم‬
‫االجتماعي ة‪ ،‬فأم دهم ب ذلك الت برير‪ ،‬لق د أعط اهم نوع اً من النظ ام تس مح ح دوده‬
‫بالحري ات ال تي هم في حاج ة إليه ا‪ ،‬لق د أعط اهم نظري ة للتس امح تمكنهم من‬
‫اس تبعاد من يري دون اس تبعاده بالض بط من التمت ع بفوائ دها‪ ،‬وأعط اهم نظري ة‬
‫للملكي ة جعلت أص حابها ج ديرين بالحماي ة بس بب المجه ود ال ذي يتض منه‬
‫تجميعه ا‪ ،‬والص الح االجتم اعي ال ذي يمثل ه ه ذا المجه ود‪ .‬إن ه وفَّق بين الس لطة‬
‫والحرية بطريقة تعطى للطبقة المتوسطة الناشئة كل األفكار التي تنشدها" (‪.)3‬‬

‫اء أي ديولوجياً للرأس مالية الناش ئة آن ذاك‪ ،‬حيث لم‬


‫فج اءت الليبرالي ة غط ً‬
‫يكن بمق دور الرأس مالية أن تس عى لتحقي ق مكاس بها بمع زل عن المق والت‬
‫الليبرالية الداعمة للحرية‪ ،‬فكان لزام اً عليها وهي تطالب بحرية العمل والتملك‬
‫– وهي مطالبه ا باألس اس ‪ -‬أن ت دمجها في س ياق حق وقي أك ثر اتس اعاً وأق در‬

‫‪ )2(1‬سيرج التوش‪ :‬تغريب العالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.32-31 :‬‬


‫‪ )3(2‬لمزيد من التفاصيل حول التشكيل القسري للتوجهات الثقافية بما يخدم المصالح الغربية‪ ،‬انظ ر‪:‬‬
‫فرانس يس س تونر س وندرز‪ :‬من ال دفع دفع للزم ار‪ ،‬الح رب الب اردة الثقافي ة‪ ،‬المخ ابرات المركزية األمريكية‬
‫وعالم الفنون واآلداب‪ ،‬ترجمة طلعت الشايب‪ ،‬ط‪( 4‬القاهرة‪ :‬المركز القومي للترجمة‪.)2009 ،‬‬
‫‪ )1(3‬هارولد السكي‪ :‬نشأة التحررية األوربية‪ ،‬ترجمة عبد الرحمن صدقي (القاهرة‪ :‬مكتبة مصر‪:‬‬
‫د‪ .‬ت) ص‪.83 - 82 :‬‬
‫‪132‬‬

‫على جذب اآلخرين‪ ،‬فتستطيع من خالل هذا السياق أن تضمن تحقيق مطالبها‬
‫في حرية العمل والتحرك‪ ،‬دون أن تثير تحركاتها ردود فعل رافضة‪.‬‬

‫وإ ذا ك انت الليبرالية قد دعت للحرية في بداية العصر الص ناعي‪ ،‬إال أن‬
‫ه ذه ال دعوة ك انت زائفة وأيديولوجية ويكمن ورائها أه داف أخ رى‪ ،‬فقد ك ان على‬
‫الف رد أن يتح رر من اإلقط اع ومن ارتباطه بكنيسة أو م ذهب أو طائفة أو ع رق؛‬
‫أجيرا في ظل النظام الرأسمالي‪ .‬فقد أدى مبدأ الحرية كما‬
‫ً‬ ‫وذلك لكي يصبح عاملاً‬
‫اس تخدمه المجتمع الص ناعي مهمة قطع ص لة الف رد بكل ما ك ان يربطه بوح دات‬
‫اجتماعية س ابقة على الرأس مالية‪ ،‬وذلك ليتمكن النظ ام من إدخاله س وق العمل‬
‫ويصبح سلعة فيه (‪.)1‬‬

‫وتمثّلت أح د العوائ ق ال ذي واجهت الرأس مالية في المنظوم ة الفكري ة‬


‫للقرون الوسطى‪ ،‬التي لم تكن لتسمح لالعبين جدد أن يشاركوا في لعبة السلطة‬
‫والس يادة‪ ،‬فلم يكن من س بيل س وى أن تح ل أفك ار جدي دة تواج ه أفك ار الق رون‬
‫الوسطى التي لم تعد مالئمة لطموحات الرأسماليين‪ ،‬حيث كان من الضروري‬
‫أن يتم التأكي د على دور "الف رد" وال ذي لم يكن ل ه وج ود مس تقل قب ل حل ول‬
‫العصر الحديث فى الغرب‪ ،‬فهذا "الفرد" كان الركيزة التي قامت عليها الحداثة‪،‬‬
‫فك ان لزام اً أن ينع زل عن كيان ات العص ور الوس طى اإلقطاعي ة والديني ة؛ ألن‬
‫تلك الكيانات لم تكن قادرة على تقديم العون الفكري لالعبين الجدد‪ ،‬بل لم تكن‬
‫راغبة في وجودهم وحاربتهم كثيراً وفقاً لما يؤكده التاريخ‪.‬‬

‫وه ذا التأكي د على دور اإلنس ان ال يت أتى إال بتحوي ل مرك ز الفع ل من‬
‫السماء‪ ،‬التي كانت تمثل المرجعية لكيانات القرون الوسطى‪ ،‬إلى مركز جديد‬
‫ق ادر على دعم تل ك الفعالي ة اإلنس انية أال وه و العق ل‪ ،‬فتح ولت الحاكمي ة‬
‫‪ Gubernatorial‬من السماء إلى العقل‪ ،‬فأصبح حاكماً ومقياس اً للمشروعية‪ ،‬بل‬

‫‪ )2(1‬سمير الزغبي‪ :‬االستهالك وإ ستراتيجية الهيمنة الليبرالية‬


‫‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=271543‬‬
‫‪133‬‬

‫القيم على ال ديني نفس ه؛ وب ذلك تم التح ول من‬


‫أص بح في عص ر التن وير ه و ّ‬
‫مملكة السماء إلى مملكة األرض‪ ،‬وبعد أن كانت اآلمال اإلنسانية مؤجلة بفعل‬
‫تحكم رج ال ال دين واإلقط اع إلى ع الم آخ ر أك ثر عدال ة ورحم ة‪ ،‬تم تص ويرها‬
‫على أنها أصبحت قابلة للتنفيذ في هذا العالم الذي يحكمه اإلنسان ويسيطر عليه‬
‫بعقله‪.‬‬

‫وهذا الدور الجديد الذي حصل عليه اإلنسان دعمته الكشوف الجغرافية‬
‫والعلمية التي كانت الدعامة األساسية للرأسمالية‪ ،‬حيث يعتبر تراكم رأس المال‬
‫ع امالً أساس ياً لنج اح أي نم و ص ناعي أو اقتص ادي عموم اً‪ .‬ف رأس الم ال‬
‫ض روري لتموي ل الدراس ات واألبح اث واالختراع ات واالبتك ارات وإ ج راء‬
‫التجارب‪ ،‬وهو كذلك الزم لتحويل تكاليف اإلنتاج وعمليات التسويق‪ .‬لذلك لم‬
‫يكن من الممكن أن تق وم الث ورة الص ناعية ل و لم تت وفر للبالد األوروبي ة ال تي‬
‫قامت فيها هذه الثورة األموال الالزمة للتمويل‪ .‬ولعل أهم المصادر التي مكنت‬
‫ه ذه ال دول من توف ير رؤوس األم وال الالزم ة‪ ،‬ك انت الفتوح ات االس تعمارية‬
‫واالكتشافات البحرية التي حدثت على األخص في السنوات األخيرة من القرن‬
‫الخامس عشر والسنوات األولى من القرن السادس عشر(‪.)1‬‬

