Professional Documents
Culture Documents
إلى كادي
كهمة
ٌا من تبحث عن معنى الحٌاة فً الموت،
ستجده اآلن فً هواء كان ٌومًا أنفاسًا فانٌة.
أسماء جدٌدة ؼٌر معروفة تؤتً ،وأسماء قدٌمة تتبلشى،
إلى أن تفنى األجساد ،وتبقى األرواح.
فاؼتنم وقتك فً أثناء حٌاتكٌ ،ا من تقرأ هذه السطور!
واجعله طرٌقك نحو الخلود.
للبارون بروك فولكه جرٌفٌل من قصٌدة " " Caelica 83
مقدمة
إبراهام فٌرجٌس
خطر ببالً -بٌنما أكتب هذه الكلمات -أنه من األفضل اعتبار مقدمة هذا الكتاب
خاتمة؛ فعندما نتحدث عن بول كوالنثً ٌنقلب الشعور بالوقت رأسًا على عقب،
وكبداٌة للعبلقة (أو لنقل كنهاٌة لها) ،فإننً لم أعرؾ بول حق المعرفة إال بعد وفاته،
أو بعبارة أخرى (واعذرونً فً هذا االرتباك) عرفته عن قرب عندما رحل عن
عالمنا.
قابلت بول فً جامعة ستانفورد بعد ظهر ٌوم ال ٌُنسى فً بداٌة شهر فبراٌر عام
مقاال فً جرٌدة نٌو ٌورك ،٤١٠٢وفً ذلك الوقت ،حٌث كان قد نشر من فوره ً
تاٌمز
وهو المقال الذي لقً استجابة كبٌرة How Long Have I Got Left ? ،بعنوان
جدا؛ (ولكونًمن القراء ،وفً األٌام التالٌة ذاع صٌت المقال على نطاق واسع ً
طبٌبًا متخصصًا فً األمراض المُعدٌة ،اسمحوا لً بؤال أستخدم تعبٌرً ا انتشر بشكل
فٌروسً كتشبٌه) .بعد ذلك طلب الطبٌب بول كوالنثً مقابلتً والتحدث إلًَّ ،
وطلــب نصــٌحتً فٌمــا ٌتعلــق بـالوكبلء األدبـٌٌن ،والمحـررٌن ،وعملٌـة النشـر؛
فقـد كـان ٌـرؼب فـً تـؤلٌؾ كتـاب؛ وبالتحـدٌد هـذا الكتـاب الـذي تحملـه بـٌن ٌـدٌك
اآلن.
أتــــذكر حٌنــــها أشــــعة الشــــمس ،وهــــً تتخلــــل شــــجرة المــاجنولٌا التــً
تطــل علٌــها نافــذة مكتبــً لتمنــح المشــهد إضــاءة ممــٌزة ،بٌنمــا كــان بــول
جــالسًا أمــامً ،بٌــدٌه
الجمٌلتٌن فً ثبات كامل ،ولحٌته التً تشبه لحى الحكماء ،بٌنما كانت عٌناه الداكنتان
تتفحصاننً .أتذكر أن صورته تلك كان لها فً دقتها ووضوح تفاصٌلها
طابع لوحات الرسام الهولندي فٌرمٌر ،كما أتذكر أننً قلت لنفسً" :ال بد من أن
تبقى هذه اللحظة فً ذاكرتك" ؛ ألن ما رأٌته كان نفٌسًا للؽاٌة ،كذلك فإنه من
خبلل تشخٌص مرض بول ،لم أدرك فقط أنه سوؾ ٌموت ،بل كان تذكرة لً بحقٌقة
الموت التً حتمًا سؤواجهها أنا أٌضًا.
تحــدثنا مــعًا عــن كثــٌر مــن األمــور فــً ذلــك الــٌوم؛ حــٌث كــان بــول
جــراح أعصــاب مقــٌمًا؛ لــذا ربمــا تبلقــت مســاراتنا المــهنٌة فــً مرحلــة مــا،
لكننــا لـم نتـذكر أي مرضـى
مشتركٌن بٌننا ،وأخبرنً كذلك بؤنه تخصص فً دراسة اللؽة اإلنجلٌزٌة ،وعلم
األحٌاء ،فً جامعة ستانفورد ،ثم أكمل دراسته حتى حصل على درجة الماجستٌر
فً
األدب اإلنجلٌزي ،كما تحدثنا عن ولعه الدابم بالقراءة والكتابة .ولقد فوجبت بحقٌقة
ً
أستاذا فً اللؽة اإلنجلٌزٌة ،وبالطبع أنه كان بإمكانه بكل سهولة أن ٌصبح
بدا أنه كان سٌسلك هذا الطرٌق فً فترة ما من حٌاته ،لكنه قرر فجؤة أن ٌتخصص
بدال من ذلك .وهكذا أصبح بول طبٌبًا ،لكنه ظل ٌحلم فً جراحة األعصاب ً
مثبل؛ فقد ظن أن أمامهبالعودة إلى األدب بطرٌقة ما؛ بتؤلٌؾ أحد الكتب ٌومًا ما ً
متسعًا من الوقت ،وأنه لم ٌكن هناك ما ٌمنعه من تحقٌق حلمه ،ولكن الوقت
المتبقً من عمره لم ٌكن كافًٌا.
ما زلت أتذكر ابتسامته الساخرة ،الودٌعة ،التً لم تخ ُل من قلٌل من المكر ،ورؼم أن
نحٌبل وشاحبًا؛ فقد كان ٌصارع مرض السرطان ،ولكن جسده ً وجهه كان
كــان قــد اســتجاب بشــكل جٌــد لنــوع جــدٌد مـن العـبلج البـٌولوجً؛ مـا أعطـاه
بعـض األمـل فـً المسـتقبل ،وأخبـرنً بؤنـه فـً أثنـاء دراسـته فـً كلٌـة الطـب
كـان ٌظـن أنـه
نفســٌا ،ولكنــه وقــع فــً حــب جراحــة األعصــاب .ولــم تنبــعً ســٌصبح طبــٌبًا
رؼبتــه فــً سـلوك هـذا المسـار مـن مجـرد حبـه التكـوٌن المعقـد للمـخ ،وال مـن
شـعوره بالرضـا
لتدرٌب ٌدٌه على تحقٌق إنجازات هابلة ،بل كانت نابعة من حبه للمرضى وتعاطفه
معهم ،وما ٌعانونه من ألم ،وما ٌمكنه فعله ألجلهم .وال أظن أن بول أخبرنً
بهذه السمة فٌه بقدر ما أظن أننً قد سمعت طبلبً الذٌن عملوا معاونٌن له ٌتحدثون
فً هذا الشؤن؛ فقد كان ٌإمن بشدة بالبعد األخبلقً لوظٌفته ،وبعد ذلك
تحدثت معهم عن احتضاره.
