Professional Documents
Culture Documents
اشكالية التحديث في تونس
اشكالية التحديث في تونس
1
المقدمة
إن التركيز على المشكلة الثقافية و الدينية في هذا البحث تبرره اإلشكالية
الحضارية التي عاشها المسلمون مع مطلع العصر الحديث و التي شكلت بحق
تحديا للدين و الثقافة و التي ال تزال تؤرق فكر النخبة و المجتمع إلى يومنا هذا.
و التحدي و ان بدأ عسكريا و سياسيا فإنه انتهى ثقافيا و حضاريا .السيما و أن
كل مظاهر التدخل و االحتالل التي عرفتها المنطقة االسالمية في تاريخها الطويل
سواء حمالت الماغول أو التتار أو غيرها سرعان ما انصهرت داخل الثقافة
االسالمية .
غير أن الزاحف و الوافد الجديد الذي بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر 1798
تم احتالل الجزائر سنة 1830جاء حامال ألنماط ثقافية جديدة تروم الهيمنة
والسيطرة و تبديل الثقافات Dالمحلية و احتوائها .مما شكل صدمة نفسية لدى
المسلمين إزاء هذه المعقولية الجديدة التي جاءت تبشر بالحرية و العدالة
ضر ...و كأنها قيم مفارقة و غريبة عن ثقافة المسلمين
والمعرفة و المدنية و التح ّ
و دينيهم.
إذن ش ّكل هذا النموذج الجديد الذي يسميه ابن ابي الضياف (طبيعة الوقت) حيرة
و انشغاال لدى الفكر االسالمي بين الماضي الذي يمثل العصر الذهبي لإلسالم و
بين حاضر االسالم التعيس و المهزوم و المثقل بالخرافة و الشعوذة وبين اآلخر
المتقدم.
وهكذا وقع المسلمون في االشكالية الحضارية حيث وجدوا أنفسهم بين المثال
والواقع و بين التراث و الحداثة و بين األصيل و المعاصر.
إذن اشتدت الحيرة و بدأ التناظر و اإلختالف فيما يجب أن يؤخذ و ما يجب أن
يترك .و من هنا تبدأ المشكلة الثقافية و االشكالية الحضارية التي تتراوح بين
جدلية األنا و اآلخر .
و في هذا االطار يتنزل عملنا المتواضع:
2
إشكالية التحديث الثقافي و الديني-تونس في نهاية القرن التاسع عشر من خالل
كتاب االتحاف حتي نتبيّن المواقف المختلفة للقوى االجتماعية و السياسية و
الفكرية و خاصة رجال االصالح من مسألة التحديث الديني و الثقافي
3
.Iمسألة التحديث الثقافي
إنّ الحديث عن إشكالية التحديث الثقافي يعكس تأقطب ثنائية حضارية وهي جدلية
األنا و اآلخر ,األنا المختلفة و المتوترة و اآلخر المتقدم و المتزن.
بالنسبة لألنا فإنها تتوزع على ثالث قوى رئيسية وهي المجتمع (أي العامة )
والنخبة المثقفة(الخاصة) و السلطة الحاكمة ( خاصة الخاصة) و لقد حولنا تبيين
مواقف هذه القوى المختلفة بالوقوف على درجة وعيها بالخطر الثقافي Dو التحدي
الحضاري Dلآلخر .
رؤية الجماعة و تصورها .1
بادئ ذي بدء فالمجتمع التونسي كما رأينا سابقا تغلب عليه البداوة .وهذه المرحلة
وان إتصفت بالحيوية و النشاط و التنقل فإنها دون مستوى التحضر المادي,ألن
التحضر يعني الفعالية االجتماعية و القدرة العقلية على الخلق و االبداع ,كذلك
فالتنظيم االجتماعي لم يتحول بعد الى جمعيات و مؤسسات أين تتداخل الرعايا
في السياسات الملكية و المباحثة فيما هو أصلح للمملكة .حيث حالت Dالهامشية
دون التفاوض في الشؤون العامة " حتى أن االعيان ليس لهم إجتماع عمومي
وغاية تفسحهم بالمشي في الطرق"( .)1أما بالنسبة للمنظومة الفكرية بالوسط
الريفي فإنها تأثرت كثيرا بالطريقة الصوفية و الروح الجماعية "العشائرية"
إذ أن العالقة بين الفرد و السلطان غير مباشرة و لكى تنظم الدولة الجباية أو تبلغ
أمرا عليها ان تخاطب جماعة موحدة ,فاألساس األول للشرعية هو ثقافة
المجموعة قبل قانون الدولة ,و قد ذكر األستاذ الشنوفي":أن أغلبية العروش
كانت مرتكزة على أصول ثالثة :العائلة واألرض والدين.فالفرد ينتمي الى
العرش عن طريق العائلة الصغيرة بواسطة الطريقة الصوفية لكن الرابط الحقيقي
"()2 بين الفرد و العرش يبقى األرض
:1انظر محمد بيرم الخامس:صفوة اإلعتبار بمستودع األمصار و األقطار ,دار صادر بيروت ط 1303( 1ه)ج2/116
:2أنظر المنصف الشنوفي:أقوم المسالك,الطبعة االولى , 1972الدار التونسية للنشر تونس ص121
4
فنزعة االنتماء الى الجماعة لم تأخذ شكال إجتماعيا بالمعنى الواسع بل شكال
عائليا و عشائريا ,ومعلوم أن العائلة او العشيرة تنمي في الفرد الوالء العائلي و
الطائفي و كل منهما ال يتوافق مع الوالء االجتماعي ألن "والء الفرد نحو العائلة
أو العشيرة أو الطائفة يحد من وعيه االجتماعي و يقف في طريق الممارسة
االجتماعية السليمة"( .)1وهكذا فإن الفضاء Dالبدوي لم يعرف تق ّدما و ال تحديثا ألنه
لم يؤسس مشروعا إجتماعيا يتجاوز العشيرة الى الشعب وألن داخل القبيلة يكون
النمط الفكري أحديا تنتقل فيه المعرفة من األعلى الى األسفل,
من األب الى أبنائه و من الشيخ إلى أفراد القبيلة ومن شيخ الطريقة إلى مريديه.
