You are on page 1of 235

‫�إبراهيم بورشاشن‬

‫الجزء الثاني‬
‫جميع الحقوق محفوظة‪ ،‬لا يسمح ب�إعادة �إصدار هذا الكتاب‬
‫�أو �أي جزء منه �أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات �أو نقله‬
‫ب�أي شكل من ال�أشكال‪ ،‬دون �إذن خطي مسبق من الناشر‬

‫‪ :‬الفقه والفلسفة ‪ :‬النظر الفقهي في فلسفة ابن رشد‬ ‫الكتاب ‬


‫ ‪ -‬الجزء الثاني ‪-‬‬
‫‪� :‬إبراهيم بورشاشن‬ ‫المؤلف ‬
‫الطباعة والنشر ‪ :‬سليكي �أخوين ‪ -‬طنجة‬
‫‪06.61.17.08.78 - 05.39.32.31.80 :‬‬ ‫الهاتف ‬
‫‪ :‬محفوظة‬ ‫الحقوق ‬
‫‪ :‬ال�أولى ‪ -‬ماي ‪2020‬‬ ‫الطبعة ‬
‫ال�إ يداع القانوني ‪2020MO1967 :‬‬
‫الترقيم الدولي ‪978-9920-655-08-8 :‬‬
‫مقدمة‬
‫للفقه عند ابن رشد مكانة علمية متميزة‪ ،‬ضمن النسق الفلسفي العلمي الذي اشتغل‬
‫عليه‪ ،‬في �أفق بلوغ مراتب الكمال ال�إ نساني الم�أمول‪ .‬وللبحث في علاقة الفقه بالفلسفة‬
‫�أكثر من وجه‪ ،‬ومن وجوهها البحث عن المكانة التي يحتلها الفقه ضمن هذا النسق‬
‫العلمي الفلسفي الذي �أفضى �إليه ابن رشد‪ ،‬بعقله وجهده‪ ،‬واستغرق عليه زمانه النفسي‬
‫وزمانه الفيزيائي(((‪ .‬لكن قبل الوقوف عند المنزلة التي تبو�أها الفقه عند ابن رشد ضمن‬
‫العلوم الفلسفية‪ ،‬ومن �أجل معرفة مكمن جدة الموقف الرشدي‪ ،‬نقف �أولا عند منزلة الفقه‬
‫عند بعض فلاسفة ال�إ سلام‪ ،‬وفقهائهم‪ ،‬ممن ارتاض في مرابع الفلاسفة‪.‬‬
‫حقا‪� ،‬إن الفيلسوف الذي يمكن �أن يقدم نموذجا لت�أمل علاقة الفقه بالفلسفة هو �أبو‬
‫الوليد بن رشد‪� .‬أ ّما َغ ُير ابن رشد من الفلاسفة‪ ،‬فلا يكادون يسمحون‪� ،‬إلا بالكاد‪ ،‬ببيان‬
‫العلاقات العميقة التي نسجها الفقه بالفلسفة لعدم اشتغالهم بالفقه اشتغالهم بالفلسفة‪� ،‬أو‬
‫ل�أنهم لم يلتفتوا �إليه بالتصنيف‪ ،‬كما عنوا به بالممارسة‪ ،‬كما هو حال ابن طفيل مثلا(((‪.‬‬
‫حسن‬ ‫لكن مع ذلك‪ ،‬هناك مواقف مختلفة لبعض فقهاء ال�إ سلام‪ ،‬على قلتهم‪ ،‬ممن ُ‬
‫ظنهم بفعل التفلسف بمستويات مختلفة‪ ،‬مثل العامري وابن حزم والغزالي‪ ،‬وكان لذلك‬
‫‪ - 1‬يحكى عن ابن رشد �أن البحث والقراءة استغرقا عليه وقته حتى �إنه لم يدع القراءة طوال حياته المديدة سوى‬
‫ليلتين‪ ...‬فضلا عن ذلك ف�إن الوقت لم يكن يسعف ابن رشد ل�إ تمام مشاريعه العلمية‪ ،‬فكم من مشروع رشدي‬
‫ظل معلقا‪ ،‬يراجع مقالنا‪ :‬الزمن والمشروع العلمي لابن رشد ضمن مجلة فكر ونقد العدد ‪ 15‬يناير ‪.1999‬‬
‫‪� - 2‬إن الذين ترجموا لابي بكر بن طفيل لم يغفلوا ال�إ شارة �إلى هذا الجانب المتميز في شخصية الرجل؛ فيذكر‬
‫المراكشي اتساعه في العلوم الاسلامية ( المعجب تح محمود حقي ص‪ )350‬وينسبه صاحب المطرب وصاحب‬
‫الذيل والتكملة وصاحب ال�إ حاطة في �أخبار غرناطة �إلى الفقه فيقولون "فقيه"‪ ،‬وينسبه صاحب المطرب �إلى العلم‬
‫بالقراءات‪ ،‬و�إلى العلم بالحديث‪ ،‬فيطلق عليه اسم "المحدث"‪ " ،‬العالم بالقراءات" كما نجد تلميذه البطروجي‬
‫يطلق عليه اسم "القاضي" (مونك ‪�:‬أمشاج من الفلسفة اليهودية والعربية ص ‪ ،)412‬وهذه ال�أوصاف تدل على‬
‫عمق التكوين ال�إ سلامي للرجل وعلو منزلته في ذلك‪ ،‬وهو �أمر هام في فهم شخصية ابن طفيل الذي شغلته الحكمة‬
‫الفلسفية عن الكتابة في الحكمة الشرعية على خلاف صاحبه ابن رشد الذي صنف في الفنيين معا‪.‬‬
‫حول ابن طفيل يراجع كتابنا "مع ابن طفيل في تجربته الفلسفية" دار الثقافة البيضاء ‪ ،2010‬وكتابنا "هل نحن في‬
‫حاجة �إلى ابن طفيل"‪ ،‬سليكي �أخوين طنجة ‪.2016‬‬
‫‪3‬‬
‫�أثر كبير في ممارسة فقهية تضيء كثيرا من جوانب علاقة خفية قوية بين فنين لم ير فيها‬
‫البعض �إلا ظاهر الفصل‪ ،‬يعضد ذلك‪� ،‬أن الفقه لم يستجب للت�أثير الفلسفي كما استجابت‬
‫علوم العقائد‪ ،‬فـ"زاد الفقهاء بذلك تباعدا بل جمودا مع �أن المظنون هو العكس"(((‪.‬‬
‫تتزايد المسافة التي تفصل الفيلسوف عن الجمهور الواسع‪ ،‬كلما �أمعن الفيلسوف في‬
‫ت�أملاته النظرية‪ ،‬وهو ما جلته فلسفة الفارابي وابن سينا بشكل �أوضح‪ ،‬فما طورته الثقافة‬
‫الفلسفية عندهما بواسطة التفكير والمعالجة المختصة لايعني في كثير الممارسة اليومية‪،‬‬
‫�إلا اذا استنينا الطب عند الشيخ الرئيس‪ ،‬والموسيقى عند المعلم ال�أول‪ .،‬فالعقلية الفلسفية‬
‫عندهم ولدت خطر تفقير العالم المعيش‪ ،‬وهو ما حاول ابن رشد التخلص منه ب�إقامته‬
‫جسورا مع هذا العالم المعيش‪ ،‬شكلت الممارسة الفقهية �أحد تجلياته‪� .‬إن ابن رشد‬
‫سينفصل عن عالم الفلاسفة بتكوينه الفقهي المتميز‪ ،‬فقد وقفنا عند هذا الفضاء الفقهي‬
‫الذي غذى عقل ابن رشد بتراث فقهي‪ ،‬سينهض بفقيهنا �إلى كتابة كتب تعتبر من مميزات‬
‫الثقافة الفقهية المغربية‪ .‬كما سينفصل بتوليه القضاء‪� ،‬إذ لا يذكر �أن �أحد الفلاسفة جلس‬
‫للجمهور لل�إ فتاء والقضاء حاشا �أبي الوليد‪ .‬كما سينفصل عنهم بتركتين تركهما؛ �أحدهما‬
‫تلامذته الفقهاء والذين برز الكثير منهم‪ ،‬فابن رشد قدم مساهمة مهمة تتجلى في هذه‬
‫الزمرة من تلامذته الذين تركهم والتي لم تن كتب الرجال والطبقات تشير �إليهم من �أمثال‬
‫�أبي عامر بن نذير الذي كان عالما بالقراءات وبالعربية وال�آداب مع المشاركة في الفقه‬
‫وولي القضاء(((‪ .‬ومثل ابن حوط الله ال�أنصاري الذي كان عالما بالقراءات والحديث‬
‫والعربية والحديث(((‪ .‬ومثل محمد بن محمد بن حيون المعافري الذي �أخذ عن ابن‬
‫رشد‪ ،‬وسمع منه‪ ،‬و�أقر�أ العربية وال�آداب‪ ،‬بل كان له حظ من قرض الشعر(((‪ .‬وغيرهم من‬
‫التلاميذ‪ ،‬وبخاصة �أبناؤه الذين اشتغلوا بالفقه‪ ،‬وبالطب خاصة‪ ،‬والفلسفة بعامة(((‪ .‬وتجدر‬
‫ال�إ شارة هنا �أن ابن رشد ينفصل هنا عن ابن سينا مثلا الذي ترك تلاميذ نشروا فلسفته في‬
‫�أصقاع من العالم ال�إ سلامي‪ ،‬في حين �أن ابن رشد ترك تلاميذ فقهاء‪ ،‬ولم يترك تلاميذ‬
‫‪ - 1‬الحجوي ‪ :‬الفكر السامي في تاريخ الفقه ال�إ سلامي‪ ،‬ج‪ 2‬دار التراث القاهرة ص‪49‬‬
‫‪ - 2‬ابن ال�أبار ‪ :‬التكملة ‪ :‬ج‪ 2‬ص‪761-759‬‬
‫‪ - 3‬التكملة ج‪ 2‬ص ‪883‬‬
‫‪ - 4‬التكملة‪: ،‬ص‪619‬‬
‫‪ - 5‬ابن �أبي �أصيبعة ‪ :‬عيون ال�أنباء ج‪ 3‬ص‪125-‬و‪ .127‬وانظر محمد المصباحي ؛‬
‫‪ -‬الطريقة الصناعية في الطب في مواجهة الطريقة الضدية �أو العودة بالطب �إلى الطريقة البرهانية عند عبد الله بن‬
‫رشد‪ .‬ضمن العلم والفكر العلمي بالغرب الاسلامي في العصر الوسيط ‪ .‬منشورات كلية �آداب الرباط ط‪..2001 .1‬‬
‫‪4‬‬
‫فلاسفة يتابعون مسيرته الفلسفية‪ ،‬و�إذا استثنينا ابن ميمون الذي اطلع على كل ما �ألف‬
‫ابن رشد باستثناء الحس والمحسوس(((‪ ،‬وابن طوملوس الذي لم يكن متابعا جيدا لفلسفة‬
‫شيخه‪ .‬وهذان التلميذان لم يحظ عندهما ابن رشد ما حظي به ابن سينا عند تلاميذه في‬
‫العالم ال�إ سلامي‪.‬‬
‫�أما ال�إ ضافة الرشدية ال�أخرى‪ ،‬فمصنفاته الفقهية التي تعتبر �إضافة نوعية في الفقه‬
‫ال�إ سلامي‪ ،‬وبخاصة كتابه "بداية المجتهد" الذي صنف �إلى جانب الرسالة للشافعي‪،‬‬
‫والموافقات للشاطبي‪� ،‬أحد ثلاثة كتب جليلة في ال�أصول‪ .‬ويبدو �أن �أي فيلسوف مسلم‬
‫لم يحظ بالتجويد الفلسفي‪ ،‬ثم يت�ألق فقهيا‪ ،‬سوى �أبي الوليد الذي �أصبح بذلك عند �أحد‬
‫خصوم الفلاسفة من "مقتصدة فلاسفة ال�إ سلام وعقلائهم"(((‪ .‬وبهذا الانفصال سيقترب‬
‫ابن رشد من عالم الفقهاء‪ .‬كان ابن رشد فقيها متميزا؛ �إذ استطاع �أن يتميز عن الفقهاء‬
‫بشخصيته الفلسفية‪ ،‬التي غلبت عليه‪ ،‬حتى كادت �أن تصيب بالضمور شخصيته الفقهية‪،‬‬
‫على خلاف ما نجد عند الغزالي‪ ،‬وابن حزم‪ ،‬والعامري‪ ،‬وغيرهم من الفقهاء‪ ،‬الذين‬
‫شموا ورد الفلاسفة‪ ،‬لكن ظل حسهم الفقهي قويا في كل ممارسة علمية‪ ،‬ولم يصرفهم‬
‫شيء عن الممارسة الفقهية �إلى الممارسة الفلسفية‪ ،‬ولم يؤثروا "العبادة الخاصة" التي لا‬
‫عبادة �أفضل منها‪ ،‬وهي عبادة التفكر في الملكوت‪ ،‬عن "العبادة المشتركة"‪ ،‬وهي عبادة‬
‫الطقوس‪ ،‬والتي يشترك فيها الخواص والعوام‪ .‬ولو صنعوا ذلك لكان لل�إ رث الفلسفي‬
‫مصير �آخر‪ ،‬غير المصير الذي عرفه في تاريخ الثقافة ال�إ سلامية‪.‬‬
‫لكن ابن رشد‪ ،‬رغم باعه الفقهي‪ ،‬سينفصل عن عالم الفقهاء من خلال جسور هامة‬
‫توجد في داخل البنية الثقافية ال�إ سلامية؛ منها توظيفه للبذور العقلانية‪ ،‬التي يحفل بها‬
‫التقليد الفقهي ال�إ سلامي‪ ،‬كما تمثل عند جده‪ ،‬في اتجاه الانفتاح على التقليد الفلسفي‪،‬‬
‫كما ر�أينا في ذهابه ببعض فتاوى جده مذهبا فلسفيا‪ .‬ثم تلمذته غير المباشرة على تراث‬
‫�أبي حامد الغزالي في الفقه والفلسفة كما مر بنا‪ .‬لكن يبدو �أن هناك عاملا هاما ساعد ابن‬
‫رشد على الانفصال عن الفقهاء‪ ،‬وهو هذا الرصيد ال�أدبي الذي كان يتوفر عليه‪ ،‬والتي لم‬
‫تغفل كتب الرجال والطبقات عن ال�إ شارة �إليه؛ فقد كان ابن رشد يحفظ شعري كل من‬
‫المتنبي و�أبي تمام‪ ،‬وفضلا عما يوفره ال�أدب من قوة �أدبية في التعبير وقدرة لسانية كبرى‪،‬‬
‫ف�إن هذا التراث ال�أدبي‪ ،‬على الخصوص‪ ،‬تراث زاخر بما يحرك الفكر سواء على مستوى‬
‫‪ - 1‬شحلان‪ ،‬مرجع سابق ص‪ 201‬عن رينان ابن رشد والرشـدية ص‪ 177‬ومونك �أمشاج ص‪.31‬‬
‫‪ - 2‬ابن تيمية ‪ :‬الفتاوى‪ ،‬مكتبة المعارف الرباط المجلد ‪ 7‬ص ‪ 295‬والمجلد ‪ 12‬ص‪.205‬‬
‫‪5‬‬
‫صنعته الفنية‪ ،‬كما نجد عند �أبي تمام‪� ،‬أو على مستوى هذه النظرات الفلسفية التي تخترق‬
‫شعر �أبي الطيب‪ ،‬والتي تغذو عقلا كعقل ابن رشد بمحفزات كثيرة للت�أمل الفلسفي‪،‬‬
‫وتفتحه �أكثر على �إشكالات الوجود ال�إ نساني من داخل الثقافة العربية ال�إ سلامية‪ .‬وهو ما‬
‫سيهيئه لممارسة فلسفية خاصة‪.‬‬
‫وهذا الجمع في شخصية ابن رشد بين الفقيه والفيلسوف وال�أديب((( سيؤثر لا محالة‬
‫على طرحه لعلاقة الفقه بالفلسفة‪ .‬فكيف تميز الطرح الرشدي لهذه العلاقة عن طرح‬
‫غيره من فلاسفة ال�إ سلام وفقهائهم ‪ -‬الفلاسفة؟ ذلك ما سنعمل على مقاربته من خلال‬
‫النظر في الجانب السياسي من فلسفة ابن رشد على مستويين؛ مستوى التربية السياسية‬
‫ومستوى التربية المنطقية‪.‬‬

‫‪ - 1‬نعم كان ابن رشد �أديبا وقد ترك شعرا في الغزل ينم عن حساسية كبرى وقدرة �أدبية في التصوير والتقاط المشاعر‪،‬‬
‫انظر ‪ :‬ابن شريفة‪ ،‬ابن رشد الحفيد‪ ،‬سيرة وثائقية ص ‪.17-16‬‬
‫‪6‬‬
‫الباب األول‬
‫الفقه والسياسة‬
‫تقديم‬
‫يتطلب فهم الطرح الرشدي لعلاقة الفقه بالفلسفة‪ ،‬الرجوع �إلى طبيعة النش�أة العلمية‬
‫لابن رشد‪� ،‬إلى طبيعة الظروف الاجتماعية ‪ -‬الثقافية التي نش�أ فيها‪� ،‬إلى طبيعة ال�أصول‬
‫الفقهية التي متح منها وشكلت وعيه الفقهي وطعمته بوعي فلسفي حاد‪ ،‬وهو ما يمكن‬
‫�أن تقدمه لنا معطيات سابقة‪� .‬إن النظر �إلى الفقه عند ابن رشد‪ ،‬ضمن نسقه الفلسفي‪،‬‬
‫ومن خلال همومه الفلسفية‪ ،‬يمكن �أن يضيء هذه العلاقة المثيرة التي سينسجها فيلسوفنا‬
‫بين الفقه والفلسفة‪ ،‬وبخاصة صلة الفقه بالفلسفة السياسية عنده‪ .‬فما منزلة الفقه ضمن‬
‫رؤية ابن رشد للعلوم؟ وما علاقة الفقه بالسياسة عند ابن رشد؟‬
‫يصنف ابن رشد العلوم والصنائع الفلسفية من حيث عموميتها القصوى على �أساس‬
‫معيار الغاية �إلى ثلاثة �أقسام ‪ :‬علوم نظرية‪ ،‬وعلوم عملية‪ ،‬وعلوم مسددة‪ .‬العلوم النظرية‬
‫غايتها العلم فقط‪� ،‬أما العلوم العملية فغايتها العمل‪ ،‬ويضيف ابن رشد علوما يمكن تسميتها‬
‫بالعلوم المسددة‪ ،‬وهي تسدد النظر في العلوم السابقة ويدرج تحتها الصنائع المنطقية(((‪.‬‬
‫ثم يقف عند العلوم النظرية ويقسمها من حيث �إلى قسمين‪ :‬علوم كلية‪ ،‬و�أخرى جزئية‪.‬‬
‫فما هي �أجزاء هذه العلوم‪ ،‬وما هي غاياتها‪ ،‬و�أين منزلة الفقه وعلومه منها؟‬
‫يقسم ابن رشد العلوم النظرية �إلى ثلاثة علوم انطلاقا من معيار فلسفي ينظر �إلى‬
‫الموجود من جهات مختلفة‪� ،‬إذ الموجود منه ما هو ملابس للمادة وللحركة والتغير‬
‫ويشكل موضوعا للعلم الطبيعي‪ ،‬وللعلم الطبيعي �أقسام مختلفة تبد�أ بالسماع الطبيعي‬
‫وتنتهي بالنبات‪ .‬وقد كتب ابن رشد في معظم �أجزاء هذا العلم‪ ،‬وهي في حقيقتها �أسماء‬
‫لمؤلفات �أرسطو(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬ابن رشد ‪ :‬تلخيص ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين‪ ،‬شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي القاهرة ‪ 1958‬ص‪.2-1‬‬
‫‪ - 2‬حول �أجزاء العلم الطبيعي تراجع مقدمة جوامع ال�آثار العلوية لابن رشد ‪:‬‬
‫كتاب ال�آثار العلوية طبعة حيدر �آباد الدكن ‪ 1365‬صص‪� .5-2‬أو رسالة ال�آثار العلوية ضبط رفيق العجم وجيرار جيهامي‬
‫دار الفكر اللبناني بيروت ط‪ 1994 1‬صص‪� .23-21‬أو كتاب ال�آثار العلوية تح سهير فضل الله �أبو وافية وسعاد علي‬
‫عبد الرزاق‪ -‬المكتبة العربية‪ ،‬والمجلس ال�أعلى للثقافة ط‪ 1994 1‬ص‪.15-13‬‬
‫‪9‬‬
‫ومن الموجود ما هو مفارق للمادة بالقول‪ ،‬ويشكل موضوعا لعلوم التعاليم‪ ،‬وهذه‬
‫العلوم تجمع علوما متنافرة ليس لها غايات متقاربة(((‪ .‬ولم يحتفل منها ابن رشد سوى‬
‫بعلم الهيئة الذي كتب فيه "مختصر المجسطي" المفقود‪ .‬وقد رافق هذا العلم ابن رشد‬
‫في شيخوخته‪ ،‬وشكل هاجسا عميقا من هواجسه المعرفية‪ .‬كما �أشاد كثيرا مع �أفلاطون‬
‫بالموسيقى(((‪ ،‬وهي جزء من العلم الرياضي‪ ،‬و�إن لم يكتب فيها‪ ،‬كما صنع غيره من‬
‫فلاسفة ال�إ سلام(((‪.‬‬
‫ومن الموجود ما هو مفارق بالقول والوجود‪ ،‬ويشكل موضوعا لما بعد الطبيعة؛‬
‫الصناعة العامة التي تنظر في الوجود مطلقا‪ (((.‬و�أجزاء ما بعد الطبيعة تختلف من "جوامع‬
‫ما بعد الطبيعة"(((‪� ،‬إلى "التفسير الكبير" كما تقدمها الديباجة الغنية لمقالة الزاي‪ .‬بل �إن‬
‫موضوع ما بعد الطبيعة و�أجزاءه التي شكلت �أحد الاهتمامات الرئيسة في حياة ابن رشد‬
‫يطرح �أكثر من �إشكال(((‪.‬‬
‫�أما العلوم العملية التي غايتها الفعل‪ ،‬فمختلفة عن العلوم النظرية من حيث موضوعها‬
‫ومبادئها‪ ،‬وتنحصر عند ابن رشد في العلم المدني �أو العلم السياسي؛ وموضوعه ال�أفعال‬
‫ال�إ رادية التي تصدر عن ال�إ نسان‪� ،‬أما مبد�آه فهما ال�إ رادة والاختيار (((‪ .‬وينقسم هذا العلم‬
‫‪ - 1‬انظرها عند الفارابي في‪:‬‬
‫�إحصاء العلوم طبعة علي بو ملحم دار ومكتبة الهلال ط‪ 1996 1‬صص ‪65-49‬‬
‫‪ - 2‬انظر �أفلاطون‪:‬‬
‫فيدون ترجمة سامي النشار وعباس الشربيني دار المعارف بمصر ‪ ،24-23‬وجهورية �أفلاطون ترجمة د‪ .‬فؤاد زكرياء‪،‬‬
‫المؤسسة المصرية العامة للت�أليف والنشر‪ ،‬صص ‪ .99- 92‬والضروري في السياسة‪ ،‬تعريب �أحمد شحلان‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية ص‪ 86‬وص ‪.95‬‬
‫‪ - 3‬كما سنقف على ذلك في حينه من هذه الدراسة‪.‬‬
‫‪ - 4‬ابن رشد‪:‬‬
‫تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬مرجع سابق ص‪.2‬‬
‫‪ - 5‬وهي التي نشرها عثمان �أمين تحت اسم "التلاخيص" صص‪ .6-5‬انظر حول العنوان ‪ :‬جمال الدين العلوي ‪:‬‬
‫المتن الرشدي دار توبقال ‪ ،1985‬صص ‪.59 -57‬‬
‫‪ - 6‬انظر د‪ .‬محمد المصباحي‪:‬‬
‫"�أنحاء الوحدة وتجلياتها عند ابن رشد"�أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة‪ ،1996 ،‬مرقونة بكلية ال�آداب‬
‫بالرباط صص ‪.143 - 104‬‬
‫‪ - 7‬يقول ابن رشد في الضروري في السياسة‪:‬‬
‫"�إن هذا العلم المشهور بالعلم العملي‪ ،‬بياين بجوهره العلوم النظرية‪[ ،‬و] هذا مما لاشك فيه ولا جدال‪� ،‬إذ كان‬
‫موضوعه يختلف عن موضوع موضوع من موضوعات العلوم النظرية‪ ،‬ومبادئه تختلف عن مبادئها‪ ،‬وذلك ل�أن‬
‫موضوع هذا العلم هو ال�أفعال ال�إ رادية التي تصدر عنا[‪ ]...‬ومبادئها ال�إ رادة والاختيار[‪ "]...‬ص ‪.72‬‬
‫‪10‬‬
‫�إلى جز�أين؛ جزء �أخلاقي يبحث في ال�أفعال ال�إ رادية والعلاقات ببعضها البعض‪ ،‬والجزء‬
‫الثاني جزء سياسي يفحص عن السبل المتوخاة لغرس الفضائل في النفوس(((‪ .‬وقد كتب‬
‫ابن رشد في الجزئين معا كتابين مفقودين في �أصلهما العربي؛ ال�أول تلخيص كتاب‬
‫ال�أخلاق ل�أرسطو(((‪ ،‬والثاني جوامع سياسة �أفلاطون‪ ،‬وفيه لخص كتاب �أفلاطون بعدما‬
‫(((‬
‫افتقد كتاب السياسات ل�أرسطو ولم يجده كما صرح بذلك‪.‬‬
‫فما موقع العلوم ال�إ سلامية بعامة وصناعة الفقه بخاصة عند ابن رشد من هذه العلوم‬
‫الفلسفية المختلفة؟‬
‫في ديباجة مختصر المستصفى(((‪ ،‬يقسم ابن رشد المعارف والعلوم �إلى �أصناف ثلاثة‪:‬‬
‫معرفة غايتها الاعتقاد الحاصل عنها في النفس فقط ويمثل لذلك بحدوث العالم[‪.]...‬‬
‫ومعرفة غايتها العمل‪ ،‬وهي �إما معرفة جزئية؛ كالعلم ب�أحكام الصلاة‪ ،‬والزكاة‪ .‬و�إما كلية‬
‫بعيدة عن �إفادة العمل‪ ،‬كالعلم بال�أصول التي تبنى عليها الفروع الجزئية‪ ،‬والعلم بال�أحكام‬
‫الحاصلة عن هذه ال�أصول على ال�إ طلاق‪ .‬ومعرفة تعطي القوانين وال�أحوال التي بها يتسدد‬
‫الذهن في المعرفتين الجزئية والكلية‪ ،‬ثم يقول ابن رشد "‪ :‬وهذه فنسمها سبارا وقانونا"(((‪.‬‬
‫ف�أين يدرج ابن رشد المعرفة الفقهية ال�أصولية ضمن هذا التقسيم الجديد للعلوم؟ و�أين‬
‫يضع الفقه وعلومه‪ :‬هل يدخلان ضمن �إطار السبارات؟ �أم هما من العلوم الكلية البعيدة‬
‫عن العمل رغم اندراجهما تحت العلم الذي غايته العمل‪ ،‬ماداما ليسا من العلوم النظرية؟‬
‫نسجل �أولا �أن ابن رشد لم يحذو حذو الغزالي في تقسيمه للعلوم‪ ،‬ونظرته �إلى وضعية‬
‫الفقه و�أصول الفقه ضمنها‪ ،‬كما قدمناها فيما سبق؛ �إن الفقه و�أصوله عند الغزالي علمان‬
‫دينيان‪ ،‬والفقيه وال�أصولي كلاهما مقلد في مبادئ علمه(((‪ .‬فلماذا انصرف ابن رشد عن‬
‫‪ - 1‬ابن رشد ‪ :‬الضروري في السياسة ص ‪.73‬‬
‫‪ - 2‬توجد منه شذرات ذكرت في هامش كتاب ال�أخلاق ل�أرسطو ‪:‬‬
‫تح عبدالرحمن بدوي وكالة المطبوعات الكويت‪ ،‬ط‪ .1979 1‬وقد تمت ترجمة تخليص �أخلاق �أرسطو من العبرية‬
‫وتحقيق نصه ومقابلته بال�أصل ال�إ غريقي بعناية �أحمد شحلان‪ ،‬في طبعته ال�أولى سنة ‪.2018‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد ‪:‬‬
‫الضروري في السياسة ص ‪.73‬‬
‫‪ - 4‬ابن رشد ‪ :‬محتصر المستصفى ‪:‬‬
‫تح جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الغرب ال�إ سلامي ط‪ 1994 1‬ص ‪35 - 34‬‬
‫‪ - 5‬ابن رشد ‪ :‬مختصر المستصفى ص ص‪35‬‬
‫‪ - 6‬الغزالي ‪ :‬المستصفى من علم ال�أصول طبعة محمد عبد السلام عبد الشافي‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت لبنان‬
‫ط‪ 1993 1‬ص ‪.7 - 6‬‬
‫‪11‬‬
‫تقسيم الغزالي للعلوم في مقدمة المستصفى وقدم تقسيما خاصا به؟ هل يريد �أن يوحي لنا‬
‫�أن علم �أصول الفقه يندرج ضمن التصنيف العام للعلوم التي تندرج تحتها علوم الفلسفة‪،‬‬
‫و�أنه �أوثق صلة بالعلوم العقلية ‪-‬الفلسفية التي �أخرجها منه �أبو حامد؟‬
‫�إن ابن رشد في ت�أريخه لنش�أة علم �أصول الفقه يبين لنا �أن النش�أة ال�أولى لعلم �أصول‬
‫الفقه نش�أة منطقية‪� ،‬إذ �إن هذا العلم ظهر ليعطي القوانين التي تحوط الذهن عند النظر في‬
‫جزئيات الفقه المتشعبة‪ ،‬ف�أصبح بذلك علما �آليا غايته العلم بالسبارات التي تحول والذهن‬
‫والوقوع في الخط�أ‪ .‬كما �أصبح معرفة كلية تنطوي على جزئيات كثيرة؛ �إذ �أنه لما تشعبت‬
‫العلوم واضطر الناس �إلى الوقوف على �أمور لم يجد السابقون حاجة �إليها‪" ،‬كانت الحاجة‬
‫فيها �إلى قوانين تحوط �أذهانهم عند النظر فيها �أكثر"‪ .‬ثم يعقب ابن رشد قائلا‪" :‬وبين �أن‬
‫الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان[‪]...‬بهتين الحالتين"(((‪ .‬فصناعة الفقه‬
‫السبار �أقرب من كونها علما كليا عمليا بعيدا عن �إفادة العمل‪ ،‬و�إن كان هذا‬ ‫�إذن هي �إلى ِّ‬
‫المعنى ليس غريبا عنها‪.‬‬
‫وعند فحصه �أجزاء هذه العلم يبين لنا ابن رشد هذه الوضعية المفارِقة لعلم �أصول‬
‫الفقه‪ ،‬فهذا العلم �أربع �أجزاء‪ ،‬لكن جزءها الثالث "مباين بالجنس لتلك ال�أجزاء ال�أخرى"‬
‫التي هي "من جنس المعرفة التي غايتها العمل"(((‪ .‬ومن هنا ي�أمل ابن رشد �أن يفرد الجزء‬
‫الثالث وحده بالقول من خلال بعده المنطقي الواضح‪ ،‬لكنه يسلك في الكتابة عنه مسلك‬
‫�أبي حامد الذي نظر �إلى �أصول الفقه باعتباره علما نظريا جزئيا‪ .‬لكن دون �أن يغفل ابن‬
‫رشد‪ ،‬كلما واتته الفرصة‪ ،‬ال�إ شارة �إلى البعد الدستوري لهذا العلم الفقهي‪.‬‬
‫يبدو ابن رشد في تصنيفه هذا كما لو كان مترددا في تحديد الوضعية المعرفية ل�أصول‬
‫الفقه‪ ،‬فهو من جهة يعتبر �أصول الفقه من العلوم الكلية البعيدة عن �إفادة العمل والمندرجة‬
‫تحت المعرفة العملية‪ ،‬ومن جهة �أخرى ينظر �إلى علم الفقه باعتباره سبارا وقانونا‪ ،‬ويبدو‬
‫�أنه ينتصر في "مختصر المستصفى" للموقف ال�أخير‪ .‬ولعل هذا الانتصار يبين مس�ألة‬
‫مهمة وهي �أن العلم كلما ضرب �إلى الكليات وانصرف عن الاحتفال بالجزئيات كلما‬
‫�أدى وظيفة من وظائف المنطق في قياس المعرفة واختبارها‪ ،‬وهي حال "�أصول الفقه"‬
‫وحال "العلم بالخلاف" كما نظر له في "بداية المجتهد"‪ .‬وهما العلمان اللذان وجد ابن‬
‫رشد شخصيته الفقهية فيهما‪ .‬ومكناه من �إيجاد هذا القرب العلمي بين اهتمامه الفقهي‬
‫‪ - 1‬ابن رشد ‪ :‬مختصر المستصفى ص‪.35‬‬
‫‪ - 2‬مختصر المستصفى‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.36‬‬
‫‪12‬‬
‫واهتمامه الفلسفي‪ .‬وسنقدم في هذا المبحث نموذجا علميا تمثيليا لهذا القرب‪ ،‬ويتمثل‬
‫في بيان وضعية الفقه ضمن النسق العلمي الفلسفي في جانبه السياسي‪ ،‬لبيان كيف كان‬
‫ابن رشد الفيلسوف والفقيه مهموما بال�إ شكالات السياسة بعامة‪ ،‬وال�إ شكالات السياسة‬
‫لعصره على الخصوص‪ ،‬وذلك من خلال التساؤل عن منطق السياسة وسياسية المنطق‬
‫عند ابن رشد‪ ،‬لنرى من خلال ذلك‪ ،‬كيف يشكل الفقه �أحد العناصر ال�أساسية التي تقوم‬
‫عليها المدن‪ ،‬والذي قد تؤتى المدن من قبل تجاهلها �أو خرقها‪ .‬وبخاصة �أن صلة ابن‬
‫رشد بالفقه لم تكن صلة علمية باردة‪ ،‬بل كانت صلة يومية حارة‪ ،‬من خلال مجالس‬
‫القضاء التي كان يعقدها‪ .‬ومن هنا كان الفقه يقدم للفيلسوف �أدوات �إدارة المدينة‬
‫والحفاظ على سلامتها‪ ،‬وقد كان ابن رشد يمثل في شخصه "النائب عن ال�إ مام ال�أعظم"‪.‬‬
‫�إن القول السياسي والقول ال�أخلاقي من جهة‪ ،‬والقول الفقهي من جهة �أخرى‪،‬‬
‫يشتركون‪ ،‬جميعهم‪ ،‬في نظرهم �إلى الفضائل؛ القول ال�أخلاقي يعدد الفضائل ب�إطلاق‬
‫ويحصيها‪� ،‬أما القول السياسي فيرشد �إلى شروط عمل الفضائل‪ ،‬وينبه �إلى طرق تعليمها‬
‫وتثبيتها‪ ،‬وكذلك �إلى سبل �إزالة الرذائل وقلعها من النفوس الشريرة‪ ،‬كما ينبه �إلى الفضائل‬
‫التي يكون فعلها �أكمل �إذا اجتمعت مع بعضها‪ ،‬والفضائل التي يعوق بعضها عمل‬
‫البعض ال�آخر(((‪ .‬ويؤكد الدور ال�أساس لممارسة العلوم النظرية في ولادة الفضائل النظرية‬
‫وتوليدها‪� .‬أما الفقه فيقتضي بذاته الفضيلة العملية ل�أن �أفعاله تولد التقوى وتقصدها‪� .‬إن‬
‫العلم المدني عند ابن رشد يكاد يكون قولا في ال�أخلاق ليس غير؛ قسمه ال�أول بحث‬
‫نظري في الفضائل ال�أخلاقية‪ ،‬وقسمه الثاني نظر في كيفية اشتغال هذه الفضائل‪ ،‬ومن‬
‫هنا تظل الفضيلة ال�أخلاقية الغاية ال�أولى للعلم المدني‪ ،‬ويسهل بالتالي ربطها بالفقه‪ ،‬وهو‬
‫ما يقيم جسورا عميقة بينه وبين الفقه‪ ،‬ليصبح الفقه نفسه جزءا من هذا العلم المدني‪.‬‬
‫ينطوي الفقه عند ابن رشد‪ ،‬كما كان ال�أمر عند الفارابي‪ ،‬تحت العلم المدني‪ ،‬ويؤم‬
‫�أهدافا سياسية بال�أساس‪ ،‬و�إن كان من الصعب القول‪ ،‬مع ابن رشد‪� ،‬أن على الفقه مدار‬
‫السياسة وتدبير الملك كما يفهم من مواقف �أبي حامد‪ ،‬فالفقه عند ابن رشد جزء من‬
‫منظومة تعليمية متكاملة تقدم لحاكم المدينة‪ .‬لكن ابن رشد سيتولى القضاء‪ ،‬نائبا بذلك‬
‫في كثير من قضايا المجتمع عن "‪ ‬ال�إ مام ال�أعظم"‪ ،‬وهو ال�أمر الذي سيوجه تفكيره نحو‬
‫قضايا المدينة‪ ،‬ويفرض عليه التفكير في السياسة‪ .‬وسيفكر �أبو الوليد في هذه القضايا من‬
‫خلال موجهات فلسفية بالدرجة ال�أولى‪ ،‬وهو �أمر غريب عن شخصية الفقهاء الذي كانوا‬
‫‪- 1‬ابن رشد ‪ :‬الضروري في السياسة ص ‪.78‬‬
‫‪13‬‬
‫يفكرون في السياسة من خلال موجهات ال�آداب السلطانية والسياسة الشرعية‪ .‬اتخذ ابن‬
‫رشد من كتاب "جمهورية �أفلاطون"جسرا للتفكير في قضايا المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬مستعينا‬
‫في ذلك بكتابين �أرسطيين؛ "كتاب الخطابة" "وكتاب ال�أخلاق"‪ .‬لكن لعل ما يشفع‬
‫لابن رشد هو التقليد الذي �أسسه الفارابي‪ ،‬والذي جعل الفقه جزءا من العلم المدني‪.‬‬
‫فكيف فكر فقيهنا الفيلسوف في قضايا السياسة على مستويين‪ :‬مستوى التربية السياسية‬
‫�أو ما �أسميناه منطق السياسية‪ ،‬ومستوى التربية المنطقية �أو ما �أسميناه سياسة المنطق‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الفصل األول‬
‫منطق السياسة عند ابن رشد‬
‫يرتبط الفقه بالمشروع الفلسفي ب�أكثر من رباط عند ابن رشد‪ .‬وفيلسوفنا حريص على‬
‫ربط الفقه بالفضاء السياسي وهو بهذا يحيلنا �إلى الربط نفسه الذي قام به �أبو حامد في‬
‫�إحياء علوم الدين‪ ،‬و�إلى الربط الذي قام به �أبو نصر الفارابي من قبله‪ .‬لكن يبدو �أن بين‬
‫نظرتي ابن رشد و�أبي حامد �أكثر من تباين؛ �إن نظرة الغزالي �إلى الفقه حكمتها موجهات‬
‫صوفية تقوم على �أساس �أن الدنيا وال�آخرة كالضرتين �إذا �أرضيت �إحداهما �أسخطت‬
‫ال�أخرى(((‪ ،‬وما دام بالفقه يكون صلاح معاش الناس في دنياهم‪ ،‬ف�إنه لم يظفر من الغزالي‬
‫بكبير تقدير‪ ،‬رغم �أنه اعترف له بوضعية معرفية واجتماعية خاصة‪� .‬أما ابن رشد فكان‬
‫�أقرب �إلى �أبي نصر الفارابي في ربطه بين الفقه والسياسة‪ ،‬ل�أن موجهاته كانت موجهات‬
‫الفلسفة السياسة �أو العلم المدني بجز�أيه ال�أخلاق والسياسات‪ ،‬فكانت نظرته بذلك‬
‫نظرة فيلسوف ‪ -‬سياسي يبحث عن ال�أسس المعرفية والاجتماعية لبناء المدينة انطلاقا‬
‫من البحث في مفهوم الفضيلة ذي النسب العميق بالفقه‪ ،‬والبحث في الشروط الممكنة‬
‫لتعويد ساكنة المدينة الفضائل‪ ،‬من خلال البحث في السنن التي يقدمها علم السياسة‪،‬‬
‫وتشكل هاجس النظر الفقهي‪ ،‬كما �أفصح كتاب "بداية المجتهد" عن ذلك‪ ،‬والبحث في‬
‫السبل المنطقية المعينة على ال�إ قناع وخاصة‪ ،‬سبل الشعر والخطابة والجدل‪ ،‬وهي السبل‬
‫المنطقية التي عني بها ابن رشد‪ ،‬وب�أثرها ال�إ يجابي والسلبي على المدينة‪ ،‬وكانت مواقفه‬
‫منها مواقف منطقي‪ ،‬فقيه ب�أدب المدينة‪ ،‬وتدبيرها‪ ،‬وسياستها‪.‬‬
‫يندرج النظر الفقهي �إذن تحت العلم السياسي باعتباره علما عمليا يتضمن ال�أشياء‬
‫ال�إ رادية التي مبد�أ وجودها منا‪ .‬والعلم السياسي قسمان‪ :‬قسم نظري عام‪ ،‬يحويه كتاب‬
‫ال�أخلاق‪ ،‬وقسم عملي‪ ،‬يتضمنه كتاب السياسة‪ .‬وعلم الفقه‪ ،‬كذلك جزءان‪ :‬جزء عام‪،‬‬
‫�أبعد عن الفعل‪ ،‬ويتضمن القواعد العامة التي يقوم عليها الفقه‪ ،‬وهو علم �أصول الفقه‪.‬‬
‫وجزء خاص‪� ،‬ألصق بالعمل‪ ،‬ويتضمن المسائل الجزئية القريبة �إلى الفعل‪ ،‬وهو الفقه‬
‫ب�أحكامه التفصيلية‪ .‬والحاكم الفقيه لا يقوم له حكم دون دراية عميقة بجزئي الفقه‬
‫ال�أساسيين‪ ،‬الفقه من جهة‪ ،‬و�أصوله من جهة �أخرى‪ .‬فعلاقة الفقيه بالمدن علاقة عميقة‬
‫‪ -1‬ميزان العمل‪ ،‬تحقيق سليمان دنيا‪ ،‬دار المعارف بمصر‪ ،1964 ،‬ص ‪340‬‬
‫‪17‬‬
‫خاصة �إذا تقلد منصب حكم مثل منصب القضاء‪ ،‬وهو المنصب الذي تقلده ابن رشد‬
‫– الفيلسوف‪ ،‬وجعله �أهلا ل�أن يقتسم الحكم مع الحاكم ‪ -‬الفيلسوف‪ ،‬يوسف بن عبد‬
‫المؤمن‪ ،‬و�أفضى به �إلى الت�أمل الفلسفي في �إشكالات المدينة ال�إ سلامية وتقديم حلول‬
‫مختلفة لها‪ .‬وانطلاقا من ذلك‪ ،‬ت�أمل ابن رشد حالة مدينته فوجدها وضعية فقهية مزرية‬
‫ضج لها‪ ،‬على الخصوص‪ ،‬في كتابه الفقهي "بداية المجتهد"‪ ،‬وهو كتاب يعالج نواميس‬
‫المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬سواء تعلقت بعلاقات �أفرادها بخالقهم‪ ،‬فيما يخص جزء "العبادات"‪،‬‬
‫�أو تعلقت بعلاقاتهم ببعضهم فيما يخص "المعاملات"‪ .‬ولا يمكن �أن نفهم �أفق ابن رشد‬
‫السياسي ب�إغفال مواقفه من كمال المدينة ال�إ سلامية من خلال انتصاره ل�آلية الاجتهاد؛‬
‫وتطعيمها بتفكيره في الفلسفة السياسية مع �أفلاطون و�أرسطو‪ ،‬وهو يروم من وراء ذلك‬
‫تصحيحا فقهيا ينقل هذه المدينة من كمال �إلى كمال‪ ،‬كما رام في الفلسفة تصحيحا‬
‫نظريا وعمليا ينقل المسلم بالحقيقة من كمال �إلى كمال‪.‬‬

‫الفقه والمدينة ال�إ سلامية‬


‫المدينة ال�إ سلامية في ال�أندلس مدينة فقهية بالضرورة‪ ،‬ويشكل الفقه عصبها الرئيسي‪.‬‬
‫وقد تميز الفقه ال�إ سلامي في ال�أندلس بمميزات �أغنت الممارسة الفقهية الرشدية‪ ،‬وهي‬
‫مميزات يحصيها الباحث ال�إ سباني ‪ Quesada((( Martos Juan‬في خمس ‪:‬‬
‫‪ -1‬احتكار المدرسة المالكية الفضاء الفقهي ال�أندلسي وازدهارها في ربوعه‪ ،‬حيث‬
‫كانت النظرة للفقيه نظرة خاصة باعتباره شخصية مقدسة‪ ،‬وسلطتها لاتنازع[‪.(((]...‬‬
‫فقد كان الفقيه والقاضي على الخصوص "النموذج ال�أعلى لرجل العلم في ال�إ سلام"(((‪.‬‬
‫‪� -2‬أهمية الفقيه في الحياة العامة ال�إ سبانية ال�إ سلامية‪ ،‬كشخص عام‪ ،‬يعتبر مشاركا‬
‫نشيطا في الحياة العامة‪ ،‬وفي �أمور الحكم‪� .‬إذ كان هدف معظم الفقهاء من دراسة العلم‬
‫ال�إ سلامي والفقه هو المشاركة في الحكم وال�إ دارة‪ ،‬مما جعل الفقه يتمتع بميزة حضارية‬
‫واجتماعية ستدوم طويلا[‪.(((]...‬‬
‫‪ - 1‬يراجع كتابه ‪:‬‬
‫‪Introduction al Mundo Juridico de LA Espana Musulmane. Edition Gmartin Madrid 1999.‬‬
‫‪2- opc. p 49-51.‬‬
‫‪ - 3‬عبد المجيد الصغير‪ :‬تجليات الفكر المغربي دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوف بالمغرب‪،‬‬
‫البيضاء ط‪ ،2000 ،1‬ص‪.153‬‬
‫‪4- Quesada- opc. p 51-52.‬‬
‫‪18‬‬
‫‪ -3‬تميز ال�أنشطة المختلفة‪ ،‬وتميز شخصية قاضي ال�أندلس عن مثيله في المشرق‪،‬‬
‫لعل من �أبرزها استقلال الفقهاء عن رجال السياسة(((‪.‬‬
‫‪� -4‬أهمية الشورى في تطور السيروة الفقهية ‪ :‬حيث اعتبرت مؤسسة الشورى ذات‬
‫�أهمية كبرى في تطور النسق الفقهي في ال�أندلس‪ .‬فعلى عكس الشافعية والحنفية ف�إن‬
‫المذهب المالكي تصور الشورى ملزمة‪ ،‬فتكونت حول القاضي مجموعة من المشاورين‬
‫يشيرون على القاضي في مسائل تقنية ومذهبية(((‪ .‬ومنزلة المشاور في المدينة ال�أندلسية‬
‫منزلة قوية يعرف لها الخليفة قدرها‪ ،‬بله يخضع لها‪ .‬وقد كانت �أهمية الفقه في ال�أندلس‬
‫خلف هذه العناية الفائقة التي احتلتها المعرفة الفقهية عند ابن رشد في شقيها ال�أصولي‬
‫والمسائلي‪ ،‬و�إن كان الشق ال�أصولي حظي عنده باهتمام خاص‪ ،‬لدوره الكبير في التجديد‬
‫الفقهي؛‬
‫لا يوجد الفقه‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬في المدينة ال�إ سلامية من جهة ال�أفضل‪ ،‬و�إنما يوجد‬
‫من جهة الضرورة‪� ،‬إذ �إن ال�إ نسان باعتبار النقص العارض له في وجوده تحتم عليه �أن‬
‫ينشئ دساتير‪ ،‬وسنن يضبط بها علاقاته بال�آخرين‪ ،‬وينشئ سلطة تقوم على فرض السنن‬
‫وتعليمها‪ .‬ومن هنا يستحيل على ال�إ نسان �أن يوجد بدون هذه الصناعة العملية �إلا �إذا كان‬
‫يعيش في المدينة الفاضلة‪ ،‬وما دام وجود هذه المدينة �أشبه بالمتعذر‪ ،‬كما قال مؤسسها‪،‬‬
‫فلا بد في المدينة من صناعة الفقه الموجدة للسنن‪ ،‬ومن حاكم مجتهد يفرضها‪،‬‬
‫ويعلمها‪ ،‬رئيسا كان �أو نائبا عنه‪ .‬وفي حين يحرص ابن رشد على الفقه‪ ،‬لا يدع لعلم‬
‫الكلام �أي وظيفة في المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬ل�أن علم الكلام يهدد الرباط الاجتماعي ويكاد‬
‫يفسده‪� .‬أما الفقه فعمله تقوية هذا الرابط‪ ،‬وتجديده‪ ،‬متوسلا بصناعة الفقه‪� ،‬أي "الكلام‬
‫الفقهي"‪.‬‬
‫صناعة الفقه عند ابن رشد سبار يسدد ذهن الفقيه المجتهد في استنباط ال�أحكام‬
‫للحوادث الواقعة‪ ،‬والتي لا يوجد لها حكم سابق‪ .‬وهذا التسديد يتطلب فهما عميقا‬
‫للتراتب الذي يحكم ال�أدلة الفقهية‪ ،‬حتى ي�أمن الفقيه على نفسه من الغلط عند القيام‬
‫بعملية الاستنباط‪ ،‬وهو يضع من السنن‪ .‬ومن هنا هذا الارتباط العميق بين مبحث تفاضل‬
‫التصديقات في الخطاب الفقهي‪ ،‬وبين الممارسة السياسية – الثقافية للفقيه الحاكم على‬
‫‪1- Ibid. p 55.‬‬
‫والصغير ‪ :‬تجليات الفكر المغربي ص‪.147-146‬‬
‫‪2- Quesada- opc. p 55.‬‬
‫‪19‬‬
‫أ�فعال المكلفين من خلال نظره المتجدد في السنن‪ ،‬وهي السنن التي تلحم المدينة‬
‫ال�إ سلامية وتقيها الفرقة والشقاق‪ .‬و"وضع السنن وما يحتاج �إليها واضعها هو من علم‬
‫السياسة"(((‪.‬‬
‫السنن‪ ،‬منطقيا‪ ،‬تصديقات غير صناعية لا تكون عن قياس خطبي(((‪ ،‬وهي ضرورية‬
‫لقيام المدينة‪ ،‬وهي ضربان ‪ :‬خاصة وعامة‪ .‬السنن الخاصة هي السنن المكتوبة التي‬
‫يخشى نسيانها �إن لم تكتب‪ ،‬وهي تخص مجتمعا دون �آخر‪ .‬وهذه السنن لا يقتصر‬
‫عليها �إلا من عدم التفكير والنظر من الناس‪ ،‬ل�أنها تقتضي حكما خاصا وتقصر ال�إ نسان‬
‫على �أشياء محدودة‪ ،‬ومن هنا فهي شاقة على الناس ويكون تركها‪� ،‬أحيانا على �أهميتها‬
‫القصوى‪ ،‬فيه مصلحة للمجتمع‪ ،‬ل�أن الشيء المحدود لا يلائم كل �إنسان(((‪� .‬أما السنن‬
‫العامة فهي السنن القديمة غير المكتوبة والتي يعترف بها الجميع لبعدها ال�إ نساني‪ ،‬مثل بر‬
‫الوالدين وشكر النعم‪ ،‬وهذه السنن شيء يضطر �إليها ال�إ نسان ل�أنها كال�أمر الطبيعي له(((‪.‬‬
‫وهذه السنن يكون تقديرها للخواص من الناس‪ ،‬وتقدر تقديرا يلائم كل �إنسان‪ ،‬ومن هنا‬
‫عرضتها للتبدل والتغير عكس السنن المكتوبة‪.‬‬
‫والحاكم الفاضل‪ ،‬سواء قيل بتقديم �أو ت�أخير(((‪ ،‬لا يقتصر على السنة المكتوبة فقط‪،‬‬
‫بل يستعمل السنتين معا حتى يخلص له الحق في ذلك‪ ،‬ويتقرر لديه القول الخاص‬
‫بالفضيلة التي يحكم فيها‪ .‬ف�إذا تعارضت السنتان في حكم من ال�أحكام‪ ،‬فهو يستعمل‬
‫السنتين في موضع ويطرحها في موضع �آخر حتى "يسقط التعارض بينهما ويصح الجمع"‪،‬‬
‫وهذا‪ ،‬كما يشير ابن رشد‪ ،‬ما اعتاد �أن يفعله الفقهاء على الخصوص في السنن المكتوبة‬
‫المتعارضة(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬ابن رشد ‪ :‬تلخيص الخطابة‪ ،‬تح عبد الرحمن بدوي وكالة المطبوعات – الكويت‪-‬دار القلم بيروت ب‪.‬ت‬
‫ص‪.39‬‬
‫‪ - 2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.118‬‬
‫‪ - 3‬المرجع السابق صص‪.119-118‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ص‪ 117‬وصص ‪.84-83‬‬
‫ ويراجع �أيضا ابن سينا ‪ :‬الخطابة من موسوعة الشفاء تح محمد سليم سالم‪ ،‬منشورات �آيت العظمى المرعشي قم‬
‫�إيران ‪.1401‬ص‪.120-119‬‬
‫‪ - 5‬يفرق ابن رشد بين رئيس المدينة باعتباره حاكما في ال�أمور المستقبلية‪ ،‬والقاضي المسلط من قبل الرئيس‪ ،‬ويسند‬
‫�إليه مهمة الحكم في ال�أمور الكائنة‪ ،‬انظر ‪:‬‬
‫ تلخيص الخطابة ص‪.29-28‬‬
‫‪ - 6‬المرجع السابق صص ‪.120-119‬‬
‫‪20‬‬
‫�إن السنن ضرورية لتلتئم المدن جميعها‪ ،‬وليست ضرورية فقط لطائفة الحكام‬
‫والفلاسفة كما يذهب �أفلاطون(((‪ .‬و�إذا كان ابن رشد قد �أشار سابقا �إلى ما يشبه �أنه‬
‫يعطي ال�أولوية للسنن غير المكتوبة‪ ،‬ف�إنه يعود‪ ،‬بقول فصل‪� ،‬إلى تفضيل السنن المكتوبة‪،‬‬
‫حيث يؤكد �أن �أكثر السنن ضرورة للمدينة هي المكتوبة‪ ،‬ل�أنها تتميز بكونها غير متبدلة‪.‬‬
‫وفضلا عن ذلك فحكام المدن هم العلماء بها‪ .‬ومن هنا ضرورة الحفاظ عليها تحرسا من‬
‫الخلل الذي يقع فيها عندما تتبدل ال�أزمنة وال�أمكنة(((‪ .‬كما يجب على �أفراد المجتمع �أن‬
‫يمتثلوا لها ويذعنوا لواضعيها و�إلا لحق المجتمع نقيصتين؛ نقيصة عبث وجود الحكام في‬
‫هذه المدينة‪� ،‬إذ ما قيمة واضعي السنن �إذا لم يطع لهم �أمر‪ .‬ونقيصة الشقاق المؤدي �إلى‬
‫الفساد‪� ،‬إذ �إن مخالفة الحكام يسوق �إلى هلاك �أهل المدينة‪.‬‬
‫�إن بحث ابن رشد في السنن يفتح بشكل طبيعي على الممارسة الفقهية‪ ،‬ل�أن هذه‬
‫الممارسة هي ممارسة من �أجل �إنتاج السنن‪ .‬والفقه‪ ،‬في المطاف ال�أخير‪ ،‬ليس �إلا سننا‬
‫مكتوبة‪ ،‬ويعتمد على السنن غير المكتوبة من �أعراف الناس وعوائدهم‪ .‬والفقيه يضطر‬
‫�إلى وضع السنن �إذا تعذر عليه �إيجادها مكتوبة �أو غير مكتوبة في المجتمع ال�إ سلامي‬
‫التي قد تحل به وقائع جديدة لم يعرفها من سبق من الناس‪ .‬والمدينة ال�إ سلامية مدينة‬
‫فقهية بال�أساس‪ ،‬وحاكمها سواء كان رئيسا �أو قاضيا‪� ،‬أي حاكما مسلطا بعبارة ابن‬
‫رشد‪ ،‬فهو يفزع �إلى الفقه في �أنواع القضايا التي تعرض عليه سواء كانت داخلة في‬
‫جنس الخصومات �أو المشاورات �أو المنافرات(((‪ .‬والنظر الفقهي قائم على الاشتغال على‬
‫النصوص المكتوبة المتناهية‪ ،‬لكن لما كانت السنن المقدرة لا تكون صادقة �أبدا ودائما‬
‫عند جميع ال�أشخاص‪ ،‬في كل زمان‪ ،‬ف�إنها تحتاج �إلى الزيادة والنقصان‪ ،‬كما يقول ابن‬
‫رشد مستشهدا "بالملل المكتوبة في زماننا هذا"‪ ،‬وهو يشير �إلى المذاهب الفقهية المختلفة‬
‫في ممارستها للاجتهاد من خلال ال�أصول الشرعية المعتبرة‪ .‬فالفقهاء‪ ،‬المتمرسون ب�أدوات‬
‫الاجتهاد‪ ،‬يقفون �أمام نصوص متناهية ووقائع و�أحداث جديدة فيستنبطون من المتناهي‬
‫�أحكامهم للوقائع الجديدة‪ .‬ويقوم الحاكم بفرض الالتزام بهذه ال�أحكام ليحفظ للمدينة‬
‫وجودها‪ ،‬و�إلا �أدى مخالفة الحكام �إلى انفراط عقد المدينة‪ .‬كما يؤدي التعدي على‬
‫السنن المكتوبة �إلى فساد الرئاسات(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬منى �أحمد �أبو زيد ‪ :‬المدينة الفاضلة عند ابن رشد‪ ،‬منش�أة المعارف‪ ،‬ط‪ .2000 ،1‬ص‪.106‬‬
‫‪ - 2‬ابن رشد ‪ :‬تلخيص الخطابة ص ‪70‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد ‪ :‬تلخيص الخطابة صص ‪.30-29‬‬
‫‪ - 4‬ابن رشد ‪ :‬تلخيص الخطابة ص ‪.117‬‬
‫‪21‬‬
‫�إن المجتهد عند ابن رشد‪ ،‬وهو الفقيه الذي ينظر في ال�أحكام الشرعية التي ليس‬
‫فيها دليل قطعي(((‪ ،‬هو �إما حاكم �أو ُمسلَّط من قبل الحاكم �أي قاضي‪ ،‬ورغم �أن كثيرا‬
‫من الخلفاء المسلمين لم تكن لهم القدرة على الاجتهاد‪ ،‬ف�إن بعضهم �أدركها وهو الذي‬
‫يسميه ابن رشد بـ "ملك السنن"‪ .‬ولعل ابن رشد يقصد بذلك الخليفة يوسف بن عبد‬
‫المؤمن الذي بلغ مرتبة الملك وكانت له قدرة كبرى على الجهاد‪ ،‬ولكنه امتلك �إلى جانب‬
‫ذلك �أيضا ناصية العلم بالشريعة(((‪� .‬إن هذه القدرات المعرفية والسياسية هي ال�أساس في‬
‫تدبير المدينة‪ ،‬وعندما لا تجتمع في شخص واحد ُيحول الحكم �إلى َحا ِك َم ْين‪" ،‬يشتركان‬
‫في الرئاسة"(((‪ .‬ومن هنا �أهمية الوظيفة التي يحتلها القاضي‪ ،‬المسلح بصناعة الفقه‪ ،‬في‬
‫المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬وهي الوظيفة التي مارسها ابن رشد بامتياز‪ .‬والتي �أثرت بعمق على‬
‫نظرته السياسية‪ ،‬و�أضفت عليها تلوينات خاصة ميزتها عن النظرة المثالية ال�أفلاطونية‪.‬‬
‫�إن تولى ابن رشد القضاء دليل على المرتبة التي كان يحتلها في ال�أندلس‪ ،‬وعلى‬
‫الاعتراف الذي حظي به في عصره‪ ،‬رغم �أنه كان اعترافا مشوبا‪ ،‬كان سبب محنته‪.‬‬
‫فقد تولى فقيهنا القضاء �أكثر من مرة‪ ،‬فتولاه في مراكش مرتين‪ ،‬مرة سنة ‪548‬هـ وهو ابن‬
‫سبع وعشرين سنة‪ ،‬ومرة �أيام يعقوب المنصور(((‪ .‬كما تولاه في �إشبيلية سنة ‪ 565‬هـ(((‪،‬‬
‫وفي قرطبة سنة ‪ 576‬هـ خلفا لابن الصفار(((‪ .‬وقد كان ابن رشد في قضائه متميزا فقد‬
‫وصفه تلميذه �أبو بحر ب�أوصاف طيبة(((‪ ،‬كما حدد تلميذه هذا �أوصاف القاضي ولاشك‬
‫‪ - 1‬ابن رشد ‪ :‬الضروري في السياسة ص‪.138‬‬
‫‪ - 2‬المرجع السابق ص‪ .169‬والمراكشي ‪ :‬المعجب‪ ،‬نشرة ممدوح حقي دار الكتاب البيضاء ط‪1978 7‬ص ‪.347‬‬
‫وص ‪369‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد ‪ :‬الضروري في السياسة ص ‪.169‬‬
‫‪ - 4‬العباس بن ابراهيم ‪ :‬ال�إ علام بمن حل بمراكش من ال�أعلام ذكره �أحمد شحلان في "ابن رشد والفكر العبري‬
‫الوسيط" المطبعة والوراقة الوطنية‪ ،‬ط‪ ،1999 ،1‬ص‪.168‬‬
‫‪ - 5‬ابن صاحب الصلاة ‪ :‬المن بال�إ مامة ص ‪.495‬‬
‫‪ - 6‬ابن ال�أبار ‪ :‬التكملة‪ ،‬ص‪.864‬‬
‫‪ - 7‬قال �أبو بحر في ابن رشد القاضي ‪:‬‬
‫‪ -‬وفي حكمك الفصل المنزه يستوي *** بعيد ودان �أو عدو وصاحب‬
‫‪� -‬إذا انفصل الخصمان من عندك ارتضى *** بحكمك مطلوب هناك وطالب‬
‫‪ -‬و�أفصح بالشكر الجزيل كلاهما *** ك�أن كلا الخصمين عندك غالب‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫‪� -‬إلى قضاء في الناس فصل *** يثني عليه فم الحسود‬
‫ذكره محمد بنشريفة في ‪ :‬ابن رشد الحفيد ‪ -‬سيرة وثائقية‪ ،‬ط‪ ،1999 1‬ص‪.107‬‬
‫‪22‬‬
‫�أن ابن رشد لم يكن عاطلا منها(((‪ .‬وقد �أثرت مهنة القضاء على ابن رشد ت�أثيرا شديدا‪،‬‬
‫فنيابته عن ال�إ مام ال�أعظم في الحكم جعلته قريبا من �أمور السياسة والحكم‪ ،‬ولعل كثيرا‬
‫من مواقفه الثقافية لا يمكن فهمها دون استحضار هذا البعد البارز في شخصيته‪ ،‬كموقفه‬
‫من الصوفية‪ ،‬ومن علماء الكلام‪ ،‬ومن فقهاء الفروع‪ ،‬وغير ذلك من المواقف ذات‬
‫الامتدادات الثقافية – الاجتماعية‪ .‬من ذلك �أيضا موقفه من �أفلاطون حيث قال ابن رشد‪،‬‬
‫على خلاف فيلسوف اليونان‪ ،‬ب�إمكان تحقق هذه المدينة‪ ،‬وهو موقف ناتج عن شخصية‬
‫ابن رشد الفقهية التي تربط الشريعة بالتشريع‪ .‬وهو ما ميزه �أيضا عن الفارابي وابن سينا‬
‫اللذين لم يمارسا القضاء قط(((‪.‬‬
‫�إن القضاء هو سياسة اليومي‪� ،‬إذ يجب على القاضي �أن يمارس مهامه يوميا كما عليه‬
‫�أن يتخذ لجلوسه وقتا معلوما يعرفه الجميع(((‪ .‬ومهام القاضي مهام متعددة؛ فالقاضي‬
‫يفصل الدعاوى بين الخصوم ويفض المنازعات‪ ،‬يفرض العدالة للمضطهدين‪ ،‬يسهر على‬
‫ضعاف العقول والعاجزين نفسيا‪ ،‬يحكم في الوصايا وال�إ رث‪ ،‬يهتم بالزواج واليتامى‪،‬‬
‫يدير مصالح ال�أوقاف‪ ،‬يسهر على ضمان الطرق‪ ،‬يعاقب كل من خرق الشرائع وال�أحكام‬
‫الفقهية‪ ،‬يفرض العدالة المتساوية بين ال�أغنياء والفقراء(((‪ .‬مجال القضاء المعاملات‪ ،‬وقرار‬
‫القضاء قرار ملزم‪ .‬وهكذا جعل فضاء التقاضي هموم المدينة ال�إ سلامية حاضرة باستمرار‬
‫في تفكير ابن رشد‪ ،‬وهاجسا من هواجسه اليومية التي لا تنفصل عن همومه الفلسفية‪،‬‬
‫خاصة و�أن القضاء يعتبر "�أفضل مظهر يتمثل فيه العدل الذي جعله �أرسطو قوام العالم"(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬يذكر �أبو بحر الصفات التي يجب �أن يتحلى بها القضاة ‪�" :‬أما لو علم المتشوفون �إلى خطة ال�أحكام‪،‬‬
‫المستشرفون �إلى ما لها من التبسط والاحتكام‪ ،‬ما يجب لها من اللوازم‪ ،‬والشروط الجوازم‪ ،‬كبسط الكنف‪،‬‬
‫ورفع الجنف‪،‬والمساواة بين العدو ذي الذنب والصاحب بالجنب‪ ،‬وتقديم ابن السبيل‪ ،‬على ذي الرحم والقبيل‪،‬‬
‫و�إيثار الغريب على القريب‪ ،‬والتوسع في ال�أخلاق حتى لمن ليس له من خلاق‪� ،‬إلى غير ذلك‪...‬لجعلوا خمولهم‬
‫م�أمولهم‪ ،‬و�أضربوا عن ظهورهم‪ ،‬فنبذوه وراء ظهورهم اللهم �إلا من �أوتي بسطة في العلم ورسا طودا في ساحة الحلم‬
‫وتساوى ميزانه في الحرب والسلم‪ ".‬الذيل والتكملة ج‪ 4‬ص‪ 142‬ذكره بنشريفة في ابن رشد الحفيد‪ .‬ص‪.108‬‬
‫‪ - 2‬منى �أحمد �أبو زيد‪ ،‬المدينة الفاضلة عند ابن رشد مرجع سابق ‪.112‬‬
‫‪3 - Juan Martos OPC. P 74.‬‬
‫‪4 - Juan Martos , opc. p63.‬‬
‫‪ -‬ولابد من ال�إ شارة هنا �إلى �أن تعدد المسؤوليات الاجتماعية والفقهية للقضاة عدد من القضاة سواء المتخصصين‬
‫والمساعدين‪،‬ويعدد الباحث الاسباني جملة منهم ‪ :‬قاضي الجند‪ ،‬قاضي الجماعة‪ ،‬قاضي النصارى‪ ،‬قاضي‬
‫العسكر‪ ،‬قاضي ال�أنكحة‪ ،‬قاضي المياه‪ ،‬الحكيم‪ ،‬نائب القاضي‪ ،‬صاحب السوق‪ ،‬صاحب الشرطة‪ ،‬صاحب‬
‫المدينة‪ ،‬صاحب المظالم ‪...‬صص ‪..68-66‬‬
‫‪ - 5‬محمد الزحيلي ‪:‬‬
‫تاريخ القضاء في ال�إ سلام‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬دار الفكر دمشق بيروت ط‪ ،1995 ،1‬ص ‪.16‬‬
‫‪23‬‬
‫فهل كان القضاء جسرا للاهتمام السياسي الرشدي؟ وهل هذا من جملة ال�أسباب التي‬
‫جعلت ابن رشد يعتبر القضاء من خطط المدينة الكبرى‪ ،‬مخالفا بذلك ابن باجة(((‪ ،‬رغم‬
‫�أن كمال المدينة يكاد يجعل القضاء فضلا فيها! قد يكون القضاء‪ ،‬عمليا‪ ،‬جسرا لابن‬
‫رشد �إلى السياسة‪ ،‬لكن لا يجب �أن نغفل هاهنا "تلخيص الخطابة"‪ ،‬الذي كتبه ابن رشد‬
‫قبل "الضروري في السياسة" وقبل "فصل المقال"‪ ،‬وهو كتاب في السياسة بالعرض خصه‬
‫ابن رشد بعناية خاصة(((‪ ،‬فهل تضافر العاملان ليقذفا بابن رشد في الفضاء السياسي على‬
‫مستوى العمل وعلى مستوى النظر؟ قد يكون ال�أمر كذلك‪ .‬ولعل �أهم شيء فعله القاضي‬
‫ابن رشد هو العمل على تصحيح وضع الفقه في المدينة ل�أهميته‪ ،‬كما لاحظنا‪ ،‬ولخطره‬
‫الكبير على وحدتها وتماسكها‪.‬‬
‫يصب ابن رشد جام غضبه على متفقهة زمانه وما اختاروه من تقليد فيصنف الناس في‬
‫المدينة ال�إ سلامية �إلى صنفين‪ :‬العوام وهم الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد‪ ،‬والمجتهدون‬
‫وهم الصنف الذين تجلت فيها مخايل وشروط الاجتهاد‪ .‬وبين هؤلاء وهؤلاء توجد "طائفة‬
‫تشبه العوام من جهة‪ ،‬والمجتهدين من جهة �أخرى‪ ،‬وهم المسمون في زماننا بالفقهاء"(((‪،‬‬
‫كما يقول ابن رشد‪ .‬فما هي وضعية هؤلاء عنده؟‬
‫يلحق ابن رشد فقهاء عصره بمرتبة العوام‪ ،‬ويدمغهم بوصمة التقليد‪� ،‬أما ما يميزهم‬
‫عن العوام بالحقيقة‪� ،‬إذا جاز القول‪ ،‬فهو حفظهم ل�آراء المجتهدين و�إخبارهم العوام عنها‪.‬‬
‫فهم وسطاء بين المجتهدين والعوام‪� ،‬إنهم في منزلة الناقلين عن المجتهدين‪ ،‬بل �إن هؤلاء‬
‫لا يقفون عند مرتبة الناقل و�إنما يخطئون فيقتحمون فضاء الاجتهاد دون ُعدة حقيقية‪.‬‬
‫لذلك "يتعدون فيقيسون �أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم حكم على ما نقل عنه في ذلك‬
‫الحكم‪ ،‬فيجعلون �أصلا ما ليس ب�أصل‪ ،‬ويصيرون �أقاويل المجتهدين �أصولا لاجتهادهم‪،‬‬
‫وكفى بهذا ضلالا وبدعة"‪ .‬ومن ثم ف�إنه لا يجد لهذا الصنف من الناس مكانا في المدينة‬
‫ال�إ سلامية‪.‬‬
‫لا يخرج سكان المدينة‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬عن الصنفين المعروفين؛ عوام ومجتهدون‪.‬‬
‫ل�أننا �إذا قبلنا "صنف النقلة" ف�إذ ذلك يخرق �إجماعا �أجمع عليه المسلمون وهو "�أن جميع‬
‫فروض الكفايات ينبغي �أن يكون في زمان زمان من يقوم بها‪ ،‬وحينئذ [فقط] تسقط عن‬
‫‪ - 1‬ابن باجة ‪ :‬تدبير المتوحد‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫‪ - 2‬قارن حجم الكتاب كما كتبه �أرسطو وحجمه عند ابن رشد‪...‬‬
‫‪ - 3‬مختصر المستصفى مرجع سابق ‪.144‬‬
‫‪24‬‬
‫الغير"‪ .‬كما يخرق حقيقة واقعية موضوعية وهي "�أن النوازل الواقعة غير متناهية‪ ،‬وليس‬
‫يمكن نقل قول قول عن من سلف من المجتهدين في نازلة نازلة‪ ،‬ف�إن ذلك ممتنع"‪ .‬ومن‬
‫هنا يصرح ابن رشد �أن كل وقت يحب �أن يكون فيه مجتهد حتى لا يؤدي ذلك �إلى‬
‫"�إهمال �أكثر ال�أحكام‪� ،‬إذ �أكثر الفرائض والسنن �إنما يقوم بفرض معرفتها وتعليمها للناس‬
‫المجتهدون"(((‪ ،‬ناعيا على جيله والجيل الذي سبقه عدم وجود المجتهد‪ ،‬و�إن كان في‬
‫الزمان الذي سلف "من بلغ مرتبة الاجتهاد‪ ،‬لكن مع هذا ف�إنما كان مقلدا"(((‪ ،‬ولعله كان‬
‫يعني جده واللخمي بال�أساس‪.‬‬
‫تقوم المدينة ال�إ سلامية في وجودها �إذن على هذه الطائفة من المجتهدين الذين‬
‫يضبطون الفرائض والسنن‪ ،‬ويوجهون الجمهور على ضوئها وي�أخذونهم بها‪ ،‬و�إذا نزلت‬
‫بهم نازلة ليس في السنن الحكم فيها ف�إنهم يستنبطون لها حكما‪� .‬أما الجمهور فش�أنه‬
‫تقليد المجتهدين "لحسن الثقة بهم‪ ،‬وغلبة الظن في صدقهم"(((‪ .‬وكتاب البداية كان‬
‫ل�أجل هذا الغرض‪ ،‬وهو غرض لابد �أن يثمنه الموحدون و�أن يهشوا له‪ ،‬و�إن كانوا‬
‫يحذرونه‪ ،‬كما تحكي قصة يوسف بن عبد المؤمن مع الحافظ بن الجد‪.‬‬
‫�إقصاء عوام الفقهاء من المدينة ال�إ سلامية هو في صميمه نوع من تطهير الفضاء‬
‫الثقافي مما يمكن �أن يشوش عليه‪ ،‬وهو مطلب يستجيب لاستراتيجية الموحدين النابذين‬
‫لفقهاء الفروع‪ ،‬ويذكر بمطلب رشدي �آخر يتعلق ب�إقصاء علماء الكلام من هذا الفضاء‬
‫لكثرة تشغيبهم وتشويشهم على المعرفة الشرعية‪ .‬ف�إنقاذ المعرفة الشرعية وطلب سلامتها‬
‫رهين بتصحيح الوضع العلمي في المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬وهو ما قصده ابن رشد من البداية‬
‫وسيقصده من كتاب فقهي �آخر هو كتاب "مناهج ال�أدلة"‪.‬‬
‫لم يمارس �إن ابن رشد نقدا سلبيا على المعرفة في عصره‪ ،‬ومنها المعرفة الفقهية‪،‬‬
‫و�إنما مارس نقدا "سالبا"‪ ،‬فهو ينظر في الفقه ويقوم بسلب ما هو فاسد فيه من تخليط‬
‫في المسائل وتشعيب في الفروع وقلق في العبارة‪ .‬وينظر في الفقيه فيقوم بسلب ما هو‬
‫فاسد فيه من ركون �إلى التقليد وتضييع للاستدلال وانهماك على الحفظ‪ ،‬كل ذلك يقوم‬
‫به ابن رشد من �أجل تطوير ما يوجد في الفقه من عناصر مضيئة حيث يتم التركيز عنده‬
‫على ال�أصول؛ �أصول الفقه‪� ،‬أصول الخلاف‪� ،‬أصول المسائل المنطوق بها في الشرع‪.‬‬
‫‪ - 1‬نم ص‪.143‬‬
‫‪ - 2‬نم ص ‪.146-145‬‬
‫‪ - 3‬نم ص ‪.144-143‬‬
‫‪25‬‬
‫والتركيز على الكافي؛ الكافي من المعرفة الفقهية لتطوير شخصية الفقيه ب�إحياء عناصر‬
‫الاجتهاد فيها‪ .‬كل ذلك قام به ابن رشد في �إطار صناعي‪.‬‬
‫لا يعني انتقاد ابن رشد للتقليد الفقهي �أن هذا ال�أخير لا يضمر جوانب �إيجابية قابلة‬
‫للتطوير‪ ،‬ذلك ما نلمسه من موقفه السابق من المدونة ومن عزمه على ت�أليف كتاب على‬
‫غرار منهجها‪ ،‬ولكن كل ذلك من �أجل خدمة مقاصده في الاجتهاد سواء كان اجتهادا‬
‫مطلقا‪� ،‬أو كان اجتهادا مذهبيا‪ ،‬لكن مع حرص شديد على عدم �إحداث قول جديد غير‬
‫مسبوق؛‬
‫لم يكتف ابن رشد ب�إنتاج المعرفة الفقهية‪ ،‬بل حريصا على تدبر نتائجها على مجتمعه‬
‫بوحي من شخصيته كقاضي في المدينة مهموم بسياستها وتدبيرها‪ ،‬فلم يكن يبحث في‬
‫المعرفة دون توقع انعكاساتها الاجتماعية‪ ،‬وهو ما نجده حاضرا في قلب ممارسته الفلسفية‬
‫(((‬
‫�أيضا عندما نجده يتحدث عن �أمور فلسفية يحرم الكلام فيها �أو تثبيتها في كتاب‬
‫لانعكاساتها السلبية على ساكنة المدن‪ .‬ومن هنا يحجم فقيهنا عن �إحداث قول جديد‬
‫في الفقه‪ ،‬رغم قدرته على ذلك‪ ،‬فيعلن عن تقصي خطى الفقهاء في احتفائهم بالمشهور‬
‫خيفة �أن يظن به الخروج عما عليه الجمهور‪ ،‬وخيفة �إضافة تشويش فقهي مما قد يهدد‬
‫سلامة العلاقات الاجتماعية‪ ،‬وهو الحريص عليها من �أن يمسها اضطراب كما مسها من‬
‫قبل الاختلاف في العقائد‪ .‬و�إن �إخراج كتاب الحج من النسخة ال�أولى من كتاب بداية‬
‫المجتهد‪ ،‬ثم �إضافته �إلى النسخة المراجعة بعد �أكثر من عشرين عاما‪ ،‬لا يمكن �أن يفسر‬
‫�إلا بالالتزامات الاجتماعية التي كانت له في بلاط الموحدين والتي كان حريصا على‬
‫احترامها (((‪.‬‬
‫�إن ما يمس حياة الناس لابد فيه من مراعاة المشهور والابتعاد عن الابتداع والشذوذ‬
‫كما في الفقه‪ ،‬ولا بد فيه من مراعاة مقتضيات الظواهر كما في العقائد فـ"ما اختاره‬
‫الكل [عند ابن رشد] �آثر مما لا يختاره الكل من الجمهور"(((‪ .‬ومن هنا ف�إن ابن رشد‬
‫‪ - 1‬ابن رشد ‪ :‬تهافت التهافت ص‪.463‬‬
‫‪ - 2‬لا يمكن �أن نفصل هذا الفعل الرشدي عن فتوى ابن رشد الشهيرة في تفضيل الجهاد على الحج‪ ،‬فقد س�أله‬
‫يوسف بن تاشفين ‪" :‬هل الحج �أفضل ل�أهل ال�أندلس �أو الجهاد؟" ف�أجاب‪" :‬وفرض الحج ساقط عن �أهل ال�أندلس‬
‫في وقتنا هذا لعدم الاستطاعة‪،‬التي جعلها الله شرطا في الوجوب‪ ،‬ل�أن الاستطاعة القدرة على الوصول مع ال�أمن‬
‫على النفس‪ ،‬وذلك معدوم في هذا الزمان‪...،‬والذي �أقول به ‪� :‬إن الجهاد �أفضل لما وردفيه من الفضل العظيم"‬
‫�أنظر نص الفتوى في مسائل ابن رشدالجد تح محمدالحبيب التجكاني المجلدالثاني منشورات دار ال�آفاق الجديدة‬
‫المغرب ط‪ 1992 1‬صص ‪.904-902‬ويبدو �أن هذه الفتوى استمرت لفترة عند الموحدين‪..‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص الخطابة ص‪.64‬‬
‫‪26‬‬
‫�أخرج الاجتهاد من ال�إ طار الفقهي ولم يفهمه فقط على �أنه بذل الفقيه جهده في الوصول‬
‫�إلى ظن بحكم شرعي‪ ،‬و�إنما استحال الاجتهاد عنده حالة عقلية تقتحم جميع المعارف‬
‫"الضرورية" للكمال ال�إ نساني‪ ،‬وهو اجتهاد يمس �أكثر طريقة عرض هذه المعارف التي‬
‫كان يعتبرها قد كملت في عصره سواء تعلق ال�أمر بالفقه‪� ،‬أو بالكلام‪� ،‬أو بالفلسفة‪� ،‬أو‬
‫بالطب‪� ،‬أو بالمنطق‪ .‬ومن هنا انصب جهد ابن رشد على تصحيح وضعية المعرفة الفقهية‬
‫على الخصوص‪ ،‬وتبيئتها بما يخدم قصده في فتح باب الاجتهاد من جهة‪ ،‬وفتح باب‬
‫الممارسة الفلسفية ل�أفاضل الناس في المجتمع ال�إ سلامي‪ ،‬من جهة �أخرى‪.‬‬
‫�إن التحرر من سلطة الفقهاء‪ ،‬بالرجوع �إلى الفقه في تشكله الحيوي ال�أول وبراءته‬
‫ال�أصلية‪ ،‬والانتصار للكلام الفقهي ولل�أصول في المعرفة الفقهية‪ ،‬والتحرر من سلطة‬
‫المتكلمين بالرجوع �إلى ظاهر القر�آن الكريم‪ ،‬والانتصار �إلى البراهين البسيطة القليلة‬
‫المقدمات((( من جهة �أخرى‪ ،‬هو في عمقه تهيئة الفضاء العلمي لقبول فعل التفلسف‬
‫الذي كان يناهضه الفقهاء والمتكلمون ويضعون من العوائق بين يديه ما يجعل وضعه‬
‫قلقا‪ ،‬وشروط استنباته تكاد تصبح ضربا من المحال‪ .‬لقد �أراد ابن رشد �أن يحرر العقل‬
‫ال�إ سلامي من سلطتي الفقهاء المقلدين والمتكلمين المشاغبين‪ ،‬ولم يكن يقصد �إلى‬
‫تحرير العقل ال�إ نساني من ال�إ يمان كما زعم بعض المستشرقين(((‪ ،‬الذين تصوروا العقلانية‬
‫الرشدية على غرار عقلانية عصر ال�أنوار‪.‬‬
‫الفيلسوف المجتهد هو دعامة المدينة ال�إ سلامية و�أفقها المعرفي المنفتح‪ ،‬وهذا ال�أفق‬
‫هو الذي جعل ابن رشد يت�أمل كليات المنطق التربوي للمدينة الفاضلة‪ ،‬كما رسم معالمها‬
‫�أفلاطون‪ ،‬ليوظفه في قراءة بعض من �أوجه المدينة ال�إ سلامية وتصحيح �أوضاعها‪ .‬فابن‬
‫رشد هاهنا رجل سياسة ذو قدرة على قوة التعقل‪ ،‬التي رسم معالمها الفارابي‪" ،‬قوة التجربة‬
‫التي بها تقدر ال�أمور الكلية حتى تخرج �إلى الوجود بالفعل"(((‪ .‬كما �أنه رجل فقه يقر�أ‪،‬‬
‫على ضوء الكتاب ال�أفلاطوني في السياسة‪ ،‬معطيات تاريخ ال�إ سلام وثقافته ال�إ سلامية‪.‬‬

‫‪- 1‬مناهج ال�أدلة‪ ،‬تح محود قاسم ص‪.148‬‬


‫‪2 - R. Arnaldez, averroés, op cit p14 .‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪.112‬‬
‫‪27‬‬
‫‪-1-‬‬
‫�إن استقراء �أنواع كثيرة من الحكم‪ ،‬والنظر في التجارب التربوية التي عرفتها كثير من‬
‫الشعوب‪ ،‬كفيل ب�أن يضع اليد على منطق من النظر السياسي والممارسة السياسة يسمح‬
‫بفهم �أفضل لبنية المدينة‪ .‬نعم‪ ،‬ليس المنطق كما فهمه ابن رشد من �أورغانون �أرسطو‪،‬‬
‫ولكنه منطق يسمح بالتمييز بين ما يعتبر سليما وما يعتبر رديئا في الحياة المدينية‪ ،‬ويسمح‬
‫ب�أفضل عمل تربوي‪ ،‬ويسمح بفهم منطق تحول الدول و�إنشائها‪ .‬وسنعدد بعضا من‬
‫الكليات التربوية والسياسية التي �أثارت اهتمام ابن رشد في جمهورية �أفلاطون‪ ،‬وقر�أ من‬
‫خلالها مدينته ال�إ سلامية‪.‬‬

‫عن منطق تربوي محدد‪.‬‬


‫�إن الحديث عن المدن وعن طبائعها هو حديث عن التربية التي يعاد بها �إنتاج ال�أفراد‪،‬‬
‫�أو التي تصنع بها الدعائم التي تقوم عليها المدن‪ .‬ومن هنا يحدد ابن رشد منطقا للعمل‬
‫التربوي بموجبه ُي َنشَّ �ُأ خاصة صنفا الحفظة والفلاسفة؛ الصنف ال�أول توكل �إليه مهمة‬
‫حفظ المدينة‪ .‬والصنف الثاني توكل �إليه مهمة رئاسة المدينة‪ .‬فما المنطق التربوي الذي‬
‫يراه ابن رشد ‪-‬على ضوء ال�أقاويل ال�أفلاطونية‪ -‬محصلا للغاية ومفيدا للمطلوب؟‬
‫حصول الفضائل للجمهور يكون من طريقين‪ :‬طريق ال�إ قناع باستعمال ال�أقاويل الخطبية‬
‫والشعرية‪ ،‬ليتم حمله على العمل بال�أقاويل ال�إ قناعية والانفعالية التي تحرك نحو ال�أخلاق‬
‫الحميدة‪ .‬وطريق ال�إ كراه والعقاب بالضرب(((‪.‬‬
‫�أما تعليم ال�أخلاق فيكون �أيضا من طريقين‪� :‬أحدهما الرياضة والثاني الموسيقى‪.‬‬
‫الرياضة لصحة الجسم‪ ،‬والموسيقى لتهذيب النفس وتحصيل الفضائل(((‪.‬‬
‫�أما الحديث عن �أهمية ال�أقاويل التي يؤدب بها �أهل المدينة فنتركه �إلى معالجة سياسية‬
‫المنطق‪ ،‬ل�أنها تشكل موضوعه في الصميم‪ .‬ونقف هنا عند المبادئ التي نراها تؤسس‬
‫للمنطق التربوي الرشدي والسبل التي يؤدب بها �أهل المدن‪.‬‬

‫‪ - 1‬الضروري في السياسة صص‪80 - 79‬‬


‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪86‬‬
‫‪28‬‬
‫�أهمية ال�أقاويل الكلية‬
‫يمارس الفعل التربوي من �أجل تعليم ال�أخلاق وتحقيق الفضائل في النفوس بالتربية‬
‫عليها؛ نفوس الحفظة‪ ،‬ونفوس المهيئين للرئاسة‪ .‬ليس هؤلاء فحسب بل ونفوس �أهل‬
‫المدينة برمتهم‪ .‬ويؤكد ابن رشد على مبادئ تربوية هامة تشكل ثابتا منطقيا في الممارسة‬
‫التربوية‪ ،‬وعلى ر�أس هذه المبادئ مبد�أ يتمثل في ضرورة البعد عن التربية بالنواميس‬
‫العملية‪ ،‬كما يفعل كثير من واضعي النواميس‪ .‬مؤكدا ضرورة التربية بالشرائع والنواميس‬
‫الكلية‪� .‬أما العلة في ذلك فهي �أن الناس يستطيعون "ب�أنفسهم �أن يتوصلوا �إلى النواميس‬
‫الجزئية وال�أخلاق الحميدة كتكريم ال�آباء وال�إ نصات بحضرة من هم �أكبر منهم وغير ذلك‬
‫من النواميس العملية"‪� .‬إن ابن رشد لا يني من تحذير الناس من �أن يضعوا ال�أمور الجزئية‬
‫نواميس"ل�أن الشرائع الكلية �إذا ما وضعت على �أحسن وجه حركت �أهل المدينة �إلى‬
‫النواميس الجزئية ب�أيسر طرق ومن تلقاء �أنفسهم"(((‪� .‬إن ال�إ صلاح بالنواميس الجزئية لا‬
‫يفيد شيئا في تربية الفرد‪ ،‬ولا في تربية المجتمع‪ .‬لا يفيد في تربية الفرد و�إصلاحه فذلك‬
‫"بمثابة من يعالج مرضى لا يحصلون بسبب �إفراطهم في ال�أكل والمشرب والمنكوح‬
‫على �أي فائدة مما يعالجون به‪ .".‬ولا يفيد شيئا في �إصلاح المجتمع ل�أن ال�أمر سيكون‬
‫"كمن يقطع ر�أسا واحدا من رؤوس الثعبان المتعدد الرؤوس‪ ،‬يفعل ما لا طائل من ورائه"‪.‬‬
‫لذلك يرى ابن رشد ضرورة البدء بسن النواميس الكلية من �أجل �إنجاح عملية تربية ال�أفراد‬
‫و�إصلاح المجتمع(((‪ .‬وتجدر ال�إ شارة �أن علاقة الكلي بالجزئي تحكم العديد من ال�آراء‬
‫العلمية الرشدية‪.‬‬

‫تعليم صناعة واحدة‬


‫يعتبر هذا المبد�أ التربوي من المبادئ الهامة التي يشدد عليها ابن رشد في شرحه على‬
‫كتاب �أفلاطون‪ ،‬باعتباره وثيق الصلة ب�إحدى الفضائل المهمة في المدينة �أو بر�أس الفضائل‪،‬‬
‫وهي فضيلة العدالة؛ و"العدل [‪ ]...‬ليس هو شيئا �أكثر من �أن يعمل كل واحد في المدينة‪،‬‬
‫العمل الذي هو مهي�أ له بطبعه‪ ،‬و�أن يقوم به ب�أكمل وجه يستطيع‪ .(((".‬وهنا يجب الانصراف‬
‫عن تعليم الفرد في المدينة �أكثر من صناعة واحدة‪ ،‬ل�أن طبائع الناس تختلف في تقبل‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.114‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪115‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪77‬‬
‫‪29‬‬
‫الصنائع �أولا‪ .‬ثم ثانيا‪ ،‬ل�أن كثيرا من الصنائع تتعلم في وقت واحد مما يجعل �إتقان الفرد‬
‫�أكثر من صناعة من قبيل المستحيل‪ .‬لذا يجب تعهد الفرد‪ ،‬منذ طفولته‪ ،‬بالتربية على صناعة‬
‫واحدة حتى تحصل له الملكة التي يتقن بها الصناعة(((‪ ،‬ولعله يبرز فيها‪.‬‬
‫يقع الخلل في المدينة عندما يتصدى الناس ل�أعمال لا يتقنونها‪� ،‬أو �أعمال لا تحتاجها‬
‫المدينة‪ .‬ولذا يربى الطفل على القيام فقط بالعمل الواحد الذي تحتاجه المدينة منه‪" ،‬وهو‬
‫العمل الذي �أعد له بالطبع ولا ترغب نفسه فيما ليس له"‪ .‬وابن رشد‪ ،‬مع �أفلاطون‪ ،‬يعتبر‬
‫هذا المذهب الذي يؤسس للعدل المدني‪ ،‬مما توجبه النواميس التي هي محط �إجماع‬
‫السادة والجمهور‪ ،‬وهو المذهب الذي يحفظ المدينة من �أضرار متوقعة؛ �إذ عندما ُي َنش�أ‬
‫الفرد على �أكثر من صناعة واحدة ف�إن ذلك يؤدي �إلى �أن يتحول ال�أصناف بعضها �إلى‬
‫بعض مما يجلب الضرر‪ ،‬وهو ما وقع في ال�أندلس‪ ،‬التي يجعلها ابن رشد مختبرا للعبرة(((‪.‬‬

