Professional Documents
Culture Documents
كتاب خلف الأبواب منظمة غيم الإبداع
كتاب خلف الأبواب منظمة غيم الإبداع
تدقيق:
هدى مسعود الضب
2
المقدمة
يـرنو بـنا الفضوُل إلى المجـهوِل عنا كـبشٍر غلـب على أمـره التطبُع ،يـتطلُع
إلى ذلك المٌجـهول المغلِق خلف أسواٍر وباٍب مـوصٍد ،ما خلف
األبواِب المغلقة ليست بقصٍص أو رويـاٍت ُتحكـى تناقلها البعُض!
ما خلف هذِه األسواِر لم يكن سوى مقياٍس لفلفسٍة واقعيٍة عـن البشـِر.
يقاُل ما لم تـرى الغـب فال شي ُيحزُم أو يشـهد!
فهل هذا ما يقاُل عن من تـوارت عنـا حياتهم خـلف هذِه السواتِر؟
فقد استمتعوا بالغيـِب وستـر باٍب ال ُيظـهر عـمًلا أو قوًلا لهم لغيرهم،
مما جعل األمر أهم كغياباٍت من اإلثم تتوالى انتشرت في غيماء الغيِب،
كما سترت األبدان قلوبهم فـال ُتـرى نواياها وشعورها وبمثلها سترت
أعمالهم خلف هذه األبواب المغلقة.
فمـا بهم ؟
أينسون من هو خالقهم؟ بل يتمددون في طغيانهم ،فهل ُينـسى كل ما ذكر
لنا من وعيد؟
إنها فلفسة واقٍع حًّقـا!
الّنظِر والسمع مباًحا ،تلك الظلمات التي راج أصبح بها كل ما هو مغلٌق وبعيٌد عن
خلف أبوابهم. ِبـها الفسق
وهل اليزال يرنو بنا الُفـضول إلى ما خلف األبواِب بـعد هذا التخيل؟
_ شهد العارف
3
من أجل ماذا؟
فاطمة الفيتوري
من أجل ماذا؟
بين واقٍع مرير وأحالم اليقظة تعيُش طفلٌة حزينُة القلب وذات
كدماٍت جسديٍة كثيرة ،منبوذٌة ممن هم حولها ألنها يتيمُة األب!
عقلياٌت جاهلة لم تتطور إال في قّلة الحياء والتحرر الديني؛ بل زادت
...انحطاطا على ما كانت عليه وتوارثوها جيٌل وراء جيل
لُنكمل قصة تلك الفتاة التي عاشت من الدهر اثنا عشر خريًفا وفقدت
والدها في سّن التاسعة ،بعد عّدة أشهٍر من وفاة الوالد وبعد ِانقضاء عّدة
األم أقبلت على الزواج برجٍل أخر ،في بداية زواجهما كان ُيعامُل ربيبته
بطريقٍة لطيفٍة وكأنُه والدها الحقيقي( ،ال تغركم البدايات الجميلة
فليست ُكل النهايات مثلها) ،أما بعد مرور سنة من هذا الزواج تغيرت
ُمعاملتُه لها ،أصبح ينظُر لها نظراٍت ال ُتريح اإلنس وال الحيوان ،كأنُه
ُمفترٌس يريُد نهش جسدها ،واألم ال تتحرك ساكنة ألنُه خليل الفؤاد
ورفيق الدرب برأيها ،كان عند نهاية اليوم يذهُب إلى ُغرفتها وال ُيكلف
نفسُه حتى ألن يطرق الباب ،يدخُل كأنه ُمداهمُة ُمخدرات ويبدأ في
رسم لوحٍة فنّية على جسدها الناعم ،يتنوُع في ُطرق تعذيِبها؛ تارًة
،يحرق جسدها وتارًة يجلدها بحزامه
5
وترك المياه الباردة تتساقط على جسدها المزرق من الُعنف ،ارتاح ذلك
الُمجرم بعد رؤيتها تعود إلى وعيها ،ولم يتركها يوٌم بدون تعذيبها هذا
المريض النفسي ،حًقا إنُه ُمختّل عقلي ،ال تستطيُع تلك الفتاُة الصراخ ،فهي
تعلُم بأنها لن تستطيع الفرار منه ومن قسوة قلب تلك
المرأة الُمدعاُة بأنها أمها ،حرموها من أبسط حقوقها ،كالتعليم مثًلا
واالرتجال من هذا البيت اللعين ،أعانك الله يا صغيرتي فما باليد حيلة
إال الُدعاء لِك والُدعاء عليهما.
أردفُت المسكينة قائلة :من أجِل ماذا يا أماه؟ من أجل من ولماذا؟
ألسُت ابنتِك؟ ألسُت جزٌء منِك؟ أما أنت يا ظالم فحسيُبك الله ،أنت
خصمي يوم يجتمُع الخصوم عند الله ،لم أفعل الُمشينة لك ولم أكن من
ذواِت األصوات العالية ،لن أغفر لك حتى وإن رأيُتك على فراش
الموت راجًيا مّني العفو حتى يعفو الله لك.
فاطمة الفيتوري
6
الفتاة المعجزة
شهد موسى الدرسي
الفتاة المعجزة
منذ األسبوع الرابع و الثالثين من كوني مجرد-علقة -جاء أمر الله
بإطالق أول شقهة نفس ،أول صرخٍة مدوية لي ،ألول مرة و أنا في رحم
شيء غريب يسمى بالدنيا.
الساعة الواحدة ظهًرا ،من أحد أيام شهر رمضان المبارك ،وسط غرفة
عمليات مكتظة باالطباء و الممرضين ،و خارًجا يوجد كم هائل من
طلبة الطب ،واقفين في تّرقب شديد ،إلى أن جاءت اللحظة ،التي
جعلت جّل من هناك يقف في صدمة و دهشة ،وكأنهم شهدوا لتوهم،
والدة معجزة!!
لم أعش طفولة وال ِصًبا عادي ،مميزة وسط أقراني ،حيث أن كّل شي
ُمقسم على ثالثة ،و لثالثة ...
لعلك ُدهشت أيًضا و أنت تقرأ اآلن ،حسًنا لن أطولها عليك ،فنحن كما
توقعت -توأم ثالثي -و لسنا كأي توأم بل توأم مكتظ بالتناقض
ال بد أنك الزلت مندهًشا أيها القارئ ،ال تقلق ....اعتدت على هذه
النظرات ممن حولنا ،أنا نفسي كنت أحس بالغرابة و االنزعاج-أمقن
بشدٍة هذا الشعور -لكني اآلن على عكس ذلك تماًما ،فقد بّت أشعر
بالتميز أكثر من أي وقت سبق ،كوني من بين %1.8في العالم من هذا
النوع ....لم يتوقع أحد أننا سنصل لهذا العمر (و العمر بيد الله) علمًيا
كان ذلك مستحيًلا ،حيث راهن عدة علماء و أطباء على ذلك ،خصيصي
أنه كما ذكرت سابًقا فنحن بنات الثامن ،و نسبة النمو لدينا لم تكتمل
بعد ،مما يجعل فرص الحياة في وهن شديد و يحتاج لشيء يشابه
-المعجزة-
مّرت األعوام...و كّل منا تملك صفاتها التي تمّكنها من التميز على
األخرى ،شكًلا و طبًعا ،و رغم االختالف الجلي شكًلا ،أال أن الدم
يفصح بأخوتنا كالبرق ،برزت كّل في هواياتها ،وال زلنا نطّور من أنفسنا؛
ألجل طموحاتنا
و ألن نجعل الحياة التي ُكتبت لنا رغم اعتراض العلم و البشر ذات قيمة،
ونثبت للجميع أن المعجزات ال تولد عبًثا.
أغني بمرح ال يشبه شخصي التي كنتها باألمس ،تلك الممدة في السرير
كالجثة ،سلمت على الجميع بلهفة؛ ثم جلست أتناول الفطور يغمرني
حماٌس شديد للذهاب الى المدرسة التي حينما دخلتها قابلني جميع
صديقاتي بفتور شديدُ ،كل واحدٍة تعطيني ظهرها داللًة على رفض التحدث
معي ،مدرسٌة جديدة بدأُت الدراسة فيها منذ شهر فحسب ،أتيتها
متأملة الخروج من أبوابها برفقة صديقات ال يمكنني إحصاء اعدادهَّن،
مدرسة دخلتها بشخصيتي المرحة ،ثم غبت أسابيع قليلة رافضًة
التحدث مع أي من زميالتي ،مدرسٌة ال يعلم ُطالبها(أصدقائي)شيًئا
عن حالتي النفسية أو عن (ثنائي القطب) الذي يزاِمُنني منذ سنوات
ِعدة ،عدُت أدراجي إلى المنزل بقلب محطم ،مالجديد؟الجميع يفعل
المثل ،منذ متى رافقُت إحداهَّن و بقيت على تواصل معها؟ ومنذ متى
صاَدقُت أنا (ُدّرة) ثنائية القطب فتاًة صداقة دائمة؟ جميعهَّن عابرات،
أو ربما أنا العابرة ،إلى قلب المنزل ِسرُت حاملة فؤادي المتناثرة
أجزائُه ،جاَّرًة ورائي
8
حقيبتي المدرسية ،بخفٍة رميت نفسي على األريكة بألٍم يراودني وليس
بجديد ،أغمضت عيناي في تعب ،ملل شديد من حياتي ،المرض ،كل
االشياء الثنائية ،حتى الرقم إثنان بل جميُع الرقام الزوجية ،كبرُت أنا على
حضِن أمي الذي لطالما ارتميت فيه باكيًة شاكيًة متألمة جراء ردود فعل
الجميع تجاهي ،نَضَجت (ُدَّرة)فأصبحت تبكي وحدها في غرفتها ثم تمسح
دموعها بكف يدها و تخرج للعالم متظاهرًة السعادة أمام الجميع ،أي سعادة
هذه؟ قناٌع أرتديه فُأزيُف به و من خالله حقيقة الحزن الذي يعتريني على
الدوام ،ال ألوُمُهم على ردود أفعالهم ،من يريد صديقًة مريضة مختلٌة نفسية
يتقلب مزاجها في السنة مئة مرة ،صديقة تغيب ألسابيع ترفض الرد على
رسائل أو حتى مكالمات صديقاتها القلقات ،و حينما ترفع السماعة مجيبة
ترد بجفاٍء وبلهجة ال يمكن للمرِء قبولها أو تجاهلها ،حتى أنا ال أريد صديقًة
مثلي.
9
سمج األوهام
إبتسام سلامة
سمج
األوهام
مع إنتهاء أخر ساعات المساء حيث يركن كل شيٍء للهدوء ،لم يتبقى على
منتصف الليل الكثير؛ انهيُت ُجل واجباِت الدراسية وحان وقت أن اخرج
من هذه الحياة إلى عالم األحالم والعزلة حيث أحب أن أُكن بعيًدا عن
َّندوب األيام وتلك المشاعر المتضادة في جوفي.
سحبُت اِلحاف بخفٍة ونكمشُت مثل الجنين في رحم أمه ،وأنا أفكر في
أين وضعت مرطب اليدين!
إذا بشيٍء يدفُع الباب بهدوء ويزحف دون أن ينبس بصوت!
وكأنه طيف شفاف يعبر في لمح البصر خالل الجدران واألبواب بكل
خفة وتوقر.
شعرت بإحساس غريب فرمقُة من أسفل اِلحاف لعلي أقطع الشك باليقين
ولكن ظهَر العكس تماًما!..
إنها تقف هناك عند زاوية الباب نعم نعم أنا متاكدة من ذلك!(قلتها
بتنهيدة)
تسارعت نبضات قلبي بشدة ،وقلت في نفسي ِبكل تأكيد بأني ال اتوهم
ذلك! ،تبدو بال مالمح يا إلهي ما يكون هذا! ،هل هي العجوز السيئة
مجدًدا.
كانت الغرفة مغلفة بظالم الدامس ليس هناك ضواء سواء إنعكاس ِلضواء
المطبخ على جدران غرفتي .بين فينة واألخرى أنظر من أسفل الغطاء أترقب
شيء يلغي جّل هذه المخاوف التي تسري في عروقي بشدة ،بدأت تلك
اإلمراة تمشي بخطواٍت مثقلة نحوي ،وكأنها تجّر أرجلها ِببطء شديد ،يكاد
قلبي يتفطر ويخرج من مكانه ،يا إلهي إنها تقف فوق رأسي ما الذي أفعله
األن!
استجمعُت قوتي ونهضُت مسرعٍة نحو الباب وإذا بها تشد ذراعي وتقول
بصوٍت متقطع لن ينفع الفرار فأنا معِك مثل خيالك.
سحبتها بقوة من بين كفيها الخشنة المترهلة وذهبت ركٍض لغرفة أمي.
أمي أمي قولتها بصعوبٍة شديدة وأنا أختنق من الفزع ،بعد برهٍة فتحت
الباب وهي تقول متعجبة هل هي العجوز مجدًدا!
بتوتًرا وهلع شديد قلت لها :نعم إنها هي ،ال زالت تقول لي الكالم نفسه؛ أنا
خائفة يا أمي ،أخف أن تالزمني طيلة حياتي ،انتابني صمٌت
10
عميق وكأنني أغرق في التساؤالت ،فقلت بعبرٍة وشجون:
لكني ال أحبها إنها سيئٌة للغاية ،وتشعرني بالرعب والوجس.
قالت أمي وهي تجرني خلفها عليِك من اآلن وصاعًدا محاربة مخاوفك،
لسِت صغيرة على هذه األوهام!!
بدت منزعجة جًدا مني على رغم من أن كالمها يوحي بصدق إال أني لم
أُكن اكذب!
دخلنا سوًيا الغرفة ،كانت مظلمة وال يوجد ما يأكد كالمي فقالت وهي
تضع كلتا يديها على خصرها 'انظري ال يوجد شيء مخيف هنا!'
شعرت حينها بالحماقة ولم أعرف كيف أبرر صدق ما رأيت!!
لكن فجأة حدث أمر شّب الرعب في أجسادنا!
مما جعل أمي تصرخ بقوة دون وعي ،أما أنا فلبثُت مكاني دون حراك وكأن
الدم تجمد في عروقي.
لم أدرك بأني صارمة لهذا الحد ،لبثُت في مكاني واألسئلة تدور من حولي
حد جنون ،حتى أني لم أنتبه ِلصراخ أمي ،عندما سحبتني للوراء وهي تقول
ال أصدق ما تراه عيناي؟!
عندها أدركُت ما تراه عيناي!
كانت قطة سوداء كبيرة ذا مظهر يوحي باإلشمئزاز؛ وكان في عينيها بريق
يجعلك تشعر بالموت واقًفا ،خرجت تجّر ذيلها الشبيه بذيل الحصان وكأنه
أسود قاتم ذو مظهر مقرف ،وختفت خلف الظالم ،ولم يعّد لها وجود
كأنهاء قطعة من الظالم وعادة إليه.
