Professional Documents
Culture Documents
(الفارابي)
الفارابي وع ُِرف بأبي نصر واسمه األساسي محمدُ ،ولد عام 260هـ (874م) ،في فاراب في
إقليم تركستان( كازاخستان حاليًا) وتُوفي عام 339هـ(950م ]ar 2[).لُقب باسم الفارابي نسبةً للمدينة التي ولد فيها وهي فاراب .
يعُتبر الفارابي فيلسوفا َ ومن أهم الشخصيات اإلسالمية التي أتقنت العلوم بصورة كبيرة
[]ar 3مثل الطب والفيزياء والفلسفة والموسيقى وغيرها.
عاش الفارابي ُمدة ً في بغداد قبل أن ينتقل إلى دمشق ومنها انطلق في جول ِة بين البلدان قبل أن يعود لدمشق ويستقر فيها حتّى
وفاته ،خالل وجوده في سوريا قصد الفارابي حلب وأقام ببالط سيف الدولة الحمداني وتبوأ مكانةً عاليةً بين العلماءِ
واألدباءِ والفالسفة .أطلق عليه معاصروه لقب المعلم الثاني ،نظرا َ الهتمامه بمؤلفات أرسطو المعروف بالمعلم األول،
وتفسيرها وإضافة التعليقات عليها.
[]ar 4
نصر الفارابي هو المؤسس األول للفلسفة اإلسالمية ،فقد تأثر ك ُّل العلماء الذين أتوا بعده
ٍ ال خالف بين المؤرخين على أن أبي
بأفكاره
هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان ويظهر اسم طرخان في نسبه .لم يكن جده معروفا ً في أوساط معاصريه ،ولكن ظهر اسم
[ ]6
أوزلغ فجأة ً فيما بعد في كتابات ابن أبي أصيبعة وظهر اسم جده األكبر في كتابات ابن خلكان.
تشير االختالفات الموجودة في الروايات األساسية المتعلقة بأصول الفارابي ونسبه ،إلى أنَه لم يتم تسجيلها خالل حياته أو بعد ذلك بوقت قصير
من قبل أي شخص لديه معلومات محددة ،وكل المعلومات المعروفة تستند إلى اإلشاعات أو التخمينات (كما هو الحال مع معاصري آل-
الفارابي) .ال يُعرف الكثير عن حياته ،وتشمل المصادر المبكرة مقطعا ً عن سيرته الذاتية حيث يتتبع الفارابي تاريخ المنطق والفلسفة حتى
عصره ،ويذكر باختصار المسعودي وابن النديم وابن حوقل .وقد كتب صاعد األندلسي سيرة الفارابي لكن لم يكن لدى كتاب السير العرب في
[ ]6
القرنين الثاني عشر والثالث عشر سوى القليل من الحقائق لتسليمها ،واستخدموا قصصا ً مخترعةً عن حياته.
ومن المعروف من الروايات التي وصلت عن حياته أنه قضى وقتًا طويالً (معظم حياته) في بغداد مع علماء مسيحيين منهم رجل الدين يوحنا بن
حيالن ويحيى بن عدي وأبو إسحاق إبراهيم البغدادي ،بعد ذلك أمضى بعض الوقت في دمشق ومصر قبل أن يعود إلى دمشق حيث توفي عام
[]7
.1-950
يمكن أن يكون مسقط رأسه أحد األماكن العديدة في آسيا الوسطى -خراسان المعروفة بهذا االسم .االسم «باراب /فاراب» هو مصطلح من اللغة
الفارسية يشير للمنطقة التي تروى بالينابيع السائلة أو تدفقات من نهر قريب وبالتالي فهناك العديد من األماكن التي تحمل االسم (أو التطورات
المختلفة لهذا االسم الجغرافي الهيدرولوجي /الجيولوجي) في تلك المنطقة العامة فمثالً فراب على جاكسارتس (سير داريا)
في كازاخستان الحديثة أو فاراب (توركمينابات الحديثة) على نهر أوكسوس آمو داريا في تركمانستان أو حتى فريب في خراسان الكبرى
(أفغانستان الحالية) .في الفارسية القديمة [ ]6باراب (في حدود العلم) أو فارياب (أيضًا بارياب) هو اسم فارسي شائع لألماكن الجغرافية يعني
[]10
«األراضي المروية بتحويل مياه النهر»[ ]9[]8بحلول القرن الثالث عشر عُرف فراب على آل جاكسارت باسم أطرار.
