You are on page 1of 25

‫إشكالية التحديث الثقافي و‬

‫الديني‪-‬تونس في نهاية القرن‬


‫التاسع عشر من خالل كتاب‬
‫اإلتحاف ألحمد بن ابي‬
‫الضياف‬

‫‪1‬‬
‫المقدمة‬
‫إن التركيز على المشكلة الثقافية و الدينية في هذا البحث تبرره اإلشكالية‬
‫الحضارية التي عاشها المسلمون مع مطلع العصر الحديث و التي شكلت بحق‬
‫تحديا للدين و الثقافة و التي ال تزال تؤرق فكر النخبة و المجتمع إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫و التحدي و ان بدأ عسكريا و سياسيا فإنه انتهى ثقافيا و حضاريا ‪ .‬السيما و أن‬
‫كل مظاهر التدخل و االحتالل التي عرفتها المنطقة االسالمية في تاريخها الطويل‬
‫سواء حمالت الماغول أو التتار أو غيرها سرعان ما انصهرت داخل الثقافة‬
‫االسالمية ‪.‬‬
‫غير أن الزاحف و الوافد الجديد الذي بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر ‪1798‬‬
‫تم احتالل الجزائر سنة ‪ 1830‬جاء حامال ألنماط ثقافية جديدة تروم الهيمنة‬
‫والسيطرة و تبديل الثقافات‪ D‬المحلية و احتوائها‪ .‬مما شكل صدمة نفسية لدى‬
‫المسلمين إزاء هذه المعقولية الجديدة التي جاءت تبشر بالحرية و العدالة‬
‫ضر‪ ...‬و كأنها قيم مفارقة و غريبة عن ثقافة المسلمين‬
‫والمعرفة و المدنية و التح ّ‬
‫و دينيهم‪.‬‬
‫إذن ش ّكل هذا النموذج الجديد الذي يسميه ابن ابي الضياف (طبيعة الوقت) حيرة‬
‫و انشغاال لدى الفكر االسالمي بين الماضي الذي يمثل العصر الذهبي لإلسالم و‬
‫بين حاضر االسالم التعيس و المهزوم و المثقل بالخرافة و الشعوذة وبين اآلخر‬
‫المتقدم‪.‬‬
‫وهكذا وقع المسلمون في االشكالية الحضارية حيث وجدوا أنفسهم بين المثال‬
‫والواقع و بين التراث و الحداثة و بين األصيل و المعاصر‪.‬‬
‫إذن اشتدت الحيرة و بدأ التناظر و اإلختالف فيما يجب أن يؤخذ و ما يجب أن‬
‫يترك‪ .‬و من هنا تبدأ المشكلة الثقافية و االشكالية الحضارية التي تتراوح بين‬
‫جدلية األنا و اآلخر ‪.‬‬
‫و في هذا االطار يتنزل عملنا المتواضع‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫إشكالية التحديث الثقافي و الديني‪-‬تونس في نهاية القرن التاسع عشر من خالل‬
‫كتاب االتحاف حتي نتبيّن المواقف المختلفة للقوى االجتماعية و السياسية و‬
‫الفكرية و خاصة رجال االصالح من مسألة التحديث الديني و الثقافي‬

‫‪3‬‬
‫‪ .I‬مسألة التحديث الثقافي‬
‫إنّ الحديث عن إشكالية التحديث الثقافي يعكس تأقطب ثنائية حضارية وهي جدلية‬
‫األنا و اآلخر‪ ,‬األنا المختلفة و المتوترة و اآلخر المتقدم و المتزن‪.‬‬
‫بالنسبة لألنا فإنها تتوزع على ثالث قوى رئيسية وهي المجتمع (أي العامة )‬
‫والنخبة المثقفة(الخاصة) و السلطة الحاكمة ( خاصة الخاصة) و لقد حولنا تبيين‬
‫مواقف هذه القوى المختلفة بالوقوف على درجة وعيها بالخطر الثقافي‪ D‬و التحدي‬
‫الحضاري‪ D‬لآلخر ‪.‬‬
‫رؤية الجماعة و تصورها‬ ‫‪.1‬‬
‫بادئ ذي بدء فالمجتمع التونسي كما رأينا سابقا تغلب عليه البداوة‪ .‬وهذه المرحلة‬
‫وان إتصفت بالحيوية و النشاط و التنقل فإنها دون مستوى التحضر المادي‪,‬ألن‬
‫التحضر يعني الفعالية االجتماعية و القدرة العقلية على الخلق و االبداع ‪ ,‬كذلك‬
‫فالتنظيم االجتماعي لم يتحول بعد الى جمعيات و مؤسسات أين تتداخل الرعايا‬
‫في السياسات الملكية و المباحثة فيما هو أصلح للمملكة‪ .‬حيث حالت‪ D‬الهامشية‬
‫دون التفاوض في الشؤون العامة " حتى أن االعيان ليس لهم إجتماع عمومي‬
‫وغاية تفسحهم بالمشي في الطرق"(‪ .)1‬أما بالنسبة للمنظومة الفكرية بالوسط‬
‫الريفي فإنها تأثرت كثيرا بالطريقة الصوفية و الروح الجماعية "العشائرية"‬
‫إذ أن العالقة بين الفرد و السلطان غير مباشرة و لكى تنظم الدولة الجباية أو تبلغ‬
‫أمرا عليها ان تخاطب جماعة موحدة‪ ,‬فاألساس األول للشرعية هو ثقافة‬
‫المجموعة قبل قانون الدولة‪ ,‬و قد ذكر األستاذ الشنوفي‪":‬أن أغلبية العروش‬
‫كانت مرتكزة على أصول ثالثة ‪ :‬العائلة واألرض والدين‪.‬فالفرد ينتمي الى‬
‫العرش عن طريق العائلة الصغيرة بواسطة الطريقة الصوفية لكن الرابط الحقيقي‬
‫"(‪)2‬‬ ‫بين الفرد و العرش يبقى األرض‬
‫‪:1‬انظر محمد بيرم الخامس‪:‬صفوة اإلعتبار بمستودع األمصار و األقطار‪ ,‬دار صادر بيروت ط‪ 1303( 1‬ه)ج‪2/116‬‬

‫‪ :2‬أنظر المنصف الشنوفي‪:‬أقوم المسالك‪,‬الطبعة االولى ‪, 1972‬الدار التونسية للنشر تونس ص‪121‬‬

‫‪4‬‬
‫فنزعة االنتماء الى الجماعة لم تأخذ شكال إجتماعيا بالمعنى الواسع بل شكال‬
‫عائليا و عشائريا‪ ,‬ومعلوم أن العائلة او العشيرة تنمي في الفرد الوالء العائلي و‬
‫الطائفي و كل منهما ال يتوافق مع الوالء االجتماعي ألن "والء الفرد نحو العائلة‬
‫أو العشيرة أو الطائفة يحد من وعيه االجتماعي و يقف في طريق الممارسة‬
‫االجتماعية السليمة"(‪ .)1‬وهكذا فإن الفضاء‪ D‬البدوي لم يعرف تق ّدما و ال تحديثا ألنه‬
‫لم يؤسس مشروعا إجتماعيا يتجاوز العشيرة الى الشعب وألن داخل القبيلة يكون‬
‫النمط الفكري أحديا تنتقل فيه المعرفة من األعلى الى األسفل‪,‬‬

