Professional Documents
Culture Documents
Louay Hussein
مدخل
يشكل العلويون نسبة ال تزيد عن ٪١٢من مجموع عدد السكان في سوريا .كان هذا قبل بدء الصراع
األخير عام .٢٠١١غير أنه ال بد أن تكون نسبتهم هذه زادت بعد ذلك نتيجة هجرة أكثر من ٦,٧مليون
الجئ إلى خارج البالد ،جميعهم تقريباً من السّنة ،أي أكثر من ثلث السوريني السّنة.
لكن إن أشحنا النظر عن الِنسَب الديموغرافية ،ونظرنا إلى املعيار السياسي ،فسنجد أن العلويني
يشّكلون نسبة ،أو ثقالً سياسياً ،أكبر بكثير من نسبتهم الديموغرافية .فقد تصل النسبة هنا إلى ما يزيد
عن ٪٩٠في ميزان القوى على الخريطة السياسية السورية .وثقلهم هذا ناجم ليس عن كون رئيس
الجمهورية من أصل علوي بل ألن غالبية مواقع صنع القرار في الدولة السورية ،ما لم تكن جميعها،
يسيطر عليها أشخاص علويون منذ حوالي خمسة عقود .أمّا املناصب العليا التي يشغلها أشخاص من
السّنة فهي ليست مواقع ُتتخذ فيها قرارات كبرى .وإن صادف وكان أحد األشخاص السّنة يشغل
منصباً مهمّاً ،كما هو حال اللواء علي مملوك ،مدير مكتب األمن الوطني ،حالياً ،فإن وجوده بمثل هذا
املوقع يكون نتيجة محافظته على الصيغة العلوية للسلطة السورية ،فوجوده قائم على محافظته على هذه
الصيغة وليس بسبب انتمائه الطائفي املغاير.
هذا سيكون ميزان القوى الذي سنأخذ به في هذه الدراسة ،التي سنحاول أن نستقصي فيها عن طبيعة
جز تحت رعاية دولية وضمن
الدور الذي يلعبه العلويون في التسوية السياسية التي من املفترض أن ُتن َ
مسارات القرار ٢٢٥٤أو أي تعديالت يمكن أن تطرأ عليه.
كلما كان يزداد اتساع مساحة «األسلمة » في الحراك الشعبي االحتجاجي ،كانت تتعاظم مخاوف
العلويني ،وكلما تبّدى هذا الوجود »اإلسالمي« بشكل أكثر جذرية كلما شعر العلويون بتهديد جدي
لوجودهم .لهذا كان من السهل أن يصدّقوا ما تقوله لهم أدوات السلطة من أنه »إذا حصل مكروه
للرئيس فإن متشددو السّنة سيذبحون العلويني« ،هذه العبارة املخيفة التي بدأتها السلطة ُبعيد تولي
الرئيس السابق حافظ األسد رئاسة الجمهورية ببضع سنوات .وهذا ما يجعل حسابات العلويني ملعادلة
«إما النظام أو املعارضة » أكثر تعقيداً وتشابكاً من حسابات اآلخرين ،فاملعارضة التي تريد إسقاط
النظام ليست خياراً أمام العلويني ،فبمشاركتها في «إسقاط النظام» يكونون كمن «يقطع الغصن الذي
يجلس عليه » .لهذا يرون في عملية إسقاط النظام تهديداً حقيقياً لوجودهم .وما إن يشعروا بذلك حتى
تستثار عندهم »العصبية الطائفية« ،فتصبح جميع أفعالهم بمثابة »دفاع عن النفس« .فهم مسكونون
بالخوف على أمنهم الوجودي من سيطرة سلطات سّنية متشددة .هذا ألن ذاكرتهم محمّلة بحكايات عن
اضطهاد السلطات السّنية لهم خالل السلطنة العثمانية وما قبلها .وبالتالي من الطبيعي جداً أنه كلما
ازدادت جدية »إسقاط النظام« ،وخاصة مع ترافقه مع وقوع بعض الجرائم بحق أشخاص علويني ،من
بينهم أطفال ،كلما اشتدت »العصبية الطائفية« عندهم فتدفعهم لالصطفاف خلف السلطة بشكل علني
أكثر .فـ»العامل الوحيد الذي يربط املجتمع العلوي بالنظام السوري هو انعدام األمن الطائفي .فنظام
األسد يقتضي ،بل ويعزّز ،انعدام األمن لدى العلويني من أجل الحفاظ على سلطته« .فكلما شعر
العلويون بقلة أمنهم كلما تحلّقوا حول السلطة ودعموها .وكلما دعموها ازدادت مقدرتها على االستمرار
في الحكم.
هذه «العصبية الطائفية» التي تشد األفراد العلويني إلى بعضهم ليست عصبية دينية ،أي ليست غيرة
على العقيدة وال نصرة لدين على غيره .فالعصبية الطائفية عند العلوي هي »عصبية املصير املشترك«.
فالعلوي يعتقد أن املتشدد السني سيتعامل معه وفق هويته الطائفية وليس وفق دوره املجتمعي ،أي لن
يهتم املتشدد إن كان العلوي مسلحاً أم أعزالً ،وال إن كان رجل دين أم معلم مدرسة ،أو كان رجالً أم
امرأة ،فطاملا هو علوي فمصيره حدّ السيف.
ت في بداية االنتفاضة على طالبة علوية حمصية كانت تدرس في دمشق ،وكانت تعارض ممارسات
تعرّف ُ
النظام ومواقفه .كانت زيارتها األخيرة إلى مكتبي في طريقها إلى حمص لالنضمام إلى اعتصام
املحتجني في ساحة الساعة في املدينة.
ت لي مشاعرها القوية نتيجة تأثرها باملشهد الذي رأته .ومع ذهبتْ الصبية مباشرة إلى االعتصام ونقل ْ
حلول الليل ،ذهبت إلى بيتها في أحد األحياء ذات األغلبية السكانية العلوية ،وهناك كانت مشاعر األهالي
متأججة نتيجة مقتل عدد من األشخاص العلويني ،وانتشار خبر مداهمة الحي من سيارات مسلحة
أطلقت النار عشوائياً على املنازل.
Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon
Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p33.
4
حدثتني في وقت متأخر من الليل عن اضطراب مشاعرها وحيرتها إلى أي جهة يجب أن تميل :هل
تكون مع الجهة التي يقمعها النظام بوحشية؟ لكن ضمن هذه الجهة يوجد مَن يقتل أهلها فقط ألنهم
علويني .لكنها بعد أيام قليلة لم يكن أمامها سوى اختيار مشاركة أهلها مخاوفهم على مصيرهم مما
يخّبئه لهم الطرف اآلخر في حال تمكّن من إسقاط النظام ،تحقيقاً للشعار الذي رددته هي ذاتها مع
املتظاهرين في ساحة الساعة في حمص.
مخاوف هذه الصبية ومخاوف عائلتها وأهلها ،ومخاوف العلويني عموماً لم تنجم عن االنتفاضة .كما أن
العلويني لم ُيظْهِروا هذه املخاوف ليسوقونها كمبررات لوقوفهم مع السلطة أو مع »بشار األسد« .فاألسد
لم يكن يلقى عند غالبيتهم احتراماً كافياً كقائدٍ أو زعيمٍ ،خاصة في سنوات حكمه األولى ألنه لم يفعل
شيئاً يجعلهم يعتبرونه أهالً بثقتهم ،ويرونه أقل بكثير من إمكانية مقارنته بأبيه ،فالفارق بينهما كبير
جداً في املقدرة على إدارة حكن البالد .لكن مخاوف عائلة الصبية وبقية العلويني كانت ناجمة عن
ذكريات مئات السنني من الظلم واالضطهاد ،لتترسخ في أذهانهم كـ»مظلومية علوية«.
املظلومية العلوية
هي ليست مجرد مظلومية ،أي ليست مجرد ذاكرة محمَّلة بظلم وقع على العلويني وانتهى في زمن
مضى ،وبقي بعد ذلك مجرّد بكائية تؤطّر الهوية العلوية وتستدعي الشكوى واملطالبة بالتعويض عن ذاك
الظلم ،مثلما يحصل مع العديد من األقليات في العالم ،بل هو ذاكرة حاضرة عند العلويني عن ظلم
عانوه ملئات السنني ،واعتداءات وقعت عليهم مراراً طيلة تلك السنوات ،لتتكرس بعد ذلك في أذهانهم
على صيغة مخاوف حية ،تخفّ حدتها أحياناً ،مثلما حصل في مرحلة انتهاء االحتالل الفرنسي وتأسيس
الدولة السورية ،حيث شعر العلويون أن الدولة السورية الوطنية تساوي بينهم وبني غيرهم من السوريني.
ولكن حدتها تعود وتشتد في غير لحظة ،مثلما كان عليه حالهم مع نشوب الصراع بني النظام وبني
»األخوان املسلمني« خالل فترة حكم حافظ األسد .ففي حينها وصلت إلى مسامع كل علوي عبارة »إن
حصل أي مكروه للرئيس )حافظ األسد( فإن السّنة سوف يذبحونكم«.
ف ،ينخفضُ دفقه أحياناً ،لكنه لم ينضب لحد
فاملظلومية العلوية تتعدى حالتها كذكرى لتبقى منبع خو ٍ
اآلن لعدم توفر ظروفٍ سياسية تجففه وتنهيه .لهذا فإن العلويني يعتبرون أن ما وقع عليهم من اضطهاد
سابق ما زال يمكن تكراره لحد اآلن .فمقوماته ،من وجهة نظرهم ،ما زالت موجودة ،ولم ينشأ ،وفق
تصورهم ،ما يمنع وقوعه عليهم مرة أو مرات في املستقبل ،في حال تمكّنت أطراف سّنية متشددة من
السيطرة على السلطة.
مرويات االضطهاد الشفهية املعششة في الذهنية العلوية تتعدى كونها مجرد حكايات للمؤانسة في
السهرات واملناسبات ،بل إنها تشّكل جانباً مهمّاً من روحهم ،ومكِّوناً مهمّاً لهويتهم ،بل إنهم يتعرفون
من خاللها على ذاتهم حني يرون أنفسهم على أنهم »الناجون« من اضطهاد مديد ومن مذابح عشوائية،
اسُتعمِلَ في بعضها اإلعدام بـ»الخازوق« ،كما فعلت بعض سلطات السلطنة العثمانية.
كنت أستمع لحكاية االضطهاد واملذابح ويتبادر إلى ذهني أنها من نسج خيال أقلوي ،مثل املظلوميات
التي يعتريها الكثير من الخيال الوهمي التي نجدها عند جميع األقليات ،لكنني من خالل البحث تبني
اإلعدام بالخازوق من أبشع طرق اإلعدام ،ما لم تكن أبشعها .ويقال أن السلطنة العثمانية اعتمدت هذه الطريقة في كثير من
الحاالت.
5
لي ثبوت صحة هذه املرويات ،فقد ورد ذكرها في العديد من كتب التاريخ العربي املعَتَمدة .ووجودها
في الذاكرة العلوية وفي الكتب التاريخية كافٍ للتعامل معها كواقعة سياسية.
فاملؤرخ اللبناني »جورجي أفندي يني« يحدثنا في مؤلَّفه »كتاب تاريخ سورية« ،املطبوع عام ،١٨٨١
عن الالذقية بأن »مدحت باشا املعظم« فَصَلَها عن طرابلس وشّكل فيها متصرفية بهدف أن »يدنو
بالقوة من بالد النصيرية )…( وهم قوم كثيرو العدد يسكنون القرى واملزارع ،إال أنهم ما انفكوا ال
يعرفون التمّدن وال يراعون واجبات االجتماع اإلنساني ،حيث يصرفون معظم أوقاتهم بقطع السبيل
ونهب القرى وإلقاء الفنت في البالد ،منضمّني عصبة واحدة ال تقوى الحكومات املحلية على ردعها إال
بتجريد السيف .ذلك ما فعله بعض الوالة الكرام أخص منهم بالذكر حضرة املرحوم راشد باشا ،حيث
دوّخ الساحل وقتل بعضاً منهم .إال أن فتنتهم أبت إال السكون تحت رماد الخوف ،وتراهم في كل حني
على أهبة إقالق الحكومة السنية ]التشديد مني[ وإلقائها في االرتباك« .
أما الشيخ عبد الرزاق البيطار (١٣٣٥-١٢٥٣هـ١٩١٦-١٨٣٧/م) ،من حي امليدان الدمشقي فيخبرنا
ظم يوسف باشا ،والي الشام« » :إنه ركب إلى بالد النصيرية في كتابه ،خالل تعريفه للـ»الوزير املع ّ
وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأوالدهم ،وكان خّيرهم بني الدخول في اإلسالم والخروج من
بالدهم ،فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا ،وبيعت نساؤهم وأوالدهم ،فلما شاهدوا ذلك أظهروا اإلسالم تقية،
فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم في البالد« .
وكان يوسف الحكيم ،ابن الالذقية ،الذي تنقل بني مناصب رفيعة عديدة في سوريا ولبنان وفلسطني في
ظل السلطنة العثمانية ،من بينها »قائم مقام قضاء الكورة وهو القضاء الشمالي من جبل لبنان القريب
من مدينة طرابلس ،ثم قائم مقام قضاء البترون وهو القضاء الشمالي املتاخم ملُتصرفية طرابلس« ،
وقد َعمِل في مواقع وظيفية عديدة في الفترات العثمانية والفيصلية والفرنسية واالستقاللية خالل حياته،
التي امتدت مئة سنة ،وكان قد أصدر كتاباً من أربعة أجزاء عام ،١٩٦٦يخبرنا في أول أجزائه ،وضمن
فصل أوضاع العلويني» :ملّا كان دين الدولة العثمانية اإلسالم على املذهب السني )…( كان ألهل
املذهب الجعفري )املتاولة( املنزلة الثانية في نظر الدولة ،ثم يأتي اإلسماعيليون ،بينما كان الدروز
والعلويون غير منظور إليهم كمسلمني« .
هذه الشدة وهذا االضطهاد الذي مورس على العلويني كانا سبباً في تقوية العصبية الطائفية لديهم،
أي دفعهم ذلك للتضامن مع بعضهم أكثر وفق استنتاج املستشرق ليون ت .غولدسيمث ،مؤلف كتاب
»دائرة الخوف ،العلويون السوريون في الحرب والسلم« ،حيث يقول» :تخلل تاريخ العلويني فترات
جرجي يني توفي سنة 1360ه = 1941م .كان صاحب »مجلة املباحث« مع أخيه صموئيل ،كان مهتماً بالتاريخ ،ولد ومات
في طرابلس الشام .من أصول يونانية.
والي سوريا زمن السلطان عبد الحميد.
كتاب تاريخ سورية ،تأليف جورجي أفندي يني ،املطبعة األدبية ،بيروت ،١٨٨١ص .٣٥٤
«حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر» ،عبد الرزاق البيطار ،دار صادر ،بيروت ،ط .١٩٩٣ ،٢ص .١٥٩٦
نفسه ،ص .١٦٠١ ،١٦٠٠
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81_%D8%A7%D9%84%D8%AD
%D9%83%D9%8A%D9%85
سورية والعهد العثماني ،يوسف الحكيم ،الطبعة الرابعة ،دار النهار ،بيروت ،١٩٩١ص) .٦٩الحقًا العهد العثماني(
6
عديدة من االضطهاد الشديد من جهة الجهات السياسية والدينية السنية في أغلب األحيان ،مما أدى
إلى تقوية الشعور الجماعي في هذه الطائفة ،وشعورها بتميزها واعتمادها على نفسها وخوفها وعدم
اطمئنانها« .
لم يبدأ اضطهاد العلويني مع السلطات العثمانية ،بل ،وتأكيداً ملا تقول الرواية الشفوية العلوية ،تذكر
كتب التاريخ العربي وقائع أقدم من الحقبة العثمانية قامت بها السلطات في زمن الدولة اململوكية .ففي
املوسوعة األدبية التاريخية »نهاية األرب في فنون األدب « يذكر شهاب الدين النويري الذي أنجز كتابة
موسوعته قبل سنة ١٣٢١) ٧٢١ميالدي( ،أنه في السابع من شهر شوال عام ٧١٧هـ )أواخر عام
ت فيه بقضايا توزيع ١٣١٧ميالدي( أصدر امللك »ناصر الدين محمد بن قالوون« مرسوماً سلطانياً يب ّ
العقارات وامللكيات والضرائب وغير ذلك من شؤون »اململكة الطرابلسية« ،يرِد فيه أنه في »األطرافِ
ى سكانُها ُيعرَفون بالّنصيريّة ،لم َيلِج اإلسالم لهم قلباً وال خالط لهم لّباً ،وال
القاصية من هذه اململكة قر ً
أظهروا له بينهم شعاراً ،وال أقاموا له مناراً ،بل يخالفون أحكامه ،ويجهلون حالَله وحراَمه ،وَيخلطون
ذبائحهم بذبائح املسلمني ،ومقابرهم بمقابر أهل الدين ،وكل ذلك مّما يجب رَدُعهُم عنه شرعاً ،ورجوعهم
فيه إلى سواء السبيل أصالً وفرعاً« .
