You are on page 1of 3

‫مسكون‬

‫تأليف أحمد عرفة‬

‫برودة فبراير الشديدة تبخرت أسفل تلك الموجات المتوالية من الهواء الساخن الملتهب‪ .‬أدرت‬
‫رأسى بسرعة وأنا أشعر بأهدابى تكاد تحترق من فرط الحرارة ثم أسترخيت بجسدى على‬
‫المقعد الجلدى فى سيارة الرائد أيمن‪.‬‬
‫* ال أستطيع أن أصدق ما فعلته‪ ..‬هل أنت مجنون ؟!‬
‫قالها أيمن وهو يدلف بداخل السيارة ثم يدير محركها مردفا ‪:‬‬
‫* يجب أن أذهب بك للمستشفى سريعا‪ ..‬ذلك الجرح فى صدرك ينزف بصورة غريبة‪.‬‬
‫ولكننى لم أرد‪ ..‬فقط أغمضت عيناى وقلبى ينبض بعنف‪.‬‬
‫* هناك أشياء ال نفهمها ولكنها ال تقبل الجدل‪ ..‬تلك الفيلال مسكونة منذ سنوات‪ ..‬الجميع يعلم‬
‫ذلك وال يجرؤ على مناقشته ولكنك‪ ..‬أنت‪ ..‬أنت‪ ..‬مجنون‪ ..‬بالتأكيد مجنون‪ ..‬أنا ال أعرف كيف‬
‫غادرتها على قيد الحياة‪.‬‬
‫وأنا أيضا ال أعرف كيف حدث ذلك وال كيف تركنى أعيش‪ ..‬ذلك الكيان الشيطانى‪ ..‬أتذكره‬
‫وينتفض قلبى بعنف أكثر‪.‬‬
‫فتحت عيناى قائل له وهو ينطلق بالسيارة ‪:‬‬
‫= لقد تلقيت إشارة النجدة وكنت بجانب المكان‪ ..‬لقد كانوا يستنجدون بى يا أيمن‪ ..‬رجل‬
‫وزوجته ومعهم الخادمة‪ ..‬لو كنت أنت قادر على تجاهل ذلك والجلوس فى مكتبك مرفها تعبث‬
‫بحاسبك المحمول فأنا ال أستطيع أن أتخلى عنهم‪.‬‬
‫ضرب بقبضته اليمنى على المقود بغضب ‪:‬‬
‫* أربعة عائالت توفت فى تلك الفيلال والخامسة أصيب أفرادها بالجنون‪ ..‬أشباح أو جان أو‬
‫عفاريت ال أعرف ولكنه شىء خارق يحدث هناك‪ ..‬وأنت‪ ..‬أنظر لما فعلته‪ ..‬لقد حولت المكان‬
‫لقطعة من الجحيم‪ ..‬لماذا حرقت الفيلال ؟ لقد ماتوا بالفعل فما الداعى لتفجيرها بإسطوانة‬
‫الغاز‪ ..‬سوف نعانى الصداع لشهور بسبب فعلتك تلك‪....‬‬
‫إستمر فى كلمه ولكننى لم أعد أسمعه‪ ..‬فقط أتذكر مشهد جسد تلك الخادمة وهى معلقة من‬
‫حلقها فى الثريا وتتقلص أمعائى فى توتر‪.‬‬
‫الرجل إتصل بالنجدة من هاتفه المحمول يصرخ ويطلب إنقاذه من شىء غامض‪ ..‬ذهبت للفيل‬
‫التى يعرف جميع السكندريين سمعتها السيئة‪ ..‬كان الوقت بعد منتصف الليل ‪ ,‬دخلتها مع أفراد‬
‫قوة الدورية المكونة من ثلث جنود‪ ..‬وما حدث هناك‪ ..‬كان رهيبا‪.‬‬
‫= النار تقضى على كل الشرور‪.‬‬
‫قلتها فى هدوء ولكن قلبى مازال ينتفض بعنف‪ ..‬شىء ما خطأ‪ ..‬أشعر بذلك‪.‬‬
‫* النار ماذا ؟ حسنا‪ ..‬هذه هى البداية سوف تتكلم كالما غامضا وبعد دقائق تبدأ فى الصراخ‬
‫ثم ينتهى األمر بركضك عاريا فى الطريق بمقالة على رأسك لتنظم المرور‪ ..‬أنا أعلم تلك‬
‫األمور جيدا‪..‬آخر عائلة سكنت الفيلال جنت وأنت ستلحق بهم‪ ..‬وربما مستك تلك األرواح‬
‫الموجودة بالفيلال وأصبحت أحدهم بالفعل‪ ..‬ربما هذا مبرر نجاتك الوحيد من تلك المذبحة‪.‬‬
‫كان يقولها بسخرية غاضبة ولكننى بالفعل مازلت أشعر بذلك اإلنقباض بداخلى وبذلك الهلع‬
