You are on page 1of 312

‫ولو بعد‬

‫حين‬
‫رواية‬
‫;‬
‫دعاء عبد الرمحن‬
‫إهـــــداء‬

‫انتــ ِز َع ْت بغري ٍّ‬


‫حق‬ ‫�إىل ِّ‬
‫كل تلك الأرواح الربيئة التي ُ‬
‫خرج ْت ومل ت ُع ْد ‪!..‬‬
‫�إىل ع�صافري اجلنَّة التي َ‬
‫احلب �شي ٌء‬
‫جتد َّ‬
‫�أن َ‬
‫يجد َك هو �شي ٌء � ُ‬
‫آخر ‪!..‬‬ ‫و�أن َ‬
‫قد َم ْيها بعد انتهاء عم ِلها يف تلك الور�شة‬ ‫م�ساف ٌة طويل ٌة تقطعها على َ‬
‫املخ�ص�صة حلياكة مالب�س الأطفال‪ ،‬والتي تعمل‬ ‫ال�س َّلم َّ‬
‫ال�صغرية القابعة حتت ُّ‬ ‫َّ‬
‫يوم منها كانت تتو َّقع انهيار ذلك املب َنى القدمي‬ ‫كل ٍ‬ ‫�سنوات‪ ,‬يف ِّ‬
‫ٍ‬ ‫بها منذ ثالث‬
‫املُتها ِلك فوق ر�ؤو�سهنَّ جميع ًا؛ فت َُ�س َّوى الور�شة بالأر�ض‪ ,‬ولكن هذا ال مينعها‬
‫درجات �إىل الأ�سفل‬
‫ٍ‬ ‫من الو�صول لعم ِلها يف املوعد املعتاد‪َّ ،‬ثم هبوط ثالث‬
‫و�صو ًال �إىل ا َملدخل املُمتلىء ب ِق َطع القما�ش املُل َّونة الفائ�ضة من امل�صانع الكبرية‬
‫التي تبيعه لتلك ال ِو َر�ش بالكيلو؛ لت�ص َنع منه مالب�س للأطفال يت ُّم ترويجها يف‬
‫و�ضع عليها عالم ٌة ملارك ٍة م�شهور ٍة‪.‬‬ ‫املتو�سطة َّ‬
‫وال�شعب َّية بعد �أن ُت َ‬ ‫الأحياء ِّ‬
‫اخلا�صة ببيع‬
‫َّ‬ ‫نحنى �آخر‪ ,‬ال�سيارة اخل�شب َّية‬ ‫وت�صل �إىل ُم ً‬ ‫خطو ٌة �أخرى ِ‬
‫خل ْ�ضراوات �صباح ًا مر�صوف ٌة كالعادة حتت نف�س ال ِبناية املُتها ِلكة هناك‪,‬‬ ‫ا َ‬
‫بالطبع؛ فاليوم هو االثنني من �أ َّيام الأ�سبوع‪,‬‬ ‫احلالقة على اليمني ُمغ َل ٌق َّ‬‫حم ُّل ِ‬
‫تتعث‪ ,‬فلقد َح ِف َظت َّ‬
‫الطريق‬ ‫ا�ستعداد �أن ُتغم�ض عي َن ْيها وت�سري دون �أن َّ‬
‫ٍ‬ ‫هي على‬
‫قلب ِّ‬
‫بكل ُمنحنياته‪ ،‬و ِب َر ِك ِه املائية‪ ،‬وحما ِّل ِه املُغ َلقة واملفتوحة‪ ،‬وعدد‬ ‫عن ظهر ٍ‬
‫ِبناياته املُتال�صقة‪ ،‬حتى و�ص َل ْت �إىل املُنحنى املُنتظر الذي اعتا َدت قدماها‬
‫طريق �آخ َر �أكرث �أمن ًا‪ ,‬كما اعتاد قلبها على‬ ‫حتثَّ ال�سري من بدايته �إىل ٍ‬ ‫�أن ُ‬
‫�سرعة �ضرباته هنا حتديد ًا‪ ,‬ال�شارع ال�ضيق يظهر ك�أنه ال ينتهي بف�ضل تلك‬
‫ال�صادرة من عامود الإنارة البائ�س �صاحب الأمعاء ال�سلكية‬ ‫الإ�ضاءة َّ‬
‫ال�ضعيفة َّ‬
‫الظاهرة للعيان فوق ال َّر�صيف املُتها ِلك الأكرث ب�ؤ�س ًا منه‪.‬‬‫َّ‬

‫‪‬‬
‫ُخطو ٌة �أُخرى كانت كافي ًة؛ لت ِ‬
‫ُالحظ ال�شاحنة ال�صغرية الرماد َّية التي‬
‫تعرفها جيد ًا مر�صوف ًة هناك على ُبعد ُخ ٍ‬
‫طوات قليل ٍة‪� ،‬سق ُفها يحمل الأترب َة‬
‫لت�صقة به كاملُعتاد‪.‬‬
‫املُ ِ‬
‫دونَ �إراد ٍة تباط� ْأت ُخطوات «غفران» حتى توق َفت متام ًا عندما اقرت َبت‬
‫لتواجدها هنا يف‬
‫ِ‬ ‫من ال�شاحنة ب َو َج ٍل‪ِ ،‬وذه ُنها م�شغو ٌل يحاول �أن يجد تف�سري ًا‬
‫وخ ُل ّوها من �صاحبها تارك ًا بابها مفتوح ًا؛‬
‫تلك ال�ساعة املُت�أخرة من الليل‪ ,‬بل ُ‬
‫ارتدت خامت ِخ ْطبته‬‫نف�سه يف العمر‪ ,‬والذي َ‬ ‫والدها َ‬‫يكب َ‬ ‫«عري�س الغفلة» الذي ُ‬
‫ثالث‪.‬‬
‫�سنوات ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫منذ‬
‫�أطر َقت بر�أ�سها وهي ُتط ِلق �آه ًة �شارد ًة َك ُ�شرود ا�ستدارتها البطيئة وهي‬
‫ت�ستع ُّد ال�ستكمال طريقها ُمدد ًا‪ ،‬كل �شيءٍ يف حتركاتها ُينبئ ب�أ َّنها يف عا ٍمل‬
‫ال�سبل ت�سلك؟‪ ,‬ك َمن �أو�شك‬ ‫�آخ َر‪ ,‬وك�أ َّنها ت�سري بداخل عق ِلها �أو ًال؛ لتعرف � ُّأي ُّ‬
‫بئر �سحيق ٍة‪ ،‬وال ميلك قرار التوقف �أو الرجوع‪.‬‬ ‫على الوقوع يف ٍ‬
‫�أي ًا كان �سبب �شرودها الآن فهو ال ي�شغل تفكري ذلك ال َّراب�ض يف الزاوية‬
‫خلطة التي ُ‬
‫ا�ضط َّر �إىل ارجتالها بعد �أن‬ ‫املُظ ِلمة القريبة منها‪ ،‬ي�ستع ُّد لتنفيذ ا ُ‬
‫فقد �أ َثر فري�سته الأوىل‪ ،‬لتكون هي ُ‬
‫الطعم الذى �سي ُو�صله �إليه !‪..‬‬
‫طوات حذر ٍة كالفهد بعد �أن ت�أ َّكد من عدم وجود ما َّرة‬ ‫بخ ٍ‬ ‫حت َّرك نحوها ُ‬
‫هنا �أو هناك‪ ,‬وحانت الفر�صة‪ ,‬انق�ضا�ض ٌة واحد ٌة من اخللف كانت كافي ًة؛‬
‫لي�ش َّل حركتَها ب�شماله‪ ،‬وبال ُيمنى ك َّم َم ف َمها بقطع ٍة قما�شي ٍة حتوي خمدر ًا قوي ًا‬
‫ُ‬
‫حلظات‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫�سريع املفعول‪ ,‬وقبل �أن ُتفيق من �صدم ِتها تخلى عقلها عن وع ِيه فى‬
‫بذهول حول فمِ ها‪ ,‬وتناز َلت قدماها عن‬ ‫ٍ‬ ‫وتراخت ذراعاها املُت�شبثتان بقب�ضته‬
‫َ‬

‫‪y‬‬
‫حـَ ْم ِلها ُملقي ًة بنف�سها نحو �صدره كهد َّي ٍة ثمين ٍة‪.‬‬

‫‪‬‬
‫وت�شو�ش ُي�صاحبانها‪� ،‬أحاطا بعقلها‪َ ,‬غمام ٌة �سودا ُء باهت ٌة تزحف‬
‫ٌ‬ ‫�ضو�ضاء‬
‫هات خافت ٍة ُمتالحق ٍة تنطلق من �صدرِها؛ لتبد�أ‬‫بعيد ًا عن وعيها؛ لت�سمح بت�أ ُّو ٍ‬
‫ت�شنج ج�سدُها‬
‫ذاكرتها با�سرتجاع اللحظات الأخرية قبل �أن تفقد الوعي‪َ ,‬‬
‫ال�شم خا�صتُها وهي تلتقط بقايا الرائحة ال َّنفاذة‬
‫فج�أ ًة بعدما َعمِ لت حا�سة ِّ‬
‫التي كانت خملوط ًة بقطعة القما�ش العري�ضة التي ك َّم َمها بها‪ ,‬والتي ما زالت‬
‫عالق ًة حول ِج ِيدها‪.‬‬

‫يبدو �أنه �أراد �أن تظ َّل فاقد ًة وع َيها لفرت ٍة طويل ٍة‪ ,‬فلم ِ‬
‫يكتف بكتم �أنفا�سها‪,‬‬
‫َ‬
‫و�سقطت‬ ‫ول�سبب ما تهد َل ِت ال ُعقدة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بل قام ب َعقْد القما�ش حول �أن ِفها وفمِ ها‪،‬‬
‫حول رقبتها العارية ‪ ..‬عارية ؟! ‪.‬‬

‫قاومت ُثقل جفنيها ٍ‬


‫بفزع‪ ،‬وهي‬ ‫حوا�سها لتلك النقطة‪َ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫عندما و�صلت‬
‫ومرات‪ ،‬وج�سدُها يت�ش َّنج من ٍ‬
‫جديد يف اخت�ضا�ض ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫مرات‬‫حتاول فتح عينيها ٍ‬
‫�أكرث فزع ًا وقو ًة من �سابقتها‪ ،‬وهي ت�ست�شعر ُع َ‬
‫ري �شعرها ونحرها �أ�سفل‬
‫الغطاء الأبي�ض الباهت املُل َقى فوق ج�سدها ب� ٍ‬
‫إهمال‪.‬‬

‫ذلك الأمل �شديد ال َّنزع الذي ي�ضغط حول ِم َ‬


‫ع�ص َم ْيها جعلها ت�ستوعب �أنَّ‬
‫َيديها مك َّبلتان ب�شىءٍ ما فوق ر�أ�سها‪ ،‬الر�ؤية ما زالت ُم�شو�ش ًة قلي ًال من �أثر‬
‫زعج يزيد من �صداع‬ ‫م َّو ٍه ُم ٍ‬
‫ب�شكل ُ َ‬
‫ال�صور تتداخل ومتتزج ٍ‬ ‫املخدر وك�أن كل ُّ‬
‫مقاومتها لِ َا ُيكبل يديها تزيد تدريجي ًا مع زيادة نب�ض قلبها الذي ي�ض ُّخ‬
‫ر�أ�سها‪َ ,‬‬
‫بجنون‪ ،‬وقد متكن منها الرعب قبل �أن تفتح عي َن ْيها متام ًا‪،‬‬‫ٍ‬ ‫الدم يف عروقها‬
‫و ُتدرك و�ضعها ال�صعب‪.‬‬

‫‪‬‬
‫بجدران قامت ٍة عاري ٍة متام ًا من ال�صور املُعلقة وال�ستائر‪ ,‬ال‬
‫ٍ‬ ‫غرف ٌة �ضيق ٌة‬
‫َ‬
‫هنالك‬ ‫ي ْك ُ�سوها �سوى طبقات ال ُغبار‪ ,‬نافذتها ال�صغرية جد ًا والوحيدة تقبع‬
‫بعيد ًا يف الزاوية �أ�سفل �سقفها املُرتفع ٍ‬
‫بقليل‪ ,‬مو�صود ٌة ب� ٍ‬
‫ألواح خ�شبي ٍة ُتكافح‬
‫�أ�شعة ال�شم�س للولوج من بينها‪.‬‬
‫مزعج كلما‬
‫ب�صرير ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ال�سرير املُكبلة فوقه ب�أعمد ٍة ُنحا�سي ٍة �صفرا َء يتحرك‬
‫حا َر َبت وهى حتاول جذب ُر ْ�س َغ ْيها من قيدهما احلديديِّ املُثبت ب�أحد �أعمدة‬
‫الفرا�ش كاملجانني ذوى اخلطر ‪.‬‬
‫وجنون ال ُتبايل‬
‫ٍ‬ ‫ا�ستجم َعت قوتها‪ ،‬و�أغم�ضت عينيها وهي ت َُ�ش ُّد َيد ْيها بقو ٍة‬
‫بالأمل املُ ِ‬
‫�ست�شري بهما‪ ,‬مر ًة وثاني ًة وثالث ًة‪.‬‬
‫وفج�أ ًة توق َفت عندما �سمعت �صوته ال�ساخر الذي جذب انتباهَ ها نحو‬
‫اخل�شبي العري�ض يف زاوي ٍة من تلك الغرفة الغريبة التي تبدو ك�أ َنها جز ٌء‬
‫ِّ‬ ‫الباب‬
‫مكان �آخر �أكرب منه‪.‬‬ ‫ُم َ‬
‫قتط ٌع من ٍ‬
‫�أخربيني عندما تنتهني‪.‬‬
‫جتمد ب�صرها ذاهل ًة فوق �سطح وجهه البارد النظرات‪ ,‬حتجر الدمع‬
‫بعي َن ْيها َو َع ِل َق ْت �آخر قطر ٍة منه ب�أهدابها وهي تهم�س با�سمه‪:‬‬
‫ح�سن؟!!‬
‫كان واقف ًا ُم�ستند ًا بكتفه �إىل حافة الباب املفتوح عاقد ًا ذراعيه فوق‬
‫�صدره‪ ,‬هو مل يتغري كثري ًا عما كانت تعرفه‪ ,‬ما زال ُمتج ِّهم ًا حتى وهو ي�سخ ُر‬
‫منها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫اجلملة الوحيدة التي نطق بها وا�ضح ًة دون تـقطيع �أنب�أتـْها ب�أن تلك اللعثمة‬
‫رغم ًا �أثناء حديثه القليل قد زالت‪ ,‬فلقد ِ‬
‫كانت‬ ‫التي كانت جتعله يتوقف ُم َ‬
‫الكلمات تقف يف حلقه‪ ،‬فيحتقن وج ُهه وهو يجاهد ال�ستكمال عبارته‪.‬‬
‫قامتُه يف تلك ال�سنوات التي مل ت َره بها �أم �أنَّ �سنوات �سجنه‬
‫هل طالت َ‬
‫منحت ج�سده �ضخام ًة وقو ًة توحي بذلك ؟‪.‬‬
‫َ‬
‫يبدو �أنه ما زال ُيارِ�س املالكمة كما كان يفعل هناك؛ يف ال�ساحة ال�شعبية‬
‫الوا�سعة التي حتتل ُق َمامة احلارة القدمية زاوي ًة وا�ضح ًة منها ‪ ...‬ولكن َمه ًال‪.‬‬
‫هذا كلُّه مل ي ُعد َيعنيها‪ ,‬بل ال يجب �أن يعنيها الآن حتديد ًا‪ ,‬وهي ُمتَجز ٌة‬
‫هنا حتت رحمته‪ ,‬هل �أ�صبح ُمرم ًا بالفعل؟!‪.‬‬
‫اقرتب منها ببطءٍ حتى و�صل �إىل الفرا�ش ال�صغري‪ ,‬انحنى للأ�سفل جاذب ًا‬
‫َ�س ْل�سا ًال معدني ًا طوي ًال‪ ,‬ينتهي �أحد طر َفيه ب ُك َّلب ٍة ُتيط بقدمها اليمنى‪� ,‬أما‬
‫ثبت بحلق ٍة حديدي ٍة يف اجلدار بجوار ال�سرير مبا�شر ًة‪� ,‬إنها‬‫الطرف الآخر ف ُم ٌ‬
‫�أ�سري ُته حرفي ًا‪ ,‬لقد ذاقت �شعور االحتجاز من قب ُل‪� ,‬إال �أن هذه هي املرة الأوىل‬
‫لها يف اختبار القيود احلقيقية‪ ,‬ودون �أن تعرف ملاذا ؟‪.‬‬
‫احتفظ هو مبنت�صف ال�سل�سال الطويل ُمعلق ًا داخل قب�ضته ُمل ِقي ًا �إليها‬
‫بالتعليمات بب�ساط ٍة‪ ،‬وك�أنه ُيحدثها عن الطق�س قبل �أن ُيلقيه على الأر�ض‬
‫مكتوم‪:‬‬
‫ِب َد ِو ٍّي ٍ‬
‫لك بدخول احلمام املُال�صق بابه لباب هذه‬ ‫ال�سل�سلة طو ُلها ي�سمح ِ‬
‫الغرفة‪.‬‬
‫�أنهى جملتَه ب�إ�شار ٍة من �س َّبابته جتاه الباب املفتوح‪.‬‬

‫‪‬‬
‫حلظ ٌة‪ ,‬اثنتان‪ ,‬ثالث ‪ ..‬ال تتكلم‪� ,‬صامت ٌة مذهول ٌة كما هي تناظره بعي َنني‬
‫�شاخ�صتني تتجمع بداخلهما دمو ٌع ال تهطل وال ترتاجع �أي�ض ًا‪.‬‬
‫�ساع َديه فوق �صدره ُمدد ًا ُمتخذ ًا وقف ًة عبثية كنرب ِة �صوته وهو يت�أمل‬
‫عقد ِ‬
‫طالت اللحظات‪ ,‬كل حلظ ٍة منهنَّ ت�ستفزُّه �أكرث‪ ,‬لقد‬ ‫متا�سكها الغريب �أمامه‪ِ ,‬‬
‫ُ‬
‫كان ُي ِع ُّد نف�سه لكتم �صرخاتها بالو�شاح القطني الذي تركه عالق ًا حول رقبتها‬
‫مبجرد �أن ت�ستفيق‪ ،‬ولكنها مل ت�صرخ‪.‬‬
‫رمبا �س ُيطفئ ُبكا�ؤها وتو�سلها بع�ض ًا من نريانه املتقدة بداخله‪ ,‬رمبا ت�شفي‬
‫وكراه َيته املُتزايدة‪.‬‬
‫ا�ستغاثا ُتها حنقه ِ‬
‫بتجهم وهو ُيحدق بعينيها‪ ،‬بينما نظرات الأمل والده�شة تتزايد �أكرث‬
‫ٍ‬ ‫فقال‬
‫ف�أكرث‪:‬‬
‫والدك الآن ‪� ..‬أم‬
‫ِ‬ ‫ليلةكاملة ‪ ..‬ونها ٌر قد َّول ‪ُ ..‬ترى هل يبحث ِ‬
‫عنك‬
‫اعتربك هارب ًة مع ٍ‬
‫ع�شيق ما ؟‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وا�ضطراب‬
‫ُ‬ ‫فعل انتظرها كثري ًا‪ ,‬حترك حلقها‪،‬‬ ‫�أخري ًا ح�صل على ردة ٍ‬
‫بدقات ُمتزايد ٍة بخاف ِقها‪ ،‬بينما انفرجت �شفتاها بت�سا� ٍؤل‬
‫ٍ‬ ‫تنف�سها َي ِ�شي‬
‫�صوت ِ‬
‫خافت انتظره طوي ًال ‪:‬‬
‫رتع�ش ٍ‬‫ُم ٍ‬
‫ماذا تريد ِم ِني؟!‬
‫ليخرج ويرتكها ‪:‬‬
‫َ‬ ‫رفع كتفيه بال ُمباال ٍة ك�أن الأمر ال يعنيه‪ ،‬وهو ي�ستدير؛‬
‫بنف�سك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�ستكت�شفني‬
‫ح�سن‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ا�ستدار �إليها بنظر ٍة ُمذر ٍة ناري ٍة‪� ,‬إنها ُتناديه وك�أنَّ بينهما �صداق ًة قدمي ًة‪,‬‬
‫ال تخ�شاه‪ ،‬ورمبا ت�سخر منه �أي�ض ًا بداخلها‪:‬‬
‫ماذا ُتريد ِم ِّني يا ح�سن؟!‬
‫كررت �س�ؤالها مر ًة �أخرى‪ ,‬ولكن بنرب ٍة خمت ِلف ٍة‪ ,‬نرب ٍة تبدو عارف ًة به‪� ,‬أي‬
‫يحمل طعم كل الإجابات؟!‪.‬‬‫�س� ٍؤال هذا الذي ُ‬
‫ماذا ُيريد؟!‪ ,‬ينتقم يا حمقا ُء‪ ,‬وال يهم ِمن �سيقع عليه انتقا ُمه ؟؛ ففي‬
‫النهاية البد لأحدهم �أن يدفع الثمن‪.‬‬
‫بال �إجاب ٍة وال كلم ٍة تفهمها تقدم نحوها وقام بفك َقيد يديها ُمكتفي ًا بقيد‬
‫ين�ضب قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تقطر ِحقد ًا ال‬
‫وبحروف ُمهدد ٍة ُ‬
‫ٍ‬ ‫قدمها‪,‬‬
‫أنت هنا يف ِمنطق ٍة ُمنعزل ٍة م�سكون ٍة بالعفاريت ‪َ ...‬مهما �صرخت ‪ ..‬فلن‬
‫� ِ‬
‫نف�سك‪.‬‬
‫ي�سم َع ِك غريي ‪ ..‬ووقتها لن تلومي �سوى ِ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫للكبار فقط‬
‫ِ‬

‫قب َل ثالثِ �سنواتٍ ‪....‬‬


‫غفران ‪ ..‬مث ُلها مثل �أي فتا ٍة بد�أت زهور قلبها تتفتح مع �أبواب َ‬
‫عال الأنوثة‬
‫بخجل‪� ,‬إال �أن الأمر معها تخطى مرحلة اخلجل بكث ٍري‪ ,‬كانت تتمنى‬ ‫الذي ت ِل ُجه ٍ‬
‫الولوج �إىل هذا العامل‪ ،‬ن َعم ‪ ...‬ولكنها وجدت نف�سها تلت�صقُ بجدرانه ٍ‬
‫بخزي‬
‫معال‬
‫تلك الأنوثة التي بد�أت بالظهور على ِ‬‫�شديد‪ ,‬لقد كانت تخجل من بوادر َ‬ ‫ٍ‬
‫ج�سدها بد ًال من �أن تكون ُمتباهي ًة كما تفعل كل فتا ٍة يف عمرها‪ٍ ,‬‬
‫ل�سبب ما‬
‫وجدت نف�سها ُتخفي معا َمله �أ�سفل حقيبتها املدر�سية التي حتت�ضنها بذراعيها‪,‬‬
‫ال �أن ُتعلقها خلف ظهرها‪.‬‬
‫رمبا تلك النظرات املُريبة التي بد�أت ُتا�صرها يف كل ٍ‬
‫مكان هي ال�سبب‪.‬‬
‫املدر�سة وناظرها‪ ,‬اخل�ضراوات وبائعها‪� ,‬صارت ُمرا َقب ًة من اجلميع‪ ،‬فيما‬
‫عدا «ح�سن»!‪.‬‬
‫عا ٌم كام ٌل وهي تعرب الطريق من �أمام ور�شته لإ�صالح ال�سيارات‪ ،‬وتلقي‬
‫بحروف ُمتعرث ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ال�سالم عليه‪ ،‬فال يرفع ر�أ�سه وال ينظر �إليها‪ ,‬فقط ُيهَمهِ م‬
‫ويرد ال�سالم فقط‪ ,‬ماذا لو كان جميع الرجال «ح�سن» ؟‪� ،‬ألن يكون العامل‬
‫‪� ‬أف�ضل بكث ٍري؟‪.‬‬
‫ومع ت�ضارب قرارا ِتها ب�ش�أن ج�سدها‪� ,‬أ�ضربت «غفران» عن الطعام‬
‫كيلوجرامات كثري ًة من وزنها‪ ،‬و ُت�صبح‬
‫ٍ‬ ‫ليومني؛ ت�صور ًا منها �أنها َ‬
‫بذلك �ستفقد‬
‫نحيل ًة جد ًا فتتوارى عن الأنظار ‪.‬‬
‫الفت‪ ,‬ولكن نظرات والدتها لها وهي تتناول‬‫ب�شكل ٍ‬
‫هي لي�ست ُمتلئة القوام ٍ‬
‫طعامها جتعلها ترتكه‪ ,‬بل وتنتزع اللقمة من فمِ ها‪ ،‬وهي حتمد اهلل ثم تنه�ض‪,‬‬ ‫َ‬
‫وكانت نتيجة ذلك �أنها ترنحت وهي تعرب الطريق عائد ًة من املدر�سة الثانوية‬
‫التي تبعد �شارعني فقط عن الطريق الرئي�سي املُمهد لل�سيارات‪ ،‬والذي ُ‬
‫تعبه‬
‫راك�ض ًة لتجد نف�سها �أ�سفل ال�شجرة ال�ضخمة املُ ِ‬
‫ال�صقة لـ ور�شة «ح�سن»‪.‬‬
‫ِحرمانها من الطعام ُيف ِقدُها ُج َّل تركيزها‪ ,‬الرك�ض عبور ًا جعل ر�أ�سها‬
‫وبذراع ُّ‬
‫تلتف حول‬ ‫ٍ‬ ‫�سك بها‪,‬‬‫بيد ُت ُ‬ ‫يدور‪ ،‬وكادت ت�سقط بالفعل‪ ،‬ف�شعرت ٍ‬
‫م�صاحبة البت�سام ٍة َ�سمِ ج ٍة‪:‬‬
‫ِ‬ ‫�صرها‪ ,‬وكلم ٌة يف �أذ ِنها‬
‫َخ ِ‬
‫«�سالمتك يا جميل»‪.‬‬
‫الدوار الذي لفها مل مينعها من ال�صراخ‪ ,‬ومل يحرمها من �أن تلمح اقرتاب‬
‫بطلها املن�شود يتدخل على الفور‪ ,‬كانا كلبني �ضالني ال فرق بينهما وبني‬
‫ذي َل ْيهما‪ ,‬جريا من �أمامه؛ خوف ًا منه بعد �أن قاما ب�إيذائه بالكلمة التي ينعتُه‬
‫رم حقيقي‪،‬‬ ‫بها والدُه �أمام النا�س «يا ابن احلرام» ‪ ,‬تلك الكلمة حتوله �إىل ُم ٍ‬
‫مل ي�ش�أ �أن يرتكها يف عر�ض الطريق ويتبعهما‪ ,‬حاول كبح ِجماح غ�ضبه وهو‬
‫يعت�صر قب�ضتيه قائ ًال بنرب ٍة � ِآمر ٍة‪:‬‬
‫بيتك‪.‬‬
‫هيا‪ ..‬تابعي ال�سري‪ ..‬و�أنا من خل ِف ِك؛ حتى تدخلي‪ِ ..‬‬
‫وبرغم عالمات الإجرام التي كانت تعلو وجهه يف تلك اللحظة‪� ,‬إال �أن جملته‬
‫حلن مو�سيقي تتذكرها كل ليل ٍة وهي ت�ضع ر�أ�سها فوق الو�سادة‪،‬‬
‫كانت مبثابة ٍ‬
‫‪‬‬
‫وت�ستعيد �سماعها ب�صوته ِمن ذاكرتها التي حفرت فيها تلك الكلمات‪ ،‬بل‬
‫نق�شتها على َ�شغاف قلبها‪ ,‬وفوق �شفتيها ابت�سام ٌة حالِ ٌة‪ ،‬وتنتظرها �أحال ٌم‬
‫وردي ٌة‪ ،‬على الرغم من تلعث ُمـِه بالنطق بها‪.‬‬
‫زعج‪,‬‬
‫بكابو�س ُم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ولكن لكل �شيءٍ نهاي ٌة‪ ,‬حتى الأحالم الوردية رمبا تنتهي‬
‫بل و ُمقز ٌز �أي�ض ًا‪.‬‬
‫ا�ستيقظت «غفران» بعد ُمنت�صف الليل وهي ت�شعر ب�أحدهم‪ ،‬وهو يرفع‬
‫ج�سدها‪ .. ,‬ال ‪ ..‬ال ‪ ..‬لي�س ُمدد ًا !‪.‬‬
‫الغطاء من فوق ِ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫وقفت الأم ترتعد حرفي ًا يف ُمنت�صف ال�صالة ال�ضيقة‪ ،‬ودموع اخلوف‬ ‫ِ‬
‫ت�صمت‪� ,‬أن‬
‫َ‬ ‫تتقاذف من عينيها‪ ،‬وهي ُمت�شبث ٌة مبرفق ابنتها وترجوها �أن‬
‫خف�ض من �صوتها‪� ,‬أن تعتذ َر وينتهي الأمر‪ ,‬ولكن «غفران» قد فا�ض بها‬ ‫ُت َ‬
‫أيام‪ ,‬ويف كل مر ٍة عندما‬
‫الكيل‪� ,‬صمتت �أم�س و �أول �أم�س‪� ,‬إنها ت�صمت منذ � ٍ‬
‫ت�ستيقظ يرتاجع برهب ٍة قائ ًال‪:‬‬
‫مل�س ِك ‪.‬‬
‫ماذا ؟‪ ..‬كنتُ �أقوم بغلق النافذة ‪ ..‬مل �أق�صد َ‬
‫ولكن يبدو �أنَّ �سكوتها �شجعه على املُ�ضي ُقدُم ًا‪ ,‬كل �صباح كانت ُتاول‬
‫�أن تخرب والدتها على الأقل‪ ,‬ولكنها ترتاجع يف اللحظة الأخرية‪ « ,‬اخلوف» و‬
‫«غفران» اليفرتقان‪.‬‬‫ُ‬
‫من �شدة خوفها وترد ِدها اتهمت نف�سها ب�أنها تتوهم و ُت ُ‬
‫�سيئ الظن ب�أخيها‪,‬‬
‫هي دوم ًا ُم ِطئ ٌة يف نظر والدها‪ ،‬وتوافقه �أمها على ذلك‪ ,‬فلماذا تكون على‬
‫�صواب الآن؟‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعمق‪ ,‬باتت كالقطط‪ ,‬نو ُمها ُمتقط ٌع‪ ،‬وت�ستيقظ‬
‫�أ�صبحت تخ�شى �أن تنام ٍ‬
‫فزع ًة من �أقل حرك ٍة‪ ,‬ويبدو �أن يقظتها املُ�ستمرة جعلتها حتفظ طقو�س‬
‫ِ‬
‫«رمزي»‪.‬‬
‫‪‬‬
‫كل ليل ٍة بعد �أن ينام والداهما يذهب نحو غرفتهما‪ ،‬ويقف وا�ضع ًا ُ�أذنيه‬
‫على الباب اخل�شبي الأبي�ض بعد �أن ُي�ضيىء ِم�صباح احلمام؛ ليتعلل بدخوله‬
‫ال�صق ٌة لباب‬‫�إليه �إذا ما ُف َتح الباب فج�أ ًة‪ ,‬ال�شقة غرفتان فقط‪ ,‬واحد ٌة منهما ُم ِ‬
‫ال�شقة‪ ,‬والأخرى بعد ال�صالة ال�ضيقة يف مواجهة احلمام املُجاور للمطبخ‪ ,‬يف‬
‫بعيد مل تكن تعلم ملاذا يفعل هذا؟‪.‬‬
‫البداية عندما ر�أته من ٍ‬
‫ولكن مع الوقت ت�أكدت �أنه يطمئنُّ ال�ستغراقهما يف النوم‪ ,‬ثم يعود للغرفة‬
‫ُفيغلقها ويت�أكد من نومها‪ ,‬ثم يجل�س �أمام احلا�سوب العتيق ذى ال�شا�شة الثقيلة‬
‫يوم‪ ،‬و�أخرب والده �أن له �صديق ًا �سيبتاع واحد ًا جديد ًا‪ ،‬فمنحه‬
‫الذي جاء به ذات ٍ‬
‫ول ال؟‪« ,‬رمزي»‬‫قابل‪ ,‬ولقد �صدقه والدهما بعد �أن تعجب قلي ًال‪َ ِ ,‬‬ ‫هذا دون ُم ٍ‬
‫للكذب يف عرفهم‪ ,‬الن�ساء فقط هن‬ ‫ذكر ال يكذب ‪ ..‬الذكور �أقوياء ال يحتاجون ِ‬
‫َمن يحتجن �إىل �إخفاء احلقائق؛ ل�ضعفهنَّ ‪.‬‬
‫ولدُه هو عنوان رجولته الذي يتباهى بها �أمام �أ�صدقائه على املقهى منذ �أن‬
‫�أجنبه وحتى الآن‪� ,‬أول ُذريته كان «ذكرا»‪� ،‬أما الفتاة فهي كانت جمرد غلط ٍة‪,‬‬
‫هَ ٌّم َو ُو ِ�ضع على ر�أ�سه‪ ,‬متى يتخ َّل�ص منها ويرتاح؟ ‪.‬‬
‫كانت جتهل ماذا يفعل �أمام هذا احلا�سوب طيلة الليل‪ُ ,‬ي�شاهد �أ�شياء ال‬
‫تعرفها‪ ,‬فهو ُيدير ال�شا�شة باجتا ٍه �آخر؛ حت�سب ًا حتى ال ترى ما ُيع َر�ض عليها‬
‫لو ا�ستيقظت‪ ,‬مل يكن قد ابتاع �سماعات الر�أ�س بعدُ‪ ,‬فكان ُيخف�ض ال�صوت‬
‫لرجال ون�ساءٍ يتوجعون‪ ,‬ما هي‬
‫ٍ‬ ‫أ�صوات ُم َ‬
‫تلط ٍة‬ ‫�إال قلي ًال‪ ,‬وهي ا�ستمعت �إىل � ٍ‬
‫عب مث ًال؟!‪ .‬وبعد �أن ينتهي ُيغلقه‪ ،‬ثم يتوجه �إليها وهو‬
‫الفائدة؟‪ ,‬هل هو فيلم ُر ٍ‬
‫يظنها نائم ًة‪.‬‬
‫يلم�سها‪ ،‬فت�ستيقظ وتفتح عينيها‬
‫وهنا يبد�أ الرعب احلقيقي‪ ,‬ت�شعر به ُ‬
‫مرعب فيرتاجع كالعادة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بات�ساع‬
‫ٍ‬
‫‪‬‬
‫أخوك ُي�شاهد �أفالم ًا فيها ن�ساء ورجال تتعرى وتـ ‪..‬‬
‫� ِ‬
‫�شهق ٌة عفوي ٌة خرجت من فم «غفران» قاطعتها بها‪ ،‬وهم�ست ٍ‬
‫بخوف وهي‬
‫مرات‪:‬‬
‫تتلفت حولهما عدة ٍ‬
‫عرفت؟!‬
‫كيف ِ‬
‫زاد ات�ساع ابت�سامة �صديقتها وهي ُتاول جاهد ًة غلق فمِ ها‪ ،‬ولكنها مل‬
‫ت�ستطع ال�سيطرة عليه‪ ,‬فهي ُتريد �أن ُتبهر « غفران» مبعلوماتها التي ال تعرفها‬
‫بهم�س �أكرث‪:‬‬
‫هي‪ ،‬و�أردفت ٍ‬
‫�أنا �أُ�شاهد مثلها على حا�سوب �أبي بعد �أن ينام هو و�أمي ‪ ..‬ولكن لي�ست‬
‫�أفالم ًا حقيقية مثل � ِ‬
‫أخيك ‪� ..‬إنها �أفالم كرتون !‬
‫ات�سعت عينا «غفران» �أكرث بكث ٍري عن ذي قبل‪ ،‬وهي تهتف رغم ًا عنها‪:‬‬
‫ذكرت ؟؟!!!‬
‫هل تتعرى البنات يف الكرتون �أي�ضا ويفعلن ما ِ‬
‫و�ضعت �صديقتها كفها على فم «غفران» ُتغلقه ٍ‬
‫بخوف‪ ،‬وهي تنظر حولهما‪,‬‬
‫�ضغطت كفها بقو ٍة وهي تقول بعينني زائغتني‪:‬‬
‫�ستف�ضحينني يا جمنونة‪� ..‬أنا املُ ِ‬
‫خطئة �أنني �أخرب ُت ِك‪.‬‬
‫ه َّد�أت «غفران» قلي ًال من ِ‬
‫روعها‪ ،‬وهي حتاول ا�ستيعاب ما �سمعت للت ِّو‪,‬‬
‫ولكن الف�ضول ا�شتعل بر�أ�سها‪ ,‬كيف يحدث ذلك يف �أفالم الكرتون؟!‬
‫أنت تكذبني ‪� ..‬أنا كنتُ �أُ�شاهد �أفالم الكرتون دائم ًا‪ ..‬ومل � ِأجد بها ما‬
‫� ِ‬
‫تقولني‪.‬‬
‫‪‬‬
‫عادت املُغامرة وال�شعور باالختالف يتلب�سان �صديقتها‪ ،‬وهي ت�ستع ُّد ل�شرح‬
‫َ‬
‫ت�ستكمل‬ ‫الأمر لها‪ ,‬ولكن جر�س احل�صة املُق ِبلة انطلق يدوي‪ ،‬فوعدتها ب�أن‬
‫احلكاية بعد انتهاء اليوم الدرا�سي‪.‬‬
‫مل ت�ستطع «غفران» �أن تفهم �شيئ ًا ِما ُي�ش َرح �أمامها يف احل�ص�ص التالية‪,‬‬
‫فذه ُنها كان م�شغو ًال مبا �سمعت من �صديق ِتها �أثناء اال�سرتاحة‪ ،‬حاولت طرد‬
‫تلك الأفكار مرار ًا �إال �أنها ظلت ُتالحقها حتى انتهى اليوم الدرا�سي الذي طال‬
‫تق�ص‬
‫يوم �آخر‪� ،‬سارت ببطءٍ بجوار �صديقتها التي كانت ُّ‬ ‫اليوم �أكرث من �أي ٍ‬
‫عليها احلكاية كما وعدتها �أثناء طريق العودة‪:‬‬
‫يف البداية كنتُ �أُ�شاهد فيلم ًا كرتون َّي ًا ُمعتاد ًا على موقع اليوتيوب ‪..‬‬
‫�شاهد اقرتاحات �أخرى‬ ‫وكنتُ ُمدمن ًة عليه ‪ ..‬هذا املوقع ِ‬
‫يعر�ض لل ُم ِ‬
‫ت�شبه الفيديو الذي ُي�شاهده الآن ‪ ..‬ويف �إحدى املرات كان �أحد‬
‫االقرتاحات «فيديو« لنف�س ال�شخ�صية الكرتونية التي �أح ُّبها‪ ..‬وكان‬
‫يقوم بتقبيل فتا ٍة �شقرا َء ويلم�سها ‪ ..‬يف كل مرة كنتُ �أريد �أن �أ�شاهد‬
‫�أكرث‪ ..‬وبد�أ الأمر ُي�صبح عاد ًة عندي ‪ ..‬ويكون ذلك لي ًال فقط‪.‬‬
‫ومع الوقت بد�أتُ �أبحث بنف�سي حتى عرثتُ على موقع يعر�ضها‬
‫تخطت ال ُقبالت بكثري ‪....‬‬
‫ِ‬ ‫باملجان‪ ..‬ولكن امل�شاهد املعرو�ضة‬
‫تنف�سها يتغري‪ ،‬وقد اختلط ال�شغف عندها‬ ‫�صمت َِت الفتاة ُلبه ٍة‪ ،‬وبد�أ ُ‬
‫بال�شعور بالذنب فوق مالحمها‪ ,‬وع�صر ٌة ت�ضغط قلبها و ُت�ؤلِ ه‪ ,‬ذاك ال�شعور‬
‫الذات ال تفهمه‪ ,‬وخ�صو�ص ًا عندما ي�ستقيظ والدها‬ ‫ِ‬ ‫القاتل بني اللذة وكره‬
‫بحنان‪ ،‬وك�أنها ما‬
‫ٍ‬ ‫ل�صالة الفجر‪ ,‬وعند عودته من امل�سجد يربتُ على ر�أ�سها‬
‫زالت طفلته ال�صغرية؛ لت�ستيقظ لل�صالة ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫فتُخربه َك ِذب ًا �أنها �أ َّدت الفري�ضة فين�صرف؛ ل ُيو ِقظ زوجته‪ ,‬بينما هي حتت‬
‫الغطاء ت�شعر ب�أنها مو�صوم ٌة وب�أنها عا ٌر على تلك العائلة امل�ؤمنة‪ ,‬ولكن ماذا‬
‫تفعل؟‪ ,‬لقد �أدمنت‪ ,‬و�أ�صبحت مري�ض ًة ال عالج لها كما تقول لنف�سها دوم ًا‪.‬‬
‫عادت «غفران» ذلك اليوم �إىل منزلها وهي ت�شعر بالتقزز من غرفتها‪,‬‬
‫�ألقت نظر ًة �إىل احلا�سوب و�أخيها النائم ِ‬
‫ي�شخر كاجلثة الهامدة فوق �سريره‪,‬‬
‫ودت لو فق�أت عينيه يف تلك اللحظة‪ ,‬وعندما تو�ض�أت؛ لت�ؤدي �صالة الع�صر‪,‬‬
‫دلفت لغرفة والديها؛ لت�صلي بها‪ ,‬ت�شعر ب�أنه املكان الوحيد الطاهر بهذا البيت‬
‫الذي بد�أ ي�ضيق على �صدرها ويخن ُقها‪ُ ,‬قدور الغ�ضب تغلي برباءتها فتتوعده‬
‫بالث�أر ‪ ..‬يكفي تلك النجا�سة بغرفتها ‪ ..‬لقد اكتفت من خو ِفها ‪ ..‬الليلة �ستكون‬
‫ُمتلف ًة‪.‬‬
‫أيام‪ ،‬وهذا ما جعله‬ ‫مل تكن تعلم �أنه هو الآخر كان ي�ستع ُّد لها‪ ,‬لقد �صمتت ل ٍ‬
‫يظنُّ ب�أنها تفهم‪ ،‬و�أنَّ الأمر ُيعجبها حتم ًا‪ ,‬ملاذا ال ُيجرب بجدي ٍة هذه ال َّليلة ؟‪،‬‬
‫يكتف بلم�سها من فوق الغطاء برهب ٍة‪ ,‬بل جتر�أ‬ ‫وعندما �أ�سدل الليل �أ�ستاره مل ِ‬
‫فز َعة ُمبقلتيها املت�سعتني‪ ,‬مل يربر كالعادة‪ ,‬بل وجدت يف‬ ‫�أكرث عليها‪ ,‬نه�ضت ِ‬
‫حديث ب�أن تخو�ض التجربة معه‪ ,‬وهو‬ ‫عينيه نظر ًة ُمتلف ًة‪ ,‬يخربها بها دون ٍ‬
‫يهم�س ُماو ًال االقرتاب منها‪:‬‬
‫ؤذيك‪.‬‬
‫لن �أ� ِ‬
‫ال تعلم كيف وجدت �صوتها يف هذه اللحظة‪ ,‬ف�صرخت و�صرخت ومل ي�ستطع‬
‫�صراخها‪ ,‬وها هما الآن يتواجهان �أمام �أبيه‪ ,‬نعم‪ ،‬هو �أبوه‬
‫ِ‬ ‫هو ال�سيطرة و َكت ِْم‬
‫لت�سكت‪ ,‬وهو‬
‫َ‬ ‫فقط‪ ,‬تيقنت من َ‬
‫ذلك عندما �صف َعها والدها �صفعتني ُمتتاليتني‬
‫يح�سم احلديث ل�صالح ولده الذكر‪:‬‬

‫‪‬‬
‫اخر�سي يا كذابة‪ ..‬يا قليلة الأدب‪.‬‬
‫والدتها ترتع�ش حين ًا‪ ،‬وتلطم وجنتيها حين ًا �آخر‪� ,‬أما «رمزي» فيقف بجوار‬
‫والده‪ ،‬كفاه مت�شابكتان خلف ظهره‪ُ ,‬يطرق بر�أ�سه‪ ,‬وقناع ال�شعور بالظلم‬
‫بحي ٍة‪ ,‬ثم يرفعهما نحو‬‫يغطي وجهه باحرتافي ٍة كبري ٍة‪ ,‬عيناه جتوبان الأر�ض ْ‬
‫�أخته ُم�ستخدم ًا يده اليمنى التي تركت الي�سرى خلف ظهره‪ ،‬و�أتت لت�ساعده يف‬
‫�إتقان دور املظلوم‪ ،‬و�ضع ك َّفه على قلبه ناظر ًا �إليها ٍ‬
‫بثبات‪ ،‬ويقول بنرب ٍة ُت ُ‬
‫نبئ‬
‫متا�سيح قريب ٍة‪:‬‬
‫َ‬ ‫عن دموع‬
‫بك؟!! ‪ ..‬تتهمينني بهذه الب�شاعة من‬
‫�أنا يا «غفران» ؟!!‪� ..‬أنا �أفعل هذا ِ‬
‫�أجل احل�صول على غرفة ُم�ستقلة؟‪.‬‬
‫ثم التفت �إىل �أبيه وهو ي�ستكمل العر�ض الدرامي‪ ،‬وقد �سمح للدموع‬
‫بالهطول قائ ًال بنرب ٍة ُمتقطع ٍة ال ينق�صه وقتها �سوى مقطوع ٍة مو�سيقي ٍة حزين ٍة‬
‫تنبعث يف اخللفية‪:‬‬
‫� َ‬
‫أرجوك ال ُتعاقبها يا �أبي ‪� ..‬أختي ال�صغرية م�سكينة ‪ ..‬ال بد من �أن لها‬
‫�صديقات ُمنحالت يف املدر�سة‪ ..‬ميلأنَ ر�أ�سها بتلك الأفكار ال�شيطانية‬
‫القذرة‪.‬‬
‫تقدم �أبوها منها ُمندفع ًا حتى �أم�سك ب�شعرها الذي جمعته َ‬
‫خلف ر�أ�سها‪،‬‬
‫برباط‬
‫ٍ‬ ‫وجذبها منه بقو ٍة؛ ف�صرخت وحتركت الأم معها‪ ،‬وك�أنهما مرتبطتان‬
‫�صدر ًا �أمر ًا ال رجعة فيه‪:‬‬
‫خفي‪ ،‬بينما هو يزجمر ُم ِ‬
‫أخيك حاال‪ ..‬وال حاجة لنا للمدر�سة بعد الآن �إن كانت‬‫�ستعتذرين ل ِ‬
‫أنت يف كل الأحوال فا�شلة ال نف َع‬
‫ؤو�سنا ‪ ..‬ف� ِ‬
‫�سرتمي بامل�صائب فوق ر� ِ‬
‫أرميك �إىل �أول عري�س �أعمى‬
‫وراءك ‪� ..‬ستجل�سني يف املنزل حتى � ِ‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫لك‪.‬‬‫يتقدم ِ‬
‫‪‬‬
‫العد ُّو من خلفها‪ ،‬والبحر ِّ‬
‫بكل دواماته املُ ِغرقة �أمامها‪� ,‬ستفعل كما يفعل � ُّأي‬
‫ب�شكل ع�شوائي‪ ،‬وت�صرخ طلب ًا للنجاة‪ ،‬ال تعرف‬ ‫غريق مكانها‪ ,‬ت�ضرب بذراعيها ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كيف مت َّل َ�صت من قب�ضة والدها وجرت نحو غرفتها‪ ,‬فما زال اجلزء الواعي‬
‫خرج‬ ‫كاف؛ ل ُي ِ‬
‫وقت ٍ‬
‫من عقلها يخربها �أن «رمزي» عندما �صرخت مل يكن �أمامه ٌ‬
‫الأ�سطوانة املُدجمة من احلا�سوب‪ ،‬طوق جناتها الأخري‪� ,‬ضربت ب�إ�صب ِعها على‬
‫اجلهاز‪ ،‬وقامت بت�شغيل الأ�سطوانة‪ ,‬وعندما حلقوا بها‪ ,‬تباط�أت خفقات قلب‬
‫�أمها وتعر َقت ُمتهاوي ًة على الفرا�ش من �صدمتها‪ ,‬و «غفران» ت�صرخ بهي�سرتيا‬
‫وقد كانت هي الأخرى ه ِلع ًة من هول ما تعر�ضه الأ�سطوانة يف تلك اللحظة‪.‬‬
‫�أما والدهما فكان هو �أول َمن ا�ستقيظ من �صدمته‪ ،‬وقام بنزع القاب�س‬
‫الكهربي؛ فانطف�أ احلا�سوب على الفور‪ ,‬وحتو َلت عيناه جتاه «رمزي»‪ ،‬ولكنه‬
‫مل ي�ستطع حتريك ل�سانه‪.‬‬
‫�شعر «رمزي» ب�أنه متت حما�صر ُته‪ ،‬وال بد من ٍ‬
‫�سبيل للخروج ب�أقل اخل�سائر‬
‫بتجهم‪ ،‬و�صوته يعلو تدريجي ًا‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫املُمكنة‪َّ ,‬‬
‫قطب حاجبيه‪ ،‬وهو ينظر �إليهم‬
‫وماذا يعني �أن �أ�شاهد تلك الأفالم ؟‪� ..‬أنا رجل‪ ..‬وجميعنا نفعل ذلك‬
‫‪ ..‬وما عالقة هذا بالتهمة التي ترميني بها تلك احلقرية التي ا�ستغلت‬
‫الأمر؛ لتتهمني بالباطل‪.‬‬
‫أمل ظاهر ٍة‪ ،‬وهو‬
‫للحظات ثم عاود النظر �إىل» غفران» بخيبة � ٍ‬
‫ٍ‬ ‫�صمت‬
‫َ‬
‫ُيومىء بر�أ�سه وك�أنه يهذي �صارخ ًا‪:‬‬
‫كل هذا من �أجل �أن حت�صلي على الغرفة ‪ ..‬خذيها‪ ..‬خذي البيت كله‬
‫لك ‪� ..‬أنا لن �أظل هنا حلظة واحدة‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪‬‬
‫مدت الأم كلتا‬
‫حترك ب�سرع ٍة قبل �أن ُينهي كلمته الأخرية‪ ,‬وبتلقائي ٍة ِ‬
‫يديها �إليه يف نف�س الثانية التي �أ�سرع فيها والده خل َفه يناديه مبرار ٍة‪ ,‬ولكن‬
‫م�شهد ي�ستح ُّق عليه جائزة الأو�سكار لأح�سن ٍ‬
‫ممثل‬ ‫«رمزي» انطلق كال�سهم يف ٍ‬
‫تراجيدي!‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ح�سن ‪ ..‬ماه ٌر جد ًا يف �صنع ِته‪ ,‬ال مكان له �سوى ور�شة �إ�صالح ال�سيارات‬
‫أخر من الليل‪ ,‬يف احلادية ع�شرة متام ًا ُيغلق‬ ‫وقت مت� ٍ‬ ‫يق�ضي بها طيلة يومه �إىل ٍ‬
‫ويتوجه �إىل الغرفة امل�ؤجرة فوق �سطح ال ِبناية التي تبعد عن مكان‬ ‫�أبوابها‪َّ ،‬‬
‫عمله بع�شرين دقيق ًة م�شي ًا على الأقدام‪ ,‬غرف ٌة تتوفر فيها فقط احتياجاته‬
‫فرا�ش عتي ٌق ُم�ستع َم ٌل‪ ،‬وثالج ٌة �صغري ٌة برادُها ال يعمل‪,‬‬ ‫ٌ‬ ‫ال�ضرورية للنوم‪,‬‬
‫ل�ص َغر م�ساحة‬ ‫وحما ٌم با ُبه يف زاوي ٍة من الغرفة يدلف �إليه بجانب ج�سده؛ ِ‬
‫جدران!‪� ,‬إنه‬
‫ٍ‬ ‫الباب من اخلارج‪ ,‬ال ميكن �أن يكون هذا احلمام مكون ًا من �أربع ِة‬
‫على الأكرث حائطان وزاوي ٌة!‪� ,‬إال �أنه يكفي احتياجاته‪.‬‬
‫هو يف الأ�صل يق�ضي يومه كله بني اجلدران الأربعة احلقيقية التي يجد‬
‫بها نف�سه‪ ,‬عيناه تلمعان بزه ٍو كلما ا�ستطاعت يده بحرفية �أن ُتعيد �سيار ًة من‬
‫مولود‬
‫جديد‪ ,‬ينت�شي ب�سماع ُمركها وك�أنه �صراخ ٍ‬ ‫الإنعا�ش �إىل الرك�ض من ٍ‬
‫جديد‪ ,‬يقتل نف�سه ع َم ًال من �أجل �سماع تلك العبارة يف النهاية «اهلل ينور يا‬
‫ٍ‬
‫با�شمهند�س»‪.‬‬
‫�شعو ٌر رائ ٌع بالوجود‪� ,‬إنه ي�ص ُلح للفخر‪ ,‬توقف احلروف يف حلقه‪ ،‬واللعثمة‬
‫أربع مل‬
‫كلمات �أو � ٍ‬
‫ثالث ٍ‬ ‫التي تت�ضح كلما زادت � ُّأي عبار ٍة يقولها عن �أكرث من ِ‬
‫تكن عائق ًا �أمام مهارة ِيده‪ ,‬لذلك َ‬
‫�صمت وترك لأ�صابعه احلديث‪ ،‬هذا ما يربع‬
‫فيه‪ ،‬حتى و�صل �إىل م�سامعه عبارة من �صوت بغي�ض �إىل قلبه ‪:‬‬
‫متى �ستدفع الإيجار املُت�أخر يا « ميكانيكي الغربة»؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫م�سح «ح�سن» قب�ضتيه بقو ٍة يف القما�شة ال�صفراء �سابق ًا‪ ،‬ال�سوداء حالي ًا‬
‫من �أثر ال�شحم الأ�سود العالق فيهما دائم ًا‪ ,‬وا�ستدار ُيوليه ظهره العري�ض على‬
‫�إثر �سماع ذلك ال�صوت الأج�ش البغي�ض �إىل قلبه‪ُ ,‬ما ِو ًال كبح غ�ضبه ُمفي ًا‬
‫�إياه خلف قناعه ال�ساخر‪:‬‬
‫�ستحق ‪ ..‬غدا ‪ ..‬يا « �أظلم»‪.‬‬
‫الإيجار ُي َ‬
‫حترك «�أنور» بج�سده البدين‪ ،‬وقامته الق�صرية‪ ،‬وبثور ٍة عارم ٍة ُم ِ�سك ًا‬
‫وما ِو ًال �ضربه على ر�أ�سه‪ ،‬وهو ي�صيح هائج ًا‬ ‫مبالب�س «ح�سن» من اخللف‪ُ ،‬‬
‫فيهت ُّز ج�سده ال�ضخم على �إثر انفعاله ال�شديد‪.‬‬
‫تتوقف عن مناداتي بهذا اال�سم �أيها احلقري؟‪ .. ،‬و�شرف �أمي‬ ‫َ‬ ‫�ألن‬
‫أطردنك من ور�شتي �شر ِط ْردة؛ لتعود ُم�شرد ًا كما يليق َ‬
‫بك يا ُمت�شرد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫التفت «ح�سن» له �سريع ًا قاب�ض ًا على ُر�سغيه ُم ِد ًثا بهما � َأل ًا رهيب ًا؛ لريى‬
‫َ‬
‫نظرات اال�ستغاثة يف عينيه‪ ,‬ويف الت ِّو �صرخ «�أنور» ي�ستغيث بالنا�س الذين بد�أوا‬
‫�شديد‪.‬‬
‫مبلل ٍ‬‫بالتج ُّمع حولهما ٍ‬
‫قاب�ض على‬‫لقد اعتادوا على م�شاجرات «�أنور» البخيل وولده الغا�ضب وهو ٌ‬
‫وت�شف‪ ،‬وهو ُيقرب وجهه منه قائ ًال ب�صوت املُتلع ِثم‬ ‫بجنون ٍّ‬‫ٍ‬ ‫ر�سغ �أبيه‪ ،‬وينظر له‬
‫الذي �ضاع بني �صياح اجلميع ب�أن يرت َكه ويرحم ِكرب ِ�س ِّنه‪:‬‬
‫َ‬
‫مناداتك بـه ‪ ...‬عندما تتوقف عن اخلو�ض ‪ ..‬يف‬ ‫ �س�أتو َّقف عن ‪..‬‬
‫ِعر�ض �أمي ‪ ..‬يـا «�أظلم خلق اهلل» ‪.‬‬
‫ا�ستطاع الرجال التفرقة بينهما ب�صعوب ٍة موجهني اللوم �إىل «ح�سن» الذي‬
‫نظرات ناري ًة كطلقات الر�صا�ص جتاه «�أنور» الذي اطم�أنَّ �إىل وجود‬
‫ٍ‬ ‫يوجه‬
‫كان ِّ‬
‫‪‬‬
‫اجلمهرة من حولهما يف�صلون بينهما‪ ،‬ف�أخذ يزعق كال ِغربان �أثناء تراجعه‬
‫للخلف فا َّر ًا من تلك املعركة غري املُتكا ِفئة‪:‬‬
‫َ‬
‫عظامك التي تتباهى بها يا ابن احلرام ‪ ..‬و�سرتى‪.‬‬ ‫�س�أك�سر‬
‫نف�ض «ح�سن» الأيدي التي كانت مت�شبث ًة به متنعه عن والده‪ ،‬وهو يب�صق‬
‫بعيد ًا عائد ًا �إىل قلب ور�شته ال�صغرية‪ ,‬جذب املقعد اخل�شبي �إىل منت�صفها‬
‫متام ًا‪ ,‬جل�س فوقه وهو مييل �إىل الأمام ُم�ست ِند ًا ِمبرفقيه �إىل فخذيه‪� ,‬ضم‬
‫حتركات «�أنور» بني‬
‫ِ‬ ‫قب�ضته الي�سرى بداخل �أختها‪ ,‬وعيناه تتبعان كال�صقر‬
‫اجلموع‪.‬‬
‫بعيد يظنه حيوان ًا مفرت�س ًا ي�ستع ُّد لالنق�ضا�ض والفتك‪� ,‬أما‬ ‫من ي َره من ٍ‬
‫من يعرفه ‪ -‬وال �أحد يعرفه ‪ ,-‬ي�شعر بلهيب الأمل الغا�ضب يغلي بكل �شرايينه‪,‬‬
‫وجه ًا حديثه لبع�ضهم‬ ‫�إنه يت�أمل وهو يرى ذاك البدين ي�شيح بكلتا ذراعيه ُم ِّ‬
‫هنا وهناك‪ُ ,‬‬
‫يلوك �سري َة �أمه املتوفاة الآن‪ ,‬كيف ُي ِ‬
‫خر ُ�سه؟‪ ,‬ملاذا ال ينجح بقت ِله‬
‫ويرتاح من قذارة ل�سانه �إىل الأبد؟‪.‬‬
‫اليوم �أي�ض ًا ف�شل كبقية الأيام‪ ,‬كل ٍ‬
‫يوم ُيخطط؛ لي�ستثريه ويفتعل �شجار ًا‬
‫معه ينتهي ب�آل ٍة حاد ٍة على ر�أ�سه‪� ,‬أو حتى يك�سر رقبته‪ ,‬ولكنه يف كل مر ٍة يرتاجع‬
‫يف اللحظة الأخرية‪.‬‬
‫منذ متى وهو ُيخطط للقتل؟‪ ,‬يعتقد ب�أنه يفعل ذلك منذ �أن بلغ اخلام�سة‬
‫من عمره!‪ ,‬وحتديد ًا يف اللحظة التي قذفه والده فيها هو و�أمه خارج بيته وهو‬
‫ي�ضر ُبها وي�صفها بالزانية‪ ,‬مل يكن َيعي معنى هذه الكلمة يف �سنه ال�صغرية‪,‬‬
‫عيناه فقط هما َمن كانتا ت�س�أالنه ‪:‬‬
‫ملاذا يقوم بطردهما �إىل ال�شارع؟‪,‬‬
‫‪‬‬
‫ألي�س ْت هذه الباكية زوجته؟‬
‫� َ‬
‫ألي�س هو ولده؟‬
‫� َ‬
‫وجاءته الإجابة وهو يف عمر الثانية ع�شرة‪ ,‬عندما خرج من بيت خالة‬
‫متوجه ًا �إليه‪ ,‬عازم ًا على معرفة ملاذا فعل والده بهما‬
‫والدته التي جل�أت �إليها ِّ‬
‫ما فعل؟‪:‬‬
‫�أنت ابن حرام‪� ..‬أمك خانتني مع ابن خالتها‪ ..‬و�شاء اهلل �أن يك�ش َفها‪..‬‬
‫وخرجت �أنت ُمتلعثم ًا مثله‪.‬‬
‫�أمي �أنا؟!!‬
‫�ألقى �س�ؤاله ُمرت ِبك ًا َمدهو�ش ًا‪ ,‬فوالدته �أخربته �أنه طردهما؛ لأ َّنها تطلب‬
‫منه م�صاريف كثري ًة للمنزل‪ ,‬وهو بخي ٌل ‪ ..‬فقط‪ ,‬هذه هي كل احلكاية‪ ,‬ولكن‬
‫يوم مي ُّر من عمره ال ي�صدق ما قالته‪ ,‬ويعتقد �أنها ِك ْذبتها الوحيدة يف هذه‬ ‫كل ٍ‬
‫احلياة‪.‬‬
‫نعم‪� ،‬أمك ‪ ..‬ولقد ظلت تخدعني منذ �أن بد�أتَ �أنت تتحدث وظهر‬
‫َ‬
‫تلعثمك يف الكالم وهي تخربين �أنك ُمت�أخر فقط ‪ ..‬ومع الوقت �ستنطق‬
‫ب�شكل �صحيح كغريك من الأطفال ‪ ..‬ولكنك مل تفعل ‪ ..‬ظللت تتلعثم‬
‫�أكرث ف�أكرث �إىل �أن بد�أ �أ�صدقائي على القهوة ي�سخرون مني كل ليلة‬
‫َ‬
‫زوجتك بال�ضبط؟‬ ‫قائلني ‪�« :‬أال تالحظ �أن ابنك متلعثم مثل ابن خالة‬
‫‪ ..‬حتى �إنه ُي�شبهه يا رجل»‪.‬‬
‫كانت هذه هي املرة الأوىل التي جتر�أ فيها على والده‪ ,‬قفز نحوه ُم ِ�سك ًا‬
‫بجنون‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بتالبيبه وي�صرخ‬

‫‪‬‬
‫�أ�أنت جمنونٌ؟!!‪ ,‬تتهم �أمي بالزنا‪ ..‬لأنني مثل ‪ ..‬ابن خالتها؟‪� ..‬أجبني‬
‫أنت جمنون؟!!‬
‫‪َ � ..‬‬
‫اعتدل «ح�سن» يف جل�س ِته فوق املقعد اخل�شبي ُمتح�س�س ًا جانب ر�أ�سه‪,‬‬
‫وهو ي�شعر ب�أنها ُ�ش َّجت للت ِّو‪ ,‬وقتها نف�ض «�أنور» يده‪ ،‬وجذب ع�صاته الغليظة‬
‫ال�ساكنة بجوار الباب و�ضربه بها على ر�أ�سه‪ ,‬ولكن ماذا تكون هذه الندبة‬
‫بجوار ندوب كرامته التي يحملها كالكفن فوق �ساعديه من حينها؟‪.‬‬
‫تذكر دموع والدته وهي تقف �أمامه ت�شعر باخلزي‪ ،‬وقبل �أن تتكلم �سقط‬
‫عند قدميها‪ ،‬وقبلهما وهو يرجوها �أال تدافع عن نف�سها؛ فهو يعلم �أنها عفيف ٌة‪،‬‬
‫مبجنون ي�سحبه �أ�صدقا�ؤه من قفاه!‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وكل ذن ِبها �أنها تزوجت‬
‫رج ُلها و�سندها يف احلياة حتى بلغ ال�سابعة ع�شرة من‬ ‫منذ ذلك الوقت وهو ُ‬
‫عمره‪ ,‬عندما ماتت فج�أة ب�سكت ٍة دماغي ٍة ال يعلم من �أين �أتتها؟‪ ,‬كل ما يعلمه‬
‫�أنه اكت�شف يف �أول ليل ٍة لها يف القرب �أنها هي التي كانت ت�سنده‪ ,‬ال العك�س كما‬
‫كان يتوهم‪ ،‬فقد َخ َل ِت الدنيا من النا�س برحيلها‪.‬‬
‫ترك النا�س وجل�أ للوحدة‪ ,‬فهي �أكرث َمن يفه ُمه‪ ,‬ال ت�ؤذيه مثلهم‪ ,‬وعند‬
‫قواعد‬
‫َ‬ ‫بع�ضهم بع�ض ًا حتت‬
‫يلكم ُ‬‫مروره �أمام ال�ساحة ال�شعبية‪ ,‬ور�ؤيته للفتيان ُ‬
‫ريا�ضي ٍة ال تخ�صه‪َ ,‬ع ِلم وقتها �أين �سي�ضع غ�ضبه املتقد دوم ًا بداخله؟‪.‬‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫«ح�سن» �أنا فخو ٌر بك ‪� ..‬أنت مثلي الأعلى‪.‬‬
‫إدراك ل�شخ�صية «ح�سن»‪ ،‬وهو يقف �أمامه على‬ ‫قالها «رمزي» بحنك ٍة و� ٍ‬
‫باب ور�شته‪ ,‬ويطلب منه �أن ُيعلمه املهنة‪ ,‬فهو يريد �أن يتعلم كيف يك�سب رزقه‬
‫منحه «رمزي» كل الأ�سباب التي جتعله يوافق على‬ ‫بعيد ًا عن ت�سلط والده؟‪َ ,‬‬
‫العمل حتت يديه‪� ,‬إنه ال يعرفه جيد ًا‪ ,‬هو جاره يف نف�س احلي‪ ,‬ولكن عالقته‬
‫به �سطحي ٌة جد ًا وتكاد تكون منعدم ًة‪ ,‬يعرف فقط �أخته‪ ,‬تلك الفتاة التي كانت‬
‫متر به و ُتلقي ال�سالم‪ ,‬لقد اختفت منذ ثالثة � ٍ‬
‫أيام‪ ,‬ترى �أين ذه َب ْت؟!‪.‬‬
‫ميينك ‪� ..‬أريد �أن �أكون ماهر ًا َ‬
‫مثلك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫�س�أكون طوع‬
‫يحب‬
‫يتل�ص�صون عليه‪ُّ ,‬‬
‫بداخله نفو ٌر من خمالطة الغرباء‪ ,‬ي�شعر ب�أنهم َّ‬
‫�أن يبقى وحيد ًا‪ ,‬ولكن «رمزى» عرف من �أين ُت�ؤكل ال َك ِتف؟‪ ,‬ووجد ا َملدخل‬
‫املنا�سب‪� ,‬إنه ي�صلح للفخر!‬
‫ح�سن ًا يا «رمزي»‪ ..‬لي�س َّ‬
‫لدي‪ ..‬مانع‪ ..‬ولكن‪� ..‬ستحتاج �إىل جهد‪..‬‬
‫و�صرب‪.‬‬
‫قوي‬
‫�أوم�أ «رمزي» بر�أ�سه بطاع ٍة ظاهر ٍة على وجهه‪ ،‬وبداخله �شعو ٌر ٌّ‬
‫مكان �آخر‪ ,‬ولكنه يريد �أن‬
‫باالنت�صار‪ ,‬لقد كان من املمكن �أن يعمل يف �أيِّ ٍ‬
‫يراه والده كل �ساع ٍة‪ ،‬وال�شحم ُيغطي يديه ووجهه ومالب�سه‪ ,‬يريد �أن ُي�شعره‬
‫‪‬‬
‫بت�أنيب ال�ضمري‪ ,‬فهو يعرف والده جيد ًا‪ ,‬ويعرف �أنه لن يتحمل �أن يرى ولده‬
‫الذ َكر تتالطم به �أمواج احلياة هكذا‪ ,‬حتى ت�صل به احلال �إىل �أن يعمل �صبي‬
‫َّ‬
‫ميكانيكي لدى «ابن احلرام» هذا‪.‬‬
‫ما توقع‪ ,‬ففي ال�صباح كان والده يقف �أمامه بنظر ٍة‬ ‫خل َّطة �سارت �أ�سرع ِ َّ‬‫ا ُ‬
‫غا�ضب ٍة ُمتح�سر ٍة‪ ,‬ويج ُّره بعيد ًا؛ لي�ستجوبه‪:‬‬
‫َ‬
‫بنف�سك وبنا؟‪ ..‬هل تريد �أن تف�ضحنا ؟!‪.‬‬ ‫ماذا تفعل‬
‫�أطرق «رمزي» بر�أ�سه وقال ببطءٍ وبنرب ٍة ُمعاتب ٍة‪:‬‬
‫وماذا تريدين �أن �أفعل بعد �أن �صدقتموها واتهمتموين بالباطل؟‪.‬‬
‫بتعجب وهو يقول ُما ِو ًال خف�ض �صوته‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رفع «حافظ رمزي» حاجبيه‬
‫كنت ت�شاهده ب�أعيننا؟‪.‬‬
‫بالباطل؟!‪ ..‬بعد �أن ر�أينا ما َ‬
‫رفع «رمزي» ذراعه ُم�شري ًا حوله �إىل ال �شىء وهو يقول بثق ٍة‪:‬‬
‫أمامك يفعل ما �أفع ُله ‪ ..‬وبالرغم من َ‬
‫ذلك �أنا‬ ‫�أي �شاب ي�سري الآن � َ‬
‫اعتذرتُ َ‬
‫لك ‪ ..‬ماذا �أفعل �أكرث ِمن هذا؟‪.‬‬
‫و�ضع �أبوه كفه على كتفه وهو يربتُ عليه بقو ٍة حاني ٍة قائ ًال‪:‬‬
‫ال تفعل �شيئ ًا‪ ..‬عد �إىل َ‬
‫بيتك وينتهي الأمر‪� ..‬أنا ال �أر�ضى َ‬
‫لك �أن تتدهور‬
‫بك احلال �إىل َ‬
‫تلك الدرجة ‪� ..‬أنت ابني يف النهاية‪.‬‬ ‫َ‬

‫و«غفران» ؟‬

‫‪‬‬
‫ما بها؟!‬
‫يحرك ر�أ�سه مين ًة وي�سر ًة‪ ,‬ويوجه حديثه‬
‫ُ‬ ‫ابت�سم «رمزي» �ساخر ًا وهو‬
‫للأر�ض من حتت قدمه‪ ،‬وعيناه تت�سعان وك�أنه يهذي‪:‬‬
‫�أعود؛ لتتهمني جمددا �أنني �أحتر�ش بها؟‪.‬‬
‫�س�أف�صل رقبتها عن ج�سدها لو تف َّوهت َ‬
‫عنك ب�سوء مرة �أخرى‪.‬‬
‫خرجه من الغرفة‪ ,‬والآن‬ ‫�سريد لها ال�صاع �صاعني‪ ,‬هي كانت تريد �أن ُت َ‬
‫خرجها من البيت كله‪ ,‬ولكن مه ًال‪ ,‬لقد �صدق نف�سه حق ًا‪ ,‬و ُيدبر‬
‫فر�صتُه؛ ل ُي َ‬
‫للث�أر منها بالفعل‪.‬‬
‫كيف ي�ستطيع الإن�سانُ �أن ُي�صدق ِك ْذبتَه �إىل هذه الدرجة؟!‪� ,‬إىل درجة �أن‬
‫يجد ملوحة دموعه على �شفتيه‪ ,‬و�شعو ٌر بق�شعريرة ُّ‬
‫الظلم يغ�شاه‪ ,‬داف ٌع يدفعه‬
‫بارد !‬
‫انتقام ٍ‬
‫احلقيقي‪ٍ ,‬‬
‫ِّ‬ ‫لالنتقام‬
‫نظر يف عيني والده‪ ،‬وال ُّدموع متلأ عينيه قائ ًال بنرب ٍة متقطع ٍة من البكاء‬
‫املكتوم‪:‬‬
‫لن �أعود مادامت هي هناك ‪ ..‬هذا �آخر ما لدي‪.‬‬
‫ثم تركه و�أ�سرع نحو الور�شة التي كان يقف «ح�سن» ُقبالتها‪ ،‬و ُيتابع ا َمل�شهد‬
‫هم‪ ,‬وعندما اقرتب منه «رمزي» بتحركاته الع�شوائية الهائجة‪ ,‬وانحنى‬ ‫بعدم َف ٍ‬
‫لي�ستخدم رافعة ال�سيارات؛ لي�ستكمل العمل الذي كلفه به «ح�سن» الذي قال‬
‫على الفور �ساخر ًا‪:‬‬

‫‪‬‬
‫نظرات َ‬
‫والدك‪ ..‬نحوي ‪� ..‬أخربتني �أنه مل يطردك ‪ ..‬من املنزل ‪ ..‬كما‬
‫�أخربتني‪.‬‬
‫بغ�ضب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ظل «رمزي» ُمنحني ًا و ُمن�شغ ًال بخلع الإطارات الثقيلة وهو يقول‬
‫لقد ا�ستيقظ �ضمريه فج�أة ‪ ..‬و�أنا كرامتي ال ت�سمح يل‪.‬‬
‫يكفي �أنه ‪ ..‬ا�ستيقظ‪.‬‬
‫قالها «ح�سن» ب ُغ�ص ٍة �أحرقت حلقه‪ ,‬وجعلته ُي�شيح بوجهه بعيد ًا‪ ,‬ولكن‬
‫«رمزي» مل ينتبه لتلك املرارة يف نربته‪ ,‬فاعتدل لي�ستكمل م�شهده التمثيلي‪:‬‬
‫عتذر ًا الآن ‪ ..‬فهل تقبل اعتذاره و ُت�ساحمه وتعود‬ ‫َ‬
‫والدك �إليك ُم ِ‬ ‫لو جاء‬
‫معه؟‪.‬‬
‫ماذا ؟!‪� ,‬إنه مل ُيفكر يف ذاك االحتمال من قبل!‪ ,‬هل ُي ِنكر رغبته ب�أن يكون‬
‫طبيعي كبقية الب�شر؟‪� ,‬أيكذب وينفي رغبته يف يد قوي ٍة ُت َ‬
‫و�ض ْع على كت ِفه‬ ‫ٌّ‬ ‫له وال ٌد‬
‫قليل؟‪.‬‬
‫بحنو كما فعل والد «رمزي» منذ ٍ‬
‫قطب بني حاجبيه وهو ينف�ض ر�أ�سه بقو ٍة هازئ ًا من نف�سه‪ ,‬مباذا ُتفكر يا‬ ‫َّ‬
‫«ح�سن»؟‪� ,‬إنه ي�صلح لأن يكون قات ًال فقط‪ ,‬كلمة ٍ‬
‫والد هذه �أبعد ما تكون عن‬
‫«�أظلم خلق اهلل»‪.‬‬
‫د�س يده يف جيب �سرواله «اجلينـز»‪ ،‬و�أخرج �أموال الإيجار ال�شهري رمبا‬
‫َّ‬
‫بتجهم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ي�ساعده ذلك على التذكر‪ ,‬مد يده �إىل «رمزي» قائ ًال‬
‫تن�س ا�ستالم‪..‬‬
‫اذهب �إىل «�أنور برهان» ‪� ..‬سدد �إيجار‪ ..‬الور�شة‪ ..‬وال َ‬
‫الإي�صال ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫نظر «رمزي» �إىل الأموال بده�ش ٍة هاتف ًا‪:‬‬
‫هل ت�سدد �إيجار ور�شة �أبيك؟!!‬
‫ابت�سم «ح�سن» �ساخر ًا وهو ُيومىء بـ «نعم»‪ ،‬فعاد يهتف مر ًة �أخرى‪:‬‬
‫وماذا �سيحدث �إن مل تدفع ؟‪.‬‬
‫قال «ح�سن» بب�ساط ٍة ‪:‬‬
‫�سيطردين ‪ ...‬منها‪.‬‬
‫ح َّر َك «رمزي» ر�أ�سه ُمتعجب ًا‪ ,‬لقد كان ي�سمع عن امل�شكالت القائمة بني‬
‫يق�صه‬
‫«ح�سن» ووالده‪ ,‬واحلرب الدائرة بينهما‪ ,‬من خالل احلكايات التي كان ُّ‬
‫ربهن ًا بها على حبه لولده‪ ،‬و�أنه يفخر به و ُيقدمه على نف�سه ال كما‬ ‫عليه والده؛ ُم ِ‬
‫ذلك مل يكن يت�صور �أن ت�صل �إىل �أن ي�سدد‬ ‫يفعل «�أنور» مع ولده‪ ,‬وبالرغم من َ‬
‫مكان �سيملكه �آج ًال �أو عاج ًال‪ ,‬بل ملاذا مل ي�ؤجر مكان ًا �آخر بعيد ًا‬
‫«ح�سن» �إيجار ٍ‬
‫عن «�أنور» وقلة �أدبه؟‪ ,‬هل �ضاقت به الدنيا ؟!‪.‬‬
‫عندما كنتُ ‪ ..‬يف الثانية ع�شرة ‪� ..‬ضر َبني «�أنور» ‪ ..‬على ر�أ�سي ف�شجه‬
‫‪ ..‬و�سالت دمائي‪ ..‬ولكن حتى دمائي هذه‪ ..‬مل ت�شفع يل عنده‪..‬‬
‫فجذبني من مالب�سي ‪ ..‬ونزل بي �إىل احلارة‪ ..‬وهو ي�سبني وي�شتمني‪..‬‬
‫حاول اجلريان التدخل‪ ..‬وتخلي�صي من ‪ ..‬بني يديه‪ ..‬ولكنهم ف�شلوا‪..‬‬
‫فلقد كان ‪..‬هائج ًا كالثور ‪ ..‬ويف �أوج قوته‪ ..‬وفج�أة وجدت ‪�..‬أحدهم‬
‫ذراعه‪ُ ...‬مدافع ًا‬
‫أخذين حتت ِ‬ ‫ينتزعني‪ ..‬بالقوة من ب ِني‪ ..‬يديه‪ ..‬وي� ُ‬
‫عني‪ ..‬و�أدخلني هذه الور�شة‪ ..‬وقام بغ�سل‪ ..‬دمائي‪ ..‬ثم �أخذين‪� ..‬إىل‬
‫�أقرب َم�شفى‪ ..‬ليقوموا ‪..‬بتطبيب ُجرحي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ َمن كان هذا؟‬
‫تابع «ح�سن» بحن ٍني‪:‬‬
‫�أ�سطى «رحيم»‪.‬‬
‫عندما �س�أله «رمزي» يف البداية عن �سر بقا ِئه يف هذه الور�شة حتديد ًا مل‬
‫يكن يعلم �أن «ح�سن» يحب احلديث عن «رحيم» وعن طريقة معرفته به �إىل‬
‫غريب‪ ,‬يغلب الغ�ضب الدائم بداخلهما‪,‬‬ ‫بحنان ٍ‬
‫ٍ‬ ‫هذه الدرجة‪ ,‬عيناه متوهجتان‬
‫وي�سرت�سل بغراب ٍة ال تليق بتجهمِ ه و�صمته الدائم‪ ،‬لقد كان ح�سن يرى يف‬
‫«رحيم» الأبوة الغائبة عنه التي كان ي�شتاق �إليها ب�شدة‪:‬‬
‫�أ�سطى «رحيم» عاملني‪ ..‬بحزم وحنان يف‪ ..‬نف�س الوقت‪ ..‬وعلمني �سر‬
‫‪..‬ال�صنعة‪ ..‬وقبلها علمني ‪� ..‬أن �أعتمد ‪ ..‬على نف�سي‪ ..‬وال �أنتظر �شفقة‬
‫من ‪� ..‬أحد‪ ..‬ثم مت َّلك املر�ض منه ‪ ..‬وكانت الزبائن ت�أتي ‪ ..‬من �أجلي‬
‫خ�صو�ص ًا‪ ..‬منذ �أن كنتُ ‪ ..‬فتى يف اخلام�سة ع�شرة ‪ ..‬من عمري‪..‬‬
‫�أو�صاين‪-‬رحمه اهلل‪ ..-‬ب�أال �أترك املكان هنا‪ ..‬و�أن � َ‬
‫أمت�سك ‪ ..‬به قدر‬
‫املُ�ستطاع ‪ ..‬حتى �أ�صبح م�صدر رزقي‪ ..‬الوحيد‪ ..‬مات يف نف�س العام‪..‬‬
‫الذي ماتت ‪ ..‬فيه �أمي‪ ..‬وطردين «�أنور» ‪ ..‬من الور�شة و�أغل َقها‪.‬‬
‫هب «رمزي» واقف ًا‪ُ ,‬م ِ�سك ًا ب�شطرية الفالفل احلارة بني �أ�صابعه وهو‬
‫ب�شغف‪:‬‬
‫يت�ساءل ٍ‬
‫وماذا فع ْلت؟‪.‬‬
‫�أجاب «ح�سن» بال مباال ٍة‪:‬‬
‫�أعادين مرة �أخرى ‪ ..‬بعقد �إيجار جديد‪ ..‬با�سمي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫انزلق «رمزي» جال�س ًا مر ًة �أخرى هاتف ًا بده�ش ٍة‪:‬‬
‫ملاذا ؟!!!‬
‫ق�ضم «ح�سن» ق�ضم ًة من �شطريته‪ ،‬وتابع برزان ٍة‪:‬‬
‫قام بت�أجريها لأحدهم‪ ..‬يف البداية‪ ..‬ولكن الزبائن‪ ..‬مل تنفك يف‬
‫‪ ..‬ال�س�ؤال عني‪ ..‬فهو مل يكن ماهر ًا ‪ ..‬كما كان ُمنعدم ال�ضمري‪..‬‬
‫أ�صبحت الور�شة‪ ..‬كاخلرابة ‪ ..‬وانقط َعت‬
‫وعندما‪ ..‬مل يجدوين‪َ � ..‬‬
‫الأرجل عنها‪ ..‬مل ي�ستطع الرجل‪� ..‬أن ي�سدد الإيجار‪ ..‬فرتكها‪ ..‬وخ�سر‬
‫«�أنور» ‪َ ..‬م�صدر ًا مهم ًا‪ ..‬يعتمد عليه ‪..‬يف املعي�شة‪.‬‬
‫إدراك‪ ,‬فلم يكن يف حاج ٍة �إىل ا�ستكمال الق�صة‪ ,‬جم ُع‬ ‫�أوم�أ «رمزي» ب� ٍ‬
‫ن�سب «ح�سن»‪ ،‬و�إىل َمن ينتمي؟‪ ,‬لذلك يت�شاجر‬ ‫املال �أهم عند «�أنور» من َ‬ ‫ِ‬
‫أيام‪ ،‬ويكاد �أن ي�ضربه دون �أن يخ�شى طرده‪� ,‬إنه ُم ٌ‬
‫درك‬ ‫معه «ح�سن» كل عدة � ٍ‬
‫ما‬ ‫�إىل حاجة والده �إىل بقاء الور�شة مفتوح ًة‪ ،‬وال�سيارات متكد�س ٌة �أمامها‪َّ ِ ,‬‬
‫جعله يطمع �أكرث‪ ،‬ويزيد الإيجار �إىل ال�ضعف‪ ,‬و «ح�سن» وافق ب�سهول ٍة من باب‬
‫�شهر‪,‬‬‫�ضاعفة كل ٍ‬‫الت�شفي فقط‪ ,‬نعم‪ ،‬يت�شفى به وهو يرمي له قيمة الإيجار املُ َ‬
‫وك�أنها ال ُت�ساوي �شيئ ًا‪ ,‬مثل �أُ ُبو ِته متام ًا!‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫أيام فقط‪ ,‬ا�ستطاع فيها «رمزي» احل�صول على ما ُي�ش ِبه ال�صداقة‬ ‫ثمانية � ٍ‬
‫نف�سه ِبا يتفوه به‬
‫مع «ح�سن»‪ ,‬قدرته على �أداء امل�شاهد التمثيلية‪ ،‬واقتناعه هو ُ‬
‫ل�سانه من َك ِذب جعلت «ح�سن» يتعاطف معه‪ ،‬وي�صبح �أكرث انفتاح ًا يف احلديث‬
‫معه‪« ,‬ح�سن» �أي�ض ًا كان يف حاج ٍة �إىل لعب دور املُع ِّلم واملُوجه كما كان يفعل‬
‫عطف ُيريد منحه لأحدهم‪.‬‬‫«رحيم» معه‪ ,‬بداخله ٌ‬
‫ولك َّنه ما زال حذر ًا‪ ,‬ولقد زاد حذ ُره يف اليوم الثامن‪ ،‬وبد�أ ُيعيد النظر يف‬
‫�شاهده ُيغازل فتا ًة ال تتجاوز ال�سابعة ع�شر َة‬
‫َ‬ ‫براءة «رمزي» الظاهرة عندما‬
‫خروجها من ال ِبناية املُرتفعة جد ًا باجلوار‪ ,‬هي ال ِبناية الوحيدة املطلية‬
‫�أثناء ِ‬
‫متناق�ض بالن�سبة لِ َا حولها من ِب ٍ‬
‫نايات‬ ‫ٍ‬ ‫م�شهد‬
‫ٍ‬ ‫البتقايل الفاقع يف‬ ‫باللون ُ‬
‫منخف�ض ٍة ما زالت واجها ُتها اخلارجية بالطوب الأحمر املُ ِ‬
‫رتاكم فوقه الغبار‬
‫نايات ُمتجاور ٍة‪.‬‬
‫بخم�س ِب ٍ‬
‫ِ‬ ‫والكثري من عوامل الزمن‪ ,‬تبعد عن الور�شة‬
‫بدون �أ ٍمل !؛ هكذا كتب‬
‫�ص�ص ملركز ن�ساءٍ ووالد ٍة ِ‬ ‫الطابق الأول منها ُم ٌ‬
‫الطبيب على الالفتة التي ُت�ضي ُء بعد الغروب مبا�شر ًة‪ ,‬وبالرغم من ذلك‬ ‫َّ‬
‫�صارخات من �آالم �أ�سفل عمودِهنَّ الفقريِّ !‪� .‬أما الطابق‬
‫ٍ‬ ‫فالن�ساء يخرجنَ منها‬
‫الأخري فهو م�ؤج ٌر كـ «�سنرت تعليمي» كما تقول الالفتة على الواجهة �أي�ض ًا‪،‬‬
‫واملُعلقة على واجهة ال ِبناية املُتف ِّردة‪.‬‬
‫درو�س خ�صو�صي ٍة‬
‫الفتاة ت�أتي هي وكثرياتٌ من زميال ِتها للح�صول على ٍ‬
‫كبديل عن احل�ص�ص املنزلية التي ال مي ِلكنَ نفقا ِتها الباهظة‪,‬‬
‫ٍ‬ ‫ُم َ‬
‫ف�ض ٍة‬
‫‪‬‬
‫راجعات �إىل ما بعد العا�شرة لي ًال لو ت�أخر �أ�ستاذ املادة عن‬‫وت�ستم ُّر تلك املُ َ‬
‫احل�ضور يف موعده املُقرر‪.‬‬
‫وبرغم ال�شتاء العا�صف ب�أمطاره ورياحه ال�ساهجة �أحيان ًا‪� ,‬إال �أنهنَّ ي�أتني‬
‫املطر‪ ,‬كل منهنَّ حتتمي ِمبظلة �أحالمها الوردية عن‬ ‫دائم ًا‪ ,‬يجرينَ حتت َ‬
‫املجموع املُرتفع يف نهاية ال�صف الثاين الثانوي ‪.‬‬
‫خطو ٌة دافع ٌة للمرحلة القادمة‪ ,‬الثانوية العامة‪ ,‬نقطة االرتكاز الوهمية‬
‫ال�صارمة‬ ‫عالُهنَّ اخلا�ص‪ ,‬ماراثون يتوارث الأجيال قواني َنه َّ‬‫التي يدور حولها َ‬
‫توجيه‪� ,‬سباق تعليمي‪ ,‬قواعدُه ُمدد ٌة ُم�سبق ًا‪َ ,‬من ي�صل �أو ًال‬
‫دون احلاجة �إىل ٍ‬
‫يجل�س يف املُقدمة في�ستوعب �أكرث ممن هم يف اخللفية‪ ,‬املكان ُم ِ‬
‫زدح ٌم للغاية‬
‫�سقطنا يف هُ وة الف�شل ال�سريع‪ ,‬ولي�س‬ ‫ككل �شيءٍ حولنا‪ ,‬ال منلك الرتاجع و�إال ْ‬
‫�أمامنا �سوى الدخول �إىل ُمعرتك احلفظ والتح�صيل والنجاح ثم اال�صطدام‬
‫بالواقع ا َملرير‪.‬‬
‫الحظ «ح�سن» ُمراقبة «رمزي» للفتاة التي ُتدعى «�سلمى» على وجه‬
‫وا�ضح‬
‫خلطوات البطيئة نتيجة َع َر ٍج غري ٍ‬ ‫التحديد‪� ,‬صاحبة اجل�سد املُكت ِنز وا ُ‬
‫من الوهلة الأوىل �سوى للعيون املُدققة ‪ ..‬وما �أك َرثها!‪.‬‬
‫ب�صحبتها‪,‬‬‫رفيقات ُ‬
‫ٍ‬ ‫ُي�ضايقها ذهاب ًا و�إياب ًا ُم�ست ِغ ًال َوحدتها وعدم وجود‬
‫عيناها حتكيان الكثري عن الوحدة‪ ،‬وهي ت�سري يف اخللف‪ ،‬نظ ُرها ُمتعل ٌق بتلك‬
‫ببع�ض يف الطريق‪.‬‬
‫بع�ضهنَّ ٍ‬‫أن�س ُ‬
‫املجموعة من الفتيات الالتي ي� ُ‬
‫عاطلني يتقا�سم معهما ُمون‬ ‫َ�سمِ َع ُه يف ليل ٍة ما وهو يتك َّلم عنها بوقاح ٍة مع ِ‬
‫النظرات كما يفعلون بلفافة احل�شي�ش التي تدور بني �أ�صابعهم‪ ،‬ف َن َه َره ب�شد ٍة‪،‬‬
‫مواقف م�شابه ٍة وهو‬ ‫َ‬ ‫وزجره موبخ ًا يف تلك الليلة‪ ،‬وقال له الكلمة امل�شهورة يف‬ ‫َ‬
‫‪‬‬
‫يل ُكزُه يف ك ِت ِفه‪ ,‬ولكن تاريخ «رمزي» ال يجعل هذه الكلمة ت�سقط يف مكانها‬
‫املنا�سب من قلبه‪:‬‬
‫اعتربها مثل ‪� ..‬أختك يا «رمزي» ‪ ..‬هل تر�ضاه لأختك؟!‬
‫يردعه‪ ,‬فلماذا يتوقف الآن مع َمن‬‫«نعم» َر ِ�ض َي ُه من قب ُل‪ ،‬ومل يحدث �شيء ُ‬
‫يوم‪ ,‬يق�صدُها‬
‫للرت�صد للفتاة كل ٍ‬
‫ُّ‬ ‫هي مثل �أخت ِه؟!‪ ,‬املقارنة من الأ�صل دفعته‬
‫هي دون غريها‪ ,‬لقد انقلب ث�أره من «غفران» �إىل تلك الفتاة املِ�سكينة التي‬
‫�سرع خطوا ِتها تارك ًة �إياه يعوي بكلماته املُقززة‪.‬‬
‫كانت تنظر له بازدراءٍ ‪ ،‬و ُت ِ‬
‫مل ي� ِأت والده �إليه مر ًة �أخرى‪ ,‬وك�أنه اختار «غفران» َ‬
‫ونبذه ‪.‬‬
‫اختيا ٌر �سيدفع اجلميع ثم َنه يوم ًا ما !‪ ,‬هكذا �أخرب نف�سه‪.‬‬
‫تغلي قدو ُر احلقد بقلبه‪ ،‬وال َّرغبة يف �إيذاء �إحداهنَّ تت�صاعد‪ ،‬ود َُخان‬
‫يتجرعها كل م�ساءٍ مع �ش َّلة الأُن�س يعمي عينيه عن‬
‫ُ‬ ‫لفائف املُخدرات التي‬
‫ال�سبب وال َّنتيجة‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫تدلف �إىل ِبنايتها التي‬ ‫أيام يرت�صد «�سلمى» ‪ ,‬يتبعها ُخفي ًة حتى َ‬ ‫ثالثة � ٍ‬
‫ير�سم‬‫تواج ِدها يف «ال�سنرت التعليمي»‪ ،‬وك�أنه ُ‬ ‫تقطن بها‪ ,‬د َّون يف عقله �أوقات ُ‬ ‫ُ‬
‫ُخط ًة يظنها ُمكمة‪ ,‬ولكنها يف احلقيقة ُخطة ع�شوائية ال نهاية لها‪ ,‬ودون‬
‫هدف ُمدد‪ ,‬هو ال يعرف ملاذا يفعل كل هذا ؟‪ ,‬كل ما ي�شعر به هو الرغبة‬
‫مل�سها كما كان يفعل مع �شقيقته‪ ,‬الن�شوة التي ي�ش ُع ُر بها �أثناء‬
‫ُمب�ضايق ِتها‪ُ ,‬يري ُد َ‬
‫تر�صدها ُتوقظ احلياة بداخله‪ ،‬وجتعلها ت�سري ب�أورد ِته‪ُ ,‬مرد ٍ‬
‫�صياد ُمبتد�إٍ ال‬
‫يح�س ُب للخطة املقبلة ح�ساب ًا‪.‬‬‫ِ‬
‫وفكر بنف�س الطريقة التي اعتمدها عقله يف املرة الأوىل‪ ,‬لو كانت تنفر منه‬
‫بحق‪ ،‬لكانت انقطعت عن املجي ِء �إىل هنا‪� ,‬أو حتى جاء معها والدها �أو �أخوها‬
‫�أو والدتها؛ ليت�شاجروا معه‪ ,‬ولكن هذا مل يحدث‪ ,‬فلرمبا �إذن هي خجو ٌل فقط‪,‬‬
‫حتتاج بع�ض الإجبار يف البداية‪.‬‬
‫دمن ًا على‬
‫هكذا كان يحدث يف الأفالم التي كان ُي�شاهدها‪ ,‬لقد كان ُم ِ‬
‫ُم�شاهدة املقاطع اخلا�صة بالإجبار‪ ,‬واملُمثلة ُتتقنُ دورها‪ ,‬يف البداية ت�صرخ‬
‫وحتاول الهرب ثم تكون �سعيدة يف النهاية‪ ,‬هذا ما تر�سخ ِبذهنه‪ ,‬ويريد �أن‬
‫ُيجربه ‪ ...‬كفى ُم�شاهد ًة‪.‬‬
‫ويف اليوم التايل مل يكن «ح�سن» على طبيعته التي عرفها «رمزي» يف الأيام‬
‫ال�سابقة‪ ,‬كان ُمنغ ِلق ًا للغاية ال ُيحدثه‪ ،‬وال ُيلقي �إليه بالأوامر كالعادة‪ُ ,‬متجهم ًا‬
‫‪‬‬
‫وك�أنه يتخذ قرار ًا ال رجعة فيه‪ ,‬كان يتمنى �أن ي�سلك نف�س طريق �صاحب الف�ضل‬
‫عليه بعد اهلل‪� ,‬أ�سطى «رحيم»‪ ,‬ولكن رغبته َ‬
‫تلك تنازع خوفه على الفتاة‪.‬‬
‫نعطف ال بد �أن متر الفتاة به قبل �أن تعرب الطريق باجتاه‬‫ور�شته يف ُم ٍ‬
‫ال�صقة لها ُتكنه من انتظارها �أ�سفل‬‫�سيارات الأُجرة‪ ,‬وال�شجرة ال�ضخمة املُ ِ‬
‫باطمئنان دون �أن يراه �أحدٌ‪ ,‬و «رمزي» ي�ستغ ُّل هذه املِيزة‬
‫ٍ‬ ‫فروعها الكثيفة‬
‫ل�صاحله‪ ,‬حاول ردعه عنها‪ ،‬ولكنه ال يرتدع وال ُيوجد �أمامه �سوى حل واحد‪,‬‬
‫ويف النهاية ح�سم �أمره‪ ،‬وناداه بداخل الور�شة؛ ليحدثه عن قراره الأخري‪:‬‬
‫لك عندي ‪ ..‬ولكن ال تقلق ‪� ..‬س�أجد‬‫«رمزي» �أنا‪� ..‬آ�سف جد ًا ‪ ..‬ال عمل َ‬
‫لك ور�شة �أخرى‪ ..‬تعمل بها ‪ ..‬يف مكان �آخر ‪ ..‬بعيد ًا عن هنا‪.‬‬
‫هل يطرده؟!‪ ,‬ابن احلرام الذي ال ي�ستطيع �أن يقول جمل ًة كامل ًة وا�ضح ًة‬
‫قامت القيامة وانقلب احلال �إىل هذا احلدِّ ؟‪.‬‬
‫يطرده هو؟!‪ ,‬هل ِ‬
‫ملاذا؟!‪.‬‬
‫ب�صوت ال ي�سمعه �سواه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫فت�صطك‬ ‫قالها «رمزي» وهو ي�ضغط �أ�سنانه‬
‫بعنف ال يخلو من ال�صدمة‪� ,‬شرارات الكراهية والنفور‬ ‫بينما عيناه ت ُربقان ٍ‬
‫التي �أطلت من عينيه يف تلك اللحظة قالت الكثري‪ ,‬كانت �أكرب من �أن ي�ستطيع‬
‫بو�ضوح‪ ،‬وقد زال جتهمه والتنازع بني‬ ‫ٍ‬ ‫ُموار َبتها عن عيني «ح�سن» الذي قر�أها‬
‫عقله وقلبه بعد �أن تيقن �أن «رمزي» مل يكن يوم ًا يحرتمه �أو يتخذه قدو ًة ف�ض ًال‬
‫عن �أن يكون �صديقه كما كان ُيكرر دائم ًا‪ ,‬فقال بخيب ٍة خفي ٍة ُمغلف ٍة بالإ�صرار‬
‫وال�شدة‪ ،‬وقد باتَ قراره نهائي ًا ال رجعة فيه‪:‬‬
‫لقد حذرتك ِمرار ًا‪ ..‬؛ لترتك َ‬
‫تلك‪ ..‬الفتاة حلال �سبيلها ‪ ..‬ولكنك ال‬
‫ت�سمع ‪ ..‬اليوم هو �آخر‪ ..‬يوم عمل لك هنا‪ ..‬اذهب �إىل حال‪� ..‬سبيلك‪..‬‬
‫بعيد ًا عني‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ُمدد ًا؟‪ ,‬يقع االختيار على الفتاة‪ ،‬وينبذو َنه هو‪ ,‬ملاذا؟‪ ,‬ماذا فعل؛‬
‫ليتعاملوا معه بهذا اجلحود وال ُّنكران؟!‪.‬‬
‫فاقد للحياة‪ ,‬لوال نظراته ال�سامة نحو«ح�سن» الذي‬ ‫بارد ٍ‬
‫كتمثال ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ظل واقف ًا‬
‫قر�أها الأخري جيد ًا‪ ,‬ودون �شعو ٍر وجد نف�سه يقف ُمتحفز ًا ٍ‬
‫لقتال ما‪ ,‬ولكن‬
‫للحظات ُم ِعيد ًا ت�شغيل �أفكاره من ٍ‬
‫جديد‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫حترك فج�أ ًة‪ ،‬و�أطرق بر�أ�سه‬ ‫التمثال‬
‫قبل �أن يرفعها‪ ،‬وقد خ َب ْت نظراته العنيفة فج�أ ًة وك�أنها مل تكن‪ ,‬و�سكن بد ًال‬
‫فوت‪:‬‬
‫بخ ٍ‬‫عنها ت�شتت وحرية �أجادهما وهو يقول ُ‬
‫ح�سن ًا‪ ..‬كما تريد‪ ..‬ولكن اتركني فقط للغد حتى �أتدبر �أمري‪.‬‬
‫حلظات قبل �أن‬
‫ٍ‬ ‫تفكري «ح�سن» يف املُه َلة التي طلبها مل ي�أخذ منه �سوى‬
‫ومئ باملوافقة‪ ،‬وهو َي ِع ُد نف�سه ب�أنه �آخر معروف �سيقدمه له؛ �إر�ضاء ل�ضمريه‬ ‫ُي َ‬
‫فقط‪� ,‬سيتحمله يوم ًا �إ�ضافي ًا �آخر‪ ,‬وهو ال يعلم �أن هذه املُهلة الق�صرية �ستقلب‬
‫حياته كلها ر�أ�س ًا على َع ِق ٍب‪!.‬‬
‫ويف امل�ساء �شاهد «رمزي» �أ�ستاذ املادة خا�صتها ي�صل مت�أخر ًا �ساع ًة‬
‫ون�صف ًا عن موعده كعادته يوم ال�سبت من كل � ٍ‬
‫أ�سبوع‪ ,‬وبح�سب ٍة ب�سيط ٍة علم �أن‬
‫«�سلمى» لن ُتغادر قبل احلادية ع�شرة لي ًال‪.‬‬
‫فانتظر ان�صراف «ح�سن» يف العا�شرة م�سا ًء ُمغادر ًا ؛ ليقوم بغلق الور�شة‬
‫من بعده كما يفعل يومي ًا منذ �أن َعمِ ل «رمزي» معه‪ ,‬ويف العا�شرة والن�صف‪,‬‬
‫قام بجذب الباب املعدين هبوط ًا �إىل منت�ص ِفه متام ًا‪ ،‬وقد ا�شتدت الريح‪،‬‬
‫وهطلت الأمطار بغزار ٍة ‪.‬‬
‫انتظرها عند زاوية ُمظلمة باجلوار‪� ,‬أ�سفل ال�شجرة ال�ضخمة التي تهت ُّز‬
‫�أوراقها بقوة بفعل الرياح؛ نظر ًا ملوقعها على حافة منعطف الطريق‪.‬‬