يتفق العلماء إلى حد كبير على أن خلفية الفارابي العرقية غير معروفة مع الميل لألصل التركي.
تعليمه[عدل]
قضى الفارابي حياته كلها تقريبا ً في بغداد ،وقد بدا ذلك واضحا ً في السيرة التي كتبها ابن أبي أصيبعة حيث ذكر ان الفارابي
الطب والفلسفة من ّ
الطبيب يوح ّنا بن حيالن بما في ذلك تحليالت أرسطو الالحقة ،وبـحسب ترتيب الكتب التي درست في المنهج فإن تعلّم ّ
الفارابي شرح كتاب إيساغوجي لفرفوريوس وكتاب المقوالت ألرسطوطاليس ،إضافةً لكتاب العبارة وكتاب القياس والبرهان .كان معلمه بن
حيالن رجل دين نسطوري على األرجح ،وبقي طوال هذه الفترة في بغداد حيث سجل المسعودي أ ّنه بعد وفاة يوح ّنا في عهد المقتدر (-295
.)32-908 / 320كان الفارابي في بغداد على األقل حتى نهاية أيلول (سبتمبر) 942كما هو مسجل في مالحظاته التي كتبها في عمله آراء
أهل المدينة الفاضلة ،والذي أنهى كتابته في دمشق في العام التالي ( )331أي بحلول أيلول (سبتمبر) .943درس أيضًا
ودرس لبعض الوقت في حلب .زار الفارابي مصر في وقت الحق ،وأنهى ستة أقسام تلخص كتاب مبادئ الفلسفة
في تطوان بالمغرب[ ]32وعاش ّ
القديمة عام 337ما يقارب 948م .في يونيو 949عاد إلى سوريا حيث كان يتلقى دعما ً كبيرا ً من سيف الدولة الحمداني ،ويقول المسعودي في
كتابه الذي صدر بعد خمس سنوات تقريبا ً عام 956-955بعنوان تاريخ تكوين الطنبوح أن الفارابي توفي في دمشق في رجب ( 339بين 14
ديسمبر 950و 12يناير )951
الفلسفة
أنشئ الفارابي ما يُعتبر المنهج األول في الفلسفة اإلسالمية وقد عُرف باسم «الفارابية» لكن سمعة المنهج بدأت بالتضاؤل بعد ظهور منهج ابن
سيناُ ،وصف منهج الفارابي بأ ّنه ُمنسلخ عن منهج الفالسفة اليونانيين بخاصة أفالطون وأرسطو وانتقل من الميتافيزيقيا إلى المنهج العلمي.
وحّد الفارابي بين النظرية والتطبيق ولكن سياسيا ً دعى إلى تحرير التطبيق من قيود النظرية ،وقد احتوت معتقداته ال ُمستحدثة عن األفالطونية ما
[]37
هو أعمق من الميتافيزيقيا فأثناء محاوالته التحقيق في ال ُمسبب األولي للوجود واجه الفارابي حقيقة قصور المعرفة البشرية.
صفحات من مخطوطة من القرن السابع عشر لتعليق الفارابي على ميتافيزيقية أرسطو
كان ألعمال الفارابي عظيم األثر على العلوم الطبيعية والفلسفة لعدة قرون فقد نُعتَ من الكثيرين بأعلم الناس في زمانه بعد أرسطو وهذا ما يشير
[ ]39
له لقب المعلم الثاني [ ]38وقد مهدت أعماله الساعية للتوحيد بين الفلسفة والتصوف الطريق أمام أعمال ابن سينا.
كتب الفارابي تعليقات على أعمال أرسطو ،كما وناقش في كتاب« آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها »تصورا ً عن المدينة المثالية كما فعل
أفالطون في« الجمهورية ]40[».واعتبر أن األديان توصل الحقائق لعامة الناس في صورة رموز وحكايات ورأى كذلك أنه من واجب الفيلسوف
أن يقدّم النصيحة والتوجيه للدولة وقد اتفق في هذا أفالطون ،فقد ناقش الفارابي منظور أفالطون واشتق منه وجهة نظر موازية ومتوافقة مع
السياق اإلسالمي ،حيث رأى أن مدينته الفاضلة يجب أن يحكمها نبي إمام ]ar 19[ ،عوضًا عن الملك الفيلسوف الذي فضله أفالطون.
