You are on page 1of 43

‫‪Alawites and Political Compromise in Syria‬‬

‫‪Louay Hussein‬‬

‫العلويون والتسوية السياسية في سوريا‬


‫لؤي حسني‬

‫مدخل‬
‫يشكل العلويون نسبة ال تزيد عن ‪ ٪١٢‬من مجموع عدد السكان في سوريا‪ .‬كان هذا قبل بدء الصراع‬
‫األخير عام ‪ .٢٠١١‬غير أنه ال بد أن تكون نسبتهم هذه زادت بعد ذلك نتيجة هجرة أكثر من ‪ ٦,٧‬مليون‬
‫الجئ إلى خارج البالد‪ ،‬جميعهم تقريباً من السّنة‪ ،‬أي أكثر من ثلث السوريني السّنة‪.‬‬
‫لكن إن أشحنا النظر عن الِنسَب الديموغرافية‪ ،‬ونظرنا إلى املعيار السياسي‪ ،‬فسنجد أن العلويني‬
‫يشّكلون نسبة‪ ،‬أو ثقالً سياسياً‪ ،‬أكبر بكثير من نسبتهم الديموغرافية‪ .‬فقد تصل النسبة هنا إلى ما يزيد‬
‫عن ‪ ٪٩٠‬في ميزان القوى على الخريطة السياسية السورية‪ .‬وثقلهم هذا ناجم ليس عن كون رئيس‬
‫الجمهورية من أصل علوي بل ألن غالبية مواقع صنع القرار في الدولة السورية‪ ،‬ما لم تكن جميعها‪،‬‬
‫يسيطر عليها أشخاص علويون منذ حوالي خمسة عقود‪ .‬أمّا املناصب العليا التي يشغلها أشخاص من‬
‫السّنة فهي ليست مواقع ُتتخذ فيها قرارات كبرى‪ .‬وإن صادف وكان أحد األشخاص السّنة يشغل‬
‫منصباً مهمّاً‪ ،‬كما هو حال اللواء علي مملوك‪ ،‬مدير مكتب األمن الوطني‪ ،‬حالياً‪ ،‬فإن وجوده بمثل هذا‬
‫املوقع يكون نتيجة محافظته على الصيغة العلوية للسلطة السورية‪ ،‬فوجوده قائم على محافظته على هذه‬
‫الصيغة وليس بسبب انتمائه الطائفي املغاير‪.‬‬
‫هذا سيكون ميزان القوى الذي سنأخذ به في هذه الدراسة‪ ،‬التي سنحاول أن نستقصي فيها عن طبيعة‬
‫جز تحت رعاية دولية وضمن‬
‫الدور الذي يلعبه العلويون في التسوية السياسية التي من املفترض أن ُتن َ‬
‫مسارات القرار ‪ ٢٢٥٤‬أو أي تعديالت يمكن أن تطرأ عليه‪.‬‬

‫صورة التموضع العلوي في السلطة وفي العاصمة قبل انطالق املظاهرات‬


‫ال يقتصر الوجود العلوي في السلطة على منصب رئاسة الجمهورية‪ ،‬بل وجودهم مرئي للجميع في‬
‫جميع مواقع القرار األمني والعسكري‪ .‬بحيث يفرض هذا الوضع على أي مراقب حني ينظر إلى السلطة‬
‫السورية أن يراها »سلطة علوية«‪.‬‬
‫يستمد املسؤولون العلويون مكانتهم باإلمساك بصنع القرار ليس من موقعهم الوظيفي‪ ،‬بل من خالل‬
‫عالقاتهم املباشِرة مع القصر الرئاسي‪ ،‬أو مع قادة آخرين لديهم قنوات اتصال مفتوحة مع رئيس الدولة‪.‬‬
‫أي من املمكن لضابط أصغر أن تكون لديه صالحيات أكبر من صالحيات رئيسه ذو الرتبة األعلى‪،‬‬
‫نتيجة قربه من القصر الرئاسي‪ ،‬كما كانت حالة حافظ مخلوف‪ ،‬ابن خال رئيس الجمهورية‪ ،‬عندما كان‬
‫‪1‬‬
‫رئيس فرع ضمن جهاز أمن الدولة الذي كان يرأسه اللواء علي مملوك‪ ،‬فقد كان مخلوف صاحب الرتبة‬
‫املتوسطة يتصرف باستقالل تام عن مملوك ألنه قادر على التواصل املباشر مع بشار األسد‪ .‬ويوجد‬
‫الكثير الكثير من الحاالت املشابهة إن كان في مؤسسة الجيش أو املؤسسة األمنية‪ ،‬أو حتى في‬
‫املؤسسات املدنية‪.‬‬
‫كما كان مرئياً لعموم السوريني السيطرة العلوية شبه املطلقة على »قوات النخبة« العسكرية ذات الوالء‬
‫املباشر للرئيس األسد‪ ،‬مثل قوات »الحرس الجمهوري « وقوات »الفرقة الرابعة« التي كانت قبل ذلك‬
‫ضمن تشكيل «سرايا الدفاع»‪ ،‬التي كان يقودها شقيق الرئيس السابق رفعت األسد‪ ،‬حيث يشكل‬
‫العنصر العلوي في هذه القوات أكثر من ‪ ٪٨٥‬من عديد أفرادها‪ .‬إضافة ألجهزة املخابرات األربعة‪:‬‬
‫املخابرات العسكرية‪ ،‬واملخابرات السياسية‪ ،‬واملخابرات الجوية‪ ،‬ومخابرات أمن الدولة‪ ،‬التي غالباً ما‬
‫تكون رئاساتها مقسومة مناصفة‪ :‬اثنني علويني واثنني سنة‪ ،‬إال أن الغالبية العظمى من ضباطها‬
‫وعناصرها هي من العلويني‪.‬‬
‫والجانب البالغ األهمية أن هذه القوات موجودة في دمشق ومحيطها‪ ،‬بل ال يوجد في دمشق وفي‬
‫محيطها غيرها‪ .‬حتى أن الحلقة األوسع قليالً‪ ،‬أي القطعات العسكرية التي تسيطر على أرياف دمشق‬
‫هي من القطعات ذات األغلبية العلوية بشكل كبير‪.‬‬
‫كذلك فإن الصورة تحوي أيضاً بروز سيطرة علوية على جانب كبير من االقتصاد‪ ،‬بزعامة رامي مخلوف‪،‬‬
‫ابن خال رئيس الجمهورية بشار األسد‪ ،‬الذي استثمر في الثروة التي جمعها والده محمد مخلوف من‬
‫عمليات الفساد التي كان يقوم بها مثل جميع املسؤولني‪ ،‬فضالً عن أنه يمتاز عنهم بأنه شقيق زوجة‬
‫الرئيس السابق حافظ األسد‪ .‬ويمكن أن ُيالحظ بمستوى أقل رامي مخلوف مجد سليمان‪ ،‬ابن بهجت‬
‫سليمان‪ ،‬ضابط املخابرات السابق شديد الوالء لعائلة األسد‪ .‬قد ال يوجد سيطرة علوية واقعية على‬
‫االقتصاد لكن هذه هي الصورة التي كان يراها الناس حني انطلقت املظاهرات‪.‬‬
‫هذه هي صورة سيطرة املسؤولني العلويني على جميع مواقع صنع القرار السياسي واألمني والعسكري‬
‫واالقتصادي قُبيل انطالق املظاهرات في ربيع ‪ ،٢٠١١‬وكان من الضروري أن تثير هذه الصورة الفجّة‬
‫الحساسية الطائفية عند الكثير من أبناء الطائفة السنية الذين انخرطوا في االحتجاجات ضد النظام‪.‬‬
‫بل وزاد في حدة هذه الصورة أن عناصر املخابرات التي كانت تتصدى للمتظاهرين أو التي كانت تقوم‬
‫ت أنا شخصياً بهذه‬ ‫باعتقال النشطاء كان غالبية أفرادها ما لم يكن جميعهم من العلويني‪ .‬وقد مرر ُ‬
‫التجربة حني تم اختطافي من الشارع في األسبوع األول النطالق املظاهرات‪ ،‬بسبب تحفيزي وتحريضي‬
‫الشبان على التظاهر‪ ،‬فقد كان جميع أفراد الدورية‪ ،‬الذين كان عددهم أكثر من سبعة ضباطاً وصف‬
‫ضباط‪ ،‬من العلويني‪) .‬كانوا معروفني من لهجتهم املميزة(‬
‫هذه هي صورة التموضع العلوي في مواقع السلطة السورية التي كان يراها املتظاهرون املحتجّون‪،‬‬
‫والتي كانت من السهل أن تفرض تأثيرها على »غوغاء« الشارع‪ ،‬وتجعل بعض الشبان يواجهونها‬
‫بعبارات طائفية‪.‬‬

‫العلويون والحراك االحتجاجي ربيع عام ‪٢٠١١‬‬


‫ليس خفّياً على أحد أن العلويني لم يناصروا الحراك االحتجاجي الذي انطلق ربيع عام ‪ ٢٠١١‬على‬
‫شكل مظاهرات احتجاجية سلمية‪ .‬وبقوا في البداية متوجسني من هذا الحراك وعلى الرغم من مشاركة‬
‫‪2‬‬
‫عدد ال بأس به من الشابات والشبان العلويني من فئة املثقفني في دمشق والالذقية وفي غير مناطق‬
‫كحمص مثالً‪.‬‬
‫ت عليهم‬
‫لكن في تلك الفترة لم يتفّرد العلويون لوحدهم بهذا املوقف‪ ،‬فعلى الرغم من أن األضواء سُلِّط ْ‬
‫بقوة لعدم مؤازرتهم ذاك الحراك‪ ،‬إال أن أهل دمشق وأهل حلب‪ ،‬بل وأهل الرقة أيضاً‪ ،‬الذين يبلغ مجموع‬
‫عددهم أضعاف عدد العلويني‪ ،‬لم يخرجوا في مظاهرات ولم ُيظهروا مناصرة للمتظاهرين حتى بعد أن‬
‫عمّت املظاهرات غالبية املدن والبلدات السورية‪ .‬ففي دمشق‪ ،‬مثالً‪ ،‬وليس في محيطها كجوبر وبرزة‬
‫والقابون وداريا‪ ،‬لم ينضّم الدمشقيون إلى حركة االحتجاج‪ .‬حتى أن املظاهرات الخجولة التي خرجت‬
‫في أحياء العاصمة‪ ،‬والتي لم يتجاوز عدد املشاركني فيها بضعة عشرات‪ ،‬فقد كان أغلبهم من السكان‬
‫غير الدمشقيني أو من الوافدين من مناطق أخرى كحوران‪ ،‬ومن طوائف وقوميات أخرى كالعلويني‬
‫والدروز والشركس والكرد‪ ،‬وقلة قليلة منهم كانت من الدمشقيني ‪.‬‬
‫أتحدث عن دمشق بهذا الكالم القطعي ألنني كنت مواكباً لألحداث منذ يومها األول‪ ،‬بل قبل ذلك بأيام‪.‬‬
‫وكنت على علم بالكثير من التفاصيل التي حدثت في األشهر القليلة األولى في العديد من أحيائها‪ .‬أمّا‬
‫مدينة حلب فقد كانت غالبية املظاهرات والوقفات االحتجاجية فيها تحدث في املدينة الجامعية‪ ،‬أو بني‬
‫الطالب الجامعيني الذين كان قسماً كبيراً منهم من األكراد الذين تعاملت معهم السلطة وفق حسابات‬
‫مختلفة عن غيرهم‪ ،‬ألنها كانت تريد تحييد األقليات الدينية والقومية عن املشهد االحتجاجي إلبقاء السّنة‬
‫لوحدهم في مواجهتها‪ ،‬حتى تستطيع تمرير ادعائها بعدم وجود معارضة سياسية لها‪ ،‬وإنّ الذين يدّعون‬
‫أنهم معارضيها فهم مجرد أشخاصٍ »سلفيني« »إرهابيني«‪.‬‬
‫لم تتحدث منابر املعارضة وال »النشطاء«‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬عن العلويني كما حديثها عن بقية السوريني‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي صّنفت فيه الذين لم يعلنون موقفاً واضحاً أنهم »صامتني« اعتبرت أمثالهم من العلويني‬
‫داعمني للنظام‪ .‬بل إنها بقيت تشير إلى املنبت الطائفي ألي »علوي« مشارك في االحتجاجات‪ ،‬ولم‬
‫ال على ذلك »فدوى سليمان« التي كلما‬ ‫تنظر إليه في لحظة من اللحظات على أنه من »الثورة«؛ ومثا ً‬
‫جيء على ذكرها مرة كانت تتم اإلشارة إلى طائفتها‪.‬‬
‫عموماً‪ ،‬ومن خالل معرفتي الشخصية بمجريات ما كان يحدث في أغلب املناطق السورية في الفترة‬
‫األولى‪ ،‬يمكنني القول إن الغالبية الساحقة من السوريني لم تتخذ موقفاً مناصراً للحراك‪ ،‬وهذا لم يكن‬
‫ناجماً عن موقف سلبي منه بل ألنه كان ما زال مجهوالً في نظرها‪ :‬فهو مجهول املآالت‪ ،‬ومجهول‬
‫القيادات‪ ،‬ومجهول البرامج‪ ،‬وشعاراته متعددة ومتنوعة‪ ،‬واألهم لم يكن لدى هذا الحراك في ذلك الوقت‬
‫أي تصورات للمرحلة التالية في حال تحقق شعار »الشعب يريد إسقاط النظام«‪ ،‬الذي أخذ ينتشر‬
‫بسرعة حتى أصبح الشعار املركزي‪ ،‬ليتحول الحقاً إلى غاية »الثورة« التي تعاملت مع إسقاط النظام‬
‫كغاية بحد ذاتها‪ .‬بل الغالبية الكبرى من الذين عارضوا النظام من العموم السوري اتخذوا موقفهم هذا‬
‫نتيجة القمع الدموي الذي كان يقوم به النظام وليس انضماماً ملوقف الحراك االحتجاجي املعارض‪.‬‬
‫وهذا يعني أن الكثير من الناس كانوا ضد ممارسات النظام الوحشية وليسوا مع معارضيه غير‬
‫الواضحني‪ .‬وعدم الوضوح هذا كان أثره عند العلويني أضعاف وقْعِه عند غيرهم‪ .‬فبعد أن كان قسماً‬
‫كبيراً منهم مشككاً مثل اآلخرين بدوافع الحراك وطروحاته‪ ،‬لم َيطُلْ بهم الوقت حتى بدأوا يلتفون صراحة‬
‫وعالنية حول النظام‪ ،‬بعد أن وجدوا أن «إسقاط النظام» سيكون من دون بديل علماني أو بديل «عادل »‪،‬‬
‫وأن »القصاص« »الثوري« سيعتمده «الشارع » غير املتع ِ‬
‫ني بأسماء أشخاص وهيئات محددة‪ ،‬شعروا‬
‫أن ذلك سيتعدى تهديد مصالحهم إلى تهديد وجودهم أيضاً‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫لم يكن أمام العلويني أي خيار سوى االصطفاف خلف السلطة‬

‫كلما كان يزداد اتساع مساحة «األسلمة » في الحراك الشعبي االحتجاجي‪ ،‬كانت تتعاظم مخاوف‬
‫العلويني‪ ،‬وكلما تبّدى هذا الوجود »اإلسالمي« بشكل أكثر جذرية كلما شعر العلويون بتهديد جدي‬
‫لوجودهم‪ .‬لهذا كان من السهل أن يصدّقوا ما تقوله لهم أدوات السلطة من أنه »إذا حصل مكروه‬
‫للرئيس فإن متشددو السّنة سيذبحون العلويني«‪ ،‬هذه العبارة املخيفة التي بدأتها السلطة ُبعيد تولي‬
‫الرئيس السابق حافظ األسد رئاسة الجمهورية ببضع سنوات ‪ .‬وهذا ما يجعل حسابات العلويني ملعادلة‬
‫«إما النظام أو املعارضة » أكثر تعقيداً وتشابكاً من حسابات اآلخرين‪ ،‬فاملعارضة التي تريد إسقاط‬
‫النظام ليست خياراً أمام العلويني‪ ،‬فبمشاركتها في «إسقاط النظام» يكونون كمن «يقطع الغصن الذي‬
‫يجلس عليه »‪ .‬لهذا يرون في عملية إسقاط النظام تهديداً حقيقياً لوجودهم‪ .‬وما إن يشعروا بذلك حتى‬
‫تستثار عندهم »العصبية الطائفية«‪ ،‬فتصبح جميع أفعالهم بمثابة »دفاع عن النفس«‪ .‬فهم مسكونون‬
‫بالخوف على أمنهم الوجودي من سيطرة سلطات سّنية متشددة‪ .‬هذا ألن ذاكرتهم محمّلة بحكايات عن‬
‫اضطهاد السلطات السّنية لهم خالل السلطنة العثمانية وما قبلها‪ .‬وبالتالي من الطبيعي جداً أنه كلما‬
‫ازدادت جدية »إسقاط النظام«‪ ،‬وخاصة مع ترافقه مع وقوع بعض الجرائم بحق أشخاص علويني‪ ،‬من‬
‫بينهم أطفال‪ ،‬كلما اشتدت »العصبية الطائفية« عندهم فتدفعهم لالصطفاف خلف السلطة بشكل علني‬
‫أكثر‪ .‬فـ»العامل الوحيد الذي يربط املجتمع العلوي بالنظام السوري هو انعدام األمن الطائفي‪ .‬فنظام‬
‫األسد يقتضي‪ ،‬بل ويعزّز‪ ،‬انعدام األمن لدى العلويني من أجل الحفاظ على سلطته« ‪ .‬فكلما شعر‬
‫العلويون بقلة أمنهم كلما تحلّقوا حول السلطة ودعموها‪ .‬وكلما دعموها ازدادت مقدرتها على االستمرار‬
‫في الحكم‪.‬‬

‫هذه «العصبية الطائفية» التي تشد األفراد العلويني إلى بعضهم ليست عصبية دينية‪ ،‬أي ليست غيرة‬
‫على العقيدة وال نصرة لدين على غيره‪ .‬فالعصبية الطائفية عند العلوي هي »عصبية املصير املشترك«‪.‬‬
‫فالعلوي يعتقد أن املتشدد السني سيتعامل معه وفق هويته الطائفية وليس وفق دوره املجتمعي‪ ،‬أي لن‬
‫يهتم املتشدد إن كان العلوي مسلحاً أم أعزالً‪ ،‬وال إن كان رجل دين أم معلم مدرسة‪ ،‬أو كان رجالً أم‬
‫امرأة‪ ،‬فطاملا هو علوي فمصيره حدّ السيف‪.‬‬
‫ت في بداية االنتفاضة على طالبة علوية حمصية كانت تدرس في دمشق‪ ،‬وكانت تعارض ممارسات‬
‫تعرّف ُ‬
‫النظام ومواقفه‪ .‬كانت زيارتها األخيرة إلى مكتبي في طريقها إلى حمص لالنضمام إلى اعتصام‬
‫املحتجني في ساحة الساعة في املدينة‪.‬‬
‫ت لي مشاعرها القوية نتيجة تأثرها باملشهد الذي رأته‪ .‬ومع‬ ‫ذهبتْ الصبية مباشرة إلى االعتصام ونقل ْ‬
‫حلول الليل‪ ،‬ذهبت إلى بيتها في أحد األحياء ذات األغلبية السكانية العلوية‪ ،‬وهناك كانت مشاعر األهالي‬
‫متأججة نتيجة مقتل عدد من األشخاص العلويني‪ ،‬وانتشار خبر مداهمة الحي من سيارات مسلحة‬
‫أطلقت النار عشوائياً على املنازل‪.‬‬

‫‪Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon‬‬
‫‪Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p33.‬‬
‫‪4‬‬
‫حدثتني في وقت متأخر من الليل عن اضطراب مشاعرها وحيرتها إلى أي جهة يجب أن تميل‪ :‬هل‬
‫تكون مع الجهة التي يقمعها النظام بوحشية؟ لكن ضمن هذه الجهة يوجد مَن يقتل أهلها فقط ألنهم‬
‫علويني‪ .‬لكنها بعد أيام قليلة لم يكن أمامها سوى اختيار مشاركة أهلها مخاوفهم على مصيرهم مما‬
‫يخّبئه لهم الطرف اآلخر في حال تمكّن من إسقاط النظام‪ ،‬تحقيقاً للشعار الذي رددته هي ذاتها مع‬
‫املتظاهرين في ساحة الساعة في حمص‪.‬‬
‫مخاوف هذه الصبية ومخاوف عائلتها وأهلها‪ ،‬ومخاوف العلويني عموماً لم تنجم عن االنتفاضة‪ .‬كما أن‬
‫العلويني لم ُيظْهِروا هذه املخاوف ليسوقونها كمبررات لوقوفهم مع السلطة أو مع »بشار األسد«‪ .‬فاألسد‬
‫لم يكن يلقى عند غالبيتهم احتراماً كافياً كقائدٍ أو زعيمٍ‪ ،‬خاصة في سنوات حكمه األولى ألنه لم يفعل‬
‫شيئاً يجعلهم يعتبرونه أهالً بثقتهم‪ ،‬ويرونه أقل بكثير من إمكانية مقارنته بأبيه‪ ،‬فالفارق بينهما كبير‬
‫جداً في املقدرة على إدارة حكن البالد‪ .‬لكن مخاوف عائلة الصبية وبقية العلويني كانت ناجمة عن‬
‫ذكريات مئات السنني من الظلم واالضطهاد‪ ،‬لتترسخ في أذهانهم كـ»مظلومية علوية«‪.‬‬

‫املظلومية العلوية‬
‫هي ليست مجرد مظلومية‪ ،‬أي ليست مجرد ذاكرة محمَّلة بظلم وقع على العلويني وانتهى في زمن‬
‫مضى‪ ،‬وبقي بعد ذلك مجرّد بكائية تؤطّر الهوية العلوية وتستدعي الشكوى واملطالبة بالتعويض عن ذاك‬
‫الظلم‪ ،‬مثلما يحصل مع العديد من األقليات في العالم‪ ،‬بل هو ذاكرة حاضرة عند العلويني عن ظلم‬
‫عانوه ملئات السنني‪ ،‬واعتداءات وقعت عليهم مراراً طيلة تلك السنوات‪ ،‬لتتكرس بعد ذلك في أذهانهم‬
‫على صيغة مخاوف حية‪ ،‬تخفّ حدتها أحياناً‪ ،‬مثلما حصل في مرحلة انتهاء االحتالل الفرنسي وتأسيس‬
‫الدولة السورية‪ ،‬حيث شعر العلويون أن الدولة السورية الوطنية تساوي بينهم وبني غيرهم من السوريني‪.‬‬
‫ولكن حدتها تعود وتشتد في غير لحظة‪ ،‬مثلما كان عليه حالهم مع نشوب الصراع بني النظام وبني‬
‫»األخوان املسلمني« خالل فترة حكم حافظ األسد‪ .‬ففي حينها وصلت إلى مسامع كل علوي عبارة »إن‬
‫حصل أي مكروه للرئيس )حافظ األسد( فإن السّنة سوف يذبحونكم«‪.‬‬
‫ف‪ ،‬ينخفضُ دفقه أحياناً‪ ،‬لكنه لم ينضب لحد‬
‫فاملظلومية العلوية تتعدى حالتها كذكرى لتبقى منبع خو ٍ‬
‫اآلن لعدم توفر ظروفٍ سياسية تجففه وتنهيه‪ .‬لهذا فإن العلويني يعتبرون أن ما وقع عليهم من اضطهاد‬
‫سابق ما زال يمكن تكراره لحد اآلن‪ .‬فمقوماته‪ ،‬من وجهة نظرهم‪ ،‬ما زالت موجودة‪ ،‬ولم ينشأ‪ ،‬وفق‬
‫تصورهم‪ ،‬ما يمنع وقوعه عليهم مرة أو مرات في املستقبل‪ ،‬في حال تمكّنت أطراف سّنية متشددة من‬
‫السيطرة على السلطة‪.‬‬
‫مرويات االضطهاد الشفهية املعششة في الذهنية العلوية تتعدى كونها مجرد حكايات للمؤانسة في‬
‫السهرات واملناسبات‪ ،‬بل إنها تشّكل جانباً مهمّاً من روحهم‪ ،‬ومكِّوناً مهمّاً لهويتهم‪ ،‬بل إنهم يتعرفون‬
‫من خاللها على ذاتهم حني يرون أنفسهم على أنهم »الناجون« من اضطهاد مديد ومن مذابح عشوائية‪،‬‬
‫اسُتعمِلَ في بعضها اإلعدام بـ»الخازوق« ‪ ،‬كما فعلت بعض سلطات السلطنة العثمانية‪.‬‬
‫كنت أستمع لحكاية االضطهاد واملذابح ويتبادر إلى ذهني أنها من نسج خيال أقلوي‪ ،‬مثل املظلوميات‬
‫التي يعتريها الكثير من الخيال الوهمي التي نجدها عند جميع األقليات‪ ،‬لكنني من خالل البحث تبني‬

‫اإلعدام بالخازوق من أبشع طرق اإلعدام‪ ،‬ما لم تكن أبشعها‪ .‬ويقال أن السلطنة العثمانية اعتمدت هذه الطريقة في كثير من‬
‫الحاالت‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫لي ثبوت صحة هذه املرويات‪ ،‬فقد ورد ذكرها في العديد من كتب التاريخ العربي املعَتَمدة‪ .‬ووجودها‬
‫في الذاكرة العلوية وفي الكتب التاريخية كافٍ للتعامل معها كواقعة سياسية‪.‬‬
‫فاملؤرخ اللبناني »جورجي أفندي يني« يحدثنا في مؤلَّفه »كتاب تاريخ سورية«‪ ،‬املطبوع عام ‪،١٨٨١‬‬
‫عن الالذقية بأن »مدحت باشا املعظم« فَصَلَها عن طرابلس وشّكل فيها متصرفية بهدف أن »يدنو‬
‫بالقوة من بالد النصيرية )…( وهم قوم كثيرو العدد يسكنون القرى واملزارع‪ ،‬إال أنهم ما انفكوا ال‬
‫يعرفون التمّدن وال يراعون واجبات االجتماع اإلنساني‪ ،‬حيث يصرفون معظم أوقاتهم بقطع السبيل‬
‫ونهب القرى وإلقاء الفنت في البالد‪ ،‬منضمّني عصبة واحدة ال تقوى الحكومات املحلية على ردعها إال‬
‫بتجريد السيف‪ .‬ذلك ما فعله بعض الوالة الكرام أخص منهم بالذكر حضرة املرحوم راشد باشا‪ ،‬حيث‬
‫دوّخ الساحل وقتل بعضاً منهم‪ .‬إال أن فتنتهم أبت إال السكون تحت رماد الخوف‪ ،‬وتراهم في كل حني‬
‫على أهبة إقالق الحكومة السنية ]التشديد مني[ وإلقائها في االرتباك« ‪.‬‬

‫أما الشيخ عبد الرزاق البيطار (‪١٣٣٥-١٢٥٣‬هـ‪١٩١٦-١٨٣٧/‬م)‪ ،‬من حي امليدان الدمشقي فيخبرنا‬
‫ظم يوسف باشا‪ ،‬والي الشام« ‪» :‬إنه ركب إلى بالد النصيرية‬ ‫في كتابه‪ ،‬خالل تعريفه للـ»الوزير املع ّ‬
‫وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأوالدهم‪ ،‬وكان خّيرهم بني الدخول في اإلسالم والخروج من‬
‫بالدهم‪ ،‬فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا‪ ،‬وبيعت نساؤهم وأوالدهم‪ ،‬فلما شاهدوا ذلك أظهروا اإلسالم تقية‪،‬‬
‫فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم في البالد« ‪.‬‬
‫وكان يوسف الحكيم‪ ،‬ابن الالذقية‪ ،‬الذي تنقل بني مناصب رفيعة عديدة في سوريا ولبنان وفلسطني في‬
‫ظل السلطنة العثمانية‪ ،‬من بينها »قائم مقام قضاء الكورة وهو القضاء الشمالي من جبل لبنان القريب‬
‫من مدينة طرابلس‪ ،‬ثم قائم مقام قضاء البترون وهو القضاء الشمالي املتاخم ملُتصرفية طرابلس« ‪،‬‬
‫وقد َعمِل في مواقع وظيفية عديدة في الفترات العثمانية والفيصلية والفرنسية واالستقاللية خالل حياته‪،‬‬
‫التي امتدت مئة سنة‪ ،‬وكان قد أصدر كتاباً من أربعة أجزاء عام ‪ ،١٩٦٦‬يخبرنا في أول أجزائه‪ ،‬وضمن‬
‫فصل أوضاع العلويني‪» :‬ملّا كان دين الدولة العثمانية اإلسالم على املذهب السني )…( كان ألهل‬
‫املذهب الجعفري )املتاولة( املنزلة الثانية في نظر الدولة‪ ،‬ثم يأتي اإلسماعيليون‪ ،‬بينما كان الدروز‬
‫والعلويون غير منظور إليهم كمسلمني« ‪.‬‬
‫هذه الشدة وهذا االضطهاد الذي مورس على العلويني كانا سبباً في تقوية العصبية الطائفية لديهم‪،‬‬
‫أي دفعهم ذلك للتضامن مع بعضهم أكثر وفق استنتاج املستشرق ليون ت‪ .‬غولدسيمث‪ ،‬مؤلف كتاب‬
‫»دائرة الخوف‪ ،‬العلويون السوريون في الحرب والسلم«‪ ،‬حيث يقول‪» :‬تخلل تاريخ العلويني فترات‬