‫‪‬‬
‫كالعادة خرجت «�سلمى» مبفردها‪ ,‬وهي تلوح ل�صديقا ِتها ُمودع ًة يف‬
‫بوداعها هذا‪,‬‬
‫نف�سها ب�أن الفتيات تهتم ِ‬ ‫حماول ٍة ال تفرت عنها �أبد ًا يف �إقناع ِ‬
‫فهنَّ ما زِلن يقفن يف مدخل البناية من الداخل مع �أولياء �أمورهن الذين كانوا‬
‫يتحدثون مع �أ�ستاذ املادة‪ ،‬ويتذمرون من ا�ستمرار املُ َ‬
‫راجعات �إىل موعد ُمت�أخر‬
‫يف مثل هذا اجلو العا�صف‪.‬‬
‫كانت ُمتعجلة من �أمرها‪ ،‬وتريد �أن َ‬
‫ت�صل �إىل البيت قبل عودة والد ِتها‬
‫التي تعود مت�أخرة هي الأخرى ب�سبب عم ِلها‪ ,‬مل تكن تعلم ب�أنها لن ت�صل �أبد ًا‬
‫يف هذا اليوم!‪ ,‬مل تكن تعلم �أنَّ �أحدهم قرر �أن ُيطل َعها على خطاياه وي�شاركها‬
‫�إياها‪ ،‬و�أنَّ الذئب دائم ًا ما يرت�صد بال َغ َنمة القا�صية‪.‬‬
‫قدمها املُ�صابة دفع ًا؛ فزخات املطر ا�شتدت فوق‬ ‫�سارت �شبه راك�ضة تدفع َ‬
‫وحولت الأر�ض الرتابية �إىل ِب َر ٍك من الطني ُيهددها ب�سقوط ُم َد ٍو‪ ,‬بينما‬
‫ِ‬ ‫ر�أ�سها‪،‬‬
‫خياالت ُمرعب ًة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫رهب خاف َقها بقو ٍة‪ ،‬و ُتـثري يف عق ِلها‬
‫هز ُمي تلك ال�ساهجة ُي ِ‬
‫وهي �صغرية كانت �أمها تقول لها‪� :‬إن �أ�صوات الرياح القوية ما هي �إال ُ�صراخ‬
‫نف�سه ب�سرعة‬‫نوع من �أنواع اجلن الذي يت�أذى من ا َملطر ال�شديد‪ ,‬فيدور حول ِ‬
‫ُق�صوى �صارخ ًا من ال َأل في�صنع دوامات هوائية ي�سميها النا�س بـالرياح !‪.‬‬
‫ابت�سمت برتدد وهي ت�سرع اخلطى م�ؤنبة نف�سها ب�أنها ال زالت تتذكر تلك‬
‫احلكايات الغريبة واخليالية برغم ُم�صارحة والد ِتها لها ب�أنها كانت تق�صها‬
‫عليها وهي �صغرية؛ حتى متن َعها من اخلروج �إىل ال�شرفة وقت املطر فتبتل‬
‫ومتر�ض‪.‬‬
‫زالت ابت�سامتها‪ ،‬واختفت يف نف�س اللحظة التي مرت فيها بجواره‪ ،‬وهو‬
‫ُمت ِبئ يف الظالم �أ�سفل جذع ال�شجرة ال�ضخمة‪ ,‬رمبا لو عادت تلك اللحظة‬
‫‪‬‬
‫مت�شي و�سط الطريق بني الوحل ِّ‬
‫والطني‪ ،‬وبني‬ ‫مرة �أخرى‪ ،‬الختارت «�سلمى» �أن َ‬
‫ت�صعد �إىل الر�صيف ومتر بجوار تلك ال�شجرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫اجلن ال�صارخ املُت�أمل على �أن‬

‫�ضربها على ر�أ�سها من اخللف ب�آلة حادة ِما يتم ا�ستعمالها يف الور�شة‪،‬‬
‫ف�سقطت من فورِها فاقدة الوعي‪ ،‬كما توقع هو وخطط ُم�س َبق ًا‪ ,‬الآن �سيلقي‬
‫فوق ج�سدها قطعة كبرية من القما�ش الذي ُيغطي به ال�سيارات‪ ،‬ثم يحملها‬
‫�إىل داخل الور�شة ‪.‬‬

‫وتبد�أ املُتعة احلقيقية‪.‬‬

‫ولكن ما َل يكن ُيخطط له �أن يرى على �ضوء ك�شافات ال�سيارات ال�سريعة‬
‫املُنطلقة على الطريق املمهد الذي يبعد عن املُنحنى بحوايل ع�شرة �أمتارٍ‪,‬‬
‫بقع َة دماء تنت�شر �سريع ًا‪ ،‬وتت�سع يف حلظات قليلة على �إثر تلك ال�ضربة يف‬
‫ر�أ�سها‪ ,‬حجابها الذي كان نا�صع البيا�ض كرباء ِتها غلفه الأحمر الناجت عن‬
‫دماء حياتها بلون املوت الو�شيك‪ ,‬املنظر �أفزعه‪ ،‬وجعله يرتاجع ُخطوة للوراء‬
‫وهو يحاول �أن يرى بو�ضوح �أكرب‪ ,‬البقعة تت�سع‪ ،‬وال َنزيف ينهل من �أوردتها؛‬
‫ُلتوى به جذور ال�شجرة وما حولها من حجارة مر�صوفة فوق بع�ضها البع�ض‬
‫بغري تنا�سق‪.‬‬

‫تداخلة مع �أُ َ�س ِرهنَّ بد�أت تقرتب منه‪ ،‬فتلفت حوله‬


‫�أ�صوات الفتيات املُ ِ‬
‫ُم�ضطرب ًا وقد توقف عقله عن العمل للحظات‪ ,‬وك�أي جبان‪ ,‬تر َكها وفر هارب ًا‬
‫ُم�ستغ ًال الظالم‪.‬‬
‫‪‬‬
‫خلطة هباء‪ ,‬والفري�سة �سقطت جثة من جمرد هجمة‬ ‫لقد �ضاعت ا ُ‬
‫واحدةكانت �أقوى مما كان يظن‪ ،‬ف�أو َدت بحياتها‪ ,‬ملاذا ال ت�سري الأمور ب�أريحية‬
‫معه؟‪ ,‬ملاذا يقف القدر دائم ًا يف طري ِقه؟ وما ذنبه هو؟!‪ ,‬هي التي انتهى عمرها‬
‫يف تلك اللحظة‪ ،‬وما كانت �ضربته �إال �سبب ًا من الأ�سباب‪.‬‬

‫«ح�سن» هو َمن جعله يت�صرف برعونة‪ ,‬ووالده هو ال�سبب يف عم ِله لدى هذا‬

‫‪y‬‬
‫النغل!‪ ,‬و «غفران» هي ال�سبب يف كل ما يحدث‪ ,‬ملاذا يكرهه اجلميع ويقف‬
‫العامل �ضده حتى م َلك املوت �شخ�صي ًا ؟!‪.‬‬

‫‪‬‬
‫يف اليوم التايل اختار «ح�سن» �أن يذهب �إىل الور�شة مت�أخر ًا‪ ,‬فهذا هو �آخر‬
‫يوم عمل لـ «رمزي» لديه‪ ،‬وهو ال يريد �أن يتحدث معه كثري ًا‪ ,‬بل ال يريد �أن يرى‬
‫وجهه ُمطلق ًا حتى تنتهي ُمهلته ويرحل‪ ,‬وقد كانت هذه هي املرة الأوىل التي‬
‫ُيغا ِدر فيها غرفته يف الثانية بعد الظهرية‪.‬‬
‫فتح بابها للمغادرة ف�سمع قرع نعال قادمة من اجلحيم ‪ ..‬يبدو �أنها متجه ٌة‬
‫�إليه هو خ�صو�ص ًا‪ ,‬وهتاف ًا قادم ًا من ال�سلم ِ‬
‫املواجه لباب غرفته ب�أن املُجرم‬
‫با�ضطراب ال يفهم ماذا يحدث؟‪,‬‬
‫ٍ‬ ‫يقطن الغرفة يف الطابق التايل‪ ,‬نظر حوله‬
‫حلظات‪ ،‬وبد�أت الأج�ساد الالهثة تظهر وتندفع نح َوه هو‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وماهي �سوى‬
‫وبرد فعل تلقائي وجد عينيه تت�سعان‪ ،‬وقدميه تعودان للداخل‪ ،‬ومل يكن‬
‫قد �أغلق الباب بعدُ‪ ,‬ولكن �أ�صحاب ال�سرتات املدنية حلقوا به‪ ،‬وقفزوا نحوه‬
‫حديث انهالوا عليه �ضرب ًا با ِلع�صي التي ال ُتفارق‬
‫ٍ‬ ‫مت�شبثني بذراعيه‪ ,‬وبدون‬
‫�أيديهم‪ ,‬و�سباب ًا ب�أقذر الألفاظ‪ ،‬حاول هو الدفاع عن نف�سه‪ ،‬وقاومهم قدر‬
‫�إمكانه رغم التكالب وال�ضرب ال�شديد‪ ,‬حتى بد�أ ُييز وجه ًا واحد ًا من بينهم‪,‬‬
‫«�صفوان» �أحد رفقاء �أبيه على القهوة ال�شعبية‪ ،‬وهو يعمل يف نف�س الوقت‬
‫ُم ِب ًا يف ق�سم ال�شرطة التابع للحي‪ ,‬لقد كان ي�ضربه بق�سو ٍة وغل وا�ضح‪،‬‬
‫ولذلك ا�ستجمع «ح�سن» قوته ووجه قب�ضته �إىل �أن ِفه دون غريها فنـزفت يف‬
‫احلال‪.‬‬
‫‪‬‬
‫رتاجع ًا للخلف‪ ،‬وهو ُم�سك ب�أنفه‬
‫خرج «�صفوان» من املعركة الدائرة ُم ِ‬
‫املُ�صابة وي�سب «ح�سن» �آمر ًا البقية ب�أن ي�سحبوه على الدرج حتى باب ال ِبناية‬
‫جر ًا ومنها �إىل �سيارة ال�شرطة الزرقاء التي تنتظر بالأ�سفل‪.‬‬
‫ويف ق�سم ال�شرطة و�أمام ال�ضابط املُكلف بالقب�ض عليه؛ اكت�شف «ح�سن»‬
‫ثقيل‪ ,‬فهنا ال�ضرب ُمت ِلف‬‫زاح ٍ‬‫حدث له يف غرفته مل يكن �أكرث من ِم ٍ‬‫�أن ما َ‬
‫بعنف‪ ،‬وال‬ ‫متام ًا‪ ,‬فن ال يجيده �سوى ا ُ‬
‫خلرباء‪ ,‬واليتذوقه �إال املطحونون‪ ,‬ي� ِؤل ٍ‬
‫عالمات ج�سدي ًة‪ ,‬ر ْي َثما ي�صدح �صوت ال�ضابط وهو ي�س�أله بخ�شون ٍة عن‬
‫ٍ‬ ‫يرتك‬
‫ال�ضحية ومدى معرف ِته بها‪ ,‬وكيف عرثوا على تلك الآلة احلادة خا�ص ِته بجوار‬
‫جثتها؟‪ ,‬وملاذا كان يتحر�ش بها هي بالذات كما اتهمته والدتها ؟‪.‬‬
‫كل هذا ال�ضرب والعنف وهو ما زال ُم�شت َبه ًا به؟!‪.‬‬
‫ُمرد ُم�شتبه به ُي ِنكر معرفته بكل �شىء برغم التعذيب‪ ,‬ال حقوق له وال‬
‫ثبت �أنه الفاعل؟!‪ ,‬مل يكن و ْق ُع ما يحدث له الآن �أقوى‬
‫رحمة‪ ,‬فكيف �إذن لو َ‬
‫من �صدم ِته عندما ع ِلم باجلرمية‪ ,‬ورمبا �صدمته هذه هي ما جعلته يتحمل‬
‫اللكمات ك�أنه ُمدر ‪.! .‬‬
‫رك با ُبها مفتوح ًا‪ ,‬وبا�ستخدام‬
‫الفتاة املِ�سكينة ُقت َلت بجانب ور�ش ِته التي ُت َ‬
‫�إحدى �أدوا ِته‪ ,‬وعندما عرثت �إحدى زميالتها عليها ُملقا ًة على الأر�ض غارق ًة‬
‫يف دما ِئها‪� ,‬صرخت وجمعت بقية الفتيات حولها و�أولياء �أمورهنَّ ‪ ,‬وقاموا‬
‫باالت�صال بوالدتها‪ ،‬ثم نقلوها �إىل ا َمل�شفى احلكومي القريب‪ ,‬الذي � َ‬
‫أ�سهم‬
‫يف الق�ضاء على الآمال ال�ضعيفة �أن تبقى على قيد احلياة‪ ,‬ف ُهد َرت دما�ؤها‬
‫إهمال‪ ,‬بدعوى عدم وجود �إمكانيات العالج املُنا�سب‪ ،‬وحتمية نقلها‬ ‫الباقية ب� ٍ‬
‫ب�سيارة �إ�سعاف �إىل َم�شفى �آخ َر‪ ,‬فا َمل�شفى كانَ ال ميلك �أكيا�س الدماء‪ ،‬و�سيارة‬
‫الإ�سعاف اخلا�صة به كانت ُمعطل ًة‪ ،‬والطبيب املُناوب ف�ضل �أن َ‬
‫ينام يف بيته يف‬
‫مطرة الباردة‪َّ ,‬‬
‫وخط القد ُر كلمتَه!‪.‬‬ ‫تلك الليلة املُ ِ‬
‫‪‬‬
‫طويل مل يكن هناك حاج ٌة‬ ‫وقت ٍ‬ ‫عندما ح�ضرت �سيارة الإ�سعاف بعد ٍ‬
‫لها‪ ,‬فال�ضحية كانت قد فار َق ِت احلياة تارك ًة بقية الب�شر يرتعون يف �سل�سل ٍة‬
‫ُمتوا�صل ٍة من الإهمال وانعدام ال�ضمري‪.‬‬
‫ويف ال�صباح بد� ِأت الأخبار تتناق ُل يف احلي‪ ,‬فتاة مقتولة بجوار ور�شة‬
‫«ح�سن»‪ ,‬والور�شة مفتوحة و�صاحبهامل يح�ضر بعدُ‪ ,‬كل التف�سريات والتحليالت‬
‫و�أ�صابع االتهام كان ُمنتهاها �شخ�ص ًا واحد ًا فقط ‪« ,‬ح�سن»‪ ,‬فلم يحت َِج الأمر‬
‫ري ما هم !‪.‬‬
‫�سوى فاعل خ ٍري‪ ,‬وكث ٌ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫أيام من ال�ضرب والتعذيب والإهانات ق�ضاها «ح�سن» يف حجز‬ ‫وبعد ثالثة � ٍ‬
‫الق�سم‪ ,‬وقف �أخري ًا �أمام غرفة وكيل النيابة‪ ،‬دف َعه �أمني ال�شرطة للأ�سفل‬
‫ُم ِب ًا �إياه على اجللو�س بو�ضع ال ُقر ُف�صاء هاتف ًا ب ِغ ْلظة‪:‬‬
‫اجل�س هنا حتى ي�أتي �سعادة البا�شا ‪.‬‬
‫كان يف تلك اللحظة ُ َيني نف�سه �أن ما حدث يف ق�سم ال�شرطة لن يتكرر‬
‫نحه فر�ص ًة للحديث والدفاع عن نف�سه‪ ,‬ف�أطرق بر�أ�سه‬ ‫هنا‪ ,‬و�أنه �سيت ُّم َم ُ‬
‫�سيق�ص على وكيل النيابة الق�صة كلها عن‬ ‫ُّ‬ ‫وهو ُيحاول جتميع �شتات �أفكاره‪,‬‬
‫«رمزي» وم�ضايقته للفتاة ِمرار ًا وتَكرار ًا‪ ,‬وي�شك ب�أنه هو الفاعل احلقيقي‪,‬‬
‫وبالت�أكيد �ستُظهر التحقيقات براءته‪ ،‬ورمبا يعود �إىل غرفته اليوم �أو يف الغد‬
‫على الأكرث‪ ,‬هو بري ٌء ووجوده هنا باخلط�أ لي�س �أك َرث!‪.‬‬
‫الأ�صوات املُتداخلة الآتية نحوه والت�أوهات املُرت ِفعة امل�صحوبة بن�شيج جعلته‬
‫يرفع ر� َأ�سه؛ لينظر ما يحدث‪� ,‬سيدة تت�شح بال�سواد ُمق ِبل ًة نحوه تبكي بحرق ٍة‪،‬‬
‫تكبها يف العمر قلي ًال‪ ،‬والتي كانت حتاول �أن‬ ‫ذراعي امر�أ ٍة �أخرى ُ‬
‫وت�ستند �إىل َ‬
‫تت�شبث بها جيد ًا حتى ال ت�سقط‪ ،‬بينما ُتخربها ب�أن ت� َ‬
‫صرب وحتت�سب‪ ،‬وب�أنَّ حق‬
‫ابن ِتها لن ي�ضيع‪ ،‬و�سيتم �إعدام القاتل بالت�أكيد‪.‬‬
‫بحرق ٍة‪ ،‬وهي تنادي على ابنتها؛ لت�أتي وتخربها‬‫ال�سيدة الباكية كانت تت�أوه ُ‬
‫ب�أنها ما زالت على قيد احلياة‪ ,‬وب�أنها مل ُتزهَ قْ ُ‬
‫روحها بتلك الطريقة الغادرة‬
‫‪‬‬
‫اجلبانة‪ ,‬وب�أنها �ستكرب �أكرث‪ ،‬و�ستكون عرو�س ًا جميل ًة‪ ،‬فتنجب لها الأحفاد‬
‫الذين �سيملأونَ الدنيا َ�ص َخب ًا من حولها‪.‬‬
‫ُغ�صة ُم�سننة �ضربت حلقه‪ ،‬وحديثها النازف ُيخربه ب�شخ�صيتها‪� ,‬إنها‬
‫والدة «�سلمى» دون �شك‪ ,‬تبكي ابنتها‪ ,‬وتتحدث مبا َي ُ‬
‫فطر قل َبها وقل َبه �أكرث‪,‬‬
‫بينما �صديقتُها املُ�سنة ال�صلبة يف وقفتها ت�شد من �أزرها ُمتم�سك ًة بها بقوة‬
‫و�صرب ونظرات دامعة ملتهبة ومكلومة‪.‬‬
‫دلفت ال�سيدة َوحدها؛‬
‫ح�ضر وكيل النيابة‪ ،‬و�أمر بدخول والدة القتيلة‪ِ ,‬‬
‫لتديل ب�أقوالها‪ ،‬بينما انتظرتها �صديقتها يف اخلارج تر ُمق «ح�سن» بنظرات‬
‫رِيبة؛ ظن ًا منها ب�أنه هنا لأجل ق�ضي ٍة �أخرى‪.‬‬
‫دقائق طويل ٌة مرت‪ ،‬كل حلظ ٍة فيها ينه�ش الأمل �ساقيه من تلك الو�ضعية‪،‬‬
‫حار�سه على ُمعاودة اجللو�س ُمدد ًا‪ ,‬قبل �أن‬
‫ـجبه ُ‬ ‫للحظات قبل �أن ي ِ‬
‫ٍ‬ ‫فيقف‬
‫�سرع ًا‪ ،‬وال َأمل يف انتهاء كل هذا العذاب‬
‫يتم ا�ستدعا�ؤه للدخول‪ ،‬فينه�ض ُم ِ‬
‫داعب قلبه بكلمة احلرية‪.‬‬
‫ُي ِ‬
‫نتظر ًا‪ ,‬وما‬
‫بعد عدة دقائقَ لي�ست بالق�صرية‪ ,‬م�ضت عليه كالدهر ُم ِ‬
‫�أق�سى و�أق�صى من انتظار الأمل!‪ ,‬مت ا�ستدعا�ؤه للدخول‪ ,‬هناك كانت املُواجهة‬
‫احلقيقية‪ ,‬عندما تيقن �أن ال�سيدة التي �سبقته بالدخول ما هي �إال والدة‬
‫املجني عليها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫«�سلمى»‬
‫كان ُمتحفز ًا للغاية وهو ُيجيب �أ�سئلة املُحقق عن طبيعة عالقته بال�ضحية‪,‬‬
‫بنظرات ُمنهار ٍة‪ ,‬بدت يف البداية غا�ضبة كارهة عدائية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َر ْيثما ال�سيدة تر ُمقه‬
‫ولكنها حتو َلت �إىل التدقيق والت�أمل مع الوقت‪ ،‬وهي تتف َّر�س فيه ب�شد ٍة‪ ,‬وفج�أ ًة‬
‫قاطعت التحقيق هاتف ًة ب َنرب ٍة مبحوح ٍة من �شدة البكاء‪:‬‬
‫ِ‬
‫‪‬‬
‫ ال يا فندم‪ ..‬لي�س هو‪ ..‬ال�شخ�ص الذي كان ُي�ضايق ابنتي موا�صفاته‬
‫خمتلفة‪.‬‬
‫الت َف َت لها املُحقق وهو ُي�شري �إىل «ح�سن» بالق َلم املُعلق بني �أ�صاب ِعه وهو‬
‫ي�س�ألها عن وجه االختالف بينه وبني ال�شخ�ص الآخر فقالت على الفور‪:‬‬
‫ابنتي كانت تقول يل‪� :‬إن ال�شخ�ص الذي ُي�ضايقها كان �أكرث ُطو ًال منها‬
‫ٌ‬
‫ونحيف للغاية ‪ ..‬و�شع ُره طويل‪.‬‬ ‫بكثري‪..‬‬
‫كانت املُ َ‬
‫قاطعة من ن�صيب «ح�سن»‪ ،‬وقد بدا الأمل يف احلرية‬ ‫هذه املرة ِ‬
‫يداع ُبه �أكرث ف�أكرث‪ ،‬وقال بحما�س ُمرتبك‪:‬‬
‫ن َعم‪ ..‬ن َعم‪� ..‬إنها موا�صفات ‪« ..‬رمزي»‪.‬‬
‫نظر له املُحقق َ‬
‫ب�ض َجر‪ ،‬وهو ي�س�أل بفتور‪:‬‬
‫ َومن هذا �أي�ض ًا ؟‪.‬‬
‫من �شدة حما�سه واملوقف ال�صعب الذي ُز َّج به منذ البارحة رغم ًا عنه‬
‫بد�أ تلع ُثمه يظهر �أكرث وهو يحكي عن عمل «رمزي» معه يف ور�شته اخلا�صة‬
‫وحتر�شه بها لفظي ًا‪ ،‬وحماولته هو‬
‫ِ‬ ‫امل�ؤجرة‪ ،‬وم�ضايق ِته املُ�ستمِ رة للفتاة ‪،‬‬
‫بطر ِده يف النهاية عندما بد�أ يقلق عليها من‬‫زجره والدفاع عنها حتى �إ َّنه قام َ‬
‫ت�صرفات «رمزي» التي تزداد �سوء ًا يوم ًا بعد ٍ‬
‫يوم‪ ,‬ولكن املُحقق ف�سر تلع ُثم‬
‫بتمهل‪:‬‬
‫«ح�سن» بطريقة �أخرى‪ ،‬فدقق فيه ب�شك‪ ،‬وهو ي�س�أله ٍ‬
‫َ‬
‫ادعائك هذا؟‪.‬‬ ‫هل َ‬
‫لديك �شهود على‬
‫‪‬‬
‫�أظن ‪..‬يف �إحدى ‪..‬املرات ف َعل هذا‪ ..‬بينما �صديقاه ‪..‬اللذان تع َّرف‪..‬‬
‫عليهما م�ؤخر ًا ‪ ..‬يقفان بالقرب منه‪.‬‬
‫�أمر املُحقق با�ستدعاء «رمزي حافظ رمزي» مع ا�ستمرار حب�س «ح�سن»‬
‫خم�سة ع�شر يوم ًا على ذمة التحقيق بحروف ممطوطة‪ ،‬ونظرا ُته احلادة‬
‫ُم�سلطة على «ح�سن» وعلى هيئته اخلارجية‪.‬‬
‫جلرح املُلت ِئم يف جانب جبه ِته‪ ،‬ويداه ا َ‬
‫خل ِ�ش َنتان‪ ،‬وج�سدُه الع�ضلي بفعل‬ ‫ا ُ‬
‫عم ِله ال�صعب‪ ،‬وممار�سته للمالكمة‪ ,‬نظراته احلادة‪ ،‬ومالحمه القا�سية بفعل‬
‫إبعاد و�إهان ٍة وت�ش ُّر ٍد‪ ,‬تلعث ُمه من وقت لآخ َر وك�أنه يقوم بت�أليف‬
‫ق�سوة ما القاه من � ٍ‬
‫جرم بجدار ٍة ‪.‬‬‫ومنحه دور املُ ِ‬
‫ما يقوله يف اللحظة والت ِّو‪ ,‬كل هذا ت�آم َر عليه َ‬
‫�أنهى �أمر اال�ستدعاء‪ ،‬وبداخله بد�أت دائرة اال ِتهام تلتف حول رقبة «ح�سن»؛‬
‫موا�صفات‬
‫ٍ‬ ‫فوالدة الفتاة مل ت َر �أي ًا منهما ر� َأي العني‪ ,‬وكل ما لديها جمرد‬
‫هُ المية ل�شخ�ص يعمل يف الور�شة كان ُي�ضايق فتاتها با�ستمرار‪.‬‬
‫دليل مادي ًا �سوى باب الور�شة املفتوح و�أداة اجلرمية املن�سوبة للمتهم‬
‫ال َ‬
‫الأول ‪« ..‬ح�سن �أنور برهان»‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫َطرقات ُمزعجة على باب بيت والد«رمزي» ي�صاح ُبها �صوت « �أنور برهان»‬
‫ب�صخب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫الأكرث �إزعاج ًا ُمنا ِدي ًا‬
‫افتح يا «حافظ» ‪� ..‬أنا �أعلم �أ َّنك بالداخل‪ ..‬افتح‪.‬‬
‫ماذا يريد م َّنا؟‪.‬‬
‫قالتها والدة «رمزي» وهي ترجتف من �شدة اخلوف‪ ,‬وما الغريب؟‪� ,‬إنها‬
‫ترجتف منذ تلك الليلة‪ ,‬الليلة التي َطرق ولدُها الباب بعد ُم ِ‬
‫نت�صف الليل‪،‬‬
‫زوجها وهو يبكي‪ ،‬وج�سده يخت�ض بقوة‪ ،‬ويخ ُربه �أنه ارتكب‬ ‫وارمتى بني �أح�ضان ِ‬
‫جرمية قتل دون َق ْ�ص ٍد منه‪� ,‬سح َبه والده لغرفته يف الداخل ُماو ًال احلفاظ‬
‫على خف�ض �صوته‪ ،‬وثبات انفعاالته بالرغم من انقبا�ضة �صدره‪ ،‬والأمل الفوري‬
‫�ضرب قل َبه‪َ ,‬ريثما «رمزي» يُـنهِ ي حكايتَه التي لفقها �سريع ًا‪ ،‬وهو يقول‬
‫الذي َ‬
‫ب�صوت ُمرجتف ي�شبه الهم�س‪:‬‬
‫لقد كانت تربطني بها عالقة ُحب‪ ..‬ولكنني عرفت �أنَّ �سمعتها �سيئة‪..‬‬
‫فقررت قطع تلك العالقة‪ ..‬واالبتعاد عنها‪ ..‬و�أنتب ُه �إىل عملي‪ ..‬ولكنها‬
‫أ�ستطع �أن‬
‫غ�ضبت ب�شدة‪ ..‬وت�شاجرت معي‪ ..‬وهددتني يا �أبي‪ ..‬فلم � ِ‬
‫أمتالك نف�سي‪ ..‬و�ضربتها فوقعت غارقة يف دمائها‪ ..‬هربتُ ومل ي َرين‬ ‫� َ‬
‫�أحد‪ ..‬لو ماتت ف�سيتم �إعدامي يا �أبي‪� ..‬س�أموت‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ذراعه‪ ،‬وهو يربِتُ على ر�أ�سه‪ ،‬وعيناه تت�سعان‬
‫جذبه والدُه ب�شدة �أ�سفل ِ‬
‫ُذعر ًا ويُهمهِ م ب ُرعب‪:‬‬
‫ال‪ ..‬ال‪ ..‬لن ي�أخذوك �أبدً ا م ِّني‪ ..‬لن �أ�سمح لهم بذلك ‪ ..‬على جثتي‪.‬‬
‫بي َنما ج َث ْت والدته على ركبتيها �أمام الفرا�ش‪ ،‬وهي تبكي و ُتولول وتنتحب‬
‫على َذ َك ِرها الوحيد ُم�سك ًة بركبتيه ت�ضغطهما ب�شدة‪:‬‬
‫ولدي الوحيد‪� ..‬سي�ضيع مني‪ ..‬ولدي يا «حافظ « ‪ ..‬افعل �شيئ ًا‪.‬‬
‫كان «حافظ» يف حالة من ال َه َذيان‪ ,‬وخاف ُقه ي�ضربه بنب�ضاته بقوة ُموجعة‪,‬‬
‫فقال ب�ضياع‪:‬‬
‫لقد �أر�سلتُ �أختك �إىل بيت خالتها؛ لتعي�ش هناك معها وتخدمها‪..‬‬
‫وكنت �أُجهز َ‬
‫لك غرفتك؛ لتكون لك وحدك‪ ..‬لقد اخرت ُتك يا ولدي‪..‬‬
‫لقد اخرت ُتك‪.‬‬
‫�أ�سرع «حافظ» و�أغلق باب احلجرة التي مل يخرح منها» رمزي» منذ تلك‬
‫الليلة و�إىل الآن‪ ,‬ثم عاد و�أم�س َكها من ِمرفقيها بقوة هام�س ًا‪:‬‬
‫افتحي له الباب‪ ..‬وتظاهري بالده�شة لزيارته املُ ِ‬
‫فاجئة‪ ..‬وال ت�سمحي‬
‫له بالدخول‪.‬‬
‫�أوم� ِأت الزوجة بطاعة‪ ،‬ووقفت �أمام باب ال�شقة من الداخل‪ ،‬تبتلع ريقها‬
‫اجلاف‪ ،‬وحتاول ال�سيطرة على مالمح وجهها املذعور‪ ,‬و�أخري ًا َ‬
‫فتح ِت الباب‪،‬‬
‫ونظرت له بتجهم‪ ،‬وبنربة ُمرتبكة حاولت �أن تبدو غا�ضبة قالت‪:‬‬
‫ماذا تريد؟‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ج�سده ال�ضخم‪ ،‬وهو‬
‫دفع «�أنور» الباب ودخل ب ُعنجه َّيته امل�شهورة قبل ِ‬
‫ي�صيح ب�صوته اجلهوري‪:‬‬
‫زوج ِك يا امر�أة؟ ‪� ..‬أنا �أعلم �أ َّنه بالداخل‪ ..‬هل يخاف من‬
‫�أين ُ‬
‫مواجهتي؟‪.‬‬
‫راب‪:‬‬ ‫َّ‬
‫با�ضط ٍ‬ ‫خاف «حافظ» من �صوته املُرت ِفع‪ ،‬وخرج �إليه على الفور هاتف ًا‬
‫البيت و�أ�صحابه يا حاج «�أنور»‪ ..‬ملاذا كل هذه ال�ضجة؟!‪ ..‬ماذا‬
‫احرتم َ‬
‫تريد؟‪.‬‬
‫كر‪ ،‬وهو ُيالحظ حبات العرق التي بد�أت‬ ‫التفت «�أنور» ُتاهه‪ ،‬ثم ابت�سم َمب ٍ‬
‫كات ُمتتالية ترتفع‬
‫ل�ض ِح ٍ‬ ‫حتولت ابت�سامته َ‬
‫تلك َ‬ ‫ِ‬ ‫تنبتُ على جبي ِنه العري�ض‪,‬‬
‫حلظات قليل ٍة وهو‬
‫ٍ‬ ‫�شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬بينما َم ِعد ُته ال�ضخمة تهتز قبل �أن يهد�أ بعد‬
‫يراه يتبادل النظرات اخلائفة مع زوجته‪ ,‬وعندما �أنهى �ضحكا ِته ال�صاخبة‬
‫اقرتب من «حافظ»‪ ،‬وهو ي�ضم كفيه �إىل بع�ضهما البع�ض‪ ،‬ويفركهما بحما�س‬
‫و�شعور باللذة ال يو�صف‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫�أريد كل خري‪ُ ..‬مر زوجت ََك �أن تذهب‪ ..‬وتعد لنا َع�شا ًء فاخر ًا‪ ..‬فهناك‬

‫‪y‬‬
‫�صفقة ت�ستحق‪.‬‬

‫‪‬‬
‫هل من ال�سذاجة �أن ن�شعر بال�صدمة من �أ�شخا�ص مار�سوا علينا القهر‬
‫م�ضاجعهم‪ ,‬ثم ختموا‬
‫َ‬ ‫والذل واخليانة ل�سنوات طويلة دون ذرة �ضمري ت�ؤ ِّرق‬
‫�أفعالهم تلك ب�شهادة زور باطلة ؟!‪.‬‬
‫�إنها �أب�سط ِما القاه منهم �سابق ًا بكثري‪ ,‬فلماذا كل تلك املرارة التي متلأ‬
‫خلذالن الذي يزرع غ�ص ًة تتبع �أخرى يف حل ِقه؟!‪,‬‬ ‫ال�شعور با ُ‬
‫قلبه؟!‪ ,‬ملاذا هذا ُّ‬
‫هل هذه نظرية الق�شة التي ق�صمت ظهر البعري؟‪� .‬أم �أنه برغم كل تلك املعارك‬
‫اخلا�سرة معهم يظل بداخ ِلنا الأمل يف �أن يحبونا يوم ًا ما مت�شبث ًا بجزء ما خفي‬
‫بخج ٍل حتى عنا نحن؟‪ ..‬نظرية اخلا�سرين التي ال يفهمها‬ ‫يف الف�ؤاد‪ُ ,‬متبئ ًا َ‬
‫غريهم!‪ ,‬والي�ستطيعون التعبري عنها بغري ال َأل‪ ,‬ال َأل الذي ين�سحب رويد ًا‬
‫َ‬
‫والعال‬ ‫الذات‪ ,‬ثم ُبغ�ض احلياة‬ ‫رويد ًا‪ ،‬ويرتك مكانه فارغ ًا للي�أ�س وكراهية َّ‬
‫ب�صمت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ب�أ�سره وال َّرغبة يف املوت‬
‫رف�ض �أن ي�ستدعي ُمامي ًا للدفاع عنه‪ ,‬فانتد َب ِت املحكمة واحد ًا من �أج ِله‪,‬‬
‫والذي �أبل َغه ب�أنَّ والده قام بال�شهادة �ضده‪ ،‬وذ َكر من �ضمن �شهادته ب�أنه كان‬
‫ي�شاهدُه ِمرار ًا وتَكرار ًا وهو يغازل املجني عليها‪ ,‬بينما هي تهرب منه خائف ًة‪,‬‬
‫يت�شاجران‪ ,‬ولكن‬
‫ِ‬ ‫يقفان �أ�سفل ال�شجرة ال�ضخمة‬
‫وليلة وقوع اجلرمية ر�آهما ِ‬
‫الإ�ضاءة كانت خافت ًة‪ ،‬فلم يتبني ماذا حدث بعد َ‬
‫ذلك ؟‪.‬‬
‫طرق ًا خلف‬
‫جل�س ُم ِ‬
‫ال�شهود‪َ ,‬‬ ‫و�أثناء �إحدى اجلل�سات اخلا�صة ب�سماع ُّ‬
‫الق�ضبان احلديدية فاقد ًا الرغبة يف احلياة‪ ،‬وهو ي�شعر ب�أنَّ �صوت والده وهو‬
‫‪‬‬
‫يتحدث بثقة يت�سلل �إىل �صدرِه ال �إىل �أذنيه‪ ,‬كدخان �أ�سود يخنقه ببطءٍ ‪ ،‬ومينع‬
‫عنه �أقل حقٍّ من حقوقه يف التنف�س‪ ،‬على الرغم من �أ َّنه �سمعها من قب ُل من‬
‫املحامي املُكلف بالدفاع عنه‪ ,‬حتى �أنه تنا�سى وجود «رمزي» بالقرب منه خلف‬
‫الق�ضبان‪ ,‬والذي كان يقف م�ضطرب ًا ُم�سك ًا بالق�ضبان بكلتا قب�ضتيه ُملت�صق ًا‬
‫تواجده بجوار «ح�سن»‬ ‫به‪ ،‬واخلوف والرعب يتج�سدان على مالحمه‪ ,‬خوف ًا من ِ‬
‫الذي �ضربه من قبل يف غرفة احلجز مبجرد دخوله �إليها‪ ,‬حتى مت التفريق‬
‫بي َنهما‪ ,‬وخوف ًا من �شهادة والد ِة املجني عليها‪ ،‬والتي ما زالت ت�صر على �أن‬
‫كانت ابنتها ت�ص ُفها لها من قب ُل‪.‬‬
‫موا�صفات «رمزي» هي الأقرب لِ ا ِ‬
‫املحامي الذي ك َّلفه والده بالدفاع عنه كان بارع ًا حق ًا يف عم ِله‪ ,‬ويعرف‬
‫ماذا يفعل؟‪ ،‬وهو يناق�شها يف �شهادتها مت�سا ِئ ًال‪:‬‬
‫وملاذا مل تذهبي معها ولو مرة واحدة �إىل هناك؛ لتُو ِقفي من يفعل ذلك‬
‫معها عند حدِّ ه؟‪!.‬‬
‫�شاحب‬
‫ٍ‬ ‫ووجه‬
‫للحظات وهي تنظر �إليه بعينني مكلومتني متورمتني‪ٍ ,‬‬ ‫ٍ‬ ‫�صمتت‬
‫بالذنب‪ ,‬مل تكن حتتاج �إىل �س�ؤاله هذا‪ ,‬فلقد كانت ت�س�أله‬ ‫يعلوه الإح�سا�س َّ‬
‫لنف�سها كل حلظ ٍة‪ ,‬منذ �أن وقفت على ر�أ�س ابن ِتها وهي جثة هامدة‪ ,‬فاقدة‬ ‫ِ‬
‫بيدها لهذا املُجرم ليقتلها‪ ,‬هي‬ ‫للروح‪ ,‬هي املُذ ِنبة احلقيقية‪ ,‬هي َمن �سلمتها ِ‬
‫التي قت َلتها ب�إهما ِلها‪ ,‬ماذا كان �سيحدث لو �أنها ح�صلت على �إجاز ٍة من عم ِلها‬
‫هناك‪ ,‬وتت�شاجر معه وتوبخه وتهدده‬ ‫ولو ل�ساعتني فقط؛ لتذهب م َعها �إىل َ‬
‫ب�أن يبتعد عن ابنتها و�إال ‪ , ...‬و�إال ف� ّأي �شيءٍ ‪ّ � ..‬أي �شيءٍ يجعله يرتاجع‪ ,‬كل‬
‫يوم‪ ,‬ولكنها بنف�س تلك الب�ساطة‪ ..‬مل تكن‬ ‫الأمهات يفعلن ذلك بب�ساط ٍة كل ٍ‬
‫ت�صد ُقها من الأ�سا�س‪ ,‬كانت ت�أخذ �شكواها بال مباال ٍة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫الفتيات اجلميالت املُتعافيات ج�سدي ًا ويغازل ابنتها‬
‫ِ‬ ‫َمن هذا الذي �سيرتك‬
‫توا�ضعة جد ًا؟‪ ,‬ال بد من �أ َّنها تكذب‪،‬‬
‫�صاحبة العرجة الوا�ضحة واملالمح املُ ِ‬
‫اهتمامها فقط‪ ,‬هكذا تفعل املراهقات‬ ‫ِ‬ ‫وت�ؤلف تلك الق�ص�ص؛ لتح�صل على‬
‫نق�ص يف ثقتها ب�شكلها اخلارجي‪ ,‬ماذا لو‬ ‫دوم ًا‪ ,‬وخ�صو�ص ًا َمن تعاين من ٍ‬
‫أخذتها مر ًة واحد ًة على َممل اجلد؟‪ ,‬ال بد من �أنَّ املُجرم ا�ستغل َو َ‬
‫حدتها‬ ‫� َ‬
‫و�ضعفها و�س َل َبها روحها على حني ِغر ٍة‪.‬‬
‫ب�صوت مزَّقه البكاء‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وحرق ٍة وهي جتيب‬
‫بكت ‪ ..‬بكت بقو ٍة ُ‬
‫مل �أكن �أتخيل �أن يفعل بها ما فعل ‪ ..‬ت�صورت �أنها جمرد ُمعاك�سة لفتاة‬
‫كما يحدث يف كل الطرقات‪.‬‬
‫وك�أنها منحت «رمزي» �شهادة احلرية بكلماتها َ‬
‫تلك‪ ,‬فابت�سم ُماميه‬
‫بث وهو يفتح ذراعيه قائ ًال بثق ٍة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫بخ ٍ‬
‫أنت مل ُتعرييها � َّأي اهتمام‪ ..‬فكيف نت�أكد �أ َّنك ِ‬
‫كنت تهتمني‬ ‫�إذن‪ ،‬ف� ِ‬
‫ب�سماع تلك املوا�صفات التي تقول َني ب�أنها تنطبق على «رمزي» ؟‪.‬‬
‫وبقهر �أكرب من ذي قب ُل‪ ،‬وهي تهتف بانهيا ٍر حتى‬
‫جديد ٍ‬ ‫عادت تبكي من ٍ‬
‫كادت تتهاوى �ساقط ًة على ركبتَيها‪:‬‬
‫ْ‬
‫�أنا مت�أكدة‪ ..‬مت�أكدة‪.‬‬
‫وعلى النقي�ض متام ًا وقف « �أنور برهان» بثق ٍة ٍ‬
‫وثبات وهو ي�شرح كيف �شاهد‬
‫ما حدث يف تلك الليلة‪ ،‬و�أنهى كلما ِته بعبار ٍة رمبا ا�ستوحاها من تلك الأفالم‬
‫العربية القدمية التي ُيدمن م�شاهدتها على ا َملقهى ال�شعبي ُ‬
‫ب�صحبة �صديقه‬
‫«�صفوان»‪:‬‬
‫‪‬‬
‫هو ولدي ن َعم‪ ..‬ولكنها �شهادة �س�أُ َ‬
‫حا�سب عليها �أمام اهلل‪.‬‬
‫وزحفت يف تلك اللحظة ابت�سام ٌة بائ�س ٌة ِمثله �إىل �شفتيه وهو ُي ُ‬
‫تمتم‪:‬‬
‫ن َعم‪ ..‬ومثلك يعرف اهلل جيد ًا‪ ..‬يا « �أظلم» !!‬
‫باتت م�صافحتها للعام‬‫بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬حتى ْ‬ ‫�أيام و�أ�سابي ُع و�شهو ٌر َي ِلي ُ‬
‫و�شيك ًة‪ ,‬مل يكن فاقد ًا لقدر ِته على العدِّ ‪ ,‬بل مل تكن لديه رغب ٌة يف املعرفة‪،‬‬
‫�أحيان ًا يكون اجلهل دوا ًء ب�شكل ما يتم به ت�سكني �أعرا�ض الظلم وارتفاع وترية‬
‫كائن خرايف من‬
‫حالة االنقرا�ض والتال�شي اللذين كانا ي�سيطران عليه مثل ٍ‬
‫الع�صور ال ُو�سطى‪.‬‬
‫حمبو�س‬
‫ٌ‬ ‫هذا العام ق�ضاه بني حتقيقات النيابة‪ ،‬وجل�سات املحاكمة وهو‬
‫احتياطي ًا على ذمة هذه الق�ضية حتى ح�صل على احلكم االبتدائي الذي مل‬
‫ي�شكل معه فارق ًا نف�سي ًا كبري ًا‪.‬‬
‫�سنوات مع ال�شغل ‪ ...‬نطقَ بها القا�ضي‬
‫ٍ‬ ‫حكمت املحكمة ب�سجن املت َهم ع�ش َر‬
‫ِ‬
‫ول ال و�شهادة �شهود الواقعة‬‫وك�أنه مل ي�ستقر يف ُوجدانه بع ُد �أنَّ «ح�سن» ُمذنب‪َ ِ ,‬‬
‫بعنف ؟!‪ ,‬فربغم قوة �شهادة والده �إال �أن حماميه‬ ‫تت�ضارب وتتعارك �أمامه ٍ‬
‫خالفات ومعارك يومية‪ ،‬ويف‬
‫ٍ‬ ‫ال�شهود من �س َّكان احلي �أنَّ بينهما‬
‫�أثبت ب�شهادة ُّ‬
‫نف�س الوقت ا�ستطاع ُمامي «رمزي» �أن ي�أتي ب�شاهدين �أق َّرا ب�أن رمزي كان‬
‫عمل �إىل حمافظة بور�سعيد‪,‬‬ ‫معهما ليلة وقوع اجلرمية خارج القاهرة يف رحلة ٍ‬
‫وقاال‪� :‬إنهم ابتاعوا من هناك جمموع ًة ال ب�أ�س بها من املالب�س؛ ل ُيتاجروا بها‬
‫كم�شروع �صغ ٍري‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫يف احلي عند عودتهم‬

‫‪‬‬
‫كمتهم �إال �أنَّ الأمر مل يكن حا�سم ًا‬
‫ٍ‬ ‫وبالرغم من خروج «رمزي» من الق�ضية‬
‫عام �آخر �أو‬
‫بعدُ‪ ،‬فما زال هناك ا�ستئناف ونق�ض للق�ضية قد ي�صل بهم �إىل ٍ‬
‫عامني‪.‬‬
‫هذا ما جعل والد «رمزي» ي�ؤجل تنفيذ ال�صفقة املُ َربمة بينه وبني «�أنور‬
‫برهان» يف منزله يف تلك الليلة امل�ش�ؤومة التي زارهم فيها‪ ،‬وا�شرتط �أال يتم‬
‫ب�شكل‬
‫نهائي؛ لكي يطمئنَّ قلبه‪ ,‬وقال له حينها ٍ‬ ‫حكم ٍّ‬‫التنفيذ �إال بعد �صدور ٍ‬
‫قاطع‪:‬‬
‫ٍ‬
‫�سنقوم بعمل خطوبة فقط الآن ‪� ..‬أ َّما الزواج فلن يحدث �إال بعد ا ُ‬
‫حلكم‬
‫النهائي‪.‬‬
‫ِ‬
‫«�أنور» كان ذئب ًا ماكر ًا‪� ,‬إال �أنه يف نف�س الوقت ي�شتاق �إىل �سجن «ح�سن»‬
‫�أكرث من �شوقه �إىل َو�ضع خامتِه الرخي�ص حول �إ�صبع الفتاة ال�صغرية‪ ,‬التي مل‬
‫تكن تعرف �أنها �أ�صبحت كب�ش فِداءٍ لرباءة �أخيها العابث‪!.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬

‫ناقص ‪18‬‬

‫قب َل عامني ‪...‬‬


‫�صد منه �أمام النافذة املفتوحة‪ ،‬عيناه‬ ‫عا�صم ‪ ...‬يقف متحفز ًا دون َق ٍ‬
‫�شاردتان‪ ،‬ويدُه يف رحل ٍة حمفوظ ٍة �صعود ًا وهبوط ًا نحو َفمِ ه الذي ي�ستقبل ِلفافة‬
‫�سنوات مراهق ِته‪ ,‬مل يتوقف عن‬
‫ِ‬ ‫التَّبغ بني �ش َفتَيه ب�شكل �آيل تدرب عليه منذ‬
‫التدخني �إال يف الأيام التي كان يق�ضيها يف الكلية فقط‪ ,‬مل يكن ُيدم ُنها وقتَها‪,‬‬
‫كامل‬
‫عام ٍ‬ ‫ال�شرطة‪ ,‬حتديد ًا منذ ٍ‬ ‫ب�سنوات وعم ِله يف ق�سم ُّ‬
‫ٍ‬ ‫�أما بعد تخرجه‬
‫دمن ًا عليها‪.‬‬
‫�أ�صبح ُم ِ‬
‫الدخان ال تفارق مكت َبه ذا امل�ساحة الوا�سعة‪ ،‬واملطلية ُجدرا ُنه‬ ‫رائحة َ‬
‫بال َّرمادي الداكن الذي ُي�شعره دائم ًا بالك�آبة �إال �أنه ُيف�ضله‪ُ ,‬ي�ضفي عليه الهيبة‬
‫الالزمة كما ُ‬
‫يظنُّ ‪.‬‬
‫مكتبه اخل�شبي من خل ِفه ُمزدح ٌم ب�سبب �شروده الذي ازداد يف الآونة‬
‫الأخرية‪ ,‬امللفات مفتوح ٌة على ِم�صراعيها‪ ،‬وال�صور والأوراق ُمكد�س ٌة يف كل‬
‫ببع�ض؟‪ ,‬هل �سي�ش ِّكل‬ ‫َ‬
‫فاختلط بع�ضها ٍ‬ ‫ملف على ِحدة‪ ,‬وماذا لو قام ببعرث ِتها‬
‫فارق ًا؟!‪.‬‬
‫‪‬‬
‫غت�ص َب ٌة من �أبيها‬
‫كل ملف منها بداخ ِله �أطفا ٌل يف عمر الزُّهور‪ ،‬طفل ٌة ُم َ‬
‫ذلك ويتهمها و�أمها بال َك ِذب؛ ليتخل�صا منه ويرثاه‪ ,‬و�أُخرى ُقت َلت‬ ‫الذي ُينكر َ‬
‫ُ�سحقَ وتختفي معامل اجلرمية‬ ‫بعد اغت�صابها و�أُل ِقي بها على ق�ضبان القطار؛ لت َ‬
‫أطفال‪ ,‬بالغاتٌ عن‬ ‫ال�شنعاء‪ ,‬وغريهما الكثري والكثري‪ ،‬وال�ضحايا جمرد � ٍ‬ ‫َّ‬
‫ب�شكل مبا َل ٍغ فيه‪ ..‬لقد اكت َفى‪.‬‬
‫أطفال ُمت ِفني ٍ‬
‫� ٍ‬
‫منذ �شهرين انتهى من التحقيق مع �أحدهم ومت حتويل الق�ضية �إىل النيابة؛‬ ‫ُ‬
‫�سنوات بعدُ‪ ،‬وال َعم‬
‫ٍ‬ ‫ال�ستكمال التحقيقات فيها‪� ,‬ضحي ٌة ال يتجاوز عمرها �سبع‬
‫هو اجلاين‪ ,‬امل�ش َفى اخلا�ص ي�ؤكد �أنه الع ُّم‪ ،‬وت�ؤيده �أقوال الطفلة بعد تطابق‬
‫حتليل العينة‪ ,‬بينما الطب ال�شرعي ينفي!‪.‬‬
‫و�سخرية �أحيان ًا‪َّ ,‬ثم‬ ‫أ�صبحت الق�ضية ماد ًة �إعالم َّية ُم�شوق ًة‪ ،‬ومثار ٍ‬
‫حديث ُ‬ ‫ِ‬ ‫�‬
‫ماتت على ل�سان النا�س وانتهت كما الكثري غريها‪.‬‬
‫حل�ساب َمن يحدث كل هذا؟‪ ,‬ول�صالح َمن حتديد ًا ؟!‬
‫�أما الق�ضية اجلديدة فهي ال تختلف عن هذا كثري ًا‪� ,‬ضحية �أخرى‪ ,‬طف ٌل ال‬
‫أم�س َق َب َ�ض على‬
‫روع وهو ميت‪� ,‬أول � ِ‬ ‫يتع َّدى العا�شرة‪ُ ,‬ق ِت َل ثم ُاغت ُِ�صب ٍ‬
‫ب�شكل ُم ٍ‬
‫وقت حتويله �إىل النيابة بعد اعرتافه‪ ,‬والذي بات يعرف‬ ‫اجلاين بيديه‪ ,‬وحان َ‬
‫م�صريه جيد ًا منذ الآن‪ ،‬حتى قبل �أن تنظر النيابة ثم ا َملحكمة يف �أوراقه‪.‬‬
‫َطرقاتٌ على الباب و�ص َله �صوتها مل جتعله ي�ستدير للخلف‪ ,‬ويبدو �أنَّ‬
‫الطارق قد اعتاد على �أال ُيوليه �أح ٌد اهتمامه وهو يرفع �صوته بنرب ٍة ع�سكري ٍة‬
‫ب�أن احلاجة «جليلة» تنتظر يف اخلارج‪ ,‬وبعد �إمياءة �صغرية بر�أ�سه وهو ُيلقي‬
‫لفافة التَّبغ عرب النافذة‪ ،‬ثم يزفر بقو ٍة ويلتفت لي�ستقبل زائرته وا�ضع ًا كلتا‬
‫حلجرة بنف�س هالة ال�شكيمة‬ ‫يديه يف جيبي �سرواله‪ ،‬دلفت «جليلة» �إىل ا ُ‬
‫املُحيطة بها‪ ,‬عباء ُتها ال�سوداء ال َف�ضفا�ضة امل�شهورة يف �صعيد م�صر‪ ،‬وحجابها‬
‫‪‬‬
‫امللفوف طبق ًة واحد ًة حول ِجيدها‪ ,‬ذاك ال�صرير الذي ي�صدر عن ِ‬
‫حتركها‬
‫دائم ًا يجعله ُيخمن �أنها ترتدي نوع ًا من �أنواع ا ُ‬
‫حللي ال�ضخمة حول رقب ِتها‬
‫املخفي �أ�سفل مالب�سها‪.‬‬
‫ّ‬
‫تخطت اخلم�سني من‬
‫ِ‬ ‫يتعاطف م َعها كما لو كانت �أحد �أقربائه‪ ,‬لقد‬
‫عمرها‪ ,‬فقدت زوجها الذي جاءت معه من ال�صعيد؛ ُ‬
‫لتقطن هنا يف القاهرة‬
‫انقطاع عن َ‬
‫احلمل دام‬ ‫ٍ‬ ‫ال�صعب‪ ,‬والذي ُرزقت منه بوحيدها بعد‬
‫بجوار عمله َّ‬
‫ل�سنوات‪ ,‬طف ٌل كان �سبب فرحتها ورغبتها يف احلياة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫�أ�سر ٌة تعي�ش اليوم ِ‬
‫بيومه‪ ,‬ال ميلكان �سوى �شقتهما امل�ؤجرة هنا منذ �سنني‪,‬‬
‫ال �أر�ض زراعية وال عائلة كبرية‪ ,‬بعد وفاة زوجها مل يتبق لها من الدنيا �سوى‬
‫ولدها ال�صغري‪ ,‬الذي اعتربته َر ُج َلها وعائلتها وكل ما متلك من الدنيا‪ ,‬وربته‬
‫أثبت لها �أن تربيتَها له مل‬ ‫رج ًال ولي�س جم َّرد ٍ‬
‫طفل‪ ,‬وهو � َ‬ ‫ذلك‪� ,‬أن يكون ُ‬‫على َ‬
‫تذهب هَ در ًا‪ ,‬و�أنه كان رج ًال حتى �آخر َ‬
‫رم ٍق يف حياته الق�صرية‪.‬‬
‫قعده خلف مكت ِبه‪ ،‬ويجذبه للخلف‬ ‫�أ�شار لها باجللو�س وهو يدور حول َم ِ‬
‫بالبوز كل يوم‬ ‫قلي ًال قبل �أن يحتله بج�سده العري�ض‪ ،‬وبطنه الذى باتَ يهدده ُ‬
‫�إذا مل ي ُعد �إىل تدريبات اللياقة البدنية التي تركها منذ �شهورٍ‪ ،‬ولكنه ُيهم ُله‬
‫ُمدعي ًا �أن الأمر مل يتفاقم بعدُ‪ ,‬و�أنه ُم�سيط ٌر!‪.‬‬
‫غريب عليه‪ ,‬هو َمن‬
‫ٍ‬ ‫برتتيب‬
‫ٍ‬ ‫َلْ َل َم بع�ض الأوراق وهو ُيعيدها �إىل مل ِّفها‬
‫الطريقة التي �سيخربها بها عن الأخبار‬ ‫طلبها اليوم؛ لت�أتي �إليه‪ ،‬ولك َّنه يجهل َّ‬
‫ولدها‪ ,‬هل يخ ُربها احلقيقة الكاملة �أم يرتكها تفرح فقط‬ ‫اجلديدة يف ق�ضية ِ‬
‫بخرب اعرتاف اجلاين؟‪.‬‬
‫ب�شرين يا ولدي‪ ..‬هل هناك �أخبار جديدة؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫بنظرات مرتقب ٍة‪ ,‬عيناها احلالكتان تكادان ت ُربقان‪ ،‬وجل�ستها‬ ‫ٍ‬ ‫قالتها‬
‫املُتح ِّفزة متيل بها �إىل الأمام ُم�ستند ًة �إىل حا َّفة َمكتبه ك َل ُب�ؤ ٍة ت�ستع ُّد‬
‫فاجئة جعلت ِمرفقها ُي�س ِقط‬ ‫لالنق�ضا�ض‪ ،‬ولكن وقا ُرها مينعها‪ ,‬حركتها املُ ِ‬
‫اللوح املعدين ال�صغري املو�ضوع يف مقدِّ مة مكتبه‪ ,‬وجد نف�سه ينه�ض قلي ًال؛‬
‫ل ُي ِعدل من و�ضعه كما كانَ قبل �أن ينظر �إىل ا�سمه املنقو�ش فوقه بخط وا�ضح‪,‬‬
‫وك�أنه يطمئنُّ عليه‪.‬‬
‫جب مالحمه‬ ‫«املُقدم عا�صم �إ�سماعيل اجلبلي» ‪ ،‬حاول «عا�صم» �أن ُي ِ‬
‫احلادة على التفا�ؤل‪ ،‬ولكنه َ‬
‫ف�شل فبقيت �شبه ابت�سام ٍة بال ُر ٍوح فوق �شفتيه وهو‬
‫م�صطنع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫يقول ب�سرو ٍر‬
‫�شاهني و�سيد اعرتفا بارتكاب اجلرمية وهما يف طريقهما للنيابة الآن‪.‬‬
‫�شديد هاتف ًة بت�سا� ٍؤل تعرف �إجابته‪:‬‬
‫بت�صلب ٍ‬
‫ٍ‬ ‫نه�ضت واقف ًة وهي ُتكور كفيها‬
‫اعرتفا؟‪.‬‬
‫هل يبت�سم �ساخر ًا الآن؟!‪ ,‬ال بد �أنه فعل �أ�ص ًال‪َّ ,‬‬
‫حك َذ َقنه احلليقَ ب�أظافره‬
‫يقطن بنف�س‬‫�شخ�ص ُ‬
‫ٍ‬ ‫وهو ُي ِومى ُء بـ «ن َعم»‪� ,‬إنه مل ينم منذ جاءته �إخبارية عن‬
‫تف منذ اختفاء ِّ‬
‫الطفل‪ ،‬مل‬ ‫املربع ال�سكني الذي كان ي�سكنه ال�ضح َّية‪ ،‬ب�أنه ُم ٍ‬
‫يحتَج الأمر �إىل كث ٍري من التحريات‪ ،‬فاجلاين كان ُيدير �أحد َمال «�ألعاب‬
‫املجني عليه �آخر مر ٍة‬
‫ُّ‬ ‫وهد‬‫الفيديو« املُنت�شرة بكرث ٍة يف تلك الأحياء‪ ,‬ولقد ُ�ش ِ‬
‫ُ‬
‫يدلف �إليها‪ ،‬ومل تتم ر�ؤيتُه بعد ذلك‪.‬‬
‫اعتدل «عا�صم» يف ِجل�سته ُم�ست ِند ًا �إىل حافة مكت ِبه ِمبرفقيه بطريق ٍة‬
‫�أوحت لها ب�أنه على و�شك اخلو�ض يف التفا�صيل ِما جعلها ُتعاود اجللو�س من‬
‫جديد ُمن�صت ًة وهو يتابع ُمر ِدف ًا‪:‬‬
‫ٍ‬
‫‪‬‬
‫اعرتف �شاهني ب�أنه قام بت�أجري �سيارة �صديقه �سيد الذي �ساعده على‬
‫ولدك بداخلها بالقوة ‪ ..‬وقاما با�صطحابه �إىل منطقة مهجورة‬‫جذب ِ‬
‫‪ ..‬وهناك حاوال االعتداء عليه ‪ ..‬ولكن الطفل قاومهما ب�شدة ‪ ..‬فقاما‬
‫بقتله‪.‬‬
‫�ص َم َت «عا�صم» عندما الحظ تقلُّ�ص وجهها وهي ت�ضغط فكيها بقو ٍة‪� ,‬شعر‬
‫ال�صمود �أمامه‪ ,‬هل ت�ستطيع الأم‬ ‫بها تنازع ُغ�ص ًة يف حل ِقها‪ُ ،‬وترب َ‬
‫نف�سها على ُّ‬
‫بولدها ‪ ..‬امليت؟!‪.‬‬
‫�أن تـفخر ِ‬
‫لقد كان ي�شرح تفا�صيل تعل ُمها جيد ًا‪ ,‬فهي نف�س التفا�صيل التي جاءت‬
‫�ضربات‬
‫ٍ‬ ‫يف خطاب الطب ال�شرعي بعد فح�ص جثة ولدها‪ ,‬الطفل ُق ِتل بعدة‬
‫ع�شوائية فوق ر�أ�سه‪ ,‬ثم مت االعتداء عليه‪ ،‬وتركه اجلاين جثة فاقدة للروح ‪.‬‬
‫�إنها حتلم به كل ليل ٍة عندما ُتغمِ �ض عينيها لدقائقَ قليل ٍة‪ ,‬فهي مل تـنم منذ‬
‫ولدها وتعرفت عليه‪ ,‬بعد �أن كان ُمت ِفي ًا وترجو عودته حي ًا‪.‬‬ ‫�أن �شاهدت جثة ِ‬
‫عادت تقف من جديد‪ ،‬ولكن هذه املرة وكتفاها ُمتهدلتان‪ ,‬ومالمح الده�شة‬
‫واملوت البطىء تكت�سح مالحمها وج�سدها بال رحم ٍة‪� « ,‬شاهني» ابن الثامنة‬
‫راهق ًا �سيعود �إىل ُر�شده مع الوقت‪ ،‬ويبتعد عن‬
‫ع�شرة ربيع ًا‪ ,‬لقد كانت تظنه ُم ِ‬
‫طريق الف�ساد هو و�صديقه املُالزِم له كظله‪ ,‬لقد كان يقبل كفها عندما يراها‬
‫يف الطريق‪ ,‬ويحمل عنها متاعها الثقيل‪ ,‬ما زالت ت�ستمع �إىل عبارته املُكررة‬
‫«ع ِّنك يا حاجة» تقرع ذاكرتَها‪ ,‬لقد منحته مائة ُج ٍ‬
‫نيه ك ُم�ساعد ٍة منها عندما‬
‫�أخربها �أنه يريد ت�أجري �أحد املحال القريبة «لألعاب الفيديو«؛ لي�ستطيع‬
‫وت يومه من احلالل بعيد ًا عن �أوالد احلرام الذين يجرونه �إىل طريق‬ ‫ك�سب ُق ِ‬
‫املُخدرات‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ من احلالل ؟! ‪.‬‬
‫ب�صوت‬
‫ٍ‬ ‫نف�سها كان‬ ‫تعقيبه بتلك الكلمة الب�سيطة جع َلها ُت ُ‬
‫درك ب�أنَّ حديث ِ‬
‫م�سموع‪� ,‬إنها تَهذي دون �أن تدري‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مل ينده�ش‪ ,‬فهو يعلم �أنها من �سكان نف�س احلي‪ ،‬ولكنها بالت�أكيد مل تكن‬
‫دمن ًا على‬
‫تعلم ب�أنَّ «�شاهني» مل يكن يعمل يف «�ألعاب الفيديو« فقط‪ ,‬لقد كان ُم ِ‬
‫ُم�شاهدة الأفالم الإباحية لي ًال �أثناء تدخينه ل�سجائر املُخدرات‪ ،‬بعد �أن ينتهي‬
‫موعد عمله ُيغلق الباب ِمن الداخل‪ ،‬ويبد�أ يف التحميل من املواقع الإباحية‬ ‫ِ‬
‫املجانية واملُ�شاهدة‪ ,‬ويف النهار يبيع تلك الأ�سطوانات لل ُمراهقني والكبار �سوا ًء‬
‫حا�سوب‬
‫ٍ‬ ‫واحد منهم خلف جهاز‬ ‫ِخل�س ًة من الأطفال اجلال�سني يف حمله كل ٍ‬
‫قدمي الطراز‪ ،‬عيناه �أ�سريتا ُلعبة الفيديو الذي يكافح؛ ليك�سب جوال ِتها‬
‫املُتعددة التي ت�ستـنـزف �أموال �أُ َ�س ِرهم َّ‬
‫بال�ساعة ‪.‬‬
‫�ستعلم هي كل ذلك؟ يبدو �أنَّ املُخدرات �أكرث �شهر ًة يف جمتمعاتنا‬ ‫ُ‬ ‫وكيف‬
‫ِما يوازيها خطور ًة و�إدمان ًا !‪.‬‬
‫أخرجه من �أفكاره‪ ,‬مل يكن بحاج ٍة للنظر �إىل ا�سم املُ ِ‬
‫ت�صل‬ ‫رنني هات ِفه � َ‬
‫ت�صلة‪ ,‬لقد حدد لها نغمة خا�صة تنا�سب حالتها املُتفجرة على‬ ‫�أو بالأحرى املُ ِ‬
‫تن�ضب وال تنتهي‪ ،‬و ُت�ستحدث دائم ًا من َ‬
‫العدم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الدوام‪ ,‬طاق ٌة ال‬
‫جمنونته التي مل تكن كذلك حني تزوجها‪ ,‬كانت وديع ًة وهادئ ًة عندما‬
‫كانت تتدرب يف تلك اجلريدة ال�شهرية يف ق�سم �أخبار النجوم‪ ,‬ولكن مبجرد‬
‫تغيت متام ًا‪ ,‬وباتت «�أروى»‬
‫�أن ثبتَت �أقدامها بها‪ ،‬وانتقلت �إىل ق�سم احلوادث‪َ ,‬‬
‫يحب �أن ُيطلق عليها‪.‬‬
‫املجنونة‪ ,‬كما ُّ‬
‫‪‬‬
‫ولكن جنونها هذا ال ينا�سب طبيعة عمله‪ ,‬يكفيه احلوادث واجلرائم‬
‫بيت هادئٍ وزوج ٍة لطيف ٍة ُتزيل عنه‬
‫والدماء‪ ,‬يريد �أن يذهب يف نهاية اليوم �إىل ٍ‬
‫عناء العمل‪ ,‬ال �شعل ٍة متقد ٍة تريد �أن َ‬
‫تناق�شه ويناق�شها‪ ،‬وجتادله ويجادلها يف‬
‫كل تف�صيل ٍة يف عملهما ‪..‬‬
‫يخ�صه هو يف اخلط�أ وال�صواب‪ ،‬وما يجب وما ال يجب؟!‪..‬‬
‫ما ُّ‬
‫�إنه ُيطبق القانون وينفذ الأوامر ال �أكرث وال �أق َّل‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ب�صمت‬
‫ٍ‬ ‫وق َف ِت ال�سيدة «جليلة» �أمام ُحجرة النيابة ت�ستمع �إىل ُماميها‬
‫بال�ضبط‪�« ,‬شاهني و�سيد» مل يبلغا‬ ‫ي�شبه �صمت القبور‪ ,‬ال ت�ستوعب ما يقوله َّ‬
‫الثامنة ع�شرة بعدُ‪ ,‬لذلك فهما طفالن يف نظر القانون‪� ,‬سيت ُّم و�ضعهما يف‬
‫م�ؤ�س�س ٍة عقابي ٍة‪ ,‬ولن ُيحا َكما بالإعدام حتى لو قاما ب�إزهاق ُر ٍوح‪.‬‬
‫ولدها الوحيد؟!‪ ,‬هل كانا طفلني‬ ‫هل كانا طفل ِني عندما خططا خلطف ِ‬
‫ر�ضه ؟!‪.‬‬ ‫عندما حتوال �إىل قات َل ْي؛ ليتمكنا من االعتداء عليه ِ‬
‫وهتك ِع ِ‬
‫مرات‪ُ ,‬تكذب �أُذنيها‪,‬‬
‫رفعت وج َهها �إليه وهي ُتغم�ض عي َنيها وتفتحهما عدة ٍ‬
‫�شتت ُمت�سائل ًة‪:‬‬
‫بذهن ُم ٍ‬
‫تتهم نف�سها بالغباء‪ ,‬تكلمت ٍ‬
‫االثنان يف �سن البلوغ‪ ..‬ولو تز َّوجا‪..‬لأجنبا‪ ..‬فكيف يكونان طفلني باهلل‬
‫عليك؟!‪.‬‬
‫للأ�سف ‪ ..‬هما ِطفالن يف نظر القانون يا حاجة‪.‬‬
‫قالها املُحامي وهو ي�شعر ب�أنه يف تلك اللحظة يحمل ُخفي ُحن ٍني بني يديه‪,‬‬
‫لقد َق ِبل هذه الق�ضية بتو�صي ٍة خا�ص ٍة من املُقدم «عا�صم» الذي يتابع الق�ضية‬
‫ب�شكل �شخ�صي‪ ,‬وكالهما يعلم النهاية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ق�صا�ص‪ ,‬وال حك ٌم رادعٌ‪ ,‬راي ٌة مرفوع ٌة يتجمع ال�سفاحون‬
‫ٌ‬ ‫لن يكون هناك‬
‫�أ�سفلها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫«افعل ما تريد ما دمت �أقل من ثمانية ع�شر عاما»‪.‬‬
‫يحن بع ُد وقت البكاء‪� ,‬ستنتظر احلكم النهائي‪,‬‬ ‫هي لن تبكي الآن‪ ,‬مل ِ‬
‫دموعها؛ لتعلم هل جفت �أم ما زالت ناب�ض ًة ؟‪ ,‬ما زالت‬
‫وبعدها �ستبحث عن ِ‬
‫تت�شبث بالأمل‪ُ ,‬حكم ا َملحكمة‪.‬‬
‫ظلت ثابت ًة ِطيلة فرتة التقا�ضي‪ ,‬جل�س ٌة تلو �أخرى‪ ,‬حتى �صدر حكم ا َملحكمة‬
‫وط ِعن عليه‪ ,‬نظرات «�شاهني و�سيد» لها بربود من خلف الق�ضبان‪ ,‬هل‬ ‫ُ‬
‫ولدها؟‪.‬‬
‫ي�ستخفان بها‪ ,‬عيناهما حتكيان لها كيف قتال َ‬
‫دمه الغايل‪ ,‬تتخيلهما وهما يتجردان من الإن�سانية‬
‫ترى كفيهما تقطران َ‬
‫الروح وخبت مقاومته‪.‬‬
‫كما ُيجردان ف�ؤا َدها من مالب�سه‪ ,‬بعد �أن فقد َ‬
‫لن ُي َ‬
‫طفئ ِغلها �سوى �سماعها بحكم الإعدام‪ ,‬ال تريد �سوى الق�صا�ص‪.‬‬
‫ويف اللحظة التي ر�أت فيها ال ُعبو�س على وجه القا�ضي وك�أنه ُي�صارِع �شيئ ًا‬
‫ما بداخله‪ُ ,‬ي�صارِع �ضمريه‪ ,‬ولكن ال ِحيلة له‪ ,‬ال بد �أن يطبق القانون‪ ,‬القانون‬
‫دمه عندما �سم َع ِت منطوق احلكم ‪.‬‬
‫الذي �أهدرت «جليلة» َ‬
‫�سنوات ‪ ..‬واحد ٌة منها �سيق�ضيانها يف امل�ؤ�س�سة العقابية حتى ُيـتما‬
‫ٍ‬ ‫ع�شر‬
‫الثامنة ع�شرة ثم يت ُّم ترحيلهما لل�سجن لتم�ضي ِة بقية املُدة َ‬
‫هناك‪.‬‬
‫لو ٌح من ال َّثلج انزلق عرب عمودها الفقري وهي تراهما ينظران �إىل ِ‬
‫بع�ضهما‬
‫بارتياح‪ ,‬ولو ع ِلموا �أن �أنفا�سهم َ‬
‫تلك‬ ‫ٍ‬ ‫ووجوم‪ ,‬و�أ�سرتاهما تتنف�س‬
‫ٍ‬ ‫بربود‬
‫البع�ض ٍ‬
‫�ست�ؤجج الث�أر يف قلبها‪ ،‬ل َكتَموا �أنفا�سهم جميع ًا‪ ،‬ولكنهم كانوا يتوقعون ذلك‬
‫احلكم بل وينتظرونه ب�سعاد ٍة‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مل َلمت طرف حجابها الأ�سود‪ ،‬وجرت قدميها حتى خرجت من �ساحة‬
‫ا َملحكمة لتجد «عا�صم» بانتظارها يف اخلارج‪ ,‬تبادال النظرات قبل �أن ترتكه‬
‫يف طريقها لل َّرحيل‪.‬‬
‫ورغم ًا عنها تع َرثت قدمها الي�سرى يف طرف الدرج فكادت �أن ت�سقط‪,‬‬
‫تما�سك ٌة‬
‫�أو مل ت�سقط بعدُ‪� ،‬أم�سك هو بها من ِمرفقيها قبل �أن تفعل‪� ,‬إنها ُم ِ‬
‫ب�شكل يثري �إعجابه‪ ,‬حتى وهي تنهار تكاد ُتعلمه كيف يقع بوقارٍ!‪ ,‬طرف‬
‫�أمامه ٍ‬
‫ِو�شاحها الذي كان ُيغطي ُعنقها ُك ِ�شف على �إثر ِ‬
‫ترنحها‪ ,‬ولأول مر ٍة يرى‬
‫حل َّلي َّ‬
‫ال�ضخم بالن�سبة ل�سيد ٍة يف عمرها‪ُ ,‬حلي غريب عبارة‬ ‫«عا�صم» َ‬
‫ذلك ا ُ‬
‫مرات لطولها‪.‬‬
‫عن �سل�سل ٍة حديدي ٍة رفيع ٍة وطويل ٍة‪ ,‬تلفها حول ِجيدها ثالث ٍ‬
‫تعجب «عا�صم» ‪ ,‬كيف تتحمل وزنها حول رقب ِتها ؟!‪ ,‬اعتدلت «جليلة» يف‬
‫وقف ِتها‪ ،‬فتنحنح «عا�صم» وهو يرتك ِمرفقيها باحث ًا عن كلم ٍة يوا�سيها بها‪:‬‬
‫�أرجو �أن تتما�سكي يا حاجة «جليلة» ‪ ..‬حاويل �أن تن�شغلي ببع�ض‬
‫الأعمال اخلريية مث ًال‪ ..‬بد ًال من الهم والبكاء‪.‬‬
‫نظرت له بقو ٍة جتابهه‪ ،‬و�ألقت يف وجهه ُجملتها الأخرية قبل �أن تن�صرف‬
‫تارك ًة �إياه يف حالة فو�ضى‪:‬‬
‫ ُحرقة القلب تقتل دموع العني يا ولدي ‪ ..‬و�أنا امر�أة �صعيدية‪ ..‬البكاء‬
‫يف حقي مذلة‪ ..‬ال�شرف يف ُعر ِفنا لي�س له ثمن ‪ ..‬فما َ‬
‫بالك بالقتل ؟!‪.‬‬
‫تركها «عا�صم» وا�ستدار ُيو ِليها ظه َره؛ ليهبط الدرج اخلارجي للمحكمة‪،‬‬
‫ما جعله ُيخرج هاتفه النقال‬ ‫فاج ٌئ بالقلق على ولده‪َّ ِ ،‬‬
‫وهو ينتابه �شعو ٌر ُم ِ‬
‫ويقوم مبحادثة زوجته التي مل ت ُعد تتعجب من اهتمامه الغريب واملُتكرر على‬
‫مرات يومي ًا فقط لي�س�أل �أين هو‬
‫ال�صبي‪� ,‬إنه يتحدث �إليها �أكرث من خم�س ٍ‬
‫‪‬‬
‫الولد الآن ؟‪ ,‬ويفتعل معها م�شاجر ًة لو ذهب �إىل �أي ٍ‬
‫مكان خارج املنزل وحده‬
‫دون �أن تكون هي م َعه ‪.‬‬
‫�سبب ما لقل ِقه املُتزايد‪ ,‬حتى نفدت �أ�سبابه‪،‬‬
‫يف كل مر ٍة كان يقوم باخرتاع ٍ‬
‫ف�صح لها عن حقيقة خماوفه‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وا�ضطر �أن ُي ِ‬
‫خلطف التي يتم حتريرها يوم َّي ًا‬
‫هل تعلم َني عدد حما�ضر االختفاء وا َ‬
‫أطفال يف ُعمر ابننا تقريب ًا !‪ ..‬الأمر زاد عن حده‪..‬‬
‫؟‪ ..‬ومعظمها ل ٍ‬
‫لطلب‬
‫و�أ�صبح كالنار يف اله�شيم ‪ ..‬يف املا�ضي كانوا يختطفون الأطفال ِ‬
‫ِفدية‪� ..‬أما الآن فاملفقود مقتول ال حمالة‪ ..‬جتارة �أع�ضاء‪ ..‬ت�سول‪..‬‬
‫ببالك‪.‬‬
‫اغت�صاب‪� ..‬أي �شيء يخطر ِ‬
‫يومها جل�ست زوجته بجواره‪ ،‬وعيناها مت�سعتان بده�ش ٍة وهي ت�ستند �إىل‬
‫ك ِتفه‪:‬‬
‫أنت �ضابط �شرطة‪َ ..‬من يجر�ؤُ �أن مي�س ابنك ب�سوء ؟!!‪.‬‬
‫ولكن � َ‬
‫نف�سه باحلقيقة املُرة‪ ,‬الطوفان‬ ‫�س�ؤا ُلها هزه من الداخل ٍ‬
‫بعنف وجعله يواجه َ‬
‫عندما ي�أتي يكت�سح الأخ�ضر والياب�س‪.‬‬
‫والفو�ضى ال ُتفرق بني ابن ال�ضابط وغريه‪..‬‬
‫الفو�ضى َت ُعم اجلميع‪َ ,‬من �صفقوا لها‪َ ،‬ومن وقفوا مبواجه ِتها‪ ..‬الكل‬
‫خ�سران‪ ,‬والكل ُم�ستبا ٌح‪.‬‬
‫وقبل �أن ُينهي املكاملة الهاتفية بعد �أن اطم�أن لوجود ال�صغري باملنزل‪,‬‬
‫طوات �سريع ٍة ُمتعجل ٍة‪.‬‬
‫بخ ٍ‬ ‫ا�ستوق َفه نداء �أحدهم وهو قاد ٌم نحوه ُ‬
‫‪‬‬
‫بتفح ٍ�ص اعتاده‪،‬‬
‫�أغلق «عا�صم» الهاتف‪ ،‬وا�ستدار ينظر نحو القادم ُّ‬
‫ويدُه يف طريقها نحو جيب قمي�صه الذي يحتفظ بداخله ب ُعلبة ِلفافات التبغ‬
‫خا�صته‪ ,‬والقلق الذي �صاح َبه �أثناء حتدثه مع زوجته ال يزال تارك ًا �آثاره على‬
‫وجهه العاب�س ‪.‬‬
‫�سرع نحوه حام ًال‬ ‫رج ٌل مد ُّ‬
‫ين الهيئة يبدو يف �أواخر الع�شرين َّيات من عمره‪ُ ,‬ي ِ‬
‫ر�ص َملف ًا ُمتو�سط احلجم كثاف ًة‪� ،‬أوراقه ال ب�أ�س بها‪« ,‬عا�صم» كالعادة‬ ‫بح ٍ‬‫ِ‬
‫ُيارِ�س ُلعبة التخمني على كل َمن يتعامل معه دون �سابق معرف ٍة‪َ ,‬‬
‫وعندما توقف‬
‫�صحفي يريد‬
‫ُّ‬ ‫الرجل �أمامه ومد يده؛ لـ ُيعرف بنف�سه‪ ,‬متتم «عا�صم» بداخ ِله‪:‬‬
‫خرب ًا �ساخن ًا عن الق�ضية‪ ,‬ولكن الرجل قال �سريع ًا‪:‬‬
‫ �أنا «حممود عبد العزيز»‪.‬‬
‫رفع «عا�صم» حاجبيه ُمتعجب ًا‪ ،‬بينما �أفلتت منه �ضحك ٌة غري مق�صود ٍة ثم‬
‫ميد كفه؛ ل ُي�صافحه �ساخر ًا‪:‬‬
‫توقعتُ �أن تكون �صحف َّي ًا‪ ..‬ولكن مل يخطر على بايل �أنك ُمثل‪.‬‬
‫ر�سم «حممود» ابت�سام ًة �سريع ًة على وجهِ ه‪ ,‬هذه لي�ست �أول مر ٍة ي�ضحك‬
‫النا�س فيها عندما يقدم نف�سه لهم‪ ,‬لقد اعتاد على هذه ال�سماجة كثري ًا خالل‬
‫رحلة عمله‪.‬‬
‫يا فندم �أنا «حممود عبدالعزيز �صربي» ‪ ..‬باحث �أكادميي‪.‬‬
‫وح�ضرتك باحث عن �إيه يا �أ�ستاذ «حممود عبد العزيز» ‪ ..‬الكيف؟!‬
‫قالها «عا�صم» وزادت وترية ارتفاع �ضحكا ِته حتى جذب الأنظار �إليهما‪،‬‬
‫نف�سه بد�أ ي�شعر َ‬
‫باحل َرج من ت�صرفه ومدى‬ ‫وتوقف البع�ض ينظر با�ستياءٍ ‪ ,‬هو ُ‬
‫‪‬‬
‫تناق�ضه مع احلالة النف�سية املُت�أزمة التي خرج بها منذ ٍ‬
‫قليل من قاعة املحكمة‬
‫وحديثه مع ال�سيدة «جليلة»‪.‬‬
‫�شديد يف‬
‫رج ٍ‬ ‫�أما على اجلانب الآخر فقد م�سح «حممود» َعرق ًا وهمي ًا َ‬
‫بح ٍ‬
‫انتظار هدوء «عا�صم» الذي يبدو كمختل عقلي ًا ي�ضحك كاملجانني ثم يهد�أ يف‬
‫مالحمه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫واختلط ِت امل�شاعر املُتنا ِق�ضة فوق‬ ‫حلظات‬
‫ٍ‬
‫�أنا �آ�سف يا «حممود» ‪ ..‬اعذرين؛ ف�أنا يف حالة ِمزاجية �صعبة‪..‬‬
‫تف�ضل‪ ..‬ماذا تريد؟‪.‬‬
‫�أنا ُمدر�س علم نف�س يف �إحدى املدار�س الثانوية‪ ..‬ويف الوقت نف�سه‬
‫باحث �أكادميي يف �إدمان املواد الإباحية‪ ..‬و�أرغب مب�ساعدة ب�سيطة من‬
‫�سيادتك يف بع�ض التفا�صيل ال�صغرية املهمة‪.‬‬
‫وتنحنح وهو‬
‫َ‬ ‫عقد «عا�صم» ذراعيه فوق �صدره‪ ،‬وقد ن�سي �أن ُي�ش ِعل ِلفافته‪،‬‬
‫اجلدية‪:‬‬
‫يدعي ِ‬
‫لن �أُ َ‬
‫فيدك للأ�سف ‪ ..‬فلقد توقفت عن م�شاهدتها منذ �سنوات!‪.‬‬
‫ملح «حممود» ال�سخرية ُمدد ًا يف حديثه‪ ،‬لكنه تغا�ضى عن هذا �أي�ض ًا‪ ..‬وما‬
‫اجلديد؟!‪ ,‬يجب �أن يقول ما لديه دفع ًة واحد ًة؛ فالرجل ال يبدو طبيعيا �أبد ًا‪:‬‬
‫لقد قر�أت كغريي عن اعرتافات ا ُ‬
‫جلناة يف ق�ضية قتل الطفل ال�صغري‬
‫واغت�صابه‪ ..‬والتي كان احلكم فيها منذ قليل‪ ..‬وما قالوه �سيفيد يف‬
‫َ‬
‫م�ساعدتك يف معرفة اعرتافاتهما‬ ‫درا�ستي و�أبحاثي‪ ..‬لذلك �أريد‬
‫الكاملة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪ -‬بطاقتك‪.‬‬
‫نطق بها «عا�صم» على الفور وهو مي ُّد َيده له بطريق ٍة � ِآمر ٍة ذ َّك َرت «حممود»‬
‫الطريقة ونف�س الإ�شارة‬ ‫الطريق الذي تعامل معه بنف�س َّ‬ ‫ب�ضابط الكمني على َّ‬
‫خ�صك «‪ ,‬ن�سخ ٌة ُمكرر ٌة لطريق ٍة فوقي ٍة يف احلديث‬ ‫�إال �أنه زاد عليها كلمة « ُر َ‬
‫وك�أنها ماد ٌة قاموا بدرا�ستها يف الكلية‪ ،‬وجنحوا فيها جميع ًا بدرجة امتيازٍ ‪.‬‬
‫قلب «عا�صم» بطاقة ال ُهوية بني �سبابته و�إبهامه وهو ُيحرك ر�أ�سه‪ ،‬ومد يده‬
‫بها يعيدها �إليه بنرب ٍة مت�شكك ٍة‪:‬‬
‫وما عالقة مهنتك الأ�سا�سية باملواد الإباحية؟!‪.‬‬
‫�إن كان ُمكن ًا‪ ..‬فهل ت�سمح يل بن�صف �ساعة من وقتك؟‪.‬‬
‫�أوم�أ «عا�صم» بر�أ�سه وهو يتحرك هبوط ًا للدرجتني‪ ،‬ثم ي�سار ًا نحو �سيارته‬
‫هناك ُم�شري ًا �إليه ب�أن يتبعه قائ ًال َ‬
‫ب�ص َل ٍف‪:‬‬ ‫املر�صوفة َ‬
‫�أتعلم؟‪ ..‬رمبا لو كنت جئتني يف ظروف �أخرى‪ ..‬لكنتُ ت�صرفت معك‬
‫أحد‬
‫ب�شكل خمتلف ‪� ..‬أما اليوم ف�أنا يف حاجة للتحدث مع �أحدهم ‪� ..‬أيِّ � ٍ‬
‫‪ ..‬بخالف زوجتى‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ا�صطحبه «عا�صم» يف �سيارته وذهب به �إىل نادي �ضباط ال�شرطة املُطل‬
‫واجه للطاولة‬‫وهناك رمى بج�سده حرفي ًا فوق ا َملقعد املُ ِ‬
‫َ‬ ‫على كورني�ش النيل‪,‬‬
‫املُ�ستديرة الكائنة �أ�سفل ِمظلة كبرية ج َّد ًا تتو�سط جمموع ًة من الطاوالت‬
‫ذات املفار�ش احلمراء‪ ,‬جميعها خالي ٌة يف مثل هذا الوقت من اليوم‪ ,‬و�أ�شار‬
‫وحذرٍ‪ ،‬وهو ي�شاهد رفيق طاولته‬ ‫جذب «حممود» ا َملقعد بهدوءٍ َ‬‫�إليه باجللو�س‪َ ,‬‬
‫�صمت قط َعه فج�أ ًة وهو‬
‫وا�ضح يف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ي�ضغط جانبي ر�أ�سه ب�أ�صابع كفيه ب�إرهاقٍ‬
‫ي�س�أله‪:‬‬
‫�شاي �أم قهوة؟‪.‬‬
‫لل�س�ؤال‪ ،‬فقال على الفور بتوت ٍُّر وقد وقع اختياره على‬
‫انتبه «حممود» ُّ‬
‫م�شروبه املُ َّ‬
‫ف�ضل‪:‬‬
‫�شاي‪.‬‬
‫�سرع ًا فطلب منه �أن يح�ضر فنجانني‬ ‫�أ�شار «عا�صم» �إىل النادل الذي جاء ُم ِ‬
‫قليل كان «حممود» يبتلع القهوة ابتالع ًا؛ ل ُينه َيها‬‫من القهوة ب�سكر زياد ٍة‪ ,‬وبعد ٍ‬
‫دون �أن يتذوقها كما يفعل مع الدواء متام ًا ُمرا ِقب ًا اجلال�س �أمامه يرت�شف من‬
‫وا�ضح حتى ق�ضى عليها متام ًا‪ ,‬بينما ِلفافة التبغ املُ�شت ِعلة بني‬
‫با�ستمتاع ٍ‬
‫ٍ‬ ‫قهوته‬
‫برفق وك�أمنا ُيقب ُلها بني الفينة والأخرى‪.‬‬
‫�أ�صابعه يتعامل معها ٍ‬
‫�أنا �أ�ستم ُع �إليك‪.‬‬