اســتمررت فــً التواصــل معــه عبــر البرٌــد اإللكتــرونً بعــد هــذه المقابلــة،
لكننــا لــم نلتــق مباشــر ًة ثانٌــة .ولــم ٌكــن الســبب فــً هــذا هـو كثـرة مشـاؼلً
فـً المواعٌـد النـهابٌة
والمسبولٌات فحسب ،بل كان لديَّ شعور قوي بضرورة احترام وقته؛ فتركت له
الحرٌة فً أن ٌزورنً أو ال ،وكان ذلك لشعوري بؤن آخر ما ٌحتاج إلٌه بول فً
ذلك
الوقت هو إلزام نفسه بصداقة جدٌدة ،ومع ذلك كنت أفكر فً حاله وحال زوجته
كثٌرً ا ،وأردت أن أسؤله عما إذا كان عاك ًفا على تؤلٌؾ كتابه ،وإذا ما كان لدٌه
الوقت الكافً لذلك؛ فلقد كنت أجاهد طوال سنوات كثٌرة إلٌجاد الوقت الكافً كً
أكتب؛ لكونً طبٌبًا كثٌر المشاؼل .كما أردت أن أخبره بما قاله لً أحد الك َّتاب
المشهورٌن فً أحد األٌام تعبٌرً ا عن هذه المشكلة األبدٌة" :لو كنت جراح أعصاب،
واعتذرت إلى ضٌوفً إلجراء (جراحة فتح جمجمة) عاجلة ألحد المرضى ،لما كان
علًَّ حرج ،أما إذا قلت لهم إننً مضطر إلى تركهم فً ؼرفة الجلوس ألصعد إلى
ؼرفتً كً أكتب " ...؛ لكننً ال أعلم ما إذا كان بول سٌجد هذا التعلٌق مضح ًكا
أم ال؛ ففً النهاٌة ٌمكنه بالفعل أن ٌعتذر إلى ضٌوفه بحجة إجراء جراحة عاجلة
بدال من ذلك.ألحد المرضى! فهذا معقول بحكم طبٌعة عمله! ثم ٌذهب لٌكتب ً
مقاال قصٌرً ا رابعًا فً مجلة ستانفورد مٌدٌسن وفً أثناء تؤلٌؾ بول هذا الكتاب ،نشر ً
فً عدد خاص عن موضوع الوقت .وقد كان لً فً العدد نفسه مقال منشور
بمحاذاة مقاله ،لكننً لم أكن أعلم بمساهمته هذه إال بعد أن صدر العدد ،وأمسكت
المجلة بٌدي ،وبٌنما كنت أقرأ مقال بول ،الحظت شٌ ًبا كان قد أ ُ ْلمح له من
قبل فً جرٌدة نٌوٌورك تاٌمز ،وهذا الشًء هو أن أسلوبه فً الكتابة كان شدٌد
الروعة؛ حٌث كان ٌستطٌع أن ٌكتب فً أي موضوع ،وٌكون ألسلوبه األثر القوي
نفســه! لكنــه لــم ٌكــن ٌكتــب فــً أي موضــوع؛ إذ كــان ٌكتــب عــن الــوقت
ومــا صــار ٌعنٌــه بالنســبة إلٌــه فــً تلــك المرحلــة ،فــً ظــل ظــروؾ
مرضــه؛ مـا جعـل المقـال مثـٌرً ا
للمشاعر بشكل ال ٌصدق.
كان هناك ما ٌجب أن أشٌر إلٌه مرة أخرى ،وهو أسلوب بول الذي ال ٌُنسى فً
كتابة هذا المقال ؛ حٌث بدا كؤنه ٌنسج حرو ًفا من ذهب.
محاوال فهم األثر الذي تركه فً نفسً ،ووجدته ً أخذت أقرأ المقال مرة بعد أخرى،
إٌقاعٌا؛ فقد كانت كلماته ذات طابع قرٌب من قصٌدة نثرٌة كتبها الشاعر ً ً
أوال
جالواي كٌنٌل سمعته ٌلقٌها ذات مرة فً مكتبة بمدٌنة أٌوا دون االستعانة باألوراق،
وكانت كلماتها تقول" :إذا حدث ٌومًا ما ووجدت نفسك مع من تحب فً
إحدى الزواٌا بجسر مٌرابو فً مقهى زٌنك حٌث تؤلألت المشروبات فً كبوس
مترعة "...؛ لكن كان لكلمات بول مذاق شًء آخر -شًء من طراز عتٌقٌ ،عود
إلى ما
قبــل عصــر مقــهى زٌنــك .وبعــدها بــؤٌام قلٌلــة حــٌن تعمقــت فــً قــراءة
المقــال مـرة أخـرى ،توصـلت إلـى ذلـك الشـًء؛ حـٌث ذكـرتنً طرٌقـة كتابـة بـول
النثرٌـة بكتـابات
الشاعر توماس براون النثرٌة .كان توماس قد ألؾ كتابًا عام ٠٤٢٤بعنوان
شابا ،كنت Religio Medici ٌتسم بهذا األسلوب الكبلسٌكً .عندما كنت طبٌبًا ً
مولعًا
بهذا الكتاب ،وعكفت على دراسته وفهمه ،لكننً كنت كفبلح ٌحاول تجفٌؾ مستنقع
فشل والده فً تجفٌفه من قبل؛ فلم تكن المهمة ذات جدوى ،لكننً كنت
بحاجة ماسة إلى معرفة أسرار ذلك الكتاب ،مقلبًا إٌاه بٌن ٌدي فً إحباط ،قبل أن
أعٌد التقاطه مجد ًدا ،ولم أكن على ٌقٌن بؤن هذا الكتاب سٌنفعنً بشًء؛ لكن
وقــــع الكلمــــات كــان ٌشــعرنً بــذلك ،كمــا كنــت أشــعر بــؤننً أفتقــر إلــى
الحــس النقــدي الــذي أحتــاج إلٌــه ،حتــى تكشــؾ الحــروؾ عــن نفســها لــً؛
فتعطــٌنً معنــاها
الحقٌقً ،لكن ظل ذلك النص ؼامضًا بالنسبة إلًَّ ،مهما حاولت فهمه.