جادل الفارابي والدارسين لمنهجه من بعده بأ ّنه في مدينته الفاضلة كان يقصد المدينة المنورة حينما كان يحكمها النبي محمد بصفته ولي عهد
المسلمين وهو على تخاطب مستمر مع هللا حيث يبلغه من آن إلى آخر بأحكامه وقوانينه.
المنطق[عدل]
رغم اتباع الفارابي لمذهب أرسطو في المنطق إالّ أ ّنه امتلك أفكارا ً من المذاهب المنطقية األُخرى فناقش قضية اإلحتماالت المستقبلية ونظرية
بعلم النحو إضاف ٍة الهتمامه بأساليب اإلستدالل لدى أرسطو[ ]41ويُرجح أن الفارابي أول من قسم المنطق
األعداد والجموعات وعالقة المنطق ِ
لجزأين األول هو «الفكرة» والثاني هو «البرهان» ،ناقش الفارابي أيضا نظريات األقيسة الشرطية واإلستدالل التشبيهي وأضاف للمذهب
[]42
األرسطي مفهوم القياس الشاعري وقد ذكر ذلك في تعليقاته على كتاب أرسطو «فن الشعر».
علم النفس
كتب الفارابي مقولتين في علم النفس اإلجتماعي إضافة لما ورد في كتبه آراء أهل المدينة الفاضلة الذي خاض به في النفس معتبرا ً إياها أحد
أركان بناء اإلنسان في الدولة التي تصورها حيث اعتبر أن المرء يعجز عن بلوغ الكمال لوحده لذلك يحتاج للمساعدة من باقي األفراد فاإلنسان
بطبيعته يميل للتعاون مع غيره حتى يؤدي واجباته:
فحتى يقرب المرء من الكمال المنشود ،عليه أن يظل بالقرب من غيره من الناس وأن يقترن بهم حتى ينال منهم عونهم.
الفيزياء
كتب الفارابي مقولة قصيرة باسم «الخالء» ناقش فيها ماهية الفراغ[ ]40ويُرجح العلماء بأ ّنه أول من قام بتجربة علمية للتحقق من وجود الفراغ
صل في استنتاجه في أن الهواء دائ ًما ما يتمدد حتى يملئ الفراغ الموجود وعليه
حيث قام بمراقبة ودراسة المكابس المغمورة بالماء[ ]44ومن ثم تو ّ
[]ar 22
رفض فكرة وجود الفراغ باعتباراها فكرة غير منطقية.
أفكاره الفلسفية
مصادر التأثير
درس الفارابي العديد من المذاهب الفلسفية لكن أكثر ما تأثر يفلسفة أرسطو [ ]ar 23وخاصةً بالمذهب األرسطي المحدث المنتشر في اإلسكندرية،
اتسم الفارابي بغزارة كتاباته ،ونُسب إليه أكثر من مئة كتاب ]45[.تنوعت بين كتابات تمهيدية عن الفلسفة بصفة عامة وتعليقاته على أعمال أرسطو
مثل «علم األخالق إلى نيقوماخس» نسبة إلى ابن أرسطو نيقوماخس باإلضافة إلى أعماله الخاصة وكانت كتاباته ُمتسقة موصوفة بالترابط
[ ar
والمنطقية على الرغم أنها مكونة من عدة مدارس ومذاهب فلسفية .وكذلك تأثر الفارابي بنموذج الكواكب والشمس لبطليموس،
]24وعناصر األفالطونية المحدثة حيث اهتم بموقفها من الميتافيزياء والفلسفة العملية والسياسية التي هي أقرب إلى« الجمهورية »ألفالطون منها
إلى «السياسة» ألرسطو
مؤلفاته
في جعبة الفارابي الكثير من المؤلفات في نواحي العلم كافة إذ أن عددها يتجاوز المئة حتّى أن المستشرق األلماني ستينشنيدر اضطر لتخصيص
جزء كبير من كتابه تاريخ األدب العربي[ ]ar 33ألعمال الفارابي لكن بسبب الغزو المغولي للدولة العباسية واستيالئهم على بغداد وحرق مكتبة
بغداد[ ]ar 34فقد ضاعت ُجل مؤلفات الفارابي وما بقي لدينا هو عبارة عن بضع مخطوطات محفوظة مع الوثائق التاريخية وعدة ُكتب تم إعادة
نشرها لما تمثله من أهمية علمية عالية.