ويحدد املرسوم السلطاني طريقة سوقهم »إلى سواء السبيل« عن طريق نشر املساجد اإلسالمية/السنية
في جميع القرى» :وأما النصيرية فَلُيعَِّم في بالدهم بكل قرية مسجد ،وليطلق له من أرض القرية املذكورة
قطعة أرض تقوم به ،وبمن يكون فيه للقيام بمصالحه على حسب الكفاية )…( مَن يثق إليه ألفراد
األراضي املذكورة ،وتحديدها وتسليمها ألئمة املساجد املذكورة ،وفصلها عن أراضي املقطعني ،وُيعْمَل
بذلك أوراق ويخلَّد بالديوان املعمور حتى ال يبقى ألحد من املقطعني فيها كالم ،وينادى في املقطعني
وأهل البالد املذكورة بصورة ما رسمنا به« .
ال يكتفي املرسوم السلطاني بنشر مساجد في »كل قرية« بهدف نشر الطريقة السنية اإلسالمية ،بل
يتخذ إجراءات ملنع العلويني من ممارسة طقوس عبادتهم ،لهذا يقول املرسوم» :وكذلك رسمنا أيضاً
بمنع النصيرية املذكورين من الخطاب ]التشديد مني[ ،وأن ال يمكَّنوا بعد ورود مرسومنا هذا من الخطاب
جملة كافة ]أي ال يستثنى منهم أحد[ ،وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم بأن ال يعود أحدٌ
إلى التظاهر بالخطاب ،ومن تظاهر به قُوِتل أشدّ مقاتلة فَلُْتعَْتمد مراسُمنا الشريفة وال ُيعْدل عن شيء
منها« .
كلمة الخطاب الواردة في نص املرسوم هي وفق شرح النويري تعني »أن الصبي إذا بلغ الحلم وأِنسَ
منه الرشد يتطاول إلى املخاطبة )…( ثم يوضح له الخطاب وكيفيته« .فالخطاب هنا يعني طريقة نقل
العقيدة العلوية وتعاليم الديانة العلوية إلى الشبان من قَِبل رجال الدين .وهذه عادة تجري وفق طقوس
دينية خاصة ليست علنية ،لها تسمية بسيطة هي »تعليم الديانة«.
دائرة الخوف ،العلويون السوريون في الحرب والسلم ،ليون ت .غولدسيمث ،ترجمة د .عامر شيخوني ،الدار العربية للعلوم
ناشرون ،بيروت ،٢٠١٦ص ٨١.
نهاية األرب في فنون األدب ،شهاب الدين النويري ،الجزء ،٣٣-٣٢الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية ،الطبعة الثانية،
القاهرة ،٢٠٠٢ص.٢٦٢ ،٢٦١
نفسه ،ص.٢٦٤ ،٢٦٣
نفسه ،ص.٢٦٤
نفسه ،ص.٢٥٨
7
ال يقتصر ذكر العلويني عند النويري على نص املرسوم السلطاني ،الذي يؤكد على أنه َنقَله عن املرسوم
ذاته ولم ينقله عن ألسنة الناس ،فيخبرنا بأن التوجيهات الواردة في املرسوم بخصوص العلويني
وعقيدتهم لم تكن األولى التي ظهرت في عصر دولة املماليك في مواجهة العلويني ،بل سبقها بقليل كما
يقول »فتيا في أمر النصيرية وتضمنت اعتقادهم وما هم عليه ،وأجاب عن ذلك الشيخ تقي الدين ابن
تيمية« .ويضيف بأنه من الضروري »أن نذكر نص الفتيا والجواب في هذا املوضع ،ملا في ذلك بيان
ما تعتقده هذه الطائفة امللعونة« .وقد أورد خبر تلك الفتوى فور انتهائه من وضع نص املرسوم
السلطاني ،وكأنه أراد أن يقول إن املرسوم بنى موقفه من عقيدة العلويني على فتوى ابن تيمية ،التي
يخبرنا بأنه نسخها عن كاتب الفتوى »شهاب الدين أحمد بن محمود بن مري الشافعي« .وقد جاء
في نسخته أن ابن تيمية قال في فتواه عن النصيرية إن »دماؤهم مباحة وكذلك أموالهم« ،وأنه »ال
ريب أن جهاد هؤالء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات ،وهو أفضل مِن جهاد مَن
ال يقاتل املسلمني من املشركني وأهل الكتاب ،فإن جهاد هؤالء من جنس جهاد املرتدين« .
الحدث املهم اآلخر الذي يخبرنا عنه النويري بخصوص العلويني في نفس السنة ،وتحديداً بعد شهرين
من صدور املرسوم )أي بتاريخ » (١٣١٨-٢-١٩في سابع عشر ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبعمائة
ظهر رجل من أرض قرطياؤس من عمل جبلة ،فادعى أنه محمد بن الحسن املهدي ،وقال للناس إنه بينما
هو يحرث إذ جاءه طائر أبيض فنقب جنبه وأخرج روحه منه ،ونقل إليه روح محمد بن الحسن .وصدّقوه
فيما ادعاه ودعاهم إلى طاعته فاجتمع عليه طائفة من الّنصيرية تقدير خمسة آالف رجل )…( ثم جمع
ي أصحابه ودخل بهم مدينة جبلة في يوم الجمعة بعد الصالة الثاني والعشرين من الشهر هذا الدع ّ
]١٣١٨-٢-٢٤م[ ،وفرّق جماعته ثالث فرق عليها ،فرقة أتت من قبلي البلد مما يلي الشرق ،فخرج عليهم
العسكر املقيم بجبلة فكسرهم وقتل منهم مائة وأربعة وعشرين نفراً ،واستشهد من املسلمني نفرٌ يسير.
وانهزمت هذه الفرقة الثانية التي أتت من قبلي البلد مما يلي الغرب على جانب البحر .والفرقة الثالثة
أتت من شرقي البلد لجهة الشمال ،وكثروا على أهل البلد وكسروهم وهجموا على البلد ونهبوا األموال
وسبوا الحريم واألوالد ،وقتلوا جماعة من رءوس املسلمني بجبلة ،وأعلنوا بقول ال إله إال عليّ وال حجاب
إال محمد وال باب اال سلمان ،وبسبّ أبي بكر وعمر رضي اهلل عنهما ولعن هذه الطائفة .وجمع هذا
الخارجيّ ما انتهبه أصحابه من جبلة[ وقسّمه على أصحابه بقرية ] .وجاء األمير بدر الدين التاجي
مقّدم العسكر بالالذقية إلى جبلة في آخر هذا اليوم وحماها ومنع الخارجيّ من الَعود إليها )…(،
فاتصل ذلك باألمير شهاب الدين قرطاي نائب السلطنة باململكة الطرابلسية فجرّد إلى هذه الطائفة
املارقة من العسكر الطرابلسيّ األمير بدر الدين بيليك العثماني املنصوري ،واألمير شرف الدين عيسى
البرطاسي ،واألمير عالء الدين علي بن الدربساك التركماني ،في ألف فارس ،والتقوا بقرية من عمل
ي ونحو ستمائة رجل من أصحابه، جبلة بالجبل ،فاقتتلوا ساعة من النهار ،فانجَلْت الحرب عن قتل الّدع ّ
نفسه ،ص.٢٦٤
نفسه.
نفسه.
نفسه ،ص.٢٧٣
نفسه ،ص.٢٧٥
مكان كلمة مطموسة ،وهي اسم لقرية .محققو الكتاب.
8
وتفرّق بقية ذلك الجمع ،ثم استأمنوا فأمّنوا ،وعادوا إلى أماكنهم واستمروا على عمل فالحتهم وطفيت
ي وقتله خمسة أيام ،واهلل أعلم« .
هذه الثائرة وكان بني خروج هذا الّدع ّ
ي املهدي عند العلويني تم ذِكرها في جواب البن تيمية في »كتاب الفتاوى الكبرى« وحادثة هذا الّدع ّ
»املسألة رقم «١١١-٧٥٧في صيغة سؤال» :في طائفة مِن رعّية البالد كانوا يرون مذهب الّنصيرّية،
ي مرسلٌ، ثم أجمعوا على رجل واختلفت أقوالهم فيه ،فمنهم من يزعم أنه إلٌه ،ومنهم من يزعم أنه نب ٌّ
ومنهم من ادّعى أنه محمد بن الحسن ،يعنون املهدي ،وأَمَروا مَن وَجَده بالسجود له ،وأَعلَنوا بالكفر
ب الصحابة ،وأظهروا الخروج عن الطاعة ،وعزموا على املحاربة ،فهل يجب قتالهم وقتل بذلك ،وس ِّ
ال؟ أم وأموالهم ذراِريّهم تباح وهل مقاتلتهم،
الجواب ]البن تيمية[ :الحمد هلل .هؤالء يجب قتالهم ما داموا ممتنعني حتى يلتزموا شرائع اإلسالم ،فإن
الّنصيرّية من أعظم الناس كفراً بدون اّتباعهم ملِثل هذا الّدجّال ،فكيف إذا اّتبعوا مِثل هذا الّدجّال .وهم
مرتدون مِن أسوء الناس رِدًةُ ،تقْتَُل مُقَاِتلُِهمْ وَتغَنمُ أموالهم .وسبيُ الذرّيّة فيه نزاعٌ ،لكن أكثر العلماء
على أنه تسبى الصغار من أوالد املرتدين ،وهذا هو الذي دّلت عليه سيرة الصّّديق في قتال املرتدين.
وكذلك قد تنازع العلماء في استرقاق املرتد ،وطائفةٌ تقول :إنها ُتستََرقّ كقول أبي حنيفة ،وطائفةٌ تقول
ال ُتستََرقّ كقول الشافعي وأحمد .واملعروف عن الصحابة هو األول ،وأنه ُتسْتََرقّ مِنهنّ املرتدّات نساءُ
املرتدين ،فإن »الحنفّية« التي تسرّى بها علي بن أبي طالب ،رضي اهلل عنه ،أُمُّ ابنه محمد بن الحنفّية
مِن سبي بني حنيفة املرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ،رضي اهلل عنه ،والصحابة ملّا َبعَث خالد
قتالهم. في الوليد بن
والنصيرّية ال َيكْتُُمون أمرهم ]التشديد مني[ ،بل هم معروفون عند جميع املسلمني ،ال يصلّون الصلوات
الخمس ،وال يصومون شهر رمضان ،وال يحجّون البيت ،وال يؤدّون الزكاة وال يقرّون بوجوب ذلك،
وَيستحلّون الخمر وغيرها من املحّرمات ،ويعتقدون أن اإلله علي بن أبي طالب )…(.
وأما إذا لم ُيظهِروا الّرفض ،وأنّ هذا الكذّاب هو املهديّ املنتظر ،وامتنعوا ،فإنهم ُيقَاتَلون أيضاً ،لكن
ُيقَاتَلون كما ُيقَاتَل الخوارج املارقون الذين قاتلهم علي بن أبي طالب ،رضي اهلل عنه ،بأمر رسول اهلل،
صلى اهلل عليه وسلم ،وكما ُيقَاتَل املرتدّون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ،رضي اهلل عنه ،فهؤالء ُيقَاتَلون
ما داموا ممتنعني ،وال ُتسبى ذراريّهم ،وال ُتغَنم أموالهم التي لم يستعينوا بها على القتال ،وأما ما
استعانوا به على قتال املسلمني من خيل وسالح وغير ذلك ففي أخذه نزاعٌ بني العلماء .وقد روي عن
ب َعسكَرُه ما في َعسْكر الخوارج .فإن رأى وليّ األمر أن َيستبيح ما في علي بن أبي طالب أنه َنهَ َ
عسكرهم من املال كان هذا سائغاً .هذا ما داموا مُمتَنعني ،فإن قَدَرَ عليهم فإنه يجب أن يفرّق شملهم
وَيحْسِم ماّدة شرّهم ،وإلزامهم شرائع اإلسالم ،وقتل من أصرّ على الردة منهم ،وأمّا قتلُ مَن أظهر
اإلسالم وأبطنَ كفراً منه ،وهو املنافق الذي ُتسمّيه الفقهاء الّزنديق ،فأكثرُ الفقهاء على أنه ُيقتَل وإن
تابَ ،كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتني عنه ،وأحدُ القولني في مذهب أبي حنيفة والشافعي.
ف شرّه إال بقتله ،قُِتلَ أيضاً ،وإن أظهر الّتوبة ،وإنْ لم ُيحكَم وَمن كان داعياً منهم إلى الضّالل ال َينك ُّ
جعْد بن دِرهم وأمثالهما بكفره كأئمة الّرفض الذين يضلون الناس ،كما قََتلَ املسلمون غيالن القدريّ ،وال َ
من الدعاة .فهذا الّدجال ُيقتل مُطلقاً واهلل أعلم« .
ومن بني كتب التاريخ األكثر أهمية التي ذكرت العلويني املؤَّلف املوسوعي الشهير «البداية والنهاية »
لإلمام الفقيه ابن كثير الدمشقي ،الذي انهى العمل في كتابه حوالي عام ٧٧٠هـ١٣٦٨ -م ،حيث نقرأ
في فصل تأريخه ألحداث سنة ٧١٧هجرية )١٣١٨-١٣١٧م( أنه» :وجاءت األخبار بأنه قد أُبطلت
الخمور والفواحش كلها من بالد السواحل وطرابلس وغيرها ،ووضعت مُكوسٌ كثيرة عن الناس هنالك،
وُبنيت بقرى الُّنصيرية في كل قرية مسجد ،وهلل الحمد واملنة« .
قد يكون ابن كثير بما يقوله هنا ليس دقيقاً كفاية عن أن املساجد قد بنيت بتلك السنة ،أي تعدّت كونها
أوامر سلطانية .إذ كما الحظنا أن املدة بني املرسوم السلطانية وما درُج على تسميته »ثورة املهدي
النصيري« كانت شهرين وبضعة أيام ،وكانت هذه الفترة في فصل الشتاء ،حيث البرد واألمطار ال
يساعدان على إقامة األبنية .هذا إضافة ملا استنتجناه من رفض العلوييم الذي قابلوا به املرسوم
السلطاني .لكن بغض النظر عن صيغة الفعل »ُبنيت« فما يقوله ابن كثير عن بناء املساجد يؤكد محاولة
السلطات السنية »تسنني« العلويني والقضاء على العقيدة العلوية .لكن ابن كثير بعد أن يخبرنا عن
«ثورة املهدي النصيري» أو »ثورة العلويني« ضمن فصل بعنوان «صفة خروج املهدي الضال بأرض
جبلة» حيث يؤكد أنه »في هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة ،فأقاموا من بينهم رجالً سَمّوه محمد
بن الحسن املهدي القائم بأمر اهلل (…) ،وصرّح بكفْر املسلمني ،وأن النصيرية على الحقّ ،واحتوى هذا
الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضُّالّل )…( وحََملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقاً
من أهلها (…) ،فجمع هذا الضَّال تلك األموال فقسّمها على أصحابه وأتباعه ،قّبحهم اهلل أجمعني )…(
نهاية األرب في فنون األدب ،شهاب الدين النويري ،ج ،٣٢ص ،٢٧٨دار الكتب والوثائق القومية ،القاهرة .٢٠٠٢
املكوس هي الضرائب.
البداية والنهاية ،ابن كثير ،الجزء ،١٦دار ابن كثير ،دمشق ،الطبعة الثانية ،٢٠١٠ص.١٢٥
10
وأمر أصحابه بخراب املساجد واتخاذها خَّمارات (…) ،فجرّدت إليهم العساكر فهزموهم و قَتلوا منهم
خلقاً كثيراً ،وجّماً غفيراً ،وقُتل املهدي الذي أضلّهم« .
حادثة املقاتلة هذه ،أي مهاجمة مدينة جبلة من قَِبل العلويني ومن ثم الكَرّ عليهم وهزيمتهم من جيش
السنة التي يوردها النويري وابن كثير نجدها أيضاً عند الرحّالة ابن بطوطة ) ١٣٧٧-١٣٠٤ميالدية،
٧٧٩-٧٠٣هجرية( .فخالل حديثة عن مدينة جبلة يعرض تعريفاً للطائفة العلوية فيقول» :وأكثر أهل هذه
السواحل هم الطائفة النصيرية )…( وكان امللك الظاهر أَلَْزمَهُمْ بناء املساجد بقراهم ،فَبنَْوا بكل قريةٍ
مسجداً بعيداً عن العمارة ،وال يدخلونه وال يعمرونه ،وربما آوت إليه مواشيهم ودوابهم« .ويتابع» :ذُكَِر
لي أن رجالً مجهوالً وَقََع ببالد هذه الطائفة ،فادّعى الهداية ،وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك البالد )…(
فغَدَروا مدينة جبلة وأهلها في صالة الجمعة ،فدخلوا الدور وهتكوا الحريم ،وثار املسلمون من مسجدهم،
فأخذوا السالح وقتلوهم كيف شاءوا ،واتصل الخبر بالالذقية فأقبل أميرها »بهادر عبد اهلل« بعسكره،
وطُِّيرت الحمام إلى طرابلس ،فأتى أمير األمراء بعساكره واتبعوهم حتى قتلوا منهم نحو عشرين ألفاً،
وتحصّن الباقون بالجبال ،وراسلوا ملك األمراء ،والتزموا أن يعطوه ديناراً عن كل رأس إن هو حَاوَلَ
إبقاءهم ،وكان الخبر قد طُِّيرَ به الحمام إلى امللك الناصر ،وصدر جوابه أن ُيحمل عليهم السيف ،فراجعه
ف املسلمون ،لذلك ملك األمراء ،وألقى له أنهم عمّال املسلمني في حراثة األرض ،وأنهم إن قُِتلُوا ضَعُ َ
فأمر باإلبقاء عليهم« .