Religio Mediciقد تسؤلنً لماذا؟ لماذا أصررت على فهم النص؟ فمن ٌهتم بكتاب
؟
حســ ًنا ،كــان بطلــً وٌلٌــام أوســلر ٌفعــل ذلــك ،وأوســلر هــو أبـو الطـب
الحـدٌث ،وقـد توفـً عـام ،٠١٠١وكـان ٌعشـق هـذا الكتـاب ،وٌحتفـظ بـه علـى
المنضـدة الموضـوعة
بجانب فراشه ،حتى إنه طلب أن تدفن معه نسخة من هذا الكتاب .وفً الحقٌقة ،لم
أفهم قط ما رآه أوسلر فً هذا الكتاب ،ولكن بعد محاوالت عدٌدة -على مدار
عدة عقود -كشؾ لً الكتاب عن أسراره أخٌرً ا( ،وقد ساعدنً على ذلك صدور
طبعة جدٌدة بتهجبة حدٌثة) ،كما اكتشفت أن سر كلمات هذا الكتاب ٌكمن فً أن
عال:
عال ،ما ٌجعل اإلٌقاع الزمًا ،وال مفر منه؛ فتقول بصوت ٍ تقرأها بصوت ٍ
"نحمل فً داخلنا العجابب التً نبحث عنها فً الخارج .مع وجود قدر من األعاجٌب
كاملة ،وكل ما فٌها من سحر؛ فنحن البشر نمثل الجانب ً داخلنا بحجم قارة أفرٌقٌا
الجريء والمؽامر من الطبٌعة؛ وهو ما ٌُم ِّكن من ٌدرس طبٌعتنا عن كثب من
معرفة الكثٌر بكل سهولة عن شًء ما ،أكثر من اطبلعه على مجرد ملخص ،بٌنما
ٌقرأ اآلخرون كتبًا ال تحصى لمعرفة الشًء نفسه"؛ لذلك عندما تصل إلى آخر
عال ،وسوؾ تسمع السطر الطوٌل ذاته ،وتجد فقرة فً كتاب بول ،اقرأها بصوت ٍ
ذلك اإلٌقاع الذي تحس بالرؼبة فً أن تنقر على األرض بقدمٌك معه ...لكنك ال
تفعل ،كما هً الحال فً قصٌدة براون؛ ولهذا السبب خطر ببالً أن قصٌدة بول
النثرٌة هً استحضار لقصٌدة براون( ،أو باعتبار حقٌقة أن تقدم الوقت مجرد
وهم فً أذهاننا فحسب؛ ربما تكون قصٌدة براون النثرٌة استحضارً ا لقصٌدة بول
كوالنثً .نعم ،إنه أمر محٌر).
توفــً بــول بعــد ذلــك ،وحضــرت مراســم تؤبٌنــه فــً قاعــة مناســبات جامعــة
ســتانفورد ،وهــً مكــان جمٌــل أذهــب إلٌــه كثــٌرً ا ،حٌنمــا ٌكــون خـالًٌا؛
ألجلـس وأسـتمتع
بالضــــوء ،والــــهدوء ،وأشــــعر بــــانتعاش روحـــً ،وقــد امتــؤلت الســاحة
بالحضــور عــن آخرهــا ،فجلســت فــً أحــد الجــوانب أســتمع إلــى ســلسلة مــن
القصــص المإثــرة -
والصاخبة أحٌا ًنا -من أصدقاء بول المقربٌن ،وأخٌه .نعم ،لقد رحل بول عن عالمنا،
حقا أكثر مما عرفته من خبلل لكن الؽرٌب هو شعوري بؤننً بدأت أعرفه ً
زٌارته لمكتبً ،أو قراءتً للمقاالت القلٌلة التً كتبها ،وبدا لً كؤنه ٌتشكل فً تلك
القصص التً حكاها الحاضرون فً ساحة الجامعة -ذلك المكان العرٌق ذو القبة
العالٌة ،الذي ٌناسب تؤبٌن هذا الرجل الذي وارى جسده الثرى ،ولكنه ال ٌزال ً
حٌا
بشكل واضح .وقد تجسدت صورة بول أمامً فً زوجته وطفلته الجمٌلتٌن،
وفً أبوٌه وإخوته المحزونٌن ،وفً وجوه جموع األصدقاء والزمبلء ،والمرضى
القدامى الذٌن مؤلوا المكان ،كما كان حاضرً ا الح ًقا فً قاعة االستقبال بالخارج فً
مكان
تجمع فٌه الكثٌر من الحضور؛ حٌث رأٌت وجوهًا هادبة مبتسمة ،كؤنها قد أحست
بشًء جمٌل للؽاٌة ،وربما بدا وجهً كذلك أٌضًا ،فلقد مست مراسم تؤبٌن
بول قلوبنا جمٌعًا؛ ما جعل دموعنا تنهمر ،كما كان هناك معنى أعمق لهذا التؤبٌن؛
حٌث ارتوى ظمؤ أرواحنا ،وهدأت جوانحنا ،وتحدثنا إلى ؼرباء ارتبطنا بهم
ً
ارتباطا وثٌ ًقا من خبلل عبلقتنا ببول.
وما إن تسلمت هذه الصفحات التً بٌن ٌدٌك اآلن ،بعد وفاة بول بشهرٌن ،حتى
شعرت بؤننً بدأت أعرفه بطرٌقة أفضل من التً كنت سؤعرفه بها إذا كنت قد
حظٌت بشرؾ صداقته .وبعد قراءتً الكتاب الذي أنت بصدد قراءته اآلن ،أعترؾ
بؤننً شعرت بؤننً شخص ضبٌل؛ فقد كانت كلماته صادقة وحقٌقٌة بدرجة
خطفت أنفاسً.
استعد ،وجهز نفسك ،وتعلم كٌؾ تكون الشجاعة عندما تكتشؾ نفسك بهذه الطرٌقة.
