You are on page 1of 9

‫فلسفة عمارة‬

‫مهدي مصطفئ سامي‬


‫المرحلة الخامسة‬

‫(الفارابي)‬
‫الفارابي وع ُِرف بأبي نصر واسمه األساسي محمد‪ُ ،‬ولد عام ‪260‬هـ ‪(874‬م)‪ ،‬في فاراب في‬
‫إقليم تركستان( كازاخستان حاليًا) وتُوفي عام ‪339‬هـ‪(950‬م‪ ]ar 2[).‬لُقب باسم الفارابي نسبةً للمدينة التي ولد فيها وهي فاراب ‪.‬‬
‫يعُتبر الفارابي فيلسوفا َ ومن أهم الشخصيات اإلسالمية التي أتقنت العلوم بصورة كبيرة‬
‫[‪]ar 3‬‬‫مثل الطب والفيزياء والفلسفة والموسيقى وغيرها‪.‬‬

‫عاش الفارابي ُمدة ً في بغداد قبل أن ينتقل إلى دمشق ومنها انطلق في جول ِة بين البلدان قبل أن يعود لدمشق ويستقر فيها حتّى‬
‫وفاته‪ ،‬خالل وجوده في سوريا قصد الفارابي حلب وأقام ببالط سيف الدولة الحمداني وتبوأ مكانةً عاليةً بين العلماءِ‬
‫واألدباءِ والفالسفة ‪.‬أطلق عليه معاصروه لقب المعلم الثاني‪ ،‬نظرا َ الهتمامه بمؤلفات أرسطو المعروف بالمعلم األول‪،‬‬
‫وتفسيرها وإضافة التعليقات عليها‪.‬‬
‫[‪]ar 4‬‬

‫نصر الفارابي هو المؤسس األول للفلسفة اإلسالمية‪ ،‬فقد تأثر ك ُّل العلماء الذين أتوا بعده‬
‫ٍ‬ ‫ال خالف بين المؤرخين على أن أبي‬
‫بأفكاره‬

‫رسم تخيلي ألبي نصر الفارابي‬

‫هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان ويظهر اسم طرخان في نسبه‪ .‬لم يكن جده معروفا ً في أوساط معاصريه‪ ،‬ولكن ظهر اسم‬
‫[ ‪]6‬‬
‫أوزلغ فجأة ً فيما بعد في كتابات ابن أبي أصيبعة وظهر اسم جده األكبر في كتابات ابن خلكان‪.‬‬

‫تشير االختالفات الموجودة في الروايات األساسية المتعلقة بأصول الفارابي ونسبه‪ ،‬إلى أنَه لم يتم تسجيلها خالل حياته أو بعد ذلك بوقت قصير‬
‫من قبل أي شخص لديه معلومات محددة‪ ،‬وكل المعلومات المعروفة تستند إلى اإلشاعات أو التخمينات (كما هو الحال مع معاصري آل‪-‬‬
‫الفارابي)‪ .‬ال يُعرف الكثير عن حياته‪ ،‬وتشمل المصادر المبكرة مقطعا ً عن سيرته الذاتية حيث يتتبع الفارابي تاريخ المنطق والفلسفة حتى‬
‫عصره‪ ،‬ويذكر باختصار المسعودي وابن النديم وابن حوقل ‪.‬وقد كتب صاعد األندلسي سيرة الفارابي لكن لم يكن لدى كتاب السير العرب في‬
‫[ ‪]6‬‬
‫القرنين الثاني عشر والثالث عشر سوى القليل من الحقائق لتسليمها‪ ،‬واستخدموا قصصا ً مخترعةً عن حياته‪.‬‬

‫ومن المعروف من الروايات التي وصلت عن حياته أنه قضى وقتًا طويالً (معظم حياته) في بغداد مع علماء مسيحيين منهم رجل الدين يوحنا بن‬
‫حيالن ويحيى بن عدي وأبو إسحاق إبراهيم البغدادي‪ ،‬بعد ذلك أمضى بعض الوقت في دمشق ومصر قبل أن يعود إلى دمشق حيث توفي عام‬
‫[‪]7‬‬
‫‪.1-950‬‬