‫�أهمية الرياضة في التربية‬


‫تشكل الرياضة ثابتا منطقيا في الفكر التربوي عند ابن رشد‪ ،‬ومن لوازم الرياضة‬
‫التغذية‪ ،‬فهما يصطحبان بالطبع تربويا‪ .‬ومن هنا يحرص ابن رشد على تفصيل القول فيهما‬
‫في "الضروري" وفي "الكليات في الطب"؛‬
‫تسهم الرياضة‪ ،‬مثلها مثل الموسيقى‪ ،‬في ترسيخ الفضائل‪ ،‬فهي �أحد الطريقين اللتين‬
‫يؤمهما المربي لحمل الحفظة على الفضائل(((‪ ،‬بل �إن الرياضة ترافق الصبي من مهده(((‪.‬‬
‫و�إن �أهم فضيلة تكسب الرياضة الجسم فضيلة الصحة‪ ،‬وهي فضيلته الحق(((‪ .‬كما‬
‫تكسب النفس فضيلة الشجاعة(((‪ .‬فما هي الرياضة �أولا؟ وكيف تسهم‪ ،‬مع الغذاء‪ ،‬في‬
‫كمال الجسم والنفس؟‬
‫يعرف ابن رشد‪ ،‬في كتاب حفظ الصحة" من الكليات في الطب((( الرياضة ب�أنها‬
‫"حركة ال�أعضاء ب�إرادة ما"‪ ،‬وتنقسم الرياضة بحسب ال�أعضاء �إلى كلية وجزئية؛ فالكلية‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪-84 83‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص ‪120‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪117‬‬
‫‪ - 4‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص ‪321‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص ‪86‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص‪97‬‬
‫‪ - 7‬ابن رشد‪ ،‬الكليات في الطب‪ ،‬تح سعيد شيبان وعمار الطالبي المجلس ال�أعلى للثقافة ‪1989‬‬
‫‪30‬‬
‫التي ينتفع بها جميع البدن هي"الحركة الكلية النقلية لجميع الحيوان"‪� .‬أما الجزئية التي‬
‫ينتفع منها عضو واحد هي الرياضة المخصوصة "بعضو ما‪ ،‬مثل �أن الصوت رياضة الرئة"‪.‬‬
‫كما تنقسم الرياضة �إلى قوية وضعيفة ومعتدلة؛ ويثمن ابن رشد الرياضة المعتدلة ل�أن‬
‫"فعلها بالجملة تنمية الروح الغريزي‪ ،‬ودفع الفضول عن �آلات الغذاء‪ ،‬وتحليلها‪ ،‬وتصليب‬
‫ال�أعضاء �أنفسها"‪� .‬أما الرياضة القوية َفـ ُتضْ ِعف ل�أنها تستفرغ من البدن �أكثر مما يحتاج‬
‫�إليه‪ ..‬كما نرى في �أصحاب المهن القوية"‪ .‬و�أما الرياضة الضعيفة ف ُم َس ِّمنة للبدن لـ"�أنها‬
‫لا تستفرغ كل ما يجب استفراغه"‪ ،‬ولهذا يعتبرها ابن رشد رياضة زائدة في ال�أعضاء(((‪.‬‬
‫لكن الرياضة لا قيمة لها بدون تدبير غذائي‪� ،‬إذ "�إنه ليس ب�أي تدبير اتفق‪ ،‬ولا ب�أي‬
‫�أغذية اتفقت تكون سلامة �أبداننا"(((‪ .‬ويفصل ابن رشد القول كثيرا في طبيعة الغذاء و�أثره‬
‫على الصحة‪ .‬وكتابه "الكليات" مليء بالتوجيهات التي تجعل الغذاء عاملا مهما في تربية‬
‫الجسم‪ ،‬وبخاصة "كتاب حفظ الصحة" الذي يعد �أحد الجزء ين الشريفين في صناعة‬
‫الطب‪ .‬ومن �أهم ما يشار �إليه هنا هو �أن ابن رشد في توجيهاته الغذائية لا يضيق على‬
‫الناس في الغذاء والشراب‪ ،‬و�إنما يؤكد مبد�أ هام يعبر عن نظره المقاصدي ال�أصيل قوامه‬
‫�أنه في الغذاء ُيلتفت �إلى العادة(((‪ .‬وك�أن ابن رشد واع �أن مخاطبه �أوسع من المخاطب‬
‫المسلم الذي يفترض �أنه يوجه �إليه الخطاب‪ ،‬ويبدو هذا ال�أمر في حديثه المتكرر عن فوائد‬
‫ال�أنبذة‪" ،‬وما يقوم [‪ ]...‬مقام الخمور"‪ ،‬وهي من ال�أشربة التي ينتفع بها الشباب(((‪،‬‬
‫ويحتاجها الشيوخ كذلك لمنافعها الجمة(((‪ .‬كما يرى �أكل لحم الخنزير مع شرب الخمور‬
‫من �أكثر ال�أشياء تغذية(((‪ ،‬ناصحا من لا يستجيز ال�أنبذة شرب العسل‪� ،‬أما "من يستجيزها‬
‫فهي �أنفع ال�أشياء لهم"(((‪ ،‬ويجعلها �أحينا بمثابة �أكل المضطر لفوائدها الصحية‪ ،‬حيث‬
‫نجد ابن رشد يوصي الغشي بالشراب رغم وعيه بتحريم الشريعة له‪ ،‬لكنه يجعله لصاحب‬
‫هذه الحال في معنى الميتة للمضطر(((‪ .‬تسمح لنا هذه المعطيات بفهم المخاطب الذي‬
‫كان يتوجه �إليه ابن رشد‪ ،‬ففقيهنا لم يكن يخاطب المسلم فقط‪� ،‬إنما يخاطب ال�إ نسان‬
‫‪ - 1‬الكليات‪ ،‬مرجع سابق ص‪317‬‬
‫‪ - 2‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص‪315‬‬
‫‪ - 3‬الكليات‪ ،‬مرجع سابق ص‪372‬‬
‫‪ - 4‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص‪321‬‬
‫‪ - 5‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص‪322‬‬
‫‪ - 6‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص ‪372 - 371‬‬
‫‪ - 7‬الكليات مرجع سابق ص ‪326‬‬
‫‪ - 8‬الكليات مرجع سابق ص ‪ 383‬وص ‪384‬‬
‫‪31‬‬
‫ال�أندلسي ذا ال�إ رث الثقافي المتنوع‪ ،‬فهو حريص �أن يجد ساكن ال�أندلس في خطابه‬
‫الفقهي‪ ،‬كما في خطابه الفلسفي‪ ،‬ما يشفي غلته‪ .‬وهذا مما يدل �أن ابن رشد‪ ،‬وهو‬
‫يكتب سفره الفقهي‪ ،‬كان يراعي ساكنة ال�أندلس ذات الديانات الثلاث دون �إخلال‬
‫علمي‪ .‬فابن رشد الفقيه حريص على تحرير محل الخلاف والنزاع الذي تطرحه هذه‬
‫المس�ألة من الناحية الفقهية بتجرد و�أمانة علمية(((‪ .‬ولاشك �أن هذا مما يبرز عظمة رجل‬
‫رفع الخطاب الفقهي من محليته ليصبح خطابا صالحا لل�إ نسان بما هو �إنسان‪.‬‬
‫يؤكد ابن رشد �أيضا ضرورة ت�أديب الشبان في المطعم والمشرب حتى لا تكون‬
‫سيرتهم سيرة البهائم‪ ،‬ومن كان مزاجه هكذا فهو معد للحكمة بالطبع(((‪ .‬ويحرص ابن‬
‫رشد على وضع قائمة ال�أطعمة التي يقتصر عليها الحفظة وال�أطعمة التي ينبغي تجنبها‬
‫حفظا على توازنهم النفسي �إذا تعودوا على طعام ثم افتقدوه‪ ،‬وحفظا على �أجسامهم من‬
‫المرض �إذا تغيروا عن طعامهم الم�ألوف(((‪ ،‬نادبا �إلى تناول ال�أغذية البسيطة دون غيرها‬
‫من ال�أغذية المركبة‪.‬‬
‫�إن الحفظة‪ ،‬ومنهم الحكماء استعدادا‪ ،‬هم القصد ال�أول من الخطاب السياسي ‪-‬‬
‫التربوي عند ابن رشد‪ ،‬يربيهم بالموسيقى والغذاء والرياضة‪ .‬وفي فضاء المدينة �أكثر من‬
‫يحتاج �إلى الرياضة صنف الحفظة الذين يطلب منهم طبع يجمع بين قوة الجسم‪ ،‬وسرعة‬
‫الحركة‪ ،‬ورهافة الحس(((‪ .‬و�إذا كانت رهافة الحس من ش�أن التربية الموسيقية‪ ،‬كما‬
‫سي�أتي‪ ،‬ف�إن السرعة والقوة من ش�أن التربية الرياضية‪ .‬يحرص ابن رشد على بيان �أهمية‬
‫التدبير الغذائي كما ينتصر كثيرا للرياضة لمصلحتها العظيمة(((‪ ،‬ولذلك يجعل الرياضة‬
‫والغذاء على القانون الطبي ثابتا منطقيا في الممارسة التربوية في المدينة(((‪ ،‬ل�أن بهما‬
‫يكسب الجسم الصحة والنفس الفضيلة(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬حول موقف الفقهاء من الخمر والنبيذ‪ ،‬وموقف ابن رشد الفقيه‪ ،‬انظر بداية المجتهد‪ ،‬ج‪ 4‬صص‪.191 - 174‬‬
‫‪ - 2‬الكليات ص‪322‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة صص‪.-99 98‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص‪.84‬‬
‫‪ - 5‬يحرص ابن رشد على بيان هذه المصلحة عندما يلفت النظر لمن حرم مزاولتها من الناس كيف تكون حالهم‬
‫َك"حال المقصورين في السجون ف�إنها تصفر وجوههم وتفسد سحنتهم وتختل �أفعالهم الطبيعية كلها‪ .‬الكليات‬
‫مرجع سابق ص ‪. 318‬‬
‫‪� - 6‬أنواع الرياضة التي يحصيها ابن رشد‪ ،‬اللعب بالكرة (الكليات ص‪ ،)322‬الرياضة بعد الجماع (نم ص‪،)324‬‬
‫تحريك الرضيع في المهد( الكليات في الطب‪ ،‬نشرة مركز دراسات الوحدة العربية ط‪ ،1‬ماي ‪ 1999‬ص ‪،) 476‬‬
‫الفروسية للشباب والرياضات البسيطة المناسبة للحروب (الضروري ص ‪ ،84‬وص ‪.) 98‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص‪.97‬‬
‫‪32‬‬
‫�أهمية الموسيقى في التربية‬
‫تحتل الموسيقى الترتيب الخامس في سلم العلوم الرياضية(((‪ ،‬فلها �أهمية قصوى في‬
‫التربية عند ابن رشد‪� ،‬إذ هي "عشق للحسن بالذات"‪ ،‬ولذلك "لا يضاهي عشقـ[هـا]‬
‫عند �أهلها لذة من اللذات"(((‪ .‬وابن رشد يجاري �أفلاطون في الحديث عن الموسيقى‪،‬‬
‫وعن �أهميتها‪ ،‬رغم �أنه من الفلاسفة القلائل الذين لم يمارسوا فعل الموسيقى‪ ،‬ولم يتركوا‬
‫شيئا في الت�أليف الموسيقى‪ .‬في حين نجد الكندي‪ ،‬مدشن الخطاب الفلسفي في بلاد‬
‫ال�إ سلام‪ ،‬يهتم بعلوم التعاليم‪ ،‬ويكتب مؤلفات موسيقية منها "رسالة الكندي في خبر‬
‫صناعة الت�أليف"(((‪ .‬ويذكر الكندي في هذا الكتاب �أنه �ألف كتابين في الموسيقى كتابه‬
‫هذا‪ ،‬وكتاب �آخر سماه "كتابنا ال�أعظم في الت�أليف"((( الذي �ألفه كما يقول "بالقول‬
‫المرسل الذي يجب �أن يقال فيه بتقصي البرهان"(((‪ .‬ونجد المعلم الثاني يكتب كتابه‬
‫الضخم "الموسيقى الكبير"‪ ،‬وهو �أكبر شهادة على تضلعه الموسيقي علما ومزاولة‪" ،‬فكان‬
‫ذلك �أمكن له في تعريف المبادئ وال�أصول ودقائق الصناعة" كما يقول محقق الكتاب(((‪.‬‬
‫تتلمذ ابن باجة على كتاب الفارابي(((‪ ،‬وقد صرح‪ ،‬نفسه‪� ،‬أنه زاول صناعة الموسيقى‬
‫حتى بلغ فيها مبلغا رضيه لنفسه(((‪ ،‬بل كان يفخر ب�أنه يضرب على العود(((‪ .‬لكن يبدو‬
‫�أنه زهد في الت�أليف الموسيقي �إلا رسالة واحدة صغيرة �أفردها للحديث عن "ال�أصول التي‬
‫السنن والطريق القويم‪ ،‬وفاق �أبناء جنسه‪،‬‬
‫�إذا رعاها الضارب مشت �أحواله ونغماته على ّ‬
‫وكان يومه خير من �أمسه"(‪ .((1‬وكذلك �ألف ابن سينا الذي خبر الموسيقى‪ ،‬من قبل‪،‬‬
‫‪ - 1‬الفارابي‪� ،‬إحصاء العلوم‪ ،‬تقديم علي بو ملحم دار ومكتبة الهلال ط‪ 1996 1‬ص‪.60‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪.97‬‬
‫‪ - 3‬حققها يوسف شوقي ونشرتها دار الكتب المصرية‪ ،‬مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة ‪،1996‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ص ‪.100‬‬
‫‪ - 5‬المرجع السابق ص ‪111‬‬
‫‪ - 6‬الفارابي‪ ،‬كتاب الموسيقى الكبير‪ ،‬تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة‪ ،‬مراجعة وتصدير د‪ .‬محمود �أحمد‬
‫الحنفي دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة ص‪8‬‬
‫‪ - 7‬يذكر صاحب كتاب "تاريخ الموسيقى العربية" �أن هناك نسخة من كتاب الفارابي توجد في مدريد �إلى ما قبل‬
‫سنة ‪ 1138‬و�أنها عملت لابن باجة‪ .‬انظر د‪ .‬هنري جورج فارمر‪" ،‬تاريخ الموسيقى العربية حتى القرن الثالث عشر‬
‫الميلادي"‪ ،‬تعريب جرجيس فتح الله المحامي‪ ،‬منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان ص‪.257‬‬
‫‪ - 8‬انظر "ومن كلامه ما بعث به ل�أبي جعفر بمن حسداي" ضمن رسائل فلسفية ل�أبي بكر بن باجة‪ ،‬نصوص فلسفية‬
‫غير منشورة تح جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الثقافة بيروت‪ ،‬دار النشر المغربية‪ ،‬البيضاء المغرب‪ 1983 ،‬ص ‪78‬‬
‫‪ - 9‬تاريخ الموسيقى العربية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪284‬‬
‫‪ ،، 10‬ومن كلامه في ال�ألحان‪ ،‬ضمن رسائل فلسفية ل�أبي بكر بن باجة تحقيق جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الثقافة بيروت‬
‫دار النشر المغربية البيضاء‪ 1983‬ص ‪.83‬‬
‫‪33‬‬
‫رسالة يعالج فيها "الكليات دون الجزئيات‪ ،‬معطيا �أبعاد الوتر وتنوع النغمات في السلم‬
‫الموسيقى ب�أبحاث رياضية بحتة"(((‪.‬‬
‫فما العلة في �أن فيلسوفنا لم يترك شيئا في صناعة الت�أليف الموسيقى رغم �أنه كان‬
‫يعرف للموسيقى �أهميتها القصوى في التربية‪ ،‬هل يرجع ذلك �إلى عدم تضلعه في‬
‫الرياضيات تضلع غيره من الفلاسفة‪ ،‬ونحن نعلم �أن الموسيقى هي علم رياضي بالدرجة‬
‫ال�أولى؟ هل يكون هذا من النقص التربوي الذي عانى منه ابن رشد فلم يجد فضاء يتعلم‬
‫منه هذه الصنعة؟ وهل كانت بيئته معادية للموسيقى؟‬
‫لا نملك �إجابات شافية عن الجزئين ال�أخيرين من السؤال(((‪ ،‬لكن يمكن القول �إن‬
‫ابن رشد في حديثه عن الموسيقى يتحاشى الجدل الدائر في المجتمع ال�إ سلامي حول‬
‫الموسيقى والسماع تحليلا‪� ،‬أو تحريما‪ ،‬ويثّمن ر�أسا �أهمية الموسيقى‪ ،‬وال�ألحان‪ ،‬والغناء‬
‫في تربية النشء وتربية الفيلسوف‪ .‬ولعل مرد هذا الموقف الرشدي �أن يكون امتل� أ بمواقف‬
‫الغزالي الذي دافع في ال�إ حياء عن السماع(((‪ ،‬وموقف �أبي بكر بن العربي الذي دافع عن‬
‫الموسيقى دفاعا حارا‪ ،‬وموقف ابن حزم كذلك‪ .‬ولعله لم يلتفت �إلى المواقف المضادة‬
‫للموسيقى ل�أنه يجد لها العذر‪ ،‬كما وجده لها الفارابي من قبله في كتابه في الموسيقى‪،‬‬
‫عندما �أرجع المواقف السلبية من الموسيقى �إلى الابتذال الذي وقعت فيه‪ ،‬وكاد �أن يعذر‬
‫الشرائع في تحريمها‪ ،‬و�أنش�أ كتابه من �أجل تصحيح النظر �إلى الموسيقى(((‪ .‬وكذلك‬
‫‪ - 1‬انظر الرسالة في "تاريخ الموسيقى العربية‪ "..‬مرجع سابق صص‪ 416 - 403‬وانظر مقدمة المعرب ص‪23‬‬
‫‪ - 2‬حول الجزء ال�أول لاشك �أنه كان لابن رشد اهتمام رياضي تجلى على الخصوص في احتفائه بعلم الفك وقيامه‬
‫بالرصد الفلكي بنفسه‪.‬‬
‫‪ - 3‬الغزالي‪� ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ج‪ 2‬دار المعرفة بيروت لبنان ‪ 1982‬صص ‪-287 270‬‬
‫‪ - 4‬يقول الفارابي في نص جميل وذي دلالات مهمة في سياقنا هذا‪ ،‬ننقله رغم طوله النسبي ‪" :‬ولما كانت ال�أفعال‬
‫ال�إ نسانية كلها‪� ،‬إنما يطلب بها السعادة القصوى‪ ،‬وكان يلزم �أن تكون ُملذة دائمة �أبدا‪� ،‬أو ملذة من غير �أن يلحق‬
‫ال�إ نسان عنها �أذى �أو كلال �أو تعب �أصلا(‪)...‬ظن الجمهور كذلك في ال�أشياء ال ُمتعبة �أنها شقاوات‪ ،‬وبالراحة‬
‫و�أصناف اللعب �أنها سعادات‪� ،‬إذ كانت �أفعالها تحاكي �أو تشابه السعادة التي هي بالحقيقة سعادة‪ ،‬وظن بها �أيضا‬
‫�أنها هي الغاية القصوى‪ ،‬فنحوا ب�أفعالهم كلها نحوها وطلبوا تتميمها بكثرتها وتقويتها بدوامها‪ ،‬وحازوا بها مقادير‬
‫المراتب فصارت بحسب استعمالهم لها �أشياء باطلة لا جدوى لها في ال�إ نسانية‪ ،‬بل صارت صادفة عن ال�أمور التي‬
‫بها تنال السعادة بالحقيقة‪� ،‬إذ كانوا �إنما يستعملونها على هذه الجهة‪.‬‬
‫ولذلك صاروا يطلبون من ال�أقاويل الشعرية ما ش�أنها �أن تستعمل في اللعب‪ ،‬وكذلك من ال�ألحان التي تقرن بها‪،‬‬
‫ف�إنهم �إنما يطلبون منها ما كان ش�أنها �أن تزين �أو تحاكي �أو تعين على تنفيذ المقصود بهذا الصنف من ال�أقاويل‬
‫الشعرية‪ ،‬فمال من له القوة على صنعة ال�ألحان �إلى صنعة �أمثال هذه وحدها‪ ،‬فظن‪� ،‬إذ لم يعلم �أن في �أكثر ال�أمر‬
‫من ال�ألحان غير هذه �أن المقصود بها كلها لهذا المقصود‪ ،‬فكادت لذلك �أن ترذل وتخس عند من مقصده التخييل‬
‫منهم‪ ،‬وقاربت �أن ت�أتي كثير من الشرائع ناهية عنها‪ .‬ولما كان ما يستعمل من ال�ألحان في زماننا هذا وفي بلداننا‬
‫هذه‪ ،‬هي التي كادت �أن ترذل عند �أهل الخير‪ ،‬وكان ما يعتقد في جملتها �إنما يعتقد على حالها التي بها تستعمل‬
‫‪34‬‬
‫صاحب كتاب "كمال �أدب الغناء" معاصر ابن رشد‪ ،‬الذي رد الانصراف عن الموسيقى‬
‫�إلى �إفراطها في الهزل(((‪ .‬ولعل لهذا السبب نفسه كان ابن رشد يدعو �إلى رفع مستوى‬
‫الموسيقى نغما و�إيقاعا وقولا‪ ،‬ولذا نهى عن اعتماد كثير من �أشعار العرب‪ .‬فكيف تفعل‬
‫الموسيقى فعلها في تربية النشء عند ابن رشد؟‬
‫الارتباط بين صناعة الموسيقى والصناعة المدنية �أو العلم المدني درس من الدروس‬
‫يقدمه ابن رشد متابعا في ذلك �أفلاطون‪ ،‬وهو الدرس الذي عرج عليه �أبو نصر في كتابه‬
‫"الموسيقى الكبير"؛‬
‫بعد �أن ذكر الفارابي �أهمية ال�أقاويل الشعرية‪ ،‬و�أثرها ال�إ يجابي في الحياة المدنية‪،‬‬
‫و�أفصح عما يمكن �أن تفعله الموسيقى في ال�إ نسان متى تلبست بال�أقاويل الشعرية‪� ،‬أحال‪،‬‬
‫لمن يريد التعمق في هذا ال�أمر‪� ،‬إلى المعرفة المنطقية حيث مظا ُّن فهم عميق ل�أصناف‬
‫ال�أقاويل الشعرية‪ ،‬وال�أشياء التي تلتئم منها‪ ،‬ومن �أين تصنع‪ .‬كما �أحال �إلى الصناعة‬
‫المدنية لمعرفة منفعة كل صنف من �أصناف ال�أقاويل الشعرية في ال�أمور ال�إ نسانية(((‪.‬‬
‫مما يؤكد الارتباط العميق بين الشعر والموسيقى من جهة‪ ،‬وبين العلم السياسي من جهة‬
‫�أخرى في حس الفارابي متابعا في ذلك �أفلاطون‪.‬‬
‫تدخل الموسيقى في التربية �إذن باعتبارها �أداة يتوسل بها �إلى حمل النشء على العمل‬
‫الرضع في المهد(((‪ .‬والغريب‬ ‫بالفضائل عند ابن رشد‪ ،‬بل �إن الموسيقى مما تحسن �أخلاق ُ‬
‫�أن كره الموسيقى هو بداية الانحراف في المدينة(((‪ ،‬و�أنه بقدر الابتعاد عن الموسيقى تفتقد‬
‫الفضيلة‪ .‬مما يؤكد خطر الموسيقى وقدرها الكبير في التّنشئة الاجتماعية‪ .‬لذا يدعو ابن‬
‫رشد �إلى استعمال ال�ألحان مع ال�أطفال وهم �أبعد عن س ّن التمييز‪ .‬ويقترح طريقان للتربية؛‬
‫طريق ال�أقاويل ال�إ قناعية والانفعالية‪ ،‬وطريق العقاب‪ .‬ويعتبر الموسيقى �أقرب نسبا بالطريق‬
‫عند الجمهور في زماننا هذا‪ ،‬صار تبييننا للمقصود الخاص بجملة ال�ألحان وكيف مدخلها في ال�إ نسانية يحتاج فيه‬
‫�إلى �أقاويل كثيرة‪� ،‬إذ كنا �إنما نبين �آراء واعتقادات غريبة عنهم‪ "...‬صص‪1187- 1186‬‬
‫‪ - 1‬يقول الحسن بن �أحمد بن علي الكاتب‪ " :‬فلما مال �أهل هذه الصناعة �إلى الصنف الهزلي وتوهموا �أن في ذلك‬
‫كمال الراحة واظبوا عليه‪ ،‬و�أفرطوا‪ ،‬صار كثير من الملوك يمتنعون من النظر فيها والالتذاذ بها �أنفة من �أن يسلكوا‬
‫فيها مسلك �أولئك الذين اتخذوه لعبا ونقصوا بهجته وشرفه" الحسن بن �أحمد بن علي الكاتب‪،‬كتاب كمال �أدب‬
‫الغناء‪ ،‬تح غطاس عبد الملك خشبة مراجعة د‪ .‬محمود �أحمد الحنفي‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ 1975‬ص‬
‫‪27‬‬
‫‪ - 2‬كتاب الموسيقى الكبير ص ‪1188‬‬
‫‪ - 3‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص ‪321‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص‪.181‬‬
‫‪35‬‬
‫ال�أول الذي "يجري من بين طرق التعليم مجرى الطبع"(((‪ ،‬وبخاصة بالجانب الانفعالي‪.‬‬
‫وللنساء دور هام في تربية ال�أطفال تربية موسيقية‪ ،‬ف�إذا كان الرجال �أكثر حذقا في فن‬
‫الموسيقى العملية‪ ،‬ف�إن ال�ألحان لا تبلغ كمالها �إلا �إذا �أنش�أها الرجال وعملتها النساء(((‪.‬‬
‫�أكد �أفلاطون في الجمهورية كثيرا �أهمية الموسيقى في غرس حب القانون في‬
‫النفوس(((‪ ،‬وفي تيسيرها للعقل ل�إ دراك الفضائل(((‪ ،‬و�أكد �أنها تؤدي في النهاية �إلى حب‬
‫الجمال(((‪ ،‬ولذا سينهى عن الابتداع في الموسيقى ل�أن في ذلك �إفسادا للمجتمع((( وهو‬
‫ما سيتابعه عليه ابن رشد‪ ،‬الذي �أعجب بمنزع �أفلاطون في الفلسفة العملية‪.‬‬
‫�إن "الموسيقى [عند ابن رشد]هي هذه ال�أقاويل المحكية التي يرافقها اللحن(((‪،‬‬
‫والتي يحصل بها ل�أهل المدينة تهذيبهم‪ .‬وهذه ال�أقاويل هي �أقاويل شعرية يرافقها اللحن‬
‫لتكون هذه ال�أقاويل �أقوى �أثرا و�أكثر تحريكا للنفوس(((‪ ،‬فتؤدي الموسيقى بذلك خدمة‬
‫للشعر ينفذ من خلالها �إلى النفوس ليفعل فيها فعله من التهذيب(((‪ .‬وقديما جعل الفارابي‬
‫الصناعة الشعرية رئيسة الهيئة الموسيقية‪ ،‬و�أن غاية هذه الهيئة �إنما تطلب لغاية تلك‬ ‫ّ‬
‫الصناعة الشعرية ‪ ،‬مما جعله يؤكد في مناسبات العلاقة الوثيقة التي تجمع صناعة‬ ‫(‪((1‬‬

‫الموسيقى بصناعتي البلاغة والشعر(‪.((1‬‬


‫‪ - 1‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص‪80‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪.124‬‬
‫‪ - 3‬الجمهورية ص‪ 127‬ويقول الفارابي ‪":‬كان لصناعة الغناء عند اليونانيين ش�أن عجيب‪ ،‬ول�أصحاب النواميس بها‬
‫عناية تامة‪ ،‬وهي على الحقيقة نافعة جدا لنفوذ عملها في النفس خاصة‪ .‬والناموس خاص بالنفس‪ ".‬تلخيص نواميس‬
‫�أفلاطون ص‪.50‬‬
‫‪ - 4‬الجمهورية ص‪.97‬‬
‫‪ - 5‬الجمهورية ص‪.99‬‬
‫‪ - 6‬الجمهورية ص‪.126‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص ‪ .86‬ويعرف الفارابي اللحن بقوله ‪" :‬اللحن هو جماعة نغم كثيرة محدودة الكثرة‬
‫متفقة كلها �أو �أكثرها‪ ،‬رتبت ترتيبا محدودا من جمع محدود معلوم استعمل فيه جنس محدود وضعت �أبعاده وضعا‬
‫محدودا في تمديد محدود‪ ،‬ينتقل عليه انتقالا محدودا ب�إيقاع محدود‪ "..‬الموسيقى الكبير مرجع سابق صص‬
‫‪ 488-487‬بل �إن لفظ الموسيقى نفسه عنده معناه "ال�ألحان" كما يقول ص‪ 47‬ويقسم الفارابي ال�ألحان �إلى ثلاثة‬
‫�أصناف حسب ت�أثيرها في النفس صص‪. 63-62‬وص ‪ .66‬كما يضع شروط اللحن المثالي الذي يكون منه ال�إ لتذاذ‬
‫وتفهيم معنى القول في نفس الوقت‪ .‬ص‪ ،1099‬وهي معطيات تضيء من قريب �أو بعيد التصور الرشدي لصناعة‬
‫الموسيقى وعلاقتها بالصناعة المدنية‪.‬‬
‫‪ - 8‬يذهب الفارابي �إلى �أن ال�ألحان تستعمل لتعين "ال�أقاويل في التخييل والتفهيم" الموسيقى الكبير‪ ،‬مرجع سابق‬
‫ص‪71‬‬
‫‪ - 9‬الضروري في السياسة ص ‪86‬‬
‫‪ - 10‬الموسيقى الكبير مرجع سابق ص‪1093‬‬
‫‪ - 11‬الفارابي‪ ،‬الموسيقى الكبير‪ ،‬ص‪ 1176‬وص‪.1178‬‬
‫‪36‬‬
‫ومن هنا فتوى ابن رشد بوجوب تجنيب الموسيقى ال�إ سفاف‪ ،‬فدعا �إلى ص ْرف‬
‫�أشعار الغزل عنها(((‪ ،‬بل ص ْرف كل ال�أقاويل ال ُمحركة �إلى اللذات((( والتي تحث على‬
‫الكسب وجمع المال‪ .‬ولهذا السبب نجد ابن رشد يحذر من �أشعار العرب ل�أنها مليئة‬
‫بالسقط من ال�أقاويل التي لا تصلح لتربية الحفظة(((‪ .‬كما يحذر من ال�أنغام المائعة‬
‫والمعبرة عن الحزن والخوف(((‪ ،‬داعيا من حيث القول الشعري �إلى اختيار ال�أقاويل‬
‫المحفزة للصدق(((‪ ،‬المحركة للشجاعة‪ ،‬وصواب الر�أي‪ ،‬والتقوى(((‪ .‬داعيا �إلى ضرورة‬
‫مراقبة الشعراء حتى يتجنبوا محاكاة ما هو خسيس من ال�أشياء(((‪ .‬محذرا "من �إحداث‬
‫�أية بدعة في الموسيقى"‪ ،‬ل�أنه بذلك ينتقل "الضرر بسهولة �إلى المدينة كلها من غير �أن‬
‫يحس بذلك‪ ،‬ولا يبعد �أن يتمكن من النّفوس شيئا فشيئا �إلى �أن ينتهي �إلى �إفساد الشرائع‬
‫والنواميس"(((‪ ،‬ففساد الموسيقى هو فساد للنفوس والشرائع‪ ،‬وبالتالي ففي ذلك �إفساد‬
‫للتجمع البشري في مدينة مدينة‪.‬‬
‫�أما من حيث ال�إ نشاد الموسيقى الذي يتركب من ثلاثة عناصر؛ �إيقاع‪ ،‬ولحن‪ ،‬وقول‬
‫جار مع اللحن‪ ،‬ف�إن ابن رشد من حيث ال�إ يقاعات يدعو �إلى البحث‪ ،‬في ال�أندلس‪ ،‬عن‬
‫ال�إ يقاعات التي تحض على رباطة الج�أش‪� ،‬أو تميل بالنّفس �إلى ال ّسكينة ل�أهميتها في‬
‫التربية(((‪ .‬كما يحض على التحبيب في ال�ألحان المحركة �إلى الشجاعة والفضائل الهادئة(‪.((1‬‬
‫�أما القول الجاري مع اللحن‪ ،‬وهو القول الشعري فيريده‪ ،‬كما مر بنا‪ ،‬قولا بعيدا عن‬
‫ال�إ سفاف‪ ،‬لتتكامل عناصر ال�إ نشاد الموسيقى‪ ،‬ل�أن "ال�ألحان الكاملة �إنما توجد بالتصويت‬
‫ال�إ نساني"(‪ .((1‬يريد ابن رشد للموسيقى �أن ترتفع عن ال�إ سفاف لتصبح عشقا للحسن‬
‫بالذات‪ ،‬ومرقى من مراقي سلم الفضائل‪ ،‬ل�أن فساد الموسيقى خطر على المدينة ب�أجمعها؛‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪90‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪91‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪.92‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪.95‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص‪.91‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة صص‪.-94 93‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص‪.94‬‬
‫‪ - 8‬الضروري ص‪.114‬‬
‫‪ - 9‬تجدر ال�إ شارة هنا �إلى �أن الفارابي ذكر في كتابه الموسيقى الكبير‪ ،‬الذي كتبه في بغداد‪ ،‬ال�إ يقاعات العربية‬
‫المشهورة ولا نعرف موقف ابن رشد منها ص‪ 631‬وص‪.1022‬‬
‫‪ - 10‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص‪96‬‬
‫‪ - 11‬الفارابي‪ ،‬الموسيقى الكبير ص ‪68‬‬
‫‪37‬‬
‫لقد أ�ضاء الفارابي بعضا من هذا المعنى عندما أ�كد أ�ن كثيرا من ال�أخلاق تابعة‬
‫للانفعالات النفسية وللخيالات الواقعة فيها‪ ،‬ومن هنا صارت ال�ألحان الكاملة ذات نفع كبير‬
‫في �إفادة ال�أخلاق‪ ،‬وفي حمل ال ّسامعين على التلبس بال�أفعال المطلوبة منهم وعلى اقتناء سائر‬
‫الخيرات ال�إ نسانية مثل الحكمة والعلوم(((‪ ،‬وعلى تقبل القول الشعري الهادف مادام اللحن‬
‫شيئا �آخر زائدا في معنى الشعر وبهائه(((‪ .‬كل هذا ما دامت الموسيقى مرتبطة بال�أخلاق‪� ،‬أما‬
‫�إذا فسدت الموسيقى ف�إنها تكون سببا في نش�أة الشرور كما �أكد ابن رشد �أيضا؛‬
‫�إن فساد الموسيقى عند ابن رشد سبب في تولد الشرور‪ .‬وتفسد الموسيقى عندما تفقد‬
‫(((‬
‫بساطتها وتصبح موسيقى مركبة خالية من ال�أخلاق مما ينذر بظهور صناعة القضاء‬
‫التي تخلو منها المدينة الفاضلة‪ .‬بل �إن صناعة القضاء لا تظهر �إلا عندما تفقد الموسيقى‬
‫دورها في ترسيخ الفضائل وتهذيب النفوس‪ ،‬مما يشي بال�أهمية التربوية للموسيقى في‬
‫حس فقيهنا الفيلسوف‪ ،‬ويبين خطرها الجمالي الكبير عندما تفسد‪� ،‬أو يخلو منها كل‬
‫منطق تربوي هادف‪.‬‬
‫لكن الموسيقى لن تؤدي دورها الكامل �إلا �إذا كانت مصحوبة بالرياضة‪ ،‬فالموسيقى بدون‬
‫رياضة "تحمل النفس على اللين‪ ،‬وتصيرها ضعيفة وفي غاية الخمول والدعة"(((‪ .‬فالتوافق‬
‫في نفس الفرد لا يت�أتى �إلا بهما معها؛ الرياضة تقوي النّفس الغضبية‪ ،‬والموسيقى تهذبها‬
‫وتخضعها للعقل(((‪ .‬بل �إن الشجاعة لا ترسخ في النفس �إلا بالموسيقى والرياضة معها(((‪.‬‬
‫كان ابن رشد حريصا على �أن يسمع ال�أطفال كل ما هو خير(((‪ ،‬وانتصر للموسيقى‬
‫انتصارا كبيرا لتربية الذوق السمعي حتى يستمرئ ال�ألحان وال�إ يقاعات وال�أقاويل التي‬
‫ترسخ الفضائل‪ .‬و�إن كانت الموسيقى لا تفيد في التهيؤ للممارسة الفلسفية‪� ،‬أو بعبارة ابن‬
‫رشد غير قادرة عن �أن تكسب النشء "القوة […] التي بها يستطيع ال�إ نسان �أن يكتسب‬
‫معقولات العلوم النظرية"(((‪ ،‬ومن هنا حدودها التي تقف عندها‪.‬‬
‫‪ - 1‬الموسيقى الكبير ص‪.1181‬‬
‫‪ - 2‬الحسن بن �أحمد بن علي الكاتب‪ ،‬كتاب كمال �أدب الغناء مرجع سابق ص ‪.27‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪99‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص‪.98‬‬
‫‪ - 5‬الضروري ص‪.122‬‬
‫‪ - 6‬الضروري ص‪.117‬‬
‫‪ - 7‬يقول الفارابي ‪" :‬والحسن في �أنواع الموسيقى ما هو موافق للطبع الجيد‪ ،‬وما يحث على ال�أخلاق الجميلة النافعة‬
‫مثل السخاء والشجاعة‪ ،‬والقبيح ما يحث على ضد ذلك‪ ".‬تلخيص نواميس �أفلاطون ص‪.46‬‬
‫‪ - 8‬الضروري ص‪.158‬‬
‫‪38‬‬
‫حرص ابن رشد على صحة ال�أبدان والنفوس جميعا �إلى ال ّرفع من ش�أن الرياضة‪.‬‬‫ُ‬ ‫دفع‬
‫حرصه على تربية الحاسة الجمالية عند ال�أطفال �إلى �أن يؤكد �أنه على �أطفال‬
‫كما دفعه ُ‬
‫المدينة �أن يروا كل ما هو جميل‪ ،‬من �أجل تربية عالية لحاسة البصر‪ ،‬ل�أهميتها في ترسيخ‬
‫ال�أفعال الجميلة من جميع الوجوه‪ .‬من �أجل ذلك ينتصر للتصوير ويحث المصورين‪،‬‬
‫رسامين ونحاتين‪ ،‬على نحت الشخصيات الفاضلة‪ ،‬وتجنب تصوير الشخصيات الواقعة‬
‫في حم�أة الرذائل((( للمساهمة في التربية الجمالية وال�أخلاقية لساكني المدينة‪ ،‬ولل�أحداث‬
‫منهم على الخصوص‪.‬‬
‫انتصر ابن رشد للجمال وانتصر لكل ما هو جميل في تربية ال�إ نسان؛ فالجميل عنده‬
‫هو الذي ُيختار من �أجل نفسه ويتميز ب�أنه ممدوح وخير ولذيذ‪ .‬ومن هنا كانت الموسيقى‬
‫باعتبارها عشقا للحسن بالذات شيئا جميلا‪ ،‬وكان التصوير باعتباره تجسيدا للفضيلة‬
‫شيئا جميلا‪ ،‬وكانت الفلسفة ذاتها عنده �أمرا جميلا(((‪ .‬ويمكن القول �إن كل ما يفضي‬
‫�إلى الجمال‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬هو مطلوب في التربية الجمالية لناشئة المدن‪ .‬يريد الفقيه‬
‫الفيلسوف لساكنة المدينة من الناشئة �أن "يحاصرهم" الجمال من كل جانب‪ ،‬فيسمعوا‬
‫ما هو خير‪ ،‬ويروا ما هو جميل‪ ،‬ويمارسوا بالتفكير والرياضة الجمال نفسه‪" ،‬حتى ترسخ‬
‫فيهم ال�أفعال الجميلة من جميع الوجوه"‪ ،‬وتبدو هذه المحاصرة عندما يشبه ابن رشد‬
‫المدينة بالسكنى في مكان سليم يعود بالنفع على ساكنته بما يتولد فيه من �أرائج وخمائل‬
‫وغيرها(((‪.‬‬

‫�أهمية العقاب البدني في التربية‬


‫لا يغفل ابن رشد �أهمية ال�إ كراه في العملية التربوية‪ ،‬لكنه لا يجعل ال�إ كراه البدني في‬
‫بداية العملية التربوية و�إنما يجعله في نهايتها‪ .‬فال�إ كراه ليس �إلا ضمانا لسلامة التربية‪� ،‬إذ‬
‫عند تخوم الطريق الخطبي والشعري يظهر هذا الطريق؛ طريق ال�إ كراه والعقاب بالضرب‬
‫والذي ينصب على المتمردين‪ ،‬وعلى ال�أعداء‪ ،‬وعلى هؤلاء الذين لم ينفع التحايل عليهم‬
‫للتحلي بالفضائل داخل المدينة(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪.95‬‬
‫‪ - 2‬الضّ روري ص‪.140‬‬
‫‪ - 3‬الضروري ص‪.95‬‬
‫‪ - 4‬يحكي صاحب المعجب موقفا لابن رشد القاضي مارس فيه العقاب على شاعر ماجن‪ ! ‬صص‪.434-433‬‬
‫‪39‬‬
‫لكن �أهم عقاب‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬هو هذا الذي يتوجه خارج المدينة لينصب على هذه‬
‫ال�أمم التي لا تجري �أفعالها على المجرى ال�إ نساني‪ ،‬حيث يتم اللجوء �إلى الحرب‬
‫ل�إ كراهها على الفضائل‪ .‬ويجد فقيهنا الفيلسوف في وجهة الشريعة ال�إ سلامية ما يدعم‬
‫به وجهة نظره في هذا الضرب من التربية بالعقاب حيث دعت هذه الشريعة‪ ،‬ذات البعد‬
‫ال�إ نساني‪� ،‬إلى الدعوة �إلى الله بالسبيلين معا؛ سبيل الموعظة وسبيل الجهاد(((‪ .‬و�أهمية‬
‫الصناعة الحربية لا تبلغ كمالها في المدينة الفاضلة �إلا بفضيلة الشجاعة‪ .‬فهذه الفضيلة‬
‫لا يتم فعلها �إلا بالحرب مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين الحرب والشجاعة‪ .‬ويفسر �أهمية‬
‫هذه الفضيلة التي بد�أ بها ابن رشد حديثه عن الفضائل والتي ينبغي للحفظة التحلي بها‪.‬‬
‫بل �إن فضيلة الشجاعة هي العلامة التي تميز الحفظة‪ ،‬في المدينة الفاضلة‪ ،‬عن غيرهم‬
‫من �أجزاء المدينة(((‪.‬‬

‫برنامج تربية الحفظة‬


‫الحفظة مواطنون في المدينة يتميزون بانفرادهم ببعض الخلال التي تجعلهم حراسا‬
‫للمدينة؛ فهم ذوو ب�أس وشدة‪ ،‬حكماء سليقة‪ ،‬محبتهم للعلم لا تضاهي �إلا كراهيتهم‬
‫(((‬
‫للجهل‪ ،‬ينفردون بالشجاعة وسرعة الحركة‪ ،‬ويختصون بقوة الجسم وبيقظة البال‪.‬‬
‫والهدف من تربية حراس المدينة هؤلاء هو �أن تحصل لهم فضيلة الشجاعة‪ .‬والمنطق‬
‫التربوي ل�إ دراك هذه الفضيلة يقوم في وسائله على ثلاثة مبادئ �أساسية؛ مبد�أ بلاغي‪ ،‬وهو‬
‫مبد�أ ال�إ قناع‪ ،‬ويعتمد الطريق الخطبي والشعري ويتوسل فيه بالموسيقى‪ .‬ومبد�أ زجري‪،‬‬
‫وهو مبد�أ ال�إ كراه والعقاب الذي قد يكون لهم على سبيل التمرين(((‪ .‬ومبد�أ تعليمي‪،‬‬
‫ويبدو في عدم تعليم الحفظة �أكثر من صناعة واحدة(((‪ ،‬حيث ينبغي صرفهم عن جميع‬
‫الصنائع ما عدا صناعة واحدة‪ ،‬وهي "الصناعة الحربية"(((‪ .‬وهي الصناعة التي تعتبر فضيلة‬
‫الشجاعة استعدادا لها‪ ،‬وهي فضيلة لا تحصل للحفظة �إلا بمجاهدة كبيرة للطبيعة(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة صص‪81 - 80‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪118‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪.85‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪80 - 79‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص‪.83‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص‪84‬‬
‫‪ - 7‬تلخيص الخطابة تح عبد الرحمن بدوي وكالة المطبوعات الكويت‪ ،‬دار القلم بيروت‪ ،‬ب‪.‬ت ص‪75‬‬
‫‪40‬‬
‫ثم �إنه يجب تجنيب الحفظة الملكية الفردية‪ ،‬وابن رشد يحاجج على هذا الموقف بقوة‬
‫ل�أن به يكون الحفظة �أفضل بما هم حفظة(((‪ ،‬متعديا ذلك‪ ،‬بخلاف �أفلاطون‪� ،‬إلى جميع‬
‫ساكنة المدن‪ ،‬حيث يصر ابن رشد على عدم تمليكهم شيئا خاصا حسما للعداوة التي‬
‫(((‬
‫يمكن �أن تنش�أ بينهم‪ ،‬وهو موقف يخالف فيه �أرسطو الذي انتصر للملكية الفردية‪.‬‬

‫لكن كيف يربى الفيلسوف؟‬


‫الفيلسوف في ال�أصل من الحفظة تربى وفق منطقهم التربوي‪ ،‬فهو شخص نش�أ على‬
‫الموسيقى‪ ،‬وارتاض بركوب الخيل �إلى �أن بلغ العشرين من عمره‪ ،‬ثم بعد ذلك نهل من‬
‫الكتب الفلسفية على الترتيب الذي يراه ابن رشد من البداية بالمنطق‪ ،‬ثم علوم التعاليم‪،‬‬
‫ثم العلم الطبيعي‪ ،‬ثم ما بعد الطبيعة(((‪ ،‬محذرا من البداية بالفلسفة قبل هذا السن لعدم‬
‫استقامة �آراء المتعلم من جهة‪ ،‬وعدم نضج فكره من جهة �أخرى‪ ،‬وخوفا من �إنكار ما‬
‫�ُأدب به وتقطيع �أوصاله بال�أقاويل الجدلية كما يفعل متفلسفة زمان ابن رشد من جهة‬
‫ثالثة‪ ،‬هؤلاء الذين يقطعون �أوصال ما تربوا عليه من �آداب بما لهم من حذق ومن معرفة‬
‫بفن الجدل‪ ،‬وهذا ال�أمر شديد الضرر بالمدن عند ابن رشد‪ (((.‬ثم عند سن الثلاثين ينتهي‬
‫نظرهم الفلسفي ويكمل لتوضع تحت �إمرتهم‪ ،‬في سن الخامسة الثلاثين‪ ،‬قيادة الجيش‬
‫قبل �أن يستحقوا الرياسة والحكم في سن الخمسين‪ ،‬لينتقلوا عند التعب بفعل السنين‬
‫�إلى جزيرة السعداء لينقطعوا �إلى الت�أمل في صورة الخير ال�أسمى(((‪� .‬إنها الرحلة العلمية‬
‫والمؤسسية لحاكم المدينة الفاضلة ورئيسها‪ .‬و�إذا ت�أملنا خلاصة التجربة التربوية التي‬
‫يقدمها ابن رشد هاهنا تبين لنا �أنها تتجلى في �أن التغيير والاصلاح بال�أعمال الفاضلة لا‬
‫بالمعتقدات الخيرة فقط(((‪ ،‬وهو ما كان فقيهنا الفيلسوف حريصا عليه‪.‬‬

‫‪ - 1‬الضروري ص‪.107‬‬
‫‪ - 2‬منى �أحمد �أبو زيد‪ ،‬المدينة الفاضلة ص‪.146‬وص‪.147‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص ‪.162‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪.163‬‬
‫‪ - 5‬الضروري ص‪ ،163‬وهذه الفكرة تتردد عند ابن باجة و�أخرجها ابن طفيل في صورة فلسفية عجيبة في رسالته‬
‫الفلسفية "حي بن يقظان"‪.‬‬
‫‪ - 6‬شحلان‪ ،‬مرجع سابق ص ‪..185‬‬
‫‪41‬‬
‫منطق المدن‬
‫خص ابن رشد مقالتين من كتابه للحديث عن منطق المدن ومنطق تحولها‪ :‬المقالة‬ ‫ّ‬
‫الثانية لسياسة المدينة الفاضلة‪ ،‬والمقالة الثالثة للسياسات غير الفاضلة ‪ .‬و�إذا كان بين‬
‫(((‬

‫المدينة الفاضلة وبين �أخس �أنواع المدن الفاضلة‪ ،‬وهي مدينة وحدانية التسلط‪ ،‬تقابل‬
‫كبير‪ ،‬ف�إن المنطق المتدرج بين هذين المتقابلين يفرض تراتب وسائط مختلفة لتبلغ المدن‬
‫التي تحدث عنها ابن رشد خمس مدن((( هي على التوالي ‪ :‬المدينة الفاضلة‪ ،‬المدينة‬
‫الكرامية‪ ،‬المدينة الشهوانية‪ ،‬المدينة الجماعية‪ ،‬مدينة وحدانية التسلط‪.‬‬
‫فما المنطق الذي يحكم هذه المدن؟ وكيف تتحول مدينة �إلى �أخرى؟ وكيف قر�أ ابن‬
‫رشد حال المدينة ال�إ سلامية انطلاقا من المنطق ال�أفلاطوني؟‬
‫‪ - 1‬يشكل حاكم المدينة الثابت المنطقي لكل �أنواع المدن‪� ،‬إذ �إن حاله حاسم في‬
‫طبع المدينة بطابعه؛ فالمدينة الفاضلة رئيسها ملك فاضل‪ .‬ورئيس المدينة الكرامية يحب‬
‫الكرامة‪ .‬ورئيس المدينة الشهوانية يحب الشهوة‪ .‬ورئيس المدينة الجماعية يحب الحرية‪.‬‬
‫�أما رئيس وحدانية التسلط فيحب التسلط‪.‬‬
‫�أ ‪ -‬رئيس المدينة الفاضلة‬
‫رئيس المدينة الفاضلة �أفضل حفظة المدينة وحراسها‪� ،‬إنه "�أكثرهم ح ّبا لمنفعة �أهل‬
‫المدينة و�أكثرهم تهذيبا فيهم"‪ ،‬وسياسته هي السياسة الفاضلة‪ ،‬وهي سياسة لا تجتمع �إلا‬
‫لمن توفرت فيه شروط الحكمة والتعقل التام‪ ،‬وجودة ال�إ قناع‪ ،‬وجودة التخييل‪ ،‬والقدرة‬
‫على الجهاد‪ ،‬و�ألا يكون في بدنه شيء يعوقه عن مزاولة الجهاد(((‪ ،‬و�أن يتميز بالثبات‬
‫على الر�أي(((‪ .‬فهذه القدرات الشخصية هي التي تمكن الحاكم‪ ،‬الذي هو رئيس المدينة‬
‫وملكها الفيلسوف‪ ،‬من �أن يرسم السنن العادلة والتي تميز المدينة الفاضلة عن غيرها‬
‫من المدن‪ .‬كما تمكنه من الدفاع عنها ضد من يقصد �إلى ال�إ ساءة �إليها(((‪ ،‬ومن �إصدار‬
‫جميع ال�أوامر �إلى ولاة المدن ومن فيها من �أصناف الناس(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.167‬‬
‫‪ - 2‬حول تنظير ابن رشد لهذا المنطق المتدرج انظر "الضروري في السياسة" صص‪.168-167‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص ‪.168‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص ‪.102‬‬
‫‪ - 5‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص الخطابة ص‪ ،98‬وتلخيص الجدل صص‪.363‬‬
‫‪ - 6‬تهافت التهافت ص‪.186-185‬‬
‫‪42‬‬
‫يذهب ابن رشد �إلى �أن سياسة الملك الحق‪ ،‬وهي السياسة الفاضلة‪ ،‬لا يمكن �أن‬
‫تكون �إلا فيمن اجتمعت فيه خمسة شروط‪ :‬الحكمة والتعقل التام‪ ،‬جودة ال�إ قناع‪ ،‬وجودة‬
‫التخييل‪ ،‬والقدرة على الجهاد‪ ،‬و�أن لا يكون في بدنه شيء يعوقه عن مزاولة الجهاد(((‪.‬‬
‫لكن ما الذي يجعل من الضرورة �أن يتولى قيادة هذه المدينة فيلسوف؟‬
‫يقرب ابن رشد الجواب على هذه القضية من خلال قياس تمثيلي يؤسس فيه النظر‬
‫السياسي �إلى هذه المس�ألة على النظر السيكولوجي ‪ -‬ال�أخلاقي فيرى "نسبة الفضائل في‬ ‫ّ‬
‫�أجزاء المدينة [‪ ]...‬كنسبة القوى النفسانية في �أجزاء النفس‪ .‬فتكون المدينة حكيمة في‬
‫جزئها النظري الذي تسود به في جميع �أجزائها على النحو الذي يكون به ال�إ نسان حكيما‬
‫بجزئه الناطق الذي يسود به على قواه النفسانية ال�أخرى [‪ ]...‬المرتبطة بالعقل[‪]...‬‬
‫وهذا هو العدل [عند ابن رشد ‪� ]...‬أن يعمل كل واحد في المدينة العمل الذي هو مهي�أ‬
‫له بطبعه‪ ،‬و�أن يقوم به ب�أكمل وجه يستطيع[‪ ]...‬وهذا �إنما يحصل بالضرورة في �أجزاء‬
‫النفس �إذا قادها سلطان العقل‪ ،‬ويحصل في �أجزاء المدينة �إذا قادها �أهل العلوم النظرية‬
‫ومن على ر�أسهم �أي الفيلسوف"(((‪� .‬إن الحكمة هي التي يجب �أن تكون المدبرة ل�أمور‬
‫المدينة‪ ،‬والحكمة هي فضيلة المدينة الفاضلة‪ ،‬وهذا التدبير لا يكون �إلا �إذا كان رؤساء‬
‫المدينة‪� ،‬أهل العلوم النظرية‪ ،‬فلاسفة(((‪.‬‬
‫�إن سياسة المدينة الفاضلة لا توجد �إلا "�إذا عرض �أن كان الملك فيلسوفا" واتفق �أن‬
‫حافظ �أهل المدينة عليها بعد وجودها(((‪ .‬وحفاظ هؤلاء على المدينة يكون بهذا التعاون‬
‫الذي ينبغي �أن يحكم علاقة ا الحكام بعامة الشعب‪ ،‬حيث �إن كل فئة تقدم للفئة ال�أخرى‬
‫ما يعينها على تحقيق سعادتها؛ فصنف"العامة يخدم السادة بما تتم لهم به الغاية من‬
‫الفلسفة‪ ،‬والسادة يخدمون العامة بما يوصلهم �إلى سعادتهم"‪ .‬ويبدو �أن ابن رشد يتحرج‬
‫من �أن يسمي رعاية الحكام خدمة ويرى "�أن ال�أولى �أن يسمى سياسة و�إرشادا"(((‪ .‬ومن‬
‫هنا �أهمية ما يسميه ابن رشد بـ "الصنائع الملوكية الفاضلة" التي تؤم نفع المدنيين من‬
‫خلال هذا الاجتماع الفاضل الذي "يقصد به �أن يجعل لكل واحد من �أهل المدينة نصيبا‬
‫من السعادة على قدر ما في طبعه من ذلك"(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة صص‪169-168‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪.77‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص ‪117‬‬
‫‪- 4‬الضروري في السياسة ص ‪135‬‬
‫‪ 5‬الضروري في السياسة ص ‪178‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص‪177‬‬
‫‪43‬‬
‫ما فتئ ابن رشد يؤكد �أهمية الوحدة بين �أبناء المدينة الواحدة فيرى �أنه "لا شر �أعظم‬
‫من السياسة التي تجعل من المدينة الواحدة مدنا متعددة‪ ،‬كما �أنه لا خير �أعظم في سياسة‬
‫المدن من الجمع بينها وتوحيدها"(((‪ ،‬فابن رشد فيلسوف الوحدة الاجتماعية وهو بذلك‬
‫وفي ل�أفلاطون الذي يقرر "�أن �أشر ما في الدولة هو ما يمزق وحدتها ويفرقها �أشتاتا‪،‬‬
‫و�أفضل خير فيها هو ما يجمع شملها ويوحدها"(((‪ ،‬و�أن �أعظم خير يصيب المدينة هو‬
‫وحدة مشاعر ساكنتها(((‪ ،‬وهو ما لفت ابن رشد العناية له علميا في "مناهج ال�أدلة" على‬
‫الخصوص‪ ،‬في انتقاداته لعلم الكلام وما يحدثه من تصدع بين المسلمين‪ ،‬كما لفت‬
‫العناية له سياسيا عندما انتقد ما يعرض ل�أهل ال�أندلس من العداوة والكره والخداع �إلى‬
‫الحد الذي يدفعهم �إلى الت�آمر على بعضهم البعض والفتك ببعضهم البعض(((‪ .‬داعيا �إلى‬
‫ترك الخصومات والتشبث بالتعاون‪ ،‬مؤسسا ذلك على عقيدة ال َمعاد‪.‬‬
‫لكن ما الذي يجعل من الصعوبة وجود مثل هذه المدن‪ ،‬بل تصل ندرتها �إلى الحد‬
‫السراب؟ يرجع ابن رشد السبب في ذلك �إلى‬ ‫الذي تكاد تصبح فيه من قبيل الحلم �أو ّ‬
‫ندرة الفلاسفة الذين تجتمع فيهم الشروط والخصال التي تنبئ عن طبعهم‪ ،‬وهي الخصال‬
‫التي تظهر عليهم منذ الصغر والتي يعددها ابن رشد في عشر(((‪� .‬إن منطق المدينة الفاضلة‬
‫يحكمه عند �أفلاطون وجود الفيلسوف‪ ،‬و�إذا كان ابن رشد يساير المنطق ال�أفلاطوني‬
‫ف�إنه لا يجعله المنطق الوحيد‪ ،‬بل �إن ابن رشد لا يرى ب�أسا في اجتماع الرؤساء ال�أخيار‬
‫وذوي الفضل على �إيجاد السياسة الفاضلة وحفظها ل ُتمسى رئاستهم رئاسة ال�أفاضل(((‪.‬‬
‫فوجود المدينة الفاضلة مرتبط بوجود الفضلاء من الناس(((‪ ،‬و�إن كان هذا ال�أمر يستدعي‬
‫زمانا �أطول يسمح ب�أن يتعاقب على المدينة ملوك فضلاء لا يزالون يرعون هذه المدينة‬
‫ويؤثرون فيها �إلى �أن تصبح على �أفضل تدبير‪ .‬فهذه المدينة تصبح فاضلة بال�أفعال وال�آراء؛‬
‫ال�أعمال الصالحة وال�آراء الحسنة(((‪ .‬فالملوك المصلحون عند ابن رشد سبب في نش�أة‬
‫المدينة الفاضلة التي تتسم بالاجتماع الفاضل‪ ،‬فبهذا الاجتماع يصل كل فرد في المدينة‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪130‬‬
‫‪�- 2‬أفلاطون‪ ،‬الجمهورية ص‪.175‬‬
‫‪ - 3‬الجمهورية ص‪.179‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪106‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة صص ‪.138-137‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص ‪.169‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص ‪.121‬‬
‫‪ - 8‬الضروري في السياسة ص‪.164‬‬
‫‪44‬‬
‫�إلى السعادة التي تسمح له بها قدراته‪ ،‬فهواجس ساكنة هذه المدينة هواجس خ ّيرة‪� ،‬إذ �إن‬
‫لكل صنف من �أصناف هذه المدينة مقصدا واحدا هو مقصد السعادة‪ ،‬وهو مقصد �آت‬
‫من قبل من يحكمهم من الملوك(((‪.‬‬
‫قد لا يكون رئيس المدينة الفاضلة ملكا ب�إطلاق كما يذهب �أفلاطون‪ ،‬ولكنه قد‬
‫يكون ما يسميه ابن رشد "ملك السنة"‪ .‬وابن رشد هو قارئ هنا لطبيعة المدينة ال�إ سلامية‪،‬‬
‫وملك السنة يتميز بخصلتين؛ �أولهما �أنه له قدرة على الاجتهاد‪ ،‬والثانية �أن له قدرة على‬
‫الجهاد‪ ،‬فهو بعبارة �أخرى فقيه مجاهد(((‪ .‬وللمجاهد‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬مواصفات محددة‬
‫فهو يجمع بين الضخامة‪ ،‬والقوة‪ ،‬والخفة(((‪.‬‬
‫ب ‪ -‬رئيس المدينة الكرامية‪.‬‬
‫يشترط ابن رشد لرئاسة المدينة الكرامية من يسميهم بالسادة ويجعل لهم صفات؛ فهم‬
‫كبار النفوس يجمعون بين القدرة والنصر‪ ،‬بين الخير والنفع(((‪ .‬وتمتاز هذه المدينة بتعاون‬
‫�أهلها على طلب الكرامة من حب القتال‪ ،‬والسيادة الدائمة‪ ،‬واليسار‪ ،‬والنسب‪ ،‬لاعتقادهم‬
‫�أن هذه الكرامات مقصودة لذاتها‪ ،‬فيعظمونها مما يميزهم عن المدينة الفاضلة‪ ،‬التي هي‬
‫�أقرب المدن �إلى المدينة الكرامية‪ ،‬التي تسود فيها خاصة كرامة التساوي(((؛ ففي الوقت‬
‫الذي تكون الكرامات في المدن الفاضلة تابعة للفضائل‪ ،‬تكون الكرامات مقصودة لذاتها‬
‫في المدن الكرامية؛ وتصبح الفضائل الحقيقية من بادئ الر�أي ليس غير(((‪ .‬فهذه الفضائل‬
‫التي هي من بادئ الر�أي‪ ،‬كالملابس الفاخرة‪ ،‬واعتلاء عروش ال ّذهب‪ ،‬واليسار‪ ،‬والنسب‪،‬‬
‫وال�أفعال التي يبقى بعدها الذكر الحسن وغير ذلك‪ ،‬تؤخذ‪ ،‬في السياسة الكرامية‪ ،‬على‬
‫�أنها كمالات وفضائل‪.‬‬
‫لكن عندما تجتمع هذه الفضائل في يد رئيس المدينة الكرامية وتكون "له القدرة على‬
‫�أن يوزعها على �أهل المدينة ثم يحفظها فيهم[‪ "]...‬ف�إن هذه المدينة تعرف نوعا من‬
‫العدل‪ .‬لكن المدن الكرامية ال�أفضل تكون هي المدن المع ّراة عن الفضائل‪ ،‬لظنّهم �أن‬
‫‪ - 1‬الضروري ص‪ 177‬وص ‪.178‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪.169‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص الخطابة مرجع سابق ص‪.46‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص ‪171‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص ‪171‬‬
‫‪ - 6‬يعرف ابن رشد بادئ الر�أي ب�أنه "الظنون التي تخطر لل�إ نسان من �أول نظرة" الكشف عن مناهج ال�أدلة تح‬
‫محمود قاسم‪ ،‬ص ‪.203‬‬
‫‪45‬‬
‫الفضيلة ال�أولى هي استئهال الكرامة‪ ،‬فيتعاونون على طلب ال�أفعال التي تبقى للمرء الذكر‬
‫الحسن(((‪ ،‬فتضيع فيهم الفضائل الحقيقية‪.‬‬
‫ج ‪ -‬رئيس المدينة الشهوانية‬
‫لمدينة الشهوة �أكثر من اسم‪ ،‬فهي "سياسة القلة" مرة‪ ،‬ومرة"سياسة اليسار"‪ ،‬و�أخرى‬
‫وقص ُد �أصحاب هذه المدن اللذات الحسية‬ ‫"رئاسة الخسة"‪ ،‬و�أخرى "مدينة الثروة"(((‪ْ .‬‬
‫فقط(((‪ .‬و�أمير هذه المدن حريص على جمع المال‪ ،‬مسرف في �إنفاقه‪ ،‬مست�أثر به‪ ،‬ومن‬
‫هنا فهو �أكثر مدينته يسارا وقوة‪ ،‬ويكون �أهلا للحكم �إذا استطاع �أن يقود مدينته �إلى‬
‫اليسار ويحفظه لها (((‪ .‬وتعتبر الثروة �أو اليسار ال�أساس الذي تقوم عليه هذه المدينة‪� ،‬إذ‬
‫هو المقصود من الاجتماع‪ ،‬ولذلك تدور الصنائع عندهم على الفلاحة وال ّرعي والقنص‬
‫وتسود التجارة والسخرة‪ .‬وهي بهذا تكون رئاسة قلة "ل�أن طلب المال يلزمهم �أن يكونوا‬
‫قلة بالضرورة‪ ،‬و�أن تكون ال�أغلبية في هذه المدينة هم الفقراء"(((‪ .‬وهي مدينة �أبعد عن‬
‫المدينة الفاضلة‪.‬‬
‫د ‪ -‬رئيس المدينة الجماعية‬
‫المدينة الجماعية مدينة الحرية‪ ،‬فالناس فيها �أحرار من القيود‪ ،‬يفعلون ما يرغبون فيه‪.‬‬
‫وهي مدينة يجتمع فيها ما تفرق في غيرها من المدن‪ .‬ففيها قوم يحبون الكرامة‪ ،‬و�آخرون‬
‫يحبون اليسار‪ ،‬و�آخرون يحبون التغلب‪ ،‬و�آخرون يحبون الفضائل وبها يتحركون‪ .‬ومن‬
‫ثمة فهذه المدينة هي بالقوة جميع المدن ال�أخرى التي يمكن �أن تنش�أ فيها‪ .‬ومن هنا‬
‫�أهمية هذه المدينة ليختار منها �أجود �أنواع المدن مما يتفق مع المجتمع الفاضل �إلى �أن‬
‫تقوم المدينة الفاضلة(((‪ .‬و�إذا كان اليسار هو المقصود في مدينة القلة‪ ،‬ف�إن المقصود في‬
‫هذه المدينة هو البيت‪ ،‬فهي مدينة توجد من �أجل البيت‪ ،‬ومن ثم فهي مدينة �أسروية(((‪.‬‬
‫والسيادة في هذه المدينة تكون ب�أمرين؛ �إما ب�إرادة المحكومين‪� ،‬أو وفقا لقوانين تحفظ‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص‪ 171‬و‪172‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الخطابة ص‪.70‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص‪179‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص ‪173‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص ‪174‬‬
‫‪ - 6‬تلخيص الخطابة ص ‪.207‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص ‪175‬‬
‫‪46‬‬
‫للناس حقوقهم من �إرادة متسلطة(((‪ ،‬فهي بهذا المعنى رئاسة باتفاق(((‪ .‬وابن رشد يرفض‬
‫هذه المدينة رغم �أن �أرسطو يعتبر رئاسة العامة هذه قليلة الرداءة من �أجل �أن زوالها من‬
‫نوع السيرة قليل"(((‪.‬‬
‫هـ‪ -‬رئيس مدينة وحدانية التسلط‬
‫يولي ابن رشد رئاسة وحدانية التسلط اهتماما كبيرا محللا نفسية حاكمها‪ ،‬وعلاقاته‪،‬‬
‫وتحوله عن الرجل الجماعي‪ .‬فسمة وحداني التسلط ال�أساسية �أنه رجل �أسير الرغبات‬
‫غير الضرورية‪ ،‬وهي الجزء البهيمي في ال�إ نسان الذي يهيمن عندما يغفو العقل(((‪ .‬ومن‬
‫هنا فهمه الوحيد هو قضاء شهوته حيث يصبح العشق والهوى محركه ال�أساسي‪ .‬ولما لم‬
‫يكن له من سبيل �إلى �إشباع شهواته‪ ،‬ف�إنه يوجد في توتر دائم مما يصيب نفسه بالضعف‬
‫ولا يجعل له على نفسه سلطان(((‪ .‬ال�أمر الذي يجعله �أش�أم رئيس دولة عند ابن رشد؛‬
‫ِخداعا وشرا فهو ‪:‬‬
‫والسعي �إلى مصلحتهم‪ ،‬حتى‬ ‫‪ -‬رجل مخادع �إذ يظهر ل�أهل مدينته حرصه عليهم‪ّ ،‬‬
‫�إذا تمكّن منهم‪ ،‬واستولى على �أموالهم‪ ،‬و�أعجزهم خلعه‪� ،‬أشغل �أهل المدينة بالبحث عن‬
‫قوتهم اليومي‪.‬‬
‫‪ -‬رجل "لا �أعظم شرا منه"(((‪ ،‬بعبارة ابن رشد‪ ،‬ورئاسته في غاية الجور‪ ،‬فهو مجنون‬
‫الحكم طبعا وتسلطا‪ :‬ف�إذا كان ه ّمه الوحيد قضاء شهوته‪ ،‬ف�إنه لا يرمي ل�أهل المدينة‬
‫من الفتات �إلا بقدر ما يحتاجونه ويخدمونه به(((‪ .‬وذلك لما ركب في طبعه من الحسد‬
‫والظلم وكره الناس(((‪ ،‬مما يجعله عدوا لغالبية �أهل المدينة‪ ،‬في ْزو ُّرون عنه مما يحدث‬
‫اختلالا في شخصيته‪ ،‬ويقوى جنونه‪ ،‬حتى �إنه ليخرج عن طوره‪ ،‬ويصبح "حاله حال‬
‫السكران والمجنون"‪ ،‬ويشتد في حسه عشق الرئاسة حتى �إنه "لا يريد الرئاسة على الناس‬
‫بل على الملائكة لو استطاع"(((‪ .‬ويصبح �أمره مع قومه على اختيارين لا ثالث لهما؛‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص ‪174‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة مرجع سابق ص ‪175‬‬
‫‪ - 3‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪.294‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪.197‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة صص‪203 - 202‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص ‪.201‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص‪177‬‬
‫‪ - 8‬الضروري في السياسة ص‪203‬‬
‫‪ - 9‬الضروري في السياسة ص‪198‬‬
‫‪47‬‬
‫�إما أ�ن يقتلوه و�إما أ�ن يستبد بهم(((‪ .‬لذا يسعى �إلى تكثير حراسه الشّ خصيين من غرباء‬
‫المدينة ويجعل منهم بطانته الخاصة به‪ ،‬ويعمل على الفتك بخصومه وتطهير المدينة من‬
‫منافسيه(((‪.‬‬
‫�إن الشخصية التي تطبع رئيس المدينة ناتجة عن خلقه النفسي مما يجعل السلوك‬
‫السياسي تابعا ل�أخلاق النفس عند ابن رشد‪ ،‬ويؤسس السياسة على ال�أخلاق عنده؛ ف�إن‬
‫�أخلاق النفس ثلاثة‪ .‬فهناك المحب للحكمة‪ ،‬وهو رئيس المدينة الفاضلة‪ ،‬وهناك الغضبي‬
‫وهو �إذا ملكته العفة كان كراميا‪ ،‬و�إذا ملكه ال�إ فراط كان متسلطا‪ ،‬وهناك الشهوي المحب‬
‫للمال وهو الذي ير�أس مدينة القلة‪ .‬لكن هذا لا يعني �أن السياسة لا تؤثر على �أخلاق‬
‫النفس‪ ،‬بل �إن ابن رشد يؤكد "�أن السياسة القائمة لها �أثر في �إكساب الناشئ عليها خلقا‬
‫قائما ما"‪ ،‬لكن هذا ال�أمر يؤسسه‪ ،‬عنده‪ ،‬علم ال�أخلاق نفسه‪� .‬إن علم ال�أخلاق يبين �أن‬
‫التعود هو طريق بلوغ الفضائل العملية‪ ،‬في حين �أن طريق بلوغ العلوم النظرية هو التعلم‪.‬‬
‫السنن في تحول ال�إ نسان ال�أخلاقي و�أن من �أسباب بروز ال�أخلاق القبيحة‬‫ومن هنا �أهمية ّ‬
‫هو فساد السنن والنواميس ‪ .‬وهو ال�أمر الذي يكاد يحكم منطق تحول المدن في القول‬
‫(((‬

‫السياسي الرشدي‪ .‬لكن ما الذي يفسر تعدد السياسات؟‬


‫يفسر ابن رشد تعدد السياسات بتعدد النفوس واختلاف �أحوالها‪ ،‬فالجزء الغضبي هو‬
‫الذي يرغب في الكرامة‪ ،‬و�إذا زاد الجزء الغضبي صار غلبة‪� .‬أما الجزء الشهواني فيؤدي �إلى‬
‫حب اللذات واليسار‪ .‬في حين �أن اختلاف �أخلاق النفس يؤدي �إلى المدينة الجماعية‪.‬‬
‫�أما المدينة التي يحكمها الجزء الناطق من النفس فهي المدينة الفاضلة(((‪.‬‬

‫عن جهة نظر السياسي في تحول المدن‬


‫يرى ابن رشد �أن النظر في السياسات غير الفاضلة التي تتحول �إليها المدينة الفاضلة‬
‫ليس ضروريا للسياسي‪�" ،‬إنما يكفيه[…] �أن يعرفها ويعرف الشرور التي تنتقل منها �إلى‬
‫السموم بالمقدار الذي‬
‫المدينة الفاضلة"‪ ،‬وهو هنا يشبهه بالطبيب "الذي يكتفي في معرفة ّ‬
‫يعرف به طبائعها و�أنها سموم يحترز منها"‪ .‬ومن هنا متابعة ابن رشد �أفلاطون في اعتباره‬
‫منطق تحول المدن‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪194‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪195‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪204‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص‪.180‬‬
‫‪48‬‬
‫‪ -‬لتحول المدن منطق خاص لايني ابن رشد يذكره‪ ،‬و�إن كان منطقا �أكثريا وليس‬
‫منطقا ضروريا‪� .‬إن هذا المنطق يتركز في فساد النواميس وال�أخلاق وذلك حين يزول تبجيل‬
‫ال�أبناء لل�آباء(((‪ .‬و�أول تحول يبد�أ هو تحول المدينة الفاضلة �إلى المدينة الكرامية‪ ،‬وهو‬
‫تحول يحط من قدرها ومنزلتها‪ ،‬ويبد�أ هذا التغير بفساد �أخلاق رئيس المدينة الفاضلة‪،‬‬
‫فالتحول ال�أول الذي يطر�أ على الفيلسوف هو تحول الرجل الذي سعادته في الكرامة(((‪،‬‬
‫لكن كيف يقع هذا الفساد؟‬
‫يقع هذا الفساد في عقب رئيس المدينة الفاضلة‪� ،‬إذا لم يختر �أو يختار السادة نظائرهم‬
‫من ال�أزواج‪ ،‬فيولد لهم ولدان يفتقدون الخصائص المنشودة‪ .‬وينش�أ هؤلاء الولدان ويثبتون‬
‫في صنف الحفظة ويقومون بحماية المدينة‪ ،‬ولا يستطيعون التحول عن هذه الصنف‪.‬‬
‫فيفسد رئيس المدينة الفاضلة عندما يصبح مؤثرا للكرامة والقهر وحب السيادة‪� ،‬إذ �أقرب‬
‫ال�أشياء التي يتحول �إليها الفضلاء هي الكرامة‪ ،‬و�إذا تغلّب على الرئيس حب الكرامة صار‬
‫�أمره �إلى الطغيان(((‪.‬‬
‫يتحول الرجل الفاضل �إلى الكرامي‪ .‬فالرجل الكرامي ينش�أ عن الرجل الفاضل‬
‫الفيلسوف‪ ،‬فهو شخص يفضل الرياضة ويكره الموسيقى ويحب القنص والسيادة وجودة‬
‫التسلط(((‪ .‬فهناك علاقة قوية بين الكرامة والفيلسوف‪ ،‬حتى �إن الكرامة ِظ ّل يلاحق‬
‫الفيلسوف‪ ،‬فهي �أقرب ال�أشياء التي يتحول �إليها الفضلاء‪ ،‬ولذلك كثيرا ما لا يستطيع �أن‬
‫يعرى الفاضل من الكرامة خاصة "�إذا ما طالت رئاسته وعشق الذكر الحسن"(((‪ ،‬فالكرامة‬
‫�أفضل ما يطلب بعد الفلسفة‪ .‬ذلك �أن الكرامي هو ابن لرجل فاضل نش�أ في مدينة‬
‫سياس ُتها غير فاضلة‪ ،‬ف�أفسدته �أ ّمه وخادمه ورفاقه حين ّ‬
‫خسسوا �أباهم �أمام ناظريه وربوه‬
‫على طلب الث�أر‪ ،‬فنش�أ هذا الابن على طبع �أبيه الفاضل وعلى طبع �أهله غير الفاضل(((‪.‬‬
‫ومن هذا الشخص الذي تعرض ل�أخطاء في نش�أته التربوية ستنش�أ المدينة الكرامية التي‬
‫تظل‪ ،‬مع ذلك‪� ،‬أقرب �إلى المدينة الفاضلة(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.129‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪.182‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة صص ‪182-181‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص‪.182‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص ‪.182‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة صص‪184-183‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص‪.186‬‬
‫‪49‬‬
‫تتحول المدينة الكرامية �إلى مدينة جماعية عندما تستحوذ رئاسة القلة على ال�أموال‪،‬‬
‫بوضع قوانين تحث على ال�إ نفاق حتى يدفعوا �إلى الفقر بكثير من الناس ممن لا نسب‬
‫لهم ولا حسب‪ .‬حتى �إذا كثر هؤلاء غضبوا على المست�أثرين بالمال‪ ،‬وثاروا عليهم‪ ،‬فتقوم‬
‫بهم مدينة جماعية تعين الفقراء على ال�أغنياء فيهاجمون ال�أغنياء ويخرجوهم من المدينة‬
‫�أو يستعبدوهم فتتحول المدينة �إلى مدينة جماعية (((‪.‬‬
‫تتحول المدينة الجماعية �إلى رئاسة التسلط �أيضا عندما يتحول الرجل الجماعي‬
‫�إلى الرجل المتسلط‪ ،‬فالرجل الجماعي يحب المال‪ ،‬ف�إذا ولد له فتى كان �إلى طبع �أبيه‬
‫�أميل‪ .‬لكنه �إذ ينش�أ على طبع حسن‪ ،‬و�أبوه يشده �إلى نهجه الحر‪ ،‬ف�إن الوسط الذي ينش�أ‬
‫فيه يجره �إلى ال�إ فراط في الحرية فيصير �إلى �أمر وسط بين الحرية واحترام قانون المدينة‬
‫وناموسها‪ .‬لكن مع الزمن يصير �أكثر �إغراقا في الشهوات ل�أنه لا يجد من يحجزه عنها‬
‫ولا من ُيق ِّومه‪ ،‬بل لا يجد �إلا من يزينها له ويرغبه فيها‪ ،‬حتى �إذا وقع �أسيرا لها استبدت‬
‫به شهوة الحكم فدمغته بالتسلط‪ ،‬وتمتلكه رغباته �إلى درجة �أنه قد يقتل من يقف �أمامها‬
‫ولو كان �أبوه و�أمه‪ ،‬فيهلك مدينة �أبيه في سبيل تحقيق ما يريد(((‪ .‬وينش�أ عن هذا المتلسط‬
‫مدينة في غاية العبودية بعدما كانت مدينة �أبيه في غاية الحرية(((‪ .‬وهذه العبودية ناشئة عن‬
‫حاكمها الذي �أ ِسرته شهواته ف�أصبح عبدا لها‪ .‬فهذا المتسلط‪ ،‬من الناحية السيكولوجية‪،‬‬
‫لا يحكمه �إلا الجزء ال�أرذل في نفسه‪ ،‬فتظل نفسه فقيرة مليئة حسرة وحزنا‪ ،‬فهو �إما �أن‬
‫يحصل على ما يريد‪ ،‬و�إما �أن يت�ألم ت�ألم المر�أة والمريض(((‪.‬‬
‫�إن فساد ال�أخلاق‪ ،‬بحيث تنش�أ في النفوس اعتقادات غريبة عن النواميس‪ ،‬حيث‬
‫تصبح النواميس والرغبات الخيرة عاجزة عن �إخضاع الجزء البهيمي في ال�إ نسان‪ ،‬من �آكد‬
‫�أسباب تحول المدن وتسلسل مراتبها حتى تنتقل من رئاسة �أسعد �إنسان‪ ،‬وهو الملك‬
‫الفاضل‪� ،‬إلى رئاسة �أكثر الناس شرا وهو وحداني التسلط(((‪ .‬وتنتقل من المدينة الفاضلة‪،‬‬
‫وهي �أكمل نموذج للحكم‪� ،‬إلى رئاسة التسلط‪ ،‬وهي �أخس نموذج للحكم السياسي‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة صص‪189-188‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪200 - 199‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪201‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص‪199‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص‪201‬‬
‫‪50‬‬
‫‪-2-‬‬
‫لم يكتب ابن رشد في فلسفة التاريخ كتابا مفردا‪ ،‬فلم يقدم‪ ،‬من وجهة نظر فلسفية‪،‬‬
‫قراءة منهجية لواقع المجتمع العربي ‪ -‬ال�إ سلامي‪ ،‬لكننا نجده في كل من "كتاب الخطابة"‬
‫و"الضروري في السياسة" يغتنم فرصا ويتدخل لقراءة هذا الواقع �أو بعضا منه على ضوء‬
‫بعض الملامح الفلسفية ال�أرسطية وال�أفلاطونية‪ ،‬مستدلا على وجود بعض هذه المظاهر‬
‫"ليس بالقول فحسب‪ ،‬ولكن �أيضا بالحس والمشاهدة"‪.‬‬
‫و�إذا كان من الصعب تقديم رؤية نسقية تحكم التصور الرشدي للتاريخ ال�إ سلامي‪،‬‬
‫ل�أن ابن رشد لم يكن حريصا على ذلك‪ ،‬ف�إننا سنضرب �إلى كل من كتابي "الخطابة"‬
‫و"الضروري في السياسة" نجمع بعضا من هذه النتف المتفرقة التي �أوم�أ فيها ابن رشد �إلى‬
‫بعض خصوصيات المجتمع ال�إ سلامي عامة‪ ،‬و�إلى بعض ما اشترك فيه تاريخ هذا المجتمع‬
‫مع التصنيف ال�أفلاطوني ل�أشكال المدن وخصائص حكمها وسياستها‪ .‬ونحن نجد هذه‬
‫القراءة قراءة فقيه منشغل بهموم المدينة ال�إ سلامية انشغال فتوى وقضاء وليس انشغال ت�أمل‬
‫فقط‪ ،‬ومن هنا نسق ال�أحكام ال�أخلاقية التي تنتظم قراءته‪ .‬فالفقيه حريص على الحكم‪،‬‬
‫�أما الفيلسوف فحريص على الفهم والتعليل‪.‬‬
‫نلاحظ �أولا‪� ،‬أن ابن رشد يرى �أن جميع �أصناف المدن التي تحدث عنها �أفلاطون‬
‫قد عرفتها المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬فنش�أت فيها المدينة الفاضلة‪ ،‬وعرفت سياسة الكرامة‪،‬‬
‫وسياسة الشهوة‪ ،‬كما عرفت المدينة الجماعية ورئاسة وحدانية التسلط؛ فابن رشد لا‬
‫يسير في اتجاه"انتظار غد خيالي" �أفلاطوني‪� ،‬إنه يقدم تفكيرا �أكثر واقعية‪ ،‬مؤسسا على‬
‫تجربة المدينة ال�إ سلامية‪.‬‬
‫‪ -‬فالمدينة الفاضلة عرفتها المدينة ال�إ سلامية في عهد الخلفاء الراشدين قديما قبل �أن‬
‫تتحول‪ ،‬مع حكم معاوية‪� ،‬إلى حكم قائم على الكرامة(((‪ .‬ثم �إن المدينة ال�إ سلامية في‬
‫ال�أندلس عرفت هذه المدينة‪ ،‬ولكنها نش�أت فيها على غير الطريقة التي رسمها �أفلاطون؛‬
‫فنشوء المدينة الفاضلة كان في زمن طويل وذلك بتعاقب الملوك الفضلاء عليها‪ ،‬وهذه‬
‫المدن تصبح فاضلة ب�أمرين اثنين‪ :‬بال�أفعال الصالحة وبال�آراء الحسنة‪ ،‬لكن ال�أندلس‬
‫عرفت هذه المدينة بال�أفعال �أكثر‪ ،‬وهو ما ينسجم مع منطق التحول �إلى المدينة الفاضلة‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪184‬‬
‫‪51‬‬
‫عند أ�فلاطون والمرتبط بال�أفعال أ�كثر من ارتباطه بال�آراء(((‪ .‬ورئيس المدينة الفاضلة قد‬
‫يكون فيلسوفا‪ ،‬كما هو ال�أمر عند �أفلاطون‪ ،‬لكنه قد يكون ملكا للسنة‪ ،‬كما هو في‬
‫المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬وهو ملك له علم بالشرائع وصناعة الفقه‪ ،‬كما له قدرة على الجهاد‪،‬‬
‫و�إن كانت هتان الخصلتين لا تجتمعان في رجل واحد فقد يشترك اثنان في الرئاسة كما‬
‫يلاحظ ابن رشد عند كثير من ملوك ال�إ سلام(((‪ ،‬حيث يكون القاضي ‪ -‬الفقيه بجانب‬
‫الملك‪ .‬ورغم �أن القاضي يندر في المدينة الفاضلة‪ ،‬ف�إنه في هذه المدينة يوجد ل�أمرين‪:‬‬
‫للنظر في �أمر الشرير بالطبع فيقضي فيه‪ ،‬ولت�أديب من كان قابلا للت�أديب(((‪ .‬ويظل القر�آن‬
‫الكريم عند ابن رشد في خدمة هذه المدينة الفاضلة ال�إ سلامية‪ ،‬فهي مدينة محكومة‬
‫بالشريعة ال�إ سلامية ذات الوجهة ال�إ نسانية(((‪ ،‬والنّواميس الدينية فيها متروكة "لما �أمر به‬
‫الله تعالى بواسطة النبي"‪ .‬فابن رشد يعتقد �أن الجانب السياسي من الدين‪� ،‬أو ما يسميه‬
‫بال�أشياء ال�إ لهية وما يهم المدن منه‪ ،‬ينبغي �إقرارها كما هي ل�أنها كالمشتركة لجميع‬
‫الشرائع(((‪ .‬ف�إذا كانت الفلسفة هي التي تبني المدينة الفاضلة عند �أفلاطون ف�إن الشريعة‬
‫هي التي بنت المدينة الفاضلة في المجتمع ل�إ سلامي‪� ،‬إذ �إن ما تقصده الشريعة هو عين‬
‫ما تقصده الفلسفة(((‪ ،‬فالثبات على الخلق الفاضل في هذه المجتمع ي�أتي عن طريق‬
‫التخلق بما �أسماه ابن رشد بـ "فضيلة الشريعة القر�آنية"(((‪ .‬ومن هنا ف�إذا كانت التربية في‬
‫المدينة الفاضلة بال�أقاويل الخلقية وال�إ قناعية‪ ،‬وقد تكون بالحرب كذلك‪ .‬ف�إنه في المدينة‬
‫ال�إ سلامية تتحقق الفضائل بسبيلين؛ سبيل الموعظة لحمل الجمهور على الفضائل(((‪،‬‬
‫وسبيل الجهاد ل�إ كراه ال�أمم الضالة‪ ،‬التي لا تجري �أفعالها على المجرى ال�إ نساني‪ ،‬على‬
‫سبيل الفضائل(((‪ .‬فالشريعة‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬هي "�آراء ناموسية وضعت للناس لطلب‬
‫الفضيلة لا لتعريفهم"(‪.((1‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة صص‪165 - 164‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪169‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪101‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص‪81‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص‪115‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص‪144‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص ‪204‬‬
‫‪ - 8‬الضروري في السياسة ص ‪80‬‬
‫‪ - 9‬الضروري في السياسة ص ‪81-80‬‬
‫‪ - 10‬مناهج ال�أدلة ص‪ .242‬ومقالة ال�ألف الصغرى ص‪.43‬‬
‫‪52‬‬
‫‪ -‬أ�ما المدينة الكرامية فعرفها المجتمع ال�إ سلامي مع معاوية‪ ،‬ونش�أت كذلك في‬
‫ال�أندلس‪ ،‬بل �إن ال�أندلس عرفت كثيرا هذا النوع من الحكم �إلى درجة �أن �أصبح فيها‬
‫م�ألوفا(((‪ .‬ويقدم ابن رشد حكم المنصور بن عامر مثالا على هذه السياسة‪.‬‬
‫‪ -‬عرفت ال�أندلس مدينة الشهوة‪ ،‬وهي المدينة التي يتحول �أهلها �إلى الدنيويات‬
‫والملذات‪ ،‬ويقدم ابن رشد نموذجا لها المدينة التي �أعقبت انقطاع السياسة الكرامية‬
‫في ال�أندلس(((‪ .‬ويجعل المرابطين نموذجا للانتقال من السياسة الفاضلة �إلى الكرامية �إلى‬
‫الشّ هوانية(((‪.‬‬
‫‪ -‬عرفت ال�أندلس المدينة الجماعية‪ ،‬وابن رشد يقول �إن هذه المدن الجماعية في‬
‫عهده لم تكن تتسم بفضيلة �أو كرامة(((‪ ،‬وهي مدن تتميز بخاصتين؛ س ِّيدها له قدرة تدبير‪،‬‬
‫وعامتها ترى نفسها �أحق بالحرية من غيرها(((‪.‬‬
‫‪ -‬ثم عرفت ال�أندلس �أش�أم نموذج للحكم‪ ،‬وهو وحدانية التسلط‪ .‬ويعتقد ابن رشد‬
‫�أن رئاسة قرطبة بعد سنة ‪ 540‬هـ((( عرفت هذه رئاسة‪ ،‬وذلك في عهد المستبد يحيى‬
‫بن غانية‪ ،‬حيث كانت تشهد حكما جماعيا‪ ،‬وهو ينبهنا �إلى �أن وحداني التسلط في‬
‫ال�أندلس كان �أن قتل �أباه(((‪ .‬كما يذكر �إعجاب شعراء ال�أندلس بهذا النموذج من الحكم‬
‫وانتصارهم له(((‪ .‬ولعل هذا من ال�أسباب التي دعت �أبا الوليد �إلى النهي‪ ،‬في �أوائل كتابه‬
‫السياسي‪ ،‬عن قراءة �أشعار العرب باعتبار �أنها مليئة بال�أمور ّ‬
‫الساقطة(((‪.‬‬
‫***‬
‫عرفت ال�أندلس هذه ال�أشكال الخمسة من السياسات التي عاصرها ابن رشد نفسه‪.‬‬
‫حيث لم يعش في مدينة سياسية ذات نظام واحد‪ ،‬بل عاش في سياسة مركبة من فضيلة‬
‫وكرامة وحرية وتغلب(‪ ،((1‬فعرف عن كثب طبيعة هذه ال�أنواع المختلفة من الحكم‪،‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪172‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪204‬‬
‫‪ - 3‬الضروري ص‪.187‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص‪190‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص ‪175‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص ‪.195 - 194‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص ‪199‬‬
‫‪ - 8‬الضروري في السياسة ص ‪202‬‬
‫‪ - 9‬الضروري في السياسة ص ‪92‬‬
‫‪ - 10‬تلخيص الخطابة ص‪70‬‬
‫‪53‬‬
‫ُليث ّمن �أخيرا نوعا من الحكم سيسميه ب "جودة التسلط"‪ ،‬ل�أن هذا الحكم يكون عن‬
‫طريق ال�أدب‪ ،‬ولكن ال�أهم عند فقيهنا‪ ،‬هو حكم يكون عن طريق ال�إ قتداء بما توجبه‬
‫السنة(((‪ .‬وابن رشد بياض رسالته في السياسة يغتنم فرصا مختلفة‪ ،‬يسمح له بها كلام‬
‫�أفلاطون‪ ،‬ليبين بعض ال�أوضاع الرديئة في ال�أندلس‪ .‬فهو يدين الج ّبارين في مدن ال�أندلس‬
‫الذين لا يفتئون يتسلطون ويفتكون بالرعية(((‪ .‬كما يدين في "كتاب الخطابة" ملوك الجور‬
‫الذين �أهانوا ال�إ مام مالك بالضرب(((‪ .‬وهذا الحرص على �إدانة الحكم المستبد هو ما ميز‬
‫ابن رشد عن الفارابي الذي اقتصر في عرضه لهذا الحكم على وصف الحكم‪� ،‬أكثر من‬
‫وصفه الحاكم(((‪.‬‬
‫وين ّبه ابن رشد كذلك على بعض �أسباب العداوات الناشئة في ال�أندلس؛‬
‫منها تملّك الجنود ال�أموال واستئثارهم بها دون �أهل المدينة‪ ،‬فتنش�أ بينهم العداوة‪،‬‬
‫وتنشب الحرب بينهم حيث يصبح قتالهم من �أجل �أنفسهم و�أموالهم‪ ،‬لا من �أجل خير‬
‫المدينة‪ ،‬وسعادتها‪ ،‬و�أمنها‪ ،‬وهو ما وقع بين �أهل المدن ال�أندلسية(((‪.‬‬
‫ومنها تحول �أصناف الناس بعضها �إلى بعض حين يتم تنشئة الناس على عمل �أكثر‬
‫من شيء واحد‪ ،‬في الوقت الذي يكون من العدل �أن يفعل كل فرد من المدينة ما يدخل‬
‫فقط في نطاق اختصاصه(((‪.‬‬
‫ومنها المحاكاة القبيحة التي يقول بها المتكلمون والتي يربى وفقها الصغار في‬
‫المدينة ال�إ سلامية فيلحقهم الفساد بها(((‪ .‬وهذه ال�أضرار الناشئة عن مدّعي الفلسفة في‬
‫ال�أندلس‪ ،‬هؤلاء الذين فقدوا الخصال الفاضلة‪ ،‬والذين �أدخلوا الفساد على الفلسفة(((‪.‬‬
‫ومن هنا انتقاد ابن رشد لـ"�أصدقائه الجهال" من الفلاسفة الذين �أساؤوا �إلى مجتمعهم‬
‫خسسوا الفلسفة في �أعين الناس‪ .‬وكثيرا ما تتكرر الشكوى من هؤلاء‬ ‫ال�إ سلام‪،‬ي حتى ّ‬
‫في المتن الرشدي‪ ،‬ونجده في ت�أملاته السياسية يشير �إلى افتقاد كثير من فلاسفة ال�أندلس‬
‫‪ - 1‬تلخيص الخطابة ص‪69‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪105‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص الخطابة ص ‪116‬‬
‫‪ - 4‬المدينة الفاضلة عند ابن رشد‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.262‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص ‪106‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص ‪120‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في السياسة ص ‪88‬‬
‫‪ - 8‬الضروري في السياسة ص ‪141‬‬
‫‪54‬‬
‫"شروط الفيلسوف الحق"(((‪ ،‬حى �إنهم كانوا عارا على الفلسفة عوض �أن يكونوا شرفا‬
‫لها‪ ،‬ف�أساءوا لمدنهم عوض �أن يسدوا لها نفعا‪ .‬و�أكثر هؤلاء يصمهم ابن رشد بوصمة‬
‫السفسطة‪ ،‬عندما يؤكد �أن �أكثر سبب انطفاء الفلسفة وضياعها هو تسلط السفسطائيين‬
‫على المدن(((‪ .‬وهذا الوضع تس ّبب في غربة الفيلسوف الحق في المدينة ال�إ سلامية �إذ‬
‫�أصبح بمنزلة �إنسان وقع بين وحوش ضارية‪ ،‬فلا هو قادر على �أن يشاركها فسادها ولا هو‬
‫ي�أمن على نفسه منها"(((‪ .‬ومن هنا فشل الفيلسوف في تحقيق ما �أسماه �أبو نصر الفاربي‬
‫بـ "الفلسفة الرابعة"(((‪ .‬كما �أسهم هذا الوضع في عدم تحقيق المدينة الفاضلة‪� ،‬إذ �إن من‬
‫�أسباب ذلك عدم طاعة الفيلسوف من جهة‪ ،‬ووجود مدّعي الفلسفة من جهة �أخرى(((‪.‬‬

‫‪-3 -‬‬
‫تحكّمت الموجهات الفقهية في نظر ابن رشد �إلى "جوامع سياسة �أفلاطون"‪ ،‬وقد‬
‫تجلى هذا التحكم في قراءة ابن رشد جانبا من الفكر السياسي ال�أفلاطوني على ضوء‬
‫مخزونه الفقهي ومبادئه الشرعية‪ .‬وهو ما سنحاول التقاطه من خلال "جمع" ابن رشد بين‬
‫التقليد الشرعي وثمراث الفلسفة ونقدمه في الصور التالية‪:‬‬
‫�أ ‪ -‬الدعوة �إلى الجهاد‪ ،‬وذلك من �أجل حمل ال�أمم الضالة على سبيل الفضيلة؛ ف�إذا‬
‫كان �أفلاطون يعتبر الحرب سبيلا �إلى ت�أديب ال�أمم التي تجري على المجرى ال�أناني‬
‫ل�إ كراهها على الفضائل‪ ،‬ف�إن ابن رشد يعتبره دعوة �إلى الله تعالى تفرضه الشريعة ال�إ سلامية‬
‫التي يؤكد طابعها ال�إ نساني(((‪ .‬فابن رشد هنا يجمع بين تصورات ثلاثة للحرب‪ :‬تصور‬
‫�أفلاطون وتصور ال�إ سلام‪ ،‬وتصور �أرسطو �أيضا(((‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لا يقبل ابن رشد �أن يكون الوجه الذي اختاره �أفلاطون لنش�أة المدينة الفضيلة هو‬
‫الوجه ال�أوحد‪ .‬فقد تنش�أ المدينة الفاضلة على غير هذا الوجه‪ ،‬والدليل على ذلك المدن‬
‫‪ - 1‬الضروري ص ‪.140‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪.141-140‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪.141‬‬
‫‪ - 4‬انظر حمو النقاري‪ ،‬كونية "المعلوم" عند �أبي نصر العارابي ضمن "العلم (المحلية والكونية) منشورات كلية‬
‫�آداب الرباط ط‪،1‬ص‪.36‬‬
‫‪ - 5‬شحلان‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.182‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص‪.81‬‬
‫‪ - 7‬المدينة الفاضلة عند ابن رشد‪ ،‬ص‪116‬‬
‫‪55‬‬
‫ال�أندلسية الفاضلة التي نش�أت على غير الوجه ال�أفلاطوني(((‪ .‬ف َملكُ السنّة بالنسبة للمدينة‬
‫ال�إ سلامية مثلا هو كنسبة الفيلسوف في المدينة الفاضلة‪ .‬فابن رشد هاهنا "يجمع" �أكثر‬
‫من �إمكانية لقيام المدينة الفاضلة‪ ،‬ومن صورها وجود ملك السنة على ر�أسها‪ ،‬وهو ما‬
‫يسمح لابن رشد بالقول عن المدينة الفاضلة ب�أن �أفقها م�أمول و�إمكانيتها متحققة‪ ،‬وليست‬
‫سرابا‪ ،‬كما يفهم من كلام �أفلاطون‪ .‬وقد حرص ابن رشد على ت�أكيد ذلك بعرض صور‬
‫تحققت فيها هذه المدينة في تاريخ الجماعة المسلمة‪...‬‬
‫ج ‪ -‬يبدو لنا الجمع بين صور متعددة لحاكم المدينة الفاضلة‪ ،‬في جملة مواصفات‬
‫يخلعها على ريئس الدولة ويعتبرها �أبو الوليد مترادفة‪� ،‬أو بعبارته "�أسماء �أشبه بالمتواطئة"‪،‬‬
‫ولكن مرجعياتها تبدو مختلفة؛ فالحاكم هو "الفيلسوف"‪ ،‬وهو "الملك"‪ ،‬وهو "واضع‬
‫الشرائع"‪ ،‬وهو "ال�إ مام"‪ ،‬وقد يكون"نبيا"(((‪ .‬وهذه ال�أوصاف تبرز طبيعة �آلية "الجمع"‬
‫عند فيلسوفنا الذي يبدو �أنه كان يقصد جمع �أشتات المعارف ونظمها في خيط نظري‬
‫واحد‪ ،‬انسجاما مع نزوعاته التّوحيدية وتبرمه من الفرقة والخلاف في السياسة والاجتماع‪.‬‬
‫د ‪ -‬الجمع بين فضيلة الشريعة القر�آنية والنّواميس ال�أفلاطونية في التربية وك�أنهما لا‬
‫يتعارضان جمع غريب عند �أبي الوليد‪� ،‬إذ �إن ما تشكله النّواميس ال�أفلاطونية من �أساس‬
‫تشريعي للمدينة الفاضلة اليونانية‪ ،‬تشكل في جزئها ال�أكبر �إذا جمعت مع الشريعة‬
‫ال�إ سلامية‪ ،‬في مقاصدها الكبرى‪ ،‬ال�أساس التشريعي للمدينة الفاضلة في المجتمع‬
‫ال�إ سلامي‪ .‬ويبدو هنا �أن ابن رشد يجمع بين �أفلاطون "القوانين" ‪�-‬إذا صح التعبير‪-‬‬
‫وال�إ سلام‪� ،‬إذ �إن �أفلاطون "الجمهورية" لم يكن على وعي ب�أهمية التشريع في المدينة‬
‫كما كان �أفلاطون "القوانين"‪� ،‬أي �أفلاطون نواميس �أفلاطون" كما حضر عند �أبي نصر‬
‫في كتابه الذي لا نشك �أنه من الكتب التي وجهت ابن رشد في عمله السياسي رغم‬
‫سكوته عنه‪ .‬فالرئيس الفاضل عند �أفلاطون‪ ،‬في الجمهورية‪ ،‬هو القانون‪� ،‬أما عند ابن رشد‬
‫فالنواميس التي هي �أساس قيام المدينة لديه يخضع لها الرئيس والمرؤوسون‪ .‬وهذا الاهتمام‬
‫بالنواميس‪ ،‬هو فضلا عن مصدره ال�أفلاطوني عبر �أبي نصره‪ ،‬له �أيضا مصدر �أرسطي‬
‫كما تجلى ذلك �إما في كتاب "ال�أخلاق"‪ ،‬وهو الكتاب الذي حظي بقراءة رشدية �أشبه‬
‫بالعرض‪ ،‬واعتبر فيه �أرسطو الاهتمام بوضع التشريعات والنواميس �أحد �أقسام علم السياسة‪،‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪164‬‬
‫‪ - 2‬يبدو �أن ابن رشد تحرج في "الضروري في السياسة" من الخوض في معالجة السؤال ال�آتي "هل يكون ال�إ مام‬
‫نبيا"؟ فقد اعتبر هذا الفحص دقيقا‪ ،‬ووعد ببحثه في كتاب ال�أخلاق‪ ،‬و�إن اعتبره بحثا على جهة ال�أفضل ص‪136‬‬
‫‪.-137‬‬
‫‪56‬‬
‫�أو بعبارة �أرسطو‪" ،‬الفلسفة في ال�أشياء ال�إ نسية"‪ ،‬وهنا يؤكد �أرسطو �أهمية النّظر الكلي‬
‫في النواميس(((‪ .‬وهو ما يلتفت �إليه ابن رشد في كتابه السياسي حين يؤكد �أهمية التربية بـ‬
‫"النواميس الكلية"(((‪ ،‬وكذلك بـ "النواميس الدينية"‪ ،‬التي ينظر �إليها ابن رشد على �أساس‬
‫�أنها ال�أشياء ال�إ لهية التي تهم المدن‪ ،‬وهي التي يجب عدم التدخل فيها بالتعديل "ل�أنها‬
‫كالمشتركة لجميع الشرائع و�أمور الناموس"(((‪� .‬أو تجلى في "تلخيص كتاب الخطابة"‬
‫عند حديث ابن رشد عن السنن المكتوبة وغير المكتوبة‪ ،‬ولعل هذا الوعي بالتشريع في‬
‫بناء المدن من ثمار شعور ابن رشد بخصوصية المجتمع ال�إ سلامي‪ ،‬ولعل هذا الشعور‬
‫نفسه هو الذي حرك ابن رشد مع "شرح الجمهورية" �إلى كتابة "بداية المجتهد" الذي‬
‫يقدم التشريع العملي للمدينة في عباداتها ومعاملاتها‪ .‬وكتابة "مناهج ال�أدلة" الذي يقدم‬
‫مجمل ال�آراء النظرية التي لا يسع ساكنة المدينة الجهل بها‪ .‬وتقديم ال�أدوات الممكنة‬
‫لواضعي السنن من المجتهدين من حكام المدينة ال�إ سلامية الفاضلة‪ ،‬لممارسة فعل �إنشاء‬
‫السنن‪ ،‬وهو فعل الاجتهاد من خلال كتب محددة؛ "بداية المجتهد" نفسه و"الضروري‬
‫في ال�أصول" و"الضروري في النحو"‪ .‬وهو الفعل الذي يخرج رئيس المدينة ال�أفلاطونية‬
‫الفاضل في ثوب �إسلامي سافر‪.‬‬
‫هـ ‪� -‬إن العفة عند �أفلاطون خاصة بطبقة معينة وهي عند ابن رشد مشتركة بين كل‬
‫الطبقات‪ ،‬فابن رشد تعلم من "ال�أخلاق" �أن "العفيف [هو الذي] يشتهي على حسب‬
‫ما يوجب التمييز الصحيح"(((‪ ،‬فالعفيف "يشتهي ما ينبغي �أن يطلب‪ ،‬وعلى النحو الذي‬
‫ينبغي‪ ،‬وفي الوقت الذي ينبغي‪ ،‬وكذلك �أيضا يرتب التميي ُز هذه ال�أشياء"(((‪ .‬وابن رشد‬
‫ي�أخذ هذا الخلق الذي م َّيز به �أفلاطون فئة معينة فيجعله ساريا في جميع �أجزاء المدينة(((‪،‬‬
‫انطلاقا من حساسيته الشرعية‪ ،‬ل�أن نقيض العفة هو الفسق(((‪ ،‬وهو ما لا يقبله فقيه في‬
‫مدينته‪.‬‬
‫و‪ -‬يشرع �أفلاطون الزواج لطبقة الحراس فقط‪� ،‬أما ابن رشد‪ ،‬فانطلاقا من موجهاته‬
‫الفقهية فيشرعه لساكنة المدينة جميعها‪.‬‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق مرجع سابق ص ‪.362‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص‪114‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪.138‬‬
‫‪ - 5‬ال�أخلاق‪ ،‬المرجع السابق ص‪.139‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص‪77‬‬
‫‪ - 7‬محمد جبر‪ ،‬الفكر الفلسفي وال�أخلاقي عند اليونان‪� ،‬أرسطو نموذجا‪ ،‬دار دمشق‪ ،‬ط‪ 1‬ص‪.1994‬‬
‫‪57‬‬
‫ز‪ -‬يفترض التكوين العلمي للفيلسوف نسقا علميا فلسفيا نظّر له كل من �أفلاطون‬
‫و�أرسطو لكن ابن رشد سيضيف‪ ،‬لهذا النّسق‪ ،‬مادة علمية �أخرى؛ مادة شرعية تشكل‬
‫الجانب الناموسي في شخصية ال�إ مام وتعتبر ضرورية لحاكم المدينة الذي يعتبر الاجتهاد‬
‫من �أهم خصائص شخصيته‪ .‬وابن رشد و�إن كان لم يصرح في كتابه "الضّ روري في‬
‫السياسة" ببرنامج تعليمي شرعي خاص لحاكم المدينة‪ ،‬ف�إن �َأخْ َذ تفكيره السياسي في‬
‫مجمل مقاصده يؤدي �إلى هذه النتيجة المنطقية من ضرورة الجمع بين المعارف الفلسفية‬
‫والمعارف الشرعية لتكوين شخصية الحاكم؛ جمعا على الحقيقة �أو جمعا على سبيل‬
‫التعاون العلمي‪.‬‬
‫ح ‪� -‬أخذ ابن رشد مفهوم العدالة من �أفلاطون و�أضفى عليه مسحة �أرسطية ظاهرة هي‬
‫من ثمار نزوعه الواقعي في المدينة‪ ،‬ولعله �أيضا من ثمار شخصيته الفقهية التي تنظر �إلى‬
‫المدينة نظرة مساواة قانونية بين �أجزائها؛ يجاري ابن رشد �أفلاطون في �أن العدالة هي "�أن‬
‫يفعل كل واحد من �أهلها [�أي من �أهل المدينة] ما هو مخصوص بفعله"(((‪ ،‬ولكنه يسمي‬
‫هذا الضرب من العدالة باسم يورده �أرسطو في "كتاب ال�أخلاق" وهو مفهوم "العدل‬
‫المدني"(((‪ ،‬وهذا العدل يعني به �أرسطو القوانين العادلة التي تضعها الدولة سواء كانت‬
‫واحدة �أو مختلفة(((‪ .‬نفس المفهوم نجد ابن رشد يفصل القول فيه في كتابه السياسي‬
‫عندما يؤكد �أن العدالة "تمنح المدينة السلامة البقاء طالما بقيت قائمة فيها‪ ،‬كما تعطيها‬
‫الفضائل الثلاث [‪ ]...‬ويحصل لها ذلك عندما يجتمع ر�أي السادة والجمهور على‬
‫احترام ما توجبه النواميس‪ .‬ويرسخ ذلك في ال�أطفال والنساء والعبيد والجمهور‪ ،‬وبالجملة‬
‫في جميع �أجزائها [‪� ]...‬إن هذه المدينة تسوي بين �أجزائها[‪ ((("]...‬عندما يؤدي كل‬
‫فرد فيها الوظيفة الخاصة به‪ ،‬وهو ما ينتصر له �أفلاطون في الجمهورية(((‪ ،‬ويسميه ابن‬
‫رشد بـ "العدل المدني"‪ .‬وهكذا يجمع ابن رشد بين العدل عند �أرسطو الذي يقضي �أن‬
‫"ال�أفراد جميعا متساوون �أمام القانون"((( والقول ب�إمكان انتقال ال�أفراد عبر الطبقات �إذا‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪120‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص ‪ .191‬والضروري في السياسة ص‪.120‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪ ،192‬وكذلك‪ ،‬محمد جبر‪ :‬الفكر الفلسفي وال�أخلاقي عند �أرسطو مرجع سابق ص‪.109‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص‪.120‬‬
‫‪� - 5‬أفلاطون‪ ،‬الجمهورية‪ ،‬ترجمة فؤاد زكرياء المؤسسة المصرية العامة للت�أليف والنشر ص ‪ 139‬وص‪ 140‬وص ‪.141‬‬
‫‪� - 6‬أميرة حلمي مطر‪ ،‬الفلسفة عند اليونان‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،1977 ،‬ص‪.336‬‬
‫‪58‬‬
‫كان مؤهلاتهم تسمح بذلك (((‪ ،‬مع الحرص على "�أن يعمل كل واحد في المدينة العمل‬
‫الذي هو مهي�أ له بطبعه و�أن يقوم به ب�أكمل وجه"((( تحقيقا لمفهوم العدل ال�أفلاطوني‪.‬‬
‫***‬
‫�إن عكوف ابن رشد على ت�أمل كتاب �أفلاطون وشرحه على المعنى يعتبر عملا جريئا‬
‫�أرجع �إليه البعض سبب ما تعرض له ابن رشد من نكبة(((‪ ،‬و�إن لم يكن السبب الوحيد‬
‫عند البعض ال�آخر (((‪ .‬لكن هذا "الفيلسوف العظيم"‪ ،‬وهذا "الحكيم الخبير"‪ ،‬وهذا‬
‫(((‬
‫"الفيلسوف ال�إ لهي الحكيم"‪ ،‬وهذا "القاضي الكامل الفقيه المحترم المتمكن ال�أوحد"‬
‫قدّم من خلال هذا الكتاب عملا فلسفيا متميزا لم يجد مع ال�أسف من يست�أنف القول‬
‫فيه‪ ،‬ولعل في ظروف الاستبداد التي عاشها‪ ،‬ويعيشها‪ ،‬العالم ال�إ سلامي بعض ما يفسر‬
‫ذلك(((‪.‬‬

‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪ .105 104-‬الجمهورية ص‪.116‬‬


‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪.77‬‬
‫‪ - 3‬الجابري‪ ،‬مدخل الضروري في السياسة ص‪.38‬‬
‫‪ - 4‬شحلان‪ ،‬مرجع سابق ص ‪ .187‬وص ‪ 179‬وص ‪183‬‬
‫‪ - 5‬هذه جملة �أوصاف وصف بها مفكرو اليهود ابن رشد ‪...‬شحلان مرجع سابق ص‪ 275‬وص ‪ ،281‬ص ‪،378‬‬
‫وص‪ ،445‬وص ‪.450‬‬
‫‪ - 6‬ينظر في هذا الصدد لد‪ .‬كمال عبد اللطيف "في تشريح �أصول الاستبداد‪ ،‬قراءة في نظام ال�آداب السلطانية"‬
‫دار الطليعة بيروت ط‪.1999 1‬‬
‫‪59‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫سياسة المنطق عند ابن رشد‬
‫الغاية من التربية‪ ،‬كما قدّمنا بعضا من معالمها‪ ،‬تربية الفيلسوف وت�أهيله لممارسة‬
‫الحكم‪ .‬وتحديد هذه الغاية ضروري ل�أنه لا يمكن البداية بتربية الفيلسوف "�إلا بمعرفة‬
‫الغاية التي ينبغي �أن يتوخاها هذا النوع من الناس[الفلاسفة] من سياستهم"(((‪ .‬وسيقدم‬
‫ابن رشد‪ ،‬متابعا في ذلك‪ ،‬بشكل عام �أفلاطون‪ ،‬برنامجا نظريا متكاملا في التربية يحتل‬
‫فيه المنطق مركزا �أساسيا‪ .‬و�إذا كان �أفلاطون لم ي�أت على ذكر المنطق‪ ،‬ف�إن المنطق عند‬
‫�أبي الوليد يحتل مكانة هامة في تفكيره العلمي‪ ،‬ويبرز هذا الدور �أكثر عند فحص مكانته‬
‫في سياسة المدينة من حيث �إنه يشكل �أحد الدعائم العلمية لبناء شخصية الحاكم‪-‬‬
‫الفيلسوف‪ ،‬و�أحد ال�أدوات التي يعتمدها في النظر العلمي وفي تربية الناس وتوجيههم �إلى‬
‫الفضائل؛ وباعتباره �أيضا من �أحد ال�أدوات الهامة التي وظفها الفقهاء‪ ،‬رغم تردد مواقفهم‬
‫منه‪ ،‬في نظرهم الفقهي في المسائل المختلفة التي تهم ش�أن المدينة‪ .‬ومن هنا يمكن‬
‫النظر �إلى المنطق باعتباره من �أدوات السياسة التي يشكل الجهل بها نقصا كبيرا في‬
‫شخصية حاكم المدينة‪� ،‬أو من كان مسلطا من قبل الحاكم ونائبا عنه‪ .‬كما يمكن اعتبار‬
‫�أصول الفقه‪ ،‬كمنطق للخطاب الشرعي‪� ،‬آلة �أساسية ل�إ دارة المدينة‪.‬‬

‫‪� -1-‬أهمية التربية المنطقية في التعليم‬


‫يعتبر المنطق أ�ول مادة معرفية يجب أ�ن تلقن لحاكم المدينة‪� .‬إن حاكم المدينة‬
‫شخص مر بمراحل تربوية مدروسة ي�أخذ فيها ما هو ضروري من مواد علمية‪ ،‬ويتدرب‬
‫فيها‪ ،‬ويت�أهل لقيادة دفة المدينة نحو الفضائل العادلة‪ .‬ومن �أهم ما يجب على الحاكم‬
‫‪ -‬الفيلسوف البداية بتعلمه" علم الحق"((( �أو "علم ال�أدب"(((‪ ،‬وهما اسمان اختارهما‬
‫ابن رشد لل�إ شارة �إلى صناعة المنطق‪ .‬وابن رشد بهذا التوجيه في اصطناع المنطق لتربية‬
‫الفيلسوف يخالف بذلك �أفلاطون الذي يرى البداية بتعليم الرياضيات �أنسب‪ .‬ومن هنا‬
‫يطرح السؤال‪ :‬لم البداية بالمنطق بدل الرياضيات كما دعا �إلى ذلك صاحب الجمهورية‬
‫التي �أعجب ابن رشد ببرنامجها التربوي؟‬
‫‪ - 1‬الضرزري في السياسة ص ‪.142‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الخطابة ص ‪10‬‬
‫‪ - 3‬مقالة ال�ألف الصغرى ص ‪.46‬‬
‫‪63‬‬
‫انخرط ابن رشد في التقليد المشائي الذي يقول ب�أهمية البداية بالمنطق‪ ،‬وهو التقليد‬
‫الذي دشّ نه الفارابي‪ .‬مع العلم �أن الكندي رغم تثمينه المنطق كان يرى البداية بالرياضيات‬
‫تمشيا مع التقليد ال�أفلاطوني‪ .‬لكن الفارابي جعل علم المنطق فاتحة العلوم الفلسفية (((‪،‬‬
‫و�أوصى بالبداية بتعلمه و�أحصى لذلك فوائد كثيرة‪ .‬وسيقارن ابن رشد بين الفائدة من‬
‫المنطق والفائدة من الرياضيات لينتهي �إلى �أن ال�أصوب البداية بالمنطق‪ .‬فكيف علل ابن‬
‫رشد ذلك؟‬
‫�إن �أكثر منافع الرياضيات‪ ،‬عند ابن رشد التدريب و�إعداد العقل‪� ،‬إذ موضوعاتها تتميز‬
‫بيسر التعليم‪ ،‬وببعدها عن مخالطة شوائب المادة التي تكدرها‪ .‬ول�إ مكان مفارقة موضوع‬
‫علوم التعاليم للمادة بالقول‪ ،‬فقد اختارها �أفلاطون مادة �أولية ضرورية يفتتح التعليم بها‬
‫قصد التمرين والتهييئ‪ .‬لكن هذا ال�أمر لا يجعلها تهيء دارسها للكمالات ال�إ نسانية‪� ،‬إنما‬
‫يفعل ذلك علم المنطق الذي ما وضع �أصلا �إلا لتقوية العقل‪ ،‬لا لتمرينه وتدريبه‪ ،‬وذلك‬
‫لينال بهذه التّقوية العصمة من الخط إ� فيما يحتاج �إليه من معرفة فلسفية ضرورية‪.‬‬
‫فضلا عن ذلك فالعلاقة بين العلمين؛ التعاليم والمنطق‪ ،‬علاقة انفصال �إذ لا يحتاج‬
‫تعليم �أحدهما �إلى ال�آخر؛ فعلوم التعاليم لا يحتاج فيها �إلى المنطق لسهولتها وقلة ارتباطها‬
‫بالمادة‪ ،‬وعلم المنطق ليس ضروريا لتحصيل علم التعاليم‪ ،‬ف�إذا تم تعليم المنطق بعد تعليم‬
‫التعاليم كان تعلمه على جهة ال�أفضل‪ ،‬في حين "�أننا ‪ -‬كما يقول ابن رشد‪ -‬لما كنا نطلب‬
‫بهذا التعليم صنفا من الناس هم على �أحسن ما يكون‪ ،‬فينبغي البداية بعلم المنطق"(((‪.‬‬
‫البداية بالمنطق في التعليم �أمر ضروري عند ابن رشد لبلوغ العقل درجة التمييز بين‬
‫ال�أقاويل‪� ،‬إذ �إن بعض الناس يعرض لهم عند عدم الت�أدب بصناعة المنطق �أن يطلب في كل‬
‫علم �أقاويل برهانية من جنس التعاليم(((‪ ،‬وهذا ال�أمر عرض لجالينوس‪� ،‬إذ �أداه جهله بالطرق‬
‫المنطقية‪ ،‬رغم وعيه ب�أهميتها‪� ،‬إلى الاعتقاد ببرهانية �أقاويل �أفلاطون كلها عند تلخيصه‬
‫لجمهوريته(((‪ .‬وهو ال�أمر الذي جعل ابن رشد ينبه على مواضع اختلافه مع جالينوس‪،‬‬
‫كلما سنحت له فرصة لذلك‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر �إحصاء العلوم تقديم د‪ .‬علي بو ملحم دار ومكتبة الهلال ط‪ 1996 1‬ص‪- 27‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪162‬‬
‫‪ - 3‬مقالة ال�ألف الصغرى من تفسير ما بعد الطبيعة مرجع سابق ص‪.46‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪206‬‬
‫‪64‬‬
‫يعذر ابن رشد أ�فلاطون حين ابتد�أ بالرياضيات ولم يبتدئ بالمنطق "ل�أن صناعة‬
‫المنطق في �أيامه لم تكن قد وجدت"(((‪ .‬وابن رشد في انتصاره للبداية المنطقية في‬
‫التعليم يقتفي سبيل �أرسطو الذي سمى صناعة المنطق "علم ال�أدب"‪ ،‬وجعل "منها عامة‬
‫لجميع العلوم ومنها خاصة بعلم علم‪ ،‬وليس يمكن �أن يكون ال�إ نسان �أديبا في تعلم كل‬
‫صناعة �إلا بتعلم العام منها والخاص‪ .‬وقد جرت عادة �أرسطو �أن جعل العام منها في علم‬
‫المنطق والخاص في علم علم"(((‪ .‬كما يقتفي سبيل جالينوس �أيضا الذي جعل التقدم في‬
‫المعرفة والبروز فيها رهينا بالت�أدب "بعلم المنطق على �أفضل ما يوجد عليه كثير من الناس‬
‫حتى يكون رجل يداخله من العشق لمعرفة الحق‪ ،‬بمنزلة ما يداخل من ذلك من يوحي‬
‫�إليه الله وحيا[‪.((("]...‬‬
‫لاشك �أن ابن رشد عندما يؤكد �أهمية البداية بصناعة المنطق �أو بـ "علم ال�أدب"‬
‫�إنما يشير �إلى الجزء العام �أو الكلي من المنطق والذي تضمه مباحثه الثمانية المشهورة‪،‬‬
‫من المقولات �إلى الشعر مرورا بالعبارة والقياس والبرهان والجدل والسفسطة والخطابة(((‪.‬‬
‫وهذه كلها تعد بجهة ما خادمة للبرهان؛ �إذ �إن منفعة البرهان هي "المنفعة ال�أولى من‬
‫منافع علم المنطق وهو الوقوف على الحق في كل ال�أمور"(((‪ .‬فمن �أي جهة تعتبر مباحث‬
‫المنطق �أساسية في �إدارة المدينة؟‬
‫�إن الفيلسوف ‪ -‬الحاكم لابد �أن يبد�أ ت�أدبه بصناعة المنطق لتمييز القول البرهاني عن‬
‫غيره من ال�أقاويل �أولا‪� ،‬إذ الفيلسوف وحده القادر على الحكم على اللذات‪ ،‬وهو بذلك‬
‫القادر على �إدراك جميع اللذات على �أفضل ما تكون عليه‪ ،‬وهذه القدرة المتميزة �إنما‬
‫ينفرد بها الفيلسوف ل�أنه وحده القادر على نهج نهج البرهان(((‪ ،‬وبنهج البرهان هذا يمتلك‬
‫القدرة على تعليم الخاصة‪.‬‬
‫لكن الفيلسوف‪ -‬الحاكم‪ ،‬وهو "ال�إ مام ب�إطلاق"(((‪ ،‬لا بد له ثانيا �أن يت�أدب بعلم‬
‫ال�أدب هذا ليتمكن من تعليم الجمهور و ُي ْقدر �أهل مدينته على تحصيل الفضائل بالطرق‬
‫‪ - 1‬الضروري ص ‪.161‬‬
‫‪ - 2‬مقالة ال�ألف الصغرى ص ‪.48‬‬
‫‪ - 3‬رسائل ابن رشد الطبية‪ ،‬تح جورج قنواتي وسعيد زايد‪ .‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ 1987‬ص‪275‬‬
‫‪ - 4‬حول هذه المباحث و�أهمية ترتيبها ينظر كتاب الفارابي‪� ،‬إحصاء العلوم نشرة علي بو ملحم دار ومكتبة الهلال‬
‫ط‪ 1996 1‬صص ‪.-48 38‬‬
‫‪ - 5‬ابن رشد‪ ،‬شرح البرهان تح عبد الرحمن بدوي ط‪ 1984 1‬الكويت ص ‪460‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة ص ‪.206‬‬
‫‪ - 7‬الضروري ص ‪.136‬‬
‫‪65‬‬
‫ال�إ قناعية والشعرية(((؛ فبهذه الطرق يستطيع تقريب المعاني البرهانية �إلى �أذهان رعيته‬
‫ومواطنيه‪ .‬فهذا الفيلسوف ‪ -‬الحاكم يدرك �أن الجمهور �إلى طلب الفضيلة �أقرب منه �إلى‬
‫طلب حقائق ال�أشياء‪ ،‬لذا يقرر سلوك طريق ال�إ لغاز معهم لـ"�أن الناس لا يتم وجودهم �إلا‬
‫بالاجتماع‪ ،‬والاجتماع لا يمكن �إلا بالفضيلة‪ ،‬ف�أخذهم بالفضائل �أمر ضروري لجميعهم‪،‬‬
‫وليس ال�أمر كذلك في �أخذهم بمعرفة حقائق ال�أشياء �إذ ليس كلهم يصلح لذلك‪.((("..‬‬
‫فكيف يعتبر مبحث البرهان ضروريا للحاكم؟ وما هي ال�أقاويل التي يتوسل بها‬
‫الحاكم‪ -‬الفيلسوف ل�أخذ �أهل مدينته بالفضائل؟‬
‫�إن الفيلسوف هو الشخص المؤهل للحكم على الوجود‪ ،‬كما �أنه الشخص القادر‬
‫على �إدارة دفة الحكم‪ ،‬ومن الجهتين معا يكون في �أمس الحاجة �إلى البرهان ل�أن هذا‬
‫المبحث هو الذي يمكن الحاكم �أن يحصل ‪ ‬العلم البرهاني في جميع الموجودات على‬
‫�أتم طباعها �أن تحصل لل�إ نسان‪ .‬وبحصول هذا العلم اليقيني تكون للحاكم ميزة المعرفة‬
‫بالتمييز بين العلم الحقيقي والعلم الذي يكتسي حلة الحقيقة‪ ،‬وهو عن الحقيقة بعيد مثل‬
‫ما يفعل القول السفسطي‪ .‬فالحاكم من هذه الجهة يكون �أقدر سكان مدينته على فحص‬
‫المعرفة السارية في مدينته‪ ،‬وتقدير منزلتها المعرفية طبقا لسبارات القول البرهاني‪.‬‬
‫وعندما تتم هذه المعرفة للحاكم يؤدب �أهل مدينته في ال�أمور النظرية ب�أقاويل خاصة‪،‬‬
‫وفي ال�أمور العملية ب�أقاويل خاصة كذلك‪� .‬أما ال�أمور النظرية فيتوسل في تبليغها بال�أقاويل‬
‫البرهانية ويخاطب بها صنفين من الناس؛ الفلاسفة الذين تمرسوا بالنظر الفلسفي‪ ،‬ومن‬
‫هم على �أعلى درجات القول البياني ممن يشكلون انتلجنسيا المدينة ال�إ سلامية‪ .‬ولما كان‬
‫الجمهور‪ ،‬غير قادر على فهم الخطاب البرهاني‪ ،‬ف�إن الحاكم يتوسل بالتعليم الشعري‪� ،‬أو‬
‫بالتّصديق البلاغي‪� ،‬أو بالجدل من �أجل تقريب المعرفة البرهانية وحمله على العمل بها‪.‬‬
‫وقد سمى �أبو نصر الفارابي الفلسفة التي "يلتمس تعليمها للجمهور بال�أشياء المشهورة"‬
‫ب�أسماء "الفلسفة الرابعة" �أو "الفلسفة البرانية" �أو "الفلسفة الخارجة"(((‪.‬‬
‫تفرغ ابن رشد لشرح "كتاب البرهان" ل�أرسطو وافتتح به شروحه ل�أنه لم يقع �إليه‬
‫"ل�أحد من المفسرين فيه شرح على اللفظ"‪ ،‬كما قال(((‪ ،‬وتكمن قيمة هذا الكتاب في �أنه‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.136‬‬
‫‪ - 2‬مقالة ال�ألف الصغرى مرجع سابق ص ‪.43‬‬
‫‪ - 3‬الفارابي تلخيص الجدل ص ‪ 37‬عن حمو النقاري‪" ،‬كونية المعلوم‪ "...‬مرجع سابق ص ‪.36‬‬
‫‪ - 4‬شرح البرهان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪66‬‬
‫يفحص في طبيعة المعرفة العلمية سواء كانت مقولة بتقديم �أو بت�أخير �أو باشتراك الاسم(((‪.‬‬
‫ويحدد شروط مقدماتها‪ ،‬و�إن يكن المقصود ال�أول من كتاب البرهان هو "تعريف شروط‬
‫مقدمات البرهان المطلق �أعني الذي يعطي الوجود والسبب الذي هو �أوثق �أصناف‬
‫البراهين يقينا و�أكملها معرفة"(((‪ ،‬ل�أن القصد بالبرهان هو "�أن نعلم الشيء علما محققا في‬
‫الغاية من اليقين"((( �أي علما ضروريا‪ ،‬وهو "العلم الذي لا يتغير �إلى الظن"(((‪ .‬نتساءل‪:‬‬
‫هل هاجس حاكمنا الفيلسوف هذا الجانب الصوري من العلم‪� ،‬أي ما يخوض فيه كتاب‬
‫البرهان‪� ،‬أم �إنه في حاجة �إلى المعرفة البرهانية الملموسة؟‬
‫�إذا كان القصد من كتاب البرهان بيان المعالم الصورية للقول البرهاني ف�إن قصد‬
‫الفيلسوف‪ ،‬الحاكم على الوجود‪ ،‬هو النظر �إلى الموجودات نظرا برهانيا وفق سبارات‬
‫القول البرهاني‪ ،‬من �أجل الحكم على الوجود حكما صادقا يتجنب هذه ال�أنواع من‬
‫الحكم التي طبع بها الوجود عبر تاريخ الفلسفة‪ .‬فكيف يتم ذلك؟‬
‫�إن �أهم درس ي�أخذه الفيلسوف من مبحث البرهان �أن العلم المحقق بالشيء نصل‬
‫�إليه من قبل المعرفة بسببه‪ ،‬ومن هنا يخوض الفيلسوف في النظر في �أسباب الموجودات‬
‫وال�أشياء التي تكون تحت نظره من �أجل امتلاك ناصيتها‪ .‬ومن هنا يقذف مبحث‬
‫البرهان الفيلسوف في مجال الموجودات سواء ظهرت في حدودها المادة‪ ،‬وهو مجال‬
‫البحث الطبيعي‪� ،‬أو كانت مفارقة بالقول‪ ،‬وهو مجال البحث التعاليمي‪� ،‬أو مفارقة بالقول‬
‫وبالوجود‪ ،‬وهو مجال البحث الميتافيزيقي‪ .‬والفيلسوف في ذلك يستفرغ وسعه في‬
‫تصحيح النظر الفلسفي �إلى الوجود وهو ما فعله ابن رشد‪ ،‬متابعا ل�أرسطو‪ ،‬في المقالتين‬
‫ال�ألف الصغرى والكبرى‪ ،‬وفي مباحث كثيرة دخل فيها ابن رشد في جدال كبير مع من‬
‫�أخط�أ النظر في الوجود مثل ثامسطيوس من القدماء‪ ،‬و�أبو نصر وابن سينا من الفلاسفة‬
‫ال�إ سلاميين‪.‬‬
‫ففي العلم الطبيعي‪ ،‬وهو العلم الذي تظهر في حدود موضوعاته المادة‪ ،‬يحصل العلم‬
‫اليقيني والمعرفة التامة بمعرفة ال�أسباب ال�أول في كل موجود من الموجودات الطبيعية "�إلى‬
‫�أن ينتهي �إلى �أسبابه القريبة و�أسطقساته"‪ .‬هذا هو المسلك العلمي الذي يؤكده ابن رشد‬
‫‪ - 1‬المعرفة باشتراك الاسم‪ ،‬وهي ال�أقاويل السفسطائية‪ ،‬سيخصص لها ابن رشد كتابا مفردا مقتفيا بذلك سبيل‬
‫�أرسطو‪ ،‬لكن لن يحول هذا بينه وبين �إشارات لها في شرح البرهان كما فعل في سائر كتبه‪.‬‬
‫‪ - 2‬شرح البرهان ص‪.180‬‬
‫‪ - 3‬شرح البرهان ص ‪.183‬‬
‫‪ - 4‬شرح البرهان ص ‪266‬‬
‫‪67‬‬
‫عند دراسة "الطبيعة وال�أجسام الطبيعية" من خلال طلب "معرفة ال�أسباب" فيها(((‪ ،‬وقد‬
‫�أفرد لهذا المطلب كتاب "السماع الطبيعي"‪ ،‬ول�أهمية هذا الكتاب عند ابن رشد كتب‬
‫فيه ابن رشد مختصرا وشرحين؛ شرح على المعنى وشرح على اللفظ‪ .‬فالغرض من هذا‬
‫الكتاب هو "النظر في ال�أسباب العامة ال�أول لما يوجد بالطبيعة من جهة ما هو موجود‬
‫بالطبيعة وفي اللواحق العامة لهذه ال�أسباب"(((‪ .‬ومن �أجل سلوك هذا النظر العلمي يجب‬
‫�أن نضع وضعا �أن هناك "�أسبابا �أربعة تتقوم بها الموجودات الطبيعية"‪ .‬ويعطي هذا الكتاب‬
‫من ال�أسباب ال�أول المادة ال�أولى والمحرك ال�أقصى‪� ،‬أما الصورة ال�أولى والغاية ال�أولى‬
‫فتعطيها الفلسفة ال�أولى‪ ،‬و�إن كان يعطي "صور ال�أشياء المتحركة والغايات الموجودات‬
‫لها من حيث هي متحركة"(((‪.‬‬
‫"السماع الطبيعي" في �أنه يشكل القسم الكلي من العلم الطبيعي‪،‬‬ ‫تكمن �أهمية كتاب ّ‬
‫في حين تشكل المباحث الطبيعية ال�أخرى قسمه الجزئي‪ ،‬ويظل القسم الكلي متقدما في‬
‫التعليم على الجزئي((( رغم صلته الكبرى بمباحث الفلسفة ال�أولى‪ .‬فك�أن الفلسفة ال�أولى‬
‫هي التي تعطي الكمال في النظر �إلى ال�أسباب‪ ،‬فالقصور الذي يعانيه النظر الطبيعي تتممه‬
‫مباحث الفلسفة ال�أولى‪ ،‬فالسماع الطبيعي يعطي تصورا غامضا لمفهوم المادة ال�أولى‬
‫ستحرص مقالة اللام على تحرير حده التام‪ .‬والسبب الغائي في كثرة حركات ال�أجرام‬
‫السماوية لا يعطيه العلم الطبيعي‪ ،‬و�إنما يعطيه العلم ال�إ لهي(((‪.‬‬
‫�إذا كان الحاكم على الوجود ينظر في الموجود الطبيعي من �أجل معرفة �أسبابه ال�أول‪،‬‬
‫ل�أن "العلم الحقيقي يكون بمعرفة العلل ال�أربع"(((‪ ،‬ف�إن هذه المعرفة لا تجد كمالها �إلا‬
‫في البحث الميتافزيقي‪ ،‬ولعل مرد ذلك �أن موضوع الفلسفة هو جنس لموضوع العلم‬
‫الطبيعي‪ ،‬وذلك �أن الفلسفة تنظر في الموضوع ب�إطلاق‪ ،‬كما تفحص عن الجوهر ال�أول‪،‬‬
‫�أي الوجود ال�إ لهي‪� .‬أما العلم الطبيعي فينظر �إليه بتقييد(((‪ .‬ويؤيد هذا ما يقوله ابن رشد من‬
‫�أن �أقسام الفلسفة و�أجزاءها على عدد الجواهر(((‪ .‬ولما فهم ابن رشد من كلمة الجوهر‬
‫‪ - 1‬رسالة السماع الطبيعي‪ ،‬نشرة رفيق العجم وجيرار جيهامي دار الفكر اللبناني بيروت ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.29‬‬
‫‪ - 2‬رسالة في السماع الطبيعي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ - 3‬رسالة السماع الطبيعي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪ - 4‬رسالة السماع الطبيعي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ - 5‬مخطوط شرح السماء والعالم‪ ،‬رقم ‪ 18118‬ورقة ‪22‬ظ‪.‬‬
‫‪ - 6‬مقالة الحاء‪ ،‬تفسير ما بعدالطبيعة‪ ،‬ص‪.1075‬‬
‫‪- 7‬شرح البرهان ص ‪298‬‬
‫‪ - 8‬مقالة الجيم من تفسير ما بعد ط‪ ،‬تح موريس يويج‪ ،‬ط‪ ،4‬دار المشرق‪ ،1991 ،‬ص‪.318‬‬
‫‪68‬‬
‫قسم الفلسفة �إلى انقسام عدد الموجود؛ مفارق ومحسوس‪ ،‬لتصبح العلوم‬ ‫معنى الوجود ّ‬
‫الجزئية‪ ،‬وبخاصة العلم الطبيعي‪ ،‬جزءا من الفلسفة‪ .‬وهو ما يؤكده في "شرح البرهان"‬
‫عند قوله �إن الطبيعة التي تعم موضوعات الصنائع الجزئية هي الموجود‪ ،‬والموجود هو‬
‫موضوع الفلسفة ال�أولى(((‪ .‬ويؤكده في "مقالة الزاي" من �أن موضوع العلم الطبيعي هو‬
‫عمل من �أعمال موضوع الفلسفة ال�أولى‪ ،‬وذلك �أن العلم الطبيعي يبحث فيما تبحث فيه‬
‫الفلسفة ال�أولى فكلاهما يبحث في المادة والصورة �إلا �أن نظرهما مختلف‪ ،‬وبالتالي فهو‬
‫يؤدي �إلى نتيجة تعرضها المقدمات التي ينطلق منها كل علم‪.‬‬
‫يفحص العلم الطبيعي المادة والصورة فحصا طبيعيا فيصل �إلى المادة ال�أولى بما هي‬
‫مادة‪ ،‬و�إلى الصورة الطبيعية و�إلى �أن �أفعال الصور تنتهي �إلى فعل صورة �أولى ليست من‬
‫مادة وهو المحرك ال�أول‪ .‬ونظر العلم الطبيعي �إلى المادة ال�أولى هو نظر من حيث هي مبد�إ‬
‫التغيير‪ ،‬ونظره �إلى الصورة من حيث هي صورة طبيعية‪ ،‬ولهذا السبب ف�إن العلم الطبيعي لا‬
‫يستطيع �أن يكون نظره تاما في المادة ال�أولى والصورة‪� .‬أما العلم الذي يحوز هذه الفضيلة‬
‫فهو العلم ال�إ لهي‪ ،‬العلم الذي يتمم النظر في المادة والصورة �إذ �إنه ينظر فيهما من حيث‬
‫�إنهما جوهر‪ ،‬فينظر في المادة ال�أولى من حيث هي جوهر بالقوة وينظر في الصورة من‬
‫حيث هي جوهر بالفعل ليفضي به ال�أمر �إلى الصورة ال�أولى لجميع ال�أشياء المحسوسة‪.‬‬
‫فما بعد الطبيعة تنطلق من مبادئ الجواهر المحسوسة لمعرفة مبد�إ الجوهر ال�أول‪ .‬ومن‬
‫هنا فتعلم الفلسفة على المجرى الصناعي يتم بالانتقال بشكل تدريجي من العلم الطبيعي‬
‫�إلى الفلسفة ال�أولى بعد الت�أدب بصناعة المنطق‪ ،‬والارتياض ببعض �أقسام علوم التعاليم‪.‬‬
‫وللميتافيزيقا �أجزاء لم تشتهر اشتهار مباحث العلم الطبيعي و�أجزاء المنطق‪ ،‬ولم ت�أخذ‬
‫وحدة وانسجام النظر الطبيعي والمنطقي في نظرتهما �إلى موضوعاتهما‪ .‬لكن ابن رشد‬
‫سينظر �إلى ترتيبها‪ ،‬في الشرح الكبير على ما بعد الطبيعة‪ ،‬على �أنه ترتيب جار "على النظام‬
‫ال�أفضل في الترتيب"‪ ،‬وال�أفضل في التعليم‪ ،‬كما بين ذلك في ديباجة مقالة اللام(((‪ .‬ذلك‬
‫‪ - 1‬شرح البرهان مرجع سابق ص ‪289‬‬
‫‪ - 2‬بد�أ ابن رشد هذه المقالة بتحديد �أجزاء ما بعد الطبيعة فجعلها ستة �أجزاء‪:‬‬
‫‪ -‬الجزء ال�أول ‪ :‬ينظر في الموجود بما هو موجود‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الثاني ‪ :‬ينظر في لواحق الموجود بما هو موجود‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الثالث ‪ :‬ينظر في ال�آراء الكاذبة التي قيلت في مبادئ الموجود‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الرابع ‪ :‬ينظر في المنطق الخاص بعلم الطبيعة ‪� :‬أي‬
‫‪ -‬على نحو نظر علم ما بعد الطبيعة‪.‬‬
‫‪ -‬على ما يعطي من ال�أسباب‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫هو الترتيب الذي على الفيلسوف سلوكه من �أجل تعلم �أفضل‪.‬‬
‫مع �أن ما بعد الطبيعة تكاد تخرج من مبحث البرهان بالمعنى المنطقي((( ف�إن شخصية‬
‫‪ -‬على من �أين يبتدئ و�إلى �أين ينتهي‪.‬‬
‫‪ -‬على كيفية وجه استعمال الحدود فيها‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء الخامس ‪ :‬ينظر في الرد على من يرفع النظر ويجحد مبادئه‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء السادس‪ :‬ينظر في ال�آراء الكاذبة التي قيلت في الموجودات الفكرية‪74.‬‬
‫�أما مقالات ما بعد الطبيعة فهي اثنا عشر مقالة ‪:‬‬
‫‪ -‬مقالة ال�ألف الصغرى ‪ :‬وتعالج �أوجب شيء على صاحب الفلسفة ال�أولى علمه وهو النظر في ال�أسباب "�إذ كانت‬
‫هي المطلوبات من الموجودات"‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة ال�ألف الكبرى ‪ :‬وتنظر في ما �أدرك الفلاسفة القدماء‪ ،‬السابقون على �أرسطو‪ ،‬من �أجناس ال�أسباب ال�أول‪،‬‬
‫وتبين �أنها �أربعة‪ ،‬وت�أتي بر�أيهم في �أسباب الموجودات وتعاندهم بعض عناد في هذه المقالة‪ ،‬ويؤجل مناقضتهم‬
‫مناقضة عامة في مقالتي الميم والنون وهما مقالتان غير مدرجتين في التفسير الكبير ‪...‬‬
‫‪ -‬مقالة الباء ‪ :‬وتنظر في مطالب ما بعد الطبيعة وتفحص عنها بال�أقاويل الجدلية المشككة في مطلوب مطلوب من‬
‫مطالبه ليشرع بعد ذلك في سائر مقالات التفسير في حل الشكوك العارضة في علم ما بعد الطبيعة‪ .‬فالمقالات‬
‫التالية على مقالة حرف الباء �إما تحل الشكوك المذكورة في هذه المقالة‪ ،‬و�إما تحتوي على معرفة ال�أشياء الضرورية‬
‫في حل الشكوك المذكورة في هذه المقالة‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الجيم ‪ :‬تحل الشكوك التي ترد في نحو نظر صناعة ما بعد الطبيعة‪ .‬وتدافع عن المقدمات ال�أول التي لا‬
‫يصح نظر بدونها‪ .‬وتحتوي هذه المقالة على المنطق الخاص بعلم ما بعد الطبيعة كما تحتوي على تقرير المبد�إ‬
‫ال�أول من ال�أوائل التي لنا بالطبع‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الدال ‪ :‬وتفرد لتفصيل المعاني التي تستعمل عليها ال�أسماء في الفلسفة ال�أولى‪ .‬ل�أن �أول ما يشرع فيه من‬
‫كان مزمعا على برهان مطلوب مطلوب من المطالب هو �أن يشرح الاسم المقول على ذلك الاسم المقول على‬
‫ذلك المطلوب‪� ،‬إذ كان يدل على معان كثيرة ولاسيما ما كان منها مقولا بتناسب وهي المطالب التي تفحص‬
‫فيما بعد الطبيعة‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الهاء ‪ :‬من �أجل الفحص عن ال�أشياء المطلوبة في علم ما الطبيعة وهي معرفة �أسباب الهويات وكانت �أصناف‬
‫الهويات ثلاثة ‪ :‬الهوية التي بالعرض‪ ،‬الهوية التي في النفس‪ ،‬الهوية التي خارج النفس‪ ،‬ف�إن هذه المقالة تبتدئ‬
‫فتعرف �أصناف هذه الهويات و�أن يفحص عن الهوية التي هي خارج النفس ويميزها عن ال�آخريين‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الواو والزاي ‪ :‬لما تبين �أن الهوية الحقيقية هي الموجودة خارج النفس شُ رِع بالفحص عنها‪ ،‬ولما كان الجوهر‬
‫مبد�أ هذه الهوية �أخذت المقالة تطلب مبادئ الجوهر وابتد�أت من ذلك مبادئ الجوهر الكائن الفاسد‪.‬ويصرح ابن‬
‫رشد في مقالة الزاي �أنه تعب في تفسيرها و�أنه اعتنى بها عناية بالغة‪.‬مقالة الزاي ص‪.1020‬‬
‫‪ -‬مقالة الحاء ‪ :‬تفحص عن اللواحق العامة للموجود بما هو موجود‪ ،‬فتفحص عن القوة والفعل وبيان �أن الفعل‬
‫�أقدم من القوة‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الطاء ‪ :‬تفحص عن الواحد والكثير‪ ،‬والهو هو‪ ،‬والشبيه والضد‪ ،‬وغير ذلك من اللواحق العامة للموجود بما‬
‫هو موجود‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الياء ‪ :‬تفحص عن الحركة‪ ،‬وما لانهاية‪ ،‬بجهة غير الجهة التي نظر �إليهما بهما صاحب العلم الطبيعي‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة اللام ‪ :‬وهي تعالج الغاية المقصودة من الفلسفة ال�أولى وهي بيان مبادئ الجوهر المحسوس‪ .‬ويعتقد ابن رشد‬
‫في جوامع ما بعد الطبيعة �أن المعرفة بموضوع مقالة اللام الذي يبحث في المبادئ المفارقة يجري مجرى التمام‬
‫والكمال للجزء ال�أول مما بعد الطبيعة الذي يبحث في الموجود بما هو موجود ولواحقه‪ .‬ص ‪.129‬‬
‫مقالة اللام من تفسير ما بعد الطبيعة صص ‪.1405-1395‬‬
‫‪� - 1‬إذا نحن حاكمنا الميتافيزيقا على ضوء نظرية البرهان نجد �إقصاء لها لجملة �أسباب‪:‬‬
‫‪70‬‬
‫الفيلسوف ‪ -‬الحاكم لا تكتمل بدون النّظر الميتافيزيقي الذي يقوم على تسلم موضوعاته‬
‫من العلم الطبيعي �إلى الحد الذي يمكن معه القول �إن عالما فيزيائيا يثوي داخل كل‬
‫فيلسوف‪.‬‬
‫لم يكن ابن رشد ينظر �إلى ما بعد الطبيعة و�إلى العلم الطبيعي باعتبارهما دائرتين‬
‫منفصلتين‪ ،‬بل �إن الدائرتين معا تتقاطعان فيما بينهما وتعالجان مسائل محددة و�إن كان‬
‫منهجهما يختلف في النظر �إلى المسائل لاختلاف منزلتهما المعرفية‪ .‬ويختار ابن رشد‬
‫مفهوم "المتاخمة" للتعبير عن هذه العلاقة بين العلمين(((‪� ،‬إذ ال�أول كلي والثاني جزئي‪.‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى تظهر في حدود موضوعات العلم الطبيعي الهيولى‪ ،‬في‬
‫حين تتناول ما بعد الطبيعة الموضوعات المفارقة بالحد والوجود‪ .‬لكن الفلسفة ال�أولى‬
‫لا يقوم لها �أساس دون معرفة فيزيائية عند ابن رشد و�إن كانت الفلسفة عندما تتسلم‬
‫موضوعاتها من العلم الطبيعي‪ ،‬مثل تسلمها المحرك ال�أول الذي تبين في المقالة السابعة‬
‫والثامنة من السماع الطبيعي من خلال الحركة(((‪ ،‬تذهب في بحثها شوطا كبيرا يكاد‬
‫يجعلها تستغني عن العلم الطبيعي‪ ،‬ويصبح النظر الميتافيزقي الذي يروم ال�إ مساك بالعلة‬
‫ال�أولى لجميع الموجودات هو الهدف‪� ،‬إذ بهذه المعرفة تحصل المعرفة التامة ويحصل‬
‫ال�إ نسان على كماله ال�إ نساني‪ .‬يؤكد ابن رشد هذا المعنى ب�أن معرفة الموجودات ب�أقصى‬
‫�أسبابها هو المقصود من المعرفة ال�إ نسانية وهو ما تعطيه الفلسفة ال�أولى(((‪.‬‬
‫‪� -‬أن الميتافزيقا صناعة عامة تبين مبادئ العلوم من حيث هي �أحد الموجودات بمقدمات صادقة‪ .‬فمبادئ العلوم بينة‬
‫بنفسها‪� ،‬إلا �أن منكريها والواقعين في الغلط فيها ينهض بالفلسفة ال�أولى �إلى الدفاع عنها بمقدمات صادقة‪ .‬رسالة‬
‫ما بعد الطبيعة نشرة رفيق العجم وجيرار جيهامي‪ ،‬دار الكتاب اللبناني ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.33‬‬
‫‪� -‬أنها صناعة تنظر في جنس الصنائع الجزئية وهو الموجود‪.‬‬
‫‪� -‬أنها تبين السببين الصوري والغائي والفاعل‪ ،‬ونحن نعلم �أن السبب الفاعل ليس من ال�أسباب الموجودة في الشيء‪،‬‬
‫لذلك يعسر تبيين الشيء من قبل فاعله‪ .‬شرح البرهان‪ ،‬نشرة بدوي مرجع سابق‬
‫‪ -‬ل�أنها تستعمل مقدمات منطقية عامة ل�أنها نظر كلي عام وليس خاصا‪ .‬ومقدمات ما بعد الطبيعة و�إن كانت صادقة‬
‫�إلا �أنها صادقة غير ذاتية‪ ،‬فهي صادقة بالعرض ليس غير‪.‬وما بالعرض‪ ،‬و�إن كان صادقا‪ ،‬ليس يصير منه ال�إ نسان �إلى‬
‫معرفة طبيعة الشيء �إلا بالعرض‪.‬‬
‫‪ -‬ل�أن موضوعات ما بعد الطبيعة بينة بنفسها وهي التي تؤسس كل برهان‪.‬‬
‫‪ - 1‬مقالة اللام‪ ،‬ص‪ .1434‬وجوامع ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين ص‪.84‬‬
‫‪� - 2‬أنكر ابن سينا مصادرة �أرسطو والمشائين على �إثبات المحرك عن طريق الحركة فقال ‪" :‬قبيح �أن يصار �إلى الحق‬
‫ال�أول من طريق الحركة‪ ،‬ومن طريق �أنه مبد�أ الحركة‪ ،‬وتكلف من هذا �أن يجعل مبد�أ للذوات‪ :‬ف�إن القوم لم يوردوا‬
‫�أكثر من �إثبات �أنه محرك ليس �أنه مبد�أ للوجود‪ ،‬واعجزاه �أن تكون الحركة هي السبيل �إلى �إثبات ال�أحد الحق الذي‬
‫هو هو مبد�أ كل وجود" شرح حرف اللام لابن سينا ضمن �أرسطو عند العرب ص ‪ .23‬ويقول في �إلهيات الشفاء‪:‬‬
‫"ووجود الله تعالى جده لا يجوز �أن يكون مسلما في هذا العلم [الميتافيزيقا] كالموضوع بل هو مطلوب فيه‪...‬‬
‫البحث عنه �إنما هو في هذا العلم" المقالة ال�أولى من �إلهيات الشفاء صص‪6-5‬و ‪.15-10‬‬
‫‪ - 3‬جوامع ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين ص ‪.7‬‬
‫‪71‬‬
‫يحول النظر البرهاني بعدم الخط إ� في معالجة موضوعات الفلسفة سواء تعلق ال�أمر‬
‫بموضوعات العلم الطبيعي‪� ،‬أو موضوعات الفلسفة ال�أولى؛ ف�أنحاء النظر المستعملة في‬
‫العلم الطبيعي هي �أكثرها دلائل وطبيعة الدلائل لا يقدمها �إلا مبحث البرهان‪ ،‬و�أنحاء‬
‫النظر في ما بعد الطبيعة هي كذلك دلائل(((‪ ،‬بل �إن براهين العلم الطبيعي تحضر في ما‬
‫بعد الطبيعة حضورا عاما‪ .‬ويشير ابن رشد في مقالة ال�ألف الصغرى �أنه قد َذكَّر في مقالة‬
‫اللام ببراهين العلم الطبيعي و�أعادها بطريقة عامة(((‪ .‬لكن لم تستعمل الفلسفة براهين العلم‬
‫الطبيعي‪ ،‬ولماذا تذكر بها في الفلسفة ال�أولى مثل ما تم ذلك في مقالة اللام؟‬
‫يتم ذلك ل�أن الفلسفة ال�أولى ت�أخذ موضوعها من العلم الطبيعي وبخاصة المادة ال�أولى‬
‫والمحرك في غير هيولى‪ ،‬بل �إن الفلسفة ال�أولى تصادر على كثير مما تبين في العلم‬
‫الطبيعي لتحل مطلوباتها(((‪ ،‬وتستعمل في هذا الحل براهين من العلم الطبيعي‪ .‬وابن رشد‬
‫يذكر �أن البراهين الطبيعية براهين داخلة في العلم اليقين ل�إ عطاء منزلة علمية للعلمين؛‬
‫للعلم الطبيعي الذي يقوم على براهين علمية‪ ،‬وللفلسفة ال�أولى التي تستعمل البراهين‬
‫الطبيعية بطريقة عامة �أنها تستعمل براهين في مرتبة جيدة من اليقين(((‪ .‬وتنبهنا مقالة الباء‬
‫على ضرورة النظر البرهاني �إذ كثيرا ما تلتبس ال�أقاويل الجدلية بال�أقاويل البرهانية‪ ،‬ل�أن‬
‫ما بعد الطبيعة تشارك علم الجدل في عموم النظر‪ ،‬فضلا عن ذلك ف�إن طبيعة ال�أقاويل‬
‫الجدلية تقتضي �أن تتقدم ال�أقاويل البرهانية(((‪ .‬والنّظر البرهاني هو وحده الكفيل بتخليص‬
‫القول الفلسفي من بقايا الجدل فيه‪ ،‬وهو ما صرح ابن رشد �أنه فعله في كثير من كتاباته‬
‫ذات الطّموح العلمي‪ -‬البرهاني‪ ،‬رغم �أن التمييز بيبن الجدل والبرهان صعب للغاية‪.‬‬
‫لكن النظر العلمي البرهاني يقتضي النظر في دلالات ال�أسماء �أيضا‪ ،‬وهو ما تقدمه‬
‫مقالة الدال‪ ،‬ل�أن �أول ما يشرع فيه من كان مزمعا على �أن يبرهن على شيء من ال�أشياء �أن‬
‫يشرح �أولا الاسم الذي يقال على ذلك الشيء "ليتميز المعنى المطلوب من غيره"‪ .‬وهو‬
‫ما يفعله الفيلسوف في المباحث الطبيعية‪ ،‬لكنه في مبحث الميتافيزيقا سيفرد مقاله خاصة‬
‫"لتعديد ال�أمور التي ُينظر فيها " في ما بعد الطبيعة وذلك "لتفصيل دلالات ال�أسماء على‬
‫‪ - 1‬جوامع ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين ص‪7‬‬
‫‪ - 2‬ص‪ .22‬وانظر �أيضا جوامع ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين ص ‪.93‬‬
‫‪ - 3‬جوامع ما بعد الطبيعة‪ ،‬تح عثمان �أمين‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ - 4‬مقالة ال�ألف الصغرى‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪ - 5‬يقول ابن رشد في مقالة الزاي �إنه في ما بعد الطبيعة تستعمل ال�أقاويل الجدلية المشهورة بين يدي الفحص‬
‫البرهاني عن الصورة‪ .‬ص ‪.777‬‬
‫‪72‬‬
‫المعاني التي ينظر فيها" صاحب الفلسفة ال�أولى(((‪.‬و�أهمية تمييز هذه الدلالات ي�أتي من‬
‫التحفظ من المغالطات‪ ،‬خاصة و"�أن كل تغليط [‪ ]...‬هو من قبل الاسم المشترك"(((‪.‬‬
‫ثم �إن النظر البرهاني حاضر بعمق في قلب الميتافيزيقا بحيث �إن البرهاني والميتافيزيقي‬
‫يتنازعان في النظر في الحد‪ .‬ففي كتاب البرهان وضعت مس�ألة الحد وضعا‪� ،‬أما الفلسفة‬
‫ال�أولى فتفصل القول في الحد‪ ،‬فينظر الفيلسوف �إلى الحدود من حيث هي تدل على‬
‫طبائع ال�أشياء‪� .‬أما المنطقي فينظر في الحدود من حيث هي �آلة تسدد الذهن نحو التصور‬
‫لماهيات ال�أشياء(((‪ .‬فضلا عن ذلك فمقومات النظر البرهاني لا يفت�أ استحضارها في قلب‬
‫المعرفة الفلسفية من �أجل الوعي بطبيعة ال�أقاويل المستعملة(((‪ .‬من هنا ضرورة المعرفة‬
‫البرهانية للحاكم على الوجود‪ ،‬وهي معرفة تخترق المعرفة الفلسفية بشقها الطبيعي‬
‫وال�إ لهي‪ .‬لكن سيكون على الحاكم على الوجود �أن ينظر في مبادئ صناعة المنطق نفسها‬
‫ليخلصها من مغالطات المغالطين(((‪ ،‬وهو ما يصنعه مع مبادئ العلوم الجزئية جميعها‪.‬‬

‫‪ - 2‬التّصديق البلاغي في خدمة الفضيلة‬


‫�إذا كان النظر البرهاني يقف بنا عند مباحث المنطق والعلم الطبيعي والعلم ال�إ لهي‪،‬‬
‫وكان الحاكم على الوجود على معرفة يقينية بالوجود وفق معايير القول البرهاني‪ ،‬ف�إن هذه‬
‫ال�أقاويل العلمية التي يحصل عليها الحاكم لا تبلغ كمالها �إلا �إذا ُبلِّغت ل�أصحابها‪ ،‬ثم‬
‫يلج�أ الحاكم لتبليغ ال�أمور النظرية �إلى ال�أقاويل الجدلية‪ ،‬ويقصد بها هؤلاء الذين قصر‬
‫طبعهم عن تجاوزها‪� .‬أما ال�أقاويل الخطابية والشعرية �أو ما يسميه ابن رشد "التصديق‬
‫البلاغي" فيقصد بها الجمهور والصبيان(((‪� .‬أما القول السفسطي فيمكّن الحاكم من‬
‫‪ - 1‬مقالة الدال من تفسير ما بعد الطبيعة تح موريس بويج ط‪ ،3‬ج‪ ،2‬دار المشرق‪ ،‬ص ‪.475‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص السفسطة‪ ،‬تح محمد سليم سالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مطبعة دار الكتب‪ ،1972 ،‬ص‪.139‬‬
‫‪ - 3‬مقالة الزاي ص ‪.944 943-‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد ‪:‬‬
‫‪ -‬المقدمات المناسبة هي التي لا يتجاوز بها الجنس المنظور فيه‪.‬مقالة الزاي ص‪758‬‬
‫‪ -‬البراهين تكون على ال�أمور الذاتية الموجودة للجنس الذي تنظر فيه صناعة صناعة‪ ،‬لا على جنس الصناعة نفسه ولا‬
‫على نوع من �أنواعه‪.. ،‬والبرهان هو من الجواهر على ال�أعراض‪ ،‬وليس للجوهر جوهر ولذلك ليس يوجد للجواهر‬
‫حدود‪ .‬مقالة الهاء‪ ،‬ص ‪.702‬‬
‫‪ -‬بحضور برهان السبب والوجود في جوامع ما بعد الطبيعة ص ‪..136‬‬
‫‪ -‬بالبرهان على المكان ببرهان مطلق‪ ،‬جوامع السماع الطبيعي‪ ،‬تح جوزيف بويج ص‪.48‬‬
‫‪ - 5‬شرح البرهان ص ‪.327‬‬
‫‪ 6‬الضروري في السياسة ص ‪86‬‬
‫‪73‬‬
‫الكشف عن "الحكمة المرائية" والتمييز بين "عمل الحكيم بالحقيقة" وبين عمل من‬
‫"يظن بهم �أنهم يعملون عمل الحكماء من غير �أن يعملوا عملهم"(((‪ ،‬كما تمكنه من سبر‬
‫�أقوال المشاغبين الذين يتشبهون بالجدليين بحيث يوهمون �أن مخاطبتهم هي "مخاطبة‬
‫جدلية من مقدمات محمودة‪ ،‬من غير �أن تكون كذلك في الحقيقة"(((‪ .‬ومن هنا تنفع‬
‫السفسطة الحكيم ‪ -‬الحاكم حيث يكون على دراية بـ "المواضع المغلطة النافعة في‬
‫�أغراض المشاغبين"‪ ،‬عالما بِش ِّرهم‪ ،‬و"من علم الشر‪ ،‬كان �أحرى �ألا يقع فيه"((( واستفاد‬
‫التحفظ من �أن تؤلف عليه �أقيسة مرائية مع معرفة نقضها �إذا �ألفت‪ .‬ولهذا السبب جاء‬
‫"كتاب الجدل" بعد "كتاب السفسطة"(((‪ ،‬بل و"ن ُِظر في هذه الصناعة على �أنها جزء‬
‫من صناعة الجدل"(((‪ ،‬مما يبين �أن المباحث المنطقية سلسلة يشد بعضها برقاب بعض‬
‫ويفضي بعضها �إلى بعض خاصة و�أن مبحث البرهان يلحمها جميعها‪.‬‬
‫�إن التمرس بالطرائق المنطقية والتحقق من سباراتها هام قبل التصدر للحكم‪ ،‬ويبدو‬
‫�أن صناعة الخطابة �أقرب الصناعات المنطقية �إلى العلم السياسي عند ابن رشد‪ .‬فهذه‬
‫الصناعة مركبة من علم المنطق و"علم السياسة الخلقية" �أي من صناعتين؛ صناعة الكلام‬
‫والصناعة الخلقية �أو المدنية(((‪ ،‬من هنا فهي �أكثر ضرورة ونفعا في قيام المدن‪ .‬فالخطيب‪،‬‬
‫بل كل من تكلف بالش�أن العام‪�- ،‬إ ْذ كان قصد الخطابة ال�إ قناع الممكن(((‪ -‬لابد �أن‬
‫يتمكن من ال�أقاويل المقنعة من جهة‪ ،‬ومن ال�أخلاق والفضائل من جهة �أخرى �إذا �أراد‬
‫الكمال في علاقاته بمخاطبيه‪.‬‬
‫�إن الفضاء الذي يتحرك فيه الخطيب‪ ،‬هو دوما فضاء سياسي يضطره �إلى �إتقان فن‬
‫الكلام‪ ،‬ومعرفة �أخلاق الناس وطبائعهم‪ ،‬لذا كانت الخطابة ضرورية في المدينة ل�أنها‬
‫تنظر في ال�أشياء المشهورة من جهة‪ ،‬مثل �أقاويل العلماء التي يقبلها الناس على �أساس �أنها‬
‫مشهورات �إما عند الجميع و�إما عند ال�أكثر(((‪ ،‬كما تنظر في ال�أشياء ال�إ رادية التي مبدؤها‬
‫الروية والاختيار وال�إ رادة من جهة �أخرى‪ ،‬وهي الفضائل والرذائل‪.‬‬
‫‪ 1‬تلخيص السفسطة‪ ،‬تح محمد سليم سالم القاهرة مطبعة دار الكتب ‪ 1972‬صص‪.-9 8‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص السفسطة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪12-11‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص السفسطة‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص السفسطة‪ ،‬ص‪.170‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص السفسطة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71‬‬
‫‪ - 6‬المرجع السابق ص‪18‬‬
‫‪ - 7‬المرجع السابق ص‪15‬‬
‫‪ - 8‬تلخيص كتاب الجدل ص‪.35‬‬
‫‪74‬‬
‫�إن الخطابة والسياسة رغم �أنهما يشتركان‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬في النظر في الموضوعات‬
‫ال�أخلاقية ف�إنهما يختلفان في جهة نظرهما �إليها وجهة مقاربتهما لها‪ .‬فالخطابة تنظر‬
‫فيها باعتبارها موضوع "كلام ومخاطبة" نظرا يقتصر على الضروري من القول والكافي‬
‫في ال�إ قناع‪ .‬والسياسة تنظر فيها ل�أنها "�أحد الموجودات"‪� ،‬أي كموضوع فلسفي يجب‬
‫معرفته والعلم به‪ ،‬ومن هنا ففحصها هذه الموضوعات ال�أخلاقية يتميز بعمق �أكثر(((‪.‬‬
‫�إن حرص ابن رشد على التمييز بين نظر العلمين �إلى نفس ال�أشياء السياسية يفسره‬
‫الحرص على بيان وظيفة الخطيب في المدينة واختلافها عن وظيفة الفيلسوف المدني‪.‬‬
‫فالخطيب باعتباره مشيرا في المدينة في ال�أمور العظام((( حاجته �إلى معرفة ما يكفيه في‬
‫�إتقان ذلك �أكبر من حاجته �إلى استقصاء القول في طبيعة موضوع فلسفي �أقرب �إلى‬
‫التجريد كما يفعل الفيلسوف‪ ،‬والخطابة تقدم له ال�أدوات الضرورية ل�أداء مهامه في‬
‫المدينة بالتمكن من ال�أشياء التي يقدر بها على ال�إ قناع الجيد في السنن((( كما تُجلي‬
‫الشروط التي يجب �أن تتوفر في الخطيب المقنع‪� ،‬إذ �إن درجة �إقناع ال�أقاويل مرتبط‬
‫بصلاح المشيرين وحسن فعلهم(((‪ .‬وحاجة الحاكم �إلى معرفة تقنيات القول الخطبي لا‬
‫تقل �أهمية كذلك‪ ،‬فالحاكم في حاجة �إلى ترجيح �أحد قولي المتخاطبين؛ متكلما ومناظرا‬
‫كما يوجد في الخصومات في المدينة‪ ،‬ل�أن ال�أقاويل المستعملة في الخطابة هي �أقاويل‬
‫ظنية غير يقينية(((‪.‬‬
‫صناعة الخطابة جزء من الصنائع الضرورية في قيام المدن‪ ،‬فهي نافعة في مخاطبة‬
‫الجمهور بعضهم بعضا وضرورية للحاكم في قيادة الناس وتوجيههم‪ .‬لذا عليه �أن يعرف‬
‫متى يكون القول الخلقي نافعا ناجعا ومقنعا((( وكيف يستعمل الكلام على جهة الر�أي في‬
‫التخاطب والت�أثير في الناس(((‪ ،‬ومتى تعتبر التوبيخات �أنجع(((‪ ،‬وما المعاني الخاصة التي‬
‫يكون بها ال�إ قناع(((؟‪ ،‬وغير ذلك من ال�أمور التي تقدمها المقالات الثلاث لكتاب الخطابة‪.‬‬
‫‪ - 1‬تلخيص الخطابة ص‪ 34‬وص‪.71‬‬
‫‪ - 2‬المرجع السابق ص‪36‬‬
‫‪ - 3‬المرجع السابق ص‪ 68‬وص‪71‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ص‪70‬‬
‫‪ - 5‬نفس المرجع ص‪ 131‬وص‪.203‬‬
‫‪ - 6‬المرجع السابق ص‪ 220‬وص‪280‬‬
‫‪ - 7‬المرجع السابق ص‪.222-215‬‬
‫‪ - 8‬المرجع السابق ‪238‬‬
‫‪ - 9‬المرجع السابق ص‪249‬‬
‫‪75‬‬
‫�إذا كنا نجد السياسة في الخطابة فل�أن الخطابة تتوجه �إلى ال�آخر وليس �إلى الذات(((‪.‬‬
‫والجدل من الصناعات المنطقية الضرورية في المدن �أيضا ل�أنها تستعمل مع الجمهور‬
‫لغرضين‪� .‬أحدها عملي‪ ،‬وال�آخر نظري‪ .‬لكن غايته عملية بال�أساس ‪ :‬ف�أما الغرض ال�أول‬
‫فيظهر في حث الجمهور على الاجتماع على العدل والفضيلة‪ .‬و�أما الغرض الثاني فيظهر‬
‫في حثهم على اعتقاد معارف نظرية مفيدة لاجتماعهم المدني(((‪ .‬كما تنفع هذه الصناعة‬
‫في مناظرة الجمهور(((‪ .‬ولهذه الصناعة قوانين كلية يجب معرفتها‪ ،‬ومزاولة يجب القيام‬
‫بها من �أجل �أن تحصل هذه الصناعة تامة في ال�إ نسان(((‪ ،‬فيوظفها �إما من �أجل الغلبة‪� ،‬أو‬
‫البرهان‪� ،‬أو التعلم‪ ،‬و�إما من �أجل الارتياض(((‪.‬‬
‫�إن صناعتي الخطابة والجدل كلاهما من الصنائع الفاعلة ويستعملان مع الجمهور(((‪.‬‬
‫ويحرص ابن رشد في بداية كتاب "تلخيص الخطابة" على بيان مناسبة صناعة الخطابة‬
‫لصناعة الجدل ؛ فهما يقصدان معا مخاطبة الغير‪ ،‬ويشتركان في موضوع واحد هو‬
‫النظر في جميع ال�أشياء‪� ،‬إذ �إنه على خلاف العلوم التي لها موضوعات خاصة بها‪ ،‬ولها‬
‫مختصون يعالجونها‪ ،‬ف�إن صناعتي الخطابة والجدل ينظران في جميع الموجودات‪ ،‬ومن‬
‫هنا صلتها بجميع العلوم ال�أخرى‪ .‬كما �أن استعمالهما مشاع بين الناس جميعهم طبعا‬
‫وصناعة‪ ،‬جمهورا وخواصا(((‪� .‬أضف �إلى �أن بين الخطابة والجدل �أكثر من علاقة تعاون‬
‫�إذ �إن الخطابة تستفيد كثيرا من المواضع الجدلية في ال�إ قناع والتوجيه‪ .‬لكن ما الذي يميز‬
‫القول الخطبي عن القول الجدلي؟ ومتى نلج�أ �إلى �أحدهما دون ال�آخر؟‬
‫يختلف القول الخطبي عن القول الجدلي في �أن القول الخطبي يحتفل بالجزئيات‬
‫في حين يهتم القول الجدلي بالكليات؛ �إن الجدل ينظر في المطالب الكلية((( لذلك‬
‫يعتبر القياس فيه �أشرف من الاستقراء و�إن كان الاستقراء فيه �أنفع(((‪� .‬إن ال�أقاويل الجدلية‬
‫‪1- Dominique Urvoy, IBN RUSHD (Averroès) CARISCRIPT Paris 1996 p78-79.‬‬
‫ونجد نفس الارتباط بين الخطابة والسياسة عند ابن سينا‪ ،‬الخطابة من الشفاء ص‪.34‬‬
‫‪ - 2‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب الجدل تح محمد سليم سالم‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪ 1980‬ص‪.8‬‬
‫‪ - 3‬المرجع السابق ص‪7‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ص‪ 3‬وص ‪8‬‬
‫‪ - 5‬المرجع السابق صص‪427-425‬‬
‫‪ - 6‬كتاب تلخيص الجدل ص‪ 3‬وص ‪.8‬‬
‫‪ - 7‬تلخيص الخطابة ص‪.4 - 3‬‬
‫‪ - 8‬تلخيص الجدل ص‪43‬‬
‫‪ - 9‬تلخيص الجدل مرجع سابق ص‪ 48‬وص‪.409‬‬
‫‪76‬‬
‫نوعان‪ :‬قياس يستعمل مع المهرة الذين لهم خبرة بصناعة الجدل‪ ،‬واستقراء يستعمل مع‬
‫عموم الجدليين من العوام الذين يذعنون للاستقراء �أكثر(((‪� .‬أما غاية الخطابة فالحديث‬
‫في الجزئيات وتنتفع بالكليات عند مطابقتها للجزئيات واستعمالها قوة الكلي فيها(((‪،‬‬
‫ويت�أسس هذا ال�أمر على طبيعة الجمهور المخا َطب؛ فمعارف الجمهور �إنما هي لل�أمور‬
‫الجزئية ولا يمكنهم �أن يجردوا المعاني الكلية �إلا �إذا تخيلوها بصحبة الجزئيات التي‬
‫معهم؛ ومن هنا فعندما يخا َطبون بالكليات في تلك الجزئيات التي يعرفونها مسبقا ف�إن‬
‫النفع يحصل لهم منها(((‪.‬‬
‫هناك اختلافات كثيرة بين الخطابة والجدل و�إن كان كلاهما يروم ال�إ قناع‪ .‬لكن‬
‫الجدل يؤدي بعض الوظائف الفلسفية المهمة التي تعجز عنها الخطابة‪ ،‬مثل وظيفة‬
‫التشكيك الجدلي التي ُيستطاع بها تمييز موضوعات العلم المدني التي يختلط فيها ما‬
‫بالذات مع ما كان بالعرض‪ ،‬قبل الفحص البرهاني عنها(((‪ .‬كما �أن الجدل يمتاز بنوع من‬
‫الخطورة ما لم يعرف حدودا يقف عندها من �أسئلة مدمرة للنظر مثل "هل المحسوسات‬
‫لها حقيقة �أم لا؟"‪� .‬أو �أسئلة غير صالحة في علم المنطق مثل "هل كل شيء يحتاج �إلى‬
‫بيان‪� ،‬أم �أن هناك �أشياء ب ّينة بنفسها؟"(((‪ .‬وما لم يتجنب ما يمكن �أن يضر بالمجتمع من‬
‫�أسئلة جدلية((( مدمرة للعمل مثل �أن يجادل "هل ينبغي �أن يعبد الله �أم لا؟"‪ .‬وهو ما يتنافي‬
‫مع الغرض ال�أول لصناعة الجدل من نفع الجمهور‪.‬‬
‫لكن صناعة الجدل تنفرد عن صناعة الخطابة ب�أنها تنفع الحاكم في مناظرة الجمهور‪،‬‬
‫فالجمهور يجتمع من �أجل العدل والفضيلة من جهة‪ ،‬ولاعتقاد كثير من ال�أمور النظرية‬
‫التي تنفعهم في الاجتماع المدني‪ .‬ولما كانت هذه ال�أمور النظرية يقع للجمهور التصديق‬
‫بها من الطرق المشهورة‪ ،‬توسل الحاكم بصناعة الجدل ل�أنها هي التي تبحث في ال�أقاويل‬
‫المشهورة‪ ،‬وهي ال�أقاويل التي تثبت بها عند الجمهور ال�أمور النظرية التي تتبين بالبرهان‪.‬‬
‫و�أهمية ال�أقاويل المشهورة تكمن في �أنها �أعسر عنادا من غيرها من ال�أقاويل؛ خطبية كانت‬
‫‪ - 1‬تلخيص الجدل ص ‪.409‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الخطابة مرجع سابق ص‪.211‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص الخطابة ص‪.220‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص الجدل ص‪11‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص الجدل صص‪.42-41‬‬
‫‪ - 6‬يعرف ابن رشد "السؤال الجدلي [ب�أنه] هو الذي فيه للمجيب �أن يجيب بنعم �أو لا؟"‪ .‬تلخيص الجدل مرجع‬
‫سابق ص‪.419‬‬
‫‪77‬‬
‫أ�م شعرية(((‪� .‬إن صناعة الجدل بهذا المعنى من �أكثر الصنائع نفعا للجمهور في تثبيت‬
‫(((‬
‫الفضائل مع نفعها للفيلسوف كذلك عند بحثه النظري‪.‬‬
‫جعل ابن رشد الخطابة وثيقة الصلة بالحكم‪ ،‬وجعل الجدل في خدمة العلم المدني‬
‫ومنحه وظائف ثقافية واجتماعية هامة‪ .‬وهما صناعتان تفيدان القول الفقهي وتخدمان‬
‫الفقيه على الخصوص؛ فالقول الفقهي قول في السنن‪ ،‬والسنن عاصمة للمدن من‬
‫التحلل‪ .‬من هنا فالفقه لا جدوى له خارج المدينة‪ ،‬و�أحداثها‪ ،‬ووقائعها‪ ،‬وخصوماتها‪،‬‬
‫ومنافراتها‪ ،‬ومشاوراتها‪ ،‬و�أسئلتها المختلفة والمتشابكة‪ ،‬وهي المجالات التي تُقدم فيها‬
‫هاتان الصناعتان مساهمتها التي يستفيد منها الحاكم بالدرجة ال�أولى ومن َسلَّ َطه الحاكم‬
‫على الناس من القضاة‪.‬‬

‫‪� -3‬أهمية القول الشعري في �إدارة المدن‪.‬‬


‫يعتبر القول الشعري من �آكد ال�أقاويل الضرورية في �إدارة المدن وتوجيه الجمهور‪.‬‬
‫لكن قيمة هذا التعليم تكمن �أولا في ارتباطه بالقول البرهاني "هذا النحو من التعليم [�أي‬
‫التعليم الشعري] �إنما يدخل في التعليم البرهاني في ال�أشياء التي تصعب على الذهن‬
‫�أن يتصورها �أولا بذاتها‪ ،‬فتؤخذ �أولا في تفهيمها بدل جوهر الشيء‪ ،‬تلك ال�أشياء على‬
‫جهة التوطئة‪� ،‬إلى �أن ينتقل الذهن من محاكي الشيء �إلى الشيء بعينه‪ ،‬ل�أن المقصود‬
‫من ذلك تصور الشيء بما يحاكيه فقط" (((‪ .‬فالتعليم الشعري لا ُيلج�أ �إليه في التعليم‬
‫البرهاني �إلا �إذا كان المخاطب واسع التخيل‪ ،‬ضعيف الفكر‪ ،‬لا يفهم "برهانا" �إذا لم‬
‫يقدم له في"طبق" من تخيل(((‪ .‬وهو ما ينطبق على �أصناف الناس في المدن‪ .‬من هنا‬
‫يرى ابن رشد �أنه لا مندوحة عن القول الشعري في التعليم(((‪ ،‬و�إن كان الكمال ال�إ نساني‬
‫الذي يحققه ‪-‬وهو تخيل الشيء ب�أتم ما يمكن فيه‪ ،‬من الكمالات الْـ"خارجة عن الكمال‬
‫‪ - 1‬تلخيص الجدل ص‪8‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الجدل‪ ،‬ص ‪ .41‬وقارن منى �أحمد في كتابها المدينة الفاضلة عند ابن رشد حيث تزعم �أن ابن رشد‬
‫يرفض ال�أقاويل الجدلية بوجه عام ص‪.125‬‬
‫‪ - 3‬كتاب النفس طبعة حيدر �آباد ط‪ 1947 1‬ص ‪.51‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد‪ [" :‬فهؤلاء] قوتهم الخيالية غالبة على قوتهم الفكرية‪ ،‬ولذلك نجد هؤلاء لا يصدقون بال�أمور‬
‫البرهانية �إذا لم يصحبها تخيل" مقالة ال�ألف الصغرى من تفسير من بعد الطبيعة ص ‪40‬‬
‫‪ - 5‬جوامع الشعر مع جوامع الجدل والخطابة لابن رشد وهي في ال�أصل ال�أجزاء الثلاثة ال�أخيرة من المختصر في‬
‫المنطق نشرها تشارلس بوتروت بنييويورك ‪ 1997‬ص ‪205‬‬
‫‪78‬‬
‫ال�إ نساني"(((‪ .‬لكن لسياسة المدن منطقها الخاص الذي يقتضي ما لا تقتضية المخاطبة‬
‫البرهانية الخاصة‪ .‬و�أهم ما تحضر فيه ال�أقاويل الشعرية لتؤدي وظيفتها مجال الموسيقى‪،‬‬
‫فهنا تظهر ال�أهمية القصوى لل�أقاويل الشعرية في ترسيخ الفضائل كما كان ابن رشد ي�أمل‬
‫من صناعة الموسيقى‪ ،‬ومن دورها في التربية‪ ،‬كما سبق �أن لاحظنا‪.‬‬
‫يتحرك الناس عند ابن رشد بالطبع ل�إ حدى قولين؛ �إما قول برهاني و�إما قول ليس‬
‫برهانيا(((‪ .‬والقول الشعري ليس قولا برهانيا‪ .‬لكن عدم برهانيته لا يجعله خارج البرهان‬
‫�إذ هو خادم له؛ فهو يستعمل في المخاطبة البرهانية ليكون حصول البرهان �أيسر و�أسهل‬
‫و�أوضح(((‪ ،‬فال�أقاويل العملية البرهانية التي يعجز الجمهور عن فهمها تبلغ بالتمثيل‬
‫والمحاكاة(((‪ .‬وهو ما نبه �إليه ابن رشد فيما يخص العلم السياسي الذي يرمي بالقصد‬
‫ال�أول �إلى التمثيل للمدن غير الفاضلة‪ .‬لكن التمثيل منه نافع ومنه غير نافع كمن يسعى �إلى‬
‫تمثيل السعادة بكونها جزاء على ال�أفعال التي توصل �إلى السعادة‪ ،‬وثوابا على ترك ال�أفعال‬
‫التي تخطئ طريق السعادة‪� .‬إن "الفضائل الحاصلة من مثل هذا النوع من التمثيل ‪-‬عند‬
‫ابن رشد‪ -‬هي �أقرب �إلى �أن تكون رذائل من �أن تكون فضائل"(((‪ ،‬وابن رشد في موقفه‬
‫ينتقد تقليدا تربويا تعرفه مدينته ال�أندلسية يرجع بعضه �إلى عادة الناس‪ ،‬وبعضه ال�آخر �إلى‬
‫المتكلمين الذين استعملوا التمثيل الشعري من �أجل �إفساد عقول الناشئة عوض تقويمها(((‪.‬‬
‫وسيؤكد ابن رشد‪ ،‬في تلخيص كتاب الشعر‪� ،‬أهمية التخييل والمحاكاة باعتبارهما مقومين‬
‫�أساسيين للقول الشعري في المخاطبة البرهانية؛‬
‫ال�أقاويل الشعرية هي ال�أقاويل المخيلة (((‪ ،‬والتخيل والمحاكاة في ال�أقاويل الشعرية‬
‫تكون من قبل ثلاثة �أشياء‪ :‬النغم‪ ،‬والوزن‪ ،‬ومن قبل التشبيه(((‪� .‬إن صناعة الشعر‪ ،‬وهي‬
‫صناعة عمل ال�أقاويل المحاكية‪ ،‬هي �إحدى صناعات ثلاث‪ ،‬مع صناعة اللحن وصناعة‬
‫الوزن(((‪ ،‬ضرورية ل�إ دارة المدينة‪ ،‬ل�أن قصد المحاكين هو الحث على ال�أعمال الفاضلة‬
‫‪ - 1‬نم ص‪.250‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الشعر‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص الخطابة مرجع سابق ص‪252‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪87‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص‪.89‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في السياسة‪ ،‬نفس الصفحة‬
‫‪ - 7‬تلخيص الشعر تح محمد سليم سالم القاهرة ‪ ،1971‬ص ‪.57‬‬
‫‪ - 8‬تلخيص الشعر مرجع سابق ص‪60‬‬
‫‪ - 9‬تلخيص الشعر‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫‪79‬‬
‫والدعوة �إلى الكف عن مضاداتها‪ .‬ولما كان كل فعل وكل خلق تابع للفضيلة والرذيلة‬
‫ف�إن الفضائل تحاكى بالفضائل والرذائل تحاكى بالرذائل‪ ،‬ذلك �أن كل تشبيه وحكاية �إنما‬
‫يقصد به تحسين الفضائل وتقبيح الرذائل(((‪ .‬تكمن �أهمية ال�أقاويل الشعرية في �أن النفس‬
‫ال�إ نسانية تقبل المعرفة بحسب التذاذها(((‪ .‬لذلك كلما كانت هذه ال�أقاويل لذيذة فعلت‬
‫فعلها الكبير في النفس وساهمت في تغيير �أخلاقها‪ ،‬وفي تحريكها نحو اقتناء الفضائل‪.‬‬
‫ففعل ال�أقاويل الشعرية هو تحريك النفس(((‪ .‬لذا ف�إن واضعي السياسات �إنما مكنوا‬
‫الاعتقادات في النفوس من خلال لجوئهم �إلى ال�أقاويل الشعرية((( و�إلى جزئها العظيم‪،‬‬
‫وهو صناعة المديح الذي يولد الانفعالات النفسانية من خوف وغضب ورحمة وتعظيم‪،‬‬
‫الحث على ال�أفعال(((‪ .‬ولمنزلة القول الشعري في التربية‬
‫ّ‬ ‫وهو جزء ذو منزلة كبري في‬
‫كانت الصناعة العلمية التي تعرف مماذا تعمل ال�أشعار؟ وكيف تعمل �أتم رئاسة من عمل‬
‫ال�أشعار الذي يتقلده الشعراء‪ ،‬وهذه الصناعة �أقرب الصنائع �إلى الفلسفة ل�أنها تتكلم في‬
‫الكليات(((‪ ،‬فهي لذا السبب �أقرب الصنائع �إلى حاكم المدينة‪ ،‬وتفقهه فيها ضروري‬
‫لتكون درايته بالقول المحرك للنفس تامة ترفد �إرادته في التربية بالتخييل الفاضل(((‪،‬‬
‫وبال�ألفاظ الحقيقية المستولية وليس بالرموز وال�ألغاز(((‪ .‬وهو ما ينعدم في كثير من �أشعار‬
‫العرب عند ابن رشد‪.‬‬

‫‪� -4‬أهمية �أصول الفقه في �إدارة المدينة‪.‬‬


‫يحرص الحاكم على تعليم الجمهور الحكمة لحاجته �إليها‪ ،‬ف�إذا كانت الحكمة مترفعة‬
‫ب�أسلوبها البرهاني‪ ،‬ف�إنها قريبة بمضامينها �إذا توسل �إليها ب�أساليب مناسبة‪ ،‬وهو ال�أمر الذي‬
‫تسمح به الطرق الشعرية والخطبية‪ .‬وحاجة الجمهور �إلى الحكمة مؤسسة على ضرورة‬
‫حصول كل �إنسان على �أكبر قدر من الكمالات ال�إ نسانية حسب ما يقتضيه طبعه وعلى‬
‫‪ - 1‬تلخيص الشعر‪ ،‬ص‪.65‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الشعر‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص الشعر‪ ،‬صص ‪153-152‬‬
‫‪- 4‬تلخيص الشعر‪ ،‬ص‪82‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص الشعر‪ ،‬ص ‪ .97‬وص‪.130‬‬
‫‪ - 6‬تلخيص الشعر ص ‪-90 89‬‬
‫‪ - 7‬التخييل الفاضل هو الذي لا يتجاوز خواص الشيء ولا حقيقته‪ ،‬تلخيص الشعر ص‪.128‬‬
‫‪ - 8‬من �أجل تفهيم الجمهور لابد من اللجوء �إلى القول المشهور المبتذل‪ ،‬ومتى تعرى الشعر عن ذلك �أصبح رمزا‬
‫ولغزا غير مفيد في التفهيم‪ ،‬تلخيص الشعر ص ‪.143-142‬‬
‫‪80‬‬
‫قدر استعداده لذلك‪ ،‬والطرق الخطبية والشعرية هي وحدها الكفيلة ب�أن تمكن الجمهور‬
‫من معرفة الله تعالى وقصدهم من ال�إ يمان به‪ ،‬وهو الذي ينفعهم في اكتساب ما هيئوا له‬
‫من الفضائل والصنائع(((‪.‬‬
‫�إن دراية الحاكم بالطرق المنطقية‪ ،‬سواء كان حاكما �أعظما �أو نائبا عنه‪ ،‬يلتفت �إلى‬
‫جانب هام في شخصية السياسي هو جانب القول‪ ،‬فشخصية الحاكم تتقن فن القول‪،‬‬
‫ومن هذا الجانب تستمد سلطتها الرمزية وتمارس عنفها المعنوي على المحكومين من‬
‫�أجل حملهم‪ ،‬من خلال استدلال عقلي مناسب وصور تخييلية مدروسة‪ ،‬على احترام‬
‫سنن المدينة والالتزام بها‪ .‬فالحاكم يكون حريصا على التعليم بالحجة وليس على تعليم‬
‫التقليد(((‪ ،‬وهو ما يسهم فيه مبحث �أخر �أراده ابن رشد �أن يكون من قبيل المباحث‬
‫المنطقية‪ ،‬وهو مبحث ذو خصوصية عربية �إسلامية‪ ،‬مبحث �أصول الفقه‪ ،‬الذي يمكن‬
‫اعتباره منطقا للنظر الشرعي‪ .‬فكيف يعتبر علم �أصول الفقه منطقا‪ ،‬وما منزلته في �إدارة‬
‫دفة الحكم؟‬
‫يختلف ابن رشد مع �أبي حامد في نظره �إلى علم �أصول الفقه‪ ،‬ف�إذا كان �أبو حامد قد‬
‫جعله علما نظريا(((‪ ،‬ف�إن ابن رشد سينظر �إليه باعتباره علما �آليا منطقيا‪ ،‬يعطي "القوانين‬
‫وال�أحوال التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب‪� .".‬أصول الفقه هو عند ابن رشد "سبار‬
‫وقانون" نسبته "�إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة �إلى الحس في ما لا يؤمن �أن يغلط‬
‫فيه"‪ .‬فصناعة �أصول الفقه تتضمن جملة من القوانين تحوط الذهن عند النظر في علوم‬
‫الشريعة خيفة الوقوع في الخط إ� فيها(((‪ .‬من هذه الجهة يصبح علم �أصول الفقه منطقا‬
‫للنظر الشرعي‪ ،‬وبخاصة �أنه يتمتع بحظ وافر من الاستدلال العقلي �إلى الحد الذي جعل‬
‫ابن رشد يسميه‪ ،‬كما ر�أينا‪" ،‬علم الكلام الفقهي"‪ ،‬فضلا عن وظيفته ال�إ بداعية "للسنن"‬
‫والتي تقوم عليها المدينة‪ .‬ومن هنا يعتبر هذا العلم ضروريا للحاكم في �إدارته للمدينة‪.‬‬
‫يكشف حرص ابن رشد في كتابه ال�أصولي الوحيد الذي وصل �إلينا على "ربط‬
‫الاستنباط الفقهي بال�أصول و�إنكاره القوي للممارسة الفقهية في عصره"((( وهو ما يبرز‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ - 2‬يقول ابن رشد‪" :‬التعليم منه ما يكون بقول‪ ،‬ومنه ما يكون بفعل‪ ،‬وهي الصنائع التي تتعلم بالاحتذاء‪ ،‬ونعني‬
‫بقولنا "بقول" �أي بحجة‪ ،‬وبهذا يفارق تعليم التقليد ف�إنه تعليم بغير حجة" شرح البرهان ص‪.166‬‬
‫‪ - 3‬المستصفى‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪6‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في �أصول الفقه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صص‪.35 - 34‬‬
‫‪ - 5‬جمال الدين العلوي‪ ،‬مقدمة الضروري في �أصول الفقه ص ‪.26‬‬
‫‪81‬‬
‫الدور الكبير الذي يقوم به أ�صول الفقه في �إدارة المدينة كما �أعلن عنه في "بداية‬
‫المجتهد"‪ ،‬و�أوم�أ �إليه في "تلخيص الخطابة" وفي "الضروري في السياسة"‪.‬‬
‫�إن رئيس المدينة ال�إ سلامية يتميز بمواصفات كثيرة‪ ،‬منها علمه ب�أصول الفقه وقدرته‬
‫على الجهاد‪ .‬فالحاكم ال�أعظم تكون له قدرة على النظر في قضايا المدينة والاجتهاد‬
‫فيها وفق مقاصد الشريعة و�أصولها الكلية‪ .‬لكن لما كان من الصعب �أن توجد في رئيس‬
‫المدينة القدرتان معا‪ ،‬ف�إن الفقيه يتولى مهمة الاجتهاد نائبا عن ال�إ مام ال�أعظم(((‪ .‬عندئذ‬
‫توجد جنبا �إلى جنب القدرتان معا‪ ،‬قدرة الجهاد في شخص الملك الفيلسوف‪ ،‬وقدرة‬
‫الاجتهاد في شخص الفقيه‪ ،‬وهما �أسلوبان في الحكم مختلفان اختلاف تنوع‪ ،‬ولا يمكن‬
‫�أن يقوم للمدينة ال�إ سلامية قيام بدون تضافر هذين ال�أسلوبين وتعاون هتين القدرتين‪،‬‬
‫وبخاصة هذه القدرة على الاجتهاد التي تولد السنن التي هي ضرورية للسير الطبيعي‬
‫للمدينة ال�إ سلامية‪ .‬وهي قدرة تنعدم عند معاناة الفقيه من الجهل بعلم �أصول الفقه‪ .‬من‬
‫هنا ضرورة هذه الصناعة المنطقية في �إدارة المدينة ال�إ سلامية‪ ،‬وفي خلق المجتهد الذي‬
‫يشكل ملاك هذه المدينة وقوامها‪.‬‬
‫***‬
‫عاش ابن رشد مهموما ب�إشكالات نظرية وعملية �أثارتها النّصوص الفلسفية التي كرع‬
‫من معينها سواء كانت نصوص المترجمين �أو نصوص الفلاسفة المسلمين‪ ،‬وهو ما اشترك‬
‫فيه مع غيره من فلاسفة ال�إ سلام‪ .‬بيد �أن ابن رشد سينفصل عن فلاسفة ال�إ سلام ب�أنه يكاد‬
‫يكون الفيلسوف ال�أندلسي الوحيد الذي شغله الفقه كما شغلته الفلسفة فكان يفكر فيهما‬
‫معا وك�أنهما شيء واحد‪ ،‬رغم �أنه لم يفكر �أبدا في "الجمع" بينهما في كتابة واحدة‪ ،‬بل‬
‫كان يدع لكل موضوع مجاله الخاص‪ .‬وسنجد ابن رشد ينفصل عن جميع الفلاسفة‬
‫بممارسته لوظيفة هي �أبعد ما تكون عن اهتمامات الفلاسفة ومشاغلهم‪ ،‬في بادئ الر�أي‪،‬‬
‫وهي وظيفة القضاء‪ .‬ولاشك �أن هذه الوظيفة التي مارسها ابن رشد‪ُ� ،‬أ ْسوة ب�آبائه‪ ،‬فقذفت‬
‫به في عمق المجتمع ال�أندلسي‪ -‬المسلم‪ ،‬تركت طابعها القوي في شخصيته ك�إنسان‪،‬‬
‫ومست شخصيته الفلسفية بت�أثير كبير ‪...‬‬‫ّ‬
‫كان ابن رشد متمكنا من صناعة فن القول‪ ،‬ومن "علم ال�أدب"‪ ،‬وقد وظفت شخصي ُة‬
‫الفقيه فيه توظيفا حسنا هذه الصناعة وهذا العلم فيما يعود بالنفع على مدينته ال�إ سلامية‪،‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪82‬‬
‫معضدة بذلك عمل رئيس المدينة ال�أعظم‪ .‬فقد كان ابن رشد ‪ -‬الفقيه يجلس في مسجد‬
‫قرطبة "يحض الناس على الجهاد والغزو في سبيل الله ويورد ما جاء في فضله من كتاب‬
‫الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان طلق و�إيراد مستحسن"(((‪ ،‬وهي ملكة‬
‫ترسخت عنده من الارتياض في مرابع الصناعة الشعرية ب�أجزائها المختلفة‪ ،‬وبخاصة جزئيها‬
‫اللذان يتضمنان التصديق البلاغي‪ ،‬وانطلقت لضرورة اللقاء بالناس في مجالس الحكم‬
‫وال�إ فتاء وفي مجالس ال�إ رشاد والتوجيه‪ .‬كما كانت شخصية ابن رشد مؤهلة للاجتهاد‪،‬‬
‫و�إن لم يدّعه ولم يخرج بمذهب جديد‪ .‬وهذا ل�إ حساسه العميق بضرورة الحفاظ على‬
‫وحدة الجماعة‪ ،‬وهي من موجهات حسه السياسي‪ ،‬خاصة �أنه لا يرى للاجتهاد ُم ِعدّات‬
‫معرفية كثيرة‪ .‬فخوض غمار تجربة الاجتهاد لا يتطلب سوى معرفة بفنون لا تتجاوز في‬
‫حجمها‪� ،‬إذا قيست بالكتب‪ ،‬حجم كتابين كل منهما بحجم "بداية المجتهد"‪ .(((،‬وقد‬
‫كتب �أبو الوليد في الاجتهاد وما يؤهل له من فنون ومعارف‪ ،‬ومارسه في بداية المجتهد‪.‬‬
‫وقد مكنته ممارسته القضاء من الانشغال بقضايا المدينة انشغاله بقضايا الفكر‪ ،‬ليظل سواد‬
‫حياته مترددا‪ ،‬فلسفيا‪ ،‬بين الت�أمل النظري والانخراط‪ ،‬فقهيا‪ ،‬في هموم المدينة ال�إ سلامية‪،‬‬
‫مع تفضيل للممارسة الفلسفية ل�أنها تحضر بجهة ال�أفضل وليس على وجه الضرورة‪ ،‬كما‬
‫هو حال الممارسة الفقهية(((‪.‬‬
‫كانت معظم كتابات ابن رشد كتابات نظرية‪ ،‬وهو بحكم وظائفه في المجتمع‬
‫ال�إ سلامي والتي جعلته قريبا من �إدارة المدينة‪ ،‬يجعل لكتاباته امتدادات عملية رقم ايغال‬
‫بعضها في التجريد‪ .‬فعلم المنطق ومباحث الفلسفة جميعها تصبح لها امتدادات عملية‬
‫ل�أنها تدخل في تكوين رئيس المدينة‪� .‬أما علوم الشريعة فهي العلوم التي يتوسل بها الحاكم‬
‫المسلم‪ ،‬قيل بتقديم �أو ت�أخير‪ ،‬من �أجل �أن يبلغ بالمدينة ال�إ سلامية كمالها ويبوئها منزلة‬
‫المدينة الفاضلة الم�أمولة‪ .‬من هنا تصبح جميع العلوم والمعارف‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬في‬
‫خدمة السياسة المدنية‪ .‬ولعل هذا ال�أمر من �أكبر ما ميز فيلسوفنا عن غيره من متفلسفة‬
‫ال�إ سلام من الذين اشتغلوا بالفلسفة ومباحثها وقاربوا بعض قضايا الملة من بعيد لكنهم‬
‫لم يخوضوا‪ ،‬بواقعية‪ ،‬غمار مشاغل المدينة ال�إ سلامية وهمومها بشكل طبع شخصيتهم‬
‫الفلسفية بطابع الفقيه المهموم بشؤون المدينة‪ ،‬ه َّما سينهض ب�أبي الوليد‪ ،‬في فرادة وتميز‪،‬‬
‫‪ - 1‬الذيل والتكملة‪ ،‬السفر السادس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ - 2‬بداية المجتهد‪ ،‬ج ‪ 5‬ص ‪.69‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪.149‬‬
‫‪83‬‬
‫�إلى الكتابة في مواضيع كانت تعتبر حكرا على الفقهاء‪ ،‬ورفع لواء دعوة كانت تعتبر‬
‫من اختصاص الفقهاء‪ ،‬وال�إ شادة بعلوم ومعارف كانت تعتبر من العلوم التي لا تدخل‪،‬‬
‫بالضرورة في تكوين الفيلسوف‪ ،‬و�إنما تدخل‪ ،‬فقط‪ ،‬في تكوين الفقيه‪ .‬ولعل �أجلى مظهر‬
‫لهذا التميز تميز ابن رشد عن �أبي نصر الفارابي الذي اختفت من مدينته "المشاكل‬
‫السياسية وال�أخلاقية بل �إن مدينته بعيدة عن الواقع و�أقرب �إلى السماء منها �إلى ال�أرض‪...‬‬
‫فظل اهتمامه بالسياسة اهتماما نظريا فقط"(((‪.‬‬
‫�إن الارتباط بين الفقيه والفيلسوف يفتح على هذا الت�أثير الذي يتبادلانه في النظر وفي‬
‫الكتابة‪ ،‬عند ابن رشد‪ ،‬كما سنحاول �أن نبين في البابين ال�أخيرين من هذا البحث‪ .‬فب�أي‬
‫معنى يمكن القول �إن للفقه دورا في صياغة فقيهنا ‪ -‬الفيلسوف لنصوصه الفلسفية؟‬

‫‪ - 1‬المدينة الفاضلة عند ابن رشد‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.268‬‬


‫‪84‬‬
‫الباب الثاني‬
‫داللة "الجمع" في الفكر الرشدي‬
‫الفصل األول‬
‫مفهوم "الجمع" بين الفقه والفلسفة‬
‫تزعم الفرضية التي ننطلق منها في هذا الفصل �أن منهج ابن رشد في كل من العلم‬
‫العملي وفي العلم النظري يلتقي‪ ،‬في كثير من ال�أحيان‪ ،‬في وحدة من الاشتغال‪ .‬ف�إذ كان‬
‫�أبو الوليد في المعرفة النظرية حريصا على �إنقاذ القول الفلسفي ال�أرسطي مما علق به من‬
‫شوائب الشراح والمفسرين‪ ،‬حريصا على بيان برهانية القول ال�أرسطي ووحدة الحق عنده‬
‫ما دام هذا الحق قد كمل‪ ،‬مع �أرسطو‪ ،‬ولا يحتاج �إلى تتميم‪ ،‬عكس ما ذهب �إليه �أبو‬
‫بكر بن الصائغ‪ .‬وكان فيلسوفنا �إذا وجد �أقاويل متعارضة متكافئة‪ ،‬للمعلم ال�أول‪ ،‬يرى‬
‫�إعمالهما �أفضل من �إهمالهما‪ .‬ف�إن ابن رشد في الجانب العملي من تفكيره سواء اتخذ‬
‫الطب‪ ،‬مثلا‪ ،‬مجالا لتفكيره‪� ،‬أو اتخذ الفقه موضوعا لتنظيره‪ ،‬يلج�أ �أكثر �إلى هذا المنهج‬
‫الخاص الذي نجد بذورا له في عمله الفقهي‪ ،‬وامتدادات له في كتاباته المس ّماة نظرية‬
‫كعلم المنطق‪ ،‬وعلم النّفس‪ ،‬وما بعد الطبيعة‪ ،‬وهو منهج "الجمع"‪.‬‬
‫واختيارنا لهذا المصطلح‪ ،‬للدلالة على طبيعة هذا المنحى في المقاربة التي اختارها‬
‫ابن رشد في فلسفته العملية‪� ،‬أملاه علينا �أبو الوليد نفسه فهو لا يتردد في الاشتغال بهذا‬
‫المفهوم بشكل ملفت للنظر‪ ،‬في الفقه‪ ،‬والطب‪ ،‬والمنطق‪ ،‬وعلم النفس وما بعد الطبيعة‪،‬‬
‫و�إن بدا في الفلسفة ال�أولى تحت دلالات مختلفة‪ .‬وقد ر�أينا في الاشتغال به في المجال‬
‫السياسي ما يمكن �أن يضيء بعض الجوانب التي نعتبرها �أساسية في التفكير السياسي ‪-‬‬
‫ال�أخلاقي الرشدي‪.‬‬
‫نبادر �إلى القول ب�أننا نستعير هذا المفهوم �أولا من الكتابة الفقهية لابن رشد‪ ،‬ونحاول‬
‫�أن نقر�أ به بعضا من متنه الفلسفي ‪ -‬العملي ل�أننا نرى في ذلك �إضاءة لبعض جوانب هذا‬
‫المتن‪ .‬وهو مفهوم وجدناه �أقرب �إلى �أن يساعد على مزيد فهم لهذا العمل الفلسفي ‪-‬‬
‫السياسي الرشدي الفريد في تاريخ الفلسفة العربية – ال�إ سلامية‪ .‬فما المقصود من مفهوم‬
‫"الجمع" الذي نوظفه هاهنا؟‬
‫عندما يتحدث ابن رشد عن "الجمع" ف�إنه يقصد به الطريقة المنهجية التي يتم اللجوء‬
‫�إليها عندما يجد المرء نفسه �أمام ر�أيين متعارضين‪� ،‬أو شخصيتين متباينتي الاتجاه‪ ،‬ولا‬
‫يجد مندوحة عن القول بالر�أيين‪ ،‬ولا مناصا من الفزع �إلى الـشخصيتين معا‪ ،‬فيجمع بين‬
‫‪89‬‬
‫الر�أيين المتعارضين على نوع من الت�أويل‪ ،‬ويقول ب�آراء هاتين الشخصيتين معا بضرب من‬
‫القراءة‪ .‬و�إننا‪� ،‬إذ نحتفظ بهذه الدلالة الرشدية نرى الجمع عند ابن رشد في تجليات‬
‫مختلفة تقدمها لنا الدلالة العربية للجمع باعتبارها ت�أليفا للمتفرق(((‪ ،‬وهو ما يتخذ في‬
‫نظرنا صورة �أخرى نسميها "جمعا على طريقة الاستظهار"‪ ،‬وهو جمع يلج�أ �إليه ابن رشد‬
‫ليؤسس به القول ال�أفلاطوني ت�أسيسا �أرسطيا‪� ،‬أو ت�أسيسا �آخر يروم من ورائه ربط القول‬
‫ال�أفلاطوني بالمجال التداولي العربي ‪ -‬ال�إ سلامي مما يجعلنا نفترض �أن ابن رشد اشتغل‬
‫بهذا المفهوم في دلالتيه الفقهية واللغوية مما يضفي على كتابه السياسي غنى في النظر‬
‫وجدة في ال�إ خراج‪ .‬وهاتان الدلالتان تجليهما نصوص علمية جمع فيها ابن رشد بين �أكثر‬
‫من واحد‪� ،‬أو �أكثر من مدرسة‪ ،‬وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح �أكبر في كتاباته الفقهية‬
‫والطبية‪ ،‬فضلا عن بعض الكتابات المنطقية والنفسية‪ ،‬وبضرب من الت�أويل في كتاباته‬
‫السياسية‪ .‬وهو �أمر قد تكون له دلالة خاصة في سياقنا هذا؛‬
‫فعلى المستوى الفقهي العام نجد كتاب "بداية المجتهد" يقدم نموذجا لهذا الجمع‪،‬‬
‫سواء في دلالته الفقهية �أو دلالته اللغوية‪ ،‬عرض فيه للتقليد الفقهي ال�إ سلامي من خلال‬
‫توليف دقيق ل�آراء فقهاء المسلمين في قالب صناعي مبتكر‪� ،‬أضفت عليه شخصية ابن‬
‫رشد العلمية‪ ،‬في استقلالها المشبع بروح تواضع عميق‪ ،‬ينم عنه تصريحه بتحرجه من‬
‫�إبداع قول جديد في الفقه‪ ،‬نكهة خاصة جعلت هذا الكتاب فنا في بابه‪ ،‬حيث لم يتخذ‬
‫فيه موقفا مذهبيا يحاكم من خلاله �أقوال الفقهاء كما فعل الباجي من قبله مثلا‪ ،‬و�إنما‬
‫اتخذ موقفا �أقرب ما يكون �إلى الحياد مكّنه من الانتصار لكل قول فقهي معتبر‪ ،‬فكان �أن‬
‫تلون الكتاب ب�ألوان المدارس الفقهية المختلفة ولم يظهر فيه لون فقهي واحد‪ ،‬فكان كتابه‬
‫جمعا للمتفرق في كتب الفقهاء‪ ،‬كما كان كتابا مؤسسا لدلالة الجمع ك�آلية للت�أويل والتي‬
‫انتصرت لها المدرسة الفقهية التي ت�أثر بها‪� ،‬أقصد الباجي وابن رشد الجد والمازري‪ .‬وقد‬
‫بو�أ هذا الكتاب الفقهي فيلسوفنا عند الفقهاء نفس المنزلة التي احتلها بكتاباته الفلسفية‬
‫عند الفلاسفة(((‪.‬‬
‫وعلى المستوى العلمي ‪ -‬الفلسفي العام نجد ابن رشد في "الكليات في الطب" قد‬
‫نهج نفس نهجه في البداية‪ ،‬فجمع فيه المتفرق من التقليد الطبي من جالينوس �إلى عصره‬
‫‪ - 1‬الفيروزابادي‪ ،‬القاموس المحيط دار الكتب العلمية ج‪ .1995 ،3‬ص ‪.18‬‬
‫‪� - 2‬أقصد هنا فلاسفة الغرب الذين عرفوا هذه الشخصية العلمية واغترفوا من معينها قبل �أن يعيد المسلمون اكتشافه‪،‬‬
‫�أنظر‪ :‬زينب الخضري‪ ،‬اثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى‪ ،‬دار التنوير ط‪.. 1985 2‬‬
‫‪90‬‬
‫واستطاع‪ ،‬بعبقرية خاصة‪� ،‬أن يتخذ من منهجه الضروري الكلي‪ ،‬الذي كتب به كثيرا من‬
‫مصنفاته‪ ،‬دليلا يهتدي به في المصنفات الطبية ينتقي منها ما يعتبره كمالا لصناعة الطب‬
‫وكمالا للطبيب‪ .‬فارتاض في مصنفات ال�أطباء وجمع بين التقاليد الطبية المختلفة‪ ،‬كما‬
‫فعل مع التقاليد الفقهية المتباينة في "بداية المجتهد"‪ ،‬وكما سيفعل في"شرح البرهان"‪،‬‬
‫وفي"تلخيص كتاب النفس"‪ ،‬كما سيتبين لنا فيما بعد‪.‬‬
‫ولعل هذا الولع بـ "الجمع" ثابت‪ ،‬عند ابن رشد �أكثر‪ ،‬في كتاباته ال َع َملية‪ ،‬ويقدم‪،‬‬
‫في نظرنا‪ ،‬نموذجا صارخا عليها كتابه "جوامع سياسة �أفلاطون"‪ .‬فهذا الكتاب يعتبر‬
‫من الكتب التي تثير انتباه الدارس‪ ،‬فقد جمع فيه ابن رشد بين فيلسوفين لم يكن يؤمن‬
‫بوحدتهما‪ ،‬حيث قدم فيه على تلخيص كتاب غير �أرسطي ينتمي �إلى الفلسفة‪ ،‬وهو‬
‫كتاب "الجمهورية" ل�أفلاطون‪ .‬يثير هذا الكتاب بعضا من الاستغراب‪ ،‬في بادئ الر�أي‬
‫على ال�أقل‪ ،‬مما دفعنا �إلى التساؤل عن ال�أسباب التي اضطرت ابن رشد �إلى هذا النوع‬
‫من الاختيار‪ ،‬اختيار كتاب السياسة ال�أفلاطوني على كتاب السياسة ل�أرسطو‪ ،‬و�إلى هذا‬
‫الجمع "الغريب" بين �أفلاطون و�أرسطو؟ كما دفعنا �إلى التساؤل عن طبيعة هذا الاختيار‬
‫من جهة وطبيعة هذا الجمع من جهة �أخرى؟ وهو ما ر�أينا �أن �إفراده بقول يمكن �أن يضيء‬
‫لنا‪ ،‬طبيعة عمل ابن رشد في كتاباته العملية على الخصوص‪.‬‬
‫نبادر �إلى الزعم �إن ما فعله ابن رشد من جمع بين �أفلاطون و�أرسطو في العلم السياسي‬
‫هو من صميم ما فعله الفلاسفة المسلمون عندما عالجوا ما يسمى بالفلسفة العملية‪ ،‬كما‬
‫نلمس عند �أبي نصر في المشرق‪ ،‬و�أبي بكر بن طفيل في الغرب ال�إ سلامي‪ ،‬فقد جمع‬
‫هذا ال�أخير في تركيب غريب في رسالته الفلسفية "حي بن يقظان" بين فلاسفة قد لا‬
‫يجد �أحدهم نفسه في ال�آخر؛ كما فعل مع ابن باجة‪ ،‬والغزالي‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬ومع �أبي نصر‬
‫في ت�أويل من الت�أويلات الممكنة(((‪ .‬لكننا �أبعد عن الزعم ب�أن ما فعله ابن رشد يطابق ما‬
‫فعله السابقون عنه‪ ،‬و�إن كان هذا لا يمنعنا من التساؤل عن طبيعة منطق العمل‪ ،‬وكيف‬
‫يختلف عن منطق النظر؟‬
‫نجد ابن رشد‪ ،‬في منطق النظر‪ ،‬كما تجليه فلسفته النظرية في الطبيعيات وال�إ لهيات‪،‬‬
‫كثير الفزع �إلى �أرسطو لا يكاد يرضى بغيره بديلا‪ .‬فهو الفيلسوف الذي كمل عنده الحق‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر المقدمة الفلسفية الغنية التي افتتح بها ابن طفيل نصه الفلسفي "حي بن يقظان"‪ ،‬وقد سبق لنا في كتابنا‬
‫الموسوم "مع ابن طفيل في تجربته الفلسفية" المذكور �آنفا‪� ،‬أن قاربنا بعضا من هذه الاهتمامات في القسم الخاص‬
‫بـ"ال�أساس الفلسفي"‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫�إنه السلطة العلمية الوحيدة التي يركن عليها‪ ،‬فهو يحرص على "الجمع" بين أ�قاويله‬
‫المتعارضة‪ ،‬وهو �إن �أخط�أه مرة ف�إنه يعود �إليه ليحسم من خلال رؤيته المفترضة‪ :‬وهذا‬
‫جب فيه ما فعله في المختصر وقطع فيه مع‬ ‫ال�أمر فعله �أبو الوليد في "شرح البرهان" الذي َّ‬
‫�أبي نصر‪ ،‬وفعله �أيضا في "شرح كتاب النفس" الذي حسم فيه مع مواقفه في "المختصر"‬
‫و"التلخيص"‪� .‬إذا كان منطق النظر على هذه الصفة ف�إن منطق العمل يتعدد عند فيلسوفنا‪،‬‬
‫فنجده في الطب يفزع �إلى �أكثر من مرجع‪ ،‬وفي الفقه يحيل �إلى �أكثر من سلطة علمية‪،‬‬
‫وفي السياسة ينتصب �أمامه �أفلاطون و�أرسطو على �أنهما واحد في السياسة‪ ،‬رغم الفروقات‬
‫التي ينبه �إلى بعضها مرجحا‪ ،‬عندما يتعلق ال�أمر بينهما‪ ،‬قو َل �أرسطو‪ .‬فهل الفلسفة العملية‬
‫لا تقوم على غير منطق "الجمع"؟‬
‫الجمع عند ابن رشد تقليد علمي عبر عنه في السياسة كما عبر عنه في الفقه والطب‬
‫وفي كتابات �أخرى في مقالات ما بعد الطبيعة‪ .‬فهل طبيعة الجمع عنده في العلم السياسي‬
‫من طبيعة الجمع في الفقه‪ ،‬والطب‪ ،‬والمنطق‪ ،‬وعلم النفس‪� .‬أم �أنه من طبيعة �أخرى؟‬
‫ذلك ما سنحاول امتحانه بعد عرض لتجليات هذا الجمع في الفقه �أولا‪ ،‬ثم في بعض‬
‫المباحث الفلسفية التي كانت قضاياها �أثيرة عند ابن رشد ثانيا‪.‬‬

