Professional Documents
Culture Documents
Olo Baad Hyn
Olo Baad Hyn
حين
رواية
;
دعاء عبد الرمحن
إهـــــداء
ُخطو ٌة �أُخرى كانت كافي ًة؛ لت ِ
ُالحظ ال�شاحنة ال�صغرية الرماد َّية التي
تعرفها جيد ًا مر�صوف ًة هناك على ُبعد ُخ ٍ
طوات قليل ٍة� ،سق ُفها يحمل الأترب َة
لت�صقة به كاملُعتاد.
املُ ِ
دونَ �إراد ٍة تباط� ْأت ُخطوات «غفران» حتى توق َفت متام ًا عندما اقرت َبت
لتواجدها هنا يف
ِ من ال�شاحنة ب َو َج ٍلِ ،وذه ُنها م�شغو ٌل يحاول �أن يجد تف�سري ًا
وخ ُل ّوها من �صاحبها تارك ًا بابها مفتوح ًا؛
تلك ال�ساعة املُت�أخرة من الليل ,بل ُ
ارتدت خامت ِخ ْطبتهنف�سه يف العمر ,والذي َ والدها َيكب َ «عري�س الغفلة» الذي ُ
ثالث.
�سنوات ٍ ٍ منذ
�أطر َقت بر�أ�سها وهي ُتط ِلق �آه ًة �شارد ًة َك ُ�شرود ا�ستدارتها البطيئة وهي
ت�ستع ُّد ال�ستكمال طريقها ُمدد ًا ،كل �شيءٍ يف حتركاتها ُينبئ ب�أ َّنها يف عا ٍمل
ال�سبل ت�سلك؟ ,ك َمن �أو�شك �آخ َر ,وك�أ َّنها ت�سري بداخل عق ِلها �أو ًال؛ لتعرف � ُّأي ُّ
بئر �سحيق ٍة ،وال ميلك قرار التوقف �أو الرجوع. على الوقوع يف ٍ
�أي ًا كان �سبب �شرودها الآن فهو ال ي�شغل تفكري ذلك ال َّراب�ض يف الزاوية
خلطة التي ُ
ا�ضط َّر �إىل ارجتالها بعد �أن املُظ ِلمة القريبة منها ،ي�ستع ُّد لتنفيذ ا ُ
فقد �أ َثر فري�سته الأوىل ،لتكون هي ُ
الطعم الذى �سي ُو�صله �إليه !..
طوات حذر ٍة كالفهد بعد �أن ت�أ َّكد من عدم وجود ما َّرة بخ ٍ حت َّرك نحوها ُ
هنا �أو هناك ,وحانت الفر�صة ,انق�ضا�ض ٌة واحد ٌة من اخللف كانت كافي ًة؛
لي�ش َّل حركتَها ب�شماله ،وبال ُيمنى ك َّم َم ف َمها بقطع ٍة قما�شي ٍة حتوي خمدر ًا قوي ًا
ُ
حلظات،
ٍ �سريع املفعول ,وقبل �أن ُتفيق من �صدم ِتها تخلى عقلها عن وع ِيه فى
بذهول حول فمِ ها ,وتناز َلت قدماها عن ٍ وتراخت ذراعاها املُت�شبثتان بقب�ضته
َ
y
حـَ ْم ِلها ُملقي ًة بنف�سها نحو �صدره كهد َّي ٍة ثمين ٍة.
وت�شو�ش ُي�صاحبانها� ،أحاطا بعقلهاَ ,غمام ٌة �سودا ُء باهت ٌة تزحف
ٌ �ضو�ضاء
هات خافت ٍة ُمتالحق ٍة تنطلق من �صدرِها؛ لتبد�أبعيد ًا عن وعيها؛ لت�سمح بت�أ ُّو ٍ
ت�شنج ج�سدُها
ذاكرتها با�سرتجاع اللحظات الأخرية قبل �أن تفقد الوعيَ ,
ال�شم خا�صتُها وهي تلتقط بقايا الرائحة ال َّنفاذة
فج�أ ًة بعدما َعمِ لت حا�سة ِّ
التي كانت خملوط ًة بقطعة القما�ش العري�ضة التي ك َّم َمها بها ,والتي ما زالت
عالق ًة حول ِج ِيدها.
يبدو �أنه �أراد �أن تظ َّل فاقد ًة وع َيها لفرت ٍة طويل ٍة ,فلم ِ
يكتف بكتم �أنفا�سها,
َ
و�سقطت ول�سبب ما تهد َل ِت ال ُعقدة،
ٍ بل قام ب َعقْد القما�ش حول �أن ِفها وفمِ ها،
حول رقبتها العارية ..عارية ؟! .
بجدران قامت ٍة عاري ٍة متام ًا من ال�صور املُعلقة وال�ستائر ,ال
ٍ غرف ٌة �ضيق ٌة
َ
هنالك ي ْك ُ�سوها �سوى طبقات ال ُغبار ,نافذتها ال�صغرية جد ًا والوحيدة تقبع
بعيد ًا يف الزاوية �أ�سفل �سقفها املُرتفع ٍ
بقليل ,مو�صود ٌة ب� ٍ
ألواح خ�شبي ٍة ُتكافح
�أ�شعة ال�شم�س للولوج من بينها.
مزعج كلما
ب�صرير ٍ
ٍ ال�سرير املُكبلة فوقه ب�أعمد ٍة ُنحا�سي ٍة �صفرا َء يتحرك
حا َر َبت وهى حتاول جذب ُر ْ�س َغ ْيها من قيدهما احلديديِّ املُثبت ب�أحد �أعمدة
الفرا�ش كاملجانني ذوى اخلطر .
وجنون ال ُتبايل
ٍ ا�ستجم َعت قوتها ،و�أغم�ضت عينيها وهي ت َُ�ش ُّد َيد ْيها بقو ٍة
بالأمل املُ ِ
�ست�شري بهما ,مر ًة وثاني ًة وثالث ًة.
وفج�أ ًة توق َفت عندما �سمعت �صوته ال�ساخر الذي جذب انتباهَ ها نحو
اخل�شبي العري�ض يف زاوي ٍة من تلك الغرفة الغريبة التي تبدو ك�أ َنها جز ٌء
ِّ الباب
مكان �آخر �أكرب منه. ُم َ
قتط ٌع من ٍ
�أخربيني عندما تنتهني.
جتمد ب�صرها ذاهل ًة فوق �سطح وجهه البارد النظرات ,حتجر الدمع
بعي َن ْيها َو َع ِل َق ْت �آخر قطر ٍة منه ب�أهدابها وهي تهم�س با�سمه:
ح�سن؟!!
كان واقف ًا ُم�ستند ًا بكتفه �إىل حافة الباب املفتوح عاقد ًا ذراعيه فوق
�صدره ,هو مل يتغري كثري ًا عما كانت تعرفه ,ما زال ُمتج ِّهم ًا حتى وهو ي�سخ ُر
منها.
اجلملة الوحيدة التي نطق بها وا�ضح ًة دون تـقطيع �أنب�أتـْها ب�أن تلك اللعثمة
رغم ًا �أثناء حديثه القليل قد زالت ,فلقد ِ
كانت التي كانت جتعله يتوقف ُم َ
الكلمات تقف يف حلقه ،فيحتقن وج ُهه وهو يجاهد ال�ستكمال عبارته.
قامتُه يف تلك ال�سنوات التي مل ت َره بها �أم �أنَّ �سنوات �سجنه
هل طالت َ
منحت ج�سده �ضخام ًة وقو ًة توحي بذلك ؟.
َ
يبدو �أنه ما زال ُيارِ�س املالكمة كما كان يفعل هناك؛ يف ال�ساحة ال�شعبية
الوا�سعة التي حتتل ُق َمامة احلارة القدمية زاوي ًة وا�ضح ًة منها ...ولكن َمه ًال.
هذا كلُّه مل ي ُعد َيعنيها ,بل ال يجب �أن يعنيها الآن حتديد ًا ,وهي ُمتَجز ٌة
هنا حتت رحمته ,هل �أ�صبح ُمرم ًا بالفعل؟!.
اقرتب منها ببطءٍ حتى و�صل �إىل الفرا�ش ال�صغري ,انحنى للأ�سفل جاذب ًا
َ�س ْل�سا ًال معدني ًا طوي ًال ,ينتهي �أحد طر َفيه ب ُك َّلب ٍة ُتيط بقدمها اليمنى� ,أما
ثبت بحلق ٍة حديدي ٍة يف اجلدار بجوار ال�سرير مبا�شر ًة� ,إنهاالطرف الآخر ف ُم ٌ
�أ�سري ُته حرفي ًا ,لقد ذاقت �شعور االحتجاز من قب ُل� ,إال �أن هذه هي املرة الأوىل
لها يف اختبار القيود احلقيقية ,ودون �أن تعرف ملاذا ؟.
احتفظ هو مبنت�صف ال�سل�سال الطويل ُمعلق ًا داخل قب�ضته ُمل ِقي ًا �إليها
بالتعليمات بب�ساط ٍة ،وك�أنه ُيحدثها عن الطق�س قبل �أن ُيلقيه على الأر�ض
مكتوم:
ِب َد ِو ٍّي ٍ
لك بدخول احلمام املُال�صق بابه لباب هذه ال�سل�سلة طو ُلها ي�سمح ِ
الغرفة.
�أنهى جملتَه ب�إ�شار ٍة من �س َّبابته جتاه الباب املفتوح.
حلظ ٌة ,اثنتان ,ثالث ..ال تتكلم� ,صامت ٌة مذهول ٌة كما هي تناظره بعي َنني
�شاخ�صتني تتجمع بداخلهما دمو ٌع ال تهطل وال ترتاجع �أي�ض ًا.
�ساع َديه فوق �صدره ُمدد ًا ُمتخذ ًا وقف ًة عبثية كنرب ِة �صوته وهو يت�أمل
عقد ِ
طالت اللحظات ,كل حلظ ٍة منهنَّ ت�ستفزُّه �أكرث ,لقد متا�سكها الغريب �أمامهِ ,
ُ
كان ُي ِع ُّد نف�سه لكتم �صرخاتها بالو�شاح القطني الذي تركه عالق ًا حول رقبتها
مبجرد �أن ت�ستفيق ،ولكنها مل ت�صرخ.
رمبا �س ُيطفئ ُبكا�ؤها وتو�سلها بع�ض ًا من نريانه املتقدة بداخله ,رمبا ت�شفي
وكراه َيته املُتزايدة.
ا�ستغاثا ُتها حنقه ِ
بتجهم وهو ُيحدق بعينيها ،بينما نظرات الأمل والده�شة تتزايد �أكرث
ٍ فقال
ف�أكرث:
والدك الآن � ..أم
ِ ليلةكاملة ..ونها ٌر قد َّول ُ ..ترى هل يبحث ِ
عنك
اعتربك هارب ًة مع ٍ
ع�شيق ما ؟. ِ
وا�ضطراب
ُ فعل انتظرها كثري ًا ,حترك حلقها، �أخري ًا ح�صل على ردة ٍ
بدقات ُمتزايد ٍة بخاف ِقها ،بينما انفرجت �شفتاها بت�سا� ٍؤل
ٍ تنف�سها َي ِ�شي
�صوت ِ
خافت انتظره طوي ًال :
رتع�ش ٍُم ٍ
ماذا تريد ِم ِني؟!
ليخرج ويرتكها :
َ رفع كتفيه بال ُمباال ٍة ك�أن الأمر ال يعنيه ،وهو ي�ستدير؛
بنف�سك.
ِ �ستكت�شفني
ح�سن.
ا�ستدار �إليها بنظر ٍة ُمذر ٍة ناري ٍة� ,إنها ُتناديه وك�أنَّ بينهما �صداق ًة قدمي ًة,
ال تخ�شاه ،ورمبا ت�سخر منه �أي�ض ًا بداخلها:
ماذا ُتريد ِم ِّني يا ح�سن؟!
كررت �س�ؤالها مر ًة �أخرى ,ولكن بنرب ٍة خمت ِلف ٍة ,نرب ٍة تبدو عارف ًة به� ,أي
يحمل طعم كل الإجابات؟!.�س� ٍؤال هذا الذي ُ
ماذا ُيريد؟! ,ينتقم يا حمقا ُء ,وال يهم ِمن �سيقع عليه انتقا ُمه ؟؛ ففي
النهاية البد لأحدهم �أن يدفع الثمن.
بال �إجاب ٍة وال كلم ٍة تفهمها تقدم نحوها وقام بفك َقيد يديها ُمكتفي ًا بقيد
ين�ضب قال:
ُ تقطر ِحقد ًا ال
وبحروف ُمهدد ٍة ُ
ٍ قدمها,
أنت هنا يف ِمنطق ٍة ُمنعزل ٍة م�سكون ٍة بالعفاريت َ ...مهما �صرخت ..فلن
� ِ
نف�سك.
ي�سم َع ِك غريي ..ووقتها لن تلومي �سوى ِ
y
للكبار فقط
ِ
y
وقفت الأم ترتعد حرفي ًا يف ُمنت�صف ال�صالة ال�ضيقة ،ودموع اخلوف ِ
ت�صمت� ,أن
َ تتقاذف من عينيها ،وهي ُمت�شبث ٌة مبرفق ابنتها وترجوها �أن
خف�ض من �صوتها� ,أن تعتذ َر وينتهي الأمر ,ولكن «غفران» قد فا�ض بها ُت َ
أيام ,ويف كل مر ٍة عندما
الكيل� ,صمتت �أم�س و �أول �أم�س� ,إنها ت�صمت منذ � ٍ
ت�ستيقظ يرتاجع برهب ٍة قائ ًال:
مل�س ِك .
ماذا ؟ ..كنتُ �أقوم بغلق النافذة ..مل �أق�صد َ
ولكن يبدو �أنَّ �سكوتها �شجعه على املُ�ضي ُقدُم ًا ,كل �صباح كانت ُتاول
�أن تخرب والدتها على الأقل ,ولكنها ترتاجع يف اللحظة الأخرية « ,اخلوف» و
«غفران» اليفرتقان.ُ
من �شدة خوفها وترد ِدها اتهمت نف�سها ب�أنها تتوهم و ُت ُ
�سيئ الظن ب�أخيها,
هي دوم ًا ُم ِطئ ٌة يف نظر والدها ،وتوافقه �أمها على ذلك ,فلماذا تكون على
�صواب الآن؟.
ٍ
بعمق ,باتت كالقطط ,نو ُمها ُمتقط ٌع ،وت�ستيقظ
�أ�صبحت تخ�شى �أن تنام ٍ
فزع ًة من �أقل حرك ٍة ,ويبدو �أن يقظتها املُ�ستمرة جعلتها حتفظ طقو�س
ِ
«رمزي».
كل ليل ٍة بعد �أن ينام والداهما يذهب نحو غرفتهما ،ويقف وا�ضع ًا ُ�أذنيه
على الباب اخل�شبي الأبي�ض بعد �أن ُي�ضيىء ِم�صباح احلمام؛ ليتعلل بدخوله
ال�صق ٌة لباب�إليه �إذا ما ُف َتح الباب فج�أ ًة ,ال�شقة غرفتان فقط ,واحد ٌة منهما ُم ِ
ال�شقة ,والأخرى بعد ال�صالة ال�ضيقة يف مواجهة احلمام املُجاور للمطبخ ,يف
بعيد مل تكن تعلم ملاذا يفعل هذا؟.
البداية عندما ر�أته من ٍ
ولكن مع الوقت ت�أكدت �أنه يطمئنُّ ال�ستغراقهما يف النوم ,ثم يعود للغرفة
ُفيغلقها ويت�أكد من نومها ,ثم يجل�س �أمام احلا�سوب العتيق ذى ال�شا�شة الثقيلة
يوم ،و�أخرب والده �أن له �صديق ًا �سيبتاع واحد ًا جديد ًا ،فمنحه
الذي جاء به ذات ٍ
ول ال؟« ,رمزي»قابل ,ولقد �صدقه والدهما بعد �أن تعجب قلي ًالَ ِ , هذا دون ُم ٍ
للكذب يف عرفهم ,الن�ساء فقط هن ذكر ال يكذب ..الذكور �أقوياء ال يحتاجون ِ
َمن يحتجن �إىل �إخفاء احلقائق؛ ل�ضعفهنَّ .
ولدُه هو عنوان رجولته الذي يتباهى بها �أمام �أ�صدقائه على املقهى منذ �أن
�أجنبه وحتى الآن� ,أول ُذريته كان «ذكرا»� ،أما الفتاة فهي كانت جمرد غلط ٍة,
هَ ٌّم َو ُو ِ�ضع على ر�أ�سه ,متى يتخ َّل�ص منها ويرتاح؟ .
كانت جتهل ماذا يفعل �أمام هذا احلا�سوب طيلة الليلُ ,ي�شاهد �أ�شياء ال
تعرفها ,فهو ُيدير ال�شا�شة باجتا ٍه �آخر؛ حت�سب ًا حتى ال ترى ما ُيع َر�ض عليها
لو ا�ستيقظت ,مل يكن قد ابتاع �سماعات الر�أ�س بعدُ ,فكان ُيخف�ض ال�صوت
لرجال ون�ساءٍ يتوجعون ,ما هي
ٍ أ�صوات ُم َ
تلط ٍة �إال قلي ًال ,وهي ا�ستمعت �إىل � ٍ
عب مث ًال؟! .وبعد �أن ينتهي ُيغلقه ،ثم يتوجه �إليها وهو
الفائدة؟ ,هل هو فيلم ُر ٍ
يظنها نائم ًة.
يلم�سها ،فت�ستيقظ وتفتح عينيها
وهنا يبد�أ الرعب احلقيقي ,ت�شعر به ُ
مرعب فيرتاجع كالعادة.
ٍ بات�ساع
ٍ
أخوك ُي�شاهد �أفالم ًا فيها ن�ساء ورجال تتعرى وتـ ..
� ِ
�شهق ٌة عفوي ٌة خرجت من فم «غفران» قاطعتها بها ،وهم�ست ٍ
بخوف وهي
مرات:
تتلفت حولهما عدة ٍ
عرفت؟!
كيف ِ
زاد ات�ساع ابت�سامة �صديقتها وهي ُتاول جاهد ًة غلق فمِ ها ،ولكنها مل
ت�ستطع ال�سيطرة عليه ,فهي ُتريد �أن ُتبهر « غفران» مبعلوماتها التي ال تعرفها
بهم�س �أكرث:
هي ،و�أردفت ٍ
�أنا �أُ�شاهد مثلها على حا�سوب �أبي بعد �أن ينام هو و�أمي ..ولكن لي�ست
�أفالم ًا حقيقية مثل � ِ
أخيك � ..إنها �أفالم كرتون !
ات�سعت عينا «غفران» �أكرث بكث ٍري عن ذي قبل ،وهي تهتف رغم ًا عنها:
ذكرت ؟؟!!!
هل تتعرى البنات يف الكرتون �أي�ضا ويفعلن ما ِ
و�ضعت �صديقتها كفها على فم «غفران» ُتغلقه ٍ
بخوف ،وهي تنظر حولهما,
�ضغطت كفها بقو ٍة وهي تقول بعينني زائغتني:
�ستف�ضحينني يا جمنونة� ..أنا املُ ِ
خطئة �أنني �أخرب ُت ِك.
ه َّد�أت «غفران» قلي ًال من ِ
روعها ،وهي حتاول ا�ستيعاب ما �سمعت للت ِّو,
ولكن الف�ضول ا�شتعل بر�أ�سها ,كيف يحدث ذلك يف �أفالم الكرتون؟!
أنت تكذبني � ..أنا كنتُ �أُ�شاهد �أفالم الكرتون دائم ًا ..ومل � ِأجد بها ما
� ِ
تقولني.
عادت املُغامرة وال�شعور باالختالف يتلب�سان �صديقتها ،وهي ت�ستع ُّد ل�شرح
َ
ت�ستكمل الأمر لها ,ولكن جر�س احل�صة املُق ِبلة انطلق يدوي ،فوعدتها ب�أن
احلكاية بعد انتهاء اليوم الدرا�سي.
مل ت�ستطع «غفران» �أن تفهم �شيئ ًا ِما ُي�ش َرح �أمامها يف احل�ص�ص التالية,
فذه ُنها كان م�شغو ًال مبا �سمعت من �صديق ِتها �أثناء اال�سرتاحة ،حاولت طرد
تلك الأفكار مرار ًا �إال �أنها ظلت ُتالحقها حتى انتهى اليوم الدرا�سي الذي طال
تق�ص
يوم �آخر� ،سارت ببطءٍ بجوار �صديقتها التي كانت ُّ اليوم �أكرث من �أي ٍ
عليها احلكاية كما وعدتها �أثناء طريق العودة:
يف البداية كنتُ �أُ�شاهد فيلم ًا كرتون َّي ًا ُمعتاد ًا على موقع اليوتيوب ..
�شاهد اقرتاحات �أخرى وكنتُ ُمدمن ًة عليه ..هذا املوقع ِ
يعر�ض لل ُم ِ
ت�شبه الفيديو الذي ُي�شاهده الآن ..ويف �إحدى املرات كان �أحد
االقرتاحات «فيديو« لنف�س ال�شخ�صية الكرتونية التي �أح ُّبها ..وكان
يقوم بتقبيل فتا ٍة �شقرا َء ويلم�سها ..يف كل مرة كنتُ �أريد �أن �أ�شاهد
�أكرث ..وبد�أ الأمر ُي�صبح عاد ًة عندي ..ويكون ذلك لي ًال فقط.
ومع الوقت بد�أتُ �أبحث بنف�سي حتى عرثتُ على موقع يعر�ضها
تخطت ال ُقبالت بكثري ....
ِ باملجان ..ولكن امل�شاهد املعرو�ضة
تنف�سها يتغري ،وقد اختلط ال�شغف عندها �صمت َِت الفتاة ُلبه ٍة ،وبد�أ ُ
بال�شعور بالذنب فوق مالحمها ,وع�صر ٌة ت�ضغط قلبها و ُت�ؤلِ ه ,ذاك ال�شعور
الذات ال تفهمه ,وخ�صو�ص ًا عندما ي�ستقيظ والدها ِ القاتل بني اللذة وكره
بحنان ،وك�أنها ما
ٍ ل�صالة الفجر ,وعند عودته من امل�سجد يربتُ على ر�أ�سها
زالت طفلته ال�صغرية؛ لت�ستيقظ لل�صالة .
فتُخربه َك ِذب ًا �أنها �أ َّدت الفري�ضة فين�صرف؛ ل ُيو ِقظ زوجته ,بينما هي حتت
الغطاء ت�شعر ب�أنها مو�صوم ٌة وب�أنها عا ٌر على تلك العائلة امل�ؤمنة ,ولكن ماذا
تفعل؟ ,لقد �أدمنت ,و�أ�صبحت مري�ض ًة ال عالج لها كما تقول لنف�سها دوم ًا.
عادت «غفران» ذلك اليوم �إىل منزلها وهي ت�شعر بالتقزز من غرفتها,
�ألقت نظر ًة �إىل احلا�سوب و�أخيها النائم ِ
ي�شخر كاجلثة الهامدة فوق �سريره,
ودت لو فق�أت عينيه يف تلك اللحظة ,وعندما تو�ض�أت؛ لت�ؤدي �صالة الع�صر,
دلفت لغرفة والديها؛ لت�صلي بها ,ت�شعر ب�أنه املكان الوحيد الطاهر بهذا البيت
الذي بد�أ ي�ضيق على �صدرها ويخن ُقهاُ ,قدور الغ�ضب تغلي برباءتها فتتوعده
بالث�أر ..يكفي تلك النجا�سة بغرفتها ..لقد اكتفت من خو ِفها ..الليلة �ستكون
ُمتلف ًة.
أيام ،وهذا ما جعله مل تكن تعلم �أنه هو الآخر كان ي�ستع ُّد لها ,لقد �صمتت ل ٍ
يظنُّ ب�أنها تفهم ،و�أنَّ الأمر ُيعجبها حتم ًا ,ملاذا ال ُيجرب بجدي ٍة هذه ال َّليلة ؟،
يكتف بلم�سها من فوق الغطاء برهب ٍة ,بل جتر�أ وعندما �أ�سدل الليل �أ�ستاره مل ِ
فز َعة ُمبقلتيها املت�سعتني ,مل يربر كالعادة ,بل وجدت يف �أكرث عليها ,نه�ضت ِ
حديث ب�أن تخو�ض التجربة معه ,وهو عينيه نظر ًة ُمتلف ًة ,يخربها بها دون ٍ
يهم�س ُماو ًال االقرتاب منها:
ؤذيك.
لن �أ� ِ
ال تعلم كيف وجدت �صوتها يف هذه اللحظة ,ف�صرخت و�صرخت ومل ي�ستطع
�صراخها ,وها هما الآن يتواجهان �أمام �أبيه ,نعم ،هو �أبوه
ِ هو ال�سيطرة و َكت ِْم
لت�سكت ,وهو
َ فقط ,تيقنت من َ
ذلك عندما �صف َعها والدها �صفعتني ُمتتاليتني
يح�سم احلديث ل�صالح ولده الذكر:
اخر�سي يا كذابة ..يا قليلة الأدب.
والدتها ترتع�ش حين ًا ،وتلطم وجنتيها حين ًا �آخر� ,أما «رمزي» فيقف بجوار
والده ،كفاه مت�شابكتان خلف ظهرهُ ,يطرق بر�أ�سه ,وقناع ال�شعور بالظلم
بحي ٍة ,ثم يرفعهما نحويغطي وجهه باحرتافي ٍة كبري ٍة ,عيناه جتوبان الأر�ض ْ
�أخته ُم�ستخدم ًا يده اليمنى التي تركت الي�سرى خلف ظهره ،و�أتت لت�ساعده يف
�إتقان دور املظلوم ،و�ضع ك َّفه على قلبه ناظر ًا �إليها ٍ
بثبات ،ويقول بنرب ٍة ُت ُ
نبئ
متا�سيح قريب ٍة:
َ عن دموع
بك؟!! ..تتهمينني بهذه الب�شاعة من
�أنا يا «غفران» ؟!!� ..أنا �أفعل هذا ِ
�أجل احل�صول على غرفة ُم�ستقلة؟.
ثم التفت �إىل �أبيه وهو ي�ستكمل العر�ض الدرامي ،وقد �سمح للدموع
بالهطول قائ ًال بنرب ٍة ُمتقطع ٍة ال ينق�صه وقتها �سوى مقطوع ٍة مو�سيقي ٍة حزين ٍة
تنبعث يف اخللفية:
� َ
أرجوك ال ُتعاقبها يا �أبي � ..أختي ال�صغرية م�سكينة ..ال بد من �أن لها
�صديقات ُمنحالت يف املدر�سة ..ميلأنَ ر�أ�سها بتلك الأفكار ال�شيطانية
القذرة.
تقدم �أبوها منها ُمندفع ًا حتى �أم�سك ب�شعرها الذي جمعته َ
خلف ر�أ�سها،
برباط
ٍ وجذبها منه بقو ٍة؛ ف�صرخت وحتركت الأم معها ،وك�أنهما مرتبطتان
�صدر ًا �أمر ًا ال رجعة فيه:
خفي ،بينما هو يزجمر ُم ِ
أخيك حاال ..وال حاجة لنا للمدر�سة بعد الآن �إن كانت�ستعتذرين ل ِ
أنت يف كل الأحوال فا�شلة ال نف َع
ؤو�سنا ..ف� ِ
�سرتمي بامل�صائب فوق ر� ِ
أرميك �إىل �أول عري�س �أعمى
وراءك � ..ستجل�سني يف املنزل حتى � ِ
ِ من
لك.يتقدم ِ
العد ُّو من خلفها ،والبحر ِّ
بكل دواماته املُ ِغرقة �أمامها� ,ستفعل كما يفعل � ُّأي
ب�شكل ع�شوائي ،وت�صرخ طلب ًا للنجاة ،ال تعرف غريق مكانها ,ت�ضرب بذراعيها ٍ ٍ
كيف مت َّل َ�صت من قب�ضة والدها وجرت نحو غرفتها ,فما زال اجلزء الواعي
خرج كاف؛ ل ُي ِ
وقت ٍ
من عقلها يخربها �أن «رمزي» عندما �صرخت مل يكن �أمامه ٌ
الأ�سطوانة املُدجمة من احلا�سوب ،طوق جناتها الأخري� ,ضربت ب�إ�صب ِعها على
اجلهاز ،وقامت بت�شغيل الأ�سطوانة ,وعندما حلقوا بها ,تباط�أت خفقات قلب
�أمها وتعر َقت ُمتهاوي ًة على الفرا�ش من �صدمتها ,و «غفران» ت�صرخ بهي�سرتيا
وقد كانت هي الأخرى ه ِلع ًة من هول ما تعر�ضه الأ�سطوانة يف تلك اللحظة.
�أما والدهما فكان هو �أول َمن ا�ستقيظ من �صدمته ،وقام بنزع القاب�س
الكهربي؛ فانطف�أ احلا�سوب على الفور ,وحتو َلت عيناه جتاه «رمزي» ،ولكنه
مل ي�ستطع حتريك ل�سانه.
�شعر «رمزي» ب�أنه متت حما�صر ُته ،وال بد من ٍ
�سبيل للخروج ب�أقل اخل�سائر
بتجهم ،و�صوته يعلو تدريجي ًا:
ٍ املُمكنةَّ ,
قطب حاجبيه ،وهو ينظر �إليهم
وماذا يعني �أن �أ�شاهد تلك الأفالم ؟� ..أنا رجل ..وجميعنا نفعل ذلك
..وما عالقة هذا بالتهمة التي ترميني بها تلك احلقرية التي ا�ستغلت
الأمر؛ لتتهمني بالباطل.
أمل ظاهر ٍة ،وهو
للحظات ثم عاود النظر �إىل» غفران» بخيبة � ٍ
ٍ �صمت
َ
ُيومىء بر�أ�سه وك�أنه يهذي �صارخ ًا:
كل هذا من �أجل �أن حت�صلي على الغرفة ..خذيها ..خذي البيت كله
لك � ..أنا لن �أظل هنا حلظة واحدة.
ِ
مدت الأم كلتا
حترك ب�سرع ٍة قبل �أن ُينهي كلمته الأخرية ,وبتلقائي ٍة ِ
يديها �إليه يف نف�س الثانية التي �أ�سرع فيها والده خل َفه يناديه مبرار ٍة ,ولكن
م�شهد ي�ستح ُّق عليه جائزة الأو�سكار لأح�سن ٍ
ممثل «رمزي» انطلق كال�سهم يف ٍ
تراجيدي!.
y
ح�سن ..ماه ٌر جد ًا يف �صنع ِته ,ال مكان له �سوى ور�شة �إ�صالح ال�سيارات
أخر من الليل ,يف احلادية ع�شرة متام ًا ُيغلق وقت مت� ٍ يق�ضي بها طيلة يومه �إىل ٍ
ويتوجه �إىل الغرفة امل�ؤجرة فوق �سطح ال ِبناية التي تبعد عن مكان �أبوابهاَّ ،
عمله بع�شرين دقيق ًة م�شي ًا على الأقدام ,غرف ٌة تتوفر فيها فقط احتياجاته
فرا�ش عتي ٌق ُم�ستع َم ٌل ،وثالج ٌة �صغري ٌة برادُها ال يعمل, ٌ ال�ضرورية للنوم,
ل�ص َغر م�ساحة وحما ٌم با ُبه يف زاوي ٍة من الغرفة يدلف �إليه بجانب ج�سده؛ ِ
جدران!� ,إنه
ٍ الباب من اخلارج ,ال ميكن �أن يكون هذا احلمام مكون ًا من �أربع ِة
على الأكرث حائطان وزاوي ٌة!� ,إال �أنه يكفي احتياجاته.
هو يف الأ�صل يق�ضي يومه كله بني اجلدران الأربعة احلقيقية التي يجد
بها نف�سه ,عيناه تلمعان بزه ٍو كلما ا�ستطاعت يده بحرفية �أن ُتعيد �سيار ًة من
مولود
جديد ,ينت�شي ب�سماع ُمركها وك�أنه �صراخ ٍ الإنعا�ش �إىل الرك�ض من ٍ
جديد ,يقتل نف�سه ع َم ًال من �أجل �سماع تلك العبارة يف النهاية «اهلل ينور يا
ٍ
با�شمهند�س».
�شعو ٌر رائ ٌع بالوجود� ,إنه ي�ص ُلح للفخر ,توقف احلروف يف حلقه ،واللعثمة
أربع مل
كلمات �أو � ٍ
ثالث ٍ التي تت�ضح كلما زادت � ُّأي عبار ٍة يقولها عن �أكرث من ِ
تكن عائق ًا �أمام مهارة ِيده ,لذلك َ
�صمت وترك لأ�صابعه احلديث ،هذا ما يربع
فيه ،حتى و�صل �إىل م�سامعه عبارة من �صوت بغي�ض �إىل قلبه :
متى �ستدفع الإيجار املُت�أخر يا « ميكانيكي الغربة»؟.
م�سح «ح�سن» قب�ضتيه بقو ٍة يف القما�شة ال�صفراء �سابق ًا ،ال�سوداء حالي ًا
من �أثر ال�شحم الأ�سود العالق فيهما دائم ًا ,وا�ستدار ُيوليه ظهره العري�ض على
�إثر �سماع ذلك ال�صوت الأج�ش البغي�ض �إىل قلبهُ ,ما ِو ًال كبح غ�ضبه ُمفي ًا
�إياه خلف قناعه ال�ساخر:
�ستحق ..غدا ..يا « �أظلم».
الإيجار ُي َ
حترك «�أنور» بج�سده البدين ،وقامته الق�صرية ،وبثور ٍة عارم ٍة ُم ِ�سك ًا
وما ِو ًال �ضربه على ر�أ�سه ،وهو ي�صيح هائج ًا مبالب�س «ح�سن» من اخللفُ ،
فيهت ُّز ج�سده ال�ضخم على �إثر انفعاله ال�شديد.
تتوقف عن مناداتي بهذا اال�سم �أيها احلقري؟ .. ،و�شرف �أمي َ �ألن
أطردنك من ور�شتي �شر ِط ْردة؛ لتعود ُم�شرد ًا كما يليق َ
بك يا ُمت�شرد. َ ل
التفت «ح�سن» له �سريع ًا قاب�ض ًا على ُر�سغيه ُم ِد ًثا بهما � َأل ًا رهيب ًا؛ لريى
َ
نظرات اال�ستغاثة يف عينيه ,ويف الت ِّو �صرخ «�أنور» ي�ستغيث بالنا�س الذين بد�أوا
�شديد.
مبلل ٍبالتج ُّمع حولهما ٍ
قاب�ض علىلقد اعتادوا على م�شاجرات «�أنور» البخيل وولده الغا�ضب وهو ٌ
وت�شف ،وهو ُيقرب وجهه منه قائ ًال ب�صوت املُتلع ِثم بجنون ٍٍّ ر�سغ �أبيه ،وينظر له
الذي �ضاع بني �صياح اجلميع ب�أن يرت َكه ويرحم ِكرب ِ�س ِّنه:
َ
مناداتك بـه ...عندما تتوقف عن اخلو�ض ..يف �س�أتو َّقف عن ..
ِعر�ض �أمي ..يـا «�أظلم خلق اهلل» .
ا�ستطاع الرجال التفرقة بينهما ب�صعوب ٍة موجهني اللوم �إىل «ح�سن» الذي
نظرات ناري ًة كطلقات الر�صا�ص جتاه «�أنور» الذي اطم�أنَّ �إىل وجود
ٍ يوجه
كان ِّ
اجلمهرة من حولهما يف�صلون بينهما ،ف�أخذ يزعق كال ِغربان �أثناء تراجعه
للخلف فا َّر ًا من تلك املعركة غري املُتكا ِفئة:
َ
عظامك التي تتباهى بها يا ابن احلرام ..و�سرتى. �س�أك�سر
نف�ض «ح�سن» الأيدي التي كانت مت�شبث ًة به متنعه عن والده ،وهو يب�صق
بعيد ًا عائد ًا �إىل قلب ور�شته ال�صغرية ,جذب املقعد اخل�شبي �إىل منت�صفها
متام ًا ,جل�س فوقه وهو مييل �إىل الأمام ُم�ست ِند ًا ِمبرفقيه �إىل فخذيه� ,ضم
حتركات «�أنور» بني
ِ قب�ضته الي�سرى بداخل �أختها ,وعيناه تتبعان كال�صقر
اجلموع.
بعيد يظنه حيوان ًا مفرت�س ًا ي�ستع ُّد لالنق�ضا�ض والفتك� ,أما من ي َره من ٍ
من يعرفه -وال �أحد يعرفه ,-ي�شعر بلهيب الأمل الغا�ضب يغلي بكل �شرايينه,
وجه ًا حديثه لبع�ضهم �إنه يت�أمل وهو يرى ذاك البدين ي�شيح بكلتا ذراعيه ُم ِّ
هنا وهناكُ ,
يلوك �سري َة �أمه املتوفاة الآن ,كيف ُي ِ
خر ُ�سه؟ ,ملاذا ال ينجح بقت ِله
ويرتاح من قذارة ل�سانه �إىل الأبد؟.
اليوم �أي�ض ًا ف�شل كبقية الأيام ,كل ٍ
يوم ُيخطط؛ لي�ستثريه ويفتعل �شجار ًا
معه ينتهي ب�آل ٍة حاد ٍة على ر�أ�سه� ,أو حتى يك�سر رقبته ,ولكنه يف كل مر ٍة يرتاجع
يف اللحظة الأخرية.
منذ متى وهو ُيخطط للقتل؟ ,يعتقد ب�أنه يفعل ذلك منذ �أن بلغ اخلام�سة
من عمره! ,وحتديد ًا يف اللحظة التي قذفه والده فيها هو و�أمه خارج بيته وهو
ي�ضر ُبها وي�صفها بالزانية ,مل يكن َيعي معنى هذه الكلمة يف �سنه ال�صغرية,
عيناه فقط هما َمن كانتا ت�س�أالنه :
ملاذا يقوم بطردهما �إىل ال�شارع؟,
ألي�س ْت هذه الباكية زوجته؟
� َ
ألي�س هو ولده؟
� َ
وجاءته الإجابة وهو يف عمر الثانية ع�شرة ,عندما خرج من بيت خالة
متوجه ًا �إليه ,عازم ًا على معرفة ملاذا فعل والده بهما
والدته التي جل�أت �إليها ِّ
ما فعل؟:
�أنت ابن حرام� ..أمك خانتني مع ابن خالتها ..و�شاء اهلل �أن يك�ش َفها..
وخرجت �أنت ُمتلعثم ًا مثله.
�أمي �أنا؟!!
�ألقى �س�ؤاله ُمرت ِبك ًا َمدهو�ش ًا ,فوالدته �أخربته �أنه طردهما؛ لأ َّنها تطلب
منه م�صاريف كثري ًة للمنزل ,وهو بخي ٌل ..فقط ,هذه هي كل احلكاية ,ولكن
يوم مي ُّر من عمره ال ي�صدق ما قالته ,ويعتقد �أنها ِك ْذبتها الوحيدة يف هذه كل ٍ
احلياة.
نعم� ،أمك ..ولقد ظلت تخدعني منذ �أن بد�أتَ �أنت تتحدث وظهر
َ
تلعثمك يف الكالم وهي تخربين �أنك ُمت�أخر فقط ..ومع الوقت �ستنطق
ب�شكل �صحيح كغريك من الأطفال ..ولكنك مل تفعل ..ظللت تتلعثم
�أكرث ف�أكرث �إىل �أن بد�أ �أ�صدقائي على القهوة ي�سخرون مني كل ليلة
َ
زوجتك بال�ضبط؟ قائلني �« :أال تالحظ �أن ابنك متلعثم مثل ابن خالة
..حتى �إنه ُي�شبهه يا رجل».
كانت هذه هي املرة الأوىل التي جتر�أ فيها على والده ,قفز نحوه ُم ِ�سك ًا
بجنون:
ٍ بتالبيبه وي�صرخ
�أ�أنت جمنونٌ؟!! ,تتهم �أمي بالزنا ..لأنني مثل ..ابن خالتها؟� ..أجبني
أنت جمنون؟!!
َ � ..
اعتدل «ح�سن» يف جل�س ِته فوق املقعد اخل�شبي ُمتح�س�س ًا جانب ر�أ�سه,
وهو ي�شعر ب�أنها ُ�ش َّجت للت ِّو ,وقتها نف�ض «�أنور» يده ،وجذب ع�صاته الغليظة
ال�ساكنة بجوار الباب و�ضربه بها على ر�أ�سه ,ولكن ماذا تكون هذه الندبة
بجوار ندوب كرامته التي يحملها كالكفن فوق �ساعديه من حينها؟.
تذكر دموع والدته وهي تقف �أمامه ت�شعر باخلزي ،وقبل �أن تتكلم �سقط
عند قدميها ،وقبلهما وهو يرجوها �أال تدافع عن نف�سها؛ فهو يعلم �أنها عفيف ٌة،
مبجنون ي�سحبه �أ�صدقا�ؤه من قفاه!.
ٍ وكل ذن ِبها �أنها تزوجت
رج ُلها و�سندها يف احلياة حتى بلغ ال�سابعة ع�شرة من منذ ذلك الوقت وهو ُ
عمره ,عندما ماتت فج�أة ب�سكت ٍة دماغي ٍة ال يعلم من �أين �أتتها؟ ,كل ما يعلمه
�أنه اكت�شف يف �أول ليل ٍة لها يف القرب �أنها هي التي كانت ت�سنده ,ال العك�س كما
كان يتوهم ،فقد َخ َل ِت الدنيا من النا�س برحيلها.
ترك النا�س وجل�أ للوحدة ,فهي �أكرث َمن يفه ُمه ,ال ت�ؤذيه مثلهم ,وعند
قواعد
َ بع�ضهم بع�ض ًا حتت
يلكم ُمروره �أمام ال�ساحة ال�شعبية ,ور�ؤيته للفتيان ُ
ريا�ضي ٍة ال تخ�صهَ ,ع ِلم وقتها �أين �سي�ضع غ�ضبه املتقد دوم ًا بداخله؟.
y
«ح�سن» �أنا فخو ٌر بك � ..أنت مثلي الأعلى.
إدراك ل�شخ�صية «ح�سن» ،وهو يقف �أمامه على قالها «رمزي» بحنك ٍة و� ٍ
باب ور�شته ,ويطلب منه �أن ُيعلمه املهنة ,فهو يريد �أن يتعلم كيف يك�سب رزقه
منحه «رمزي» كل الأ�سباب التي جتعله يوافق على بعيد ًا عن ت�سلط والده؟َ ,
العمل حتت يديه� ,إنه ال يعرفه جيد ًا ,هو جاره يف نف�س احلي ,ولكن عالقته
به �سطحي ٌة جد ًا وتكاد تكون منعدم ًة ,يعرف فقط �أخته ,تلك الفتاة التي كانت
متر به و ُتلقي ال�سالم ,لقد اختفت منذ ثالثة � ٍ
أيام ,ترى �أين ذه َب ْت؟!.
ميينك � ..أريد �أن �أكون ماهر ًا َ
مثلك. َ �س�أكون طوع
يحب
يتل�ص�صون عليهُّ ,
بداخله نفو ٌر من خمالطة الغرباء ,ي�شعر ب�أنهم َّ
�أن يبقى وحيد ًا ,ولكن «رمزى» عرف من �أين ُت�ؤكل ال َك ِتف؟ ,ووجد ا َملدخل
املنا�سب� ,إنه ي�صلح للفخر!
ح�سن ًا يا «رمزي» ..لي�س َّ
لدي ..مانع ..ولكن� ..ستحتاج �إىل جهد..
و�صرب.
قوي
�أوم�أ «رمزي» بر�أ�سه بطاع ٍة ظاهر ٍة على وجهه ،وبداخله �شعو ٌر ٌّ
مكان �آخر ,ولكنه يريد �أن
باالنت�صار ,لقد كان من املمكن �أن يعمل يف �أيِّ ٍ
يراه والده كل �ساع ٍة ،وال�شحم ُيغطي يديه ووجهه ومالب�سه ,يريد �أن ُي�شعره
بت�أنيب ال�ضمري ,فهو يعرف والده جيد ًا ,ويعرف �أنه لن يتحمل �أن يرى ولده
الذ َكر تتالطم به �أمواج احلياة هكذا ,حتى ت�صل به احلال �إىل �أن يعمل �صبي
َّ
ميكانيكي لدى «ابن احلرام» هذا.
ما توقع ,ففي ال�صباح كان والده يقف �أمامه بنظر ٍة خل َّطة �سارت �أ�سرع ِ َّا ُ
غا�ضب ٍة ُمتح�سر ٍة ,ويج ُّره بعيد ًا؛ لي�ستجوبه:
َ
بنف�سك وبنا؟ ..هل تريد �أن تف�ضحنا ؟!. ماذا تفعل
�أطرق «رمزي» بر�أ�سه وقال ببطءٍ وبنرب ٍة ُمعاتب ٍة:
وماذا تريدين �أن �أفعل بعد �أن �صدقتموها واتهمتموين بالباطل؟.
بتعجب وهو يقول ُما ِو ًال خف�ض �صوته:
ٍ رفع «حافظ رمزي» حاجبيه
كنت ت�شاهده ب�أعيننا؟.
بالباطل؟! ..بعد �أن ر�أينا ما َ
رفع «رمزي» ذراعه ُم�شري ًا حوله �إىل ال �شىء وهو يقول بثق ٍة:
أمامك يفعل ما �أفع ُله ..وبالرغم من َ
ذلك �أنا �أي �شاب ي�سري الآن � َ
اعتذرتُ َ
لك ..ماذا �أفعل �أكرث ِمن هذا؟.
و�ضع �أبوه كفه على كتفه وهو يربتُ عليه بقو ٍة حاني ٍة قائ ًال:
ال تفعل �شيئ ًا ..عد �إىل َ
بيتك وينتهي الأمر� ..أنا ال �أر�ضى َ
لك �أن تتدهور
بك احلال �إىل َ
تلك الدرجة � ..أنت ابني يف النهاية. َ
و«غفران» ؟
ما بها؟!
يحرك ر�أ�سه مين ًة وي�سر ًة ,ويوجه حديثه
ُ ابت�سم «رمزي» �ساخر ًا وهو
للأر�ض من حتت قدمه ،وعيناه تت�سعان وك�أنه يهذي:
�أعود؛ لتتهمني جمددا �أنني �أحتر�ش بها؟.
�س�أف�صل رقبتها عن ج�سدها لو تف َّوهت َ
عنك ب�سوء مرة �أخرى.
خرجه من الغرفة ,والآن �سريد لها ال�صاع �صاعني ,هي كانت تريد �أن ُت َ
خرجها من البيت كله ,ولكن مه ًال ,لقد �صدق نف�سه حق ًا ,و ُيدبر
فر�صتُه؛ ل ُي َ
للث�أر منها بالفعل.
كيف ي�ستطيع الإن�سانُ �أن ُي�صدق ِك ْذبتَه �إىل هذه الدرجة؟!� ,إىل درجة �أن
يجد ملوحة دموعه على �شفتيه ,و�شعو ٌر بق�شعريرة ُّ
الظلم يغ�شاه ,داف ٌع يدفعه
بارد !
انتقام ٍ
احلقيقيٍ ,
ِّ لالنتقام
نظر يف عيني والده ،وال ُّدموع متلأ عينيه قائ ًال بنرب ٍة متقطع ٍة من البكاء
املكتوم:
لن �أعود مادامت هي هناك ..هذا �آخر ما لدي.
ثم تركه و�أ�سرع نحو الور�شة التي كان يقف «ح�سن» ُقبالتها ،و ُيتابع ا َمل�شهد
هم ,وعندما اقرتب منه «رمزي» بتحركاته الع�شوائية الهائجة ,وانحنى بعدم َف ٍ
لي�ستخدم رافعة ال�سيارات؛ لي�ستكمل العمل الذي كلفه به «ح�سن» الذي قال
على الفور �ساخر ًا:
نظرات َ
والدك ..نحوي � ..أخربتني �أنه مل يطردك ..من املنزل ..كما
�أخربتني.
بغ�ضب:
ٍ ظل «رمزي» ُمنحني ًا و ُمن�شغ ًال بخلع الإطارات الثقيلة وهو يقول
لقد ا�ستيقظ �ضمريه فج�أة ..و�أنا كرامتي ال ت�سمح يل.
يكفي �أنه ..ا�ستيقظ.
قالها «ح�سن» ب ُغ�ص ٍة �أحرقت حلقه ,وجعلته ُي�شيح بوجهه بعيد ًا ,ولكن
«رمزي» مل ينتبه لتلك املرارة يف نربته ,فاعتدل لي�ستكمل م�شهده التمثيلي:
عتذر ًا الآن ..فهل تقبل اعتذاره و ُت�ساحمه وتعود َ
والدك �إليك ُم ِ لو جاء
معه؟.
ماذا ؟!� ,إنه مل ُيفكر يف ذاك االحتمال من قبل! ,هل ُي ِنكر رغبته ب�أن يكون
طبيعي كبقية الب�شر؟� ,أيكذب وينفي رغبته يف يد قوي ٍة ُت َ
و�ض ْع على كت ِفه ٌّ له وال ٌد
قليل؟.
بحنو كما فعل والد «رمزي» منذ ٍ
قطب بني حاجبيه وهو ينف�ض ر�أ�سه بقو ٍة هازئ ًا من نف�سه ,مباذا ُتفكر يا َّ
«ح�سن»؟� ,إنه ي�صلح لأن يكون قات ًال فقط ,كلمة ٍ
والد هذه �أبعد ما تكون عن
«�أظلم خلق اهلل».
د�س يده يف جيب �سرواله «اجلينـز» ،و�أخرج �أموال الإيجار ال�شهري رمبا
َّ
بتجهم:
ٍ ي�ساعده ذلك على التذكر ,مد يده �إىل «رمزي» قائ ًال
تن�س ا�ستالم..
اذهب �إىل «�أنور برهان» � ..سدد �إيجار ..الور�شة ..وال َ
الإي�صال .
نظر «رمزي» �إىل الأموال بده�ش ٍة هاتف ًا:
هل ت�سدد �إيجار ور�شة �أبيك؟!!
ابت�سم «ح�سن» �ساخر ًا وهو ُيومىء بـ «نعم» ،فعاد يهتف مر ًة �أخرى:
وماذا �سيحدث �إن مل تدفع ؟.
قال «ح�سن» بب�ساط ٍة :
�سيطردين ...منها.
ح َّر َك «رمزي» ر�أ�سه ُمتعجب ًا ,لقد كان ي�سمع عن امل�شكالت القائمة بني
يق�صه
«ح�سن» ووالده ,واحلرب الدائرة بينهما ,من خالل احلكايات التي كان ُّ
ربهن ًا بها على حبه لولده ،و�أنه يفخر به و ُيقدمه على نف�سه ال كما عليه والده؛ ُم ِ
ذلك مل يكن يت�صور �أن ت�صل �إىل �أن ي�سدد يفعل «�أنور» مع ولده ,وبالرغم من َ
مكان �سيملكه �آج ًال �أو عاج ًال ,بل ملاذا مل ي�ؤجر مكان ًا �آخر بعيد ًا
«ح�سن» �إيجار ٍ
عن «�أنور» وقلة �أدبه؟ ,هل �ضاقت به الدنيا ؟!.
عندما كنتُ ..يف الثانية ع�شرة � ..ضر َبني «�أنور» ..على ر�أ�سي ف�شجه
..و�سالت دمائي ..ولكن حتى دمائي هذه ..مل ت�شفع يل عنده..
فجذبني من مالب�سي ..ونزل بي �إىل احلارة ..وهو ي�سبني وي�شتمني..
حاول اجلريان التدخل ..وتخلي�صي من ..بني يديه ..ولكنهم ف�شلوا..
فلقد كان ..هائج ًا كالثور ..ويف �أوج قوته ..وفج�أة وجدت �..أحدهم
ذراعهُ ...مدافع ًا
أخذين حتت ِ ينتزعني ..بالقوة من ب ِني ..يديه ..وي� ُ
عني ..و�أدخلني هذه الور�شة ..وقام بغ�سل ..دمائي ..ثم �أخذين� ..إىل
�أقرب َم�شفى ..ليقوموا ..بتطبيب ُجرحي.
َمن كان هذا؟
تابع «ح�سن» بحن ٍني:
�أ�سطى «رحيم».
عندما �س�أله «رمزي» يف البداية عن �سر بقا ِئه يف هذه الور�شة حتديد ًا مل
يكن يعلم �أن «ح�سن» يحب احلديث عن «رحيم» وعن طريقة معرفته به �إىل
غريب ,يغلب الغ�ضب الدائم بداخلهما, بحنان ٍ
ٍ هذه الدرجة ,عيناه متوهجتان
وي�سرت�سل بغراب ٍة ال تليق بتجهمِ ه و�صمته الدائم ،لقد كان ح�سن يرى يف
«رحيم» الأبوة الغائبة عنه التي كان ي�شتاق �إليها ب�شدة:
�أ�سطى «رحيم» عاملني ..بحزم وحنان يف ..نف�س الوقت ..وعلمني �سر
..ال�صنعة ..وقبلها علمني � ..أن �أعتمد ..على نف�سي ..وال �أنتظر �شفقة
من � ..أحد ..ثم مت َّلك املر�ض منه ..وكانت الزبائن ت�أتي ..من �أجلي
خ�صو�ص ًا ..منذ �أن كنتُ ..فتى يف اخلام�سة ع�شرة ..من عمري..
�أو�صاين-رحمه اهلل ..-ب�أال �أترك املكان هنا ..و�أن � َ
أمت�سك ..به قدر
املُ�ستطاع ..حتى �أ�صبح م�صدر رزقي ..الوحيد ..مات يف نف�س العام..
الذي ماتت ..فيه �أمي ..وطردين «�أنور» ..من الور�شة و�أغل َقها.
هب «رمزي» واقف ًاُ ,م ِ�سك ًا ب�شطرية الفالفل احلارة بني �أ�صابعه وهو
ب�شغف:
يت�ساءل ٍ
وماذا فع ْلت؟.
�أجاب «ح�سن» بال مباال ٍة:
�أعادين مرة �أخرى ..بعقد �إيجار جديد ..با�سمي.
انزلق «رمزي» جال�س ًا مر ًة �أخرى هاتف ًا بده�ش ٍة:
ملاذا ؟!!!
ق�ضم «ح�سن» ق�ضم ًة من �شطريته ،وتابع برزان ٍة:
قام بت�أجريها لأحدهم ..يف البداية ..ولكن الزبائن ..مل تنفك يف
..ال�س�ؤال عني ..فهو مل يكن ماهر ًا ..كما كان ُمنعدم ال�ضمري..
أ�صبحت الور�شة ..كاخلرابة ..وانقط َعت
وعندما ..مل يجدوينَ � ..
الأرجل عنها ..مل ي�ستطع الرجل� ..أن ي�سدد الإيجار ..فرتكها ..وخ�سر
«�أنور» َ ..م�صدر ًا مهم ًا ..يعتمد عليه ..يف املعي�شة.
إدراك ,فلم يكن يف حاج ٍة �إىل ا�ستكمال الق�صة ,جم ُع �أوم�أ «رمزي» ب� ٍ
ن�سب «ح�سن» ،و�إىل َمن ينتمي؟ ,لذلك يت�شاجر املال �أهم عند «�أنور» من َ ِ
أيام ،ويكاد �أن ي�ضربه دون �أن يخ�شى طرده� ,إنه ُم ٌ
درك معه «ح�سن» كل عدة � ٍ
ما �إىل حاجة والده �إىل بقاء الور�شة مفتوح ًة ،وال�سيارات متكد�س ٌة �أمامهاَّ ِ ,
جعله يطمع �أكرث ،ويزيد الإيجار �إىل ال�ضعف ,و «ح�سن» وافق ب�سهول ٍة من باب
�شهر,�ضاعفة كل ٍالت�شفي فقط ,نعم ،يت�شفى به وهو يرمي له قيمة الإيجار املُ َ
وك�أنها ال ُت�ساوي �شيئ ًا ,مثل �أُ ُبو ِته متام ًا!
y
أيام فقط ,ا�ستطاع فيها «رمزي» احل�صول على ما ُي�ش ِبه ال�صداقة ثمانية � ٍ
نف�سه ِبا يتفوه به
مع «ح�سن» ,قدرته على �أداء امل�شاهد التمثيلية ،واقتناعه هو ُ
ل�سانه من َك ِذب جعلت «ح�سن» يتعاطف معه ،وي�صبح �أكرث انفتاح ًا يف احلديث
معه« ,ح�سن» �أي�ض ًا كان يف حاج ٍة �إىل لعب دور املُع ِّلم واملُوجه كما كان يفعل
عطف ُيريد منحه لأحدهم.«رحيم» معه ,بداخله ٌ
ولك َّنه ما زال حذر ًا ,ولقد زاد حذ ُره يف اليوم الثامن ،وبد�أ ُيعيد النظر يف
�شاهده ُيغازل فتا ًة ال تتجاوز ال�سابعة ع�شر َة
َ براءة «رمزي» الظاهرة عندما
خروجها من ال ِبناية املُرتفعة جد ًا باجلوار ,هي ال ِبناية الوحيدة املطلية
�أثناء ِ
متناق�ض بالن�سبة لِ َا حولها من ِب ٍ
نايات ٍ م�شهد
ٍ البتقايل الفاقع يف باللون ُ
منخف�ض ٍة ما زالت واجها ُتها اخلارجية بالطوب الأحمر املُ ِ
رتاكم فوقه الغبار
نايات ُمتجاور ٍة.
بخم�س ِب ٍ
ِ والكثري من عوامل الزمن ,تبعد عن الور�شة
بدون �أ ٍمل !؛ هكذا كتب
�ص�ص ملركز ن�ساءٍ ووالد ٍة ِ الطابق الأول منها ُم ٌ
الطبيب على الالفتة التي ُت�ضي ُء بعد الغروب مبا�شر ًة ,وبالرغم من ذلك َّ
�صارخات من �آالم �أ�سفل عمودِهنَّ الفقريِّ !� .أما الطابق
ٍ فالن�ساء يخرجنَ منها
الأخري فهو م�ؤج ٌر كـ «�سنرت تعليمي» كما تقول الالفتة على الواجهة �أي�ض ًا،
واملُعلقة على واجهة ال ِبناية املُتف ِّردة.
درو�س خ�صو�صي ٍة
الفتاة ت�أتي هي وكثرياتٌ من زميال ِتها للح�صول على ٍ
كبديل عن احل�ص�ص املنزلية التي ال مي ِلكنَ نفقا ِتها الباهظة,
ٍ ُم َ
ف�ض ٍة
راجعات �إىل ما بعد العا�شرة لي ًال لو ت�أخر �أ�ستاذ املادة عنوت�ستم ُّر تلك املُ َ
احل�ضور يف موعده املُقرر.
وبرغم ال�شتاء العا�صف ب�أمطاره ورياحه ال�ساهجة �أحيان ًا� ,إال �أنهنَّ ي�أتني
املطر ,كل منهنَّ حتتمي ِمبظلة �أحالمها الوردية عن دائم ًا ,يجرينَ حتت َ
املجموع املُرتفع يف نهاية ال�صف الثاين الثانوي .
خطو ٌة دافع ٌة للمرحلة القادمة ,الثانوية العامة ,نقطة االرتكاز الوهمية
ال�صارمة عالُهنَّ اخلا�ص ,ماراثون يتوارث الأجيال قواني َنه َّالتي يدور حولها َ
توجيه� ,سباق تعليمي ,قواعدُه ُمدد ٌة ُم�سبق ًاَ ,من ي�صل �أو ًال
دون احلاجة �إىل ٍ
يجل�س يف املُقدمة في�ستوعب �أكرث ممن هم يف اخللفية ,املكان ُم ِ
زدح ٌم للغاية
�سقطنا يف هُ وة الف�شل ال�سريع ,ولي�س ككل �شيءٍ حولنا ,ال منلك الرتاجع و�إال ْ
�أمامنا �سوى الدخول �إىل ُمعرتك احلفظ والتح�صيل والنجاح ثم اال�صطدام
بالواقع ا َملرير.
الحظ «ح�سن» ُمراقبة «رمزي» للفتاة التي ُتدعى «�سلمى» على وجه
وا�ضح
خلطوات البطيئة نتيجة َع َر ٍج غري ٍ التحديد� ,صاحبة اجل�سد املُكت ِنز وا ُ
من الوهلة الأوىل �سوى للعيون املُدققة ..وما �أك َرثها!.
ب�صحبتها,رفيقات ُ
ٍ ُي�ضايقها ذهاب ًا و�إياب ًا ُم�ست ِغ ًال َوحدتها وعدم وجود
عيناها حتكيان الكثري عن الوحدة ،وهي ت�سري يف اخللف ،نظ ُرها ُمتعل ٌق بتلك
ببع�ض يف الطريق.
بع�ضهنَّ ٍأن�س ُ
املجموعة من الفتيات الالتي ي� ُ
عاطلني يتقا�سم معهما ُمون َ�سمِ َع ُه يف ليل ٍة ما وهو يتك َّلم عنها بوقاح ٍة مع ِ
النظرات كما يفعلون بلفافة احل�شي�ش التي تدور بني �أ�صابعهم ،ف َن َه َره ب�شد ٍة،
مواقف م�شابه ٍة وهو َ وزجره موبخ ًا يف تلك الليلة ،وقال له الكلمة امل�شهورة يف َ
يل ُكزُه يف ك ِت ِفه ,ولكن تاريخ «رمزي» ال يجعل هذه الكلمة ت�سقط يف مكانها
املنا�سب من قلبه:
اعتربها مثل � ..أختك يا «رمزي» ..هل تر�ضاه لأختك؟!
يردعه ,فلماذا يتوقف الآن مع َمن«نعم» َر ِ�ض َي ُه من قب ُل ،ومل يحدث �شيء ُ
يوم ,يق�صدُها
للرت�صد للفتاة كل ٍ
ُّ هي مثل �أخت ِه؟! ,املقارنة من الأ�صل دفعته
هي دون غريها ,لقد انقلب ث�أره من «غفران» �إىل تلك الفتاة املِ�سكينة التي
�سرع خطوا ِتها تارك ًة �إياه يعوي بكلماته املُقززة.
كانت تنظر له بازدراءٍ ،و ُت ِ
مل ي� ِأت والده �إليه مر ًة �أخرى ,وك�أنه اختار «غفران» َ
ونبذه .
اختيا ٌر �سيدفع اجلميع ثم َنه يوم ًا ما ! ,هكذا �أخرب نف�سه.
تغلي قدو ُر احلقد بقلبه ،وال َّرغبة يف �إيذاء �إحداهنَّ تت�صاعد ،ود َُخان
يتجرعها كل م�ساءٍ مع �ش َّلة الأُن�س يعمي عينيه عن
ُ لفائف املُخدرات التي
ال�سبب وال َّنتيجة.
َّ
y
تدلف �إىل ِبنايتها التي أيام يرت�صد «�سلمى» ,يتبعها ُخفي ًة حتى َ ثالثة � ٍ
ير�سمتواج ِدها يف «ال�سنرت التعليمي» ،وك�أنه ُ تقطن بها ,د َّون يف عقله �أوقات ُ ُ
ُخط ًة يظنها ُمكمة ,ولكنها يف احلقيقة ُخطة ع�شوائية ال نهاية لها ,ودون
هدف ُمدد ,هو ال يعرف ملاذا يفعل كل هذا ؟ ,كل ما ي�شعر به هو الرغبة
مل�سها كما كان يفعل مع �شقيقته ,الن�شوة التي ي�ش ُع ُر بها �أثناء
ُمب�ضايق ِتهاُ ,يري ُد َ
تر�صدها ُتوقظ احلياة بداخله ،وجتعلها ت�سري ب�أورد ِتهُ ,مرد ٍ
�صياد ُمبتد�إٍ ال
يح�س ُب للخطة املقبلة ح�ساب ًا.ِ
وفكر بنف�س الطريقة التي اعتمدها عقله يف املرة الأوىل ,لو كانت تنفر منه
بحق ،لكانت انقطعت عن املجي ِء �إىل هنا� ,أو حتى جاء معها والدها �أو �أخوها
�أو والدتها؛ ليت�شاجروا معه ,ولكن هذا مل يحدث ,فلرمبا �إذن هي خجو ٌل فقط,
حتتاج بع�ض الإجبار يف البداية.
دمن ًا على
هكذا كان يحدث يف الأفالم التي كان ُي�شاهدها ,لقد كان ُم ِ
ُم�شاهدة املقاطع اخلا�صة بالإجبار ,واملُمثلة ُتتقنُ دورها ,يف البداية ت�صرخ
وحتاول الهرب ثم تكون �سعيدة يف النهاية ,هذا ما تر�سخ ِبذهنه ,ويريد �أن
ُيجربه ...كفى ُم�شاهد ًة.
ويف اليوم التايل مل يكن «ح�سن» على طبيعته التي عرفها «رمزي» يف الأيام
ال�سابقة ,كان ُمنغ ِلق ًا للغاية ال ُيحدثه ،وال ُيلقي �إليه بالأوامر كالعادةُ ,متجهم ًا
وك�أنه يتخذ قرار ًا ال رجعة فيه ,كان يتمنى �أن ي�سلك نف�س طريق �صاحب الف�ضل
عليه بعد اهلل� ,أ�سطى «رحيم» ,ولكن رغبته َ
تلك تنازع خوفه على الفتاة.
نعطف ال بد �أن متر الفتاة به قبل �أن تعرب الطريق باجتاهور�شته يف ُم ٍ
ال�صقة لها ُتكنه من انتظارها �أ�سفل�سيارات الأُجرة ,وال�شجرة ال�ضخمة املُ ِ
باطمئنان دون �أن يراه �أحدٌ ,و «رمزي» ي�ستغ ُّل هذه املِيزة
ٍ فروعها الكثيفة
ل�صاحله ,حاول ردعه عنها ،ولكنه ال يرتدع وال ُيوجد �أمامه �سوى حل واحد,
ويف النهاية ح�سم �أمره ،وناداه بداخل الور�شة؛ ليحدثه عن قراره الأخري:
لك عندي ..ولكن ال تقلق � ..س�أجد«رمزي» �أنا� ..آ�سف جد ًا ..ال عمل َ
لك ور�شة �أخرى ..تعمل بها ..يف مكان �آخر ..بعيد ًا عن هنا.
هل يطرده؟! ,ابن احلرام الذي ال ي�ستطيع �أن يقول جمل ًة كامل ًة وا�ضح ًة
قامت القيامة وانقلب احلال �إىل هذا احلدِّ ؟.
يطرده هو؟! ,هل ِ
ملاذا؟!.
ب�صوت ال ي�سمعه �سواه، ٍ ُّ
فت�صطك قالها «رمزي» وهو ي�ضغط �أ�سنانه
بعنف ال يخلو من ال�صدمة� ,شرارات الكراهية والنفور بينما عيناه ت ُربقان ٍ
التي �أطلت من عينيه يف تلك اللحظة قالت الكثري ,كانت �أكرب من �أن ي�ستطيع
بو�ضوح ،وقد زال جتهمه والتنازع بني ٍ ُموار َبتها عن عيني «ح�سن» الذي قر�أها
عقله وقلبه بعد �أن تيقن �أن «رمزي» مل يكن يوم ًا يحرتمه �أو يتخذه قدو ًة ف�ض ًال
عن �أن يكون �صديقه كما كان ُيكرر دائم ًا ,فقال بخيب ٍة خفي ٍة ُمغلف ٍة بالإ�صرار
وال�شدة ،وقد باتَ قراره نهائي ًا ال رجعة فيه:
لقد حذرتك ِمرار ًا ..؛ لترتك َ
تلك ..الفتاة حلال �سبيلها ..ولكنك ال
ت�سمع ..اليوم هو �آخر ..يوم عمل لك هنا ..اذهب �إىل حال� ..سبيلك..
بعيد ًا عني.
ُمدد ًا؟ ,يقع االختيار على الفتاة ،وينبذو َنه هو ,ملاذا؟ ,ماذا فعل؛
ليتعاملوا معه بهذا اجلحود وال ُّنكران؟!.
فاقد للحياة ,لوال نظراته ال�سامة نحو«ح�سن» الذي بارد ٍ
كتمثال ٍ
ٍ ظل واقف ًا
قر�أها الأخري جيد ًا ,ودون �شعو ٍر وجد نف�سه يقف ُمتحفز ًا ٍ
لقتال ما ,ولكن
للحظات ُم ِعيد ًا ت�شغيل �أفكاره من ٍ
جديد ٍ َ
حترك فج�أ ًة ،و�أطرق بر�أ�سه التمثال
قبل �أن يرفعها ،وقد خ َب ْت نظراته العنيفة فج�أ ًة وك�أنها مل تكن ,و�سكن بد ًال
فوت:
بخ ٍعنها ت�شتت وحرية �أجادهما وهو يقول ُ
ح�سن ًا ..كما تريد ..ولكن اتركني فقط للغد حتى �أتدبر �أمري.
حلظات قبل �أن
ٍ تفكري «ح�سن» يف املُه َلة التي طلبها مل ي�أخذ منه �سوى
ومئ باملوافقة ،وهو َي ِع ُد نف�سه ب�أنه �آخر معروف �سيقدمه له؛ �إر�ضاء ل�ضمريه ُي َ
فقط� ,سيتحمله يوم ًا �إ�ضافي ًا �آخر ,وهو ال يعلم �أن هذه املُهلة الق�صرية �ستقلب
حياته كلها ر�أ�س ًا على َع ِق ٍب!.
ويف امل�ساء �شاهد «رمزي» �أ�ستاذ املادة خا�صتها ي�صل مت�أخر ًا �ساع ًة
ون�صف ًا عن موعده كعادته يوم ال�سبت من كل � ٍ
أ�سبوع ,وبح�سب ٍة ب�سيط ٍة علم �أن
«�سلمى» لن ُتغادر قبل احلادية ع�شرة لي ًال.
فانتظر ان�صراف «ح�سن» يف العا�شرة م�سا ًء ُمغادر ًا ؛ ليقوم بغلق الور�شة
من بعده كما يفعل يومي ًا منذ �أن َعمِ ل «رمزي» معه ,ويف العا�شرة والن�صف,
قام بجذب الباب املعدين هبوط ًا �إىل منت�ص ِفه متام ًا ،وقد ا�شتدت الريح،
وهطلت الأمطار بغزار ٍة .
