You are on page 1of 142

‫إهداء‬

‫إلى كادي‬
‫كهمة‬
‫ٌا من تبحث عن معنى الحٌاة فً الموت‪،‬‬
‫ستجده اآلن فً هواء كان ٌومًا أنفاسًا فانٌة‪.‬‬
‫أسماء جدٌدة ؼٌر معروفة تؤتً‪ ،‬وأسماء قدٌمة تتبلشى‪،‬‬
‫إلى أن تفنى األجساد‪ ،‬وتبقى األرواح‪.‬‬
‫فاؼتنم وقتك فً أثناء حٌاتك‪ٌ ،‬ا من تقرأ هذه السطور!‬
‫واجعله طرٌقك نحو الخلود‪.‬‬
‫للبارون بروك فولكه جرٌفٌل من قصٌدة " ‪" Caelica 83‬‬
‫مقدمة‬
‫إبراهام فٌرجٌس‬
‫خطر ببالً ‪ -‬بٌنما أكتب هذه الكلمات ‪ -‬أنه من األفضل اعتبار مقدمة هذا الكتاب‬
‫خاتمة؛ فعندما نتحدث عن بول كوالنثً ٌنقلب الشعور بالوقت رأسًا على عقب‪،‬‬
‫وكبداٌة للعبلقة (أو لنقل كنهاٌة لها)‪ ،‬فإننً لم أعرؾ بول حق المعرفة إال بعد وفاته‪،‬‬
‫أو بعبارة أخرى (واعذرونً فً هذا االرتباك) عرفته عن قرب عندما رحل عن‬
‫عالمنا‪.‬‬
‫قابلت بول فً جامعة ستانفورد بعد ظهر ٌوم ال ٌُنسى فً بداٌة شهر فبراٌر عام‬
‫مقاال فً جرٌدة نٌو ٌورك‬ ‫‪ ،٤١٠٢‬وفً ذلك الوقت‪ ،‬حٌث كان قد نشر من فوره ً‬
‫تاٌمز‬
‫وهو المقال الذي لقً استجابة كبٌرة ‪How Long Have I Got Left ? ،‬بعنوان‬
‫جدا؛ (ولكونً‬‫من القراء‪ ،‬وفً األٌام التالٌة ذاع صٌت المقال على نطاق واسع ً‬
‫طبٌبًا متخصصًا فً األمراض المُعدٌة‪ ،‬اسمحوا لً بؤال أستخدم تعبٌرً ا انتشر بشكل‬
‫فٌروسً كتشبٌه)‪ .‬بعد ذلك طلب الطبٌب بول كوالنثً مقابلتً والتحدث إلًَّ ‪،‬‬
‫وطلــب نصــٌحتً فٌمــا ٌتعلــق بـالوكبلء األدبـٌٌن‪ ،‬والمحـررٌن‪ ،‬وعملٌـة النشـر؛‬
‫فقـد كـان ٌـرؼب فـً تـؤلٌؾ كتـاب؛ وبالتحـدٌد هـذا الكتـاب الـذي تحملـه بـٌن ٌـدٌك‬
‫اآلن‪.‬‬
‫أتــــذكر حٌنــــها أشــــعة الشــــمس‪ ،‬وهــــً تتخلــــل شــــجرة المــاجنولٌا التــً‬
‫تطــل علٌــها نافــذة مكتبــً لتمنــح المشــهد إضــاءة ممــٌزة‪ ،‬بٌنمــا كــان بــول‬
‫جــالسًا أمــامً‪ ،‬بٌــدٌه‬
‫الجمٌلتٌن فً ثبات كامل‪ ،‬ولحٌته التً تشبه لحى الحكماء‪ ،‬بٌنما كانت عٌناه الداكنتان‬
‫تتفحصاننً‪ .‬أتذكر أن صورته تلك كان لها فً دقتها ووضوح تفاصٌلها‬
‫طابع لوحات الرسام الهولندي فٌرمٌر‪ ،‬كما أتذكر أننً قلت لنفسً‪" :‬ال بد من أن‬
‫تبقى هذه اللحظة فً ذاكرتك" ؛ ألن ما رأٌته كان نفٌسًا للؽاٌة‪ ،‬كذلك فإنه من‬
‫خبلل تشخٌص مرض بول‪ ،‬لم أدرك فقط أنه سوؾ ٌموت‪ ،‬بل كان تذكرة لً بحقٌقة‬
‫الموت التً حتمًا سؤواجهها أنا أٌضًا‪.‬‬
‫تحــدثنا مــعًا عــن كثــٌر مــن األمــور فــً ذلــك الــٌوم؛ حــٌث كــان بــول‬
‫جــراح أعصــاب مقــٌمًا؛ لــذا ربمــا تبلقــت مســاراتنا المــهنٌة فــً مرحلــة مــا‪،‬‬
‫لكننــا لـم نتـذكر أي مرضـى‬
‫مشتركٌن بٌننا‪ ،‬وأخبرنً كذلك بؤنه تخصص فً دراسة اللؽة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وعلم‬
‫األحٌاء‪ ،‬فً جامعة ستانفورد‪ ،‬ثم أكمل دراسته حتى حصل على درجة الماجستٌر‬
‫فً‬
‫األدب اإلنجلٌزي‪ ،‬كما تحدثنا عن ولعه الدابم بالقراءة والكتابة‪ .‬ولقد فوجبت بحقٌقة‬
‫ً‬
‫أستاذا فً اللؽة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وبالطبع‬ ‫أنه كان بإمكانه بكل سهولة أن ٌصبح‬
‫بدا أنه كان سٌسلك هذا الطرٌق فً فترة ما من حٌاته‪ ،‬لكنه قرر فجؤة أن ٌتخصص‬
‫بدال من ذلك‪ .‬وهكذا أصبح بول طبٌبًا‪ ،‬لكنه ظل ٌحلم‬ ‫فً جراحة األعصاب ً‬
‫مثبل؛ فقد ظن أن أمامه‬‫بالعودة إلى األدب بطرٌقة ما؛ بتؤلٌؾ أحد الكتب ٌومًا ما ً‬
‫متسعًا من الوقت‪ ،‬وأنه لم ٌكن هناك ما ٌمنعه من تحقٌق حلمه‪ ،‬ولكن الوقت‬
‫المتبقً من عمره لم ٌكن كافًٌا‪.‬‬
‫ما زلت أتذكر ابتسامته الساخرة‪ ،‬الودٌعة‪ ،‬التً لم تخ ُل من قلٌل من المكر‪ ،‬ورؼم أن‬
‫نحٌبل وشاحبًا؛ فقد كان ٌصارع مرض السرطان‪ ،‬ولكن جسده‬ ‫ً‬ ‫وجهه كان‬
‫كــان قــد اســتجاب بشــكل جٌــد لنــوع جــدٌد مـن العـبلج البـٌولوجً؛ مـا أعطـاه‬
‫بعـض األمـل فـً المسـتقبل‪ ،‬وأخبـرنً بؤنـه فـً أثنـاء دراسـته فـً كلٌـة الطـب‬
‫كـان ٌظـن أنـه‬
‫نفســٌا‪ ،‬ولكنــه وقــع فــً حــب جراحــة األعصــاب‪ .‬ولــم تنبــع‬‫ً‬ ‫ســٌصبح طبــٌبًا‬
‫رؼبتــه فــً سـلوك هـذا المسـار مـن مجـرد حبـه التكـوٌن المعقـد للمـخ‪ ،‬وال مـن‬
‫شـعوره بالرضـا‬
‫لتدرٌب ٌدٌه على تحقٌق إنجازات هابلة‪ ،‬بل كانت نابعة من حبه للمرضى وتعاطفه‬
‫معهم‪ ،‬وما ٌعانونه من ألم‪ ،‬وما ٌمكنه فعله ألجلهم‪ .‬وال أظن أن بول أخبرنً‬
‫بهذه السمة فٌه بقدر ما أظن أننً قد سمعت طبلبً الذٌن عملوا معاونٌن له ٌتحدثون‬
‫فً هذا الشؤن؛ فقد كان ٌإمن بشدة بالبعد األخبلقً لوظٌفته‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫تحدثت معهم عن احتضاره‪.‬‬
‫اســتمررت فــً التواصــل معــه عبــر البرٌــد اإللكتــرونً بعــد هــذه المقابلــة‪،‬‬
‫لكننــا لــم نلتــق مباشــر ًة ثانٌــة‪ .‬ولــم ٌكــن الســبب فــً هــذا هـو كثـرة مشـاؼلً‬
‫فـً المواعٌـد النـهابٌة‬
‫والمسبولٌات فحسب‪ ،‬بل كان لديَّ شعور قوي بضرورة احترام وقته؛ فتركت له‬
‫الحرٌة فً أن ٌزورنً أو ال‪ ،‬وكان ذلك لشعوري بؤن آخر ما ٌحتاج إلٌه بول فً‬
‫ذلك‬
‫الوقت هو إلزام نفسه بصداقة جدٌدة‪ ،‬ومع ذلك كنت أفكر فً حاله وحال زوجته‬
‫كثٌرً ا‪ ،‬وأردت أن أسؤله عما إذا كان عاك ًفا على تؤلٌؾ كتابه‪ ،‬وإذا ما كان لدٌه‬
‫الوقت الكافً لذلك؛ فلقد كنت أجاهد طوال سنوات كثٌرة إلٌجاد الوقت الكافً كً‬
‫أكتب؛ لكونً طبٌبًا كثٌر المشاؼل‪ .‬كما أردت أن أخبره بما قاله لً أحد الك َّتاب‬
‫المشهورٌن فً أحد األٌام تعبٌرً ا عن هذه المشكلة األبدٌة‪" :‬لو كنت جراح أعصاب‪،‬‬
‫واعتذرت إلى ضٌوفً إلجراء (جراحة فتح جمجمة) عاجلة ألحد المرضى‪ ،‬لما كان‬
‫علًَّ حرج‪ ،‬أما إذا قلت لهم إننً مضطر إلى تركهم فً ؼرفة الجلوس ألصعد إلى‬
‫ؼرفتً كً أكتب ‪" ...‬؛ لكننً ال أعلم ما إذا كان بول سٌجد هذا التعلٌق مضح ًكا‬
‫أم ال؛ ففً النهاٌة ٌمكنه بالفعل أن ٌعتذر إلى ضٌوفه بحجة إجراء جراحة عاجلة‬
‫بدال من ذلك‪.‬‬‫ألحد المرضى! فهذا معقول بحكم طبٌعة عمله! ثم ٌذهب لٌكتب ً‬
‫مقاال قصٌرً ا رابعًا فً مجلة ستانفورد مٌدٌسن‬ ‫وفً أثناء تؤلٌؾ بول هذا الكتاب‪ ،‬نشر ً‬
‫فً عدد خاص عن موضوع الوقت‪ .‬وقد كان لً فً العدد نفسه مقال منشور‬
‫بمحاذاة مقاله‪ ،‬لكننً لم أكن أعلم بمساهمته هذه إال بعد أن صدر العدد‪ ،‬وأمسكت‬
‫المجلة بٌدي‪ ،‬وبٌنما كنت أقرأ مقال بول‪ ،‬الحظت شٌ ًبا كان قد أ ُ ْلمح له من‬
‫قبل فً جرٌدة نٌوٌورك تاٌمز ‪ ،‬وهذا الشًء هو أن أسلوبه فً الكتابة كان شدٌد‬
‫الروعة؛ حٌث كان ٌستطٌع أن ٌكتب فً أي موضوع‪ ،‬وٌكون ألسلوبه األثر القوي‬
‫نفســه! لكنــه لــم ٌكــن ٌكتــب فــً أي موضــوع؛ إذ كــان ٌكتــب عــن الــوقت‬
‫ومــا صــار ٌعنٌــه بالنســبة إلٌــه فــً تلــك المرحلــة‪ ،‬فــً ظــل ظــروؾ‬
‫مرضــه؛ مـا جعـل المقـال مثـٌرً ا‬
‫للمشاعر بشكل ال ٌصدق‪.‬‬
‫كان هناك ما ٌجب أن أشٌر إلٌه مرة أخرى‪ ،‬وهو أسلوب بول الذي ال ٌُنسى فً‬
‫كتابة هذا المقال ؛ حٌث بدا كؤنه ٌنسج حرو ًفا من ذهب‪.‬‬
‫محاوال فهم األثر الذي تركه فً نفسً‪ ،‬ووجدته‬ ‫ً‬ ‫أخذت أقرأ المقال مرة بعد أخرى‪،‬‬
‫إٌقاعٌا؛ فقد كانت كلماته ذات طابع قرٌب من قصٌدة نثرٌة كتبها الشاعر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أوال‬
‫جالواي كٌنٌل سمعته ٌلقٌها ذات مرة فً مكتبة بمدٌنة أٌوا دون االستعانة باألوراق‪،‬‬
‫وكانت كلماتها تقول‪" :‬إذا حدث ٌومًا ما ووجدت نفسك مع من تحب فً‬
‫إحدى الزواٌا بجسر مٌرابو فً مقهى زٌنك حٌث تؤلألت المشروبات فً كبوس‬
‫مترعة ‪"...‬؛ لكن كان لكلمات بول مذاق شًء آخر ‪ -‬شًء من طراز عتٌق‪ٌ ،‬عود‬
‫إلى ما‬
‫قبــل عصــر مقــهى زٌنــك‪ .‬وبعــدها بــؤٌام قلٌلــة حــٌن تعمقــت فــً قــراءة‬
‫المقــال مـرة أخـرى‪ ،‬توصـلت إلـى ذلـك الشـًء؛ حـٌث ذكـرتنً طرٌقـة كتابـة بـول‬
‫النثرٌـة بكتـابات‬
‫الشاعر توماس براون النثرٌة‪ .‬كان توماس قد ألؾ كتابًا عام ‪ ٠٤٢٤‬بعنوان‬
‫شابا‪ ،‬كنت ‪Religio Medici‬‬ ‫ٌتسم بهذا األسلوب الكبلسٌكً‪ .‬عندما كنت طبٌبًا ً‬
‫مولعًا‬
‫بهذا الكتاب‪ ،‬وعكفت على دراسته وفهمه‪ ،‬لكننً كنت كفبلح ٌحاول تجفٌؾ مستنقع‬
‫فشل والده فً تجفٌفه من قبل؛ فلم تكن المهمة ذات جدوى‪ ،‬لكننً كنت‬
‫بحاجة ماسة إلى معرفة أسرار ذلك الكتاب‪ ،‬مقلبًا إٌاه بٌن ٌدي فً إحباط‪ ،‬قبل أن‬
‫أعٌد التقاطه مجد ًدا‪ ،‬ولم أكن على ٌقٌن بؤن هذا الكتاب سٌنفعنً بشًء؛ لكن‬
‫وقــــع الكلمــــات كــان ٌشــعرنً بــذلك‪ ،‬كمــا كنــت أشــعر بــؤننً أفتقــر إلــى‬
‫الحــس النقــدي الــذي أحتــاج إلٌــه‪ ،‬حتــى تكشــؾ الحــروؾ عــن نفســها لــً؛‬
‫فتعطــٌنً معنــاها‬
‫الحقٌقً‪ ،‬لكن ظل ذلك النص ؼامضًا بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬مهما حاولت فهمه‪.‬‬
‫‪Religio Medici‬قد تسؤلنً لماذا؟ لماذا أصررت على فهم النص؟ فمن ٌهتم بكتاب‬
‫؟‬
‫حســ ًنا‪ ،‬كــان بطلــً وٌلٌــام أوســلر ٌفعــل ذلــك‪ ،‬وأوســلر هــو أبـو الطـب‬
‫الحـدٌث‪ ،‬وقـد توفـً عـام ‪ ،٠١٠١‬وكـان ٌعشـق هـذا الكتـاب‪ ،‬وٌحتفـظ بـه علـى‬
‫المنضـدة الموضـوعة‬
‫بجانب فراشه‪ ،‬حتى إنه طلب أن تدفن معه نسخة من هذا الكتاب‪ .‬وفً الحقٌقة‪ ،‬لم‬
‫أفهم قط ما رآه أوسلر فً هذا الكتاب‪ ،‬ولكن بعد محاوالت عدٌدة ‪ -‬على مدار‬
‫عدة عقود ‪ -‬كشؾ لً الكتاب عن أسراره أخٌرً ا‪( ،‬وقد ساعدنً على ذلك صدور‬
‫طبعة جدٌدة بتهجبة حدٌثة)‪ ،‬كما اكتشفت أن سر كلمات هذا الكتاب ٌكمن فً أن‬