‫من األب الى أبنائه و من الشيخ إلى أفراد القبيلة ومن شيخ الطريقة إلى مريديه‪.‬‬
‫فالمعرفة أحكام جاهزة و حلول نهائية ال يجوز مناقشتها أو تعديلها ترتبط كثيرا‬
‫بالمراكز االجتماعية داخل المجموعة‪ .‬وبالتالي ظلّت المجموعات الرفية ساكنة‬
‫على وتيرة واحدة ُتقبل على الحياة و أوضاعها من دون سؤال او احتجاج‪ D.‬كما‬
‫ساهمت الحكمة المورثة في كبح النزعة الفردية و اإلدراك الذاتي المستقل‪ ,‬حيث‬
‫بقي إطار المعرفة التقليدي و الموروث محتال لمركز الوعى الجماعي‪ .‬و بالنسبة‬
‫للطرق الصوفية فقد ش ّكلت بحق حصارا‪ D‬فكريا حال دون نمو الفكر حيث منعته‬
‫من التعبير عن واقعه‪ .‬كما ّ‬
‫مثل أصحاب‪ D‬الطرق المكانة السامية الحتكارهم‬
‫المعرفة الخفية و النصوص المقدسة‪ .‬وهكذا بقى المجتمع مخ ّدرا بدفء التصوف‬
‫و منطويا على نفسه ينشد أغاني الحياة اآلخرة و قد فوض أموره الدينية و‬
‫الدنيوية الى األولياء الصالحين‪".‬حتى الواحد من قبيلة زواوة البربرية اذا حلف‬
‫عليها"(‪)2‬‬ ‫بحق سيدي البشير ال يكاد يحنث و سبحته يتبركون بها و يتعاهدون‬
‫‪ :1‬هشام الشرائبي‪:‬مقدمات لدراسة المجتمع العربي’ الدار المتحدة للنشر’ط‪ ) 1975( 1‬ص‪117‬‬

‫‪ :2‬انظر أحمد بن أبي الضياف‪:‬إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس و عهد األمان‪ ,‬كتابة الدولة لشؤون الثقافية تونس(‪- 1963‬‬
‫‪ )1965‬ج‪122/ 3‬‬

‫‪5‬‬
‫و رغم المساهمة االجتماعية و التربوية التي قدمتها الزوايا للضعفاء‪ D‬و المساكين‬
‫فإنها بقيت عاجزة عن تطوير الفكر االسالمي و تصحيح االعتقاد و تحريك‬
‫األلباب‪",‬حتى أن الكثير من أهل الخيام و المداشر ال يعرف عدد أوقات الصالة و‬
‫غيرها من الفروض العينية "(‪ )1‬اذن كل هذه العوائق حالت دون ظهور ثقافة‬
‫اجتماعية مولّدة لوعي جديد من شأنه ان يحرر الفكر من ايهام الدجالين و انتحال‬
‫المبطلين و يدفع الفعل االجتماعي الى التعمير و البناء معبرا عن مشاغل الرأى‬
‫العام الشعبي و همومه‪ .‬و بالتالي فقد تأثرت الثقافة الشعبية انذاك بعصر التحجر‬
‫و الجمود"و كانت صالتها بقرون االنحطاط أشد قوة من عالقتها بقوة االزدهار‬
‫و التحرر في التاريخ اإلسالمي"(‪)2‬‬

‫و من أثار هذا الموروث الثقافي‪ D‬الذي كان يستوطن الفكر الجماعي هو أن العامة‬
‫ظلّت تنظر الى المجتمع االوروبي كعدو صليبي يجب التحذر و التحوط منه‪,‬‬
‫حتى أن المشير أحمد باى قبل سفره الى فرنسا لم يفته األخذ بهذا اإلعتبار حيث‬
‫جاء في االتحاف قوله"فأقرأ كتابنا هذا على الوالة الشرعية و المشايخ ليدوم انسهم‬
‫و ال تتشوش بهذا السفر نفوسهم"(‪ )3‬فالحاجز الديني حجب على مجتمع العامة‬
‫إدراك مظاهر التقدم و التحول في أوروبا‪ .‬و ظلت تنظر إلى مظاهر التحديث في‬
‫أوروبا على أنها تمردات ضد الملك و الطبيعة و اإلله‪ ...‬و رغم انحياز الرعايا‬
‫األجانب في تونس الى الفالحين في انتفاضة علي بن غذاهم و مساعدتهم لهم لم‬
‫يتغير الشعور الديني تجاههم‪ ,‬حتى أن أهالي المنستير في حوارهم مع وزير‬
‫الحرب‪ D‬محمد الرشيد قالوا له"أنتم أعطيتم بالدنا للنصارى و أتيتنا اآلن لتنفيذ أمر‬
‫سيدك "(‪ .)4‬عموما فالعرف الثقافي‪ D‬الذي درجت عليه الرعية يدل على أن الفكر‬
‫االسالمي الشعبي انذاك يوجد في مواقع دفاعية و معادية للفكر االخر الصليبي و‬
‫إنتاجاته الحديثة‪ ,‬فالثقافة الشعبية ال تملك خطابا للتجادل مع ظاهرة الحداثة‬
‫الغربية‪.‬‬
‫‪: 1‬أنظر صفوة االعتبار ‪2/115‬‬

‫‪:2‬أنظر الحركة االصالحية في عهد المشير أحمد الى نظام الحماية‪ ,‬ص‪136‬‬

‫‪:3‬أنظر االتحاف ‪4/93‬‬

‫‪ :4‬المصدر السابق ‪5/147‬‬

‫‪6‬‬
‫رؤية النخبة المثقفة و تصورها‪:‬‬ ‫‪.2‬‬
‫أما بالنسبة إلى النخبة باعتبارها القوة الثانية داخل هذا النمط الثقافي المحلي‬
‫فإن المحدثين منها تفاعلوا مع ظاهرة الحداثة انطالقا من المضمون الروحي و‬
‫الثقافي للدين اإلسالمي‪ .‬أى قالوا نعم للحداثة بشرط عدم تضاربها مع مبادئ‬
‫الدين االسالمي ‪,‬أى ضرورة تحقيق النهضة و التحديث في كنف االنسجام بين‬
‫مقتضيات العصر و الشريعة‪ .‬و قد أعلن خير الدين صراحة "أن الشريعة ال‬
‫‪ .‬تنافي التنظيمات السياسية المقويّة ألسباب التمدن و نمو العمران "(‪)1‬‬

‫لكن هذا التحدي الحضاري‪ D‬في عمومه كان قد صدم وعي النخبة التقليدي و‬
‫جعل مواقفها ردود أفعال و انفعاالت أكثر منها مواقف متزنة ‪ ,‬فأدى ذلك الى‬
‫عرقلة نمو عقلي منسجم‪ .‬و بالتالي سقط فكر النخبة في تمجيد الماضي و أسبقية‬
‫المسلمين نحو الحضارة‪ ,‬وهكذا صهروا المستحدث بالموروث الديني و سكتوا‬
‫عن التناقض القائم بين الثقافتين‪ ,‬أى " أن نظرتهم الى ظواهر الحضارة‪ D‬الغربية‬
‫لم ترتبط في معظم االحيان باألسس الفلسفية و المواقف الوجودية التي نبعت منها‬
‫تلك الظواهر"(‪ .)2‬فالنخبة بشرت بالحداثة و دعت اليها من ذلك شعر محمد بيرم‬
‫الخامس و حثه المسامين على التحديث‬
‫بتعاضد و تمدن و تنافس "‬ ‫*‬ ‫يا أمة اإلسالم صونوا ّ‬
‫عزتكم‬
‫بتآلف و تودد و تنافس‬ ‫*‬ ‫يا أمة اإلسالم أحيوا ذكركم‬
‫بمصانع و معارف و مجالس‬ ‫*‬ ‫يا أمة اإلسالم نمّوا صيتكم‬
‫لل ّناعس"(‪)3‬‬ ‫إنّ الهالك مسارع‬ ‫يا أمة اإلسالم عو و استيقظوا *‬
‫فالنخبة المثقفة اقتربت من ظاهرة الحداثة شعريا مثل فريدة المختارات الجديدة‬
‫لمحمد السنوسي حيث كانت نشيدا للعلم و دعوة لحماية هوية (الشعب)‪ ,‬إال أنها‬
‫‪.‬لم تمارس الحداثة كنشاط ذاتي و لم تعشها كواقع و تجربة ميدانية‬
‫‪: 1‬أنظر تقديم أقوم المسالك ص‪17‬‬

‫‪: 2‬نازك سبايارد‪:‬الرحلون العرب و حضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة‪ ,‬مؤسسة نوفل بيروت ‪ 1979‬ص‪475‬‬