‫‪‬‬
‫اعتدل «حممود» يف ِج ْل�س ِته‪ ،‬وقد قام بتنظيم �أفكاره �أثناء اجلل�سة العائلية‬
‫التي جمعت «عا�صم» مع ِلفافته وقهو ِته‪ ,‬وقال بهدوءٍ �شارح ًا من البداية‪:‬‬
‫عام تقريب ًا‪ ..‬عندما جاءين ابن �أختي ذو ال�سنوات‬ ‫البداية كانت منذ ٍ‬
‫ال�سبع ي�س�أ ُلني‪ :‬ملاذا يفعل �سوبر مان �أ�شياء «قليلة الأدبـ«؟ �ألي�س‬
‫بط ًال‪َ ..‬‬
‫والبطل ال يقوم ب�أ�شياء م�شينة؟!‪ ..‬تعجبتُ و�س�ألتُه‪ :‬ماذا يعني‬ ‫َ‬
‫ب�أ�شياء «قليلة الأدبـ« على ح�سب قوله؟‪ ..‬فحكى يل مقاطع فيديو ر�آها‬
‫أفزعني‬
‫على �أحد مواقع الفيديوهات على �شبكة الإنرتنت‪ ..‬ما قاله � َ‬
‫حرف َّي ًا‪ ..‬وعندما بد�أتُ �أتتبع ا َملو ِقع الذي كان يحفظ ا�سمه عن َظهر‬
‫قلب وجدتُ ماهو �أكرث بكثري مما حكاه يل‪ ..‬ومن هنا كانت بداية‬
‫تعريف �إىل هذا العامل ال َق ِذر واملواد التي يجذبون بها الأطفال �إليهم‪.‬‬
‫ماذا؟!‪ ,‬وهل كان ينق�صه �أفالم الكرتون �أي�ض ًا‪� ,‬أال يكفي خوفه على ولده‬
‫وال�سرقة حتى يخرج �إليه نو ٌع �آخر من اخلوف؟‪ ,‬هل �سيحا�ص ُره‬
‫من االختطاف ِ‬
‫يف املنزل �أي�ض ًا؟!‪.‬‬
‫مال �إىل الأمام قلي ًال وك�أنه َ‬
‫ب�صدد التحقيق معه وقال وهو ُي�ضيق ما بني‬ ‫َ‬
‫حاجبيه‪:‬‬
‫�أال ت�شعر �أنك تبالغ قلي ًال؟!‬
‫ليتَني كنتُ كذلك يا عا�صم بيه‪.‬‬
‫عاد «عا�صم» للخلف؛ لي�ستند ُمدد ًا �إىل ظهر ِ‬
‫مقعده‪ ،‬وي�شري له ب�أن يتابع‬
‫فقال «حممود» على الفور م�ستطرد ًا‪:‬‬
‫بالطبع �أبلغت �أختي مبا حدث‪ ..‬و ُقمنا مبا ُ‬
‫يجب علينا فعله ُتاه ُمراقبة‬
‫احلا�سوب الذي يجل�س الطفل �أمامه ومنع تلك املواقع ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وت�صورتُ �أن دوري انتهى عند هذا احلد‪ ..‬حتى جاء اليوم الذي الحظت‬
‫فيه بع�ض الطالب يف زاوية من فناء املدر�سة يجتمعون ويدخلون دورة املياه‬
‫�سو َّي ًا‪� ..‬ساو َرين ال�شك فيما يفعلون فتتبعتُهم خفية �إىل هناك‪ ..‬و�شاهد ُتهم‬
‫م�سك بهاتفه النقال ويعر�ض عليه َمقطع ًا �إباح َّي ًا‪ ..‬وهم‬
‫يلتفون حول �أحدهم املُ ِ‬
‫العال من حولهم‪ ..‬حينها علمتُ �أنني‬ ‫ُمغيبون متام ًا عن وجودي‪ ..‬بل عن َ‬
‫أعاجلهم �أي�ض ًا‪..‬‬
‫ال يجب �أن �أد ِّر�سهم منهج علم النف�س فقط‪ ..‬بل يجب �أن � َ‬
‫ب�شكل �أو ب�آخر عن �إيقاف هذه ا َملهزلة‪ ..‬وبنف�س فكرة‬ ‫و�شعرتُ ب�أنني م�س�ؤول ٍ‬
‫جمموعات عالجي ٍة‪ ..‬وكل‬ ‫ٍ‬ ‫جمموعات التقوية للمواد الدرا�سية‪ ..‬قمتُ بعمل‬
‫تلك املقاطع‪،‬‬ ‫قبل �إدمانه وبعدها يف م�شاهدة َ‬ ‫منهم بد�أ يحكي يل عن حياته َ‬
‫تخيل ‪� ..‬أن الأمر تطرق لديهم �إىل التل�ص�ص والنظر للمحارم‪ ..‬الأم �أو الأخت‬
‫يا عا�صم بيه‪!..‬‬
‫ؤنب نف�سه‪� ,‬إنه‬
‫للحظات ي� ُ‬
‫ٍ‬ ‫ب�ضيق مرار ًا ثم � َ‬
‫أم�سك بجبي ِنه‬ ‫تن َّف�س «عا�صم» ٍ‬
‫خط�ؤُه هو‪ ,‬ملاذا �س�أله عن عالقة مهن ِته الأ�سا�سية كمدر�س علم ٍ‬
‫نف�س وق�صة‬
‫الباحث هذه؟‪ ,‬ما عالقته هو بكل هذا؟‪� ,‬أراد ب�شد ٍة �أن ينه�ض ويعنفه ثم يرتكه‬
‫متح�ضر حتى ال ُيقال‪� :‬إن ال�شرطة‬
‫ٍ‬ ‫وين�صرف‪ ،‬ولكنه �آثر �أن ُينهي املُقابلة ٍ‬
‫ب�شكل‬
‫صرب وهو ي�ستعد للنهو�ض‪.‬‬ ‫عالقتها �سيئ ٌة مع ال�شعب!‪ .‬فقال بنفاد � ٍ‬
‫أنت عظيم يا �أ�ستاذ «حممود» ‪ ..‬و�أعتقد �أنَّ هناك ق�ضية‬
‫ن َعم‪ ..‬ن َعم‪َ � ..‬‬
‫مت رفعها ملنع املواقع الإباحية‪ ..‬ومت احلكم فيها َ‬
‫باحلجب‪ ،‬وانت َهت‬
‫احلكاية‪.‬‬
‫هذا احلكم على ورق �سوليفان يا عا�صم بيه‪ ..‬مل يتم التنفيذ حتى‬
‫الآن‪ ..‬احلكومة تقول‪� :‬إنَّ �سرعة الإنرتنت ال ت�سمح!!‬
‫‪‬‬
‫مل ي�ستطع «عا�صم» �أن ي�ستكمل هذا احلوار �أكرث من هذا‪ ,‬هذه �أمو ٌر‬
‫وجد �ضر ٌر عليه‪,‬‬
‫يخ�صه‪ ،‬وال ُي َ‬
‫وتخ�ص �شبكات االت�صاالت‪ ,‬الأمر ال ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ق�ضائي ٌة‬
‫ابنه ال زال �صغري ًا‪ ,‬و�سيذهب فور ًا؛ ليقوم بتحميل �أحد الربامج احلاجبة؛‬
‫ال�صداع‪ ،‬نه�ض بالفعل وهو ُيظهر ُ‬
‫تعاط َفه الكامل مع‬ ‫ليح َم َيه وينتهي هذا ُّ‬
‫جمهود «حممود» يف عر�ض ق�ضيته وقال بجدي ٍة‪:‬‬
‫�أنا ل�ستُ اجلهة ا َملعنية بالأمر يا �أ�ستاذ حممود‪ ..‬ولكن بالطبع جمهودك‬
‫رائع ج َّد ًا‪ ..‬وت�ستحق الإ�شادة وال�شكر‪ ..‬وعرفان ًا م ِّني مبجهودك هذا‬
‫�س�أجهز لك تقرير ًا بكل ما تريد معرفته عن �أقوال ا ُ‬
‫جلناة يف الق�ضية‬
‫كما طلبت‪ ..‬وغريها من الق�ضايا امل�شابهة �أي�ض ًا‪ ..‬و�ستجده يف‬
‫انتظارك بعد غد على الأكرث يف مكتبي‪ ..‬اتفقنا؟‪.‬‬
‫لي�صافحه وان�صرف على الفور دون �أن ي�سمح‬
‫َ‬ ‫قال كلمته الأخرية ومد يده‬
‫له بكلم ٍة �أخرى‪ ,‬لقد اكتفى اليوم‪ ,‬امل�صائب جتتمع فوق ر�أ�سه وهو لي�س حم ِّرر‬
‫العامل من الف�ساد‪ ,‬ال ي�صلح لدور البطل اخلارق‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫طويل‪ ,‬ثم ق�ضى بقية �ساعات يومه يف‬ ‫وقت ٍ‬ ‫�أنهى «حممود» عمله منذ ٍ‬
‫وهناك حتى يعود �إىل منزله ُمت َعب ًا‪ ،‬فريمتي فوق �سريره‬
‫َ‬ ‫م�شاوير وهمي ٍة هنا‬
‫ُمبا�شر ًة‪ ,‬كان الوقت ُمت�أخر ًا جد ًا‪ ،‬وقد هد� ِأت احلركة يف الطرقات من حوله‪،‬‬
‫وباتت ُخطواته م�سموع ًة له كما هي ذكرياته التي ت�شتعل يف تلك ال َّلحظة كل‬
‫يوم تقريب ًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ن�صرمة التي ق�ضاها وحيد ًا‪ ,‬وبالرغم من �أ َّنه يعلم متام ًا‬‫وبرغم ال�شهور املُ ِ‬
‫�أ َّنه هو َمن حكم على نف�سه بتلك ال َوحدة؛ �إال �أنه ال زال يعي�ش داخل ذكريا ِته‪,‬‬
‫حفز له على اال�ستمرار‪ ,‬مثل‬ ‫يكره الفراق ولكنه ي�ستخدم تلك الذكريات ك ُم ٍ‬
‫ُعيدها‬ ‫َ‬
‫طريقك؛ لت ِ‬ ‫الوقود الذي يدفعه للأمام ويقول له‪ :‬ا�ستم َّر‪ ,‬ا�ستم َّر يف‬
‫� َ‬
‫إليك مرة �أخرى‪.‬‬
‫ا�ستجابت مالمح وجهِ ه لذكراها ال َع ِطرة فا�شتعل باحلنني مبجرد �أن‬
‫�صاح ٌب لظالم �شقته‪ ،‬تلك الإ�ضاءة ال�ضعيفة‬‫دلف �إىل �شق ِته‪ ,‬هدو ٌء قات ٌل ُم ِ‬
‫َ‬
‫ال�صادرة من ا َملمر الطويل الذي يفرق بني ُغرفة اال�ستقبال وغرفة ال َّنوم‬
‫مالب�سه �إىل منامته الزرقاء ال�سخيفة‪ ،‬ثم �سيتجه‬
‫ِ‬ ‫الداخلية‪� ,‬سيقوم بتبديل‬
‫�إىل غرفة ابنته ال�صغرية‪ ،‬لعله يجدها تنام ب�أح�ضان والدتها كما كان يف‬
‫املا�ضي‪ ,‬حتت�ض ُنها بقو ٍة وك�أنها حتتمي بها‪� ,‬إال �أنَّ فراغ الغرفة منهما جعله‬
‫ُيطرق بر�أ�سه وين�صرف عائد ًا �إىل غرفته‪.‬‬

‫‪‬‬
‫يف ما�ضيه القريب كان يرتك زوجتَه حتت�ضن ابنته‪ ،‬بينما ين�سحب هو‬
‫يف ِخف ٍة على �أطراف �أ�صابعه حتى ال ُي َ‬
‫وقظهما‪ ,‬ليت�سنى له احت�ضان حا�سوبه‬
‫املحمول دون مرا َقب ٍة من � ٍ‬
‫أحد‪.‬‬
‫متت�ص فيها �صحته‬
‫ُّ‬ ‫وهنا تبد�أ املُتعة احلقيق َّية ‪ ..‬متع ٌة مبتور ٌة يتيم ٌة لدقائقَ‬
‫وتوازنه واحرتامه لنف�سه ثم ُتلقي به وترميه �سريع ًا �إىل واقعه املرير‪ ,‬وحيد ًا‬
‫بفرا�ش َ�س ِئم برودته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫منبوذ ًا‬
‫دلف �إىل �ش َّقته عاب�س ًا بحركاته االعتيادية وهو يقذف باملفاتيح على‬
‫طوات قليل ٍة كان يرمتي‬‫الطاولة املُرتفعة ال ُبـنية اللون واملجاورة للباب‪ ,‬وبعد ُخ ٍ‬
‫واجهة للتلفاز‪ ,‬ال �شهي َة لديه للطعام‪ ،‬فقط يريد �أن ينام؛‬ ‫على الأريكة املُ ِ‬
‫لي�ستكمل عمله �صباح الغد‪ ,‬الذهاب �إىل املدر�سة ثم زيارة ابنته التي تعي�ش‬ ‫َ‬
‫عام تقريب ًا‪ ,‬بعيد ًا عنه‪ ,‬خوف ًا منه‪ُ ,‬كره ًا له‪ ,‬ال فرق بينهما‬
‫مع والد ِتها منذ ٍ‬
‫أ�شهر قليل ٍة‪ ،‬وال بد‬
‫لديه‪ ,‬امله ُّم الآن هو طريق ال�شفاء الذي ر�سمه لنف�سه منذ � ٍ‬
‫ي�ستعيدهما مر ًة �أخرى وي�ستعيد م َعهما احرتامه‬
‫َ‬ ‫�أن يُكمِ ل طريقه �إن �أراد �أن‬
‫لنف�سه‪.‬‬
‫َ‬
‫لي�ستهلك بع�ض الدقائق قبل‬ ‫مد َيده ب�إرهاقٍ �إىل جهاز التحكم عن ُب ٍعد؛‬
‫�ضغطات ع�شوائي ٍة �صادف‬
‫ٍ‬ ‫لي�شتت �أفكاره البائ�سة‪ ,‬وبعد ِعدة‬
‫َ‬ ‫ذهابه �إىل النوم‬
‫كباحث �أكادميي يكر�س وقته‬
‫ٍ‬ ‫�إعاد ًة حللقة برنامج مت ا�ست�ضافته فيه منذ � ٍ‬
‫أيام‬
‫نت�شرة و�آثارها على املُجتمع وعالقتها باجلرائم‪.‬‬
‫ملحاربة الإباحية املُ ِ‬
‫هكذا كان املو�ضوع الذي تناو َلته احللقة‪ ،‬وكانت تدور حوله النقا�شات‪,‬‬
‫ر�س ًال ر�سال ًة ق�صري ًة �إىل «فنار»‬
‫بحما�س ُمفاجئ ُم ِ‬
‫ٍ‬ ‫تناول هاتفه على الفور‬
‫زوجته‪ ,‬كان ُمنت�شي ًا وهو يكتب كلماته القليلة �إليها‪ ,‬كما كان بال�ضبط حني‬
‫‪‬‬
‫�أخربها يف املرة الأوىل عن اللقاء؛ لت�شاهده‪ ,‬ولكنها �أخربته بعد ذلك �أنها‬
‫كانت م�شغول ًة بالواجبات املنزلية البنتهما ون�سيت َم ِوعد احللقة‪ ,‬ال ُي ِنكر �أنه‬
‫�أُ�صيب بالإحباط والفتور لبع�ض الوقت ‪.‬‬
‫كالطفل الذي �أحرز هدف ًا يف �شبكة ا َ‬
‫خل�صم و�ص َّفق له اجلميع‪ ،‬وعندما‬ ‫كان ِّ‬
‫التفت ُتاه املُدرجات وجد والدته نائم ًة �أو م�شغول ًة عنه‪.‬‬
‫َ‬
‫�أما «فنار» فلم تكن يف حاج ٍة �إىل ر�سالته‪ ,‬فلقد كانت جال�س ًة بالفعل‬
‫�أمام ال ِتلفاز تتابع احللقة ‪ ..‬كما فع َلت يف املرة الأوىل !‪ ,‬ال تعلم ملاذا �أنكرت‬
‫م�شاهدتَها له �سابق ًا؟‪.‬‬
‫َ‬
‫تت�ضاعف كما فعل بها وبابنته‪,‬‬ ‫آالمه �أن‬
‫رمبا ال زالت تعاقبه‪ ,‬ال زالت تريد ل ِ‬
‫عا ٌم كام ٌل تعاقبه ب�شتى الطرق‪ ,‬بد�أتها بهجره �إىل منزل والدها‪ ,‬ذلك املنزل‬
‫الذي يبعد عنه ب�شارعني فقط‪.‬‬
‫خل ْطبتها‬
‫فقد كانت «فنار» وحيد َة والدها الذي �أ�ص َّر عندما تق َّدم «حممود» ِ‬
‫على �أن ي�ؤجر �شقة الزوجية يف مكان ُماور له لتكون بجانبه دوم ًا‪ ,‬مل ُينجب‬
‫�سنوات مل تتجاوز‬
‫ٍ‬ ‫غريها وهي التي تبقت له بعد وفاة والدتها بعد �إجنابها بعدة‬
‫م�ض ٍ�ض ولكنه الآن �شاك ٌر جد ًا لوالدها على‬
‫الع�شر‪ ,‬وقتها وافق «حممود» على َ‬
‫هذا ال�صنيع‪ ,‬فهذا القرب هو ما ينفعه الآن للغاية‪ ,‬ي�ستطيع �أن يرى ابنتَه كل‬
‫يوم تقريب ًا‪ ,‬هي هجرته‪ ،‬نعم‪ ،‬ولكنها ال تزال قريب ًة منه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫�شديد وك َمن تتابع احللقة وت�ستمع �إىل احلوار للمرة الأوىل‪.‬‬
‫وبرتكيز ٍ‬
‫ٍ‬
‫ا�ستندت �إىل الو�سادة �أ�سفل ِمرف ِقها‪ ،‬وقر َبت ُكوب ال�شاي ال�ساخن من‬
‫فمِ ها‪ ،‬بينما جهاز التح ُّكم عن ُب ٍعد ال زال يف ِيدها الأخرى‪ ،‬وقد جمعت قدميها‬
‫�أ�سفل منها كما جمعت �شع َرها للأعلى َريثما هو ُيجيب �س� َؤال ُمقدم الربنامج‬
‫يف التلفاز قائ ًال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ثالت تركن ِمهنة‬ ‫موقع مت افتتاحه عن طريق ُم ٍ‬ ‫هناك �أكرث من ٍ‬ ‫ َ‬
‫ويحذرن‬ ‫رجى ال�شفاء منها‪ُ ..‬‬ ‫أمرا�ض ال ُي َ‬
‫إ�صابات و� ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الإباحية ب�سبب �‬
‫النا�س من خطر الوقوع فيها‪ ..‬وجميعهنَّ اتفقنَ يف حكاياتهنَّ‬
‫رعات من‬ ‫�أنهن جميع ًا ال يقمن بت�صوير تلك الأفالم �إال بعد َج ٍ‬
‫ذهب بعقولهن بعيد ًا عن الإح�سا�س‬ ‫الأدوية املُخدرة ال ب�أ�س بها‪ُ ،‬ت ِ‬
‫قنع مينح ت�أكيد ًا‬ ‫ب�شكل ُم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بالواقع حتى ي�ستطعنَ ت�أدية عملِهنَّ هذا‬
‫ا�ستمتاعهنَّ ال�شخ�صي مبا يقمنَ به‪ ..‬هذا �أو ًال‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫لل ُم�شاهد على‬
‫وثانيـ ًا؛ لي�ستطعنَ ال�سيطرة على م�شاعر ال َقرف واال�شمئزاز وال َأل‬
‫الذي يعانينه �أثناء ت�صوير تلك الأو�ضاع ال�شاذة‪ ،‬والأفعال التي تعار�ض‬
‫ال ِفطرة ال�سوية‪ ..‬وبالرغم من كل هذه الأدوية �إال �أنهن يتوقفنَ كثري ًا‬
‫خرج العمل �أن يوقف الت�سجيل مر ًة تلو الأخرى ب�سبب‬ ‫�صارخات ُمب ِ‬
‫ٍ‬
‫حاالت ال َقيء والنزيف التى تعرتيهن �أثناء الت�صوير‪ ..‬حتى �إن ا َمل�شهد‬
‫�ساعات طويل ٍة ورمبا‬ ‫ٍ‬ ‫خلم�س دقائقَ فقط يتم ت�صويره يف‬‫ِ‬ ‫الذي يظهر‬
‫أيام‪.‬‬
‫فى � ٍ‬
‫ما‬ ‫و�ضعت «فنار» راحة كفها على َم ِعد ِتها وهي ت�شعر برغب ٍة يف التقي�ؤ ِ َّ‬
‫لتلك‬ ‫ت�ستط ْع ِفطرتها ال�سوية �أن تتحمل بالرغم من �أنها ت�ستمع َ‬ ‫ت�سمع‪ ,‬مل ِ‬
‫الطاولة‬ ‫املعلومات للمرة الثانية‪ ,‬تركت كوب ال�شاي من يدها وا�ضع ًة �إياه على َّ‬
‫املجاورة بجانب الفرا�ش‪ ,‬فهي ال تزال على عاد ِتها بو�ضع التلفاز يف غرفة‬
‫معلومات‪ ,‬بع�ضها اكت�س َبه عن‬ ‫ٍ‬ ‫يقول ُمقدم ًا ما لديه من‬
‫نومها‪ ,‬وظلت ت�ستمع لِ ا ُ‬
‫ِ‬
‫طريق البحث‪ ،‬و�أكرثه من خرباته ال�شخ�صية‪.‬‬
‫رمبا يتعجب املُ�شاهدون الآن من قويل‪ :‬للأ�سف ِم ْ�صر هي الدولة‬
‫العال بحث ًا عن املقاطع الإباحية يف �شبكة الإنرتنت ورمبا‬
‫الثانية على َ‬
‫خلطف واالغت�صاب التي تنتهي‬ ‫هذا ُيف�سر لنا �سبب انت�شار جرائم ا َ‬
‫غالب ًا بقتل ال�ضحية والتي انت�ش َر ْت يف الآونة الأخرية ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫بل رمبا يف�سر ملاذا و�صل الأمر �إىل حد الإدمان؟‪ ..‬وال بد من حمارب ِته كما‬
‫تتم حماربة املُخدرات متام ًا ‪ ..‬ولكن للأ�سف‪ ..‬حتى احلكم الذي �صدر ُي ِلزم‬ ‫ّ‬
‫تنفيذه‪ ..‬وال نعلم �أ�سباب ًا ُمق ِنعة لهذا وال َمن له‬
‫الدولة مبنع هذه املواقع مل يتم ُ‬
‫ا َمل�صلحة يف عدم تنفيذ هذا احلكم؟‪..‬‬
‫ماذا ننتظر؟‪ ..‬لقد و�ص َل ِت الكارثة �إىل جرائم انتهاك املحارم‪� ..‬أب‬
‫يتحر�ش بابنته‪� ..‬أخ يعتدي على �أخته‪ ..‬خال ُمغت�صب البن �أخته‪ ..‬و�ص ْلنا �إىل‬
‫القا ِع للأ�سف ال�شديد‪ ..‬وال �أحد يتحرك‪.‬‬
‫غامت عينا «فنار» يف تلك اللحظة وهي تتذكر اللحظة التي عا َد ْت فيها من‬
‫عم ِلها‪ ،‬ووجدته نائم ًا ُمنك ِفئ ًا على وجهه فوق �سريرهما‪ ،‬وابنتهما تلعب بجواره‬
‫بعرائ�سها على الأر�ض‪ ،‬بينما حا�سوبه ا َملحمول مفتو ٌح‪ ،‬ولكن �شا�شته ُمظ ِلم ٌة‪,‬‬
‫تغي �أحواله منذ‬ ‫وقتَها حاولت كثري ًا �أن متنع نف�سها من البحث خلفه‪ ,‬ولكن ُّ‬
‫فرت ٍة مل يكن هين ًا �أو ب�سيط ًا‪ ,‬يف البداية ظنت �أ َّنه يخونها ويتوا�صل مع امر�أ ٍة‬
‫يحب النوم وحده يف الغرفة لي ًال‪ ,‬كم‬ ‫�أخرى عن طريق الإنرتنت‪ ,‬فلقد �أ�صبح ُّ‬
‫يوقظها عندما يجدها نائم ًة يف غرفة ابنتهما؛ لتنتقل للنوم‬ ‫مر ٍة قالت له ب�أن َ‬
‫تق�ص عليها حكاية ما قبل النوم‪,‬‬ ‫�إىل جواره!‪ ,‬فهي ت�أخذها ِ�سن ٌة من النوم وهي ُّ‬
‫ومرات‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مرات‬
‫ولكنه ال يفعل‪ ,‬بل و ُيغ ِلق باب الغرفة من الداخل ‪ٍ ..‬‬
‫الذهاب �إىل عم ِله �صباح ًا‪ ،‬ويتحجج ب�أن جميع‬ ‫�صار يعتذر كثري ًا عن ِّ‬
‫ح�ص�صه يف املدر�سة باتت ُمت�أخر ًة بعد �أن كانت �صباحي ًة‪ ,‬فكانت ترتكه وحيد ًا‬
‫ِ‬
‫يف ا َملنزل وت�أخذ ابنتها �إىل الرو�ضة قبل �أن تذهب �إىل مدر�س ِتها‪ ,‬فهي �أي�ض ًا‬
‫ُمعلمة ولكن للغة العربية والرتبية الدينية يف مدر�س ٍة �أخرى غري التي يعمل هو‬
‫بها ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وعدها؛ لأن حرارتَها ُمرتفع ٌة قلي ًال‬
‫اليوم تركت له الطفلة يف رعايته كما َ‬
‫مرات‬
‫هناك ل�ساعتني فقط‪ ،‬وعندما قامت باالت�صال به ٍ‬ ‫وذهبت لعملها‪ ،‬ظلت َ‬
‫ان�صراف‬
‫ٍ‬ ‫كثري ًة؛ لتطمئنَّ على الطفلة ومل ُيجبها‪ُ ,‬ا�ضطرت �إىل طلب �إذن‬
‫والعودة �إىل البيت ‪..‬‬
‫وكانت ال�صدمة ‪..‬‬
‫ف�ضحه ِ�سجل الت�صفح!‪ ,‬مل ُت�صدق عينيها يف البداية‪ ،‬ظلت لفرت ٍة‬ ‫َ‬
‫م�صدوم ًة ال تَعي ما تراه عيناها‪ ,‬حتى �إنها مل تخربه عما وجدته‪ ,‬ولكنها بد�أت‬
‫تراق ُبه ويف كل مر ٍة تكت�شف �أنه مل يدخل �إىل هذه املواقع من َق ِبيل ال�صدفة‪ ,‬مل‬
‫بانتظام يومي ًا‪ ,‬يرتك‬
‫ٍ‬ ‫تكن فرتة مراهق ٍة مت�أخر ٍة مير بها وال�سالم‪� ,‬إنه يزورها‬
‫عمله لأج ِلها‪ ,‬بل وبد�أت تالحظ �أنه ترك ال�صالة �أي�ض ًا‪.‬‬
‫ال�شاب املُهذب الذي تعرفه منذ مراهق ِتها‬
‫ُّ‬ ‫معقو ٌل ‪ ..‬هل هذا «حممود»؟ !‪,‬‬
‫�سنوات فقط‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫والذي �أ�صبح زوجها منذ خم�س‬
‫�شده بالت�أكيد‪,‬‬‫العبث قريب ًا‪� ,‬سيعود �إىل ُر ِ‬
‫ال‪ ..‬ال‪ ..‬بال َت�أكيد �سينتهي من هذا ِ‬
‫و�صمتت‪ ،‬ولكن الوقت م َّر‪ ،‬والنـزوة مل تنت ِه‪ ،‬والأمر تفاقم‪ ,‬فلم جتد ُب َّد ًا من‬
‫املواجهة‪َ ,‬خ ِجل يف البداية واعتذر ووعدها بالتوقف‪ ,‬ولكن مل يحدث‪ ,‬مل‬
‫يتوقف‪ ,‬زا َد ِت امل�شاجرات بينهما وتبادال االتهامات‪:‬‬
‫�أنت ُمقزز‪.‬‬
‫أنت غري كافية يل‪.‬‬
‫و� ِ‬
‫واحد‪ ,‬وبد�أ يجد‬
‫�سقف ٍ‬‫حتت ٍ‬ ‫و�أخري ًا �أظلهما �سقفان وافرتقا بعد �أن كانا َ‬
‫لنف�سه �أعذار ًا واهي ًة‪ ,‬ملاذا هي ُمت�صلبة الر�أي ُمتحجرة التفكري هكذا ؟‪ ,‬ملاذا‬
‫يزهدها وحده؟‪ ,‬هو رج ٌل‪ ,‬وهو ُم ِ‬
‫�سيط ٌر‪.‬‬ ‫ال ترتكه حتى َ‬
‫‪‬‬
‫�أما هي‪ ..‬فقد اختا َر ِت االبتعاد وال َهجر؛ ل ُيفيق ِما هو فيه‪ ،‬وقالت له‬
‫�صوت لديها‪:‬‬
‫ب�أعلى ٍ‬
‫�س�أترك لك الغرفة و�أنام بجانب ابنتك‪� ..‬أمتنى �أن تنفعك هذه القذارة‬
‫وتغنيك عني للأبد‪.‬‬
‫يخ�ص �ش�ؤونهم املادية‬
‫يومها وهي تتجنبه وال تتحدث معه �سوى فيما ُّ‬ ‫ومن ِ‬
‫وجنَّ وثارت عوا�صفه‪ ,‬ولكن مع الوقت بد�أ‬
‫فقط‪ ,‬وهو قد ا�ستاء يف البداي ِة‪ ,‬بل ُ‬
‫يعتاد فراقها ‪ ..‬وحا�سوبه‪ ,‬ووحدته‪.‬‬
‫وكلما �أراد ُم�صاحلتَها و�إعادتها �إىل غرفتهما َك ِذب عليها و�أعلن توبتَه‪,‬‬
‫أيام تعود «فنار» وتكت�شف �أنه مل ْ‬
‫يفعل‪ ,‬مل يرتك �إدمانه بعدُ‪ ,‬فتهج ُره‬ ‫وبعد عدة � ٍ‬
‫وتبتعد‪ ,‬وهكذا ا�ستمرت احلال على ما هى عليه‪.‬‬
‫وعلى املُت�ضرر التنازل �أو ال َك ِذب �أحيان ًا‪ ,‬على ح�سب حاجته!‪.‬‬
‫حتى حد َث ِت الكارثة‪ ,‬ا�ستيقظت فجر ليل ٍة ما على احلرارة ال�شديدة‬
‫ج�سد طفلتها ال�ساكنة بني ذراعيها‪ ,‬الطفلة ترتع�ش وتنتف�ض وهي‬ ‫املُنبعثة من َ‬
‫ُت�سرع بها ُتاه حو�ض اال�ستحمام وتفتح املياه فوق ِ‬
‫ج�سدها‪ ،‬ولكن الدقائق‬
‫لت�ستنجد به‪ ,‬ال‬
‫َ‬ ‫متر‪ ،‬واحلرارة ال ت�ستجيب ال للمياه وال للأدوية‪ ,‬فهرو َلت نحوه؛‬
‫قريب‪ ,‬طرقت باب غرفته حتى كادت تك�سره‬ ‫بد �أن يذهبا بها حا ًال لأي َم�شفى ٍ‬
‫ولكنه مل يفتح ‪ ..‬كان غارق ًا يف النوم بعد ليل ٍة طويل ٍة ق�ضاها مع حا�سوبه‪ ،‬وقد‬
‫�أغلق الباب على نف�سه من الداخل كما اعتاد‪.‬‬
‫ودموعها ُت ِغرق‬
‫ِ‬ ‫الطفلة ت�شتعل بني �أح�ضانها‪،‬‬‫وقفت على بابه �ضائع ًة تائه ًة‪ِّ ,‬‬
‫وحدها هي‬ ‫وج َهها خوف ًا عليها‪ ,‬بينما رماها هو على طول ذراعه يف �صحراء َ‬
‫وابنته التي ال ي�ستحقها‪ ,‬ن َعم‪ ،‬ال ي�ستحقها وال ي�ستح ُّق �أن يكون زوج ًا وال �أب ًا بعد‬
‫اليوم‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ارتدت من مالب�سها ما وجدته �أمامها‪ ،‬ولفت ابنتها ج ِّيد ًا بني َ‬
‫ذراعيها‬
‫قات فقط‪ ..‬ومن‬ ‫وج َرت بها �إىل والدها الذي فتح لها الباب بعد ثالث َط ْر ٍ‬
‫ورف�ض ِت العودة معه رامي ًة يف‬
‫يومها مل تعد‪ ,‬حتى بعد وفاة والدها ظلت يف بي ِته َ‬ ‫ِ‬
‫ين�سها �أبد ًا‪:‬‬
‫وجهه عبار ًة مل َ‬
‫مل ت ُعد م�صدر �أمان وال حماية لنا‪ ..‬احلياة هنا �أو يف بيتك واحدة ‪..‬‬
‫كالهما �أعي�شها وحدي‪.‬‬
‫ومنذ ذاك اليوم وحيا ُتها مت�ضي مع ابنتها كما هي بروتيني ٍة �صماء‪� ,‬أدخ َل ِت‬
‫ابنتها يف ا َملرحلة التمهيدية يف نف�س املدر�سة التي تعمل بها‪ ,‬تذهب وتعود معها‬
‫يومي ًا‪ ,‬تتناوالن طعام الغذاء‪ُ ،‬ثم جتل�سان يف ال�شرفة عند اخلام�سة م�سا ًء كما‬
‫اعتادت مع والدها حتت�سي ال�شاي ال�ساخن ب�أوراق النعناع‪ ,‬والدها الذي ُك ِ�س َر‬
‫متا�سكها مبفارق ِته احليا َة بهدوءٍ كما عا�ش حياته كلها‪,‬‬
‫ِ‬ ‫�ضلع يف ج�سد‬‫�آخر ٍ‬
‫كامل عندما فقدت �سندها الرئي�سي‪ ,‬ولكنها‬ ‫ل�شهر ٍ‬
‫جلدران فوق ر�أ�سها ٍ‬ ‫ما َل ِت ا ُ‬
‫ُا�ضطرت لل�سري يف طريقها والنهو�ض ُمدد ًا من كبو ِتها لأجل ابنتها‪ ,‬تعمل‬
‫وتهت ُّم بها وحت ُّبها‪ ,‬وال يه ُّمها َ‬
‫العال من بعد ذلك‪.‬‬
‫أيام قليل ٍة ما َل تكن تتوقعه‪ ,‬عندما طرق «حممود» بابها‬ ‫حتى حدث ُ‬
‫منذ � ٍ‬
‫ذات م�ساءٍ وم َّر بجوارها �إىل الداخل وهو يحمل حا�سوبه املحمول بني يديه‪,‬‬
‫جل�س على �أحد مقاعد ال�صالة ال�صغرية وو�ضع احلا�سوب على الطاولة من‬
‫�أمامه قائ ًال ب�صراح ٍة ودون موارب ٍة ‪:‬‬
‫لقد قمتُ منذ �أ�سابيع ب�إن�شاء �صفحة على الفي�سبوك لتوعية ال�شباب‬
‫من خطر الأفالم الإباحية‪ ..‬ويف الوقت نف�سه �أقوم بجمع مقاالت‬
‫تر�شد الذين و�صلوا منهم �إىل حالة من الإدمان �إىل طريقة العالج‪..‬‬
‫ويف طريقي لعمل موقع خا�ص على الإنرتنت ي�ضم كل هذا ‪ ..‬ولكنني‬
‫�ضعيف يا «فنار» و�أحتاج �إىل م�ساعدتك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫قطبت حاجبيها وهي تناظره بريب ٍة وتدور بجانبه لتم َّر �إىل ا َملقعد املُ ِ‬
‫واجه‬
‫هم وتطلب ال�شرح‬ ‫له والذي تف�صل الطاولة بينهما‪ ,‬وهي ُ‬
‫حترك ر� َأ�سها بعدم َف ٍ‬
‫�أكرث‪:‬‬
‫ال �أفهم ‪ ..‬ماذا تريد م ِّني؟‪.‬‬
‫رفع عينيه نحوها وقد بدا جدي ًا ِجد ًا فيما يقول‪:‬‬
‫لقد حاولتُ مر ًة بعد مرة �أن �أتوقف ولكن مل �أ ُف ِلح �أبد ًا‪� ..‬أتوقف لأَ َّيام ثم‬
‫�أعود من جديد‪ ..‬فلم �أجد طريقة �أخرى غري �أن �أقوم ب�إلغاء ا�شرتاكي‬
‫بالإنرتنت يف منزلنا حتى �أقطع على نف�سي الطريق من الأ�سا�س‬
‫و�س�أظل هكذا حتى �أتوقف متام ًا و�أ�شعر بال�شفاء‪.‬‬
‫ال زالت �صامت ًة حتتمي بق�شر ِتها الباردة اخلارجية حتى ال تنفج َر فيه‪,‬‬
‫�إن كان يظن �أنها �ست�صدقه فهو واه ٌم‪ ,‬فلي�ضع �صفحته تلك يف ميا ٍه وي�شربها‬
‫طويل‪.‬‬
‫وقت ٍ‬ ‫كامل ًة حتى �آخر نقط ٍة‪ ,‬فلم ي ُعد ُّ‬
‫يخ�صها � ُّأي �شيءٍ له عالق ٌة به منذ ٍ‬
‫«فنار» ‪ ..‬لقد وجد ال�شباب بي مالذ ًا ل ُهم‪ ..‬و�أنا ال �أريد �أن �أتر َكهم‬
‫ع�ضلة لن‬ ‫‪� ..‬أريد �أن �أتعا َفى م َعهم وبينهم و َقبلهم �أي�ض ًا‪َ ..‬‬
‫وتلك املُ ِ‬
‫ي�ساعدين يف حلها َ‬
‫غريك‪.‬‬
‫ ِمن ف�ضلك قل ما عندك �سريع ًا‪ ..‬ف�أنا �أريد �أن �أنام‪.‬‬
‫ب�س� ٍأم وهي تتملم ُل يف َمق َع ِدها وتنظر �إىل �ساعة احلائط‪ ,‬فقال على‬
‫قالتها َ‬
‫الفور‪:‬‬
‫عندك ‪ ..‬وعندما ينتهي عملي يف املدر�سة �س�آتي‬
‫�أريد �أن يبقى حا�سوبي ِ‬
‫�إىل هنا ل�ساعتني ف َقط يوم َّي ًا‪� ..‬أبا�شر عملي على �شبكات التوا�صل‬
‫عينيك‪ ..‬وعندما �أنتهي �س�أذهب على الفور‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و�أعمل على �أبحاثي �أمام‬
‫‪‬‬
‫وقبل �أن تهتف ُمع ِرت�ض ًة قاط َعها على الفور وهو يرفع ك َّفه مفتوح ًة‬
‫ي�ستوقفها‪:‬‬
‫لن ت�شعري بي �أبد ًا‪ ..‬و�ستكون فر�صة لأتقرب من ابنتنا و�أراها يوم َّي ًا‬
‫فت�شعر هي ب�أن احلياة بيننا عا َدت كما كانت‪ ..‬وبالت�أكيد �سي�ؤثر هذا‬
‫لك � َّأي �إزعاج‪ ..‬اختاري الوقت الذي‬ ‫على حالتها النف�سية ‪ ..‬لن �أ�سبب ِ‬
‫ينا�سبك‪.‬‬
‫ِ‬
‫راق َبها وهي تفرك كفيها يف ِحجرها‪ ،‬وبني حاجبيها ي�ضيق �أكرث ف�أكرث‪ ،‬هي‬
‫احل ْية والتفكري وت�صارع بني موجات الرف�ض واملُوافقة وعدم الفهم‬
‫تعاين من َ‬
‫َ‬
‫فعاجلها بالقول احلا�سم‪:‬‬ ‫جلها‬‫كامل‪� ,‬شعر بكل ما يخا ُ‬
‫ب�شكل ٍ‬
‫للأمر ٍ‬
‫لك دور عظيم يف �شفاء الكثري من ال�شباب والفتيات‬
‫�إن وافقت ف�سيكون ِ‬
‫أنت تعلمني َكم هي �سيئة و�أمارة‬
‫‪ ..‬و�أولهم �أنا‪ .‬ال ترتكيني لنف�سي ‪ ..‬ف� ِ‬
‫ابنتك‪ ..‬وتريدين �أن تفخر بي عندما‬
‫بال�سوء! ‪ ..‬ف�أنا يف النهاية والد ِ‬
‫ألي�س كذلك؟‪.‬‬
‫تكب‪َ � ..‬‬ ‫ُ‬
‫مل ت�ستطع «فنار» الرف�ض‪ ,‬وافقت ُمتجهمة الوجه‪ ,‬وعلى �شرط �أال يتحدث‬
‫ليمار�س عمله ل�ساعتني ويجال�س ابنته قلي ًال ثم‬
‫َ‬ ‫معها على الإطالق‪ ,‬ي�أتي فقط‬
‫بوعده‪ ,‬ومع الوقت‬‫ين�صرف يف هدوءٍ ‪ ,‬وهو وافق على �شروطها جميع ًا وو َّفى ِ‬
‫أثبت لها �أنها قد �أ�صابت مبوافق ِتها‪ ,‬فلقد عاد الأمر بالنفع على ابنتها التي‬
‫� َ‬
‫حت�سنت �أمورها كثري ًا‪ ،‬و�أ�صبحت متعلق ًة بوالدها وزاد تركيزها يف ت�أدية‬
‫واجباتها املنزلية �أكرث‪.‬‬

‫‪‬‬
‫موقع‬
‫بعيد‪ ,‬تعرف كل ٍ‬ ‫ومن ناحي ٍة �أخرى �أر�ضت ف�ضولها وباتت تراقبه من ٍ‬
‫يدخل �إليه بل وت�شارك �أي�ض ًا بر�أيها يف �أبحاثه وطرق ال ِعالج‪� ,‬إال �أنها ال زالت‬
‫ت�شعر �أنه ال بد �أن ُيعا َقب‪ ,‬ال زالت �أنوثتها مغدور ًا بها‪ ,‬ما تزال ت�شعر بنف�س‬
‫ال�ضياع الذي �شعرت به وهي تقف باكي ًة على باب غرفته‪ ,‬لقد �سحق �أنوثتَها‬
‫وثقتَها بنف�سها �سابق ًا‪ ،‬فلم ُي ِبق لديها ما حت ُّبه به!‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫تناق�ضت حركته اخلافتة وهو َيد ِلف �إىل ال�شقة مع �صوت التلفاز املُرت ِفع‬
‫وي�ضطرب قلي ًال‪ ،‬فنحن غالب ًا ما منيل �إىل حتقيق‬
‫َّ‬ ‫برتكيز‬
‫ٍ‬ ‫جعله يقطب جبي َنه‬
‫توقعا ِتنا ُتاه الآخرين مهما كانت ُ ِ‬
‫ملة لو اعتدنا عليها وتعاي�شنا معها‪.‬‬
‫وجدها تقف �أمام التلفاز بتح ُّف ٍز عاقد ًة ذراعيها �أمامه عاقد ًة حاجبيها‬
‫ب�شكل ُمبا َل ٍغ فيه وهي تتابع �أحد الربامج احلوارية املُعادة‪� ,‬ألقت عليه نظر ًة‬
‫ٍ‬
‫ناري ًة‪ ،‬وعادت للمتا َبعة ُمدد ًا‪.‬‬
‫ت�أم َلها «عا�صم» وهو يقرتب منها بابت�سام ٍة ترت�سم بتلقائي ٍة فور �أن يراها‬
‫تلتف حولها بينما تقف‬ ‫هكذا جمنون ًة‪ ,‬ثائر ًة‪ ,‬عنيد ًة‪� ,‬أخطر �أعا�صري العامل ُّ‬
‫ال�صهباء غا�ضب ٌة‪ ,‬فال َويل له‪.‬‬ ‫هي ثابت ٌة َّ‬
‫كال�ساحرات‪ ,‬حبيبته َّ‬
‫تعال وا�سمع‪� ..‬أ ْمل �أقل َ‬
‫لك‪� :‬إ َّنهم ي�سخرون من حتقيقي‬ ‫عا�صم‪َ ..‬‬
‫ال�صحفي ويتهمونني باملُبالغة وحماولة �إ�شعال الفنت!‪.‬‬
‫كانت ت�شري بكلتا يديها كعادتها وهي تهتف ب َنزَ قٍ ‪ ,‬بينما طفلهما «عمرو«‬
‫الذي مل يتجاوز التا�سعة يتقافز من خلفها فوق الأريكة‪ ،‬وهو يلهو ب ُلعبة املُ�سد�س‬
‫بحما�س‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫خا�صته هاتف ًا‬
‫�س�أُلقي القب�ض عليهم جميع ًا يا �أمي‪ ..‬ال تغ�ضبي‪.‬‬
‫زفر «عا�صم» رافع ًا ر�أ�سه للأعلى عاب�س ًا ُمتم ِتم ًا بنرب ٍة ُمنخف�ض ٍة كي ال‬
‫ت�سمعه‪:‬‬
‫‪‬‬
‫رحمتك يارب‪.‬‬
‫داعب ًا قلي ًال قبل‬
‫�أنهى جملته االعرتا�ضية وتقدم ل�صغريه يحمله ويقبله ُم ِ‬
‫بحذرٍ‪ ,‬فهي يف حال ٍة ُمتفجر ٍة‪َ � ,‬‬
‫أم�سك بكلتا‬ ‫�أن يلتفت نحوها ُمق ِرتب ًا منها َ‬
‫ِمرفقيها و�أدارها �إليه ب ُبطءٍ قائ ًال بنفاقٍ ‪:‬‬
‫حبيبتي‪� ..‬إ َّنهم �أعداء النجاح‪ ..‬وال�شجرة املُثمِ رة دائما ما ُتـقذف‬
‫باحلجارة‪.‬‬
‫ابتعدت ُخطو ًة للخلف وقد ِ‬
‫ملحت الرياء يف حديثه‪ ,‬نف�ضت يديه وهي تهم�س‬
‫بنرب ٍة ُمهدد ٍة‪:‬‬
‫ال ت�ستفزين يا عا�صم ‪� ..‬أنا �أعلم �أ َّنك ال تراين ُمثمِ رة‪ ..‬بل ال تراين‬
‫�شجرة من الأ�سا�س‪.‬‬
‫جاهد ليبتلع �ضحكته وهو يقرتب منها ُمدد ًا ما َّد ًا �أ�صابعه؛ ليتلم�س‬
‫�شعرها كما يفعل دوم ًا؛ ُليهدئها‪:‬‬
‫معك؛ ال�ستكمال هذا التحقيق‬ ‫علمت الآن ملاذا رف�ضت التعاون ِ‬ ‫هل ِ‬
‫فعلت‪ ..‬القانون هو القانون‬
‫لك �أحد مهما ِ‬ ‫ال�صحفي؟‪ ..‬لن ي�ستجيب ِ‬
‫لك كثري ًا‪:‬‬
‫ولن يتغري ب�سبب عدة حوادث ُمت�شابهة‪ ..‬حبيبتي‪ ،‬لقد قلتُ ِ‬
‫أيك �أن تعودي للكتابة يف ق�سم‬
‫مثلك‪ ..‬ما ر� ِ‬
‫هذه املهنة ال تليق برقيق ٍة ِ‬
‫�أخبار الفن‪� ..‬أو حتى يف باب م�شاكل النا�س؟‪.‬‬
‫نظرت �إليه م�صدوم ًة‪ ,‬هل يراها فا�شل ًة �إىل هذا احلد ؟!‪ ,‬بد ًال من �أن يقف‬
‫بجوارها ويدعمها �ضدهم ي�ؤكد �أ َّنها ال ت�صلح‪ ،‬وعليها الهرب �إىل ٍ‬
‫ق�سم �آخر!‪,‬‬
‫ما الفرق بينه �إذن وبني زميلها يف املجلة الذي ي�سخر منها ِجيئ ًة وذهاب ًا‪,‬‬
‫لتكت�سب‬
‫َ‬ ‫ويدعي �أنها تقوم بفربكة حتقيقاتها ال�صحفية يف اجلرائم ال�شائكة؛‬
‫‪‬‬
‫ُ�شهر ًة ال ت�ستح ُّقها‪ ,‬وي�شكوها كل يوم تقريب ًا �إىل رئي�س التحرير ُم�ؤكد ًا �أنها ال‬
‫ت�صلح �سوى لأخبار املو�ضة فقط ؟‪.‬‬
‫�س�أُح�ضر لك الع�شاء‪.‬‬
‫أفف وقد‬
‫بربود وهي ت�ستدير بقو ٍة؛ لتُوليه ظهرها فناداها بت� ٍ‬
‫هم�ست بها ٍ‬
‫�أيقن �أنه و�ضع ال ِق ْدر على النار بكلماته الأخرية‪:‬‬
‫�أروى‪.‬‬
‫توقف ك�أنها ُ�صدمت بجدا ٍر فج�أ ًة‪ ،‬فقال بع�صبية‪:‬‬
‫‪ -‬تناولتُ الع�شاء يف الق�سم‪.‬‬
‫حا�صل لي�س‬
‫ٍ‬ ‫وع ْر ُ�ضها مل يكن �سوى حت�صيل‬ ‫يف كل الأحوال كانت تعرف‪َ ,‬‬
‫واجب بد ًال من �أن يزداد املوقف �سخون ًة �أكرث �أمام الطفل‪,‬‬
‫�أكرث‪ ,‬جمرد ت�أدي ِة ٍ‬
‫فغريت اجتاهها على الفور نحو غرفة النوم تارك ًة له ال�صالة والطفل و�صوت‬
‫التلفاز وكل ما يزيد من �إرهاقه �أكرث‪.‬‬
‫ظل «عا�صم» ُي�شي ُعها بعينيه حتى اختفت متام ًا يف املمر الداخلي‪� ,‬أطرق‬
‫يدخل؛ ليطمئن عليها ويف نف�س الوقت ال‬ ‫ونف�سه ُتدثه ب�أن َ‬
‫للحظات ُ‬
‫ٍ‬ ‫بر�أ�سه‬
‫ومهاترات لن ُتـثـمِ ر بفائد ٍة معها ‪ ,‬زوجته «�أنثى‬
‫ٍ‬ ‫م�شاحنات‬
‫ٍ‬ ‫يريد الدخول يف‬
‫وهناك َمن ي�شكك بعم ِلها‪ ,‬ولكن ماذا يفعل؟‪ ,‬ماذا‬ ‫َ‬ ‫املاعز العنيد» لن تهد�أ‬
‫بيده؟‪ ,‬هل يفعل كما قال ولده و ُيلقي القب�ض عليهم جميع ًا؟‪.‬‬
‫ابت�سم لأفكاره ب�إرهاقٍ وهو يتابع طف َله يختبئ من ل�ص وهمي ثم ُيطلق‬
‫بتعب‪ ,‬وهو يتناول جهاز‬
‫�صا�صات وهمية عليه‪� ,‬ألقى بنف�سه �إىل الأريكة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫َر‬
‫التَّحكم عن ُب ٍعد ويقوم بتغيري القناة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫الاا ‪ « ..‬حممود عبد العزيز» ُمدد ًا ‪ ..‬هذا ما كان ينق�صني‪.‬‬
‫كان «حممود» يف تلك اللحظة يتابع مناق�شا ِته مع ُمقدم الربنامج الذي‬
‫كان ي�س�أله عن �أعرا�ض �إدمان هذه املواد الإباحية‪ ،‬بينما «حممود» ي�ؤكد له �أنه‬
‫ل�ساعات‬
‫ٍ‬ ‫�إدمان حقيقي‪ ،‬وتت�صاعد وتريته كلما �شاهد ال�شخ�ص هذه املقاطع‬
‫طويل ٍة‪ ،‬وانعزل �أكرث و�أ�صبح انطوائي ًا مع الوقت‪ ,‬ويبد�أ يف طلب الزيادة فيبحث‬
‫عن املقاطع الأكرث �شذوذ ًا و� َأل ًا؛ لينتع�ش �أكرث‪ ،‬ثم يبد�أ يف التفكري يف تنفيذها‬
‫طفل �أو طفل ٍة‪,‬‬
‫على �أر�ض الواقع �سوا ًء مع زوجته �أو �أيِّ فتا ٍة �أخرى‪� ,‬أو حتى مع ٍ‬
‫�سوا ًء بر�ضاهم �أو رغم ًا عنهم‪.‬‬
‫رفع «عا�صم» ر�أ�سه يح ِّر ُكها‪ ،‬وع�ضالت ُعـ ُن ِقه تت�ص َّلب و ُت�ؤلِ ه‪ ،‬وهو ينظر‬
‫�إىل ال�شا�شة‪ ,‬وق�ضية ال�سيدة «جليلة» تخطر على ذهنه بح�ضور طا ٍغ و�صور‬
‫طفلها الذي ُق ِتل لنف�س ال�سبب ترتاءى �أمام عي َنيه‪ ,‬والق�ضايا الأخرى التي‬
‫كث ْت تلك اجلرائم‪,‬‬ ‫تدور يف نف�س ال َف َل ِك‪ ,‬هل هذه �إجابة �أ�سئلته؟‪ ,‬ملاذا ُ‬
‫اخلطف واالغت�صاب امل�ؤدي �إىل القتل؟‪.‬‬
‫مرت تلك الق�ضايا ِتباع ًا �أمام ناظريه يف تلك اللحظة‪ ,‬هذه الأم املفجوعة‬
‫ولدها‪ ,‬وهذا الأب الذي انتهك ابنته‪ ,‬الت�ضارب بني �شهادات الطب ال�شرعي‬ ‫يف ِ‬
‫واملُ�ست�شفيات والعيادات اخلا�صة‪ ,‬الأول ينفي‪ ،‬والآخرون ي�ؤكدون ‪ ..‬حكم‬
‫ا َملحكمة مبنع تلك املواقع وعدم �إمكانية التنفيذ ل ٍ‬
‫أ�سباب واهي ٍة غري مدرو�س ٍة‪,‬‬
‫هل هناك ُم�ستفي ٌد ما؛ لتظ َّل هذه الدائرة املُظ ِلمة م�ستمرة احلدوث كل يوم؟!‪.‬‬
‫أيقظته من متاوج �أفكاره ُ‬
‫وتناط ِحها‪,‬‬ ‫ُقبل ٌة رقيق ٌة ُطب َعت على وجنته فج�أ ًة � َ‬
‫التفت بقلبه قبل عينيه ُتاه قطعة قلبه «عمرو« الذي قال ب�صوته الطفويل‪:‬‬ ‫َ‬
‫تعال َون بجواري الليلة‪.‬‬
‫بابا‪َ ..‬‬
‫‪‬‬
‫جذبه «عا�صم» نحو �صدره وهو يقبله بخ�شون ٍة يف رقب ِته يدغدغه بذق ِنه‬
‫العب ًا‪:‬‬
‫النامية حديث ًا وهو يهتف به ُم ِ‬
‫َ‬
‫�سريرك �صغري للغاية مثلك‪� ..‬ستنام بجواري اليوم يف غرفتي‪ ..‬لو‬ ‫‬
‫�أ�صرت «�أُنثى املاعز العنيدة» على ِخ�صامي اليوم‪.‬‬
‫�أنثى املاعز ؟!‪.‬‬
‫مرتفع‪ ،‬فكتم «عا�صم» ف َمه وهو ينظر نحو املم ِّر‬
‫ٍ‬ ‫ب�صوت‬
‫ٍ‬ ‫ك َّررها ِّ‬
‫الطفل‬
‫بتحذير‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫الذي اخت َف ْت «�أروى» بداخله هام�س ًا‬
‫�ش�ش�ش�ش�ش ‪ ..‬اخف�ض �صوتك‪.‬‬
‫وهم�س ب ُل� ٍؤم‪:‬‬
‫ناظ َره طفله بنظر ٍة ُمبتز ٍة ٍ‬
‫�إذن ‪� ..‬سيكون هذا �سرنا ال�صغري ‪.‬‬
‫غريب ُم�ست�س ِلم ًا لالبتزاز الوا�ضح يف نربة‬
‫مرات بتَكرا ٍر ٍ‬
‫�أوم�أ «عا�صم» عدة ٍ‬
‫ال�صغري الذي مد �إليه كفه ال�صغرية عاقد ًا اتفاق ًا كبري ًا بي َنهما‪:‬‬
‫امل�ساومات تنا�سبني!‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫شريكة الغرفة‬

‫قب َل عا ٍم‪...‬‬
‫�أمل ‪ ..‬ممر �ضيق نوع ًا ما ُمغلفة ُجدرانه بالأبي�ض‪ ,‬و�إ�ضاءاتٌ دائري ٌة‬
‫�ستقيم‪ ,‬درجتان ُمنخف�ضتان‪ُ ,‬منحنى دائري‬‫مزروع ٌة بال�سقف يف خط ُطويل ُم ٍ‬
‫خلطوات ال�سريعة تتباط�أ‪,‬‬ ‫ٌ‬
‫ب�سيط‪ ,‬ثم يعود املم ُّر ال�ستقامته مر ًة �أخرى‪ ,‬ا ُ‬
‫تخف تدريجي ًا‪ ,‬وتتوقف بها �أمام غرفة‬ ‫وقب�ضة املُمر�ضة على ذراع « �أمل» ُّ‬
‫الطبيب‪.‬‬
‫قات على الباب الذي تفتحه املُمر�ضة على الفور ثم جتذبها‬ ‫ثالث َط ْر ٍ‬
‫للداخل ُمغ ِلق ًة الباب خلفها‪ ,‬ينه�ض دكتور «يحيى» الطبيب الذي عاد �إىل عمله‬
‫انقطاع ب�سبب وفاة زوجته‪ُ ,‬مو ِلي ًا كل اهتمامه‬
‫ٍ‬ ‫م�ؤخر ًا يف امل�صحة بعد فرتة‬
‫�إليها وتبد�أ اجلل�سة العالجية‪.‬‬
‫هذا كله مل يحدث بعدُ‪.‬‬
‫لقد كان �شريط ًا ُمكرر ًا يدور بعقلها كلما �سمعت ُخ ٍ‬
‫طوات قوي ًة متر �أمام‬
‫باب غرفتها املُ�شرتكة بداخل امل�صحة النف�سية‪ ,‬بينما �شريكة غرفتها التي ال‬
‫تنه�ض من �أمام حا�سوبها املحمول �إال لدقائق قليل ٍة تق�ضي فيها حاجتها �أو‬
‫‪‬‬
‫ت�أتيها زيار ٌة من زوجها �أو تذهب جلل�ستها ال ِعالجية‪� ,‬أو ل�ساع ٍة �أخرى تتحدث‬
‫�شخ�صيات وهمي ٍة‪ ,‬ثم ُتنهي احلديث دوم ًا وهي تخربهم ب�أنهم غري‬
‫ٍ‬ ‫فيها مع‬
‫ُمتواجدين �سوى بعقلها فقط‪ ,‬ويجب �أن ين�صرفوا و�إال قتلتهم بالأدوية التي ال‬
‫تتناولها حتى الآن‪.‬‬
‫ترى هل من املُهِ م �أن يعرف �أحدكم ا�سم �شريكة غرفتها َ‬
‫تلك ؟!‪ ,‬ال �أظن‬
‫�أنَّ �أحد ًا �سيهتم‪ ,‬فهي لي�ست �شخ�صية �أ�سا�سية‪ ،‬كل ُمهم ِتها �أنها ت�سرد عليكم‬
‫احلكاية فقط!‪.‬‬
‫خلطوات التي كانت تنتظرها «�أمل» ثم تبعتها مبا�شر ًة‬ ‫أتت ا ُ‬
‫ها قد � ِ‬
‫الطرقات املُت�سارِعة والدخول غري املُفاجئ‪ ,‬وها هي جتل�س �أمام طبيبها‬
‫قلب‪ ,‬يعتذر منها عن خ�شونة‬ ‫كاملُعتاد بعد رحلة املمر التي حتفظها عن ظهر ٍ‬
‫ت�صرفات ُمر�ضته املُف�ضلة «رجاء» والتي تغريت يف الآونة الأخرية بعد حال ٍة‬
‫تعاط ٌف معها‬
‫تن‪ ,‬وهو ُم ِ‬ ‫م�أ�ساوي ٍة عا�شتها وخرجت منها ب�أُعجوب ٍة دون �أن ُ َ‬
‫للغاية ولأق�صى درج ٍة‪.‬‬
‫بارتياح‬
‫ٍ‬ ‫رفعت «�أمل» عينيها عندما ناداها للمرة الثانية‪ ,‬ابت�سم « يحيى»‬
‫وهو يحاول درا�سة مالحمها جيد ًا والتغريات التي تطر�أ عليها‪ ,‬لقد ا�ستجابت‬
‫لندائه للمرة الأوىل منذ توىل الإ�شراف على حالتها كما دون يف تقريره عنها‪.‬‬
‫حلجرة ال ي�ستطيع اقتالعها‬ ‫يف البداية كانت نظراتها مزروع ًة يف �أر�ضية ا ُ‬
‫ملف حالتها ال�صحية والنف�سية على �سطح مكتبه‪,‬‬ ‫نحوه وال حتى لثاني ٍة واحد ٍة‪ُّ ,‬‬
‫بياناتها تكاد تكون مكتمل ًة ولكنها خالي ٌة من التفا�صيل‪ ,‬كان �أ�شار يف �إحدى‬
‫�أوراقه �أنه حاول التوا�صل مع �أختها الوحيدة التي جاءت بها �إىل امل�صحة‬
‫ودفعت مبلغ ًا نقدي ًا ُمقدم ًا‪ ,‬ثم اختفت بعد �أن قالت‪� :‬إنها �ستُ�سافر لتتابع عملها‬
‫مع زوجها يف اخلارج‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ولي�س لديها �أقارب يهت ُّمون مبتابعة حالتها‪:‬‬
‫م�شاعرك وبخا�صة لو‬
‫ِ‬ ‫أنك ال ت�شعرين باالرتياح مل�شاركة‬
‫�أمل‪� ..‬أعلم � ِ‬
‫كانت ُم�ؤلِ ة‪ ..‬يكفي �أن تتحدثي فقط‪ ..‬عن �أيِّ �شىء حتبني الكالم‬
‫عنه؟‪.‬‬
‫املرة الأوىل التي يف�شل فيها يف �سرب �أغوار �أحد مر�ضاه وال يعلم ملاذا؟!‪,‬‬
‫فاجلميع ي�شهد له بالكفاءة يف جماله برغم عدم تخطيه اخلام�سة والثالثني‬
‫بعدُ‪.‬‬
‫َّربا كانَ ت�أثر ًا بوفاة زوجته التي كانت كل حياته يف ٍ‬
‫يوم من الأيام‪ ,‬والتي‬
‫وللعجب ‪� -‬أ�صيبت باالكتئاب ال�شديد قبل وفاتها ومل ُيف ِلح يف عالجها‪ ,‬لهذا‬‫‪َ -‬‬
‫ُيحمل نف�سه امل�س�ؤولية عن موتها فانقطع عن َ‬
‫العال والعمل وانقط َع ْت معه‬
‫�أخباره‪ ,‬فخ َف َت جن ُمه قلي ًال‪.‬‬
‫أ�شهر‪� ,‬أكرث قو ًة وجدي ًة و�صالب ًة وتعاطف ًا مع املري�ضات‬
‫ولكنه عاد منذ � ٍ‬
‫وخا�صة ال�صامتات منهن‪ ,‬كل واحد ٍة منهن �شعر معها ب�أنها م�س�ؤول ٌة منه‪,‬‬
‫صرب مع‬
‫هد و�س َه ٍر و� ٍ‬‫ي�سعى ليكون �سبب ًا يف �شفائها مهما كلفه الأمر من ُج ٍ‬
‫حالتها حتى تخرج من �صمتها وتبد�أ بالتحدث‪.‬‬
‫�شخ�ص كان على و�شك‬
‫ٍ‬ ‫وقتها فقط يتنف�س ال�ص َعداء ك َمن ُي ُ‬
‫�سك بتالبيب‬
‫القفز من فوق الربج لوال تدخله يف اللحظة الأخرية‪.‬‬
‫دقيق ٌة كامل ٌة من ال�صمت كانت كافي ًة ليعرف ب�أ َّنها لن تتجاوب معه ُمدد ًا‪,‬‬
‫بنظرات ُمب َهم ٍة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫�إنها تتابعه بعينيها فقط‬
‫كان ُيقاوم الإحباط بداخله ليحافظ على ابت�سامة الثقة يف نف�سه وليخفف‬
‫للحظات‪ُ ,‬يفكر ب�أن يثري‬
‫ٍ‬ ‫احلرية التي قاومت؛ لتظهر على وجهه‬‫من وط�أة َ‬
‫م�شاعر الأمل بداخلها ليجعلها تنفعل وتغ�ضب ليجربها على احلديث‪.‬‬
‫‪‬‬
‫فعل تلقائي ٍة ملري�ض االكتئاب عندما‬
‫ؤذي نف�سها فيما بع ُد كر َّدة ٍ‬
‫يخ�شى �أن ت� َ‬
‫جب على �شيءٍ ما‪.‬‬
‫ُي َ‬
‫لقد كان ُمتعج ًال َ‬
‫جل ْع ِلها تتك َّلم معه‪� ,‬أن تقول � َّأي �شيءٍ ‪ ,‬لقد كانت مبثابة‬
‫أ�شهر كامل ٍة‪ ,‬وماذا تكون �أربعة‬
‫حتدٍّ ما‪ ,‬وبالرغم من ذلك �صرب معها لأربعة � ٍ‬
‫أ�شهر يف عمر العالج النف�سي؟!‪ ,,‬ال �شيء‪.‬‬ ‫� ٍ‬
‫هل ُتذ ِّكر ُه بزوجته يف مرحل ٍة ُمت�أخر ٍة من حياتها؟‪ ,‬عندما عادت من‬
‫اخلارج ذات يوم ودخلت غرفتها‪ ,‬ثم اختا َر ِت ال�صمت ومل ي�ستطع �أح ٌد وال‬
‫خرجها من ُعزل ِتها حتى ماتت دون �سابق �إنذارٍ؟‪.‬‬
‫حتى هو �أن ُي َ‬
‫ال�صمت القاتل‪.‬‬
‫ي�سمح مبزيد من هذا َّ‬
‫لن َ‬
‫قام بو�ض ِعها مع �شريكة غرف ٍة يعلم ب�أنَّ لديها وعي ًا نف�سي ًا بالرغم من‬
‫ت�سمح لها‬
‫حال ِتها املر�ضية‪ ,‬ويثق ب�أنها �ست�ساعده فيما ينتويه‪ ,‬وفوق ذلك لن َ‬
‫باالنتحار �إن حاو َلته يوم ًا‪.‬‬
‫�شهر‪ ..‬اثنان‪ ..‬ثالث ٌة‪ ,‬ال تتقدم ُخطو ًة واحد ًة‪ ,‬ت�أبى التفاعل مع اجلميع‪,‬‬
‫كيف ُتثمر ُخطته بينما �شريكتها يف الغرفة �أكرث �صمت ًا منها؟‪ ,‬جتل�س طوال‬
‫مزمن؛ فهو‬
‫ٍ‬ ‫اكرثاث‬
‫ٍ‬ ‫اليوم كال�صنم �أمام حا�سوبها‪ ,‬ومبا �أ َّنها تعاين عدم‬
‫مبا�شر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫م�ضط ٌّر لأن يطلب منها املُ�ساعدة ٍ‬
‫ب�شكل‬
‫وجاء اليوم الذي طلب فيه من ُمر�ضته «رجاء» �أن ُت ِ�ضر له �شريكة‬
‫غرفتها تلك �إىل غرفته‪ ,‬يذ ُكر جيد ًا �شبح االبت�سامة الذي ر�سم نف�سه فوق‬
‫�شفتيها وهو يطلب منها �أن تهتم بـ «�أمل»‪.‬‬
‫ما هذا؟‪ ,‬هل مت ترقيتها من مري�ض ٍة �إىل رتبة طبيب ٍة دفع ًة واحد ًة؟!‪َ ِ ,‬‬
‫ول‬
‫ال؟‪ ..‬فلتج ِّرب‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ف�أجابته بعد تفك ٍري قائل ًة‪:‬‬
‫�أ�شعر ب�أ َّنه يتم جتنيدي‪.‬‬
‫عامود يف جمل ٍة �أ�سبوعي ٍة‪,‬‬
‫ٍ‬ ‫وملاذا ترف�ض؟!‪ ,‬فمنذ �أن �أ�صبحت �صاحبة‬
‫ر�سل لها من ال ُقراء الذين يعرفون جيد ًا مكان‬ ‫جتيب فيها عن املُ�شكالت التي ُت َ‬
‫تواجدها الآن‪ ,‬بل ويجدون الأمر �أكرث جذب ًا لهم �أن تكون القائمة على حل‬
‫م�شاكلهم عرب الربيد الإلكرتوين ُمقيم ًة يف �إحدى م�صحات العالج النف�سي‬
‫�إقامة �إرادية راف�ضة اخلروج منها‪� ,‬أ�صبحت تهت ُّم مب�شكالت النا�س �أكرث من‬
‫قبل‪ ،‬وجتد نف�سها م�س�ؤول ًة عنهم ٍ‬
‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬وتطور الأمر لديها ب�أن‬ ‫ذي ُ‬
‫باتت تكتب الق�ص�ص املُ�ستوحاة من الواقع‪ ,‬وتهت ُّم بالأدب‪.‬‬
‫مبا�شر‪� ,‬إال �أنَّ �سر « �أمل» الذي‬
‫ٍ‬ ‫وبرغم ُكرهها لالختالط بالآخرين ٍ‬
‫ب�شكل‬
‫أحد �سواها‪.‬‬ ‫ُتخبئه جعلها تراهن نف�سها على �أنها لن ُتف�صح به ل ٍ‬
‫ول ال؟‪ ,‬فاجلميع هنا يعلم طبيعة مر�ضي النف�سي‪ ,‬حتى و�إن �أف�شيتُ‬ ‫َِ‬
‫�سرها يوم ًا ما فلن ي�صدقني �أحد‪ ,‬فال َه َذيان �أحد �أعرا�ض ُنزَ الء هذا املكان‬
‫البارد ‪� ..‬ألي�س كذلك؟!‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫جتاهل �أحيان ًا لتح�صل على نف�س نتيجة االهتمام!‪ ,‬ان�شغايل عنها هو ما‬
‫جعلها تن�شغ ُل هي بي!‪ ,‬هذا ما لفت نظر «�أمل» ‪� ,‬إنني م�شغول ٌة دوم ًا بعملي على‬
‫تتغي معامل وجهي مع كل كلم ٍة �أقر�ؤها من الق�ص�ص التي ت�أتيني‬ ‫احلا�سوب‪َّ ,‬‬
‫يومي ًا على بريدي الإلكرتوين‪.‬‬
‫كلما جتاهلتها �شعرت بالف�ضول نحوي‪ ,‬ذلك الف�ضول الذي كان يتحرك‬
‫كال�سلحفاة خالل عدة �أ�سابيع مل ي�صدر عني � ُّأي عالم ٍة من عالمات االهتمام‬‫ُّ‬
‫أيام قليل ٍة‪ ,‬تتذكرها «�أمل» جيد ًا‪.‬‬
‫بها �سوى مر ٍة واحد ٍة منذ � ٍ‬
‫َ‬
‫فا�ستيقظت َف ِزعة لتجدين جال�س ًة‬ ‫كابو�س ُمرو ٌع‬
‫ٌ‬ ‫تلك الليلة راودها فيها‬
‫وبربود‪ ,‬كما لو كنت �أتلذذ بر�ؤيتها‬
‫ٍ‬ ‫أمل‪..‬‬
‫على طرف فرا�شها �أناظرها بت� ٍ‬
‫ت�صارع كوابي�سها وتنازع لت�ستيقظ‪.‬‬
‫مل تعلم �أ َّنني �أنا التي �أيقظتُها بالفعل‪ُ ,‬م�ستخدم ًة طريق ًة �شرير ًة لأجعلها‬
‫قدمها فوق الكاحل مبا�شر ًة بطرف ظفري‬ ‫بنغزها يف طرف ِ‬‫ت�ستفيق‪ ,‬فقمتُ ِ‬
‫َ‬
‫وا�ستيقظت « �أمل» على الفور‪,‬‬ ‫املك�سور واحلاد كالإبرة‪ ,‬النتيجة كانت جيد ًة‬
‫عب‪ ،‬وخفقات قلبها تظهر من خلف مالب�سها كما لو كان القلب‬ ‫تتنف�س ب ُر ٍ‬
‫يندفع حماو ًال اخلروج من �صدرها مر ًة بعد مر ٍة‪.‬‬
‫للحظات قبل �أن ت�سقط «�أمل» على فرا�شها مر ًة �أخرى نائم ًة‬
‫ٍ‬ ‫تبادلنا النظر‬
‫بعمق تبدو ك َمن فقد الوعي ببطءٍ ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫‪‬‬
‫و�ض ُعها‬
‫ويف ال�صباح كانت تبحث عني حتى وجدتني �أجل�س على �أريك ٍة َم ِ‬
‫خمتلف عن التي اعتدتُ اجللو�س فوقها لفرت ٍة طويل ٍة‪ ,‬كنتُ �أخترب َحد�سي‪� ,‬أو‬ ‫ٌ‬
‫جلهد مينح ال�شىء قيم ًة‬ ‫مبعنى �أ�صح �أريدُها �أن تبذل جهد ًا للعثور علي‪ ,‬ف َبذل ا ُ‬
‫حتى و�إن كان ال قيم َة حقيقي ًة له بالفعل‪.‬‬
‫أنت لئيم ٌة �إىل هذا احلد؟»‪ ،‬مل �ألتفت للتي حتدثني عن ُقرب‪,‬‬ ‫« منذ متى و� ِ‬
‫فهي �أمي كالعادة توبخني‪ ,‬وملاذا �ألتفتُ و�أنا �أعلم �أ َّنها وهمية؟ ‪ ...‬حتى و�إن‬
‫كا َنت جتل�س بجواري الآن‪.‬‬
‫حاولتُ الرتكيز �أكرث على ا ُ‬
‫خلطوات التي تقرتب مني‪ ,‬ظلت « �أمل» تقرتب‬
‫بخطواتها املرتددة حتى جل�ست بجواري‪.‬‬‫ُ‬
‫مـ‪ ...‬ماذا تفعلني؟‪.‬‬
‫�أقر�أ م�شاكل املجانني باخلارج‪.‬‬
‫قلتُها �سريع ًا وبطريق ٍة مازح ٍة لأجعلها تبت�سم وت�شعر بالأُلفة نحوي‪ ,‬ولك َّنها‬
‫بف�ضول �أكرب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫مل تفعل‪ ,‬بل تابعت تت�ساءل‬
‫عنك؟‪.‬‬
‫عملك كما �سمعت ِ‬
‫هل‪ ..‬هذا ِ‬
‫ن َعم‪.‬‬
‫�إجاباتي كانت �سريع ًة فا�صل ًة حتى ال ترتدد وتخربين مبا لديها؛ فالوقت‬
‫لي�س يف �صاحلها‪ ,‬راقبتها وهي تف ُرك ك َّف ْيها‪ُ ,‬تذكرين بال�ضعيفة اخلائفة التي‬
‫كنتها يوم ًا ما‪ُ ,‬تذكرين برهينة النا�س املُرت ِعبة من ر�أيهم فيها‪ ,‬بالتي كانت‬
‫ت�ستجدي العطف حتى من �أمها ‪...‬‬

‫‪‬‬
‫زلت تكرهينني يا دميمة ‪»....‬‬
‫« ال ِ‬
‫�ش�ش�ش�ش�ش ‪...‬‬
‫انتبهت «�أمل» تنظر يل بعينني حائرتني‪ ,‬تظنُّ ب�أ َّنني كنتُ �أُ ُ‬
‫خر�سها هي‪,‬‬
‫بينما ال تعلم �أ َّنني �أُ ِ‬
‫خر�س �أ�شباحي اخلا�صة‪.‬‬
‫ ْمل تكوين املق�صودة ‪� ..‬آ�سفة‪.‬‬
‫ُقلتُها با�سم ًة فزادت َحريتها وهي تتل َّفتُ مبقلتيها حولنا حتى ا�ستقرت‬
‫رت �أخري ًا �أنها ُتادث مري�ضة ِف ٍ‬
‫�صام ال تتناول‬ ‫نظراتها نحوي وك�أنها تذ َّك ْ‬
‫دواءها‪ ,‬فال يجب �أن تتوقف عند كل كلم ٍة �أنطقها كثري ًا !‪.‬‬
‫كيف ت�ستطيعني التما�سك واال�ستمرار بدون جرعات الأدوية؟!‪.‬‬
‫كانت منده�ش ًة وهي تطرح �س�ؤالها الذي مل �أعتقد �أبد ًا �أ َّنه �س�ؤا ٌل‪,‬‬
‫وكيف ت�س�أل وهي ت�سمع جمادالتي امل�سائية كل ليل ٍة مع « رجاء» وهي حتاول‬
‫اجل ْرعات الدوائية بانتظام لأنها‬ ‫�إقناعي خمل�ص ًة ك�صديق ٍة ب�أن �أحافظ على َ‬
‫�ستُ�ساعدين يف حربي مع �أعرا�ض املر�ض‪ ,‬بينما الآثار اجلانبية له لن ت�سبب‬
‫م�شاكل كبري ًة مادمت ال �أ�سكن مع زوجي‪ ،‬فلن يكون هناك ُمت�ضر ٌر منها؟‪.‬‬
‫ال �أحد يفهمني هنا �سوى الدكتور «يحيى»‪ ،‬بل ويقوم مب�ساعدتي للو�صول‬
‫باجلل�سات وقوة �إرادتي مع القليل من احلفاظ على‬ ‫�إىل تخفيف الأعرا�ض َ‬
‫جرعات الدواء‪� ..‬أنا ال �أريد �أن �أ�ستكمل بقية حياتي رهين ًة لتلك الأقرا�ص‪.‬‬
‫لقد مت اغت�صابي‪.‬‬
‫بحد ٍة‬
‫فالتفت نحوها ِ‬
‫ُّ‬ ‫بعنف‪،‬‬
‫كح َج ٍر ارتطم بوجهي ٍ‬ ‫تلك َ‬‫قذ َفتْني بعبارتها َ‬
‫املواجهة لنا‬
‫وعينني مذهولتني‪ ,‬فتابعت وقد ثبتت نظرتها امليتة على ال�شجرة ِ‬
‫بحروف نازف ٍة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رمبا خ�شي ًة من ر�ؤية ردة ِفعلي وتابعت‬
‫‪‬‬
‫دخلتُ ا َمل�شفى لي ًال على �إثر نزيف نتيجة �إجها�ض ُمفاجئ ‪ ..‬كان زوجي‬
‫ُم�سافر ًا فذهبت مع �أختي التي ا�ستنجدت بها وقد كنت ُمرتعبة ِما‬
‫يحدث يل وال �أفهم �سبب النزيف‪ ..‬وهناك مت ت�شخي�صي ب�أنها حالة‬
‫�إجها�ض وال ب َّد من دخول غرفة العمليات لتنظيف الرحم‪.‬‬
‫ب�ست يف �صدري و�أرغمت نف�سي على كتم �صوت‬ ‫�شعرتُ ب�أن �أنفا�سي ُح ْ‬
‫تن ُّف�سي الذي ارتفع دون �إراد ٍة و�أنا �أُحاول ا�ستيعاب ما تقول وتخ ُّي َله‪:‬‬
‫ا�ستفقتُ من املُخدر و�أنا يف غرفتي و�أختي بجواري ُتطمئ ُنني �أن الطبيب‬
‫�أخربها بتوقف النزيف‪ ..‬و�أن حالتي جيدة ف ُعدتُ �إىل بيتي ظهر ًا‪.‬‬
‫كانت �أ�صابعي على و�شك ترك حا�سوبي ا َملحمول ي�سقط من فوق ِحجري‬
‫�شهيق‪ ,‬مالحمها ثابت ٌة كنظرتها‬
‫كما ت�سقط دمعا ُتها الآنَ بغزار ٍة‪ ,‬ولكن دون ٍ‬
‫لل�شجرة‪ ,‬حاولت ا�ستجماع نف�سي �سريع ًا‪ ،‬وو�ضعت احلا�سوب بيننا على الأريكة‬
‫والتفت نحوها بج�سدي كله‪ ,‬ريثما ت�ستكمل هي ُمر ِدف ًة‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫اخل�شبية‪،‬‬
‫مر ثالثة �أ�سابيع‪ ..‬كان زوجي قد عاد من �سفره‪ ..‬وقف بجواري‬
‫ودعمني نف�سي ًا‪ ..‬واتفقنا �أن ننتظر ب�ضعة �أيام ثم نذهب �إىل طبيبة؛‬ ‫َّ‬
‫لتخربنا عن �سبب الإجها�ض حتى نتج َّنبه يف احلمل القادم ‪ ..‬ثم‬
‫جاءين ات�صال من ممر�ض ٍة تعمل يف ا َمل�شفى التي �أجريت بها اجلراحة‬
‫وتقول‪� :‬إ َّنها تريد ُمقابلتي‪.‬‬
‫ارتع�شت نربة �صوتها وبد�أت قطرات الدموع تتزايد وت�سقط على‬ ‫ْ‬ ‫وهنا‬
‫�إحدى ذراعيها املعقودتني فوق �صدرها فت�أخذ خط ًا دائري ًا بطيئ ًا للأ�سفل‬
‫وتختفي هناك‪:‬‬