نادرا ويتطلب مجموعة محددة جدًا من الظروف التاريخية ليتم تحقيقها ،مما يعني أن القليل جدًا
بالطبع ،أدرك الفارابي أن مثل هذا المجتمع كان ً
من المجتمعات يمكنها تحقيق هذا الهدف .لقد قسّم تلك المجتمعات «الشريرة» ،التي لم ترقَ إلى مستوى المجتمع «الفاضل» المثالي ،والضالة.
لقد فشلت المجتمعات الجاهلة ،ألي سبب من األسباب ،في فهم الغرض من الوجود البشري ،وحلت محل السعي وراء السعادة من أجل هدف آخر
(أدنى) ،سواء كان هذه الثروة أو اإلشباع الحسي أو القوة .يذكر الفارابي «األعشاب» في المجتمع الفاضل :هؤالء الذين يحاولون تقويض تقدمه
نحو الغاية اإلنسانية الحقيقية ]75[.بطريقة أو بأخرى فقدحاول الفارابي رسم السياسة في المدينة الفاضلة من خالل فكرة الوحدة بين الفكر وبين
[]ar 32
المجتمع باعتبار أن الوحدة الفكرية ستعطينا النتيجة النهائبة بأن الحقيقية الفلسفية واحدة مهما تعددت المذاهب.
ما إذا كان الفارابي ينوي بالفعل تحديد برنامج سياسي في كتاباته أم ال ،يبقى موضوع خالف بين األكاديميين .هنري كوربين ،الذي يعتبر
مشفرا ،يقول إن أفكاره يجب أن تُفهم على أنها «فلسفة نبوية» بدالً من تفسيرها سياسيًا ]76[.من ناحية أخرى ،يؤكد تشارلز
ً الفارابي شيعيًا
نادرا ما تذكر كلمة فلسفة) ،والمناقشة الرئيسية
باتروورث [اإلنجليزية] أن الفارابي ال يتحدث في أي مكان في عمله عن نبي مشرع أو وحي (حتى ً
التي تدور حول مواقف «الملك» و«رجال دولة ]77[».يحتل ديفيد ريزمان موقعًا متوس ً
طا حيث يعتقد ،مثل كوربين ،أن الفارابي لم يرغب في
عا مختلفة
شرح عقيدة سياسية (على الرغم من أنه ال يذهب بعيدًا ليعزوها إلى الغنوصية اإلسالمية أيضًا) .يجادل بأن الفارابي كان يستخدم أنوا ً
أخيرا ،يجادل جوشوا
ً []78
من المجتمع كأمثل ،في سياق مناقشة أخالقية ،إلظهار التأثير الذي يمكن أن يحدثه التفكير الصحيح أو غير الصحيح.
بارينز بأن الفارابي كان يؤكد بمكر أنه ال يمكن إنشاء مجتمع إسالمي شامل ،باستخدام العقل إلظهار عدد الشروط (مثل الفضيلة األخالقية
والتداولية) التي يجب الوفاء بها ،وبالتالي يقود القارئ إلى استنتاج أن البشر غير الئقين لمثل هذا المجتمع ]79[.يجادل بعض المؤلفين اآلخرين
مثل ميخائيلو ميخائيلوفيتش يعقوبوفيتش بأن ديانة الفارابي (مليا) والفلسفة تشكل نفس القيمة العملية (أي أساس العمل الفاضل) ،بينما المستوى
المعرفي (علم « -المعرفة») كانت مختلفة.