‫عال‪:‬‬
‫عال‪ ،‬ما ٌجعل اإلٌقاع الزمًا‪ ،‬وال مفر منه؛ فتقول بصوت ٍ‬ ‫تقرأها بصوت ٍ‬
‫"نحمل فً داخلنا العجابب التً نبحث عنها فً الخارج‪ .‬مع وجود قدر من األعاجٌب‬
‫كاملة‪ ،‬وكل ما فٌها من سحر؛ فنحن البشر نمثل الجانب‬ ‫ً‬ ‫داخلنا بحجم قارة أفرٌقٌا‬
‫الجريء والمؽامر من الطبٌعة؛ وهو ما ٌُم ِّكن من ٌدرس طبٌعتنا عن كثب من‬
‫معرفة الكثٌر بكل سهولة عن شًء ما‪ ،‬أكثر من اطبلعه على مجرد ملخص‪ ،‬بٌنما‬
‫ٌقرأ اآلخرون كتبًا ال تحصى لمعرفة الشًء نفسه"؛ لذلك عندما تصل إلى آخر‬
‫عال‪ ،‬وسوؾ تسمع السطر الطوٌل ذاته‪ ،‬وتجد‬ ‫فقرة فً كتاب بول‪ ،‬اقرأها بصوت ٍ‬
‫ذلك اإلٌقاع الذي تحس بالرؼبة فً أن تنقر على األرض بقدمٌك معه ‪ ...‬لكنك ال‬
‫تفعل‪ ،‬كما هً الحال فً قصٌدة براون؛ ولهذا السبب خطر ببالً أن قصٌدة بول‬
‫النثرٌة هً استحضار لقصٌدة براون‪( ،‬أو باعتبار حقٌقة أن تقدم الوقت مجرد‬
‫وهم فً أذهاننا فحسب؛ ربما تكون قصٌدة براون النثرٌة استحضارً ا لقصٌدة بول‬
‫كوالنثً‪ .‬نعم‪ ،‬إنه أمر محٌر)‪.‬‬
‫توفــً بــول بعــد ذلــك‪ ،‬وحضــرت مراســم تؤبٌنــه فــً قاعــة مناســبات جامعــة‬
‫ســتانفورد‪ ،‬وهــً مكــان جمٌــل أذهــب إلٌــه كثــٌرً ا‪ ،‬حٌنمــا ٌكــون خـالًٌا؛‬
‫ألجلـس وأسـتمتع‬
‫بالضــــوء‪ ،‬والــــهدوء‪ ،‬وأشــــعر بــــانتعاش روحـــً‪ ،‬وقــد امتــؤلت الســاحة‬
‫بالحضــور عــن آخرهــا‪ ،‬فجلســت فــً أحــد الجــوانب أســتمع إلــى ســلسلة مــن‬
‫القصــص المإثــرة ‪-‬‬
‫والصاخبة أحٌا ًنا ‪ -‬من أصدقاء بول المقربٌن‪ ،‬وأخٌه‪ .‬نعم‪ ،‬لقد رحل بول عن عالمنا‪،‬‬
‫حقا أكثر مما عرفته من خبلل‬ ‫لكن الؽرٌب هو شعوري بؤننً بدأت أعرفه ً‬
‫زٌارته لمكتبً‪ ،‬أو قراءتً للمقاالت القلٌلة التً كتبها‪ ،‬وبدا لً كؤنه ٌتشكل فً تلك‬
‫القصص التً حكاها الحاضرون فً ساحة الجامعة ‪ -‬ذلك المكان العرٌق ذو القبة‬
‫العالٌة‪ ،‬الذي ٌناسب تؤبٌن هذا الرجل الذي وارى جسده الثرى‪ ،‬ولكنه ال ٌزال ً‬
‫حٌا‬
‫بشكل واضح‪ .‬وقد تجسدت صورة بول أمامً فً زوجته وطفلته الجمٌلتٌن‪،‬‬
‫وفً أبوٌه وإخوته المحزونٌن‪ ،‬وفً وجوه جموع األصدقاء والزمبلء‪ ،‬والمرضى‬
‫القدامى الذٌن مؤلوا المكان‪ ،‬كما كان حاضرً ا الح ًقا فً قاعة االستقبال بالخارج فً‬
‫مكان‬
‫تجمع فٌه الكثٌر من الحضور؛ حٌث رأٌت وجوهًا هادبة مبتسمة‪ ،‬كؤنها قد أحست‬
‫بشًء جمٌل للؽاٌة‪ ،‬وربما بدا وجهً كذلك أٌضًا‪ ،‬فلقد مست مراسم تؤبٌن‬
‫بول قلوبنا جمٌعًا؛ ما جعل دموعنا تنهمر‪ ،‬كما كان هناك معنى أعمق لهذا التؤبٌن؛‬
‫حٌث ارتوى ظمؤ أرواحنا‪ ،‬وهدأت جوانحنا‪ ،‬وتحدثنا إلى ؼرباء ارتبطنا بهم‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثٌ ًقا من خبلل عبلقتنا ببول‪.‬‬
‫وما إن تسلمت هذه الصفحات التً بٌن ٌدٌك اآلن‪ ،‬بعد وفاة بول بشهرٌن‪ ،‬حتى‬
‫شعرت بؤننً بدأت أعرفه بطرٌقة أفضل من التً كنت سؤعرفه بها إذا كنت قد‬
‫حظٌت بشرؾ صداقته‪ .‬وبعد قراءتً الكتاب الذي أنت بصدد قراءته اآلن‪ ،‬أعترؾ‬
‫بؤننً شعرت بؤننً شخص ضبٌل؛ فقد كانت كلماته صادقة وحقٌقٌة بدرجة‬
‫خطفت أنفاسً‪.‬‬
‫استعد‪ ،‬وجهز نفسك‪ ،‬وتعلم كٌؾ تكون الشجاعة عندما تكتشؾ نفسك بهذه الطرٌقة‪.‬‬
‫حٌا‪ ،‬وٌكون لك بالػ‬‫واألهم من ذلك كله‪ ،‬تعلم كٌؾ ٌمكنك أن تبقى ً‬
‫األثر فً حٌاة اآلخرٌن بعد رحٌلك‪ ،‬من خبلل كلماتك؛ ففً ظل عالم التواصل ؼٌر‬
‫المتزامن الذي نعٌش فٌه الٌوم؛ حٌث ندفن رءوسنا فً الشاشات‪ ،‬ونحدق إلى‬
‫األجهزة مستطٌلة الشكل المهتزة بٌن أٌدٌنا‪ ،‬وتستنفد األشٌاء العابرة انتباهنا‪ ،‬أود منك‬
‫أن تتوقؾ وتستشعر هذا الحوار مع زمٌلً الشاب الراحل‪ ،‬الذي ال ٌزال‬
‫حٌا وباقًٌا فً ذاكرتنا الٌوم‪ .‬أود منك أن تستمع إلى حدٌث بول‪ ،‬وتنصت لما ستقول‬ ‫ً‬
‫فً فترات الصمت الواقعة بٌن كلماته‪ ،‬فهنا تكمن رسالته التً فهمت فحواها‪،‬‬
‫ً‬
‫حاببل‬ ‫والتً أرجو أن تصل إلٌك كذلك‪ ،‬فهً هدٌة من بول إلٌك؛ لذا دعنً ال أقؾ‬
‫بٌنك وبٌنه أكثر من ذلك‪.‬‬
‫تمهيد‬
‫كان وٌبستر مولعًا بالموت‬
‫فكان ٌرى الجماجم فً الوجوه‪،‬‬
‫والمخلوقات ببل صدور ومدفونة تحت األرض‪،‬‬
‫منحنٌة إلى الخلؾ ومبتسمة بشفاه متحللة‪.‬‬
‫من قصٌدة "‪Whispers of Immortality‬لـ تً‪ .‬إس‪ .‬إلٌوت"‬
‫قلبت صور األشعة المقطعٌة؛ حٌث كان التشخٌص واضحً ا؛ فالربتان مؽطاتان بعدد‬ ‫ُ‬
‫ال ٌحصى من األورام‪ ،‬والعمود الفقري مشوه‪ ،‬مع تلؾ فص كامل من‬
‫الكبــد‪ ،‬إلـى جـانب انتشـار السـرطان علـى نطـاق واسـع‪ .‬كنـت جـراح أعصـاب‬
‫مقـٌمًا‪ ،‬علـى وشـك إنـهاء سـنوات التـدرٌب‪ ،‬وعلـى مـدار السـنوات السـت‬
‫الماضـٌة‪ ،‬فحصـت‬
‫عشرات الصور المماثلة‪ ،‬لعلً أتخذ إجرا ًء قد ٌساعد المرٌض‪ ،‬لكن هذه األشعة‬
‫كانت مختلفة؛ فهً صورة األشعة الخاصة بً‪.‬‬
‫لم أكن مرتدًٌا الحلة الطبٌة الخضراء‪ ،‬أو المعطؾ األبٌض‪ ،‬بل كنت أرتدي ثوب‬
‫المرٌض‪ ،‬بٌنما اتصلت ذراعً بؤنبوب المحلول الورٌدي‪ ،‬مستخدمًا جهاز الكمبٌوتر‬
‫الذي تركته الممرضة فً ؼرفتً بالمستشفى‪ ،‬وإلى جانبً زوجتً لوسً طبٌبة‬
‫الباطنة‪ .‬وتفحصت صور األشعة مرة أخرى؛ فها هً ذي صورة الربة‪ ،‬وصورة‬
‫العظام‪،‬‬
‫وصورة الكبد‪ ،‬محر ًكا الصور من األعلى إلى األسفل‪ ،‬ومن الٌسار إلى الٌمٌن‪ ،‬ومن‬
‫األمام إلى الخلؾ‪ ،‬كما تدربت بالضبط‪ ،‬وكؤننً سؤجد شٌ ًبا ٌؽٌر التشخٌص‪.‬‬
‫نصا‬‫كنا نجلس معًا على سرٌر المستشفى‪ ،‬عندما قالت زوجتً بهدوء‪ ،‬وكؤنها تقرأ ً‬
‫مكتوبًا‪:‬‬
‫"هل هناك احتمالٌة ‪ -‬فً رأٌك ‪ -‬ألن ٌكون هناك تشخٌص آخر؟"‪.‬‬
‫فؤجبتها ً‬
‫قاببل‪" :‬ال"‪.‬‬
‫بعدها عانق كل منا اآلخر بشدة؛ فخبلل السنة الماضٌة كنا نشك فً أن هناك ورمًا‬
‫سرطانٌا ٌنمو فً داخلً‪ ،‬لكننا رفضنا أن نصدق هذا‪ ،‬أو أن نناقش المسؤلة‪.‬‬ ‫ً‬
‫ولكن قبل نحو ستة أشهر بدأت أفقد الوزن‪ ،‬وأشعر بؤلم شدٌد فً ظهري‪ .‬وعندما‬
‫ارتدٌت مبلبسً فً الصباح‪ ،‬الحظت أن حزامً صار أكثر اتساعًا؛ ما اضطرنً‬
‫إلى‬
‫تضــٌٌقه بمقـدار ثقـب أو اثنـٌن؛ فـذهبت إلـى اسـتشارة طبٌبـة الرعاٌـة األولٌـة؛‬
‫وهـً زمٌلـة دراسـة قـدٌمة فـً جامعـة سـتانفورد‪ ،‬وقـد كـانت شـقٌقتها جراحـة‬
‫أعصـاب‬
‫متدربة‪ ،‬لكنها توفٌت فجؤة بعد إصابتها بعدوى خبٌثة؛ لذلك كان حس األمومة ٌتملك‬
‫الطبٌبة وهً تتابع حالتً‪ ،‬لكن عندما وصلت إلى العٌادة‪ ،‬وجدت طبٌبة‬
‫أخرى فً مكتبها‪ ،‬واتضح أن زمٌلتً فً إجازة لرعاٌة طفلها‪.‬‬
‫مهلهبل‪ ،‬وتمددت على طاولة الفحص الباردة‪ ،‬ثم وصفت ما لديَّ‬ ‫ً‬ ‫ارتدٌت ثوبًا أزرق‬
‫ً‬
‫سإاال فً أحد امتحانات‬ ‫من أعراض للطبٌبة‪ ،‬وقلت لها‪" :‬بالطبع إذا كان هذا‬
‫كلٌة الطب‪ :‬شاب فً الخامسة والثبلثٌن من العمر‪ٌ ،‬عانً فقدان الوزن وألمًا مبرحً ا‬
‫فً الظهر لسبب مجهول؛ فستكون اإلجابة الصحٌحة (ج) سرطان؛ لكن ربما‬
‫ٌكون السبب هو إجهاد العمل‪ ،‬ال أعرؾ؛ لذا أود الخضوع للتصوٌر بؤشعة الرنٌن‬
‫المؽناطٌسً‪ ،‬حتى أتؤكد من السبب"‪.‬‬
‫أوال"‪ ،‬وعللت ذلك بؤن‬ ‫فقالت الطبٌبة‪" :‬أعتقد أن علٌنا تجربة األشعة السٌنٌة ً‬
‫التصوٌر بؤشعة الرنٌن المؽناطٌسً فً حاالت آالم الظهر مكلؾ للؽاٌة‪ ،‬كما أصبح‬
‫تجنــب التصــوٌر باألشــعة ؼــٌر الضــروري مإخــرً ا مــن أهــم مــا تــدعو إلٌــه‬
‫الــدولة توفــٌرً ا للنفقــات؛ ولكــن فــً الــوقت نفســه تعتمــد قٌمــة الفحـص علـى‬
‫مـا تبحـث عنـه؛‬
‫فاألشعة السٌنٌة ؼٌر مجدٌة فً حاالت السرطان‪ ،‬ومع ذلك ال ٌزال العدٌد من‬
‫األطباء ٌعتبرون طلب صور أشعة بالرنٌن المؽناطٌسً فً هذه المرحلة المبكرة‬
‫نوعًا‬
‫من أنواع المبالؽة‪ ،‬ثم أكملت حدٌثها قابلة‪" :‬األشعة السٌنٌة لٌست دقٌقة بصورة‬
‫كافٌة‪ ،‬لكن من المنطقً أن نبدأ بها ً‬
‫أوال"‪.‬‬
‫فسؤلتها‪" :‬ماذا عن أشعة سٌنٌة لبلنثناء والتمدد؛ فربما ٌكون التشخٌص المنطقً‬
‫ً‬
‫برزخٌا؟"‪.‬‬ ‫ً‬
‫فقارٌا‬ ‫لحالتً هو انزال ًقا‬
‫وفً انعكاس المرآة على الحابط‪ ،‬رأٌتها تبحث عن هذا المرض عبر محرك البحث‬
‫جوجل‪.‬‬
‫ثم بدأت تقرأ‪" :‬هو كسر جزبً ٌصٌب نحو خمسة بالمابة من البشر‪ ،‬وهو سبب شابع‬
‫آلالم الظهر لدى الشباب"‪.‬‬
‫وبعدها قالت لً‪" :‬حس ًنا‪ ،‬سوؾ أطلب منك هذا النوع من الفحص إذن"‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬شكرً ا لك"‪.‬‬
‫لماذا كنت حازمًا فً معطؾ الجراح‪ ،‬بٌنما كنت ودٌعًا فً ثوب المرٌض؟ فً‬
‫الحقٌقة‪ ،‬كنت أعرؾ عن آالم الظهر أكثر مما تعرؾ طبٌبتً؛ فقد تضمن جزء كبٌر‬
‫من‬
‫تدرٌبً كجراح أعصاب التعامل مع مشكبلت العمود الفقري‪ ،‬لكن ربما كان‬
‫االنزالق الفقاري هو االحتمال األقوى؛ فهو ٌصٌب نسبة كبٌرة من الشباب؛ لكن أن‬
‫تصاب بسرطان العمود الفقري فً الثبلثٌنٌات من العمر لهو أمر ؼٌر متوقع‪،‬‬
‫فاحتمال ذلك لن ٌتجاوز واح ًدا من عشرة آالؾ‪ .‬وحتى لو تضاعؾ هذا االحتمال‬
‫مابة‬
‫مرة فسٌظل أقل شٌوعًا من االنزالق الفقاري‪ .‬وربما أكون قد بالؽت فً إخافة نفسً‪.‬‬
‫كانت نتٌجة األشعة السٌنٌة جٌدة؛ فؤرجعنا سبب األعراض إلى إجهاد العمل وأثره‬
‫فً جسدي الذي تقدم به العمر‪ ،‬وحددنا موع ًدا للمتابعة‪ ،‬وعدت لبلنتهاء من‬
‫فحص آخر حالة فً ذلك الٌوم‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬بدأ فقدان الوزن ٌتباطؤ‪ ،‬وأصبح ألم الظهر‬
‫محتمبل؛ فصارت جرعة صؽٌرة من اآلٌبوبروفٌن تساعدنً على استكمال‬ ‫ً‬
‫الــٌوم‪ .‬وعلـى كـل حـال‪ ،‬لـم ٌبـق أمـامً الكثـٌر مـن أٌـام العمـل المنـهكة ذات‬