بل حتى أبو الفداء صاحب حماة (٧٣٢-٦٧٢هـ ) يذكر هذه الواقعة في املجلد الرابع من كتاب «املختصر
في أخبار البشر» فيقول» :في أثناء ذي الحجة ظهر في جبال بالطنس إنسان من بعض النصيرية،
وادعى أنه محمد ابن الحسن العسكري ،ثاني عشر األئمة عند اإلمامية ،الذي دخل السرداب املقدم
ذكره فاتبع هذا الخارجي امللعون من النصيرية جماعة كثيرة ،تقدير ثالثة آالف نفر ،وهجم مدينة جبلة،
في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة ،والناس في صالة الجمعة وُنهبت
أموال أهل جبلة ،وسَلبهم ما عليهم .وجُرِّد إليه عسكر من طرابلس ،فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب
واختفى في تلك الجبال ،،فُتتِّبع وقتل لعنه اهلل ،وباد جمعه وتفرقوا ،ولم يعد لهم ذكر« .
يرد ذكر واقعة جبلة التي أسماها البعض »ثورة املهدي النصيري« أو »ثورة النصيرية« أو غير مسّمى
عند مؤرخني آخرين بمن فيهم مَن كان معاصراً لزمن الواقعة ،لكننا سنكتفي بهذا القدر ألنه ليس الغاية
من هذه تقديم قسم من التاريخ العلوي ،أو تاريخ الساحل السوري ،بل حاولنا تقصي صحة املرويات
العلوية التي يبنون عليها مظلوميتهم.
نتيجة الفتاوى الدينية التي أحّلت استباحة أرواح وأمالك العلويني فقد كانوا عرضة لالعتداء من كل
صاحب بأس »سّني« .يورد لنا حنا بطاطو مثاالً على ذلك في سياق حديثه عن العائالت الحموية فيذكر
أنه »وفوق جميع هذه السالالت ]البرازية[ حّلت ساللة األميراالي )العقيد( محمد آغا البرازي ،وكان آمر
نفسه .ص.١٢٧
امللك الظاهر بيبرس ) ١٢٧٧-١٢٢٨م .(٦٧٦-٦٢٥ ،يقول هنا ابن بطوطة أن أمر بناء املساجد في قرى العلويني حصل خالل
فترة حكم امللك الظاهر .وهذا يخالف ما قاله ابن كثير عن أن بناء املساجد كان في عام ٧١٧هجرية.
كتاب رحلة ابن بطوطة ،املسماة »تحفة النظار في غرائب األمصار وعجائب األسفار« ،مطبعة وادي النيل ،القاهرة ،مصر
١٢٨٧هـ ) ١٨٧٠ـ (١٨٧١ص.٤٥
نفسه ،ص.٤٦ ،٤٥
املختصر في أخبار البشر ،أبي الفداء ،دار املعارف ،القاهرة ،املجلد الرابع ،ص .٩٨
11
فرقة عثمانية ،قاد حملة ناجحة في عام ١٨٨٠ضد فالحني متمردين في جبل العلويني ،وتلقى مكافأة
له قرى عدة ،ومنح منصب حاكم حماة« .
مثل هذه السياسات العثمانية كانت السبب الرئيسي لتمرد العلويني ،فواقعة مثل حملة األميرالي البرازي
كانت تدفع بالشباب العلوي إلى التمرد وحمل السالح ومهاجمة كل مَن يعتبرونه يوالي العثمانيني .لهذا
في القرن التاسع عشر وحتى خروج العثمانيني من البالد »تحدّى الفالحون العلويون الحكومة القائمة،
أو رفعوا السالح ضدها ،في ثالث عشرة مناسبة مختلفة على األقل« في سنوات )،١٨٠٨ ،١٨٠٦
. (١٩١٨ ،١٨٨٠ ،١٨٧٧ ،١٨٧٠ ،١٨٥٨ ،١٨٥٥ ،١٨٥٢ ،١٨٤٤ ،١٨٣٤ ،١٨١٥ ،١٨١١
اضطهاد السلطات العثمانية السّنية للعلويني لم يقتصر على الحمالت العسكرية ،بل كان يتجلى في كل
جوانب السياسة العثمانية تجاه العلويني .فبعبارات دقيقة ومقتضبة يلخّص لنا يوسف الحكيم السياسة
العثمانية تجاه العلويني» :أجل ،ظل الشعب العلوي مضطَهداً في كل العهد العثماني الذي استمر أربعة
قرون ،فمُنعت عنه الوظائف الحكومية حتى الصغيرة منها التي ال تتطلب شيئاً من العلم والكتابة .وكان
دوماً عرضة لالمتهان من رجال الحكم والزعماء من أهل املدن .فإذا جاءها العلوي ،لم ُيسمح له بدخول
مساجدها وجوامعها ،وال يأكل السّنيون من ذبيحة العلوي .وطاملا باع العلوي نصف ما مََلكَه من أرض
ومزارع بثمن زهيد أو بال ثمن ألهل املدن ليتمتع بحمايتهم من ظلمِ جارٍ متنفذ ،أو من قسوة جباة
الضرائب ورجال الدرك .فكان على وجه اإلجمال محروماً من العلم والحرية والكرامة« .
حال العلويني التي يعرضها يوسف الحكيم هي الحكاية نفسها التي كّنا نسمعها قبل زمنٍ من كبار
السنّ العلويني الذين عاصروا تلك الفترة .فقد سمعت حكايات صغيرة كثيرة عن اعتداءات لفظية او
جسدية كان يقوم بها بعض سكّان املدن الساحلية بحق الفالحني العلويني الذين كانوا يخاطرون بالتعرّض
إلى مثل هذه االستفزازات من أجل بيع شيء بسيط من منتوجهم الزراعي ،وفي كثير من األحيان كان
يقوم هؤالء املعتدين بإتالف ما جاء يبيعه الفالح العلوي أو بعضاً منه.
ويخبرنا يوسف الحكيم في كتابه أن املتصرّف »ضيا بك« ،متصرّف الالذقية ،هو الوحيد من املتصرفني
الذي شعر العلويون خالل فترة حكمه ،أواخر القرن التاسع عشر ،بطعم الراحة والكرامة .وأنه كتب إلى
السلطان عبد الحميد» :إن هذا الشعب ]العلويني[ يميل بعواطفه إلى دولة إيران الشيعية املذهب ،نظراً
ت له حريته وكرامته قَِبلَ الدعوة إلى
ملا يالقيه من ظلم واستبداد من مواطنيه والحكومة معاً ،فإذا ضُمَِن ْ
سّنة اإلسالم« .وقد وافق السلطان على هذا املقترح ،حسب ما يذكر الحكيم» ،فأخذ يعيد إلى العلويني
قراهم املغصوبة ]التشديد مني[ ،ويعني شيوخهم ووجهاءهم في الوظائف التمثيلية ،كأعضاء املجالس
املحلية واملحاكم ،كما عني األميني منهم أفراداً في الدرك ،وبنى لهم املدارس واملساجد في كل قرية
كبيرة )…( فسادَ األمن في أنحاء الجبل مدة أربع سنوات ،انتهت مع األسف بموت هذا الحاكم العادل
املستبد« .
يبدو من هذا املقطع أن اضطهاد العلويني كان يصل حد السيطرة على أمالكهم واغتصاب قراهم .بل
ويبدو أنهم تعرضوا إلى التهجير القسري والطرد من منازلهم وفق يخبرنا به صموئيل ليد في مقدمة
بطاطو ،ص.٢٤٨
بطاطو ،ص.٢١٩
العهد العثماني ،ص .٧٠
العهد العثماني ،ص .٧٠
العهد العثماني ص.٧٠
12
كتابه » «mystery Asian Theعن كتاب كان بحوزته ويعتبره »كتاب النصيرية« فيقول» :لقد
اشتريت الكتاب نفسه من تاجر مسيحي في الالذقية بمبلغ ١٠جنيهات إسترلينية ،وكان قد وصل إلى
يديه خالل األوقات العصيبة إلبراهيم باشا عندما طرد الّنصيرية من منازلهم ]التشديد مني[« .
يشهد الحكيم للعلويني شهادة تختلف عن شهادة معاصريه عبد الرزاق البيطار وجورجي أفندي يني،
وقد يعود ذلك إلى أنه نشر كتابه بعد انتهاء حكم السلطنة العثمانية على سوريا ،أي أنه لم يخشى
عقاباً ،بخالف اآلخَرين اللذين كتبا كتبهما خالل فترة الحكم العثماني ،وقد يكون التشنيع الذي قااله
على العلويني كان بهدف إرضاء السلطات العثمانية .فالحكيم يقول إن »عدداً غير يسير من أبناء الالذقية
املسلمني واملسيحيني قد لجأ أثناء الحرب العاملية األولى إلى القرى الجبلية العالية ،فراراً من الجندية،
وبقوا في حمى إخوانهم العلويني طول فترة الحرب معززين مكرّمني ،دون أن يتعرض أحدهم ملا يزعجه
أو يكدّر خاطره« .
***
يمكننا أن نخلص مما ورد إلى أن العلويني هم جماعة يقيمون في قراهم الحالية منذ أكثر من سبعمئة
سنة بكثير ،أي أنهم من السوريني األصالء .وأنهم تعرضوا إلى اضطهاد سني/سلطوي دام وفق املراجع
التي اعتمدناها أكثر من ستمئة سنة .وقد القوا طيلة هذه السنني النبذ والتهميش جرّاء رفضهم االنصياع
لحمالت وسياسات »التسنني« التي اعتمدتها السلطات السّنية العثمانية واململوكية ،بل إنهم لم يعتمدوا
أسلوب »التقية« الدينية ،بل بقوا يتعبّدون ربهم »الواحد األحد« »املتعالي« و»املفارق« للوجود املادي
على طريقتهم الباطنية التي ال تتخطى حدود صدورهم.
سياسات »التسنني« بحق العلويني تندرج ضمن عمليات »االضطهاد الديني« الذي ينتمي إلى الحقل
السياسي وليس إلى الحقل الديني .لهذا جئنا على ذكرها ضمن هذا السياق وليس ضمن السياق
العقيدي الديني ،فهذا جانب ال عالقة لدراستنا به.
»َعقِبَ جالء الدولة العثمانية في آخر يوم من أيلول/سبتمبر ١٩١٨عن بيروت ولبنان باتجاه األناضول
)…( وصلت الجيوش الفرنسية بحراً إلى بيروت في السادس من تشرين أول/أكتوبر ،وأخذت مواقعها
في مختلف أنحاء املنطقة الساحلية« ،وكان ذلك بالتزامن مع دخول امللك فيصل دمشق بفارق يومني
فقط .بعدها قسّم الجنرال اللنبي Allenbyسوريا إلى ثالث مناطق وفق اتفاق سايكس بيكو »يرئس
كالً من هذه املناطق حاكم عسكري .فكان الفريق رضا باشا الركابي ،العربي الدمشقي ،على املنطقة
الشرقية والكولونيل الفرنسي دي بييباب De Piepapعلى املنطقة الغربية بينما كانت املنطقة الجنوبية
تحت احتالل القوات البريطانية« .
العلويون والدولة
تزامن زوال جدار العزل الطائفي على العلويني مع إقامة الدولة الوطنية السورية ،التي حّلت محلّ قوات
االنتداب الفرنسي .حينها تمكّن العلويون ،بعد مئات السنني من اإلقصاء والنبذ ،من تنفس الصعداء،
وَعرِفوا ألول مرة في تاريخهم املساواة في الحقوق مع غيرهم من السوريني ،من دون تمييز طائفي.
ونظر العلويون إلى الدولة الناشئة على أنها دولتهم مثلما هي دولة غيرهم من السوريني .واطمأنوا إليها
معتبرينها كياناً سياسياً وحكومياً حامٍ لهم وراعٍ ملصالحهم .فضالً عن أنهم وجدوا في مؤسساتها،
التي كانت بحاجة للكثير من العمال واملوظفني ،وسيلة العمل البديلة للعمل الزراعي الذي لم يعد كافياً
لتأمني متطلبات عيشهم .إذ أنه على الرغم من أن أراضي قراهم املنتشرة في هضاب وسهول الساحل
السوري هي أراضٍ خصبة ووفيرة األمطار واألنهار ،لكن مساحتها باتت ،منذ زمن طويل جداً ،أضيق
من تؤمّن معيشة ربع عدد سكّانها .وقد حالَ الحصار والتمييز الذي كانوا يعيشونه دون إمكانية هجرتهم
الداخلية أو الخارجية.
لقد وجد آالف الفقراء من العلويني فرصة عمل في مؤسسات الدولة أكثر يسراً من األعمال «الحرة »
في املدينة .فاملِهن املدينية ،كالنجارة والحدادة والخياطة وغيرها ،كانت تحتاج ملن يريد العمل فيها
ويتقاضى أجراً أن تكون لديه خبرات أو مهارات فيها .لكن الشبان العلويني ما كانوا يعرفون سوى
15
الفالحة ،وكان غالبيتهم على هذه الحال لدرجة أن العلويني كانوا ُيسمّون الفالحني ،Fellaheenفي
حني كان العمل في مؤسسات الدولة ال يتطلب أي مهارات أو خبرات سابقة ،فكان أي شخص يعرف
القراءة والكتابة ،دون أن يكون لديه حتى الشهادة االبتدائية ،بمقدوره الحصول على عمل في بعض
املؤسسات .فكان هذا نعيماً حقيقياً بنظرهم ،فـ»الفالحني العلويني كانوا فئة خاصة ،وما كانوا ُيحسَدون
قط على حظهم )…( وبعد الحرب العاملية األولى صارت األحوال االقتصادية ،حتى بالنسبة إلى الفالحني
العلويني األكثر استقاللية واألقل اضطهاداً ،بائسة إلى حد أنهم أخذوا يبيعون بناتهم أو يؤجّرونهن
]خادمات[ ألهل املدن األغنياء .كان بعضهم يباع في الطفولة مدى الحياة بصفة خادمة ،لكن كانت
أغلبيتهن »تؤجَّر« فحسب مقابل سعر متفق عليه ولفترة محددة من الزمن« .
ال يمكن للعلويني تصوّر أنفسهم من دون الدولة السورية التي ينظرون إليها نظرة خاصة مليئة بمشاعر
عاطفية قد تفوق وعيهم السياسي بها.
The Ansyreeh and Ismaeleeh, a visit to the secret sects of northern Syria, Samuel Lyde, Hurst
and Blackett publishers, London 1853. p127.
بطاطو ،ص.٩٣
بطاطو ص ٣٠٤ -٣٠٣
16
إلى تلك الفرقة على أنها كبيرة جداً ومكلفة جداً .ومن املؤكد ال يمكن ملوطئ القدم القوي للعلويني في
القوات الخاصة أن يفسر نفوذهم املهيمن في الجيش حالياً« .
إذن كيف وملاذا حصل وأن أصبح عدد الجنود العلويني في الجيش يفوق عدد الجنود اآلخرين ،خاصة
الجنود السّنة ،وهم الذين اشتبكوا مراراً مع السلطات العثمانية لرفضهم التجنيد في صفوف جيشها،
وهذا ما يلفت انتباهنا إليه «صاموئيل ليد » في كتابه «النصيرية واإلسماعيلية ،زيارة لطوائف سرية
شمالي سوريا» املنشور سنة ،١٨٥٣الذي عرض فيه املعلومات التي حصل عليها خالل رحلته إلى
جبال العلويني ،فأورد في الكتاب أن شيخاً علوياً قال له« :مهما كانت الضرائب ثقيلة فإنها ال تقارن مع
االنفصال عن أوالدنا » ،ويقصد ذهابهم إلى الجندية.
بنى العلويون عالقتهم مع الجيش السوري من خالل موقفهم من الدولة الوطنية السورية الناشئة ،فتعاملوا
معه على أنه أحد مؤسساتها ،إذ وجدوا أن شروط العمل فيه كانت تناسبهم ،فاالنضمام إليه باملعنى
االحترافي ال يتطلب أي خبرات أو مهارات ،وال يتطلب أي شهادات تعليمية ،وسيمنحهم راتباً شهرياً
ثابتاً من أول يوم يلتحقون به ،إذ كان الجيش في ذاك الحني يدفع الراتب الشهري سلفاً .كما أنهم
سيحصلون في نهاية خدمتهم على راتب تقاعدي لبقية حياتهم ،ومنحة مالية تسمى »سلفة سكن« ليبنوا
بيتاً صغيرة في قراهم .فـ»الظروف االقتصادية السيئة للعلويني جعلت من الجيش أداة للحراك
االجتماعي .فألول مرة ،تمكّن الشباب العلوي االستفادة من دخل صغير لكنه آمن« .وهذا تماماً ما
حصل مع والدي وعدد من أقرانه من القرى املجاورة لقريتنا النائية .فقد عرف حني تأديته الخدمة
اإللزامية في خمسينات القرن املاضي ،أنه إن »تطوّع« في الجيش ،أي احترف املهنة العسكرية ،فإنه
سيحصل على ذاك الدخل ولن يكون مضطراً للعودة إلى قريته ومعاناة الحاجة والعوز.