فالمعرفة أحكام جاهزة و حلول نهائية ال يجوز مناقشتها أو تعديلها ترتبط كثيرا
بالمراكز االجتماعية داخل المجموعة .وبالتالي ظلّت المجموعات الرفية ساكنة
على وتيرة واحدة ُتقبل على الحياة و أوضاعها من دون سؤال او احتجاج D.كما
ساهمت الحكمة المورثة في كبح النزعة الفردية و اإلدراك الذاتي المستقل ,حيث
بقي إطار المعرفة التقليدي و الموروث محتال لمركز الوعى الجماعي .و بالنسبة
للطرق الصوفية فقد ش ّكلت بحق حصارا Dفكريا حال دون نمو الفكر حيث منعته
من التعبير عن واقعه .كما ّ
مثل أصحاب Dالطرق المكانة السامية الحتكارهم
المعرفة الخفية و النصوص المقدسة .وهكذا بقى المجتمع مخ ّدرا بدفء التصوف
و منطويا على نفسه ينشد أغاني الحياة اآلخرة و قد فوض أموره الدينية و
الدنيوية الى األولياء الصالحين".حتى الواحد من قبيلة زواوة البربرية اذا حلف
عليها"()2 بحق سيدي البشير ال يكاد يحنث و سبحته يتبركون بها و يتعاهدون
:1هشام الشرائبي:مقدمات لدراسة المجتمع العربي’ الدار المتحدة للنشر’ط ) 1975( 1ص117
:2انظر أحمد بن أبي الضياف:إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس و عهد األمان ,كتابة الدولة لشؤون الثقافية تونس(- 1963
)1965ج122/ 3
5
و رغم المساهمة االجتماعية و التربوية التي قدمتها الزوايا للضعفاء Dو المساكين
فإنها بقيت عاجزة عن تطوير الفكر االسالمي و تصحيح االعتقاد و تحريك
األلباب",حتى أن الكثير من أهل الخيام و المداشر ال يعرف عدد أوقات الصالة و
غيرها من الفروض العينية "( )1اذن كل هذه العوائق حالت دون ظهور ثقافة
اجتماعية مولّدة لوعي جديد من شأنه ان يحرر الفكر من ايهام الدجالين و انتحال
المبطلين و يدفع الفعل االجتماعي الى التعمير و البناء معبرا عن مشاغل الرأى
العام الشعبي و همومه .و بالتالي فقد تأثرت الثقافة الشعبية انذاك بعصر التحجر
و الجمود"و كانت صالتها بقرون االنحطاط أشد قوة من عالقتها بقوة االزدهار
و التحرر في التاريخ اإلسالمي"()2
و من أثار هذا الموروث الثقافي Dالذي كان يستوطن الفكر الجماعي هو أن العامة
ظلّت تنظر الى المجتمع االوروبي كعدو صليبي يجب التحذر و التحوط منه,
حتى أن المشير أحمد باى قبل سفره الى فرنسا لم يفته األخذ بهذا اإلعتبار حيث
جاء في االتحاف قوله"فأقرأ كتابنا هذا على الوالة الشرعية و المشايخ ليدوم انسهم
و ال تتشوش بهذا السفر نفوسهم"( )3فالحاجز الديني حجب على مجتمع العامة
إدراك مظاهر التقدم و التحول في أوروبا .و ظلت تنظر إلى مظاهر التحديث في
أوروبا على أنها تمردات ضد الملك و الطبيعة و اإلله ...و رغم انحياز الرعايا
األجانب في تونس الى الفالحين في انتفاضة علي بن غذاهم و مساعدتهم لهم لم
يتغير الشعور الديني تجاههم ,حتى أن أهالي المنستير في حوارهم مع وزير
الحرب Dمحمد الرشيد قالوا له"أنتم أعطيتم بالدنا للنصارى و أتيتنا اآلن لتنفيذ أمر
سيدك "( .)4عموما فالعرف الثقافي Dالذي درجت عليه الرعية يدل على أن الفكر
االسالمي الشعبي انذاك يوجد في مواقع دفاعية و معادية للفكر االخر الصليبي و
إنتاجاته الحديثة ,فالثقافة الشعبية ال تملك خطابا للتجادل مع ظاهرة الحداثة
الغربية.