‫جرجي يني توفي سنة ‪ 1360‬ه = ‪1941‬م‪ .‬كان صاحب »مجلة املباحث« مع أخيه صموئيل‪ ،‬كان مهتماً بالتاريخ‪ ،‬ولد ومات‬
‫في طرابلس الشام‪ .‬من أصول يونانية‪.‬‬
‫والي سوريا زمن السلطان عبد الحميد‪.‬‬
‫كتاب تاريخ سورية‪ ،‬تأليف جورجي أفندي يني‪ ،‬املطبعة األدبية‪ ،‬بيروت ‪ ،١٨٨١‬ص ‪.٣٥٤‬‬
‫«حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر»‪ ،‬عبد الرزاق البيطار‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ .١٩٩٣ ،٢‬ص ‪.١٥٩٦‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص ‪.١٦٠١ ،١٦٠٠‬‬

‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81_%D8%A7%D9%84%D8%AD‬‬
‫‪%D9%83%D9%8A%D9%85‬‬
‫سورية والعهد العثماني‪ ،‬يوسف الحكيم‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بيروت ‪ ،١٩٩١‬ص‪) .٦٩‬الحقًا العهد العثماني(‬
‫‪6‬‬
‫عديدة من االضطهاد الشديد من جهة الجهات السياسية والدينية السنية في أغلب األحيان‪ ،‬مما أدى‬
‫إلى تقوية الشعور الجماعي في هذه الطائفة‪ ،‬وشعورها بتميزها واعتمادها على نفسها وخوفها وعدم‬
‫اطمئنانها« ‪.‬‬
‫لم يبدأ اضطهاد العلويني مع السلطات العثمانية‪ ،‬بل‪ ،‬وتأكيداً ملا تقول الرواية الشفوية العلوية‪ ،‬تذكر‬
‫كتب التاريخ العربي وقائع أقدم من الحقبة العثمانية قامت بها السلطات في زمن الدولة اململوكية‪ .‬ففي‬
‫املوسوعة األدبية التاريخية »نهاية األرب في فنون األدب « يذكر شهاب الدين النويري الذي أنجز كتابة‬
‫موسوعته قبل سنة ‪ ١٣٢١) ٧٢١‬ميالدي(‪ ،‬أنه في السابع من شهر شوال عام ‪٧١٧‬هـ )أواخر عام‬
‫ت فيه بقضايا توزيع‬ ‫‪ ١٣١٧‬ميالدي( أصدر امللك »ناصر الدين محمد بن قالوون« مرسوماً سلطانياً يب ّ‬
‫العقارات وامللكيات والضرائب وغير ذلك من شؤون »اململكة الطرابلسية«‪ ،‬يرِد فيه أنه في »األطرافِ‬
‫ى سكانُها ُيعرَفون بالّنصيريّة‪ ،‬لم َيلِج اإلسالم لهم قلباً وال خالط لهم لّباً‪ ،‬وال‬
‫القاصية من هذه اململكة قر ً‬
‫أظهروا له بينهم شعاراً‪ ،‬وال أقاموا له مناراً‪ ،‬بل يخالفون أحكامه‪ ،‬ويجهلون حالَله وحراَمه‪ ،‬وَيخلطون‬
‫ذبائحهم بذبائح املسلمني‪ ،‬ومقابرهم بمقابر أهل الدين‪ ،‬وكل ذلك مّما يجب رَدُعهُم عنه شرعاً‪ ،‬ورجوعهم‬
‫فيه إلى سواء السبيل أصالً وفرعاً« ‪.‬‬
‫ويحدد املرسوم السلطاني طريقة سوقهم »إلى سواء السبيل« عن طريق نشر املساجد اإلسالمية‪/‬السنية‬
‫في جميع القرى‪» :‬وأما النصيرية فَلُيعَِّم في بالدهم بكل قرية مسجد‪ ،‬وليطلق له من أرض القرية املذكورة‬
‫قطعة أرض تقوم به‪ ،‬وبمن يكون فيه للقيام بمصالحه على حسب الكفاية )…( مَن يثق إليه ألفراد‬
‫األراضي املذكورة‪ ،‬وتحديدها وتسليمها ألئمة املساجد املذكورة‪ ،‬وفصلها عن أراضي املقطعني‪ ،‬وُيعْمَل‬
‫بذلك أوراق ويخلَّد بالديوان املعمور حتى ال يبقى ألحد من املقطعني فيها كالم‪ ،‬وينادى في املقطعني‬
‫وأهل البالد املذكورة بصورة ما رسمنا به« ‪.‬‬
‫ال يكتفي املرسوم السلطاني بنشر مساجد في »كل قرية« بهدف نشر الطريقة السنية اإلسالمية‪ ،‬بل‬
‫يتخذ إجراءات ملنع العلويني من ممارسة طقوس عبادتهم‪ ،‬لهذا يقول املرسوم‪» :‬وكذلك رسمنا أيضاً‬
‫بمنع النصيرية املذكورين من الخطاب ]التشديد مني[‪ ،‬وأن ال يمكَّنوا بعد ورود مرسومنا هذا من الخطاب‬
‫جملة كافة ]أي ال يستثنى منهم أحد[‪ ،‬وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم بأن ال يعود أحدٌ‬
‫إلى التظاهر بالخطاب‪ ،‬ومن تظاهر به قُوِتل أشدّ مقاتلة فَلُْتعَْتمد مراسُمنا الشريفة وال ُيعْدل عن شيء‬
‫منها« ‪.‬‬
‫كلمة الخطاب الواردة في نص املرسوم هي وفق شرح النويري تعني »أن الصبي إذا بلغ الحلم وأِنسَ‬
‫منه الرشد يتطاول إلى املخاطبة )…( ثم يوضح له الخطاب وكيفيته« ‪ .‬فالخطاب هنا يعني طريقة نقل‬
‫العقيدة العلوية وتعاليم الديانة العلوية إلى الشبان من قَِبل رجال الدين‪ .‬وهذه عادة تجري وفق طقوس‬
‫دينية خاصة ليست علنية‪ ،‬لها تسمية بسيطة هي »تعليم الديانة«‪.‬‬

‫دائرة الخوف‪ ،‬العلويون السوريون في الحرب والسلم‪ ،‬ليون ت‪ .‬غولدسيمث‪ ،‬ترجمة د‪ .‬عامر شيخوني‪ ،‬الدار العربية للعلوم‬
‫ناشرون‪ ،‬بيروت ‪ ،٢٠١٦‬ص ‪٨١.‬‬
‫نهاية األرب في فنون األدب‪ ،‬شهاب الدين النويري‪ ،‬الجزء ‪ ،٣٣-٣٢‬الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫القاهرة ‪ ،٢٠٠٢‬ص‪.٢٦٢ ،٢٦١‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٦٤ ،٢٦٣‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٦٤‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٥٨‬‬
‫‪7‬‬
‫ال يقتصر ذكر العلويني عند النويري على نص املرسوم السلطاني‪ ،‬الذي يؤكد على أنه َنقَله عن املرسوم‬
‫ذاته ولم ينقله عن ألسنة الناس‪ ،‬فيخبرنا بأن التوجيهات الواردة في املرسوم بخصوص العلويني‬
‫وعقيدتهم لم تكن األولى التي ظهرت في عصر دولة املماليك في مواجهة العلويني‪ ،‬بل سبقها بقليل كما‬
‫يقول »فتيا في أمر النصيرية وتضمنت اعتقادهم وما هم عليه‪ ،‬وأجاب عن ذلك الشيخ تقي الدين ابن‬
‫تيمية« ‪ .‬ويضيف بأنه من الضروري »أن نذكر نص الفتيا والجواب في هذا املوضع‪ ،‬ملا في ذلك بيان‬
‫ما تعتقده هذه الطائفة امللعونة« ‪ .‬وقد أورد خبر تلك الفتوى فور انتهائه من وضع نص املرسوم‬
‫السلطاني‪ ،‬وكأنه أراد أن يقول إن املرسوم بنى موقفه من عقيدة العلويني على فتوى ابن تيمية‪ ،‬التي‬
‫يخبرنا بأنه نسخها عن كاتب الفتوى »شهاب الدين أحمد بن محمود بن مري الشافعي« ‪ .‬وقد جاء‬
‫في نسخته أن ابن تيمية قال في فتواه عن النصيرية إن »دماؤهم مباحة وكذلك أموالهم« ‪ ،‬وأنه »ال‬
‫ريب أن جهاد هؤالء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات‪ ،‬وهو أفضل مِن جهاد مَن‬
‫ال يقاتل املسلمني من املشركني وأهل الكتاب‪ ،‬فإن جهاد هؤالء من جنس جهاد املرتدين« ‪.‬‬
‫الحدث املهم اآلخر الذي يخبرنا عنه النويري بخصوص العلويني في نفس السنة‪ ،‬وتحديداً بعد شهرين‬
‫من صدور املرسوم )أي بتاريخ ‪» (١٣١٨-٢-١٩‬في سابع عشر ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبعمائة‬
‫ظهر رجل من أرض قرطياؤس من عمل جبلة‪ ،‬فادعى أنه محمد بن الحسن املهدي‪ ،‬وقال للناس إنه بينما‬
‫هو يحرث إذ جاءه طائر أبيض فنقب جنبه وأخرج روحه منه‪ ،‬ونقل إليه روح محمد بن الحسن‪ .‬وصدّقوه‬
‫فيما ادعاه ودعاهم إلى طاعته فاجتمع عليه طائفة من الّنصيرية تقدير خمسة آالف رجل )…( ثم جمع‬
‫ي أصحابه ودخل بهم مدينة جبلة في يوم الجمعة بعد الصالة الثاني والعشرين من الشهر‬ ‫هذا الدع ّ‬
‫]‪١٣١٨-٢-٢٤‬م[‪ ،‬وفرّق جماعته ثالث فرق عليها‪ ،‬فرقة أتت من قبلي البلد مما يلي الشرق‪ ،‬فخرج عليهم‬
‫العسكر املقيم بجبلة فكسرهم وقتل منهم مائة وأربعة وعشرين نفراً‪ ،‬واستشهد من املسلمني نفرٌ يسير‪.‬‬
‫وانهزمت هذه الفرقة الثانية التي أتت من قبلي البلد مما يلي الغرب على جانب البحر‪ .‬والفرقة الثالثة‬
‫أتت من شرقي البلد لجهة الشمال‪ ،‬وكثروا على أهل البلد وكسروهم وهجموا على البلد ونهبوا األموال‬
‫وسبوا الحريم واألوالد‪ ،‬وقتلوا جماعة من رءوس املسلمني بجبلة‪ ،‬وأعلنوا بقول ال إله إال عليّ وال حجاب‬
‫إال محمد وال باب اال سلمان‪ ،‬وبسبّ أبي بكر وعمر رضي اهلل عنهما ولعن هذه الطائفة‪ .‬وجمع هذا‬
‫الخارجيّ ما انتهبه أصحابه من جبلة[ وقسّمه على أصحابه بقرية ]‪ .‬وجاء األمير بدر الدين التاجي‬
‫مقّدم العسكر بالالذقية إلى جبلة في آخر هذا اليوم وحماها ومنع الخارجيّ من الَعود إليها )…(‪،‬‬
‫فاتصل ذلك باألمير شهاب الدين قرطاي نائب السلطنة باململكة الطرابلسية فجرّد إلى هذه الطائفة‬
‫املارقة من العسكر الطرابلسيّ األمير بدر الدين بيليك العثماني املنصوري‪ ،‬واألمير شرف الدين عيسى‬
‫البرطاسي‪ ،‬واألمير عالء الدين علي بن الدربساك التركماني‪ ،‬في ألف فارس‪ ،‬والتقوا بقرية من عمل‬
‫ي ونحو ستمائة رجل من أصحابه‪،‬‬ ‫جبلة بالجبل‪ ،‬فاقتتلوا ساعة من النهار‪ ،‬فانجَلْت الحرب عن قتل الّدع ّ‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٦٤‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٧٣‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٧٥‬‬
‫مكان كلمة مطموسة‪ ،‬وهي اسم لقرية‪ .‬محققو الكتاب‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫وتفرّق بقية ذلك الجمع‪ ،‬ثم استأمنوا فأمّنوا‪ ،‬وعادوا إلى أماكنهم واستمروا على عمل فالحتهم وطفيت‬
‫ي وقتله خمسة أيام‪ ،‬واهلل أعلم« ‪.‬‬
‫هذه الثائرة وكان بني خروج هذا الّدع ّ‬
‫ي املهدي عند العلويني تم ذِكرها في جواب البن تيمية في »كتاب الفتاوى الكبرى«‬ ‫وحادثة هذا الّدع ّ‬
‫»املسألة رقم ‪ «١١١-٧٥٧‬في صيغة سؤال‪» :‬في طائفة مِن رعّية البالد كانوا يرون مذهب الّنصيرّية‪،‬‬
‫ي مرسلٌ‪،‬‬ ‫ثم أجمعوا على رجل واختلفت أقوالهم فيه‪ ،‬فمنهم من يزعم أنه إلٌه‪ ،‬ومنهم من يزعم أنه نب ٌّ‬
‫ومنهم من ادّعى أنه محمد بن الحسن‪ ،‬يعنون املهدي‪ ،‬وأَمَروا مَن وَجَده بالسجود له‪ ،‬وأَعلَنوا بالكفر‬
‫ب الصحابة‪ ،‬وأظهروا الخروج عن الطاعة‪ ،‬وعزموا على املحاربة‪ ،‬فهل يجب قتالهم وقتل‬ ‫بذلك‪ ،‬وس ِّ‬
‫ال؟‬ ‫أم‬ ‫وأموالهم‬ ‫ذراِريّهم‬ ‫تباح‬ ‫وهل‬ ‫مقاتلتهم‪،‬‬
‫الجواب ]البن تيمية[‪ :‬الحمد هلل‪ .‬هؤالء يجب قتالهم ما داموا ممتنعني حتى يلتزموا شرائع اإلسالم‪ ،‬فإن‬
‫الّنصيرّية من أعظم الناس كفراً بدون اّتباعهم ملِثل هذا الّدجّال‪ ،‬فكيف إذا اّتبعوا مِثل هذا الّدجّال‪ .‬وهم‬
‫مرتدون مِن أسوء الناس رِدًة‪ُ ،‬تقْتَُل مُقَاِتلُِهمْ وَتغَنمُ أموالهم‪ .‬وسبيُ الذرّيّة فيه نزاعٌ‪ ،‬لكن أكثر العلماء‬
‫على أنه تسبى الصغار من أوالد املرتدين‪ ،‬وهذا هو الذي دّلت عليه سيرة الصّّديق في قتال املرتدين‪.‬‬
‫وكذلك قد تنازع العلماء في استرقاق املرتد‪ ،‬وطائفةٌ تقول‪ :‬إنها ُتستََرقّ كقول أبي حنيفة‪ ،‬وطائفةٌ تقول‬
‫ال ُتستََرقّ كقول الشافعي وأحمد‪ .‬واملعروف عن الصحابة هو األول‪ ،‬وأنه ُتسْتََرقّ مِنهنّ املرتدّات نساءُ‬
‫املرتدين‪ ،‬فإن »الحنفّية« التي تسرّى بها علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ ،‬أُمُّ ابنه محمد بن الحنفّية‬
‫مِن سبي بني حنيفة املرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ ،‬والصحابة ملّا َبعَث خالد‬
‫قتالهم‪.‬‬ ‫في‬ ‫الوليد‬ ‫بن‬
‫والنصيرّية ال َيكْتُُمون أمرهم ]التشديد مني[‪ ،‬بل هم معروفون عند جميع املسلمني‪ ،‬ال يصلّون الصلوات‬
‫الخمس‪ ،‬وال يصومون شهر رمضان‪ ،‬وال يحجّون البيت‪ ،‬وال يؤدّون الزكاة وال يقرّون بوجوب ذلك‪،‬‬
‫وَيستحلّون الخمر وغيرها من املحّرمات‪ ،‬ويعتقدون أن اإلله علي بن أبي طالب )…(‪.‬‬
‫وأما إذا لم ُيظهِروا الّرفض‪ ،‬وأنّ هذا الكذّاب هو املهديّ املنتظر‪ ،‬وامتنعوا‪ ،‬فإنهم ُيقَاتَلون أيضاً‪ ،‬لكن‬
‫ُيقَاتَلون كما ُيقَاتَل الخوارج املارقون الذين قاتلهم علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ ،‬بأمر رسول اهلل‪،‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكما ُيقَاتَل املرتدّون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ ،‬فهؤالء ُيقَاتَلون‬
‫ما داموا ممتنعني‪ ،‬وال ُتسبى ذراريّهم‪ ،‬وال ُتغَنم أموالهم التي لم يستعينوا بها على القتال‪ ،‬وأما ما‬
‫استعانوا به على قتال املسلمني من خيل وسالح وغير ذلك ففي أخذه نزاعٌ بني العلماء‪ .‬وقد روي عن‬
‫ب َعسكَرُه ما في َعسْكر الخوارج‪ .‬فإن رأى وليّ األمر أن َيستبيح ما في‬ ‫علي بن أبي طالب أنه َنهَ َ‬
‫عسكرهم من املال كان هذا سائغاً‪ .‬هذا ما داموا مُمتَنعني‪ ،‬فإن قَدَرَ عليهم فإنه يجب أن يفرّق شملهم‬
‫وَيحْسِم ماّدة شرّهم‪ ،‬وإلزامهم شرائع اإلسالم‪ ،‬وقتل من أصرّ على الردة منهم‪ ،‬وأمّا قتلُ مَن أظهر‬
‫اإلسالم وأبطنَ كفراً منه‪ ،‬وهو املنافق الذي ُتسمّيه الفقهاء الّزنديق‪ ،‬فأكثرُ الفقهاء على أنه ُيقتَل وإن‬
‫تابَ‪ ،‬كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتني عنه‪ ،‬وأحدُ القولني في مذهب أبي حنيفة والشافعي‪.‬‬
‫ف شرّه إال بقتله‪ ،‬قُِتلَ أيضاً‪ ،‬وإن أظهر الّتوبة‪ ،‬وإنْ لم ُيحكَم‬ ‫وَمن كان داعياً منهم إلى الضّالل ال َينك ُّ‬
‫جعْد بن دِرهم وأمثالهما‬ ‫بكفره كأئمة الّرفض الذين يضلون الناس‪ ،‬كما قََتلَ املسلمون غيالن القدريّ‪ ،‬وال َ‬
‫من الدعاة‪ .‬فهذا الّدجال ُيقتل مُطلقاً واهلل أعلم« ‪.‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.٢٧٨ ،٢٧٧‬‬


‫الفتاوى الكبرى‪ .‬ابن تيمية‪ .‬املجلد الثالث‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ‪ .١٩٨٧‬ص‪.٥١٥-٥١٣‬‬
‫‪9‬‬
‫أطلت في عرض هذا االقتباس البن تيمية ألهميته في ذلك الحني‪ ،‬إذ يبدو وكأنه في سنة ‪ ٧١٧‬هجرية‬
‫)‪ ١٣١٧‬ميالدية( كانت فتاوى ابن تيمية بكل ما يخص العلويني من ذبائح وزواج ودفن ودماء وأموال‬
‫وغيرها‪ ،‬وبعد فتواه‪ ،‬وقد يكون بناء عليها‪ ،‬صدر املرسوم السلطاني في ‪ ٧‬شوال من هذه السنة‪ .‬وال ُبد‬
‫أنه بوشر بتنفيذه من ناحية تبليغ قرى العلويني بمضمونه‪ ،‬خاصة »منع النصيرية املذكورين من الخطاب‬
‫)…( وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم بأن ال يعود أحدٌ إلى التظاهر بالخطاب‪ ،‬ومن تظاهر‬
‫به قُوِتل أشدّ مقاتلة«‪ .‬فأغلب الظن أن هذا الكالم أشعل النار في رؤوس الرجال العلويني‪ ،‬خاصة وأنهم‬
‫أناس ال يعتمدون التقية في معتقدهم‪ ،‬كما قال ابن تيمية نفسه »النصيرّية ال َيكْتُُمون أمرهم«‪ ،‬وال ينفون‬
‫باطنية عقيدتهم وال يهتمون كثيراً بطقوس العبادة الظاهرة من صالة وصيام وحج وزكاة‪ ،‬وإن كانوا ال‬
‫يمنعون القيام بها‪ .‬ومن الطبيعي أن يتداعى العلويون ويتفق جماعة منهم على رفض تنفيذ املرسوم‪،‬‬
‫وأن يظهر من بينهم من يقود هذا الحراك‪ ،‬وأن تعلم السلطات وأهل املدن بهذا الرفض‪.‬‬
‫في إثر ذلك أخبرنا النويري كيف بادر خمسة آالف من العلويون باإلغارة على مدينة جبلة فـ»نهبوا‬
‫األموال وسبوا الحريم واألوالد‪ ،‬وقتلوا جماعة من رءوس املسلمني«‪ ،‬وكيف أن العسكر جاء من الالذقية‬
‫ي ونحو ستمائة رجل من أصحابه )…( ثم استأمنوا فأمّنوا‪،‬‬ ‫وطرابلس وتمكّن من دحرهم و»قُتل الّدع ّ‬
‫وعادوا إلى أماكنهم واستمروا على عمل فالحتهم وطفيت هذه الثائرة« ‪.‬‬

‫ومن بني كتب التاريخ األكثر أهمية التي ذكرت العلويني املؤَّلف املوسوعي الشهير «البداية والنهاية »‬
‫لإلمام الفقيه ابن كثير الدمشقي‪ ،‬الذي انهى العمل في كتابه حوالي عام ‪٧٧٠‬هـ‪١٣٦٨ -‬م‪ ،‬حيث نقرأ‬
‫في فصل تأريخه ألحداث سنة ‪ ٧١٧‬هجرية )‪١٣١٨-١٣١٧‬م( أنه‪» :‬وجاءت األخبار بأنه قد أُبطلت‬
‫الخمور والفواحش كلها من بالد السواحل وطرابلس وغيرها‪ ،‬ووضعت مُكوسٌ كثيرة عن الناس هنالك‪،‬‬
‫وُبنيت بقرى الُّنصيرية في كل قرية مسجد‪ ،‬وهلل الحمد واملنة« ‪.‬‬
‫قد يكون ابن كثير بما يقوله هنا ليس دقيقاً كفاية عن أن املساجد قد بنيت بتلك السنة‪ ،‬أي تعدّت كونها‬
‫أوامر سلطانية‪ .‬إذ كما الحظنا أن املدة بني املرسوم السلطانية وما درُج على تسميته »ثورة املهدي‬
‫النصيري« كانت شهرين وبضعة أيام‪ ،‬وكانت هذه الفترة في فصل الشتاء‪ ،‬حيث البرد واألمطار ال‬
‫يساعدان على إقامة األبنية‪ .‬هذا إضافة ملا استنتجناه من رفض العلوييم الذي قابلوا به املرسوم‬
‫السلطاني‪ .‬لكن بغض النظر عن صيغة الفعل »ُبنيت« فما يقوله ابن كثير عن بناء املساجد يؤكد محاولة‬
‫السلطات السنية »تسنني« العلويني والقضاء على العقيدة العلوية‪ .‬لكن ابن كثير بعد أن يخبرنا عن‬
‫«ثورة املهدي النصيري» أو »ثورة العلويني« ضمن فصل بعنوان «صفة خروج املهدي الضال بأرض‬
‫جبلة» حيث يؤكد أنه »في هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة‪ ،‬فأقاموا من بينهم رجالً سَمّوه محمد‬
‫بن الحسن املهدي القائم بأمر اهلل‪ (…) ،‬وصرّح بكفْر املسلمني‪ ،‬وأن النصيرية على الحقّ‪ ،‬واحتوى هذا‬
‫الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضُّالّل )…( وحََملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقاً‬
‫من أهلها‪ (…) ،‬فجمع هذا الضَّال تلك األموال فقسّمها على أصحابه وأتباعه‪ ،‬قّبحهم اهلل أجمعني )…(‬

‫نهاية األرب في فنون األدب‪ ،‬شهاب الدين النويري‪ ،‬ج‪ ،٣٢‬ص‪ ،٢٧٨‬دار الكتب والوثائق القومية‪ ،‬القاهرة ‪.٢٠٠٢‬‬
‫املكوس هي الضرائب‪.‬‬
‫البداية والنهاية‪ ،‬ابن كثير‪ ،‬الجزء ‪ ،١٦‬دار ابن كثير‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،٢٠١٠‬ص‪.١٢٥‬‬
‫‪10‬‬
‫وأمر أصحابه بخراب املساجد واتخاذها خَّمارات‪ (…) ،‬فجرّدت إليهم العساكر فهزموهم و قَتلوا منهم‬
‫خلقاً كثيراً‪ ،‬وجّماً غفيراً‪ ،‬وقُتل املهدي الذي أضلّهم« ‪.‬‬
‫حادثة املقاتلة هذه‪ ،‬أي مهاجمة مدينة جبلة من قَِبل العلويني ومن ثم الكَرّ عليهم وهزيمتهم من جيش‬
‫السنة التي يوردها النويري وابن كثير نجدها أيضاً عند الرحّالة ابن بطوطة )‪ ١٣٧٧-١٣٠٤‬ميالدية‪،‬‬
‫‪ ٧٧٩-٧٠٣‬هجرية(‪ .‬فخالل حديثة عن مدينة جبلة يعرض تعريفاً للطائفة العلوية فيقول‪» :‬وأكثر أهل هذه‬
‫السواحل هم الطائفة النصيرية )…( وكان امللك الظاهر أَلَْزمَهُمْ بناء املساجد بقراهم‪ ،‬فَبنَْوا بكل قريةٍ‬
‫مسجداً بعيداً عن العمارة‪ ،‬وال يدخلونه وال يعمرونه‪ ،‬وربما آوت إليه مواشيهم ودوابهم« ‪ .‬ويتابع‪» :‬ذُكَِر‬
‫لي أن رجالً مجهوالً وَقََع ببالد هذه الطائفة‪ ،‬فادّعى الهداية‪ ،‬وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك البالد )…(‬
‫فغَدَروا مدينة جبلة وأهلها في صالة الجمعة‪ ،‬فدخلوا الدور وهتكوا الحريم‪ ،‬وثار املسلمون من مسجدهم‪،‬‬
‫فأخذوا السالح وقتلوهم كيف شاءوا‪ ،‬واتصل الخبر بالالذقية فأقبل أميرها »بهادر عبد اهلل« بعسكره‪،‬‬
‫وطُِّيرت الحمام إلى طرابلس‪ ،‬فأتى أمير األمراء بعساكره واتبعوهم حتى قتلوا منهم نحو عشرين ألفاً‪،‬‬
‫وتحصّن الباقون بالجبال‪ ،‬وراسلوا ملك األمراء‪ ،‬والتزموا أن يعطوه ديناراً عن كل رأس إن هو حَاوَلَ‬
‫إبقاءهم‪ ،‬وكان الخبر قد طُِّيرَ به الحمام إلى امللك الناصر‪ ،‬وصدر جوابه أن ُيحمل عليهم السيف‪ ،‬فراجعه‬
‫ف املسلمون‪ ،‬لذلك‬ ‫ملك األمراء‪ ،‬وألقى له أنهم عمّال املسلمني في حراثة األرض‪ ،‬وأنهم إن قُِتلُوا ضَعُ َ‬
‫فأمر باإلبقاء عليهم« ‪.‬‬