‫‪:3‬أنظر صفوة االعتبار الجزء الخامس ملحق (ي‪-‬أ)‬

‫‪7‬‬
‫‪.‬و ذلك ألنها كانت فاقدة للمبادرة ال تمللك القرار‪ ,‬فهي ال تخلق بل تبارك‬
‫و تعود هذه السلبية الى انعزالها عن عامة الشعب و عدم تمثلها لمطالب الرعية و‬
‫مشاكلها‪ .‬و بالتالي فإن وعيها لم يكن مر ّكزا على الواقع االجتماعي و همومه‬
‫السيما و ان اإلصالح و التحديث ال يكن إال باإلقتراب من المشاكل اليومية‬
‫للرعية‪ .‬و اإلستيراد لثمرات الغرب ال يعد تحديثا بل هو وقوع في التبعية و‬
‫اإلستيالب و كما يقول خير الدين " إنه من المحال نقل مؤسسات بلد الى بلد أخر‬
‫حيث تكون فيه طبائع البشر مغايرة و كذلك أخالقهم و تربيتهم و ظروف مناخهم‬
‫"(‪ ..)1‬وهذا موقف أصيل من الرجل يبرهن على أصالة الفكر اإلصالحي في‬
‫القرن التاسع عشر الذي آمن بالخصوصية التاريخية للثقافة االسالمية و عدم‬
‫‪.‬تمشيها الكلي مع ثقافة االخر‬
‫لذا فبناء المؤسسات و التحديث االجتماعي و االقتصادي ال يمكن أن يكون سليما‬
‫إال انطالقا من ثقافتنا و تجاربنا التاريخية الذاتية المستقلة ‪ .‬أما الخلط بين الثقافات‪D‬‬
‫فهو كالخلط بين الماء و الزيت و هما ال يختلطان‪.‬و صدق محمد إقبال حين يقول‬
‫"إن مشعل الحياة ال يستعار من الغير بل ينبغي لكل فرد أن يوقده بنفسه في هيكل‬
‫ذاته"(‪. )2‬و ما الفائدة أن يعيد االنسان انتاج تجربة غيره؟‬
‫كذلك من عوائق النخبة هو عدم تحررها من المقوالت التاريخية الم ّدونة في‬
‫الكتب سواء في الفقه و االجتهاد أو التاريخ‪ ,‬أى أن الفكر االسالمي في عمومه لم‬
‫يعش لحظته التاريخية أنذاك من حيث التفاعل بين النص و الواقع و ما يقتضيه‬
‫الحال‪ D.‬من ذالك مثال عدم قطعهم مع ما جاء في اكتشاف اصطالحات‪ D‬الفنون‬
‫‪:‬للتهاوي الذي يرى‬
‫أن سياسة العلماء تكون على الخاصة في بواطنهم ال غير اى ال تكون على"‬
‫العامة ألن اصالحهم مبني على الشوكة الظاهرة و السلطة القاهرة "(‪)3‬‬

‫أنظر تقديم أقوم المسالك ص‪1 :69‬‬

‫‪:2‬نقال عن بحث إنبعاث االسالم في كتاب دراسات‪ D‬إسالميه مجموعة بحوث ترجمت بإشراف نقوال زيادة بيروت ‪ 1960‬ص‪290‬‬

‫‪:3‬أنظر محمد علي التهناوي‪ :‬كشاف اصطالحات الفنون‪1/665‬‬

‫‪8‬‬
‫وهكذا التقليص من صالحيات العلماء‪ D‬في التغيير أدى الى قعودهم عن إصالح‬
‫‪.‬العامة و بالتالي ترك العلماء مواقعهم اإلصالحية للسلطة التي استبدت باألمر‬
‫و نفس الشئ بالنسبة إلى النخبة في تونس في العهد الحسيني في القرن التاسع‬
‫عشر خفّ وزنها في دائرة الصراع حتى أنها لم تتفاعل مع الحداثة الغربية إال‬
‫حسب رغبة السلطان و رضاه حتى أن المصلح خير الدين لما سئل عن عدم‬
‫تطبيقه لمبدأ التنظيمات السيما و قد آلت اليه الوزارة الكبرى أجاب قائال " فلما‬
‫كان الحال‪ D‬ما ذكر و أيست من الوالي بتونس في تأسيس التنظيمات "(‪ )1‬اذن فال‬
‫‪.‬حداثة فوق إرادة السلطان و ال شرعية لتغيير إال بعد موافقة و رضا السلطة‬
‫و هكذا فالمصلح خير الدين الذي أدرك مرحلة اليأس و القنوط بعد أن اصطدم‬
‫بالعقبة السياسية ووجد نفسه يسير في طريق مسدود األفاق‪ .‬و األدهى من ذلك هو‬
‫أن ثقافة النخبة في تونس آنذاك ارتبطت كثيرا بالدولة و تأثرت باالنغماس في‬
‫المجال‪ D‬السياسي حتى أنه ال يوجد مثقف يرتزق خارج القصر اإلماري بإستثناء‬
‫بعض األثرياء‪ .‬فالمطالب‪ D‬التي دفعوا عنها لم يحصل منها فائدة لعموم السكان و‬
‫لم يقدروا على التحديث الفعلي بل تركوا مبادرة التحديث للسلطة و أهوائها‬
‫‪.‬و اكتفوا بإلقاء القصائد الطوال و الثناء على الباى رائد التغيير و التجديد‬
‫إذن تحول العلماء الى موظفين لدى الدولة‪ ,‬ففقدوا كل استقالل فكري و تقلص‬
‫دورهم في النقد و االعتراض‪ ,‬و أصبح فكرهم محجوبا بظل البايليك لذلك ال‬
‫نستغرب أن نرى رجال في حجم المصلح خير الدين و رغم جرأته و مواقفه‬
‫التاريخية يعرض عن نصح الوزير األكبر و صهره مصطفى خزندار‪ .‬حيث جاء‬
‫في صفوة االعتبار " إن التزاور بينه وبين الوزير مصطفى خزندار كان مستمرا‬
‫لقرابة المصاهرة و ال يتدخل معه في رأي من تصرفاته‪ .‬كما أن األعيان و‬
‫األهالي يزرونه و ال يخوض معهم في شئ من أحوال سياسة البالد متجنبا القيل‬
‫‪.‬و القال مستكفيا في التأنس و إراحة البال"(‪)2‬‬

‫‪: 1‬أنظر صفوة االعتبار ‪2/83‬‬

‫‪:2‬نفس المصدر ‪53-2/52‬‬

‫‪9‬‬
‫و لو أن كتمان النصيحة و االكتفاء بالتأنس وقتئذ يعد تفريطا من جانب رجل له‬
‫قدرة كبيرة على التأثير و االستقطاب و التغيير الفعلي‪ .‬وبعد أن احتوت السلطة‬
‫لهذه المؤسسة الدينية همش دورها و قلت مشاركتها في األحداث الهامة حتى‬
‫إعتبر محمد باي "أن والية العلماء ال تشمل السياسات"(‪)1‬‬

‫كما استغنى الباي عثمان شقيق حمودة باشا عن مشاركتهم تماما حيث اختار أناسا‬
‫لمسامرته ليسوا من أهل العلم و ال من أهل السياسة" و إن كانوا من أماثل‬
‫الحاضرة"‪)2(D‬‬

‫و لم يتحرر فكر هذه النخبة من الجمود و الشعوذة و الخراف إذ كانوا يحتمون‬


‫بالطرق الصوفية و يتوسلون باألولياء‪ .‬و ال تكاد تجد عالما إال و هو منتم الى أحد‬
‫الطرق الصوفية آخذا للورد و السبحة و المصافحة و الخرقة و نحوها من أحد‬
‫شيوخ الصوفية‪ .‬و تتجلى هذه الوسمة بالخصوص في رد أبو حفص عمر على‬
‫الوهابية و الذي كلّف رسميا بأمر من الباي حيث يقول ‪ ":‬فأن التوّ سل بالمخلوق‬
‫مشروع و وارد في السنة القويمة ليس بمحظور و ال ممنوع‪ .‬وأما ما جنحت عليه‬
‫من هدم ما بني على مشاهد األولياء من القباب من غير تفرقة بين العامر و‬
‫الخراب‪ D‬فهي ال ّداهية ال ّداهياء و العظيمة العظمى من الظلم التي أضلك هللا فيها‬
‫على علم(و من أظلم ممّن منع مساجد هللا أن يذكر فيها إسمه و سعى في‬
‫خرابها )"(‪)3‬‬