: 1أنظر صفوة االعتبار 2/115
:2أنظر الحركة االصالحية في عهد المشير أحمد الى نظام الحماية ,ص136
6
رؤية النخبة المثقفة و تصورها: .2
أما بالنسبة إلى النخبة باعتبارها القوة الثانية داخل هذا النمط الثقافي المحلي
فإن المحدثين منها تفاعلوا مع ظاهرة الحداثة انطالقا من المضمون الروحي و
الثقافي للدين اإلسالمي .أى قالوا نعم للحداثة بشرط عدم تضاربها مع مبادئ
الدين االسالمي ,أى ضرورة تحقيق النهضة و التحديث في كنف االنسجام بين
مقتضيات العصر و الشريعة .و قد أعلن خير الدين صراحة "أن الشريعة ال
.تنافي التنظيمات السياسية المقويّة ألسباب التمدن و نمو العمران "()1
لكن هذا التحدي الحضاري Dفي عمومه كان قد صدم وعي النخبة التقليدي و
جعل مواقفها ردود أفعال و انفعاالت أكثر منها مواقف متزنة ,فأدى ذلك الى
عرقلة نمو عقلي منسجم .و بالتالي سقط فكر النخبة في تمجيد الماضي و أسبقية
المسلمين نحو الحضارة ,وهكذا صهروا المستحدث بالموروث الديني و سكتوا
عن التناقض القائم بين الثقافتين ,أى " أن نظرتهم الى ظواهر الحضارة Dالغربية
لم ترتبط في معظم االحيان باألسس الفلسفية و المواقف الوجودية التي نبعت منها
تلك الظواهر"( .)2فالنخبة بشرت بالحداثة و دعت اليها من ذلك شعر محمد بيرم
الخامس و حثه المسامين على التحديث
بتعاضد و تمدن و تنافس " * يا أمة اإلسالم صونوا ّ
عزتكم
بتآلف و تودد و تنافس * يا أمة اإلسالم أحيوا ذكركم
بمصانع و معارف و مجالس * يا أمة اإلسالم نمّوا صيتكم
لل ّناعس"()3 إنّ الهالك مسارع يا أمة اإلسالم عو و استيقظوا *
فالنخبة المثقفة اقتربت من ظاهرة الحداثة شعريا مثل فريدة المختارات الجديدة
لمحمد السنوسي حيث كانت نشيدا للعلم و دعوة لحماية هوية (الشعب) ,إال أنها
.لم تمارس الحداثة كنشاط ذاتي و لم تعشها كواقع و تجربة ميدانية
: 1أنظر تقديم أقوم المسالك ص17
: 2نازك سبايارد:الرحلون العرب و حضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة ,مؤسسة نوفل بيروت 1979ص475
7
.و ذلك ألنها كانت فاقدة للمبادرة ال تمللك القرار ,فهي ال تخلق بل تبارك
و تعود هذه السلبية الى انعزالها عن عامة الشعب و عدم تمثلها لمطالب الرعية و
مشاكلها .و بالتالي فإن وعيها لم يكن مر ّكزا على الواقع االجتماعي و همومه
السيما و ان اإلصالح و التحديث ال يكن إال باإلقتراب من المشاكل اليومية
للرعية .و اإلستيراد لثمرات الغرب ال يعد تحديثا بل هو وقوع في التبعية و
اإلستيالب و كما يقول خير الدين " إنه من المحال نقل مؤسسات بلد الى بلد أخر
حيث تكون فيه طبائع البشر مغايرة و كذلك أخالقهم و تربيتهم و ظروف مناخهم
"( ..)1وهذا موقف أصيل من الرجل يبرهن على أصالة الفكر اإلصالحي في
القرن التاسع عشر الذي آمن بالخصوصية التاريخية للثقافة االسالمية و عدم
.تمشيها الكلي مع ثقافة االخر
لذا فبناء المؤسسات و التحديث االجتماعي و االقتصادي ال يمكن أن يكون سليما
إال انطالقا من ثقافتنا و تجاربنا التاريخية الذاتية المستقلة .أما الخلط بين الثقافاتD
فهو كالخلط بين الماء و الزيت و هما ال يختلطان.و صدق محمد إقبال حين يقول
"إن مشعل الحياة ال يستعار من الغير بل ينبغي لكل فرد أن يوقده بنفسه في هيكل
ذاته"(. )2و ما الفائدة أن يعيد االنسان انتاج تجربة غيره؟
كذلك من عوائق النخبة هو عدم تحررها من المقوالت التاريخية الم ّدونة في
الكتب سواء في الفقه و االجتهاد أو التاريخ ,أى أن الفكر االسالمي في عمومه لم
يعش لحظته التاريخية أنذاك من حيث التفاعل بين النص و الواقع و ما يقتضيه
الحال D.من ذالك مثال عدم قطعهم مع ما جاء في اكتشاف اصطالحات Dالفنون
:للتهاوي الذي يرى
أن سياسة العلماء تكون على الخاصة في بواطنهم ال غير اى ال تكون على"
العامة ألن اصالحهم مبني على الشوكة الظاهرة و السلطة القاهرة "()3
:2نقال عن بحث إنبعاث االسالم في كتاب دراسات Dإسالميه مجموعة بحوث ترجمت بإشراف نقوال زيادة بيروت 1960ص290
8
وهكذا التقليص من صالحيات العلماء Dفي التغيير أدى الى قعودهم عن إصالح
.العامة و بالتالي ترك العلماء مواقعهم اإلصالحية للسلطة التي استبدت باألمر
و نفس الشئ بالنسبة إلى النخبة في تونس في العهد الحسيني في القرن التاسع
عشر خفّ وزنها في دائرة الصراع حتى أنها لم تتفاعل مع الحداثة الغربية إال
حسب رغبة السلطان و رضاه حتى أن المصلح خير الدين لما سئل عن عدم
تطبيقه لمبدأ التنظيمات السيما و قد آلت اليه الوزارة الكبرى أجاب قائال " فلما
كان الحال Dما ذكر و أيست من الوالي بتونس في تأسيس التنظيمات "( )1اذن فال
.حداثة فوق إرادة السلطان و ال شرعية لتغيير إال بعد موافقة و رضا السلطة
و هكذا فالمصلح خير الدين الذي أدرك مرحلة اليأس و القنوط بعد أن اصطدم
بالعقبة السياسية ووجد نفسه يسير في طريق مسدود األفاق .و األدهى من ذلك هو
أن ثقافة النخبة في تونس آنذاك ارتبطت كثيرا بالدولة و تأثرت باالنغماس في
المجال Dالسياسي حتى أنه ال يوجد مثقف يرتزق خارج القصر اإلماري بإستثناء
بعض األثرياء .فالمطالب Dالتي دفعوا عنها لم يحصل منها فائدة لعموم السكان و
لم يقدروا على التحديث الفعلي بل تركوا مبادرة التحديث للسلطة و أهوائها