‫بل حتى أبو الفداء صاحب حماة (‪٧٣٢-٦٧٢‬هـ ) يذكر هذه الواقعة في املجلد الرابع من كتاب «املختصر‬
‫في أخبار البشر» فيقول‪» :‬في أثناء ذي الحجة ظهر في جبال بالطنس إنسان من بعض النصيرية‪،‬‬
‫وادعى أنه محمد ابن الحسن العسكري‪ ،‬ثاني عشر األئمة عند اإلمامية‪ ،‬الذي دخل السرداب املقدم‬
‫ذكره فاتبع هذا الخارجي امللعون من النصيرية جماعة كثيرة‪ ،‬تقدير ثالثة آالف نفر‪ ،‬وهجم مدينة جبلة‪،‬‬
‫في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة‪ ،‬والناس في صالة الجمعة وُنهبت‬
‫أموال أهل جبلة‪ ،‬وسَلبهم ما عليهم‪ .‬وجُرِّد إليه عسكر من طرابلس‪ ،‬فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب‬
‫واختفى في تلك الجبال‪ ،،‬فُتتِّبع وقتل لعنه اهلل‪ ،‬وباد جمعه وتفرقوا‪ ،‬ولم يعد لهم ذكر« ‪.‬‬
‫يرد ذكر واقعة جبلة التي أسماها البعض »ثورة املهدي النصيري« أو »ثورة النصيرية« أو غير مسّمى‬
‫عند مؤرخني آخرين بمن فيهم مَن كان معاصراً لزمن الواقعة‪ ،‬لكننا سنكتفي بهذا القدر ألنه ليس الغاية‬
‫من هذه تقديم قسم من التاريخ العلوي‪ ،‬أو تاريخ الساحل السوري‪ ،‬بل حاولنا تقصي صحة املرويات‬
‫العلوية التي يبنون عليها مظلوميتهم‪.‬‬
‫نتيجة الفتاوى الدينية التي أحّلت استباحة أرواح وأمالك العلويني فقد كانوا عرضة لالعتداء من كل‬
‫صاحب بأس »سّني«‪ .‬يورد لنا حنا بطاطو مثاالً على ذلك في سياق حديثه عن العائالت الحموية فيذكر‬
‫أنه »وفوق جميع هذه السالالت ]البرازية[ حّلت ساللة األميراالي )العقيد( محمد آغا البرازي‪ ،‬وكان آمر‬

‫نفسه‪ .‬ص‪.١٢٧‬‬
‫امللك الظاهر بيبرس ) ‪١٢٧٧-١٢٢٨‬م‪ .(٦٧٦-٦٢٥ ،‬يقول هنا ابن بطوطة أن أمر بناء املساجد في قرى العلويني حصل خالل‬
‫فترة حكم امللك الظاهر‪ .‬وهذا يخالف ما قاله ابن كثير عن أن بناء املساجد كان في عام ‪ ٧١٧‬هجرية‪.‬‬
‫كتاب رحلة ابن بطوطة‪ ،‬املسماة »تحفة النظار في غرائب األمصار وعجائب األسفار«‪ ،‬مطبعة وادي النيل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‬
‫‪١٢٨٧‬هـ ) ‪١٨٧٠‬ـ‪ (١٨٧١‬ص‪.٤٥‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.٤٦ ،٤٥‬‬
‫املختصر في أخبار البشر‪ ،‬أبي الفداء‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.٩٨‬‬
‫‪11‬‬
‫فرقة عثمانية‪ ،‬قاد حملة ناجحة في عام ‪ ١٨٨٠‬ضد فالحني متمردين في جبل العلويني‪ ،‬وتلقى مكافأة‬
‫له قرى عدة‪ ،‬ومنح منصب حاكم حماة« ‪.‬‬
‫مثل هذه السياسات العثمانية كانت السبب الرئيسي لتمرد العلويني‪ ،‬فواقعة مثل حملة األميرالي البرازي‬
‫كانت تدفع بالشباب العلوي إلى التمرد وحمل السالح ومهاجمة كل مَن يعتبرونه يوالي العثمانيني‪ .‬لهذا‬
‫في القرن التاسع عشر وحتى خروج العثمانيني من البالد »تحدّى الفالحون العلويون الحكومة القائمة‪،‬‬
‫أو رفعوا السالح ضدها‪ ،‬في ثالث عشرة مناسبة مختلفة على األقل« في سنوات )‪،١٨٠٨ ،١٨٠٦‬‬
‫‪. (١٩١٨ ،١٨٨٠ ،١٨٧٧ ،١٨٧٠ ،١٨٥٨ ،١٨٥٥ ،١٨٥٢ ،١٨٤٤ ،١٨٣٤ ،١٨١٥ ،١٨١١‬‬
‫اضطهاد السلطات العثمانية السّنية للعلويني لم يقتصر على الحمالت العسكرية‪ ،‬بل كان يتجلى في كل‬
‫جوانب السياسة العثمانية تجاه العلويني‪ .‬فبعبارات دقيقة ومقتضبة يلخّص لنا يوسف الحكيم السياسة‬
‫العثمانية تجاه العلويني‪» :‬أجل‪ ،‬ظل الشعب العلوي مضطَهداً في كل العهد العثماني الذي استمر أربعة‬
‫قرون‪ ،‬فمُنعت عنه الوظائف الحكومية حتى الصغيرة منها التي ال تتطلب شيئاً من العلم والكتابة‪ .‬وكان‬
‫دوماً عرضة لالمتهان من رجال الحكم والزعماء من أهل املدن‪ .‬فإذا جاءها العلوي‪ ،‬لم ُيسمح له بدخول‬
‫مساجدها وجوامعها‪ ،‬وال يأكل السّنيون من ذبيحة العلوي‪ .‬وطاملا باع العلوي نصف ما مََلكَه من أرض‬
‫ومزارع بثمن زهيد أو بال ثمن ألهل املدن ليتمتع بحمايتهم من ظلمِ جارٍ متنفذ‪ ،‬أو من قسوة جباة‬
‫الضرائب ورجال الدرك‪ .‬فكان على وجه اإلجمال محروماً من العلم والحرية والكرامة« ‪.‬‬
‫حال العلويني التي يعرضها يوسف الحكيم هي الحكاية نفسها التي كّنا نسمعها قبل زمنٍ من كبار‬
‫السنّ العلويني الذين عاصروا تلك الفترة‪ .‬فقد سمعت حكايات صغيرة كثيرة عن اعتداءات لفظية او‬
‫جسدية كان يقوم بها بعض سكّان املدن الساحلية بحق الفالحني العلويني الذين كانوا يخاطرون بالتعرّض‬
‫إلى مثل هذه االستفزازات من أجل بيع شيء بسيط من منتوجهم الزراعي‪ ،‬وفي كثير من األحيان كان‬
‫يقوم هؤالء املعتدين بإتالف ما جاء يبيعه الفالح العلوي أو بعضاً منه‪.‬‬
‫ويخبرنا يوسف الحكيم في كتابه أن املتصرّف »ضيا بك«‪ ،‬متصرّف الالذقية‪ ،‬هو الوحيد من املتصرفني‬
‫الذي شعر العلويون خالل فترة حكمه‪ ،‬أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬بطعم الراحة والكرامة‪ .‬وأنه كتب إلى‬
‫السلطان عبد الحميد‪» :‬إن هذا الشعب ]العلويني[ يميل بعواطفه إلى دولة إيران الشيعية املذهب‪ ،‬نظراً‬
‫ت له حريته وكرامته قَِبلَ الدعوة إلى‬
‫ملا يالقيه من ظلم واستبداد من مواطنيه والحكومة معاً‪ ،‬فإذا ضُمَِن ْ‬
‫سّنة اإلسالم« ‪ .‬وقد وافق السلطان على هذا املقترح‪ ،‬حسب ما يذكر الحكيم‪» ،‬فأخذ يعيد إلى العلويني‬
‫قراهم املغصوبة ]التشديد مني[‪ ،‬ويعني شيوخهم ووجهاءهم في الوظائف التمثيلية‪ ،‬كأعضاء املجالس‬
‫املحلية واملحاكم‪ ،‬كما عني األميني منهم أفراداً في الدرك‪ ،‬وبنى لهم املدارس واملساجد في كل قرية‬
‫كبيرة )…( فسادَ األمن في أنحاء الجبل مدة أربع سنوات‪ ،‬انتهت مع األسف بموت هذا الحاكم العادل‬
‫املستبد« ‪.‬‬
‫يبدو من هذا املقطع أن اضطهاد العلويني كان يصل حد السيطرة على أمالكهم واغتصاب قراهم‪ .‬بل‬
‫ويبدو أنهم تعرضوا إلى التهجير القسري والطرد من منازلهم وفق يخبرنا به صموئيل ليد في مقدمة‬

‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٢٤٨‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٢١٩‬‬
‫العهد العثماني‪ ،‬ص ‪.٧٠‬‬
‫العهد العثماني‪ ،‬ص ‪.٧٠‬‬
‫العهد العثماني ص‪.٧٠‬‬
‫‪12‬‬
‫كتابه »‪ «mystery Asian The‬عن كتاب كان بحوزته ويعتبره »كتاب النصيرية« فيقول‪» :‬لقد‬
‫اشتريت الكتاب نفسه من تاجر مسيحي في الالذقية بمبلغ ‪ ١٠‬جنيهات إسترلينية‪ ،‬وكان قد وصل إلى‬
‫يديه خالل األوقات العصيبة إلبراهيم باشا عندما طرد الّنصيرية من منازلهم ]التشديد مني[« ‪.‬‬
‫يشهد الحكيم للعلويني شهادة تختلف عن شهادة معاصريه عبد الرزاق البيطار وجورجي أفندي يني‪،‬‬
‫وقد يعود ذلك إلى أنه نشر كتابه بعد انتهاء حكم السلطنة العثمانية على سوريا‪ ،‬أي أنه لم يخشى‬
‫عقاباً‪ ،‬بخالف اآلخَرين اللذين كتبا كتبهما خالل فترة الحكم العثماني‪ ،‬وقد يكون التشنيع الذي قااله‬
‫على العلويني كان بهدف إرضاء السلطات العثمانية‪ .‬فالحكيم يقول إن »عدداً غير يسير من أبناء الالذقية‬
‫املسلمني واملسيحيني قد لجأ أثناء الحرب العاملية األولى إلى القرى الجبلية العالية‪ ،‬فراراً من الجندية‪،‬‬
‫وبقوا في حمى إخوانهم العلويني طول فترة الحرب معززين مكرّمني‪ ،‬دون أن يتعرض أحدهم ملا يزعجه‬
‫أو يكدّر خاطره« ‪.‬‬
‫***‬
‫يمكننا أن نخلص مما ورد إلى أن العلويني هم جماعة يقيمون في قراهم الحالية منذ أكثر من سبعمئة‬
‫سنة بكثير‪ ،‬أي أنهم من السوريني األصالء‪ .‬وأنهم تعرضوا إلى اضطهاد سني‪/‬سلطوي دام وفق املراجع‬
‫التي اعتمدناها أكثر من ستمئة سنة‪ .‬وقد القوا طيلة هذه السنني النبذ والتهميش جرّاء رفضهم االنصياع‬
‫لحمالت وسياسات »التسنني« التي اعتمدتها السلطات السّنية العثمانية واململوكية‪ ،‬بل إنهم لم يعتمدوا‬
‫أسلوب »التقية« الدينية‪ ،‬بل بقوا يتعبّدون ربهم »الواحد األحد« »املتعالي« و»املفارق« للوجود املادي‬
‫على طريقتهم الباطنية التي ال تتخطى حدود صدورهم‪.‬‬
‫سياسات »التسنني« بحق العلويني تندرج ضمن عمليات »االضطهاد الديني« الذي ينتمي إلى الحقل‬
‫السياسي وليس إلى الحقل الديني‪ .‬لهذا جئنا على ذكرها ضمن هذا السياق وليس ضمن السياق‬
‫العقيدي الديني‪ ،‬فهذا جانب ال عالقة لدراستنا به‪.‬‬

‫هدم جدار التهميش والعزل‬

‫»َعقِبَ جالء الدولة العثمانية في آخر يوم من أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ١٩١٨‬عن بيروت ولبنان باتجاه األناضول‬
‫)…( وصلت الجيوش الفرنسية بحراً إلى بيروت في السادس من تشرين أول‪/‬أكتوبر‪ ،‬وأخذت مواقعها‬
‫في مختلف أنحاء املنطقة الساحلية« ‪ ،‬وكان ذلك بالتزامن مع دخول امللك فيصل دمشق بفارق يومني‬
‫فقط‪ .‬بعدها قسّم الجنرال اللنبي ‪ Allenby‬سوريا إلى ثالث مناطق وفق اتفاق سايكس بيكو »يرئس‬
‫كالً من هذه املناطق حاكم عسكري‪ .‬فكان الفريق رضا باشا الركابي‪ ،‬العربي الدمشقي‪ ،‬على املنطقة‬
‫الشرقية والكولونيل الفرنسي دي بييباب ‪ De Piepap‬على املنطقة الغربية بينما كانت املنطقة الجنوبية‬
‫تحت احتالل القوات البريطانية« ‪.‬‬

‫‪The Asian mystery, SAMUEL LYDE, p VII.‬‬


‫العهد العثماني‪ ،‬ص ‪.٧١‬‬
‫سورية واالنتداب الفرنسي‪ ،‬يوسف الحكيم‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،١٩٩١‬ص‪( .٨‬الحقًا االنتداب الفرنسي)‬
‫االنتداب الفرنسي‪ ،‬ص‪.٧ ،٦‬‬
‫‪13‬‬
‫شعر العلويون أن هذه املتغيرات الكبرى بالنسبة لهم ستكون مرحلة انتهاء النبذ والتهميش‪ ،‬وأنه قد‬
‫حانت لحظة تحطيم جدار العزل الطائفي الذي فرضته عليهم السلطات السّنية ملئات السنني‪ ،‬فبادروا‬
‫َيخَبرون الدروب إلى املدن الساحلية بعد أن خف كثيراً ازدراء سكانها لهم‪ .‬وبدأوا يتلمسون طعم‬
‫املساواة في الحقوق من قَِبل السلطات الجديدة‪ .‬وصاروا يحظون ببعض الفرص التي تمكّنهم من‬
‫الحصول على وظائف في الدوائر الرسمية‪ .‬وعلى الرغم من أن العلويني نظروا إلى القوات الفرنسية‬
‫التي واجهوها بـ»ثمانية آالف تؤلف قوى الزعيم الشيخ صالح العلي« على أنها قوات أجنبية محتَّلة‪،‬‬
‫لكنهم وجدوا أن سلطة االحتالل الفرنسي هي أفضل بتعاملها معهم من سلطة االحتالل العثماني‪ ،‬فهي‬
‫لم تفرّق »في الحقوق والواجبات بني سكان املنطقة على اختالف مذاهبهم‪ ،‬خالفاً ملا ألفوه في العهد‬
‫العثماني« ‪ ،‬في حني عرفنا سابقاً أن السلطات العثمانية كانت تعتمد سياسة تمييزية بحق العلويني‬
‫فتعتبرهم أقلّ مرتبة في الحقوق من السّنة‪ ،‬لدرجة أنها ال تقدم لهم أي خدمات‪ ،‬بما في ذلك املدارس‬
‫مثالً‪ .‬ولقد سعى الفرنسيون لكسب ودّ العلويني فعملوا على استثمار موضوع اختالف املذهب الذي‬
‫كانت تعتمده السلطات السنية تجاه العلويني فتعاملهم على أنهم مهرطقني وليسوا مسلمني‪ ،‬وأن قسماً‬
‫كبيراً من السّنة ال ُيقرّون أن للعلويني مذهباً إسالمياً خاصاً بهم يختلف عن املذهب السّني‪ ،‬لهذا فقد‬
‫طلب الكولونيل نييجر‪ ،‬حاكم منطقة العلويني‪ ،‬من القاضي الشرعي للمنطقة‪ ،‬الشيخ محمد العجان‪،‬‬
‫إعالن موقفٍ شرعيٍ جديدٍ من العلويني‪ ،‬فحصل منه »على وثيقة خطّية يؤيد فيها استقالل العلويني عن‬
‫السنيني في املذهب« ‪ .‬وبناًء على تلك الوثيقة حصل العلويون على قرار من املفوّض السّامي في بيروت‬
‫بهذا الفصل‪ ،‬الذي أمر بتشكيل »محاكم مذهبية خاصة بالعلويني« أسوة بما هو معمول به اآلن عند‬
‫الدروز واملسيحيني‪.‬‬
‫خالل السنوات التالية لدخول القوات الفرنسية دمشق وإعالن االنتداب‪ ،‬وبعد القضاء على ثورة الشيخ‬
‫صالح العلي‪ ،‬ارتضى الشّبان العلويون االنضمام إلى القوات الفرنسية بعد أن اطمأنوا للمعاملة الالئقة‬
‫التي عاملهم بها الفرنسيني‪ ،‬مقارنة بمعاملة العثمانيني الذين كانوا يرفضون التجنيد لديهم‪ ،‬الذين‬
‫عاملوهم بغير الطريقة االستعبادية التي كان يعاملهم بها العثمانيون‪ ،‬فكانوا في مقدمة الجنود السوريني‬
‫اآلخرين (كان جدي ألمي أحد هؤالء الجنود)‪ ،‬فـ»من بني كتائب املشاة الثماني في القوات الخاصة‬
‫العاملة في سورية تحت االنتداب الفرنسي‪ ،‬تألفت ثالث كتائب بالكامل أو في األساس من العلويني‪،‬‬
‫ولم يدخل في تركيبها أي عربي سني )…( ومن بني سرايا الخيالة االثنتي عشر التي تتوافر عنها‬
‫ب سّنة ريفيني من دير الزور والرقة‪ ،‬وضمت اثنتان‪،‬‬
‫البيانات‪ ،‬تألفت واحدة فقط‪ ،‬هي السرية ‪ ،٢٤‬من عر ٍ‬
‫هما السريتان ‪ ٢١‬و ‪ ،٢٥‬بعض العناصر العربية السّنية من قبيلة شمّر أو من مدينتي إدلب وحمص‪.‬‬
‫وجميع الوحدات األخرى كانت من الدروز أو الشركس أو األكراد أو األشوريني أو األرمن أو‬
‫اإلسماعيلية« ‪.‬‬
‫نلحظ هنا تمايزاً مهمّاً بني موقف العلويني وبني موقف السّنة من االحتاللني العثماني والفرنسي‪ ،‬ففي‬
‫حني نظر العلويون إلى العثمانيني على أنهم قوات احتالل يمارسون تجاههم اضطهاداً ونبذاً بناء على‬
‫اختالف عقيدتهم عن املذهب السّني‪ ،‬نظروا إلى الفرنسيني على أنهم قوات احتالل وكانوا أوّل من رفع‬

‫االنتداب الفرنسي‪ ،‬ص‪.٦٤‬‬


‫االنتداب الفرنسي‪ ،‬ص‪.٦٣‬‬
‫االنتداب الفرنسي‪ ،‬ص‪.٦٦‬‬
‫االنتداب الفرنسي‪ ،‬ص‪.٦٦‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٣٠٤‬‬
‫‪14‬‬
‫السالح بوجههم‪ ،‬لكنهم وجدوا أنهم يساوونهم باملعاملة مع املذاهب األخرى من دون تمييز أو اضطهاد‬
‫بناء على عقيدتهم‪ .‬في حني أنّ موقف قسمٍ من األغلبية السنية السورية كان‪ ،‬وما زال‪ ،‬ينظر إلى السلطنة‬
‫العثمانية على أنها خالفة إسالمية وليست احتالالً أجنبياً‪ ،‬وبالتالي يمتثلون لها ألنهم يعتبرون أنفسهم‬
‫ينتمون إلى »األمة اإلسالمية« أكثر من انتمائهم إلى سوريا‪.‬‬

‫هجرة العلويون من الريف إلى املدينة‬


‫بعد أن عرفَ العلويون دروب املدينة اآلمنة‪ ،‬وهدموا جدار العزل واإلقصاء‪ ،‬بات الطريق مفتوحاً أمامهم‬
‫ليهجروا قراهم‪ ،‬أسوة بجميع سكّان األرياف في جمع البلدان‪ ،‬بعد أن تفيض اليد العاملة عن حاجة‬
‫العمل الزراعي الذي يشّكل وسيلة العمل الوحيدة في الريف فيمضي الشبان يبحثون عن أسواق عمل‬
‫جديدة بعيداً أو أكثر بعداً عن قراهم‪ .‬وفي الغالب يتجهون إلى املدينة القادرة على تأمني مصادر الرزق‬
‫لهم نتيجة تنّوع األعمال فيها‪ .‬فالعلويون لم يهجروا قراهم ألي هدف جماعي‪ ،‬أو تنفيذاً لتوجيها ِ‬
‫ت‬
‫»قيادات« دينية أو سياسية‪.‬‬
‫كانت هجرة العلويني‪ ،‬وغيرهم من سكان الريف السوريني‪ ،‬إلى املدينة عشوائية من دون أي تخطيط أو‬
‫تنظيم من الحكومة السورية‪ ،‬لهذا لم يجدوا متسعاً لهم في املدن السورية‪ ،‬خاصة العاصمة دمشق‪،‬‬
‫فعاشوا في محيطها وعلى أطرافها في بيوت عشوائية بنوها على أراضٍ ليست معدّة للبناء‪ ،‬مستفيدين‬
‫من حالة الفساد الحكومي‪ .‬فأسسوا في دمشق أحياء سكنية سمّيت »عشوائيات« مثل «عش الورور »‬
‫واملزة «‪ »٨٦‬كانت عبارة عن غرف صغيرة متالصقة تتشارك العائالت فيها املطابخ والحمامات بشكل‬
‫مشترك‪ .‬ومع أن هذه البيوت لم تكن مشمولة بالصرف الصحي‪ ،‬وال بتأمني املاء أو الكهرباء‪ ،‬إال أن‬
‫هؤالء الريفيني وجدوها أفضل بكثير من السكن في قراهم شديدة البؤس والفقر‪.‬‬

‫العلويون والدولة‬
‫تزامن زوال جدار العزل الطائفي على العلويني مع إقامة الدولة الوطنية السورية‪ ،‬التي حّلت محلّ قوات‬
‫االنتداب الفرنسي‪ .‬حينها تمكّن العلويون‪ ،‬بعد مئات السنني من اإلقصاء والنبذ‪ ،‬من تنفس الصعداء‪،‬‬
‫وَعرِفوا ألول مرة في تاريخهم املساواة في الحقوق مع غيرهم من السوريني‪ ،‬من دون تمييز طائفي‪.‬‬
‫ونظر العلويون إلى الدولة الناشئة على أنها دولتهم مثلما هي دولة غيرهم من السوريني ‪ .‬واطمأنوا إليها‬
‫معتبرينها كياناً سياسياً وحكومياً حامٍ لهم وراعٍ ملصالحهم‪ .‬فضالً عن أنهم وجدوا في مؤسساتها‪،‬‬
‫التي كانت بحاجة للكثير من العمال واملوظفني‪ ،‬وسيلة العمل البديلة للعمل الزراعي الذي لم يعد كافياً‬
‫لتأمني متطلبات عيشهم‪ .‬إذ أنه على الرغم من أن أراضي قراهم املنتشرة في هضاب وسهول الساحل‬
‫السوري هي أراضٍ خصبة ووفيرة األمطار واألنهار‪ ،‬لكن مساحتها باتت‪ ،‬منذ زمن طويل جداً‪ ،‬أضيق‬
‫من تؤمّن معيشة ربع عدد سكّانها‪ .‬وقد حالَ الحصار والتمييز الذي كانوا يعيشونه دون إمكانية هجرتهم‬
‫الداخلية أو الخارجية‪.‬‬

‫لقد وجد آالف الفقراء من العلويني فرصة عمل في مؤسسات الدولة أكثر يسراً من األعمال «الحرة »‬
‫في املدينة‪ .‬فاملِهن املدينية‪ ،‬كالنجارة والحدادة والخياطة وغيرها‪ ،‬كانت تحتاج ملن يريد العمل فيها‬
‫ويتقاضى أجراً أن تكون لديه خبرات أو مهارات فيها‪ .‬لكن الشبان العلويني ما كانوا يعرفون سوى‬

‫‪15‬‬
‫الفالحة‪ ،‬وكان غالبيتهم على هذه الحال لدرجة أن العلويني كانوا ُيسمّون الفالحني ‪ ،Fellaheen‬في‬
‫حني كان العمل في مؤسسات الدولة ال يتطلب أي مهارات أو خبرات سابقة‪ ،‬فكان أي شخص يعرف‬
‫القراءة والكتابة‪ ،‬دون أن يكون لديه حتى الشهادة االبتدائية‪ ،‬بمقدوره الحصول على عمل في بعض‬
‫املؤسسات‪ .‬فكان هذا نعيماً حقيقياً بنظرهم‪ ،‬فـ»الفالحني العلويني كانوا فئة خاصة‪ ،‬وما كانوا ُيحسَدون‬
‫قط على حظهم )…( وبعد الحرب العاملية األولى صارت األحوال االقتصادية‪ ،‬حتى بالنسبة إلى الفالحني‬
‫العلويني األكثر استقاللية واألقل اضطهاداً‪ ،‬بائسة إلى حد أنهم أخذوا يبيعون بناتهم أو يؤجّرونهن‬
‫]خادمات[ ألهل املدن األغنياء‪ .‬كان بعضهم يباع في الطفولة مدى الحياة بصفة خادمة‪ ،‬لكن كانت‬
‫أغلبيتهن »تؤجَّر« فحسب مقابل سعر متفق عليه ولفترة محددة من الزمن« ‪.‬‬
‫ال يمكن للعلويني تصوّر أنفسهم من دون الدولة السورية التي ينظرون إليها نظرة خاصة مليئة بمشاعر‬
‫عاطفية قد تفوق وعيهم السياسي بها‪.‬‬

‫العلويون والجيش الوطني السوري‬


‫يشكل الجنود العلويون اآلن‪ ،‬ضباطاً وضبط صف‪ ،‬النسبة العظمى من عديد الجيش الوطني السوري‬
‫وأجهزة املخابرات‪ ،‬بل في جميع القوات املسلحة على األراضي التي تحكمها السلطة السورية‪ .‬وكانت‬
‫هذه الكثرة في الجيش سابقة لبروز أسماء ضباط علويني في مواقع قيادية في ستينات القرن املاضي‪،‬‬
‫فهي‪ ،‬أي الكثرة‪ ،‬قائمة منذ منتصف الخمسينات‪ .‬فاملؤرخ حّنا بطاطو يخبرنا في كتابه «فالحو سوريا »‬
‫أن عبد الحميد السراج أخبره أنه عندما كان رئيساً ملكتب املخابرات العسكرية‪ ،‬وعلى خلفية اغتيال‬
‫العقيد عدنان املالكي عام ‪ ،١٩٥٥‬تفاجأ «باكتشافه أن ما ال يقل عن ‪ ٥٥‬في املئة أو نحوه من ضباط‬
‫الصف كانوا من الطائفة العلوية »‪.‬‬
‫كذلك فإن هذه الكثرة لم تنجم عن تلك الفَِرق العسكرية من العلويني التي كانت موجودة بني مَالك القوات‬
‫الفرنسية زمن االنتداب الفرنسي على سوريا‪ ،‬فعدد الجيش السوري كان أكبر بكثير في خمسينات‬
‫وستينات القرن املاضي مما كان عليه زمن الفرنسيني‪ .‬كذلك نستند إلى معلومات بطاطو الذي يرى‪:‬‬
‫»أنَّ طبيعة الجيش قبل االستقالل‪ ،‬أي طبيعته قبل عام ‪ ،١٩٤٦‬ال يمكن أن تفسِّر تركيبته في عام ‪١٩٦٣‬‬
‫أو بعد ذلك‪ ،‬على األقل باملعنى الحاسم‪ .‬ويجب أن يكون السبب واضحاً‪ .‬ففي عام ‪ ١٩٦٣‬كان في‬
‫سورية قوات مسلحة دائمة يصل عددها إلى نحو ‪ ٦٥‬ألفاً‪ ،‬وكانت تقديرات عدد رجالها الذين تحت‬
‫السالح في عامي ‪ ١٩٧٣‬و‪ ١٩٨٦‬على التوالي ‪ ١٤٩‬ألفاً و ‪ ٤٠٠‬ألف‪ .‬وفي حني كان تعداد الفرقة‬
‫السورية في القوات الخاصة املوروثة عن الفرنسيني في عام ‪ ١٩٤٦‬هو ‪ ٧‬آالف فقط‪ ،‬فإنه تقلّص في‬
‫عام ‪ ١٩٤٨‬إلى ‪ ٢٥٠٠‬رجل فقط‪ ،‬ألن العائالت التجارية ومالكة األراضي الحاكمة في حينه كانت تنظر‬