حٌا ،وٌكون لك بالػواألهم من ذلك كله ،تعلم كٌؾ ٌمكنك أن تبقى ً
األثر فً حٌاة اآلخرٌن بعد رحٌلك ،من خبلل كلماتك؛ ففً ظل عالم التواصل ؼٌر
المتزامن الذي نعٌش فٌه الٌوم؛ حٌث ندفن رءوسنا فً الشاشات ،ونحدق إلى
األجهزة مستطٌلة الشكل المهتزة بٌن أٌدٌنا ،وتستنفد األشٌاء العابرة انتباهنا ،أود منك
أن تتوقؾ وتستشعر هذا الحوار مع زمٌلً الشاب الراحل ،الذي ال ٌزال
حٌا وباقًٌا فً ذاكرتنا الٌوم .أود منك أن تستمع إلى حدٌث بول ،وتنصت لما ستقول ً
فً فترات الصمت الواقعة بٌن كلماته ،فهنا تكمن رسالته التً فهمت فحواها،
ً
حاببل والتً أرجو أن تصل إلٌك كذلك ،فهً هدٌة من بول إلٌك؛ لذا دعنً ال أقؾ
بٌنك وبٌنه أكثر من ذلك.
تمهيد
كان وٌبستر مولعًا بالموت
فكان ٌرى الجماجم فً الوجوه،
والمخلوقات ببل صدور ومدفونة تحت األرض،
منحنٌة إلى الخلؾ ومبتسمة بشفاه متحللة.
من قصٌدة "Whispers of Immortalityلـ تً .إس .إلٌوت"
قلبت صور األشعة المقطعٌة؛ حٌث كان التشخٌص واضحً ا؛ فالربتان مؽطاتان بعدد ُ
ال ٌحصى من األورام ،والعمود الفقري مشوه ،مع تلؾ فص كامل من
الكبــد ،إلـى جـانب انتشـار السـرطان علـى نطـاق واسـع .كنـت جـراح أعصـاب
مقـٌمًا ،علـى وشـك إنـهاء سـنوات التـدرٌب ،وعلـى مـدار السـنوات السـت
الماضـٌة ،فحصـت
عشرات الصور المماثلة ،لعلً أتخذ إجرا ًء قد ٌساعد المرٌض ،لكن هذه األشعة
كانت مختلفة؛ فهً صورة األشعة الخاصة بً.
لم أكن مرتدًٌا الحلة الطبٌة الخضراء ،أو المعطؾ األبٌض ،بل كنت أرتدي ثوب
المرٌض ،بٌنما اتصلت ذراعً بؤنبوب المحلول الورٌدي ،مستخدمًا جهاز الكمبٌوتر
الذي تركته الممرضة فً ؼرفتً بالمستشفى ،وإلى جانبً زوجتً لوسً طبٌبة
الباطنة .وتفحصت صور األشعة مرة أخرى؛ فها هً ذي صورة الربة ،وصورة
العظام،
وصورة الكبد ،محر ًكا الصور من األعلى إلى األسفل ،ومن الٌسار إلى الٌمٌن ،ومن
األمام إلى الخلؾ ،كما تدربت بالضبط ،وكؤننً سؤجد شٌ ًبا ٌؽٌر التشخٌص.
نصاكنا نجلس معًا على سرٌر المستشفى ،عندما قالت زوجتً بهدوء ،وكؤنها تقرأ ً
مكتوبًا:
"هل هناك احتمالٌة -فً رأٌك -ألن ٌكون هناك تشخٌص آخر؟".
فؤجبتها ً
قاببل" :ال".
بعدها عانق كل منا اآلخر بشدة؛ فخبلل السنة الماضٌة كنا نشك فً أن هناك ورمًا
سرطانٌا ٌنمو فً داخلً ،لكننا رفضنا أن نصدق هذا ،أو أن نناقش المسؤلة. ً
ولكن قبل نحو ستة أشهر بدأت أفقد الوزن ،وأشعر بؤلم شدٌد فً ظهري .وعندما
ارتدٌت مبلبسً فً الصباح ،الحظت أن حزامً صار أكثر اتساعًا؛ ما اضطرنً
إلى
تضــٌٌقه بمقـدار ثقـب أو اثنـٌن؛ فـذهبت إلـى اسـتشارة طبٌبـة الرعاٌـة األولٌـة؛
وهـً زمٌلـة دراسـة قـدٌمة فـً جامعـة سـتانفورد ،وقـد كـانت شـقٌقتها جراحـة
أعصـاب
متدربة ،لكنها توفٌت فجؤة بعد إصابتها بعدوى خبٌثة؛ لذلك كان حس األمومة ٌتملك
الطبٌبة وهً تتابع حالتً ،لكن عندما وصلت إلى العٌادة ،وجدت طبٌبة
أخرى فً مكتبها ،واتضح أن زمٌلتً فً إجازة لرعاٌة طفلها.
مهلهبل ،وتمددت على طاولة الفحص الباردة ،ثم وصفت ما لديَّ ً ارتدٌت ثوبًا أزرق
ً
سإاال فً أحد امتحانات من أعراض للطبٌبة ،وقلت لها" :بالطبع إذا كان هذا
كلٌة الطب :شاب فً الخامسة والثبلثٌن من العمرٌ ،عانً فقدان الوزن وألمًا مبرحً ا
فً الظهر لسبب مجهول؛ فستكون اإلجابة الصحٌحة (ج) سرطان؛ لكن ربما
ٌكون السبب هو إجهاد العمل ،ال أعرؾ؛ لذا أود الخضوع للتصوٌر بؤشعة الرنٌن
المؽناطٌسً ،حتى أتؤكد من السبب".
أوال" ،وعللت ذلك بؤن فقالت الطبٌبة" :أعتقد أن علٌنا تجربة األشعة السٌنٌة ً
التصوٌر بؤشعة الرنٌن المؽناطٌسً فً حاالت آالم الظهر مكلؾ للؽاٌة ،كما أصبح
تجنــب التصــوٌر باألشــعة ؼــٌر الضــروري مإخــرً ا مــن أهــم مــا تــدعو إلٌــه
الــدولة توفــٌرً ا للنفقــات؛ ولكــن فــً الــوقت نفســه تعتمــد قٌمــة الفحـص علـى
مـا تبحـث عنـه؛
فاألشعة السٌنٌة ؼٌر مجدٌة فً حاالت السرطان ،ومع ذلك ال ٌزال العدٌد من
األطباء ٌعتبرون طلب صور أشعة بالرنٌن المؽناطٌسً فً هذه المرحلة المبكرة
نوعًا
من أنواع المبالؽة ،ثم أكملت حدٌثها قابلة" :األشعة السٌنٌة لٌست دقٌقة بصورة
كافٌة ،لكن من المنطقً أن نبدأ بها ً
أوال".