.و اكتفوا بإلقاء القصائد الطوال و الثناء على الباى رائد التغيير و التجديد
إذن تحول العلماء الى موظفين لدى الدولة ,ففقدوا كل استقالل فكري و تقلص
دورهم في النقد و االعتراض ,و أصبح فكرهم محجوبا بظل البايليك لذلك ال
نستغرب أن نرى رجال في حجم المصلح خير الدين و رغم جرأته و مواقفه
التاريخية يعرض عن نصح الوزير األكبر و صهره مصطفى خزندار .حيث جاء
في صفوة االعتبار " إن التزاور بينه وبين الوزير مصطفى خزندار كان مستمرا
لقرابة المصاهرة و ال يتدخل معه في رأي من تصرفاته .كما أن األعيان و
األهالي يزرونه و ال يخوض معهم في شئ من أحوال سياسة البالد متجنبا القيل
.و القال مستكفيا في التأنس و إراحة البال"()2
9
و لو أن كتمان النصيحة و االكتفاء بالتأنس وقتئذ يعد تفريطا من جانب رجل له
قدرة كبيرة على التأثير و االستقطاب و التغيير الفعلي .وبعد أن احتوت السلطة
لهذه المؤسسة الدينية همش دورها و قلت مشاركتها في األحداث الهامة حتى
إعتبر محمد باي "أن والية العلماء ال تشمل السياسات"()1
كما استغنى الباي عثمان شقيق حمودة باشا عن مشاركتهم تماما حيث اختار أناسا
لمسامرته ليسوا من أهل العلم و ال من أهل السياسة" و إن كانوا من أماثل
الحاضرة")2(D
اذن تحولت المقابر الى مساجد يجب أن تعمّر و ال حول و ال قوة إال باهلل .كما
كان فكر النخبة ضيّق األفق لم تتجاوز اهتماماته العلوم الشرعية حتي ان شيخ
االسالم بيرم الثالث نهى ابنه عن االهتمام باألدب حيث يقول" :أن الزمان الذي
تفنيه في االدب * يراه أهل النهي من جملة اللعب "()4
10
وإذا كان األدب في نظر شيخ االسالم من جملة اللعب Dفإنه للتذكير الثورة
الفرنسية التاريخية قد سبقتها حركة أدبية اهتمت بهموم االنسان و مشاكله
.و عبّرت بحق عن طموحاته التي يجب أن تسود حتى أصبحت قيما منشودة
و قد قال محمد إقبال معبرا عن تالزم الدين و األدب كشرطين لحفظ الذات و
:صيانتها في هذه الحياة حيث يقول
الدين و الفن و التدبير و الخطب * و الشعر و النثر و التحرير و الكتب "
* في صدره يتوارى جوهر عجب كل تحيط بمكنون يضن به
* أو قصرت فهي عندي السحر الكذب أن تحفظ الذات هذه فالحياة بها
"()1 كم أمة تحت هذه الشمس قد خزيت * إذا جانب فيها الذات الدين و األدب
اضافة الى كل هذا فأغلبية العلماء بإستثناء بعض الكتاب و الرحالة من العلماء لم
تكن لهم إحاطة بما يجري خارج البالد و لو ان المصلح خير الدين ذهب أكثر من
ذلك و عمق من جهلهم حتي باألمور الداخلية حيث يقول عنهم ":و معرضين
عن استكشاف الداخلية و أذهانهم عن معرفة الخارج Dخلية"()2
عموما فالمؤسسة الفكرية بالمركز الحضري كانت فاقدة لشروط التحديث بحيث
لم تلتحم بالسلطة التحاما إصالحيا D,و لم تقترب من القوى الشعبية المدنية سواء
من التجار و الصناع أو كبار الفالحين لخلق مناخ اجتماعي تسوده قيم األمن و
العدل و االزدهار .و فشلها يعلّل بارتباطها باإلقطاع من جهة و بامتيازات
السلطة من جهة أحرى الى عدم اصطدامها بنظم فكرية مفارقة لما درجت عليه
من العرف الثقافي باستثناء النزر القليل من العلماء Dممن تنبهوا ألزمة الدولة
خارجيا Dو استيقظوا على ما يجري في أوروبا من نهضة علمية كبيرة و خاصة
.الكتاب مثل أحمد بن أبي ضياف
: 1أنظر عبد الوهاب عزام:محد اقبال سرته و فلسفته و شعره ,دار القلم القاهرة1397ه1960/م ص200
11
و الذي كان موقعهم الفكري سباقا نحو التحديث لوعيهم من جهة برداءة الوضع
.في الداخل و التصالهم بالسفراء األجانب من جهة أخرى
إذن فسؤال الحداثة لم تطرحه النخبة على نفسها كضرورة للتغيير و التجاوز و
ذلك لدغمائيتها مع الوضع القائم الى جانب عزلتها عن هموم العامة ,أى أنها لم
تمثل وعي التجديد في ذاتها الفكرية بل إن األحداث و ضغوطها هي التي دفعتهم
نحو التفكير في التحديث
رؤية السلطة الحاكمة .3
اذن بعد نفي فعل التحديث عن المجتمع و النخبة جاء دور السلطة باعتبارها
وحدها التي تملك مشروعية التحديث فهي صاحبة األمر و النهي السيما و أن
سياسة االطالق ال تسمح بالمشاركة الفعلية لغيرها إال باالستحسان و إبداء عين
الرضا .و إتجاه الدولة نحو التحديث ال يعني تميز الفكر السياسي عن فكر النخبة
و امتالكه وحده ألهلية التحديث و جدارة التغيير ,كذلك ال ينم هذا المسعى عن
الوعى بالخطر الثقافي لآلخر و تهديده المباشر لكيان الدولة و ثقافتها المحلية و
سيادتها .لكن و كما ذهب الى ذلك برهان غليون ":فالوجهاء المسلمين و التجار
المنتمين الى االقليات Dالمختلفة و السلطان المستبد الراغب في زيادة حصة
الضرائب Dو نفقات Dالدولة كان هذا الحلف هو القاعدة االولى لالنتقال نحو الدولة
الحديثة نحو التحديث "( . )1فالمبادرة السياسية للتحديث تبررها رغبات السلطان
و شهواته و إرادة التجار األجانب لتسهيل عمليات االستغالل و االستثمار من
ذلك مشروع جلب الماء من زغوان و رغبة الباي في بيعه للرعية .كذلك تحديث
االدارة السياسية و التجارية التي جاء به دستور 1861لم يستفد منه إال األجانب
عموما فعماليات التنمية و التحديث لم تتم حسب الرغبات الشعبية و مصالح
العامة بل أسست التنمية حول السلطان و أصفيائه من البورجوازية االوروبية.