‫‪‬‬
‫وعندما ذهبتُ �إليها‪� ..‬أخربتني �أن الطبيب بعد �إجراء العملية �أمرها‬
‫هي واملُمر�ضة الأخرى ب�أن يخرجا خارج غرفة العمليات ب�صحبة‬
‫خرجت بالفعل هي وزميلتها وتركتني وحدي معه ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫طبيب التخدير‪..‬‬
‫«ملاذا ؟» نطقتها بداخلي فقط‪ ,‬فلم �أجر�ؤ على البوح بها �أبد ًا‪ ,‬ف�أنا بالكاد‬
‫�أُحافظ على انتظام �أنفا�سي املقطوعة‪ ،‬بينما قلبي ينهِ تُ � َأل ًا و�أنا �أراها تتحول‬
‫تختبئ يف باطن الأر�ض‪ ,‬مل تكن يف حاج ٍة �إىل‬ ‫ُ‬ ‫بال تَو ُّد لو‬
‫ل�س ٍ‬
‫�أمامي �إىل ِح ٍ‬
‫لل�شجر‪:‬‬‫�س�ؤايل فقد كا َن ْت يف تلك ال َّلحظة تريد �أن حتكي‪ ,‬تريد ال َب ْوح ولو حتى َّ‬
‫قا َل ِت املُمر�ضة ب�أنني ل�ست الأوىل وال حتى الثانية‪ ,‬و�أنها �أخ َربت‬
‫و�سكت‪ ,‬فكل منهن‬‫ال�سابقات كما �أخربتني‪ ,‬ولكنهن خفْن الف�ضيحة ْ‬
‫زوجة و�أم‪ ،‬والف�ضيحة لن تكون لها وحدها‪.‬‬
‫وفعلت مثلهما بالطبع؟‪.‬‬
‫ ِ‬
‫بقنوط ‪ ..‬ففاج�أتني بنظر ٍة حاد ٍة وهي تلتفتُ ناظر ًة نحوي لأول‬
‫هم�ستُ بها ٍ‬
‫تق�ص حكايتَها هاتف ًة بـ ‪ :‬ال‪ ..‬ثم تابعت ٍ‬
‫بعنف‪:‬‬ ‫مر ٍة منذ �أن بد�أت ُّ‬
‫لقد ف�ضحتهما يف كل مكان‪ ..‬قدمتُ بالغ ًا للنيابة‪ ..‬وطلبت �شهادة‬
‫املُمر�ضة وزميلتها‪ ..‬وعندما توا�صلت و�سائل الإعالم معي تكلمتُ‬
‫وحكيتُ َّ‬
‫كل �شيءٍ ‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سي بابت�سام ٍة ُم�شجع ٍة و�أنا �أ�شعر بالفخر‪ ,‬فها هي �أنثى تخرج‬
‫عن امل�ألوف �أخري ًا ‪ ..‬وتطالب بحقو ِقها بال ٍ‬
‫خوف من املُجتمع‪ ,‬فعاجلتني‬
‫ال�شجر‬
‫ِ‬ ‫بنظر ٍة �ضائع ٍة وقد َخ َف َت �صو ُتها وك�أنه يختبئ َ‬
‫هناك‪ ..‬خلف �أوراق‬
‫وهي تهم�س‪:‬‬
‫زوجي طلقني ‪ ..‬قال‪� :‬إنني ف�ضحته‪..‬‬
‫‪‬‬
‫ورغم ُكرهي ِل َل ْم ِ�س �أحدهم وجدتني �أقرتب منها؛ لأوا�س َيها ولكن يدي‬
‫عادت مكانها مر ًة �أخرى‪ ,‬مل �أق َو على ذلك‪ ،‬وال �أعلم ملاذا؟‪ ,‬حافظتُ على‬
‫فا�صل يف�صلني عنها‪ ,‬ليتَها كت َبت يل‬
‫ٍ‬ ‫امل�سافة بيننا برتك احلا�سوب كحد‬
‫ق�صتها يف ورق ٍة �أقر�ؤُها ثم �أمزقها لتذروها الرياح‪.‬‬
‫يف البداية رف�ض الت�صديق وقال‪� :‬إن املمر�ضة تكذب؛ لتوقعني يف‬
‫امل�شاكل �أو لتبتزين ب�صمتها‪ ..‬وعندما ع�صيته وقدمت البالغ‪ ..‬اختفت‬
‫املُمر�ضة متام ًا‪ ..‬ومل ُي َعث لها على �إثر‪ ..‬بينما ح�ضرت زميلتُها تلك‬
‫ومعها ُمر�ضة �أخرى ال �أعرفها ومل تدخل معي غرفة العمليات ومل‬
‫�أ َرها على الإطالق يومها‪ ..‬و�شهدت كلتاهما ب�أنهما الزماين طوال فرتة‬
‫اجلراحة‪ ..‬منذ دخويل وحتى خروجي منها‪ ..‬ومل يحدث � ُّأي �شيءٍ غري‬
‫أر�سل امل�شفى �أوراق ًا يو ِّثق بها �شهادتهما !‪� ..‬أنا �س�أُ َجنُّ ‪!!.‬‬
‫طبيعي‪ ..‬و� َ‬
‫وحدث ما متناه دكتور «يحيى» وزياد ٌة؛ انفجرت «�أمل» يف البكاء وبد�أ‬
‫يخت�ض وهي حتاول ال�سيطرة على حديثها املُتقطع‬ ‫ُّ‬ ‫ن�شيجها يعلو وج�سدها‬
‫وج�سدها املُتداعي �أمل ًا وحزن ًا على نف�سها وعلى ما و�صلت �إليه‪.‬‬
‫حتى �أختي تخلت عني عندما �أمرها زوجها باالبتعاد‪ ..‬اجلميع كرهني‬
‫حتى بعد �أن بد�أت تت�سرب من عيادة الطبيب احلقري كلمات هنا‬
‫وهناك عن حتر�شه ببع�ض املري�ضات مما �ساعد يف قوة اتهاماتي له ‪..‬‬
‫دليل‪.‬‬
‫ولكنها يف النهاية بال ٍ‬
‫للحظات حمافظ ًة على وترية دمعا ِتها الغزيرة قبل �أن يتحول‬ ‫ٍ‬ ‫�صمتت‬
‫تالحقة‪ ,‬وفج�أ ًة غادرت الع�صافري‬ ‫ال�صمت �إىل ن�شيج ُمتقطع ك�أنفا�سها املُ ِ‬
‫ذبذبات العنف ال�صادرة‬
‫ِ‬ ‫ال�شجرة املُنت�صبة �أمامنا دفع ًة واحد ًة ُمتفاعل ًة مع‬
‫قادم وهي ت�صرخ هاتف ًة‪:‬‬ ‫بزلزال ٍ‬
‫ٍ‬ ‫منها وك�أنها تنذرهم‬
‫‪‬‬
‫هل ُت�صدقني؟ !‪ ..‬خرج جواب الطب ال�شرعي ل�صاحله هو‪ ..‬فن�صحني‬
‫املُحامي الذي توىل الق�ضية �أن �أتنازل و�أحاول ال�صلح معه‪ ..‬حتى ال‬
‫يرفع �ضدى ق�ضية ت�شهري وتعوي�ض وقد ي�صل به الأمر �إىل �أن ي�صدر‬
‫حكم ب�سجني ‪ ..‬تخ َّيلي؟!‪ ..‬يف النهاية �أنا َمن كان �سيدخل ال�سجن‪..‬‬
‫ا�ضطراب‬
‫ٍ‬ ‫وخرج املُجرم يف �أحد الربامج؛ ليقول ب�شفق ٍة‪� :‬إ َّنني �أعاين من‬
‫نف�سي و�أنه �سيتنازل عن حقه رحم ًة منه فقط ال غري‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫نه�ضت واقف ًة‪ ،‬واقرتبت واقف ًة �أمامي مبا�شر ًة قاطع ًة الطريق على نظراتي‬
‫ل�شيءٍ �سواها‪� ,‬ضاقت عيناها وهي تقول ِب ُكر ٍه مل يكن موجه ًا نحوي‪:‬‬
‫رمبا كانوا على حق‪ ..‬رمبا �أنا املُذنبة ح َّق ًا‪� ..‬ألي�س كذلك؟!‬
‫نعم‪ ،‬كانت تقطع الطريق على نظراتي‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع منع �أ�شباحي‬
‫أنت‬ ‫اخلا�صة من الظهور بجوارها‪« ،‬ملاذا ال تنتقم هي �أي�ض ًا كما ِ‬
‫فعلت � ِ‬
‫بـزوجك» ؟‬
‫كان هذا دوري لأنه�ض واقف ًة �أمامها بتحدٍّ و�أجدنى �أ�س�ألها بنرب ٍة �آمر ٍة‪:‬‬
‫ملاذا مل تنتقمي منهم جميع ًا؟!‬
‫فكرتُ ‪ ..‬والنتيجة كانت �أنني انتقمت من نف�سي‪.‬‬
‫ب�ضعف‪ ,‬رفعت قدمها قلي ًال جانب ًا‪ ،‬وقامت‬
‫ٍ‬ ‫هم�ست بها وهي تطرق للأر�ض‬
‫بده�س منل ٍة م�سكين ٍة كان قدرها �أن متر بجوارنا يف تلك اللحظة‪ ,‬ثم رفعت‬
‫عينيها ال�ضائعتَني تثبتهما يف عيني ُمدد ًا وتعود لتهم�س‪:‬‬

‫‪‬‬
‫�أغلقتُ على نف�سي �أ�شهر ًا طويلة �أعلم عددها‪ ..‬ال �أفعل �شيئ ًا �سوى‬
‫ك�صفارات‬ ‫ال�صمت‪ ..‬وحيدة متام ًا‪ ..‬رنني الهاتف وقرع الباب �أ�سم ُعهم ُ‬
‫الإنذار يف الغارات‪ ..‬ف�أختبئ �أ�سفل فرا�شي ب ُرعب‪ ..‬حتى جاء اليوم‬
‫الذي وجدتُ فيه �أختي ت�أتي مع زوجها وتنظر يل ولل�شقة بازدراء ‪ ..‬ثم‬
‫وجدتُ نف�سي هنا‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬

‫صفقات‬

‫قبل �أيام ‪...‬‬


‫العجيب �أننا يف �أكرث حلظات طلب املوت وعدم الرغبة يف احلياة نتخ َّلى‬
‫عن كل �شيءٍ �إال الكرامة‪.‬‬
‫منوت ولكن تبقى كرامتنا �شاهد ًة على �أنَّ َمن مات هو اجل�سد فقط‪..‬‬
‫ميت‬ ‫َ‬
‫بج�سدك فقط ‪ٌ ..‬‬ ‫ال�سجون‪ ,‬فهناك تبقى‬ ‫الكرامة‪ ..‬كلم ٌة غريب ٌة على عامل ُّ‬
‫على قيد احلياة‪.‬‬
‫جديد‪ ،‬وك�شر عن �أنيابه‬
‫مع �أول ليل ٍة له هناك ا�ستعاد «ح�سن» �شرا�سته من ٍ‬
‫لكم ا ُ‬
‫جلدران والو�سائد‬ ‫ل�سنوات غري ِ‬
‫ٍ‬ ‫و�أخري ًا وجد فائد ًة من ُمار�سة املُالكمة‬
‫و�إطارات ال�سيارات ‪ ...‬ووجه �أنور برهان‪.‬‬
‫عرف «ح�سن» معنى �أن ينام كالقطط ُمتحفز ًا‪ ,‬تعلم كيف ي�ستغل كل مهار ٍة‬
‫يعرفها؛ لي�ص َّد بها ثغرات ال�ضعف خلف الأ�سوار‪.‬‬
‫�ضعف املادة تغ َّل َب عليها بالأموال التي كان يدخرها فرتة عمله يف �إ�صالح‬
‫ال�سيارات‪ ,‬ال�ضعف البدين كان �أبعد ما يكون عنه‪ ,‬ومل يتبقَّ من الثغرات �سوى‬
‫َ�ضعف عالقاته مع القادة يف الداخل‪ ،‬وقد تكفلت �أ�صابعه الذهبية كما كان‬
‫‪‬‬
‫ُيقال عنه بتغطية تلك الثغرة �أي�ض ًا و�أ�صبح ُيلقب بني ُّ‬
‫ال�سجناء وا ُ‬
‫حلرا�س بـ‬
‫ميكانيكي امل�أمور!‪.‬‬
‫حت�س�س «ح�سن» تلك الندبة القدمية بجوار عينيه والتي بلغ عمرها عام ًا‬ ‫َّ‬
‫وربا لوالها َ َلا كان‬ ‫كام ًال وابت�سم وهو ي�شكرها؛ فهي �صاحبة ٍ‬
‫ف�ضل كب ٍري عليه‪َّ ,‬‬
‫على قيد احلياة‪ ,‬بل لوالها َلا كانت لديه كل تلك الهيبة الآن بني ا َمل�سجونني‪,‬‬
‫ولوالها �أي�ض ًا َلا تخل�ص من تلعثمِ ه البغي�ض‪.‬‬
‫فحالة الرغبة يف املوت التي جاء بها �إىل ال�سجن وا�ست�سالمه للأوامر‬
‫وانطوائيته جعلتهم يظنون �أنه ُلقم ٌة �سائغ ٌة �سيبتلعونها �سريع ًا‪ ,‬فاجتمعوا عليه‬
‫ول َّقنوه در�سه الأول يف ُح ِّب البقاء‪ ,‬وفهم بالطريقة ال�صعبة معنى ذائقة املوت‬
‫و َريب املنون‪ ,‬ومعنى �أن تكون حياته ت�ستحق �أن ُيدافع عنها‪ ,‬وكرام ًة ورجول ًة ال‬
‫بد �أن تظل رايتُهما خفاق ًة دائم ًا خلف جدران تلك الغابة ال�صغرية و�إال الت َه َمتْه‬
‫ِّ‬
‫ال�ضباع قبل الوحو�ش فيها‪.‬‬
‫ح�سن ؟!‬
‫خم�س‬ ‫رفع عينيه ُتاه حماميه الذي كان ُ‬
‫يجل�س �أمامه منذ ما يقرب من َ‬
‫ع�شر َة دقيق ًة ي�شرح له ا ُ‬
‫خلطوات القانونية نحو ق�ضيته‪.‬‬
‫ من الوا�ضح �أن براءتك مل تعد تهمك يا ح�سن !!‬
‫ز َفر ح�سن وهو ي�شعر بال�س�أم ال�شديد‪ ,‬ذلك الرجل منذ �أن عرفه وهو‬
‫ي�شرح له �أ�شياء قانونية ُمعقدة‪ ،‬رمبا هو نف�سه ال يفهمها‪ ,‬بل رمبا لو كان‬
‫كامل‪.‬‬
‫عام ٍ‬ ‫إخراجه ِما هو فيه منذ ٍ‬
‫يفهمها ال�ستطاع � َ‬
‫و�صل به الأمر �أن ين�سى مر ًة موعد اجلل�سة ومر ًة �أخرى مذكرة دفاعه ‪..‬‬
‫متكا�س ًال ‪ ..‬ت�سبب له يف ت�أجيل ق�ضيته �أكرث من مر ٍة لنف�س ال�سبب دون ٍ‬
‫داع‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�سن ٌة كامل ٌة م َّر ْت بني حتقيقات النيابة و�صدور احلكم االبتدائي �ضده‪ ،‬ثم‬
‫تالها �سنتان �أو�شكتا على االنتهاء ما بني �إجراءات اال�ستئناف الذي انتهى‬
‫�سنوات فقط‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫�سنوات �إىل ثالث‬
‫ٍ‬ ‫�إىل احلكم بتخفي�ض العقوبة من ع�شر‬
‫أ�سبوع من الآن‪.‬‬
‫�إجراءات النق�ض الذي حتدد موعد النطق باحلكم فيه بعد � ٍ‬
‫�أنا �أعلم �أنك ُم�ستاء وغا�ضب‪ ..‬ولكن ها َن ْت يا ح�سن ‪ ..‬اخلمي�س القادم‬
‫جل�سة ال ُّنطق باحلكم يف النق�ض‪ ،‬و�أنا ُمتفائل خري ًا‪.‬‬
‫ملاذا ال يفهم؟ ‪� ..‬إ َّنه ال يريد الرباءة‪ ,‬هو فقط ي�سعى �إىل اخلروج ِمن هنا‪,‬‬
‫يريد �أن يخرج �إليهم‪.‬‬
‫ال بد �أن يدفع اجلميع الثمن‪ ,‬كل من ت�آمر عليه‪.‬‬
‫�آن الآوان ليذوقوا معنى املوت وهم على قيد احلياة‪ ..‬مثله متام ًا‪.‬‬

‫‪y‬‬
‫كل منهم له فاتور ٌة خا�ص ٌة به‪ ,‬و�سيدفعها كامل ًة �شا َء َمن �شاء و�أ َبى من �أ َبى‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ما معنى �إ�صرارك املُتوا�صل هذا على �أن يكون عقد ال ِقران والزفاف يف‬
‫نف�س الليلة يا حافظ؟ ‪ ..‬ملاذا ال نعقد ال ِقران اليوم �أو غد ًا ؟‪.‬‬
‫و�ضع حافظ �إحدى �ساقيه على الأخرى ُمطمئن ًا وقد �أبلغه حماميه �أن‬
‫جل�سة النطق باحلكم النهائي اخلمي�س القادم‪ ،‬وبدا �أكرث ثق ًة و�أكرث ُقدر ًة على‬
‫مواجهة «�أنور برهان» ند ًا له ولي�س ك�أ�سري �شهادته �ضد «ح�سن» ‪.‬‬
‫التحمت �أ�صابع كفيه ببع�ضهما البع�ض وهو ُيومئ بر�أ�سه قائ ًال بثق ٍة‪:‬‬
‫هذا �آخر كالم عندي‪.‬‬
‫اطلة «حافظ» له بطلب ُمهل ٍة بعد �أخرى يف‬ ‫أعوام على ُم َ‬
‫لقد �صرب ثالثة � ٍ‬
‫انتظار احلكم النهائي؛ ليطمئن على ولده‪ ,‬حتى �إنه مل ي َر خطيبته �سوى مر ٍة‬
‫اخلطبة‪.‬‬
‫ألب�سها فيها خامت ِ‬
‫واحد ٍة‪ ,‬وهي املرة التي � َ‬
‫�إنه يذكرها جيد ًا‪ ،‬لقد كانت ُمتورمة الوجه‪ ،‬حمراء العينني‪� ،‬شاحب ًة‬
‫ودموعها مل تفارقها حلظ ًة‪ ,‬مل يت�ساءل عن حالتها تلك فهو بالت�أكيد‬
‫ُ‬ ‫كالأموات‪،‬‬
‫يعرف �أن «حافظ» �أجربها بل و�ضر َبها حتى تورمت‪ ،‬ووجهها ي�شهد بذلك‪.‬‬
‫�إال �أنه مل يكن يعرف �أن والدها ه َّد َدها بتطليق �أمها وطردها من املنزل‬
‫�إىل ال�شارع �إن مل توافق على تلك الزيجة‪.‬‬

‫‪‬‬
‫عندها لط َم ِت الأم خديها‪ ،‬ف�أيقنت «غفران» �أنها ميت ٌة ال حمالة حتى �إن‬
‫كان ج�سدها يتحرك بينهم ج�سد ًا بال ُر ٍوح‪� ,‬أو مل تفارقها روحها منها عندما‬
‫علمت مبا جرى لـ «ح�سن» وال�صفقة التي كانت هي �إحدى قرابينها؟‪.‬‬
‫«�أنور» ي�شعر �أنهم يتمل�صون من الزواج مر ًة بعد مر ًة‪ ,‬فبعد �أن كانوا‬
‫�سيق ِّبلون قدميه حتى ال يف�ضح ولدهم �صاروا ي�شرتطون عليه �أن ُي�سجل عقد‬
‫بيع منزله املُكون من طابقني با�سم «غفران» قبل �أن يتم عقد ال ِقران‪� ,‬أغبياء‬
‫‪�..‬إنه يريدها نعم‪ ،‬ولكنه يف نف�س الوقت ال يرتك �أحد ًا ينتزع منه قر�ش ًا واحد ًا‪,‬‬
‫روحه‪ ،‬ميوت �إن انتقلت �إىل غريه‪.‬‬ ‫�أمواله هي �أبنا�ؤه الذين مل ينجبهم ‪ ..‬هي ُ‬
‫لوال تدخل «�صفوان» من البداية لذهب وقام بتغيري �شهادته �ضد «ح�سن»‬
‫بعد �أن ماط َله «حافظ» للمرة الأوىل‪ ,‬حتى �إنه �أخذه من يده وذهب به �إىل ذلك‬
‫�سنوات وبينهما م�صالح ُمتبادل ٌة‪ ,‬وهو‬
‫ٍ‬ ‫املُحامي الذي يتعامل معه «�صفوان» منذ‬
‫الذي قام بالدفاع عن «رمزي»‪.‬‬
‫حذره املُحامي ب�شد ٍة من تغيري �شهاد ِته وقال له باحلرف‪� :‬إنه �سيت ُّم �سجنه‬
‫بتُهمة ال�شهادة الزور‪ ,‬ورمبا يتم توجيه تهم ٍة �أخرى ‪ :‬هي التواط�ؤ مع القاتل‬
‫تهديد‬
‫حرب ودي ٍة مع «حافظ»‪ ,‬وبني ك ٍّر وف ٍّر‪ٍ ،‬‬‫احلقيقي !‪ ,‬ومن حينها وهو يف ٍ‬
‫ويئ�س من �أن تتم ال�صفقة التي مل ي�ستفد منها �سوى عداوة «ح�سن»‬ ‫وتراجع‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫�أكرث و�أكرث ‪ ..‬وبع�ض امل�صاريف!!‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫نف‪ ،‬بي َنما حبات العرق تندفع حول جبهته‬ ‫خطاب �آخر يقر�ؤه ثم ميزقه ب ُع ٍ‬‫ٌ‬
‫فريفع ظهر كفه؛ ليم�سحها ُمرجتف ًا ُمتمتم ًا بنف�س الكلمات التي يقولها له‬
‫«�صفوان» دائم ًا؛ ل ُيطمئنه بها‪.‬‬
‫حتى ولو خرج من ال�سجن‪ ..‬فلن �أ�سمح له باالقرتاب منك‪.‬‬
‫بتثاقل من فرا�شه الذي ي�صدر‬ ‫ٍ‬ ‫ومرات وهو ينه�ض‬
‫ٍ‬ ‫مرات‬
‫ظل يكررها ٍ‬
‫�صرير ًا خافت ًا ناجت ًا عن حركته املُتخبطة‪� ،‬صار ببطءٍ وهو ي�س ُع ُل حتى توقف‬
‫زمن‪ ،‬ت�أمل ُ�شروخها الطويلة التي تعك�س‬‫�أمام املر�آة املُعلقة على اجلدار منذ ٍ‬
‫ب�شكل �أزعجه‪� ،‬شعره الرمادي الكثيف املُتناثر حول ر�أ�سه ُمت ِلط ًا‬
‫�صورته ٍ‬
‫بعرق جبينه الغزير‪ ،‬عيناه جاحظتان رغم ًا عنه‪ ،‬ي�شعر ِمبطرق ٍة ت�ضرب ركبتيه‬
‫�صدر ًة �أزيز ًا كلما حترك‪.‬‬
‫ُم ِ‬
‫�شيخوخته باتت ُتخيفه �أكرث مما يجب ‪ ،‬يف املا�ضي كان ال يزال بكامل‬
‫عنفوانه وقوته فا�ستطاع الت�صدي له ِمرار ًا‪� ،‬أما الآن ‪ ...‬ماذا �سيفعل �إذا َ‬
‫وجده‬
‫يوم من الأيام؟‪ ،‬هل �سريافقه «�صفوان» َ‬
‫ليل نها َر؛ ليحميه منه؟‪.‬‬ ‫يف مواجه ِته يف ٍ‬
‫رفع راحة كفه �ضاغط ًا بها �صدره ُمت�أمل ًا‪ ،‬وتلك اجلملة الوحيدة التي قر�أها‬
‫يف اخلطاب ت�ضرب �أركانه فتزرع اخلوف بني جنبا ِته (�ستموت يا �أظلم)‪.‬‬

‫‪‬‬
‫َطرقاتٌ �سريع ٌة على باب �شقته جعلته ينتف�ض فج�أ ًة‪ ،‬وهو ي�ستدير نحو باب‬
‫غرفته والأمل ي�ضرب �صدره �أكرث ف�أكرث‪ ،‬ويزحف نحو َم ِع َدته في�شعر بها وقد‬
‫�سقطت بني قدميه‪ ،‬بينما �شهق ٌة عالي ٌة �أطلقتها حنجرته رغم ًا عنه قد �سمع‬
‫�صداها‪.‬‬
‫�سنوات وهو ُيعاين تلك‬
‫ٍ‬ ‫ثالث‬
‫حلكم على «ح�سن» �إىل ٍ‬ ‫منذ �أن علم بتخفيف ا ُ‬
‫رعبة من اخلوف ِما هو قاد ٌم‪ ،‬الطرقات ت�سرع كخ َف َقان قلبه‪ ،‬ويا‬‫احلالة املُ ِ‬
‫للعجب ‪ ...‬فاخلمي�س القادم يحمل له كل املُتناق�ضات ‪ ..‬زواجه املنتظر من‬
‫وعده والدها‪ ,‬وموعد النطق بحكم النق�ض يف الق�ضية‪.‬‬ ‫«غفران» كما َ‬
‫لو مت ت�أييد احلكم ف�سيخرج له «ح�سن» يف نف�س اليوم‪ ،‬ورمبا يجده �أمامه‬
‫خطاب منه‬
‫ٍ‬ ‫لوجه‪ ،‬يخاف تلك اللحظة منذ �أ�سابيع عندما جاءه �أول‬‫وجه ًا ٍ‬
‫يحمل نف�س اجلملة (�ستموت يا �أظلم)‪.‬‬
‫وقتها عرث عليه �أ�سفل باب �شقته‪ ،‬وال يعلم َمن و�ضعه؟‪ ،‬وال يوجد عليه‬
‫�أختام �أو عنوا ٌن �أو حتى �أ�سما ٌء‪ ،‬جمرد ورق ٍة حتوي جمل ًة واحد ًة تقتله يف اليوم‬
‫�ألف مر ٍة‪ ،‬جعلته ي�ضع �أقفا ًال كثري ًة على بابه‪ ،‬ويحتفظ دائم ًا ب�سك ٍني �أ�سفل‬
‫و�سادته؛ ليحمي نف�سه‪.‬‬
‫متوا�صل‪ُ ،‬يغم�ض عين ًا واحد ًة كالقطط‪ ،‬وطرقاتُ‬
‫ٍ‬ ‫رعب‬
‫�أ�سابيع عا�شها يف ٍ‬
‫بابه تفزعه كما تفعل الآن وهو كال�صنم ال يتحرك‪ ،‬فقط تت�سع حدقتاه وي�ضغط‬
‫خافقه ُمت�أمل ًا ُبذ ٍ‬
‫عر‪.‬‬
‫افتح يا �أنور‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مرات كثري ًة حتى بد�أت قدماه �أخري ًا تتحركان ببطء‬ ‫كررها «�صفوان» ٍ‬
‫بيد ُمرتع�ش ٍة وهو على حالته تلك‪ ،‬فنظر‬
‫�شديد للخروج من غرفته‪ ،‬وفتح الباب ٍ‬ ‫ٍ‬
‫له الأول وهو يت�أفف ب�س� ٍأم وقال ُموبخ ًا‪:‬‬
‫�ساعة !!‪� ..‬ساعة؛ لتفتح الباب يا �أنور؟‪� ..‬أال زلت مذعور ًا على حالك‬
‫منذ تركتك؟‪.‬‬
‫قال كلمته الأخرية وهو يد ِلف �إىل الداخل‪ ،‬بينما بد�أت دقات قلب «�أنور»‬
‫تنتظم قلي ًال وتهد�أ وهو ي�شعر �أنه مل يتنف�س منذ دقيق ٍة كامل ٍة‪ ،‬وال�شعور بالدوار‬
‫ينتابه‪ ،‬وبارتخاءٍ ي�ست�شري يف كامل ج�سده‪ ،‬فكاد �أن يهوى �أر�ض ًا‪ ،‬اندفع‬
‫مقعد كان بجوار الباب يعلوه‬ ‫«�صفوان» نحوه؛ لي�سنده وي�سري به نحو �أقرب ٍ‬
‫�سنوات بنظافته وال �أن يحركه من مكانه ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الغبار ومل يهتم �أحد منذ‬
‫ثم اعتدل بجذعه املُمتلئ وع�صاه الغليظة التي ال تفارق �أ�سفل � ِ‬
‫إبطه مهما‬
‫حدث‪:‬‬
‫قلتُ لك �س�أحميك منه‪ ..‬ال تخف هكذا ‪ ..‬ثم هو مل يخرج بعد‪ ..‬فلماذا‬
‫كل هذا الرعب منه؟‪.‬‬
‫�أر�سل تهديد ًا �آخر يا �صفوان‪.‬‬
‫ات�سعت عينا «�صفوان» متعجب ًا وهتف بحد ٍة‪:‬‬
‫كيف ذلك ؟ فلقد وعدين ح�ضرة ال�ضابط عندما �أريته الورقة الأوىل‬
‫�سي�سل له يف ال�سجن َمن ي�ؤدبه‪ ..‬و�سيبلغ �إدارة ال�سجن بذلك؛‬
‫ب�أنه ُ‬
‫لي�ضيقوا عليه حتى ال ي�ستطيع التنف�س حتى‪.‬‬
‫�أنا �أعلم �أن نهايتي �ستكون على ِيده‪.‬‬
‫‪‬‬
‫قالها «�أنور» وهو يهز ر�أ�سه بي� ٍأ�س ُم ٍ‬
‫تلط باخلوف ال�شديد وك�أنه ُيعاين‬
‫جثته الآن‪.‬‬
‫و�ضع «�صفوان» ك َّفه العري�ضة على َك ِتف �أنور‪ ،‬وهو ي�شد عليه بقو ٍة ويدعي‬
‫بحما�س ُم َ‬
‫�صط ٍنع‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫املرح قائ ًال‬
‫ان�س تلك‬
‫�أنت «عري�س» يا �أنور‪ ..‬عقد قرانك بعد خم�سة �أيام فقط ‪َ ..‬‬
‫خلرافات و ُقم هي�أ نف�سك وا�ستد ِع َمن ينظف لك تلك اخلرابة التي‬‫ا ُ‬
‫تعي�ش بها‪.‬‬
‫ثم �أ�شار بي�ساره كال�سهم نحو �أرجاء ال�صالة الوا�سعة والفارغة يف نف�س‬
‫الوقت �إال من طاول ٍة خ�شبي ٍة عتيق ٍة م�سجون ٍة بني �أربعة مقاعد تغري لونها جميع ًا‪،‬‬
‫ممتلئ بالورود امللونة املطبوعة‬
‫ٍ‬ ‫بقما�ش‬
‫ٍ‬ ‫و�أريك ٍة عري�ض ٍة �أ�سفل النافذة ملتحف ٍة‬
‫�أكل عليه ال ُغبار و�شرب حتى باتت �أطرافه ُمهرتئة باهتة‪ ،‬وذلك التلفاز العتيق‬
‫ب�صورته املهزوزة التي رحلت وتركت له ال�صوت فقط بعد �أن �أظلمت متام ًا‪،‬‬
‫واجلدار من خلفه تعلوه تلك ال�صورة ال�صغرية باللونني الأبي�ض والأ�سود والتي‬
‫ت�ضمه هو وزوجته الراحلة يوم زفافهما ‪.‬‬
‫�سنوات عديد ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مل يتفاج�أ «�صفوان» بتلك ال�صورة فلقد �س�أله عنها منذ‬
‫ً‬
‫حمتفظا بها ؟‪!.‬‬ ‫ملاذا ال تزال‬
‫�أمل تنجب لك من احلرام ؟! ملاذا ُتب ِقى على �صورتها ؟!‬
‫للحظات قائ ًال‪ ،‬و ُمت�صنع ًا‬
‫ٍ‬ ‫حينها �أجابه «�أنور» بعد �أن نظر �إىل ال�صورة‬
‫الال مباالة‪:‬‬
‫«ال �أعلم ‪ ...‬هكذا فقط»‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مل ي�ستطع «�صفوان» �أن يرفع عينيه ب�سهول ٍة عن وجه «زينبـ« يف ال�صورة‬
‫املُعلقة‪ ،‬وما اجلديد؟ هذا د�أبه منذ ثالثني عام ًا‪ ،‬عندما ر�آها لأول مر ٍة يف‬
‫منزل �صديقه «�أنور» يف اليوم التايل مبا�شر ًة بعد زفافه‪ ،‬كانت عرو�س ًا جميل ًة‬
‫وميزة و�ضفريتني �سوداوين‪،‬‬ ‫طرق ًة بر�أ�سها دائم ًا‪ ،‬ذات لهج ٍة ريفية ُمببة ُ‬ ‫ُم ِ‬
‫اخت َفتا بعد �سن ٍة واحد ٍة فقط منذ دخولها لهذا املنزل زوج ًة لهذا البخيل‪،‬‬
‫�صاحب لهما؛‬ ‫�ضاعف املُ ِ‬‫مع قلة ال ِغذاء و َرداءته واحلمل والوالدة واملجهود املُ َ‬
‫ت�ساقط ال�شالل الأ�سود جديل ًة خلف الأخرى حتى توارى متام ًا �أ�سفل املِنديل‬
‫�شعرها وتوارى معه جما ُلها وتو ُّرده �إىل غري‬
‫ا�ستخدمتْه لربط ِ‬
‫َ‬ ‫ال�صغري الذي‬
‫رجع ٍة‪.‬‬
‫ولكنها ظلت يف عينيه (زينب) التي لأجلها فقط وطد عالقته بهذا‬
‫ال�شحيح وظل يزوره يومي ًا ُمم ًال ب�أكيا�س الفاكهة والع�صائر؛ ليملأ « �أنور»‬
‫َم ِع َدته َريثما ميلأ هو عينيه منها وهي ُتهرول هنا وهناك خلدمتهما‪.‬‬
‫يوم مير يكره �أنور �أكرث من اليوم الذي �سب َقه ُماو ًال التقرب منها �أكرث‬
‫كل ٍ‬
‫�شديد‪.‬‬
‫و�أكرث ‪ ..‬ولكن بحذ ٍر ٍ‬
‫�سنوات من ال�صرب عندما وجدها وحيد ًة يف‬ ‫ٍ‬ ‫حتى جاء ذلك اليوم بعد‬
‫أيام عامه الثالث‪ ،‬وقتها ‪ ..‬وقتها‬
‫املنزل ومعها طفلها الوحيد الذي قد بلغ منذ � ٍ‬
‫فقط‪ ،‬ع ِلم �أنها لي�ست بال�ضعف الذي كان يتخيله عندما هوت على وجهه‬
‫جمدت الدماء يف عروقه‪ ،‬علم‬‫ِ‬ ‫ب�صفع ٍة قروي ٍة هادر ٍة ت�صحبها نظر ٌة �صاعق ٌة‬
‫لزوجها يف نف�س الوقت الذي تقطع فيه ُعـ ُنق َمن‬‫�أنها تر َّب ْت على �أن تخ�ضع ِ‬
‫قطع جذوع الأ�شجار‪.‬‬ ‫يحاول امل�سا�س ب�شرفها كما ُت َ‬
‫�صفواان !!‬

‫‪‬‬
‫جذبه «�أنور» من ذكريا ِته املُخزية وهو يناديه مر ًة بعد �أخرى وي�س ُعل بقو ٍة‬
‫يريد �أن ي�ستند �إىل يديه يف ُماولة منه للعودة �إىل فرا�شه ُمدد ًا‪.‬‬
‫كيف �ستتزوج و�أنت بهذه احلالة؟ ‪ ..‬لو تريد ن�صيحتي ‪ُ ..‬قم بت�أجيل‬
‫الزواج حتى تتح�سن �صحتك قلي ًال‪.‬‬
‫وانفعال‬
‫ٍ‬ ‫ب�سخط‬
‫ٍ‬ ‫يتحرك ببطء الهث ًا قائ ًال‬
‫ُ‬ ‫�ضغط «�أنور» �صدره ب� َ ٍأل وهو‬
‫�شديد‪:‬‬
‫ٍ‬
‫يا �سبحان اهلل ‪ ..‬مل �أعد �أفهمك �أبدً ا ‪ ..‬يف البداية كنت �أنت �صاحب‬
‫فكرة ال�صفقة و ُم�ساومة �أهل رمزي على الزواج من ابنتهم مقابل‬
‫ال�شهادة ل�صالح ولدهم‪ ..‬وفج�أ ًة بد ْوتَ ُمقتنع ًا مبا يريدون وحتاول‬
‫�إقناعي بالت�أجيل ‪ ..‬والآن وبعد �أن وافقوا �أخري ًا على حتديد موعد‬
‫ُ‬
‫يحدث معك ؟!‬ ‫نهائي للزفاف تريدُين �أن �أ�ؤجله ُمدد ًا ‪ ..‬ماذا‬
‫�أووف ‪ ..‬انتهينا يا �أنور‪ ..‬افعل ما يحلو لك‪.‬‬
‫أفف و�س�أم وهو يدفعه بخفة نحو الفرا�ش وبد ًال من �أن‬ ‫قالها «�صفوان» بت� ٍ‬
‫ي�سقط �أنور على الفرا�ش �سقط �أر�ض ًا على وجهه ُمتعرث ًا بال�سجادة املُه ِرتئة‬
‫�شديد‪ ،‬ا�شتد عليه الوجع الذي هجم بقو ٍة ناه�ش ًا �صدره ويقتلع‬
‫وهو ي�صرخ ب� َ ٍأل ٍ‬
‫ف�ؤاده بال رحم ٍة‪.‬‬
‫َ‬
‫و�سقط‬ ‫خلطة �أخري ًا‪،‬‬
‫أثمرت ا ُ‬
‫بارتياح‪ ,‬لقد � ِ‬
‫ٍ‬ ‫راقبه «�صفوان» قبل �أن يزفر‬

‫‪y‬‬
‫بنف�سه‪,‬‬
‫بيده‪ ,‬وو�ض َعهما �أ�سفل بابه ِ‬
‫الأحمق �صري َع ُرعبه من ر�سالتني كتبهما هو ِ‬
‫واحد ًة تلو الأخرى!‬

‫‪‬‬

‫العودة‬

‫و�صد بها باب هذا ا َملخزن القدمي‬ ‫ُقف ٌل‪ ..‬اثنان‪ ..‬ثالث ٌة‪� ,‬أقفا ٌل كثري ٌة ُي َ‬
‫خروجه‬
‫ِ‬ ‫نعزل عن العمران‪ ,‬والذي قام بت�أجريه فور‬ ‫ذى امل�ساحة الوا�سعة واملُ ِ‬
‫أيام وهو يعلم جيد ًا‪ ،‬ماذا �سيفعل وكيف‬ ‫�سراحه منذ � ٍ‬‫من ال�سجن بعد �إطالق ِ‬
‫�سي�سرتد حقه ال�ضائع؟‪ ,‬موقعه كاد يتطابق متام ًا مع احتياجا ِته‪ ,‬لوال اقرتابه‬
‫بع�ض ال�شيء من الطريق املُمهد لل�سيارات‪ ,‬لقد راهن على خوفها عندما‬
‫ابت�سم ُمتعجب ًا‪ ,‬لقد ا�ضطربت وارتع�ش ج�سدُها‬ ‫َ‬ ‫و�صلت �أفكاره لتلك النقطة‪،‬‬
‫خوف ًا من قوله لها ب�أن هذا املكان م�سكو ٌن بالأ�شباح ولو �صرخت فلن ي�سم َعها‬
‫�أح ٌد �سواه ‪ ..‬والعفاريت!‪� .‬أكرث من اخلوف الذي اعرتاها عندما ا�ستفاقت من‬
‫غيبوبتها ووجدت نف�سها ُمتطف ًة!‪.‬‬
‫العفاريت �أكرث منه!‪.‬‬
‫َ‬ ‫يبدو �أنها تخاف‬
‫ات�سعت ابت�سامته �أكرث قلي ًال وهو يجل�س خلف مقود �سيارة «�أنور» الذي قام‬
‫ب�سرق ِتها ليجتذب بها عيني «غفران» ويجعلها تقرتب بقدميها من الفخ الذي‬
‫�أعده لها‪.‬‬
‫قام بت�شغيل ُمركها ليخرج بها من الأر�ض غري املُمهدة نحو الطريق‬
‫املُمهد ُمنطلق ًا ب�شغف وباجتاه ذلك ا َمل�شفى احلكومي الذي ير ُقد بداخله‬
‫انتقامه‪.‬‬
‫�صاحب الرقم الثاين على قائمة ِ‬
‫‪‬‬
‫اختفت االبت�سامة فج�أة وتال�شت‪ ,‬ذكرى �أكف الظلم التي اجتمعت عليه‬
‫قاتل بد�أ يعتاد نزع احلياة‬ ‫حمتها ُعنو ًة عن �شفتيه‪ ,‬فربقت عيناه بق�سو ٍة ٍ‬
‫وبرود ٍ‬
‫منهم يوم ًا بعد �آخر‪ ,‬وللمرة الثانية على التوايل!‪.‬‬
‫دلف «ح�سن» �إىل ا َمل�شفى العام وهو يتخطى احلديقة على اجلانبني بجوار‬
‫الباب احلديدي العري�ض‪ ,‬والتي ت�ساقطت �أوراقها لعدم العناية بها وامتلأت‬
‫َ‬
‫وهناك‪ ,‬مل ُيوقفه �أح ٌد كما كان‬ ‫ب ُع َلب الك�شري الفارغة والأكيا�س املُتطايرة هنا‬
‫يتوقع‪.‬‬
‫امل�ساحة الوا�سعة التي تلي احلديقة حتولت �إىل موقف «تكاتك»‪� ,‬أكواب‬
‫ال�شاي و�أعقاب لفائف التبغ امل�سحوقة تعلو ال�سور املنخف�ض للم�شفى والذي‬
‫يجل�س �أ�سفله بائع امل�شروبات ال�ساخنة والباردة‪ ,‬دار ن�صف دور ٍة حول امل�شفى‬
‫لي�صل �إىل ق�سم الطوارئ واحلوادث‪ ,‬الق�سم يف الطابق الأر�ضي ويت�ضمن‬
‫غرفة املُالحظة حيث يرقد هدفه الآن‪ ،‬املمر ُيوحي بالنظافة يف بدايته‪.‬‬
‫�أما وبعد تعمقه يف الداخل وجد ما قام بو�ضع ُخطته كلها على �أ�سا�سه هو‬
‫و ُمعاونيه‪ ,‬الباعة اجلائلون يتجولون هنا وهناك بني الأ�سر املنكوبة التي جتل�س‬
‫فوق الأر�ض املُزدحمة بهم يف انتظار م�صري مر�ضاهم املجهول‪ ,‬والأطفال‬
‫ال�صغار يلعبون وي�صرخون يف الطرقات التي حتولت �إىل �سوق �شعبي‪,‬‬
‫وجبات �ساخن ٍة من فاعل خ ٍري مل يح ُلمنَ‬
‫ٍ‬ ‫املُمر�ضات م�شغوالت الآن يف تناول‬
‫بها يوم ًا‪ ,‬فلم يجد �شخ�ص ًا واحد ًا ليوقفه �أو ي�س�أله �إىل �أين؟‪ ,‬جمموعة �شباب‬
‫يقفون بنهاية املمر يحملون طفل ًة �صغري ًة تنـزف من ر� ِأ�سها ويديها‪ ،‬وممر�ض ٌة‬
‫وحيد ٌة �صغري ٌة بال�سن هي التي حتاول وقف النـزيف بينما هم ي�صرخون ب�أنها‬
‫تعر�ضت حلادث �سيارة ويحتاجون �إىل م�ساعدة ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫عراك بينهم يت�شاجرون‬‫وللأ�سف ال وجود للأطباء‪ ,‬فهم ُمن�شغ ِلون الآن يف ٍ‬
‫تقف بجان ِبهم املُمر�ضة الوحيدة وامل�س�ؤولة‬
‫حول دورية الإ�شراف اليومي‪ ,‬بينما ُ‬
‫عن ُغرفة املُالحظة‪ ,‬والتي �أ�شارت له بعينيها ب�أن يدخل الآن �سريع ًا‪ ,‬كما مت‬
‫االتفاق معها من قبل‪.‬‬
‫الغرفة ُمتلئ ٌة بالأَ ِ�س َّرة �إال �أنها جميع ًا خالي ٌة من ال ُف ِ‬
‫ر�ش وا َملر�ضى‪� ,‬إال من‬
‫بج�سده ال�ضخم ال�سرير الأخري منها املُلت�صق بجدا ٍر‬ ‫ِ‬ ‫واحد فقط يحتل‬ ‫مري�ض ٍ‬
‫ٍ‬
‫ُمتهالك الطالء و ُمل َقى فوقه مالءة كانت بي�ضاء يوم ًا ما‪.‬‬
‫جلدران املُزدحمة بال�شروخ‪ ,‬فلقد‬ ‫مل ي�ستطع «ح�سن» رفع عينيه لت�أمل بقية ا ُ‬
‫ت�صلبت فوق ج�سد «�أنور» النائم بالرغم من كل تلك املعارك الدائرة باخلارج‬
‫انتظام وك�أن �أنفا�سه تتح�شرج بداخل‬‫ٍ‬ ‫بينما �صوتُ �شخريه يعلو وينخف�ض بال‬
‫�صدره ت�أبى اخلروج‪� ،‬أغلق الباب من خل ِفه وبد�أ يقرتب منه �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ,‬كل‬
‫ُخطو ٍة نحوه تقفز به �إىل ذكرى �سيئ ٍة معه‪� ,‬ضغط � َ‬
‫أ�ضرا�سه و�ضاق ما بني عينيه‬
‫يتح�س�س بها �أثر ال�ضربة خلف ر�أ�سه وك�أنه‬ ‫القا�سية‪ ,‬وبال �إراد ٍة رفع �أ�صاب َعه َّ‬
‫تلقاها الآن فقط‪ ,‬م�شاعر كاملوج الهائج ت�ضرب ِكيانه فتبعرثه و ُتلقي به حتت‬
‫قدمي «�أنور» الذي طاملا �ضغط �أنفا�سه بحذا ِئه املُه ِرتئ وهو فتى حديث البلوغ‬
‫َريثما يتحداه �أن ينه�ض ملواجه ِته �إن كان رج ًال‪.‬‬
‫الآن انقلبت الآية يا «�أظلم»‪.‬‬
‫هم�س بها ب ُكر ٍه ٍ‬
‫�شديد وقد و�صل �إىل فرا�شه ا َملعدوم وانحنى يت�أمل وجهه‪,‬‬ ‫َ‬
‫لقد بلغ ال�ستني وتهدل ِجلدُه بينما ال زال يرغب يف احلياة ويتم�سك بها كعادته‪,‬‬
‫مكان �آدمي �آخر‪ ,‬لقد دفع‬
‫نف�سه حتى بالعالج يف ٍ‬ ‫ويف نف�س الوقت يبخل على ِ‬
‫بع�ض الأموال ُمقابل �سجنه و�ضن على �صحته مبثلها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫رفع «ح�سن» َيده تارك ًا راحته تزحف نحو عنق «�أنور» بينما طائر البغ�ض‬
‫الأ�سود يفرد جناحيه �صارخ ًا يف عينيه املُحدقة به وهو ال زال نائم ًا ي�صارع‬
‫كوابي�سه ب�أنفا�سه املُتقطعة ب�أن َ‬
‫يفتحهما لرياه وهو يقتله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫�أحد‬
‫ولقد ا�ستجاب «�أنور» للنداء‪ ,‬فتح عينيه وهو يلهث �شاعر ًا بذلك ال�ضغط‬
‫حول عن ِقه فوق حلقه مبا�شر ًة‪ ,‬انتف�ض فج�أ ًة يف الفرا�ش وهو يعتقد ب�أنه ال زال‬
‫حللم‪ ,‬فا�ستيقظ ُمنت ِف�ض ًا ليجده قاب�ض ًا على �أنفا�سه‬
‫يح ُلم‪ ,‬لقد كاد يقت ُله يف ا ُ‬
‫بهلع‪ ،‬وك�أنه ُيعاين ملك املوت يف تلك اللحظة‪ ,‬حلظ ٌة‬ ‫يف احلقيقة‪ ,‬نظر له ٍ‬
‫يعجز فيها الل�سان عن احلركة‪ ,‬والأع�ضاء عن �إبداء �أيِّ ُمقاوم ٍة‪ ,‬وال يبقى‬
‫وخافق يقفز بجنون نحو نهاية ال ِّرحلة!‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫فزع‪ ,‬وعينني ُمتجمدتني‪,‬‬ ‫�سوى ٍ‬
‫ابك طلب ًا حليا ِتك الع ِفنة‪.‬‬
‫تذلل يا «�أظلم» ‪ِ ..‬‬
‫لن يقتله �سريع ًا‪ ,‬يريد �أن يراه ُمتذل ًال حتت قدميه �أو ًال‪.‬‬
‫مرات عديد ًة خالل �سنوات �سج ِنه الأخرية‪ ,‬يتمنى‬‫لقد تخيل هذا امل�شهد ٍ‬
‫�أن يعي�ش هذا ال�شعور بكل جوارحه‪� ,‬شعور الن�شوة وهو يراه مك�سور ًا �أمامه كما‬
‫فعل بوالد ِته من قب ُل‪.‬‬
‫�شعور اخلزي وال�ضعف والنق�ص الذي �صاحبه ِطيلة عمره ب�سببه‪� ,‬إزهاق‬
‫وحه فقط ال تكفي‪ ,‬وال يظن �أنه �سيكتفي بعد اليوم‪.‬‬
‫ُر ِ‬
‫�أرجوك‪ ..‬ارحمني‪.‬‬
‫ي�ستوعب الأمر‪ ,‬لقد‬
‫ِ‬ ‫أنفا�س الهث ٍة وقد بد�أ‬
‫يهم�س بهما ب� ٍ‬
‫ا�ستطاع «�أنور» �أن َ‬
‫ر�أى نظرات ال ُكره وال�شر يف عيني «ح�سن» كثري ًا من قب ُل‪� ,‬أما ما يراه الآن‪,‬‬
‫�شر�س‪ ,‬لن يرتاج َع‪.‬‬
‫قاتل ٍ‬
‫فنظرات ٍ‬
‫‪‬‬
‫ت�أكد �أن حياته �ستنتهي يف الت ِّو‪ ,‬وبدون �إراد ٍة منه وجد يده ترتفع حتى‬
‫قب�ضت على كف «ح�سن» ال�ساكنة بت�صلب فوق عن ِقه‪ ,‬ف�شع َر بربودتها وك�أنها‬
‫حتولت �إىل يد �آل ٍة للقتل ال تنتمي للب�شر‪ ,‬فبد�أت عيناه تدمعان‪ ,‬ثم يبكي‬
‫ُمتو�س ًال حياته كما طلب منه‪.‬‬
‫ارحمني يا ح�سن ‪ ..‬خلاطر �أمك الطيبة ارحمني‪.‬‬
‫خلاطر �أمي؟!!‬
‫قالها «ح�سن» بده�ش ٍة‪ ،‬وبد�أت �ضحكاته اخلافتة املُتقطعة تزداد جنون ًا‬
‫رويد ًا رويد ًا‪ ,‬نظراته املجنونة زادت من ه َلع «�أنور» وانهمرت دموعه �أكرث‬
‫وتعال نحي ُبه وهو مازال قاب�ض ًا على يد «ح�سن» ‪ ,‬يريد �أن ينجو وال مف ّر‪ ,‬خرج‬
‫َ‬
‫تح�شرج ًا و�إرادة احلياة تدفعه دفع ًا وهو يقول باكي ًا‪:‬‬
‫�صوته ُم ِ‬
‫�أُق ِّبل قدميك‪� ..‬ساحمني‪ ..‬عندما �أخرج من هنا �س�أقبل ر�أ�سك �أمام‬
‫َ‬
‫كرامتك‪� ..‬س�أعرتف بكل �شيءٍ ‪� ..‬أنت ابني‪ ..‬ورمزي‬ ‫اجلميع و�أرد �إليك‬
‫هو َمن قتل «�سلمى» ‪� ..‬أرجوك‪.‬‬
‫مال «ح�سن» بر�أ�سه ميين ًا وهو ما زال ُمت ِفظ ًا بنظراته املجنونة وهو يكرر‬
‫ب�سخري ٍة الكلمة التي ال يبدو �أنه مل ي�سمع �سواها‪:‬‬
‫�أنا ابنك؟!‬
‫حرك ر�أ�سه م�ؤكد ًا بالرغم من ال ُّرعب املُ ِ‬
‫�سيطر عليه‬ ‫حاول «�أنور» �أن ُي َ‬
‫أكيد �أكرب بينما عقله يرف�ض‬
‫ولكن قب�ضة قات ِله مل ت�سمح له‪ ,‬فعاد يكررها بت� ٍ‬
‫ما �سيقوله‪:‬‬
‫نعم‪� ..‬أنت ابني ‪�..‬أنا ظلمتُك وظلمتُ �أمك‪� ..‬س�أكتب َ‬
‫لك البيت والور�شة‬
‫با�سمِ ك‪ ..‬وكل ما عندي لك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫عندي لك اقرتا ٌح �آخر‪.‬‬
‫تعلقت روح «�أنور» بكلماته ب�أمل يف النجاة‪ ،‬بينما يدُه ما زالت تقاتل يف‬
‫معرك ٍة خا�سرة لتحرر عن َقه‪ ،‬بينما يرفع «ح�سن» حاجبيه ويقول ُمقرتح ًا‪:‬‬
‫العال الآخر وتعتذر لها‬ ‫ما ر�أيك ب�أن �أقتلك الآن‪ ..‬فتذهب �إىل �أمي يف َ‬
‫قتلتك‪� ..‬أَ ِر ُث َك‬
‫هناك؟ و�س�أخرج �أنا من هنا دون �أن يعلم �أحد ب�أنني َ‬
‫و�آخذ كل ما كان لديك‪ ..‬ونرتاح منك‪ ..‬ويعود احلق لأ�صحابه‪ ..‬ف�أنت‬
‫كنت من ال ُبخل والغباء لدرجة �أنك مل ترفع ق�ضية لتنفي ن�سبي لك‪..‬‬
‫واكتفيت ب�أن ُتو�صمني ِطيلة عمري بـ «ابن احلرام» ‪.‬‬
‫انهار «�أنور» باكي ًا بقو ٍة‪ ،‬وبد�أت خفقات قلبه تتباط�أ‪ ،‬وي�شعر بالدوار‬
‫جانب‪ ,‬وب�أنه يودع �آخر حلظاته من الدنيا‪ ,‬وككل‬
‫وب�صقيع يلف ج�سده من كل ٍ‬‫ٍ‬
‫املُ�سافرين الذين يتذكرون كل ما َن َ�سوه قبل انطالق القطار مبا�شر ًة‪ ,‬مرت‬
‫�أمام عينيه �صورة زوجته الراحلة «زينبـ« بجمالها الهادىء و�صوتها الدافىء‬
‫جيد الب ِنهما وحيا ٍة‬
‫طعام ٍ‬
‫وخج ِلها منه و�صربها عليه‪ ,‬مل تكن تطلب منه �سوى ٍ‬
‫عادي ٍة �آدمي ٍة لها‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لقد كان يح ُّبها ولكن حبه لأمواله �أكرث وهي بد�أت تتدلل وت�ستنـز ُفه‬
‫بطلبا ِتها كما كان يقول له «�صفوان» دائم ًا‪ ,‬ثم �أجنبت طف ًال ُي�شبه خطيبها‬
‫يتلعثم ِمثله وظل هكذا‪ ,‬ويف النهاية‬
‫الأ�سبق وابن خال ِتها‪ ,‬وعندما بد�أ يتكلم بد�أ ُ‬
‫�أرادت الق�ضاء عليه ب�أن يدفع �أموا ًال ال �آخ َر لها عند �أطباء ت�أخر الكالم والنطق‬
‫وما �شابه‪.‬‬
‫كل تلك الذكريات مرت عليه يف حلظات قليلة حتى �سقطت يده بجوارِه‬
‫ُم�ست�س ِلم ًا مل�صريه‪ ،‬وارتفعت ُمقلتاه نحو عيني «ح�سن» املواجهتني له ب�سخري ٍة‬
‫‪‬‬
‫مرير ٍة‪ ،‬وبد�أ ل�سانه يتثاقل عن احلركة‪ ,‬فخرجت حروفه ُمتعرث ًة ُمتبعرث ًة كما‬
‫كان يتكلم ولده �سابق ًا وهو يقول‪:‬‬
‫عدم رفعي للق�ضية ‪ ..‬مل يكن بخ ًال وال غبا ًء‪ ..‬يا ولدي‪� ..‬صدقني‪.‬‬
‫ال�ضغط حول عن ِقه فج�أ ًة وبد�أ الهواء مير �إىل رئتيه من ٍ‬
‫جديد‪ ،‬ولكن‬ ‫خف َّ‬ ‫َّ‬
‫ب�صعوب ٍة وال َأل ي�ضرب �صدره ب�شد ٍة وذراعيه‪ ،‬بينما �شعر باقرتاب «ح�سن» منه‬
‫غريب وهو ي�س�أله وك�أنه يريد الإجابة‬
‫بفحيح ٍ‬
‫ٍ‬ ‫�أكرث و�سمع �صوته يخرتق �أذنيه‬
‫بالفعل‪:‬‬
‫ملاذا مل حتاول رفع ق�ضية؟‪ ..‬تك ّلم‪.‬‬
‫�أغم�ض «�أنور» عينيه اللتني باتتا تدوران يف �سقف الغرفة وهو ي�شعر بروحه‬
‫تن�سحب �شيئ ًا ف�شيئ ًا من �أطراف ِ‬
‫ج�سده‪ ،‬بينما الدوار العنيف ال يفارق ر�أ�سه‪,‬‬
‫هل �سيقابل «زينبـ« بالفعل يف َ‬
‫العال الآخر؟‪ ,‬كيف �سيواج ُهها؟‪ ,‬هل م�سمو ٌح‬
‫هناك باالعتذار؟‪ ,‬هل كانت الدنيا ت�ستحق ما فعله ؟!‪.‬‬
‫جاءه �صوت «ح�سن» ي�س�أ ُله ب�إ�صرا ٍر �أكرب ُمكرر ًا ينتزعه من حلظات نزعه‪,‬‬
‫نف�سه للمرة الأوىل‪:‬‬
‫�شحيح مثله يواجه به َ‬ ‫ٍ‬ ‫باعرتاف‬
‫ٍ‬ ‫فهم�س‬
‫�أمك كانت تريد‪� ..‬أن تعاجلك مببالغ طائلة‪ ..‬وعندما رف�ضت‬
‫و�ضربتها‪� ..‬سرقتني‪ ..‬وذهبت �إىل ابن خالتها ‪ ..‬لي�ساعدها يف‬
‫عالجك‪.‬‬
‫طبق بعد �أن انتهى « �أنور» من اعرتافه‪ ,‬بينما‬ ‫دقيق ٌة كامل ٌة مرت يف ٍ‬
‫�صمت ُم ٍ‬
‫تتالقى العيون ال يطرف لأحدهما َجفنٌ ‪ ،‬يحدقان ببع�ضهما البع�ض يف مواجه ٍة‬
‫غري ُمتكافئ ٍة‪ ,‬بني الث�أر والرجاء‪ ،‬فهل تكون مواجهة الأخطاء واالعرتاف بها‬
‫الباهت ملجرد القفز فوقها؟‪.‬‬‫ب�صدقٍ ‪� ,‬أف�ضل بكث ٍري من االعتذار ِ‬
‫‪‬‬
‫�أنت ُمثري لل�شفقة‪.‬‬
‫قا َلها «ح�سن» وهو يرفع يده عن «�أنور» الذي �شهق بقو ٍة وبد�أ يف نوب ِة ُ�س ٍ‬
‫عال‬
‫�شديد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫متقطع ٍة وا�ضع ًا يده فوق ِ‬
‫�صدره ب�إعياءٍ‬
‫بنظرات جامد ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫اعتدل «ح�سن» بجذعه واقف ًا ُمكور ًا قب�ضتيه بقو ٍة وهو يتابع‬
‫جديد‪ ،‬ال يعلم �أ َّي ًا‬
‫مق‪ ،‬فيعود لي�سعل من ٍ‬ ‫حالة «�أنور» وهو يهد�أ قلي ًال ويتنف�س ب ُع ٍ‬
‫مق‪ ,‬يحتاج �أن يخرج من هنا على الفور‪ ,‬هو الذي‬ ‫منهما يحتاج �إىل التنف�س ب ُع ٍ‬
‫يختنقُ ولي�س «�أنور»‪ ,‬ثور ٌة عارم ٌة تتعارك بداخ ِله‪ ,‬ملاذا تركه ومل يقتله؟‪ .‬ملاذا‬
‫�أراد �أن يعرف ؟ ما الداعي؟‪ ..‬بل ما الفارق؟! ‪.‬‬
‫وجد قدميه ترتاجعان للخلف ويبتعد عن الفرا�ش نحو باب الغرفة‪ ،‬وعيناه‬
‫و�سعاله املُتقطع الذي بد�أ يهد�أ وينتظم‪,‬‬
‫ال زا َلتا مثبتتني على طريح الفرا�ش ُ‬
‫عت�صر ًا مقب�ض الباب املعدين بقو ٍة‪ ،‬وعندما عادت‬
‫رفع قب�ضته خلف ظهره ُم ِ‬
‫جديد‪� ,‬س�أله «ح�سن» بهدوءٍ ظاهري‪:‬‬
‫عيناهما للمواجهة من ٍ‬
‫هل تعلم ملاذا مل �أقتلك يا « �أنور» ؟‪.‬‬
‫با�ضطراب‪ ،‬فقال «ح�سن» على الفور دون �أن ينتظر‬
‫ٍ‬ ‫حتركت عينا «�أنور»‬
‫�إجاب ًة وقد �صارت عيناه بلون الدم‪:‬‬
‫لأنني لو فعلت‪ ..‬ف�س�أكون ابن حرام بحقٍّ ‪ ،‬ولكني ل�ست كذلك‪.‬‬
‫قالها وفتح الباب وفـ َّر‪ ,‬فـ َّر بكل ما حتمله الكلمة من َمعنى‪ ,‬برغم كل ما‬
‫مر به‪ ,‬ال زالت �آدميته تعا ِفر بداخ ِله‪ ,‬ال زال ي�شعر �أنه «والده» ‪ ,‬بعد كل ما م َّر‬
‫مكان ما يف قلب ال َوح�ش املُظلم‪ ,‬ت�ؤنبه وتدفعه نحو‬ ‫به‪ ,‬ال زالت �أمه قابع ًة يف ٍ‬
‫بتحذير‬
‫ٍ‬ ‫والده وتنظر له‬
‫حلظات تقف بينه وبني ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ق�سم �أنه ر�آها منذ‬
‫النور‪ ,‬يكاد ُي ِ‬
‫‪‬‬
‫حرام لتقتل �أباك»‪� ,‬ضرب ال�سيارة بغ�ضب قبل �أن يدفع ج�سده‬
‫ل�ست ابن ٍ‬
‫«�أنت َ‬
‫بعنف ال يعرف كيف يوجهه؟‪ ,‬لقد جنا «�أنور» بعد كل ما فعل ملجرد‬
‫بداخلها ٍ‬
‫�أنه والدُه‪ ,‬ا�ستطاعت «زينبـ« �أن َ‬
‫تنقذه من بني يديه‪.‬‬
‫إنقاذ «غفران» ؟!‪.‬‬
‫فهل �ستنجح يف � ِ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ج�سدُها يئن وذهنها ينهار طلب ًا للنوم‪ ،‬جفناها يتو�سالن ال�سكوت بينما‬
‫خوفها ي�صارعهم جميع ًا ليبق َيها متيقظ ًة لكل ٍ‬
‫�صوت �أو حرك ٍة ت�شعر بها من‬
‫حولها‪ ،‬ماذا �سيحدث؟‪.‬‬
‫غليظ يخن ُقها‪ ،‬ال يقتلها وال ُيبقيها على قيد احلياة‪.‬‬ ‫�س�ؤا ٌل ُمع َّلق ٍ‬
‫بحبل ٍ‬
‫لقد نه�ضت بحذ ٍر بعد ان�صرافه وبد�أت عيناها تتجوالن يف املكان �أو ًال قبل‬
‫بالتحرك‪ُ ،‬خطواتها ثقيل ٌة ب�سبب ال�سل�سلة احلديدية املُكبلة‬
‫ِ‬ ‫�أن ت�سمح لقدميها‬
‫لإحدى قدميها‪ ،‬جرت عيناها على طول ال�سل�سال حتى توقفت عند احللق ِة‬
‫احلديدية املثبتة بطرف نهايتها يف احلائط‪ ،‬ماذا يريد اجلميع منها؟ ملاذا‬
‫يجب دائم ًا �أن ُيذ ِّيل �إم�ضا�ؤها ك�شوف ح�سابات الآخرين؟‪.‬‬
‫�صغرها وهي تدفع احل�ساب عنهم‪ ،‬يلومونها لكونها �أنثى‪ ،‬يلومونها‬ ‫منذ ِ‬
‫عن نظرات الرجال لها ثم يعاقبونها لطمع �أخيها بها‪ ،‬و ُتـن َفى لدى خالتها‬
‫ليعود هو �إىل عر�ش املنزل َم ِلك ًا ُمتوج ًا كما كان‪� ،‬إال �أن اجلارية لي�ست هنا‬
‫لتلبي نزواته الدنيئة‪.‬‬
‫ُك ِ�س َرت ذراعها ثم قد ُمها كالذين ي�سعون يف الأر�ض ف�ساد ًا ملجرد رغبتها‬
‫�شحيح ثمن ًا ل�سكوته‪ ،‬و�أخري ًا ها هي �أ�سري ٌة ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫يف قول احلقيقة‪ُ ،‬خ ِطبت ٍ‬
‫لكهل‬
‫عنده‪ ،‬حتى هو ظل َمها و�أجربها على دفع الثمن‪ ،‬ولكن هذه املرة ال تعرف كم‬
‫�ستدف ُع ؟ وعن � ٍّأي منهم �ستدفع الثمن ؟ !‪.‬‬
‫‪‬‬
‫جدران �أخرى �أكرث َ�سع ٍة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫جرت قدميها ب ُبطءٍ خارج ا ُ‬
‫جلدران ال�ضيقة �إىل‬
‫جلدران يف اخلارج َمطلي ٌة بنف�س اللون‪ ،‬ال نوافذ على‬ ‫بف�ضول حولها‪ ،‬ا ُ‬
‫ٍ‬ ‫نظرت‬
‫الإطالق �سوى واحد ٍة مرتفع ٍة حتى قار َب ِت ال�سقف كما هو احلال يف غرفتها‪،‬‬
‫نقاط �سوداء‪ ،‬كل‬ ‫ببالط قد ٍمي حتفره ٌ‬ ‫يبدو �أنه خمز ٌن مهجو ٌر‪ ،‬فالأر�ض ُمغرب ٌة ٍ‬
‫منجد بك�سو ٍة كانت‬
‫عري�ض ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫هذه امل�ساحة الوا�سعة فارغة متام ًا �سوى من ٍ‬
‫مقعد‬
‫املواجه لها مبا�شر ًة �إال �أنه بعي ٌد جد ًا‬
‫يوم ما‪ ،‬جماو ٍر للباب الكبري ِ‬ ‫حمراء يف ٍ‬
‫مقارن ًة بطول ال�سل�سلة اخلانقة لقدميها‪ ،‬الباب حديدي عري�ض جد ًا يكفي‬
‫ملرور �سيار ٍة من خالله‪.‬‬
‫هل كل هذه االحتياطات والتح�صينات من �أجلها ؟ غري مهم كل هذا‪ ،‬ال‬
‫�أهمية له بجوار م�صريها املجهول الذي ينتظرها ‪.‬‬
‫هل تخا ُفه بالفعل؟ �س�ؤا ٌل �آخر لي�س له �إجاب ٌة‪ ،‬الظاهر �أنها �أ�صبحت‬
‫بيدق ًا على ُرقع ٍة يف ُلعب ٍة ما يديرها ٌ‬
‫حبيب �ساب ٌق �إال �أنها ال تعلم متى �سيبد�أ‬
‫ا�ستخدامها؟‪ ،‬ويف �أي االجتاهات �سيتم الدفع بها‪ ،‬احلقيقة �أن كل الطرق‬
‫نهايتها ُم�شتعل ٌة وهي يف الو�سط متام ًا‪.‬‬
‫حاجتها ال�ستخدام احلمام هي ما جعلتها تدير ر�أ�سها ميين ًا‪ ،‬لقد مت‬
‫بباب خ�شبي �صغ ٍري‪ ،‬يت�سع‬
‫ا�ستبدال ال�ستارة التي كانت تغطي باب احلمام ٍ‬
‫جدران خ�شبية‪ ،‬والرابع جدار الغرفة التي ت�ض ُّم‬
‫ٍ‬ ‫قلي ًال عن ُعلبة الثقاب‪ ،‬ثالثة‬
‫�سريرها‪.‬‬
‫مدت يدها لتفتح الباب �أكرث لت�ستطيع املرور من خالله ففتح الباب �إىل‬
‫فولت داخله بحذ ٍر بينما �صل�صلة احلديد الرتيبة على الأر�ض تتب ُعها‬
‫اخلارج ِ‬
‫وتذكرها بو�ضعها املرير‪ ،‬حاولت �إغالق الباب جيد ًا‪ ،‬ودارت ن�صف دورة حول‬
‫نف�سها لتواجه املر�آة ال�صغرية جد ًا املعلقة مب�سمار فوق حو�ض الغ�سيل الأكرب‬
‫منها قلي ًال‪.‬‬
‫‪‬‬
‫هل ر�ؤية الكدمات جتلب �أمل ال�شعور بها ؟‪ ،‬تورم ب�سيط بجانب عينها‬
‫الي�سرى حتول �إىل اللون الأزرق الداكن جعلها تت�أمل حتى قبل �أن ترفع �إ�صبعها‬
‫وت�ضغطه بتفح�ص‪� ،‬شعرها م�شعثٌ حول وجهها وو�ضعه ُمز ٍر جد ًا ‪ ..‬هل ر�آها‬
‫هكذا؟‪ ،‬ال بد �أنه اكت�شف اخل�صالت املموجة والأطراف املتق�صفة ‪..‬‬
‫�أنت جمنونة بالت�أكيد‪ ،‬هل هذا وقت تقييم املظهر؟‪ ،‬ماذا �سيفيدك �إن كان‬
‫أمل�س بينما هو يقتلك‪ ،‬الأنثى هي الأنثى ‪ ..‬حتى و�إن كانت يف �ساحة‬
‫�شعرك � َ‬
‫احلرب رمبا ال تخ�شى �أن ُتق�صف مبدفعية بقدر ما تخ�شى �أن ي�سوء مظهرها‬

‫‪y‬‬
‫�أمام من حتب ‪ ..‬و�إن كان من الأعداء !‪.‬‬

‫‪‬‬
‫عندما عاد �إليها كان يف عنفوان ثورته حمم ًال بكل الإخفاقات‪ ،‬مل يقتله‬
‫كما �أراد وكما خطط وا�ستعد منذ �أيام‪ ،‬ترك عنقه ب�إرادته‪ ،‬تركه يتنف�س‬
‫احلياة من جديد‪ ،‬ف�شل يف مهمته الثانية‪� ،‬أول ف�شل يواجهه منذ �أن تغري‪،‬‬
‫و�أ�صبح �شخ�ص ًا �آخر ال يرحم وال يريد �أن يرحم �أحد ًا على الإطالق‪.‬‬
‫�أراد �أن ينفث نار الهزمية الأوىل فوق ر�أ�سها هي‪� ،‬أخت «رمزي» هي املتاحة‬
‫�أمامه الآن كعر�ض جماين؛ فلقد ن َّف�ض كل الأماكن التي يرتادها �أخوها ومل‬
‫يجده‪.‬‬
‫حاول احل�صول على � ّأي معلومة تفيد مبكان خمبئه ومل ينجح‪ ،‬مل ي َره �أحد‬
‫من �أ�صدقائه منذ فرتة لي�ست بالق�صرية‪ ،‬حتى والده يبحث عنه ويت�ساءل ‪..‬‬
‫هكذا �أخربوه �صادقني ب�إرادتهم �أو رغم ًا عنهم ‪� ..‬صديقاه اللذان �شهدا زور ًا‬
‫�ضده يف الق�ضية‪.‬‬
‫مدان من الق�ضية‬
‫قاال كل ما لديهما من �أخبار عنه منذ �أن خرج غري ٍ‬
‫وعاد �إليهما منت�صر ًا‪ ،‬بينما دماء «�سلمى» امل�سكينة ال زالت تقطر من يديه‪،‬‬
‫عاد �إليهما ب�ضمري منعدم �أكرث مما كان‪ ،‬يريد �أن يفرت�س اجلميع وقد ت�أكد‬
‫�أنه ال رادع له ‪ ..‬والربكة يف �أبيه وهذا القانون املليء بالثغرات‪ ،‬مبارِك ًا خطوبة‬
‫ال�صغرية على الكهل‪.‬‬
‫مبجرد الإفراج عنه �أخذه والده عند �أحد �أقربائه يف حمافظة �أخرى؛‬
‫ليخفيه عن الأعني لفرتة‪ ،‬وبعد �أن �أنهى كل اتفاقاته املُخزية �أعاده من ٍ‬
‫جديد‬
‫‪‬‬
‫الذ َكر الوحيد �أمام عينيه حر ًا طليق ًا وال يه ُّم �أي‬
‫لأح�ضانه‪ ،‬يتمتع بوجود ولده َّ‬
‫�شيء بعد ذلك وال حتى �أن يحرتق العامل ب�أكمله‪.‬‬
‫عاد «رمزي» ل�شقاوته املعهودة و�أدواره التمثيلية البارعة التي يح�صل بها‬
‫على ما يريده‪ ،‬ينتقل من عمل لآخر ي�سحب الأموال من والده متوغ ًال �أكرث يف‬
‫عامل املخدرات ويتجر�أ �أكرث على الفتيات‪� ،‬أو مبعنى �أدق كل ما هو �أنثى وبكل‬
‫الطرق املقززة‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫كانت تفرت�ش جزء ًا من غطاء ال�سرير على الأر�ض املغربة تتخذه مو�ضع ًا‬
‫لل�صالة‪ ،‬وبينما هي م�ستغرق ٌة يف �صالتها ا�ستمعت �إىل �صرير الباب اخلارجي‬
‫ُيفتح فج�أة بقوة فانتف�ض ج�سدها �أثناء ال�سجود‪ ،‬ولكنها تابعت معتدلة �إىل‬
‫و�ضع اجللو�س وعندما وقفت لتكرب دمعت عيناها رهب ًة وخوف ًا بينما قلبها‬
‫يناجي ربها؛ ليخل�صها مما هي فيه‪.‬‬
‫بعنف �أرعبها‪ ،‬وجعلها رغم ًا عنها ت�شهق‪ ،‬وتخت�ض فزعة‬ ‫فتح باب غرفتها ٍ‬
‫وت�ستدير نحوه بج�سدها بالكامل وقد قطعت �صالتها‪ ،‬عندما وقعت عيناها‬
‫عليه عادت بظهرها �إىل الزاوية بني اجلدار و�أحد �أعمدة ال�سرير وا�ضعة‬
‫كفها على �صدرها وقد �شعرت بخافقها يتقافز بني �ضلوعها بهيئته التي‬
‫للحظات حماو ًال ا�ستيعاب ما كانت تفعله‬
‫ٍ‬ ‫اقتحم بها الغرفة‪ ،‬وقف ينظر �إليها‬
‫قبل اقتحامه للغرفة‪� ،‬إحدى كفيه كانت تعت�صر مقب�ض الباب بينما الأخرى‬
‫منب�سطة عن �آخرها و�أ�صابعها متباعدة بت�شنج وك�أنه ي�ستع ّد ل�صفعها‪� ،‬أنفا�سه‬
‫مت�سارعة يناظرها بانتقام يريده‪.‬‬
‫�أخري ًا ا�ستطاع ا�ستيعاب �أنها كانت ت�صلي وقد ل َّف ْت حجابها ب�إتقان حول‬
‫متدل على الأر�ض بغري ترتيب‪.‬‬‫ر�أ�سها‪ ،‬وجز ٌء من املالءة ٍّ‬
‫هل تت�صور مث ًال �أنها ت�ستجلب عطفه بتلك الطريقة؟ !‪ ،‬اندفع نحوها بهياج‬
‫جال�س ًا القرف�صاء �أمامها‪ ،‬بينما كفه املت�شنجة ترتفع لتقب�ض على رقبتها‬
‫لتخنقها‪ ،‬وقد توهجت ال�شرا�سة يف مالحمه كلها ولي�س فى عينيه فقط وهو‬
‫يهدر بعنف‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أين هو ؟ �أين خب�أمتوه ؟‪.‬‬
‫�شحب وجهها‪ ،‬بينما ال ت�ستطيع التنف�س والطنني يزداد جلبته ارتفاع ًا يف‬
‫بعنف �أكرب‬
‫�أذنيها‪ ،‬عيناها جاحظتان‪ ،‬وال�شهقات ال تتوقف وهو يكرر �س�ؤاله ٍ‬
‫بينما ي�ضغط حلقها ب�أ�صابعه‪.‬‬
‫كيف ا�ستطعتم �أن تخفوه بهذه الب�ساطة وك�أنه َّ‬
‫تبخر؟ انطقي‪� ..‬أين‬
‫هو؟‪.‬‬
‫كانت قاب�ض ًة بهما على ر�سغه يف حماولة‬
‫بد�أ الدوار يهاجمها ويداها اللتان ْ‬
‫منها لإبعاد كفه عن حلقها ترتاخيان‪ ،‬واللون الأزرق يزحف على �شفتيها ببطء‬
‫وقد �سلمت �أنها قتيلته ال حمالة‪� ،‬ضعفت �شهقاتها املرتجية للهواء وخارت‬
‫قوتها‪ ،‬ويف حلظة تركها دافع ًا �إياها جانب ًا ‪ ..‬بد�أت ت�س ُعل بقوة مم�سكة بحلقها‬
‫وهي ال ت�صدق دفعة الهواء التي جرت �إىل رئتيها بغت ًة؛ لتعيدها �إىل احلياة‬
‫من جديد‪.‬‬
‫لكنه مل يرح ْمها ‪ ..‬الق�سوة تغلف قلبه بربودة ال جتعله يفرق بني بريء‬
‫ومتهم‪� ،‬أو ظامل ومظلوم‪ ،‬اجلميع عنده الآن �شركاء فيما حدث له �إن مل يكن‬
‫بالفعل‪ ،‬فبال�سكوت‪.‬‬
‫ليجدك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�ستظلني معي هنا حتى يخرج الف�أر من خمبئه‬
‫وعلى طريقة الزهرة التي نبتت بني ال�صخور ابت�سمت ابت�سامة �ضعيفة‬
‫و�ساخرة على طرف �شفتيها اللتني ا�ستعادتا احمرارهما الطبيعي‪ ،‬تلك‬
‫االبت�سامة التي �أغ�ضبته معتقد ًا �أنها ت�سخر منه وهي يف تلك احلالة املُزرية‪،‬‬
‫قب�ض على كتفيها و�أوقفها عنو ًة على قدميها مثبت ًا عينيه على وجهها الذي‬
‫ان�سحبت منه الدماء جمدد ًا‪ ،‬وهو يهم�س ٍ‬
‫بغل وا�ضح ‪:‬‬
‫‪‬‬
‫�أت�سخرين مني ؟!‬
‫�سريع ًا حركت ر�أ�سها نفي ًا قبل �أن يتهور قائلة‪:‬‬
‫ال‪ ،‬ال‪� ..‬أبد ًا ‪ ..‬مل �أق�صد ذلك‪.‬‬
‫�ضغط كتفيها بقوة �أكرب جعلها تت�أمل مغم�ض ًة عينيها‪ ،‬وهو يت�ساءل بنربة‬
‫مهددة مر�س ًال �إليها �أنفا�سه امل�شتعلة حترق وجهها‪:‬‬
‫ابت�سمت �إذن ؟‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ملاذا‬
‫بال �إرادة منها رفعت كفيها لتدفعه لالبتعاد عنها‪ ،‬ولكنها افتقدت القوة‬
‫لذلك فا�ستقرتا على �صدره مرتع�شتني وهي تف�صح بنرب ٍة مت�أملة‪:‬‬
‫�أنت ال تفهم ‪� ..‬أنا ال �أ�ساوي �شيئ ًا لديهم‪ ..‬رمزي لن يظهر �أبد ًا‪ ..‬وال‬
‫يهمه �سالمتي يف �شيء من الأ�سا�س حتى ولو هددتهم بقتلي‪ ..‬والدي‬
‫لن ي�ستجيب �إىل � ّأي تهديد قد ي�ؤذي ولده الغايل حتى ولو كنتُ �أنا‬
‫ال�ضحية‪� ..‬سيبلغ ال�شرطة ويغامر بحياتي فدا ًء له‪.‬‬
‫اخلوف يف حديثها كان ممتزج ًا مبرار ٍة ذابح ٍة‪ ،‬كانت قد اعتقدت ب�أنها‬
‫اعتادت على ذلك ال�شعور ولكن ما دام املنبع يفي�ض فتظل االنك�سارات‬
‫القدمية تن�ضح ب�صديدها يف منا�سبات م�شابهة ت�صب جميعها نحو الهزمية‬
‫الأوىل دائم ًا‪ ،‬فالهزمية الأوىل هي املنبع الذي ال ين�ضب �أبد ًا‪� ،‬إنه �أ�صل كل‬
‫اخليبات والهزائم‪ ،‬ولواله ما كنا هنا الآن نعاين من تبعاته‪.‬‬
‫ال تعلم «غفران» متى ابتعد عنها حتديد ًا؟‪ ،‬كل ما وجدته عندما عادت‬
‫بذهنها امل�شو�ش �إليه �أنه كان يخطو �إىل اخللف وقد طغى التوتر فوق مالحمه‬
‫وك�أنه يعيد ح�ساباته من جديد وهو يقول بحري ٍة حقيقية‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ ملاذا ؟‪.‬‬
‫غاللة �سوداء من الدموع غطت حدقتيها‪ ،‬وهي ترفع كتفيها املت�أملتني‬
‫وتخف�ضهما بحرية �أكرب من حريته‪:‬‬
‫ال �أعرف ‪ ..‬هكذا !!‬
‫الدموع التي هطلت على وجنتيها كاملطر‪ ،‬وانك�سار روحها �أمامه وهي‬
‫حتكي عن نبذ عائلتها لها‪ ,‬ذ َّك ْرته مبا�ضيه‪ ,‬ب�شخ�ص كان يعاين نف�س املعاناة‬
‫وال يعرف �أي�ض ًا ‪ ..‬ملاذا؟ ‪ ..‬مثلها متام ًا‪.‬‬
‫مل ُي ِلق عليها حتى نظرة �أخرية‪ ,‬خرج على الفور مغلق ًا الباب خلفه‪ ،‬ال‬
‫وقت للتعاطف واملقارنات‪ ،‬لو كان كالمها �صحيح ًا‪ ،‬ف�ستكون كارثة‪ ،‬كل خططه‬
‫�ستنقلب ر�أ�س ًا على عقب و�سيكون قد احتجزها دون فائدة‪.‬‬
‫ولكن مه ًال ‪ ..‬لن ي�ست�سلم هكذا �سريع ًا‪� ،‬سي�ستنـزف والدها لآخر ٍ‬
‫رمق‬
‫وبكل و�سيلة ممكنة‪� ،‬إن مل يكن التهديد بالقتل ي�ؤتي نفع ًا فهناك تهديدات‬
‫�أخرى �ستكون مثمر ًة ‪.‬‬
‫عادت �إليه روح العناد والقتال جمدد ًا‪ ،‬وقد اختفى تعاطفه معها متام ًا‪ ،‬ال‬
‫مكان لل�ضعفاء‪ ،‬فتح بابها مرة �أخرى ووقف م�ستند ًا �إىل حافته يبادلها النظر‬
‫بينما هي مت�صلبة كالتمثال ال يتحرك فيها �سوى دموع عينيها املنهمرة فقط‪،‬‬
‫وبعد مرور حلظات من ال�صمت‪ ،‬قال ب�صوت �آمر جمد الدماء يف عروقها‪:‬‬
‫حجابك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اخلعي‬

‫‪y‬‬ ‫‪‬‬
‫رد شرف‬

‫لقد ُقتال بنف�س الطريقة تقريب ًا‪.‬‬


‫نطق بها «عا�صم» وهو ميرر عينيه فوق ال�صور امللتقطة جلثتيهما‪� ،‬شاهني‬
‫و�سيد‪ ،‬امل َّت َه َم ْي �سابق ًا بقتل الطفل ال�صغري ثم االعتداء عليه‪ ،‬تلك الق�ضية‬
‫التي مل ين�سها عا�صم �أبد ًا‪ ،‬مل َ‬
‫ين�س احلاجة «جليلة» املر�أة ال�صعيدية ذات‬
‫ال�شكيمة وال�سل�سال احلديدي الغام�ض الذي يلف رقبتها‪ ،‬وعبارتها التي مل‬
‫ُي ِلق لها با ًال وقتها‪ ،‬ولكنها الآن ت�صرخ وتتقافز يف ذاكرته‪:‬‬
‫ال�سل�سال احلديدي عادة قدمية يا ح�ضرة ال�ضابط‪ ..‬ال نخلعه حتى‬
‫ترتاح روح قتيلنا يف قربه‪.‬‬
‫�ضيق عينيه برتكيز فوق اخلنق الوا�ضح حول رقبتيهما‪ ،‬بينما م�أمور‬
‫ال�سجن يقف بجواره حماو ًال �سماع ما يهم�س به‪.‬‬
‫لقد ا�ستدعاه ب�شكل غري ر�سمي؛ لأ َّنه قد قام بالتحقيق مع القتيلني من قبل‬
‫وقد ي�ساعده يف بع�ض املعلومات خ�صو�ص ًا �أن اجلاين مل يرتك خلفه � ّأي �أثر �أو‬
‫دليل يدالن على �شخ�صيته‪ ،‬وال يوجد لديه �سوى �أقوال ال�سجني الذي عرث على‬
‫جثتيهما يف حمامات ال�سجن‪.‬‬
‫‪‬‬
‫الأمر كله م�ستحيل‪ ،‬اجلميع ينكر ر�ؤية �أو معرفة �أي �شيء‪ ،‬امل�شاهدات‬
‫الأخرية لهما متطابقة وكلها تدور حول نف�س اللقطة‪� ،‬شاهدهما اجلميع‬
‫يتوجهان �إىل احلمام بخطوات �سريعة وك�أنهما يت�سابقان يف الوقت القليل‬
‫املتبقي قبل موعد عودتهما �إىل العنابر مرة �أخرى‪ ،‬وبطريقة �أو ب�أخرى مل يكن‬
‫احلمام مزدحم ًا كعادته وك�أن الأمر قد �أُع ّد لتلك اجلرمية‪.‬‬
‫لقد مت خنقهما ب�سل�سلة من معدن �صلب‪ ..‬بعد �ضرب مربح على‬
‫ر�أ�سيهما بعنف �شديد و�أن القاتل �شخ�ص واحد كما رجح تقرير الطب‬
‫ال�شرعي‪.‬‬
‫كان «عا�صم» ما زال يتفح�ص �صور اجلثتني حتى �سقطت عيناه على‬
‫ال�صورة الأخرية التي مت التقاطها لكلمتني مت نق�شهما ب�آلة رفيعة حادة على‬
‫ظهريهما بدمائهما ‪« ..‬رد �شرف»!‬
‫بينما م�أمور ال�سجن يتحدث بتفا�صيل تتج�سد �أمام عيني «عا�صم» ويراها‬
‫ر�أي العني ك َمن كان حا�ضر ًا يف نف�س اللحظة التي وقعت فيها‪ ،‬يراهما يندفعان‬
‫جتاه احلمامات ال�ضيقة بالداخل ثم يرتاجعان بقوة �إىل اخللف على �إثر �ضربة‬
‫�شديدة تلقياها تباع ًا يف وجهيهما‪ ،‬ثم تبعتها �ضربات متتالية حتى مت �إنهاكهما‬
‫متام ًا‪ ،‬و�سقط �سيد فاقد ًا لوعيه مما �أتاح للقاتل فر�صة �أن يجهز على �شاهني‬
‫مبتدئ ًا به‪ ,‬وعندما انتهى من خنق كليهما �أم�سك ب�سكني حاد ٍة ونق�ش الكلمتني‬
‫على ج�سديهما‪.‬‬
‫الأمر لي�س انتقام ًا فقط‪ ,‬هناك ر�سالة يتم بثها �إىل َمن يهمه الأمر‪� ..‬أو‬
‫من تراوده نف�سه ليفعل ما فعاله �سابق ًا؟! ‪.‬‬
‫هل كانت لهما عداوات مع �أحد من امل�ساجني هنا؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�ش َّبك م�أمور ال�سجن �أ�صابع كفيه خلف ظهره وهو ي�سري ببطء بجوار‬
‫«عا�صم» مفكر ًا قائ ًال ببديهية‪:‬‬
‫اجلميع لديه عداوات هنا يا عا�صم‪ ..‬و�أنت تعلم ذلك جيدً ا‪ ..‬وعلى‬
‫الرغم من ذلك مل مينحني التحقيق ا�سم ًا ل�شخ�ص واحد �أ�ستطيع‬
‫�أن �أتهمه بقتلهما‪ ...‬لذلك �س�أ�صارحك ب�أمر غريب يخطر على بايل‬
‫بقوة‪ ..‬جمرد خاطر ال �أعلم م�صدره‪� ..‬أ�شك �أن لأحد ال�ضباط هنا يد ًا‬
‫يف املو�ضوع‪ ..‬فالتكتم الذي �أراه بعيني يف �أقوال ال�سجناء يوحي ب�سلطة‬
‫ما عليهم‪.‬‬
‫رفع «عا�صم» عينيه فج�أ ًة عن ال�صور‪ ،‬مت�أم ًال بتوتر التجهم الوا�ضح‬
‫الذي �أ�صبح جزء ًا �أ�صي ًال من مالمح وجه م�أمور ال�سجن املعروف عنه الذكاء‬
‫والفطنة منذ �سنوات ومل يحدث يف عهده مثل تلك اجلرائم ومتر دون ِّ‬
‫حل‪.‬‬
‫كان البد من �أن يت�صرف «عا�صم» ب�سرعة لي�صرف ذهن امل�أمور عن تلك‬
‫اخلطرة‪ ,‬فقال �سريع ًا‪:‬‬
‫اخلاطرة ِ‬
‫�أعلم �أنني ل�ست جهة التحقيق‪ ..‬ولكن �أريد �أن �أقابل امل�ساجني الذين‬
‫�أدلوا ب�أقوالهم بنف�سي‪ ..‬فلرمبا نعرث على �شيء ما قد يفيدنا‪.‬‬
‫�أوم�أ م�أمور ال�سجن بر�أ�سه موافق ًا بالرغم من التوتر الذي الحظه على‬
‫وجه «عا�صم» بطريقة مثرية لل�شك‪ ,‬ولكنه �صرفه عن ذهنه قبل �أن يكتمل؛‬
‫ف�أ�سا�س ًا هو َمن ات�صل به بداي ًة من �أجل احل�صول على تعاون مثمر‪ ،‬جمرد‬
‫حماولة �أخرية قبل غلق الق�ضية وتقييدها �ضد جمهول كما يحدث دائم ًا يف‬
‫عامل ال�سجون الذي ي�شبه كثري ًا العامل اخلارجي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫رئي�س وتابعون ال ميلكون من �أمرهم �شيئ ًا وال يقدرون على قول (ال)‬
‫و�ضعفاء يقدمون فرو�ض الطاعة والوالء ال ل�شيء �إال لفر�صة احل�صول على‬
‫حياة �أيا كانت طبيعتها‪ ،‬املهم �أن تكون حياة ال �أكرث وال �أقل ‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫يف بيت «حافظ رمزي» وعلى الأريكة ال�ضخمة التي حتتل �أقل من ن�صف‬
‫ال�صالة تقريب ًا جتل�س اخلالة العجوز م�ستندة بكفيها �إىل عكازها املواجه لها‬
‫متام ًا وعلى وجهها خليط من الع�صبية والت�أ ُّفف وقليل من القلق‪ ،‬ملاذا يدفعون‬
‫بها دائم ًا �إىل ِح َممِ هم امل�شتعلة؟‪� ،‬أال يكفي فتاتهم البائ�سة التي �ألقوا بها يف‬
‫بيتها بحجة خدمتها متحملة حاالت بكائها املتوا�صلة والتعا�سة املالزمة ملالمح‬
‫وجهها منذ �أن خطت �أوىل خطواتها لباب بيتها ك�شريكة �سكن ب�شكل م�ؤقت؟‪.‬‬
‫ري فيهما وهي‬
‫ابت�سامة �ساخرة تركت طرف �شفتيها تبعها التوا ٌء كب ٌ‬
‫ُمت�صم�صهما ِب َ�سخط وتكرر هام�سة بعدم ر�ضا «ب�شكل م�ؤقت» ‪.‬‬
‫أق�سمت به �أختها ال�صغرى وهي جتثو �أمامها على ركبتيها منذ‬ ‫هذا ما � ْ‬
‫ثالث �سنوات بينما الدموع تغرق وجهها ترجوها �أن تقبل «غفران» �ضيفة‬
‫عندها م�ؤقت ًا حتى يوافق «رمزي» على العودة �إىل املنزل مرة �أخرى فوالده‬
‫َ�س ُي َـجنّ وهو يراه يعمل �صبي ميكانيكي يف الور�شة الكائنة بطرف احلي مف�ض ًال‬
‫�إياها على العودة لبيته‪� ،‬إنها تخ�شى على ولدها ويف نف�س الوقت لن تقوم ب�إلقاء‬
‫اتفقت عليه مع زوجها‬
‫ْ‬ ‫ابنتها يف الطريق من �أجله‪ ،‬فكان احلل الوحيد الذي‬
‫�أن تخرج «غفران» ملدة ي�سرية من املنزل حتى تهد�أ الأمور متام ًا ثم تعود بعد‬
‫كربت يف العمر‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬ب ِق َي فقط موافقة اخلالة امل�شهورة بعنادها املتزايد كلما ْ‬
‫جت كل بناتها وارتاحت من عبئهنَّ ‪ ،‬فهل تفتح بيتها الآن لفتاة مراهقة‬ ‫لقد ز َّو ْ‬
‫تتهم �أخاها بالتحر�ش بها ؟! ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫فتاة قليلة الأدب ت�ستحق القتل ال الطرد فقط !!‪.‬‬
‫وقتها رف�ضت اخلالة مرار ًا‪ ،‬ولكن �أ ّم «غفران» مل تي�أ�س �أبد ًا‪ ،‬جاءتها يوم َّي ًا‬
‫تبكي حتت قدميها‪ ،‬تار ًة تعدُها ب�أن «غفران» �سيتم �سحب �أوراقها من املدر�سة‬
‫ولن يكون �شغلها �سوى خدمتها فقط‪ ،‬وتار ًة �أخرى تتعهد لها ب�أنهم �سيتكفلون‬
‫بطعامها و�شرابها ولن تكلفها ِم ِّليم ًا واحد ًا‪� ،‬أي �أنها �ستكون مبثابة خادمة بال‬
‫�أجر وال حتى بلقْمتها‪ ،‬جمرد غرفة وفرا�ش فقط‪.‬‬
‫العر�ض كان ُمغري ًا جد ًا ول�صاحلها يف كل الأحوال‪ ،‬وكان من ال�صعب‬
‫فوافقت �أخري ًا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫عليها رف�ضه يف هذه احلالة‬
‫حمطمة‪ ،‬حرموها‬‫ووجه مظلم وروح َّ‬
‫دخلت عليها «غفران» بحقيب ٍة �صغري ٍة ٍ‬
‫من ا�ستكمال درا�ستها ُمل ِق ْي بها يف بيت خا َلتها العجوز لتعمل خادمة لديها‪،‬‬
‫وكل ذلك ليعود �إليهم فتاهم املد َّلل ‪َّ ..‬‬
‫الذكر الوحيد يف قف�ص الإناث ‪.‬‬
‫حتى جاء اليوم الذى مل تعد فيه النفقات تكفي‪ ،‬فـ «رمزي» ُز َّج به يف‬
‫ق�ضية قتل‪ ،‬يالهذه العائلة البائ�سة!‪ ،‬الكون كله اجتمع لينزع منهم وحيدهم‬
‫وما زاد الطني ب َّلة �أن �أخته املت�آمرة تريد �أن تذهب لت�شهد �ضده يف تلك‬
‫الق�ضية التي ال تعلم عنها �سوى حمادثة ج َر ْت بني والديها لي ًال‪ ،‬لقد وقفت‬
‫متبجحة ب�أن «ح�سن» ال ميكن �أن يفعل هذه الفعلة ال�شنعاء‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع‬
‫ونالت ما ت�ستحقه‪،‬‬
‫�أن تكمل وقفتها فوالدها قد قام معها بالواجب وزيادة ْ‬
‫ك�س ٌر يف �إحدى قدميها ويدها اليمنى‪ ،‬وبالرغم من �أنها كانت ت�ستحق ولكن ‪..‬‬
‫يالـلم�صيبة ‪َ ..‬من �سيخدمها الآن ؟‬
‫فا�ضط َّرت الأم �أن حت�ضر �إليهما يومي ًا وتق�ضي اليوم كله يف خدمتهما‬
‫ودموع عينيها ال جتف على تلك احلالة التي و�صل �إليها اجلميع نادب ًة َّ‬
‫حظها‬
‫ال َع ِث‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وبعد �أن م َّرت الأ�شهر ال�صعبة واكتمل �شفاء «غفران» وعادت �إىل ر�شدها‪،‬‬
‫طلبت �أن تخرج للعمل لتك�سب قوتها بنف�سها خم ِّففة العبء عن والدها‪ ،‬الغبية‬‫ْ‬
‫لرجل عجوز على و�شك املوت‪� ،‬صحيح �أنه‬‫ال تريد �أن ت�ستفيد �أبد ًا من خطبتها ٍ‬
‫�شحي ٌح ولكنه مقتدر ميلك ور�شة ومنز ًال من طابقني‪ ،‬يوم ًا ما �سيموت وي�ؤول كل‬
‫هذا لها‪َّ � ،‬إل �أنها ت�صر على العمل حتى ولو كان يف م�صنع للمالب�س حتت ال�سلم‬
‫كما يقال‪ ،‬وت�صر �أن تق�ضي ليلتها باكي ًة قبل �أن تتهاوى متهالكة يف النوم‪.‬‬
‫حتى جاء اليوم الذي مل تعد فيه «غفران» �إىل املنزل وا�ضطرتها �إىل‬
‫اخلروج لتبليغ والديها بهذا الغياب املفاجئ و�أن توقعاتها قد حدثت‪ ،‬فقد �سبق‬
‫ون َّب َهتْهما من قبل �أن الفتاة حالها متغري م� َّؤخر ًا‪ ،‬تارة تعود باكية وقد ُ�سرقت‬
‫نقودها‪ ،‬وتارة �أخرى تعود ووجهها �شاحب كالأموات‪.‬‬
‫بالت�أكيد ‪ ..‬م�سل�سل اخلطف هذا من �إخراجها‪ ،‬ولكن ما ذنبها هي؟ ‪ ..‬هي‬
‫العجوز ال�ضعيف يزعجونها هكذا ك َّل يوم‪ ،‬ي�س�ألونها عن معلومات ال تعرفها‬
‫عن الفتاة‪� ،‬إ َّنها بالكاد تتذكر وجهها ‪.‬‬
‫وبعد كل هذا ت�ضطر �إىل �أن ت�أتي كل هذه امل�سافة؛ لأنَّ �أختها ال�صغرى‬
‫�سقطت مري�ض ًة بل والأدهى من ذلك �أ َّنها حم َّملة ب�أكيا�س الفاكهة‪� ،‬أختها‬
‫ال�صغرى التي جتل�س �إليها يف هذه اللحظة �شاحبة كالأموات بينما زوجها‬
‫متحجرتني نظرة‬
‫قاب�ض على قطعة قما�ش بداخل يده ينظر �إىل الفراغ بعينني ِّ‬ ‫ٌ‬
‫تائهة ال يعلم ماذا يفعل؟‪ ،‬تلك القطعة التي كانت ترتديها «غفران» حول‬
‫ر�أ�سها يف �آخر يوم ر�أتْها فيه‪.‬‬
‫�أختها ال�صغرى التي نطقت �أخري ًا‪ ،‬وقد عال �صوتها ملرة واحدة خالل‬
‫عمرها الطويل مع زوجها‪ ،‬ت�صرخ يف وجهه بانهيار‪:‬‬