‫اذن تحولت المقابر الى مساجد يجب أن تعمّر و ال حول و ال قوة إال باهلل‪ .‬كما‬
‫كان فكر النخبة ضيّق األفق لم تتجاوز اهتماماته العلوم الشرعية حتي ان شيخ‬
‫االسالم بيرم الثالث نهى ابنه عن االهتمام باألدب حيث يقول‪" :‬أن الزمان الذي‬
‫تفنيه في االدب * يراه أهل النهي من جملة اللعب "(‪)4‬‬

‫‪: 1‬أنظر االتحاف ‪5/17‬‬

‫‪:2‬نفس المرجع ‪3/96‬‬

‫‪:3‬نفس المرجع ‪3/76‬‬

‫‪ :4‬نفس المرجع ‪8/54‬‬

‫‪10‬‬
‫وإذا كان األدب في نظر شيخ االسالم من جملة اللعب‪ D‬فإنه للتذكير الثورة‬
‫الفرنسية التاريخية قد سبقتها حركة أدبية اهتمت بهموم االنسان و مشاكله‬
‫‪ .‬و عبّرت بحق عن طموحاته التي يجب أن تسود حتى أصبحت قيما منشودة‬
‫و قد قال محمد إقبال معبرا عن تالزم الدين و األدب كشرطين لحفظ الذات و‬
‫‪:‬صيانتها في هذه الحياة حيث يقول‬
‫الدين و الفن و التدبير و الخطب * و الشعر و النثر و التحرير و الكتب "‬
‫* في صدره يتوارى جوهر عجب‬ ‫كل تحيط بمكنون يضن به‬
‫* أو قصرت فهي عندي السحر الكذب‬ ‫أن تحفظ الذات هذه فالحياة بها‬
‫"(‪)1‬‬ ‫كم أمة تحت هذه الشمس قد خزيت * إذا جانب فيها الذات الدين و األدب‬
‫اضافة الى كل هذا فأغلبية العلماء بإستثناء بعض الكتاب و الرحالة من العلماء لم‬
‫تكن لهم إحاطة بما يجري خارج البالد و لو ان المصلح خير الدين ذهب أكثر من‬
‫ذلك و عمق من جهلهم حتي باألمور الداخلية حيث يقول عنهم ‪ ":‬و معرضين‬
‫عن استكشاف الداخلية و أذهانهم عن معرفة الخارج‪ D‬خلية"(‪)2‬‬

‫عموما فالمؤسسة الفكرية بالمركز الحضري كانت فاقدة لشروط التحديث بحيث‬
‫لم تلتحم بالسلطة التحاما إصالحيا‪ D,‬و لم تقترب من القوى الشعبية المدنية سواء‬
‫من التجار و الصناع أو كبار الفالحين لخلق مناخ اجتماعي تسوده قيم األمن و‬
‫العدل و االزدهار‪ .‬و فشلها يعلّل بارتباطها باإلقطاع من جهة و بامتيازات‬
‫السلطة من جهة أحرى الى عدم اصطدامها بنظم فكرية مفارقة لما درجت عليه‬
‫من العرف الثقافي باستثناء النزر القليل من العلماء‪ D‬ممن تنبهوا ألزمة الدولة‬
‫خارجيا‪ D‬و استيقظوا على ما يجري في أوروبا من نهضة علمية كبيرة و خاصة‬
‫‪.‬الكتاب مثل أحمد بن أبي ضياف‬
‫‪: 1‬أنظر عبد الوهاب عزام‪:‬محد اقبال سرته و فلسفته و شعره‪ ,‬دار القلم القاهرة‪1397‬ه‪1960/‬م ص‪200‬‬

‫‪:2‬أنظر اقوم المسالك ت‪-‬المنصف الشنوفي ص‪121‬‬

‫‪11‬‬
‫و الذي كان موقعهم الفكري سباقا نحو التحديث لوعيهم من جهة برداءة الوضع‬
‫‪.‬في الداخل و التصالهم بالسفراء األجانب من جهة أخرى‬
‫إذن فسؤال الحداثة لم تطرحه النخبة على نفسها كضرورة للتغيير و التجاوز و‬
‫ذلك لدغمائيتها مع الوضع القائم الى جانب عزلتها عن هموم العامة‪ ,‬أى أنها لم‬
‫تمثل وعي التجديد في ذاتها الفكرية بل إن األحداث و ضغوطها هي التي دفعتهم‬
‫نحو التفكير في التحديث‬
‫رؤية السلطة الحاكمة‬ ‫‪.3‬‬
‫اذن بعد نفي فعل التحديث عن المجتمع و النخبة جاء دور السلطة باعتبارها‬
‫وحدها التي تملك مشروعية التحديث فهي صاحبة األمر و النهي السيما و أن‬
‫سياسة االطالق ال تسمح بالمشاركة الفعلية لغيرها إال باالستحسان و إبداء عين‬
‫الرضا‪ .‬و إتجاه الدولة نحو التحديث ال يعني تميز الفكر السياسي عن فكر النخبة‬
‫و امتالكه وحده ألهلية التحديث و جدارة التغيير‪ ,‬كذلك ال ينم هذا المسعى عن‬
‫الوعى بالخطر الثقافي لآلخر و تهديده المباشر لكيان الدولة و ثقافتها المحلية و‬
‫سيادتها‪ .‬لكن و كما ذهب الى ذلك برهان غليون‪ ":‬فالوجهاء المسلمين و التجار‬
‫المنتمين الى االقليات‪ D‬المختلفة و السلطان المستبد الراغب في زيادة حصة‬
‫الضرائب‪ D‬و نفقات‪ D‬الدولة كان هذا الحلف هو القاعدة االولى لالنتقال نحو الدولة‬
‫الحديثة نحو التحديث "(‪ . )1‬فالمبادرة السياسية للتحديث تبررها رغبات السلطان‬
‫و شهواته و إرادة التجار األجانب لتسهيل عمليات االستغالل و االستثمار من‬
‫ذلك مشروع جلب الماء من زغوان و رغبة الباي في بيعه للرعية‪ .‬كذلك تحديث‬
‫االدارة السياسية و التجارية التي جاء به دستور ‪ 1861‬لم يستفد منه إال األجانب‬
‫عموما فعماليات التنمية و التحديث لم تتم حسب الرغبات الشعبية و مصالح‬
‫العامة بل أسست التنمية حول السلطان و أصفيائه من البورجوازية االوروبية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪: 1‬أنظر برهان غليوننظام الطائفية من الدولة الى القبيلة‪ ,‬المركز الثقافي العربي ‪ 1990‬ص‪85‬‬

‫و هذا األمر يعد من أخطر أشكال التفتح الثقافي ألنه ال يستجيب إال إلى إرادة فئة‬
‫معينة أمام اختناق اآلخرين‪ .‬فالتحديث كان محكوما بمصلحة السلطان و‬
‫اديولوجية اآلخر ‪ .‬و كأمثلة على ذلك نذكر سفر أحمد باى الى فرنسا‪ ,‬فقد جاء‬
‫في االتحاف قوله‪" :‬أما بعد فان المصلحة التي أمرنا هللا بمراعاتها اقتضت‪ D‬أن‬
‫أسافر بنفسي الى فرنسا و لندرة"(‪)1‬‬