‫‪The Ansyreeh and Ismaeleeh, a visit to the secret sects of northern Syria, Samuel Lyde, Hurst‬‬
‫‪and Blackett publishers, London 1853. p127.‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٩٣‬‬
‫بطاطو ص ‪٣٠٤ -٣٠٣‬‬
‫‪16‬‬
‫إلى تلك الفرقة على أنها كبيرة جداً ومكلفة جداً‪ .‬ومن املؤكد ال يمكن ملوطئ القدم القوي للعلويني في‬
‫القوات الخاصة أن يفسر نفوذهم املهيمن في الجيش حالياً« ‪.‬‬
‫إذن كيف وملاذا حصل وأن أصبح عدد الجنود العلويني في الجيش يفوق عدد الجنود اآلخرين‪ ،‬خاصة‬
‫الجنود السّنة‪ ،‬وهم الذين اشتبكوا مراراً مع السلطات العثمانية لرفضهم التجنيد في صفوف جيشها‪،‬‬
‫وهذا ما يلفت انتباهنا إليه «صاموئيل ليد » في كتابه «النصيرية واإلسماعيلية‪ ،‬زيارة لطوائف سرية‬
‫شمالي سوريا» املنشور سنة ‪ ،١٨٥٣‬الذي عرض فيه املعلومات التي حصل عليها خالل رحلته إلى‬
‫جبال العلويني‪ ،‬فأورد في الكتاب أن شيخاً علوياً قال له‪« :‬مهما كانت الضرائب ثقيلة فإنها ال تقارن مع‬
‫االنفصال عن أوالدنا »‪ ،‬ويقصد ذهابهم إلى الجندية‪.‬‬
‫بنى العلويون عالقتهم مع الجيش السوري من خالل موقفهم من الدولة الوطنية السورية الناشئة‪ ،‬فتعاملوا‬
‫معه على أنه أحد مؤسساتها‪ ،‬إذ وجدوا أن شروط العمل فيه كانت تناسبهم‪ ،‬فاالنضمام إليه باملعنى‬
‫االحترافي ال يتطلب أي خبرات أو مهارات‪ ،‬وال يتطلب أي شهادات تعليمية‪ ،‬وسيمنحهم راتباً شهرياً‬
‫ثابتاً من أول يوم يلتحقون به‪ ،‬إذ كان الجيش في ذاك الحني يدفع الراتب الشهري سلفاً‪ .‬كما أنهم‬
‫سيحصلون في نهاية خدمتهم على راتب تقاعدي لبقية حياتهم‪ ،‬ومنحة مالية تسمى »سلفة سكن« ليبنوا‬
‫بيتاً صغيرة في قراهم‪ .‬فـ»الظروف االقتصادية السيئة للعلويني جعلت من الجيش أداة للحراك‬
‫االجتماعي‪ .‬فألول مرة‪ ،‬تمكّن الشباب العلوي االستفادة من دخل صغير لكنه آمن« ‪ .‬وهذا تماماً ما‬
‫حصل مع والدي وعدد من أقرانه من القرى املجاورة لقريتنا النائية‪ .‬فقد عرف حني تأديته الخدمة‬
‫اإللزامية في خمسينات القرن املاضي‪ ،‬أنه إن »تطوّع« في الجيش‪ ،‬أي احترف املهنة العسكرية‪ ،‬فإنه‬
‫سيحصل على ذاك الدخل ولن يكون مضطراً للعودة إلى قريته ومعاناة الحاجة والعوز‪.‬‬
‫الحاجة إلى فرصة عمل بعيداً عن العمل الزراعي الذي لم يعد مجدياً منذ زمن طويل‪ ،‬وإلى تأمني دخل‬
‫ثابت‪ ،‬ولو كان قليالً جداً‪ ،‬هو الدافع الوحيد الذي جعل الشبان العلويون يحترفون العمل العسكري على‬
‫الرغم من صعوبته ومخاطره التي تصل حد املوت في املعارك وفي التدريبات‪ ،‬ولم يكن يوجد أي سبب‬
‫آخر يجعلهم يتركوا قراهم التي بقوا مرتبطني بها بعالقة عاطفية طوال فترة خدمتهم العسكرية‪ ،‬والتي‬
‫عاد أكثرهم إليها في فترة تقاعدهم‪ .‬وهذا حال غالبية أبناء األرياف‪.‬‬
‫وألن الجيش كان‪ ،‬وما زال‪ ،‬ال يضع حداً لعدد الذين يقبل انضمامهم إليه‪ ،‬طاملا يستوفون الشروط‬
‫املطلوبة‪ ،‬لهذا قَِبلَ جميع طالبي االنتساب من الشبان العلويني الذين أقبلوا عليه بكثافة حتى أصبحوا‬
‫يشّكلون أكثر من نصف عديده بني املحترفني (املتطوعني) في منتصف خمسينات القرن املاضي‪ ،‬ومع‬
‫مرور الزمن ازدادت نسبهتم أكثر من ذلك بكثير‪ .‬وقد كانت زيادة عدد العلويني في الجيش على مستوى‬
‫ضباط الصف أوالً‪ ،‬بسبب قلة حاملي الشهادة الثانوية‪ ،‬إال أنه الحقاً‪ ،‬ومع ازدياد عدد املدارس وازدياد‬
‫عدد حََملة الشهادة الثانوية‪ ،‬ولذات الدوافع واألسباب التي تسببت بالتحاق الشبان من غير خريجي‬

‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٣٠٥ ،٣٠٤‬‬


‫‪The Ansyreeh and Ismaeleeh, a visit to the secret sects of northern Syria, Samuel Lyde, Hurst‬‬
‫‪and Blackett publishers, London 1853. p127.‬‬
‫‪Roots of Alawite-Sunni Rivalry in Syria, py Ayse Tekdal Fildis, Middle East Policy, Vol. XIX, No.‬‬
‫‪2, Summer 2012, p151.‬‬
‫‪17‬‬
‫الثانوية بالجيش‪ ،‬بدأ يزداد عدد الشباب العلويني املنتسبني إلى الكليات العسكرية ألنهم لم يجدوا أي‬
‫عمل لهم‪ ،‬وفي نفس الوقت كان آباؤهم غير قادرين على تأمني مستلزمات تعليمهم الجامعي‪ .‬وهذا ما‬
‫صرّح لي به العميد املتقاعد محمد غانم ‪ ،‬إذ كان واحداً من هؤالء‪ .‬وكان قد ُعرفَ اسم العميد غانم‬
‫خالل فترة الصراع على السلطة بني الرئيس السابق حافظ األسد وبني أخيه رفعت األسد الذي كان‬
‫حينها قائد ما كان ُيعرف باسم »سرايا الدفاع«‪ ،‬حيث عيّنه رئيس الجمهورية قائداً لـ»سرايا الدفاع«‬
‫بدل »رفعت«‪ ،‬لكن األخير أعفاه من منصبه وعني بدالً عنه صهره »معني ناصيف« ‪.‬‬

‫بداية بروز الضباط العلويون‬


‫بعد حوالي ثالث سنوات على جالء آخر جندي فرنسي عن األراضي السورية قام الزعيم )العميد(‬
‫حسني الزعيم بأول انقالب عسكري استولى بواسطته على السلطة السياسية في البالد‪ ،‬مدشناً بذلك‬
‫سلسلة انقالبات عسكرية قام بها ضباط كبار في الجيش‪ .‬ومنذ ذاك االنقالب وحتى اللحظة بات العسكر‬
‫ممسكني بمقاليد السلطة بشكل ظاهر أو بشكل خفي‪ .‬فحتى حني يكون قادة البالد من املدنيني يكون‬
‫ذلك برضا ضباط قادرين على خلعهم متى شاؤوا‪.‬‬
‫ومن املُالحظ أن غالبية رؤساء الجمهورية منذ جالء الفرنسيني وحتى إقامة الوحدة بني مصر وسوريا‬
‫كانوا من أبناء املدن‪ ،‬دمشق وحمص وحماه وحلب حصراً‪.‬‬
‫وكان أكثر من رئيس من عائالت أرستقراطية أو عائالت مرموقة أو عائالت ذات أمالك كبيرة جداً‪.‬‬
‫وأكثر من رئيس من بينهم كان ضابطاً في الجيش العثماني‪.‬‬
‫وأكثر من قائد جيش في تلك الفترة‪ ،‬خاصة ممن قام بانقالب عسكري‪ ،‬كان ضباطاً في »جيش املشرق«‬
‫الفرنسي‪.‬‬
‫َعرِفَت الحياة السياسية في تلك الفترة االعتقاالت السياسية‪ ،‬والنفي‪ ،‬وحظر األحزاب‪ ،‬وإغالق الصحف‪،‬‬
‫خاصة في عهود االنقالبات العسكرية‪ ،‬وتسريح الضباط ونقلهم‪ ،‬بل حتى أن سامي الحناوي‪ ،‬قائد‬
‫االنقالب الثاني‪ ،‬في يوم انقالبه على حسني الزعيم أعدمه بعد ساعات مع رئيس وزرائه السياسي‬
‫الحموي محسن البرازي‪ ،‬الذي ُعرف عنه أنه حقق خطوات متقدمة في عملية عقد معاهدة سالم مع‬
‫إسرائيل زمن حكومة بن غوريون‪ .‬ومنذ قيام الوحدة بني سوريا ومصر عام ‪ ١٩٥٨‬سمح جمال عبد‬
‫الناصر ألجهزة املخابرات السورية تعذيب معتقليها السياسيني‪ ،‬وفق ما قاله عبد الكريم النحالوي‪ ،‬زعيم‬
‫االنقالب الذي أدى إلى فصل الوحدة بني مصر وسوريا‪ ،‬في برنامج »شاهد على العصر« الذي تبثه‬
‫قناة الجزيرة‪.‬‬
‫بناء على كالم النحالوي التلفزيوني‪ ،‬وعلى جميع الكتب التي وّثقت مرحلة االستقالل حتى إعالن قيام‬
‫»الجمهورية العربية املتحدة«‪ ،‬فإن غالبية رجال الطبقة السياسية املسيطرة على العاصمة دمشق في‬
‫ذلك الوقت كانوا من أبناء العائالت األرستقراطية‪ ،‬وأبناء عائالت املالكني الكبار‪ ،‬وأبناء العائالت املرموقة‬
‫التي كانت تسيطر على فعّاليات املدن الرئيسية‪ ،‬دمشق وحمص وحماه وحلب‪ ،‬وكانت تفتقر لوجود‬

‫يذكره حنا بطاطو في كتابه فالحو سوريا‪ ،‬ص ‪.٤٣٣‬‬


‫جل عبر »سكايب« أجراه معه الكاتب في ربيع عام ‪.٢٠٢١‬‬‫هذه املعلومات من حديث مس ّ‬
‫‪18‬‬
‫زعماء علويني وقادة ريفّيني‪ .‬كذلك فإن غالبية الضباط القادة املمسكني بجميع السلطات العسكرية واألمنية‬
‫مِن أصحاب الرتب العليا واملتوسطة كانوا من السّنة‪ ،‬فلم يظهر من بينهم اسم أي ضابط علوي‪.‬‬
‫منذ تلك الفترة‪ ،‬منذ زمن إقامة »الجمهورية العربية املتحدة«‪ ،‬بدأ الجيش السوري يظهر بمظهر جديد‪.‬‬
‫فقد بات يبرز من بني صفوفه ضباطاً من أصول ريفية أو من عائالت مدينية متوسطة أو متواضعة‪ .‬إذ‬
‫بعد رحيل العثماني عن سوريا تم تأسيس »املدرسة الحربية« في دمشق عام ‪ ،١٩١٩‬واستمرت بإدارة‬
‫ي شاب سوري االنتساب إلى‬ ‫فرنسية في حمص خالل فترة االنتداب‪ .‬ومنذ ذلك الحني صار بمقدور أ ّ‬
‫الكليات واملدارس العسكرية السورية بغض النظر عن دينه أو طائفته أو عرقه‪ ،‬بل إن قيادة الجيش‬
‫الفرنسي كانت حريصة في بعض السنني على وجود طالب ضباط من غالبية الطوائف واملناطق‪ ،‬ومن‬
‫بني هذه الدورات دورة العام ‪.١٩٤٠ /١٩٣٩‬‬
‫ومع حلول عقد الخمسينات كان خريجو املدارس والكليات العسكرية السورية قد أصبحوا برتب متوسطة‬
‫وعليا‪ ،‬وحّلوا محل الضباط من أبناء العائالت االرستقراطية خريجي املدرسة العسكرية العثمانية في‬
‫اسطنبول‪ ،‬وباتوا يمسكون بمواقع قيادية عديدة في مؤسسة الجيش وأجهزة املخابرات‪ .‬وفي ذاك العقد‬
‫تمكنت عدة أحزاب سياسية من الحضور القوي على الساحة السياسية‪ ،‬ولم تعد السيطرة حكراً على‬
‫حزب الشعب والحزب الوطني اللذين تقاسما بشكل مناطقي بني دمشق وحلب ما بقي من الكتلة الوطنية‬
‫التي كانت تضم زعماء الشرائح البرجوازية واالرستقراطية في املدن الرئيسية‪ .‬وقد كان لحضور أحزاب‬
‫»الكادحني « أو أحزاب »العامّة«‪ ،‬كحزب البعث والحزب الشيوعي وجماعة األخوان املسلمني والحزب‬
‫السوري القومي واالتحاد االشتراكي (الناصريني)‪ ،‬أثر كبير في تغيير قواعد اللعبة السياسية‪ .‬فقد‬
‫اعتمدت من بني نشاطاتها على دفع أعضائها إلى االنتساب إلى الجيش بصفة ضباط أو ضباط صف‬
‫بعد أن أدركت أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش في بنية الدولة وسلطاتها في بلد مثل سوريا‪،‬‬
‫خاصة بعد أن فتح انقالب حسني الزعيم واالنقالبات التي لحقته أعني هذه األحزاب على إمكانية‬
‫االستيالء على السلطة عن طريق االنقالبات العسكرية األكثر ضمانة من االنتخابات التي كان انتصار‬
‫القوى املدعومة من ارستقراطية املدن وبرجوازييها وكبار املالكني فيه شبه مؤكد‪.‬‬

‫اللجنة العسكرية في حزب البعث‬


‫ضمّت اللجنة العسكرية‪ ،‬التي أسّسها ضباط بعثيون في مصر‪ ،‬من بني أعضائها ضابطَني علويني كانا‬
‫من أهم القادة في سوريا في النصف الثاني من الستينات‪ ،‬هما صالح جديد وحافظ األسد‪ .‬لهذا القت‬
‫وما زالت تالقي‪ ،‬لحد اآلن‪ ،‬الكثير من اهتمام الكّتاب والسياسيني‪ ،‬فالعديد من السياسيني واملثقفني‬
‫»السّنيني« يعتبرون أن تشكيلها وسيرورتها حصيلة تدبير علوي قام به ثالثة من الضباط العلويني‪ .‬لكن‬
‫عضو القيادة القطرية في الستينات‪ ،‬ووزيراً ألكثر من وزارة بعثية قبل انقالب حافظ األسد‪ ،‬يوضح لنا‬
‫في كتابه »قضايا وآراء«‪ ،‬الذي حاورته فيه الصحفية شذا املداد‪ ،‬معلومات دقيقة عن ظروف تشكيل‬
‫هذه اللجنة وطبيعتها‪ .‬فهو ُيخبرنا إن أول تشكيل لها كان من بشير صادق )دمشقي‪ ،‬سني(‪ ،‬ومزيد‬
‫هنيدي )السويداء‪ ،‬درزي(‪ ،‬ممدوح شاغوري )حماه‪ ،‬سني(‪ ،‬عبد الغني عياش (حماه‪ ،‬سني)‪ ،‬واملقدم‬
‫محمد عمران )حمصي علوي(‪ .‬لكن القيادة املصرية‪ ،‬التي كانت آنذاك هي التي تقود »الجمهورية‬
‫العربية املتحدة«‪ ،‬نقلت جميع هؤالء الضباط ما عدا محمد عمران إلى السلك الدبلوماسي ضمن سياق‬

‫أيام عشتها ‪ ،١٩٦٩-١٩٤٩‬محمد معروف‪ ،‬دار رياض الريس‪ ،‬بيروت ‪ ،٢٠٠٣‬ص ‪.٣٥‬‬
‫‪19‬‬
‫سياستها‪ .‬لكن محمد عمران عاد واستدعى ضباطاً آخرين من رفاقه البعثيني لتعويض النقص في‬
‫اللجنة‪ ،‬التي أصبح أعضاؤها‪ ،‬إضافة إلى رئيسها املقدم محمد عمران‪ ،‬املقدم صالح جديد )جبلة‪،‬‬
‫علوي( واملقدم عبد الكريم الجندي )سلمية‪ ،‬سني( وحافظ األسد )القرداحة‪ ،‬علوي( ومنير جيرودي‬
‫)يبرود‪ ،‬سني(‪ ،‬الرائد أحمد املير محمود )مصياف(‪ ،‬والرائد عثمان كنعان )حلب‪ ،‬سني( ‪.‬‬

‫وتتطابق معلومات حنا بطاطو التي عرفها من أحمد املير الذي التقاه في مصياف في ‪ ٣‬كانون األول‪/‬‬
‫ديسمير ‪ ١٩٩٢‬مع معلومات مروان حبش‪» :‬أُسَّست اللجنة في عام ‪ ،١٩٥٩‬وأعضاؤها املؤسسون‬
‫الحقيقيون هم ]محمد[ عمران واملقدم مزيد هنيدي واملقدم بشير صادق والرائد عبد الغني عياش‪ .‬لكن‬
‫في عام ‪ ،١٩٦٠‬فُصل هنيدي وصادق وعياش من الجيش وُعِّينا ]هكذا‪ .‬واألصح وُعَّينوا[ في وظائف‬
‫دبلوماسية في الخارج‪ .‬وفي تلك اللحظة أدخل عمران إلى اللجنة العسكرية ال األسد وجديد واملير‬
‫والجندي فحسب‪ ،‬بل الرائدين عثمان كنعان ومنير الجيرودي أيضاً« ‪.‬‬
‫بعد االنفصال تم تسريح ‪ ٦٣‬ضابطاً بعثياً‪ ،‬كان من بينهم جميع أعضاء اللجنة‪ ،‬حسب ما يقول حبش‪،‬‬
‫الذي يضيف أن هذا جعل اللجنة تزيد من عدد أعضائها ممن لم يشملهم التسريح فضمت إليها كالً من‬
‫الرائد حمد عبيد )السويداء‪ ،‬درزي(‪ ،‬والرائد موسى الزعبي )درعا‪ ،‬سني(‪ ،‬والنقيب محمد رباح الطويل‬
‫)الالذقية‪ ،‬سني(‪ ،‬وكذلك النقيب حسني ملحم )إدلب‪ ،‬سني( الذي لم يكن مسّرحاً ‪.‬‬
‫وفي شهر تموز‪/‬يوليو ‪ ١٩٦٢‬تم اعتقال محمد عمران وعثمان كنعان من بني مجموعة ضباط »وحدويني«‬
‫بتهمة القيام بانقالب‪ ،‬فاستلم رئاسة اللجنة صالح جديد بحكم رتبته‪ .‬وبعد انقالب الثامن من آذار‪/‬مارس‬
‫‪ ١٩٦٣‬أضيف إلى اللجنة النقيب سليم حاطوم )السويداء‪ ،‬درزي( والنقيب مصطفى الحاج علي والنقيب‬
‫توفيق بركات والرائد أحمد سويداني )نوى‪ ،‬سني( والعميد أمني الحافظ )حلب‪ ،‬سني( الذي أصبح‬
‫رئيساً لها بحكم رتبته ‪.‬‬
‫اإليضاح الذي قدمه مروان حبش‪ ،‬وكذلك كالم أحمد املير الوارد في كتاب فالحو سوريا‪ُ ،‬يظهر لنا أن‬
‫وجود صالح جديد وحافظ األسد في هذه اللجنة‪ ،‬وكذلك محمد عمران‪ ،‬لم يكن نتيجة تدبير طائفي أبداً‪،‬‬
‫وإنما كان نتيجة ظروف عادية جداً‪ .‬خاصة وأن زعيمها صالح جديد‪ ،‬الذي كان له دور رئيسي في‬
‫انقالب آذار‪/‬مارس ‪ ،١٩٦٣‬كان مسّرحاً من الخدمة‪ ،‬وكان قد مضى عليه خارج مالك الجيش أكثر من‬
‫سنة‪ .‬وما يؤكده حبش واملير أنه لم يكن لهذه اللجنة أي طابع طائفي‪ ،‬علوي أو غير علوي‪ ،‬فهي لجنة‬
‫ال يطمحون ألن يكون حزبهم قائد البالد‪ .‬وقد تمكنت من لعب‬ ‫عسكرية بعثية صرفة‪ ،‬كان أفرادها رجا ً‬
‫أهم األدوار في تاريخ سوريا السياسي املعاصر‪.‬‬
‫كما يرد توضيح عدم التدبير الطائفي املسبق لهذه اللجنة عند حازم صاغية في كتابه »البعث السوري «‬
‫الذي يقول إنه في »مصر‪ ،‬إّبان الوحدة‪ ،‬شكّل خمسة من الضّباط البعثيني ما ُعرف بـ»اللجنة العسكرية«‬
‫لتكون ذراعهم في اإلمساك بالحزب ومن ثم التدخل في الشأن العام‪ .‬ومن دون أن تكون األمور مصَّممة‬
‫على نحو تآمري مسبق‪ ،‬قضى تركيب الحزب أن يكون ثالثة من قادة »اللجنة العسكرية« علويني‪ ،‬وهم‬
‫أبرزهم محمد عمران‪ ،‬وثانيهم صالح جديد‪ ،‬ثم حافظ األسد‪ ،‬أما االثنان اآلخران عبد الكريم الجندي‬

‫في قضايا وآراء‪ ،‬مروان حبش‪ ،‬حوار الصحفية شذا املداد‪ ،‬طبعة الكترونية من دون تاريخ‪ ،‬املقدمة موقعة سنة ‪،٢٠١٠‬‬
‫ص‪.١٢-١١‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٢٨٢‬‬
‫حبش‪ ،‬ص ‪.١٢‬‬
‫نفسه‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫وأحمد املير‪ ،‬فكانا إسماعيليني‪ .‬وبالطبع توسعت تدريجياً اللجنة التي حافظت على سريتها لتضم‬
‫الضباط البعثيني من سائر الطوائف‪ ،‬كأحمد سويداني ومصطفى طالس من السنة‪ ،‬وحمد عبيد وسليم‬
‫حاطوم الدرزيني‪ ،‬إال أن قيادتها الفعلية بقيت في أيدي املؤسّسني الخمسة« ؛ أغلب الظن أن اسم‬
‫مصطفى طالس ورد سهواً بدل اسم مصطفى الحاج علي‪ ،‬وقد أخطأ صاغية بطائفة الجندي فهو سّني‬
‫وليس إسماعيلي‪.‬‬
‫إذن الظروف هي التي وضعت صالح جديد وحافظ األسد في هذه اللجنة كانت معبراً لهما ليكونا أبرز‬
‫قائدين في النصف الثاني من الستينات قبل أن يطيح حافظ األسد بصالح جديد‪ ،‬ويبقيه في السجن‬
‫حتى املوت‪ .‬لكن لوال وصول هذين الشخصني »العلويني« إلى مواقع صنع القرار‪ ،‬في عقد الستينات‪،‬‬
‫ولو بقي الوجود العلوي يقتصر فقط على الزيادة العددية في الجيش‪ ،‬ملا كّنا سمعنا عن عصبية علوية‬
‫أو عصبية سّنية أو أي عصبية طائفية‪ .‬يضاف إلى ذلك ما كان يتمتع به صالح جديد من إمكانيات‬
‫قيادية الفتة‪ ،‬جعل خصومه يعتمدون املعايير الطائفية في نظرتهم إليه وإلى الواقع السياسي عموماً‪.‬‬

‫الضباط العلويون وانقالب ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس‬


‫انقالب ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬شكّل نقلة نوعية البالد‪ ،‬فبه انتهت حالة القلقلة السياسية‪ ،‬وبه ابتدأت حالة‬
‫االستقرار االستبدادي‪ .‬ومن بعده ظهر الحضور العلوي في قيادات البالد ألول مرة في التاريخ السوري‪،‬‬
‫ومن يومه تعيش سوريا في ظل نظام سياسي يحمل اسم حزب البعث العربي االشتراكي‪ ،‬وقبله »شغل‬
‫أبناء املدن )ومعظمهم دمشقيون‪ ،‬يليهم أهل مدينة حلب املنافسة( وأبناء الطبقة الغنية وأعضاء األحزاب‬
‫املحافِظة أعلى وأقوى املناصب‪ .‬أما أعضاء األقليات الدينية )وخاصة األقليات اإلسالمية غير السّنية(‬
‫وأبناء املناطق الريفية فقد كان تمثيلهم ضئيالً جداً باملؤسسات الهامّة‪ ،‬كما عانوا من التفرقة السياسية‬
‫واالجتماعية االقتصادية باملقارنة بفئات السكان األخرى )…( وانقلبت العالقة بني هذه املجموعات انقالباً‬
‫جذرياً بعد ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس ‪. «١٩٦٣‬‬
‫كما لم يكن انضمام عشرات اآلالف من الشبان العلويني إلى الجيش بتدبير عصبويّ طائفي‪ ،‬وإنما‬
‫بقصد تأمني مصدر الرزق‪ ،‬وكما لم يكن تشكيل اللجنة العسكرية البعثية أو تسمية أعضائها بتدبير‬
‫عصبويّ طائفي أيضاً وإنما ضمن سياق الظروف السياسية حينها‪ ،‬كذلك لم يكن بروز أسماء الضباط‬
‫العلويني في مواقع قيادية بعد آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬بتدبير عصبويّ طائفي‪ ،‬فلو كان كذلك ملا كان من‬
‫الصعب إحباط هذا املخطط الطائفي ببساطة وُيسر‪ .‬ففي ذاك الوقت كان الحديث عن مخطط علوي بدأ‬
‫يتم تداوله على ألسنة الكثيرين‪ ،‬كما سنرى بعد قليل‪ ،‬وقد كانت الظروف حينها سانحة لتقويضه لو كان‬
‫حقيقياً‪ ،‬فصالح جديد وحافظ األسد كانا معتقالن على أثر املحاولة االنقالبية التي قام بها العقيد جاسم‬
‫علوان بالتعاون مع ضباط وحدويني )ناصريني وبعثيني( بتاريخ ‪ ٢٨‬آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٢‬في حلب‪ ،‬وسجنا‬
‫في سجن املزة بزنزانة واحدة حوالي ‪ ٤٠‬يوماً‪ ،‬كما أخبرني مروان حبش برسالة صوتية‪ ،‬وكانا حينها‬
‫مسّرحان من الجيش‪ .‬فمن استطاع تسريحهما واعتقالهما وحبسهما هذه املدة كان بمقدوره إقصائهما‬
‫نهائياً إما من خالل االستمرار باعتقالهما‪ ،‬أو من خالل نفيهما خارج البالد‪ .‬لكن هذا لم يحدث ألنه لم‬

‫البعث السوري‪ ،‬حازم صاغية‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت ‪ ،٢٠١٢‬ص‪.٣٨‬‬