إبتسام سلامة
11
مقاومة من أجل العهد
12
(بعض األشخاص لم يكونوا عابري سبيل ،بل كانوا السبيل كله)
13
كفاح
رغد جمعة
كفاح
ما خلف بابي قصٌص كثيرٌة تروى ،ما خلف بابي تلك الطفلة
البريئة الحزينة اليائسة ،وخلف بابي المراهقة المتهورة المحاربة
لظلٍم وأذى من قريب تعرضت له وتعٍب حملته على عاتقها
وأكملت بِه حياتها ،ما خلف بابي الشابة التي حاربت وكافحت
وتألمت حتى وصلت.
واليوم أنا شابة بعمر الثالثين ربيًعا ،من عائلة بسيطة تتكون من أم
وأب وأخت وأخ.
منذ نعومة أظافري حملُت وراء بابي قصًصا مؤلمة ،فأنا الطفلة التي
أنفصل والداها وعاشت بعد غياب أبيها في شجن ومحن ال يعلمها
إال الله ،أمي حاولت أن تسعى في الحياة بقدٍم وساق دون معونة
أبي؛ لكي توفر لي وألختي الحياة الكريمة في غياب أبي الذي يعيُش
حياًة ميسورة مترفة بعيد عنا ،فكانت أمي تعمل ليل نهار ،ففي
النهاِر تبيع الحلويات وليًلا تسهر على نقش الثياِب بالخيِط واإلبرة
وتبيعها صباًحا ،أمي إنسانٌة مكافحة وأخذُت من طباعها هذِه الصفة
الحسنة
أتعرفون كيف كافحُت في الحياة ؟
حينما كنُت في المدرسة الطالب كانو يعايروني بثيابي الباهتة
والمكررة التي أرتديها كل سنة ،لم يكن لدي أصدقاء وال شخص
يهون عليا تعب الدراسة والحياة ،ولم أكن أبالي بذلَك فمرت
سنوات دراستي في األساسي والثانوي بالعمِل مع أمي والدراسة
مًعا ،ال أنكر الفراغ العميق الذي بداخلي بعد غياب أبي وشوقي
وحنيني له الذي كان يرهقني ويتعبني نفسًيا وأوقاٍت كثيرة يصل بي
الحال إلى المرض جسدًيا من التفكير والحزن على الليالي الحزينة
دون أبي ،فال أعرُف ما الغلط الذي أقترفناُه في حق أبي الذي
14
هاجرنا ورحل ،حاولُت البحث والعثور على أبي سألُت عنه القريب
والبعيد ،وفي كل مرًة أعود فيها من بعد البحث عنه مخيبة األمل
محطمة القلب مرهقة الجسد ،حاولت وحاولت كثيًرا ولكن
لآلسف دون جدوى لم أجد أبي ولم أسمع عنه شيًئا منذ أن كان
عمري خمس سنواٍت ،واآلن أنا في العشرين خريًفا ولم أذق طعًما
حلًوا للحياة؛ بسبب العيشة الضنكة ومملة والروتينية التي أعيشها
فلو كان أبي معنا ما كنُت أعيُش هذِه الحياُة الصعبة ،ولكن ماذا يفيُد
التمني والتحسر ماذا يفيد هل سيأتي بأبي؟
نحن ال ننسى الحزن بل نتعايش معه.
لن أنسى ذاك اليوم ،عندما كانت أختي تلعب مع بنات الجيران حتى
شعرت بالدوار وغابت عن الوعي ،بدأ االطفال يصرخون ،خرجنا
وجدنا أختي ملقاة على االرض فبسرعة البرق أسعف جارنا أختي
للمستشفى ،وشّخصها الطبيب وأجرى جميع الفحوصات الالزمة
لها وقضينا تلك الليلة القاسية في دوامة التفكير.
ما الذي سيحصل؟
في اليوم التالي ،ذهبنا إلى الطبيب أخبرنا بأبشع خبر مؤلم :أختي
تعاني من مرض السرطان.
كان الخبر بمثابة صخرة ُأطلقت على زجاٍج فتكسر ألجزاء صغيرة
يصعب ردُه كما كانت.
ُعدنا للبيت نساند بعضنا وكلنا أمل بأن الوضع سيتغير لألحسن رغم
قلة حيلتنا.
مرت األيام ،تركُت مستقبلي ودراستي ،وبدأنا أنا وأمي في العمل
المكثف لتوفير العالج والطعام ،وأختي أمام أعيوننا تتألم وتزداد
الخاليا المؤذية في جسدها يوٍم عن يوم حتى بدأت بعالج
الكيماوي.
15
بعد خروجنا من المستشفى في أول جلسات الكيماوي ألختي وقفت
متأملة أختي كيف تقاوم والدمع ال إرادًيا ينهمر من عيناها الجميلتين،
نعم! أختي الزهرة المتفتحة والمشرقة تذبل أمام عيني.
تًبا لخاليا السرطان الذي جعلت اختي كالملٍح ذائٍب بماء.
بعد أخذ أختي لجرعات الكيماوي ،انطفأ نورها ،سقط شعرها ،أصفر
لونها ،نحف جسمها ،أصبحت باهته.
السرطان يحتاج قلب قوي يقاوم خالياه.
طغى علي التفكير بمرض أختي التي تموت حية ،بدأُت أفكر كثيًرا في
العالج الباهض ثمنه حتى تاهت نفسي في دوامة التفكير؛ فلم يكن لدي
حٌل سليم سوى البحث عن أبي المختفي منُذ سنوات.
تركُت أمي وأختي وذهبُت دون تفكير مسرعة لصديق أبي القديم الذي
اسأله عن أبي رغم أني أعرُف جوابُه على سؤالي المتكرر.
ولكنني ،ال أستسلم ابًدا وسأجد أبي بإذن الله.
لكن هذِه المرة فارقٌة عن جميع زياراتي المتكررة؛ فقد أعطاني صديق
أبي جواًبا لسؤالي حينما أخبرني بأن أبي موجود بمدينتنا منذ ايام ،أمٌل
دخل بقلبي كتب لي عنوانه فذهبت إليه وكلي أمل وتفاؤل
.
16
بعد تجميعي للمعلومات عن أبي أكتشفت أن لدي أخ من زوجة
أبي اُألوروبية ،وأن زوجته هي من تتصرف بأمواله فكل ثروة أبي
لها ،عرفت أيًضا أن البيت الفاره الكبير والشركة ومحالت
الماركة الخاصة بأبي مسجله باسمها ،خدعت أبي وقالت أنها
سُتسجل جميع هذِه الثروة إلبنها الصغير حين يكبر ،ولكن تركته
هو وأبنه ورحلت عنهم.
ألن لكل فعل رد فعل قست علّي الحياة فقسوت عليها.
مرت السنوات ،ولم يحتمل أبي خسرانُه ألمواله وثروتُه التي
أختلستها زوجته فأصيب بوعكة صحية مما جعلته طريح الفراش،
بعد ما الحظ الطبيب تشافي أختي وتعافيها تدريجًيا أوقف عالج
الكيماوي حتى شفيت من السرطان كلًيا وكان الخبر جبر لما
كسرُه الدهر بنا ،وأقمنا حفلة بسيطة بسبب هذا الخبر المفرح،
وكانو من بين حضور هذِه الحفلة أبي وأخي بعدما أنتقلوا للعيش
معنا ،ورغم ما قاسيتُه من الظروف ولكن أكملت دراستي
وتخرجت منها بعمر الثمانية والعشرين ربيًعا ،وفي يوم تخرجي
وفرحتي وقفت على منصة الكلية وألقيت كلمة للجمهور وألبي
وأمي وأختي وأخي الجالسين بين الجمهور ينظرون لي بنظارات
فخر ،ألقيُت كلماتي المرتبة كاآلتي:
السالم عليكم
ورحمة الله وبركاته
أعلم بأن بعضكم يعرف قصتي ومن أنا ،ومن ال يعرفني فأنا
من كافحت واجتهدت في سبيل سعادة عائلتها وتحقيق
حلمها ،أجزمُت أن الشيء مستحيل بين تحقيق حلمي وبين
القدر العصيب الذي أختاره الله لي ،أمنت بنفسي وأكملُت
خطاي نحو طريق المعاناة والحلم ،ظنيُت بالله حسن ظن
فأعطاني الله خير قدٍر وأمنت بأن ربي لن ينساني وسيدخل
النور بداخلي المظلم ،وها أنا اليوم حققُت حلمي واسمي
أندرج بين الخريجين الناجحين.
17
فنصيحتي لكم:
ال تستسلموا ،قاوموا الحياة وال تقلقوا من المستقبل واأليام الصعبة،
تأكدوا الله سيعطيك القوة والصبر مثلما أعطاني ،فأنا لم أكن اتخيل
يوًما أن أقوى على ما حل بي.
وتذكروا االية الكريمةَ{ :وَعَسى َأْن َتْكَرُهوا َشْيًئا َوُهَو َخْيٌر َلُكْم َوَعَسى
َأْن ُتِحُّبوا َشْيًئا َوُهَو َشٌّر َلُكْم َوالَّلُه َيْعَلُم َوَأْنُتْم َلا َتْعَلُموَن}
صفق الجميع لي فبعضهم أدمعت عيناه من كالمي گأمي وأبي .
مرت االيام ،وبدأت أعمل بشهادتي الجامعيه بجد وكد ،وأثبُت
وجودي في فترة وجيزة ونجحت في عملي الحظوني المسؤولين
ونلُت ثقتهم ومنحوني أعلى الترقيات حتى أصبحت اليوم نائب
رئيس في شركة عالمية.
أنشغلُت في عملي ولكن لم أنسى عائلتي ثانية ،أعمل ليل نهار ألوفر
لهم سبل العيش الكريم ،تأقلم أخي بالعيش معنا وألتحق بالمدرسة
وأختي أكملت دراستها ،خففت ضغط العمل على أمي وأفتتحُت لها
متجر لبيع الحلويات وأصبح اليوم ال يخلو من الزبائن ابًدا ،وأبي الزال
على حالِه ولكن مرتاح نفسًيا يحمد الله ويستغفره ليل نهار.
أنبهرت عائلتي بي وبإنجازاتي والنجاحات التي قدمتها مؤخرًا ،ففخر
عائلتي بي هذا أكبر نجاح قدمته في حياتي.
رغد جمعة
18
غيمة الرضا
مريم أحمد
غيمة الرضا
ضغط على خياِر التنزيل ثم ارتمى على سريره متنهًدا ككِل مرٍة يكمل
فيها كتابَة نٍّص ما ،وكأنه يزيُح بعًضا من الصخور التي ُتثقل كاهله
بهذه الطريقة ولكن ،ال شيء جديد ،ال شيء يتغَّير ،أصبح ال ُيطيق نمط
حياته الذي أصبح سوداوًّيا فجأة ،بل حتى نصوصه اصطبغت باللون
األسود ،ال حياَة فيها!
وصل إشعار المنشور إلى الُمتابعين المتّلهفين لقراءِة ُكل ما يكتبه
مجد ،والذي أجمع عليه متابعيه أن لنصوصه وقٌع في الروح لم يروا
مثيال له ،وكأنها بمجرد قراءتهم لها تتخلل قلوبهم ،إنها الخاطرُة
العشرين على التوالي التي يستشعر قارئها أن من كتبها في خطٍر
محدق ،وأن الدائرَة السوداء تضيق عليه رويًدا رويًدا ولم يبق القليل
حتى تصل لعنقه وتخنقه!
مجد شاٌب يبلغ الخامسَة والعشرين من عمره ،يعيُش بعيًدا عن
والديه ،في أحد أحياء اإلسكندرية الفاخرة ،لم ُيكمل مسيرته في
الجامعة ،وحسمها عندما قرر أن يتبع حَّسه األدبي وأن ترى نصوصه
النور وأخيًرا ،ال ُتعيقه المقّومات المادية ،وهو الذي منذ نعومِة
أظفاره يعيُش في نعيم ،لم يجرب يوًما قرصة جوٍع أو خيبَة أمل
جّراء نقصان المال ،ولم يعش قُّط وسَط من هم يكادون يسعلوَن
الُتراب ،البَّد أن يكون سعيًدا بهذا أليس كذلك؟
ولكّنه على عكِس ذلك تماًما ،هناَك هّوٌة كبيرٌة تخترُق قلبه ،وكأن
هناك جزء منه مفقود...
فتح عينيه على صوِت إشعار رسالٍة جديدة ،إنه أحُد األصدقاِء
الُقدامى ،الذي الزال ُيِّصر عليه بالذهاِب إلى المسجد وُمحادثِة الشيخ
لعّله يجُد حًّلا ما لمشكلِة مجد ،وبعد الكثير من محاوالِت الصِّد
رضخ أخيًرا وقّرر الذهاب.
19
إنها شوارع اإلسكندرية المكتظُة بالسكان ،بشٌر تحكي تقاسيُم
وجوههم الكثيَر من الِحكايات ،تلك الحكايات التي ال ُترى بالعيِن
المجردة ،وإنما بعيِن القلب.
وصل مجد أخيًرا للمسجد ،رفع ناظريِه إلى الِمئذنِة سائًلا نفسه عن
آخر مرٍة كان بهذا القرب من بيِت الله ،تحّرك شيء ما في داخله
يخبره أنه في المكاِن الصحيح ،ومن محاسِن الصدف ُأقيمت صالُة
العصِر حينها ،وتوافَد الجميع إلى الداخل ُمسرعين ،نزل من سّيارته
الفارهة ،توَّضأ فدخل ثم وقف في الصف ينظُر يميًنا وشماًلا
لُمساواِة الصفوف ،كَّبر اإلمام تكبيرًة تشرُح الصدر معه ،وتشعرك
بمهابِة لقاء الله وِعظم هذا المكان ،وساد الصمت ،ذلك الصمُت
الذي ال يكسره إال تمتمات الُمصلين ،ذلك الهدوُء الغريب الذي قّلما
نشعر به خارَج هذا المكان ،اختبر مجد كل هذه المشاعر دفعًة
واحدة ،ويا له من شعوٍر َمهيب على قلٍب واحد في دقيقٍة واحدة!
تناثرت تلك الجموع من الناس بعد فراغهم من الصالة ،منهم من
اتخذ من زوايا المسجِد متكًأ يقرأ القرءان ،ومنهم من خرج ،وبينما
تتقلب عيون مجد هنا وهناك لفت نظره رجل عجوز تشعرك هيأته
أنه ال يملك سوى ذلك الجنيه الذي أخرجه من جيبه وتصَّدق به،
زاد من ذهول مجد تقبيُل العجوز لكِّف يده وظهرها حامًدا لله
مبتسًما! تلك االبتسامة التي أصبحت مهمًة صعبًة عليه وهو يملُك
ُكل شيء...