‫يمكن أن يكون مسقط رأسه أحد األماكن العديدة في آسيا الوسطى ‪ -‬خراسان المعروفة بهذا االسم‪ .‬االسم «باراب ‪ /‬فاراب» هو مصطلح من اللغة‬
‫الفارسية يشير للمنطقة التي تروى بالينابيع السائلة أو تدفقات من نهر قريب وبالتالي فهناك العديد من األماكن التي تحمل االسم (أو التطورات‬
‫المختلفة لهذا االسم الجغرافي الهيدرولوجي ‪ /‬الجيولوجي) في تلك المنطقة العامة فمثالً فراب على جاكسارتس (سير داريا)‬
‫في كازاخستان الحديثة أو فاراب (توركمينابات الحديثة) على نهر أوكسوس آمو داريا في تركمانستان أو حتى فريب في خراسان الكبرى‬
‫(أفغانستان الحالية)‪ .‬في الفارسية القديمة [‪ ]6‬باراب (في حدود العلم) أو فارياب (أيضًا بارياب) هو اسم فارسي شائع لألماكن الجغرافية يعني‬
‫[‪]10‬‬
‫«األراضي المروية بتحويل مياه النهر»[‪ ]9[]8‬بحلول القرن الثالث عشر عُرف فراب على آل جاكسارت باسم أطرار‪.‬‬

‫يتفق العلماء إلى حد كبير على أن خلفية الفارابي العرقية غير معروفة مع الميل لألصل التركي‪.‬‬

‫تعليمه[عدل]‬

‫قضى الفارابي حياته كلها تقريبا ً في بغداد‪ ،‬وقد بدا ذلك واضحا ً في السيرة التي كتبها ابن أبي أصيبعة حيث ذكر ان الفارابي‬
‫الطب والفلسفة من ّ‬
‫الطبيب يوح ّنا بن حيالن بما في ذلك تحليالت أرسطو الالحقة‪ ،‬وبـحسب ترتيب الكتب التي درست في المنهج فإن‬ ‫تعلّم ّ‬

‫الفارابي شرح كتاب إيساغوجي لفرفوريوس وكتاب المقوالت ألرسطوطاليس‪ ،‬إضافةً لكتاب العبارة وكتاب القياس والبرهان‪ .‬كان معلمه بن‬
‫حيالن رجل دين نسطوري على األرجح‪ ،‬وبقي طوال هذه الفترة في بغداد حيث سجل المسعودي أ ّنه بعد وفاة يوح ّنا في عهد المقتدر (‪-295‬‬
‫‪.)32-908 / 320‬كان الفارابي في بغداد على األقل حتى نهاية أيلول (سبتمبر) ‪ 942‬كما هو مسجل في مالحظاته التي كتبها في عمله آراء‬
‫أهل المدينة الفاضلة‪ ،‬والذي أنهى كتابته في دمشق في العام التالي (‪ )331‬أي بحلول أيلول (سبتمبر) ‪ .943‬درس أيضًا‬
‫ودرس لبعض الوقت في حلب ‪.‬زار الفارابي مصر في وقت الحق‪ ،‬وأنهى ستة أقسام تلخص كتاب مبادئ الفلسفة‬
‫في تطوان بالمغرب[‪ ]32‬وعاش ّ‬
‫القديمة عام ‪ 337‬ما يقارب ‪948‬م‪ .‬في يونيو ‪ 949‬عاد إلى سوريا حيث كان يتلقى دعما ً كبيرا ً من سيف الدولة الحمداني‪ ،‬ويقول المسعودي في‬
‫كتابه الذي صدر بعد خمس سنوات تقريبا ً عام ‪ 956-955‬بعنوان تاريخ تكوين الطنبوح أن الفارابي توفي في دمشق في رجب ‪( 339‬بين ‪14‬‬
‫ديسمبر ‪ 950‬و‪ 12‬يناير ‪)951‬‬
‫الفلسفة‬
‫أنشئ الفارابي ما يُعتبر المنهج األول في الفلسفة اإلسالمية وقد عُرف باسم «الفارابية» لكن سمعة المنهج بدأت بالتضاؤل بعد ظهور منهج ابن‬
‫سينا‪ُ ،‬وصف منهج الفارابي بأ ّنه ُمنسلخ عن منهج الفالسفة اليونانيين بخاصة أفالطون وأرسطو وانتقل من الميتافيزيقيا إلى المنهج العلمي‪.‬‬

