You are on page 1of 7

‫مقدمة‬

‫الشك أن السياسة هي إحدى المناحي الكبرى فى الحياة‪ ،‬مثل الدين‪،‬‬


‫والعلم‪ ،‬واألدب‪ ،‬واالقتص اد‪ ،‬والفلس فة‪ ،‬والفن‪ ،‬غ ير أنه يمكن اعتبارها من‬
‫أعقد هذه المناحي قاطبة‪ ،‬إن لم تكن كذلك بالفعل‪ .‬ومناط التعقيد فى السياسة‬
‫إنما يكمن فى تعايش نا الج بري داخل نطاقه ا‪ ،‬باعتبارها إح دى الحتمي ات‬
‫االجتماعية ال تي ال تقل فى ص رامتها عن الحتمين الجغ رافي والت اريخي‪.‬‬
‫فنحن نتعامل مع السياسة عند تص ريف أم ور الدول ة‪ ،‬والمدين ة‪ ،‬والح زب‪،‬‬
‫والكنيس ة‪ ،‬والجامع ة‪ ،‬والنقاب ة‪ ،‬والن ادي‪ ،‬والش ركة‪ ،‬والجمعية األهلي ة‪ ،‬إلى‬
‫غ ير ذلك من المنظمات المتع ددة‪ ،‬ال تي ال مندوحة للف رد عن التعامل معها‬
‫بص فته مواطن ا‪ ،‬وه ذا التعامل هو ممارسة سياس ية بش كل أو ب آخر‪ ،‬وس واء‬
‫أدرك الف رد ذلك أو لم يدرك ه‪ .‬وعلى ذل ك‪ ،‬فكل منا سياس ي‪ ،‬ش اء ذلك أو لم‬
‫يش أ؛ ألن اإلنس ان ال يس تطيع أن ينفلت من أسر السياس ة‪ ،‬وال أن ين أى بنفسه‬
‫عن الوقوع فى دائرة تأثيرها‪ ،‬وال أن يعزل نفسه عن النتائج المتولدة عنها‪.‬‬
‫وبالجمل ة‪ ،‬إذا اس تطاع اإلنس ان أن يتجاهل السياس ة؛ فإنه ال يس تطيع أن‬
‫يتجنبها‪.‬‬

‫وإ ذا كانت مثل هذه األقوال ال تلقى اهتماما فى الماضي؛ فإنها اليوم‬
‫أص بحت حق ائق ملموس ة‪ ،‬بع دما ب ات جليا ق درة السياسة على ص ياغة‬
‫‪2‬‬

‫الجغرافيا وص ناعة الت اريخ‪ .‬ذلك أن مص ير الحض ارة اإلنس انية فى عالمنا‬
‫المعاص ر‪ ،‬وهل يك ون إلى دم ار وفن اء‪ ،‬أم إلى إعم ار وإ نم اء‪ ،‬إنما تح دده‬
‫السياسة وتقرره توجهاتها‪ ،‬سواء بشكل سافر أو مستتر‪ .‬لكل ذلك‪ ،‬أصبحت‬
‫السياسة أرضا مشاعا أو ملكية عامة‪ ،‬ال يقتصر فيها الحديث على الدارسين‬
‫والمتخصص ين فحس ب؛ وإ نما أص بح كل ي دلي فيها ب دلوه‪ ،‬فلم تعد تص در‬
‫الي وم ص حيفة‪ ،‬وال ي ذاع بث‪ ،‬وال يقف خطيب‪ ،‬وال ي أتلف جم ع‪ ،‬دون أن‬
‫يكون للسياسة نصيب فيما يتطرقون إليه من موضوعات‪.‬‬

‫غير أن السياسة‪ ،‬وهي تسعى اليوم بخطى حثيثة نحو العلمية‪ ،‬لم تعد‬
‫تلجأ – كما ك ان ق ديما – إلى الح دس والتخمين‪ ،‬بل أص بحت ت درس قض ايا‬
‫وتس تقرئ ق وانين‪ ،‬فضال عن كونها – فى األس اس – فنا س لوكيا‪ ،‬يحكم‬
‫اإلنس ان فيها ت وازن وانس جام‪ ،‬وت ذوق وإ له ام‪ ،‬وعبقرية تل زم الح اكم أو‬
‫صاحب السلطة فى المجتمع أن يكون ذا فكر نقدي تكاملي خالق‪ ،‬وأن يكون‬
‫ق ادرا على اس تيعاب قواعد اللعبة وفن ون ممارس تها‪ ،‬كما تس تلزم من األف راد‬
‫تفهمهم الموض وعي لم دارات السياسة ومجاالتها الحيوي ة‪ ،‬بعد أن أص بحت‬
‫علما مس تقال‪ ،‬يقف على أرض يته الخاص ة‪ ،‬وله ذاتيته المس تقلة‪ ،‬ومناهجه‬
‫المحددة‪.‬‬