الحاجة إلى فرصة عمل بعيداً عن العمل الزراعي الذي لم يعد مجدياً منذ زمن طويل ،وإلى تأمني دخل
ثابت ،ولو كان قليالً جداً ،هو الدافع الوحيد الذي جعل الشبان العلويون يحترفون العمل العسكري على
الرغم من صعوبته ومخاطره التي تصل حد املوت في املعارك وفي التدريبات ،ولم يكن يوجد أي سبب
آخر يجعلهم يتركوا قراهم التي بقوا مرتبطني بها بعالقة عاطفية طوال فترة خدمتهم العسكرية ،والتي
عاد أكثرهم إليها في فترة تقاعدهم .وهذا حال غالبية أبناء األرياف.
وألن الجيش كان ،وما زال ،ال يضع حداً لعدد الذين يقبل انضمامهم إليه ،طاملا يستوفون الشروط
املطلوبة ،لهذا قَِبلَ جميع طالبي االنتساب من الشبان العلويني الذين أقبلوا عليه بكثافة حتى أصبحوا
يشّكلون أكثر من نصف عديده بني املحترفني (املتطوعني) في منتصف خمسينات القرن املاضي ،ومع
مرور الزمن ازدادت نسبهتم أكثر من ذلك بكثير .وقد كانت زيادة عدد العلويني في الجيش على مستوى
ضباط الصف أوالً ،بسبب قلة حاملي الشهادة الثانوية ،إال أنه الحقاً ،ومع ازدياد عدد املدارس وازدياد
عدد حََملة الشهادة الثانوية ،ولذات الدوافع واألسباب التي تسببت بالتحاق الشبان من غير خريجي
أيام عشتها ،١٩٦٩-١٩٤٩محمد معروف ،دار رياض الريس ،بيروت ،٢٠٠٣ص .٣٥
19
سياستها .لكن محمد عمران عاد واستدعى ضباطاً آخرين من رفاقه البعثيني لتعويض النقص في
اللجنة ،التي أصبح أعضاؤها ،إضافة إلى رئيسها املقدم محمد عمران ،املقدم صالح جديد )جبلة،
علوي( واملقدم عبد الكريم الجندي )سلمية ،سني( وحافظ األسد )القرداحة ،علوي( ومنير جيرودي
)يبرود ،سني( ،الرائد أحمد املير محمود )مصياف( ،والرائد عثمان كنعان )حلب ،سني( .
وتتطابق معلومات حنا بطاطو التي عرفها من أحمد املير الذي التقاه في مصياف في ٣كانون األول/
ديسمير ١٩٩٢مع معلومات مروان حبش» :أُسَّست اللجنة في عام ،١٩٥٩وأعضاؤها املؤسسون
الحقيقيون هم ]محمد[ عمران واملقدم مزيد هنيدي واملقدم بشير صادق والرائد عبد الغني عياش .لكن
في عام ،١٩٦٠فُصل هنيدي وصادق وعياش من الجيش وُعِّينا ]هكذا .واألصح وُعَّينوا[ في وظائف
دبلوماسية في الخارج .وفي تلك اللحظة أدخل عمران إلى اللجنة العسكرية ال األسد وجديد واملير
والجندي فحسب ،بل الرائدين عثمان كنعان ومنير الجيرودي أيضاً« .
بعد االنفصال تم تسريح ٦٣ضابطاً بعثياً ،كان من بينهم جميع أعضاء اللجنة ،حسب ما يقول حبش،
الذي يضيف أن هذا جعل اللجنة تزيد من عدد أعضائها ممن لم يشملهم التسريح فضمت إليها كالً من
الرائد حمد عبيد )السويداء ،درزي( ،والرائد موسى الزعبي )درعا ،سني( ،والنقيب محمد رباح الطويل
)الالذقية ،سني( ،وكذلك النقيب حسني ملحم )إدلب ،سني( الذي لم يكن مسّرحاً .
وفي شهر تموز/يوليو ١٩٦٢تم اعتقال محمد عمران وعثمان كنعان من بني مجموعة ضباط »وحدويني«
بتهمة القيام بانقالب ،فاستلم رئاسة اللجنة صالح جديد بحكم رتبته .وبعد انقالب الثامن من آذار/مارس
١٩٦٣أضيف إلى اللجنة النقيب سليم حاطوم )السويداء ،درزي( والنقيب مصطفى الحاج علي والنقيب
توفيق بركات والرائد أحمد سويداني )نوى ،سني( والعميد أمني الحافظ )حلب ،سني( الذي أصبح
رئيساً لها بحكم رتبته .
اإليضاح الذي قدمه مروان حبش ،وكذلك كالم أحمد املير الوارد في كتاب فالحو سورياُ ،يظهر لنا أن
وجود صالح جديد وحافظ األسد في هذه اللجنة ،وكذلك محمد عمران ،لم يكن نتيجة تدبير طائفي أبداً،
وإنما كان نتيجة ظروف عادية جداً .خاصة وأن زعيمها صالح جديد ،الذي كان له دور رئيسي في
انقالب آذار/مارس ،١٩٦٣كان مسّرحاً من الخدمة ،وكان قد مضى عليه خارج مالك الجيش أكثر من
سنة .وما يؤكده حبش واملير أنه لم يكن لهذه اللجنة أي طابع طائفي ،علوي أو غير علوي ،فهي لجنة
ال يطمحون ألن يكون حزبهم قائد البالد .وقد تمكنت من لعب عسكرية بعثية صرفة ،كان أفرادها رجا ً
أهم األدوار في تاريخ سوريا السياسي املعاصر.
كما يرد توضيح عدم التدبير الطائفي املسبق لهذه اللجنة عند حازم صاغية في كتابه »البعث السوري «
الذي يقول إنه في »مصر ،إّبان الوحدة ،شكّل خمسة من الضّباط البعثيني ما ُعرف بـ»اللجنة العسكرية«
لتكون ذراعهم في اإلمساك بالحزب ومن ثم التدخل في الشأن العام .ومن دون أن تكون األمور مصَّممة
على نحو تآمري مسبق ،قضى تركيب الحزب أن يكون ثالثة من قادة »اللجنة العسكرية« علويني ،وهم
أبرزهم محمد عمران ،وثانيهم صالح جديد ،ثم حافظ األسد ،أما االثنان اآلخران عبد الكريم الجندي
في قضايا وآراء ،مروان حبش ،حوار الصحفية شذا املداد ،طبعة الكترونية من دون تاريخ ،املقدمة موقعة سنة ،٢٠١٠
ص.١٢-١١
بطاطو ،ص.٢٨٢
حبش ،ص .١٢
نفسه.
20
وأحمد املير ،فكانا إسماعيليني .وبالطبع توسعت تدريجياً اللجنة التي حافظت على سريتها لتضم
الضباط البعثيني من سائر الطوائف ،كأحمد سويداني ومصطفى طالس من السنة ،وحمد عبيد وسليم
حاطوم الدرزيني ،إال أن قيادتها الفعلية بقيت في أيدي املؤسّسني الخمسة« ؛ أغلب الظن أن اسم
مصطفى طالس ورد سهواً بدل اسم مصطفى الحاج علي ،وقد أخطأ صاغية بطائفة الجندي فهو سّني
وليس إسماعيلي.
إذن الظروف هي التي وضعت صالح جديد وحافظ األسد في هذه اللجنة كانت معبراً لهما ليكونا أبرز
قائدين في النصف الثاني من الستينات قبل أن يطيح حافظ األسد بصالح جديد ،ويبقيه في السجن
حتى املوت .لكن لوال وصول هذين الشخصني »العلويني« إلى مواقع صنع القرار ،في عقد الستينات،
ولو بقي الوجود العلوي يقتصر فقط على الزيادة العددية في الجيش ،ملا كّنا سمعنا عن عصبية علوية
أو عصبية سّنية أو أي عصبية طائفية .يضاف إلى ذلك ما كان يتمتع به صالح جديد من إمكانيات
قيادية الفتة ،جعل خصومه يعتمدون املعايير الطائفية في نظرتهم إليه وإلى الواقع السياسي عموماً.
فالحو سوريا ،حنا بطاطو ،املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،بيروت .٢٠١٤ص.٣٠٣
بطاطو ،هامش ،٢٩ص.٣٠٤
بطاطو ،ص.٣٠٧
بطاطو ،ص.٣٠٧ -٣٠٦
فان دام ،ص.٦٠
24
ينسب فان دام جملته األخيرة إلى رسالة دكتوراه بعنوان »حزب البعث العربي االشتراكي :األيديولوجيا
واالجتماع والسياسة والتنظيم ،تأليف رونالد روبرت ماكنتاير« .ويقول ماكنتاير أنه حصل على هذه
املعلومات من شقيق الرئيس األسبق أمني الحافظ ،خالل مقابلة معه في شهر تشرين أول/أكتوبر في
بيروت عام .١٩٦٧
لكن بالعودة إلى كتابَي مروان حبش «البعث وثورة آذار» و «قضايا وآراء» ،وبتدقيق هذه املعلومات
معه فقد اعتبر أن رقم ٧٠٠مبالغ فيه ألن عدد الجيش لم يكن بهذه الضخامة ،لكنه يعتقد أن العدد
الحقيقي قد يكون قرابة نصف هذا الرقم .غير أنه يؤكد نقل وتسريح عدد من الضباط على خلفيات
سياسية بدءاً من ٨آذار/مارس .١٩٦٣ومن بني من تم نقله بضع عشرات من الضباط الناصريني الذين
كانوا يسيطرون على شعبة املخابرات العسكرية منذ شباط/فبراير ،١٩٦٣وتم حينها تعيني «راشد
قطيني» ،الذي كان ملحقاً عسكرياً في األردن ،رئيساً جديداً للشعبة .كذلك فقد تم استدعاء حوالي
١٨٠ضابطاً بعثياً أو صديقاً للبعث مللئ الشواغر ،ممن قد سبق أن أتمّوا خدمتهم اإللزامية ،وفي نهاية
العام تم إجراء فحص طبي لهم ،ليتم تثبيت حوالي ١٣٢ضابطاً منهم في الجيش والشرطة برتب ال
تتجاوز رتبة نقيب ،بعد خضوعهم لدورات تأهيلية حسب اختصاصاتهم .ويضيف حبش أن عدداً من
هؤالء الضباط ذاتهم تم تسريحه ُبعيد حركة ٢٣شباط/فبراير ١٩٦٦التي قام بها فريق من البعثيني
على فريق آخر .وفي شهر أيار من العام نفسه ،يضيف حبش ،تم نقل عدد قليل من الضباط البارزين
املحسوبني على الناصريني (ومن بينهم بعثيون سابقون ) إلى وزارة الخارجية وغيرها من الوزارات
األخرى ،ما دفع بالرئيس املصري جمال عبد الناصر اإلعالن عن انسحاب مصر من ميثاق الوحدة
الثالثي بني مصر وسوريا والعراق الذي تم إعالنه في ١٧نيسان/أبريل .١٩٦٣كما أحيلت مجموعة من
ضباط زياد الحريري عددها أقل من عشرة إلى وزارة الخارجية .وبعد ١٨تموز/يوليو ١٩٦٣على أثر
محاولة االنقالب التي قام بها العقيد الناصري جاسم علوان تم نقل »عدد بسيط ممن بقي محسوباً
على التيار الناصري إلى وظائف مدنية ،عدا العدد القليل الذي حُكم عليه الشتراكه في محاولة
االنقالب« .والحقاً في شهر آب/أغسطس ١٩٦٦اكتشفت السلطات السورية تنظيماً عسكرياً بقيادة
اللواء فهد الشاعر ينوي القيام بانقالب عسكري ،فقامت بتسريح عشرات من الضباط الصغار ،وكان
أغلبهم من الدروز .وبعدها بأيام في ٨أيلول/سبتمبر قام املقدم سليم حاطوم بعصيان في مدينة
السويداء أسفر عن تسريح عدد آخر من الضباط الدروز.
ينفي حبش بشكل قاطع في حديثه معي وجود أي تدبير طائفي بعملية تسريح الضباط أو باستدعاء
االحتياطيني ،ويؤكد أن املعيار الوحيد كان العالقة الحزبية .ويقول إنه ،بصفته الحزبية وقتذاك ،رشّح
حوالي ٢١شخصاً من منطقة القنيطرة من البعثيني ومن أصدقائه ،وأنه تمت دعوتههم جميعهم .كما
يقدّم تفسيراً لزيادة عدد العلويني في هذه العملية بأن »التكتالت التي كان هدفها اإلطاحة بالنظام
القائم كانت تقتصر على املنتمني للمذهب السّني أو الدرزي أو االسماعيلي أو من أتباع الديانة املسيحية،
ولذلك فإن نقل الضباط املتورطني إلى وزارات مدنية أو محاكمة بعضهم كانت تطال هؤالء وال تطال
املنتمني للمذهب العلوي« .كما يؤكد بشكل جازم أن »اللواء صالح جديد لم يكن ينتمي لطائفة بل للبعث
The Arab ba’th socialist party: ideology, politics, sociology and organisation, by Ronald Robert
Macintyre. Australia, 1969. pp 247-248.
نفسه ،الهامش رقم ،١في الصفحة .٢٤٨
25
فقط« .وأضيف على كالم حبش بأنه من اإلجحاف النظر إلى صالح جديد على أنه مجرد ضابط علوي
تمكّن «بعلويته » من الوصول إلى مناصب قاد فيها البالد لبعض الوقت ،وصنع فيها أحداثاً مفارقة .فال
أظنني أغالي بالقول إنه لو ال صالح جديد ملا كانت ستينات القرن املاضي على ما عرفناها عليه.
هله ليحقق قطعاً في السياق التاريخي عن فالرجل كان قائداً فذّاً ،امتلك الكثير من صفات القيادة ما أ ّ
املاضي السياسي لسوريا ،لكنه ما كان بمقدوره االستمرار في قيادة البالد برومنسيته الثورية بعد
ذلك.
»نجح أعضاء اللجنة العسكرية البارزون في الفترة التي تلت عام ١٩٦٣مباشرة ،وبوجود روافع السلطة
الحاسمة بني أيديهم ،ونيتهم توسيع قاعدة دعمهم ،في تسريع عملية كانت قد بدأت في الخمسينيات
وتكثيفها ،عملية تضمنت تحويل سلك الضباط والقوات املسلحة وبيروقراطية الدولة تحويالً جوهرياً إلى
مؤسسات ذات صبغة ريفية أو قروية قوية .وبعبارة أخرى ،وكي يكون كالمنا ملموساً أكثر ،فقد طهّر
األعضاء النافذون في اللجنة العسكرية تلك املؤسسات على نحو لم يكن معروفاً في سورية حتى ذلك
الوقت ،فخّلصوا تلك املؤسسات من العناصر التى اعتبروها معادية ،أو ذات والء مشكوك فيه أو متردد،
وملؤوها بأصدقائهم وأقربائهم أو بأفراد من عشائرهم أو طوائفهم ،أي ،عموماً ،بأشخاص ريفيني أو
رجال لم يكونوا فالحني من حيث الوظيفة إال في بعض األحيان ،لكنهم غالباً ما كانوا فالحني من حيث
األصل« .
إذن كان من الطبيعي أن يكون عدد العلويني ظاهراً في هذه العملية ،عملية تنقية حزب البعث من أعضاء
ضعيفي االنتماء له ،أو في عملية استدعاء بدائل عنهم .فالعلويون بحكم أنهم من بيئة فالحية ومن الفقراء
والكادحني فهم مؤهلون ألن يكونوا في مقدمة صفوف حزب البعث .فالروابط الريفية واملناطقية والفالحية
التي كانت تربطهم ببعض في ذاك الحني هي أكثر قوة من رابطتهم الطائفية .إذ كان التغني بالفقر
وباألصول الفالحية وباالنتماء إلى القرية وذّم املدينة من أساسيات األيديولوجيا الناصرية والبعثية التي
ت في خياالت الفالحني العلويني متسع لها، راجت خالل فترة جمال عبد الناصر .وهذه األيديولوجيا وَجدَ ْ
بحيث لم يشعر العلوي بانتمائه إلى البعث بأي غربة .ولهذا فقد اندفع العلويون أكثر بعد انقالب ٨
آذار/مارس ١٩٦٣لالنضمام إلى الجيش بعد أن شعروا أنه بيئة حاضنة لهم .وتزامن ذلك مع ازدياد
عدد شبانهم من خرجي الشهادة الثانوية التي تؤهلهم لالنتساب إلى الكليات العسكرية .إضافة إلى
عامل بالغ األهمية أن وجود ضباط ينتمون إلى بيئتهم االجتماعية والطائفية في مواقع قيادية عليا شكّل
إلهاماً لهم باالندفاع أكثر نحو االنتساب للجيش.