‫وحّد الفارابي بين النظرية والتطبيق ولكن سياسيا ً دعى إلى تحرير التطبيق من قيود النظرية‪ ،‬وقد احتوت معتقداته ال ُمستحدثة عن األفالطونية ما‬
‫[‪]37‬‬
‫هو أعمق من الميتافيزيقيا فأثناء محاوالته التحقيق في ال ُمسبب األولي للوجود واجه الفارابي حقيقة قصور المعرفة البشرية‪.‬‬

‫صفحات من مخطوطة من القرن السابع عشر لتعليق الفارابي على ميتافيزيقية أرسطو‬

‫كان ألعمال الفارابي عظيم األثر على العلوم الطبيعية والفلسفة لعدة قرون فقد نُعتَ من الكثيرين بأعلم الناس في زمانه بعد أرسطو وهذا ما يشير‬
‫[ ‪]39‬‬
‫له لقب المعلم الثاني [‪ ]38‬وقد مهدت أعماله الساعية للتوحيد بين الفلسفة والتصوف الطريق أمام أعمال ابن سينا‪.‬‬

‫كتب الفارابي تعليقات على أعمال أرسطو‪ ،‬كما وناقش في كتاب« آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها »تصورا ً عن المدينة المثالية كما فعل‬
‫أفالطون في« الجمهورية‪ ]40[».‬واعتبر أن األديان توصل الحقائق لعامة الناس في صورة رموز وحكايات ورأى كذلك أنه من واجب الفيلسوف‬
‫أن يقدّم النصيحة والتوجيه للدولة وقد اتفق في هذا أفالطون‪ ،‬فقد ناقش الفارابي منظور أفالطون واشتق منه وجهة نظر موازية ومتوافقة مع‬
‫السياق اإلسالمي‪ ،‬حيث رأى أن مدينته الفاضلة يجب أن يحكمها نبي إمام‪ ]ar 19[ ،‬عوضًا عن الملك الفيلسوف الذي فضله أفالطون‪.‬‬

‫جادل الفارابي والدارسين لمنهجه من بعده بأ ّنه في مدينته الفاضلة كان يقصد المدينة المنورة حينما كان يحكمها النبي محمد بصفته ولي عهد‬
‫المسلمين وهو على تخاطب مستمر مع هللا حيث يبلغه من آن إلى آخر بأحكامه وقوانينه‪.‬‬

‫المنطق[عدل]‬

‫رغم اتباع الفارابي لمذهب أرسطو في المنطق إالّ أ ّنه امتلك أفكارا ً من المذاهب المنطقية األُخرى فناقش قضية اإلحتماالت المستقبلية ونظرية‬
‫بعلم النحو إضاف ٍة الهتمامه بأساليب اإلستدالل لدى أرسطو[‪ ]41‬ويُرجح أن الفارابي أول من قسم المنطق‬
‫األعداد والجموعات وعالقة المنطق ِ‬
‫لجزأين األول هو «الفكرة» والثاني هو «البرهان»‪ ،‬ناقش الفارابي أيضا نظريات األقيسة الشرطية واإلستدالل التشبيهي وأضاف للمذهب‬
‫[‪]42‬‬
‫األرسطي مفهوم القياس الشاعري وقد ذكر ذلك في تعليقاته على كتاب أرسطو «فن الشعر‪».‬‬
‫علم النفس‬
‫كتب الفارابي مقولتين في علم النفس اإلجتماعي إضافة لما ورد في كتبه آراء أهل المدينة الفاضلة الذي خاض به في النفس معتبرا ً إياها أحد‬
‫أركان بناء اإلنسان في الدولة التي تصورها حيث اعتبر أن المرء يعجز عن بلوغ الكمال لوحده لذلك يحتاج للمساعدة من باقي األفراد فاإلنسان‬
‫بطبيعته يميل للتعاون مع غيره حتى يؤدي واجباته‪:‬‬