‫‪ -‬عن الجمع في الفقه �أولا‬


‫عند حديثنا عن الجمع في الفقه عند ابن رشد‪ ،‬نحاول �أن نتبين المواطن التي يذ ّر‬
‫فيها قرن التعارض والاختلاف‪ ،‬ثم كيف يوظف ابن رشد �آلية الجمع‪� ،‬أو كيف يبرر الجمع‬
‫عند التباين؟‬
‫‪ - 1‬يعتبر علم ال�أصول من العلوم ال�إ سلامية التي يبدو فيها الجمع جليا واضحا‪ ،‬فهو‬
‫العلم الذي يجمع بين النظر والعمل جمعا يصبح فيها علم �أصول الفقه �أربعة �أجزاء‪ ،‬من‬
‫بينها جزء مباين لل�أجزاء الثلاثة ال�أخرى مباينة يرفعها ابن رشد �إلى مرتبة التباين بالجنس‪.‬‬
‫كما �أنه يجمع بين النظر العمل في شكل هذا الجمع بين العقل والسمع وهو الجمع الذي‬
‫جعله الغزالي علامة على تميز علم ال�أصول وفرادته‪.‬‬
‫يعتبر ابن رشد �أصول الفقه �أربعة �أجزاء؛ نظر في ال�أحكام‪ ،‬ونظر في �أصول ال�أحكام‪،‬‬
‫ونظر في ال�أدلة المستعملة في الاستنباط‪ ،‬ثم نظر في شروط المجتهد‪ .‬وابن رشد يعتبر‬
‫‪92‬‬
‫الجزء الثالث‪ ،‬الذي يسميه في موضع من كتابه "الضروري" بـ "كتاب الاستنباط"(((‪،‬‬
‫مباينا بالجنس لل�أجزاء ال�أخرى(((‪ ،‬وهو الجزء الذي اعتبره الغزالي "عمدة علم ال�أصول‬
‫ل�أنه ميدان سعي المجتهدين في اقتباس ال�أحكام من �أصولها‪ ،‬واجتنائها من �أغصانها"(((‪.‬‬
‫ويقرر فقيهنا �أن النظر الصناعي يقتضي �أن يفرد هذا الجزء بالقول وحده‪ ،‬وهو ما لم يقرره‬
‫الغزالي في المستصفى من قبله‪ .‬لكن مع ذلك نجد ابن رشد يجمع بين هذه ال�أجزاء‬
‫جميعها في قول واحد‪ ،‬ويتنكب سبيل �إفراد هذا الجزء بقول مفرد كما يقتضي بذلك‬
‫النظر الصناعي‪ ،‬ولعل ما يفسر ذلك ب�أن قصد ابن رشد من ذلك هو الجمع بين النظر‬
‫والعمل في هذا العلم‪ ،‬وبالتالي الجمع بين العقل والسمع‪ ،‬وهي المظاهر التي تفسر جمع‬
‫الجزء الثالث بال�أجزاء ال�أخرى‪.‬‬
‫‪� - 2‬إن �آلية الت�أويل علمت ابن رشد في الفقه والفلسفة على السواء �أن يسعى �إلى‬
‫التقريب بين المتناقضات كلما ذ َّر َق ْر ُن التعارض �أو ظهرت شبهة الخلاف‪ ،‬فكيف انتصر‬
‫ابن رشد للجمع في الفقه؟‬
‫�إذا كان الت�أويل في الفلسفة منهجا من مناهج التقريب يلج�أ �إليه ابن رشد عند تعارض‬
‫الحقيقة الفلسفية مع الحقيقة الشرعية‪ ،‬ف�إن الت�أويل في الفقه منهج من مناهج الجمع عند‬
‫التعارض كذلك‪ ،‬لكن التعارض‪ ،‬في هذا السياق الفقهي‪ ،‬هو تعارض ال�أخبار‪� .‬إن تعارض‬
‫ال�أخبار فيما بينها �أو تعارضها مع ال�أفعال‪� ،‬أو تعارضها مع المقاييس كل ذلك ُيلجئ الفقيه‬
‫�إلى الت�أويل الفقهي(((‪ .‬ولهذا الت�أويل مقاربات متنوعة ما يفت�أ ابن رشد يشير �إليها ويحللها‬
‫لبيان مناهج نظر الفقهاء عند التعارض‪ ،‬و�أحيانا الدفاع عن اختياراته المنهجية التي تبدو‬
‫في انتصاره لمذهب الجمع على غيره من المذاهب‪.‬‬
‫ويمكن حصر جملة هذه المذاهب كما عرضها ابن رشد في ثنايا البداية في ‪:‬‬
‫(((‬
‫‪ -‬مذهب البناء ‪ :‬بناء العام على الخاص‬
‫(((‬
‫‪ -‬مقابلة الدعوى بالدعوى‬
‫‪ - 1‬الضروري في �أصول الفقه مرجع سابق ص‪93‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في �أصول لفقه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪36‬‬
‫‪ - 3‬المستصفى مرجع سابق ص‪180‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد ‪" :‬فلما اختلفت ظواهر هذه ال�أحاديث ذهب الفقهاء في ت�أويلها �أربعة مذاهب‪ "...‬البداية ج‪1‬‬
‫ص‪ 569‬ويقول ‪" :‬فلمكان اختلاف هذه ال�آثار اختلف الناس في ت�أويلها‪ "...‬البداية ج‪72 2‬‬
‫‪ - 5‬البداية ج‪ 2‬ص ‪ .171‬وص ‪.193‬‬
‫‪ - 6‬البداية ج‪6‬ص‪.14‬‬
‫‪93‬‬
‫(((‬
‫‪ -‬مذهب التخيير‬
‫‪ -‬عند تعارض الفعل والقول الوجه الجمع �أو تغليب القول(((‪.‬‬
‫(((‬
‫‪ -‬مذهب الجمع(((‪( .‬وهو �أولى من الترجيح)‬
‫(((‬
‫‪ -‬مذهب النسخ (الذي يرفع الاحتمال)‪.‬‬
‫‪ -‬مذهب الترجيح (((‪.‬‬
‫(((‬
‫‪ -‬الاستحسان (جمع بين ال�أدلة المتعارضة)‬
‫‪ -‬ت�أويل الظاهر بالقياس(((‪.‬‬
‫‪ -‬مذهب الاستثناء والتخصيص(((‪.‬‬
‫(‪((1‬‬
‫‪ -‬الجمع على نحو يوجبه العقل‬
‫‪ -‬مذهب سقوط ال�أثر عند التعارض‪ ،‬والرجوع �إلى البراءة ال�أصلية �إذا لم يعلم الناسخ‬
‫من المنسوخ(‪� ((1‬أو مذهب الرجوع �إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض(‪.((1‬‬
‫‪ -‬مذهب استصحاب حال ال�إ جماع(‪.((1‬‬
‫�أكثر هذه الطرق استعمالا عند الفقهاء مذهبا الجمع والترجيح‪ ،‬ثم �إن بعض هذه‬
‫المذاهب يمكن �إرجاعها �إلى بعض كمذهبي البناء والتخيير اللذان يمكن �إرجاعهما‬
‫�إلى مذهب الجمع‪� .‬أو �إيجاد قرابة كبرى بين بعضها كعلاقة مذهب النسخ بالترجيح‪.‬‬
‫كما �أن بعض هذه المذاهب علامة على اتجاه في الفقه كمذهب عدم الحكم ومذهب‬
‫استصحاب ال�إ جماع الذي يقول بهما الظاهرية‪ .‬ومذهب الجمع الذي يقول به الجمهور‪،‬‬
‫والمالكية‪ ،‬وينتصر له ابن رشد‪.‬‬
‫‪ - 1‬البداية ج‪ 2‬ص ‪ ،258‬ص‪ ،465-464‬وص ‪469‬‬
‫‪ - 2‬البداية ج‪ 4‬ص ‪292‬‬
‫‪ - 3‬البداية ج‪ ،4‬صص ‪...171 ،122 ،511 ،89 ،51‬‬
‫‪ - 4‬البداية ج‪ 6‬ص ‪.174‬‬
‫‪ - 5‬البداية ج ‪ ،2‬صص ‪،309 ،193 ،179 ،72 ،223‬‬
‫‪ - 6‬البداية ج‪ 4‬ص ‪ ،89‬ص‪ ،511‬ص ‪.265‬‬
‫‪ - 7‬البداية ج ‪ 5‬ص ‪.251‬‬
‫‪ - 8‬البداية ج ‪ 5‬ص ‪.30‬‬
‫‪ - 9‬البداية ج‪ ،3‬ص ‪22‬‬
‫‪ - 10‬الكشف‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫‪ - 11‬البداية ج ‪ 2‬ص ‪ ،99‬وص ‪.179‬وج‪ ،3‬ص ‪،172‬‬
‫‪ - 12‬البداية ج‪ 1‬ص ‪537‬‬
‫‪ - 13‬البداية ج‪ 2‬ص ‪.129‬‬
‫‪94‬‬
‫لم يكن الحفيد منافحا في الفقه ومجادلا بقوة عن اختيار معين كما نجده يفعل في‬
‫الفلسفة النظرية‪ ،‬على العموم‪ ،‬وكما فعل غيره من فقهاء المذهب‪ .‬ولذا نُلفيه �أشد ما‬
‫يكون حرجا عندما يضطر �إلى الذهاب في مس�ألة مذهبا خاصا به‪ ،‬و�إنما يعلن دوما �أنه‬
‫يتابع الجمهور وعادة الفقهاء في الكتابة الفقهية‪ ،‬و�إن كان في هذا الفضاء الفقهي الكبير‬
‫يصول ويجول غير مقيد باختيار فقهي محدد �إلا ما وافقه الدليل وتشبع بالمعقولية‪ .‬ومن‬
‫هنا اختياره لطريقة "الجمع" ك�أحسن طريقة اختارها الجمهور في النظر الفقهي عند‬
‫التعارض‪� ،‬إلى درجة �أن الجمع بالت�أويل البعيد يكون �أولى من مخالفة النص(((‪.‬‬
‫اختيار ابن رشد لمذهب "الجمع" وثيق الصلة بنظرته �إلى التصديق الفقهي‪� .‬إنه يريد‬
‫�أن يحافظ على قوة التصديق لجميع ال�أخبار المتعارضة‪� ،‬إذ �إن مذهب الترجيح يوهن بعض‬
‫ال�أخبار لصالح بعض‪ ،‬وكذلك يفعل مذهب النسخ و�إن كان يرفع الاحتمال‪ .‬ولذا يجعل‬
‫ابن رشد مذهب الجمع �أولى من مذهب الترجيح‪ ،‬كما هو ال�أمر عند �أكثر ال�أصوليين (((‪،‬‬
‫و�أنه يجب المصير �إليه عند �أهل الكلام الفقهي ما �أمكن ذلك(((‪.‬‬
‫ومن تصفح صور "الجمع" الممكنة في البداية نذكر بعض النماذج؛ مثل الجمع‬ ‫ْ‬
‫بين المفهوم من الشرع والمسموع من ال�أحاديث ‪ .‬ومثل تخصيص حديث بشخص‬
‫(((‬

‫لا يتعدى �إلى غيره(((‪� ،‬أو حمل المجمل على المفسر عند من يرى التعارض في حين‬
‫لا تعارض بينهما عند ابن رشد(((‪� ،‬أو ترجيح القول على الفعل وحمل الفعل على‬
‫الخصوص(((‪ .‬و�أحيانا نجد ابن رشد يضع بعض القواعد العامة في هذا الاتجاه مثل‬
‫قاعدة "عند تعارض الفعل والقول الوجه الجمع �أو تغليب القول"(((‪ .‬وكذلك من صور‬
‫الجمع بناء العام على الخاص (((‪� ،‬أو بناء الخاص على العام(‪ ((1‬وهو المعروف بمذهب‬
‫البناء‪ .‬والفرق بين الجمع والبناء �أن كليهما يؤمان الجمع بين ال�أحاديث "�إلا �أن الباني‬
‫‪ - 1‬الغزالي‪ ،‬المستصفى ص‪197‬‬
‫‪ - 2‬البداية ج‪ 1‬ص‪.489‬‬
‫‪ - 3‬البداية ج‪ 2‬ص ‪469‬‬
‫‪ - 4‬البداية ج‪ 2‬ص ‪.92‬‬
‫‪ - 5‬البداية ج‪ 3‬ص ‪22‬‬
‫‪ - 6‬البداية ج‪ 3‬ص ‪152‬‬
‫‪ - 7‬البداية ج‪ 3‬ص ‪.435‬‬
‫‪ - 8‬البداية ج‪ 4‬ص ‪.292‬‬
‫‪ - 9‬البداية ج‪ 2‬ص ‪ 171‬وج‪ 5‬ص ‪.327‬‬
‫‪ - 10‬البداية ج‪ 2‬ص ‪193‬‬
‫‪95‬‬
‫ليس يرى �أن هناك تعارضا فيجمع بين الحديثين‪ ،‬و�أما الجامع فيرى �أن هناك تعارضا‬
‫في الظاهر"(((‪.‬‬
‫�إذا كان ابن رشد يثمن مذهب "الجمع" ويجعله �أولى المذاهب وواجبا �إذا �أمكن‪،‬‬
‫ويؤثره على الترجيح(((‪ ،‬ف�إن هذا لا يعني �أنه لا يفزع �إلى هذا المنهج ال�أخير في الت�أويل؛‬
‫�أعني الترجيح �إذا لم يكن منه بد((( كما نجده يفعل عند دفاعه على طريقة ابن حزم‬
‫ال�أندلسي في الترجيح عند تعارض حديثين "�أحدهما فيه شرع موضوع‪ ،‬وال�آخر موافق‬
‫لل�أصل الذي هو عدم الحكم‪ ،‬ولم يعلم المتقدم منهما من المت�أخر‪ ،‬وجب �أن يصار �إلى‬
‫الحديث المث ِبت للشرع‪ ،‬ل�أنه وقد وجب العمل بنقله من طريق العدول‪ ،‬وتركه الذي ورد‬
‫�أيضا من طريق العدول يمكن �أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم‪ ،‬ويمكن �أن يكون‬
‫بعده‪ ،‬فلم يجز �أن نترك "شرعا وجب العمل به بظن لم نؤمر �أن نوجب النسخ به �إلا لو‬
‫نقل �أنه كان بعده[‪]...‬فلا يرتفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي"(((‪ .‬كما نجد ابن رشد‬
‫في مس�ألة فقهية �أخرى‪ ،‬مس�ألة "الحجامة للصائم"‪ ،‬ينتصر بطريق غير مباشر‪ ،‬عند النظر في‬
‫حديثين متعارضين‪ ،‬للترجيح على حساب مذهبي الجمع والرجوع �إلى البراءة ال�أصلية" (((‪.‬‬
‫لكن مذهب الجمع يظل �أثيرا عند ابن رشد مثلما كان �أثيرا عند �أصحاب مالك الذين‬
‫يرون هذا المذهب في الت�أويل‪ ،‬في مقابل الترجيح‪ .‬الجمع ليس هدفا في حد ذاته‪� ،‬إنه‬
‫‪ - 1‬البداية ج‪ 1‬ص‪.569‬‬
‫‪ - 2‬البداية ج‪ 6‬ص ‪.39‬‬
‫‪ - 3‬لفهم مذهب الترجيح كطريقة من طرق الت�أويل الفقهي يمكن الرجوع �إلى �أبي الوليد الباجي �أحد �أقطاب‬
‫المدرسة المالكية المت�أخرة ‪-‬بشهادة ابن رشد‪ -‬والذي كان يفزع �إليه كثيبرا‪ .‬فقد خصص الباجي في كتابيه‬
‫"المنهاج في ترتيب الحجاج" صص ‪ 139 - 221‬وكتابه �إحكام الفصول في �إحكام ال�أصول" صص‪776 - 739‬‬
‫صفحات تطول �أو تقصر من �أجل التعرف على هذا المنهج و�إن كان الباجي عرضه في �إطار المنافحة عن مسائل‬
‫يذهب �إليها المالكية �أو ينتصر �إليها هو و�إن خالف فيها �أصحابه بل وشيوخه كما نجده في بعض مواقفه من شيخه‬
‫الشيرازي (�إحكام الفصول صص ‪ 771‬و‪ .)773‬فـ"الترجيح ‪-‬عند الباجي ‪ -‬طريق لتقديم �أحد الدليلين على ال�آخر"‬
‫(كتاب المنهاج ص‪ )221‬وحول الترجيح في �أخبار ال�آحاد يقول الباجي �إن هذا الترجيج "يراد لقوة غلبة الظن‬
‫ب�أحد الخبرين عند تعارضهما" ويقدم �أدلة من �إجماع السلف الصالح على تقديم بعض ال�أخبار ال�آحاد على بعض‬
‫وك�أنه يؤسس لشرعية الترجيح؛ فالخبران �إذا وردا وظاهرهما التعارض ولم يمكن الجمع بينهما بوجه‪ ،‬ولم يعلم‬
‫التاريخ فيجعل �أحدهما ناسخا وال�آخر منسوخا رحج �أحدهما على ال�آخر بضرب من الترجيح‪ ،‬والترجيح يكون في‬
‫موضعين في ال�إ سناد ويكون في المتن‪ ،‬ويقدم الباجي �أحد عشر ضربا من الترجيح الذي يكون من جهة ال�إ سناد‬
‫(�إحكام الفصول صص‪ )750 741-‬ومثلها من الترجيح الذي يكون من جهة المتن (نم صص‪ )-759 751‬ثم‬
‫يقدم الترجيحات التي تكون من جهة المعاني والمقاييس (نم صص‪ .)771-763‬وقد �أوجز الباجي القول في هذه‬
‫الترجيحات الثلاث في كتابه "المنهاج"‪.‬‬
‫‪ - 4‬البداية ج‪ 2‬ص ‪.99‬‬
‫‪ - 5‬البداية ج‪ 3‬ص ‪.173 - 172‬‬
‫‪96‬‬
‫منهج يحافظ على القيمة العلمية لل�أخبار ودرجة تصديقها مثله في ذلك مثل مذهب‬
‫التخيير الذي قال به الطبري على الخصوص‪ .‬فعند عند تعارض ال�أحاديث وتعذر الجمع‬
‫�أو النسخ �أو الترجيح "ذهب كثير من الفقهاء �إلى �أنـ[ها] على التخيير " وهو مذهب‬
‫صواب عند ابن رشد (((‪ .‬ويبدو هذا المذهب �أكثر وضوحا عند عرض ابن رشد لهيئات‬
‫الجلوس في الصلاة والتي جاءت فيها �أحاديث متعارضة حيث يعرض ابن رشد لقول‬
‫وح َس ٌن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله‬
‫الطبري �إن "هذه الهيئات كلها جائزة‪َ ،‬‬
‫عليه وسلم"‪ .‬ويثمن �أبو الوليد هذا الموقف ويصفه بالحسن معللا "�أن ال�أفعال المختلفة‬
‫�أولى �أن تحمل على التخيير منها على التّعارض"‪ ،‬ل�أن التعارض "يتصور �أكثر في الفعل مع‬
‫القول �أو في القول مع القول"(((‪ ،‬فضلا عن �أن ال�أفعال ‪-‬عند ابن رشد‪ -‬كثيرا ما يتطرق‬
‫�إليها الاحتمال(((‪.‬‬
‫انتصار ابن رشد للمذاهب التي تحفظ على ال�أخبار قوتها التصديقية يقابله عدم‬
‫تثمين المذاهب ال�أخرى التي توهن ال�أخبار‪ ،‬رغم قوة بعضها عنده(((‪ .‬فابن رشد ليس مع‬
‫مذهب الترجيح ولا مع مذهب الرجوع �إلى البراءة ال�أصلية الذي يقول به داود الظاهري‬
‫والذي بموجبه ينبغي الرجوع �إلى ال�أصل عند التعارض‪ ،‬ل�أن الشك يسقط الحكم ويرفعه‬
‫كما يحكي عنه ابن رشد(((‪ .‬وليس مع مذهب استصحاب حال ال�إ جماع الذي يقول به‬
‫الظاهرية عند تعارض ال�آثار مما يسقط حكمها ويضطر معه �إلى المصير �إلى استصحاب‬
‫حال ال�إ جماع(((‪ .‬وليس مع مذهب النسخ الذي يذهب �إليه الجمهور �أحيانا والذي يلحقه‬
‫ابن رشد �أحيانا بمذهب الترجيح(((‪.‬‬
‫لايجد مذهب "الجمع"‪ ،‬الذي �آثره ابن رشد على غيره من المذاهب‪ ،‬قيمته العلمية‬
‫�إلا عند صحة ال�أحاديث المتعارضة‪ .‬من هنا ينبه ابن رشد �إلى عدم المصير �إلى هذا‬
‫‪ - 1‬البداية ج‪ 2‬ص ‪.231‬‬
‫‪ - 2‬البداية ج‪ 2‬ص ‪ ،258‬ويذكر الشاطبي في الموافقات �أن ابن الطيب وغيره قال في ال�أدلة �إذا تعارضت على‬
‫المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم ال�آخر ولم يكن ثم ترجيح‪ ،‬فله الخيرة في العمل ب�أيها شاء‪ ،‬ل�أنهما صارا‬
‫بالنسبة �إليه كخصال الكفارة ج‪ 5‬ص ‪.69-68‬‬
‫‪ - 3‬البداية ج‪ 2‬ص ‪368‬‬
‫‪� - 4‬أقصد هنا مذهب استصحاب ال�إ جماع‪.‬‬
‫‪ - 5‬البداية ج‪ 2‬ص ‪.99‬‬
‫‪ - 6‬البداية ج‪ 2‬ص ‪.129‬وج‪ 6‬ص ‪.14‬‬
‫‪ - 7‬هل مذهب الترجيح والنسخ مذهب واحد؟ �إننا نجد ابن رشد �أحيانا يجمع بينهما (البداية ج‪ 2‬ص ‪ )193‬و�أحيانا‬
‫يميز بينهما (البداية ج‪ 1‬ص‪ 569‬وج‪ 2‬ص‪ )72‬لكن يبدو �أن ما يميز بينهما �أن مذهب النسخ يرفع الاحتمال كما‬
‫يسجل ابن رشد (البداية ج‪ 2‬ص ‪ )223‬في حين �أن مذهب الترجيح يوهن خبرا لصالح خبر (البداية ج‪ 1‬ص ‪)489‬‬
‫‪97‬‬
‫المنهج في الت�أويل �إلا عند تعارض ال�أحاديث التي ثبتت صحتها أ�ولا(((‪ ،‬وهو المنهج الذي‬
‫يجعل المذهب المالكي ‪-‬كما يسجل ابن رشد‪� -‬أولى المذاهب‪� ،‬إذ به تجتمع ال�أحاديث‬
‫كلها‪ ،‬كما فصلت القول في ذلك المدرسة المالكية المت�أخرة ب�أقطابها الثلاث؛ الباجي‬
‫وابن رشد الجد والمازري(((شيخ ابن رشد الحفيد‪.‬‬
‫كما �أن هذا المنحى في التفكير سيقذف بابن رشد �إلى ال�إ سهام في هذه العملية‬
‫التجديدية التي عرفتها الثقافة ال�إ سلامية حين �أقدم على الجمع بين الفقه والحديث‪ ،‬كما‬
‫فصلنا القول في موضع سابق‪ ،‬ونحن نذكر بهذا المعطى هاهنا‪ ،‬لوضع ال�أمر في سياقه‬
‫الكلي الذي بدا لنا �أنه يحكم الفكر الرشدي في هذا المجال‪.‬‬
‫ولعل هذا الهاجس وراء هذا ال�إ حساس المرهف الذي يتميز به ابن رشد‪ ،‬والذي‬
‫قد يدلنا على جانب فريد في شخصية هذا الفقيه ‪ -‬الفيلسوف الذي كان يشكو دائما‬
‫من تقاطع الناس والبغضة الواقعة بينهم ويدعو الله‪ ،‬بقلب كسير‪� ،‬أن يتدارك الناس مما‬
‫يقع بينهم بيمنه وفضله(((‪ ،‬مؤسسا ذلك على �أساس شرعي يتمثل في كراهية الشرع‬
‫للاختلاف(((‪ ،‬وعلى �أساس مدني يعتبر �أن �أفضل السياسة هي التي تجمع وتوحد(((‪ ،‬مما‬
‫يجعل لهذه الرغبة في "الجمع" عند ابن رشد بين الفرقاء المتصارعين دلالات �أخلاقية‬
‫تضرب في عمق تكوينه النفسي والفكري وفلسفته الاجتماعية‪ .‬وللجمع بين بعض‬
‫ال�أقاويل المتعارضة ذات القوة الدلالية التي تتكاف�أ عنده‪ ،‬دلالات تقربنا من الشخصية‬
‫الفقهية العميقة لابن رشد‪.‬‬
‫لعل هذه الدلالة الفقهية التي عبر عنها كتاب "البداية" وانتصر لها ابن رشد مع التقليد‬
‫المالكي حاضرة في الطب والمنطق ثم في علم النفس وما بعد الطبيعة؛‬

‫عن الجمع في الطب ثانيا‬


‫يعتبر كتاب "الكليات في الطب" نموذجا للكتابة في فن عملي‪ ،‬تراكم القول فيه عبر‬
‫رموز ومدارس طبية تناءت بينها الديار‪ ،‬وخالفت بينها التجربة والاجتهاد‪ .‬وقد حرص ابن‬
‫‪ - 1‬البداية ج ‪ 2‬ص ‪.32‬‬
‫‪ - 2‬البداية ج‪ 5‬ص ‪.5‬‬
‫‪ - 3‬الرسائل الطبية ص ‪ 197‬وقريب ذلك نجده في فصل المقال وفي مناهج ال�أدلة‪.‬‬
‫‪ - 4‬بداية المجتهدج‪ 3‬ص‪.87‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في السياسة ص‪ 130‬و‪.106‬‬
‫‪98‬‬
‫رشد على �أن يعرض هذه الرؤى المختلفة جميعها‪ ،‬مثمنا �أحيانا‪ ،‬منتقدا �أحايين �أخرى‪.‬‬
‫وما يثيرنا‪ ،‬في هذا السياق‪ ،‬هذا المنهج في "الجمع" الذي يلج�أ �إليه في الطب‪ ،‬كما لج�أ‬
‫�إليه في الفقه‪ ،‬وكما سيلج�أ �إليه في العلم السياسي‪� .‬إنه منهج يسلكه ابن رشد للحفاظ‬
‫على القوة ال ِع ْلمية لبعض �آراء ال�أطباء‪ ،‬و�إن اختلف بعضها‪ ،‬ويسلكه لبيان قيمة التجربة‬
‫والقياس معها وهما منهجان مختلفان‪ ،‬كما يسلكه للجمع بين ال�أقاويل الكلية والجزئية‬
‫رغم �أن هذه ال�أقاويل مظانُّها العلمية تختلف ومناهجها تتباين‪ .‬وسنقصر حديثنا على هذه‬
‫الصور الثلاث من الجمع لتقديم مادة تمثيلية على هذا الطريق العلمي الذي نفترض �أنه‬
‫يخترق المعرفة ال َع َملية عند ابن رشد‪.‬‬
‫‪ - 1‬لا يمكن الحديث عن الجمع دون الحديث عن طبيعة المعرفة الطبية‪� ،‬إذ لا‬
‫يمكن تصور جمع بين �آراء برهانية لا يتعدد فيها الحق ونظرها خاص ومناسب‪ .‬فالجمع‬
‫يقوم على �أساس �أن ال�آراء الطبية �آراء اجتهادية‪ ،‬و�أن طبيعة المعرفة الطبية ظنية مما يجعل‬
‫من المشروع الجمع‪� ،‬أحيانا‪ ،‬بين �أكثر من ر�أي طبي‪� .‬إن ابن رشد كثيرا ما يشدد على‬
‫�أن �أقاويل ال�أطباء غير خاصة ولا مناسبة وذلك ل�أنهم يرومون بيان �أمور عامة لموجودات‬
‫خاصة(((‪ ،‬فضلا عن �أن العلامات الطبية علامات حدسية تخمينية من جنس ال�أقاويل‬
‫الظنية ينبغي تحري الاجتهاد فيها حسب غلبة الظن((( مما يطبع ال�أدلة الطبية بطابع‬
‫الظن(((‪ ،‬وينزع الوثاقة عن الدساتير الطبية(((‪ ،‬فيصبح تكلف البرهان في الطب نظر غير‬
‫مناسب فيه(((‪ ،‬ويصبح التقريب بين ال�أقاويل الطبية ممكنا؛‬
‫�إن الناظر في الكليات يجد ابن رشد يحيل على مرجعيات طبية تبتدئ ب�أبقراط‪ ،‬وتنتهي‬
‫بالفارابي وابن سينا والرازي وابن وافد و�أسرة بني زهر وقطبيها �أبي العلاء ومروان مرورا‬
‫ب�أرسطو وجالينوس‪ .‬كما يحيل ابن رشد على مدارس طبية كثيرة تجمعها نعوت خاصة‬
‫يخلعها عليها ابن رشد �إلى درجة يمكن القول معها �إن هناك مدرسة "قدماء ال�أطباء"(((‪،‬‬
‫‪ - 1‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص‪-44 43‬‬
‫‪ - 2‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪-220 202 - 201‬‬
‫‪ - 3‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق ص ‪236‬‬
‫‪ - 4‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪238‬‬
‫‪ - 5‬الكليات في الطب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪238‬‬
‫‪ - 6‬الكليات ص ‪63‬‬
‫‪99‬‬
‫ومدرسة "المشرحين"(((‪ ،‬و�أخرى "للمشائين"(((‪ ،‬وثالثة"للمهرة المرتاضين بالطب"(((‪،‬‬
‫ورابعة لـ"�أصحاب التجارب"(((‪ ،‬وخامسة لـ"عوام ال�أطباء"(((‪ ،‬وسادسة لـ"الحدث من‬
‫�أصحاب الكنانيش"((( وسابعة لـ"�أصحاب الشعاعات"(((‪ ،‬وابن رشد ينهل من هؤلاء‬
‫جميعهم ليبني من خلال هذا التقليد الطبي الطويل والمتنوع نصه الطبي "الكليات"‪،‬‬
‫الذي �أبرز فيه قدرة فائقة على الجمع والترجيح بين مختلف ال�أقاويل الطبية‪ .‬وما يعنينا‬
‫هاهنا هو �إبراز بعض معالمه في الجمع الطبي‪.‬‬
‫‪ - 2‬ل�أبقراط وجالينوس و�أرسطو �أهمية كبرى في الكليات؛ ففي زمان جالينوس كملت‬
‫صناعة الطب(((‪ .‬فهو "الرجل الموثوق والمجرب في صناعة الطب"(((‪ .‬لذا لا يستغرب‬
‫المرء �أن يكون جالينوس هو المنهل الذي نهل منه ابن رشد كثيرا من �أقاويله الطبية‪،‬‬
‫فعمد �إلى ما انتشر في كتبه من �آراء و�أقاويل تعتبر من الضروري في الطب وجمعها ورتبها‬
‫ترتيبا صناعيا(‪ ((1‬لاعتقاده �أن تعلم الطب على المجرى الصناعي يكون في كتب جالينوس‬
‫وحده(‪ .((1‬حاور جالينوس �أرسطو كثيرا ورد عليه ردودا لم يرض عنها ابن رشد حتى عتب‬
‫عليه‪ ،‬في مواضع متفرقة من رسائله الطبية‪ ،‬عجلته على �أرسطو مذكرا �إياه ب�أن مرتبة �أرسطو‬
‫من الحكمة هي نفس المرتبة التي كان يراها جالينوس ل�أبقراط في علم الطب(‪ .((1‬بل‬
‫�إن ابن رشد يربط برباط علمي وثيق بين الطبيب ال�أول والمعلم ال�أول فيجعل بعض قول‬
‫�أرسطو على هامش �أقوال �أبقراط؛ �إذ �أن هذا ال�أخير �أول من وقف على جميع ال�أشياء‬
‫نسق �أرسطو براهينه‬ ‫التي ل�أرسطو في الكيفيات‪ ،‬و�أول من �أعطى مبادئها البرهانية التي ّ‬
‫عليها(‪ .((1‬فك�أن هذا التعاون ال�أرسطي ال�أبقراطي ُسلما لرفع القول ال�أبقراطي الطبي �إلى‬
‫درجة القول الفلسفي المجرد‪ .‬فما دلالة هذا ال�أمر؟‬
‫‪ - 1‬الكليات ص‪65‬‬
‫‪ - 2‬الكليات ص‪- 74‬وص ‪..192‬‬
‫‪ - 3‬الكليات ص‪ 168‬وص‪179‬‬
‫‪ - 4‬الكليات ص‪360‬‬
‫‪ - 5‬الكليات ص‪315‬‬
‫‪ - 6‬الكليات ص‪398‬‬
‫‪ - 7‬الكليات ص ‪142‬‬
‫‪ - 8‬الكليات ص ‪84‬‬
‫‪ - 9‬الكليات ص ‪ 247‬وص‪ 289‬وص‪296‬‬
‫‪ - 10‬الكليات ص ‪ 377‬وانظر �أيضا رسائل ابن رشد الطبية ص‪48‬‬
‫‪ - 11‬رسائل ابن رشد الطبية ص‪162‬‬
‫‪ - 12‬رسائل ابن رشد الطبية ص ‪172 - 171‬‬
‫‪ - 13‬الرسائل الطبية مرجع سابق ص ‪167‬‬
‫‪100‬‬
‫�أبقراط و�أرسطو وجالينوس مراجع علمية كبرى في الطب عند ابن رشد‪ ،‬وما يهمنا هنا‬
‫هو �أنه حاول �أحيانا �أن يخفف من غلواء التعارض بينها عندما جمع بين �أرسطو وجالينوس‬
‫من خلال نظريته في علاقة المتقدم بالمت�أخر و�أن المت�أخر كثيرا ما يتمم المتقدم‪ .‬يقول‬
‫ابن رشد‪�" :‬إن جل ال�أمور التي يظن بجالينوس �أنه يناقض فيها �أرسطو [‪ ]...‬هي‬
‫كالتتميمات والزيادة‪ ،(((".‬فجالينوس �إنما يتمم القول الطبي ال�أرسطي(((‪ .‬لكن كثيرا ما‬
‫يعارض جالينوس �أرسطو وينتصر ل�أفلاطون وهو ما يحنق ابن رشد(((‪ .‬كذلك نجد ابن‬
‫رشد في مناسبة �أو مناسبتين نادرتين يذكر ر�أيا لجالينوس و�آخر ل�أرسطو ويمتنع عن ترجيح‬
‫�أحد الر�أيين(((‪ ،‬وك�أنه يسعى لتطبيق القاعدة الفقهية التي يقوم عليها الجمع "�إعمال النص‬
‫�أفضل من �إهماله"‪ .‬وسينبه الرازي على صعوبة �إدراك الصواب في الطب عندما يختلف‬
‫فيه �أرسطو وجالينوس في حين يسهل �إدراكه عند اجتماعهما عليه(((‪.‬‬
‫�إن الجمع بين جالينوس و�أرسطو‪ ،‬رغم كثرة الانتقادات التي وجهها الطبيب‬
‫للفيلسوف‪ ،‬يفتحنا على جمع ابن رشد بين ر�أيي جالينوس و�أبقراط حيث نجده يعرض‬
‫قولين متعارضين للطبيبين عند �إعطاء سبب السكتة‪� ،‬أي "سقوط ال�إ نسان بغتة على‬
‫ال�أرض‪ ،‬وانقطاع صوته‪ ،‬وجميع �أفعال الحركة في جميع البدن ما خلا التنفس" ثم يقول‬
‫‪" :‬فقد يظهر لك من صدق ما قاله �أبقراط في �إعطاء سبب هذه الشكاية‪ ،‬وما قاله �أيضا‬
‫جالينوس‪ ،‬وذلك �أن �أبقراط قال ‪ :‬من انقطع صوته بغتة وسقط على ال�أرض ف�إن �آفته‬
‫انطباق العروق‪ ،‬يعني الشرايين التي بين القلب والدماغ‪ ،‬وقد اعترف جالينوس بكون هذه‬
‫العلة حادثة عن هذا السبب في كتابه في العلل وال�أعراض‪ ،‬وقال في كتابه ال�أعضاء ال�آلمة‬
‫�إنها تحدث عن شدة في بطون الدماغ عظيمة"‪ ،‬وبعد �أن يعرض ابن رشد هذين القولين‬
‫‪ - 1‬الكليات في الطب‪ ،‬ص‪84‬‬
‫‪ - 2‬وعندما يشتط جالينوس على �أرسطو يذكره ابن رشد بقول المعلم ال�أول �أنه "لو لم يكن المتقدم لم يكن المت�أخر‪،‬‬
‫ولو لم يكن من تقدمك [مخاطبا جالينوس] من ال�أطباء لم تكن �أنت‪ ،‬فكل من قال شيئا على طريق البحث والنظر‬
‫�أخط�أ فيه �أو �أصاب‪ ،‬يجب �أن يشكر‪ ،‬كما يقول �أرسطوطاليس ‪:‬ف�إنهم لم يكن لهم من الفضل‪� ،‬إلا �أنهم خرجوا‬
‫�أذهاننا"‪ ،‬رسائل ابن رشد الطبية ص‪ 205‬وعندما يخرج جالينوس عن �أصوله التي قررها ف�إن ابن رشد يغفر له نم‬
‫ص ‪315‬‬
‫‪ - 3‬عندما ر�أى جالينوس ر�أيا ل�أفلاطون‪ ،‬ف�إن ابن رشد انتصر ل�أرسطو مبينا �أن قوله هو القول الصحيح "ومن تبعه من‬
‫المشائين‪ ،‬وهو الر�أي الذي استقر عليه ال�أمر عند جميع الحكماء �إلا من لم يفهم غرض القوم‪ ،‬ولا �أخذ مذهبهم‬
‫عنهم‪ ،‬كما عرض لجالينوس" رسائل ابن رشد الطبية ص‪-351 350‬‬
‫‪ - 4‬الكليات ص‪ 38‬وص ‪163‬‬
‫‪ - 5‬يقول الرازي ‪" :‬متى اجتمع جالينوس و�أرسطوطاليس على معنى فذلك هو الصواب‪ .‬ومتى اختلفا صعب على‬
‫العقول �إدراك صوابه جدا" ابن �أبي �أصيبعة‪ ،‬عيون ال�أنباءج‪ 2‬دار الثقافة بيروت ط‪ ،1981 3‬ص‪.351‬‬
‫‪101‬‬
‫الطبيين المتعارضين نجده يلج�أ صراحة �إلى تقنية الجمع فيقول‪" :‬والحق هو الجمع بين‬
‫القولين‪� ،‬أعني �أنه قد يكون سكاتا يحدث عن ال�أمرين جميعا"(((‪.‬‬
‫هكذا نجد ابن رشد حريصا في بعض ال�أحيان على الجمع بين السلط العلمية الكبرى‬
‫في الطب‪ ،‬بل �إن هذا الجمع يصبح �أحيانا صفة للقانون‪ ،‬وهو ما يقدمه لنا موضع تركيب‬
‫ال�أدوية من كتاب الكليات حيث يكون الجمع صفة للقانون الذي يسمح بالمعالجة ب�أكثر‬
‫من دواء قد يظهر في بادئ الر�أي تعارضه‪ .‬ويقدم ابن رشد نموذجا على ذلك هذا القانون‬
‫الجامع‪ ،‬والذي يعتبره قانونا مهما في الطب‪ ،‬وينوه ببني زهر الذين كان لهم الفضل في‬
‫التنبيه عليه(((‪ ،‬وهو القانون الذي "�إذا لحظه ال�إ نسان على ما يجب لم يعالج يكاد بدواء‬
‫مفرد"(((‪ ،‬بل جمع بين �أكثر من دواء و�إن ظهرت هذه ال�أدوية المفردة متضادة القوى‪،‬‬
‫"فلذلك‪ ،‬لست �أمنع كل المنع �أن يكون الدواء ال�أضعف �إذا خلط بالدواء ال�أقوى كان‬
‫المجتمع عنهما فعلا �أقوى"(((‪ ،‬مشيدا بقانونه الجامع هذا‪.‬‬
‫والجمع بين ال�أدوية المفردة في صنع الدواء كمظهر للجمع عند ابن رشد يجليه �أيضا‬
‫ذلك الحرص الرشدي على الجمع بين ال�أسباب التي تبدو متعاندة في فهم علة ال�أعراض‬
‫التي تلحق الهضم ال�أخير‪ .‬فعندما يذكر ابن رشد جملة ال�أسباب المسببة لهذه ال�أعراض‬
‫يعقب قائلا‪" :‬وينبغي �أن تفهم عنا عند تعديدنا ل�أسباب هذه ال�أعراض �أنه ليس تعديدا‬
‫ل�أشياء متعاندة لا يمكن �أن تجتمع ب�أسرها‪ ،‬بل في ال�أكثر �إنما تكون ال�أعراض اللاحقة‬
‫لها عن �أكثر من سبب واحد منها‪ ،‬وربما عن جميعها"(((‪.‬‬
‫هناك مظهر �آخر للجمع عند ابن رشد جدير بالاعتبار‪ ،‬يفرده بقول في كتابه "الكليات‬
‫في الطب"‪ ،‬هو الجمع بين الطريقة الكلية والطريقة الكناشية في المعرفة الطبية‪ .‬هاتان‬
‫الطريقتان منفصلتان ومترابطتان؛ �إذ المقدمات الجزئية التي تحصل عن التجربة وتستعمل‬
‫في �آحاد ال�أشخاص مقدمات غير متناهية لا يمكن حصرها في كتاب كما يمكن حصر‬
‫الكليات الطبية‪ .‬لكن هذه المقدمات تصبح الحاجة �إليها ماسة عند حصول ال�أمور الكلية‬
‫في صناعة الطب‪ ،‬ل�أن النزول �إلى الجزئيات يكون من الكليات(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الكليات ص‪149‬‬
‫‪ - 2‬الكليات ص ‪308‬‬
‫‪ - 3‬الكليات ص‪308‬‬
‫‪ 4‬الكليات ص ‪307‬‬
‫‪ - 5‬الكليات ص‪120‬‬
‫‪- 6‬الكليات ص ‪358‬‬
‫‪102‬‬
‫يحدد ابن رشد العلاقة بين هاتين الطريقتين تحديدا دقيقا فيقول ‪" :‬و�أما من يقتصر‬
‫على الطريقة الكناشية دون معرفة الطريقة الكلية فمخطئ قطعا‪ ،‬كما يفعله �أطباء وقتنا‪،‬‬
‫و�أما الاقتصار على ال�أمور الكلية فقد يمكن ذلك �إذا كان الفاعل في غاية الحذق‪.((("..‬‬
‫ينتمي ابن رشد �إلى الصنف الثاني من ال�أطباء الذين يتميزون بالحذق وهو مع ذلك يصرح‬
‫في بعض المواضع عن �إرادته في الجمع بين الطريقتين فيقول مثلا ‪]...[" :‬ولذلك ما‬
‫نرى �أن تعديد هذه ال�أمراض بحسب عضو عضو‪ ،‬ووصف ال�أدوية النافعة لها‪ ،‬طريق متمم‬
‫لهذه الطريقة الكلية‪ ،‬وهي الطريقة الكناشية‪ ،‬لكن سنجمع نحن بين الطريقتين[‪"]...‬‬
‫(((‪ .‬حقا �إن ابن رشد ليس له باع طويل في الممارسة الطبية الجزئية‪ ،‬كما صرح بذلك‪،‬‬
‫وهو ال�أمر الذي عاقة عن الكمال في الطب(((‪ .‬ولعل هذا ال�أمر هو الذي اضطره ل�أن‬
‫يستنهض همة �أبي مروان بن زهر ليكتب كتابا في ال�أقاويل الجزئية الطبية فكتب كتاب‬
‫"التيسير"‪ ،‬واستنسخه ابن رشد و�أذاعه في الناس‪ ،‬ل�أن �أقاويله الجزئية شديدة المطابقة‬
‫لل�أقاويل الكلية(((‪ .‬فحقق هذا الكتاب لابن رشد مطمحا كبيرا في الجمع الذي كان‬
‫ينشده بين الطريقتين كما صرح بذلك في �آخر كتاب الكليات‪ .‬ففي هذا الموضع �أعلن‬
‫�أن ال�أقاويل الكلية التي ضمنها كتابه تنطوي بالقوة على �أمور جزئية‪ ،‬و�أن ذكر "هذا القول‬
‫فيه تتميم لصناعة الطب وارتياض‪ ،‬ل�أن في ذلك ينزل �إلى علاجات ال�أمراض بحسب‬
‫عضو عضو وهي الطريقة التي سلكها �أصحاب الكنانيش‪� ،‬إذ بهذا القول يتم الجمع بين‬
‫ال�أشياء الكلية وال�أمور الجزئية"(((‪� .‬إن هم الجمع حاضر عند ابن رشد في الطب‪ ،‬وهو‬
‫جمع يسمح به القول الطبي القائم على التخمين والظن والذي يقوم �أساسا على الجمع‬
‫بين التجربة والقياس‪ ،‬والذي لا يمكن فهمه دون جمع هذه ال�أقاويل الطبية التي تفرقت‬
‫في كتب �أصحابها وغيرهم‪ .‬ولولا عناية ابن رشد بجمع ما تفرق في كتب جالينوس‪،‬‬
‫وغيره من حذاق ال�أطباء‪ ،‬من معرفة طبية‪ ،‬تصعب متابعتها في مظانها ال�أصلية‪ ،‬ما قام‬
‫�أصلا للقول الطبي عنده وجود‪.‬‬

‫‪ - 1‬الكليات مرجع سابق ص ‪392‬‬


‫‪ - 2‬الكليات ص ‪392‬‬
‫‪ - 3‬الكليات في الطب ص‪358‬‬
‫‪ - 4‬الكليات في الطب ص ‪422‬‬
‫‪ - 5‬الكليات ص‪321‬‬
‫‪103‬‬
‫عن الجمع في المنطق والسيكلوجيا ثالثا‬
‫يمكن �أن نلمس مظهرا من مظاهر هذا الجمع الذي نفترضه في قراءة ابن رشد للمنطق‬
‫في كتابه الموسوم "الضروري في المنطق"‪ ،‬ثم في شرحه لبرهان �أرسطو‪ .‬في الكتاب‬
‫ال�أول نلمس جمعا قريبا �إلى الدلالة اللغوية في حين نجد في شرح البرهان جمعا ذا نفحة‬
‫فقهية واضحة‪ ،‬وهو نفس ال�أمر الذي نلمسه في مختصر كتاب النفس ثم في تلخيص‬
‫كتاب النفس‪ ،‬كما سنلمس ذلك في موضعه؛‬
‫‪ -‬في المنطق؛‬
‫�إن "الضروري في المنطق"هو الكتاب الذي قام فيه ابن رشد ب�إنقاذ الضروري من‬
‫المعرفة المنطقية‪ ،‬ل�أن طلب ال�أفضل في زمانه ‪-‬كما يقول‪ -‬يكاد يكون ممتنعا‪ .‬و�أهمية‬
‫صناعة المنطق في الكمال ال�إ نساني تبدو في �أنها "تعطي ال�أحوال والقوانين التي بها‬
‫الصواب في صنفي التصور والتصديق"(((‪ .‬فالغرض من القول المنطقي‬ ‫يتسدد الذهن نحو ّ‬
‫لديه يكاد يكون غرضا عمليا‪ ،‬ولذا نجد ابن رشد في هذا المختصر يعمل على "تجريد‬
‫الصناعة التي كمل القول فيها عنده مثلها‬ ‫ال�أقاويل الضرورية من صناعة المنطق" هذه ّ‬
‫مثل صناعة الطب(((‪ ،‬على ما عليه الصنائع في زمانه(((‪ .‬وهذا التماثل الذي �أقامه ابن‬
‫رشد‪ ،‬على الخصوص‪ ،‬بين صناعتي المنطق والطب يمكن اعتباره ت�أكيدا للغرض العملي‬
‫المتوخى منهما‪ ،‬ولعل هذه الدلالة تت�أكد في �إيراد ابن رشد في كتابه هذا لكثير من ال�أمثلة‬
‫المنتزعة من الطب(((‪ .‬كما يمكن اعتبار هذا التماثل كذلك مدخلا ل�إ ضاءة المنهج‬
‫الذي اختاره في بسطهما‪ ،‬وهو منهج "الجمع"؛ الجمع بين �آراء المفسرين‪ ،‬متخذا من‬
‫رسخه التقليد المنطقي(((‪ ،‬ال�أمر‬
‫الفارابي دليلا يهتدي به في عرض شتات المنطق كما ّ‬
‫الذي �أضفى على المختصر نكهة فارابية واضحة‪ ،‬كما لاحظ ذلك المرحوم جمال الدين‬
‫العلوي‪ .‬وهو ما سيعدل عنه في شرح البرهان عندما تتميز لديه ال�إ شكالات المنطقية‪،‬‬
‫ويصبح �أكثر تمرسا بالنص المنطقي ‪ -‬ال�أرسطي‪.‬‬
‫‪- 1‬ابن رشد‪ ،‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪4‬‬
‫‪ - 2‬ابن رشد‪ ،‬الضروري في المنطق صص‪-3 2‬‬
‫‪ 3‬ابن رشد‪ ،‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪108‬‬
‫‪114--112 -71- 67 ،373‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪ - 5‬وهو ال�أمر الذي يعبر عنه ابن رشد بعبارات في كتابه الضروري في المنطق من مثل "ولا ب�أس �أن يستعمل هاهنا‬
‫على عادتهم ‪ "...‬ص‪ 17‬و"‪..‬فهذه كانت العادة الجارية عندهم‪ ،‬وهي عادة نافعة في العلوم " ص‪" 54‬ف�إن القدماء‬
‫�إنما يضعونها في كتبهم على ال�أكثر على هذا النحو" ص‪103‬‬
‫‪104‬‬
‫‪ -‬في شرح البرهان نجد مس�ألة منطقية مهمة (في معالجته للنقصان الذي يدخل على‬
‫البيان الذي يكون للشيء لا على طريق الكل) سينتهي تحليل ابن رشد لها �إلى الجمع‬
‫فيها بين مذهب �أرسطو ومذهب �أبي نصر قبل �أن يقطع مع هذا الجمع لينتصر لمذهب‬
‫�أرسطو كما هو ش�أن ابن رشد دائما مع �أرسطو(((؛‬
‫في هذه المس�ألة يعرض ابن رشد لنوعين من النقصان يدخلان على البيان الذي ليس‬
‫على الكل؛‬
‫النقصان ال�أول‪ ،‬ويبدو في �أنه �إن َب َّي َن �إنسان في كل �أنواع المثلثات على انفراده �أن‬
‫زواياه متساوية الساقين ف�إنه لن يكون ب َـ َّيـن ذلك "على طريق البيان الكلي"‪ ،‬ويعلل ابن‬
‫رشد ذلك ب�أن بالبيان الكلي "يعرف وجود الشيء للشيء الذي في طباعه وجوهره �أن‬
‫يوجد لذلك الشيء"‪� .‬أما معرفة المثلثات‪ ،‬كل على حدة‪ ،‬فليست معرفة على طريق البيان‬
‫الكلي ل�أنه لم يعرف بالذات �أن صفة مساواة الساقين للزوايا هي موجودة بالطبع و�أولا‬
‫للمثلث‪ ،‬وذلك ل�أنه لم يتبرهن ذلك عنده للمثلث بما هو مثلث ولا بوسط للمثلث بما‬
‫هو مثلث‪" ،‬فهو �إن عرف هذا المعنى للمثلث من قبل معرفته ل�أنواع المثلث ف�إنما يعرفه‬
‫للمثلث بالعرض"((( وما بالعرض متجنب في البراهين‪ .‬و�إن المعرفة البرهانية لا تكون �إلا‬
‫بمعرفة الشيء على الطريق الكلي و"الذي لم يعرف الشيء على الطريق الكلي لم يعرفه‬
‫بالبرهان"‪.‬‬
‫�أما النقصان الثاني فمتعلق ب�أساس الاستقراء ومشكل التعميم‪� ،‬إذ �أننا �إذا استقرينا �أنواعا‬
‫من المثلثات‪ ،‬و�أثبتنا لها معنى مساواة الساقين للزوايا‪ ،‬ف�إننا لا يمكن �أن نعرف �أن هذا‬
‫المعنى موجود لكل مثلث "و�أنه لم يبق مثلث من المثلثات �إلا وزواياه معادلة لقائمتين"‪،‬‬
‫والسبب في ذلك �أنه "لم يعلم �أن هذا المعنى موجود للمثلث بما هو مثلث‪ ،‬وهو العلم‬
‫الذي من قبله يحصل �أن كل مثلث بالذات بهذه الصفة‪ ،‬و�إنما يكون عنده علم بهذا‬
‫المعنى [‪ ]...‬بطريق الاستقراء‪ ،‬وطريق الاستقراء غير مفيد بالذات للمحمول الذاتي‬
‫الطبيعي ال�أول"‪ ،‬و�إنما يفيد الحمل الذاتي بالعرض فقط‪.‬‬
‫يؤكد ابن رشد‪ ،‬بهذه المناسبة‪� ،‬أن هذا النقص في المعرفة الذي ذكره �أرسطو في‬
‫المـحمول الذي يحمل على جنس الموضوع هو بعينه يلزم المحمول الذي لا يحمل على‬
‫‪ - 1‬شرح البرهان‪ ،‬نشرة بدوي مرجع سابق صص ‪246 243-‬‬
‫‪- 2‬شرح البرهان‪ ،‬ص‪.243‬‬
‫‪105‬‬
‫جنس الموضوع‪� ،‬إلا أ�نه أ�عم من الموضوع(((‪ ،‬معللا ذلك �أن من عرف المحمول لهذا‬
‫الموضوع فلم يعرفه بالطبيعة التي يوجد لها هذا المحمول �أولا وبالذات‪ ،‬ف�إنه يعرف ذلك‬
‫المحمول بالعرض‪ ،‬ولهذا السبب لا ينبغي �أن يدخل في محمولات البراهين ما كان �أعم‬
‫من الموضوع‪ ،‬سواء كان ذلك المحمول يحمل على جنس ذلك الموضوع حملا كليا‪،‬‬
‫�أو لا يحمل حملا كليا حتى لا يشوب البرهان شيء مما بالعرض‪ .‬في هذا الموضع‪،‬‬
‫ينظر ابن رشد فيما صنعه �أبو نصر الفارابي من عدول عن طريقة �أرسطو في اشتراط الحمل‬
‫الكلي في البراهين ليجعل المحمولات البرهانية ثلاثا؛ منها ما هو خاص‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫�أول غير خاص‪ ،‬ومنها ما هو لا �أول ولا خاص(((‪ ،‬معتبرا �أن هذا ال�أمر مما يستدعي نظرا‬
‫وفحصا عويصا‪ ،‬فكيف سيحل ابن رشد هذه المس�ألة؟‬
‫يبرز ابن رشد ال�إ شكال المطروح بقوله ‪� :‬إن الشرط الذي اشترطه �أرسطو في الحمل‬
‫على الكل �إن لم يكن عاما لجميع البراهين ف�إنه يكون "للبراهين التي في الغاية من التمام"‪،‬‬
‫ومن هنا يكون قد نقص �أرسطو �أن يبين الحمل المشترك لجميع البراهين‪� .‬أما �إذا كان‬
‫هذا الشرط عاما لجميع �أنواع البراهين ف�إن الفارابي قد �أخط�أ عندما قال بقسمة محمولات‬
‫البراهين �إلى ال�أنواع الثلاثة المتقدمة‪� .‬أما �إذا كان الشرط الذي اشترطه �أرسطو �إنما هو‬
‫على جهة ال�أفضل وليس شرطا ضروريا‪ ،‬فقد كان على الفارابي �أن يقول‪�" :‬إن الشروط‬
‫التي تشترط في الحمل البرهاني منها ما هي شروط ضرورية لايخلو منها برهان �أصلا‪،‬‬
‫ومنها شروط يكون البرهان بها �أفضل"‪ ،‬ثم يعدد الشروط التي يكون البرهان بها �أفضل‬
‫ويجعل من بينها الحمل على الكل الذي ذكره �أرسطو‪ .‬ثم يعدد في الشروط الضرورية‬
‫التي لا يكون البرهان �إلا بهما الشرطين ال�آخرين اللذين يتضمنها الحمل الكلي‪ ،‬وهما؛‬
‫�أن يكون المحمول على كل الموضوع وفي كل الزمان‪ ،‬و�أن يكون ذاتيا(((‪ .‬ويخلص ابن‬
‫رشد بعد هذا التحليل ال�إ شكالي قائلا ‪" :‬و�إن كان ال�أمر هكذا‪ ،‬فتمام القول في شرائط‬
‫البرهان �إنما هو �أن تجمع الطريقتين‪ ،‬طريقة �أرسطو وطريقة �أبي نصر‪ :‬طريقة �أرسطو من‬
‫جهة ال�أفضل وطريقة �أبي نصر من جهة الضرورة"‪ .‬ويشير ابن رشد �أن �أبا بكر بن الصائغ‬
‫قد ذهب في هذه المس�ألة المنطقية هذا المذهب‪ ،‬مما يدل على ت�أثير باجي على ابن رشد‬
‫في المنطق �أيضا‪ ،‬وليس في السيكولوجيا فقط؛‬
‫‪ - 1‬شرح البرهان‪ ،‬ص‪.244‬‬
‫‪ - 2‬يراجع موقف الفارابي هذا في "كتاب البرهان" نشر مع كتاب شرائط اليقين وتعاليق ابن باجة على البرهان‪ ،‬تح‬
‫ماجد فخري‪ ،‬دار المشرق بيروت ‪ 1987‬ص ‪29‬‬
‫‪ - 3‬شرح البرهان‪ ،‬ص ‪.245‬‬
‫‪106‬‬
‫يعتقد ابن باجة أ�ن قصد أ�رسطو في هذه المس�ألة غير قصد الفارابي(((؛ ف�أرسطو قصد‬
‫بالبراهين �أن تكون حدودا بالقوة فاشترط فيها شرط الحمل على الكل‪� ،‬أما الفارابي فنظر‬
‫في البرهان من حيث هو برهان وب�إطلاق فخالف شرط �أرسطو‪ .‬ويؤول ابن رشد قول‬
‫ابن باجة بما ينسجم وقناعته في الجمع قائلا "فك�أن �أرسطو على مذهب ابن باجة �أتى‬
‫بالشروط التي يكون بها البرهان �أفضل و�أتم‪ ،‬وسكت عن الضرورية‪ ،‬و�أبو نصر بالعكس‪،‬‬
‫عرف الشروط الضرورية وسكت عن التي يكون بها البرهان �أفضل"‪ ،‬مما يستدعي القول‬
‫ب�أن التعليمين معا يشوبها النقص‪ ،‬وهو النقص الذي لم يستطع المفسرون على كثرتهم‬
‫وجلالهم �أن يسدوا ثلمته‪ .‬يصرح ابن رشد‪ ،‬فيما يشبه "الاعتراف"‪� ،‬أنه قد �أنفق وقتا‬
‫طويلا من عمره وهو يعتقد �أن الصواب في المس�ألة هو "الجمع بين التعليمين" قبل �أن‬
‫ينتبه‪ ،‬بعدما فحص عن غرض البرهان بما هو برهان‪� ،‬إلى �أن ما فعله �أبو نصر خط�أ و�أن‬
‫الحق هو ما صنع �أرسطو((( فعدل عن الجمع �إلى الترجيح‪.‬‬
‫‪ -‬الجمع في علم النفس‬
‫لا يمكن فهم العمل الذي قام به ابن رشد في "مختصر النفس وفي "التلخيص"‪ ،‬رغم‬
‫�أنه سيتراجع عن كثير مما ذهب �إليه فيهما في الشرح‪ ،‬دون استحضار مفهوم "الجمع"‬
‫كما مارسه بشكل صريح في الفقه والطب وكما صرح به في "تلخيص كتاب النفس"‬
‫على وجه الخصوص‪ .‬فما الذي فعله ابن رشد في المختصر والتلخيص؟‬
‫لم يكن هاجس ابن رشد في "المختصر" هاجسا علميا بالدرجة ال�أولى فقد كان‬
‫همه‪ ،‬في غمرة الكرب الذي �ألف فيه هذا الكتاب كما صرح بذلك‪ ،‬ه ّما عمليا يكمن‬
‫في تقديم ما اعتبره ضروريا في المعرفة النفسية‪ ،‬وهو الضروري في الكمال ال�إ نساني‪،‬‬
‫والذي به تحصل �أول مراتب ال�إ نسان(((‪ .‬واختيار ابن رشد علم النفس لتقديم ما اعتبره‬
‫ضروريا فيه يتخذ �أساسه في �أن معرفة ال ّذات شرط �أولي لمعرفة العلم ال�إ لهي(((‪ ،‬وسيقدم‬
‫في تلخيصه ثلاثة �أسباب جعلته يحتفي بهذا العلم ‪ :‬شرف موضوعه‪ ،‬ووثاقة برهانه ثم‬
‫ال�إ قرار ب�أن معرفة النفس نافعة في كل علم يقصد تعلمه(((‪ .‬ف�أين وجد ابن رشد هذه المادة‬
‫‪ - 1‬يراجع موقف ابن باجة من هذه المس�ألة‪ ،‬في"تعاليق ابن باجة على البرهان" مرجع سابق ص ‪.152‬‬
‫‪ - 2‬شرح البرهان‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب النفس تح فؤاد ال�أهواني ص‪ 44‬وسنشير �إليه بـ "المختصر"لتمييزه عن التلخيص الذي‬
‫حققه �أ‪.‬عبري‪.‬‬
‫‪ - 4‬ذلك ما عبر عنه ابن رشد بحكاية قول من قال ‪" :‬اعرف ذاتك تعرف خالقك"‪ .‬مختصر النفس ص‪93‬‬
‫‪ - 5‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬تح �ألفرد عبري ص ‪1‬‬
‫‪107‬‬
‫العلمية‪ -‬النفسية الضرورية التي سيقدمها في المختصر ثم في التلخيص؟ وجدها في هذا‬
‫التراث المشائي من خلال استبطانه الرؤية الباجية في عرض �أقاويل المفسرين و�آرائهم‪ ،‬وقد‬
‫صنع ابن رشد ذلك انطلاقا من معيارين ‪:‬‬
‫‪ -‬شدة مطابقة �آرائهم لما تبين في العلم الطبيعي؛ وبخاصة "السماع الطبيعي"‬
‫و"السماء والعالم و"الكون والفساد" و"ال�آثار العلوية" و"كتاب الحيوان"(((‪.‬‬
‫‪ -‬قرب �آرائهم من غرض �أرسطو كما كان ماثلا في ذهنه ساعتها‪ .‬وقد كان و ْكد‬
‫ابن رشد‪ ،‬في المختصر‪ ،‬هو البحث في جوهر النفس للوقوف على مفارقتها‪ ،‬وبعبارته‪:‬‬
‫"على �أي جهة يمكن �أن توجد صورة مفارقة في الهيولى [‪]...‬ومن �أي المواضع والسبل‬
‫يمكن �أن يوقف على ذلك؟"(((‪ .‬لكن ابن رشد لن يقتصر على مطلب المفارقة الذي‬
‫كان المطلب ال�أصيل لعلم النفس ال�أرسطي‪ ،‬بل سيتجاوز هذا المطلب �إلى مطلب �آخر‬
‫هو �ألصق بالميتافيزيقا منه بعلم النفس وهو مطلب الاتصال‪� ،‬إذ يتساءل "هل اتصال‬
‫الانسان بالعقل الفعال ممكن �أو لا؟"(((‪ .‬هذا الجمع بين المطلبين هو الذي جعله يعمل‬
‫على تلخيص رسالة الاتصال الباجية ويدمج ذلك في بنية المختصر‪ (((،‬بل وجعله يجمع‬
‫بين علم النفس وما بعد الطبيعة كذلك(((‪ .‬ويعتبر ابن رشد طريقة ابن باجة في النظر �إلى‬
‫العقل الهيولاني طريقة برهانية قبل �أن ينتهي في �إحدى مراجعاته �إلى �أنها تتن ّزل منزلة القول‬
‫المشكك‪ ،‬منبها �إلى تغليط ابن باجة له بعد تعقبه الفحص عن �أقاويل �أرسطو((( ليقطع في‬
‫مرحلة مت�أخرة مع هذا الجمع الذي فعله في المختصر‪.‬‬
‫نجد منهج ابن رشد في المختصر يتكرر في التلخيص حيث قام في المقالة ال�أولى‬
‫بفحص �آراء القدماء في �أمر النفس مستعينا ب�آرائهم مميزا الصواب فيها من غير الصواب(((‪،‬‬
‫معرفا في المقالة الثانية مفهوم النفس‪ ،‬حريصا على توضيحه من خلال مناقشة فلسفية‬
‫لينتهي في المقالة الثالثة �إلى تحديد "الجزء من النفس الذي به ندرك ال�إ دراك المسمى‬
‫عقلا وفهما"(((‪ ،‬وهو الذي استهل به قوله في "القوة الناطقة" ليخلص‪ ،‬في استدراك‬
‫‪ - 1‬ابن رشد‪ ،‬مختصر النفس‪ ،‬مرجع سابق ص ‪-8 3‬‬
‫‪ - 2‬ابن رشد‪ ،‬محتصر النفس‪ ،‬مرجع سابق ص ‪8‬‬
‫‪ - 3‬مختصر النفس ص ص‪89‬‬
‫‪ - 4‬مختصر النفس ص ‪92 - 89‬‬
‫‪ - 5‬مختصر النفس ص‪93‬‬
‫‪ - 6‬مختصر النفس ص‪90‬‬
‫‪ - 7‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب النفس ص ‪9‬‬
‫‪ - 8‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪121‬‬
‫‪108‬‬
‫بسيط‪� ،‬إلى تحديد طبيعة هذا الجزء من النفس الذي يسميه ب "العقل الهيولاني" من‬
‫خلال "جمع" بين مذهب كل من ال�إ سكندر ومذهب المفسرين المشائين(((‪ ،‬فكيف‬
‫جمع ابن رشد بين المذهبين معا؟‬
‫يحاول ابن رشد‪ ،‬في البداية‪� ،‬أن يميز بين التصور بالعقل وبين سائر قوى النفس على‬
‫�أساس �أن هذا التصور مما يفارق‪ .‬لكن ما طبيعة هذه المفارقة؟ يوجد التصور بالعقل في‬
‫القوة المنفعلة مما يطرح السؤال ‪ :‬كيف ينفعل التصور بالعقل عن المعقول؟ هل انفعاله‬
‫هو على نحو انفعال الحواس عن المحسوسات �أو هو انفعال مغاير عن المحسوسات؟‬
‫�إن الانفعال عن الحواس يوجد فيه التغير لمخالطتها للموضوع‪� ،‬أما "القوة القابلة‬
‫للمعقولات" فهي غير منفعلة‪ ،‬ولا تقبل التغير �إلى الحد الذي لا يكون فيها من معنى‬
‫الانفعال �إلا القبول فقط؛ فهي بالقوة مثال الشيء الذي نعقله لا الشيء نفسه(((‪ .‬ويسمى‬
‫ابن رشد هذه القوة بـ "العقل الهيولاني"؛ فهذا العقل ليس له من معنى الانفعال �إلا القبول‬
‫ثم �إنه فضلا عن ذلك‪ ،‬لا يخالط �أي صورة من الصور الهيولانية ل�أنه يقبل صور ال�أشياء‬
‫كلها‪ ،‬فلو كان مخالطا لصورة من الصور لوجدنا �أنفسنا �أمام �إعاقة‪ ،‬حيث تعوق الصور‬
‫التي يخالطها العقل الهيولاني قبوله للصور ال�أخرى‪� .‬أو وجدناها �أمام تغير؛ حيث تتغير‬
‫الصورة المقبولة‪ ،‬فلا يعود العقل يقبل صور ال�أشياء على كنهها‪ ،‬فتصبح صور الموجودات‬
‫في العقل تتغير �إلى صور هي غير صور الموجودات‪.‬‬
‫�إن العقل الهيولاني ما دام يقبل بطبيعته صور ال�أشياء كما هي على حقيقتها‪ ،‬فيجب �أن‬
‫يكون غير مخالط ل�أي صورة من الصور �أصلا‪ ،‬وتكون طبيعته طبيعة الاستعداد فقط؛ �أي‬
‫�أن العقل الهيولاني‪ ،‬وهو العقل بالقوة‪ ،‬استعداد فقط ولاشيء يوجد فيه هذا الاستعداد‪.‬‬
‫يقول ابن رشد ‪" :‬هذا هو معنى العقل المنفعل عند �أرسطو على ت�أويل الاسكندر"(((‪.‬‬
‫�أما عن ت�أويل المفسرين للنص ال�أرسطي ب�أن "العقل يجب �أن يكون غير مخالط"‪ ،‬ف�إن‬
‫العقل الهيولاني هو "استعداد موجود في جوهر مفارق"‪ .‬والفرق بين الت�أويلين �أن الشيء‬
‫المستعد لقبول المعقول هو نفسه عقل عند المفسرين وليس �إلا استعدادا عند ال�إ سكندر‪.‬‬
‫فما هي الصعوبات التي يثيرها الت�أويلان معا؟ يرى ابن رشد �أنها ثلاث ‪:‬‬
‫‪ - 1‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص ‪121‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص‪123‬‬
‫‪109‬‬
‫‪ -‬الصعوبة ال�أولى تكمن في وجود جوهر مفارق وجوده في الاستعداد والقوة‪ ،‬ل�أن‬
‫القوة لازم من لوازم ال�أشياء الهيولانية ‪...‬‬
‫‪ -‬الصعوبة الثانية تكمن في �أن يكون الاستكمال ال�أول من العقل �أزليا وال�آخر كائنا‬
‫فاسدا‪..‬‬
‫‪ -‬الصعوبة الثالثة تكمن في �أن ال�إ نسان �إذا كان كائنا فاسدا باستكماله ال�أول‪ ،‬فيجب‬
‫(((‬
‫�أن يكون هذا الاستكمال نفسه كائنا فاسدا‪..‬‬
‫�إن هذه الصعوبات الناجمة عن ت�أويل ال�إ سكندر والمفسرين‪ ،‬كل على حدة‪ ،‬ستحمل‬
‫ابن رشد على القول بهما معا من �أجل تحديد طبيعة العقل الهيولاني‪ .‬يقول �أبو الوليد‪:‬‬
‫"�إن العقل هو من جهة استعداد مجرد من الصور الهيولانية كما يقول الاسكندر‪ ،‬وهو من‬
‫جهة جوهر مفارق متلبس بهذا الاستعداد"‪ ،‬ويقدم ت�أويلا خاصا لهذا الجمع فيقول‪�" :‬إن‬
‫هذا الاستعداد الموجود في ال�إ نسان هو شيء لحق هذا الجوهر المفارق من جهة اتصاله‬
‫بال�إ نسان‪ ،‬لا �أن الاستعداد شيء موجود في طبيعة هذا المفارق كما زعم المفسرون‪ ،‬ولا‬
‫هو استعداد محض كما زعم ذلك الاسكندر"(((‪ .‬ويعضد ابن رشد ت�أويله هذا قائلا ‪:‬‬
‫"ومما يدل على �أنه ليس استعدادا محضا �أنا نجد العقل الهيولاني يدرك هذا الاستعداد‬
‫خلوا من الصور ويدرك الصور[‪ ]...‬و�إذا كان ذلك كذلك فالشيء المدرك لهذا الاستعداد‬
‫وللصور الحاصلة فيه هو ضرورة غير الاستعداد"(((‪ .‬ثم ينهي مرافعته بالقول‪�" :‬إن العقل هو‬
‫شيء مركب من الاستعداد الموجود فينا ومن عقل متصل بهذا الاستعداد‪ .‬هو من جهة‬
‫ما هو متصل به عقل مستعد لا عقل بالفعل‪ ،‬وهو عقل بالفعل من جهة ما ليس هو متصل‬
‫بهذا الاستعداد[‪ ]...‬وهذا العقل هو بعينه العقل الفعال"(((‪ .‬معتبرا مذهب �أرسطو الحق‬
‫الجمع بين الاسكندر والمفسرين على الوجه الذي قاله[‪ ،(((]...‬قبل �أن يذكر في شرحه‬
‫على كتاب النفس �أن ما فعله في التلخيص هو "جمع زائف" ليس غير‪.‬‬
‫�إن ت�أملا في ما فعله ابن رشد من "جمع" في شرح البرهان وفي تلخيص كتاب‬
‫النفس‪ ،‬رغم تراجعه عنهما لصالح ما ارتضاه من ت�أويل جديد للقول ال�أرسطي‪ ،‬بعد �أن‬
‫قضى زمنا طويلا على اعتقادهما‪ ،‬لمما يبين �أن من ال�آليات التي كان ابن رشد يتسلح‬
‫‪ - 1‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬صص‪124 123-‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص ‪124‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص‪.124‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪110‬‬
‫بها من �أجل لـ ِّم شعت ال�أقاويل الفلسفية المتعارضة هي هذه ال�آلية الفقهية؛ �آلية الجمع‬
‫التي �أسعفته كثيرا في مسيرته العلمية‪ ،‬وهو ما يبدو �أكثر جلاء في بعض المواضع الدالة‬
‫من كتاب ما بعد الطبيعة؛‬

‫عن الجمع في ما بعد الطبيعة رابعا‬


‫سيتخذ مفهوم "الجمع" الفقهي عند ابن رشد شكلا �آخر يسميه بـ "الوسط العادل"‪،‬‬
‫وقد مكّنه هذا المفهوم من الحفاظ على القوة التصديقية لل�أقاويل المتعارضة‪ .‬فقد جاء‬
‫"الوسط العادل" ليسهم في حل هذه ال�أقاويل المتعارضة في الميتافزيقا والتي �ُأفردت لها‬
‫مقالة الباء التي تحتل مكانة متميزة ضمن مقالات ما بعد الطبيعة‪.‬‬
‫تعتبر مقالة الباء لابن رشد‪ ،‬من المقالات التي تدخل ضمن التوطئات لعلم ما بعد‬
‫الطبيعة(((‪ ،‬وقد ر�أى فيها روس "برنامجا ل�أقوال متضادة"‪ ،‬واعتبرها �أونس "عرضـ[ًا]‬
‫ل�أقوال متضادة بالنسبة لنفس المس�ألة الواحدة"(((‪ ،‬وقد ذهب �أبو الوليد في هذه المقالة‬
‫�إلى عرض "ال�أقاويل المتضادة" لغرض يرومه في ذلك نلمس فيه بعضا من شخصيته‬
‫الفقهية حين يقول ‪ " :‬من ال�أفضل للذي يريد �أن يحكم بين المختلفين في شيء ما �أن‬
‫يكون عارفا بالقضايا التي يستعملها المدعي والمنكر‪ ،‬وهذا [‪� ]...‬أحد ما يضطر �إليه من‬
‫�أراد �أن يكون حاكما فاضلا بين المختلفين"(((‪ .‬وقد �أنصت ابن رشد ل�أقاويل المختلفين‬
‫في �أكبر القضايا الفلسفية في هذه المقالة‪ .‬فكيف كان موقف ابن رشد من هذه ال�أقاويل؟‬
‫نهج ابن رشد في حل �إشكالات هذه المقالة منهجين ‪ ":‬منهج التشكيك على المستوى‬
‫الدلالي" و"منهج التشكيك على مستوى ال�أقوال"‪.‬‬
‫المنهج ال�أول‪ ،‬و"يهدف �إلى حل التعارض القائم بين التواطؤ والاشتراك في الاسم‬
‫على �أساس مبد�أ وحدة المنسوب �إلى شيء واحد‪ ،‬القائمة على فكرة ال�أول وعلى الوحدة‬
‫في الجنس والاختلاف في جهة الانتساب �إليه"‪� .‬أما المنهج الثاني فـ"يسعى �إلى حل‬
‫‪ - 1‬يقول ابن رشد في مقالة الزاي ‪" :‬و أ�ما ما قبل هذه المقالة ف�إنه فحص فيها عن أ�شياء تجري مجرى التوطئة‬
‫والمقدمات لما يريد �أن يقوله في هذه"‪ .‬تفسير ما بعد الطبيعة‪ ،‬تح موريس بويج دار المشرق‪ ،‬الجزء الثاني الطبعة‬
‫الثالثة ‪ 1990‬ص ‪.745‬‬
‫‪ - 2‬انظر د‪ .‬محمد المصباحي‪ ،‬مرتبة الفحص الدلالي والفحص الجدلي‪ -‬ال�إ شكالي من علم ما بعد الطبيعة عند ابن‬
‫رشد‪ ،‬مجلة كلية ال�آداب والعلوم ال�إ نسانية بفاس العدد الثامن ‪ ،1986‬هامش ‪ 1‬ص‪.73‬‬
‫‪ - 3‬مقالة الباء من تفسير ما بعدالطبيعة‪ ،‬تحقيق موريس بويج الجزء ال�أول الطبعة الرابعة دار المشرق‪ ،‬الطبعة الرابعة‬
‫‪ 1991‬ص‪.171‬‬
‫‪111‬‬
‫مس�ألة تقابل ال�أقوال والمذاهب على �أساس ما �أسماه ابن رشد بالوسط العادل‪� ،‬أو ال�أقاويل‬
‫العادلة‪� ،‬أو الحق بين النفي التام وال�إ ثبات التام"(((‪.‬‬
‫وهذا المنهج الثاني يجلي في نظرنا الاشتغال الفقهي في الفلسفة ال�أولى من خلال‬
‫مفهوم "الجمع" الذي يبدو هنا من خلال �أسامي جديدة؛ فهاهنا نجد ابن رشد يجرد‬
‫�أداته الفقهية ال�أثيرة ليقتحم بها الصعوبات التي تعترض القول الفلسفي‪ ،‬فيتوسل بما‬
‫�أسماه"النظرة العادلة"‪ ،‬وهي نظرة واحدة �إلى القول ونقيضه دون تمييز بينهما للبحث عن‬
‫موقف وسط يحفظ للقولين قوتهما التصديقية من �أجل "الجمع" بينهما‪� .‬إن هذا المنهج‬
‫الرشدي يقوم على "مبد�إ �إثبات الموقفين المتقابلين اللذين يكونان ال�إ شكال دون انحياز‬
‫ل�أحدهما على حساب ال�آخر ويتم الاعتراف بالموقفين المتقابلين"(((‪ .‬ذلك هو "الجمع"‬
‫الفقهي في �أجلى مظهره‪ ،‬وتقدم مقالات ما بعد الطبيعة �أمثلة لهذا الجمع "فمثلا بين‬
‫القول ب�أن للكل مبادئ كثيرة وب�أن ليس له �إلا مبد�أ واحد‪ ،‬يقدم لنا ابن رشد موقفا حلا‬
‫وسطا يعترف فيه في �آن واحد بوحدة المبد�إ وكثرته"(((‪ .‬ولا شك �أن لمهنة القضاء دورا‬
‫(((‬
‫في تثبيت هذا المنهج عند ابن رشد‪.‬‬

‫‪ - 1‬د‪ .‬محمد المصباحي‪� ،‬أنحاء الوحدة وتجلياتها عند ابن رشد‪ ،‬السفر ال�أول‪� ،‬أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في‬
‫الفلسفة‪ ،‬مرقونة بكلية �آداب الرباط ص‪.182‬‬
‫‪� - 2‬أنحاء الوحدة وتجلياتها ‪ ،...‬المرجع السابق ص‪،183‬‬
‫‪�- 3‬أنحاء الوحدة وتجلياتها ‪...‬المرجع السابق ص ‪183‬‬
‫‪�- 4‬أنظر �أنحاء الوحدة‪...‬المرجع السابق ص‪ .184‬حيث يربط ال�أستاذ المصباحي الممارسة الرشدية بمهنة القضاء‬
‫بقوله‪� " :‬إن الفعل الفلسفي كما تصوره �أبو الوليد كان يعكس مزاج وروح القضاء الذي كان يمارسه ك�أحد �أهم‬
‫مهام المدينة‪ ،‬فقد كان الفعل الفلسفي عنده فعل استيعاب المواقف المختلفة ‪ ..‬فعل تجاوز التضارب بين ال�أقوال‬
‫�إلى قول �آخر يتجاوزها‪ "..‬وهو الفعل الذي نزعم �أنه تم توظيف مفهوم الجمع الفقهي من �أجل ممارسته‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الجمع في السياسة‬
‫تكتسي �أحاديثنا عن الجمع في الفقه والطب والمنطق وعلم النفس وما بعد الطبيعة‬
‫�أهميتها وقوتها من بيان منزلة الفقه في الاشتغال الفلسفي الرشدي‪ .‬ذلك ما يحفزنا �إلى‬
‫مغامرة علمية نروم من ورائها الحديث عن الجمع في السياسة‪.‬‬
‫عندما نتحدث عن "الجمع بين الحكيمين" في السياسة عند ابن رشد‪ ،‬فنحن لا‬
‫نقصد بذلك جمعا على طريقة �أبي نصر الفارابي‪ .‬حقا‪� ،‬إن ما فعله الفارابي مع �أفلاطون‬
‫و�أرسطو من جمع يكاد يقترب مما فعله الفقهاء عند عرضه لل�آراء في تعارضها‪ ،‬ولكنه‬
‫يختلف عنهم في �أمر هام‪ .‬ف�إذا كان الفقهاء يلجؤون �إلى الجمع من �أجل الاحتفاظ بقوة‬
‫ال�آراء التي تبدو متعارضة‪ ،‬ف�إن الفارابي يلج�أ �إلى �آراء �أهل زمانه التي تقيم تعارضا بين �آراء‬
‫�أفلاطون و�أرسطو‪ ،‬لكن عوض الحفاظ على تعارضها‪� ،‬أو ردها �إلى التعارض الشهير بين‬
‫�أرسطو و�أفلاطون‪ ،‬كما تفصح عنه كتاباتهما‪ ،‬ثم الاجتهاد في البحث عما يجمع بينها‬
‫من ت�أويل‪ ،‬ف�إنه قد عمل على تفنيد �آراء �أهل زمانه ليجمع بين ر�أيي الحكيمين انطلاقا من‬
‫نص خارج نصوص الحكيمين‪ .‬فك�أن الفارابي استنجد بنص ثالث للتقريب بين نصين‬
‫متعارضين ولبيان �أنهما يؤمان مقصدا واحدا‪ ،‬ولعل هذا ما جعل ابن رشد لا يرضى عن‬
‫محاولة المعلم الثاني هذه(((‪ .‬فقد جمع �أبو نصر بين �أفلاطون و�أرسطو جمعا في كتاب‬
‫يعتبر في تاريخ الفلسفة كتابا منحولا‪� ،‬أقصد "�أثولوجيا �أرسطو"‪� ،‬إذ �إن �إيمان الفارابي‬
‫بوحدة الحقيقة‪ ،‬وانشغال متفلسفة عصره ب�إبراز التناقضات بين الحكيمين‪ ،‬اضطرته �إلى‬
‫�إيجاد غطاء نظري واحد لقطبـي الحكمة في عصره �أفلاطون و�أرسطو((( ف�أسعفه كتاب‬
‫�أثلوجيا بتحقيق مقاصده الفلسفية(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬نشرة ال�أهواني ص ‪.85‬‬
‫‪ - 2‬يقول �أبو نصر ‪.." :‬ف�إني ر�أيت �أكثر �أهل زماننا قد تحاضوا وتنازعوا ‪ ..‬وادعوا �أن بين الحكيمين المقدمين‬
‫المبرزين اختلافا ‪� ...‬أردت في مقالتي هذه �أن �أشرع في الجمع بين ر�أييهما وال�إ بانة عما يدل عليه فحوى قوليهما‬
‫ليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه‪ ،‬ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما‪ ،‬و�أبين مواضع الظنون‬
‫ومداخل الشكوك في مقالاتهما‪ ،‬ل�أن ذلك من �أهم ما يقصد بيانه‪ ،‬و�أنفع ما يراد شرحه و�إيضاحه" كتاب الجمع‬
‫بين ر�أيي الحكيمين تقديم وتعليق �ألبير نصري نادر ط‪ 3‬دار المشرق ‪ 1980‬ص ‪.79‬‬
‫‪ - 3‬حول هذه النقطة انظر د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ ،‬نحن والتراث دار الطليعة بيروت ط‪ 1980 ،1‬صص ‪.82-81‬‬
‫‪115‬‬
‫لكن لا بد من ال�إ شارة هنا �إلى �أن هذا الجمع بين �أفلاطون و�أرسطو ليس جديدا على‬
‫الثقافة الفلسفية ال�إ سلامية‪� ،‬إنما هو مذهب من المذاهب التي عرفها التقليد ال�أسكندراني‬
‫الفلسفي القديم‪ ،‬ولعل �أبا نصر نفسه ت�أثر به‪ .‬فهذا سمبليقيوس يقول في كتاب المقولات‬
‫ل�أرسطو‪�" :‬إذا ظهر الخلاف بين �أرسطوطاليس و�أفلاطون‪ ،‬فالقاعدة �أن لا تقف عند ظاهر‬
‫المعنى ولا يعتقد بوجود الخلاف حقيقة بين الحكيمين بل ينبغي عليك �أن تستقصي‬
‫معناهما‪ ،‬فتجدهما موافقين لا محالة"(((‪ .‬بل �إن الفارابي نفسه يذكر في كتابه "الجمع بين‬
‫ر�أيي الحكيمين" رسالة ل�أمونيوس جمع فيها �أقوال �أفلاطون و�أرسطو في �إثبات الصانع(((‪.‬‬
‫سيستمر هذا الجمع في التقليد الفلسفي ال�إ سلامي‪ :‬فنجد البطليوسي لا يرى فرقا بين‬
‫الحكيمين في كثير من المسائل التي عرضها في "الحدائق"(((‪ ،‬كما نجد ابن باجة يفزع‬
‫�إلى �أفلاطون في نصوصه التي كتبها ابتداء‪ ،‬وسيحضر �أستاذ �أرسطو مع تلميذه في "تدبير‬
‫المتوحد" في جمع يذكرنا بالجمع الذي قام به ابن رشد‪ ،‬كما سنفصل فيما بعد‪.‬‬
‫�إذا كان �أبو نصر قد �أقدم على الجمع بين الفيلسوفين من خلال كتاب منحول‪،‬‬
‫ومقتفيا تقليدا قديما‪ ،‬ف�إن ابن رشد سـ"يجمع" بينهما بسبب غياب كتاب ارسطو في‬
‫السياسة‪ ،‬كما صرح بذلك‪ .‬لكن فيلسوفنا يختلف عن �أبي نصر في �أنه في كتاباته‬
‫الفلسفية �إجمالا‪ ،‬لا يؤمن ب�أن الفيلسوفين اليونانيين متطابقان في تفكيرهما‪� .‬إن انتصار‬
‫"الشارح ال�أكبر" ل�أرسطو �أظهر من �أن يشار �إليه‪ ،‬وتقديره ل�أفلاطون تقدير واضح‪ ،‬لكن‬
‫هذا �أمر‪ ،‬والفروقات بينهما في حسه فروقات متمايزة؛‬
‫تقدم لنا مقالات تفسير ما بعد الطبيعة �أوضح نموذج لهذه الفرو قات التي يظهر فيها‬
‫�أفلاطون خصما ل�أرسطو خاصة في نقد هذا ال�أخير لنظرية الصور ال�أفلاطونية من خلال‬
‫حجج تبين �أن هذه النظرية لا تفيد لا في قيام العلم ولا في تفسير كون الوجود(((‪� .‬إن‬
‫نظرية الصور ال�أفلاطونية على الخصوص �أخذت حيزا كبيرا في نقد ابن رشد في تفسيره‬
‫‪ - 1‬ذكره دافيد سانتلانا في ‪ :‬المذاهب اليونانية الفلسفية في العالم ال�إ سلامي‪،‬تح ونقديم وتعليق محمد جلال شرف‪،‬‬
‫دار النهضة العربية‪ ،1981 ،‬ص‪89-88‬‬
‫‪- 2‬يقول الفارابي ‪" :‬ول�أمونيوس رسالة مفردة في ذكر �أقاويل هذين الحكيمين في �إثبات الصانع استغنينا لشهرتها‬
‫عن �إحضارنا �إياها في هذا الموضوع ‪ ،"..‬الجمع بين ر�أيي الحكيمين‪ ،‬قدم له وعلق عليه �ألبير نصري نادر دار‬
‫المشرق بيروت ط‪ 3‬ص‪.102‬‬
‫‪ - 3‬البطليوسي‪ ،‬الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة‪ ،‬تقديم عبد الكريم يافي‪ ،‬اعتناء محمد رضوان‬
‫الداية‪،‬دار الفكر دمشق‪ ،‬ط‪ 1988 1‬صص ‪123-90-89-54-53 - 45‬‬
‫‪ - 4‬مقالة الزاي ص ‪ 838‬ومقالة اللام ‪.1403‬‬
‫‪116‬‬
‫للميتافيزيقا ال�أرسطية(((‪ ،‬ولعل مرد ذلك عناية �أرسطو بها من جهة‪ ،‬وكونها �أيضا مذهبا‬
‫لخصم ابن رشد الفلسفي؛ ابن سينا(((‪ .‬بل �إن ابن رشد يسجل على الشيخ الرئيس و�أبي‬
‫نصر‪ ،‬ميلهما معا �إلى مذهب �أفلاطون لكونه "قريب الشبه مما يعتقده المتكلمون من‬
‫�أهل ملتنا"(((‪.‬‬
‫�إن شعور ابن رشد بالفروق بين �أفلاطون و�أرسطو‪ ،‬وخلافه التقليدي مع علم الكلام‬
‫ومع الفارابيين‪ ،‬لم ُي َخ ِّسس في عينيه شخصية فلسفية كبيرة مثل �أفلاطون‪ ،‬بل �إنه يعتبر‬
‫مذهب �أفلاطون �إلى جانب مذهب �أرسطو "منتهى ما وقفت عليه العقول ال�إ نسانية"(((‪.‬‬
‫لمذهب �أفلاطوني‪ ،‬فنجده يعتبر ر�أيا له‬
‫ِ‬ ‫من هنا هذا التثمين الذي نصادفه مرة بعد المرة‬
‫�أقنع ال�آراء ر�أيا(((‪ ،‬ويعتبر قولا له "في غاية العلم" ‪ ،‬وينتصر ل�أفلاطون على الغزالي الذي‬
‫(((‬

‫استعمل قولا سفسطائيا في �إبطال مذهب له(((‪ .‬بل نكاد نجد ابن رشد يجمع بين من‬
‫سماهم "�آل ارسطاطاليس و�آل �أفلاطون" في سياق دفاعه عن �أرسطو الذي اتهمه �أصحاب‬
‫�أفلاطون‪ ،‬لقولهم بحدوث العالم‪ ،‬ب�أنه عندما وضع �أن العالم قديم "ف�إنه لا يرى �أن للعالم‬
‫صانعا‪ ،‬فاحتاج "�أصحاب �أرسطو �أن يجيبوا عنه ب�أجوبة تقضي �أن �أرسطو يرى �أن للعالم‬
‫صانعا وفاعلا"‪ ،‬وينتصر ابن رشد لهذا الر�أي في تقديمه لدليل الحركة(((‪ .‬فهذا الجمع‬
‫بين �أفلاطون و�أرسطو في قولهم معها بالصانع الفاعل له دلالة كبيرة في هذا السياق‪ ،‬وهو‬
‫يفتح على نقاش فلسفي �آخر حول الت�أويل الذي �أوله �أرسطو ل�أفلاطون وق َّوله "حدوث‬
‫العالم" باعتباره من ال�أقدمين الذي يقول وحده ب�أن العالم محدث(((‪ .‬كما �أن ابن رشد‪،‬‬
‫مع �أرسطو‪ ،‬يثمنان ‪-‬معا‪ -‬مذهب �أفلاطون في الكلام السفسطائي باعتباره يمس ما "ليس‬
‫بموجود [وما ليس] داخلا في الموجود‪[..‬وذلك ل�أن] كلام السوفسطائي هو فيما‬
‫بالعرض" عند �أفلاطون(‪.((1‬‬
‫‪ - 1‬انظر على الخصوص مقالة ال�ألف الكبرى ص‪ . 68‬مقالة الباء ص‪ 237‬وص ‪ 294‬مقالة اللام ص‪1417‬‬
‫وصص‪1483-1480‬‬
‫‪ - 2‬التهافت ص ‪.407‬‬
‫‪ - 3‬مقالة الزاي ص‪886‬‬
‫‪ - 4‬تهافت التهافت ص‪187‬‬
‫‪ - 5‬تهافت التهافت ص‪.177‬‬
‫‪ - 6‬التهافت ص ‪433‬‬
‫‪ - 7‬التهافت ص‪.29‬‬
‫‪ - 8‬التهافت ص ‪172-171‬‬
‫‪ - 9‬انظر مثالا على هذا النقاش في فيدون‪ ،‬مرجع سابق‪147-144 ،‬‬
‫‪ - 10‬مقالة الهاء ص‪719‬‬
‫‪117‬‬
‫�إن حرص ابن رشد على تعليل كثير من ال�آراء ال�أفلاطونية دليل على احتفائه بهذا‬
‫الفيلسوف الذي دشّ ن مع سقراط القول في "تدبير المدن" عندما انتبها �إلى السبب‬
‫الغائي((( ففتحا بذلك قارة "السياسة"‪ .‬فهل يكون هذا ال�أمر هو ما �ألج�أ ابن رشد �إلى‬
‫�أفلاطون ال�إ لهي؟ وهل كان ابن رشد يؤمن‪ ،‬فعلا‪ ،‬بوحدة الحقيقة في السياسة بين‬
‫الحكيمين‪ ،‬بعدما �أبرز عدم �إيمانه بوحدتها عنده في الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا؟ �أم‬
‫�أن الحادث العرضي‪ ،‬الذي نسب �إليه ابن رشد لجوءه �إلى �أفلاطون‪ ،‬كاف في تبرير هذا‬
‫الجمع؟ وما دور �أبي نصر وابن باجة في هذا الجمع؟ وهل كان من السهل على ابن رشد‬
‫الجمع بين فيلسوفين بينهما من التعارض الكثير على مستوى النظر السياسي وعلى مستوى‬
‫الكتابة السياسية؟ وكيف صنع ذلك؟‬
‫جملة �أسئلة نحاول فحصها في هذا الفصل‪.‬‬