‫وق د هل ك – على س بيل المث ال – في من اجم الفض ة في بوليفي ا إب ان‬


‫سيطرة األسبان زهاء ثمانية ماليين هندي أحمر؛ ولذلك شرع المستعمرون في‬
‫اس تبدال العبي د األفارق ة بهم‪ ،‬حيث ك ان يت ولى تج ار الرقي ق توري د العبي د إلى‬
‫أمريكا وذلك بعد اصطيادهم من أفريقيا‪ .‬وقد أضافت هذه التجارة القاتلة أرباح اً‬
‫ال تقدر إلى ثروة التجار األوروبيين‪ ،‬وقال بعض الكتاب األوروبيين عن ذلك‪:‬‬
‫لقد أصبحنا أغنياء ألن أجناساً بأسرها وشعوباً بأكملها قد ماتت من أجلنا‪ ،‬ومن‬

‫‪ )1(1‬أحم د حس ن ال برعي‪ :‬الث ورة الص ناعية وآثاره ا االجتماعي ة والقانوني ة‪ ،‬مرج ع س ابق‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.16‬‬
‫‪134‬‬

‫أجلن ا أيض ا افتق رت قارات بأكمله ا (‪ .)2‬وب ذلك ت راكمت ال ثروات بفع ل عملي ات‬
‫النهب المنظم ة ال تي قاده ا األوروبي‪ ،‬وبفعله ا تحققت نهض ة علمي ة‪ ،‬ك انت‬
‫الرأسمالية الناشئة في أشد الحاجة إليها‪.‬‬

‫ونش أ عن ه ذا اإليم ان باإلنس ان (الغ ربي) ب روز فك رة التق دم ال تي ت رى‬


‫في المس تقبل إمكان ات جدي دة قابل ة للتط بيق على ال دوام‪ ،‬وأن مس تقبل اإلنس ان‬
‫باإلمكان أن يكون أفضل من ماضيه وحاضره‪ ،‬وذلك بخالف الفكر الذي ساد‬
‫قب ل ذل ك س واء ل دى اليون ان والروم ان أو فى الق رون الوس طى‪ ،‬حيث ك انت‬
‫الفك رة المس يطرة ل ديهم هي أن العص ر ال ذهبي ق د ح دث دوم اً في الماض ي‪،‬‬
‫وك انت ه ذه الفك رة مس يطرة ح تى في أقص ى لحظ ات تق دمهم‪ .‬إال أن توجه ات‬
‫السابقين لم تكن مالئمة لطموحات الغربيين الجدد‪.‬‬

‫وُأطلق على المرحلة التي ارتكنت على األسس الثالثة السابقة (الذاتي ة –‬
‫العقالني ة – التق دم) مرحل ة الحداث ة‪ ،‬حيث ك انت األس اس الفك ري ال ذي مثّ ل‬
‫الظه ير األي ديولوجي للرأس مالية في مواجهته ا لم يراث الماض ي ومراك ز‬
‫السيطرة اإلقطاعية والدينية عليه‪ ،‬وكان لهذه األفكار بريقها في الداخل الغربي‬
‫آنذاك والخارج العالمي بعد ذلك على حد سواء‪ ،‬فعاش الغربي في سياق حلم‬
‫تحقي ق كمال ه اإلنس اني في ه ذا الع الم دون حاج ة لتأجي ل أخ روي‪ ،‬في ال وقت‬
‫الذي مثّلت طموحاً لدى الشعوب غير الغربية للحاق بركب حضارتها؛ مما أدى‬
‫إلى قبوله ا – في الغ الب – دون مس اءلة أو نق د لعل ل النش أة الغربي ة لمنظوم ة‬
‫الحداثة الفكرية‪.‬‬

‫وبعد أن حقق الغرب كثيراً مما سعى إليه‪ ،‬معتمداً فى ذلك على اإليمان‬
‫بالعقل وقدراته غير المحدودة في تحقيق التقدم‪ ،‬ظهرت نتائج على الصعيدين‬
‫الداخلي والخارجي ضربت هذه الثقة المطلقة في العقل وقدراته‪ ،‬فعلى الصعيد‬

‫‪ )2(2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.20 – 19 :‬‬


‫‪135‬‬

‫الداخلي كانت الحربان العالميتان األولى والثانية‪ ،‬من بين أسباب أخرى‪ ،‬حافزاً‬
‫للبحث فى العقل ودوره‪ ،‬ومدى إمكاناته في تحقيق الطموحات التي ُعلّقت عليه‬
‫خالل مرحل ة الحداث ة‪ .‬وعلى الص عيد الخ ارجي‪ ،‬أدى جش ع الرأس مالية الغربي ة‬
‫ونهبه ا ل ثروات الش عوب وتجويعه ا للماليين إلى رفض منتج الغ رب الح داثي‬
‫بغث ه وس مينه‪ ،‬حيث لم يحق ق لمنك وبي الع الم أي ة حداث ة حقيقي ة‪ ،‬فال أك ثر من‬
‫تغ يرات ش كلية أص ابتهم‪ ،‬هي أق رب للتش وهات منه ا إلى التغ يرات الحقيقي ة‪.‬‬
‫وك انت الب دائل فى الغ الب مش روعات أص ولية ‪ Fundamentalism‬تتعل ق‬
‫بالماضي حماية للهوية‪ ،‬فى ظل هذا الطغيان الحداثي‪.‬‬

‫ك ان ذل ك إي ذاناً ب أن المق والت األيديولوجي ة ال تي تح ركت تحت غطائه ا‬


‫الرأس مالية ق د أص بحت قي د التهدي د‪ ،‬وغ ير مقبول ة على الص عيدين ال داخلي‬
‫والخ ارجي‪ ،‬حيث تلقت طعن ات ال داخل من قب ل الكث يرين‪ ،‬وعلى وج ه‬
‫الخص وص الفك ر الماركس ي ال ذي ق ام بتعري ة تناقض ات الرأس مالية وتوحش ها‪،‬‬
‫مؤك داً م ع معظم االتجاه ات اليس ارية على ض رورة الث ورة عليه ا وتجاوزه ا‪.‬‬
‫وك انت حرك ات التح رر في الع الم الث الث تعلن هي أيض اً رفض ها لالس تعمار‬
‫ومقاومت ه بكاف ة الوس ائل‪ ،‬رافض ين ال دور ال ذي تمارس ه الرأس مالية العالمي ة‬
‫آنذاك‪.‬‬

‫استش عرت الرأس مالية الخط ر‪ ،‬وك ان الب د له ا من البحث عن ب ديل بع د‬


‫إعالن ته افت مق والت الحداث ة ال تي غطته ا لم دة ع دة ق رون‪ ،‬فلم يع د بمكن ة‬
‫الحداث ة أن تق دم الغط اء الالزم أو األيديولوجي ة الداعم ة للرأس مالية‪ ،‬فليس أق ل‬
‫من إعالن الثورة على الحداثة ومقوالتها المركزية ممثلة فى الذاتية والعقالنية‬
‫والتقدم‪ ،‬خاصة أن الشعوب غير الغربية – بعد رفضها للحداثة – أخذت تسلك‬
‫المس ار الح داثي أمالً منه ا في تحقي ق إنج از يمكنه ا من بل وغ م ا وص ل إلي ه‬
‫الغ رب‪ ،‬على اعتب ار أن الحداث ة هي الطري ق الوحي د المت اح أمامه ا لمقاوم ة‬
‫‪136‬‬

‫الهيمن ة الغربي ة‪ ،‬معت برين أنهم غ ير ق ادرين على مواجه ة تل ك الهيمن ة إال‬
‫باألدوات الغربية ذاتها‪ ،‬وبنفس ذات السالح الحداثي‪.‬‬

‫وبن اء على م ا س بق ج اء رفض الحداث ة أو إعالن موته ا ض رورة من‬


‫زاويتين‪:‬‬

‫األولى‪ :‬أنه ا ب اتت غ ير مص َّدقة على الص عيد ال داخلي – على األق ل –‬
‫بعد الكوارث التي تسببت فيها‪ ،‬وبالتالي لم تعد هي األيديولوجية المالئمة لخدمة‬
‫الرأسمالية‪.‬‬

‫تبني المستعمرات القديمة لها يهدد بقيام مشروعات وطنية‬ ‫الثانية‪ :‬بات ّ‬
‫في هذه الدول تؤمن بفعالية اإلنسان وإ مكانات التقدم المفتوحة؛ مما يهدد الغ رب‬
‫في تفرده بتحقيق تلك المكاسب‪.‬‬