‫فما هي المصلحة المزعومة حسب رأيه ؟ و هل تهم الرعية و تشملها إلى هذه‬
‫الدرجة ؟ لكن كل ما في االمر أن المشير‪":‬رام حجة من الدولة الفرنسية يعتمدها‬
‫في الدفاع ضد التهديد العثماني"(‪ ,)2‬و هكذا فإنفتاح السلطة على اآلخر حتمته‬
‫شهوة الملك للمحافظة على العرش السياسي‪ ,‬أما المصلحة العامة فال سبيل إليها‪.‬‬
‫و قد عبر أحمد ابن ابي ضياف عن خيبة المشير فقال عنه‪ (:‬و رجع من باريس‬
‫بيد فارغة و أخرى ال شئ فيها)‬
‫و من أهم المشاريع الثقافية و االنتاجات‪ D‬الحديثة التي استوردها البايليك الى‬
‫المملكة نذكر تأسيس محمد الصادق باي سنة ‪ 1860‬لمطبعة تونسية و بعث‬
‫جريدة الرائد التونسي ‪ .‬و قد أعلن بعد إحداثها قائال‪":‬أن ال يطبع إال ما ينفع الناس‬
‫و ال ينافي السياسة و األداب االنسانية على قدر حضارة المملكة و استعداد‬
‫غالبها"(‪ . )3‬فالسلطة هي التي تقدر ما ينفع الناس و األعلم باآلداب االنسانية و‬
‫الراعية لحضارة المملكة و ثقافة المجموعة و الحريصة كل الحرص على أن ال‬
‫يخالف ما يطبع ما تعارف عليه الناس في ثقافتهم‪ .‬أى ال مجال لتحريك الوتيرة‬
‫الثقافية أو تغييرها و لو كانت منحطة و متحجرة‪.‬وال مجال لثقافة تطرح التساؤل‬
‫و التأمل و تدعو الى التحرر‪ .‬وهكذا"فان أخوف ما يخافه المستبدون أن يعرف‬
‫الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة"(‪ )4‬فليس في صالح المستبد ان تتنور‬
‫الرعية بالعلم و تعرف ما عليها و ما يجب ان يكون لها‪.‬‬
‫‪: 1‬أنظر االتحاف ‪5/93‬‬

‫‪:2‬نفس المرجع ‪6/18‬‬

‫‪ :3‬نفس المرجع ‪5/32‬‬

‫‪13‬‬
‫‪: 4‬أنظر عبد الرحمان الكواكبي‪:‬طبائع‪ D‬االستبداد ص‪37‬‬

‫و لقد ر ّد صاحب االتحاف على خشية السلطة قائال‪":‬و ال يخفى أن المطابع تنطق‬
‫بلسان ممالكها و إختالف حاالتهم في التمدن و الحرية"(‪. )1‬‬
‫فالشيخ أراد أن يقول أن الثقافة هي تعبير صادق على الواقع سواء كان متقدما أو‬
‫متخلفا‪ .‬إذ ال يمكن أن تكون الرعية متقدمة أو متحضرة و يكون أميرها متخلفا‪.‬‬
‫"فالثقافة التي تسود المجتمع هي ثقافة النظام الذي يسوده"(‪)2‬‬

‫و قد أكد أحمد بن ابي ضياف أن االختيار السياسي التحديثي لم يتالئم و الحاجات‪D‬‬


‫الحقيقية للبالد و طبائع سكانها‪ ,‬و لم ينسجم مع المطالب الشعبية التي تعيش‬
‫المرحلة الضرورية و ليس التحسنية من ذلك إحداث "التلغراف" الذي قال عنه‬
‫كالما مرا معبّرا عن بجاحة إختيار السلطة و عدم وعيها بطبيعة المرحلة حيث‬
‫قال‪":‬و لم تظهر لهذا التلغراف في هذه المملكة التونسية فائدة بل حصل منها‬
‫مصرف زائد ال داعي له ألنه من نهاية التحسين التوقف على تمام الضروري و‬
‫الحاجي‪ )3(D"......‬فالشيخ يرى أنه من دواعي ذهاب العمران هو تقدم األمر‬
‫التحسيني على الحاجي‪ D‬السيما و أن هذا المشروع عديم الفائدة و مصرفه كثير و‬
‫يضيف قائال‪":‬و بلدان الحضارة‪ D‬تقدموا فيها بتدريج و لم يكن في هذا القطر‬
‫التونسي عمران يحفظ األعواد الممتدة عليها سلك حديد الجذب ألن غالبها في‬
‫قفار الفيافي تتحكك به الوحوش و سوائم األنعام و اليكاد أحد من عامة أهل‬
‫المملكة يحتاج الى ذلك" (‪()4‬و ألن العود ال يصلح إال للوقود في ذلك العهد في‬
‫أعراف عربانها)‪ .‬فهذا الموقف يعبر بحق عن ثقافة صاحب االتحاف و إدراكه‬
‫لمضمون الحداثة و تقنيات التحديث‪ .‬و هذا التميز الفكري هو من حسنات هذا‬
‫المفكر بالمقارنة مع بقية النخبة ألنه بحق ال مجال للطفرة الحضارية‪ ,‬إذ ال يمكن‬
‫لصاحب‪ D‬الخيمة في البادية ان يستعمل التلغراف في تلك الفترة‪ .‬و استعمال الغرب‬
‫له إنما كان نتيجة العمران ألذي تدرجوا فيه تدرجا معقوال و المجتمع التونسي‬
‫انذاك بحاجة الى العمران و قوانينه ليحفظ كرامته و حقوقه و وجوده‪.‬‬
‫‪: 1‬أنظر االتحاف ‪5/32‬‬

‫‪:2‬أنظر محمد بن الخوجة‪:‬صفحات من تاريخ تونس تقديم و تحقيق‪ D‬حمادي الساحلي و الجيالني بالحاج يحي‪,‬دار الغرب اإلسالمي‪ ,‬بيرروت ط ‪1‬‬
‫‪ 1986-‬ص‪309‬‬

‫‪ :3‬أنظر االتحاف ‪5/23‬‬

‫‪: 4‬نفس المرجع‬


‫‪14‬‬
‫قبل أن يحفظ أعواد التلغراف‪ .‬فرد االعتبار إلى االنسان و تقديس قيم الحرية‬
‫و العدالة و األمن يكون قبل المصنع ألن الغرب "أسّسوا قوانين العدل حتى‬
‫استقر األمن و ذاقوا لذاته و تفيؤوا ضالله فاقبلوا على شؤونهم و اشتغلوا بما‬
‫يوسع دائرة عيشهم و ثروتهم " (‪)1‬‬

‫و معلوم أن استعمال اآللة من طرف البدوي آنذاك لن يقضي على إيمانه بالخرافة‬
‫و لن يزيح عن ظهره األثقال الجبائية و لن يفك رقبته من األسر االجتماعي‬
‫و األغالل السياسية‪ .‬و فعال كان لهذا الزواج الالشرعي بين واقع األنا و ثقافة‬
‫اآلخر أن دنست التجربة الذاتية و التاريخية لهذا المجتمع المحلي و أجهض على‬
‫الجنين في بطن أمه ليلد مشوها‪ ,‬علما و أنه لم يستكمل عناصر نموه الطبيعي‬
‫واالجتماعي و االقتصادي‪ .‬و هكذا أمام أزمة عقالنية السلطة و عجزها عن اتباع‬
‫سياسة تحديث معقولة و مشروعة حولت وجهة المجتمع التونسي في القرن التاسع‬
‫عشر من مجتمع ريفي متخلف الى وجهة التبعية و السقوط في قمقم الرأسمالية و‬
‫غول االمبريالية‪.‬‬
‫عموما فالسلطة لم تقم بواجب التحديث الثقافي ألن اختيارها التحديثي لم يتمحور‬
‫حول االنسان الفالح البدوي و احتياجاته الحقيقية و الضرورية‪ ,‬بل تمحور حول‬
‫رغبة السلطان و ايديولوجية اآلخر‪ .‬و قد انفقت امواال كثيرة فيما الينفع و ال يفيد‬
‫كإختراع النواشن"و ال داعي لهذه االحدوثة إال التشبة والقياس و الفارق واضح‬
‫مشهور كالفرق بين الظلمة و النور"(‪)2‬‬

‫و معلوم "أن المداليات انما تجعل تذكارا للنصر و الرقي في العلوم و الصناعة‬
‫و االختراع ال لتخليد الحوادث الموجعة "(‪ )3‬لكن السرج المهذب ال يجعل من‬
‫الحمار حصانا‪ D‬و خاب كل من يلبس قشرة الحضارة و الروح جاهلية‪.‬‬
‫‪: 1‬أنظر االتحاف ‪1/57‬‬