انتظرها عند زاوية ُمظلمة باجلوار� ,أ�سفل ال�شجرة ال�ضخمة التي تهت ُّز
�أوراقها بقوة بفعل الرياح؛ نظر ًا ملوقعها على حافة منعطف الطريق.
كالعادة خرجت «�سلمى» مبفردها ,وهي تلوح ل�صديقا ِتها ُمودع ًة يف
بوداعها هذا,
نف�سها ب�أن الفتيات تهتم ِ حماول ٍة ال تفرت عنها �أبد ًا يف �إقناع ِ
فهنَّ ما زِلن يقفن يف مدخل البناية من الداخل مع �أولياء �أمورهن الذين كانوا
يتحدثون مع �أ�ستاذ املادة ،ويتذمرون من ا�ستمرار املُ َ
راجعات �إىل موعد ُمت�أخر
يف مثل هذا اجلو العا�صف.
كانت ُمتعجلة من �أمرها ،وتريد �أن َ
ت�صل �إىل البيت قبل عودة والد ِتها
التي تعود مت�أخرة هي الأخرى ب�سبب عم ِلها ,مل تكن تعلم ب�أنها لن ت�صل �أبد ًا
يف هذا اليوم! ,مل تكن تعلم �أنَّ �أحدهم قرر �أن ُيطل َعها على خطاياه وي�شاركها
�إياها ،و�أنَّ الذئب دائم ًا ما يرت�صد بال َغ َنمة القا�صية.
قدمها املُ�صابة دفع ًا؛ فزخات املطر ا�شتدت فوق �سارت �شبه راك�ضة تدفع َ
وحولت الأر�ض الرتابية �إىل ِب َر ٍك من الطني ُيهددها ب�سقوط ُم َد ٍو ,بينما
ِ ر�أ�سها،
خياالت ُمرعب ًة.
ٍ رهب خاف َقها بقو ٍة ،و ُتـثري يف عق ِلها
هز ُمي تلك ال�ساهجة ُي ِ
وهي �صغرية كانت �أمها تقول لها� :إن �أ�صوات الرياح القوية ما هي �إال ُ�صراخ
نف�سه ب�سرعةنوع من �أنواع اجلن الذي يت�أذى من ا َملطر ال�شديد ,فيدور حول ِ
ُق�صوى �صارخ ًا من ال َأل في�صنع دوامات هوائية ي�سميها النا�س بـالرياح !.
ابت�سمت برتدد وهي ت�سرع اخلطى م�ؤنبة نف�سها ب�أنها ال زالت تتذكر تلك
احلكايات الغريبة واخليالية برغم ُم�صارحة والد ِتها لها ب�أنها كانت تق�صها
عليها وهي �صغرية؛ حتى متن َعها من اخلروج �إىل ال�شرفة وقت املطر فتبتل
ومتر�ض.
زالت ابت�سامتها ،واختفت يف نف�س اللحظة التي مرت فيها بجواره ،وهو
ُمت ِبئ يف الظالم �أ�سفل جذع ال�شجرة ال�ضخمة ,رمبا لو عادت تلك اللحظة
مت�شي و�سط الطريق بني الوحل ِّ
والطني ،وبني مرة �أخرى ،الختارت «�سلمى» �أن َ
ت�صعد �إىل الر�صيف ومتر بجوار تلك ال�شجرة.
َ اجلن ال�صارخ املُت�أمل على �أن
�ضربها على ر�أ�سها من اخللف ب�آلة حادة ِما يتم ا�ستعمالها يف الور�شة،
ف�سقطت من فورِها فاقدة الوعي ،كما توقع هو وخطط ُم�س َبق ًا ,الآن �سيلقي
فوق ج�سدها قطعة كبرية من القما�ش الذي ُيغطي به ال�سيارات ،ثم يحملها
�إىل داخل الور�شة .
ولكن ما َل يكن ُيخطط له �أن يرى على �ضوء ك�شافات ال�سيارات ال�سريعة
املُنطلقة على الطريق املمهد الذي يبعد عن املُنحنى بحوايل ع�شرة �أمتارٍ,
بقع َة دماء تنت�شر �سريع ًا ،وتت�سع يف حلظات قليلة على �إثر تلك ال�ضربة يف
ر�أ�سها ,حجابها الذي كان نا�صع البيا�ض كرباء ِتها غلفه الأحمر الناجت عن
دماء حياتها بلون املوت الو�شيك ,املنظر �أفزعه ،وجعله يرتاجع ُخطوة للوراء
وهو يحاول �أن يرى بو�ضوح �أكرب ,البقعة تت�سع ،وال َنزيف ينهل من �أوردتها؛
ُلتوى به جذور ال�شجرة وما حولها من حجارة مر�صوفة فوق بع�ضها البع�ض
بغري تنا�سق.
«ح�سن» هو َمن جعله يت�صرف برعونة ,ووالده هو ال�سبب يف عم ِله لدى هذا
y
النغل! ,و «غفران» هي ال�سبب يف كل ما يحدث ,ملاذا يكرهه اجلميع ويقف
العامل �ضده حتى م َلك املوت �شخ�صي ًا ؟!.
يف اليوم التايل اختار «ح�سن» �أن يذهب �إىل الور�شة مت�أخر ًا ,فهذا هو �آخر
يوم عمل لـ «رمزي» لديه ،وهو ال يريد �أن يتحدث معه كثري ًا ,بل ال يريد �أن يرى
وجهه ُمطلق ًا حتى تنتهي ُمهلته ويرحل ,وقد كانت هذه هي املرة الأوىل التي
ُيغا ِدر فيها غرفته يف الثانية بعد الظهرية.
فتح بابها للمغادرة ف�سمع قرع نعال قادمة من اجلحيم ..يبدو �أنها متجه ٌة
�إليه هو خ�صو�ص ًا ,وهتاف ًا قادم ًا من ال�سلم ِ
املواجه لباب غرفته ب�أن املُجرم
با�ضطراب ال يفهم ماذا يحدث؟,
ٍ يقطن الغرفة يف الطابق التايل ,نظر حوله
حلظات ،وبد�أت الأج�ساد الالهثة تظهر وتندفع نح َوه هو.
ٍ وماهي �سوى
وبرد فعل تلقائي وجد عينيه تت�سعان ،وقدميه تعودان للداخل ،ومل يكن
قد �أغلق الباب بعدُ ,ولكن �أ�صحاب ال�سرتات املدنية حلقوا به ،وقفزوا نحوه
حديث انهالوا عليه �ضرب ًا با ِلع�صي التي ال ُتفارق
ٍ مت�شبثني بذراعيه ,وبدون
�أيديهم ,و�سباب ًا ب�أقذر الألفاظ ،حاول هو الدفاع عن نف�سه ،وقاومهم قدر
�إمكانه رغم التكالب وال�ضرب ال�شديد ,حتى بد�أ ُييز وجه ًا واحد ًا من بينهم,
«�صفوان» �أحد رفقاء �أبيه على القهوة ال�شعبية ،وهو يعمل يف نف�س الوقت
ُم ِب ًا يف ق�سم ال�شرطة التابع للحي ,لقد كان ي�ضربه بق�سو ٍة وغل وا�ضح،
ولذلك ا�ستجمع «ح�سن» قوته ووجه قب�ضته �إىل �أن ِفه دون غريها فنـزفت يف
احلال.
رتاجع ًا للخلف ،وهو ُم�سك ب�أنفه
خرج «�صفوان» من املعركة الدائرة ُم ِ
املُ�صابة وي�سب «ح�سن» �آمر ًا البقية ب�أن ي�سحبوه على الدرج حتى باب ال ِبناية
جر ًا ومنها �إىل �سيارة ال�شرطة الزرقاء التي تنتظر بالأ�سفل.
ويف ق�سم ال�شرطة و�أمام ال�ضابط املُكلف بالقب�ض عليه؛ اكت�شف «ح�سن»
ثقيل ,فهنا ال�ضرب ُمت ِلفزاح ٍحدث له يف غرفته مل يكن �أكرث من ِم ٍ�أن ما َ
بعنف ،وال متام ًا ,فن ال يجيده �سوى ا ُ
خلرباء ,واليتذوقه �إال املطحونون ,ي� ِؤل ٍ
عالمات ج�سدي ًة ,ر ْي َثما ي�صدح �صوت ال�ضابط وهو ي�س�أله بخ�شون ٍة عن
ٍ يرتك
ال�ضحية ومدى معرف ِته بها ,وكيف عرثوا على تلك الآلة احلادة خا�ص ِته بجوار
جثتها؟ ,وملاذا كان يتحر�ش بها هي بالذات كما اتهمته والدتها ؟.
كل هذا ال�ضرب والعنف وهو ما زال ُم�شت َبه ًا به؟!.
ُمرد ُم�شتبه به ُي ِنكر معرفته بكل �شىء برغم التعذيب ,ال حقوق له وال
ثبت �أنه الفاعل؟! ,مل يكن و ْق ُع ما يحدث له الآن �أقوى
رحمة ,فكيف �إذن لو َ
من �صدم ِته عندما ع ِلم باجلرمية ,ورمبا �صدمته هذه هي ما جعلته يتحمل
اللكمات ك�أنه ُمدر .! .
رك با ُبها مفتوح ًا ,وبا�ستخدام
الفتاة املِ�سكينة ُقت َلت بجانب ور�ش ِته التي ُت َ
�إحدى �أدوا ِته ,وعندما عرثت �إحدى زميالتها عليها ُملقا ًة على الأر�ض غارق ًة
يف دما ِئها� ,صرخت وجمعت بقية الفتيات حولها و�أولياء �أمورهنَّ ,وقاموا
باالت�صال بوالدتها ،ثم نقلوها �إىل ا َمل�شفى احلكومي القريب ,الذي � َ
أ�سهم
يف الق�ضاء على الآمال ال�ضعيفة �أن تبقى على قيد احلياة ,ف ُهد َرت دما�ؤها
إهمال ,بدعوى عدم وجود �إمكانيات العالج املُنا�سب ،وحتمية نقلها الباقية ب� ٍ
ب�سيارة �إ�سعاف �إىل َم�شفى �آخ َر ,فا َمل�شفى كانَ ال ميلك �أكيا�س الدماء ،و�سيارة
الإ�سعاف اخلا�صة به كانت ُمعطل ًة ،والطبيب املُناوب ف�ضل �أن َ
ينام يف بيته يف
مطرة الباردةَّ ,
وخط القد ُر كلمتَه!. تلك الليلة املُ ِ
طويل مل يكن هناك حاج ٌة وقت ٍ عندما ح�ضرت �سيارة الإ�سعاف بعد ٍ
لها ,فال�ضحية كانت قد فار َق ِت احلياة تارك ًة بقية الب�شر يرتعون يف �سل�سل ٍة
ُمتوا�صل ٍة من الإهمال وانعدام ال�ضمري.
ويف ال�صباح بد� ِأت الأخبار تتناق ُل يف احلي ,فتاة مقتولة بجوار ور�شة
«ح�سن» ,والور�شة مفتوحة و�صاحبهامل يح�ضر بعدُ ,كل التف�سريات والتحليالت
و�أ�صابع االتهام كان ُمنتهاها �شخ�ص ًا واحد ًا فقط « ,ح�سن» ,فلم يحت َِج الأمر
ري ما هم !.
�سوى فاعل خ ٍري ,وكث ٌ
y
أيام من ال�ضرب والتعذيب والإهانات ق�ضاها «ح�سن» يف حجز وبعد ثالثة � ٍ
الق�سم ,وقف �أخري ًا �أمام غرفة وكيل النيابة ،دف َعه �أمني ال�شرطة للأ�سفل
ُم ِب ًا �إياه على اجللو�س بو�ضع ال ُقر ُف�صاء هاتف ًا ب ِغ ْلظة:
اجل�س هنا حتى ي�أتي �سعادة البا�شا .
كان يف تلك اللحظة ُ َيني نف�سه �أن ما حدث يف ق�سم ال�شرطة لن يتكرر
نحه فر�ص ًة للحديث والدفاع عن نف�سه ,ف�أطرق بر�أ�سه هنا ,و�أنه �سيت ُّم َم ُ
�سيق�ص على وكيل النيابة الق�صة كلها عن ُّ وهو ُيحاول جتميع �شتات �أفكاره,
«رمزي» وم�ضايقته للفتاة ِمرار ًا وتَكرار ًا ,وي�شك ب�أنه هو الفاعل احلقيقي,
وبالت�أكيد �ستُظهر التحقيقات براءته ،ورمبا يعود �إىل غرفته اليوم �أو يف الغد
على الأكرث ,هو بري ٌء ووجوده هنا باخلط�أ لي�س �أك َرث!.
الأ�صوات املُتداخلة الآتية نحوه والت�أوهات املُرت ِفعة امل�صحوبة بن�شيج جعلته
يرفع ر� َأ�سه؛ لينظر ما يحدث� ,سيدة تت�شح بال�سواد ُمق ِبل ًة نحوه تبكي بحرق ٍة،
تكبها يف العمر قلي ًال ،والتي كانت حتاول �أن ذراعي امر�أ ٍة �أخرى ُ
وت�ستند �إىل َ
تت�شبث بها جيد ًا حتى ال ت�سقط ،بينما ُتخربها ب�أن ت� َ
صرب وحتت�سب ،وب�أنَّ حق
ابن ِتها لن ي�ضيع ،و�سيتم �إعدام القاتل بالت�أكيد.
بحرق ٍة ،وهي تنادي على ابنتها؛ لت�أتي وتخربهاال�سيدة الباكية كانت تت�أوه ُ
ب�أنها ما زالت على قيد احلياة ,وب�أنها مل ُتزهَ قْ ُ
روحها بتلك الطريقة الغادرة
اجلبانة ,وب�أنها �ستكرب �أكرث ،و�ستكون عرو�س ًا جميل ًة ،فتنجب لها الأحفاد
الذين �سيملأونَ الدنيا َ�ص َخب ًا من حولها.
ُغ�صة ُم�سننة �ضربت حلقه ،وحديثها النازف ُيخربه ب�شخ�صيتها� ,إنها
والدة «�سلمى» دون �شك ,تبكي ابنتها ,وتتحدث مبا َي ُ
فطر قل َبها وقل َبه �أكرث,
بينما �صديقتُها املُ�سنة ال�صلبة يف وقفتها ت�شد من �أزرها ُمتم�سك ًة بها بقوة
و�صرب ونظرات دامعة ملتهبة ومكلومة.
دلفت ال�سيدة َوحدها؛
ح�ضر وكيل النيابة ،و�أمر بدخول والدة القتيلةِ ,
لتديل ب�أقوالها ،بينما انتظرتها �صديقتها يف اخلارج تر ُمق «ح�سن» بنظرات
رِيبة؛ ظن ًا منها ب�أنه هنا لأجل ق�ضي ٍة �أخرى.
دقائق طويل ٌة مرت ،كل حلظ ٍة فيها ينه�ش الأمل �ساقيه من تلك الو�ضعية،
حار�سه على ُمعاودة اجللو�س ُمدد ًا ,قبل �أن
ـجبه ُ للحظات قبل �أن ي ِ
ٍ فيقف
�سرع ًا ،وال َأمل يف انتهاء كل هذا العذاب
يتم ا�ستدعا�ؤه للدخول ،فينه�ض ُم ِ
داعب قلبه بكلمة احلرية.
ُي ِ
نتظر ًا ,وما
بعد عدة دقائقَ لي�ست بالق�صرية ,م�ضت عليه كالدهر ُم ِ
�أق�سى و�أق�صى من انتظار الأمل! ,مت ا�ستدعا�ؤه للدخول ,هناك كانت املُواجهة
احلقيقية ,عندما تيقن �أن ال�سيدة التي �سبقته بالدخول ما هي �إال والدة
املجني عليها.
ِّ «�سلمى»
كان ُمتحفز ًا للغاية وهو ُيجيب �أ�سئلة املُحقق عن طبيعة عالقته بال�ضحية,
بنظرات ُمنهار ٍة ,بدت يف البداية غا�ضبة كارهة عدائية، ٍ َر ْيثما ال�سيدة تر ُمقه
ولكنها حتو َلت �إىل التدقيق والت�أمل مع الوقت ،وهي تتف َّر�س فيه ب�شد ٍة ,وفج�أ ًة
قاطعت التحقيق هاتف ًة ب َنرب ٍة مبحوح ٍة من �شدة البكاء:
ِ
ال يا فندم ..لي�س هو ..ال�شخ�ص الذي كان ُي�ضايق ابنتي موا�صفاته
خمتلفة.
الت َف َت لها املُحقق وهو ُي�شري �إىل «ح�سن» بالق َلم املُعلق بني �أ�صاب ِعه وهو
ي�س�ألها عن وجه االختالف بينه وبني ال�شخ�ص الآخر فقالت على الفور:
ابنتي كانت تقول يل� :إن ال�شخ�ص الذي ُي�ضايقها كان �أكرث ُطو ًال منها
ٌ
ونحيف للغاية ..و�شع ُره طويل. بكثري..
كانت املُ َ
قاطعة من ن�صيب «ح�سن» ،وقد بدا الأمل يف احلرية هذه املرة ِ
يداع ُبه �أكرث ف�أكرث ،وقال بحما�س ُمرتبك:
ن َعم ..ن َعم� ..إنها موا�صفات « ..رمزي».
نظر له املُحقق َ
ب�ض َجر ،وهو ي�س�أل بفتور:
َومن هذا �أي�ض ًا ؟.
من �شدة حما�سه واملوقف ال�صعب الذي ُز َّج به منذ البارحة رغم ًا عنه
بد�أ تلع ُثمه يظهر �أكرث وهو يحكي عن عمل «رمزي» معه يف ور�شته اخلا�صة
وحتر�شه بها لفظي ًا ،وحماولته هو
ِ امل�ؤجرة ،وم�ضايق ِته املُ�ستمِ رة للفتاة ،
بطر ِده يف النهاية عندما بد�أ يقلق عليها منزجره والدفاع عنها حتى �إ َّنه قام َ
ت�صرفات «رمزي» التي تزداد �سوء ًا يوم ًا بعد ٍ
يوم ,ولكن املُحقق ف�سر تلع ُثم
بتمهل:
«ح�سن» بطريقة �أخرى ،فدقق فيه ب�شك ،وهو ي�س�أله ٍ
َ
ادعائك هذا؟. هل َ
لديك �شهود على
�أظن ..يف �إحدى ..املرات ف َعل هذا ..بينما �صديقاه ..اللذان تع َّرف..
عليهما م�ؤخر ًا ..يقفان بالقرب منه.
�أمر املُحقق با�ستدعاء «رمزي حافظ رمزي» مع ا�ستمرار حب�س «ح�سن»
خم�سة ع�شر يوم ًا على ذمة التحقيق بحروف ممطوطة ،ونظرا ُته احلادة
ُم�سلطة على «ح�سن» وعلى هيئته اخلارجية.
جلرح املُلت ِئم يف جانب جبه ِته ،ويداه ا َ
خل ِ�ش َنتان ،وج�سدُه الع�ضلي بفعل ا ُ
عم ِله ال�صعب ،وممار�سته للمالكمة ,نظراته احلادة ،ومالحمه القا�سية بفعل
إبعاد و�إهان ٍة وت�ش ُّر ٍد ,تلعث ُمه من وقت لآخ َر وك�أنه يقوم بت�أليف
ق�سوة ما القاه من � ٍ
جرم بجدار ٍة .ومنحه دور املُ ِ
ما يقوله يف اللحظة والت ِّو ,كل هذا ت�آم َر عليه َ
�أنهى �أمر اال�ستدعاء ،وبداخله بد�أت دائرة اال ِتهام تلتف حول رقبة «ح�سن»؛
موا�صفات
ٍ فوالدة الفتاة مل ت َر �أي ًا منهما ر� َأي العني ,وكل ما لديها جمرد
هُ المية ل�شخ�ص يعمل يف الور�شة كان ُي�ضايق فتاتها با�ستمرار.
دليل مادي ًا �سوى باب الور�شة املفتوح و�أداة اجلرمية املن�سوبة للمتهم
ال َ
الأول « ..ح�سن �أنور برهان».
y
َطرقات ُمزعجة على باب بيت والد«رمزي» ي�صاح ُبها �صوت « �أنور برهان»
ب�صخب:
ٍ الأكرث �إزعاج ًا ُمنا ِدي ًا
افتح يا «حافظ» � ..أنا �أعلم �أ َّنك بالداخل ..افتح.
ماذا يريد م َّنا؟.
قالتها والدة «رمزي» وهي ترجتف من �شدة اخلوف ,وما الغريب؟� ,إنها
ترجتف منذ تلك الليلة ,الليلة التي َطرق ولدُها الباب بعد ُم ِ
نت�صف الليل،
زوجها وهو يبكي ،وج�سده يخت�ض بقوة ،ويخ ُربه �أنه ارتكب وارمتى بني �أح�ضان ِ
جرمية قتل دون َق ْ�ص ٍد منه� ,سح َبه والده لغرفته يف الداخل ُماو ًال احلفاظ
على خف�ض �صوته ،وثبات انفعاالته بالرغم من انقبا�ضة �صدره ،والأمل الفوري
�ضرب قل َبهَ ,ريثما «رمزي» يُـنهِ ي حكايتَه التي لفقها �سريع ًا ،وهو يقول
الذي َ
ب�صوت ُمرجتف ي�شبه الهم�س:
لقد كانت تربطني بها عالقة ُحب ..ولكنني عرفت �أنَّ �سمعتها �سيئة..
فقررت قطع تلك العالقة ..واالبتعاد عنها ..و�أنتب ُه �إىل عملي ..ولكنها
أ�ستطع �أن
غ�ضبت ب�شدة ..وت�شاجرت معي ..وهددتني يا �أبي ..فلم � ِ
أمتالك نف�سي ..و�ضربتها فوقعت غارقة يف دمائها ..هربتُ ومل ي َرين � َ
�أحد ..لو ماتت ف�سيتم �إعدامي يا �أبي� ..س�أموت.
ذراعه ،وهو يربِتُ على ر�أ�سه ،وعيناه تت�سعان
جذبه والدُه ب�شدة �أ�سفل ِ
ُذعر ًا ويُهمهِ م ب ُرعب:
ال ..ال ..لن ي�أخذوك �أبدً ا م ِّني ..لن �أ�سمح لهم بذلك ..على جثتي.
بي َنما ج َث ْت والدته على ركبتيها �أمام الفرا�ش ،وهي تبكي و ُتولول وتنتحب
على َذ َك ِرها الوحيد ُم�سك ًة بركبتيه ت�ضغطهما ب�شدة:
ولدي الوحيد� ..سي�ضيع مني ..ولدي يا «حافظ « ..افعل �شيئ ًا.
كان «حافظ» يف حالة من ال َه َذيان ,وخاف ُقه ي�ضربه بنب�ضاته بقوة ُموجعة,
فقال ب�ضياع:
لقد �أر�سلتُ �أختك �إىل بيت خالتها؛ لتعي�ش هناك معها وتخدمها..
وكنت �أُجهز َ
لك غرفتك؛ لتكون لك وحدك ..لقد اخرت ُتك يا ولدي..
لقد اخرت ُتك.
�أ�سرع «حافظ» و�أغلق باب احلجرة التي مل يخرح منها» رمزي» منذ تلك
الليلة و�إىل الآن ,ثم عاد و�أم�س َكها من ِمرفقيها بقوة هام�س ًا:
افتحي له الباب ..وتظاهري بالده�شة لزيارته املُ ِ
فاجئة ..وال ت�سمحي
له بالدخول.
�أوم� ِأت الزوجة بطاعة ،ووقفت �أمام باب ال�شقة من الداخل ،تبتلع ريقها
اجلاف ،وحتاول ال�سيطرة على مالمح وجهها املذعور ,و�أخري ًا َ
فتح ِت الباب،
ونظرت له بتجهم ،وبنربة ُمرتبكة حاولت �أن تبدو غا�ضبة قالت:
ماذا تريد؟.
ج�سده ال�ضخم ،وهو
دفع «�أنور» الباب ودخل ب ُعنجه َّيته امل�شهورة قبل ِ
ي�صيح ب�صوته اجلهوري:
زوج ِك يا امر�أة؟ � ..أنا �أعلم �أ َّنه بالداخل ..هل يخاف من
�أين ُ
مواجهتي؟.
راب: َّ
با�ضط ٍ خاف «حافظ» من �صوته املُرت ِفع ،وخرج �إليه على الفور هاتف ًا
البيت و�أ�صحابه يا حاج «�أنور» ..ملاذا كل هذه ال�ضجة؟! ..ماذا
احرتم َ
تريد؟.
كر ،وهو ُيالحظ حبات العرق التي بد�أت التفت «�أنور» ُتاهه ،ثم ابت�سم َمب ٍ
كات ُمتتالية ترتفع
ل�ض ِح ٍ حتولت ابت�سامته َ
تلك َ ِ تنبتُ على جبي ِنه العري�ض,
حلظات قليل ٍة وهو
ٍ �شيئ ًا ف�شيئ ًا ،بينما َم ِعد ُته ال�ضخمة تهتز قبل �أن يهد�أ بعد
يراه يتبادل النظرات اخلائفة مع زوجته ,وعندما �أنهى �ضحكا ِته ال�صاخبة
اقرتب من «حافظ» ،وهو ي�ضم كفيه �إىل بع�ضهما البع�ض ،ويفركهما بحما�س
و�شعور باللذة ال يو�صف ،وقال:
�أريد كل خريُ ..مر زوجت ََك �أن تذهب ..وتعد لنا َع�شا ًء فاخر ًا ..فهناك
y
�صفقة ت�ستحق.
هل من ال�سذاجة �أن ن�شعر بال�صدمة من �أ�شخا�ص مار�سوا علينا القهر
م�ضاجعهم ,ثم ختموا
َ والذل واخليانة ل�سنوات طويلة دون ذرة �ضمري ت�ؤ ِّرق
�أفعالهم تلك ب�شهادة زور باطلة ؟!.
�إنها �أب�سط ِما القاه منهم �سابق ًا بكثري ,فلماذا كل تلك املرارة التي متلأ
خلذالن الذي يزرع غ�ص ًة تتبع �أخرى يف حل ِقه؟!, ال�شعور با ُ
قلبه؟! ,ملاذا هذا ُّ
هل هذه نظرية الق�شة التي ق�صمت ظهر البعري؟� .أم �أنه برغم كل تلك املعارك
اخلا�سرة معهم يظل بداخ ِلنا الأمل يف �أن يحبونا يوم ًا ما مت�شبث ًا بجزء ما خفي
بخج ٍل حتى عنا نحن؟ ..نظرية اخلا�سرين التي ال يفهمها يف الف�ؤادُ ,متبئ ًا َ
غريهم! ,والي�ستطيعون التعبري عنها بغري ال َأل ,ال َأل الذي ين�سحب رويد ًا
َ
والعال الذات ,ثم ُبغ�ض احلياة رويد ًا ،ويرتك مكانه فارغ ًا للي�أ�س وكراهية َّ
ب�صمت.
ٍ ب�أ�سره وال َّرغبة يف املوت
رف�ض �أن ي�ستدعي ُمامي ًا للدفاع عنه ,فانتد َب ِت املحكمة واحد ًا من �أج ِله,
والذي �أبل َغه ب�أنَّ والده قام بال�شهادة �ضده ،وذ َكر من �ضمن �شهادته ب�أنه كان
ي�شاهدُه ِمرار ًا وتَكرار ًا وهو يغازل املجني عليها ,بينما هي تهرب منه خائف ًة,
يت�شاجران ,ولكن
ِ يقفان �أ�سفل ال�شجرة ال�ضخمة
وليلة وقوع اجلرمية ر�آهما ِ
الإ�ضاءة كانت خافت ًة ،فلم يتبني ماذا حدث بعد َ
ذلك ؟.
طرق ًا خلف
جل�س ُم ِ
ال�شهودَ , و�أثناء �إحدى اجلل�سات اخلا�صة ب�سماع ُّ
الق�ضبان احلديدية فاقد ًا الرغبة يف احلياة ،وهو ي�شعر ب�أنَّ �صوت والده وهو
يتحدث بثقة يت�سلل �إىل �صدرِه ال �إىل �أذنيه ,كدخان �أ�سود يخنقه ببطءٍ ،ومينع
عنه �أقل حقٍّ من حقوقه يف التنف�س ،على الرغم من �أ َّنه �سمعها من قب ُل من
املحامي املُكلف بالدفاع عنه ,حتى �أنه تنا�سى وجود «رمزي» بالقرب منه خلف
الق�ضبان ,والذي كان يقف م�ضطرب ًا ُم�سك ًا بالق�ضبان بكلتا قب�ضتيه ُملت�صق ًا
تواجده بجوار «ح�سن» به ،واخلوف والرعب يتج�سدان على مالحمه ,خوف ًا من ِ
الذي �ضربه من قبل يف غرفة احلجز مبجرد دخوله �إليها ,حتى مت التفريق
بي َنهما ,وخوف ًا من �شهادة والد ِة املجني عليها ،والتي ما زالت ت�صر على �أن
كانت ابنتها ت�ص ُفها لها من قب ُل.
موا�صفات «رمزي» هي الأقرب لِ ا ِ
املحامي الذي ك َّلفه والده بالدفاع عنه كان بارع ًا حق ًا يف عم ِله ,ويعرف
ماذا يفعل؟ ،وهو يناق�شها يف �شهادتها مت�سا ِئ ًال:
وملاذا مل تذهبي معها ولو مرة واحدة �إىل هناك؛ لتُو ِقفي من يفعل ذلك
معها عند حدِّ ه؟!.
�شاحب
ٍ ووجه
للحظات وهي تنظر �إليه بعينني مكلومتني متورمتنيٍ , ٍ �صمتت
بالذنب ,مل تكن حتتاج �إىل �س�ؤاله هذا ,فلقد كانت ت�س�أله يعلوه الإح�سا�س َّ
لنف�سها كل حلظ ٍة ,منذ �أن وقفت على ر�أ�س ابن ِتها وهي جثة هامدة ,فاقدة ِ
بيدها لهذا املُجرم ليقتلها ,هي للروح ,هي املُذ ِنبة احلقيقية ,هي َمن �سلمتها ِ
التي قت َلتها ب�إهما ِلها ,ماذا كان �سيحدث لو �أنها ح�صلت على �إجاز ٍة من عم ِلها
هناك ,وتت�شاجر معه وتوبخه وتهدده ولو ل�ساعتني فقط؛ لتذهب م َعها �إىل َ
ب�أن يبتعد عن ابنتها و�إال , ...و�إال ف� ّأي �شيءٍ ّ � ..أي �شيءٍ يجعله يرتاجع ,كل
يوم ,ولكنها بنف�س تلك الب�ساطة ..مل تكن الأمهات يفعلن ذلك بب�ساط ٍة كل ٍ
ت�صد ُقها من الأ�سا�س ,كانت ت�أخذ �شكواها بال مباال ٍة.
الفتيات اجلميالت املُتعافيات ج�سدي ًا ويغازل ابنتها
ِ َمن هذا الذي �سيرتك
توا�ضعة جد ًا؟ ,ال بد من �أ َّنها تكذب،
�صاحبة العرجة الوا�ضحة واملالمح املُ ِ
اهتمامها فقط ,هكذا تفعل املراهقات ِ وت�ؤلف تلك الق�ص�ص؛ لتح�صل على
نق�ص يف ثقتها ب�شكلها اخلارجي ,ماذا لو دوم ًا ,وخ�صو�ص ًا َمن تعاين من ٍ
أخذتها مر ًة واحد ًة على َممل اجلد؟ ,ال بد من �أنَّ املُجرم ا�ستغل َو َ
حدتها � َ
و�ضعفها و�س َل َبها روحها على حني ِغر ٍة.
ب�صوت مزَّقه البكاء:
ٍ وحرق ٍة وهي جتيب
بكت ..بكت بقو ٍة ُ
مل �أكن �أتخيل �أن يفعل بها ما فعل ..ت�صورت �أنها جمرد ُمعاك�سة لفتاة
كما يحدث يف كل الطرقات.
وك�أنها منحت «رمزي» �شهادة احلرية بكلماتها َ
تلك ,فابت�سم ُماميه
بث وهو يفتح ذراعيه قائ ًال بثق ٍة: ُ
بخ ٍ
أنت مل ُتعرييها � َّأي اهتمام ..فكيف نت�أكد �أ َّنك ِ
كنت تهتمني �إذن ،ف� ِ
ب�سماع تلك املوا�صفات التي تقول َني ب�أنها تنطبق على «رمزي» ؟.
وبقهر �أكرب من ذي قب ُل ،وهي تهتف بانهيا ٍر حتى
جديد ٍ عادت تبكي من ٍ
كادت تتهاوى �ساقط ًة على ركبتَيها:
ْ
�أنا مت�أكدة ..مت�أكدة.
وعلى النقي�ض متام ًا وقف « �أنور برهان» بثق ٍة ٍ
وثبات وهو ي�شرح كيف �شاهد
ما حدث يف تلك الليلة ،و�أنهى كلما ِته بعبار ٍة رمبا ا�ستوحاها من تلك الأفالم
العربية القدمية التي ُيدمن م�شاهدتها على ا َملقهى ال�شعبي ُ
ب�صحبة �صديقه
«�صفوان»:
هو ولدي ن َعم ..ولكنها �شهادة �س�أُ َ
حا�سب عليها �أمام اهلل.
وزحفت يف تلك اللحظة ابت�سام ٌة بائ�س ٌة ِمثله �إىل �شفتيه وهو ُي ُ
تمتم:
ن َعم ..ومثلك يعرف اهلل جيد ًا ..يا « �أظلم» !!
باتت م�صافحتها للعامبع�ضها بع�ض ًا ،حتى ْ �أيام و�أ�سابي ُع و�شهو ٌر َي ِلي ُ
و�شيك ًة ,مل يكن فاقد ًا لقدر ِته على العدِّ ,بل مل تكن لديه رغب ٌة يف املعرفة،
�أحيان ًا يكون اجلهل دوا ًء ب�شكل ما يتم به ت�سكني �أعرا�ض الظلم وارتفاع وترية
كائن خرايف من
حالة االنقرا�ض والتال�شي اللذين كانا ي�سيطران عليه مثل ٍ
الع�صور ال ُو�سطى.
حمبو�س
ٌ هذا العام ق�ضاه بني حتقيقات النيابة ،وجل�سات املحاكمة وهو
احتياطي ًا على ذمة هذه الق�ضية حتى ح�صل على احلكم االبتدائي الذي مل
ي�شكل معه فارق ًا نف�سي ًا كبري ًا.
�سنوات مع ال�شغل ...نطقَ بها القا�ضي
ٍ حكمت املحكمة ب�سجن املت َهم ع�ش َر
ِ
ول ال و�شهادة �شهود الواقعةوك�أنه مل ي�ستقر يف ُوجدانه بع ُد �أنَّ «ح�سن» ُمذنبَ ِ ,
بعنف ؟! ,فربغم قوة �شهادة والده �إال �أن حماميه تت�ضارب وتتعارك �أمامه ٍ
خالفات ومعارك يومية ،ويف
ٍ ال�شهود من �س َّكان احلي �أنَّ بينهما
�أثبت ب�شهادة ُّ
نف�س الوقت ا�ستطاع ُمامي «رمزي» �أن ي�أتي ب�شاهدين �أق َّرا ب�أن رمزي كان
عمل �إىل حمافظة بور�سعيد, معهما ليلة وقوع اجلرمية خارج القاهرة يف رحلة ٍ
وقاال� :إنهم ابتاعوا من هناك جمموع ًة ال ب�أ�س بها من املالب�س؛ ل ُيتاجروا بها
كم�شروع �صغ ٍري.
ٍ يف احلي عند عودتهم
كمتهم �إال �أنَّ الأمر مل يكن حا�سم ًا
ٍ وبالرغم من خروج «رمزي» من الق�ضية
عام �آخر �أو
بعدُ ،فما زال هناك ا�ستئناف ونق�ض للق�ضية قد ي�صل بهم �إىل ٍ
عامني.
هذا ما جعل والد «رمزي» ي�ؤجل تنفيذ ال�صفقة املُ َربمة بينه وبني «�أنور
برهان» يف منزله يف تلك الليلة امل�ش�ؤومة التي زارهم فيها ،وا�شرتط �أال يتم
ب�شكل
نهائي؛ لكي يطمئنَّ قلبه ,وقال له حينها ٍ حكم ٍّالتنفيذ �إال بعد �صدور ٍ
قاطع:
ٍ
�سنقوم بعمل خطوبة فقط الآن � ..أ َّما الزواج فلن يحدث �إال بعد ا ُ
حلكم
النهائي.
ِ
«�أنور» كان ذئب ًا ماكر ًا� ,إال �أنه يف نف�س الوقت ي�شتاق �إىل �سجن «ح�سن»
�أكرث من �شوقه �إىل َو�ضع خامتِه الرخي�ص حول �إ�صبع الفتاة ال�صغرية ,التي مل
تكن تعرف �أنها �أ�صبحت كب�ش فِداءٍ لرباءة �أخيها العابث!.
y
ناقص 18
من احلالل ؟! .
ب�صوت
ٍ نف�سها كان تعقيبه بتلك الكلمة الب�سيطة جع َلها ُت ُ
درك ب�أنَّ حديث ِ
م�سموع� ,إنها تَهذي دون �أن تدري.
ٍ
مل ينده�ش ,فهو يعلم �أنها من �سكان نف�س احلي ،ولكنها بالت�أكيد مل تكن
دمن ًا على
تعلم ب�أنَّ «�شاهني» مل يكن يعمل يف «�ألعاب الفيديو« فقط ,لقد كان ُم ِ
ُم�شاهدة الأفالم الإباحية لي ًال �أثناء تدخينه ل�سجائر املُخدرات ،بعد �أن ينتهي
موعد عمله ُيغلق الباب ِمن الداخل ،ويبد�أ يف التحميل من املواقع الإباحية ِ
املجانية واملُ�شاهدة ,ويف النهار يبيع تلك الأ�سطوانات لل ُمراهقني والكبار �سوا ًء
حا�سوب
ٍ واحد منهم خلف جهاز ِخل�س ًة من الأطفال اجلال�سني يف حمله كل ٍ
قدمي الطراز ،عيناه �أ�سريتا ُلعبة الفيديو الذي يكافح؛ ليك�سب جوال ِتها
املُتعددة التي ت�ستـنـزف �أموال �أُ َ�س ِرهم َّ
بال�ساعة .
�ستعلم هي كل ذلك؟ يبدو �أنَّ املُخدرات �أكرث �شهر ًة يف جمتمعاتنا ُ وكيف
ِما يوازيها خطور ًة و�إدمان ًا !.
أخرجه من �أفكاره ,مل يكن بحاج ٍة للنظر �إىل ا�سم املُ ِ
ت�صل رنني هات ِفه � َ
ت�صلة ,لقد حدد لها نغمة خا�صة تنا�سب حالتها املُتفجرة على �أو بالأحرى املُ ِ
تن�ضب وال تنتهي ،و ُت�ستحدث دائم ًا من َ
العدم. ُ الدوام ,طاق ٌة ال
جمنونته التي مل تكن كذلك حني تزوجها ,كانت وديع ًة وهادئ ًة عندما
كانت تتدرب يف تلك اجلريدة ال�شهرية يف ق�سم �أخبار النجوم ,ولكن مبجرد
تغيت متام ًا ,وباتت «�أروى»
�أن ثبتَت �أقدامها بها ،وانتقلت �إىل ق�سم احلوادثَ ,
يحب �أن ُيطلق عليها.
املجنونة ,كما ُّ
ولكن جنونها هذا ال ينا�سب طبيعة عمله ,يكفيه احلوادث واجلرائم
بيت هادئٍ وزوج ٍة لطيف ٍة ُتزيل عنه
والدماء ,يريد �أن يذهب يف نهاية اليوم �إىل ٍ
عناء العمل ,ال �شعل ٍة متقد ٍة تريد �أن َ
تناق�شه ويناق�شها ،وجتادله ويجادلها يف
كل تف�صيل ٍة يف عملهما ..
يخ�صه هو يف اخلط�أ وال�صواب ،وما يجب وما ال يجب؟!..
ما ُّ
�إنه ُيطبق القانون وينفذ الأوامر ال �أكرث وال �أق َّل.
y
ب�صمت
ٍ وق َف ِت ال�سيدة «جليلة» �أمام ُحجرة النيابة ت�ستمع �إىل ُماميها
بال�ضبط�« ,شاهني و�سيد» مل يبلغا ي�شبه �صمت القبور ,ال ت�ستوعب ما يقوله َّ
الثامنة ع�شرة بعدُ ,لذلك فهما طفالن يف نظر القانون� ,سيت ُّم و�ضعهما يف
م�ؤ�س�س ٍة عقابي ٍة ,ولن ُيحا َكما بالإعدام حتى لو قاما ب�إزهاق ُر ٍوح.
ولدها الوحيد؟! ,هل كانا طفلني هل كانا طفل ِني عندما خططا خلطف ِ
ر�ضه ؟!. عندما حتوال �إىل قات َل ْي؛ ليتمكنا من االعتداء عليه ِ
وهتك ِع ِ
مراتُ ,تكذب �أُذنيها,
رفعت وج َهها �إليه وهي ُتغم�ض عي َنيها وتفتحهما عدة ٍ
�شتت ُمت�سائل ًة:
بذهن ُم ٍ
تتهم نف�سها بالغباء ,تكلمت ٍ
االثنان يف �سن البلوغ ..ولو تز َّوجا..لأجنبا ..فكيف يكونان طفلني باهلل
عليك؟!.
للأ�سف ..هما ِطفالن يف نظر القانون يا حاجة.
قالها املُحامي وهو ي�شعر ب�أنه يف تلك اللحظة يحمل ُخفي ُحن ٍني بني يديه,
لقد َق ِبل هذه الق�ضية بتو�صي ٍة خا�ص ٍة من املُقدم «عا�صم» الذي يتابع الق�ضية
ب�شكل �شخ�صي ,وكالهما يعلم النهاية. ٍ
ق�صا�ص ,وال حك ٌم رادعٌ ,راي ٌة مرفوع ٌة يتجمع ال�سفاحون
ٌ لن يكون هناك
�أ�سفلها.
«افعل ما تريد ما دمت �أقل من ثمانية ع�شر عاما».
يحن بع ُد وقت البكاء� ,ستنتظر احلكم النهائي, هي لن تبكي الآن ,مل ِ
دموعها؛ لتعلم هل جفت �أم ما زالت ناب�ض ًة ؟ ,ما زالت
وبعدها �ستبحث عن ِ
تت�شبث بالأملُ ,حكم ا َملحكمة.
ظلت ثابت ًة ِطيلة فرتة التقا�ضي ,جل�س ٌة تلو �أخرى ,حتى �صدر حكم ا َملحكمة
وط ِعن عليه ,نظرات «�شاهني و�سيد» لها بربود من خلف الق�ضبان ,هل ُ
ولدها؟.
ي�ستخفان بها ,عيناهما حتكيان لها كيف قتال َ
دمه الغايل ,تتخيلهما وهما يتجردان من الإن�سانية
ترى كفيهما تقطران َ
الروح وخبت مقاومته.
كما ُيجردان ف�ؤا َدها من مالب�سه ,بعد �أن فقد َ
لن ُي َ
طفئ ِغلها �سوى �سماعها بحكم الإعدام ,ال تريد �سوى الق�صا�ص.
ويف اللحظة التي ر�أت فيها ال ُعبو�س على وجه القا�ضي وك�أنه ُي�صارِع �شيئ ًا
ما بداخلهُ ,ي�صارِع �ضمريه ,ولكن ال ِحيلة له ,ال بد �أن يطبق القانون ,القانون
دمه عندما �سم َع ِت منطوق احلكم .
الذي �أهدرت «جليلة» َ
�سنوات ..واحد ٌة منها �سيق�ضيانها يف امل�ؤ�س�سة العقابية حتى ُيـتما
ٍ ع�شر
الثامنة ع�شرة ثم يت ُّم ترحيلهما لل�سجن لتم�ضي ِة بقية املُدة َ
هناك.
لو ٌح من ال َّثلج انزلق عرب عمودها الفقري وهي تراهما ينظران �إىل ِ
بع�ضهما
بارتياح ,ولو ع ِلموا �أن �أنفا�سهم َ
تلك ٍ ووجوم ,و�أ�سرتاهما تتنف�س
ٍ بربود
البع�ض ٍ
�ست�ؤجج الث�أر يف قلبها ،ل َكتَموا �أنفا�سهم جميع ًا ،ولكنهم كانوا يتوقعون ذلك
احلكم بل وينتظرونه ب�سعاد ٍة.
مل َلمت طرف حجابها الأ�سود ،وجرت قدميها حتى خرجت من �ساحة
ا َملحكمة لتجد «عا�صم» بانتظارها يف اخلارج ,تبادال النظرات قبل �أن ترتكه
يف طريقها لل َّرحيل.
ورغم ًا عنها تع َرثت قدمها الي�سرى يف طرف الدرج فكادت �أن ت�سقط,
تما�سك ٌة
�أو مل ت�سقط بعدُ� ،أم�سك هو بها من ِمرفقيها قبل �أن تفعل� ,إنها ُم ِ
ب�شكل يثري �إعجابه ,حتى وهي تنهار تكاد ُتعلمه كيف يقع بوقارٍ! ,طرف
�أمامه ٍ
ِو�شاحها الذي كان ُيغطي ُعنقها ُك ِ�شف على �إثر ِ
ترنحها ,ولأول مر ٍة يرى
حل َّلي َّ
ال�ضخم بالن�سبة ل�سيد ٍة يف عمرهاُ ,حلي غريب عبارة «عا�صم» َ
ذلك ا ُ
مرات لطولها.
عن �سل�سل ٍة حديدي ٍة رفيع ٍة وطويل ٍة ,تلفها حول ِجيدها ثالث ٍ
تعجب «عا�صم» ,كيف تتحمل وزنها حول رقب ِتها ؟! ,اعتدلت «جليلة» يف
وقف ِتها ،فتنحنح «عا�صم» وهو يرتك ِمرفقيها باحث ًا عن كلم ٍة يوا�سيها بها:
�أرجو �أن تتما�سكي يا حاجة «جليلة» ..حاويل �أن تن�شغلي ببع�ض
الأعمال اخلريية مث ًال ..بد ًال من الهم والبكاء.
نظرت له بقو ٍة جتابهه ،و�ألقت يف وجهه ُجملتها الأخرية قبل �أن تن�صرف
تارك ًة �إياه يف حالة فو�ضى:
ُحرقة القلب تقتل دموع العني يا ولدي ..و�أنا امر�أة �صعيدية ..البكاء
يف حقي مذلة ..ال�شرف يف ُعر ِفنا لي�س له ثمن ..فما َ
بالك بالقتل ؟!.
تركها «عا�صم» وا�ستدار ُيو ِليها ظه َره؛ ليهبط الدرج اخلارجي للمحكمة،
ما جعله ُيخرج هاتفه النقال فاج ٌئ بالقلق على ولدهَّ ِ ،
وهو ينتابه �شعو ٌر ُم ِ
ويقوم مبحادثة زوجته التي مل ت ُعد تتعجب من اهتمامه الغريب واملُتكرر على
مرات يومي ًا فقط لي�س�أل �أين هو
ال�صبي� ,إنه يتحدث �إليها �أكرث من خم�س ٍ
الولد الآن ؟ ,ويفتعل معها م�شاجر ًة لو ذهب �إىل �أي ٍ
مكان خارج املنزل وحده
دون �أن تكون هي م َعه .
�سبب ما لقل ِقه املُتزايد ,حتى نفدت �أ�سبابه،
يف كل مر ٍة كان يقوم باخرتاع ٍ
ف�صح لها عن حقيقة خماوفه: ُ
وا�ضطر �أن ُي ِ
خلطف التي يتم حتريرها يوم َّي ًا
هل تعلم َني عدد حما�ضر االختفاء وا َ
أطفال يف ُعمر ابننا تقريب ًا ! ..الأمر زاد عن حده..
؟ ..ومعظمها ل ٍ
لطلب
و�أ�صبح كالنار يف اله�شيم ..يف املا�ضي كانوا يختطفون الأطفال ِ
ِفدية� ..أما الآن فاملفقود مقتول ال حمالة ..جتارة �أع�ضاء ..ت�سول..
ببالك.
اغت�صاب� ..أي �شيء يخطر ِ
يومها جل�ست زوجته بجواره ،وعيناها مت�سعتان بده�ش ٍة وهي ت�ستند �إىل
ك ِتفه:
أنت �ضابط �شرطةَ ..من يجر�ؤُ �أن مي�س ابنك ب�سوء ؟!!.
ولكن � َ
نف�سه باحلقيقة املُرة ,الطوفان �س�ؤا ُلها هزه من الداخل ٍ
بعنف وجعله يواجه َ
عندما ي�أتي يكت�سح الأخ�ضر والياب�س.
والفو�ضى ال ُتفرق بني ابن ال�ضابط وغريه..
الفو�ضى َت ُعم اجلميعَ ,من �صفقوا لهاَ ،ومن وقفوا مبواجه ِتها ..الكل
خ�سران ,والكل ُم�ستبا ٌح.
وقبل �أن ُينهي املكاملة الهاتفية بعد �أن اطم�أن لوجود ال�صغري باملنزل,
طوات �سريع ٍة ُمتعجل ٍة.
بخ ٍ ا�ستوق َفه نداء �أحدهم وهو قاد ٌم نحوه ُ
بتفح ٍ�ص اعتاده،
�أغلق «عا�صم» الهاتف ،وا�ستدار ينظر نحو القادم ُّ
ويدُه يف طريقها نحو جيب قمي�صه الذي يحتفظ بداخله ب ُعلبة ِلفافات التبغ
خا�صته ,والقلق الذي �صاح َبه �أثناء حتدثه مع زوجته ال يزال تارك ًا �آثاره على
وجهه العاب�س .
�سرع نحوه حام ًال رج ٌل مد ُّ
ين الهيئة يبدو يف �أواخر الع�شرين َّيات من عمرهُ ,ي ِ
ر�ص َملف ًا ُمتو�سط احلجم كثاف ًة� ،أوراقه ال ب�أ�س بها« ,عا�صم» كالعادة بح ٍِ
ُيارِ�س ُلعبة التخمني على كل َمن يتعامل معه دون �سابق معرف ٍةَ ,
وعندما توقف
�صحفي يريد
ُّ الرجل �أمامه ومد يده؛ لـ ُيعرف بنف�سه ,متتم «عا�صم» بداخ ِله:
خرب ًا �ساخن ًا عن الق�ضية ,ولكن الرجل قال �سريع ًا:
�أنا «حممود عبد العزيز».
رفع «عا�صم» حاجبيه ُمتعجب ًا ،بينما �أفلتت منه �ضحك ٌة غري مق�صود ٍة ثم
ميد كفه؛ ل ُي�صافحه �ساخر ًا:
توقعتُ �أن تكون �صحف َّي ًا ..ولكن مل يخطر على بايل �أنك ُمثل.
ر�سم «حممود» ابت�سام ًة �سريع ًة على وجهِ ه ,هذه لي�ست �أول مر ٍة ي�ضحك
النا�س فيها عندما يقدم نف�سه لهم ,لقد اعتاد على هذه ال�سماجة كثري ًا خالل
رحلة عمله.
يا فندم �أنا «حممود عبدالعزيز �صربي» ..باحث �أكادميي.
وح�ضرتك باحث عن �إيه يا �أ�ستاذ «حممود عبد العزيز» ..الكيف؟!
قالها «عا�صم» وزادت وترية ارتفاع �ضحكا ِته حتى جذب الأنظار �إليهما،
نف�سه بد�أ ي�شعر َ
باحل َرج من ت�صرفه ومدى وتوقف البع�ض ينظر با�ستياءٍ ,هو ُ
تناق�ضه مع احلالة النف�سية املُت�أزمة التي خرج بها منذ ٍ
قليل من قاعة املحكمة
وحديثه مع ال�سيدة «جليلة».
�شديد يف
رج ٍ �أما على اجلانب الآخر فقد م�سح «حممود» َعرق ًا وهمي ًا َ
بح ٍ
انتظار هدوء «عا�صم» الذي يبدو كمختل عقلي ًا ي�ضحك كاملجانني ثم يهد�أ يف
مالحمه.
ِ َ
واختلط ِت امل�شاعر املُتنا ِق�ضة فوق حلظات
ٍ
�أنا �آ�سف يا «حممود» ..اعذرين؛ ف�أنا يف حالة ِمزاجية �صعبة..
تف�ضل ..ماذا تريد؟.
�أنا ُمدر�س علم نف�س يف �إحدى املدار�س الثانوية ..ويف الوقت نف�سه
باحث �أكادميي يف �إدمان املواد الإباحية ..و�أرغب مب�ساعدة ب�سيطة من
�سيادتك يف بع�ض التفا�صيل ال�صغرية املهمة.
وتنحنح وهو
َ عقد «عا�صم» ذراعيه فوق �صدره ،وقد ن�سي �أن ُي�ش ِعل ِلفافته،
اجلدية:
يدعي ِ
لن �أُ َ
فيدك للأ�سف ..فلقد توقفت عن م�شاهدتها منذ �سنوات!.
ملح «حممود» ال�سخرية ُمدد ًا يف حديثه ،لكنه تغا�ضى عن هذا �أي�ض ًا ..وما
اجلديد؟! ,يجب �أن يقول ما لديه دفع ًة واحد ًة؛ فالرجل ال يبدو طبيعيا �أبد ًا:
لقد قر�أت كغريي عن اعرتافات ا ُ
جلناة يف ق�ضية قتل الطفل ال�صغري
واغت�صابه ..والتي كان احلكم فيها منذ قليل ..وما قالوه �سيفيد يف
َ
م�ساعدتك يف معرفة اعرتافاتهما درا�ستي و�أبحاثي ..لذلك �أريد
الكاملة.
-بطاقتك.
نطق بها «عا�صم» على الفور وهو مي ُّد َيده له بطريق ٍة � ِآمر ٍة ذ َّك َرت «حممود»
الطريقة ونف�س الإ�شارة الطريق الذي تعامل معه بنف�س َّ ب�ضابط الكمني على َّ
خ�صك « ,ن�سخ ٌة ُمكرر ٌة لطريق ٍة فوقي ٍة يف احلديث �إال �أنه زاد عليها كلمة « ُر َ
وك�أنها ماد ٌة قاموا بدرا�ستها يف الكلية ،وجنحوا فيها جميع ًا بدرجة امتيازٍ .
قلب «عا�صم» بطاقة ال ُهوية بني �سبابته و�إبهامه وهو ُيحرك ر�أ�سه ،ومد يده
بها يعيدها �إليه بنرب ٍة مت�شكك ٍة:
وما عالقة مهنتك الأ�سا�سية باملواد الإباحية؟!.
�إن كان ُمكن ًا ..فهل ت�سمح يل بن�صف �ساعة من وقتك؟.
�أوم�أ «عا�صم» بر�أ�سه وهو يتحرك هبوط ًا للدرجتني ،ثم ي�سار ًا نحو �سيارته
هناك ُم�شري ًا �إليه ب�أن يتبعه قائ ًال َ
ب�ص َل ٍف: املر�صوفة َ
�أتعلم؟ ..رمبا لو كنت جئتني يف ظروف �أخرى ..لكنتُ ت�صرفت معك
أحد
ب�شكل خمتلف � ..أما اليوم ف�أنا يف حاجة للتحدث مع �أحدهم � ..أيِّ � ٍ
..بخالف زوجتى.
y
ا�صطحبه «عا�صم» يف �سيارته وذهب به �إىل نادي �ضباط ال�شرطة املُطل
واجه للطاولةوهناك رمى بج�سده حرفي ًا فوق ا َملقعد املُ ِ
َ على كورني�ش النيل,
املُ�ستديرة الكائنة �أ�سفل ِمظلة كبرية ج َّد ًا تتو�سط جمموع ًة من الطاوالت
ذات املفار�ش احلمراء ,جميعها خالي ٌة يف مثل هذا الوقت من اليوم ,و�أ�شار
وحذرٍ ،وهو ي�شاهد رفيق طاولته جذب «حممود» ا َملقعد بهدوءٍ َ�إليه باجللو�سَ ,
�صمت قط َعه فج�أ ًة وهو
وا�ضح يف ٍ ٍ ي�ضغط جانبي ر�أ�سه ب�أ�صابع كفيه ب�إرهاقٍ
ي�س�أله:
�شاي �أم قهوة؟.
لل�س�ؤال ،فقال على الفور بتوت ٍُّر وقد وقع اختياره على
انتبه «حممود» ُّ
م�شروبه املُ َّ
ف�ضل:
�شاي.
�سرع ًا فطلب منه �أن يح�ضر فنجانني �أ�شار «عا�صم» �إىل النادل الذي جاء ُم ِ
قليل كان «حممود» يبتلع القهوة ابتالع ًا؛ ل ُينه َيهامن القهوة ب�سكر زياد ٍة ,وبعد ٍ
دون �أن يتذوقها كما يفعل مع الدواء متام ًا ُمرا ِقب ًا اجلال�س �أمامه يرت�شف من
وا�ضح حتى ق�ضى عليها متام ًا ,بينما ِلفافة التبغ املُ�شت ِعلة بني
با�ستمتاع ٍ
ٍ قهوته
برفق وك�أمنا ُيقب ُلها بني الفينة والأخرى.
�أ�صابعه يتعامل معها ٍ
�أنا �أ�ستم ُع �إليك.
اعتدل «حممود» يف ِج ْل�س ِته ،وقد قام بتنظيم �أفكاره �أثناء اجلل�سة العائلية
التي جمعت «عا�صم» مع ِلفافته وقهو ِته ,وقال بهدوءٍ �شارح ًا من البداية:
عام تقريب ًا ..عندما جاءين ابن �أختي ذو ال�سنوات البداية كانت منذ ٍ
ال�سبع ي�س�أ ُلني :ملاذا يفعل �سوبر مان �أ�شياء «قليلة الأدبـ«؟ �ألي�س
بط ًالَ ..
والبطل ال يقوم ب�أ�شياء م�شينة؟! ..تعجبتُ و�س�ألتُه :ماذا يعني َ
ب�أ�شياء «قليلة الأدبـ« على ح�سب قوله؟ ..فحكى يل مقاطع فيديو ر�آها
أفزعني
على �أحد مواقع الفيديوهات على �شبكة الإنرتنت ..ما قاله � َ
حرف َّي ًا ..وعندما بد�أتُ �أتتبع ا َملو ِقع الذي كان يحفظ ا�سمه عن َظهر
قلب وجدتُ ماهو �أكرث بكثري مما حكاه يل ..ومن هنا كانت بداية
تعريف �إىل هذا العامل ال َق ِذر واملواد التي يجذبون بها الأطفال �إليهم.
ماذا؟! ,وهل كان ينق�صه �أفالم الكرتون �أي�ض ًا� ,أال يكفي خوفه على ولده
وال�سرقة حتى يخرج �إليه نو ٌع �آخر من اخلوف؟ ,هل �سيحا�ص ُره
من االختطاف ِ
يف املنزل �أي�ض ًا؟!.
مال �إىل الأمام قلي ًال وك�أنه َ
ب�صدد التحقيق معه وقال وهو ُي�ضيق ما بني َ
حاجبيه:
�أال ت�شعر �أنك تبالغ قلي ًال؟!
ليتَني كنتُ كذلك يا عا�صم بيه.
عاد «عا�صم» للخلف؛ لي�ستند ُمدد ًا �إىل ظهر ِ
مقعده ،وي�شري له ب�أن يتابع
فقال «حممود» على الفور م�ستطرد ًا:
بالطبع �أبلغت �أختي مبا حدث ..و ُقمنا مبا ُ
يجب علينا فعله ُتاه ُمراقبة
احلا�سوب الذي يجل�س الطفل �أمامه ومنع تلك املواقع .
وت�صورتُ �أن دوري انتهى عند هذا احلد ..حتى جاء اليوم الذي الحظت
فيه بع�ض الطالب يف زاوية من فناء املدر�سة يجتمعون ويدخلون دورة املياه
�سو َّي ًا� ..ساو َرين ال�شك فيما يفعلون فتتبعتُهم خفية �إىل هناك ..و�شاهد ُتهم
م�سك بهاتفه النقال ويعر�ض عليه َمقطع ًا �إباح َّي ًا ..وهم
يلتفون حول �أحدهم املُ ِ
العال من حولهم ..حينها علمتُ �أنني ُمغيبون متام ًا عن وجودي ..بل عن َ
أعاجلهم �أي�ض ًا..
ال يجب �أن �أد ِّر�سهم منهج علم النف�س فقط ..بل يجب �أن � َ
ب�شكل �أو ب�آخر عن �إيقاف هذه ا َملهزلة ..وبنف�س فكرة و�شعرتُ ب�أنني م�س�ؤول ٍ
جمموعات عالجي ٍة ..وكل ٍ جمموعات التقوية للمواد الدرا�سية ..قمتُ بعمل
تلك املقاطع، قبل �إدمانه وبعدها يف م�شاهدة َ منهم بد�أ يحكي يل عن حياته َ
تخيل � ..أن الأمر تطرق لديهم �إىل التل�ص�ص والنظر للمحارم ..الأم �أو الأخت
يا عا�صم بيه!..
ؤنب نف�سه� ,إنه
للحظات ي� ُ
ٍ ب�ضيق مرار ًا ثم � َ
أم�سك بجبي ِنه تن َّف�س «عا�صم» ٍ
خط�ؤُه هو ,ملاذا �س�أله عن عالقة مهن ِته الأ�سا�سية كمدر�س علم ٍ
نف�س وق�صة
الباحث هذه؟ ,ما عالقته هو بكل هذا؟� ,أراد ب�شد ٍة �أن ينه�ض ويعنفه ثم يرتكه
متح�ضر حتى ال ُيقال� :إن ال�شرطة
ٍ وين�صرف ،ولكنه �آثر �أن ُينهي املُقابلة ٍ
ب�شكل
صرب وهو ي�ستعد للنهو�ض. عالقتها �سيئ ٌة مع ال�شعب! .فقال بنفاد � ٍ
أنت عظيم يا �أ�ستاذ «حممود» ..و�أعتقد �أنَّ هناك ق�ضية
ن َعم ..ن َعمَ � ..
مت رفعها ملنع املواقع الإباحية ..ومت احلكم فيها َ
باحلجب ،وانت َهت
احلكاية.
هذا احلكم على ورق �سوليفان يا عا�صم بيه ..مل يتم التنفيذ حتى
الآن ..احلكومة تقول� :إنَّ �سرعة الإنرتنت ال ت�سمح!!
مل ي�ستطع «عا�صم» �أن ي�ستكمل هذا احلوار �أكرث من هذا ,هذه �أمو ٌر
وجد �ضر ٌر عليه,
يخ�صه ،وال ُي َ
وتخ�ص �شبكات االت�صاالت ,الأمر ال ُّ
ُّ ق�ضائي ٌة
ابنه ال زال �صغري ًا ,و�سيذهب فور ًا؛ ليقوم بتحميل �أحد الربامج احلاجبة؛
ال�صداع ،نه�ض بالفعل وهو ُيظهر ُ
تعاط َفه الكامل مع ليح َم َيه وينتهي هذا ُّ
جمهود «حممود» يف عر�ض ق�ضيته وقال بجدي ٍة:
�أنا ل�ستُ اجلهة ا َملعنية بالأمر يا �أ�ستاذ حممود ..ولكن بالطبع جمهودك
رائع ج َّد ًا ..وت�ستحق الإ�شادة وال�شكر ..وعرفان ًا م ِّني مبجهودك هذا
�س�أجهز لك تقرير ًا بكل ما تريد معرفته عن �أقوال ا ُ
جلناة يف الق�ضية
كما طلبت ..وغريها من الق�ضايا امل�شابهة �أي�ض ًا ..و�ستجده يف
انتظارك بعد غد على الأكرث يف مكتبي ..اتفقنا؟.
لي�صافحه وان�صرف على الفور دون �أن ي�سمح
َ قال كلمته الأخرية ومد يده
له بكلم ٍة �أخرى ,لقد اكتفى اليوم ,امل�صائب جتتمع فوق ر�أ�سه وهو لي�س حم ِّرر
العامل من الف�ساد ,ال ي�صلح لدور البطل اخلارق.
y
طويل ,ثم ق�ضى بقية �ساعات يومه يف وقت ٍ �أنهى «حممود» عمله منذ ٍ
وهناك حتى يعود �إىل منزله ُمت َعب ًا ،فريمتي فوق �سريره
َ م�شاوير وهمي ٍة هنا
ُمبا�شر ًة ,كان الوقت ُمت�أخر ًا جد ًا ،وقد هد� ِأت احلركة يف الطرقات من حوله،
وباتت ُخطواته م�سموع ًة له كما هي ذكرياته التي ت�شتعل يف تلك ال َّلحظة كل
يوم تقريب ًا.
ٍ
ن�صرمة التي ق�ضاها وحيد ًا ,وبالرغم من �أ َّنه يعلم متام ًاوبرغم ال�شهور املُ ِ
�أ َّنه هو َمن حكم على نف�سه بتلك ال َوحدة؛ �إال �أنه ال زال يعي�ش داخل ذكريا ِته,
حفز له على اال�ستمرار ,مثل يكره الفراق ولكنه ي�ستخدم تلك الذكريات ك ُم ٍ
ُعيدها َ
طريقك؛ لت ِ الوقود الذي يدفعه للأمام ويقول له :ا�ستم َّر ,ا�ستم َّر يف
� َ
إليك مرة �أخرى.
ا�ستجابت مالمح وجهِ ه لذكراها ال َع ِطرة فا�شتعل باحلنني مبجرد �أن
�صاح ٌب لظالم �شقته ،تلك الإ�ضاءة ال�ضعيفةدلف �إىل �شق ِته ,هدو ٌء قات ٌل ُم ِ
َ
ال�صادرة من ا َملمر الطويل الذي يفرق بني ُغرفة اال�ستقبال وغرفة ال َّنوم
مالب�سه �إىل منامته الزرقاء ال�سخيفة ،ثم �سيتجه
ِ الداخلية� ,سيقوم بتبديل
�إىل غرفة ابنته ال�صغرية ،لعله يجدها تنام ب�أح�ضان والدتها كما كان يف
املا�ضي ,حتت�ض ُنها بقو ٍة وك�أنها حتتمي بها� ,إال �أنَّ فراغ الغرفة منهما جعله
ُيطرق بر�أ�سه وين�صرف عائد ًا �إىل غرفته.
يف ما�ضيه القريب كان يرتك زوجتَه حتت�ضن ابنته ،بينما ين�سحب هو
يف ِخف ٍة على �أطراف �أ�صابعه حتى ال ُي َ
وقظهما ,ليت�سنى له احت�ضان حا�سوبه
املحمول دون مرا َقب ٍة من � ٍ
أحد.
متت�ص فيها �صحته
ُّ وهنا تبد�أ املُتعة احلقيق َّية ..متع ٌة مبتور ٌة يتيم ٌة لدقائقَ
وتوازنه واحرتامه لنف�سه ثم ُتلقي به وترميه �سريع ًا �إىل واقعه املرير ,وحيد ًا
بفرا�ش َ�س ِئم برودته.
ٍ منبوذ ًا
دلف �إىل �ش َّقته عاب�س ًا بحركاته االعتيادية وهو يقذف باملفاتيح على
طوات قليل ٍة كان يرمتيالطاولة املُرتفعة ال ُبـنية اللون واملجاورة للباب ,وبعد ُخ ٍ
واجهة للتلفاز ,ال �شهي َة لديه للطعام ،فقط يريد �أن ينام؛ على الأريكة املُ ِ
لي�ستكمل عمله �صباح الغد ,الذهاب �إىل املدر�سة ثم زيارة ابنته التي تعي�ش َ
عام تقريب ًا ,بعيد ًا عنه ,خوف ًا منهُ ,كره ًا له ,ال فرق بينهما
مع والد ِتها منذ ٍ
أ�شهر قليل ٍة ،وال بد
لديه ,امله ُّم الآن هو طريق ال�شفاء الذي ر�سمه لنف�سه منذ � ٍ
ي�ستعيدهما مر ًة �أخرى وي�ستعيد م َعهما احرتامه
َ �أن يُكمِ ل طريقه �إن �أراد �أن
لنف�سه.
َ
لي�ستهلك بع�ض الدقائق قبل مد َيده ب�إرهاقٍ �إىل جهاز التحكم عن ُب ٍعد؛
�ضغطات ع�شوائي ٍة �صادف
ٍ لي�شتت �أفكاره البائ�سة ,وبعد ِعدة
َ ذهابه �إىل النوم
كباحث �أكادميي يكر�س وقته
ٍ �إعاد ًة حللقة برنامج مت ا�ست�ضافته فيه منذ � ٍ
أيام
نت�شرة و�آثارها على املُجتمع وعالقتها باجلرائم.
ملحاربة الإباحية املُ ِ
هكذا كان املو�ضوع الذي تناو َلته احللقة ،وكانت تدور حوله النقا�شات,
ر�س ًال ر�سال ًة ق�صري ًة �إىل «فنار»
بحما�س ُمفاجئ ُم ِ
ٍ تناول هاتفه على الفور
زوجته ,كان ُمنت�شي ًا وهو يكتب كلماته القليلة �إليها ,كما كان بال�ضبط حني
�أخربها يف املرة الأوىل عن اللقاء؛ لت�شاهده ,ولكنها �أخربته بعد ذلك �أنها
كانت م�شغول ًة بالواجبات املنزلية البنتهما ون�سيت َم ِوعد احللقة ,ال ُي ِنكر �أنه
�أُ�صيب بالإحباط والفتور لبع�ض الوقت .
كالطفل الذي �أحرز هدف ًا يف �شبكة ا َ
خل�صم و�ص َّفق له اجلميع ،وعندما كان ِّ
التفت ُتاه املُدرجات وجد والدته نائم ًة �أو م�شغول ًة عنه.