12
: 1أنظر برهان غليوننظام الطائفية من الدولة الى القبيلة ,المركز الثقافي العربي 1990ص85
و هذا األمر يعد من أخطر أشكال التفتح الثقافي ألنه ال يستجيب إال إلى إرادة فئة
معينة أمام اختناق اآلخرين .فالتحديث كان محكوما بمصلحة السلطان و
اديولوجية اآلخر .و كأمثلة على ذلك نذكر سفر أحمد باى الى فرنسا ,فقد جاء
في االتحاف قوله" :أما بعد فان المصلحة التي أمرنا هللا بمراعاتها اقتضت Dأن
أسافر بنفسي الى فرنسا و لندرة"()1
فما هي المصلحة المزعومة حسب رأيه ؟ و هل تهم الرعية و تشملها إلى هذه
الدرجة ؟ لكن كل ما في االمر أن المشير":رام حجة من الدولة الفرنسية يعتمدها
في الدفاع ضد التهديد العثماني"( ,)2و هكذا فإنفتاح السلطة على اآلخر حتمته
شهوة الملك للمحافظة على العرش السياسي ,أما المصلحة العامة فال سبيل إليها.
و قد عبر أحمد ابن ابي ضياف عن خيبة المشير فقال عنه (:و رجع من باريس
بيد فارغة و أخرى ال شئ فيها)
و من أهم المشاريع الثقافية و االنتاجات Dالحديثة التي استوردها البايليك الى
المملكة نذكر تأسيس محمد الصادق باي سنة 1860لمطبعة تونسية و بعث
جريدة الرائد التونسي .و قد أعلن بعد إحداثها قائال":أن ال يطبع إال ما ينفع الناس
و ال ينافي السياسة و األداب االنسانية على قدر حضارة المملكة و استعداد
غالبها"( . )3فالسلطة هي التي تقدر ما ينفع الناس و األعلم باآلداب االنسانية و
الراعية لحضارة المملكة و ثقافة المجموعة و الحريصة كل الحرص على أن ال
يخالف ما يطبع ما تعارف عليه الناس في ثقافتهم .أى ال مجال لتحريك الوتيرة
الثقافية أو تغييرها و لو كانت منحطة و متحجرة.وال مجال لثقافة تطرح التساؤل
و التأمل و تدعو الى التحرر .وهكذا"فان أخوف ما يخافه المستبدون أن يعرف
الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة"( )4فليس في صالح المستبد ان تتنور
الرعية بالعلم و تعرف ما عليها و ما يجب ان يكون لها.
: 1أنظر االتحاف 5/93
13
: 4أنظر عبد الرحمان الكواكبي:طبائع Dاالستبداد ص37
و لقد ر ّد صاحب االتحاف على خشية السلطة قائال":و ال يخفى أن المطابع تنطق
بلسان ممالكها و إختالف حاالتهم في التمدن و الحرية"(. )1
فالشيخ أراد أن يقول أن الثقافة هي تعبير صادق على الواقع سواء كان متقدما أو
متخلفا .إذ ال يمكن أن تكون الرعية متقدمة أو متحضرة و يكون أميرها متخلفا.
"فالثقافة التي تسود المجتمع هي ثقافة النظام الذي يسوده"()2
:2أنظر محمد بن الخوجة:صفحات من تاريخ تونس تقديم و تحقيق Dحمادي الساحلي و الجيالني بالحاج يحي,دار الغرب اإلسالمي ,بيرروت ط 1
1986-ص309
و معلوم أن استعمال اآللة من طرف البدوي آنذاك لن يقضي على إيمانه بالخرافة
و لن يزيح عن ظهره األثقال الجبائية و لن يفك رقبته من األسر االجتماعي
و األغالل السياسية .و فعال كان لهذا الزواج الالشرعي بين واقع األنا و ثقافة
اآلخر أن دنست التجربة الذاتية و التاريخية لهذا المجتمع المحلي و أجهض على
الجنين في بطن أمه ليلد مشوها ,علما و أنه لم يستكمل عناصر نموه الطبيعي
واالجتماعي و االقتصادي .و هكذا أمام أزمة عقالنية السلطة و عجزها عن اتباع
سياسة تحديث معقولة و مشروعة حولت وجهة المجتمع التونسي في القرن التاسع
عشر من مجتمع ريفي متخلف الى وجهة التبعية و السقوط في قمقم الرأسمالية و
غول االمبريالية.
عموما فالسلطة لم تقم بواجب التحديث الثقافي ألن اختيارها التحديثي لم يتمحور
حول االنسان الفالح البدوي و احتياجاته الحقيقية و الضرورية ,بل تمحور حول
رغبة السلطان و ايديولوجية اآلخر .و قد انفقت امواال كثيرة فيما الينفع و ال يفيد
كإختراع النواشن"و ال داعي لهذه االحدوثة إال التشبة والقياس و الفارق واضح
مشهور كالفرق بين الظلمة و النور"()2
و معلوم "أن المداليات انما تجعل تذكارا للنصر و الرقي في العلوم و الصناعة
و االختراع ال لتخليد الحوادث الموجعة "( )3لكن السرج المهذب ال يجعل من
الحمار حصانا Dو خاب كل من يلبس قشرة الحضارة و الروح جاهلية.