‫فحتى يقرب المرء من الكمال المنشود‪ ،‬عليه أن يظل بالقرب من غيره من الناس وأن يقترن بهم حتى ينال منهم عونهم‪.‬‬
‫الفيزياء‬
‫كتب الفارابي مقولة قصيرة باسم «الخالء» ناقش فيها ماهية الفراغ[‪ ]40‬ويُرجح العلماء بأ ّنه أول من قام بتجربة علمية للتحقق من وجود الفراغ‬
‫صل في استنتاجه في أن الهواء دائ ًما ما يتمدد حتى يملئ الفراغ الموجود وعليه‬
‫حيث قام بمراقبة ودراسة المكابس المغمورة بالماء[‪ ]44‬ومن ثم تو ّ‬
‫[‪]ar 22‬‬
‫رفض فكرة وجود الفراغ باعتباراها فكرة غير منطقية‪.‬‬

‫أفكاره الفلسفية‬
‫مصادر التأثير‬
‫درس الفارابي العديد من المذاهب الفلسفية لكن أكثر ما تأثر يفلسفة أرسطو [‪ ]ar 23‬وخاصةً بالمذهب األرسطي المحدث المنتشر في اإلسكندرية‪،‬‬
‫اتسم الفارابي بغزارة كتاباته‪ ،‬ونُسب إليه أكثر من مئة كتاب‪ ]45[.‬تنوعت بين كتابات تمهيدية عن الفلسفة بصفة عامة وتعليقاته على أعمال أرسطو‬
‫مثل «علم األخالق إلى نيقوماخس» نسبة إلى ابن أرسطو نيقوماخس باإلضافة إلى أعماله الخاصة وكانت كتاباته ُمتسقة موصوفة بالترابط‬
‫[ ‪ar‬‬
‫والمنطقية على الرغم أنها مكونة من عدة مدارس ومذاهب فلسفية‪ .‬وكذلك تأثر الفارابي بنموذج الكواكب والشمس لبطليموس‪،‬‬
‫‪ ]24‬وعناصر األفالطونية المحدثة حيث اهتم بموقفها من الميتافيزياء والفلسفة العملية والسياسية التي هي أقرب إلى« الجمهورية »ألفالطون منها‬
‫إلى «السياسة» ألرسطو‬

‫مؤلفاته‬
‫في جعبة الفارابي الكثير من المؤلفات في نواحي العلم كافة إذ أن عددها يتجاوز المئة حتّى أن المستشرق األلماني ستينشنيدر اضطر لتخصيص‬
‫جزء كبير من كتابه تاريخ األدب العربي[‪ ]ar 33‬ألعمال الفارابي لكن بسبب الغزو المغولي للدولة العباسية واستيالئهم على بغداد وحرق مكتبة‬
‫بغداد[‪ ]ar 34‬فقد ضاعت ُجل مؤلفات الفارابي وما بقي لدينا هو عبارة عن بضع مخطوطات محفوظة مع الوثائق التاريخية وعدة ُكتب تم إعادة‬
‫نشرها لما تمثله من أهمية علمية عالية‪.‬‬

‫تشمل مخطوطات الفارابي الباقية‪:‬‬


‫الفلسفة العملية (األخالق والسياسة)‬
‫كان التطبيق العملي للفلسفة مصدر قلق كبير عبر عنه الفارابي في العديد من أعماله‪ ،‬وبينما تأثرت غالبية نتاجه الفلسفي بالفكر األرسطي‪ ،‬كانت‬
‫فلسفته العملية مبنية بشكل ال لبس فيه على فلسفته أفالطون‪ ]72[.‬أكد الفارابي أن الفلسفة كانت نظا ًما نظريًا وعمليًا‪ .‬وصف هؤالء الفالسفة الذين ال‬
‫يطبقون سعة االطالع على المساعي العملية بأنهم «فالسفة عقيمون»‪ .‬لقد كتب أن المجتمع المثالي هو مجتمع موجه نحو تحقيق «السعادة‬
‫الحقيقية»[‪( ]ar 30‬والتي يمكن اعتبارها تعني التنوير الفلسفي )وعلى هذا النحو‪ ،‬يجب على الفيلسوف المثالي صقل جميع‬
‫فنون البالغة والشعرية إليصال الحقائق المجردة إلى الناس العاديين‪ ،‬وكذلك تحقيق التنوير بنفسه‪ ]73[.‬قارن الفارابي دور الفيلسوف في عالقته‬
‫بالمجتمع بالطبيب فيما يتعلق بالجسد‪ .‬تتأثر صحة الجسد بـ «توازن أخالطها» مثلما تتأثر المدينة بالعادات األخالقية ألهلها حيث اعتبر الفارابي‬
‫أن المدينة هي البنية األساسية لالجتماع السياسي[‪ ]ar 31‬وواجب الفيلسوف فيها هو إقامة مجتمع «فاضل» من خالل شفاء أرواح الناس وإقامة‬
‫[‪]74‬‬
‫العدل وتوجيههم نحو «السعادة الحقيقية‪».‬‬