‫ومن هن ا ج اءت ض رورة رفض الحداث ة وإ عالن نهايته ا أو تجاوزه ا؛‬


‫وبذلك يتم تقديم بديل الحداثة للداخل الغربي‪ ،‬وفى الوقت نفسه يتم قطع الطريق‬
‫على مس تعمراته القديم ة‪ ،‬وال تي إن ك انت ق د حققت تح رراً سياس ياً‪ ،‬فلم تس تطع‬
‫بعد أن تحقق تحرراً موازي اً على صعيد المنجز الثقافي‪ ،‬مما يعني أن مقوالت‬
‫الغرب حول تجاوز الحداثة ربما تصيب أتباعه فى العالم بحالة من االرتباك‪،‬‬
‫تجعله يحاول اللحاق بآخر مستجدات الغرب الثقافية‪ ،‬دون أن يضع فى اعتب اره‬
‫أن ما ُيروج له الغرب هو لخدمة مصالحه باألساس‪ ،‬وبذلك يحاول العالم غير‬
‫الغ ربي – دون وعي من ه ومس كوناً بفك رة الغ رب المتق دم‪ -‬أن يلح ق ب آخر‬
‫منج زات الغ رب الثقافي ة‪ ،‬متج اوزاً مش روعه الح داثي ال ذي لم يكتم ل بع د‪ ،‬ب ل‬
‫الذي لم يبدأ فى مناطق عديدة من العالم‪.‬‬

‫ويش ير "المس يري" إلي ع دة أس باب دفعت الغ رب إلى تغي ير آليات ه فى‬
‫مواجهة العالم‪ ،‬وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد‪ ،‬وهي كالتالي‪:‬‬
‫‪137‬‬

‫‪ -‬أدرك الغ رب عم ق أزمت ه العس كرية والثقافي ة واالقتص ادية‪ ،‬وأحس‬


‫بالتفكك الداخلي وبعجزه عن فرض سياساته بالقوة‪.‬‬

‫‪ -‬أدرك الغ رب تراج ع المركزي ة الغربي ة وظه ور مراك ز عدي دة (غ ير‬


‫غربية) تتفاوت قوة وضعفا‪.‬‬

‫‪ -‬أدرك الغ رب اس تحالة المواجه ة العس كرية والثقافي ة واالقتص ادية م ع‬


‫دول الع الم الث الث ال تي أص بحت جماهيره ا أك ثر ص حواً ونخبه ا أك ثر حركي ة‬
‫وص قالً وفهم ا لقواع د اللعب ة الدولي ة‪ ،‬وب ذا أص بحت المواجه ة العس كرية مكلف ة‬
‫للغاية إن لم تكن مستحيلة‪.‬‬

‫‪ -‬أدرك الغرب أن تخلّ ف شعوب آسيا وأفريقيا يجعلها غير قادرة على‬
‫االس تهالك‪ ،‬وبالت الي الب د من تق دم ه ذه الش عوب لتص بح ش به منتج ة ش به‬
‫مستهلكة‪.‬‬

‫‪ -‬أدرك الغرب أنه برغم هذه الصحوة‪ ،‬فثمة عوامل تفكك بدأت تظهر‬
‫توعبة تمام اً في المنظوم ة‬
‫في دول الع الم الث الث‪ ،‬فق د ظه رت نخب ة محلي ة مس َ‬
‫القيمية والمعرفية واالستهالكية الغربية يمكنه أن يتعاون معها ويجندها‪ ،‬وهي‬
‫نخب يمكن أن تحقق له من خالل السالم واالستسالم ما فشل في تحقيقه هو من‬
‫خالل المواجهة والغزو العسكري (‪.)1‬‬

‫لك ل ه ذا ك ان الب د أن تظه ر رؤي ة جدي دة هي اس تمرار للرؤي ة القديم ة‬


‫وتكريس للوضع القديم‪ ،‬ولكن من خالل خطاب جديد يستوعب اإلدراك الغ ربي‬
‫للتكلف ة العالي ة للمواجه ة ب ل واس تحالتها‪ .‬ومن هن ا ظه ر م ا يمكن تس ميته‬
‫االس تهالكية العالمي ة‪ .‬والرؤي ة الجدي دة مث ل القديم ة تمام اً ت رى أن الع الم‬
‫واإلنس ان م ادة اس تعمالية‪ ،‬وت رى ض رورة أن يتح ول الع الم بأس ره إلى س احة‬
‫كب يرة ال تس ودها إال ق وانين الع رض والطلب وتعظيم المنفع ة المادي ة؛ فهي‬

‫‪ )1(1‬الفلسفة المادية وتفكيك اإلنسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.171 :‬‬


‫‪138‬‬

‫تسعى لتحويل العالم بأسره إلى مصنع وسوق‪ .‬لتحقيق هذا قرر الغرب اللجوء‬
‫لإلغ راء واإلغ واء ب دالً من القم ع والقس ر‪ ،‬واالس تفادة من التفك ك لض رب‬
‫التماسك‪ ،‬أي إن التفكيك وااللتفاف أجدى وأرخص من التدمير والمواجهة‪ ،‬وبذا‬
‫يمكن للغ رب ح ل إش كالية عج زه عن المواجه ة وب أن يتخلى عن مركزيت ه‬
‫الواضحة وهيمنته المعلنة ليحل محلها هيمنة بنيوية كامنة (‪.)1‬‬

‫كان البديل األيديولوجي‪ ،‬الذي يطرحه الغرب الرأسمالي كسفينة نجاة ل ه‬


‫فى مواجهة المتغيرات الداخلية والخارجية‪ ،‬هو ما أطلق عليه ما بعد الحداثة‪،‬‬
‫وال ذي يرتك ز على نفي أس س الحداث ة‪ ،‬معلن اً نهاي ة اإلنس ان وفش ل العقالني ة‬
‫وانتهاءها‪ ،‬وعدم اإليمان بالتقدم وما يترتب عليه من رؤية خطية للتاريخ‪ ،‬حيث‬
‫تؤك د م ا بع د الحداث ة على القطيع ة في مس يرة الت اريخ‪ .‬ويش ير "فري دريك‬
‫جيمس ون" إلى أن م ا بع د الحداث ة تع بر عن روح رأس مالية عص ر الش ركات‬
‫متعدية القوميات‪ ،‬حيث قام رأس المال – هذا الشيء المجرد المتحرك الذي ال‬
‫يك ترث بالح دود أو الزم ان أو المك ان – بإلغ اء ك ل الخصوص يات‪ ،‬كم ا ألغى‬
‫الذات المتماسكة التي يتحد فيها التاريخ والعمق والذاتية‪ ،‬وحلت القيمة التبادلية‬
‫العامة محل القيمة األصيلة لألشياء (‪.)2‬‬

‫ويب دو أن الغ رب يح اول ه دم الحداث ة بع د أن نعم بمآثره ا‪ ،‬مح اوالً من ع‬


‫الحض ارات األخ رى من الوص ول إليه ا واالس تفادة منه ا‪ ،‬خاص ة وأنه ا فى‬
‫مرحلة التحول من القديم إلى الجديد‪ ،‬ومن التراث إلى الحداثة‪ .‬كما ذاع مفهوم‬
‫"التفكيك" ‪ Dismantling‬كخطوة أبعد من التحليل ‪ ،Analysis‬تفكيك كل شئ‪،‬‬

‫‪ )2(1‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.172 – 171 :‬‬


‫‪ )1(2‬عبد الوهاب المسيري‪ :‬الفلسفة المادية وتفكيك اإلنسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .175 :‬لمزيد من‬
‫التفاصيل حول عالقة العولمة وما بعد الحداثة انظر‪:‬‬
‫‪- Fredric Jameson: Postmodernism, or, The Cultural Logic of Late Capitalism‬‬
‫‪(USA: Duke University Press, 2003) P: 1 – 54.‬‬
‫‪- David Hawkes: Ideology, 2 ed (London: Routledge, 2003) P: 10 – 11.‬‬
‫‪139‬‬