: 1أنظر االتحاف 1/57
15
لكن ما هو موقف االخر المتحضر من األنا المتخلف؟
الفكر األوروبي كما رأينا لم يكن تحركه أبعادا انسانية تروم انتشال هذا المجتمع
الفقير المتخلف من ظلماء الجهل و الخصاصة و سيطرة الكوارث السيئة إنما
إرادة التحديث ح ّتمتها السياسة االقتصادية و المثقافة الحضارية .فعلى المستوى
االقتصادي عملت فرنسا مثال على تحويل البالد الى سوق للبضاعة الفرنسية و
على تحويل العمال الى خمّاسة في أراضي األجانب,
وأجراء في بعض المصانع الفرنسية و قد ارتبط كل مشروع في البالد بالمنفعة
االقتصادية و لما أدركت فرنسا مثال أن منفعتها و امتيازاتها في تونس أصبحت
مهددة من طرف اإلنقليز السيما و ان عهد األمان قد ضمن لهم امتالك العقار و
المدجر.عندئذ أرسل نابليون الثالث Dيأمر الباي بإبطال عهد األمان.و قد جاء على
لسان القنصل الفرنسي "االمبراطور يشتهي أن تكون حاكما في نفسك و حاكما
في بالدك" ( )1أما بالنسبة للسياسة الثقافية فالفكر األوروبي كان يروم ضرب
الذاتية الثقافية و تدمير كل حصانة روحية تحول دون تمرير مشاريعه المختلفة
السيما و أن المجتمع التقليدي القبلي مثال قد ش ّكل نمطا اجتماعيا واقتصاديا لم
تفلح أوروبا في اختراقه منذ مئات السنين .ومن أخطر اشكال الغزو الثقافي Dالتي
كرستها أوروبا وهي سياسة التبشير و قد نشطت هذه الحركة خاصة في عهد
المشير االول الذي منحهم أراض إلقامة كنائس في مختلف الجهات مع اسقاط
معلوم الكراء الموظف عليها .و جاء في االتحاف":ان االفرنج تشكوا على لسان
أكبر القسيسين بتونس من ضيق موضع اجتماعي لعبادتهم فاقتضت سياسة الباي
إسعافهم تألفا للوافدين من التجار" ( )2و قد حول المبشرون نشاطهم من الدعاية
إلى ميدان العمل المباشر و ذلك بإنشاء المؤسسات التعليمية و ترويج الكتب بين
أبناء التونسيين مثل "كتاب برغاد و مفتاح القرآن و كتاب المرور من القرآن الى
االنجيل و مسامرات قرطاجنة"( .)3و قد استغلت هذه الحركة التبشرية الظروف
االجتماعية للسكان فأسست الى جانب المدارس المسيحية المستشفيات الستقبال
المرضى من الضعفاء و المساكين.
: 1أنظر االتحاف 5/151
16
و بالتالي فالخطر الثقافي تضاعف و أصبح يهدد هوية الشعب التونسي السيما و
أن هذا الخطر يحمل في ظاهره الرحمة و مدعم بإمكانيات مالية كبيرة .و األدهى
من ذلك أن رموز هذه الحركة كانت تحركهم االيادي السياسية تمهيدا الحتالل
البالد واستعمارها حتى أن أحد رجال الكنيسة قال في نشوة االنتصار عندما
دخلت الجيوش الفرنسية الى تونس ":تعالوا يا ابنائي اسمعوا نواقيسكم يجب أن
تعلن عن بعث قرطاج المسيحية"()1
و هكذا يلتقي التبشير مع االستعمار على غاية واحدة وهو ضرب المقومات
.الذاتية لهوية الشعب التونسي و تشكيكه في انتمائه الحضاري و تشويه ثقافته
و لم يقدر البايات هذا الخطر الماحق .كذلك العلماء لم يحركوا ساكنا حيث سكتوا
عن تصرفات السلطة الحاكمة و مساعدتها المالية و األدبية لهذه الحركة التبشرية
التي ترنو إلى إنتفاء الشخصية اإلسالمية و الوطنية و إلحاق المجتمع المحلي
بالحضارة Dاآلخرى و كأنه ال ماضي له و ال جذور .و صمت العلماء Dعن هذه
المؤامرة هو خيانة لتراث الشعب و جرح عميق في كيانه الحضاري ألنه كما
يقول عبد هللا العروي":يمكن للمسؤول ان يبت بعد مهلة وجيزة في قضية وجيزة
اقتصادية أو حتى سياسية ألن التراجع فيها ممكن و الخسارة قد تعوض أما الخطأ
في الميدان الثقافي حيث يتعلق األمر باستدراك عقود أو قرون ضائعة فقد تكون
الضربة القاضية على األمة"()2
و من نتائج هذا الخطأ التاريخي ظهور فكرة العلمانية و غزوها لديار اإلسالم
خاصة بعد أن ترعرعت األجيال في مدارس التبشير و شربت من معين المدارس
الغربية حتى اشتد عودها .و أمام توتر الوضع االجتماعي و السياسي المتخلف
اضطربت في الذهن مواقع العلم و الدين أو العقل و الوحي فجاءت Dاالطروحات
سواء كانت علمانية وطنية أو غربية ماركسية تعلن االنفصام التاريخي بين الدين
.و األمة .إذن فسياسة التبشير و االستعمار وجهان لعملة واحدة
أنظر عبد الجليل التميمي المجلة التاريخية المغربية عدد 1975 . 3ص1 :15
: 2أنظر عبد هللا العروي :ثقافتنا في ضوء التاريخ ,دار التنوير للطباعة و النشر ط 1983- 1ص204
17
و ال هم لهما إال التدمير و تحصيل المنفعة .و كمثال على هذه النزعة المركزية و
الماكيافلية يذكر محمد عمارة ":أن القوى االستعمارية اجتمعت ضد المشروع
العربي لمحمد علي و ناصرت السلطنة العثمانية فبدأت و كأنها تنصر اإلسالم
على العروبة .و لما أصبح الخطر آتيا من الدولة العثمانية أى من اإلسالم
استدرت تشجع بواسطة االرساليات التبشير بالفكرة العربية القومية"()1
اذن فالمحدثين من افراد النخبة تفطنوا الى تخلف النظام التعليمي اذي تسيطر
عليه الهامشية و الطرق الالجوارية العتيقة لكن كا ذكرنا سابقا فالنخبة ال تملك
مبادرة بل هي من صالحيات السلطة ترى ما هي االصالحات التي ادخلتها الدولة
على الجهاز التعليمي ؟
18
اول عمل اصالحي بادر به المشير احمد باي هو ترتيب ثالثين مدرسا بجامع
الزيتونة نصفهم من المالكية و النصف االخر من الحنفية و حبس عليهم دخل بيت
المال و قد استبشر صاحب االتحاف بهذا االجراء واعتبره سابقة خير حيث
يقول":و في هذه االيام نفق سوق العلم و تجدد شابه وسال سيله و عبّ عبابه و
انتفخ لالجتهاد بابه و تظافرت اسبابه" ()1
عموما فان أحمد باي قد ساهم من وراء هذه االصالحات في تحريك الدورة
الدموية للنظام التعليمي و جعله أكثر حيوية و نشاط مما كان عليه.