‫والحق أن كثيرا من عقبات فهم السياسة‪ ،‬وبالتالي إفهامها‪ ،‬إنما مرده‬


‫إلى عدم التحرز الكافي من مزالقها المنهجية‪ ،‬خاصة وأن المعارف السياسية‬
‫ذات ح دود زئبقي ة‪ ،‬تتميع فيها ح دود التالقي ونق اط االلتق اء مع المع ارف‬
‫األخ رى‪ ،‬خصوصا مع تلك العل وم االجتماعية اللص يقة بالسياسة أو القريبة‬
‫منه ا‪ .‬وإ ذا ك انت المع ارف اإلنس انية تتش ابك وتتراب ط‪ ،‬بش كل يص عب معه‬
‫‪3‬‬

‫وضع ح دود فاص لة ونهائية بينه ا؛ ف إن السياسة تحتل فيها موضع الوسط‬
‫الثابت‪ ،‬وحتى إذا أمكن – تجاوزا – فض االشتباك بين هذه المعارف‪ ،‬وهو‬
‫أمر ال يسع الم رء إال أن يرت اب فى إمكانيت ه؛ ف إن السياسة س تكون هي‬
‫االس تثناء الوحيد من ه ذا اإلج راء التعس في؛ ألن طبيعتها العنكوبتية س تقف‬
‫ح ائال دون الب تر الكامل لها من ه ذا النس يج المع رفي‪ ،‬نظريا وعمليا على‬
‫السواء‪ .‬لذلك‪ ،‬فإنه من الضرورة بمكان منهجة السياسة‪.‬‬

‫أق ول "المنهج ة"‪ ،‬وال أق ول "المنهج" ال ذي ال يع ني فى تعريفه‬


‫الكالسيكي أكثر من كونه وسيلة معرفية بين الدارس والمدروس‪ ،‬أو طريقة‬
‫بحثية بين الب احث والمبح وث‪ ،‬وهو على أهميته ال تي ش ددت عليها فى ه ذا‬
‫العمل‪ ،‬ليس هو المقصود بالمنهجة‪ ،‬وإ نما هو – على األكثر – ربعها حسابيا‬
‫كما س يتبين ت وا‪ ،‬أما ما أعنيه بمنهجة السياس ة‪ ،‬فهو ض رورة تحديد ض وابط‬
‫كاملة وملزم ة‪ ،‬تك ون بمثابة مع ايير س المة لدراس تها‪ ،‬وذلك ال يت أتى إال‬
‫بوضع محددات استيعابية‪ ،‬يمكن إجمالها على النحو التالي‪:‬‬

‫أوال‪ -‬تعريف السياسة تعريفا يك اد يك ون – ق در الطاقة – ش امال‬


‫ك امال جامعا مانعا ألي لبس أو تن اظر أو تط ابق‪ ،‬وذلك ب الوقوف على‬
‫ماهيتها وذاتيتها الخاص ة؛ إذ ال س بيل إلى دراسة أي علم دون تعريفه بش كل‬
‫واض ح‪ ،‬وإ دراك كنهه واس تجالء غوامض ه‪ ،‬مع األخذ فى االعتب ار رحابة‬
‫المجال السياسي‪ ،‬وهي خاصية تسمح بتعدد وتنوع اآلراء التعريفية فيه‪.‬‬

‫ثاني ا‪ -‬تحديد مج االت السياس ة‪ ،‬ب الوقوف على كل اآلم اد ال تي‬


‫تغطيه ا‪ ،‬واآلف اق ال تي تمتد إليه ا‪ ،‬والمب احث ال تي تنف رد بمعالجته ا‪،‬‬
‫والموضوعات التي تهتم بدراستها‪ ،‬انطالقا من أن لكل علم محور أو محاور‬
‫‪4‬‬

‫اهتم ام‪ ،‬ينف رد بها دون س ائر العل وم‪ ،‬و تجعل له ذاتية خاصة فى مواجهة‬
‫غيره من هذه العلوم‪.‬‬

‫ثالث ا‪ -‬كشف عالق ات السياسة بغيرها من العل وم؛ الرتباطها بكث ير‬
‫من هذه العل وم (خصوصا االجتماعية منه ا) ارتباطا وثيق ا‪ ،‬س واء فيما يتعلق‬
‫باالهتمام ات‪ ،‬أو األه داف العام ة‪ ،‬أو فيما يتعلق بالمن اهج المس تخدمة‪.‬‬
‫فالسياسة على المستوى النظري‪ ،‬وإ ن بدت كميدان مستقل فى الدراس ة‪ ،‬فإنها‬
‫ال يمكن عزلها عن حزمة العل وم االجتماعية األخ رى‪ .‬ونفس األمر ينطبق‬
‫على المس توى العملي‪ ،‬فهي وإ ن ظه رت كحقل نش اط خ اص فى المجتم ع؛‬
‫فإن العوامل التي تحدد هذا النشاط ال تصدر دوما عن دوافع سياسية‪.‬‬