‫بما فيه العقل نفسه‪ ،‬ففي التحليل كانت الغاية ضبط العبارة وإ حكام اللفظ تمني اً‬
‫لإلنشائية والخطابة‪ ،‬وفى التفكيك تبدأ الكتابة من درجة الصفر (بارت)‪ ،‬فالفكر‬
‫مج رد وح دات كتابي ة ال تع بر عن مع نى س ابق‪ ،‬وال تفي د مع نى الحق اً‪ ،‬الفك ر‬
‫أجراس اللغة وأصوات األلفاظ‪ .‬وحضارات الهامش تحاول التجميع والتركيب‬
‫خوف اً من التفتت والتش رذم والض ياع باس م ِ‬
‫المل ل والنح ل واألع راف‪ ،‬وبحج ة‬
‫الطوائف واألجناس(‪.)1‬‬

‫ولو توقفنا أمام مقولة نهاية اإلنسان أو موته التي رفعتها ما بعد الحداثة‪،‬‬
‫نج د أنه ا موجه ة باألس اس لخدم ة الرأس مالية العالمي ة بش كلها الجدي د المس مى بـ‬
‫"العولم ة"‪ ،‬على اعتب ار أن العولم ة ال تري د ف رداً ف اعالً ق ادراً على تحقي ق‬
‫منج زات من خالل إيمان ه بذات ه وقدرات ه العقلي ة‪ ،‬وال تري د له ذا الف رد أن يرس م‬
‫مستقبالً يستطيع بلوغه عبر إيمانه بمقولة التقدم‪ ،‬بل تريد فرداً ال يمثل سوى‬
‫كيان هش‪ ،‬مج رد عنصر مفعول ب ه‪ ،‬تتحكم في ه كيان ات أكبر ال راد لقض ائها‪،‬‬
‫تتمث ل فى الش ركات متعدي ة الجنس يات‪ .‬فـ "م ا بع د الحداث ة" من خالل إعالنه ا‬
‫م وت اإلنس ان تُق دم كائن اً غ ير ق ادر على مقاوم ة العولم ة ممثل ة في الش ركات‬
‫متعدي ة الجنس يات وآالته ا اإلعالمي ة‪ ،‬فيص بح مج رد ك ائن داجن ال يحلم س وى‬
‫باالستمتاع بالمنتجات التي تطرحها عليه الشركات العالمية‪ ،‬مختزالً حريته فى‬
‫االختيار بين ما تطرح تلك الشركات‪.‬‬

‫ويأتي فى سياق الخدمات الجليلة التي تقدمها ما بعد الحداثة كأيديولوجي ة‬


‫للرأسمالية بشكلها العولمي‪ ،‬رفضها لما يسمى بالسرديات أو األنساق الكبرى‪،‬‬
‫حيث يترتب على هذا الرفض لألنساق الكبرى رفض لآلثار التي ترتبت عليها‪،‬‬
‫وال تي ك ان من بينه ا الدول ة القومي ة‪ ،‬والمش روعات الوطني ة ال تي تبنته ا دول‬
‫الع الم الث الث‪ ،‬وك ذلك المش روع االش تراكي ال ذي ك ان يمث ل ب ديالً مطروح اً‬

‫‪ )2(1‬حس ن حنفي‪ :‬الثقاف ة العربي ة بين العولم ة والخصوص ية‪ ،‬اإلش كال النظ ري‪ ،‬بحث فى كت اب‬
‫(العولمة والهوية الثقافية) (القاهرة‪ :‬المجلس األعلى للثقافة‪ )1998 ،‬ص‪.460 :‬‬
‫‪140‬‬

‫للمشروع الرأسمالي الغربي‪ ،‬وبإعالن رفض األنساق الكبرى في الوقت الذي‬


‫تعلن في ه العولم ة نهاي ة الدول ة والجغرافي ا‪ ،‬تك ون ب ذلك م ا بع د الحداث ة تق دم‬
‫األساس النظري أو األيديولوجي للعولمة في مواجهة أعدى أعدائها وهي الدولة‬
‫القومية والمشروعات الوطنية واالشتراكية‪ ،‬وقد مثلت الدولة بشكلها القومي –‬
‫رغم م ا اعتراه ا من ض عف ح تى اآلن– حائ ط الص د األول ض د األطم اع‬
‫العولمي ة‪ .‬ول ذا وجب أن تق وم ب إعالن نهايته ا من خالل أيديولوجي ة م ا بع د‬
‫الحداثة الداعية لنهاية األنساق الكبرى والمؤكدة على فلسفة التفكيك‪.‬‬

‫وتأكي داً على ال دور ال ذي تق وم ب ه م ا بع د الحداث ة كظه ير أي ديولوجي‬


‫للعولم ة‪ ،‬فإنه ا ال تم يز بين مختل ف "الخطاب ات الك برى" فتحكم عليه ا بالجمل ة‬
‫وجزاف اً تعلن‪ :‬فشلها ال شك أن هذه الخطابات الكبرى قائمة جميع اً على مقولة‬
‫مجردة واحدة وهي مقولة التحرر‪ .‬فاإليمان بالتحرر هو أيضا تعبير آخر للقول‬
‫بأن اإلنسان يصنع تاريخه‪ .‬ومن أجل إنجاز التحرر يطرح كل واحد من هذه‬
‫الخطاب ات مش روعاً خاص اً ل ه‪ ،‬ه و تص وره للتح رر المطل وب‪ .‬وتثبت فلس فة‬
‫التن وير عالق ة وثيق ة – تك اد تك ون ت رادف – بين مفه ومي العقالني ة والتح رر‪.‬‬
‫فالعقالنية ال معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر‪ ،‬والتحرر مستحيل دون‬
‫االعتم اد على العقالني ة‪ .‬إال أن ه ذا القاس م المش ترك بينهم ا ال يلغي التب اين بين‬
‫مختل ف الخطاب ات الك برى الم ذكورة‪ .‬فثم ة خط اب الديمقراطي ة البورجوازي ة‬
‫ال ذي ي دعو إلى تحري ر اإلنس ان من خالل إقام ة دول ة الق انون ورف ع مس توى‬
‫التعليم‪ ،‬دون أن يمس ذل ك ج وهر مقتض يات الرأس مالية‪ ،‬مث ل الملكي ة الخاص ة‬
‫‪ Property‬واس تقالل المؤسس ة االقتص ادية ونظ ام العم ل األج ير واقتص اد‬
‫الس وق‪ .‬ولكن هن اك أيض اً خط اب االش تراكية ال ذي ي دعو إلى تج اوز ح دود‬
‫الس ابق‪ .‬فال مع نى في دمج ه ذين الخط ابين في حكم واح د‪ ،‬وتجاه ل‬
‫خصوصيات كل منهما‪ .‬وكذلك ال معنى للخلط بين حدود المشروع البرجوازي‬
‫‪141‬‬

‫وبي ان أوج ه فش له وبين أس باب انهي ار المش روع الس وفييتي كنم ط ت اريخي‬
‫للمشروع االشتراكي (‪.)1‬‬

‫العالقة جد وثيقة بين فكر "ما بعد الحداث ة" والفكر االقتص ادي اللي برالي‪،‬‬
‫فه ذا األخ ير يؤكد على تحرير ق وى الس وق العالمي ة‪ ،‬المب ادرة الفردي ة‪ ،‬نفي أي‬
‫مشروع اجتماعي عام‪ ،‬فى هذه النظرية ال مكان إال لألفراد‪ ،‬للشركات‪ ،‬للمنافس ة‪.‬‬
‫وفكر "ما بعد الحداث ة" ك ذلك يعلن م وت وال ش رعية جميع األنس اق الك برى‬
‫والمش اريع المتول دة عن الحداث ة‪ ،‬كالعقالنية واالش تراكية‪ .‬بل وليس ثمة وج ود‬
‫لنظ ام رأس مالي أو لت اريخ أو لمجتم ع‪ ،‬ال يوجد س وى أح داث متفرق ة‪ :‬أف راد‬
‫متج اورون‪ ،‬وص راعات شخص ية‪ ،‬البشر ع اجزون عن فهم الت اريخ‪ ،‬دعك عن‬
‫صنعه بحسب رغباتهم (‪.)2‬‬