هَّز رأسه يبعثر مئات األفكار والخواطر التي مألته ،ثم ذهب
حيث جلس الشيخ ،استأذنه بالجلوس فأذن له ثم جلس ،شيٌخ على
مشارِف السبعين ،توحي لحيته البيضاء الطويلة بحكمِة سنواِت
عمره الطويلة أيًضا ،لم يستطع مجد في بادئ األمر أن يفتتح
الموضوع الذي أتى ألجله ،ليسهل عليه الشيخ ويسأله متفهًما الحيرَة
التي تشع من عينيه الباهتتين" :لديَك هٌّم ما يا بني ،أخبرني به
وسنجد حًّلا ان شاء الله"
20
انطلق لساُن مجد كمن كان ينتظر هذه الفرصَة طويًلا ،خصيصى
بعدما َأملى عليه قلبه أن خالص محنته سيكون على يِد هذا
الشيخ" :يا شيخي إِّني ال أذوق طعم السعادِة في هذه الحياة ،لسُت
أدري لَم أستصعُبها رغم أنني ال أشكو من شيء ،رغم أنني أملُك
كل شيء ،لدي عائلة ذو سلطة ،ولدي المال والكسب ،األصدقاء
والشهرة ...رغم هذا كله أشعُر وكأنني ال أملُك شيًئا ،وكأنني تائٌه
لسُت أدري أين أنا من هذا العالم الكبير"
ثّم أخفض ناظريه وفرَك يديه ُمستحًيا" :ال أخفي عليك يا شيخي ال
أذكر متى كانت آخر مرٍة صليُت فيها فرًضا ،ولكنني أقسم لك
أنني لم ُأؤذي مخلوًقا قط ،وال أقرُب الحرام ،فما الذي فعلته
ليعاقبني الله بهذا الشكل؟ إنني والله ال أذوق طعم النوم من ضيق
صدري!"
تبَّسم الشيُخ في وقار وهَّز رأسه ُمتفهًما" :أخبرتني أنه ال ينقصك
شيٌء في هذه الدنيا يا بني أليس كذلك؟"
رَّد مجد متلهًفا ":نعم"
ثم سأله الشيخ بنبرِة الُمعاتب" :وهل حمدَت الله على ما أعطاك؟"
صمت مجد والتمس الشيخ الخجل في عينيه اللتيِن يقلبهما في
محجريهما فهَّز رأسه وتابع كالمه" :أنت تقول أنك تملك كل
شيء ولكنك مخطٌئ يا بني ،ينقصك شيٌء واحٌد أثمُن من كل
تملك.
مستنكًرا ":أخبرني ما هو إًذا؟"
عقد مجد حاجبيه
أجاب الشيخ مبتسًما " :إنه الرضا يا بني ،غنيمُة الرضا ،هذا
ما ينقُصك ،صحيح أن يداَك ممتلئتان ولكن قلبك فارغ ،ليكن
قلبك مليًئا بالرضا ولن يضرك إن كانت يداك صفًرا
ببساطٍة شديدة اقتنع مجد بتلك الكلمات التي لم تمَّر بباله
يوًما ،لم يكن لها مساحٌة في عقله وقد احتَّل التذمر والكنود
حياته ،ولّوثها كلها ،استفاق من الحقائق-التي بدأت تقفز أمام
عينيه وتتصادم ببعضها محدثًة ضجًة كبيرًة في دماغه -على
صوِت الشيخ الهادئ ":أال تعلُم يا بني أن الله أنعم عليَك بنعٍم ال
تعُّد وال ُتحصى؟ "
21
لألسف أعمت تلك الغمامُة عينيك فِبَّت ال ترى أًّيا منها رغم
ِعظمها ،إن النعم ال تدوم إال بالشكر ،ورغم أنك جحدت بها ولم
تشكر الله عليها ولم ترَض بحالك لم يحرمك الله منها بل أمهلك،
وهذه نعمٌة عظيمٌة أيًضا!
أخبرتني أنك تملك عائلًة صحيح؟
التفت وراءك وسترى فاقًدا لهذه النعمة" التفت مجد فوجد صبًّيا
يقرأ القرآن ثم أعاد النظر للشيخ بعدم فهم فأوضح له الشيخ" :إنه
يتيم األِب واألم ،لم يرهما في حياته ،يكفله أحد الشيوخ ،تخّيل
نفسك مكانه وستدرك كم أنك في نعمة" ثم صمت الشيخ قليًلا
يقرأ مالمح مجد التي أوضحت أنه استوعب ما قاله جيًدا.
أمسك الشيخ المصحف الذي بجانبه وقام بفتحه" :أترى هذه
الصفحات؟ أنت ال تشعر بأدنى صعوبٍة عند قراءتها ،وترى هذه
الحروف جيًدا وتفهم ولكن غيرك يتمنى لو أن بإمكانه رؤيتها
وقراءتها كما تفعل أنت ،يتمنى أن يعرف ما شكُل هذه األرض التي
تمشي عليها ،وما هيئُة ذاك العصفور الذي يسمع صوته الجميل،
بل هناك من لم يسمعه قُّط في حياته" هذه المرة أخفى مجد وجهه
بين يديه متأثًرا ،حامًدا لله في خجٍل وشفقٍة على حاله!
فأكمل الشيخ كالمه" :أنت-ولله الحمد -تستيقظ وتنام على
صحٍة وعافية ،ال ُيداهمَك األلم فيقلق مضجعك ،وال يحيُط بك
الخوف فيمنع تسلل النوم لجفونك ،لديك منزٌل يؤويك ،ال تبيُت
جوعاًنا ،وال تناُم برداًنا ،أوليست كل هذه النعم تستحق أن تحمد
الله عليها ليَل نهار؟
ُمشكلتَك يا بني أنك ال تنظر لمن هم أقل منك ،ال ترى هموم الناس
حولك ،فلن تقدر قيمَة حياتك تلك التي يتمناها اآلالف من البشر
ويغبطونك ويحسدونك عليها!"
هَّز مجد رأسه وقد أغرق الدمُع عينيه ،قال بصوٍت متهِّدٍج:
"فهمُت يا شيخي فهمُت" وداخله يأكله الندم على تقصيره في
جنب الله ،آلمه قلبه على جحوده ذلك ،وأنه لم يستشعر رحمة
الله به وعطاءه الواسع.
22
قال الشيخ" :أنا ال أقلُق عليك بعد اآلن" ثم رفع يده ُمشيًرا على قلِب
مجد" :إَّن معدنك نظيف ،وقلبك طّيب ،ولتعلم أنك بخطوتك التي
خطوتها داخل هذا المكان فتحَت عليَك أبواب الخيِر والصالح،
سيُدُّلك الله على الطريق الصحيح ،وسينيُر بصيرتكُ ،أوصيَك
بالدعاء يا بني ،إن الله ال يرُد عبًدا قد أتاُه ورفع يديه في ِرحابه
سائًلا الهداية ،حاشاُه أن يرّدك ،ال تبرح مكانك حتى تجد ضاّلتك،
وأظُّن أنك وجدتها والحمُد لله"
تنهد مجد مبتسًما وكأن هًما ثقيًلا ُزحِزح عن صدره ،نهض من
مكانه ُمسرًعا" :قد وجدتها بالفعل يا شيخ وجدتها" هَّم مغادًرا
ولكَّنه رجع مرًة أخرى كمن نسي شيًئا "أعدَك أنها لن تكون
خطوتي األخيرة في هذا المكان" ثم اتسعت ابتسامته التي بدا عليها
مسحة االمتنان" :لن تفيَك كلماُت الشكر حَّقك ،رغم ذلك أنا ممتٌّن
جُّدا لك على معروفك هذا" ثم قّبل رأسه وعانقه الشيخ بحفاوة
قائًلا" :يَّسر الله لَك يا بني ،هذا واجبنا"
خرج مجد من المسجِد وعاود التأمل في مئذنته مرًة أخرى ،ولكن
هذه المرة بروٍح حَّية ،وبنظرٍة مشرقٍة كالشمس ،والزالت ابتسامته
الراضية تغزو محياه ،وال ينفك قلبه عن حمد الله.
مريم أحمد
23
قناع القدر
حنين يوسف الزليطني
قناع القدر
قطرات الدم في كل مكان ،لقد حانت لحظتي ،وإن كانت مدلهّمة
فأنا كنُت أنتظرها بفارغ الصبر ،لحظة الموت!
نعم ،أنا هي نرجس ذات الثمانية عشر خريفًا مؤلمًا ،ابنة األرياف
وهوائها العليل ،آه كم أحببت حياتي هنا ،حياة تخلو من كلمات
الحزن ،حياة َينثر فيها الورد عبقُه ،حياة بين أحضان أبي وأمي،
بالطبع ال مكان للحزن هنا بيننا!
أعيش حياتي بكل هدوء ،أستيقظ صباحًا في غرفتي ذات األلوان
الزاهية ،استقبل يومي بابتسامة رقيقة ،أجّهز نفسي للذهاب إلى
بيتي الثاني ،مدرستي ،أخرج حاملًة حقيبتي ألجد أمي قد
حضرت لنا الفطور ،أجلس أنا وهي وأبي نتبادل أطراف الحديث
الصباحي اللطيف ،رائحة الكعك والشاي بالنعناع ،روائح اعتدُت
عليها ومع ذلك تبهرني كل يوم بروعتها ،أوّدع أمي وأبي بقبلة على
خديهما يتبعها حضن دافئ.
في طريقي لمدرستي الحبيبة ،أصّبح على كل مار ،العم عامر
صاحب سوق البقالة ،جارتنا مريم الخبازة وابنتيها ،الحداد
والنجار وكل من هو في طريقي ،حتى الطيور واألزهار ،أمر على
صديقَتّي اللتان تنتظرانني يوميًا بجانب النهر الالمع ،يستقبالنني
بشدة وبهاء كأنما لم نَر بعضنا منذ قرون بينما كنا سوية باألمس.
24
الغروب ،نعود للمنزل سويًا لنجد أبي ينتظرنا ،أركض الحتضانه وأخذ
هدية منه ال يفوت يوم دون أن يحضرها لي ،تارًة يحضر لي كتابًا ،وتارة
أخرى قلمًا على شكل جوهرة ،تعددت هداياه ولكنني أحبها جميعًا،
ينتهي يومي بعد العشاء وأخلد إلى النوم بعد كتابة كل ما أمر به في
مذكراتي اليومية ،فأنا لطالما هويُت الكتابة.
هذه أنا وهذه حياتي التي أحببتها جدًا ،ولكن!
جاء يوٌم ليغير معايير الهدوء التي اعتادتها أيامي ،يوٌم تغيرت حياتي من
بعده تغيرًا قاسيًا ،ال تتحمسوا كثيرًا فما سيأتي من حزن يجعل دمع
العيون دمًا!
الرابع وعشرون من ديسمبر عام 1983م
هذا كان اليوم الذي غّير حياتي جذريًا ،وما حدث في هذا اليوم ال
ُينسى ،ال ُينسى أبدًا!
استيقظُت في تلك الليلة بعد منتصف الليل ،أسمع صوت بكاء أظن
أنني لم اسمعه قبًال ،إنها أمي تبكي بشدة وأبي يواسيها!
ما الذي يحدث بحق؟
ذهبُت وأنا أسابق خطواتي ،ليستوقفني فجأة كالم أبي" :ال تخافي يا
رؤى ،ابنتنا ستكون بخير ،أعدِك أنني سأجمع مبلغ عمليتها قبل فوات
األوان"
مهال لحظة!
هل قال عملية للتو؟ ما الذي بي؟ لَم قد أحتاج لعملية؟
"كال يا قيس ،لن أنتظر حتى نجمع المبلغ فحياة ابنتي بخطر محدق ،إن
زاد ثقب قلبها مليمترًا آخر فقد ال نستطيع إنقاذها ،ال أريد خسارة ابنتي
في هذا العمر ،سأبيع آخر ما تبقى لي من إرث عائلتي وأنقذها".
ثقب في القلب؟ هل تمزحون معي؟
قمُت بتغطية أذنّي وعدُت إلى غرفتي مثقلة الخطوات ،لم استطع النوم
تلك الليلة حتى الصباح ،صباح تمنيُت عدم قدومه ،في ذلك الصباح
أخبرني والداي أنهما سيسافران ،وأنني سأبقى عند خالتي ،لم استطع
توديعهما بابتسامة كما اعتدُت ،بقيُت عند خالتي لمدة أسبوع ،كانت
تعاملني بطيبة مفرطة ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان ،عندما كنُت
أنتظر أمي وأبي ليأخذاني إلى منزلنا ،يبدو أنهما قد خذالني!
25
"لم يعودا أبدًا ولن يفعال" ،كانت هذه كلمات خالتي لي لتصعقني
بعدها بخبر موتهما في حادث سير ،وتغيرت معاملتها لي تمامًا،
فقد صرُت لها خادمة بعدما كنُت أعيش حياة هادئة راقية ،لم تعد
تتركني أذهب إلى المدرسةُ ،حِبست في ذلك المنزل اللعين الذي
لطالما كرهته ،ازدادت معاملتها لي سوًء يومًا بعد يوم ،وبعد مرور
بضع شهور ،إنه يوم ميالدي ،ها قد صرُت بعمر الثامنة عشر
وأخيرًا ،بإمكاني الخروج من هذا الجحيم والعيش براحة من جديد،
ولكن خالتي لم تسمح لي بذلك ،ولكن كان هذا بطريقتها!
في صباح يوم ميالدي ،استيقظت خالتي وجاءت تحتضنني!
تبدلت معاملتها حرفيا ،فقد اشترت لي هدايا ومالبس جديدة،
أخذتني إلى مدرسة جديدة حتى ولو لم تكن في مستوى مدرستي
القديمة لكنها جيدة ،بدأت تعاملني بحذر شديد ولين محتّجة بأن
خبر موت والدتي قد كان صدمة لم تتقبلها وظهر أثرها علّي لظّنها
بأنني السبب ،ولكن نواياها قد اختبأت خلف ذلك القناع ،فقد
ضحكت علّي وأنا كنُت أصدقها ،جردتني من كل ما أملك بعدما
جعلتني أوقع لها على ورقة كنت أجهل محتواها ،ورقة تنازٌل عن
كل أمالِك والدّي ،انتهى كل شيء ،سأبقى حبيسة هنا لألبد ،لم
أرَض بذلك ،انهرت تمامًا ،شعرُت بوخز شديد في قلبي ،فعًال إن
ما يحدثه الحزن لهو أمر كريه!
لم أستطع التحّمل ،ازداد األلم مع ازدياد اللحظات التي تمر ،ليس
لي من حّل آخر ،يبدو أنني سألحق بأهلي قريبًا ،تناولُت أقرب
شيء حاد كان بقربيُ ،ألنهَي حياتي تمامًا بوخزة واحد في وريد
يدي ،تتبعها صرخُة ألٍم هّزت األرض هزًاُ ،صِدمت خالتي من هول
ما رأت ،وصار طيفي يحيط بها في كل مكان طالبًا اإلنتقام ،ليصيب
خالتي بالجنون جّراء ذلك ،إنها الشرطة وأخيرًا قد أتتُ ،حبست
تلك المجنونة بتهمة القتل ،وذهبت روحي إلى أهلها في السماء،
هذه كانت نهاية حياتي الهادئة التي لم تُدم .