‫رابع ا‪ -‬حصر من اهج المعرفة السياس ية‪ ،‬وتأكيد أص التها‪ ،‬وم دى‬
‫ص الحياتها البحثي ة‪ ،‬فنظ را لتش عب مج االت السياسة واتس اع آفاقه ا؛ فإنها‬
‫تعتبر من أكثر العلوم االجتماعية إسرافا فى استخدام المناهج‪.‬‬

‫والشك أن ه ذه الض وابط األربعة هي رك ائز فهم أي علم بص فة‬


‫القبلية بكينونته وتحديد هويت ه‪ .‬وقد أفرد‬
‫عامة؛ لكونها من أبجديات اإلحاطة ْ‬
‫كث ير من العلم اء (كل فى مج ال تخصص ه) كتبا مس تقلة‪ ،‬يمكن اعتبارها‬
‫خارطة طريق توض يحية‪ ،‬تمثل الض وء الكاشف لتح ورات أي نسق مع رفي‬
‫يقبل عليه ال دارس‪ ،‬ويجعل من ه ذه الخارطة المنهجية نموذجا إرش اديا‬
‫يتح رك بحثيا داخل إط اره الم رجعي‪ ،‬فيعص مه ذهنيا من حالة التش وش‬
‫العقلي‪ ،‬التي قد تحول دون وضوح تحديداته الفكرية‪ .‬غير أني لم أصادف –‬
‫فيما وقعت عليه عيني – مصنفا فى المكتبة السياسية العربية على هذا النحو‪،‬‬
‫كل منهجي) ال توجد فى كتب السياسة – علمها‬ ‫فكيفية دراسة السياسة (بش‬
‫‪5‬‬

‫وفلسفتها – إال أشتاتا متناثرة (إن وجدت أصال) ومغرقة فى التبسيط إلى حد‬
‫مخج ل‪ ،‬فال تتع دى فى أية دراسة بض عة ص فحات‪ ،‬مهما ك ان حجم المؤلف‬
‫الذي يحتويها‪ ،‬وأيما كان الموضوع الذي جاءت فى سياقه‪.‬‬

‫وأغلب ظ ني – وليس كل الظن إثما – أن غالبية الب احثين فى مج ال‬


‫الدراسات السياسية‪ ،‬ربما يترفعون عن ذلك‪ ،‬فال يعيرون هذا األمر اهتماما‬
‫ي ذكر‪ ،‬من منطلق اعتق ادهم الخطأ فى ب ديهيتها‪ ،‬وبالت الي ع دم اس تحقاقها‬
‫للتخص يص‪ ،‬ف تراهم يقف زون إلى تن اول إح دى القض ايا الفرعية للسياس ة‪،‬‬
‫دونما إش ارة إلى المنحى التص نيفي أو الب اب المنهجي ال ذي ولج وا منه‬
‫لدراسة هذا البعد أو ذاك من أبعاد السياسة‪ .‬وهو ما يثير لغطا أكاديميا يع اني‬
‫منه على الس واء‪ ،‬المتخصص ون (من الب احثين) والمبت دئون (من الطالب‬
‫الدارس ين) واله اوون (من الق راء الع اديين) كل بق در نص يبه من المعان اة‬
‫المنهجية‪ ،‬فال يكاد يعرف ما يدرس‪ ،‬وال فى أي مجال يدرس‪ ،‬وال ما يرتبط‬
‫بما ي درس‪ ،‬وال ب أي منهج ي درس‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬ال ي درك أين يقف على خارطة‬
‫المعارف السياس ية‪ .‬وذلك ما ك ان باعثي على تجشم هذه الدراس ة‪ ،‬التي هي‬
‫وجه إلى الباحث‪ ،‬أال وهو‪ ،‬كيف‬
‫فى مجملها إجابة عن سؤال واحد‪ ،‬كثيرا ما ّ‬
‫ندرس السياسة؟‬