‫وعلى ص عيد مق والت رفض التق دم وط رح تص ور القطيع ة فى مس ار‬


‫التاريخ‪ ،‬على اعتبار أن نفي اإلنسان وإ عالن موته ومن قبله موت اإلله يعني‬
‫ض مناً أن فك رة التق دم ليس ت ذات مح ل‪ ،‬خاص ة أن التق دم ك ان يق وم على‬
‫الحضور اإلنساني‪ ،‬وفى ظل غيابه لن يكون ثمة محل لفكرة التقدم‪ ،‬بل نفيها‬
‫ه و النت اج المنطقي لنفي اإلنس ان‪ ،‬ف يرى ألتوس ير – على س بيل المث ال – أن‬
‫التاريخ عملية بدون ذات‪ ،‬أي ثمة بنية من الشروط والمحددات المادية هي التي‬
‫تتحكم في توجي ه حرك ة الت اريخ وتع يين اتجاه ه‪ ،‬وهي بني ة خارج ة عن إرادة‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫وهذا التصور النافي للفعالية اإلنسانية‪ ،‬وبالتالي لفكرة التقدم‪ ،‬تضرب‬


‫التصور الخطي للتاريخ القائم على رسم مالمح مستقبل والسعي لتحقيقه ا‪ ،‬وه ذا‬
‫يعني من بين ما يعنيه إمكانية تجميد التاريخ عند لحظة الحاضر‪ ،‬والتي تعني‬

‫‪ )1(1‬سمير أمين‪ :‬مناخ العصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.43 – 42 :‬‬


‫‪ )2(2‬رزق اهلل هيالن‪ :‬خطاب العولمة وفكرة التقدم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.491 – 490 :‬‬
‫‪142‬‬

‫ضمناً لحظة تفوق الغربي على غيره من الثقافات‪ .‬ولذا يعمل خطاب العولمة‬
‫‪ Globalism‬المنبثقة عن فلسفة ما بعد الحداثة على تقليص اإلحساس بالهوية‬
‫المش تركة فى اس تهانته بالت اريخ المش ترك لألم ة؛ لتحوي ل االهتم ام من ه ذا‬
‫الت اريخ المش ّكل للهوي ة إلى الحاض ر ال ذي تس ّيره ق وانين الس وق والتطلع ات‬
‫االس تهالكية (‪ .)1‬كم ا أن إلغ اء الفعالي ة اإلنس انية تع ني أن الحاج ة أو الفع ل‬
‫البش ري ليس ه و المح رك للت اريخ‪ ،‬ب ل كم ا أش ار ألتوس ير لوج ود بني ة خارج ة‬
‫عن اإلرادة اإلنس انية هي ال تي تق وم ب دور الفاع ل‪ .‬فم ع إعالن م وت اإلل ه‬
‫واإلنس ان لم يع د هن اك مرك ز م رجعي يتم االس تناد إلي ه‪ ،‬ويمكنن ا أن نس تمد من‬
‫خالله المعنى والداللة‪ ،‬ويجعلنا مطمئنين لشرعية قراءتنا وتفسيراتنا‪ .‬وفى ظل‬
‫هذه الحالة السائلة تقوم الشركات متعدية الجنسيات بممارسة دورها من خالل‬
‫آلتها اإلعالمية من أجل توظيف تلك الحالة لصالحها‪.‬‬

‫وتنش أ بالض رورة عن رفض األنس اق الك برى والفعالي ة اإلنس انية‬
‫واإليم ان بالعق ل وفك رة التق دم حال ة من الس يولة‪ ،‬وك ان الب د من تنظيره ا‬
‫وتق ديمها على أنه ا آخ ر م ا توص ل إلي ه الفك ر اإلنس اني‪ ،‬فك انت فلس فة التفكي ك‬
‫الم ا بع د حداثي ة‪ ،‬حيث أن المطل وب للرأس مالية العولمي ة ه و عملي ة تس ييل‬
‫الكيانات القديمة الممثلة في الدولة القومية والمشروعات الوطنية والقضاء على‬
‫ال ذاكرة الوطني ة للش عوب‪ ،‬وك ذلك نق ل الفعالي ة إلى كيان ات جدي دة بال مرك ز‬
‫وطني‪ ،‬حيث أن هذه المركزية تكلف الرأسمالية ما ال تريده‪ ،‬ممثالً فى مطالب‬
‫عمالي ة داخ ل دوله ا‪ ،‬ومط الب رعاي ة اجتماعي ة ال تري د أن تتحمله ا أو تس اهم‬
‫فيه ا‪ ،‬فمن خالل إلغ اء ه ذه المركزي ة القديم ة س وف تتخلص من مس ئولياتها‬

‫‪ )1(1‬م اري تري ز عب د المس يح‪ :‬الثقاف ة القومي ة بين العالمي ة والعولم ة (الق اهرة‪ :‬الهيئ ة المص رية‬
‫العامة للكتاب‪ )2009 ،‬ص‪.29 :‬‬
‫‪143‬‬

‫االجتماعي ة‪ ،‬ب ل أت اح له ا ذل ك أن تن ال من ال دول الراغب ة فى االس تثمار‬


‫‪ Investment‬أن تذلل لها العقبات وتقدم لها ما لم يقدم من قبل‪ ،‬وتصبح بذلك‬
‫س يفاً مس لطاً على رق اب العم ال‪ ،‬حيث أن أي تملم ل عم الي فى مك ان م ا يمكن‬
‫تج اوزه باس تبدال عم ال أو نق ل لف رع الش ركة لمك ان آخ ر س وف يقب ل بش روط‬
‫الشركات العمالقة‪ ،‬بل وسيرحب بها أيضاً‪.‬‬

‫ومن بين الخ دمات ال تي تح اول م ا بع د الحداث ة أن تق دمها للرأس مالية‬


‫العولمي ة – إلى ج انب م ا س بق ذك ره – أنه ا ض ربت الكيان ات المقاوم ة‬
‫للرأس مالية بش كلها الق ديم المرتك ز إلى الحداث ة فى ال ترويج لنفس ه‪ ،‬فلم تع د ثم ة‬
‫حج ة واض حة ل دى المق اومين الرافض ين للحداث ة أو المس لطين األض واء على‬
‫تناقض اتها‪ ،‬ف إن ك ان من بين م ا ينتقدون ه المركزي ة الغربي ة‪ ،‬فه ا هي م ا بع د‬
‫الحداث ة تعلن ثورته ا على المرك ز وتعلن إيمانه ا بالتع دد‪ ،‬ومن هن ا يتم تفري غ‬
‫م بررات المقاوم ة من مض مونها وتص بح ال أس اس له ا‪ .‬ب ل تجع ل الرافض ين‬
‫للحداثة أو آلثارها – بشكل ما – محسوبين على ما بعد الحداثة بالتبعية‪ ،‬حيث‬
‫التوافق الشكلي فى رفض مشروع الحداثة بتناقضاته‪.‬‬

‫رابعا‪ -‬اإلعالم" كجهاز أيديولوجي" وصناعة المواطن ما بعد الحداثي‪:‬‬

‫غالب ا م ا ي أتي الت برير والتض ليل فى مقدم ة وظ ائف األي ديولوجيا (‪،)1‬‬
‫بهدف خلق حالة من الوعي الزائف‪ ،‬يتم خاللها قلب حقائق األشياء ووضعيات‬
‫األش خاص‪ ،‬فأحيان اً تص ور الس يد خادم اً والمس ود س يداً؛ مس تهدفة ب ذلك تحقي ق‬
‫مص الح ش خص أو فئ ة معين ة‪ .‬ورغم ك ل ش هادات الوف اة ال تي تم اس تخراجها‬