منذ انقالب ٢٥شباط/فبراير ،١٩٥٤الذي أطاح بحكم أديب الشيشكلي ،أصبح الجيش ،كمؤسسة
عسكرية ،معنياً بالسلطة السياسية في سوريا .فالجيش هو الذي بادر عام ١٩٥٨للتواصل مع الرئيس
املصري جمال عبد الناصر إلقامة الوحدة بني سوريا ومصر ،والجيش هو الذي قام بكل معنى الكلمة
بانقالب االنفصال ،وهو الذي قام بمحاوالت االنقالب التي تلت ذلك وسبقت انقالب ٨آذار/مارس ١٩٦٣
الذي أصبح الجيش بعده هو الحاكم الفعلي بشكل مباشر للبالد .لم يتصرف القادة العسكريون من
السّنة خالل حقبة الخمسينات ومطلع الستينات بناء على انتمائهم الطائفي ،وكذلك لم يتصرف القادة
العلويون خالل عقد الستينات بناء على عصبية طائفية .لكن مع احتدام الصراع بني صالح جديد وحافظ
األسد اختلف الوضع بعض الشيء ،فكما أخبرني مروان حبش أن »املؤتمر القطري السادس في
إذ التغيير الذي حصل قبل انقالب ١٦تشرين ثاني/نوفمبر ١٩٧٠كان عبارة عن زيادة «إحصائية»
بنسبة الضباط العلويني في الجيش .لكن هذه الزيادة العددية ،لكن بعد ذلك صار لهذه الزيادة دوراً
سلطوياً مهمّاً في مراكز القرار األمني والعسكري والسياسي .وبدءاً من هذا االنقالب بدء في سوريا
صراع طائفي علنيٌّ حيناً ومستترٌ حيناً ،بقي يتفاقم ويهدأ إلى أن وصلنا إلى أحداث عام .٢٠١١
***
ال بد من التنويه إلى أنه لم يكن غائباً عن نظر األخوان املسلمني ومتشددو السّنة هذا الصعود الصريح
للضباط العلويني في مراتب السلطة بعد آذار/مارس .١٩٦٣فلقد قاموا في شهر نيسان /أبريل عام
١٩٦٤بانتفاضة مسلحة في مدينة حماة كان ظاهرها احتجاجٌ إسالمي على حزب البعث .لكنّ »إذا
عرفنا أن هذه الطائفة ]النصيرية[ إما بسبب التخطيط أو بسبب الفقر أو بسببهما معاً بدأت تتمركز في
الجيش منذ عهد االستعمار ،وإذا عرفنا أن الجيش في العالم الثالث هو الذي يحكم بشكل مباشر أو
غير مباشر في الغالب ،أدركنا ملا آل حكم سوريا إلى النصيرية عبر الواجهات« .
حوى ،ص .٩٣ ،٩٢أي أنه قبل حكم األسد كان املوجودين في واجهة السلطة هم من السّنة ،لكن الذي يحكم علويون.
27
)مارس ( وبدأت تصفيات في الجيش وإدخال قوى بعثية كثيرة إلى الجيش ،وتمكن النصيريون من
املرحلة األولى أن يتحكموا بالجيش إلى حد كبير« » .وبدأ الصراع الداخلي في الحزب ]البعث[
والحكم ،فصُفّيت كل القوى بالنهاية لصالح القوى النصيرية ،وأدى هذا في النهاية إلى أن ُتحكَم سوريا
من قبل الطائفة النصيرية )…( واستطاعت الطائفة أن ُتوجِد تعاقدات وتحالفات وأجهزة ،واستطاعت
بذلك كله أن تتمكن من حكم سوريا« .
هذا املقطع الطويل نسبياً للزعيم األخواني سعيد حوّى من كتابه »هذه تجربتي« ،يكشف عن وجود
شريحة من السوريني السّنة ما كان في مقدورها أن تنظر للسوريني بوصفهم مواطنني بل مجرد طوائف
ومذاهب محكوم أفرادها بما تتصوره هذه الشريحة أنه عقيدة هذه الجماعة أو تلك .وعلى الرغم من أن
جماعة األخوان املسلمني ال يمثلون الشريحة األوسع من أبناء الطائفة السّنية إال أنهم كانوا جماعة
منظّمة اعتمدت سياسات استطاعت من خاللها التسبب في ارتجاجات كبيرة وعميقة في مطلع
الثمانينات.
بناء على هذا الكالم يمكننا وضع فرضية مفادها أن تحويل السلطة من صيغتها البعثية إلى صيغتها
العلوية لم يكن من صنع الضباط العلويون لوحدهم ،بل إن اإلخوان املسلمني كانوا شركاء أساسيني في
هذا األمر ،بل ربما ال نغالي إن قلنا أنهم كانوا املحفزين على دفع السلطة السورية في هذا االتجاه.
فمنذ استيالء حزب البعث على السلطة في انقالب ٨آذار/مارس ١٩٦٣اتخذ األخوان منه موقفاً
صدامياً ألسباب عديدة لكن من أهمها أن من بني أعضائه أشخاصاً علويني وغيرهم من األقليات األخرى
كاملسيحيني والدروز واإلسماعيليني .وبناء على موقفهم هذا فقد بادروا سريعاً بالقيام بانتفاضة مسلحة
في مدينة حماة ضد سلطة البعث في شهر نيسان/أبريل عام ١٩٦٤بعد أن تمكنوا مع غيرهم من
متشددي السّنة من تحفيز العامّة ودَفْعهم لالحتجاج في عدد من املحافظات السورية ،تمّيزت من بينها
مدينة حماة التي خرجت في شوارعها مظاهرات ،وأضربت أسواقها ٢٩يوماً ،وتشكلت اعتصامات
مسلحة داخل املساجد .وظهر حينها من بني قادة األخوان أشخاص كان لهم دور كبير في تصعيد حدة
األحداث من خالل استخدام السالح ،مثل مروان حديد وسعيد حوى الذي يقول »أنا أحد العناصر
الرئيسية التي شاركت في أحداث حماة ، «١٩٦٤و»كنت من جملة املحكومني غيابياً باإلعدام« .
ويؤكد بوضوح على الدور األخواني في هذه األحداث ،فيقول إنه قد »ُعرضَ أمر حماة على قيادة
اإلخوان املسلمني في سوريا ،فأعطت إذناً محلياً إلخوان حماة أن يتصرفوا« ،وقد كان من بني
الضحايا أشخاص إخوانيني ،و»كان محصلة ثورة حماة أربعة شهداء من إخواننا ]أي من اإلخوان
املسلمني[ ،وحوالي خمسني من أبناء البلد ،ويقال :إنه قُتل من جنود السلطة ورجاالتها الكثير« .
السلطة السورية وبأوامر مباشرة من الرئيس أمني الحافظ ومن محافظ حماة حينها عبد الحليم خدام
قمعت هذا العصيان بالقوة .وقُصف الجامع الذي اعتصم فيه املسلحون ومن بينهم مروان حديد .ومنذ
ذلك الوقت اعتمد األخوان املسلمني التحريض ضد سلطة البعث مستفيدين من وجود أشخاص علويني
في السلطة كمادة تحريضية بني العامّة الذين من السهل تأجيج مشاعرهم الدينية بإظهار أن العلويني
ص.٦٨-٦٧ حوى،
ص.٦٨ حوى،
ص.٨٤ حوى،
ص.٧٦ حوى،
ص.٧٠ حوى،
ص.٧٦ حوى،
28
كفّار وأن ابن تيمية وغيره قد أفتوا بكفرهم .وكانت الغاية الوحيدة من تحريضهم الطائفي استقطاب
الناس وكسب عناصر جدد لتنظيمهم .فعلى سبيل املثال نجد رأي سعيد حوى بحدث سياسي كبير
كانقالب ٢٣شباط/فبراير ١٩٦٦على أنه »أهم حدث سياسي في هذه الفترة هو انتقال السلطة من
أمني الحافظ إلى مجموعة صالح جديد من خالل انقالب ٢٣شباط ،١٩٦٦كانت نتيجة متوقعة ألن
معظم القوى كانت بيد األقليات ،وكانت أقوى األقليات الطائفة العلوية ،وقد اتفقت األقليات على إيجاد
وضع جديد فكان« .فهذه الشريحة املتشددة طائفياً ال ترى األشخاص إال من خالل انتمائهم لعقيدة
م ا.
لكن على الرغم من أن »حافظ أسد كان شريكاً في الحكم منذ ٨آذار )مارس( ،١٩٦٣وكان هو وزير
الدفاع سنة ،١٩٦٧فقد استقبل الناس حركته التصحيحية بنوع من االبتهاج ألنها سبقتها ولحقتها
شائعات واتفاقات )…( ومع أن حافظ أسد من الطائفة العلوية ولم يستلم سوريا من قبله إال مسلم
ال رائعاً« .
سّني ،نسوا كل ذلك )…( حتى أن حماة املشهورة بتدينها استقبلته استقبا ً
قد يكون خدع األسد نفسه وصدّق الصورة املفبركة لالحتفاالت الشعبية وترحيب الجمهور السّني له
في زيارته لعدد من املحافظات السورية ،ومن بينها حماة .فهذه الجمهرة الصورية كانت في قسم كبير
منها عبارة عن جنود بلباس مدني ،من بينهم آالف الجنود من الوحدات الخاصة ،حسب معلوماتي
الشخصية ،واعتبر نفسه انتصر بهذا الجمهور على املتشددين الذين يعتبرونه غير مسلم لكونه علوي،
لهذا حاول تمرير دستور ال يتضمن مادة دين رئيس الجمهورية ،لكن هؤالء املتشددون كان ينتظرون
مثل هذه الفرصة للنهوض في وجهه وتحريض العامّة عليه .فالقيادي اإلخواني سعيد حوى يعّبر عن
ذلك بوضوح بقوله» :عندما قرأت الدستور وجدت أنه ال بد من عمل ،وأن هذا العمل يجب أن يكون باسم
علماء سوريا )…( وما دام التحرك باسم العلماء فستظهر الحركة كلها باملظهر اإلسالمي )…( ورأيت
أن علينا نحن األخوان املسلمني أن نوصل الناس من وراء ستار إلى وضع يندفعون فيه دون أن يكون
هناك أي ممسك علينا « .
بعد ذلك »خرج طالب حماة في مظاهرات عنيفة وهم يهتفون :ال دراسة وال تدريس حتى يسلّم الرئيس،
ومزقوا صور حافظ أسد ،وأهانوها بأبشع اإلهانات ،كان ذلك يوم ثالثاء ،وكان أخطر من ذلك ما جرى
يوم األربعاء ،لقد خرجت البلد عن بكرة ابيها ،هاجمت مركز الحزب ]البعث[ وأحرقت مركز شبيبة الثورة،
وأحاطت باالتحاد النسائي وسيطر الشعب على الشارع وحطم الخمارات واملقاهي التي تقدّم الخمر،
وكان في املدينة مقهى يرتاده بعض الفجّار على »العاصي« اسمه مقهى غزالة دّمره الناس تدميراً
وبقي الشعب آخذاً حريته كاملة دون أي معارضة )…( لم تفعل ]السلطة[ شيئاً ضد الشعب في حماة،
فتفرق الناس وهم فرحون بانتصارهم« .وكان املطلب الرئيسي هو إدراج بند في الدستور ينص على
أنّ دين رئيس الجمهورية اإلسالم ،كي ال يكون من حق حافظ األسد أن يكون رئيساً.
هذه االحتجاجات التي جاءت رداً على الدستور قامت في عددٍ من مناطق البالد ،من بينها بلدة »برزة«
في ضواحي دمشق ،حيث كنت أعيش ،فقد خرجت مظاهرة مماثلة تطالب نفس املطلب .ردُّ الفعل
الشعبي هذا ،واملدفوع من بعض قادة اإلخوان املسلمني ،خاصة قادة حماة ،أقلق الرئيس حافظ األسد
هذه تجربتي وهذه شهادتي ،سعيد حوى ،مكتبة وهبة ،القاهرة ١٩٨٧ ،ص.٨٢
حوى ،ص.٩٥ ،٩٤
حوى ،ص.١٠٦-١٠٥
نفسه ،ص.١١١
29
ودفعه ألن يتراجع عن خطوته ،فأصدر »بياناً مطوالً يتحدث عن اإلسالم ويعلن عن أنه يطلب من مجلس
الشعب أن ُيدخل مادة في الدستور تنص على أن دين رئيس الدولة اإلسالم« .لكنه في مقابل ذلك قام
باعتقال عدد من قادة األخوان املسلمني من بينهم مروان حديد ،الذي مات في السجن ،وسعيد حوى،
الذي أُطلق سراحه بعد خمس سنوات ليخرج بعدها من البالد ويستقر في األردن حيث شارك في قيادة
التنظيم من هناك ،ويشرح لنا في كتابه »هذه تجربتي وهذه شهادتي« كيف استطاع مع رفاقه النهوض
بتنظيمهم ،وتقويته بجميع السبل ومن بينها وضعهم املالي الذي كان متردياً جداً ،فـ»تحرك أبو عامر
حركة قوية لتأمني املال الالزم ،ثم انهال علينا املال من كل جانب« .
والالفت أنهم لم يستثنوا من تحركاتهم أي بلد إسالمي »ومن باكستان انطلقنا إلى إيران ،وكان ذلك
في أواخر أيار )مايو( سنة (…) ١٩٧٩رتبوا لنا زيارتني رئيسيتني إحداهما للخميني واألخرى إلبراهيم
يازدي وزير الخارجية وقت ذاك« .
لقد كان األخوان املسلمون جاهزون دوماً إلشعال النار الطائفية في كل فرصة .فبعد »انقالب األسد
في عام ١٩٧٠بوقت قصير ،عاد ]مروان[ حديد إلى حماة ،وأسس ،كما ذكرنا ،الطليعة املقاتلة وأخذ
يحرّض على حمل السالح ضد النظام ألنه »ال يحكم بموجب القرآن وسّنة الّنبي« ،وألن األسد ورفاقه
»كفار«« .
كان من املبكّر على مجتمعاتنا السنية املحافِظة القبول بشخص علوي رئيساً للبالد ،هذا موقف طبيعي
جداً ينسجم مع الذهنية التي كرّستها السلطات السّنية العثمانية ملئات السنني من خالل نبذ العلويني
واعتبارهم كفاراً .هذه الذهنية املحافِظة لم يعمل أي طرف سياسي أو ثقافي على تأهيلها لتقّبل اآلخر
طيلة السنوات الخمسني الفاصلة بني رحيل العثمانيني ووصول العلويني إلى السلطة .بل لم يعمل أي
طرف على تأهيل املجتمعات السورية جميعها لتنفتح على بعضها وتتفهم أن الدولة مؤسسة ال عالقة لها
بالعقيدة أو املذهب .فأغلب الذين تولوا السلطة في البالد كانوا يريدون السلطة أكثر مما يريدون تنفيذ
برامج ،بل حتى أولئك الذين كانوا يتبنون برامج ويرفعون شعارات تستهدف تحقيق العدالة كانوا يهدفون
من برامجهم وشعاراتهم الوصول إلى السلطة وليس العكس ،أي أغلبهم لم يكن يسعى إلى تولي السلطة
كي ينفذ برامجه.
لهذا بقي املجتمع السوري السّني فضاًء مفتوحاً للمتشددين طائفياً ،كاألخوان املسلمني ،دون أي منازع
حداثي ،فالسلطات ،وخاصة السلطات البعثية ،لم ينشغلوا إطالقاً ببناء ثقافة عقالنية ،إذ اعتبروا أن
العقالنية تتعارض مع اإلسالم ،أو أنها توأم الليبرالية كما رآها البعث .لهذا اكتفى البعثيون بنبذ رجال
الدين ،واعتمد الرئيس حافظ األسد تجاه هذه املسألة سياسة العصا والجزرة بني املتشددين تجاهه
وبني املمالئني له .أي أنه اعتمد حصراً سياسة أمنية ،وأَولى هذا الشأن ألجهزة املخابرات .نتيجة كل
هذا استطاع األخوان املسلمون استغالل الذهنية املحافِظة عند العامة من الطائفة السّنية وتمكنوا من
توفير بيئة حاضنة بطرحهم »الجهاد« ضد »سلطة العلويني«.
لم يكن األسد في وضع ُيحسَدُ عليه في مواجهة احتجاجات الدستور ،فهو من ناحية متمسك بالسلطة
بشدة ،ويريد أن يكون رئيساً للجمهورية بشكل شخصي بأي ثمن ،ال أن يحكم مثل صالح جديد من
نفسه ،ص.١١١
نفسه ،ص.١٣٦
نفسه ،ص.١٣٧
بطاطو ص٤٨٤
30
خلف ستار .ولكن في املقابل من ذلك فإن متشدّدو السنة يرفضون أن تقاد البالد بغير شخص سّني.
لهذا كان األسد أمام خيارات صعبة ،فهو ال يستطيع أن يتحوّل إلى املذهب السني ألن هذا سيجعل
العلويون يمتنعون عن مناصرة ،خاصة الضباط منهم ،إذ من دون شك سيتعاملون معه على أنه منشق
أو مرتد ،وهذا يمكنه أن يهدد مصالحه .وكذلك ليس في مقدوره تسنني العلويني جميعهم ،فهذا أمر
مستحيل عليه وعلى غيره ،كون العلويني ليس لديهم قيادة روحية يمكنها أن »تفتي« لهم بذلك.