‫‪ 59‬ﻓﺎن دام‪ ،‬ص‪.١٢٢‬‬
‫‪21‬‬
‫يكن يوجد أي شيء ذو أهمية يمكن تفسيره طائفياً‪ .‬بل من املعروف أن لفيف الضباط حولهما كان أغلبه‬
‫من السّنة وليس من العلويني‪.‬‬
‫إن اعتبار االتجاهات السياسية التي كانت تأخذها البالد في حقبة الستينات كانت نتيجة توجيهات‬
‫بعض رجال الدين األقلويني لهو تبسيط مشني للواقع االجتماعي والسياسي واالقتصادي السوري الذي‬
‫كان أشد تعقيداً من ذلك بكثير‪ .‬بل إن تفسير مجريات الواقع‪ ،‬حينها‪ ،‬على أنها ناجمة عن تدبيرات‬
‫عصبوية طائفية ال يمكنه أن يساهم في فهم تركيبة النظام السياسي السوري‪ ،‬وال بمقومات االستبداد‬
‫التي يقوم عليها‪ ،‬إذا ما أراد أحدٌ تغيير هذا النظام‪.‬‬
‫منذ ستينات القرن املاضي بدأ الحديث يدور عن عصبوية علوية تتحكم بالهيكلية الرئيسية للسلطة‬
‫السورية‪ .‬وهذا الحديث لم يكن حديثاً للعامّة بل أيضاً تطرق إليه شخصيات قيادية‪ .‬فسامي الجندي‪،‬‬
‫أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد انقالب آذار‪/‬مارس ‪ ،١٩٦٣‬قال إن اللواء صالح جديد سأله مرة‬
‫»كيف نعالج قضية الطائفية« ‪ .‬وقد توسع الجندي بالحديث عن مسألة الطائفية في كتابه‪ .‬كذلك يخبرنا‬
‫مروان حبش في عرضه للمؤتمر القطري الثاني لحزب البعث‪ ،‬في دورته االستثنائية بني ‪ ٨‬و‪١٤‬‬
‫آب‪/‬أغسطس ‪ ،١٩٦٥‬أن »الفريق أمني الحافظ كان يتهم اللواء صالح جديد بالتكتل الطائفي‪ .‬وكان‬
‫الفريق في اجتماعٍ للتنظيم الحزبي العسكري في منطقة دمشق ُعقد في مطار املزة قد قال‪ :‬لن نسمح‬
‫ألقلية بالسيطرة على البلد وسنغّير ذلك بالقوة« ‪ .‬عبارة الحافظ هذه تتضمن مدلوالت إضافية‪ ،‬فبغض‬
‫النظر إن كان اتهام جديد حقيقياً أم مجرد اتهام تنافسي يريد الحافظ منه كسب نقطة على جديد‪ ،‬فإن‬
‫جملة الحافظ األخيرة بعدم السماح »ألقلية بالسيطرة على البلد« تعكس موقفاً عصبوياً أكثرياً َيظهر‬
‫تشنجه بعبارة »سنغّير ذلك بالقوة«‪ .‬لكن كما هو معروف للكثير بأن كالم الحافظ ال يبنى عليه‪ ،‬فأغلبه‬
‫كالم انفعاليّ ال يكون له أساساً في الواقع في كثير من األحيان‪.‬‬
‫كذلك نجد عند املستشرق الرصني » نيقوالوس فان دام« الذي يتابع في كتابه الهام »الصراع على‬
‫السلطة في سوريا‪ ،‬الطائفية واإلقليمية والعشائرية في السياسة ‪ «١٩٩٥-١٩٦١‬التأثيرات الطائفية في‬
‫السلطة السورية‪ ،‬فيورد وثيقة بعنوان »تحليل بعثي للطائفية واإلقليمية والعشائرية« يذكر أنها ُنشرت‬
‫أول مرة في الصفحة الثالثة من العدد الثالث‪ ،‬نيسان‪/‬إبريل ‪ ١٩٦٦‬من مجلة »املناضل«‪ ،‬وهي املجلة‬
‫الداخلية لحزب البعث ‪ .‬ومن بني ما جاء في الوثيقة‪» :‬وقد استغلت هذه األجهزة التناقضات التي برزت‬
‫في قيادات الحزب والثورة‪ ،‬وأخذت تطبعها بهذا الطابع‪ ،‬إلى درجة تمكنت فيها إغراء بعض القياديني‬
‫باللعب بورق الطائفية واإلقليمية وخصوصاً أولئك الحزبيني الذين فقدوا املنطق الحزبي« ‪ .‬كذلك نجد‬
‫في آخر كتابه وثيقة أخرى بعنوان »اعترافات حول الطائفية في وحدات الجيش بحماة« يقول إنها‬
‫»التقرير الوثائقي ألزمة الحزب واملقدم للمؤتمر االستثنائي املنعقد بني ‪ ١٠‬و‪ ٢٧‬آذار‪/‬مارس ‪١٩٦٦‬‬
‫(خاص باألعضاء)‪ :‬حزب البعث العربي االشتراكي‪ ،‬القطر السوري‪ ،‬القيادة القطرية ص ‪. «٩٣-٨٨‬‬

‫البعث‪ ،‬سامي الجندي‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بيروت ‪ .١٩٦٩‬ص‪.١٤٤‬‬


‫مروان حبش عضو القيادتني القطرية والقومية لحزب البعث قبل انقالب حافظ األسد‪ .‬وقد أمضى في السجن مع عدد من‬
‫القياديني ألكثر من عشرين سنة‪.‬‬
‫البعث وثورة آذار‪ ،‬مروان حبش‪ ،‬طبعة الكترونية ‪ ،٢٠١١‬ص‪.١٨٩‬‬
‫الصراع على السلطة في سوريا‪ ،‬نيقوالوس فان دام‪ ،‬الطبعة اإللكترونية األولى املعتمدة باللغة العربية‪ ،‬كانون األول‪/‬ديسمبر‬
‫‪ ،٢٠٠٦‬ص‪.٢٠٢‬‬
‫فان دام‪ ،‬ص‪.٢٠٤‬‬
‫فان دام‪ ،‬ص‪.٢٠٨‬‬
‫‪22‬‬
‫نجد ضمن هذا التقرير اعترافات لضباط وجنود من السّنة يخدمون في قطعات عسكرية في حماة‪.‬‬
‫فمثال يقول »املالزم األول أحمد كالس من الفوج ‪ ٢٣٧‬م‪/‬ط )…( تكلمت زوجة املالزم غسان حموي حول‬
‫تكتل العلويني‪ ،‬وروت ما تعلمه من تكتل العلويات في دار املعلمات أثناء دراستها‪ .‬وفي هذه األثناء‬
‫بالذات دار الحديث حول تكتل طائفي في الجيش فقال أحد االثنني "عبد الجواد غسان حموي " إن‬
‫العلويني يحاولون السيطرة على الجيش أو بما قضى هذه العبارة ويجب علينا أن نتكتل باملقابل« ‪.‬‬
‫و»املالزم األول غسان حموي )…( قال‪ :‬العلويني متسلطني على الحكم وسيأتي يوم يغدروا بالسنيني‬
‫ويقضوا عليهم« ‪.‬‬
‫من دون أدنى شك يوجد الكثير من الضباط العلوي الذين ينظرون بعني الريبة إلى الضباط السّنة‪ ،‬وأنهم‬
‫ينظرون إلى الواقع بعني طائفية‪ ،‬لكنه ما كان في مقدورهم عصبويتهم العلوية أن تمكّنهم من االستئثار‬
‫باملواقع القيادية في السلطة حينها‪ .‬طبعا حديثنا هنا حصراً عن النصف األول من الستينات‪ ،‬أي املرحلة‬
‫التي ارتقى فيها صالح جديد وحافظ األسد إلى مواقع قيادية حاسمة‪ .‬ففي ذاك الحني كان من بني‬
‫ضباط الجيش السوري ‪ ٪٤٥-٤٠‬من دمشق لوحدها‪ ،‬حسب كالم العقيد عبد الكريم النحالوي قائد‬
‫انقالب ‪ ٢٨‬أيلول‪/‬اغسطس ‪ ١٩٦١‬الذي أدى إلى انفصال الوحدة التي كانت قائمة بني سوريا ومصر ‪.‬‬
‫فإن كانت هذه النسبة فقط من دمشق فهذا يعني أن الضباط العلويني ما كانوا يزيدوا عن ‪ ٪١٠‬أو ‪٪١٥‬‬
‫من ضباط الجيش‪.‬‬
‫لكن ما الذي مكّن الضباط العلويون من السيطرة على مواقع القرار الرئيسية في النصف الثاني من‬
‫الستينات‪ .‬يحاول حنا بطاطو مقاربة الجواب عن ذلك »هو أنه في حني كان الضباط العلويون في‬
‫أغلبيتهم الساحقة من أصول ريفية ومنبت قروي وأبناء منطقة واحدة‪ ،‬وذوي انتماء بعثي بعد عام ‪،١٩٥٥‬‬
‫كان الضباط السّنة منقسمني انقساماً ال براء منه سياسياً وإقليمياً وطبقياً‪ .‬وال شك في أّنه كانت هناك‬
‫انقسامات في صفوف العلويني أيضاً‪ ،‬كما أثبت اختالف محمد عمران مع بقية األعضاء العلويني في‬
‫اللجنة العسكرية في عام ‪ ،١٩٦٤‬واغتياله في عام ‪ ،١٩٧٢‬والصراع على السلطة بني صالح جديد‬
‫وحافظ األسد في فترة ‪ .١٩٧٠-١٩٦٨‬لكن هذه االنقسامات نشأت من صراع شخصيات أو تباين في‬
‫وجهات النظر‪ ،‬في حني أنَّ االنقسامات بني الضباط السّنة غالباً ما كانت ذات معنى بنيوي أعمق« ‪.‬‬
‫ال يوجد معلومات تفيد أن انقالب آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬كان ذا طابع طائفي علوي إطالقاً‪ ،‬فعدد الرجال‬
‫العلويني املشاركني في قيادة االنقالب كانوا قلة قليلة جداً‪ ،‬ولم يكونوا يشغلون مواقع قيادية ال في‬
‫الجيش وال في الدولة‪ ،‬وكان الضباط السّنة هم األكثر بني ضباط الجيش السوري‪ .‬كما أن الجيش‬
‫حينها لم يكن فيه أي مشكلة طائفية‪ ،‬وال تكتالت طائفية‪ ،‬فلو وجِدَت فيه كتلة علوية لكان سيوجد في‬
‫مقابلها كتلة سنية بكل تأكيد‪ ،‬وكان بمقدور هذه الكتلة األخيرة اإلطاحة بتلك الكتلة بسهولة‪ .‬كان عدد‬
‫العلويني أكبر بني صف الضباط‪ ،‬وكان عدد السنة أكبر بني الضباط‪ ،‬لكن هذا ليس حالة طائفية إطالقاً‪.‬‬
‫فـ»ال بد أوالً من القول بوضوح إن العلويني على مستوى سلك الضباط‪ ،‬وعلى عكس االنطباع واسع‬
‫االنتشار‪ ،‬لم يكونوا مهمّني عددياً بمثل أهمّية السّنة قبل عام ‪ ،١٩٦٣‬واستمدوا كثيرا من قوتهم من‬
‫صفوف الجيش الدنيا‪ .‬وباملعنى الحسابي‪ ،‬كان عددهم كبيراً بني الجنود العاديني‪ ،‬وكانوا موجودين‬

‫فان دام‪ ،‬ص‪.٢٠٨‬‬


‫فان دام‪ ،‬ص‪.٢٠٩‬‬
‫برنامج شاهد على العصر‪ ،‬قناة الجزيرة‪com/watch?v=lT7PSABNdAo .youtube.https://www .٢٠١٠ ،‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٣٠٦‬‬
‫‪23‬‬
‫بوفرة واضحة بني ضباط الصف« ‪ .‬يعتمد حنا بطاطو في هذه املعلومات إلى حديث أجراه مع عبد‬
‫‪ .١٩٨٠‬ويضيف بطاطو «ساعدت الضباط العلويني أشدّ املساعدة في هذا‬ ‫الحميد السراج عام‬
‫الصراع أدوارهم القيادية في اللجنة العسكرية والتنظيم العسكري لحزب البعث‪ ،‬تلك األدوار التي‬
‫مكنتهم‪ ،‬في املقام األول‪ ،‬من التصرف بوصفهم بعثيني ال بوصفهم علويني‪ .‬غير أنه يجب تعديل هذه‬
‫املالحظة‪ .‬فالضباط العلويون لم يتصّرفوا دوماً انطالقاً من وعي أنهم علويون‪ .‬بل يجب أن نتذكر أنهم‬
‫كانوا أشخاصاً ذوي أصول ريفية أو فالحية‪ ،‬ويتصرفون على هذا األساس‪ ،‬أي يتصرفون وفقا للغرائز‬
‫والنزعات التي كان وضعهم البنيوي يولّدها« ‪.‬‬
‫يتابع حنا بطاطو في بحثه عن الكيفية التي أوصلت الضباط العلويني إلى السيطرة على السلطة في‬
‫النصف الثاني من الستينات‪ ،‬فيرى أنه »نتيجة االنقسامات في صفوف الضباط السّنة ‪ -‬وأنا هنا‬
‫أبسّط على نحو ما وضعاً بالغ التعقيد ‪ -‬كان األمر ينتهي بسنّة من جماعة معيّنة إلى تصفية سّنة من‬
‫جماعة أخرى‪ ،‬أو إلى انضمام سّنة من الطبقة الدنيا أو املتوسطة إلى علويني أو دروز في تصفية سّنة‬
‫الطبقة العليا‪ ،‬أو انضمام سنة ذوي توجه ريفي إلى علويني ودروز في تصفية السّنة ذوي األساس‬
‫الحضري‪ .‬وباملعنى السياسي‪ ،‬صُفّي االنفصاليون وأنصار أكرم الحوراني والناصريون ومجموعة‬
‫املستقل زياد الحريري وأنصار البعثي أمني الحافظ بني آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬وشباط‪/‬فبراير ‪ ،١٩٦٦‬ومع‬
‫كل تصفية‪ ،‬كان عدد السّنة يتناقص عددًا وأهميةً‪ .‬أمّا الضربات في آب‪/‬أغسطس وأيلول‪/‬سبتمبر ‪١٩٦٦‬‬
‫ضد الدروز (مجموعتا فهد الشاعر وسليم حاطوم) والضربات في شباط‪ /‬فبراير ‪ ١٩٦٨‬ضد بقية الكتلة‬
‫السّنية الريفّية (مجموعة أحمد سويداني والحورانية) فعادت على الضباط العلويني بسيطرةٍ واضحة‬
‫على امليدان‪ ،‬على الرغم من الصدع الذي عكسته فيما بينهم« ‪.‬‬
‫اعتمد البعثيون السياسة نفسها التي اعتمدها جميع االنقالبيني السابقني وجميع الفرقاء السياسيني‬
‫والكتل العسكرية‪ ،‬والتي اكتوى البعثيون بنارها أكثر من مرة‪ ،‬فقد باشروا ُبعيد انقالب ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس‬
‫‪ ١٩٦٣‬بتصفية الجيش من الضباط الذين ال يعتبرونهم مناصرين لهم‪ ،‬أو الذين ُيخشى بسبب خلفيتهم‬
‫االجتماعية أن يحاولوا االنقالب على البعثيني‪ .‬وللتعويض عن النقص جرّاء تسريح عدد كبير من الضباط‬
‫استدعت السلطة البعثية ضباطاً وضباط صف احتياطيني وقاموا بإعادة تأهيلهم وتثبيتهم كجنود‬
‫محترفني بهدف أن ُتصبح الغلبة في الجيش للضباط البعثيني‪ .‬لكن البعض اعتبر هذا اإلجراء على أنه‬
‫يهدف إلى زيادة عدد الضباط العلويني‪ ،‬فـ»طبقاً ألحد التقارير فإن الكثير من العلويني كانوا ضمن‬
‫هؤالء الضباط الذين كان عليهم شغل فراغات الجيش بعد تصفية القوى السياسية املعارضة عقب انقالب‬
‫‪ ٨‬آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬مباشرة‪ .‬ولقد تم استبدال نحو نصف عدد الضباط املسرَّحني والبالغ عددهم‬
‫حوالي ‪ ٧٠٠‬بعلويني« ‪.‬‬

‫فالحو سوريا‪ ،‬حنا بطاطو‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬بيروت ‪ .٢٠١٤‬ص‪.٣٠٣‬‬
‫بطاطو‪ ،‬هامش‪ ،٢٩‬ص‪.٣٠٤‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٣٠٧‬‬
‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٣٠٧ -٣٠٦‬‬
‫فان دام‪ ،‬ص‪.٦٠‬‬
‫‪24‬‬
‫ينسب فان دام جملته األخيرة إلى رسالة دكتوراه بعنوان »حزب البعث العربي االشتراكي‪ :‬األيديولوجيا‬
‫واالجتماع والسياسة والتنظيم‪ ،‬تأليف رونالد روبرت ماكنتاير« ‪ .‬ويقول ماكنتاير أنه حصل على هذه‬
‫املعلومات من شقيق الرئيس األسبق أمني الحافظ‪ ،‬خالل مقابلة معه في شهر تشرين أول‪/‬أكتوبر في‬
‫بيروت عام ‪.١٩٦٧‬‬

‫لكن بالعودة إلى كتابَي مروان حبش «البعث وثورة آذار» و «قضايا وآراء»‪ ،‬وبتدقيق هذه املعلومات‬
‫معه فقد اعتبر أن رقم ‪ ٧٠٠‬مبالغ فيه ألن عدد الجيش لم يكن بهذه الضخامة‪ ،‬لكنه يعتقد أن العدد‬
‫الحقيقي قد يكون قرابة نصف هذا الرقم‪ .‬غير أنه يؤكد نقل وتسريح عدد من الضباط على خلفيات‬
‫سياسية بدءاً من ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس ‪ .١٩٦٣‬ومن بني من تم نقله بضع عشرات من الضباط الناصريني الذين‬
‫كانوا يسيطرون على شعبة املخابرات العسكرية منذ شباط‪/‬فبراير ‪ ،١٩٦٣‬وتم حينها تعيني «راشد‬
‫قطيني»‪ ،‬الذي كان ملحقاً عسكرياً في األردن‪ ،‬رئيساً جديداً للشعبة‪ .‬كذلك فقد تم استدعاء حوالي‬
‫‪ ١٨٠‬ضابطاً بعثياً أو صديقاً للبعث مللئ الشواغر‪ ،‬ممن قد سبق أن أتمّوا خدمتهم اإللزامية‪ ،‬وفي نهاية‬
‫العام تم إجراء فحص طبي لهم‪ ،‬ليتم تثبيت حوالي ‪ ١٣٢‬ضابطاً منهم في الجيش والشرطة برتب ال‬
‫تتجاوز رتبة نقيب‪ ،‬بعد خضوعهم لدورات تأهيلية حسب اختصاصاتهم‪ .‬ويضيف حبش أن عدداً من‬
‫هؤالء الضباط ذاتهم تم تسريحه ُبعيد حركة ‪ ٢٣‬شباط‪/‬فبراير ‪ ١٩٦٦‬التي قام بها فريق من البعثيني‬
‫على فريق آخر‪ .‬وفي شهر أيار من العام نفسه‪ ،‬يضيف حبش‪ ،‬تم نقل عدد قليل من الضباط البارزين‬
‫املحسوبني على الناصريني (ومن بينهم بعثيون سابقون ) إلى وزارة الخارجية وغيرها من الوزارات‬
‫األخرى‪ ،‬ما دفع بالرئيس املصري جمال عبد الناصر اإلعالن عن انسحاب مصر من ميثاق الوحدة‬
‫الثالثي بني مصر وسوريا والعراق الذي تم إعالنه في ‪ ١٧‬نيسان‪/‬أبريل ‪ .١٩٦٣‬كما أحيلت مجموعة من‬
‫ضباط زياد الحريري عددها أقل من عشرة إلى وزارة الخارجية‪ .‬وبعد ‪ ١٨‬تموز‪/‬يوليو ‪ ١٩٦٣‬على أثر‬
‫محاولة االنقالب التي قام بها العقيد الناصري جاسم علوان تم نقل »عدد بسيط ممن بقي محسوباً‬
‫على التيار الناصري إلى وظائف مدنية‪ ،‬عدا العدد القليل الذي حُكم عليه الشتراكه في محاولة‬
‫االنقالب«‪ .‬والحقاً في شهر آب‪/‬أغسطس ‪ ١٩٦٦‬اكتشفت السلطات السورية تنظيماً عسكرياً بقيادة‬
‫اللواء فهد الشاعر ينوي القيام بانقالب عسكري‪ ،‬فقامت بتسريح عشرات من الضباط الصغار‪ ،‬وكان‬
‫أغلبهم من الدروز‪ .‬وبعدها بأيام في ‪ ٨‬أيلول‪/‬سبتمبر قام املقدم سليم حاطوم بعصيان في مدينة‬
‫السويداء أسفر عن تسريح عدد آخر من الضباط الدروز‪.‬‬
‫ينفي حبش بشكل قاطع في حديثه معي وجود أي تدبير طائفي بعملية تسريح الضباط أو باستدعاء‬
‫االحتياطيني‪ ،‬ويؤكد أن املعيار الوحيد كان العالقة الحزبية‪ .‬ويقول إنه‪ ،‬بصفته الحزبية وقتذاك‪ ،‬رشّح‬
‫حوالي ‪ ٢١‬شخصاً من منطقة القنيطرة من البعثيني ومن أصدقائه‪ ،‬وأنه تمت دعوتههم جميعهم‪ .‬كما‬
‫يقدّم تفسيراً لزيادة عدد العلويني في هذه العملية بأن »التكتالت التي كان هدفها اإلطاحة بالنظام‬
‫القائم كانت تقتصر على املنتمني للمذهب السّني أو الدرزي أو االسماعيلي أو من أتباع الديانة املسيحية‪،‬‬
‫ولذلك فإن نقل الضباط املتورطني إلى وزارات مدنية أو محاكمة بعضهم كانت تطال هؤالء وال تطال‬
‫املنتمني للمذهب العلوي«‪ .‬كما يؤكد بشكل جازم أن »اللواء صالح جديد لم يكن ينتمي لطائفة بل للبعث‬

‫‪The Arab ba’th socialist party: ideology, politics, sociology and organisation, by Ronald Robert‬‬
‫‪Macintyre. Australia, 1969. pp 247-248.‬‬
‫نفسه‪ ،‬الهامش رقم ‪ ،١‬في الصفحة ‪.٢٤٨‬‬
‫‪25‬‬
‫فقط«‪ .‬وأضيف على كالم حبش بأنه من اإلجحاف النظر إلى صالح جديد على أنه مجرد ضابط علوي‬
‫تمكّن «بعلويته » من الوصول إلى مناصب قاد فيها البالد لبعض الوقت‪ ،‬وصنع فيها أحداثاً مفارقة‪ .‬فال‬
‫أظنني أغالي بالقول إنه لو ال صالح جديد ملا كانت ستينات القرن املاضي على ما عرفناها عليه‪.‬‬
‫هله ليحقق قطعاً في السياق التاريخي عن‬ ‫فالرجل كان قائداً فذّاً‪ ،‬امتلك الكثير من صفات القيادة ما أ ّ‬
‫املاضي السياسي لسوريا‪ ،‬لكنه ما كان بمقدوره االستمرار في قيادة البالد برومنسيته الثورية بعد‬
‫ذلك‪.‬‬
‫»نجح أعضاء اللجنة العسكرية البارزون في الفترة التي تلت عام ‪ ١٩٦٣‬مباشرة‪ ،‬وبوجود روافع السلطة‬
‫الحاسمة بني أيديهم‪ ،‬ونيتهم توسيع قاعدة دعمهم‪ ،‬في تسريع عملية كانت قد بدأت في الخمسينيات‬
‫وتكثيفها‪ ،‬عملية تضمنت تحويل سلك الضباط والقوات املسلحة وبيروقراطية الدولة تحويالً جوهرياً إلى‬
‫مؤسسات ذات صبغة ريفية أو قروية قوية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬وكي يكون كالمنا ملموساً أكثر‪ ،‬فقد طهّر‬
‫األعضاء النافذون في اللجنة العسكرية تلك املؤسسات على نحو لم يكن معروفاً في سورية حتى ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬فخّلصوا تلك املؤسسات من العناصر التى اعتبروها معادية‪ ،‬أو ذات والء مشكوك فيه أو متردد‪،‬‬
‫وملؤوها بأصدقائهم وأقربائهم أو بأفراد من عشائرهم أو طوائفهم‪ ،‬أي‪ ،‬عموماً‪ ،‬بأشخاص ريفيني أو‬
‫رجال لم يكونوا فالحني من حيث الوظيفة إال في بعض األحيان‪ ،‬لكنهم غالباً ما كانوا فالحني من حيث‬
‫األصل« ‪.‬‬
‫إذن كان من الطبيعي أن يكون عدد العلويني ظاهراً في هذه العملية‪ ،‬عملية تنقية حزب البعث من أعضاء‬
‫ضعيفي االنتماء له‪ ،‬أو في عملية استدعاء بدائل عنهم‪ .‬فالعلويون بحكم أنهم من بيئة فالحية ومن الفقراء‬
‫والكادحني فهم مؤهلون ألن يكونوا في مقدمة صفوف حزب البعث‪ .‬فالروابط الريفية واملناطقية والفالحية‬
‫التي كانت تربطهم ببعض في ذاك الحني هي أكثر قوة من رابطتهم الطائفية‪ .‬إذ كان التغني بالفقر‬
‫وباألصول الفالحية وباالنتماء إلى القرية وذّم املدينة من أساسيات األيديولوجيا الناصرية والبعثية التي‬
‫ت في خياالت الفالحني العلويني متسع لها‪،‬‬ ‫راجت خالل فترة جمال عبد الناصر‪ .‬وهذه األيديولوجيا وَجدَ ْ‬
‫بحيث لم يشعر العلوي بانتمائه إلى البعث بأي غربة‪ .‬ولهذا فقد اندفع العلويون أكثر بعد انقالب ‪٨‬‬
‫آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬لالنضمام إلى الجيش بعد أن شعروا أنه بيئة حاضنة لهم‪ .‬وتزامن ذلك مع ازدياد‬
‫عدد شبانهم من خرجي الشهادة الثانوية التي تؤهلهم لالنتساب إلى الكليات العسكرية‪ .‬إضافة إلى‬
‫عامل بالغ األهمية أن وجود ضباط ينتمون إلى بيئتهم االجتماعية والطائفية في مواقع قيادية عليا شكّل‬
‫إلهاماً لهم باالندفاع أكثر نحو االنتساب للجيش‪.‬‬
‫منذ انقالب ‪ ٢٥‬شباط‪/‬فبراير ‪ ،١٩٥٤‬الذي أطاح بحكم أديب الشيشكلي‪ ،‬أصبح الجيش‪ ،‬كمؤسسة‬
‫عسكرية‪ ،‬معنياً بالسلطة السياسية في سوريا‪ .‬فالجيش هو الذي بادر عام ‪ ١٩٥٨‬للتواصل مع الرئيس‬
‫املصري جمال عبد الناصر إلقامة الوحدة بني سوريا ومصر‪ ،‬والجيش هو الذي قام بكل معنى الكلمة‬
‫بانقالب االنفصال‪ ،‬وهو الذي قام بمحاوالت االنقالب التي تلت ذلك وسبقت انقالب ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس ‪١٩٦٣‬‬
‫الذي أصبح الجيش بعده هو الحاكم الفعلي بشكل مباشر للبالد‪ .‬لم يتصرف القادة العسكريون من‬
‫السّنة خالل حقبة الخمسينات ومطلع الستينات بناء على انتمائهم الطائفي‪ ،‬وكذلك لم يتصرف القادة‬
‫العلويون خالل عقد الستينات بناء على عصبية طائفية‪ .‬لكن مع احتدام الصراع بني صالح جديد وحافظ‬
‫األسد اختلف الوضع بعض الشيء‪ ،‬فكما أخبرني مروان حبش أن »املؤتمر القطري السادس في‬

‫بطاطو‪ ،‬ص‪.٣٠٢ -٣٠١‬‬


‫‪26‬‬
‫أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ١٩٦٣‬طرح مقولة الجيش العقائدي‪ ،‬ومن بعد ذلك أصبحت األولوية في قبول منتسبي‬
‫الكلية الحربية للبعثيني وأصدقاء البعث‪ ،‬ولم يتم اعتماد أي معايير مناطقية‪ .‬وبقي هذا املعيار معتَمداً‬
‫حتى نهاية ‪ ،١٩٦٩‬أي إلى حني احتدام الخالف في قيادة الحزب‪ ،‬قام الفريق حافظ األسد ومواليه‬
‫باالنحراف عن هذه القاعدة‪ ،‬بحيث ازدادت نسبة أبناء ريف الالذقية وريف حمص وحماة من الطائفة‬
‫العلوية‪ ،‬حتى تجاوزت في تلك السنة ‪ ٪٥٥‬من عدد طالب الكلية«‪.‬‬
‫وأضاف لي حبش معلومة بهذا الخصوص »أنه في الربع األول من عام ‪ ١٩٧٠‬قدّم رئيس املكتب‬
‫العسكري في القيادة القطرية‪ ،‬بناء على طلب من القيادة‪ ،‬تقريراً عن التركيب البنيوي للجيش‪ .‬وقد ورد‬
‫في التقرير عدد الضباط من كل منطقة جغرافية‪ .‬فعقّب األمني العام املساعد للحزب‪ ،‬اللواء صالح جديد‪،‬‬
‫عمّا ورد في التقرير قائالً‪ :‬يبني لنا التقرير خلالً واضحاً بنسبة الضباط من محافظات معينة‪ ،‬وهذا‬
‫الخلل أيضا ُيظهر نسبًة أكبر من املنتمني لطائفة معيّنة‪ ،‬وِمن الضرورة إصالح هذا الخلل بقبول عدد‬
‫أكبر من املحافظات األخرى‪ ،‬وبما يتناسب مع عدد سكانها‪ .‬فردّ وزير الدفاع‪ ،‬الفريق حافظ األسد‪،‬‬
‫بانفعال وعصبية على مالحظة اللواء صالح جديد قائال ‪:‬ال طائفية في الجيش‪ ،‬وإنما في عقول من‬
‫يظنّون ذلك«‪.‬‬