‫‪ )1(1‬لمزيد من التفاصيل حول وظائف األيديولوجيا‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪ -‬محمد سبيال‪ :‬األيديولوجيا‪ ،‬نحو نظرة تكاملية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.102 – 94 :‬‬
‫‪- Louis Althusser: Lenin and philosophy and other Essays, op . cit , P: 142 - 148.‬‬
‫‪144‬‬

‫قسراً لـ "األيديولوجيا" وكل ما يقع ضمن ما يطلق عليه السرديات أو األنساق‬


‫الك برى‪ ،‬وال تي مررته ا أطروح ات "أيديولوجي ة" باألس اس‪ ،‬إال أن األي ديولوجيا‬
‫م ازالت حاض رة بق وة‪ ،‬م ع اختالف فى التكتي ك ال اإلس تراتيجية‪ .‬وبم ا أنن ا فى‬
‫س ياق العولم ة وأي ديولوجيتها‪ ،‬فمن الض روري بمك ان إلق اء الض وء على فك رة‬
‫الخداع وآليات تمريرها وتحديد المنخدع (‪ .)1‬وانطالقاً من حقيقة كون "العولمة"‬
‫ظاهرة اقتصادية باألساس‪ ،‬وأن ما بعد الحداثة هي غطاؤها األيديولوجي بعد‬
‫استنفاد الحداثة لقدرتها التبريرية؛ نظراً للهجوم الشديد الذي تعرضت له تحت‬
‫وق ع مسلس ل الفش ل – التط بيقي على األق ل – ال ذي تعرض ت ل ه‪ ،‬فس لّمت راي ة‬
‫األدلجة لما بعد الحداثة‪.‬‬

‫من المع روف أن الرأس مالية تؤك د على محوري ة دور الف رد‪ ،‬فى مقاب ل‬
‫غيرها من األيديولوجيات التي تعلي من شأن الجماعي على الفردي‪ ،‬مع العلم‬
‫أن لك ٍل مغ زاه األي ديولوجي وراء عملي تي التق ديم والت أخير بين الف ردي‬
‫والجم اعي‪ ،‬لكن م ا يهمن ا هن ا ه و "الف رد" ل دى الرأس مالية بكاف ة أش كالها –‬
‫الكالس يكية‪ ،‬الموجه ة‪ ،‬والعولمي ة – م ع األخ ذ فى االعتب ار أن الس ياق‬
‫األيديولوجي للرأسمالية اقتضى بعض التحورات فى توصيفه لحقيقة هذا الفرد؛‬
‫وذلك وفقاً لما يقتضيه الصالح الرأسمالي بالطبع‪ ،‬حيث كان المطلوب فى بداية‬
‫النش أة‪ ،‬وبم وازاة الس ياق الح داثي‪ ،‬أن يك ون الف رد ف اعالً منتج اً مؤمن اً بذات ه‬
‫وبقدرات ه على قه ر الطبيع ة واألنظم ة الفكري ة والسياس ية والديني ة القروس طية‬

‫‪ )2(1‬راجع فى ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬هرب رت ش يلر‪ :‬المتالعب ون ب العقول‪ ،‬كي ف يج ذب محرك و ال دمى الكب ار فى السياس ة واإلعالن‬
‫ووسائل االتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟ ترجمة عبد السالم رضوان‪ ،‬ط‪( 2‬الكويت‪ :‬عالم‬
‫المعرفة‪ ،‬عدد ‪ )1999 ،243‬ص‪.42 -13 :‬‬
‫‪ -‬ن اعوم تشومس كي‪ :‬الس يطرة على اإلعالم‪ ،‬اإلنج ازات الهائل ة للبروباجن دا‪ ،‬ترجم ة أميم ة عب د‬
‫اللطيف‪ ،‬ط‪( 1‬القاهرة‪ :‬مكتبة الشروق الدولية‪.)2003 ،‬‬
‫‪145‬‬

‫التي تعوق حركته‪ ،‬ولكن بعد أن استقر الوضع للرأسمالية‪ ،‬للدرجة التي دعت‬
‫البعض إلى اعتبارها نهاية التاريخ (‪.)2‬‬

‫وانقلب الوض ع من المش روع الف ردي البس يط إلى الش ركات العمالق ة‬
‫متعدي ة الجنس يات‪ ،‬ك ان من الض روري أن تتغ ير تل ك النظ رة للف رد‪ ،‬حيث أن‬
‫الفاعل حالياً تجاوز نطاق الفردي بمعناه التقليدي ليتحول إلى الشركات العمالقة‬
‫ال مج رد المش روعات الص غيرة ال تي ي ديرها أف راد متس اوون تقريب اً‪ ،‬فس عت‬
‫الرأس مالية إلى تحوي ل الف رد من وض عه الس ابق ليلعب دور "المس تهلك"‬
‫‪ Consumer‬ال المنتج ‪ Producer‬أو الفاع ل‪ ،‬وض روري لتحول ه من إيمان ه‬
‫بقدرات ه وفعاليت ه إلى مج رد متل ق س لبي أن يتم التحكم ب ه وخداع ه من خالل‬
‫عملي ة إيه ام ك برى‪ ،‬تؤك د على حريت ه وتعلي راي ة المس اواة ‪ ،Equality‬لكنه ا‬
‫في الوقت نفسه – تكاد – تقلص هذه الحرية فى االختيار بين البضائع والسلع‬
‫المتاحة فى السوق‪ ،‬واختزال المساواة فى المساواة االستهالكية‪ ،‬حيث من حق‬
‫الجميع أن يستهلك ويستهلك دون حدود‪.‬‬

‫وبالطبع فإن صناعة الفرد ‪ /‬المستهلك هي ضرورة رأسمالية باألساس‪،‬‬


‫فمع الطفرة التقنية والمعلوماتية‪ ،‬حدثت حالة من تضخم اإلنتاج السلعي – مع‬
‫التأكي د على أن الس لعي أص بح يش مل الم ادي والثق افي مع اً – ومن الحتمي أن‬
‫يكون االستهالك على قدر اإلنتاج حتى تستمر الدورة الرأسمالية‪ ،‬وإ ال تكررت‬
‫مأس اة الكس اد الكب ير‪ ،‬أو ربم ا م ا ه و أك ثر‪ ،‬فوفق ا للتحلي ل الماركس ي‪ ،‬ف إن‬
‫الرأسمالية معرضة ألزمات دورية بسبب اتساع الشقة بين اإلنتاج الضخم وقلة‬
‫االستهالك‪ .‬ومن هنا بدأ التأكيد على االستهالك وتحويله إلى ثقافة‪ ،‬واالختزال‬
‫التقري بي لمق والت الليبرالي ة من حري ة ومس اواة ‪ ..‬الخ فى إط ار حري ة‬
‫االستهالك والمساواة فيه‪ .‬وكان الجهاز األيديولوجي للرأسمالية بشكلها العولمي‬
‫ه و أوالً وقب ل أي ش يء آخ ر ه و الجه از اإلعالمي‪ ،‬حيث يق وم العولمي ون من‬
‫‪ )1(2‬فرانسيس فوكوياما‪ :‬نهاية التاريخ وخاتم البشر‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪146‬‬

‫خالل امتالكهم – إن لم يكن احتك ارهم – لآلل ة اإلعالمي ة بكاف ة ص ورها‪،‬‬


‫وس يطرتهم على الم ادة اإلعالمي ة المقدم ة للمش اهد(‪ ،)1‬يقوم ون ب الترويج لثقاف ة‬
‫االستهالك‪ ،‬لدرجة إيهام المشاهد أنه هو من يرغب ويطلب‪ ،‬رغم أن األمر فى‬
‫حقيقته هو أن وسائل اإلعالم تقوم بصناعة دائمة لرغبات متجددة تستتبع طلبا‬
‫دائما من قبل األفراد‪ ،‬مما يدعم شبكة اإلنتاج الرأسمالي بكافة صورها‪.‬‬