26
وهكذا كان القدر المقنع ،يخفي نفسه في طيات عالمنا ،يتبّدل
قناعه بتبّدل األيام ،ال شيء يبقى على حاله وهو موجود ،ولكن
ما من شيء يمكننا فعله سوى اإليمان والرضا به ،فهو أمر ليس
بيدنا.
27
محطة النهاية
سمية علي الرملي
محطة النهاية
عتمة قاحلة ،باًبا مغلق ،أصوات عقارب الساعة وحدها تجعلك تشعر
إنك فوق األرضَ ،مر خيالك امامي مثل خيط الضوء ِفنفق ُمغلق اراك من
بعيد أنَت هنا وهم معنا ولكننا في الناحية االخرى من العالم حيث ال
يوجد أحد وال حتى أنا ،حسًنا ،هل هذا أنَت؟ صوت شهقاتك تأتيني من
بعيد ،لماذا؟ أنَت خائف ألست ُشجاًعا ،ام سلبتك قوتك ايًضا كما
سلبتك حريتك؟ ال مفر ،أنَت لي ،أرتضيت ِبهذا ،توقف أنا أخبرك فقط
ال يهم قبولك ،أخبرتك يوًما األكثر ُحًبا يفوز في النهاية ،ها أنا فزت بك،
مقيًدا بي امتلكت فؤادك وترعرعت ِبداخل أفكارك تبحث عني هنا
وهناك وال تجدني
ال تبحث ،أنا قريبة جًدا ،ال تلتفت سيراك أحدهم ،هم ال يريدونك هنا،
فقط أنا أريدك أنا
فقط من يراك ،لننام ِبسالم مًعا ،غًدا نلتقي.
أخبرتك انهم ال يريدونك ،لما حاولت العبث معهم؟ أيعجبك حالة
وجهك بعد ما فعلوه ِبك؟
أليس مؤسف ي صديقي ان ارى القليل من شروخ الفؤاد يتجسد على
وجهك الذي لطالما أحببته كثيًرا انتقاًما لي؟ البأس كنت تستحق هذا،
ِلنعد لحديثنا االهم اآلن ،اعرف جيًدا ما يدور ِبعقلك،رغم وجودك
أماميوإال أّنني لم ألمحك ،لم ألَمح الّرُجل الذي ُغرمت به
قبل عام ،لقد تغّيرت كثيًرا كما تغّيرت أنا
وحُدها مشاعري من َبقيت على حالها وربما تعمق عشُقك بي ،جرب أن
تقترب قليًلا
هل لك ِبأحتضاني؟ اقترب ال تخف هذا ما أردته ،عالمات الدهشه
التي ستصيبك
حين معرفتك بأن ال يمكنك فعلها ،بئًسا لقد صرت أحمق كثيًرا بعد
اختراقك لعالمنا
ولكن كم هذا جميل ان ادور حولك ِبطيفي
دون ان تستطيع لمسي وال اختراق اسوار قلبي الذي مزقته سابًقا ،ال
اشفق عليك وال احنو تجاهك حتى قليًلا ،لسُت بلهاًءا مثلك ،إنهم
يبغضونك كثيًرا ال يحبذون وجودك بيننا.
28
ال تحاول عبًثا لن تراهم ال يمكنك ذلك إال إذا أرادوا هم ذلك ،أذكر
كل شيء جمعنا مًعا ،كل شيء ،أنا ال أنسى ،مأساتي أنني ال أنسى،
ولن أنسى أبًدا ،ولن أتركك تنسى أيًضا ،سأريك دوًما أثرك الُمخزي
علي ،سأجعل منك جسًدا بروًحا ُمتعبة و ُمنهكة ،ستتمنى كل ثانية
الرحيل من عالمي ولن تقدر ،حتى ستتمنى الموت ولن تقدر
باألساس ،أنَت وأنا ،ال وجود لنا ،ولكن العالم ال يكتمل إال بنا ،قلُت
لَك ذات مرة ،أحبك إلى ماال نهاية ،وها وصلنا للنهاية وال زلت
أحبك كما قلت
فال نهاية وال وصول في الُحّب ،ال محطة اخيرة
الُحّب ذهاب داِئم.
29
لعنة الثالثين
نادرة أسامة
الثالثين
لعنة
عَّم الفرح في القرية بعد أن قاموا بقتلي ،ضنوا أنهم تخلصوا من لعنتي ولن
أقتل أحد بعد اليوم ،من الغريب ضنهم بأنهم يستطيعون قتل ما هو في
األساس ميت ،لكنهم على وشك معرفة ذلك فقد بقى يومان على الثالثين ،لن
أُبقي على أحد فهم من بدأوا هذه اللعبة ،سيتوالى أخذ أرواحهم في يوِم 30
من كِل شهر حتى تفرغ المدينة من األرواح ،أصبحت رائحة الدماء
تستهويني؛ ففي كل مرة أقتل روًحا يصرخ عقلي حتًما لن تكون هذه المرة
األخيرة؛ فقد أصبح غذائي اآلن هو األرواح الميتة.
سأبدأ في االنتقام ِمن َمن قاموا بقتلي ،ياال السخرية أنهم ال يدكوَّن أني ميتٌة
من األساس.
30/10/1930
وضعت صاحب فكرة قتلي األول على قائمتي إكراًما له ،سيكون موته
رسالًة إلى أهل القرية مفادها أَّن الروح الشريرة لم ولن تموت ،وأدواركم هي
القادمة أعزائي األحياء.
تعالت أصوات الصراخ في الصباح بعد كسرهم لباب بيت أحد السكان :إنه
ميت ،لقد مات! رأسه مفصوٌل عن جسده ،ووجدوا كلمة كتبت على
جدران البيت وهي :لعنتي ،خرج ابن الميت والدموع تنسكب على وجنتيه
قائًلا :عادت الروح الملعونة ،هي من قتلت أبي بل وكتبت بدمه" :أنا ُعدت
فمرحًبا بموتكم جميًعا".
ها قد بدأت اللعبة تزداد متعة اآلن ،لم أحدد بعد من التالي لكن أريد بَّث
الرعب في قلوبهم جميًعا.
30/11/1930
خيَّم الظالمفيتلك الليلة وكأنهيهنئني على إنجازي العظيم ،وألول مرة أنا
فخورة بنفسي؛ فقد شممت رائحة الدم في األرجاء ،ورأيت نظرة الخوف
في أعين الناس ،حدث ذلك نتيجة عثورهم على جزٍء من جسٍم شخص ما
في منازلهم ،كل ما فعلته أنني قّطعت الفتى الذي وجد رسالتي إلى أجزاٍء
صغيرة ووزعتهّن بالتساوي على بيوت أهل القرية ،لم أرد للفتى أن يتعذب
على فراق والده فقمت بتعذيبه بنفسي.
30
لم أترك لهم رسالة في هذه المرة لكن اكتفيت بتلميح بسيط؛ فقد كتبت
في ساحة القرية" لن يحزن أحٌد في ال 30القادمة.
30/12/1930
اليوم هو أخر يوٍم لواحد ،اثنان؟ أربعة ،بل هو أخر يوٍم لهم جميًعا ،أليس
هذا ما كتبته في الرسالة؟ فقد أخبرتهم بأنه لن يحزن أحد ،وها أنا ذا
سأقتلهم جميًعا ولن يحزن أحد.
جمعت جميع األرواح التي قمت بقتلها التي سبق وأصبحت أرواًحا
هائمة مثلي ،أمرت كل واحدٍة منها أّال ترجع إّال ومعها روٌح أخرى،
فليقتل بعضهم بعًضا وألستمتع أنا.
أنتهى األمر! أخذت جولًة في القرية ،حيث تنتشر أجساد بال أرواح،
ورؤٌس بال أجسام ،أه وأخيًرا سأخذ راحًة من صخب األحياء.
31/12/1930
12:00pm
ما الذي يحصل؟ تًبا لَم يتالشى جسدي؟ أين ذهبت يداي؟ "اللعنة" لقد
أنتهت ،يالي من حمقاء نسيت أّن سبب وجودي من األساس هو قتل أهل
القرية ما فائدتي اآلن بعد موتهم جميًعا؟ أتالشى وألحق من قتلت يالها
من نهاية.
"لعنة الثالثين لن تبقي على أحد"
تلك كانت أول رسالٍة وجهتها اللعنة إلى الروح الشريرة فقد قصدت ما
كتبته بالحرف ،وأنها هي المهمة بأخذها للروح الشريرة.
وسقطت أخر أوراق اللعنة بانتهاء أخر يوم من عام 1930وتالشت
الروح الشريرة بالكامل ذاهبًة إلى المجهول.
نادرة أسامة
31
كفاح بنكهة أمل
كانت لتلك الفترة تأثيرات ِعدة على أمنية ،أهمها أنها تراجعت عن
حلمها-الطب -ألنها ظنت بأنها ستتعب نفسًّيا ،قائلة لنفسها قد
أتعبتني امتحانات الشهادة وكادت تنهكني فكيف سأمضي في
الطب؟
مرت األيام ونجحت أمنية بنسبِة ،٪85نعم ليست كما تمنت ولكن
كانت بمجهودها واجتهادها ،والزمتها تأثيرات تلك الدراسة لفترٍة
طويلة ،قررت أمنية أن تسجل في المرحلة التمهيدية ،لربما تحقق
ذاك الُحلم ،بدأ العام الجامعي األول وكان الفصل األول صعًبا نوًعا ما،
لم تنجح في مادتين وُحوصرت بالكثير من اإلحباط والسلبيةُ ،أهلكت
نفسًّيا ولكنها أكملت بدعاء وقياِم ليٍل والكثيَر من الدموع ،كل ما
حولها كان ُيحبطها لكنها نهضت ،لم تفقد األمل بربها أبًدا.
32
بعد عناِء تلك السنة اللعينة ،نجحت أمنية بتقدير ممتاز ،نعم لقعد
فعلتها حًّقا ،انهمرت عيناها بالدموع وهي تتذكر تلك
اآلية[َفٱْسَتَجاَب َلُهۥ َرُّبُهۥ] ،نعم استجاب لها الله ،الفرحة ال تسُع قلبها
الصغير ،أقبلت بروٍح مليئٍة باألمل لتدخل كلية األحالم ولتحقق
حلمها الذي راهن الجميع على أنها لن تنجح فيِه البتة ،هي اآلن في
آخر سنٍة لتصبح طبيبًة كما تمنت ،فالحمد للِه على استجابته
ووجودِه معنا طول الوقت ،الحمد لله على إعطاءه لنا الصبر على
استكمال المسير ،الحمد لله على كل شيء.
أيها القارئ اللطيف ،ال تيأس ،ال تستسلم ،ال تعجز ،اصبر وثابر ،كن
واثًقا ومؤمًنا باستجابة الله ألدعيتك ،إنُه قادر على كل شيء أيعجزُه
دعاؤك الصغير؟
33
محطة حياة
ليال عبد الرزاق الحداد
محطة حياة
يقولون ال نعرف قيمة الشي إال بعد فقدانه ،هذا ما حدث في قصتنا
لهذا اليوم ،دعونا نسرد جزًء من أحداثها لعلك تجد نفسك في أحد
سطورها.
هي فتاة من حقيقة لكنها في نظر بعض منهم مجرد "خيال"..
ذات يوم كان لها العديد من األصدقاء من مختلف األعمار ،فبعضهم
من هو أكبر منها سًّنا وبعضهم من أقرانها ،كانت محبوبًة بين الجميع،
تساعد جميع الناس وال تنتظر مقابل من أحد أّيا كان ،لديها العديد من
األحالم تسعى جاهدًة حتى تصلها ،لم تؤذي أحدا أبدا ،ولم تغير الدنيا
فيها شيئا ،يسرق الحنين جزًء من قلبها الطيب الذي لطالما ساعد غيره
بالكالم قبل األفعال ،ال يعرفون السواد مهما عاشروا من الناس ،فطيب
األصل ال ُيلَّوث مهما أغرته هذه الحياة.
ولكن العديد من الناس يصفون اإلنسان طيب القلب في زمننا هذا
بالشخص الضعيف ،فهل تؤمن بهذه العبارة؟
أنا عن نفسي ال أؤمن بهذه العبارات وحًّقا تزعجني جًّدا ،وفعلًّيا
أصف كل من يؤمن بهذه السخافات بأنه شخص محدود التفكير،
ينظر للحياة من منظوره الشخصي فقط وال يرى ذلك من الحياة عامة.
ولكن السؤال هنا هل طيب القلب يبقى طّيبا حتى وإن جارت عليه
الدنيا؟
أجهُل تماًما كيف تلك األحداث ستنتهي في آخر المطاف..
هناك بيت شعر يقول:
"أَما ترى الّدهَر ال يبقى على حال ...طوٌر بأمٍن وأطواٌر بأوجاِل"
هذا تماما ما حدث في قصتنا لليوم ال حال يبقى على ماهو عليه ،وال
كل من عاهدنا على البقاء سيبقى فعًلا ،فليس كل الكالم حقيقة ،لن
يبقى معك سوى من أحبك بصدق وتقبلك في جميع حاالتك،
فالشعور الخذالن هو أقسى أنواع الشعور وجًعا ،فخيبة األمل من بعد
التعلق والتضحيات لن تجعلك تعود كما كنت أبدا ،لهذا السبب
بالذات يجب أن ال تعطي كل ما لديك ،احتفظ دائما بالجانب المشرق
لنفسك كي ال تنخذل ممن كنت تضمده.
34
أنا اليوم أفضل بكثير ،فإحدى التجارب كانت لي درًسا قاسًيا،
ومن خذلني فهو من خسر كل شيء ،وهو أيًضا من يعيش اآلن
أشد أنواع الندم ،فمثلما قلت في أول السطور
أن تكون شخصا طيب القلب يساعد غيره أمر جميل ،ال نعرف
قيمة آالء إال لعد فقدانه ،ولكن أرجوك عزيزي القارئ ال تبالغ
بقدر حبك لغيرك والتبالغ بالعطاء حتى ال تعيش تجربة خيبة
األمل والخذالن ،وتذكر دائما لو خذلك الجميع فالله معك ولن
يخذلك أبدا.
وفي الختام ال شك أبدا أن الحياة محطات يركُبها مجموعة ِمن
الناس وِلكل راكٍب ِحكاية تجعلُه ينظر للحياة من منظورِه
الشخصي ،فمنهم من يبتسم لها فتبتسم له ،ومنهم من َيعبس في
وجِهها فتعبس في وجهه ،وِمنهم من يراها طويلة ،شاقة ،وقاِسية
أيًضا ،وأنا أراها غير عاِدلة بعض الشي وهذا ال يعني بأني
سأستسِلم ،فِمثلما ُقلت لكل راكٍب ِحكاية وال ُأريد أن ُيكتب في
ِحكايتي بأنني استسلمُت بهذِه الُسهولة ،من المؤكد أن البقاء على
قيد الحياة أمر جميل ،فلو كان بيدي الخترُت البقاء ولكن هذه
هي ُسنة الحياة ،أنا اليوم انتهت ِحكايتي ولربما أنت بدأت للتو،
فال تستسلم..