‫يزحف فى صدرى ويبدأ فى إحتلل خلياى‪.‬‬
‫* البد أنك رأيت شيئا مروعا بالداخل‪ ..‬ال أريد أن أعرفه ولكنك أشبه بمن أصيب بإنهيار‬
‫عصبى‪ ..‬إنك حتى ال تتألم من ذلك الجرح الغائر‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬ما رأيته بالداخل‪ ..‬كان شيئا خارقا للمألوف بالفعل‪.‬‬
‫َ‬
‫لقد تفرقت أنا والجنود بالمكان نبحث عن العائلة‪ ..‬وأكاد أسمع االن صرخة سيد فتيحى جندى‬
‫الدورية وهى تدوى فى أذناى وأنا أركض باحثاعنه ألجد نصفه األعلى فقط على األرض‬
‫وتتدلى منه بقايا أمعاؤه وهى تعبث كاألفاعى بينما الدماء تفيض بل توقف‪.‬‬
‫* إنهم مجرد أسرة ساذجة من القاهريين الذين نصب عليهم ذلك السمسار الحقير وأجر لهم‬
‫الفيلال اللعينة‪ ..‬ذلك الوغد‪ ..‬سأمزقه بيداى و‪..‬‬
‫رن هاتفه المحمول ليرحمنى من ثرثرته ويدعنى لتلك الذكريات الرهيبة ‪ ,‬فإلتقطه بسرعة ليرد‬
‫على المكالمة ‪:‬‬
‫* نعم‪ ..‬إنه معى يا سيدى‪ ..‬سوف أخذه ألقرب مستشفى‪ ..‬نعم‪ ..‬لم أستطع اإلنتظار حتى تأتى‬
‫سيارة اإلسعاف‪ ..‬نحن فى مجاهل العجمى وسيارة اإلسعاف سوف تأخذ قرنا للوصول لمكاننا‪.‬‬
‫ال أعرف لماذا أحرق الفيلال ولكنه يبدو مصدوما للغاية‪ ..‬ماذا‪..‬ال يستطيعون إطفاء النيران ؟‬
‫ما الذى تعنيه ؟ هل هناك مواد قابلة لإلشتعال‪ ..‬مواد بترولية أم‪..‬ال‪ ..‬ال إننى فقط أخمن يا‬
‫سيدى‪.‬‬
‫وفجأة مرت بجانبنا باإلتجاه المعاكس سيارة مطافىء هائلة الحجم بسرعة صاروخية أجفلتنا‪.‬‬
‫فريد حسنى وأحمد البدرى أشلؤهم كانت تتناثر على الدرج‪ ..‬قتلهم بسرعة جهنمية حتى قبل أن‬
‫يصرخوا‪.‬‬
‫خيال أسود هائل الحجم ثنائى األبعاد كان يتحرك على الجدار بسرعة البرق وجعل شعر رأسى‬
‫ينتفض فى فزع‪ ..‬كان ذلك قبل أن أرى تلك السيدة تصرخ وهى تشير للجدار‪..‬‬
‫وعلى الجدار كان الرقم ستة يكتب على الحائط بخطوط دامية سميكة ثم ألتفت نحو السيدة‬
‫ألجدها قد إختفت تماما‪ ..‬وأمسكت بمسدسى بيد ترتجف متجها نحو تلك الغرفة فى نهاية الممر‬
‫وأصرخ فى اللسلكى بأعصاب متهاوية أطلب النجدة ولكن ال مجيب !‬
‫إلتفت نحو أيمن الذى كان قد أنهى المكالمة ‪:‬‬
‫= ما الذى تعنيه بأنهم ال يستطيعوا إطفاء النيران ؟‬
‫هز كتفيه بحيرة قائل ‪:‬‬
‫* ال أعرف ما الذى يحدث ولكنهم االان يحاولون إستخدام الرغوة ألن النيران ال تريد أن‬
‫تتوقف‪.‬‬
‫لقد ذهبت للغرفة فى نهاية الممر وهللا أعلم بحالتى وقتها‪ ..‬كنت على وشك فقدان الوعى من‬
‫الفزع ولكننى قاومت‪ ..‬كان يجب أن أنقذ أى شخص وإال ضاعت أرواح جنودى هباء‪.‬‬
‫ومرت سيارة مطافىء ثالثة بجانبنا وقفزت تلك الفكرة الغريبة بعقلى‪.‬‬
‫= أيمن‪ ..‬يجب أن نعود حاال‪.‬‬
‫* ما الذى تعنيه‪ ..‬ألن يتوقف مسلسل جنونك‪..‬؟‬
‫= أرجوك‪ ..‬إستدر بالسيارة االان‪ ..‬أعتقد اننى أعرف ما يحدث بالفعل‪.‬‬