‫‪:2‬نفس المرجع ‪6/38‬‬

‫‪ :3‬أنظر صفحات من تاريخ تونس ص‪113‬‬

‫‪15‬‬
‫لكن ما هو موقف االخر المتحضر من األنا المتخلف؟‬
‫الفكر األوروبي كما رأينا لم يكن تحركه أبعادا انسانية تروم انتشال هذا المجتمع‬
‫الفقير المتخلف من ظلماء الجهل و الخصاصة و سيطرة الكوارث السيئة إنما‬
‫إرادة التحديث ح ّتمتها السياسة االقتصادية و المثقافة الحضارية‪ .‬فعلى المستوى‬
‫االقتصادي عملت فرنسا مثال على تحويل البالد الى سوق للبضاعة الفرنسية و‬
‫على تحويل العمال الى خمّاسة في أراضي األجانب‪,‬‬
‫وأجراء في بعض المصانع الفرنسية و قد ارتبط كل مشروع في البالد بالمنفعة‬
‫االقتصادية و لما أدركت فرنسا مثال أن منفعتها و امتيازاتها في تونس أصبحت‬
‫مهددة من طرف اإلنقليز السيما و ان عهد األمان قد ضمن لهم امتالك العقار و‬
‫المدجر‪.‬عندئذ أرسل نابليون الثالث‪ D‬يأمر الباي بإبطال عهد األمان‪.‬و قد جاء على‬
‫لسان القنصل الفرنسي "االمبراطور يشتهي أن تكون حاكما في نفسك و حاكما‬
‫في بالدك" (‪ )1‬أما بالنسبة للسياسة الثقافية فالفكر األوروبي كان يروم ضرب‬
‫الذاتية الثقافية و تدمير كل حصانة روحية تحول دون تمرير مشاريعه المختلفة‬
‫السيما و أن المجتمع التقليدي القبلي مثال قد ش ّكل نمطا اجتماعيا واقتصاديا لم‬
‫تفلح أوروبا في اختراقه منذ مئات السنين‪ .‬ومن أخطر اشكال الغزو الثقافي‪ D‬التي‬
‫كرستها أوروبا وهي سياسة التبشير و قد نشطت هذه الحركة خاصة في عهد‬
‫المشير االول الذي منحهم أراض إلقامة كنائس في مختلف الجهات مع اسقاط‬
‫معلوم الكراء الموظف عليها‪ .‬و جاء في االتحاف‪":‬ان االفرنج تشكوا على لسان‬
‫أكبر القسيسين بتونس من ضيق موضع اجتماعي لعبادتهم فاقتضت سياسة الباي‬
‫إسعافهم تألفا للوافدين من التجار" (‪ )2‬و قد حول المبشرون نشاطهم من الدعاية‬
‫إلى ميدان العمل المباشر و ذلك بإنشاء المؤسسات التعليمية و ترويج الكتب بين‬
‫أبناء التونسيين مثل "كتاب برغاد و مفتاح القرآن و كتاب المرور من القرآن الى‬
‫االنجيل و مسامرات قرطاجنة"(‪ .)3‬و قد استغلت هذه الحركة التبشرية الظروف‬
‫االجتماعية للسكان فأسست الى جانب المدارس المسيحية المستشفيات الستقبال‬
‫المرضى من الضعفاء و المساكين‪.‬‬
‫‪: 1‬أنظر االتحاف ‪5/151‬‬

‫‪:2‬نفس المرجع ‪5/79‬‬

‫‪ :3‬أنظر حوليات الجامعة التونسية ععد‪ 1979- 8‬ص ‪133‬‬

‫‪16‬‬
‫و بالتالي فالخطر الثقافي تضاعف و أصبح يهدد هوية الشعب التونسي السيما و‬
‫أن هذا الخطر يحمل في ظاهره الرحمة و مدعم بإمكانيات مالية كبيرة‪ .‬و األدهى‬
‫من ذلك أن رموز هذه الحركة كانت تحركهم االيادي السياسية تمهيدا الحتالل‬
‫البالد واستعمارها حتى أن أحد رجال الكنيسة قال في نشوة االنتصار عندما‬
‫دخلت الجيوش الفرنسية الى تونس ‪ ":‬تعالوا يا ابنائي اسمعوا نواقيسكم يجب أن‬
‫تعلن عن بعث قرطاج المسيحية"(‪)1‬‬

‫و هكذا يلتقي التبشير مع االستعمار على غاية واحدة وهو ضرب المقومات‬
‫‪.‬الذاتية لهوية الشعب التونسي و تشكيكه في انتمائه الحضاري و تشويه ثقافته‬
‫و لم يقدر البايات هذا الخطر الماحق‪ .‬كذلك العلماء لم يحركوا ساكنا حيث سكتوا‬
‫عن تصرفات السلطة الحاكمة و مساعدتها المالية و األدبية لهذه الحركة التبشرية‬
‫التي ترنو إلى إنتفاء الشخصية اإلسالمية و الوطنية و إلحاق المجتمع المحلي‬
‫بالحضارة‪ D‬اآلخرى و كأنه ال ماضي له و ال جذور‪ .‬و صمت العلماء‪ D‬عن هذه‬
‫المؤامرة هو خيانة لتراث الشعب و جرح عميق في كيانه الحضاري ألنه كما‬
‫يقول عبد هللا العروي‪":‬يمكن للمسؤول ان يبت بعد مهلة وجيزة في قضية وجيزة‬
‫اقتصادية أو حتى سياسية ألن التراجع فيها ممكن و الخسارة قد تعوض أما الخطأ‬
‫في الميدان الثقافي حيث يتعلق األمر باستدراك عقود أو قرون ضائعة فقد تكون‬
‫الضربة القاضية على األمة"(‪)2‬‬

‫و من نتائج هذا الخطأ التاريخي ظهور فكرة العلمانية و غزوها لديار اإلسالم‬
‫خاصة بعد أن ترعرعت األجيال في مدارس التبشير و شربت من معين المدارس‬
‫الغربية حتى اشتد عودها‪ .‬و أمام توتر الوضع االجتماعي و السياسي المتخلف‬
‫اضطربت في الذهن مواقع العلم و الدين أو العقل و الوحي فجاءت‪ D‬االطروحات‬
‫سواء كانت علمانية وطنية أو غربية ماركسية تعلن االنفصام التاريخي بين الدين‬
‫‪.‬و األمة‪ .‬إذن فسياسة التبشير و االستعمار وجهان لعملة واحدة‬
‫أنظر عبد الجليل التميمي المجلة التاريخية المغربية عدد‪ 1975 . 3‬ص‪1 :15‬‬

‫‪: 2‬أنظر عبد هللا العروي‪ :‬ثقافتنا في ضوء التاريخ‪ ,‬دار التنوير للطباعة و النشر ط‪ 1983- 1‬ص‪204‬‬

‫‪17‬‬
‫و ال هم لهما إال التدمير و تحصيل المنفعة‪ .‬و كمثال على هذه النزعة المركزية و‬
‫الماكيافلية يذكر محمد عمارة ‪":‬أن القوى االستعمارية اجتمعت ضد المشروع‬
‫العربي لمحمد علي و ناصرت السلطنة العثمانية فبدأت و كأنها تنصر اإلسالم‬
‫على العروبة‪ .‬و لما أصبح الخطر آتيا من الدولة العثمانية أى من اإلسالم‬
‫استدرت تشجع بواسطة االرساليات التبشير بالفكرة العربية القومية"(‪)1‬‬

‫‪ .II‬مشكلة التنظيم التعليمي و القضائي‬


‫ارتكز النظام التعليمي بتونس في تلك الفترة على مؤسسة الكتاب التي ال يخلو‬
‫منها درب من دروب الحاضرة الى جانب الزوايا و ما تقوم به من دور تربوي‬
‫كبير خاصة في البوادي و القرى ثم المساجد و المدارس الصغرى بالمدن لكن‬
‫رغم ذلك يعد هذا الجهازمن االنظمة العتيقة التي تلتقص كثيرا بالثقافة الشعبية و‬
‫التي تعتمد على الطريقة الشفاهية و الحفظ و االستظهار و قد تبصر محمد بيرم‬
‫الخامس بقصور هيئة التعليم ‪":‬لكن هيئالتعليم قاصرة للغاية في هاته المكاتب‬
‫االبتدائية و لو في الحاضرة‪ D‬بحيث يمكن ان يبقى التلميذ فيها عشرة سنين و ال‬
‫يحصل على حسن القراءة والكتابة"(‪.)1‬‬
‫كذلك أحمد بن ابي ضياف تفطن الى سواة هذا النظام التربوي"و عبر عن اعجابه‬
‫الشديد بالشيخ ابراهيم الرياحي المعلم لديه الذي استنبط طريقة جديدة في‬
‫التدريس"(‪)1‬‬