‫نادرا ويتطلب مجموعة محددة جدًا من الظروف التاريخية ليتم تحقيقها‪ ،‬مما يعني أن القليل جدًا‬
‫بالطبع‪ ،‬أدرك الفارابي أن مثل هذا المجتمع كان ً‬
‫من المجتمعات يمكنها تحقيق هذا الهدف‪ .‬لقد قسّم تلك المجتمعات «الشريرة»‪ ،‬التي لم ترقَ إلى مستوى المجتمع «الفاضل» المثالي‪ ،‬والضالة‪.‬‬
‫لقد فشلت المجتمعات الجاهلة‪ ،‬ألي سبب من األسباب‪ ،‬في فهم الغرض من الوجود البشري‪ ،‬وحلت محل السعي وراء السعادة من أجل هدف آخر‬
‫(أدنى)‪ ،‬سواء كان هذه الثروة أو اإلشباع الحسي أو القوة‪ .‬يذكر الفارابي «األعشاب» في المجتمع الفاضل‪ :‬هؤالء الذين يحاولون تقويض تقدمه‬
‫نحو الغاية اإلنسانية الحقيقية‪ ]75[.‬بطريقة أو بأخرى فقدحاول الفارابي رسم السياسة في المدينة الفاضلة من خالل فكرة الوحدة بين الفكر وبين‬
‫[‪]ar 32‬‬
‫المجتمع باعتبار أن الوحدة الفكرية ستعطينا النتيجة النهائبة بأن الحقيقية الفلسفية واحدة مهما تعددت المذاهب‪.‬‬