َ
�أما «فنار» فلم تكن يف حاج ٍة �إىل ر�سالته ,فلقد كانت جال�س ًة بالفعل
�أمام ال ِتلفاز تتابع احللقة ..كما فع َلت يف املرة الأوىل ! ,ال تعلم ملاذا �أنكرت
م�شاهدتَها له �سابق ًا؟.
َ
تت�ضاعف كما فعل بها وبابنته, آالمه �أن
رمبا ال زالت تعاقبه ,ال زالت تريد ل ِ
عا ٌم كام ٌل تعاقبه ب�شتى الطرق ,بد�أتها بهجره �إىل منزل والدها ,ذلك املنزل
الذي يبعد عنه ب�شارعني فقط.
خل ْطبتها
فقد كانت «فنار» وحيد َة والدها الذي �أ�ص َّر عندما تق َّدم «حممود» ِ
على �أن ي�ؤجر �شقة الزوجية يف مكان ُماور له لتكون بجانبه دوم ًا ,مل ُينجب
�سنوات مل تتجاوز
ٍ غريها وهي التي تبقت له بعد وفاة والدتها بعد �إجنابها بعدة
م�ض ٍ�ض ولكنه الآن �شاك ٌر جد ًا لوالدها على
الع�شر ,وقتها وافق «حممود» على َ
هذا ال�صنيع ,فهذا القرب هو ما ينفعه الآن للغاية ,ي�ستطيع �أن يرى ابنتَه كل
يوم تقريب ًا ,هي هجرته ،نعم ،ولكنها ال تزال قريب ًة منه.
ٍ
�شديد وك َمن تتابع احللقة وت�ستمع �إىل احلوار للمرة الأوىل.
وبرتكيز ٍ
ٍ
ا�ستندت �إىل الو�سادة �أ�سفل ِمرف ِقها ،وقر َبت ُكوب ال�شاي ال�ساخن من
فمِ ها ،بينما جهاز التح ُّكم عن ُب ٍعد ال زال يف ِيدها الأخرى ،وقد جمعت قدميها
�أ�سفل منها كما جمعت �شع َرها للأعلى َريثما هو ُيجيب �س� َؤال ُمقدم الربنامج
يف التلفاز قائ ًال:
ثالت تركن ِمهنة موقع مت افتتاحه عن طريق ُم ٍ هناك �أكرث من ٍ َ
ويحذرن رجى ال�شفاء منهاُ .. أمرا�ض ال ُي َ
إ�صابات و� ٍ
ٍ الإباحية ب�سبب �
النا�س من خطر الوقوع فيها ..وجميعهنَّ اتفقنَ يف حكاياتهنَّ
رعات من �أنهن جميع ًا ال يقمن بت�صوير تلك الأفالم �إال بعد َج ٍ
ذهب بعقولهن بعيد ًا عن الإح�سا�س الأدوية املُخدرة ال ب�أ�س بهاُ ،ت ِ
قنع مينح ت�أكيد ًا ب�شكل ُم ٍ
ٍ بالواقع حتى ي�ستطعنَ ت�أدية عملِهنَّ هذا
ا�ستمتاعهنَّ ال�شخ�صي مبا يقمنَ به ..هذا �أو ًال.. ِ لل ُم�شاهد على
وثانيـ ًا؛ لي�ستطعنَ ال�سيطرة على م�شاعر ال َقرف واال�شمئزاز وال َأل
الذي يعانينه �أثناء ت�صوير تلك الأو�ضاع ال�شاذة ،والأفعال التي تعار�ض
ال ِفطرة ال�سوية ..وبالرغم من كل هذه الأدوية �إال �أنهن يتوقفنَ كثري ًا
خرج العمل �أن يوقف الت�سجيل مر ًة تلو الأخرى ب�سبب �صارخات ُمب ِ
ٍ
حاالت ال َقيء والنزيف التى تعرتيهن �أثناء الت�صوير ..حتى �إن ا َمل�شهد
�ساعات طويل ٍة ورمبا ٍ خلم�س دقائقَ فقط يتم ت�صويره يفِ الذي يظهر
أيام.
فى � ٍ
ما و�ضعت «فنار» راحة كفها على َم ِعد ِتها وهي ت�شعر برغب ٍة يف التقي�ؤ ِ َّ
لتلك ت�ستط ْع ِفطرتها ال�سوية �أن تتحمل بالرغم من �أنها ت�ستمع َ ت�سمع ,مل ِ
الطاولة املعلومات للمرة الثانية ,تركت كوب ال�شاي من يدها وا�ضع ًة �إياه على َّ
املجاورة بجانب الفرا�ش ,فهي ال تزال على عاد ِتها بو�ضع التلفاز يف غرفة
معلومات ,بع�ضها اكت�س َبه عن ٍ يقول ُمقدم ًا ما لديه من
نومها ,وظلت ت�ستمع لِ ا ُ
ِ
طريق البحث ،و�أكرثه من خرباته ال�شخ�صية.
رمبا يتعجب املُ�شاهدون الآن من قويل :للأ�سف ِم ْ�صر هي الدولة
العال بحث ًا عن املقاطع الإباحية يف �شبكة الإنرتنت ورمبا
الثانية على َ
خلطف واالغت�صاب التي تنتهي هذا ُيف�سر لنا �سبب انت�شار جرائم ا َ
غالب ًا بقتل ال�ضحية والتي انت�ش َر ْت يف الآونة الأخرية ..
بل رمبا يف�سر ملاذا و�صل الأمر �إىل حد الإدمان؟ ..وال بد من حمارب ِته كما
تتم حماربة املُخدرات متام ًا ..ولكن للأ�سف ..حتى احلكم الذي �صدر ُي ِلزم ّ
تنفيذه ..وال نعلم �أ�سباب ًا ُمق ِنعة لهذا وال َمن له
الدولة مبنع هذه املواقع مل يتم ُ
ا َمل�صلحة يف عدم تنفيذ هذا احلكم؟..
ماذا ننتظر؟ ..لقد و�ص َل ِت الكارثة �إىل جرائم انتهاك املحارم� ..أب
يتحر�ش بابنته� ..أخ يعتدي على �أخته ..خال ُمغت�صب البن �أخته ..و�ص ْلنا �إىل
القا ِع للأ�سف ال�شديد ..وال �أحد يتحرك.
غامت عينا «فنار» يف تلك اللحظة وهي تتذكر اللحظة التي عا َد ْت فيها من
عم ِلها ،ووجدته نائم ًا ُمنك ِفئ ًا على وجهه فوق �سريرهما ،وابنتهما تلعب بجواره
بعرائ�سها على الأر�ض ،بينما حا�سوبه ا َملحمول مفتو ٌح ،ولكن �شا�شته ُمظ ِلم ٌة,
تغي �أحواله منذ وقتَها حاولت كثري ًا �أن متنع نف�سها من البحث خلفه ,ولكن ُّ
فرت ٍة مل يكن هين ًا �أو ب�سيط ًا ,يف البداية ظنت �أ َّنه يخونها ويتوا�صل مع امر�أ ٍة
يحب النوم وحده يف الغرفة لي ًال ,كم �أخرى عن طريق الإنرتنت ,فلقد �أ�صبح ُّ
يوقظها عندما يجدها نائم ًة يف غرفة ابنتهما؛ لتنتقل للنوم مر ٍة قالت له ب�أن َ
تق�ص عليها حكاية ما قبل النوم, �إىل جواره! ,فهي ت�أخذها ِ�سن ٌة من النوم وهي ُّ
ومرات.
ٍ مرات
ولكنه ال يفعل ,بل و ُيغ ِلق باب الغرفة من الداخل ٍ ..
الذهاب �إىل عم ِله �صباح ًا ،ويتحجج ب�أن جميع �صار يعتذر كثري ًا عن ِّ
ح�ص�صه يف املدر�سة باتت ُمت�أخر ًة بعد �أن كانت �صباحي ًة ,فكانت ترتكه وحيد ًا
ِ
يف ا َملنزل وت�أخذ ابنتها �إىل الرو�ضة قبل �أن تذهب �إىل مدر�س ِتها ,فهي �أي�ض ًا
ُمعلمة ولكن للغة العربية والرتبية الدينية يف مدر�س ٍة �أخرى غري التي يعمل هو
بها .
وعدها؛ لأن حرارتَها ُمرتفع ٌة قلي ًال
اليوم تركت له الطفلة يف رعايته كما َ
مرات
هناك ل�ساعتني فقط ،وعندما قامت باالت�صال به ٍ وذهبت لعملها ،ظلت َ
ان�صراف
ٍ كثري ًة؛ لتطمئنَّ على الطفلة ومل ُيجبهاُ ,ا�ضطرت �إىل طلب �إذن
والعودة �إىل البيت ..
وكانت ال�صدمة ..
ف�ضحه ِ�سجل الت�صفح! ,مل ُت�صدق عينيها يف البداية ،ظلت لفرت ٍة َ
م�صدوم ًة ال تَعي ما تراه عيناها ,حتى �إنها مل تخربه عما وجدته ,ولكنها بد�أت
تراق ُبه ويف كل مر ٍة تكت�شف �أنه مل يدخل �إىل هذه املواقع من َق ِبيل ال�صدفة ,مل
بانتظام يومي ًا ,يرتك
ٍ تكن فرتة مراهق ٍة مت�أخر ٍة مير بها وال�سالم� ,إنه يزورها
عمله لأج ِلها ,بل وبد�أت تالحظ �أنه ترك ال�صالة �أي�ض ًا.
ال�شاب املُهذب الذي تعرفه منذ مراهق ِتها
ُّ معقو ٌل ..هل هذا «حممود»؟ !,
�سنوات فقط.
ٍ والذي �أ�صبح زوجها منذ خم�س
�شده بالت�أكيد,العبث قريب ًا� ,سيعود �إىل ُر ِ
ال ..ال ..بال َت�أكيد �سينتهي من هذا ِ
و�صمتت ،ولكن الوقت م َّر ،والنـزوة مل تنت ِه ،والأمر تفاقم ,فلم جتد ُب َّد ًا من
املواجهةَ ,خ ِجل يف البداية واعتذر ووعدها بالتوقف ,ولكن مل يحدث ,مل
يتوقف ,زا َد ِت امل�شاجرات بينهما وتبادال االتهامات:
�أنت ُمقزز.
أنت غري كافية يل.
و� ِ
واحد ,وبد�أ يجد
�سقف ٍحتت ٍ و�أخري ًا �أظلهما �سقفان وافرتقا بعد �أن كانا َ
لنف�سه �أعذار ًا واهي ًة ,ملاذا هي ُمت�صلبة الر�أي ُمتحجرة التفكري هكذا ؟ ,ملاذا
يزهدها وحده؟ ,هو رج ٌل ,وهو ُم ِ
�سيط ٌر. ال ترتكه حتى َ
�أما هي ..فقد اختا َر ِت االبتعاد وال َهجر؛ ل ُيفيق ِما هو فيه ،وقالت له
�صوت لديها:
ب�أعلى ٍ
�س�أترك لك الغرفة و�أنام بجانب ابنتك� ..أمتنى �أن تنفعك هذه القذارة
وتغنيك عني للأبد.
يخ�ص �ش�ؤونهم املادية
يومها وهي تتجنبه وال تتحدث معه �سوى فيما ُّ ومن ِ
وجنَّ وثارت عوا�صفه ,ولكن مع الوقت بد�أ
فقط ,وهو قد ا�ستاء يف البداي ِة ,بل ُ
يعتاد فراقها ..وحا�سوبه ,ووحدته.
وكلما �أراد ُم�صاحلتَها و�إعادتها �إىل غرفتهما َك ِذب عليها و�أعلن توبتَه,
أيام تعود «فنار» وتكت�شف �أنه مل ْ
يفعل ,مل يرتك �إدمانه بعدُ ,فتهج ُره وبعد عدة � ٍ
وتبتعد ,وهكذا ا�ستمرت احلال على ما هى عليه.
وعلى املُت�ضرر التنازل �أو ال َك ِذب �أحيان ًا ,على ح�سب حاجته!.
حتى حد َث ِت الكارثة ,ا�ستيقظت فجر ليل ٍة ما على احلرارة ال�شديدة
ج�سد طفلتها ال�ساكنة بني ذراعيها ,الطفلة ترتع�ش وتنتف�ض وهي املُنبعثة من َ
ُت�سرع بها ُتاه حو�ض اال�ستحمام وتفتح املياه فوق ِ
ج�سدها ،ولكن الدقائق
لت�ستنجد به ,ال
َ متر ،واحلرارة ال ت�ستجيب ال للمياه وال للأدوية ,فهرو َلت نحوه؛
قريب ,طرقت باب غرفته حتى كادت تك�سره بد �أن يذهبا بها حا ًال لأي َم�شفى ٍ
ولكنه مل يفتح ..كان غارق ًا يف النوم بعد ليل ٍة طويل ٍة ق�ضاها مع حا�سوبه ،وقد
�أغلق الباب على نف�سه من الداخل كما اعتاد.
ودموعها ُت ِغرق
ِ الطفلة ت�شتعل بني �أح�ضانها،وقفت على بابه �ضائع ًة تائه ًةِّ ,
وحدها هي وج َهها خوف ًا عليها ,بينما رماها هو على طول ذراعه يف �صحراء َ
وابنته التي ال ي�ستحقها ,ن َعم ،ال ي�ستحقها وال ي�ستح ُّق �أن يكون زوج ًا وال �أب ًا بعد
اليوم.
ارتدت من مالب�سها ما وجدته �أمامها ،ولفت ابنتها ج ِّيد ًا بني َ
ذراعيها
قات فقط ..ومن وج َرت بها �إىل والدها الذي فتح لها الباب بعد ثالث َط ْر ٍ
ورف�ض ِت العودة معه رامي ًة يف
يومها مل تعد ,حتى بعد وفاة والدها ظلت يف بي ِته َ ِ
ين�سها �أبد ًا:
وجهه عبار ًة مل َ
مل ت ُعد م�صدر �أمان وال حماية لنا ..احلياة هنا �أو يف بيتك واحدة ..
كالهما �أعي�شها وحدي.
ومنذ ذاك اليوم وحيا ُتها مت�ضي مع ابنتها كما هي بروتيني ٍة �صماء� ,أدخ َل ِت
ابنتها يف ا َملرحلة التمهيدية يف نف�س املدر�سة التي تعمل بها ,تذهب وتعود معها
يومي ًا ,تتناوالن طعام الغذاءُ ،ثم جتل�سان يف ال�شرفة عند اخلام�سة م�سا ًء كما
اعتادت مع والدها حتت�سي ال�شاي ال�ساخن ب�أوراق النعناع ,والدها الذي ُك ِ�س َر
متا�سكها مبفارق ِته احليا َة بهدوءٍ كما عا�ش حياته كلها,
ِ �ضلع يف ج�سد�آخر ٍ
كامل عندما فقدت �سندها الرئي�سي ,ولكنها ل�شهر ٍ
جلدران فوق ر�أ�سها ٍ ما َل ِت ا ُ
ُا�ضطرت لل�سري يف طريقها والنهو�ض ُمدد ًا من كبو ِتها لأجل ابنتها ,تعمل
وتهت ُّم بها وحت ُّبها ,وال يه ُّمها َ
العال من بعد ذلك.
أيام قليل ٍة ما َل تكن تتوقعه ,عندما طرق «حممود» بابها حتى حدث ُ
منذ � ٍ
ذات م�ساءٍ وم َّر بجوارها �إىل الداخل وهو يحمل حا�سوبه املحمول بني يديه,
جل�س على �أحد مقاعد ال�صالة ال�صغرية وو�ضع احلا�سوب على الطاولة من
�أمامه قائ ًال ب�صراح ٍة ودون موارب ٍة :
لقد قمتُ منذ �أ�سابيع ب�إن�شاء �صفحة على الفي�سبوك لتوعية ال�شباب
من خطر الأفالم الإباحية ..ويف الوقت نف�سه �أقوم بجمع مقاالت
تر�شد الذين و�صلوا منهم �إىل حالة من الإدمان �إىل طريقة العالج..
ويف طريقي لعمل موقع خا�ص على الإنرتنت ي�ضم كل هذا ..ولكنني
�ضعيف يا «فنار» و�أحتاج �إىل م�ساعدتك.
قطبت حاجبيها وهي تناظره بريب ٍة وتدور بجانبه لتم َّر �إىل ا َملقعد املُ ِ
واجه
هم وتطلب ال�شرح له والذي تف�صل الطاولة بينهما ,وهي ُ
حترك ر� َأ�سها بعدم َف ٍ
�أكرث:
ال �أفهم ..ماذا تريد م ِّني؟.
رفع عينيه نحوها وقد بدا جدي ًا ِجد ًا فيما يقول:
لقد حاولتُ مر ًة بعد مرة �أن �أتوقف ولكن مل �أ ُف ِلح �أبد ًا� ..أتوقف لأَ َّيام ثم
�أعود من جديد ..فلم �أجد طريقة �أخرى غري �أن �أقوم ب�إلغاء ا�شرتاكي
بالإنرتنت يف منزلنا حتى �أقطع على نف�سي الطريق من الأ�سا�س
و�س�أظل هكذا حتى �أتوقف متام ًا و�أ�شعر بال�شفاء.
ال زالت �صامت ًة حتتمي بق�شر ِتها الباردة اخلارجية حتى ال تنفج َر فيه,
�إن كان يظن �أنها �ست�صدقه فهو واه ٌم ,فلي�ضع �صفحته تلك يف ميا ٍه وي�شربها
طويل.
وقت ٍ كامل ًة حتى �آخر نقط ٍة ,فلم ي ُعد ُّ
يخ�صها � ُّأي �شيءٍ له عالق ٌة به منذ ٍ
«فنار» ..لقد وجد ال�شباب بي مالذ ًا ل ُهم ..و�أنا ال �أريد �أن �أتر َكهم
ع�ضلة لن � ..أريد �أن �أتعا َفى م َعهم وبينهم و َقبلهم �أي�ض ًاَ ..
وتلك املُ ِ
ي�ساعدين يف حلها َ
غريك.
ِمن ف�ضلك قل ما عندك �سريع ًا ..ف�أنا �أريد �أن �أنام.
ب�س� ٍأم وهي تتملم ُل يف َمق َع ِدها وتنظر �إىل �ساعة احلائط ,فقال على
قالتها َ
الفور:
عندك ..وعندما ينتهي عملي يف املدر�سة �س�آتي
�أريد �أن يبقى حا�سوبي ِ
�إىل هنا ل�ساعتني ف َقط يوم َّي ًا� ..أبا�شر عملي على �شبكات التوا�صل
عينيك ..وعندما �أنتهي �س�أذهب على الفور.
ِ و�أعمل على �أبحاثي �أمام
وقبل �أن تهتف ُمع ِرت�ض ًة قاط َعها على الفور وهو يرفع ك َّفه مفتوح ًة
ي�ستوقفها:
لن ت�شعري بي �أبد ًا ..و�ستكون فر�صة لأتقرب من ابنتنا و�أراها يوم َّي ًا
فت�شعر هي ب�أن احلياة بيننا عا َدت كما كانت ..وبالت�أكيد �سي�ؤثر هذا
لك � َّأي �إزعاج ..اختاري الوقت الذي على حالتها النف�سية ..لن �أ�سبب ِ
ينا�سبك.
ِ
راق َبها وهي تفرك كفيها يف ِحجرها ،وبني حاجبيها ي�ضيق �أكرث ف�أكرث ،هي
احل ْية والتفكري وت�صارع بني موجات الرف�ض واملُوافقة وعدم الفهم
تعاين من َ
َ
فعاجلها بالقول احلا�سم: جلهاكامل� ,شعر بكل ما يخا ُ
ب�شكل ٍ
للأمر ٍ
لك دور عظيم يف �شفاء الكثري من ال�شباب والفتيات
�إن وافقت ف�سيكون ِ
أنت تعلمني َكم هي �سيئة و�أمارة
..و�أولهم �أنا .ال ترتكيني لنف�سي ..ف� ِ
ابنتك ..وتريدين �أن تفخر بي عندما
بال�سوء! ..ف�أنا يف النهاية والد ِ
ألي�س كذلك؟.
تكبَ � .. ُ
مل ت�ستطع «فنار» الرف�ض ,وافقت ُمتجهمة الوجه ,وعلى �شرط �أال يتحدث
ليمار�س عمله ل�ساعتني ويجال�س ابنته قلي ًال ثم
َ معها على الإطالق ,ي�أتي فقط
بوعده ,ومع الوقتين�صرف يف هدوءٍ ,وهو وافق على �شروطها جميع ًا وو َّفى ِ
أثبت لها �أنها قد �أ�صابت مبوافق ِتها ,فلقد عاد الأمر بالنفع على ابنتها التي
� َ
حت�سنت �أمورها كثري ًا ،و�أ�صبحت متعلق ًة بوالدها وزاد تركيزها يف ت�أدية
واجباتها املنزلية �أكرث.
موقع
بعيد ,تعرف كل ٍ ومن ناحي ٍة �أخرى �أر�ضت ف�ضولها وباتت تراقبه من ٍ
يدخل �إليه بل وت�شارك �أي�ض ًا بر�أيها يف �أبحاثه وطرق ال ِعالج� ,إال �أنها ال زالت
ت�شعر �أنه ال بد �أن ُيعا َقب ,ال زالت �أنوثتها مغدور ًا بها ,ما تزال ت�شعر بنف�س
ال�ضياع الذي �شعرت به وهي تقف باكي ًة على باب غرفته ,لقد �سحق �أنوثتَها
وثقتَها بنف�سها �سابق ًا ،فلم ُي ِبق لديها ما حت ُّبه به!.
y
تناق�ضت حركته اخلافتة وهو َيد ِلف �إىل ال�شقة مع �صوت التلفاز املُرت ِفع
وي�ضطرب قلي ًال ،فنحن غالب ًا ما منيل �إىل حتقيق
َّ برتكيز
ٍ جعله يقطب جبي َنه
توقعا ِتنا ُتاه الآخرين مهما كانت ُ ِ
ملة لو اعتدنا عليها وتعاي�شنا معها.
وجدها تقف �أمام التلفاز بتح ُّف ٍز عاقد ًة ذراعيها �أمامه عاقد ًة حاجبيها
ب�شكل ُمبا َل ٍغ فيه وهي تتابع �أحد الربامج احلوارية املُعادة� ,ألقت عليه نظر ًة
ٍ
ناري ًة ،وعادت للمتا َبعة ُمدد ًا.
ت�أم َلها «عا�صم» وهو يقرتب منها بابت�سام ٍة ترت�سم بتلقائي ٍة فور �أن يراها
تلتف حولها بينما تقف هكذا جمنون ًة ,ثائر ًة ,عنيد ًة� ,أخطر �أعا�صري العامل ُّ
ال�صهباء غا�ضب ٌة ,فال َويل له. هي ثابت ٌة َّ
كال�ساحرات ,حبيبته َّ
تعال وا�سمع� ..أ ْمل �أقل َ
لك� :إ َّنهم ي�سخرون من حتقيقي عا�صمَ ..
ال�صحفي ويتهمونني باملُبالغة وحماولة �إ�شعال الفنت!.
كانت ت�شري بكلتا يديها كعادتها وهي تهتف ب َنزَ قٍ ,بينما طفلهما «عمرو«
الذي مل يتجاوز التا�سعة يتقافز من خلفها فوق الأريكة ،وهو يلهو ب ُلعبة املُ�سد�س
بحما�س:
ٍ خا�صته هاتف ًا
�س�أُلقي القب�ض عليهم جميع ًا يا �أمي ..ال تغ�ضبي.
زفر «عا�صم» رافع ًا ر�أ�سه للأعلى عاب�س ًا ُمتم ِتم ًا بنرب ٍة ُمنخف�ض ٍة كي ال
ت�سمعه:
رحمتك يارب.
داعب ًا قلي ًال قبل
�أنهى جملته االعرتا�ضية وتقدم ل�صغريه يحمله ويقبله ُم ِ
بحذرٍ ,فهي يف حال ٍة ُمتفجر ٍةَ � ,
أم�سك بكلتا �أن يلتفت نحوها ُمق ِرتب ًا منها َ
ِمرفقيها و�أدارها �إليه ب ُبطءٍ قائ ًال بنفاقٍ :
حبيبتي� ..إ َّنهم �أعداء النجاح ..وال�شجرة املُثمِ رة دائما ما ُتـقذف
باحلجارة.
ابتعدت ُخطو ًة للخلف وقد ِ
ملحت الرياء يف حديثه ,نف�ضت يديه وهي تهم�س
بنرب ٍة ُمهدد ٍة:
ال ت�ستفزين يا عا�صم � ..أنا �أعلم �أ َّنك ال تراين ُمثمِ رة ..بل ال تراين
�شجرة من الأ�سا�س.
جاهد ليبتلع �ضحكته وهو يقرتب منها ُمدد ًا ما َّد ًا �أ�صابعه؛ ليتلم�س
�شعرها كما يفعل دوم ًا؛ ُليهدئها:
معك؛ ال�ستكمال هذا التحقيق علمت الآن ملاذا رف�ضت التعاون ِ هل ِ
فعلت ..القانون هو القانون
لك �أحد مهما ِ ال�صحفي؟ ..لن ي�ستجيب ِ
لك كثري ًا:
ولن يتغري ب�سبب عدة حوادث ُمت�شابهة ..حبيبتي ،لقد قلتُ ِ
أيك �أن تعودي للكتابة يف ق�سم
مثلك ..ما ر� ِ
هذه املهنة ال تليق برقيق ٍة ِ
�أخبار الفن� ..أو حتى يف باب م�شاكل النا�س؟.
نظرت �إليه م�صدوم ًة ,هل يراها فا�شل ًة �إىل هذا احلد ؟! ,بد ًال من �أن يقف
بجوارها ويدعمها �ضدهم ي�ؤكد �أ َّنها ال ت�صلح ،وعليها الهرب �إىل ٍ
ق�سم �آخر!,
ما الفرق بينه �إذن وبني زميلها يف املجلة الذي ي�سخر منها ِجيئ ًة وذهاب ًا,
لتكت�سب
َ ويدعي �أنها تقوم بفربكة حتقيقاتها ال�صحفية يف اجلرائم ال�شائكة؛
ُ�شهر ًة ال ت�ستح ُّقها ,وي�شكوها كل يوم تقريب ًا �إىل رئي�س التحرير ُم�ؤكد ًا �أنها ال
ت�صلح �سوى لأخبار املو�ضة فقط ؟.
�س�أُح�ضر لك الع�شاء.
أفف وقد
بربود وهي ت�ستدير بقو ٍة؛ لتُوليه ظهرها فناداها بت� ٍ
هم�ست بها ٍ
�أيقن �أنه و�ضع ال ِق ْدر على النار بكلماته الأخرية:
�أروى.
توقف ك�أنها ُ�صدمت بجدا ٍر فج�أ ًة ،فقال بع�صبية:
-تناولتُ الع�شاء يف الق�سم.
حا�صل لي�س
ٍ وع ْر ُ�ضها مل يكن �سوى حت�صيل يف كل الأحوال كانت تعرفَ ,
واجب بد ًال من �أن يزداد املوقف �سخون ًة �أكرث �أمام الطفل,
�أكرث ,جمرد ت�أدي ِة ٍ
فغريت اجتاهها على الفور نحو غرفة النوم تارك ًة له ال�صالة والطفل و�صوت
التلفاز وكل ما يزيد من �إرهاقه �أكرث.
ظل «عا�صم» ُي�شي ُعها بعينيه حتى اختفت متام ًا يف املمر الداخلي� ,أطرق
يدخل؛ ليطمئن عليها ويف نف�س الوقت ال ونف�سه ُتدثه ب�أن َ
للحظات ُ
ٍ بر�أ�سه
ومهاترات لن ُتـثـمِ ر بفائد ٍة معها ,زوجته «�أنثى
ٍ م�شاحنات
ٍ يريد الدخول يف
وهناك َمن ي�شكك بعم ِلها ,ولكن ماذا يفعل؟ ,ماذا َ املاعز العنيد» لن تهد�أ
بيده؟ ,هل يفعل كما قال ولده و ُيلقي القب�ض عليهم جميع ًا؟.
ابت�سم لأفكاره ب�إرهاقٍ وهو يتابع طف َله يختبئ من ل�ص وهمي ثم ُيطلق
بتعب ,وهو يتناول جهاز
�صا�صات وهمية عليه� ,ألقى بنف�سه �إىل الأريكة ٍ
ٍ َر
التَّحكم عن ُب ٍعد ويقوم بتغيري القناة.
الاا « ..حممود عبد العزيز» ُمدد ًا ..هذا ما كان ينق�صني.
كان «حممود» يف تلك اللحظة يتابع مناق�شا ِته مع ُمقدم الربنامج الذي
كان ي�س�أله عن �أعرا�ض �إدمان هذه املواد الإباحية ،بينما «حممود» ي�ؤكد له �أنه
ل�ساعات
ٍ �إدمان حقيقي ،وتت�صاعد وتريته كلما �شاهد ال�شخ�ص هذه املقاطع
طويل ٍة ،وانعزل �أكرث و�أ�صبح انطوائي ًا مع الوقت ,ويبد�أ يف طلب الزيادة فيبحث
عن املقاطع الأكرث �شذوذ ًا و� َأل ًا؛ لينتع�ش �أكرث ،ثم يبد�أ يف التفكري يف تنفيذها
طفل �أو طفل ٍة,
على �أر�ض الواقع �سوا ًء مع زوجته �أو �أيِّ فتا ٍة �أخرى� ,أو حتى مع ٍ
�سوا ًء بر�ضاهم �أو رغم ًا عنهم.
رفع «عا�صم» ر�أ�سه يح ِّر ُكها ،وع�ضالت ُعـ ُن ِقه تت�ص َّلب و ُت�ؤلِ ه ،وهو ينظر
�إىل ال�شا�شة ,وق�ضية ال�سيدة «جليلة» تخطر على ذهنه بح�ضور طا ٍغ و�صور
طفلها الذي ُق ِتل لنف�س ال�سبب ترتاءى �أمام عي َنيه ,والق�ضايا الأخرى التي
كث ْت تلك اجلرائم, تدور يف نف�س ال َف َل ِك ,هل هذه �إجابة �أ�سئلته؟ ,ملاذا ُ
اخلطف واالغت�صاب امل�ؤدي �إىل القتل؟.
مرت تلك الق�ضايا ِتباع ًا �أمام ناظريه يف تلك اللحظة ,هذه الأم املفجوعة
ولدها ,وهذا الأب الذي انتهك ابنته ,الت�ضارب بني �شهادات الطب ال�شرعي يف ِ
واملُ�ست�شفيات والعيادات اخلا�صة ,الأول ينفي ،والآخرون ي�ؤكدون ..حكم
ا َملحكمة مبنع تلك املواقع وعدم �إمكانية التنفيذ ل ٍ
أ�سباب واهي ٍة غري مدرو�س ٍة,
هل هناك ُم�ستفي ٌد ما؛ لتظ َّل هذه الدائرة املُظ ِلمة م�ستمرة احلدوث كل يوم؟!.
أيقظته من متاوج �أفكاره ُ
وتناط ِحها, ُقبل ٌة رقيق ٌة ُطب َعت على وجنته فج�أ ًة � َ
التفت بقلبه قبل عينيه ُتاه قطعة قلبه «عمرو« الذي قال ب�صوته الطفويل: َ
تعال َون بجواري الليلة.
باباَ ..
جذبه «عا�صم» نحو �صدره وهو يقبله بخ�شون ٍة يف رقب ِته يدغدغه بذق ِنه
العب ًا:
النامية حديث ًا وهو يهتف به ُم ِ
َ
�سريرك �صغري للغاية مثلك� ..ستنام بجواري اليوم يف غرفتي ..لو
�أ�صرت «�أُنثى املاعز العنيدة» على ِخ�صامي اليوم.
�أنثى املاعز ؟!.
مرتفع ،فكتم «عا�صم» ف َمه وهو ينظر نحو املم ِّر
ٍ ب�صوت
ٍ ك َّررها ِّ
الطفل
بتحذير:
ٍ الذي اخت َف ْت «�أروى» بداخله هام�س ًا
�ش�ش�ش�ش�ش ..اخف�ض �صوتك.
وهم�س ب ُل� ٍؤم:
ناظ َره طفله بنظر ٍة ُمبتز ٍة ٍ
�إذن � ..سيكون هذا �سرنا ال�صغري .
غريب ُم�ست�س ِلم ًا لالبتزاز الوا�ضح يف نربة
مرات بتَكرا ٍر ٍ
�أوم�أ «عا�صم» عدة ٍ
ال�صغري الذي مد �إليه كفه ال�صغرية عاقد ًا اتفاق ًا كبري ًا بي َنهما:
امل�ساومات تنا�سبني!
y
شريكة الغرفة
قب َل عا ٍم...
�أمل ..ممر �ضيق نوع ًا ما ُمغلفة ُجدرانه بالأبي�ض ,و�إ�ضاءاتٌ دائري ٌة
�ستقيم ,درجتان ُمنخف�ضتانُ ,منحنى دائريمزروع ٌة بال�سقف يف خط ُطويل ُم ٍ
خلطوات ال�سريعة تتباط�أ, ٌ
ب�سيط ,ثم يعود املم ُّر ال�ستقامته مر ًة �أخرى ,ا ُ
تخف تدريجي ًا ,وتتوقف بها �أمام غرفة وقب�ضة املُمر�ضة على ذراع « �أمل» ُّ
الطبيب.
قات على الباب الذي تفتحه املُمر�ضة على الفور ثم جتذبها ثالث َط ْر ٍ
للداخل ُمغ ِلق ًة الباب خلفها ,ينه�ض دكتور «يحيى» الطبيب الذي عاد �إىل عمله
انقطاع ب�سبب وفاة زوجتهُ ,مو ِلي ًا كل اهتمامه
ٍ م�ؤخر ًا يف امل�صحة بعد فرتة
�إليها وتبد�أ اجلل�سة العالجية.
هذا كله مل يحدث بعدُ.
لقد كان �شريط ًا ُمكرر ًا يدور بعقلها كلما �سمعت ُخ ٍ
طوات قوي ًة متر �أمام
باب غرفتها املُ�شرتكة بداخل امل�صحة النف�سية ,بينما �شريكة غرفتها التي ال
تنه�ض من �أمام حا�سوبها املحمول �إال لدقائق قليل ٍة تق�ضي فيها حاجتها �أو
ت�أتيها زيار ٌة من زوجها �أو تذهب جلل�ستها ال ِعالجية� ,أو ل�ساع ٍة �أخرى تتحدث
�شخ�صيات وهمي ٍة ,ثم ُتنهي احلديث دوم ًا وهي تخربهم ب�أنهم غري
ٍ فيها مع
ُمتواجدين �سوى بعقلها فقط ,ويجب �أن ين�صرفوا و�إال قتلتهم بالأدوية التي ال
تتناولها حتى الآن.
ترى هل من املُهِ م �أن يعرف �أحدكم ا�سم �شريكة غرفتها َ
تلك ؟! ,ال �أظن
�أنَّ �أحد ًا �سيهتم ,فهي لي�ست �شخ�صية �أ�سا�سية ،كل ُمهم ِتها �أنها ت�سرد عليكم
احلكاية فقط!.
خلطوات التي كانت تنتظرها «�أمل» ثم تبعتها مبا�شر ًة أتت ا ُ
ها قد � ِ
الطرقات املُت�سارِعة والدخول غري املُفاجئ ,وها هي جتل�س �أمام طبيبها
قلب ,يعتذر منها عن خ�شونة كاملُعتاد بعد رحلة املمر التي حتفظها عن ظهر ٍ
ت�صرفات ُمر�ضته املُف�ضلة «رجاء» والتي تغريت يف الآونة الأخرية بعد حال ٍة
تعاط ٌف معها
تن ,وهو ُم ِ م�أ�ساوي ٍة عا�شتها وخرجت منها ب�أُعجوب ٍة دون �أن ُ َ
للغاية ولأق�صى درج ٍة.
بارتياح
ٍ رفعت «�أمل» عينيها عندما ناداها للمرة الثانية ,ابت�سم « يحيى»
وهو يحاول درا�سة مالحمها جيد ًا والتغريات التي تطر�أ عليها ,لقد ا�ستجابت
لندائه للمرة الأوىل منذ توىل الإ�شراف على حالتها كما دون يف تقريره عنها.
حلجرة ال ي�ستطيع اقتالعها يف البداية كانت نظراتها مزروع ًة يف �أر�ضية ا ُ
ملف حالتها ال�صحية والنف�سية على �سطح مكتبه, نحوه وال حتى لثاني ٍة واحد ٍةُّ ,
بياناتها تكاد تكون مكتمل ًة ولكنها خالي ٌة من التفا�صيل ,كان �أ�شار يف �إحدى
�أوراقه �أنه حاول التوا�صل مع �أختها الوحيدة التي جاءت بها �إىل امل�صحة
ودفعت مبلغ ًا نقدي ًا ُمقدم ًا ,ثم اختفت بعد �أن قالت� :إنها �ستُ�سافر لتتابع عملها
مع زوجها يف اخلارج.
ولي�س لديها �أقارب يهت ُّمون مبتابعة حالتها:
م�شاعرك وبخا�صة لو
ِ أنك ال ت�شعرين باالرتياح مل�شاركة
�أمل� ..أعلم � ِ
كانت ُم�ؤلِ ة ..يكفي �أن تتحدثي فقط ..عن �أيِّ �شىء حتبني الكالم
عنه؟.
املرة الأوىل التي يف�شل فيها يف �سرب �أغوار �أحد مر�ضاه وال يعلم ملاذا؟!,
فاجلميع ي�شهد له بالكفاءة يف جماله برغم عدم تخطيه اخلام�سة والثالثني
بعدُ.
َّربا كانَ ت�أثر ًا بوفاة زوجته التي كانت كل حياته يف ٍ
يوم من الأيام ,والتي
وللعجب � -أ�صيبت باالكتئاب ال�شديد قبل وفاتها ومل ُيف ِلح يف عالجها ,لهذاَ -
ُيحمل نف�سه امل�س�ؤولية عن موتها فانقطع عن َ
العال والعمل وانقط َع ْت معه
�أخباره ,فخ َف َت جن ُمه قلي ًال.
أ�شهر� ,أكرث قو ًة وجدي ًة و�صالب ًة وتعاطف ًا مع املري�ضات
ولكنه عاد منذ � ٍ
وخا�صة ال�صامتات منهن ,كل واحد ٍة منهن �شعر معها ب�أنها م�س�ؤول ٌة منه,
صرب مع
هد و�س َه ٍر و� ٍي�سعى ليكون �سبب ًا يف �شفائها مهما كلفه الأمر من ُج ٍ
حالتها حتى تخرج من �صمتها وتبد�أ بالتحدث.
�شخ�ص كان على و�شك
ٍ وقتها فقط يتنف�س ال�ص َعداء ك َمن ُي ُ
�سك بتالبيب
القفز من فوق الربج لوال تدخله يف اللحظة الأخرية.
دقيق ٌة كامل ٌة من ال�صمت كانت كافي ًة ليعرف ب�أ َّنها لن تتجاوب معه ُمدد ًا,
بنظرات ُمب َهم ٍة.
ٍ �إنها تتابعه بعينيها فقط
كان ُيقاوم الإحباط بداخله ليحافظ على ابت�سامة الثقة يف نف�سه وليخفف
للحظاتُ ,يفكر ب�أن يثري
ٍ احلرية التي قاومت؛ لتظهر على وجههمن وط�أة َ
م�شاعر الأمل بداخلها ليجعلها تنفعل وتغ�ضب ليجربها على احلديث.
فعل تلقائي ٍة ملري�ض االكتئاب عندما
ؤذي نف�سها فيما بع ُد كر َّدة ٍ
يخ�شى �أن ت� َ
جب على �شيءٍ ما.
ُي َ
لقد كان ُمتعج ًال َ
جل ْع ِلها تتك َّلم معه� ,أن تقول � َّأي �شيءٍ ,لقد كانت مبثابة
أ�شهر كامل ٍة ,وماذا تكون �أربعة
حتدٍّ ما ,وبالرغم من ذلك �صرب معها لأربعة � ٍ
أ�شهر يف عمر العالج النف�سي؟! ,,ال �شيء. � ٍ
هل ُتذ ِّكر ُه بزوجته يف مرحل ٍة ُمت�أخر ٍة من حياتها؟ ,عندما عادت من
اخلارج ذات يوم ودخلت غرفتها ,ثم اختا َر ِت ال�صمت ومل ي�ستطع �أح ٌد وال
خرجها من ُعزل ِتها حتى ماتت دون �سابق �إنذارٍ؟.
حتى هو �أن ُي َ
ال�صمت القاتل.
ي�سمح مبزيد من هذا َّ
لن َ
قام بو�ض ِعها مع �شريكة غرف ٍة يعلم ب�أنَّ لديها وعي ًا نف�سي ًا بالرغم من
ت�سمح لها
حال ِتها املر�ضية ,ويثق ب�أنها �ست�ساعده فيما ينتويه ,وفوق ذلك لن َ
باالنتحار �إن حاو َلته يوم ًا.
�شهر ..اثنان ..ثالث ٌة ,ال تتقدم ُخطو ًة واحد ًة ,ت�أبى التفاعل مع اجلميع,
كيف ُتثمر ُخطته بينما �شريكتها يف الغرفة �أكرث �صمت ًا منها؟ ,جتل�س طوال
مزمن؛ فهو
ٍ اكرثاث
ٍ اليوم كال�صنم �أمام حا�سوبها ,ومبا �أ َّنها تعاين عدم
مبا�شر.
ٍ م�ضط ٌّر لأن يطلب منها املُ�ساعدة ٍ
ب�شكل
وجاء اليوم الذي طلب فيه من ُمر�ضته «رجاء» �أن ُت ِ�ضر له �شريكة
غرفتها تلك �إىل غرفته ,يذ ُكر جيد ًا �شبح االبت�سامة الذي ر�سم نف�سه فوق
�شفتيها وهو يطلب منها �أن تهتم بـ «�أمل».
ما هذا؟ ,هل مت ترقيتها من مري�ض ٍة �إىل رتبة طبيب ٍة دفع ًة واحد ًة؟!َ ِ ,
ول
ال؟ ..فلتج ِّرب.
ف�أجابته بعد تفك ٍري قائل ًة:
�أ�شعر ب�أ َّنه يتم جتنيدي.
عامود يف جمل ٍة �أ�سبوعي ٍة,
ٍ وملاذا ترف�ض؟! ,فمنذ �أن �أ�صبحت �صاحبة
ر�سل لها من ال ُقراء الذين يعرفون جيد ًا مكان جتيب فيها عن املُ�شكالت التي ُت َ
تواجدها الآن ,بل ويجدون الأمر �أكرث جذب ًا لهم �أن تكون القائمة على حل
م�شاكلهم عرب الربيد الإلكرتوين ُمقيم ًة يف �إحدى م�صحات العالج النف�سي
�إقامة �إرادية راف�ضة اخلروج منها� ,أ�صبحت تهت ُّم مب�شكالت النا�س �أكرث من
قبل ،وجتد نف�سها م�س�ؤول ًة عنهم ٍ
ب�شكل �أو ب�آخر ،وتطور الأمر لديها ب�أن ذي ُ
باتت تكتب الق�ص�ص املُ�ستوحاة من الواقع ,وتهت ُّم بالأدب.
مبا�شر� ,إال �أنَّ �سر « �أمل» الذي
ٍ وبرغم ُكرهها لالختالط بالآخرين ٍ
ب�شكل
أحد �سواها. ُتخبئه جعلها تراهن نف�سها على �أنها لن ُتف�صح به ل ٍ
ول ال؟ ,فاجلميع هنا يعلم طبيعة مر�ضي النف�سي ,حتى و�إن �أف�شيتُ َِ
�سرها يوم ًا ما فلن ي�صدقني �أحد ,فال َه َذيان �أحد �أعرا�ض ُنزَ الء هذا املكان
البارد � ..ألي�س كذلك؟!
y
جتاهل �أحيان ًا لتح�صل على نف�س نتيجة االهتمام! ,ان�شغايل عنها هو ما
جعلها تن�شغ ُل هي بي! ,هذا ما لفت نظر «�أمل» � ,إنني م�شغول ٌة دوم ًا بعملي على
تتغي معامل وجهي مع كل كلم ٍة �أقر�ؤها من الق�ص�ص التي ت�أتيني احلا�سوبَّ ,
يومي ًا على بريدي الإلكرتوين.
كلما جتاهلتها �شعرت بالف�ضول نحوي ,ذلك الف�ضول الذي كان يتحرك
كال�سلحفاة خالل عدة �أ�سابيع مل ي�صدر عني � ُّأي عالم ٍة من عالمات االهتمامُّ
أيام قليل ٍة ,تتذكرها «�أمل» جيد ًا.
بها �سوى مر ٍة واحد ٍة منذ � ٍ
َ
فا�ستيقظت َف ِزعة لتجدين جال�س ًة كابو�س ُمرو ٌع
ٌ تلك الليلة راودها فيها
وبربود ,كما لو كنت �أتلذذ بر�ؤيتها
ٍ أمل..
على طرف فرا�شها �أناظرها بت� ٍ
ت�صارع كوابي�سها وتنازع لت�ستيقظ.
مل تعلم �أ َّنني �أنا التي �أيقظتُها بالفعلُ ,م�ستخدم ًة طريق ًة �شرير ًة لأجعلها
قدمها فوق الكاحل مبا�شر ًة بطرف ظفري بنغزها يف طرف ِت�ستفيق ,فقمتُ ِ
َ
وا�ستيقظت « �أمل» على الفور, املك�سور واحلاد كالإبرة ,النتيجة كانت جيد ًة
عب ،وخفقات قلبها تظهر من خلف مالب�سها كما لو كان القلب تتنف�س ب ُر ٍ
يندفع حماو ًال اخلروج من �صدرها مر ًة بعد مر ٍة.
للحظات قبل �أن ت�سقط «�أمل» على فرا�شها مر ًة �أخرى نائم ًة
ٍ تبادلنا النظر
بعمق تبدو ك َمن فقد الوعي ببطءٍ .
ٍ
و�ض ُعها
ويف ال�صباح كانت تبحث عني حتى وجدتني �أجل�س على �أريك ٍة َم ِ
خمتلف عن التي اعتدتُ اجللو�س فوقها لفرت ٍة طويل ٍة ,كنتُ �أخترب َحد�سي� ,أو ٌ
جلهد مينح ال�شىء قيم ًة مبعنى �أ�صح �أريدُها �أن تبذل جهد ًا للعثور علي ,ف َبذل ا ُ
حتى و�إن كان ال قيم َة حقيقي ًة له بالفعل.
أنت لئيم ٌة �إىل هذا احلد؟» ،مل �ألتفت للتي حتدثني عن ُقرب, « منذ متى و� ِ
فهي �أمي كالعادة توبخني ,وملاذا �ألتفتُ و�أنا �أعلم �أ َّنها وهمية؟ ...حتى و�إن
كا َنت جتل�س بجواري الآن.
حاولتُ الرتكيز �أكرث على ا ُ
خلطوات التي تقرتب مني ,ظلت « �أمل» تقرتب
بخطواتها املرتددة حتى جل�ست بجواري.ُ
مـ ...ماذا تفعلني؟.
�أقر�أ م�شاكل املجانني باخلارج.
قلتُها �سريع ًا وبطريق ٍة مازح ٍة لأجعلها تبت�سم وت�شعر بالأُلفة نحوي ,ولك َّنها
بف�ضول �أكرب:
ٍ مل تفعل ,بل تابعت تت�ساءل
عنك؟.
عملك كما �سمعت ِ
هل ..هذا ِ
ن َعم.
�إجاباتي كانت �سريع ًة فا�صل ًة حتى ال ترتدد وتخربين مبا لديها؛ فالوقت
لي�س يف �صاحلها ,راقبتها وهي تف ُرك ك َّف ْيهاُ ,تذكرين بال�ضعيفة اخلائفة التي
كنتها يوم ًا ماُ ,تذكرين برهينة النا�س املُرت ِعبة من ر�أيهم فيها ,بالتي كانت
ت�ستجدي العطف حتى من �أمها ...
زلت تكرهينني يا دميمة »....
« ال ِ
�ش�ش�ش�ش�ش ...
انتبهت «�أمل» تنظر يل بعينني حائرتني ,تظنُّ ب�أ َّنني كنتُ �أُ ُ
خر�سها هي,
بينما ال تعلم �أ َّنني �أُ ِ
خر�س �أ�شباحي اخلا�صة.
ْمل تكوين املق�صودة � ..آ�سفة.
ُقلتُها با�سم ًة فزادت َحريتها وهي تتل َّفتُ مبقلتيها حولنا حتى ا�ستقرت
رت �أخري ًا �أنها ُتادث مري�ضة ِف ٍ
�صام ال تتناول نظراتها نحوي وك�أنها تذ َّك ْ
دواءها ,فال يجب �أن تتوقف عند كل كلم ٍة �أنطقها كثري ًا !.
كيف ت�ستطيعني التما�سك واال�ستمرار بدون جرعات الأدوية؟!.
كانت منده�ش ًة وهي تطرح �س�ؤالها الذي مل �أعتقد �أبد ًا �أ َّنه �س�ؤا ٌل,
وكيف ت�س�أل وهي ت�سمع جمادالتي امل�سائية كل ليل ٍة مع « رجاء» وهي حتاول
اجل ْرعات الدوائية بانتظام لأنها �إقناعي خمل�ص ًة ك�صديق ٍة ب�أن �أحافظ على َ
�ستُ�ساعدين يف حربي مع �أعرا�ض املر�ض ,بينما الآثار اجلانبية له لن ت�سبب
م�شاكل كبري ًة مادمت ال �أ�سكن مع زوجي ،فلن يكون هناك ُمت�ضر ٌر منها؟.
ال �أحد يفهمني هنا �سوى الدكتور «يحيى» ،بل ويقوم مب�ساعدتي للو�صول
باجلل�سات وقوة �إرادتي مع القليل من احلفاظ على �إىل تخفيف الأعرا�ض َ
جرعات الدواء� ..أنا ال �أريد �أن �أ�ستكمل بقية حياتي رهين ًة لتلك الأقرا�ص.
لقد مت اغت�صابي.
بحد ٍة
فالتفت نحوها ِ
ُّ بعنف،
كح َج ٍر ارتطم بوجهي ٍ تلك َقذ َفتْني بعبارتها َ
املواجهة لنا
وعينني مذهولتني ,فتابعت وقد ثبتت نظرتها امليتة على ال�شجرة ِ
بحروف نازف ٍة:
ٍ رمبا خ�شي ًة من ر�ؤية ردة ِفعلي وتابعت
دخلتُ ا َمل�شفى لي ًال على �إثر نزيف نتيجة �إجها�ض ُمفاجئ ..كان زوجي
ُم�سافر ًا فذهبت مع �أختي التي ا�ستنجدت بها وقد كنت ُمرتعبة ِما
يحدث يل وال �أفهم �سبب النزيف ..وهناك مت ت�شخي�صي ب�أنها حالة
�إجها�ض وال ب َّد من دخول غرفة العمليات لتنظيف الرحم.
ب�ست يف �صدري و�أرغمت نف�سي على كتم �صوت �شعرتُ ب�أن �أنفا�سي ُح ْ
تن ُّف�سي الذي ارتفع دون �إراد ٍة و�أنا �أُحاول ا�ستيعاب ما تقول وتخ ُّي َله:
ا�ستفقتُ من املُخدر و�أنا يف غرفتي و�أختي بجواري ُتطمئ ُنني �أن الطبيب
�أخربها بتوقف النزيف ..و�أن حالتي جيدة ف ُعدتُ �إىل بيتي ظهر ًا.
كانت �أ�صابعي على و�شك ترك حا�سوبي ا َملحمول ي�سقط من فوق ِحجري
�شهيق ,مالحمها ثابت ٌة كنظرتها
كما ت�سقط دمعا ُتها الآنَ بغزار ٍة ,ولكن دون ٍ
لل�شجرة ,حاولت ا�ستجماع نف�سي �سريع ًا ،وو�ضعت احلا�سوب بيننا على الأريكة
والتفت نحوها بج�سدي كله ,ريثما ت�ستكمل هي ُمر ِدف ًة:
ُّ اخل�شبية،
مر ثالثة �أ�سابيع ..كان زوجي قد عاد من �سفره ..وقف بجواري
ودعمني نف�سي ًا ..واتفقنا �أن ننتظر ب�ضعة �أيام ثم نذهب �إىل طبيبة؛ َّ
لتخربنا عن �سبب الإجها�ض حتى نتج َّنبه يف احلمل القادم ..ثم
جاءين ات�صال من ممر�ض ٍة تعمل يف ا َمل�شفى التي �أجريت بها اجلراحة
وتقول� :إ َّنها تريد ُمقابلتي.
ارتع�شت نربة �صوتها وبد�أت قطرات الدموع تتزايد وت�سقط على ْ وهنا
�إحدى ذراعيها املعقودتني فوق �صدرها فت�أخذ خط ًا دائري ًا بطيئ ًا للأ�سفل
وتختفي هناك:
وعندما ذهبتُ �إليها� ..أخربتني �أن الطبيب بعد �إجراء العملية �أمرها
هي واملُمر�ضة الأخرى ب�أن يخرجا خارج غرفة العمليات ب�صحبة
خرجت بالفعل هي وزميلتها وتركتني وحدي معه .
ْ طبيب التخدير..
«ملاذا ؟» نطقتها بداخلي فقط ,فلم �أجر�ؤ على البوح بها �أبد ًا ,ف�أنا بالكاد
�أُحافظ على انتظام �أنفا�سي املقطوعة ،بينما قلبي ينهِ تُ � َأل ًا و�أنا �أراها تتحول
تختبئ يف باطن الأر�ض ,مل تكن يف حاج ٍة �إىل ُ بال تَو ُّد لو
ل�س ٍ
�أمامي �إىل ِح ٍ
لل�شجر:�س�ؤايل فقد كا َن ْت يف تلك ال َّلحظة تريد �أن حتكي ,تريد ال َب ْوح ولو حتى َّ
قا َل ِت املُمر�ضة ب�أنني ل�ست الأوىل وال حتى الثانية ,و�أنها �أخ َربت
و�سكت ,فكل منهنال�سابقات كما �أخربتني ,ولكنهن خفْن الف�ضيحة ْ
زوجة و�أم ،والف�ضيحة لن تكون لها وحدها.
وفعلت مثلهما بالطبع؟.
ِ
بقنوط ..ففاج�أتني بنظر ٍة حاد ٍة وهي تلتفتُ ناظر ًة نحوي لأول
هم�ستُ بها ٍ
تق�ص حكايتَها هاتف ًة بـ :ال ..ثم تابعت ٍ
بعنف: مر ٍة منذ �أن بد�أت ُّ
لقد ف�ضحتهما يف كل مكان ..قدمتُ بالغ ًا للنيابة ..وطلبت �شهادة
املُمر�ضة وزميلتها ..وعندما توا�صلت و�سائل الإعالم معي تكلمتُ
وحكيتُ َّ
كل �شيءٍ .
�أوم�أت بر�أ�سي بابت�سام ٍة ُم�شجع ٍة و�أنا �أ�شعر بالفخر ,فها هي �أنثى تخرج
عن امل�ألوف �أخري ًا ..وتطالب بحقو ِقها بال ٍ
خوف من املُجتمع ,فعاجلتني
ال�شجر
ِ بنظر ٍة �ضائع ٍة وقد َخ َف َت �صو ُتها وك�أنه يختبئ َ
هناك ..خلف �أوراق
وهي تهم�س:
زوجي طلقني ..قال� :إنني ف�ضحته..
ورغم ُكرهي ِل َل ْم ِ�س �أحدهم وجدتني �أقرتب منها؛ لأوا�س َيها ولكن يدي
عادت مكانها مر ًة �أخرى ,مل �أق َو على ذلك ،وال �أعلم ملاذا؟ ,حافظتُ على
فا�صل يف�صلني عنها ,ليتَها كت َبت يل
ٍ امل�سافة بيننا برتك احلا�سوب كحد
ق�صتها يف ورق ٍة �أقر�ؤُها ثم �أمزقها لتذروها الرياح.
يف البداية رف�ض الت�صديق وقال� :إن املمر�ضة تكذب؛ لتوقعني يف
امل�شاكل �أو لتبتزين ب�صمتها ..وعندما ع�صيته وقدمت البالغ ..اختفت
املُمر�ضة متام ًا ..ومل ُي َعث لها على �إثر ..بينما ح�ضرت زميلتُها تلك
ومعها ُمر�ضة �أخرى ال �أعرفها ومل تدخل معي غرفة العمليات ومل
�أ َرها على الإطالق يومها ..و�شهدت كلتاهما ب�أنهما الزماين طوال فرتة
اجلراحة ..منذ دخويل وحتى خروجي منها ..ومل يحدث � ُّأي �شيءٍ غري
أر�سل امل�شفى �أوراق ًا يو ِّثق بها �شهادتهما !� ..أنا �س�أُ َجنُّ !!.
طبيعي ..و� َ
وحدث ما متناه دكتور «يحيى» وزياد ٌة؛ انفجرت «�أمل» يف البكاء وبد�أ
يخت�ض وهي حتاول ال�سيطرة على حديثها املُتقطع ُّ ن�شيجها يعلو وج�سدها
وج�سدها املُتداعي �أمل ًا وحزن ًا على نف�سها وعلى ما و�صلت �إليه.
حتى �أختي تخلت عني عندما �أمرها زوجها باالبتعاد ..اجلميع كرهني
حتى بعد �أن بد�أت تت�سرب من عيادة الطبيب احلقري كلمات هنا
وهناك عن حتر�شه ببع�ض املري�ضات مما �ساعد يف قوة اتهاماتي له ..
دليل.
ولكنها يف النهاية بال ٍ
للحظات حمافظ ًة على وترية دمعا ِتها الغزيرة قبل �أن يتحول ٍ �صمتت
تالحقة ,وفج�أ ًة غادرت الع�صافري ال�صمت �إىل ن�شيج ُمتقطع ك�أنفا�سها املُ ِ
ذبذبات العنف ال�صادرة
ِ ال�شجرة املُنت�صبة �أمامنا دفع ًة واحد ًة ُمتفاعل ًة مع
قادم وهي ت�صرخ هاتف ًة: بزلزال ٍ
ٍ منها وك�أنها تنذرهم
هل ُت�صدقني؟ ! ..خرج جواب الطب ال�شرعي ل�صاحله هو ..فن�صحني
املُحامي الذي توىل الق�ضية �أن �أتنازل و�أحاول ال�صلح معه ..حتى ال
يرفع �ضدى ق�ضية ت�شهري وتعوي�ض وقد ي�صل به الأمر �إىل �أن ي�صدر
حكم ب�سجني ..تخ َّيلي؟! ..يف النهاية �أنا َمن كان �سيدخل ال�سجن..
ا�ضطراب
ٍ وخرج املُجرم يف �أحد الربامج؛ ليقول ب�شفق ٍة� :إ َّنني �أعاين من
نف�سي و�أنه �سيتنازل عن حقه رحم ًة منه فقط ال غري. ٍّ
نه�ضت واقف ًة ،واقرتبت واقف ًة �أمامي مبا�شر ًة قاطع ًة الطريق على نظراتي
ل�شيءٍ �سواها� ,ضاقت عيناها وهي تقول ِب ُكر ٍه مل يكن موجه ًا نحوي:
رمبا كانوا على حق ..رمبا �أنا املُذنبة ح َّق ًا� ..ألي�س كذلك؟!
نعم ،كانت تقطع الطريق على نظراتي ،ولكنها مل ت�ستطع منع �أ�شباحي
أنت اخلا�صة من الظهور بجوارها« ،ملاذا ال تنتقم هي �أي�ض ًا كما ِ
فعلت � ِ
بـزوجك» ؟
كان هذا دوري لأنه�ض واقف ًة �أمامها بتحدٍّ و�أجدنى �أ�س�ألها بنرب ٍة �آمر ٍة:
ملاذا مل تنتقمي منهم جميع ًا؟!
فكرتُ ..والنتيجة كانت �أنني انتقمت من نف�سي.
ب�ضعف ,رفعت قدمها قلي ًال جانب ًا ،وقامت
ٍ هم�ست بها وهي تطرق للأر�ض
بده�س منل ٍة م�سكين ٍة كان قدرها �أن متر بجوارنا يف تلك اللحظة ,ثم رفعت
عينيها ال�ضائعتَني تثبتهما يف عيني ُمدد ًا وتعود لتهم�س:
�أغلقتُ على نف�سي �أ�شهر ًا طويلة �أعلم عددها ..ال �أفعل �شيئ ًا �سوى
ك�صفارات ال�صمت ..وحيدة متام ًا ..رنني الهاتف وقرع الباب �أ�سم ُعهم ُ
الإنذار يف الغارات ..ف�أختبئ �أ�سفل فرا�شي ب ُرعب ..حتى جاء اليوم
الذي وجدتُ فيه �أختي ت�أتي مع زوجها وتنظر يل ولل�شقة بازدراء ..ثم
وجدتُ نف�سي هنا.
y
صفقات
y
كل منهم له فاتور ٌة خا�ص ٌة به ,و�سيدفعها كامل ًة �شا َء َمن �شاء و�أ َبى من �أ َبى.
ما معنى �إ�صرارك املُتوا�صل هذا على �أن يكون عقد ال ِقران والزفاف يف
نف�س الليلة يا حافظ؟ ..ملاذا ال نعقد ال ِقران اليوم �أو غد ًا ؟.
و�ضع حافظ �إحدى �ساقيه على الأخرى ُمطمئن ًا وقد �أبلغه حماميه �أن
جل�سة النطق باحلكم النهائي اخلمي�س القادم ،وبدا �أكرث ثق ًة و�أكرث ُقدر ًة على
مواجهة «�أنور برهان» ند ًا له ولي�س ك�أ�سري �شهادته �ضد «ح�سن» .
التحمت �أ�صابع كفيه ببع�ضهما البع�ض وهو ُيومئ بر�أ�سه قائ ًال بثق ٍة:
هذا �آخر كالم عندي.
اطلة «حافظ» له بطلب ُمهل ٍة بعد �أخرى يف أعوام على ُم َ
لقد �صرب ثالثة � ٍ
انتظار احلكم النهائي؛ ليطمئن على ولده ,حتى �إنه مل ي َر خطيبته �سوى مر ٍة
اخلطبة.
ألب�سها فيها خامت ِ
واحد ٍة ,وهي املرة التي � َ
�إنه يذكرها جيد ًا ،لقد كانت ُمتورمة الوجه ،حمراء العينني� ،شاحب ًة
ودموعها مل تفارقها حلظ ًة ,مل يت�ساءل عن حالتها تلك فهو بالت�أكيد
ُ كالأموات،
يعرف �أن «حافظ» �أجربها بل و�ضر َبها حتى تورمت ،ووجهها ي�شهد بذلك.
�إال �أنه مل يكن يعرف �أن والدها ه َّد َدها بتطليق �أمها وطردها من املنزل
�إىل ال�شارع �إن مل توافق على تلك الزيجة.
عندها لط َم ِت الأم خديها ،ف�أيقنت «غفران» �أنها ميت ٌة ال حمالة حتى �إن
كان ج�سدها يتحرك بينهم ج�سد ًا بال ُر ٍوح� ,أو مل تفارقها روحها منها عندما
علمت مبا جرى لـ «ح�سن» وال�صفقة التي كانت هي �إحدى قرابينها؟.
«�أنور» ي�شعر �أنهم يتمل�صون من الزواج مر ًة بعد مر ًة ,فبعد �أن كانوا
�سيق ِّبلون قدميه حتى ال يف�ضح ولدهم �صاروا ي�شرتطون عليه �أن ُي�سجل عقد
بيع منزله املُكون من طابقني با�سم «غفران» قبل �أن يتم عقد ال ِقران� ,أغبياء
�..إنه يريدها نعم ،ولكنه يف نف�س الوقت ال يرتك �أحد ًا ينتزع منه قر�ش ًا واحد ًا,
روحه ،ميوت �إن انتقلت �إىل غريه. �أمواله هي �أبنا�ؤه الذين مل ينجبهم ..هي ُ
لوال تدخل «�صفوان» من البداية لذهب وقام بتغيري �شهادته �ضد «ح�سن»
بعد �أن ماط َله «حافظ» للمرة الأوىل ,حتى �إنه �أخذه من يده وذهب به �إىل ذلك
�سنوات وبينهما م�صالح ُمتبادل ٌة ,وهو
ٍ املُحامي الذي يتعامل معه «�صفوان» منذ
الذي قام بالدفاع عن «رمزي».
حذره املُحامي ب�شد ٍة من تغيري �شهاد ِته وقال له باحلرف� :إنه �سيت ُّم �سجنه
بتُهمة ال�شهادة الزور ,ورمبا يتم توجيه تهم ٍة �أخرى :هي التواط�ؤ مع القاتل
تهديد
حرب ودي ٍة مع «حافظ» ,وبني ك ٍّر وف ٍّرٍ ،احلقيقي ! ,ومن حينها وهو يف ٍ
ويئ�س من �أن تتم ال�صفقة التي مل ي�ستفد منها �سوى عداوة «ح�سن» وتراجعَ ،
ٍ
�أكرث و�أكرث ..وبع�ض امل�صاريف!!
y
نف ،بي َنما حبات العرق تندفع حول جبهته خطاب �آخر يقر�ؤه ثم ميزقه ب ُع ٌٍ
فريفع ظهر كفه؛ ليم�سحها ُمرجتف ًا ُمتمتم ًا بنف�س الكلمات التي يقولها له
«�صفوان» دائم ًا؛ ل ُيطمئنه بها.
حتى ولو خرج من ال�سجن ..فلن �أ�سمح له باالقرتاب منك.
بتثاقل من فرا�شه الذي ي�صدر ٍ ومرات وهو ينه�ض
ٍ مرات
ظل يكررها ٍ
�صرير ًا خافت ًا ناجت ًا عن حركته املُتخبطة� ،صار ببطءٍ وهو ي�س ُع ُل حتى توقف
زمن ،ت�أمل ُ�شروخها الطويلة التي تعك�س�أمام املر�آة املُعلقة على اجلدار منذ ٍ
ب�شكل �أزعجه� ،شعره الرمادي الكثيف املُتناثر حول ر�أ�سه ُمت ِلط ًا
�صورته ٍ
بعرق جبينه الغزير ،عيناه جاحظتان رغم ًا عنه ،ي�شعر ِمبطرق ٍة ت�ضرب ركبتيه
�صدر ًة �أزيز ًا كلما حترك.
ُم ِ
�شيخوخته باتت ُتخيفه �أكرث مما يجب ،يف املا�ضي كان ال يزال بكامل
عنفوانه وقوته فا�ستطاع الت�صدي له ِمرار ًا� ،أما الآن ...ماذا �سيفعل �إذا َ
وجده
يوم من الأيام؟ ،هل �سريافقه «�صفوان» َ
ليل نها َر؛ ليحميه منه؟. يف مواجه ِته يف ٍ
رفع راحة كفه �ضاغط ًا بها �صدره ُمت�أمل ًا ،وتلك اجلملة الوحيدة التي قر�أها
يف اخلطاب ت�ضرب �أركانه فتزرع اخلوف بني جنبا ِته (�ستموت يا �أظلم).
َطرقاتٌ �سريع ٌة على باب �شقته جعلته ينتف�ض فج�أ ًة ،وهو ي�ستدير نحو باب
غرفته والأمل ي�ضرب �صدره �أكرث ف�أكرث ،ويزحف نحو َم ِع َدته في�شعر بها وقد
�سقطت بني قدميه ،بينما �شهق ٌة عالي ٌة �أطلقتها حنجرته رغم ًا عنه قد �سمع
�صداها.
�سنوات وهو ُيعاين تلك
ٍ ثالث
حلكم على «ح�سن» �إىل ٍ منذ �أن علم بتخفيف ا ُ
رعبة من اخلوف ِما هو قاد ٌم ،الطرقات ت�سرع كخ َف َقان قلبه ،ويااحلالة املُ ِ
للعجب ...فاخلمي�س القادم يحمل له كل املُتناق�ضات ..زواجه املنتظر من
وعده والدها ,وموعد النطق بحكم النق�ض يف الق�ضية. «غفران» كما َ
لو مت ت�أييد احلكم ف�سيخرج له «ح�سن» يف نف�س اليوم ،ورمبا يجده �أمامه
خطاب منه
ٍ لوجه ،يخاف تلك اللحظة منذ �أ�سابيع عندما جاءه �أولوجه ًا ٍ
يحمل نف�س اجلملة (�ستموت يا �أظلم).
وقتها عرث عليه �أ�سفل باب �شقته ،وال يعلم َمن و�ضعه؟ ،وال يوجد عليه
�أختام �أو عنوا ٌن �أو حتى �أ�سما ٌء ،جمرد ورق ٍة حتوي جمل ًة واحد ًة تقتله يف اليوم
�ألف مر ٍة ،جعلته ي�ضع �أقفا ًال كثري ًة على بابه ،ويحتفظ دائم ًا ب�سك ٍني �أ�سفل
و�سادته؛ ليحمي نف�سه.
متوا�صلُ ،يغم�ض عين ًا واحد ًة كالقطط ،وطرقاتُ
ٍ رعب
�أ�سابيع عا�شها يف ٍ
بابه تفزعه كما تفعل الآن وهو كال�صنم ال يتحرك ،فقط تت�سع حدقتاه وي�ضغط
خافقه ُمت�أمل ًا ُبذ ٍ
عر.
افتح يا �أنور.
مرات كثري ًة حتى بد�أت قدماه �أخري ًا تتحركان ببطء كررها «�صفوان» ٍ
بيد ُمرتع�ش ٍة وهو على حالته تلك ،فنظر
�شديد للخروج من غرفته ،وفتح الباب ٍ ٍ
له الأول وهو يت�أفف ب�س� ٍأم وقال ُموبخ ًا:
�ساعة !!� ..ساعة؛ لتفتح الباب يا �أنور؟� ..أال زلت مذعور ًا على حالك
منذ تركتك؟.
قال كلمته الأخرية وهو يد ِلف �إىل الداخل ،بينما بد�أت دقات قلب «�أنور»
تنتظم قلي ًال وتهد�أ وهو ي�شعر �أنه مل يتنف�س منذ دقيق ٍة كامل ٍة ،وال�شعور بالدوار
ينتابه ،وبارتخاءٍ ي�ست�شري يف كامل ج�سده ،فكاد �أن يهوى �أر�ض ًا ،اندفع
مقعد كان بجوار الباب يعلوه «�صفوان» نحوه؛ لي�سنده وي�سري به نحو �أقرب ٍ
�سنوات بنظافته وال �أن يحركه من مكانه .