فسؤلتها" :ماذا عن أشعة سٌنٌة لبلنثناء والتمدد؛ فربما ٌكون التشخٌص المنطقً
ً
برزخٌا؟". ً
فقارٌا لحالتً هو انزال ًقا
وفً انعكاس المرآة على الحابط ،رأٌتها تبحث عن هذا المرض عبر محرك البحث
جوجل.
ثم بدأت تقرأ" :هو كسر جزبً ٌصٌب نحو خمسة بالمابة من البشر ،وهو سبب شابع
آلالم الظهر لدى الشباب".
وبعدها قالت لً" :حس ًنا ،سوؾ أطلب منك هذا النوع من الفحص إذن".
فقلت لها" :شكرً ا لك".
لماذا كنت حازمًا فً معطؾ الجراح ،بٌنما كنت ودٌعًا فً ثوب المرٌض؟ فً
الحقٌقة ،كنت أعرؾ عن آالم الظهر أكثر مما تعرؾ طبٌبتً؛ فقد تضمن جزء كبٌر
من
تدرٌبً كجراح أعصاب التعامل مع مشكبلت العمود الفقري ،لكن ربما كان
االنزالق الفقاري هو االحتمال األقوى؛ فهو ٌصٌب نسبة كبٌرة من الشباب؛ لكن أن
تصاب بسرطان العمود الفقري فً الثبلثٌنٌات من العمر لهو أمر ؼٌر متوقع،
فاحتمال ذلك لن ٌتجاوز واح ًدا من عشرة آالؾ .وحتى لو تضاعؾ هذا االحتمال
مابة
مرة فسٌظل أقل شٌوعًا من االنزالق الفقاري .وربما أكون قد بالؽت فً إخافة نفسً.
كانت نتٌجة األشعة السٌنٌة جٌدة؛ فؤرجعنا سبب األعراض إلى إجهاد العمل وأثره
فً جسدي الذي تقدم به العمر ،وحددنا موع ًدا للمتابعة ،وعدت لبلنتهاء من
فحص آخر حالة فً ذلك الٌوم .وبعد ذلك ،بدأ فقدان الوزن ٌتباطؤ ،وأصبح ألم الظهر
محتمبل؛ فصارت جرعة صؽٌرة من اآلٌبوبروفٌن تساعدنً على استكمال ً
الــٌوم .وعلـى كـل حـال ،لـم ٌبـق أمـامً الكثـٌر مـن أٌـام العمـل المنـهكة ذات
السـاعات األربـع عشـرة مـن العمـل؛ فقـد شـارفت رحلـة انتقـالً مـن طـالب طـب
إلـى أسـتاذ
ً
مصرا جراحة أعصاب على االنتهاء ،فبعد عشر سنوات من التدرٌب القاسً ،كنت
على المثابرة طوال الشهور الخمسة عشر المتبقٌة على انقضاء فترة إقامتً؛ وهو
ما جعلنً أحظى باحترام أساتذتً ،وأفوز بجوابز محلٌة مرموقة ،وأتلقى عروضًا
للعمل فً عدة جامعات مرموقة؛ لذلك أجلسنً مإخرً ا مدٌر البرنامج الذي
التحقــت بـه فـً جامعـة سـتانفورد ،وقـال لـً" :بـول ،أعتقـد أنـك سـتكون المرشـح
األول ألٌـة وظٌفـة تتقـدم إلٌـها ،وحتـى ٌكـون معلـومًا لـدٌك ،سـوؾ نبـدأ البحـث
عـن
شخص مثلك للعمل فً الكلٌة هنا .ال أعدك بشًء بالطبع ،لكن أعتقد أن علٌك
التفكٌر فً هذا المنصب".
وصلت إلى قمة نجاحً المهنً فً السادسة والثبلثٌن من عمري ،وصار مستقبلً
جلٌا أمامً؛ فكنت أتخٌل أننً أملك ٌخ ًتا فً البحر المتوسط ألسافر به مع زوجتً ً
ومن سننجبهم من أطفال فً عطبلت نهاٌة األسبوع .وكنت أرى آالم ظهري تتبلشى
عندما ٌصبح جدول عملً أخؾ ،وتصبح حٌاتً أكثر سبلسة ،فرأٌت نفسً
أخٌرً ا وقد أصبحت الزوج الذي وعدت زوجتً بؤن أكونه.
وبعد ذلك بؤسابٌع قلٌلة ،بدأت تنتابنً نوبات ألم حاد فً صدري ،وصرت أفكر؛ هل
ارتطمت بشًء فً العمل؟ هل ُكسر ضلعً بشكل ما؟ وفً بعض اللٌالً كنت
أســتٌقظ ؼــار ًقا فــً عــرقً لــدرجة تبلـل المـبلءة ،وبـدأ وزنـً ٌقـل مـرة أخـرى،
لكـن بوتـٌرة أسـرع مـن ذي قبـل ،لـٌنقص مـن ٠١كـٌلوجرامًا إلـى ٤٦كـٌلوجرامًا
تقـرٌبًا ،كمـا
أصــبت بســعال مزمــن؛ فلــم ٌعـد هنـاك مجـال للشـك .وفـً ظـهٌرة أحـد أٌـام
السـبت ،كنـت أرقـد بجـوار زوجتـً لوسـً تحـت أشـعة الشـمس فـً حـدٌقة
دولـورٌس فـً
مدٌنة سان فرانسٌسكو فً انتظار شقٌقتها ،فلمحت زوجتً شٌ ًبا على شاشة هاتفً
الذي كان ٌعرض قاعدة بٌانات طبٌة تخص نتابج البحث عن "شٌوع السرطان
بٌن من تتراوح أعمارهم بٌن الثبلثٌن واألربعٌن".
ففوجبت بلوسً ،قابلة" :ماذا؟ لم أعرؾ أنك قلق ً
حقا بهذا الشؤن".
لكننً لم أرد؛ فلم أكن أعرؾ ماذا ٌجب أن أقول.
فسؤلتنً قابلة" :هل ترٌد أن تتحدث معً عما ٌقلقك؟".