‫ما إذا كان الفارابي ينوي بالفعل تحديد برنامج سياسي في كتاباته أم ال‪ ،‬يبقى موضوع خالف بين األكاديميين ‪.‬هنري كوربين‪ ،‬الذي يعتبر‬
‫مشفرا‪ ،‬يقول إن أفكاره يجب أن تُفهم على أنها «فلسفة نبوية» بدالً من تفسيرها سياسيًا‪ ]76[.‬من ناحية أخرى‪ ،‬يؤكد تشارلز‬
‫ً‬ ‫الفارابي شيعيًا‬
‫نادرا ما تذكر كلمة فلسفة)‪ ،‬والمناقشة الرئيسية‬
‫باتروورث [اإلنجليزية] أن الفارابي ال يتحدث في أي مكان في عمله عن نبي مشرع أو وحي (حتى ً‬
‫التي تدور حول مواقف «الملك» و«رجال دولة‪ ]77[».‬يحتل ديفيد ريزمان موقعًا متوس ً‬
‫طا حيث يعتقد‪ ،‬مثل كوربين‪ ،‬أن الفارابي لم يرغب في‬
‫عا مختلفة‬
‫شرح عقيدة سياسية (على الرغم من أنه ال يذهب بعيدًا ليعزوها إلى الغنوصية اإلسالمية أيضًا)‪ .‬يجادل بأن الفارابي كان يستخدم أنوا ً‬
‫أخيرا‪ ،‬يجادل جوشوا‬
‫ً‬ ‫[‪]78‬‬
‫من المجتمع كأمثل‪ ،‬في سياق مناقشة أخالقية‪ ،‬إلظهار التأثير الذي يمكن أن يحدثه التفكير الصحيح أو غير الصحيح‪.‬‬
‫بارينز بأن الفارابي كان يؤكد بمكر أنه ال يمكن إنشاء مجتمع إسالمي شامل‪ ،‬باستخدام العقل إلظهار عدد الشروط (مثل الفضيلة األخالقية‬
‫والتداولية) التي يجب الوفاء بها‪ ،‬وبالتالي يقود القارئ إلى استنتاج أن البشر غير الئقين لمثل هذا المجتمع‪ ]79[.‬يجادل بعض المؤلفين اآلخرين‬
‫مثل ميخائيلو ميخائيلوفيتش يعقوبوفيتش بأن ديانة الفارابي (مليا) والفلسفة تشكل نفس القيمة العملية (أي أساس العمل الفاضل)‪ ،‬بينما المستوى‬
‫المعرفي (علم ‪« -‬المعرفة») كانت مختلفة‪.‬‬
‫الفارابي والتصوف‬
‫كان الفارابي صوفيا ً في قرارة نفسه‪ ،‬يعيش عيشة الزهد والتقشف ويميل إلى الوحدة والخلوة ‪ ،‬وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف تقشفه‬
‫وإعراضه عن الدنيا ‪،‬ابن خلكان خاصة يضعه في مصاف الزهاد والنساك ‪ ،‬وبالرغم من أنه عاش في بالط سيف الدولة الحمداني وجالس‬
‫العظماء لم يغير شيئا ً من عوائده ولم يخرج عن زهده وتقشفه‪ .‬فجليس الملوك هذا وصفي األمراء كان يرى في أغلب األحيان بالقرب من الطبيعة‬
‫يناجيها ويستكشفها أسرارها ويستمليها ما حوت من عظات‪ .‬وقد رووا أنه كتب الكثير من كتبه على شواطئ المجاري المائية وبين الثمار‬
‫واألزهار‪ .‬فهذا االستعداد الفطري الذي نشأ عليه‪ ،‬وهذه النزعة الصوفية التي تمكنت منه‪ ،‬أثرت من غير شك في آرائه وأفكاره‪ ،‬وكانت عامالً في‬
‫تكوين نظرية السعادة الفارابية‪ .‬وأسلوب الفارابي نفسه يتفق مع هذا االستعداد ويتالءم مع هذه النزعة؛ فهو إلى الغموض أميل‪ ،‬وفي باب التعمق‬
‫والتركيز أدخل‪ .‬وهذا شأن الصوفية جميعا ً يرسلون الجمل المختصرة المعماة‪ .‬وكثيرا ً ما عانى المستشرقون صعوبات في تفهم عبارات الفارابي‬
‫وإدراك كنهها‪ ،‬وشكوا من غموضها وتعقدها‪ .‬وتقوم نظرية الفارابي في التصوف على عدة محاور‪:‬‬

‫‪.‬قائمة على اساس عقلي وليس على تصوف روحي بحت الذي يقوم على محاربة الجسم باالبتعاد عن اللذات لتطهير‬ ‫‪.1‬‬
‫النفس ‪ ،‬بل هو تصوف نظري أيضا يعتمد على الدراسة والتأمل‪.‬‬
‫‪ ٠ .2‬طهارة النفس عند الفارابي ال تتم عن طريق الجسم فقط بل عن طريق العقل واألعمال الفكرية قبل كل شيء‪.‬‬
‫‪ ٠ .3‬بالعلم وحده يصل اإلنسان إلى السعادة أما العمل في المرتبة الثانية‪ ،‬وبذلك نرى أن الفارابي كان عقلي حتى في هذا‬
‫المجال الروحي‬
‫‪ .4‬علم المعرفيات وعلم اآلخرة‬
‫‪ .5‬في رؤية الفارابي للكون يعد البشر فريدون ألنهم يقفون بين عالمين‪ :‬العالم «األعلى» غير المادي للعقول السماوية والمعقوالت‬
‫العالمية‪ ،‬والعالم المادي «السفلي» المحتوي على المعرفة الحسية وهذا الجزء يهتم بالجزيئات المحسوسة كاألين والمتى والكم‬
‫والكيف ويشترك به اإلنسان مع الحيوان[‪ ]ar 28‬؛ إنهم يسكنون جسدًا ماديًا‪ ،‬وبالتالي ينتمون إلى العالم «السفلي»‪ ،‬لكن لديهم أيضًا‬
‫قدرة عقالنية‪ ،‬تربطهم بالعالم «األعلى»‪ .‬كل مستوى من مستويات الوجود في علم الكونيات عند الفارابي يتسم بحركته نحو‬
‫[‪]57‬‬
‫الكمال‪ ،‬الذي سيصبح مثل السبب األول‪ ،‬أي العقل المثالي‪ .‬إذن‪ ،‬الكمال البشري (أو «السعادة»)‪ ،‬يساوي الفكر والتأمل المستمر‪.‬‬