‫‪-1-‬‬
‫لا يترك ابن رشد قارئه في حيرة بسبب عدوله عن كتاب "السياسة" ل�أرسطو واحتفاله‬
‫بجمهورية �أفلاطون‪ ،‬فهو يصرح‪ ،‬في البدايات ال�أولى للكتاب‪ ،‬ب�أن هذا العدول سببه‬
‫غياب النص ال�أرسطي من الحقل الفلسفي‪ ،‬في عصره‪ ،‬غيابا مطلقا‪ .‬و�أن هذا الاحتفال‬
‫سببه ما يحفل به نص �أفلاطون من معطيات سياسية هي من صميم القول الفلسفي‪-‬‬
‫العملي رفعها ابن رشد �إلى درجة القول البرهاني‪ .‬و�إن كان هذا التصريح بالعدول وهذا‬
‫الضرب من الاحتفاء يطرحان كثيرا من ال�إ شكالات على دارس الفكر الرشدي‪:‬‬
‫ف�أما التصريح بالعدول فهو تصريح مباشر‪� ،‬إذ يقول ابن رشد في سياق �إقباله على الجزء‬
‫الثاني من العلم المدني‪�]...[" :‬إنا لم نحصل على كتاب �أرسطو [في السياسة]‪.((("...‬‬
‫�أما التصريح بالاحتفاء فبعضه مباشر وبعضه غير مباشر‪ .‬والمباشر قول ابن رشد في‬
‫نفس السياق السابق‪ ":‬والثاني [�أي القسم الثاني من العلم المدني] يفحص عنه [�أي‬
‫�أرسطو] في كتابه المعروف بـ "السياسة"‪ ،‬و�أيضا في كتاب �أفلاطون الذي نروم تلخيص‬
‫هاهنا[‪ .((("]...‬ففي هذا التصريح يبدو �أن احتفال ابن رشد بجمهورية �أفلاطون سببه �أنها‬
‫تضم القسم السياسي من العلم المدني الذي يشكل القسم العملي من الفلسفة‪.‬‬
‫‪ - 1‬مقالة ال�ألف الكبرى ص‪161‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪73‬‬
‫‪ - 3‬نفس المرجع والصفحة‬
‫‪118‬‬
‫لم يكن لهذه المادة السياسية التي يحفل بها هذا الكتاب ال�أفلاطوني �أن تحظ بعناية‬
‫ابن رشد لو لم تكن تستجيب لسبارات القول العلمي ‪ -‬الضروري كما يفهمها ابن رشد‪،‬‬
‫وهذا هو المستوى الثاني من التصريح الذي نعتبره تصريحا غير مباشر‪ .‬وقد تدخل هذا‬
‫ال�أمر في بنية الكتاب الذي قام ابن رشد بقراءته؛ فعوض المقالات العشر التي تُكون‬
‫جمهورية �أفلاطون‪� ،‬أصبح الكتاب عند ابن رشد ثلاث مقالات احتفظ فيها بما اعتبره‬
‫قولا برهانيا‪� ،‬أو كان على جهة الضروري‪ ،‬وحذف منها ما اعتبره غير علمي �أو �أن �إيراده‬
‫يكون على جهة ال�أفضل ليس غير؛ وهكذا �أسقط ابن رشد المقالة العاشرة من كتاب‬
‫الجمهورية برمتها ل�أنه اعتبر ما جاء فيها ليس ضروريا في العلم السياسي(((‪ .‬كما �أسقط‬
‫المقالة ال�أولى جميعها وشطرا من الثانية ل�أنه اعتبر ما جاء فيها �أقاويل جدلية(((‪ .‬وهكذا‬
‫اجتمع ه ّمان؛ منطقي وتربوي‪-‬تعليمي‪ ،‬فغيرا بنية كتاب فريد في المنظومة الفلسفية‪.‬‬
‫قبل �أن نتلمس مظاهر حضور الحكيمين عند ابن رشد نتساءل‪ :‬هل يكفي قول ابن‬
‫رشد ب�أنه لم يجد كتاب السياسة ل�أرسطو عذرا في �إقباله على كتاب �أفلاطون ليخرج منه‬
‫مادة علمية سياسية ؟ لقد صرح ابن رشد في "مناهج ال�أدلة" �أن كتب المعتزلة لم تصل‬
‫�إلى ال�أندلس‪ ،‬ولكنه كان مع ذلك عارفا ب�آرائهم ومذاهبهم‪ ،‬بل ومنتصرا لها �أحايين كثيرة‪،‬‬
‫�إلى درجة �أنه يمكن اعتبار كلام ابن رشد عن عدم اطلاعه على كتب المعتزلة كلاما‬
‫غريبا‪ ،‬لولا �أن ابن رشد لا يمكن �أن يتهم‪ .‬فهل عدم ابن رشد حيلة في �أن يطلع على �آراء‬
‫�أرسطو في السياسة والحال �أن كثيرا منها مبسوط في "ال�أخلاق �إلى نيقوماخوس" وفي‬
‫"الخطابة"‪ ،‬بل وفي "ميتافيزيقاه" �أيضا‪ ،‬وبعض منها مبسوط في كتب �أبي نصر؟ فلم لم‬
‫يستخرج ابن رشد‪ ،‬من هذه ال�أسفار‪ ،‬مادة سياسية علمية "ضرورية" تُ ْكمل القسم العملي‬
‫من العلم المدني عوض �أن يلج�أ �إلى �أفلاطون خصمه في الفلسفة؟‪ .‬هل كان كتاب‬
‫السياسة فعلا مفقودا في زمانه �أم �أن حساسيات �أخرى تحكمت في عدول ابن رشد عن‬
‫�أرسطو واحتفائه ب�أفلاطون في هذا المقام؟ هل كان ت�أثير جالينوس الذي قام ابن رشد‬
‫بقراءة تلخيصه على كتاب السياسة ل�أفلاطون‪ ،‬فنقل عنه وصححه وانتقده(((‪ ،‬وكذلك‬
‫ت�أثير كتابات الفارابي السياسية‪ ،‬مثل "مبادئ الموجودات" الذي يصادر ابن رشد على‬
‫ما جاء فيه في ثنايا كتابه‪ ،‬وغيره‪ ،‬ت�أثيرا حاسما في �إقبال ابن رشد على تلخيص كتاب‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪207‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪208‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد‪ ،‬الضروري في السياسة‪ ،‬مرجع سابق ص‪ 128‬وص ‪ 129‬وص ‪206‬‬
‫‪119‬‬
‫"جمهورية" �أفلاطون؟ بل �إننا نجد �أنفسنا‪ ،‬في هذا السياق‪ ،‬مضطرين للتساؤل عن سبب‬
‫�إقدام ابن رشد على "قراءة" الجمهورية وعدم اتخاذه كتاب"القوانين" غرضا لتلخيصه‬
‫وهو الكتاب الذي كتبه �أفلاطون في �أواخر عمره ولخصه الفارابي ويعتبر �أنضج سياسيا من‬
‫كتاب الجمهورية؟‬
‫يقدم ال�أستاذ محسن مهدي في مقاله القيم "فلسفة �أرسطو والفكر السياسي في‬
‫المجتمع ال�إ سلامي‪ :‬ت�أملات ومقارنات" ((( فرضيات مهمة تجيب عن بعض هذه‬
‫التساؤلات وبخاصة المتعلق منها بالاحتفاء بكتاب �أفلاطون في السياسة عوض كتاب‬
‫�أرسطو معللا اختفاءه‪ ،‬ب�أنه اختفاء مقصود‪ .‬فبالنسبة له‪ ،‬ف�إن الفلسفة العربية ال�إ سلامية‬
‫تظل غير مفهومة �إذا لم نمسك بالفرق‪ ،‬في ال�أصل وفي وجهة النظر‪ ،‬بين الفلسفة‬
‫وال�أديان السماوية‪ ،‬و�إذا لم نمسك بالتعارض ال�أولي لمواقفهما‪ ،‬وبالوعي ب�أن كلا من‬
‫الفلسفة وال�أديان يشكل تحديا حقيقيا وجديا لل�آخر من خلال اقتراحه اختيارا من �أجل‬
‫قيادة الحياة(((‪� .‬إن ال�أديان السماوية التي اخترقت الفضاء الهليني تحدت بـشكل كبير‬
‫الفلسفة(((‪ .‬وعندما تنبه الفلاسفة �أن المتن ال�أرسطي ليس بالمتن المقبول من لدن ال�أديان‬
‫السماوية‪ ،‬وكان بعض المتكلمين قد قبلوا شطرا من المذاهب ال�أفلاطونية‪ ،‬وبعض الدوائر‬
‫الكلامية فقد قبلت بصدر رحب بعضا من الفلسفة ال�أفلوطينية‪ ،‬وتم‪ ،‬فضلا عن ذلك‪،‬‬
‫الاقتناع بضرورة �إقامة علاقة منسجمة بين الفلسفة والدين‪ ،‬عندما تضافرت هذه الشروط‪،‬‬
‫�أصبح السؤال الملح عندئذ هو‪ :‬كيف نذوذ عن �أرسطو ونحميه؟‬
‫�إن هذه المهمة تمت بالعمل على �إخفاء �أرسطو عن العامة(((‪ ،‬فتم الذهاب �إلى ال�أديان‬
‫السماوية مع �أفلوطين �أولا مشفوعا ب�أفلاطون ال�إ لهي على �أن يظل �أرسطو في الخلف لا‬
‫يقر�أ �إلا لماما‪� ،‬أو يقر�أ فقط من طرف المختصين بشرط �أن يكونوا قد ُهيئوا بقراءة �أفلاطون‬
‫�أولا ثم قراءة �أفلوطين من بعده‪ .‬ليتم‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬تقديم �أرسطو في ثوب �أفلوطيني من‬
‫خلال كتاب "�أثولوجيا"‪ .‬كما �أنه تمت حماية �أرسطو بعدم تعليم مؤلفاته و�أصبحت‬
‫تقر�أ هذه المؤلفات في جلسات خاصة‪ ،‬كما �أصبحت كتب �أرسطو تغلف بشروحات‬
‫�أفلاطونية و�أفلوطينية محدثة‪ .‬لكن ما المصير الغريب لكتاب السياسة ل�أرسطو؟‬
‫‪1 -Muhsin Mahdi, philosophie d’Aristote et pensée politique dans la communauté islamique reflexion‬‬
‫‪et comparaison. In penser avec Aristote. Edition Eres 1991. pp 209-225.‬‬
‫‪ - 2‬المرجع السابق ‪.213‬‬
‫‪ - 3‬المرجع السابق ص ‪.212‬‬
‫‪ -4‬المرجع السابق ص ‪.214‬‬
‫‪120‬‬
‫يذهب محسن مهدي �إلى �أن هذا الكتاب اختفى في نهاية المرحلة الهلنستية وعلى‬
‫امتداد المرحلة الوسيطية �إلى حدود نصف القرن الثالث عشر الميلادي‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫كان الكتاب موجودا بدليل �أن اللاتين لم يجدوا صعوبة في العثور على مخطوطاته عندما‬
‫شرعوا في البحث عنها‪ .‬بل �إن الفلاسفة في المجتمع ال�إ سلامي يعرفون كتاب السياسة‬
‫ل�أرسطو‪ ،‬وعن �أي شيء يتحدث‪ ،‬ولكنهم لا يعرضون مذهبه بالتفصيل (((‪ .‬والفيلسوف‬
‫الوحيد الذي يمكن �أن يقول شيئا عن كتاب السياسة هو ابن رشد‪.‬‬
‫لا يقول ابن رشـد �إن هذا الكتاب لم يترجم �إلى العربية و�أن السابقين لم يصلوا �إليه‪،‬‬
‫و�إنما يقول �إنه هو نفسه لم يعثر عليه وبالتالي سيشرح بدلا منه كتاب السياسة ل�أفلاطون‪.‬‬
‫�إنه لا يقدم �أي �إشارة حول المشاكل التي يمكن �أن يثيرها تعويض مثل هذا‪ ،‬وفيما �إذا‬
‫كانت جمهورية �أفلاطون لاتتلاءم مع حرفية نص �أرسطو‪ ،‬ال�أمر الذي لا يمكن لابن رشد‪،‬‬
‫وهو ال�أكثر معرفة ب�أرسطو‪� ،‬أن يجهله‪.‬‬
‫قر�أ ابن رشد كتاب "ال�أخلاق" ل�أرسطو ووجد في الكتاب السادس منه النقاش‬
‫ال�أساس ل�أرسطو بصدد العلم النظري والسياسي‪ ،‬كما قر�أ كتاب "الخطابة" فوجد فيه‬
‫التقسيم ال�أرسطي لل�أنظمة المختلفة‪� .‬إن ابن رشد كان قادرا على امتلاك رؤية واضحة‬
‫جدا لل�أفكار ال�أرسطية حول العلم السياسي‪ ،‬ولكنه يصدر مع ذلك‪ ،‬كما لو �أن من‬
‫الطبيعي من �أجل �إتمام ال�أخلاق‪ ،‬في غياب سياسية �أرسطو‪� ،‬أن نوظف جمهورية �أفلاطون‬
‫للقيام بالمهمة‪.‬‬
‫�إن كتاب السياسة ل�أرسطو ليس ملائما ولا مطابقا لل�أديان السماوية‪ ،‬ف�إن وجهة نظر‬
‫�أرسطو حول الاكتفاء الذاتي للحياة السياسية �أو للمعرفة العلمية لا تظهر �إلا بشكل باهت‬
‫في "ال�أخلاق" و"الخطابة"‪ .‬لذا ف�إن �إخفاء العلم السياسي ال�أرسطي يكون ب�إعادة عرض‬
‫السياسة ال�أفلاطونية‪ ،‬ومن هنا �أصبحت جمهورية �أفلاطون ونواميسه الكتابان ال�أساس‬
‫للفلسفة السياسية العربية(((‪ .‬ف�إلى �أي حد يمكن �أن نقبل هذه التعليلات التي يقدمها‬
‫ال�أستاذ محسن مهدي؟‬
‫�إن الهاجس الذي كان يؤرق كلا من �أفلاطون و�أرسطو في قوليهما السياسي هو‬
‫تحديد شروط وجود نظام سياسي وشروط اشتغاله بشكل جيد وكذلك شروط عدالته‪.‬‬
‫وكانت انشغالتهم تدور حول الحماية ضد ما سيسميه ابن رشد "وحدانية التسلط"‪،‬‬
‫‪ - 1‬المرجع السابق ص ‪.215‬‬
‫‪ -2‬المرجع السابق ص ‪.216‬‬
‫‪121‬‬
‫وتحديد زمان وقت هذه السلطة‪ ،‬وتقليص ت�أثير ال�أرستقراطية و�أمور �أخرى غيرها‪ (((.‬لكن‬
‫رغم هذه التماثلات ف�إن الفرق بين الفيلسوفين واضح مند البداية‪ ،‬كما سنفصل القول في‬
‫موضع �آخر‪ .‬لكن يمكن القول بعجالة �إن كتاب السياسة ل�أرسطـو من الكتب الفلسفية‬
‫القليلة في تاريخ الفكر السياسي التي تعالج طبيعة السياسة �أو طبيعة الش�أن السياسي(((‪،‬‬
‫والمفهوم المركزي في هذا الكتاب هو مفهوم ‪ Politeia‬وبمعنى �آخر ‪constitution de‬‬
‫�أي الدستور ‪� .‬إن �أرسطو بعيد عن الدفاع عن الديموقراطية في حد ذاتها‪�،‬إذ �إنه يبين �أن ما‬
‫هو مهم قبل كل شيء هي فكرة الدستور التي يؤدي الاعتراف بها �إلى خضوع المواطن‬
‫للقوانين‪ ،‬لكن �أرسطو لا يرتبط بالقوانين ال�أساسية التي يعرفها المجتمع‪� ،‬إنه �أقل ارتباطا‬
‫بها‪ ،‬بل �إنه �أقرب �إلى بناء جديد للقوانين‪ ،‬فالسياسة عنده هي خلق‪ ،‬ومن هنا اعتبر‬
‫�أرسطو مدافعا عن المساواة السياسية‪ ،‬ففكرته حول الدستور السياسي هي فكرة التوازن؛‬
‫فالملكية لا ينبغي لها �أن تصبح متسلطة وال�أرستقراطية لا ينبغي لها �أن تصبح حكم قلة‪،‬‬
‫والديموقراطية لا ينبغي لها �أن تصبح ديكتاتورية �أو فوضوية(((‪.‬‬
‫�إذا كان �أرسطو مفكر المساواة السياسية ف�إن �أفلاطون يعتبر مفكر الشرعية السياسية‪،‬‬
‫وجمهوريته تعطي �أهمية للقوانين المعطاة على عكس ما كان �أرسطو ينزع �إليه‪ ،‬ولا‬
‫يمكن �أن نجد صعوبة في �إقامة تفاضل بين الفيلسوفين وحول من كان �أقرب �إلى ابن‬
‫رشد‪ ،‬فالقول بقرب �أفلاطون في هذا ال�إ طار يمكن �أن يكون �أثيرا عند فقيهنا الفيلسوف‪،‬‬
‫�إذ �إن دفاع �أفلاطون عن القوانين المكتوبة شيء مهم ويشكل موجها لفكره السياسي‪-‬‬
‫ال�أخلاقي‪ .‬ولعل كتاب القوانين ل�أفلاطون مدخل هام لمعرفة لم �آثر ابن رشد كتاب‬
‫الجمهورية على سياسة �أرسطو بل وعلى "القوانين" نفسها؟‬
‫يبتدئ هذا الكتاب بسؤال يعتبر هاما جدا ويمس في الصميم القانون ال�إ لهي‪ .‬السؤال‬
‫هو ‪�" :‬إلى من يمكن �أن ينسب فضل تنظيم قوانين ‪[ ..‬المدينة] �أترى ينسب ل�إ له ما‪� ،‬أو‬
‫لبعض الناس؟"(((‪ .‬وقد اعتبر هذا التساؤل المطروح‪ ،‬خاصة مع تلخيص الفارابي لنواميس‬
‫�أفلاطون(((‪ ،‬بداية لاتجاه الفلسفة في المجتمع ال�إ سلامي نحو السياسة ودخول الفلسفة‬
‫‪1 - Nicolas Tenzer; La Politique, que sais- je? deuxieme édition 1993 p : 11-12‬‬
‫‪2 - ibid p: 8‬‬
‫‪3 - ibid , p 12-13‬‬
‫‪� - 4‬أفلاطون‪ ،‬القوانين‪ ،‬ترجمه من اليونانية �إلى ال�إ نجليزية د‪ .‬تيلور‪ .‬نقله �إلى العربية محمد حسن ظاظا‪ .‬مطابع الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب ‪ 1986‬ص‪83‬‬
‫‪ - 5‬يقول �أبو نصر ‪":‬س�أل سائل في وضع النواميس‪ .‬ومعنى "السبب" هاهنا هو "الفاعل‪ .‬وفاعلها هو واضعها‪"...‬‬
‫تلخيص نواميس �أفلاطون‪ ،‬ضمن �أفلاطون في ال�إ سلام‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بدوي‪ ،‬دار ال�أندلس ط‪ 1980 2‬ص ‪37‬‬
‫‪122‬‬
‫السياسية الخالصة �إلى المجتمع ال�إ سلامي(((‪ .‬ومن �أهم ما يمتاز به كتاب "القوانين" هو‬
‫ال�أقوال الدينية والتوجيهات ال�أخلاقية التي يحفل بها‪ ،‬وخاصة في بعض كتبه التي لاشك‬
‫�أنها تناسب الحساسية الدينية لفقيه قرطبة‪ ،‬فلم لم يختر ابن رشد �إذن كتاب القوانين مع‬
‫قيمته العلمية والتاريخية؟ هل يمكن القول �إن ما ينفرد به هذا الكتاب من عناية خاصة‬
‫بمس�ألة التشريع‪ ،(((،‬ليست من القضايا الكبرى التي وجد ابن رشد فيها للمسلمين‬
‫خصاصا‪ ،‬كما وجده في المنطق والفلسفة‪ ،‬ل�أن حضارتهم غنية فقه وتشريعا ؟‪ .‬هل شعر‬
‫ابن رشد الفقيه �أن هناك كفاية تشريعية لمدينته ال�إ سلامية ف�أخذ مدينة �أفلاطون لكن على‬
‫�ألا تدار بقوانينه و�إنما بقوانين الفقهاء؟ �إن كتاب الجمهورية يعالج مسائل الدين والقانون‬
‫بشكل �أقل شمولي‪ ،‬وهو يتكلم في التعليم �أكثر مما يتكلم في الدين بل و�أكثر مما يتكلم‬
‫في القانون‪ ،‬ومن هنا فاختيار ابن رشد للجمهورية �أولى ل�أن الحاجة �إلى دروس التربية‬
‫والتعليم‪ ،‬وهو ما كان المجتمع الموحدي يطلبه‪� ،‬أكبر من الحاجة �إلى دروس الدين‬
‫والقانون‪ .‬فضلا عن ذلك ف�إن كتاب القوانين كتاب في وضع القوانين‪ ،‬وهذا العمل‬
‫جزء من العلم السياسي كما ن َّظرت له الجمهورية‪ ،‬ومن هنا فالجمهورية �أشمل و�أكثر‬
‫كلية من القوانين‪ ،‬وحماسة ابن رشد للكليات وال�أصول العامة حماسة �أشد من حماسته‬
‫للتفاصيل والجزئيات التي تستغرق كتاب القوانين‪ .‬يجد ذلك تفسيره عند �أبي نصر في‬
‫كتابه الذي رتب فيه كتب �أفلاطون فجعل غرض الجمهورية ت�أسيس المدينة بالقول‬
‫وغرض"النواميس"ت�أسيسها بالفعل"‪ .‬ثم �إن الفضاء العربي‪ -‬ال�إ سلامي عرف تلخيصا ل�أهم‬
‫مقالات هذا الكتاب مع �أبي نصر‪ ،‬ولعل ابن رشد اعتبر ذلك مغنيا وك�أنه يردد قول ابن‬
‫باجة "والقول فيما قيل ف�أحكم‪ ،‬جهل �أو فضل �أو شرارة"‪ .‬زيادة على ما يمتاز به هذا‬
‫الكتاب من طول غير عادي‪ ،‬وعدد من المتناقضات والشذوذ المتنوع في بعض التركيبات‬
‫النحوية‪ ،‬بسبب �أن �أفلاطون لم يراجعه �أبدا(((‪ .‬فهل يمكن �أن نجد في هذه التبريرات‪� ،‬أو‬
‫في بعضها على ال�أقل‪ ،‬ما يفسر عدم اختيار ابن رشد لـ"القوانين" واحتفاءه بالجمهورية؟‬
‫لم يجد ابن رشد "قوانين" �أفلاطون قريبة منه‪ ،‬وافتقد كتاب السياسة‪ ،‬فمال �إلى‬
‫"جمهورية" �أفلاطون‪ ،‬لكن الغريب �أن ابن رشد سيسجن �أفلاطون في �إهاب �أرسطي‬
‫كبير ؛ �إهاب �أخلاقياته وخطابته!! فقد استفاد ابن رشد كثيرا من التصور ال�أخلاقي‬
‫‪1- Muhsin Mahdi, philosophie d’Aristote p 209.‬‬
‫‪- 2‬يرى د‪ .‬تيلور �أن كتاب القوانين "رسالة في �أصول التشريع"‪ ،‬مقدمة القوانين مرجع سابق ص‪21‬‬
‫‪ - 3‬د‪ .‬تيلور‪ ،‬مقدمة القوانين‪ ،‬مرجع سابق ص‪ 17‬وص‪26‬‬
‫‪123‬‬
‫ال�أرسطي في تقديم المادة السياسية ال�أفلاطونية‪ .‬و�إن نظرة متفحصة لكتاب "ال�أخلاق �إلى‬
‫نيقوماخوس" تقدم لنا فهما �أعمق للعمل الذي قام به ابن رشد حين جمع بين الفيلسوفين‬
‫الكبيرين‪ ،‬كما �أن كتاب "السياسة" ل�أرسطو‪ ،‬يقدم �أدوات هامة في هذا السياق‪ .‬قدم‬
‫�أرسطو في كتابه ال�أخلاقي المنهجية العامة التي سيسلكها ابن رشد في كتابته السياسية‪،‬‬
‫وسيجد ابن رشد عند �أفلاطون مادة سياسية تستجيب لذوقه الفقهي وحساسياته الدينية‪.‬‬
‫و�إذا كان ابن رشد تجر�أ على �أفلاطون و�أسقط من جمهوريته ما اعتبره على هامش النظر‬
‫العلمي البرهاني‪ ،‬ف�إن ما يحفل به كتاب السياسة ل�أرسطو من �آراء غير علمية تضرب �إلى‬
‫التحيز‪ ،‬قد يكون من �أسباب غيابه عن الوسط ال�إ سلامي(((‪ ،‬وهي �أمور قد ُتسقط ابن رشد‬
‫في حرج كبير مع معلّمه "الذي كمل الحق عنده"‪ .‬من هنا ف�إن هذا "الجمع" الذي قام به‬
‫ابن رشد بين �أرسطو و�أفلاطون قد مهدت له �أخلاقيات �أرسطو تمهيدا واضحا‪ ،‬وساعدت‬
‫عليه تلك الروح ال�أفلاطونية التي كانت تسكن �أرسطو في العلم المدني رغم المسافة‬
‫العلمية ‪ -‬النقدية التي كان يحرص على �إقامتها بينه وبين �أستاذه‪ ،‬والتي نجدها بارزة في‬
‫كتابه في "السياسات"‪..‬‬

‫‪-2-‬‬
‫قدمنا فيما سبق جملة من فرضيات حول �إيثار ابن رشد لجمهورية �أفلاطون على‬
‫قوانينه‪ .‬منها تلك التي تقضي ب�أن ابن رشد وجد نفسه في كتاب �أفلاطون �أكثر مما‬
‫وجدها عند �أرسطو‪ .‬فنظرة �أفلاطون �إلى النواميس التي يقوم عليها المجتمع تختلف عن‬
‫نظرة �أرسطو على �أساس �أن النواميس عند �أرسطو �أكثرها غير مكتوب‪ ،‬في حين هي عند‬
‫�أفلاطون لا بد �أن تكون مكتوبة رغم الخلاف بينهما حول منزلة النواميس في المدينة‪.‬‬
‫هنا سيكون ابن رشد �أقرب �إلى �أرسطو‪ ،‬و�إلى "نواميس �أفلاطون" الذي ترى �أن النواميس‬
‫تشكل الجهاز التشريعي التي تقوم عليه المدينة‪ ،‬وكل انفراط لها هو انفراط للمدينة ذاتها‪،‬‬
‫منه �إلى �أفلاطون" الجمهورية"‪ ،‬وهو ما ينسجم مع العقلية الفقهية لفقيه قرطبة‪ .‬ولعل‬
‫للفارابي وغيره من متفلسفة ال�إ سلام دورا في هذا النزوع الرشدي‪ .‬فما مكانة ابن رشد من‬
‫فلاسفة ال�إ سلام فيما صنعه من جمع بين �أفلاطون و�أرسطو؟ سؤال نسعى لل�إ جابة عنه قبل‬
‫الوقوف عند صور الجمع التي اختارها ابن رشد بين الفيلسوفين‪.‬‬
‫‪- 1‬بول كروس‪ ،‬التراجم ال�أرسططاليسة المنسوبة �إلى ابن المقفع‪ ،‬ضمن التراث اليوناني في الحضارة ال�إ سلامية‪،‬‬
‫ترجمة عبدالرحمن بدوي‪ ،‬ط‪ ،3‬دار النهضة العربية القاهرة‪ ،1965 ،‬ص ‪.109‬‬
‫‪124‬‬
‫�إن ت�أثير بعض الفلاسفة والمفكرين على التوجهات الفكرية لابن رشد ليس بال�أمر‬
‫المستبعد في اختياره لكتاب السياسة لابن رشد‪ ،‬وهو �أمر ليس بدعا في توجهات ابن‬
‫رشد؛ ف�أثر �أبي حامد الغزالي عليه كبير وابن رشد نفسه يصرح بذلك‪ ،‬وت�أثير ال�إ سكندر‬
‫وابن باجة واضح في كثير من اختياراته‪ ،‬فلم لا يكون اختيار ابن رشد لكتاب السياسية‬
‫ال�أفلاطوني مت�أثرا فيه ببعض من اهتم قبله بهذا الكتاب المفيد‪ .‬بل �إننا نجد �أرسطو نفسه‪،‬‬
‫حكيم ابن رشد ال�أكبر‪ ،‬يعطي عناية كبرى للقول السياسي ال�أفلاطوني فيقوم بتلخيص‬
‫جمهورية �أستاذه في كتاب ذي ثلاثة �أبواب‪ ،‬كما سيلخص كتاب النواميس وهو الكتاب‬
‫الذي ناقشه في الفصل الثالث من الباب الثاني من كتابه في السياسة(((‪ ،‬كما سيعرض‬
‫بالنقد لكثير من القضايا في الجهورية في كتاب السياسة(((‪ .‬كما لخص جالينوس كتاب‬
‫الجمهورية‪ ،‬هذا الطبيب الذي نعرف التقدير الذي كان ابن رشد يكنه له‪ .‬وقد شكل‬
‫هذا الكتاب �إحدى مرجعيات ابن رشد في قراءته لكتاب �أفلاطون(((‪ .‬لكن لعل الرجل‬
‫الذي كان له كبير ال�أثر على هذا الاختيار هو الفارابي‪ ،‬كما نزعم هنا �أن دور ابن باجة‬
‫لن يكون �أقل �أثرا‪ ،‬وبخاصة من خلال كتابه "تدبير المتوحد"‪ ،‬فضلا عن قرب القول‬
‫السياسي ال�أفلاطوني �إلى عقلية ابن رشد وروحه‪ ،‬رغم اختلافه في كثير من ال�أمور مع‬
‫�أفلاطون‪ ،‬كما سيتبين لنا‪.‬‬
‫يعتبر �أبو نصر مدشنا للخطاب السياسي الفلسفي ‪ -‬ال�إ سلامي‪� .(((،‬إن التفكير الفلسفي‬
‫في السياسة بد�أ مع احتفاء �أبي نصر ب�أفلاطون سياسيا‪ ،‬وهو ال�أمر الذي يبدو على ال�أقل‬
‫في عنايته بترتيب كتبه ترتيبا منطقيا بحيث يفضي كل كتاب �إلى الكتاب الذي يليه‪ ،‬وفي‬
‫عنايته بتلخيص نواميسه‪ .‬لكن هل كان �أبو نصر يعرف كتب �أفلاطون عن كثب بحيث‬
‫�إنه فحص مضمونها ورتبها كما نجدها في مقالته "فلسفة �أفلاطون و�أجزاؤها ‪ -‬ومراتب‬
‫�أجزائها من �أولها �إلى �آخرها‪((( "-‬؟‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬في السياسة نقله من ال�أصل اليوناني �إلى العربية وقدم له وعلق عليه ال�أب �أوغسطينس برباره البولسي‬
‫الطبعة الثالثة اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع ‪ 1980‬ص‪ 48‬هامش ‪ )1( - 2‬و(‪ )2‬وصص‪-71 65‬‬
‫‪ - 2‬انظر كتاب السياسة‪ ،‬الفصل ال�أول والثاني من الباب الثاني‪ ،‬والفصل العاشر من الباب الخامس‪.‬‬
‫‪ -3‬ماجد فخري‪ ،‬ابن رشد فيلسوف قرطبة‪ ،‬دار المشرق بيروت ط‪ 19992 3‬ص ‪.118‬‬
‫‪ - 4‬يقول محسن مهدي‪ :‬عندما اعترف الفارابي ب�أن "نواميس" �أفلاطون تطرح �أسئلة تمس بالتدقيق القانون ال�إ لهي‬
‫‪ ...‬ف�إن الفلسفة اتجهت نحو السياسية ‪ .‬ودخلت الفلسفة الخالصة سياسيا �إلى المجتمع ال�إ سلامي‪" .‬فلسفة‬
‫�أفلاطون والفكر السياسي في المجتمع السياسي‪ "..‬مرجع سابق ص ‪209-‬‬
‫‪ - 5‬وردت ضمن �أفلاطون في ال�إ سلام تح عبد الرحمن بدوي دار ال�أندلس ط‪ 1980 2‬صص‪.27 - 6‬‬
‫‪125‬‬
‫�إن المبرر لهذا السؤال هو اعتماد أ�بي نصر في هذه المقالة كتاب رجل �أفلاطوني‬
‫يسمى بـ "ثاون" بعنوان "مراتب قراءة كتب �أفلاطن و�أسماء ما صنفه"‪ ،‬وهو كتاب مفقود‬
‫في �أصله اليوناني لا يعرف عنه �إلى ما �أوردته المصادر العربية‪ :‬ابن النديم والقفطي وابن‬
‫�أبي �أصيبعة كما يقول بدوي(((‪ .‬فهل استغنى �أبو نصر بهذا الكتاب عن الفحص المباشر‬
‫لنصوص �أفلاطون �أم �أن ال�أمر غير ذلك؟ يبدو �أن ال�أمر ليس كذلك‪ ،‬فقد كانت ل�أبي‬
‫نصر معرفة بكتب �أفلاطون كما تفصح عن ذلك رسالته "تلخيص نواميس �أفلاطون" �إذ‬
‫يعلن الفارابي في ديباجتها عن خبرته بكتب �أفلاطون في الوقت الذي يشير �إلى سر من‬
‫�أسرار الكتابة عنده(((‪ .‬ولا شك �أن كتب �أفلاطون عرفت في العالم ال�إ سلامي في وقت‬
‫مبكر؛ فهذا ابن النديم يورد قائمة من كتب �أفلاطون مترجمة �إلى اللغة العربية منها كتاب‬
‫السياسة الذي فسره حنين بن �إسحق(((‪ ،‬و�إن كانت �أوفى قائمة هي قائمة ابن �أبي �أصيبعة‬
‫التي يذكر فيها طائفة مهمة من كتب �أفلاطون((( ويورد نصا هاما عن حنين بن �إسحاق‬
‫يتحدث فيه عن "كتاب جوامع كتب �أفلاطون" لجالينوس يقول فيه‪" :‬ووجدت من هذا‬
‫الفن من الكتب كتابا �آخر فيه �أربع مقالات من ثمان مقالات لجالينوس فيها جوامع كتب‬
‫�أفلاطون في المقالة ال�أولى منها جوامع خمس كتب من كتب �أفلاطون‪ ،‬وهي كتاب‬
‫�أقراطلس في ال�أسماء‪ ،‬وكتاب سوفسطسيس في القسمة‪ ،‬وكتاب بوليطيقيوس في المدبر‪،‬‬
‫وكتاب برمنيدس في الصور‪ ،‬وكتاب �أوتيديمس‪ .‬وفي المقالة الثانية جوامع مقالات من‬
‫كتاب �أفلاطن في السياسة‪ ،‬وفي المقالة الثالثة جوامع المقالات الباقية في كتاب السياسة‬
‫وجوامع الكتاب المعروف بطيماوس في العلم الطبيعي وفي المقالة الرابعة جمل معاني‬
‫ال�إ ثنتي عشرة مقالة في السير ل�أفلاطون"(((‪ .‬ولابد من ال�إ شارة هنا �إلى �أن علاقة ابن رشد‬
‫بجالينوس كانت علاقة قوية سواء على مستوى الطب �أو على مستوى السياسة‪ ،‬مما يؤكد‬
‫معرفته بكتب هذا الرجل‪ .‬لكن معرفة الفارابي ‪ -‬قبله ‪ -‬بهذه الكتب ال�أفلاطونية‪ ،‬سواء‬
‫في ترجمتها �أو في تلخيص جالينوس لبعضها‪ ،‬وقراءتها من خلال ت�أويل خاص هي التي‬
‫جعلته يؤسس الحقل السياسي الفلسفي في ال�إ سلام‬
‫‪� - 1‬أفلاطون في ال�إ سلام مرجع سابق صص ‪30-29‬‬
‫‪ - 2‬الفارابي‪ ،‬تلخيص نواميس �أفلاطون‪ ،‬ضمن �أفلاطون في ال�إ سلام مرجع سابق ص ‪.36‬‬
‫‪ - 3‬ابن النديم‪ ،‬الفهرست‪ ،‬تح رضا المازنداري‪ ،‬دار المسيرة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ 1988‬ص‪307 - 306‬‬
‫‪ - 4‬ابن �أبي �أصيبعة‪ ،‬عيون ال�أنباء في طبقات ال�أطباء‪ ،‬الجزء ال�أول‪ ،‬دار الثقافة بيروت لبنان ط‪ 1981 3‬ص ‪84 - 83‬‬
‫‪ - 5‬عيون ال�أنباء‪ ،‬الجزء ال�أول‪ ،‬دار الثقافة بيروت لبنان ط‪ 1981 3‬ص‪152-151‬‬
‫‪126‬‬
‫في رسالته عن مراتب �أجزاء فلسفة �أفلاطون‪ ،‬يبدو �أن الهم السياسي هو الخيط الناظم‬
‫بين هذه المؤلفات ال�أفلاطونية عند �أبي نصر‪� .‬إن المس�ألة السياسية تحتل موقعا عميقا‬
‫في النسق الفلسفي ال�أفلاطوني كما يعرضه الفارابي‪ ،‬فقد كان هاجس �أفلاطون هو بلوغ‬
‫الفيلسوف الكمال الذي هو علم وسلوك‪ ،‬علم يتجلى في معرفة تامة بالموجودات وسلوك‬
‫يتجسد في سيرة فاضلة بين الناس‪ .‬وتعتبر المدينة هي الفضاء الذي يمكن للفيلسوف �أن‬
‫يبلغ فيه كماله العلمي والعملي هذا؛ لكن لذلك شرط‪ ،‬ف�إما �أن تكون المدينة خالية من‬
‫العوائق والموانع فيسهل على الفيلسوف حصوله على كماله ونيل سعادته‪ ،‬و�إما �أن تض ّج‬
‫هذه المدينة بال�آراء الكاذبة والسير القبيحة فتنتصب هذه العوائق �أمام الفيلسوف وتشكل‬
‫تحديا كبيرا له‪ :‬ف�إما �أن تهلكه كما فعلت بسقراط‪ ،‬و�إما �أن تحرمه من الكمال‪ .‬لذا يصبح‬
‫البحث عن المدينة الفاضلة ضرورة �أفلاطونية‪ ،‬و�أنسب مدخل لهذا البحث عنها هو مفهوم‬
‫العدل؛ ما هو وكيف يكون؟ وكيف ينبغي �أن يكون؟ وكيف ينبغي �أن يستعمل؟ وهذه‬
‫التساؤلات �أفرد لها �أفلاطون كتابه "الجمهورية" حيث �أوجد فيه المدينة الفاضلة بالقول‪،‬‬
‫ليسعى في �إيجادها بالفعل في كتابه الذي خصصه لواضع النواميس‪ ،‬وهو كتابه الموسوم‬
‫بـ "القوانين"‪� ،‬أو الذي عرفه المسلمون تحت اسم "نواميس �أفلاطون"‪ .‬ففي هذا الكتاب‬
‫�أعطى �أفلاطون السير الفاضلة التي يؤخذ بها �أهل المدينة الفاضلة(((‪ ،‬و�أبرز فيه �أن من‬

‫‪ - 1‬مراتب فلسفة أ�فلاطون‪ ،‬مرجع سابق صص ‪ .25-24‬ولاشك أ�ن تقديم خطاطة عامة مركزة ما �أمكن لهذا‬
‫الكتاب القيم ل�أبي نصر يمكن �أن يفيد �أكثر في بيان هذا المنهج الذي سلكه الفارابي في تقديم المتن ال�أفلاطوني‪،‬‬
‫من خلال نموه الفكري‪ ،‬تقديما �أشرع ال�أبواب �أمام القول السياسي ‪-‬الفلسفي مبتدئا بكتابه "القيبدياس" منتهيا‬
‫بـ"رسائل �أفلاطون" ‪�":‬إن �أو ل مبحث شغل به �أفلاطون ‪-‬عند �أبي نصر ‪ -‬هو البحث في العلم والسيرة التي ُيحصل‬
‫بها على السعادة في �أول كتبه‪ ،‬ثم شفعه بالبحث عن السعادة الحقيقية التي هي "السيرة الفاضلة التي تنال بها هذه‬
‫السعادة" [في كتاب فيليص]‪ ،‬ولما تبين �أن العلم الذي يحصل به كمال ال�إ نسان هو العلم بجوهر موجود موجود‬
‫من الموجودات [في كتاب طائطيوس]‪ ،‬و�أن السيرة الفاضلة هي سبيل السعادة‪ ،‬شرع في الفحص عن ذلك العلم‬
‫هل يمكن الحصول عليه �أم لا؟ فينتهي �إلى "�أن هذا العلم[‪ ]...‬ممكن �أن يحصل ويؤخذ‪ ،‬و�أن هذا العلم هو من‬
‫الكمال ال�إ نساني" [في كتاب �أفروطاغوراس]‪ .‬ثم فحص �أن هذا العلم يمكن "�أن يحصل بفحص وبقوة صناعية‬
‫يكون بها ذلك الفحص" [في كتاب مانن]‪ ،‬ثم شرع يبحث عن هذا العلم ما هو‪ ،‬هل الفحص الدياني؟ فبان له‬
‫"�أنه ليس في مقدار ما يعطيه كفاية" [في كتاب �أوثفرون]‪ ،،‬وهل هو الفحص اللساني؟ فتبين له "كم تعطيه هذه‬
‫الصناعة من العلم لذي يكون طريقا �إلى ذلك التعليم المطلوب" [في كتاب �أقراطلس]‪ .‬ثم فحص هل "الطريق‬
‫الشعري هو طريق �إلى ذلك العلم وتلك السيرة �أم لا؟‪ .‬وتبين له [‪�]...‬أن الطريق الشعرية لا تعطي شيئا من ذلك‬
‫�أصلا �أبدا‪ ،‬بل تبعد عنه غاية البعد" [في كتاب اين‪ ،‬ص‪ ،]11‬ثم فحص هل "استعمال صناعة الخطابة في النظر‬
‫في الموجودات يعطينا ذلك العلم �أو علم تلك السيرة؟ فبين �أنه لا يفعل ذلك" [في كتاب غورجيس ص‪ ،]11‬ثم‬
‫فحص عن الصناعة السفسطائية هل هي طريق �إلى ذلك العلم؟ فبين "�أن السفسطائية لا يعطي ذلك العلم" [كتاب‬
‫سوفسطس ص‪ ]11‬ليبين في فحص �آخر �أن التعليم السفسطائي �أقرب �إلى اللعب [في كتاب �أثوديموص]‪ ،‬ثم نظر‬
‫في الفحص الجدلي هل يفضي بال�إ نسان �إلى ذلك العلم �أو لا؟ فبين �أنه مهم جدا في الوصول �إلى ذلك العلم [في‬
‫‪127‬‬
‫كتاب برمنيدس]‪.‬‬
‫ولما وجد �أفلاطون �أن الصنائع النظرية لا توصل �إلى العلم بالموجودات والسيرة الفاضلة‪ ،‬طريقي الكمال‪ ،‬توجه‬
‫�إلى الفحص عن الصنائع العملية وال�أفعال الكائنة عنها‪ ،‬هل توصل هذه الصنائع �إلى ما عجزت عنه العلوم النظرية‬
‫�أم لا؟ �إن الصنائع العملية تجمع العلم والعمل معا‪ ،‬لكنها لا توصل العلم المطلوب ولا السيرة الفاضلة ل�أن القصد‬
‫منها ليس الكمال ال�أقصى المنشود و�إنما نيل "ال�أمور النافعة والمربحة فقط"‪ ،‬وخصص �أحد كتبه لبيان ما هو‬
‫الفاضل عند الجمهور؟ وما المربح والنافع عنده؟‪ ،‬هل هو كما يظن الجمهور حقيقة فاضلا ومربحا ونافعا‪ ،‬ليبين‬
‫�أن ال�أمر ليس كذلك [كتاب القيبدياس الثاني]‪ ،‬ليفحص بعد ذلك "عن ال�أمور النافعة في الحقيقة‪ ،‬وعن المربحة‬
‫يوصل �إليه بالصنائع المشهورة"[كتاب‬ ‫في الحقيقة‪ ،‬وعن ال�أرباح الفاضلة في الحقيقة‪ ،‬و�أنه ليس شيء من هذه َ‬
‫ايرخس]‪ .‬ثم فحص ب�أي سيرة ينال الكمال المطلوب والغاية المطلوبة؛ هل بسيرة �أهل الرياء والمغالطين لبيين �أن‬
‫هذه السيرة لا تعطي الغاية المطلوبة[كتاب افيس]‪ ،‬ثم فحص عن سير �أصحاب اللذات هل تُبلغ ال�إ نسان الكمال‬
‫المطلوب �أم لا؟ ليبين عدم �إمكان ذلك مجليا "اللذة التي هي بالحقيقة لذة" [كتاب اللذة]‪.‬‬
‫فلما نزع �أفلاطون عن الصنائع العلمية والعملية التي اشتهر بها الجمهور فضيلة الوصول �إلى العلم المنشود والسيرة‬
‫المطلوبة‪� ،‬أبرز الصناعة التي تعطي في الموجودات هذا العلم وهذه السيرة‪ ،‬وحددها في صناعة الفلسفة وفي‬
‫الفيلسوف باعتباره ال�إ نسان الذي يعطي ما هو مطلوب [في كتاب ثيجس]‪ ،‬ليبين بعد �أن الفلسفة هي من ال�أشياء‬
‫الفاضلة والنافعة الضرورية لل�إ نسانية‪ ،‬و�أن الصناعة ال َم َل ِكية والمدنية هي الصناعة العملية التي تعطي السيرة المطلوبة‬
‫وتقوم ال�أفعال وتسدد ال�أنفس نحو السعادة" مبينا �أن ال�إ نسان الفيلسوف وال�إ نسان الملك شيء واحد" [في كتاب‬
‫فادروس]‪ ،‬ليفحص بعد ذلك عن العفة في الحقيقة [في كتاب خرميدس]‪ ،‬وعن الشجاعة التي هي في الحقيقة‬
‫شجاعة [في كتاب لاخس ص‪ ،]8‬وعن المحبة والصداقة‪ ،‬ليفحص بعد ذلك عن الكيفية التي ينبغي �أن يكون بها‬
‫ال�إ نسان فيلسوفا �أو مدنيا‪ ،‬وعن الطريق التي سبيل ال�إ نسان‪ ،‬الذي يقصد الفلسفة‪� ،‬أن يستعملها في فحصه‪ ،‬وهي‬
‫طريق التقسيم والتركيب‪ ،‬ليفحص عن طريق التعليم و�أنه طريق الخطابة وطريق الجدل وبيين ما ال�أشياء التي ينبغي‬
‫معرفتها ليصبح ال�إ نسان فيلسوفا [في كتاب السياسي الذي لم يورده الفارابي]‪.‬‬
‫ولما تبين له �أن صناعة الفلسفة مختلفة عن الصنائع المشهورة في زمانه‪ ،‬و�أن السير التي عليها زمانه ليست هي السير‬
‫الفاضلة‪ ،‬و�أن الفيلسوف الكامل والملك يتعذر عليها استعمال �أفعالهما في ال�أمم والمدن التي كانت في زمانه‪..‬‬
‫ابتد�أ الفحص �أنه لا ينبغي على الفيلسوف �أن يقيم على �آراء وسير �أهل مدينته دون الفحص عنها "ودون �أن يلتمس‬
‫بلوغ ال�أشياء الفاضلة‪...‬و�أنه ينبغي �أن يلتمس الحق في ال�آراء والفاضل من السير الذي هو في الحقيقة فاضل"‬
‫[في كتاب �أقريطن]‪ .‬ثم فحص في ما �إذا كان على ال�إ نسان �أن يؤثر السلامة مع الحياة والجهل �أو لا ينبغي له؟‬
‫وهل ما �إذا يئس ال�إ نسان من �أن يعيش على السيرة الفاضلة وعلى الفلسفة‪ ،‬هل عليه �أن يصبر على العيش �أم يؤثر‬
‫الموت؟ فبين �أن الموت �آثر من هذه الحياة التي تجعل ال�إ نسان بهيمة‪� ،‬إذ ال�إ نسان "�إذا كان مشاركا ل�أهل تلك‬
‫ال�أمم والمدن‪ ...‬كانت حياته ليست هي حياة �إنسان‪ ،‬و�إن رام �أن يزول عما هم عليه وينفرد دونهم‪ ،‬والتمس �أن‬
‫ينال الكمال‪ ،‬كان عيشه عيشا نكدا وبعيدا �أن يتم له ما يريد‪ ،‬ل�أنه لابد �أن يكون تعرض له �إحدى حالين ‪� :‬إما‬
‫هلاك �أو حرمان الكمال"[في كتابي ‪ :‬احتجاج سقراط‪ ،‬وفاذن ص‪ .]23‬لذا لا بد من مدينة و�أمة واحدة �أخرى غير‬
‫المدن وال�أمم الموجودة في ذلك الزمان‪ .‬فبد�أ �أفلاطون يبحث عن هذه المدينة؛ ففحص عنها من خلال الفحص‬
‫عن العدل على حقيقته‪ ،‬والعدل المستعمل في المدن التي تتسم بالجور التام والشر الكبير لا يزول �إلا بزوال هذه‬
‫المدن ونش�أة مدينة �أخرى يوجد فيها العدل بالحقيقة‪ ،‬ويكون الفيلسوف فيها هو الملك‪ .‬فهذه المدينة‪ ،‬التي هي‬
‫غاية المشروع الفلسفي ال�أفلاطوني‪ -‬هي التي يبلغ ال�إ نسان فيها الكمال المطلوب دون غيرها [في كتاب السياسة‪،‬‬
‫�أي الجمهورية]‪ .‬فلما كملت هذه المدينة عند �أفلاطون بالقول‪ ،‬شرع في بحث �آخر ليوجدها بالفعل‪ ،‬ف�أعطى [في‬
‫كتاب طيماوس] الموجودات ال�إ لهية والطبيعية موضوع العلم المطلوب‪ ،‬ثم �أعطى [في كتاب النواميس ص‪]24‬‬
‫السير الفاضلة التي يؤخذ بها �أهل هذه المدينة الفاضلة‪ .‬ثم بين [في كتاب كرتياس] �أي كمال يكون قد بلغ في‬
‫ال�إ نسانية من اجتمعت له العلوم النظرية والمدنية‪ ،‬و�أي مرتبة ينبغي �أن تكون رتبته في هذه المدينة‪ ،‬فبين �أنها رتبة‬
‫‪128‬‬
‫شرط حصول المدينة الفاضلة واضع النواميس‪ ،‬وهو الكتاب الذي قام الفارابي بتلخيص‬
‫معانيه(((؛‬
‫في كتابه "تلخيص نواميس �أفلاطون" يقدم الفارابي عرضا مركزا ل�أهم المعاني وال�أفكار‬
‫التي احتفل بها �أفلاطون في هذا الكتاب �إذ �إن كتب �أفلاطون‪ ،‬كما لاحظ ذلك جالينوس‪،‬‬
‫تتميز بالطول(((‪ ،‬لذا قام الفارابي ب "استخراج المعاني التي �أوم�أ �إليها في هذا الكتاب‬
‫وجمعها مقالته"(((‪ُ ،‬م َث ِّمنا في كثير من المواضع �أقاويل �أفلاطون ومنتصرا لها‪ .‬والكتاب‬
‫عبارة عن تسع مقالات؛ ثمان مقالات منها في �أصول النواميس وما يجب على صاحب‬
‫الناموس �أن يعنى به و�ألا يهمل �أمره بجهة من الجهات وهي القوانين وال�أصول‪ .‬ومقالة‬
‫تاسعة في بيان ال�أشياء التي اعتبرها "زين الناموس ومحاسنه وتوابع تلك ال�أصول"(((‪.‬‬
‫رئاسة المدينة‪ .‬ثم ذكر �أنه لكي تتجسد هذه المدينة بالفعل وتحصل لا بدمن واضع نواميس هذه المدينة‪ ،‬ففحص‬
‫عنه كيف ينبغي �أن يكون [في كتاب �أبينمس]‪ ،‬ثم فحص عن كيفية تعليم �أهل المدن وال�أمم وب�أي طريق يكون؛‬
‫هل بطريق الفحص العلمي �أم طريق الت�أدب والتعليم؟ لينتهي �إلى �أن الفيلسوف والملك وواضع النواميس ينبغي‬
‫�أن يجمع القدرة على استعمال الطريقين معا‪ ،‬ليفحص بعد ذلك في كيفية تعظيم الملوك [في كتاب منكسانس‬
‫ص‪ ،]26‬لينتهي في رسائله �إلى حال الكامل من الناس مع جمهور �أهل المدن في زمانه‪ .‬فنحن في هذا ال�إ طار �أمم‬
‫خطاب فلسفي ‪-‬سياسي �أفلاطوني في الصميم‪ ،‬وهو ما حرص الفارابي على �إبرازه‪.‬‬
‫‪ - 1‬في "تلخيص نواميس �أفلاطون" مرجع سابق‬
‫‪ - 2‬جوامع كتاب طيماوس‪ ،‬ضمن �أفلاطون في ال�إ سلام‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.87‬‬
‫‪ -3‬تلخيص نواميس �أفلاطون ص‪36‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص نواميس �أفلاطون‪ ،‬المرجع السابق ص ‪ ،80‬لا يمكن �أن يغفل دارس للخطاب الفلسفي‪-‬السياسي عند‬
‫ابن رشد كتاب الفارابي "تلخيص نواميس �أفلاطون"‪ ،‬فلماذا عمد �أبو نصر �إلى تلخيص هذا الكتاب؟وما موضوعه؟‬
‫وكيف توسل �إلى عرض مضامينه؟‬
‫أ‬
‫‪ -1‬في ديباجة الكتاب ونهايته يقدم الفارابي ما يشبه تبريرا لتقديم تلخيص لمعاني هذا الكتاب ال�فلاطوني؛ فكتاب‬
‫�أفلاطون يحمل كثيرا من اللطائف والدقائق والمعاني النافعة [ص‪ ،] 82‬ولذلك ضرب الفارابي �إلى مقالاته التسع‬
‫مت�أملا‪ ،‬فاحصا‪ ،‬واستخرج من معانيها ما لاح له وعلم �أن الحكيم مما قصد �إلى بيانه‪ ،‬وهو يرجو بهذا العمل‬
‫احتساب المثوبة والذكر الجميل [ ص ‪ .] 82-83‬وقصدا تعليميا يبدو في تقديم مادة علمية كافية من هذا الكتاب‬
‫تكون "عونا لمن �أراد معرفة ذلك الكتاب وغُنية لمن لا يحتمل مشقة الدرس والت�أمل" [ ص‪.] 37‬‬
‫‪� - 2‬إن موضوع الكتاب موضوع واقعي يمس مسا مباشرا �إدارة الش�أن السياسي للمدينة‪ ،‬من هنا �أهميته الكبرى في‬
‫فهم العمل الرشدي الذي سرت فيه روح واقعية كبرى وتشبت بالنواميس ليس له حدود؛ فالكتاب يجعل النواميس‬
‫موضوعا له‪ ،‬قصد عرضها وبيان �أهميتها في تسيير المدينة محاججا على �أن في قوام النواميس قوام المدن و�أن في‬
‫فسادها فساد المدن[ص‪ ] 67‬و�أنها طريق الخيرات ومعدنها [ص ‪ ،]54‬ردا على من يبطلها ويقصد �إلى تخسيسها‬
‫في �أعين الناس [ ص ‪.] 37‬وهو ما �أفرد له المقالة ال�أولى‪.‬‬
‫�إن الكتاب ي�أخذ على عاتقه �إثبات �أطروحة �أساسية وهي �أن المدن لا تقوم �إلا بالنواميس‪ ،‬ولما كان من �أصعب‬
‫ال�أشياء على الناس �أن يعملوا بما تقتضيه النواميس [ ص‪ ،] 41‬ف�إنه لابد �أن يكون الشخص �أو ال�أشخاص الذين‬
‫يضعون النواميس للمدينة هم �أول من يستعمل هذه النواميس قبل �أن ي�أمروا بها غيرهم ليحسن وقع كلامهم في نفوس‬
‫الم�أمورين [ص‪ ]42‬من �أهل المدن الذين عليهم‪ ،‬بدورهم‪� ،‬أن يقبلوا الحق "من واضعي النواميس �إذا لم يقدروا على‬
‫التمييز ب�أنفسهم" [ص‪]44‬وذلك ل�أن في ذلك صلاحهم‪� ،‬إذ باتباع النواميس‪ ،‬يتمكنون من مغالبة نفوسهم وقمع‬
‫شرورهم النفسانية وطلب العدل في �أمورهم و�أمور غيرهم‪[ ،‬ص‪ ،]38‬كما يتمكنون من رفع الحروب‪ ،‬وهو ما لا‬
‫‪129‬‬
‫يمكن �إلا �إذا تم الالتزام بالناموس‪ ،‬كما يتمكنون من نصب "الحاكم ال َم ْرضي ووجوب طاعته وذلك " للمصالح‬
‫التي ترجوها المدينة من ذلك‪ ،‬خاصة و�أن الناموس يبين "كيف ينبغي �أن تكون سيرة الحاكم المرضي في‪...‬حسن‬
‫التدبير" [ص‪ .]38‬ل�أن �أهل المدينة لابد لهم من رئيس وسياسة مرضية لتستقيم �أمورهم [ص‪ .]55‬ولا طريق لذلك‬
‫�إلا طريق النواميس‪.‬‬
‫�إن قصد واضعي النواميس هو سلامة المدينة وبث السلم النفسي والاجتماعي والسياسي فيها‪ ،‬وصاحب الناموس‪،‬‬
‫وهو المشرف على ذلك‪� ،‬أشد الناس �إدراكا لطبيعة الناس لحملهم على ما يوافق النواميس‪ ،‬فهو يدرك ال�أشياء‬
‫الطبيعية في الناس والتي هي �أسباب �أخلاقهم و�أفعالهم فيقصد �إلى تقويمها بنواميس خاصة ل�أن بتقويمها تقويم‬
‫ال�أخلاق وال�أفعال [ص‪ ،]45‬وهو ما عالجه في المقالة الثانية‪ ،‬وملاك هذه ال�أشياء الطبيعية �أمران بهما تحصل‬
‫الفضائل على الخصوص؛ اللذة وال�أذى‪ ،‬فبهاذين ال�أمرين يتوسل صاحب الناموس �إلى �إصلاح الناس‪ ،‬فصاحب‬
‫الناموس يتخذ اللذات سبيلا لتمسك الناس بالناموس موظفا في ذلك ال�أعياد والموسيقى [ص‪ 45-46‬وص‪.]72‬‬
‫مع حرص شديد على �أن يكون الناموس مهيجا �أفراد المدينة‪ ،‬صغارا وكبارا‪ ،‬نحو خيرهم وسعادتهم‪ ،‬ولذلك لابد‬
‫�أن يكون الناموس مواقفا لطباع الناس و�أخلاقهم المتباينة [ص‪ ]46‬يخاطب كل صنف بما هو �أقرب �إلى �أفهامهم‬
‫وعقولهم [ص‪ ]47‬معتنيا عناية كبرى ب�أمر المحبة ليسهل �أخذ الناس بالنواميس [ص‪ ]56‬محتفيا ب�أمر الحرية ملتزما‬
‫طريقها ليتم لصاحب الناموس طاعة الناس بشهوة وهشاشة‪ ،‬ويولى الفارابي �أمر الحرية قسطا من الاهتمام‪ ،‬فصاحب‬
‫الناموس وهو يلزم الناس بال�أخذ بال�أخلاق والتمسك بها يجب �أن يفعل ذلك على طريق الحرية لا على طريق‬
‫العبودية [ص‪ ،]56‬ومما يهيء لقبول السنن على طريق الحرية عند �أفلاطون الموسيقى [ص‪ ،]57‬فالفارابي‪ ،‬مع‬
‫�أفلاطون‪ ،‬يدينان طريق العبودية ويعتبر �أن "في التعبد نبوة ونفارا‪ ،‬والمدينة متى لم يكن �أمرها على المحبة الذاتية‬
‫وال�أدب التام‪ ،‬والعقل الكامل كان مصيرها �إلى الهلاك والفساد" [ص‪ ،]57‬فالقصد من وضع الناموس ل�أهل المدينة‬
‫ليس هو السمع والطاعة فحسب بل "و�أن يصير �أهل المدينة ذوي �أخلاق محمودة وعادات مرضية" [ص‪� ،]57‬إذ‬
‫كلما كان �أهل المدينة �أخيارا كان حاكمهم �أكثر �إلهية [ص‪� .]59‬إن حرص واضع السنن يجب �أن يتجه �إلى ال�أشياء‬
‫التي تورث ال� أ َ‬
‫نفس العق َل فيعنى بها عناية تامة ليكون �أمر الناموس �آكد و�أوثق‪ ،‬ويعتبر الفارابي ت�أكيد �أفلاطون على‬
‫�أن الذي يشهد للناموس بالحق والخير هو العق ُل من المعاني الحسنة عند �أفلاطون‪ .‬فيصبح استحسان العقلاء معيارا‬
‫يميز به بين ما يجب قبوله من النواميس في المدينة وما يجب رفضه‪� ،‬أما العقل فلا يورث �إلا بال�أدب [ص‪.]54‬‬
‫ومن �أهم ما يتم لفت الانتباه �إليه هذه العلاقة بين السنن والسياسة؛ فهذه العلاقة تبدو في تبعية السياسات للسنن‬
‫من جهة وفي تمهيد السياسة لقبول السنن من جهة �أخرى؛‬
‫‪ -‬فالسياسة تبنى على السنن [ص‪ ،]59‬ومن حظ المدينة �أن يكون واضع سننها في غاية الحذق والمعرفة والتهذيب‬
‫و�أن يكون �أهل مدينته متهيئين لقبول السنن في السياسات [ص‪]58‬؛ �إذ �أن صاحب السنن هو الذي ُيعلِّم السياسي‬
‫والحاكم كيف يدبر ش�أن المدينة تدبيرا صوابا[‪ ]78‬وينبهه �إلى ضرورة العناية ب�أجزاء المدينة [ص‪ ]76‬و�إلى العناية‬
‫بالصناع وسكان �أطراف المدينة واضعا لهم من السنن ما يليق بتقويمهم [ص‪.]78‬كما ينبهه �إلى عدم الاشتغال‬
‫باللذات الخارجة عن السنن [ص‪ .]77‬واصفا ال�أغذية التي يجب �أخذ �أهل المدينة بها‪ ،‬ناظرا في �أمر البيوع‬
‫وال�أشربة [ص‪ ،]79‬واصفا ال�أماكن التي يجب تخصيصها للعبادة‪ ،‬مبينا �أمر السرقات و�أمر المقتنيات [ص‪.]78‬‬
‫وهذه العلاقة بين السنن والسياسة‪ ،‬والتي هي من شروط قيام المدينة ال�أربع التي بينها في المقالة الرابعة‪ ،‬هي علاقة‬
‫تبعية‪ ،‬تجعل �أنواع السياسات بعدد �أنواع السنن [‪.]59‬‬
‫‪ -‬كما �أن السياسة توطىء للسنن‪� ،‬إذ �أن السنن لا يمكن �أن تثبت في النفوس ما لم يكن من قبل وضعها‬
‫توطئات[ص‪ ]60‬ولذلك الحرص على غرس الناموس في قلوب الناس بكثير من الرفق معتمدا على التوطئات‬
‫الموجودة في قلوب الناس [ص‪ ،]60‬فالمدينة لا يتم �أمرها �إلا ب�أن توط�أ لسننها توطئات من السياسات حتى �إذا‬
‫تمكنت تلك التوطئات عملت السنة العظيمة عملها [ص‪ ،]64‬ومن هذه التوطئات ما يسميه الفارابي بالتغلب‪،‬‬
‫فالحاجة �إلى التغلب ضرورية ليصير توطئة للسنة ال�إ لهية‪ ،‬والحاجة �إلى التغلب يفرضه تنظيف المدينة من ال�أشرار‪،‬‬
‫وجعلهم عبرة لل� أخيار ليقبلوا سنة المت�ألهين بسهولة وهشاشة [ص‪ .] 64‬والفارابي مدرك للطبيعة غير السوية‬
‫للتغلب‪ ،‬ولكنه يحدد هذا الجانب السيء في التغلب �إذا كان اللجوء �إليه لا لحاجة �أهل المدينة �إليه بل فقط "ل�أن‬
‫صاحب الرئاسة متغلب بطبعه"‪� ،‬أما �إذا كان �أهل المدينة غير �أخيار وتم قهر المدينة لتوضع فيها من السنن ما هو‬
‫‪130‬‬
‫�إلهي فذلك محمود ومرضي جدا‪ ،‬فمن هذه الجهة يكون �أمر التغلب �أدعى �إلى تقويم �أهل المدينة [ص‪ ،]58‬ف�أكبر‬
‫هم الرئيس صلاح المرؤوسين [ص‪ ]59‬ومن هنا فقهر ال�أشرار هو في غاية الجودة‪� ،‬أما قهر ال�أحرار وال�أفاضل فهو‬
‫في غاية الرداءة [ص‪ .]58‬كما تعتبر الموسيقى من التوطئات التي تمكن للناموس في النفوس من طريق الحرية‬
‫[ص‪ .]57‬ولهذا يجب العناية بها في المدينة بصنفيها؛ الصنف الذي يحث على الجهاد[ص‪� ،]72‬إذ �أن سماع‬
‫المدائح والمذام �إن كان على الطريقة المستقيمة وكما يوجبه الناموس انغرس منه في قلوب ال�أحداث الحرص‬
‫على اقتناء الفضائل بالجهاد [ص‪]76‬والصنف الذي يعمل في السلم وال�أفراح [ص‪ .]72‬كا تعتبر ال�آداب توطئات‬
‫للسنن يجب العناية بها [ص‪.]66‬‬
‫ومن �أهم ما يجب العناية به في المدينة �أمر الترتيبات [ص‪ ،]79‬وهو ما �ُأفردت له المقالة السادسة التي عالجت‬
‫مس�ألة الترتيبات في المدينة وبيان �أن المدينة لا يستقيم �أمرها �إلا �إذا كانت رئاستها مرتبة ترتيبا حسنا طبيعيا‪ ،‬سواء‬
‫تعلق ال�أمر ب�أهل المدينة �أو ب�أصحاب الحروب ورؤسائهم ومديريهم [ص‪ ،]68‬وبالوزراء و�أهل التجارب و�أصحاب‬
‫الر�أي‪ ،‬فترتيب كل هؤلاء واجب في �إصلاح المدن [ص‪ ،]69‬ولذلك حرص �أبو نصر على �إشباع القول في‬
‫الترتيبات الطبيعية [ص‪ ]70‬من القول في ترتيب الخدم [ص‪ ،]70‬ومياه المدينة [ص‪،]71‬والجرائم والعقوبات‬
‫والموسيقاريين [ص‪ ،]72‬وترتيب ال�أعياد‪ ،‬ول�أهمية هذا الترتيب ال�أخير عقد له الفارابي في �أول الكتاب بيانا مجملا‬
‫فصل فيه القول تفصيلا [ص‪ ،]75‬فالعيد هو المناسبة التي تعقد لتعظيم ال�آلهة وتجديد ذكرهم‪،‬‬ ‫وفي المقالة الثامنة َّ‬
‫عند �أفلاطون‪ ،‬وفي ذلك تعظيم للسنن والنواميس ولو كانت تدخل في باب الكمالات؛ �إذ �أن ال�أخيار بمعدنهم‬
‫الحر �أحق الناس بترويض نفوسهم للتمسك بما يزين الناموس ليكونوا خيرة وسعداء [ص‪ ،]80‬وهو ما �أفرد له المقالة‬
‫ال�أخيرة من الكتاب‪.‬‬
‫وحتى تظل هذه السنن والنواميس حية مع الزمان في نفوس �أهل المدينة يجب �إثبات تذاكير لتكون المرجع المناسب‬
‫بعد انقضاء �أيام حياة �أصحاب النواميس [ص‪ ،]72‬و ُين َّبه في المقالة السابعة‪ ،‬على �أصناف ال�أقاويل التي يمكن‬
‫�أن تكون مثبتة في التذاكير من ذكر للمواعظ التي �إذا سمعها �أهل المدينة لانت قلوبهم‪ ،‬وذكر �أمثال يعتبر بها‬
‫�أهل المدينة [ص‪ ،]73‬وتقديم توجيهات عامة مما يجب على �أهل المدينة من حفظ لهذه ال�أقاويل ودرسها حتى‬
‫تبقى حية في نفوسهم‪ ،‬فلا تدرس فينفرط بدروسها عقد المدينة‪� .‬إذ �أن الناموس يبقى ما بقي الناس يخوضون‬
‫في استخراج غرائب معانيه [ص ‪ .]74‬وينبه الفارابي في المقالة الثالثة �إلى �أن فساد النواميس يكون من جهتين؛‬
‫�أحدهما مرور ال�أزمان الطوال عليها‪ ،‬وال�أخرى الحوادث العامة التي تحدث في العالم‪ ،‬ولذلك يجب دوما تجديد‬
‫النواميس بعد فساد سيرة المدينة عندما يترك قومها ما ينفعهم استعماله من نواميس وتمرض نفوسهم ب�إعراضهم عن‬
‫�آداب السياسة ال�إ لهية [ص‪ 51‬وص ‪ 53‬وص‪ .]55‬ومن هنا يكون صاحب الناموس كالطبيب الذي يرفق بالصبيان‬
‫الذي يجب عليه الرفق ب�إحياء السنن وحفظها على الناس جيدا [ص‪ .]60‬وفي المقالة الثانية بين �أن في ال�إ نسان‬
‫�أشياء طبيعية هي �أسباب ل�أخلاقه و�أفعاله ينبغي �أن يقصدها واضع الناموس فيقومها بنواميس خاصة ل�أنه �إذا تقومت‬
‫هذه ال�أشياء الطبيعية الفطرية تقومت ال�أفعال وال�أخلاق [ص‪ .]45‬وقد �أفرد الفارابي المقالة الخامسة للعناية ب�أمر‬
‫النفس ل�أنها �أشرف ال�أشياء الطبيعية‪ ،‬وبيان �أن العناية بها هو �إعطاؤها الكرامة‪[ ،‬ص‪ ،]61‬وكرامة النفس في ت�أديبها‬
‫و�إعطائها من الشهوات ما مدحته السنن ال�إ لهية‪ ،‬وكلما كانت الشهوات مذمومة عند الناموس ف�إن منع النفس عنها‬
‫�إكرامها [ص‪ ،]62‬من هنا ضرورة �إكرام السنن والنظر �إليها مع السياسات بعين ال�إ كبار [ص‪ ،]65‬وقد فصل �أفلاطون‬
‫في هذه المقالة كيف يكون �إكرام النفس‪ ،‬ثم بعد ذلك كيف يكون �إكرام البدن [ص‪ ]62‬مع بيان الطريق �إلى اقتناء‬
‫الفضائل الخلقية مؤكدا وجوب الاستعانة بال�آلهة في اقتناء هذه ال�آداب [ص‪.] 63‬‬
‫‪� - 3‬أما الطريقة التي عرض بها الفارابي قضايا هذا الكتاب ف�أبعد عما �ألفنا عند �أبي الوليد على ال�أقل في الجمهورية‪،‬‬
‫ف�إذا كان من عادة ابن رشد �أن يعمد �إلى مقالات الكتاب ال�أصلي فيختزلها في مقالات قليلة كما فعل في الجمهورية‬
‫بل وفي جوامع ما بعد الطبيعة �أيضا‪ ،‬ف�إن �أبا نصر يسير مع �أفلاطون حذو القدة بالقدة يستخلص معاني الكتاب ويبرز‬
‫ما يرى �أنه �أحق بال�إ براز‪ ،‬فضلا عن ذلك ف�إن �أبا الوليد‪ ،‬عادة ما يقدم في تلاخيصه مادة معرفية تغني عن الرجوع‬
‫�إلى الكتاب ال�أصلي‪� ،‬أما �أبو نصر فيكثر من ال�إ حالة �إلى الكتاب ال�أصلي ليرجع �إليه من �أراد متابعة �أفلاطون فيما‬
‫‪131‬‬
‫أ�و بعبارة رشدية أ�ثيرة المقالات الثمانية ال�أولى في الضروري من النواميس في المدينة‪،‬‬
‫والمقالة ال�أخيرة تعرض للنواميس التي هي على جهة ال�أفضل في المدينة‪.‬‬
‫تخف بالواقع والغارق في‬ ‫المس ِ‬
‫�إننا هنا ‪-‬مع �أبي نصر‪ -‬مع �أفلاطون �آخر غير �أفلاطون ْ‬
‫عالم المثل‪ ،‬كما عرفه الكندي على سبيل المثال؛‬
‫لفيلسوف العرب ال�أول �أبي يعقوب رسالة في النفس سماها "المقول في النفس‪،‬‬
‫المختصر من كتاب �أرسطو وفلاطن وسائر الفلاسفة"(((‪ ،‬والمت�أمل لهذه الرسالة يلاحظ‬
‫ت�أثرا عميقا بنظرية �أفلاطون في النفس ومذهبه في الزهد في الدنيا(((‪ ،‬فالكندي يعتبر‬
‫النفس جوهرا من جوهر الباري عز وجل‪ ،‬ويؤكد على انفرادها عن الجسم ومباينتها له‬
‫مع التشديد على جوهرها ال�إ لهي الروحي(((‪ ،‬وهذه الخاصية التي تنفرد بها النفس تجعل‬
‫علمها مطلقا‪ ،‬والدليل على جوهرية النفس وعلمها المطلق‪ ،‬عند الكندي‪� ،‬أن "كثيرا‬
‫�أشبع فيه القول‪� ،‬أو �أطنب فيه‪ ،‬من �أجل تعميق النظر في القول ال�أفلاطوني مما يشي عنده �أن الفرع لا يغني عن‬
‫ال�أصل [ص‪ ،52‬ص‪ ،59‬ص‪ ،64‬ص‪ ،65‬ص‪ ،66‬ص‪ 70‬ص‪ 72‬ص‪ ،74‬ص‪ ،82‬ص‪ ]80‬على خلاف ما نجد‬
‫عند �أبي الوليد الذي يعالج تلاخيصه من خلال مفهوم الكافي الذي يغني فعلا عن النص ال�أصلي‪ ،‬وليس فقط يتخذ‬
‫شعارا كما قد يبدو من صنيع الفارابي هاهنا‪.‬‬
‫***‬
‫�إن "تلخيص نواميس �أفلاطون" من �أهم ما كتب الفارابي في الفلسفة السياسة في روحه الواقعية من جهة والقريبة‬
‫من جهة �أخرى من الحساسية الدينية للمسلمين؛‬
‫‪ -‬فيما يتعلق بالجانب ال�أول نجد �أنفسنا �أبعد عن الجانب التنظيري الكلي المجرد في "الجمهورية"و�أقرب �إلى‬
‫الجانب المحتفي‪ ،‬فضلا عن التوجيهات الكلية‪ ،‬بالجزئيات الواقعية الكثيرة المبثوثة في الكتاب والتي تعالج كثيرا‬
‫من ال�أشياء التي تمس بشكل مباشر �إدارة المدينة في تفاصيلها من مثل؛ تفضيل جمع المال [ص‪ ]65‬والقول‬
‫في الخدم [ص‪ ]70-71‬وفي الجرائم والعقوبات [ص‪ ،]72‬والجود والبخل في النفقات [ص‪ ]69‬و�أمر السرقة‬
‫[ص‪ ،]78‬وغير ذلك كثير من ال�أمور التي تشعر دارس النص ب�أن الكاتب �أمام مشاكل واقعية ينظر لها ويبحث لها‬
‫عن حلول واقعية ملموسة‪.‬‬
‫‪ -‬فيما يتعلق بالجانب الثاني فيتمثل في ال�إ علاء من ش�أن الناموس في قيام المدينة‪ ،‬وبيان �أن غرض واضع النواميس‬
‫هو ابتغاء وجه الله تعالى واقتناء الفضيلة العظمى [ص‪ ،]39‬و�أن واضع النواميس بالحقيقة هو من خلقه الله وهي�أه‬
‫لذلك [ص‪]42‬كما يتجلى ذلك في تقديم الفضائل ال�إ لهية على الفضائل ال�إ نسية [ص‪ ،]39‬وبيان �أهمية ال�أعياد‬
‫وفوائدها العجيبة [ص‪ ،]75‬ثم ربط صفة "ال�إ لهية" بالسنن والناموس والرئيس الخَ ـيـِّـر في المدينة[ص‪ 58‬وص ‪59‬‬
‫وص ‪ 64‬وص ‪66‬وص‪.]53‬وبالسياسة‪ ،‬حيث يسميها السياسة ال�إ لهية [ص‪ ،]55‬وغير ذلك من ال�أشياء المبثوثة في‬
‫الكتاب‪ ،‬فضلا عن الروح السارية فيه‪ ،‬والتي تجعل قضاياه �أقرب �إلى الذوق العربي‪ -‬ال�إ سلامي‪.‬‬
‫وهاتان الخاصيتان؛ الواقعية من جهة والقرب من التداول العربي ال�إ سلامي من جهة �أخرى لاشك �أنهما قربا‬
‫كتاب"تلخيص نواميس �أفلاطون" �إلى فقيه قرطبة وفيلسوفها ال�أول �أبو الوليد بن رشد الذي كان حريصا على �إنشاء‬
‫السنن للمدينة ال�إ سلامية وتصحيح ما تم �إفساده منها كما فعل في"بداية المجنهد" وفي مناهج ال�أدلة‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظرها في رسائل الكندي الفلسفية تح محمد عبد الهادي �أبو ريدة دار الفكر العربي مطبعة الاعتماد بمصر‬
‫‪.1950‬‬
‫‪ - 2‬رسائل الكندي الفلسفية ج‪ 1‬صص ‪275-274‬‬
‫‪ - 3‬رسائل الكندي‪ ،‬مرجع سابق ص‪237‬‬
‫‪132‬‬
‫من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما تجرد عن الدنيا وتهاونوا بال�أشياء الحسوسة وتفردوا‬
‫بالنظر والبحث عن حقائق ال�أشياء انكشف لهم علم الغيب‪ ،‬وعلموا بما يخفيه الناس‬
‫في نفوسهم واطلعوا على سرائر الخلق"‪ .‬والكندي يعتبر هذا المذهب مذهب �أفلاطون‬
‫ويصادر عليه ويصدقه‪ .‬فمذهب �أفلاطون‪ ،‬عند الكندي‪ ،‬هو مذهب الزهد في اللذائذ‪،‬‬
‫والتحريض على "الفكر والتمييز والبحث عن غوامض العلم"وذلك من �أجل التشبه بال�إ له‪،‬‬
‫ف�إذا "تجردت النفس وفارقت [‪ ]...‬البدن وصارت في عالم العقل[‪ ]...‬صارت في نور‬
‫الباري عز وجل وطابقت نوره وجلت في ملكوته‪ ،‬فانكشف لها علم كل شيء وصارت‬
‫ال�أشياء كلها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للباري عز وجل"(((‪ .‬وهكذا يصبح العالم‬
‫ال�أرضي عند الكندي هو "العالم الدنس"(((‪ ،‬وينتصب التقابل بين المطعم والمشرب‬
‫والنكاح والسماع والشم واللمس باعتبارها "لذات حسية دنسة" واللذات ال�إ لهية الروحانية‬
‫الملكوتية(((‪ ،‬ويصبح المتعبد هو من "هجر الدنيا ولذاتها الدنية"(((‪.‬ولما كان ل�أرسطو‬
‫مكانته في حس الكندي ف�إننا نجده يجمع بين التلميذ و�أستاذه جمعا غريبا حيث ُيلبس‬
‫�أرسطو حلة �أفلاطونية خاصة(((‪.‬‬
‫�إن لهذا ال�أمر دلالته العميقة في سياقنا هذا‪� ،‬إذ �إننا نجد "�أن �أفلاطون الذي دخل �إلى‬
‫العالم ال�إ سلامي �أفلاطونا �آخر؛ �إنه �أفلاطون الهلنستي ال�إ لهي المستغرق في التفكير في‬
‫العالم ال�آخر[‪�]...‬إن �أفلاطون الذي وصل �إلى المسلمين هو �أفلاطون الذي لا علاقة له‬
‫بالسياسة‪� ،‬إنه �أفلاطون الذي تعتبر الفلسفة بالنسبة �إليه تمرينا واستعدادا للموت‪ .‬نعم‪� ،‬إن‬
‫�أفلاطون كان معروفا لديهم باعتباره مؤلفا للجمهورية وللقوانين‪ ،‬ولكن السياق السياسي‬
‫‪ - 1‬رسائل الكندي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪276-275‬‬
‫‪ - 2‬رسائل الكندي‪ ،‬ص‪276‬‬
‫‪ - 3‬رسائل الكندي ص ‪277‬‬
‫‪ - 4‬رسائل الكندي ص‪279‬‬
‫‪- 5‬يقول الكندي في ذلك‪" :‬وصف �أرسططاليس �أمر الملك اليوناني الذي تحرج بنفسه‪ ،‬فمكث لا يعيش ولا يموت‬
‫�أياما كثيرة‪ ،‬كلما �أفاق �أعلم الناس بفنون من الغيب وحدثهم بما ر�أى من ال�أنفس والصور والملائكة و�أعطاهم في‬
‫ذلك البراهين‪ ،‬و�أخبر جماعة من �أهل بيته بعمر واحد واحد منهم‪ ،‬فلما ام ُتحن كان ما قال‪ ،‬لم يتجاوز �أحد منهم‬
‫المقدار الذي حد له من العمر‪ ،‬و�أخبر �أن خسفا يكون في بلاد ال�أوس بعد سنة‪ ،‬وسيكون في موضع �آخر بعد‬
‫سنتين‪ ،‬فكان ال�أمر كما قال‪.‬‬
‫وذكر أرسططاليس أن السبيل يف ذلك أن نفسه إمنا علمت ذلك العلم ألهنا كادت أن تفارق البدن‪ ،‬وانفصلت‬
‫عنه بعض االنفصال‪ ،‬فرأت ذلك‪ ،‬فكيف لو فارقت البدن على احلقيقة! لكانت قد رأت عجائب من أمر‬
‫امللكوت األعلى"رسائل الكندي‪ ،‬مرجع سابق ص‪279‬‬
‫‪133‬‬
‫المباشر ل�أعماله كانت قد فقد"(((‪ .‬ومن هنا ال�أهمية الكبرى ل�أبي نصر الفارابي؛ "�إن‬
‫ما قدمه الفارابي هو بمعنى ت�أويل غير �أفلاطوني ل�أفلاطون‪� ،‬أو على ال�أقل ل�أفلاطون كما‬
‫كان ينظر �إليه من طرف التقاليد الهلنستية �إلى حدود �إعادة ظهوره في الفترة الوسيطية‪.‬‬
‫لقد قدم الفارابي �أفلاطونا سياسيا[‪�]...‬إنه خلق �أو �إعادة خلق من �أبي نصر"‪� ،‬إنه فهم‬
‫مرتبط بفهم �أبي نصر الخاص للحياة وللعلم السياسي‪ْ ،‬فهم "حرك �أبا نصر �إلى �إعادة خلق‬
‫سياسية �أفلاطونية انطلاقا من التّرجمات والملخصات التي كانت في متناوله"(((‪ .‬ف�إذا كان‬
‫للسفر "�إلى العالم الحقيقي"((( البعيد عن هموم‬ ‫"�أفلاطون الكندي" هو �أفلاطون ال ُم َن ِّظر َّ‬
‫واقع المدينة و�إشكالاتها‪ ،‬فنحن‪ ،‬مع الفاربي‪� ،‬أمام �أفلاطون يفكر في هموم الواقع من‬
‫خلال تفكيره في المدينة‪.‬‬
‫�إن هذا العمل الفريد الذي قام به �أبو نصر في كتبه الفلسفية ‪ -‬السياسية والتي �أكثر‬
‫ابن رشد الفزع �إليها‪ ،‬هي التي سمحت لابن رشد بهذا "الجمع" بين فيلسوفين واقعين‪،‬‬
‫ليقوم ب�إثراء الحقل الفلسفي ‪ -‬السياسي بشرحه لكتاب جمهورية �أفلاطون‪ ،‬وهو جمع‬
‫َس ُيشغِّل فيه ابن رشد على الخصوص كلا من كتابي ال�أخلاق والخطابة ال�أرسطيين في‬
‫شرحه العربي لهما‪.‬‬
‫لا يمكن �أن نجد في مقامنا هذا ل�أبي نصر وحده فضل الت�أثير على ابن رشد‪ ،‬فهناك‬
‫فيلسوف �أقرب منه زمانا و�أقرب منه �أيضا حساسية فلسفية و�أثر فيه بعمق في نظريته في‬
‫النفس فغلَّطه كما قال �أبو الوليد؛ �إنه ابن باجة تلميذ �أبي نصر‪ .‬ونحن نجد في "تدبير‬
‫المتوحد" ‪ -‬هذا الكتاب الذي حظي بعناية من ابن رشد على مستوى القول ولم يسعفه‬
‫وقته حتى ُيفرده بشرح على اللفظ �أو على المعنى كما فعل في كثير من كتاباته ‪� -‬إرهاصات‬
‫�أولية في الغرب ال�إ سلامي‪ ،‬لهذا الجمع الذي نزعمه هنا بين الحكيمين‪ ،‬وظفه �أبو بكر بن‬
‫الصائغ من �أجل صياغة قول سياسي فريد لم يعرف له مثيل في ثقافتنا الفلسفية العربية‪.‬‬
‫يبدو هذا الجمع بين الحكيمين عند ابن باجة‪ ،‬في كتابه "تدبير المتوحد"‪ ،‬في‬
‫النّصوص التي تخترق نسيج الكتاب والتي �أكثر �أبو بكر الفزع �إليها‪ ،‬ومنها‪ ،‬في هذا المقام‬
‫الذي يخصنا‪ ،‬كتاب السياسة ل�أفلاطون الذي يحيل عليه في ثلاثة مواضع(((‪ ،‬ويستلهمه‬
‫‪ - 1‬محسن مهدي‪" ،‬فلسفة �أفلاطون والفكر السياسي في المجتمع السياسي‪ "..‬مرجع سابق ص‪.217-216‬‬
‫‪ - 2‬محسن مهدي‪ ،‬المرجع السابق ‪217‬‬
‫‪ - 3‬رسائل الكندي الفلسفية مرجع سابق ص‪280‬‬
‫‪ - 4‬ابن باجة‪ ،‬تدبير المتوحد تح معن زيادة دار الفكر ال�إ سلامي‪ ،‬دار الفكر ط‪ 1978 1‬صص ‪ 42-41‬وص‪ 88‬وص‬
‫‪111‬‬
‫‪134‬‬
‫في مواطن متعددة من الكتاب‪ .‬كما يحيل على كتابي الخطابة((( وال�أخلاق ل�أرسطو(((‪.‬‬
‫ومما له دلالة في هذا السياق �أنه لايذكر الفارابي سوى مرة واحدة((( وك�أن قوله لايجد له‬
‫ت�أسيسا عند المعلم الثاني‪� ،‬أكثر مما يجد ت�أسيسا له عند المعلم ال�أول و�أستاذه‪ .‬فكيف‬
‫جمع ابن باجة بين الحكيمين‪ ،‬وكيف �أرسى قولا سياسيا فريدا لن يجد ابن رشد مندوحة‬
‫عن الثّناء عليه‪.‬؟‬
‫يمكن القول �إن كتاب السياسة ل�أفلاطون‪ ،‬وكتابي الخطابة وال�أخلاق ل�أرسطو‪ ،‬عند‬
‫ابن باجة‪ ،‬هي كتاب واحد بالقول ثلاثة كتب بالفعل والعدد؛ فهي كتب تضرب في‬
‫سياسة المدينة وسياسة الفرد‪ ،‬لكن ابن باجة سيضرب صفحا عن سياسة المدينة ل�أن‬
‫(((‬
‫القول فيها تم مع �أفلاطون‪" ،‬وتكلّف القول فيما قد قيل ف�ُأحكم فضل �أو جهل �أو شرارة"‬
‫كما يقول‪� .‬إن ابن باجة سينقل القول من تدبير المدن كما �أسسه �أفلاطون وتبعه في ذلك‪،‬‬
‫من فلاسفة ال�إ سلام‪ ،‬الفارابي‪� ،‬إلى القول في تدبير المتوحد‪ ،‬وسيصبح قوله الجديد هذا‬
‫لامعنى له في المدينة الفاضلة(((‪ .‬حقا‪ ،‬لقد ت�أثر ابن رشد بمشروع ابن باجة في سياسة‬
‫المتوحد‪ ،‬فقد ثمن ابن رشد كتاب التدبير ووعد بشرحه‪ ،‬واستبطنه‪ ،‬لكنه اختلف عنه‪ .‬لم‬
‫يكف �أبو الوليد عن التفكير في سياسة المدينة‪ ،‬وكان �أبو بكر قد اعتبر التفكير في سياسة‬
‫المدينة‪ ،‬بعد قول �أفلاطون‪ ،‬مما استنفذ �أغراضه‪ ،‬لكن ابن رشد سيجمع بين الحديث عن‬
‫سياسة المدينة وسياسة الفرد كذلك‪ .‬وهو جميع جديد بين �أفلاطون وابن باجة‪.‬‬
‫كان الحفيد منخرطا‪ ،‬بحكم ممارسته القضاء‪ ،‬كنائب عن الحاكم‪ ،‬في معالجة شؤون‬
‫الرعية‪ ،‬فكان ان است�أنف التفكير في السياستين معا؛ سياسة المتوحد وسياسة المدينة؛‬
‫�أما عن السياسة ال�أولى فتتمثل فيما نجده في مصنفات ابن رشد وفي مصنفه السياسي‬
‫على الخصوص من شكوى من وضعية الفيلسوف الذي تتنوع تشبيهاته عند ابن رشد‪،‬‬
‫فهو مرة يجعله �أشبه بـ "الملاح الحاذق في فن الفلاحة [الذي ] لا يجد من يتعلمها‬
‫‪ - 1‬ابن باجة‪ ،‬التدبير‪ ،‬ص‪61‬‬
‫‪ - 2‬يحيل في كتاب ال�أخلاق على المقالة ال�أولى ص‪ 91‬والسادسة ‪ ،65‬و�أحيانا على ال�أخلاق عموما ص‪ 83‬و‪50‬‬
‫‪ - 3‬ابن باجة‪ ،‬التدبير‪ ،‬ص‪46‬‬
‫‪ - 4‬ابن باجة‪ ،‬تدبير التوحد مرجع سابق ص‪ 41‬قد يكون هذا القول بكمال القول ال�أفلاطوني في سياسة المدينة‬
‫وجهات الكبرى في اختيار ابن رشد باستئناف القول في سياسة المدينة‪ ،‬ونحن نتساءل هنا عن مصدر ما‬ ‫من ال ُم ِّ‬
‫صرحت به منى �أحمد �أبو زيد في كتابها عن "المدينة الفاضلة عند ابن رشد"من �أن لابن باجة تصورا عن المدينة‬
‫الفاضلة ص‪.269‬‬
‫‪ - 5‬تدبير المتوحد‪ ،‬ص‪47‬‬
‫‪135‬‬
‫على يديه ولا من يستفيد منها"(((‪ .‬وتارة يجعله يعيش بين وحوش ضارية[‪ ]...‬وهذه‬
‫الوضعية الصعبة في المدينة ال�إ سلامية تلجئ الفيلسوف في كثير من ال�أحيان �إلى التوحد‬
‫على الطريقة الباجية‪ .‬ومع تقدير ابن رشد لهذه الطريقة‪ ،‬فهو يعتبرها مانعة ال�إ نسان من‬
‫الحصول على الكمال ال�أسمى الذي لا يحصل �إلا في المدينة(((‪.‬‬
‫ومن هنا عناية ابن رشد بالسياسة الثانية‪ ،‬سياسة المدينة‪ ،‬واستئنافه القول‪ ،‬بعد ان‬
‫اعتبر ابن باجة �أن القول في ذلك قد استنفد �أغراضه بعد القول ال�أفلاطوني‪ .‬و�إن من �أهم‬
‫ما سيؤثر كتاب التدبير في ابن رشد‪ ،‬في سياقنا هذا‪ ،‬هو هذا الجمع الذي قام به ابن‬
‫باجة بين الحكيمين‪� ،‬أفلاطون و�أرسطو‪ ،‬وفي هذا ال�أفق سيكون قول ابن رشد في سياسة‬
‫المدينة‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
‫فما طبيعة الجمع الذي قام به ابن رشد بين �أفلاطون و�أرسطو ؟‬
‫سنحاول ال�إ جابة عن هذا السؤال من خلال مستويين؛ المستوى ال�أول نتساءل فيه‬
‫عن طبيعة النظر السياسي ‪ -‬ال�أخلاقي عند �أفلاطون و�أرسطو وهل فعلا بينهما من القرابة ما‬
‫يجعل الجمع بينهما في هذا سياق الصناعة المدنية ممكنا؟ �أما المستوى الثاني فنبحث‬
‫فيه عن جملة من ال�أشكال التي �أمكن لابن رشد من خلالهما الجمع بين الفيلسوفين‪.‬‬
‫المستوى ال�أول ‪:‬‬
‫يعتبر �أرسطو ال�أخلاق والسياسة علمان عمليان‪ ،‬لا يقصدان �إلى النظر و�إنما يقصدان‬
‫�إلى العمل ل�أن معرفة علة ال�أشياء ال�أخلاقية والسياسية فيهما غير ذات �أهمية قصوى‪� ،‬إنما‬
‫(((‬
‫ال�أهم معرفة الوقائع(((‪ ،‬ففي العلم السياسي يتخذ البحث في ال�أفعال كيف ينبغي فعلها‬
‫�أهمية �أكبر‪ .‬ولهذا ال�أمر انعكاسه على مستوى الفحص العلمي‪� ،‬إذ �إن البحث السياسي‬
‫طريقه ليس البرهان وما يتبعه من استقصاء في القول كما هو ال�أمر في الموضوعات النظرية‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪139‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪141‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ترجمة �إسحق بن حنين‪ ،‬حققه وشرحه وقدم له عبد الرحمن بدوي‪ ،‬وكالة المطبوعات‬
‫الكويت الطبعة ال�أولى ‪ 1979‬ص‪58‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق مرجع سابق ص‪87‬‬
‫‪136‬‬
‫التي تحكمها العلل‪� ،‬إنما يقتصر النظر السياسي على الرسم ل�أنه ينصب على الوقائع؛‬
‫موضوعات الفلسفة المدنية(((‪.‬‬
‫رغم هذا الطابع العملي للفلسفة المدنية‪ ،‬ف�إن �أرسطو يعتبر صاحبها "رئيس بحار‬
‫العلم"(((‪ ،‬ويعتبر غاية السياسة هي الغاية العليا‪ ،‬ل�أن هذا العلم يجعل اهتمامه الرئيسي‬
‫تحويل المواطنين �إلى "كائنات فاضلة وقادرة على القيام ب�أعمال نبيلة"(((‪ .‬ولذا يعتبر‬
‫�أرسطو صناعة تدبير المدن‪ ،‬والتي تجمع بين ال�أخلاق والسياسة‪� ،‬أشرف الصناعات ل�أنها‬
‫تتشوق خير ال�إ نسان فردا كان �أو شركة‪.‬‬
‫�إن جميع الصناعات تتشوق خيرا ما‪ ،‬لكن الصناعات ليست واحدة‪ ،‬بل هي متراتبة؛‬
‫منها رئيسية ومنها ثانوية تحتها‪ ،‬وصناعة تدبير المدن‪ ،‬عند �أرسطو‪ ،‬هي الصناعة الرئيسة‬
‫بغاياتها التي هي هدف الصناعات التي تحتها‪ .‬ويمكن القول �إن هذه الصناعة الرئيسية هي‬
‫صناعة تقديرية بجهة ما؛ فهي تقدر طبيعة الصناعات والعلوم التي تحتاجها المدن‪ ،‬كما‬
‫تقدر طبيعة الصناعات والعلوم التي يجب على كل طبقة �أن تتعلمها‪ ،‬كما تقدر غايات‬
‫المتعلم من هذه الصناعات‪ .‬وهذه السمة التّقديرية تبرز بشكل كبير �أن غرض صناعة تدبير‬
‫المدن هو العمل‪ ،‬وهو ما سيؤكده ابن رشد في "الضروري"‪� ،‬إذ �إنها‪ ،‬وهي تستعمل العلوم‬
‫العلمية‪ ،‬ف�إنها تحدد ما ينبغي فعله وما ينبغي تركه‪ ،‬من هنا تكون غاياتها �أشمل من غايات‬
‫الصناعات التي تحتها كصناعة الطب‪ ،‬وصناعة الحرب‪ ،‬وصناعة الخطابة‪ ،‬وصناعة تدبير‬
‫المنزل‪ .‬وهذه الغاية مرتبطة بالخير الذي تتش ّوقه هذه الصناعة الرئيسية وهو خير المدينة‪،‬‬
‫"وهو �أعظم و�أكمل"(((‪ .‬من هنا هذا البعد ال�أخلاقي للعلم السياسي الذي يذكرنا بكثير‬
‫من المبادئ ال�أفلاطونية في الجمهورية‪.‬‬
‫تعتبر الصلة بين ال�أخلاق والسياسية‪ ،‬والتي تبدو على �أكثر من مستوى‪� ،‬أهم معلم من‬
‫معالم الكتابة ال�أخلاقية ‪ -‬السياسية عند �أرسطو‪ .‬لكن المستوى البارز في هذه العلاقة‪،‬‬
‫على ما يبدو‪ ،‬هو المستوى الت�أسيسي‪ ،‬ولعل هذا المستوى راجع‪ ،‬من بين ما يرجع �إليه‪،‬‬
‫�إلى �أسبقية كتاب ال�أخلاق زمنيا على كتاب السياسة(((‪.‬‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪88‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص‪261‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪74‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪ - 5‬يحيل �أرسطو في كتابه " في السياسة" على كتاب ال�أخلاق �إلى نيقوماخوس مرجع سابق ص ‪50‬‬
‫‪137‬‬
‫يربط �أرسطو بين ال�أخلاق والسياسة برباط ت�أسيسي عندما يجعل الفحص ال�أخلاقي‬
‫مقدمة �أساسية للبحث السياسي(((‪ .‬لكن �أين تبدو مظاهر هذا الت�أسيس عند �أرسطو؟‬
‫يعتبر �أرسطو �أن الخير الذي يقصده العلم السياسي هو السعادة‪ ،‬فالسعادة‪ ،‬بجهة‬
‫من القول هي الكمال ال�إ نساني والمدني‪ ،‬ومن هنا ارتباطها بالفضيلة‪ .‬وترتبط السعادة‬
‫بالفضيلة برباط السببية من خلال �أن السبب الفعال للسعادة يجد �أساسه في الفعل الموافق‬
‫للفضيلة(((‪� ،‬إذ �إن السعادة ليست سوى حسن سيرة وجميل فعال(((‪ .‬كما ترتبط السعادة‬
‫بالسياسة �أكثر من خلال �أن السعادة هي "تمام ال�أشياء ال�إ نسية"(((‪ ،‬بمعنى �أنها منتهى ما‬
‫تقف عنده ال�أفعال ال�إ نسانية ذات الطبيعة ال�أخلاقية والسياسية‪ .‬و�إذا كان العلم السياسي‬
‫يبحث عن الطرق التي ُيم ِّكن بها للسعادة في المدينة ف�إن ال�أخلاق هي العلم الذي يبحث‬
‫للسعادة‪ ،‬ويقدم للسياسي �أدوات فهمها قبل تمكينها‪ ،‬ل�أن معرفة‬ ‫في الصور المختلفة ّ‬
‫الفضيلة غير كافية‪ ،‬بل ينبغي اقتناؤها واستعمالها‪ ،‬وهو ما يقصد �إليه علم السياسة ‪.‬‬
‫(((‬