أتمنى أن تجد نفسك في كلمة ما على االقل ،لعل كلمة من بين
كلماتي المست قلبك الصغير ونبهتك على أمور عديدة كنت
تجهلها ،لعلها تكون أيضا نقطة انطالقك لبداية جديدة ،وحياة
أجمل.
35
ماال تعلمه
مها محمد الشريف
ماال تعلمه
في يوٍم من األيام ،النجوم ُتزّين السماء ،هدوء الّليِل ونسماُته ُيبحر بنا إلى
الذكرياِت التي تعصُف على قلوبنا ِبعاصفٍة من األشجان..
في إحدى بيوِت المدينة كانت ليلًة هادئًة على الجميع إال فتاة واحدة ،واقفة
في شرفِة غرفتها تتأمل النجوم بعيوٍن حزينة تستعيد ذكرياتها المؤلمة التي ال
يمكن لفتاٍة في مثل عمرها تحملها.
كانت هذه الفتاة يتيمة األم ،تعيش مع والدها ليس لديها إخوة وال أخوات ،جاء
يوٍم من األيام المشؤومة الذي حمل صدمة بمثابِة طعنٍة بسيٍف بتار ،خبٌر
كالصاعقة حّل على قلِب طفلِتنا؛ وهو تعرُض والدها لحادٍث شنيع أّدى إلى
وفاته ،تعرضت هذه الفتاة لحالٍة من االنهياِر العصبي ألنها فقدت آخر شخٍص
من عائلتها ،أصابها شجٌن غريب ،أصبحت ال ُتطيق الخروج إلى الناس وأغلُب
وقتها في غرفِة والديها تجهُش بالبكاء حتى تشعر ِبحرقٍة في عينيها وكأنهما
تحَت شمِس صحراٍء قاحلة ،كانت تظّن بأن عّمها لن يتخلى عنها ،وسيكون
أحّن عليها من جميع الناس ألنه حالًّيا يعّد مكان والدها رِحمه الله ،ولكنها
اكتشفت بأنها ُمخطئًة ،في ذلك اليوم عندما تحدثت مع عمها فقال:
-ال أستطيع أخذِك معي إلى المنزل ألن زوجتي رفضت ذلك وقالت بأنها
ستغادر المنزل إن قِدمُت بِك.
ُ-صدمُت من كالمِه ألن كل الظنون التي كنت أظنها ُنفيت وصار العكس،
أجبته وأنا ال أريد أن أظهر له حزني وصدمتي به :حسًنا ال أريد أن أضايقكم،
سأبقى في منزلنا وحسب.
-قال وهو يضحك :ما تقولينه ُهراء ال أستطيع أن أتركِك هنا لوحدِك وال حتى
أخذِك معي ِلذا سأفكر في حل ُيناسب كالنا.
-ابتسمت باستهزاٍء وذهبت إلى مكاني الُمعتاد وهو غرفة والدي.
قرر عمها أن يذهَب بها إلى الميتم وُيبقيها هناك ،ظًّنا منه بأن هذا أفضل حل،
ولم يكن يعلم بأن ابنة أخيه ستخرُج من هناك فتاة ُمختلفة تماًما عن الذي
اعتادها من قبل ،ذهبت ِتلك الفتاة إلى الميتم وهي ال تعلم حجم الُمعاناة التي
ستعيشها ،كانت مديرة الميتم ال تفرُق عن زوجة عمها ،امرأة شريرة وشديدة
الطبع ،باطنها مختلف تماًما عن خارجهاُ ،تظهر للناس بأنها ُتعامل فتياِت الميتم
وكأنهّن بناتها ولكن لألسف يظهُر العكس داخل الميتم؛ فهي تتعامل معهّن بكل
شر ،تجعلهّن ينهضن منذ الفجر الباكر ويشتغلن بأعماٍل شاّقة كتنظيِف الميتِم،
الحديقة ،الغسيل ،ومن هذه األعمال.
36
كانت الفتاة المسكية تشعر وكأنها مأخوذة من حضِن والدتها ،فقط كل ما
ُتريده أن ترجع إلى المنزل الذي ترعرت فيه ،تعمل عمًلا شاًّقا وال تستطيع
أن ُتخبر عّمها بما يحُصل معها ألنها ُتدرك بأن قسوة زوجِة عّمها أسوء من
قسوِة مديرة الميتم ،عندما يتصل بها تخبره بأنها بأحسِن حال وأنها ُمرتاحة
في هذا المكان ،شعورها في تلَك اللحظة كأنها ُمغتِربة في وطٍن ال تعِرف
فيه أحد -أن ُتظهر عكس ما تشعُر به صعٌب جًّدا -عندما يأتي الليل كانت
ُتغلق على نفسها الباب ويظن الجميع بأن هذه الفتاة ُمرتاحة ،وال يعلمون بأن
وراء هذا الباب هناك شجٌن كبير ،وكأن شجَن أهِل األرض تجّمع وراءه.
وبعد أعوام أصبحت طفلتنا التي عشنا معها طفولتها الحزينة فتاة بالغة،
تعلمت من الحياة دروًسا تجعلها أكبُر من عمرها ،أصبحت قليلة الكالِم
كثيرُة الكتماِن ،تحمل في قلبها أكواًما من الكالمُ ،تريد أن ُتخبر به عمها
الذي إلى اآلن ال يعلم عنها شيًئا ِسوى أنها بأفضِل حال حَسب قولها ،تدُع
الله بأن ُيخرجها من هذا العذاب ولعّل أبواَب السماء كانت مفتوحًة وتحّقق
دعائها ،عندما أتّمت لطيفُتنا ثمانية عشر ربيًعا ،استاطعت وأخيًرا أن تخرج
من ذلك السجن وتعود إلى مكاِن نشأتها ،خرجت وهيا تركض ُمسرعة إلى
المكان الذي لم ُيفارق عقلها طيلة إقامتها في ذلك الميتم ،تركض وكأنها
تتنمص من السجن وهي خائفة أن يكون هذا حلًما حتى وصلت أخيًرا إلى
منزلها ،وقفت أمام الباب ومّر أمامها شريط طفولتها عندما أخذها عّمها
ورماها في ذلك المكان المشؤوم وكأنها ليست ابنة أخيه ،تذكرت عندما
كانت ُتخبره بأنها سعيدة بتواجدها هناك وهي تقول في نفسها؛ ويحَك يا
عّماه ،ماال تعلمه أن ابنِة أخيك كانت تعيش حياة ُمختلفة وقاسية عن الحياة
التي كنَت تعرفها ،تذكرت كل شيٍء إلى أن أتتها الشجاعة بأن تفتح قبضة
الباِب ودخلت! عندها فقط شعرت بأنها رجعت إلى حضِن والديها وإلى
موطنها ،أغلقت الباب وال أستطيع بأن أصف شعورها في تلك اللحظة،
أصبحت أسعَد شخٍص في العالم ومن هنا بدأت طفلتنا حياًة جديدة تعتمد
على نفسها في كل أمور حياتها ،نظرت إلى الباب وقالت في نفسها "وراء
باٍب مثلك عشُت أسوء أياِم حياتي ولم أخبر أحدا عما يحصُل لي ،ألنني
كنت واثقة بأنه لن يسمعني أحد ولن يصدق ما أقوله عن مديرة الميتِم أحد
فأرجوك أّيها الباب ال تنغلق في وجهي مرة أخرى".
38
نعم أثرها في أجسادنا وحياتنا كبير جًّدا إن غابت ،ولكن ال نشعر بها،
ذلك الشخص حرك فَّي الكثير.
نصيحتي لك أيها القارىء
بعض -الفتافيت -ال تجعلها تشغل بالك وتنسيك ِنعم الله عليك ،ولطفه
ورحمته بك ،اجعل الحمد والشكر دوًما يالزمك.
كن عبد الله الذي تكون الطمأنينة والسكينة دوًما تالزمه في جميع
األحوال ،تذكر الرسولﷺ وكيف آذوه القوم المشركين ،ولكن لم
يتوقف عن نشر الرسالة.
النبي أيوب -عليه السالم -ابُتِلَي بأمراض عدة في جسده ولكن رغم
كل ذلك ظل صابًرا.
واسأل الله أن يحرك بك ما حرك بي ،ولنجعل صفة الحمد والشكر
دائًما فينا في جميع األحوال.
39
ألم
شذى أمين اشتية
ألم
الشمس ُتسدل شعاًعا بّراًقا يلمع على سطح قبة الصخرة ،يلعب األطفال
في ساحات المسجد األقصى.
يرابط أهل القدس في هذه البقعة المباركة ،كان اليوم هو موعد تنظيف
ساحاته ،تشارك نساء القدس في تنظيفها ،يحملون معهم أدوات
التنظيف ،بروٍح سعيدٍة وقلٍب يخفق حًّبا لهذه البقعة التي أسرى الله
بعبده إليها.
بينما إحدى النساء تسكب المياه ،إذ بصوت الشّبان يعلو :االحتالل اقتحم
المسجد األقصى!
هكذا هم ،ال يرتاح لهم بال إال إذا آذوا المرابطين ،يدخلون ساحاته
ويرتكبون أبشع الجرائم.
يمسح إحدى الّشباب قطرات عرق على جبينه ،ويعود ليطمئن على أمه
التي كانت تصلي في المسجد األقصى حين اقتحمه االحتالل.
وما خلف أبواب القدس ،شعب فلسطين الُمقاوم ،يتصدى لضرباته،
ويرابط للعيش على هذه األرض ،يقّيد أحد الجنود شاًّبا في مقتبل العمر،
يسحبه بوحشّية ،يسوقه إلى الجيب المصفوف على ُبعد أمتاٍر قليلة.
أمه ،تلك األم التي فقدت ابًنا وسجن لها ابٌن في نفس اليوم! تترقرق
عيناها بالدموع ،وترفع يديها إلى جبار السماوات واألرض ،ويلهج لسانها
بالدعاء.
وفي الّسجون ،حيث ينحت األسرى على جدرانه األمل ،يحفرون نفًقا
بملعقة ،ويؤمنون بأن الله لن يضيع لهم مثقال ذرة ،وأنه يراهم وإن غفل
عن تضحياتهم العالم.
يغرد عصفوٌر عند نوافذ السجون ،زقزقته تمّد السجناء باألمل ،فيلهجون
بالدعاء أن يحررهم الله كما هذا العصفور.
وما خلف أبواِب السجون ،أمهاٌت تصطف كي تزور أبناءها ،زوجات،
أطفال ،وعائلة تنتظر أن ترى أسيرها من وراء الزجاج ،لتكّلمه عبر
هواتف السجون ،وتسمع صوته الّتِعب.
في إحدى القرى فتاٌة جالسة على مكتبها ،حملت ورقة وكتبت عن
األلم الذي يعصر قلب فلسطين ،وحين كانت تسترسل في
40
الكتابة لم تنتبه لصراخ أخيها حين كان يرمي الجنود بالحجارة،
قبل أن ُتطلق رصاصة لتستقر في قلبه ،وحينها ،تمنت لو أنها تفعل
شيًئا ،لم يكن بوسعها سوى أن تبكي على فراقه ،لكّنها رددت:
فلسطين تستحق قلمي ..وبشدة!
في الشارع المقابل..
يقف جٌّد يحمل مفتاًحا صدئا بعيًدا عن قفله ،أعطاه لحفيده ،وقال
له :هذا المفتاح ،هو رمز لألمل ،عسى يوًما أن يعود المهاجرون
يا ولدي ،فاحتفظ به إلى حين ذلك الوقت ،فوعُد اللِه آٍت رغم
أنِف اليهود المغتصبين ..عسى يا ولدي أن تفتحه أنت ،أو أبناؤك
أو أحفادك ،نحن هنا ما خلف أبواب بيوتنا ،عسى أن نكون
داخلها.
41
لقاء
أصالة عمر
لقاء
أقف أمام منزِلهم كعادتي ،بصري موجه لذاك الباب المؤصّد من سنين والكثير
من التساؤالت تجوب في جوِفي ،أُتراها تعود؟ ِسوار أين أنِت؟ هل أنِت بخير؟
خطوت ُمبتعدًا أتمتّم بكلماٍت رددناها سويًا لعمرًا مديد:
( يا صاحب الوّد ،أيا رفيق الُحب ) ذهبت وقلبي ال ُيفارقه األمل البّتة ،شغلت
سيارتي وأنطلقت للُمستشفى؛ حين وصولي قابلني المسعف مباشرًة يركض
ويتكلم بالكاّد فهمت َأحرُفه!
-دكتور إياد هناك مريضة تنتظرك من صباح اليوم أظنها تعرفك جيدًا!
-حسًنا سأراها.
دخلت مكتبي والتعب ُينهكني ،فالبارحة كنا في عملية أخذت 8ساعات حتى
أنتهاينا منها كاد ُيزاغ بصري من شدة التركيز ،العملية جدًا خطيرة .شردت
بفكري في حالة المريض حتى ُطرق الباب.
-تفضل
" ما أن رأيتها ظننت لوهلًة أنني أحلم! تهُت! وكأن الوقت للحظة توقف! حتى
نطقت أسمي بصوتها العذب:
-إياد اتذكرني!
وتبت من الكرسي بهلع:
-كيف اذكرِك وأنا لم أنساك!
صارت تنهمر الدموع من مقلتيها على ِتلَك الوجنتين ال يحتمل قلبي هذا ُكِف
أرجوِك.
-قبل خمسة عشر عامًا عام قرر والدي السفر المفاجئ منعني من إخبارك،
ِ-سوار طّيلة تلك السنين وأنا أبحث عنك كالمجنون! أين كنِت؟
-إيـ...
قطعت حديثها بنهم:
-لم أترك بقعًة في المدينة إال وبحثُت عنِك فيها ،وكأنِك إبرة في كومِة َقش!!!
-حسًنا اسمعـ....
أتكلم وبالكاد آخٌذ نفسًا! :
-كنُت ميتًا في جسدًا حّي
أقتربت ووضعت يداها الرقيقة على فمي
-إهدء يا إياد أنا من سأتكلم
42
أصغيت ألوامرها فورًا
-أنا لم أكن في المدينة حتى ،نحن غادرنا البالد كلها لو تدري.
أخذت ألتكلم فأوقفتني بأصبعها
-أوووهوو إيااد اصمت.
وأخذت تضحك تلك الضحكات الساحرة فرحلُت أنا لعالٍم أخر.
-حاولت أن أصل أليك كثيًرا ولكن ال جدوى حتى توفٰى والدي
واستطعت المجيء إلي هنا ثانيًة.
أمتلئ صوتها بالخنقة أنا أعلم كم هي متعلقة بأبيها حقًا ،نهضت من
مكاني ُمسرعًا وأخذتها لقلبي لعلها تهدأ؛ بكت بكت بحرقة وقلبي مع
ذاك الُبكاء ينِزف.