‫‪ .6‬يقسم الفارابي العقل إلى أربع فئات‪ :‬المحتملة والفعلية والمكتسبة والوكيل‪ .‬الثالثة األولى هي الحاالت المختلفة للعقل البشري‬
‫والرابع هو العقل العاشر (القمر) في علم الكونيات الخاص به‪ .‬يمثل العقل المحتمل القدرة على التفكير‪ ،‬والتي يشترك فيها جميع‬
‫البشر‪ ،‬والعقل الفعلي هو عقل منخرط في فعل التفكير‪ .‬من خالل التفكير‪ ،‬يقصد الفارابي استخالص المعقوالت العامة من األشكال‬
‫[‪]ar 29[]58‬‬
‫الحسية لألشياء التي تم استيعابها واالحتفاظ بها في خيال الفرد‪.‬‬

‫‪ .7‬تتطلب هذه الحركة من االحتمالية إلى الواقعية أن يتصرف العقل الوكيل وفقًا لألشكال الحسية المحتجزة؛ مثلما تضيء الشمس العالم‬
‫المادي للسماح لنا بالرؤية‪ ،‬فينير العقل الفاعل عالم المعقوالت للسماح لنا بالتفكير‪ ]59[.‬تزيل هذه اإلضاءة كل الحوادث‬
‫(مثل الزمان والمكان والجودة) والجسدية منها‪ ،‬وتحولها إلى معقدات أولية‪ ،‬وهي مبادئ منطقية مثل «الكل أكبر من الجزء»‪ .‬ينتقل‬
‫العقل البشري بفعله العقلي من االحتمالية إلى الواقعية‪ ،‬وعندما يفهم هذه المعقوالت تدريجيًا‪ ،‬يتم تحديده معها (وفقًا ألرسطو‪،‬‬
‫نظرا ألن العقل الفاعل يعرف كل المعقوالت‪ ،‬فهذا يعني أنه عندما يعرفهم العقل البشري‬
‫بمعرفة شيء ما‪ ،‬فيصبح العقل مثله‪ً ]60[).‬‬
‫[‪]61‬‬
‫جميعًا‪ ،‬فإنه يرتبط بكمال العقل الفاعل ويُعرف بالعقل ال ُمكتسب‪.‬‬
‫كبيرا لالختيار أو اإلرادة البشرية‪ ،‬يقول ريسمان إن الفارابي ملتزم‬ ‫ً‬
‫مجاال ً‬ ‫‪ .8‬في حين أن هذه العملية تبدو ميكانيكية‪ ،‬وال تترك‬
‫بالتطوع البشري‪ ]60[.‬ويحدث هذا عندما يقرر اإلنسان‪ ،‬بنا ًء على المعرفة التي اكتسبها‪ ،‬ما إذا كان سيوجه نفسه نحو‬
‫األنشطة الفاضلة أو غير الفاضلة‪ ،‬وبالتالي يقرر ما إذا كان يسعى إلى السعادة الحقيقية أم ال‪ .‬ومن خالل اختيار ما هو أخالقي‬
‫والتفكير في ماهية طبيعة األخالق‪ ،‬يمكن للعقل الفعلي أن يصبح «مثل» العقل الف َعال‪ ،‬وبالتالي بلوغ الكمال‪ .‬فقط من خالل هذه‬
‫[‪]62[]59‬‬
‫العملية يمكن للروح البشرية أن تنجو من الموت وتعيش في اآلخرة‪.‬‬