‫السـاعات األربـع عشـرة مـن العمـل؛ فقـد شـارفت رحلـة انتقـالً مـن طـالب طـب‬
‫إلـى أسـتاذ‬
‫ً‬
‫مصرا‬ ‫جراحة أعصاب على االنتهاء‪ ،‬فبعد عشر سنوات من التدرٌب القاسً‪ ،‬كنت‬
‫على المثابرة طوال الشهور الخمسة عشر المتبقٌة على انقضاء فترة إقامتً؛ وهو‬
‫ما جعلنً أحظى باحترام أساتذتً‪ ،‬وأفوز بجوابز محلٌة مرموقة‪ ،‬وأتلقى عروضًا‬
‫للعمل فً عدة جامعات مرموقة؛ لذلك أجلسنً مإخرً ا مدٌر البرنامج الذي‬
‫التحقــت بـه فـً جامعـة سـتانفورد‪ ،‬وقـال لـً‪" :‬بـول‪ ،‬أعتقـد أنـك سـتكون المرشـح‬
‫األول ألٌـة وظٌفـة تتقـدم إلٌـها‪ ،‬وحتـى ٌكـون معلـومًا لـدٌك‪ ،‬سـوؾ نبـدأ البحـث‬
‫عـن‬
‫شخص مثلك للعمل فً الكلٌة هنا‪ .‬ال أعدك بشًء بالطبع‪ ،‬لكن أعتقد أن علٌك‬
‫التفكٌر فً هذا المنصب"‪.‬‬
‫وصلت إلى قمة نجاحً المهنً فً السادسة والثبلثٌن من عمري‪ ،‬وصار مستقبلً‬
‫جلٌا أمامً؛ فكنت أتخٌل أننً أملك ٌخ ًتا فً البحر المتوسط ألسافر به مع زوجتً‬ ‫ً‬
‫ومن سننجبهم من أطفال فً عطبلت نهاٌة األسبوع‪ .‬وكنت أرى آالم ظهري تتبلشى‬
‫عندما ٌصبح جدول عملً أخؾ‪ ،‬وتصبح حٌاتً أكثر سبلسة‪ ،‬فرأٌت نفسً‬
‫أخٌرً ا وقد أصبحت الزوج الذي وعدت زوجتً بؤن أكونه‪.‬‬
‫وبعد ذلك بؤسابٌع قلٌلة‪ ،‬بدأت تنتابنً نوبات ألم حاد فً صدري‪ ،‬وصرت أفكر؛ هل‬
‫ارتطمت بشًء فً العمل؟ هل ُكسر ضلعً بشكل ما؟ وفً بعض اللٌالً كنت‬
‫أســتٌقظ ؼــار ًقا فــً عــرقً لــدرجة تبلـل المـبلءة‪ ،‬وبـدأ وزنـً ٌقـل مـرة أخـرى‪،‬‬
‫لكـن بوتـٌرة أسـرع مـن ذي قبـل‪ ،‬لـٌنقص مـن ‪ ٠١‬كـٌلوجرامًا إلـى ‪ ٤٦‬كـٌلوجرامًا‬
‫تقـرٌبًا‪ ،‬كمـا‬
‫أصــبت بســعال مزمــن؛ فلــم ٌعـد هنـاك مجـال للشـك‪ .‬وفـً ظـهٌرة أحـد أٌـام‬
‫السـبت‪ ،‬كنـت أرقـد بجـوار زوجتـً لوسـً تحـت أشـعة الشـمس فـً حـدٌقة‬
‫دولـورٌس فـً‬
‫مدٌنة سان فرانسٌسكو فً انتظار شقٌقتها‪ ،‬فلمحت زوجتً شٌ ًبا على شاشة هاتفً‬
‫الذي كان ٌعرض قاعدة بٌانات طبٌة تخص نتابج البحث عن "شٌوع السرطان‬
‫بٌن من تتراوح أعمارهم بٌن الثبلثٌن واألربعٌن"‪.‬‬
‫ففوجبت بلوسً‪ ،‬قابلة‪" :‬ماذا؟ لم أعرؾ أنك قلق ً‬
‫حقا بهذا الشؤن"‪.‬‬
‫لكننً لم أرد؛ فلم أكن أعرؾ ماذا ٌجب أن أقول‪.‬‬
‫فسؤلتنً قابلة‪" :‬هل ترٌد أن تتحدث معً عما ٌقلقك؟"‪.‬‬
‫كانت مهمومة؛ ألنها كانت قلقة من هذا االحتمال أٌضًا‪ ،‬وكذلك ألننً لم أتحدث معها‬
‫عنه‪ ،‬ولقد كانت مهمومة أٌضًا؛ ألننً وعدتها بحٌاة‪ ،‬وأعطٌتها حٌاة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫فسؤلتنً قابلة‪" :‬هل ٌمكنك أن تخبرنً من فضلك‪ ،‬لم ال تثق بً؟"‪.‬‬
‫فؤؼلقت هاتفً‪ ،‬وقلت لها‪" :‬دعٌنا نتناول بعض المثلجات"‪.‬‬
‫كنا قد خططنا فً وقت سابق لقضاء عطلة فً نٌوٌورك األسبوع التالً لزٌارة بعض‬
‫من أصدقاء الكلٌة القدامى‪ ،‬وكذلك ربما ٌساعدنا النوم لفترة كافٌة‪ ،‬وتناول بعض‬
‫قلٌبل‪ ،‬والتخلص من الضؽوط التً‬ ‫العصابر الباردة على إعادة التواصل فٌما بٌننا ً‬
‫لحقت بحٌاتنا الزوجٌة‪.‬‬
‫لكن كانت لدى زوجتً خطة مختلفة‪ ،‬فقالت لً قبل مٌعاد الرحلة بؤٌام قلٌلة‪" :‬لن‬
‫أذهب إلى نٌوٌورك معك"؛ حٌث قررت أن تترك البٌت أسبوعًا؛ فقد أرادت‬
‫بعض الوقت للتفكٌر فً الحال التً وصلت إلٌها حٌاتنا الزوجٌة‪ ،‬وتحدثت إلًَّ بنبرة‬
‫هادبة؛ ما ضاعؾ الدوار الذي شعرت به‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬ماذا؟ أنا لست مواف ًقا على هذا"‪.‬‬
‫كبل منا ٌرٌد‬‫فردت قابلة‪" :‬أنا أحبك كثٌرً ا؛ لذلك ٌحٌرنً األمر؛ لكننً قلقة من أن ً‬
‫أشٌاء مختلفة من عبلقتنا؛ وهو ما ٌجعلنً أشعر بؤننا لسنا متوافقٌن بعض‬
‫مصادفة‪ ،‬إلى جانب أننً عندما أتحدث‬ ‫ً‬ ‫الشًء‪ ،‬كما أننً ال أرٌد أن أكتشؾ مخاوفك‬
‫معك عن شعوري بالعزلة‪ٌ ،‬بدو لً أنك ال ترى فً هذا أٌة مشكلة؛ لذلك أنا‬
‫أحتاج إلى أن أفعل شٌ ًبا مختل ًفا"‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬ستكون األمور على ما ٌرام؛ فالسبب فً شعورك هذا هو فترة اإلقامة‬
‫فقط"‪.‬‬
‫حقا؟ ال بد من أن تدرٌب جراحة األعصاب ‪ -‬وهً أحد‬ ‫هل كانت األمور بهذا السوء ً‬
‫ضؽطا على زواجنا؛ فقد‬‫ً‬ ‫أصعب التخصصات الطبٌة وأكثرها إرها ًقا ‪ -‬قد شكل‬
‫بلٌال عدٌدة‪ ،‬وصلت فٌها إلى البٌت متؤخرً ا من العمل‪ ،‬بعد أن نامت زوجتً‬ ‫ٍ‬ ‫مررنا‬
‫بالفعل‪ ،‬ألنهار على أرضٌة ؼرفة المعٌشة منه ًكا‪ ،‬كذلك مررنا بؤٌام عدٌدة كنت‬
‫جدا قبل أن تستٌقظ هً؛ لكننا وصلنا إلى ذروة النجاح‬ ‫أذهب فٌها إلى العمل مبكرً ا ً‬
‫المهنً اآلن؛ فمعظم الجامعات ترؼب فً توظٌؾ كل منا؛ أنا فً مجال جراحة‬
‫األعصاب‪ ،‬ولوسً فً مجال الطب الباطنً‪ .‬لقد نجحنا فً تجاوز المرحلة الصعبة‬
‫من رحلتنا‪ .‬ألم نناقش هذا مرات عدٌدة؟ ألم تدرك لوسً أن هذا هو أسوأ وقت‬
‫إلثارة المشكلة بهذه الطرٌقة؟ أال تعلم أنه لم ٌبق سوى عام واحد فً مدة إقامتً‪،‬‬
‫وأننً أحبها‪ ،‬وأننا اقتربنا كثٌرً ا من الحٌاة التً تمنٌناها كثٌرً ا؟‬
‫فــردت قابلــة‪" :‬لــو كــان األمــر ٌتعلــق باإلقامــة فقــط‪ ،‬لتحملــت فقـد تجـاوزنا‬
‫هـذه النقطـة؛ لكـن المشـكلة هـً‪ :‬مـاذا إذا لـم ٌكـن األمـر كـذلك؟ فـهل تظـن ً‬
‫حـقا أن‬
‫األمـور‬
‫أكادٌمٌا وطبٌبًا معالجً ا فً جراحة األعصاب؟"‪.‬‬‫ً‬ ‫ً‬
‫أستاذا‬ ‫ستتحسن عندما تصبح‬
‫عرضت علٌها أال نذهب إلى هذه الرحلة‪ ،‬وبصراحة أكثر عرضت أن نذهب إلى‬
‫استشاري العبلقات الزوجٌة الذي رشحته لوسً منذ بضعة شهور‪ ،‬لكنها أصرت‬
‫على‬
‫أنها تحتاج إلى قضاء بعض الوقت وحدها‪ ،‬وفً هذه اللحظة تبدد الؽموض والتوتر‪،‬‬
‫ولم ٌبق أمامً سوى خٌار واحد؛ وهو تقبل رؼبتها فً االبتعاد ً‬
‫قلٌبل‪ ،‬فقلت‬
‫لنفسً حس ًنا‪ ،‬إذا قررت لوسً مؽادرة المنزل‪ ،‬فسؤعتبر أن زواجنا قد انتهى‪ ،‬وإذا‬
‫اكتشفت أننً مصاب بالسرطان‪ ،‬فلن أخبرها بذلك‪ ،‬وسوؾ تصبح حٌنها حرة‬
‫لتعٌش الحٌاة التً اختارتها‪.‬‬
‫وقبل أن أؼادر إلى نٌوٌورك‪ ،‬تسللت إلجراء بعض الفحوصات الطبٌة؛ الستبعاد‬
‫بعض أنواع السرطان الشابعة لدى الشباب؛ وكانت النتابج سلبٌة فٌما ٌخص‬
‫سرطان الخصٌة‪ ،‬وسرطان الجلد‪ ،‬وسرطان الدم‪ .‬كان قسم جراحة األعصاب‬
‫مشؽوال وممتل ًبا بالحاالت عن آخره كالعادة؛ لذلك تمر لٌلة الخمٌس‪ ،‬فٌؤتً صباح‬ ‫ً‬
‫ستا وثبلثٌن ساعة متواصلة فً ؼرفة العملٌات فً‬ ‫الجمعة ألجد نفسً قد قضٌت ً‬
‫سلسلة من الحاالت المعقدة‪ ،‬من بٌنها تضخم األوعٌة الدموٌة‪ ،‬وفتح ممرات‬
‫جانبٌــة للشــراٌٌن الــدماؼٌة‪ ،‬والتشــوهات الشــرٌانٌة الورٌــدٌة‪ ،‬فتنفســت‬
‫الصــعداء حٌنمــا حضــر الطبــٌب المعــالج‪ ،‬وأرحــت ظــهري إلــى الحــابط‬
‫لــدقابق‪ ،‬ولــم تســنح‬
‫الفرصة لً إلجراء أشعة سٌنٌة على الصدر إال عند مؽادرتً المستشفى‪ ،‬فً طرٌق‬
‫العودة إلى المنزل قبل التوجه إلى المطار‪ ،‬وقلت لنفسً إن هناك احتمالٌن‪ :‬إما أننً‬
‫مصاب بالسرطان؛ وفً هذه الحالة قد تكون هذه آخر مرة أرى فٌها أصدقابً‪ ،‬وإما‬
‫أننً لست مصابًا به؛ وفً هذه الحالة ال داعً إللؽاء الرحلة‪.‬‬
‫وهرعت إلى البٌت إلحضار حقٌبتً‪ ،‬ثم أقلتنً لوسً إلى المطار‪ ،‬وأخبرتنً بؤنها‬
‫حجزت لنا موع ًدا مع استشاري العبلقات الزوجٌة‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أتمنى لو كنت‬‫وبمجرد أن وصلت أمام بوابة المطار أرسلت إلٌها رسالة ً‬
‫هنا"‪.‬‬
‫وبعد دقابق قلٌلة‪ ،‬وصلنً ردها‪ ،‬قابلة‪" :‬أنا أحبك‪ ،‬وسؤكون فً انتظارك حٌنما‬
‫تعود"‪.‬‬
‫تٌبس ظهري بشدة خبلل الرحلة‪ ،‬وبمجرد وصولً إلى محطة جراند سنترال ألستقل‬
‫القطار حتى بٌت أصدقابً شمال المدٌنة‪ ،‬كنت أتلوى من شدة األلم‪ ،‬فعلى‬
‫مــدار األشــهر القلٌلــة الماضــٌة‪ ،‬انتــابتنً تقلصــات فــً الظــهر متفاوتــة‬
‫الحــدة؛ بــدءًا مــن ألــم بســٌط ٌمكــن تجاهلــه‪ ،‬إلــى ألــم ٌجعلنــً أتــوقؾ عــن‬
‫الكـبلم؛ ألعـض علـى‬
‫أســنانً‪ ،‬إلــى ألــم شــدٌد الحــدة ٌجعلنــً أصــرخ وأتلــوى علــى األرض‪ ،‬أمــا‬
‫األلــم الــذي شــعرت بـه فـً محطـة القطـار؛ فكـان مـن أشـد نوبـات األلـم التـً‬
‫انتـابتنً حـد ًة‪،‬‬
‫فرقدت على مقعد صلب فً منطقة االنتظار‪ ،‬وأنا أشعر بعضبلت ظهري تتقلص‪،‬‬
‫وأحاول تنظٌم نفسً للتحكم فً األلم ‪ -‬ولم ٌعد اآلٌبوبروفٌن ٌجدي نفعًا مع‬
‫هذا األلم ‪ -‬فصرت أذكر اسم كل عضلة وهً تتقلص حتى ال أبكً؛ ناصبة الفقار‪،‬‬
‫والعضلة المعٌنٌة‪ ،‬والعضلة الظهرٌة العرٌضة‪ ،‬والعضلة الكمثرانٌة‪...‬‬
‫فاقترب منً أحد الحراس‪ ،‬وقال‪" :‬سٌدي‪ ،‬ال ٌمكنك الرقود هنا"‪.‬‬
‫قاببل‪ " :‬آسؾ‪ .‬تقلصات ‪ ...‬شدٌدة ‪ ...‬فً ظهري"‪.‬‬ ‫فرددت بصعوبة‪ً ،‬‬
‫فرد الحارس ً‬
‫قاببل‪" :‬ولو‪ .‬ال ٌمكنك أن ترقد هنا"‪.‬‬
‫أنا آسؾ‪ ،‬لكن السرطان ٌفتك بً ‪.‬‬
‫كدت أقول ذلك‪ ،‬ولكن الكلمات توقفت على طرؾ لسانً‪ ،‬وقلت فً نفسً ماذا إذا لم‬
‫ٌكن األمر كذلك؟ فربما ٌكون هذا هو األلم الذي ٌشعر به من ٌعانون آالم‬
‫الظهر العادٌة‪ ،‬فقد كنت أعرؾ الكثٌر عن آالم الظهر ‪ -‬األسباب التشرٌحٌة‪،‬‬
‫والفسٌولوجٌة وراءه‪ ،‬والكلمات المختلفة التً ٌستخدمها المرضى لوصؾ أنواع األلم‬
‫المتباٌنة ‪ -‬لكننً لم أعرؾ معنى الشعور به‪ .‬ربما هذا هو كل ما فً األمر‪ ،‬ربما‪،‬‬
‫وربما لم أرد جلب التشاإم لنفسً‪ ،‬وربما لم أرد أن أنطق كلمة سرطان بصوت‬
‫عال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫فنهضت بصعوبة وعرجت إلى الرصٌؾ‪.‬‬