‫* إننى لن‪..‬‬
‫قاطعته صارخا وأنا ألصق مسدسى برأسه ‪:‬‬
‫= لن أطلب منك ذلك مرة أخرى عد بالسيارة وإال أقسم أننى سوف أفرغه برأسك‪.‬‬
‫* حسنا‪ ..‬حسنا‪ ..‬إهدأ قليال سوف أعود بك‪ ..‬فقط إهدأ‪.‬‬
‫قالها وهو يستدير بالسيارة عائدا نحو الفيلل ويقول شيئا ما‪ ..‬ولكننى أتجاهله للمرة األلف وذلك‬
‫المشهد يعبث أمام عيناى‪ ..‬الزوجة وهى معلقة فى الهواء كالدمية بفعل قوى غامضة‪ ..‬مقطوعة‬
‫الذراعين وتهمس بصوت كالفحيح بأخر قطرات قوتها ( النار‪ ..‬النار تقتل كل الشرور )‪..‬‬
‫وتفاديت بعدها تلك البلطة الضخمة وهى تكاد تحطم رأسى‪ ..‬كان يمسكها ذلك الرجل‪ ..‬نصف‬
‫رأسه كان محطم تماما‪ ..‬كتلة من اللحم والعظام الممزقة‪ ..‬ولكن شيئا ما يعطيه الحياة‪..‬‬
‫تفاديت ضربة ثانية وثالثة ولكن الرابعة أصابتنى بجرح ضخم‪ ..‬والضربة الخامسة كادت تطيح‬
‫بذراعى ولم يتوقف إال بعد أن أطلقت الرصاص على بقايا رأسه‪ ..‬ومن بين ما تبقى من شفتيه‬
‫أسمعه يصرخ والدماء تناثر من فمه‪ ( ..‬النار‪ ..‬فلتحرق كل تلك الشرور )‪.‬‬
‫كان كل شىء يشير إلى الحل‪ ..‬تلك الفيلل الملعونة يجب أن تحترق ‪ ,‬لذلك إتجهت نحو المطبخ‬
‫ألفرغ أسطوانة الغاز‪..‬‬
‫وبعدها ال أتذكر سوى تلك الصرخة الجهنمية‪ ..‬صرخته وهو يموت‪.‬‬
‫* حسنا‪ ..‬ها هى الفيلال ولكننى أقسم أننى لن أسامحك أبدا على تهديدك لى بالمسدس‪..‬و‪..‬‬
‫ولكن ما الذى يحدث هنا‪..‬؟‬
‫توقفت السيارة وقفزت منها متناسيا جرحى الدامى ‪ ,‬كنت أسمع صراخ بعض جنود اإلطفاء‬
‫والنيران تلتصق بهم وهم يركضون بهلع‪..‬النار كانت قد تضخمت بشكل غريب !‬
‫ركضت نحو قائد القوة اإلطفائية كان شاحب الوجه كالجثة وهويتطلع فى حيرة وهلع لما يحدث‬
‫قال والكلمات ترتجف على شفتيه ‪:‬‬
‫‪ -‬النار ال تتوقف‪ ..‬جربنا كل شىء ولكنها ال تتوقف‪ ..‬إنها تتسع فى دائرة كاملة حول‬
‫المنزل‪..‬أنا‪ ..‬أنا ال‪ ..‬الأعرف ما الذى يحدث بحق الجحيم‪.‬‬
‫النار بالفعل كانت قد تضاعفت بصورة غريبة وبدا وكأنها تنسكب على األرض كالحمم‬
‫البركانية وتأكل كل شىء فى طريقها ولحظتها إلتمعت الفكرة فى ذهنى‪..‬‬
‫االَن أعرف كل شىء‪..‬‬
‫أعرف لماذا لم يقتلنى‪ ..‬ولماذا كان يحتاج لستة أرواح للهرب‪..‬‬
‫الرجل وزوجته‪ ..‬الخادمة وجنودى‪..‬‬
‫كان يحتاجنى‪ ..‬كان يحركنى كالدمية نحو هدفه‪..‬‬
‫نعم‪ ..‬أعرف أن الصرخة التى سمعتها عندما فجرت الفيلل لم تكن صرخته وهو يموت‪ ..‬بل‬
‫صرخة سعادته بالحرية‪..‬‬
‫* هذا جنون حقيقى‪ ..‬ما الذى يحدث هنا ؟‬
‫قالها أيمن بعدم تصديق ولكننى إنهرت أرضا صارخا فى ألم ‪:‬‬
‫= النار تقتل كل الشرور‪ ..‬بالنسبة له نحن‪ ..‬نحن كل الشرور‪ ..‬البشر‪!!..‬‬
‫تطلع لى ثم إنتقلت عيناه نحو دائرة النار التى كانت تكبر وتتضخم‪..‬‬
‫وال تتوقف أبدا‪.‬‬

‫تمت بحمد اهلل‬

You might also like