كانت مهمومة؛ ألنها كانت قلقة من هذا االحتمال أٌضًا ،وكذلك ألننً لم أتحدث معها
عنه ،ولقد كانت مهمومة أٌضًا؛ ألننً وعدتها بحٌاة ،وأعطٌتها حٌاة
أخرى.
فسؤلتنً قابلة" :هل ٌمكنك أن تخبرنً من فضلك ،لم ال تثق بً؟".
فؤؼلقت هاتفً ،وقلت لها" :دعٌنا نتناول بعض المثلجات".
كنا قد خططنا فً وقت سابق لقضاء عطلة فً نٌوٌورك األسبوع التالً لزٌارة بعض
من أصدقاء الكلٌة القدامى ،وكذلك ربما ٌساعدنا النوم لفترة كافٌة ،وتناول بعض
قلٌبل ،والتخلص من الضؽوط التً العصابر الباردة على إعادة التواصل فٌما بٌننا ً
لحقت بحٌاتنا الزوجٌة.
لكن كانت لدى زوجتً خطة مختلفة ،فقالت لً قبل مٌعاد الرحلة بؤٌام قلٌلة" :لن
أذهب إلى نٌوٌورك معك"؛ حٌث قررت أن تترك البٌت أسبوعًا؛ فقد أرادت
بعض الوقت للتفكٌر فً الحال التً وصلت إلٌها حٌاتنا الزوجٌة ،وتحدثت إلًَّ بنبرة
هادبة؛ ما ضاعؾ الدوار الذي شعرت به.
فقلت لها" :ماذا؟ أنا لست مواف ًقا على هذا".
كبل منا ٌرٌدفردت قابلة" :أنا أحبك كثٌرً ا؛ لذلك ٌحٌرنً األمر؛ لكننً قلقة من أن ً
أشٌاء مختلفة من عبلقتنا؛ وهو ما ٌجعلنً أشعر بؤننا لسنا متوافقٌن بعض
مصادفة ،إلى جانب أننً عندما أتحدث ً الشًء ،كما أننً ال أرٌد أن أكتشؾ مخاوفك
معك عن شعوري بالعزلةٌ ،بدو لً أنك ال ترى فً هذا أٌة مشكلة؛ لذلك أنا
أحتاج إلى أن أفعل شٌ ًبا مختل ًفا".
فقلت لها" :ستكون األمور على ما ٌرام؛ فالسبب فً شعورك هذا هو فترة اإلقامة
فقط".
حقا؟ ال بد من أن تدرٌب جراحة األعصاب -وهً أحد هل كانت األمور بهذا السوء ً
ضؽطا على زواجنا؛ فقدً أصعب التخصصات الطبٌة وأكثرها إرها ًقا -قد شكل
بلٌال عدٌدة ،وصلت فٌها إلى البٌت متؤخرً ا من العمل ،بعد أن نامت زوجتً ٍ مررنا
بالفعل ،ألنهار على أرضٌة ؼرفة المعٌشة منه ًكا ،كذلك مررنا بؤٌام عدٌدة كنت
جدا قبل أن تستٌقظ هً؛ لكننا وصلنا إلى ذروة النجاح أذهب فٌها إلى العمل مبكرً ا ً
المهنً اآلن؛ فمعظم الجامعات ترؼب فً توظٌؾ كل منا؛ أنا فً مجال جراحة
األعصاب ،ولوسً فً مجال الطب الباطنً .لقد نجحنا فً تجاوز المرحلة الصعبة
من رحلتنا .ألم نناقش هذا مرات عدٌدة؟ ألم تدرك لوسً أن هذا هو أسوأ وقت
إلثارة المشكلة بهذه الطرٌقة؟ أال تعلم أنه لم ٌبق سوى عام واحد فً مدة إقامتً،
وأننً أحبها ،وأننا اقتربنا كثٌرً ا من الحٌاة التً تمنٌناها كثٌرً ا؟
فــردت قابلــة" :لــو كــان األمــر ٌتعلــق باإلقامــة فقــط ،لتحملــت فقـد تجـاوزنا
هـذه النقطـة؛ لكـن المشـكلة هـً :مـاذا إذا لـم ٌكـن األمـر كـذلك؟ فـهل تظـن ً
حـقا أن
األمـور
أكادٌمٌا وطبٌبًا معالجً ا فً جراحة األعصاب؟".ً ً
أستاذا ستتحسن عندما تصبح
عرضت علٌها أال نذهب إلى هذه الرحلة ،وبصراحة أكثر عرضت أن نذهب إلى
استشاري العبلقات الزوجٌة الذي رشحته لوسً منذ بضعة شهور ،لكنها أصرت
على
أنها تحتاج إلى قضاء بعض الوقت وحدها ،وفً هذه اللحظة تبدد الؽموض والتوتر،
ولم ٌبق أمامً سوى خٌار واحد؛ وهو تقبل رؼبتها فً االبتعاد ً
قلٌبل ،فقلت
لنفسً حس ًنا ،إذا قررت لوسً مؽادرة المنزل ،فسؤعتبر أن زواجنا قد انتهى ،وإذا
اكتشفت أننً مصاب بالسرطان ،فلن أخبرها بذلك ،وسوؾ تصبح حٌنها حرة
لتعٌش الحٌاة التً اختارتها.
وقبل أن أؼادر إلى نٌوٌورك ،تسللت إلجراء بعض الفحوصات الطبٌة؛ الستبعاد
بعض أنواع السرطان الشابعة لدى الشباب؛ وكانت النتابج سلبٌة فٌما ٌخص
سرطان الخصٌة ،وسرطان الجلد ،وسرطان الدم .كان قسم جراحة األعصاب
مشؽوال وممتل ًبا بالحاالت عن آخره كالعادة؛ لذلك تمر لٌلة الخمٌس ،فٌؤتً صباح ً
ستا وثبلثٌن ساعة متواصلة فً ؼرفة العملٌات فً الجمعة ألجد نفسً قد قضٌت ً
سلسلة من الحاالت المعقدة ،من بٌنها تضخم األوعٌة الدموٌة ،وفتح ممرات
جانبٌــة للشــراٌٌن الــدماؼٌة ،والتشــوهات الشــرٌانٌة الورٌــدٌة ،فتنفســت
الصــعداء حٌنمــا حضــر الطبــٌب المعــالج ،وأرحــت ظــهري إلــى الحــابط
لــدقابق ،ولــم تســنح
الفرصة لً إلجراء أشعة سٌنٌة على الصدر إال عند مؽادرتً المستشفى ،فً طرٌق
العودة إلى المنزل قبل التوجه إلى المطار ،وقلت لنفسً إن هناك احتمالٌن :إما أننً
مصاب بالسرطان؛ وفً هذه الحالة قد تكون هذه آخر مرة أرى فٌها أصدقابً ،وإما
أننً لست مصابًا به؛ وفً هذه الحالة ال داعً إللؽاء الرحلة.