ٍ الغبار ومل يهتم �أحد منذ
ثم اعتدل بجذعه املُمتلئ وع�صاه الغليظة التي ال تفارق �أ�سفل � ِ
إبطه مهما
حدث:
قلتُ لك �س�أحميك منه ..ال تخف هكذا ..ثم هو مل يخرج بعد ..فلماذا
كل هذا الرعب منه؟.
�أر�سل تهديد ًا �آخر يا �صفوان.
ات�سعت عينا «�صفوان» متعجب ًا وهتف بحد ٍة:
كيف ذلك ؟ فلقد وعدين ح�ضرة ال�ضابط عندما �أريته الورقة الأوىل
�سي�سل له يف ال�سجن َمن ي�ؤدبه ..و�سيبلغ �إدارة ال�سجن بذلك؛
ب�أنه ُ
لي�ضيقوا عليه حتى ال ي�ستطيع التنف�س حتى.
�أنا �أعلم �أن نهايتي �ستكون على ِيده.
قالها «�أنور» وهو يهز ر�أ�سه بي� ٍأ�س ُم ٍ
تلط باخلوف ال�شديد وك�أنه ُيعاين
جثته الآن.
و�ضع «�صفوان» ك َّفه العري�ضة على َك ِتف �أنور ،وهو ي�شد عليه بقو ٍة ويدعي
بحما�س ُم َ
�صط ٍنع: ٍ املرح قائ ًال
ان�س تلك
�أنت «عري�س» يا �أنور ..عقد قرانك بعد خم�سة �أيام فقط َ ..
خلرافات و ُقم هي�أ نف�سك وا�ستد ِع َمن ينظف لك تلك اخلرابة التيا ُ
تعي�ش بها.
ثم �أ�شار بي�ساره كال�سهم نحو �أرجاء ال�صالة الوا�سعة والفارغة يف نف�س
الوقت �إال من طاول ٍة خ�شبي ٍة عتيق ٍة م�سجون ٍة بني �أربعة مقاعد تغري لونها جميع ًا،
ممتلئ بالورود امللونة املطبوعة
ٍ بقما�ش
ٍ و�أريك ٍة عري�ض ٍة �أ�سفل النافذة ملتحف ٍة
�أكل عليه ال ُغبار و�شرب حتى باتت �أطرافه ُمهرتئة باهتة ،وذلك التلفاز العتيق
ب�صورته املهزوزة التي رحلت وتركت له ال�صوت فقط بعد �أن �أظلمت متام ًا،
واجلدار من خلفه تعلوه تلك ال�صورة ال�صغرية باللونني الأبي�ض والأ�سود والتي
ت�ضمه هو وزوجته الراحلة يوم زفافهما .
�سنوات عديد ٍة،
ٍ مل يتفاج�أ «�صفوان» بتلك ال�صورة فلقد �س�أله عنها منذ
ً
حمتفظا بها ؟!. ملاذا ال تزال
�أمل تنجب لك من احلرام ؟! ملاذا ُتب ِقى على �صورتها ؟!
للحظات قائ ًال ،و ُمت�صنع ًا
ٍ حينها �أجابه «�أنور» بعد �أن نظر �إىل ال�صورة
الال مباالة:
«ال �أعلم ...هكذا فقط».
مل ي�ستطع «�صفوان» �أن يرفع عينيه ب�سهول ٍة عن وجه «زينبـ« يف ال�صورة
املُعلقة ،وما اجلديد؟ هذا د�أبه منذ ثالثني عام ًا ،عندما ر�آها لأول مر ٍة يف
منزل �صديقه «�أنور» يف اليوم التايل مبا�شر ًة بعد زفافه ،كانت عرو�س ًا جميل ًة
وميزة و�ضفريتني �سوداوين، طرق ًة بر�أ�سها دائم ًا ،ذات لهج ٍة ريفية ُمببة ُ ُم ِ
اخت َفتا بعد �سن ٍة واحد ٍة فقط منذ دخولها لهذا املنزل زوج ًة لهذا البخيل،
�صاحب لهما؛ �ضاعف املُ ِمع قلة ال ِغذاء و َرداءته واحلمل والوالدة واملجهود املُ َ
ت�ساقط ال�شالل الأ�سود جديل ًة خلف الأخرى حتى توارى متام ًا �أ�سفل املِنديل
�شعرها وتوارى معه جما ُلها وتو ُّرده �إىل غري
ا�ستخدمتْه لربط ِ
َ ال�صغري الذي
رجع ٍة.
ولكنها ظلت يف عينيه (زينب) التي لأجلها فقط وطد عالقته بهذا
ال�شحيح وظل يزوره يومي ًا ُمم ًال ب�أكيا�س الفاكهة والع�صائر؛ ليملأ « �أنور»
َم ِع َدته َريثما ميلأ هو عينيه منها وهي ُتهرول هنا وهناك خلدمتهما.
يوم مير يكره �أنور �أكرث من اليوم الذي �سب َقه ُماو ًال التقرب منها �أكرث
كل ٍ
�شديد.
و�أكرث ..ولكن بحذ ٍر ٍ
�سنوات من ال�صرب عندما وجدها وحيد ًة يف ٍ حتى جاء ذلك اليوم بعد
أيام عامه الثالث ،وقتها ..وقتها
املنزل ومعها طفلها الوحيد الذي قد بلغ منذ � ٍ
فقط ،ع ِلم �أنها لي�ست بال�ضعف الذي كان يتخيله عندما هوت على وجهه
جمدت الدماء يف عروقه ،علمِ ب�صفع ٍة قروي ٍة هادر ٍة ت�صحبها نظر ٌة �صاعق ٌة
لزوجها يف نف�س الوقت الذي تقطع فيه ُعـ ُنق َمن�أنها تر َّب ْت على �أن تخ�ضع ِ
قطع جذوع الأ�شجار. يحاول امل�سا�س ب�شرفها كما ُت َ
�صفواان !!
جذبه «�أنور» من ذكريا ِته املُخزية وهو يناديه مر ًة بعد �أخرى وي�س ُعل بقو ٍة
يريد �أن ي�ستند �إىل يديه يف ُماولة منه للعودة �إىل فرا�شه ُمدد ًا.
كيف �ستتزوج و�أنت بهذه احلالة؟ ..لو تريد ن�صيحتي ُ ..قم بت�أجيل
الزواج حتى تتح�سن �صحتك قلي ًال.
وانفعال
ٍ ب�سخط
ٍ يتحرك ببطء الهث ًا قائ ًال
ُ �ضغط «�أنور» �صدره ب� َ ٍأل وهو
�شديد:
ٍ
يا �سبحان اهلل ..مل �أعد �أفهمك �أبدً ا ..يف البداية كنت �أنت �صاحب
فكرة ال�صفقة و ُم�ساومة �أهل رمزي على الزواج من ابنتهم مقابل
ال�شهادة ل�صالح ولدهم ..وفج�أ ًة بد ْوتَ ُمقتنع ًا مبا يريدون وحتاول
�إقناعي بالت�أجيل ..والآن وبعد �أن وافقوا �أخري ًا على حتديد موعد
ُ
يحدث معك ؟! نهائي للزفاف تريدُين �أن �أ�ؤجله ُمدد ًا ..ماذا
�أووف ..انتهينا يا �أنور ..افعل ما يحلو لك.
أفف و�س�أم وهو يدفعه بخفة نحو الفرا�ش وبد ًال من �أن قالها «�صفوان» بت� ٍ
ي�سقط �أنور على الفرا�ش �سقط �أر�ض ًا على وجهه ُمتعرث ًا بال�سجادة املُه ِرتئة
�شديد ،ا�شتد عليه الوجع الذي هجم بقو ٍة ناه�ش ًا �صدره ويقتلع
وهو ي�صرخ ب� َ ٍأل ٍ
ف�ؤاده بال رحم ٍة.
َ
و�سقط خلطة �أخري ًا،
أثمرت ا ُ
بارتياح ,لقد � ِ
ٍ راقبه «�صفوان» قبل �أن يزفر
y
بنف�سه,
بيده ,وو�ض َعهما �أ�سفل بابه ِ
الأحمق �صري َع ُرعبه من ر�سالتني كتبهما هو ِ
واحد ًة تلو الأخرى!
العودة
و�صد بها باب هذا ا َملخزن القدمي ُقف ٌل ..اثنان ..ثالث ٌة� ,أقفا ٌل كثري ٌة ُي َ
خروجه
ِ نعزل عن العمران ,والذي قام بت�أجريه فور ذى امل�ساحة الوا�سعة واملُ ِ
أيام وهو يعلم جيد ًا ،ماذا �سيفعل وكيف �سراحه منذ � ٍمن ال�سجن بعد �إطالق ِ
�سي�سرتد حقه ال�ضائع؟ ,موقعه كاد يتطابق متام ًا مع احتياجا ِته ,لوال اقرتابه
بع�ض ال�شيء من الطريق املُمهد لل�سيارات ,لقد راهن على خوفها عندما
ابت�سم ُمتعجب ًا ,لقد ا�ضطربت وارتع�ش ج�سدُها َ و�صلت �أفكاره لتلك النقطة،
خوف ًا من قوله لها ب�أن هذا املكان م�سكو ٌن بالأ�شباح ولو �صرخت فلن ي�سم َعها
�أح ٌد �سواه ..والعفاريت!� .أكرث من اخلوف الذي اعرتاها عندما ا�ستفاقت من
غيبوبتها ووجدت نف�سها ُمتطف ًة!.
العفاريت �أكرث منه!.
َ يبدو �أنها تخاف
ات�سعت ابت�سامته �أكرث قلي ًال وهو يجل�س خلف مقود �سيارة «�أنور» الذي قام
ب�سرق ِتها ليجتذب بها عيني «غفران» ويجعلها تقرتب بقدميها من الفخ الذي
�أعده لها.
قام بت�شغيل ُمركها ليخرج بها من الأر�ض غري املُمهدة نحو الطريق
املُمهد ُمنطلق ًا ب�شغف وباجتاه ذلك ا َمل�شفى احلكومي الذي ير ُقد بداخله
انتقامه.
�صاحب الرقم الثاين على قائمة ِ
اختفت االبت�سامة فج�أة وتال�شت ,ذكرى �أكف الظلم التي اجتمعت عليه
قاتل بد�أ يعتاد نزع احلياة حمتها ُعنو ًة عن �شفتيه ,فربقت عيناه بق�سو ٍة ٍ
وبرود ٍ
منهم يوم ًا بعد �آخر ,وللمرة الثانية على التوايل!.
دلف «ح�سن» �إىل ا َمل�شفى العام وهو يتخطى احلديقة على اجلانبني بجوار
الباب احلديدي العري�ض ,والتي ت�ساقطت �أوراقها لعدم العناية بها وامتلأت
َ
وهناك ,مل ُيوقفه �أح ٌد كما كان ب ُع َلب الك�شري الفارغة والأكيا�س املُتطايرة هنا
يتوقع.
امل�ساحة الوا�سعة التي تلي احلديقة حتولت �إىل موقف «تكاتك»� ,أكواب
ال�شاي و�أعقاب لفائف التبغ امل�سحوقة تعلو ال�سور املنخف�ض للم�شفى والذي
يجل�س �أ�سفله بائع امل�شروبات ال�ساخنة والباردة ,دار ن�صف دور ٍة حول امل�شفى
لي�صل �إىل ق�سم الطوارئ واحلوادث ,الق�سم يف الطابق الأر�ضي ويت�ضمن
غرفة املُالحظة حيث يرقد هدفه الآن ،املمر ُيوحي بالنظافة يف بدايته.
�أما وبعد تعمقه يف الداخل وجد ما قام بو�ضع ُخطته كلها على �أ�سا�سه هو
و ُمعاونيه ,الباعة اجلائلون يتجولون هنا وهناك بني الأ�سر املنكوبة التي جتل�س
فوق الأر�ض املُزدحمة بهم يف انتظار م�صري مر�ضاهم املجهول ,والأطفال
ال�صغار يلعبون وي�صرخون يف الطرقات التي حتولت �إىل �سوق �شعبي,
وجبات �ساخن ٍة من فاعل خ ٍري مل يح ُلمنَ
ٍ املُمر�ضات م�شغوالت الآن يف تناول
بها يوم ًا ,فلم يجد �شخ�ص ًا واحد ًا ليوقفه �أو ي�س�أله �إىل �أين؟ ,جمموعة �شباب
يقفون بنهاية املمر يحملون طفل ًة �صغري ًة تنـزف من ر� ِأ�سها ويديها ،وممر�ض ٌة
وحيد ٌة �صغري ٌة بال�سن هي التي حتاول وقف النـزيف بينما هم ي�صرخون ب�أنها
تعر�ضت حلادث �سيارة ويحتاجون �إىل م�ساعدة .
عراك بينهم يت�شاجرونوللأ�سف ال وجود للأطباء ,فهم ُمن�شغ ِلون الآن يف ٍ
تقف بجان ِبهم املُمر�ضة الوحيدة وامل�س�ؤولة
حول دورية الإ�شراف اليومي ,بينما ُ
عن ُغرفة املُالحظة ,والتي �أ�شارت له بعينيها ب�أن يدخل الآن �سريع ًا ,كما مت
االتفاق معها من قبل.
الغرفة ُمتلئ ٌة بالأَ ِ�س َّرة �إال �أنها جميع ًا خالي ٌة من ال ُف ِ
ر�ش وا َملر�ضى� ,إال من
بج�سده ال�ضخم ال�سرير الأخري منها املُلت�صق بجدا ٍر ِ واحد فقط يحتل مري�ض ٍ
ٍ
ُمتهالك الطالء و ُمل َقى فوقه مالءة كانت بي�ضاء يوم ًا ما.
جلدران املُزدحمة بال�شروخ ,فلقد مل ي�ستطع «ح�سن» رفع عينيه لت�أمل بقية ا ُ
ت�صلبت فوق ج�سد «�أنور» النائم بالرغم من كل تلك املعارك الدائرة باخلارج
انتظام وك�أن �أنفا�سه تتح�شرج بداخلٍ بينما �صوتُ �شخريه يعلو وينخف�ض بال
�صدره ت�أبى اخلروج� ،أغلق الباب من خل ِفه وبد�أ يقرتب منه �شيئ ًا ف�شيئ ًا ,كل
ُخطو ٍة نحوه تقفز به �إىل ذكرى �سيئ ٍة معه� ,ضغط � َ
أ�ضرا�سه و�ضاق ما بني عينيه
يتح�س�س بها �أثر ال�ضربة خلف ر�أ�سه وك�أنه القا�سية ,وبال �إراد ٍة رفع �أ�صاب َعه َّ
تلقاها الآن فقط ,م�شاعر كاملوج الهائج ت�ضرب ِكيانه فتبعرثه و ُتلقي به حتت
قدمي «�أنور» الذي طاملا �ضغط �أنفا�سه بحذا ِئه املُه ِرتئ وهو فتى حديث البلوغ
َريثما يتحداه �أن ينه�ض ملواجه ِته �إن كان رج ًال.
الآن انقلبت الآية يا «�أظلم».
هم�س بها ب ُكر ٍه ٍ
�شديد وقد و�صل �إىل فرا�شه ا َملعدوم وانحنى يت�أمل وجهه, َ
لقد بلغ ال�ستني وتهدل ِجلدُه بينما ال زال يرغب يف احلياة ويتم�سك بها كعادته,
مكان �آدمي �آخر ,لقد دفع
نف�سه حتى بالعالج يف ٍ ويف نف�س الوقت يبخل على ِ
بع�ض الأموال ُمقابل �سجنه و�ضن على �صحته مبثلها.
رفع «ح�سن» َيده تارك ًا راحته تزحف نحو عنق «�أنور» بينما طائر البغ�ض
الأ�سود يفرد جناحيه �صارخ ًا يف عينيه املُحدقة به وهو ال زال نائم ًا ي�صارع
كوابي�سه ب�أنفا�سه املُتقطعة ب�أن َ
يفتحهما لرياه وهو يقتله. ِ �أحد
ولقد ا�ستجاب «�أنور» للنداء ,فتح عينيه وهو يلهث �شاعر ًا بذلك ال�ضغط
حول عن ِقه فوق حلقه مبا�شر ًة ,انتف�ض فج�أ ًة يف الفرا�ش وهو يعتقد ب�أنه ال زال
حللم ,فا�ستيقظ ُمنت ِف�ض ًا ليجده قاب�ض ًا على �أنفا�سه
يح ُلم ,لقد كاد يقت ُله يف ا ُ
بهلع ،وك�أنه ُيعاين ملك املوت يف تلك اللحظة ,حلظ ٌة يف احلقيقة ,نظر له ٍ
يعجز فيها الل�سان عن احلركة ,والأع�ضاء عن �إبداء �أيِّ ُمقاوم ٍة ,وال يبقى
وخافق يقفز بجنون نحو نهاية ال ِّرحلة!.
ٍ فزع ,وعينني ُمتجمدتني, �سوى ٍ
ابك طلب ًا حليا ِتك الع ِفنة.
تذلل يا «�أظلم» ِ ..
لن يقتله �سريع ًا ,يريد �أن يراه ُمتذل ًال حتت قدميه �أو ًال.
مرات عديد ًة خالل �سنوات �سج ِنه الأخرية ,يتمنىلقد تخيل هذا امل�شهد ٍ
�أن يعي�ش هذا ال�شعور بكل جوارحه� ,شعور الن�شوة وهو يراه مك�سور ًا �أمامه كما
فعل بوالد ِته من قب ُل.
�شعور اخلزي وال�ضعف والنق�ص الذي �صاحبه ِطيلة عمره ب�سببه� ,إزهاق
وحه فقط ال تكفي ,وال يظن �أنه �سيكتفي بعد اليوم.
ُر ِ
�أرجوك ..ارحمني.
ي�ستوعب الأمر ,لقد
ِ أنفا�س الهث ٍة وقد بد�أ
يهم�س بهما ب� ٍ
ا�ستطاع «�أنور» �أن َ
ر�أى نظرات ال ُكره وال�شر يف عيني «ح�سن» كثري ًا من قب ُل� ,أما ما يراه الآن,
�شر�س ,لن يرتاج َع.
قاتل ٍ
فنظرات ٍ
ت�أكد �أن حياته �ستنتهي يف الت ِّو ,وبدون �إراد ٍة منه وجد يده ترتفع حتى
قب�ضت على كف «ح�سن» ال�ساكنة بت�صلب فوق عن ِقه ,ف�شع َر بربودتها وك�أنها
حتولت �إىل يد �آل ٍة للقتل ال تنتمي للب�شر ,فبد�أت عيناه تدمعان ,ثم يبكي
ُمتو�س ًال حياته كما طلب منه.
ارحمني يا ح�سن ..خلاطر �أمك الطيبة ارحمني.
خلاطر �أمي؟!!
قالها «ح�سن» بده�ش ٍة ،وبد�أت �ضحكاته اخلافتة املُتقطعة تزداد جنون ًا
رويد ًا رويد ًا ,نظراته املجنونة زادت من ه َلع «�أنور» وانهمرت دموعه �أكرث
وتعال نحي ُبه وهو مازال قاب�ض ًا على يد «ح�سن» ,يريد �أن ينجو وال مف ّر ,خرج
َ
تح�شرج ًا و�إرادة احلياة تدفعه دفع ًا وهو يقول باكي ًا:
�صوته ُم ِ
�أُق ِّبل قدميك� ..ساحمني ..عندما �أخرج من هنا �س�أقبل ر�أ�سك �أمام
َ
كرامتك� ..س�أعرتف بكل �شيءٍ � ..أنت ابني ..ورمزي اجلميع و�أرد �إليك
هو َمن قتل «�سلمى» � ..أرجوك.
مال «ح�سن» بر�أ�سه ميين ًا وهو ما زال ُمت ِفظ ًا بنظراته املجنونة وهو يكرر
ب�سخري ٍة الكلمة التي ال يبدو �أنه مل ي�سمع �سواها:
�أنا ابنك؟!
حرك ر�أ�سه م�ؤكد ًا بالرغم من ال ُّرعب املُ ِ
�سيطر عليه حاول «�أنور» �أن ُي َ
أكيد �أكرب بينما عقله يرف�ض
ولكن قب�ضة قات ِله مل ت�سمح له ,فعاد يكررها بت� ٍ
ما �سيقوله:
نعم� ..أنت ابني �..أنا ظلمتُك وظلمتُ �أمك� ..س�أكتب َ
لك البيت والور�شة
با�سمِ ك ..وكل ما عندي لك.
عندي لك اقرتا ٌح �آخر.
تعلقت روح «�أنور» بكلماته ب�أمل يف النجاة ،بينما يدُه ما زالت تقاتل يف
معرك ٍة خا�سرة لتحرر عن َقه ،بينما يرفع «ح�سن» حاجبيه ويقول ُمقرتح ًا:
العال الآخر وتعتذر لها ما ر�أيك ب�أن �أقتلك الآن ..فتذهب �إىل �أمي يف َ
قتلتك� ..أَ ِر ُث َك
هناك؟ و�س�أخرج �أنا من هنا دون �أن يعلم �أحد ب�أنني َ
و�آخذ كل ما كان لديك ..ونرتاح منك ..ويعود احلق لأ�صحابه ..ف�أنت
كنت من ال ُبخل والغباء لدرجة �أنك مل ترفع ق�ضية لتنفي ن�سبي لك..
واكتفيت ب�أن ُتو�صمني ِطيلة عمري بـ «ابن احلرام» .
انهار «�أنور» باكي ًا بقو ٍة ،وبد�أت خفقات قلبه تتباط�أ ،وي�شعر بالدوار
جانب ,وب�أنه يودع �آخر حلظاته من الدنيا ,وككل
وب�صقيع يلف ج�سده من كل ٍٍ
املُ�سافرين الذين يتذكرون كل ما َن َ�سوه قبل انطالق القطار مبا�شر ًة ,مرت
�أمام عينيه �صورة زوجته الراحلة «زينبـ« بجمالها الهادىء و�صوتها الدافىء
جيد الب ِنهما وحيا ٍة
طعام ٍ
وخج ِلها منه و�صربها عليه ,مل تكن تطلب منه �سوى ٍ
عادي ٍة �آدمي ٍة لها.
نعم ،لقد كان يح ُّبها ولكن حبه لأمواله �أكرث وهي بد�أت تتدلل وت�ستنـز ُفه
بطلبا ِتها كما كان يقول له «�صفوان» دائم ًا ,ثم �أجنبت طف ًال ُي�شبه خطيبها
يتلعثم ِمثله وظل هكذا ,ويف النهاية
الأ�سبق وابن خال ِتها ,وعندما بد�أ يتكلم بد�أ ُ
�أرادت الق�ضاء عليه ب�أن يدفع �أموا ًال ال �آخ َر لها عند �أطباء ت�أخر الكالم والنطق
وما �شابه.
كل تلك الذكريات مرت عليه يف حلظات قليلة حتى �سقطت يده بجوارِه
ُم�ست�س ِلم ًا مل�صريه ،وارتفعت ُمقلتاه نحو عيني «ح�سن» املواجهتني له ب�سخري ٍة
مرير ٍة ،وبد�أ ل�سانه يتثاقل عن احلركة ,فخرجت حروفه ُمتعرث ًة ُمتبعرث ًة كما
كان يتكلم ولده �سابق ًا وهو يقول:
عدم رفعي للق�ضية ..مل يكن بخ ًال وال غبا ًء ..يا ولدي� ..صدقني.
ال�ضغط حول عن ِقه فج�أ ًة وبد�أ الهواء مير �إىل رئتيه من ٍ
جديد ،ولكن خف َّ َّ
ب�صعوب ٍة وال َأل ي�ضرب �صدره ب�شد ٍة وذراعيه ،بينما �شعر باقرتاب «ح�سن» منه
غريب وهو ي�س�أله وك�أنه يريد الإجابة
بفحيح ٍ
ٍ �أكرث و�سمع �صوته يخرتق �أذنيه
بالفعل:
ملاذا مل حتاول رفع ق�ضية؟ ..تك ّلم.
�أغم�ض «�أنور» عينيه اللتني باتتا تدوران يف �سقف الغرفة وهو ي�شعر بروحه
تن�سحب �شيئ ًا ف�شيئ ًا من �أطراف ِ
ج�سده ،بينما الدوار العنيف ال يفارق ر�أ�سه,
هل �سيقابل «زينبـ« بالفعل يف َ
العال الآخر؟ ,كيف �سيواج ُهها؟ ,هل م�سمو ٌح
هناك باالعتذار؟ ,هل كانت الدنيا ت�ستحق ما فعله ؟!.
جاءه �صوت «ح�سن» ي�س�أ ُله ب�إ�صرا ٍر �أكرب ُمكرر ًا ينتزعه من حلظات نزعه,
نف�سه للمرة الأوىل:
�شحيح مثله يواجه به َ ٍ باعرتاف
ٍ فهم�س
�أمك كانت تريد� ..أن تعاجلك مببالغ طائلة ..وعندما رف�ضت
و�ضربتها� ..سرقتني ..وذهبت �إىل ابن خالتها ..لي�ساعدها يف
عالجك.
طبق بعد �أن انتهى « �أنور» من اعرتافه ,بينما دقيق ٌة كامل ٌة مرت يف ٍ
�صمت ُم ٍ
تتالقى العيون ال يطرف لأحدهما َجفنٌ ،يحدقان ببع�ضهما البع�ض يف مواجه ٍة
غري ُمتكافئ ٍة ,بني الث�أر والرجاء ،فهل تكون مواجهة الأخطاء واالعرتاف بها
الباهت ملجرد القفز فوقها؟.ب�صدقٍ � ,أف�ضل بكث ٍري من االعتذار ِ
�أنت ُمثري لل�شفقة.
قا َلها «ح�سن» وهو يرفع يده عن «�أنور» الذي �شهق بقو ٍة وبد�أ يف نوب ِة ُ�س ٍ
عال
�شديد.
ٍ متقطع ٍة وا�ضع ًا يده فوق ِ
�صدره ب�إعياءٍ
بنظرات جامد ٍة ٍ اعتدل «ح�سن» بجذعه واقف ًا ُمكور ًا قب�ضتيه بقو ٍة وهو يتابع
جديد ،ال يعلم �أ َّي ًا
مق ،فيعود لي�سعل من ٍ حالة «�أنور» وهو يهد�أ قلي ًال ويتنف�س ب ُع ٍ
مق ,يحتاج �أن يخرج من هنا على الفور ,هو الذي منهما يحتاج �إىل التنف�س ب ُع ٍ
يختنقُ ولي�س «�أنور» ,ثور ٌة عارم ٌة تتعارك بداخ ِله ,ملاذا تركه ومل يقتله؟ .ملاذا
�أراد �أن يعرف ؟ ما الداعي؟ ..بل ما الفارق؟! .
وجد قدميه ترتاجعان للخلف ويبتعد عن الفرا�ش نحو باب الغرفة ،وعيناه
و�سعاله املُتقطع الذي بد�أ يهد�أ وينتظم,
ال زا َلتا مثبتتني على طريح الفرا�ش ُ
عت�صر ًا مقب�ض الباب املعدين بقو ٍة ،وعندما عادت
رفع قب�ضته خلف ظهره ُم ِ
جديد� ,س�أله «ح�سن» بهدوءٍ ظاهري:
عيناهما للمواجهة من ٍ
هل تعلم ملاذا مل �أقتلك يا « �أنور» ؟.
با�ضطراب ،فقال «ح�سن» على الفور دون �أن ينتظر
ٍ حتركت عينا «�أنور»
�إجاب ًة وقد �صارت عيناه بلون الدم:
لأنني لو فعلت ..ف�س�أكون ابن حرام بحقٍّ ،ولكني ل�ست كذلك.
قالها وفتح الباب وفـ َّر ,فـ َّر بكل ما حتمله الكلمة من َمعنى ,برغم كل ما
مر به ,ال زالت �آدميته تعا ِفر بداخ ِله ,ال زال ي�شعر �أنه «والده» ,بعد كل ما م َّر
مكان ما يف قلب ال َوح�ش املُظلم ,ت�ؤنبه وتدفعه نحو به ,ال زالت �أمه قابع ًة يف ٍ
بتحذير
ٍ والده وتنظر له
حلظات تقف بينه وبني ِ ٍ ق�سم �أنه ر�آها منذ
النور ,يكاد ُي ِ
حرام لتقتل �أباك»� ,ضرب ال�سيارة بغ�ضب قبل �أن يدفع ج�سده
ل�ست ابن ٍ
«�أنت َ
بعنف ال يعرف كيف يوجهه؟ ,لقد جنا «�أنور» بعد كل ما فعل ملجرد
بداخلها ٍ
�أنه والدُه ,ا�ستطاعت «زينبـ« �أن َ
تنقذه من بني يديه.
إنقاذ «غفران» ؟!.
فهل �ستنجح يف � ِ
y
ج�سدُها يئن وذهنها ينهار طلب ًا للنوم ،جفناها يتو�سالن ال�سكوت بينما
خوفها ي�صارعهم جميع ًا ليبق َيها متيقظ ًة لكل ٍ
�صوت �أو حرك ٍة ت�شعر بها من
حولها ،ماذا �سيحدث؟.
غليظ يخن ُقها ،ال يقتلها وال ُيبقيها على قيد احلياة. �س�ؤا ٌل ُمع َّلق ٍ
بحبل ٍ
لقد نه�ضت بحذ ٍر بعد ان�صرافه وبد�أت عيناها تتجوالن يف املكان �أو ًال قبل
بالتحركُ ،خطواتها ثقيل ٌة ب�سبب ال�سل�سلة احلديدية املُكبلة
ِ �أن ت�سمح لقدميها
لإحدى قدميها ،جرت عيناها على طول ال�سل�سال حتى توقفت عند احللق ِة
احلديدية املثبتة بطرف نهايتها يف احلائط ،ماذا يريد اجلميع منها؟ ملاذا
يجب دائم ًا �أن ُيذ ِّيل �إم�ضا�ؤها ك�شوف ح�سابات الآخرين؟.
�صغرها وهي تدفع احل�ساب عنهم ،يلومونها لكونها �أنثى ،يلومونها منذ ِ
عن نظرات الرجال لها ثم يعاقبونها لطمع �أخيها بها ،و ُتـن َفى لدى خالتها
ليعود هو �إىل عر�ش املنزل َم ِلك ًا ُمتوج ًا كما كان� ،إال �أن اجلارية لي�ست هنا
لتلبي نزواته الدنيئة.
ُك ِ�س َرت ذراعها ثم قد ُمها كالذين ي�سعون يف الأر�ض ف�ساد ًا ملجرد رغبتها
�شحيح ثمن ًا ل�سكوته ،و�أخري ًا ها هي �أ�سري ٌة ..
ٍ يف قول احلقيقةُ ،خ ِطبت ٍ
لكهل
عنده ،حتى هو ظل َمها و�أجربها على دفع الثمن ،ولكن هذه املرة ال تعرف كم
�ستدف ُع ؟ وعن � ٍّأي منهم �ستدفع الثمن ؟ !.
جدران �أخرى �أكرث َ�سع ٍة،ٍ جرت قدميها ب ُبطءٍ خارج ا ُ
جلدران ال�ضيقة �إىل
جلدران يف اخلارج َمطلي ٌة بنف�س اللون ،ال نوافذ على بف�ضول حولها ،ا ُ
ٍ نظرت
الإطالق �سوى واحد ٍة مرتفع ٍة حتى قار َب ِت ال�سقف كما هو احلال يف غرفتها،
نقاط �سوداء ،كل ببالط قد ٍمي حتفره ٌ يبدو �أنه خمز ٌن مهجو ٌر ،فالأر�ض ُمغرب ٌة ٍ
منجد بك�سو ٍة كانت
عري�ض ٍ ٍ هذه امل�ساحة الوا�سعة فارغة متام ًا �سوى من ٍ
مقعد
املواجه لها مبا�شر ًة �إال �أنه بعي ٌد جد ًا
يوم ما ،جماو ٍر للباب الكبري ِ حمراء يف ٍ
مقارن ًة بطول ال�سل�سلة اخلانقة لقدميها ،الباب حديدي عري�ض جد ًا يكفي
ملرور �سيار ٍة من خالله.
هل كل هذه االحتياطات والتح�صينات من �أجلها ؟ غري مهم كل هذا ،ال
�أهمية له بجوار م�صريها املجهول الذي ينتظرها .
هل تخا ُفه بالفعل؟ �س�ؤا ٌل �آخر لي�س له �إجاب ٌة ،الظاهر �أنها �أ�صبحت
بيدق ًا على ُرقع ٍة يف ُلعب ٍة ما يديرها ٌ
حبيب �ساب ٌق �إال �أنها ال تعلم متى �سيبد�أ
ا�ستخدامها؟ ،ويف �أي االجتاهات �سيتم الدفع بها ،احلقيقة �أن كل الطرق
نهايتها ُم�شتعل ٌة وهي يف الو�سط متام ًا.
حاجتها ال�ستخدام احلمام هي ما جعلتها تدير ر�أ�سها ميين ًا ،لقد مت
بباب خ�شبي �صغ ٍري ،يت�سع
ا�ستبدال ال�ستارة التي كانت تغطي باب احلمام ٍ
جدران خ�شبية ،والرابع جدار الغرفة التي ت�ض ُّم
ٍ قلي ًال عن ُعلبة الثقاب ،ثالثة
�سريرها.
مدت يدها لتفتح الباب �أكرث لت�ستطيع املرور من خالله ففتح الباب �إىل
فولت داخله بحذ ٍر بينما �صل�صلة احلديد الرتيبة على الأر�ض تتب ُعها
اخلارج ِ
وتذكرها بو�ضعها املرير ،حاولت �إغالق الباب جيد ًا ،ودارت ن�صف دورة حول
نف�سها لتواجه املر�آة ال�صغرية جد ًا املعلقة مب�سمار فوق حو�ض الغ�سيل الأكرب
منها قلي ًال.
هل ر�ؤية الكدمات جتلب �أمل ال�شعور بها ؟ ،تورم ب�سيط بجانب عينها
الي�سرى حتول �إىل اللون الأزرق الداكن جعلها تت�أمل حتى قبل �أن ترفع �إ�صبعها
وت�ضغطه بتفح�ص� ،شعرها م�شعثٌ حول وجهها وو�ضعه ُمز ٍر جد ًا ..هل ر�آها
هكذا؟ ،ال بد �أنه اكت�شف اخل�صالت املموجة والأطراف املتق�صفة ..
�أنت جمنونة بالت�أكيد ،هل هذا وقت تقييم املظهر؟ ،ماذا �سيفيدك �إن كان
أمل�س بينما هو يقتلك ،الأنثى هي الأنثى ..حتى و�إن كانت يف �ساحة
�شعرك � َ
احلرب رمبا ال تخ�شى �أن ُتق�صف مبدفعية بقدر ما تخ�شى �أن ي�سوء مظهرها
y
�أمام من حتب ..و�إن كان من الأعداء !.
عندما عاد �إليها كان يف عنفوان ثورته حمم ًال بكل الإخفاقات ،مل يقتله
كما �أراد وكما خطط وا�ستعد منذ �أيام ،ترك عنقه ب�إرادته ،تركه يتنف�س
احلياة من جديد ،ف�شل يف مهمته الثانية� ،أول ف�شل يواجهه منذ �أن تغري،
و�أ�صبح �شخ�ص ًا �آخر ال يرحم وال يريد �أن يرحم �أحد ًا على الإطالق.
�أراد �أن ينفث نار الهزمية الأوىل فوق ر�أ�سها هي� ،أخت «رمزي» هي املتاحة
�أمامه الآن كعر�ض جماين؛ فلقد ن َّف�ض كل الأماكن التي يرتادها �أخوها ومل
يجده.
حاول احل�صول على � ّأي معلومة تفيد مبكان خمبئه ومل ينجح ،مل ي َره �أحد
من �أ�صدقائه منذ فرتة لي�ست بالق�صرية ،حتى والده يبحث عنه ويت�ساءل ..
هكذا �أخربوه �صادقني ب�إرادتهم �أو رغم ًا عنهم � ..صديقاه اللذان �شهدا زور ًا
�ضده يف الق�ضية.
مدان من الق�ضية
قاال كل ما لديهما من �أخبار عنه منذ �أن خرج غري ٍ
وعاد �إليهما منت�صر ًا ،بينما دماء «�سلمى» امل�سكينة ال زالت تقطر من يديه،
عاد �إليهما ب�ضمري منعدم �أكرث مما كان ،يريد �أن يفرت�س اجلميع وقد ت�أكد
�أنه ال رادع له ..والربكة يف �أبيه وهذا القانون املليء بالثغرات ،مبارِك ًا خطوبة
ال�صغرية على الكهل.
مبجرد الإفراج عنه �أخذه والده عند �أحد �أقربائه يف حمافظة �أخرى؛
ليخفيه عن الأعني لفرتة ،وبعد �أن �أنهى كل اتفاقاته املُخزية �أعاده من ٍ
جديد
الذ َكر الوحيد �أمام عينيه حر ًا طليق ًا وال يه ُّم �أي
لأح�ضانه ،يتمتع بوجود ولده َّ
�شيء بعد ذلك وال حتى �أن يحرتق العامل ب�أكمله.
عاد «رمزي» ل�شقاوته املعهودة و�أدواره التمثيلية البارعة التي يح�صل بها
على ما يريده ،ينتقل من عمل لآخر ي�سحب الأموال من والده متوغ ًال �أكرث يف
عامل املخدرات ويتجر�أ �أكرث على الفتيات� ،أو مبعنى �أدق كل ما هو �أنثى وبكل
الطرق املقززة.
y
كانت تفرت�ش جزء ًا من غطاء ال�سرير على الأر�ض املغربة تتخذه مو�ضع ًا
لل�صالة ،وبينما هي م�ستغرق ٌة يف �صالتها ا�ستمعت �إىل �صرير الباب اخلارجي
ُيفتح فج�أة بقوة فانتف�ض ج�سدها �أثناء ال�سجود ،ولكنها تابعت معتدلة �إىل
و�ضع اجللو�س وعندما وقفت لتكرب دمعت عيناها رهب ًة وخوف ًا بينما قلبها
يناجي ربها؛ ليخل�صها مما هي فيه.
بعنف �أرعبها ،وجعلها رغم ًا عنها ت�شهق ،وتخت�ض فزعة فتح باب غرفتها ٍ
وت�ستدير نحوه بج�سدها بالكامل وقد قطعت �صالتها ،عندما وقعت عيناها
عليه عادت بظهرها �إىل الزاوية بني اجلدار و�أحد �أعمدة ال�سرير وا�ضعة
كفها على �صدرها وقد �شعرت بخافقها يتقافز بني �ضلوعها بهيئته التي
للحظات حماو ًال ا�ستيعاب ما كانت تفعله
ٍ اقتحم بها الغرفة ،وقف ينظر �إليها
قبل اقتحامه للغرفة� ،إحدى كفيه كانت تعت�صر مقب�ض الباب بينما الأخرى
منب�سطة عن �آخرها و�أ�صابعها متباعدة بت�شنج وك�أنه ي�ستع ّد ل�صفعها� ،أنفا�سه
مت�سارعة يناظرها بانتقام يريده.
�أخري ًا ا�ستطاع ا�ستيعاب �أنها كانت ت�صلي وقد ل َّف ْت حجابها ب�إتقان حول
متدل على الأر�ض بغري ترتيب.ر�أ�سها ،وجز ٌء من املالءة ٍّ
هل تت�صور مث ًال �أنها ت�ستجلب عطفه بتلك الطريقة؟ ! ،اندفع نحوها بهياج
جال�س ًا القرف�صاء �أمامها ،بينما كفه املت�شنجة ترتفع لتقب�ض على رقبتها
لتخنقها ،وقد توهجت ال�شرا�سة يف مالحمه كلها ولي�س فى عينيه فقط وهو
يهدر بعنف.
�أين هو ؟ �أين خب�أمتوه ؟.
�شحب وجهها ،بينما ال ت�ستطيع التنف�س والطنني يزداد جلبته ارتفاع ًا يف
بعنف �أكرب
�أذنيها ،عيناها جاحظتان ،وال�شهقات ال تتوقف وهو يكرر �س�ؤاله ٍ
بينما ي�ضغط حلقها ب�أ�صابعه.
كيف ا�ستطعتم �أن تخفوه بهذه الب�ساطة وك�أنه َّ
تبخر؟ انطقي� ..أين
هو؟.
كانت قاب�ض ًة بهما على ر�سغه يف حماولة
بد�أ الدوار يهاجمها ويداها اللتان ْ
منها لإبعاد كفه عن حلقها ترتاخيان ،واللون الأزرق يزحف على �شفتيها ببطء
وقد �سلمت �أنها قتيلته ال حمالة� ،ضعفت �شهقاتها املرتجية للهواء وخارت
قوتها ،ويف حلظة تركها دافع ًا �إياها جانب ًا ..بد�أت ت�س ُعل بقوة مم�سكة بحلقها
وهي ال ت�صدق دفعة الهواء التي جرت �إىل رئتيها بغت ًة؛ لتعيدها �إىل احلياة
من جديد.
لكنه مل يرح ْمها ..الق�سوة تغلف قلبه بربودة ال جتعله يفرق بني بريء
ومتهم� ،أو ظامل ومظلوم ،اجلميع عنده الآن �شركاء فيما حدث له �إن مل يكن
بالفعل ،فبال�سكوت.
ليجدك.
ِ �ستظلني معي هنا حتى يخرج الف�أر من خمبئه
وعلى طريقة الزهرة التي نبتت بني ال�صخور ابت�سمت ابت�سامة �ضعيفة
و�ساخرة على طرف �شفتيها اللتني ا�ستعادتا احمرارهما الطبيعي ،تلك
االبت�سامة التي �أغ�ضبته معتقد ًا �أنها ت�سخر منه وهي يف تلك احلالة املُزرية،
قب�ض على كتفيها و�أوقفها عنو ًة على قدميها مثبت ًا عينيه على وجهها الذي
ان�سحبت منه الدماء جمدد ًا ،وهو يهم�س ٍ
بغل وا�ضح :
�أت�سخرين مني ؟!
�سريع ًا حركت ر�أ�سها نفي ًا قبل �أن يتهور قائلة:
ال ،ال� ..أبد ًا ..مل �أق�صد ذلك.
�ضغط كتفيها بقوة �أكرب جعلها تت�أمل مغم�ض ًة عينيها ،وهو يت�ساءل بنربة
مهددة مر�س ًال �إليها �أنفا�سه امل�شتعلة حترق وجهها:
ابت�سمت �إذن ؟.
ِ ملاذا
بال �إرادة منها رفعت كفيها لتدفعه لالبتعاد عنها ،ولكنها افتقدت القوة
لذلك فا�ستقرتا على �صدره مرتع�شتني وهي تف�صح بنرب ٍة مت�أملة:
�أنت ال تفهم � ..أنا ال �أ�ساوي �شيئ ًا لديهم ..رمزي لن يظهر �أبد ًا ..وال
يهمه �سالمتي يف �شيء من الأ�سا�س حتى ولو هددتهم بقتلي ..والدي
لن ي�ستجيب �إىل � ّأي تهديد قد ي�ؤذي ولده الغايل حتى ولو كنتُ �أنا
ال�ضحية� ..سيبلغ ال�شرطة ويغامر بحياتي فدا ًء له.
اخلوف يف حديثها كان ممتزج ًا مبرار ٍة ذابح ٍة ،كانت قد اعتقدت ب�أنها
اعتادت على ذلك ال�شعور ولكن ما دام املنبع يفي�ض فتظل االنك�سارات
القدمية تن�ضح ب�صديدها يف منا�سبات م�شابهة ت�صب جميعها نحو الهزمية
الأوىل دائم ًا ،فالهزمية الأوىل هي املنبع الذي ال ين�ضب �أبد ًا� ،إنه �أ�صل كل
اخليبات والهزائم ،ولواله ما كنا هنا الآن نعاين من تبعاته.
ال تعلم «غفران» متى ابتعد عنها حتديد ًا؟ ،كل ما وجدته عندما عادت
بذهنها امل�شو�ش �إليه �أنه كان يخطو �إىل اخللف وقد طغى التوتر فوق مالحمه
وك�أنه يعيد ح�ساباته من جديد وهو يقول بحري ٍة حقيقية:
ملاذا ؟.
غاللة �سوداء من الدموع غطت حدقتيها ،وهي ترفع كتفيها املت�أملتني
وتخف�ضهما بحرية �أكرب من حريته:
ال �أعرف ..هكذا !!
الدموع التي هطلت على وجنتيها كاملطر ،وانك�سار روحها �أمامه وهي
حتكي عن نبذ عائلتها لها ,ذ َّك ْرته مبا�ضيه ,ب�شخ�ص كان يعاين نف�س املعاناة
وال يعرف �أي�ض ًا ..ملاذا؟ ..مثلها متام ًا.
مل ُي ِلق عليها حتى نظرة �أخرية ,خرج على الفور مغلق ًا الباب خلفه ،ال
وقت للتعاطف واملقارنات ،لو كان كالمها �صحيح ًا ،ف�ستكون كارثة ،كل خططه
�ستنقلب ر�أ�س ًا على عقب و�سيكون قد احتجزها دون فائدة.
ولكن مه ًال ..لن ي�ست�سلم هكذا �سريع ًا� ،سي�ستنـزف والدها لآخر ٍ
رمق
وبكل و�سيلة ممكنة� ،إن مل يكن التهديد بالقتل ي�ؤتي نفع ًا فهناك تهديدات
�أخرى �ستكون مثمر ًة .
عادت �إليه روح العناد والقتال جمدد ًا ،وقد اختفى تعاطفه معها متام ًا ،ال
مكان لل�ضعفاء ،فتح بابها مرة �أخرى ووقف م�ستند ًا �إىل حافته يبادلها النظر
بينما هي مت�صلبة كالتمثال ال يتحرك فيها �سوى دموع عينيها املنهمرة فقط،
وبعد مرور حلظات من ال�صمت ،قال ب�صوت �آمر جمد الدماء يف عروقها:
حجابك.
ِ اخلعي
y
رد شرف
رئي�س وتابعون ال ميلكون من �أمرهم �شيئ ًا وال يقدرون على قول (ال)
و�ضعفاء يقدمون فرو�ض الطاعة والوالء ال ل�شيء �إال لفر�صة احل�صول على
حياة �أيا كانت طبيعتها ،املهم �أن تكون حياة ال �أكرث وال �أقل .
y
يف بيت «حافظ رمزي» وعلى الأريكة ال�ضخمة التي حتتل �أقل من ن�صف
ال�صالة تقريب ًا جتل�س اخلالة العجوز م�ستندة بكفيها �إىل عكازها املواجه لها
متام ًا وعلى وجهها خليط من الع�صبية والت�أ ُّفف وقليل من القلق ،ملاذا يدفعون
بها دائم ًا �إىل ِح َممِ هم امل�شتعلة؟� ،أال يكفي فتاتهم البائ�سة التي �ألقوا بها يف
بيتها بحجة خدمتها متحملة حاالت بكائها املتوا�صلة والتعا�سة املالزمة ملالمح
وجهها منذ �أن خطت �أوىل خطواتها لباب بيتها ك�شريكة �سكن ب�شكل م�ؤقت؟.
ري فيهما وهي
ابت�سامة �ساخرة تركت طرف �شفتيها تبعها التوا ٌء كب ٌ
ُمت�صم�صهما ِب َ�سخط وتكرر هام�سة بعدم ر�ضا «ب�شكل م�ؤقت» .
أق�سمت به �أختها ال�صغرى وهي جتثو �أمامها على ركبتيها منذ هذا ما � ْ
ثالث �سنوات بينما الدموع تغرق وجهها ترجوها �أن تقبل «غفران» �ضيفة
عندها م�ؤقت ًا حتى يوافق «رمزي» على العودة �إىل املنزل مرة �أخرى فوالده
َ�س ُي َـجنّ وهو يراه يعمل �صبي ميكانيكي يف الور�شة الكائنة بطرف احلي مف�ض ًال
�إياها على العودة لبيته� ،إنها تخ�شى على ولدها ويف نف�س الوقت لن تقوم ب�إلقاء
اتفقت عليه مع زوجها
ْ ابنتها يف الطريق من �أجله ،فكان احلل الوحيد الذي
�أن تخرج «غفران» ملدة ي�سرية من املنزل حتى تهد�أ الأمور متام ًا ثم تعود بعد
كربت يف العمر،
ذلك ،ب ِق َي فقط موافقة اخلالة امل�شهورة بعنادها املتزايد كلما ْ
جت كل بناتها وارتاحت من عبئهنَّ ،فهل تفتح بيتها الآن لفتاة مراهقة لقد ز َّو ْ
تتهم �أخاها بالتحر�ش بها ؟! ..
فتاة قليلة الأدب ت�ستحق القتل ال الطرد فقط !!.
وقتها رف�ضت اخلالة مرار ًا ،ولكن �أ ّم «غفران» مل تي�أ�س �أبد ًا ،جاءتها يوم َّي ًا
تبكي حتت قدميها ،تار ًة تعدُها ب�أن «غفران» �سيتم �سحب �أوراقها من املدر�سة
ولن يكون �شغلها �سوى خدمتها فقط ،وتار ًة �أخرى تتعهد لها ب�أنهم �سيتكفلون
بطعامها و�شرابها ولن تكلفها ِم ِّليم ًا واحد ًا� ،أي �أنها �ستكون مبثابة خادمة بال
�أجر وال حتى بلقْمتها ،جمرد غرفة وفرا�ش فقط.
العر�ض كان ُمغري ًا جد ًا ول�صاحلها يف كل الأحوال ،وكان من ال�صعب
فوافقت �أخري ًا.
ْ عليها رف�ضه يف هذه احلالة
حمطمة ،حرموهاووجه مظلم وروح َّ
دخلت عليها «غفران» بحقيب ٍة �صغري ٍة ٍ
من ا�ستكمال درا�ستها ُمل ِق ْي بها يف بيت خا َلتها العجوز لتعمل خادمة لديها،
وكل ذلك ليعود �إليهم فتاهم املد َّلل َّ ..
الذكر الوحيد يف قف�ص الإناث .
حتى جاء اليوم الذى مل تعد فيه النفقات تكفي ،فـ «رمزي» ُز َّج به يف
ق�ضية قتل ،يالهذه العائلة البائ�سة! ،الكون كله اجتمع لينزع منهم وحيدهم
وما زاد الطني ب َّلة �أن �أخته املت�آمرة تريد �أن تذهب لت�شهد �ضده يف تلك
الق�ضية التي ال تعلم عنها �سوى حمادثة ج َر ْت بني والديها لي ًال ،لقد وقفت
متبجحة ب�أن «ح�سن» ال ميكن �أن يفعل هذه الفعلة ال�شنعاء ،ولكنها مل ت�ستطع
ونالت ما ت�ستحقه،
�أن تكمل وقفتها فوالدها قد قام معها بالواجب وزيادة ْ
ك�س ٌر يف �إحدى قدميها ويدها اليمنى ،وبالرغم من �أنها كانت ت�ستحق ولكن ..
يالـلم�صيبة َ ..من �سيخدمها الآن ؟
فا�ضط َّرت الأم �أن حت�ضر �إليهما يومي ًا وتق�ضي اليوم كله يف خدمتهما
ودموع عينيها ال جتف على تلك احلالة التي و�صل �إليها اجلميع نادب ًة َّ
حظها
ال َع ِث.
وبعد �أن م َّرت الأ�شهر ال�صعبة واكتمل �شفاء «غفران» وعادت �إىل ر�شدها،
طلبت �أن تخرج للعمل لتك�سب قوتها بنف�سها خم ِّففة العبء عن والدها ،الغبيةْ
لرجل عجوز على و�شك املوت� ،صحيح �أنهال تريد �أن ت�ستفيد �أبد ًا من خطبتها ٍ
�شحي ٌح ولكنه مقتدر ميلك ور�شة ومنز ًال من طابقني ،يوم ًا ما �سيموت وي�ؤول كل
هذا لهاَّ � ،إل �أنها ت�صر على العمل حتى ولو كان يف م�صنع للمالب�س حتت ال�سلم
كما يقال ،وت�صر �أن تق�ضي ليلتها باكي ًة قبل �أن تتهاوى متهالكة يف النوم.
حتى جاء اليوم الذي مل تعد فيه «غفران» �إىل املنزل وا�ضطرتها �إىل
اخلروج لتبليغ والديها بهذا الغياب املفاجئ و�أن توقعاتها قد حدثت ،فقد �سبق
ون َّب َهتْهما من قبل �أن الفتاة حالها متغري م� َّؤخر ًا ،تارة تعود باكية وقد ُ�سرقت
نقودها ،وتارة �أخرى تعود ووجهها �شاحب كالأموات.
بالت�أكيد ..م�سل�سل اخلطف هذا من �إخراجها ،ولكن ما ذنبها هي؟ ..هي
العجوز ال�ضعيف يزعجونها هكذا ك َّل يوم ،ي�س�ألونها عن معلومات ال تعرفها
عن الفتاة� ،إ َّنها بالكاد تتذكر وجهها .
وبعد كل هذا ت�ضطر �إىل �أن ت�أتي كل هذه امل�سافة؛ لأنَّ �أختها ال�صغرى
�سقطت مري�ض ًة بل والأدهى من ذلك �أ َّنها حم َّملة ب�أكيا�س الفاكهة� ،أختها
ال�صغرى التي جتل�س �إليها يف هذه اللحظة �شاحبة كالأموات بينما زوجها
متحجرتني نظرة
قاب�ض على قطعة قما�ش بداخل يده ينظر �إىل الفراغ بعينني ِّ ٌ
تائهة ال يعلم ماذا يفعل؟ ،تلك القطعة التي كانت ترتديها «غفران» حول
ر�أ�سها يف �آخر يوم ر�أتْها فيه.
�أختها ال�صغرى التي نطقت �أخري ًا ،وقد عال �صوتها ملرة واحدة خالل
عمرها الطويل مع زوجها ،ت�صرخ يف وجهه بانهيار:
معنى هذا �أنك كنت تعلم �أنها خمطوفة ومل تفعل �شيئ ًا ..ومل تخربين
�أي�ض ًا ..كنت تعلم �أنها يف خطر ..رد َّ
علي يا �أبا رمزي.
ملتفت نحوها بق�سو ٍة ،املر�أة جتر�أت
ٌ منذ �أول كلمة نطقتْها �صارخة به وهو
عليه بعد كل هذا العمر وت�صرخ �أي�ض ًا يف وجهه و�أمام �أختها الكربى ال�شمطاء،
كان ي�ضغط �أ�ضرا�سه بقوة حماو ًال التَّما�سك وعندما انت َه ْت من هتافها كان
قد انتهى هو من �إر�سال نظراته املتوعدة �إليها م�شري ًا لها �أن ت�صمت و� َّإل
ف�س ُيخر�سها �إىل الأبد قائ ًال ب� ٍ
أنفا�س م�شتعل ٍة:
علي هكذا و�أمام النا�س؟ ..
اخف�ضي �صوتك يا امر�أة ..كيف تتجر�أين ّ
آتيك بها عاج ًال �أو �آج ًال ،فال �أريد �سماع كلمة �أخرى.
ابنتك �س� ِ
ِ
ولكنّ املر�أة كانت قد خرجت عن ال�سيطرة متام ًا عندما �صدمها حديثه
عرب الباب املفتوح ن�صفه مع «�صفوان» منذ قليل دون �أن ي�شعر بها خلفه ت�ستمع
�إىل كل كلمة ُتقال بينهما وهو مي ُّد يده ب ِلفافة �صغرية نحو «�صفوان» قائ ًال
بنرب ٍة مهدِّ دة:
لقد وعدتني �أن جتده يا �صفوان ومل تفعل وها هي النتيجة � ..أر�سل �إ ّ
يل
حجاب ابنتي وهذا لي�س له �سوى معنى واحد ..
بينما «�صفوان» يقاطعه بنرب ٍة هادئ ٍة ي�شوبها بع�ض التوتر:
اهد�أ يا حافظ� ..إنه يهددك فقط ..فلو كان يريد �أذاها َ
لفعل ..كل
هم ِه هو �إيجاد رمزي وتهديده هذا يدل على �أنه مل يجده حتى الآن
وهي نقطة يف �صاحلك.
وابنتي ؟!
�أتاها �صوت «�صفوان» وقد ح َّلت ال�سخرية مكان التوتر فيه ،بينما ما زال
حمتفظ ًا بهدوئه:
وخفت َ
ن�صحتك من البداية �أن ُت َب ِلغ عن اختفائها ولكنك مل تفعل ِ لقد
من الف�ضيحة حتى زوجتك مل تخربها.
هل تريد �أن يتكلم النا�س عن �شريف و�سمعتي يا �صفوان؟ � ..أال تعلم
ماذا ُيقال عن الفتاة التي يتم خطفها حتى ولو مل مي�سها �سوء؟ � ..إنك
ال ت�ساعد يف �شيء على الإطالق يا �صفوان.
اخل�شنة الغا�ضبة وهو يقول:
ق�صف �صوت «�صفوان» �أذنيها بنربته ِ
�أنا مل �أ�ساعدك يف �شيء على الإطالق يا حافظ! ..لقد بعتُ �أنور من
�أجلك واتفقت معك �ضد م�صلحته ،وتالعبت بعقله فر�ضي بخطوب ٍة
مزعوم ٍة لثالث �سنوات كاملة ..هل ن�سيت كل هذا يا حافظ؟!
َ
مل�صلحتك �أنت يا �صفوان� ..أم ن�سيت �أنت املقابل �أنت فعلت كل هذا
الذي طلبته مني ب�صفتي موظف ًا يف ال�شهر العقاري؟!.
عند هذه النقطة مل يعد يف مقدرتها الوقوف على قدميها �أو ال�شعور ب�أي
�شيء �سوى بدقات قلبها املت�سارعة والذهول التام ومن بعده �سقوطها املدوي
هاتف ًة با�سم ابنتها التي كانت تظن �أ َّنها هربت.
وعندما �أفاقت �شاهق ًة تنادي على ابنتها «غفران» وجدت �أختها العجوز
بجانبها حتاول تهدئتها بنزق.
الفتاة �ستعود � ..ستعود ..فهي ب�سبع �أرواح ..فالفتيات ال ْ َ
ميت عاد ًة
قبل �أن ُيهل ْكنَ ك َّل عائلتهنَّ فرد ًا فرد ًا.
فقد ْت والدة «غفران» �سيطرتها على عقلها ،وبد�أت تهذي منادية وهنا َ
على ابنتها بينما العجوز تغ�سل يدها من الق�ضية بر َّمتها وتخربها ب�أن زوجها
هو ال�سبب؛ لأ َّنه ترك لها احلبل على الغارب من البداية ،والآن ال يريد �أن
يبلغ ال�شرطة حتى جاءه حجابها عند بابه مكتوب ًا فوقه بال�شحم الأ�سود ....
«غفران = رمزي»
فهم «حافظ» الر�سالة وعلم �أنَّ «ح�سن» ي�ساومه على ابنته مقابل �أن ي�أتي
له بـ «رمزي» الذي اختفى منذ �أيام وك�أنه قد تبخر يف الهواء.
جديد عليها ،ونه�ضت تواجهه غري عابئة
ٍ بعنف
م�سحت الأم دموعها ٍ
ِ
بنظراته القا�سية هاتفة:
الف�ضيحة التي تخاف منها �ستحدث لو مل تبلغ ال�شر . ....
ابتل َع ِت املتبقى من حروفها عندما قب�ض على رقبتها وهو يدفعها لتعود
بعنف جال�سة على الأريكة يناظرها ب�ش ٍّر حمدق ،هام�س ًا من بني �أ�سنانه التي
ٍ
كادت �أن تتحطم من قوة �ضغطه عليها:
أطلقك و�أرمي بك �إىل
واهلل � ..إن مل تبتلعي ل�سانك يا امر�أة ..ف�س� ِ
أدفنك هنا �أمام �أختك هذه.
الطريق� ..أو �أقتلك و� ِ
ات�سعت عينا اخلالة با�ستنكار وهي تنه�ض واقفة ناظرة �إليهما كاملجانني:
كان يوم ًا مل تطلع له �شم�س ..اليوم الذي وافقت فيه على مكوث تلك
البنت امل�ش�ؤومة يف بيتي.
ترك «حافظ» رقبة زوجته واعتدل واقف ًا ،بينما ال تزال نظراته تخنقها.
عدلت العجوز من و�شاحها وهي ت�ضرب بع�صاها الأر�ض هاتفة بنفور:
�إنها غلطتي من البداية ..منذ متى و�أنا �أتدخل يف م�شاكلكم التي ال
تنتهي ..ال �أريد ر�ؤية �أحد منكم بعد الآن �سواء وجدمتوها �أم ال؟..
وبد�أت يف التح ُّرك بع�صبية ُتاه الباب بينما ج�سدها املمتلئ يرجت من
�سرعة حركتها املنفعلة يف �سبيلها للخروج.
يا عائلة املجانني ..تخافون من الف�ضيحة !! � ..أنتم مف�ضوحون من
اخلل َفة.
عم ِالأ�سا�س ..يا ما�شاء اهلل ،جمرم وخمطوفة ،و ِن َ
�صفعت الباب خلفها بقوة �أزعجت زجاج النافذة ،فانطف�أ النور يف عيني
�أم «غفران» ،وبدا بيا�ضهما كاحل ًا ،لقد تركها �آخر فرد يف عائلتها معه مانح ًة
�إياه كل احلق يف تعذيبها ،وهو لن يتوانى و َق ِب َل الهدية على الفور ،التفت نحوها
يعاين حالتها الر َّثة التي � َ
أ�صبح ْت عليها يف حلظات وقد تب َّدل حالها كله فج�أ ًة،
وط�أط�أت منك�سرة وقد عادت �إىل طبيعتها امل�ست�سلمة اخلائفة ،فانحنى يرتدي
بال:
ل�س ٍحذاءه قائ ًال دون النظر �إليها وك�أنها ِح ٌ
�س�أجد رمزي ب�أي طريقة ..و�سنعمل �أنا وهو و�صفوان على �إيقاع ح�سن
وعدتك دون �أن نف�ضح �أنف�سنا
ِ يف �شر �أعماله � ..سنجده وجندها كما
ب�أيدينا.
غادر وتركها كما فعل اجلميع ،غادر ببطءٍ وب�ساطة دون �أن ينتظر منها
�أي جواب ،كان يعلم �أنها لن تنطق ببنت �شف ٍة ،وكيف تفعل وقد ا�ستخدم معها
ال�سالح الذي يعمل دائم ًا و�أبد ًا مع الن�ساء؟ ..الطالق!.
y
الدرج ،ثم م�ساحة مرتين تقريب ًا كانت كافية؛ خم�س درجات �صعود ًا على َ
لي�صل �إىل ال�شقة املق�صودة الكائنة يف الطابق الأر�ضي ،ال زال الباب كئيب ًا
بلونه الأ�سود ،حتى الباب يرف�ض �أن ينهي فرتة احلداد على الطفل الذي مل
يكن يوم ًا طف ًال� ،إال �أن � ّإ�صي�ص النباتات الرخي�ص قد عاد ينبت من جديد
بجوار الباب كحار�س �شخ�صي قد ا�ستيقظ فج�أة من ُ�سباته ،لقد كان يذكره
منذ ما يقارب ثالث �سنوات عندما ح�ضر بنف�سه �إليها قبل �أن يتم �إلقاء
القب�ض على «�شاهني و�سيد» قات َل ْى ولدها ،لقد كانت النباتات بداخل احلو�ض
جافة وميتة على الأطراف مت�ساقطة ك�ضحايا حرب ،يبدو �أن ال�سيدة «جليلة»
عادت تهتم به من جديد وترعاه ،رمبا يكون هذا م�ؤ�شر ًا جيد ًا؛ لتح�سن حالتها
النف�سية يف هذه الآونة ،هل ر�ضيت بالقدر� ،أم ...؟
وقبل �أن ت�ستكمل �أفكاره دورتها الكاملة بداخل عقله ُفتح الباب و�أطلت منه
�سيدة يذكر «عا�صم» �أنه قد ر�آها من قبل ،ولكنه ال يذكر �أين ومتى على وجه
ب�صحبتها �أثناء
التحديد؟ ،يبدو �أنها �صديقة ال�سيدة «جليلة» و�أنه قد ر�آها ُ
التحقيق يف احلادث.
ات�سعت عينا املر�أة متفاجئة بتو ُّقفه �أمام ال�شقة دون �أن يطرق الباب قبل
�أن تتنحنح خاف�ضة ر�أ�سها لتعرب بجواره ب�صمت ،تابعها بعينيه حتى خرجت
من باب ال ِبناية بخطوات متعجلة.
� ً
أهل بك يا ولدي ..تف�ضل .
�أعاد «عا�صم» ر�أ�سه �إىل الأمام مرة �أخرى م�ستمع ًا �إىل �صوت «جليلة»
مرحب ًا به وتدعوه للدخول.
احلاين ِّ
كيف هي �صحتك يا حاجة؟.
قالها «عا�صم» وهو مير �إىل الداخل بابت�سامته االعتيادية التي ت�شبه
عبارته التي �ألقاها للت ِّو ،وقد عادت �أفكاره �إىل التحرك من جديد يف نف�س
امل�سار ،مل َي ُفت ُه الو�شاح الأبي�ض النا�صع ّ
امللتف حول ر�أ�سها والراحة امللمة
مبالحمها وابت�سامتها الرائقة ،كما الحظ تلك النظرة ..نظرة من تتوقع
قدومه ،غام�ضة وغري متفاجئة بامل َّرة.
�س�أعد لك فنجان ًا من القهوة حا ًال.
انتظري يا حاجة جليلة.
ا�ستدارت �إليه عندما �أ�شار لها �أن تتو َّقف ورفعت نظراتها نحوه وبنف�س
ْ
الهيبة التي يعرفها عنها � َّإل �أنها كانت خمتلطة بالثقة �أكرث ،تركها متجه ًا
نحو �آخر مقعد ب�أ�سفل النافذة املو�صودة دائم ًا ،واملواجهة للباب وجل�س
�شديد يف كل ر ّدة
وبرتكيز ٍ
ٍ م�شري ًا �إليها �أن ت�أتي لتجل�س يف املقعد املجاور له،
فعل ت�صدر عنها مال للأمام م�ستند ًا �إىل ركبتيه فوق املقعد اخل�شبي العتيق
مال�صق ًا �أ�صابع كفيه بع�ضهم ببع�ض ،وهو ين�صت حلركاتها البطيئة حتى
و�صلت للمقعد املجاور له ،مل ي�سمع ال�صليل الذي كان ي�سمعه من قبل عندما ْ
تتحرك ،دائرة �أفكاره ا�شت َّد ْت يف الدوران وهو يعرف �أنه مل يعد ميلك �سلطة
التحقيق معها الآن ،ويف نف�س الوقت مل َي ـ ُب ْح ب�شكوكه تلك جلهات التحقيق
زج ا�سمها يف الق�ضية! .
امل�س�ؤولة ,رغبة منه يف عدم ِّ
�شعور ًا داخل ّي ًا �سيطر عليه يخربه �أنه على �صواب �إىل درجة كبرية فيما
يفعله وهذا يكفي لإراحة �ضمريه ،واملر�أة يكفيها ما عانته بعد فقد ولدها
الوحيد.
�سكت زيادة عن الالزمَ ،
التقط ْت �أذناه نحنحة املر�أة بجواره وهي يبدو �أنه َ
تـتململ فوق مقعدها وك�أنه حتثه على بدء احلديث.
خري يا ولدي ؟!
اعتدل يف جل�سته تارك ًا �إحدى َيد ْيه ترتكز �إىل فخذه ،بينما الأخرى ي�شري
بها �إليها وهو يتحدث كعادته مائ ًال قلي ًال جتاهها مراقب ًا ك َّل خلجاتها اللإرادية
وهو يقول:
�شاهني و�سيد مت قتلهما بداخل ال�سجن.
كما توقع متام ًا ..مل يب ُد عليها � ّأي ده�شة �أو ت�أثر ب�سماعها لذلك اخلرب،
قامت بفتح كفيها ال�ساكنتني يف ِحجرها بال مباالةَّ ،ثم قالت وهي ترفع عينيها
قلي ًال ل�سقف الغرفة وك�أنها تناظر ال�سماء:
�أمر اهلل وال را َّد لأمره .
كنت على علم باخلرب.
�إذنْ فقد ِ
جاء دورها لتثبت نظراتها يف عينيه قائلة ببديهية :
�إننا ن�سكن نف�س احلي كما تعلم.
كنت ترتدينها يا حاجة جليلة؟.
�أين ال�سل�سلة احلديدية التي ِ
جاءت هادئة مثل مالحمها متام ًا وهي جتيبه :
ر َّدة فعلها ْ
تخ َّل�صتُ منها؛ فقد �آملتني كثري ًا .
رفع «عا�صم» �إحدى حاجبيه منده�ش ًا ل�صراحتها الغام�ضة تلك التي
تغلفها مت�سائ ًال:
و�أين هي الآن ؟.
َّ
نظ ْفتُ البيت منذ �أيام وتخل�صتُ منها مع الأ�شياء التي مل �أعد يف
حاجة �إليها.
ح ّرك ر�أ�سه ب�إمياء ٍة غام�ض ٍة وقد و�صله املعنى املُبطن حلديثها:
لديك فكرة كيف َّمت قتلهما ؟.
هل ِ
رفعت يديها عن حجرها عاقدة ذراعيها �أمام �صدرها بدفاعية م�ستديرة
تنظر �إىل الإطار الكبري املع َّلق على اجلدار الذي ي�ضم �صورة طفلها الفقيد
للحظات قبل �أن تظفر براح ٍة ،ويطغى االمتنان على نظراتها الرا�ضية
ٍ �صامت ًة
جديد وك�أنها تناجي ربها:
ثم عادت ورفعت عينيها للأعلى من ٍ
ويحب العدل.
اهلل َع ْدل يا عا�صم بيهُّ ..