‫وفــً وقــت متــؤخر مــن عصــر هــذا الــٌوم‪ ،‬وصـلت إلـى بـٌت أصـدقابً فـً‬
‫مـدٌنة كولـد سـبرٌنج‪ ،‬علـى بعـد نحـو ثمـانٌن كـٌلومترً ا مـن شـمال مانـهاتن؛ التـً‬
‫تقـع علـى نـهر‬
‫هدســون‪ ،‬ووجــدت مجموعــة مــن أقــرب أصــدقاء الماضــً فــً اســتقبالً؛‬
‫حــٌث اختلطــت تــهالٌل ترحابــهم بؤصــوات األطفــال الســعداء العالٌــة‪ ،‬ثــم‬
‫تبــادلنا األحضــان‪،‬‬
‫وشعرت بالبرودة تتسلل إلى ٌدي عندما سؤلنً صدٌقً الذي حللت فً ضٌافته‪،‬‬
‫ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"ألم تؤت لوسً معك؟"‪.‬‬
‫فؤجبته‪" :‬مهمة مفاجبة فً العمل فً اللحظة األخٌرة"‪.‬‬
‫فرد ً‬
‫قاببل‪ٌ" :‬ا لخٌبة األمل!"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬هل تمانع فً أن أضع حقاببً أرضًا وأسترٌح بعض الوقت؟"‪.‬‬ ‫فسؤلته ً‬
‫كنت آمل أن تعٌد عدة أٌام ‪ -‬بعٌ ًدا عن ؼرفة العملٌات‪ ،‬مع الحصول على القدر‬
‫المناسب من النوم‪ ،‬والراحة‪ ،‬واالسترخاء باختصار‪ ،‬جرعة من الحٌاة الطبٌعٌة ‪-‬‬
‫قد تعٌد األعراض التً انتابت ظهري إلى النطاق الطبٌعً آلالم الظهر واإلجهاد؛‬
‫لكن بعد مرور ٌوم أو اثنٌن‪ ،‬بدا واضحً ا أن األلم سٌستمر‪.‬‬
‫ً‬
‫متثاقبل إلى طاولة الؽداء ألحدق إلى‬ ‫وكنت أنام خبلل أوقات اإلفطار‪ ،‬ثم أمشً‬
‫أطباق الفاصولٌا البٌضاء باللحم‪ ،‬وأرجل الكابورٌا التً لم أستطع إجبار نفسً على‬
‫ومستعدا للذهاب إلى الفراش ثانٌة‪ ،‬وكنت‬‫ً‬ ‫تناولها‪ ،‬وبحلول موعد العشاء أكون منه ًكا‬
‫أقرأ لؤلطفال أحٌا ًنا‪ ،‬لكن فً معظم الوقت كانوا ٌلعبون حولً وفوقً‪،‬‬
‫وٌقفزون وٌصٌحون‪ ،‬فٌتحدث إلٌهم صدٌقً‪ً ،‬‬
‫قاببل‪ٌ"( :‬ا أطفال‪ ،‬العم بول ٌحتاج إلى‬
‫الراحة‪ ،‬لم ال تذهبون وتلعبون فً مكان آخر؟")‪ .‬وتذكرت أحد أٌام العطلة‪،‬‬
‫حٌنما كنت مرشد المعسكر الصٌفً منذ خمسة عشر عامًا‪ ،‬وكنت أجلس على شاطا‬
‫البحٌرة فً كالٌفورنٌا الشمالٌة‪ ،‬مع عدد من األطفال؛ حٌث كانوا ٌمرحون‬
‫‪Death and‬وٌستخدموننً كعابق فً لعبة التقاط العلم‪ ،‬بٌنما كنت أقرأ كتابًا بعنوان‬
‫؛ لذا اعتدت أن أضحك على تناقض تلك اللحظة؛ شاب فً ‪Philosophy‬‬
‫العشرٌن من عمره ٌتوسط روعة األشجار‪ ،‬والبحٌرة‪ ،‬والجبال‪ ،‬ومزٌج من تؽرٌد‬
‫الطٌور وصخب األطفال البالؽٌن أربعة أعوام‪ ،‬بٌنما ٌدس أنفه فً كتاب أسود‬
‫صؽٌر عن الموت‪ ،‬ولم أالحظ التشابه بٌن ذلك الموقؾ وما ٌحدث اآلن‪ ،‬مع فارق‬
‫بدال من بحٌرة تاهو‪ ،‬هؤنذا أمام نهر هدسون؛ ولٌس األطفال ألناس ؼرباء‪ ،‬بل‬ ‫أنه ً‬
‫وبدال من أن أقرأ كتابًا ٌتحدث عن الموت‪ ،‬فٌعزلنً عن الحٌاة‬ ‫ً‬ ‫هم أطفال أصدقابً؛‬
‫من حولً‪ ،‬كان جسدي هو الذي ٌموت‪.‬‬
‫وفً اللٌلة الثالثة‪ ،‬تحدثت إلى مضٌفنا ماٌك؛ ألخبره بؤننً سوؾ أقطع الرحلة وأعود‬
‫للبٌت فً الٌوم التالً‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال ٌبدو لً أنك بخٌر‪ ،‬هل كل شًء على ما ٌرام؟"‪.‬‬ ‫فرد علًَّ ً‬
‫قاببل‪" :‬لم ال نحضر بعض المشروبات ونجلس معًا ً‬
‫قلٌبل؟"‪.‬‬ ‫أجبته ً‬
‫وبعد أن فعلنا‪ ،‬جلسنا معًا أمام المدفؤة‪ ،‬وقلت له‪" :‬ماٌك‪ ،‬أعتقد أننً مصاب‬
‫بالسرطان‪ ،‬ولٌس النوع الحمٌد منه"‪.‬‬
‫عال‪.‬‬
‫كانت هذه المرة األولى التً أتفوه بالكلمة بصوت ٍ‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ .‬إنه مقلب‪ ،‬ألٌس كذلك؟"‪.‬‬‫فرد علًَّ ً‬
‫فؤجبته ً‬
‫قاببل‪" :‬نعم"‪.‬‬
‫صمت ماٌك ً‬
‫قلٌبل‪ ،‬ثم قال‪" :‬ال أعلم عما أسؤل بالضبط"‪.‬‬
‫فرددت علٌه ً‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ .‬أوالً‪ ،‬ال بد من أن أقول إننً ال أعلم علم الٌقٌن أننً‬
‫مصاب بالسرطان؛ لكننً شبه متؤكد من هذا؛ حٌث تشٌر الكثٌر من األعراض‬
‫التً تنتابنً إلى ذلك؛ لذا سوؾ أعود إلى البٌت ؼ ًدا ألتحقق من األمر‪ ،‬وأتمنى أن‬
‫أكون مخط ًبا"‪.‬‬
‫وعرض علًَّ ماٌك أن ٌؤخذ أمتعتً وٌرسلها إلى بٌتً عن طرٌق شركة نقل حتى ال‬
‫أضطر إلى حملها معً‪ ،‬وفً صباح الٌوم التالً أوصلنً إلى المطار‪ ،‬وبعد ست‬
‫ساعات وصلت إلى سان فرانسٌسكو‪ .‬وبمجرد أن وضعت قدمًَّ إلى خارج الطابرة‬
‫حتى رن جرس هاتفً‪ ،‬ومن الجانب اآلخر‪ ،‬جاء صوت طبٌبة العناٌة األولٌة‪،‬‬
‫فبدال من أن تؤتً صورة ربتًَّ واضحة‪ ،‬بدت‬ ‫ٌخبرنً بنتابج فحص األشعة السٌنٌة؛ ً‬
‫ضبابٌة‪ ،‬كؤنها ال ُتقطت من عدسة كامٌرا ُتركت مفتوحة وق ًتا أكبر من البلزم‪،‬‬
‫وأخبرتنً بؤنها لٌست متؤكدة مما قد ٌعنٌه ذلك‪.‬‬
‫بل كانت تعلم ما ٌعنٌه ذلك على األرجح‪.‬‬
‫وكنت أعلم كذلك‪.‬‬
‫اصــطحبتنً لوســً مــن المطــار‪ ،‬لكننــً لــم أخبرهــا بــاألمر حتــى وصــلنا‬
‫إلــى البــٌت‪ ،‬فجلســنا علــى األرٌكــة‪ ،‬وعنــدما أخبرتــها كــانت تعــرؾ؛ فؤسـندت‬
‫رأسـها إلـى كتفـً‪،‬‬
‫وتبلشت المسافة فٌما بٌننا‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أحتاج إلٌك"‪.‬‬ ‫همست فً أذنها ً‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬لن أتركك أب ًدا"‪.‬‬
‫اتصلنا بصدٌق مقرب؛ وهو أحد جراحً األعصاب المقٌمٌن‪ ،‬وطلبت منه أن ٌدخلنً‬
‫المستشفى‪.‬‬
‫أعطونً السوار الببلستٌكً الذي ٌرتدٌه كل النزالء‪ ،‬وارتدٌت ثوب المستشفى ذا‬
‫اللون األزرق الفاتح المؤلوؾ بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬ومررت بالممرضات البلتً أعرؾ‬
‫أسماءهن‪،‬‬
‫وأنزلونً فً ؼرفتً‪ ،‬وهً الؽرفة ذاتها التً قابلت فٌها مبات المرضى على مدار‬
‫سنوات‪ .‬ففً هذه الؽرفة‪ ،‬جلست مع كثٌر من المرضى‪ ،‬وشرحت لهم تشخٌصات‬
‫حاالتهم النهابٌة‪ ،‬والعملٌات المعقدة؛ وفٌها أٌضًا هنؤت بعض المرضى بشفابهم من‬
‫أمراضهم‪ ،‬ورأٌت السعادة فً عٌونهم لعودتهم إلى الحٌاة مرة أخرى‪ .‬وفً هذه‬
‫الؽرفــة‪ ،‬أعلنــت وفــاة مرضــى آخــرٌن‪ ،‬وجلســت علــى هـذه الكراسـً‪،‬‬
‫وؼسـلت ٌـديَّ فـً هـذا الحـوض‪ ،‬وكتبـت تعلٌمـاتً بخـط األطبـاء الـرديء علـى‬
‫لوحـة التعلٌمـات‪،‬‬
‫وؼٌرت التقوٌم‪ ،‬حتى إننً فً لحظات اإلنهاك الشدٌد‪ ،‬كنت أتمنى أن أرقد فً هذا‬
‫الفراش وأؼط فً النوم‪ ،‬واآلن هؤنذا أرقد فً ذلك الفراش‪ ،‬ولكننً مستٌقظ‬
‫تمامًا‪.‬‬
‫أطلت ممرضة شابة ‪ -‬لم أكن قد قابلتها ‪ -‬برأسها قابلة‪:‬‬
‫"سٌؤتً الطبٌب بعد قلٌل"‪.‬‬
‫وهكذا كان المستقبل الذي تخٌلته دومًا‪ ،‬وكنت قد أوشكت أن أحققه تتوٌجً ا لعقود من‬
‫الكفاح قد تبخر‪.‬‬
‫انجزء األول‬

‫حينما كنت مفع ًما بانصحة‬


‫‬
‫ال بد أن ٌإمن المرء إٌما ًنا مطل ًقا بقدرة الخالق على شفابه‪.‬‬
‫حكمة شرقٌة‬
‫كنت أعلم علم الٌقٌن أننً لن أصبح طبٌبًا أب ًدا؛ ففً أحد األٌام حٌنما كنت ممد ًدا تحت‬
‫أشعة الشمس فوق سطح منزلنا‪ ،‬أتطلع باسترخاء إلى الصحراء‪ ،‬كان‬
‫عمً الطبٌب ‪ -‬مثله مثل الكثٌرٌن من أقاربً ‪ -‬قد سؤلنً فً وقت سابق من الٌوم‬
‫عن المسار المهنً الذي أخطط النتهاجه‪ ،‬بما أننً كنت سؤلتحق بالجامعة حٌنها‪.‬‬
‫ووقتها لم تشؽلنً كثٌرً ا إجابة ذلك السإال‪ ،‬وإذا ُك ْنت أجبرتنً على اإلجابة عنه‪،‬‬
‫أعتقد أننً كنت سؤقول إننً سوؾ أصبح كاتبًا؛ ولكن فً الواقع كنت أرى أن‬
‫أٌة أفكار عن مسٌرتً المهنٌة فً تلك المرحلة شًء من العبث؛ فقد كنت على وشك‬
‫ترك بلدتنا الصؽٌرة فً والٌة أرٌزونا خبلل أسابٌع؛ لذلك لم ٌكن شعوري شعور‬
‫شخص ٌستعد لتسلق السلم الوظٌفً‪ ،‬بل كان أقرب إلى إلكترون متذبذب ٌوشك أن‬
‫ٌصل إلى سرعة اإلفبلت؛ لٌنطلق فً كون باهر متؤللا لم ٌعهده من قبل‪.‬‬
‫هؤنذا راقد فً الوحل‪ ،‬تؽمرنً أشعة الشمس والذكرٌات‪ ،‬وأشعر بتقلص مساحة هذه‬
‫البلدة التً تبعد نحو ألؾ كٌلومتر عن سكنً الجامعً الجدٌد فً جامعة‬
‫ستانفورد‪ ،‬والمستقبل الواعد‪.‬‬
‫لم ٌرتبط الطب فً داخلً إال بالؽٌاب‪ ،‬أو على وجه التحدٌد‪ ،‬ؼٌاب األب الذي ٌتقدم‬
‫فً العمر؛ ذلك األب الذي كان ٌذهب إلى العمل قبل شروق الشمس‪ ،‬وٌعود‬
‫بعــد حلــول الظــبلم؛ لٌتنــاول فــً العشــاء طبـ ًقا مُعـا ًدا تسـخٌنه‪ .‬إنـه أبـً الـذي‬
‫نقلنـا عنـدما كنـت فـً سـن العاشـرة ‪ -‬ثبلثـة ذكـور تبلـػ أعمـارهم أربعـة عشـر‪،‬‬
‫وعشـرة‪،‬‬
‫وثمانٌة أعوام ‪ -‬من بلدة برونكسفٌل‪ ،‬فً نٌوٌورك؛ وهً ضاحٌة مزدحمة‪ ،‬ومترفة‬
‫شمالً مانهاتن‪ ،‬إلى مدٌنة كٌنجمان‪ ،‬فً والٌة أرٌزونا فً وا ٍد صحراوي محاط‬
‫بسلسلتٌن من الجبال؛ وهً مدٌنة معروفة للؽرباء بكونها فً المقام األول استراحة‬
‫للحصول على الوقود على طرٌق السفر إلى مكان آخر‪ ،‬ولعل ما دفعه إلى ذلك‬
‫هو دؾء المناخ وانخفاض تكالٌؾ المعٌشة هناك ‪ -‬وإال فكٌؾ سٌنفق على أبنابه‬
‫لٌلحقهم بالكلٌات التً تمناها لهم؟‪ -‬وكذلك رؼبته فً الحصول على فرصة لممارسة‬
‫جراحــة القلــب علــى المســتوى المحلـً؛ فسـرعان مـا جعلـه تفانٌـه وعطـاإه‬
‫عضـوا جـدٌرً ا بـاالحترام فـً الوسـط الطبـً‪ .‬وعنـدما كنـا نـرى أبـً‪،‬‬‫ً‬ ‫لمرضـاه‬
‫فـً وقـت متـؤخر مـن‬
‫حٌا من العواطؾ‬ ‫اللٌل‪ ،‬أو فً عطبلت نهاٌة األسبوع‪ ،‬كان ٌقدم إلٌنا مزٌجً ا ً‬
‫الجٌاشة‪ ،‬واألوامر الحاسمة‪ ،‬واألحضان والقببلت الممزوجة باألوامر الصارمة‪،‬‬
‫ودابمًا‬
‫قاببل‪" :‬من السهل أن تصبح األول فً مجالك؛ فكل ما علٌك هو أن‬ ‫ما كان ٌنصحنا ً‬
‫تعثر على الشخص األول فً هذا المجال‪ ،‬وتسجل نقطة واحدة أعلى منه"‪ .‬وقد‬
‫توصــل أبــً إلــى حــل وســط فــً عقلــه؛ وهــو أن عاطفــة األبــوة ٌمكــن‬
‫تقطٌرهــا فــً شــكل دفعــات صــؽٌرة ومـركزة (لكنـها صـادقة) مـن المشـاعر‬
‫الفٌاضـة التـً ٌمكنـها أن‬