‫‪‬‬
‫معنى هذا �أنك كنت تعلم �أنها خمطوفة ومل تفعل �شيئ ًا‪ ..‬ومل تخربين‬
‫�أي�ض ًا‪ ..‬كنت تعلم �أنها يف خطر ‪ ..‬رد َّ‬
‫علي يا �أبا رمزي‪.‬‬
‫ملتفت نحوها بق�سو ٍة‪ ،‬املر�أة جتر�أت‬
‫ٌ‬ ‫منذ �أول كلمة نطقتْها �صارخة به وهو‬
‫عليه بعد كل هذا العمر وت�صرخ �أي�ض ًا يف وجهه و�أمام �أختها الكربى ال�شمطاء‪،‬‬
‫كان ي�ضغط �أ�ضرا�سه بقوة حماو ًال التَّما�سك وعندما انت َه ْت من هتافها كان‬
‫قد انتهى هو من �إر�سال نظراته املتوعدة �إليها م�شري ًا لها �أن ت�صمت و� َّإل‬
‫ف�س ُيخر�سها �إىل الأبد قائ ًال ب� ٍ‬
‫أنفا�س م�شتعل ٍة‪:‬‬
‫علي هكذا و�أمام النا�س؟ ‪..‬‬
‫اخف�ضي �صوتك يا امر�أة ‪ ..‬كيف تتجر�أين ّ‬
‫آتيك بها عاج ًال �أو �آج ًال‪ ،‬فال �أريد �سماع كلمة �أخرى‪.‬‬
‫ابنتك �س� ِ‬
‫ِ‬
‫ولكنّ املر�أة كانت قد خرجت عن ال�سيطرة متام ًا عندما �صدمها حديثه‬
‫عرب الباب املفتوح ن�صفه مع «�صفوان» منذ قليل دون �أن ي�شعر بها خلفه ت�ستمع‬
‫�إىل كل كلمة ُتقال بينهما وهو مي ُّد يده ب ِلفافة �صغرية نحو «�صفوان» قائ ًال‬
‫بنرب ٍة مهدِّ دة‪:‬‬
‫لقد وعدتني �أن جتده يا �صفوان ومل تفعل وها هي النتيجة ‪� ..‬أر�سل �إ ّ‬
‫يل‬
‫حجاب ابنتي وهذا لي�س له �سوى معنى واحد ‪..‬‬
‫بينما «�صفوان» يقاطعه بنرب ٍة هادئ ٍة ي�شوبها بع�ض التوتر‪:‬‬
‫اهد�أ يا حافظ‪� ..‬إنه يهددك فقط‪ ..‬فلو كان يريد �أذاها َ‬
‫لفعل ‪ ..‬كل‬
‫هم ِه هو �إيجاد رمزي وتهديده هذا يدل على �أنه مل يجده حتى الآن‬
‫وهي نقطة يف �صاحلك‪.‬‬
‫وابنتي ؟!‬

‫‪‬‬
‫�أتاها �صوت «�صفوان» وقد ح َّلت ال�سخرية مكان التوتر فيه‪ ،‬بينما ما زال‬
‫حمتفظ ًا بهدوئه‪:‬‬
‫وخفت‬ ‫َ‬
‫ن�صحتك من البداية �أن ُت َب ِلغ عن اختفائها ولكنك مل تفعل ِ‬ ‫لقد‬
‫من الف�ضيحة حتى زوجتك مل تخربها‪.‬‬
‫هل تريد �أن يتكلم النا�س عن �شريف و�سمعتي يا �صفوان؟ ‪� ..‬أال تعلم‬
‫ماذا ُيقال عن الفتاة التي يتم خطفها حتى ولو مل مي�سها �سوء؟ ‪� ..‬إنك‬
‫ال ت�ساعد يف �شيء على الإطالق يا �صفوان‪.‬‬
‫اخل�شنة الغا�ضبة وهو يقول‪:‬‬
‫ق�صف �صوت «�صفوان» �أذنيها بنربته ِ‬
‫�أنا مل �أ�ساعدك يف �شيء على الإطالق يا حافظ!‪ ..‬لقد بعتُ �أنور من‬
‫�أجلك واتفقت معك �ضد م�صلحته‪ ،‬وتالعبت بعقله فر�ضي بخطوب ٍة‬
‫مزعوم ٍة لثالث �سنوات كاملة‪ ..‬هل ن�سيت كل هذا يا حافظ؟!‬
‫َ‬
‫مل�صلحتك �أنت يا �صفوان‪� ..‬أم ن�سيت �أنت املقابل‬ ‫�أنت فعلت كل هذا‬
‫الذي طلبته مني ب�صفتي موظف ًا يف ال�شهر العقاري؟!‪.‬‬
‫عند هذه النقطة مل يعد يف مقدرتها الوقوف على قدميها �أو ال�شعور ب�أي‬
‫�شيء �سوى بدقات قلبها املت�سارعة والذهول التام ومن بعده �سقوطها املدوي‬
‫هاتف ًة با�سم ابنتها التي كانت تظن �أ َّنها هربت‪.‬‬
‫وعندما �أفاقت �شاهق ًة تنادي على ابنتها «غفران» وجدت �أختها العجوز‬
‫بجانبها حتاول تهدئتها بنزق‪.‬‬
‫الفتاة �ستعود ‪� ..‬ستعود ‪ ..‬فهي ب�سبع �أرواح‪ ..‬فالفتيات ال ْ َ‬
‫ميت عاد ًة‬
‫قبل �أن ُيهل ْكنَ ك َّل عائلتهنَّ فرد ًا فرد ًا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫فقد ْت والدة «غفران» �سيطرتها على عقلها‪ ،‬وبد�أت تهذي منادية‬ ‫وهنا َ‬
‫على ابنتها بينما العجوز تغ�سل يدها من الق�ضية بر َّمتها وتخربها ب�أن زوجها‬
‫هو ال�سبب؛ لأ َّنه ترك لها احلبل على الغارب من البداية‪ ،‬والآن ال يريد �أن‬
‫يبلغ ال�شرطة حتى جاءه حجابها عند بابه مكتوب ًا فوقه بال�شحم الأ�سود ‪....‬‬
‫«غفران = رمزي»‬
‫فهم «حافظ» الر�سالة وعلم �أنَّ «ح�سن» ي�ساومه على ابنته مقابل �أن ي�أتي‬
‫له بـ «رمزي» الذي اختفى منذ �أيام وك�أنه قد تبخر يف الهواء‪.‬‬
‫جديد عليها‪ ،‬ونه�ضت تواجهه غري عابئة‬
‫ٍ‬ ‫بعنف‬
‫م�سحت الأم دموعها ٍ‬
‫ِ‬
‫بنظراته القا�سية هاتفة‪:‬‬
‫الف�ضيحة التي تخاف منها �ستحدث لو مل تبلغ ال�شر ‪. ....‬‬
‫ابتل َع ِت املتبقى من حروفها عندما قب�ض على رقبتها وهو يدفعها لتعود‬
‫بعنف جال�سة على الأريكة يناظرها ب�ش ٍّر حمدق ‪ ،‬هام�س ًا من بني �أ�سنانه التي‬
‫ٍ‬
‫كادت �أن تتحطم من قوة �ضغطه عليها‪:‬‬
‫أطلقك و�أرمي بك �إىل‬
‫واهلل ‪� ..‬إن مل تبتلعي ل�سانك يا امر�أة‪ ..‬ف�س� ِ‬
‫أدفنك هنا �أمام �أختك هذه‪.‬‬
‫الطريق‪� ..‬أو �أقتلك و� ِ‬
‫ات�سعت عينا اخلالة با�ستنكار وهي تنه�ض واقفة ناظرة �إليهما كاملجانني‪:‬‬
‫كان يوم ًا مل تطلع له �شم�س‪ ..‬اليوم الذي وافقت فيه على مكوث تلك‬
‫البنت امل�ش�ؤومة يف بيتي‪.‬‬
‫ترك «حافظ» رقبة زوجته واعتدل واقف ًا‪ ،‬بينما ال تزال نظراته تخنقها‪.‬‬
‫عدلت العجوز من و�شاحها وهي ت�ضرب بع�صاها الأر�ض هاتفة بنفور‪:‬‬
‫‪‬‬
‫�إنها غلطتي من البداية‪ ..‬منذ متى و�أنا �أتدخل يف م�شاكلكم التي ال‬
‫تنتهي‪ ..‬ال �أريد ر�ؤية �أحد منكم بعد الآن �سواء وجدمتوها �أم ال؟‪..‬‬
‫وبد�أت يف التح ُّرك بع�صبية ُتاه الباب بينما ج�سدها املمتلئ يرجت من‬
‫�سرعة حركتها املنفعلة يف �سبيلها للخروج‪.‬‬
‫يا عائلة املجانني ‪ ..‬تخافون من الف�ضيحة !! ‪� ..‬أنتم مف�ضوحون من‬
‫اخلل َفة‪.‬‬
‫عم ِ‬‫الأ�سا�س‪ ..‬يا ما�شاء اهلل‪ ،‬جمرم وخمطوفة‪ ،‬و ِن َ‬
‫�صفعت الباب خلفها بقوة �أزعجت زجاج النافذة‪ ،‬فانطف�أ النور يف عيني‬
‫�أم «غفران»‪ ،‬وبدا بيا�ضهما كاحل ًا‪ ،‬لقد تركها �آخر فرد يف عائلتها معه مانح ًة‬
‫�إياه كل احلق يف تعذيبها‪ ،‬وهو لن يتوانى و َق ِب َل الهدية على الفور‪ ،‬التفت نحوها‬
‫يعاين حالتها الر َّثة التي � َ‬
‫أ�صبح ْت عليها يف حلظات وقد تب َّدل حالها كله فج�أ ًة‪،‬‬
‫وط�أط�أت منك�سرة وقد عادت �إىل طبيعتها امل�ست�سلمة اخلائفة‪ ،‬فانحنى يرتدي‬
‫بال‪:‬‬
‫ل�س ٍ‬‫حذاءه قائ ًال دون النظر �إليها وك�أنها ِح ٌ‬
‫�س�أجد رمزي ب�أي طريقة‪ ..‬و�سنعمل �أنا وهو و�صفوان على �إيقاع ح�سن‬
‫وعدتك دون �أن نف�ضح �أنف�سنا‬
‫ِ‬ ‫يف �شر �أعماله ‪� ..‬سنجده وجندها كما‬
‫ب�أيدينا‪.‬‬
‫غادر وتركها كما فعل اجلميع‪ ،‬غادر ببطءٍ وب�ساطة دون �أن ينتظر منها‬
‫�أي جواب‪ ،‬كان يعلم �أنها لن تنطق ببنت �شف ٍة‪ ،‬وكيف تفعل وقد ا�ستخدم معها‬
‫ال�سالح الذي يعمل دائم ًا و�أبد ًا مع الن�ساء؟ ‪ ..‬الطالق!‪.‬‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫الدرج‪ ،‬ثم م�ساحة مرتين تقريب ًا كانت كافية؛‬ ‫خم�س درجات �صعود ًا على َ‬
‫لي�صل �إىل ال�شقة املق�صودة الكائنة يف الطابق الأر�ضي‪ ،‬ال زال الباب كئيب ًا‬
‫بلونه الأ�سود‪ ،‬حتى الباب يرف�ض �أن ينهي فرتة احلداد على الطفل الذي مل‬
‫يكن يوم ًا طف ًال‪� ،‬إال �أن � ّإ�صي�ص النباتات الرخي�ص قد عاد ينبت من جديد‬
‫بجوار الباب كحار�س �شخ�صي قد ا�ستيقظ فج�أة من ُ�سباته‪ ،‬لقد كان يذكره‬
‫منذ ما يقارب ثالث �سنوات عندما ح�ضر بنف�سه �إليها قبل �أن يتم �إلقاء‬
‫القب�ض على «�شاهني و�سيد» قات َل ْى ولدها‪ ،‬لقد كانت النباتات بداخل احلو�ض‬
‫جافة وميتة على الأطراف مت�ساقطة ك�ضحايا حرب‪ ،‬يبدو �أن ال�سيدة «جليلة»‬
‫عادت تهتم به من جديد وترعاه‪ ،‬رمبا يكون هذا م�ؤ�شر ًا جيد ًا؛ لتح�سن حالتها‬
‫النف�سية يف هذه الآونة ‪ ،‬هل ر�ضيت بالقدر‪� ،‬أم ‪...‬؟‬
‫وقبل �أن ت�ستكمل �أفكاره دورتها الكاملة بداخل عقله ُفتح الباب و�أطلت منه‬
‫�سيدة يذكر «عا�صم» �أنه قد ر�آها من قبل‪ ،‬ولكنه ال يذكر �أين ومتى على وجه‬
‫ب�صحبتها �أثناء‬
‫التحديد؟‪ ،‬يبدو �أنها �صديقة ال�سيدة «جليلة» و�أنه قد ر�آها ُ‬
‫التحقيق يف احلادث‪.‬‬
‫ات�سعت عينا املر�أة متفاجئة بتو ُّقفه �أمام ال�شقة دون �أن يطرق الباب قبل‬
‫�أن تتنحنح خاف�ضة ر�أ�سها لتعرب بجواره ب�صمت‪ ،‬تابعها بعينيه حتى خرجت‬
‫من باب ال ِبناية بخطوات متعجلة‪.‬‬
‫� ً‬
‫أهل بك يا ولدي‪ ..‬تف�ضل ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أعاد «عا�صم» ر�أ�سه �إىل الأمام مرة �أخرى م�ستمع ًا �إىل �صوت «جليلة»‬
‫مرحب ًا به وتدعوه للدخول‪.‬‬
‫احلاين ِّ‬
‫كيف هي �صحتك يا حاجة؟‪.‬‬
‫قالها «عا�صم» وهو مير �إىل الداخل بابت�سامته االعتيادية التي ت�شبه‬
‫عبارته التي �ألقاها للت ِّو‪ ،‬وقد عادت �أفكاره �إىل التحرك من جديد يف نف�س‬
‫امل�سار‪ ،‬مل َي ُفت ُه الو�شاح الأبي�ض النا�صع ّ‬
‫امللتف حول ر�أ�سها والراحة امللمة‬
‫مبالحمها وابت�سامتها الرائقة‪ ،‬كما الحظ تلك النظرة ‪ ..‬نظرة من تتوقع‬
‫قدومه‪ ،‬غام�ضة وغري متفاجئة بامل َّرة‪.‬‬
‫�س�أعد لك فنجان ًا من القهوة حا ًال‪.‬‬
‫انتظري يا حاجة جليلة‪.‬‬
‫ا�ستدارت �إليه عندما �أ�شار لها �أن تتو َّقف ورفعت نظراتها نحوه وبنف�س‬
‫ْ‬
‫الهيبة التي يعرفها عنها � َّإل �أنها كانت خمتلطة بالثقة �أكرث‪ ،‬تركها متجه ًا‬
‫نحو �آخر مقعد ب�أ�سفل النافذة املو�صودة دائم ًا‪ ،‬واملواجهة للباب وجل�س‬
‫�شديد يف كل ر ّدة‬
‫وبرتكيز ٍ‬
‫ٍ‬ ‫م�شري ًا �إليها �أن ت�أتي لتجل�س يف املقعد املجاور له‪،‬‬
‫فعل ت�صدر عنها مال للأمام م�ستند ًا �إىل ركبتيه فوق املقعد اخل�شبي العتيق‬
‫مال�صق ًا �أ�صابع كفيه بع�ضهم ببع�ض‪ ،‬وهو ين�صت حلركاتها البطيئة حتى‬
‫و�صلت للمقعد املجاور له‪ ،‬مل ي�سمع ال�صليل الذي كان ي�سمعه من قبل عندما‬ ‫ْ‬
‫تتحرك‪ ،‬دائرة �أفكاره ا�شت َّد ْت يف الدوران وهو يعرف �أنه مل يعد ميلك �سلطة‬
‫التحقيق معها الآن‪ ،‬ويف نف�س الوقت مل َي ـ ُب ْح ب�شكوكه تلك جلهات التحقيق‬
‫زج ا�سمها يف الق�ضية! ‪.‬‬
‫امل�س�ؤولة‪ ,‬رغبة منه يف عدم ِّ‬
‫‪‬‬
‫�شعور ًا داخل ّي ًا �سيطر عليه يخربه �أنه على �صواب �إىل درجة كبرية فيما‬
‫يفعله وهذا يكفي لإراحة �ضمريه‪ ،‬واملر�أة يكفيها ما عانته بعد فقد ولدها‬
‫الوحيد‪.‬‬
‫�سكت زيادة عن الالزم‪َ ،‬‬
‫التقط ْت �أذناه نحنحة املر�أة بجواره وهي‬ ‫يبدو �أنه َ‬
‫تـتململ فوق مقعدها وك�أنه حتثه على بدء احلديث‪.‬‬
‫خري يا ولدي ؟!‬
‫اعتدل يف جل�سته تارك ًا �إحدى َيد ْيه ترتكز �إىل فخذه‪ ،‬بينما الأخرى ي�شري‬
‫بها �إليها وهو يتحدث كعادته مائ ًال قلي ًال جتاهها مراقب ًا ك َّل خلجاتها اللإرادية‬
‫وهو يقول‪:‬‬
‫�شاهني و�سيد مت قتلهما بداخل ال�سجن‪.‬‬
‫كما توقع متام ًا ‪ ..‬مل يب ُد عليها � ّأي ده�شة �أو ت�أثر ب�سماعها لذلك اخلرب‪،‬‬
‫قامت بفتح كفيها ال�ساكنتني يف ِحجرها بال مباالة‪َّ ،‬ثم قالت وهي ترفع عينيها‬
‫قلي ًال ل�سقف الغرفة وك�أنها تناظر ال�سماء‪:‬‬
‫�أمر اهلل وال را َّد لأمره ‪.‬‬
‫كنت على علم باخلرب‪.‬‬
‫�إذنْ فقد ِ‬
‫جاء دورها لتثبت نظراتها يف عينيه قائلة ببديهية ‪:‬‬
‫�إننا ن�سكن نف�س احلي كما تعلم‪.‬‬
‫كنت ترتدينها يا حاجة جليلة؟‪.‬‬
‫�أين ال�سل�سلة احلديدية التي ِ‬
‫جاءت هادئة مثل مالحمها متام ًا وهي جتيبه ‪:‬‬
‫ر َّدة فعلها ْ‬
‫‪‬‬
‫تخ َّل�صتُ منها؛ فقد �آملتني كثري ًا ‪.‬‬
‫رفع «عا�صم» �إحدى حاجبيه منده�ش ًا ل�صراحتها الغام�ضة تلك التي‬
‫تغلفها مت�سائ ًال‪:‬‬
‫و�أين هي الآن ؟‪.‬‬
‫ َّ‬
‫نظ ْفتُ البيت منذ �أيام وتخل�صتُ منها مع الأ�شياء التي مل �أعد يف‬
‫حاجة �إليها‪.‬‬
‫ح ّرك ر�أ�سه ب�إمياء ٍة غام�ض ٍة وقد و�صله املعنى املُبطن حلديثها‪:‬‬
‫لديك فكرة كيف َّمت قتلهما ؟‪.‬‬
‫هل ِ‬
‫رفعت يديها عن حجرها عاقدة ذراعيها �أمام �صدرها بدفاعية م�ستديرة‬
‫تنظر �إىل الإطار الكبري املع َّلق على اجلدار الذي ي�ضم �صورة طفلها الفقيد‬
‫للحظات قبل �أن تظفر براح ٍة‪ ،‬ويطغى االمتنان على نظراتها الرا�ضية‬
‫ٍ‬ ‫�صامت ًة‬
‫جديد وك�أنها تناجي ربها‪:‬‬
‫ثم عادت ورفعت عينيها للأعلى من ٍ‬
‫ويحب العدل‪.‬‬
‫اهلل َع ْدل يا عا�صم بيه‪ُّ ..‬‬
‫ثم �أردفت وهي تنظر �إليه بثقة وقوة جم َّدد ًا‪:‬‬
‫و�أنا وولدي ‪ ..‬و�أنت ‪ ..‬مل نكن نريد �سوى العدل ‪ ..‬العدل ُي َط ِّيب اخلاطر‬
‫وتلتئم به اجلروح يا ح�ضرة ال�ضابط‪.‬‬
‫أنت مرتاحة الآن ؟‪.‬‬
‫وهل � ِ‬
‫بعمق وبراح ٍة كبري ٍة قائل ًة‪:‬‬
‫تنف�س ْت ٍ‬
‫َّ‬
‫‪‬‬
‫كما ترى !‬
‫التفت �إليها بك ِّل َّيته مت�سائ ًال وهو خري من يعرف الإجابة‪:‬‬
‫لك عالق ًة بالأمر؟‪.‬‬
‫و�إذا اعتقد البع�ض ب�أنَّ ِ‬
‫حام ْت فوق مالحمها �سوى �أنَّ عينيها ال زالتا ثابتتني‬
‫ن�صف ابت�سامة َ‬
‫�ساخر‪:‬‬
‫�صريحتني وقويتني‪ ،‬و�أجا َب ْت باخت�صا ٍر ٍ‬
‫ر�سمي ؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هل هذا اتها ٌم‬
‫لثوان وك�أنه يفكر‪َّ � ،‬إل �أنه مل يكن كذلك بالفعل‪ ،‬الأمر حم�سو ٌم‬
‫�أطرق بر�أ�سه ٍ‬
‫لديه‪ ،‬كثري ًا ما كانت حاالت الث�أر تثري ف�ضوله‪ ،‬حائر ًا هو يف القوة التي تتملك‬
‫قاتل‪ ,‬لي�س هو وحده‪ ..‬بل َومن يتعاطفون معه �أي�ض ًا‪..‬‬ ‫من املظلوم وحتوله �إىل ٍ‬
‫مثله متام ًا! ‪:‬‬
‫مل � ِآت هنا التهامك ب�شىءٍ يا حاجة جليلة ‪..‬‬
‫من اجليد �أنها مل ت�س�أله ملاذا �أتى من الأ�سا�س؟‪ ,‬فهو نف�سه ال يعرف‬
‫ملاذا؟!‪ ,‬جز ٌء ما بداخله يخربه ب�أنه جاءها بالب�شرى فقط لي�س �إال‪ ,‬وكل ما قام‬
‫باحلديث عنه منذ �أن وط�أت قدمه بيتها مل يكن �سوى هراء‪.‬‬
‫عادت لرت�سل �إطالق زفرة رائقة‪ ،‬وهي تنه�ض واقفة كعالمة لرغبتها يف‬
‫واحد‪:‬‬
‫�إنهاء املقابلة وهذا احلديث ال�صريح الغام�ض يف � ٍآن ٍ‬
‫�أنا امر�أة عجوز يا ح�ضرة ال�ضابط ‪ ..‬بالكاد �أنظف بيتي ‪ ..‬املرة‬
‫الوحيدة التي ر�أيتُ فيها قتي ًال كان ‪....‬‬

‫‪‬‬
‫التفتت‬
‫ْ‬ ‫تركت عبارتها مع َّلق ًة فج�أة تدافع دمعة حارقة غلبتها للحظة‪ ،‬ثم‬
‫رت مقلتاها تكويهما الدمعة بحرقتها؛ لتحررها تاركة �إياها‬ ‫حتج ْ‬
‫نحوه وقد َّ‬
‫من�سدلة على وجنتيها‪ ,‬م�ستكملة برع�شة قد �أملَّ ْت بنربتها رغم ًا عنها‪:‬‬
‫كان ولدي‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫�أربع ُخطوات كانت كافية ليعرب بها احلدود الوهم َّية بني �صالة اال�ستقبال‬
‫هدمت اجلدار الذي يف�صل‬ ‫معقل التلفاز وبني غرفة الطعام‪ ,‬ف�صهبا�ؤه قد َ‬
‫بني الغرفتني‪ ,‬كما فعلت من قبل مع الن�صف العلوي من جدار املطبخ‪� ,‬إنها‬
‫حتب االت�ساع واملرونة‪ ,‬بداية من اجلدران ونهاية بالقوانني اجلامدة من وجهة‬
‫نظرها‪.‬‬
‫نحن فوقها‬
‫وجذعها ُم ٍ‬ ‫كانت �أوراقها تفرت�ش الطاولة الكبرية امل�ستديرة‪ِ ,‬‬
‫منهمكة يف الكتابة‪ ,‬ال بد �أنه حتقيق جديد‪ ,‬الطاولة الآن ُتذ ِّكره مبكتبه‬
‫اخل�شبي بداخل حجرته يف الق�سم‪� ,‬أوراق و�صور جلثة يف �أو�ضاع خمتلفة‪:‬‬
‫جئنا لوجع الدماغ ‪ ..‬ا�سرت يارب!‬
‫«عا�صم» !!‬
‫قالتها «�أروى» مت�أ ِّفف ًة وهي ترتك القلم ي�سقط من يدها ب�إرهاقٍ بعد يوم‬
‫�شاق‪ ,‬لقد باغتها وهي مندجم ٌة يف كتابة التحقيق وقد � ْ‬
‫أو�شكت على‬ ‫طويل ٍّ‬
‫عمل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نهايته‪ ,‬ال زال �أمامها �أن تقوم ب�إعادة كتابته على حا�سوبها املحمول و�إر�ساله‬
‫للمراجعة واملوافقة من ِقبل رئي�س الق�سم ثم رئي�س التحرير قبل الن�شر‪.‬‬
‫تن�س ما طلبته َ‬
‫منك‬ ‫�أرجو �أن تكون قد �أح�ضرتَ طعام الع�شاء معك ومل َ‬
‫يف الهاتف‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أ�شار بيده نحو الطاولة ال�صغرية املرتفعة ال�ساكنة �أمام الباب وكانت‬
‫�إ�شارته كافي ًة بالن�سبة لها‪ ,‬احلمد هلل فهو مل يجادلها كالعادة عندما تطلب‬
‫جاهز من اخلارج؛ نظر ًا لإرهاقها ال�شديد يف العمل‪ ,‬كل‬ ‫ٍ‬ ‫منه �إح�ضار ع�شاءٍ‬
‫عملك ما دمت‬
‫مرة ينتظرها حتى تنتهي ثم يقول جملته ال�شهرية «اتركى ِ‬
‫ت�شتكني منه‪ ،‬فنحن ل�سنا يف حاجة �إليه» ‪ ,‬يبدو �أنه هو نف�سه قد فقد الأمل فيها‬
‫فلم يق ْلها هذه املرة عرب الهاتف‪� ,‬أو ‪ ..‬رمبا قرر �أن يقولها وجه ًا لوجه �أف�ضل؟‬
‫بالت�أكيد‪� ،‬سيفعل !‪.‬‬
‫هم�ستها «�أروى» جتيب �أفكارها بنف�سها‪ ،‬فر َب َت «عا�صم» على ذراعها وهو‬
‫ينظر نحوها ب�شفقة �ساخرة ويقول‪:‬‬
‫نف�سك هذه الأيام؟ ‪َ ..‬من هذا الذي �سيفعل؟‪.‬‬
‫هل تتحدثني �إىل ِ‬
‫�أعادت خ�صالت مبعرثة على جانبي وجهها خلف �أُذنيها ثم تعود بكفيها‬
‫لتم�سح وجهها‪ ،‬رمبا ُتزيل �آثار الإرهاق البادية عليه قائلة ريثما مت ُّر بجواره يف‬
‫اجتاه الأكيا�س املتكدِّ �سة فوق الطاولة‪:‬‬
‫دقيقة‪ ..‬و�سيكون ك ُّل �شيء جاهز ًا‪.‬‬
‫�شيعها بنظراته للحظات قبل �أن يعود بر�أ�سه �إىل ن�سخ ُم�صورة من �صور‬
‫اجلثة وكذلك الأوراق‪ ,‬م َّد يده لي�شاهدها عن قرب بتم ُّع ٍن‪ ,‬جثة لرجل ُمل َقى‬
‫على وجهه فوق �سرير للك�شف الطبي وعا ٍر متام ًا‪ ,‬وقد ُنق�ش بخطوط دامية‬
‫فوق ظهره جملة انتقامية �ضيق لها «عا�صم» عينيه وهو يحاول قراءتها جيد ًا‪.‬‬
‫«ر ّد �شرف» !‬

‫‪‬‬
‫التفت «عا�صم» نحو «�أروى» التي �ألقت عليه اجلملة من بعيد ب�صوت‬
‫م�سموع ثم اجته نحوها وهو ي�سري خلفها نحو املطبخ ُمكرر ًا الكلمتني بهم�س‪،‬‬
‫وقد و�صلت ده�شته للحد الأق�صى وت�ساءل باهتمام ظهر جل َّي ًا يف نربة �صوته‬
‫اجلدية‪:‬‬
‫ما ق�صة هذه اجلرمية؟‪.‬‬
‫�أخري ًا‪ ..‬ح�صل �شيء ما �أفعله على اهتمامك؟!‬
‫�أجنزي يا «�أروى»‪.‬‬
‫قالها بنربة �آمرة اعتاد احلديث بها مع اجلميع‪ ،‬فابت�سمت وهي حترك‬
‫ر�أ�سها بي�أ�س من عادته تلك وهي تقوم ب�إفراغ الطعام يف الأطباق قائلة‪:‬‬
‫طبيب �أمرا�ض ن�ساء‪ ..‬و�صديق �شخ�صي البن �أحد عمالقة اال�ستثمار‬
‫يف الدولة ‪ ..‬وجدوه مقتو ًال يف عيادته اخلا�صة ‪ ..‬ممر�ضته هي َمن‬
‫اكت�شفت جثته م�ساء اليوم التايل‪ ..‬ووجدوا هذه العبارة مكتوبة على‬
‫ظهره با�ستعمال �أداة طبية حادة ‪.‬‬
‫وماهي نتيجة التحقيقات؟‪.‬‬
‫احلادثة وقعت منذ وقت قريب‪ ..‬وقد كان هناك تعتيم كامل حتى‬
‫خرج تقرير الطب ال�شرعي اليوم فقط ‪ ..‬القاتل م َّثل بالقتيل قبل �أن‬
‫يق�ضي عليه متام ًا‪ ..‬ثم قام ب�إكفائه على وجهه وكتابة هذه العبارة على‬
‫ظهره م�ستعم ًال مب�ضع القتيل الذي ي�ستخدمه يف عمله ‪ ..‬وال توجد � ّأي‬
‫ب�صمات غريبة يف املكان ‪.‬‬

‫‪‬‬
‫قالت تعليقها الأخري بتفكري وهي ت�ضع الطبق الأخري الذي مت جتهيزه‬
‫�أمامه وجل�ست على املقعد املرتفع املجاور له‪ ,‬ثم تلتفت �إليه؛ لتتابع انفعاالته‬
‫املتتابعة البادية على وجهه وهو ُيكمل طريقته اال�ستجوابية لها بينما ي�ضع �أول‬
‫قطعة حلم م�شوية يف فمه قائ ًال‪:‬‬
‫كيف مت التمثيل به ‪ ..‬وكيف مل ي�ستغثْ ؟!‬
‫زمت �شفتيها بتفكري وببع�ض االرتباك وهي ُت�ضيف �إىل نتائج التحقيقات‬
‫حتى هذه اللحظة ر�أيها ال�شخ�صي‪:‬‬
‫ال �أعلم ‪ ..‬يبدو �أنها �إحدى جرائم ال�شرف ‪ ..‬فقد مت ح ّز ع�ض ٍو ُم ٍّ‬
‫هم‬
‫جد ًا من ج�سده وف�صله متام ًا ثم تركه ينزف حتى املوت ‪ ..‬من الوا�ضح‬
‫�أن القاتل كان ميلك مت�سع ًا من الوقت!‬
‫كاد «عا�صم» �أن يختنق بقطعة اللحم ف�ضربته «�أروى» على ظهره بقوة‪,‬‬
‫�أبعد قب�ضتها بنزق م�ستا ًء‪ ،‬وباليد الأخرى يتناول الكوب‪ ،‬ويدفع بكمية كبرية‬
‫من املياه �إىل فمه‪.‬‬
‫قطعة اللحم احلبي�سة كانت ت�ؤمله‪ ،‬وهي تتحرك للأ�سف ببطء وهو يحاول‬
‫ابتالعها �أكرث من �أملها وهي متوقفة هناك‪ ,‬احتقن وجهه ب�صورة كبرية و�سعل‬
‫عدة مرات وهو ي�ستند �إىل طاولة املطبخ املرتفعة قائ ًال لها بتح�شرج‪:‬‬
‫حب هذه الطريقة‪ ..‬بع�ض املاء وكفى‪.‬‬ ‫لك مليون مرة‪ :‬ال �أُ ُّ‬
‫ ُقلتُ ِ‬
‫�أخفت ابت�سامتها املُ�شاك�سة وهي تتظاهر باالن�شغال بتناول الطعام وهي‬
‫تقول برباءة مزيفة‪:‬‬
‫�آ�سفة حبيبي‪.‬‬
‫‪‬‬
‫هي تعرف �أنه ال يحب طريقتها يف التظاهر ب�إنقاذ حياته‪ ،‬بينما هي يف‬
‫احلقيقة ت�ضع يف قب�ضتها كل غيظها منه ومن �أ�سلوبه يف التقليل من قدراتها‪,‬‬
‫�أو رمبا الهدفان يجتمعان يف اللحظة التي تتوقف ُلقمة ما يف حلقه‪ ,‬م�ساعدته‬
‫و�ضربه انتقام ًا يف نف�س الوقت‪.‬‬
‫تابع تناول طعامه بهدوء ظاهري‪ ،‬بينما عقله يدور حول نف�س الكلمتني‪ ,‬ال‬
‫عالقة على الإطالق من املمكن �أن تربط بني اجلرميتني‪ ,‬ال بد �أن يح�صل على‬
‫تفا�صيل �أكرث من جهة التحقيق مبا�شرة‪.‬‬
‫�أال تالحظ معي يا عا�صم‪� ..‬أن ارتكاب اجلرائم بهدف االنتقام قد زاد‬
‫هذه الآونة؟!‬
‫حرك ر�أ�سه موافق ًا ب�صمت غارق ًا يف �أفكاره‪ ،‬فرتكت الطعام ُملتفت ًة نحوه‬
‫باهتمام لتناق�شه يف �أفكارها قائل ًة‪:‬‬
‫ ُترى هل �سيلج�أ �أي �شخ�ص مهما كان �إىل �أخذ حقه بيده لو �أ�صبحت‬
‫القوانني �أكرث مرونة ودقة وتغريت بع�ض الت�شريعات التي ‪...‬‬
‫التفت نحوها بانزعاج وا�ضح ُمقاطع ًا و ُم ِّ‬
‫ك�شر ًا عن ح�سه الأمني الذي‬
‫ارتفعت وتريته من جديد �أمام وقع كلماتها هاتف ًا ب�صلف‪:‬‬
‫لك كم مرة‬
‫هذا الأمر ال دخل يل به‪� ..‬أنا �أنفذ القانون فقط‪� ..‬أقولها ِ‬
‫لتفهمي؟!‬
‫ات�سعت عيناها �شاعرة بالإهانة ال�شديدة فك�شرت هي الأخرى عن �أنياب‬
‫كرامتها املُهدرة فهاجمته بالقول وهي تتحفز يف جل�ستها‪:‬‬
‫يف حلظة ن�سيت �أنني �أفد ُتك مبعلومات مل تكن لديك منذ قليل و ِب ُّت‬
‫قليلة الفهم‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أعقبت هتافها بقفزها من فوق املقعد واقفة وحتركت بع�صبية بعيد ًا؛‬
‫لت�ستكمل عملها ولكنها مل تكف عن الهتاف ُمعلنة عن ر�أيها وقد تخيلت نف�سها‬
‫قد عادت ُمد َّد ًا �إىل �ساحة ميدان التحرير �إبان الثورة وهي ت ُل ُّف ال�شال‬
‫الفل�سطيني فوق كتفيها‪:‬‬
‫للأ�سف �ست�ضطر �أن تقولها يل كثري ًا يا ح�ضرة ال�ضابط‪ ..‬ف�أنا �س�أظل‬
‫�أتكلم و�أعرت�ض و�أكتب عن هذه القوانني اجلامدة التي تدفع املجتمع‬
‫�إىل �أن يتحول لغاب ٍة الغلب ُة فيها للأقوى‪.‬‬
‫�صمتت للحظات فظن �أنها قد قالت ما لديها وانتهى الأمر‪ ,‬ف�أغم�ض‬
‫عينيه؛ ليحتوي غ�ضبه‪ ،‬ولكن رائحة اللحم التي ال تزال عالقة يف �أنفه دفعته‬
‫�إىل تذكرها‪ ،‬وبالتايل تذكر ب�أنه ال زال جائع ًا‪ ,‬وقبل �أن يلتفت للطعام من‬
‫جديد‪ ,‬عادت مرة �أخى حمتقنة الوجه هاتف ًة وهي تتخ�صر بتحدٍّ ‪:‬‬
‫لن ت�ستطيع �أن جتربين كل مرة على العودة كما فعلت �سابق ًا يف ميدان‬
‫علي بتهمة قلب نظام احلكم يا عا�صم بيه‪.‬‬ ‫التحرير‪ ..‬هيا اقب�ض َّ‬
‫كانت تنفث النار حرفي ًا من بني �شفتيها املنفرجتني قلي ًال‪ ،‬وعيناها‬
‫تتوهجان بالإ�صرار بينما اندفعت الدماء �إىل وجنتيها غ�ضب ًا‪� ,‬ضيق «عا�صم»‬
‫عينيه وهو يلتفت ببطء ثم ينه�ض متجه ًا �إليها وهو يتفح�صها بتهديد ُم ّ‬
‫بطن‬
‫قائ ًال‪:‬‬
‫اقرتاح جيد‪.‬‬
‫خلطى نحو‬‫تنحنحت وقد فهمت تهديده‪ ،‬فتوردت وجنتاها وهي ُت�سرع ا ُ‬
‫غرفة �صغريهما‪ ,‬ناداها وهو ي�سري خلفها ولكنه مل ي�ستطع اللحاق بها‪ ,‬دلفت‬
‫للغرفة و�أو�صدت الباب من الداخل‪.‬‬
‫‪‬‬
‫هل انتهت فقرة النكد اليومية؟‪.‬‬
‫التفتت على عقبيها لتجد ال�صغري ذا ال�سنوات الت�سع يجل�س فوق الفرا�ش‬
‫ُم�ستند ًا بوجنته فوق ك ِّفه‪ ،‬ومن الوا�ضح عليه �أنه كان ي�ستمع حلديثهما ال�صارخ‬
‫رب ٍم ومتددت بجوار ِه هاتفة‪:‬‬
‫من مكانه هذا‪ ,‬فاقرتبت من الفرا�ش بت ُّ‬
‫الكبار‪.‬‬
‫قلت لك من قبل‪ :‬ال تتدخل يف �أحاديث ِ‬
‫عاد ليتمدد من جديد وهو مينحها ظهره و ُيف�سح لها فرا�شه وهو يهم�س‬
‫مب�شاك�سة‪:‬‬
‫�أنثى املاعز العنيدة !‪.‬‬
‫ظلت «�أروى» تتقلب ل�ساعات فوق الفرا�ش‪ ،‬وقد جافاها النوم بينما التفكري‬
‫ال ي�سمح لها بغم�ضة عني‪ ,‬الأمر لي�س عنادها فقط‪ ,‬فهي بالفعل من واقع عملها‬
‫يف ق�سم احلوادث وجدت وترية القتل تزيد كل يوم �أكرث من اليوم ال�سابق‪� ,‬أال‬
‫يكفي جمود القوانني �أمام جرائم �سرقة الأع�ضاء الب�شرية وخطف الأطفال‬
‫واالغت�صاب حتى خرجت علينا نوعية جديدة من جرائم الث�أر بني �أهل املدينة‬
‫والتي مل تتواجد �إال لتق�صري الت�شريعات يف �إعطاء كل ذي حقٍّ حقه!‪.‬‬
‫بل �أي�ض ًا ال يريد �أحد �أن ي�سمع �أو يتحرك �أو حتى ُيناق�ش ما يحدث‪� ،‬سحبت‬
‫البيتي‪ ،‬وقامت مبرا�سلة �صديقتها املقربة بكلمات‬
‫ِّ‬ ‫هاتفها من جيب بنطالها‬
‫مقت�ضبة ال ت�ستطيع التعبري عن بركان العناد واجلنون الذي يتفجر بداخلها «‬
‫�أري ُد م�ساعدتك» ‪.‬‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫عدالة القتل‬

‫ارتد مالب�سك‪ ..‬واحلق بي يف الأ�سفل على الفور‪.‬‬


‫حافظ‪ِ ..‬‬
‫حاول «حافظ» �أن يفهم ما الأمر ولكن «�صفوان» كان متعج ًال‪ ،‬ومل يب ُد‬
‫عليه �أنه �سيبوح ب�أكرث من هذا‪ ,‬ارتدى «حافظ» مالب�سه التي مل يخلعها �إال منذ‬
‫�ساعة فقط بعد عودته من العمل ونزل مهرو ًال خلف «�صفوان» دون �أن يكلف‬
‫نف�سه ويجيب ت�سا�ؤالت زوجته عن �سبب ذهابه بهذه ال�سرعة‪.‬‬
‫دقائق طويلة مرت عليه بداخل �سيارة ال�شرطة ال يفهم ماذا يحدث؟‪,‬‬
‫حتى م�أمور الق�سم الذي كان ينتظر ح�ضورهما هناك مل ُيف�صح له عن �سبب‬
‫ا�ستدعائه بهذه الطريقة الودية‪ ,‬و�أخري ًا توقفت ال�سيارة‪ ،‬ووجد نف�سه �أمام‬
‫الفتة باهتة كئيبة ُخ َّط فوقها بحروف �أكرث ك�آب ًة «م�شرحة زينهم» ‪.‬‬
‫انهمرت حبات العرق على جبينه فور قراءته لالفتة‪ ،‬وا�شتعلت درجة‬
‫�سبب‬
‫حرارته وكاد خافقه �أن يقفز من �صدره مما جعل قدميه تتعرقالن بال ٍ‬
‫حقيقي‪ ،‬وهو ي�سري خلف امل�أمور وبجانبه «�صفوان» الذي �أ�سنده على الفور‬
‫ٍّ‬
‫بتعاطف حماو ًال جتنب النظرات احلائرة املت�سائلة امل�سلطة عليه‪ ،‬وهو يقود‬
‫�صاحبها خلف م�أمور الق�سم يف مهمة �شاقة للحاق بخطواته الوا�سعة وهو يتجه‬

‫‪‬‬
‫نحو غرفة كبرية امل�ساحة‪ ،‬دلفوا جميع ًا خلفه �إليها وقد كان ينتظرهم بها‬
‫طبيب وم�ساعده والعامل الذي �سبقهم �إىل حجرة داخلية كم�س�ؤول عن الأدراج‬ ‫ٌ‬
‫الكثرية املوجودة فيها التي تقل درجة حرارتها عن اخلارجية‪ ،‬فاق�شعر بدن‬
‫«حافظ» الذي كان يف عامل �آخر منذ قر�أ الالفتة‪� ,‬أما تلك الربودة فقد غلفت‬
‫قلبه واعت�صرته بقب�ضتها ُمعرقلة خفقاته عن املعدل الطبيعي لها مما �أ�شعره‬
‫بالدوار يف نف�س اللحظة التي مد فيها العامل يده و�أخرج الدرج املق�صود بعد‬
‫�أن �أ�شار له الطبيب بالتنفيذ‪ ,‬ثم رفع املالءة عن وجه اجلثة وحترك بعيد ًا‬
‫مبهنية اعتادها بحركة متناغمة مع �صوت امل�أمور الذي توجه بالكالم �إىل‬
‫«حافظ» قائ ًال بعمل َّي ٍة‪:‬‬
‫هل هذا ولدك «رمزي» يا حافظ؟‪.‬‬
‫جتمد «حافظ» مكانه بالك ِّل َّية حتى عيناه ت�صلبتا على وجه امل�أمور‪ ،‬وزاد‬
‫ِثـقل وزنه على ذراع «�صفوان» الذي كان ي�سنده من البداية بينما ر�أ�سه يتحرك‬
‫بالرف�ض حركة ال �إرادية دون حتى �أن ينظر للجثة‪.‬‬
‫تقدم م�ساعد الطبيب وقد كان رد فعل «حافظ» متوقع ًا بالن�سبة له‪ ,‬و�أ�سنده‬
‫من ذراعه الأخرى‪ ،‬وهو ُي�شري بر�أ�سه �إىل «�صفوان» �أن ي�ساعده وهما يتقدمان‬
‫وك�أمنا يحمالنه لي�ستطيع ر�ؤية اجلثة ب�شكل �أكرث و�ضوح ًا ليتعرف عليه‪.‬‬
‫متا�سك يا حافظ‪ ..‬وانظر �إىل اجلثة ُنريد �أن ُننهي عملنا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫‬
‫ب�ضيق‪ ،‬بينما هاتفه ال يكف عن الرنني‪ ،‬ف ُيخرجه وي�ضعه على‬
‫قالها امل�أمور ٍ‬
‫الو�ضع ال�صامت بع�صبية ثم يعود �إليه بعينيه من جديد ُمردفا‪ً:‬‬
‫لن نق�ضي بقية اليوم كله هنا‪ ..‬ال زال �أمامنا حتقيقات و�أعمال �أخرى‬
‫لننجزها ‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مل ي�ستطع «�صفوان» ب�أن يتف َّوه ولو بكلمة واحدة‪� ،‬أو حتى يحث «حافظ»‬
‫على النظر‪ ,‬فلقد نظر هو ووجد مالمح ال�شاب تكاد تكون مت�آكلة �إال من بع�ض‬
‫املوا�ضع يف وجهه‪ ,‬يكاد يعرف تلك العينني التي اختفت منهما احلياة‪ ,‬رفع‬
‫عينيه بعيد ًا يف اللحظة التي ا�ضطر فيها «حافظ» �إىل �أن يخف�ض نظراته‬
‫للأ�سفل‪ ,‬نظرة واحدة كانت كافي ًة لي�سقط على ركبتيه بذهول وهو يهتف‬
‫بح�سرة قطعت نياط قلبه‪:‬‬
‫ولدي ‪....‬‬
‫انحنى معه «�صفوان» وم�ساعد الطبيب ِب ِفعل ُثقل ج�سده �أثناء �سقوطه‬
‫املروع‪ ،‬بينما يناظر «�صفوان» وينتحب بنربة متح�شرجة ونب�ضات خافقه‬
‫عمل �شاق طيلة �ستني عام ًا‪ ,‬ومل يعد يف حاجة‬ ‫تتباط�أ وك�أنه ُيقدِّ م ا�ستقالته من ٍ‬
‫يدق بعد الآن‪ ,‬فال�سبب الذي كان يحيا لأجل ِه قد زال‪ ,‬ف�صاحب ن�صيب‬ ‫لأن َّ‬
‫الأ�سد فيه قد مات فكيف �سيعمل بالفتات املُتب ِّقي؟!‪:‬‬
‫ولدي يا �صفوان‪ ..‬رمزي‪ ..‬قتله ح�سن‪ ..‬ابن احلرام ‪.‬‬
‫�صرخ بها «حافظ» مودِّع ًا َمن حوله‪ ،‬وقد ُقبلت ا�ستقالته من احلياة‪ ,‬و ُقبل‬
‫�أي�ض ًا اتهامه الوا�ضح �ضد «ح�سن �أنور برهان» !‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ق�صة ق�صرية للغاية ال حتوي �سوى كلمة واحدة» ال�سخرية»‪ ,‬قاعدة‬
‫اتبعها «عا�صم» عند لقائه الأول بـ «رائد» ‪ ,‬منذ �سنوات كان قد ا�شرتك معه‬
‫يف حتقيقات �إحدى اجلرائم ومل ي�ستطع �أن يتحمل «عا�صم» لأكرث من ثالثة‬
‫�أيام فقط!‪ ,‬ق�صة �ش َّي َد ْت جدران ًا من الكره والغرية‪ ،‬وما زالت قائمة ب�أعمدتها‬
‫الرا�سخة‪.‬‬
‫بد�أها «عا�صم» عندما مد يده مل�صافحته وهو ُيغلف �سخريته باملزاح‬
‫الربيء قائ ًال‪:‬‬
‫«رائد» ! ‪ ..‬يبدو �أنه مت حجز مقعدك يف كلية ال�شرطة منذ والدتك‪.‬‬
‫و�أنهاها «رائد» ب�شكواه �إىل عمه �سيادة اللواء‪ ،‬والذي قام بدوره يف تعنيف‬
‫«عا�صم» مرة بعد مرة « قلتُ لك‪� :‬إنه ابن �أخي يا «عا�صم»‪ ،‬ولقد كلفته بالعمل‬
‫معك ليكت�سب من خربتك ال لت�سخر منه يومي ًا ‪ ..‬وهذا �آخر حتذير»!‬
‫لكنه مل يعب�أ بالتحذير‪ ,‬بل زاد رغبة يف �إيذاء الفتى معنوي ًا‪ ,‬ذاك الفتى‬
‫الذي ُولد ويف فمِ ه ِم ْل َعقة من ذهب‪ ,‬لعائلة حتوز املال وال�سلطة‪ ,‬حاز كل �شيء‬
‫دون تعب‪ ،‬ويف النهاية يريدون من «عا�صم» �أن ُيغ ِّلف خربته التي اكت�سبها‬
‫المع ومينحها له كـ هدية يوم مولده‬ ‫مبجهود قاتل وعناء ل�سنوات يف غالف ٍ‬
‫ال�سعيد!‬

‫‪‬‬
‫عاد «عا�صم» ي�ستند �إىل ظهر مقعده وهو يبت�سم ابت�سامة عري�ضة وهو‬
‫يتذكر املرة الأخرية التي �سخر فيها من «رائد» الذي ي�صغره يف العمر والرتبة‬
‫قائ ًال‪:‬‬
‫ماذا �ستفعل عندما يتم ترقيتك �إىل رتبة مقدم مث ًال؟‪ ..‬هل �ستقدم‬
‫نف�سك ً‬
‫قائل‪� :‬أنا املقدم رائد؟!!‬
‫لقد ت�سبب الغبي ب�أن َّمت نقله �إىل �أق�صى ال�صعيد لعامني على الأقل‪,‬‬
‫�ضحك «عا�صم» �ضحكة حر َّك ْت كتفيه‪ ،‬بينما ي�ضغط زوايا عينيه ب�س َّبابته‬
‫و�إبهامه ويحرك ر�أ�سه متعجب ًا من نف�سه وقتها‪ ,‬ال يعلم ملاذا كان يكره الفتى‬
‫�إىل هذا احلد؟‪ ,‬وما ذنبه هو ب�أن جاء للحياة ليجد كل �شيء يف جاهزية تامة‬
‫ينتظره؟‪ ,‬هل �أذنب لأ َّنه ح ُلم �أن يكون «�سوبر مان» ووجد من ينفذ له �أحالمه‬
‫دون تعب؟‪.‬‬
‫�أم ذنبه �أن يف املجتمع مثل «عا�صم» الذي حفيت قدماه‪ ،‬وق َّدم تنازالت‬
‫ليجد و�ساطة ت�ساعده يف دخول كلية ال�شرطة بالرغم من توفر كل ال�شروط‬
‫الالزمة به‪ ,‬وعندما وجدها والتحق بحلمه الوحيد عار َكتْه الدنيا وعاركها‬
‫حتى ُقطعت �أنفا�سه‪ ،‬ورمى بنف�سه حتت قطار املوت مرات ومرات دون �أن يعب�أ‬
‫حتى و�صل �إىل مبتغاه‪ ,‬ثم ي�أتي ِغ ٌّر �ساذج ذو �شعر المع من �أثر ُمث ِّبت ال�شعر‬
‫ويريد �أن ي�أخذ خربته على اجلاهز هكذا‪ ..‬فقط؛ لأ َّنه �أتى �إليه حتت ِجناح‬
‫عمه �سيادة اللواء! ‪ ..‬هل �أكلت القطط �أطفالها �أم ماذا؟!‬
‫ال �أفهم هل تقر�أ ملفات التحقيق �أم تقر�أ كتاب ًا لل ُّن َكت؟!‬
‫رفع «عا�صم» ر�أ�سه حمتفظ ًا بابت�سامته الكبرية على �إثر العبارة التي‬
‫�أطلقها «رائد» للت ِّو‪ ,‬ن َع ْم ‪ ....‬بعد كل تلك ال�سنوات من عدم اللقاء وجد نف�سه‬
‫مرة �أخرى وجه ًا لوجه معه‪ ,‬م�ضط َّر ًا للعمل معه ‪ ..‬كفريق واحد‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وهذه املرة بتكليف من م�ساعد وزير الداخلية �شخ�صي ًا حلل لغز ق�ضية‬
‫ق�ش ْت على ظهره عبارة «رد �شرف» كما حدث مع‬ ‫مقتل ذاك الطبيب الذي ُن َ‬
‫جثتي «�شاهني و�سيد» ‪.‬‬
‫ْ‬
‫هل ي�شكر م�أمور ال�سجن الذي ر�شحه للعمل �ضمن فريق التحقيق يف‬
‫الق�ضية؛ لأ َّنه تعامل من قبل مع «�شاهني و�سيد» ويعلم تفا�صيل ق�ضيتهما‬
‫هذا �إىل جانب خربته يف حل مثل هذه الق�ضايا‪ ,‬وال بد من رابط يربط بني‬
‫الق�ضيتني؟‪.‬‬
‫�أم يدعو عليه؛ لأن «رائد» كان وللأ�سف هو ال�ضابط امل�س�ؤول عن التحقيقات‬
‫يف جرمية مقتل الطبيب؟‪� ،‬إ َّنها وقعت يف دائرته وال بد �أن يجتمع معه ويتعاونا‬
‫من جديد مع ًا للو�صول للقاتل‪.‬‬
‫عرفت اجلاين؟‪.‬‬
‫�إذنْ فقد َ‬
‫قالها «رائد» �ساخر ًا من هذا الذي يجل�س يف مواجهته‪ ،‬وينظر له بابت�سامة‬
‫عري�ضة وبني يديه عدد ال ب�أ�س به من الأوراق وال�صور الأ�صلية للجثث ومكان‬
‫وقوع اجلرميتني‪.‬‬
‫ن َع ْم ‪ ..‬اجلاين هو‪� ..‬ستعرف يف احللقة القادمة‪ ..‬فانتظرونا‪.‬‬
‫�أجابه «عا�صم» ب�سخرية �أكرب تبعها ب�ضحكة مرتفع ٍة ا�ست�شاط لها «رائد»‬
‫غ�ضب ًا‪ ,‬ولكنه كان قد اكت�سب بع�ض ًا من ال َّت� ِّأن واحلكمة عرب ال�سنوات القليلة‬
‫ال�سابقة‪ ,‬ال يعرف ماذا عليه �أن يفعل؟‪ ,‬م�شاعره مت�ضاربة‪ ,‬غرميه هو رئي�س‬
‫الفريق‪ ,‬وهو الآن يف نظر مدير الأمن مل ي�ستطع �أن يتو�صل للفاعل وحده‬
‫لذلك «عا�صم» هنا‪ ,‬لو تعاون معه ل ُن ِ�سب الن�صر لـ «عا�صم» و�سيكون هو املُالم‬
‫و�صاحب التق�صري‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ال�سمِ ج وليمنح نف�سه فر�صة للتفكري كما‬
‫نه�ض؛ ليتجنب نظرات هذا َّ‬
‫يفعل منذ �صباح اليوم‪ ,‬ال زالت مفاج�أتهما بتواجد بع�ضهما البع�ض يف نف�س‬
‫ُ‬
‫تع�صف بهما بداخل حجرة‬ ‫الق�ضية ي�سيطر عليهما‪ ،‬بينما الذكريات ال�سيئة‬
‫التحقيقات مبديرية الأمن‪.‬‬
‫تواجدن يف العيادة‬
‫ْ‬ ‫لقد خلت �أوراق التحقيق من �أقوال الن�ساء الالتى‬
‫للك�شف لدى الطبيب ليلة وقوع اجلرمية!‬
‫عاجله «عا�صم» بعبارته املتعجبة فا�ستدار «رائد» ملواجهته وهو ال يزال‬
‫عاقد ًا ك َّف ْيه خلف ظهره وقد �ضيق بني حاجيه مت�سائ ًال بده�شة دون تفكري‪:‬‬
‫وما عالقتهن باجلرمية التي وقعت بعد ان�صرافهن بكثري؟!‬
‫مال «عا�صم» بر�أ�سه ميين ًا ب�شكل مبا َل ٍغ فيه‪ ،‬وهو ي َّدعي ال�صدمة ُ ْ‬
‫لبه ٍة‬
‫قبل �أن يعتدل واقف ًا‪ ،‬ويقرتب ببطءٍ منه حتى وقف ُقبالته متام ًا ُم ِ‬
‫ا�صر ًا‬
‫لنظراته احلائرة وهو يقول بنربة يحفظها «رائد» منذ �أول مقابلة‪:‬‬
‫العالقة كبرية جد ًا يا �سيادة النقيب‪ ..‬رائد!‪.‬‬
‫بو�ضوح واحت َّل ْت‬
‫ٍ‬ ‫�ضغط «رائد» �أ�ضرا�سه بعنف فظهر حترك �صدغيه‬
‫نظرات ال ُك ْره مقلتيه من جديد وهو يهم�س بعنف خفي‪:‬‬
‫ا�ستدعهنَّ ؛ لرنى مدى عبقريتك َّ‬
‫الفذة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫�إذن‪،‬‬
‫�س�أفعل‪ ..‬فاخلربة مهمة‪..‬‬
‫ظل «عا�صم» مبت�سم ًا وقد ترك عبارته ُمع َّلقة وهو على يقني ب�أن «رائد» قد‬
‫فهمها‪ ,‬نعم فالو�ساطة من املمكن �أن ُتلح َقه بال�شرطة‪ ،‬ولكن الكفاءة جمهود‬
‫�شخ�صي‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫‪‬‬
‫حترك «رائد» ملت َّف ًا على عقبيه يبتعد عنه بج�سده الذي ي�صدر عنه‬
‫ذبذبات عنف كان يريد �أن يجمعها وي�ضعها يف لكم ٍة لأنف ذاك املغرور‪ ،‬ولكنه‬
‫�آثر اخلروج من احلجرة لب�ضع دقائق ليهد�أ‪.‬‬
‫راقب «عا�صم» ان�صرافه املت�شنج بابت�سامة اختفت مبجرد �أن �أُغلق الباب‬
‫و�أ�صبح وحيد ًا‪ ,‬وعادت جديته حتتل مالحمه من جديد‪ ,‬فهو مل ولن ين�سي‬
‫ب�شكل كبري تلك العداوة القدمية مع �شريكه‪ ,‬ومهما كانت �أهمية الق�ضية‬
‫التي يعمالن عليها‪ ،‬فلن يفتح معه �صفحة جديدة على الإطالق‪ ،‬ولن يقدم له‬
‫خربته على طبق من ف�ضة هكذا دون عناء‪.‬‬
‫بث �أن ُيذ ِّكر «رائد» مبا�ضيهما مع ًا‪ ..‬وك�أن الآخر قد َ‬
‫ن�سي‪.‬‬ ‫لذلك �أراد ُ‬
‫بخ ٍ‬
‫يريد �أن ي�سخر منه؛ لينتقم لنف�سه‪ ،‬فهو ال ميتلك و�سيلة �أخرى ليمنح‬
‫روحه بع�ض الر�ضا‪ ,‬و ُي�شعرها ب�أنه بخري وي�ستطيع �أن يكون م�ؤذي ًا �إذا �أراد‪،‬‬
‫�شديد ينتمي �إليه كما هو ذلك الفتى املدلل �صاحب‬ ‫ركن ٍ‬ ‫ووقتما ي�شاء‪ ,‬دون ٍ‬
‫ال�شعر الكثيف الالمع دوم ًا‪.‬‬
‫ولكن اجلزء الأكرب بداخله كان له حاجة �أخرى �أكرث �إحلاح ًا‪ ,‬فقد كان من‬
‫ظل يالحق كل تف�صيلة يقوم‬ ‫الالزم �أن يتحرك بح ِّر َّية �أثناء التحقيقات دون ٍّ‬
‫بها‪� ,‬ستكون تلك العداوة هي ال�ستار الذي �سيخفي «عا�صم» ما يريده خلفها!‬
‫ا�ستدار متجه ًا نحو املكتب اخل�شبي العري�ض املُمتلئ بالأوراق‪ ,‬جل�س خلفه‬
‫وهو يتناول ُعلبة �سجائره‪ ،‬و ُيخرج واحدة جديدة ب�شفاهه؛ ليبقيها هناك دون‬
‫�أن ُي�شعلها‪.‬‬
‫مل تكن املرة الأوىل التي ر�أى فيها ال�صور املُلتقطة للجثث الثالث وال حتى‬
‫املرة الثانية‪ ,‬فلقد عاينها �أكرث من مرة يف الن�سخة املطبوعة التي حتوزها‬
‫‪‬‬
‫زوجته‪ ,‬وعندما �س�ألها‪ :‬كيف ح�ص َل ْت عليها بهذه ال�سهولة قالت له اجلملة التي‬
‫لدي م�صادري اخلا�صة»‪.‬‬ ‫يرددها اجلميع كتعويذة �سحرية « َّ‬
‫حينها ابت�سم لها بخبث وقال على الفور‪« :‬تكتبون عن الف�ساد والر�شوة ثم‬
‫ت�ستخدمونها لت�صريف �أعمالكم ‪� ..‬ألي�س كذلك؟!»‬
‫ولكن «�أروى» كان لديها ِمنطق ي�شبهه‪ ,‬بل ي�شبه اجلميع �أحيان ًا ووقفت‬
‫قبالته بثقة هام�سة «الغاية ُتربر الو�سيلة يا ح�ضرة ال�ضابط‪� ,‬أال ت�ضرب‬
‫املتهمني لديك يف الق�سم؛ لت�ستخرج منهم اعرتافاتهم؟»‪.‬‬
‫مل تكن ت�س�أله‪ ,‬لقد كانت تقر واقع ًا‪ ,‬لذلك �شعر �أنَّ اجلملة التي قالتها‬
‫ُت�شبهه �إىل حد كبري‪ ,‬و�أن هذا العامل ال يوجد فيه بريء مائة باملئة‪ ,‬دائم ًا ما‬
‫ن�ستخدمها للعبور �إىل �أهدافنا امل�شروعة وغري امل�شروعة‪ ,‬هناك دائم ًا ن�سبة‬
‫من العكر مهما بلغ النقاء ‪.‬‬
‫ملع يف ذهنه فج�أة ا�سم ال�سيدة «جليلة» بينما حديث «�أروى» ي�صخب‬
‫بحروف الالفتة التي رفعتها �أمام عينيه‪ ،‬وك�أنها ُتهديه حل ِ‬
‫املع�ضلة‪ ..‬الغاية‬
‫تربر الو�سيلة‪.‬‬
‫رفع ك َّفه ليم�سح بها على مقدمة �شعره التي بد�أت تخف تدريجي ًا مع تقدمه‬
‫يف العمر وهو يقول لنف�سه �ساخر ًا معرتف ًا‪:‬‬
‫اعرتف يا عا�صم‪� ..‬أنت ال تغار منه؛ لأ َّنه َلد ْيه عائل ٌة متنحه �إ�شارة عبو ٍر‬
‫لأيِّ ُح ٍلم يريده وقتما ي�شاء فقط‪ ..‬بل تغار من �شعره املُ�ستفزِّ �أي�ض ًا‪!.‬‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫انز َو ْت يف �أق�صى ركن من �سجنها ال�صغري‪ ،‬وهي ت�ضم ركبتيها �إيل �صدرها‬
‫بخوف وريبة‪ ,‬لقد ا�ستمعت منذ قليل ل�صوت فتح الباب احلديدي اخلارجي‬
‫ثم دخول ال�شاحنة ال�صغرية ببطء‪ ،‬والتي ا�ستبدلها ب�شاحن والده كنوع من‬
‫املراوغة‪ ,‬كانت تتوقع �أنه �سيدخل �إليها بعد حلظات ومعه الطعام ثم يرتكها‬
‫ويخرج؛ لينام على املقعد العري�ض الباهت املجاور لباب املخزن‪ ,‬لقد كانت‬
‫تراقبه يف كل مرة يفعل فيها ذلك‪.‬‬
‫عندما �أخذ منها حجابها ُعنوة خرج وتركها‪ ،‬ويف الليل �أتى لها بغريه‪،‬‬
‫حجاب جديد �أكرب حجم ًا من الذي �سبقه وب�صحبته جلباب يفوقها طو ًال‬
‫ارتدتْه ومل تنم تلك الليلة حتى ا�ستمعت �إليه يغادر ُم�سابق ًا خليوط‬
‫وعر�ض ًا‪َ ،‬‬
‫ال�شم�س الأوىل‪.‬‬
‫�أما اليوم فهو مل يلج �إليها حتى �إنها ت�شك يف كونه هو �أم ال؟‪ ,‬وحده �أم‬
‫ب�صبحة �أحدهم؟‪ ,‬لقد �سم َعتْه يتحدث بنربة منخف�ضة برغم الق�سوة التي‬
‫خرجت بها ولكنها مل تفهم احلديث‪ ,‬ثم حدث ما �أرعبها فج�أة‪ ,‬و�صل مل�سامعها‬
‫أ�سد يت�أمل يف معركة ال يريد اخل�سارة‬
‫�صوت �شيء يتحطم وخرج �صوته كزئري � ٍ‬
‫هي على الإطالق!‬
‫فيها ‪ ..‬وخ�صمه غري ِّ‬
‫حاربت نف�سها كثري ًا كي تظل قابعة مكانها تنتظر �إما هدوء العا�صفة �أو‬
‫�أن تطولها الزوابع‪ ،‬ولكن الف�ضول الذي قتل القطة �سابق ًا متلك منها الآن‪,‬‬
‫‪‬‬
‫ت�سللت مرهفة ل�سمعها حتى هبطت ببطء على الأر�ض‪ ،‬وبد�أت مت�شي هنيهة‬
‫حتى ال يجذب قيدها انتباهه‪ ،‬وهي جتر قدميها نحو الباب‪ ،‬و�أل�صقت �أذنها‬
‫بحذرٍ‪ُ ,‬فرجة �صغرية من مو�ضع‬‫هناك للحظة قبل �أن تتجر�أ وتفتح الباب َ‬
‫الباب املواجه مل�ساحة املخزن الوا�سعة �أمامها كانت كافية لرتى كل ما يحدث‪.‬‬
‫لقد كان ي�ضرب املقعد بقدمه ثم يلكم اجلدار وهو ي�شتُم نف�سه‪ ,‬يقف قلي ًال‬
‫ُماو ًال تهدئة نف�سه‪ ،‬ولكن الغ�ضب املتم ِّلك من �أوردته وعروقه املنتفخة ووجهه‬
‫املحتقن للغاية يجعله يعاود َل ْك ْم اجلدار جم َّدد ًا‪.‬‬
‫ثم ا�ستدار نحوها فج�أة‪ ,‬تراجعت هي يف �سرعة �شاهقة وقبل �أن ُتغلق تلك‬
‫بعنف ف�سقطت‪ ,‬وعندما � َّ‬
‫أطل‬ ‫ال ُفرجة الب�سيطة كان قد و�صل �إليها‪ ,‬دفع الباب ٍ‬
‫برعب وهي ُتتمتم معتذرة وقد �سقط قلبها بني‬
‫بوح�ش َّيته من خلفه نظرت له ٍ‬
‫قدميها خ�شي ًة‪:‬‬
‫التل�ص�ص عليك‪� ..‬أنا �سمعت فقط‪..‬‬
‫�آ�سفة ‪ ..‬مل �أكن �أق�صد ُّ‬
‫فرغ غ�ضبه فيه فوجدها‬ ‫ولكنه مل ميهلها الوقت‪ ,‬لقد كان يبحث عن �شيء ُي ِ‬
‫�أمامه‪ ,‬كان جاثي ًا �أمامها يف خطوة واحدة‪ ،‬وعيناه حتمالن نظرة �أرع َبتْها ثم‬
‫قال بنربة مت�شفية‪:‬‬
‫أخوك الآن يف امل�شرحة بعد �أن‪...‬‬
‫لك خرب مبليون جنيه ‪ِ � ..‬‬
‫عندي ِ‬
‫ابت�سم ب�ش ٍّر‪ ،‬وهو يتوقع �صرخ ًة مدوية تخرج من حنجرتها وهو ي�شري �إىل‬
‫الذبح ُمتابع ًا‪:‬‬
‫رقبته بعالمة َّ‬
‫وربا تلحقني به قريب ًا‪.‬‬
‫ ُق ِتل ‪َّ ..‬‬

‫‪‬‬
‫أ�شاح ْت بوجهها بعيد ًا‪ ،‬وظهر التوتر على حتركاتها وهي تعود خطوة‬
‫� َ‬
‫بارجتاف‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫للخلف زحف ًا مت�سائلة‬
‫هل علموا َمن قتله؟‪.‬‬
‫�صدمتْه‪ ,‬فاج�أته ب�س�ؤالها ومن قبله بر َّدة فعلها‪ ,‬كلما تو َّقع منها �شيئ ًا وجد‬
‫َ‬
‫الف متام ًا‪ ,‬حتى ال ِفطرة الطبيعية التي تو َّقعها‬ ‫�شي ًئا ي�صدمه يف اجتاه ُم ٍ‬
‫ب�صدمتها عند تل ِّقي خرب مقتل �أخيها مل يجدها‪ ،‬ك�أن ت�صرخ وتبكي ُوت�سك‬
‫بتالبيه ناعتة �إياه بالقاتل‪ ،‬خال َفتْها‪ ,‬فقط ُت�شيح بوجهها وت�س�أل عن قاتل‬
‫غريه‪ ,‬هل هي جمنونة ومل يالحظ؟!‬
‫ا�شتعل غ�ضبه فقب�ض على م�ؤخرة ر�أ�سها ُم�سك ًا بكومة من �شعرها �أ�سفل‬
‫حجابها �صارخ ًا بها‪:‬‬
‫أيك؟‪.‬‬
‫أنت معتوهة �أم ماذا؟!‪ ..‬وملاذا ال �أكون �أنا قاتله بر� ِ‬
‫� ِ‬
‫حاولت تخلي�ص �شعرها من قب�ضته‪ ،‬وقد جتمعت الدموع بعينيها بغزارة‬
‫من �شدة الأمل وترجوه �أن يرتكها‪ ,‬ولكنْ رجا�ؤها وبكا�ؤها �أفقداه عقله �أكرث‪,‬‬
‫�إ َّنها معه هنا منذ �أيام‪ ,‬مل تطلب منه م َّر ًة �أن يطلق �سراحها‪ ,‬مل حتاول الهرب‬
‫ولو جمرد حماولة‪ ,‬ت�أكل كل الطعام الذي ي�أتيها به ب�شه َّية‪ ,‬ترتدي املالب�س‬
‫التي منحها �إياها‪ ,‬كل ر َّدات فعلها غريبة وغري طبيعية وك�أنها ‪ ..‬را�ضية عما‬
‫يفعله معها!‬
‫أباك �أي�ض ًا مات ب�أزم ٍة‬
‫أخربك �أنَّ � ِ‬
‫وهل �ستكونني بنف�س الربود عندما � ِ‬
‫أخيك يف امل�شرحة ؟‪.‬‬
‫قلبي ٍة عندما �شاهد جثة � ِ‬
‫�أبي؟!‬

‫‪‬‬
‫هتفت م�صدومة‪ ،‬وقد ات�سعت عيناها ودمو ٌع من نوعية �أخرى بد�أت تتقافز‬
‫منها‪ ,‬تركها وتراجع للخلف ناه�ض ًا م�ؤنب ًا نف�سه وال يعلم ملاذا؟‪ ,‬لقد رمى �إليها‬
‫بالأخبار التي َح�صل عليها وك�أنه يخترب م�شاعرها لوالدها هذه املرة‪.‬‬
‫«ماذا تفعل يا ح�سن يف نف�سك؟‪ ,‬وما دخلك �أنت يف م�شاعرها جتاه هذا �أو‬
‫ذاك؟‪� ,‬أال يكفي �أنك فا�شل كبري للغاية»‪.‬‬
‫ظل ي�ؤنب نف�سه طيلة �ساعات بعد �أن تركها وخرج ُيعيد املقعد البائ�س �إىل‬
‫حالته الأوىل ثم يرمتي فوقه ُمغمِ �ض ًا عينيه‪ ،‬وهو ي�ستمع �إىل بكائها يف الداخل‪,‬‬
‫لو كان بيديه لكان خرج وتركها حتى تهد�أ وتنام‪ ,‬ولكنه ع ِلم �أن البحث عنه‬
‫قدم و�ساقٍ ‪.‬‬
‫جا ٍر على ٍ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫مرت ثالثة �أيام �أخرى ال يخرج �إال عندما ت�أتيه مكاملة حمددة تخربه �أن‬
‫الطعام قد ح�ضر‪ ,‬وعندما يعود بعدها بدقائق قليلة يدخل �إليها ي�ضع الطعام‬
‫�أمامها على الفرا�ش التي انز َو ْت بداخله ال تنام وال ت�أكل وال حتى تنظر نحوه‪,‬‬
‫ا�صر ًا ببكائها املتوا�صل‪ ..‬بكائها الذي كان‬ ‫لقد �أ�صبح �سجين ًا معها‪ُ ,‬م َ‬
‫�صمتت متام ًا‪ ,‬تذبل على‬
‫ْ‬ ‫متوا�ص ًال طيلة الأيام الثالثة املا�ضية‪� ,‬أما الليلة فقد‬
‫عودها‪ُ ,‬تنازع �شيئ ًا بداخلها‪ ,‬بل �أ�شياء ُتنازعها وتدفعها �إىل الهاوية‪.‬‬
‫مل يكن �أمامه �سوى �أن يت�شبث بها حتى ال تهوي �إليها م�سحوقة‪� ,‬أجربها‬
‫على تناول ُلقيمات من طعامها والقليل من الع�صائر‪ ,‬ي�ستجيب ف ُمها لإجباره‪،‬‬
‫ولكنْ عيناها ال ت�ستجيبان وال حتى بنظرة‪.‬‬
‫املرة الرابعة التي يهتم فيها ب�صحة �أحدهم من بعد �أمه و ُمعلمه «�أ�سطى‬
‫رحيم» ‪ ..‬و«كرمي» ال�شاب الهزيل الذي مت �سجنه بتهمة �سرقة ُملفقة كما �أق�سم‬
‫و�سجن ُظلم ًا؟‪ ,‬ومل‬
‫له‪ ,‬وهو �صدقه‪ ,‬وكيف ال وهو �أي�ض ًا مت تلفيق تهمة القتل له ُ‬
‫يكن ت�صديقه له نهاية املطاف بل �صار �أي�ض ًا يحميه من االفرتا�س يف الداخل‬
‫‪ ..‬مل يغفل عنه �سوى مرة واحدة‪ ,‬ولقد كانت كافية؛ لينتهي!‪ ,‬وكافية؛ ليتعلم‬
‫«ح�سن» بطريقة عملية �أن هناك ما ي�سمى بـعدالة القتل!‬
‫وتغ�ضن جبينه متحا�شي ًا الذكرى ولكن هم�ستها‬ ‫�أغم�ض «ح�سن» عينيه‪َّ ،‬‬
‫با�سمه جعلته يفتحهما من جديد عائد ًا �إىل �أر�ض الواقع‪ ,‬الفتاة يتم ت�صفيتها‬
‫بني يديه داخلي ًا وهو ال�سبب!‬
‫‪‬‬
‫عائلتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�سراحك و�أُ ِ‬
‫عيدك �إىل بيت‬ ‫ِ‬ ‫ا�ستعدت عافيتك‪ ،‬ف�س�أُطلق‬
‫ِ‬ ‫لو‬
‫قالها قبل �أن يرتاجع عنها‪ ,‬ال يريد مزيد ًا من خ�سائر َّ‬
‫ممن لي�سوا لهم يف‬
‫هذه احلرب ناقة وال جمل‪ ,‬ولكنها كانت يف عامل �آخر‪ ,‬تهذي دون توقف‪:‬‬
‫ملاذا مل تكن تنظر يل و�أنت ترد �سالمي كل يوم؟‪.‬‬
‫�أي �سالم؟!!‬
‫�س�ألها منده�ش ًا وهو يجل�س القرف�صاء �أمام فرا�شها ال�صغري املنخف�ض‬
‫والذي ي�ستند �إليه بذراعيه و ُيحادثها وهي نائم ٌة مغم�ضة العينني و�شاحبة‪,‬‬
‫زهرة ُتفارق احلياة‪:‬‬
‫ال�سالم ‪ ..‬مل‬
‫كل يوم ‪ ..‬عند عودتي من املدر�سة كنت ‪� ..‬أم ُّر بك و�ألقي َّ‬
‫تكن ترفع ر�أ�سك قط‪.‬‬
‫يعت�صر ذاكرته حماو ًال التذكر‪ ,‬وجبينه َّ‬
‫يتغ�ضن �أكرث ف�أكرث بينما هي ال‬
‫تزال ُت َودعه بعبارات غري مكتملة‪:‬‬
‫نظرتَ نحوي مرة واحدة فقط ‪� ..‬ضربت الأ�شقياء الذين اعرت�ضوا‬
‫طريقي ‪� ..‬صرخت يف وجهي �أن �أعود �إىل بيتي‪.‬‬
‫نعم ‪ ..‬لقد بد�أت تراوده الذكرى‪ ،‬ولكن مالحمها مل تكن وا�ضحة له‪ ,‬يبدو‬
‫�أنه مل يهتم بالنظر �إليها بالفعل‪ ,‬ك ُّل ما ه َّمه وقتها هو �أن ينقذ فتاة يف ورطة‪,‬‬
‫فتاة مراهقة متر به كل يوم ‪..‬‬
‫و ُتلقي ّ‬
‫ال�سالم !‪.‬‬
‫ال ُتعيدين �إىل البيت ‪� ..‬أنا ال�سبب ‪� ..‬أبي �سيقتلني‪.‬‬

‫‪‬‬
‫عيناه تابعتا دمعة يتيمة ف َّرت من طرف عينيها؛ لتبتلعها الو�سادة اخل�شنة‬
‫برفق لتفيق وهو يذكرها حائر ًا من �أمرها‪:‬‬
‫على الفور‪ ,‬فبد�أ يهزها ٍ‬
‫ل�ست ال�سبب يف �شيء‪.‬‬
‫أنت ِ‬‫�أفيقي يا غفران ‪ ..‬لقد مات والدك ‪ ..‬و� ِ‬
‫�سكت قلي ًال وهو يرى الدمعات التي تبعت الدمعة الأوىل تند قافزة من‬
‫حواف عينيها املغلقة تلحق بها �إىل الو�سادة يف �سباق ال ينتهي قبل �أن يقول‬
‫برت ُّد ٍد دون �أن يح�سم �أمره بعد‪:‬‬
‫ل�ست ال�سبب‪ ..‬ل�ستُ �أنا قاتل رمزي ‪ ..‬وال �أحد يعرف من قتله بعد‪.‬‬
‫أنت ِ‬‫� ِ‬
‫فتحت عينيها ببطء وهي تناظره عن قرب مبقلتني �ضائعتني هام�سة‪:‬‬
‫�أعرف‪� ..‬أنت مل تقتل �سلمى ‪ ..‬ومل تقتل رمزي ‪ ..‬بل �أنا التي فعلت!‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫بد�أ «عا�صم» التحقيقات من البداية‪ ,‬و�سمع �أقوال ِّ‬
‫كل َمن لهم عالقة‬
‫بطبيب الن�ساء القتيل �سواء من قريب �أو بعيد‪ ,‬ولكن �شهاداتهم مل تختلف‪,‬‬
‫املمر�ضة التي اكت�شفت اجلرمية ال زالت حمبو�سة على ذمة التحقيق‪ ,‬ولقد‬
‫ا�ستغل «عا�صم» رعبها وحالتها املُزرية التي و�صلت �إليها على �إثر احلب�س‬
‫وكونها م�شتبه ًا بها‪ ،‬وا�ستطاع �أن ي�ستنطقها فيما يخ�ص عالقات الطبيب غري‬
‫امل�شروعة والتي كانت ُتنكرها يف البداية‪.‬‬
‫مل يكن الأمر جم َّرد حد�س بالن�سبة له‪ ,‬ولكن املح�ضر الذي ُقدِّ م �ضده منذ‬
‫عام تقريب ًا من �سيدة ُتدعى «�أمل» ‪ ,‬واملداخالت التليفونية التي �أجرتها تلك‬
‫ال�سيدة على بع�ض الربامج احلوارية تتهمه فيها باغت�صابها �أثناء تخديرها‬
‫مل مير مرور الكرام عليه‪ ،‬حتى لو تنازل كالهما عن حقوقه فيما بعد‪ ،‬ومت‬
‫ال�صلح بينهما ب�شكل ود ٍِّّي‪ ,‬و�أمر با�ستدعاء «�أمل» ولكنه مل يعرث عليها يف حمل‬
‫�إقامتها وعلم عن طريق التحريات �أنها ُطل َق ْت بعد �أن قامت ب�أول مداخلة‬
‫تليفزيونية �ضد رغبة زوجها وعائلتها كلها بالتبعية والتي تتمثل يف �شقيقتها‬
‫الكربى وزوجها فقط ‪.‬‬
‫عالقات من املمكن �أن ت�ؤدي �إىل‬
‫ٍ‬ ‫كان ي�سري خلف كل خيط ٍّ‬
‫متدل من دائرة‬
‫انتقام مثل الذي حدث للطبيب بالطريقة التي ُع ِّذب بها ُقبيل مقتله‪ ,‬ويجمع‬
‫كل تلك اخليوط واحد ًا تلو الآخر ب�صرب‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وقد بد�أ من �أبعد نقطة عك�س ماهو ُمتوقع‪ ،‬وقام با�ستدعاء الزوج ال�سابق‬
‫لل�سيدة «�أمل»‪ ,‬والذي مل ُي ِبد � َّأي تعاون يف البداية‪ ،‬وكانت �إجاباته مقت�ضبة‬
‫حا�سمة‪ ,‬كان منغلق ًا للغاية ينظر �إىل �ساعة مع�صمه كل دقيقة على الأقل‪ ،‬وقد‬
‫�ضغط �آخر زر للتمدن عند «عا�صم» وهو يقول متعج ًال‪:‬‬
‫من ف�ضلك يا فندم‪� ..‬أنا م�شغول جد ًا‪ ،‬و�أريد االن�صراف‪.‬‬
‫ُترى من الذي �أتى �صباح ًا وهو ُيحدث نف�سه عن ال�صرب؟!‪� ,‬ضرب «عا�صم»‬
‫�سطح مكتبه بكفه فانتف�ض املهند�س «مازن» كما انتف�ضت الأوراق ال�ساكنة فوق‬
‫املكتب متام ًا‪ ,‬ثم نه�ض ودار حوله حتى وقف خلفه منحني ًا نحو �أذنه هاتف ًا‬
‫بع�صبية‪:‬‬
‫م�شغول هذه تقولها لـ‪.....‬‬
‫قطع «عا�صم» عبارته معتد ًال وهو يزفر ب�ضيق ُمت�أفف ًا‪ ,‬احتقن وجه «مازن»‬
‫وع ّدل من رابطة عنقه بارتباك‪ ,‬لقد كاد �أن ُي�شتم منذ حلظة‪ُ ,‬ترى من الذي‬
‫�أتى �صباح ًا وهو ُيحدث نف�سه عن احلقوق؟!‪.‬‬
‫و�ضع «عا�صم» كفه على ك ِتف «مازن»‪ ،‬و�ضغطها بقوة ُمهدد ٍة ُماو ًال‬
‫ا�ستدعاء ذاك ال�صرب املزيف قائ ًال‪:‬‬
‫ا�سمع يا ب�شمهند�س ‪� ..‬أمامنا جرمية قتل ‪ ..‬والقتيل اته َمتْه زوجتك‬
‫�سابق ًا �أنه اغت�صبها ‪ ..‬فهل تدرك �صعوبة موقفك؟‪.‬‬
‫التفت «مازن» على الفور بج�سده ب�شكل مبالغ فيه وهو يهتف م�صحح ًا‬
‫بتوتر‪:‬‬
‫طليقتي ‪ ..‬لقد ‪ ..‬لقد طلقتُها‪ ،‬وعالقتي بها منعدمة متام ًا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ ملاذا؟‪.‬‬
‫توتر «مازن» �أكرث‪ ،‬وزاد ارتباكه فلم يفهم ال�س�ؤال‪ ,‬انقطعت عالقته بها؛‬
‫لأ َّنه ط َّلقها فقط‪ ,‬ما امل�شكلة؟‪.‬‬
‫قمت بتطليقها يا ب�شمهند�س؟‪.‬‬
‫ملاذا َ‬
‫�أطرق «مازن» وهو يعود بج�سده مر ًة �أخرى �إىل و�ضعه الأول وهو يجيب‬
‫بخزي‪:‬‬
‫ٍ‬
‫هي التي دف َعتْني �إىل ذلك بعنادها‪.‬‬
‫�سار «عا�صم» ببطء حتى ا�ستوى على املقعد املقابل ب�أريحية منحني ًا للأمام‬
‫وم�ستند ًا مبرفقيه �إىل فخذيه وهو ُ‬
‫يومئ بر�أ�سه قائ ًال‪:‬‬
‫�أنا � َ‬
‫أ�سمعك ‪� ..‬أريد كل التفا�صيل مهما كانت �صغرية ‪ ..‬تفهمني بالطبع‪.‬‬
‫تنحنح «مازن» وهو يرى التهديد املغلف بتلك االبت�سامة ال�صفراء بو�ضوح‪,‬‬
‫ثم ابتلع ريق ًا وهمي ًا قائ ًال‪:‬‬
‫�أخربتْني �أمل �أنها ا�ستيقظت لتجد نف�سها يف حالة �إعياء‪ ،‬وعندما‬
‫قريب قامت بعملية تنظيف رحم؛‬ ‫ذه َب ْت مع �شقيقتها �إىل م�ست�شفى ٍ‬
‫لأ َّنها �أُجه�ضت ‪ ..‬وبعد �أيام عند عودتي من عملي فوجئت بفتاة �سمراء‬
‫تغادر �شقتنا كالهاربة ‪ ..‬مبجرد �أن �أغلقت باب ال�شقة �سمعتُ �صوت‬
‫�أمل من الداخل تبكي ب�شدة ‪ ..‬دخلت الغرفة التي كانت بها فوجدتها‬
‫جتل�س �أر�ض ًا وت�شهق بنحيب ك َمن يعاين �سكرات املوت ‪ ..‬علمتُ بعد‬
‫ذلك منها �أن تلك الفتاة ال�سمراء كانت املمر�ضة التي ا�صطحبتها �إىل‬
‫غرفة اجلراحة ثم �أخربتني بـ‪....‬‬
‫‪‬‬
‫تطل‪ ،‬يبتلع فيها ُلعاب ًا حقيقي ًا هذه املرة وهو يالحظ‬
‫�صمت للحظة مل ْ‬
‫التغ�ضن على جبني اجلال�س �أمامه م�ستعد ًا ل�صفعه على الدوام وتابع‬ ‫ُّ‬
‫م�ستطرد ًا‪:‬‬
‫�أخربتْني �أن املمر�ضة اعرتفت لها �أن الطبيب بعد �أن �أنهى اجلراحة‬
‫�أمرها واملمر�ضة الأخرى وطبيب التخدير ب�أن يغادروا ويرتكوهما‬
‫وحدهما لع�شر دقائق ‪ ..‬وان�صاع اجلميع وخرجوا دون �أن يقدر �أحدهم‬
‫على االعرتا�ض حتى طبيب التخدير‪.‬‬
‫ثم ؟‬
‫تل�ص َ�صت ال�سمراء كما تفعل كل مرة ور�أت كل �شيء‪.‬‬
‫ثم َّ‬
‫كل مرة؟!!‬
‫حترك «عا�صم» بتحفز وقد جاءته «كل مرة» هذه ك�صاعقة �ضربت كل‬
‫من حوله‪ ،‬وتركته يتخبط فكررها متعجب ًا‪َّ ،‬‬
‫مما جعل «مازن» يخ�شى �أن يورط‬
‫نف�سه �أكرث فقال على الفور‪:‬‬
‫هي التي ح َك ْت يل هذا‪� ..‬أنا مل �أ َر �شيئ ًا‪.‬‬
‫�أكمل‪.‬‬
‫بعد �أن ا�سرتدت �أمل وعيها‪ ..‬ومتالكت نف�سها نه�ضت جتذبني وهي‬
‫تق�سم ب�أنها �ست�سرت ُّد حقها‪ ..‬وطالبتني ب�أن �أذهب معها لتحرير‬
‫حم�ضر‪ ..‬ولكنني رف�ضت ‪ ..‬فرتكتْني وجذ َب ْت حقيبتها وخرجت‬
‫كاملجنونة‪.‬‬
‫ملاذا رف�ضت؟!‪ ..‬هل كنت تفكر يف االنتقام منه بيدك؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ات�سعت عينا «مازن» وهو ي�شري بكلتا يديه هاتف ًا‪:‬‬
‫ال ال ‪� ..‬أنا ل�ستُ من هذا النوع ‪ ..‬ولكننى مل �أكن م�ستوعب ًا لأي �شيء‬
‫تتفوه به ‪ ..‬كنت �أريد �أن �أفكر �أكرث و�أ�س�أل �أخي الأكرب �أو ًال‪.‬‬
‫�أخوك هذا هو زوج �شقيقتها الكربى ‪� . .‬ألي�س كذلك؟!‬
‫بلى‪.‬‬
‫الحت ابت�سامة �ساخرة على زاوية �شفتيه‪ ،‬وهو ينظر لـ «مازن» و ُيعيد تقييمه‬
‫منحه قيمة �أكرب مما ي�ستحقها‪ ,‬حترياته عنه‬ ‫من البداية ومن جديد‪ ,‬يبدو �أنه َ‬
‫قالت ب�أن �شقيقه الأكرب هو َمن قام برتبيته واهتم به‪ ،‬وهو َمن ز َّوجه بـ �أمل»‬
‫بعد �أن تزوج هو من �أختها بعدت �سنوات وله �أف�ضال كثرية عليه ‪.‬‬
‫ومباذا �أمرك �أن تفعل؟‪.‬‬
‫نربته الهازئة تلك مل متنع «مازن» من اال�سرت�سال‪ ,‬فهو ال يرى � َّأي عيب يف‬
‫�أن ي�ستمع �إىل قول َمن هو �أكرب منه‪ ،‬وبالت�أكيد يفهم �أكرث منه كما كانت ت�ؤكد‬
‫عليه دائم ًا والدتهما املتوفاة وهي تو�صيه ب� َّأل يخرج عن طوع �أخيه الأكرب مهما‬
‫حدث‪..‬‬
‫عقد �أخي جل�سة عائلية فيما بعد‪ ..‬وا�ستمع �إىل احلكاية من � َأمل‬
‫بنف�سه وعندما انت َه ْت‪ ,‬قال‪� :‬إنَّ من املمكن �أن تكون املمر�ضة ال�سمراء‬
‫حتكي ق�صة وهمية تفرتي بها على الطبيب لعداو ٍة مث ًال �أو �شيء من‬
‫هذا القبيل‪� ,‬أو ت�سعى �إىل ابتزازنا فيما بعد ب�أي �شكل من الأ�شكال‪..‬‬
‫فهي الوحيدة التي تقول‪� :‬إنها ر�أت هذا بينما �أنكرت املمر�ضة الأخرى‬
‫وكذلك طبيب التخدير عندما مت ا�ستدعا�ؤهما على �إثر املح�ضر الذي‬
‫ق َّد َمتْه �أمل ‪ ..‬وقال‪� :‬إنَّ املح�ضر مادام قد مت تقدميه وبد�أت التحقيقات‬
‫عم ُت�س ِفر نتيجته؟‪.‬‬
‫بالفعل ف�سننتظر ونرى َّ‬
‫‪‬‬
‫واخت َفت املمر�ضة!‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬ورمبا تكون هربت؛ لأ َّنها تعلم �أ َّنها كاذب ٌة‪.‬‬
‫�أعتقد �أنَّ هذا كان ر�أي � َ‬
‫أخيك ‪� ..‬ألي�س كذلك؟!‬
‫ال زالت النربة الهازئة يف كل �س�ؤال يوجهه له‪ ,‬والزال «مازن» ملتزم ًا جد ًا‬
‫بالإجابة متظاهر ًا ب�أنه ال يفهم‪:‬‬
‫بلى‪ ..‬عقد �أخي جل�سة عائلية �أخرى‪ ،‬وقال‪ :‬مبا �أن املمر�ضة قد اختفت‬
‫فهي كاذبة‪ ..‬وكانت تريد ابتزازنا من البداية‪ ،‬و ِبنا ًء عليه فق�صتها‬
‫كاذبة‪ ،‬ويجب �أن يتم التنازل وال�صلح و�أن نقدم اعتذار ًا للطبيب ‪..‬‬
‫ولكن � َأمل �أُ�صيبت بحالة هياج غري طبيعية‪ ،‬وقامت بتك�سري الأكواب‬
‫التي كانت �أمامنا على الطاولة وهي ت�صرخ ب�أننا معدومو الرجولة‪.‬‬
‫فقمت ب�ضربها‪.‬‬
‫قالها «عا�صم» بثقة وك�أنه كان يجل�س معهم مما جعل «مازن» ينظر له‬
‫بده�شة‪ ،‬فتغا�ضى الأول عن تلك النظرة البلهاء‪ ،‬و�أوم�أ بر�أ�سه يحثه على‬
‫املتابعة وا�ستطرد «مازن» يف �أقواله مبنتهى الطاعة قائ ًال‪:‬‬
‫مل �أكن لأ�سكت و�أخي ُيهان من زوجتي‪ ..‬حتى �أختها نه َرتْها وتركتني‬
‫َّعظ‪ ،‬فخالفتنا مرة �أخرى‪ ،‬ورف�ضت التنازل‪،‬‬ ‫�أ�ضربها ‪ ..‬ولكنها مل تت ْ‬
‫وبد�أت تتحدث �إىل القنوات الف�ضائية‪ ،‬وتذكر �أ�سماءنا كاملة وتف�ضحنا‬
‫�أمام النا�س بق�صتها تلك ‪ ..‬فما كان مني �إال �أن طلقتُها وت َّرب�أَ ْت‬
‫�شقيقتها منها وهج َرتْها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫وعندما و�صل �إىل تلك النقطة من احلكاية بد�أت تراود الثقة حديثه وهو‬
‫يتابع بفخر‪:‬‬
‫ورغم ذلك مل نرتكها‪ ..‬فعندما ات�صل بنا حمامي الطبيب‪ ،‬و�أخربنا‬
‫ب�أنهم �سريفعون ق�ضية ر ِّد �شرف وتعوي�ض‪ ،‬و�سي�سجنونها فهي لي�س‬
‫لديها �شهود وال �أدلة �شرعية ‪ ..‬تدخلنا على الفور وهددها �أخي‬
‫ل�صاحلها ‪� ..‬إما �أن تتنازل ويتم ال�صلح‪ ،‬و�إما �أن نرتكها ُت�سجن‪ ،‬ولن‬
‫ُي�س� َأل عنها بعد ذلك مهما حدث‪.‬‬
‫وتناز َل ْت‪.‬‬
‫هذه املرة مل تكن حروفه �ساخرة‪ ,‬خرجت م�ستاءة و ُم َّرة من الواقع الذي‬
‫يعرفه وخربته ل�سنوات‪ ,‬ف�أوم�أ «مازن» م�ؤكد ًا وهو يقول‪:‬‬
‫تنازلت رغم ًا عنها وعقدنا ال�صلح ‪ ..‬ولكننا مل َ‬
‫نن�س ما فعلت ‪ ..‬بعد‬
‫فرتة �أخي مت ترقيته‪ ،‬وانتقل لفرع ال�شركة التي يعمل بها يف اخلارج‪،‬‬
‫ولكن �شقيقتها �أرادت �أن تزورها للمرة الأخرية قبل �سفرها ‪..‬‬
‫فتفاج�أت بها يف حالة ر َّث ٍة وغري طبيعية ف�أ�شار �أخي عليها �أن تقوم‬
‫ب�إيداعها م�صحة نف�سية‪.‬‬
‫تق�صد �أمرها‪.‬‬
‫�سكت «مازن» ومل يجد داعي ًا للإجابة‪ ,‬فهو مل يكن �س�ؤا ًال‪ ،‬بل �إقرا ٌر‬
‫باحلقيقة‪ ,‬وانتهى «عا�صم» يف �أخذ كل ما �أراده من تفا�صيل ال توجد‬
‫باملحا�ضر‪ ،‬ومن بينها موا�صفات تلك املمر�ضة ال�سمراء التي اخت َفت يف‬
‫ظروف غام�ضة‪ ،‬وا َّدعى امل�شفى �أنها طلبت �إجازة طويلة‪ ،‬ومل تعد من وقتها‬