ثم �أردفت وهي تنظر �إليه بثقة وقوة جم َّدد ًا:
و�أنا وولدي ..و�أنت ..مل نكن نريد �سوى العدل ..العدل ُي َط ِّيب اخلاطر
وتلتئم به اجلروح يا ح�ضرة ال�ضابط.
أنت مرتاحة الآن ؟.
وهل � ِ
بعمق وبراح ٍة كبري ٍة قائل ًة:
تنف�س ْت ٍ
َّ
كما ترى !
التفت �إليها بك ِّل َّيته مت�سائ ًال وهو خري من يعرف الإجابة:
لك عالق ًة بالأمر؟.
و�إذا اعتقد البع�ض ب�أنَّ ِ
حام ْت فوق مالحمها �سوى �أنَّ عينيها ال زالتا ثابتتني
ن�صف ابت�سامة َ
�ساخر:
�صريحتني وقويتني ،و�أجا َب ْت باخت�صا ٍر ٍ
ر�سمي ؟.
ّ هل هذا اتها ٌم
لثوان وك�أنه يفكرَّ � ،إل �أنه مل يكن كذلك بالفعل ،الأمر حم�سو ٌم
�أطرق بر�أ�سه ٍ
لديه ،كثري ًا ما كانت حاالت الث�أر تثري ف�ضوله ،حائر ًا هو يف القوة التي تتملك
قاتل ,لي�س هو وحده ..بل َومن يتعاطفون معه �أي�ض ًا.. من املظلوم وحتوله �إىل ٍ
مثله متام ًا! :
مل � ِآت هنا التهامك ب�شىءٍ يا حاجة جليلة ..
من اجليد �أنها مل ت�س�أله ملاذا �أتى من الأ�سا�س؟ ,فهو نف�سه ال يعرف
ملاذا؟! ,جز ٌء ما بداخله يخربه ب�أنه جاءها بالب�شرى فقط لي�س �إال ,وكل ما قام
باحلديث عنه منذ �أن وط�أت قدمه بيتها مل يكن �سوى هراء.
عادت لرت�سل �إطالق زفرة رائقة ،وهي تنه�ض واقفة كعالمة لرغبتها يف
واحد:
�إنهاء املقابلة وهذا احلديث ال�صريح الغام�ض يف � ٍآن ٍ
�أنا امر�أة عجوز يا ح�ضرة ال�ضابط ..بالكاد �أنظف بيتي ..املرة
الوحيدة التي ر�أيتُ فيها قتي ًال كان ....
التفتت
ْ تركت عبارتها مع َّلق ًة فج�أة تدافع دمعة حارقة غلبتها للحظة ،ثم
رت مقلتاها تكويهما الدمعة بحرقتها؛ لتحررها تاركة �إياها حتج ْ
نحوه وقد َّ
من�سدلة على وجنتيها ,م�ستكملة برع�شة قد �أملَّ ْت بنربتها رغم ًا عنها:
كان ولدي.
y
�أربع ُخطوات كانت كافية ليعرب بها احلدود الوهم َّية بني �صالة اال�ستقبال
هدمت اجلدار الذي يف�صل معقل التلفاز وبني غرفة الطعام ,ف�صهبا�ؤه قد َ
بني الغرفتني ,كما فعلت من قبل مع الن�صف العلوي من جدار املطبخ� ,إنها
حتب االت�ساع واملرونة ,بداية من اجلدران ونهاية بالقوانني اجلامدة من وجهة
نظرها.
نحن فوقها
وجذعها ُم ٍ كانت �أوراقها تفرت�ش الطاولة الكبرية امل�ستديرةِ ,
منهمكة يف الكتابة ,ال بد �أنه حتقيق جديد ,الطاولة الآن ُتذ ِّكره مبكتبه
اخل�شبي بداخل حجرته يف الق�سم� ,أوراق و�صور جلثة يف �أو�ضاع خمتلفة:
جئنا لوجع الدماغ ..ا�سرت يارب!
«عا�صم» !!
قالتها «�أروى» مت�أ ِّفف ًة وهي ترتك القلم ي�سقط من يدها ب�إرهاقٍ بعد يوم
�شاق ,لقد باغتها وهي مندجم ٌة يف كتابة التحقيق وقد � ْ
أو�شكت على طويل ٍّ
عمل ٍ ٍ
نهايته ,ال زال �أمامها �أن تقوم ب�إعادة كتابته على حا�سوبها املحمول و�إر�ساله
للمراجعة واملوافقة من ِقبل رئي�س الق�سم ثم رئي�س التحرير قبل الن�شر.
تن�س ما طلبته َ
منك �أرجو �أن تكون قد �أح�ضرتَ طعام الع�شاء معك ومل َ
يف الهاتف.
�أ�شار بيده نحو الطاولة ال�صغرية املرتفعة ال�ساكنة �أمام الباب وكانت
�إ�شارته كافي ًة بالن�سبة لها ,احلمد هلل فهو مل يجادلها كالعادة عندما تطلب
جاهز من اخلارج؛ نظر ًا لإرهاقها ال�شديد يف العمل ,كل ٍ منه �إح�ضار ع�شاءٍ
عملك ما دمت
مرة ينتظرها حتى تنتهي ثم يقول جملته ال�شهرية «اتركى ِ
ت�شتكني منه ،فنحن ل�سنا يف حاجة �إليه» ,يبدو �أنه هو نف�سه قد فقد الأمل فيها
فلم يق ْلها هذه املرة عرب الهاتف� ,أو ..رمبا قرر �أن يقولها وجه ًا لوجه �أف�ضل؟
بالت�أكيد� ،سيفعل !.
هم�ستها «�أروى» جتيب �أفكارها بنف�سها ،فر َب َت «عا�صم» على ذراعها وهو
ينظر نحوها ب�شفقة �ساخرة ويقول:
نف�سك هذه الأيام؟ َ ..من هذا الذي �سيفعل؟.
هل تتحدثني �إىل ِ
�أعادت خ�صالت مبعرثة على جانبي وجهها خلف �أُذنيها ثم تعود بكفيها
لتم�سح وجهها ،رمبا ُتزيل �آثار الإرهاق البادية عليه قائلة ريثما مت ُّر بجواره يف
اجتاه الأكيا�س املتكدِّ �سة فوق الطاولة:
دقيقة ..و�سيكون ك ُّل �شيء جاهز ًا.
�شيعها بنظراته للحظات قبل �أن يعود بر�أ�سه �إىل ن�سخ ُم�صورة من �صور
اجلثة وكذلك الأوراق ,م َّد يده لي�شاهدها عن قرب بتم ُّع ٍن ,جثة لرجل ُمل َقى
على وجهه فوق �سرير للك�شف الطبي وعا ٍر متام ًا ,وقد ُنق�ش بخطوط دامية
فوق ظهره جملة انتقامية �ضيق لها «عا�صم» عينيه وهو يحاول قراءتها جيد ًا.
«ر ّد �شرف» !
التفت «عا�صم» نحو «�أروى» التي �ألقت عليه اجلملة من بعيد ب�صوت
م�سموع ثم اجته نحوها وهو ي�سري خلفها نحو املطبخ ُمكرر ًا الكلمتني بهم�س،
وقد و�صلت ده�شته للحد الأق�صى وت�ساءل باهتمام ظهر جل َّي ًا يف نربة �صوته
اجلدية:
ما ق�صة هذه اجلرمية؟.
�أخري ًا ..ح�صل �شيء ما �أفعله على اهتمامك؟!
�أجنزي يا «�أروى».
قالها بنربة �آمرة اعتاد احلديث بها مع اجلميع ،فابت�سمت وهي حترك
ر�أ�سها بي�أ�س من عادته تلك وهي تقوم ب�إفراغ الطعام يف الأطباق قائلة:
طبيب �أمرا�ض ن�ساء ..و�صديق �شخ�صي البن �أحد عمالقة اال�ستثمار
يف الدولة ..وجدوه مقتو ًال يف عيادته اخلا�صة ..ممر�ضته هي َمن
اكت�شفت جثته م�ساء اليوم التايل ..ووجدوا هذه العبارة مكتوبة على
ظهره با�ستعمال �أداة طبية حادة .
وماهي نتيجة التحقيقات؟.
احلادثة وقعت منذ وقت قريب ..وقد كان هناك تعتيم كامل حتى
خرج تقرير الطب ال�شرعي اليوم فقط ..القاتل م َّثل بالقتيل قبل �أن
يق�ضي عليه متام ًا ..ثم قام ب�إكفائه على وجهه وكتابة هذه العبارة على
ظهره م�ستعم ًال مب�ضع القتيل الذي ي�ستخدمه يف عمله ..وال توجد � ّأي
ب�صمات غريبة يف املكان .
قالت تعليقها الأخري بتفكري وهي ت�ضع الطبق الأخري الذي مت جتهيزه
�أمامه وجل�ست على املقعد املرتفع املجاور له ,ثم تلتفت �إليه؛ لتتابع انفعاالته
املتتابعة البادية على وجهه وهو ُيكمل طريقته اال�ستجوابية لها بينما ي�ضع �أول
قطعة حلم م�شوية يف فمه قائ ًال:
كيف مت التمثيل به ..وكيف مل ي�ستغثْ ؟!
زمت �شفتيها بتفكري وببع�ض االرتباك وهي ُت�ضيف �إىل نتائج التحقيقات
حتى هذه اللحظة ر�أيها ال�شخ�صي:
ال �أعلم ..يبدو �أنها �إحدى جرائم ال�شرف ..فقد مت ح ّز ع�ض ٍو ُم ٍّ
هم
جد ًا من ج�سده وف�صله متام ًا ثم تركه ينزف حتى املوت ..من الوا�ضح
�أن القاتل كان ميلك مت�سع ًا من الوقت!
كاد «عا�صم» �أن يختنق بقطعة اللحم ف�ضربته «�أروى» على ظهره بقوة,
�أبعد قب�ضتها بنزق م�ستا ًء ،وباليد الأخرى يتناول الكوب ،ويدفع بكمية كبرية
من املياه �إىل فمه.
قطعة اللحم احلبي�سة كانت ت�ؤمله ،وهي تتحرك للأ�سف ببطء وهو يحاول
ابتالعها �أكرث من �أملها وهي متوقفة هناك ,احتقن وجهه ب�صورة كبرية و�سعل
عدة مرات وهو ي�ستند �إىل طاولة املطبخ املرتفعة قائ ًال لها بتح�شرج:
حب هذه الطريقة ..بع�ض املاء وكفى. لك مليون مرة :ال �أُ ُّ
ُقلتُ ِ
�أخفت ابت�سامتها املُ�شاك�سة وهي تتظاهر باالن�شغال بتناول الطعام وهي
تقول برباءة مزيفة:
�آ�سفة حبيبي.
هي تعرف �أنه ال يحب طريقتها يف التظاهر ب�إنقاذ حياته ،بينما هي يف
احلقيقة ت�ضع يف قب�ضتها كل غيظها منه ومن �أ�سلوبه يف التقليل من قدراتها,
�أو رمبا الهدفان يجتمعان يف اللحظة التي تتوقف ُلقمة ما يف حلقه ,م�ساعدته
و�ضربه انتقام ًا يف نف�س الوقت.
تابع تناول طعامه بهدوء ظاهري ،بينما عقله يدور حول نف�س الكلمتني ,ال
عالقة على الإطالق من املمكن �أن تربط بني اجلرميتني ,ال بد �أن يح�صل على
تفا�صيل �أكرث من جهة التحقيق مبا�شرة.
�أال تالحظ معي يا عا�صم� ..أن ارتكاب اجلرائم بهدف االنتقام قد زاد
هذه الآونة؟!
حرك ر�أ�سه موافق ًا ب�صمت غارق ًا يف �أفكاره ،فرتكت الطعام ُملتفت ًة نحوه
باهتمام لتناق�شه يف �أفكارها قائل ًة:
ُترى هل �سيلج�أ �أي �شخ�ص مهما كان �إىل �أخذ حقه بيده لو �أ�صبحت
القوانني �أكرث مرونة ودقة وتغريت بع�ض الت�شريعات التي ...
التفت نحوها بانزعاج وا�ضح ُمقاطع ًا و ُم ِّ
ك�شر ًا عن ح�سه الأمني الذي
ارتفعت وتريته من جديد �أمام وقع كلماتها هاتف ًا ب�صلف:
لك كم مرة
هذا الأمر ال دخل يل به� ..أنا �أنفذ القانون فقط� ..أقولها ِ
لتفهمي؟!
ات�سعت عيناها �شاعرة بالإهانة ال�شديدة فك�شرت هي الأخرى عن �أنياب
كرامتها املُهدرة فهاجمته بالقول وهي تتحفز يف جل�ستها:
يف حلظة ن�سيت �أنني �أفد ُتك مبعلومات مل تكن لديك منذ قليل و ِب ُّت
قليلة الفهم.
�أعقبت هتافها بقفزها من فوق املقعد واقفة وحتركت بع�صبية بعيد ًا؛
لت�ستكمل عملها ولكنها مل تكف عن الهتاف ُمعلنة عن ر�أيها وقد تخيلت نف�سها
قد عادت ُمد َّد ًا �إىل �ساحة ميدان التحرير �إبان الثورة وهي ت ُل ُّف ال�شال
الفل�سطيني فوق كتفيها:
للأ�سف �ست�ضطر �أن تقولها يل كثري ًا يا ح�ضرة ال�ضابط ..ف�أنا �س�أظل
�أتكلم و�أعرت�ض و�أكتب عن هذه القوانني اجلامدة التي تدفع املجتمع
�إىل �أن يتحول لغاب ٍة الغلب ُة فيها للأقوى.
�صمتت للحظات فظن �أنها قد قالت ما لديها وانتهى الأمر ,ف�أغم�ض
عينيه؛ ليحتوي غ�ضبه ،ولكن رائحة اللحم التي ال تزال عالقة يف �أنفه دفعته
�إىل تذكرها ،وبالتايل تذكر ب�أنه ال زال جائع ًا ,وقبل �أن يلتفت للطعام من
جديد ,عادت مرة �أخى حمتقنة الوجه هاتف ًة وهي تتخ�صر بتحدٍّ :
لن ت�ستطيع �أن جتربين كل مرة على العودة كما فعلت �سابق ًا يف ميدان
علي بتهمة قلب نظام احلكم يا عا�صم بيه. التحرير ..هيا اقب�ض َّ
كانت تنفث النار حرفي ًا من بني �شفتيها املنفرجتني قلي ًال ،وعيناها
تتوهجان بالإ�صرار بينما اندفعت الدماء �إىل وجنتيها غ�ضب ًا� ,ضيق «عا�صم»
عينيه وهو يلتفت ببطء ثم ينه�ض متجه ًا �إليها وهو يتفح�صها بتهديد ُم ّ
بطن
قائ ًال:
اقرتاح جيد.
خلطى نحوتنحنحت وقد فهمت تهديده ،فتوردت وجنتاها وهي ُت�سرع ا ُ
غرفة �صغريهما ,ناداها وهو ي�سري خلفها ولكنه مل ي�ستطع اللحاق بها ,دلفت
للغرفة و�أو�صدت الباب من الداخل.
هل انتهت فقرة النكد اليومية؟.
التفتت على عقبيها لتجد ال�صغري ذا ال�سنوات الت�سع يجل�س فوق الفرا�ش
ُم�ستند ًا بوجنته فوق ك ِّفه ،ومن الوا�ضح عليه �أنه كان ي�ستمع حلديثهما ال�صارخ
رب ٍم ومتددت بجوار ِه هاتفة:
من مكانه هذا ,فاقرتبت من الفرا�ش بت ُّ
الكبار.
قلت لك من قبل :ال تتدخل يف �أحاديث ِ
عاد ليتمدد من جديد وهو مينحها ظهره و ُيف�سح لها فرا�شه وهو يهم�س
مب�شاك�سة:
�أنثى املاعز العنيدة !.
ظلت «�أروى» تتقلب ل�ساعات فوق الفرا�ش ،وقد جافاها النوم بينما التفكري
ال ي�سمح لها بغم�ضة عني ,الأمر لي�س عنادها فقط ,فهي بالفعل من واقع عملها
يف ق�سم احلوادث وجدت وترية القتل تزيد كل يوم �أكرث من اليوم ال�سابق� ,أال
يكفي جمود القوانني �أمام جرائم �سرقة الأع�ضاء الب�شرية وخطف الأطفال
واالغت�صاب حتى خرجت علينا نوعية جديدة من جرائم الث�أر بني �أهل املدينة
والتي مل تتواجد �إال لتق�صري الت�شريعات يف �إعطاء كل ذي حقٍّ حقه!.
بل �أي�ض ًا ال يريد �أحد �أن ي�سمع �أو يتحرك �أو حتى ُيناق�ش ما يحدث� ،سحبت
البيتي ،وقامت مبرا�سلة �صديقتها املقربة بكلمات
ِّ هاتفها من جيب بنطالها
مقت�ضبة ال ت�ستطيع التعبري عن بركان العناد واجلنون الذي يتفجر بداخلها «
�أري ُد م�ساعدتك» .
y
عدالة القتل
نحو غرفة كبرية امل�ساحة ،دلفوا جميع ًا خلفه �إليها وقد كان ينتظرهم بها
طبيب وم�ساعده والعامل الذي �سبقهم �إىل حجرة داخلية كم�س�ؤول عن الأدراج ٌ
الكثرية املوجودة فيها التي تقل درجة حرارتها عن اخلارجية ،فاق�شعر بدن
«حافظ» الذي كان يف عامل �آخر منذ قر�أ الالفتة� ,أما تلك الربودة فقد غلفت
قلبه واعت�صرته بقب�ضتها ُمعرقلة خفقاته عن املعدل الطبيعي لها مما �أ�شعره
بالدوار يف نف�س اللحظة التي مد فيها العامل يده و�أخرج الدرج املق�صود بعد
�أن �أ�شار له الطبيب بالتنفيذ ,ثم رفع املالءة عن وجه اجلثة وحترك بعيد ًا
مبهنية اعتادها بحركة متناغمة مع �صوت امل�أمور الذي توجه بالكالم �إىل
«حافظ» قائ ًال بعمل َّي ٍة:
هل هذا ولدك «رمزي» يا حافظ؟.
جتمد «حافظ» مكانه بالك ِّل َّية حتى عيناه ت�صلبتا على وجه امل�أمور ،وزاد
ِثـقل وزنه على ذراع «�صفوان» الذي كان ي�سنده من البداية بينما ر�أ�سه يتحرك
بالرف�ض حركة ال �إرادية دون حتى �أن ينظر للجثة.
تقدم م�ساعد الطبيب وقد كان رد فعل «حافظ» متوقع ًا بالن�سبة له ,و�أ�سنده
من ذراعه الأخرى ،وهو ُي�شري بر�أ�سه �إىل «�صفوان» �أن ي�ساعده وهما يتقدمان
وك�أمنا يحمالنه لي�ستطيع ر�ؤية اجلثة ب�شكل �أكرث و�ضوح ًا ليتعرف عليه.
متا�سك يا حافظ ..وانظر �إىل اجلثة ُنريد �أن ُننهي عملنا.
ْ
ب�ضيق ،بينما هاتفه ال يكف عن الرنني ،ف ُيخرجه وي�ضعه على
قالها امل�أمور ٍ
الو�ضع ال�صامت بع�صبية ثم يعود �إليه بعينيه من جديد ُمردفاً:
لن نق�ضي بقية اليوم كله هنا ..ال زال �أمامنا حتقيقات و�أعمال �أخرى
لننجزها .
مل ي�ستطع «�صفوان» ب�أن يتف َّوه ولو بكلمة واحدة� ،أو حتى يحث «حافظ»
على النظر ,فلقد نظر هو ووجد مالمح ال�شاب تكاد تكون مت�آكلة �إال من بع�ض
املوا�ضع يف وجهه ,يكاد يعرف تلك العينني التي اختفت منهما احلياة ,رفع
عينيه بعيد ًا يف اللحظة التي ا�ضطر فيها «حافظ» �إىل �أن يخف�ض نظراته
للأ�سفل ,نظرة واحدة كانت كافي ًة لي�سقط على ركبتيه بذهول وهو يهتف
بح�سرة قطعت نياط قلبه:
ولدي ....
انحنى معه «�صفوان» وم�ساعد الطبيب ِب ِفعل ُثقل ج�سده �أثناء �سقوطه
املروع ،بينما يناظر «�صفوان» وينتحب بنربة متح�شرجة ونب�ضات خافقه
عمل �شاق طيلة �ستني عام ًا ,ومل يعد يف حاجة تتباط�أ وك�أنه ُيقدِّ م ا�ستقالته من ٍ
يدق بعد الآن ,فال�سبب الذي كان يحيا لأجل ِه قد زال ,ف�صاحب ن�صيب لأن َّ
الأ�سد فيه قد مات فكيف �سيعمل بالفتات املُتب ِّقي؟!:
ولدي يا �صفوان ..رمزي ..قتله ح�سن ..ابن احلرام .
�صرخ بها «حافظ» مودِّع ًا َمن حوله ،وقد ُقبلت ا�ستقالته من احلياة ,و ُقبل
�أي�ض ًا اتهامه الوا�ضح �ضد «ح�سن �أنور برهان» !.
y
ق�صة ق�صرية للغاية ال حتوي �سوى كلمة واحدة» ال�سخرية» ,قاعدة
اتبعها «عا�صم» عند لقائه الأول بـ «رائد» ,منذ �سنوات كان قد ا�شرتك معه
يف حتقيقات �إحدى اجلرائم ومل ي�ستطع �أن يتحمل «عا�صم» لأكرث من ثالثة
�أيام فقط! ,ق�صة �ش َّي َد ْت جدران ًا من الكره والغرية ،وما زالت قائمة ب�أعمدتها
الرا�سخة.
بد�أها «عا�صم» عندما مد يده مل�صافحته وهو ُيغلف �سخريته باملزاح
الربيء قائ ًال:
«رائد» ! ..يبدو �أنه مت حجز مقعدك يف كلية ال�شرطة منذ والدتك.
و�أنهاها «رائد» ب�شكواه �إىل عمه �سيادة اللواء ،والذي قام بدوره يف تعنيف
«عا�صم» مرة بعد مرة « قلتُ لك� :إنه ابن �أخي يا «عا�صم» ،ولقد كلفته بالعمل
معك ليكت�سب من خربتك ال لت�سخر منه يومي ًا ..وهذا �آخر حتذير»!
لكنه مل يعب�أ بالتحذير ,بل زاد رغبة يف �إيذاء الفتى معنوي ًا ,ذاك الفتى
الذي ُولد ويف فمِ ه ِم ْل َعقة من ذهب ,لعائلة حتوز املال وال�سلطة ,حاز كل �شيء
دون تعب ،ويف النهاية يريدون من «عا�صم» �أن ُيغ ِّلف خربته التي اكت�سبها
المع ومينحها له كـ هدية يوم مولده مبجهود قاتل وعناء ل�سنوات يف غالف ٍ
ال�سعيد!
عاد «عا�صم» ي�ستند �إىل ظهر مقعده وهو يبت�سم ابت�سامة عري�ضة وهو
يتذكر املرة الأخرية التي �سخر فيها من «رائد» الذي ي�صغره يف العمر والرتبة
قائ ًال:
ماذا �ستفعل عندما يتم ترقيتك �إىل رتبة مقدم مث ًال؟ ..هل �ستقدم
نف�سك ً
قائل� :أنا املقدم رائد؟!!
لقد ت�سبب الغبي ب�أن َّمت نقله �إىل �أق�صى ال�صعيد لعامني على الأقل,
�ضحك «عا�صم» �ضحكة حر َّك ْت كتفيه ،بينما ي�ضغط زوايا عينيه ب�س َّبابته
و�إبهامه ويحرك ر�أ�سه متعجب ًا من نف�سه وقتها ,ال يعلم ملاذا كان يكره الفتى
�إىل هذا احلد؟ ,وما ذنبه هو ب�أن جاء للحياة ليجد كل �شيء يف جاهزية تامة
ينتظره؟ ,هل �أذنب لأ َّنه ح ُلم �أن يكون «�سوبر مان» ووجد من ينفذ له �أحالمه
دون تعب؟.
�أم ذنبه �أن يف املجتمع مثل «عا�صم» الذي حفيت قدماه ،وق َّدم تنازالت
ليجد و�ساطة ت�ساعده يف دخول كلية ال�شرطة بالرغم من توفر كل ال�شروط
الالزمة به ,وعندما وجدها والتحق بحلمه الوحيد عار َكتْه الدنيا وعاركها
حتى ُقطعت �أنفا�سه ،ورمى بنف�سه حتت قطار املوت مرات ومرات دون �أن يعب�أ
حتى و�صل �إىل مبتغاه ,ثم ي�أتي ِغ ٌّر �ساذج ذو �شعر المع من �أثر ُمث ِّبت ال�شعر
ويريد �أن ي�أخذ خربته على اجلاهز هكذا ..فقط؛ لأ َّنه �أتى �إليه حتت ِجناح
عمه �سيادة اللواء! ..هل �أكلت القطط �أطفالها �أم ماذا؟!
ال �أفهم هل تقر�أ ملفات التحقيق �أم تقر�أ كتاب ًا لل ُّن َكت؟!
رفع «عا�صم» ر�أ�سه حمتفظ ًا بابت�سامته الكبرية على �إثر العبارة التي
�أطلقها «رائد» للت ِّو ,ن َع ْم ....بعد كل تلك ال�سنوات من عدم اللقاء وجد نف�سه
مرة �أخرى وجه ًا لوجه معه ,م�ضط َّر ًا للعمل معه ..كفريق واحد.
وهذه املرة بتكليف من م�ساعد وزير الداخلية �شخ�صي ًا حلل لغز ق�ضية
ق�ش ْت على ظهره عبارة «رد �شرف» كما حدث مع مقتل ذاك الطبيب الذي ُن َ
جثتي «�شاهني و�سيد» .
ْ
هل ي�شكر م�أمور ال�سجن الذي ر�شحه للعمل �ضمن فريق التحقيق يف
الق�ضية؛ لأ َّنه تعامل من قبل مع «�شاهني و�سيد» ويعلم تفا�صيل ق�ضيتهما
هذا �إىل جانب خربته يف حل مثل هذه الق�ضايا ,وال بد من رابط يربط بني
الق�ضيتني؟.
�أم يدعو عليه؛ لأن «رائد» كان وللأ�سف هو ال�ضابط امل�س�ؤول عن التحقيقات
يف جرمية مقتل الطبيب؟� ،إ َّنها وقعت يف دائرته وال بد �أن يجتمع معه ويتعاونا
من جديد مع ًا للو�صول للقاتل.
عرفت اجلاين؟.
�إذنْ فقد َ
قالها «رائد» �ساخر ًا من هذا الذي يجل�س يف مواجهته ،وينظر له بابت�سامة
عري�ضة وبني يديه عدد ال ب�أ�س به من الأوراق وال�صور الأ�صلية للجثث ومكان
وقوع اجلرميتني.
ن َع ْم ..اجلاين هو� ..ستعرف يف احللقة القادمة ..فانتظرونا.
�أجابه «عا�صم» ب�سخرية �أكرب تبعها ب�ضحكة مرتفع ٍة ا�ست�شاط لها «رائد»
غ�ضب ًا ,ولكنه كان قد اكت�سب بع�ض ًا من ال َّت� ِّأن واحلكمة عرب ال�سنوات القليلة
ال�سابقة ,ال يعرف ماذا عليه �أن يفعل؟ ,م�شاعره مت�ضاربة ,غرميه هو رئي�س
الفريق ,وهو الآن يف نظر مدير الأمن مل ي�ستطع �أن يتو�صل للفاعل وحده
لذلك «عا�صم» هنا ,لو تعاون معه ل ُن ِ�سب الن�صر لـ «عا�صم» و�سيكون هو املُالم
و�صاحب التق�صري.
ال�سمِ ج وليمنح نف�سه فر�صة للتفكري كما
نه�ض؛ ليتجنب نظرات هذا َّ
يفعل منذ �صباح اليوم ,ال زالت مفاج�أتهما بتواجد بع�ضهما البع�ض يف نف�س
ُ
تع�صف بهما بداخل حجرة الق�ضية ي�سيطر عليهما ،بينما الذكريات ال�سيئة
التحقيقات مبديرية الأمن.
تواجدن يف العيادة
ْ لقد خلت �أوراق التحقيق من �أقوال الن�ساء الالتى
للك�شف لدى الطبيب ليلة وقوع اجلرمية!
عاجله «عا�صم» بعبارته املتعجبة فا�ستدار «رائد» ملواجهته وهو ال يزال
عاقد ًا ك َّف ْيه خلف ظهره وقد �ضيق بني حاجيه مت�سائ ًال بده�شة دون تفكري:
وما عالقتهن باجلرمية التي وقعت بعد ان�صرافهن بكثري؟!
مال «عا�صم» بر�أ�سه ميين ًا ب�شكل مبا َل ٍغ فيه ،وهو ي َّدعي ال�صدمة ُ ْ
لبه ٍة
قبل �أن يعتدل واقف ًا ،ويقرتب ببطءٍ منه حتى وقف ُقبالته متام ًا ُم ِ
ا�صر ًا
لنظراته احلائرة وهو يقول بنربة يحفظها «رائد» منذ �أول مقابلة:
العالقة كبرية جد ًا يا �سيادة النقيب ..رائد!.
بو�ضوح واحت َّل ْت
ٍ �ضغط «رائد» �أ�ضرا�سه بعنف فظهر حترك �صدغيه
نظرات ال ُك ْره مقلتيه من جديد وهو يهم�س بعنف خفي:
ا�ستدعهنَّ ؛ لرنى مدى عبقريتك َّ
الفذة. ِ �إذن،
�س�أفعل ..فاخلربة مهمة..
ظل «عا�صم» مبت�سم ًا وقد ترك عبارته ُمع َّلقة وهو على يقني ب�أن «رائد» قد
فهمها ,نعم فالو�ساطة من املمكن �أن ُتلح َقه بال�شرطة ،ولكن الكفاءة جمهود
�شخ�صي.
ٌّ
حترك «رائد» ملت َّف ًا على عقبيه يبتعد عنه بج�سده الذي ي�صدر عنه
ذبذبات عنف كان يريد �أن يجمعها وي�ضعها يف لكم ٍة لأنف ذاك املغرور ،ولكنه
�آثر اخلروج من احلجرة لب�ضع دقائق ليهد�أ.
راقب «عا�صم» ان�صرافه املت�شنج بابت�سامة اختفت مبجرد �أن �أُغلق الباب
و�أ�صبح وحيد ًا ,وعادت جديته حتتل مالحمه من جديد ,فهو مل ولن ين�سي
ب�شكل كبري تلك العداوة القدمية مع �شريكه ,ومهما كانت �أهمية الق�ضية
التي يعمالن عليها ،فلن يفتح معه �صفحة جديدة على الإطالق ،ولن يقدم له
خربته على طبق من ف�ضة هكذا دون عناء.
بث �أن ُيذ ِّكر «رائد» مبا�ضيهما مع ًا ..وك�أن الآخر قد َ
ن�سي. لذلك �أراد ُ
بخ ٍ
يريد �أن ي�سخر منه؛ لينتقم لنف�سه ،فهو ال ميتلك و�سيلة �أخرى ليمنح
روحه بع�ض الر�ضا ,و ُي�شعرها ب�أنه بخري وي�ستطيع �أن يكون م�ؤذي ًا �إذا �أراد،
�شديد ينتمي �إليه كما هو ذلك الفتى املدلل �صاحب ركن ٍ ووقتما ي�شاء ,دون ٍ
ال�شعر الكثيف الالمع دوم ًا.
ولكن اجلزء الأكرب بداخله كان له حاجة �أخرى �أكرث �إحلاح ًا ,فقد كان من
ظل يالحق كل تف�صيلة يقوم الالزم �أن يتحرك بح ِّر َّية �أثناء التحقيقات دون ٍّ
بها� ,ستكون تلك العداوة هي ال�ستار الذي �سيخفي «عا�صم» ما يريده خلفها!
ا�ستدار متجه ًا نحو املكتب اخل�شبي العري�ض املُمتلئ بالأوراق ,جل�س خلفه
وهو يتناول ُعلبة �سجائره ،و ُيخرج واحدة جديدة ب�شفاهه؛ ليبقيها هناك دون
�أن ُي�شعلها.
مل تكن املرة الأوىل التي ر�أى فيها ال�صور املُلتقطة للجثث الثالث وال حتى
املرة الثانية ,فلقد عاينها �أكرث من مرة يف الن�سخة املطبوعة التي حتوزها
زوجته ,وعندما �س�ألها :كيف ح�ص َل ْت عليها بهذه ال�سهولة قالت له اجلملة التي
لدي م�صادري اخلا�صة». يرددها اجلميع كتعويذة �سحرية « َّ
حينها ابت�سم لها بخبث وقال على الفور« :تكتبون عن الف�ساد والر�شوة ثم
ت�ستخدمونها لت�صريف �أعمالكم � ..ألي�س كذلك؟!»
ولكن «�أروى» كان لديها ِمنطق ي�شبهه ,بل ي�شبه اجلميع �أحيان ًا ووقفت
قبالته بثقة هام�سة «الغاية ُتربر الو�سيلة يا ح�ضرة ال�ضابط� ,أال ت�ضرب
املتهمني لديك يف الق�سم؛ لت�ستخرج منهم اعرتافاتهم؟».
مل تكن ت�س�أله ,لقد كانت تقر واقع ًا ,لذلك �شعر �أنَّ اجلملة التي قالتها
ُت�شبهه �إىل حد كبري ,و�أن هذا العامل ال يوجد فيه بريء مائة باملئة ,دائم ًا ما
ن�ستخدمها للعبور �إىل �أهدافنا امل�شروعة وغري امل�شروعة ,هناك دائم ًا ن�سبة
من العكر مهما بلغ النقاء .
ملع يف ذهنه فج�أة ا�سم ال�سيدة «جليلة» بينما حديث «�أروى» ي�صخب
بحروف الالفتة التي رفعتها �أمام عينيه ،وك�أنها ُتهديه حل ِ
املع�ضلة ..الغاية
تربر الو�سيلة.
رفع ك َّفه ليم�سح بها على مقدمة �شعره التي بد�أت تخف تدريجي ًا مع تقدمه
يف العمر وهو يقول لنف�سه �ساخر ًا معرتف ًا:
اعرتف يا عا�صم� ..أنت ال تغار منه؛ لأ َّنه َلد ْيه عائل ٌة متنحه �إ�شارة عبو ٍر
لأيِّ ُح ٍلم يريده وقتما ي�شاء فقط ..بل تغار من �شعره املُ�ستفزِّ �أي�ض ًا!.
y
انز َو ْت يف �أق�صى ركن من �سجنها ال�صغري ،وهي ت�ضم ركبتيها �إيل �صدرها
بخوف وريبة ,لقد ا�ستمعت منذ قليل ل�صوت فتح الباب احلديدي اخلارجي
ثم دخول ال�شاحنة ال�صغرية ببطء ،والتي ا�ستبدلها ب�شاحن والده كنوع من
املراوغة ,كانت تتوقع �أنه �سيدخل �إليها بعد حلظات ومعه الطعام ثم يرتكها
ويخرج؛ لينام على املقعد العري�ض الباهت املجاور لباب املخزن ,لقد كانت
تراقبه يف كل مرة يفعل فيها ذلك.
عندما �أخذ منها حجابها ُعنوة خرج وتركها ،ويف الليل �أتى لها بغريه،
حجاب جديد �أكرب حجم ًا من الذي �سبقه وب�صحبته جلباب يفوقها طو ًال
ارتدتْه ومل تنم تلك الليلة حتى ا�ستمعت �إليه يغادر ُم�سابق ًا خليوط
وعر�ض ًاَ ،
ال�شم�س الأوىل.
�أما اليوم فهو مل يلج �إليها حتى �إنها ت�شك يف كونه هو �أم ال؟ ,وحده �أم
ب�صبحة �أحدهم؟ ,لقد �سم َعتْه يتحدث بنربة منخف�ضة برغم الق�سوة التي
خرجت بها ولكنها مل تفهم احلديث ,ثم حدث ما �أرعبها فج�أة ,و�صل مل�سامعها
أ�سد يت�أمل يف معركة ال يريد اخل�سارة
�صوت �شيء يتحطم وخرج �صوته كزئري � ٍ
هي على الإطالق!
فيها ..وخ�صمه غري ِّ
حاربت نف�سها كثري ًا كي تظل قابعة مكانها تنتظر �إما هدوء العا�صفة �أو
�أن تطولها الزوابع ،ولكن الف�ضول الذي قتل القطة �سابق ًا متلك منها الآن,
ت�سللت مرهفة ل�سمعها حتى هبطت ببطء على الأر�ض ،وبد�أت مت�شي هنيهة
حتى ال يجذب قيدها انتباهه ،وهي جتر قدميها نحو الباب ،و�أل�صقت �أذنها
بحذرٍُ ,فرجة �صغرية من مو�ضعهناك للحظة قبل �أن تتجر�أ وتفتح الباب َ
الباب املواجه مل�ساحة املخزن الوا�سعة �أمامها كانت كافية لرتى كل ما يحدث.
لقد كان ي�ضرب املقعد بقدمه ثم يلكم اجلدار وهو ي�شتُم نف�سه ,يقف قلي ًال
ُماو ًال تهدئة نف�سه ،ولكن الغ�ضب املتم ِّلك من �أوردته وعروقه املنتفخة ووجهه
املحتقن للغاية يجعله يعاود َل ْك ْم اجلدار جم َّدد ًا.
ثم ا�ستدار نحوها فج�أة ,تراجعت هي يف �سرعة �شاهقة وقبل �أن ُتغلق تلك
بعنف ف�سقطت ,وعندما � َّ
أطل ال ُفرجة الب�سيطة كان قد و�صل �إليها ,دفع الباب ٍ
برعب وهي ُتتمتم معتذرة وقد �سقط قلبها بني
بوح�ش َّيته من خلفه نظرت له ٍ
قدميها خ�شي ًة:
التل�ص�ص عليك� ..أنا �سمعت فقط..
�آ�سفة ..مل �أكن �أق�صد ُّ
فرغ غ�ضبه فيه فوجدها ولكنه مل ميهلها الوقت ,لقد كان يبحث عن �شيء ُي ِ
�أمامه ,كان جاثي ًا �أمامها يف خطوة واحدة ،وعيناه حتمالن نظرة �أرع َبتْها ثم
قال بنربة مت�شفية:
أخوك الآن يف امل�شرحة بعد �أن...
لك خرب مبليون جنيه ِ � ..
عندي ِ
ابت�سم ب�ش ٍّر ،وهو يتوقع �صرخ ًة مدوية تخرج من حنجرتها وهو ي�شري �إىل
الذبح ُمتابع ًا:
رقبته بعالمة َّ
وربا تلحقني به قريب ًا.
ُق ِتل َّ ..
أ�شاح ْت بوجهها بعيد ًا ،وظهر التوتر على حتركاتها وهي تعود خطوة
� َ
بارجتاف:
ٍ للخلف زحف ًا مت�سائلة
هل علموا َمن قتله؟.
�صدمتْه ,فاج�أته ب�س�ؤالها ومن قبله بر َّدة فعلها ,كلما تو َّقع منها �شيئ ًا وجد
َ
الف متام ًا ,حتى ال ِفطرة الطبيعية التي تو َّقعها �شي ًئا ي�صدمه يف اجتاه ُم ٍ
ب�صدمتها عند تل ِّقي خرب مقتل �أخيها مل يجدها ،ك�أن ت�صرخ وتبكي ُوت�سك
بتالبيه ناعتة �إياه بالقاتل ،خال َفتْها ,فقط ُت�شيح بوجهها وت�س�أل عن قاتل
غريه ,هل هي جمنونة ومل يالحظ؟!
ا�شتعل غ�ضبه فقب�ض على م�ؤخرة ر�أ�سها ُم�سك ًا بكومة من �شعرها �أ�سفل
حجابها �صارخ ًا بها:
أيك؟.
أنت معتوهة �أم ماذا؟! ..وملاذا ال �أكون �أنا قاتله بر� ِ
� ِ
حاولت تخلي�ص �شعرها من قب�ضته ،وقد جتمعت الدموع بعينيها بغزارة
من �شدة الأمل وترجوه �أن يرتكها ,ولكنْ رجا�ؤها وبكا�ؤها �أفقداه عقله �أكرث,
�إ َّنها معه هنا منذ �أيام ,مل تطلب منه م َّر ًة �أن يطلق �سراحها ,مل حتاول الهرب
ولو جمرد حماولة ,ت�أكل كل الطعام الذي ي�أتيها به ب�شه َّية ,ترتدي املالب�س
التي منحها �إياها ,كل ر َّدات فعلها غريبة وغري طبيعية وك�أنها ..را�ضية عما
يفعله معها!
أباك �أي�ض ًا مات ب�أزم ٍة
أخربك �أنَّ � ِ
وهل �ستكونني بنف�س الربود عندما � ِ
أخيك يف امل�شرحة ؟.
قلبي ٍة عندما �شاهد جثة � ِ
�أبي؟!
هتفت م�صدومة ،وقد ات�سعت عيناها ودمو ٌع من نوعية �أخرى بد�أت تتقافز
منها ,تركها وتراجع للخلف ناه�ض ًا م�ؤنب ًا نف�سه وال يعلم ملاذا؟ ,لقد رمى �إليها
بالأخبار التي َح�صل عليها وك�أنه يخترب م�شاعرها لوالدها هذه املرة.
«ماذا تفعل يا ح�سن يف نف�سك؟ ,وما دخلك �أنت يف م�شاعرها جتاه هذا �أو
ذاك؟� ,أال يكفي �أنك فا�شل كبري للغاية».
ظل ي�ؤنب نف�سه طيلة �ساعات بعد �أن تركها وخرج ُيعيد املقعد البائ�س �إىل
حالته الأوىل ثم يرمتي فوقه ُمغمِ �ض ًا عينيه ،وهو ي�ستمع �إىل بكائها يف الداخل,
لو كان بيديه لكان خرج وتركها حتى تهد�أ وتنام ,ولكنه ع ِلم �أن البحث عنه
قدم و�ساقٍ .
جا ٍر على ٍ
y
مرت ثالثة �أيام �أخرى ال يخرج �إال عندما ت�أتيه مكاملة حمددة تخربه �أن
الطعام قد ح�ضر ,وعندما يعود بعدها بدقائق قليلة يدخل �إليها ي�ضع الطعام
�أمامها على الفرا�ش التي انز َو ْت بداخله ال تنام وال ت�أكل وال حتى تنظر نحوه,
ا�صر ًا ببكائها املتوا�صل ..بكائها الذي كان لقد �أ�صبح �سجين ًا معهاُ ,م َ
�صمتت متام ًا ,تذبل على
ْ متوا�ص ًال طيلة الأيام الثالثة املا�ضية� ,أما الليلة فقد
عودهاُ ,تنازع �شيئ ًا بداخلها ,بل �أ�شياء ُتنازعها وتدفعها �إىل الهاوية.
مل يكن �أمامه �سوى �أن يت�شبث بها حتى ال تهوي �إليها م�سحوقة� ,أجربها
على تناول ُلقيمات من طعامها والقليل من الع�صائر ,ي�ستجيب ف ُمها لإجباره،
ولكنْ عيناها ال ت�ستجيبان وال حتى بنظرة.
املرة الرابعة التي يهتم فيها ب�صحة �أحدهم من بعد �أمه و ُمعلمه «�أ�سطى
رحيم» ..و«كرمي» ال�شاب الهزيل الذي مت �سجنه بتهمة �سرقة ُملفقة كما �أق�سم
و�سجن ُظلم ًا؟ ,ومل
له ,وهو �صدقه ,وكيف ال وهو �أي�ض ًا مت تلفيق تهمة القتل له ُ
يكن ت�صديقه له نهاية املطاف بل �صار �أي�ض ًا يحميه من االفرتا�س يف الداخل
..مل يغفل عنه �سوى مرة واحدة ,ولقد كانت كافية؛ لينتهي! ,وكافية؛ ليتعلم
«ح�سن» بطريقة عملية �أن هناك ما ي�سمى بـعدالة القتل!
وتغ�ضن جبينه متحا�شي ًا الذكرى ولكن هم�ستها �أغم�ض «ح�سن» عينيهَّ ،
با�سمه جعلته يفتحهما من جديد عائد ًا �إىل �أر�ض الواقع ,الفتاة يتم ت�صفيتها
بني يديه داخلي ًا وهو ال�سبب!
عائلتك.
ِ �سراحك و�أُ ِ
عيدك �إىل بيت ِ ا�ستعدت عافيتك ،ف�س�أُطلق
ِ لو
قالها قبل �أن يرتاجع عنها ,ال يريد مزيد ًا من خ�سائر َّ
ممن لي�سوا لهم يف
هذه احلرب ناقة وال جمل ,ولكنها كانت يف عامل �آخر ,تهذي دون توقف:
ملاذا مل تكن تنظر يل و�أنت ترد �سالمي كل يوم؟.
�أي �سالم؟!!
�س�ألها منده�ش ًا وهو يجل�س القرف�صاء �أمام فرا�شها ال�صغري املنخف�ض
والذي ي�ستند �إليه بذراعيه و ُيحادثها وهي نائم ٌة مغم�ضة العينني و�شاحبة,
زهرة ُتفارق احلياة:
ال�سالم ..مل
كل يوم ..عند عودتي من املدر�سة كنت � ..أم ُّر بك و�ألقي َّ
تكن ترفع ر�أ�سك قط.
يعت�صر ذاكرته حماو ًال التذكر ,وجبينه َّ
يتغ�ضن �أكرث ف�أكرث بينما هي ال
تزال ُت َودعه بعبارات غري مكتملة:
نظرتَ نحوي مرة واحدة فقط � ..ضربت الأ�شقياء الذين اعرت�ضوا
طريقي � ..صرخت يف وجهي �أن �أعود �إىل بيتي.
نعم ..لقد بد�أت تراوده الذكرى ،ولكن مالحمها مل تكن وا�ضحة له ,يبدو
�أنه مل يهتم بالنظر �إليها بالفعل ,ك ُّل ما ه َّمه وقتها هو �أن ينقذ فتاة يف ورطة,
فتاة مراهقة متر به كل يوم ..
و ُتلقي ّ
ال�سالم !.
ال ُتعيدين �إىل البيت � ..أنا ال�سبب � ..أبي �سيقتلني.
عيناه تابعتا دمعة يتيمة ف َّرت من طرف عينيها؛ لتبتلعها الو�سادة اخل�شنة
برفق لتفيق وهو يذكرها حائر ًا من �أمرها:
على الفور ,فبد�أ يهزها ٍ
ل�ست ال�سبب يف �شيء.
أنت ِ�أفيقي يا غفران ..لقد مات والدك ..و� ِ
�سكت قلي ًال وهو يرى الدمعات التي تبعت الدمعة الأوىل تند قافزة من
حواف عينيها املغلقة تلحق بها �إىل الو�سادة يف �سباق ال ينتهي قبل �أن يقول
برت ُّد ٍد دون �أن يح�سم �أمره بعد:
ل�ست ال�سبب ..ل�ستُ �أنا قاتل رمزي ..وال �أحد يعرف من قتله بعد.
أنت ِ� ِ
فتحت عينيها ببطء وهي تناظره عن قرب مبقلتني �ضائعتني هام�سة:
�أعرف� ..أنت مل تقتل �سلمى ..ومل تقتل رمزي ..بل �أنا التي فعلت!.
y
بد�أ «عا�صم» التحقيقات من البداية ,و�سمع �أقوال ِّ
كل َمن لهم عالقة
بطبيب الن�ساء القتيل �سواء من قريب �أو بعيد ,ولكن �شهاداتهم مل تختلف,
املمر�ضة التي اكت�شفت اجلرمية ال زالت حمبو�سة على ذمة التحقيق ,ولقد
ا�ستغل «عا�صم» رعبها وحالتها املُزرية التي و�صلت �إليها على �إثر احلب�س
وكونها م�شتبه ًا بها ،وا�ستطاع �أن ي�ستنطقها فيما يخ�ص عالقات الطبيب غري
امل�شروعة والتي كانت ُتنكرها يف البداية.
مل يكن الأمر جم َّرد حد�س بالن�سبة له ,ولكن املح�ضر الذي ُقدِّ م �ضده منذ
عام تقريب ًا من �سيدة ُتدعى «�أمل» ,واملداخالت التليفونية التي �أجرتها تلك
ال�سيدة على بع�ض الربامج احلوارية تتهمه فيها باغت�صابها �أثناء تخديرها
مل مير مرور الكرام عليه ،حتى لو تنازل كالهما عن حقوقه فيما بعد ،ومت
ال�صلح بينهما ب�شكل ود ٍِّّي ,و�أمر با�ستدعاء «�أمل» ولكنه مل يعرث عليها يف حمل
�إقامتها وعلم عن طريق التحريات �أنها ُطل َق ْت بعد �أن قامت ب�أول مداخلة
تليفزيونية �ضد رغبة زوجها وعائلتها كلها بالتبعية والتي تتمثل يف �شقيقتها
الكربى وزوجها فقط .
عالقات من املمكن �أن ت�ؤدي �إىل
ٍ كان ي�سري خلف كل خيط ٍّ
متدل من دائرة
انتقام مثل الذي حدث للطبيب بالطريقة التي ُع ِّذب بها ُقبيل مقتله ,ويجمع
كل تلك اخليوط واحد ًا تلو الآخر ب�صرب.
وقد بد�أ من �أبعد نقطة عك�س ماهو ُمتوقع ،وقام با�ستدعاء الزوج ال�سابق
لل�سيدة «�أمل» ,والذي مل ُي ِبد � َّأي تعاون يف البداية ،وكانت �إجاباته مقت�ضبة
حا�سمة ,كان منغلق ًا للغاية ينظر �إىل �ساعة مع�صمه كل دقيقة على الأقل ،وقد
�ضغط �آخر زر للتمدن عند «عا�صم» وهو يقول متعج ًال:
من ف�ضلك يا فندم� ..أنا م�شغول جد ًا ،و�أريد االن�صراف.
ُترى من الذي �أتى �صباح ًا وهو ُيحدث نف�سه عن ال�صرب؟!� ,ضرب «عا�صم»
�سطح مكتبه بكفه فانتف�ض املهند�س «مازن» كما انتف�ضت الأوراق ال�ساكنة فوق
املكتب متام ًا ,ثم نه�ض ودار حوله حتى وقف خلفه منحني ًا نحو �أذنه هاتف ًا
بع�صبية:
م�شغول هذه تقولها لـ.....
قطع «عا�صم» عبارته معتد ًال وهو يزفر ب�ضيق ُمت�أفف ًا ,احتقن وجه «مازن»
وع ّدل من رابطة عنقه بارتباك ,لقد كاد �أن ُي�شتم منذ حلظةُ ,ترى من الذي
�أتى �صباح ًا وهو ُيحدث نف�سه عن احلقوق؟!.
و�ضع «عا�صم» كفه على ك ِتف «مازن» ،و�ضغطها بقوة ُمهدد ٍة ُماو ًال
ا�ستدعاء ذاك ال�صرب املزيف قائ ًال:
ا�سمع يا ب�شمهند�س � ..أمامنا جرمية قتل ..والقتيل اته َمتْه زوجتك
�سابق ًا �أنه اغت�صبها ..فهل تدرك �صعوبة موقفك؟.
التفت «مازن» على الفور بج�سده ب�شكل مبالغ فيه وهو يهتف م�صحح ًا
بتوتر:
طليقتي ..لقد ..لقد طلقتُها ،وعالقتي بها منعدمة متام ًا.
ملاذا؟.
توتر «مازن» �أكرث ،وزاد ارتباكه فلم يفهم ال�س�ؤال ,انقطعت عالقته بها؛
لأ َّنه ط َّلقها فقط ,ما امل�شكلة؟.
قمت بتطليقها يا ب�شمهند�س؟.
ملاذا َ
�أطرق «مازن» وهو يعود بج�سده مر ًة �أخرى �إىل و�ضعه الأول وهو يجيب
بخزي:
ٍ
هي التي دف َعتْني �إىل ذلك بعنادها.
�سار «عا�صم» ببطء حتى ا�ستوى على املقعد املقابل ب�أريحية منحني ًا للأمام
وم�ستند ًا مبرفقيه �إىل فخذيه وهو ُ
يومئ بر�أ�سه قائ ًال:
�أنا � َ
أ�سمعك � ..أريد كل التفا�صيل مهما كانت �صغرية ..تفهمني بالطبع.
تنحنح «مازن» وهو يرى التهديد املغلف بتلك االبت�سامة ال�صفراء بو�ضوح,
ثم ابتلع ريق ًا وهمي ًا قائ ًال:
�أخربتْني �أمل �أنها ا�ستيقظت لتجد نف�سها يف حالة �إعياء ،وعندما
قريب قامت بعملية تنظيف رحم؛ ذه َب ْت مع �شقيقتها �إىل م�ست�شفى ٍ
لأ َّنها �أُجه�ضت ..وبعد �أيام عند عودتي من عملي فوجئت بفتاة �سمراء
تغادر �شقتنا كالهاربة ..مبجرد �أن �أغلقت باب ال�شقة �سمعتُ �صوت
�أمل من الداخل تبكي ب�شدة ..دخلت الغرفة التي كانت بها فوجدتها
جتل�س �أر�ض ًا وت�شهق بنحيب ك َمن يعاين �سكرات املوت ..علمتُ بعد
ذلك منها �أن تلك الفتاة ال�سمراء كانت املمر�ضة التي ا�صطحبتها �إىل
غرفة اجلراحة ثم �أخربتني بـ....
تطل ،يبتلع فيها ُلعاب ًا حقيقي ًا هذه املرة وهو يالحظ
�صمت للحظة مل ْ
التغ�ضن على جبني اجلال�س �أمامه م�ستعد ًا ل�صفعه على الدوام وتابع ُّ
م�ستطرد ًا:
�أخربتْني �أن املمر�ضة اعرتفت لها �أن الطبيب بعد �أن �أنهى اجلراحة
�أمرها واملمر�ضة الأخرى وطبيب التخدير ب�أن يغادروا ويرتكوهما
وحدهما لع�شر دقائق ..وان�صاع اجلميع وخرجوا دون �أن يقدر �أحدهم
على االعرتا�ض حتى طبيب التخدير.
ثم ؟
تل�ص َ�صت ال�سمراء كما تفعل كل مرة ور�أت كل �شيء.
ثم َّ
كل مرة؟!!
حترك «عا�صم» بتحفز وقد جاءته «كل مرة» هذه ك�صاعقة �ضربت كل
من حوله ،وتركته يتخبط فكررها متعجب ًاَّ ،
مما جعل «مازن» يخ�شى �أن يورط
نف�سه �أكرث فقال على الفور:
هي التي ح َك ْت يل هذا� ..أنا مل �أ َر �شيئ ًا.
�أكمل.
بعد �أن ا�سرتدت �أمل وعيها ..ومتالكت نف�سها نه�ضت جتذبني وهي
تق�سم ب�أنها �ست�سرت ُّد حقها ..وطالبتني ب�أن �أذهب معها لتحرير
حم�ضر ..ولكنني رف�ضت ..فرتكتْني وجذ َب ْت حقيبتها وخرجت
كاملجنونة.
ملاذا رف�ضت؟! ..هل كنت تفكر يف االنتقام منه بيدك؟.
ات�سعت عينا «مازن» وهو ي�شري بكلتا يديه هاتف ًا:
ال ال � ..أنا ل�ستُ من هذا النوع ..ولكننى مل �أكن م�ستوعب ًا لأي �شيء
تتفوه به ..كنت �أريد �أن �أفكر �أكرث و�أ�س�أل �أخي الأكرب �أو ًال.
�أخوك هذا هو زوج �شقيقتها الكربى � . .ألي�س كذلك؟!
بلى.
الحت ابت�سامة �ساخرة على زاوية �شفتيه ،وهو ينظر لـ «مازن» و ُيعيد تقييمه
منحه قيمة �أكرب مما ي�ستحقها ,حترياته عنه من البداية ومن جديد ,يبدو �أنه َ
قالت ب�أن �شقيقه الأكرب هو َمن قام برتبيته واهتم به ،وهو َمن ز َّوجه بـ �أمل»
بعد �أن تزوج هو من �أختها بعدت �سنوات وله �أف�ضال كثرية عليه .
ومباذا �أمرك �أن تفعل؟.
نربته الهازئة تلك مل متنع «مازن» من اال�سرت�سال ,فهو ال يرى � َّأي عيب يف
�أن ي�ستمع �إىل قول َمن هو �أكرب منه ،وبالت�أكيد يفهم �أكرث منه كما كانت ت�ؤكد
عليه دائم ًا والدتهما املتوفاة وهي تو�صيه ب� َّأل يخرج عن طوع �أخيه الأكرب مهما
حدث..
عقد �أخي جل�سة عائلية فيما بعد ..وا�ستمع �إىل احلكاية من � َأمل
بنف�سه وعندما انت َه ْت ,قال� :إنَّ من املمكن �أن تكون املمر�ضة ال�سمراء
حتكي ق�صة وهمية تفرتي بها على الطبيب لعداو ٍة مث ًال �أو �شيء من
هذا القبيل� ,أو ت�سعى �إىل ابتزازنا فيما بعد ب�أي �شكل من الأ�شكال..
فهي الوحيدة التي تقول� :إنها ر�أت هذا بينما �أنكرت املمر�ضة الأخرى
وكذلك طبيب التخدير عندما مت ا�ستدعا�ؤهما على �إثر املح�ضر الذي
ق َّد َمتْه �أمل ..وقال� :إنَّ املح�ضر مادام قد مت تقدميه وبد�أت التحقيقات
عم ُت�س ِفر نتيجته؟.
بالفعل ف�سننتظر ونرى َّ
واخت َفت املمر�ضة!.
نعم ..ورمبا تكون هربت؛ لأ َّنها تعلم �أ َّنها كاذب ٌة.
�أعتقد �أنَّ هذا كان ر�أي � َ
أخيك � ..ألي�س كذلك؟!
ال زالت النربة الهازئة يف كل �س�ؤال يوجهه له ,والزال «مازن» ملتزم ًا جد ًا
بالإجابة متظاهر ًا ب�أنه ال يفهم:
بلى ..عقد �أخي جل�سة عائلية �أخرى ،وقال :مبا �أن املمر�ضة قد اختفت
فهي كاذبة ..وكانت تريد ابتزازنا من البداية ،و ِبنا ًء عليه فق�صتها
كاذبة ،ويجب �أن يتم التنازل وال�صلح و�أن نقدم اعتذار ًا للطبيب ..
ولكن � َأمل �أُ�صيبت بحالة هياج غري طبيعية ،وقامت بتك�سري الأكواب
التي كانت �أمامنا على الطاولة وهي ت�صرخ ب�أننا معدومو الرجولة.
فقمت ب�ضربها.
قالها «عا�صم» بثقة وك�أنه كان يجل�س معهم مما جعل «مازن» ينظر له
بده�شة ،فتغا�ضى الأول عن تلك النظرة البلهاء ،و�أوم�أ بر�أ�سه يحثه على
املتابعة وا�ستطرد «مازن» يف �أقواله مبنتهى الطاعة قائ ًال:
مل �أكن لأ�سكت و�أخي ُيهان من زوجتي ..حتى �أختها نه َرتْها وتركتني
َّعظ ،فخالفتنا مرة �أخرى ،ورف�ضت التنازل، �أ�ضربها ..ولكنها مل تت ْ
وبد�أت تتحدث �إىل القنوات الف�ضائية ،وتذكر �أ�سماءنا كاملة وتف�ضحنا
�أمام النا�س بق�صتها تلك ..فما كان مني �إال �أن طلقتُها وت َّرب�أَ ْت
�شقيقتها منها وهج َرتْها.
وعندما و�صل �إىل تلك النقطة من احلكاية بد�أت تراود الثقة حديثه وهو
يتابع بفخر:
ورغم ذلك مل نرتكها ..فعندما ات�صل بنا حمامي الطبيب ،و�أخربنا
ب�أنهم �سريفعون ق�ضية ر ِّد �شرف وتعوي�ض ،و�سي�سجنونها فهي لي�س
لديها �شهود وال �أدلة �شرعية ..تدخلنا على الفور وهددها �أخي
ل�صاحلها � ..إما �أن تتنازل ويتم ال�صلح ،و�إما �أن نرتكها ُت�سجن ،ولن
ُي�س� َأل عنها بعد ذلك مهما حدث.
وتناز َل ْت.
هذه املرة مل تكن حروفه �ساخرة ,خرجت م�ستاءة و ُم َّرة من الواقع الذي
يعرفه وخربته ل�سنوات ,ف�أوم�أ «مازن» م�ؤكد ًا وهو يقول:
تنازلت رغم ًا عنها وعقدنا ال�صلح ..ولكننا مل َ
نن�س ما فعلت ..بعد
فرتة �أخي مت ترقيته ،وانتقل لفرع ال�شركة التي يعمل بها يف اخلارج،
ولكن �شقيقتها �أرادت �أن تزورها للمرة الأخرية قبل �سفرها ..
فتفاج�أت بها يف حالة ر َّث ٍة وغري طبيعية ف�أ�شار �أخي عليها �أن تقوم
ب�إيداعها م�صحة نف�سية.
تق�صد �أمرها.
�سكت «مازن» ومل يجد داعي ًا للإجابة ,فهو مل يكن �س�ؤا ًال ،بل �إقرا ٌر
باحلقيقة ,وانتهى «عا�صم» يف �أخذ كل ما �أراده من تفا�صيل ال توجد
باملحا�ضر ،ومن بينها موا�صفات تلك املمر�ضة ال�سمراء التي اخت َفت يف
ظروف غام�ضة ،وا َّدعى امل�شفى �أنها طلبت �إجازة طويلة ،ومل تعد من وقتها
y
فتم حتويلها للتحقيق الإداري الذي مل حت�ضر �إليه �أي�ض ًا ...واختفت الفتاةَّ
وك�أنها تبخرت يف الهواء.
� -أُق�سم لك يا فندم ..هذا كل ما �أعرفه عن تلك املري�ضة.
كانت تقف باكية بجوار مكتبهُ ,تق�سم باهلل بعد كل كلمة ،بل رمبا بعد كل
حرف تنطق به ,وهي ُتيبه عن �أ�سئلته للمرة الثالثة َّربا �أو الرابعة ,مل تعد
تذكر كم مرة قام بالتحقيق معها؟ ,ويف كل مرة ُيعيد ت�سا�ؤالته بطرقٍ خمتلفة,
لقد �أر�شدته يف البداية للدفرت الذي تقوم بت�سجيل بيانات املري�ضات فيه
ملف خا�ص بتفا�صيل واحلجز لهن يف مواعيد حمددة ,كل ا�سم مري�ضة له ٌّ
مر�ضها وبياناتها ال�شخ�صية ,وقام هو بدوره يف ا�ستدعائهن و�أخذ �أقوالهن ِ
حول �سلوكيات الطبيب وما حدث يف تلك الليلة ,جميعهن �إال واحدة ,واحدة
فقط اكت�شف �أن ا�سمها وهمي وكذلك رقم هاتفها وكل بياناتها ال�شخ�صية لي�س
لها وجود على �أر�ض الواقع ,لقد كانت بالن�سبة له اكت�شاف ًا رائع ًا ,لذلك مل يكن
ليف ّوتَ تلك الفر�صة وطلب من املمر�ضة �أن ت�صف له تلك املر�أة بالتف�صيل,
وفع َل ْت ,ولكنها كانت �أو�صاف ًا مرتبكة ،ترددت فيها كثري ًا وهي ت�صفها ،وك�أنها
تتذكرها ب�صعوبة ,وك َّلما �أعادت الو�صف ازدادت ا�ضطراب ًا و�صعوبة يف �أن
جتمع له تفا�صيل وجهها بدقة ,حتى الر�سام الذي يجل�س ُقبالتها ف�شل يف ر�سم
مالمح كاملة ل�شخ�صية طبيعية.
تع�صر ذهنها ع�صر ًا
�إنها تخ�شى �أن تظلم �أحدً ا بو�صف ال تذكره جيد ًاِ ,
فيت�ش َّو�ش �أكرثُ ,وتيب بالنفي عندما ُيريها الر�سام املالمح الكثرية التي يقوم
بر�سمها ويعر�ضها عليها ع َّلها جتد �ضالتها ,وكيف تفعل وهي ترى يومي ًا ع�شرات
الن�ساء ,بع�ضهنَّ تعرفهن معرفة جيدة لطول فرتة ترددهن على العيادة ,ولكن
هذه املر�أة مل ترها �سوى مرتني فقط ,فكيف متيزها الآن ب�سهولة؟.
�أال يكفي �أنها م�شتبه بها منذ اللحظة الأوىل وا�ضطرت خوف ًا يف البداية
�أن ُتنكر ما كانت تراه �أو ت�سمعه من عالقات م�شبوهة؟ ،كانت حتدث �أ�سفل
ناظريها وكل يوم دون �أن ت�ستطيع �أن تنطق بكلمة واحدة ,فالطبيب هو �صاحب
ف�ضل عليها ومينحها الكثري من املال مبا يغطي نفقاتها هي و�أوالدها التي تقوم
على �إعالتهم وحدها ,نعم كان هذا املال ُملوث ًا ب�سكوتها على النجا�سة التي
كانت حتدث ،ولكن ماذا كان بيدها �أن تفعل؟ ,وقدمي ًا قالت لها �أمها « :اربطي
ولتع�ش فقط ،ا�ضطرت �إىل ربط اخلنزير ْ احلمار مطرح ما �صاحبه عاوزه».
نف�سه ولي�س احلمار فقط.
�أما الآن وقد هددها «عا�صم» ب�أنهم �إن مل يجدوا القاتل ،ف�سوف يتم
فك كل احليوانات التي َ
ربطتْها من اتهامها هي بالقتل ،فلم جتد مفر ًا من ِّ
قبل ,وق�صت له كل ما تعرفه ور�أته منذ عملها مع الطبيب.
مت �ضده �شكوى تتهمه كانت ق َّد ْ
يف �أحد الأيام ح�ضرت ال�سيدة التي ْ
فيها باغت�صابها ،وافتعلت ف�ضيحة يف العيادة ..ولكننا قمنا بطردها
�أنا وهو ،و�سمعتُه يقول لها� :إ َّنها لن ت�ستطيع �أن تثبت �شيئ ًا �ضده ..
فهي ال تعرف َمن هو؟ ،وماذا ي�ستطيع �أن يفعله بعالقاته الوا�سعة؟ ...
أق�سم لك ..
� ُ
ا�صمتي..
�صرخ «عا�صم» بوجهها فارتعبت وتراجعت للخلف باكي ًة ،وهي ت�ضع كفها
على فمها ُتنفذ �أمره حرفي ًا ،بينما هو ينه�ض وقد �أفلتت ع�صبيته من عقالها
وجذبها من مالب�سها عند ك ِتفها ودفع بها نحو املقعد املواجه ملكتبه:
�صوتك خلم�س دقائق كاملة ..اخر�سي وا�ستجمعي
ِ ال �أريد �أن �أ�سمع
عقلك ،وحاويل تذ ّكر وجه تلك املر�أة بكل طريقة ممكنة ..هل
ِ
تفهمني؟.
�أوم�أَ ْت له بر�أ�سها عدت مرات بطريقة هي�ستريية زادت من غ�ضبه فزفر
حانق ًا ،وهو يعود؛ ليجل�س خلف مكتبه ويقر�أ �أقوالها التي مت تدوينها �سابق ًا,
بينما �أ�صابعه تنقر �سطح املكتب حماو ًال تهدئة ما تبقى من �أع�صابه ,كلما
و�صل �إىل خيط ما وجده بال قيم ٍة! ,موا�صفاتها كلها مت�ضاربة ,تارة تقول� :إن
املري�ضة وهمية اال�سم ،يظهر على مالب�سها �أنها من الطبقة املتو�سطة على
اعتدنْ الرتدد على الطبيب ,ماذا �سي�أتي بامر�أةعك�س جميع املري�ضات الالتي َ
كتلك �إىل طبيب يف حي املعادي ويف كل مرة تدفع ك�شف ًا م�ستعج ًال يفوق ثمن َ
الك�شف العادي �ضعفني؟ ,ثم متنح املمر�ضة ِبق�شي�ش ًا حتى ال جتل�س منتظرة
ولو دقيقة واحدة ,يظهر عليها الك�آبة ويف نف�س الوقت ت�ضع م�ساحيق بطريقة
مبالغ بها ،حتى تكاد مالحمها الأ�صلية تختفي وترتدي قفازات ال تخلعها ..هل
طلب منها �أن ت�صف له ُمه ِّرج ًا يف ال�سريك �أم ماذا؟ !.
�أ�سند ر�أ�سه �إىل كفيه ،و�أغم�ض عينيه فقد اكت�سح ر�أ�سه �صداع ي�ضرب �شقه
الأمين كاملطرقة ،وهو ي�ستمع �إىل الر�سام الهادئ للغاية يحاول ا�ستخال�ص
مالمح �أكرث دقة منها ،بينما قلمه يتحرك على الورق مع حترك �شفتيها.
رفع ر�أ�سه �إليهما عندما الحظ اهتمام ًا يعلو وجه الرجل وهو يعكف على
�إنهاء عمله ,ف�أخذ يحثه على االنتهاء �سريع ًا� ,إنه يف �صراع مع الوقت.
تقريب ًا انتهيت ..انظري �إليها مل َّي ًا.
ق َّرب الر�سام الورقة من املمر�ضة التي �صمتت للحظة تت�أملها قبل �أن تقول
برتدد:
�أعتقد �أنها ت�شبهها ..قلي ًال.
نه�ض «عا�صم» جاذب ًا اللوحة من بني يديها ونظر لها بت�أمل �شديد� ,إنها
ُت�شبه امر�أة ر�آها من قبل ,ولكن متى ,ال يعرف حتديد ًا ,ولكن ال ب�أ�س فقد
ح�صل على �شيء ما �أخري ًا� ،أي �شيء ي�ؤكد له �أنه يبذل جهده يف االجتاه
ال�صحيح ,مديرية الأمن كلها ت�ضغط عليه كل يوم ,زمال�ؤه ومديروه ي�س�ألونه
كل يوم« :هل و�صل ل�شيء؟» الإعالم يتحدث عن الق�ضية بينما «رائد» يجل�س
يف مقاعد املتفرجني ,ال يتحرك وال يتعاون معه ب�أي �شكل من الأ�شكال ,حتى
التحقيقات ال يتواجد يف معظمها.