كذلك لم يمتلك الجرأة الكافية إلصدار دستور يغيب عنه تحديد دين رئيس الجمهورية .وهذا سيضطره
إلى إعالن علمانية الدولة السورية ،لكنه لن يكون بمقدوره القيام بهذه الخطوة لوحده ،أو بالتعاون مع
العسكر الذي شاركوه انقالبه ،فهي تحتاج إلى التحالف مع نخبة البالد الثقافية ،وهذا سيضعه في
موقع الخطر إذ أنه سيضطر إلى مشاركتهم سلطاته وهو الطامح إلى إقامة نظام استبدادي فردي.
إضافة إلى أن هذا التوجه يتطّلب من الرئيس األسد اعتماد برنامج سياسي قوامه بناء دولة حديثة
تقوم على العلمانية والديمقراطية والعقالنية ،وهذا إضافة إلى تعارضه مع اتجاه حزب البعث فإن األسد
كان بعيداً كل البعد عن تبني أي برنامج سياسي ،فهو كان يمتلك طموحاً جارفاً للسلطة وليس لتنفيذ
برامج سياسية.
بقي أمامه خيار أخير ليس أسهل من الخيارات األخرى بكثير ،وهو أن يرضخ للجمهور وُيدرِج مادة
في الدستور تحدد دين رئيس الجمهورية اإلسالم .وكان يعرف جيداً أن متشدّدو السّنة ،وفي مقّدمتهم
األخوان املسلمون ،سيواجهونه استناداً إلى فحوى خياره هذا ،ألنهم ال من وجهة نظرهم ال يحقق شرط
دين الرئيس ،فالعلوي بالنسبة لهم غير مسلم .واعتقد األسد أنه من املمكن أن يحل هذا اإلشكال من
خالل تحصيل فتوى تعتبر العلويني مسلمني .لذلك »وملواجهة التهمة التي يلقيها املتعصبون في وجهه
بأنه ينتمي إلى طائفة »من أصحاب البدع« ،أصدر ثمانون من رجال الدين العلويني بياناً رسمياً في
شأن هذ النقطة يؤكدون فيه على نحو قاطع أن كتابهم هو القرآن ،وأنهم مسلمون شيعة ،وأنهم ،مثل
أغلبية الشيعة ،اثنا عشرية ،أي من أتباع األئمة االثني عشر .وصادق على بيانهم املفتي الجعفري
املمتاز في لبنان عبد األمير قبالن .وأكد اإلمام موسى الصدر ،رئيس املجلس اإلسالمي الشيعي األعلى
ي مرجعي» ،الوحدة املذهبية« للعلويني مع الشيعة« .وقد كان لحازم صاغية رأي في لبنان ،في رأ ٍ
صائب بقوله» :أشهر األسد إسالمه السّني مع توليه رئاسة الجمهورية ،فقد حمل السيد موسى الصدر،
رئيس املجلس اإلسالمي الشيعي األعلى في لبنان ،على إصدار فتوى َتنسِب الطائفة العلوية إلى الشيعة
االثني عشرية« .حتى أن باتريك سيل كاتب سيرة األسد جاء على ذكر هذه النقطة في كتابه» :ثم
طُرح السؤال بعد ذلك عما إذا كان من املشروع أن ُيسمَّى العلوي مسلماً .ولحل هذه املعضلة ،لجأ
األسد إلى صديقه الزعيم الشيعي املتنفذ ،اإلمام موسى الصدر ،رئيس املجلس الشيعي األعلى في
لبنان ،الذي أصدر فتوى بأن العلويني حقاً طائفة من املسلمني«
وفّر األسد بهذه الفتوى مبرّراً شرعياً ملشايخ السّنة املمالئني له أن يلتفوا حوله ويساندوه باعتباره رئيساً
مسلماً ال يخلّ بالبند الدستوري .وبعدها اتخذ األسد إجراءات تقضي بطمر املسألة الطائفية برمّتها ولو
تحت طبقة خفيفة من الرماد تبقى معرّضة لالنكشاف عند أول نسمة هواء .لهذا تم وأد أي حديث علني
بطاطو ،ص٤٨١
البعث السوري ،حازم صاغية ،دار الساقي ،بيروت ،٢٠١٢ص.٧٢
األسد ،الصراع على الشرق األوسط ،باتريك سيل ،دار الساقي ،لندن ،١٩٨٨ص.٢٧٩
31
يتناول مسألة الطوائف أو املسألة الطائفية ،وتحوّلت سوريا »رسمياً« من حينها إلى بلد ال يوجد بني
أبنائه أي روابط طائفية.
لم تكن هذه هي املرأة األولى التي يتم فيها طرح عالقة العلويني باإلسالم بشكل شرعي .ففي عام
١٩٣٦و»في أعقاب اإلعالن العلوي عن دعم الوحدة السورية ،أصدر مفتي القدس ،املسلم السني
والعربي ،الحاج أمني الحسيني ،فتوى غير مسبوقة معلِنة »العلويني كمسلمني صالحني ليتم إدخالهم
إلى جماعة الدول اإلسالمية والعربية«« ،وكان ليون غولدسميث قد أخذ هذه العبارة األخيرة من بحث
نشره بول بونشي في »مجلة تاريخ األديان« .ويؤكّد مترجم بحث غولدسميث ،ناصر ضميرية ،أن
الفتوى نصّت على »إنّ هؤالء العلويون مسلمون ،وإّنه يجب على عامة املسلمني أن يتعاونوا معهم على
البر والتقوى ويتناهوا عن اإلثم والعدوان ،وأن يتناصروا جميعاً ويتضافروا قلباً واحداً في نصرة الدين،
ويداً واحدة في مصالح الدين ،ألنهم إخوان في املّلة« ،موضِحاً أنه تم نشر هذه الفتوى في جريدة
الشعب الدمشقية في شهر تموز/يوليو .١٩٣٦
وبعد ذلك بسنوات أفلحت الجهود واملناقشات التي بذلها مشايخ علويون مع مفتي الجمهورية السورية
الشيخ محمد شكري االسطواني ،التي استمرت ٢٠يوماً ،حصل العلويون بعدها على مرسوم تشريعي
يقرّ بأنهم من املذهب الجعفري .وقّع عى املرسوم الصادر في ١٥حزيران/يونيو ١٩٥٢رئيس الدولة
فوزي سلو وجميع وزرائه .
وبعدها ببضع سنوات ،سنة ،١٩٥٩خالل فترة الوحدة بني سوريا ومصر بقيادة الرئيس املصري جمال
ص على »إن مذهب الجعفرية املعروف بمذهبعبد الناصر ،أصدر شيخ األزهر محمود شلتوت فتوى تن ّ
اإلمامية اإلثني عشرية ،مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة« .وكان الشيخ يوسف
القرضاوي الذي قام بجمع تراث الشيخ شلتوت قد أنكر وجود هذه الفتوى وصرّح بأن »تراث الشيخ
شلتوت أنا أعلم الناس به ..ما رأيت هذه الفتوى في حياتي قطّ ولم أسمع عنها« .
لم يغب عن ذهن الوجهاء واملشايخ العلويني ،منذ رحيل العثمانيني وحلول الفرنسيني محلهم ،أنهم
يحتاجون إلى التصالح مع الوجاهات والسلطات الدينية السّنية ،لهذا لم يفوّتوا أي فرصة دون التأكيد
على أن دينهم هو اإلسالم ،وأن كتابهم هو القرآن ،مطالبني باالعتراف بهم كمسلمني وليس كسّنة .وكان
يدركون أنهم لن يتمكنوا من العيش املشترك مع مواطنيهم السّنة قبل ذلك .لكنهم لم يخفوا تمّيزهم
كطائفة لديها عقيدة مختلفة كلياً عن املذهب السني ،فأكّدوا على املشتركات اإلسالمية الرئيسية كاعتبار
القرآن كتاب اهلل ،والشهادة بأن ال إله إال اهلل وأن محمداً رسول اهلل .فمثل هذه التوجهات يوافق عليها
شيوخ الدين العلويني ،مقدمة موجزة ،ليون ت .غولدسميث ،ترجمة ناصر ضميرية ،جامعة جورج تاون ،قطر ،٢٠١٨ ،ص .٧
Boneschi, Paulo (1940). Une fatw. du Grande Mufti de J.rusalem Muhammad Amin al-Husayni
sur les Alawites. Revue de l’histoire des religions, 122(1): 134–52.
شيوخ الدين العلويني ،ص ،٧هامش .٣
البعث الشيعي في سورية ،٢٠٠٧-١٩١٩د .عبد الرحمن الحاج ،جسور للترجمة والنشر ،بيروت ،٢٠١٧هامش ) (٦٢صفحة
.٧٦
د.منير محمد الغضبان ،موقع »مركز الشرق العربي« بإدارة زهير سالم تاريح الثالثاء .٢٠٠٦-٨-٢٢
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89_%D8%B4%D9%84%D8%AA
%D9%88%D8%AA
http://www.dd-sunnah.net/news/view/action/view/id/961
32
جميع العلويني من دون تردد .فليس في العقيدة العلوية ما يمنع أداء العبادات الظاهرة كالصالة والصوم،
لكن عدم القيام بها ال ُيعدّ كفراً .فالعلويون لم يمارسوا التقية الدينية إطالقاً .فجدّي ألّمي كان يؤمّ بي
وبجدتي عندما كنت طفالً ،وما عرفته أفطر يوماً من أيام رمضان ال هو وال جدتي حتى وفاتهما ،ولم
يقم بذلك لكسب رضا أي أصحاب عقيدة أخرى.
لكن خطوة األسد ذهبت باتجاه آخر ،إذ كانت »تسنيناً« لصورة العلويني العلنية؛ وطبعاً ليس تسنينهم.
بمعنى آخر قام األسد بإخفاء «علوّية» العلويني بستار من «اإلسالم» عبر »تقية سياسية« تجعل منه
حقِّقاً لشرط أن يكون »دين رئيس الدولة اإلسالم« .فبعد ذلك بات من غير الشرعي التلفظ ش خ ص اً م ُ َ
بكلمَتي »سّنة« و»علويني« لتحّل بدالً عنهما كلمة جامعة هي »اإلسالم« ،لكن تعبير »اإلسالم« يعني
»محلّياً« »السّنة« بتمام القول واملعنى ،وال يعني إطالقاً أي مذهب آخر .وبذلك اختفت صورة العلويني
من املشهد الديني السوري .وطبعاً لم يفتقر األسد ملشايخ علويني يسيرون خلف «تقيته السياسية ».
وبذلك عاد العلويون إلى حالة التهميش من جديد ،ولكن هذه املرة ليس تهميشاً سياسياً بل تهميشاً
عقيدياً .ولم يتردد بعدها الرئيس األسد من قمع »أي تعبير علني عن الهوية العلوية« .
كما هو معروف لم يطل األمر كثيراً حتى وقع الصدام املسلح بني األخوان املسلمون ومتشددو السّنة
من جهة وبني الرئيس العلوي من الجهة األخرى ،وهذا يؤكد فشل سياسة »لفلفة« املسألة الطائفية
واملذهبية في سوريا .لقد كان من األفضل العمل على إبعاد الشأن الديني برمّته من الحقل السياسي،
خاصة وأن املحتجّني ،على الرغم من الضوضاء التي افتعلوها ،ال يشّكلون نسبة مهمة من الطائفة
السّنية .وكيفما كان الحال فإن استخدام القوة والعنف تجاههم هو أسوأ وسيلة للتعامل مع املوضوع.
لقد كان من األفضل عدم حصر املسألة بهذه األطراف ،فمسألة كهذه تستحق جهداً ثقافياً وفكرياً واسعاً
ومديداً ،يشارك في بحثها ومناقشتها جميع السوريني في غير ساحة من ساحات الحوار ،إذ ال شك
بأن اشتراط اإلسالم دين رئيس الجمهورية هو انتهاك غير عادل لبقية املكونات السورية غير املسلمة أو
غير السّنية في البالد.
إن هذه السياسة التي اعتمدها حافظ األسد بخصوص املوضوع الطائفي عادت وََباالً على البالد،
بجميع طوائفها ومذاهبها .فهي إضافة ملا تسببت فيه من خلخلة في »الهوية العلوية« فإنها لم تنهي
املشكلة الطائفية التي عادت وتفجّرت بقوة بعد أحداث ،٢٠١١ليس على يد األخوان املسلمني هذه املرة
وإنما بأيدي جهاديني متعددي الوالءات ،أدى صراعهم مع األسد االبن إلى تدمير البالد وتشريد أكثر
من ثلث سكانها.
103
Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon
Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, pp35-36.
33
لم يتأخر األخوان املسلمون ومتشددو السّنة كثيراً للبدء بعمليات مسلحة ضد النظام ،و»كان أول فعل
عنيف قامت به الطليعة املقاتلة هو اغتيال الرائد محمد غرّة رئيس فرع املخابرات العامة في حماة في
أوائل عام . «١٩٧٦ويؤكد ذلك سعيد حوى ،القيادي اإلخواني ،بقوله» :كان مقتل محمد غرة مدير
املخابرات العسكرية ]في حماة[ أول عمل مسلح ضد النظام ،وكان ذلك سنة ،١٩٧٦أي قبل خروجي
من السجن بسنتني« .وبعد ذلك حصلت حادثة «مدرسة املدفعية» العسكرية في حلب ،حيث قام عدد
من قادة وأفراد «تنظيم الطليعة املقاتلة» اإلخواني ،بقيادة إبراهيم اليوسف ،الذي كان أحد الضابط
الرئيسيني في املدرسة ،في يوم ١٦حزيران/يونيو ،١٩٧٩بقتل أكثر من ٥٠شاباً علوياً من طالب
املدرسة ،حسب رواية السلطة ،أو ٢٥٠حسب رواية تنظيم الطليعة .وكانت هذه الحادثة بمثابة إعالن
مدوٍّ على إخفاق سياسات حافظ األسد املتعلقة باملسألة الطائفية.
كانت حادثة مدرسة املدفعية بمثابة بداية الحرب العلنية بني النظام ومعارضيه املتشددين ،ومع تقدّم
الزمن كانت تتفاقم حدّتها .فقد أخذت السلطة نزيد من مالحقاتها العنيفة لعناصر األخوان وللمتشددين
السّنيني ،وكانت تقوم بقتلهم ومن معهم بطريقة انتقامية .وكان األخوانيون يكثرون من عمليات التفجير
وعمليات االغتيال التي طالت أشخاصاً عديدين من النخبة العلوية املدنيني والعسكريني.
ومنذ مطلع عام ١٩٨٠ازدادت حدة الصراع أكثر لدرجة دفعت الرئيس حافظ األسد للقول» :نعم ،إنني
أؤمن باهلل ،وبرسالة اإلسالم ،لقد كنت وال أزال وسأبقى مسلماً ،تماماً مثلما ستبقى سوريا قلعة شمّاء
ترفع راية اإلسالم عالياً ،ولكن أعداء اإلسالم املتاجرين في الدين سوف ُيكنسون بعيداً« .وفي اليوم
ت قوات محمولة بالطائرات املروحية إلى جسر الشغور )…( حيث هاجم املتظاهرون التالي »أُرسل ْ
الثكنات ومكاتب الحزب .فتبعت ذلك عملية بحث وتدمير ضاربة تركت وراءها مائتي قتيل« » .وبعد
ت الفرقة الثالثة بأكملها ،أي عشرة آالف رجل ومائتانذلك ]عملية جسر الشغور[ بأيام قليلة أُرسل ْ
ال إلى حلب إلخضاعها )…( وبعد فشل املفاوضات في إعادة النظام أُرسل ْ
ت وخمسون عربة مدرعة شما ً
القوات إلى الداخل في ١نيسان/أبريل إلغالق أحياء بكاملها والقيام بعمليات تفتيش من منزل إلى منزل
مسبوقة على الغالب بنيران الدبابات .وأُلقي القبض على مئات من املشتبه بهم وسيقوا بعيداً« .
وفي ٢٦حزيران/يونيو من العام نفسه تعرض حافظ األسد ملحاولة اغتيال نجى منها بمعجزة .وفي
اليوم التالي أرسل رفعت األسد ،شقيق رئيس الجمهورية ،قائد سرايا الدفاع ،نخبة من جنوده إلى
سجن تدمر ،فاجتاحوا السجن ويسيطروا عليه وأعدموا جميع معتقلي األخوان املسلمني املوجودين فيه
حينها ،حسب معلوماتي الشخصية .وبعد أيام ،في ٨تموز/يوليو ،أصدر األسد القانون ٤٩الذي يقضي
بإعدام كل من يثبت انتماؤه لجماعة األخوان املسلمني.