‫ومن هنا يطلب �أرسطو في المقبل على العلم السياسي شروطا �أخلاقية منها �أن يكون‬
‫ممن يشتهي ويفعل على حسب ما يوجبه الفكر والر�أي(((‪ .‬وثانيا �أن تكون �أخلاقه تجري‬
‫على ما ينبغي((( �إذ �أن وكده واهتمامه هو تحويل المواطنين �إلى كائنات فاضلة ذات‬
‫�أعمال نبيلة(((‪ ،‬وذلك بجعلهم منقادين للنّواميس(((‪ .‬لكن من هو هذا المقبل على العلم‬
‫السياسي؟‬
‫يبدو �أن المشتغلين بالش�أن السياسي صنفان من الناس‪ :‬واضعو النواميس و�إدارة‬
‫المدينة‪� ،‬أو �أصحاب السلطة؛ وهم يتميزون في عملهم و�إن كانت اهتماماتهم واحدة‬
‫و�أحيانا تدخُّ لهم في المدينة واحد؛ �أما عمل واضعي النواميس ف�إيجاد النواميس‪ ،‬وهي‬
‫قوانين عامة تؤم جعل الشركة المدنية‪ ،‬كما يسميها �أرسطو‪� ،‬أوفق بنشر العدل‪� ،‬أي �أنها‬
‫‪ - 1‬عندما يقول ‪" :‬و�إذا كان هذا البحث �إنما هو لتدبير المدن" ال�أخلاق ص‪81‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪76‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬مرجع سابق ص ‪70‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪347‬‬
‫‪� - 5‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪365‬‬
‫‪� - 6‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪56‬‬
‫‪� - 7‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪58‬‬
‫‪� - 8‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪74‬‬
‫‪� - 9‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪80‬‬
‫‪138‬‬
‫حصل اتفاق الر أ�ي بين سكان المدينة وهذا الاتفاق هو "مح ّبة مدينة"(((‪� ،‬إذ �إن كل ما‬ ‫تُ ِّ‬
‫يقوله الناموس يقصد خير الجميع �أو خير ال�أفاضل والسادة‪ ،‬ولذا يقول �أرسطو �إن "ال�أشياء‬
‫الناموسية عادلة بنوع ما"(((‪ ،‬لذا يحرص عليها �أرسطو كثيرا فيجعل وضع النواميس جزءا‬
‫من الصناعة المدنية(((‪ ،‬ويؤكد �أن الغرض الذي يؤمه واضعو النواميس هو تعويد �أهل‬
‫المدينة على فعل الخير ليجعلوهم �أخيارا(((‪ ،‬وهذا الغرض والقصد يشترك فيه واضعو‬
‫النواميس مع �أصحاب السلطة‪� ،‬إلا �أن واضعي النواميس ينفصلون عن هؤلاء ب�أمر بين‬
‫هو �أن واضعي النواميس همهم الكليات‪ ،‬و�إدارة المدينة تحتفل بالجزئيات‪ ،‬وهم بذلك‬
‫يتكاملون؛‬
‫�إن الخاصية الدائمة للنواميس �أنها عامة‪ ،‬ومن هنا ف�إن عقلية واضعي النواميس تختلف‬
‫عن عقلية ال�إ دارة ل�أن واضع الناموس همه البحث في الكليات‪ ،‬في حين �أن ال�إ دارة تهتم‬
‫بتفاصيل ال�أمور وجزئياتها ل�أنها وحدها تقوم بالعمل(((‪ ،‬ويظهر تكاملهم في �أن الناموس لا‬
‫يستوعب‪ ،‬عادة‪ ،‬الجزئيات جميعها ل�أنه لا ي�أخذ في الاعتبار �إلا ال�أحوال ال�أكثر شيوعا‪،‬‬
‫في حين �أن هناك حالات معينة لا يستطيع الناموس �أن ينطبق عليها بدقة‪ ،‬بل هناك‬
‫"�أحوالا نوعية يستحيل وضع قانون لها" ل�أنه "لا يمكن فيها وضع صيغة عامة" وهو �أمر‬
‫سب ُبها "طبيعة ال�أشياء‪ ،‬ل�أن مادة ال�أشياء العملية هي في جوهرها‬
‫يمكن �أن يوقع في �أخطاء َ‬
‫نفسه ذات طابع غير منتظم"‪ .‬ومن هنا "ف�إذا وضع الناموس قاعدة عامة ثم جرت حالة‬
‫خارج القاعدة العامة فيحق للمرء[‪�]...‬أن يصحح ما �أغفله [المشرع]"‪ .‬وهذا المصحح‬
‫يسميه �أرسطو بـ"المنصف" و"مصحح العدالة الناموسية"(((‪ ،‬وهو �إلى الاهتمام بالتفاصيل‬
‫والجزئيات �أقرب ل�أنه �أعرف بها‪ .‬من هنا �أيضا يتميز واضع النواميس عن �إدارة المدينة‬
‫بخصلة لا توجد عند هذا "المنصف" وهي خصلة "الروية"‪ ،‬فهذه الخصلة لا تكون في‬
‫ال�أمور الجزئية لـ "�أن هذه ال�أشياء �إنما تدرك بالحس ف�إن روى فيها مرت �إلى ما لا نهاية"(((‪.‬‬
‫�إن غاية واضعي النواميس هي صلاح المدينة‪ ،‬والروية لا تكون في غايات ال�أمور و�إنما في‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪318‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪175‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪360‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪86‬‬
‫‪� - 5‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪219‬‬
‫‪� - 6‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪202‬‬
‫‪� - 7‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪116‬‬
‫‪139‬‬
‫(((‬
‫الطرائق وال�أساليب التي تؤدي �إلى هذه الغايات‪ ،‬للفحص عن الطرائق ال�أسهل وال�أجود‬
‫في بلوغ هذه الغايات الكبيرة التي �أنيط بواضعي النواميس بلوغها‪ ،‬والتي تقوم السلطة‬
‫بالسهر على تطبيقها‪� ،‬أو تصحيحها‪ ،‬وتفسيرها‪� ،‬أو وضع مراسيم لما تعذر �إيجاد نواميس‬
‫له‪ .‬وهذا التمييز بين واضعي السنن وبين ال�إ دارة يوضحه �أرسطو في كتاب السياسة‪� ،‬إذ‬
‫�إن السلطة العليا في المدينة يجب �أن تكون "للشرع القويم الوضع"‪� ،‬أي يكون خاضعا‬
‫للنواميس التي يضعها واضعو النواميس‪� .‬أما صاحب السلطة فـ "لا يتصرف كسلطة عليا‬
‫�إلا في ال�أمور التي لا تستطيع الشرائع �أن تضبطها ضبطا دقيقا"(((‪ ،‬وهو يعتني بالفضيلة‬
‫عناية كبيرة "ل�أن وكده و�إرادته �أن يجعل �أهل المدينة خيارا �أو منقادين للنواميس"(((‪� .‬إن‬
‫�إدارة المدينة تتدخل مباشرة في تربية الناس على الشرائع وهو �أمر يمكن لواضعي النواميس‬
‫�أن يقوموا به �أيضا‪ ،‬حسب ما يفهم من كلام �أرسطو‪� ،‬إذ �إن واضعي النواميس عنده يعاقبون‬
‫ويجلون‪ ،‬فهم يعاقبون من يفعل الرداءة‪ ،‬ويجلون من يفعل ال�أمور الجميلة ليحثوا على‬
‫محاسن ال�أفعال ويردعوا عن قبيحها(((‪ ،‬فك�أن واضعي النواميس يشاركون ال�إ دارة في متابعة‬
‫تطبيقها كما تشارك ال�إ دارة واضعي النواميس في وضع مراسيم لل�أشياء التي تند عن وضع‬
‫قانون عام لها‪ ،‬وجميعهم يؤم خير المدينة وسعادتها‪.‬‬
‫تعتبر ال�أخلاق عند �أرسطو جزءا من النسيج السياسي للدولة‪ ،‬وهو ما نجد التعبير‬
‫الواضح عنه في كتابه "في السياسة"‪ ،‬فالدولة عند �أرسطو هي شَ رِكة‪ ،‬والنّاس عندما ي�أتلفون‬
‫فهم لا يفعلون ذلك لمجرد �أي عيش و�إنما يفعلونه من �أجل "عيش فاضل"‪ ،‬فالمجتمع‬
‫المدني عند �أرسطو لا يبتغى منه مجرد الت�آلف و�إنما يبتغى منه صالح ال�أعمال(((‪ .‬لهذا‬
‫السبب ُيكثر واضعو النواميس النظر في الفضائل والرذائل المدنية من �أجل "سن شرائع‬
‫صالحة"(((‪ .‬وهذا التكوين ال�أخلاقي لسياسة المدينة هو ما يوجز �أرسطو التعبير عنه بقوله‪:‬‬
‫"الدولة شركة حياة فاضلة" جاعلا الحياة الفاضلة الغاية التي تنشدها الدولة(((‪ ،‬وجاعلا‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪115‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬نقله من ال�أصل اليوناني �إلى العربية وقدم له وعلق عليه ال�أب �أوغسطينس برباره البولسي‬
‫الطبعة الثانية اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع ‪ 1980‬ص‪148‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪80‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪119‬‬
‫‪� - 5‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪141‬‬
‫‪� - 6‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪139‬‬
‫‪� - 7‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪141‬‬
‫‪140‬‬
‫من واجبات الدولة العناية بالفضيلة لجعل المواطنين "من �أهل الصلاح والعدل"(((‪ .‬فالحياة‬
‫المنشودة في الحياة التي تشرف الفضيلة على سيرها‪ ،‬سواء كانت هذه الحياة حياة �أفراد‪،‬‬
‫�أم حياة دولة(((‪ .‬وما يثير عند �أرسطو في هذا الش�أن هو �أنه يجعل ال�أسلوب والمبادئ التي‬
‫ُيبنى بها الرجل الفاضل هي نفسها التي يمكن تنشئة الدولة الفاضلة بها(((‪ ،‬وهو جسر عميق‬
‫بين ال�أخلاق التي وكدها الاهتمام بالفرد‪ ،‬وبين السياسة التي تسعى �إلى الاهتمام بطرق‬
‫تربية الفرد لتصنع بها حياة الدولة؛ �إذ للدولة‪ ،‬عند �أرسطو‪ ،‬حياة‪ ،‬وحياتها هي السياسة‪،‬‬
‫لكن هذه الحياة لابد �أن تكون فاضلة‪ .‬لكن �أين تتجلى فضيلة الدولة عند �أرسطو؟‬
‫�إن فضيلة الدولة‪ ،‬كفضيلة الفرد‪ ،‬هي الاعتدال(((‪ .‬ومن هنا يعرف �أرسطو الحياة‬
‫الفاضلة ب�أنها الحياة المعتدلة‪ ،‬ويصف خير السياسات ب�أنها السياسة المعتدلة(((‪ .‬لكن‬
‫الاعتدال في السياسة يتجسد عندما تحكم الطبقة الوسطى‪ ،‬فحكم هذه الطبقة هو الحكم‬
‫المعتدل‪ ،‬وهو خير حكم سياسي عند �أرسطو(((‪ .‬وينحرف الحكم عن مهيع العدل عندما‬
‫يخطئ الحكا َم الانسجام مع الفضيلة انسجاما صالحا(((‪ ،‬ومن هنا ت�أكيد �أرسطو �أن خير‬
‫ال�أخلاق هي دوما علة خير السياسات‪ ،‬و�أن ال�أخلاق �إذ تنشئ السياسات ف�إنها تعمل‬
‫�أيضا على صيانتها(((‪.‬‬
‫�إن هذه العلاقة التي �أقام �أرسطو بين ال�أخلاق والسياسة ستقود خطى ابن رشد في‬
‫النظر �إلى العلم المدني كما درج على تسميته الفلاسفة المسلمون‪ ،‬فالمنحى العام الذي‬
‫�أ ّسسه كتاب ال�أخلاق للنظر �إلى العلم السياسي‪ ،‬وهو الكتاب الذي حظي بعناية من ابن‬
‫رشد حين قدم تلخيصا له لا يزال مفقودا‪ ،‬سيقرب به ابن رشد القضايا ال�أخلاقية كما‬
‫ُعرضت في نيقوماخيا‪ ،‬والقضايا السياسية ‪ -‬ال�أخلاقية كما عرضت في كتاب الجمهورية‪.‬‬
‫فعند النظر‪� ،‬إلى طبيعة النظر ال�أخلاقي ‪ -‬السياسي عند كل من �أفلاطون و�أرسطو نجد‬
‫مس�ألة �أساسية تعتبر الجامع بينهما وتتجلى في جعل البؤرة ال�أخلاقية المحور ال�أساس في‬
‫تفكيرهما‪ ،‬فهما معا يركزان على الفضيلة ويعتبران ال�أخلاق علة خير السياسات‪ .‬فمن‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪140 - 139‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪354‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪175‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪212‬‬
‫‪� - 5‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪241‬‬
‫‪� - 6‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪216 ،‬‬
‫‪� - 7‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص ‪271 272-‬‬
‫‪ - 8‬ارسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪319‬‬
‫‪141‬‬
‫هذا المنظور الجمع بينهما قريب وممكن‪ ،‬وبخاصة أ�ن أ�رسطو في أ�خلاقياته يثمن في‬
‫�أحايين كثيرة قول �أستاذه �أفلاطون وينقل عنه(((‪ .‬وهو يعتبر �أفلاطون صديقا له مما يشي‬
‫بعمق الت�أثير الذي تركه فيه في �أخلاقياته‪ ،‬و�إن لم تحل بينه هذه الصداقة من �إيثار الحق‬
‫على �أفلاطون حين يستدعي المقام ذلك(((‪ ،‬وهو ال�أمر الذي يبدو كثيرا ‪-‬فيما يخص مقامنا‬
‫هذا‪ -‬في المجال السياسي ‪ -‬ال�أخلاقي‪.‬‬
‫لكن رغم هذه النظرة الواحدة �إلى الفضيلة ال�أخلاقية باعتبارها غاية الفرد والمدينة‪،‬‬
‫ف�إن �أفلاطون يعتبر علمي السياسة وال�أخلاق علمين منفصلين‪� ،‬أما �أرسطو فيرى �إن كان من‬
‫الناحية المنهجية تخصيص الخير ال�أعظم للمدينة والخير ال�أعظم للفرد بدراسات منفصلة‬
‫�أمرا معقولا‪ ،‬ف�إن ال ِعلمين يشكلان في الحقيقة واحد عنده‪ ،‬ل�أن المدينة جهاز �أخلاقي‬
‫مزود بضمير‪� .‬إن علم ال�أخلاق عند �أرسطو مواز لعلم السياسة وهو يشكلان بحثا واحدا‬
‫عنده عكس ما ذهب �إليه �أفلاطون(((‪.‬‬
‫�أفاد �أرسطو من �أفلاطون‪ ،‬فهو يثمن عرضه الحاذق في الجمهورية للعناصر التي تت�ألف‬
‫منها الدولة و�إن كان ي�أخذ عليه �أنه لم يعطها حقها من التعمق‪ ،‬ال�أمر الذي ترتب عنه‬
‫�أنه جعل نش�أة الدولة لديه ك�أنما "لسد ضرورات العيش وليس بال�أحرى ل�أجل الفضيلة‬
‫والكمال الروحي"(((‪ .‬ومن هنا ُي َطعم �أرسطو الفئات التي اقترحها �أفلاطون لنش�أة الدولة‬
‫بفئات �أخرى تتقدمها في الترتيب‪ ،‬ويدمج فئة المحاربين التي لا يجعلها �أفلاطون قسما‬
‫من الدولة �إلا عند حالة الحرب‪ ،‬ومن هذه الفئات‪ :‬القائمين على العدالة والقضاء‪ ،‬طبقة‬
‫المستشيرين‪ ،‬طبقة المحاربين‪ ،‬طبقة الموسرين‪ ،‬طبقة الحكام(((‪.‬‬
‫كما جترى �أرسطو �أفلاطون في نظرته �إلى ال�أحكام السياسية و�إن كان اعتباره غير‬
‫اعتبار �أفلاطون‪ ،‬ف�أرسطو‪ ،‬مثل �أفلاطون‪ ،‬يرى �أن الحكم الطغياني �أسو�أ الانحرافات‬
‫السياسية‪ ،‬ويليه في الابتعاد عن السياسة الفاضلة حكم ال�أقلية‪� ،‬أما "�أكثر الانحرافات‬
‫السياسية اعتدالا [عنده] فهو الحكم الشعبي"‪ ،‬لكن �أفلاطون يرى �أن هذا الحكم الشعبي‬
‫هو فعلا �أحط ال�أحكام �إن كانت ال�أحكام ال�أخرى جيدة‪ ،‬ولكنه �أفضل ال�أحكام �إن كانت‬
‫‪� - 1‬أنظر مثلا كتاب ال�أخلاق ‪ :‬صص‪334 - 176 - 89‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬ال�أخلاق‪ ،‬ص‪61‬‬
‫‪ - 3‬جان شوفالييه تاريخ الفكر السياسي ص‪79‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪190‬‬
‫‪� - 5‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص ‪191 - 190‬‬
‫‪142‬‬
‫كلها سيئة‪ .‬لكن أ�رسطو‪ ،‬مختلفا عن أ�فلاطون‪ ،‬يرى أ�ن ال�أحكام الثلاثة كلها مخطئة‬
‫�إطلاقا‪ ،‬ولا يصح القول �إلا �أن �أحد ال�أحكام ال�أقلية �أقل فسادا من ال�آخر(((‪.‬‬
‫هناك فروقات كثيرة بين �أرسطو و�أفلاطون؛ منها �أن �أفلاطون يعادي البحر في حين‬
‫�أن �أرسطو يحبذ القرب منه(((‪ .‬كما �أن �أرسطو يستبعد التخصص الوظيفي الصارم في‬
‫"الجمهورية"(((‪ ،‬ويظهر �أقل ارتباطا بالقوانين المكتوبة من �أستاذه �أفلاطون‪ ،‬و�أكثر ارتباطا‬
‫بالمساواة‪ ،‬ف�إذا كان �أفلاطون يخص الفيلسوف بالحكم ف�إن �أرسطو‪ ،‬فيلسوف المساواة‬
‫السياسية‪ ،‬لا يرى مانعا من �أن يلي الحكم جميع المواطنين(((‪� .‬إن �أرسطو لا يعتقد‬
‫�أن للحاكم الحق �أن يتخذ قرارات فردية في تسيير شؤون الحكم كما يعتقد �أفلاطون‪،‬‬
‫وذلك ل�أن الحاكم عند �أرسطو مقيد بقانون عام‪ ،‬وتوجد مساواة تامة بينه وبين بقية‬
‫�أفراد مجتمعه‪ .‬في حين يضع �أفلاطون الثقة كاملة في الحاكم الفيلسوف الذي يقرر‬
‫ما يراه مفيدا وينظم �أمور الدولة حسب الخطة التي توافق وجهات نظره‪ ،‬ل�أنه يعتقد �أنه‬
‫�أدرى الناس بما يحتاجه ال�أفراد‪ ،‬بينما يشعر �أرسطو �أن نظام الحكم على الدستور �أحسن‬
‫نظام تسير بمقتضاه الدولة حيث يكفل لها صفة الدوام والاستقرار ولا يرتبط بقاء النظام‬
‫السياسي ببقاء حاكم معين في الحكم(((‪� .‬أما فضيلة الرجل والمر�أة عند �أفلاطون فهي‬
‫واحدة بعينها عكس �أرسطو الذي يرى "�أن عفة المر�أة غير عفة الرجل‪ ،‬و�أن الشجاعة‬
‫والعدل يختلفان فيهما"(((‪.‬‬
‫لكن �أهم ما ينتقد فيه �أرسطو �أستاذه �أفلاطون ما ذهب �إليه هذا ال�أخير من قول‬
‫بالشيوعية‪ ،‬ومن قوله في الانقلابات السياسية؛‬
‫‪ -‬يعتقد �أفلاطون �أن الدولة يجب �أن تكون واحدة‪ ،‬باعتبار "�أن تلك الوحدة [‪]...‬‬
‫هي �أسمى الخيرات"‪ ،‬ومن هنا انتصاره لشيوعية النساء وال�أموال‪ ،‬لكن �أرسطو يرى �أن‬
‫هذه الشيوعية "�أعجز من �أن تؤدي �إلى الغاية التي يعينها [�أفلاطون ‪ ]...‬لكل دولة"‪� ،‬إذ‬
‫�إن "الدولة �إذا تجاوزت الوحدة الم�ألوفة �إلى وحدة �أتم لا تعود دولة‪ ،‬ل�أن الدولة جمهرة‬
‫ما‪ ،‬ف�إن �أضحت كاملة الوحدة تحولت من دولة �إلى �أسرة ومن �أسرة �إلى فرد"‪� .‬إن‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪183‬‬
‫‪ - 2‬جان جان شوفلييه‪ ،‬تاريخ الفكر السياسي ص‪93‬‬
‫‪ - 3‬جان شوفلييه‪ ،‬تاريخ الفكر السياسي ص‪94‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪50‬‬
‫‪ - 5‬د‪.‬محمد نصر مهنا‪ ،‬علم السياسة‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة صص‪103 - 102‬‬
‫‪� - 6‬أرسطو‪ ،‬في السياسة ص‪40‬‬
‫‪143‬‬
‫الحرص على وحدة الدولة على هذا الشكل‪ ،‬عند �أرسطو‪ ،‬فيه �إتلاف للدولة‪ ،‬ل�أن الدولة‬
‫لا تت�آلف من �أناس كثيرين �أشباه ونظائر‪ ،‬و�إنما من �أناس مختلفين بنوعهم"(((‪� .‬إن الوحدة‬
‫التي يثمنها �أرسطو هي الوحدة التي تنش�أ عن المساواة في التكافؤ‪ ،‬فهذه هي الوحدة‬
‫التي تصون الدولة لديه‪� ،‬إنها الوحدة التي تتفق �أن يلي الحكم المواطنون جميعهم(((‪،‬‬
‫وليس الوحدة المفرطة التي يدعو �إليها �أفلاطون والتي رام من خلالها توحيد الدولة من‬
‫اقتراحه لشيوعية النساء وال�أموال‪ .‬فهذه الشيوعية‪ ،‬عنده‪ ،‬تضعف �أواصر المودة وتسبب‬
‫في تلاشيها �إذا شاعت النساء وال�أولاد‪ ،‬في حين �أن "المودة �أكبر الخيرات التي قد تحصل‬
‫عليها الدول‪� ،‬إذ يندر �أن تقع فيها ثورات‪ ،‬عندما تربط �أواصر المودة �أهلها"(((‪ .‬كما �أن‬
‫هذه الشيوعية تمنع‪ ،‬عند �أرسطو‪ ،‬فضيلتين؛ فضيلة العفة وفضيلة الجود‪� :‬أما فضيلة العفة‬
‫فتتعلق بالنساء‪� ،‬إذ فعل هذه الفضيلة �أن يتعفف المرء عن امر�أة غريبه‪ .‬و�أما فعل الجود‬
‫فيتعلق بالمقتنيات ل�أنه لا تعطى للمرء فرصة ليظهر الكرم والسخاء "ل�أن �أفعال السخاء في‬
‫استعمال المقتنيات الخاصة"(((‪.‬‬
‫�إن الاهتمام الضمني بالوحدة المدنية قوي جدا في الجمهورية(((‪ ،‬لكنها ليست وحدة‬
‫كاملة‪ ،‬فقد ر�أى �أرسطو في مظهرها المشاعي �إتلافا للدولة‪ ،‬وقضاء على المودة‪ ،‬بسبب‬
‫شيوع النساء وال�أولاد‪� ،‬إذ �إن البعض سيصل‪ ،‬رغم ما وضعه �أفلاطون من وسائط ليصدّهم‬
‫عن ذلك‪� ،‬إلى معرفة �إخوته وبنيه و�آبائه و�أمهاته من خلال التشابه فتضعف بينهم �أواصر‬
‫الصداقة(((‪ .‬في حين �أن المودة عند �أرسطو‪�" ،‬أكبر الخيرات التي قد تحصل عليها الدول‪،‬‬
‫�إذ يندر �أن تقع فيها الثورات عندما تربط �أواصر المودة �أهلها"(((‪ .‬لقد بين �أرسطو العيوب‬
‫الاجتماعية والسياسية وال�أدبية لما ذهب �إليه �أفلاطون من قول بالشيوعية‪ ،‬فكان هذا �أبرز‬
‫خلاف سياسي بينهما‪.‬‬
‫‪ -‬هناك خلاف �آخر يبرزه �أرسطو في كتابه في "في السياسة" وهو خلافه معه حول‬
‫منطق التحولات السياسية؛ �إن �أفلاطون‪ ،‬حسب �أرسطو‪ ،‬لا يجيد الكلام في الانقلابات‬
‫السياسية‪ ،‬عندما يرد سببها �إلى "عدم استقرار ال�أمور‪ ،‬وتح ّول كل شيء عقب حقبة‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص ‪49 - 48‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬في السياسة ص‪50‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص ص‪ 55‬وص‪54‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪59‬‬
‫‪ - 5‬جان شوفلييه‪ ،‬تاريخ الفكر السياسي ص‪61‬‬
‫‪� - 6‬أرسطو‪ ،‬في السياسة ص‪ 53‬وص‪54‬‬
‫‪� - 7‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪55‬‬
‫‪144‬‬
‫معينة من الزمن" عندما تنشئ الطبيعة‪ ،‬في نظر أ�فلاطون‪ ،‬تارة �أناسا غير قابلين للتربية‪،‬‬
‫وتارة �أناسا صالحين لها‪ .‬لا يجد �أرسطو حرجا في قبول هذا القول‪� ،‬إذ يحتمل عنده‬
‫"�أن يقوم �أناس لا يمكن تهذيبهم ويستحيل �أن يمسوا �أهل فضل وصلاح"((( فيخلفون‬
‫في الحكم �أهل الصلاح فيفسدون �أصول السياسة ويحولونها من حكم صالح �إلى حكم‬
‫فاسد‪� .‬إن هذا الذي يقبله �أرسطو كاحتمال يعتبره �أفلاطون المنطق ال�أساس لتحول وتبدل‬
‫ال�أحكام السياسية‪ ،‬وبخاصة السياسة الفاضلة‪ ،‬وهو ال�أمر الذي يطرح حوله �أرسطو تساؤلا‬
‫استنكاريا‪" :‬لماذا يكون عدم الاستقرار هذا علة انقلاب خاص بما يسميه سقراط السياسة‬
‫المثلى‪ ،‬دون سائر السياسات ال�أخرى‪ ،‬لا بل دون سائر ال�أحوال"؟(((‪ ،‬فضلا عن ذلك‪،‬‬
‫ف�إن �أرسطو لا يتفق مع الطرح ال�أفلاطوني في منطقه الذي يتابع فيه هذا التحول‪ ،‬ف�إذا‬
‫كان �أفلاطون يرى �أن السياسة تتحول من الحكم الفاضل �إلى حكم ال�أقلية‪ ،‬ومن حكم‬
‫ال�أقلية �إلى الحكم الشعبي ومن الحكم الشعبي �إلى الحكم الطغياني‪ ،‬ف�إن �أرسطو يرى في‬
‫تحول السياسات اتجاها �آخر فـ"تحول السياسة من الحكم الشعبي �إلى حكم ال�أقلية �أكثر‬
‫وقوعا من تحولها �إلى الحكم الفردي"(((‪ .‬كما �أن �أفلاطون‪ ،‬حسب �أرسطو لا يتحدث‬
‫عن الطغياني هل يتحول �أولا‪ ،‬و�إذا تحول فما علة التحول وما الشكل من الحكم الذي‬
‫يتحول �إليه؟ بل �إن �أرسطو ينتقد �أفلاطون الذي قال باستحالة الحكم الطغياني �إلى الشكل‬
‫السياسي ال�أول وال�أفضل‪� ،‬إذ �إن هذا يؤدي‪ ،‬حسب هذا المنطق‪� ،‬إلى �أن "يحدث اتصال‬
‫بين الانقلابات‪ ،‬فتكون دائرة تامة"‪ ،‬في حين �أن الطغيان‪ ،‬حسب الواقع التاريخي الذي‬
‫يقدمه �أرسطو‪ ،‬يستحيل �إلى طغيان‪ ،‬ويتحول الطغيان �إلى حكم �أقلية‪ ،‬ويتحول �إلى حكم‬
‫شعبي‪ ،‬ويتحول �إلى حكم �أعيان(((‪ ،‬وك�أن ليس هناك منطق ثابت لهذا التحول كما يريده‬
‫له �أفلاطون‪� .‬إن �أفلاطون‪ ،‬حسب �أرسطو‪ ،‬يقف عند سبب واحد يحكم منطق تحول‬
‫الدول لديه هو الطيش والخلاعة واستهلاك ال�أموال بسبب �إمعانهم في الحرية‪ ،‬ال�أمر الذي‬
‫يؤدي بهم �إلى الفقر‪ .‬وهي دعوى �أفلاطونية تستند على فرضية خاطئة وهي �أن الجميع �أو‬
‫ال�أكثرية �أغنياء منذ البدء‪.‬‬
‫�أفرد �أرسطو �أستاذه �أفلاطون بعناية نقدية خاصة في كتابه "في السياسات" ووجه �إليه‬
‫كثيرا من الملاحظات‪ .‬ولعل الخلاف الكبير بينهما في هذا الصدد يكمن في اختلاف‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪312‬‬
‫‪� - 2‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪313‬‬
‫‪� - 3‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪313‬‬
‫‪� - 4‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص‪314‬‬
‫‪145‬‬
‫جهة نظريها �إلى السياسة‪� ،‬أحدهما ينظر �إليها من زاوية نظر يوتوبية‪� ،‬أما ال�آخر فيحرص‬
‫على النظر �إليها نظرة واقعية تاريخية‪ ،‬و�أبرز ما يمكن �أن نسوقه في هذا الصدد استغراب‬
‫�أرسطو من قول �أفلاطون �إن السياسة تستحيل �إلى حكم ال�أقلية بسب تعاطي �أهل الحكم‬
‫للتجارة في حين �أن الواقع التاريخي يرد ذلك عند �أرسطو‪ ،‬كما �أن �أفلاطون لا يلتفت‬
‫�إلى تعدد �أصناف حكم ال�أقلية‪ ،‬و�أصناف الحكم الشعبي‪ ،‬ولا يتحدث عن تحولها �إلا‬
‫على �أنها صنف واحد(((‪ ،‬مغفلا عن تجليات ال�أحكام السياسية في الواقع؛ ثم �إن �أول‬
‫ما يثير في التمييز بين �أفلاطون و�أرسطو كذلك هو طبيعة الكتابة في كل من الجمهورية‬
‫والسياسية‪ ،‬فالمقالات المنفصلة التي يت�ألف منها كتاب السياسة ل�أرسطو‪ ،‬والتي تم‬
‫جمعها بعد �أرسطو وتنسيقها بشكل غير كاف تصيب "قارئها بالتشوش والنفور [�أين منها]‬
‫اللذة التي وجدها في قراءة محاورة الجمهورية"(((‪.‬‬
‫المستوى الثاني ‪:‬‬
‫‪� -‬إن بين القول السياسي ال�أفلاطوني وال�أرسطي �أكثر من تباين واختلاف‪ ،‬بل و�أكثر‬
‫من تعارض في كثير من ال�أحيان‪ ،‬فكيف �أمكن لابن رشد الجمع بين �آراء الحكيمين؟‬
‫لا بد من ال�إ شارة �أولا �إلى �أن ابن رشد‪ ،‬على ال�أقل على حد تصريحه‪ ،‬لا يعرف‬
‫�أرسطو "السياسي"‪ ،‬وبالتالي يعسر �إيجاد "جمع" على غرار ما فعله �أبو نصر مع الحكيمين‪.‬‬
‫فالفارابي‪ ،‬على ال�أقل‪ ،‬كان يعرف معرفة كافية الرجلين!‪ ،‬وكان يعرف قصده من هذا‬
‫الجمع الذي تمحله‪� .‬أما ابن رشد وهو يجهل شطرا هاما من الجانب السياسي ال�أرسطي‪،‬‬
‫�إذا نحن اعتبرنا "تلخيص كتاب ال�أخلاق" و"تلخيص كتاب الخطابة" نوعا من الدراية‬
‫نصه السياسي سيكون‬ ‫بجانب مهم من سياسة �أرسطو‪ ،‬ف�إن تعامله مع الحكيمين في ّ‬
‫مختلفا‪ ،‬فابن رشد لن يصرح ب�أن غرضه من الكتاب هو "جمع" بين �أرسطو و�أفلاطون‪،‬‬
‫لكن المتفحص للنص السياسي الرشدي سيلمس ضربا خاصا من الجمع‪.‬‬
‫ُي ْقبل ابن رشد على الكتاب ال�أفلاطوني وهو مجهز بجهاز فلسفي قوي يوجد معينه في‬
‫الفلسفة ال�أرسطية‪ ،‬سيشكل هذا الجهاز "ع ْينا" له على نص �أفلاطون‪ ،‬فلا يسمح بمرور ما‬
‫لا يقبله الحس ال�أرسطي مما سيجعله يدمغ كثيرا من ال�آراء ب�أنها غير برهانية‪ ،‬وهو ضرب‬
‫من الوصاية المشائية التي سيمارسها ابن رشد على فكر �أفلاطون‪.‬‬
‫يقر�أ ابن رشد �أفلاطون قراءتين على ال�أقل؛‬
‫‪� - 1‬أرسطو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬ص ‪316‬‬
‫‪ - - 2‬جان شوفالييه‪ ،‬تاريخ الفكر السياسي ص‪76‬‬
‫‪146‬‬
‫‪ -‬قراءة نصية يتابع فيها �أقاويل �أفلاطون‪ ،‬ويلخص معانيها‪ .‬ومن هنا يمكن اعتبار كتابه‬
‫هذا نوعا من التلخيص؛ شرحا على المعنى‪ ،‬يؤم المقاصد الكبرى من النص ال�أفلاطوني‬
‫ومعانيه الكلية‪ ،‬كما هو التلاخيص‪.‬‬
‫‪� -‬أما القراءة ال�أخرى‪ ،‬المحايثة للقراءة ال�أولى‪ ،‬فهي قراءة ت�أويلية تهجم على النص‬
‫ال�أفلاطوني بعيون مختلفة؛ سيشكل �أرسطو عينا منها‪ ،‬لكننا سنجد عيونا �أخرى ترجع‬
‫�إلى الفارابي‪� ،‬إلى جالينوس‪� ،‬إلى المقاصد الكلية للشريعة‪� ،‬إلى الواقع السياسي ال�إ سلامي‪،‬‬
‫وهي جملة عوامل ستسهم في تشكيل القراءة الرشدية لهذا العمل المتميز ل�أفلاطون‪.‬‬
‫لهذا السبب سيتوسع مفهوم الجمع عندنا في قراءتنا لكتاب ابن رشد حيث سنقول‬
‫به‪ ،‬كما يقول القدماء‪ ،‬بتشكيك‪ ،‬يقال بتقديم على رفع التعارض‪ ،‬وهو المعنى الذي‬
‫نفترض �أنه ذو مرجعية فقهية‪ ،‬ويقال بت�أخير على "جمع المتفرق"‪ ،‬ونحن نستخدمه‬
‫بالمعنيين معا‪ ،‬و�إن كنا نشعر �أن المعطيات التي يمكن �أن تعضد المعنى ال�أول تظل‬
‫ضعيفة ل�أن ابن رشد لم يقصد �إلى "الجمع قصدا"‪ ،‬لكن ما يشفع لما قمنا به �أن هذه‬
‫الفرضية يمكن �أن تقدم نوعا من ال�إ ضاءة في فهم النص السياسي‪ .‬فما تجليات الجمع‬
‫في "الضروري في السياسة" الذي كتبه ابن رشد في العلم المدني؟ ‪:‬‬
‫الجمع لـ"رفع التعارض"‪.‬‬
‫‪ - 1‬يتجلى هذا الجمع في �أن ابن رشد يحكي �أقوالا سياسية ل�أرسطو نقلا عن الفارابي‬
‫�إما لتطعيم سياسة �أفلاطون‪� ،‬أو لتقييمها باعتبارها قولا مقابلا لقول �أفلاطون؛ وذكرهما معا‬
‫نوع من الجمع الغريب الذي يريده ابن رشد لعلمه السياسي‪� .‬إذ لو اعتبر قول �أفلاطون‬
‫هذا قولا غير علمي كان من المفروض �أن يحذفه انسجاما مع منهجيته في القراءة‪.‬‬
‫‪ - 2‬ثم �إن ابن رشد يشرح �أفلاطون ثم تجده يدمج في نسيج هذا الشرح موقفا مخالفا‬
‫ل�أرسطو وينتصر له‪ ،‬ونحن نعتبر هذا الاختراق ال�أرسطي لنسيج هذا الشرح الرشدي‬
‫لكتاب �أفلاطون ضربا من الجمع خاصة �أن ابن رشد يحرر ال�أدلة للر�أيين معا‪ ،‬كما يبدو‬
‫في انتصار ابن رشد لقول �أرسطو في العلاقة بين الفضائل والصنائع‪ .‬حيث ي�أخذ ابن‬
‫رشد بقول �أرسطو في �أن الفضائل استعدادات للصنائع والصنائع استعدادات للفضائل‪،‬‬
‫ويصدف عن مذهب �أفلاطون في �أن فضيلة الشجاعة غير مرتبطة بصناعة الحرب بعلاقة‬
‫استعداد‪ ،‬و�إنما العلاقة بينهما هي على جهة الاضطرار؛ فهي تساعد على الاستعداد‬
‫للحرب من �أجل وقاية المدينة مما يمكن �أن يروعها‪ ،‬في حين �أن �أرسطو يرى فضيلة‬
‫‪147‬‬
‫الشجاعة باعتبارها فضيلة معدّة �أصلا لصناعة الحرب انطلاقا من هذه العلاقة المتبادلة‬
‫بين الفضائل والصنائع(((‪.‬‬
‫‪ -3‬لم تكن الطريقة التي نظر بها ابن رشد �إلى النص ال�أفلاطوني‪ ،‬طريقة بريئة‪ ،‬فقد‬
‫لج�أ ابن رشد �إلى كتاب �أفلاطون وقر�أه بالعيون التي كان يقر�أ بها النص ال�أرسطي وبخاصة‬
‫فيما سمي"الجوامع"‪ ،‬فابن رشد لم يتتبع النص ال�أفلاطوني تتبعا حرفيا كما فعل مع بعض‬
‫النصوص ال�أرسطية و�إنما تدخل فيه بالحذف والتغيير؛ فمقالات �أفلاطون العشر �أصبحت‬
‫ثلاث مقالات فقط‪ ،‬وابن رشد يذكرنا بما فعله في جوامع ما بعد الطبيعة‪ ،‬عندما حذف‬
‫الكتاب الخامس منه‪ ،‬لكن حذفه لهذا الكتاب كان لاعتبارات تربوية فقط‪� ،‬أما ما حذفه‬
‫ابن رشد من كتاب �أفلاطون فكان لاعتبارات تتعلق بالنظر المنطقي كما يفهمه‪ ،‬فكما‬
‫حذف من بعض"الجوامع" ما اعتبره �أقاويل جدلية للمفسرين والشراح‪ ،‬ف�إنه في كتاب‬
‫�أفلاطون حذف مقالات بكاملها و�أجزاء من �أخرى باعتبارها لا تستجيب لسبارات القول‬
‫المنطقي البرهاني‪ ،‬كما حدّده �أرسطو‪ ،‬ثم التقليد المشائي من بعده‪ .‬فقراءات النص‬
‫ال�أفلاطوني بعيون �أرسطية نعتبره هنا نوعا من الجمع بين "المتفرق" في الفضاء الفلسفي‬
‫ال�إ سلامي‪ ،‬واعتبار سلطة �أرسطو فوق كل سلطة فلسفية عندما يتعذر الجمع‪.‬‬
‫‪ - 4‬يعرف �أفلاطون الفيلسوف ب�أنه الذي يطلب معرفة الوجود‪ ،‬الناظر في حقيقته‬
‫مجردا من الهيولى‪� .‬أما الفيلسوف عند �أرسطو فهو الذي جعل نظره في العلوم النظرية‬
‫على القصد ال�أول‪ ،‬على حسب شروط �أربعة عددت في كتاب البرهان؛ �أحدها �أن تكون‬
‫له القدرة على تعلمها(((‪ .‬وابن رشد يحتفظ بالر�أيين معا‪ ،‬وهو ما نعتبره نوعا من الجمع‪،‬‬
‫�إذ �إن التعريف ال�أفلاطوني ينطبق على جزء من النظر ال�أرسطي‪ ،‬وهو النّظر الميتافيزيقي‪.‬‬
‫‪ -5‬يبدو هذا الجمع‪� ،‬أيضا‪ ،‬في اعتبار ابن رشد المنطق فاتحة التعليم عند الفيلسوف‪،‬‬
‫مع احتفاظه ب�أهمية التعليم الرياضي كما يريده �أفلاطون‪ ،‬فجمع في التعليم بين ر�أيين‬
‫مختلفين لاعتبارات منطقية وفلسفية مشائية كذلك‪� .‬إن ابن رشد في نصه السياسي جمع‬
‫بين ما يعتبره منسجما والروح ال�أرسطية ‪ -‬المشائية وما وقف عليه العقل ال�أفلاطوني من‬
‫قول برهاني في �إدارة المدينة‪ .‬وضع ابن رشد التّرتيب ال�أرسطي في التّعليم بدل الترتيب‬
‫ال�أفلاطوني‪ ،‬وهو في هذا يجمع بين �أفضل ما في التّعليمين‪ ،‬فهو �إذ يحتفظ بالرياضيات‬
‫التي اعتبر �أفلاطون البداية بها �أفضل‪ ،‬ويغير مرتبتها �إلى الثانية ليبد�أ بالمنطق منتصرا ل�أرسطو‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة‪ ،‬صص ‪83 - 81‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪135‬‬
‫‪148‬‬
‫ولعلم ال�أدب‪ .‬فضلا عن تقديم مادة علمية شرعية تكون الجانب الناموسي في شخصية‬
‫ال�إ مام الذي هو الرئيس الفاضل للمدينة ال�إ سلامية‪ .‬فيجمع ابن رشد بين �أفلاطون و�أرسطو‪،‬‬
‫وبينهما والتقليد التعليمي ال�إ سلامي‪.‬‬
‫‪ - 6‬يرى �أفلاطون �أن التحول بين المدن ضروري؛ فانتقال مدينة �إلى مدينة �أخرى بعد‬
‫توفر عوامل هذا التحول هو ضربة لازب‪ ،‬ويستعين ابن رشد بقانون فلسفي �أرسطي يعتبر‬
‫�أن الضرورة لا تكون �إلا في ال�أمور الطبيعية ليخفف من غلواء هذا الزعم ال�أفلاطوني‪،‬‬
‫ُمنزلا منطق التحول من مستوى "الضرورة" �إلى مستوى "ال�أغلب"‪ .‬ونحن نعتبر ما فعله‬
‫ابن رشد هنا شكلا من الجمع بين موقفين‪ ،‬فابن رشد يحتفظ بمنطق التحول‪ ،‬ولكنه يراه‬
‫بعيون فلسفية �أرسطية باعتبار �أن ال�أغلب هو ما يقع في كثير من ال�أحيان‪.‬‬
‫"الجمع" بين �أفلاطون وجالينوس‬
‫يعتقد �أفلاطون �أن عدد الحفظة في المدينة الفاضلة �ألف مقاتل‪ ،‬ويعترض جالينوس‬
‫على ر�أي �أفلاطون باعتبار �أن تقدير �أفلاطون غير صحيح‪ ،‬وابن رشد يجمع بين الر�أيين‬
‫على �أساس �أن ر�أي �أفلاطون هو بحسب زمانه و�أمته‪ ،‬فهو بهذا المعنى ليس ر�أيا كليا لا‬
‫يقبل التغيير‪ ،‬وهو ما يسمح لابن رشد بالاحتفاظ بر�أيي الرجلين‪ ،‬ويجد لكل عذره(((‪.‬‬
‫جمع المتفرق �أو "الجمع"على طريق الاستظهار‬
‫‪� -1‬إقامة العلم السياسي ال�أفلاطوني على �أساس �أخلاقي �أرسطي‪.‬‬
‫يعتقد ابن رشد �أن صناعة السياسة قد كملت في عصره كباقي الصنائع‪ ،‬لذا قدمها‬
‫بمنهجه التّعليمي‪ ،‬وانتقائه الضروري‪ ،‬كما وجدها في كتاب �أفلاطون الجمهورية‪ .‬لكن هل‬
‫يشكل هذا الكتاب فعلا كمالا للقول السياسي‪ ،‬في حين لا يبلغ كتاب السياسة ل�أرسطو‬
‫ذلك الكمال‪ ،‬وهو الكتاب الذي افتقده ابن رشد‪ ،‬لكن تعذر عليه(((‪� ،‬أو كان يعرف �أن‬
‫�أرسطو لم يبلغ في القول السياسي ما بلغه في �أقاويله ال�أخرى من كمال‪ ،‬فرفع عنه الحرج؟‬
‫يظل القول في كمال القول السياسي في عصر ابن رشد بالمعلمين �أفلاطون و�أرسطو‪،‬‬
‫قولا معتبرا مع ذلك‪ .‬ف�أفلاطون قدم المادة السياسية في الجمهورية‪� ،‬أما �أرسطو فقدم‬
‫ال�أساس الفلسفي الذي يقوم عليه النظر السياسي‪ ،‬والممارسة السياسية‪ ،‬كما عرفها ابن‬
‫رشد عند �أفلاطون وعند جالينوس والفارابي‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪113‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪73‬‬
‫‪149‬‬
‫والدارس لكتاب "جوامع سياسة �أفلاطون" يجد �أن ابن رشد يستظهر ب�آراء �أرسطو من‬
‫�أجل تدعيم القول السياسي عند �أفلاطون‪ ،‬فما تفرق عند الحكيمين يحرص ابن رشد على‬
‫جمعه‪ ،‬ف�إذا كان العلم المدني سياسة و�أخلاق؛ سياسة �أفلاطونية و�أخلاق �أرسطية‪ ،‬ف�إن‬
‫الجزء ال�أول من العلم المدني لا يمكنه �أن يقوم‪ ،‬فضلا عن �أساسه ال�أخلاقي ال�أرسطي‪،‬‬
‫دون �أساس من علم طبيعي يجد مصادراته‪ ،‬على الخصوص‪ ،‬في كتاب النفس ل�أرسطو‪.‬‬
‫فما الوضعية المعرفية للعلم المدني عموما ولم يتجز�أ �إلى هذين العلمين؟‬
‫(((‬
‫يعتبر العلم المدني العلم العملي من الفلسفة؛ فهو يتميز عن العلوم الفلسفية النظرية‬
‫في �أن موضوعه هو ال�أفعال ال�إ رادية التي تصدر عن ال�إ نسان‪� ،‬أما مبادئه التي يقوم عليها‬
‫فمبد�آن؛ ال�إ رادة والاختيار‪ .‬و�إذا كان هذا العلم ينقسم �إلى علمين اثنين ف�إنه ليس بدعا في‬
‫ذلك‪� ،‬إذ بعض العلوم العملية ال�أخرى تنقسم �إلى نفس القسمة وبخاصة علم الطب الذي‬
‫يحلو لابن رشد مقارنة العلم المدني به كثيرا في كتابه السياسي‪� .‬إذ في العلم المدني‪،‬‬
‫مثل علم الطب‪ ،‬قسمان‪ :‬قسم �أبعد عن العمل‪ ،‬وقسم �أقرب �إلى العمل‪ .‬ذلك ما يعبر‬
‫عنه ابن رشد بقوله‪" :‬فما كان من ال�أمور العامة المستنبطة في هذا العلم �أكثر كلية كان‬
‫�أكثر بعدا عن العمل‪ ،‬وما كان منها �أقل كلية ازداد قربا‪ ،‬لكونها مستفادة مما هو عملي‪.‬‬
‫وكذلك ال�أمر في صناعة الطب‪ ،‬ولذلك سمي القسم ال�أول بالقسم النظري والقسم الثاني‬
‫بالقسم العملي"(((‪� .‬إذن فالعلم المدني‪ ،‬رغم كونه علما عمليا‪ ،‬قسمان‪ :‬قسم نظري‬
‫وقسم عملي؛ القسم النظري هو القسم الذي يحوي �أقاويل كلية بعيدة عن العمل وهو‬
‫ما يشتمل عليه علم ال�أخلاق‪ .‬والقسم العملي وهو الذي �أقاويله قريبة من العمل‪ ،‬وهو ما‬
‫يشتمل عليه العلم السياسي‪ .‬والعلاقة بين القسمين تتمثل في �أن القسم العملي تتبين فيه‬
‫ال�أشياء التي �إذا �أتت في ال�أمور الكلية [التي يقدمها علم ال�أخلاق] �أمكن لها �أن تفعل في‬
‫الباقي"‪ ،‬كما يقول ابن رشد‪ .‬يفحص العلم السياسي عن الكيفية التي ترسخ بها الملكات‬
‫في النفوس‪ ،‬وكيف تعمل ملكة في �أخرى(((‪ .‬وهي الملكات التي تم تعديدها في علم‬
‫ال�أخلاق؛ القسم النظري من العلم المدني‪.‬‬
‫‪ - 1‬يقارن ابن رشد بين العلم المدني والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة من حيث الموضوع والمبادئ؛ فموضوع‬
‫العلم الطبيعي ال�أشياء الطبيعية �أما مبدؤه فالطبع والطبيعة‪ .‬في حين �أن موضوع العلم ال�إ لهي ال�أمور ال�إ لهية ومبدؤها‬
‫الله سبحانه وتعالى ‪ .‬الضروري في السياسة ص ‪.72‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪73‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص ‪73‬‬
‫‪150‬‬
‫لكن كيف استطاع ابن رشد أ�ن يجمع بين الروح السياسية ال�أفلاطونية والروح‬
‫ال�أخلاقية ال�أرسطية في ممارسة علمية واحدة رغم تباين الممارسة العلمية عند الفيلسوفين؟‬
‫�إذا كانت الشقة الفلسفية بين الفيلسوفين تبعد كثيرا �أو قليلا في حديثهما الفلسفي‬
‫في الطبيعيات وال�إ لهيات‪ ،‬ف�إن حديثهما السياسي ال�أخلاقي يكاد يخرج من مشكاة علمية‬
‫واحدة‪ ،‬خاصة �أن بعض الدارسين تنبهوا �إلى �أن الروح ال�أفلاطونية تسكن كتاب ال�أخلاق‬
‫�إلى نيقوماخوس ال�أرسطي‪ .‬فقد كتب �أرسطو هذا الكتاب وبقية من ال�أفلاطونية لا تزال‬
‫فيه‪ .‬وهو ما يبدو �أنه انسجم مع العقلية السياسية ‪ -‬ال�أخلاقية لفيلسوف قرطبة‪ .‬من هنا‬
‫حرص ابن رشد �أن يقيم العلم السياسي كما قدمه �أفلاطون على �أساس من �أخلاق �أرسطية‬
‫وعلم نفس �أرسطي كذلك‪ .‬فكيف �أسس ابن رشد دعائم السياسة على هاذين العلمين‬
‫ال�أرسطيين؟‬
‫لا يمكن الحديث عن العلم السياسي عند ابن رشد دون الحديث عن الجانب‬
‫ال�أخلاقي الذي يشكل الجزء ال�أول من هذا العلم‪ ،‬وقد لخص ابن رشد كتاب ال�أخلاق‬
‫ل�أرسطو‪ ،‬ولم يخرج فيه عن �إطار المعلم ال�أول‪.‬‬
‫يشترك القول السياسي والقول ال�أخلاقي في نظرهما �إلى الفضائل؛ القول ال�أخلاقي‬
‫يعدد الفضائل ب�إطلاق ويحصيها‪� ،‬أما القول السياسي فيرشد �إلى شروط عمل الفضائل‬
‫وينبه �إلى طرق تعليمها وتثبيتها وكذلك �إلى سبل �إزالة الرذائل وقلعها من النفوس الشريرة‪،‬‬
‫كما ينبه �إلى الفضائل التي يكون فعلها �أكمل �إذا اجتمعت مع بعضها والفضائل التي يعوق‬
‫بعضها عمل البعض ال�آخر(((‪ .‬فهل يمكن القول �إن العلم المدني عند ابن رشد هو قول‬
‫في ال�أخلاق ليس غير؟ قسمه ال�أول بحث نظري في الفضائل ال�أخلاقية‪ ،‬وقسمه الثاني‬
‫نظر في كيفية اشتغال هذه الفضائل‪ ،‬ومن هنا تظل الفضيلة ال�أخلاقية الغاية ال�أولى للعلم‬
‫المدني‪� .‬إن السياسة هنا مغمورة في �أرضية �أخلاقية تنطلق منها لخدمتها من خلال مفهوم‬
‫التدبير‪ (((.‬ولذلك كانت سياسة المدينة عند ابن رشد "�أنسب للمتكهلين الذين يجمعون‬
‫بين العلوم النظرية والتجربة المكتسبة بطول العمر"(((‪� ،‬أي لهؤلاء الذين لهم معرفة نظرية‬
‫بالفضائل وخبرة الزمان في التربية عليها‪ .‬فما الفضائل التي ينظر �إليها القول ال�أخلاقي؟‬
‫وكيف يقدم القول السياسي �أدوات تثبيتها؟‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.78‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪.74‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪79‬‬
‫‪151‬‬
‫�إن البحث في �أخلاق النفس ضروري للسياسي لفهم �آليات الاشتغال السياسي‪� .‬إن‬
‫تباين السياسات مرتبط بتباين �أخلاق النفس‪ ،‬وعلاقة �أجزاء النفس ببعضها مر�آة لفهم‬
‫حالة المدينة؛ ف�إذا كانت �أجزاء المدينة لا يفضل بعضها بعضا كان الاجتماع ال�إ نساني‬
‫اجتماع �أحرار‪ ،‬و�إذا كانت �أجزاء النفس خاضعة للجزء الغضبى كان الاجتماع ال�إ نساني‬
‫هو الاجتماع الكرامي �أو الغضبي‪ ،‬و�إذا كانت النفس الشهوانية هي المهيمنة ف�إن الاجتماع‬
‫ال�إ نساني الفاضل يكون اجتماع يسار �أو شهوة‪� ،‬أما �إذا كان الجزء الناطق العملي من‬
‫النفس هو الذي له السيادة على جميع �أجزاء النفس ف�إن المدينة التي تنش�أ عن ذلك‬
‫هي المدينة الفاضلة التي يحكمها هذا الجزء العاقل من النفس(((‪ .‬من هذه الجهة يعتبر‬
‫علم النفس خادما للعلم السياسي‪ ،‬وسيفرد ابن رشد لهذه الخدمة‪ ،‬في كتابه‪ ،‬استطرادا‬
‫هاما يقيم فيه القول السياسي ال�أفلاطوني على دعائم طبيعية �أرسطية وهو ما نعتبره جمعا‬
‫للمتفرق‪ ،‬جمعا على طريق الاستظهار‪.‬‬
‫‪� -2‬إقامة العلم السياسي ال�أفلاطوني على �أساس من السيكولوجيا ال�أرسطية‪.‬‬
‫في مناسبة فريدة في "الضروري في السياسة" يجد ابن رشد نفسه مضطرا �إلى استطراد‬
‫مهم يخرج به �أبو الوليد عن النص ال�أفلاطوني في اتجاه ت�أسيس العلم المدني على علم‬
‫النفس ال�أرسطي الذي هو جزء من العلم الطبيعي(((‪ ،‬ومناسبة هذا الخروج هو الحديث عن‬
‫التعليم المناسب للفيلسوف‪� .‬إن الحديث عن البرنامج التعليمي الذي ينبغي للفيلسوف �أن‬
‫يخضع له يستدعي مفهوما فلسفيا مهما هو مفهوم "الغاية"‪� ،‬إذ هذا الحديث يقذف نحو‬
‫معرفة الغاية التي ينشدها الفيلسوف ‪-‬الحاكم من سياسته و�إدارته للمدينة‪ ،‬فمعرفة الغاية‬
‫من الحكم هو الذي سيفرض المنهج التعليمي المناسب‪ ،‬والفحص عن الغاية يستمد‬
‫ضرورته من "�أن من لا يعرف الغاية التي ينشدها فهو بالضرورة لا يقدر �أن يعرف ما‬
‫سينتهي �إليه"(((‪ .‬ورغم وعي ابن رشد ب�أن البحث في هذا المفهوم يتعلق بالجزء ال�أول من‬
‫العلم المدني‪� ،‬أي بمبحث ال�أخلاق ف�إنه سيخصص له حيزا في العلم السياسي مؤسسا‬
‫هذا المفهوم على �أساس سيكولوجي ‪� -‬أرسطي‪ .‬فكيف قدّم �أرسطو ل�أفلاطون ال�أساس‬
‫السيكولوجي الذي سيبني عليه ابن رشد الغاية من البرنامج التعليمي للفيلسوف؟‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪180‬‬
‫‪ - 2‬يقول ابن رشد ‪�" :‬إن النظر في �أمور النفس‪...‬هو من نظر صاحب العلم الطبيعي" مختصر النفس ص‪.80‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص ‪142‬‬
‫‪152‬‬
‫يصرح ابن رشد �أن نظره في الغاية سيكون نظرا طبيعيا‪ ،‬من هنا ت�أكيده �أن الغاية هي‬
‫قصد كل موجود طبيعي‪ ،‬وما دام ال�إ نسان كائنا طبيعيا فلابد �أن تكون له غاية ُخلق من‬
‫�أجلها‪ ،‬خاصة و�أنه �أشرف المخلوقات(((‪ .‬ويربط ابن رشد بين الغاية عند ال�إ نسان‪ ،‬وبين‬
‫كونه كائنا يعيش في مدينة‪� ،‬إذ �إن المدينة ضرورية لوجود ال�إ نسان‪ ،‬لذا فغايته "هي له من‬
‫جهة �أنه جزء من مدينة"‪ .‬فما غاية ال�إ نسان ومنتهى ما يطلبه(((؟ وما الغاية التي يجب �أن‬
‫يؤمها الفيلسوف من �إدارته للمدينة التي يحكمها؟‬
‫يقوم ابن رشد‪ ،‬قبل ال�إ جابة عن هذه السؤالين‪ ،‬ب�إحصاء الغايات المشهورة في زمانه‬
‫والتي يقصدها الناس لقضاء م�آربهم الشخصية؛ فهناك من الغايات ما هو ضروري مثل‬
‫حفظ الصحة وحمايتها‪ .‬وهناك من الغايات ما يكون على جهة ال�أفضل‪ .‬وهناك من يرى‬
‫الغاية في اليسار‪ .‬وهناك من يراها في الكرامة‪ .‬لكن هناك من يراها في اللذة؛ واللذات‬
‫�أنواع؛ فهناك من يراها في اللذات الحسية‪ ،‬وهناك من يراها في المعرفة العقلية‪ ،‬وهناك‬
‫من يراها في السيادة على الغير‪.‬‬
‫ويلتفت ابن رشد في هذا الموضع �إلى الشرائع المشهورة في زمانه �أيضا فيؤكد �أن‬
‫غاية ال�إ نسان فيما �أرادته ال�إ رادة ال�إ لهية لا يعرف �إلا بالنبوة‪ ،‬مؤكدا �أن قصد الشرائع‪ ،‬في‬
‫جزئيها العقدي والعبادي هو نفس ما تقصده الفلسفة‪ ،‬فالشريعة مبناها على �أن كل ما‬
‫يؤدي �إلى الغاية فهو خير وحسن و�أن كل ما يعوق الوصول �إليها فهو على عكس ذلك‪،‬‬
‫وهو نفس ما تنبني عليه الفلسفة عنده‪ .‬ويغتنمها ابن رشد فرصة لينتقد موقف المتكلمين‬
‫من الغاية ل�أن ت�أويلهم بالقول بالتحسين والتقبيح الوضعيين لا ينسجم ومقصد الشرع(((‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك ينتقل ابن رشد �إلى فحص �آراء الفلاسفة متسائلا عن الغاية‪ ،‬التي هي غاية في‬
‫الحقيقة؟ لكي يجيب ابن رشد عن هذا السؤال‪ ،‬يصادر على ما تبـيـن في العلم الطبيعي‬
‫لاشتراك العلم المدني والعلم الطبيعي في النظر �إلى العلة الغائية(((‪.‬‬
‫لقد تبين في العلم الطبيعي �أن الغاية هي كمال لجسم طبيعي‪ ،‬والعلم الطبيعي‬
‫ينظر في هذه الغاية ويقايس بينها وبين الكمالات ال�أخرى لعله يجد لها �أكثر من كمال‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.142‬‬
‫‪ - 2‬يعرف ابن رشد الغاية ب�أنها "منتهى الشيء"‪ .‬الضروري في السياسة ص ‪.143‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪.145‬‬
‫‪ - 4‬في جوامع السماع الطبيعي يقول ابن رشد "و�أما السبب الذي هو الغاية ففي وجوده شكوك قد تقصاها �أرسطو‪،‬‬
‫�إلا �أن يظهر عند الفحص �أن كل ما تفعله الطبيعة ف�إنها تفعله لمكان شيء ما‪ "...‬تح‪ .‬جوزيف بويج‪ ،‬المعهد‬
‫ال�إ سباني للثقافة ‪ -‬المجلس ال�أعلى للبحوث العلمية مدريد ‪ 1983‬ص‪.25‬‬
‫‪153‬‬
‫واحد(((‪ .‬وال�إ نسان لا توجد له الكمالات ال�إ نسانية تامة منذ البداية‪ ،‬فهذه الكمالات لا‬
‫توجد �إلا على شكل استعدادات‪ ،‬ولا يمكن للطبيعة‪ ،‬لقصورها‪� ،‬أن تقدم ما يكفي في‬
‫بلوغ هذه الكمالات‪ ،‬لذا لابد �أن يسلك ال�إ نسان‪� ،‬إذا هو �أراد �أن يبلغ كمالاته‪ ،‬سبيل‬
‫التعلم والمهارة‪ .‬فلا نصل �إلى الكمالات بالطبع و�إنما بال�إ رادة والاختيار‪ .‬ومن هذه الجهة‬
‫ف�إن صاحب العلم المدني ينظر في الغاية "من جهة �أن بلوغ الكمالات هو عن اختيار‬
‫(((‬
‫و�إرادة"‬
‫�أما السيكولوجي‪ ،‬وهو الرجل الذي يلتقي مع صاحب العلم المدني في النظر �إلى‬
‫الغاية‪ ،‬فينظر فيها نظرا خاصا يصادر على كثير منه المشتغل بالش�أن المدني؛ وسيقدم ابن‬
‫رشد خمس مصادرات سيكولوجية يستند عليها في الحديث عن الغاية في العلم المدني؛‬
‫�أولى هذه المصادرات‪� ،‬أن ال�إ نسان مركب من نفس وجسم؛ الجسم بمنزلة المادة‬
‫والنفس بمنزلة الصورة‪ ،‬والمادة من �أجل الصورة والصورة من �أجل ال�أفعال والانفعالات‬
‫الصادرة عنها‪ .‬وكمال ال�إ نسان وغايته �إنما ي�أتيان من ال�أفعال الصادرة عن النفس بالضرورة‪.‬‬
‫ثاني هذه المصادرات‪� ،‬أن �أفعال ال�إ نسان تنقسم �إلى �أفعال مشتركة و�أفعال خاصة؛‬
‫�أفعال يشترك فيها مع غيره من الموجودات الطبيعية وهذه ال�أفعال تصدر عن صور‬
‫مشتركة‪ ،‬و�أفعال خاصة به تصدر بالضرورة عن صور خاصة بال�إ نسان (((‪.‬‬
‫ثالث هذه المصادرات‪� ،‬أن ما يجمع ال�إ نسان بال�أجسام البسيطة هو قوة ليست نفسا‬
‫ولا �أفعالها ب�أفعال النفس وهي القوة الشهوانية‪� ،‬أما ما يجمع ال�إ نسان مع ال�أجسام المركبة‬
‫فهي نفس ضرورة‪ .‬وال�أجسام المركبة نوعان؛ نبات وحيوان‪ .‬وال�إ نسان يشترك مع النبات‬
‫في النفس الغاذية والنامية والتناسلية‪ ،‬وهو يشترك‪ ،‬مع الحيوان فضلا عن القوى السابقة‪،‬‬
‫في القوى الحاسة والمتخيلة‪ ،‬كما يشتركان في القوة النزوعية على نحو ويختلفان على‬
‫�أنحاء‪� .‬أما ما ينفرد به ال�إ نسان عن غيره من الكائنات فهو القوة العاقلة بجزئيها؛ العقل‬
‫العملي والعقل النظري‪.‬‬
‫رابع هذه المصادرات‪� ،‬أن علاقة الصور المشتركة بالصور الخاصة هي كعلاقة المادة‬
‫بالصورة‪� ،‬إذ تتنزل ال�أولى من الثانية منزلة المادة من الصورة‪ ،‬وال�إ نسان موجود من �أجل‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.145‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪146‬‬
‫‪- 3‬الضروري في السياسة ص‪.146‬‬
‫‪154‬‬
‫صورته الخاصة به‪ ،‬وهو �أمر مؤسس على "�أن كل موجود هو على ما هو عليه من قبل‬
‫صورته الخاصة به والتي عنها تصدر �أفعاله التي له"(((‪.‬‬
‫يستخلص ابن رشد من التسليم بهذه المصادرات ال�أربع �أن الحسن والقبح في �أفعال‬
‫ال�إ نسان �إنما يكون في �أفعاله الخاصة بالضرورة‪ ،‬لذا يحصل ال�إ نسان على سعادته عندما‬
‫تصدر �أفعاله الخاصة به عنه‪ ،‬وهي في غاية الخير والفضيلة‪ .‬ومن هنا يعرف ابن رشد‬
‫السعادة ب�أنها "فعل النفس الناطقة‪ ،‬فعل الفضيلة"(((‪.‬‬
‫خامس هذه المصادرات تتعلق بتعدد �أجزاء النفس الناطقة وهو ما يترتب عنه تعدد‬
‫في الفضائل وتعدد في الكمالات ال�إ نسانية؛ فقد تبين في علم النفس �أن النفس جزءان؛‬
‫ناطقة ِعلمية وناطقة َعملية‪ ،‬وكذلك الكمالات منها كمالات ِعلمية وكمالات َعملية‪،‬‬
‫وهذه الكمالات يحصيها ابن رشد مرة في ثلاث كمالات هي على التوالي؛ فضائل نظرية‬
‫وفضائل خلقية وصنائع عملية ومرة في �أربع كمالات حيث تضاف الفضائل العلمية‪.‬‬
‫وهذه الكمالات ال�إ نسانية المتعددة هي كمالات بعضها من �أجل بعض فهي كمالات‬
‫لموجود واحد(((‪ .‬وهذه الكمالات لا يمكن �أن تتحقق في جميع الناس‪� ،‬إنما لكل صنف‬
‫من الناس كمالهم الخاص به‪ ،‬و�إن كانت هناك كمالات مشتركة مثل العفة التي هي‬
‫فضيلة خلقية يشترك فيها جميع �أفراد المدينة‪ .‬وهذه العلاقات بين الكمالات وبين الناس‬
‫تستوجب تصنيف الناس انطلاقا من تصنيف الكمالات‪ ،‬ف�أدنى الفضائل هي من �أجل‬
‫�أسمى الفضائل‪ ،‬وهذا الترتيب هو ما يؤسس لل�إ جتماع ال�إ نساني عند ابن رشد‪� ،‬إذ لو كان‬
‫في �إمكان كل فرد �أن يحصل على الفضائل جميعها مع ضرورة حصولها عند كل شخص‬
‫بمن فيهم المخدوم والخادم والمسود والسيد لكانت الطبيعة تفعل باطلا‪� .‬إذ جميع هؤلاء‬
‫يصيرون سادة وهو ما يستحيل وقوعه‪ ،‬كما �أنه يستحيل �أن تحصل هذه الفضائل في �إنسان‬
‫واحد‪ ،‬لذا لابد �أن يكون كل صنف من الناس مستعد لصنف من �أصناف الكمالات‪.‬‬
‫ولابد من تحديد الفضيلة التي تكون جميع الفضائل من �أجلها والتي لا تكون هي من‬
‫�أجل فضيلة �أخرى‪ ،‬وبالتالي تكون هي الفضيلة المطلوبة لذاتها وغيرها مطلوب من �أجلها‬
‫فهذه الفضيلة هي الكمال ال�أسمى والسعادة القصوى‪ .‬فما السعادة القصوى التي يؤمها‬
‫ال�إ نسان في حياته؟ وكيف السبيل �إليها؟‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪.147‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ن‪.‬ص‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص ‪.148‬‬
‫‪155‬‬
‫�إن السعادة ال�إ نسانية هي ضرب من الكمال ال�إ نساني‪ ،‬ولا سبيل �إلى الوصول �إليها‬
‫عن طريق نهج سبيل الصنائع العملية‪ ،‬ل�أن وجود هذه الصنائع "هو من �أجل سد النقص‬
‫العارض لل�إ نسان"‪ ،‬من هنا فوجود هذا الصنائع بالنسبة لل�إ نسان ليس على جهة الكمال‪،‬‬
‫�إنما وجودها له من جهة الضرورة ل�أن ال�إ نسان لا يمكنه الحياة بدون صنائع‪.‬‬
‫�إن الكمال ال�إ نساني مرتبط بالجزء النظري في ال�إ نسان‪ ،‬فهذا الجزء هو في ال�إ نسان‬
‫من جهة ال�أفضل‪ ،‬وليس من جهة الضرورة كما هو ال�أمر مع الصنائع‪" ،‬وما وجوده على‬
‫ال�أفضل فهو �أفضل مما وجوده من �أجل الضرورة"‪ .‬ولما كانت الصنائع العملية مرتبطة‬
‫بالعقل العملي ل�أنها �إنما "وجدت لما يترتب عنها من �أفعالها‪ ،‬و�أفعالها وجدت للخلق"‪،‬‬
‫ف�إن وجود العقل العملي هو من �أجل العقل النظري‪ ،‬ويكون العقل النظري سيدا على‬
‫العقل العملي في نفس الفرد(((‪ .‬من هنا يؤكد ابن رشد �أن السيد هو الشخص المستعد‬
‫لقبول العلوم النظرية‪� ،‬أما المسود فهو من اكتفى بالصنائع العملية‪ .‬ستمكن هذه النتيجة‬
‫ابن رشد من �أن يقترح مع �أفلاطون برنامجا تعليميا مناسبا للفيلسوف عموده الفقري جملة‬
‫العلوم النظرية التي سبق و�أن كتب فيها �أرسطو؛ ابتداء بالمنطق مرورا بالعلم الطبيعي انتهاء‬
‫بالميتافيزيقا‪ .‬وهذه العلوم‪ ،‬فضلا عن علوم التعاليم وهو العلوم ال�أثيرة عند �أفلاطون‪ ،‬يعتبرها‬
‫ابن رشد ضرورية للحكم �أو للصناعة الرئيسية "صناعة سياسة المدن"(((‪.‬‬
‫�إن طريق السعادة هو طريق الفضائل النظرية وال�أخلاقية‪ ،‬والجزء النظري في الانسان‬
‫لا يوجد على كماله ال�أسمى في �أول ال�أمر‪� ،‬إن وجوده في الانسان �أولا هو وجود بالقوة‪،‬‬
‫وللحصول على الكمال ال�أسمى بالفعل‪ ،‬وهو الكمال الذي لا تشوبه قوة �أصلا‪ ،‬لابد من‬
‫تجنيد الاختيار وال�إ رادة‪ .‬وتشكل جميع الفضائل مقدمة للكمال النظري عند ابن رشد(((‪،‬‬
‫ولا يتمم ابن رشد مسار تحليله ليحدد لنا طبيعة هذه السعادة وطرائق الوصول �إليها‪،‬‬
‫و�إنما يكتفي بال�إ حالة على ما تبين في العلم الطبيعي((( في جانبه السيكولوجي ال�أرسطي‪،‬‬
‫حيث تم تفصيل القول في نظرية الاتصال‪ ،‬الطريق الملكي �إلى السعادة عند الفلاسفة‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫‪ - 1‬الضروري في السياسة صص ‪150-149‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪.154‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في السياسة ص‪155‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في السياسة ص ‪157‬‬
‫‪156‬‬
‫‪ - 3‬يحظر أ�فلاطون على أ�ي ساكن في المدينة أ�ن يملك ثروة يتصرف فيها كما‬
‫يشاء‪ ،‬ويستظهر ابن رشد بنيقوماخيا �أرسطو يبرز فيها فكرة علاقة العمل بالقيمة ويتحدث‬
‫عن العملة‪ ،‬وهي فكرة وجدت في كتاب ال�أخلاق ل�أرسطو ولم توجد عند �أفلاطون؛ ف�إذا‬
‫كانت المدن الفاضلة لا تحتاج �إلى العملة ف�إن حاجة المدن غير الفاضلة �إلى الذهب‬
‫والفضة ضرورية لصعوبة المعاملات من جهة‪ ،‬ول�أنها من جهة �أخرى نافعة كوسيلة في‬
‫�إيقاع تساوي العمل في ال�أمور التي يصعب تقدير حدوث التساوي فيها(((‪ ،‬فالذهب‬
‫والفضة بهذا المعنى "هما بالقوة كل ال�أشياء"(((‪ ،‬وهكذا يجمع بين ر�أيي �أفلاطون في عدم‬
‫الحاجة �إلى العملة والحاجة �إليها عند �أرسطو‪ ،‬و�إن كان‪ ،‬على ما يبدو‪� ،‬أقرب ما يكون‬
‫جمعا على طريق الاستظهار‪.‬‬
‫***‬
‫�إن العلاقة التي �أقامها ابن رشد بين �أفلاطون وبين المنظومة العلمية التي ورثها سواء‬
‫عن الثقافة الفلسفية التي يشكل �أرسطو قطبها ال�أكبر‪� ،‬أو عن ثقافته ال�إ سلامية ومعايشته‬
‫للتاريخ ال�إ سلامي سواء في خصوصيته التي تند عن التفسير ال�أفلاطوني �أو في ما هو‬
‫مشترك مما يمكن تفسيره وفق النظريات التي قدمها �أفلاطون في كتابه السياسي‪ ،‬كل‬
‫هذه المعطيات تحكّمت في قراءته للنص ال�أفلاطوني‪ .‬لقد قدّم ابن رشد ضربا من قراءة‬
‫"جمع" به بين ما تفرق في كتب مختلفة‪ ،‬مستلهما في ذلك تاريخ الفلسفة استلهاما ذكيا‬
‫�أجاب به عن �إشكالات عصره‪ .‬وهذا الذي فعله ابن رشد في "جوامع سياسة �أفلاطون"‪،‬‬
‫كليا �أو جزيئا‪ ،‬فعله في نصوص �أخرى بشكل �أكثر جلاء ووضوح كما لمسنا ذلك في‬
‫نصوص فلسفية سيكولوجية �أو منطقية �أو طبية �أو في نصوص فقهية‪ ،‬كما لمسنا ذلك في‬
‫"بداية المجتهد" على الخصوص والتي يبدو فيه مفهوم "الجمع" في �أجلى مظاهره‪ .‬وهو‬
‫ما يجرئنا على الزعم بوحدة العمل الرشدي‪ ،‬في الفلسفة والفقه على السواء‪ ،‬وفق هذا‬
‫المفهوم الفقهي الذي يلحم كثيرا من �أجزاء المتن الرشدي الممتد في التاريخ والمكان‬
‫والزمان‪ ،‬والذي يبدو فيه الفكر السياسي ال ّرشدي الموضع الممتاز الذي تتقاطع فيه‬
‫المفاصل الكبرى للمشروع الفلسفي الرشدي‪.‬‬

‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص ‪108‬‬


‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص‪.109‬‬
‫‪157‬‬
‫الباب الثالث‬
‫منزلة التأليف الفقهي من التأليف الفلسفي‬
‫عند ابن رشد‬
‫الفصل األول‬
‫أسس الكتابة الرشدية‬
‫لا حاجة بنا �إلى التذكير ب�أن ال�أعمال التي تركها ابن رشد هي في معظمها قراءات‬
‫ل�أعمال علمية �أخرى سواء تعلق ال�أمر ب�أصول الفقه الذي قر�أ فيه كتاب المستصفى ل�أبي‬
‫حامد‪ ،‬ف�أنتجت هذه القراءة كتاب "مختصر المستصفى"‪� ،‬أو تعلق ال�أمر بعلم الهيئة الذي‬
‫قر�أ فيه كتاب المجسطي لبطليموس ف�أنتجت هذه القراءة كتاب "مختصر المجسطي"‪،‬‬
‫�أو تعلق ال�أمر بالموسوعة الفلسفية ال�أرسطية التي لم يترك منها ابن رشد مؤلفا‪ ،‬خاصة في‬
‫المنطق والعلم الطبيعي وما بعد الطبيعة ‪-‬باستثناء كتاب السياسة‪� -‬إلا وقر�أه قراءات تختلف‬
‫بالجهة و�إن كانت واحدة بالجنس‪� ،‬أو تعلق ال�أمر بكتب جالينوس في الطب كذلك‪،‬‬
‫وغيرها من الكتب‪.‬‬
‫ولا شك �أن هناك قسمات عميقة تخترق هذه القراءات المختلفة‪ ،‬و�إن اختلف‬
‫التصنيف الذي �أراده ابن رشد لها‪ .‬هذه القسمات هي التي ندعوها هنا بمنطق القراءة‪.‬‬
‫بل �إننا نلاحظ �أن ما ندعوه بمنطق القراءة حكم كثيرا من الكتابات التي �أنش�أها ابن رشد‬
‫�إنشاء وكتبها لقراءة واقعه الثقافي وتصحيح �أوضاعه؛ �أقصد "بداية المجتهد" و"فصل‬
‫المقال" و"مناهج ال�أدلة"‪ ،‬و"تهافت الفلاسفة" وكذلك كتابه "الكليات في الطب"‪.‬‬
‫والحديث عن منطق رشدي في الكتابة والقراءة هو ر ٌّد بالعرض على هذه الكتابات‬
‫التي تريد �أن تنزع عن ابن رشد فضيلة الكتابة الفقهية‪� ،‬أو ترى عمله نشازا بين كتاباته‬
‫الفلسفية ((( ‪ .‬وسنحاول بيان �أن الكتابة الفقهية عند ابن رشد‪ ،‬مثلها مثل كثير من مظاهر‬
‫الكتابة الفلسفية‪ ،‬تكاد تخضع لنفس المنطق في القراءة والكتابة من خلال مفاهيم واحدة‬
‫تكاد تخترق كثيرا من �أجزاء المتن الرشدي لتخدم قصده في الكمال ال�إ نساني الذي كان‬
‫ينشده في المدينة ال�إ سلامية لمن هو �أهل له‪.‬‬
‫فهل يقدم المتن الرشدي نوعا من التجانس فعلا؟‪ ‬وعلى �أي �أساس يقوم منطق القراءة‬
‫والكتابة عند ابن رشد؟‬
‫يقوم هذا المنطق على �أساس وحدة مفهومية تخترق كثيرا من الت�آليف الرشدية‪ ،‬وهي‬
‫مفاهيم كبرى اشتغل عليها بعض الفقهاء الذين كان ابن رشد يث ّمن مذاهبهم الفقهية‪ ،‬مثل‬
‫‪ - 1‬انظر مقدمة هذه الدراسة ‪...‬‬
‫‪163‬‬
‫ابن عبد البر وابن رشد الجد‪ .‬من �أهم الكتب التي �أثارتنا في هذا الصدد كتاب الكافي‬
‫لابن عبد البر‪ ،‬ذلك الرجل الذي كان الحفيد يكن له تقديرا خاصا‪ ،‬وهو الكتاب الذي‬
‫قال عنه ابن حزم �إن عبد البر اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة �إليه‪ ،‬وبوبه‪ ،‬وقربه‪ ،‬فصار‬
‫مغنيا عن التصنيفات الطوال في معناه(((‪ ،‬وما يثير في هذا الكتاب هو خطبته التي تتميز‬
‫بغنى منهجي كبير لا نشك �أن ابن رشد انفعل بها واستلهمها استلهاما خاصا في مشروعه‬
‫العلمي ككل‪ ،‬وفي كتاب المجتهد على وجه خاص‪ ،‬و�إن كانت الخطبة في مجموعها‬
‫تعبر عن تقليد فقهي في الكتابة‪ .‬فماذا تقول هذه الخطبة؟‬
‫يقول ابن عبد البر‪:‬‬
‫"[‪�]...‬أما بعد ف�إن بعض �إخواننا من �أهل الطلب والعناية والرغبة في الزيادة من التعلم‬
‫س�ألني �أن �أجمع له كتابا مختصرا في الفقه يجمع المسائل التي هي �أصول و�أمهات‪ ،‬لما‬
‫يبنى عليها من الفروع والبينات في فوائد ال�أحكام ومعرفة الحلال والحرام‪ ،‬يكون جامعا‬
‫مه ّذبا وكافيا مقربا ومختصرا مبوبا يستذكر به عند الاشتغال وما يدرك ال�إ نسان من الملال‪،‬‬
‫ويكفي عن المؤلفات الطوال ويقوم مقام المذاكرة عند عدم المدارسة‪ .‬فر�أيت �أن �أجيبه‬
‫�إلى ذلك لما رجوت فيه من عون العالم المقتصر‪ ،‬ونفع الطالب المسترشد التماسا لثواب‬
‫الله عز وجل في تقريبه على من �أراده واعتمدت فيه على علم �أهل المدينة‪ ،‬وسلكت فيه‬
‫مسلك مذهب ال�إ مام �أبي عبد الله مالك بن �أنس رحمه الله[‪]...‬ف�أتيت فيه بما لا يسع‬
‫جهله لمن �أحب �أن يسم بالعلم نفسه[‪ .((("]...‬فماذا تقدم الخطبة في هذا ال�إ طار؟‬
‫يلاحظ الناظر في هذه الخطبة حضور كثير من المفاهيم المنهجية التي تؤسس‬
‫للمقاربة التي نهجها ابن عبد البر في "كافيه"‪ ،‬والتي حضر بعضها في "استذكاره"‪ ،‬والتي‬
‫ستشكل عند ابن رشد سواء في البداية �أو في غيرها من النصوص التي سيكتبها َه ْديا في‬
‫العرض والمقاربة‪ .‬وهذه المفاهيم هي‪ :‬ال�أصول ‪ -‬ال�أمهات ‪ -‬المختصر ‪ -‬الجامع ‪ -‬الكافي‬
‫‪ -‬الاستذكار ‪ -‬ما لايسع جهله ‪.-‬‬
‫�إن عناية ابن عبد البر في كتابه بالضّ روري من المعرفة الفقهية التي تؤم المسائل التي‬
‫تجري مجرى ال�أصول وال�أمهات‪ ،‬والتي تشكل الكافي في هذه المعرفة التي يحتاجها‬
‫طالب العلم‪ ،‬والتي تقدم له بشكل صناعي جامعا ومختصرا لتكون له على "جهة‬
‫‪ - 1‬كما ذكر صاحب نفح الطيب ‪ 193-4‬عن عبد المعطي �أمين قلعجي‪ ،‬مقدمة ال�إ ستذكار مرجع سابق ص‪.56‬‬
‫‪ - 2‬ابن عبد البر‪ ،‬الكافي في فقه �أهل المدينة المالكي‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الثانية ‪ 1992‬ص‬
‫‪.10 - 9‬‬
‫‪164‬‬
‫التذكرة"‪ ،‬فيرجع �إليها كلما �أراد المذاكرة‪� .‬إن هذا النمط من الكتابة الفقهية هو ضرب‬
‫من التقليد سلكه كثير من الفقهاء لهواجس تعليمية وتربوية‪ ،‬كما نجد عند غير ابن عبد‬
‫البر‪ ،‬مثل الجد في المقدمات‪ ،‬والغزالي في الوجيز‪.‬‬
‫يطبع هذا الاحتفاء كثيرا من مظاهر الكتابة الرشدية بميسم خاص يبرز �أن الكتابة‬
‫الفقهية طبعت كثيرا من مظاهر المـشروع العلمي الرشدي‪ .‬و�إنه ليمكن القول �إن روح‬
‫هذه الكتابة التي نفثها ابن عبد البر في "كافيه" تخترق كثيرا من �أجزاء المتن الرشدي‪،‬‬
‫رغم �أن ابن رشد لم ُيشد به سوى في كتاب البداية‪.‬‬
‫كما �أن هناك رجلا قريبا من ابن رشد روحا وزمانا �أثر فيه ت�أثيرا بليغا �إلى درجة �أن‬
‫البعض جعل من كثير من مشاريع ابن رشد امتدادات له(((‪ ،‬وهو ابن تومرت‪ ،‬خاصة في‬
‫كتابه "المرشدة"‪ ،‬وهو كتاب ذو حمولة فلسفية قصوى يقدم الضروري في العقيدة(((‪.‬‬
‫وعلاقة ابن رشد بابن تومرت وطيدة‪ ،‬سواء على مستوى شخصيته العلمية حيث كان‬
‫ُيقدِّر شخص الفقيه السوسي ويعتبره مجدد علوم الدين ومحيي رسومها‪� ،‬أو على مستوى‬
‫طريقة كتابة نصوصه العلمية‪ ،‬حيث انفعل ببعض كتاباته وت�أثر بها‪ ،‬وهو ما يبدو في �إقدام‬
‫فيلسوفنا على تلخيص العقيدة الحمرانية المفقودة‪ ،‬وقدم من خلالها الضروري في العقيدة‬
‫التومرتية‪.‬‬
‫لج�أ ابن رشد �إلى اختصار كثير من المؤلفات ال�أرسطية‪ ،‬بل واختصر تقليدين علميين‬
‫�أحدهما فقهي في "بداية المجتهد" وال�آخر طبي في "الكليات في الطب"‪ .‬والاختصار‬
‫ظاهرة عرفتها الكتابة الفقهية واستشرت بين الفقهاء حتى ضلَّت و�َأضلَّت‪ ،‬فما هو الاختصار‬
‫وما مظاهره عند ابن رشد؟‬
‫"الاختصار معناه‪ :‬ض ّم الشي �إلى بعض بقصد ال�إ يجاز‪ ،‬والغرض منه‪� :‬إيراد المعاني‬
‫الكثيرة ب�ألفاظ قليلة‪ .‬قال النووي‪ :‬اختلفت عبارات الفقهاء في معنى المختصر‪ ،‬فقال‬
‫ال�أسفراييني ‪ :‬حقيقة الاختصار ضم بعض الشيء �إلى بعض‪ .‬ومعناه عند الفقهاء‪ :‬رد‬
‫الكثير �إلى القليل‪ ،‬وفي القليل معنى الكثير‪ .‬وقيل هو �إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى(((‪.‬‬
‫وقال الخليل ‪ :‬هو ما دل قليله على كثيره((( وسمي اختصارا لاجتماعه ودقته‪ .‬وفي لسان‬
‫‪ - 1‬كما فعل دومنيك �أورفوا في كتابه عن ابن رشد ص ‪ ،7‬و‪. ،43‬‬
‫‪2 -urvoy, AVERROES; CARISCRIPT - PARIS 1996. p22 .‬‬
‫‪ - 3‬تهذيب ال�أسماء واللغات عن مباحث في المذهب المالكي للجيدي ط‪ 1993 1‬ص‪87‬‬
‫‪ - 4‬واهب الجليل للحطاب عن الجيدي مرجع سابق ن‪ .‬ص‬
‫‪165‬‬
‫العرب ‪ :‬اختصار الكلام �إيجازه‪ ،‬والاختصار في الكلام �أن تدع الفضول وتستوجز الذي‬
‫ي�أتي على المعنى(((‪ ،‬وفي نور البصر للهلالي ‪ :‬الاختصار هو ال�إ تيان بالمعنى الكثير في‬
‫اللفظ القليل‪ ،‬ومثله ال�إ يجاز وضده ال�إ طناب وال�إ سهاب(((‪ .‬وفي كشف الظنون ‪ :‬قال‬
‫بعضهم ‪ :‬الاختصار �إذا جمع ثلاثة �أشياء؛ �إحداهما الاستقصاء في الصفة‪ ،‬والثاني‬
‫الاهتمام في المعنى‪ ،‬والثالث ال�إ يجاز كان �إفادة ذلك �أبلغ(((‪.‬‬
‫تم اللجوء �إلى هذا الضرب من الكتابة في الفقه لمعالجة المؤلفات الفقهية المبسوطة‪.‬‬
‫يشكل الاختصار مدخلا لقراءة المطولات‪ ،‬لكن قد يصبح بدلا عنها‪ ،‬كما وقع في عصور‬
‫تعطّلت فيها ملكة ال�إ بداع‪ ،‬و�أصبحت قراءة المختصرات عملية شائكة‪� .‬إلا �أن الاختصار‬
‫عند ابن رشد كان له هدفان؛ هدف تعليمي‪ ،‬هو �أن يكون كالمدخل لمن �أراد �أن يستوفي‬
‫�أجزاء الصناعة المختصرة كما صرح في مختصره المنطقي‪ .‬وهدف فلسفي‪ ،‬هو بلوغ‬
‫المتعلم بهذا المختصر مرتبة �أولية في الكمال ال�إ نساني‪ ،‬كما قصد بمختصر علم النفس‬
‫و�أ َّمله من بداية المجتهد‪ .‬ومن هنا حرص ابن رشد على �ألا يخلو مختصره من حيوية‬
‫علمية و�إضافات مخترعة‪ ،‬كما صرح في "مختصر المستصفى"‪ ،‬وكما تجلت معالمها في‬
‫مختصره الفقهي "بداية المجتهد" ومختصره السياسي "الضروري في السياسة"‪.‬‬
‫السكوت عن الشيء(((‪ ،‬هو الشيء الذي يزيد‬ ‫الاختصار عند ابن رشد ضرب من ّ‬
‫عن الحاجة‪ .‬والاختصار �إما تعالج به كتبا محددة‪ ،‬و�إما يؤم "جمع" ما تفرق في كتب‬
‫مختلفة‪ ،‬كما يفصح عن ذلك "البداية"‪ ،‬و"الكليات"‪ ،‬و"الضروري في السياسة" كما‬
‫سبق تفصيل القول في ذلك‪ .‬و"البداية" و"الكليات" كتابان يصرح ابن رشد �أنهما ينتميان‬
‫�إلى مقاربة الاختصار رغم طولهما النسبي‪ .‬وستكون مختصرات ابن رشد‪ ،‬موجزة �أو طويلة‬
‫نسبيا‪ ،‬بداية للمتعلم ونهاية للطالب عكس هذه المختصرات التي لا يفهمها المبتدئ‪،‬‬
‫ولا يحتاج �إليها المنتهي(((‪.‬‬
‫لكن ما يستغرب له المرء �أن بعضا من هذه الكتب التي سماها ابن رشد بـ"الجوامع"‬
‫تحمل من سمات الاختصار الكثير‪ .‬فما معنى "الجامع" وما علاقته بالاختصار؟ كتب‬
‫الفقهاء مختصرات كما كتبوا كتبا سموها الجوامع‪ .‬وقد ر�أينا ابن عبد البر في خطبته‬
‫‪ - 1‬لسان العرب دار صادر بيروت ب‪.‬ت ص ‪243‬‬
‫‪ - 2‬نور البصر ص‪ 132‬عن الجيدي‪ ،‬مرجع سابق ص‪88‬‬
‫‪ - 3‬كشف الظنون ‪ 1625/2‬عن الجيدي‪ ،‬ن‪.‬ص‬
‫‪ - 4‬مقالة الدال من تفسير ما بعد الطبيعة ص ‪.557‬‬
‫‪ - 5‬كما قال القباب‪ ،‬عمر الجيدي‪ ،‬ص ‪90‬‬
‫‪166‬‬
‫يستخدم مفهوم "الجامع المهذب"‪ ،‬فهل يمكن القول �إن كل كتاب قصد فيه �إلى‬
‫التهذيب والتشذيب هو جامع؟‬
‫كتب محمد بن الحسن الشيباني جامعين‪" ،‬الجامع الصغير" و"الجامع الكبير"؛‬
‫يشتمل "الجامع الصغير " على �أربعين كتابا‪ ،‬وهو كتاب في فقه الفروع قيل عنه �إنه مجرد‬
‫عن ال�أدلة والجدل‪� ،‬أي ُه ِّذب مما حشيت به كتب الفروع من ر ّد ال�أحكام �إلى �أدلتها‬
‫وحاجوا به بعضهم البعض‪ ،‬وهذا الجامع من الكتب التي‬ ‫ّ‬ ‫و�إلى �إيراد ما اختلف فيه الفقهاء‬
‫لقيت القبول عند الحنفية‪ ،‬ب ّوبه �أحد ال�أحناف "ورتبه ليسهل على المتعلمين" ‪ .‬ولعل‬
‫(((‬

‫اختيار ابن رشد اسم "الجامع" للكتب الفلسفية التي التقط منها ال�أقاويل العلمية وهذبها‬
‫مما علق بها من �أقاويل جدلية قد يكون ذو مرجعية فقهية بارزة‪ .‬ومن هنا يسهل �أن‬
‫يلتقي المختصر والجامع و�إن كان ليس من الضروري �أن يكون كل مختصر جامعا وكل‬
‫جامع مختصرا بالضرورة كما هو حال "الجامع الكبير" للشيباني‪ ،‬ولكن يبدو �أن كثيرا من‬
‫الكتب الرشدية سواء اتخذت شكل مختصر �أو جامع بل وتلخيص �أيضا كتبت ب�أقاويل‬
‫عادلة "وهي ال�أقاويل التي لايكون فيها �أكثر مما في طبيعة الشيء ولا ناقصا عنها"(((‪،‬‬
‫وهي التي عبر عنها ابن رشد بمفهوم الكفاية‪.‬‬
‫فما ال�أساس الذي تقوم عليه مقاربة الاختصار عند ابن رشد؟ �إن هذه المقاربة تقوم‬
‫على ما عبر عنه ابن عبد البر وابن رشد الجد بـ "ما لايسع المرء جهله"((( وهي عبارة تتردد‬
‫عند كثير من فقهاء ال�إ سلام‪ ،‬كما نجد عند الباقلاني الذي �ألف كتابا سماه "ال�إ نصاف‬
‫فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به"‪ ،‬وقد عبر عنها ابن رشد بمفهوم "الضروري"‪،‬‬
‫والذي عنون به بعض كتاباته مثل "الضروري في المنطق" و"الضروري في النحو" وغيرهما‬
‫من كتابات ابن رشد في هذا السياق‪ ،‬والكتابة في الضروري تقليد �إسلامي لاشك �أن ابن‬
‫رشد ت�أثر به‪ّ ،‬‬
‫فتقصاه؛‬
‫�إن هذا المفهوم ال�أساسي‪ ،‬مفهوم الضروري‪ ،‬ستطوف به مفاهيم �أخرى ذات نفس‬
‫فلسفي تشكل الحقل الدلالي الذي �أسس به ابن رشد لهذا المفهوم‪ ،‬والذي سيسمح‬
‫لنا الوقوف عندها �إضاءة شكل من �أشكال الكتابة التي توخاها ابن رشد من �أجل عرض‬
‫المعارف التي يعتبرها ضرورية في ما يسميه بـ "الكمال ال�إ نساني"‪� .‬إن مفهوم "الضروري"‬
‫‪- 1‬الحجوي‪ ،‬تاريخ الفكر السامي‪،‬ج‪ 1‬ص‪436-435‬‬
‫‪ - 2‬مقالة الزاي من تفسير ما بعد الطبيعة ص‪.803‬‬
‫‪- 3‬المقدمات الممهدات مرجع سابق ص ‪10‬‬
‫‪167‬‬
‫هذا سيتوسل به ابن رشد للجمع بين �أكثر من ت�أليف واحدة في وحدة وتجانس‪ .‬وهذا‬
‫المفهوم يـشكل نواة لحقل دلالي يتكون من مفاهيم مطيفة به من مثل ‪ :‬ال�أفضل‪ -‬الكلي‬
‫‪ -‬الصناعي ‪ -‬التام ‪ -‬ال�أشهر ‪ -‬الكفاية ‪ -‬التذكرة‪ .‬وهي مفاهيم تحكمت في ت�أليف كثير‬
‫من النصوص العلمية لابن رشد‪ ،‬وسمحت ب�إدماج الخطاب الفقهي‪ ،‬على مستوى كتابته‪،‬‬
‫في الكتابة الفلسفية الرشدية‪.‬‬