الفارابي والتصوف
كان الفارابي صوفيا ً في قرارة نفسه ،يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة ،وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه
وإعراضه عن الدنيا ،ابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك ،وبالرغم من أنه عاش في بالط سيف الدولة الحمداني وجالس
العظماء لم يغير شيئا ً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه .فجليس الملوك هذا وصفي األمراء كان يرى في أغلب األحيان بالقرب من الطبيعة
يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات .وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار
واألزهار .فهذا االستعداد الفطري الذي نشأ عليه ،وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه ،أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره ،وكانت عامالً في
تكوين نظرية السعادة الفارابية .وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا االستعداد ويتالءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل ،وفي باب التعمق
والتركيز أدخل .وهذا شأن الصوفية جميعا ً يرسلون الجمل المختصرة المعماة .وكثيرا ً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي
وإدراك كنهها ،وشكوا من غموضها وتعقدها .وتقوم نظرية الفارابي في التصوف على عدة محاور:
.قائمة على اساس عقلي وليس على تصوف روحي بحت الذي يقوم على محاربة الجسم باالبتعاد عن اللذات لتطهير .1
النفس ،بل هو تصوف نظري أيضا يعتمد على الدراسة والتأمل.
٠ .2طهارة النفس عند الفارابي ال تتم عن طريق الجسم فقط بل عن طريق العقل واألعمال الفكرية قبل كل شيء.
٠ .3بالعلم وحده يصل اإلنسان إلى السعادة أما العمل في المرتبة الثانية ،وبذلك نرى أن الفارابي كان عقلي حتى في هذا
المجال الروحي
.4علم المعرفيات وعلم اآلخرة
.5في رؤية الفارابي للكون يعد البشر فريدون ألنهم يقفون بين عالمين :العالم «األعلى» غير المادي للعقول السماوية والمعقوالت
العالمية ،والعالم المادي «السفلي» المحتوي على المعرفة الحسية وهذا الجزء يهتم بالجزيئات المحسوسة كاألين والمتى والكم
والكيف ويشترك به اإلنسان مع الحيوان[ ]ar 28؛ إنهم يسكنون جسدًا ماديًا ،وبالتالي ينتمون إلى العالم «السفلي» ،لكن لديهم أيضًا
قدرة عقالنية ،تربطهم بالعالم «األعلى» .كل مستوى من مستويات الوجود في علم الكونيات عند الفارابي يتسم بحركته نحو
[]57
الكمال ،الذي سيصبح مثل السبب األول ،أي العقل المثالي .إذن ،الكمال البشري (أو «السعادة») ،يساوي الفكر والتأمل المستمر.
.6يقسم الفارابي العقل إلى أربع فئات :المحتملة والفعلية والمكتسبة والوكيل .الثالثة األولى هي الحاالت المختلفة للعقل البشري
والرابع هو العقل العاشر (القمر) في علم الكونيات الخاص به .يمثل العقل المحتمل القدرة على التفكير ،والتي يشترك فيها جميع
البشر ،والعقل الفعلي هو عقل منخرط في فعل التفكير .من خالل التفكير ،يقصد الفارابي استخالص المعقوالت العامة من األشكال
[]ar 29[]58
الحسية لألشياء التي تم استيعابها واالحتفاظ بها في خيال الفرد.
.7تتطلب هذه الحركة من االحتمالية إلى الواقعية أن يتصرف العقل الوكيل وفقًا لألشكال الحسية المحتجزة؛ مثلما تضيء الشمس العالم
المادي للسماح لنا بالرؤية ،فينير العقل الفاعل عالم المعقوالت للسماح لنا بالتفكير ]59[.تزيل هذه اإلضاءة كل الحوادث
(مثل الزمان والمكان والجودة) والجسدية منها ،وتحولها إلى معقدات أولية ،وهي مبادئ منطقية مثل «الكل أكبر من الجزء» .ينتقل
العقل البشري بفعله العقلي من االحتمالية إلى الواقعية ،وعندما يفهم هذه المعقوالت تدريجيًا ،يتم تحديده معها (وفقًا ألرسطو،
نظرا ألن العقل الفاعل يعرف كل المعقوالت ،فهذا يعني أنه عندما يعرفهم العقل البشري
بمعرفة شيء ما ،فيصبح العقل مثلهً ]60[).