‫إذ التغيير الذي حصل قبل انقالب ‪ ١٦‬تشرين ثاني‪/‬نوفمبر ‪ ١٩٧٠‬كان عبارة عن زيادة «إحصائية»‬
‫بنسبة الضباط العلويني في الجيش‪ .‬لكن هذه الزيادة العددية‪ ،‬لكن بعد ذلك صار لهذه الزيادة دوراً‬
‫سلطوياً مهمّاً في مراكز القرار األمني والعسكري والسياسي‪ .‬وبدءاً من هذا االنقالب بدء في سوريا‬
‫صراع طائفي علنيٌّ حيناً ومستترٌ حيناً‪ ،‬بقي يتفاقم ويهدأ إلى أن وصلنا إلى أحداث عام ‪.٢٠١١‬‬
‫***‬
‫ال بد من التنويه إلى أنه لم يكن غائباً عن نظر األخوان املسلمني ومتشددو السّنة هذا الصعود الصريح‬
‫للضباط العلويني في مراتب السلطة بعد آذار‪/‬مارس ‪ .١٩٦٣‬فلقد قاموا في شهر نيسان ‪/‬أبريل عام‬
‫‪ ١٩٦٤‬بانتفاضة مسلحة في مدينة حماة كان ظاهرها احتجاجٌ إسالمي على حزب البعث‪ .‬لكنّ »إذا‬
‫عرفنا أن هذه الطائفة ]النصيرية[ إما بسبب التخطيط أو بسبب الفقر أو بسببهما معاً بدأت تتمركز في‬
‫الجيش منذ عهد االستعمار‪ ،‬وإذا عرفنا أن الجيش في العالم الثالث هو الذي يحكم بشكل مباشر أو‬
‫غير مباشر في الغالب‪ ،‬أدركنا ملا آل حكم سوريا إلى النصيرية عبر الواجهات« ‪.‬‬

‫حافظ األسد ومشكلته العلوية‬


‫»كان االنفصال صدمة عنيفة ملشاعر كثير من الشعب السوري‪ ،‬فالروح الوحدوية عميقة في سوريا‬
‫والتطلعات الوحدوية تصل إلى حدّ املبادئ‪ ،‬ولذلك فإن االنفصال‪ ،‬مع أنه أعاد الديمقراطية إلى سوريا‬
‫وأفرز إلى سدّة الحكم كفاءات سياسية مشهورة‪ ،‬لم يكن قوّياً ألن املثقفني عامة منهم املوظفون وقطاعاً‬
‫كبيراً من الجيش والطالب وعامة السّنيني كانوا يتطلعون إلى الوحدة‪ ،‬وأدرك حزب البعث بزعامة ميشيل‬
‫عفلق هذه الحقيقة‪ ،‬فتبنى فكرة العودة إلى الوحدة‪ ،‬وكان تركيب حزب البعث طائفياً إلى حد كبير‪،‬‬
‫فأعطى هذا للتطلعات الوحدوية زخماً كبيراً‪ ،‬ووجِد أناسٌ طامحون شعروا أن النظام ضعيف فقرروا‬
‫وراثته‪ ،‬ومن الثابت أن قوى خارجية كانت مقتنعة بتغيير النظام‪ ،‬فاجتمع هذا كله فقام انقالب ‪ ٨‬آذار‬

‫حوى‪ ،‬ص‪ .٩٣ ،٩٢‬أي أنه قبل حكم األسد كان املوجودين في واجهة السلطة هم من السّنة‪ ،‬لكن الذي يحكم علويون‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫)مارس ( وبدأت تصفيات في الجيش وإدخال قوى بعثية كثيرة إلى الجيش‪ ،‬وتمكن النصيريون من‬
‫املرحلة األولى أن يتحكموا بالجيش إلى حد كبير« ‪» .‬وبدأ الصراع الداخلي في الحزب ]البعث[‬
‫والحكم‪ ،‬فصُفّيت كل القوى بالنهاية لصالح القوى النصيرية‪ ،‬وأدى هذا في النهاية إلى أن ُتحكَم سوريا‬
‫من قبل الطائفة النصيرية )…( واستطاعت الطائفة أن ُتوجِد تعاقدات وتحالفات وأجهزة‪ ،‬واستطاعت‬
‫بذلك كله أن تتمكن من حكم سوريا« ‪.‬‬
‫هذا املقطع الطويل نسبياً للزعيم األخواني سعيد حوّى من كتابه »هذه تجربتي«‪ ،‬يكشف عن وجود‬
‫شريحة من السوريني السّنة ما كان في مقدورها أن تنظر للسوريني بوصفهم مواطنني بل مجرد طوائف‬
‫ومذاهب محكوم أفرادها بما تتصوره هذه الشريحة أنه عقيدة هذه الجماعة أو تلك‪ .‬وعلى الرغم من أن‬
‫جماعة األخوان املسلمني ال يمثلون الشريحة األوسع من أبناء الطائفة السّنية إال أنهم كانوا جماعة‬
‫منظّمة اعتمدت سياسات استطاعت من خاللها التسبب في ارتجاجات كبيرة وعميقة في مطلع‬
‫الثمانينات‪.‬‬
‫بناء على هذا الكالم يمكننا وضع فرضية مفادها أن تحويل السلطة من صيغتها البعثية إلى صيغتها‬
‫العلوية لم يكن من صنع الضباط العلويون لوحدهم‪ ،‬بل إن اإلخوان املسلمني كانوا شركاء أساسيني في‬
‫هذا األمر‪ ،‬بل ربما ال نغالي إن قلنا أنهم كانوا املحفزين على دفع السلطة السورية في هذا االتجاه‪.‬‬
‫فمنذ استيالء حزب البعث على السلطة في انقالب ‪ ٨‬آذار‪/‬مارس ‪ ١٩٦٣‬اتخذ األخوان منه موقفاً‬
‫صدامياً ألسباب عديدة لكن من أهمها أن من بني أعضائه أشخاصاً علويني وغيرهم من األقليات األخرى‬
‫كاملسيحيني والدروز واإلسماعيليني‪ .‬وبناء على موقفهم هذا فقد بادروا سريعاً بالقيام بانتفاضة مسلحة‬
‫في مدينة حماة ضد سلطة البعث في شهر نيسان‪/‬أبريل عام ‪ ١٩٦٤‬بعد أن تمكنوا مع غيرهم من‬
‫متشددي السّنة من تحفيز العامّة ودَفْعهم لالحتجاج في عدد من املحافظات السورية‪ ،‬تمّيزت من بينها‬
‫مدينة حماة التي خرجت في شوارعها مظاهرات‪ ،‬وأضربت أسواقها ‪ ٢٩‬يوماً‪ ،‬وتشكلت اعتصامات‬
‫مسلحة داخل املساجد‪ .‬وظهر حينها من بني قادة األخوان أشخاص كان لهم دور كبير في تصعيد حدة‬
‫األحداث من خالل استخدام السالح‪ ،‬مثل مروان حديد وسعيد حوى الذي يقول »أنا أحد العناصر‬
‫الرئيسية التي شاركت في أحداث حماة ‪ ، «١٩٦٤‬و»كنت من جملة املحكومني غيابياً باإلعدام« ‪.‬‬
‫ويؤكد بوضوح على الدور األخواني في هذه األحداث‪ ،‬فيقول إنه قد »ُعرضَ أمر حماة على قيادة‬
‫اإلخوان املسلمني في سوريا‪ ،‬فأعطت إذناً محلياً إلخوان حماة أن يتصرفوا« ‪ ،‬وقد كان من بني‬
‫الضحايا أشخاص إخوانيني‪ ،‬و»كان محصلة ثورة حماة أربعة شهداء من إخواننا ]أي من اإلخوان‬
‫املسلمني[‪ ،‬وحوالي خمسني من أبناء البلد‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه قُتل من جنود السلطة ورجاالتها الكثير« ‪.‬‬
‫السلطة السورية وبأوامر مباشرة من الرئيس أمني الحافظ ومن محافظ حماة حينها عبد الحليم خدام‬
‫قمعت هذا العصيان بالقوة‪ .‬وقُصف الجامع الذي اعتصم فيه املسلحون ومن بينهم مروان حديد‪ .‬ومنذ‬
‫ذلك الوقت اعتمد األخوان املسلمني التحريض ضد سلطة البعث مستفيدين من وجود أشخاص علويني‬
‫في السلطة كمادة تحريضية بني العامّة الذين من السهل تأجيج مشاعرهم الدينية بإظهار أن العلويني‬

‫ص‪.٦٨-٦٧‬‬ ‫حوى‪،‬‬
‫ص‪.٦٨‬‬ ‫حوى‪،‬‬
‫ص‪.٨٤‬‬ ‫حوى‪،‬‬
‫ص‪.٧٦‬‬ ‫حوى‪،‬‬
‫ص‪.٧٠‬‬ ‫حوى‪،‬‬
‫ص‪.٧٦‬‬ ‫حوى‪،‬‬
‫‪28‬‬
‫كفّار وأن ابن تيمية وغيره قد أفتوا بكفرهم‪ .‬وكانت الغاية الوحيدة من تحريضهم الطائفي استقطاب‬
‫الناس وكسب عناصر جدد لتنظيمهم‪ .‬فعلى سبيل املثال نجد رأي سعيد حوى بحدث سياسي كبير‬
‫كانقالب ‪ ٢٣‬شباط‪/‬فبراير ‪ ١٩٦٦‬على أنه »أهم حدث سياسي في هذه الفترة هو انتقال السلطة من‬
‫أمني الحافظ إلى مجموعة صالح جديد من خالل انقالب ‪ ٢٣‬شباط ‪ ،١٩٦٦‬كانت نتيجة متوقعة ألن‬
‫معظم القوى كانت بيد األقليات‪ ،‬وكانت أقوى األقليات الطائفة العلوية‪ ،‬وقد اتفقت األقليات على إيجاد‬
‫وضع جديد فكان« ‪ .‬فهذه الشريحة املتشددة طائفياً ال ترى األشخاص إال من خالل انتمائهم لعقيدة‬
‫م ا‪.‬‬
‫لكن على الرغم من أن »حافظ أسد كان شريكاً في الحكم منذ ‪ ٨‬آذار )مارس( ‪ ،١٩٦٣‬وكان هو وزير‬
‫الدفاع سنة ‪ ،١٩٦٧‬فقد استقبل الناس حركته التصحيحية بنوع من االبتهاج ألنها سبقتها ولحقتها‬
‫شائعات واتفاقات )…( ومع أن حافظ أسد من الطائفة العلوية ولم يستلم سوريا من قبله إال مسلم‬
‫ال رائعاً« ‪.‬‬
‫سّني‪ ،‬نسوا كل ذلك )…( حتى أن حماة املشهورة بتدينها استقبلته استقبا ً‬
‫قد يكون خدع األسد نفسه وصدّق الصورة املفبركة لالحتفاالت الشعبية وترحيب الجمهور السّني له‬
‫في زيارته لعدد من املحافظات السورية‪ ،‬ومن بينها حماة‪ .‬فهذه الجمهرة الصورية كانت في قسم كبير‬
‫منها عبارة عن جنود بلباس مدني‪ ،‬من بينهم آالف الجنود من الوحدات الخاصة‪ ،‬حسب معلوماتي‬
‫الشخصية‪ ،‬واعتبر نفسه انتصر بهذا الجمهور على املتشددين الذين يعتبرونه غير مسلم لكونه علوي‪،‬‬
‫لهذا حاول تمرير دستور ال يتضمن مادة دين رئيس الجمهورية‪ ،‬لكن هؤالء املتشددون كان ينتظرون‬
‫مثل هذه الفرصة للنهوض في وجهه وتحريض العامّة عليه‪ .‬فالقيادي اإلخواني سعيد حوى يعّبر عن‬
‫ذلك بوضوح بقوله‪» :‬عندما قرأت الدستور وجدت أنه ال بد من عمل‪ ،‬وأن هذا العمل يجب أن يكون باسم‬
‫علماء سوريا )…( وما دام التحرك باسم العلماء فستظهر الحركة كلها باملظهر اإلسالمي )…( ورأيت‬
‫أن علينا نحن األخوان املسلمني أن نوصل الناس من وراء ستار إلى وضع يندفعون فيه دون أن يكون‬
‫هناك أي ممسك علينا « ‪.‬‬
‫بعد ذلك »خرج طالب حماة في مظاهرات عنيفة وهم يهتفون‪ :‬ال دراسة وال تدريس حتى يسلّم الرئيس‪،‬‬
‫ومزقوا صور حافظ أسد‪ ،‬وأهانوها بأبشع اإلهانات‪ ،‬كان ذلك يوم ثالثاء‪ ،‬وكان أخطر من ذلك ما جرى‬
‫يوم األربعاء‪ ،‬لقد خرجت البلد عن بكرة ابيها‪ ،‬هاجمت مركز الحزب ]البعث[ وأحرقت مركز شبيبة الثورة‪،‬‬
‫وأحاطت باالتحاد النسائي وسيطر الشعب على الشارع وحطم الخمارات واملقاهي التي تقدّم الخمر‪،‬‬
‫وكان في املدينة مقهى يرتاده بعض الفجّار على »العاصي« اسمه مقهى غزالة دّمره الناس تدميراً‬
‫وبقي الشعب آخذاً حريته كاملة دون أي معارضة )…( لم تفعل ]السلطة[ شيئاً ضد الشعب في حماة‪،‬‬
‫فتفرق الناس وهم فرحون بانتصارهم« ‪ .‬وكان املطلب الرئيسي هو إدراج بند في الدستور ينص على‬
‫أنّ دين رئيس الجمهورية اإلسالم‪ ،‬كي ال يكون من حق حافظ األسد أن يكون رئيساً‪.‬‬
‫هذه االحتجاجات التي جاءت رداً على الدستور قامت في عددٍ من مناطق البالد‪ ،‬من بينها بلدة »برزة«‬
‫في ضواحي دمشق‪ ،‬حيث كنت أعيش‪ ،‬فقد خرجت مظاهرة مماثلة تطالب نفس املطلب‪ .‬ردُّ الفعل‬
‫الشعبي هذا‪ ،‬واملدفوع من بعض قادة اإلخوان املسلمني‪ ،‬خاصة قادة حماة‪ ،‬أقلق الرئيس حافظ األسد‬

‫هذه تجربتي وهذه شهادتي‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ١٩٨٧ ،‬ص‪.٨٢‬‬
‫حوى‪ ،‬ص‪.٩٥ ،٩٤‬‬
‫حوى‪ ،‬ص‪.١٠٦-١٠٥‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.١١١‬‬
‫‪29‬‬
‫ودفعه ألن يتراجع عن خطوته‪ ،‬فأصدر »بياناً مطوالً يتحدث عن اإلسالم ويعلن عن أنه يطلب من مجلس‬
‫الشعب أن ُيدخل مادة في الدستور تنص على أن دين رئيس الدولة اإلسالم« ‪ .‬لكنه في مقابل ذلك قام‬
‫باعتقال عدد من قادة األخوان املسلمني من بينهم مروان حديد‪ ،‬الذي مات في السجن‪ ،‬وسعيد حوى‪،‬‬
‫الذي أُطلق سراحه بعد خمس سنوات ليخرج بعدها من البالد ويستقر في األردن حيث شارك في قيادة‬
‫التنظيم من هناك‪ ،‬ويشرح لنا في كتابه »هذه تجربتي وهذه شهادتي« كيف استطاع مع رفاقه النهوض‬
‫بتنظيمهم‪ ،‬وتقويته بجميع السبل ومن بينها وضعهم املالي الذي كان متردياً جداً‪ ،‬فـ»تحرك أبو عامر‬
‫حركة قوية لتأمني املال الالزم‪ ،‬ثم انهال علينا املال من كل جانب« ‪.‬‬
‫والالفت أنهم لم يستثنوا من تحركاتهم أي بلد إسالمي »ومن باكستان انطلقنا إلى إيران‪ ،‬وكان ذلك‬
‫في أواخر أيار )مايو( سنة ‪ (…) ١٩٧٩‬رتبوا لنا زيارتني رئيسيتني إحداهما للخميني واألخرى إلبراهيم‬
‫يازدي وزير الخارجية وقت ذاك« ‪.‬‬
‫لقد كان األخوان املسلمون جاهزون دوماً إلشعال النار الطائفية في كل فرصة‪ .‬فبعد »انقالب األسد‬
‫في عام ‪ ١٩٧٠‬بوقت قصير‪ ،‬عاد ]مروان[ حديد إلى حماة‪ ،‬وأسس‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬الطليعة املقاتلة وأخذ‬
‫يحرّض على حمل السالح ضد النظام ألنه »ال يحكم بموجب القرآن وسّنة الّنبي«‪ ،‬وألن األسد ورفاقه‬
‫»كفار«« ‪.‬‬
‫كان من املبكّر على مجتمعاتنا السنية املحافِظة القبول بشخص علوي رئيساً للبالد‪ ،‬هذا موقف طبيعي‬
‫جداً ينسجم مع الذهنية التي كرّستها السلطات السّنية العثمانية ملئات السنني من خالل نبذ العلويني‬
‫واعتبارهم كفاراً‪ .‬هذه الذهنية املحافِظة لم يعمل أي طرف سياسي أو ثقافي على تأهيلها لتقّبل اآلخر‬
‫طيلة السنوات الخمسني الفاصلة بني رحيل العثمانيني ووصول العلويني إلى السلطة‪ .‬بل لم يعمل أي‬
‫طرف على تأهيل املجتمعات السورية جميعها لتنفتح على بعضها وتتفهم أن الدولة مؤسسة ال عالقة لها‬
‫بالعقيدة أو املذهب‪ .‬فأغلب الذين تولوا السلطة في البالد كانوا يريدون السلطة أكثر مما يريدون تنفيذ‬
‫برامج‪ ،‬بل حتى أولئك الذين كانوا يتبنون برامج ويرفعون شعارات تستهدف تحقيق العدالة كانوا يهدفون‬
‫من برامجهم وشعاراتهم الوصول إلى السلطة وليس العكس‪ ،‬أي أغلبهم لم يكن يسعى إلى تولي السلطة‬
‫كي ينفذ برامجه‪.‬‬
‫لهذا بقي املجتمع السوري السّني فضاًء مفتوحاً للمتشددين طائفياً‪ ،‬كاألخوان املسلمني‪ ،‬دون أي منازع‬
‫حداثي‪ ،‬فالسلطات‪ ،‬وخاصة السلطات البعثية‪ ،‬لم ينشغلوا إطالقاً ببناء ثقافة عقالنية‪ ،‬إذ اعتبروا أن‬
‫العقالنية تتعارض مع اإلسالم‪ ،‬أو أنها توأم الليبرالية كما رآها البعث‪ .‬لهذا اكتفى البعثيون بنبذ رجال‬
‫الدين‪ ،‬واعتمد الرئيس حافظ األسد تجاه هذه املسألة سياسة العصا والجزرة بني املتشددين تجاهه‬
‫وبني املمالئني له‪ .‬أي أنه اعتمد حصراً سياسة أمنية‪ ،‬وأَولى هذا الشأن ألجهزة املخابرات‪ .‬نتيجة كل‬
‫هذا استطاع األخوان املسلمون استغالل الذهنية املحافِظة عند العامة من الطائفة السّنية وتمكنوا من‬
‫توفير بيئة حاضنة بطرحهم »الجهاد« ضد »سلطة العلويني«‪.‬‬
‫لم يكن األسد في وضع ُيحسَدُ عليه في مواجهة احتجاجات الدستور‪ ،‬فهو من ناحية متمسك بالسلطة‬
‫بشدة‪ ،‬ويريد أن يكون رئيساً للجمهورية بشكل شخصي بأي ثمن‪ ،‬ال أن يحكم مثل صالح جديد من‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.١١١‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.١٣٦‬‬
‫نفسه‪ ،‬ص‪.١٣٧‬‬
‫بطاطو ص‪٤٨٤‬‬
‫‪30‬‬
‫خلف ستار‪ .‬ولكن في املقابل من ذلك فإن متشدّدو السنة يرفضون أن تقاد البالد بغير شخص سّني‪.‬‬
‫لهذا كان األسد أمام خيارات صعبة‪ ،‬فهو ال يستطيع أن يتحوّل إلى املذهب السني ألن هذا سيجعل‬
‫العلويون يمتنعون عن مناصرة‪ ،‬خاصة الضباط منهم‪ ،‬إذ من دون شك سيتعاملون معه على أنه منشق‬
‫أو مرتد‪ ،‬وهذا يمكنه أن يهدد مصالحه‪ .‬وكذلك ليس في مقدوره تسنني العلويني جميعهم‪ ،‬فهذا أمر‬
‫مستحيل عليه وعلى غيره‪ ،‬كون العلويني ليس لديهم قيادة روحية يمكنها أن »تفتي« لهم بذلك‪.‬‬
‫كذلك لم يمتلك الجرأة الكافية إلصدار دستور يغيب عنه تحديد دين رئيس الجمهورية‪ .‬وهذا سيضطره‬
‫إلى إعالن علمانية الدولة السورية‪ ،‬لكنه لن يكون بمقدوره القيام بهذه الخطوة لوحده‪ ،‬أو بالتعاون مع‬
‫العسكر الذي شاركوه انقالبه‪ ،‬فهي تحتاج إلى التحالف مع نخبة البالد الثقافية‪ ،‬وهذا سيضعه في‬
‫موقع الخطر إذ أنه سيضطر إلى مشاركتهم سلطاته وهو الطامح إلى إقامة نظام استبدادي فردي‪.‬‬
‫إضافة إلى أن هذا التوجه يتطّلب من الرئيس األسد اعتماد برنامج سياسي قوامه بناء دولة حديثة‬
‫تقوم على العلمانية والديمقراطية والعقالنية‪ ،‬وهذا إضافة إلى تعارضه مع اتجاه حزب البعث فإن األسد‬
‫كان بعيداً كل البعد عن تبني أي برنامج سياسي‪ ،‬فهو كان يمتلك طموحاً جارفاً للسلطة وليس لتنفيذ‬
‫برامج سياسية‪.‬‬
‫بقي أمامه خيار أخير ليس أسهل من الخيارات األخرى بكثير‪ ،‬وهو أن يرضخ للجمهور وُيدرِج مادة‬
‫في الدستور تحدد دين رئيس الجمهورية اإلسالم‪ .‬وكان يعرف جيداً أن متشدّدو السّنة‪ ،‬وفي مقّدمتهم‬
‫األخوان املسلمون‪ ،‬سيواجهونه استناداً إلى فحوى خياره هذا‪ ،‬ألنهم ال من وجهة نظرهم ال يحقق شرط‬
‫دين الرئيس‪ ،‬فالعلوي بالنسبة لهم غير مسلم‪ .‬واعتقد األسد أنه من املمكن أن يحل هذا اإلشكال من‬
‫خالل تحصيل فتوى تعتبر العلويني مسلمني‪ .‬لذلك »وملواجهة التهمة التي يلقيها املتعصبون في وجهه‬
‫بأنه ينتمي إلى طائفة »من أصحاب البدع«‪ ،‬أصدر ثمانون من رجال الدين العلويني بياناً رسمياً في‬
‫شأن هذ النقطة يؤكدون فيه على نحو قاطع أن كتابهم هو القرآن‪ ،‬وأنهم مسلمون شيعة‪ ،‬وأنهم‪ ،‬مثل‬
‫أغلبية الشيعة‪ ،‬اثنا عشرية‪ ،‬أي من أتباع األئمة االثني عشر‪ .‬وصادق على بيانهم املفتي الجعفري‬
‫املمتاز في لبنان عبد األمير قبالن‪ .‬وأكد اإلمام موسى الصدر‪ ،‬رئيس املجلس اإلسالمي الشيعي األعلى‬
‫ي مرجعي‪» ،‬الوحدة املذهبية« للعلويني مع الشيعة« ‪ .‬وقد كان لحازم صاغية رأي‬ ‫في لبنان‪ ،‬في رأ ٍ‬
‫صائب بقوله‪» :‬أشهر األسد إسالمه السّني مع توليه رئاسة الجمهورية‪ ،‬فقد حمل السيد موسى الصدر‪،‬‬
‫رئيس املجلس اإلسالمي الشيعي األعلى في لبنان‪ ،‬على إصدار فتوى َتنسِب الطائفة العلوية إلى الشيعة‬
‫االثني عشرية« ‪ .‬حتى أن باتريك سيل كاتب سيرة األسد جاء على ذكر هذه النقطة في كتابه‪» :‬ثم‬
‫طُرح السؤال بعد ذلك عما إذا كان من املشروع أن ُيسمَّى العلوي مسلماً‪ .‬ولحل هذه املعضلة‪ ،‬لجأ‬
‫األسد إلى صديقه الزعيم الشيعي املتنفذ‪ ،‬اإلمام موسى الصدر‪ ،‬رئيس املجلس الشيعي األعلى في‬
‫لبنان‪ ،‬الذي أصدر فتوى بأن العلويني حقاً طائفة من املسلمني«‬
‫وفّر األسد بهذه الفتوى مبرّراً شرعياً ملشايخ السّنة املمالئني له أن يلتفوا حوله ويساندوه باعتباره رئيساً‬
‫مسلماً ال يخلّ بالبند الدستوري‪ .‬وبعدها اتخذ األسد إجراءات تقضي بطمر املسألة الطائفية برمّتها ولو‬
‫تحت طبقة خفيفة من الرماد تبقى معرّضة لالنكشاف عند أول نسمة هواء‪ .‬لهذا تم وأد أي حديث علني‬

‫بطاطو‪ ،‬ص‪٤٨١‬‬
‫البعث السوري‪ ،‬حازم صاغية‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت ‪ ،٢٠١٢‬ص‪.٧٢‬‬
‫األسد‪ ،‬الصراع على الشرق األوسط‪ ،‬باتريك سيل‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬لندن ‪ ،١٩٨٨‬ص‪.٢٧٩‬‬
‫‪31‬‬
‫يتناول مسألة الطوائف أو املسألة الطائفية‪ ،‬وتحوّلت سوريا »رسمياً« من حينها إلى بلد ال يوجد بني‬
‫أبنائه أي روابط طائفية‪.‬‬
‫لم تكن هذه هي املرأة األولى التي يتم فيها طرح عالقة العلويني باإلسالم بشكل شرعي‪ .‬ففي عام‬
‫‪ ١٩٣٦‬و»في أعقاب اإلعالن العلوي عن دعم الوحدة السورية‪ ،‬أصدر مفتي القدس‪ ،‬املسلم السني‬
‫والعربي‪ ،‬الحاج أمني الحسيني‪ ،‬فتوى غير مسبوقة معلِنة »العلويني كمسلمني صالحني ليتم إدخالهم‬
‫إلى جماعة الدول اإلسالمية والعربية«« ‪ ،‬وكان ليون غولدسميث قد أخذ هذه العبارة األخيرة من بحث‬
‫نشره بول بونشي في »مجلة تاريخ األديان« ‪ .‬ويؤكّد مترجم بحث غولدسميث‪ ،‬ناصر ضميرية‪ ،‬أن‬
‫الفتوى نصّت على »إنّ هؤالء العلويون مسلمون‪ ،‬وإّنه يجب على عامة املسلمني أن يتعاونوا معهم على‬
‫البر والتقوى ويتناهوا عن اإلثم والعدوان‪ ،‬وأن يتناصروا جميعاً ويتضافروا قلباً واحداً في نصرة الدين‪،‬‬
‫ويداً واحدة في مصالح الدين‪ ،‬ألنهم إخوان في املّلة« ‪ ،‬موضِحاً أنه تم نشر هذه الفتوى في جريدة‬
‫الشعب الدمشقية في شهر تموز‪/‬يوليو ‪.١٩٣٦‬‬
‫وبعد ذلك بسنوات أفلحت الجهود واملناقشات التي بذلها مشايخ علويون مع مفتي الجمهورية السورية‬
‫الشيخ محمد شكري االسطواني‪ ،‬التي استمرت ‪ ٢٠‬يوماً‪ ،‬حصل العلويون بعدها على مرسوم تشريعي‬
‫يقرّ بأنهم من املذهب الجعفري ‪ .‬وقّع عى املرسوم الصادر في ‪ ١٥‬حزيران‪/‬يونيو ‪ ١٩٥٢‬رئيس الدولة‬
‫فوزي سلو وجميع وزرائه ‪.‬‬
‫وبعدها ببضع سنوات‪ ،‬سنة ‪ ،١٩٥٩‬خالل فترة الوحدة بني سوريا ومصر بقيادة الرئيس املصري جمال‬
‫ص على »إن مذهب الجعفرية املعروف بمذهب‬‫عبد الناصر‪ ،‬أصدر شيخ األزهر محمود شلتوت فتوى تن ّ‬
‫اإلمامية اإلثني عشرية‪ ،‬مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة« ‪ .‬وكان الشيخ يوسف‬
‫القرضاوي الذي قام بجمع تراث الشيخ شلتوت قد أنكر وجود هذه الفتوى وصرّح بأن »تراث الشيخ‬
‫شلتوت أنا أعلم الناس به‪ ..‬ما رأيت هذه الفتوى في حياتي قطّ ولم أسمع عنها« ‪.‬‬
‫لم يغب عن ذهن الوجهاء واملشايخ العلويني‪ ،‬منذ رحيل العثمانيني وحلول الفرنسيني محلهم‪ ،‬أنهم‬
‫يحتاجون إلى التصالح مع الوجاهات والسلطات الدينية السّنية‪ ،‬لهذا لم يفوّتوا أي فرصة دون التأكيد‬
‫على أن دينهم هو اإلسالم‪ ،‬وأن كتابهم هو القرآن‪ ،‬مطالبني باالعتراف بهم كمسلمني وليس كسّنة‪ .‬وكان‬
‫يدركون أنهم لن يتمكنوا من العيش املشترك مع مواطنيهم السّنة قبل ذلك‪ .‬لكنهم لم يخفوا تمّيزهم‬
‫كطائفة لديها عقيدة مختلفة كلياً عن املذهب السني‪ ،‬فأكّدوا على املشتركات اإلسالمية الرئيسية كاعتبار‬
‫القرآن كتاب اهلل‪ ،‬والشهادة بأن ال إله إال اهلل وأن محمداً رسول اهلل‪ .‬فمثل هذه التوجهات يوافق عليها‬