‫تعادل ‪ ...‬ما ٌفعله ؼٌره من اآلباء؛ لذلك كان كل ما أدركته هو أنه إذا كان هذا ثمن‬
‫الطب‪ ،‬فإنه ثمن باهظ للؽاٌة‪.‬‬
‫ومــن فــوق هضــبتً الصــحراوٌة‪ ،‬أســتطٌع أن أرى منزلنــا خلــؾ حــدود‬
‫المــدٌنة مباشـرة‪ ،‬عنـد قاعـدة جبـال سـٌربات‪ ،‬ووسـط صـحراء الصـخور‬
‫الحمـراء؛ حـٌث تنتشـر‬
‫أشجار المسكٌت‪ ،‬وأعشاب تمبلوٌد الصحراوٌة‪ ،‬ونبات الصبار ذو األوراق‬
‫العرٌضة التً تشبه المجادٌؾ‪ .‬وفً هذا المكان البعٌد‪ ،‬تثور الدوامات الترابٌة من ال‬
‫شًء؛‬
‫فتشوش الرإٌة أمامك‪ ،‬ثم تتبلشى‪ ،‬وبعدها تمتد المساحات الخاوٌة على مرمى‬
‫البصر‪ ،‬ولم ٌمل كلبانا "ماكس" و"نٌب" من الحرٌة؛ ففً كل ٌوم كانا ٌبدآن‬
‫مؽامراتهما‪ ،‬ثم ٌعودان إلى المنزل بكنز جدٌد من الصحراء؛ كساق ؼزالة‪ ،‬أو بقاٌا‬
‫أرنب بري لٌتناوالها الح ًقا‪ ،‬أو جمجمة حصان بٌَّضتها الشمس‪ ،‬أو عظام فك‬
‫ذبب القٌوط‪.‬‬
‫أحببت أنا وأصدقابً الحرٌة كذلك‪ ،‬وكنا نقضً فترة بعد الظهٌرة فً االستكشاؾ‪،‬‬
‫والتنزه سٌرً ا على األقدام‪ ،‬والبحث عن العظام‪ ،‬والجداول النادرة فً الصحراء‪.‬‬
‫ً‬
‫نسبٌا‪،‬‬ ‫وألننً عشت السنوات السابقة فً ضاحٌة شمال شرق الببلد تشبه الؽابة‬
‫وذات شارع ربٌسً تحفه األشجار‪ ،‬به محل لبٌع الحلوى؛ وجدت هذه الصحراء‬
‫البرٌــة العاصــفة ؼرٌبــة وفاتنــة‪ .‬وفـً أول جولـة أذهـب فٌـها وحـدي‪ ،‬حٌنمـا‬
‫كنـت أبلـػ مـن العمـر عشـرة أعـوام‪ ،‬اكتشـفت ؼطـاء شـبكة ري قـدٌمة؛ فنزعتـه‬
‫بؤصـابعً‬
‫ورفعتــه عــالًٌا‪ ،‬وهنــاك علــى بعــد ســنتٌمترات قلٌلــة مــن وجــهً‪ ،‬رأٌــت‬
‫ثــبلث شــباك حرٌرٌــة بٌضــاء‪ ،‬فــً كـل منـها جسـم أسـود متؤللـا بصـلً الشـكل‬
‫ٌتمشـى بؤرجلـه‬
‫حامبل فً لمعانه الشكل المفزع للساعة الرملٌة ذات حمرة الدم‪ .‬وبالقرب‬ ‫ً‬ ‫الؽازلة‪،‬‬
‫من كل عنكبوت منها‪ ،‬رأٌت كٌسًا شاحبًا نابضًا ٌتنفس معل ًنا عن المٌبلد الوشٌك‬
‫لعــدد ال نــهابً مــن العنــاكب مــن فصــٌلة األرملــة الســوداء‪ .‬فــاجتاحنً‬
‫الــرعب لمــا تـذكرت إحـدى "حقـابق القـرى" القابلـة إنـه ( ال شـًء ممـٌ ًتا أكثـر‬
‫مـن لـدؼة عنكبـوت‬
‫األرملــة الســوداء) ‪ ،‬ورأٌــت الوضــعٌة الوحشــٌة التــً اتخــذتها العنكبـوت‪،‬‬
‫ولمعـان جسـمها األسـود‪ ،‬وشـكل السـاعة الرملٌـة األحمـر علـى ظـهرها؛ فصـارت‬
‫الكوابـٌس‬
‫تراودنً ألعوام‪.‬‬
‫قــــدمت إلٌنــــا الصــــحراء مجموعــــة متنوعــة مــن الكــابنات المرعبــة؛‬
‫كعنكبــوت الــرتٌبلء‪ ،‬والعنكبــوت الــذبب‪ ،‬والعنكبــوت الناســك البنــً‪ ،‬والعقــرب‬
‫النبــاح‪ ،‬والعقــرب‬
‫السوطً‪ ،‬والحرٌش‪ ،‬واألفعى الماسٌة‪ ،‬واألفعى الجانبٌة‪ ،‬وأفعى موهافً السامة؛‬
‫لكننا فً النهاٌة ألفنا هذه المخلوقات‪ ،‬لدرجة أننا لم نعد نشعر باالنزعاج من‬
‫وجودها؛ فعندما كنا نرٌد أنا وأصدقابً أن نمرح‪ ،‬كنا كلما اكتشفنا شبكة للعنكبوت‬
‫الذبب أسقطنا نملة على الحواؾ الخارجٌة للشبكة‪ ،‬وشاهدنا محاوالت‬
‫هروبها منها‪ ،‬ف ُتحدث اهتزازات فً الخٌوط الحرٌرٌة للشبكة وهً تنزلق‪ ،‬حتى‬
‫تصل إلى الثقب المركزي المظلم الذي تمكث فٌه العنكبوت‪ ،‬ونظل نترقب اللحظة‬
‫الحاسمة التً تندفع فٌها العنكبوت من التجوٌؾ‪ ،‬وتمسك بالنملة الهالكة بفكها السفلً‪،‬‬
‫وأصبحت أستخدم مصطلح "الحقابق القروٌة" كمقابل رٌفً لمصطلح‬
‫"األساطٌر المدنٌة"‪ ،‬فعندما سمعت بهذه الحقابق للمرة األولى‪ ،‬كانت تضفً قوى‬
‫خارقة على مخلوقات الصحراء فً ذهنً؛ ما ٌجعل سحلٌة جٌبل ‪ -‬على سبٌل‬
‫المثال ‪ -‬ال تقل خطورة عن وحوش األساطٌر اإلؼرٌقٌة؛ لكن بعد أن عشت فً‬
‫الصحراء بعض الوقت‪ ،‬أدركت أن بعض الحقابق القروٌة‪ ،‬مثل وجود األرنب البري‬
‫ذي القرون‪ ،‬تم اختبلقها عم ًدا إلدهاش أبناء المدٌنة‪ ،‬وتسلٌة السكان المحلٌٌن‪ .‬فذات‬
‫مرة‪ ،‬قضٌت ساعة كاملة فً إقناع مجموعة من الطبلب األلمان المدرجٌن فً‬
‫برنامج التبادل الطبلبً‪ ،‬بؤنه كان هناك بالفعل صنؾ معٌن من ذبب القٌوط ٌعٌش‬
‫بٌن نباتات الصبار‪ٌ ،‬مكنه أن ٌقفز إلى مسافة عشرة أمتار تقرٌبًا‪ ،‬لبلنقضاض‬
‫على فرٌسته (ملمحً ا إلٌهم بؤنهم قد ٌصبحون فرٌسته تلك)‪ .‬ومع ذلك لم ٌكن وسط‬
‫دوامات الرمال هذه من ٌعرؾ الحقٌقة؛ ففً مقابل كل حقٌقة تبدو ؼٌر‬
‫معقولة من حقابق القرى‪ ،‬كانت هناك حقٌقة أخرى تبدو منطقٌة وحقٌقٌة‪ .‬على سبٌل‬
‫بحثا عن العقارب‬‫المثال‪ ،‬تبدو الحقٌقة التً تقول تحقق من حذابك دومًا ً‬
‫ً‬
‫ومنطقٌة للؽاٌة‪.‬‬ ‫ً‬
‫واضحة‬
‫وفً سن السادسة عشرة‪ ،‬كان علًَّ أن أُق َّل أخً الصؽٌر جٌفان إلى المدرسة‪ .‬وفً‬
‫صباح أحد األٌام‪ ،‬كنت متؤخرً ا كعادتً‪ ،‬وكان أخً ٌقؾ نافد الصبر فً الردهة‪،‬‬
‫ٌصــرخ فــًَّ ‪ ،‬وٌخبــرنً بؤنــه ال ٌرٌــد أن ٌعــاقب مــرة أخــرى بســبب تلــ ُّكبً‪،‬‬
‫فــانطلقت مســرعًا‪ ،‬ورحــت أنــهب درجــات السـلم بقـدمًَّ ‪ ،‬وفتحـت البـاب‬
‫األمـامً بسـرعة ‪...‬‬
‫فوطــبت حٌــة جرســٌة نابمــة أمــام البــاب‪ ،‬طولــها متــران تقــرٌبًا‪ .‬وكــانت هـذه‬
‫حقٌقـة قروٌـة أخـرى تقـول إنـك إذا قتلـت حٌـة جرسـٌة أمـام عتبـة بٌتـك‪ ،‬فسـوؾ‬
‫ٌحضـر‬
‫عشا دابمًا هناك‪ ،‬مثلما حدث فً أسطورة الوحش‬ ‫شرٌكها وصؽارها‪ ،‬وٌبنً هإالء ً‬
‫جرٌندل وأمه التً تنتقم لمقتله؛ لذلك أجرٌنا قرعة أنا وجٌفان على أن ٌُحضر‬
‫الفابز بالقرعة جارو ًفا فحسب‪ ،‬أما الخاسر فٌُحضر قفازات سمٌكة من النوع الذي‬
‫ٌُستخدم فً أعمال البستنة وؼطاء وسادة‪ .‬وبحركة بهلوانٌة‪ ،‬استطعنا إدخال‬
‫الحٌة فً الؽطاء‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬كقاذؾ مطرقة فً األلعاب األولٌمبٌة‪ ،‬قذفته بعٌ ًدا فً‬
‫الصحراء‪ ،‬وأنا أنوي أن أسترد الؽطاء فً ساعة متؤخرة من عصر ذلك الٌوم؛‬
‫حتى ال أقع فً مشكلة مع أمً‪.‬‬
‫ولــم ٌكــن مــن بــٌن أبــرز ألؽــاز طفولتنــا‪ ،‬الســبب الــذي قــرر أبــً ألجلــه‬
‫إحضــار أســرته إلــى بلـدة كٌنجمـان الصـحراوٌة‪ ،‬فـً والٌـة أرٌزونـا‪ ،‬التـً‬
‫أصـبحنا نحبـها‪ ،‬بـل كـان‬
‫الكٌفٌة التً استطاع بها أبً إقناع أمً باالنضمام إلٌه هناك؛ فقد كان كل منهما واقعًا‬
‫فً حب اآلخر‪ ،‬وتنقبل من مكان إلى آخر حول العالم؛ من جنوب الهند‪،‬‬
‫موطن أمً‪ ،‬إلى مدٌنة نٌوٌورك (لذلك كان زواجهما محل استنكار من كبل الجانبٌن‪،‬‬
‫وتسبب األمر فً نشوب الخبلفات العابلٌة لسنوات؛ لدرجة أن جدتً ألمً‬
‫كانت ترفض االعتراؾ باسمً بول‪ ،‬وتصر على مناداتً باسمً األوسط سُدهٌر؛‬
‫وصوال إلى والٌة أرٌزونا؛ حٌث أُجبرت أمً على مواجهة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اعتزازا بهوٌتها الهندٌة)‬
‫خوفها المرضً الشدٌد من الثعابٌن‪ ،‬فكانت تصرخ حتى عند رإٌة األفعى الراسرة‬
‫الحمراء؛ أصؽر األفاعً‪ ،‬وألطفها‪ ،‬وأقلها أذى‪ ،‬وتؽلق أبواب المنزل‪ ،‬وتسلح‬
‫نفسها بؤقرب أداة حادة كبٌرة؛ مثل جاروؾ‪ ،‬أو ساطور‪ ،‬أو فؤس‪.‬‬
‫وكانت الثعابٌن مصدرً ا دابمًا للقلق بالنسبة إلى أمً‪ ،‬لكن أكثر ما كان ٌخٌفها على‬
‫اإلطبلق هو مستقبل أبنابها‪ ،‬فقبل أن ننتقل إلى العٌش هنا‪ ،‬كان أخً األكبر‬
‫ســومان قــد أوشــك أن ٌنــهً المرحلــة الثانوٌــة فــً مقاطعـة وٌسـتتشستر؛ حـٌث‬
‫كـان مـن المتـوقع لـه االلتحـاق بإحـدى الكلٌـات المرموقـة‪ ،‬ولكـن سـرعان مـا تـم‬
‫قبولـه فـً‬
‫جامعــة ســتانفورد بعــد وصــولنا إلــى كٌنجمــان‪ ،‬وؼــادر منزلنــا بعــد ذلــك‬
‫بقلٌــل؛ ولكننــا فٌمــا بعــد‪ ،‬عرفنـا أن مـدٌنة كٌنجمـان لٌسـت مثـل مقاطعـة‬
‫وٌسـتتشستر فـً‬
‫التعلٌم؛ وعندما استفسرت أمً عن النظام التعلٌمً الحكومً لمقاطعة موهاؾ‪،‬‬
‫أصٌبت بالذهول؛ فقد كان مركز اإلحصاء األمرٌكً الوطنً قد أعلن مإخرً ا أن‬
‫مدٌنة كٌنجمان هً المنطقة األقل تعلٌمًا فً أمرٌكا؛ حٌث وصلت نسبة ترك الدراسة‬
‫فً المرحلة الثانوٌة إلى ‪٢ ٠١‬؛ فلم ٌلتحق بالجامعة إال عدد قلٌل من الطبلب‪،‬‬
‫وبالطبع لم ٌلتحق أٌهم بجامعة هارفارد‪ ،‬التً كانت مقٌاس التفوق بالنسبة إلى أبً‪،‬‬
‫وهنا اتصلت أمً ببعض أصدقابها وأقاربها من ضواحً الساحل الشرقً‬
‫الثرٌــة طلــبًا للنصــح‪ ،‬ووجــدت بعضــهم ٌشــعر بالشــفقة علٌنــا‪ ،‬بٌنمــا ٌشــعر‬
‫بعضــهم اآلخــر باالبتــهاج؛ ألنــه لــم ٌعــد علـى أبنابـهم التنـافس مـع أبنـاء عابلـة‬
‫كوالنثـً‬
‫التواقٌن إلى التعلٌم بعد اآلن‪.‬‬
‫فً المساء‪ ،‬انفجرت أمً فً البكاء‪ ،‬وصارت تنتحب وحدها فً فراشها؛ ففً‬
‫الماضً حصلت أمً ‪ -‬التً تخشى من أن ٌعوق النظام التعلٌمً السٌا أبناءها ‪-‬‬
‫على‬
‫قابمة بالكتب المفٌدة المقترحة قراءتها قبل الدراسة الجامعٌة وفً أثنابها من مكان‬
‫ما‪ ،‬وألنها كانت تتدرب فً الهند لتصبح خبٌرة فسٌولوجٌة‪ ،‬ثم تزوجت فً سن‬
‫الثالثة والعشرٌن‪ ،‬لتنشؽل بعدها بتربٌة ثبلثة أطفال فً بلد ؼرٌب عنها؛ لم تقرأ‬
‫الكثٌر من الكتب المذكورة فً هذه القابمة؛ لذلك أرادت التؤكد دابمًا من أال ٌحرم‬
‫أبناإها مما حُرمت منه؛ فجعلتنً أقرأ رواٌة ‪ 4891‬فً سن العاشرة‪ .‬وعلى الرؼم‬
‫حبا عمٌ ًقا‬ ‫من صدمتً من بعض السطور الواردة فً هذه الرواٌة‪ ،‬فقد ؼرست فًَّ ً‬
‫للؽة‪ ،‬واهتمامًا بها‪.‬‬
‫وتبع ذلك عدد ال نهابً من الكتب والمإلفٌن؛ حٌث كنا نقرأ هذه القابمة بالترتٌب؛‬
‫بدءًا من الكونت دي مونت كرٌستو ‪ ،‬ثم إدجار أالن بو‪ ،‬ثم روبنسون كروزو‪ ،‬ثم‬
‫إٌفانهو ‪ ،‬ثم جوجول ‪ ،‬ثم آخر رجال الموهٌكان ‪ ،‬ثم دٌكنز‪ ،‬ثم توٌن‪ ،‬ثم جٌن‬