19
اال ان ما يغلب على هذه الحركة الثقافية هو التكريم المفرط للعلماء و رد االعتبار
لعلماء المالكية و تقريبهم من السلطة باجراء رواتب لهم.
و هذا من شأنه ان يسلب منه الجرأة االصالحية و النقدية وهو ما حصل بالفعل
حيث ش ّكل العلماء طبقة متميزة لها خصائصها Dو مصالحها Dو نمط عيشها و ال
هم لها اال ارضاء البايات و كسب و دهم و في الحقيقة فان تمييع الشخصية
العلمية ابتدأ مع التمثيل التركي بتونس عندما اصبحت خطة االفتاء وظيفة من
الوظائف الرسمية حيث اخرج المفتي من المسجد و ابعد عن الواقع الشعبي ليفتي
السلطان في قصره.
و قد نتج عن تقريب العلماء الى االمارة الجهل بالواقع و تناقضاته حتى ان محمد
بن الطيب الرياحي ابن شيخ العصر يعتبر ان تأسيس مكتبة االحمدية قد استأصل
الجهل و الفقر حيث يقول:
""فجر زيت من ملك انتعش به الندى * و دين الهدى و استأصل الجهل و
الفقر"()1
20
حتى ان احمد بن ابي ضياف لم يحصل على نسخة من مقدمة ابن خلدون اال من
فرنسا أتاه بها خير الدين اذن فسياسة البايات Dال تحتمل وجود مصنفات ترتبط
بالمواقف السياسية التاريخية و دعوات التحرر و الهندسة بالمقارنة مع العلوم
النقلية حيث يقول ":وفي عهد الحسين لم يبق اال القليل منها "( )1و الى جانب هذه
العوائق التي حالت دون التحديث نذكر امر محمد الصادق باي الصادرة سنة
1292فيما يخص ترتيب جامع الزيتونة و الذي مثل بحق عقبة في وجه
التحديث الفكري
من الفصول التي وردت في امر الباي نذكر مثال ما جاء في الفصل السابع و
العشرين من " ان المتون التي يلزم حفظها الجوهرة نظم الشيخ حسن الشرنبالي و
ابن عاشور الجزرية االحرومية االلفية ....و من اراد توسيع النطاق في الفقه
فعليه بالكنز و المختصر فمن ازداد حفظه ازداد كماله"( )1و هكذا فالفقه اصبح
قواعد تحفظ و قوالب جاهزة يكفي استحضارها و ربط حاضرنا Dبها لكى نتقدم و
ننهض و لم يعدالفقه تفاعل بين النص و الواقع.
و قد نبه الدكتور محمد عمارة الى ان " الفقه ال يعني الشريعة فالفقه علم مستنبط
بالرأى و االجتهاد بينما الشريعة هي وضع النهي و ثوابت ال عالقة لها بالرأى و
االجتهاد"( .)1فالخلط بين الشريعة و القانون جعل من الفقه (االجتهاد اليومي)
منطقة محرمة على العلماء و موضوع محظور ال يجب الولوج فيه و بالتالي
توقف االجتهاد و دخل العلماء Dفي عطلة فكرية و ال هام لهم اال الحفظ و تفسير
الحواشي و حواشي الحواشي و قد بين االستاذ شاخت الباحث في الحضارةD
االسالمية "ان اصحاب Dالمدارس الفقهية و تالميذهم و اتباعهم في االمصار لم
ينظروا الى الفقه مجموعة احكام ثابة دقيقة النظام و انما اهتموا باوضاع مختلفة
و عادات الناس و اعرافهم و سننهم التي درجوا عليها "()1
21
اذن فلكي ينتج الفكر االسالمي و يبدع عليه ان يلتصق بالواقع االجتماعي الراهن
و يتحرر من االحخكام الفقهية الماضية و قدسيتها الن هللا هو الشارع و ليس
الفقيه فالفقهاء هم العلماء الذين يعيشون في ظرف زمكاني.
و جاء في الفصل الثالث Dو العشرون انه" على المشايخ المدرسين ان ال يقبلوا
تلميذا في قراءة كتاب في فن من الفنون اال بعد ان يره باالختبار متأهال له"()1
اذن فاالطالع على الكتب و تحصيل المعارف يتوقف على موافقة المشايخ
فالطالب Dليس حرفي دراسة الموضوع الذي يرغب فيه و معلوم ان الفكر اذا
كبالختياره المعرفي ال ينتج ابدا و بالتالي فالمعارف ال تزدهر اال اذا رفعت كل
اشكال الوصاية و االسلطة الفكرية على العلماء .