‫‪-1-‬‬
‫بين الضروري وال�أفضل‬
‫يتحدد مفهوم "الضروري" أ�و "جهة الضرورة" من خلال مفهوم �آخر يقترن به هو‬
‫"جهة ال�أفضل"‪ ،‬فكثيرا ما يحضر هذان المفهومان عند ابن رشد في كثير من نصوصه‬
‫الفلسفية‪ .‬لكن يبدو �أن لهما مجالين‪ :‬مجال منطقي‪ ،‬ومجال نفسي‪ -‬بيولوجي‪ .‬مجالان‬
‫يضيئان فهم الفضاءات المختلفة التي يستعملهما فيها ابن رشد في حديثه عن المنهجية‬
‫التي سلكها في كتابة كثير من مختصراته‪.‬‬
‫�أ‪ -‬يقدم ابن رشد في "تلخيص كتاب العبارة" وقبله في "المختصر في المنطق"‬
‫تحليلا منطقيا لمفهوم الضروري والممكن وهما من المفاهيم ال�أساسية التي تضيء فهم‬
‫عبارة ابن رشد الشهيرة "الضروري في الكمال ال�إ نساني"‪ ،‬والتي جعلها شعارا لبعض‬
‫مشاريعه العلمية التي كان يتوخى منها قصدا تعليميا واضحا‪ ،‬ومنها "البداية" و"الكليات"‪.‬‬
‫ويبدو �أن علاقة الضروري بالكمال تطبعها بعض من مفارقة‪� ،‬إذ الضروري مرتبط بمفهوم‬
‫الواجب(((‪ ،‬ومرتبط بمفهوم الدوام(((‪� .‬أما مفهوم الكمال ال�إ نساني فمرتبط بما هو ممكن‬
‫�أو"بجهة ال�أفضل"‪ .‬فعلاقة المحمول بالموضوع في العبارة السابقة ليست علاقة ضرورية‪،‬‬
‫فالمحمول ليس ضروري الوجود للموضوع‪ ،‬وما يجعل هذا ال�أمر هكذا �أن مفهوم الممكن‬
‫مرتبط بالمستقبل‪ ،‬ولو قلنا بالضرورة في ال�أمور التي ستحدث في المستقبل لارتفعت‬
‫طبيعة الممكن‪ ،‬وهو �أمر يؤدي �إلى نتائج فلسفية غير مقبولة؛ �إذ لا يعود هناك شيء‬
‫‪ - 1‬يقول ابن رشد ‪":‬وما هو واجب فهو ضروري الوجود" تلخيص كتاب العبارة تح محمود قاسم الهئية المصرية‬
‫العامة للكتاب مركز البحوث ال�أمريكي بمصر ‪ 1981‬ص ‪.79‬‬
‫‪ - 2‬يقول ابن رشد ‪" :‬والضروري هو الذي يدل على الذي لم يزل ولايزال‪ ،‬كقولنا ال�إ نسان باضطرار حيوان" مختصر‬
‫المنطق‪ ،‬نقله من الحرف العبري �إلى العربية وحققه شارل بتروت‪ ،‬نسخة غير منشورة‪ .‬ص ‪.40‬‬
‫‪168‬‬
‫يحدث بالاتفاق‪ ،‬ولا يعود هناك شيء معد �أن يكون �أو لايكون‪ ،‬فيؤدي هذا �إلى ارتفاع‬
‫الروية والاستعداد للت�أهب للخير‪ ،‬وهو ما يعتبره ابن رشد في غاية الشناعة وخلاف الفطرة‬
‫ال�إ نسانية(((‪.‬‬
‫�إن الضروري عند ابن رشد لا يرفع الممكن‪ ،‬ومن ثم تصنيفه ال�أشياء صنفين‪ :‬صنف‬
‫ضروري وصنف ممكن‪ ،‬وتصنيفه الوجود �إلى ضروري‪ ،‬هو الوجود الحاضر والماضي‪،‬‬
‫والوجود الممكن‪ ،‬وهو المستقبل‪ .‬فما علاقة ما هو ضروري بما هو ممكن و�أفضل‪� ،‬أي‬
‫بـ "الكمال ال�إ نساني"؟‬
‫يخفف من غلواء هذه المفارقة �أن ابن رشد في تقسيمه للممكن يجعله على �أصناف‬
‫ثلاثة‪ :‬الممكن على التساوي‪ ،‬والممكن على ال�أكثر‪ ،‬والممكن على ال�أقل‪ .‬وفي تقسيمه‬
‫للضروري يجعله صنفين‪ :‬الضروري ب�إطلاق‪ ،‬والضروري الذي لا ب�إطلاق‪ ،‬وهذا ال�أخير هي‬
‫ال�أشياء التي وجودها ضروري في الوقت الذي هي فيه موجودة‪� ،‬أو �أشياء عدمها ضروري‬
‫في الوقت الذي هي فيه معدومة(((‪ .‬فكيف يسمح هذا التقسيم بربط الضروري بالممكن؟‬
‫�إن الموجودات الضرورية عند ابن رشد تقتسم الصدق والكذب على التحصيل في‬
‫نفسه‪� ،‬أي �أن الصادق منها والكاذب محصل في نفسه خارج النفس‪ ،‬و�إن لم تتحصل‬
‫لنا معرفته وجهلنا كيف ال�أمر فيه‪� .‬أما الموجودات الممكنة في المستقبل‪� ،‬أو بعبارة ابن‬
‫رشد "و�أما في المادة الممكنة في ال�أمور المستقبلية" ف�إنهما و�إن كانا يقتسمان الصدق‬
‫والكذب‪ ،‬ف�إن �أحد المتناقضين يوجد ضرورة �أيضا فيما "يستقبل‪ ،‬لكن لا على التحصيل‬
‫في �أنفسهما‪ ،‬بل على �أنهما في طبيعتهما من عدم التحصيل مثل ما هو عندنا"‪ ،‬ولذلك‬
‫يعتقد ابن رشد �أنه لا يمكن �أن يكون علم للمستقبل‪� ،‬أو بعبارة ابن رشد‪" :‬لا يمكن‬
‫�أن يحصل في هذا الجنس معرفة‪� ،‬إذ كان ال�أمر في نفسه مجهولا"‪ .‬لكن ابن رشد يرى‬
‫�أن هذا التحليل ينطبق على "الممكن على التساوي"‪� .‬أما على "الممكن على ال�أكثر"‬
‫و"الممكن على ال�أقل" فلا‪ ،‬فيمكن ذلك في ال�أول "ل�أن �أحد المتقابلين فيه �أحرى‬
‫بالصدق من الثاني‪� ،‬إذ كان وجوده �أحرى من لا وجوده"‪ ،‬كما يمكن في "الممكن‬
‫على ال�أقل‪ ،‬ف�إن كذب �أحد المتقابلين فيهما �أحرى بالكذب من الثاني"(((‪ ،‬وهو ما‬
‫‪ - 1‬تلخيص كتاب العبارة ص ‪.81‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص كتاب العبارة ص ‪.82‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص كتاب العبارة ص ‪.84 - 83‬‬
‫‪169‬‬
‫يفتح معرفة الاحتمالات الممكنة‪ ،‬ويصبح "الكمال ال�إ نساني" من جنس "الممكن على‬
‫ال�أكثر"‪ .‬ومن �أجل بلوغ هذا الممكن يتوسل �إليه ب�أمور "ضرورية لا ب�إطلاق"‪ ،‬ونخص‬
‫منها "ال�أشياء التي وجودها ضروري في الوقت الذي هي فيه موجودة" (((‪ ،‬وهو ما ينطبق‬
‫على جملة المعارف التي �أدخلها ابن رشد في جنس الضروري‪.‬‬
‫و�إذا كان ابن رشد في مرحلة من حياته العلمية قد اعتبر �أن زمانه لا يستسيغ من‬
‫المعارف ما هو من جهة ال�أفضل(((‪ ،‬فقدم ما اعتبره ضروريا في الكمال ال�إ نساني‪ ،‬وك�أن‬
‫هناك تقابلا بين الضروري وال�أفضل‪ ،‬ف�إنه فيما بعد سيقتصر على الضروري‪ ،‬رغم رفع‬
‫ال َك ْر ِب الذي تحدث عنه في "مختصر النفس" وفي "مختصر المجسطي"(((‪ ،‬وقدّم‬
‫نصوصا اختصر فيها ما يعتبر ضروريا في معارف مختلفة‪ ،‬ل�أن هاجس الكمال ال�إ نساني‬
‫ظل حاضرا لديه‪ ،‬وخاصة عندما يتجسد هذا الكمال في القدرة على ال�إ بداع والتجديد‪،‬‬
‫كما يصرح بذلك في "البداية" وفي "الكليات"‪.‬‬
‫ب ‪� -‬أهم ما يقدمه "مختصر النفس" و"تلخيص كتاب النفس" الت�أسيس السيكلوجي‪-‬‬
‫البيولوجي لمفهومي "الضروري" "وال�أفضل"؛ فهناك في الحيوان �أشياء ضرورية لا يقوم‬
‫وجوده دونها‪ ،‬وهناك �أشياء موجودة له "من �أجل ال�أفضل"‪ .‬ذلك ما نجده عند حديث‬
‫ابن رشد مثلا "عن القوة المولدة" التي يعتبرها موجودة في بعض الحيوان "لا على‬
‫جهة الضرورة‪ ،‬كالحال في القوة الغاذية والنامية‪ ،‬بل على جهة ال�أفضل‪ ،‬ليكون لهذه‬
‫الموجودات حظ من البقاء ال�أزلي بحسب ما يمكن في طباعها"(((‪ .‬كما نجد هذين‬
‫المفهومين عند حديثه عن الحواس الخمس‪ ،‬حيث يقول‪" :‬وبالجملة‪ ،‬فهذه القوى‬
‫الثلاث (�أي اللمس والذوق والشم) هي القوى الضرورية �أكثر في وجود الحيوان‪ .‬و�أما قوة‬
‫السمع وال�إ بصار فموجودة في الحيوان من �أجل ال�أفضل‪ ،‬لا من �أجل الضرورة‪ .((("..‬بل‬
‫‪ - 1‬تلخيص كتاب العبارة ص ‪.82‬‬
‫‪ - 2‬يقول ابن رشد ‪" :‬وطلب ال�أفضل في زمننا هذا يكاد يكون ممتنعا" مختصر المنطق ص ‪.2‬‬
‫‪ - 3‬في مختصر المجسطي يشبه ابن رشد نفسه في تلك الفترة الحرجة من فترات انتقال السلطة من يد المرابطين‬
‫�إلى يد الموحدين "بحال الرجل الذي يرى النيران تلتهم بيته‪ ،‬فلا يرى �إلا �إنقاذ ال�أشياء النفيسة‪ ،‬وال�أمور الضرورية‬
‫في حياته"‪.‬‬
‫‪Munk; Mélange de la philosophie juive et arabe p:432.‬‬
‫‪ - 4‬مختصر النفس ص‪.19‬‬
‫‪ - 5‬مختصر النفس ص ‪ .26‬وانظر �أيضا "تلخيص كتاب النفس" حيث يشير ابن رشد لنفس المعنى ص ‪.149‬‬
‫وص ‪.153‬‬
‫‪170‬‬
‫�إن عضوا واحدا قد يكون ضروريا من جهة‪ ،‬من جهة ال�أفضل من جهة �أخرى(((‪ .‬وفي‬
‫نفس السياق السيكولوجي يؤكد كتاب "الحس والمحسوس" �أن القوى الحسية منها ما‬
‫هي ضرورية في وجود الحيوان‪ ،‬ومنها ما هي موجودة في الحيوان لمكان ال�أفضل(((‪.‬‬
‫فالضروري في هذه السياق هو ما لا يمكن �أن يعيش الحيوان بدونه‪� ،‬أما ال�أفضل فهو‬
‫ما كان زيادة وكمالا لذلك الشيء‪ (((.‬فكيف يشتغل ابن رشد بهذين المفهومين اللذين‬
‫�أسسهما منطقيا وسيكولوجيا‪.‬‬
‫يقدم لنا "المختصر في النفس" مفهوم الضروري �أيضا في سياق فلسفي مرتبط‬
‫بمفهوم الكمال ال�إ نساني الذي كان يشكل �أفقا �أخلاقيا وميتافيزيقيا عند ابن رشد‪ .‬ففي‬
‫هذا المختصر يعلن انشغاله بـ "�إنقاذ الضروري من الكمال ال�إ نساني" والذي "به تحصل‬
‫�أول مراتب ال�إ نسان"‪ ،‬مفصحا عن ظروف صعبة يمر بها لا تسمح له باستقصاء القول‬
‫في القضايا العلمية التي يعالجها(((‪ .‬فلجوء ابن رشد �إلى جمع المعرفة الضرورية‪� ،‬أي‬
‫المعرفة التي لا يعذر �أحد بجهلها‪ ،‬والتي يشْ ُرف بها ال�إ نسان نحو الكمال ال�إ نساني‪،‬‬
‫كان من وراء كتابة نصوص كثيرة في مرحلة الخمسينات من القرن السادس الهجري‪،‬‬
‫نصوص �أصولية ‪ -‬فقهية ومنطقية وفلسفية‪ .‬لكن عندما تستقيم �أحوال ابن رشد‪،‬‬
‫سيحتفظ بمفهوم الضروري هذا‪ ،‬فيكتب من خلاله بعض المصنفات‪ ،‬ومن بين هذه‬
‫‪ - 1‬يقول ابن رشد " �إن الطبيعة استعملت �إدخال الهواء و�إخراجه في الحيوان في فعلين‪� ،‬أحدهما التنفس وال�آخر‬
‫التصويت‪ ،‬كما استعملت اللسان في الذوق وفي الكلام‪ .‬وكما �أن استعمالها اللسان في الذوق هو ضروري في‬
‫وجود الحيوان واستعمالها �إياه في الكلام هو له من جهة ال�أفضل‪ ،‬كذلك استعمالها �إدخال الهواء بالتنفس لتبريد‬
‫حرارة القلب هو �أمر ضروري لا يمكن الحيوان المتنفس �أن يعيش �إلا به‪ ،‬و�أما استعمالها �إياه في التصويت فهو‬
‫لموضع ال�أفضل" تلخيص كتاب النفس ص ‪.83‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الحس والمحسوس‪ ،‬تح بلومبرج ال�أكاديمية ال�أمريكية للعصور الوسطى كامبدرج ماساشوسيتس ‪1972‬‬
‫ص‪.4‬‬
‫‪ - 3‬يقول �أبو حامد الغزالي ‪" :‬الفضيلة م�أخوذة من الفضل وهي الزيادة‪ ،‬ف�إذا تشارك شيئان في �أمر واختص �أحدهما‬
‫بمزيد يقال فضله‪ ،‬وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء"‪� .‬إحياء علوم الدين دار المعرفة‬
‫بيروت الجزء ال�أول ‪ 1982‬ص‪.12‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد ‪" :‬والقول في هذه ال�أشياء على سبيل الاستقصاء‪ ،‬فيستدعي قولا �أبسط من هذا بكثير‪ ،‬لكن قولنا‬
‫جرى في هذه ال�أشياء بحسب ال�أمر الضروري فقط‪ ،‬و�إن فسح الله تعالى في العمر‪ ،‬وجلى هذه الكرب فسنتكلم‬
‫في هذه ال�أشياء بقول �أبين و�أوضح و�أشد استقصاء من هذا كله‪،‬لكن هذا القدر الذي كتبناه في هذه ال�أشياء هو‬
‫الضروري في الكمال ال�إ نساني‪ ،‬وبه تحصل �أول مراتب ال�إ نسان" تلخيص كتاب النفس تح د‪�.‬أحمد فؤاد ال�أهواني‬
‫مكتبة النهضة المصرية ط‪ 1950 1‬ص ‪ .44‬ط‪ 1‬والجدير بالذكر �أن هذا النص الذي اعتبره ال�أهواني "تلخيصا" هو‬
‫مختصر كما يصفه ابن رشد نفسه في نفس الكتاب‪ ،‬عندما يقول ‪ )..(" :‬ولذلك يستدعي الحكم بين المذهبين‬
‫قول �أبسط من هذا لا يحتمله هذا المختصر "ص ‪.87‬‬
‫‪171‬‬
‫المصنفات هذين الكتابين "البداية" والكليات"‪ ،‬محتفظا بالغاية في حصول مراتب‬
‫الكمال ال�إ نساني‪ ،‬لكن هذه المرة يحدد هذه المرتبة‪ ،‬فيجعلها حصول مرتبة الاجتهاد‬
‫في الفقه والطب(((‪ .‬ومن هنا حرص ابن رشد على توجيه كتابه �إلى مخاطب محتمل‬
‫في "الكليات"(((‪ ،‬و�إلى مخاطب ضمني في "البداية"(((‪.‬‬
‫ج – لكن ما علاقة الضروري بـ "الكمال ال�إ نساني" الذي يقدمه ابن رشد على‬
‫�أنه زيادة في الوجود ال�إ نساني وكمال له؛ �أي �أن هذا "الكمال" هو لل�إ نسان من جهة‬
‫ال�أفضل؟ وكيف يت�أسس مفهوم الكمال عنده؟‬
‫مشروع الضروري في الكمال ال�إ نساني‪ ،‬فضلا عن بعده المنطقي ‪ -‬البيولوجي‪،‬‬
‫يت�أسس عند ابن رشد على نظريته في العقل‪ ،‬هذا العقل الذي ينتقل من مرتبة �إلى �أخرى‬
‫حتى يصل �إلى كماله ال�أخير‪� ،‬أي هو الكمال الذي يجده العقل في الاتصال‪ .‬ومشروع‬
‫الضروري هدفه �أن يصل العقل �إلى المرتبة ال�أولى في الكمال ال�إ نساني(((‪.‬‬
‫هكذا يقيم ابن رشد في "مختصر النفس" علاقة واضحة بين الاستكمال وبين‬
‫المعاني(((؛ فقوة اللمس تستكمل بمعاني ال�أمور المحسوسة‪ .‬وقوة الشم تقبل معاني ال�أمور‬
‫المشمومة(((‪ .‬وقوة السمع تستكمل بمعاني ال�آثار الحادثة في الهواء عن مقارعة ال�أجسام‬
‫بعضها بعضا المسماة �أصواتا(((‪ .‬وقوة البصر تقبل معاني ال�ألوان مجردة عن الهيولى‪ ،‬من‬
‫جهة ما هي معان شخصية(((‪ .‬والقوة الحاسة تستكمل بمعاني ال�أمور المحسوسة من‬
‫جهة ما هي معان شخصية(((‪ .‬فكمال قوى النفس مرتبط بهذه المعاني‪ ،‬فتقبل كل قوة‬
‫‪ - 1‬يقول ابن رشد في الكليات ‪�" :‬أحد الشروط المعدودة في الكمال في الصنائع‪� ،‬أن يكون لصاحب الصناعة قوة‬
‫على �أن يستنبط منها ما يحتاج �إلى استنباطه" ص ‪.392‬‬
‫‪ - 2‬كثيرا ما يتردد في النص قول ابن رشد "وينبغي �أن تعلم"‪ ،‬صص ‪ ....180-167-166-154-152 -103‬والجدير‬
‫بالذكر هنا �أن هذا المخاطب المحتمل هو مخاطب �أوسع من المخاطب المسلم ال�أندلسي حيث نجده كثيرا ما‬
‫يذكر �أشربة و�أطعمة محرمة دون �أن يعلق عليها ل�أن المس�ألة عنده مرتبطة بعادة الناس في الغذاء‪.‬ص ‪ 372‬وص‪.388‬‬
‫‪ - 3‬هذا المخاطب هو الفقيه الذي يريد بلوغ مرتبة الاجتهاد والخروج من طوق التقليد ‪ .‬انظر البداية حيث يصرح‬
‫ب�أن ما يذكره من مسائل‪ ،‬الهدف منه �أن "يحصل في نفس الفقيه كالقانون والدستور الذي يعمل فيه ما لم يجد‬
‫فيه نصا ممن تقدمه‪� ،‬أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره" ج‪ 5‬ص ‪ .36‬ويصرح بعد ذلك �أن "هذا الكتاب �إنما‬
‫وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد‪ "...‬نم ص ‪.69‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد �إن الكمال هو "شيء زائد على ال�إ جزاء" بداية المجتهد ج‪ 2‬ص ‪278‬‬
‫‪ - 5‬مختصر النفس ص ‪.45‬‬
‫‪ - 6‬مختصر النفس ‪.39‬‬
‫‪ - 7‬مختصر النفس ‪35‬‬
‫‪ - 8‬مختصر النفس ص‪29‬‬
‫‪ - 9‬مختصر النفس ص ‪.24‬‬
‫‪172‬‬
‫من هذه القوى معانيها المجردة عن الهيولى من جهة ما هي معاني شخصية تنقلها �إلى‬
‫كمالها‪� .‬أما القوة الناطقة فلا تبلغ كمالها �إلا بمعاني مجردة عن الهيولى‪ ،‬خاصة و�أن هذه‬
‫القوة "ليست فينا [‪ ]...‬معشر الناس على كمالها ال�أخير‪ ،‬و�إنما في تزيد دائم‪ ،‬لكن ليس‬
‫يمكن �أن يمر ال�أمر فيها �إلى غير نهاية ل�أن الطباع ت�أبى ذلك"(((‪.‬‬
‫من هذه المعاني التي تنقل القوة الناطقة من كمال �إلى كمال المعاني المعرفية التي‬
‫تت�أملها النفس وتشتغل بها عن المحسوسات‪ .‬هنا يمكن �أن نفهم لماذا يحتفي ابن رشد‪،‬‬
‫في مصنفاته الضرورية للكمال ال�إ نساني‪ ،‬بال�أقاويل الكلية‪ .‬ذلك �أن انتقال العقل من رتبته‬
‫الهيولانية �إلى رتبته التعقلية يتوقف على المعرفة التي تنطلق من ال�إ حساس‪ ،‬وتنتقل �إلى‬
‫الكليات‪ ،‬ثم بعد ذلك �إلى المعقولات المفارقة بالقول والوجود‪ .‬وال�أقوال الكلية في كل‬
‫علم �إنساني ضرورية لحصول المرتبة ال�أولى من الكمال‪ ،‬ل�أن تتبع الجزئيات والفروع في‬
‫العلوم والصنائع ينقطع العمر دونها ولا يوصل �إلى كمال‪ .‬لهذا السبب يحرص ابن رشد‬
‫في مشروعه العلمي هذا على تقديم ال�أقاويل الكلية الضرورية في كل صناعة‪ ،‬فيقوم بحصر‬
‫�أصولها وقواعدها ومسائلها‪ ،‬ل�أن تعقل هذه الكليات والت�أمل فيها يولد الملكة العقلية التي‬
‫تصبح قادرة على ال�إ بداع والتجديد وتحرر المرء من التقليد‪.‬‬
‫لا يكمل العقل عند ابن رشد �إلا عندما يعمل ذاته في المعاني المفارقة التي هي‬
‫كليات عامة‪ ،‬فينتقل بذلك من كمال �إلى كمال‪ ،‬وهو ال�أمر الذي يصبح عليه عسيرا �إذا‬
‫اشتغل صاحبه بالفروع والجزئيات‪ .‬فالقوة التي تدرك المعاني الكلية غير القوة التي تدرك‬
‫المعاني الشخصية الجزئية‪ ،‬فهما قوتان متباينتان‪ ،‬والقوة الناطقة التي تدرك المعاني مجردة‬
‫من الهيولى‪ ،‬وتركب المعاني بعضها �إلى بعض‪ ،‬وتحكم ببعضها على بعض‪ ،‬من خلال‬
‫فعليها؛ التصور والتصديق(((‪ .‬ولعل هذه العلاقة بين القوة الناطقة والكمال ال�إ نساني سر‬
‫وجودها في ال�إ نسان(((!‬
‫تنقسم القوة الناطقة �إلى قسمين‪ :‬العقل العملي؛ واستكماله يكون بمعان صناعية ممكنة‬
‫معدة نحو العمل‪ .‬ثم العقل النظري‪ ،‬وفعله واستكماله يكون بمعان ضرورية ليس وجودها‬
‫�إلى اختيارنا‪ .‬العقل ال�أول عند ابن رشد قوة مشتركة "لجميع ال�أناسي[‪ ]...‬لا يخلو �إنسان‬
‫‪ - 1‬مختصر النفس ص ‪.67‬‬
‫‪ - 2‬مختصر النفس ‪.68‬‬
‫‪� - 3‬إن وجود ال�إ نسان ‪-‬عند ابن رشد‪ -‬مرتبط بقوة النطق‪ ،‬وبدونها لن يكون له وجود البتة‪ .‬فبهذه القوة يدرك ال�إ نسان‬
‫المعاني مجردة عن الهيولى‪ ،‬ويركب بعضها �إلى بعض‪ ،‬ويستنبط بعضها عن بعض حتى تلتئم عن ذلك صنائع‬
‫كثيرة ومهن نافعة في وجوده‪ :‬مختصر النفس ص‪.68‬‬
‫‪173‬‬
‫منها‪ ،‬و�إنما يتفاوتون فيها بال�أقل وال�أكثر"‪� .‬أما القوة النظرية "فيظهر من �أمرها �أنها �إلهية جدا‪،‬‬
‫و�أنها �إنما توجد في بعض الناس‪ ،‬وهم المقصودون �أولا بالعناية من هذا النوع"(((‪.‬‬
‫من هذا التقسيم يبدو �أن مشروع الضروري يهدف استكمال العقل العملي ما دام‬
‫استكمال العقل الثاني يكون ب�أمور خارجة عن �إرادة ال�إ نسان‪ .‬من ثم نفهم قول ابن رشد‬
‫"�أولى مراتب الكمال[‪ ."]...‬فالعقل العملي يتوجه �إلى �إدراك المبادئ الفكرية المعينة‬
‫في العمل‪ ،‬فيكون استكماله بمعان صناعية ممكنة‪ ،‬وهو الكمال ال�أول‪� ،‬أي الكمال في‬
‫وجود ال�إ نسان المحسوس‪ ،‬لا في وجود ال�إ نسان ال�أفضل مطلقا‪ ،‬ل�أن هذا الوجود مرتبط‬
‫بالعقل النظري ومبادئه النظرية(((‪ .‬لعل ابن رشد من �أجل كمال العقل العملي‪ ،‬يضع‬
‫كتبه الضرورية‪ ،‬وبخاصة كتابيه "البداية" و"الكليات" في قالب صناعي‪� ،‬إذ كان شرطه‬
‫للكمال‪ ،‬كما سنقف على ال�أمر في حينه‪.‬‬
‫يستهدف الضروري استكمال العقل العملي �إذن‪ ،‬وهو يستهدفه خلال ال�أقاويل الكلية‬
‫ل�أن العقل صدقه �أكثري فيها‪ ،‬كما يقول ابن رشد(((‪ .‬لكن من �أهم ما قدمه لنا التحليل‬
‫السابق �أن هذا الاستهداف ي�أتي في قالب صناعي‪ ،‬فالعقل لا يستكمل �إلا من معان‬
‫صناعية‪ .‬فماذا يقصد ابن رشد بذلك؟ وما علاقة الضروري بالصناعي؟‬

‫‪-2-‬‬
‫بين الضروري والصناعي‬
‫من �أجل مقاربة هذه العلاقة بين المفهومين ننطلق من نصين قصيرين لابن رشد يقول‬
‫في ال�أول‪ ]...[" :‬ليس في المصنوع �إلا شيء واجب ضروري‪� ،‬أو ليكون به المصنوع‬
‫�أتم و�أفضل‪� ،‬إن لم يكن ضروريا فيه‪ ،‬وهذا هو معنى الصناعة"‪ .‬ويقول في الثاني‪.." :‬لو لم‬
‫يكن هاهنا �أسباب ضرورية في وجود ال�أمور المصنوعة لم تكن هنالك صناعة �أصلا‪.((("..‬‬
‫‪ - 1‬مختصر النفس ص ‪69‬‬
‫‪ - 2‬مختصر النفس‪ ،‬نفس الصفحة‬
‫‪ - 3‬في تلخيص كتاب النفس يقيم ابن رشد بين ال�أشياء الكلية وال�أشياء الجزية تقابل تضاد فيقول ‪�" :‬إن ال�أشياء‬
‫الكلية والجزئية متضادة‪ ،‬ونحن نجد العقل في صدقه في �أحد الضدين �أكثريا وهي الكليات‪ ،‬وخط�أه في الضد‬
‫ال�أخر �أكثر وهو الجزئيات‪ "...‬تح �ألفرد عبري المكتبة العربية المجلس ال�أعلى للثقافة القاهرة ‪ 1994‬ص‪.115-114‬‬
‫‪ - 4‬مناهج ال�أدلة في عقائد الملة تح د‪ .‬محمود قاسم مكتبة ال�أنجلو مصرية ط‪ 1964 ،2‬ص ‪.145‬‬
‫‪174‬‬
‫ما يخرج به القارئ من هذين النصين �أن ما هو ضروري يدخل في حد ما هو صناعي‬
‫فلا يمكن تصور صناعة �أصلا دونه‪ .‬ففي النص ال�أول يحضر ما هو ضروري مع ال�أفضل‬
‫في حد الصناعة‪ .‬والضروري وال�أفضل مفهومان �أساسيان في النصوص التي كتبهما ابن‬
‫رشد على المجرى الصناعي‪ ،‬وبخاصة في "البداية" و"الكليات"‪.‬‬
‫فما معالم ما هو صناعي عند ابن رشد؟‬
‫�إن اللجوء �إلى الكتابة على المجرى الصناعي نوع من تقعيد العلم الذي كمل في‬
‫زمان ابن رشد‪ ،‬فهو يرى �أن المعرفة قد كملت في عصره(((‪ ،‬و�أن كتابتها على الترتيب‬
‫الصناعي �أدعى �إلى ثباتها‪ ،‬و�أنها تصبح ملكة بذلك(((‪ .‬وعندما يصبح العلم ملكة‪ ،‬يصبح‬
‫هيئة راسخة في النفس يعسر زوالها‪ ،‬وتصبح "التذكرة" عاملا من عوامل تثبيت ما ن ُِس َي‬
‫منه‪ .‬وهو ما يصرح به ابن رشد في "تلخيص الجدل" عندما يربط ما هو صناعي بالحفظ‬
‫والتحصيل(((‪ .‬ومفهوم التذكرة من المفاهيم التي تتردد في كثير من الكتابات الرشدية سواء‬
‫منها المنطقية(((؛ �أو الفقهية((( �أو الطبية"(((‪� .‬إن القصد من الكتابة على جهة التذكرة هو‪،‬‬
‫كما قال العامري‪� ،‬أن تلقح العقول بالتذكرة حتى يحسن الصواب منها(((‪ .‬من هنا فكتابة‬
‫(((‬
‫لهذا الغرض لا يمكن �أن تكون ب�أي طريقة اتفق‪ ،‬بل لابد �أن تخضع لترتيب خاص‬
‫يكون على المجرى الصناعي‪.‬‬
‫ينفتح مفهوم "الصناعي" على ما هو كلي وما هو جمالي في الكتابة الرشدية‪.‬‬
‫فالصناعي هو "القانون الكلي الذي يشتمل على �أكثر من جنس واحد"(((‪ ،‬ثم �إن القيمة‬
‫‪ - 1‬ذلك ما يصرح به في مختصر المنطق ص ‪.108‬‬
‫‪ - 2‬ابن رشد تلخيص المقولات تح موريس بويج دار المشرق بيروت الطبعة الثانية ‪ 1983‬ص‪ 71‬و‪.72‬‬
‫‪ - 3‬عندما يعدل ابن رشد عن تعليم �أرسطو‪ ،‬ويتقصى تعليم ثامسطيوس وثاوفراسطس في ترتيبهما يقول ‪" :‬يشبه‬
‫�أن يكون �أكثر صناعيا و�أعون على الحفظ والتحصيل" تح محمد سليم سالم الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1980‬‬
‫ص ‪ 320‬و‪.368‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد ‪" :‬النظر في هذه الصناعة على جهة التذكرة " كتاب السفسطة ص‪.170‬‬
‫‪ - 5‬بداية المجتهد ج ‪ 1‬ص‪.325‬‬
‫‪ - 6‬يقول ابن رشد ‪ :‬قال جالينوس ‪" :‬فهذا القول �أرى �أنه كاف في كون ال�أخلاط واستحالتها ليحفظ منه مذهب‬
‫�أبقراط و�أرسطوطاليس وسائر القدماء في هذه ال�أشياء‪ ،‬ول�أن يكون كتابي كالتذكرة لكتب القدماء وكالمسهل‬
‫لـفهمها" "الرسائل الطبية" ص‪251‬‬
‫‪- 7‬العامري‪ ،‬ال�إ علام بمناقب ال�إ سلام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪123‬‬
‫‪ - 8‬في كتاب ال�آثار العلوية يصرح ابن رشد �أن الترتيب في النظر في الحيوان بعضه ضروري‪ ،‬وبعضه على جهة‬
‫ال�أفضل‪ .‬تح سهير فضل الله وسعاد علي عبد الرزاق القاهرة ‪ 1994‬ص ‪ .15‬وطبعة حيدر �آباد ص ‪.05‬‬
‫‪ - 9‬شرح البرهان مرجع سابق ص ‪ 223‬ونجد عند السلجماسي في المنزع البديع شيئا قريبا من ذلك ‪" :‬وتصير العلوم‬
‫وال�أفكار صنائع عندما تنحصر في قوانين تحصل في نفس ال�إ نسان على تريب معلوم" المنزع البديع في تجنيس‬
‫�أساليب البديع �إبي محمد القاسم السلجماسي‪ .‬تقديم وتحقيق المشمول بعفو الله ال�أستاذ علال الغازي‪ .‬مكتبة‬
‫المعارف الرباط ط‪ 1980-1401 ،1‬ص ‪.158‬‬
‫‪175‬‬
‫الجمالية لكثير من النصوص الرشدية تكمن في الطريقة التي كتبت بها‪ ،‬فقول الفقه �أو‬
‫الفلسفة بطريقة جديدة في تراكيب خاصة حتى تصبح �أحرى �أن تتعلم و�أن تتذكر سببه‬
‫�أنها �أولا كلية‪ ،‬ثم سببه الجمال الكامن فيها‪ .‬فلبلوغ الكمال ال�إ نساني لا بد �أن ترتب‬
‫المعرفة في الذاكرة ترتيبا صناعيا‪ ،‬و�إلا كانت المعرفة التي يحصل عليها غير مرتبة مهلكة‬
‫لصاحبها‪ ،‬فكثير ممن ضل في الفلسفة كان من جملة �أسباب ضلاله سوء ترتيب نظره‬
‫في كتب القدماء(((‪ .‬من هنا كانت الصناعية تضفي كثيرا من مظاهر الانسجام على �أجزاء‬
‫المتن الرشدي‪ ،‬ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالقصد التعليمي عند ابن رشد؟‬
‫من هذه الجهة فمفهوم الصناعي ذو علاقة بما هو منطقي وبخاصة على مستوى‬
‫التعليم الخطبي المقنع‪� .‬إذ"كل صناعة �إنما هي ُم َعلِّمة‪� ،‬أي مبرهنة ومقنعة في الجنس‬
‫الذي تنظر فيه لا في جميع ال�أجناس"(((‪ .‬من هنا فكل ما هو صناعي‪ ،‬وهو "الذي وجوده‬
‫لاختيارنا ورويتنا ونحن الفاعلون له"((( هو تعليمي �إقناعي‪ .‬وقد كان ابن رشد حريصا على‬
‫الترتيب الصناعي الذي هو ترتيب قياسي((( ل�أنه يضفي على العمل العلمي جودة نظام‬
‫و�إقناع‪ ،‬وهو القصد ال�أول من القول الخطبي‪ ،‬ثم يجعله �أقرب �إلى الحفظ والتذكرة‪ .‬حقا‬
‫�إن الترتيب الصناعي لا يجد القبول عند الكثيرين وذلك ل�أكثر من سبب؛ �أولا‪ ،‬ل�أن هؤلاء‬
‫يظنون �أن القول اللازم عن الترتيب الصناعي "�إنما لزم من جهة الصناعة لا من جهة ال�أمر‬
‫نفسه"‪ .‬ثانيا‪ ،‬ل�أن "الترتيب الصناعي يقتضي �أن يصرح فيه بجميع المقدمات الضرورية‬
‫في بيان ذلك المطلوب‪ ،‬والجمهور لا يستطيعون �أن يفهموا لزوم النتيجة التي تلزم عن‬
‫مقدمات كثيرة"(((‪ .‬ثالثا‪ ،‬ل�أن �أكثر الناس يضيق عليهم النظر في الكتب الموضوعة على‬
‫الطريق الصناعي التي تجمع وصفين‪ :‬تقر�أ على ترتيب وتقر�أ بعد تحصيل علوم �أخر‪� ،‬إلا‬
‫�إذا كان ذا فطرة فائقة فهو القادر عليها لكن ما �أقلهم‪ ،‬لـ"قلة وجود الفطرة في الناس"(((‪.‬‬
‫ولعل المحتفين بالمعرفة العلمية في عصر ابن رشد قد قل لهذه ال�أسباب وكثر الطاعنون‬
‫في الفلسفة في المدينة ال�إ سلامية‪.‬‬
‫فكيف يكون الترتيب الصناعي؟ وما علاقته بالتذكرة؟‬
‫‪ - 1‬فصل المقال نشرة مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسة التراث الفلسفي العربي ص‪.94‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الخطابة ص ‪.16‬‬
‫‪ - 3‬نفس المرجع والصفحة‪.‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ص ‪.324‬‬
‫‪ - 5‬نفس المرجع ص‪.21-20‬‬
‫‪ - 6‬تهافت التهافت ص‪.357‬‬
‫‪176‬‬
‫يقتضي هذا الترتيب �أن يكون الكلام الجزئي الذي يتعلق بالموجود الجزئي بعد الكلام‬
‫الكلي المشترك(((‪ ،‬وينبه ابن رشد على وجوب تشبه الصناعة بالطبيعة‪ ،‬وذلك �أن تحدد‬
‫الصناعة غرضا واحدا‪ ،‬وغاية واحدة‪ ،‬و�أن يكون لها فيها مبد�أ ووسط "و�أن يكون الوسط‬
‫�أفضلها‪ ،‬ف�إن الموجودات التي وجودها في الترتيب وحسن النظام �إذا عدمت ترتيبها لم‬
‫يوجد لها الفعل الخاص بها"(((‪.‬‬
‫يقدم لنا �أبو محمد‪ ،‬ابن فيلسوفنا ابن رشد‪ ،‬معالم هذا الترتيب الصناعي‪ ،‬فيقول �إن‬
‫الترتيب الصناعي "يكون ب�أن ننظر في غايته التي يقصد �إيجادها ما هي‪ ،‬ثم ينظر �أي‬
‫ال�أشياء هي التي �إذا وضعت موجودة لزم عنها وجود تلك الغاية‪ ،‬ف�إذا وقع عليها بالفكر‬
‫نظر �أيضا �أي ال�أشياء هي التي �إذا وضعت �أيضا موجودة لزم عنها وجود تلك ال�أشياء ال�أول‬
‫حتى تبلغ من هذه ال�أشياء المتلازمة �إلى �أشياء يمكن �أن يعقلها بنفسه‪ ،‬ف�إذا وقع عليها‬
‫شرع في عملها‪ ،‬و�أنه �إذا عملها لزم عنها تلك ال�أشياء‪ ،‬وعن تلك ال�أشياء تلك ال�أشياء‬
‫ال�أخر‪ ،‬وعن تلك الغاية التي قصدها[‪ .((("]...‬فالترتيب الصناعي قائم على تلازم ونظام‬
‫�إذن(((‪ ،‬ولا يقدر عليه �إلا من �أحاط ب�أجزاء الصناعة فـ"�إن الذي لا يعلم ماهية الشيء‪ ،‬ولا‬
‫ذاته‪ ،‬و�آنيته‪ ،‬لا يمكنه ترتيب �أجزائه وموافقته ولوازمه وتوابعه بتصيده له‪ ،‬و�إن ادعى ذلك‬
‫مدع فقد ادعى باطلا[‪ .((("]...‬فالصنعة في ال�أساس مرتبطة بالمعرفة‪� ،‬إذ هي باختصار‬
‫"العلم المتعلق بكيفية العمل"(((‪ .‬فمن �أغراض هذا الترتيب سهولة تذكر الصناعة وتلقيح‬
‫العقل‪ ،‬و"�إذا لم تلقح العقول بالتذكرة لم يحسن الصواب منها"‪ .‬كما قال �أحد المفكرين‬
‫قديما(((‪.‬‬
‫�إن مفهوم "التذكرة" من المفاهيم المهمة عند ابن رشد في الكتابة على المجرى‬
‫الصناعي‪ ،‬فهو حاضر في نصوصه الفقهية والفلسفية‪ ،‬بل وفي بعض نصوصه المنطقية‬
‫�أيضا‪.‬‬
‫‪ - 1‬تلخيص ال�آثار العلوية‪ ،‬تح جمال الدين العلوي دار الغرب ال�إ سلامي بيروت لبنان ط‪.1994 ،1‬ص‪18‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص كتاب الشعر ص‪.89‬‬
‫‪ - 3‬تلخيصات جالينوس مقالة في حيلة البرء ص‪273‬‬
‫‪ - 4‬يقول �أبو محمد بن رشد ‪�":‬إدراك ال�أشياء المتلازمة والنظام الذي بينهما هو الذي يسمى صناعة" في حيلة البرء‬
‫ص ‪274‬‬
‫‪ - 5‬الفارابي‪ ،‬تلخيص نواميس �أفلاطون‪ ،‬ص ‪49‬‬
‫‪ - 6‬المنزع البديع‪ ،‬مرجع سابق ص‪.158‬‬
‫‪ - 7‬العامري‪ ،‬الاعلام بمناقب الاسلام ص‪123‬‬
‫‪177‬‬
‫‪-3-‬‬
‫التذكرة‬
‫ينقلنا المفهوم الرشدي "على جهة التذكرة" �إلى كتاب "تلخيص الحس والمحسوس"‪،‬‬
‫حيث يحاول ابن رشد �أن يقربنا منه‪ ،‬وهو يفحص في بعض قوى النفس الجزئية‪ .‬نجد‬
‫في المقالة الثانية مفهومي "الذكر" والتذكر"‪ ،‬المشتقان من مفهوم "التذكرة"‪ ،‬وهما من‬
‫المفاهيم التي يمكن لها �أن تضئ لنا قصد ابن رشد وما يرمي �إليه‪.‬‬
‫يؤسس �أبو الوليد لمفهوم الذكر من خلال تمييزه بين ال�أشياء التي يدركها المرء‬
‫حسب الزمان‪ ،‬ليخلص �إلى �أن الذكر مرتبط بالمعرفة التي تحصل لل�إ نسان في الماضي(((‪،‬‬
‫"و�إنما يذكر المرء ما حصلت له المعرفة به قبل في الزمان الماضي"(((‪ .‬ويحرص ابن‬
‫رشد بعد ت�أسيسه لهذا المفهوم �أن يميز بينه وبين التذكر من جهة‪ ،‬وبينه وبين الحفظ‬
‫من جهة �أخرى‪ .‬ويبدو �أن هذا الحرص الذي �أخط�أ كلا من �أرسطو من جهة‪ ،‬وابن سينا‬
‫والفارابي من جهة �أخرى(((‪ ،‬يحمل �أكثر من دلالة على ال�أهمية التي يوليها ابن رشد لعملية‬
‫الحفظ من جهة‪ ،‬وعملية التذكر من جهة �أخرى في تثبيت المعرفة الموصلة �إلى الكمال‬
‫ال�إ نساني‪ ،‬و�إحضارها �إذا �أصاب بعضها �أوكلها النسيان‪ ،‬عندما تتعلق ال�إ رادة بذلك‪.‬‬
‫�إذا كان الذكر عند ابن رشد هو معرفة ما عرف بعد �أن انقطعت معرفته‪ ،‬ف�إن هذا الفعل‬
‫يوجد عامة للحيوان المتخيل(((‪ .‬فالتذكر فعل خاص بال�إ نسان‪� ،‬إنه عملية عقلية شعورية‬
‫مرتبطة ب�إرادة ال�إ نسان في استحضار المعرفة التي نسيها‪� ،‬أو بعبارة قريبة من عبارة ابن رشد‬
‫�إنه طلب المعرفة الماضية ب�إرادة �إذا نسيها المرء‪ ،‬و�إحضارها بعد غيبتها بالفكرة فيها‪ .‬و�إذا‬
‫كان الذكر يكون للصور السهلة الاسترجاع‪ ،‬فالتذكر يكون للصور العسيرة الاسترجاع(((‪.‬‬
‫وبعد تمييز الذكر عن التذكر‪ ،‬ي�أتي تمييز الذكر عن الحفظ و�إن كانا قريبين جدا من‬
‫بعضهما‪� ،‬إذ �إن كلا منهما يدخل في حد ال�آخر‪ .‬يعرف ابن رشد الحفظ ب�أنه ذكر متصل‪،‬‬
‫‪ - 1‬يقول ابن رشد ‪�" :‬إن ال�أشياء المدركة لنا �إما �أن تكون في ال�آن والزمان الواقف مثل مدركات الحس‪ ،‬و�إما �أن‬
‫تكون متوقعة الوجود في الزمان المستقبل وهذه هي ال�أمور المظنونة‪ ،‬و�إما �أن تكون مدركة في الزمان الماضي‪.‬‬
‫وبين �أن الذكر �إنما يكون في هذه ‪ "...‬ص‪.36‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الحس والمحسوس مرجع سابق ص ‪.36‬‬
‫‪ - 3‬بلومبرج‪ ،‬مقدمة تلخيص الحس والمحسوس ص‪15‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص الحس والمحسوس ص‪.37‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص الحس والمحسوس ص ‪.47‬‬
‫‪178‬‬
‫ويعرف الذكر ب�أنه حفظ منقطع‪ ،‬وهو يعتبرهما واحدا بالموضوع اثنان بالجهة(((؛ �إذ �إن‬
‫القوة التي تدرك المعنى �إذا �أدركته متصلا كانت حافظة‪ ،‬وتلك هي القوة المسؤولة عن‬
‫الحفظ‪ ،‬و�إذا �أدركته منفصلا سميت ذاكرة(((‪ ،‬وهي القوة المختصة بالذكر‪.‬‬
‫ويحرص ابن رشد كثيرا على تحديد معاني هذه المفاهيم‪ ،‬فيعرف الحفظ ب�أنه‬
‫استصحاب وجود معنى المحسوس في القوة الذاكرة من غير �أن ينقطع‪ ،‬ويعرف النسيان‬
‫ب�أنه ذهاب هذا المعنى المحسوس من القوة الذاكرة وانقطاعه‪ .‬كما يقول عن الذكر �إنه‬
‫رجوع المعنى المحسوس �إلى القوة الذاكرة بعد نسيانه‪ ،‬وعن التذكر �أنه استرجاع هذا‬
‫(((‬
‫المعنى المحسوس �إلى القوة الذاكرة وهو خاص بال�إ نسان‪.‬‬
‫لكن القوة الذاكرة هي من القوى المدركة لل�أمور الجزئية الشخصية‪ .‬فكيف ُيتذكر‬
‫الكلي؟ �إن المعاني الكلية تتذكر عند ابن رشد "من جهة المتخيلات التي تستند عليها‪،‬‬
‫ولذلك كان النسيان يلحقها كما يلحق المعاني الجزئية"(((‪ .‬ولما كانت هذه المعاني‬
‫الكلية تندرج طبعا ضمن الصور "الكثيرة الروحانية القليلة الجسمانية" ف�إنها تظل صورا‬
‫عسيرة الاسترجاع‪ ،‬والتذكر �إنما يكون خاصة لهذه الصور من جهة متخيلاتها كما نبه‬
‫�إلى ذلك ابن رشد في نفس السياق‪.‬‬
‫كتب ابن رشد نصوصا فقهية وفلسفية كتابة صناعية تتوخى الكلي "على جهة‬
‫التذكرة" حفظا للمعرفة من الدروس والنسيان‪ ،‬وتثبيتا لحالة الكمال ال�إ نساني التي يريدها‬
‫لكثير من �أهل عصره‪ .‬ولما كان الحفظ باعتباره "استصحاب وجود المعنى المحسوس‬
‫في القوة الذاكرة من غير �أن ينقطع"((( مما يتعذر على المرء‪.‬‬
‫�إن الحفظ والتذكر �أساسيان في سيكولوجية ابن رشد‪ ،‬وهما يؤسسان للطريقة التي‬
‫كتب بها نصوصا كثيرة ليستذكر بها حاجته من المعرفة عند الضرورة(((‪ .‬ول�أهمية الحفظ‬
‫نجد ابن رشد يعدل �أحيانا عن تعليم الحكيم �أرسطو‪ ،‬في كتابة نصوصه‪ ،‬ل�أنه ينشد‬
‫‪ - 1‬تلخيص الحس والمحسوس ص ‪.37‬‬
‫‪ - 2‬نم ص ‪.39‬‬
‫‪ - 3‬نم ص ‪.43‬‬
‫‪ - 4‬نم ص ‪.47‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص الحس والمحسوس ص ‪.43‬‬
‫‪ - 6‬يعرف ابن منظور "التذكرة" ب�أنها "ما تستذكر به الحاجة"‪ ،‬لسان العرب دار صادر المجلد الرابع ب‪.‬ت ص‬
‫‪ .309‬وسنجد هذا المفهوم عندالقرطبي الذي يصرح في تفسيره "الجامع ل�أحكام القر�آن" �أنه �إنما كتبه تذكره‬
‫لنفسه ج‪ 1‬ص‪3‬‬
‫‪179‬‬
‫الرياضة الذهنية(((‪ ،‬ويسلك سبيل ثامسطيوس وثاوفرسطس في ترتيبهما ل�أنه "يشبه �أن‬
‫يكون �أكثر صناعيا و�أعون على الحفظ والتحصيل"(((‪.‬‬
‫�إذا كان اللجوء �إلى الصناعي يرجع �إلى اختيار علمي((( ف�إن من مقاصده تيسير الحفظ‬
‫والتذكرة‪ .‬فالصناعة تصبح معقولة عند من لم يصنعها لكونها صادرة عن عقل وهي‬
‫الصورة التي في نفس الصانع(((‪ ،‬ولذلك فالصناعي ضد البخت والاتفاق(((‪ .‬وعندما‬
‫يحصل العلم صناعة ف�إنه يصبح ملكة ((( مما يجعله �أدعى �إلى ثباته(((‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫(الكلي‪-‬التام ) و(ال�أشهر‪ -‬الكافي)‬
‫تقوم الكتابة على المجرى الضروري ‪ -‬الصناعي عند ابن رشد على زوجين �أساسيين‪:‬‬
‫الكلي – التام‪ / ‬ال�أشهر – الكافي‪.‬‬
‫�أ ‪ -‬الكلي ‪ -‬التام‬
‫يعتبر هذان المفهومان من المفاهيم ال�أساسية في الكتابة الرشدية‪ ،‬فهما حاضران في‬
‫متنه الفلسفي ويقودانه في كتابته الضرورية – الصناعية‪ .‬فكيف يفهم ابن رشد هذين‬
‫المفهومين؟ وما العلاقة التي تجمع بينهما؟‬
‫يقال مفهوم "التام" عند ابن رشد على �أنواع كثيرة‪ ،‬فيقال على الكل‪ ،‬ويقال على‬
‫الذي لا ينقصه شيء من نوع فضيلته‪ ،‬ويقال على ما له غاية فاضلة‪ ،‬وما له غاية تامة(((‪.‬‬
‫�أما "الكلي" فهو �أيضا يقال على �أنواع كثيرة؛ فيقال على الذي لم يذهب منه جزء من‬
‫ال�أجزاء‪ ،‬ويقال على المحيط والمحاط به‪ ،‬وهذا يقال على نوعين يقال عن الكل والكلي‪،‬‬
‫كما يقال الكل على المتصل ذي النهاية‪ .‬لكن �أهم دلالة تهمنا في هذا السياق هي‬
‫‪ - 1‬تلخيص الجدل ص‪274‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص الجدل ص‪ 320‬وص ‪368‬‬
‫‪ - 3‬يقول ابن رشد "�إن الصناعة راجعة �إلى الاختيار" تلخيص ما بعد الطبيعة ص‪81‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص ما بعد الطبيعة ص‪49‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص البرهان (بدوي ) ص‪ ،137‬ومقالة اللام ص ‪ ،1456‬ومقالة الهاء ص‪ ،736‬ومقالة الزاي ص‪.841‬‬
‫‪ - 6‬تلخيص المقولات ص‪71‬‬
‫‪ - 7‬تلخيص المقولات ص‪72‬‬
‫‪ - 8‬مقالة الدال تفسير ما بعد الطبيعة تح موريس بويج الطبعة الثالثة دار المشرق بيروت ‪ 1990‬ص ‪.626-623‬‬
‫‪180‬‬
‫دلالة الكلي "الذي يحمل على ال�أشياء الجزئية فتصير واحدة" (((‪� .‬أو على الكلام الكلي‬
‫الذي"هو الكلام المشترك لجميع الموجودات التي ينطبق عليها ذلك الكلام"(((‪ ،‬وهذا‬
‫الكلي هو �أساس المعرفة عند ابن رشد‪ ،‬فما هو غير متناه لا يحصل عنه �أمر كلي تعرف‬
‫منه الجزئيات التي تحته‪� ،‬إن هذه المعرفة لا تحصل �إلا �إذا كانت المقدمات التي ننطلق‬
‫(((‬
‫منها مقدمات عامة وتحتها جزئيات غير متناهية‪ .‬كما يورد ابن رشد من قول لل�إ سكندر‬
‫�إنه �إذا لم يحصل الكلي ارتفع العلم ل�أنه لا علم �إلا بالكلي‪ .‬فالنظر في المسائل الكلية‬
‫يصير بنا �إلى معرفة الجزئيات التي تحتها‪ ،‬بل و�إلى معرفة جميع الجزئيات غير المتناهية‬
‫بالقوة(((‪ .‬لكن هل هذا ال�أمر ينطبق على جميع الكليات �أم �أن الكليات التي ينطبق عليها‬
‫بالقصد ال�أول من طبيعة خاصة؟‬
‫�إن الكليات هي التي تفعل المعرفة المجهولة(((‪ .‬من هنا يؤكد ابن رشد ‪-‬في هذا‬
‫الصدد‪� -‬أن من شرط الكليات التي يمكن �أن تتذكر في التعليم ويمكن �أن يستنبط عنها‬
‫شيء ما بسرعة‪� ،‬أن تكون كليات قريبة لا كليات في غاية العموم‪ ،‬عندئذ فقط يصير‬
‫من الكلية القريبة �إلى الجزئي بطريق صناعي‪ ،‬و�إلا �إذا كانت الكليات عامة في الغاية ف�إنه‬
‫لا يصار منها �إلى الجزئي �إلا بضرب من العرض والاتفاق(((‪ .‬ومن هنا حرص ابن رشد‪،‬‬
‫في كتبه التي كتبها على جهة التذكرة‪ ،‬على اقتناص الكليات القريبة التي يصار منها �إلى‬
‫الجزئيات بطريق صناعي محدد من ال�أول‪.‬‬
‫لقد احتفى ابن رشد في متنه الفلسفي بهذين المفهومين‪َ ،‬ف�َأهمه كثيرا متى يحصل‬
‫العلم بالشيء على التمام؟ فوجد هذا العلم التام في العلم بال�أسباب(((‪ ،‬كما شكل هذا‬
‫المفهوم هاجسا له وهو ينظر في كتب �أرسطو و�أقواله هل تحتاج �إلى تتميم �أم لا (((؟ لكن‬
‫‪ - 1‬نم ص ‪.669‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص ال�آثار العلوية تح جمال الدين العلوي ص‪ 18‬وص ‪167‬‬
‫‪ - 3‬يقول ال�إ سكندر ‪" :‬ما هو غير متناه ولا منحصر‪ ،‬فليس يحصل لنا من معرفة �أشخاص منها متناهية �أمر كلي نصير‬
‫منه �إلى �أمور جزئية غير متناهية(‪ ،)...‬و�أما المقدمات العامة للمقدمات الجزئية فمتناهية‪ ،‬وتحتها جزئيات غير‬
‫متناهية‪ ،‬ف�إذا حصلنا العامة منها �أمكننا المصير منها �إلى الجزئية التي تحتها‪ ،‬وحصلت لنا جميع المقدمات الجزئية‬
‫الغير المتناهية بالقوة بحصول العامة المتناهية‪."...‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب الجدل تح محمد سليم سالم الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب ‪ 1980‬ص‪.76‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص الجدل‪ ،‬المرجع السابق ص‪ 76‬وص‪.88‬‬
‫‪ - 5‬تلخيص الحس والمحسوس ص‪.72‬‬
‫‪ - 6‬تلخيص الجدل‪ ،‬المرجع السابق ص‪.471‬‬
‫‪ - 7‬تلخيص النفس مرجع سابق ص‪ 66‬وص ‪.6‬‬
‫‪ - 8‬تلخيص السفسطة تح محمد سليم سالم مطبعة دار الكتب ‪ 1972‬ص ‪55‬‬
‫‪181‬‬
‫مفهوم التمام هو بجهة ما مرادف للكلي عند ابن رشد(((‪ ،‬ف�إذا كان العلم الجزئي ليس‬
‫علما ل�أنه لا يعكس ماهيات ال�أشياء‪ ،‬ف�إن المعاني الكلية من جملة الشروط التي تعطي‬
‫التمام للمعرفة‪ ،‬ل�أن ال�أمور الكلية لا تقبل التغيير(((‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ال�أشهر ‪ -‬الكافي‬
‫�أما الزوج ال�أشهر ‪ -‬الكافي‪ ،‬فيشكل حضوره ثقلا �أساسيا في الكتابة الرشدية‪ ،‬و�إذا‬
‫كنا لم نجد عند ابن رشد لمفهوم الكفاية تعريفا له‪ ،‬ف�إن تردده في كتاباته يمكننا من‬
‫استخلاص تعريف له من ت�أمل معانيه الواردة في الحقل الدلالي العربي‪ .‬جاء في لسان‬
‫العرب ‪":‬كفى يكفي كفاية �إذا قام بال�أمر‪ ،‬ويقال كفاك هذا ال�أمر �أي حسبك‪ ،‬وكفاك‬
‫هذا الشيء‪ .‬وفي الحديث‪ :‬من قر�أ ال�آيتين من �آخر سورة البقرة كفتاه �أي �أغنتاه عن قيام‬
‫الليل‪ .‬وقيل �إنهما �أقل ما يجزئ في القراءة في قيام الليل‪ .‬وقال سبحانه {�أو لم يكف بربك‬
‫�أنه على كل شيء شهيد} معناه �أو لم يكف بربك‪� ،‬أولم تكفهم شهادة ربك‪ ،‬ومعنى‬
‫الكفاية هاهنا �أنه قد تبين لهم ما فيه كفاية في الدلالة على توحيده[‪ ]...‬يقال كفاه ال�أمر‬
‫�إذا قام فيه مقامه‪ .((( ".‬وهكذا فكل ما قام بال�أمر و�أغنى عن غيره و�أجز�أ فيجب الوقوف‬
‫عنده‪ ،‬وهو كاف في المعرفة من الطول وحشو الكلام‪ .‬وهذا الكافي وجده ابن رشد في‬
‫القواعد وال�أصول التي تقوم عليها المعرفة‪ ،‬فلسفية كانت �أو فقهية‪ .‬وعندما يجد صناعة‬
‫"من تكلم فيها لم يتكلم فيها بما هو كاف في �أمرها"‪ ،‬ف�إنه يتصدر لذلك كما فعل مع‬
‫صناعة الخطابة حيث سيقول فيها قولا كافيا في �أمرها بالحديث عن ال�أجزاء التي تت�ألف‬
‫منها‪ ،‬وكيف ت�أتلف منها‪ ،‬وعن جنسها وفصلها(((‪ .‬ولا يكون القول كافيا عند ابن رشد �إلا‬
‫اذا استجمع كفايتين‪ ،‬فكان كافيا بحسب غرض المؤلف‪ ،‬كافيا بحسب الحق في نفسه‬
‫�أيضا(((‪ ،‬مما يجعل لمفهوم الكافي علاقتين علاقة بالغرض‪ ،‬وعلاقة بالحق؛‬
‫‪ -‬لا يفت�أ ابن رشـد‪ ،‬عند كل كتابة صناعية‪ ،‬من تحديد غرضه من هذه الكتابة‪،‬‬
‫فيحدد مقاصده من ت�أليفه ويرسم �أهدافه ومراميه‪ .‬وهو ما يمكن اعتباره الشرط الذاتي‬
‫في الكتابة على المجرى الصناعي‪ .‬لكن القول لا يكون كافيا �إذا كان غرض المؤلف لا‬
‫‪ - 1‬تلخيص ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين مطبعة مصطفى الحلبي بمصر القاهرة ‪ 1958‬ص ‪.28‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في السياسة نقله من العبرية �إلى العربية الدكتور �أحمد شحلان‪ .‬نشر مركز دراسات الوحدة العربية‬
‫ص ‪.113‬‬
‫‪ - 3‬لسان العرب المجلد الخامس عـشر ص ‪. 226-225‬‬
‫‪ - 4‬تلخيص الخطابة ص ‪15‬‬
‫‪ - 5‬مناهج ال�أدلة‪ ،‬نشرة الجابري ص ‪185‬‬
‫‪182‬‬
‫يستقيم مع الشرط الموضوعي للصناعة‪ ،‬بحيث يستوفي �أجزاء القول بموضوعية كاملة ما‬
‫وسعه ذلك و�إلا كان �أقرب �إلى التقصير‪.‬‬
‫�أما مفهوم ال�أشهر فمرتبط عند ابن رشد بصناعة الجدل التي تقوم على المقدمات‬
‫المشهورة‪ ،‬كما �أنه مرتبط بالمحمود في الشرع(((‪ ،‬ومرتبط‪ ،‬كذلك‪ ،‬ب�أسلوب التعليم‪،‬‬
‫�إذ �إن "�أفضل القول في التفهيم‪ ،‬المشهور"(((‪ .‬والتعليم بالمشهور "لذيذ ومحبوب عند‬
‫الجميع"(((‪ .‬لكن ليس كل مشهور بصادق ((( ومعروف بنفسه(((‪� ،‬أما المعايير التي نحكم‬
‫بها على المشهور فهي "الشهادات و�أنواعها"(((‪ .‬من هنا التعارض بين المشهور والشاذ‬
‫من ال�أقوال(((‪ ،‬وهو ما كان يقيمه ابن رشد كثيرا في البداية‪ .‬وتكمن �أهمية المشهورات‬
‫عندما ت�أتي لتقوي البيانات البرهانية على جهة الاستظهار‪ ،‬كما يذكر ابن رشد عن عادة‬
‫�أرسطو في الكتابة(((‪.‬‬
‫حرص ابن رشد في كثير من كتاباته على استيفاء المعاني المشهورة‪� ،‬أو التي بحسب‬
‫ال�أشهر‪ ،‬كما نجد في تلخيص كتاب المقولات((( من �أجل بسط ما هو كاف في الصناعة‬
‫وتقريبها �إلى المخاطبين بها‪ ،‬وابن رشد يؤسس ذلك على تقليد �أرسطي لايني يتبعه �أرسطو‬
‫في الكلام في ال�أشياء على جهة الشهرة(‪ ،((1‬وهو التقليد الذي �أ ّمه ابن رشد في كتاباته‬
‫كما نجد في "البداية" و"الكليات" وفي "الضروري في السياسة" عند تعداد المشهور في‬
‫زمانه من �أنواع الغايات(‪.((1‬‬
‫و�إذا كان ال�أشهر يخدم الكافي‪ ،‬ف�إن الكلي بدوره يخدم ال�أشهر‪� ،‬إذ �إن المعاني الكلية‬
‫في الصنائع هي دوما معاني مشهورة‪ ،‬واستيفاء القول فيها يحقق كفاية علمية ويمكنه �أن‬
‫‪ - 1‬تلخيص السفسطة مرجع سابق ص ‪ 94‬وص ‪.96‬‬
‫‪ - 2‬تلخيص السفسطة ص ‪.142‬‬
‫‪ - 3‬تهافت التهافت ص‪.187‬‬
‫‪ - 4‬ابن رشد‪ ،‬شرح البرهان ص‪.259‬‬
‫‪ - 5‬تهافت التهافت ص‪.14‬‬
‫‪ - 6‬شرح البرهان ص‪161‬‬
‫‪ - 7‬يقول الرازي ‪... " :‬فعليك بال�أشهر مما �أجمع عليه‪ ،‬ودع الشاذ واقتصر على ما جربت" ابن �أصيبعة‪ ،‬عيون‬
‫ال�أنباء ج‪ 2‬ص ‪.350‬‬
‫‪ - 8‬شرح البرهان‪ ،‬ص‪ 181‬وص‪333‬‬
‫‪ - 9‬تلخيص المقولات مرجع سابق ص‪.123-122‬‬
‫‪ - 10‬تلخيص المقولات ص‪.63‬‬
‫‪ - 11‬ص ‪.143‬‬
‫‪183‬‬
‫يصل بالعلم �إلى تمامه‪� ،‬إذ �إن الوقوف عند جزئيات العلوم لا يجعل المعرفة علمية من‬
‫جهة‪ ،‬كما �أن هذا ال�أمر مما ينقطع العمر دونه‪ ،‬كما يحب ابن رشد �أن يقول‪.‬‬
‫�إذن فالمعرفة الضرورية في الكمال ال�إ نساني عند ابن رشد هي المعرفة الكلية والتامة‪،‬‬
‫التي تتميز بالشهرة والكفاية العلمية تجري على الترتيب الصناعي‪ ،‬وما دونها من المعرفة‬
‫فيمكن �أن تكون ذات �أهمية ولكن على جهة ال�أفضل لا على جهة الضرورة‪ .‬من هنا هذا‬
‫الاحتفاء الرشدي بهذه المفاهيم ال�أساسية التي سوف يتردد صداها في كثير من �أجزاءلمتنه‬
‫العلمي لتؤكد وحدة الممارسة العلمية لديه في الفلسفة والفقه على السواء‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫وحدة الكتابة الفلسفية والفقهية‬
‫عند ابن رشد‬
‫[نماذج]‬
‫الغرض من هذا المبحث تقديم رؤية تطبيقية للمبحث السابق في �أفق بيان �أن الكتابة‬
‫الرشدية تخضع لضرب من الوحدة المنهجية‪ ،‬وسن�أخذ‪ ،‬لهذا الغرض‪ ،‬بعض النماذج‬
‫من الكتابة الرشدية نحصيها في ‪" :‬مختصر المستصفى"‪ ،‬و"بداية المجتهد"‪ ،‬و"مناهج‬
‫ال�أدلة"‪ ،‬و"مختصر النفس"‪ ،‬و"الضروري في المنطق"‪ ،‬و"الضروري في النحو"‪ .‬وقد‬
‫كان بال�إ مكان معالجة كتاب "الكليات في الطب" باعتباره قولا في الضروري في القول‬
‫الطبي‪ ،‬و"تهافت التهافت" باعتباره كتابا في الضروري في الفلسفة‪ ،‬وكتاب "جوامع ما‬
‫بعد الطبيعة" باعتباره كتابا في الضروري في الميتافيزيقا‪ ،‬وكتاب جوامع سياسة �أفلاطون‬
‫�أو "مختصر كتاب سياسة �أفلاطون"‪ ،‬باعتباره كتابا في "الضروري في السياسة"(((‪ ،‬ولكننا‬
‫سنقتصر على هذه النماذج الستة‪ ،‬ل�أن الغاية تقديم نماذج تمثيلية متنوعة من المتن‬
‫الرشدي تعزز ما نقصد بيانه‪.‬‬

‫‪-1-‬‬
‫مختصر المستصفى‪� ،‬أو الضروري في �أصول الفقه‬
‫يعتبر كتاب ابن رشد في "الكلام الفقهي"‪ ،‬كتاب مختصر المستصفى‪ ،‬من الكتب‬
‫التي تظهر فيها بشكل واضح منهجية الكتابة التي قدمنا بعضا من معالمها فيما سبق‪.‬‬
‫فالكتاب مختصر‪ ،‬كما يؤكد ابن رشد على ذلك(((‪ ،‬يقدم الكفاية من الضروري من المادة‬
‫ال�أصولية التي يحتاجها الفقيه((( لممارسة الاجتهاد؛ كتبه ابن رشد "على جهة التذكرة"‬
‫لنفسه‪" ،‬بقول موجز ومختصر صناعي"(((‪ ،‬متوخيا ال�أشهر مع حرص تام على �أن تصل‬
‫صناعة �أصول الفقه �إلى كليتها وتمامها‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر مدخل ال�أستاذ الجابري للكتاب الذي نقـله عن العبرية �إلى العربية ال�أستاذ �أحمد شحلان مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية ط‪.1998 ،1‬‬
‫‪- 2‬الضروري ص‪.60‬‬
‫‪ - 3‬الضروري ص‪.84‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص‪.34‬‬
‫‪187‬‬
‫وقد عمد ابن رشد �إلى كتاب �أبي حامد من �أجل استخراج هذه المادة الضرورية‪،‬‬
‫ل�أن كتاب الغزالي كتب بفنية عالية تجلت في ترتيبه الصناعي ال�أمثل‪ .‬لذا صرح �أبو‬
‫الوليد بتحريه ما هو صناعي في مستصفى الغزالي من خلال مفهوم الضروري‪ .‬وهكذا‬
‫سيعمل ابن رشد على تخليص ال�أصول مما اعتبره غير ضروري فيها‪ ،‬فنجده يخرج من‬
‫ال�أصول المباحث المنطقية(((‪ ،‬وبعض المباحث اللغوية(((‪ ،‬وبعض المسائل الاجتهادية(((‪،‬‬
‫والفروعية(((‪� .‬إذ لا حاجة للمجتهد بتفاريع الفقه(((‪ ،‬وكذلك بعض المباحث الكلامية(((‪.‬‬
‫حرص ابن رشد على تخليص ال�أصول من التكلف المفضي �إلى التشويش(((‪ .‬ولا يتردد‬
‫في بعض المباحث التي �أوردها الغزالي �أن يقول ‪":‬وهذا كله ليس من هذا العلم"(((‪.‬‬
‫ويتعجب من �أبي حامد الذي يجعل النظر في بعض المسائل في جزء معين من كتابه(((‪،‬‬
‫مؤكدا منهجيته في الاختصار الذي هو ضرب من الحذف‪ .‬وهكذا نجده عندما يقف‬
‫عند الترجيح ك�آلية في الت�أويل الفقهي لا يخوض فيه كثيرا على �أساس �أن"ال�أشياء التي يقع‬
‫بها الترجيح تكاد لا تتناهى"(‪ .((1‬كذلك عندما يقف عند ال�إ جماع عند �أبي حامد يقول‬
‫فيه‪ ،‬وفي شروطه‪ ،‬قولا مختصرا يغني عن �إطناب الغزالي‪ .‬ثم يقف عند ذلك‪ ،‬غير خائض‬
‫في المسائل التي تلحقه والاعتراضات التي �أكثر �أبو حامد من ذكرها ل�أن هذه المسائل‬
‫والاعتراضات "قد يقف عليها بسهولة من تصور ال�إ جماع هذا المقدار الذي كتبناه"(‪،((1‬‬
‫وهو المقدار الذي يعتبره ابن رشد كافيا في تصور ال�إ جماع‪.‬‬
‫مفهوم الكفاية من المفاهيم التي تخترق النص جميعه‪ ،‬وتلحم المقادير الضرورية‬
‫من المعرفة ال�أصلية بلحمة خاصة لتقدمها للفقيه المترقي عن حضيض التقليد �إلى يفاع‬
‫‪ - 1‬الضروري ص ‪.37‬‬
‫‪ - 2‬فنجده مثلا يقول ‪":‬فهذا النظر لغوي وهو �أليق بغير هذا الموضع" الضروري في �أصول الفقه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.49‬‬
‫‪ - 3‬يقول ابن رشد ‪...":‬فتلك مس�ألة اجتهادية تحتمل الوجهين‪ ،‬وهي خارجة عن هذا الغرض" ص‪،60‬‬
‫ويقول‪":‬وبالجملة فهي مس�ألة اجتهادية‪...‬فهي قليلة الغناء" ص‪.64‬‬
‫‪ - 4‬يقول ابن رشد ‪" :‬و�إلحاق مس�ألة مس�ألة بهذين الصنفين نظر فروعي"ص‪55‬‬
‫‪ - 5‬الضروري ص‪138‬‬
‫‪ - 6‬الضروري ص‪ 42‬و‪ 43‬و‪.45‬وص‪.63‬وص‪84‬‬
‫‪ - 7‬الضروري ص‪43‬‬
‫‪ - 8‬الضروري ص‪43‬‬
‫‪ - 9‬الضروري ص ‪.49‬‬
‫‪ - 10‬الضروري ص ‪75‬‬
‫‪- 11‬الضروري ص‪.95‬‬
‫‪188‬‬
‫الاجتهاد‪ .‬فهذا المفهوم يظهر من أ�ول النص(((‪ ،‬ويخترق النص جميعه ليستبعد كل ما‬
‫هو زائد عن الكفاية المعرفية المتوخاة‪ ،‬ويثبت ما هو كاف في المعرفة ال�أصولية‪ ،‬كما‬
‫يظهر في هذا النص التمثيلي‪":‬وبالجملة فالنظر فيما يجوز من هذا على الله تعالى وما لا‬
‫يجوز ليس يخص الفقيه بما هو فقيه‪ ،‬والذي يكفي الفقيه من هذا �أن يسلم �أن في الشرع‬
‫�أحكاما رفعت بعد ال�أمر بها‪ ،‬ويعتقد ذلك سواء كان ذلك كشفا عن انقضاء مدة العبادة‬
‫�أو لم يكن‪ ،‬و�إن وقوع مثل هذا شرعا مما ثبت تواترا‪ .‬و�أما تجويز وقوعه عقلا فليس يخصه‬
‫النظر فيه ولا في جهة جوازه‪.".‬‬
‫يكفي الفقيه المشهور من ال�أقاويل‪ ،‬وهو مبني عنده على اعتماد ما عليه جماهير‬
‫ال�أمة‪ ،‬وعلى ما تقتضيه كثير من ال�آيات "لهذه ال�أمة [من] التعظيم والتشريف واتباع‬
‫سبيلهم وموافقتهم والنهي عن مخالفتهم والخروج عن جماعتهم "(((‪ .‬وقول ابن رشد‬
‫�إنه يكتب على عادة الفقهاء يتردد في �أكثر من موضع(((‪ ،‬وهو في ذلك يسلك المشهور‬
‫ويتنكب سبيل الشذوذ‪ ،‬وما سبيله "التحكم في الشرع بال�أهواء وال�إ رادات"‪ .‬كما يلمس‬
‫من النقد العنيف الذي صبه ابن رشد على �أبي حامد في مس�ألة فقهية ينتصر فيها الغزالي‬
‫لظنية الدلائل المستعملة في الاجتهاد و�أنه "يحصل عنها النقيضان بالسواء و�أن الترجيح‬
‫فيها �إنما هو بحسب ما طبع عليه شخص شخص من الميل �إلى حكم حكم‪ ،‬ونازلة‬
‫نازلة"‪ ،‬ليعتبر ابن رشد هذا القول سفسطائيا ويحذر من خطره العظيم على الشريعة(((‪.‬‬
‫و�إن كان في "بداية المجتهد" سيراجع موقفه هذا بعض مراجعة(((‪.‬‬
‫كتب المختصر بترتيب صناعي‪ ،‬وابن رشد لا يني يسمي �أصول الفقه بالصناعة(((‪،‬‬
‫وهو ما يبدو في حرصه على وضع كل قول في موضعه الخاص به فلا يخلط بين‬
‫المعارف‪ ،‬وهو ما يترجمه حذفه القول المنطقي‪ ،‬وكذلك بعض الاعتراضات التي يحتاج‬
‫القول فيها �إلى "قواعد تحتاج �إلى تمهيد طويل وفحص كثير‪ ".‬في حين "�أنه ليس ينبغي‬
‫�أن نفحص عن كل شيء ولا عن �أشياء كثيرة في موضع واحد"‪ .‬بل �إن النظر الصناعي‬
‫‪ - 1‬الضروري ص يقول ابن رشد‪ " :‬ف�إن غرضي من هذا الكتاب �أن �أثبت لنفسي‪...‬جملة كافية بحسب الضروري‬
‫في هذه الصناعة"ص‪.34‬‬
‫‪ - 2‬الضروري ص‪90‬‬
‫‪ - 3‬يقول ابن رشد ‪" :‬ومن عادتهم ‪....‬كما �أن من عادتهم‪"..‬ص‪ ،117‬ويقول ‪.. ":‬لكن ر�أينا �أن نجري ‪...‬على‬
‫عادة المتكلمين"ص‪ ،37‬ويقول ‪" :‬وقد يتعلق بالكلام في هذا مسائل نحن نرسمها على عادتهم" ص‪.122‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص‪140‬‬
‫‪ - 5‬بداية المجتهد ج ‪ 5‬ص‪11‬‬
‫‪ - 6‬الضروري ص ‪ ،101‬وص ‪.102‬‬
‫‪189‬‬
‫يقتضي "�أن يفرد بالقول كل واحد منها في الموضع اللائق به"((( والذي يحمل على هذا‬
‫الخلط عند ابن رشد هو "حب التكثير بما ليس يفيد شيئا"(((‪.‬‬
‫يبرز النظر الصناعي �أيضا في حرص ابن رشد على ما هو كلي في ال�أصول‪ ،‬وهو لا‬
‫يتردد مثلا في �أن يعطي قوانين كلية تدخل تحتها ال�أشياء التي يحتج بها من يجوز ت�أخير‬
‫البيان(((‪ ،‬وفي حرصه �أيضا على المشهور من ال�آراء ال�أصولية‪ ،‬و�إن كان يطرح مشروعا‬
‫علميا في الكتابة في �أصول الفقه هو المشروع الكفيل بجعل صناعة �أصول الفقه "تامة‬
‫وكلية وكافية" كما يقول(((‪ .‬ويتحدد هذا المشروع في كتابة �أصولية تتحرى النظر في‬
‫�أقاويل المختلفين في ال�أشياء التي يفحص عنها ال�أصولي‪ ،‬وعرضها‪ ،‬مع رد هذه ال�أقاويل‬
‫�إلى ال�أسباب التي دعت �إلى الاختلاف فيها‪ ،‬وذلك على غرار ما فعله في البداية بالمسائل‬
‫المنطوقة بها في الشرع‪� .‬إذ هذا هو "النظر الصناعي" الكفيل ب�أن يصل ب�أصول الفقه‬
‫�إلى كماله "في نظر الجميع من �أهل الاجتهاد"(((‪ ،‬ويجعل ال�أصولي "من �أهل الحق"(((‪.‬‬
‫وابن رشد و�إن كان لا يقدم على كتابة من هذا القبيل تصل بصناعة �أصول الفقه �إلى‬
‫تمامها وكفايتها عند جميع الفقهاء‪ ،‬ولجوئه‪ ،‬عوض ذلك‪� ،‬إلى كتابة �أصولية تتقصى عادة‬
‫المتكلمين في الكتابة ال�أصولية ف�إنه �أشار في كتابه الضروري‪ ،‬كما قال‪�" ،‬إلى شيء من‬
‫ذلك الغرض" الذي �أ ّمله من �أصول الفقه والذي يترجمه شعوره العميق بالكمال الذي‬
‫يجب �أن تصله صناعة �أصول الفقه‪.‬‬
‫الجرم‪ ،‬الذي كتبه ابن رشد في الكلام الفقهي‪،‬‬ ‫�إن ما يثير في هذا الكتاب الصغير ِ‬
‫كما كان يحب �أن يسمي �أصول الفقه‪ ،‬هو ت�أكيده في �آخره على ازدواجية الكتابة فيه؛ �إذ‬
‫هو مختصر ومخترع في نفس الوقت‪ .‬هو مختصر ل�أن فيه حذف �إطناب الغزالي وتطويله‬
‫مع حرص على �إيجاز القول الغزالي‪ .‬وهو مخترع ل�أن فيه تتميما وتكميلا وهو الجانب‬
‫‪ - 1‬وهو ما يقوله �أيضا ‪" :‬وينبغي �أن يقال في كل موضع بحسب ما يحتمل ال�أمر المقول فيه" ص‪82‬‬
‫‪ - 2‬الضروري ص ‪.52‬‬
‫‪ - 3‬الضروري ص ‪.106‬‬
‫‪ - 4‬الضروري ص‪37‬‬
‫‪ - 5‬يقول ابن رشد في هذا النص الهام ‪.." :‬و�إما �أن يرسم ويعدد الاختلاف الواقع فيها‪ ،‬وتعطي ال�أحوال والقوانين‬
‫التي بها تستنبط ال�أحكام بحسب ر�أي ر�أي في تلك ال�أصول‪ ،‬وبالجملة كيف لزوم بعض تلك ال�آراء فيها عن‬
‫بعض‪ ،‬ومناسبتها للفروع‪ ،‬حتى يقال مثلا كيف يكون الاستنباط على ر�أي الظاهرية وعلى ر�أي القائـلين بالقياس‪.‬‬
‫وبالجملة بحسب ر�أي ر�أي من ال�آراء المشهورة‪ .‬وهذا الوجه هو ال�أنفع في هذه الصناعة‪ .‬وبهذا النظر يكون هذا‬
‫الجنس من المعارف صناعة تامة وكلية وكافية في نظر الجميع من �أهل الاجتهاد" ص ‪.37‬‬
‫‪ - 6‬انظر تهافت التهافت تح موريس بويج ص‪.126‬‬
‫‪190‬‬
‫ال ُم َض َّمخ بقسمات ابن رشد الشخصية واستقلاله الفكري‪ ،‬الذي يبرز في جميع كتاباته(((‪.‬‬
‫كتاب الضروري في �أصول الفقه نموذج للكتابة الرشدية التي تخترق كثيرا من �أجزاء‬
‫متنه‪ ،‬مما يجعل للتعدد الرشدي وحدة منهجية واضحة‪.‬‬

‫‪-2-‬‬
‫بداية المجتـهد‪� ،‬أو الضروري في المعرفة الفقهية‬
‫فهم كتاب البداية بمعزل عن السياق العلمي الذي �أنتج فيه ابن رشد كتاباته الفلسفية‬
‫على الخصوص يجعل فهمه �أبعد عن الصواب‪� .‬إن الروح الفلسفية التي تخترق ما سمي‬
‫بالمختصرات والجوامع والتلاخيص ثاوية في كتاب البداية سواء خلال بعض معالم‬
‫المنهجية التي كتب بها وهي المنهجية الصناعية‪� ،‬أو من الروح التساؤلية التي يستهل بها‬
‫ابن رشد كثيرا من �أبواب الكتاب‪� ،‬أو من خلال هذه الروح القوية‪ ،‬روح النظر والت�أمل‬
‫والتدبر‪ ،‬وهي الروح التي جعلها ابن رشد في "فصل المقال" عصب التفكير الفلسفي‪.‬‬
‫لعل من �أسباب الروح الفلسفية التي تسكن البداية �أن ابن رشد كتب كتابه الفقهي في‬
‫خضم نشاطه الفلسفي‪ ،‬و�أن نظره في هذا الكتاب رافقه بياض حياته وراجعه وهو في قمة‬
‫نشاطه الفلسفي‪ .‬و�إن نظرة فاحصة لديباجة كتاب الحج توقفنا على روح فلسفية جديدة‬
‫لانجدها بارزة في ديباجات الكتب ال�أخرى بقوة مما يشي بت�أثير كبير للهاجس الفلسفي‬
‫الرشدي على كتابته الفقهية‪.‬‬
‫�ألف ابن رشد هذا الكتاب في ستينات القرن السادس الهجري"على جهة التذكرة‬
‫لنفسه"‪ ،‬وراجعه في الثمانيات منه‪ .‬وابن رشد في الستينات كان مهموما بما سمي‬
‫بالتلاخيص‪ ،‬وهي شروح على المعنى هدفها رفع قلق العبارة الفلسفية وتحمل من سمات‬
‫الاختصار والجامع الكثير‪ ،‬كما نلمس في"تلخيص كتاب العبارة"‪ ،‬و"تلخيص كتاب‬
‫البرهان"على ال�أقل‪ .‬و َه ُّم التلخيص في "بداية المجتهد" َه ٌّم جلي يتجلى في هذا الحرص‬
‫على تلخيص �آراء الفقهاء من جهة‪ ،‬ورفع قلق العبارة الفقهية من جهة �أخرى‪.‬‬
‫‪ - 1‬الاستقلال الفكري لابن رشد تبرزه هذه الكتب التي �ألفها ليتحرر بها من وصاية غيره؛ فتحرر من وصاية الفقهاء‬
‫بكتابه "بداية المجتهد"‪ ،‬وتحرر من علماء الكلام بـ"بمناهج ال�أدلة"‪ ،‬وتحرر من ال�أطباء بـ"الكليات في الطب"‪،‬‬
‫وتحرر من وصاية الغزالي بـ"مختصر �أصول الفقه" و"تهافت التهافت"‪ ،‬وتحرر من وصاية الفلاسفة المسلمين‬
‫بالتلاخيص والشروح‪...‬‬
‫‪191‬‬
‫لعل أ�هم مظهر في الكتابة الفقهية الرشدية في "البداية" هو مظهر الاختصار‪ ،‬وهو‬
‫المظهر الذي جعله ابن رشد علما على كتابه عندما سماه "مختصر"‪ ،‬وهذا المظهر يقرب‬
‫كتابنا هذا من كتاب ذي نسب عريق بالفلسفة هو كتاب "الكليات في الطب"‪.‬‬
‫لا تكاد الكتابة الرشدية في الكليات تخرج عن كتابته في "بداية المجتهد"‪ ،‬فال َنفَس‬
‫العلمي الذي رافق ابن رشد وهو يكتب الكليات‪ ،‬هو نفسه الذي الحاضر في كتابة‬
‫"بداية المجتهد"‪ ،‬وبالتالي فنفس السمات‪ ،‬ونفس ال�أهداف الكلية يتقاسمانها‪ ،‬و�إن‬
‫كان ابن رشد في البداية �أكثر تصريحا بمقاصده‪ .‬اهتم ابن رشد في "البداية" بالكليات‪،‬‬
‫فحرص على ذكر المسائل الفقهية المشهورة التي تجري مجرى ال�أمهات(((‪ ،‬وال�أصول(((‪،‬‬
‫والقواعد(((‪ ،‬وهي المسائل المجمع عليها والمشهورات المختلف فيها(((‪ .‬وهذه ال�أحكام‬
‫المشهورة �أكثرها منطوق به �أو له تعلق بالمنطوق به(((‪ .‬ولاينس ابن رشد ذكر المـشهور‬
‫الذي يستند �إلى صحابي �أو سماع(((‪ .‬و�إذا شعر �أن المسائل كثيرة ف�إنه يذكر �أشهرها(((‪.‬‬
‫ومن ثم حرص ابن رشد على ال�إ حاطة بالقواعد الفقهية(((‪ ،‬وال�أصول الكلية(((‪ .‬بل �إنه‬
‫عندما يقارب المذهب المالكي ف�إنه يقاربه من خلال ما اشتهر فيه(‪.((1‬‬
‫�إن ابن رشد حريص على ما هو كاف في غرضه الذي قصد �إليه‪ .‬من هنا نجد مفهوم‬
‫"الكفاية" حاضرا بشكل كبير في البداية‪ ،‬فهو يتحدث عن القواعد الكافية(‪ ،((1‬وعن‬
‫ال�أصول الكافية(‪ ((1‬سيرا على منهجه في اختصار الضروري من المعرفة الفقهية التي لا‬
‫يكمل الفقيه والفقه �إلا بها ‪ .‬فليس غرض ابن رشد تجمي ُع المعرفة الفقهية بدون ضوابط‪،‬‬
‫‪ - 1‬بداية المجتهد مرجع سابق الجزء ال�أول ص ‪.349‬‬
‫‪ - 2‬نم ص ‪.403‬‬
‫‪ - 3‬نم ص‪.448‬‬
‫‪ - 4‬نم ص‪.518‬‬
‫‪ - 5‬نم الجزء الثالث ص‪.193‬‬
‫‪ - 6‬نم الجزء الثاني ص ‪483‬‬
‫‪ - 7‬نم الجزء الرابع ص ‪.513‬‬
‫‪ - 8‬نم ص‪ 527-‬وص ‪.542‬‬
‫‪ - 9‬نم ص ‪.534‬‬
‫‪ - 10‬نم الجزء الثاني ص‪.27‬‬
‫‪ - 11‬نم ص ‪ 46‬وص ‪.95‬‬
‫‪ - 12‬نم ص ‪ 68‬وص‪.131‬‬
‫‪192‬‬
‫بل الهدف من البداية تحصيل ال�أصول الكلية المشهورة لا تفريع الفروع(((‪ ،‬بل �إنه ينتقد‬
‫الفقهاء في زمانه الذين يظنون "�أن ال�أفقه فقط هو الذي حفظ مسائل �أكثر"(((‪.‬‬
‫وفي عرض ابن رشد هذه ال�أمور يتحرى القول الصناعي ل�أنه القول الجاري على‬
‫نظام(((‪ .‬من هنا تقسيم مصنفه �إلى كتب‪ ،‬وتقسيم الكتاب �إلى �أبواب كما نجد في كتاب‬
‫الطهارة‪� ،‬أو تقسيم الكتاب �إلى جمل‪ ،‬والجملة �إلى مسائل �أو �إلى �أبواب‪ ،‬وتقسيم الباب‬
‫�إلى فصول كما نجد في كتاب الصلاة‪ ،‬وتجوزا في كتاب �أحكام الميت‪ .‬و�أحيانا لا‬
‫يحرص ابن رشد على هذا التقسيم فيلج�أ �إلى تقسيم �آخر كما نجد في كتاب الزكاة‪ .‬و�إذا‬
‫كان ابن رشد لم يراع تقسيما واحدا‪ ،‬ف�إنه قد حرص في كل كتاب على تقديم ال�أصول‬
‫المحيطة بالعبادة التي يقف عليها‪.‬‬
‫تتجلى صناعية البداية في حرص ابن رشد على عدم تكرار ما سبق �أن تحدث عنه‬
‫و�إن كان السياق مختلفا(((‪ ،‬وحرصه على ترك كل مس�ألة �إلى مكانها(((‪ ،‬وحرصه‪ ،‬عند‬
‫الوقوف عند كل مس�ألة من مسائل الفقه المشهورة‪ ،‬على �أن يذكر المجمع عليه فيها‬
‫والمختلف فيها‪ ،‬ويقف عند �أسباب الخلاف َف ُيفيض �أحيانا و ُيجمل �أحيانا‪ ،‬ولكنه دائما‬
‫حريص على الضروري‪ ،‬مما يبدو في تحريه الانتباه �إلى ما قد ُيستدرج له من قول ُيخرج‬
‫الكتاب عن صناعيته‪ ،‬فتتردد في كتابه كثيرا عبارة‪" :‬وليس قصدنا[‪]...‬كما �أنه ليس‬
‫قصدنا[‪ .((("]...‬فالكتاب رغم جلالة قدره‪ ،‬ليس �إلا مختصرا‪ ،‬كما �أشار �إلى ذلك‪ .‬لذا‬
‫نجده مثلا لا يتعرض لمسائل فصلت في المذهب المالكي ل�أن ذلك غير موافق لغرضه(((‪.‬‬
‫ويتحرى ما هو قانون عند المالكية(((‪ ،‬و�إن كان يشكو من افتقار المذهب المالكي �إلى‬
‫قانون يجمع مسائله(((‪.‬‬
‫هذا الترتيب الصناعي لكتاب البداية يبدو �أن وراءه هاجس"التذكرة" الذي كان من‬
‫الدوافع ال�أساسية التي نهضت بابن رشد �إلى كتابة مصنفه هذا‪ ،‬كما يصرح في مقدمة‬
‫‪ - 1‬نم الجزء الرابع ص ‪.521‬‬
‫‪ - 2‬نم ج‪ 5‬ص ‪.69‬‬
‫‪ - 3‬نم ص‪203‬‬
‫‪ - 4‬نم ج‪ 2‬ص ‪ .37‬وص ‪.255‬‬
‫‪ - 5‬نم الجزء الرابع ص‪ 64‬وص‪.243‬‬
‫‪ - 6‬نم ص ‪.424‬‬
‫‪ - 7‬نم الجزء الثالث ص ‪66‬‬
‫‪ - 8‬نم ص‪.287‬‬
‫‪ - 9‬نم الجزء الرابع ص ‪.514‬‬
‫‪193‬‬
‫كتابه‪ .‬وهاجس التذكرة يعول على الحفظ‪ ،‬والترتيب الصناعي مساعد على ذلك‪ ،‬خاصة‬
‫�إذا كان القول المرتب صناعيا مما تدعو الحاجة �إليه باستمرار ل�أجل الفتوى التي كان‬
‫يتصدر لها فيلسوف الفقهاء في مجلسه القضائي‪ .‬لقد وضع ابن رشد كتابه ليبلغ به‬
‫المجتهد رتبة الاجتهاد �إذا حصل قدرا كافيا �أيضا من علم النحو واللغة وصناعة �أصول‬
‫الفقه(((‪ .‬وبداية المجتهد يقدم جملة الدساتير والقوانين الفقهية الكلية الكافية التي يستطيع‬
‫الفقيه �أن يستنبط منها ال�أحكام التي تنصب على الوقائع وال�أحداث الجزئية التي عادة ما‬
‫لا تتناهى‪ ،‬فيكون مجتهدا حيث يسود التقليد‪ ،‬مبدعا حيث يسود الجمود‪ ،‬وهو درس‬
‫من الدروس التي يريد ابن رشد �أن يقدمها لقارئ "البداية"(((‪.‬‬
‫كتاب البداية نقطة مضيئة في تاريخ الفقه المالكي يبرز قيمة الوعي بال�أشياء المختلفة‪،‬‬
‫وينقل الفقه �إلى مرحلة علمية متقدمة ب�إخضاعه الكتابة �إلى منهجية صناعية صارمة دائرة‬
‫حول الحقل الدلالي لمفهوم "الضروري"‪ .‬لكن يبدو �أن جهدا رشديا كهذا لم يخلف �أثرا‬
‫كبيرا يذكر‪ ،‬ل�أن فقه المسائل سيطغى على فقه السنة الذي دعت �إليه البداية‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
‫مناهج ال�أدلة �أو الضروري في العقائد‬