‫‪y‬‬
‫فتم حتويلها للتحقيق الإداري الذي مل حت�ضر �إليه �أي�ض ًا ‪ ...‬واختفت الفتاة‬‫َّ‬
‫وك�أنها تبخرت يف الهواء‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪� -‬أُق�سم لك يا فندم ‪ ..‬هذا كل ما �أعرفه عن تلك املري�ضة‪.‬‬
‫كانت تقف باكية بجوار مكتبه‪ُ ,‬تق�سم باهلل بعد كل كلمة‪ ،‬بل رمبا بعد كل‬
‫حرف تنطق به‪ ,‬وهي ُتيبه عن �أ�سئلته للمرة الثالثة َّربا �أو الرابعة‪ ,‬مل تعد‬
‫تذكر كم مرة قام بالتحقيق معها؟‪ ,‬ويف كل مرة ُيعيد ت�سا�ؤالته بطرقٍ خمتلفة‪,‬‬
‫لقد �أر�شدته يف البداية للدفرت الذي تقوم بت�سجيل بيانات املري�ضات فيه‬
‫ملف خا�ص بتفا�صيل‬ ‫واحلجز لهن يف مواعيد حمددة‪ ,‬كل ا�سم مري�ضة له ٌّ‬
‫مر�ضها وبياناتها ال�شخ�صية‪ ,‬وقام هو بدوره يف ا�ستدعائهن و�أخذ �أقوالهن‬ ‫ِ‬
‫حول �سلوكيات الطبيب وما حدث يف تلك الليلة‪ ,‬جميعهن �إال واحدة‪ ,‬واحدة‬
‫فقط اكت�شف �أن ا�سمها وهمي وكذلك رقم هاتفها وكل بياناتها ال�شخ�صية لي�س‬
‫لها وجود على �أر�ض الواقع‪ ,‬لقد كانت بالن�سبة له اكت�شاف ًا رائع ًا‪ ,‬لذلك مل يكن‬
‫ليف ّوتَ تلك الفر�صة وطلب من املمر�ضة �أن ت�صف له تلك املر�أة بالتف�صيل‪,‬‬
‫وفع َل ْت‪ ,‬ولكنها كانت �أو�صاف ًا مرتبكة‪ ،‬ترددت فيها كثري ًا وهي ت�صفها‪ ،‬وك�أنها‬
‫تتذكرها ب�صعوبة‪ ,‬وك َّلما �أعادت الو�صف ازدادت ا�ضطراب ًا و�صعوبة يف �أن‬
‫جتمع له تفا�صيل وجهها بدقة‪ ,‬حتى الر�سام الذي يجل�س ُقبالتها ف�شل يف ر�سم‬
‫مالمح كاملة ل�شخ�صية طبيعية‪.‬‬
‫تع�صر ذهنها ع�صر ًا‬
‫�إنها تخ�شى �أن تظلم �أحدً ا بو�صف ال تذكره جيد ًا‪ِ ,‬‬
‫فيت�ش َّو�ش �أكرث‪ُ ,‬وتيب بالنفي عندما ُيريها الر�سام املالمح الكثرية التي يقوم‬
‫بر�سمها ويعر�ضها عليها ع َّلها جتد �ضالتها‪ ,‬وكيف تفعل وهي ترى يومي ًا ع�شرات‬
‫‪‬‬
‫الن�ساء‪ ,‬بع�ضهنَّ تعرفهن معرفة جيدة لطول فرتة ترددهن على العيادة‪ ,‬ولكن‬
‫هذه املر�أة مل ترها �سوى مرتني فقط‪ ,‬فكيف متيزها الآن ب�سهولة؟‪.‬‬
‫�أال يكفي �أنها م�شتبه بها منذ اللحظة الأوىل وا�ضطرت خوف ًا يف البداية‬
‫�أن ُتنكر ما كانت تراه �أو ت�سمعه من عالقات م�شبوهة؟‪ ،‬كانت حتدث �أ�سفل‬
‫ناظريها وكل يوم دون �أن ت�ستطيع �أن تنطق بكلمة واحدة‪ ,‬فالطبيب هو �صاحب‬
‫ف�ضل عليها ومينحها الكثري من املال مبا يغطي نفقاتها هي و�أوالدها التي تقوم‬
‫على �إعالتهم وحدها‪ ,‬نعم كان هذا املال ُملوث ًا ب�سكوتها على النجا�سة التي‬
‫كانت حتدث‪ ،‬ولكن ماذا كان بيدها �أن تفعل؟‪ ,‬وقدمي ًا قالت لها �أمها ‪« :‬اربطي‬
‫ولتع�ش فقط‪ ،‬ا�ضطرت �إىل ربط اخلنزير‬ ‫ْ‬ ‫احلمار مطرح ما �صاحبه عاوزه»‪.‬‬
‫نف�سه ولي�س احلمار فقط‪.‬‬
‫�أما الآن وقد هددها «عا�صم» ب�أنهم �إن مل يجدوا القاتل‪ ،‬ف�سوف يتم‬
‫فك كل احليوانات التي َ‬
‫ربطتْها من‬ ‫اتهامها هي بالقتل‪ ،‬فلم جتد مفر ًا من ِّ‬
‫قبل‪ ,‬وق�صت له كل ما تعرفه ور�أته منذ عملها مع الطبيب‪.‬‬
‫مت �ضده �شكوى تتهمه‬ ‫كانت ق َّد ْ‬
‫يف �أحد الأيام ح�ضرت ال�سيدة التي ْ‬
‫فيها باغت�صابها‪ ،‬وافتعلت ف�ضيحة يف العيادة ‪ ..‬ولكننا قمنا بطردها‬
‫�أنا وهو‪ ،‬و�سمعتُه يقول لها‪� :‬إ َّنها لن ت�ستطيع �أن تثبت �شيئ ًا �ضده ‪..‬‬
‫فهي ال تعرف َمن هو؟‪ ،‬وماذا ي�ستطيع �أن يفعله بعالقاته الوا�سعة؟ ‪...‬‬
‫أق�سم لك ‪..‬‬
‫� ُ‬
‫ا�صمتي‪..‬‬
‫�صرخ «عا�صم» بوجهها فارتعبت وتراجعت للخلف باكي ًة‪ ،‬وهي ت�ضع كفها‬
‫على فمها ُتنفذ �أمره حرفي ًا‪ ،‬بينما هو ينه�ض وقد �أفلتت ع�صبيته من عقالها‬
‫وجذبها من مالب�سها عند ك ِتفها ودفع بها نحو املقعد املواجه ملكتبه‪:‬‬
‫‪‬‬
‫�صوتك خلم�س دقائق كاملة ‪ ..‬اخر�سي وا�ستجمعي‬
‫ِ‬ ‫ال �أريد �أن �أ�سمع‬
‫عقلك‪ ،‬وحاويل تذ ّكر وجه تلك املر�أة بكل طريقة ممكنة ‪ ..‬هل‬
‫ِ‬
‫تفهمني؟‪.‬‬
‫�أوم�أَ ْت له بر�أ�سها عدت مرات بطريقة هي�ستريية زادت من غ�ضبه فزفر‬
‫حانق ًا‪ ،‬وهو يعود؛ ليجل�س خلف مكتبه ويقر�أ �أقوالها التي مت تدوينها �سابق ًا‪,‬‬
‫بينما �أ�صابعه تنقر �سطح املكتب حماو ًال تهدئة ما تبقى من �أع�صابه‪ ,‬كلما‬
‫و�صل �إىل خيط ما وجده بال قيم ٍة!‪ ,‬موا�صفاتها كلها مت�ضاربة‪ ,‬تارة تقول‪� :‬إن‬
‫املري�ضة وهمية اال�سم‪ ،‬يظهر على مالب�سها �أنها من الطبقة املتو�سطة على‬
‫اعتدنْ الرتدد على الطبيب‪ ,‬ماذا �سي�أتي بامر�أة‬‫عك�س جميع املري�ضات الالتي َ‬
‫كتلك �إىل طبيب يف حي املعادي ويف كل مرة تدفع ك�شف ًا م�ستعج ًال يفوق ثمن‬ ‫َ‬
‫الك�شف العادي �ضعفني؟‪ ,‬ثم متنح املمر�ضة ِبق�شي�ش ًا حتى ال جتل�س منتظرة‬
‫ولو دقيقة واحدة‪ ,‬يظهر عليها الك�آبة ويف نف�س الوقت ت�ضع م�ساحيق بطريقة‬
‫مبالغ بها‪ ،‬حتى تكاد مالحمها الأ�صلية تختفي وترتدي قفازات ال تخلعها‪ ..‬هل‬
‫طلب منها �أن ت�صف له ُمه ِّرج ًا يف ال�سريك �أم ماذا؟ !‪.‬‬
‫�أ�سند ر�أ�سه �إىل كفيه‪ ،‬و�أغم�ض عينيه فقد اكت�سح ر�أ�سه �صداع ي�ضرب �شقه‬
‫الأمين كاملطرقة‪ ،‬وهو ي�ستمع �إىل الر�سام الهادئ للغاية يحاول ا�ستخال�ص‬
‫مالمح �أكرث دقة منها‪ ،‬بينما قلمه يتحرك على الورق مع حترك �شفتيها‪.‬‬
‫رفع ر�أ�سه �إليهما عندما الحظ اهتمام ًا يعلو وجه الرجل وهو يعكف على‬
‫�إنهاء عمله‪ ,‬ف�أخذ يحثه على االنتهاء �سريع ًا‪� ,‬إنه يف �صراع مع الوقت‪.‬‬
‫تقريب ًا انتهيت‪ ..‬انظري �إليها مل َّي ًا‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ق َّرب الر�سام الورقة من املمر�ضة التي �صمتت للحظة تت�أملها قبل �أن تقول‬
‫برتدد‪:‬‬
‫�أعتقد �أنها ت�شبهها‪ ..‬قلي ًال‪.‬‬
‫نه�ض «عا�صم» جاذب ًا اللوحة من بني يديها ونظر لها بت�أمل �شديد‪� ,‬إنها‬
‫ُت�شبه امر�أة ر�آها من قبل‪ ,‬ولكن متى‪ ,‬ال يعرف حتديد ًا‪ ,‬ولكن ال ب�أ�س فقد‬
‫ح�صل على �شيء ما �أخري ًا‪� ،‬أي �شيء ي�ؤكد له �أنه يبذل جهده يف االجتاه‬
‫ال�صحيح‪ ,‬مديرية الأمن كلها ت�ضغط عليه كل يوم‪ ,‬زمال�ؤه ومديروه ي�س�ألونه‬
‫كل يوم‪« :‬هل و�صل ل�شيء؟» الإعالم يتحدث عن الق�ضية بينما «رائد» يجل�س‬
‫يف مقاعد املتفرجني‪ ,‬ال يتحرك وال يتعاون معه ب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ,‬حتى‬
‫التحقيقات ال يتواجد يف معظمها‪.‬‬
‫ال ي ُه ُّم كل هذا‪ ,‬فلقد �أو�شك على الو�صول‪� ,‬سيذهب الآن �إىل امل�صحة‬
‫النف�سية كما خطط �سابق ًا ليتحدث مع «�أمل» وليعرف تفا�صيل �إدارية حول‬
‫�إمكانية مغادرتها للم�صحة ولو لدقائق قليلة �أم ال‪ ,‬وعند عودته �سيبد�أ يف طبع‬
‫وتوزيع تلك اللوحة املر�سومة يدوي ًا والبحث عن �صاحبتها املجهولة!‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫كيف حالك اليوم؟‬
‫احلمد هلل‪ ..‬جيدة‪.‬‬
‫�أرى ذلك‪ ..‬هل تودين اخلروج من امل�صحة؟‪.‬‬
‫ال‪ ..‬الزلت �أحتاج �إىل البقاء بع�ض الوقت‪.‬‬
‫حوار �صباحي �شبه يومي بد�أ ي�شعرين بامللل‪ ,‬فبعد �أن حت�سنت حالة «�أمل»‬
‫كثري ًا‪ ،‬وبد�أت تتعافى مع الدكتور «يحيى» �أثناء اجلل�سات وتهم�س مبا كانت‬
‫أيام فقط‪.‬‬
‫حتمله على عاتقها قبل � ٍ‬
‫قبل �أن ي�أخذها الف�ضول لتتقدم من حا�سوبي املحمول وجتل�س �أمامه وقد‬
‫جذبها العنوان الأحمر الكبري الذي ُكتب يف ال�صفحة الرئي�سية التي كنتُ‬
‫�أت�ص ُفحها قبل مغادرتي احلجرة لر�ؤية زوجي الذي جاء �إىل امل�صحة لزيارتي‬
‫ب�صحبة طفلتيه‪.‬‬
‫«العثور على جثة طبيب الن�ساء ال�شهري يف عيادته اخلا�صة يف ظروف‬
‫غام�ضة» ‪.‬‬
‫وعندما ُعدتُ �إليها بعد ن�صف �ساعة وجدتها ت�ضم كفيها �أمام �صدرها‬
‫بينما دم ُعها يهطل كال�شالل على وجنتيها و ُيغرق وجهها كله ‪ ..‬حتى �شفتيها‬
‫املبت�سمتني‪ ,‬لقد كانت تبت�سم وهي ت�شهق باكية‪ ,‬حالة تليق بنزيلة م�صحة‬
‫‪‬‬
‫نف�سية!‪� ,‬أكا ُد ُ�أجزم �أن ما يجعلها تبت�سم لي�س القتل يف حد ذاته‪ ,‬بل طريقة‬
‫القتل نف�سها ‪ ..‬عادلة جد ًا‪ ,‬عادلة لدرجة �أن حطمت قيد �شفتيها ‪ ..‬فابت�سمت‪,‬‬
‫وهذا يكفيني!‬
‫دكتور يحيى‪.‬‬
‫التفت نحوي بوجه ُم�شرق وابت�سامة المعة فقلتُ ب�شفرة بيننا‪:‬‬
‫متى موعد جل�ستي معك؟‪.‬‬
‫احتفظ بابت�سامته �إال �أن عينيه تخلتا عن املرح الذي كان يلهو بداخلهما‪:‬‬
‫بعد ن�صف �ساعة ‪ ..‬مبجرد �أن �أنتهي من املرور على بقية الأ�صدقاء‬
‫هنا‪.‬‬
‫ثم عاد بعينيه �إىل «�أمل» جمدد ًا‪ ،‬وودعها بابت�سامة من�صرف ًا‪ ,‬ظلت تتابع‬
‫خطواته حتى ابتعد متام ًا دون �أن تعلم �أنني �أُتابعها هي‪ ,‬هل �أنا �شريرة لأنني‬
‫و�ضعت يوم �أم�س زهرة بي�ضاء على فرا�شها ثم ادعيت كاذبة مب�شاهدة دكتور‬
‫«يحيى» وهو ُي�سقطها ِخفية على و�سادتها �أثناء مروره علينا وقبل مغادرته‬
‫لغرفتنا؟‪.‬‬
‫�إنها لي�ست غلطتي ‪ ..‬ف�أ�شباحي اخلا�صة هم �أ�صحاب هذه الفكرة و�أنا‬
‫قمت بتنفيذ �أفكارهم فقط‪� ..‬إنهم ُيحبون «�أمل» ويريدونها �سعيدة‪ ,‬و�أنا‬
‫كذلك‪� ,‬س�أفعل كل �شيء لتح�صل على ما مل �أح�صل �أنا عليه ‪� ..‬أن تكون حمبوبة‬
‫و�سعيدة!‬

‫‪‬‬
‫�أمل؟‬
‫ناديتُها فالتفتت على الفور بوجنتني متوردتني ف ُقلت �أدفع ال�شعور �إىل قلبها‬
‫دفع ًا‪:‬‬
‫لك مكانة خا�صة عند دكتور يحيى‪.‬‬
‫يبدو �أن ِ‬
‫رم�شت بعينيها مرتبكة حائرة وهي تقول بهم�س ‪:‬‬
‫إنك تتوهمني‪.‬‬
‫� ِ‬
‫نظرت لها ب�صدمة خادعة فا�ضطربت على الفور وهي تعتذر بتوتر‪:‬‬
‫�آ�سفة مل �أق�صد ‪� ..‬أنا �أق�صد ‪..‬‬
‫�ضحكتُ فج�أة و�أنا �أراها تبحث عن تعبري منا�سب فابت�سمت مكت�شفة �أنني‬
‫كنتُ �أُمازحها وتنف�ست ال�صعداء وهي تعتذر جمدد ًا ال �إرادي ًا‪ ,‬ابت�سامتها نادرة‬
‫رغم جمالها‪ُ ,‬تذكرين ب�صديقتي الراحلة بج�سدها‪ ,‬الباقية بهالتها امل�شعة من‬
‫حويل دوم ًا‪ ,‬وب�أفكارها الرائعة للجميع‪ ,‬تريدهم جميع ًا �سعداء‪ ,‬ال تريد �أن‬
‫تعاين امر�أة مما كانت تعانيه هي‪-‬رحمها اهلل ‪!-‬‬
‫وبعد ن�صف �ساعة ح�ضرت «رجاء» لت�صحبني �إىل مكتب الدكتور «يحيى»‬
‫ومررنا باملمر الأبي�ض كالعادة ونحن نتبادل احلديث‪.‬‬
‫طرقت «رجاء» الباب يف روتينية وفتحته على الفور كمن ال يحتاج �إىل‬
‫اال�ستئذان �أو ًال‪.‬‬
‫‪‬‬
‫مل يكن وحده‪ ,‬كان معه �شخ�ص �آخر‪ ,‬نه�ض مبجرد �أن دلفنا �إىل احلجرة‬
‫ووزع نظراته بيننا ولكن لي�س بالتعادل ‪ ..‬لقد منحها كاملة لـ «رجاء» التي‬
‫تراجعت خطوة ال �إرادية للخلف م�ضطربة قبل �أن ُت�سيطر على حركة ج�سدها‬
‫وتقف ثابتة بينما هو يت�أملها لدقيقة كاملة ُم�ضيق ًا ما بني عينيه برتكيز قبل �أن‬
‫يقول لها ببطء وبعينني تلمعان ك َمن وجد كنز ًا دون عناء‪:‬‬
‫أنت �صديقة احلاجة «جليلة»‪� ،‬ألي�س كذلك؟!‬
‫� ِ‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫حملت «فنار» �صغريتها ودلفت �إىل غرفتها؛ لت�ضعها فوق �سريرها‬
‫ال�صغري‪� ,‬سحبت الفرا�ش فوقها لتُدفئها به وهي حتت�ضنها وت�ضع قبلة على‬
‫�شعرها بهدوء حتى ال ُتوقظها ثم غادرت الغرفة على �أطراف �أ�صابعها و�أغلقت‬
‫ل�ص منازل قبل �أن تتنف�س ال�صعداء‪ ،‬وهي ت�ستدير لتعود‬ ‫الباب خلفها بحذر ِّ‬
‫�إىل غرفة املعي�شة جم َّدد ًا‪.‬‬
‫كانت قد تركت «حممود» يعمل على حا�سبه املحمول لت�ضع طفلتهما يف‬
‫وجدتْه مغم�ض العينني ُم�ستند ًا بر�أ�سه �إىل ظهر‬
‫�سريرها ولكنها عند عودتها َ‬
‫الأريكة‪ ,‬مالحمه يف حالة ا�سرتخاء برغم الإرهاق الذي الزمه طيلة فرتة‬
‫زيارته لهما اليومية كاملعتاد‪.‬‬
‫ال تعلم كيف ميكنه ا�ستغالل كل دقيقة يف وقته بهذا ال�شكل‪ ,‬ما بني عمله‬
‫النهاري يف التدري�س‪ ,‬وزيارته لها وق�ضائه الوقت مع ابنتهما ما بني لهو �أو‬
‫حكايات يحكيها كل منهما للآخر‪ ,‬العمل على موقعه الر�سمي والرد على‬
‫ر�سائل امل�ساعدين له يف �إدارة املوقع �أو حتى ر�سائل ت�ضم معاناة وق�ص�ص ًا‬
‫غم�ضى‬‫طويلة وكثرية ل�شباب ي�سريون يف نف�س الطريق الذي كان ي�سري فيه ُم ِ‬
‫العينني ويريدون اخلروج من هذا امل�ستنقع‪.‬‬
‫�أنا جائع‪ ..‬ج َّد ًا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫بتعب وهو يفتح عينيه ببطء �شاعر ًا بوجودها واقفة جتاهه تت�أمل‬ ‫قالها ٍ‬
‫�سكونه الظاهري‪� ,‬أما باطنه فهو خمتلف متام ًا‪ ,‬وك�أنه يقول‪� :‬إىل متى؟‪..‬‬
‫رث يف اجتاهات بعيدة جد ًا عن بع�ضها البع�ض‪ ,‬ينتظرها �أن‬ ‫ي�شعر �أنه مبع ٌ‬
‫جتمع �أ�شالء �شا�شته ولكنها ال تفعل‪ ,‬ي�شعر بها و ُيدرك التغري الذي يحدث يوم ًا‬
‫بعد يوم يف طريقة تعاملها معه‪ ,‬ولكن �أال يكفي؟‪ ,‬لقد دفع ثمن �أفعاله مبا فيه‬
‫الكفاية ويريد �أن ينعم بالغفران!‪.‬‬
‫ماذا تريد �أن ت�أكل؟‪.‬‬
‫نظر لها نظر ًة ُمطولة قبل �أن يقول با�ستغاثة جعلتها تبت�سم‪:‬‬
‫يدك‪� ..‬أنا �أت�ضور جوع ًا!‬
‫� ّأي �شيء من ِ‬
‫�سارعت �إىل مطبخها وهي ُتخفي �شعور الإرهاق الذي يتملكها هي الأخرى‪,‬‬
‫ْ‬
‫فهي ما بني عملها وحت�ضريها لطعامها هي وال�صغرية ثم القيام بحل الواجبات‬
‫املنزلية ‪..‬ثم ي�أتي هو!‬
‫ره ٌق للغاية‪ ,‬وجوده حولها ُي�شتتها حتى وهي حتاول �أن تتلهى‬
‫وهو وحده ُم ِ‬
‫بالكمية الكبرية من الدفاتر التي ت�ضعها بني يديها على الطاولة امل�ستديرة‬
‫واملقابلة ملكان جلو�سه والتي تقوم بت�صويب الأخطاء فيها للفتيات‪.‬‬
‫عامان وزيادة‪ ،‬والو�ضع يبقى على ما هو عليه‪� ,‬أطرافها مت�شنجة على‬
‫�أحبال م�شدودة طوال فرتة مكوثه وحتى ين�صرف فتبد�أ باال�سرتخاء ُم َّدد ًا‪,‬‬
‫ب�صلبها �أم هي التي تفعل به؟‪ ..‬ال يهم‪ ,‬فكالهما ت�أكل طيور‬ ‫هل هو َمن يقوم َ‬
‫الهجر من ج�سديهما بال رحم ٍة!‬
‫هل تريدين امل�ساعدة؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫تفاج�أَ ْت به يقف على م�سافة منها بجوار املربد م�ستند ًا �إليه بتثاقل‬
‫ال�سلكي‬
‫ّ‬ ‫فتنحنح ْت بحرج بالغ وهي ال تكاد ت�شعر بيدها التي ُت�سك بامل�ضرب‬
‫َ‬
‫بارتباك‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وتخفق به البي�ض ب�سرعة وعنف ال تق�صده‪� ,‬أجابت‬
‫ال‪� ،‬شكر ًا ‪� ..‬س�آتي لك بالطعام خالل دقائق قليلة‪.‬‬
‫هو يعرف �أنها تقوم بطرده ولكنه ال يريد اخلروج‪ ,‬يريد �أن يتبادل معها‬
‫�أطراف احلديث‪ ,‬يفتقد تلك اللحظات الدافئة التي كانا يتحدثان فيها عن كل‬
‫�شيء فيما م�ضى‪ ,‬وياللغرابة!‪ ,‬لقد كانت تلك اللحظات ُت�ش ِعره بال�س�أم‪ ,‬كان‬
‫يريدها �أن تنتهي من �أحاديثها املزعجة عن الأطفال والعمل وما �أرهقها اليوم‬
‫وماذا فعلت فالنة معها‪ ,‬حتى �أنه مل يكن ي�ستمع �إىل ن�صف ما تقول على الأقل‬
‫وال يعلق يف النهاية بر�أي‪ ,‬بل كان ُي�سك بهاتفه وهي تتحدث ويهز لها ر�أ�سه‬
‫امل�شغول بغريها‪.‬‬
‫�أما الآن‪ ..‬فهو ميوت فدا ًء حلديث واحد‪ّ � ,‬أي كلمة تتف َّوه هي بها ي�ستمع‬
‫�إليها بعمق وتبتلعها روحه بعط�ش‪ ,‬و ُت�شعره ب�أنه ما زال َّ‬
‫رب هذه الأ�سرة‪ ,‬وب�أنه‬
‫يف جمال الر�ؤية ‪ ..‬وب�أنه موجود‪.‬‬
‫راقبها وهي تعمل على نقل البي�ض الذي مت َط ْهوه �إىل ٍ‬
‫طبق �آخر دون �أن‬
‫ُتغلق �شعلة النار فتقدم نحوها بتلقائية ومد يده؛ ليغلقها فارتبك كالهما‬
‫للتَّالم�س العفوي للأيدي‪ ,‬ولكنها �سيطرت على الو�ضع ب�سرعة ال�صاروخ‬
‫ومتا�سك ظاهري‪ ،‬ولأجل‬
‫ٍ‬ ‫وابتعدت خطوتني جانب ًا وهي ت�ستكمل عملها ب�إتقان‬
‫�أن تقوم بت�شتيت الباطن �أي�ض ًا قررت ال�سري يف طريق �آخر‪ ,‬طريق �صاحبته‬
‫جمنونة بالإجماع‪:‬‬
‫�أروى �صديقتي �س�ألتني َ‬
‫عنك �أكرث من مرة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ها؟‪.‬‬
‫هو � ً‬
‫أي�ضا تفاج�أ بانت�شالها له من تلك احلفرة التي �سقط فيها مبجرد مل�سة‬
‫ب�سيطة‪ ,‬وقال متجاوب ًا على الفور‪:‬‬
‫كيف حالها؟‪.‬‬
‫قالت مازحة ‪:‬‬
‫ْ‬
‫بخري‪ ..‬ويف كل مرة حتدثني‪ ..‬تتكلم َ‬
‫عنك بامتنان �شديد‪.‬‬
‫أ�صبحت لديه خربة طويلة يف كيفية‬
‫ْ‬ ‫كان عليه �أن ُيجاري احلديث‪ ,‬فلقد �‬
‫ت�شتيت �أفكاره‪:‬‬
‫و َمل االمتنان؟‪ ..‬فما فعلتُه مل يقدم �أو ي�ؤخر � َّأي �شيء‪.‬‬
‫كيف ذلك؟ ‪ ..‬فلقد خاطرتَ بحياتك‪ ..‬هل ن�سيت؟!‬
‫كانت متازحه وهو يعلم ذلك‪ ,‬فتذ ُّكر تلك املناورة كفي ٌل ب�أن يجعلهما‬
‫يبت�سمان برغم خطورتها‪ ,‬فهما حتى الآن ال يت�صوران كيف �سيكون ر َّدة فعل‬
‫«عا�صم» عندما يعرف‪.‬‬
‫لن ين�سى �أبد ًا ذلك اليوم الذي هاتفته فيه «فنار» برغم اخل�صام ال�صريح‬
‫وقتئذ‪ ,‬و�أخربته بعملية �أن �صديقتها تريد منه خدمة �سي�ستفيد منها‬ ‫بينهما ٍ‬
‫هو الآخر لو كان �صادق ًا فيما يدعيه يف �سعيه �ض َّد كل ما يتعلق بن�شر الرزيلة‪,‬‬
‫ود َّبرت له موعد ًا مع « �أروى» ‪ ,‬وهو وافق على الفور‪ ,‬كان يريد �أن يثبت لها ب�أنَّ‬
‫حقيقي و�أنه يف طريقه للتعايف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�سعيه‬

‫‪‬‬
‫تلك املقابلة التي كانت �أ�شبه بتجنيد عميل مزدوج مل ين�سها �أبد ًا‪ ,‬لقد‬
‫كانت «�أروى» �صريحة معه يف كل �شىء عندها‪:‬‬
‫« �أ�ستاذ حممود‪� ..‬أنا �أريد بع�ض التفا�صيل املهمة يف عدة ق�ضايا‬
‫تدور حول نف�س الواقعة وهي جرائم خطف الأطفال والتعدي عليهم‬
‫‪ ..‬وللأ�سف‪ ،‬امل�صادفة مل تكن يف �صاحلي؛ فزوجي ميتلك كنز ًا من‬
‫املعلومات عنها وال يريد م�ساعدتي ‪ ..‬يقول‪� :‬إنه ال فائدة وال يريد �أن‬
‫يعر�ضني لأي م�ساءلة قانونية ‪ ..‬لذلك �أريدك �أن تذهب �أنت �إليه ‪..‬‬
‫َ‬
‫ب�صفتك تبحث يف هذا الأمر وتهتم به»‪.‬‬ ‫وتطلب منه معلومات‬
‫لقد كانت حما�سية جد ًا وهي تتحدث حتى �أنه �شعر ب�أنها ال ت�ستطيع‬
‫اجللو�س م�ستوية مثله‪ ,‬تتحرك كثري ًا و ُت�شري بيدها بينما نظرات الت�آمر‬
‫ال تفارق عينيها‪ ,‬مل يكن مقتنع ًا متام ًا مبا تقول‪ ,‬فهي �صديقة زوجته منذ‬
‫الطفولة و�سمع كثري ًا من احلكايات عنها وعن «عا�صم» زوجها من «فنار»‬
‫نف�سها‪ ,‬ولكنه مل يلت ِقه مبا�شرة‪:‬‬
‫«�أ�ستاذ حممود ‪ ..‬عا�صم منذ فرتة وكل الق�ضايا التي تقع حتت يديه‬
‫حلاالت م�شابهة ‪ ..‬هو نف�سه �ضاق �صدره بها وزادت ع�صبيته �أ�ضعاف ًا‬ ‫ٍ‬
‫ع َّما كانت ب�سببها ‪ ..‬حتى �أنه �أ�صبح حري�ص ًا ج َّد ًا على طفلنا ويت�صل؛‬
‫لي�س�أل عنه كل �ساعة تقريب ًا ‪ ..‬وبالرغم من ذلك فهو ال يعرتف �أبد ًا‬
‫�أن احلديث عن امل�ساوئ بكرثة من املمكن �أن يغريها ‪ ..‬وهذا البند من‬
‫حف‪ ،‬وب�سببه انت�شر هذا النوع من اجلرائم ‪ ..‬ولذلك ال‬ ‫القانون ُم ٌ‬
‫يرى جدوى �سل�سلة التحقيقات ال�صحفية التي �أري ُد ْبد َءها‪« .‬‬
‫ا�ستطاعت «�أروى» �أن ت�صيبه بعدوى احلما�سة فوجد نف�سه يعتدل يف مقعده‬
‫مت�سائ ًال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫«� ّأي قانون تتحدثني عنه؟‪».‬‬
‫«احلوادث الكثرية املتالحقة‪ ..‬القتل واالغت�صاب واجلرائم التي ال يتم‬
‫احلكم فيها بالإعدام ملجرد �أن القاتل مل يتم الثامنة ع�شرة بعد ‪..‬‬
‫حتى �إن كان قد ارتكب اجلرمية قبلها ب�شهر واحد!»‪.‬‬
‫«هل تريدين ا�ستثناءات مث ًال يف القانون؟»‪.‬‬
‫قالت وقد �أ�صبح ج�سدها ي�صدر عنه طاقات حما�سية م�شتعلة قادرة على‬
‫�إ�صابة كل َمن يجل�س يف حميطها‪:‬‬
‫«بل �أريد �أن يتغري القانون من الأ�سا�س‪ ..‬ويكون احلكم يف هذه الق�ضايا‬
‫رادع ًا ومرعب ًا»‪.‬‬
‫ف�ضلك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫«ا�شرحي �أكرث من‬
‫«ب�أن يكون احلكم يف هذه الق�ضايا املفجعة بالبلوغ ‪ ..‬يكفي �أن يكون‬
‫القاتل قد و�صل ل�سن البلوغ‪ ..‬وهذا ما �سيحدده الطب ال�شرعي يف مثل‬
‫هذه اجلرائم ‪ ..‬ولي�س ب�ضرورة �إمتام القاتل لعمر الثامنة ع�شرة»‪.‬‬
‫كانت مقابلة جمنونة ك�صاحبتها بكل املقايي�س‪ ,‬فلقد رفعت من حما�سته‬
‫ويف نف�س الوقت مل ُتطمئنه متام ًا جتاه ر َّدة فعل زوجها‪ ,‬ر�س َم ْت له خمطط ًا‬
‫عن كيفية الدخول يف حوار مع «عا�صم»‪ ,‬فطريقه الوحيد هو ال�صراحة‬
‫ولذلك �سيذكر له «حممود» ن�صف احلقيقة و�سيخفي الن�صف الآخر واملتعلق‬
‫بكونه زوج «فنار» فقط‪ ,‬و�ستنتظره حتى ين�شر تلك املعلومات التي �سي�سمح له‬
‫«عا�صم» بن�شرها على �صفحته ال�شخ�صية‪ ,‬ثم تقوم هي بن�شر التحقيق وك�أنها‬
‫ن�سخت املعلومات من �صفحته لتقوم بالتغطية على م�صدرها احلقيقي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫كانت تتحدث بثقة عن ا�ستحالة اكت�شاف �أمرهما‪ ,‬فهو وزوجها لن يتقابال‬
‫�أبد ًا كما مل يفعال من قبل برغم �صداقتها القوية بـ«فنار»‪ ,‬ولكن «حممود» كان‬
‫يعلم �أنَّ امل�صادفة ال ترتك �شي ًئا خمف َّي ًا‪ ,‬وعندها �سيكون هو ال�ضحية‪ ,‬ورمبا‬
‫تكون نهايته يف �أحد ال�سجون متهم ًا باجلا�سو�سية!‬
‫�أمل تقل ب�أنك ت�ضور جوع ًا؟!‬
‫انتبه «حممود» �إىل �صوت «فنار» التي كانت قد �أ َّمتت و�ضع الأطباق فوق‬
‫الطاولة ال�صغرية وتقف ُقبالتها حانقة‪ ,‬وبالرغم من �أنها تدرك �أنَّ �سبب‬
‫�شروده هو �أنها ذ َّكرته بتلك الق�صة ا َمل�شوقة‪ ،‬ولكنها تكره �أن تراه يف هذه‬
‫احلالة‪� ,‬شريد الذهن بعيد ًا عنها!‬
‫�ألن ت�أكلي معي؟‪.‬‬
‫كان ينتظر ر َّد ًا منها بالرف�ض وهو ي�سحب مقعده ليجل�س‪ ،‬ولك َّنها حتركت‬
‫مقعد �آخر وجل�ست تراقبه وهو يتناول طعامه ب َن ٍ‬
‫هم دون‬ ‫كالآلة وقامت ب�سحب ٍ‬
‫حديث بعد �أن �أثنى على طريقة �إعدادها له وح�سن مذاقه فلم جت ْبه تاركة‬ ‫ٍ‬
‫ال�صمت يغلفهما ال يك�سره �سوى �صوت �أدوات املائدة املنخف�ض بوترية مملة‬
‫حتى انتهى وقد �شعر مبا يفوق ال�شبع‪ ,‬نه�ضت بتكا�سل وهي تعيد و�ضع الأطباق‬
‫يف املغ�سلة وهي ت�س�أله �س�ؤا ًال دا َف َعتْه كثري ًا لك َّنه �أ َبى‪:‬‬
‫هل ُت َ‬
‫عجبك �أروى ‪� ..‬أق�صد حما�ستها واندفاعها يف حل الأمور؟‪.‬‬
‫قفزت ابت�سامة �صغرية �إىل طرف �شفتيه وهو يقوم بتجفيف يديه وهو‬
‫يجيب متظاهر ًا بالده�شة‪:‬‬
‫هذا ال�س�ؤال مت�أخر جد ًا ‪! .‬‬

‫‪‬‬
‫مبالغ فيه‪:‬‬
‫قالت بجفاء ٍ‬
‫مل يكن بيننا حديثٌ وقتها‪.‬‬
‫من املمكن �أن نقول ب�أنها ترو ُقني ‪ ..‬حما�ستها واندفاعها!‬
‫ثم تل َّك�أ قلي ًال وهو يراقب نظرات االتهام التي تندفع من عينيها واحدة تلو‬
‫الأخرى قبل �أن ي�ستطرد ُمردف ًا وحماو ًال االقرتاب‪:‬‬
‫ترو ُقني؛ لأ َّنها ت�صلح ِّ‬
‫حلل م�شاكلها مع �شخ�ص مثل عا�صم‪� ..‬أما‬
‫فعلت‪.‬‬
‫�شخ�ص مثلي ‪ ..‬فال ي�صلحنى �سوى ال�صرب‪ ..‬كما ِ‬
‫�أنا ابتعدتُ فقط‪.‬‬
‫هم�ستْها وهي ُتطرق بر�أ�سها‪ ,‬وك�أنها ال تدري هل ما فع َلتْه كان يف �صاحله‬
‫َ‬
‫�أم ال؟‪ ,‬ماذا لو كان ابتعادها كان �سبب ًا يف �أن يتوغل �أكرث يف طريقه القدمي‪,‬‬
‫لقد تر َكتْه ِل َهواه و�شيطانه‪ ،‬وق َّد َمتْه بال �إرادة لهما على طبق من ف�ضة‪ ,‬مل‬
‫حتارب مبا يكفي لأجله‪:‬‬
‫�أي امر�أة غريك مل تكن لتتحمل ما حت َّم ْل ِته ‪ ..‬الزوجة رمبا ُت�سامح‬
‫كل يوم‬ ‫أخونك َّ‬
‫لو خانها زوجها مع واحدة �أو اثنتني ‪ ..‬لكنني كنتُ � ِ‬
‫وحاولت بكل الطرق ومل تي�أ�سي � َّإل‬
‫ِ‬ ‫و�صربت‬
‫ِ‬ ‫مع ع�شرات العاهرات ‪..‬‬
‫بعد �أن حرمتك من الأمان الذي ت�سعى الفتيات �إىل الزواج من �أجله‬
‫‪ ..‬وكان من جميل قدرك وقدري‪� ,‬أنَّ والدك ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬كان �إىل‬
‫جوارك يف تلك اللحظات‪.‬‬
‫�سقطت دمعة فوق �أ�صابعه املُم�سكة بذقنها يف اللحظة التي �أراد فيها �أن‬
‫يرفع عينيها نحوه و�سمعها تقول بنربة حائرة‪:‬‬
‫‪‬‬
‫عنك دون طالق ‪ ..‬قال‪� :‬إ َّن َك بداخلك نبتة‬
‫كان هو ملهمي يف ابتعادي َ‬
‫علي �سوى �أن �أ�صرب و�أرعاها ‪ ..‬ولكن من بعيد حتى ال‬‫طيبة ‪ ..‬وما َّ‬
‫ت�ؤذيني �أ�شواكها‪.‬‬
‫رزت يف قلبي وحدي عندما ترك ِتني‪..‬‬ ‫�أُق�سم ِ‬
‫لك �أنَّ الأ�شواك كلها ُغ ْ‬
‫بك وب�ضو ِئك الآتي‬
‫ولكن االبتعاد كان ل�صاحلي ‪ ..‬فلقد كنتُ �أ�سرت�شد ِ‬
‫من بعيد يوجهني �أي الطرق �أ�س ُلك‪.‬‬
‫رفعت «فنار» حاجبيها َد ِه َ�ش ًة تاركة �أ�صابعه تعمل على وجنتها مت�سائلة‪:‬‬
‫َ‬
‫كالمك ‪ ..‬هل �أ�صبحت تقر�أ الروايات الرومان�سية؟!‬ ‫هذا لي�س‬
‫ات�سعت ابت�سامته‪ ,‬ال زالت تذكر هواياته وتعرف تفا�صيله‪ ,‬قام بتقبيل كلتا‬
‫يديها بينما امل�سافات مل يعد لها مفردات بينهما وهو يزيد نورها وهج ًا‪:‬‬
‫قررت بعد‬
‫مل �أقر�أ �سوى رواية واحدة ‪ ..‬بطلتها هي م ِلكة ال�صرب التي ْ‬
‫�سنوات من العذاب �أن متنح رعاياها ك َّل �صكوك غفرانها‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫«رمزي �أرجوك ‪ ..‬اتركني» كانت تبكي بينما هو يدفعها نحو هوة �سحيقة‬
‫مليئة بالوحو�ش واخلناجر احلادة امل�صوبة ُك ّلها لأعلى‪ ,‬كان يبت�سم بخبث حتى‬
‫حتولت ابت�سامته �إىل �ضحكات �شيطانية وهو يجذب حجابها عن ر�أ�سها‪ ,‬زلت‬
‫قدماها‪ ،‬وكادتا �أن ت�سقطا بني الأنياب‪ ،‬ولكنه �أم�سك بها يف اللحظة الأخرية‬
‫لك بال�سقوط» ‪ ,‬قالها وهو يقب�ض على ذراعها فظنت �أنه تذكر‬ ‫«لن �أ�سمح ِ‬
‫�أخري ًا �أنها �أخته ويجب عليه حمايتها‪ ,‬لكنه مل يرتكها تت�أمل كثري ًا‪ ,‬م َّد يده‬
‫بد�سها بداخل حقيبتها العالقة ِمبرفقها وقب�ض على كومة من املال‬ ‫وقام ِّ‬
‫و�ضعها يف جيبه ثم قام بدفعها بق�سوة نحو الظالم الذي ابتلع �صراخها عن‬
‫�آخره!‪.‬‬
‫أنت بخري؟!‬
‫هل � ِ‬
‫فتحت عينيها فج�أة الهثة تنظر �إليه بخوف ُمدق‪ ,‬كانتا مت�سعتني برعب‬
‫يخت�ض بقوة‪ ,‬فكرر عبارته ُم َّدد ًا بقلق‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫يتف�صد عرق ًا بينما ج�سدها‬
‫وجبينها َّ‬
‫أنت بخري؟‪.‬‬
‫غفران‪� ..‬أ� ِ‬
‫دخل ج�سدها يف حالة ا�سرتخاء رويد ًا رويد ًا‪ ,‬ر�أ�سها يعود �إىل الو�سادة من‬
‫كابو�س ب�ش ٌع كعادتها‪ ,‬ال‬
‫ٌ‬ ‫جديد وهي حتاول ال�سيطرة على تنف�سها املذعور‪,‬‬
‫متلك دفعه عنها‪ ,‬ال ينفك يطاردها حتى وهو ميت‪.‬‬

‫‪‬‬
‫�أرا َد ْت �أن ترفع يدها؛ لتم�سح جبينها ولكن نغزة فيها �آملتها ف�أدارت ر�أ�سها‬
‫نحو ظهر ك ِّفها ببطء فوجدت �أنبوب ًا طبي ًا له �إبرة مث َّبتة هناك‪ ،‬والقطرات متر‬
‫من خالله رويد ًا �إىل �أوردتها!‪.‬‬
‫فعلت هذا؟!‬
‫كيف َ‬
‫بوهن وهي ت�سمعه يزفر براح ٍة وينه�ض واقف ًا يراقبها‬
‫نطقتها متعجب ًة ٍ‬
‫بنظرة مط َّولة قبل �أن يقول باقت�ضاب‪:‬‬
‫احتجت �إىل‬
‫ِ‬ ‫أ�صبحت بخري ‪ ..‬ارتاحي الآن‪ ،‬و�إذا‬
‫ِ‬ ‫أنك �‬
‫مهم ‪ ..‬املهم � ِ‬
‫غري ِّ‬
‫�شيء ما فناديني على الفور‪.‬‬
‫قال كلمته الأخرية وهو يه ُّم باخلروج من غرفتها ال�صغرية‪ ,‬فهو مل يغفل‬
‫عنها منذ �سقطت فاقدة الوعي‪ ,‬كانت نب�ضاتها ت�ضعف وتهذي بعبارات غريبة‬
‫مبتورة حتى �صمتت وتها َو ْت دون حراك‪ ,‬كان ال بد من تدخل �سريع‪ ,‬فلم يخب‬
‫ظنه‪ ,‬وح�ضرت الإ�سعاف خا�صته على الفور‪.‬‬
‫بعد �أن انتهى كل �شيء وعاد اال�ستقرار �إىل الأجواء من جديد‪ ,‬جل�س �إىل‬
‫جوارها يراقبها وي�ستمع �إىل هَ ْم َهماتها عن كوابي�سها التي تدور كلها حول‬
‫«رمزي» ووالدها‪� ,‬إنها �ضائعة مرتعبة كارهة لنف�سها بطريقة عجيبة‪ ,‬يجب‬
‫�أن ي�ستنطقها بعد �أن ت�سرتد عافيتها ليعلم ماذا ُتخفي؟‪� ,‬أما الآن فيجب �أن‬
‫تدب بها من جديد‪.‬‬
‫ين�سحب بهدوء وقد بد�أت احلياة ُّ‬
‫ال داعي �أن يلعب دور مربية الأطفال بعد هذا‪ ,‬هل كان ينق�صها هي‬
‫الأخرى‪.‬‬
‫ح�سن ‪ ..‬كيف هي �أمي؟!‬

‫‪‬‬
‫عاود االلتفات �إليها وهو يقول كاذب ًا‪:‬‬
‫�إنها بخري‪.‬‬
‫�أنت تكذب!‬
‫داع‪ ,‬فكيف‬‫حروفها كانت تقطر ثــق ًة‪� ,‬س�ؤالها يف حد ذاته مل يكن له ٍ‬
‫اجلذع ميت ًا؟!‪ ,‬و�أمها لي�ست غ�صن ًا من‬
‫�سيكون الغ�صن بخري بعد �أن ي�سقط ِ‬
‫مهب الريح‪ ,‬ت�سري مع اجتاهه ي�أخذها‬‫الأ�سا�س‪� ,‬إنها جمرد ورقة مت�أرجـحة يف ِّ‬
‫�أين ي�شاء‪.‬‬
‫وقفت باكية �ساكنة بينما ابنتها تخرج من املنزل �إىل املجهول‪,‬‬ ‫ورقة �شجر ْ‬
‫للذ َكر الوحيد‬‫تكتف بال�سكون فقط‪ ,‬بل كان يجب �أن تثبت والءها التَّام َّ‬ ‫مل ِ‬
‫ب�س ْلخها من‬‫املدلل‪ ,‬حاكم الغد على عر�ش البيت‪ ,‬بل هي بنف�سها َمن قامت َ‬
‫�شقتها �إىل �شقة خالتها ال�شمطاء التي قذفت بناتها قبل �أن يتم ْمن التَّا�سعة‬
‫ع�شرة لأول َمن تق َّدم للزواج للتخل�ص منهن‪.‬‬
‫عيدك �إليها عندما‬‫ال �أعلم ‪ ...‬مل ي�أ ِتني � ُّأي خرب عنها ‪ ...‬ال تقلقي‪� ..‬س�أُ ِ‬
‫تتعافني!‬
‫�ش ُعر �أنه �أُجرب على قولها‪� ,‬إنه يقوى على كل �شيء �إال الأ ّم‪ ,‬كل �أُ ٍّم ُتذكره‬
‫ب� ِّأمه‪َ ,‬ح ْرفان يجربان غ�ضبه على الركوع ورمبا البكاء‪ ,‬حرفان لأجلهما مينح‬
‫حياته ب�أكملها‪ ,‬ويخو�ض حرب ًا �ضرو�س ًا لل�شعور ب�ضمة الأول و�سكون الثاين!‬
‫باك فخ�شي �أن تنتك�س ثانية‪ ,‬اقرتب من‬
‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫عادت ُتهمهم ُم َّدد ًا‬
‫فرا�شها حتى و�صل �إليها ثم انحنى يرهف ال�سمع ‪:‬‬

‫‪‬‬
‫دافعتُ عن نف�سي ف�أبعدوين واحتت�ضنوه ‪ ..‬ولو كنت تركته يفعل بج�سدي‬
‫ما ي�شاء لقتلوين وتركوه ‪ ..‬يف كل الأحوال مل يكونا ليح َّباين �أبد ًا‪.‬‬
‫وجد «ح�سن» قدميه جتثوان‪ ،‬فجل�س القرف�صاء �أمامها وقد ات�سعت عيناه‬
‫ُماو ًال نف�ض �أذنيه عما ا�ستمع منها !‬
‫غفران ‪ ..‬ماذا تقولني؟!‬
‫رجعي‬
‫ٍّ‬ ‫ب�ضعف‪ ،‬و�أطلت من عينيها نظرة ا�ستغاثة ب�أثر‬
‫ٍ‬ ‫انفرج جفناها‬
‫هام�سة‪:‬‬
‫حميتني ذات مرة من كالب الطريق ‪ ..‬و�أمرتني �أن �أذهب �إىل بيتي ‪..‬‬
‫كالب‪ ،‬ويف‬
‫كنت �أمتنى �أن �أعود �إىل الور�شة خا�صتك ‪ ..‬ففي ال�شارع ٌ‬
‫البيت ذئب راب�ض ‪� ..‬أ�شار ُكه الغرفة ذاتها‪.‬‬
‫ع�صفت به الذكريات وتزلزلت الأر�ض من حتته «اعتربها مثل � َ‬
‫أختك‬
‫يا رمزي» ‪ ,‬مل تكن «�سلمى» فقط هي امل�سكينة الوحيدة‪ ,‬كان هناك �أخرى‬
‫بائ�سة ترمي ال�سالم �إليه بنربة ا�ستغاثة مل ينتبه لها‪ ,‬كانت ت�ستغيث بالبعيد‬
‫من القريب‪ ,‬يبدو �أن اخلذالن �صفة ب�شرية‪ ,‬ال يوجد على الأر�ض َمن هو بريء‬
‫منها‪ ,‬بق�صد �أو بدونه ‪ ..‬جميعنا َمهر ٌة به‪.‬‬
‫حديثها جعل ركبتيه ت�صطدمان بالأر�ض فبدا جاثي ًا ك َمن يعتذر وهو ِ�ص ْف ُر‬
‫اليدين‪ ,‬مل ي�ستطع ن�صرتها يف املا�ضي‪ ،‬ولن ي�ستطع االنتقام يف احلا�ضر‪:‬‬
‫أهتم ب�أن �أفهم‪.‬‬
‫�أنا �آ�سف ‪ ..‬مل � ّ‬
‫مل يكن بيدك �شيء لتفعله!‬
‫أتزوجك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على الأقل كنت �س�أحاول ‪ ..‬و�إذا ف�شلتُ معهما ‪ ..‬كنت �س�‬
‫‪‬‬
‫ات�سعت عيناها ذهو ًال ف�أردف على الفور‪:‬‬
‫أبيك‪.‬‬
‫�آ�سف لوفاة � ِ‬
‫وك�أنه قد تناول ِمحا ًة وقام مبحو عبارته ال�سابقة عن الزواج من ر�أ�سها‪,‬‬
‫عادت عيناها تذبالن من جديد‪ ،‬وانتظمت اخلفقات التي كادت تف�شي �سرها‬
‫ال�صغري بدويها الفا�ضح‪ ,‬وهم�ست ب�إنكار‪:‬‬
‫هو مل ُمي ْت‪ ..‬هو فقط مل ي�ش�أ �أن يرتك َيد رمزي ‪ ..‬فهو مل يفع ْلها �أبد ًا‪.‬‬
‫�إنه يفهم‪َ ,‬ومن غريه �سيفهم �إن مل يفعل هو؟‪ ,‬هو من عانى طيلة ما�ضيه‬
‫من جفاء والد مل يكن يحتاج منه �سوى العطف فقط‪ ,‬لقد مت بيعها كما حدث‬
‫له متام ًا‪ ,‬الفارق الوحيد بينهما �أن والدها مل ين�س ْبها �إىل غريه‪ ,‬ال ميتلك القوة‬
‫الكافية وال�شفقة ليدعوها �إىل الرتحم عليهما‪� ,‬إنها طريدة ج َّنة الأب ‪ ..‬مثله‬
‫بال�ضبط‪ ,‬غري �أنها ال زالت متلك �أم ًا يف حاجة �إليها‪.‬‬
‫يكتف رمزي بكل ما فعله بي ‪ ..‬بل كان يرت�صدين يف ال�شارع املظلم‬
‫مل ِ‬
‫امل�ؤدي �إىل بيت خالتي وي�أخذ بالغ�صب كل ما يف حقيبتي وهو ي�ضربني‪.‬‬
‫مل تكن حتدثه‪ ,‬كانت ُم�س ِبلة اجلفنني‪ ،‬تقب�ض راحتيها �إىل �صدرها وهي‬
‫مم َّددة على �شقها الأي�سر‪ ,‬بينما و�سادتها ت�شرب ب َن ٍ‬
‫هم كل دموعها‪ ,‬ما�ضيها‬
‫ينزف �أمل ًا وغربة وحرية‪ ،‬والآن بات م�شبع ًا بالإنكار‪:‬‬
‫كل تلك ال�سنوات وهو يرتب�ص بي ‪ ..‬لن �أن�سى �أبد ًا اللقاء الأول بيننا‬
‫بعد خروجه من الق�ضية وقد �أ�صبح ح َّر ًا ‪ ..‬لن �أن�سى هاتني اليدين‬
‫اللتني قب�ضتا على عنقي ودفعتاين نحو اجلدار‪ ..‬كانت ليل ًة مظلمة‬
‫وبالرغم من ذلك ر�أيت عينيه تن�ضحان كره ًا و�ش َّر ًا وهو ي�سلبني‬
‫�أموايل ويلطمني على وجهي ‪...‬‬
‫‪‬‬
‫لن �أن�سى �أبد ًا ما قاله يل يف تلك الليلة «�س� ِ‬
‫أجعلك تدفعني ثمن كل دقيقة‬
‫القذرة تلك ‪� ..‬ستجدينني‬
‫ق�ضيتها وابن احلرام هذا يجعلني �أخدمه هو وور�شته ِ‬
‫أمامك دوم ًا ‪ ..‬وع ٌد ّ‬
‫علي لن ترتاحي �أبد ًا ما دمتُ على قيد احلياة»‪.‬‬ ‫هكذا � ِ‬
‫نربتها بد�أت تعلو غ�ضب ًا مع كل كلمة تهذى بها‪ ,‬فلم يحاول �أن ُيقاطعها‪,‬‬
‫مظلم م�شتعلة نهايته‪ ,‬وعليه‬
‫نفق ٍ‬ ‫غليان تدفعها نحو ُف ّوهة ٍ‬
‫ي�شعر بها يف حالة ٍ‬
‫�أن ينتبه كما مت حتذيره‪:‬‬
‫«�إنها تعاين حالة �صدمة و�إنكار ملوت والدها‪ ،‬وعندما ت�ستفيق �ستجلدهما‬
‫‪ ..‬فدعها ُتخرج ما لديها لرتتاح وجتتاز عنق الزجاجة ‪»..‬‬
‫مل �أتعلم در�سي ‪ ..‬ذهبت �إيل �أبي و�أخربته و�أنا باكية �أن يجعل ولده‬
‫فكذبني وطردين ثانية �إىل بيت خالتي ‪..‬‬ ‫احليلة يدعني و�ش�أين‪َّ ..‬‬
‫خالتي التي بد�أت ت�شتكي لأمي �أنني ال �أمنحها َث َمن طعامي و�أ�صرف كل‬
‫راتبي ثم �أ َّدعي �أن رمزي �أخذه مني غ�صب ًا ‪ ..‬مل ي�صدقوين يا ح�سن‪.‬‬
‫تق�ص عليه حكاية‬
‫رفع عينيه �إليها وقد �أدرك �أنها حتدثه هو من البداية ‪ُّ ,‬‬
‫�سندريال جديدة �أخرى‪ ,‬وبالرغم من معرفته �أنه ال ي�صلح لدور الأمري؛ لكنه‬
‫ُموقن �أنَّ با�ستطاعته �أن يكون �ساحر ًا‪ ,‬ولن يكون بخي ًال كما �ساحرة احلكاية‪,‬‬
‫لن مينحها دقات �ساعة منت�صف الليل فقط‪� ,‬سيمنحها دقات �أخرى لن تتو َّقف‬
‫ما دام فيه نف�س يرتدد!‪.‬‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫مل يعرف كم م َّر عليه من �ساعات وهو جال�س هكذا بجوار �سريرها م�ستند ًا‬
‫للحظات من‬
‫ٍ‬ ‫�إىل اجلدار مغم�ض العينني‪ ,‬ال يفتحهما �إال عندما ت�ستفيق هي‬
‫كابو�س تعي�شه يف حلمها؛ لتبكي ثم تعود لغيبوبة النوم جمدد ًا‪ ,‬كل كلمة ا�ستمع‬
‫لها كانت �سبب ًا يف �أن يلعن نف�سه مرات ومرات؛ لأ َّنه مل يتمكن من رقبة «رمزي»‬
‫عقاب رادع‪ ,‬لي�س هو وحده‪ ,‬بل ك ّل َمن‬
‫ويقتله بيديه ما دام ال يوجد لأمثاله ٌ‬
‫هو على �شاكلته‪ ,‬الآن �شعر براحة �ضمري مل ي�شعر بها من قبل‪ ,‬جميعهم‬
‫ا�ستحقوا ما فعل بهم وزيادة!‪ ،‬كل ما فعله هو مكاملة هاتفية علم بها ما حدث‬
‫لأمها‪ ,‬و�أخرى جاءت حم ّملة ب�أخبار وتفا�صيل ِّ‬
‫حتذره وت�أمره ب�أن يبقى مكانه؛‬
‫فالو�ضع قد ت�أزم �أكرث!‬
‫�أ ّمي !‬
‫اعتدل �سريع ًا يف جل�سته حتى عاد �إىل و�ضعه الأول جاثي ًا على ركبتيه‬
‫م�ستند ًا بذراعيه �إىل الفرا�ش يناظرها برت ُّقب وقلق حلالتها املتق ِّلبة تلك‪,‬‬
‫لكنها هذه املرة كانت تبادله النظر‪ ,‬هذه النظرات ال�ضائعة تخربه ب�أنها مل‬
‫تكن ت ِعي متام ًا ما حدث وما كانت تتف َّوه به‪:‬‬
‫َ‬
‫ف�ضلك ‪� ..‬أريد �أن �أطمئنَّ على �أمي‪.‬‬ ‫من‬
‫�إنها بخري‪.‬‬

‫‪‬‬
‫كالهما يعلم ب�أنه يكذب‪ ,‬ولكنها ال متلك غري �أن ت�صد ِّقه‪ ,‬فنحن ندفع‬
‫�أنف�سنا دائم ًا لت�صديق ما نتمناه‪ ،‬و�إن كان م�ستحي ًال‪ ,‬مهارة �أخرى منتلكها‬
‫جميع ًا ‪ ..‬جنيد خداع �أنف�سنا !‪.‬‬
‫هي و�ستُدهور حالتها‬
‫�أ َّما هو ف ُيوقن ب�أن �إخبارها باحلقيقية �أم ٌر غري ِّ‬
‫�سقطت مبجرد �سماعها خلرب‬
‫ْ‬ ‫ال�صحية �أكرث‪ ,‬كيف �سي�شرح لها �أنَّ والدتها‬
‫وفاة زوجها بعد �أن عاين جثة ولدها املقتول؟!‬
‫م�صيبتان يف � ٍآن واحد تقع على عاتق امر�أة انتزعوها من حقل �أبيها قبل �أن‬
‫رجل ال تعرف عنه �شيئ ًا �سوى �أنه مثله!‪ ,‬ولقد‬
‫تتم ال�سابعة ع�شرة و�ألقوا بها �إىل ٍ‬
‫كان مثله بالفعل‪ ,‬لذا مل ت�شعر بال ُغربة عندما كان ي�س ِّفه من ر�أيها �أو يزجرها‬
‫قبل �أن تتف ّوه بكلمة اعرتا�ض‪ ,‬هذا هو الرجل كما ن�ش�أت وترعرعت‪ ,‬ط ِّيعة‬
‫حتت �إبطه �أربع ًة وع�شرين عام ًا‪ ,‬الترى �إال ما ُيريها وال تهتدى �سوى �سبيله‪,‬‬
‫ال�سكري عندما يختفي كل ذكور قف�صها‬ ‫فكيف بدجاجة احلقل امل�صابة بداء ّ‬
‫الوحيد؟!‪ ,‬البد و�أن ت�سقط يف غيبوبة هاربة ريثما ت�ستفيق‪ ،‬وجتد �أنَّ كل �شيء‬
‫بخري �أو �أنَّ َمن �أخربها بتلك الأخبار امل�ش�ؤومة كان ميزح معها !‪.‬‬
‫عافيتك ف�س�أُ ِ‬
‫عيدك �إليها على الفور‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫إليك‬
‫بنف�سك وعادت � ِ‬
‫ِ‬ ‫اهتممت‬
‫ِ‬ ‫لو‬
‫�أغم�ضت عينيها دون جواب‪ ,‬ف�صمت هو الآخر وهو يتنف�س براحة‪ ,‬لقد‬
‫أنقذتْه بعدم ا�ستكمال هذا احلديث الذي كان من املمكن �أن ينتهي ب�إطالق‬ ‫� َ‬
‫�سراحها على الفور كما وعد‪ ,‬هو ال يرجع يف كلمة منحها �أبد ًا‪ ,‬لذا �أراد �أن‬
‫ترتاجع هي وال تطلب الرحيل الآن‪ ,‬ال زال يحتاج بع�ض الوقت لتت�ضح الر�ؤية‬
‫�أكرث!‬

‫‪‬‬
‫نام ْت كما ت�صور‪ ,‬لقد كانت متار�س عادتها يف الهروب‬ ‫�أما هي فلم تكن قد َ‬
‫ب�إغما�ض عينيها‪ ,‬كا َد ْت �أن تفلت �شهق ٌة منها عندما �شعرت ب�أطراف �أ�صابعه‬
‫مت�س قدمها املقيدة‪ ,‬ولكن قبل �أن تفعل انتق َل ْت يده �إىل القيد وا�ستمعت‬
‫«غفران» �إىل ت ّكة احلرية وبالأمل الذي يخ ُلف القيد والذي يذكرنا دوم ًا ب�أننا‬
‫كنا �أ�سرى!‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ين�س «عا�صم» تلك النظرة املرتبكة التي �أط َّل ْت من عيني «رجاء»‬ ‫مل َ‬
‫عندما نطق بعبارته الأخرية حينما ر�آها‪ ,‬هدية من ال�سماء هبطت فوق ر�أ�سه‬
‫لطيف و�شعو ٌر بالفخر!‪ ,‬هو �أي�ض ًا �أ�صاب خططه بع�ض االرتباك‬
‫ف�صحبها �أ ٌمل ٌ‬
‫لذا مل يح�صر ُج ّل تركيزه مع «�أمل» ‪.‬‬
‫كان م�شتت ًا قلي ًال وهو يعيد ترتيب ح�ساباته‪ ,‬تبادل معها حديث ًا ق�صري ًا‬
‫حول ق�ضيتها التي قامت بالتنازل عنها‪ ,‬ولكن «�أمل» بكلماتها املقت�ضبة‬
‫متنحه �سوى ما كان يعرفه بالفعل‪.‬‬
‫ونظراتها املتباعدة ونربتها املنخف�ضة مل ْ‬
‫ثم �إنَّ الدكتور «يحيى» مل مينحه م�ساحة لل�ضغط عليها �أكرث‪ ,‬لقد �أ�صر‬
‫على التواجد �أثناء حديثه معها‪ ,‬كان يقف بجوارها؛ ليمنحها الثقة والثبات‪,‬‬
‫وبني كل �س�ؤال يوجهه �إليها و�آخر كان «يحيى» يذكره ب�أنها ال زالت يف طور‬
‫العالج‪ ،‬واحلديث املتزايد يف تفا�صيل ق�ضيتها التي ت�سببت يف مر�ضها النف�سي‬
‫�سيت�سبب يف انتكا�ستها مرة �أخرى ‪ ..‬لذا قرر االكتفاء منها والذهاب �إىل حيث‬
‫ال�صيد الثمني‪!.‬‬
‫خرج من امل�صحة النف�سية بخطوات متعجلة دون �أن يحاول البحث عن‬
‫«رجاء»‪ ,‬لقد قرر البحث خلفها �أو ًال!‪ ,‬وبعد عدة �ساعات من التح ِّريات حولها‬
‫بد�أ يف جمع التفا�صيل يف ر�أ�سه؛ ليجد حلقة الو�صل‪ ,‬التف�صيلة الأوىل �أنها‬
‫�أرملة تعمل كمم ِّر�ضة يف م�صحة نف�سية‪ ,‬مل تتزوج بعد وفاة زوجها وعكفت‬
‫‪‬‬
‫على تربية ابنتها الوحيدة ذات الع ْرجة الوا�ضحة يف �إحدى �ساقيها‪ ,‬وقد كانت‬
‫�سفينة احلياة ت�سري بها حتى تزلزلت الأر�ض من حتت �أقدامها ‪..‬منذ ثالث‬
‫�سنوات ‪ ..‬عندما رن هاتفها �صباح ًا �أثناء رحلة عودتها �إىل منزلها بعد انتهاء‬
‫ورد َّيتها الليلية املعتادة َّ ً‬
‫حممل بخرب مقتل «�سلمى» !‪.‬‬
‫علم بها �أن «رجاء» �صديقة لل�سيدة‬ ‫�أما التف�صيلة الثانية والتي كان على ٍ‬
‫«جليلة» منذ �سنوات طويلة‪ ,‬و�أوا�صر ال�صلة مرتابطة بينهما ب�شدة‪ ,‬فقد كانت‬
‫يف �صحبة «رجاء» يف حتقيقات النيابة عندما ذه َب ْت للتعرف على �أو�صاف‬
‫قاتل ابنتها‪ ,‬ومل ترتكها �أثناء جل�سات التقا�ضي التي ا�ستمرت ثالث �سنوات �إال‬
‫بعد عام كامل ‪ ..‬عندما مت اختطاف ابن ال�سيدة «جليلة» َّثم قتله‪.‬‬
‫�أطف�أ «عا�صم» ِلفافة تبغه وهو يزفر‪ ،‬فقد ت�شتَّتت �أفكاره �أكرث‪ ,‬هناك حلقة‬
‫و�صل مفقودة!‪ ,‬وليعرث عليها كان ال بد ب�أن ينب�ش كل ّ‬
‫الق�ش‪ ،‬رمبا يجد الإبرة‬
‫املن�شودة‪.‬‬
‫طلب ملف ق�ضية مقتل «�سلمى» ابنة «رجاء»‪ ,‬و�أخذ يف درا�سة تفا�صيله‪,‬‬
‫«�سلمى» َّمت �ضربها ب�آلة حادة ف�سقطت تنزف �أ�سفل �شجرة كبرية يف ليلة‬
‫عا�صفة‪ ,‬وبعد قليل ُع ِث عليها و ّمت نقلها �إىل �أقرب م�شفى حكومي‪ ،‬وهناك‬
‫�سلمت الروح �إىل بارئها‪ ,‬و�أثناء التحقيقات �أدلت الأم مبوا�صفات �شخ�ص‬
‫كان ي�ضايقها ويتحر�ش بها يعمل يف ور�شة امليكانيكا املال�صقة للمكان الذي مت‬
‫العثور عليها فيه وال�شرطة �ألقت القب�ض عليه والذي ُيدعى «ح�سن �أنور برهان»‬
‫م�ساعده يف‬
‫ِ‬ ‫�صاحب الور�شة‪ ,‬والذي قام بالدفاع عن نف�سه و�إلقاء التهمة على‬
‫الور�شة والذي يدعى «رمزي حافظ رمزي» وعندما َّمت ْت املواجهة التب�س الأمر‬
‫على «رجاء» يف البداية ثم قالت‪� :‬إنّ املوا�صفات تنطبق على «رمزي» بن�سبة‬
‫كبرية!‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ثم حدثت املفاج�أة وتقدم والد «ح�سن» لل�شهادة ك�شاهد عيان على اجلرمية‬
‫وقال‪� :‬إ ّنه �شاهد «ح�سن» مع املجني عليها يف نف�س توقيت وقوع اجلرمية‪ ،‬وقد‬
‫كانا يت�شاجران �أ�سفل ال�شجرة املال�صقة للور�شة خا�صته!‬
‫ها قد بحث يف اخللفية كما �أراد‪� ,‬إ َّال �أن النتيجة �صفر‪ ,‬ما زالت الإبرة‬
‫مفقودة‪ ,‬والطريق �أمامه طويل‪.‬‬
‫�أ�شعل «عا�صم» اللفافة التي مل يعد يعرف عددها منذ �أن فتح ملف‬
‫الق�ضية وبد�أ يف قراءته بتم ُّع ٍن‪ ,‬ونه�ض يدفع ذراعيه للخلف عدة مرات لي�صلح‬
‫من �ش�أن ع�ضالت كتفيه اخللفية املت�شنجة وهو يعود �إىل وقفته املعتادة �أمام‬
‫النافذة يطرد الدخان �إىل الهواء الطلق‪ ،‬وي�ستدعي الهواء النقي �إىل رئتيه ‪..‬‬
‫و ُيف ِّكر‪ ,‬الدائرة تت�سع �أكرث مما يجب‪ ،‬واخليط الواحد �أ�صبح كر ًة من اخليوط‬
‫املت�شابكة‪ ,‬الأوراق الر�سمية �ص َّماء وال تفي بالغر�ض‪ ,‬ال بد �أن يتحدث معها‬
‫وجه ًا لوجه‪ ,‬هي الآن باتت م�ستعدة لهذا اللقاء بعد �أن تع َّرف عليها يف امل�صحة‬
‫النف�سية‪ ,‬لذلك �إن ا�ستدعاها ب�شكل ر�سمي ف�سيكون حديثها معه �أجوف مت‬
‫حت�ضريه م�سبق ًا‪ ,‬ثم �إ َّنه ال يريد �أن ي�صل �إىل نف�س النقطة ‪ ..‬ال�سيدة «جليلة»‬
‫�سيتم ال َّز ُّج بها‪ ،‬وهذا ما ال يريده ‪ ..‬على الأقل الآن!‬

‫‪y‬‬
‫‪‬‬
‫«كوين م�ستعدة ملواجهة قريبة» ن�صيحة ِق ْيلت لها منذ �أن ر�أته يف امل�صحة‬
‫وقامت بتنفيذها باحلرف الواحد‪� ,‬أع َّد ْت نف�سها للقاء كل �ساعة حتى �أنها مل‬
‫تعد تب ّدل مالب�سها بعد عودتها من العمل‪ ,‬تنتظر مقابلة ودي ًة �أو حتى �أمر ًا‬
‫بالقب�ض عليها‪ ,‬يف كل الأحوال مل ي ُعد هذا �أمر ًا ي�ؤ ِّرقها كثري ًا‪� ,‬إنها حتى ال تعلم‬
‫ملاذا تظل متار�س حياتها ب�شكل طبيعي؟‪ ,‬تعمل وتتناول طعامها وتذهب للنوم!‪,‬‬
‫َملن تعمل و َملن حتافظ على حالتها ال�صحية؟ ‪ ..‬لقد حتقق ما كانت حتيا لأجله‬
‫طيلة ال�سنوات الثالث املا�ضية وعادت �إىل نقطة ال�صفر‪.‬‬
‫ُ�شفي غليلها وانق�ضى انتقامها وتبقت ال َوحدة حتا�صرها مع الذكرى‪,‬‬
‫تطرق �أجفانها ك َّلما ا�ستيقظت لتذكرها ب�أنها مل يعد هناك ما تنه�ض لأجله‪,‬‬
‫بينما �صورة «�سلمى» امل� َّؤطرة على الطاولة املرتفعة بجوار ال�سرير ت�ؤ ِّنبها‬
‫وتخربها ب�أنها هي ال�سبب‪..‬‬
‫هي َمن �ساعدت «رمزي» اجلبان على ما فعله بابنتها امل�سكينة وال مانع‬
‫لديها من �أن تتع َّلق رقبتها بحبل امل�شنقة الآن لرتتاح وتنال عقابها الذي‬
‫ت�ستحقه �أ ٌّم ُمهملة مثلها‪.‬‬
‫انـتهت من �إعداد فنجان القهوة وتق َّدمت به حتمله يف �صمت بارد نحو‬
‫غرفة ال�صالون الذهبية كمقاعدها ذات الأرجل الأنيقة املرتفعة ب�شموخ َمن‬
‫يعرف قيمته التي تزداد عرب الزمن‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ظل «عا�صم» يرقبها دون �أن يحاول النهو�ض مل�ساعدتها وهي تتقدم بحذر‬
‫حتى ال ُتف�سد وجه قهوته الثخني ذات الرائحة النفاذة حتى و�ض َعتْه على مهل‬
‫�أمامه على الطاولة املنخف�ضة بي�ضاوية ال�شكل والتي ت�أخذ نف�س لون مقاعدها‬
‫التي تلتف حولها بطريقة يبدو منها �أنها مل تتح َّرك من مكانها منذ زمن‪,‬‬
‫ال�س ْمك العري�ض حتى حفر‬
‫فنهايات الأرجل الرفيعة منغرزة يف ال�سجاد ذى ُّ‬
‫مكانه ك َو ْ�س ٍم �أبدي‪.‬‬
‫تناول «عا�صم» الر�شفة الأوىل‪ ،‬بينما عيناه ت�شيعانها وهي تدور حول‬
‫الطاولة لتتخذ الأريكة جمل�س ًا عن ي�سار مقعده‪ ,‬احت�سى ببطءٍ َّ‬
‫وتلذذ ما تبقى‬
‫من قهوة يف فنجانه حماو ًال �إتالف متا�سكها الذي قاب َلتْه به منذ قليل وال زالت‬
‫حتتفظ به �أمامه‪.‬‬
‫�أعاد فنجانه �إىل �صحنه ال�صغري بابت�سامة �شاكرة والتفت �إليها يواجهها‬
‫مدقق ًا النظر يف مالحمها الثابتة قائ ًال بخبث‪:‬‬
‫كيف حال احلاجة «جليلة»؟‪� ،‬أمتنى �أن تكون بخري الآن‪.‬‬
‫بخري‪ ..‬و ُتر�سل �إليك ال�سالم!‬
‫عبارتها كانت ت�شبه الطعام املُع َّلب‪ ,‬تتقبله دون �أن تنتظر منه رائحة نفاذة‬
‫�أو طعم ًا خارق ًا �إال �أنك م�ضط ُّر �إىل �أكله يف النهاية !‬
‫يبدو �أنها عرفت �أننا قد تقابلنا ‪ ..‬وتو َّق َع ْت �أن يتكرر اللقاء!‬
‫ن َع ْم ‪� ..‬أنا �أخربتها ‪ ..‬فقالت‪� :‬إنك �ستفعل‪ ،‬و�أر�سلت لك التحية‪.‬‬
‫كيف تعرفتما ببع�ضكما يا ترى؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫حتقيق ب َن ْكهة جل�سات َّ‬
‫ال�س َمر!‪ِ ,‬ول ال؟‪� ,‬إنها تعرف ذلك وتف�ضله منذ �أن‬
‫كانت «جليلة» حتكي لها عنه ويف كل الأحوال لن ت�شكل طريقة حتقيقه معها‬
‫فارق ًا‪:‬‬
‫تقابلنا منذ �سنوات طويلة يف عيادة طبيبة ن�سائية فهي كانت جتوب‬
‫الأر�ض بحث ًا عن عالج لتُنجب طف ًال لزوجها ‪ ..‬كانت ودود ًا ج َّد ًا معي‪،‬‬
‫نزحت �إىل القاهرة مع زوجها الذي كان يعمل يف‬ ‫وح َك ْت يل‪� :‬إ َّنها َ‬
‫البناء للبحث عن عمل ‪ ..‬وقد كانت تظن ب�أنها عاق ٌر حتى اللحظة‬
‫التي تقابلنا فيها يف العيادة الن�سائية وقد كانت حماولتها الأخرية ‪..‬‬
‫وقد كنت �أعرف �أحد املراكز املتخ�ص�صة يف هذا ال�ش�أن بحكم عملي‬
‫حتى و�إن اختلف التخ�ص�ص ‪ ..‬فمنحتها رقم هاتفي وبد�أنا نتوا�صل من‬
‫يومها وحتى يومنا هذا‪.‬‬
‫ارتكز «عا�صم» ي�ستند �إىل راحة كفه م�ستمتع ًا وي�شري لها بيده الأخرى‬
‫قائ ًال بنربة مت�سلية �ساخرة‪:‬‬
‫وماذا حدث يا ترى؟‪.‬‬
‫ظلت «رجاء» حمتفظة بجمود مالحمها ومل يظهر عليها � ُّأي ت�أثر من‬
‫�سخريته الوا�ضحة وا�ستمتاعه على ح�سابها وقالت متابعة ك�إن�سان �آ ٍّ‬
‫يل‪:‬‬
‫بد�أنا رحلتنا من هذا املركز وتعرفنا فيه على طبيبة ا�ستطاعت‬
‫م�ساعدتها بعد �أن �أخذت يف االعتبار قدرتها املادية املحدودة ‪..‬‬
‫وحدثت املعجزة وباتت احلاجة «جليلة» حام ًال للمرة الأوىل بعد �أن‬
‫كانت قد �أمتت الأربعني من عمرها‪.‬‬
‫البد �أنَّ لزوجها �أوالد ًا من زوجة �أخرى؟‬
‫‪‬‬
‫خرج �س�ؤاله ببع�ض االهتمام احلقيقي‪ ,‬لي�س تعاطف ًا و�إمنا العتقاده �أنه‬
‫�شخ�ص ما ي�سعى �إىل الث�أر خارج الدائرة التي يبحث فيها‪ ,‬ولكنها‬
‫ٌ‬ ‫رمبا هناك‬
‫�أحبطت �آماله جميبة‪:‬‬
‫�شاب ف�سافر بطريقة غري ر�سمية �إىل‬ ‫زوجها �أغ َرتْه مياه البحر وهو ٌّ‬
‫بلد �آخر وهو يحلم بالرثاء‪ ..‬وهناك �أ�ضاع �شبابه كام ًال ويف النهاية مت‬ ‫ٍ‬
‫ترحيله وعاد �إىل موطنه على م�شارف الثالثني من عمره وال ميلك غري‬
‫ال�سرت كما يقولون ‪ ..‬فتز َّوج �أ َّول من واف َق ْت به من قريباته والتي كانت‬
‫قد فاتها قطار الزواج ‪ ..‬ولكن الباحث عن الرحيل يظل دائم ًا َّ‬
‫رحا ًال‬
‫فنزح �إىل القاهرة بها وا�ستقرا يف نف�س �شقتهما التي تعر ُفها ل�سنوات‬
‫دون �إجناب بعد �أن خابت كل و�صفات الطب ال�شعبي على مدار �سنوات‬
‫زواجها وتنقل زوجها من عمل �إىل �آخر والذي مل يكن لديه رغبة يف‬
‫�إجناب املزيد من الفا�شلني كما كان يطلق على نف�سه‪.‬‬
‫ َّثم ؟‪.‬‬
‫يدي هذه حتى ت�ستفيق‬ ‫طفلها كان طفلي �أنا �أي�ض ًا ‪ ..‬لقد حم ْلتُه على َّ‬
‫بال�سكر يف فمه ‪..‬‬‫هي من خمدِّ ر اجلراحة‪� ..‬ألقمته �أول جرعة ماءٍ ُّ‬
‫كنتُ �أنا �أول من نظر له واحت�ضنتُ طفولته ‪ ..‬وكنتُ �أنا �أي�ض ًا �أول من‬
‫احت�ضنت جثته بعد �أن وجدمتوه قتي ًال عاري ًا يا عا�صم بيه‪.‬‬
‫جملتها الأخرية خرجت منها بقهر ومرارة ونربة‪ ،‬ال زالت مذهولة وك�أنها‬
‫بلد هذا؟‬
‫تعاين جثته للت ِّو وتت�ساءل‪ :‬ملاذا يحدث هذا لطفل يف العا�شرة‪� ,‬أي ٍ‬
‫و�أي ب�شر ه�ؤالء؟!‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ن َع ْم‪ ،‬ذاب اجلليد الذى كانت تغلف به نربتها ومالحمها‪ ،‬وظهر من خلفه‬
‫�شقوق وكهوف تكفي لتخ ِّبئ بداخلها كل وحو�ش الأ�ساطري!‬
‫ابنتك مقتولة على قارعة الطريق ‪� ..‬ألي�س كذلك؟‪.‬‬
‫جد ْت ِ‬
‫كما ُو َ‬
‫�أطلت نظرة كره وحقد مطولة‪ ,‬كان يعلم �أنها تت�أمل‪ ,‬ويعلم �أي�ض ًا �أنها‬
‫اللحظة املنا�سبة؛ ليعرث على مبتغاه ويقوم بر�ش امللح على اجلرح الغائر وهو‬
‫الزال مفتوح ًا ينزف قيح ًا‪:‬‬
‫�صدقتم عجوز ًا يكره ولده واثنني من‬
‫ْ‬ ‫وياليتكم �صدقتموين!‪ ..‬لقد‬
‫متعاطي املخدرات‪ ..‬و�أطلقتم �سراح املجرم اجلبان بينما الربيء مت‬
‫�سجنه ظلم ًا وهو مل يرتكب ذنب ًا �سوى �أنه كان يدافع عن ابنتي ويحاول‬
‫حمايتها ‪.‬‬
‫طاقة من الغ�ضب َ‬
‫نفذت من عينيها �إليه‪ ,‬فهو رمز للعدالة التي ظل َمتْها هي‬
‫وابنتها‪ ,‬ال فارق بينهما كبري!‪ ,‬نه�ضت ك�شعلة انطلقت فج�أة هاتفة‪:‬‬
‫لدي �شيء متبقٍّ لأبكي عليه‪.‬‬
‫�أنا لي�س َّ‬
‫نظر لها «عا�صم» وهو ال زال يجل�س مكانه دون �أن يتحرك‪ ,‬حماو ًال ت�شتيت‬
‫طاقة الغ�ضب التي انفج َر ْت عنها‪ ,‬فهو يف حاجة؛ لأن يفهم ويربط التفا�صيل‬
‫ببع�ضها البع�ض فقال بهدوء بعد حلظات من ال�صمت‪:‬‬
‫�أ�ستطيع �أن �أفهم عالقتك بال�سيدة «جليلة»‪ ..‬ولكن ماهي م�صلحتك‬
‫فيما حدث للطبيب يف عيادته؟‪.‬‬
‫بالفعل بعرثت كلماته بع�ض �شرارت غ�ضبها كالرياح هنا وهناك فهد�أت‬
‫قلي ًال مع بع�ض الت�شتت يف الأفكار وعادت جتل�س نافية‪:‬‬
‫‪‬‬
‫عم تتحدث؟‪.‬‬
‫ال �أفهم َّ‬
‫نه�ض واقف ًا ليواجهها وقد ا�ستعاد جديته متخلي ًا عن قناع التودد الذي‬
‫ارتداه منذ �أن و�ضع يده ي�ضغط جر�س بابها قائ ًال‪:‬‬
‫�صورتك‬
‫ِ‬ ‫رمبا تفهمني عندما تتم مواجهتك باملمر�ضة التي تعرفت على‬
‫يا «رجاء»‪.‬‬
‫اكرتاث‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ابت�سمت �ساخرة وهي ت�س�أله بال‬
‫� ُّأي �صورة؟‬
‫أريدك �أن حتتفظي بابت�سامتك هذه �أمام وكيل النيابة وهو ي�س�ألك عن‬
‫� ِ‬
‫أنت تخفني مالحمك ب�أ�صباغ الزينة‪.‬‬ ‫�سبب ذهابك لزيارة القتيل و� ِ‬
‫ات�سعت ابت�سامتها �أكرث وهي تقول بثقة‪:‬‬
‫وهل زيارة طبيب �أثناء و�ضع �أ�صباغ الزينة جرمية �أقف �أمام النيابة‬
‫لأجلها يا عا�صم بيه؟!‬
‫لقد ا�ستفزته حق ًا‪ ,‬و� َ‬
‫أخرجتْه عن متدنه الذي ي َّدعيه‪ ,‬علمت ذلك عندما‬
‫قب�ض على ذراعها بق�سوة فت�أملت وهو ي�صرخ بوجهها‪:‬‬
‫ال ‪ ..‬و�ضع الأ�صباغ وزيارة الطبيب لي�ست جرمية ‪ ..‬ولكن عندما تقرتن‬
‫قمت بانتحاله فهي بالطبع لي�ست جمرد زيارة‬
‫وهمي كالذي ِ‬ ‫ٍّ‬ ‫با�سم‬
‫ٍ‬
‫‪�..‬ألي�س كذلك يا‪« ..‬رواء حامد»؟‪.‬‬
‫نطق «عا�صم» اال�سم الوهمي وهو ي�ضغط حرف ًا حرف ًا بنظرة انت�صار‪ ,‬لقد‬
‫�سخرت منه‪ ،‬و�أخرجت املارد من ال ُقمقم وعليها �أن تتحمل عاقبة �أفعالها‪.‬‬
‫‪‬‬
‫خاطئ‬
‫ٍ‬ ‫يبدو �أن املمر�ضة قد ا�ستمعت �إىل ا�سمي وقامت بكتابته ب�شكل‬
‫‪ ..‬ف�أنا ا�سمي رجاء حامد‪ ..‬ولي�س رواء حامد ‪ ..‬اعذرها يا عا�صم بيه‬
‫فهي ت�ستمع �إىل ع�شرات الأ�سماء يف اليوم الواحد‪ ..،‬واخلط�أ وارد يف‬
‫ا�سم بالكامل‪ ..‬فما بالك باخلط�أ يف حرف واحد؟!!‬
‫ٍ‬
‫�ضر َبتْه يف مقتل‪� ,‬أراد �أن يرتكها فقط؛ لي�ص ِّفق لها‪ُّ � ,‬أي ٍ‬
‫حمام مبتدئٍ‬
‫ي�ستطيع �أن يدفع عنها التهمة مبا قالت و ُيخرجها منها كال�شعرة من العجني‪,‬‬
‫لذلك هي واثقة ثابتة تعرف ماذا تفعل‪� ,‬أقر بهذا بداخله دون �أن يعلم �أنها‬
‫ثابتة؛ لأ َّنها مل تعد لديها �شيء؛ لتخ�سره!‪.‬‬
‫أعتربك «�شاهد‬
‫ َمن الذي يقوم بالتنفيذ يا «رجاء»؟‪ ..‬لو �ساعد ِتني ف�س� ِ‬
‫أيك؟‪.‬‬
‫ملك» يف الق�ضية ‪ ..‬ما ر� ِ‬
‫رنني هاتفه هذه املرة قاطع ابت�سامتها التي كانت على و�شك قتله‬
‫ب�سخريتها‪ ,‬ابتعد عنها قلي ًال؛ ليجيب على املت�صل‪� ,‬إنه ال�ضابط الذي قام‬
‫بالتحقيق يف ق�ضية قتل «�سلمى» والذي �ساعد «عا�صم» يف جمع التحريات‬
‫الالزمة عن الق�ضية‪:‬‬
‫عا�صم با�شا‪ ..‬هناك معلومة رمبا تفيدك تنتمي للق�ضية التي تقوم‬
‫طابق‬
‫بجمع التحريات حولها‪ ..‬لقد عرثنا منذ �أيام على جثة رمزي يف ٍ‬
‫أر�ضي مبنزل مهجور ومتهدم ‪ ..‬وعندما عاين والده جثته اتهم ح�سن‬
‫� ٍّ‬
‫ب�أنه هو َمن قتله ‪ ..‬ولدينا معلومات م�ؤكدة �أن ح�سن بعد خروجه من‬
‫ال�سجن قام باختطاف �أخت رمزي ال�صغرى وقام مب�ساومة والدها؛‬
‫ليديل له مبعلومات عن مكان رمزي‪ ,‬ولكن الرجل مل يتقدم ببالغ‪.‬‬
‫قطب «عا�صم» ما بني حاجبيه برتكيز مت�سائ ًال باهتمام‪:‬‬
‫َّ‬