‫شيوخ الدين العلويني‪ ،‬مقدمة موجزة‪ ،‬ليون ت‪ .‬غولدسميث‪ ،‬ترجمة ناصر ضميرية‪ ،‬جامعة جورج تاون‪ ،‬قطر‪ ،٢٠١٨ ،‬ص ‪.٧‬‬
‫‪Boneschi, Paulo (1940). Une fatw. du Grande Mufti de J.rusalem Muhammad Amin al-Husayni‬‬
‫‪sur les Alawites. Revue de l’histoire des religions, 122(1): 134–52.‬‬
‫شيوخ الدين العلويني‪ ،‬ص ‪ ،٧‬هامش ‪.٣‬‬
‫البعث الشيعي في سورية ‪ ،٢٠٠٧-١٩١٩‬د‪ .‬عبد الرحمن الحاج‪ ،‬جسور للترجمة والنشر‪ ،‬بيروت ‪ ،٢٠١٧‬هامش )‪ (٦٢‬صفحة‬
‫‪.٧٦‬‬
‫د‪.‬منير محمد الغضبان‪ ،‬موقع »مركز الشرق العربي« بإدارة زهير سالم تاريح الثالثاء ‪.٢٠٠٦-٨-٢٢‬‬

‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89_%D8%B4%D9%84%D8%AA‬‬
‫‪%D9%88%D8%AA‬‬
‫‪http://www.dd-sunnah.net/news/view/action/view/id/961‬‬
‫‪32‬‬
‫جميع العلويني من دون تردد‪ .‬فليس في العقيدة العلوية ما يمنع أداء العبادات الظاهرة كالصالة والصوم‪،‬‬
‫لكن عدم القيام بها ال ُيعدّ كفراً‪ .‬فالعلويون لم يمارسوا التقية الدينية إطالقاً‪ .‬فجدّي ألّمي كان يؤمّ بي‬
‫وبجدتي عندما كنت طفالً‪ ،‬وما عرفته أفطر يوماً من أيام رمضان ال هو وال جدتي حتى وفاتهما‪ ،‬ولم‬
‫يقم بذلك لكسب رضا أي أصحاب عقيدة أخرى‪.‬‬
‫لكن خطوة األسد ذهبت باتجاه آخر‪ ،‬إذ كانت »تسنيناً« لصورة العلويني العلنية؛ وطبعاً ليس تسنينهم‪.‬‬
‫بمعنى آخر قام األسد بإخفاء «علوّية» العلويني بستار من «اإلسالم» عبر »تقية سياسية« تجعل منه‬
‫حقِّقاً لشرط أن يكون »دين رئيس الدولة اإلسالم«‪ .‬فبعد ذلك بات من غير الشرعي التلفظ‬ ‫ش خ ص اً م ُ َ‬
‫بكلمَتي »سّنة« و»علويني« لتحّل بدالً عنهما كلمة جامعة هي »اإلسالم«‪ ،‬لكن تعبير »اإلسالم« يعني‬
‫»محلّياً« »السّنة« بتمام القول واملعنى‪ ،‬وال يعني إطالقاً أي مذهب آخر‪ .‬وبذلك اختفت صورة العلويني‬
‫من املشهد الديني السوري‪ .‬وطبعاً لم يفتقر األسد ملشايخ علويني يسيرون خلف «تقيته السياسية »‪.‬‬
‫وبذلك عاد العلويون إلى حالة التهميش من جديد‪ ،‬ولكن هذه املرة ليس تهميشاً سياسياً بل تهميشاً‬
‫عقيدياً‪ .‬ولم يتردد بعدها الرئيس األسد من قمع »أي تعبير علني عن الهوية العلوية« ‪.‬‬
‫كما هو معروف لم يطل األمر كثيراً حتى وقع الصدام املسلح بني األخوان املسلمون ومتشددو السّنة‬
‫من جهة وبني الرئيس العلوي من الجهة األخرى‪ ،‬وهذا يؤكد فشل سياسة »لفلفة« املسألة الطائفية‬
‫واملذهبية في سوريا‪ .‬لقد كان من األفضل العمل على إبعاد الشأن الديني برمّته من الحقل السياسي‪،‬‬
‫خاصة وأن املحتجّني‪ ،‬على الرغم من الضوضاء التي افتعلوها‪ ،‬ال يشّكلون نسبة مهمة من الطائفة‬
‫السّنية‪ .‬وكيفما كان الحال فإن استخدام القوة والعنف تجاههم هو أسوأ وسيلة للتعامل مع املوضوع‪.‬‬
‫لقد كان من األفضل عدم حصر املسألة بهذه األطراف‪ ،‬فمسألة كهذه تستحق جهداً ثقافياً وفكرياً واسعاً‬
‫ومديداً‪ ،‬يشارك في بحثها ومناقشتها جميع السوريني في غير ساحة من ساحات الحوار‪ ،‬إذ ال شك‬
‫بأن اشتراط اإلسالم دين رئيس الجمهورية هو انتهاك غير عادل لبقية املكونات السورية غير املسلمة أو‬
‫غير السّنية في البالد‪.‬‬
‫إن هذه السياسة التي اعتمدها حافظ األسد بخصوص املوضوع الطائفي عادت وََباالً على البالد‪،‬‬
‫بجميع طوائفها ومذاهبها‪ .‬فهي إضافة ملا تسببت فيه من خلخلة في »الهوية العلوية« فإنها لم تنهي‬
‫املشكلة الطائفية التي عادت وتفجّرت بقوة بعد أحداث ‪ ،٢٠١١‬ليس على يد األخوان املسلمني هذه املرة‬
‫وإنما بأيدي جهاديني متعددي الوالءات‪ ،‬أدى صراعهم مع األسد االبن إلى تدمير البالد وتشريد أكثر‬
‫من ثلث سكانها‪.‬‬

‫التأسيس الفعلي للصراع الوجودي السّني العلوي‪:‬‬


‫عند استيالء حافظ األسد على السلطة اعتبر األخوان املسلمون أن الفرصة باتت مناسبة لتصعيد حدة‬
‫ي« سّني في مواجهة االنتماء الطائفي العلوي‬‫ب »أكثر ٍّ‬
‫الصراع مع النظام من خالل استخدام خطا ٍ‬
‫لألسد‪ ،‬وأنه بذلك سيكون في مقدورهم إسقاط النظام والسيطرة على السلطة‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫‪Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon‬‬
‫‪Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, pp35-36.‬‬
‫‪33‬‬
‫لم يتأخر األخوان املسلمون ومتشددو السّنة كثيراً للبدء بعمليات مسلحة ضد النظام‪ ،‬و»كان أول فعل‬
‫عنيف قامت به الطليعة املقاتلة هو اغتيال الرائد محمد غرّة رئيس فرع املخابرات العامة في حماة في‬
‫أوائل عام ‪ . «١٩٧٦‬ويؤكد ذلك سعيد حوى‪ ،‬القيادي اإلخواني‪ ،‬بقوله‪» :‬كان مقتل محمد غرة مدير‬
‫املخابرات العسكرية ]في حماة[ أول عمل مسلح ضد النظام‪ ،‬وكان ذلك سنة ‪ ،١٩٧٦‬أي قبل خروجي‬
‫من السجن بسنتني« ‪ .‬وبعد ذلك حصلت حادثة «مدرسة املدفعية» العسكرية في حلب‪ ،‬حيث قام عدد‬
‫من قادة وأفراد «تنظيم الطليعة املقاتلة» اإلخواني‪ ،‬بقيادة إبراهيم اليوسف‪ ،‬الذي كان أحد الضابط‬
‫الرئيسيني في املدرسة‪ ،‬في يوم ‪ ١٦‬حزيران‪/‬يونيو ‪ ،١٩٧٩‬بقتل أكثر من ‪ ٥٠‬شاباً علوياً من طالب‬
‫املدرسة‪ ،‬حسب رواية السلطة‪ ،‬أو ‪ ٢٥٠‬حسب رواية تنظيم الطليعة‪ .‬وكانت هذه الحادثة بمثابة إعالن‬
‫مدوٍّ على إخفاق سياسات حافظ األسد املتعلقة باملسألة الطائفية‪.‬‬
‫كانت حادثة مدرسة املدفعية بمثابة بداية الحرب العلنية بني النظام ومعارضيه املتشددين‪ ،‬ومع تقدّم‬
‫الزمن كانت تتفاقم حدّتها‪ .‬فقد أخذت السلطة نزيد من مالحقاتها العنيفة لعناصر األخوان وللمتشددين‬
‫السّنيني‪ ،‬وكانت تقوم بقتلهم ومن معهم بطريقة انتقامية‪ .‬وكان األخوانيون يكثرون من عمليات التفجير‬
‫وعمليات االغتيال التي طالت أشخاصاً عديدين من النخبة العلوية املدنيني والعسكريني‪.‬‬
‫ومنذ مطلع عام ‪ ١٩٨٠‬ازدادت حدة الصراع أكثر لدرجة دفعت الرئيس حافظ األسد للقول‪» :‬نعم‪ ،‬إنني‬
‫أؤمن باهلل‪ ،‬وبرسالة اإلسالم‪ ،‬لقد كنت وال أزال وسأبقى مسلماً‪ ،‬تماماً مثلما ستبقى سوريا قلعة شمّاء‬
‫ترفع راية اإلسالم عالياً‪ ،‬ولكن أعداء اإلسالم املتاجرين في الدين سوف ُيكنسون بعيداً« ‪ .‬وفي اليوم‬
‫ت قوات محمولة بالطائرات املروحية إلى جسر الشغور )…( حيث هاجم املتظاهرون‬ ‫التالي »أُرسل ْ‬
‫الثكنات ومكاتب الحزب‪ .‬فتبعت ذلك عملية بحث وتدمير ضاربة تركت وراءها مائتي قتيل« ‪» .‬وبعد‬
‫ت الفرقة الثالثة بأكملها‪ ،‬أي عشرة آالف رجل ومائتان‬‫ذلك ]عملية جسر الشغور[ بأيام قليلة أُرسل ْ‬
‫ال إلى حلب إلخضاعها )…( وبعد فشل املفاوضات في إعادة النظام أُرسل ْ‬
‫ت‬ ‫وخمسون عربة مدرعة شما ً‬
‫القوات إلى الداخل في ‪ ١‬نيسان‪/‬أبريل إلغالق أحياء بكاملها والقيام بعمليات تفتيش من منزل إلى منزل‬
‫مسبوقة على الغالب بنيران الدبابات‪ .‬وأُلقي القبض على مئات من املشتبه بهم وسيقوا بعيداً« ‪.‬‬
‫وفي ‪ ٢٦‬حزيران‪/‬يونيو من العام نفسه تعرض حافظ األسد ملحاولة اغتيال نجى منها بمعجزة‪ .‬وفي‬
‫اليوم التالي أرسل رفعت األسد‪ ،‬شقيق رئيس الجمهورية‪ ،‬قائد سرايا الدفاع‪ ،‬نخبة من جنوده إلى‬
‫سجن تدمر‪ ،‬فاجتاحوا السجن ويسيطروا عليه وأعدموا جميع معتقلي األخوان املسلمني املوجودين فيه‬
‫حينها‪ ،‬حسب معلوماتي الشخصية‪ .‬وبعد أيام‪ ،‬في ‪ ٨‬تموز‪/‬يوليو‪ ،‬أصدر األسد القانون ‪ ٤٩‬الذي يقضي‬
‫بإعدام كل من يثبت انتماؤه لجماعة األخوان املسلمني‪.‬‬
‫كانت النزاالت بني الطرفني على أشدّها طيلة هذه السنة‪ ،‬ففي حلب على سبيل املثال »قَتل اإلرهابيون‬
‫أكثر من ثالثمائة شخص بني عامي ‪ ١٩٧٩‬و ‪» . «١٩٨١‬وفي مقابل ضحاياهم الثالثمائة كان هناك‬
‫ألفان من املعارضني املسلمني قتلتهم قوات األمن في حلب‪ ،‬باإلضافة إلى ألوف من الذين اعتُقلوا وزُج‬

‫بطاطو ص‪.٤٨٨‬‬
‫حوى‪ ،‬ص‪.١٢٩‬‬
‫األسد‪ ،‬الصراع على الشرق األوسط‪ ،‬باتريك سيل‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬لندن ‪ ،١٩٨٨‬ص‪.٥٣١‬‬
‫سيل‪ ،‬ص‪.٥٣٠‬‬
‫سيل‪ ،‬ص‪.٥٣٠‬‬
‫سيل‪ ،‬ص‪.٥٢٧-٥٢٦‬‬
‫‪34‬‬
‫بهم في غياهب السجون حيث كانوا غالباً ما يتعرضون للضرب والتعذيب« ‪ .‬كذلك في نيسان‪/‬أبريل‬
‫‪ ١٩٨١‬قامت قوات النظام باالنتقام من أهالي حماة على إثر هجوم شنه مسلحو األخوان املسلمون ضد‬
‫منطقة علوية قريبة‪ ،‬فقام بـ»جمع عشرات الذكور الذين تجاوزوا الرابعة عشرة من أعمارهم بشكل يكاد‬
‫يكون عشوائياً‪ ،‬ثم أطلقت عليهم النار في مكانهم على الفور« ‪،‬‬
‫بقيت املواجهات بني الطرفني على هذا املنوال حتى مطلع شهر شباط‪/‬فبراير عام ‪ ١٩٨٢‬حني واجه‬
‫األخوان املسلمون حملة االعتقاالت والتفتيش الوحشية التي كان يقوم بها النظام في حماة‪ ،‬وعمليات‬
‫القتل التي كان يقوم بها جنوده بطريقة شبه عشوائية‪ ،‬فأعلنوا الجهاد بواسطة مكبرات الصوت في‬
‫الجوامع‪ ،‬وأغار مسّلحوهم على مراكز الشرطة لالستيالء على األسلحة‪ ،‬وهاجموا القيادات الرسمية في‬
‫املدينة ومن يعرفون أنه من حلف النظام‪ ،‬وبعد عدة ساعات أعلنوا أن املدينة »محررة«‪ .‬بعد ذلك اتسعت‬
‫حدود املواجهات لتشمل جميع أحياء املدينة التي كان يتواجد فيها املسلحون‪ ،‬واستمرت هذه املعركة‬
‫املصيرية أكثر من ثالثة أسابيع انتصر فيها نظام حافظ األسد بشكل حاسم‪ ،‬بعد أن قامت قواته بقصف‬
‫األحياء التي الذ إليها الجهاديون‪ ،‬فدّمروها فوق رؤوس ساكنيها‪ .‬وبناء على معلوماتي املؤكدة في ذاك‬
‫الوقت فقد قام جنود النظام بنهب الكثير من بيوت املدينة ومحالتها التجارية معتبرين ذلك «غنائم حرب»‪.‬‬
‫تمكنت السلطة بعد ذلك من القضاء نهائياً على تنظيم األخوان املسلمني والجماعات املسلحة‪ ،‬وقتلت‬
‫جميع عناصر التنظيم إما في املعارك أو بأحكام إعدام كانت تصدرها محكمة ميدانية استثنائية ال‬
‫تتوفر فيها أدنى شروط املحاكمات ‪ .‬ولم ينجو من هذا املصير سوى من تمكّن من الفرار خارج البالد‪.‬‬

‫سوريا ونظام حافظ األسد بعد ‪١٩٨٢‬‬


‫ت عليه االنتساب لتنظيم األخوان املسلمني بل اعتقلت‬‫لم تقتصر اعتقاالت السلطات السورية على من َثبُ َ‬
‫آالف الشبان السّنة الذين يشّكلون الوسط االجتماعي الذي كانوا يعيش فيه عناصر التنظيم‪ ،‬مثل زمالء‬
‫الدراسة أو زمالء العمل املقرّبني‪ ،‬أو األصدقاء أو األقارب الذين كانوا يتواصلون معهم‪ ،‬إضافة العتقال‬
‫ال ونساءً‪ ،‬من أهالي أعضاء التنظيم الذين تمكّنوا من الهروب أو التواري عن‬ ‫الكثير من الرهائن‪ ،‬رجا ً‬
‫األنظار‪ .‬لم تكتفي املخابرات بـ»حصاد« البيئة االجتماعية لألخوان بل اعتقلت أيضاً جميع التنظيمات‬
‫واملجموعات السياسية اليسارية واليمينية غير املسّلحة‪ ،‬طاملا أنها تخالف السلطة أو تعارضها‪ .‬ولم تمّيز‬
‫في اعتقاالتها على أساس طائفي‪ ،‬فقد اعتقلت عشرات الرجال والنساء العلويني‪ ،‬وقامت بتعذيب أكثر‬
‫من غيرهم بكثير‪.‬‬
‫أدى هذا الصراع العنفي إلى مضاعفة عناصر أجهزة املخابرات‪ ،‬العسكرية والجوية والسياسية وأمن‬
‫الدولة‪ ،‬واتسعت صالحياتها‪ ،‬وعال شأنها‪ ،‬وصار في مقدورها التدخل في أي شأن من شؤون الدولة‬
‫والحكومة واملجتمع‪ ،‬وفي شؤون أرفع املستويات واملناصب‪ .‬فصارت سلطة املخابرات ال تعلوها سلطة‬
‫أي مسؤول في الدولة إال سلطة رئيس الجمهورية الذي ترتبط به جميع قياداتها بشكل مباشر‪ .‬وامتلكت‬
‫املخابرات من حينها تهمة «األخونجي » التي يمكنها توجيهها ألي مواطن سّني‪ ،‬رجالً كان أم امرأة‪،‬‬
‫وأن تعتقله حتى ُيثبت براءته‪.‬‬

‫سيل‪ ،‬ص‪.٥٢٧‬‬
‫سيل‪ ،‬ص‪.٥٣٣‬‬
‫‪35‬‬
‫وبناء على هذا االنتصار‪ ،‬أيضاً‪ ،‬بدأ »فجور« أسدي يظهر في املجتمع العلوي‪ ،‬فشكل أقارب الرئيس‬
‫األسد‪ ،‬وتحديداً منذر وفواز األسد‪ ،‬أبناء شقيقه جميل‪ ،‬مجموعات من »الزعران« أطلقوا عليها اسم‬
‫»شّبيحة«‪ ،‬وصاروا يعرفون على أنهم شبيحة هذا أو شبيحة ذاك‪ .‬وكانت مجموعات الشبيحة بقيادة‬
‫أبناء األسد الذين ازداد عددها مع األيام‪ ،‬إذ كان كل ما يشبّ صبي أسدي يجمع حوله بعض‬
‫«الزعران »‪ ،‬من العلويني وغير العلويني‪ ،‬ويفرض سيطرته على منطقة من مناطق العلويني التي تكون ما‬
‫زالت خارج سيطرة مجموعة واحد من أخوته أو أوالد عمومه‪.‬‬
‫كانت هذه املجموعات عبارة عن مافيات مسلحة بسالح خفيف ومتوسط‪ ،‬تقوم بعمليات التهريب بشكل‬
‫علني أمام أعني دوريات الجمارك والجهات املسؤولة‪ ،‬وما كان بإمكان أي سلطة محلية التعامل معهم‬
‫على أنهم خارجني عن القانون‪ ،‬فقد عاشوا فوق القانون بوضح النهار‪ ،‬ولم يكن باستطاعة املحافظ أو‬
‫قائد الشرطة أو رؤساء األجهزة األمنية االقتراب منهم ما لم تأتيهم أوامر مباشرة من القصر الرئاسي‪.‬‬
‫أُطلقت يد هذه املجموعات في مناطق العلويني في الساحل‪ ،‬وكُفّت في مناطق السّنة‪ .‬وكان باسل‪ ،‬االبن‬
‫البكر للرئيس السابق حافظ األسد والشقيق األكبر للرئيس الحالي‪ ،‬هو الذي يضبط حدود مناطق‬
‫تعديات أوالد عمومه‪ .‬لهذا كان من النادر جداً حدوث أي اعتداء في أحياء السّنة شبيهة بما كانت تفعله‬
‫املجموعات األسدية في مناطق العلويني من سلب وتشليح واعتداءات وبطش وتجّبر وخطف نساء‪ .‬بل‬
‫أقام بعضهم في »القرداحة« سجوناً يعتقلون فيها من يريدون‪ .‬وبعضهم اآلخر فرض أتاوات على‬
‫املحالت التجارية في القرداحة والقرى املحيطة بها‪ ،‬وأجبروا املهنيني من نجارين وحدادين وغيرهم تقديم‬
‫الخدمات لهم مجاناً‪ .‬وسيطروا على عدد من األعمال واملصالح مثل عدد من قطّاعات نقل الركاب والنقل‬
‫الصناعي‪ ،‬ومنتجات مقالع الرخام‪ ،‬وغيرها من األعمال الرئيسية في الالذقية وجبلة‪ .‬ال أقدّم هنا أي‬
‫معلومات جديدة بالنسبة لسكان الساحل‪ ،‬فجميعهم شهد على مثل هذه املمارسات أو غيرها‪.‬‬
‫لم يكن مسموح لهذه املجموعات بالنشاط بغير املدن الساحلية‪ ،‬وإن تجاسر أحدهم عن هذا كانت ُتصدر‬
‫التوجيهات ألجهزة املخابرات باعتقاله ولو بطريقة عنيفة‪ .‬ولهذا فقد التقيت خالل وجودي في السجن في‬
‫عقد الثمانينات بأحدهم اسمه غياث األسد‪ ،‬اعتُقل بعد أن تم إطالق النار على »القافلة« التي كان‬
‫يقودها في عملية تهريب على طريق درعا دمشق‪ .‬وقد أخبرني غياث‪ ،‬الذي علمت أنه قد توفي بحادث‬
‫سيارة الحقاً‪ ،‬أن أبناء األسد معفيني من الخدمة االلزامية‪ ،‬وأنه يتم فرز عسكري مسلح أو أكثر كمرافق‬
‫له‪ ،‬وأن جوازات سفرهم تبقى محفوظة في القصر الجمهوري عند مدير مكتب الرئيس‪.‬‬
‫بعد كل ما جرى صار املشهد العام للدولة علوياً‪ ،‬مثل وجود وحدات عسكرية أغلب عناصرها من العلويني‪،‬‬
‫أغلب األسماء التي باتت تمأل الفضاء العام كانت أسماء ضباط علويني‪ ،‬صار العلويون يسيطرون على‬
‫كل شيء بحجة الخطر »اإلخونجي«‪ ،‬فاملسؤول بات يدّعي أنه ال يثق إال بأخيه‪ ،‬فعّينه مسؤوالً عن مكتب‬
‫ما‪ ،‬وأخيه ال يثق إال بزوجته‪ ،‬فصارت مديرة مدرسة أو معهد‪ ،‬وزوجته ال تثق إال بخالها فأرسلته بعثة‬
‫إلى الدول الشرقية‪ … ،‬الخ‪.‬‬
‫وبعد زمن قصير‪ ،‬عام ‪ ،١٩٨٤‬حني تدهورت صحة الرئيس حافظ األسد ودخل املستشفى‪ ،‬نشب صراع‬
‫خطير بني القيادات العسكرية على وراثة األسد‪ ،‬كان طرفاه رفعت األسد‪ ،‬شقيق الرئيس‪ ،‬قائد سرايا‬
‫الدفاع‪ ،‬الذي كانت قواته تطوّق املدينة بذريعة الدفاع عنها‪ ،‬وبني عدد من الضباط القادة الذين أُطلق‬
‫عليهم اسم »العلّيات « لوجود أكثر من ضابط بينهم اسمه علي‪ ،‬مثل علي حيدر‪ ،‬قائد القوات الخاصة‪،‬‬
‫وعلي دوبا‪ ،‬رئيس شعبة املخابرات العسكرية‪ ،‬وعلي أصالن‪ ،‬نائب رئيس األركان‪ ،‬وعلي الصالح‪ ،‬قائد‬

‫‪36‬‬
‫الدفاع الجوي‪ ،‬إضافة لشفيق فياض‪ ،‬قائد الفرقة الثالثة‪ ،‬وإبراهيم صافي‪ ،‬قائد الفرقة األولى‪ .‬جميع‬
‫هؤالء كانوا علويني‪ ،‬وبات واضح للعيان كيف يسيطرون على أهم القوات العسكرية‪.‬‬
‫على الرغم من تقاسم املسؤولية بني النظام وبني األخوان املسلمني عن تأجيج املوضوع الطائفي‪ ،‬فإن‬
‫ما جرى حينها‪ ،‬وما جرى مؤخراً من صراعات عنفية مدمّرة تؤكد خطأ سياسة حافظ األسد التي‬
‫اعتمدها بخصوص هذا املوضوع‪ .‬فقد تبني أنها لم تستطع تخفيف حدة التباغض الطائفي إطالقاً‪ ،‬بل‬
‫على العكس نجد أن الصراع الطائفي ال يفوّت الفرصة ليأخذ البالد إلى الدمار‪ .‬وكل املؤشرات تفيد‬
‫أن املوضوع ما زال في امليدان‪.‬‬

‫الصراع الطائفي على السلطة‬

‫نال الصراع الذي جرى على األراضي السوري العديد من التسميات‪ ،‬فالبعض اعتبره ثورة‪ ،‬والبعض‬
‫اعتبره حرباً‪ ،‬والبعض اعتبره حرباً أهلية‪ ،‬وغيرهم سمّاه حرباً طائفية‪ ،‬أو حرباً على اإلرهاب‪ ،‬وآخرون‬
‫سمّوه جهاداً ضد الكفّار‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬لكن يبدو أن شيئاً من كل هذه املسّميات كان موجوداً‪ .‬فقد كان‬
‫جميعهاً بمقدار أو بآخر‪ .‬لكن يوجد محور يجمعها جميع الصراعات املسلحة‪ ،‬والذي ُيشكّل »أُسّ«‬
‫الصراع بني النظام ومعارضيه‪ ،‬هو الصراع على السلطة‪ .‬فكال الطرفني ال يخفي أن هدف حربه هو‬
‫السلطة‪ ،‬من دون أن يقول إنه يريد السلطة لنفسه‪ ،‬فمثل هذا القول ال يهمّ وعادة ال يتم التعبير عن‬
‫صراحة في الصراعات السياسية‪ .‬وفي املقابل نجد النظام يخوض حربه ضد معارضيه تحت مسّميات‬
‫الدفاع عن السلطة »الشرعية«‪ .‬ولم يقل قادة النظام وال مرة‪ ،‬وتحديداً الرئيس بشار األسد‪ ،‬أنه يريد‬
‫السلطة لنفسه‪.‬‬
‫لكن هذا النزاع على السلطة كان‪ ،‬وما زال‪ ،‬قائماً على صراع طائفي بني السّنة وبني العلويني‪ .‬ذلك‬
‫حتى لو رفض العلويون هذا التوصيف واعتبروا أنهم خاضوا الحرب تحت لواء الجيش الرسمي كجيش‬
‫للدولة السورية عليه أن يدافع عن دولته ضد »اإلرهابيني«‪ ،‬فوحدات الجيش التي خاضت غالبية املعارك‬
‫جميع عناصرها هم من العلويني ما عدا نسبة ال تتعدى ‪ ٪٥‬من السّنة‪ .‬وأن غالبية الجنود العلويني‬
‫خاضوا املعارك باملعنى الفردي كعلويني‪ ،‬إال قلّة خاضت الحرب دفاعاً عن الدولة‪ .‬فإن كانت املعارضة‬
‫الجهادية‪ ،‬التي نهضت على أكتاف الحراك االحتجاجي السلمي‪ ،‬عبّرت صراحة أنها ترفض «شرعاً »‬
‫القبول بقيادة غير سّنية للبالد‪ ،‬وأعلنت الجهاد لطرد العلويني من السلطة لكونهم كفّار‪ ،‬فإن قادة النظام‬
‫العلويني‪ ،‬وتحديداً رئيس الجمهورية‪ ،‬يعتبرون أنه لهم الحق «شرعاً » في قيادة البالد وفق الدستور‬
‫لكونهم مسلمني وفق فتاوى شيعية أتينا على ذكرها أعاله‪ .‬بل وعزّز موقف العلويني هذا موقف الكثير‬
‫من املشايخ ورجال الدين السّنة الذين يعتبرون أن العلويني مسلمني‪ ،‬بل وحللوا لهم »الجهاد« ضد‬
‫مجاهدي املعارضة‪.‬‬
‫هذا الصراع الطائفي كان على السلطة وليس على الدين أو املذهب أو العقيدة‪ ،‬فال السّنة يريدون تسنني‬
‫العلويني وال العلويني يريدون علونة السّنة‪ ،‬بل كال الطرفان املتصارعان يريد السلطة بشكل طغياني‪ ،‬فلو‬
‫ي من منهما غير طغياني ملا ارتضيا االحتكام إلى العنف والسالح في صراعهما‪.‬‬ ‫أن أ ّ‬