كانت النزاالت بني الطرفني على أشدّها طيلة هذه السنة ،ففي حلب على سبيل املثال »قَتل اإلرهابيون
أكثر من ثالثمائة شخص بني عامي ١٩٧٩و » . «١٩٨١وفي مقابل ضحاياهم الثالثمائة كان هناك
ألفان من املعارضني املسلمني قتلتهم قوات األمن في حلب ،باإلضافة إلى ألوف من الذين اعتُقلوا وزُج
بطاطو ص.٤٨٨
حوى ،ص.١٢٩
األسد ،الصراع على الشرق األوسط ،باتريك سيل ،دار الساقي ،لندن ،١٩٨٨ص.٥٣١
سيل ،ص.٥٣٠
سيل ،ص.٥٣٠
سيل ،ص.٥٢٧-٥٢٦
34
بهم في غياهب السجون حيث كانوا غالباً ما يتعرضون للضرب والتعذيب« .كذلك في نيسان/أبريل
١٩٨١قامت قوات النظام باالنتقام من أهالي حماة على إثر هجوم شنه مسلحو األخوان املسلمون ضد
منطقة علوية قريبة ،فقام بـ»جمع عشرات الذكور الذين تجاوزوا الرابعة عشرة من أعمارهم بشكل يكاد
يكون عشوائياً ،ثم أطلقت عليهم النار في مكانهم على الفور« ،
بقيت املواجهات بني الطرفني على هذا املنوال حتى مطلع شهر شباط/فبراير عام ١٩٨٢حني واجه
األخوان املسلمون حملة االعتقاالت والتفتيش الوحشية التي كان يقوم بها النظام في حماة ،وعمليات
القتل التي كان يقوم بها جنوده بطريقة شبه عشوائية ،فأعلنوا الجهاد بواسطة مكبرات الصوت في
الجوامع ،وأغار مسّلحوهم على مراكز الشرطة لالستيالء على األسلحة ،وهاجموا القيادات الرسمية في
املدينة ومن يعرفون أنه من حلف النظام ،وبعد عدة ساعات أعلنوا أن املدينة »محررة« .بعد ذلك اتسعت
حدود املواجهات لتشمل جميع أحياء املدينة التي كان يتواجد فيها املسلحون ،واستمرت هذه املعركة
املصيرية أكثر من ثالثة أسابيع انتصر فيها نظام حافظ األسد بشكل حاسم ،بعد أن قامت قواته بقصف
األحياء التي الذ إليها الجهاديون ،فدّمروها فوق رؤوس ساكنيها .وبناء على معلوماتي املؤكدة في ذاك
الوقت فقد قام جنود النظام بنهب الكثير من بيوت املدينة ومحالتها التجارية معتبرين ذلك «غنائم حرب».
تمكنت السلطة بعد ذلك من القضاء نهائياً على تنظيم األخوان املسلمني والجماعات املسلحة ،وقتلت
جميع عناصر التنظيم إما في املعارك أو بأحكام إعدام كانت تصدرها محكمة ميدانية استثنائية ال
تتوفر فيها أدنى شروط املحاكمات .ولم ينجو من هذا املصير سوى من تمكّن من الفرار خارج البالد.
سيل ،ص.٥٢٧
سيل ،ص.٥٣٣
35
وبناء على هذا االنتصار ،أيضاً ،بدأ »فجور« أسدي يظهر في املجتمع العلوي ،فشكل أقارب الرئيس
األسد ،وتحديداً منذر وفواز األسد ،أبناء شقيقه جميل ،مجموعات من »الزعران« أطلقوا عليها اسم
»شّبيحة« ،وصاروا يعرفون على أنهم شبيحة هذا أو شبيحة ذاك .وكانت مجموعات الشبيحة بقيادة
أبناء األسد الذين ازداد عددها مع األيام ،إذ كان كل ما يشبّ صبي أسدي يجمع حوله بعض
«الزعران » ،من العلويني وغير العلويني ،ويفرض سيطرته على منطقة من مناطق العلويني التي تكون ما
زالت خارج سيطرة مجموعة واحد من أخوته أو أوالد عمومه.
كانت هذه املجموعات عبارة عن مافيات مسلحة بسالح خفيف ومتوسط ،تقوم بعمليات التهريب بشكل
علني أمام أعني دوريات الجمارك والجهات املسؤولة ،وما كان بإمكان أي سلطة محلية التعامل معهم
على أنهم خارجني عن القانون ،فقد عاشوا فوق القانون بوضح النهار ،ولم يكن باستطاعة املحافظ أو
قائد الشرطة أو رؤساء األجهزة األمنية االقتراب منهم ما لم تأتيهم أوامر مباشرة من القصر الرئاسي.
أُطلقت يد هذه املجموعات في مناطق العلويني في الساحل ،وكُفّت في مناطق السّنة .وكان باسل ،االبن
البكر للرئيس السابق حافظ األسد والشقيق األكبر للرئيس الحالي ،هو الذي يضبط حدود مناطق
تعديات أوالد عمومه .لهذا كان من النادر جداً حدوث أي اعتداء في أحياء السّنة شبيهة بما كانت تفعله
املجموعات األسدية في مناطق العلويني من سلب وتشليح واعتداءات وبطش وتجّبر وخطف نساء .بل
أقام بعضهم في »القرداحة« سجوناً يعتقلون فيها من يريدون .وبعضهم اآلخر فرض أتاوات على
املحالت التجارية في القرداحة والقرى املحيطة بها ،وأجبروا املهنيني من نجارين وحدادين وغيرهم تقديم
الخدمات لهم مجاناً .وسيطروا على عدد من األعمال واملصالح مثل عدد من قطّاعات نقل الركاب والنقل
الصناعي ،ومنتجات مقالع الرخام ،وغيرها من األعمال الرئيسية في الالذقية وجبلة .ال أقدّم هنا أي
معلومات جديدة بالنسبة لسكان الساحل ،فجميعهم شهد على مثل هذه املمارسات أو غيرها.
لم يكن مسموح لهذه املجموعات بالنشاط بغير املدن الساحلية ،وإن تجاسر أحدهم عن هذا كانت ُتصدر
التوجيهات ألجهزة املخابرات باعتقاله ولو بطريقة عنيفة .ولهذا فقد التقيت خالل وجودي في السجن في
عقد الثمانينات بأحدهم اسمه غياث األسد ،اعتُقل بعد أن تم إطالق النار على »القافلة« التي كان
يقودها في عملية تهريب على طريق درعا دمشق .وقد أخبرني غياث ،الذي علمت أنه قد توفي بحادث
سيارة الحقاً ،أن أبناء األسد معفيني من الخدمة االلزامية ،وأنه يتم فرز عسكري مسلح أو أكثر كمرافق
له ،وأن جوازات سفرهم تبقى محفوظة في القصر الجمهوري عند مدير مكتب الرئيس.
بعد كل ما جرى صار املشهد العام للدولة علوياً ،مثل وجود وحدات عسكرية أغلب عناصرها من العلويني،
أغلب األسماء التي باتت تمأل الفضاء العام كانت أسماء ضباط علويني ،صار العلويون يسيطرون على
كل شيء بحجة الخطر »اإلخونجي« ،فاملسؤول بات يدّعي أنه ال يثق إال بأخيه ،فعّينه مسؤوالً عن مكتب
ما ،وأخيه ال يثق إال بزوجته ،فصارت مديرة مدرسة أو معهد ،وزوجته ال تثق إال بخالها فأرسلته بعثة
إلى الدول الشرقية … ،الخ.
وبعد زمن قصير ،عام ،١٩٨٤حني تدهورت صحة الرئيس حافظ األسد ودخل املستشفى ،نشب صراع
خطير بني القيادات العسكرية على وراثة األسد ،كان طرفاه رفعت األسد ،شقيق الرئيس ،قائد سرايا
الدفاع ،الذي كانت قواته تطوّق املدينة بذريعة الدفاع عنها ،وبني عدد من الضباط القادة الذين أُطلق
عليهم اسم »العلّيات « لوجود أكثر من ضابط بينهم اسمه علي ،مثل علي حيدر ،قائد القوات الخاصة،
وعلي دوبا ،رئيس شعبة املخابرات العسكرية ،وعلي أصالن ،نائب رئيس األركان ،وعلي الصالح ،قائد
36
الدفاع الجوي ،إضافة لشفيق فياض ،قائد الفرقة الثالثة ،وإبراهيم صافي ،قائد الفرقة األولى .جميع
هؤالء كانوا علويني ،وبات واضح للعيان كيف يسيطرون على أهم القوات العسكرية.
على الرغم من تقاسم املسؤولية بني النظام وبني األخوان املسلمني عن تأجيج املوضوع الطائفي ،فإن
ما جرى حينها ،وما جرى مؤخراً من صراعات عنفية مدمّرة تؤكد خطأ سياسة حافظ األسد التي
اعتمدها بخصوص هذا املوضوع .فقد تبني أنها لم تستطع تخفيف حدة التباغض الطائفي إطالقاً ،بل
على العكس نجد أن الصراع الطائفي ال يفوّت الفرصة ليأخذ البالد إلى الدمار .وكل املؤشرات تفيد
أن املوضوع ما زال في امليدان.
نال الصراع الذي جرى على األراضي السوري العديد من التسميات ،فالبعض اعتبره ثورة ،والبعض
اعتبره حرباً ،والبعض اعتبره حرباً أهلية ،وغيرهم سمّاه حرباً طائفية ،أو حرباً على اإلرهاب ،وآخرون
سمّوه جهاداً ضد الكفّار ،وغير ذلك .لكن يبدو أن شيئاً من كل هذه املسّميات كان موجوداً .فقد كان
جميعهاً بمقدار أو بآخر .لكن يوجد محور يجمعها جميع الصراعات املسلحة ،والذي ُيشكّل »أُسّ«
الصراع بني النظام ومعارضيه ،هو الصراع على السلطة .فكال الطرفني ال يخفي أن هدف حربه هو
السلطة ،من دون أن يقول إنه يريد السلطة لنفسه ،فمثل هذا القول ال يهمّ وعادة ال يتم التعبير عن
صراحة في الصراعات السياسية .وفي املقابل نجد النظام يخوض حربه ضد معارضيه تحت مسّميات
الدفاع عن السلطة »الشرعية« .ولم يقل قادة النظام وال مرة ،وتحديداً الرئيس بشار األسد ،أنه يريد
السلطة لنفسه.
لكن هذا النزاع على السلطة كان ،وما زال ،قائماً على صراع طائفي بني السّنة وبني العلويني .ذلك
حتى لو رفض العلويون هذا التوصيف واعتبروا أنهم خاضوا الحرب تحت لواء الجيش الرسمي كجيش
للدولة السورية عليه أن يدافع عن دولته ضد »اإلرهابيني« ،فوحدات الجيش التي خاضت غالبية املعارك
جميع عناصرها هم من العلويني ما عدا نسبة ال تتعدى ٪٥من السّنة .وأن غالبية الجنود العلويني
خاضوا املعارك باملعنى الفردي كعلويني ،إال قلّة خاضت الحرب دفاعاً عن الدولة .فإن كانت املعارضة
الجهادية ،التي نهضت على أكتاف الحراك االحتجاجي السلمي ،عبّرت صراحة أنها ترفض «شرعاً »
القبول بقيادة غير سّنية للبالد ،وأعلنت الجهاد لطرد العلويني من السلطة لكونهم كفّار ،فإن قادة النظام
العلويني ،وتحديداً رئيس الجمهورية ،يعتبرون أنه لهم الحق «شرعاً » في قيادة البالد وفق الدستور
لكونهم مسلمني وفق فتاوى شيعية أتينا على ذكرها أعاله .بل وعزّز موقف العلويني هذا موقف الكثير
من املشايخ ورجال الدين السّنة الذين يعتبرون أن العلويني مسلمني ،بل وحللوا لهم »الجهاد« ضد
مجاهدي املعارضة.
هذا الصراع الطائفي كان على السلطة وليس على الدين أو املذهب أو العقيدة ،فال السّنة يريدون تسنني
العلويني وال العلويني يريدون علونة السّنة ،بل كال الطرفان املتصارعان يريد السلطة بشكل طغياني ،فلو
ي من منهما غير طغياني ملا ارتضيا االحتكام إلى العنف والسالح في صراعهما. أن أ ّ
37
لكن إذا نحّينا جانباً الطروحات املتشددة التي يقدّمها الجهاديون السّنية ،واعتمدنا في حديثنا اآلن
على املعارضة الرسمية املؤلفة من »االئتالف الوطني السوري« والهيئة العليا للتفاوض« ،وكذلك ال
نقصد جميع العلويني في حديثنا عنهم ،بل نقصد العلويني السلطويني ،أي املدافعني عن السلطة وامللتفّني
حولها ،سنجد أنهما يتصارعان رافِعَني رايات ال تشير إليهما كطوائف ،مع أنهما خارج الخطاب الرسمي
يعتبران نفسيهما يتصارعان نيابة عن طائفتيهما .فالعلوي السلطوي يقول من على املنبر الرسمي إنه
يدافع عن الدولة في مواجهة »اإلرهاب« ،لكنه يدّعي بني أبناء »مِّلته« إنه يدافع عنهم من خالل دفاعه
عن بشار األسد .وكذلك املعارض السّني يدّعي بشكل رسمي إنه يدافع عن »الشعب« في حقه
بالديمقراطية ،التي يقصد بها حصراً االنتخابات »النزيهة« ،رافضاً ربطها بالعلمانية وبالعقالنية
والحداثة .لكنه يصرّح ألبناء »األّمة« إن االنتخابات كفيلة باإلطاحة بحكم العلويني بسبب أصوات
األكثرية السنية.
معارضو السنة ال يرفعون راية طائفية ،بل يرفعون راية »االنتخابات الديمقراطية النزيهة« ،لتقديرهم
أن الدول الغربية تقبل بها ،وأن املجتمع الدولي ال يمكن أن يرفض االعتراف بنتائج انتخابات نزيهة.
وفي الطرف اآلخر ،ال يرفع العلويون راية طائفية ،بل يرفعون راية »الدولة« و»الشرعية« ،لكي ال
يحرجوا الدول واألطراف الخارجية التي تريد تقديم العون لهم .فروسيا ،مثالً ،سيكون من السهل عليها
تقديم العون العسكري لدولة شرعية أكثر من دعمها لفريق طائفي .وكذلك إيران أيضاً.
***
السنة بأغلبهم يعتبرون أن الطائفة السّنية مغبونة في حصّتها ضمن السلطة السورية .ويعتبرون أن
العلويني استأثروا بمواقع صنع القرار من خالل إمساكهم بالجيش واملخابرات .لهذا يريد الكثيرون
منهم ،من بني ما يريدونه ،إعادة هيكلة الجيش وإعادة هيكلة أجهزة املخابرات إلى حالة يتحقق فيها
تكافؤ مقبول في املواقع القيادية بني السّنة والعلويني ،بل وتكافؤ بعدد الضباط والعناصر من خالل
تسريح عدد العلويني في هذه املؤسسات إلى أن يصبح عددهم يكافئ نسبتهم السكانية .أي يريدون
تقاسماً طائفياً »عادالً« للسلطة .ومعارضوهم يريدون مساحة من السلطة الفعلية يتناسب مع كثرتهم.
وهذا حقهم طاملا أنهم يفكرون كسّنة.
ي طرحٍ خاصّ بهم بهذا الخصوص يمكن التفاوض عليه .فهم ال يعتبرون أنه أما العلويني فلم ُيظهروا أ ّ
يوجد أي غنب طائفي في السلطة ،بل في الغالب يرفضون الحديث بموضوع الطوائف أساساً ،ويتحدثون
بعبارات مثل »الوطن«» ،الدولة«» ،القومية«» ،العروبة« ،وغير ذلك من مصطلحات ال تفيد في تبديد
إحساس السّنة بالغنب في التمثيل السياسي ،بل تشّكل ازدراء فجّاً للحديث عن اإلحساس بالتمثيل
املتنوع طائفياً في مواقع صنع القرار السلطوي .وعلويو النظام يريدون البقاء مسيطرين على السلطة
ألنهم قلّة يخافون التعرض لالضطهاد إذا خسروا السلطة أو قسماً فاعالً فيها .وهذا حقهم أيضاً طاملا
يفكرون كعلويني.
***
فال شك أن العلويني كجماعة بشرية أو كـ»طائفة« ال يحظون بأي امتياز عن أي جماعة أخرى .فال تتمتع
قراهم بأي خدمة أكثر من قرى السّنة ،بل ربما العكس ،وال يتمتعوا بحرية إقامة العبادات أكثر من
غيرهم ،بل ربما العكس ،وال يشاركوا في الحروب واملواجهات مع إسرائيل أقلّ من غيرهم ،بل ربما
أكثر ،وال يتمتعوا بحرية العمل السياسي أكثر من غيرهم ،بل العكس ،وال ُيسجَنوا وُيعاقَبوا أقلّ من
38
غيرهم إن عارضوا النظام ،بل أكثر من غيرهم بالتأكيد .وسيطرة أشخاص علويون على مواقع القرار
السلطوي ليس خدمة للطائفة العلوية ،وال خدمة للعلويني ،بل هو آلية من آليات االستبداد ال أكثر .ومعيار
التمييز في بنيان السلطة هو الوالء للرئيس حصراً .كما أن »العامل الرئيسي الذي يربط املجتمع العلوي
بالنظام السوري ،هو ما يستشعر به هذا املجتمع من عدم األمان الطائفي .إن نظام األسد يعمل في
سبيل حماية قوته الشخصية على ترسيخ وتشجيع فكرة عدم الثقة هذه لدى العلويني« .بل إن
املعارضني السّنة الذين »انشقوا« عن »النظام« ،وتحديداً الذين كانوا في مواقع املسؤولية ،بما فيها
املسؤوليات الصغرى ،فإنهم كانوا واعون على أنهم يعملون في خدمة الصيغة »العلوية« للنظام ،ألن
هذا الصيغة هي وحدها وليس كفاءتهم التي مكّنتهم من االرتقاء في السّلم الوظيفي ،ولم يكن والءهم
للرئيس األسد ،األب أو االبن ،يختلف عن والء العلويني أو أنه أقل من والء العلويني ،بل قد يبدو واضحاً
للكثير من السوريني أن والء املسؤولني السّنة أكبر من والء املسؤولني العلويني .وهذا ال ينفي أو يقلل من
حقيقة ثابتة أن الصالحيات السلطوية املوضوعة بني أيدي املسؤولني العلويني هي أكبر وأمضى من
املسؤوليات املوكلة للمسؤولني السّنة.