‫وك ان تعريف السياس ة‪ ،‬وتحديد مجاالته ا‪ ،‬وكشف عالقاتها بغيرها‬


‫من العل وم‪ ،‬وحصر مناهجه ا‪ ،‬هو محاولة الب احث من خالل ه ذا العمل‬
‫لإلجابة عن ه ذا الس ؤال‪ ،‬وفى ذات ال وقت خطة تقس يمه‪ ،‬ف ذلكم هي‬
‫موض وعات فص وله األربعة األولى‪ ،‬أما فص له الخ امس واألخ ير‪ ،‬فقد رأيت‬
‫أن هذا العمل – بحكم طبيعته المنهجية – ال يتعرض لقضايا السياسة الكبرى‬
‫‪6‬‬

‫إال على اس تحياء‪ ،‬وب التوظيف ال ذي يخ دم س ياقه المنهجي المقص ود فى‬


‫األس اس؛ فك ان أن ختمت ه ذه الدراسة بإلق اء الض وء على موض وع الدول ة‪،‬‬
‫باعتبارها – بإجماع الباحثين – عمدة موضوعات السياسة‪ ،‬ومفهوم أساسها‬
‫األول‪ ،‬فس قتها كنم وذج تط بيقي لكل موض وعات البحث التنظيري ة‪ ،‬لتكتمل‬
‫فيه فائ دة الجمع بين النظرية والتط بيق‪ ،‬وبالش كل ال ذي لم يخرجه عن نط اق‬
‫غايته المنهجية األولى؛ إذ هي الفائدة األصلية المرجوة منه‪.‬‬

‫وتأسيسا على ما تقدم‪ ،‬تحدد اإلطار الموضوعي لهذه الدراسة‪ ،‬التي‬


‫اتبعت فيها خالئط منهجي ة‪ ،‬اقتض تها مالبس ات البحث وتش ابك موض وعاته‬
‫من ناحي ة‪ ،‬وارتباطها بغيرها من المن احي المعرفية من ناحية أخ رى‪ .‬غ ير‬
‫أنه يمكن اعتب ار المنهج التحليلي هو الس مة الغالبة على ه ذه الدراس ة‪ ،‬ال تي‬
‫أع ترف أن إق دامي عليها ك ان مخ اطرة بحثية بكل المق اييس‪ ،‬ب النظر إلى‬
‫س عيها إلى مالمسة (وال أق ول تن اول) كل موض وعات حقل مع رفي بمس احة‬
‫السياس ة‪ ،‬بين دف تي عمل به ذا الحجم‪ .‬ف رغم علمي ب أن أيا من موض وعات‬
‫فص ول ه ذا العم ل‪ ،‬بل وربما عناوينه الجانبي ة‪ ،‬قد تص لح بمفردها ألن ي دبج‬
‫تحتها مؤلفات ضخمة‪ ،‬تفي هذه الموضوعات حقها من المعالجة الشافية؛ إال‬
‫أن الغرض الرئيسي لهذه الدراسة جاء أبعد ما يكون عن الخوض التفصيلي‬
‫فى أي من قض ايا السياسة الجزئي ة‪ ،‬أو موض وعاتها الفرعي ة‪ ،‬ف ذلك مما‬
‫أفاض – ويفيض – فيه الكثيرون‪ ،‬وإ نما تهدف هذه الدراسة – بشكل محدد –‬
‫إلى جمع أش تات السياسة المتفرقة بين ثنايا ه ذه الجزئي ات‪ ،‬والوق وف على‬
‫القواسم المش تركة داخل ه ذه الف روع والتفص يالت ال تي تعج بها المع ارف‬
‫‪7‬‬

‫السياس ية؛ بغ رض إعط اء دارس السياسة تص ورا كليا ومنظما لموض وعاتها‬
‫بصفة عامة‪ ،‬يمثل له مرشدا منهجيا‪ ،‬يفهم السياسة على هدي من توجيهه‪.‬‬

‫وأخ يرا‪ ،‬فه ذا هو جهد المق ل‪ ،‬وبما أنه عمل إنس اني فالبد أن ينتابه‬
‫القص ور‪ ،‬فما به من نقص فأنا ص احبه‪ ،‬وما به من خطأ فأنا مس ببه‪ .‬أما إذا‬
‫أص اب ه ذا العمل ش يئا من الحقيقة (ولعل ه) فال أك ثر من أنه توفيق من اهلل‬
‫(س بحانه وتع الى) ال ذي أتوجه إليه بال دعاء أن يعلمنا ما ينفعن ا‪ ،‬وينفعنا بما‬
‫علمن ا‪ ،‬وأرتفع إليه بالرج اء أن أك ون قد اس تفدت وأف دت‪ ،‬وفهمت ف أفهمت‪،‬‬
‫ووفقت فى أداء ما استطعت‪ ،‬وما إال وجه اهلل والعلم قصدت‪.‬‬

‫والحمد هلل أوال وأخيرا ‪...‬‬


‫دكتور‬
‫أمين حافظ السعدني‬

You might also like