‫‪‬‬
‫ملاذا؟!‬
‫ال�صول «�صفوان» الذي يعمل لدينا يف الق�سم هو َمن �أديل بتلك املعلومة‬
‫الأخرية وقال‪� :‬إنَّ والد رمزي �أخربه بها وهما يف طريقهما �إىل امل�شرحة‬
‫قبل وفاة الرجل بدقائق ‪ ..‬و�أخربه �أنه مل يتقدم ببالغ؛ لأ َّنه كان يخاف‬
‫من �أن يلوك النا�س �سريته هو وابنته ‪ ..‬ولأنه كان يخ�شى على ولده من‬
‫الوقوع يف يد ح�سن ب�شدة؛ فهو جمرم كما تعلم‪.‬‬
‫«ح�سن ‪ ...‬ح�سن» الأ�سم يرتدد مرة بعد مرة بباله‪ ,‬هل يكون هو احللقة‬
‫املفقودة والإبرة التي يبحث عنها بني كومة الق�ش؟!‪ ,‬هناك خطوة �أخرية‬
‫�ست�ؤكد �شكوكه!‪� ,‬أنهى مكاملته الأوىل ثم تنحى جانب ًا بعيد ًا �أكرث عن «رجاء»‬
‫وقام ب�إجراء املكاملة التي �ستح�سم الأمر ب�شكل قاطع‪� ,‬إنه م�أمور ال�سجن الذي‬
‫قام بالتحقيق يف ق�ضية مقتل «�شاهني و�سيد» بداخل ال�سجن‪ ،‬و ُق ِّيدت الق�ضية‬
‫�ضد جمهول‪.‬‬
‫ك َّت َف ْت «رجاء» ذراعيها وهي تقف بعيد ًا ترقبه بحذر‪ ,‬مينحها ظهره ويجري‬
‫عدة مكاملات هاتفية‪ ,‬الأوىل مل تفهم منها الكثري‪� ,‬صوته مل يكن منخف�ض ًا‬
‫ولكن الكلمات نف�سها كا َن ْت مبهمة‪� ,‬أما االت�صال الهاتفي الآخر فلقد فهمت‬
‫ماذا يدور من �س�ؤال «عا�صم « ملحدِّ ثه على الطرف الآخر‪ ,‬كان ال�س�ؤال يخ�ص‬
‫«ح�سن �أنور برهان»‪ ,‬هل انتهت فرتة حب�سه قبل مقتل «�شاهني و�سيد» �أم ال؟‪,‬‬
‫ولكن يبدو �أن �إجابة الطرف الآخر مل تعجبه‪ ,‬الحظت ذلك عندما ر�أت ظهره‬
‫يت�شنج ومتلمل يف وقف ِته وهو يقول حانق ًا‪:‬‬
‫�أنا ال �أ�س�أل عن �أخالقه �أو مهارته يا �سيادة امل�أمور ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫عاد ي�صمت منتظر ًا لدقائق مرت كالدهر على كليهما قبل �أن يومئ بر�أ�سه‬
‫�شاكر ًا م�أمور ال�سجن‪ ,‬ويخربه �أنه يف حاجة �إىل قراءة �أوراق التحقيق مرة‬
‫�أخرى ومناق�شة بع�ض ال�سجناء‪ ,‬ثم �أغلق هاتفه وا�ستدار يواجهها بنظرة ظ َف ٍر‬
‫ظلت عالقة بعينيه‪ ،‬وهو يتقدم نحوها ويقول بانت�صار‪:‬‬
‫ح�سن!‪..‬‬
‫�إذن فهو َ‬
‫فج�أة توقفت خطواته‪ ،‬وارتفعت �ضحكاته وهو ي�ص ِّفق بيديه حتى بد�أ ي�سعل‬
‫ب�شدة وهي تناظره‪ ،‬وقد توترت رغم ًا عنها حتى هد�أ �سعاله ولكن وجهه ظل‬
‫حمتقن ًا‪ ،‬وهو يقول بنرب ٍة مل تخ ُل من الإعجاب‪:‬‬
‫خطة انتقام يف منتهى الذكاء ‪ ..‬لقد �أح�سنتم اختيار قاتلكم امل�أجور‪..‬‬
‫ح�سن‪ ..‬هو َمن نفذ انتقام ال�سيدة جليلة وقام بقتل �شاهني و�سيد قبل‬ ‫َ‬
‫انتهاء مدة حب�سه بقليل‪ ..‬ثم يقوم بقتل رمزي بعد خروجه منفذ ًا‬
‫مله َّمته الرئي�سية ‪ ..‬وال مانع �أي�ض ًا من قتل الطبيب والتمثيل به لالنتقام‬
‫لِ َا حدث لـ �أمل‪ ..‬كم � ِ‬
‫أنت عبقرية يا «رجاء»! ‪.‬‬
‫�أنهى عبارته بطريقة م�سرحية فاحت ًا ذراعيه يف الهواء‪ ،‬ثم تقدم نحوها‬
‫خطوة �أخرى وهو يت�ساءل باهتمام يخلو من ال�سخرية متام ًا‪:‬‬
‫هل �أُغل َقت الدائرة يا «رجاء» �أم �أن هناك �شخ�ص ًا �آخر يريد �أن‬
‫ي�ستخدم «ح�سن» النتقام رابع كما حدث مع طبيب الن�ساء؟ ‪ ..‬الدور‬
‫على َمن يف املرة القادمة؟!‬
‫يبدو �أنك �شغوف مب�شاهدة �أفالم الت�شويق والإثارة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫مل ي�سخر منه �أح ٌد من قبل منذ �أن ارتدى البدلة الع�سكرية وحمل �سالح ًا‬
‫ممن ال ينتمون �إىل ُ�سلطته يخ�شونه ويتنازلون �أمامه‪ ،‬رمبا‬
‫يف حزامه‪ ,‬اجلميع َّ‬
‫حتى عن كرامتهم‪ ,‬فهل يرتك هذه الآن تفعل؛ لأنه فقط يتعاطف معها هي‬
‫و�صديقتها؟!‬
‫�سمعت من قبل عن اال�شتباه يا «رجاء»؟ ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫هل‬
‫مل تكن «رجاء» يف حاجة لأن ي�ستكمل حديثه‪ ,‬لقد ات�ضحت نيته يف عينيه‬
‫امل�شتعلتني �أمامها فقالت على الفور بتما�سك‪:‬‬
‫�سمعتُ ‪ ..‬و�سمعت �أي�ض ًا �أن �إلقاء القب�ض على �أحدهم ال بد �أن يكون‬
‫عن طريق الق�سم الذي يتبع ِمنطقة �سكنهم‪.‬‬
‫لك يف‬
‫معلوماتك منقو�صة يا «رجاء» ‪ ..‬و�سنعمل على ت�صحيحها ِ‬
‫الزنزانة‪!.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ح�سن ‪ ..‬ح�سن!‬
‫لف �ساعات نومه‬‫فتح عينيه متفاجئ ًا‪ ،‬بينما يخرتق �صوتها ال�ضباب الذي َّ‬
‫دون �أن ي�شعر بالوقت‪ ،‬فمنع عنه كل الأحالم‪ ,‬ال �شيء‪� ,‬أو كما ي�سميه عادة ‪..‬‬
‫احللم الأبي�ض!‪.‬‬
‫التوقيت يف هاتفه �أخربه ب�أنه نام قرابة ثالث �ساعات‪ ،‬ولكن �صوتها يخربه‬
‫ب�أن جدار غرفتها قد �سقط فوق ر�أ�سها منذ �سنوات‪.‬‬
‫خطا خطوات �سريعة نحو غرفتها ما�سح ًا بكفيه �أثر النوم عن وجهه‬
‫ومبجرد �أن دخل �إليها التفت َْت نحوه بنظرات م�ستغيثة هاتفة‪:‬‬
‫ح�سن ‪� ..‬أرجوك �أريد �أن �أذهب �إىل احلمام‪.‬‬
‫ َ‬
‫ثم عادت تلتفت مانحة الباب ظهرها حماول ًة نزع الأنبوب الطبي عن‬
‫يدها‪:‬‬
‫انتظري‪.‬‬
‫�أ�سرع نحوها وهو يلتف حول الفرا�ش لالجتاه الآخر‪ ,‬وبخفة َ‬
‫وحذ ٍر نزع‬
‫عنها الال�صق الطبي املُث ِّبت للإبرة والأنبوب الذي توقفت قطراته عنه النتهاء‬
‫مما جعل ر�أ�سها‬ ‫املحلول املو�صل به‪ ,‬كانت حركتها �سريعة �أكرث من الالزم َّ‬
‫يدور مبجرد �أن نه�ضت واقفة فعادت جتل�س �ساقطة فوق الفرا�ش جم َّدد ًا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫دار «ح�سن» حول الفرا�ش مرة �أخرى‪ ،‬ووقف ُقبالتها ينتظر �أن ت�ستعيد‬
‫توازنها بينما هي ُت�سد ر�أ�سها مغم�ضة العينني مغ�ضنة اجلبني‪ ,‬التفت نحو‬
‫احلديدي املُلقى على الأر�ض ب� ٍ‬
‫إهمال‪ ،‬والذي مل يعد يقيد قدمها وهو‬ ‫ّ‬ ‫ال�سل�سال‬
‫يراود نف�سه « �إنها يف حالة �إعياءٍ بالكاد ت�ستطيع الوقوف ‪ ..‬كيف ت�سحب ثقل‬
‫ال�سل�سلة خلفها يا ح�سن؟‪ ..‬كن منطقي ًا»‪.‬‬
‫تركها ت�ستند �إىل اجلدار ببطء ُماولة احلفاظ على توازنها حتى ال‬
‫ت�سقط ب�سبب الدوار الذي يل ُّفها حتى خرجت من الغرفة‪� ,‬سمع �صوت باب‬
‫احلمام ُيغلق فتنف�س بعمق م�ستدير ًا باجتاه فرا�شها جال�س ًا على �أحد �أطرافه‪،‬‬
‫قا�س للغاية من قبل؟‪ ,‬ال‬
‫فقطب حاجبيه بده�شة‪ ,‬كيف مل يالحظ �أن الإ�سفنج ٍ‬ ‫َّ‬
‫بد �أن فقراتها ت�ؤملها ب�ش َّد ٍة ب�سببه!‪ ,‬مد يده يخترب مدى لني الو�سادة فوجدها‬
‫تغ�ضن جبينه �أكرث وهو يح�سب ال�ساعات التي ق�ضتها باكية حتى‬ ‫ُمب َّللة للغاية‪َّ ,‬‬
‫�أغرقت و�سادتها‪ ،‬بينما هو يظنها نائمة!‬
‫بعد قليل عادت جم َّدد ًا �إليه م�ستندة ب�أطراف �أ�صابعها هذه املرة �إىل‬
‫فقدتْه من طول الرقاد‪ ,‬نه�ض واقف ًا‬ ‫اجلدار وقد ا�ستعادت توازنها الذي َ‬
‫على الفور وهو يرمق وجهها املب َّلل باملاء الذي يقطر يديها‪ ،‬بينما هي حتاول‬
‫جتفيفه ب�أكمامها الطويلة‪ ,‬وتتجاهل نظراته حتى و�صلت �إىل طرف الفرا�ش‬
‫الآخر وجل�ست ت�صلي ما فاتها من �صلوات‪ُ ,‬تط� ِأطىء عنقها عند الركوع‬
‫زم �شفتيه �آ�سف ًا وهو ينظر �إىل �ساعة هاتفه‪ ,‬لقد نام‬
‫وتنحني �أكرث لل�سجود‪َّ ,‬‬
‫عن �صالة الظهر حتى دخل وقت الع�صر‪ ,‬فهم�س لنف�سه مو ِّبخ ًا « لقد �أ�صبحت‬
‫�سي ًئا ج َّد ًا يا ح�سن !»‪.‬‬
‫ترك لها الغرفة وخرج يقطع طول املخزن وعر�ضه ذهاب ًا و�إياب ًا يفكر يف‬
‫اخلطوة القادمة‪ ,‬فبعد �أن كان هو املحرك للأحداث‪ ,‬بات َْت حتركاته ع�شوائية‬
‫ومرجتلة‪ ,‬منذ �أن نه�ش الأر�ض بحث ًا عن «رمزي» ومل يجده‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ف�سد كل �شيء‪ ,‬خرج القطار الغ�ضب عن ق�ضبانه‪ ،‬و�أ�صبح يهدد‬
‫باال�صطدام يف �أي حلظة‪ ,‬و�أول َمن ا�صطدم به كانت �أ�سريته تلك‪ ,‬لقد خرج‬
‫من ال�سجن بج�سده فقط‪� ,‬أما روحه فال زالت هنالك حبي�سة ظلم الب�شر ال‬
‫اجلدارن‪ ,‬ت�سحبه �إليها ُم َّدد ًا فتجعله يبد�أ دون �أن يفكر يف النهايات‪.‬‬
‫وملاذا يفكر؟‪ ..‬وملاذا يخ�شى العودة وقد ت�ساوى ك ٌّل لديه ومل يعد ي ْف ُرق بني‬
‫ال�سجن وخارجه �إال الأ�سوار املرتفعة فقط؟!‪.‬‬
‫�سمع �صوت حتركاتها بعد خروجها َ‬
‫احل ِذر �إليه‪ ,‬ولكنها فعلت كما فعل‬
‫الفيل الأ�سري يف ق�ص�ص الأطفال‪ ,‬مل تتجاوز امل�ساحة التي كان من امل�سموح‬
‫لها التح ُّرك فيها فقط‪ ,‬ثم تو َّق ْ‬
‫فت‪ ,‬يبدو �أن االعتياد هو َمن ي�صنع الأ�سري‬
‫ولي�س القيود فقط!‪.‬‬
‫تق َّدمي‪ ...‬اجل�سي هنا‪.‬‬
‫قالها وهو ي�ستند �إىل مقدمة ال�شاحنة ال�صغرية‪ ,‬والتي باتت �أ�سرية‬
‫املخزن القدمي هي الأخرى‪ ،‬كان عاقد ًا ذراعيه �أمام �صدره يراقب تعرثها يف‬
‫�أطراف اجللباب الطويل الذي تلف و�شاحه حول ر�أ�سها‪ ,‬كالطفل الذي يتعلم‬
‫امل�شي حدي ًثا‪ ,‬خطوتني ثم تقف تنظر حولها حتى جتاوزته‪ ،‬وو�صلت �إىل مقعده‬
‫العري�ض ووقفت ت�ستند �إىل ظهره املرتفع‪� ,‬صمتت تنتظر توجيهاته‪:‬‬
‫�أمل نتفق على �أن تتوقفي عن البكاء؛ لت�ستعيدي عافيتك؟!‪.‬‬
‫أبك‪.‬‬
‫مل � ِ‬
‫بوهن وتطرق بعينيها للأ�سفل فقال مندفع ًا‪:‬‬
‫هم�س ْت ٍ‬
‫َ‬
‫كنت تبكني طوال الوقت يا غفران‪.‬‬
‫ ِ‬
‫‪‬‬
‫غري �صحيح‪.‬‬
‫انزلق ببطء جال�س ًا القرف�صاء حتى ي�ستطيع ر�ؤية وجهها جيد ًا‪ ،‬بينما‬
‫ال زال ظهره م�ستند ًا �إىل �شاحنته‪ ,‬عيناها متورمتان للغاية‪ ،‬ووجها �شاحب‬
‫كالأموات‪ ,‬تبدو �ضعيفة ج َّد ًا يف ذلك اجللباب الف�ضفا�ض بحالتها تلك‪ ,‬لن‬
‫ت�ستعيد عافيتها �أبد ًا ما َ‬
‫دام ْت مواظبة على البكاء طوال الوقت كما تفعل الآن‪:‬‬
‫�أال تعلمني �أنك مراقبة؟‪.‬‬
‫رفعت وجهها �إليه فوجدته يعبث بق�شة �صغرية يف الأر�ض‪ ,‬الغبار الكثيف‬
‫ميكنه من ر�سم الو�سم الذي يريده‪ ,‬بد�أ يف ر�سم دوائر بداخلها مثلثات �صغرية‬
‫تخرج منها �أ�سهم ع�شوائية ثم رفع عينيه �إليها قائ ًال بخفوت‪:‬‬
‫يراقبك ‪ ..‬ويخربين ‪ ..‬ف�أنا �أ�ستطيع التوا�صل‬
‫ِ‬ ‫اجلن الذي ي�سكن املخزن‬
‫معهم‪.‬‬
‫لن ين�س �أبد ًا الرعب الذي غطى مالحمها يف تلك اللحظة وهي تنظر‬
‫حولها بذعر‪ ،‬وترفع قدمها عن الأر�ض وحتت�ضنها �إىل �صدرها وهي ت�س�أله‬
‫برباءة‪:‬‬
‫كم عددهم ؟!‬
‫مل تكن هناك �إجابة حا�ضرة يف ذهنه‪ ،‬فهو مل يكن يتوقع ال�س�ؤال على‬
‫الإطالق فوجد نف�سه يرجتل قائ ًال‪:‬‬
‫أنك تبكني دائم ًا وتزعجينه ‪ ..‬و�آخر‬
‫حجرتك يخربين � ِ‬
‫ِ‬ ‫�أربعة ‪ ..‬الذي يف‬
‫بكيت َ‬
‫هناك ‪ ..‬و�آخر‬ ‫حذرين ب�أنه �سي�سكن ج�سدك للأبد لو ِ‬‫يف احلمام َّ‬
‫يجل�س على مقعدي ينتظرين ويحمي املخزن حتى �أعود ‪ ..‬وهو رئي�سهم‬
‫جميع ًا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�صمتت قلي ًال وقد َّ‬
‫جف الدم يف عروقها‪ ،‬ومقلتاها تدوران يف حمجريهما‬
‫مت�سائل ًة بخوف‪:‬‬
‫والرابع؟!‬
‫الرابع؟‬
‫زلت ال جتيد الع َّد يا «ح�سن»!‪ ,‬هر�ش خلفية ر�أ�سه‬
‫ملاذا مل يقل ثالثة‪ ,‬ال َ‬
‫بحرية يف اللحظة التي �سمعها تقول بانتباه‪:‬‬
‫هل يراقب املخزن من اخلارج؟!‬
‫ول ال؟!‪� ,‬أوم�أ بر�أ�سه موافق ًا‪ ،‬ففاج�أته ثاني ًة وهي تت�ساءل بف�ضول‬
‫ن َع ْم‪َ ِ ..‬‬
‫هام�سة‪:‬‬
‫هل تعرف �أ�سماءهم؟!‬
‫هه!‬
‫هر�ش يف ر�أ�سه مرة �أخرى‪ ,‬مل يكن دجا ًال ليتعرف �إىل �أحد �أ�سماءهم‬
‫من قبل‪ ,‬ا َّدعى االن�شغال بالر�سومات الع�شوائية فوق الغبار حتى يتمكن من‬
‫فقطب جبينه على الفور قائ ًال‪:‬‬
‫التفكري‪ ,‬ولكن احليلة مل ُت ْع ِيه َّ‬
‫غرفتك ُيدعى «في�شة ابن مني�شة» !‬
‫ِ‬ ‫الذي يف‬
‫راقبها وهي تدور بعينيها يف املكان‪ ،‬فنه�ض واقف ًا بعد �أن رمى بالق�شة‬
‫زم �شفتيه وهو مينحها ظهره ويكتم ابت�سامته ب�صعوب ٍة قبل �أن‬ ‫جانب ًا‪ ,‬ثم َّ‬
‫ي�سيطر على نربة �صوته ليجعلها جادة ُمذ ِّر ًا‪:‬‬
‫�أ َّما الذي ي�سكن احلمام فهو « زالطة ابن بالطة» !‬
‫‪‬‬
‫�شهقة �صغرية �صدرت عنها‪ ،‬فا�ستدار �إليها ليجدها تد�س ر�أ�سها بني‬
‫ركبتيها وهي تقول بنربة مرجتفة‪:‬‬
‫من ف�ضلك اجعلهم يرحلون جميع ًا‪.‬‬
‫�سريحلون لو توقف ِْت عن البكاء‪.‬‬
‫�صمتت للحظات قبل �أن تعده بخفوت قائلة‪:‬‬
‫� َ‬
‫أعدك‪� ..‬س�أتوقف‪.‬‬
‫�أر�سل تنهيدة رائقة ال تتنا�سب �أبد ًا مع �صعوبة موقفهما‪ ،‬وال يعرف كيف‬
‫خرج ْت نربة �صوته حانية هكذا وهو يقول �آمر ًا‪:‬‬
‫َ‬
‫غرفتك‪ ،‬وانتظري الطعام‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والآن عودي �إىل‬
‫�أطلقت �سراح قدميها حتى هبطتا �إىل الأر�ض جم َّدد ًا َ‬
‫ونه�ض ْت ببطءٍ مت�شي‬
‫نحو حجرتها‪ ,‬ومبج َّرد �أن �أغلقت الباب من خلفها ترك العنان البت�ساماته‬
‫الوا�سعة �أن تظهر‪ ,‬ا�ستقر على املقعد العري�ض وقام برمي ر�أ�سه �إىل الوراء‬
‫متنف�س ًا ال�صعداء‪.‬‬
‫لقد عادت �إليها احلياة‪ ،‬وبد�أت خماوفها الطبيعية كفتاة تظهر على‬
‫ال�سطح جمدد ًا‪� ,‬ضحك ب�صوت منخف�ض‪ ،‬بينما عيناه مغم�ضتان‪ ،‬وكلتا يديه‬
‫مرتاحتان على املقعد‪ ,‬جمرد دقيقة من الهدوء تالها عا�صفة مل يكن ليح�سب‬
‫لها ح�ساب‪ ,‬ارتفع رنني هاتفه معلن ًا عن ر�سالة من م�ساعده الأول منذ �أول يوم‬
‫عمل له يف ور�شة املكانيكا بال�سجن‪� ,‬إنه يف اخلارج ب�صحبة الطعام كما يفعل‬
‫يوم َّي ًا‪ ,‬ويف نف�س املوعد‪.‬‬
‫‪‬‬
‫قام بفتح الأقفال الداخلية للباب احلديديِّ ‪ ،‬ثم قام بتحريكه للخارج قلي ًال‬
‫ليمر �إىل حيث ينتظره «كرمي» الذي كان القلق واال�ضطراب يحتالن مالمح‬
‫وجهه‪ ،‬بينما يحمل �أطباق الطعام بني يديه‪ ,‬ينظر مين ًة وي�سرة برغم امل�ساحة‬
‫بقلق وهو يقر�أ‬
‫الوا�سعة ال�شاغرة حول املخزن القدمي‪ ,‬اقرتب «ح�سن» منه ٍ‬
‫مالحمه املرتبكة مت�سائ ًال‪:‬‬
‫ماذا َ‬
‫بك يا كرمي؟!‬
‫�ألقوا القب�ض على اخلالة رجاء يا ح�سن!‬
‫ات�سعت عيناه ده�شة هاتف ًا‪:‬‬
‫ملاذا؟‪.‬‬
‫ابتلع «كرمي» ُلعابه ب�صعوبة وهو يجيبه بنربة مت�شنجة‪:‬‬
‫ك ُّل ما ا�ستطعت معرفته من �أحد الع�ساكر يف الداخل �أنها متهمة يف‬
‫ق�ضية قتل‪.‬‬
‫بالغ مكتِّف ًا يديه فوق �صدره‪ ,‬مطرق ًا �أر�ض ًا‬
‫دارت عيناه يف حمجريهما بقلق ٍ‬
‫بتفكري للحظات‪ ,‬قبل �أن يقول بهدوءٍ ك َمن ا�ست�سلم ملوجة ُم ِغرقة قادمة نحوه‬
‫بجنون لتبتلعه‪:‬‬
‫ال تقلق‪� ،‬س�أذهب �إىل هناك‪ ..‬فهم يريدونني �أنا‪.‬‬
‫كادت الأطباق ت�سقط من بني يديه وهو يهتف ملتاع ًا‪:‬‬
‫ال تذهب‪� ،‬أرجوك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫و�ضع «ح�سن» ك َّفه على كتف رفيقه وهو يناظره بامتنان‪ ,‬ال زال «كرمي»‬
‫هزي ًال ذا نربة مرتع�شة تطغى على �صوته دائم ًا حتى بعد خروجه من ال�سجن‪,‬‬
‫يبدو �أنها خ�صلة وراثية ال دخل لل�سجن بها‪.‬‬
‫علي ملجرد خروجي من هنا يا كرمي ‪..‬‬ ‫يف كل الأحوال �سيتم القب�ض َّ‬
‫و�أنا لن �أظل حبي�س ًا البقية الباقية من عمري ‪ ..‬فمن الأف�ضل �أن �أذهب‬
‫بنف�سي‪ ..‬وال تقلق‪ ،‬لن يحدث �شي ٌء‪.‬‬
‫حرك «كرمي» ر�أ�سه راف�ض ًا‪ ،‬وهو يطالع الأر�ض من حتته‪ ,‬ولكن «ح�سن» مل‬
‫يكن لديه الكثري من الوقت؛ ليقوم ب�إقناعه‪ ,‬ال يريد لـ «رجاء» �أن تبقى �سجينة‬
‫ولو ل�ساعة واحدة‪ ,‬يكفي م�صائب احلياة التي مك َث ْت فوق ر�أ�سها ومل تغادرها‪,‬‬
‫هو يعلم �أنها �ستخرج يف كل الأحوال فال دليل يدينها‪ ,‬ولكنه يعلم �أي�ض ًا �أن‬
‫هناك ما ُيدعى تلفيق الأدلة‪ ,‬لذلك ال بد من �أن يتحرك �سريع ًا ج َّد ًا‪.‬‬
‫ولكن ‪ ..‬ا�ستدار بر�أ�سه للخلف نحو باب املخزن للحظات ثم عاد بوجهه‬
‫�إىل «كرمي» جمدد ًا وهو يقول ‪:‬‬
‫كرمي‪ ..‬غفران يف عهدتك ‪ ..‬قم ب�إعادتها �إىل بيتها ‪ ..‬وكن معها متى‬
‫كانت يف حاجة � َ‬
‫إليك‪.‬‬
‫ملاذا؟‪.‬‬
‫�س�أل « كرمي» ببالهة ظهرت عليه للحظات قبل �أن ينف�ض ر�أ�سه وهو يتذكر‬
‫�أنه ا�سم الأ�سرية بالداخل‪ ،‬ف�أوم�أ موا ِفق ًا وا�ضع ًا يده الفارغة على �صدره‬
‫ك َو ْعد منه ب�أن ينفذ �أوامره‪ ,‬وما اجلديد؟‪ ,‬فهو طوع �أمره منذ �سنوات‪ ,‬منذ‬
‫�أن قام بالدفاع عنه للمرة الأوىل �ضد بع�ض ال�سجناء الذين كانوا يلقبونه بـ‬
‫«املرمطون» ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أخذه حتت ذراعه‪ ،‬وع َّلمه �صنعته‪ ،‬وبات م�ساعد ًا له‪ ,‬حتى �سها «ح�سن»‬
‫عنه ل�ساعة واحدة‪� ,‬ساعة واحدة فقط‪ ,‬ا�ستطاع «�شاهني و�سيد» ا�ستغاللها‪,‬‬
‫وقاما ب�سحبه �إىل دورة املياه وانتزعا منه عنوة ما تبقى من كرامته ورجولته‪,‬‬
‫فال�سجن له قوانينه‪ ,‬وهو مل يكن ي�صلح حتى لدور احلاجب‪.‬‬
‫لن ين�سى �أبد ًا دموع القهر التي بذلتها عيناه وهو ُمنز ٍو بجوار املرحا�ض‬
‫ي�ضرب ر�أ�سه باجلدار‪ ،‬حتى بد�أت تنزف فرتكها طواعي ًة‪ ،‬وهو يفقد وعيه يف‬
‫�صمت تدريجي ًا؛ لعله ميوت وتنتهي معاناته مع �ضعفه الدائم الكريه‪ ,‬ولكن ال‬
‫زال يف العمر بقية‪ ,‬وال زال هناك «ح�سن» الذي تعهد له ب�أنه لن يخرج من‬
‫ال�سجن قبل �أن تخرج جثتاهما العفنتان ‪ ..‬ولقد ب َّر بق�سمِ ه وزيادة‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫طرق بابها ودخل يف عجلة من �أمره؛ ليتفاج�أ بها جال�سة فوق فرا�شها‬
‫تبت�سم‪ ,‬تنحنح متعجب ًا من �أمرها‪ ،‬وتقدم وا�ضع ًا ال�صحن الذي يحوي طعامها‬
‫بجوارها قائ ًال‪:‬‬
‫طعامك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تناويل‬
‫�أوم�أت مبت�سمة بخجل وهي ت�ستدير نحوه لتتناوله كما �أمرها‪ ,‬مل يخرج‬
‫اعتادت‪ ,‬بل بقي واقف ًا �أمام الفرا�ش �شارد ًا وهي ت�أكل ببطء‪ ،‬وتتحا�شى‬
‫ْ‬ ‫كما‬
‫النظر �إليه حتى انتهت وتناولت جرعة مياه‪:‬‬
‫ؤذيك‪� ..‬ساحميني‪.‬‬
‫مل �أكن �أق�صد �أن �أ� ِ‬
‫نظرت �إليه بت�سا�ؤل بينما يدها تنخف�ض ببطء حاملة الزجاجة بني‬
‫�أ�صابعها فقال متابع ًا‪:‬‬
‫كنتُ �أريد العثور على رمزي ‪ ..‬ومل يكن �أمامي حل �آخر غري امل�ساومة‬
‫بك‪.‬‬
‫ِ‬
‫نه�ضت ببطء‪ ،‬وانحنت ت�ضع الزجاجة �أر�ض ًا ثم تقرتب منه بغرابة‪ ،‬و�شعو ٌر‬
‫قوي ي�ضرب �صدرها ويخربها ب�أنه يودعها‪:‬‬
‫ٌّ‬
‫ماذا حدث‪ ..‬ملاذا تقول هذا؟!‬
‫التفت نحوها بابت�سامة مل ت�صل �إىل عينيه وقال م�شاك�س ًا‪:‬‬
‫‪‬‬
‫موعد �إطالق �سراحك قد حانَ ‪� ..‬أم �أعجبك دور املخطوفة وتريدين‬
‫اال�ستمرار فيه؟!‬
‫أنك مل تكن لت�ؤذيني �أبد ًا‪.‬‬
‫ح�سن ‪� ..‬أنا �أعرف � َ‬
‫قالتها بقوة تناق�ض ال�ضعف البادي عليها بينما خافقها ي�ؤملها‪ ،‬فال�شعور‬
‫بالهجر قد بد�أ يلوح لها من بعيد جم َّدد ًا‪.‬‬
‫أنت ال تعرفينني جيد ًا ‪ ..‬وال تعرفني ما �أنا قادر على فعله ‪� ...‬أنا كما‬
‫� ِ‬
‫يقولون ‪ ..‬رد �سجون!‬
‫تالحقت �أنفا�سها ومل تبذل �أدنى طاقة لتوقف دموعها عن اجلريان وهي‬
‫تقول على الفور‪:‬‬
‫�أنا �أعرف كل �شيء‪ ..‬الليلة التي ُعدتُ فيها �إىل بيت والدي لأجمع البقية‬
‫املتبقية من مالب�سي‪ ..‬ر�أيتُ رمزي يعود من اخلارج يلهث ويختبئ يف‬
‫حجرة والد ْينا ‪ ..‬وا�ستمعت �إىل ما دار بينهم عن الفتاة‪َ ..‬‬
‫وعنك‪� ..‬أنت‬
‫بريء و�أنا كنت �س�أذهب لأُديل ب�شهادتي ل�صاحلك ‪ ..‬ولكن والدي‬
‫�ضربني وك�سر يدي هذه وقدمي تلك‪.‬‬
‫كانت ت�شري بع�شوائية �إىل يدها وقدمها‪ ،‬والدموع تت�ساقط بتناغم مع‬
‫الن�شيج الظاهر بني حروفها‪ ,‬كانت نظراته تتابع حركة يدها وهو ي�ستمع �إىل‬
‫ما تنازع به روحها فحاول تهدئتها‪:‬‬
‫منزلك ‪� ..‬أمل تفتقدي �أ َّم ِك؟!‬
‫ِ‬ ‫�ستعودين �إىل‬
‫�سقطت على ركبتيها دافنة وجهها بني كفيها ون�شيجها يعلو باكية‪:‬‬
‫ال �أريد ‪ ..‬ال �أريد العودة ‪ ..‬ال ترتكني يا ح�سن‪� ،‬أرجوك ‪� ..‬أنت ال تعرف‬
‫‪ ..‬ال تعرف!‬
‫‪‬‬
‫منذ متى مل ي�شعر بوخزات القطرات املاحلة والغ�صة التي ت�صاحبها ‪..‬‬
‫منذ وفاة �أمه؟‪ ,‬يبدو �أنه قد ن�سي حتى ا�سمها حتى �أنه ي�شعر بتلك الغرابة‬
‫الآن وهي تن ّد يف عينيه‪ ,‬تعود �إليه على ا�ستحياء وبال اندفاع‪ ,‬لقد رف�ضها طيلة‬
‫�سنوات عذابه فلماذا يزحف بريقها يف تلك اللحظة �إىل مقلتيه وهو ينزل من‬
‫عليائه حتى ا�ستقر على ركبتيه �أمامها؟‪:‬‬
‫أنت مري�ضة ‪..‬‬
‫كنت تهذين و� ِ‬
‫قلت كل �شيء‪ ،‬بينما ِ‬
‫�أنا �أعرف ‪ ..‬لقد ِ‬
‫يخيفك ‪ ..‬رمزي لن يعود من قربه!‬
‫ِ‬ ‫ولكن ‪ ..‬مل يعد هناك ما‬
‫�صاحت ب�صوت كتمته راحتاها فخرج كا�ستغاثة �آتية من بئر عميقة‪:‬‬
‫رمزي يف كل من حويل ‪ ..‬يف �صاحب امل�صنع الذي �أعمل به ‪ ..‬يف بائع‬
‫اخل�ضراوات ‪ ..‬يف احلافالت التي �أ�ستقلها ‪ ..‬يف املدر�سة ‪ ..‬يف �شخ�ص‬
‫يعرب بجواري يف الطريق وال يعرفني ‪ ..‬كلهم رمزي يا ح�سن ‪ ..‬كلهم‬
‫رمزي ‪.‬‬
‫توقفت؛ لت�شهق م�ستدعية الهواء �إىل رئتيها ثم حترك ر�أ�سها رف�ض ًا متابعة‪:‬‬
‫ْ‬
‫جميعهم ينه�شونني �أنا ومن ِمثلي ‪ ..‬وك ٌّل على طريقته احلقرية اجلبانة‬
‫‪� ...‬أنا �أريد �أن �أبقى هنا يا ح�سن ‪� ..‬أنا هنا ب�أمان ‪ ..‬ال نظرات حقرية‬
‫وال مل�سات مقرفة وال عبارات مهينة جتعلني �أكره كوين �أنثى ‪� ..‬أنت مل‬
‫تخطفني ‪� ..‬أنت �أنقذتني منهم جميع ًا ‪ ...‬حتى و�أنا يف قيودك �أ�شعر‬
‫ب�آدميتي وب�أنني يف �أمان ‪ ...‬هل تعرف ماذا يعني الأمان لأي فتاة‬
‫مثلي؟ ‪ ..‬يعني كل �شيء‪.‬‬
‫�ضغط �أ�ضرا�سه بينما حلقه يت�شنج �أكرث مقاوم ًا رغبة يف احتوائها فقط؛‬
‫ل ُي�شعرها بالأمان الذي تبحث عنه‪ ,‬ولكنه لن يفعل ‪ ..‬لن يكون «رمزي» �آخر‬
‫و�إن اختلفت �أ�سبابه ونواياه‪:‬‬
‫‪‬‬
‫أخذك �إىل حيث‬
‫أتركك يف عهدة �شخ�ص �أثق فيه كنف�سي‪� ,‬سي� ِ‬ ‫�س� ِ‬
‫�سيحميك بروحه لو تطلب الأمر ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ئت ‪..‬‬
‫والدتك ثم �إىل منزلك متى ِ�ش ِ‬
‫ِ‬
‫و�سيكون طوع بنانك ‪ ..‬حتى �أعود!‬
‫رفعت وجهها �إليه بنظرة � َأم ٍل مل ي َرها من كرثة الدموع التي تغطي وجهها‬
‫والتي تفي�ض بكرم من ينبوع عينيها‪ ,‬وقالت بنربة مذبوحة وذابحة من �أثر‬
‫البكاء‪:‬‬
‫�إىل �أين �ستذهب؟‬
‫ال�سيدة «رجاء» والدة �سلمى ‪ -‬رحمها اهلل ‪ -‬مت القب�ض عليها بتهمة‬
‫قتل رمزي ‪ ..‬هذه املر�أة ت� َّأذت كثري ًا ج َّد ًا يا غفران ‪ ..‬وبقائي هنا‬
‫�سي�ؤذيها �أكرث ‪� ..‬إنهم يبحثون عني كاملجانني وخروجي لهم �سيجعلهم‬
‫يطلقون �سراحها‪.‬‬
‫ال �أنت وال هي ‪� ..‬س�أذهب �إليهم و�أجعلهم يطلقون �سراحها‪.‬‬
‫هتفت بها وهي تقب�ض على ِمع�صمه بقوة‪ ،‬بينما عيناها تتح َّدانه �أن ي�ضيع‬
‫مرة �أخرى خلف الأ�سوار ويرتكها وحيدة‪� ,‬إنها تعرف �شيئ ًا وتخفيه عنه‪ ,‬كان‬
‫يقر�أ عينيها ب�سهولة وهو يتذكر عندما �سقطت بني يديه منذ �أيام وهي تخربه‬
‫ب�أنها هي َمن فعلت ‪ ..‬هي َمن قت َل ْت �أخاها‪� ,‬إذن مل تكن تهذي‪ ,‬بل كانت ُتق ُّر‬
‫باحلقيقة !‪� ,‬أزاح قب�ضتها وتناول ِمرفقيها بهجوم مباغت هاتف ًا‪:‬‬
‫أنت َمن قتله؟!‬
‫� ِ‬
‫حركت ر�أ�سها نفي ًا قائلة بعينني زائغتني‪:‬‬
‫بل ر�أيت ما حدث من البداية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫زادت �أ�صابعه من ال�ضغط على ِمرفقيها بال �إرادة منفع ًال‪ ,‬ال ي�صدق �أنها‬
‫ر�أت ما حدث و�صمتت‪ ،‬ومل تتكلم وتركته يقيدها وي�سجنها هنا ويخرج باحث ًا‬
‫عن «رمزي» بينما هي تعرف �أنه جثة هامدة‪:‬‬
‫تكلمي‪� ..‬أري ُد احلكاية من البداية يا غفران‪.‬‬
‫زاغت نظراتها �أكرث تبحث عن �شيء �ضائع‪ ,‬ت�ستدعي الذكرى التي هزت‬
‫كيانها‪ ،‬وجعلتها دائم ًا هاربة‪ ,‬خائفة‪ ,‬واقعة بني مطرقة دناءة «رمزي» الذي‬
‫وعدها ب�أنها لن تهن�أ �أبد ًا مادام هو على قيد احلياة‪ ,‬وحقيقة �أنه �أخوها يف‬
‫النهاية‪ ،‬ودما�ؤه جتري بعروقها‪ ,‬تلك الدماء التي ر�أتها تن�ساب من حنجرته‬
‫بينما هو �ساقط على وجهه وقد فارق احلياة‪:‬‬
‫كنتُ �أت�ساءل دائم ًا‪ :‬كيف ي�ستطيع رمزي معرفة اليوم الذي �أح�صل فيه‬
‫على راتبي ال�شهري والذي مل يكن له موعد ثابت ‪ ..‬ويقوم مبهاجمتي‬
‫يف الطريق و�أخذه عنوة؟ ‪ ..‬حتى ‪ ..‬حتى عرفت‪ ..‬فتاة كانت تعمل‬
‫يف نف�س املكان ‪ ..‬فتاة ريفية مل تتجاوز ال�ساد�سة ع�شرة من عمرها‬
‫‪ ..‬بد�أت تتودد يل وتقرتب مني ‪ ..‬ومرة بعد مرة تكرث �أ�سئلتها حول‬
‫عائلتي ‪ ..‬ثم حول �أخي ‪ ..‬وملاذا ال �أعامله معاملة جيدة؟ ‪ ..‬وقتها‬
‫عرفت ‪ ..‬عرفت �أنه ي�ستغلها‪ ،‬ولكي ال تخربين عن عالقتهما قال‬
‫حذرتها منه ولكنها مل ت�ستمع‬ ‫لها ب�أنني �أكرهه وال �أريد له اخلري ‪َّ ..‬‬
‫‪ ..‬كانت قد �أح َّبته بقلبها ال�صغري ومراهقتها الوليدة فابتعدت عني‬
‫وبد�أت تعاملني معاملة �سيئة ‪ ..‬كنتُ �أموتُ خوف ًا عليها و�أنا ُموقنة مبا‬
‫يريده منها ‪ ..‬خ�صو�ص ًا وقد بد�أت ت�شحب و�ضحكتها تختفي يوم ًا بعد‬
‫يوم ‪ ..‬حتى جاء ذاك اليوم وبكت �أمامنا جميع ًا وهي ترجو �صاحب‬
‫العمل �أن ي�سمح لها بالذهاب مبكر ًا ل�ساعة واحدة فقط ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫بد�أت �ضربات قلبها يف زيادة م�ضطربة وهي تنظر له‪ ،‬ولكنها ال تراه يف‬
‫احلقيقة‪ ,‬مل تكن ترى �سوى ذلك البيت املتهدم الذي دخلته الفتاة‪:‬‬
‫ت�سللتُ خلفها بعد خروجها ‪ ..‬ور�أيتها ت ِل ُج �إىل هناك ‪ ..‬منزل قدمي‬
‫ن�صف متهدم‪ ،‬وكان هو ينتظرها هناك ‪ ..‬ثم يقوم ب�سحبها من خلفه‬
‫قدمي تن�سحبان خلفهما‪ ..‬وك�أن هناك خيوط ًا غري مرئية‬ ‫َّ‬ ‫ووجدت‬
‫تربطني بج�سديهما ‪..‬‬
‫�صالة وا�سعة جدرانها من الطوب الأحمر‪ ،‬حبات الرمل واحلجارة متلأ‬
‫�أركانها‪ ,‬ثم حجرة جانبية مثلها متام ًا ممتلئة باملخلفات‪� ،‬أخ�شاب و�أوراق‬
‫وزجاج متك�سر‪..‬‬
‫و�سمعتها ت�س�أله‪ :‬ملاذا يريد ر�ؤيتها هنا يف هذا املكان املهجور؟‪..‬‬
‫ف�أخربها بنربته اللئيمة التي �أحفظها عن ظهر قلب ب�أنه يريد و�ضع‬
‫النقاط على احلروف‪ ..‬هل �ستقبل بالزواج من ابن عمها وتعود معه �إىل بلدها‬
‫من حيث �أتت �أم �ستظل معه؟‬
‫الفتاة بكت وهي تخربه �أنها ال حيلة لها و�أن طباعهم ون�ش�أتها جتربها‬
‫على طاعة والديها‪ ،‬و�إن كان يحبها ح َّق ًا‪ ،‬فال بد �أن يتقدم خلطبتها‪ ،‬ويثبت‬
‫لأهلها ب�أنه ي�ستحقها ويرتك املخدرات التي �أ�صبحت جزء ًا ال يتجز�أ من جيب‬
‫بنطاله‪..‬‬
‫اهد�أي يا غفران‪ ..‬اهد�أي قلي ًال‪.‬‬
‫كان ي�شاهدها تلهث وهي حتكي له و�صدرها يعلو ويهبط بجنون‪ ،‬بينما‬
‫�شفاهها تك�سوها الزُّرقة ك َمن يفارق الروح وي�صارع �آخر نف�س من الهواء ُ�سمح‬
‫له به‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ف�صرخت ‪ ..‬كتم �صراخها بيده‬
‫ْ‬ ‫�شتمها يا ح�سن ‪ ..‬و�ضربها على وجهها‬
‫‪� ..‬شهقتُ لكنني كتمت �صرختي و�أنا ملتاعة‪ ،‬ور�أيته يدفعها لت�سقط‬
‫�أر�ض ًا ثم رمى بج�سده من فوقها ‪ ..‬كاد قلبي �أن يتوقف و�أنا �أقف مكاين‬
‫ال �أعرف ماذا �أفعل؟ ‪ِ ...‬خفتُ يا ح�سن ‪ِ ..‬خفتُ منه ‪ ..‬حاولت �أن‬
‫�أ�صرخ ولكن �صوتي ُح�شر يف حلقي من �شدة الرعب وهو ميزق مالب�سها‬
‫‪ ..‬ويف حلظ ٍة واحدة ‪ ..‬ال �أعرف كيف حدث هذا؟ ‪ ..‬ر�أيته يت�ص َّلب‬
‫حراك وهو ينظر �إليها بعينني جاحظتني ‪ ..‬وفج�أ ًة �سقط‬‫مكانه دون ٍ‬
‫فدف َعتْه هي بعيد ًا عنها ‪ ..‬كانت تلهث ومت�سك بقطعة زجاج ملوثة‬
‫بدمائه ‪ ..‬ظلت قاب�ضة عليها وهي تنظر له ُبذعر بينما دما�ؤه ت�سيل ‪..‬‬
‫ووجدتني �أهرب ‪ ..‬ال �أعرف كيف خرجت من املكان؟‪ ،‬وال كيف و�صلت‬
‫�إىل منزل خالتي؟‪..‬‬
‫والدك؟!‬
‫ملاذا مل تخربي ِ‬
‫ال �أعرف‪ ..‬الفتاة كانت �ست�ضيع ‪ ..‬مثلي ومثل �سلمى ‪ ..‬كلما وخزَ تْني‬
‫�صلة الدم تذكرت عبارته التي مل ّ‬
‫يكف عن ترديدها على �أذين �أنه لن‬
‫يرتكني �إال �إذا فار َقتْه الروح‪ ،‬الفتاة مل تكن تدافع عن �شرفها فقط ‪..‬‬
‫بل كانت حتررين منه يا ح�سن ‪ ..‬فكيف �أف�ضحها؟!‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ثالث ُعلب من لفافات التبغ‪ ,‬واحدة تلو الأخرى وهو ال يرحم ا�ستغاثة‬
‫�صدره الذي امتلأ ب�سواد دخانهم عن �آخره‪ ,‬لقد قام بت�سليم «رجاء» بنف�سه‬
‫ويف طريقه ملواجهتها باملمر�ضة لتتعرف عليها ثم ُيغ ِلق ملف ق�ضية مقتل هذا‬
‫الطبيب بال رجعة وتبد�أ النيابة عملها‪.‬‬
‫يقاوم ال�صراع بداخله وهو يردِّد على م�سامعه هام�س ًا لنف�سه بعبارته‬
‫ال�شهرية «�أنا �أنفذ القانون وال دخل يل ب�أي اعتبارات �أخرى»!‪� ,‬أما اجلال�سة‬
‫�أمامه يف تلك اللحظة فهو يعرف ج ِّيد ًا كيف يتعامل معها؟!‬
‫كان من الأوىل �أن تر�سلي لها حمامي ًا يا حاجة «جليلة» ‪ ..‬وجودك هنا‬
‫ال معنى له‪.‬‬
‫ظننتك خمتلف ًا يا عا�صم بيه!‬
‫كانت تقف �أمامه راف�ضة اجللو�س‪ ,‬تنظر له بجمود‪ ,‬عيناها احلادتان‪,‬‬
‫عباءتها ال�سوداء الف�ضفا�ضة ج َّد ًا‪ ,‬و�شاحها الذي �صار �شديد البيا�ض‪ ,‬هالة‬
‫من الهيبة تبتلعه بداخلها و ُت َذ ِّكر ُه ب�أنها تتبع قانونها اخلا�ص الذي تقوم‬
‫بتنفيذه كما يفعل هو مع قوانينه ال�صارمة‪:‬‬
‫�أنا ل�ستُ خمتلف ًا يا حاجة «جليلة» ‪� ..‬أنا �أن ِّفذ القانون ‪ ..‬كما فعلتم � ِ‬
‫أنت‬
‫ورجاء ‪ ..‬وح�سن ‪� ..‬ألي�س كذلك؟!‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أط َّلت نظرة خبيثة من عينيه‪ ،‬تلقتها «جليلة» بب�سمة �ساخرة‪ ,‬هل يهددها‬
‫بطريقة مبطنة �أم يدعوها للهرب قبل �أن يوجه لها تهمة هي الأخرى؟‪,‬‬
‫اخل�شبي بيدها قائلة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ا�ستندت �إىل املقعد املقابل ملكتبه‬
‫معك حق ‪ ..‬يجب على كل من له َمظلمة �أن يرتك القانون ي�أخذ جمراه‬
‫‪� ..‬أنا مث ًال يجب �أن �أر�ضى ب�أنَّ َمن قتال ولدي الوحيد وانتهكا عر�ضه‬
‫قت�ص منهما؛ لأنهما مل يتجاوزا الثامنة ع�شرة‪ ..‬ورجاء يجب عليها‬ ‫ال ُي ُّ‬
‫�أن حتتوي حماقة ذاك ال�شاب ال�ضائع الذي قتل فتاتها ثم خرج دون‬
‫عقاب كال�شعرة من العجني معتمد ًا على ذلك القانون الأعمى الذي‬
‫منحه الرباءة واحلرية ‪..‬‬
‫معك حق ‪ ..‬يجب �أن نقتلع قلوبنا ون�ضع مكانها حجر ًا‪ ،‬بينما حقوق الأطفال‬
‫والفتيات ي�ضيع �أمام �أعيننا و�أعني القانون دون عقاب رادع ‪ ..‬يجب �أن نكتفي‬
‫ب�أن جنتمع كما جتتمع الثكاىل لندب موتاهم ‪..‬‬
‫يجب �أال نفكر نحن والكثري غرينا من �شدة القهر يف قانون خا�ص يحفظ‬
‫لنا حقوقنا ‪� ..‬ألي�س كذلك؟!‬
‫نظر لها مطو ًال وهو يفكر يف �أال ُيف ِّكر!‪ ,‬لن ي�سمح لنف�سه ب�أن يتقبل منطقها‬
‫اخلا�ص‪ ,‬يكفي �أنه رحمة بها مل يوجه لها تهمة حتى الآن‪ ,‬ولكن َمن يدري؟‪,‬‬
‫َّربا �ستعرتف «رجاء» بكل �شيء خ�صو�ص ًا بعدما �س َّرب لها خرب �إلقاء القب�ض‬
‫على «ح�سن» يف نف�س اليوم‪.‬‬
‫تول �أمرها كما مل يفعل من قبل‪ ,‬رمبا ت�سامح معها‬ ‫لن يف�شل يف ق�ض َّية َّ‬
‫�ساب ًقا؛ لأنَّ جرمية قتل «�شاهني و�سيد» مل تكن مهمته من الأ�سا�س‪ ,‬وكان‬
‫تعاطفه هو الغالب عليه‪� ,‬أ َّما الآن فهو بينها وبني نف�سه‪ ,‬ف َمن �ستكون له‬
‫الأولوية؟!‬
‫‪‬‬
‫ارتفع رنني هاتفه فج�أة يف توقيت خطر غري منا�سب‪ ,‬ولكن الأكرث خطورة‬
‫كان الرقم الذي �أ�ضاء �شا�شته به‪ ,‬التقط الهاتف �سريع ًا؛ ليجيب حمدثه‬
‫بر�سمية وهو ي�شد قامته بثبات‪ ,‬امتقع وجهه للحظة قبل �أن يومئ بطاعة‪:‬‬
‫دقيقة و�س�أكون يف مكتب �سيادتك‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫قذف �سيادة اللواء اجلريدة بوجه «عا�صم» هاتف ًا با�ستنكار‪:‬‬
‫ما هذا الذي تفعله زوجتك يا عا�صم؟!‬
‫التقط «عا�صم» اجلريدة‪ ،‬وم َّرر عينيه �سريع ًا على التحقيق ال�صحفي‬
‫ٌ‬
‫خمتلف ب�شدة عما كتبته زوجته من‬ ‫الذي يذيله يف النهاية توقيع «�أروى»‪� ,‬إنه‬
‫قبل‪ ,‬فهي يف كل مرة تندد مبا يحدث من جرائم االختطاف وتنادي بالعقوبات‬
‫الرادعة وفقط‪ ,‬مع ذكر بع�ض احلاالت التي انتقلت من ملفات الأق�سام �إىل‬
‫ملفات الإعالم ويتم التحدث عنها يف الربامج احلوارية‪� ,‬أما الآن فهي تهاجم‬
‫كل م�ؤ�س�سات الدولة ال تتهمهم بالتقاع�س والإهمال فقط‪.‬‬
‫بل تت�ساءل‪ :‬ملاذا ال ن�سمع بابن م�س�ؤول مت اختطافه كما يحدث لعامة‬
‫ال�شعب؟‪ ,‬هل هناك يف تلك امل�ؤ�س�سات �أذر ٌع م�ستفيد ٌة ا�ستفادة مبا�شرة؟‪,‬‬
‫وتكرر ت�سا�ؤلها يف نهاية التقرير‪ ,‬هل يوجد يف تلك امل�ؤ�س�سات �إهمال متعمد؟‬
‫هل الأمر له عالقة مبافيا جتارة الأع�ضاء؟‪� ,‬أم �أنه �إهمال ُمتع َّمد؛ لإلهاء‬
‫ال�شعب عن �سيا�سات احلكومة م� َّؤخر ًا؟!‬
‫ملاذا يتم �إطالق �سراح املخت َِطفني عن طريق الثغرات القانوينة؟‪ ,‬ملاذا ال‬
‫يتم منع املواقع الإباحية التي تت�سبب ب�شكل مبا�شر يف بع�ض حاالت اخلطف؟‪,‬‬
‫ملاذا ال يتم تعديل قانون الطفل ويتم احلكم بالق�صا�ص على �أ�سا�س البلوغ‬
‫اجل�سدي ولي�س �شرط بلوغ الثامنة ع�شرة؟‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ملاذا تقف الدولة �صامتة بينما اجليل القادم يتم جزُّه وانتهاكه بكل الطرق‬
‫املمكنة؟!‬
‫ابتلع «عا�صم» ريقه اجلاف من الأ�صل مغم�ض ًا عينيه دون �أن يتابع القراءة‪,‬‬
‫لقد كان يعلم �أنها جمنونة ولن تتوقف‪ ,‬ولكنها الآن ت�ضعه يف موقف ال ُيح�سد‬
‫عليه �أمام ر�ؤ�سائه‪ ,‬بل و�أمام نف�سه قبل ذلك‪ ,‬كلماتها دائم ًا قذائف مدفعية‬
‫حتطم بها مر�آته املنمقة!‪.‬‬
‫تنحنح ب�صعوبة ليجلي حنجرته قائ ًال بثبات‪:‬‬
‫�إنها تعتمد على حرية ال�صحافة يا �سيادة اللواء‪.‬‬
‫عاااا�صم!‬
‫هتف �سيادة اللواء مزجمر ًا وهو ينه�ض غا�ضب ًا من تعليقه الغريب‪ ,‬وقف‬
‫ُقبالته ينظر �إىل عينيه مبا�شرة نظرات يعرفها «عا�صم» جيد ًا‪ ,‬ويعرف ما‬
‫�سي�أتي بعدها‪:‬‬
‫حرية ال�صحافة هذه لن متنع �أن يتم توجيه كومة من االتهامات �إليها‬
‫‪� ..‬أقلها �سيكون التحري�ض على م�ؤ�س�سات الدولة!‬
‫ترك «عا�صم» اجلريدة ت�سقط على الطاولة ال�صغرية املقابلة للمقعد‬
‫اجللدي املواجه ملكتب �سيادة اللواء و�أطرق قلي ًال يفكر يف ر ٍّد منا�سب ال يزيد‬
‫ّ‬
‫من ارتفاع وترية غ�ضب الرجل‪ ,‬فقال بهدوء‪:‬‬
‫�أال ميكن �أن نناق�ش ما تطرحه يف تقريرها؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وماذا ميكنه �أن يقول غري هذا؟‪ ,‬لقد وقف وقفته هذه من قبل بينما رئي�سه‬
‫يعنفه ب�سببها‪ ,‬ولكنه مل يكن غا�ضب ًا �إىل تلك الدرجة‪ ,‬هذه املرة لن تفلح‬
‫الوعود واالعتذارات‪ ,‬ثم �إنَّ الكيل قد فا�ض به‪ ,‬فما تكتب عنه «�أروى» حقيقة‬
‫�صورها متلأ امللفات فوق مكتب‪.‬‬
‫فلماذا ال يتم مناق�شة احللول بد ًال من �إلقاء اللوم عليها ككل مرة؟‪:‬‬
‫هي بالطبع ُمطئة يف مهاجمة م�ؤ�س�سات الدولة ‪ ..‬ولكن تلك اجلرائم‬
‫حقيقة ملمو�سة بالفعل ‪ ..‬وتنت�شر كانت�شار النار يف اله�شيم ‪..‬‬
‫�إذن ف�أنت تعرتف بالتق�صري والإهمال يا ح�ضرة ال�ضابط؟‪ ..‬يبدو �أن‬
‫كالم «رائد» عنك �صحيح!‬
‫�ضغط «عا�صم» �أ�ضرا�سه يطحنها وقد احتقن وجهه ب�شدة ووجد نف�سه‬
‫يقول دون تفكري �ساخر ًا‪:‬‬
‫ابن �أخيك ‪...‬‬
‫ترى ما التهمة التي �سيتم توجهيها له ولزوجته؟‪ ,‬هل هي �إ�شاعة الفو�ضى‬
‫�أم التحري�ض على العنف؟!‪ ,‬كلها جائزة‪ ،‬وكلها متاحة ومتوفرة‪ ,‬ماذا فعل‬
‫بنف�سه؟!‪ ,‬البد �أن ي�ستدرك ما قاله للت ِّو‪.‬‬
‫�سعل مرتني ب�شدة قبل �أن يقول ُماو ًال تغيري م�سار احلديث الذي يعلم‬
‫�أنه لن يتغري �أبد ًا‪:‬‬
‫مبنا�سبة النقيب «رائد» ‪ ..‬فالق�ضية التي نعمل عليها �سو َّي ًا تو�صلتـ‪..‬‬
‫مل يعد لك دخل بتلك الق�ضية ‪ ..‬لقد مت تنحيتك عنها ‪ ..‬قم بت�سليم‬
‫جميع حترياتك و�أوراقك فيها �إىل ‪ ..‬ابن �أخي!‬
‫‪‬‬
‫نطق �آخر كلمتني �ساخر ًا بنف�س الطريقة التي �سخر بها «عا�صم»‪ ,‬عقاب‬
‫تغ�ضن جبينه حنق ًا مت�سائ ًال‪:‬‬
‫رادع وفوري ولكنه م�ؤمل‪َّ ,‬‬
‫متى مت تنحيتي؟!‬
‫الآن ‪!.‬‬
‫حاول «عا�صم» ال�سيطرة على انفعاالته‪ ,‬ف�أطرق �أر�ض ًا للحظات‪ ,‬لي�س من‬
‫اجليد �أن تظهر تلك النظرات الغا�ضبة الكارهة يف عينيه‪ ,‬كلمة ‪ ..‬جمرد كلمة‬
‫نطق بها �أطاحت ب�سجله كله‪ ,‬وه َو ْت مبجهوده �إىل قعر اجلحيم‪:‬‬
‫يتم حتويلك للتحقيق؟ ‪ ..‬ف�أنت مق�ص ٌر و ُمهمِ ل يف عملك ‪..‬‬ ‫ما ر� َ‬
‫أيك �أن َّ‬
‫كما كت َب ْت زوجتك يف مقالها ِّ‬
‫الفذ!‬
‫أق�صر يف عملي يا �سيادة اللواء ‪ ..‬ف�أنا ل�ستُ وزارة الداخلية كلها‬
‫�أنا ال � ِّ‬
‫عقوبات �أكرث قو ًة ملنع اجلرمية من‬
‫ٍ‬ ‫‪ ..‬ول�ستُ جهة ت�شريع عليها فر�ض‬
‫الأ�سا�س‪.‬‬
‫قالها هادئ ًا ُمافظ ًا على نربة �صوته فهو مل يعد يكرتث بعد الآن‪�« ,‬أروى»‬
‫كانت ُم َّقة من البداية‪ ,‬لي�س علينا �أن نبدو طائعني �أكرث من الالزم فنكون‬
‫مثل املاء الفاتر ‪ ..‬ال ي�شعر بنا �أح ٌد على الإطالق‪ ،‬وك�أننا مل نكن‪ ,‬تلك العنرتية‬

‫‪y‬‬
‫ال تليق به‪ ,‬و ُمو ِقنٌ من �أ َّنها �سرتميه خلف ال�شم�س ولكن بع�ض التم ُّرد ُي ِ‬
‫ك�سب‬
‫القوة �أحيان ًا!‬

‫‪‬‬
‫عا�صم!!‬
‫نط َق ْت با�سمه بده�ش ٍة وهي تراه عائد ًا �إىل املنزل على غري موعده‪ ,‬رفع‬
‫«عا�صم» اجلريدة �أمام عينيها قائ ًال بهدوءٍ ‪:‬‬
‫يتم القب�ض على كالنا!‬
‫ لن تتوقفي حتى َّ‬
‫ُم�سد عنقها وتتج َّنب النظر نحوه ُمتمتم ًة‪:‬‬
‫رفعت يدها لت ّ‬
‫�آ�سفة يا عا�صم ‪ ..‬قبل كتابة املقال كنت يف ق�سم ال�شرطة و�شاهدتُ‬
‫والد �أحد ال�ضحايا يقف هناك �صارخ ًا؛ لأ َّنهم قد �أطلقوا �سراح خاطف‬
‫ولده لعدم وجود �أدلة �ضده ‪ ..‬ال�ضابط كان يجل�س بربود وي�ضحك فـ ‪..‬‬
‫م َّر بجوارها وهو يقاطعها �ضاحك ًا‪:‬‬
‫فقررت االنتقام مني �أنا‪� ..‬صحيح؟‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‬
‫مل يكن غا�ضب ًا‪ ,‬وهذا ما جعلها تت�س َّمر �أمامه متعجبة‪� ,‬إ َّنه على غري عادته‬
‫بنوع من ت�أنيب ال�ضمري النادر‬
‫�شعرت ٍ‬
‫ْ‬ ‫يف كل �شيء ولي�س موعد عودته فقط‪,‬‬
‫فاقرتبت منه معتذر ًة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫جتاهه‪,‬‬
‫�آ�سف ٌة مرة �أخرى؛ لأنني مل � َ‬
‫أطلعك على املقال قبل ن�شره‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مما يجب وهي تراه ي�ضحك عابث ًا مر ًة �أخرى وهو‬ ‫زادت ده�شتها �أكرث َّ‬
‫ْ‬
‫يلتفت نحوها قائ ًال ببع�ض املرارة التي غ َّل َف ْت حروفه‪:‬‬
‫مل تطلعيني على املقال فقط يا �أروى‪ ..‬وهل ُتطلعينني على �شيءٍ‬
‫تقومني به؟!‬
‫ارتب َك ْت «�أروى» للحظة بينما تعقد ذراعيها �أمام �صدرها مت�سائل ًة‪:‬‬
‫ماذا تق�صد؟‪.‬‬
‫ َّربا مث ًال �أق�صد الأخ حممود عبد العزيز!‬
‫امتقع وجهها خوف ًا وهي تراه يخطو نحوها مقرتب ًا وهو يتابع معاتب ًا‪:‬‬
‫هل �أنا �ساذج يف نظرك �إىل هذا احلدِّ ؟‪ ..‬ن َع ْم‪� ،‬أنا �أعرتف لقد ُخدعتُ‬
‫يف البداية ‪ ..‬ولكن مل يكن من ال�صعب �أبد ًا �أن �أعرف كل �شيءٍ عنه‪.‬‬
‫�سقطت يداها بجوارها‪ ،‬فتمالكت نف�سها �سريع ًا وتعيد عقدهما ولكن هذه‬
‫املرة خلف ظهرها وهي تقول بدفاع َّية‪:‬‬
‫مل يكن �أمامي طريق �آخر‪ ..‬ف�أنت كنت ترف�ض م�ساعدتي ب�شتى الطرق‬
‫أخدع َك ‪ ..‬هو بالفعل لديه‬
‫ولو حتى بتفا�صيل ب�سيطة ‪ ..‬ثم �إ ّنني مل � ْ‬
‫موقع على الإنرتنت ويقوم بـ‪..‬‬
‫�صمتت عندما رفع كفه �أمامها لتكف عن احلديث‪ ,‬ثم ا�ستدار و�سار‬
‫بخطوات متمهلة �إىل حيث �أريكته املف�ضلة‪ ,‬هوى فوقها م�ستند ًا براحة للخلف‪,‬‬
‫ُم�شرع ًا ذراعيه على اجلانبني فوقها وك�أمنا ي�ستعد للتحليق قائ ًال بب�ساطة‪:‬‬
‫ال تكرريها مرة �أخرى‪.‬‬
‫‪‬‬
‫نظرت �إليه كاملجانني وهي تتقدم باجتاهه حتى جل�ست بجواره هاتفة‪:‬‬
‫ْ‬
‫ماذا يحدث َ‬
‫معك اليوم؟!‬
‫ابت�سم بب�ساطة وهو يناظرها بنظرات رمبا تبدو عادية َملن يقف على‬
‫م�سافة من قلبه‪� ,‬أما هي‪ ,‬فهي ت�سكنه كالعفاريت كما يقول لها دائم ًا‪ ,‬وتعرف‬
‫ب�أنه مت�أمل‪ ,‬ومت َعب‪ ,‬وي�شعر بالهزمية‪ ,‬واحلالة التي مير الآن هي جمرد‬
‫ا�سرتاحة ُمارب لي�س �أكرث‪:‬‬
‫كنت على �صواب ‪ ..‬و�أنني‬ ‫ما يحدث يا حبيبتي �أنني اكت�شفت �أنك ِ‬
‫داع ‪ ..‬بينما‬‫�أعطي الأمور قيمة �أكرث مما يجب ‪ ..‬و�أنني مت�شنج دون ٍ‬
‫البقية يلهون مبقدراتي؛ لأ َّنهم فقط ميتلكون ما لن �أمتلكه يوم ًا‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ولو بعد حين‬

‫كانت عائدة للت ِّو من امل�شفى الذي ترقد فيه والدتها‪ ,‬حزينة مك�سورة‪,‬‬
‫ال زال الطبيب يرف�ض �أن ي�سمح لها باخلروج وحالتها ال�صحية غري م�ستقرة‬
‫على الإطالق‪ ,‬حتى ر�ؤيتها البنتها مل يعجل من �شفائها‪� ,‬أو حتى يعمل على‬
‫بع�ض التح�سن‪ ,‬رمبا لو كان «رمزي» هو َمن عاد �إليها لكانت وقفت ناه�ضة‬
‫على الفور على قدميها اللتني مل تعودا ت�شعران ب�أي حياة بهما‪.‬‬
‫غفران‬
‫ال�سلم‬
‫�أخرجها نداء «كرمي» من حالتها املتهالكة تلك وهو ُي�سرع خلفها على ُّ‬
‫ليلحق بها‪ ,‬ا�ستدارت نحوه مت�سائلة بابت�سامة �صغرية ُمرحبة فقال على الفور‬
‫وهو يلتقط �أنفا�سه ب�صعوبة‪:‬‬
‫ملاذا مل تنتظريني �صباح ًا؛ لأقوم بتو�صيلك �إىل امل�ست�شفى؟‬
‫حافظت على ابت�سامتها ال�صغرية وهي تنظر له بامتنان‪ ,‬ماذا لو كان‬
‫«كرمي» �أخاها بد ًال من «رمزي»؟‪ ،‬رمبا كانت احلياة �أكرث �سعادة وقتها‪ ,‬فلقد‬
‫خمل�ص ًا حتى �آخر رمق فيه‪ ,‬مل يرتكها منذ‬
‫وجدته كما �أخربها «ح�سن متام ًا‪ُ ,‬‬
‫�أن �أعادها �إىل منزل والدها‪ ,‬حتى نظرات «�صفوان» لها وقف حاجز ًا �أمامها‬
‫‪‬‬
‫ليمنعها عنها عندما ا�ستوقفها لي�س�ألها بده�شة «كيف عادت وحدها هكذا‬
‫ب�سهولة»؟!‪ ,‬لكنها تركت �س�ؤاله ُمعلق ًا ودلفت �إىل �شقتها حيث الذكريات امل�ؤملة‪.‬‬
‫�صباح بداخل �سيارة‬
‫يف اليوم التايل مبا�شرة وجدت «كرمي» ينتظرها كل ٍ‬
‫�أجرة لي�صطحبها �إىل زيارة والدتها ومتابعة حالتها ال�صحية‪ ,‬ثم خرجا مع ًا‬
‫من هناك �إىل ق�سم ال�شرطة مبا�شرة لتنفي عن «ح�سن» تهمة االختطاف‪.‬‬
‫يومها وقفت يف مواجهته �أمام ال�ضابط اجلال�س خلف مكتبه قائلة بهدوء‪:‬‬
‫�أنا خطيبته وكنتُ معه ب�إرادتي‪ ..‬وكل ما ادعاه «�صفوان» مل يحدث‪..‬‬
‫ح�سن بريء‪.‬‬
‫وقتها ر�أته وهو يقاوم ابت�سامة �صغرية تعنفه لتظهر على طرف �شفتيه‬
‫ولكنه مل ي�ستجب لها‪� ,‬أطرق بر�أ�سه ثم رفع وجهه ينظر �إليها بحيادية تامة‪,‬‬
‫لقد نفت عنه حادثة اختطافها‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع �أن تفعل �شيئ ًا للتهمة املوجه‬
‫�إليه بقتل �أخيها‪ ,‬لقد مت حتويله للنيابة منذ �أيام وهي تنتظر‪ ..‬فقط تنتظره‬
‫كما وعدته يف �آخر لقاء بينهما‪ ,‬عندما �أمرها �أن تظل �صامتة كامتة ل�سر‬
‫الفتاة فهو �سيتم تربئته يف النهاية؛ لأ َّنه ال دليل قو َّي ًا �ضده‪ ,‬وهي �أطاعته وهي‬
‫مرتعبة خائفة تخ�شى فقدانه هو الآخر‪.‬‬
‫غفران!!‬
‫�أعادها «كرمي» من جديد حلا�ضرها ف�أجابته بنربة مبحوحة‪:‬‬
‫مل �أ�ش�أ �أن �أزعجك �أكرث من هذا يا كرمي ف�أنت تالزمني منذ �أيام‪.‬‬
‫نظر لها بعتب‪ ،‬ولكن ابت�سامة متالعبة ابتلعت وجهه النحيف بالكامل وهو‬
‫يقول لها مازح ًا‪:‬‬
‫‪‬‬
‫مت �إخالء �سبيل ح�سن اليوم‪.‬‬
‫انفرجت �شفتاها عن �شهقة �ضعيفة متفاجئة‪ ،‬ولكن «كرمي « مل مينحها‬
‫الكثري من الوقت لت�ستوعب ما قال فتابع مردف ًا ما لديه‪:‬‬
‫تقرير الطب ال�شرعي �أثبت �أن رمزي ُقتل قبل خروج ح�سن من ال�سجن‬
‫ب�أيام‪.‬‬
‫�أين هو؟‪.‬‬
‫مما ا�ستجلب �ضحكات «كرمي» بينما يجيبها �سريع ًا مراقب ًا‬
‫قالتها بلهفة َّ‬
‫للهفتها‪:‬‬
‫إليك على الفور‪.‬‬
‫�أخربين �أنه ذاهب �إىل موعد هام ثم �سي�أتي � ِ‬
‫هل �أخربته؟!‬
‫قالتها �سريع ًا وهي ت�ستند �إىل حافة الدرج‪ ،‬ف�أطرق بر�أ�سه وقد فهم ما‬
‫تعني ب�س�ؤالها‪ ,‬ثم �أوم�أ هو يجيبها بـ «ن َع ْم» ‪:‬‬
‫وماذا كانت ردة فعله؟‪.‬‬
‫باقت�ضاب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رفع «كرمي» كتفيه بال مباالة وهو يجيبها‬
‫مل يظهر عليه � ُّأي ت�أثر‪ ..‬بل كان متوقع ًا لكل ماحدث‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها بحرية �شديدة متلكتها وهي ت�ستدير لت�ستكمل رحلة �صعودها‬
‫ثاني ًة‪ ,‬هي ت�ستطيع �أن تفهم عدم ت�أثره من خرب وفاة والده‪ ,‬فما بينهما مل يكن‬
‫بالهي‪.‬‬
‫ِّ‬

‫‪‬‬
‫ولكن كيف مل يت�أثر عندما علم ب�أن «�صفوان» قد ا�ستوىل على املنزل‬
‫والور�شة وهو ي َّدعي �أنه ميتلك عقد بيع و�شراء مزي ًال بب�صمة «�أنور برهان»؟‪,‬‬
‫لقد �أخذ «�صفوان» كل �شيء ومل يرتك له حتى الور�شة‪ ,‬بل قام ببيعها هي‬
‫واملنزل على الفور وك�أنه يقطع الطريق على «ح�سن» ويخربه ب�أن ال فائدة من‬
‫عودته‪.‬‬
‫يخربه �أن يعود �إىل حيث جاء‪ ,‬يطرده من احلي ب�أكمله‪ ,‬ولكنها لن ت�سمح‬
‫بذلك‪ ,‬ما زال لديه بيتها الذي �سي�صبح بيته‪ ،‬ووالدتها التي �ستكون �أ َّم ًا له‬
‫ليعدنَ �إىل‬ ‫بديك جديد يزعق يف الدجاجات ْ‬ ‫بالت�أكيد‪ ,‬فهي بالت�أكيد �سرتحب ٍ‬
‫القف�ص ب�أمان‪ ,‬وهناك املخزن‪ ,‬ي�ستطيع �أن يقوم بتحويله �إىل ور�شة جديدة‪,‬‬
‫يبد�أ فيها من البداية‪ ..‬معها‪.‬‬
‫دلفت �إىل ال�شقة بينما ابت�سامتها تت�سع �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬وهي تبحر بني‬
‫�أفكارها الناعمة حوله‪� ,‬ستعود لتلقي ال�سالم والتحية وهي تعرب من جديد‬
‫ولكن هذه املرة �ستكون عابرة �إليه مبا�شرة‪ ,‬هو �سريفع ر�أ�سه وينظر �إليها‬
‫مبت�سم ًا ومرحب ًا بها وب�أوعية الطعام ال�ساخنة التي �ستعدها من �أجله بيديها‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫ته َّدج �صوتها با�سمه‪ ،‬ونه�ضت على الفور ُتق ِبل عليه بلهفة �أم ت�ستقبل ولدها‬
‫الغائب بعد �سنوات طويلة‪ ،‬ولكن مر�ضها مل ي�سعفها فا�ستندت على كتف‬
‫«رجاء» �صديقة حربها‪ ،‬بينما �أ�سرع هو ينحني مق ِّب ًال �أعلى ر�أ�سها ‪.‬‬
‫رائحة و�شاحها الأبي�ض تذكره ب�أمه يف �أيامها الأخرية‪� ،‬إنه يعرف تلك‬
‫الرائحة جيد ًا‪ ،‬فهى تهب ملت�صقة بالراحلني عنا‪ ،‬راية تخربنا ب�أن ُن�سرع يف‬
‫الوداع‪.‬‬
‫من ف�ضلك ابقي يف فرا�شك يا حاجة جليلة ‪.‬‬
‫وهل �أنه�ض لأع َّز منك يا ولدي؟‪.‬‬
‫رفع عينيه �إىل «رجاء» التي قامت بر�سم ابت�سامة متقنة على �شفتيها‬
‫اكت�سبتها من طول عملها كممر�ضة ُتطمِ ئن بها �أهل املر�ضى �أنَّ ذويهم بخري‪،‬‬
‫بل ويتح�سنون ‪.‬‬
‫ال تقلق‪� ،‬إنها بخري ‪ ..‬جمرد �أزمة تعاودها من وقت لآخر‪.‬‬
‫�سحب ح�سن املقعد املجاور؛ ليقربه من فرا�شها ثم جل�س وهو يراقب‬
‫�شحوب وجهها الذي يتناق�ض مع �ضوء عينيها وهي تنظر له بامتنان بالغ ثم‬
‫قال‪:‬‬

‫‪‬‬
‫كنت �أظن �أن الأزمة �ستذهب بغري رجعة وتعود �إليك عافيتك من جديد‬
‫لك ‪.‬‬
‫‪..‬بعد ال�صور التي �أر�سلتها ِ‬
‫ات�سعت ابت�سامتها ال�شاحبة وهي ترفع كفها بحما�س ُم َو ِد ٍع وت�شري ب�سبابتها‬
‫قائلة بدمعات براقة ‪:‬‬
‫واهلل لو تعلم يا ولدي قيمة ما فعلته من �أجلي ومن �أجل الغايل‪ ..‬لعرفت‬
‫ولي�س جمرد عافية زائلة ‪.‬‬
‫علي روحي و�شرفنا‪َ ،‬‬ ‫�أنك قد رددت َّ‬
‫ط�أط�أ ر�أ�سه بخزي من نف�سه‪� ،‬إنه يعلم جيد ًا �أنَّ ما فعله مل يكن من �أجل‬
‫احلاجة جليلة فقط‪ ،‬و�إال ملا كان تردد يف البداية وف َّكر كثري ًا وبد�أ يف الت�سويف‪،‬‬
‫مل يكن على عالقة بها وال حتى يعرفها �أو يعرف ولدها ابن العا�شرة‪ ،‬فلماذا‬
‫يقدم ث�أر ًا وك�أنه �أحد �أفراد العائلة؟!‬
‫لقد راقب «�شاهني و�سيد» ج ِّيد ًا‪ ،‬وت�أكد بنف�سه من �سلوكهما ال�شاذ لي�س‬
‫فقط فيما بينهما‪ ،‬ولكن �أي�ض ًا ب�إجبار بع�ض امل�ساجني ال�ضعفاء على نف�س‬
‫الفعل البغي�ض‪ ،‬وبالرغم من ذلك مل يكن قد اتخذ قراره بعد حتى حدثت‬
‫الكارثة وكان «كرمي» �آخر �ضحاياهما‪ ،‬مما جعله يح�سم قراره يف احلال‪ ،‬فهما‬
‫جمرد جرثومتني ال ي�ستحقان احلياة ‪.‬‬
‫د َّبر كل �شيء م�ستخدم ًا �صالحياته التي َعمِ َل على ت�ضخيمها طوال مدة‬
‫حب�سه‪ ،‬وا�ستخدم «كرمي» كطعم لهما‪ ،‬ولقد التقطا الطعم ب�سهولة عندما‬
‫واعدهما للقاء جديد يف املرحا�ض الذي لفظا فيه �أنفا�سهما الأخرية على‬
‫يديه‪ ،‬وبنف�س الطريقة التي يتَّبعانها مع �ضحاياهما‪.‬‬
‫اخلنق من اخللف حتى ي�ست�سلم ال�ضحية متام ًا �إال �أنه خالفهما يف اخلطوة‬
‫الأخرية فلم يرتكهما يتنف�سان بعد ذلك ‪.‬‬
‫‪‬‬
‫لقد كانت لكمته الأوىل لأنف البائ�س «�سيد» كفيلة ب�أن تفقده توازنه‪ ،‬وتلقيه‬
‫�أر�ض ًا فاقد ًا لوعيه ليتمكن «كرمي» من تثبيته هناك‪ ،‬بينما منح «�شاهني» كل‬
‫طاقات غ�ضبه املتفجرة وهو ينتزع منه احلياة ب�سل�سال حديدي كما طلبت‬
‫ال�سيدة جليلة بال�ضبط عرب الهاتف ‪..‬‬
‫الهاتف الذي مت ت�سريبه �إليه يف ال�سجن وهو يعرف جيد ًا �أن و�صوله �إليه‬
‫يتطلب مبلغ ًا من املال ال ي�ستهان به‪ ،‬ولذلك كان يظن يف البداية �أن ال�سيدة‬
‫�صاحبة الث�أر وذات اللهجة ال�صعيدية لديها من الأموال ما يوفر لها ذلك ‪،‬‬
‫متفاجئ‪ ،‬فالواقع خمتلف متام ًا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ولكنه الآن‬
‫َـقطن يف حي قريب جد ًا من احلي الذي ي�سكن به‪ ،‬وال�شقة‬
‫املر�أة العجوز ت ُ‬
‫املتوا�ضعة خا�صتها تف�صح عن �ضيق يد �صاحبتها ‪ ..‬ف َمن �إذن �صاحب تلك‬
‫العطايا الوفرية ؟!‬
‫ح�سن ؟‪.‬‬
‫كانت تعلم ما يدور بخلده الآن فنادته؛ لتعيده �إليهما جمدد ًا‪ ،‬فهي ال�شاهدة‬
‫الوحيدة من بعده على تردده وعدم تقبله ذلك العر�ض من البداية‪ ،‬لكنها‬
‫�أخفت ذلك على جليلة‪ ،‬كانت تريد منحها � َّأي �أمل ولو �ضعيف ًا يجعلها تتم�سك‬
‫باحلياة ‪ ،‬حتى ولو كان �أم ًال زائف ًا‪ ،‬فهي تعي�ش نف�س الكابو�س‪ ،‬ورمبا لوال نف�س‬
‫الأمل البعيد الذي مت حقنها به لكانت حلقت بفتاتها منذ زمن وتخل�صت من‬
‫البقية املتبقية منها‪.‬‬
‫انحنت «رجاء» وهي مت�سح على ذراع «جليلة» برحمة‪ ،‬وهي تهم�س لها‬
‫با�صطحاب �ضيفها �إىل اخلارج لترتكها ترتاح قلي ًال‪.‬‬

‫‪‬‬
‫م�ست م�سامعها فنه�ض على الفور وهو يرى �إمياءة «جليلة»‬ ‫هم�ستها َّ‬
‫باملوافقة بينما عيناها ال تفارقانه‪ ،‬ان�سحب من الغرفة عائد ًا بظهره �إىل‬
‫اخللف نحو الباب وقد �أ َب ْت عيناه �إال وداع ًا �أخري ًا‪.‬‬
‫وعندما خرج �إىل ال�صالة املواجهة لباب ال�شقة وقف م�ستند ًا �إىل اجلدار‬
‫مت�أم ًال يف ال�صورة امل� َّؤطرة املعلقة هناك وحيدة ٍ‬
‫لطفل ينظر �إىل م�ص ِّوره‬
‫ويبت�سم بوقا ٍر ال يتنا�سب مع �سنواته القليلة‪�َ ،‬شعره َّ‬
‫مهذب وم�ص َّف ٌف على جانب‬
‫واحد‪.‬‬
‫نظراته كلها �أمل ورجاء يف م�ستقبل حامل ينتظره‪ ،‬فقط لو كانا تركاه‬
‫ليحيا ‪.‬‬
‫مل ت�س�أل عن ا�سم الفتى ولو حتى ملرة واحدة ‪.‬‬
‫انزلقت يده التي كانت ت�ستند �إىل اجلدار ملتفت ًا �إليها بحزن قائ ًال‪:‬‬
‫لن ي�شكل ذلك فارق ًا كبري ًا‪ ،‬يف كل الأحوال هو طفل �ضعيف‪ ..‬وهذا هو‬
‫كل ذنبه مثله مثل �سلمى متام ًا‪.‬‬
‫ا�ستندت �إىل احلائط بكتفها وقد عربت نظراتها الكئيبة من خالله بعيد ًا‬
‫�إىل حيث غبار تذروه الرياح فوق �أر�ض ي�ضم باطنها رفات فتاتها الوحيدة‪،‬‬
‫وبجوارها د َّق ْت لوح ًا خ�شبي ًا لت�صلب نف�سها فوقه‪ ،‬بينما غبار القرب يعلو؛‬
‫ليعمي عينيها وت�صم رياحه �أذنيها ‪.‬‬
‫�أنا َمن قتلتها يا ح�سن‪ ..‬لو كنت ا�ستمعتُ �إليها كل �صباح ببع�ض‬
‫االهتمام وهي ت�شكو ‪ ..‬فقط ببع�ض االهتمام‪ ..‬لو كنت �صدقتها وهي‬
‫حتكي يل عن م�ضايقات رمزي لها ‪ ..‬فقط لو كنت �صدقتها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ا�ستند هو الآخر بكتفه على نف�س اجلدار عاقد ًا ذراعيه فوق �صدره قائ ًال‪:‬‬
‫زلت جتلدين نف�سك يا خالة‪.‬‬
‫ما ِ‬
‫لو كانا تبادال �أطراف هذا احلديث منذ ثالث �سنوات لكانت قد انهارت‬
‫جف دمعها كلما �أرادت �أن تبكي‬ ‫باكية يف تلك اللحظة‪ ،‬ولكن الآن بعد �أن َّ‬
‫ن�ضب‪ ،‬ومل يعد متبق َّي ًا لديها �سوى ٍ‬
‫�سوط جتلد‬ ‫جتد ر�صيدها من الدموع قد َ‬
‫به روحها ‪.‬‬
‫كنتُ �أ�سخر منها بداخل نف�سي وهي حتكي يل عن ال�شاب الذي يغازلها‬
‫و�أقول‪َ :‬من ذلك الأحمق الذي �سيرتك كل زميالتها وينظر �إليها هي‬
‫بعرجتها تلك؟ !‪ ..‬كانت تالحظ نظراتي ال�ساخرة وت�صمت ‪ ..‬ت�صمت‬
‫‪ ..‬وت�صمت ‪ ..‬حتى جاء اليوم الذي �صمتت فيه �إىل الأبد ‪ُّ � ..‬أي � ٍّأم �أنا؟‬
‫‪� ..‬أ�سهر يف عملي يف امل�صحة لرعاية غريها‪ ،‬بينما �أتركها هي لتعود يف‬
‫الظالم وحيدة ظن ًا مني �أال �أحد �سيعريها اهتمامه ‪� ..‬أنا مل �أ�ستحقها‬
‫فا�سرتد اهلل وديعته‪.‬‬
‫حرر «ح�سن» ذراعيه‪ ،‬واعتدل يف وقفته وهو ي�شعر بها تن�سحب �إىل عامل‬
‫موازٍ ال رجعة منه‪ ،‬كل �سكانه قد �صلبوا �أنف�سهم بعذاب �ضمائرهم ثم قال‬
‫بجدِّ َّية‪:‬‬
‫منحت فتا ًة �أخرى ما كانت حتتاجه من رعاية �أثناء مر�ضها‪� ..‬أم‬
‫ِ‬ ‫لقد‬
‫ن�سيت �أ َّن ِك �أ َّول َمن جل�أتُ �إليه عندما �سقطت غفران فاقدة للوعي بني‬
‫ِ‬
‫يدي ‪.‬‬