‫وه ذا م ا أك د علي ه "هرب رت م اركوز" حين تس اءل عن حقيق ة ه ذه‬


‫الحاج ات‪ ،‬ه ل هي حاج ات حقيقي ة أم كاذب ة؟ حاج ات إنس انية حق اً وتلقائي ة أم‬
‫حاج ات مص طنعة ومفروض ة فرض اً؟ إن الج واب بالنس بة لم اركوز ال يقب ل‬
‫التباس اً‪ :‬إنه ا حاج ات وهمي ة من ص نع الدعاي ة واإلعالن ووس ائل االتص ال‬
‫الجم اهيري‪ .‬وإ ذا ك ان المجتم ع يح رص على تلبي ة ه ذه الحاج ات المص طنعة‪،‬‬
‫فليس ذل ك ألنه ا ش رط اس تمراره ونم و إنتاجيت ه فحس ب‪ ،‬ب ل ألنه ا خ ير وس يلة‬
‫لخلق اإلنسان ذي البعد الواحد القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد والمتكيف معه‪.‬‬
‫وم ا اإلنس ان ذو البع د الواح د إال ذاك ال ذي اس تغنى عن الحري ة ب وهم الحري ة‪.‬‬
‫وإ ذا كان هذا اإلنسان يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة‬
‫كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية "حاجاته"‪ ،‬فما أشبهه‬
‫من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنه منحت له حرية اختيار‬
‫سادته (‪ ،)2‬أو أنه ُأجبر على أن يكون حراً على ما في العبارة من تناقض‪.‬‬

‫‪ )1(1‬وق د الح ظ ج ورج جيرب نر‪ ،‬فى مق ال ل ه بمجل ة "س ينتفيك أميرك ان"‪ ،‬أن الس ؤال الحقيقي ال‬
‫يتمثل فيما إذا كانت أدوات االتصال الجماهيري حرة أم الن وإ نما يتمثل فى كيف‪ ،‬وألي هدف‪،‬‬
‫وعن طريق من‪ ،‬وبأي نتائج مترتبة‪ ،‬تتم ممارسة عمليات التوجيه والسيطرة التي ال محيد عنها؟‬
‫انظر فى ذلك‪ ،‬هربرت شيلر‪ :‬المتالعبون بالعقول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪ )1(2‬هربرت ماركوز‪ :‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪147‬‬

‫وت دلنا دراس ة ج ان بودري ار )‪Jean Baudrillard (1929 - 2007‬‬


‫(‪)1‬‬
‫على كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي‬ ‫لمجتمع االستهالك‬
‫ي رى عليه ا الغ رب الرأس مالي نفس ه إلى مجتم ع االس تهالك ال ذي ه و الواق ع‬
‫الح الي والنهاي ة األخ يرة ال تي وص ل إليه ا ه ذا الغ رب‪ .‬فع بر جمي ع دراس ات‬
‫بودري ار يوض ح لن ا كي ف تح ولت القيم والمث ل البورجوازي ة واألي ديولوجيا‬
‫الليبرالي ة إلى قيم ومع ايير اس تهالكية تتحكم به ا المؤسس ات الك برى ووس ائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬وإ لى نس ق من الرم وز والعالم ات ال تي له ا منطقه ا الخ اص وحياته ا‬
‫الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر‪ ،‬وكيف يصنع اإلعالم واالتصال عالما‬
‫ص ناعياً يمث ل واقعاً مرك زاً أك ثر واقعي ة من الواق ع نفس ه‪ .‬فجمي ع قيم ومُث ل‬
‫الليبرالي ة تج د تعبيره ا األكم ل واألخ ير ونهاياته ا المنطقي ة في مجتم ع‬
‫االستهالك‪ .‬فالحرية أصبحت حرية البيع والشراء‪ ،‬والتعددية أصبحت هي تنوع‬
‫الموض وعات االس تهالكية‪ ،‬والعدال ة أص بحت هي الس عر المناس ب‪ .‬فه ذا ه و‬
‫مص ير الخط اب اللي برالي ال ذي تم اس تخدامه من ذ بدايات ه األولى كأي ديولوجيا‬
‫للرأس مالية و ك دعم فك ري القتص اد الس وق‪ .‬فق د تمت من ذ الق رن الث امن عش ر‬
‫ترجمة الليبرالية إلى مصطلحات االقتصاد الرأسمالي‪ ،‬ومن المنطقي أن تترجم‬
‫م رة ثاني ة في العص ر الحاض ر إلى قيم مجتم ع االس تهالك ال ذي ه و التط ور‬
‫الطبيعي‪ ،‬التاريخي واالقتصادي‪ ،‬للرأسمالية (‪.)2‬‬

‫وق د ق امت الرأس مالية العولمي ة بعملي ة س لعنة ‪ Commoditation‬لك ل‬


‫شيء‪ ،‬فكل شيء أصبح سلعة قابلة للبيع والشراء‪ ،‬ال فرق فى ذلك بين ثقافي‬

‫أهم الدراس ات في حق ل‬
‫(‪ )2‬تع ّد أعم ال الفيلس وف الفرنس ي المعاص ر ج ان بودري ار من ّ‬
‫‪1‬‬

‫اإلنسانيات‪ .‬ويتناول جانب كبير من هذه األعمال نقداً لمجتمع االستهالك‪ .‬فإلى جانب كتابه الذي‬
‫يحم ل عن وان "المجتم ع االس تهالكي"‪ ،‬هن اك مجموع ة أخ رى من الدراس ات المنتش رة ع بر كتب ه‬
‫األخ رى‪ ،‬وال تي يتن اول فيه ا نفس الموض وع مث ل "م رآة اإلنت اج" و"نح و نق د لالقتص اد السياس ي‬
‫للعالمة" و"التبادل الرمزي والموت"‪.‬‬
‫‪ )1(2‬سمير الزغبي‪ :‬االستهالك وإ ستراتيجية الهيمنة الليبرالية‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪148‬‬

‫ومادي (‪ .)1‬وهذا البع د قد ركزت عليه مدرس ة فرانكفورت بشكل كب ير‪ ،‬حيث‬
‫بين زعماؤه ا كي ف انح ط العم ل الف ني في ظ ل المجتم ع الص ناعي وظ روف‬
‫صناعة الثقافة وعمالئها وأجهزة إنتاجها واإلعالم عنها‪ ،‬إلى حضيض السلعة‬
‫في س وق االس تهالك والمزاي دة‪ ،‬مم ا أفق ده أص الته وش موله وفعل ه المباش ر في‬
‫القل وب والعق ول‪ ،‬بحيث أص بح مج رد "ش يء" يقص د ب ه االس تمتاع الس طحي‬
‫والتسلية في أوقات الفراغ‪ ،‬ولم يبق أثر للعالقة الحية بالعمل الفني‪ ،‬وال للفهم‬
‫المباشر لوظيفته بوصفه تعبيرا عما كان يسمى يوماً باسم الحقيقة‪.‬‬

‫وهنا يأت دور ما بعد الحداثة كأيديولوجية للعولمة (‪ ،)2‬حيث أن عرض‬


‫السلعة ومحاولة إيهام المستهلك أنه بحاجة إليها لن تكون ناجعة على مستوى‬
‫الم ْنتَج الثق افي بطبيعت ه يحت اج إلى مس تهلك من ن وع‬
‫التس ليع الثق افي‪ ،‬حيث أن ُ‬
‫خ اص‪ ،‬وه ذا – ب الطبع‪ -‬س يقلل من نس بة مس تهلكي المعرف ة‪ ،‬رغم أن التس ليع‬
‫الثق افي ص ار ض رورياً فى اإلنت اج الع ولمي‪ ،‬وبه ذا س وف يتم ض رب عملي ة‬
‫اإلنتاج العولمي فى عنصر تميزه اإلنتاجي الذي تجاوز عبره اإلنتاج الرأسمالي‬
‫بش كله التقلي دي‪ .‬فك ان من الض رورة بمك ان لمواجه ة ه ذه المعض لة أن يس تمر‬
‫اإلنتاج الثقافي‪ ،‬ولكن بما يناسب مستوى المستهلك العادي حتى تضمن درجة‬
‫اس تهالكية عالي ة‪ ،‬وبم ا أن ه من الص عوبة بمك ان رف ع كف اءة المس تهلك لمس توى‬
‫المنتج الثقافي بشكله التقليدي‪ ،‬وكذلك خطورة ذلك فى الوقت نفسه؛ ألنه سوف‬