‫اذن فالمحدثين من افراد النخبة تفطنوا الى تخلف النظام التعليمي اذي تسيطر‬
‫عليه الهامشية و الطرق الالجوارية العتيقة لكن كا ذكرنا سابقا فالنخبة ال تملك‬
‫مبادرة بل هي من صالحيات السلطة ترى ما هي االصالحات التي ادخلتها الدولة‬
‫على الجهاز التعليمي ؟‬

‫‪18‬‬
‫اول عمل اصالحي بادر به المشير احمد باي هو ترتيب ثالثين مدرسا بجامع‬
‫الزيتونة نصفهم من المالكية و النصف االخر من الحنفية و حبس عليهم دخل بيت‬
‫المال و قد استبشر صاحب االتحاف بهذا االجراء واعتبره سابقة خير حيث‬
‫يقول‪":‬و في هذه االيام نفق سوق العلم و تجدد شابه وسال سيله و عبّ عبابه و‬
‫انتفخ لالجتهاد بابه و تظافرت اسبابه" (‪)1‬‬

‫و الجديد الذي يتجلى من هذا االجراء هو تنظم التدريس و اخراجه من الهامشية‬


‫و ترقب الصدف بحيث اصبح المدرس يقوم بدرسين بمقابل مادي و بالتالي تتوفر‬
‫اكثر فرص لالستفادة و يشرف على لجنة التدريس المشايخ النظار و هم شيخ‬
‫االسالم الحنفي و رئيس الفتوى المالكية ثم القاضي الحنفي و القاضي المالكي‬
‫و المشايخ بدورهم يتقاضون مرتب من الدولة‪.‬‬
‫و من ماثر أحمد باي ايضا التسوية بين علماء المذهبين حيث ‪":‬جعل لعلماء‬
‫المالكية مرتبا مع السند النظامي مثل مرتب الفقهاء الحنفية مع جند الترك" (‪)1‬‬

‫و قد سر الشيخ ابراهيم الرياحي بهده التسوية و انشد قائال‬


‫(‪)1‬‬ ‫"جرى لبن من ندى أحمد فارتوى * به حنفي في االخاء و مالك "‬
‫كذلك من حسانته تاسيسه للمكتبة االحمدية في رمضان سنة ‪1256/1840‬م‬
‫و يعد هذا االنجاز من الخدمات الجليلة و االعمال الفاضلة التي قدمها المشير الى‬
‫اهل الحاضرة و علمائها حيث" سهل بذلك طريق العلم على الفقراء و االغنياء و‬
‫اشترى كتب الشيخ ابراهيم الرياحي بعد وفاته و دفع اثمانها للورثة و حبسها‬
‫بالجامع"(‪)1‬‬

‫عموما فان أحمد باي قد ساهم من وراء هذه االصالحات في تحريك الدورة‬
‫الدموية للنظام التعليمي و جعله أكثر حيوية و نشاط مما كان عليه‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫اال ان ما يغلب على هذه الحركة الثقافية هو التكريم المفرط للعلماء و رد االعتبار‬
‫لعلماء المالكية و تقريبهم من السلطة باجراء رواتب لهم‪.‬‬
‫و هذا من شأنه ان يسلب منه الجرأة االصالحية و النقدية وهو ما حصل بالفعل‬
‫حيث ش ّكل العلماء طبقة متميزة لها خصائصها‪ D‬و مصالحها‪ D‬و نمط عيشها و ال‬
‫هم لها اال ارضاء البايات و كسب و دهم و في الحقيقة فان تمييع الشخصية‬
‫العلمية ابتدأ مع التمثيل التركي بتونس عندما اصبحت خطة االفتاء وظيفة من‬
‫الوظائف الرسمية حيث اخرج المفتي من المسجد و ابعد عن الواقع الشعبي ليفتي‬
‫السلطان في قصره‪.‬‬
‫و قد نتج عن تقريب العلماء الى االمارة الجهل بالواقع و تناقضاته حتى ان محمد‬
‫بن الطيب الرياحي ابن شيخ العصر يعتبر ان تأسيس مكتبة االحمدية قد استأصل‬
‫الجهل و الفقر حيث يقول‪:‬‬
‫""فجر زيت من ملك انتعش به الندى * و دين الهدى و استأصل الجهل و‬
‫الفقر"(‪)1‬‬

‫فالجهل ظاهرة و الفقر ظاهرة و الفعل السياسي ال ميقضي على الظواهر‬


‫المريضة االجتماعية في لحظات بل قد يتطلب االمر عقودا من السنين كذلك فان‬
‫اصالحات أحمد باي لم تتعرض الى تعيين العلوم التي يجب ان تدرس و هذا يعد‬
‫قطب الرحي الذي يتوقف عليه كل شئ و الن االنا ال قيمة له اال بالمحتوى‪.‬‬
‫لكن انطالقا من الكتب في قسم التراجم من كتاب االتحاف مثل االشموني في‬
‫النحو و ملتقى االبحر في الفقه ثم تفسير ابن مسعود و كذلك المختصر في الفقه‬
‫المالكي الى جانب تذكرة القرطبي و صحيح البخاري‪ ....‬نسجل ان الوسط‬
‫التعليمي "لم يكن يهتم بدراسة تاريخ المذاهب في االسالم او التاريخ االسالمي بل‬
‫يقتصر على التصانيف المتأخر الركيكة االسلوب المعقدة المعاني و اكثرها‬
‫شروح و حواشي " (‪)1‬‬

‫‪20‬‬
‫حتى ان احمد بن ابي ضياف لم يحصل على نسخة من مقدمة ابن خلدون اال من‬
‫فرنسا أتاه بها خير الدين اذن فسياسة البايات‪ D‬ال تحتمل وجود مصنفات ترتبط‬
‫بالمواقف السياسية التاريخية و دعوات التحرر و الهندسة بالمقارنة مع العلوم‬
‫النقلية حيث يقول ‪ ":‬وفي عهد الحسين لم يبق اال القليل منها "(‪ )1‬و الى جانب هذه‬
‫العوائق التي حالت دون التحديث نذكر امر محمد الصادق باي الصادرة سنة‬
‫‪ 1292‬فيما يخص ترتيب جامع الزيتونة و الذي مثل بحق عقبة في وجه‬
‫التحديث الفكري‬
‫من الفصول التي وردت في امر الباي نذكر مثال ما جاء في الفصل السابع و‬
‫العشرين من " ان المتون التي يلزم حفظها الجوهرة نظم الشيخ حسن الشرنبالي و‬
‫ابن عاشور الجزرية االحرومية االلفية ‪....‬و من اراد توسيع النطاق في الفقه‬
‫فعليه بالكنز و المختصر فمن ازداد حفظه ازداد كماله"(‪ )1‬و هكذا فالفقه اصبح‬
‫قواعد تحفظ و قوالب جاهزة يكفي استحضارها و ربط حاضرنا‪ D‬بها لكى نتقدم و‬
‫ننهض و لم يعدالفقه تفاعل بين النص و الواقع‪.‬‬
‫و قد نبه الدكتور محمد عمارة الى ان " الفقه ال يعني الشريعة فالفقه علم مستنبط‬
‫بالرأى و االجتهاد بينما الشريعة هي وضع النهي و ثوابت ال عالقة لها بالرأى و‬
‫االجتهاد"(‪ .)1‬فالخلط بين الشريعة و القانون جعل من الفقه (االجتهاد اليومي)‬
‫منطقة محرمة على العلماء و موضوع محظور ال يجب الولوج فيه و بالتالي‬
‫توقف االجتهاد و دخل العلماء‪ D‬في عطلة فكرية و ال هام لهم اال الحفظ و تفسير‬
‫الحواشي و حواشي الحواشي و قد بين االستاذ شاخت الباحث في الحضارة‪D‬‬
‫االسالمية "ان اصحاب‪ D‬المدارس الفقهية و تالميذهم و اتباعهم في االمصار لم‬
‫ينظروا الى الفقه مجموعة احكام ثابة دقيقة النظام و انما اهتموا باوضاع مختلفة‬
‫و عادات الناس و اعرافهم و سننهم التي درجوا عليها "(‪)1‬‬