‫أوستن‪ ،‬ثم بٌلً باد ‪ ...‬وعندما بلؽت عامً الثانً عشر‪ ،‬صرت أختار الكتب بنفسً‪،‬‬
‫كما كان أخً سومان ٌرسل إلًَّ الكتب التً قرأها فً الجامعة؛ مثل األمٌر ‪ ،‬و دون‬
‫كٌشوت ‪ ،‬و كاندٌد ‪ ،‬وثورو‪ ،‬وسارتر‪ ،‬وكامو‪ ،‬و بٌوولوؾ ‪ .‬وقد أثرت فًَّ بعض‬
‫ً‬
‫فمثــبل أســس كتــاب عــالم جــدٌد رابــع فلســفتً‬ ‫الكتــب أكثــر مــن ؼٌرهــا؛‬
‫األخبلقٌــة الحــدٌثة‪ ،‬وأصــبح موضــوع مقـال قبولـً فـً الجامعـة؛ الـذي ناقشـت‬
‫فٌـه فكـرة أن‬
‫السعادة لٌست هً الؽاٌة فً الحٌاة‪ ،‬بٌنما مللت كثٌرً ا من مسرحٌة هاملت؛ التً تدور‬
‫‪To‬حول أفعال المراهقٌن المعتادة‪ .‬كذلك جعلتنً أنا وأصدقابً قصٌدة "‬
‫وؼٌرها من القصابد الرومانسٌة نقع فً العدٌد من " ‪His Coy Mistress‬‬
‫المشكبلت المضحكة خبلل المرحلة الثانوٌة؛ ً‬
‫فمثبل كثٌرً ا ما كنا نتسلل فً اللٌل‪،‬‬
‫لنؽنً‬
‫تحت نافذة قابدة فرٌق التشجٌع؛ (التً كان والدها رجل دٌن ‪American Pie‬أؼنٌة‬
‫فً البلدة؛ فخ َّم َّنا أنه لن ٌطلق علٌنا النار فً األؼلب)‪ .‬وبعد أن ضبطتنً أمً‬
‫فً أثناء عودتً إلى المنزل وقت الفجر من إحدى هذه المؽامرات اللٌلٌة الطابشة‪،‬‬
‫استجوبتنً بقلق وبدقة بخصوص كل مخدر ٌتعاطاه المراهقون‪ ،‬ولم تقتنع قط بؤن‬
‫أكثر األشٌاء المُسكرة التً جربتها حتى اآلن‪ ،‬هو دٌوان الشعر الرومانسً الذي‬
‫أعطتنً إٌاه األسبوع الماضً‪ ،‬فقد أصبحت الكتب أقرب أصدقابً وأشدهم حمٌمٌة‪،‬‬
‫أو عدسات مصقولة نقٌة تعطٌنً رإٌة جدٌدة للعالم‪.‬‬
‫وســعًٌا مــن أمــً إلــى ضــمان تلقــً أبنابــها مســتوى جٌــ ًدا مــن التعلـٌم‪ ،‬كـانت‬
‫ً‬
‫شـماال إلـى أقـرب المـدن‬ ‫تقلنـا مسـافة تبلـػ أكثـر مـن مابـة وسـتٌن كـٌلومترً ا‬
‫الكبـٌرة‪ ،‬الس‬
‫فٌجاس؛ كً نخضع الختبارات الكفاءة الدراسٌة األولٌة‪ ،‬واختبارات الكفاءة الدراسٌة‬
‫للمرحلة الثانوٌة‪ ،‬واختبارات الجامعة األمرٌكٌة‪ ،‬كما انضمت إلى مجلس‬
‫التعلـٌم‪ ،‬وحشـدت المعلمـٌن‪ ،‬وطـالبت بإضـافة مـواد المسـتوى المتقـدم إلـى المنـهج‪.‬‬
‫وقـد كـانت أمـً امـرأة اسـتثنابٌة؛ حـٌث أخـذت علـى عاتقـها مسـبولٌة تطوٌـر‬
‫النظـام‬
‫المدرسً فً بلدة كٌنجمان‪ ،‬وحققت ذلك بالفعل‪ .‬ونتٌجة لذلك‪ ،‬ساد شعور مفاجا فً‬
‫مدرستنا الثانوٌة بؤن سلسلة الجبال التً تحد البلدة لم تعد تحدد األفق‬
‫الذي نطمح إلى الوصول إلٌه‪ ،‬بل ما ٌقع وراءها‪.‬‬
‫فً سنة التخرج‪ ،‬نصح المستشار التوجٌهً بالمدرسة صدٌقً لٌو‪ ،‬مُلقً خطابات‬
‫قاببل له‪" :‬أنت ذكًٌّ ‪ ،‬وعلٌك االنضمام‬ ‫الترحٌب فً مدرستنا‪ ،‬وأفقر طفل عرفته‪ً ،‬‬
‫إلى الجٌش"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال آبه بنصٌحتهم‪ ،‬وإذا كنت ستلتحق بهارفارد‪ ،‬أو‬ ‫أخبرنً لٌو بذلك الح ًقا ً‬
‫ٌٌل‪ ،‬أو ستانفورد‪ ،‬فسؤفعل أٌضًا"‪.‬‬
‫ال أعرؾ ما إذا كنت أكثر سعادة حٌنما التحقت بجامعة ستانفورد‪ ،‬أم حٌنما التحق‬
‫لٌو بجامعة ٌٌل‪.‬‬
‫انقضى الصٌؾ‪ ،‬وبما أن الدراسة بجامعة ستانفورد تبدأ بعد الجامعات األخرى‬
‫بشهر‪ ،‬فقد تفرق أصدقابً‪ ،‬وتركونً وحدي‪ ،‬فكنت أقضً معظم فترات الظهٌرة‬
‫بٌن التجول فً الصحراء وحدي‪ ،‬واإلؼفاء‪ ،‬والتؤمل حتى تنهً صدٌقتً أبٌجٌل‬
‫عملها فً المقهى الوحٌد بمدٌنة كٌنجمان‪ .‬وكانت الصحراء تعتبر طرٌ ًقا مختصرً ا‬
‫إلى‬
‫ً‬
‫ونزوال إلـــى البلــدة؛ لــذلك كــان التــنزه‬ ‫المقــــهى‪ ،‬مــــن خــــبلل الجبــــال‪،‬‬
‫ســٌرً ا علــى األقــدام أكثــر متعــة مــن القٌــادة‪ .‬وكــانت أبٌجٌــل طالبــة فــً‬
‫أوابــل العشــرٌنات بجامعــة‬
‫كامبل حتى تجمع‬‫ً‬ ‫ً‬
‫دراسٌا‬ ‫ً‬
‫فصبل‬ ‫سكرٌبس؛ وألنها أرادت تجنب االقتراض‪ ،‬أجلت‬
‫المصارٌؾ الدراسٌة؛ لذلك جذبنً إقبالها على الحٌاة‪ ،‬وشعوري بؤنها تعرؾ أسرارً ا‬
‫ت علم النفس! وكثٌرً ا ما كنا نلتقً بعد أن تنهً‬ ‫ال نتعلمها إال فً الجامعة؛ فقد درس ْ‬
‫عملها‪ ،‬وكانت أبٌجٌل بالنسبة إلًَّ بشرى لبدء صفحة جدٌدة فً حٌاتً؛ أي‬
‫العالم الجدٌد الذي ٌنتظرنً بعد عدة أسابٌع‪ .‬وفً أحد األٌام‪ ،‬استٌقظت من قٌلولتً‪،‬‬
‫ظنا منها أننً جثة‪ ،‬فنظرت‬ ‫ونظرت إلى األعلى ألجد نسورً ا تحوم حولً؛ ً‬
‫إلى ساعتً ألجدها الثالثة تقرٌبًا؛ ما ٌعنً أننً كنت سؤتؤخر‪ ،‬فنفضت الؽبار عن‬
‫سروالً وركضت عبر الصحراء‪ ،‬إلى أن أفسحت الرمال الطرٌق‪ ،‬وظهر‬
‫الرصٌؾ‪،‬‬
‫وظهرت المبانً األولى على الطرٌق‪ ،‬ثم انعطفت حول الزاوٌة ألرى أبٌجٌل‪ ،‬وفً‬
‫ٌدها المكنسة تكنس بها أرضٌة المقهى‪.‬‬
‫فقالت لً‪" :‬لقد نظفت ماكٌنة اإلسبرسو بالفعل؛ فبل توجد قهوة مثلجة بالحلٌب لك‬
‫الٌوم"‪.‬‬
‫انتهت من تنظٌؾ األرضٌة‪ ،‬فدلفنا إلى الداخل‪ ،‬وسارت باتجاه ماكٌنة تسجٌل‬
‫ورقٌا كانت قد خبؤته هناك‪ ،‬ثم قالت وهً تقذؾ به إلًَّ ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫المدفوعات‪ ،‬والتقطت كتابًا‬
‫"ٌجب أن تقرأ هذا الكتاب؛ ألنك دابمًا ما تقرأ كتب المثقفٌن‪ ،‬فلم ال تجرب شٌ ًبا تافهًا‬
‫ولو مرة؟"‪.‬‬
‫‪Satan: His‬كان الكتاب عبارة عن رواٌة من خمسمابة صفحة بعنوان‬
‫‪Psychotherapy and Cure by the Unfortunate Dr. Kassler، J.S.P.S.‬‬
‫بقلم ‪،‬‬
‫جٌرٌمً لٌفٌن؛ فؤخذتها إلى المنزل‪ ،‬وأنهٌت قراءتها فً ٌوم واحد‪ ،‬وقد كان من‬
‫المفترض أن تكون الرواٌة مضحكة‪ ،‬ال موجهة إلى المثقفٌن‪ ،‬لكنها لم تكن كذلك؛‬
‫فقد طرحت االفتراض عدٌم الجدوى الذي ٌقول إن العقل خاضع لسٌطرة المخ‪ ،‬وهً‬
‫الفكرة التً أدهشتنً للؽاٌة؛ وأثبتت ضآلة فهمً للعالم من حولً‪ .‬وال بد‬
‫أن هذا صحٌح بالطبع؛ فماذا ٌمكن للمخ أن ٌفعل ؼٌر ذلك؟ فرؼم أن لنا إرادة حرة‪،‬‬
‫فإننا كابنات بٌولوجٌة تخضع لقوانٌن الفٌزٌاء؛ ومن ثم ما المخ إال عضو‬
‫بٌولوجً ٌخضع للقوانٌن ذاتها! كما أدركت أن المخ هو األداة التً ولَّدت كل األفكار‬
‫األدبٌة التً برعت فً إبراز الطبٌعة البشرٌة‪ ،‬وكان هذا االكتشاؾ بمنزلة نقطة‬
‫تحوُّ ل فً حٌاتً؛ ففً تلك اللٌلة بٌنما كنت جالسًا فً ؼرفتً‪ ،‬فتحت المجلد األحمر‬
‫الخاص بالمقرر التعلٌمً لجامعة ستانفورد‪ ،‬الذي تصفحته عشرات المرات‪،‬‬
‫وأمسكت بقلم التظلٌل الملون‪ ،‬وقررت إضافة فصول األحٌاء وعلم األعصاب لقابمة‬
‫اهتماماتً‪ ،‬التً كانت تحتوي فقط على فصول األدب‪.‬‬
‫وفً السنوات القلٌلة التً تلت ذلك‪ ،‬لم أكن أفكر كثٌرً ا فً مسٌرتً المهنٌة‪ ،‬مع أننً‬
‫كنت على وشك إنهاء دراستً الجامعٌة فً األدب اإلنجلٌزي‪ ،‬وعلم األحٌاء‬
‫البشري‪ .‬ولم تكن تحركنً حٌنها الرؼبة فً التخرج‪ ،‬بقدر ما كانت تدفعنً رؼبة‬
‫حقٌقٌة فً فهم ما الذي ٌضفً معنى على حٌاة اإلنسان؛ فقد كنت ال أزال أشعر‬
‫بؤن األدب ٌمنحنا أفضل تفسٌر لخباٌا العقل وأسراره‪ ،‬بٌنما ٌوضح علم األعصاب‬
‫أدق قوانٌن المخ‪ .‬وبدا لً أن قٌمة الحٌاة ‪ -‬على الرؼم من كونها مفهومًا ؼامضًا ‪-‬‬
‫ال تنفصل بؤٌة حال عن العبلقات اإلنسانٌة والقٌم األخبلقٌة؛ لذلك أحدثت كلمات تً‪.‬‬
‫إس‪ .‬إلٌوت فً قصٌدته "األرض الخراب" صدى عمٌ ًقا داخلً؛ حٌث ربطت‬
‫بٌن عٌش اإلنسان ببل هدؾ وعزلته‪ ،‬وسعٌه الجهٌد إلى التواصل البشري؛ كما‬
‫وجدت أن تشبٌهات إلٌوت تندرج ضمن لؽتً الخاصة‪ .‬كذلك هناك ك َّتاب آخرون‬
‫تركوا أثرً ا فً داخلً‪ ،‬مثل نابوكوؾ لوعٌه بؤن معاناتنا الخاصة قد تجعلنا أشخاصًا‬
‫متبلدٌن ال نحس بمعاناة اآلخرٌن‪ ،‬وكونراد إلٌمانه الشدٌد بالتؤثٌر العمٌق‬
‫لسوء التواصل فً حٌاة البشر‪ ،‬وكنت أإمن بؤن األدب ال ٌكشؾ لنا النقاب عن‬
‫تجارب اآلخرٌن فقط‪ ،‬بل إنه أٌضًا ٌقدم لنا األساس األفضل للتؤمل األخبلقً؛‬
‫ولهذا السبب بدت لً محاوالتً الموجزة الستكشاؾ المبادئ النظرٌة للفلسفة‬
‫التحلٌلٌة ببل روح؛ ألنها تفتقر إلى فوضى الحٌاة البشرٌة الحقٌقٌة ومعاناتها‪ ،‬بعكس‬
‫األعمال األدبٌة‪.‬‬
‫وخبلل سنوات الدراسة الجامعٌة‪ ،‬كانت دراستً الروحٌة للطبٌعة البشرٌة تتعارض‬
‫مع رؼبتً فً تشكٌل العبلقات اإلنسانٌة التً تشكل تلك الطبٌعة وتقوٌتها‪،‬‬
‫فإذا لم تكن الحٌاة التً لم ُتدرس تستحق العٌش‪ ،‬فهل تستحق الحٌاةُ التً لم ُتعش‬
‫الدراسة؟ وفً صٌؾ العام الدراسً الثانً‪ ،‬تقدمت إلى وظٌفتٌن؛ األولى‬
‫كمتــدرب فــً مــركز ٌــركس بــراٌمت لؤلبحـاث العلمٌـة شـدٌد التخصـص فـً‬
‫أتبلنتـا‪ ،‬والثانٌـة كطـا ٍه متـدرب فـً معسـكر سـٌٌرا‪ ،‬وهـً مقصـد خـرٌجً جامعـة‬
‫سـتانفورد‬
‫لقضاء العطبلت على الشواطا العتٌقة لبحٌرة فولٌن لٌؾ‪ ،‬المجاورة لمنطقة‬
‫دٌسولٌشن واٌلدرنس ذات الجمال األخاذ فً ؼابة إلدورادو الوطنٌة‪ .‬وكان ما سمعته‬
‫عن المعسكر ٌعدنً ببساطة بقضاء أفضل عطلة صٌفٌة فً حٌاتً؛ ففوجبت‬
‫وشعرت باإلطراء حٌنما تم قبولً للتدرب هناك‪ ،‬ولكن عرفت حٌنها أن قرود المكاك‬
‫المنتشرة هناك لدٌها نوع بدابً من الثقافة‪ ،‬كذلك كنت متحمسًا لبللتحاق بمركز‬
‫ٌركس‪ ،‬ومعرفة ما ٌمكن أن ٌكون المعنى الحقٌقً للحٌاة‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬كان‬
‫األمر إما دراسة معنى الحٌاة‪ ،‬وإما تطبٌقه ً‬
‫فعلٌا‪.‬‬
‫وبعد تؤجٌل االختٌار ألطول وقت ممكن‪ ،‬اخترت المعسكر فً النهاٌة‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫ذهبت إلى مكتب مستشار علم األحٌاء الخاص بً ألعلمه بقراري‪ .‬وحٌنما دخلت‬
‫ً‬
‫رجبل‬ ‫داسا رأسه فً الجرٌدة كالمعتاد‪ .‬وقد كان‬ ‫مكتبه‪ ،‬وجدته ٌجلس إلى مكتبه ً‬
‫هاد ًبا‪ ،‬ودو ًدا‪ ،‬ذا جفون ناعسة‪ ،‬لكنه تحول إلى شخص مختلؾ ً‬
‫كلٌا بمجرد أن‬
‫أخبرته بخطتً؛ حٌث اتسعت عٌناه‪ ،‬واحمرَّ وجهه‪ ،‬وأخذ الرذاذ ٌتناثر من فمه من‬