‫كتب ابن رشد هذا الكتاب في الفقه ال�أكبر‪ ،‬وقدم فيه ما اعتبره ضروريا في العقائد‪،‬‬
‫�أو بعبارته "العقائد الواجبة في الشرع والتي لا يتم ال�إ يمان �إلا بها"(((‪ .‬فهو كتاب في‬
‫الضروري من المعرفة العقدية التي تنقل المسلم من كمال �إلى كمال‪ .‬تنقله من حال‬
‫المسلم بالاشتراك �إلى �أن يكون مسلما بالحقيقة(((‪ ،‬وقد سلك ابن رشد في ذلك نفس‬
‫المسلك الذي تتضح معالمه الكبرى في كثير من كتبه؛ فهو يكتبه بلغة الكليات حيث‬
‫‪ - 1‬نم الجزء الخامس ص ‪.69‬‬
‫‪ - 2‬يقول ابن رشد ‪" :‬ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء‪ ،‬ليكون ما يحصل من ذلك‬
‫في نفس الفقيه كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا ممن تقدمه‪� ،‬أو فيما لم يقف على نص‬
‫فيه لغيره" البداية ج‪ 5‬ص ‪.36‬‬
‫‪ - 3‬الكشف عن مناهج ال�أدلة‪ ،‬ص‪134-133‬‬
‫‪ - 4‬الكشف المرجع سابق ص ‪159‬‬
‫‪194‬‬
‫نجده يصرح ب�أن كتابه كتاب في �أصول الشريعة(((‪ ،‬الغرض منه الفحص عن الظاهر من‬
‫العقائد(((‪ .‬وقد حدد ابن رشد هذه العقائد في‪:‬‬
‫‪� -‬إثبات وجود الخالق على �أساس �أن �أول معرفة يجب على المكلف معرفتها معرفة‬
‫الطريق التي تؤدي �إلى معرفة الصانع (((‪ ،‬مؤكدا على طريقين ‪ :‬دليل العناية ودليل‬
‫الاختراع((( باعتبارهما طريقا الجمهور والخواص(((‪.‬‬
‫‪ -‬وفي وحدانيته‪ ،‬وذلك من �أجل نفي الشريك عنه‪ ،‬مقدما "الدليل بالطبع والشرع‬
‫في معرفة الوحدانية" (((‪ .‬منتقدا دليل الممانعة الذي تتكلفه ال�أشعرية باعتباره غير برهاني‬
‫ولا شرعي(((‪.‬‬
‫‪ -‬ومعرفة صفاته السبع‪ ،‬وهي"ال�أوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع‬
‫الموجد للعالم بها" وهي سبعة ‪ :‬العلم‪ ،‬الحياة‪ ،‬القدرة‪ ،‬ال�إ رادة‪ ،‬السمع‪ ،‬البصر‪ ،‬الكلام‪،‬‬
‫مؤكدا �أن "الذي ينبغي �أن يعلم الجمهور من �أمر هذه الصفات هو ما يصرح به الشرع‬
‫فقط وهو الاعتراف بوجودها دون تفصيل ال�أمر فيها هذا التفصيل"(((‪.‬‬
‫‪ -‬وتنزيهه لنفي صفات المخلوق عن الخالق كالموت والنسيان والخط إ�(((‪ .‬مؤسسا ذلك‬
‫على مبد�إ كلي هو �أن "الموجودات محفوظة لا يتخللها اختلال ولا فساد ولو كان الخالق‬
‫تدركه غفلة �أو خط�أ �أو نسيان �أو سهو لاختلت الموجودات"(‪ .((1‬ويترتب على ذلك قول في‬
‫صفة الجسمية التي يرى ابن رشد �أن الواجب "في هذه الصفة �أن يجري فيها على منهاج‬
‫الشرع فلا يصرح فيها بنفي ولا �إثبات"(‪ .((1‬وقول في الجهة مثبتا �أن ظواهر الشرع تقتضي‬
‫الجهة‪ ،‬و�إن كان المعتزلة وال�أشاعرة قد نفياها في حين "�أن �إثبات الجهة واجب بالشرع‬
‫والعقل‪ ،‬و�أنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه‪ ،‬و�أن �إبطال هذه القاعدة �إبطال للشرائع"(‪.((1‬‬
‫‪ - 1‬الكشف ص‪.184‬‬
‫‪ - 2‬الكشف ص ‪ 132‬وص ‪185‬‬
‫‪ - 3‬الكشف ص‪134‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ص ‪.150‬‬
‫‪ - 5‬المرجع السابق ص ‪.153‬‬
‫‪ - 6‬الكشف ص‪.156‬‬
‫‪ - 7‬المرجع السابق ص ‪.157‬‬
‫‪ - 8‬الكشف ص‪167‬‬
‫‪ - 9‬الكشف ص‪169‬‬
‫‪ - 10‬المرجع السابق ص ‪.170‬‬
‫‪ - 11‬الكشف ص‪171‬‬
‫‪ - 12‬الكشف ص‪.178‬‬
‫‪195‬‬
‫وقول في الرؤية‪ ،‬وهو قول مؤسس على القول في الجهة‪ ،‬ف�إذا تم السكوت عن نفي‬
‫الجسمية‪ ،‬وتم النظر �إلى الله تعالى على �أنه {نور السموات وال�أرض} انتفت الحيرة التي‬
‫�أوقعها المتكلمون بالشريعة في هذه المس�ألة(((‪ ،‬والتقى الفلاسفة والجمهور في مس�ألة رؤية‬
‫الله‪ ،‬و�إن كان للراسخين في العلم قول �أعمق في المس�ألة لا يجوز التصريح به(((‪.‬‬
‫ثم معرفة �أفعال الخالق والتي قسمها ابن رشد �إلى خمسة �أقوال ‪:‬‬
‫قول في �إثبات خلق العالم‪ ،‬ل�أن الشرع قصد من معرفة العالم معرفة �أنه مصنوع لله‪،‬‬
‫و�أنه مخترع له‪ ،‬و�أنه لم يوجد صدفة‪ .‬وطريق الشرع في �إثبات هو الطريق البسيط طريق‬
‫العناية(((‪ ،‬الذي يحتفي به ابن رشد كثيرا(((‪.‬‬
‫وقول في بعث الرسل‪ ،‬وابن رشد يؤكد �أن الرسل ظاهرة متواترة في التاريخ‪ ،‬اقتضتها‬
‫العناية ال�إ لهية لسعادة الناس دنيا و�أخرى‪ ،‬والدليل على وجودهم المعجزات الظاهرة من جهة‬
‫وهي من �أفعال الرسالة‪ ،‬ثم �إتيانهم بالشرائع الكاملة (((‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬بهذين الدليلين يجمع‬
‫كعادته بين ما تقتضيه طبيعة الجمهور وما تشرف �إليه همة العلماء‪� ،‬أي الفلاسفة‪ .‬فطريق‬
‫المعجزات الظاهرة‪� ،‬أو بعبارة ابن رشد‪ ،‬طريق المعجز البراني هو طريق تصديق الجمهور‪،‬‬
‫�أما الطريق الثاني‪ ،‬طريق المعجز ال�إ لهي المناسب فمشترك بين الجمهور والعلماء(((‪.‬‬
‫وقول في القضاء والقدر يعتبره ابن رشد "من �أعوص المسائل الشرعية" لتعارض �أدلة‬
‫السمع وحجج العقول حولها(((‪ ،‬مقدما فيها ما يعتبره ظاهرا من مقصد الشرع((( من كون‬
‫ال�أشياء الموجودة عن �إرادتنا يتم وجودها بال�إ رادة ال�إ نسانية وال�أسباب الخارجية(((‪.‬‬
‫وقول في الجور والعدل‪ ،‬والذي يعتبر قول ال�أشعرية فيه قولا "غريبا جدا في العقل‬
‫والشرع"(‪ ،((1‬مقدما ما اعتبره الت�أويل الصحيح للمس�ألة حسب مقصد الشرع(‪.((1‬‬
‫‪ - 1‬الكشف ص‪.186-185‬‬
‫‪ - 2‬المرجع السابق ص ‪.192-191‬‬
‫‪ - 3‬الكشف ص‪193‬‬
‫‪ - 4‬المرجع السابق ‪.197‬‬
‫‪ - 5‬الكشف ص ‪215‬‬
‫‪ - 6‬المرجع السابق ص‪.222‬‬
‫‪ - 7‬الكشف ص‪223‬‬
‫‪ - 8‬المرجع السابق ص ‪.226‬‬
‫‪ - 9‬المرجع السابق ص ‪.228‬‬
‫‪ - 10‬المرجع السابق ص‪.234‬‬
‫‪ - 11‬الكشف ص ‪.339-336‬‬
‫‪196‬‬
‫وقول في المعاد‪ ،‬وهو الذي "قامت البراهين على وجوده و�إنما اختلفت الشرائع[‪]...‬‬
‫في الحقيقة في المثالات التي مثلت بها للجمهور تلك الحال الغائبة(((‪ ،‬عارضا ما يعتبره‬
‫ضروريا في هذه المس�ألة منتصرا للتمثيل الذي في شريعة ال�إ سلام‪ ،‬ل�أنه "�أتم �إفهاما ل�أكثر‬
‫الناس و�أكثر تحريكا لنفوسهم �إلى ما هنالك"((( ‪.‬‬
‫وابن رشد يعرض هذه المسائل الكلية في حرص كبير على ترتيبها ترتيبا صناعيا ظاهرا‪،‬‬
‫فصناعية الكتاب واضحة‪ ،‬وبخاصة في تحديد الغرض من الكتاب وتحاشي كل ما لا‬
‫يصب في الغرض والقصد‪ ،‬وفي ترتيب مسائل الكتاب ترتيبا منهجيا يفضي بعضها �إلى‬
‫البعض‪ ،‬مع الحرص على رفع قلقها الذي �أضفاه المتكلمون على هذه العقائد بوضعهم‬
‫طرقا معتاصة في السلوك �إليها(((‪ ،‬وهي طرق غير صالحة لا للعلماء ولا للجمهور(((‪،‬‬
‫و�إثارتهم شكوكا عويصة في قضاياها((( بما بثوه من ت�أويل مخالف لما قصده الشارع‪،‬‬
‫فسلك ابن رشد في هذا الكتاب نفس المسلك الذي سلكه في كتابة تلاخيصه التي جعل‬
‫غرضه من كتابتها "رفع قلق العبارة الفلسفية"‪ ،‬حيث نجده هنا حريصا كذلك على رفع‬
‫قلق العبارة ال َعقَدية‪ ،‬كما كان حريصا في "البداية" على رفع قلق العبارة الفقهية‪.‬‬
‫يرتبط مفهوم الكلي‪ ،‬الذي عبر عنه ابن رشد بال�أصول‪ ،‬بمفهوم الضروري‪ ،‬حيث‬
‫نجده في الكشف يحصر �أهم ال�أغراض المتعلقة بالشرع((( في ال�أصول الكلية التي‬
‫يقصدها؛ فيحصيها مثلا في ال�آيات الضرورية التي يراها كافية في فهم وجود الصانع(((‪.‬‬
‫كما يحصر الضروري في معرفة الصفات السبع التي تتصف بها الذات ال�إ لهية(((‪ ،‬لينتقل‬
‫بعد ذلك �إلى �إثبات تنزيه الذات ال�إ لهية‪ ،‬فيقول في صفة الجسمية‪ ،‬وفي الجهة‪ ،‬وفي‬
‫مس�ألة الرؤية مقدما في ذلك ما اعتبره "عقائد الشرع ال�أول في التنزيه والمقدار"‪ ،‬الضروري‬
‫الذي سلكه الشرع في تعليم الجمهور ذلك(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬الكشف ص‪240‬‬
‫‪ - 2‬المرجع السابق ص ‪244‬‬
‫‪ - 3‬الكشف ص‪135‬‬
‫‪ - 4‬الكشف ص‪137‬‬
‫‪ - 5‬الكشف ص ‪139-137‬‬
‫‪- 6‬الكشف ص‪251‬‬
‫‪ - 7‬الكشف ص‪152‬‬
‫‪- 8‬الكشف ص‪165-161‬‬
‫‪ - 9‬الكشف ص‪.191‬‬
‫‪197‬‬
‫�إن الضروري مرتبط بمفهوم الكافي‪ ،‬وهو مفهوم يعادل مفهوما �آخر في الكشف وهو‬
‫مفهوم "الق ْدر"‪ ،‬وهو ما يؤكده في القدر المعرفي‪ ،‬في هذه المسائل العقدية الكبرى‪ ،‬التي‬
‫"به تحصل السعادة المشتركة للجميع بدون زيادة ولا نقصان"(((‪ .‬وكما يقول في موضع‬
‫�آخر‪� :‬إن صاحب الشرع يعرف الجمهور من ال�أمور مقدار ما تحصل لهم به سعادتهم(((‪،‬‬
‫وهذا القدر �أو المقدار هو الكافي بنوعيه سواء كان الكافي بحسب الغرض‪� ،‬أو ما يترجمه‬
‫مفهوم المقصد الذي يتردد كثيرا في هذا الكتاب �إلى الحد الذي يمكن القول معه �إن‬
‫كتاب الكشف كتاب في"مقاصد العقيدة"(((‪� .‬أو كافيا بحسب الحق في نفسه بحيث‬
‫لا يسقط منه ما يشكل �أساس النظر العقدي عند المسلم بالحقيقة‪ .‬بل �إنه يجمع بين‬
‫القدر والكافي في عبارة واحدة بحيث يتحدث عن "القدر الكافي"(((‪ ،‬ليتضافر الكافي‬
‫بحسب الغرض‪ ،‬والكافي بحسب الحق((( في جعل كتاب الكشف كتابا في "الكافي‬
‫في العقائد"‪ ،‬على غرار الكافي في الفقه عند ابن عبد البر‪ .‬ومفهوم الكافي في المعرفة‬
‫العقدية‪ ،‬بمعناه ال�أول على ال�أقل‪ ،‬يفتح على مفهوم التمام �إذ �إن"معرفة الغاية المقصودة‬
‫بموجود ما والسبب الذي من �أجله خلق يوقف بالتمام على دليل العناية"‪� .‬إن الكتاب‬
‫يقدم الكافي‪ ،‬ولكن ينفتح على مفهوم التمام لمن �أراد من العلماء �أن يدرك الصنعة �إدراكا‬
‫عميقا لمعرفة الصانع معرفة �أتم‪ ،‬كما قال في "فصل المقال"‪.‬‬
‫�إن لجوء ابن رشد �إلى �آيات القر�آن الكريم من �أجل الحجاج عن �أطروحاته‪ ،‬هو لجوء‬
‫الخ ْطـبـي‬
‫�إلى المشهورات في المجتمع ال�إ سلامي‪ ،‬ل�أن قصده ال�إ قناع‪ ،‬وهو ما يبرز القصد َ‬
‫‪ - 1‬الكشف ص‪.168‬‬
‫‪ - 2‬تهافت التهافت ص‪.429‬‬
‫‪ - 3‬يتردد مفهوم المقصد بشكل ملفت للنظر في كتاب الكشف وهو في صفحتين مثلا يتردد ثمان مرات مما يدل‬
‫على �أن هاجس ابن رشد المقاصدي في الكشف كان قويا‪ .‬ومن �أقواله في هذا الصدد ‪:‬‬
‫‪ -‬الاطلاع على مقصد رسالة محمد �إلى الناس شرط العلم (ص‪.)99‬‬
‫‪ -‬تحري مقصد الشريعة الشارع صلى الله عليه وسلم من العقائد التي قصد الشارع حمل الجمهور عليها‪..‬‬
‫(ص‪.)99‬‬
‫‪ -‬العدول عن مقصد الشارع صلى اللع عليه وسلم‪(...‬ص‪.)100‬‬
‫‪ -‬الضلال عن فهم مقصد الشريعة‪( ...‬ص‪)100‬‬
‫‪ -‬الحشوية فرقة ضالة مقصرة عن مقصود الشرع (ص‪.)102‬‬
‫‪ -‬لو كانت الطريقة الصوفية مقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ‪(..‬ص‪.)117‬‬
‫‪ -‬القصد من معرفة منافع جميع الموجودات معرفة الله معرفة تامة‪(..‬ص‪)119‬‬
‫‪ - 4‬تكفير الفرق بعضها بعضا جهل بمقصد الشرع (ص‪.)251‬‬
‫‪ -‬الكشف ص‪239‬‬
‫‪ - 5‬الكشف ص ‪ 222‬وص ‪239‬‬
‫‪198‬‬
‫من الكتاب مع نفحة جدلية بارزة‪ ،‬ويؤكدها في �أدلة يعرضها بطابعها ال�إ قناعي(((‪ ،‬متحاشيا‬
‫ما هو خاص عند �إثبات �أطروحاته‪ .‬ذلك �أن خطابه موجه للجمهور(((‪ ،‬وهم الذين لم‬
‫يبلغوا مرتبة الجدل((( ولم يتمرسوا بالبرهان(((‪ ،‬و�إن كان ينبه �إلى كثير من مقدمات ال�آراء‬
‫الفلسفية دون �أن يخوض فيها خوضه في كتبه الفلسفية‪ ،‬وك�أن ما يحذوه في الكشف‬
‫حذو التعليم الشرعي‪ ،‬فالشرع ضرب للجمهور المثالات لمزيد فهم و�إقناع‪ ،‬ون ّبه الفلاسفة‬
‫على المعاني الدقيقة لمزيد فحص وت�أمل(((‪.‬‬
‫يؤمن ابن رشد بـ "التّعليم الشرعي" لشهرته‪� ،‬أو بعبارته ل�أنه "نافع لل�أكثر"(((‪ ،‬لذا يفزع‬
‫�إلى القر�آن يستقرئ �آياته((( بحثا عما يعتبره طرقا شرعية تجمع وصفين؛ اليقين والبساطة‬
‫�أي تقل فيها المقدمات(((‪ ،‬ومن ثم يعرض الفرق الكلامية المختلفة على ظاهر الشرع‬
‫ويحاكمها على ضوء ذلك((( ليبين تنكبها عن مقصد الشرع منهجا ومضمونا؛ حيث يتميز‬
‫منهجهم بالعواصة‪ ،‬ومضمون قولهم بكثرة التشكيك‪ ،‬واصما �إياهم بوصمتين شرعيتين‬
‫على ال�أقل؛ وصمة "البدعة"(‪،((1‬ل�أنهم �أحدثوا في الشرع ما ليس فيه كقولهم بنفي‬
‫الجهة(‪ .((1‬ووصمة "الزيغ" ل�أنهم لم يتبعوا ظواهر الشرع ولم يلحقوا بمرتبة �أهل اليقين(‪.((1‬‬
‫�إن كتاب "الكشف" هو كتاب في الضروري؛ في الكلي ‪ -‬ال�أشهر ‪ -‬وفي الكافي‪ .‬وهو‬
‫ما لمسناه في "مختصر المستصفى" و"البداية"‪ ،‬وما سنلمسه في بعض من كتابات ابن رشد‬
‫الفلسفية‪ ،‬مما يبرز �أن الكتابة العلمية عند ابن رشد كانت كتابة واحدة تخضع لمنطق واحد‪.‬‬
‫‪ - 1‬يقول ابن رشد ‪":‬الطرق الشرعية مقنعة �أي �أن التصديق لها �أكثر" ص‪173‬‬
‫‪ - 2‬الكشف ص‪183‬‬
‫‪ - 3‬الكشف ص‪162‬‬
‫‪ - 4‬الكشف ص‪167‬‬
‫‪ - 5‬الكشف ص ‪191 - 190‬‬
‫‪ - 6‬الكشف ص‪.179‬‬
‫‪ -* 7‬الكشف ص‪150‬‬
‫‪ - 8‬الكشف ص‪148‬‬
‫‪ - 9‬يقول ابن رشد ‪:‬‬
‫‪" -‬فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع"ص ‪.135‬‬
‫‪-‬طريق ال�أشعرية "ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها" ص ‪.135‬‬
‫‪ -‬طرق ال�أشعرية المشهورة في السلوك �إلى معرفة الله تعالى ليست ‪ ...‬طرقا شرعية ‪ "..‬ص‪.148‬‬
‫‪ -‬طرق الصوفية ليست طرقا شرعية ل�أن القر�آن كله دعاء للنظر ص‪.149‬‬
‫‪ - 10‬فيتحدث عن "البـدع الحادثة في الاسلام" ص‪ 174‬وص‪،182‬والفرق الحادثة في ال�إ سلام التي يصم موقفها من‬
‫الجسمية بالبدعة ص‪،175‬‬
‫‪ - 11‬الكشف ص‪.189‬‬
‫‪ - 12‬الكشف ص‪.207‬‬
‫‪199‬‬
‫‪-4-‬‬
‫مختصر كتاب النفس �أو الضروري في السيكلوجيا‬
‫يعتبر هذا الكتاب من الكتب التي نهج فيها ابن رشد نفس النهج في الكتابة‬
‫"الضرورية"‪ .‬فقد قدم فيه "ال�أقاويل الكلية من علم النفس حسب ما جرت به عادة‬
‫المشائين"(((‪ .‬يسمي ابن رشد كتابه هذا "المختصر"((( مجردا فيه من ال�أقاويل الضرورية‬
‫ما اعتبره منها كافيا في حصول الكمال ال�إ نساني‪ ،‬حاذفا منه ال�آراء التي تعد شكوكا على‬
‫�أقاويل �أرسطو‪ ،‬ل�أن معرفة هذه ال�آراء "غير ضرورية في حصول الكمال ال�إ نساني"(((‪.‬‬
‫ال�أمر الذي يجعل الكتاب يجمع بين بنية الجوامع والمختصر‪ .‬ذلك �أن هذا الكتاب‬
‫السيكولوجي ينظر في كتاب النفس ال�أرسطي‪ ،‬وينظر في التراث النفسي المشائي �أيضا(((‪.‬‬
‫بل �إن دراسة مت�أنية لل�إ شكالات التي يطرحها هذا المختصر تؤدي �إلى ملاحظة قوامها �أن‬
‫هويته وهوية "تلخيص كتاب النفس" تكاد تكون واحدة �أو متقاربة(((‪ ،‬مما يدعم �أن ابن‬
‫رشد لم يكن يجد غضاضة في الكتابة المتنوعة‪� ،‬إذا اقتضى المقام ذلك‪ ،‬كما هو الحال‬
‫في القضايا الخطيرة التي يعالجها كتاب النفس‪.‬‬
‫فقول ابن رشد في المسائل النفسية في المختصر هو "بحسب ال�أمر الضروري[‪]...‬‬
‫وهو الضروري في الكمال ال�إ نساني الذي به تحصل �أول مراتب ال�إ نسان"(((‪ .‬وهو ال�أمر‬
‫الذي تؤديه �أيضا بعض كتب "الجوامع" و"التلاخيص" التي اتخذت "القول الجملي"جسرا‬
‫للكتابة خاصة‪� .‬إذ �إن القول المختصر �أو ما يسميه في موضع �آخر "القول الكلي" يقابل‬
‫"القول ال�أبسط"‪ ،‬وهو ما يسميه في موضع غيره القول على جهة "الاستقصاء"(((‪ ،‬ف�إذا‬
‫كان القول ال�أول يكون على جهة الضروري‪ ،‬ف�إن الثاني يكون على جهة ال�أفضل(((‪ .‬وهذا‬
‫القول ال�أبسط هو الذي لج�أ �إليه ابن رشد في الشروح التي قدم في كثير منها مساهماته‬
‫‪ - 1‬تح ال�أهواني ص ‪101‬‬
‫‪ - 2‬تح ال�أهواني ص‪.87‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص كتاب النفس ص‪16‬‬
‫‪ - 4‬انظر جمال الدين العلوي‪ ،‬تطور �إشكالية العقل عند ابن رشد‪ ،‬من النظر الفليلولوجي �إلى النظر الفلسفي‪ ،‬مرجع‬
‫سابق ص ‪.1129‬‬
‫‪ - 5‬المرجع السابق ص‪1140‬‬
‫‪ - 6‬تلخيص كتاب النفس ‪.44‬‬
‫‪ - 7‬تلخيص كتاب النفس تح عبري ص‪66‬‬
‫‪ - 8‬تلخيص كتاب النفس ص‪.87‬‬
‫‪200‬‬
‫ال�أصيلة في الفلسفة‪ ،‬مثل ما صنع في "شرح كتاب النفس" الذي قدم فيه ت�أويله الخاص‬
‫لعلاقة العقل الهيولي‪ ،‬باعتباره �أزليا واحدا بالنسبة للنوع ال�إ نساني‪ ،‬وهو الت�أويل الذي اشتهر‬
‫به عند اللاتين(((‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫الضروري في المنطق‬
‫قبل �أن يتوغل ابن رشد في مغامراته المنطقية‪ ،‬كما �أفصحت عنها تلاخيصه‪ ،‬وشرحه‬
‫الكبير لكتاب البرهان‪ ،‬قدم مختصرا صغيرا جمع فيه �أجزاء المنطق بنظر كلي ‪ -‬صناعي‬
‫حيث �ألف كتابه الموسوم "الضروري في المنطق"‪ ،‬ج ّرد فيه "ال�أقاويل الضرورية من‬
‫صناعة المنطق"‪ ،‬معتبرا �إياها "المقدار ‪...‬الضروري �أكثر ذلك في تعلم الصنائع التي‬
‫كملت على نحو ما عليه في زماننا هذا �أكثر الصنائع"‪ ،‬كما يقول(((‪� .‬أما �إذا اضطر ابن‬
‫رشد �إلى �أن يورد بعض ال�أقاويل المنطقية التي يعتبرها "على جهة ال�أفضل"‪ ،‬مثل حديثه‬
‫عن "ال�أشياء التي تلتئم منها ال�أقاويل المنطقية وتعمل"‪ ،‬ف�إن القصد من ذلك �إما تنشيط‬
‫المتعلم‪� ،‬إذ تكون "كالمدخل لمن وجد في نفسه نشاطا وفراغا و�أحب �أن يستوفي �أجزاء‬
‫الصناعة"((( فيما بعد‪ ،‬ل�أن "طلب ال�أفضل" كان في الزمان الذي كتب فيه ابن رشد‬
‫جوامعه الصغار‪ ،‬كما كان يحب تسمية مختصراته‪" ،‬يكاد يكون ممتنعا"(((‪ .‬و�إما شعوره‬
‫بنفعها فيما هو بصدده كحديثه عن " المقولات العشر"(((‪.‬‬
‫لكن ابن رشد‪� ،‬إذ يعرض كليات صناعة المنطق في مختصره‪ ،‬يفعل ذلك على عادة‬
‫المناطقة(((‪ ،‬فهو في هذا الضروري المنطقي يلج�أ �إلى ال�أشهر((( كعادته في كثير من‬
‫الكتب‪ ،‬على عكس ما صنع في "الضروري في النحو" الذي �أبدع فيه �إبداعا‪ .‬ولاضروري‬
‫بدون كلي‪ ،‬وهو ما دفع ابن رشد �إلى القول �إن معرفة الشكل الثالث هو على جهة التحرير‬
‫‪� - 1‬أنظر جمال الدين العلوي‪ ،‬تطور �إشكالية العقل عند ابن رشد‪ ،‬من النظر الفليلولوجي �إلى النظر الفلسفي‪ ،‬مرجع‬
‫سابق ص ‪.1150‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في المنطق‪ ،‬بعناية شارل بوتروت ص‪ 2‬نسخة غير منشورة‪.‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص ‪ 3 2-‬وص‪.107‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪3-2‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في المنطق ص‪ 20‬وص‪.23‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص ‪ 17‬وص ‪.54‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪132‬‬
‫‪201‬‬
‫وليس على جهة الضروري ل�أن هذا الشكل "ليس يستعمل شيئا من ضروبه في ال�أقاويل‬
‫العلمية �إذ كانت نتائجه جزئية"‪ ،‬في حين �أن "نتائج البرهان كلية"‪ .‬لكنه مع ذلك يلج�أ‬
‫فقط "�إلى الضروب المنتجة على ال�إ طلاق من غير �أن نلحظ في جهة �أصلا"(((‪ ،‬منسجما‬
‫مع نظره الكلي‪.‬‬
‫من �أهم المواضع التي يبدو فيها �إحساس ابن رشد بالكلي الموضع الذي يتحدث عن‬
‫الجنس الرابع من �أجناس المتقابلات وهو المضافان‪ ،‬فابن رشد يسكت عنه في مختصره ولا‬
‫يذكره‪ ،‬ويعلل ذلك بقلة وجوده‪ ،‬ولكن �أهم تعليل في نظرنا هو اعتبار "حكمه حكم الملكة‬
‫والعدم ومعرفته منطوية بالقوة في معرفتهما"(((‪ ،‬فالنظر �إلى المضاف �إذن نظر جزئي منطو‬
‫تحت الكلي من القول في الملكة العدم ال�أمر الذي يبرز �أن ال�أعم ينطوي فيه دائما ال�أخص(((‪.‬‬
‫يدل الحرص على الكليات‪ ،‬عناية ابن رشد بالقوانين في هذا المدخل المنطقي(((‪،‬‬
‫وبال�أصول الكلية الموضوعة في الصنائع البرهانية التي بها يبلغ الكمال في صناعة‬
‫المنطق(((‪ ،‬مميزا بين القوانين التي تعتبر ضرورية في الكمال مثل القوانين التي تستعمل‬
‫في صناعة البرهان‪ ،‬والقوانين غير الضرورية مثل المقاييس الخطبية والشعرية‪� .‬أما القوانين‬
‫الجدلية ف�إن"الضرورة �إليها عند الفحص في الصنائع التي لم تكمل بعد‪� ،‬أما �إذا كملت‬
‫فلا‪ ،‬بل �إن كان ولابد فمن جهة ال�أفضل(((‪.‬‬
‫هذا الحرص على الكليات المنطقية رهين بتقديم ما هو كاف في صناعة المنطق‪،‬‬
‫ومفهوم "الكافي" الذي يرافق مفهوم "المقدار" يلحم �أجزاء هذه الكليات‪ ،‬فابن رشد في‬
‫حديثه عن المعرفة الموطئة للتصديق يقدم مقدارا محددا من القول "بحسب غرضه في‬
‫ال�إ يجاز‪ ،‬وهو كاف"‪ ،‬كما يقول(((‪ .‬وهو ما يشير �إليه في موضع �آخر حين يقدم مقدارا في‬
‫المعرفة المنطقية بـ "المواضع" يعتبره كافيا بحسب الغرض الذي يؤمه في هذا الكتاب(((‪،‬‬
‫وهو في ذلك يؤم الكلي الذي يعبر عنه ابن رشد من خلال مفاهيم "القانون" و"ال�أصول"‪،‬‬
‫وكذلك مفهوم "جميع"؛ فابن رشد يقول في"جميع �أصناف المقاييس المستعملة في‬
‫‪ - 1‬الضروري في المنطق ص‪.79‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪.51‬‬
‫‪ - 3‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪85‬‬
‫‪ - 4‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪.107‬‬
‫‪ - 5‬الضروري في المنطق ص ‪107‬‬
‫‪ - 6‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪108‬‬
‫‪ - 7‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ - 8‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪.145‬‬
‫‪202‬‬
‫البراهين الواقعة في الشكل ال�أول"(((‪ ،‬كما يذكر "جميع �أصناف المقاييس الحملية"(((‪،‬‬
‫ولا يمكن القول في "جميع" �إلا �إذا كان َح ْصراً و�إِحاط ًة‪ ،‬وهو ما يقدمه الكلي من القول‪.‬‬
‫�إن "الضروري في المنطق" كتاب ينسجم مع الكتابة الرشدية فيما هو ضروري في‬
‫الكمال ال�إ نساني‪ ،‬وقد نسجه بمفاهيم ر�أينا �أنها تشكل ِملاك كثير من متنه العلمي‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫الضروري في النحو‬
‫يعتبر النحو عند ابن رشد ضروريا في " فهم كتاب الله تعالى وفهم سنة نبيه صلى الله‬
‫عليه وسلم" بل "وفهم جميع العلوم التي تتعلم بقول‪ :‬العلمية والعملية"(((‪ .‬من هنا ضرورته‬
‫في فهم �أسباب الاختلاف الفقهي والتي تهيء لاجتهاد المجتهد كما عبر عن ذلك ابن‬
‫رشد في كتابه "بداية المجتهد" كما نلمس في ثنايا مختصر المستصفى‪ .‬فالنحو ضروري‬
‫في فهم دلالات ال�ألفاظ ومقاصد الشرع‪ ،‬وهو ما جعل ابن رشد ينظر �إليه ك�آلة ضرورية‬
‫في فهم العلوم جميعها‪� ،‬إذ هو عنده من "�أجناس العلوم التي تراد لغيرها لا لنفسها[‪]..‬‬
‫َو[‪]...‬هي مسددة للذهن في ال�ألفاظ �أولا وفي المعاني ثانيا"(((‪.‬‬
‫�ألف ابن رشد في هذه الصناعة كتابه "الضروري في النحو" وقصد من كتابته �أن‬
‫يذكر "من علم النحو ما هو كالضروري‪ ،‬لمن �أراد �أن يتكلم على عادة العرب في‬
‫كلامهم‪ ،‬ويتحرى في ذلك ما هو �أقرب �إلى ال�أمر الصناعي‪ ،‬و�أسهل تعليما و�أشد تحصيلا‬
‫للمعاني"حريصا على التمييز بين ما هو ضروري من "ال�أمور الضرورية في كل مخاطبة‬
‫ومشتركة لجميع ال�ألسنة"‪ ،‬وما هو "فضل غير ضروري لعدم تعلق ال�إ عراب به"كما‬
‫يقول‪ (((.‬وهو ما يبرزه في الضروري في المنطق عند حديثه عن باب ال�أخبار في صناعة‬
‫النحو مؤكدا "�أن مثل هذا ضروري من صناعة النحو لل�أمة التي يخصها هذا اللسان‬
‫‪ - 1‬الضروري في المنطق‪ ،‬ص‪.71‬‬
‫‪ - 2‬الضروري في المنطق ص‪.82‬‬
‫‪ - 3‬ابن رشد‪ ،‬الضروري في النحو‪ ،‬تحقيق ودراسة منصور علي عبد السميع‪ ،‬دار الفكر العربي الطبعة ال�أولى ‪2002‬‬
‫ص‪4‬‬
‫‪ - 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪5‬‬
‫‪ - 5‬قال الصفدي‪ ،‬قال الخليل بن �أحمد ‪" :‬لا يصل �أحد من النحو �إلى ما يحتاج �إليه �إلا بعد معرفة ما لا يحتاج‬
‫�إليه"‪ ،‬الوافي بالوفيات‪ ،‬باعتناء س‪.‬ديدرينغ دار فرانز شتايز بفسبادن ط‪ ،2‬ج‪ 1974 ،1‬ص‪6‬‬
‫‪203‬‬
‫وكذلك ل�أمة �أمة بحسب لسانها"‪ ،‬منبها �إلى احتواء صناعة النحو على ما هو "ضروري‬
‫في فهم المعاني [‪]...‬كرفع الفاعل في لسان العرب‪ ،‬ونصب المفعول في لسان العرب‪.‬‬
‫والقسم ال�آخر غير ضروري في هذه الصناعة كنصب خبر كان‪ ،‬ونصب اسم �أن‪ ،‬ولذلك‬
‫ليس نجد �أكثر هذا القسم بالمتفق عليه عند جميع العرب"(((‪.‬‬
‫كتب �أبو الوليد كتابه على غرار كتبه السابقة بمنهجية تكاد تكون واحدة‪ ،‬فكتب‬
‫على المجرى الصناعي‪" :‬وينبغي �أن نستفتح القول في ذلك بال�أشياء التي جرت العادة �أن‬
‫نستفتح بها كل صناعة‪ ،‬يرام تعلمها على المجرى الصناعي‪ ،‬ف�إن الاستفتاح بها نافع في‬
‫التعلم‪ ،‬وهو �أن يخبر �أولا ما غرض هذه الصناعة؟ وثانيا ما منفعتها؟‪ ،‬وثالثا ما �أقسامها؟‬
‫ورابعا النحو المستعمل في تحصيلها والطرق المسلوكة في �إثبات ما وضع فيها �أعني‬
‫�أنحاء الدلائل المستعملة فيها‪ ،‬ف�إن لكل صناعة تدريبا يخصها في تعلمها‪ ،‬و�أنحاء من‬
‫الدلائل خاصة بتلك الصناعة‪ .‬وخامسا مرتبتها من العلوم في التعلم‪ ،‬وسادسا نسبتها من‬
‫سائر العلوم‪� ،‬أعني �أي جنس من �أجناس العلوم تعد؟ وسابعا‪ :‬ما يدل عليه اسمها‪ .‬وثامنا‬
‫معرفة من وضعها"‪[.‬ص‪]3‬‬
‫توسل ابن رشد بهذا الترتيب الصناعي في عرض ما �أسماه "كليات صناعة النحو"‪،‬‬
‫وتشديده على مفهوم الكليات يؤكد الارتباط الشديد بين ما هو صناعي وما هو كلي‬
‫وهو ما يؤكده في قوله ‪" :‬ف�إن الصناعة هي التي تحيط ب�أمور كلية يصل بها ال�إ نسان �إلى‬
‫الغرض المطلوب بتلك الصناعة‪ ،‬ومعرفة تلك الكليات تكون �أتم �إذا عرفت ب�أسبابها‪ ،‬ولما‬
‫كان هذا مطلوبا بالطبع من �أمر الصناعات �أعني تعريف الكليات التي هي �أجزاؤها ب�أسبابها‬
‫صار النحاة يتكفلون من �إعطاء �أسباب الكليات التي يضعونها في هذه الصناعة فوق ما‬
‫تحتمله الصناعة‪ .‬و�إذا تقرر هذا فظاهر هذه الصناعة �أن تعطي الكليات والقوانين ب�أسبابها‬
‫التي يقدر بها ال�إ نسان �أن ينطق ب�أشكال ال�ألفاظ التي جرت عادة �أهل ذلك اللسان �أن‬
‫ينطقوا بها‪� ،‬إما لسان العرب و�إما غيره من ال�ألسنة‪ ،‬و�أعني بالكليات والقوانين �أقاويل عامة‬
‫تعرف بها جزئيات كثيرة"(((‪.‬‬
‫�إن الخوض في الجزئيات التي لا يتناهى القول فيها خصم للقول الصناعي ولا‬
‫ينسجم معه البتة‪ .‬وما يعضد هذا ال�أمر هذه المطابقة عند ابن رشد بين مفهومي‬
‫"القوانين"و"الكليات" كما لمسنا في نصه السابق‪ .‬وهذه المطابقة يمكن �أن تفسر ب�أن‬
‫القوانين هي حاملة الكليات‪ ،‬والميسرة لفهمها والانطلاق منها �إلى جزئياتها‪ .‬يقول ابن‬
‫‪ - 1‬الضروري في المنطق‪ ،‬بعناية شارل بوتروت نسخة غير منشورة ص ‪.105‬‬
‫‪ - 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 4 3‬‬
‫‪204‬‬
‫رشد ‪" :‬فهذه القوانين‪...‬الوقوف عليها ‪..‬من �أنفع ال�أشياء لمن �أراد �أن يستوفي �أجزاء هذه‬
‫الصناعة �أو المستعمل منها في ال�أكثر‪ ،‬وخاصة ال�أولاد ف�إنهم ي�أخذون بحفظ هذه القوانين‬
‫�أولا‪ ،‬ثم �إذا صاروا �إلى الفهم‪� ،‬أخذوا بفهم �أسباب هذه القوانين‪ ،‬ووجه انقسام الكلام‬
‫�إليها وانحصاره فيها‪ ،‬ثم بتفصيل ما في قانون منها‪ ،‬حتى يستوفوا معرفة جميع الجزئيات‬
‫المنحصرة في هذه القوانين"‪.‬‬
‫يقود هذا المنهج في المعرفة �إلى "التمام"‪� ،‬إذ بها "تتم الصناعة بسهولة وتحصيل تام‬
‫في زمان يسير"‪ .‬في موضع �آخر من الكتاب يشدد على �أن المعرفة التامة بال�إ عراب "�إنما‬
‫تكون بمعرفة صورته ومادته والسبب الموجود لكون الصورة في المادة" ناصحا "من �أزمع‬
‫ال�إ عراب معرفة تامة �أن يعرفه من قبل الجمل الواقعة فيه‪ ."..‬كما �أنه يقود �إلى "الكفاية"‬
‫�إذ �أن من اقتصر على هذه القوانين"كفاه كثيرا من تشغيب وتفنن القوانين‪ ،‬التي رام النحاة‬
‫�أن يحصروا من قبلها هذا الجزء من الصناعة"‪ ،‬ويؤكد ابن رشد على مفهوم كفاية القوانين‬
‫هذا بالمعنى عندما يقول ‪.." :‬ومن وقف على هذه القوانين‪ ،‬وفهم انحصار الكلام فيها‬
‫وكان من �أهل صناعة النحو‪� ،‬أمكنه �أن ي�أتي بتفاصيلها من كتب النحاة و�أن يحصر ما‬
‫افترق من كتبهم"‪ ،‬وابن رشد في ذلك يعيد ترتيب صناعة النحو ترتيبا جديدا يحصر‬
‫معانيه الكبرى مما يجعله "�أدخل في ال�أمر الصناعي و�أضبط في باب المعاني مما جرت‬
‫به عادة النحاة في ذلك"‪.‬‬
‫بيد �أن النظر في الضروري في النحو هو �أن ابن رشد‪ ،‬على غير عادته‪ ،‬لا يتوخى‬
‫ال�أقاويل المشهورة في النحو بل يصب جام نقده عليها ويعتبرها‪ ،‬على غير عادته‪ ،‬من‬
‫معوقات النظر العلمي ويعزو �إليها ما ستلقاه محاولته في التقديم الصناعي للنحو من معارضة‬
‫من طرف نحاة ال�أندلس فيقول ‪" :‬لكن ربما عابه قوم‪ ،‬لمفارقته المعتاد‪ ،‬و�أنكروه لما في‬
‫طبيعة ال�أقاويل المشهورة من الاستعباد" معتبرا �أن رتبة العوام تشهد على غلبة المشهور‬
‫عندهم على المعقول‪ .‬ولعل مرد ذلك �أن �أبا الوليد اتخذ في الضروري في النحو موقفا‬
‫�أكثر جر�أة من مواقفه من الصنائع التي يعتبرها قد كملت في عصره باعتبار �أن هذه الصناعة‬
‫لاتزال تعاني من المفعول التجميدي لسلطة عوام النحويين ولم تبلغ بعد كمالها(((‪.‬‬
‫‪ - 1‬لعل ما خطه ابن رشد في الضروري في النحو ينسجم مع المنهج الذي عبر عنه الجاحظ‪ ،‬في رسالة التجارة حيث‬
‫يقول ‪" :‬و�أما النحو فلا تشغل قلب ولدك منه �إلا بقدر ما يؤديه �إلى السلامة من فاحش اللحن في كتاب كتبه �أو‬
‫شعر �أنشده‪� ،‬أو شيء وصفه‪ ،‬وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو �أولى به ومذهلة عما هو �أنفع منه‪...‬و�إنما يرغب‬
‫في بلوغ غايته من لا يحتاج �إلى تعرف مسببات ال�أمور ومن ليس له حظ غيره‪ ،‬ولا معاش سواه‪ ،‬وعويص النحو لا‬
‫يجدي في المعاملات ولا يضطر �إلى شيءمنه " ذكره الحجوي في الفكر السامي ج‪ 1‬دار التراث القاهرة ‪ -‬المكتبة‬
‫العلمية بالمدينة المنورة ط‪1396‬هـ ص‪328‬‬
‫‪205‬‬
‫لعل هذا الموقف الرشدي يجعل "كتاب الضروري في النحو" �أكثر المختصرات‬
‫الرشدية �إلى الاختراع منها �إلى الاختصار‪ ،‬فكثرة التدخلات الرشدية والمواقف الخاصة‬
‫التي عبر عنها مخالفا بذلك التقليد النحوي الاسلامي تضيف جرعة قرية ل�أصالة ابن رشد‬
‫عنها في كتابه "مختصر المستصفى" الذي يمكن اعتباره هامشا طريفا على كتاب �أبي‬
‫حامد‪ ،‬وكتاب الضروري في المنطق والذي يمكن اعتباره هامشا يكاد يكون مكرورا‬
‫للمتن المنطقي الفارابي‪...‬‬
‫***‬
‫و�أخيرا‪ ،‬ف�إن ما فعله ابن عبد البر والباجي بالموط�إ‪ ،‬وما فعله ابن رشد ال�أكبر بالمدونة‬
‫على الخصوص‪ ،‬وما فعله المفسرون بالكتاب العزيز هو نفسه ما فعله ابن رشد بالمتن‬
‫ال�أرسطي وكثير من �أجزاء متنه العلمي‪� .‬إن ما تغير هو المتن �أما المقاربة فتكاد تكون‬
‫واحدة‪.‬‬
‫�أخضع ابن رشد ت�آليفه‪ ،‬من الضروري �إلى الشروح �إلى المقالات الموضوعة‪ ،‬لمنطق‬
‫واحد في الكتابة فجمع بذلك بين �أكثر من مقاربة ل�أن غرضه هو ال�إ سهام في �أن يترفع‬
‫ال�إ نسان على الاقتصار في وجوده على ما هو ضروري ليجري �إلى غاية يكون بها �أفضل‪،‬‬
‫مؤكدا "�أن الناس �إذا حصل لهم الضروري نزعوا �إلى ما يشتهونه"(((‪ .‬ولما كان الجزء‬
‫النظري في ال�إ نسان يوجد على جهة ال�أفضل وليس على جهة الضرورة‪ ،‬وكان هذا الجزء‬
‫�أفضل وجود له(((‪ ،‬ف�إن ابن رشد سيضرب �إلى ما يعتبره ضروريا في هذا الوجود ال�أفضل‬
‫لل�إ نسان وهو الكمال ال�إ نساني‪ ،‬محرضا على بلوغه‪ ،‬مقدما مادة علمية متـنوعة لهذا‬
‫ال�إ نسان ليبلغ بها �أولى مراتب كماله قبل �أن يتدرج في رحلة علمية محفوفة بالمغامرات‬
‫للوصول �إلى الكمال ال�أخير؛ الكمال ال�أقصى‪ ،‬وهو الكمال الذي يجد مقدماته النظرية‬
‫الطبيعية في الفلسفة والطب قبل �أن يجد نهايته في النتائج الميتافيزيقية التي تشرع �أمام‬
‫الفلاسفة باب الاتصال الفلسفي(((‪.‬‬

‫‪ - 1‬الضروري في السياسة ص‪175‬‬


‫‪ - 2‬الضروري في السياسة ص ‪ 143‬و‪149‬‬
‫‪ - 3‬يمكن مراجعة في هذا الصدد محاولة مجدي محمد �إبراهيم‪ ،‬مشكلة الاتصال بين ابن رشد والصوفية‪ ،‬الصادرة‬
‫عن مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد‪.‬ط‪.2001 ،1‬‬
‫‪206‬‬
‫خاتمة‬
‫وبعد‪ ،‬فقد حاولنا في هذه الكتاب �أن نقدم شخصية ابن رشد الفقهية في علاقتها‬
‫بشخصيته الفلسفية‪ ،‬و�أن نبرز �أن بنية الخطاب الفقهي الرشدي‪ ،‬التي هي بنية تحتفي‬
‫بالمبادئ الكلية وال�أصول وال�أمهات‪ ،‬وتنطبع بطابع جمع الفقه بالحديث‪ ،‬وتجعل الت�أمل‬
‫من وراء كل ممارسة فقهية واعية‪ ،‬كما هو وراء الممارسة الفلسفية‪ ،‬هي بنية لن تكون‬
‫�إلا بنية منفتحة على ما هو فلسفي الذي ينشد ما هو كلي وشمولي فيستوعب بذلك كل‬
‫�أنواع الخطابات‪ ،‬بما فيها الخطاب الفقهي‪.‬‬
‫لقد حاولنا �أن نبرز �أن منزلة الخطاب الفقهي من الخطاب الفلسفي منزلة الت�أسيس‬
‫عند ابن رشد‪ ،‬لقد عاش الحفيد في بيئة غنية بثقافتها الفقهية وعرف كيف يتغذى من‬
‫معين الجانب المتنور من هذا المجتمع الفقهي فكانت �إضافاته الفقهية شاهدة على ذلك‬
‫وتحمل من عناصر الجدة والطرافة الكثير‪ ،‬و�أسهم الخطاب الفقهي‪ ،‬عنده‪ ،‬في الت�أسيس‬
‫للخطاب الفلسفي على مستويين؛ فهو يؤسس لوجود الخطاب الفلسفي في المدينة‬
‫ال�إ سلامية‪ ،‬كما يؤسس لهذا الخطاب بعض �آليات الاشتغال‪ ،‬سواء كان ال�أمر يتعلق بظاهر‬
‫المتن الرشدي �أم بعمق قضاياه‪.‬‬
‫لكن حدود طبيعة النظر الفقهي‪ ،‬فقها �أصغر كان �أو �أكبر‪ ،‬من جهة(((‪ ،‬وحدود المعرفة‬
‫الفقهية و�إمكان حصر متنها في حدود معينة لم تتجاوز عند ابن رشد حدود كتابين بحجم‬
‫"بداية المجتهد"(((‪ ،‬هي ما يشكل الضروري في الكمال الشرعي للمسلم بالحقيقة من‬
‫جهة �أخرى‪ ،‬كل ذلك يجعل المعرفة الفلسفية‪ ،‬ذات المتن الممتد والغَنـِ ّي في مرتبة‬
‫�أشرف‪ ،‬ل�أنها المعرفة التي تتناول �أشرف �أنواع الموضوعات ب�أوثق �أشكال البراهين‪� ،‬إذا‬
‫ص به جانب من المعرفة الفلسفية وهو علم النفس(((‪ ،‬ثم‬ ‫نحن ع َّم ْمنا على الفلسفة ما خٌ َّ‬
‫‪- 1‬انظر بداية المجتهد‪،‬ج‪ 2‬ص‪ .85‬ومناهج ال�أدلة‪ ،‬نشرة مركز دراسات الوحدة العربية صص‪135‬وص‪.136‬‬
‫‪ - 2‬بداية المجتهد ج ‪ 5‬ص‪69‬‬
‫‪ - 3‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬تلخيص �ألفريد عبري ص‪.1‬‬
‫‪207‬‬
‫ل�أنها المعرفة التي يقتحم بها الفكر كل مجال بشري ممكن ل�أن الفلسفة هي الحكمة‬
‫ال�إ نسانية‪ ،‬ول�أنها المعرفة التي تحرك العقل باستمرار �إلى الت�أمل في هذه النصوص الفلسفية‬
‫الخالدة‪ ،‬وبخاصة نصوص هذا الرجل الذي �أبرزته العناية ال�إ لهية ليجسد الكمال ال�إ نساني‬
‫محسوسا مشارا �إليه‪ ،‬ت�أملا ينهض �إلى �إدراك منازل من الكمال ال�إ نساني‪ ،‬سواء كان كمالا‬
‫يهم الفرد �أو كان كمالا يهم المدينة‪.‬‬
‫لكن شخصية ابن رشد الفلسفية لا يمكن فهمها دون فهم النواة التي تحكمها وهي‬
‫نواة فقهية متحررة بال�أصالة‪ ،‬وهذا وصف �أبعد عن القدح كما شاع عند الكثيرين بسبب‬
‫المثال السيء الذي قدمه كثير من الفقهاء في تاريخ الثقافة ال�إ سلامية؛ فالتكوين الفقهي‬
‫العميق لابن رشد‪ ،‬كما شهدت له به نصوصه‪ ،‬وكثير من الفقهاء‪ ،‬لم يعدم �أثره على‬
‫شخصيته الفلسفية التي غلبت عليه ف�أنهضته �إلى كتابة غزيرة كادت �أن تغطي جميع‬
‫حقول المعرفة العلمية ‪ -‬الفلسفية في عصره‪ .‬وابن رشد‪" ،‬مثقف عضوي"‪ ،‬مهموم بقضايا‬
‫المدينة ال�إ سلامية و�إشكالات الفكر‪ ،‬كما مارس الدعوة في المسجد حاضا على الجهاد‪،‬‬
‫وكما مارس الاجتهاد الفقهي منقبا عن الحلول اليومية للمسائل التي تطر�أ على ساكنة‬
‫المدينة من خلال وظيفة "قاضي الجماعة" التي �أنيط به حملها‪ ،‬هو نفسه مارس الفلسفة‬
‫حاضا على التفكير والت�أويل‪ ،‬ومحرضا على الت�أمل والاجتهاد في جميع ال�إ شكالات‬ ‫ًّ‬
‫والقضايا ال ِعلمية وال َعملية التي �أه َّمته في النصوص الفلسفية‪ ،‬التي ارتاض في مرابعها‪،‬‬
‫ووجدها تستغرق حاجات العقل ومطالب المدينة‪ ،‬فكانت الفلسفة‪ ،‬عنده‪� ،‬أوسع مجالا‬
‫و�أرحب فضاء من الفقه‪ ،‬ولم يجد ابن رشد نشازا بين هذه الممارسات؛ ل�أن الممارستين‬
‫ال�أولتين هما دعوة �إلى العمل الفاضل‪ ،‬وهو عبادة‪ ،‬وال�أخيرة دعوة �إلى العلم والتفكير‪،‬‬
‫وهي عبادة‪ ،‬وهما القسمان اللذان تنقسم �إليهما المعرفة في عصره‪ ،‬وهو ما �أكده عندما‬
‫جعل مقصد الشريعة ومقصد الفلسفة واحدا في جانبيهما العلمي والعملي‪ ،‬فكان ابن رشد‬
‫منسجما مع دعوته ال�أولى ودعوته الثانية و�أبعد ما يكون عن النشاز في متنه‪� ،‬أو الانفصام‬
‫في شخصيته‪ ،‬ل�أن الحفيد لم يغادر بالفعلين معا محراب العبادة الواحدة؛ سواء كانت‬
‫العبادة بالشريعة المشتركة التي يتقاسمها الفيلسوف مع الجمهور‪ ،‬وهي العبادة التي حض‬
‫عليها رسول ال�إ سلام محمد عليه السلام ال�أحـمر وال�أسود ل�أن "�أخذهم بالفضائل �أمر‬
‫ضروري لجميعهم"(((‪ ،‬وهي التي كتب فيها ابن رشد‪ ،‬من جملة ما كتب كتبه الخالدة؛‬
‫بداية المجتهد" و"مناهج ال�أدلة" و"شرح العقيدة الحمرانية" وكتب غيرها لم يكشف‬
‫‪ - 1‬مقالة ال�ألف الصغرى‪،‬من تفسير ما بعدط‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪208‬‬
‫عنها الوقت بعد‪� .‬أو كانت عبادة بالشريعة الخاصة‪ ،‬عبادة النظر والاعتبار‪ ،‬والتي ينفرد بها‬
‫الفيلسوف عن غيره لما في طبعه الفلسفي من حرص على النظر المستقصي((( الم ُـ َه ِّيج �إلى‬
‫النفاذ �إلى معرفة حقائق ال�أشياء(((‪ ،‬وهي العبادة التي ارتاض ابن رشد في مرابع النصوص‬
‫الفلسفية؛ �أرسطية كانت �أم �أفلاطونية �أم جالونيسية �أو بطليمية‪ ،‬من �أجل القيام بها‪ ،‬وهي‬
‫العبادة التي جلا ّها في مواقفه‪ ،‬نبي من ال�أنبياء‪ ،‬ما فتئ ابن رشد يشيد بمواقفه النظرية؛‬
‫نبي العرب والعجم �إبراهيم عليه السلام(((‪.‬‬

‫‪ - 1‬مقالة ال�ألف الصغري‪ ،‬من تفسير ما بعد الطبيعة‪ ،‬مرجع سابق ص ‪،47‬‬
‫‪ - 2‬مقالة ال�ألف الصغرى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪43‬‬
‫‪ - 3‬لا يمكن �أن يكون من قبيل الصدفة كثرة استشهادات ابن رشد بموقف �إبراهيم عليه السلام من ال�أفلاك كما‬
‫عرضها القر�آن الكريم في قوله تعالى ‪{ :‬وكذلك نري �إبراهيم ملكوت السموات وال�أرض وليكون من الموقنين‪}..‬‬
‫ال�آية ‪ 76‬من سورة ال�أنعام‪ ،‬التهافت ص‪ .416‬ولاشك �أن الحفيد كان يرى في الخليل عليه السلام نموذجا للنبي‬
‫الذي شغله الت�أمل الفكري و�أه َّمه البحث النظري حتى كان نموذجا لمن رجح ميزان "شريعة الحكماء" على‬
‫"الشريعة المشتركة" لكن دون �أن يضيع هذه ال�أخيرة‪ ،‬وفعلا فقدكان �إبراهيم عليه السلام لا يرضى بغير اليقين ملاذا‬
‫و�إن ج َّر�أه ذلك على التسلح ب "الشك المنهجي" كما تجلى في نظره الخاص والمتميز في ال�أجرام السماوية‪،‬‬
‫و�أكثر من ذلك كما تجلى في طلبه من ربه �أن يريه كيف يحي الموتى [سورة البقرة ال�آية ‪ ]259‬طلبا لمعرفة‪ ،‬يقينية‬
‫ومط ْم ِئنة‪ ،‬مؤسسة على مزيد وضوح وبرهان‪...‬‬
‫‪209‬‬
‫الئحة المصادر والمراجع‬

‫مصادر فلسفية‬
‫ابن طفيل‪،‬‬
‫‪ -‬حي بن يقظان‪ ،‬مخطوط البودليان ب�أكسفورد‪ .‬رقم ‪.133‬‬
‫�أرسطو‪،‬‬
‫‪ -‬ال�أخلاق‪ ،‬ترجمة �إسحاق بن حنين‪ ،‬تح عبد الرحمن بدوي‪ ،‬وكالة المطبوعات‬
‫الكويت‪ ،‬ط‪.1979 ،1‬‬
‫‪ -‬في السياسة‪ ،،‬نقله من ال�أصل اليوناني �إلى العربية وقدم له وعلق عليه ال�أب �أوغسطينس‬
‫برباره البولسي الطبعة الثانية اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع ‪1980‬‬
‫�أفلاطون‪،‬‬
‫‪ -‬جمهورية �أفلاطون ترجمة د‪ .‬فؤاد زكرياء‪ ،‬المؤسسة المصرية العامة للت�أليف والنشر‪،‬‬
‫‪ -‬فيدون ترجمة سامي النشار وعباس الشربيني دار المعارف بمصر‬
‫ابن باجة‪،‬‬
‫‪ -‬تدبير المتوحد‪ ،‬تح معن زيادة دار الفكر الاسلامي‪ ،‬دار الفكر ط‪1978 1‬‬
‫‪ -‬تعاليق ابن باجة على البرهان" تح ماجد فخري‪ ،‬دار المشرق بيروت ‪1987‬‬
‫‪" -‬ومن كلامه ما بعث به ل�أبي جعفر بن حسداي" ضمن رسائل فلسفية ل�أبي بكر بن‬
‫باجة‪ ،‬نصوص فلسفية غير منشورة تح جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الثقافة بيروت‪ ،‬دار‬
‫النشر المغربية‪ ،‬البيضاء المغرب ‪.1983‬‬
‫ابن حزم‪� ،‬أبو محمد‬
‫‪ -‬التقريب لحد المنطق والمدخل �إليه بال�ألفاظ العامية وال�أمثلة الفقهية " ضمن رسائل ابن‬
‫حزم تح �إحسان عباس الجزء الرابع المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط‪.1983 1‬‬
‫‪210‬‬
‫‪ -‬رسالة في مراتب العلوم‪ ،‬ضمن رسائل ابن حزم ال�أندلسي تح �إحسان عباس ج‪4‬‬
‫المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط‪1983 1‬‬
‫ابن رشد‪�،‬أبو الوليد‬
‫‪ -‬السماع الطبيعي‪ ،‬ضمن سلسلة "رسائل ابن رشد الفلسفية" تقديم وضبط وتعليق د‪.‬‬
‫رفيق العجم ود‪ .‬جيرار جيهامي‪ .‬دار الفكر اللبناني بيروت ط‪1994 1‬‬
‫‪ -‬السماع الطبيعي‪ ،‬تح‪ .‬جوزيف بويج‪ ،‬المعهد ال�إ سباني للثقافة ‪ -‬المجلس ال�أعلى‬
‫للبحوث العلمية مدريد ‪1983‬‬
‫‪ -‬تلخيص كتاب النفس تح د‪�.‬أحمد فؤاد ال�أهواني مكتبة النهضة المصرية ط‪.1950 ،1‬‬
‫‪ -‬تلخيص ال�آثار العلوية‪ ،‬تح جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الغرب الاسلامي‪ ،‬ط‪1994 ،1‬‬
‫‪ -‬الكشف عن مناهج ال�أدلة في عقائد الملة‪ ،‬تح مصطفى حنفي ب�إشراف ال�أستاذ‬
‫الجابري‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬
‫‪ -‬مناهج ال�أدلة في عقائد الملة تح د‪ .‬محمود قاسم مكتبة ال�أنجلو مصرية ط‪1964 ،2‬‬
‫‪ -‬فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال‪ ،‬تح محمد عبد الواحد‬
‫العسري‪� ،‬إشراف د‪ .‬محمد عابد الجابري ضمن سلسلة التراث الفلسفي العربي‪،‬‬
‫مركز دراسات الوحدة العربية ط‪1997 1‬‬
‫‪ -‬فصل المقال نشرة �ألبير نصري نادر ط‪ 3‬دار المشرق بيروت ‪.1973‬‬
‫ــ الضروري في النحو‪ ،‬تحقيق ودراسة منصور علي عبد السميع‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬الطبعة‬
‫ال�أولى‪.2000 ،‬‬
‫‪ -‬مقالات في المنطق والعلم الطبيعي‪ ،‬تح جمال الدين العلوي دار النشر المغربية الدار‬
‫البيضاء ‪.1983‬‬
‫‪ -‬مقالة ال�ألف الصغرى ضمن تفسير ما بعد الطبيعة تحقيق موريس بويج دار المشرق‬
‫بيروت ‪1967‬‬
‫‪ -‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬تح �ألفرد عبري المكتبة العربية المجلس ال�أعلى للثقافة القاهرة‬
‫‪1994‬‬
‫‪ -‬كتاب ال�آثار العلوية تح سهير فضل الله �أبو وافية وسعاد علي عبد الرزاق‪ -‬المكتبة العربية‪،‬‬
‫والمجلس ال�أعلى للثقافة ط‪. 1994 1‬‬
‫‪211‬‬
‫‪ -‬الكليات في الطب‪ ،‬تح سعيد شيبان وعمار الطالبي المجلس ال�أعلى للثقافة ‪.1989‬‬
‫‪ -‬الكليات في الطب‪ ،‬نشرة مركز دراسات الوحدة العربية ط‪ ،1‬ماي ‪1999‬‬
‫‪ -‬الكليات في الطب‪ ،‬تح ‪Morales de Alvarez.C - Besteiro Forneas.M..J‬‬
‫مدرسة الدراسات العربية في غرناطة‪ .‬المجلس ال�أعلى للبحوث العلمية‪ -‬مدريد ‪1987‬‬
‫‪ -‬رسائل ابن رشد الطبية‪ ،‬تحقيق جورج قنواتي وسعيد زايد‪ .‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‬
‫‪. 1987‬‬
‫‪ -‬شرح البرهان تح عبد الرحمن بدوي ط‪ 1‬ضمن السلسلة التراثية الكويت ‪1984‬‬
‫‪ -‬شرح السماء والعالم‪ ،‬مخطوط المكتبة الوطنية في تونس رقم ‪18118‬‬
‫‪ -‬الضروري في السياسة نقله من العبرية �إلى العربية �أحمد شحلان‪ .‬نشر مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬ط‪.1998 ،1‬‬
‫‪ -‬تلخيص الخطابة تح عبد الرحمن بدوي وكالة المطبوعات الكويت‪ ،‬دار القلم بيروت‪،‬‬
‫ب‪.‬ت‬
‫‪ -‬تلخيص الحس والمحسوس‪ ،‬تح بلومبرج ال�أكاديمية ال�أمريكية للعصور الوسطى كامبدرج‬
‫ماساشوسيتس ‪. 1972‬‬
‫‪ -‬تلخيص السفسطة تح محمد سليم سالم مطبعة دار الكتب ‪1972‬‬
‫‪ -‬تلخيص الشعر تح محمد سليم سالم القاهرة ‪،1971‬‬
‫‪ -‬تلخيص القياس تح محمود قاسم‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1983‬‬
‫‪ -‬تلخيص الكون والفساد تح جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الغرب الاسلامي‪ ،‬ط‪.1995 1‬‬
‫‪ -‬تلخيص المقولات تح موريس بويج دار المشرق بيروت الطبعة الثانية ‪1983‬‬
‫‪ -‬تلخيص كتاب الجدل تح محمد سليم سالم الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1980‬‬
‫‪ -‬تلخيص كتاب العبارة تح محمود قاسم الهيئة المصرية العامة للكتاب مركز البحوث‬
‫ال�أمريكي بمصر ‪. 1981‬‬
‫‪ -‬تلخيص ما بعد الطبيعة تح عثمان �أمين مطبعة مصطفى الحلبي بمصر القاهرة ‪1958‬‬
‫‪ -‬رسالة ما بعد الطبيعة نشرة رفيق العجم وجيرار جيهامي‪ ،‬دار الكتاب اللبناني ط‪،1‬‬
‫‪.1994‬‬
‫‪ -‬تهافت التهافت تح موريس بويج دار المشرق بيروت الطبعة الثانية ‪1987‬‬
‫‪212‬‬
‫‪ -‬جوامع الشعر مع جوامع الجدل والخطابة لابن رشد وهي في ال�أصل ال�أجزاء الثلاثة‬
‫ال�أخيرة من المختصر في المنطق نشرها تشارلس بوتروت بنييويورك ‪1997‬‬
‫‪ -‬شذرات من تلخيص كتاب ال�أخلاق‪ ،‬على هامش كتاب ال�أخلاق ل�أرسطو‪ ،‬تح‬
‫عبدالرحمن بدوي وكالة المطبوعات الكويت‪ ،‬ط‪.1979 1‬‬
‫‪ -‬كتاب ال�آثار العلوية طبعة حيدر �آباد الدكن ‪1365‬‬
‫‪ -‬كتاب ال�آثار العلوية‪ ،‬تح سهير فضل الله وسعاد علي عبد الرزاق القاهرة ‪.1994‬‬
‫‪ -‬كتاب النفس طبعة حيدر �آباد ط‪1947 1‬‬
‫‪ -‬مختصر المنطق‪ ،‬نقله من الحرف العبري �إلى العربية وحققه شارل بتروت‪ ،‬نسخة غير‬
‫منشورة‪.‬‬
‫‪ -‬مقالة الباء من تفسير ما بعدالطبيعة‪ ،‬تحقيق موريس بويج الجزء ال�أول الطبعة الرابعة دار‬
‫المشرق‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1991‬‬
‫‪ -‬مقالة الجيم من تفسير ما بعد الطبيعة‪ ،‬تح موريس يويج‪ ،‬ط‪ ،4‬دار المشرق‪،1991 ،‬‬
‫‪ -‬مقالة الحاء‪ ،‬تفسير ما بعدالطبيعة‪ ،‬تح موريس بويج دار المشرق‬
‫‪ -‬مقالة الدال تفسير ما بعد الطبيعة تح موريس بويج الطبعة الثالثة دار المشرق بيروت‬
‫‪1990‬‬
‫‪ -‬مقالة الزاي‪ ،‬من تفسير ما بعد الطبيعة‪ ،‬تح موريس بويج دار المشرق‪ ،‬الجزء الثاني‬
‫الطبعة الثالثة ‪. 1990‬‬
‫‪ -‬مقالة اللام من تفسير ما بعد الطبيعة من تفسير ما بعد الطبيعة تح موريس بويج دار‬
‫المشرق‪..‬‬
‫‪ -‬مقالة الهاء من تفسير ما بعد الطبيعة تح موريس بويج دار المشرق دار المشرق‪..‬‬
‫ابن عربي‪ ،‬محيي الدين‬
‫‪ -‬الفتوحات المكية ‪ :‬ج‪ 1‬ضبطه وصححه ووضع فهارسه �أحمد شمس الدين منشورات‬
‫محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت لبنان‪.‬‬
‫‪ -‬الفتوحات المكية ج‪ ،4‬دار الكتب العربية الكبرى مصر ب‪.‬ت‬
‫ابن سبعين‪،‬‬
‫‪ -‬بد العارف‪ ،‬تحقيق وتقديم د‪.‬جورج كتورة‪ ،‬دار ال�أندلس‪-‬دار الكندي‪ ،‬بيروت ط‪،1‬‬
‫‪،1978‬‬
‫‪213‬‬
‫ابن سينا‪� ،‬أبو علي‪،‬‬
‫‪ -‬الخطابة من موسوعة الشفاء تح محمد سليم سالم‪ ،‬منشورات �آيت العظمى المرعشي‬
‫النجفي قم �إيران ‪.1404‬‬
‫‪ -‬ال�إ لهيات (ج‪ )2‬تح محمد يوسف موسى‪ ،‬سليمان دنيا‪ ،‬سعيد زايد‪ ،‬الجمهورية العربية‬
‫المتحدة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة العامة لشؤون المطابع ال�أميرية ‪1960‬‬
‫‪ -‬الطبيعيات من عيون الحكمة‪ ،‬ضمن تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات‪ ،‬تح وتقديم‬
‫د‪ .‬حسن عاصي دار قابس‪ ،‬ط‪1986 1‬‬
‫‪ -‬في �أقسام العلوم العقلية‪ ،‬ضمن تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات‪،‬‬
‫‪ -‬المقالة ال�أولى من �إلهيات الشفاء‪ ،‬تح ال�أب قنواتي وسعيد زايد‪ ،‬الهيئة العامة لشئون‬
‫المطابع ال�أميرية ‪.1960‬‬
‫ابن طوملوس‪،‬‬
‫‪-‬كتاب المدخل لصناعة المنطق‪ ،‬وقف على طبعه �آسين بلاسيوس المطبعة ال�إ بيرية‬
‫مجريط ‪.1916‬‬
‫ال�أشعري‪� ،‬أبو الحسن‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ بانة في �أصول الديانة نشرة السيد محمد ال�أخضر حسين دار القادري ط‪. 1991 ،1‬‬
‫الغزالي‪� ،‬أبو حامد‬
‫‪ -‬مقاصد الفلاسفة‪ ،‬تح سليمان دنيا سلسلة ذحائر العرب ‪ 29‬دار المعارف بمصر ‪1961‬‬
‫‪ -‬المنقذ من الضلال نشرة فريد جبر ط‪ 2‬اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع بيروت ‪1969‬‬
‫‪ -‬جواهر القر�آن‪ ،‬تح لجنة �إحياء التراث العربي منشورات دار ال�آفاق الجديدة بيروت الطبعة‬
‫الخامسة ‪.1983‬‬
‫‪ -‬مشكاة ال�أنوار ومصفاة ال�أسرار تح عبد العزيز عز الدين السيروان عالم الكتب ‪1950‬‬
‫‪ -‬تهافت الفلاسفة تح موريس بويج المطبعة الكاثوليكية‪.‬‬
‫‪ -‬ميزان العمل تح سليمان دنيا دار المعارف بمصر سلسلة ذخائر العرب ‪ 38‬ط‪1964 1‬‬
‫الفارابي‪� ،‬أبو نصر‬
‫‪" -‬كتاب البرهان" نشر مع كتاب شرئط اليقين وتعاليق ابن باجة على البرهان‪ ،‬تح ماجد‬
‫فخري‪ ،‬دار المشرق بيروت ‪1987‬‬
‫‪214‬‬
‫‪" -‬مقالة �أبي نصر فيما يصح وما لايصح من �أحكام النجوم ضمن "رسالتان فلسفيتان" تح‬
‫جعفر �آل ياسين دار المناهل ط‪1987 1‬‬
‫‪" -‬فلسفة افلاطون و�أجزاؤها ‪ -‬ومراتب �أجزائها من �أولها �إلى �آخرها‪-‬ضمن �أفلاطون في‬
‫الاسلام تح عبد الرحمن بدوي دار ال�أندلس ط‪1980 2‬‬
‫‪ -‬فصول منتزعة تح د‪.‬فوزي النجار دار المشرق ط‪،1993 ،2‬‬
‫‪ -‬كتاب الجدل‪ ،‬تحقيق رفيق العجم‪ ،‬دار المشرق بيروت ‪،1986‬‬
‫‪ -‬كتاب الحروف تح محسن مهدي‪ ،‬دار المشرق بيروت ‪.1969‬‬
‫‪ -‬كتاب الملة تح محسن مهدي دار المشرق بيروت ط‪.1991 2‬‬
‫‪ -‬كتاب الموسيقى الكبير‪ ،‬تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة‪ ،‬مراجعة وتصدير د‪.‬‬
‫محمود �أحمد الحنفي دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة ‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب تحصيل السعادة تح جعفر �آل ياسين دار ال�أندلس ط‪1981 1‬‬
‫‪� -‬أبو نصر‪�،‬إحصاء العلوم‪ ،‬قدم له وشرحه وبوبه علي بو ملحم دار ومكتبة الهلال ط‪،1‬‬
‫‪...1996‬‬
‫‪ -‬تلخيص نواميس �أفلاطون‪ ،‬ضمن �أفلاطون في الاسلام‪ ،‬تح عبد الرحمن بدوي‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫دار ال�أندلس ‪.1980‬‬
‫الكاتب‪ ،‬الحسن بن �أحمد بن علي‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب كمال �أدب الغناء‪ ،‬تح غطاس عبد الملك خشبة مراجعة د‪ .‬محمود �أحمد‬
‫الحنفي‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1975‬‬
‫الكندي‪� ،‬أبو يعقوب‪،‬‬
‫‪ -‬الفلسفة ال�أولى للكندي �إلى المعتصم بالله تحقيق �أحمد فؤاد ال�أهواني دار التقدم‬
‫العربي‪ -‬مؤسسة دار الكتاب الحديث بيروت الطبعة الثالثة ‪. 1986‬‬
‫‪ -‬رسائل الكندي الفلسفية تح محمد عبد الهادي �أبو ريدة دار الفكر العربي مطبعة‬
‫الاعتماد بمصر ‪.1950‬‬
‫‪ -‬رسالة الكندي في خبر صناعة الت�أليف" تحقيق يوسف شوقي دار الكتب المصرية‪،‬‬
‫مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة ‪،1996‬‬

‫‪215‬‬
‫مصادر فقهية‬
‫�أبو عبدالله محمد بن �أحمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي‪،‬‬
‫‪ -‬طبقات علماء الحديث‪ ،‬ج‪ 3‬تح �إبراهيم الزيبق مؤسسة الرسالة ط‪1989 1‬‬
‫ابن حزم‪� ،‬أبو محمد‬
‫‪" -‬رسالة التلخيص لوجوه التخليص" ضمن رسائل ابن حزم ال�أندلسي تح �إحسان عباس‬
‫ج‪ 3‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط‪2‬‬
‫‪ -‬المحلى ‪1‬تح �أحمد محمد شاكر‪� ،‬إدارة المطبعة المنيرية مطبعة النهضة بشارع عبد‬
‫العزيز بمصر‬
‫‪ -‬كتاب ملخص �إبطال القياس لابن حزم‪ ،‬تح سعيد ال�أفغاني دار الفكر ط‪1969 2‬‬
‫ابن رشد‪� ،‬أبو الوليد‬
‫‪ -‬بداية المجتهد تح علي محمد معوض وعادل �أحمد عبد الموجود‪ ،‬دار الكتب العلمية‬
‫بيروت لبنان‪ ،‬ط‪ .1996 ،1‬ستة �أجزاء‪.‬‬
‫‪ -‬بداية المجتهد‪ ،‬مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة ‪،1358-1928‬‬
‫‪ -‬بداية المجتهد من تحقيق طه عبد الرءوف سعد‪ ،‬والصادر عن دار الجيل ببيروت‬
‫ومكتبة الكليات ال�أزهرية بالقاهرة ط‪1989 ،11‬‬
‫‪ -‬مختصر المستصفى‪ ،‬تح جمال الدين العلوي‪ ،‬دار الغرب ال�إ سلامي‪ ،‬بيروت لبنان‪،‬‬
‫ط‪1994 1‬‬
‫ابن عطية‪ ،‬عبد الحق‪،‬‬
‫‪ -‬المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز تح المجلس العلمي بفاس ج‪1975.2،‬‬
‫‪ -‬فهرس ابن عطية‪ ،‬تح محمد �أبو ال�أجفان ومحمد الزاهي دار الغرب ال�إ سلامي بيروت‬
‫لبنان ط‪.1983 2‬‬
‫ابن عبد البر‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب الاستذكار تحقيق عبد المعطي �أمين قلعجي‪ ،‬دار قتيبة للطباعة والنشر دمشق‪-‬‬
‫بيروت‪ ،‬دار الوعي حلب القاهرة ‪. 1993‬‬
‫‪216‬‬
‫الطبري‪،‬‬
‫‪ -‬اختلاف الفقهاء‪ ،‬تح فريد ريك كون دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط‪ 2‬ب‪.‬ت‬
‫ابن الزيات‪،‬‬
‫‪ -‬التشوف‪� ،‬أخبار �أبي العباس السبتي‪ ،‬تح �أحمد توفيق منشورات كلية ال�آداب بالرباط‬
‫‪1984‬‬
‫الخطابي‪� ،‬أبو سليمان حمد بن محمد البستي‪،‬‬
‫‪ -‬معالم السنن‪ ،‬نشرة المكتبة العلمية‪ ،‬ط‪ 1981 2‬بيروت لبنان‬
‫الغزالي‪� ،‬أبو حامد‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب الوجيز في فقه مذهب ال�إ مام الشافعي‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان‬
‫‪1979‬‬
‫�أبو زهرة‪،‬‬
‫‪� -‬أصول الفقه‪ ،‬دار الفكر العربي المعاصر‪1958 ،‬‬
‫�أبو عبيدة‪ ،‬قاسم‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب ال�أموال تح محمد عمارة دار الشروق ط‪1989 1‬‬
‫�أحمد زروق‪،‬‬
‫‪ -‬قواعد التصوف‪ ،‬صححه محمد زهري النجار‪ ،‬علي معبد فرغلي دار الجيل بيروت ط‪1‬‬
‫‪1992‬‬
‫ابن العربي‪� ،‬أبو بكر‪،‬‬
‫‪� -‬أحكام القر�آن‪ ،‬تحقيق علي محمد اليحياوي المجلد ال�أول‪ ،‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب القبس في شرح موط إ� ال�إ مام مالك‪ ،‬تح محمد عبد الله ولد كريم دار الغرب‬
‫ال�إ سلامي ط‪،1992 1‬‬
‫ابن القصار‪،‬‬
‫‪ -‬المقدمة في ال�أصول ل�أبي الحسن علي بن عمر بن القصار المالكي البغدادي المتوفى‬
‫سنة ‪397‬هـ مع ملاحق نادرة في �أصول الفقه المالكي قر�أها وعلق عليها محمد بن‬
‫الحسين السليماني‪ ،‬دار الغرب ال�إ سلامي ط‪1996 1‬‬
‫‪217‬‬
‫ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين‪،‬‬
‫‪ -‬الفتاوى‪ ،‬مكتبة المعارف الرباط المجلد ‪ 7‬ص ‪ 295‬والمجلد ‪12‬‬
‫ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن‬
‫‪ -‬شفاء السائل وتهذيب المسائل‪ ،‬تح محمد مطيع الحافظ دار الفكر دمشق ‪ -‬سورية‪،‬‬
‫دار الفكر المعاصر بيروت ‪ -‬لبنان ط‪.1996 1‬‬
‫ابن عبد البر‪،‬‬
‫‪" -‬الاستذكار لمذاهب فقهاء ال�أمصار وعلماء ال�أقطار فيما تضمنه الموط�أ من معاني الر�أي‬
‫وال�آثار وشرح ذلك كله بال�إ يجاز والاختصار" تح وتقديم د‪ .‬عبد المعطي �أمين قلعجي‬
‫دار قتيبة للطباعة والنشر‪ ،‬دمشق بيروت‪ -‬دار الوعي‪ ،‬حلب القاهرة ط‪1993 ،1‬‬
‫‪ -‬الكافي في فقه �أهل المدينة المالكي‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الثانية‬
‫‪1992‬‬
‫‪ -‬جامع بيان العلم ج‪ 2‬دار الفكر ب‪.‬ت ‪.‬‬
‫‪"-‬الانتقاء في فضائل ال�أئمة الثلاثة الفقهاء ‪ :‬مالك بن �أنس ال�أصبحي المدني ومحمد‬
‫بن �إدريس الشافعي المطلبي و�أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وعيون �أخبارهم‬
‫الشاهدة ب�إمامتهم وفضلهم في �آدابهم وعلمهم" نشرة عبد الفتاح �أبو غدة مكتبة‬
‫المطبوعات ال�إ سلامية بحلب ط‪.1997 1‬‬
‫الباجي‪� ،‬أبو الوليد ‪:‬‬
‫‪" -‬الاستيفاء" من �إيراد الحديث والمس�ألة من ال�أصل‪ ،‬ثم اتبعت ذلك ما يليق به من‬
‫الفرع" كتاب المنتقى شرح موط�أ �إمام دار الهجرة‪ ،‬مطبعة السعادة بجوار محافظة‬
‫مصر ط‪1331 1‬هـ‬
‫‪ -‬كتاب المنهاج‪ ،‬تح عبد المجيد التركي‪ ،‬دار الغرب الاسلامي‪ ،‬ط‪.1987 ،2‬‬
‫‪� -‬إحكام الفصول في �أحكام ال�أصول تح عبد المجيد تركي دار الغرب الاسلامي ط‪،2‬‬
‫‪1995‬‬
‫البطليوسي‪ ،‬ابن سيد‬
‫‪ -‬ال�إ نصاف في التنبيه على المعاني وال�أسباب التي �أوجبت الاختلاف بين المسلمين في‬
‫�آرائهم" انظر تح محمد رضوان الداية دار الفكر دمشق سورية ط‪1987 3‬‬
‫‪218‬‬
‫البغدادي‪ ،‬الخطيب‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب الفقيه والمتفقه‪ ،‬تصحيح وتعليق �إسماعيل ال�أنصاري‪ ،‬مطابع القصيم الرياض‬
‫ط‪1389 2‬‬
‫الجد‪ ،‬ابن رشد‪،‬‬
‫‪ -‬البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة ل�أبي الوليد بن رشد‬
‫الجد وضمنه المستخرجة من ال�أسمعة المعروفة بالعتبية لمحمد العتبي القرطبي تح‬
‫محمد حجي دار الغرب ال�إ سلامي ج‪ 1‬ط‪1988 2‬‬
‫‪ -‬المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من ال�أحكام الشرعيات والتحصيلات‬
‫المحكمات ل�أمهات مسائلها المشكلات‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد حجي دار الغرب‬
‫ال�إ سلامي الطبعة ال�أولى ‪1988‬‬
‫‪ -‬فتاوى ابن رشد‪ ،‬تقديم وتحقيق وجمع وتعليق المختار بن الطاهر التليلي السفر الثالث‬
‫دار الغرب ال�إ سلامي ط‪1987 1‬‬
‫‪ -‬مسائل �أبي الوليد ابن رشد الجد‪ ،‬تحقيق محمد الحبيب التجكاني منشورات دار ال�آفاق‬
‫الجديدة المغرب الطبعة ال�أولى ‪1922‬‬
‫الجويني‪،‬‬
‫‪ -‬البرهان في �أصول الفقه‪ ،‬تعليق صلاح بم محمد بن عويضة‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت‬
‫لبنان ط‪1997 1‬‬
‫‪ -‬غياث ال�أمم في التياث الظلم‪ ،‬تحقيق عبد العظيم الديب مطبعة نهضة مصر ط‪2‬‬
‫‪1401‬هـ‬
‫الحجوي‪،‬‬
‫‪ -‬الفكر السامي في تاريخ الفقه ال�إ سلامي‪ ،‬ج‪ 2‬دار التراث القاهرة‬
‫السبكي‪،‬‬
‫‪ -‬طبقات الشافعية‪ ،‬تح محمد محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو مطبعة عيسى‬
‫البابي الحلبي ج‪ ،3‬ط‪1964 ،1‬‬
‫السرخسي‪،‬‬
‫‪ -‬المحرر في �أصول الفقه خرج �أحاديثه وعلق عليه صلاح بن محمد بن محمد عويضة‬
‫ج‪ 1‬دار الكتب العلمية ط‪.1996 1‬‬
‫‪219‬‬
‫السليماني‪ ،‬محمد بن الحسين‬
‫‪" -‬المدخل �إلى "المقدمة في ال�أصول" لابن القصار‪ ،‬دار الغرب ال�إ سلامي ط‪.1996 1‬‬
‫الشاطبي‪،‬‬
‫‪ -‬الموافقات‪ ،‬نشرة �أبو عبيدة مشهور بن حسن �آل سلمان المجلد الثالث دار ابن عفان‪،‬‬
‫ط‪1997،‬‬
‫الطحاوي‪� ،‬أبو جعفر‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب "مختصر اختلاف العلماء " اختصار �أبي بكر الجصاص دراسة تحقيق د‪ .‬عبد‬
‫الله نذير �أحمد ج‪ 1‬دار البشائر ال�إ سلامية ط‪.1996 2‬‬
‫العامري‪� ،‬أبو الحسن‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ علام في مناقب �أهل ال�إ سلام‪ ،‬تح �أحمد عبد الحميد غراب دار الكتاب العربي‬
‫للطباعة والنشر‪.1967 ،‬‬
‫الغزالي‪� ،‬أبو حامد‪،‬‬
‫‪ -‬المستصفى من علم ال�أصول طبعة محمد عبد السلام عبد الشافي‪ ،‬دار الكتب العلمية‬
‫بيروت لبنان ط‪1993 1‬‬
‫�إحياء علوم الدين ج ‪ 1‬دار المعرفة بيروت لبنان ‪،1982‬‬
‫الفاسي‪ ،‬علال‬
‫مقاصد الشريعة ال�إ سلامية ومكارمها‪ ،‬مكتبة الوحدة العربية‪ ،‬الدار البيضاء ب‪.‬ت‪.‬‬
‫القرطبي‪� ،‬أبو عبد الله‪،‬‬
‫‪ -‬الجامع ل�أحكام القر�آن اعتنى هشام سهير البخاري‪ ،‬دار �إحياء التراث العربي‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1995‬‬
‫القشيري‪� ،‬أبو القاسم‪،‬‬
‫‪ -‬الرسالة القشيرية‪ ،‬تح عبد الحليم محمود‪ ،1989 ،‬دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر‬
‫المنذر‪�،‬أبو بكر‬
‫‪ -‬ال�إ جماع‪ ،‬تح فؤاد عبد المنعم �أحمد‪ ،‬ط‪ 1987 2‬مطبوعات رئاسة المحاكم الشرعية‬
‫والشؤون الدينية بدولة قطر‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫المقدسي‪ ،‬ابن قدامة‪،‬‬
‫‪ -‬الكافي في فقه ال�إ مام �أحمد‪ ،‬حققه وعلق عليه محمد فارس ومسعد عبد الحميد‬
‫السعدني المجلد ال�أول دار الكتب العلمية بيروت لبنان‬
‫النسائي‪،‬‬
‫‪ -‬سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية السندي‪ ،‬دار �إحياء التراث‬
‫العربي بيروت لبنان ج‪1‬‬
‫مسلم‪،‬‬
‫‪ -‬صحيح مسلم مع شرح ال�أبي والسنوسي في طبعة السعادة بجوار محافظة مصر ط‪1‬‬
‫‪.1327‬‬

‫‪221‬‬
‫مصادر ومراجع عامة‬
‫�أومليل‪ ،‬علي‪،‬‬
‫‪ -‬السلطة السياسية والسلطة العلمية في الاسلام‪ ،‬ضمن ندوة �أبي حامد الغزالي دراسات‬
‫في فكره وعصره وت�أثيره‪ ،‬الرباط كلية ال�آداب‪.1988 ،‬‬
‫ابن الخطيب‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ حاطة في �أخبار غرناطة‪ ،‬تح محمد عبد الله عنان‪ ،‬مكتبة الخانجي بالقاهرة‪ ،‬الشركة‬
‫المصرية للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪.1974 ،1‬‬
‫‪ -‬ابن الصديق‪� ،‬إبراهيم ‪:‬‬
‫‪ -‬فقيه ال�أندلس – عبد الملك بن حبيب في ميزان المحدثين‪ .‬مجلة دار الحديث الحسنية‬
‫العدد ال�أول ‪1979‬‬
‫ابن عاشور‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ مام المازري‪ ،‬حياته �آثاره ضمن ملتقى ال�إ مام المازري‪،‬‬
‫‪ -‬بن سعيد‪،‬‬
‫‪ -‬المغرب في حلى المغرب‪ ،‬تح شوقي ضيف دار المعارف مصر سلسلة ذخائر‬
‫العرب‪.‬ب‪.‬ت‬
‫أ�بو العباس الغبريني‪،‬‬
‫‪ -‬عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية‪ .‬تحقيق عادل نويهض‬
‫منشورات الت�أليف والترجمة والنشر – بيروت سلسلة ذخائر التراث العربي – المكتبة‬
‫الجزائرية ب‪.‬ت‪.‬‬
‫بورشاشن‪� ،‬إبراهيم‬
‫‪ -‬هل نحن في حاجة �إلى ابن رشد‪ ،‬سليكي �أخوين‪ ،‬طنجة ‪2015‬‬
‫‪ -‬هل نحن في حاجة �إلى ابن طفيل‪ ،‬سليكي أ�خوين‪ ،‬طنجة ‪2016‬‬
‫‪ -‬مع ابن طفيل في تجربته الفلسفية‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬البيضاء‪.2010 ،‬‬
‫‪222‬‬
‫البختي‪ ،‬جمال علال‪،‬‬
‫‪�" -‬أبو عمر السلالجي وفكره العقدي"‪ ،‬بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا مرقون بكلية‬
‫�آداب الرباط السنة الجامعية ‪1995-1996 ،.1415-1416‬‬
‫الريسوني‪� ،‬أحمد‪،‬‬
‫‪ -‬نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الاسلامية‪ ،‬ط‪.1994 ،1‬‬
‫‪ -‬المنحى المقاصدي في فقه ابن رشد‪ ،‬دعوة الحق دجنبر ‪ 1999‬العدد ‪348‬‬
‫الشهرستاني‪،‬‬
‫‪ -‬الملل والنحل‪ ،‬تح محمد سيد كيلاني‪ ،‬دار المعرفة بيروت لبنان‪،‬‬
‫المراكشي‪ ،‬عبد الواحد‪،‬‬
‫‪ -‬المعجب في تلخيص �أخبار المغرب‪ ،‬نشرة ممدوح حقي دار الكتاب الدارر البيضاء‬
‫ط‪.1978 ،7‬‬
‫المصباحي‪ ،‬محمد‬
‫‪�" -‬أنحاء الوحدة وتجلياتها عند ابن رشد"�أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة‪،‬‬
‫‪ ،1996‬مرقونة بكلية ال�آداب بالرباط‬
‫‪ -‬مرتبة الفحص الدلالي والفحص الجدلي‪ -‬ال�إ شكالي من علم ما بعد الطبيعة عند ابن‬
‫رشد‪ ،‬مجلة كلية ال�آداب والعلوم ال�إ نسانية بفاس العدد الثامن ‪،1986‬‬
‫‪ -‬منزلة العقل العملي في فلسفة ابن رشد‪ ،‬ضمن الوجه ال�آخر لحداثة ابن رشد‪ ،‬دار‬
‫الطليعة بيروت ط‪1998 ،1‬‬
‫‪"-‬منزلة مقالة الزاي من كتاب ما بعد الطبيعة بين ابن سينا وابن رشد" وهي تشكل الفصل‬
‫الثامن من كتاب "الوجه ال�آخر لحداثة ابن رشد‪"...‬‬
‫‪" -‬الطريقة الصناعية في الطب في مواجهة الطريقة الضدية �أو العودة بالطب �إلى الطريقة‬
‫البرهانية عند عبد الله بن رشد" ضمن العلم والفكر العلمي بالغرب الاسلامي في‬
‫العصر الوسيط‪ ،‬منشورات كلية �آداب الرباط ط‪.2001 ،1‬‬
‫‪ -‬الوجه ال�آخر لحداثة ابن رشد دار الطليعة بيروت ط‪..1998 ،1‬‬
‫‪ -‬حضور كتاب ما بعد الطبيعة في فصل المقال‪..‬ضمن تحولات في تاريخ الوجود والعقل‬
‫دار الغرب الاسلامي ط‪1995 ،1‬‬
‫‪223‬‬
‫المصلح‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪� -‬أبو الحسن اللخمي وجهوده في تطوير الاتجاه النقدي في المذهب المالكي بالغرب‬
‫الاسلامي‪� ،‬أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في ال�آداب‪ ،‬رسالة مرقونة بكلية �آداب وجدة‪،‬‬
‫السنة الجامعية ‪.1999-2000‬‬
‫المباركي‪� ،‬أحمد بن علي بن سير‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب العرف و�أثره في الشريعة والقانون‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة العربية السعودية ‪1966‬‬
‫النبهان‪ ،‬فاروق‪،‬‬
‫‪� -‬أثر مالك في تدعيم مكانة السنة النبوية في المنهج الفقهي العام مجلة دار الحديث‬
‫الحسنية العدد الرابع ‪1984‬‬
‫الناصري‪،‬‬
‫‪ -‬الاستقصاء ل�أخبار دول المغرب ال�أقصى‪ ،‬تح جعفر الناصري ومحمد الناصري‪ ،‬دار‬
‫الكتب البيضاء ‪.1954‬‬
‫الورياغلي‪ ،‬محمد حماد‪،‬‬
‫‪ -‬الفقه والحديث في مذهب مالك‪ ،‬مجلة دار الحديث الحسنية العدد الرابع ‪1984‬‬
‫بنشريفة‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد الحفيد‪ ،‬دراسة وثائقية ‪.‬ط‪ ،1‬مطبعة النجاح الجديدة‪،1999 ،‬‬
‫حجي محمد‪،‬‬
‫‪ -‬مكانة ابن رشد بين فقهاء المالكية من سبقه ومن لحقه‪ ،‬سلسلة مطبوعات المنظمة‬
‫ال�إ سلامية للعلوم الطبية‪ ،‬السلسلة التراثية الندوة ال�أولى‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪،‬‬
‫‪ -‬تجديد المنهج في تقويم التراث‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬ب‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ -‬فقه الفلسفة‪ ،‬الفلسفة والترجمة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪.1995 ،1‬‬
‫فوقية حسين محمود‪،‬‬
‫‪ -‬الجويني �إمام الحرمين سلسلة �أعلام العرب الهيئة المصرية العامة للت�أليف والنشر ط‪2‬‬
‫‪1970‬‬
‫‪224‬‬
‫كنون‪،‬عبد الله‪،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد الفقيه‪ ،‬دعوة الحق‪ ،‬العدد الثاني السنة الحادية عشرة رمضان ‪ ،1387‬دجنبر‬
‫‪.1967‬‬
‫كوربان‪ ،‬هنرى ‪:‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفلسفة ال�إ سلامية المكتبة الفلسفية منشورات عويدات بيروت لبنان ط‪1966 1‬‬
‫الكتاني‪ ،‬محمد بن جعفر‪،‬‬
‫‪ -‬الرسالة المستظرفة‪ ،‬دار البشائر الاسلامية‪،‬ط‪1986 ،4‬‬
‫الكتاني‪ ،‬يوسف‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ مام الخطابي شارح صحيح البخاري كتاب جمعية الامام البخاري ‪1993‬‬
‫�أحمادي‪ ،‬عبد الملك ‪:‬‬
‫‪ -‬ابن رشد [الجد] �أصوليا‪ ،‬رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا‪ ،‬مرقونة بكلية ال�آداب‬
‫بمكناس‪.‬‬
‫�أبو زيد‪ ،‬منى �أحمد‬
‫‪ -‬المدينة الفاضلة عند ابن رشد‪ ،‬منش�أة المعارف‪،‬ط‪.2000 ،1‬‬
‫�أحنانة‪ ،‬يوسف‪،‬‬
‫‪ -‬تطور المذهب ال�أشعري بالغرب ال�إ سلامي رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا‪ ،‬مرقونة‬
‫بكلية �آداب الرباط‪.‬‬
‫�أنطون سيف‪،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد في رؤية عربية معاصرة‪ ،‬مجلة الفكر العربي‪ ،‬العدد ‪ 81‬السنة ‪ 16‬صيف‬
‫‪.1995‬‬
‫ابن �أبي �أصيبعة‪،‬‬
‫‪ -‬عيون ال�أنباء دار الثقافة بيروت لبنان ط‪ ،1981 3‬ج‪.،3‬‬
‫ابن �أبي زرع‪،‬‬
‫البيان المغرب في �أخبار ال�أندلس والمغرب‪ ،‬قسم الموحدين‪ ،‬تح جماعة من ال�أساتذة‪،‬‬
‫دار الغرب الاسلامي‪ ،‬بيروت لبنان دار الثقافة الدار البيضاء‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫ابن ال�أبار‪،‬‬
‫‪ -‬التكملة مكتبة الخانجي بمصر والمثنى ببغداد نشر عزت العطار ‪1375-1955‬‬
‫ابن النديم‪،‬‬
‫‪ -‬الفهرست تح رضا المازاندي دار المسيرة‪ ،‬ط‪1988 3‬‬
‫ابن بشكول‪،‬‬
‫‪ -‬كتاب الصلة نشر عزت العطار الحسيني ‪1955 -1374‬‬
‫ابن خلدون‪،‬عبد الرحمن‬
‫‪ -‬المقدمة نشرة دار القلم بيروت ‪.1978‬‬
‫ابن خلكان‪،‬‬
‫‪ -‬نفح الطيب تح �إحسان عباس دار صادر للطباعة والنشر بيروت‬
‫ابن صاحب الصلاة‪،‬‬
‫‪ -‬المن بال�إ مامة تح عبد الهادي التازي دار ال�أندلس ط‪1964 1‬‬
‫ابن فرحون‪ ،‬برهان الدين‪،‬‬
‫‪ -‬الديباج المذهب في معرفة �أعيان المذهب‪ ،‬طبعة عباس بن عبد السلام بن شقرون‬
‫بالفحامين بمصر ط‪1351 1‬‬
‫ابن مخلوف‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬شجرة النور الزكية دار الفكر ب‪.‬ت ‪.‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬جمال الدين‬
‫‪ -‬لسان العرب دار صادر بيروت ب‪.‬ت‬
‫ال�أنصاري‪ ،‬ابن عبد الملك‪،‬‬
‫‪ -‬الذيل والتكملة‪ ،‬السفر السادس تح �إحسان عباس دار الثقافة بيروت ‪ -‬لبنان ط‪.1973 1‬‬
‫البطليوسي‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ نصاف‪ ،‬تح محمد رضوان الداية دار الفكر دمشق سورية ط‪1987 3‬‬
‫البغا‪ ،‬مصطفى ديب ‪:‬‬
‫‪� -‬أثر ال�أدلة المختلف فيها في الفقه ال�إ سلامي‪ ،‬دار ال�إ مام البخاري‪ ،‬دمشق حلبوني‪.‬‬
‫‪226‬‬
‫الجابري‪ ،‬محمد عابد ‪:‬‬
‫‪" -‬قرطبة ومدرستها الفكرية" ضمن التراث والحداثة المركز الثقافي العربي ط‪.1991 ،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد‪ ،‬سيرة وفكر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية �أكتوبر ‪1998‬‬
‫‪ -‬النزعة البرهانية في المغرب وال�أندلس" ضمن "التراث والحداثة" المركز الثقافي العربي‬
‫بيروت ‪ -‬البيضاء ط‪1991 1‬‬
‫الجيدي‪ ،‬عمر‪،‬‬
‫‪ -‬الاختصار و�أثره على الفقه المالكي" ضمن كتاب "مباحث في المذهب المالكي‬
‫بالمغرب ط‪1993 1‬‬
‫‪ -‬مباحث في المذهب المالكي بالمغرب ط‪،1993 ،1‬‬
‫‪ -‬التشريع الاسلامي‪� ،‬أصوله وقواعده‪ ،‬منشورات عكاظ‪ ،‬ط‪1987 ،1‬‬
‫الحنفي‪ ،‬مصطفى سعيد‪،‬‬
‫‪� -‬أثر الاختلاف في القواعد ال�أصولية في اختلاف الفقهاء‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪.1989 ،5‬‬
‫الخضري‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬تاريخ التشريع ال�إ سلامي دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط‪1988 1‬‬
‫السوداني‪� ،‬أحمد بابا‪،‬‬
‫نيل الابتهاج على هامش الديباج دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫السجلماسي‪� ،‬أبو محمد‬
‫‪ -‬المنزع البديع في تجنيس �أساليب البديع‪ ،‬تقديم وتحقيق علال الغازي مكتبة المعارف‬
‫الرباط‪ .‬ط‪.1401-1980 ،1‬‬
‫الجيدي‪ ،‬عمر‪،‬‬
‫‪ -‬محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب ال�إ سلامي منشورات عكاظ ب‪.‬ت‪.‬‬
‫السيوطي‪،‬‬
‫‪ -‬بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة‪ ،‬مطبعة السعادة بمصر ط‪1326 1‬‬
‫الشاذلي‪ ،‬عبد اللطيف‪،‬‬
‫‪ -‬التصوف والمجتمع نماذج من ق ‪ 10‬هـ ص‪� 71‬أطروحة جامعية مرقونة بكلية ال�آداب‬
‫بمكناس‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫الشيرازي‪،‬‬
‫‪ -‬طبقات الفقهاء‪ ،‬تح علي محمد عمر مكتبة الثقافة الدينية بور سعيد الظاهر ط‪1997 1‬‬
‫الصغير‪ ،‬عبد المجيد‪،‬‬
‫‪" -‬مواقف "رشدية" لتقي الدين بن تيمية؟ ‪ -‬ملاحظات �أولية ‪ -‬ضمن تجليات الفكر‬
‫المغربي دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوف بالمغرب شركة النشر‬
‫والتوزيع الدار البيضاء الطبعة ال�أولى ‪.2000‬‬
‫‪ -‬الدلالة الفكرية والسياسية لحضور "مستصفى" الغزالي عند ابن رشد وفلسفية ضمن‬
‫مجلة مقدمات عدد ‪ 15‬شتاء ‪ 1998‬عدد خاص عن ابن رشد‬
‫الفكر ال�أصولي و�إشكالية السلطة العلمية في ال�إ سلام" دار المنتخب العربي ط‪1994 1‬‬
‫‪� -‬إشكالية استمرار الدرس الفلسفي الرشدي‪ ،‬حول �أثر الغزالي في المدرسة الرشدية‬
‫بالمغرب‪ ،‬ضمن مجلة البلاغة المقارنة العدد السادس عشر ‪ 1996‬عدد خاص عن‬
‫ابن رشد والتراث العقلاني في الشرق والغرب‪.‬‬
‫‪ -‬فصل المقال فيما بين المنطق والشريعة من الاتصال‪ ،‬النزعة الغزالية في الغرب الاسلامي‬
‫مجلة المناظرة العدد الثالث ‪.‬‬
‫الصفدي‪،‬‬
‫الوافي بالوفيات‪ ،‬باعتناء س‪.‬ديدرينغ دار فرانز شتايز بفسبادن ط‪ ،2‬ج‪1974 ،1‬‬
‫الضبي‪� ،‬أحمد بن يحيى‪،‬‬
‫‪ -‬بغية الملتمس في تاريخ رجال �أهل ال�أندلس‪ ،‬تح روحية عبد الرحمن السويفي‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية بيروت لبنان ط‪.1997 ،1‬‬
‫العبيدي‪ ،‬حمادي‪،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد الحفيد‪ ،‬حياته – علمه‪ -‬فقهه‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪.1984 ،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد وعلوم الشريعة‪ ،‬دار الفكر العربي بيروت ط‪.1991 ،1‬‬
‫العراقي‪ ،‬عاطف‪،‬‬
‫‪ -‬تصدير كتاب "مشكلة الاتصال بين ابن رشد والصوفية" لمجدي محمد �إبراهيم مكتبة‬
‫الثقافة الدينية ط‪،2001 ،1‬‬
‫‪228‬‬
‫العلمي‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬التصنيف الفقهي في المذهب المالكي‪ ،‬تاريخه وقضاياه المنهجية‪ ،‬الخلاف العالي‬
‫نموذجا‪� ،‬إلى حدود القرن السادس الهجري‪� ،‬أطروحة لنيل دكتوراة الدولة مرقونة بدار‬
‫الحديث الحسنية‪.‬‬
‫العلوي‪ ،‬جمال الدين‪،‬‬
‫‪� -‬إشكالية العلاقة بين العلم الطبيعي وما بعد الطبيعة عند ابن رشد‪ ،‬مجلة كلية ال�آداب‬
‫والعلوم ال�إ نسانية بفاس ‪1988‬‬
‫‪ -‬المتن الرشدي دار توبقال للنشر ط‪. 1986 1‬‬
‫‪ -‬تطور �إشكالية العقل عند ابن رشد‪ ،‬من النظر الفيلولوجي �إلى النظر الفلسفي‪ ،‬ضمن‬
‫الحضارة العربية والاسلامية في ال�أندلس‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربيةط‪..1998 ،1‬‬
‫العلوي‪ ،‬سعيد بنسعيد‪،‬‬
‫‪ -‬الخطاب ال�أشعري مساهمة في دراسة العقل الاسلامي العربي‪ ،‬دار المنتخب العربي‪،‬‬
‫ط‪1992 ،1‬‬
‫عالية‪ ،‬سمير‪،‬‬
‫‪ -‬القضاء والعرف في ال�إ سلام‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1997‬‬
‫الفيروزابادي‪،‬‬
‫‪ -‬القاموس المحيط دار الكتب العلمية ج‪1995 3‬‬
‫القبلي‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪"-‬ال�إ حياء وقضية الحكم في المغرب الوسيط ضمن ندوة "�أبو حامد الغزالي‪ ،‬دراسات في‬
‫فكره وعصره وت�أثيره‪ .‬منشورات كلية ال�آداب بالرباط ‪1988‬‬
‫القرشي‪،‬‬
‫‪ -‬المنطوق به والمسكوت عنه في فقه ابن رشد‪ ،‬الدار التونسية للنشر ‪.1993‬‬
‫المراكشي‪ ،‬عبد الواحد‪،‬‬
‫‪ -‬المعجب‪ ،‬تقديم ممدوح حقي دار الكتاب البيضاء ط‪1978 7‬‬
‫‪229‬‬
‫المراكشي‪ ،‬محمد بن عبد الملك‪،‬‬
‫‪ -‬الذيل والتكملة‪ ،‬السفر السادس تح �إحسان عباس ط‪ 1‬دار الثقافة بيروت ‪. 1956‬‬
‫المصطفى‪ ،‬الوظيفي ‪:‬‬
‫‪" -‬المنهج ال�أصولي بين القول بالتجريد والت�أثير العقدي" دعوة الحق العدد ‪348‬‬
‫مجمع اللغة العربية‪،‬‬
‫المعجم الفلسفي‪ ،‬الهيئة العامة لشؤون المطابع ال�أميرية ‪1983‬‬
‫المقري‪،‬‬
‫‪� -‬أزهار الرياض‪ ،‬صندوق �إحياء التراث ال�إ سلامي ج‪.3‬‬
‫المنوني‪ ،‬محمد‬
‫‪ -‬حضارة الوحدين‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬ط‪.1989 ،1‬‬
‫‪� -‬إحياء علوم الدين في منظور الغرب ال�إ سلامي‪ ،‬ضمن ندوة "�أبو حامد الغزالي‪ ،‬دراسات‬
‫في فكره وعصره وت�أثيره‪ .‬منشورات كلية ال�آداب بالرباط‬
‫‪1988‬‬
‫النقاري‪ ،‬حمو ‪:‬‬
‫‪ -‬المنهجية ال�أصولية والمنطق اليوناني من خلال �أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية‪.‬‬
‫ضمن سلسلة "بدايات"‪ .‬الشركة المغربية للنشر والولادة‪ -‬الدار البيضاء الطبعة ال�أولى‬
‫‪.1991‬‬
‫‪ -‬كونية "المعلوم" ومحليته عند �أبي نصر الفارابي ضمن "العلم (المحلية والكونية)"‪.‬‬
‫منشورات كلية ال�آداب والعلوم ال�إ نسانية الرباط سلسلة ندوات ومناظرات رقم ‪.98‬‬
‫ط‪.2002 ،1‬‬
‫النيفر‪ ،‬محمد الشاذلي‪،‬‬
‫‪ -‬المازري في بعض �آرائه وتلاميذه‪ ،‬ضمن �أعمال ملتقى ال�إ مام المازري للفلسفة‬
‫ال�إ سلامية منشورات الحياة الثقافية وزارة الشؤون الثقافية تونس مطبعة الدار التونسية‬
‫للنشر �أكتوبر ‪1978‬‬
‫‪230‬‬
‫الهتناني‪ ،‬نجم الدين ‪:‬‬
‫‪ -‬تطور المذهب الحنفي بالقيروان خلال القرون الوسطى مجلة التاريخ العربي التي‬
‫تصدرها جمعية المؤرخين المغاربة العدد ‪13‬‬
‫بلومبرج‪،‬‬
‫‪ -‬مقدمة تلخيص الحس والمحسوس تح بلومبرج ال�أكاديمية ال�أمريكية للعصور الوسطى‬
‫كامبدرج ماساشوسيتس ‪. 1972‬‬
‫بنشريفة‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬ظهور ت�أليفين لابن رشد الحفيد العلم الثقافي ‪� 21‬أكتوبر ‪.2000‬‬
‫جبر‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬الفكر الفلسفي وال�أخلاقي عند اليونان‪� ،‬أرسطو نموذجا‪ ،‬دار دمشق‪ ،‬ط‪.1994 ،1‬‬
‫جولدزيهر‪،‬‬
‫‪ -‬مقدمة "كتاب �أعز ما يطلب" لابن تومرت الجزائر ‪.1903‬‬
‫الزحيلي‪ ،‬محمد‪،‬‬
‫‪ -‬تاريخ القضاء في الاسلام‪ ،‬دار الفكر المعاصر بيروت لبنان‪ ،‬دار الفكر دمشق سوريا‪،‬‬
‫ط‪.1995 ،1‬‬
‫الحدادي‪ ،‬عزيز‪،‬‬
‫‪ -‬صورة ابن رشد في الكتابات ال�أوروبية والعربية‪ ،‬مطبعة ما بعد الحداثة‪ ،‬فاس المغرب‬
‫ط‪.2000 ،1‬‬
‫الخضري‪ ،‬زينب‬
‫‪" -‬مشروع ابن رشد ال�إ سلامي والغرب المسيحي" ضمن ندوة "ابن رشد مفكرا عربيا ورائدا‬
‫للاتجاه العقلاني" الصادرة عن المجلس ال�أعلى للثقافة‪ ،‬لجنة الفلسفة والاجتماع‪.‬‬
‫مطبعة الهئية العامة لشئون المطابع ال�أميرية القاهرة ‪. 1993‬‬
‫‪� -‬أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى‪ ،‬دار التنوير ط‪1985 ،2‬‬
‫شحلان‪� ،‬أحمد‪،‬‬
‫‪ -‬ابن رشد والفكر العبري الوسيط المطبعة والوراقة الوطنية‪ ،‬ط‪1999 ،1‬‬
‫‪231‬‬
‫شوفالييه‪ ،‬جان‪،‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفكر السياسي‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد عرب صاصيلا‪ ،‬ط‪.1988 ،4‬‬
‫شوقي‪ ،‬يوسف‪،‬‬
‫‪ -‬مقدمة تحقيق رسالة الكندي‪ ،‬في خبر صناعة الت�أليف‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬حسن عبد الحميد‪،‬‬
‫‪ -‬المراحل الارتقائية لمنهجية الفكر العربي ال�إ سلامي‪ ،‬المنهج في النسق الفقهي الاسلامي‪،‬‬
‫حوليات كلية �آداب جامعة الكويت‪ ،‬الحولية الثامنة‪1407-1408 ،‬هـ‪1987 - 1986 ،‬‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬طه‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ سهام المغربي في التراث ال�إ سلامي �إسهام �أخلاقي‪ ،‬مجلة التاريخ العربي التي تصدرها‬
‫جمعية المؤرخين المغاربة‪ ،‬العدد الرابع عشر ‪2000‬‬
‫‪ -‬حوارات من �أجل المستقبل‪ ،‬كتاب الجيب‪ ،‬منشورات جريدة الزمن‪� ،‬أبريل ‪2000‬‬
‫‪ -‬لماذا لست رشديا؟ ولماذا ينبغي �أن لانكون رشديين؟ ضمن حوارات من �أجل المستقبل‬
‫منشورات الزمن �أبريل ‪.2000‬‬
‫عبد الرزاق‪ ،‬مصطفى‪،‬‬
‫‪ -‬تمهيد لتاريخ الفلسفة ال�إ سلامية‪ ،‬لجنة الت�أليف والترجمة والنشر‪ ،‬ط‪3‬‬
‫عياض‪� ،‬أبو عبد الله‪،‬‬
‫‪ -‬التعريف بالقاضي عياض لولده ابن عبد الله‪ ،‬تقديم وتحقيق محمد بنشريفة ط‪ 2‬مطبعة‬
‫فضالة المحمدية‪1982 ،‬‬
‫عياض‪ ،‬القاضي‪،‬‬
‫‪ -‬الغنية‪ ،‬تح ماهر زهير بيروت ط‪1982 1‬‬
‫فارمر‪ ،‬هنري جورج‪،‬‬
‫‪" -‬تاريخ الموسيقى العربية حتى القرن الثالث عشر الميلادي"‪ ،‬تعريب جرجيس فتح الله‬
‫المحامي‪ ،‬منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان‪.‬‬
‫كوهن‪ ،‬جان‪،‬‬
‫‪ -‬بنية اللغة الشعرية ترجمة محمد الولي ومحمد العمري دار توبقال ط‪.1986 ،1‬‬
‫‪232‬‬
‫لانغاد‪ ،‬جاك‪،‬‬
‫‪ -‬ال�إ يمان والعقل ‪:‬موقف ابن رشد‪-‬وجهات نظر تاريخية وفلسفية ضمن مجلة مقدمات‬
‫عدد ‪ 15‬شتاء ‪ 1998‬عدد خاص عن ابن رشد‬
‫محمد �إبراهيم‪ ،‬مجدي‬
‫‪ -‬مشكلة الاتصال بين ابن رشد والصوفية‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد‪ .‬الطبعة ‪،1‬‬
‫‪2001‬‬
‫مطر‪� ،‬أميرة حلمي‪،‬‬
‫‪ -‬الفلسفة عند اليونان‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪1977 ،‬‬
‫مهنا‪ ،‬محمد نصر‪،‬‬
‫‪ -‬علم السياسة‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة‬
‫ميكلوش‪ ،‬موراني‪،‬‬
‫‪ -‬دراسات في مصادر الفقه المالكي‪ ،‬نقله عن ال�ألمانية مجموعة من ال�أساتذة‪ ،‬دار الغرب‬
‫الاسلامي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1988 ،1‬‬
‫المقري‪� ،‬أحمد‬
‫‪ -‬نفح الطيب تح �إحسان عباس المجلد السابع دار صادر بيروت ‪1968‬‬
‫يفوت‪ ،‬سالم‪،‬‬
‫‪ -‬ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب وال�أندلس‪ ،‬المركز الثقافي العربي البيضاء‪ .‬ط‪،1‬‬
‫‪،1986‬‬

‫‪233‬‬
‫مراجع �أجنبية‬
Juan Martos Quesada.
- Introduction al mundo Juridico De La Espana, musulman Edition Martin
Madrid 1999.
Dominique Urvoy,
- Ibn Rushd (Averroès) Cariscript Paris 1996
Loui Gardet 
- originalitè d’Ibn Rochd.
.1978 ‫ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر نونبر‬،‫ضمن ملتقى �أعمال مؤتمر ابن رشد‬
Madkour Ibrahim.
- L’organon D’aristote dans le Monde Arabe – Paris – Vrin 1969
Muhsin Mahdi
- Philosophie d’Aristote et pensée politique dans la communauté isla-
mique : Reflexions et comparaisons. In Penser Avec Aristote éres 1991.
R. Brunchfig.
- Averroès juriste ; in Etudes D’islamologie. Tome Second Paris. Edition
Maisonneuve et Larose 1976.
Mahmud Ali Makki;
- contribution de Averroes a la ciencia juridica musulmana; in AL En-
cuentro de Averroes. Madrid : Editorial Trotta, 1993.
Maurice Bouyges.
- Essai de chronologie des œuvres de Al-Ghazali. Imprimerie catholique
beyrouth
Multiple Averroés,
- Acte du colloque international organisé à l’occasion du 850ème Anniver-
saire d'Averroés, Paris septembre 1976, Les Belles lettres 1978.
Munk;
- Mélange de la philosophie juive et arabe Vrin 1955.
Roger Arnaldez.
- Avérroés un rationaliste en islame 2 édition Le Nadir. Balland. 1998.

234
‫الفهرس‬

‫مقدمة ‪3.........................................................................‬‬

‫الباب ال�أول ‪ :‬الفقه والسياسة ‪7....................................................‬‬


‫الفصل ال�أول ‪ :‬منطق السياسة عند ابن رشد ‪15...................................‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬سياسة المنطق عند ابن رشد ‪61...................................‬‬

‫الباب الثاني ‪ :‬دلالة "الجمع" في الفكر الرشدي ‪85.................................‬‬


‫الفصل ال�أول ‪" :‬الجمع" بين الفقه والفلسفة ‪87...................................‬‬
‫الفصل الثاني ‪" :‬الجمع" في السياسة ‪113........................................‬‬

‫الباب الثالث ‪ :‬منزلة الت�أليف الفقهي من الت�أليف الفلسفي عند ابن رشد ‪159.........‬‬
‫الفصل ال�أول ‪� :‬أسس الكتابة الرشدية ‪161........................................‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬وحدة الكتابة الفلسفية والفقهية عند ابن رشد [نماذج] ‪185.......‬‬
‫خاتمة ‪207......................................................................‬‬
‫لائحة المصادر والمراجع ‪210....................................................‬‬

‫‪235‬‬

You might also like