-رحمه الله يا سوار ،كلنا ذاهبون أنا ايضا فقدت أمي فزادني األمر
عجزًا ،ولكن قاومت ودرست وها أنا اليوم بفضل الله طبيب .
سوار يا عزيزتي ،لكًل مّنا نصيب من الفرح والُحزن ،وما كتبه الله
سنرضا به.
قلت كلماتي وساد الصمت ،تعلقت هي أكثر بقميصي وكأنها ال تريد
فراق صاحبه مجددًا.
فقطعت الصمت بسيف الشوِق لها:
-أتدرين يا جميلة الروح أني لم أفقد األمل أبدًا لِـ لقائك واآلن يا سواري
لن أسمح لشيء أن يفرقنا مرة أخرى.
ثم قهقت :سوء الموت طبعًا.
أبتسمت ونظرت لي بُزرقاء عينيها:
-وأنا كذلك إيادي لن أسمح بالفراِق ثانيًة ،قد رحلت عنَك سنين بل
وكأّنها قرون! لكنك في قلبّي لم تغادر لحظًة.
ابتسم كالهما وقاال مًعا:
(يا صاحب الود ،أيارفيق الُحب)
أصالة عمر
43
قوة مزيفة
آلاء مسعود المشاي
مزيفة
قوة
أن ُتظهر عكس ما تشعر به شيٌئ مؤلٌم حًقا ،لما يجب علّي أن أتظاهر
بالسعادة والقوة أمامهم؟
َكَتبت ضائعة ،وأغلقت مذكرتها فإذا بالدموع تنهمر من عيناها ،أردفت
قائلًة في نفسها -لماذا علّي أن أواجه قسوة الحياة وحدي؟ لماذا رحلت
وتركتني؟ لما يا مرشدي -دخلت أمها عند سماع صوت بكاء ابنتها قائلًة:
-هيا يا صغيرتي كفي عن البكاء ،ال يمكننا معارضة قضاء الله وقدره ،هيا يا
ميس توقفي.
-ولكن يا أمي أنِت تعلمين أن أبي كان كل حياتي أليس كذلك؟ أنا أفتقده
كثيًرا.
-أعلم جيًدا يا صغيرتي ،كلنا نفتقده ،ولكن ال نبكي بل ندعوا له بالرحمة،
امسحي دموعك واخرجي مع صديقاتك إنهم في انتظارك.
-رحمه الله وغفر له ،شكًرا يا أمي ،أوه تذكرت! مذكرتي تكاد تنتهي،
أريد شراء أخرى.
-حسًنا ،سنذهب فيما بعد ،لننتظر أخاك حتى يعود.
خرجت ميس للحديقة مع صديقاتها ،وقبل خروجها ارتدت قناع المرح
واإلبتسامة ،أصحبت تضحك مع صديقاتها الالتي ُكّن يدعونها بالفتاة
المرحة ،وماهي إال ثواني حتى اجهشت بالبكاء عند رؤيتها لفتاٍة تحتضن
والدها ،سألنها صديقاتها عن سبب بكائها ،أردفت قائلة مع إبتسامة:
-ال شيء ،بعض األتربة دخلت عيناي ،سأذهب للمنزل اآلن ،أراكم فيما بعد.
قالت إحداهن:
-هل ستعودين وحدك؟ أوه نسيت ليس لديك أب ،لن يحاسبك أحد ،ههه.
وقالت األخرى بشفقة:
-ال أعلم كيف لِك هذه القوة وقد مات سندك ،أم أنِك نسيتيه ،وأصبح
جزًءا من الماضي!
لم ترد عليهم ميس ،فقد اعتادت على هذه الجمل منذ وفاة والدها.
دخلت للمنزل وارتمت على سريرها قائلًة:
44
ال يوجد شيٌء أشد ألًما من أن تفقد أحد أفراد عائلتك ،نظرة المجتمع لليتيم
خاطئًة تماًما ،ليتني أستطيع تصحيحها ،ال يعلمون كم يعانون خلف الباب،
ليتهم يفهمونُ ،هناك أحزان كتب لها التعايش معنا دائًما ،نظرت جانبها فإذا
بمذكرتها على الطاولة ،قالت:
-أنِت فقط من يمكنه فهمي ،أخذت قلًما وكتبت:
إلى أبي:
أخبرني كيف حاُلك؟
أال تعلم أن حياتي من دونك ظالٌم َحاِلك.
اشتقت لك وشوقي فاق عنان السماء.
أال يمكنني أن أراك حتى يأتي الفناء؟
شوقي يا أبي قاتل.
لو كنت مكاني ماذا عساك فاعل؟
أصبحت قوية كما كنت تريدني.
دموعي ال تريد التوقف ،فكيف للقوة أن تفيدني؟
أليست القوة هَي عدُم البكاء؟
ولكّن دموعي أصبحت كمطر الشتاء.
أال تتذكر كلماتك لي والوعود؟
إشتقت إليك أال يمكنك أن تعود؟
أغلقت مذكرتها ،وتمنت لو أن ِكتاباتها تصل لوالدها ،قامت وتوضأت،
صلت ودعت لوالدها وختمت دعائها قائلة:
اللهم ال تختبرني في عائلتي فليس لي أحد سواهم
45
معاناة
براءة فادي النجار
معاناة
تلك الفتاة تعجبني ،قوية ،مكافحة ،مليئة بالمروءة ،تطرز ظلماء اآلخرين بنجوم
ساطعة ،تزيل العبوس من وجوه األعداء حتى ترسم على جانب الحياة
السوداوية الكثير من الورود وتلونها باللون الثلجي ،تنقش الوجدان بالحب،
تسطر على القلب الهوادة ،وتزخرف الروح باإليجابية ،تعيد إنعاش األوردة
الزرقاوية ،تسطر السعادة على ورق وتوزعه أينما حلت ،تكتب التحفيز على
شريط الحياة ،يصفها الجميع بأن سمحة ،طيبة ،لينة ،رقيقة ،مع ذلك هي نوًعا
ما مستقلة ،انتقائية ،ال تثق بالكثير ،مكافحة ،شهد الجميع لها على اجتهادها
في الثانوية العامة ،تلقت الكثير من شهادات التقدير ،ألقت الكثير من
النصوص على منبر الثانوية ،تلقت شهادة نجاح في مسابقة الحساب الذهني
العالمية ،ناضجة للحد الذي ليس له حد ،تفكر مئات بل آالف المرات
لتخطو الخطوة التالية ،ألن لديها إيمان قوي بحدسها وبتفكيرها العميق ،تلقت
شهادة ألفضل نص في دار نشر ،حافظة لكتاب الله ،تلقت شهادة لسرده في
أربعة ساعات ،وتلقت شهادة لحفظها األربعين النووية وشهادة لحفظها
الجزرية ومداومة في حفظ صحيح البخاري ومسلم،
وأزيد أيًضا كما قالت الكاتبة شهد أحمد عبد الله:
"امرأٌة أمام عذوبتها وجمالها ونقائها
يقف اللؤلؤ مصاًبا بالدهشة".
ولكن كل هذا أمام الناس فقط ،فال أحد يعلم ما وراء باب غرفتها…
هناك خلف األبواب فتاة ضائعة تحاول جمع رفاتها المبعثر ،تلملم ما تبقى
من أشالء ماضيها المؤلم ،كسرت عشرات المراتُ ،حّطمت آلالف السنين،
وجهها مبعثر قد ُرسمت عليه مالمح الكهولة ،أعينها مرهقة تحتها بساط
سوَداوّي منقوش عليه اإلرهاق ،انسدل من أنفها شريط أحمر اللون ،تشققت
شفتاها كما تتشقق األرض اليابسة ،تكسرت أظافرها معلنة نقص الفيتامينات،
شعرها الحريري بدأ باالنهيار معلًنا فقر الدم ،أوردتها توقفت عن التنفس،
وُكتب على جبينها "معاناة" ،ليلة تلو أخرى ُترسم عروق داخل أعينها بلون
الدم ،لم يرى أحد قلبها المشتت ،لم يرى أحد بكاءها رغم اتساع عيونها ،لم
يرى أحد حرب األعصاب داخل رأسها ،كانت تحارب نفسها ،انتهت
الرسائل ،انتهى حبر مشاعرها ،وحروف كلماتها قد اندثرت ،لم يعد لها قوة
لحمل قلٍم يكتب هواجس ال فائدة منها ،ومشاعرها رغم تحطمها تأبى
الخروج ،وأفكارها الالمتناهية تعود في كل مرة بعد منتصف الليل لتجعل
عيونها النعسة مرهقة مؤرقة ،كل محاوالتها باءت بالفشل،
46
ومرة أخرى مشاعرها أهدرت في غير مكانها ،أعطت البعض ما لم يعطها أي
منهم ،هي حًّقا تعبت من كونها الفتاة الجيدة التي يحاول الجميع استغالل
طيبتها من أجل مصالحهم ،تعبت من كونها تلك الفتاة التي جعلت من الجميع
أصدقاءها ولم تنظر لهم مرة بنظرة سوء أو شك ،من كونها تلك الفتاة التي
تسامح وتعفو بسبب كلمة "آسف" وهي تعلم أن هذه الكلمة لن ترمم شيًئا
بداخلها ،تلك الفتاة التي كل من جاء إليها متعًبا رجع سالًما ،كل من جاء إليها
منكسرا محطًما مشتًتا مبعثًرا رجع مرتًبا مرمًما ،تلك الفتاة التي كان الجميع
يستهين بقدرتها على ترميم أي شيء ،تلك الفتاة التي جعلت من الكثير أحبتها ثم
جميعهم كسروها ،رغم أنها ترمم الجميع ،تلك الفتاة التي لطالما حاربت نفسها
بنفسها ،وحاربت غيرها لوحدها دون مساندة أحد ،تلك الفتاة التي ال ُتشعر
الغير بأنهم ثقال عليها أو أن كلماتهم تجرحها ،تلك الفتاة التي جعلت الجميع
فرًحا رغم أنها محطمة ،تعبت من كونها تلك الفتاة...
نعم تلك الفتاة التي ال يشعر بها أحد وال يفهمها أحد ،كانت الملجأ حين يتعب
أحدهم ،كانت المالذ حين يحتاج شخًصا ما الهروب من ضوضاء محيطه،
كانت تعطي لكل فرد من عائلتها الحب الذي ينبغي أن ينبع من والدتهم ،أما
اآلن...عائلتها ذهبوا ولم يعودوا ،أصدقاؤها خذلوها ،حتى أقرب الناس لها
هجروها ،كان وقت تحديد خطبتها قريٌب جًّدا ولكن لم تكتمل الفرحة يا هذا،
كُّل مفرَدات اإلرهاق أصبَحت بها ،لبست ثوَب الحزِن حَّتى اهترى ،ما عادت
تعلم أين تخيط ثوب حزنها الجديد ،كانت تود تحقيق أحالمها ولكن ما زالت
إلى اآلن لم تشعر بهذه الّلذة ،كانت تسعى ،كانت تتطّلع ،كانت تبتغي أن تلَتمس
طرف حلمها ،كان هناك شَغف يحاوط قلبها ،ولكّن سعيها لم يكتمل ،وطرف
حلمها تَناثر وشغفها اندَثر وقلبها تبعَثر ،كان لديها هدف ولديها حلم ،وكالهَما
لم يتحّققا ،وحقيقة إحدى َكذبات أبريل التي قيل فيها "وتهدينا الحياة أضواًء
في آخر النفق" ،لقد انتهى الَّزمن التي تهدينا فيها الحياة نوًرا...
أغلقُت دفتر يومياتي ،وها أنا ريفال صديقة شهد...جالسة في غرفة المشفى
الخاصة بها ،مع ماكنات معالجة السرطان ،نعم...لقد أصيبت بالسرطان ،إنها
في غيبوبة منذ شهر تقريًبا ،ال علم ألهلها وال لصحبها ،هي في الدرجة الثالثة
من السرطان ،يقول الطبيب لي أن جسدها لن يتحمل أكثر من ذلك ،وأن أكثر ما
ستعيشه هو شهرين ربما ،أما اآلن دعوني أنام فقد أصبحت الثانية بعد
منتصف الليل ،تصبحون على خير...
47
في الصباح..
استيقظت على سكون المشفى ،فلم يكن بقسمنا ضجيج بقدر األقسام
األخرى ،ولكن شيء ما غريب! هناك شيء يشعرني بالهوادة ،ما الذي
يحدث؟
التفُّت على يميني فرأيت مهجة قلبي وأنيستي وزميلتي وجميلتي
جالسة تشرب كوب شاي ،لقد استيقظت! صوتي الداخلي أبى إال أن
يخرج عن مساره فقلت بصوت يملؤه السعادة واالضطراب :لقد
استيقَظْت!
بينما قفزت من سريري مهرولة لها ،كانت تنظر لي بغرابة وهلع،
وحين وصلُت لها ألحضنها مأل صوتها ليس أرجاء الغرفة ،بل أرجاء
الفضاء بقولها :ابتعدي عني.
وكأنها أصبحت مجنونة!
أخذها الطبيب على حين غفلة مني حين كنت بحالة تصادم بين
الخيال والواقع ،بين الحقيقة والحلم ،مرت ساعة تقريًبا والطبيب لم
يأِت بعد ،لم أدري عنها شيًئا ،ولكن حين عاد بها إلى الغرفة وأراني
التحاليل ،هنا تكمن الصدمة...لقد فقدت ذاكرتها ،وما يزيد الطين بلة
أن السرطان انتشر في جسدها بشكل مروع كما تنتشر الغرابيب السود
في السماء الطاهرة...
مرت أيام وعادت شهد في غيبوبة،
أمسكت دفتري ألكتب ،فقد كانت الكتابة الملجأ الوحيد لي..
كنت في حالة صدمة هذا األسبوع ،كانت التحاليل مؤذية لي أكثر
منها ،فهي اآلن ال تعي شيًئا ،آه يا جميلتي كم أن الحزن مؤٍذ ،وكم أن
كتم المشاعر مهلك ،لم أشبع تلك المرة بإخباركم عن شخصها ،دعوني
أخبركم أكثر ،كانت تلك التي تسقي الجميع من ماء حبها حتى
أسرفت ،وهي تعلم أن اإلسراف مضر ،تلك التي لو كذبت بوجهها
لقالت ربما فهم األمر بشكل خاطئ ،تلك التي كانت تضحي بنفسها من
أجل بعض أناس ال يستحقونها ،تلك التي لو جئت من خلف ظهرها
قاتًلا ألحسنت الظن بك ،كان هذا البيت يمثلها:
"كم باسٌم
والحزن يمأل قلبه
والناس تحسب أنه مسروٌر
وتراُه في جبر الَخواطر ساعًيا
وفؤاده متَصدع مكُسور".
48
أما اآلن...فقد جف نهر حبها ويبست أرضه ،وكذب الكثير حتى ُأشبعت
بالكذب ،وضحت بنفسها كثيًرا حتى تشَّبع جسدها بالخدوش ،وتم اغتيالها
من ِقبل مرض خبيث ،حقيقة
كانت مختلفة كل االختالف وال تمت للواِقع بصلة خلف األبواب..