‫فرط االنفعال‪ ،‬وهو ٌسؤلنً ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫" ماذا؟ أتود أن تصبح بعد تخرجك عالمًا أو ‪ ...‬طاهًٌا؟"‪.‬‬
‫انتهى العام الدراسً وذهبت عبر الطرٌق الجبلً شدٌد الرٌاح‪ ،‬متجهًا إلى المعسكر‪،‬‬
‫لكننً كنت ال أزال أشعر ببعض القلق خشٌة أن أكون قد اتخذت منعط ًفا خاط ًبا فً‬
‫طوٌبل؛ فقد أوفى المعسكر بوعده‪ ،‬وقدم إلى الشباب‬ ‫ً‬ ‫حٌاتً؛ ولكن لم تمكث شكوكً‬
‫المنضم دفعة مركزة من السعادة الخالصة من جمال البحٌرات‬
‫الخبلب‪ ،‬والجبال‪ ،‬والناس؛ وثراء التجربة‪ ،‬والمحادثات‪ ،‬والصداقات‪ .‬وقد قضٌنا‬
‫لٌالً تحت ضوء القمر‪ ،‬الذي ؼمر ضوإه البرٌة؛ فصار بإمكاننا التنزه سٌرً ا دون‬
‫حاجة إلى مصابٌح‪ ،‬وكنا نبدأ السٌر فً الثانٌة صباحً ا‪ ،‬ونتسلق أقرب قمة جبل‪ ،‬جبل‬
‫تاالك تحدٌ ًدا‪ ،‬قبل شروق الشمس مباشرة؛ لنشاهد سماء اللٌل الصافٌة‬
‫المرصعة بالنجوم تنعكس على البحٌرات المستوٌة الهادبة المنتشرة فً األسفل عند‬
‫قاعدة الجبل‪ ،‬كما كان بعضنا ٌلتصق ببعض فً أكٌاس النوم‪ ،‬المخصصة للنوم‬
‫فوق قمم الجبال‪ ،‬على ارتفاع ثبلثة آالؾ متر تقرٌبًا؛ حٌث كنا نقاوم الرٌاح قارسة‬
‫البرودة بالقهوة التً كان أحدهم لطٌ ًفا بما ٌكفً لجلبها معه‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬كنا‬
‫نجلس لنشاهد أول خٌوط الشمس‪ ،‬حٌنما تتسرب مسحة خفٌفة من ضوء النهار‬
‫األزرق فً األفق من جهة الشرق فتطمس النجوم ببطء‪ ،‬ثم ٌبدأ ضوء النهار فً‬
‫االنتشار بشكل أفقً ورأسً‪ ،‬حتى ٌظهر أول شعاع للشمس‪ ،‬وٌبدأ المسافرون العمل‬
‫ببث النشاط فً طرق بحٌرة تاهو الجنوبٌة البعٌدة؛ لكنك إذا أطللت برأسك‬
‫فً الجهة المقابلة‪ ،‬فستستطٌع أن ترى ضوء النهار وهو ال ٌزال معتمًا وسط السماء؛‬
‫فهو لم ٌهزم ظبلم اللٌل الحالك بعد من ناحٌة الؽرب؛ فترى النجوم فً‬
‫كامل تؤللُبها‪ ،‬والقمر المكتمل ال ٌزال ساطعًا فً السماء‪ ،‬فمن جهة الشرق‪ ،‬ترى‬
‫ضوء النهار ٌتسلل إلٌك؛ ومن جهة الؽرب‪ ،‬ترى اللٌل ٌسود ببل نٌة لبلستسبلم؛‬
‫فبل ٌمكن ألي فٌلسوؾ أن ٌصؾ فحوى الفخامة فً مشهد أفضل من هذا؛ حٌث ٌقؾ‬
‫بٌن اللٌل والنهار‪ .‬تلك اللحظة التً بدت لً كؤن الضوء انبعث من فوره‬
‫وبشكل مفاجا! فبل ٌسعك فً هذا المشهد إال أن تشعر بضآلة وجودك أمام عظم‬
‫الجبل‪ ،‬واألرض‪ ،‬والكون‪ ،‬لكنك ال تزال تشعر بقدمٌك فوق األرض؛ فتتؤكد من‬
‫وجودك بالفعل وسط هذا المشهد المهٌب‪.‬‬
‫كان هذا هو الصٌؾ الذي قضٌته فً معسكر سٌٌرا‪ ،‬الذي قد ال ٌكون مختل ًفا عن أي‬
‫معسكر آخر‪ ،‬لكن كان كل ٌوم فً ذلك المعسكر مفعمًا بالحٌاة‪ ،‬وبالعبلقات‬
‫لٌــال أخــرى‪ ،‬تتجمــع مجموعــة منــا فــً‬
‫ٍ‬ ‫التــً تعطــً الحٌــاة مــؽزى‪ .‬وفــً‬
‫حجــرة الطعــام لتنــاول بعــض المشــروبات مــع المــدٌر المســاعد للمعسـكر ‪-‬‬
‫مـو ‪ -‬الـذي كـان أحـد‬
‫خرٌجً جامعة ستانفورد‪ ،‬ولكنه أراد أن ٌؤخذ استراحة من تحضٌر الدكتوراه فً‬
‫اللؽة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬وكان ٌناقش األدب والمشكبلت المإثرة فً مرحلة ما بعد المراهقة‪.‬‬
‫وفً العام التالً‪ ،‬عاد إلى تحضٌر الدكتوراه‪ ،‬وأرسل إلًَّ الح ًقا أول قصة قصٌرة‬
‫ُتنشر له؛ وهً عبارة عن ملخص الوقت الذي قضٌناه معًا‪ ،‬وقد كتب فٌها‪:‬‬
‫"فجؤة‪ ،‬واآلن فقط‪ ،‬عرفت ما أرٌد‪ .‬أرٌد للمستشارٌن أن ٌبنوا محرقة للجثث ‪ ...‬وأن‬
‫ٌتركوا رفاتً ٌتساقط وٌختلط بالرمال‪ ،‬أرٌد أن تختلط عظامً باألخشاب‬
‫الطافٌة على سطح البحٌرة‪ ،‬وأن تختلط أسنانً بالرمال ‪ ...‬فؤنا ال أإمن بحكمة‬
‫األطفال‪ ،‬وال بحكمة الكبار؛ ففً لحظة معٌنة‪ ،‬وهً بمنزلة نقطة تحول‪ ،‬تتبلشى‬
‫خبلصة خبراتك وسط تفاصٌل الحٌاة‪ ،‬ولن نتمتع بالحكمة ً‬
‫حقا إال إذا مررنا بهذه‬
‫اللحظة"‪.‬‬
‫وعندما عدت إلى المبنى الجامعً‪ ،‬شعرت بؤن كل شًء كما هو‪ ،‬كما شعرت بؤن‬
‫الحٌاة ؼنٌة وحافلة‪ .‬وخبلل السنتٌن التالٌتٌن‪ ،‬استمررت فً العمل جاه ًدا؛ سعًٌا‬
‫إلــــى فـــهم عمــٌق لفحــوى المــخ‪ ،‬فدرســت األدب والفلســفة لفــهم مــا ٌجعــل‬
‫للحٌــاة معنــى‪ ،‬ودرســت علــم األعصــاب‪ ،‬وعملــت فــً مــركز للتصــوٌر‬
‫بــالرنٌن المؽناطٌســً‬
‫عضوا أن ٌجد قٌمة فً هذا العالم‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫الوظٌفً لكً أفهم كٌؾ ٌستطٌع المخ بوصفه‬
‫عززت عبلقاتً بمجموعة من األصدقاء األعزاء من خبلل خوض مؽامرات‬
‫عدٌدة معًا؛ فداهمنا مقصؾ الكلٌة ذات مرة بمبلبس المؽول؛ وكوَّ َّنا مجموعات ذات‬
‫أسماء وهمٌة‪ ،‬وحضرنا مناسبات أسبوعٌة وهمٌة فً منزلنا المشترك‪ ،‬كما‬
‫التقطنا صورً ا لنا أمام بوابات قصر باكٌنجهام‪ ،‬متنكرٌن فً شكل ؼورٌبل‪ ،‬واقتحمنا‬
‫ساحة الجامعة بعد منتصؾ اللٌل كً نستلقً على ظهورنا ونستمع إلى صدى‬
‫أصواتنا‪ ،‬وما إلى ذلك‪( .‬وبعدها عرفت أن الكاتبة فٌرجٌنٌا وولؾ قد استقلت سفٌنة‬
‫ت بشدة‪ ،‬وهكذا توقفت عن‬ ‫حربٌة ذات مرة مرتدٌة زي ملكة حبشٌة؛ فعوقب ْ‬
‫التباهً بمقالبنا التافهة)‪.‬‬
‫فــــً ســنة التخــرج‪ ،‬وتحــدٌ ًدا فــً واحــدة مــن محاضــرات علــم األعصــاب‬
‫األخــٌرة التــً كــانت تتنــاول العبلقــة بــٌن علــم األعصــاب واألخــبلق‪ُ ،‬زرنــا‬
‫ً‬
‫مــركزا لعــبلج المصــابٌن‬
‫بإصابات خطٌرة فً المخ‪ .‬وبمجرد دخولنا ردهة االستقبال الربٌسٌة‪ ،‬سمعنا من‬
‫ٌنتحب بطرٌقة ٌنفطر لها القلب‪ ،‬ثم بدأت مرشدتنا الثبلثٌنٌة الودود تقدم نفسها‬
‫إلى المجموعة‪ ،‬لكن وقعت عٌناي على مصدر هذا الضجٌج‪ .‬فخلؾ طاولة‬
‫االستقبال‪ ،‬وُ ضعت شاشة تلفاز كبٌرة‪ ،‬وكانت تعرض حلقة من مسلسل ٌهدؾ إلى‬
‫حل‬
‫المشــكبلت االجتماعٌــة‪ ،‬علــى الوضــع الصــامت‪ .‬ورأٌــت علــى الشــاشة امــرأة‬
‫ســمراء البشــرة ذات عــٌنٌن زرقــاوٌن وشـعر مصـفؾ‪ ،‬تـهز رأسـها ً‬
‫قلٌـبل فـً‬
‫تـؤثر‪ ،‬وتسـتجدي‬
‫شــخصًا مــا خلــؾ الكــامٌرا‪ ،‬ثـم ابتعـدت الكـامٌرا فـرأٌت زوجـها عـرٌض الفكـٌن‬
‫جـهورٌا‪ ،‬ثـم تعـانق الزوجـان فـً حنـان‪ ،‬وارتفـع صـوت‬ ‫ً‬ ‫الـذي ال بـد أن لـه صـو ًتا‬
‫النحـٌب‬
‫فاقتربت ألتفقد مصدر الصوت خلؾ الطاولة‪ ،‬وهناك على بساط أزرق أمام التلفاز‪،‬‬
‫رأٌت شابة ربما فً العشرٌنات من العمر‪ ،‬ترتدي فستا ًنا ناعمًا ذا ورد‪ ،‬مكوَّ رة‬
‫ٌدٌها وضاؼطة بهما على عٌنٌها‪ ،‬وتتؤرجح بعنؾ إلى األمام وإلى الخلؾ‪ ،‬وأخذت‬
‫تنتحب بقوة‪ ،‬وبٌنما كانت تتؤرجح‪ ،‬لمحت مإخرة رأسها؛ حٌث تساقط شعرها‬
‫كاش ًفا عن رقعة باهتة كبٌرة من الجلد‪.‬‬
‫تراجعت ألنضم إلى المجموعة التً همت بالتحرك ألخذ جولة فً المركز‪ ،‬واكتشفت‬
‫من خبلل حدٌثً مع المرشدة أن العدٌد من المقٌمٌن هنا قد تعرضوا للؽرق فً‬
‫طفولتهم وتم إنقاذهم‪ ،‬ثم نظرت حولً والحظت أننا كنا الزوار الوحٌدٌن؛ فسؤلتها إن‬
‫ً‬
‫عادٌا‪.‬‬ ‫كان هذا األمر‬
‫أجابتنً المرشدة بؤنه فً البداٌة تزور العابلة مرٌضها باستمرار‪ ،‬ربما كل ٌوم‪ ،‬أو‬
‫مرتٌن فً الٌوم‪ ،‬ثم ٌومًا بعد ٌوم‪ ،‬وبعد ذلك فً عطبلت نهاٌة األسبوع فحسب‪،‬‬
‫تدرٌجٌا‪ ،‬حتى تقتصر على أٌام ذكرى‬‫ً‬ ‫وبعد مرور أشهر أو سنوات‪ ،‬تقل الزٌارات‬
‫المٌبلد والمناسبات فقط‪ .‬وفً نهاٌة المطاؾ‪ ،‬تنتقل معظم العاببلت إلى مناطق بعٌدة‬
‫‪ -‬أبعد ما ٌمكنها الذهاب إلٌه‪.‬‬
‫أردفت المرشدة قابلة‪" :‬ال ألومهم على فعلتهم هذه؛ فمن الصعب أن تعتنً بهإالء‬
‫األطفال"‪.‬‬
‫شعرت بؽضب شدٌد لوقع كلمة " من الصعب" على أذنً‪ ،‬فهً مسؤلة صعبة طبعًا‪،‬‬
‫ولكن كٌؾ لآلباء أن ٌتخلوا عن أطفالهم بهذه الطرٌقة؟ وفً إحدى الؽرؾ‪،‬‬
‫كان النزالء مستلقٌن على أسرَّ تهم‪ ،‬ببل حراك تقرٌبًا‪ ،‬وكانت األسرَّ ة منظمة فً‬
‫صفوؾ أنٌقة مثل أسرَّ ة الجنود فً ثكناتهم؛ فمررت خبلل صفٌن منها حتى نظرت‬
‫مباشــرة إلــى عــٌنً إحــداهن ‪ -‬فتـاة فـً أواخـر سـنوات المراهقـة‪ ،‬ذات شـعر‬
‫أسـود متشـابك‪ ،‬ثـم تـوقفت وجـربت أن أبتسـم لـها ألشـعرها بـؤننً أهتـم بـؤمرها‪،‬‬
‫والتقطـت‬
‫إحدى ٌدٌها ألجدها مرتخٌة تمامًا‪ ،‬لكن الفتاة أصدرت صو ًتا ٌشبه القرقرة‪ ،‬وابتسمت‬
‫وهً تنظر إلًَّ مباشرة‪.‬‬
‫فقلت للمرشدة‪" :‬أعتقد أنها تبتسم"‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬ربما‪ٌ .‬صعب التؤكد من هذا أحٌا ًنا"‪.‬‬
‫لكننً كنت متؤك ًدا‪ ،‬لقد كانت تبتسم‪.‬‬
‫عندما عدنا إلى مبنى الجامعة‪ ،‬كنت آخر من ترك الؽرفة مع أستاذي الذي سؤلنً‪،‬‬
‫ً‬
‫قاببل‪" :‬ما رأٌك فً زٌارة الٌوم؟"‪.‬‬
‫فحدثته بصراحة حول أننً لم أصدق أن اآلباء قد تخلوا عن هإالء األطفال المساكٌن‬
‫بهذه الطرٌقة‪ ،‬وكٌؾ ابتسمت لً إحدى النزٌبلت‪.‬‬
‫وكان األستاذ معلمًا مخلصًا‪ ،‬وأحد أولبك األشخاص الذٌن ٌفهمون جٌ ًدا مدى ارتباط‬
‫العلم باألخبلق؛ لذا توقعت أن ٌتفق معً‪ ،‬وأجابنً ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"نعم‪ ،‬أظن أن رأٌك هذا سٌفٌدك كثٌرً ا؛ ولكن أعتقد أحٌا ًنا أن الموت أفضل لهم مما‬
‫هم علٌه"‪.‬‬
‫عندها‪ ،‬أخذت حقٌبتً وؼادرت‪.‬‬
‫قاببل إنها كانت تبتسم بالفعل ‪ ،‬ألٌس كذلك؟‬‫وبعدها‪ ،‬أخذت أتحدث إلى نفسً ً‬
‫لم أدرك إال فً وقت الحق أن هذه الزٌارة قد أضافت بع ًدا جدٌ ًدا لفهمً لحقٌقة أن‬
‫المخ هو المسبول عن تشكٌل قدرتنا على تكوٌن العبلقات‪ ،‬وهو ما ٌجعل الحٌاة‬
‫ذات مؽزى؛ لكن أحٌا ًنا ما ٌتعطل المخ‪.‬‬
‫●●●‬
‫بحلول موعد التخرج‪ ،‬كان ٌنتابنً شعور مإرق بؤنه ال ٌزال أمامً الكثٌر للؽاٌة من‬