عموما فالوصاية االسياسية التي سلكها البايات و عدم وعي المشايخ النظار
بطبيعة المرحلة هذا الى جانب االصرار في التمشي على النهي السابقين والتمسك
بمقوالت فقهية متقادمة كل هذا حال دون والدة فكر جديد و وعي ديني كفيل
بتحديث المنظومة التربوية و تحقيق النهضة العلمية المنشودة.
اما فيما يخص خطة القضاء الشرعي في ذلك العهد فهي تعكس بوضوح الواقع
السياسي و االجتماعي في الداخل و الهيمنة الخارجية و بالتالي فقد تاثرت هذه
المؤسسة القضائية كثيرا من سياسة االطالق و التهديد االجنبي.
ففي عهد
احمد باي لم يكن القضاء Dمستقال عن السلطة التنفيذية و قد جاء في االتحاف
"ان المتاخرين من ملوك االطالق و القهر ال يباشرون فصل النوازل بين
المتداعين بل يقمون لهم نوابا من قضاة و حكام اال في تونس فان صاحبها يباشر
في البيت المعروف بالمملكة ما يرد له من النوازل حقيرة كانت او جليلة "()1
22
و ال يخف على احد ان عدم التفريق بين السلطات من شأنه ان يجسد االرادة
الواحدة للسلطة و لو كان ذلك على حساب حقوق االخرين ثم ان المقصود
بالقضاء Dالشرعي اى الحكم بما شرع هللا و رسوله.
فهو كما يقول عمر بن الخطاب فريضة محكمة و سنة متبعة و هكذا ننفي عن
القاضي Dالشرعي الحكم بالهوى و الجهل لكن هذا ال يحول دون الباي صاحبD
االمر و النهي ان يحكم بهواه السيما و ان تكوينه العسكري يفوق بكثير ثقافته
الدنية اضف الى ذلك فاحكام الباي نهاية و ال يجعة فيها او استئناف فهو اعلى
سلطة في البالد.
و يذكر صاحب االتحاف" ان الوافدين من اعيان اوربا المطبوعين على حب
العدل والمتشوفين الى المعارف ربما يطلبون الوقوف بالمحكمة لحرصهم على
معرفة االشياء....و يرون النوازل تفصل في دقائق تارة بحمل الطالب على
الصدق و اخرى باالستناد الى حجة حتى انه في بعض االحيان يقضي عليه قبل
ان يفوه ببنت شفة تتخطفه زبانية الغضب و ربما سدوا هم المحكوم عليه
باالعدام"()1
وهذه الصورة تعبر لنا عن تخلف هذه المؤسسة و تكشف النقاب Dعن بشاعة
الباياتي من حيث عدم التزامه بالمبادئ الشرعية التي جاءت Dفي موضوع القضاء
و ال المبادئ االنسانية االمر الذي لفت انتباه االجانب حتى ان أحمد باي امام
اعتراضات الوافدين ولومهم "نفر من هذه المباشرة و قلل الجلوس بالمحكمة"()1
فالسلطة ال تملك مشروع لتحديث التنظيم القضائي و خجب احمد باي عن مباشرة
هذه الخطة امام الوافدين انما يبرهن عن توتر الرجل و احساسه بالتخلف عن
االخر كما يؤكد ان حال هذا الزمان لم يعد يقتضي والية الباي القضائية.
23
لذلك و فور ارتقاء محمد باي الى العرش فكر في تنظيم القضاء و استقالليته و
ذلك بانشاء دار للشريعة مستقلة المكان عن قصر باردو و ذلك سنة 1856
يشرف عليها شيخ االسالم الحنفي محمد بيرم لكن رغم حسنات هذا االنجاز من
ظبط االجراء القضائي و تعجيز الجلسات التي كانت تقع خارج المحكمة فان ذلك
لم يضع حد الى سياسة االطالق و استبداد الباي بشؤون القضاء حتى ان رجال
من صعاليك االعراف و جفاتهم دخل على الباي يحمل مرودا به راس رجل و
امرأة و قال له":ان امرأتي هذه وجدتها مع هذا الرجل فقطعت الرأسين و أنا بين
يديك فقال له بديهة:
احسنت و أمر له ان يكتب باسقاط ديتهما و عدم المطالبة بدمها "( )1وفي هذه
الحادثة نرى ان الباي حكم من مجرد الدعوة دون اثبات و تحري و لم يقم بينة
على دعوى هذا الرجل و قد استمر على هذا النهج غير ابه بحقوق الناس و لم
يحرك العلماء ساكنا امام هذا الاستبداد و التعدي على الدم و الحقوق البشرية دون
مستند شرعي او قانوني.
وهكذا فقد فرطوا في اصالح ما يمكن اصالحه و تركوا للسلطة الحبل على
الغارب تبعث بالحقوق البشرية غير سادرة بعواقب االمور و ال مقدرة لتذمر
االف المتظلمين من جور اللزامة و العمال السيما ان الباى اذا جلس في المحكمة
ال يكاد يسمع اال شكاياتهم و كان ال يقول للمتظلم منهم اال قولهم":اخلص مع
اللزام من غير سؤال و ال استكشاف"( )1و امام تواصل غي السلطة و عجز
العلماء و حيرة الرعية تدخل االجانب في شؤون البالد و عملوا على انشاء محاكم
مستقلة منافية لسيادة البالد و ارضية القانون و تدعم ذلك خاصة مع دشتور
1861حيث تقلص نفوذ القضاء Dالشرعي و لم يبقى للمحاكم الشرعية سوى
النظر في المعامالت Dواالستحقاقات Dو االحوال الشخصية.
24
و بالتالي اتبع مسار التحديث القضائي النهج الغربي وهو ان كان مفروضا من
القوى االجنبية فان له مبررات موضوعية مثل نفور العامة من القضاء Dالشرعي
لتعقد اجراءاته و عدم قدرته على فض النزاعات بين المتخاصمين و استرداد
حقوقهم بكل سرعة هذا امام تميز اجراءات التقاضي االوروبية المؤسسة على
العدل و االمن و سرعتها في فصل النوازل.
25