‫‪ .9‬وفقًا للفارابي‪ ،‬فإن الحياة اآلخرة ليست تجربة شخصية تتصورها عادة التقاليد الدينية مثل اإلسالم والمسيحية ‪.‬يُباد كل فرد أو سمات‬
‫الروح المميزة بعد موت الجسد؛ تبقى القوة العقالنية فقط (وبعد ذلك‪ ،‬فقط إذا وصلت إلى الكمال)‪ ،‬والتي تصبح واحدة مع جميع‬
‫األرواح العقالنية األخرى داخل العقل الفاعل وتدخل إلى عالم الذكاء الخالص‪ ]61[.‬يقارن هنري كوربين هذه النظرية األخروية‬
‫مع اإلسماعيليين األفالطونيين الجدد‪ ،‬الذين بدأت هذه العملية بالنسبة لهم الدورة الكبرى التالية للكون‪ ]63[.‬ومع ذلك‪ ،‬تذكر ديبورا‬
‫بالكويل أن لدينا سببًا للتشكيك في ما إذا كانت هذه هي النظرة الناضجة والمتطورة للفارابي‪ ،‬كما أكد المفكرون الالحقون مثل ابن‬
‫طفيل وابن رشد وابن باجة أنه قد تبرأ من هذا الرأي في تعليقه على األخالق النيقوماخية‪ ،‬التي فقدها الخبراء المعاصرون‬

‫الماورائية (الميتافيزيقا) وعلم الكونيات‬


‫على عكس الكندي‪ ،‬الذي اعتبر أن موضوع الماورائية (ما وراء الطبيعة) أو الميتافيزيقا هو هللا‪ ،‬اعتقد الفارابي أنه كان مهت ًما في المقام‬
‫األول بالوجود (أي الوجود في حد ذاته)‪ ،‬وهذا متعلق باهلل فقط بقدر ما يكون هللا مبدأ الكينونة المطلقة‪ .‬مع ذلك كانت وجهة نظر الكندي‬
‫تُشكل مفهو ًما خاطئًا شائعًا فيما يتعلق بالفلسفة اليونانية بين المثقفين المسلمين في ذلك الوقت‪ ،‬ولهذا السبب الحظ ابن سينا أنه لم يفهم‬
‫ماورائية أرسطو بشكل صحيح حتى قرأ المقدمة النقدية التي كتبها الفارابي‪.‬‬

‫يعتمد علم الكونيات عند الفارابي بشكل أساسي على ثالث ركائز ‪:‬الماورائية األرسطية للسببية‪ ،‬وعلم‬
‫الكونيات االنبثاقي األفالطوني ال ُمطور جدأ وعلم الفلك البطليموسي‪.‬في نموذجه‪ ،‬يُنظر إلى الكون على أنه عدد من الدوائر متحدة‬
‫المركز؛ المجال الخارجي أو يُطلق عليه «الجنة األولى»‪ ،‬مجال النجوم الثابتة‪ ،‬زحل‪ ،‬كوكب‬
‫المشتري‪ ،‬المريخ‪ ،‬الشمس‪ ،‬الزهرة‪ ،‬عطارد وأخيرا ً القمر ‪.‬وفي وسط هذه الدوائر متحدة المركز يوجد عالم شبيه القمر (في مدار القمر‬
‫وتخضع لتأثيره) الذي يحتوي على العالم المادي ‪.‬تمثل كل دائرة من هذه الدوائر مجال الذكاء الثانوي (الذي يرمز إليه باألجرام‬
‫السماوية نفسها)‪ ،‬والتي تعمل كوسيط سببي بين السبب األول (في هذه الحالة‪ ،‬هللا )والعالم المادي‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬يقال إنها انبثقت‬
‫من هللا‪ ،‬الذي هو السبب الرسمي والفعَال‪.‬‬

‫تبدأ عملية االنبثاق (ماورائيا ً وليس مؤقتًا) مع السبب األول‪ ،‬الذي يتمثل نشاطه األساسي في التأمل الذاتي ‪.‬وهذا هو النشاط الفكري الذي‬
‫يكمن وراء دوره في خلق الكون‪ .‬السبب األول‪ ،‬من خالل التفكير في نفسه‪« ،‬يفيض» و«ينبع» الكيان غير المادي للعقل الثاني منه‪.‬‬
‫العقل الثاني‪ ،‬مثل سابقه‪ ،‬يفكر أيضًا في نفسه[‪ ،]ar 27‬وبالتالي يجلب المجال السماوي (في هذه الحالة‪ ،‬مجال النجوم الثابتة) إلى الوجود‪،‬‬
‫ولكن باإلضافة إلى ذلك يجب عليه أيضًا التفكير في السبب األول‪ ،‬وهذا يسبب «انبثاق» العقل التالي‬

You might also like