ي يمكننا القول بثقة تامة إن السلطة السورية بقيادة حافظ األسد وابنه الذي ورثه لم تكن لحظة واحدة أ ْ
موجودة من أجل خدمة العلويني على اإلطالق ،بل اسَتخْدَمت العلويني كعناصر ثقة بعد أن تمكّنت من
أن تزرع في نفوسهم املقولة الصعبة »لو حصل مكروه لألسد فسيهلك العلويون« .هذه املقولة التي
َتمكَّن األسد من زرعها في أذهان العلويني منذ بدأ متشدّدو السّنة يعترضون على قيادته كعلوي للسلطة.
وَتمكَّن الحقاً من ترسيخها في رؤوسهم خالل صراعه مع األخوان املسلمني .هذا إضافة إلى أنه سلّط
عليهم ،أي العلويني ،أخوته وأبنائهم وأبناء أسرته املقرّبني ،كما أسلفنا .وهذا يعني أن النظام ليس علوياً
بقدر ما هو أسدي ،بل للدقة هو حكم عائلة حافظ األسد وورثته .وكما هو معروف فإن األسدين األب
واالبن لم يترددا بالتشدد مع أي علوي عارضهما ،أو اعتبراه يتطاول عليهما .فحافظ األسد سَجن ملُدد
طويلة تجاوزت حد ٢٣سنة أشخاصاً علويني ،مثل صالح جديد ،وكامل حسني ،وعادل نعيسة ،وعشرات
اآلخرين بمن فيهم ضباط ومدنيني من أقربائه وأقرباء زوجته .بل إنه سجن اللواء علي حيدر الذي كان
شريكه في انقالب ١٩٧٠الذي أوصله إلى رئاسة الجمهورية ،وبقي رفيق دربه لسنوات طويلة يرأس
»القوات الخاصة« ،التي كانت هي قوات النخبة ،وكانت من بني أهم القوات الضاربة القريبة جداً من
قلب العاصمة دمشق .لكن األسد انقلب على حيدر في لحظة ووضعه في السجن أربعني يوماً بمثابة
عقوبة عسكرية ،وكأنه يقول له أنت لست أكثر من جندي عندي .وبعدها قام بتسريحه.
لكن ،حتى لو قلنا كلّ هذا فإن جميع هذه الحقائق ال ُتخفي أن السلطة السورية تحت سيطرة العلويني
الذين يسيطرون على السلطة من خالل سيطرتهم على مؤسسة الجيش ومؤسسة املخابرات .وهاتان
املؤسستان تحكمان الدولة والسلطة منذ أول انقالب عسكري سنة .١٩٤٩فقد مّر معنا أعاله أنه منذ
سنوات طويلة أصبح للعلويني النسبة األكبر بني عناصر وضباط هاتني املؤسستني .بل إن قوات النخبة،
مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وعدد من قطعات املخابرات ما لم تكن جميعها ،تتميز بغلبة
العلويني فيها بشكل يتعذّر مالحظة وجود عناصر أو ضباط فيها من غير طائفة.
112
Ortadoğu Etütleri, July 2011, Volume 3, No 1, Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian
Insecurity, Leon Goldsmith. Ankara, Turkey.
39
اآلن انتهت الحرب باملعنى السياسي ،وما بقي منها في منطقة إدلب ،غرب سوريا ،ليس له أي معنى
سياسي فهو ساقط عسكرياً ،وبقاؤه لحد اآلن مرهون بتسوية بني روسيا والواليات املتحدة ،لكنه لم
يشّكل لحد اآلن أهمية يمكنها أن تدفع واشنطن لبدء مفاوضات مع روسيا.
انتهت الحرب سياسياً بانتصار روسيا في معركة حلب أواخر .٢٠١٦ومن الطبيعي بعد حرب مدمرة
كالتي مّرت بها سوريا أن يتم عقد تسوية لتطبيع العيش بني السوريني من جديد .وقد سبق معركة حلب
بما يقارب السنة قرار من مجلس األمن الدولي حمل الرقم ،٢٢٥٤كان من أهم بنوده إجراء تسوية
سياسية بني األطراف املتصارعة بإشراف األمم املتحدة ،وتحديد مرحلة انتقالية يتشارك فيها جميع
األطراف إلى حني إقامة انتخابات حرة ونزيهة وفق دستور جديد .لكن مع أن هذا القرار لم يتحقق منه
شيئاً ،بل األصح تجاوزته املتغيرات امليدانية والسياسية وما عاد ذي نفع ،إال أن الدول ما زلت تعتبره
هو املظلة التي يجب أن تنحصر تحتها أي نشاط يهدف إلى تطبيع الحياة السورية .ومع ذلك فإن أي
إجراء يمكن اعتباره تسوية أو إعادة األوضاع السورية إلى طبيعتها ال بد أن يقوم على تغيير في بنية
السلطة بهدف تغيير أدائها ،أو تحقيق رضا جميع السوريني عنها .وهذا يعني تغيير حالة االستئثار
بالسلطة من قبل طرف سياسي أو طائفي واحد.
لكن بالنظر إلى عمق الواقع الحالي فسنجد أن النظام وخلفه العلويون ،وبعد أن ارتضوا االحتكام إلى
القتال لحسم صراعهم مع املعارضة املسلحة والجماعات الجهادية ،وبعد أن تحقق االنتصار العسكري
لصالح النظام ،نجده يرى نفسه »الغالب« ،ويرى خصومه »املغلوبون« .وطاملا أن النظام وعلوييه
ينظرون إلى نتيجة املعادلة على أنها »غالب ومغلوب« ،فمن املستبعد أن يكونوا متحمسني لعقد تسوية
مع املغلوب ،خاصة إن كانوا سيجدون أنفسهم يقدّمون فيها تنازالً عن بعض سيطرتهم على السلطة،
وسيعتبرون أنه ليس عليهم التنازل عن شيء بالتسوية كانوا قد تمكّنوا من عدم خسارته في الحرب .وال
يوجد أي تعارض بني ما نقوله وبني مشاركات النظام في جلسات أستانة أو في جلسات جنيف،
فمشاركته هذه هي مجرد مشاركة سلبية تعطيلية ،تجبره عليها روسيا لترتيبات دولية خاصة بها .إذ
أصبحت روسيا تقوم بدور الوصاية على الدولة السورية في الشؤون العسكرية ،وكذلك في الشؤون
الخارجية.
املغلوب عادة يستسلم للغالب ،لكن ليس في بناء األوطان .فالوطن أو مستقبل الوطن ال يقوم بني غالب
ومغلوب ،بل يتطّلب تكافؤاً تاماً بني جميع األطراف التي ترتضي العيش املشترك مع بعضها ،فاملساواة
املطلقة هي أساس التعاقد .ولكن ،مع ذلك ،يبقى بمقدور الغالب تعطيل أي تسوية .وبمقدوره رفض
املشاركة بأي عملية سياسية ،ولن يكون بمقدور املغلوب ارغامه على أي عملية سياسية إلحالل السالم
الدائم في البالد.
إذا أردنا أن نترجم هذا الكالم واقعياً فليس في مقدور املعارضة السّنية إرغام النظام وعلوييه على
املشاركة في أي عملية سياسية .بل لن يستطيع أي طرف خارجي فرض أي تسوية على العلويني ،ال
األمم املتحدة ،وال حتى روسيا .بل إن اضطر الرئيس األسد القبول بتسوية تريدها روسيا ،من أجل
إبقائه رئيساً ،فستشهد البالد ،على األغلب ،تمرداً علوياً عليه .وليس في هذا ما يعيب على العلويني
موقفهم ،فهم لن يقبلوا بأي تسوية يشعرون تجاهها بأن أمنهم وسلمهم االجتماعي مهدد .وهنا من
الضروري أن ننتبه إلى أن الجانب الوحيد الذي يكسبه العلويون من النظام الحالي بقيادة األسد ،أو
الذي يتوهمون أنه مكسباً ،هو أن النظام يحول دون عودتهم إلى حالة النبذ واالضطهاد املسيطرة على
40
ذاكرتهم .ولهذا حني يشعرون أن الرئيس األسد لم يعد يحقق لهم املكسب ،بل إنه يعرّضهم للمخاطر،
فلن يشعروا تجاهه بأي والء.
إذن ،إن كان للعلويني هذا املوقع الرئيسي في أي تسوية مستقبلية فال بد من التفاهم معهم بشكل
مباشر على صيغة تبّدد مخاوفهم وتحقق طموحاتهم .لكن الصيغة العامة للتسوية املطروحة حالياً في
القرار ٢٢٥٤يتضمن نقطة رئيسية من املستبعد أن يقبل بها العلويون .فاالنتخابات »النزيهة« الواردة
في القرار األممي تتيح إمكانية كبيرة جداً النتصار شخص سّني من الذين يعتمدون »السّنية
السياسية« التي تقوم على تحفيز السّنة على أنهم أكثرية ،وخسارة بشار األسد غير القادر على إعالن
تبني »العلوية السياسية« ألنه سيخسر حينها أي صوت سني ،ولن تكفيه أصوات العلويني ،كما لن
يكون مضموناً موقف جميع أبناء األقليات األخرى .وبالتالي سيعني هذا بالنسبة للعلويني سيطرة
أشخاص من السّنة من أصحاب »السّنية السياسية« الذين من املمكن جداً أن يقوموا بممارسات
اضطهادية تجاه العلويني باعتماد حجج قانونية كتقديم الذين ارتكبوا عمليات القتل من الجيش
واملخابرات إلى العدالة .وهذا من املمكن أن يجعل كل علوي مّتهم بذلك حتى تثبت براءته .ولهذا سيكون
من الصعب على العلويني القبول باالحتكام إلى صناديق االقتراع.
لكن هذا مجرد دور معطِّل يقتصر على تعطيل أو عدم تعطيل تسوية مطروحة من خارج العلويني .حتى
أن هذا الدور شبه مصادر ما لم يكن مصادراً من خالل استحواذ روسيا على القرار الرئاسي السوري،
وممارسة دور الوصاية عليه.
يقع على العلويني ،أو بالتحديد على عاتق نخبته املدنية ،القيام بدورهم التاريخي من خالل خلق األحوال
التي من شأنها تبديد املخاوف التي تدفع بالعلويني للتضحية بأبنائهم في صراع طائفي لن يكون في
مصلحتهم طالم بقي محصوراً ضمن الحقل الطائفي .ونكران الخوض في املسألة الطائفية ال يلغيها
إطالقاً بل يبقي على السياسة الخاطئة التي وضعها الرئيس السابق حافظ األسد من خالل إخفاء
املسألة الطائفية في جيبٍ مثقوب .كما ال يجوز إطالقاً التنكّر لقلق السّنة من الغنب السياسي ،فطاملا هم
يرون الصورة على هذا الشكل ،وهي كذلك ،فعلى النخبة العلوية أن تطرح املسألة الطائفية بتموضعها
السياسي على طاولة النقاش والحوار .وربما عليه أن يتأكدوا أن هذا املأزق القائم على رفض شرائح
من املتشددين السنة أن يكون رئيس البالد علوياً لن يزول إطالقاً باملعارك امليدانية .إذ سيجد العنف
والتشدد دوماً فرصة ليعصف في البالد دماراً وخراباً .فال بد من اقتالع هذا اإلشكال من جذوره
واقتالعه ال يكون البتة عن طريق رجال دين ،بل عبر اشتغال محفوف باملتاعب يقوم به مثقفو البالد وقادة
املجتمع.
غالبية النخبة العلوية لم يغادروا البالد ،ولهذا فإنه بإمكانهم قيادة عملية رسم مستقبل سوريا كوطن
لجميع السوريني عبر بناء دولة حديثة تقوم على املساواة والعلمانية والديمقراطية .وعليهم أن يضعوا
تصوراً مفصالً للبالد يوضح كيف ومتى يمكن للسوريني االحتكام إلى انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة
من دون أن يتخوف أي طرف من نتائجها .فاألوطان ال يمكن لها أن تقوم طاملا أن الخوف موجود ينخرُ
بنيانها» .نادراً ما ركّز األكاديميون ووسائل اإلعالم الدولية نظرهم بشكل محدَّد إلى الدور السياسي
41
للعلويني« ،و»أحد الجوانب التي تم التغاضي عنها ،أو أُسيئت قراءتها على نطاق واسع ،هو الدور
الحاسم ]التشديد مني[ للمجتمع العلوي السوري في تحديد مستقبل سوريا« .
كان وما زال في مقدور النخب العلوية أن تشق دروب التفاهم املجتمعي مع بقية املكونات املجتمعية،
وخاصة السّنة ،ال أن تسير خلف سياسات النظام الذي يحّيد املوضوع الطائفي بالتنكر لذكر العلويني.
وال شك أنهم قادرون على إنجاز صيغ عيش أفضل بكثير من الصيغة التي يدفع جرّاءها السوريون
تكاليف باهظة في األرواح واملمتلكات ،وتتراجع أحوال البالد واقتصادها سنوات إلى الوراء .لذا سيكون
من الضروري أن تخرج هذه النخب عن السياق الذي وضع فيه الرئيس بشار السد املوضوع الطائفي،
حني أحال الهوية الوطنية إلى الهوية اإلسالمية .وسيترتب عليهم أن يدفعوا ببناء دولة تنأى بنفسها عن
أي عقيدة دينية ،أي دولة علمانية بصيغة أكثر رقياً مما كان موجود بأذهان الناس .أي أن يتوصلوا إلى
تسوية ثقافية ومجتمعية »خالقة« ،تبدد الشعور بالغنب عند السّنة ،وتزيح الشعور بالخوف عند العلويني.
ال من النخبة العلوية النأي بنفسها عن الخوض بهذا املوضوع والتعامل معه على أنه عقدة لم يعد مقبو ً
سياسية ال يمكن للسوريني تحقيق عيش رغيد قبل إنهائها .ومن غير املقبول االستمرار بالترفّع عن
اإلقرار بوجود ما يولّد الشعور بالغنب السياسي عند السنة ،كما لن يكون مقبوال منهم اعتبار أن املشكلة
عن متشددي السنة ،وأن الكرة اآلن ،وسابقاً ،هي في ملعبهم .فإن كان هؤالء املتشددون هم الذين
يقومون بإيقاد النار الطائفية ،فإن موقف االكتفاء بتحميلهم املسؤولية ال يقل طائفية عن طائفيتهم،
فمواجهة الطائفية هي مسؤولية النخبة الثقافية ،وإنهاء الصراعات القديمة املشينة كالصراع الطائفي
هو مسؤولية النخبة التنويرية ،وإيجاد الحلول املجتمعية هي مسؤولية النخبة القيادية.
ال شك أنه من حق العلويني التمسك بالسلطة في مواجهة جهاديني رافعني السيف عليهم ،لكن من حقهم
وحق بقية السوريني االنتهاء من حالة النظام االستبدادي واالنتقال إلى نظام علماني ديمقراطي .وربما
سيبقى من الضروري تأكيدنا على أن هذه الحالة من التركيبة السياسية للسلطة السورية ال يمكنها
االستمرار إلى ما ال نهاية ،بل من الضروري التذكير دوماً بأن الجهاديني كادوا هذه املرة أن ُيسقطوا
النظام ويحطموا الدولة لوال التدخل العسكري الروسي في الوقت املناسب .فلوال هذا التدخل لكان مسار
الصراع مختلفاً كلياً عمّا آل إليه اآلن .ومن غير املؤكد أنّ الجولة القادمة ،وهي قادمة ال محالة بغض
النظر عن زمنها ،أن يكون لروسيا أو لغيرها مصلحة كافية في التدخل العسكري لحماية النظام ،أو أن
تكون الظروف الدولية حينها تسمح بمثل هذا التدخل.
»ومع ذلك ،ال يزال يوجد لدى العلويني فرصة ،يمكنها أن تكون سابقة ،للخروج من هذا املأزق السياسي،
ليكونوا شركاء بقدر اآلخرين في سوريا »الجديدة«« .فعلى نخبتهم املدنية أن ال تتردد خوفاً من
أنها ال تمثل العلويني ،فليس املطلوب منها أن تكون كذلك ،فضالً عن أنه ال يوجد من يمّثل العلويني ،وال
أن تتعامل مع أي جهة تدّعي أنها تمثل طائفة ،فال يوجد من يمّثل الطوائف في سوريا ،إذ ال يوجد في
سوريا ُبنى طائفية لها قيادات قادرة على توجيه أفراد الطائفة ،بل املوجود هم جماعات طائفية ،أي
113
Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon
Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p35.
114
Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon
Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p33.
115
Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon
Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p33.
42
أشخاص ومجموعات تنتمي إلى مذهب ما أو أمة ما .بل ال يجوز أن تتم أي اتفاقات ذات طابع سياسي
أو دوالتي على أساس الطوائف.
43