‫‪37‬‬
‫لكن إذا نحّينا جانباً الطروحات املتشددة التي يقدّمها الجهاديون السّنية‪ ،‬واعتمدنا في حديثنا اآلن‬
‫على املعارضة الرسمية املؤلفة من »االئتالف الوطني السوري« والهيئة العليا للتفاوض«‪ ،‬وكذلك ال‬
‫نقصد جميع العلويني في حديثنا عنهم‪ ،‬بل نقصد العلويني السلطويني‪ ،‬أي املدافعني عن السلطة وامللتفّني‬
‫حولها‪ ،‬سنجد أنهما يتصارعان رافِعَني رايات ال تشير إليهما كطوائف‪ ،‬مع أنهما خارج الخطاب الرسمي‬
‫يعتبران نفسيهما يتصارعان نيابة عن طائفتيهما‪ .‬فالعلوي السلطوي يقول من على املنبر الرسمي إنه‬
‫يدافع عن الدولة في مواجهة »اإلرهاب«‪ ،‬لكنه يدّعي بني أبناء »مِّلته« إنه يدافع عنهم من خالل دفاعه‬
‫عن بشار األسد‪ .‬وكذلك املعارض السّني يدّعي بشكل رسمي إنه يدافع عن »الشعب« في حقه‬
‫بالديمقراطية‪ ،‬التي يقصد بها حصراً االنتخابات »النزيهة«‪ ،‬رافضاً ربطها بالعلمانية وبالعقالنية‬
‫والحداثة‪ .‬لكنه يصرّح ألبناء »األّمة« إن االنتخابات كفيلة باإلطاحة بحكم العلويني بسبب أصوات‬
‫األكثرية السنية‪.‬‬
‫معارضو السنة ال يرفعون راية طائفية‪ ،‬بل يرفعون راية »االنتخابات الديمقراطية النزيهة«‪ ،‬لتقديرهم‬
‫أن الدول الغربية تقبل بها‪ ،‬وأن املجتمع الدولي ال يمكن أن يرفض االعتراف بنتائج انتخابات نزيهة‪.‬‬
‫وفي الطرف اآلخر‪ ،‬ال يرفع العلويون راية طائفية‪ ،‬بل يرفعون راية »الدولة« و»الشرعية«‪ ،‬لكي ال‬
‫يحرجوا الدول واألطراف الخارجية التي تريد تقديم العون لهم‪ .‬فروسيا‪ ،‬مثالً‪ ،‬سيكون من السهل عليها‬
‫تقديم العون العسكري لدولة شرعية أكثر من دعمها لفريق طائفي‪ .‬وكذلك إيران أيضاً‪.‬‬
‫***‬
‫السنة بأغلبهم يعتبرون أن الطائفة السّنية مغبونة في حصّتها ضمن السلطة السورية‪ .‬ويعتبرون أن‬
‫العلويني استأثروا بمواقع صنع القرار من خالل إمساكهم بالجيش واملخابرات‪ .‬لهذا يريد الكثيرون‬
‫منهم‪ ،‬من بني ما يريدونه‪ ،‬إعادة هيكلة الجيش وإعادة هيكلة أجهزة املخابرات إلى حالة يتحقق فيها‬
‫تكافؤ مقبول في املواقع القيادية بني السّنة والعلويني‪ ،‬بل وتكافؤ بعدد الضباط والعناصر من خالل‬
‫تسريح عدد العلويني في هذه املؤسسات إلى أن يصبح عددهم يكافئ نسبتهم السكانية‪ .‬أي يريدون‬
‫تقاسماً طائفياً »عادالً« للسلطة‪ .‬ومعارضوهم يريدون مساحة من السلطة الفعلية يتناسب مع كثرتهم‪.‬‬
‫وهذا حقهم طاملا أنهم يفكرون كسّنة‪.‬‬
‫ي طرحٍ خاصّ بهم بهذا الخصوص يمكن التفاوض عليه‪ .‬فهم ال يعتبرون أنه‬ ‫أما العلويني فلم ُيظهروا أ ّ‬
‫يوجد أي غنب طائفي في السلطة‪ ،‬بل في الغالب يرفضون الحديث بموضوع الطوائف أساساً‪ ،‬ويتحدثون‬
‫بعبارات مثل »الوطن«‪» ،‬الدولة«‪» ،‬القومية«‪» ،‬العروبة«‪ ،‬وغير ذلك من مصطلحات ال تفيد في تبديد‬
‫إحساس السّنة بالغنب في التمثيل السياسي‪ ،‬بل تشّكل ازدراء فجّاً للحديث عن اإلحساس بالتمثيل‬
‫املتنوع طائفياً في مواقع صنع القرار السلطوي‪ .‬وعلويو النظام يريدون البقاء مسيطرين على السلطة‬
‫ألنهم قلّة يخافون التعرض لالضطهاد إذا خسروا السلطة أو قسماً فاعالً فيها‪ .‬وهذا حقهم أيضاً طاملا‬
‫يفكرون كعلويني‪.‬‬
‫***‬
‫فال شك أن العلويني كجماعة بشرية أو كـ»طائفة« ال يحظون بأي امتياز عن أي جماعة أخرى‪ .‬فال تتمتع‬
‫قراهم بأي خدمة أكثر من قرى السّنة‪ ،‬بل ربما العكس‪ ،‬وال يتمتعوا بحرية إقامة العبادات أكثر من‬
‫غيرهم‪ ،‬بل ربما العكس‪ ،‬وال يشاركوا في الحروب واملواجهات مع إسرائيل أقلّ من غيرهم‪ ،‬بل ربما‬
‫أكثر‪ ،‬وال يتمتعوا بحرية العمل السياسي أكثر من غيرهم‪ ،‬بل العكس‪ ،‬وال ُيسجَنوا وُيعاقَبوا أقلّ من‬

‫‪38‬‬
‫غيرهم إن عارضوا النظام‪ ،‬بل أكثر من غيرهم بالتأكيد‪ .‬وسيطرة أشخاص علويون على مواقع القرار‬
‫السلطوي ليس خدمة للطائفة العلوية‪ ،‬وال خدمة للعلويني‪ ،‬بل هو آلية من آليات االستبداد ال أكثر‪ .‬ومعيار‬
‫التمييز في بنيان السلطة هو الوالء للرئيس حصراً‪ .‬كما أن »العامل الرئيسي الذي يربط املجتمع العلوي‬
‫بالنظام السوري‪ ،‬هو ما يستشعر به هذا املجتمع من عدم األمان الطائفي‪ .‬إن نظام األسد يعمل في‬
‫سبيل حماية قوته الشخصية على ترسيخ وتشجيع فكرة عدم الثقة هذه لدى العلويني« ‪ .‬بل إن‬
‫املعارضني السّنة الذين »انشقوا« عن »النظام«‪ ،‬وتحديداً الذين كانوا في مواقع املسؤولية‪ ،‬بما فيها‬
‫املسؤوليات الصغرى‪ ،‬فإنهم كانوا واعون على أنهم يعملون في خدمة الصيغة »العلوية« للنظام‪ ،‬ألن‬
‫هذا الصيغة هي وحدها وليس كفاءتهم التي مكّنتهم من االرتقاء في السّلم الوظيفي‪ ،‬ولم يكن والءهم‬
‫للرئيس األسد‪ ،‬األب أو االبن‪ ،‬يختلف عن والء العلويني أو أنه أقل من والء العلويني‪ ،‬بل قد يبدو واضحاً‬
‫للكثير من السوريني أن والء املسؤولني السّنة أكبر من والء املسؤولني العلويني‪ .‬وهذا ال ينفي أو يقلل من‬
‫حقيقة ثابتة أن الصالحيات السلطوية املوضوعة بني أيدي املسؤولني العلويني هي أكبر وأمضى من‬
‫املسؤوليات املوكلة للمسؤولني السّنة‪.‬‬
‫ي يمكننا القول بثقة تامة إن السلطة السورية بقيادة حافظ األسد وابنه الذي ورثه لم تكن لحظة واحدة‬ ‫أ ْ‬
‫موجودة من أجل خدمة العلويني على اإلطالق‪ ،‬بل اسَتخْدَمت العلويني كعناصر ثقة بعد أن تمكّنت من‬
‫أن تزرع في نفوسهم املقولة الصعبة »لو حصل مكروه لألسد فسيهلك العلويون«‪ .‬هذه املقولة التي‬
‫َتمكَّن األسد من زرعها في أذهان العلويني منذ بدأ متشدّدو السّنة يعترضون على قيادته كعلوي للسلطة‪.‬‬
‫وَتمكَّن الحقاً من ترسيخها في رؤوسهم خالل صراعه مع األخوان املسلمني‪ .‬هذا إضافة إلى أنه سلّط‬
‫عليهم‪ ،‬أي العلويني‪ ،‬أخوته وأبنائهم وأبناء أسرته املقرّبني‪ ،‬كما أسلفنا‪ .‬وهذا يعني أن النظام ليس علوياً‬
‫بقدر ما هو أسدي‪ ،‬بل للدقة هو حكم عائلة حافظ األسد وورثته‪ .‬وكما هو معروف فإن األسدين األب‬
‫واالبن لم يترددا بالتشدد مع أي علوي عارضهما‪ ،‬أو اعتبراه يتطاول عليهما‪ .‬فحافظ األسد سَجن ملُدد‬
‫طويلة تجاوزت حد ‪ ٢٣‬سنة أشخاصاً علويني‪ ،‬مثل صالح جديد‪ ،‬وكامل حسني‪ ،‬وعادل نعيسة‪ ،‬وعشرات‬
‫اآلخرين بمن فيهم ضباط ومدنيني من أقربائه وأقرباء زوجته‪ .‬بل إنه سجن اللواء علي حيدر الذي كان‬
‫شريكه في انقالب ‪ ١٩٧٠‬الذي أوصله إلى رئاسة الجمهورية‪ ،‬وبقي رفيق دربه لسنوات طويلة يرأس‬
‫»القوات الخاصة«‪ ،‬التي كانت هي قوات النخبة‪ ،‬وكانت من بني أهم القوات الضاربة القريبة جداً من‬
‫قلب العاصمة دمشق‪ .‬لكن األسد انقلب على حيدر في لحظة ووضعه في السجن أربعني يوماً بمثابة‬
‫عقوبة عسكرية‪ ،‬وكأنه يقول له أنت لست أكثر من جندي عندي‪ .‬وبعدها قام بتسريحه‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬حتى لو قلنا كلّ هذا فإن جميع هذه الحقائق ال ُتخفي أن السلطة السورية تحت سيطرة العلويني‬
‫الذين يسيطرون على السلطة من خالل سيطرتهم على مؤسسة الجيش ومؤسسة املخابرات‪ .‬وهاتان‬
‫املؤسستان تحكمان الدولة والسلطة منذ أول انقالب عسكري سنة ‪ .١٩٤٩‬فقد مّر معنا أعاله أنه منذ‬
‫سنوات طويلة أصبح للعلويني النسبة األكبر بني عناصر وضباط هاتني املؤسستني‪ .‬بل إن قوات النخبة‪،‬‬
‫مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وعدد من قطعات املخابرات ما لم تكن جميعها‪ ،‬تتميز بغلبة‬
‫العلويني فيها بشكل يتعذّر مالحظة وجود عناصر أو ضباط فيها من غير طائفة‪.‬‬

‫العلويون ومستقبل سوريا‬

‫‪112‬‬
‫‪Ortadoğu Etütleri, July 2011, Volume 3, No 1, Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian‬‬
‫‪Insecurity, Leon Goldsmith. Ankara, Turkey.‬‬
‫‪39‬‬
‫اآلن انتهت الحرب باملعنى السياسي‪ ،‬وما بقي منها في منطقة إدلب‪ ،‬غرب سوريا‪ ،‬ليس له أي معنى‬
‫سياسي فهو ساقط عسكرياً‪ ،‬وبقاؤه لحد اآلن مرهون بتسوية بني روسيا والواليات املتحدة‪ ،‬لكنه لم‬
‫يشّكل لحد اآلن أهمية يمكنها أن تدفع واشنطن لبدء مفاوضات مع روسيا‪.‬‬
‫انتهت الحرب سياسياً بانتصار روسيا في معركة حلب أواخر ‪ .٢٠١٦‬ومن الطبيعي بعد حرب مدمرة‬
‫كالتي مّرت بها سوريا أن يتم عقد تسوية لتطبيع العيش بني السوريني من جديد‪ .‬وقد سبق معركة حلب‬
‫بما يقارب السنة قرار من مجلس األمن الدولي حمل الرقم ‪ ،٢٢٥٤‬كان من أهم بنوده إجراء تسوية‬
‫سياسية بني األطراف املتصارعة بإشراف األمم املتحدة‪ ،‬وتحديد مرحلة انتقالية يتشارك فيها جميع‬
‫األطراف إلى حني إقامة انتخابات حرة ونزيهة وفق دستور جديد‪ .‬لكن مع أن هذا القرار لم يتحقق منه‬
‫شيئاً‪ ،‬بل األصح تجاوزته املتغيرات امليدانية والسياسية وما عاد ذي نفع‪ ،‬إال أن الدول ما زلت تعتبره‬
‫هو املظلة التي يجب أن تنحصر تحتها أي نشاط يهدف إلى تطبيع الحياة السورية‪ .‬ومع ذلك فإن أي‬
‫إجراء يمكن اعتباره تسوية أو إعادة األوضاع السورية إلى طبيعتها ال بد أن يقوم على تغيير في بنية‬
‫السلطة بهدف تغيير أدائها‪ ،‬أو تحقيق رضا جميع السوريني عنها‪ .‬وهذا يعني تغيير حالة االستئثار‬
‫بالسلطة من قبل طرف سياسي أو طائفي واحد‪.‬‬
‫لكن بالنظر إلى عمق الواقع الحالي فسنجد أن النظام وخلفه العلويون‪ ،‬وبعد أن ارتضوا االحتكام إلى‬
‫القتال لحسم صراعهم مع املعارضة املسلحة والجماعات الجهادية‪ ،‬وبعد أن تحقق االنتصار العسكري‬
‫لصالح النظام‪ ،‬نجده يرى نفسه »الغالب«‪ ،‬ويرى خصومه »املغلوبون«‪ .‬وطاملا أن النظام وعلوييه‬
‫ينظرون إلى نتيجة املعادلة على أنها »غالب ومغلوب«‪ ،‬فمن املستبعد أن يكونوا متحمسني لعقد تسوية‬
‫مع املغلوب‪ ،‬خاصة إن كانوا سيجدون أنفسهم يقدّمون فيها تنازالً عن بعض سيطرتهم على السلطة‪،‬‬
‫وسيعتبرون أنه ليس عليهم التنازل عن شيء بالتسوية كانوا قد تمكّنوا من عدم خسارته في الحرب ‪ .‬وال‬
‫يوجد أي تعارض بني ما نقوله وبني مشاركات النظام في جلسات أستانة أو في جلسات جنيف‪،‬‬
‫فمشاركته هذه هي مجرد مشاركة سلبية تعطيلية‪ ،‬تجبره عليها روسيا لترتيبات دولية خاصة بها‪ .‬إذ‬
‫أصبحت روسيا تقوم بدور الوصاية على الدولة السورية في الشؤون العسكرية‪ ،‬وكذلك في الشؤون‬
‫الخارجية‪.‬‬
‫املغلوب عادة يستسلم للغالب‪ ،‬لكن ليس في بناء األوطان‪ .‬فالوطن أو مستقبل الوطن ال يقوم بني غالب‬
‫ومغلوب‪ ،‬بل يتطّلب تكافؤاً تاماً بني جميع األطراف التي ترتضي العيش املشترك مع بعضها‪ ،‬فاملساواة‬
‫املطلقة هي أساس التعاقد‪ .‬ولكن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬يبقى بمقدور الغالب تعطيل أي تسوية‪ .‬وبمقدوره رفض‬
‫املشاركة بأي عملية سياسية‪ ،‬ولن يكون بمقدور املغلوب ارغامه على أي عملية سياسية إلحالل السالم‬
‫الدائم في البالد‪.‬‬
‫إذا أردنا أن نترجم هذا الكالم واقعياً فليس في مقدور املعارضة السّنية إرغام النظام وعلوييه على‬
‫املشاركة في أي عملية سياسية‪ .‬بل لن يستطيع أي طرف خارجي فرض أي تسوية على العلويني‪ ،‬ال‬
‫األمم املتحدة‪ ،‬وال حتى روسيا‪ .‬بل إن اضطر الرئيس األسد القبول بتسوية تريدها روسيا‪ ،‬من أجل‬
‫إبقائه رئيساً‪ ،‬فستشهد البالد‪ ،‬على األغلب‪ ،‬تمرداً علوياً عليه‪ .‬وليس في هذا ما يعيب على العلويني‬
‫موقفهم‪ ،‬فهم لن يقبلوا بأي تسوية يشعرون تجاهها بأن أمنهم وسلمهم االجتماعي مهدد‪ .‬وهنا من‬
‫الضروري أن ننتبه إلى أن الجانب الوحيد الذي يكسبه العلويون من النظام الحالي بقيادة األسد‪ ،‬أو‬
‫الذي يتوهمون أنه مكسباً‪ ،‬هو أن النظام يحول دون عودتهم إلى حالة النبذ واالضطهاد املسيطرة على‬

‫‪40‬‬
‫ذاكرتهم‪ .‬ولهذا حني يشعرون أن الرئيس األسد لم يعد يحقق لهم املكسب‪ ،‬بل إنه يعرّضهم للمخاطر‪،‬‬
‫فلن يشعروا تجاهه بأي والء‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬إن كان للعلويني هذا املوقع الرئيسي في أي تسوية مستقبلية فال بد من التفاهم معهم بشكل‬
‫مباشر على صيغة تبّدد مخاوفهم وتحقق طموحاتهم‪ .‬لكن الصيغة العامة للتسوية املطروحة حالياً في‬
‫القرار ‪ ٢٢٥٤‬يتضمن نقطة رئيسية من املستبعد أن يقبل بها العلويون‪ .‬فاالنتخابات »النزيهة« الواردة‬
‫في القرار األممي تتيح إمكانية كبيرة جداً النتصار شخص سّني من الذين يعتمدون »السّنية‬
‫السياسية« التي تقوم على تحفيز السّنة على أنهم أكثرية‪ ،‬وخسارة بشار األسد غير القادر على إعالن‬
‫تبني »العلوية السياسية« ألنه سيخسر حينها أي صوت سني‪ ،‬ولن تكفيه أصوات العلويني‪ ،‬كما لن‬
‫يكون مضموناً موقف جميع أبناء األقليات األخرى‪ .‬وبالتالي سيعني هذا بالنسبة للعلويني سيطرة‬
‫أشخاص من السّنة من أصحاب »السّنية السياسية« الذين من املمكن جداً أن يقوموا بممارسات‬
‫اضطهادية تجاه العلويني باعتماد حجج قانونية كتقديم الذين ارتكبوا عمليات القتل من الجيش‬
‫واملخابرات إلى العدالة‪ .‬وهذا من املمكن أن يجعل كل علوي مّتهم بذلك حتى تثبت براءته‪ .‬ولهذا سيكون‬
‫من الصعب على العلويني القبول باالحتكام إلى صناديق االقتراع‪.‬‬
‫لكن هذا مجرد دور معطِّل يقتصر على تعطيل أو عدم تعطيل تسوية مطروحة من خارج العلويني‪ .‬حتى‬
‫أن هذا الدور شبه مصادر ما لم يكن مصادراً من خالل استحواذ روسيا على القرار الرئاسي السوري‪،‬‬
‫وممارسة دور الوصاية عليه‪.‬‬
‫يقع على العلويني‪ ،‬أو بالتحديد على عاتق نخبته املدنية‪ ،‬القيام بدورهم التاريخي من خالل خلق األحوال‬
‫التي من شأنها تبديد املخاوف التي تدفع بالعلويني للتضحية بأبنائهم في صراع طائفي لن يكون في‬
‫مصلحتهم طالم بقي محصوراً ضمن الحقل الطائفي‪ .‬ونكران الخوض في املسألة الطائفية ال يلغيها‬
‫إطالقاً بل يبقي على السياسة الخاطئة التي وضعها الرئيس السابق حافظ األسد من خالل إخفاء‬
‫املسألة الطائفية في جيبٍ مثقوب‪ .‬كما ال يجوز إطالقاً التنكّر لقلق السّنة من الغنب السياسي‪ ،‬فطاملا هم‬
‫يرون الصورة على هذا الشكل‪ ،‬وهي كذلك‪ ،‬فعلى النخبة العلوية أن تطرح املسألة الطائفية بتموضعها‬
‫السياسي على طاولة النقاش والحوار‪ .‬وربما عليه أن يتأكدوا أن هذا املأزق القائم على رفض شرائح‬
‫من املتشددين السنة أن يكون رئيس البالد علوياً لن يزول إطالقاً باملعارك امليدانية‪ .‬إذ سيجد العنف‬
‫والتشدد دوماً فرصة ليعصف في البالد دماراً وخراباً‪ .‬فال بد من اقتالع هذا اإلشكال من جذوره‬
‫واقتالعه ال يكون البتة عن طريق رجال دين‪ ،‬بل عبر اشتغال محفوف باملتاعب يقوم به مثقفو البالد وقادة‬
‫املجتمع‪.‬‬
‫غالبية النخبة العلوية لم يغادروا البالد‪ ،‬ولهذا فإنه بإمكانهم قيادة عملية رسم مستقبل سوريا كوطن‬
‫لجميع السوريني عبر بناء دولة حديثة تقوم على املساواة والعلمانية والديمقراطية‪ .‬وعليهم أن يضعوا‬
‫تصوراً مفصالً للبالد يوضح كيف ومتى يمكن للسوريني االحتكام إلى انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة‬
‫من دون أن يتخوف أي طرف من نتائجها‪ .‬فاألوطان ال يمكن لها أن تقوم طاملا أن الخوف موجود ينخرُ‬
‫بنيانها‪» .‬نادراً ما ركّز األكاديميون ووسائل اإلعالم الدولية نظرهم بشكل محدَّد إلى الدور السياسي‬

‫‪41‬‬
‫للعلويني« ‪ ،‬و»أحد الجوانب التي تم التغاضي عنها‪ ،‬أو أُسيئت قراءتها على نطاق واسع‪ ،‬هو الدور‬
‫الحاسم ]التشديد مني[ للمجتمع العلوي السوري في تحديد مستقبل سوريا« ‪.‬‬
‫كان وما زال في مقدور النخب العلوية أن تشق دروب التفاهم املجتمعي مع بقية املكونات املجتمعية‪،‬‬
‫وخاصة السّنة‪ ،‬ال أن تسير خلف سياسات النظام الذي يحّيد املوضوع الطائفي بالتنكر لذكر العلويني‪.‬‬
‫وال شك أنهم قادرون على إنجاز صيغ عيش أفضل بكثير من الصيغة التي يدفع جرّاءها السوريون‬
‫تكاليف باهظة في األرواح واملمتلكات‪ ،‬وتتراجع أحوال البالد واقتصادها سنوات إلى الوراء‪ .‬لذا سيكون‬
‫من الضروري أن تخرج هذه النخب عن السياق الذي وضع فيه الرئيس بشار السد املوضوع الطائفي‪،‬‬
‫حني أحال الهوية الوطنية إلى الهوية اإلسالمية‪ .‬وسيترتب عليهم أن يدفعوا ببناء دولة تنأى بنفسها عن‬
‫أي عقيدة دينية‪ ،‬أي دولة علمانية بصيغة أكثر رقياً مما كان موجود بأذهان الناس‪ .‬أي أن يتوصلوا إلى‬
‫تسوية ثقافية ومجتمعية »خالقة«‪ ،‬تبدد الشعور بالغنب عند السّنة‪ ،‬وتزيح الشعور بالخوف عند العلويني‪.‬‬
‫ال من النخبة العلوية النأي بنفسها عن الخوض بهذا املوضوع والتعامل معه على أنه عقدة‬ ‫لم يعد مقبو ً‬
‫سياسية ال يمكن للسوريني تحقيق عيش رغيد قبل إنهائها‪ .‬ومن غير املقبول االستمرار بالترفّع عن‬
‫اإلقرار بوجود ما يولّد الشعور بالغنب السياسي عند السنة‪ ،‬كما لن يكون مقبوال منهم اعتبار أن املشكلة‬
‫عن متشددي السنة‪ ،‬وأن الكرة اآلن‪ ،‬وسابقاً‪ ،‬هي في ملعبهم‪ .‬فإن كان هؤالء املتشددون هم الذين‬
‫يقومون بإيقاد النار الطائفية‪ ،‬فإن موقف االكتفاء بتحميلهم املسؤولية ال يقل طائفية عن طائفيتهم‪،‬‬
‫فمواجهة الطائفية هي مسؤولية النخبة الثقافية‪ ،‬وإنهاء الصراعات القديمة املشينة كالصراع الطائفي‬
‫هو مسؤولية النخبة التنويرية‪ ،‬وإيجاد الحلول املجتمعية هي مسؤولية النخبة القيادية‪.‬‬
‫ال شك أنه من حق العلويني التمسك بالسلطة في مواجهة جهاديني رافعني السيف عليهم‪ ،‬لكن من حقهم‬
‫وحق بقية السوريني االنتهاء من حالة النظام االستبدادي واالنتقال إلى نظام علماني ديمقراطي‪ .‬وربما‬
‫سيبقى من الضروري تأكيدنا على أن هذه الحالة من التركيبة السياسية للسلطة السورية ال يمكنها‬
‫االستمرار إلى ما ال نهاية‪ ،‬بل من الضروري التذكير دوماً بأن الجهاديني كادوا هذه املرة أن ُيسقطوا‬
‫النظام ويحطموا الدولة لوال التدخل العسكري الروسي في الوقت املناسب‪ .‬فلوال هذا التدخل لكان مسار‬
‫الصراع مختلفاً كلياً عمّا آل إليه اآلن‪ .‬ومن غير املؤكد أنّ الجولة القادمة‪ ،‬وهي قادمة ال محالة بغض‬
‫النظر عن زمنها‪ ،‬أن يكون لروسيا أو لغيرها مصلحة كافية في التدخل العسكري لحماية النظام‪ ،‬أو أن‬
‫تكون الظروف الدولية حينها تسمح بمثل هذا التدخل‪.‬‬
‫»ومع ذلك‪ ،‬ال يزال يوجد لدى العلويني فرصة‪ ،‬يمكنها أن تكون سابقة‪ ،‬للخروج من هذا املأزق السياسي‪،‬‬
‫ليكونوا شركاء بقدر اآلخرين في سوريا »الجديدة«« ‪ .‬فعلى نخبتهم املدنية أن ال تتردد خوفاً من‬
‫أنها ال تمثل العلويني‪ ،‬فليس املطلوب منها أن تكون كذلك‪ ،‬فضالً عن أنه ال يوجد من يمّثل العلويني‪ ،‬وال‬
‫أن تتعامل مع أي جهة تدّعي أنها تمثل طائفة‪ ،‬فال يوجد من يمّثل الطوائف في سوريا‪ ،‬إذ ال يوجد في‬
‫سوريا ُبنى طائفية لها قيادات قادرة على توجيه أفراد الطائفة‪ ،‬بل املوجود هم جماعات طائفية‪ ،‬أي‬

‫‪113‬‬
‫‪Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon‬‬
‫‪Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p35.‬‬
‫‪114‬‬
‫‪Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon‬‬
‫‪Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p33.‬‬
‫‪115‬‬
‫‪Syria’s Alawites and the Politics of Sectarian Insecurity: A Khaldunian Perspective. Leon‬‬
‫‪Goldsmith. Ortadoğu Etütleri, Volume 3, No 1, July 2011, p33.‬‬
‫‪42‬‬
‫أشخاص ومجموعات تنتمي إلى مذهب ما أو أمة ما‪ .‬بل ال يجوز أن تتم أي اتفاقات ذات طابع سياسي‬
‫أو دوالتي على أساس الطوائف‪.‬‬

‫‪43‬‬

You might also like