[]61
جميعًا ،فإنه يرتبط بكمال العقل الفاعل ويُعرف بالعقل ال ُمكتسب.
كبيرا لالختيار أو اإلرادة البشرية ،يقول ريسمان إن الفارابي ملتزم ً
مجاال ً .8في حين أن هذه العملية تبدو ميكانيكية ،وال تترك
بالتطوع البشري ]60[.ويحدث هذا عندما يقرر اإلنسان ،بنا ًء على المعرفة التي اكتسبها ،ما إذا كان سيوجه نفسه نحو
األنشطة الفاضلة أو غير الفاضلة ،وبالتالي يقرر ما إذا كان يسعى إلى السعادة الحقيقية أم ال .ومن خالل اختيار ما هو أخالقي
والتفكير في ماهية طبيعة األخالق ،يمكن للعقل الفعلي أن يصبح «مثل» العقل الف َعال ،وبالتالي بلوغ الكمال .فقط من خالل هذه
[]62[]59
العملية يمكن للروح البشرية أن تنجو من الموت وتعيش في اآلخرة.
.9وفقًا للفارابي ،فإن الحياة اآلخرة ليست تجربة شخصية تتصورها عادة التقاليد الدينية مثل اإلسالم والمسيحية .يُباد كل فرد أو سمات
الروح المميزة بعد موت الجسد؛ تبقى القوة العقالنية فقط (وبعد ذلك ،فقط إذا وصلت إلى الكمال) ،والتي تصبح واحدة مع جميع
األرواح العقالنية األخرى داخل العقل الفاعل وتدخل إلى عالم الذكاء الخالص ]61[.يقارن هنري كوربين هذه النظرية األخروية
مع اإلسماعيليين األفالطونيين الجدد ،الذين بدأت هذه العملية بالنسبة لهم الدورة الكبرى التالية للكون ]63[.ومع ذلك ،تذكر ديبورا
بالكويل أن لدينا سببًا للتشكيك في ما إذا كانت هذه هي النظرة الناضجة والمتطورة للفارابي ،كما أكد المفكرون الالحقون مثل ابن
طفيل وابن رشد وابن باجة أنه قد تبرأ من هذا الرأي في تعليقه على األخالق النيقوماخية ،التي فقدها الخبراء المعاصرون
يعتمد علم الكونيات عند الفارابي بشكل أساسي على ثالث ركائز :الماورائية األرسطية للسببية ،وعلم
الكونيات االنبثاقي األفالطوني ال ُمطور جدأ وعلم الفلك البطليموسي.في نموذجه ،يُنظر إلى الكون على أنه عدد من الدوائر متحدة
المركز؛ المجال الخارجي أو يُطلق عليه «الجنة األولى» ،مجال النجوم الثابتة ،زحل ،كوكب
المشتري ،المريخ ،الشمس ،الزهرة ،عطارد وأخيرا ً القمر .وفي وسط هذه الدوائر متحدة المركز يوجد عالم شبيه القمر (في مدار القمر
وتخضع لتأثيره) الذي يحتوي على العالم المادي .تمثل كل دائرة من هذه الدوائر مجال الذكاء الثانوي (الذي يرمز إليه باألجرام
السماوية نفسها) ،والتي تعمل كوسيط سببي بين السبب األول (في هذه الحالة ،هللا )والعالم المادي .عالوة على ذلك ،يقال إنها انبثقت
من هللا ،الذي هو السبب الرسمي والفعَال.
تبدأ عملية االنبثاق (ماورائيا ً وليس مؤقتًا) مع السبب األول ،الذي يتمثل نشاطه األساسي في التأمل الذاتي .وهذا هو النشاط الفكري الذي
يكمن وراء دوره في خلق الكون .السبب األول ،من خالل التفكير في نفسه« ،يفيض» و«ينبع» الكيان غير المادي للعقل الثاني منه.
العقل الثاني ،مثل سابقه ،يفكر أيضًا في نفسه[ ،]ar 27وبالتالي يجلب المجال السماوي (في هذه الحالة ،مجال النجوم الثابتة) إلى الوجود،
ولكن باإلضافة إلى ذلك يجب عليه أيضًا التفكير في السبب األول ،وهذا يسبب «انبثاق» العقل التالي