استيقظت من غيبوبتها التي دامت قرابة العشر ساعات ،فاقتربت منها
وقلت بنفسي لعلني أستطيع الكالم معها قليًلا فقد اشتقت كثيًرا لها،
وحين اقترابي منها دخل شخصان أحدهما معه عكازة واضًعا على عينيه
وحول رأسه قماشة ،واآلخر ممسك به وكأن يدله على الطريق ،جاء
صاحب العكازة وجلس على طرف سرير شهد ،وقال:
-مرحًبا عزيزتي كيف أصبحِت؟
-بخير...
-هل تشعرين بألم؟
-ال ،ال أشعر بشيء.
-هل اشتقِت لي؟
-ال أدري من أنت ،وبالتالي ال أشتاق لك.
-ال بأس...أنا أخوك.
-هل كان لدي أي أخوة؟
-نعم كنا مكونين من أب وأم وأخوين وأخت التي هي أنت ،كنا عائلة
لديها من النعيم ما ال ُيعد فقد بارك الله لنا في عملنا ،وكان لدينا ثالث
سيارات وبيت ذو طابقين مع مسبح جميل جًّدا.
-جميل...أين والدتي؟
-والدتك...أصابها مرض قوي منذ سنة وماتت.
-حًّقا؟...إذا أين والدي؟
-والدك أصيب بجلطة بعد موت والدتك ومات بعدها بسنة.
-وأخ؟
-أما عن أخوك وأنا فقد ذهبنا لتأدية خدمتنا في الجيش ،ولسوء الحظ
فقدنا أخي ،أما أنا بقيت حًّيا أعاثر الحياة ،تعبت من قلق الحياة ومرها،
تعبت من التفكير في المستقبل ،وماذا سيحدث بي ،تعبت ،وأصابني
الفتور والوهن والكلل واإلعياء ،أتعرفين معنى الهدنة؟
أنا أريدها فقط...ال أريد شيًئا آخر.
قالت وعلى ثغرها ابتسامة أَمل:
-ربما الَحياة ليست بهذه الَقسوة ،ربما َعيناك مرهقتان ليس إَّلا.
-لقد َفقدت َعيناي.
49
أزاح قطعة القماش عن عينيه فإذ بستارة بيضاء اللون تغطي بؤبؤ عينيه.
-قالت بغرابة :ما الذي حصل لهما.
-بينما الجميع يقول لي أني محظوظ بأني ال أملك عائلة وأني حر،
أصابني العمى من الحزن كما ابيضت عينا النبي يعقوب عليه السالم
حينما فقد ولداه...
على كٍّل ،سآتي إليك كل يوم ألراك.
جاء مساعده وأمسك بيده ،والتف ليذهب فقالت:
-شكًرا لمجيئك.
ارتسمت على ثغره ابتسامة خفيفة:
-ال شكر على واجب.
وأشار إلي بأن ألحقه ،عن نفسي كنت على معرفة بكل هذه القصة ،فما
ُأصيبت جميلتي بهذا المرض إال من وراء الذي حصل ،لم يتحمل
جسدها الواهن.
ذهبنا إلى خارج الغرفة:
-ال أدري ما سأقول ولكن شكًرا على اعتنائك بها طيلة هذا الوقت.
-ال بأس ال أريد أن تشرح شيًئا ،فقط ابقى بجانب أختك فهي بآخر أيام
حياتها.
-أدري ذلك.
-هل كنَت بالمشفى كل هذا الوقت؟
-نعم فقد أصبت بخدوش في الحرب واضطررت لدخول المشفى
لحين شفائي.
-أوه..حسًنا.
-سأذهب اآلن ،سأعود الحقا ان شاء الله.
-حسًنا.
عدت ألكتب على الدفتر؛ أرأيتم كم أن الحزن مؤلم ،مؤلم نفسًّيا،
جسدًّيا وعقلًّيا ،أحدهما أصيب بالعمى ،واآلخر أصيب بالسرطان ،كم
أن الناس حسودة ،ال تنظر لألمور من عدة جهات ،وإنما فقط ما يظهر
لها ،متى يستوعب البشر أن الناس ال تقاس بمظهرها فقط ،وإنما تقاس بما
ال تبصره األعين ،كم أن هذه العائلة محسودة ،كم أن الله يحب هذه
العائلة حتى ابتالها بشتى أنواع البالء فكما قال النبي ﷺ" :إذا أحب
الله عبده ابتاله".
50
أخاف يوًما تغادر فيه شهد الحياة،
فلتشهدوا جميًعا أيها القّراء لن يعود لي صاحبة بعد شهد...
نهضت وتوضأت وصليت ركعتين لعل الله يفرج عنا ويشفي شهد...
وألنني تأخرت بالنوم استيقظت عند الساعة الثانية عشر صباًحا على
الصوت العالي الذي ينبع من الذين أراهم أمامي ،أطباء عن اليمين والشمال
يركضون ،منهم من ُيحضر المصل ،ومنهم من يأتي بآلة يضعها بجانب شهد
وبالجانب اآلخر آلة لدقات القلب.
-
نهضت مسرعة ألرى ما الذي يحصل فرأيت شهد مغمضة عينيها مصفَّرة
اللون ،وشفتيها ملونة باللون البنفسجي ،وما أن يمسك الطبيب شعرها إال
وخرجت خصالت بيده.
ورأيت المساعد يحضر آلة كبيرة
فصرخت للطبيب بهلع:
-ما هذه؟!
-إنها آلة الصدمات الكهربائية لإلنعاش.
بدأ الطبيب بالضغط على قلبها ،مرة يضغط بيده ومرة بآلة الصدمات
الكهربائية ،أعاد الكرة مرة واثنتين وثالثة ،ولم يتحرك جهاز القلب ولو ببنت
شفة ،هنا أيقنت حًّقا أن شهد...غادرت الحياة.
شهد ،تركتني وحيدة ،مبعثرة ،مشتتة ،متناثرة ،وكأن جبًلا من الصخور
وضع على كاهلي المنهك ،آه يا شهد ،لماذا ،لماذا يجب عليك الذهاب؟ لم
يعد لي أحد ،لقد تعبت ،تعبت من كاللة الحياة وكدحها ،أتذكرين تلك
المرة ،التي جلسنا مع بعضنا نذاكر مواد االختبار اإلعدادية كنا بعمر الثالث
عشر تقريًبا؟ أال تذكرين ماذا قلِت لي حينها؟
قلِت:
-لن أتركك يا ريفال ،أقسم لِك ،لن أتركك ما دمُت حية.
-أعدك يا أعز ما أملك.
51
-بعد مرور شهر-
وقفت على المرآة ألرى وجهي ،فرأيته مليًئا بالحبوب ،قد غطاه النعاس ،عيناي
وكأنها أصيبت بخيبة أمل ،قد أصبح وزني قرابة الثالثة واألربعين كيلو أكاد
أجزم أني سأصبح هيكًلا عظمًّيا قريًبا ،أدركت أن لدي محاضرة بعد قليل،
فارتديت ،ولكن لم أرتدي فقط الثياب ،وإنما قناع السعادة واالبتسامة ،ألن شهد
مرة قالت لي:
-إياك يا ريفال أن تظهري لآلخرين مدى ضعفك ،حتى لو كنِت بأقصى مراحل
الحزن والوهن ،فالناس تستمد قوتها من ضعفك ،كوني قوية يا هذه.
فتحت الدفتر ألكتب قليًلا؛
شهد كيف حالك اليوم،
أتمنى أنك بخير ،ما زلت أكتب لك ،ال أدري إن كانت رسائلي تصلك ،ولكن
على كل حال أنا بخير أيًضا ،ال تقلقي علي ،ولكن…لو تدرين ما يقولون لي
لضحكِت كثيًرا والله ،الجميع مصدوم من ردة فعلي الكاذبة يقولون لي بأنني
محظوظة بسبب قوتي غير الطبيعية وبصبري على الذي حصل ،فأنا في كل
مرة أخرج من باب المنزل أرسم السعادة رغًما عن أنفي ،ولكني أقسم لك بأنني
أراك في كل شيء ،أنا هرمت من بعدك يا شهد ،أصابني اإلعياء ،أصبحت على
الهامش من بعدك ،لم أعد أفقه من الحديث شيًئا ،أصبحت انطوائية ،ال أجالس
الكثير رغم حاجتي لمن أحدثه ،لكن القّراء الذين يقرؤون هذا اآلن شهدوا جميًعا
على أنه لم ولن يكون لي صديقة من بعدك ،أليس كذلك يا رفاق؟ أنا فقط…
أحتاج كما قال أخوِك أحتاج فقط هدنة ،أوه صحيح ،أخوك بخير أيًضا ،يحاول
جاهًدا إيجاد طبيب جيد لعينيه ولكن لن يجد ،فالعينان ال تعوض ،مثلك يا
شهد ،مثلِك…ال تعوضين ،لكن أتعلمين ،لقد أخذت عبرة جيدة من وراء الذي
حدث ،أال وهي "ال أحد يعلم ما وراء األبواب واألنفس فكل مهرج وراءه قصة
مؤلمة ُتمثل في األفالم المرعبة" ولكن أوجه رسالة للجميع حًّقا ،حتى أنتم أيها
القَّراء ،هذا الذي تروه ،إنه مجرد تراكمات ،ال ينهار اإلنسان من كلمة واحدة،
كونوا مدركين لما يحصل حولكم ولو لمرة!
وآخًرا أقول…كانت شهد َعلى شَفا ُجرف تَحاول َصامدة الَّتمسك بأحَلامها،
فتُقع هي وَتقع أحالمها وينَتهي الَّزمان.
53
أتيت ألسالك عنه ألم يعد بعد؟ أجابتها مياسين وقد اكتسى وجهها بالحزن
وَغصة تنذر بالبكاء على أخيهن الوحيد التي شّتتت حياته :ال أعلم يا جوان ،ال
أعلم متى سيعود من تسكعه؟
تعلمين أنه أصبح يضيق من المنزل كي ال يواجه والدك الذي ضّيق عليه،
وتأنيبه له في كل مرة يراه فيها قائًلا أنه بال فائدة وأن منهم من هم في مثل
عمره قد أنجزوا الكثير في حياتهم ،وهو لم ينجز شيئا..
توقفت مياسين عن الكالم وحّلت موجة هدوء في الغرفة ،وخّيم على
كلتاهما صمت ُمريب ممطر بُحزن وكمد أليم..
-جوان..جوان
ما بال هذه الفتاة أال تسمع؟ جووووان
-بسم الله ..ماذا هناك
راحت تتخبط يمنة ويسرة من الخوف
ضحكت مياسين على ردة فعلها
فنظرت إليها بنظرٍة منغاضة من ضحكتها عليها
-ميااااسين
-لم تسمعين ما قلته لك كان علي مناداتك بصوت أعلى
-طبلة أذني صّمت من صوتك ..حسًنا ما الذي كنت تقولينه؟
-تبسمت وقالت بصوت هادئ :
ما هذا الهدوء الذي يُعم أرجاء المنزل؟ لَم ال أسمع أصوات لوالدّي اليوم؟
-بربك مياسين كيف ستسمعينهما وجل وقتك -اليوم -أمام هذا الشيء ،بل
قبل هذا الهدوء حدثت العاصفة وككل يوم ال يمر بدونها
تنهدت مياسين بألم من َصخب المشاكل التي ال تنتهي في منزلهم بين والديها:
-ما الذي حدث هذه المرة أيًضا؟
رتبت جوان جلستها وبدأت بالحديث ...
لتصغي ،شنت والدتك حربا على والدك بأنه ال يهتم بأعباء المنزل وأن كل
وقته مقابل أعمال شركته وأشغاله ،وال يبالي بما تحتاجه ،وبالتأكيد سيبرئ
والدك التهم الموجهة إليه ككل مرة ويبدأ بالصراخ أنها هي التي ليست
كالنساء األخريات اللواتي يهتمن بشؤون منازلهن ورعاية أزواجهن وأوالدهن،
وال يهمها إال الخروج من المنزل والتباهي بمكانتها بين النساء ذات الطبقة العليا،
حتى يرتفع الصراخ ويلوم كل واحد منهم اآلخر ،ثم مغادرتهم من المنزل كل
إلى مكانه المعتاد ..
54
توقفت جوان عن الكالم وارتمت بجسدها إلى السرير ناظرة -تحديًدا
-إلى الثريا التي تزين سقف الغرفة ،قائلة بصوت أجش مخرجة
للحروف وكأنها مشرط يقطع أحبالها الصوتية:
لماذا حياتنا هكذا؟
لماذا خلف هذا الباب الُمرصع بالجمال يكُمن ضجيج ال يهدأ؟!
وبصوت يأت من سرداب بعيد عن عالمها:
أتعلمين ماذا قالت صديقتي جمان يا مياسين؟! رفعت نظرها إلى أختها
وعيناها ترقرق من الدمع
قالت لي ذات يوم :ليتني أعيش حياة الرفاهية والدالل التي تعيشينها يا
جوان!
يا للبؤس يا مياسين ليتها تعلم أن خلف هذا الباب جحيم تحرق فيه
قلوبنا..
هلْت دموع مياسين وبدأ صوتها يرتفع بالنحيب من كالم أختها التي لم
تعش حياة الدالل في هذا المنزل ،ومن حياتهم الميؤوس منها والصاخبة
-يومًّيا -بالمشاكل والصراخ ،وعلى أيامهم التي لم يستمتعوا بها كبقية
أولئك الذين هم من مثل سنهم..
ليتهم يعلمون يا مياسين
أن خلف كل باب روايات ال تنتهي فصولها وحكايات يشيب لها
سامعها ،تبكي لها العين ويندب لها القلب ،خلفها السعيد حزينا ،والحزين
سعيدا ،الجميل قبيح ،والقبيح جميل ،الغني فقير ،والفقير غني ،ليتهم
يعلمون أن ما خلف األبواب يا مياسين تكمن حياة أشخاص ال يعرفها
أحد سواهم...
بعد آخر جملة قالتها جوان حل صمت حزين في الغرفة ،ال يسمع منه
إال بكاء مياسين الذي لم يهدأ حيال كل كلمة تفوهت بها أختها..
-مياسين ..هيا كفي عن البكاء ،قالت جملتها تلك مع نهوضها من
على السرير ،مكفكفة لدموعها
-سأخرج وأرى إن عاد هادي إلى المنزل
فإن عاد ورآك هكذا سيهرب هذه المرة من منظرك ،رفعت
مياسين عيناها -وقد كِّونت فيها شعيرات دموية بسبب
بكاؤها -ناظرة إلى أختها التي ال تكف من أن تزين اإلبتسامة على
ثغرها بعد كل موجة حزن تصيبها ،همت تكفكف دموعها
وأخذت نفًسا عميق قائلة:
55
-حسًنا إن عاد أخبريه أّني بانتظاره لنذهب إلى حيث اخبرته..