‫ابت�سمت �ساخرة منهما مع ًا وهي ترفع حاجبيها بده�شة قائلة‪:‬‬


‫ْ‬

‫‪‬‬
‫باهلل عليك يا ح�سن ‪� ..‬أي رعاية هذه و�أنا �أتركها معك وحيدة و�أن�صرف‬
‫مكتفية بوخزة �إبرة ون�صيحة؟ ‪.‬‬
‫و� َأمل ‪ ..‬وما فعل ِته من �أجلها ؟!‬
‫واحد‪ ،‬ف�أجابت على‬
‫�س�ؤاله كان يجمع بني التخفيف عنها والف�ضول يف � ٍآن ٍ‬
‫الفور وقد اكت�سى وجهها بقناع �سميك ا�ستحال عليه �سرب �أغواره ‪.‬‬
‫من الأف�ضل لك �أال ت�س�أل عنها جمدد ًا ‪.‬‬
‫كانت حا�سمة ي�شوب نربة �صوتها الغمو�ض احلزين ولكنها رفعت من وترية‬
‫ف�ضوله الذي مل يتح َّل به يوم ًا وقال بجدية‪:‬‬
‫خالة رجاء‪� ،‬أنا ل�ست قات ًال م�أجور ًا؛ ليكون َّ‬
‫علي ال�سمع والطاعة دون‬
‫فهم ‪.‬‬
‫رفعت نظراتها �إليه بقوة جتابهه بها قائلة‪:‬‬
‫�أنت مل ت�شارك يف �شىءٍ يخ�صها‪ ،‬فلماذا تريد �أن تعرف ؟‪.‬‬
‫أنك متورطة يف الأمر ‪.‬‬
‫ل ِ‬
‫زفرت مت�أففة ‪� ..‬إ َّنها لي�ست املرة الأوىل التي يقوم فيها بال�ضغط عليها؛‬
‫عام حتديد ًا كان يريد �أن يعرف َمن‬
‫ليعرف �أمور ًا قد ت�ؤذيه‪ ،‬يف البداية ومنذ ٍ‬
‫الذي يقوم بدفع تلك الأموال الطائلة لتمرير الهاتف له داخل حمب�سه؟‪.‬‬
‫َومن الذي �أر�سل �إليه دفعة مالية كبرية بعد خروجه من ال�سجن مبا�شرة‬
‫عن طريقها؛ لي�ستطيع تنفيذ بقية االتفاق ويبحث عن «رمزي»؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أما الآن وبعد �أن قام بت�سليم نف�سه لل�شرطة متوهم ًا �أنه قد مت القب�ض‬
‫عليها بتهمة قتل «رمزي» ثم ع ِلم بعد ذلك �أن التهمة كانت بجرمية قتل �أخرى‪،‬‬
‫فتيقن �أن هناك �آخر يدير كل هذا من وراء ال�ستار‪ ،‬ورجاء هي حلقة الو�صل‬
‫بينهما‪.‬‬
‫ما تخ�شاه لن يحدث‪ ..‬فـ عا�صم قد واجهني بتلك املمر�ضة التي و�صفت‬
‫مالحمي والنتيجة �أنني �أقف الآن �أمامك كما ترى ‪ ..‬ال �شىء يدينني‬
‫على الإطالق ‪ ..‬من ف�ضلك �أريد �أن �أطمئن على غفران ‪.‬‬
‫�إنها تدفع �أ�شرعة احلوار �إىل اجتاه �آخر‪ ،‬ومعنى هذا �أنَّ العوا�صف يف‬
‫االجتاه الذي يريد ال�سري فيه ال حتمد عقباها ‪ ،‬فليكن ما تريده ‪ ..‬ولكنه لن‬
‫يلبث �أن يعود �إىل اجتاهه الأول ‪ ..‬يف وقت الحق‪.‬‬
‫للحظات؛ ليهد�أ‪ ،‬ما كان لي�ضحي بعائلته اجلديدة ويفقدها‬
‫ٍ‬ ‫�أغم�ض عينيه‬
‫بهذه ال�سهولة‪ ,‬احلاجة «جليلة» واخلالة «رجاء» وم�ساعده املخل�ص «كرمي»‬
‫و�أخري ًا ‪« ..‬غفران»‪.‬‬
‫تلك التي عر�ض عليها الزواج �أثناء هذيانها املتكرر‪ ،‬بينما �أبدت هي‬
‫موافقتها عندما وقفت �أمام النيابة؛ لتدافع عنه مدعية �أنها خطيبته ومل يقم‬
‫بخطفها‪.‬‬
‫�س�أتزوجها ‪ ..‬ولكن بعد �أن �أ�شرح لها كل �شىء �أو ًال‪.‬‬
‫ا�صرب قلي ًال يا ح�سن‪ ..‬فالفتاة ال زالت تعاين �صدمة وفاة �أبيها‪ ،‬وما‬
‫�أ�صاب والدتها من �أمرا�ض ‪� ..‬أريد �أن �ألقاها و�أحتدث �إليها‪ ..‬ثم �إىل‬
‫والدتها ‪ ..‬وقتها �ستكون يف حاجة �إىل معاملة نف�سية خا�صة بدونها‬
‫كزوج البنتها ‪.‬‬
‫�سرتف�ضك بالت�أكيد ٍ‬
‫‪‬‬
‫جديد حتيا‬
‫لهدف ٍ‬ ‫ابت�سم ب�إرهاق‪ ,‬فاخلالة «رجاء» ال �إرادي ًا جتهز نف�سها ٍ‬
‫من �أجله‪ ،‬تنه�ض كل �صباح لتحقيقه‪ ،‬ال تتناول طعامها �إال لتتقوى عليه‪ ،‬رمبا‬
‫هو َمن منحها هذا الهدف وهو ال يدري مبناداته لها باخلالة مرار ًا وتكرار ًا‬
‫فاعتربت نف�سها خالته بالفعل‪ ،‬واخلالة يف عرفنا �أ ُّمه البديلة‪ ،‬وهي و�إن ف�شلت‬
‫يف �أمومتها لفقيدتها «�سلمى»‪ ،‬فلن تف�شل هذه املرة مع « ح�سن» ‪.‬‬
‫لقد تعبت من النظر �إىل اجلدران البي�ضاء يف املمر الطويل ذهاب ًا و�إياب ًا‪،‬‬
‫ومن‪ ،‬فكيف نتوقع �أن تكون �سهلة‬ ‫و�إذا كنا نعرف �أنَّ احلياة اختبارات ِ َ‬
‫وب�سيطة ؟!‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫أيام م َّر ْت وهو يعمل على جتهيز املخزن البعيد لي�صري ور�شته‬ ‫ثالثة � ٍ‬
‫اجلديدة‪ ،‬يبد�أ فيها حياته اجلديدة بعيد ًا عن احلي القدمي ‪ ،‬ن َعم ‪ ..‬هي يف‬
‫منطقة متطرفة قلي ًال ولكن طريق ال�سيارات ال�سريع قريب جد ًا منه بخالف‬
‫تلك ال�سيارات الفارهة التي كانت تده�س �إطاراتها احلي ال�شعبي القدمي من‬
‫�أجل مهارته و�أمانته اللتني ا�شتهر بهما‪ ،‬ف�ستتوغل هناك �أي�ض ًا يف هذا الرتاب؛‬
‫لت�صل �إليه كما فعلت من قبل ال حمالة ‪ ،‬خ�صو�ص ًا و�أنَّ عالقته التي �أن�ش�أها‬
‫مع م�أمور ال�سجن ال زالت قائمة والرجل ق َّدم �إليه وعود ًا ب�أن ير�سل �إليه كل‬
‫معارفه الذين يحتاجونه ‪.‬‬
‫طرق بقوة على احللقة احلديدة املثبتة بجوار فرا�ش �أ�سريته ال�صغرية‬
‫ليك�سرها‪ ،‬فهو ال يريد لها �أن تراها عند عودتها لزيارته‪ ،‬ال يريدها �أن تتذكر‬
‫تلك الأيام وقتما كانت حبي�سة بالداخل‪.‬‬
‫مل يكن يعلم �أنها �أحب الأيام �إليها ورمبا �أي�ض ًا �ستحزن عندما تزوره‪ ،‬فال‬
‫جتد قيدها الذي �أحبته‪ ،‬لكنها لن ت�س�أله عنه يوم ًا برغم �شوقها �إليه ‪.‬‬
‫ارتفع رنني هاتفه فرتك ما بيده على الفور‪ ،‬عندما ع ِلم �أن «رجاء» تنتظره‬
‫ليذهبا �سو َّي ًا لر�ؤية «غفران»‪ ،‬تلك الزيارة التي ت�أخرت كثري ًا‪.‬‬
‫بعيون‬
‫لقد كان ي�ستعد ملواجهة ما�ضيه كله‪ ،‬ما�ضيه الذي ينظر �إليه الآن ٍ‬
‫خمتلفة‪ ،‬الور�شة التي يتم �إعادة تدويرها من مالكها اجلديد؛ لت�صري مقهى‬
‫كبري ًا يت�صدر احلي‪ ،‬بينما ال�شجرة هناك ما زالت كما هي مال�صقة لها‬
‫‪‬‬
‫ل�شخ�ص �آخر وقب�ض الثمن‬
‫ٍ‬ ‫ب�أوراقها الكثيفة املتدلية‪� ،‬صفوان باع كل �شىء‬
‫وهرب من مواجهته‪ ،‬هرب من مواجهته ومن احلي ب�أكمله ‪.‬‬
‫التفت نحو «رجاء» التي كانت تقف بجواره وكما توقع متام ًا‪ ،‬عيناها كانتا‬
‫مثبتتني �أ�سفل �شجرتهما ال�شاهدة على �أحزانهما ‪.‬‬
‫خالة رجاء ؟‬
‫تنف�ست بعمق ‪ ..‬فجاء تنف�سها �سريع ًا متقطع ًا ك َمن ي�شهق طلب ًا للهواء بعد‬
‫نفاده من رئتيه ثم �أ�سبلت �أهدابها؛ لتلملم �شتات عقلها‪ ،‬فقال على الفور وهو‬
‫ي�شري �إىل االجتاه امل�ؤدي �إىل منزل غفران ‪:‬‬
‫هل نذهب؟ ‪.‬‬
‫�أوم�أت بابت�سامة مبتورة وخطت للأمام ب�أنفا�س م�سروقة نحو الطريق‬
‫الذي �أ�شار �إليه ‪.‬‬
‫«غفران» كانت تعلم مبوعد الزيارة فا�ستعدت ال�ستقبالهما‪ ،‬لذلك ارتدت‬
‫كامل ثيابها وحجابها وجل�ست يف �صمت وهدوء بجوار رجاء على الأريكة‪ ،‬مل‬
‫تكن خجلة بقدر ما كانت تائهة ويف عينيها تدور ع�شرات الت�سا�ؤالت‪� ،‬أولهم ‪..‬‬
‫وماذا بعد ؟!‪.‬‬
‫يف الأيام املا�ضية اجرتت ذكرياتها وبد�أ حما�سها لكل �شيءٍ يخفت كلما‬
‫خفتت الأ�صوات الآتية من النافذة املفتوحة وال�شعور بالوحدة وال�ضياع يل ُّفها‪،‬‬
‫�صارت �أر�ض ًا خ�صيبة جلذور الأفكار الكئيبة‪ ،‬فتاة وحيدة بال عمل ‪ ،‬بال‬
‫م�ؤهالت درا�سية‪ ،‬و�أم مري�ضة عيناها تتهمانها دائم ًا ب�أنها ال�سبب يف كل ما‬
‫جرى ‪ ..‬وبال ح�سن !!‬

‫‪‬‬
‫«ح�سن» الذي اختفى ومل ت�سمع عنه �سوى القليل من الأخبار التي نقلها‬
‫«كرمي» �إليها �صباح ًا وو�صية منه ب�أن تعتني بنف�سها حتى ي�أتي بنف�سه ‪.‬‬
‫و�أخري ًا جاء ‪ ..‬مت�أخر ًا ن َعم ‪ ..‬ولكن يكفي �أنه ح�ضر ‪.‬‬
‫جاء ب�صحبة اخلالة التي ال تعرف كيف تبت�سم لها وهي يف احلقيقة �شقيقة‬
‫املجرم الذي قتل ابنتها؟‪ ،‬يالها من عالقات مت�شابكة ومعقدة وغري منطقية‬
‫على الإطالق!‪.‬‬
‫حالك يا غفران ؟‪.‬‬
‫كيف ِ‬
‫بخ ٍري يا خالة ‪� ..‬شكر ًا لك‪.‬‬
‫�إجابتها جاءت هام�سة بينما تناظر رجاء بده�شة متعجبة من رقتها البادية‬
‫عليها‪ ،‬ده�شتها كانت وا�ضحة و�صريحة مما جعل رجاء تبت�سم‪ ،‬ودون �أن ت�صل‬
‫ابت�سامتها �إىل عينيها قالت وهي تربت على كفيها‪:‬‬
‫ال تتعجبي هكذا ‪ ..‬ف�أنت بالن�سبة يل غفران وفقط دون �أيِّ تعقيدات‬
‫�أخرى ‪.‬‬
‫�أوم�أت غفران دون اقتناع حقيقي هام�سة مرة �أخرى ‪:‬‬
‫أ�شكرك على اعتنائك بي يف مر�ضي ‪.‬‬
‫� ِ‬
‫قالتها وهي تناظر «ح�سن» اجلال�س على مقعد منفرد ير ُقب كل خلجاتها‬
‫ترجف م�ستطردة‪:‬‬
‫بينما هي ُ‬
‫ح�سن �أخربين �أ َّن ِك � ِ‬
‫أنت َمن اعتنى بي عندما فقدت وعيي يف املخزن ‪.‬‬
‫رفعت «رجاء» حاجبيها بتلقائية وهي تقول بو ٍّد ال ت َّدعيه‪:‬‬
‫‪‬‬
‫أنت تقريب ًا يف عمر ابنتي ‪ -‬رحمها اهلل ‪ ..-‬تكربينها‬
‫ال داعي لل�شكر ‪ ..‬ف� ِ‬
‫واحد‪.‬‬
‫بعام ٍ‬‫ٍ‬
‫فركت «غفران» كفيها بتوتر واحتقنت عيناها بالدموع قائلة بنربة مو�شكة‬
‫على البكاء ‪:‬‬
‫�آ�سفة يا خالة ‪ ..‬ف�أنا �سبب كل ما جرى ‪ ..‬لقد خرج من البيت ب�سببي‪..‬‬
‫والتحق بور�شة ح�سن ب�سببي ‪ ..‬ور�آها هناك ب�سببي ‪ ..‬كل �شيء كان‬
‫ب�سببي ‪.‬‬
‫غمرت الدموع وجهها مطرقة بر�أ�سها نحو كفيها اللتني تعت�صران بع�ضهما‬
‫البع�ض‪ ،‬ت ُز ُّم �شفتيها ويتغ�ضن �أ�سفل ذقنها وهي حتاول �أن متنع بكاءها احلار‬
‫و�شهقاتها املرتفعة التي انفلتت منها رغم ًا عنها‪.‬‬
‫حترك «ح�سن» يف مقعده قلق ًا عليها م�ستند ًا �إىل ذراعه هاتف ًا بينما هو‬
‫يناظر رجاء برجاء‪:‬‬
‫اهد�أي يا غفران ‪ ..‬اهد�أي ‪.‬‬
‫�أ�شارت «رجاء» �إليه بيدها �أنَّ عليه هو �أن يهد�أ �أو ًال ‪ ،‬ثم التفتت نحو‬
‫«غفران» وهي تتناول كفيها لتفك ا�شتباكهما وهي حتني جذعها نحوها‬
‫مقرتبة منها وتقول بجدية ‪:‬‬
‫عليك مثلها متام ًا يا غفران ‪ ..‬لقد ِ‬
‫قمت بالت�صرف‬ ‫جمني ِ‬
‫ٌّ‬ ‫أنت‬
‫� ِ‬
‫ال�صحيح كما علمت الق�صة كاملة من ح�سن ‪.‬‬
‫ان�سكب ماء عيونها �أكرث بال توقف وارتفعت وترية ن�شيجها فلم تعد تتحكم‬
‫ب�أي �شيءٍ فيها وال حتى تنف�سها‪� ،‬ضغطت �أ�صابعها التي تت�شابك مع �أ�صابع‬
‫رجاء التي مازالت مت�سك بها هاتفة‪:‬‬
‫‪‬‬
‫لك لقد خرج �إىل الطريق‬ ‫�أنا مل �أطرده ومل يفعل �أبي ذلك ‪� ..‬أُق�سم ِ‬
‫ب�إرادته ‪ ..‬ومل ي ُعد حتى بعد �أن ع ِلم بتكذيب �أبي يل و�أنه كرهني لأجله ‪.‬‬
‫خربتها الطويلة يف امل�صحة النف�سية تخربها �أنَّ الفتاة تقف على حافة‬
‫الهاوية‪ ،‬فعمرها �صغري وخربتها م�ضمحلة‪ ،‬ويقتلها لفظ والديها لها دون‬
‫�أن ترتكب جرمية ‪� ..‬إح�سا�سها بالذنب جتاه اجلميع و�أولهم «�سلمى» يخنقها‬
‫و َيق ِب ُ�ض على عنقها‪� ،‬إ َّنها تكره ذاتها كما مل تفعل من قبل وال بد من �إنقاذ‬
‫�سريع لها‪ ،‬ومن ُح�سن قدرها �أنَّ �إ�سعافتها اخلا�صة متواجدة بجوارها‪ ،‬امر�أة‬
‫تتحرك ب�أُمومتها اجلريحة ومبهنية عالية ‪.‬‬
‫قب�ضت رجاء على كفيها �أكرث لتدعمها ونظرت داخل عينيها بقوة مانحة‬
‫�إياها كل الدعم املمكن قائلة‪:‬‬
‫والدك مل يكرهك يوم ًا والدليل على هذا ‪� ..‬أ َّنه كان من املمكن �أن يعقد‬
‫ ِ‬
‫منك على الفور وليخر�سه‬
‫قرانك على �أنور برهان يف الت ِّو؛ ليتخل�ص ِ‬
‫باخلطبة ‪..‬‬
‫�إىل الأبد ‪ ..‬ولكنه على عك�س ذلك ظل مياطل واكتفى ِ‬
‫و�أظنُّ ب�أ َّنه كان ينتظر احلكم النهائي حتى ينهيها بال رجعة‪.‬‬
‫نظرت لها «غفران» بت�شتت‪ ،‬لقد بعرثت �أفكارها وتالعبت بها يف حلظة‬
‫ومل تتوقف عند هذا احلد بل �أردفت متابعة بنف�س القوة والثقة‪.‬‬
‫يحبك‪ ..‬ولكنه كان �أ�سري ًا لرمزي ‪ ..‬مري�ض به ‪ ..‬هو ووالدتك‬
‫لقد كان ِ‬
‫‪ ...‬وبع�ض الأمرا�ض تكون م�ستع�صية‪ ..‬وخبيثة ‪.‬‬
‫بد ًال من �أن يخفت �صوت بكائها ارتفع �أكرث‪ ،‬ج�سدها يخت�ض‪ ،‬ظهرها‬
‫طر َقة الر�أ�س‪ ،‬دموعها مت�ساقطة فوق الأ ُكف املت�شابكة‪.‬‬
‫ُم ْن َح ٍن و ُم ِ‬
‫‪‬‬
‫وتعاطف‬
‫ٍ‬ ‫�شديد‬
‫بامتنان ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تبادلت «رجاء» النظرات مع «ح�سن» الناظر لها‬
‫واحد‪ ،‬لقد غلب حنانها و�ضمريها احلي كرهها لهذا ال�شخ�ص املقيت‬ ‫يف � ٍآن ٍ‬
‫هو وابنه املدلل‪ ،‬فابت�سمت له رجاء على الفور لتخربه �أنها بخري وال تعاين كما‬
‫يظن‪ ،‬فالرحمة ال يجب �أن تكون حمل ده�شة �أو امتنان‪.‬‬
‫حلظات وبد�أ البكاء يتحول �إىل �شهقات خفي�ضة متقطعة ويعود �إىل مداره‬
‫الأول وقد ا�ستنفذت كل طاقتها ودموعها‪ ،‬تف�سري «رجاء» �أر�ضاها ومنحها‬
‫خمرج ًا نحو � َأم ٍل يراودها ‪� ..‬أن تكون حمبوبة من عائلتها مثل بقية الفتيات‪.‬‬
‫التقبل من الآخرين هو احلرب ال�ضرو�س التي يخو�ضها الإن�سان طيلة‬
‫ممن حوله‪ ،‬فكيف َمبن نعي�ش معه ثلث �أعمارنا على الأقل؟ !‪.‬‬
‫يومه؛ لي�شعر به َّ‬
‫و�ضعت «رجاء» �أ�صابعها �أ�سفل ذقنها بعد �أن ا�ستطاعت تخلي�صها من بني‬
‫�أ�صابع «غفران» لرتفع ر�أ�سها �إليها وتتالقى �أعينهما جمدد ًا‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫وحتى ال تبت�أ�سي فوالدك لي�س وحده الذي كان مينعه مر�ضه اخلبيث‬
‫من احتوائه‪ ..‬ح�سن �أي�ض ًا مثلك يف هذا ال�ش�أن مع �أبيه‪.‬‬
‫مدفون بداخله ا�ستطاعت �إخراجه‬ ‫ٍ‬ ‫عارم‬
‫بغ�ضب ٍ‬‫ٍ‬ ‫التفت «ح�سن» �إليها‬
‫بعبارتها تلك‪ ،‬يحذرها بنظراته من �أن تلعب معه هذه اللعبة‪ ،‬ولكنها بادلته‬
‫النظر بتحدٍّ وهي تتابع حديثها �إىل «غفران» قائلة‪:‬‬
‫ولكن مع بع�ض الفروق واالختالف ‪� ..‬أنور برهان كان مر�ضه البخل‬
‫فاج�أ مب�س�ؤوليته عن زوج ٍة‬
‫ال�شديد يف املال وامل�شاعر ‪ ..‬ومثله عندما ُي َ‬
‫حي‬‫ب�سعا ٍر ويجد نف�سه يحاول الفتك بهما دون �ضمري ٍّ‬ ‫وطفل ي�صاب ُ‬
‫ٍ‬
‫بداخله يوقظه من تلك الأفعال ‪ ..‬كان يعرف �أن ح�سن ابنه ِومن ُ�صلبه‬
‫والدليل على هذا �أ َّنه مل يحاول ولو ملر ٍة واحد ٍة �أن يقيم ق�ضية نفي‬
‫ن�سبته �إليه ‪ ..‬وهو بالت�أكيد كان يعلم �أنه ولو مات بهذا الو�ضع ف�سيكون‬
‫ح�سن هو وريثه الوحيد ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫خالة رجااااااء ‪.‬‬
‫هتف «ح�سن» بها واقف ًا يقاطع حديثها بينما مقلتاه ت�شتعالن غ�ضب ًا‪ ،‬بل‬
‫ج�سده كله ا�شتعل ولي�س عينيه فقط‪� ،‬إنه لي�س «غفران» ليتعلق بالق�شة‪ ,‬وال‬
‫يبحث عن العفو بداخله مثلها؛ لي�ستجيب لب�ضعة �أحاديث نف�سية جتعله �سو َّي ًا‬
‫من جديد‪.‬‬
‫�إنها منطقة ُم َّرمة لديه ولن ي�سمح لأحد �أن يتخطاها ليقوم بتنظيفها‬
‫ور�شها مباء الورد‪.‬‬
‫انقطعت �شهقات «غفران» و�صمتت «رجاء» تفكر وهي تراه ك َمن يقف فوق‬
‫اجلمر يد�س كفيه يف جيبه غا�ضب ًا م�شيح ًا بوجهه عنها‪.‬‬
‫ال�ضو�ضاء املنبعثة من بائع �أ�سطوانات الغاز يف ال�شارع هي فقط التي كانت‬
‫تخرتق هذا ال�صمت الذي �أحاط بهم والذي قطعه هو بعد حلظات وهو يتقدم‬
‫نحو «غفران» قائ ًال بتجهم‪:‬‬
‫حقك ‪.‬‬
‫هناك �أ�شياء حدثت يل ال بد �أن تعرفيها ‪ ..‬هذا ِ‬
‫كان ينظر �إليها بجمود وك�أنها ال تعنيه مما جعلها ُتزيح دمعها جانب ًا‬
‫وتنه�ض لتقف ُقبالته تبحث يف مالحمه عن «ح�سن» الذي كان جال�س ًا باجلوار‬
‫منذ دقائق ولكنها مل جتده‪ ،‬وهو مل ي�ساعدها عندما تف َّوه فج�أة بنربة ال روح‬
‫فيها‪:‬‬
‫حقك �أن تعريف كل �شيء منذ اللحظة التي ُو ِ�ضع فيها الهاتف بيدي‬
‫داخل ال�سجن‪ ..‬ثم ا�ستماعي �إىل �صوت ال�سيدة جليلة من خالله وهي‬
‫متنحني حق الق�صا�ص من الذين �أزهقوا روح ولدها ب�صفتها ولية‬
‫لك ‪ ..‬ولعلمك ‪ ..‬كان من‬
‫الدم ‪ ..‬وحتى خروجي من ال�سجن واختطايف ِ‬
‫أقتلك لو ا�ستدعت الظروف‪.‬‬
‫املمكن �أن � ِ‬
‫‪‬‬
‫قال عبارته الأخرية بتجهم �أكرب ك َمن يدفعها بعيد ًا عنه‪� ،‬أو الأكرث من‬
‫ذلك ‪� ..‬أن تكرهه ‪.‬‬
‫�صمت ِل َلحظة؛ ليبتلع فيها ُغ َّ�صته ال�شائكة ولي�ستدعي ذكرياته بنف�س‬
‫الرتتيب‪ ،‬ولكنها فاج�أته قائلة‪:‬‬
‫لقد خدعتك !‪.‬‬
‫ات�سعت عينا «رجاء» بده�شة وهي تنظر �إليها ب�صدمة‪ ،‬بينما تابعت‬
‫«غفران» حديثها برتدد‪:‬‬
‫�أنا ادعيت اخلوف عندما �أخربتني عن «في�شة بن نامي�شة» و «زالطة‬
‫بن بالطة»‪.‬‬
‫�ضيقت «رجاء» ما بني عينيها متعجبة دون �أن تفهم �شيئ ًا مما قالته «غفران»‬
‫الآن‪� ،‬أما هو فقد الحت الذكرى يف عينيه رغم ًا عنه‪ ،‬فان�صهر بع�ض اجلليد‬
‫الذي كان يغطي مالحمه وهو مييل بر�أ�سه للأمام قلي ًال بعينني مت�سائلتني‪،‬‬
‫تابعت هي عادتها يف ت�شبيك �أ�صابعها م�ستطردة‪:‬‬
‫�شعرت بال�سعادة؛ لأنك قمت بت�أليف تلك احلكاية ال�ساذجة عن‬
‫أحظ يوم ًا على‬
‫العفاريت‪ ..‬فقط حتى �أتوقف عن البكاء ‪ ..‬و�أنا مل � َ‬
‫أحد لدرجة �أن ي�ؤلف حكاية من �أجلي مهما كان ال�سبب‪.‬‬
‫اهتمام � ٍ‬
‫نبتت ابت�سامة على �شفتيه كما تنبت الزهرة يف ح�ضن ال�صخور قائ ًال‪:‬‬
‫ال �أملك �سوى تلك الق�ص�ص املخيفة للأ�سف ‪.‬‬
‫زمت �شفتيها بتربم قبل �أن تقول مت�شككة‪:‬‬

‫‪‬‬
‫�ستنتهي ذات يوم‪ ..‬و�ستكون هناك حكايات �أخرى ‪.‬‬
‫ملاذا �أ�شعر �أنَّ وجودي غري مرغوب فيه؟!‪.‬‬
‫قالتها «رجاء» با�ستمتاع؛ لتنبههما بوجودها‪ ،‬فالتفتا نحوها؛ ليجداها‬

‫‪y‬‬
‫ت�سند ذقنها �إىل قب�ضتها جال�سة كما هي تراقبهما بابت�سامة حانية‪.‬‬

‫‪‬‬
‫هبطت «رجاء» ال َّد َرج م�ستندة �إىل حافة ال�سور بينما االبت�سامة ذاتها‬
‫مازالت ت�سكن �شفتيها خمتلطة بالده�شة كلما �ألقت نظرة نحو «ح�سن» الذي‬
‫يهبط ال َّد َرج بجوارها حماو ًال تفادي النظر �إليها‪ ،‬هو يعلم �أنَّ كل عالمات‬
‫الده�شة والتعجب تت�صارع يف ر�أ�سها الآن‪ ،‬فلقد �شاهدته يف حاالت كثرية‬
‫بعد خروجه من ال�سجن غا�ضب ًا‪ ،‬منتقم ًا‪� ،‬ساخر ًا ال يبايل حتى بالقب�ض عليه‬
‫وعودته لل�سجن مرة �أخرى‪ ،‬مغامر ًا حتى رمقه الأخري‪ ،‬غام�ض ًا منغلق ًا على‬
‫�أحزانه‪ِ � ،‬آ�سف ًا‪ ،‬نادم ًا مت�أمل ًا على الأرواح الربيئة التي زهقت دون ُجرم‪ ،‬حنون ًا‬
‫كل َمن حتمل لقب � ٍّأم ‪ ..‬وعلى �صديقه «كرمي» ‪.‬‬ ‫على ِّ‬
‫�أما حالة احلب املختلطة بالأبوة امل�سيطرة عليه الآن‪ ,‬فلم تخطر لها على‬
‫بال �أبد ًا‪.‬‬
‫انتهى ال َّد َرج �سريع ًا ووقفت �أمامه حاملة نف�س النظرة‪ ،‬فتنحنح وهو يجلي‬
‫حنجرته مت�سائ ًال بحرية ‪:‬‬
‫هل كان من ال�صواب �أن �أبوح لها بكل تلك الأ�سرار؟‪.‬‬
‫ال تخف ‪ ..‬تلك الأ�سرار و�أكرث منها لن تزحزحها عن موافقتها التي‬
‫�أعلنتها مرتني ‪� ..‬أخراهما التي كانت �أمامي منذ حلظات‪.‬‬
‫د�س كفيه يف بنطاله متنحنح ًا من جديد ناظر ًا �إىل كل �شيء من حولهما‬ ‫َّ‬
‫�سواها‪ ،‬وقال بدفاعية تف َّهمتها‪:‬‬
‫‪‬‬
‫�أنا ‪� ..‬أنا �أق�صد فقط خطورة �إف�شاء �أ�سرار كهذه ‪ ..‬فهي مازالت‬
‫�صغرية ‪.‬‬
‫عقدت «رجاء» ذراعيها �أمام �صدرها ممازحة وقالت‪:‬‬
‫ن َعم ‪ ..‬بالكاد �أمتت احلادية والع�شرين ‪.‬‬
‫ثم �صمتت تاركة عينيه تتجول �أعلى ال َّد َرج ثم تفا�صيل البناية دون �أن‬
‫ي�صطدم بعينيها حتى �أطلقت تنهيدة مرتفعة قائلة‪:‬‬
‫غفران متعلقة بك ب�شدة‪ ..‬الدقائق التي تركتنا فيها وحدنا كانت‬
‫كفيلة ب�أن �أرى ما بداخل قلبها الذي تبوح هي مبا فيه بي�سر و�سهولة‪..‬‬
‫لقد كنت يف ال�سابق بالن�سبة لها جمرد حبيب لفرتة املراهقة ‪ ..‬احتل‬
‫عقلها وقلبها وظ َّل خياله م�ستوطن ًا بهما طوال ال�سنوات ال�سابقة ‪� ..‬أما‬
‫الآن فهي تراك بط ًال ُمنقذ ًا‪ ،‬ت�سعى لتنفيذ العدالة ال�سماوية ‪ ..‬الوح�ش‬
‫الذي خطف اجلميلة التي مل تعتقد ب�أنها جميلة يوم ًا‪ ..‬حتى �أخربها‬
‫هو ذات يوم بطريقته اخلا�صة ‪ ..‬حا َف َظ عليها بعد �أن حاول �أن ينه�شها‬
‫اجلميع ‪� ..‬أنت بالن�سبة لها الأمان الذي مل مينحه لها والدها يف بيته ‪..‬‬
‫حتكها لها �أ ُّمها ذات م�ساء ‪ ..‬فهل تت�صور �أن ترتك‬
‫�أنت الق�صة التي مل ِ‬
‫كل هذا لأجل مغت�صبني توليت الق�صا�ص منهما !!‪.‬‬
‫خالة رجاء !‬
‫اندفع «كرمي» مقاطع ًا تلك الهالة غري املرئ َّية التي �صنعتها حولهما‬
‫بحديثها اخلافت الواثق وكلماتها التي اخرتقت َ�شغاف قلبه وا�ستقرت به‬
‫كاجلبال ال�شاخمة تثبت �أركانه‪.‬‬
‫أيام ‪.‬‬
‫كيف حالك يا كرمي؟ ‪ ..‬مل تت�صل بي منذ ثالثة � ٍ‬
‫‪‬‬
‫�آ�سف يا خالة لقد كنت من�شغ ًال ج َّد ًا مع ح�سن يف الور�شة اجلديدة‬
‫�صباح ًا‪ ..‬وبعد الظهر �أُ ِق ُّل خطيبته يف �سيارة �أجرة �إىل والدتها‪..‬‬
‫و�أنتظرها �أ�سفل امل�شفى حتى �أعود بها مرة �أخرى ‪ ..‬ثم �أذهب �إىل‬
‫ح�سن جمدد ًا‪.‬‬
‫�أنهى عبارته الطويلة بزفر ٍة بائ�س ٍة جعلتها ت�ضحك �ضحكة خفي�ضة انتهت‬
‫وهي ت�ستدير بر�أ�سها نحو «ح�سن» الذي كان ُ َي ِّ�سد عنقه من اخللف يف حماولة‬
‫للهروب من �س�ؤالها احلتمي املتوقع الذي �أ�صرت �أن ت�س�أله‪:‬‬
‫ملاذا مل تكن ُت ِقلُّها بنف�سك ؟‪.‬‬
‫اندفع «كرمي» ثانية جميب ًا بالنيابة عنه‪.‬‬
‫�إ َّنه يتجنب املجيء هنا وم�شاهدة الور�شة القدمية التي حتولت لقهوة‬
‫‪....‬‬
‫كريـ ـ ــم ‪ ..‬انتهينا‪.‬‬
‫زجره «ح�سن» لي�صمت فقالت «رجاء» م�ؤنبة‪:‬‬
‫ال �أعلم ملاذا تتنازل عن حقك يف مرياث والدك؟! ‪.‬‬
‫مل يكن يوم ًا حقي يا خالة ‪.‬‬
‫مل �أعهدك م�ست�سلم ًا هكذا‪.‬‬
‫زفر بقوة وهو ينظر عالي ًا؛ فقد عاودته ال ُغ َّ�صة ال�شائكة من جديد‪ ،‬قاتل‬
‫ليبتلعها للحظات‪ ،‬يعلم �أنها �ستفتك ب�صدره �إال �أنه م�ضطر لل�سيطرة عليها‪،‬‬
‫�إنه وقت ارتداء الأقنعة الباردة الالمبالية‪ ،‬فنادته جم َّدد ًا بت�صميم هذه املرة‪،‬‬
‫�أخف�ض ر�أ�سه �إليها ببطء فباتت قراءة مالحمة من امل�ستحيالت وقال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫� ُّأي �شيء يعود �إىل �أنور برهان ال ُ‬
‫يخ ُّ�صني على الإطالق ‪ ..‬وال حتى جثته‬
‫التي ترقد يف م�شرحة امل�شفى وال جتد َمن يدفنها‪.‬‬
‫�أنهى كلمته الأخرية مغادر ًا تارك ًا كل �شيء خلفه‪ُ ،‬مذ ِّكر ًا نف�سه �أنَّ من بني‬
‫تلك الأ�سباب التي جتعله ُموقن ًا �أ َّنه من �صلب «�أنور برهان» هذه الق�سوة التي‬
‫تغلف قلبه جتاهه‪.‬‬
‫جعلت رج ًال يرمي بزوجته وابنه �إىل ال�شارع دون �أن يهتم‬
‫الق�سوة التي ْ‬
‫مب�صريهما �إىل �أين؟ ‪ ..‬هي نف�سها ما جتعله الآن يرمي بكل �شيءٍ يحمل‬
‫رائحته ‪..‬‬
‫مل مير يوم ًا وهو على قيد احلياة �إال وناداه فيه بال َّنغل‪ ،‬وها قد �آن الآوان‬
‫ليكون معه نغ ًال حقيق َّي ًا‪.‬‬
‫يكفي ‪ ..‬يكفي تلك املحاوالت التي نبذل فيها �أعمارنا لنثبت لهم فقط �أ َّننا‬
‫�أُنا�س �صاحلون ‪ ..‬مثاليون ‪ ..‬جيدون كما يريدوننا‪ ,‬دون �أن نفكر للحظة واحدة‬
‫�أنهم لو �أرادونا يوم ًا لتق َّبلونا مبا نحن عليه‪ ,‬وملا كانوا ليرتكونا على اجلانب‬
‫املظلم ويعربوا على �أج�سادنا �إىل اجلانب الآخر‪ ..‬حيث �أحالمهم التي مل و لن‬

‫‪y‬‬
‫نكون �إحداها على الإطالق !‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مبحاذاة �ساحل قلبها كانت تخطو كل يوم ع�شرات املرات‪ ،‬بينما وجيبه‬
‫احلائر يهدر فوق ر�أ�سها و َي ُ�ص ُّم �أذنيها؛ هل حتبه بالفعل �أم تتوهم؟‪ ،‬وبني م ّد‬
‫وجزْ ر تلك العالقة املعقدة تتك�سر �أمواج ال�شوق باالكتفاء‪ ،‬ثم تنح�سر كا�شفة‬ ‫َ‬
‫عن تلك االنتعا�شة القلبية وملعة الروح بها وهي تراه يعمل من بعيد‪ ،‬ي�سبح على‬
‫طول خط الوريد‪ ،‬الهي ًا عن تلك التي هناك‪ ،‬ال جتر�ؤ على �شيء �سوى �أن تب َّلل‬
‫قدميها على ال�شاطئ؛ لت�ستمتع بدفء �شعاع بعيد‪ ،‬لن يلم�سها يوم ًا‪� ..‬أو هكذا‬
‫ظنت !‪.‬‬
‫كان يقرتب منها بينما هي ال متلك �سوى �أن حتملق يف خطواته وتلك الوردة‬
‫احلمراء التي �أخربتها �أن الزهر الأبي�ض مل يكن ينتمي �إليه !‪.‬‬
‫ق َّدمها �إليها ك َمن يعتذر وهو ي�شاركها اجللو�س على الأريكة اخل�شبية نف�سها‬
‫داخل حديقة امل�صحة النف�سية قائ ًال ‪:‬‬
‫أ�صبحت بخري‬
‫ِ‬ ‫ال �أ�ستطيع �أن �أُب ِق ِ‬
‫يك يف امل�صحة بعد الآن‪ ..‬لقد �‬
‫وت�ستطيعني العودة �إىل منزلك ‪.‬‬
‫ اليوم ؟‬
‫جاء ت�سا�ؤلها مرتبك ًا حائر ًا راف�ض ًا للرحيل‪� ،‬إىل َمن �ستخرج؟‪ ،‬وكيف‬
‫�سرتاه يوم َّي ًا كما كانت تفعل؟‪.‬‬
‫‪‬‬
‫مل �أ�ستعد بع ُد ملواجهة النا�س يف اخلارج وحدي ‪� ..‬أنا ل�ست قوية كفاية‬
‫ل ـ ‪.....‬‬
‫�أمل !‬
‫قاطع بع�صبية خماوفها املُن�سدلة بغزارة على �أحرفها‪ ,‬ف�صمتت تناظره‬
‫مبعانيها النا�ضحة يف عينيها بال توقف حمتجزة خلف ق�ضبان �صمتها ال تقوى‬
‫� َّإل على النظر‪.‬‬
‫نف�س العبارة التي كانت ترددها والدته دوم ًا عندما كان يطالبها ب�أن تطلب‬
‫الطالق من زوجها الذي تزوجته بعد وفاة �أبيه‪ ,‬والذي كان ي�ضربها حتى تتورم‬
‫عيناها‪ ,‬كان «يحيى» ما زال فتى �صغري ًا ال يقدر على حمايتها‪ ,‬وبالرغم من‬
‫ذلك كان يتدخل ويقفز فوق ظهره ي�ضربه على ر�أ�سه ليرتكها‪ ,‬ولكن �ضعفه مل‬
‫يكن لين�صفه ولو ملرة‪ ,‬فيبيت ليلته مع َّلق ًا من قدمه ر�أ�س ًا على عقب يف �سقف‬
‫ال�شرفة حتى ميوت رعب ًا كل حلظة ليتعلم الأدب ولي�أكل الربد من عظامه كما‬
‫ي�شاء‪ ,‬ويظل هكذا حتى قبيل الفجر بقليل‪ ,‬عندما مت�شي �أمه على �أطراف‬
‫بحذ ٍر وهي ترجو من بابها �أن ي�صمت‪,‬‬ ‫�أ�صابعها املكدومة‪ ,‬تفتح باب ال�شرفة َ‬
‫ثم جتذبه نحو �صدرها وهي تبكي وتطلب منه � َّأل يتدخل يف املرة القادمة‪.‬‬
‫مل يفهم �أبد ًا �سر تعلقها بهذا الرجل برغم كل التوح�ش فيه‪ ,‬هل حتبه؟‪,‬‬
‫�أم تخ�شى مواجهة املجتمع ك�أرملة ترعى فتى ي ِلج �إىل �سن املراهقة ب�سرعة؟‪,‬‬
‫فتى انطوى على نف�سه‪ ,‬وف�صلها عن العامل‪� ,‬سد �أذنيه عن �صرخاتها التي ت�أتي‬
‫من خارج غرفته‪ ,‬يجتهد فقط ليدخل اجلامعة ويدر�س الطب النف�سي‪ ..‬فقط‬
‫ليفهمها!!‬
‫دكتور يحيى ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫التفت كالهما يف نف�س اللحظة نحو النداء القريب القادم من االجتاه‬
‫الآخر الذي انتزع «�أمل» من ت�أ ُّمله‪ ،‬وانتزعه هو من ذكرياته الأليمة‪.‬‬
‫نه�ض «يحيى» ال�ستقبال زائره غري املرغوب فيه واملُق ِبل عليه بابت�سامته‬
‫مرحب ًا مبالمح منغلقة‪:‬‬ ‫الباردة حتى توقف �أمامه مبا�شرة‪ ،‬فقال «يحيى» ِّ‬
‫�أه ًال َ‬
‫بك يا عا�صم بيه ‪ ..‬خري؟!‬
‫ات�سعت ابت�سامة عا�صم وهو يرفع كال حاجبيه مدعي ًا الده�شة ويقول‪:‬‬
‫وهل ي�أتي من ورائي �سوى اخلري ‪ ..‬يا دكتور؟!‪.‬‬
‫نه�ضت «�أمل» من�صرفة على الفور دون �أن تتف َّوه بكلمة بعد �أن �شعرت بتلك‬
‫الذبذبات امل�ضطربة بينهما‪� ،‬ش َّيعها «عا�صم» بعينيه قبل �أن يعود بهما جم َّدد ًا‬
‫نحو «يحيى» قائ ًال‪:‬‬
‫هل نذهب �إىل حجرة مكتبك �أم نتكلم هنا؟!‬
‫مل يكن �س�ؤا ًال مبعناه املفهوم‪ ،‬لذلك �أ�شار «يحيى» بيده �إىل االجتاه امل�ؤدِّي‬
‫�إىل مكتبه وي�سبقه بخطوة واحدة‪.‬‬
‫جل�س «عا�صم» ب�أريح َّية كبرية م�ستند ًا �إىل ظهر مقعده اجللدي الأ�سود‬
‫تارك ًا ذراعه مرتاح ًة على حافة املكتب اخل�شبي الذي يقف يف منت�صف الغرفة‬
‫يرقبه عاقد ًا كفيه خلف ظهره‪ ،‬دار بنظراته يف �أركان احلجرة وك�أنه يدخلها‬
‫للمرة الأوىل حتى وقعت عيناه على «يحيى» الواقف بتح ُّفز فات�سعت ابت�سامته‬
‫مبرح ال يدعيه وهو ي�شري �إليه ب�أن يرتاح على املقعد املقابل هاتف ًا با�ستفزازٍ ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ َّ‬
‫تف�ضل يا دكتور ‪ ..‬اعترب املكتب مكتبك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫�أنهى عبارته �ضاحك ًا با�ستمتاع عائد ًا بر�أ�سه �إىل اخللف‪.‬‬
‫تقدم «يحيى» جال�س ًا �أمامه ُمنحني ًا نحو ركب َت ْيه م�ستند ًا �إليهما ِمبرفقيه‬
‫قائ ًال‪:‬‬
‫خري يا ح�ضرة ال�ضابط؟‪.‬‬
‫اعتدل يف مقعده؛ ليتخذ نف�س و�ضعية «يحيى» متام ًا‪ ،‬فتالقت نظراتهما‬
‫بقوة وندِّ ية ك َمن ي�ستعدان خلو�ض مبارة يف امل�صارعة‪ ،‬الغلبة فيها لأكرثهم‬
‫حت ُّكم ًا وخربة‪َّ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫�آخر ما كان يخطر ببايل �أن تكون �أنت حلقتي املفقودة التي �أبحث عنها‬
‫منذ زمن ‪ ..‬يا دكتور !!‪.‬‬
‫تغ�ضن جبني يحيى على الفور ف�سارع «عا�صم» ب َلكمة جديدة قائ ًال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫�آه ‪ ..‬ن�سيت �أن �أُ َ‬
‫عزيك يف وفاة زوجتك‪.‬‬
‫�ضغط «يحيى» �أ�ضرا�سه فتحرك �صدغاه‪ ،‬واحتقن وجهه بالدماء‪ ،‬فلمعت‬
‫البكة التي اخترب عمقها‬ ‫يتوغل �أكرث بقدميه يف ِ‬ ‫نظرات «عا�صم» �أكرث وبد�أ َّ‬
‫�سابق ًا بقدم واحدة‪ ،‬و�ضع يده يف جيب �سرتته ال�سوداء و�أخرج منها ورقة َّمت‬
‫متزيقها من دفرت كبري‪ ،‬وقال وهو ي ُف ُّ�ض ط َّياتها ببطء‪:‬‬
‫هناك فائدة يف عدم التخل�ص من الدفاتر القدمية ‪ ..‬مث ًال قد ت�صادف‬
‫ا�سم ًا ملري�ضة ذهبت �إىل القتيل يف عيادته وهي تنزف من ج َّراء ٍ‬
‫حمل‬
‫مبكر مل تكن تعلم بوجوده‪ ..‬وعندما كادت �أن تفقد وعيها عنده‪..‬‬
‫حجز لها غرفة العمليات مبكاملة هاتفية وحملها معه �إىل امل�شفى التابع‬
‫له وغادر العيادة ب�صحبتها معتذر ًا لبقية احلاالت‪.‬‬
‫‪‬‬
‫م َّد يده بالورقة �إىل «يحيى» الذي مل يكن يف حاجة �إىل قراءة ذلك اال�سم‬
‫ومتييزه من بني جميع الأ�سماء‪ ،‬قب�ض عليها بداخل راحته حتى كاد �أن‬
‫ي�سحقها برغم ُ�سمكها وكرب حجمها‪� ،‬صدره يعلو ويهبط وهو يناظر «عا�صم»‬
‫ببغ�ض �شديد قائ ًال‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ماذا تريد ؟‪.‬‬
‫اختفت ابت�سامة «عا�صم» تدريج َّي ًا وهو يدر�س الرجل اجلال�س �أمامه‬
‫بعناية‪ ،‬الرجل الذي بد�أ قناع الهدوء والتحكم يذوب من فوق مالحمه ويظهر‬
‫�شخ�ص �آخر ‪ ..‬رج ٌل مطعون يف �شرفه وما زال ينزف حتى هذه‬‫ٌ‬ ‫من خلفه‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫�أريد �أن �أخربك �أنه بعد التحريات اخلا�صة حول زائرات العيادة من‬
‫ال�سهل جد ًا الربط بني �إحداهن وبينك‪.‬‬
‫وا�ضح‪:‬‬
‫هم�س «يحيى» من بني �أ�سنانه امل�ضغوطة با�ضطراب ٍ‬
‫زوجتي مل تذهب هناك �سوى م َّر ٍة واحدة‪ ..‬وقد كانت جته�ض دون‬
‫علمها‪.‬‬
‫�أوم�أ «عا�صم» موافق ًا قبل �أن يعود مثبت ًا نظراته عليه حما�صر ًا �إ َّياه من‬
‫جديد م�ستعر�ض ًا لذكائه‪.‬‬
‫مل يكن من ال�صعب معرفة �أنها �أ�صيبت بعدها بحالة نف�سية‪ ،‬وف�شلت‬
‫�أنت يف عالجها لفرتة طويلة انتهت بانتحارها ‪ ..‬ومل يكن من ال�صعب‬
‫�أي�ض ًا معرفة �أنك انغلقت على نف�سك بعد موتها ومل تكن طبيع َّي ًا على‬
‫عودتك لعملك الذي مار�سته رغم كل �شيء‪ ..‬ثم‬ ‫َ‬ ‫الإطالق‪ ..‬حتى بعد‬
‫�صادفتك حالة �أمل ال�شبيهة �إىل حالة زوجتك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫نه�ض «يحيى» مندفع ًا وقد حتولت ب�شرته البي�ضاء �إىل كتلة من الدماء‬
‫بينما كفه مل َّ‬
‫تتخل عن الورقة امل�سحوقة بداخله‪� ،‬أ َّما كفه الأخرى فقد كانت‬
‫تتحرك بع�شوائية وانتعا�ش ك َمن يبحث عن �شيء ليقوم بتحطيمه‪ ،‬تعرق جبينه‬
‫ب�شدة هاتف ًا وهو يفقد �سيطرته على ج�سده بالكامل‪:‬‬
‫للمرة الأخرية يا عا�صم ‪ ..‬ماذا تريد ؟‬
‫وقف «عا�صم» �أمامه مبا�شرة يف مواجهته ً‬
‫قائل بجدِّ َّية‪:‬‬
‫�أريد �شيئني ال ثالث لهما ‪ ..‬الأول‪� :‬أن تعرف �أن جميع حترياتي تخ�صني‬
‫وحدي‪ ،‬فقد مت �سحب الق�ضية من حتت يدي ومل تعد تخ�صني ب�شيء‪..‬‬
‫وبالتايل �أنا ل�ست هنا ب�صفة ر�سمية ‪ ..‬والورقة التي بحوزتك ت�ستطيع‬
‫�أن متزقها �أو حترقها كيفما ت�شاء‪� ..‬أما ال�شيء الثاين الذي �أريده فهو‬
‫�أن تخربين مباذا اعرتف لك قبل �أن تقتله؟ !‪.‬‬
‫مل ي�ستطع «يحيى» �أن يتمالك نف�سه‪ ،‬بينما «عا�صم» يخرتق عقله وي�سرب‬
‫�أغواره م�ستدعي ًا لذكرياته الكئيبة‪ ،‬فارتفعت يده الأخرى امل�ضطربة وقب�ض‬
‫بها على �سرتته مم�سك ًا بتالبيبه �صارخ ًا‪:‬‬
‫هل تعتقد �أ َّنني �ساذج �إىل هذه الدرجة ؟‪.‬‬
‫تخل�ص «عا�صم» من قب�ضته وقد �أيقن �أنَّ املواجهة التي ح�ضر من �أجلها‬
‫قد حانت حلظتها‪ ،‬و�أنَّ الواقف �أمامه الآن يرتع�ش كاملحموم قد م َّر بحقيقة‬
‫�أذابت كرامته يف �آتون م�شتعل‪ ,‬وال زالت تفعل‪.‬‬
‫ويف خفة قام «عا�صم» بنزع �سرتته و�ألقاها بعيد ًا‪ ،‬ثم �أخرج كل ما يف‬
‫جيبيه مبا فيه هاتفه املحمول الذي �أغلقه و�سالحه‪ ،‬وو�ضعها جميع ًا فوق‬
‫املكتب‪َّ ,‬ثم تقدم نحوه فاحت ًا َ‬
‫ذراع ْيه بحركة م�سرحية مل يق�صدها قائ ًال بثق ٍة‪:‬‬
‫‪‬‬
‫قم بتفتي�شي كما ت�شاء؛ لتطمئن �أ َّنني ال �أقوم بالت�سجيل لك ‪.‬‬
‫وجه «عا�صم» كان ين�ضح باحلقيقة التي يريدها‪� ،‬إنه يريد املعلومة فقط‪،‬‬
‫ولكن «يحيى» كان قد �أبعد الطبيب قذف ًا �إ َّياه على طول ذراعه‪ ،‬والذي مل يكن‬
‫لرجل متح�ضر ال يعلم �أحد ب�أنه يقوم بتحطيم كل‬‫ه�شة ٍ‬ ‫�سوى واجهة زجاجية َّ‬
‫ما تقع عليه عيناه عندما يخلو بنف�سه يف غرفة نومه‪.‬‬
‫�شهد ْت فرتة نقاهتها بعد �أن عاد بها من ا َمل ْ�شفى وقد‬
‫تلك الغرفة التي َ‬
‫فقدت جنينها الذي مل يتع َّد حمله ال�شهر الواحد‪ ،‬وبعد �أن بد�أت تتعافى وتعود‬
‫�إىل حياتها الطبيعية‪ ،‬انتك�ست من جديد دون �أن يفهم ماذا يحدث لها؟‪ ،‬هل‬
‫هي �صدمة مت�أخرة �أم ماذا؟‪.‬‬
‫عادت ذات يوم من اخلارج �إىل غرفة نومها‪ ،‬ووجهها �شاحب �صامتة‬
‫م�صدومة‪ ،‬انغلقت على نف�سها وامتنعت عن الطعام والكالم ومل تخرج منها‬
‫�إال على َم ْ�شفى �آخر ِلتُزَ َّود مبغذيات طبية يف حماولة للحفاظ على حياتها‪.‬‬
‫حتى قررت �إنهاء حياتها بيديها‪ ,‬ولكن لي�س قبل �أن تر�سل له ر�سالة يف‬
‫حلظة احت�ضارها ال�صامتة‪ ،‬ر�سالة يحفظها عن ظهر قلب‪:‬‬
‫«�آ�سفة يا يحيى ‪ ..‬مل �أ�ستطع احلفاظ على �شريف و�شرفك ‪ ..‬لكن رغم ًا‬
‫ع ِّني �صدقني‪ ..‬مل �أعلم حتى �أخربتني الفتاة ال�سمراء»‪.‬‬
‫هزة عنيفة �أجربته على العودة �إىل �أر�ض الواقع والنظر يف وجه «عا�صم»‬
‫ثانية الذي كان قاب�ض ًا على جمامع �سرتته البي�ضاء اخلا�صة بالأطباء ويهزه‬
‫بقوة قائ ًال‪:‬‬
‫تكلم يا يحيى �أريد �أن �أعرف فقط ‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ومبقلتني زائغتني ممتلئتني بالنريان امل�شتعلة‪ ،‬وبراكني ت�سكنها َم َردة‬
‫ال�شياطني التي ال تهد�أ �أبد ًا حتى ت�شعل كل ما تطوله يداها من حولها‪ ،‬جاء‬
‫�صوته من �أعماق اجلحيم قائ ًال‪:‬‬
‫كان ي�ستغيث طلب ًا للرحمة‪ ..‬بينما كنت �أ�سلخ جلده و�أحرمه مما كان‬
‫كاخلنزير ُيقبل قدمي ويغ�سل حذائي‬ ‫يعتدي به على الن�ساء ‪ ..‬كان ِ‬
‫بدموعه وهو يعرتف مبا فعله بزوجتي وبـ « �أمل «‪ ،‬وهما حتت ت�أثري‬
‫يكتف باغت�صابهما فقط‪ ..‬بل �أراد تعذيبهما ب�ساديته‬ ‫املُخدِّ ر ‪ ...‬ومل ِ‬
‫البغي�ضة ف�أر�سل �إليهما بعد ذلك مم ِّر�ضته ال�سمراء؛ لتخربهما مبا‬
‫حدث بعد فرتة يت�أ َّكد فيها من طم�س كل الأدلة ‪ ..‬كنت �أنوي قتله فقط‬
‫ولكن بعد اعرتافاته ق َّر ْرت �أن �أعامله بنف�س �ساديته التي عاملهما بها‬
‫‪ ..‬لقد بد�أ بزوجتي وعندما ماتت ظن �أنَّ كل امر�أة بعدها �ستقتل نف�سها‬
‫كما فعلت هي ‪ ..‬ولكن �إرادة اهلل �أبقت �أمل على قيد احلياة و�سا َقتْها‬
‫يل؛ لـتَـ ُف َّك بحكايتها �شفرة ر�سالة زوجتي ‪ ..‬و�أفهم‪.‬‬
‫�إ َّ‬
‫واملمر�ضة ال�سمراء يا يحيى ‪ ..‬ماذا فعلت بها ؟‪.‬‬
‫لقد كانت عاهرة ‪ ..‬خرجت يف ليل ٍة ما ملالقاة �إحدى زبائنها‪ ،‬ومل تعد‬
‫بعد �أن اعرتفت �أنها كانت ت�ستمتع بتعذيب الن�ساء من �ضحاياهما هي‬
‫واخلنزير الآخر‪.‬‬
‫ِ‬
‫وملاذا تركت طبيب التخدير ح َّي ًا؟!‬
‫منذ �أن علم مبقتل اخلنزير الأول وهو خمتبئ كالكلب‪ ..‬ميوت كل يوم‬
‫�ألف مرة وهو ينتظر موته‪ ..‬فلم �أ�ش�أ �أن �أرحمه ب�إنهاء حياته �سريع ًا‪.‬‬

‫‪‬‬
‫لت ذراعه بجواره‪ ،‬لقد‬ ‫�أغم�ض «عا�صم» عينيه بينما قب�ضته ُ‬
‫تخور حتى ته َّد ْ‬
‫وجد احللقة املفقودة ولكن مع الأ�سف طع َنتْه يف خا�صرته‪ ،‬وعلقت هناك تاركة‬
‫�إ َّياه م�صاب ًا يف �صحراء احلقيقة التي كان يبحث فيها ‪.‬‬
‫ن�صف احلقيقة عرفها عندما بحث بداخل ال�سجن‪ ،‬وو�صلته معلومة‬
‫الهاتف الذي دفع فيه مبلغ ًا من املال ال ب�أ�س به لي�صل �إىل «ح�سن»‪ ،‬ذلك املبلغ‬
‫الذي ال ت�ستطيع «رجاء» �أو «جليلة» تدبريه‪.‬‬
‫وها هو ي�صل الآن �إىل الن�صف الآخر منها‪ ،‬مل يكن «يحيى» جمرد متربع‪،‬‬
‫لقد دفع ثمن م�ساعدة رجاء له يف الو�صول �إىل الطبيب وحيد ًا يف عيادته‪.‬‬
‫وها هو الآن بعد �أن اكتملت الدائرة يجد نف�سه وقد تبدلت الأدوار‪ ،‬فوقف‬
‫حائر ًا يف منت�صف الغرفة بينما �صورة «�أروى» ُت ِط ُّل من عقله فج�أة؛ لت�ضعه‬
‫�أمام نف�سه كما تفعل دوم ًا‪.‬‬
‫ماذا لو كانت زوجته �إحدى �ضحاياه وحدث لها كما حدث لزوجة هذا‬
‫الظل الذي يقف ُقبالته الآن بنظرات �ضائعة‪� ،‬أو كما حدث ل َأمل؟ ‪ ..‬هل كان‬
‫�سيذهب ليحرر حم�ضر ًا �أم �سيقت�ص يف الت ِّو بيديه العاريتني؟؟‪.‬‬
‫جمرد تخيل املوقف جعل الدماء تندفع �إىل عروقه لي�صل �إىل حالة م�شابهة‬
‫من حالة االحتقان امل�سيطرة على وجه «يحيى» يف هذه اللحظة‪ ،‬مل يكن يف‬
‫حاجة �إىل كثري من الوقت؛ ليح ِّرك ر�أ�سه نفي ًا متمتم ًا لنف�سه‪:‬‬

‫‪y‬‬
‫«ما كنت �ستمتلك رفاهية الوقت يا عا�صم ‪ ..‬كنت �ستفرغ خزانة م�سد�سك‬
‫بر�أ�سه يف الت ِّو »‬

‫‪‬‬
‫طرقات �سريعة على باب غرفتي و�صلت �إىل م�سامعي وجعلت �أ�صابعي‬
‫تتوقف عن الكتابة فوق لوحة املفاتيح‪ُ ،‬ف ِت َح الباب واندفعت «رجاء» تدلف من‬
‫خالله ثم تغلقه خلفها‪.‬‬
‫اقرتبت لت�شاركني اجللو�س على طرف فرا�شي فو�ضعت حا�سوبي جانب ًا؛‬
‫لأنظر �إليها يف انتظار �أن تف�صح ع َّما بها ‪ ،‬تن َّف�ست للحظات َّثم قالت م�ضطربة‪:‬‬
‫املقدم عا�صم هنا ‪� ..‬إنه يحتجز دكتور يحيى يف مكتبه منذ ن�صف‬
‫�ساعة على الأقل‪.‬‬
‫وما امل�شكلة يف ذلك ؟!‬
‫ت�أ َّملتني بده�ش ٍة لدقيقة كاملة بينما �أنامل �أكن متعجلة لأعرف الإجابة‪،‬‬
‫ملعرفتي بها ‪.‬‬
‫اقرتبت م ِّني قلي ًال حمتفظة بعالمات ده�شتها حتاول قراءة تعابري وجهي‬
‫الهادئة ولكنها ف�شلت‪ ،‬ف�أطرقت للحظة لتعيد ح�ساباتها جم َّدد ًا‪َّ ،‬ثم رفعت‬
‫ر�أ�سها وقد بدت �أكرث متا�سك ًا وهي تت�ساءل بـ َر ِو َّية‪.‬‬
‫انتظمت �أخ ًريا على تناول جرعات دوائك دون علمي ؟‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ر�ؤى((( ‪ ..‬هل‬
‫((( رؤى‪ :‬هي بطلة رواية سابقة بعنوان "وقالت يل"‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ت�سا�ؤلها جعلني �أبت�سم‪ ،‬يبدو �أنها ظنت �أ َّنني �أعاين الربود الذي يعقب‬
‫املداومة على تناول تلك الأقرا�ص الدوائية املقيتة‪ ،‬على الرغم من �أنَّ كل‬
‫لدي قدرة على التداوي بدون‬ ‫َمن يعرفني ِمن ُر َّواد هذه امل�صحة يعل ب�أنني َّ‬
‫االنتظام عليها �إال على فرتات‪ ,‬ولن �أفكر يوم ًا يف الت�ضحية ب�أ�شباحي اخلا�صة‬
‫لو ت�سبب الدواء ب�شفائي‪� ،‬إ َّنها ُملهمتي و�أنا عملي هو الكتابة‪ ،‬فكيف �أُ َ�ض ِّحي‬
‫ببنات �أفكاري من �أجل حياة باردة تخلو منهم؟‪.‬‬ ‫ِ‬
‫علي اليوم يا رجاء؟!‪� ..‬أنا كما �أنا متم ِّردة‪ ..‬ولن �أغادر‬ ‫هل �ستتعرفني ّ‬
‫عمي من اخلارج‬ ‫مكاين هنا حتى تتوقف تكاليف �إقامتي التي ير�سلها ِّ‬
‫لرييح �ضمريه املُ َعذب جتاهي ‪� ..‬أنا ال �أعاين �إحدى حاالت الربود التي‬
‫تظ ِّنينها ‪ ..‬كل ما هنالك �أ َّنني مت�أكدة من �أ َّنه ال ميلك � َّأي دليل وا�ضح‬
‫يدينكم به ‪ ..‬حتى و�إن ا�ستطاع ا�ستنتاج امل�صلحة بينكما‪.‬‬
‫�شخ�ص غريي كان �سيظنُّ �أ َّنها تخ�شى على نف�سها من عواقب معرفة‬
‫«عا�صم» باحلقيقة ولك َّنني �أعلم جيد ًا �أنَّ كل ما تخ�شاه وجتعلها ت�ضطرب‬
‫هكذا هو خوفها على م�صري «يحيى و جليلة و�أمل وح�سن وغفران» ‪ ،‬وكان‬
‫على �أن �أطمئنها على عائلتها اجلديدة‪.‬‬ ‫لزام ًا َّ‬
‫ال تن�سي �أنَّ دكتور يحيى يتق�صى بطريقته عن �سري التحقيق يف الق�ضية‬
‫أخربك ب�أن «عا�صم» مل يعد م�س�ؤو ًال عنها‪ ..‬بل ومت �صدور قرار‬
‫و�أ َّنه � ِ‬
‫بنقله �إىل ال�صعيد‪.‬‬
‫م�ض�ض‪� ،‬صمتت كثري ًا غري‬
‫ٍ‬ ‫�شعرت ب�أنها تبتلع كلماتي وك�أنها دوا ٌء على‬
‫مقتنعة مبا ت�سمع‪ ،‬ال زالت ال�شكوك تراودها‪.‬‬
‫‪‬‬
‫ح َّرك الهواء �ستائر الغرفة البي�ضاء ف�سمعتها تتنف�س بعمق �شديد ثم زفرت‬
‫ببطء متمتمة‪:‬‬

‫هلل الأمر من قبل ومن بعد ‪.‬‬

‫حدقت قلي ًال يف �أر�ض الغرفة الالمعة ثم التفتت نحوي قائلة‪:‬‬


‫ْ‬
‫غد ًا موعد زيارة زوجك‪.‬‬

‫لي�س الآن ‪� ..‬أريد �أن �أنهي كتابي‪.‬‬

‫راقبت «رجاء» الت�أ ُّفف البادي على وجهي وقالت متعجبة‪:‬‬

‫�أنت م�ؤخر ًا �صرت تت�أ َّففني من زياراته دون �سبب ‪ ..‬ثم كتاب ماذا‬
‫الذي تتحدثني عنه ؟‪.‬‬

‫مل �أكن على ا�ستعداد ملناق�شة اجلزء الثاين من ال�س�ؤال لذلك �سمحت لها‬
‫فقط باخلو�ض يف الأول كما ت�شاء بالإ�ضافة �إىل �أ َّنني مل يكن َّ‬
‫لدي مانع من‬
‫م�شاركة م�شاعري جتاه ه�شام يف تلك اللحظة‪.‬‬

‫�أ�شعر ب�أنَّ حياته متوقفة من �أجلي يا رجاء ‪ ..‬ابنتاه يف حاجة لأم بديلة‬
‫حقيقية بعد وفاة والدتهما‪ ،‬و�أنا ال �أ�صلح للقيام بهذا الدور‪.‬‬

‫مل �أ�ش�أ �أن �ألتفت يف تلك اللحظة �إىل �سقف الغرفة �أعلى ال�ستائر ف�أنا علي‬
‫يقني �أن هالة جتل�س هناك تنظر يل نظرات متل�ؤها اخليبة واخلزي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫�شعرت بلم�سة على قدمي‪ ،‬ف�أدرت وجهي جتاه «رجاء» التي كانت تربت‬
‫عليها قائلة‪:‬‬
‫تر َّيثي قلي ًال‪ ،‬ف�أنا �أراه قادر ًا على تدبري �أموره مع والدته وينتظر قرار‬
‫صرب‪.‬‬
‫عودتك ب� ٍ‬
‫ر�أيها يف زوجي لن يتغري �أبد ًا رغم اختالف �شخ�صيتها التي كانت عليها‪,‬‬
‫فمنذ عام فقط كانت منغلقة متوت احلياة على �أعتابها قبل �أن تفكر يف الولوج‬
‫ه�شة وقابلة للك�سر ب�سهولة رغم قناع اجلمود التي كانت ترتديه دوم ًا‬
‫�إليها‪َّ ،‬‬
‫مع �سرتة التمري�ض‪.‬‬
‫لكنني ا�ستطعت العبور‪ ،‬و�صلت �إليها يف عقر دارها دون �أن �أبذل جهد ًا‬
‫يذكر‪ ،‬فقط حد َّثتُها عن والدتي املتوفاة فقلت لها‪� :‬إ َّنها كانت تكرهني ب�شدة‬
‫وتنعتني دوم ًا بالدميمة‪ ،‬لذلك قتلتها �أو كما يقول دكتور يحيى‪ ،‬وذلك الذي‬
‫تفحمت‪.‬‬
‫كان يعاجلني من قبله �أنني فقط تركتها حترتق حتى َّ‬
‫لقد �ضغطت على نقطة �أ�صبحت ح�سا�سة للغاية لديها منذ موت ابنتها‪,‬‬
‫ولقد علمتُ َ‬
‫بذلك عندما بد�أت حتكي يل عن وفاة «�سلمى» وكيف �أ َّنها �أهملتها‬
‫فكانت �سبب ًا يف مقتلها؟‪.‬‬
‫فهمت من حديثها �أنَّ ما ي�ؤملها ح َّق ًا هو عدم َب ْوحها يوم ًا ل�صغريتها مبدى‬
‫حبها‪ ،‬لقد كانت تراها فقط جمرد مراهقة تبالغ يف كل ما يحدث لها وتتعامل‬
‫معها على هذا الأ�سا�س‪ ،‬مل تق�صد �أبد ًا �أن ت�سخر من قلة جمالها �أو عرجة‬
‫قدمها‪.‬‬
‫‪‬‬
‫لذلك ا�ستماتت «رجاء» يف الدفاع عن والدتي‪ ،‬وعن حبها املزعوم يل الذي‬
‫دفن رغم ًا عنها يف املقربة مع جثة �أبي ‪ -‬رحمه اهلل ‪.-‬‬
‫م�سكينة هي‪ ..‬مل تكن تعلم �أنَّ � ِّأمي املجنونة املتفحمة كانت تقف خلفها‬
‫تنظر يل بعينني يتطاير منهما ال�شرر ك�شياطني اجلحيم ‪ ،‬تنفي كل كلمة تخرج‬
‫من فمها ‪.‬‬
‫تقاربنا �أنا و «رجاء» وباتت �صداقتنا قوية ال �أ�سرار فيها ‪ ..‬كما ظ َّن ْت‬
‫هي!‪ ،‬وبد�أت ت�ساعدين يف االقرتاب من «�أمل» ومعرفة حكايتها وهي منده�شة‬
‫كيف يطلب مني دكتور «يحيى» �أن �أفعل هذا‪� ،‬إال �أنها ان�صاعت يف النهاية �إىل‬
‫طلبه؟‪.‬‬
‫لن �أن�سى �أبد ًا ال�صدمة التي �أملَّت به وهو ي�ستمع �إىل وقتها عندما و�صلت‬
‫من احلكاية �إىل نقطة املمر�ضة ال�سمراء من ق�صة» �أمل» ‪ ،‬بدا م�ش َّو�ش ًا لبعدها‬
‫بدقائق حتى انتهيت من الق�صة ‪.‬‬
‫ثم بد�أ يتمتم مذهو ًال بينما عيناه ت�شتعالن غ�ضب ًا «�إذن فلقد كان هو ‪ ..‬هو‬
‫نف�سه َمن اعتدى على زوجتي‪ ..‬وبنف�س الطريقة التي جعلتها تنهي حياتها»‪.‬‬
‫يوجه كلماته نحوي ‪ ..‬لقد كان ينظر �إىل الفراغ ويهذي «لقد بحثت‬
‫مل يكن ِّ‬
‫يف كل �شيء ‪ ..‬كل ورقة ‪ ..‬كل ركن يف املنزل ‪ ..‬كل مكان ذهبت �إليه ‪ ..‬كل‬
‫�شخ�ص تعاملت معه ‪ ..‬كيف مل �أفهم �أنَّ املجرم الذي �أبحث عنه هو نف�سه‬
‫الطبيب؟»‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مل �أفهم ماذا حدث له بعدها‪ ,‬فلقد احتقن وجهه ب�شدة ثم �سقط �أر�ض ًا‬
‫ُم ِ�سك ًا مب�ؤخرة ر�أ�سه بينما �أنفه كان ينزف وج�سده كان يرتع�ش‪ ،‬مل يكن‬
‫فاقد ًا للوعي ويف نف�س الوقت مل ي�شعر َمبن حوله ‪.‬‬
‫�أخربتني «رجاء» بعدها بت�شخي�ص الأطباء‪ ,‬لقد تع َّر�ض ل�ضغط نف�سي‬
‫�شديد تبعه بع�ض الأعرا�ض اجل�سدية املتقدمة امل�صاحبة ملر�ض ارتفاع �ضغط‬
‫الدم ‪.‬‬
‫مما فهمته‬
‫مما حدث له وت�س�ألني‪ :‬ملاذا ؟ ف�أخربتها َّ‬
‫كانت «رجاء» يف حرية َّ‬
‫من هَ ْمهماته فانفع َل ْت ب�شدة‪ ،‬وب َك ْت من �أجله من�سحبة من الغرفة ‪.‬‬
‫حتى جاء ذلك اليوم الذي �س�ألتها فيه «ملاذا مل تفكري يف االنتقام من‬
‫قاتل ابنتك ؟ ملاذا تهملني ح َّقها يف الق�صا�ص من قاتلها كما �أهملتها وهي على‬
‫قيد احلياة»‪.‬‬
‫مل جتبني ‪ ..‬نظرت يل ب�أمل ك�أنني طعنتها يف قلبها وغادرت واختفت بعدها‬
‫لثالثة �أيام ‪ ،‬ثم ظهرت فج�أة بوجه ُمتلف غري الذي عهدته عليها لت�س�ألني‬
‫بنربة غريبة «كيف نفعل ذلك» ؟‬
‫لدي من �أفكار ومعلومات‬ ‫كان من واجبي حينها �أن �أرمي حتت قدميها َّ‬
‫كل ما َّ‬
‫كانت تعلمها‪ ،‬ولكنها مل تفكر يوم ًا ب�أن ت�ستفيد منها‪ ،‬فاجلميع كان يعلم بعودة‬
‫دكتور «يحيى» للم�صحة ومزاولته للعمل بعد انقطاع‪ ,‬ولكنه يف الوقت ذاته كان‬
‫غريب الأطوار يظهر عليه اال�ضطراب �أحيان ًا‪.‬‬

‫‪‬‬
‫حتى �أنه مل ي�ستطع �أن ي�شخ�ص حالة «�أمل» النف�سية والتي كانت وا�ضحة‬
‫للعيان‪ ،‬بل والأكرث من ذلك �أنه جل�أ ملري�ضة �أخرى لتفهم ق�صتها وتنقلها له‬
‫يف �سرية تامة‪.‬‬
‫ثم ما حدث له بعد �أن ا�ستطاع الربط بني ما حدث لـ«�أمل» وزوجته‪ ،‬لي�س‬
‫ذلك فح�سب بل عا�ش امل�أ�ساة كاملة بكل تفا�صيلها يف كلمات «�أمل» وك�أن‬
‫زوجته قد ُبعثت من جديد واعرتفت له بالعذاب الذي كان يطحنها ويدفعها‬
‫لالنتحار‪.‬‬
‫بكل َمن حوله لأ�سبوع كامل‪ ،‬وعندما ا�ستفاق وجد‬ ‫لقد ظل فاقد ًا لل�شعور ِّ‬
‫«رجاء» تنتظره لتحمل له كل خطط االنتقام التي اتفقنا عليها‪ ،‬و�أولها �أهمية‬
‫�أن ينتظر خروج «ح�سن» من حمب�سه‪ ،‬ثم يبد�أ هو بتنفيذ انتقامه‪.‬‬
‫هذا الوقت �ضروري ج َّد ًا لإبعاد «�أمل» عن دائرة ال�شبهات وللتمويه‬
‫في�صعب �إيجاد الرابط بينهم‪.‬‬
‫الفكرة �أعجبته‪ ،‬و�أنع�شت الرجل امليت بداخله‪ ,‬ولكنه �أراد �أن ي�ضيف‬
‫فكانت هناك عبارة ‪ «..‬ر ّد �شرف»‪ ..‬التي ن َق�شها «ح�سن» على‬
‫ْ‬ ‫َن ْك َهته اخلا�صة‬
‫جثتي «�شاهني و�سيد» ‪ ,‬والتي نق�شها هو بيده على جثة الطبيب‪ ،‬وقد كان من‬
‫ال�ضروري �أن تنق�ش �أي�ض ًا على جثة «رمزي» الهارب كما طلبت «رجاء» ‪.‬‬
‫ولكن ولل�سخرية مل َي َنل «رمزي» موت ًة درام َّية كالتي كان ي�ستعملها ملواجهة‬
‫جميع م�شاكله والتي كان يتقنها على الوجه الأمثل‪.‬‬

‫‪‬‬
‫تالقى �أربعتهم على مبد�أ واحد جمعهم بعد �أن فرقت الثغرات القانونية‬
‫دماء �أحبائهم بني القبائل وح�شرتهم يف عنق الزجاجة ‪.‬‬
‫فلم يجدوا منفذ ًا �سوى تنفيذ العدالة ب�أيديهم ‪« ..‬رد �شرف» ‪ ..‬مل تكن‬
‫جمرد عبارة تنق�ش على �أج�ساد املجرمني‪ ،‬كانت دعوة �إىل كل مظلوم ب�أال‬
‫يرتك نف�سه للموت قهر ًا ‪ ..‬و�أن الق�صا�ص �سي�أتي ولو بعد حني ‪.‬‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬
‫هل ُيعقل �أن �أظل ع�شرة �أيام كاملة �أنظر �إىل تلك ال�صفحة البي�ضاء ال‬
‫�أ�ستطيع �أن �أكتب فيها ولو حرف ًا واحد ًا؟‪ ,‬كتاب كامل طريح نهاية تتوقف على‬
‫ردة فعل �شخ�ص واحد!‪.‬‬
‫ال �أحب ال�شعور بالقلق �أو االحتياج‪� ,‬أكره التوا�صل مع الآخرين ب�شكل‬
‫مبا�شر وبالرغم من ذلك �أجدين م�ضطرة �إىل احلديث مع تلك احلما�سية‬
‫أجن من خلفها � َّأي نفع حتى الآن‪� ,‬إنها حتى مل حتاول �شكري على ما‬
‫التي مل � ِ‬
‫ق َّد ْمته لها!‪.‬‬
‫التقمت �أ�صابعي الهاتف املغلق دائم ًا بجواري‪ ،‬ولن�صف �ساعة كاملة �أراود‬
‫نف�سي و�أحايلها لترتكني �أجري املكاملة الهاتفية املطلوبة ولكنني ف�شلتُ �أي�ض ًا‪,‬‬
‫زحزحة الأهرامات الثالثة �أهون على نف�سي من التوا�صل �صوتي ًا مع َمن هم‬
‫خارج دائرة ر�ؤيتي اليومية!‪ ,‬لذلك �أف�ضل مواقع التوا�صل االجتماعية التي‬
‫تتيح كل �شيء كتابي ًا‪ ..‬حلظة!‪ ..‬كيف مل �أفكر يف هذا الأمر؟‪.‬‬
‫�أغلقتُ �صفحتي البي�ضاء املثرية لأع�صابي وفتحت موقع التوا�صل وكتبت‬
‫لها ر�سالة وانتظرت �أن تراها! ريثما �أحاول ترتيب �أفكاري وفق ًا لِ ا حدث الأيام‬
‫الع�شرة املن�صرمة‪.‬‬
‫لقد تركتني «رجاء» منزعجة عندما ح�ضرت �إحدى املمر�ضات؛ لتخربها‬
‫ب�أن الدكتور «يحيى» قد عاودته �أعرا�ض ارتفاع �ضغط الدم ثانية و�سقط �أر�ض ًا‬
‫‪‬‬
‫بينما �ضيفه املنزعج الذي كان ي�شاركه غرفة املكتب وقتها ي�ساعد طبيب ًا �آخر‬
‫يف حمله �إىل الأريكة‪.‬‬
‫يف اليوم التايل �أخربتني ب�أن «عا�صم» ظل مالزم ًا لـ «يحيى» حتى مت نقله‬
‫�إىل غرفة خا�صة ليتلقى الرعاية والعالج الالزم‪.‬‬
‫قالت يل‪� :‬إ َّنه كان يقف م�ستند ًا �إىل اجلدار البعيد يف الغرفة ينظر له‬
‫بنظرة غريبة مل ت�ستطع هي تف�سريها‪ ,‬بينما الأطباء من حوله يتهام�سون‬
‫ب�أن تلك احلالة وا َتتْه من قبل ب�شكل �أكرث خطورة‪ ,‬و�أنه يظهر عليه عالمات‬
‫اال�ضطراب النف�سي ولذلك �سيتم رفع الأمر �إىل �إدارة امل�صحة‪ ,‬ويف هذه‬
‫احلالة �ستتم �إحالته �إىل �أحد الأ�ساتذة الكبار يف جمالهم ليقول كلمته الأخرية‬
‫يف �ش�أنه!‪.‬‬
‫وان�صرف «عا�صم» بعدها ومل يعد‪ ,‬كنتُ �أظنه �سينتظر حتى ي�سرتد «يحيى»‬
‫عافيته ليتحرك ر�سمي ًا وتهتز معه املياه الراكدة‪ ,‬ولكنه مل يفعل‪.‬‬
‫�أول �أم�س‪� ..‬أعدت «�أمل» حقيبتها لتعود �إىل منزلها‪ ,‬بينما ح�ضر الدكتور‬
‫«يحيى» ليودعنا‪ ,‬فلقد ح�صل على �إجازة طويلة كما �أم َرتْه �إدارة امل�صحة حتى‬
‫يت�أكدوا من �سالمته النف�سية‪.‬‬
‫ال‪ ..‬لقد كان يودعني �أنا فقط‪� ,‬أما فهي‪ ,‬فقد كانت تنظر له منذ �أن دخل‬
‫الغرفة وك�أنهما على موعد مل يخلفه‪ ,‬كانت مت�أنقة للغاية‪ ,‬تطلي �شفتيها بلون‬
‫الكريز وتبت�سم لعينيه املت�أملة حلالتها الكرزية تلك‪.‬‬
‫رمبا تذوقتم الكريز يوم ًا ما‪� ,‬أما هو‪ ..‬فقد �سعى �إليه الكرز بنف�سه‪ ,‬يتحدث‬
‫معه لدقائق كال�ساعات‪ ,‬ودون �أن يدري؛ �أطعمه ح َّباته ح َّب ًة ح َّبة‪ ..‬ح َّبة �أمل‪..‬‬
‫وح َّبة ا�شتياق‪ ..‬وح َّبة ال توقف فيها وال انتهاء!‬
‫‪‬‬
‫وعادت الغرفة يل وحدي‪� ,‬أفتح عيني �صباح ًا على وجه «رجاء» املبت�سم‪ ,‬ثم‬
‫�أ�ستمع جمربة �إىل ن�شرة �أخبارها ال�صباحية عن �صحة ال�سيدة «جليلة» التي‬
‫بد�أت بالتح�سن ولذلك هي �سعيدة‪ ,‬وعن «ح�سن» الذي ي�سعى جاهد ًا؛ ليقف‬
‫على قدميه من جديد‪ ,‬و «غفران» التي تق�ضي وقتها بني درا�ستها �صباح ًا التي‬
‫عادت �إليها ولكن منزل َّي ًا فقط‪ ,‬وبني زيارة والدتها بعد الظهرية‪ ..‬وبني ر�سالة‬
‫«ح�سن» الذي ير�سلها لها يوم َّي ًا وقت الغروب ي�شاك�سها دون �أن ي�س�أم منها‬
‫« انتبهي ملذاكرتك يا فا�شلة»‪ ..‬لتجيب هي عليه بنف�س الر�سالة املكررة التي‬
‫جتعله يبت�سم؛ وال �أحد غريها قادر على ذلك «تركنا لك النجاح يا ب�شمهند�س»‪.‬‬
‫نغمة رنني‪� ،‬إ�شعار و�صول ر�سالة جعلني �أدفع �أفكاري جانب ًا‪ ,‬لقد قر� ْأت‬
‫ر�سالتي وقامت بالرد‪ ,‬وليتها مل تفعل‪ ,‬لقد كانت حروف ر�سالتها تن�ضح‬
‫باحلرية �أكرث مني بكثري‪ ,‬فلقد كتبت يل تقول ‪:‬‬
‫وكنت‬ ‫�أو ًال‪ِ � :‬‬
‫أ�شكرك يا ر�ؤى على املعلومات الغزيرة التي قدمتها يل‪ِ ..‬‬
‫حري�صة على �أن �أنقلها لزوجي‪ ..‬ولكنه‪ ..‬عاد من اخلارج بعد غياب‬
‫النهار ب�أكمله ليخربين ب�أن �أن�سى الق�صة‪ ..‬واحلقيقة �أنا حائرة من‬
‫ردة فعله هذه فهي غريبة عليه‪.‬‬
‫�صمت و�أنا �أقر�أ ما كتبته مرة بعد مرة‪,‬‬
‫�صدمتني فلم �أجد ما �أقوله لها‪ُّ ,‬‬
‫ويبدو �أن �صمتي �أقلقها ف�أر�سلت ترب�أ �ساحة زوجها قائلة‪:‬‬
‫لك �سابق ًا هي‬
‫�أعتقد �أن الهزة التي تعر�ض لها يف عمله كما حكيت ِ‬
‫ال�سبب يف حالته تلك‪ ..‬لقد جعلوه يتعلم در�سه بالطريقة ال�صعبة‪..‬‬
‫لقد �أ�صبح م�ضطهد ًا يف الوزارة‪ ..‬و�أنا �ضمريي ي�ؤنبني ب�شدة؛ لأن‬
‫التحقيق ال�صحفي الذي قمت بكتابته هو ال�سبب يف كل ما حدث‪.‬‬

‫‪‬‬
‫بد�أت �أ�ش ُعر بال�س�أم من اجلميع‪ ,‬لقد توقعت �أن تكون عالقتي بـ «�أروى»‬
‫ذات نفع منذ �أن تعرفت عليها‪ ,‬فهي التي �س َعت �إ َّ‬
‫يل بحما�سها املعتاد وهي‬
‫مبهورة بتجربتي الفريدة من نوعها كزميلة ملهنتها �أكتب للنا�س من خلف‬
‫�أ�سوار م�صحة نف�سية‪� ,‬أ�شادت بي كثري ًا وبد�أت ترا�سلني ك�أ�صدقاء‪َّ ,‬‬
‫فق�صت‬
‫علي حكاية �صديقتها «فنار» كنموذج لزوجة ا�ستطاعت العودة بزوجها من‬ ‫َّ‬
‫طريق ال�شهوات �إىل الطريق القومي‪.‬‬
‫مل �أكن �أمنح لها كثري ًا من االهتمام حتى بد�أت حتكي يل عن م�شاكلها مع‬
‫«عا�صم» زوجها ال�صارم العا�شق للروتني يف عمله‪ ,‬ومدى التناق�ض بينهما‪.‬‬
‫ا�ستطعت �أن �أميزه و�أعرف ب�أنه هو نف�سه الذي تتكلم عنه «رجاء» وت�شرح‬
‫يل بحرية التناق�ض بني �شخ�صيته وبني معاملته املختلفة لل�سيدة «جليلة»‬
‫وتعاطفه معها‪.‬‬
‫ولكن مباذا �أفادين كل هذا؟‪ ,‬فلقد خذلني «عا�صم» بردة فعله الغريبة‬
‫التي كنت �أعتمد على عك�سها متام ًا يف و�ضع النهاية املنا�سبة‪.‬‬
‫جماعات‪,‬‬
‫ٍ‬ ‫زفرت حانقة ونه�ضت نحو النافذة �أرقب الطيور املحلقة يف‬
‫�سرب من َّم ٌق ل�صورة تزعجني دون �أن �أعرف ال�سبب‪ ,‬ال �أفهم كيف ي�شعرون‬
‫ٌ‬
‫بالراحة وهم جمتمعون هكذا؟‪ ,‬حتى الطيور ت�ضطهدين جمتمعة �أمام �سماء‬
‫نافذتي‪ ,‬كم �أغبط تلك ال�سحابة الوحيدة هناك!‪� ,‬أظنها ت�شعر بخ�صو�صية‬
‫�أكرب مما �أ�شعر بها الآن‪.‬‬

‫ر�ؤى‪!.‬‬

‫‪‬‬
‫لدي؟‪ ,‬الوهم الوحيد‬
‫�صوت َّ‬ ‫التفت من فوري‪ ,‬كيف يل � َّأل �ألتفت وهو � ُّ‬
‫أحب ٍ‬ ‫ُّ‬
‫الذي ال �أطرده من عقلي‪ ,‬وال �أناديه بال�شبح حتى �إن ا�ستقرت الأ�سياخ‬
‫احلديدية يف عنقه النازفة‪:‬‬
‫�أبي‪ ..‬مل ت�أ ِتني منذ مدة طويلة‪! .‬‬
‫نظر يل م�ؤ ِّنب ًا‪ ,‬ولكنه مل يتخ َّل عن �صوته احلنون قائ ًال‪:‬‬
‫ملاذا تلعبني دور ال�شريرة يا ابنتي؟‪ ..‬ملاذا تريدين لهم التعا�سة؟!‬
‫مل �أطرق بر�أ�سي‪ ,‬مل �أ�شعر بالندم ولو للحظة‪ ,‬حتى وهو يقف �أمامي وقفته‬
‫ال�ضبابية تلك‪ ,‬وا�ضع ًا يديه خلف ظهره‪ ،‬ولونه �شاحب‪ ,‬حاولت �أن �أقرتب منه‬
‫ولكن كالعادة مل �أ�ستطع مل�سه‪ ,‬يف كل مرة يوقفني وين ِّبهني �إىل �أنه يف عقلي‬
‫فقط‪ ,‬لأرجع مكاين ثانية‪ ,‬كما فعلت الآن و�أنا �أحاول �أ�شرح له‪:‬‬
‫�أبي‪� ..‬أنا ل�ستُ �شريرة‪ ،‬وال �أرغب بتعا�ستهم‪� ..‬أنا فقط �أرى �أن �سعادتهم‬
‫التي يعي�شون فيها الآن ما هي � َّإل �سعادة �شخ�صية زائلة‪ ..‬نعم �ستزول‬
‫ولن يبقى لها �أث ٌر يف وجدان املجتمع‪� ..‬أما ما يجعلها خالدة‪ ..‬فهو‬
‫النهاية امل�أ�ساوية‪ ..‬التي تثري الدماء يف العروق‪ ..‬التي جتعلنا نفكر!‬
‫زم �شفتيه برف�ض لِ ا ي�سمع‪ ,‬واختفى من �أمامي فج�أة كما ح�ضر فج�أة‪,‬‬ ‫َّ‬
‫احلنني متلكني و�أنا �أنظر يف �أثر �ضبابه املتال�شي‪ ,‬وا�ستدرت ثانية نحو ال�سحابة‬
‫الوحيدة مل �أجدها‪ ,‬لقد اختفت مثله متام ًا‪ ،‬وتركتني �أعاين تلك الأ�سراب التي‬
‫تغزو خيوط ال�شفق وتتالعب بها بتلك اخلطوط املنحنية التي ت�صنعها‪.‬‬
‫حانت مني التفاتة نحو حا�سوبي ال�ساكن هناك ينتظرين‪� ,‬س�أنتظر مثله‬
‫ولن �أ�ضع النهاية الآن‪ ,‬ال زال الأمل يراودين يف نهاية خالدة تهز �أرجاء‬
‫املجتمع‪.‬‬
‫‪‬‬
‫الزلت �أعتقد ب�أن احلياة احلقيقية لي�ست هي تلك اللحظات اللطيفة التي‬
‫نق�ضيها �أمام جهاز تلفاز جنتمع حوله يف هدوء‪ ,‬ثم نطفئ الأنوار ونذهب‬
‫للنوم‪..‬‬
‫بل هي تلك التي نق�ضيها بداخل �س َّيارة م�سرع ٍة ن�صرخ من الن�شوة املغ َّلفة‬
‫باخلطر واخلوف بينما الهواء ي�ضرب وجوهنا بال رحم ٍة ‪ ..‬حلظاتٌ تقطع‬
‫الأنفا�س !‪.‬‬

‫‪y‬‬
‫متت بحمد اهلل‬

‫‪y‬‬

‫‪‬‬


‫َ َ ٌ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ ْ َ َّ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫كْ‬‫ََ ُ‬
‫اب لعلكم تتقون }‬ ‫ول األل ِ‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫اة‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫اص‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫{ ول‬

‫‪‬‬

‫�إذا ما ا ُ‬
‫جلر ُح َر َّم على ف�سـ ــا ٍد‬
‫بيب‪.‬‬‫الط ِ‬ ‫تبي فيـ ــه تفري ـ ُـط َّ‬
‫َّ َ‬

‫‪‬‬

‫ووقت‬
‫جهد ٍ‬‫خال�ص ال�شكر والتقدير لفريق املراجعة؛ ملا بذلوه من ٍ‬
‫أح�سن �صور ٍة قدر امل�ستطاع‪.‬‬
‫يف �سبيل �إخراج العمل على � ِ‬
‫الكاتب الروائي ‪ :‬د ‪� .‬أحمد ال�سعيد مراد‬

‫الطبيب النف�سي ‪ :‬د ‪ .‬حممد ف�ؤاد‬

‫امل�ست�شار القانوين ‪� :‬أ ‪� .‬أ�سامة الوح�ش‬

‫القارئة املخ�ضرمة ‪� :‬أ ‪� .‬صفاء �شعالن‬

‫‪‬‬


You might also like