وهرعت إلى البٌت إلحضار حقٌبتً ،ثم أقلتنً لوسً إلى المطار ،وأخبرتنً بؤنها
حجزت لنا موع ًدا مع استشاري العبلقات الزوجٌة.
قاببل" :أتمنى لو كنتوبمجرد أن وصلت أمام بوابة المطار أرسلت إلٌها رسالة ً
هنا".
وبعد دقابق قلٌلة ،وصلنً ردها ،قابلة" :أنا أحبك ،وسؤكون فً انتظارك حٌنما
تعود".
تٌبس ظهري بشدة خبلل الرحلة ،وبمجرد وصولً إلى محطة جراند سنترال ألستقل
القطار حتى بٌت أصدقابً شمال المدٌنة ،كنت أتلوى من شدة األلم ،فعلى
مــدار األشــهر القلٌلــة الماضــٌة ،انتــابتنً تقلصــات فــً الظــهر متفاوتــة
الحــدة؛ بــدءًا مــن ألــم بســٌط ٌمكــن تجاهلــه ،إلــى ألــم ٌجعلنــً أتــوقؾ عــن
الكـبلم؛ ألعـض علـى
أســنانً ،إلــى ألــم شــدٌد الحــدة ٌجعلنــً أصــرخ وأتلــوى علــى األرض ،أمــا
األلــم الــذي شــعرت بـه فـً محطـة القطـار؛ فكـان مـن أشـد نوبـات األلـم التـً
انتـابتنً حـد ًة،
فرقدت على مقعد صلب فً منطقة االنتظار ،وأنا أشعر بعضبلت ظهري تتقلص،
وأحاول تنظٌم نفسً للتحكم فً األلم -ولم ٌعد اآلٌبوبروفٌن ٌجدي نفعًا مع
هذا األلم -فصرت أذكر اسم كل عضلة وهً تتقلص حتى ال أبكً؛ ناصبة الفقار،
والعضلة المعٌنٌة ،والعضلة الظهرٌة العرٌضة ،والعضلة الكمثرانٌة...
فاقترب منً أحد الحراس ،وقال" :سٌدي ،ال ٌمكنك الرقود هنا".
قاببل " :آسؾ .تقلصات ...شدٌدة ...فً ظهري". فرددت بصعوبةً ،
فرد الحارس ً
قاببل" :ولو .ال ٌمكنك أن ترقد هنا".
أنا آسؾ ،لكن السرطان ٌفتك بً .
كدت أقول ذلك ،ولكن الكلمات توقفت على طرؾ لسانً ،وقلت فً نفسً ماذا إذا لم
ٌكن األمر كذلك؟ فربما ٌكون هذا هو األلم الذي ٌشعر به من ٌعانون آالم
الظهر العادٌة ،فقد كنت أعرؾ الكثٌر عن آالم الظهر -األسباب التشرٌحٌة،
والفسٌولوجٌة وراءه ،والكلمات المختلفة التً ٌستخدمها المرضى لوصؾ أنواع األلم
المتباٌنة -لكننً لم أعرؾ معنى الشعور به .ربما هذا هو كل ما فً األمر ،ربما،
وربما لم أرد جلب التشاإم لنفسً ،وربما لم أرد أن أنطق كلمة سرطان بصوت
عال.
ٍ
فنهضت بصعوبة وعرجت إلى الرصٌؾ.
وفــً وقــت متــؤخر مــن عصــر هــذا الــٌوم ،وصـلت إلـى بـٌت أصـدقابً فـً
مـدٌنة كولـد سـبرٌنج ،علـى بعـد نحـو ثمـانٌن كـٌلومترً ا مـن شـمال مانـهاتن؛ التـً
تقـع علـى نـهر
هدســون ،ووجــدت مجموعــة مــن أقــرب أصــدقاء الماضــً فــً اســتقبالً؛
حــٌث اختلطــت تــهالٌل ترحابــهم بؤصــوات األطفــال الســعداء العالٌــة ،ثــم
تبــادلنا األحضــان،
وشعرت بالبرودة تتسلل إلى ٌدي عندما سؤلنً صدٌقً الذي حللت فً ضٌافته،
ً
قاببل:
"ألم تؤت لوسً معك؟".
فؤجبته" :مهمة مفاجبة فً العمل فً اللحظة األخٌرة".
فرد ً
قاببلٌ" :ا لخٌبة األمل!".
قاببل" :هل تمانع فً أن أضع حقاببً أرضًا وأسترٌح بعض الوقت؟". فسؤلته ً
كنت آمل أن تعٌد عدة أٌام -بعٌ ًدا عن ؼرفة العملٌات ،مع الحصول على القدر
المناسب من النوم ،والراحة ،واالسترخاء باختصار ،جرعة من الحٌاة الطبٌعٌة -
قد تعٌد األعراض التً انتابت ظهري إلى النطاق الطبٌعً آلالم الظهر واإلجهاد؛
لكن بعد مرور ٌوم أو اثنٌن ،بدا واضحً ا أن األلم سٌستمر.