-مياااسين ما الذي تخططين لفعله
قالت جملتها تلك مصوبة تصغير عيناها الحمراواتان الثاقبة إليها
ضحكت مياسين من نظرتها وقالت مبتسمة:
صحيح لم أخبرك
قد تم قبول دار النشر لتصدير كتابي األول
-مااااذا لم تخبريني بذلك من قبل
قالت جملتها مع ركضها من مكانها إلى احتضان أختها ،وضحكتهن ُيسمع
صداها في أرجاء المنزل..
-جوااان خنقتيني
-دعيني أخنقك أكثر لعدم اخباري يا لئيمة ،وأنا التي ظننتك تعبثين بذلك
الحاسوب ال أكثر ،تبسمت مياسين وقامت باحتضان أختها أكثر ..بعد أن
هدأت موجة االحتضان وآثار الفرحة تزين محياهن..
-هيا أخبريني ما اسم الكتاب ألخبر صديقاتي في المدرسة وأخبر جمان
عنه وأفاخر بك وألغيظهن بامتالكي ألخت مثلك ..قالت كالمها وعيناها
تشع بالخبث
-ضحكت مياسين من مغايظة أختها لصديقاتها دائًما وقالت بصوت حاٍن:
حسًنا ،عندما فتحِت علّي الباب فجأة ما الذي كنُت أكتبه؟!
-نظرت جوان إليها وكأنها لم تفهم ما قالته ،فأخذت تسترجع حدث
دخولها عليها..
فتحت عيناها على وسعهن بنظرة دهشة:
-ميااااسين ال تقوووولي...
تنهدت وسرحت بابتسامتها في وجه أختها:
نعم ،نعم يا جوان إنه هو...
"ما خلف األبواب".
نبيلة الثرياء
56
إنكسار قلب
هند علي أحمد
إنكسار قلب
صراخ يدوي في اآلذان كلمات جارحة تجرح القلب الرقيق الصغير ،أصواٌت
متداخلة متشابهة ،هنا تبكي بال صوت تجعل للدموع طريقا من وجنتيها ،تنطوي
على جسدها المنهك المتعب الخاوي من القوة ،خلف الباب وحيدة ال أحد
يدري بها ،تذهب راحلة من كل هذا الضجيج الذي يحيط بها ،هنا فتاة بذلت
حتى ذبلت ،تريد أن تعيش حياًة كريمًة هي وطفلها ،يأتي إليها زوجها الذي
يعتبرها عدوته وخادمًة له ال زوجته..
يده خفيفة تجاهها في الضرب وبخيلة تجاهها ،ال ينفق أبًدا وبخيٌل جًّدا ،سواء
في طعاٍم أو لباٍس أو حّب.
يمتلك في الجانب األيسر حجًرا وليس قلًبا ينبض ،دائًما حديثه مليٌء بالكلمات
البذيئة وبالكلمات الجارحة ،كلما أرادت أن تجعله ليًنا قليًلا تجاهها يصبح أكثر
قساوًة من ذي قبل ،بلغ الكره في قلبه ما بلغ ،تتذكر عندما حّضرت له طعامه
المفضل عابه وذكر فيه أكثر من عيب ،ونسي أن حبيبنا محمد صلى الله عليه
وسلم لم يعب طعاًما قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه.
في أحد األيام قال لها لماذا أنِت هكذا تحاولين أن تكوني مالكا وأنِت شيطان،
لماذا ُتكثري من الطلبات أال تملين أبًدا ،أتعلمين أنِك تريدين أن تجعلي رأسي بين
التراب وبين النعال يا فاجرة ،تريدين أن تفقريني ،وهي قد طلبت منه فاكهة
اشتهتها ليس إّلا ،تتلقى التوبيخ دائًما تتعرض لنظرات مستهزئة منه ،يعود إليها في
ُدجى الليل بعد سكرته ،يتخبط ويصرخ يفزعها هي وطفلها الذي لم يكمل سنته
الرابعة ،تسكن بين أربع جدران فيها كل أنواع البشاعة والقسوة ،خيم عليهم الظالم
بسبب أسلوبه ،غادرتها السعادة منذ تلك اللحظة التي تحولت حياتها إلى جحيم،
أسمته يوم البؤس والشؤم ،كانت يوم األحد في المطبخ منشغلة بتنظيفه بعد أن
أعدت طعام العشاء تدندن بعض من أغنيتها المفضلة ،سمعت مقبض الباب ينفتح
فهرولت إليه كالعادة مشتاقًة إليه ،لكن لم تجده كعادته لم يكن طبيعًّيا أبًدا ،به
شيء ،قالت له ما بَك؟ ما حالتَك هذه؟ لم يكن بكامل وعيه ،أجابها بعيون تلهب
كالنار يا حقيرة يا سافلة ولِك عيًنا تسألي ،من أين تعرفي أحمد؟ قالت أحمد!
ومن أحمد هذا ما بَك من أين جئت؟ صفعها صفعة جعلتها تسقط أرًضا ،مسك
بشعرها وأخذها إلى الغرفة وأخذ ابنه الذي صحى فزًعا من النوم بجانبها وأغلق
الباب وخرج من المنزل ،رجع بعد يومان ،أخرجها من الغرفة وقال لها من اليوم
حتى آخر يوم بعمرِك لن
57
تخرجي ولن يأتي إليِك أحد ،قالت بسبب لماذا؟ ما ذنبي؟ لما أغلقت الباب،
اخرسي وال أسمع لِك حًّسا وإال ورّب العرش ألقتلَّنك ،تهددني وتضربني
وتغلق علي الباب وتشك في شرفي ماذا دهاك أخبرني ،صرخت في وجهه
قائلة لن أسامحَك ما حييت ،اجتاحها صداع ودوار شديد حتى أغمى عليها،
طفلها يناديها ماما ماما انهضي استيقظي ،أخذها إلى المشفى فخرجت
الممرضة إليه قالت مبارك سيدي زوجتك حامل ،ماذا ماذا!
لكن ما حلتها هذه إنها تحتاج إلى رعاية واهتمام فهي متعبة جًّدا ومرهقة
يجب أن تهتم بها من أجلها وأجل الجنين ،قال لها متى ستخرج قالت يمكنك
أخذها لكن كما قلت لَك سيدي إنها بحاجة الهتمام وتغذية ،أخذها وأوصلها
إلى المنزل ركلها في بطنها وقال لها يا فاجرة ابن من هذا؟ بكت في داخلها
ولم تجبه أحست أنه طعنها بكلماته هذه أيشك بها؟ رددت حسبي الله ونعم
الوكيل ،قالت له أرجوك أخبرني ما سبب كل هذا من تكلم علّي من اتهمني
وظلمني ،صفعها وجرها من شعرها وضربها وركلها في بطنها ركلة تلو
األخرى
حتى أغمى عليها نظر إليها أخذ ابنه وذهب بعد أن أغلق عليها الباب ،أفاقت
بعد ساعة وأحست بألم في بطنها ،مسكت بطنها وهي تلتوي وتئن وتصرخ
افتح الباب ،لكن ما من مجيب ال أحد يسمع صراخها إلى ربها شعرت ببرودة
وشيٌء خرج بغزارة منها رأت دم؛ آه إنني أنزف ،عاد إلى البيت بعد أن ذهب
إلى من أخبره عنها واتهمها زورا وبهتانا ،فتح الباب ونظر إليها فوجدها غارقة
في دمها ،أخذها إلى المشفى فأخبروه أنها فقدت الجنين ،قالت له الممرضة
ما بها ؟ من ضربها؟ قال سقطت من درج المنزل ،ظلت في المشفى يوًما
كامًلا
سألت أين ابنها قال ابني وليس ابنِك يا فاجرة ،بكت دون صوت حتى
انتفخت عيناها ،خرجت من المشفى إلى المنزل لم يضربها وجدت ابنها
يتفرج على شاشة التلفاز رآها فهرع إليها وهو يبكي ماما لقد اشتقت إليِك
ِلما لم تأخذيني معِك؟ أتكرهيني؟ أنِت ال تحبينني ،بكت كثيرا حتى جّف
الّدمع من عينيها ،مضت األيام وهي خادمة ال غير ،ال تخرج ال تتصل بأحٍد
أبًدا ،فاقت من تذكرها للماضي على صوت الباب لقد جاء ألخذ بعض
األوراق ،وجدت ابنها نائًما تأّملته فسقطت دمعة من مقلتيها آه آه يا ولدي
كيف كنا وكيف أصبحنا،استيقظ ابنها أراد أن يشتري بعًضا من الحلوى
فناداها يا ماما أريد حلوى ،ردت عليه والُدك أغلق الباب علينا ،أتى األب
السّكير يمشي بخطوات بطيئة وهو ال يدري أين هو ما زال في سكرته،
58
لم ُيغلق الباب أبًدا ،صحت من نومها عندما سمعت خطواته في المنزل لم
تعد إلى النوم ،ظلت تفكر وتجول كيف تهرب منه ليس لها نجاة إال الفرار
منه ،لم تعد تسمع له حس ،خرجت تمشي بهدوء في الظالم ودخان السجائر
ورائحة الخمر قد مألت المنزل ،لديها نسخة من مفتاح الباب فقط تريد أن
تتأكد من أنُه نائم ،وجدته مرمي على غرفة المعيشة وحوله علب السجائر
وقارورة الخمر وهو غارق في النوم لم يشعر بها ،ذهبت إلى غرفتها مسرعة
نادت طفلها هيا قم سنرحل ،قال الطفل هل سيمكنني أن أرى بابا مرة أخرى،
قالت له كال ،هل يمكنني أن أنظر إليه ،تسللت دمعة من عين األم من كالم
طفلها قالت وهي تداري جراحها بلى يمكنك لكن أمامك بضع دقائق فقط،
حاضر ماما ،حمل الطفل قلبه الصغير إلى والده فرآه على هذه الوضعية
فحزن لمنظره قال في همس ال يكاد يسمع أحد أحبك بابا ،التفت إلى أمه
وقال سأحميِك ماما ال تخافي خرجا من المنزل وهما يرتعدان من الخوف
مسكت بيد طفلها وقالت له سنرحل بعيًدا من هنا سأظل معَك دائًما لن
أفارقك ما ُدمت على قيد الحياة ،ساروا كثيًرا حتى تعب الطفل ،ماما لم
أعد أستطيع السير أريد أن أرتاح ،جلسا في شارع فارغ ال يوجد به أحد
سوى القطط وضوء عمود اإلنارة خافت ،شعرت بالخوف لكن عزمت أال
تعود إليه ،داعبت خيوط الشمس وجهيهما أاستيقطت األم وطفلها فأكملوا
المسير ،عندما تحاول الهرب من الظلم فإنَك ستكمل من حيث بدأت،
وجدا محًّلا للحلوى فقال ماما أريد من هذه ،مرة ثانية أعدك بأن أشتريها
لك ،ماما أنا جائع ،اصبر قليًلا لعل هذه النقود تسد جوعَك،
ماما انظري إلى البالون إنه منتفخ جًّدا ،ماما عندما يصبح لديِك نقود هل
ستشتري لي؟ سأشتري لَك ما تريد ،طارت البالون في الشارع والطفل وأمه
يشتريان شطيرة لسد جوعهما ،ماما انظري لقد ترك الطفل البالون سآخذه أنا
ركض لكي يأخذ البالون مرت سيارة مسرعة جًّدا فاصدمت بالطفل فارتمى
الطفل على األرض ودماء غطت جسده الصغير بالكامل ،نظرت إلى طفلها
فصرخت صرخة تجعل األصم يسمع ،ركضت إليه وهي تصرخ وتبكي،
حملته وهي تدور به طفلي طفلي انظر إلّي صهيب قم قم هيا بنا ،لكن ما من
مجيب فطفلها طارت روحه إلى السماء أتت سيارة اإلسعاف وأخذوا الطفل
واألم ،جاءوا إلى المشفى ولكن الطفل قد فارق الحياة ،ما أبشع الحياة وما
أقسى قلوب البشر ،دكتور أرجوك داوي طفلي ،قال لها لقد مات ،تحولت
إلى جماد لم تتحرك قال لها مات من
59
كثر النزيف ،لم تفعل شيئا ولم تصرخ أبًدا ،رحلت من المشفى ،تاركة
طفلها في ثالجة الموتى ،طفلي ما زال صغيًرا سيكبر ويحميني ،طفلي
بخير ليس به شيء ،سارت حتى وصلت أمام المنزل دخلت فوجدته
على الحال الذي تركته عليه ،لقد مر ثالث عشرة ساعة على رحيلها
هي وطفلها ،قالت له أبا صهيب قم قم تهز جسده بكل قوتها فاستيقظ
مفزوعا ما بَك ماذا هناك ما خطبك؟ تريدين أن أبدأ الصباح بالضرب
والشتم؟
قم وتعال معي طفلنا نائٌم في المستشفى ،ماذا قلِت؟ مثل ما سمعت،
تحدثي ،سردت عليه كل ما حدث دون أن تبكي ،أخذ برأسها هل كل
هذا حدث؟ ما اسم المستشفى ،سأقتلِك إن حدث لطفلي شيء ،أغلق
باب المنزل عليها وذهب مسرًعا ،ما إن ذهب حتى صرخت صرخة
قطعت حبالها الصوتية طفلي وتصيح صهيٌب يا ولدي هل تركتني
وحيدة ،صهيب يا ولدي رحلت عني وتركتني أعاني من فراق األحبه،
أسندت برأسها على الباب الذي تستند عليه دائًما بكت دًما ليس
دموًعا ،آه يا ولدي أتريد حلوى آه يا ولدي أتريد بالونا ،تعال يا ولدي
خذني إليَك فإني لن أقدر على العيش بدونك يوًما واحًدا ،أسندت
رأسها خلف الباب وحضنت صورًة لطفلها ونامت ،لم تصحى بعد
نومها أبًدا ذهبت إلى جوار ربها هي وولدها ،ماما أتيِت إلّي ،نعم يا
ولدي لن أتركك أبًدا ،أن يتحول كل شيٍء فجأة ويختفي الحب ويظهر
الكره يحّل الشّر ويذهب الخير أن يكون الظالم الحاكم والمسيطر هنا ال
مكان للنور بيننا ال مكان للحب ال مكان للخير ،خلف كل باب قصة هنا
ننتهي من هذه القصة ولكم قصص وراء كل باب مختلفات..
تجد الفرح ،الحزن ،الفقر والغناء ،تجد اليتيم ،الظالم والمظلوم ،الشر
والخير ،لكن ال أحد يبوح بما خلف األبواب.
61
الفهرس
3 المقدمة
14 كفاح
غيمة رضا
19
قناع القدر
24
جميع الحقوق محفوظة لمنظمة غيم الإبداع الثقافية
62
الفهرس
28 محطة النهاية
40 ألم
42 لقاء
63
الفهرس
44 قوة مزيفة
46 معاناة
مالذي
53
57 انكسار القلب
64
كلمة المؤلف:
قصًص ا