ال ي ُه ُّم كل هذا ,فلقد �أو�شك على الو�صول� ,سيذهب الآن �إىل امل�صحة
النف�سية كما خطط �سابق ًا ليتحدث مع «�أمل» وليعرف تفا�صيل �إدارية حول
�إمكانية مغادرتها للم�صحة ولو لدقائق قليلة �أم ال ,وعند عودته �سيبد�أ يف طبع
وتوزيع تلك اللوحة املر�سومة يدوي ًا والبحث عن �صاحبتها املجهولة!.
y
كيف حالك اليوم؟
احلمد هلل ..جيدة.
�أرى ذلك ..هل تودين اخلروج من امل�صحة؟.
ال ..الزلت �أحتاج �إىل البقاء بع�ض الوقت.
حوار �صباحي �شبه يومي بد�أ ي�شعرين بامللل ,فبعد �أن حت�سنت حالة «�أمل»
كثري ًا ،وبد�أت تتعافى مع الدكتور «يحيى» �أثناء اجلل�سات وتهم�س مبا كانت
أيام فقط.
حتمله على عاتقها قبل � ٍ
قبل �أن ي�أخذها الف�ضول لتتقدم من حا�سوبي املحمول وجتل�س �أمامه وقد
جذبها العنوان الأحمر الكبري الذي ُكتب يف ال�صفحة الرئي�سية التي كنتُ
�أت�ص ُفحها قبل مغادرتي احلجرة لر�ؤية زوجي الذي جاء �إىل امل�صحة لزيارتي
ب�صحبة طفلتيه.
«العثور على جثة طبيب الن�ساء ال�شهري يف عيادته اخلا�صة يف ظروف
غام�ضة» .
وعندما ُعدتُ �إليها بعد ن�صف �ساعة وجدتها ت�ضم كفيها �أمام �صدرها
بينما دم ُعها يهطل كال�شالل على وجنتيها و ُيغرق وجهها كله ..حتى �شفتيها
املبت�سمتني ,لقد كانت تبت�سم وهي ت�شهق باكية ,حالة تليق بنزيلة م�صحة
نف�سية!� ,أكا ُد ُ�أجزم �أن ما يجعلها تبت�سم لي�س القتل يف حد ذاته ,بل طريقة
القتل نف�سها ..عادلة جد ًا ,عادلة لدرجة �أن حطمت قيد �شفتيها ..فابت�سمت,
وهذا يكفيني!
دكتور يحيى.
التفت نحوي بوجه ُم�شرق وابت�سامة المعة فقلتُ ب�شفرة بيننا:
متى موعد جل�ستي معك؟.
احتفظ بابت�سامته �إال �أن عينيه تخلتا عن املرح الذي كان يلهو بداخلهما:
بعد ن�صف �ساعة ..مبجرد �أن �أنتهي من املرور على بقية الأ�صدقاء
هنا.
ثم عاد بعينيه �إىل «�أمل» جمدد ًا ،وودعها بابت�سامة من�صرف ًا ,ظلت تتابع
خطواته حتى ابتعد متام ًا دون �أن تعلم �أنني �أُتابعها هي ,هل �أنا �شريرة لأنني
و�ضعت يوم �أم�س زهرة بي�ضاء على فرا�شها ثم ادعيت كاذبة مب�شاهدة دكتور
«يحيى» وهو ُي�سقطها ِخفية على و�سادتها �أثناء مروره علينا وقبل مغادرته
لغرفتنا؟.
�إنها لي�ست غلطتي ..ف�أ�شباحي اخلا�صة هم �أ�صحاب هذه الفكرة و�أنا
قمت بتنفيذ �أفكارهم فقط� ..إنهم ُيحبون «�أمل» ويريدونها �سعيدة ,و�أنا
كذلك� ,س�أفعل كل �شيء لتح�صل على ما مل �أح�صل �أنا عليه � ..أن تكون حمبوبة
و�سعيدة!
�أمل؟
ناديتُها فالتفتت على الفور بوجنتني متوردتني ف ُقلت �أدفع ال�شعور �إىل قلبها
دفع ًا:
لك مكانة خا�صة عند دكتور يحيى.
يبدو �أن ِ
رم�شت بعينيها مرتبكة حائرة وهي تقول بهم�س :
إنك تتوهمني.
� ِ
نظرت لها ب�صدمة خادعة فا�ضطربت على الفور وهي تعتذر بتوتر:
�آ�سفة مل �أق�صد � ..أنا �أق�صد ..
�ضحكتُ فج�أة و�أنا �أراها تبحث عن تعبري منا�سب فابت�سمت مكت�شفة �أنني
كنتُ �أُمازحها وتنف�ست ال�صعداء وهي تعتذر جمدد ًا ال �إرادي ًا ,ابت�سامتها نادرة
رغم جمالهاُ ,تذكرين ب�صديقتي الراحلة بج�سدها ,الباقية بهالتها امل�شعة من
حويل دوم ًا ,وب�أفكارها الرائعة للجميع ,تريدهم جميع ًا �سعداء ,ال تريد �أن
تعاين امر�أة مما كانت تعانيه هي-رحمها اهلل !-
وبعد ن�صف �ساعة ح�ضرت «رجاء» لت�صحبني �إىل مكتب الدكتور «يحيى»
ومررنا باملمر الأبي�ض كالعادة ونحن نتبادل احلديث.
طرقت «رجاء» الباب يف روتينية وفتحته على الفور كمن ال يحتاج �إىل
اال�ستئذان �أو ًال.
مل يكن وحده ,كان معه �شخ�ص �آخر ,نه�ض مبجرد �أن دلفنا �إىل احلجرة
ووزع نظراته بيننا ولكن لي�س بالتعادل ..لقد منحها كاملة لـ «رجاء» التي
تراجعت خطوة ال �إرادية للخلف م�ضطربة قبل �أن ُت�سيطر على حركة ج�سدها
وتقف ثابتة بينما هو يت�أملها لدقيقة كاملة ُم�ضيق ًا ما بني عينيه برتكيز قبل �أن
يقول لها ببطء وبعينني تلمعان ك َمن وجد كنز ًا دون عناء:
أنت �صديقة احلاجة «جليلة»� ،ألي�س كذلك؟!
� ِ
y
حملت «فنار» �صغريتها ودلفت �إىل غرفتها؛ لت�ضعها فوق �سريرها
ال�صغري� ,سحبت الفرا�ش فوقها لتُدفئها به وهي حتت�ضنها وت�ضع قبلة على
�شعرها بهدوء حتى ال ُتوقظها ثم غادرت الغرفة على �أطراف �أ�صابعها و�أغلقت
ل�ص منازل قبل �أن تتنف�س ال�صعداء ،وهي ت�ستدير لتعود الباب خلفها بحذر ِّ
�إىل غرفة املعي�شة جم َّدد ًا.
كانت قد تركت «حممود» يعمل على حا�سبه املحمول لت�ضع طفلتهما يف
وجدتْه مغم�ض العينني ُم�ستند ًا بر�أ�سه �إىل ظهر
�سريرها ولكنها عند عودتها َ
الأريكة ,مالحمه يف حالة ا�سرتخاء برغم الإرهاق الذي الزمه طيلة فرتة
زيارته لهما اليومية كاملعتاد.
ال تعلم كيف ميكنه ا�ستغالل كل دقيقة يف وقته بهذا ال�شكل ,ما بني عمله
النهاري يف التدري�س ,وزيارته لها وق�ضائه الوقت مع ابنتهما ما بني لهو �أو
حكايات يحكيها كل منهما للآخر ,العمل على موقعه الر�سمي والرد على
ر�سائل امل�ساعدين له يف �إدارة املوقع �أو حتى ر�سائل ت�ضم معاناة وق�ص�ص ًا
غم�ضىطويلة وكثرية ل�شباب ي�سريون يف نف�س الطريق الذي كان ي�سري فيه ُم ِ
العينني ويريدون اخلروج من هذا امل�ستنقع.
�أنا جائع ..ج َّد ًا.
بتعب وهو يفتح عينيه ببطء �شاعر ًا بوجودها واقفة جتاهه تت�أمل قالها ٍ
�سكونه الظاهري� ,أما باطنه فهو خمتلف متام ًا ,وك�أنه يقول� :إىل متى؟..
رث يف اجتاهات بعيدة جد ًا عن بع�ضها البع�ض ,ينتظرها �أن ي�شعر �أنه مبع ٌ
جتمع �أ�شالء �شا�شته ولكنها ال تفعل ,ي�شعر بها و ُيدرك التغري الذي يحدث يوم ًا
بعد يوم يف طريقة تعاملها معه ,ولكن �أال يكفي؟ ,لقد دفع ثمن �أفعاله مبا فيه
الكفاية ويريد �أن ينعم بالغفران!.
ماذا تريد �أن ت�أكل؟.
نظر لها نظر ًة ُمطولة قبل �أن يقول با�ستغاثة جعلتها تبت�سم:
يدك� ..أنا �أت�ضور جوع ًا!
� ّأي �شيء من ِ
�سارعت �إىل مطبخها وهي ُتخفي �شعور الإرهاق الذي يتملكها هي الأخرى,
ْ
فهي ما بني عملها وحت�ضريها لطعامها هي وال�صغرية ثم القيام بحل الواجبات
املنزلية ..ثم ي�أتي هو!
ره ٌق للغاية ,وجوده حولها ُي�شتتها حتى وهي حتاول �أن تتلهى
وهو وحده ُم ِ
بالكمية الكبرية من الدفاتر التي ت�ضعها بني يديها على الطاولة امل�ستديرة
واملقابلة ملكان جلو�سه والتي تقوم بت�صويب الأخطاء فيها للفتيات.
عامان وزيادة ،والو�ضع يبقى على ما هو عليه� ,أطرافها مت�شنجة على
�أحبال م�شدودة طوال فرتة مكوثه وحتى ين�صرف فتبد�أ باال�سرتخاء ُم َّدد ًا,
ب�صلبها �أم هي التي تفعل به؟ ..ال يهم ,فكالهما ت�أكل طيور هل هو َمن يقوم َ
الهجر من ج�سديهما بال رحم ٍة!
هل تريدين امل�ساعدة؟.
تفاج�أَ ْت به يقف على م�سافة منها بجوار املربد م�ستند ًا �إليه بتثاقل
ال�سلكي
ّ فتنحنح ْت بحرج بالغ وهي ال تكاد ت�شعر بيدها التي ُت�سك بامل�ضرب
َ
بارتباك:
ٍ وتخفق به البي�ض ب�سرعة وعنف ال تق�صده� ,أجابت
ال� ،شكر ًا � ..س�آتي لك بالطعام خالل دقائق قليلة.
هو يعرف �أنها تقوم بطرده ولكنه ال يريد اخلروج ,يريد �أن يتبادل معها
�أطراف احلديث ,يفتقد تلك اللحظات الدافئة التي كانا يتحدثان فيها عن كل
�شيء فيما م�ضى ,وياللغرابة! ,لقد كانت تلك اللحظات ُت�ش ِعره بال�س�أم ,كان
يريدها �أن تنتهي من �أحاديثها املزعجة عن الأطفال والعمل وما �أرهقها اليوم
وماذا فعلت فالنة معها ,حتى �أنه مل يكن ي�ستمع �إىل ن�صف ما تقول على الأقل
وال يعلق يف النهاية بر�أي ,بل كان ُي�سك بهاتفه وهي تتحدث ويهز لها ر�أ�سه
امل�شغول بغريها.
�أما الآن ..فهو ميوت فدا ًء حلديث واحدّ � ,أي كلمة تتف َّوه هي بها ي�ستمع
�إليها بعمق وتبتلعها روحه بعط�ش ,و ُت�شعره ب�أنه ما زال َّ
رب هذه الأ�سرة ,وب�أنه
يف جمال الر�ؤية ..وب�أنه موجود.
راقبها وهي تعمل على نقل البي�ض الذي مت َط ْهوه �إىل ٍ
طبق �آخر دون �أن
ُتغلق �شعلة النار فتقدم نحوها بتلقائية ومد يده؛ ليغلقها فارتبك كالهما
للتَّالم�س العفوي للأيدي ,ولكنها �سيطرت على الو�ضع ب�سرعة ال�صاروخ
ومتا�سك ظاهري ،ولأجل
ٍ وابتعدت خطوتني جانب ًا وهي ت�ستكمل عملها ب�إتقان
�أن تقوم بت�شتيت الباطن �أي�ض ًا قررت ال�سري يف طريق �آخر ,طريق �صاحبته
جمنونة بالإجماع:
�أروى �صديقتي �س�ألتني َ
عنك �أكرث من مرة.
ها؟.
هو � ً
أي�ضا تفاج�أ بانت�شالها له من تلك احلفرة التي �سقط فيها مبجرد مل�سة
ب�سيطة ,وقال متجاوب ًا على الفور:
كيف حالها؟.
قالت مازحة :
ْ
بخري ..ويف كل مرة حتدثني ..تتكلم َ
عنك بامتنان �شديد.
أ�صبحت لديه خربة طويلة يف كيفية
ْ كان عليه �أن ُيجاري احلديث ,فلقد �
ت�شتيت �أفكاره:
و َمل االمتنان؟ ..فما فعلتُه مل يقدم �أو ي�ؤخر � َّأي �شيء.
كيف ذلك؟ ..فلقد خاطرتَ بحياتك ..هل ن�سيت؟!
كانت متازحه وهو يعلم ذلك ,فتذ ُّكر تلك املناورة كفي ٌل ب�أن يجعلهما
يبت�سمان برغم خطورتها ,فهما حتى الآن ال يت�صوران كيف �سيكون ر َّدة فعل
«عا�صم» عندما يعرف.
لن ين�سى �أبد ًا ذلك اليوم الذي هاتفته فيه «فنار» برغم اخل�صام ال�صريح
وقتئذ ,و�أخربته بعملية �أن �صديقتها تريد منه خدمة �سي�ستفيد منها بينهما ٍ
هو الآخر لو كان �صادق ًا فيما يدعيه يف �سعيه �ض َّد كل ما يتعلق بن�شر الرزيلة,
ود َّبرت له موعد ًا مع « �أروى» ,وهو وافق على الفور ,كان يريد �أن يثبت لها ب�أنَّ
حقيقي و�أنه يف طريقه للتعايف.
ّ �سعيه
تلك املقابلة التي كانت �أ�شبه بتجنيد عميل مزدوج مل ين�سها �أبد ًا ,لقد
كانت «�أروى» �صريحة معه يف كل �شىء عندها:
« �أ�ستاذ حممود� ..أنا �أريد بع�ض التفا�صيل املهمة يف عدة ق�ضايا
تدور حول نف�س الواقعة وهي جرائم خطف الأطفال والتعدي عليهم
..وللأ�سف ،امل�صادفة مل تكن يف �صاحلي؛ فزوجي ميتلك كنز ًا من
املعلومات عنها وال يريد م�ساعدتي ..يقول� :إنه ال فائدة وال يريد �أن
يعر�ضني لأي م�ساءلة قانونية ..لذلك �أريدك �أن تذهب �أنت �إليه ..
َ
ب�صفتك تبحث يف هذا الأمر وتهتم به». وتطلب منه معلومات
لقد كانت حما�سية جد ًا وهي تتحدث حتى �أنه �شعر ب�أنها ال ت�ستطيع
اجللو�س م�ستوية مثله ,تتحرك كثري ًا و ُت�شري بيدها بينما نظرات الت�آمر
ال تفارق عينيها ,مل يكن مقتنع ًا متام ًا مبا تقول ,فهي �صديقة زوجته منذ
الطفولة و�سمع كثري ًا من احلكايات عنها وعن «عا�صم» زوجها من «فنار»
نف�سها ,ولكنه مل يلت ِقه مبا�شرة:
«�أ�ستاذ حممود ..عا�صم منذ فرتة وكل الق�ضايا التي تقع حتت يديه
حلاالت م�شابهة ..هو نف�سه �ضاق �صدره بها وزادت ع�صبيته �أ�ضعاف ًا ٍ
ع َّما كانت ب�سببها ..حتى �أنه �أ�صبح حري�ص ًا ج َّد ًا على طفلنا ويت�صل؛
لي�س�أل عنه كل �ساعة تقريب ًا ..وبالرغم من ذلك فهو ال يعرتف �أبد ًا
�أن احلديث عن امل�ساوئ بكرثة من املمكن �أن يغريها ..وهذا البند من
حف ،وب�سببه انت�شر هذا النوع من اجلرائم ..ولذلك ال القانون ُم ٌ
يرى جدوى �سل�سلة التحقيقات ال�صحفية التي �أري ُد ْبد َءها« .
ا�ستطاعت «�أروى» �أن ت�صيبه بعدوى احلما�سة فوجد نف�سه يعتدل يف مقعده
مت�سائ ًال:
«� ّأي قانون تتحدثني عنه؟».
«احلوادث الكثرية املتالحقة ..القتل واالغت�صاب واجلرائم التي ال يتم
احلكم فيها بالإعدام ملجرد �أن القاتل مل يتم الثامنة ع�شرة بعد ..
حتى �إن كان قد ارتكب اجلرمية قبلها ب�شهر واحد!».
«هل تريدين ا�ستثناءات مث ًال يف القانون؟».
قالت وقد �أ�صبح ج�سدها ي�صدر عنه طاقات حما�سية م�شتعلة قادرة على
�إ�صابة كل َمن يجل�س يف حميطها:
«بل �أريد �أن يتغري القانون من الأ�سا�س ..ويكون احلكم يف هذه الق�ضايا
رادع ًا ومرعب ًا».
ف�ضلك».
ِ «ا�شرحي �أكرث من
«ب�أن يكون احلكم يف هذه الق�ضايا املفجعة بالبلوغ ..يكفي �أن يكون
القاتل قد و�صل ل�سن البلوغ ..وهذا ما �سيحدده الطب ال�شرعي يف مثل
هذه اجلرائم ..ولي�س ب�ضرورة �إمتام القاتل لعمر الثامنة ع�شرة».
كانت مقابلة جمنونة ك�صاحبتها بكل املقايي�س ,فلقد رفعت من حما�سته
ويف نف�س الوقت مل ُتطمئنه متام ًا جتاه ر َّدة فعل زوجها ,ر�س َم ْت له خمطط ًا
عن كيفية الدخول يف حوار مع «عا�صم» ,فطريقه الوحيد هو ال�صراحة
ولذلك �سيذكر له «حممود» ن�صف احلقيقة و�سيخفي الن�صف الآخر واملتعلق
بكونه زوج «فنار» فقط ,و�ستنتظره حتى ين�شر تلك املعلومات التي �سي�سمح له
«عا�صم» بن�شرها على �صفحته ال�شخ�صية ,ثم تقوم هي بن�شر التحقيق وك�أنها
ن�سخت املعلومات من �صفحته لتقوم بالتغطية على م�صدرها احلقيقي.
كانت تتحدث بثقة عن ا�ستحالة اكت�شاف �أمرهما ,فهو وزوجها لن يتقابال
�أبد ًا كما مل يفعال من قبل برغم �صداقتها القوية بـ«فنار» ,ولكن «حممود» كان
يعلم �أنَّ امل�صادفة ال ترتك �شي ًئا خمف َّي ًا ,وعندها �سيكون هو ال�ضحية ,ورمبا
تكون نهايته يف �أحد ال�سجون متهم ًا باجلا�سو�سية!
�أمل تقل ب�أنك ت�ضور جوع ًا؟!
انتبه «حممود» �إىل �صوت «فنار» التي كانت قد �أ َّمتت و�ضع الأطباق فوق
الطاولة ال�صغرية وتقف ُقبالتها حانقة ,وبالرغم من �أنها تدرك �أنَّ �سبب
�شروده هو �أنها ذ َّكرته بتلك الق�صة ا َمل�شوقة ،ولكنها تكره �أن تراه يف هذه
احلالة� ,شريد الذهن بعيد ًا عنها!
�ألن ت�أكلي معي؟.
كان ينتظر ر َّد ًا منها بالرف�ض وهو ي�سحب مقعده ليجل�س ،ولك َّنها حتركت
مقعد �آخر وجل�ست تراقبه وهو يتناول طعامه ب َن ٍ
هم دون كالآلة وقامت ب�سحب ٍ
حديث بعد �أن �أثنى على طريقة �إعدادها له وح�سن مذاقه فلم جت ْبه تاركة ٍ
ال�صمت يغلفهما ال يك�سره �سوى �صوت �أدوات املائدة املنخف�ض بوترية مملة
حتى انتهى وقد �شعر مبا يفوق ال�شبع ,نه�ضت بتكا�سل وهي تعيد و�ضع الأطباق
يف املغ�سلة وهي ت�س�أله �س�ؤا ًال دا َف َعتْه كثري ًا لك َّنه �أ َبى:
هل ُت َ
عجبك �أروى � ..أق�صد حما�ستها واندفاعها يف حل الأمور؟.
قفزت ابت�سامة �صغرية �إىل طرف �شفتيه وهو يقوم بتجفيف يديه وهو
يجيب متظاهر ًا بالده�شة:
هذا ال�س�ؤال مت�أخر جد ًا ! .
مبالغ فيه:
قالت بجفاء ٍ
مل يكن بيننا حديثٌ وقتها.
من املمكن �أن نقول ب�أنها ترو ُقني ..حما�ستها واندفاعها!
ثم تل َّك�أ قلي ًال وهو يراقب نظرات االتهام التي تندفع من عينيها واحدة تلو
الأخرى قبل �أن ي�ستطرد ُمردف ًا وحماو ًال االقرتاب:
ترو ُقني؛ لأ َّنها ت�صلح ِّ
حلل م�شاكلها مع �شخ�ص مثل عا�صم� ..أما
فعلت.
�شخ�ص مثلي ..فال ي�صلحنى �سوى ال�صرب ..كما ِ
�أنا ابتعدتُ فقط.
هم�ستْها وهي ُتطرق بر�أ�سها ,وك�أنها ال تدري هل ما فع َلتْه كان يف �صاحله
َ
�أم ال؟ ,ماذا لو كان ابتعادها كان �سبب ًا يف �أن يتوغل �أكرث يف طريقه القدمي,
لقد تر َكتْه ِل َهواه و�شيطانه ،وق َّد َمتْه بال �إرادة لهما على طبق من ف�ضة ,مل
حتارب مبا يكفي لأجله:
�أي امر�أة غريك مل تكن لتتحمل ما حت َّم ْل ِته ..الزوجة رمبا ُت�سامح
كل يوم أخونك َّ
لو خانها زوجها مع واحدة �أو اثنتني ..لكنني كنتُ � ِ
وحاولت بكل الطرق ومل تي�أ�سي � َّإل
ِ و�صربت
ِ مع ع�شرات العاهرات ..
بعد �أن حرمتك من الأمان الذي ت�سعى الفتيات �إىل الزواج من �أجله
..وكان من جميل قدرك وقدري� ,أنَّ والدك -رحمه اهلل -كان �إىل
جوارك يف تلك اللحظات.
�سقطت دمعة فوق �أ�صابعه املُم�سكة بذقنها يف اللحظة التي �أراد فيها �أن
يرفع عينيها نحوه و�سمعها تقول بنربة حائرة:
عنك دون طالق ..قال� :إ َّن َك بداخلك نبتة
كان هو ملهمي يف ابتعادي َ
علي �سوى �أن �أ�صرب و�أرعاها ..ولكن من بعيد حتى الطيبة ..وما َّ
ت�ؤذيني �أ�شواكها.
رزت يف قلبي وحدي عندما ترك ِتني.. �أُق�سم ِ
لك �أنَّ الأ�شواك كلها ُغ ْ
بك وب�ضو ِئك الآتي
ولكن االبتعاد كان ل�صاحلي ..فلقد كنتُ �أ�سرت�شد ِ
من بعيد يوجهني �أي الطرق �أ�س ُلك.
رفعت «فنار» حاجبيها َد ِه َ�ش ًة تاركة �أ�صابعه تعمل على وجنتها مت�سائلة:
َ
كالمك ..هل �أ�صبحت تقر�أ الروايات الرومان�سية؟! هذا لي�س
ات�سعت ابت�سامته ,ال زالت تذكر هواياته وتعرف تفا�صيله ,قام بتقبيل كلتا
يديها بينما امل�سافات مل يعد لها مفردات بينهما وهو يزيد نورها وهج ًا:
قررت بعد
مل �أقر�أ �سوى رواية واحدة ..بطلتها هي م ِلكة ال�صرب التي ْ
�سنوات من العذاب �أن متنح رعاياها ك َّل �صكوك غفرانها.
y
«رمزي �أرجوك ..اتركني» كانت تبكي بينما هو يدفعها نحو هوة �سحيقة
مليئة بالوحو�ش واخلناجر احلادة امل�صوبة ُك ّلها لأعلى ,كان يبت�سم بخبث حتى
حتولت ابت�سامته �إىل �ضحكات �شيطانية وهو يجذب حجابها عن ر�أ�سها ,زلت
قدماها ،وكادتا �أن ت�سقطا بني الأنياب ،ولكنه �أم�سك بها يف اللحظة الأخرية
لك بال�سقوط» ,قالها وهو يقب�ض على ذراعها فظنت �أنه تذكر «لن �أ�سمح ِ
�أخري ًا �أنها �أخته ويجب عليه حمايتها ,لكنه مل يرتكها تت�أمل كثري ًا ,م َّد يده
بد�سها بداخل حقيبتها العالقة ِمبرفقها وقب�ض على كومة من املال وقام ِّ
و�ضعها يف جيبه ثم قام بدفعها بق�سوة نحو الظالم الذي ابتلع �صراخها عن
�آخره!.
أنت بخري؟!
هل � ِ
فتحت عينيها فج�أة الهثة تنظر �إليه بخوف ُمدق ,كانتا مت�سعتني برعب
يخت�ض بقوة ,فكرر عبارته ُم َّدد ًا بقلق:
ُّ يتف�صد عرق ًا بينما ج�سدها
وجبينها َّ
أنت بخري؟.
غفران� ..أ� ِ
دخل ج�سدها يف حالة ا�سرتخاء رويد ًا رويد ًا ,ر�أ�سها يعود �إىل الو�سادة من
كابو�س ب�ش ٌع كعادتها ,ال
ٌ جديد وهي حتاول ال�سيطرة على تنف�سها املذعور,
متلك دفعه عنها ,ال ينفك يطاردها حتى وهو ميت.
�أرا َد ْت �أن ترفع يدها؛ لتم�سح جبينها ولكن نغزة فيها �آملتها ف�أدارت ر�أ�سها
نحو ظهر ك ِّفها ببطء فوجدت �أنبوب ًا طبي ًا له �إبرة مث َّبتة هناك ،والقطرات متر
من خالله رويد ًا �إىل �أوردتها!.
فعلت هذا؟!
كيف َ
بوهن وهي ت�سمعه يزفر براح ٍة وينه�ض واقف ًا يراقبها
نطقتها متعجب ًة ٍ
بنظرة مط َّولة قبل �أن يقول باقت�ضاب:
احتجت �إىل
ِ أ�صبحت بخري ..ارتاحي الآن ،و�إذا
ِ أنك �
مهم ..املهم � ِ
غري ِّ
�شيء ما فناديني على الفور.
قال كلمته الأخرية وهو يه ُّم باخلروج من غرفتها ال�صغرية ,فهو مل يغفل
عنها منذ �سقطت فاقدة الوعي ,كانت نب�ضاتها ت�ضعف وتهذي بعبارات غريبة
مبتورة حتى �صمتت وتها َو ْت دون حراك ,كان ال بد من تدخل �سريع ,فلم يخب
ظنه ,وح�ضرت الإ�سعاف خا�صته على الفور.
بعد �أن انتهى كل �شيء وعاد اال�ستقرار �إىل الأجواء من جديد ,جل�س �إىل
جوارها يراقبها وي�ستمع �إىل هَ ْم َهماتها عن كوابي�سها التي تدور كلها حول
«رمزي» ووالدها� ,إنها �ضائعة مرتعبة كارهة لنف�سها بطريقة عجيبة ,يجب
�أن ي�ستنطقها بعد �أن ت�سرتد عافيتها ليعلم ماذا ُتخفي؟� ,أما الآن فيجب �أن
تدب بها من جديد.
ين�سحب بهدوء وقد بد�أت احلياة ُّ
ال داعي �أن يلعب دور مربية الأطفال بعد هذا ,هل كان ينق�صها هي
الأخرى.
ح�سن ..كيف هي �أمي؟!
عاود االلتفات �إليها وهو يقول كاذب ًا:
�إنها بخري.
�أنت تكذب!
داع ,فكيفحروفها كانت تقطر ثــق ًة� ,س�ؤالها يف حد ذاته مل يكن له ٍ
اجلذع ميت ًا؟! ,و�أمها لي�ست غ�صن ًا من
�سيكون الغ�صن بخري بعد �أن ي�سقط ِ
مهب الريح ,ت�سري مع اجتاهه ي�أخذهاالأ�سا�س� ,إنها جمرد ورقة مت�أرجـحة يف ِّ
�أين ي�شاء.
وقفت باكية �ساكنة بينما ابنتها تخرج من املنزل �إىل املجهول, ورقة �شجر ْ
للذ َكر الوحيدتكتف بال�سكون فقط ,بل كان يجب �أن تثبت والءها التَّام َّ مل ِ
ب�س ْلخها مناملدلل ,حاكم الغد على عر�ش البيت ,بل هي بنف�سها َمن قامت َ
�شقتها �إىل �شقة خالتها ال�شمطاء التي قذفت بناتها قبل �أن يتم ْمن التَّا�سعة
ع�شرة لأول َمن تق َّدم للزواج للتخل�ص منهن.
عيدك �إليها عندماال �أعلم ...مل ي�أ ِتني � ُّأي خرب عنها ...ال تقلقي� ..س�أُ ِ
تتعافني!
�ش ُعر �أنه �أُجرب على قولها� ,إنه يقوى على كل �شيء �إال الأ ّم ,كل �أُ ٍّم ُتذكره
ب� ِّأمهَ ,ح ْرفان يجربان غ�ضبه على الركوع ورمبا البكاء ,حرفان لأجلهما مينح
حياته ب�أكملها ,ويخو�ض حرب ًا �ضرو�س ًا لل�شعور ب�ضمة الأول و�سكون الثاين!
باك فخ�شي �أن تنتك�س ثانية ,اقرتب من
ب�صوت ٍ
ٍ عادت ُتهمهم ُم َّدد ًا
فرا�شها حتى و�صل �إليها ثم انحنى يرهف ال�سمع :
دافعتُ عن نف�سي ف�أبعدوين واحتت�ضنوه ..ولو كنت تركته يفعل بج�سدي
ما ي�شاء لقتلوين وتركوه ..يف كل الأحوال مل يكونا ليح َّباين �أبد ًا.
وجد «ح�سن» قدميه جتثوان ،فجل�س القرف�صاء �أمامها وقد ات�سعت عيناه
ُماو ًال نف�ض �أذنيه عما ا�ستمع منها !
غفران ..ماذا تقولني؟!
رجعي
ٍّ ب�ضعف ،و�أطلت من عينيها نظرة ا�ستغاثة ب�أثر
ٍ انفرج جفناها
هام�سة:
حميتني ذات مرة من كالب الطريق ..و�أمرتني �أن �أذهب �إىل بيتي ..
كالب ،ويف
كنت �أمتنى �أن �أعود �إىل الور�شة خا�صتك ..ففي ال�شارع ٌ
البيت ذئب راب�ض � ..أ�شار ُكه الغرفة ذاتها.
ع�صفت به الذكريات وتزلزلت الأر�ض من حتته «اعتربها مثل � َ
أختك
يا رمزي» ,مل تكن «�سلمى» فقط هي امل�سكينة الوحيدة ,كان هناك �أخرى
بائ�سة ترمي ال�سالم �إليه بنربة ا�ستغاثة مل ينتبه لها ,كانت ت�ستغيث بالبعيد
من القريب ,يبدو �أن اخلذالن �صفة ب�شرية ,ال يوجد على الأر�ض َمن هو بريء
منها ,بق�صد �أو بدونه ..جميعنا َمهر ٌة به.
حديثها جعل ركبتيه ت�صطدمان بالأر�ض فبدا جاثي ًا ك َمن يعتذر وهو ِ�ص ْف ُر
اليدين ,مل ي�ستطع ن�صرتها يف املا�ضي ،ولن ي�ستطع االنتقام يف احلا�ضر:
أهتم ب�أن �أفهم.
�أنا �آ�سف ..مل � ّ
مل يكن بيدك �شيء لتفعله!
أتزوجك.
ِ على الأقل كنت �س�أحاول ..و�إذا ف�شلتُ معهما ..كنت �س�
ات�سعت عيناها ذهو ًال ف�أردف على الفور:
أبيك.
�آ�سف لوفاة � ِ
وك�أنه قد تناول ِمحا ًة وقام مبحو عبارته ال�سابقة عن الزواج من ر�أ�سها,
عادت عيناها تذبالن من جديد ،وانتظمت اخلفقات التي كادت تف�شي �سرها
ال�صغري بدويها الفا�ضح ,وهم�ست ب�إنكار:
هو مل ُمي ْت ..هو فقط مل ي�ش�أ �أن يرتك َيد رمزي ..فهو مل يفع ْلها �أبد ًا.
�إنه يفهمَ ,ومن غريه �سيفهم �إن مل يفعل هو؟ ,هو من عانى طيلة ما�ضيه
من جفاء والد مل يكن يحتاج منه �سوى العطف فقط ,لقد مت بيعها كما حدث
له متام ًا ,الفارق الوحيد بينهما �أن والدها مل ين�س ْبها �إىل غريه ,ال ميتلك القوة
الكافية وال�شفقة ليدعوها �إىل الرتحم عليهما� ,إنها طريدة ج َّنة الأب ..مثله
بال�ضبط ,غري �أنها ال زالت متلك �أم ًا يف حاجة �إليها.
يكتف رمزي بكل ما فعله بي ..بل كان يرت�صدين يف ال�شارع املظلم
مل ِ
امل�ؤدي �إىل بيت خالتي وي�أخذ بالغ�صب كل ما يف حقيبتي وهو ي�ضربني.
مل تكن حتدثه ,كانت ُم�س ِبلة اجلفنني ،تقب�ض راحتيها �إىل �صدرها وهي
مم َّددة على �شقها الأي�سر ,بينما و�سادتها ت�شرب ب َن ٍ
هم كل دموعها ,ما�ضيها
ينزف �أمل ًا وغربة وحرية ،والآن بات م�شبع ًا بالإنكار:
كل تلك ال�سنوات وهو يرتب�ص بي ..لن �أن�سى �أبد ًا اللقاء الأول بيننا
بعد خروجه من الق�ضية وقد �أ�صبح ح َّر ًا ..لن �أن�سى هاتني اليدين
اللتني قب�ضتا على عنقي ودفعتاين نحو اجلدار ..كانت ليل ًة مظلمة
وبالرغم من ذلك ر�أيت عينيه تن�ضحان كره ًا و�ش َّر ًا وهو ي�سلبني
�أموايل ويلطمني على وجهي ...
لن �أن�سى �أبد ًا ما قاله يل يف تلك الليلة «�س� ِ
أجعلك تدفعني ثمن كل دقيقة
القذرة تلك � ..ستجدينني
ق�ضيتها وابن احلرام هذا يجعلني �أخدمه هو وور�شته ِ
أمامك دوم ًا ..وع ٌد ّ
علي لن ترتاحي �أبد ًا ما دمتُ على قيد احلياة». هكذا � ِ
نربتها بد�أت تعلو غ�ضب ًا مع كل كلمة تهذى بها ,فلم يحاول �أن ُيقاطعها,
مظلم م�شتعلة نهايته ,وعليه
نفق ٍ غليان تدفعها نحو ُف ّوهة ٍ
ي�شعر بها يف حالة ٍ
�أن ينتبه كما مت حتذيره:
«�إنها تعاين حالة �صدمة و�إنكار ملوت والدها ،وعندما ت�ستفيق �ستجلدهما
..فدعها ُتخرج ما لديها لرتتاح وجتتاز عنق الزجاجة »..
مل �أتعلم در�سي ..ذهبت �إيل �أبي و�أخربته و�أنا باكية �أن يجعل ولده
فكذبني وطردين ثانية �إىل بيت خالتي .. احليلة يدعني و�ش�أينَّ ..
خالتي التي بد�أت ت�شتكي لأمي �أنني ال �أمنحها َث َمن طعامي و�أ�صرف كل
راتبي ثم �أ َّدعي �أن رمزي �أخذه مني غ�صب ًا ..مل ي�صدقوين يا ح�سن.
تق�ص عليه حكاية
رفع عينيه �إليها وقد �أدرك �أنها حتدثه هو من البداية ُّ ,
�سندريال جديدة �أخرى ,وبالرغم من معرفته �أنه ال ي�صلح لدور الأمري؛ لكنه
ُموقن �أنَّ با�ستطاعته �أن يكون �ساحر ًا ,ولن يكون بخي ًال كما �ساحرة احلكاية,
لن مينحها دقات �ساعة منت�صف الليل فقط� ,سيمنحها دقات �أخرى لن تتو َّقف
ما دام فيه نف�س يرتدد!.
y
مل يعرف كم م َّر عليه من �ساعات وهو جال�س هكذا بجوار �سريرها م�ستند ًا
للحظات من
ٍ �إىل اجلدار مغم�ض العينني ,ال يفتحهما �إال عندما ت�ستفيق هي
كابو�س تعي�شه يف حلمها؛ لتبكي ثم تعود لغيبوبة النوم جمدد ًا ,كل كلمة ا�ستمع
لها كانت �سبب ًا يف �أن يلعن نف�سه مرات ومرات؛ لأ َّنه مل يتمكن من رقبة «رمزي»
عقاب رادع ,لي�س هو وحده ,بل ك ّل َمن
ويقتله بيديه ما دام ال يوجد لأمثاله ٌ
هو على �شاكلته ,الآن �شعر براحة �ضمري مل ي�شعر بها من قبل ,جميعهم
ا�ستحقوا ما فعل بهم وزيادة! ،كل ما فعله هو مكاملة هاتفية علم بها ما حدث
لأمها ,و�أخرى جاءت حم ّملة ب�أخبار وتفا�صيل ِّ
حتذره وت�أمره ب�أن يبقى مكانه؛
فالو�ضع قد ت�أزم �أكرث!
�أ ّمي !
اعتدل �سريع ًا يف جل�سته حتى عاد �إىل و�ضعه الأول جاثي ًا على ركبتيه
م�ستند ًا بذراعيه �إىل الفرا�ش يناظرها برت ُّقب وقلق حلالتها املتق ِّلبة تلك,
لكنها هذه املرة كانت تبادله النظر ,هذه النظرات ال�ضائعة تخربه ب�أنها مل
تكن ت ِعي متام ًا ما حدث وما كانت تتف َّوه به:
َ
ف�ضلك � ..أريد �أن �أطمئنَّ على �أمي. من
�إنها بخري.
كالهما يعلم ب�أنه يكذب ,ولكنها ال متلك غري �أن ت�صد ِّقه ,فنحن ندفع
�أنف�سنا دائم ًا لت�صديق ما نتمناه ،و�إن كان م�ستحي ًال ,مهارة �أخرى منتلكها
جميع ًا ..جنيد خداع �أنف�سنا !.
هي و�ستُدهور حالتها
�أ َّما هو ف ُيوقن ب�أن �إخبارها باحلقيقية �أم ٌر غري ِّ
�سقطت مبجرد �سماعها خلرب
ْ ال�صحية �أكرث ,كيف �سي�شرح لها �أنَّ والدتها
وفاة زوجها بعد �أن عاين جثة ولدها املقتول؟!
م�صيبتان يف � ٍآن واحد تقع على عاتق امر�أة انتزعوها من حقل �أبيها قبل �أن
رجل ال تعرف عنه �شيئ ًا �سوى �أنه مثله! ,ولقد
تتم ال�سابعة ع�شرة و�ألقوا بها �إىل ٍ
كان مثله بالفعل ,لذا مل ت�شعر بال ُغربة عندما كان ي�س ِّفه من ر�أيها �أو يزجرها
قبل �أن تتف ّوه بكلمة اعرتا�ض ,هذا هو الرجل كما ن�ش�أت وترعرعت ,ط ِّيعة
حتت �إبطه �أربع ًة وع�شرين عام ًا ,الترى �إال ما ُيريها وال تهتدى �سوى �سبيله,
ال�سكري عندما يختفي كل ذكور قف�صها فكيف بدجاجة احلقل امل�صابة بداء ّ
الوحيد؟! ,البد و�أن ت�سقط يف غيبوبة هاربة ريثما ت�ستفيق ،وجتد �أنَّ كل �شيء
بخري �أو �أنَّ َمن �أخربها بتلك الأخبار امل�ش�ؤومة كان ميزح معها !.
عافيتك ف�س�أُ ِ
عيدك �إليها على الفور. ِ إليك
بنف�سك وعادت � ِ
ِ اهتممت
ِ لو
�أغم�ضت عينيها دون جواب ,ف�صمت هو الآخر وهو يتنف�س براحة ,لقد
أنقذتْه بعدم ا�ستكمال هذا احلديث الذي كان من املمكن �أن ينتهي ب�إطالق � َ
�سراحها على الفور كما وعد ,هو ال يرجع يف كلمة منحها �أبد ًا ,لذا �أراد �أن
ترتاجع هي وال تطلب الرحيل الآن ,ال زال يحتاج بع�ض الوقت لتت�ضح الر�ؤية
�أكرث!
نام ْت كما ت�صور ,لقد كانت متار�س عادتها يف الهروب �أما هي فلم تكن قد َ
ب�إغما�ض عينيها ,كا َد ْت �أن تفلت �شهق ٌة منها عندما �شعرت ب�أطراف �أ�صابعه
مت�س قدمها املقيدة ,ولكن قبل �أن تفعل انتق َل ْت يده �إىل القيد وا�ستمعت
«غفران» �إىل ت ّكة احلرية وبالأمل الذي يخ ُلف القيد والذي يذكرنا دوم ًا ب�أننا
كنا �أ�سرى!.
y
ين�س «عا�صم» تلك النظرة املرتبكة التي �أط َّل ْت من عيني «رجاء» مل َ
عندما نطق بعبارته الأخرية حينما ر�آها ,هدية من ال�سماء هبطت فوق ر�أ�سه
لطيف و�شعو ٌر بالفخر! ,هو �أي�ض ًا �أ�صاب خططه بع�ض االرتباك
ف�صحبها �أ ٌمل ٌ
لذا مل يح�صر ُج ّل تركيزه مع «�أمل» .
كان م�شتت ًا قلي ًال وهو يعيد ترتيب ح�ساباته ,تبادل معها حديث ًا ق�صري ًا
حول ق�ضيتها التي قامت بالتنازل عنها ,ولكن «�أمل» بكلماتها املقت�ضبة
متنحه �سوى ما كان يعرفه بالفعل.
ونظراتها املتباعدة ونربتها املنخف�ضة مل ْ
ثم �إنَّ الدكتور «يحيى» مل مينحه م�ساحة لل�ضغط عليها �أكرث ,لقد �أ�صر
على التواجد �أثناء حديثه معها ,كان يقف بجوارها؛ ليمنحها الثقة والثبات,
وبني كل �س�ؤال يوجهه �إليها و�آخر كان «يحيى» يذكره ب�أنها ال زالت يف طور
العالج ،واحلديث املتزايد يف تفا�صيل ق�ضيتها التي ت�سببت يف مر�ضها النف�سي
�سيت�سبب يف انتكا�ستها مرة �أخرى ..لذا قرر االكتفاء منها والذهاب �إىل حيث
ال�صيد الثمني!.
خرج من امل�صحة النف�سية بخطوات متعجلة دون �أن يحاول البحث عن
«رجاء» ,لقد قرر البحث خلفها �أو ًال! ,وبعد عدة �ساعات من التح ِّريات حولها
بد�أ يف جمع التفا�صيل يف ر�أ�سه؛ ليجد حلقة الو�صل ,التف�صيلة الأوىل �أنها
�أرملة تعمل كمم ِّر�ضة يف م�صحة نف�سية ,مل تتزوج بعد وفاة زوجها وعكفت
على تربية ابنتها الوحيدة ذات الع ْرجة الوا�ضحة يف �إحدى �ساقيها ,وقد كانت
�سفينة احلياة ت�سري بها حتى تزلزلت الأر�ض من حتت �أقدامها ..منذ ثالث
�سنوات ..عندما رن هاتفها �صباح ًا �أثناء رحلة عودتها �إىل منزلها بعد انتهاء
ورد َّيتها الليلية املعتادة َّ ً
حممل بخرب مقتل «�سلمى» !.
علم بها �أن «رجاء» �صديقة لل�سيدة �أما التف�صيلة الثانية والتي كان على ٍ
«جليلة» منذ �سنوات طويلة ,و�أوا�صر ال�صلة مرتابطة بينهما ب�شدة ,فقد كانت
يف �صحبة «رجاء» يف حتقيقات النيابة عندما ذه َب ْت للتعرف على �أو�صاف
قاتل ابنتها ,ومل ترتكها �أثناء جل�سات التقا�ضي التي ا�ستمرت ثالث �سنوات �إال
بعد عام كامل ..عندما مت اختطاف ابن ال�سيدة «جليلة» َّثم قتله.
�أطف�أ «عا�صم» ِلفافة تبغه وهو يزفر ،فقد ت�شتَّتت �أفكاره �أكرث ,هناك حلقة
و�صل مفقودة! ,وليعرث عليها كان ال بد ب�أن ينب�ش كل ّ
الق�ش ،رمبا يجد الإبرة
املن�شودة.
طلب ملف ق�ضية مقتل «�سلمى» ابنة «رجاء» ,و�أخذ يف درا�سة تفا�صيله,
«�سلمى» َّمت �ضربها ب�آلة حادة ف�سقطت تنزف �أ�سفل �شجرة كبرية يف ليلة
عا�صفة ,وبعد قليل ُع ِث عليها و ّمت نقلها �إىل �أقرب م�شفى حكومي ،وهناك
�سلمت الروح �إىل بارئها ,و�أثناء التحقيقات �أدلت الأم مبوا�صفات �شخ�ص
كان ي�ضايقها ويتحر�ش بها يعمل يف ور�شة امليكانيكا املال�صقة للمكان الذي مت
العثور عليها فيه وال�شرطة �ألقت القب�ض عليه والذي ُيدعى «ح�سن �أنور برهان»
م�ساعده يف
ِ �صاحب الور�شة ,والذي قام بالدفاع عن نف�سه و�إلقاء التهمة على
الور�شة والذي يدعى «رمزي حافظ رمزي» وعندما َّمت ْت املواجهة التب�س الأمر
على «رجاء» يف البداية ثم قالت� :إنّ املوا�صفات تنطبق على «رمزي» بن�سبة
كبرية!.
ثم حدثت املفاج�أة وتقدم والد «ح�سن» لل�شهادة ك�شاهد عيان على اجلرمية
وقال� :إ ّنه �شاهد «ح�سن» مع املجني عليها يف نف�س توقيت وقوع اجلرمية ،وقد
كانا يت�شاجران �أ�سفل ال�شجرة املال�صقة للور�شة خا�صته!
ها قد بحث يف اخللفية كما �أراد� ,إ َّال �أن النتيجة �صفر ,ما زالت الإبرة
مفقودة ,والطريق �أمامه طويل.
�أ�شعل «عا�صم» اللفافة التي مل يعد يعرف عددها منذ �أن فتح ملف
الق�ضية وبد�أ يف قراءته بتم ُّع ٍن ,ونه�ض يدفع ذراعيه للخلف عدة مرات لي�صلح
من �ش�أن ع�ضالت كتفيه اخللفية املت�شنجة وهو يعود �إىل وقفته املعتادة �أمام
النافذة يطرد الدخان �إىل الهواء الطلق ،وي�ستدعي الهواء النقي �إىل رئتيه ..
و ُيف ِّكر ,الدائرة تت�سع �أكرث مما يجب ،واخليط الواحد �أ�صبح كر ًة من اخليوط
املت�شابكة ,الأوراق الر�سمية �ص َّماء وال تفي بالغر�ض ,ال بد �أن يتحدث معها
وجه ًا لوجه ,هي الآن باتت م�ستعدة لهذا اللقاء بعد �أن تع َّرف عليها يف امل�صحة
النف�سية ,لذلك �إن ا�ستدعاها ب�شكل ر�سمي ف�سيكون حديثها معه �أجوف مت
حت�ضريه م�سبق ًا ,ثم �إ َّنه ال يريد �أن ي�صل �إىل نف�س النقطة ..ال�سيدة «جليلة»
�سيتم ال َّز ُّج بها ،وهذا ما ال يريده ..على الأقل الآن!
y
«كوين م�ستعدة ملواجهة قريبة» ن�صيحة ِق ْيلت لها منذ �أن ر�أته يف امل�صحة
وقامت بتنفيذها باحلرف الواحد� ,أع َّد ْت نف�سها للقاء كل �ساعة حتى �أنها مل
تعد تب ّدل مالب�سها بعد عودتها من العمل ,تنتظر مقابلة ودي ًة �أو حتى �أمر ًا
بالقب�ض عليها ,يف كل الأحوال مل ي ُعد هذا �أمر ًا ي�ؤ ِّرقها كثري ًا� ,إنها حتى ال تعلم
ملاذا تظل متار�س حياتها ب�شكل طبيعي؟ ,تعمل وتتناول طعامها وتذهب للنوم!,
َملن تعمل و َملن حتافظ على حالتها ال�صحية؟ ..لقد حتقق ما كانت حتيا لأجله
طيلة ال�سنوات الثالث املا�ضية وعادت �إىل نقطة ال�صفر.
ُ�شفي غليلها وانق�ضى انتقامها وتبقت ال َوحدة حتا�صرها مع الذكرى,
تطرق �أجفانها ك َّلما ا�ستيقظت لتذكرها ب�أنها مل يعد هناك ما تنه�ض لأجله,
بينما �صورة «�سلمى» امل� َّؤطرة على الطاولة املرتفعة بجوار ال�سرير ت�ؤ ِّنبها
وتخربها ب�أنها هي ال�سبب..
هي َمن �ساعدت «رمزي» اجلبان على ما فعله بابنتها امل�سكينة وال مانع
لديها من �أن تتع َّلق رقبتها بحبل امل�شنقة الآن لرتتاح وتنال عقابها الذي
ت�ستحقه �أ ٌّم ُمهملة مثلها.
انـتهت من �إعداد فنجان القهوة وتق َّدمت به حتمله يف �صمت بارد نحو
غرفة ال�صالون الذهبية كمقاعدها ذات الأرجل الأنيقة املرتفعة ب�شموخ َمن
يعرف قيمته التي تزداد عرب الزمن.
ظل «عا�صم» يرقبها دون �أن يحاول النهو�ض مل�ساعدتها وهي تتقدم بحذر
حتى ال ُتف�سد وجه قهوته الثخني ذات الرائحة النفاذة حتى و�ض َعتْه على مهل
�أمامه على الطاولة املنخف�ضة بي�ضاوية ال�شكل والتي ت�أخذ نف�س لون مقاعدها
التي تلتف حولها بطريقة يبدو منها �أنها مل تتح َّرك من مكانها منذ زمن,
ال�س ْمك العري�ض حتى حفر
فنهايات الأرجل الرفيعة منغرزة يف ال�سجاد ذى ُّ
مكانه ك َو ْ�س ٍم �أبدي.
تناول «عا�صم» الر�شفة الأوىل ،بينما عيناه ت�شيعانها وهي تدور حول
الطاولة لتتخذ الأريكة جمل�س ًا عن ي�سار مقعده ,احت�سى ببطءٍ َّ
وتلذذ ما تبقى
من قهوة يف فنجانه حماو ًال �إتالف متا�سكها الذي قاب َلتْه به منذ قليل وال زالت
حتتفظ به �أمامه.
�أعاد فنجانه �إىل �صحنه ال�صغري بابت�سامة �شاكرة والتفت �إليها يواجهها
مدقق ًا النظر يف مالحمها الثابتة قائ ًال بخبث:
كيف حال احلاجة «جليلة»؟� ،أمتنى �أن تكون بخري الآن.
بخري ..و ُتر�سل �إليك ال�سالم!
عبارتها كانت ت�شبه الطعام املُع َّلب ,تتقبله دون �أن تنتظر منه رائحة نفاذة
�أو طعم ًا خارق ًا �إال �أنك م�ضط ُّر �إىل �أكله يف النهاية !
يبدو �أنها عرفت �أننا قد تقابلنا ..وتو َّق َع ْت �أن يتكرر اللقاء!
ن َع ْم � ..أنا �أخربتها ..فقالت� :إنك �ستفعل ،و�أر�سلت لك التحية.
كيف تعرفتما ببع�ضكما يا ترى؟.
حتقيق ب َن ْكهة جل�سات َّ
ال�س َمر!ِ ,ول ال؟� ,إنها تعرف ذلك وتف�ضله منذ �أن
كانت «جليلة» حتكي لها عنه ويف كل الأحوال لن ت�شكل طريقة حتقيقه معها
فارق ًا:
تقابلنا منذ �سنوات طويلة يف عيادة طبيبة ن�سائية فهي كانت جتوب
الأر�ض بحث ًا عن عالج لتُنجب طف ًال لزوجها ..كانت ودود ًا ج َّد ًا معي،
نزحت �إىل القاهرة مع زوجها الذي كان يعمل يف وح َك ْت يل� :إ َّنها َ
البناء للبحث عن عمل ..وقد كانت تظن ب�أنها عاق ٌر حتى اللحظة
التي تقابلنا فيها يف العيادة الن�سائية وقد كانت حماولتها الأخرية ..
وقد كنت �أعرف �أحد املراكز املتخ�ص�صة يف هذا ال�ش�أن بحكم عملي
حتى و�إن اختلف التخ�ص�ص ..فمنحتها رقم هاتفي وبد�أنا نتوا�صل من
يومها وحتى يومنا هذا.
ارتكز «عا�صم» ي�ستند �إىل راحة كفه م�ستمتع ًا وي�شري لها بيده الأخرى
قائ ًال بنربة مت�سلية �ساخرة:
وماذا حدث يا ترى؟.
ظلت «رجاء» حمتفظة بجمود مالحمها ومل يظهر عليها � ُّأي ت�أثر من
�سخريته الوا�ضحة وا�ستمتاعه على ح�سابها وقالت متابعة ك�إن�سان �آ ٍّ
يل:
بد�أنا رحلتنا من هذا املركز وتعرفنا فيه على طبيبة ا�ستطاعت
م�ساعدتها بعد �أن �أخذت يف االعتبار قدرتها املادية املحدودة ..
وحدثت املعجزة وباتت احلاجة «جليلة» حام ًال للمرة الأوىل بعد �أن
كانت قد �أمتت الأربعني من عمرها.
البد �أنَّ لزوجها �أوالد ًا من زوجة �أخرى؟
خرج �س�ؤاله ببع�ض االهتمام احلقيقي ,لي�س تعاطف ًا و�إمنا العتقاده �أنه
�شخ�ص ما ي�سعى �إىل الث�أر خارج الدائرة التي يبحث فيها ,ولكنها
ٌ رمبا هناك
�أحبطت �آماله جميبة:
�شاب ف�سافر بطريقة غري ر�سمية �إىل زوجها �أغ َرتْه مياه البحر وهو ٌّ
بلد �آخر وهو يحلم بالرثاء ..وهناك �أ�ضاع �شبابه كام ًال ويف النهاية مت ٍ
ترحيله وعاد �إىل موطنه على م�شارف الثالثني من عمره وال ميلك غري
ال�سرت كما يقولون ..فتز َّوج �أ َّول من واف َق ْت به من قريباته والتي كانت
قد فاتها قطار الزواج ..ولكن الباحث عن الرحيل يظل دائم ًا َّ
رحا ًال
فنزح �إىل القاهرة بها وا�ستقرا يف نف�س �شقتهما التي تعر ُفها ل�سنوات
دون �إجناب بعد �أن خابت كل و�صفات الطب ال�شعبي على مدار �سنوات
زواجها وتنقل زوجها من عمل �إىل �آخر والذي مل يكن لديه رغبة يف
�إجناب املزيد من الفا�شلني كما كان يطلق على نف�سه.
َّثم ؟.
يدي هذه حتى ت�ستفيق طفلها كان طفلي �أنا �أي�ض ًا ..لقد حم ْلتُه على َّ
بال�سكر يف فمه ..هي من خمدِّ ر اجلراحة� ..ألقمته �أول جرعة ماءٍ ُّ
كنتُ �أنا �أول من نظر له واحت�ضنتُ طفولته ..وكنتُ �أنا �أي�ض ًا �أول من
احت�ضنت جثته بعد �أن وجدمتوه قتي ًال عاري ًا يا عا�صم بيه.
جملتها الأخرية خرجت منها بقهر ومرارة ونربة ،ال زالت مذهولة وك�أنها
بلد هذا؟
تعاين جثته للت ِّو وتت�ساءل :ملاذا يحدث هذا لطفل يف العا�شرة� ,أي ٍ
و�أي ب�شر ه�ؤالء؟!.
ن َع ْم ،ذاب اجلليد الذى كانت تغلف به نربتها ومالحمها ،وظهر من خلفه
�شقوق وكهوف تكفي لتخ ِّبئ بداخلها كل وحو�ش الأ�ساطري!
ابنتك مقتولة على قارعة الطريق � ..ألي�س كذلك؟.
جد ْت ِ
كما ُو َ
�أطلت نظرة كره وحقد مطولة ,كان يعلم �أنها تت�أمل ,ويعلم �أي�ض ًا �أنها
اللحظة املنا�سبة؛ ليعرث على مبتغاه ويقوم بر�ش امللح على اجلرح الغائر وهو
الزال مفتوح ًا ينزف قيح ًا:
�صدقتم عجوز ًا يكره ولده واثنني من
ْ وياليتكم �صدقتموين! ..لقد
متعاطي املخدرات ..و�أطلقتم �سراح املجرم اجلبان بينما الربيء مت
�سجنه ظلم ًا وهو مل يرتكب ذنب ًا �سوى �أنه كان يدافع عن ابنتي ويحاول
حمايتها .
طاقة من الغ�ضب َ
نفذت من عينيها �إليه ,فهو رمز للعدالة التي ظل َمتْها هي
وابنتها ,ال فارق بينهما كبري! ,نه�ضت ك�شعلة انطلقت فج�أة هاتفة:
لدي �شيء متبقٍّ لأبكي عليه.
�أنا لي�س َّ
نظر لها «عا�صم» وهو ال زال يجل�س مكانه دون �أن يتحرك ,حماو ًال ت�شتيت
طاقة الغ�ضب التي انفج َر ْت عنها ,فهو يف حاجة؛ لأن يفهم ويربط التفا�صيل
ببع�ضها البع�ض فقال بهدوء بعد حلظات من ال�صمت:
�أ�ستطيع �أن �أفهم عالقتك بال�سيدة «جليلة» ..ولكن ماهي م�صلحتك
فيما حدث للطبيب يف عيادته؟.
بالفعل بعرثت كلماته بع�ض �شرارت غ�ضبها كالرياح هنا وهناك فهد�أت
قلي ًال مع بع�ض الت�شتت يف الأفكار وعادت جتل�س نافية:
عم تتحدث؟.
ال �أفهم َّ
نه�ض واقف ًا ليواجهها وقد ا�ستعاد جديته متخلي ًا عن قناع التودد الذي
ارتداه منذ �أن و�ضع يده ي�ضغط جر�س بابها قائ ًال:
�صورتك
ِ رمبا تفهمني عندما تتم مواجهتك باملمر�ضة التي تعرفت على
يا «رجاء».
اكرتاث:
ٍ ابت�سمت �ساخرة وهي ت�س�أله بال
� ُّأي �صورة؟
أريدك �أن حتتفظي بابت�سامتك هذه �أمام وكيل النيابة وهو ي�س�ألك عن
� ِ
أنت تخفني مالحمك ب�أ�صباغ الزينة. �سبب ذهابك لزيارة القتيل و� ِ
ات�سعت ابت�سامتها �أكرث وهي تقول بثقة:
وهل زيارة طبيب �أثناء و�ضع �أ�صباغ الزينة جرمية �أقف �أمام النيابة
لأجلها يا عا�صم بيه؟!
لقد ا�ستفزته حق ًا ,و� َ
أخرجتْه عن متدنه الذي ي َّدعيه ,علمت ذلك عندما
قب�ض على ذراعها بق�سوة فت�أملت وهو ي�صرخ بوجهها:
ال ..و�ضع الأ�صباغ وزيارة الطبيب لي�ست جرمية ..ولكن عندما تقرتن
قمت بانتحاله فهي بالطبع لي�ست جمرد زيارة
وهمي كالذي ِ ٍّ با�سم
ٍ
�..ألي�س كذلك يا« ..رواء حامد»؟.
نطق «عا�صم» اال�سم الوهمي وهو ي�ضغط حرف ًا حرف ًا بنظرة انت�صار ,لقد
�سخرت منه ،و�أخرجت املارد من ال ُقمقم وعليها �أن تتحمل عاقبة �أفعالها.
خاطئ
ٍ يبدو �أن املمر�ضة قد ا�ستمعت �إىل ا�سمي وقامت بكتابته ب�شكل
..ف�أنا ا�سمي رجاء حامد ..ولي�س رواء حامد ..اعذرها يا عا�صم بيه
فهي ت�ستمع �إىل ع�شرات الأ�سماء يف اليوم الواحد ..،واخلط�أ وارد يف
ا�سم بالكامل ..فما بالك باخلط�أ يف حرف واحد؟!!
ٍ
�ضر َبتْه يف مقتل� ,أراد �أن يرتكها فقط؛ لي�ص ِّفق لهاُّ � ,أي ٍ
حمام مبتدئٍ
ي�ستطيع �أن يدفع عنها التهمة مبا قالت و ُيخرجها منها كال�شعرة من العجني,
لذلك هي واثقة ثابتة تعرف ماذا تفعل� ,أقر بهذا بداخله دون �أن يعلم �أنها
ثابتة؛ لأ َّنها مل تعد لديها �شيء؛ لتخ�سره!.
أعتربك «�شاهد
َمن الذي يقوم بالتنفيذ يا «رجاء»؟ ..لو �ساعد ِتني ف�س� ِ
أيك؟.
ملك» يف الق�ضية ..ما ر� ِ
رنني هاتفه هذه املرة قاطع ابت�سامتها التي كانت على و�شك قتله
ب�سخريتها ,ابتعد عنها قلي ًال؛ ليجيب على املت�صل� ,إنه ال�ضابط الذي قام
بالتحقيق يف ق�ضية قتل «�سلمى» والذي �ساعد «عا�صم» يف جمع التحريات
الالزمة عن الق�ضية:
عا�صم با�شا ..هناك معلومة رمبا تفيدك تنتمي للق�ضية التي تقوم
طابق
بجمع التحريات حولها ..لقد عرثنا منذ �أيام على جثة رمزي يف ٍ
أر�ضي مبنزل مهجور ومتهدم ..وعندما عاين والده جثته اتهم ح�سن
� ٍّ
ب�أنه هو َمن قتله ..ولدينا معلومات م�ؤكدة �أن ح�سن بعد خروجه من
ال�سجن قام باختطاف �أخت رمزي ال�صغرى وقام مب�ساومة والدها؛
ليديل له مبعلومات عن مكان رمزي ,ولكن الرجل مل يتقدم ببالغ.
قطب «عا�صم» ما بني حاجبيه برتكيز مت�سائ ًال باهتمام:
َّ
ملاذا؟!
ال�صول «�صفوان» الذي يعمل لدينا يف الق�سم هو َمن �أديل بتلك املعلومة
الأخرية وقال� :إنَّ والد رمزي �أخربه بها وهما يف طريقهما �إىل امل�شرحة
قبل وفاة الرجل بدقائق ..و�أخربه �أنه مل يتقدم ببالغ؛ لأ َّنه كان يخاف
من �أن يلوك النا�س �سريته هو وابنته ..ولأنه كان يخ�شى على ولده من
الوقوع يف يد ح�سن ب�شدة؛ فهو جمرم كما تعلم.
«ح�سن ...ح�سن» الأ�سم يرتدد مرة بعد مرة بباله ,هل يكون هو احللقة
املفقودة والإبرة التي يبحث عنها بني كومة الق�ش؟! ,هناك خطوة �أخرية
�ست�ؤكد �شكوكه!� ,أنهى مكاملته الأوىل ثم تنحى جانب ًا بعيد ًا �أكرث عن «رجاء»
وقام ب�إجراء املكاملة التي �ستح�سم الأمر ب�شكل قاطع� ,إنه م�أمور ال�سجن الذي
قام بالتحقيق يف ق�ضية مقتل «�شاهني و�سيد» بداخل ال�سجن ،و ُق ِّيدت الق�ضية
�ضد جمهول.
ك َّت َف ْت «رجاء» ذراعيها وهي تقف بعيد ًا ترقبه بحذر ,مينحها ظهره ويجري
عدة مكاملات هاتفية ,الأوىل مل تفهم منها الكثري� ,صوته مل يكن منخف�ض ًا
ولكن الكلمات نف�سها كا َن ْت مبهمة� ,أما االت�صال الهاتفي الآخر فلقد فهمت
ماذا يدور من �س�ؤال «عا�صم « ملحدِّ ثه على الطرف الآخر ,كان ال�س�ؤال يخ�ص
«ح�سن �أنور برهان» ,هل انتهت فرتة حب�سه قبل مقتل «�شاهني و�سيد» �أم ال؟,
ولكن يبدو �أن �إجابة الطرف الآخر مل تعجبه ,الحظت ذلك عندما ر�أت ظهره
يت�شنج ومتلمل يف وقف ِته وهو يقول حانق ًا:
�أنا ال �أ�س�أل عن �أخالقه �أو مهارته يا �سيادة امل�أمور ..
عاد ي�صمت منتظر ًا لدقائق مرت كالدهر على كليهما قبل �أن يومئ بر�أ�سه
�شاكر ًا م�أمور ال�سجن ,ويخربه �أنه يف حاجة �إىل قراءة �أوراق التحقيق مرة
�أخرى ومناق�شة بع�ض ال�سجناء ,ثم �أغلق هاتفه وا�ستدار يواجهها بنظرة ظ َف ٍر
ظلت عالقة بعينيه ،وهو يتقدم نحوها ويقول بانت�صار:
ح�سن!..
�إذن فهو َ
فج�أة توقفت خطواته ،وارتفعت �ضحكاته وهو ي�ص ِّفق بيديه حتى بد�أ ي�سعل
ب�شدة وهي تناظره ،وقد توترت رغم ًا عنها حتى هد�أ �سعاله ولكن وجهه ظل
حمتقن ًا ،وهو يقول بنرب ٍة مل تخ ُل من الإعجاب:
خطة انتقام يف منتهى الذكاء ..لقد �أح�سنتم اختيار قاتلكم امل�أجور..
ح�سن ..هو َمن نفذ انتقام ال�سيدة جليلة وقام بقتل �شاهني و�سيد قبل َ
انتهاء مدة حب�سه بقليل ..ثم يقوم بقتل رمزي بعد خروجه منفذ ًا
مله َّمته الرئي�سية ..وال مانع �أي�ض ًا من قتل الطبيب والتمثيل به لالنتقام
لِ َا حدث لـ �أمل ..كم � ِ
أنت عبقرية يا «رجاء»! .
�أنهى عبارته بطريقة م�سرحية فاحت ًا ذراعيه يف الهواء ،ثم تقدم نحوها
خطوة �أخرى وهو يت�ساءل باهتمام يخلو من ال�سخرية متام ًا:
هل �أُغل َقت الدائرة يا «رجاء» �أم �أن هناك �شخ�ص ًا �آخر يريد �أن
ي�ستخدم «ح�سن» النتقام رابع كما حدث مع طبيب الن�ساء؟ ..الدور
على َمن يف املرة القادمة؟!
يبدو �أنك �شغوف مب�شاهدة �أفالم الت�شويق والإثارة.
مل ي�سخر منه �أح ٌد من قبل منذ �أن ارتدى البدلة الع�سكرية وحمل �سالح ًا
ممن ال ينتمون �إىل ُ�سلطته يخ�شونه ويتنازلون �أمامه ،رمبا
يف حزامه ,اجلميع َّ
حتى عن كرامتهم ,فهل يرتك هذه الآن تفعل؛ لأنه فقط يتعاطف معها هي
و�صديقتها؟!
�سمعت من قبل عن اال�شتباه يا «رجاء»؟ ..
ِ هل
مل تكن «رجاء» يف حاجة لأن ي�ستكمل حديثه ,لقد ات�ضحت نيته يف عينيه
امل�شتعلتني �أمامها فقالت على الفور بتما�سك:
�سمعتُ ..و�سمعت �أي�ض ًا �أن �إلقاء القب�ض على �أحدهم ال بد �أن يكون
عن طريق الق�سم الذي يتبع ِمنطقة �سكنهم.
لك يف
معلوماتك منقو�صة يا «رجاء» ..و�سنعمل على ت�صحيحها ِ
الزنزانة!.
y
ح�سن ..ح�سن!
لف �ساعات نومهفتح عينيه متفاجئ ًا ،بينما يخرتق �صوتها ال�ضباب الذي َّ
دون �أن ي�شعر بالوقت ،فمنع عنه كل الأحالم ,ال �شيء� ,أو كما ي�سميه عادة ..
احللم الأبي�ض!.
التوقيت يف هاتفه �أخربه ب�أنه نام قرابة ثالث �ساعات ،ولكن �صوتها يخربه
ب�أن جدار غرفتها قد �سقط فوق ر�أ�سها منذ �سنوات.
خطا خطوات �سريعة نحو غرفتها ما�سح ًا بكفيه �أثر النوم عن وجهه
ومبجرد �أن دخل �إليها التفت َْت نحوه بنظرات م�ستغيثة هاتفة:
ح�سن � ..أرجوك �أريد �أن �أذهب �إىل احلمام.
َ
ثم عادت تلتفت مانحة الباب ظهرها حماول ًة نزع الأنبوب الطبي عن
يدها:
انتظري.