ً
متثاقبل إلى طاولة الؽداء ألحدق إلى وكنت أنام خبلل أوقات اإلفطار ،ثم أمشً
أطباق الفاصولٌا البٌضاء باللحم ،وأرجل الكابورٌا التً لم أستطع إجبار نفسً على
ومستعدا للذهاب إلى الفراش ثانٌة ،وكنتً تناولها ،وبحلول موعد العشاء أكون منه ًكا
أقرأ لؤلطفال أحٌا ًنا ،لكن فً معظم الوقت كانوا ٌلعبون حولً وفوقً،
وٌقفزون وٌصٌحون ،فٌتحدث إلٌهم صدٌقًً ،
قاببلٌ"( :ا أطفال ،العم بول ٌحتاج إلى
الراحة ،لم ال تذهبون وتلعبون فً مكان آخر؟") .وتذكرت أحد أٌام العطلة،
حٌنما كنت مرشد المعسكر الصٌفً منذ خمسة عشر عامًا ،وكنت أجلس على شاطا
البحٌرة فً كالٌفورنٌا الشمالٌة ،مع عدد من األطفال؛ حٌث كانوا ٌمرحون
Death andوٌستخدموننً كعابق فً لعبة التقاط العلم ،بٌنما كنت أقرأ كتابًا بعنوان
؛ لذا اعتدت أن أضحك على تناقض تلك اللحظة؛ شاب فً Philosophy
العشرٌن من عمره ٌتوسط روعة األشجار ،والبحٌرة ،والجبال ،ومزٌج من تؽرٌد
الطٌور وصخب األطفال البالؽٌن أربعة أعوام ،بٌنما ٌدس أنفه فً كتاب أسود
صؽٌر عن الموت ،ولم أالحظ التشابه بٌن ذلك الموقؾ وما ٌحدث اآلن ،مع فارق
بدال من بحٌرة تاهو ،هؤنذا أمام نهر هدسون؛ ولٌس األطفال ألناس ؼرباء ،بل أنه ً
وبدال من أن أقرأ كتابًا ٌتحدث عن الموت ،فٌعزلنً عن الحٌاة ً هم أطفال أصدقابً؛
من حولً ،كان جسدي هو الذي ٌموت.
وفً اللٌلة الثالثة ،تحدثت إلى مضٌفنا ماٌك؛ ألخبره بؤننً سوؾ أقطع الرحلة وأعود
للبٌت فً الٌوم التالً.
قاببل" :ال ٌبدو لً أنك بخٌر ،هل كل شًء على ما ٌرام؟". فرد علًَّ ً
قاببل" :لم ال نحضر بعض المشروبات ونجلس معًا ً
قلٌبل؟". أجبته ً
وبعد أن فعلنا ،جلسنا معًا أمام المدفؤة ،وقلت له" :ماٌك ،أعتقد أننً مصاب
بالسرطان ،ولٌس النوع الحمٌد منه".
عال.
كانت هذه المرة األولى التً أتفوه بالكلمة بصوت ٍ
قاببل" :حس ًنا .إنه مقلب ،ألٌس كذلك؟".فرد علًَّ ً
فؤجبته ً
قاببل" :نعم".
صمت ماٌك ً
قلٌبل ،ثم قال" :ال أعلم عما أسؤل بالضبط".
فرددت علٌه ً
قاببل" :حس ًنا .أوالً ،ال بد من أن أقول إننً ال أعلم علم الٌقٌن أننً
مصاب بالسرطان؛ لكننً شبه متؤكد من هذا؛ حٌث تشٌر الكثٌر من األعراض
التً تنتابنً إلى ذلك؛ لذا سوؾ أعود إلى البٌت ؼ ًدا ألتحقق من األمر ،وأتمنى أن
أكون مخط ًبا".
وعرض علًَّ ماٌك أن ٌؤخذ أمتعتً وٌرسلها إلى بٌتً عن طرٌق شركة نقل حتى ال
أضطر إلى حملها معً ،وفً صباح الٌوم التالً أوصلنً إلى المطار ،وبعد ست
ساعات وصلت إلى سان فرانسٌسكو .وبمجرد أن وضعت قدمًَّ إلى خارج الطابرة
حتى رن جرس هاتفً ،ومن الجانب اآلخر ،جاء صوت طبٌبة العناٌة األولٌة،
فبدال من أن تؤتً صورة ربتًَّ واضحة ،بدت ٌخبرنً بنتابج فحص األشعة السٌنٌة؛ ً
ضبابٌة ،كؤنها ال ُتقطت من عدسة كامٌرا ُتركت مفتوحة وق ًتا أكبر من البلزم،
وأخبرتنً بؤنها لٌست متؤكدة مما قد ٌعنٌه ذلك.
بل كانت تعلم ما ٌعنٌه ذلك على األرجح.
وكنت أعلم كذلك.
اصــطحبتنً لوســً مــن المطــار ،لكننــً لــم أخبرهــا بــاألمر حتــى وصــلنا
إلــى البــٌت ،فجلســنا علــى األرٌكــة ،وعنــدما أخبرتــها كــانت تعــرؾ؛ فؤسـندت
رأسـها إلـى كتفـً،
وتبلشت المسافة فٌما بٌننا.
قاببل" :أحتاج إلٌك". همست فً أذنها ً
فؤجابتنً قابلة" :لن أتركك أب ًدا".
اتصلنا بصدٌق مقرب؛ وهو أحد جراحً األعصاب المقٌمٌن ،وطلبت منه أن ٌدخلنً
المستشفى.
أعطونً السوار الببلستٌكً الذي ٌرتدٌه كل النزالء ،وارتدٌت ثوب المستشفى ذا
اللون األزرق الفاتح المؤلوؾ بالنسبة إلًَّ ،ومررت بالممرضات البلتً أعرؾ
أسماءهن،
وأنزلونً فً ؼرفتً ،وهً الؽرفة ذاتها التً قابلت فٌها مبات المرضى على مدار
سنوات .ففً هذه الؽرفة ،جلست مع كثٌر من المرضى ،وشرحت لهم تشخٌصات
حاالتهم النهابٌة ،والعملٌات المعقدة؛ وفٌها أٌضًا هنؤت بعض المرضى بشفابهم من
أمراضهم ،ورأٌت السعادة فً عٌونهم لعودتهم إلى الحٌاة مرة أخرى .وفً هذه
الؽرفــة ،أعلنــت وفــاة مرضــى آخــرٌن ،وجلســت علــى هـذه الكراسـً،
وؼسـلت ٌـديَّ فـً هـذا الحـوض ،وكتبـت تعلٌمـاتً بخـط األطبـاء الـرديء علـى
لوحـة التعلٌمـات،
وؼٌرت التقوٌم ،حتى إننً فً لحظات اإلنهاك الشدٌد ،كنت أتمنى أن أرقد فً هذا
الفراش وأؼط فً النوم ،واآلن هؤنذا أرقد فً ذلك الفراش ،ولكننً مستٌقظ
تمامًا.
أطلت ممرضة شابة -لم أكن قد قابلتها -برأسها قابلة:
"سٌؤتً الطبٌب بعد قلٌل".
وهكذا كان المستقبل الذي تخٌلته دومًا ،وكنت قد أوشكت أن أحققه تتوٌجً ا لعقود من
الكفاح قد تبخر.
انجزء األول