‫‪21‬‬
‫اذن فلكي ينتج الفكر االسالمي و يبدع عليه ان يلتصق بالواقع االجتماعي الراهن‬
‫و يتحرر من االحخكام الفقهية الماضية و قدسيتها الن هللا هو الشارع و ليس‬
‫الفقيه فالفقهاء هم العلماء الذين يعيشون في ظرف زمكاني‪.‬‬
‫و جاء في الفصل الثالث‪ D‬و العشرون انه" على المشايخ المدرسين ان ال يقبلوا‬
‫تلميذا في قراءة كتاب في فن من الفنون اال بعد ان يره باالختبار متأهال له"(‪)1‬‬

‫اذن فاالطالع على الكتب و تحصيل المعارف يتوقف على موافقة المشايخ‬
‫فالطالب‪ D‬ليس حرفي دراسة الموضوع الذي يرغب فيه و معلوم ان الفكر اذا‬
‫كبالختياره المعرفي ال ينتج ابدا و بالتالي فالمعارف ال تزدهر اال اذا رفعت كل‬
‫اشكال الوصاية و االسلطة الفكرية على العلماء ‪.‬‬
‫عموما فالوصاية االسياسية التي سلكها البايات و عدم وعي المشايخ النظار‬
‫بطبيعة المرحلة هذا الى جانب االصرار في التمشي على النهي السابقين والتمسك‬
‫بمقوالت فقهية متقادمة كل هذا حال دون والدة فكر جديد و وعي ديني كفيل‬
‫بتحديث المنظومة التربوية و تحقيق النهضة العلمية المنشودة‪.‬‬
‫اما فيما يخص خطة القضاء الشرعي في ذلك العهد فهي تعكس بوضوح الواقع‬
‫السياسي و االجتماعي في الداخل و الهيمنة الخارجية و بالتالي فقد تاثرت هذه‬
‫المؤسسة القضائية كثيرا من سياسة االطالق و التهديد االجنبي‪.‬‬
‫ففي عهد‬
‫احمد باي لم يكن القضاء‪ D‬مستقال عن السلطة التنفيذية و قد جاء في االتحاف‬
‫"ان المتاخرين من ملوك االطالق و القهر ال يباشرون فصل النوازل بين‬
‫المتداعين بل يقمون لهم نوابا من قضاة و حكام اال في تونس فان صاحبها يباشر‬
‫في البيت المعروف بالمملكة ما يرد له من النوازل حقيرة كانت او جليلة "(‪)1‬‬

‫‪22‬‬
‫و ال يخف على احد ان عدم التفريق بين السلطات من شأنه ان يجسد االرادة‬
‫الواحدة للسلطة و لو كان ذلك على حساب حقوق االخرين ثم ان المقصود‬
‫بالقضاء‪ D‬الشرعي اى الحكم بما شرع هللا و رسوله‪.‬‬
‫فهو كما يقول عمر بن الخطاب فريضة محكمة و سنة متبعة و هكذا ننفي عن‬
‫القاضي‪ D‬الشرعي الحكم بالهوى و الجهل لكن هذا ال يحول دون الباي صاحب‪D‬‬
‫االمر و النهي ان يحكم بهواه السيما و ان تكوينه العسكري يفوق بكثير ثقافته‬
‫الدنية اضف الى ذلك فاحكام الباي نهاية و ال يجعة فيها او استئناف فهو اعلى‬
‫سلطة في البالد‪.‬‬
‫و يذكر صاحب االتحاف" ان الوافدين من اعيان اوربا المطبوعين على حب‬
‫العدل والمتشوفين الى المعارف ربما يطلبون الوقوف بالمحكمة لحرصهم على‬
‫معرفة االشياء‪....‬و يرون النوازل تفصل في دقائق تارة بحمل الطالب على‬
‫الصدق و اخرى باالستناد الى حجة حتى انه في بعض االحيان يقضي عليه قبل‬
‫ان يفوه ببنت شفة تتخطفه زبانية الغضب و ربما سدوا هم المحكوم عليه‬
‫باالعدام"(‪)1‬‬

‫وهذه الصورة تعبر لنا عن تخلف هذه المؤسسة و تكشف النقاب‪ D‬عن بشاعة‬
‫الباياتي من حيث عدم التزامه بالمبادئ الشرعية التي جاءت‪ D‬في موضوع القضاء‬
‫و ال المبادئ االنسانية االمر الذي لفت انتباه االجانب حتى ان أحمد باي امام‬
‫اعتراضات الوافدين ولومهم "نفر من هذه المباشرة و قلل الجلوس بالمحكمة"(‪)1‬‬

‫فالسلطة ال تملك مشروع لتحديث التنظيم القضائي و خجب احمد باي عن مباشرة‬
‫هذه الخطة امام الوافدين انما يبرهن عن توتر الرجل و احساسه بالتخلف عن‬
‫االخر كما يؤكد ان حال هذا الزمان لم يعد يقتضي والية الباي القضائية‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫لذلك و فور ارتقاء محمد باي الى العرش فكر في تنظيم القضاء و استقالليته و‬
‫ذلك بانشاء دار للشريعة مستقلة المكان عن قصر باردو و ذلك سنة ‪1856‬‬
‫يشرف عليها شيخ االسالم الحنفي محمد بيرم لكن رغم حسنات هذا االنجاز من‬
‫ظبط االجراء القضائي و تعجيز الجلسات التي كانت تقع خارج المحكمة فان ذلك‬
‫لم يضع حد الى سياسة االطالق و استبداد الباي بشؤون القضاء حتى ان رجال‬
‫من صعاليك االعراف و جفاتهم دخل على الباي يحمل مرودا به راس رجل و‬
‫امرأة و قال له‪":‬ان امرأتي هذه وجدتها مع هذا الرجل فقطعت الرأسين و أنا بين‬
‫يديك فقال له بديهة‪:‬‬
‫احسنت و أمر له ان يكتب باسقاط ديتهما و عدم المطالبة بدمها "(‪ )1‬وفي هذه‬
‫الحادثة نرى ان الباي حكم من مجرد الدعوة دون اثبات و تحري و لم يقم بينة‬
‫على دعوى هذا الرجل و قد استمر على هذا النهج غير ابه بحقوق الناس و لم‬
‫يحرك العلماء ساكنا امام هذا الاستبداد و التعدي على الدم و الحقوق البشرية دون‬
‫مستند شرعي او قانوني‪.‬‬
‫وهكذا فقد فرطوا في اصالح ما يمكن اصالحه و تركوا للسلطة الحبل على‬
‫الغارب تبعث بالحقوق البشرية غير سادرة بعواقب االمور و ال مقدرة لتذمر‬
‫االف المتظلمين من جور اللزامة و العمال السيما ان الباى اذا جلس في المحكمة‬
‫ال يكاد يسمع اال شكاياتهم و كان ال يقول للمتظلم منهم اال قولهم‪":‬اخلص مع‬
‫اللزام من غير سؤال و ال استكشاف"(‪ )1‬و امام تواصل غي السلطة و عجز‬
‫العلماء و حيرة الرعية تدخل االجانب في شؤون البالد و عملوا على انشاء محاكم‬
‫مستقلة منافية لسيادة البالد و ارضية القانون و تدعم ذلك خاصة مع دشتور‬
‫‪ 1861‬حيث تقلص نفوذ القضاء‪ D‬الشرعي و لم يبقى للمحاكم الشرعية سوى‬
‫النظر في المعامالت‪ D‬واالستحقاقات‪ D‬و االحوال الشخصية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫و بالتالي اتبع مسار التحديث القضائي النهج الغربي وهو ان كان مفروضا من‬
‫القوى االجنبية فان له مبررات موضوعية مثل نفور العامة من القضاء‪ D‬الشرعي‬
‫لتعقد اجراءاته و عدم قدرته على فض النزاعات بين المتخاصمين و استرداد‬
‫حقوقهم بكل سرعة هذا امام تميز اجراءات التقاضي االوروبية المؤسسة على‬
‫العدل و االمن و سرعتها في فصل النوازل‪.‬‬

‫‪25‬‬

You might also like