�أ�سرع نحوها وهو يلتف حول الفرا�ش لالجتاه الآخر ,وبخفة َ
وحذ ٍر نزع
عنها الال�صق الطبي املُث ِّبت للإبرة والأنبوب الذي توقفت قطراته عنه النتهاء
مما جعل ر�أ�سها املحلول املو�صل به ,كانت حركتها �سريعة �أكرث من الالزم َّ
يدور مبجرد �أن نه�ضت واقفة فعادت جتل�س �ساقطة فوق الفرا�ش جم َّدد ًا.
دار «ح�سن» حول الفرا�ش مرة �أخرى ،ووقف ُقبالتها ينتظر �أن ت�ستعيد
توازنها بينما هي ُت�سد ر�أ�سها مغم�ضة العينني مغ�ضنة اجلبني ,التفت نحو
احلديدي املُلقى على الأر�ض ب� ٍ
إهمال ،والذي مل يعد يقيد قدمها وهو ّ ال�سل�سال
يراود نف�سه « �إنها يف حالة �إعياءٍ بالكاد ت�ستطيع الوقوف ..كيف ت�سحب ثقل
ال�سل�سلة خلفها يا ح�سن؟ ..كن منطقي ًا».
تركها ت�ستند �إىل اجلدار ببطء ُماولة احلفاظ على توازنها حتى ال
ت�سقط ب�سبب الدوار الذي يل ُّفها حتى خرجت من الغرفة� ,سمع �صوت باب
احلمام ُيغلق فتنف�س بعمق م�ستدير ًا باجتاه فرا�شها جال�س ًا على �أحد �أطرافه،
قا�س للغاية من قبل؟ ,ال
فقطب حاجبيه بده�شة ,كيف مل يالحظ �أن الإ�سفنج ٍ َّ
بد �أن فقراتها ت�ؤملها ب�ش َّد ٍة ب�سببه! ,مد يده يخترب مدى لني الو�سادة فوجدها
تغ�ضن جبينه �أكرث وهو يح�سب ال�ساعات التي ق�ضتها باكية حتى ُمب َّللة للغايةَّ ,
�أغرقت و�سادتها ،بينما هو يظنها نائمة!
بعد قليل عادت جم َّدد ًا �إليه م�ستندة ب�أطراف �أ�صابعها هذه املرة �إىل
فقدتْه من طول الرقاد ,نه�ض واقف ًا اجلدار وقد ا�ستعادت توازنها الذي َ
على الفور وهو يرمق وجهها املب َّلل باملاء الذي يقطر يديها ،بينما هي حتاول
جتفيفه ب�أكمامها الطويلة ,وتتجاهل نظراته حتى و�صلت �إىل طرف الفرا�ش
الآخر وجل�ست ت�صلي ما فاتها من �صلواتُ ,تط� ِأطىء عنقها عند الركوع
زم �شفتيه �آ�سف ًا وهو ينظر �إىل �ساعة هاتفه ,لقد نام
وتنحني �أكرث لل�سجودَّ ,
عن �صالة الظهر حتى دخل وقت الع�صر ,فهم�س لنف�سه مو ِّبخ ًا « لقد �أ�صبحت
�سي ًئا ج َّد ًا يا ح�سن !».
ترك لها الغرفة وخرج يقطع طول املخزن وعر�ضه ذهاب ًا و�إياب ًا يفكر يف
اخلطوة القادمة ,فبعد �أن كان هو املحرك للأحداث ,بات َْت حتركاته ع�شوائية
ومرجتلة ,منذ �أن نه�ش الأر�ض بحث ًا عن «رمزي» ومل يجده.
ف�سد كل �شيء ,خرج القطار الغ�ضب عن ق�ضبانه ،و�أ�صبح يهدد
باال�صطدام يف �أي حلظة ,و�أول َمن ا�صطدم به كانت �أ�سريته تلك ,لقد خرج
من ال�سجن بج�سده فقط� ,أما روحه فال زالت هنالك حبي�سة ظلم الب�شر ال
اجلدارن ,ت�سحبه �إليها ُم َّدد ًا فتجعله يبد�أ دون �أن يفكر يف النهايات.
وملاذا يفكر؟ ..وملاذا يخ�شى العودة وقد ت�ساوى ك ٌّل لديه ومل يعد ي ْف ُرق بني
ال�سجن وخارجه �إال الأ�سوار املرتفعة فقط؟!.
�سمع �صوت حتركاتها بعد خروجها َ
احل ِذر �إليه ,ولكنها فعلت كما فعل
الفيل الأ�سري يف ق�ص�ص الأطفال ,مل تتجاوز امل�ساحة التي كان من امل�سموح
لها التح ُّرك فيها فقط ,ثم تو َّق ْ
فت ,يبدو �أن االعتياد هو َمن ي�صنع الأ�سري
ولي�س القيود فقط!.
تق َّدمي ...اجل�سي هنا.
قالها وهو ي�ستند �إىل مقدمة ال�شاحنة ال�صغرية ,والتي باتت �أ�سرية
املخزن القدمي هي الأخرى ،كان عاقد ًا ذراعيه �أمام �صدره يراقب تعرثها يف
�أطراف اجللباب الطويل الذي تلف و�شاحه حول ر�أ�سها ,كالطفل الذي يتعلم
امل�شي حدي ًثا ,خطوتني ثم تقف تنظر حولها حتى جتاوزته ،وو�صلت �إىل مقعده
العري�ض ووقفت ت�ستند �إىل ظهره املرتفع� ,صمتت تنتظر توجيهاته:
�أمل نتفق على �أن تتوقفي عن البكاء؛ لت�ستعيدي عافيتك؟!.
أبك.
مل � ِ
بوهن وتطرق بعينيها للأ�سفل فقال مندفع ًا:
هم�س ْت ٍ
َ
كنت تبكني طوال الوقت يا غفران.
ِ
غري �صحيح.
انزلق ببطء جال�س ًا القرف�صاء حتى ي�ستطيع ر�ؤية وجهها جيد ًا ،بينما
ال زال ظهره م�ستند ًا �إىل �شاحنته ,عيناها متورمتان للغاية ،ووجها �شاحب
كالأموات ,تبدو �ضعيفة ج َّد ًا يف ذلك اجللباب الف�ضفا�ض بحالتها تلك ,لن
ت�ستعيد عافيتها �أبد ًا ما َ
دام ْت مواظبة على البكاء طوال الوقت كما تفعل الآن:
�أال تعلمني �أنك مراقبة؟.
رفعت وجهها �إليه فوجدته يعبث بق�شة �صغرية يف الأر�ض ,الغبار الكثيف
ميكنه من ر�سم الو�سم الذي يريده ,بد�أ يف ر�سم دوائر بداخلها مثلثات �صغرية
تخرج منها �أ�سهم ع�شوائية ثم رفع عينيه �إليها قائ ًال بخفوت:
يراقبك ..ويخربين ..ف�أنا �أ�ستطيع التوا�صل
ِ اجلن الذي ي�سكن املخزن
معهم.
لن ين�س �أبد ًا الرعب الذي غطى مالحمها يف تلك اللحظة وهي تنظر
حولها بذعر ،وترفع قدمها عن الأر�ض وحتت�ضنها �إىل �صدرها وهي ت�س�أله
برباءة:
كم عددهم ؟!
مل تكن هناك �إجابة حا�ضرة يف ذهنه ،فهو مل يكن يتوقع ال�س�ؤال على
الإطالق فوجد نف�سه يرجتل قائ ًال:
أنك تبكني دائم ًا وتزعجينه ..و�آخر
حجرتك يخربين � ِ
ِ �أربعة ..الذي يف
بكيت َ
هناك ..و�آخر حذرين ب�أنه �سي�سكن ج�سدك للأبد لو ِيف احلمام َّ
يجل�س على مقعدي ينتظرين ويحمي املخزن حتى �أعود ..وهو رئي�سهم
جميع ًا.
�صمتت قلي ًال وقد َّ
جف الدم يف عروقها ،ومقلتاها تدوران يف حمجريهما
مت�سائل ًة بخوف:
والرابع؟!
الرابع؟
زلت ال جتيد الع َّد يا «ح�سن»! ,هر�ش خلفية ر�أ�سه
ملاذا مل يقل ثالثة ,ال َ
بحرية يف اللحظة التي �سمعها تقول بانتباه:
هل يراقب املخزن من اخلارج؟!
ول ال؟!� ,أوم�أ بر�أ�سه موافق ًا ،ففاج�أته ثاني ًة وهي تت�ساءل بف�ضول
ن َع ْمَ ِ ..
هام�سة:
هل تعرف �أ�سماءهم؟!
هه!
هر�ش يف ر�أ�سه مرة �أخرى ,مل يكن دجا ًال ليتعرف �إىل �أحد �أ�سماءهم
من قبل ,ا َّدعى االن�شغال بالر�سومات الع�شوائية فوق الغبار حتى يتمكن من
فقطب جبينه على الفور قائ ًال:
التفكري ,ولكن احليلة مل ُت ْع ِيه َّ
غرفتك ُيدعى «في�شة ابن مني�شة» !
ِ الذي يف
راقبها وهي تدور بعينيها يف املكان ،فنه�ض واقف ًا بعد �أن رمى بالق�شة
زم �شفتيه وهو مينحها ظهره ويكتم ابت�سامته ب�صعوب ٍة قبل �أن جانب ًا ,ثم َّ
ي�سيطر على نربة �صوته ليجعلها جادة ُمذ ِّر ًا:
�أ َّما الذي ي�سكن احلمام فهو « زالطة ابن بالطة» !
�شهقة �صغرية �صدرت عنها ،فا�ستدار �إليها ليجدها تد�س ر�أ�سها بني
ركبتيها وهي تقول بنربة مرجتفة:
من ف�ضلك اجعلهم يرحلون جميع ًا.
�سريحلون لو توقف ِْت عن البكاء.
�صمتت للحظات قبل �أن تعده بخفوت قائلة:
� َ
أعدك� ..س�أتوقف.
�أر�سل تنهيدة رائقة ال تتنا�سب �أبد ًا مع �صعوبة موقفهما ،وال يعرف كيف
خرج ْت نربة �صوته حانية هكذا وهو يقول �آمر ًا:
َ
غرفتك ،وانتظري الطعام.
ِ والآن عودي �إىل
�أطلقت �سراح قدميها حتى هبطتا �إىل الأر�ض جم َّدد ًا َ
ونه�ض ْت ببطءٍ مت�شي
نحو حجرتها ,ومبج َّرد �أن �أغلقت الباب من خلفها ترك العنان البت�ساماته
الوا�سعة �أن تظهر ,ا�ستقر على املقعد العري�ض وقام برمي ر�أ�سه �إىل الوراء
متنف�س ًا ال�صعداء.
لقد عادت �إليها احلياة ،وبد�أت خماوفها الطبيعية كفتاة تظهر على
ال�سطح جمدد ًا� ,ضحك ب�صوت منخف�ض ،بينما عيناه مغم�ضتان ،وكلتا يديه
مرتاحتان على املقعد ,جمرد دقيقة من الهدوء تالها عا�صفة مل يكن ليح�سب
لها ح�ساب ,ارتفع رنني هاتفه معلن ًا عن ر�سالة من م�ساعده الأول منذ �أول يوم
عمل له يف ور�شة املكانيكا بال�سجن� ,إنه يف اخلارج ب�صحبة الطعام كما يفعل
يوم َّي ًا ,ويف نف�س املوعد.
قام بفتح الأقفال الداخلية للباب احلديديِّ ،ثم قام بتحريكه للخارج قلي ًال
ليمر �إىل حيث ينتظره «كرمي» الذي كان القلق واال�ضطراب يحتالن مالمح
وجهه ،بينما يحمل �أطباق الطعام بني يديه ,ينظر مين ًة وي�سرة برغم امل�ساحة
بقلق وهو يقر�أ
الوا�سعة ال�شاغرة حول املخزن القدمي ,اقرتب «ح�سن» منه ٍ
مالحمه املرتبكة مت�سائ ًال:
ماذا َ
بك يا كرمي؟!
�ألقوا القب�ض على اخلالة رجاء يا ح�سن!
ات�سعت عيناه ده�شة هاتف ًا:
ملاذا؟.
ابتلع «كرمي» ُلعابه ب�صعوبة وهو يجيبه بنربة مت�شنجة:
ك ُّل ما ا�ستطعت معرفته من �أحد الع�ساكر يف الداخل �أنها متهمة يف
ق�ضية قتل.
بالغ مكتِّف ًا يديه فوق �صدره ,مطرق ًا �أر�ض ًا
دارت عيناه يف حمجريهما بقلق ٍ
بتفكري للحظات ,قبل �أن يقول بهدوءٍ ك َمن ا�ست�سلم ملوجة ُم ِغرقة قادمة نحوه
بجنون لتبتلعه:
ال تقلق� ،س�أذهب �إىل هناك ..فهم يريدونني �أنا.
كادت الأطباق ت�سقط من بني يديه وهو يهتف ملتاع ًا:
ال تذهب� ،أرجوك.
و�ضع «ح�سن» ك َّفه على كتف رفيقه وهو يناظره بامتنان ,ال زال «كرمي»
هزي ًال ذا نربة مرتع�شة تطغى على �صوته دائم ًا حتى بعد خروجه من ال�سجن,
يبدو �أنها خ�صلة وراثية ال دخل لل�سجن بها.
علي ملجرد خروجي من هنا يا كرمي .. يف كل الأحوال �سيتم القب�ض َّ
و�أنا لن �أظل حبي�س ًا البقية الباقية من عمري ..فمن الأف�ضل �أن �أذهب
بنف�سي ..وال تقلق ،لن يحدث �شي ٌء.
حرك «كرمي» ر�أ�سه راف�ض ًا ،وهو يطالع الأر�ض من حتته ,ولكن «ح�سن» مل
يكن لديه الكثري من الوقت؛ ليقوم ب�إقناعه ,ال يريد لـ «رجاء» �أن تبقى �سجينة
ولو ل�ساعة واحدة ,يكفي م�صائب احلياة التي مك َث ْت فوق ر�أ�سها ومل تغادرها,
هو يعلم �أنها �ستخرج يف كل الأحوال فال دليل يدينها ,ولكنه يعلم �أي�ض ًا �أن
هناك ما ُيدعى تلفيق الأدلة ,لذلك ال بد من �أن يتحرك �سريع ًا ج َّد ًا.
ولكن ..ا�ستدار بر�أ�سه للخلف نحو باب املخزن للحظات ثم عاد بوجهه
�إىل «كرمي» جمدد ًا وهو يقول :
كرمي ..غفران يف عهدتك ..قم ب�إعادتها �إىل بيتها ..وكن معها متى
كانت يف حاجة � َ
إليك.
ملاذا؟.
�س�أل « كرمي» ببالهة ظهرت عليه للحظات قبل �أن ينف�ض ر�أ�سه وهو يتذكر
�أنه ا�سم الأ�سرية بالداخل ،ف�أوم�أ موا ِفق ًا وا�ضع ًا يده الفارغة على �صدره
ك َو ْعد منه ب�أن ينفذ �أوامره ,وما اجلديد؟ ,فهو طوع �أمره منذ �سنوات ,منذ
�أن قام بالدفاع عنه للمرة الأوىل �ضد بع�ض ال�سجناء الذين كانوا يلقبونه بـ
«املرمطون» .
�أخذه حتت ذراعه ،وع َّلمه �صنعته ،وبات م�ساعد ًا له ,حتى �سها «ح�سن»
عنه ل�ساعة واحدة� ,ساعة واحدة فقط ,ا�ستطاع «�شاهني و�سيد» ا�ستغاللها,
وقاما ب�سحبه �إىل دورة املياه وانتزعا منه عنوة ما تبقى من كرامته ورجولته,
فال�سجن له قوانينه ,وهو مل يكن ي�صلح حتى لدور احلاجب.
لن ين�سى �أبد ًا دموع القهر التي بذلتها عيناه وهو ُمنز ٍو بجوار املرحا�ض
ي�ضرب ر�أ�سه باجلدار ،حتى بد�أت تنزف فرتكها طواعي ًة ،وهو يفقد وعيه يف
�صمت تدريجي ًا؛ لعله ميوت وتنتهي معاناته مع �ضعفه الدائم الكريه ,ولكن ال
زال يف العمر بقية ,وال زال هناك «ح�سن» الذي تعهد له ب�أنه لن يخرج من
ال�سجن قبل �أن تخرج جثتاهما العفنتان ..ولقد ب َّر بق�سمِ ه وزيادة.
y
طرق بابها ودخل يف عجلة من �أمره؛ ليتفاج�أ بها جال�سة فوق فرا�شها
تبت�سم ,تنحنح متعجب ًا من �أمرها ،وتقدم وا�ضع ًا ال�صحن الذي يحوي طعامها
بجوارها قائ ًال:
طعامك.
ِ تناويل
�أوم�أت مبت�سمة بخجل وهي ت�ستدير نحوه لتتناوله كما �أمرها ,مل يخرج
اعتادت ,بل بقي واقف ًا �أمام الفرا�ش �شارد ًا وهي ت�أكل ببطء ،وتتحا�شى
ْ كما
النظر �إليه حتى انتهت وتناولت جرعة مياه:
ؤذيك� ..ساحميني.
مل �أكن �أق�صد �أن �أ� ِ
نظرت �إليه بت�سا�ؤل بينما يدها تنخف�ض ببطء حاملة الزجاجة بني
�أ�صابعها فقال متابع ًا:
كنتُ �أريد العثور على رمزي ..ومل يكن �أمامي حل �آخر غري امل�ساومة
بك.
ِ
نه�ضت ببطء ،وانحنت ت�ضع الزجاجة �أر�ض ًا ثم تقرتب منه بغرابة ،و�شعو ٌر
قوي ي�ضرب �صدرها ويخربها ب�أنه يودعها:
ٌّ
ماذا حدث ..ملاذا تقول هذا؟!
التفت نحوها بابت�سامة مل ت�صل �إىل عينيه وقال م�شاك�س ًا:
موعد �إطالق �سراحك قد حانَ � ..أم �أعجبك دور املخطوفة وتريدين
اال�ستمرار فيه؟!
أنك مل تكن لت�ؤذيني �أبد ًا.
ح�سن � ..أنا �أعرف � َ
قالتها بقوة تناق�ض ال�ضعف البادي عليها بينما خافقها ي�ؤملها ،فال�شعور
بالهجر قد بد�أ يلوح لها من بعيد جم َّدد ًا.
أنت ال تعرفينني جيد ًا ..وال تعرفني ما �أنا قادر على فعله � ...أنا كما
� ِ
يقولون ..رد �سجون!
تالحقت �أنفا�سها ومل تبذل �أدنى طاقة لتوقف دموعها عن اجلريان وهي
تقول على الفور:
�أنا �أعرف كل �شيء ..الليلة التي ُعدتُ فيها �إىل بيت والدي لأجمع البقية
املتبقية من مالب�سي ..ر�أيتُ رمزي يعود من اخلارج يلهث ويختبئ يف
حجرة والد ْينا ..وا�ستمعت �إىل ما دار بينهم عن الفتاةَ ..
وعنك� ..أنت
بريء و�أنا كنت �س�أذهب لأُديل ب�شهادتي ل�صاحلك ..ولكن والدي
�ضربني وك�سر يدي هذه وقدمي تلك.
كانت ت�شري بع�شوائية �إىل يدها وقدمها ،والدموع تت�ساقط بتناغم مع
الن�شيج الظاهر بني حروفها ,كانت نظراته تتابع حركة يدها وهو ي�ستمع �إىل
ما تنازع به روحها فحاول تهدئتها:
منزلك � ..أمل تفتقدي �أ َّم ِك؟!
ِ �ستعودين �إىل
�سقطت على ركبتيها دافنة وجهها بني كفيها ون�شيجها يعلو باكية:
ال �أريد ..ال �أريد العودة ..ال ترتكني يا ح�سن� ،أرجوك � ..أنت ال تعرف
..ال تعرف!
منذ متى مل ي�شعر بوخزات القطرات املاحلة والغ�صة التي ت�صاحبها ..
منذ وفاة �أمه؟ ,يبدو �أنه قد ن�سي حتى ا�سمها حتى �أنه ي�شعر بتلك الغرابة
الآن وهي تن ّد يف عينيه ,تعود �إليه على ا�ستحياء وبال اندفاع ,لقد رف�ضها طيلة
�سنوات عذابه فلماذا يزحف بريقها يف تلك اللحظة �إىل مقلتيه وهو ينزل من
عليائه حتى ا�ستقر على ركبتيه �أمامها؟:
أنت مري�ضة ..
كنت تهذين و� ِ
قلت كل �شيء ،بينما ِ
�أنا �أعرف ..لقد ِ
يخيفك ..رمزي لن يعود من قربه!
ِ ولكن ..مل يعد هناك ما
�صاحت ب�صوت كتمته راحتاها فخرج كا�ستغاثة �آتية من بئر عميقة:
رمزي يف كل من حويل ..يف �صاحب امل�صنع الذي �أعمل به ..يف بائع
اخل�ضراوات ..يف احلافالت التي �أ�ستقلها ..يف املدر�سة ..يف �شخ�ص
يعرب بجواري يف الطريق وال يعرفني ..كلهم رمزي يا ح�سن ..كلهم
رمزي .
توقفت؛ لت�شهق م�ستدعية الهواء �إىل رئتيها ثم حترك ر�أ�سها رف�ض ًا متابعة:
ْ
جميعهم ينه�شونني �أنا ومن ِمثلي ..وك ٌّل على طريقته احلقرية اجلبانة
� ...أنا �أريد �أن �أبقى هنا يا ح�سن � ..أنا هنا ب�أمان ..ال نظرات حقرية
وال مل�سات مقرفة وال عبارات مهينة جتعلني �أكره كوين �أنثى � ..أنت مل
تخطفني � ..أنت �أنقذتني منهم جميع ًا ...حتى و�أنا يف قيودك �أ�شعر
ب�آدميتي وب�أنني يف �أمان ...هل تعرف ماذا يعني الأمان لأي فتاة
مثلي؟ ..يعني كل �شيء.
�ضغط �أ�ضرا�سه بينما حلقه يت�شنج �أكرث مقاوم ًا رغبة يف احتوائها فقط؛
ل ُي�شعرها بالأمان الذي تبحث عنه ,ولكنه لن يفعل ..لن يكون «رمزي» �آخر
و�إن اختلفت �أ�سبابه ونواياه:
أخذك �إىل حيث
أتركك يف عهدة �شخ�ص �أثق فيه كنف�سي� ,سي� ِ �س� ِ
�سيحميك بروحه لو تطلب الأمر ..
ِ ئت ..
والدتك ثم �إىل منزلك متى ِ�ش ِ
ِ
و�سيكون طوع بنانك ..حتى �أعود!
رفعت وجهها �إليه بنظرة � َأم ٍل مل ي َرها من كرثة الدموع التي تغطي وجهها
والتي تفي�ض بكرم من ينبوع عينيها ,وقالت بنربة مذبوحة وذابحة من �أثر
البكاء:
�إىل �أين �ستذهب؟
ال�سيدة «رجاء» والدة �سلمى -رحمها اهلل -مت القب�ض عليها بتهمة
قتل رمزي ..هذه املر�أة ت� َّأذت كثري ًا ج َّد ًا يا غفران ..وبقائي هنا
�سي�ؤذيها �أكرث � ..إنهم يبحثون عني كاملجانني وخروجي لهم �سيجعلهم
يطلقون �سراحها.
ال �أنت وال هي � ..س�أذهب �إليهم و�أجعلهم يطلقون �سراحها.
هتفت بها وهي تقب�ض على ِمع�صمه بقوة ،بينما عيناها تتح َّدانه �أن ي�ضيع
مرة �أخرى خلف الأ�سوار ويرتكها وحيدة� ,إنها تعرف �شيئ ًا وتخفيه عنه ,كان
يقر�أ عينيها ب�سهولة وهو يتذكر عندما �سقطت بني يديه منذ �أيام وهي تخربه
ب�أنها هي َمن فعلت ..هي َمن قت َل ْت �أخاها� ,إذن مل تكن تهذي ,بل كانت ُتق ُّر
باحلقيقة !� ,أزاح قب�ضتها وتناول ِمرفقيها بهجوم مباغت هاتف ًا:
أنت َمن قتله؟!
� ِ
حركت ر�أ�سها نفي ًا قائلة بعينني زائغتني:
بل ر�أيت ما حدث من البداية.
زادت �أ�صابعه من ال�ضغط على ِمرفقيها بال �إرادة منفع ًال ,ال ي�صدق �أنها
ر�أت ما حدث و�صمتت ،ومل تتكلم وتركته يقيدها وي�سجنها هنا ويخرج باحث ًا
عن «رمزي» بينما هي تعرف �أنه جثة هامدة:
تكلمي� ..أري ُد احلكاية من البداية يا غفران.
زاغت نظراتها �أكرث تبحث عن �شيء �ضائع ,ت�ستدعي الذكرى التي هزت
كيانها ،وجعلتها دائم ًا هاربة ,خائفة ,واقعة بني مطرقة دناءة «رمزي» الذي
وعدها ب�أنها لن تهن�أ �أبد ًا مادام هو على قيد احلياة ,وحقيقة �أنه �أخوها يف
النهاية ،ودما�ؤه جتري بعروقها ,تلك الدماء التي ر�أتها تن�ساب من حنجرته
بينما هو �ساقط على وجهه وقد فارق احلياة:
كنتُ �أت�ساءل دائم ًا :كيف ي�ستطيع رمزي معرفة اليوم الذي �أح�صل فيه
على راتبي ال�شهري والذي مل يكن له موعد ثابت ..ويقوم مبهاجمتي
يف الطريق و�أخذه عنوة؟ ..حتى ..حتى عرفت ..فتاة كانت تعمل
يف نف�س املكان ..فتاة ريفية مل تتجاوز ال�ساد�سة ع�شرة من عمرها
..بد�أت تتودد يل وتقرتب مني ..ومرة بعد مرة تكرث �أ�سئلتها حول
عائلتي ..ثم حول �أخي ..وملاذا ال �أعامله معاملة جيدة؟ ..وقتها
عرفت ..عرفت �أنه ي�ستغلها ،ولكي ال تخربين عن عالقتهما قال
حذرتها منه ولكنها مل ت�ستمع لها ب�أنني �أكرهه وال �أريد له اخلري َّ ..
..كانت قد �أح َّبته بقلبها ال�صغري ومراهقتها الوليدة فابتعدت عني
وبد�أت تعاملني معاملة �سيئة ..كنتُ �أموتُ خوف ًا عليها و�أنا ُموقنة مبا
يريده منها ..خ�صو�ص ًا وقد بد�أت ت�شحب و�ضحكتها تختفي يوم ًا بعد
يوم ..حتى جاء ذاك اليوم وبكت �أمامنا جميع ًا وهي ترجو �صاحب
العمل �أن ي�سمح لها بالذهاب مبكر ًا ل�ساعة واحدة فقط ..
بد�أت �ضربات قلبها يف زيادة م�ضطربة وهي تنظر له ،ولكنها ال تراه يف
احلقيقة ,مل تكن ترى �سوى ذلك البيت املتهدم الذي دخلته الفتاة:
ت�سللتُ خلفها بعد خروجها ..ور�أيتها ت ِل ُج �إىل هناك ..منزل قدمي
ن�صف متهدم ،وكان هو ينتظرها هناك ..ثم يقوم ب�سحبها من خلفه
قدمي تن�سحبان خلفهما ..وك�أن هناك خيوط ًا غري مرئية َّ ووجدت
تربطني بج�سديهما ..
�صالة وا�سعة جدرانها من الطوب الأحمر ،حبات الرمل واحلجارة متلأ
�أركانها ,ثم حجرة جانبية مثلها متام ًا ممتلئة باملخلفات� ،أخ�شاب و�أوراق
وزجاج متك�سر..
و�سمعتها ت�س�أله :ملاذا يريد ر�ؤيتها هنا يف هذا املكان املهجور؟..
ف�أخربها بنربته اللئيمة التي �أحفظها عن ظهر قلب ب�أنه يريد و�ضع
النقاط على احلروف ..هل �ستقبل بالزواج من ابن عمها وتعود معه �إىل بلدها
من حيث �أتت �أم �ستظل معه؟
الفتاة بكت وهي تخربه �أنها ال حيلة لها و�أن طباعهم ون�ش�أتها جتربها
على طاعة والديها ،و�إن كان يحبها ح َّق ًا ،فال بد �أن يتقدم خلطبتها ،ويثبت
لأهلها ب�أنه ي�ستحقها ويرتك املخدرات التي �أ�صبحت جزء ًا ال يتجز�أ من جيب
بنطاله..
اهد�أي يا غفران ..اهد�أي قلي ًال.
كان ي�شاهدها تلهث وهي حتكي له و�صدرها يعلو ويهبط بجنون ،بينما
�شفاهها تك�سوها الزُّرقة ك َمن يفارق الروح وي�صارع �آخر نف�س من الهواء ُ�سمح
له به:
ف�صرخت ..كتم �صراخها بيده
ْ �شتمها يا ح�سن ..و�ضربها على وجهها
� ..شهقتُ لكنني كتمت �صرختي و�أنا ملتاعة ،ور�أيته يدفعها لت�سقط
�أر�ض ًا ثم رمى بج�سده من فوقها ..كاد قلبي �أن يتوقف و�أنا �أقف مكاين
ال �أعرف ماذا �أفعل؟ ِ ...خفتُ يا ح�سن ِ ..خفتُ منه ..حاولت �أن
�أ�صرخ ولكن �صوتي ُح�شر يف حلقي من �شدة الرعب وهو ميزق مالب�سها
..ويف حلظ ٍة واحدة ..ال �أعرف كيف حدث هذا؟ ..ر�أيته يت�ص َّلب
حراك وهو ينظر �إليها بعينني جاحظتني ..وفج�أ ًة �سقطمكانه دون ٍ
فدف َعتْه هي بعيد ًا عنها ..كانت تلهث ومت�سك بقطعة زجاج ملوثة
بدمائه ..ظلت قاب�ضة عليها وهي تنظر له ُبذعر بينما دما�ؤه ت�سيل ..
ووجدتني �أهرب ..ال �أعرف كيف خرجت من املكان؟ ،وال كيف و�صلت
�إىل منزل خالتي؟..
والدك؟!
ملاذا مل تخربي ِ
ال �أعرف ..الفتاة كانت �ست�ضيع ..مثلي ومثل �سلمى ..كلما وخزَ تْني
�صلة الدم تذكرت عبارته التي مل ّ
يكف عن ترديدها على �أذين �أنه لن
يرتكني �إال �إذا فار َقتْه الروح ،الفتاة مل تكن تدافع عن �شرفها فقط ..
بل كانت حتررين منه يا ح�سن ..فكيف �أف�ضحها؟!
y
ثالث ُعلب من لفافات التبغ ,واحدة تلو الأخرى وهو ال يرحم ا�ستغاثة
�صدره الذي امتلأ ب�سواد دخانهم عن �آخره ,لقد قام بت�سليم «رجاء» بنف�سه
ويف طريقه ملواجهتها باملمر�ضة لتتعرف عليها ثم ُيغ ِلق ملف ق�ضية مقتل هذا
الطبيب بال رجعة وتبد�أ النيابة عملها.
يقاوم ال�صراع بداخله وهو يردِّد على م�سامعه هام�س ًا لنف�سه بعبارته
ال�شهرية «�أنا �أنفذ القانون وال دخل يل ب�أي اعتبارات �أخرى»!� ,أما اجلال�سة
�أمامه يف تلك اللحظة فهو يعرف ج ِّيد ًا كيف يتعامل معها؟!
كان من الأوىل �أن تر�سلي لها حمامي ًا يا حاجة «جليلة» ..وجودك هنا
ال معنى له.
ظننتك خمتلف ًا يا عا�صم بيه!
كانت تقف �أمامه راف�ضة اجللو�س ,تنظر له بجمود ,عيناها احلادتان,
عباءتها ال�سوداء الف�ضفا�ضة ج َّد ًا ,و�شاحها الذي �صار �شديد البيا�ض ,هالة
من الهيبة تبتلعه بداخلها و ُت َذ ِّكر ُه ب�أنها تتبع قانونها اخلا�ص الذي تقوم
بتنفيذه كما يفعل هو مع قوانينه ال�صارمة:
�أنا ل�ستُ خمتلف ًا يا حاجة «جليلة» � ..أنا �أن ِّفذ القانون ..كما فعلتم � ِ
أنت
ورجاء ..وح�سن � ..ألي�س كذلك؟!.
�أط َّلت نظرة خبيثة من عينيه ،تلقتها «جليلة» بب�سمة �ساخرة ,هل يهددها
بطريقة مبطنة �أم يدعوها للهرب قبل �أن يوجه لها تهمة هي الأخرى؟,
اخل�شبي بيدها قائلة:
ّ ا�ستندت �إىل املقعد املقابل ملكتبه
معك حق ..يجب على كل من له َمظلمة �أن يرتك القانون ي�أخذ جمراه
� ..أنا مث ًال يجب �أن �أر�ضى ب�أنَّ َمن قتال ولدي الوحيد وانتهكا عر�ضه
قت�ص منهما؛ لأنهما مل يتجاوزا الثامنة ع�شرة ..ورجاء يجب عليها ال ُي ُّ
�أن حتتوي حماقة ذاك ال�شاب ال�ضائع الذي قتل فتاتها ثم خرج دون
عقاب كال�شعرة من العجني معتمد ًا على ذلك القانون الأعمى الذي
منحه الرباءة واحلرية ..
معك حق ..يجب �أن نقتلع قلوبنا ون�ضع مكانها حجر ًا ،بينما حقوق الأطفال
والفتيات ي�ضيع �أمام �أعيننا و�أعني القانون دون عقاب رادع ..يجب �أن نكتفي
ب�أن جنتمع كما جتتمع الثكاىل لندب موتاهم ..
يجب �أال نفكر نحن والكثري غرينا من �شدة القهر يف قانون خا�ص يحفظ
لنا حقوقنا � ..ألي�س كذلك؟!
نظر لها مطو ًال وهو يفكر يف �أال ُيف ِّكر! ,لن ي�سمح لنف�سه ب�أن يتقبل منطقها
اخلا�ص ,يكفي �أنه رحمة بها مل يوجه لها تهمة حتى الآن ,ولكن َمن يدري؟,
َّربا �ستعرتف «رجاء» بكل �شيء خ�صو�ص ًا بعدما �س َّرب لها خرب �إلقاء القب�ض
على «ح�سن» يف نف�س اليوم.
تول �أمرها كما مل يفعل من قبل ,رمبا ت�سامح معها لن يف�شل يف ق�ض َّية َّ
�ساب ًقا؛ لأنَّ جرمية قتل «�شاهني و�سيد» مل تكن مهمته من الأ�سا�س ,وكان
تعاطفه هو الغالب عليه� ,أ َّما الآن فهو بينها وبني نف�سه ,ف َمن �ستكون له
الأولوية؟!
ارتفع رنني هاتفه فج�أة يف توقيت خطر غري منا�سب ,ولكن الأكرث خطورة
كان الرقم الذي �أ�ضاء �شا�شته به ,التقط الهاتف �سريع ًا؛ ليجيب حمدثه
بر�سمية وهو ي�شد قامته بثبات ,امتقع وجهه للحظة قبل �أن يومئ بطاعة:
دقيقة و�س�أكون يف مكتب �سيادتك.
y
قذف �سيادة اللواء اجلريدة بوجه «عا�صم» هاتف ًا با�ستنكار:
ما هذا الذي تفعله زوجتك يا عا�صم؟!
التقط «عا�صم» اجلريدة ،وم َّرر عينيه �سريع ًا على التحقيق ال�صحفي
ٌ
خمتلف ب�شدة عما كتبته زوجته من الذي يذيله يف النهاية توقيع «�أروى»� ,إنه
قبل ,فهي يف كل مرة تندد مبا يحدث من جرائم االختطاف وتنادي بالعقوبات
الرادعة وفقط ,مع ذكر بع�ض احلاالت التي انتقلت من ملفات الأق�سام �إىل
ملفات الإعالم ويتم التحدث عنها يف الربامج احلوارية� ,أما الآن فهي تهاجم
كل م�ؤ�س�سات الدولة ال تتهمهم بالتقاع�س والإهمال فقط.
بل تت�ساءل :ملاذا ال ن�سمع بابن م�س�ؤول مت اختطافه كما يحدث لعامة
ال�شعب؟ ,هل هناك يف تلك امل�ؤ�س�سات �أذر ٌع م�ستفيد ٌة ا�ستفادة مبا�شرة؟,
وتكرر ت�سا�ؤلها يف نهاية التقرير ,هل يوجد يف تلك امل�ؤ�س�سات �إهمال متعمد؟
هل الأمر له عالقة مبافيا جتارة الأع�ضاء؟� ,أم �أنه �إهمال ُمتع َّمد؛ لإلهاء
ال�شعب عن �سيا�سات احلكومة م� َّؤخر ًا؟!
ملاذا يتم �إطالق �سراح املخت َِطفني عن طريق الثغرات القانوينة؟ ,ملاذا ال
يتم منع املواقع الإباحية التي تت�سبب ب�شكل مبا�شر يف بع�ض حاالت اخلطف؟,
ملاذا ال يتم تعديل قانون الطفل ويتم احلكم بالق�صا�ص على �أ�سا�س البلوغ
اجل�سدي ولي�س �شرط بلوغ الثامنة ع�شرة؟.
ملاذا تقف الدولة �صامتة بينما اجليل القادم يتم جزُّه وانتهاكه بكل الطرق
املمكنة؟!
ابتلع «عا�صم» ريقه اجلاف من الأ�صل مغم�ض ًا عينيه دون �أن يتابع القراءة,
لقد كان يعلم �أنها جمنونة ولن تتوقف ,ولكنها الآن ت�ضعه يف موقف ال ُيح�سد
عليه �أمام ر�ؤ�سائه ,بل و�أمام نف�سه قبل ذلك ,كلماتها دائم ًا قذائف مدفعية
حتطم بها مر�آته املنمقة!.
تنحنح ب�صعوبة ليجلي حنجرته قائ ًال بثبات:
�إنها تعتمد على حرية ال�صحافة يا �سيادة اللواء.
عاااا�صم!
هتف �سيادة اللواء مزجمر ًا وهو ينه�ض غا�ضب ًا من تعليقه الغريب ,وقف
ُقبالته ينظر �إىل عينيه مبا�شرة نظرات يعرفها «عا�صم» جيد ًا ,ويعرف ما
�سي�أتي بعدها:
حرية ال�صحافة هذه لن متنع �أن يتم توجيه كومة من االتهامات �إليها
� ..أقلها �سيكون التحري�ض على م�ؤ�س�سات الدولة!
ترك «عا�صم» اجلريدة ت�سقط على الطاولة ال�صغرية املقابلة للمقعد
اجللدي املواجه ملكتب �سيادة اللواء و�أطرق قلي ًال يفكر يف ر ٍّد منا�سب ال يزيد
ّ
من ارتفاع وترية غ�ضب الرجل ,فقال بهدوء:
�أال ميكن �أن نناق�ش ما تطرحه يف تقريرها؟.
وماذا ميكنه �أن يقول غري هذا؟ ,لقد وقف وقفته هذه من قبل بينما رئي�سه
يعنفه ب�سببها ,ولكنه مل يكن غا�ضب ًا �إىل تلك الدرجة ,هذه املرة لن تفلح
الوعود واالعتذارات ,ثم �إنَّ الكيل قد فا�ض به ,فما تكتب عنه «�أروى» حقيقة
�صورها متلأ امللفات فوق مكتب.
فلماذا ال يتم مناق�شة احللول بد ًال من �إلقاء اللوم عليها ككل مرة؟:
هي بالطبع ُمطئة يف مهاجمة م�ؤ�س�سات الدولة ..ولكن تلك اجلرائم
حقيقة ملمو�سة بالفعل ..وتنت�شر كانت�شار النار يف اله�شيم ..
�إذن ف�أنت تعرتف بالتق�صري والإهمال يا ح�ضرة ال�ضابط؟ ..يبدو �أن
كالم «رائد» عنك �صحيح!
�ضغط «عا�صم» �أ�ضرا�سه يطحنها وقد احتقن وجهه ب�شدة ووجد نف�سه
يقول دون تفكري �ساخر ًا:
ابن �أخيك ...
ترى ما التهمة التي �سيتم توجهيها له ولزوجته؟ ,هل هي �إ�شاعة الفو�ضى
�أم التحري�ض على العنف؟! ,كلها جائزة ،وكلها متاحة ومتوفرة ,ماذا فعل
بنف�سه؟! ,البد �أن ي�ستدرك ما قاله للت ِّو.
�سعل مرتني ب�شدة قبل �أن يقول ُماو ًال تغيري م�سار احلديث الذي يعلم
�أنه لن يتغري �أبد ًا:
مبنا�سبة النقيب «رائد» ..فالق�ضية التي نعمل عليها �سو َّي ًا تو�صلتـ..
مل يعد لك دخل بتلك الق�ضية ..لقد مت تنحيتك عنها ..قم بت�سليم
جميع حترياتك و�أوراقك فيها �إىل ..ابن �أخي!
نطق �آخر كلمتني �ساخر ًا بنف�س الطريقة التي �سخر بها «عا�صم» ,عقاب
تغ�ضن جبينه حنق ًا مت�سائ ًال:
رادع وفوري ولكنه م�ؤملَّ ,
متى مت تنحيتي؟!
الآن !.
حاول «عا�صم» ال�سيطرة على انفعاالته ,ف�أطرق �أر�ض ًا للحظات ,لي�س من
اجليد �أن تظهر تلك النظرات الغا�ضبة الكارهة يف عينيه ,كلمة ..جمرد كلمة
نطق بها �أطاحت ب�سجله كله ,وه َو ْت مبجهوده �إىل قعر اجلحيم:
يتم حتويلك للتحقيق؟ ..ف�أنت مق�ص ٌر و ُمهمِ ل يف عملك .. ما ر� َ
أيك �أن َّ
كما كت َب ْت زوجتك يف مقالها ِّ
الفذ!
أق�صر يف عملي يا �سيادة اللواء ..ف�أنا ل�ستُ وزارة الداخلية كلها
�أنا ال � ِّ
عقوبات �أكرث قو ًة ملنع اجلرمية من
ٍ ..ول�ستُ جهة ت�شريع عليها فر�ض
الأ�سا�س.
قالها هادئ ًا ُمافظ ًا على نربة �صوته فهو مل يعد يكرتث بعد الآن�« ,أروى»
كانت ُم َّقة من البداية ,لي�س علينا �أن نبدو طائعني �أكرث من الالزم فنكون
مثل املاء الفاتر ..ال ي�شعر بنا �أح ٌد على الإطالق ،وك�أننا مل نكن ,تلك العنرتية
y
ال تليق به ,و ُمو ِقنٌ من �أ َّنها �سرتميه خلف ال�شم�س ولكن بع�ض التم ُّرد ُي ِ
ك�سب
القوة �أحيان ًا!
عا�صم!!
نط َق ْت با�سمه بده�ش ٍة وهي تراه عائد ًا �إىل املنزل على غري موعده ,رفع
«عا�صم» اجلريدة �أمام عينيها قائ ًال بهدوءٍ :
يتم القب�ض على كالنا!
لن تتوقفي حتى َّ
ُم�سد عنقها وتتج َّنب النظر نحوه ُمتمتم ًة:
رفعت يدها لت ّ
�آ�سفة يا عا�صم ..قبل كتابة املقال كنت يف ق�سم ال�شرطة و�شاهدتُ
والد �أحد ال�ضحايا يقف هناك �صارخ ًا؛ لأ َّنهم قد �أطلقوا �سراح خاطف
ولده لعدم وجود �أدلة �ضده ..ال�ضابط كان يجل�س بربود وي�ضحك فـ ..
م َّر بجوارها وهو يقاطعها �ضاحك ًا:
فقررت االنتقام مني �أنا� ..صحيح؟.
ِ
مل يكن غا�ضب ًا ,وهذا ما جعلها تت�س َّمر �أمامه متعجبة� ,إ َّنه على غري عادته
بنوع من ت�أنيب ال�ضمري النادر
�شعرت ٍ
ْ يف كل �شيء ولي�س موعد عودته فقط,
فاقرتبت منه معتذر ًة:
ْ جتاهه,
�آ�سف ٌة مرة �أخرى؛ لأنني مل � َ
أطلعك على املقال قبل ن�شره.
مما يجب وهي تراه ي�ضحك عابث ًا مر ًة �أخرى وهو زادت ده�شتها �أكرث َّ
ْ
يلتفت نحوها قائ ًال ببع�ض املرارة التي غ َّل َف ْت حروفه:
مل تطلعيني على املقال فقط يا �أروى ..وهل ُتطلعينني على �شيءٍ
تقومني به؟!
ارتب َك ْت «�أروى» للحظة بينما تعقد ذراعيها �أمام �صدرها مت�سائل ًة:
ماذا تق�صد؟.
َّربا مث ًال �أق�صد الأخ حممود عبد العزيز!
امتقع وجهها خوف ًا وهي تراه يخطو نحوها مقرتب ًا وهو يتابع معاتب ًا:
هل �أنا �ساذج يف نظرك �إىل هذا احلدِّ ؟ ..ن َع ْم� ،أنا �أعرتف لقد ُخدعتُ
يف البداية ..ولكن مل يكن من ال�صعب �أبد ًا �أن �أعرف كل �شيءٍ عنه.
�سقطت يداها بجوارها ،فتمالكت نف�سها �سريع ًا وتعيد عقدهما ولكن هذه
املرة خلف ظهرها وهي تقول بدفاع َّية:
مل يكن �أمامي طريق �آخر ..ف�أنت كنت ترف�ض م�ساعدتي ب�شتى الطرق
أخدع َك ..هو بالفعل لديه
ولو حتى بتفا�صيل ب�سيطة ..ثم �إ ّنني مل � ْ
موقع على الإنرتنت ويقوم بـ..
�صمتت عندما رفع كفه �أمامها لتكف عن احلديث ,ثم ا�ستدار و�سار
بخطوات متمهلة �إىل حيث �أريكته املف�ضلة ,هوى فوقها م�ستند ًا براحة للخلف,
ُم�شرع ًا ذراعيه على اجلانبني فوقها وك�أمنا ي�ستعد للتحليق قائ ًال بب�ساطة:
ال تكرريها مرة �أخرى.
نظرت �إليه كاملجانني وهي تتقدم باجتاهه حتى جل�ست بجواره هاتفة:
ْ
ماذا يحدث َ
معك اليوم؟!
ابت�سم بب�ساطة وهو يناظرها بنظرات رمبا تبدو عادية َملن يقف على
م�سافة من قلبه� ,أما هي ,فهي ت�سكنه كالعفاريت كما يقول لها دائم ًا ,وتعرف
ب�أنه مت�أمل ,ومت َعب ,وي�شعر بالهزمية ,واحلالة التي مير الآن هي جمرد
ا�سرتاحة ُمارب لي�س �أكرث:
كنت على �صواب ..و�أنني ما يحدث يا حبيبتي �أنني اكت�شفت �أنك ِ
داع ..بينما�أعطي الأمور قيمة �أكرث مما يجب ..و�أنني مت�شنج دون ٍ
البقية يلهون مبقدراتي؛ لأ َّنهم فقط ميتلكون ما لن �أمتلكه يوم ًا.
y
ولو بعد حين
كانت عائدة للت ِّو من امل�شفى الذي ترقد فيه والدتها ,حزينة مك�سورة,
ال زال الطبيب يرف�ض �أن ي�سمح لها باخلروج وحالتها ال�صحية غري م�ستقرة
على الإطالق ,حتى ر�ؤيتها البنتها مل يعجل من �شفائها� ,أو حتى يعمل على
بع�ض التح�سن ,رمبا لو كان «رمزي» هو َمن عاد �إليها لكانت وقفت ناه�ضة
على الفور على قدميها اللتني مل تعودا ت�شعران ب�أي حياة بهما.
غفران
ال�سلم
�أخرجها نداء «كرمي» من حالتها املتهالكة تلك وهو ُي�سرع خلفها على ُّ
ليلحق بها ,ا�ستدارت نحوه مت�سائلة بابت�سامة �صغرية ُمرحبة فقال على الفور
وهو يلتقط �أنفا�سه ب�صعوبة:
ملاذا مل تنتظريني �صباح ًا؛ لأقوم بتو�صيلك �إىل امل�ست�شفى؟
حافظت على ابت�سامتها ال�صغرية وهي تنظر له بامتنان ,ماذا لو كان
«كرمي» �أخاها بد ًال من «رمزي»؟ ،رمبا كانت احلياة �أكرث �سعادة وقتها ,فلقد
خمل�ص ًا حتى �آخر رمق فيه ,مل يرتكها منذ
وجدته كما �أخربها «ح�سن متام ًاُ ,
�أن �أعادها �إىل منزل والدها ,حتى نظرات «�صفوان» لها وقف حاجز ًا �أمامها
ليمنعها عنها عندما ا�ستوقفها لي�س�ألها بده�شة «كيف عادت وحدها هكذا
ب�سهولة»؟! ,لكنها تركت �س�ؤاله ُمعلق ًا ودلفت �إىل �شقتها حيث الذكريات امل�ؤملة.
�صباح بداخل �سيارة
يف اليوم التايل مبا�شرة وجدت «كرمي» ينتظرها كل ٍ
�أجرة لي�صطحبها �إىل زيارة والدتها ومتابعة حالتها ال�صحية ,ثم خرجا مع ًا
من هناك �إىل ق�سم ال�شرطة مبا�شرة لتنفي عن «ح�سن» تهمة االختطاف.
يومها وقفت يف مواجهته �أمام ال�ضابط اجلال�س خلف مكتبه قائلة بهدوء:
�أنا خطيبته وكنتُ معه ب�إرادتي ..وكل ما ادعاه «�صفوان» مل يحدث..
ح�سن بريء.
وقتها ر�أته وهو يقاوم ابت�سامة �صغرية تعنفه لتظهر على طرف �شفتيه
ولكنه مل ي�ستجب لها� ,أطرق بر�أ�سه ثم رفع وجهه ينظر �إليها بحيادية تامة,
لقد نفت عنه حادثة اختطافها ،ولكنها مل ت�ستطع �أن تفعل �شيئ ًا للتهمة املوجه
�إليه بقتل �أخيها ,لقد مت حتويله للنيابة منذ �أيام وهي تنتظر ..فقط تنتظره
كما وعدته يف �آخر لقاء بينهما ,عندما �أمرها �أن تظل �صامتة كامتة ل�سر
الفتاة فهو �سيتم تربئته يف النهاية؛ لأ َّنه ال دليل قو َّي ًا �ضده ,وهي �أطاعته وهي
مرتعبة خائفة تخ�شى فقدانه هو الآخر.
غفران!!
�أعادها «كرمي» من جديد حلا�ضرها ف�أجابته بنربة مبحوحة:
مل �أ�ش�أ �أن �أزعجك �أكرث من هذا يا كرمي ف�أنت تالزمني منذ �أيام.
نظر لها بعتب ،ولكن ابت�سامة متالعبة ابتلعت وجهه النحيف بالكامل وهو
يقول لها مازح ًا:
مت �إخالء �سبيل ح�سن اليوم.
انفرجت �شفتاها عن �شهقة �ضعيفة متفاجئة ،ولكن «كرمي « مل مينحها
الكثري من الوقت لت�ستوعب ما قال فتابع مردف ًا ما لديه:
تقرير الطب ال�شرعي �أثبت �أن رمزي ُقتل قبل خروج ح�سن من ال�سجن
ب�أيام.
�أين هو؟.
مما ا�ستجلب �ضحكات «كرمي» بينما يجيبها �سريع ًا مراقب ًا
قالتها بلهفة َّ
للهفتها:
إليك على الفور.
�أخربين �أنه ذاهب �إىل موعد هام ثم �سي�أتي � ِ
هل �أخربته؟!
قالتها �سريع ًا وهي ت�ستند �إىل حافة الدرج ،ف�أطرق بر�أ�سه وقد فهم ما
تعني ب�س�ؤالها ,ثم �أوم�أ هو يجيبها بـ «ن َع ْم» :
وماذا كانت ردة فعله؟.
باقت�ضاب:
ٍ رفع «كرمي» كتفيه بال مباالة وهو يجيبها
مل يظهر عليه � ُّأي ت�أثر ..بل كان متوقع ًا لكل ماحدث.
�أوم�أت بر�أ�سها بحرية �شديدة متلكتها وهي ت�ستدير لت�ستكمل رحلة �صعودها
ثاني ًة ,هي ت�ستطيع �أن تفهم عدم ت�أثره من خرب وفاة والده ,فما بينهما مل يكن
بالهي.
ِّ
ولكن كيف مل يت�أثر عندما علم ب�أن «�صفوان» قد ا�ستوىل على املنزل
والور�شة وهو ي َّدعي �أنه ميتلك عقد بيع و�شراء مزي ًال بب�صمة «�أنور برهان»؟,
لقد �أخذ «�صفوان» كل �شيء ومل يرتك له حتى الور�شة ,بل قام ببيعها هي
واملنزل على الفور وك�أنه يقطع الطريق على «ح�سن» ويخربه ب�أن ال فائدة من
عودته.
يخربه �أن يعود �إىل حيث جاء ,يطرده من احلي ب�أكمله ,ولكنها لن ت�سمح
بذلك ,ما زال لديه بيتها الذي �سي�صبح بيته ،ووالدتها التي �ستكون �أ َّم ًا له
ليعدنَ �إىل بديك جديد يزعق يف الدجاجات ْ بالت�أكيد ,فهي بالت�أكيد �سرتحب ٍ
القف�ص ب�أمان ,وهناك املخزن ,ي�ستطيع �أن يقوم بتحويله �إىل ور�شة جديدة,
يبد�أ فيها من البداية ..معها.
دلفت �إىل ال�شقة بينما ابت�سامتها تت�سع �شيئ ًا ف�شيئ ًا ،وهي تبحر بني
�أفكارها الناعمة حوله� ,ستعود لتلقي ال�سالم والتحية وهي تعرب من جديد
ولكن هذه املرة �ستكون عابرة �إليه مبا�شرة ,هو �سريفع ر�أ�سه وينظر �إليها
مبت�سم ًا ومرحب ًا بها وب�أوعية الطعام ال�ساخنة التي �ستعدها من �أجله بيديها.
y
ته َّدج �صوتها با�سمه ،ونه�ضت على الفور ُتق ِبل عليه بلهفة �أم ت�ستقبل ولدها
الغائب بعد �سنوات طويلة ،ولكن مر�ضها مل ي�سعفها فا�ستندت على كتف
«رجاء» �صديقة حربها ،بينما �أ�سرع هو ينحني مق ِّب ًال �أعلى ر�أ�سها .
رائحة و�شاحها الأبي�ض تذكره ب�أمه يف �أيامها الأخرية� ،إنه يعرف تلك
الرائحة جيد ًا ،فهى تهب ملت�صقة بالراحلني عنا ،راية تخربنا ب�أن ُن�سرع يف
الوداع.
من ف�ضلك ابقي يف فرا�شك يا حاجة جليلة .
وهل �أنه�ض لأع َّز منك يا ولدي؟.
رفع عينيه �إىل «رجاء» التي قامت بر�سم ابت�سامة متقنة على �شفتيها
اكت�سبتها من طول عملها كممر�ضة ُتطمِ ئن بها �أهل املر�ضى �أنَّ ذويهم بخري،
بل ويتح�سنون .
ال تقلق� ،إنها بخري ..جمرد �أزمة تعاودها من وقت لآخر.
�سحب ح�سن املقعد املجاور؛ ليقربه من فرا�شها ثم جل�س وهو يراقب
�شحوب وجهها الذي يتناق�ض مع �ضوء عينيها وهي تنظر له بامتنان بالغ ثم
قال:
كنت �أظن �أن الأزمة �ستذهب بغري رجعة وتعود �إليك عافيتك من جديد
لك .
..بعد ال�صور التي �أر�سلتها ِ
ات�سعت ابت�سامتها ال�شاحبة وهي ترفع كفها بحما�س ُم َو ِد ٍع وت�شري ب�سبابتها
قائلة بدمعات براقة :
واهلل لو تعلم يا ولدي قيمة ما فعلته من �أجلي ومن �أجل الغايل ..لعرفت
ولي�س جمرد عافية زائلة .
علي روحي و�شرفناَ ، �أنك قد رددت َّ
ط�أط�أ ر�أ�سه بخزي من نف�سه� ،إنه يعلم جيد ًا �أنَّ ما فعله مل يكن من �أجل
احلاجة جليلة فقط ،و�إال ملا كان تردد يف البداية وف َّكر كثري ًا وبد�أ يف الت�سويف،
مل يكن على عالقة بها وال حتى يعرفها �أو يعرف ولدها ابن العا�شرة ،فلماذا
يقدم ث�أر ًا وك�أنه �أحد �أفراد العائلة؟!
لقد راقب «�شاهني و�سيد» ج ِّيد ًا ،وت�أكد بنف�سه من �سلوكهما ال�شاذ لي�س
فقط فيما بينهما ،ولكن �أي�ض ًا ب�إجبار بع�ض امل�ساجني ال�ضعفاء على نف�س
الفعل البغي�ض ،وبالرغم من ذلك مل يكن قد اتخذ قراره بعد حتى حدثت
الكارثة وكان «كرمي» �آخر �ضحاياهما ،مما جعله يح�سم قراره يف احلال ،فهما
جمرد جرثومتني ال ي�ستحقان احلياة .
د َّبر كل �شيء م�ستخدم ًا �صالحياته التي َعمِ َل على ت�ضخيمها طوال مدة
حب�سه ،وا�ستخدم «كرمي» كطعم لهما ،ولقد التقطا الطعم ب�سهولة عندما
واعدهما للقاء جديد يف املرحا�ض الذي لفظا فيه �أنفا�سهما الأخرية على
يديه ،وبنف�س الطريقة التي يتَّبعانها مع �ضحاياهما.
اخلنق من اخللف حتى ي�ست�سلم ال�ضحية متام ًا �إال �أنه خالفهما يف اخلطوة
الأخرية فلم يرتكهما يتنف�سان بعد ذلك .
لقد كانت لكمته الأوىل لأنف البائ�س «�سيد» كفيلة ب�أن تفقده توازنه ،وتلقيه
�أر�ض ًا فاقد ًا لوعيه ليتمكن «كرمي» من تثبيته هناك ،بينما منح «�شاهني» كل
طاقات غ�ضبه املتفجرة وهو ينتزع منه احلياة ب�سل�سال حديدي كما طلبت
ال�سيدة جليلة بال�ضبط عرب الهاتف ..
الهاتف الذي مت ت�سريبه �إليه يف ال�سجن وهو يعرف جيد ًا �أن و�صوله �إليه
يتطلب مبلغ ًا من املال ال ي�ستهان به ،ولذلك كان يظن يف البداية �أن ال�سيدة
�صاحبة الث�أر وذات اللهجة ال�صعيدية لديها من الأموال ما يوفر لها ذلك ،
متفاجئ ،فالواقع خمتلف متام ًا.
ٌ ولكنه الآن
َـقطن يف حي قريب جد ًا من احلي الذي ي�سكن به ،وال�شقة
املر�أة العجوز ت ُ
املتوا�ضعة خا�صتها تف�صح عن �ضيق يد �صاحبتها ..ف َمن �إذن �صاحب تلك
العطايا الوفرية ؟!
ح�سن ؟.
كانت تعلم ما يدور بخلده الآن فنادته؛ لتعيده �إليهما جمدد ًا ،فهي ال�شاهدة
الوحيدة من بعده على تردده وعدم تقبله ذلك العر�ض من البداية ،لكنها
�أخفت ذلك على جليلة ،كانت تريد منحها � َّأي �أمل ولو �ضعيف ًا يجعلها تتم�سك
باحلياة ،حتى ولو كان �أم ًال زائف ًا ،فهي تعي�ش نف�س الكابو�س ،ورمبا لوال نف�س
الأمل البعيد الذي مت حقنها به لكانت حلقت بفتاتها منذ زمن وتخل�صت من
البقية املتبقية منها.
انحنت «رجاء» وهي مت�سح على ذراع «جليلة» برحمة ،وهي تهم�س لها
با�صطحاب �ضيفها �إىل اخلارج لترتكها ترتاح قلي ًال.
م�ست م�سامعها فنه�ض على الفور وهو يرى �إمياءة «جليلة» هم�ستها َّ
باملوافقة بينما عيناها ال تفارقانه ،ان�سحب من الغرفة عائد ًا بظهره �إىل
اخللف نحو الباب وقد �أ َب ْت عيناه �إال وداع ًا �أخري ًا.
وعندما خرج �إىل ال�صالة املواجهة لباب ال�شقة وقف م�ستند ًا �إىل اجلدار
مت�أم ًال يف ال�صورة امل� َّؤطرة املعلقة هناك وحيدة ٍ
لطفل ينظر �إىل م�ص ِّوره
ويبت�سم بوقا ٍر ال يتنا�سب مع �سنواته القليلة�َ ،شعره َّ
مهذب وم�ص َّف ٌف على جانب
واحد.
نظراته كلها �أمل ورجاء يف م�ستقبل حامل ينتظره ،فقط لو كانا تركاه
ليحيا .
مل ت�س�أل عن ا�سم الفتى ولو حتى ملرة واحدة .
انزلقت يده التي كانت ت�ستند �إىل اجلدار ملتفت ًا �إليها بحزن قائ ًال:
لن ي�شكل ذلك فارق ًا كبري ًا ،يف كل الأحوال هو طفل �ضعيف ..وهذا هو
كل ذنبه مثله مثل �سلمى متام ًا.
ا�ستندت �إىل احلائط بكتفها وقد عربت نظراتها الكئيبة من خالله بعيد ًا
�إىل حيث غبار تذروه الرياح فوق �أر�ض ي�ضم باطنها رفات فتاتها الوحيدة،
وبجوارها د َّق ْت لوح ًا خ�شبي ًا لت�صلب نف�سها فوقه ،بينما غبار القرب يعلو؛
ليعمي عينيها وت�صم رياحه �أذنيها .
�أنا َمن قتلتها يا ح�سن ..لو كنت ا�ستمعتُ �إليها كل �صباح ببع�ض
االهتمام وهي ت�شكو ..فقط ببع�ض االهتمام ..لو كنت �صدقتها وهي
حتكي يل عن م�ضايقات رمزي لها ..فقط لو كنت �صدقتها.
ا�ستند هو الآخر بكتفه على نف�س اجلدار عاقد ًا ذراعيه فوق �صدره قائ ًال:
زلت جتلدين نف�سك يا خالة.
ما ِ
لو كانا تبادال �أطراف هذا احلديث منذ ثالث �سنوات لكانت قد انهارت
جف دمعها كلما �أرادت �أن تبكي باكية يف تلك اللحظة ،ولكن الآن بعد �أن َّ
ن�ضب ،ومل يعد متبق َّي ًا لديها �سوى ٍ
�سوط جتلد جتد ر�صيدها من الدموع قد َ
به روحها .
كنتُ �أ�سخر منها بداخل نف�سي وهي حتكي يل عن ال�شاب الذي يغازلها
و�أقولَ :من ذلك الأحمق الذي �سيرتك كل زميالتها وينظر �إليها هي
بعرجتها تلك؟ ! ..كانت تالحظ نظراتي ال�ساخرة وت�صمت ..ت�صمت
..وت�صمت ..حتى جاء اليوم الذي �صمتت فيه �إىل الأبد ُّ � ..أي � ٍّأم �أنا؟
� ..أ�سهر يف عملي يف امل�صحة لرعاية غريها ،بينما �أتركها هي لتعود يف
الظالم وحيدة ظن ًا مني �أال �أحد �سيعريها اهتمامه � ..أنا مل �أ�ستحقها
فا�سرتد اهلل وديعته.
حرر «ح�سن» ذراعيه ،واعتدل يف وقفته وهو ي�شعر بها تن�سحب �إىل عامل
موازٍ ال رجعة منه ،كل �سكانه قد �صلبوا �أنف�سهم بعذاب �ضمائرهم ثم قال
بجدِّ َّية:
منحت فتا ًة �أخرى ما كانت حتتاجه من رعاية �أثناء مر�ضها� ..أم
ِ لقد
ن�سيت �أ َّن ِك �أ َّول َمن جل�أتُ �إليه عندما �سقطت غفران فاقدة للوعي بني
ِ
يدي .
باهلل عليك يا ح�سن � ..أي رعاية هذه و�أنا �أتركها معك وحيدة و�أن�صرف
مكتفية بوخزة �إبرة ون�صيحة؟ .
و� َأمل ..وما فعل ِته من �أجلها ؟!
واحد ،ف�أجابت على
�س�ؤاله كان يجمع بني التخفيف عنها والف�ضول يف � ٍآن ٍ
الفور وقد اكت�سى وجهها بقناع �سميك ا�ستحال عليه �سرب �أغواره .
من الأف�ضل لك �أال ت�س�أل عنها جمدد ًا .
كانت حا�سمة ي�شوب نربة �صوتها الغمو�ض احلزين ولكنها رفعت من وترية
ف�ضوله الذي مل يتح َّل به يوم ًا وقال بجدية:
خالة رجاء� ،أنا ل�ست قات ًال م�أجور ًا؛ ليكون َّ
علي ال�سمع والطاعة دون
فهم .
رفعت نظراتها �إليه بقوة جتابهه بها قائلة:
�أنت مل ت�شارك يف �شىءٍ يخ�صها ،فلماذا تريد �أن تعرف ؟.
أنك متورطة يف الأمر .
ل ِ
زفرت مت�أففة � ..إ َّنها لي�ست املرة الأوىل التي يقوم فيها بال�ضغط عليها؛
عام حتديد ًا كان يريد �أن يعرف َمن
ليعرف �أمور ًا قد ت�ؤذيه ،يف البداية ومنذ ٍ
الذي يقوم بدفع تلك الأموال الطائلة لتمرير الهاتف له داخل حمب�سه؟.
َومن الذي �أر�سل �إليه دفعة مالية كبرية بعد خروجه من ال�سجن مبا�شرة
عن طريقها؛ لي�ستطيع تنفيذ بقية االتفاق ويبحث عن «رمزي»؟.
�أما الآن وبعد �أن قام بت�سليم نف�سه لل�شرطة متوهم ًا �أنه قد مت القب�ض
عليها بتهمة قتل «رمزي» ثم ع ِلم بعد ذلك �أن التهمة كانت بجرمية قتل �أخرى،
فتيقن �أن هناك �آخر يدير كل هذا من وراء ال�ستار ،ورجاء هي حلقة الو�صل
بينهما.
ما تخ�شاه لن يحدث ..فـ عا�صم قد واجهني بتلك املمر�ضة التي و�صفت
مالحمي والنتيجة �أنني �أقف الآن �أمامك كما ترى ..ال �شىء يدينني
على الإطالق ..من ف�ضلك �أريد �أن �أطمئن على غفران .
�إنها تدفع �أ�شرعة احلوار �إىل اجتاه �آخر ،ومعنى هذا �أنَّ العوا�صف يف
االجتاه الذي يريد ال�سري فيه ال حتمد عقباها ،فليكن ما تريده ..ولكنه لن
يلبث �أن يعود �إىل اجتاهه الأول ..يف وقت الحق.
للحظات؛ ليهد�أ ،ما كان لي�ضحي بعائلته اجلديدة ويفقدها
ٍ �أغم�ض عينيه
بهذه ال�سهولة ,احلاجة «جليلة» واخلالة «رجاء» وم�ساعده املخل�ص «كرمي»
و�أخري ًا « ..غفران».
تلك التي عر�ض عليها الزواج �أثناء هذيانها املتكرر ،بينما �أبدت هي
موافقتها عندما وقفت �أمام النيابة؛ لتدافع عنه مدعية �أنها خطيبته ومل يقم
بخطفها.
�س�أتزوجها ..ولكن بعد �أن �أ�شرح لها كل �شىء �أو ًال.
ا�صرب قلي ًال يا ح�سن ..فالفتاة ال زالت تعاين �صدمة وفاة �أبيها ،وما
�أ�صاب والدتها من �أمرا�ض � ..أريد �أن �ألقاها و�أحتدث �إليها ..ثم �إىل
والدتها ..وقتها �ستكون يف حاجة �إىل معاملة نف�سية خا�صة بدونها
كزوج البنتها .
�سرتف�ضك بالت�أكيد ٍ
جديد حتيا
لهدف ٍ ابت�سم ب�إرهاق ,فاخلالة «رجاء» ال �إرادي ًا جتهز نف�سها ٍ
من �أجله ،تنه�ض كل �صباح لتحقيقه ،ال تتناول طعامها �إال لتتقوى عليه ،رمبا
هو َمن منحها هذا الهدف وهو ال يدري مبناداته لها باخلالة مرار ًا وتكرار ًا
فاعتربت نف�سها خالته بالفعل ،واخلالة يف عرفنا �أ ُّمه البديلة ،وهي و�إن ف�شلت
يف �أمومتها لفقيدتها «�سلمى» ،فلن تف�شل هذه املرة مع « ح�سن» .
لقد تعبت من النظر �إىل اجلدران البي�ضاء يف املمر الطويل ذهاب ًا و�إياب ًا،
ومن ،فكيف نتوقع �أن تكون �سهلة و�إذا كنا نعرف �أنَّ احلياة اختبارات ِ َ
وب�سيطة ؟!.
y
أيام م َّر ْت وهو يعمل على جتهيز املخزن البعيد لي�صري ور�شته ثالثة � ٍ
اجلديدة ،يبد�أ فيها حياته اجلديدة بعيد ًا عن احلي القدمي ،ن َعم ..هي يف
منطقة متطرفة قلي ًال ولكن طريق ال�سيارات ال�سريع قريب جد ًا منه بخالف
تلك ال�سيارات الفارهة التي كانت تده�س �إطاراتها احلي ال�شعبي القدمي من
�أجل مهارته و�أمانته اللتني ا�شتهر بهما ،ف�ستتوغل هناك �أي�ض ًا يف هذا الرتاب؛
لت�صل �إليه كما فعلت من قبل ال حمالة ،خ�صو�ص ًا و�أنَّ عالقته التي �أن�ش�أها
مع م�أمور ال�سجن ال زالت قائمة والرجل ق َّدم �إليه وعود ًا ب�أن ير�سل �إليه كل
معارفه الذين يحتاجونه .