‫‪ )2(1‬عبد الغفار مكاوي‪ :‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬تمهيد وتعقيب نقدي‪ ،‬حوليات كلية‬
‫اآلداب‪ ،‬العدد ‪ ،1993 ،13‬ص‪ .27 - 26 :‬ولمزيد من التفاصيل انظر‪:‬‬
‫‪ -‬م اكس هوركه ايمر وثي ودور أدورن و‪ :‬ج دل التن وير‪ ،‬ترجم ة ج ورج كت ورة‪ ،‬ط‪( 1‬لبن ان‪ :‬دار‬
‫الكتاب الجديد المتحدة‪ )2006 ،‬ص‪.195 – 143 :‬‬
‫‪ -‬كمال بومنير‪ :‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث‪،‬‬
‫ط‪( 1‬الجزائر‪ :‬منشورات االختالف‪ )2010 ،‬ص‪.33 – 32 :‬‬
‫‪ )1(2‬راجع في ذلك‪ ،‬مايك فيزرستون‪ :‬ثقافة االستهالك وما بعد الحداثة‪ ،‬ترجمة فلاير حسن خليفة‬
‫(القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ )2010 ،‬ص‪.82 - 57 :‬‬
‫‪149‬‬

‫يخل ق مواطن اً غ ير قاب ل للتنمي ط والتالعب برغبات ه بس هولة‪ ،‬ول ذلك ف إن الح ل‬
‫األمث ل س وف يك ون بعملي ة تهبي ط وتدني ة مس توى المنتج الثق افي ح تى يناس ب‬
‫مستوى المستهلك العادي؛ وبذلك تتحقق فائدتان متالزمتان‪ ،‬األولى زيادة مع دل‬
‫االس تهالك‪ ،‬والثاني ة االس تمرار فى التحكم فى الف رد ‪ /‬المس تهلك دون خط ورة‬
‫وعيوية تضرب منظومة التالعب بأكملها‪.‬‬

‫ومن هن ا ج اء دور م ا بع د الحداث ة فى رفض النخبوي ة واالحتك ار بكاف ة‬


‫أشكاله وصنوفه (‪ ،)1‬حيث جاءت مقوالت ما بعد الحداثة لتقلب مقوالت الحداثة‬
‫وفرضياتها تماما‪ ،‬فليس ثمة ثابت يحكم المتحول‪ ،‬وليس ثمة عقل يفسر تفسيراً‬
‫غ ير متح يز أوج ه النش اط الثق افي البش ري‪ ،‬كم ا ال وج ود لثقاف ة عالي ة نخبوي ة‬
‫وأخرى دونية جماهيرية‪ ،‬بل كل ما هنالك هو تشكيل مستمر ال يمكن تبريره‬
‫أو تفسيره باإلحالة على أنموذج متعال‪ ،‬وإ نما يقبل التفسير فقط من داخله مما‬
‫يجع ل التفس ير نفس ه محكوم اً بأش كال مادت ه الخاص ة وليس نتيج ة ث وابت ال‬
‫تتحول أو تتبدل‪ ،‬فالثابت نفسه شكل من أشكال المتحول‪ ،‬بما أن المعرفة تعتمد‬
‫كلي اً على مادته ا وعلى أش كالها المنهجي ة‪ ،‬والم ادة ال تي يتعام ل معه ا التفس ير‬
‫والتأوي ل هي المتح ول وال ش يء س واه‪ .‬ولئن دعت الحداث ة إلى الفص ل بين‬
‫الثابت كقاعدة تفسيرية والمتحول كمادة للتفسير‪ ،‬فإن ما بعد الحداثة قد وصلت‬
‫الفص ل وجعلت من المح ال تمي يز أو اختالف األول عن الث اني‪ .‬ب ل إن م ا بع د‬
‫الحداثة ال تؤمن بالفواصل والفوارق الثقافية المعرفية؛ ألن أشكال المعرفة هي‬
‫نفس ها تتب ع أش كال الم ادة المدروس ة نفس ها وتت أثر به ا‪ ،‬وليس ت كم ا تف ترض‬
‫الحداثة‪ ،‬أي أن أشكال المعرفة تتسم بالعلمية والتجرد غير المتحيز‪ .‬ولهذا ألغت‬
‫ما بعد الحداثة كل الفواصل التي تسم الثنائيات الضدية‪ .‬فإن كانت الحداثة قد‬
‫احتفت ب العمق والمع نى‪ ،‬ف إن م ا بع د الحداث ة ن ادت بع دم ثب ات المع نى وع دم‬

‫‪ )2(1‬ميجان الرويلي وسعد البازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.226 :‬‬
‫‪150‬‬

‫جوهريت ه‪ ،‬فال ش يء تحت الس طح س وى الس طح والس طحية والمبت ذل الي ومي‪،‬‬
‫وحاربت ثقافة النخبة والنخبوية‪.‬‬

‫على اعتبار أن أفكار النخبة والنخبوية من مخلفات عصر الحداثة الذي‬


‫تم تج اوزه‪ ،‬فأك دت م ا بع د الحداث ة على أن النخبوي ة ال تي اتس مت به ا الحداث ة‬
‫تمثل نوعاً من االحتكار المعرفي والثقافي‪ ،‬مطالبة بحق المواطن العادي فى أن‬
‫ينال حظه فى هذه البضاعة الثقافية‪ ،‬ولن يتم ذلك من خالل تقديم هذا المعرفي‬
‫فى س موه و عل وه كم ا ك ان معه وداً فى وض عية الثق افي خالل ف ترة الحداث ة‪،‬‬
‫ولكن الب د من تق ديم منتج ثق افي يناس ب مس توى الم واطن كم ا ه و علي ه‪ ،‬أي –‬
‫كم ا س بق وأش ير‪ -‬س يتم عملي ة تهبي ط وتدني ة الثق افي كي يناس ب الم واطن ‪/‬‬
‫المستهلك‪ ،‬ويأتي ذلك من خالل التأكيد على روعة السطحي فى مقابل العميق‪،‬‬
‫أو اعتبار العمق ذاته ال وجود وال ضرورة له‪.‬‬

‫ومن بين ما تقوم به أيديولوجية العولمة ممثلة فى ما بعد الحداثة‪ ،‬أنها‬


‫بتقديمها للسطحي على العميق ورفضها للنخبوية واالحتكار الثقافي‪ ،‬تخلق لدى‬
‫الم واطن ‪ /‬المس تهلك حال ة من "وهم المعرف ة" ووهم اإلش باع لرغب ات هي‬
‫باألس اس من ص ناعة آلته ا اإلعالمي ة وليس ت رغب ات حقيقي ة اقتض تها حاج ة‬
‫الف رد‪ ،‬وب ذلك يك ون ترك يز م ا بع د الحداث ة على الس طحي‪ ،‬من خالل امتداح ه‬
‫وضمه إلى سياق مقوالتها األساسية‪ ،‬سعياً نحو خداع المستهلك وتوريطه أكثر‬
‫فى الس ياق الس طحي م ا بع د الح داثي‪ .‬وب ذلك يغيب العق ل النق دي فى ظ ل آل ة‬
‫إعالمي ة ض خمة تعلي من ش أن المق والت م ا بع د الحداثي ة – وإ ن بش كل غ ير‬
‫مباش ر – حيث ت دعو للس طحي وتمج د االس ترخاء‪ ،‬واع دة المس تهلك م ا بع د‬
‫الحداثي أن كل شئ سوف يصله حتى باب عقله‪ ،‬إن بقي ثمة عقل باألساس‪.‬‬
‫وه ذا اإللغ اء للعق ل النق دي واإلعالء من ش أن الس طحي يس هل مهم ة م روجي‬
‫الثقافة االستهالكية الخادمة للشركات العولمية متعدية الجنسيات‪ ،‬والتي أصبح‬
‫نشاطها يغطي كل شيء تقريباً‪ ،‬بدءا من الغذائي وصوالً للثقافي‪.‬‬

You might also like