طرق بقوة على احللقة احلديدة املثبتة بجوار فرا�ش �أ�سريته ال�صغرية
ليك�سرها ،فهو ال يريد لها �أن تراها عند عودتها لزيارته ،ال يريدها �أن تتذكر
تلك الأيام وقتما كانت حبي�سة بالداخل.
مل يكن يعلم �أنها �أحب الأيام �إليها ورمبا �أي�ض ًا �ستحزن عندما تزوره ،فال
جتد قيدها الذي �أحبته ،لكنها لن ت�س�أله عنه يوم ًا برغم �شوقها �إليه .
ارتفع رنني هاتفه فرتك ما بيده على الفور ،عندما ع ِلم �أن «رجاء» تنتظره
ليذهبا �سو َّي ًا لر�ؤية «غفران» ،تلك الزيارة التي ت�أخرت كثري ًا.
بعيون
لقد كان ي�ستعد ملواجهة ما�ضيه كله ،ما�ضيه الذي ينظر �إليه الآن ٍ
خمتلفة ،الور�شة التي يتم �إعادة تدويرها من مالكها اجلديد؛ لت�صري مقهى
كبري ًا يت�صدر احلي ،بينما ال�شجرة هناك ما زالت كما هي مال�صقة لها
ل�شخ�ص �آخر وقب�ض الثمن
ٍ ب�أوراقها الكثيفة املتدلية� ،صفوان باع كل �شىء
وهرب من مواجهته ،هرب من مواجهته ومن احلي ب�أكمله .
التفت نحو «رجاء» التي كانت تقف بجواره وكما توقع متام ًا ،عيناها كانتا
مثبتتني �أ�سفل �شجرتهما ال�شاهدة على �أحزانهما .
خالة رجاء ؟
تنف�ست بعمق ..فجاء تنف�سها �سريع ًا متقطع ًا ك َمن ي�شهق طلب ًا للهواء بعد
نفاده من رئتيه ثم �أ�سبلت �أهدابها؛ لتلملم �شتات عقلها ،فقال على الفور وهو
ي�شري �إىل االجتاه امل�ؤدي �إىل منزل غفران :
هل نذهب؟ .
�أوم�أت بابت�سامة مبتورة وخطت للأمام ب�أنفا�س م�سروقة نحو الطريق
الذي �أ�شار �إليه .
«غفران» كانت تعلم مبوعد الزيارة فا�ستعدت ال�ستقبالهما ،لذلك ارتدت
كامل ثيابها وحجابها وجل�ست يف �صمت وهدوء بجوار رجاء على الأريكة ،مل
تكن خجلة بقدر ما كانت تائهة ويف عينيها تدور ع�شرات الت�سا�ؤالت� ،أولهم ..
وماذا بعد ؟!.
يف الأيام املا�ضية اجرتت ذكرياتها وبد�أ حما�سها لكل �شيءٍ يخفت كلما
خفتت الأ�صوات الآتية من النافذة املفتوحة وال�شعور بالوحدة وال�ضياع يل ُّفها،
�صارت �أر�ض ًا خ�صيبة جلذور الأفكار الكئيبة ،فتاة وحيدة بال عمل ،بال
م�ؤهالت درا�سية ،و�أم مري�ضة عيناها تتهمانها دائم ًا ب�أنها ال�سبب يف كل ما
جرى ..وبال ح�سن !!
«ح�سن» الذي اختفى ومل ت�سمع عنه �سوى القليل من الأخبار التي نقلها
«كرمي» �إليها �صباح ًا وو�صية منه ب�أن تعتني بنف�سها حتى ي�أتي بنف�سه .
و�أخري ًا جاء ..مت�أخر ًا ن َعم ..ولكن يكفي �أنه ح�ضر .
جاء ب�صحبة اخلالة التي ال تعرف كيف تبت�سم لها وهي يف احلقيقة �شقيقة
املجرم الذي قتل ابنتها؟ ،يالها من عالقات مت�شابكة ومعقدة وغري منطقية
على الإطالق!.
حالك يا غفران ؟.
كيف ِ
بخ ٍري يا خالة � ..شكر ًا لك.
�إجابتها جاءت هام�سة بينما تناظر رجاء بده�شة متعجبة من رقتها البادية
عليها ،ده�شتها كانت وا�ضحة و�صريحة مما جعل رجاء تبت�سم ،ودون �أن ت�صل
ابت�سامتها �إىل عينيها قالت وهي تربت على كفيها:
ال تتعجبي هكذا ..ف�أنت بالن�سبة يل غفران وفقط دون �أيِّ تعقيدات
�أخرى .
�أوم�أت غفران دون اقتناع حقيقي هام�سة مرة �أخرى :
أ�شكرك على اعتنائك بي يف مر�ضي .
� ِ
قالتها وهي تناظر «ح�سن» اجلال�س على مقعد منفرد ير ُقب كل خلجاتها
ترجف م�ستطردة:
بينما هي ُ
ح�سن �أخربين �أ َّن ِك � ِ
أنت َمن اعتنى بي عندما فقدت وعيي يف املخزن .
رفعت «رجاء» حاجبيها بتلقائية وهي تقول بو ٍّد ال ت َّدعيه:
أنت تقريب ًا يف عمر ابنتي -رحمها اهلل ..-تكربينها
ال داعي لل�شكر ..ف� ِ
واحد.
بعام ٍٍ
فركت «غفران» كفيها بتوتر واحتقنت عيناها بالدموع قائلة بنربة مو�شكة
على البكاء :
�آ�سفة يا خالة ..ف�أنا �سبب كل ما جرى ..لقد خرج من البيت ب�سببي..
والتحق بور�شة ح�سن ب�سببي ..ور�آها هناك ب�سببي ..كل �شيء كان
ب�سببي .
غمرت الدموع وجهها مطرقة بر�أ�سها نحو كفيها اللتني تعت�صران بع�ضهما
البع�ض ،ت ُز ُّم �شفتيها ويتغ�ضن �أ�سفل ذقنها وهي حتاول �أن متنع بكاءها احلار
و�شهقاتها املرتفعة التي انفلتت منها رغم ًا عنها.
حترك «ح�سن» يف مقعده قلق ًا عليها م�ستند ًا �إىل ذراعه هاتف ًا بينما هو
يناظر رجاء برجاء:
اهد�أي يا غفران ..اهد�أي .
�أ�شارت «رجاء» �إليه بيدها �أنَّ عليه هو �أن يهد�أ �أو ًال ،ثم التفتت نحو
«غفران» وهي تتناول كفيها لتفك ا�شتباكهما وهي حتني جذعها نحوها
مقرتبة منها وتقول بجدية :
عليك مثلها متام ًا يا غفران ..لقد ِ
قمت بالت�صرف جمني ِ
ٌّ أنت
� ِ
ال�صحيح كما علمت الق�صة كاملة من ح�سن .
ان�سكب ماء عيونها �أكرث بال توقف وارتفعت وترية ن�شيجها فلم تعد تتحكم
ب�أي �شيءٍ فيها وال حتى تنف�سها� ،ضغطت �أ�صابعها التي تت�شابك مع �أ�صابع
رجاء التي مازالت مت�سك بها هاتفة:
لك لقد خرج �إىل الطريق �أنا مل �أطرده ومل يفعل �أبي ذلك � ..أُق�سم ِ
ب�إرادته ..ومل ي ُعد حتى بعد �أن ع ِلم بتكذيب �أبي يل و�أنه كرهني لأجله .
خربتها الطويلة يف امل�صحة النف�سية تخربها �أنَّ الفتاة تقف على حافة
الهاوية ،فعمرها �صغري وخربتها م�ضمحلة ،ويقتلها لفظ والديها لها دون
�أن ترتكب جرمية � ..إح�سا�سها بالذنب جتاه اجلميع و�أولهم «�سلمى» يخنقها
و َيق ِب ُ�ض على عنقها� ،إ َّنها تكره ذاتها كما مل تفعل من قبل وال بد من �إنقاذ
�سريع لها ،ومن ُح�سن قدرها �أنَّ �إ�سعافتها اخلا�صة متواجدة بجوارها ،امر�أة
تتحرك ب�أُمومتها اجلريحة ومبهنية عالية .
قب�ضت رجاء على كفيها �أكرث لتدعمها ونظرت داخل عينيها بقوة مانحة
�إياها كل الدعم املمكن قائلة:
والدك مل يكرهك يوم ًا والدليل على هذا � ..أ َّنه كان من املمكن �أن يعقد
ِ
منك على الفور وليخر�سه
قرانك على �أنور برهان يف الت ِّو؛ ليتخل�ص ِ
باخلطبة ..
�إىل الأبد ..ولكنه على عك�س ذلك ظل مياطل واكتفى ِ
و�أظنُّ ب�أ َّنه كان ينتظر احلكم النهائي حتى ينهيها بال رجعة.
نظرت لها «غفران» بت�شتت ،لقد بعرثت �أفكارها وتالعبت بها يف حلظة
ومل تتوقف عند هذا احلد بل �أردفت متابعة بنف�س القوة والثقة.
يحبك ..ولكنه كان �أ�سري ًا لرمزي ..مري�ض به ..هو ووالدتك
لقد كان ِ
...وبع�ض الأمرا�ض تكون م�ستع�صية ..وخبيثة .
بد ًال من �أن يخفت �صوت بكائها ارتفع �أكرث ،ج�سدها يخت�ض ،ظهرها
طر َقة الر�أ�س ،دموعها مت�ساقطة فوق الأ ُكف املت�شابكة.
ُم ْن َح ٍن و ُم ِ
وتعاطف
ٍ �شديد
بامتنان ٍ
ٍ تبادلت «رجاء» النظرات مع «ح�سن» الناظر لها
واحد ،لقد غلب حنانها و�ضمريها احلي كرهها لهذا ال�شخ�ص املقيت يف � ٍآن ٍ
هو وابنه املدلل ،فابت�سمت له رجاء على الفور لتخربه �أنها بخري وال تعاين كما
يظن ،فالرحمة ال يجب �أن تكون حمل ده�شة �أو امتنان.
حلظات وبد�أ البكاء يتحول �إىل �شهقات خفي�ضة متقطعة ويعود �إىل مداره
الأول وقد ا�ستنفذت كل طاقتها ودموعها ،تف�سري «رجاء» �أر�ضاها ومنحها
خمرج ًا نحو � َأم ٍل يراودها � ..أن تكون حمبوبة من عائلتها مثل بقية الفتيات.
التقبل من الآخرين هو احلرب ال�ضرو�س التي يخو�ضها الإن�سان طيلة
ممن حوله ،فكيف َمبن نعي�ش معه ثلث �أعمارنا على الأقل؟ !.
يومه؛ لي�شعر به َّ
و�ضعت «رجاء» �أ�صابعها �أ�سفل ذقنها بعد �أن ا�ستطاعت تخلي�صها من بني
�أ�صابع «غفران» لرتفع ر�أ�سها �إليها وتتالقى �أعينهما جمدد ًا ،وقالت:
وحتى ال تبت�أ�سي فوالدك لي�س وحده الذي كان مينعه مر�ضه اخلبيث
من احتوائه ..ح�سن �أي�ض ًا مثلك يف هذا ال�ش�أن مع �أبيه.
مدفون بداخله ا�ستطاعت �إخراجه ٍ عارم
بغ�ضب ٍٍ التفت «ح�سن» �إليها
بعبارتها تلك ،يحذرها بنظراته من �أن تلعب معه هذه اللعبة ،ولكنها بادلته
النظر بتحدٍّ وهي تتابع حديثها �إىل «غفران» قائلة:
ولكن مع بع�ض الفروق واالختالف � ..أنور برهان كان مر�ضه البخل
فاج�أ مب�س�ؤوليته عن زوج ٍة
ال�شديد يف املال وامل�شاعر ..ومثله عندما ُي َ
حيب�سعا ٍر ويجد نف�سه يحاول الفتك بهما دون �ضمري ٍّ وطفل ي�صاب ُ
ٍ
بداخله يوقظه من تلك الأفعال ..كان يعرف �أن ح�سن ابنه ِومن ُ�صلبه
والدليل على هذا �أ َّنه مل يحاول ولو ملر ٍة واحد ٍة �أن يقيم ق�ضية نفي
ن�سبته �إليه ..وهو بالت�أكيد كان يعلم �أنه ولو مات بهذا الو�ضع ف�سيكون
ح�سن هو وريثه الوحيد ..
خالة رجااااااء .
هتف «ح�سن» بها واقف ًا يقاطع حديثها بينما مقلتاه ت�شتعالن غ�ضب ًا ،بل
ج�سده كله ا�شتعل ولي�س عينيه فقط� ،إنه لي�س «غفران» ليتعلق بالق�شة ,وال
يبحث عن العفو بداخله مثلها؛ لي�ستجيب لب�ضعة �أحاديث نف�سية جتعله �سو َّي ًا
من جديد.
�إنها منطقة ُم َّرمة لديه ولن ي�سمح لأحد �أن يتخطاها ليقوم بتنظيفها
ور�شها مباء الورد.
انقطعت �شهقات «غفران» و�صمتت «رجاء» تفكر وهي تراه ك َمن يقف فوق
اجلمر يد�س كفيه يف جيبه غا�ضب ًا م�شيح ًا بوجهه عنها.
ال�ضو�ضاء املنبعثة من بائع �أ�سطوانات الغاز يف ال�شارع هي فقط التي كانت
تخرتق هذا ال�صمت الذي �أحاط بهم والذي قطعه هو بعد حلظات وهو يتقدم
نحو «غفران» قائ ًال بتجهم:
حقك .
هناك �أ�شياء حدثت يل ال بد �أن تعرفيها ..هذا ِ
كان ينظر �إليها بجمود وك�أنها ال تعنيه مما جعلها ُتزيح دمعها جانب ًا
وتنه�ض لتقف ُقبالته تبحث يف مالحمه عن «ح�سن» الذي كان جال�س ًا باجلوار
منذ دقائق ولكنها مل جتده ،وهو مل ي�ساعدها عندما تف َّوه فج�أة بنربة ال روح
فيها:
حقك �أن تعريف كل �شيء منذ اللحظة التي ُو ِ�ضع فيها الهاتف بيدي
داخل ال�سجن ..ثم ا�ستماعي �إىل �صوت ال�سيدة جليلة من خالله وهي
متنحني حق الق�صا�ص من الذين �أزهقوا روح ولدها ب�صفتها ولية
لك ..ولعلمك ..كان من
الدم ..وحتى خروجي من ال�سجن واختطايف ِ
أقتلك لو ا�ستدعت الظروف.
املمكن �أن � ِ
قال عبارته الأخرية بتجهم �أكرب ك َمن يدفعها بعيد ًا عنه� ،أو الأكرث من
ذلك � ..أن تكرهه .
�صمت ِل َلحظة؛ ليبتلع فيها ُغ َّ�صته ال�شائكة ولي�ستدعي ذكرياته بنف�س
الرتتيب ،ولكنها فاج�أته قائلة:
لقد خدعتك !.
ات�سعت عينا «رجاء» بده�شة وهي تنظر �إليها ب�صدمة ،بينما تابعت
«غفران» حديثها برتدد:
�أنا ادعيت اخلوف عندما �أخربتني عن «في�شة بن نامي�شة» و «زالطة
بن بالطة».
�ضيقت «رجاء» ما بني عينيها متعجبة دون �أن تفهم �شيئ ًا مما قالته «غفران»
الآن� ،أما هو فقد الحت الذكرى يف عينيه رغم ًا عنه ،فان�صهر بع�ض اجلليد
الذي كان يغطي مالحمه وهو مييل بر�أ�سه للأمام قلي ًال بعينني مت�سائلتني،
تابعت هي عادتها يف ت�شبيك �أ�صابعها م�ستطردة:
�شعرت بال�سعادة؛ لأنك قمت بت�أليف تلك احلكاية ال�ساذجة عن
أحظ يوم ًا على
العفاريت ..فقط حتى �أتوقف عن البكاء ..و�أنا مل � َ
أحد لدرجة �أن ي�ؤلف حكاية من �أجلي مهما كان ال�سبب.
اهتمام � ٍ
نبتت ابت�سامة على �شفتيه كما تنبت الزهرة يف ح�ضن ال�صخور قائ ًال:
ال �أملك �سوى تلك الق�ص�ص املخيفة للأ�سف .
زمت �شفتيها بتربم قبل �أن تقول مت�شككة:
�ستنتهي ذات يوم ..و�ستكون هناك حكايات �أخرى .
ملاذا �أ�شعر �أنَّ وجودي غري مرغوب فيه؟!.
قالتها «رجاء» با�ستمتاع؛ لتنبههما بوجودها ،فالتفتا نحوها؛ ليجداها
y
ت�سند ذقنها �إىل قب�ضتها جال�سة كما هي تراقبهما بابت�سامة حانية.
هبطت «رجاء» ال َّد َرج م�ستندة �إىل حافة ال�سور بينما االبت�سامة ذاتها
مازالت ت�سكن �شفتيها خمتلطة بالده�شة كلما �ألقت نظرة نحو «ح�سن» الذي
يهبط ال َّد َرج بجوارها حماو ًال تفادي النظر �إليها ،هو يعلم �أنَّ كل عالمات
الده�شة والتعجب تت�صارع يف ر�أ�سها الآن ،فلقد �شاهدته يف حاالت كثرية
بعد خروجه من ال�سجن غا�ضب ًا ،منتقم ًا� ،ساخر ًا ال يبايل حتى بالقب�ض عليه
وعودته لل�سجن مرة �أخرى ،مغامر ًا حتى رمقه الأخري ،غام�ض ًا منغلق ًا على
�أحزانهِ � ،آ�سف ًا ،نادم ًا مت�أمل ًا على الأرواح الربيئة التي زهقت دون ُجرم ،حنون ًا
كل َمن حتمل لقب � ٍّأم ..وعلى �صديقه «كرمي» . على ِّ
�أما حالة احلب املختلطة بالأبوة امل�سيطرة عليه الآن ,فلم تخطر لها على
بال �أبد ًا.
انتهى ال َّد َرج �سريع ًا ووقفت �أمامه حاملة نف�س النظرة ،فتنحنح وهو يجلي
حنجرته مت�سائ ًال بحرية :
هل كان من ال�صواب �أن �أبوح لها بكل تلك الأ�سرار؟.
ال تخف ..تلك الأ�سرار و�أكرث منها لن تزحزحها عن موافقتها التي
�أعلنتها مرتني � ..أخراهما التي كانت �أمامي منذ حلظات.
د�س كفيه يف بنطاله متنحنح ًا من جديد ناظر ًا �إىل كل �شيء من حولهما َّ
�سواها ،وقال بدفاعية تف َّهمتها:
�أنا � ..أنا �أق�صد فقط خطورة �إف�شاء �أ�سرار كهذه ..فهي مازالت
�صغرية .
عقدت «رجاء» ذراعيها �أمام �صدرها ممازحة وقالت:
ن َعم ..بالكاد �أمتت احلادية والع�شرين .
ثم �صمتت تاركة عينيه تتجول �أعلى ال َّد َرج ثم تفا�صيل البناية دون �أن
ي�صطدم بعينيها حتى �أطلقت تنهيدة مرتفعة قائلة:
غفران متعلقة بك ب�شدة ..الدقائق التي تركتنا فيها وحدنا كانت
كفيلة ب�أن �أرى ما بداخل قلبها الذي تبوح هي مبا فيه بي�سر و�سهولة..
لقد كنت يف ال�سابق بالن�سبة لها جمرد حبيب لفرتة املراهقة ..احتل
عقلها وقلبها وظ َّل خياله م�ستوطن ًا بهما طوال ال�سنوات ال�سابقة � ..أما
الآن فهي تراك بط ًال ُمنقذ ًا ،ت�سعى لتنفيذ العدالة ال�سماوية ..الوح�ش
الذي خطف اجلميلة التي مل تعتقد ب�أنها جميلة يوم ًا ..حتى �أخربها
هو ذات يوم بطريقته اخلا�صة ..حا َف َظ عليها بعد �أن حاول �أن ينه�شها
اجلميع � ..أنت بالن�سبة لها الأمان الذي مل مينحه لها والدها يف بيته ..
حتكها لها �أ ُّمها ذات م�ساء ..فهل تت�صور �أن ترتك
�أنت الق�صة التي مل ِ
كل هذا لأجل مغت�صبني توليت الق�صا�ص منهما !!.
خالة رجاء !
اندفع «كرمي» مقاطع ًا تلك الهالة غري املرئ َّية التي �صنعتها حولهما
بحديثها اخلافت الواثق وكلماتها التي اخرتقت َ�شغاف قلبه وا�ستقرت به
كاجلبال ال�شاخمة تثبت �أركانه.
أيام .
كيف حالك يا كرمي؟ ..مل تت�صل بي منذ ثالثة � ٍ
�آ�سف يا خالة لقد كنت من�شغ ًال ج َّد ًا مع ح�سن يف الور�شة اجلديدة
�صباح ًا ..وبعد الظهر �أُ ِق ُّل خطيبته يف �سيارة �أجرة �إىل والدتها..
و�أنتظرها �أ�سفل امل�شفى حتى �أعود بها مرة �أخرى ..ثم �أذهب �إىل
ح�سن جمدد ًا.
�أنهى عبارته الطويلة بزفر ٍة بائ�س ٍة جعلتها ت�ضحك �ضحكة خفي�ضة انتهت
وهي ت�ستدير بر�أ�سها نحو «ح�سن» الذي كان ُ َي ِّ�سد عنقه من اخللف يف حماولة
للهروب من �س�ؤالها احلتمي املتوقع الذي �أ�صرت �أن ت�س�أله:
ملاذا مل تكن ُت ِقلُّها بنف�سك ؟.
اندفع «كرمي» ثانية جميب ًا بالنيابة عنه.
�إ َّنه يتجنب املجيء هنا وم�شاهدة الور�شة القدمية التي حتولت لقهوة
....
كريـ ـ ــم ..انتهينا.
زجره «ح�سن» لي�صمت فقالت «رجاء» م�ؤنبة:
ال �أعلم ملاذا تتنازل عن حقك يف مرياث والدك؟! .
مل يكن يوم ًا حقي يا خالة .
مل �أعهدك م�ست�سلم ًا هكذا.
زفر بقوة وهو ينظر عالي ًا؛ فقد عاودته ال ُغ َّ�صة ال�شائكة من جديد ،قاتل
ليبتلعها للحظات ،يعلم �أنها �ستفتك ب�صدره �إال �أنه م�ضطر لل�سيطرة عليها،
�إنه وقت ارتداء الأقنعة الباردة الالمبالية ،فنادته جم َّدد ًا بت�صميم هذه املرة،
�أخف�ض ر�أ�سه �إليها ببطء فباتت قراءة مالحمة من امل�ستحيالت وقال:
� ُّأي �شيء يعود �إىل �أنور برهان ال ُ
يخ ُّ�صني على الإطالق ..وال حتى جثته
التي ترقد يف م�شرحة امل�شفى وال جتد َمن يدفنها.
�أنهى كلمته الأخرية مغادر ًا تارك ًا كل �شيء خلفهُ ،مذ ِّكر ًا نف�سه �أنَّ من بني
تلك الأ�سباب التي جتعله ُموقن ًا �أ َّنه من �صلب «�أنور برهان» هذه الق�سوة التي
تغلف قلبه جتاهه.
جعلت رج ًال يرمي بزوجته وابنه �إىل ال�شارع دون �أن يهتم
الق�سوة التي ْ
مب�صريهما �إىل �أين؟ ..هي نف�سها ما جتعله الآن يرمي بكل �شيءٍ يحمل
رائحته ..
مل مير يوم ًا وهو على قيد احلياة �إال وناداه فيه بال َّنغل ،وها قد �آن الآوان
ليكون معه نغ ًال حقيق َّي ًا.
يكفي ..يكفي تلك املحاوالت التي نبذل فيها �أعمارنا لنثبت لهم فقط �أ َّننا
�أُنا�س �صاحلون ..مثاليون ..جيدون كما يريدوننا ,دون �أن نفكر للحظة واحدة
�أنهم لو �أرادونا يوم ًا لتق َّبلونا مبا نحن عليه ,وملا كانوا ليرتكونا على اجلانب
املظلم ويعربوا على �أج�سادنا �إىل اجلانب الآخر ..حيث �أحالمهم التي مل و لن
y
نكون �إحداها على الإطالق !.
مبحاذاة �ساحل قلبها كانت تخطو كل يوم ع�شرات املرات ،بينما وجيبه
احلائر يهدر فوق ر�أ�سها و َي ُ�ص ُّم �أذنيها؛ هل حتبه بالفعل �أم تتوهم؟ ،وبني م ّد
وجزْ ر تلك العالقة املعقدة تتك�سر �أمواج ال�شوق باالكتفاء ،ثم تنح�سر كا�شفة َ
عن تلك االنتعا�شة القلبية وملعة الروح بها وهي تراه يعمل من بعيد ،ي�سبح على
طول خط الوريد ،الهي ًا عن تلك التي هناك ،ال جتر�ؤ على �شيء �سوى �أن تب َّلل
قدميها على ال�شاطئ؛ لت�ستمتع بدفء �شعاع بعيد ،لن يلم�سها يوم ًا� ..أو هكذا
ظنت !.
كان يقرتب منها بينما هي ال متلك �سوى �أن حتملق يف خطواته وتلك الوردة
احلمراء التي �أخربتها �أن الزهر الأبي�ض مل يكن ينتمي �إليه !.
ق َّدمها �إليها ك َمن يعتذر وهو ي�شاركها اجللو�س على الأريكة اخل�شبية نف�سها
داخل حديقة امل�صحة النف�سية قائ ًال :
أ�صبحت بخري
ِ ال �أ�ستطيع �أن �أُب ِق ِ
يك يف امل�صحة بعد الآن ..لقد �
وت�ستطيعني العودة �إىل منزلك .
اليوم ؟
جاء ت�سا�ؤلها مرتبك ًا حائر ًا راف�ض ًا للرحيل� ،إىل َمن �ستخرج؟ ،وكيف
�سرتاه يوم َّي ًا كما كانت تفعل؟.
مل �أ�ستعد بع ُد ملواجهة النا�س يف اخلارج وحدي � ..أنا ل�ست قوية كفاية
ل ـ .....
�أمل !
قاطع بع�صبية خماوفها املُن�سدلة بغزارة على �أحرفها ,ف�صمتت تناظره
مبعانيها النا�ضحة يف عينيها بال توقف حمتجزة خلف ق�ضبان �صمتها ال تقوى
� َّإل على النظر.
نف�س العبارة التي كانت ترددها والدته دوم ًا عندما كان يطالبها ب�أن تطلب
الطالق من زوجها الذي تزوجته بعد وفاة �أبيه ,والذي كان ي�ضربها حتى تتورم
عيناها ,كان «يحيى» ما زال فتى �صغري ًا ال يقدر على حمايتها ,وبالرغم من
ذلك كان يتدخل ويقفز فوق ظهره ي�ضربه على ر�أ�سه ليرتكها ,ولكن �ضعفه مل
يكن لين�صفه ولو ملرة ,فيبيت ليلته مع َّلق ًا من قدمه ر�أ�س ًا على عقب يف �سقف
ال�شرفة حتى ميوت رعب ًا كل حلظة ليتعلم الأدب ولي�أكل الربد من عظامه كما
ي�شاء ,ويظل هكذا حتى قبيل الفجر بقليل ,عندما مت�شي �أمه على �أطراف
بحذ ٍر وهي ترجو من بابها �أن ي�صمت, �أ�صابعها املكدومة ,تفتح باب ال�شرفة َ
ثم جتذبه نحو �صدرها وهي تبكي وتطلب منه � َّأل يتدخل يف املرة القادمة.
مل يفهم �أبد ًا �سر تعلقها بهذا الرجل برغم كل التوح�ش فيه ,هل حتبه؟,
�أم تخ�شى مواجهة املجتمع ك�أرملة ترعى فتى ي ِلج �إىل �سن املراهقة ب�سرعة؟,
فتى انطوى على نف�سه ,وف�صلها عن العامل� ,سد �أذنيه عن �صرخاتها التي ت�أتي
من خارج غرفته ,يجتهد فقط ليدخل اجلامعة ويدر�س الطب النف�سي ..فقط
ليفهمها!!
دكتور يحيى ..
التفت كالهما يف نف�س اللحظة نحو النداء القريب القادم من االجتاه
الآخر الذي انتزع «�أمل» من ت�أ ُّمله ،وانتزعه هو من ذكرياته الأليمة.
نه�ض «يحيى» ال�ستقبال زائره غري املرغوب فيه واملُق ِبل عليه بابت�سامته
مرحب ًا مبالمح منغلقة: الباردة حتى توقف �أمامه مبا�شرة ،فقال «يحيى» ِّ
�أه ًال َ
بك يا عا�صم بيه ..خري؟!
ات�سعت ابت�سامة عا�صم وهو يرفع كال حاجبيه مدعي ًا الده�شة ويقول:
وهل ي�أتي من ورائي �سوى اخلري ..يا دكتور؟!.
نه�ضت «�أمل» من�صرفة على الفور دون �أن تتف َّوه بكلمة بعد �أن �شعرت بتلك
الذبذبات امل�ضطربة بينهما� ،ش َّيعها «عا�صم» بعينيه قبل �أن يعود بهما جم َّدد ًا
نحو «يحيى» قائ ًال:
هل نذهب �إىل حجرة مكتبك �أم نتكلم هنا؟!
مل يكن �س�ؤا ًال مبعناه املفهوم ،لذلك �أ�شار «يحيى» بيده �إىل االجتاه امل�ؤدِّي
�إىل مكتبه وي�سبقه بخطوة واحدة.
جل�س «عا�صم» ب�أريح َّية كبرية م�ستند ًا �إىل ظهر مقعده اجللدي الأ�سود
تارك ًا ذراعه مرتاح ًة على حافة املكتب اخل�شبي الذي يقف يف منت�صف الغرفة
يرقبه عاقد ًا كفيه خلف ظهره ،دار بنظراته يف �أركان احلجرة وك�أنه يدخلها
للمرة الأوىل حتى وقعت عيناه على «يحيى» الواقف بتح ُّفز فات�سعت ابت�سامته
مبرح ال يدعيه وهو ي�شري �إليه ب�أن يرتاح على املقعد املقابل هاتف ًا با�ستفزازٍ :
ٍ
َّ
تف�ضل يا دكتور ..اعترب املكتب مكتبك.
�أنهى عبارته �ضاحك ًا با�ستمتاع عائد ًا بر�أ�سه �إىل اخللف.
تقدم «يحيى» جال�س ًا �أمامه ُمنحني ًا نحو ركب َت ْيه م�ستند ًا �إليهما ِمبرفقيه
قائ ًال:
خري يا ح�ضرة ال�ضابط؟.
اعتدل يف مقعده؛ ليتخذ نف�س و�ضعية «يحيى» متام ًا ،فتالقت نظراتهما
بقوة وندِّ ية ك َمن ي�ستعدان خلو�ض مبارة يف امل�صارعة ،الغلبة فيها لأكرثهم
حت ُّكم ًا وخربةَّ ،ثم قال:
�آخر ما كان يخطر ببايل �أن تكون �أنت حلقتي املفقودة التي �أبحث عنها
منذ زمن ..يا دكتور !!.
تغ�ضن جبني يحيى على الفور ف�سارع «عا�صم» ب َلكمة جديدة قائ ًال: َّ
�آه ..ن�سيت �أن �أُ َ
عزيك يف وفاة زوجتك.
�ضغط «يحيى» �أ�ضرا�سه فتحرك �صدغاه ،واحتقن وجهه بالدماء ،فلمعت
البكة التي اخترب عمقها يتوغل �أكرث بقدميه يف ِ نظرات «عا�صم» �أكرث وبد�أ َّ
�سابق ًا بقدم واحدة ،و�ضع يده يف جيب �سرتته ال�سوداء و�أخرج منها ورقة َّمت
متزيقها من دفرت كبري ،وقال وهو ي ُف ُّ�ض ط َّياتها ببطء:
هناك فائدة يف عدم التخل�ص من الدفاتر القدمية ..مث ًال قد ت�صادف
ا�سم ًا ملري�ضة ذهبت �إىل القتيل يف عيادته وهي تنزف من ج َّراء ٍ
حمل
مبكر مل تكن تعلم بوجوده ..وعندما كادت �أن تفقد وعيها عنده..
حجز لها غرفة العمليات مبكاملة هاتفية وحملها معه �إىل امل�شفى التابع
له وغادر العيادة ب�صحبتها معتذر ًا لبقية احلاالت.
م َّد يده بالورقة �إىل «يحيى» الذي مل يكن يف حاجة �إىل قراءة ذلك اال�سم
ومتييزه من بني جميع الأ�سماء ،قب�ض عليها بداخل راحته حتى كاد �أن
ي�سحقها برغم ُ�سمكها وكرب حجمها� ،صدره يعلو ويهبط وهو يناظر «عا�صم»
ببغ�ض �شديد قائ ًال:
ٍ
ماذا تريد ؟.
اختفت ابت�سامة «عا�صم» تدريج َّي ًا وهو يدر�س الرجل اجلال�س �أمامه
بعناية ،الرجل الذي بد�أ قناع الهدوء والتحكم يذوب من فوق مالحمه ويظهر
�شخ�ص �آخر ..رج ٌل مطعون يف �شرفه وما زال ينزف حتى هذهٌ من خلفه
اللحظة.
�أريد �أن �أخربك �أنه بعد التحريات اخلا�صة حول زائرات العيادة من
ال�سهل جد ًا الربط بني �إحداهن وبينك.
وا�ضح:
هم�س «يحيى» من بني �أ�سنانه امل�ضغوطة با�ضطراب ٍ
زوجتي مل تذهب هناك �سوى م َّر ٍة واحدة ..وقد كانت جته�ض دون
علمها.
�أوم�أ «عا�صم» موافق ًا قبل �أن يعود مثبت ًا نظراته عليه حما�صر ًا �إ َّياه من
جديد م�ستعر�ض ًا لذكائه.
مل يكن من ال�صعب معرفة �أنها �أ�صيبت بعدها بحالة نف�سية ،وف�شلت
�أنت يف عالجها لفرتة طويلة انتهت بانتحارها ..ومل يكن من ال�صعب
�أي�ض ًا معرفة �أنك انغلقت على نف�سك بعد موتها ومل تكن طبيع َّي ًا على
عودتك لعملك الذي مار�سته رغم كل �شيء ..ثم َ الإطالق ..حتى بعد
�صادفتك حالة �أمل ال�شبيهة �إىل حالة زوجتك.
نه�ض «يحيى» مندفع ًا وقد حتولت ب�شرته البي�ضاء �إىل كتلة من الدماء
بينما كفه مل َّ
تتخل عن الورقة امل�سحوقة بداخله� ،أ َّما كفه الأخرى فقد كانت
تتحرك بع�شوائية وانتعا�ش ك َمن يبحث عن �شيء ليقوم بتحطيمه ،تعرق جبينه
ب�شدة هاتف ًا وهو يفقد �سيطرته على ج�سده بالكامل:
للمرة الأخرية يا عا�صم ..ماذا تريد ؟
وقف «عا�صم» �أمامه مبا�شرة يف مواجهته ً
قائل بجدِّ َّية:
�أريد �شيئني ال ثالث لهما ..الأول� :أن تعرف �أن جميع حترياتي تخ�صني
وحدي ،فقد مت �سحب الق�ضية من حتت يدي ومل تعد تخ�صني ب�شيء..
وبالتايل �أنا ل�ست هنا ب�صفة ر�سمية ..والورقة التي بحوزتك ت�ستطيع
�أن متزقها �أو حترقها كيفما ت�شاء� ..أما ال�شيء الثاين الذي �أريده فهو
�أن تخربين مباذا اعرتف لك قبل �أن تقتله؟ !.
مل ي�ستطع «يحيى» �أن يتمالك نف�سه ،بينما «عا�صم» يخرتق عقله وي�سرب
�أغواره م�ستدعي ًا لذكرياته الكئيبة ،فارتفعت يده الأخرى امل�ضطربة وقب�ض
بها على �سرتته مم�سك ًا بتالبيبه �صارخ ًا:
هل تعتقد �أ َّنني �ساذج �إىل هذه الدرجة ؟.
تخل�ص «عا�صم» من قب�ضته وقد �أيقن �أنَّ املواجهة التي ح�ضر من �أجلها
قد حانت حلظتها ،و�أنَّ الواقف �أمامه الآن يرتع�ش كاملحموم قد م َّر بحقيقة
�أذابت كرامته يف �آتون م�شتعل ,وال زالت تفعل.
ويف خفة قام «عا�صم» بنزع �سرتته و�ألقاها بعيد ًا ،ثم �أخرج كل ما يف
جيبيه مبا فيه هاتفه املحمول الذي �أغلقه و�سالحه ،وو�ضعها جميع ًا فوق
املكتبَّ ,ثم تقدم نحوه فاحت ًا َ
ذراع ْيه بحركة م�سرحية مل يق�صدها قائ ًال بثق ٍة:
قم بتفتي�شي كما ت�شاء؛ لتطمئن �أ َّنني ال �أقوم بالت�سجيل لك .
وجه «عا�صم» كان ين�ضح باحلقيقة التي يريدها� ،إنه يريد املعلومة فقط،
ولكن «يحيى» كان قد �أبعد الطبيب قذف ًا �إ َّياه على طول ذراعه ،والذي مل يكن
لرجل متح�ضر ال يعلم �أحد ب�أنه يقوم بتحطيم كله�شة ٍ �سوى واجهة زجاجية َّ
ما تقع عليه عيناه عندما يخلو بنف�سه يف غرفة نومه.
�شهد ْت فرتة نقاهتها بعد �أن عاد بها من ا َمل ْ�شفى وقد
تلك الغرفة التي َ
فقدت جنينها الذي مل يتع َّد حمله ال�شهر الواحد ،وبعد �أن بد�أت تتعافى وتعود
�إىل حياتها الطبيعية ،انتك�ست من جديد دون �أن يفهم ماذا يحدث لها؟ ،هل
هي �صدمة مت�أخرة �أم ماذا؟.
عادت ذات يوم من اخلارج �إىل غرفة نومها ،ووجهها �شاحب �صامتة
م�صدومة ،انغلقت على نف�سها وامتنعت عن الطعام والكالم ومل تخرج منها
�إال على َم ْ�شفى �آخر ِلتُزَ َّود مبغذيات طبية يف حماولة للحفاظ على حياتها.
حتى قررت �إنهاء حياتها بيديها ,ولكن لي�س قبل �أن تر�سل له ر�سالة يف
حلظة احت�ضارها ال�صامتة ،ر�سالة يحفظها عن ظهر قلب:
«�آ�سفة يا يحيى ..مل �أ�ستطع احلفاظ على �شريف و�شرفك ..لكن رغم ًا
ع ِّني �صدقني ..مل �أعلم حتى �أخربتني الفتاة ال�سمراء».
هزة عنيفة �أجربته على العودة �إىل �أر�ض الواقع والنظر يف وجه «عا�صم»
ثانية الذي كان قاب�ض ًا على جمامع �سرتته البي�ضاء اخلا�صة بالأطباء ويهزه
بقوة قائ ًال:
تكلم يا يحيى �أريد �أن �أعرف فقط .
ومبقلتني زائغتني ممتلئتني بالنريان امل�شتعلة ،وبراكني ت�سكنها َم َردة
ال�شياطني التي ال تهد�أ �أبد ًا حتى ت�شعل كل ما تطوله يداها من حولها ،جاء
�صوته من �أعماق اجلحيم قائ ًال:
كان ي�ستغيث طلب ًا للرحمة ..بينما كنت �أ�سلخ جلده و�أحرمه مما كان
كاخلنزير ُيقبل قدمي ويغ�سل حذائي يعتدي به على الن�ساء ..كان ِ
بدموعه وهو يعرتف مبا فعله بزوجتي وبـ « �أمل « ،وهما حتت ت�أثري
يكتف باغت�صابهما فقط ..بل �أراد تعذيبهما ب�ساديته املُخدِّ ر ...ومل ِ
البغي�ضة ف�أر�سل �إليهما بعد ذلك مم ِّر�ضته ال�سمراء؛ لتخربهما مبا
حدث بعد فرتة يت�أ َّكد فيها من طم�س كل الأدلة ..كنت �أنوي قتله فقط
ولكن بعد اعرتافاته ق َّر ْرت �أن �أعامله بنف�س �ساديته التي عاملهما بها
..لقد بد�أ بزوجتي وعندما ماتت ظن �أنَّ كل امر�أة بعدها �ستقتل نف�سها
كما فعلت هي ..ولكن �إرادة اهلل �أبقت �أمل على قيد احلياة و�سا َقتْها
يل؛ لـتَـ ُف َّك بحكايتها �شفرة ر�سالة زوجتي ..و�أفهم.
�إ َّ
واملمر�ضة ال�سمراء يا يحيى ..ماذا فعلت بها ؟.
لقد كانت عاهرة ..خرجت يف ليل ٍة ما ملالقاة �إحدى زبائنها ،ومل تعد
بعد �أن اعرتفت �أنها كانت ت�ستمتع بتعذيب الن�ساء من �ضحاياهما هي
واخلنزير الآخر.
ِ
وملاذا تركت طبيب التخدير ح َّي ًا؟!
منذ �أن علم مبقتل اخلنزير الأول وهو خمتبئ كالكلب ..ميوت كل يوم
�ألف مرة وهو ينتظر موته ..فلم �أ�ش�أ �أن �أرحمه ب�إنهاء حياته �سريع ًا.
لت ذراعه بجواره ،لقد �أغم�ض «عا�صم» عينيه بينما قب�ضته ُ
تخور حتى ته َّد ْ
وجد احللقة املفقودة ولكن مع الأ�سف طع َنتْه يف خا�صرته ،وعلقت هناك تاركة
�إ َّياه م�صاب ًا يف �صحراء احلقيقة التي كان يبحث فيها .
ن�صف احلقيقة عرفها عندما بحث بداخل ال�سجن ،وو�صلته معلومة
الهاتف الذي دفع فيه مبلغ ًا من املال ال ب�أ�س به لي�صل �إىل «ح�سن» ،ذلك املبلغ
الذي ال ت�ستطيع «رجاء» �أو «جليلة» تدبريه.
وها هو ي�صل الآن �إىل الن�صف الآخر منها ،مل يكن «يحيى» جمرد متربع،
لقد دفع ثمن م�ساعدة رجاء له يف الو�صول �إىل الطبيب وحيد ًا يف عيادته.
وها هو الآن بعد �أن اكتملت الدائرة يجد نف�سه وقد تبدلت الأدوار ،فوقف
حائر ًا يف منت�صف الغرفة بينما �صورة «�أروى» ُت ِط ُّل من عقله فج�أة؛ لت�ضعه
�أمام نف�سه كما تفعل دوم ًا.
ماذا لو كانت زوجته �إحدى �ضحاياه وحدث لها كما حدث لزوجة هذا
الظل الذي يقف ُقبالته الآن بنظرات �ضائعة� ،أو كما حدث ل َأمل؟ ..هل كان
�سيذهب ليحرر حم�ضر ًا �أم �سيقت�ص يف الت ِّو بيديه العاريتني؟؟.
جمرد تخيل املوقف جعل الدماء تندفع �إىل عروقه لي�صل �إىل حالة م�شابهة
من حالة االحتقان امل�سيطرة على وجه «يحيى» يف هذه اللحظة ،مل يكن يف
حاجة �إىل كثري من الوقت؛ ليح ِّرك ر�أ�سه نفي ًا متمتم ًا لنف�سه:
y
«ما كنت �ستمتلك رفاهية الوقت يا عا�صم ..كنت �ستفرغ خزانة م�سد�سك
بر�أ�سه يف الت ِّو »
طرقات �سريعة على باب غرفتي و�صلت �إىل م�سامعي وجعلت �أ�صابعي
تتوقف عن الكتابة فوق لوحة املفاتيحُ ،ف ِت َح الباب واندفعت «رجاء» تدلف من
خالله ثم تغلقه خلفها.
اقرتبت لت�شاركني اجللو�س على طرف فرا�شي فو�ضعت حا�سوبي جانب ًا؛
لأنظر �إليها يف انتظار �أن تف�صح ع َّما بها ،تن َّف�ست للحظات َّثم قالت م�ضطربة:
املقدم عا�صم هنا � ..إنه يحتجز دكتور يحيى يف مكتبه منذ ن�صف
�ساعة على الأقل.
وما امل�شكلة يف ذلك ؟!
ت�أ َّملتني بده�ش ٍة لدقيقة كاملة بينما �أنامل �أكن متعجلة لأعرف الإجابة،
ملعرفتي بها .
اقرتبت م ِّني قلي ًال حمتفظة بعالمات ده�شتها حتاول قراءة تعابري وجهي
الهادئة ولكنها ف�شلت ،ف�أطرقت للحظة لتعيد ح�ساباتها جم َّدد ًاَّ ،ثم رفعت
ر�أ�سها وقد بدت �أكرث متا�سك ًا وهي تت�ساءل بـ َر ِو َّية.
انتظمت �أخ ًريا على تناول جرعات دوائك دون علمي ؟.
ِ ر�ؤى((( ..هل
((( رؤى :هي بطلة رواية سابقة بعنوان "وقالت يل".
ت�سا�ؤلها جعلني �أبت�سم ،يبدو �أنها ظنت �أ َّنني �أعاين الربود الذي يعقب
املداومة على تناول تلك الأقرا�ص الدوائية املقيتة ،على الرغم من �أنَّ كل
لدي قدرة على التداوي بدون َمن يعرفني ِمن ُر َّواد هذه امل�صحة يعل ب�أنني َّ
االنتظام عليها �إال على فرتات ,ولن �أفكر يوم ًا يف الت�ضحية ب�أ�شباحي اخلا�صة
لو ت�سبب الدواء ب�شفائي� ،إ َّنها ُملهمتي و�أنا عملي هو الكتابة ،فكيف �أُ َ�ض ِّحي
ببنات �أفكاري من �أجل حياة باردة تخلو منهم؟. ِ
علي اليوم يا رجاء؟!� ..أنا كما �أنا متم ِّردة ..ولن �أغادر هل �ستتعرفني ّ
عمي من اخلارج مكاين هنا حتى تتوقف تكاليف �إقامتي التي ير�سلها ِّ
لرييح �ضمريه املُ َعذب جتاهي � ..أنا ال �أعاين �إحدى حاالت الربود التي
تظ ِّنينها ..كل ما هنالك �أ َّنني مت�أكدة من �أ َّنه ال ميلك � َّأي دليل وا�ضح
يدينكم به ..حتى و�إن ا�ستطاع ا�ستنتاج امل�صلحة بينكما.
�شخ�ص غريي كان �سيظنُّ �أ َّنها تخ�شى على نف�سها من عواقب معرفة
«عا�صم» باحلقيقة ولك َّنني �أعلم جيد ًا �أنَّ كل ما تخ�شاه وجتعلها ت�ضطرب
هكذا هو خوفها على م�صري «يحيى و جليلة و�أمل وح�سن وغفران» ،وكان
على �أن �أطمئنها على عائلتها اجلديدة. لزام ًا َّ
ال تن�سي �أنَّ دكتور يحيى يتق�صى بطريقته عن �سري التحقيق يف الق�ضية
أخربك ب�أن «عا�صم» مل يعد م�س�ؤو ًال عنها ..بل ومت �صدور قرار
و�أ َّنه � ِ
بنقله �إىل ال�صعيد.
م�ض�ض� ،صمتت كثري ًا غري
ٍ �شعرت ب�أنها تبتلع كلماتي وك�أنها دوا ٌء على
مقتنعة مبا ت�سمع ،ال زالت ال�شكوك تراودها.
ح َّرك الهواء �ستائر الغرفة البي�ضاء ف�سمعتها تتنف�س بعمق �شديد ثم زفرت
ببطء متمتمة:
�أنت م�ؤخر ًا �صرت تت�أ َّففني من زياراته دون �سبب ..ثم كتاب ماذا
الذي تتحدثني عنه ؟.
مل �أكن على ا�ستعداد ملناق�شة اجلزء الثاين من ال�س�ؤال لذلك �سمحت لها
فقط باخلو�ض يف الأول كما ت�شاء بالإ�ضافة �إىل �أ َّنني مل يكن َّ
لدي مانع من
م�شاركة م�شاعري جتاه ه�شام يف تلك اللحظة.
�أ�شعر ب�أنَّ حياته متوقفة من �أجلي يا رجاء ..ابنتاه يف حاجة لأم بديلة
حقيقية بعد وفاة والدتهما ،و�أنا ال �أ�صلح للقيام بهذا الدور.
مل �أ�ش�أ �أن �ألتفت يف تلك اللحظة �إىل �سقف الغرفة �أعلى ال�ستائر ف�أنا علي
يقني �أن هالة جتل�س هناك تنظر يل نظرات متل�ؤها اخليبة واخلزي.
�شعرت بلم�سة على قدمي ،ف�أدرت وجهي جتاه «رجاء» التي كانت تربت
عليها قائلة:
تر َّيثي قلي ًال ،ف�أنا �أراه قادر ًا على تدبري �أموره مع والدته وينتظر قرار
صرب.
عودتك ب� ٍ
ر�أيها يف زوجي لن يتغري �أبد ًا رغم اختالف �شخ�صيتها التي كانت عليها,
فمنذ عام فقط كانت منغلقة متوت احلياة على �أعتابها قبل �أن تفكر يف الولوج
ه�شة وقابلة للك�سر ب�سهولة رغم قناع اجلمود التي كانت ترتديه دوم ًا
�إليهاَّ ،
مع �سرتة التمري�ض.
لكنني ا�ستطعت العبور ،و�صلت �إليها يف عقر دارها دون �أن �أبذل جهد ًا
يذكر ،فقط حد َّثتُها عن والدتي املتوفاة فقلت لها� :إ َّنها كانت تكرهني ب�شدة
وتنعتني دوم ًا بالدميمة ،لذلك قتلتها �أو كما يقول دكتور يحيى ،وذلك الذي
تفحمت.
كان يعاجلني من قبله �أنني فقط تركتها حترتق حتى َّ
لقد �ضغطت على نقطة �أ�صبحت ح�سا�سة للغاية لديها منذ موت ابنتها,
ولقد علمتُ َ
بذلك عندما بد�أت حتكي يل عن وفاة «�سلمى» وكيف �أ َّنها �أهملتها
فكانت �سبب ًا يف مقتلها؟.
فهمت من حديثها �أنَّ ما ي�ؤملها ح َّق ًا هو عدم َب ْوحها يوم ًا ل�صغريتها مبدى
حبها ،لقد كانت تراها فقط جمرد مراهقة تبالغ يف كل ما يحدث لها وتتعامل
معها على هذا الأ�سا�س ،مل تق�صد �أبد ًا �أن ت�سخر من قلة جمالها �أو عرجة
قدمها.
لذلك ا�ستماتت «رجاء» يف الدفاع عن والدتي ،وعن حبها املزعوم يل الذي
دفن رغم ًا عنها يف املقربة مع جثة �أبي -رحمه اهلل .-
م�سكينة هي ..مل تكن تعلم �أنَّ � ِّأمي املجنونة املتفحمة كانت تقف خلفها
تنظر يل بعينني يتطاير منهما ال�شرر ك�شياطني اجلحيم ،تنفي كل كلمة تخرج
من فمها .
تقاربنا �أنا و «رجاء» وباتت �صداقتنا قوية ال �أ�سرار فيها ..كما ظ َّن ْت
هي! ،وبد�أت ت�ساعدين يف االقرتاب من «�أمل» ومعرفة حكايتها وهي منده�شة
كيف يطلب مني دكتور «يحيى» �أن �أفعل هذا� ،إال �أنها ان�صاعت يف النهاية �إىل
طلبه؟.
لن �أن�سى �أبد ًا ال�صدمة التي �أملَّت به وهو ي�ستمع �إىل وقتها عندما و�صلت
من احلكاية �إىل نقطة املمر�ضة ال�سمراء من ق�صة» �أمل» ،بدا م�ش َّو�ش ًا لبعدها
بدقائق حتى انتهيت من الق�صة .
ثم بد�أ يتمتم مذهو ًال بينما عيناه ت�شتعالن غ�ضب ًا «�إذن فلقد كان هو ..هو
نف�سه َمن اعتدى على زوجتي ..وبنف�س الطريقة التي جعلتها تنهي حياتها».
يوجه كلماته نحوي ..لقد كان ينظر �إىل الفراغ ويهذي «لقد بحثت
مل يكن ِّ
يف كل �شيء ..كل ورقة ..كل ركن يف املنزل ..كل مكان ذهبت �إليه ..كل
�شخ�ص تعاملت معه ..كيف مل �أفهم �أنَّ املجرم الذي �أبحث عنه هو نف�سه
الطبيب؟».
مل �أفهم ماذا حدث له بعدها ,فلقد احتقن وجهه ب�شدة ثم �سقط �أر�ض ًا
ُم ِ�سك ًا مب�ؤخرة ر�أ�سه بينما �أنفه كان ينزف وج�سده كان يرتع�ش ،مل يكن
فاقد ًا للوعي ويف نف�س الوقت مل ي�شعر َمبن حوله .
�أخربتني «رجاء» بعدها بت�شخي�ص الأطباء ,لقد تع َّر�ض ل�ضغط نف�سي
�شديد تبعه بع�ض الأعرا�ض اجل�سدية املتقدمة امل�صاحبة ملر�ض ارتفاع �ضغط
الدم .
مما فهمته
مما حدث له وت�س�ألني :ملاذا ؟ ف�أخربتها َّ
كانت «رجاء» يف حرية َّ
من هَ ْمهماته فانفع َل ْت ب�شدة ،وب َك ْت من �أجله من�سحبة من الغرفة .
حتى جاء ذلك اليوم الذي �س�ألتها فيه «ملاذا مل تفكري يف االنتقام من
قاتل ابنتك ؟ ملاذا تهملني ح َّقها يف الق�صا�ص من قاتلها كما �أهملتها وهي على
قيد احلياة».
مل جتبني ..نظرت يل ب�أمل ك�أنني طعنتها يف قلبها وغادرت واختفت بعدها
لثالثة �أيام ،ثم ظهرت فج�أة بوجه ُمتلف غري الذي عهدته عليها لت�س�ألني
بنربة غريبة «كيف نفعل ذلك» ؟
لدي من �أفكار ومعلومات كان من واجبي حينها �أن �أرمي حتت قدميها َّ
كل ما َّ
كانت تعلمها ،ولكنها مل تفكر يوم ًا ب�أن ت�ستفيد منها ،فاجلميع كان يعلم بعودة
دكتور «يحيى» للم�صحة ومزاولته للعمل بعد انقطاع ,ولكنه يف الوقت ذاته كان
غريب الأطوار يظهر عليه اال�ضطراب �أحيان ًا.
حتى �أنه مل ي�ستطع �أن ي�شخ�ص حالة «�أمل» النف�سية والتي كانت وا�ضحة
للعيان ،بل والأكرث من ذلك �أنه جل�أ ملري�ضة �أخرى لتفهم ق�صتها وتنقلها له
يف �سرية تامة.
ثم ما حدث له بعد �أن ا�ستطاع الربط بني ما حدث لـ«�أمل» وزوجته ،لي�س
ذلك فح�سب بل عا�ش امل�أ�ساة كاملة بكل تفا�صيلها يف كلمات «�أمل» وك�أن
زوجته قد ُبعثت من جديد واعرتفت له بالعذاب الذي كان يطحنها ويدفعها
لالنتحار.
بكل َمن حوله لأ�سبوع كامل ،وعندما ا�ستفاق وجد لقد ظل فاقد ًا لل�شعور ِّ
«رجاء» تنتظره لتحمل له كل خطط االنتقام التي اتفقنا عليها ،و�أولها �أهمية
�أن ينتظر خروج «ح�سن» من حمب�سه ،ثم يبد�أ هو بتنفيذ انتقامه.
هذا الوقت �ضروري ج َّد ًا لإبعاد «�أمل» عن دائرة ال�شبهات وللتمويه
في�صعب �إيجاد الرابط بينهم.
الفكرة �أعجبته ،و�أنع�شت الرجل امليت بداخله ,ولكنه �أراد �أن ي�ضيف
فكانت هناك عبارة «..ر ّد �شرف» ..التي ن َق�شها «ح�سن» على
ْ َن ْك َهته اخلا�صة
جثتي «�شاهني و�سيد» ,والتي نق�شها هو بيده على جثة الطبيب ،وقد كان من
ال�ضروري �أن تنق�ش �أي�ض ًا على جثة «رمزي» الهارب كما طلبت «رجاء» .
ولكن ولل�سخرية مل َي َنل «رمزي» موت ًة درام َّية كالتي كان ي�ستعملها ملواجهة
جميع م�شاكله والتي كان يتقنها على الوجه الأمثل.
تالقى �أربعتهم على مبد�أ واحد جمعهم بعد �أن فرقت الثغرات القانونية
دماء �أحبائهم بني القبائل وح�شرتهم يف عنق الزجاجة .
فلم يجدوا منفذ ًا �سوى تنفيذ العدالة ب�أيديهم « ..رد �شرف» ..مل تكن
جمرد عبارة تنق�ش على �أج�ساد املجرمني ،كانت دعوة �إىل كل مظلوم ب�أال
يرتك نف�سه للموت قهر ًا ..و�أن الق�صا�ص �سي�أتي ولو بعد حني .
y
هل ُيعقل �أن �أظل ع�شرة �أيام كاملة �أنظر �إىل تلك ال�صفحة البي�ضاء ال
�أ�ستطيع �أن �أكتب فيها ولو حرف ًا واحد ًا؟ ,كتاب كامل طريح نهاية تتوقف على
ردة فعل �شخ�ص واحد!.
ال �أحب ال�شعور بالقلق �أو االحتياج� ,أكره التوا�صل مع الآخرين ب�شكل
مبا�شر وبالرغم من ذلك �أجدين م�ضطرة �إىل احلديث مع تلك احلما�سية
أجن من خلفها � َّأي نفع حتى الآن� ,إنها حتى مل حتاول �شكري على ما
التي مل � ِ
ق َّد ْمته لها!.
التقمت �أ�صابعي الهاتف املغلق دائم ًا بجواري ،ولن�صف �ساعة كاملة �أراود
نف�سي و�أحايلها لترتكني �أجري املكاملة الهاتفية املطلوبة ولكنني ف�شلتُ �أي�ض ًا,
زحزحة الأهرامات الثالثة �أهون على نف�سي من التوا�صل �صوتي ًا مع َمن هم
خارج دائرة ر�ؤيتي اليومية! ,لذلك �أف�ضل مواقع التوا�صل االجتماعية التي
تتيح كل �شيء كتابي ًا ..حلظة! ..كيف مل �أفكر يف هذا الأمر؟.
�أغلقتُ �صفحتي البي�ضاء املثرية لأع�صابي وفتحت موقع التوا�صل وكتبت
لها ر�سالة وانتظرت �أن تراها! ريثما �أحاول ترتيب �أفكاري وفق ًا لِ ا حدث الأيام
الع�شرة املن�صرمة.
لقد تركتني «رجاء» منزعجة عندما ح�ضرت �إحدى املمر�ضات؛ لتخربها
ب�أن الدكتور «يحيى» قد عاودته �أعرا�ض ارتفاع �ضغط الدم ثانية و�سقط �أر�ض ًا
بينما �ضيفه املنزعج الذي كان ي�شاركه غرفة املكتب وقتها ي�ساعد طبيب ًا �آخر
يف حمله �إىل الأريكة.
يف اليوم التايل �أخربتني ب�أن «عا�صم» ظل مالزم ًا لـ «يحيى» حتى مت نقله
�إىل غرفة خا�صة ليتلقى الرعاية والعالج الالزم.
قالت يل� :إ َّنه كان يقف م�ستند ًا �إىل اجلدار البعيد يف الغرفة ينظر له
بنظرة غريبة مل ت�ستطع هي تف�سريها ,بينما الأطباء من حوله يتهام�سون
ب�أن تلك احلالة وا َتتْه من قبل ب�شكل �أكرث خطورة ,و�أنه يظهر عليه عالمات
اال�ضطراب النف�سي ولذلك �سيتم رفع الأمر �إىل �إدارة امل�صحة ,ويف هذه
احلالة �ستتم �إحالته �إىل �أحد الأ�ساتذة الكبار يف جمالهم ليقول كلمته الأخرية
يف �ش�أنه!.
وان�صرف «عا�صم» بعدها ومل يعد ,كنتُ �أظنه �سينتظر حتى ي�سرتد «يحيى»
عافيته ليتحرك ر�سمي ًا وتهتز معه املياه الراكدة ,ولكنه مل يفعل.
�أول �أم�س� ..أعدت «�أمل» حقيبتها لتعود �إىل منزلها ,بينما ح�ضر الدكتور
«يحيى» ليودعنا ,فلقد ح�صل على �إجازة طويلة كما �أم َرتْه �إدارة امل�صحة حتى
يت�أكدوا من �سالمته النف�سية.
ال ..لقد كان يودعني �أنا فقط� ,أما فهي ,فقد كانت تنظر له منذ �أن دخل
الغرفة وك�أنهما على موعد مل يخلفه ,كانت مت�أنقة للغاية ,تطلي �شفتيها بلون
الكريز وتبت�سم لعينيه املت�أملة حلالتها الكرزية تلك.
رمبا تذوقتم الكريز يوم ًا ما� ,أما هو ..فقد �سعى �إليه الكرز بنف�سه ,يتحدث
معه لدقائق كال�ساعات ,ودون �أن يدري؛ �أطعمه ح َّباته ح َّب ًة ح َّبة ..ح َّبة �أمل..
وح َّبة ا�شتياق ..وح َّبة ال توقف فيها وال انتهاء!
وعادت الغرفة يل وحدي� ,أفتح عيني �صباح ًا على وجه «رجاء» املبت�سم ,ثم
�أ�ستمع جمربة �إىل ن�شرة �أخبارها ال�صباحية عن �صحة ال�سيدة «جليلة» التي
بد�أت بالتح�سن ولذلك هي �سعيدة ,وعن «ح�سن» الذي ي�سعى جاهد ًا؛ ليقف
على قدميه من جديد ,و «غفران» التي تق�ضي وقتها بني درا�ستها �صباح ًا التي
عادت �إليها ولكن منزل َّي ًا فقط ,وبني زيارة والدتها بعد الظهرية ..وبني ر�سالة
«ح�سن» الذي ير�سلها لها يوم َّي ًا وقت الغروب ي�شاك�سها دون �أن ي�س�أم منها
« انتبهي ملذاكرتك يا فا�شلة» ..لتجيب هي عليه بنف�س الر�سالة املكررة التي
جتعله يبت�سم؛ وال �أحد غريها قادر على ذلك «تركنا لك النجاح يا ب�شمهند�س».
نغمة رنني� ،إ�شعار و�صول ر�سالة جعلني �أدفع �أفكاري جانب ًا ,لقد قر� ْأت
ر�سالتي وقامت بالرد ,وليتها مل تفعل ,لقد كانت حروف ر�سالتها تن�ضح
باحلرية �أكرث مني بكثري ,فلقد كتبت يل تقول :
وكنت �أو ًالِ � :
أ�شكرك يا ر�ؤى على املعلومات الغزيرة التي قدمتها يلِ ..
حري�صة على �أن �أنقلها لزوجي ..ولكنه ..عاد من اخلارج بعد غياب
النهار ب�أكمله ليخربين ب�أن �أن�سى الق�صة ..واحلقيقة �أنا حائرة من
ردة فعله هذه فهي غريبة عليه.
�صمت و�أنا �أقر�أ ما كتبته مرة بعد مرة,
�صدمتني فلم �أجد ما �أقوله لهاُّ ,
ويبدو �أن �صمتي �أقلقها ف�أر�سلت ترب�أ �ساحة زوجها قائلة:
لك �سابق ًا هي
�أعتقد �أن الهزة التي تعر�ض لها يف عمله كما حكيت ِ
ال�سبب يف حالته تلك ..لقد جعلوه يتعلم در�سه بالطريقة ال�صعبة..
لقد �أ�صبح م�ضطهد ًا يف الوزارة ..و�أنا �ضمريي ي�ؤنبني ب�شدة؛ لأن
التحقيق ال�صحفي الذي قمت بكتابته هو ال�سبب يف كل ما حدث.
بد�أت �أ�ش ُعر بال�س�أم من اجلميع ,لقد توقعت �أن تكون عالقتي بـ «�أروى»
ذات نفع منذ �أن تعرفت عليها ,فهي التي �س َعت �إ َّ
يل بحما�سها املعتاد وهي
مبهورة بتجربتي الفريدة من نوعها كزميلة ملهنتها �أكتب للنا�س من خلف
�أ�سوار م�صحة نف�سية� ,أ�شادت بي كثري ًا وبد�أت ترا�سلني ك�أ�صدقاءَّ ,
فق�صت
علي حكاية �صديقتها «فنار» كنموذج لزوجة ا�ستطاعت العودة بزوجها من َّ
طريق ال�شهوات �إىل الطريق القومي.
مل �أكن �أمنح لها كثري ًا من االهتمام حتى بد�أت حتكي يل عن م�شاكلها مع
«عا�صم» زوجها ال�صارم العا�شق للروتني يف عمله ,ومدى التناق�ض بينهما.
ا�ستطعت �أن �أميزه و�أعرف ب�أنه هو نف�سه الذي تتكلم عنه «رجاء» وت�شرح
يل بحرية التناق�ض بني �شخ�صيته وبني معاملته املختلفة لل�سيدة «جليلة»
وتعاطفه معها.
ولكن مباذا �أفادين كل هذا؟ ,فلقد خذلني «عا�صم» بردة فعله الغريبة
التي كنت �أعتمد على عك�سها متام ًا يف و�ضع النهاية املنا�سبة.
جماعات,
ٍ زفرت حانقة ونه�ضت نحو النافذة �أرقب الطيور املحلقة يف
�سرب من َّم ٌق ل�صورة تزعجني دون �أن �أعرف ال�سبب ,ال �أفهم كيف ي�شعرون
ٌ
بالراحة وهم جمتمعون هكذا؟ ,حتى الطيور ت�ضطهدين جمتمعة �أمام �سماء
نافذتي ,كم �أغبط تلك ال�سحابة الوحيدة هناك!� ,أظنها ت�شعر بخ�صو�صية
�أكرب مما �أ�شعر بها الآن.
ر�ؤى!.
لدي؟ ,الوهم الوحيد
�صوت َّ التفت من فوري ,كيف يل � َّأل �ألتفت وهو � ُّ
أحب ٍ ُّ
الذي ال �أطرده من عقلي ,وال �أناديه بال�شبح حتى �إن ا�ستقرت الأ�سياخ
احلديدية يف عنقه النازفة:
�أبي ..مل ت�أ ِتني منذ مدة طويلة! .
نظر يل م�ؤ ِّنب ًا ,ولكنه مل يتخ َّل عن �صوته احلنون قائ ًال:
ملاذا تلعبني دور ال�شريرة يا ابنتي؟ ..ملاذا تريدين لهم التعا�سة؟!
مل �أطرق بر�أ�سي ,مل �أ�شعر بالندم ولو للحظة ,حتى وهو يقف �أمامي وقفته
ال�ضبابية تلك ,وا�ضع ًا يديه خلف ظهره ،ولونه �شاحب ,حاولت �أن �أقرتب منه
ولكن كالعادة مل �أ�ستطع مل�سه ,يف كل مرة يوقفني وين ِّبهني �إىل �أنه يف عقلي
فقط ,لأرجع مكاين ثانية ,كما فعلت الآن و�أنا �أحاول �أ�شرح له:
�أبي� ..أنا ل�ستُ �شريرة ،وال �أرغب بتعا�ستهم� ..أنا فقط �أرى �أن �سعادتهم
التي يعي�شون فيها الآن ما هي � َّإل �سعادة �شخ�صية زائلة ..نعم �ستزول
ولن يبقى لها �أث ٌر يف وجدان املجتمع� ..أما ما يجعلها خالدة ..فهو
النهاية امل�أ�ساوية ..التي تثري الدماء يف العروق ..التي جتعلنا نفكر!
زم �شفتيه برف�ض لِ ا ي�سمع ,واختفى من �أمامي فج�أة كما ح�ضر فج�أة, َّ
احلنني متلكني و�أنا �أنظر يف �أثر �ضبابه املتال�شي ,وا�ستدرت ثانية نحو ال�سحابة
الوحيدة مل �أجدها ,لقد اختفت مثله متام ًا ،وتركتني �أعاين تلك الأ�سراب التي
تغزو خيوط ال�شفق وتتالعب بها بتلك اخلطوط املنحنية التي ت�صنعها.
حانت مني التفاتة نحو حا�سوبي ال�ساكن هناك ينتظرين� ,س�أنتظر مثله
ولن �أ�ضع النهاية الآن ,ال زال الأمل يراودين يف نهاية خالدة تهز �أرجاء
املجتمع.
الزلت �أعتقد ب�أن احلياة احلقيقية لي�ست هي تلك اللحظات اللطيفة التي
نق�ضيها �أمام جهاز تلفاز جنتمع حوله يف هدوء ,ثم نطفئ الأنوار ونذهب
للنوم..
بل هي تلك التي نق�ضيها بداخل �س َّيارة م�سرع ٍة ن�صرخ من الن�شوة املغ َّلفة
باخلطر واخلوف بينما الهواء ي�ضرب وجوهنا بال رحم ٍة ..حلظاتٌ تقطع
الأنفا�س !.
y
متت بحمد اهلل
y
َ َ ٌ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ َّ ُ َ ْ َ كََْ ُ
اب لعلكم تتقون } ول األل ِ
ِ أ ا ي اة ي ح اص
ِ ص ق
ِ ال فِ م { ول
�إذا ما ا ُ
جلر ُح َر َّم على ف�سـ ــا ٍد
بيب.الط ِ تبي فيـ ــه تفري ـ ُـط َّ
َّ َ
ووقت
جهد ٍخال�ص ال�شكر والتقدير لفريق املراجعة؛ ملا بذلوه من ٍ
أح�سن �صور ٍة قدر امل�ستطاع.
يف �سبيل �إخراج العمل على � ِ
الكاتب الروائي :د � .أحمد ال�سعيد مراد