‫األمور المعلقة‪ ،‬وأننً لم أنته من الدراسة بعد؛ فتقدمت للحصول على درجة‬
‫الماجستٌر فً األدب اإلنجلٌزي من جامعة ستانفورد‪ ،‬وتم قبولً فً البرنامج بالفعل‪،‬‬
‫وفً تلك المرحلة رحت أنظر إلى اللؽة كقوة خارقة للطبٌعة بٌن أٌدي البشر‬
‫تمنح أمخاخنا المحصنة داخل جماجم ٌبلػ سمكها عدة سنتٌمترات القدرة على تبادل‬
‫األفكار والمشاعر؛ فالكلمة ال تعنً شٌ ًبا إال بٌن البشر‪ ،‬كما أن معنى الحٌاة‬
‫وقٌمتها ٌرتبطان بمدى عمق العبلقات التً نكوِّ نها؛ فالقرابة بٌن البشر –"العبلقات‬
‫اإلنسانٌة"– هً األساس الذي ٌدعم هذا المعنى؛ لكن بطرٌقة ما‪ ،‬تحدث هذه‬
‫العملٌة داخل المخ والجسد؛ لذلك فهً تخضع لقواعدهما الفسٌولوجٌة؛ ومن ثم فهً‬
‫عرضة للتعطل والفشل‪ ،‬لذلك فإننً أعتقد أنه ال بد أن هناك طرٌقة‬
‫ُتصاغ بها لؽة الحٌاة كما نعرفها؛ العاطفة‪ ،‬والجوع‪ ،‬والحب والسؤم فً بعض‬
‫العبلقات؛ وهً تؽلؾ لؽة الخبلٌا العصبٌة‪ ،‬والجهاز الهضمً‪ ،‬ونبضات القلب‪.‬‬
‫محظوظا بما ٌكفً ألن أدرس مع‬‫ً‬ ‫وفً أثناء دراستً فً جامعة ستانفورد‪ ،‬كنت‬
‫رٌتشارد رورتً‪ ،‬الذي ربما ٌعد أعظم فٌلسوؾ معاصر‪ .‬وعلى ضوء إرشاداته‪،‬‬
‫بدأت‬
‫أدرك أن لكــل فــرع مــن فــروع المعرفــة مفــردات محـددة؛ وهـً مجموعـة‬
‫أدوات لفـهم الحٌـاة اإلنسـانٌة بطرٌقـة معٌنـة‪ ،‬فعلـى سـبٌل المثـال‪ ،‬تشـمل األعمـال‬
‫األدبٌـة العظٌمة مجموعات خاصة بها من المفردات‪ ،‬وتدفع القارئ إلى استخدام تلك‬
‫المفردات ذاتها‪ .‬وفً أطروحتً الجامعٌة‪ ،‬درست أعمال والت واٌتمان‪ ،‬وهو شاعر‬
‫أرَّ قته منذ قرن األسبلة ذاتها التً تإرقنً اآلن‪ ،‬وأراد أن ٌعثر على طرٌقة لفهم‬
‫ووصؾ ما أطلق علٌه "الجانب العضوي الروحً فً اإلنسان"‪.‬‬
‫وعنــدما أنــهٌت أطـروحتً الجامعٌـة‪ ،‬كـان مـا خلصـت إلٌـه هـو أن واٌتمـان لـم‬
‫حـظا فـً صـٌاؼة مجموعـة مفـردات متماسـكة لمسـؤلة "الجـانب‬ ‫ً‬ ‫ٌكـن أوفـر منـا‬
‫العضـوي‬
‫الروحً فً اإلنسان"‪ ،‬لكن على األقل كانت الجوانب التً فشل فٌها ملهمة بالنسبة‬
‫لً‪ .‬كذلك ازداد ٌقٌنً بؤننً لم أعد راؼبًا فً االستمرار فً الدراسات األدبٌة؛‬
‫سفسطة إلى حد كبٌر‪ ،‬وتتعارض مع العلم‪ .‬وقد أخبرنً أحد‬ ‫ً‬ ‫حٌث راحت تبدو لً‬
‫صعوبة فً إٌجاد مجتمع ٌبلبمنً فً‬ ‫ً‬ ‫مستشاري رسالتً الجامعٌة بؤننً سؤواجه‬
‫األوساط األدبٌة؛ ألن معظم حاملً درجة الدكتوراه فً اللؽة اإلنجلٌزٌة ٌتعاملون مع‬
‫العلم بـ"رعب مطلق‪ ،‬مثلما تتعامل القرود مع النار" على حد تعبٌره؛ لذلك‬
‫لم أكن متؤك ًدا من أي مسار ستتخذه حٌاتً‪ ،‬وكانت أطروحتً الجامعٌة بعنوان‬
‫"واٌتمان وتطبٌب الشخصٌة"‪ ،‬وقد قوبلت بحفاوة‪ ،‬مع أنها لم تكن تقلٌدٌة؛‬
‫حٌث احتوت على الكثٌر من تارٌخ الطب النفسً وعلم األعصاب فً صورة نقد‬
‫أدبً؛ لذا فهً لم تكن تناسب قسم اللؽة اإلنجلٌزٌة‪ ،‬كما لم أكن أناسبه كذلك‪.‬‬
‫وانتقل بعض أعز أصدقاء الجامعة إلى مدٌنة نٌوٌورك لبدء حٌاتهم فً مجال الفنون؛‬
‫بعضهم فً مجال الكومٌدٌا‪ ،‬وبعضهم اآلخر فً مجاالت الصحافة والتلفاز‪،‬‬
‫عاجزا عن صرؾ‬ ‫ً‬ ‫قلٌبل فً االنضمام إلٌهم وبدء صفحة جدٌدة‪ ،‬لكننً كنت‬‫ففكرت ً‬
‫انتباهً عن أحد األسبلة‪ ،‬وهو‪ :‬ما نقطة التبلقً بٌن علم األحٌاء‪ ،‬والمبادئ‬
‫األخبلقٌــة‪ ،‬واألدب‪ ،‬والفلســفة؟ وذات مــرة بعــد الظــهٌرة‪ ،‬كنــت عابــ ًدا إلــى‬
‫البــٌت مــن مبـاراة كـرة قـدم‪ ،‬وقـد أطلقـت العنـان ألفكـاري‪ ،‬فلقـد حـدث معـً‬
‫مثلمـا روى‬
‫أوجستٌن فً سٌرته الذاتٌة عندما كان جالسًا فً إحدى الحدابق‪ ،‬وسمع صوت طفل‬
‫ٌقول‪" :‬انهض واقرأ"‪ ،‬لكن الصوت الذي سمعته أمرنً بالعكس ً‬
‫قاببل‪" :‬ن ِّح‬
‫الكتب جانبًا ومارس الطب"‪ .‬وفجؤة‪ ،‬بدا لً كل شًء واضحً ا؛ فعلى الرؼم من أن –‬
‫أو ربما ألن – عمً وأبً وأخً األكبر كانوا أطباء‪ ،‬لم ٌخطر ببالً العمل طبٌبًا‬
‫قاببل إنه لٌس بإمكان أحد أن ٌفهم‬ ‫كخٌار محتمل قط‪ ،‬ولكن ألم ٌكتب واٌتمان بنفسه ً‬
‫"الجانب العضوي الروحً فً اإلنسان" بحق‪ ،‬إال إذا كان طبٌبًا؟‬
‫فً الٌوم التالً‪ ،‬طلبت نصٌحة أحد مستشاري الدراسة التمهٌدٌة لكلٌة الطب بشؤن‬
‫كٌفٌة التخطٌط لذلك؛ حٌث إن التحضٌر لكلٌة الطب ٌستؽرق نحو عام من‬
‫الدورات الدراسٌة المكثفة‪ ،‬إلى جانب فترة التقدم التً ستستؽرق ثمانٌة عشر شهرً ا‬
‫أخرى؛ وهذا ٌعنً أننً سؤترك أصدقابً ٌسافرون إلى نٌوٌورك‪ ،‬وٌستمرون فً‬
‫توطٌد عبلقات بعضهم البعض من دونً‪ ،‬كما سٌقتضً األمر أن أنحً األدب جانبًا؛‬
‫لكنه فً الوقت ذاته سٌمنحنً فرصة للعثور على إجابات ال تقدمها الكتب‪،‬‬
‫وإٌجاد نوع آخر من السمو الروحانً‪ ،‬وتكوٌن عبلقات مع من ٌعانون‪ ،‬واالستمرار‬
‫فً البحث عن إجابة لما ٌجعل للحٌاة مؽزى‪ ،‬ولو فً مواجهة الموت والمرض‪.‬‬
‫بدأت أدرس الدورات الطبٌة التمهٌدٌة الضرورٌة‪ ،‬وأركز على الكٌمٌاء والفٌزٌاء‪،‬‬
‫ولم أرؼب فً الحصول على وظٌفة بدوام جزبً؛ كً ال تعطلنً عن الدراسة‪،‬‬
‫لكننً لم أستطع دفع إٌجار السكن فً مدٌنة بالو ألتو؛ لذا عندما وجدت نافذة مفتوحة‬
‫خاو‪ ،‬تسلقت البناٌة إلى أن دخلت الحجرة‪ ،‬وأقمت هناك‪،‬‬‫فً سكن طلبة ٍ‬
‫وبعد عدة أسابٌع‪ ،‬اكتشفت وجودي مشرفة البناٌة‪ ،‬التً تصادؾ كونها إحدى‬
‫صدٌقاتً‪ ،‬فؤعطتنً مفتاحً ا للؽرفة‪ ،‬وبعض التحذٌرات المفٌدة؛ كؤن أتوخى الحذر‬
‫عند قدوم معسكرات فرٌق تشجٌع الفتٌات‪ .‬وكً ال ٌتم اتهامً بمضاٌقة هإالء‬
‫الفتٌات؛ كنت أحضِّر خٌمة‪ ،‬وبعض الكتب‪ ،‬وبعضًا من حبوب الفطور‪ ،‬وأتوجه‬
‫إلى بحٌرة تاهو فً وقت إقامة مثل تلك المعسكرات‪ ،‬إلى أن تنتهً وٌصبح الوضع‬
‫آم ًنا فؤعود‪.‬‬
‫وألن دورة التقدم إلى كلٌة الطب تستؽرق ثمانٌة عشر شهرً ا‪ ،‬فإننً أصبحت ً‬
‫حرا‬
‫لمدة عام بعد انقضاء الدورات الدراسٌة‪ ،‬فاقترح علًَّ عدد من أساتذتً أن أحصل‬
‫على درجة أكادٌمٌة فً تارٌخ العلوم والطب وفلسفتهما قبل تركً الوسط األكادٌمً‬
‫إلى األبد‪ .‬وهكذا قدمت أوراقً لبللتحاق بالبرنامج الخاص بالحصول على هذه‬
‫الدرجة فً جامعة كامبرٌدج‪ ،‬وتم قبولً بالفعل‪ .‬وقضٌت العام التالً فً فصول تقع‬
‫فً الرٌؾ اإلنجلٌزي؛ حٌث وجدت أننً أصبحت أقضً أوقا ًتا طوٌلة أجادل‬
‫إلثبات أن االحتكاك المباشر بقضاٌا الحٌاة والموت شًء أساسً لتكوٌن آراء أخبلقٌة‬
‫حقٌقٌة عنهما‪ ،‬كما بدأت أشعر بؤن الكلمات أصبحت خاوٌة‪ ،‬ال معنى لها‬
‫ولٌست قادرة على التعبٌر عن تلك األمور‪ .‬واآلن عندما أنظر إلى تلك الفترة‪ ،‬أدرك‬
‫أننً كنت خبللها أإكد بداخلً ما كنت أرٌده بالفعل؛ وهو أننً أرؼب فً خوض‬
‫التجربــة بشــكل مباشــر‪ ،‬ولــم ٌكــن أمـامً طـرٌق لدراسـة الفلسـفة البٌولوجٌـة‬
‫بشـكل جـدي إال مـن خـبلل ممارسـة الطـب؛ فـبل قٌمـة للفرضـٌات الفلسـفٌة‬
‫األخبلقٌـة‬
‫مقارنة بالممارسة الفعلٌة لؤلخبلق‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬أنهٌت دراستً وعدت إلى الوالٌات‬
‫المتحدة تمهٌ ًدا اللتحاقً بكلٌة طب جامعة ٌٌل‪.‬‬
‫وقــد تظــن أن المـرة األولـى التـً تشـق فٌـها جسـد شـخص مـٌت‪ ،‬سـٌنتابك فٌـها‬
‫جـدا‪ ،‬كمـا أضـفت‬ ‫عـادٌا ً‬
‫ً‬ ‫شـعور ؼـرٌب؛ لكـن العجـٌب فـً هـذا هـو أن األمـر بـدا‬
‫األضـواء‬
‫الســاطعة‪ ،‬والطــاوالت المعــدنٌة‪ ،‬واألســاتذة ذوو رابطــات العنــق علــى المشــهد‬
‫جــوا مبلبــمًا‪ .‬وبشــكل عــام‪ ،‬ال ٌمكــن أن تنســى أول تجربــة تشـرٌح تجرٌـها‪،‬‬‫ً‬
‫عنـدما تبـدأ‬
‫حادا لدرجة‬‫وصوال إلى أسفل الظهر؛ حٌث ٌكون المشرط ً‬ ‫ً‬ ‫بالشق من مإخرة العنق‬
‫أنك ال تشعر بؤنه ٌشق الجلد‪ ،‬بل كؤنه ٌفتحه بسحَّ اب من فرط سبلسة أدابه‪،‬‬
‫كاش ًفا تحته عن العصب الخفً والممنوع لمسه فً عُرؾ األطباء‪ ،‬وعلى الرؼم من‬
‫استعدادك لهذه التجربة‪ ،‬تشعر على حٌن ؼرة بالخجل واالنفعال معًا؛ حٌث‬
‫ٌعتبــر تشـرٌح الجثـث ممارسـة طبٌـة فٌـها تجـاوز وتعـد علـى قدسـٌة الجسـد؛ مـا‬
‫ٌثـٌر فـً داخلـك طوفـا ًنا مـن المشـاعر المتضـاربة؛ مـن االشـمبزاز‪ ،‬والنشـوة‪،‬‬
‫والؽثٌـان‪،‬‬
‫واإلحباط‪ ،‬والرعب‪ ،‬ثم تتحول مشاعرك تلك بمرور الوقت إلى مجرد الشعور بملل‬
‫الممارسة األكادٌمٌة‪ .‬كذلك تتسم أحاسٌسك هنا بالتناقض والتؤرجح ما بٌن‬
‫شدة االنفعال والتبلد؛ فهؤنتذا تنتهك أكبر المحرمات فً المجتمع‪ ،‬ولكن ؼاز‬
‫الفورمالدٌهاٌد ٌمثل أحد أقوى فواتح الشهٌة؛ لذا تشعر برؼبة ملحة فً تناول شطٌرة‬
‫من البورٌتو‪ .‬وفً النهاٌة‪ ،‬وبعد إنهاء دراستك‪ ،‬بعد أن فحصت العصب المتوسط‪،‬‬
‫ونشرت الحوض إلى نصفٌن‪ ،‬وفتحت القلب‪ٌ ،‬تملكك الشعور بالتبلد‪ ،‬وٌصبح‬
‫عــادٌا مــن شــخصٌات الطــبلب الجــامعٌٌن‬ ‫ً‬ ‫الحــدٌث عــن هــذا االنتــهاك جزءًا‬
‫فـً صـفك الدراسـً الـذي ٌعـج بالمتفلسـفٌن‪ ،‬والمـهرجٌن‪ ،‬وؼـٌر ذلـك؛ ولـذا‬
‫تلخـص تجربـة‬
‫تشرٌح الجثة ‪ -‬بالنسبة إلى الكثٌرٌن ‪ -‬كٌفٌة التحول من طالب كبٌب‪ ،‬محترم‪ ،‬إلى‬
‫طبٌب قاسً القلب‪ ،‬متؽطرس‪.‬‬
‫لقد منح عظم المهمة األخبلقٌة للطب أٌامً األولى فً كلٌة الطب شؤ ًنا عظٌمًا‪ ،‬ففً‬
‫الٌوم األول‪ ،‬وقبل أن نصل إلى مرحلة تشرٌح الجثث‪ ،‬كان موعد التدرب على‬
‫اإلنعاش القلبً الربوي‪ ،‬وكانت هذه المرة الثانٌة لً فً تلقً هذا التدرٌب‪ .‬وفً أول‬
‫هزلٌا‪ ،‬وؼٌر جدي لدرجة أن الجمٌع‬ ‫ً‬ ‫مرة عندما كنت طالبًا فً الجامعة‪ ،‬بدا األمر‬
‫كانوا ٌضحكون؛ فقد ساعدت مقاطع الفٌدٌو سٌبة التمثٌل‪ ،‬والدمٌة الببلستٌكٌة‬
‫المشوهة المستخدمة‪ ،‬على جعل التجربة أكثر سطحٌة واصطناعًا؛ لكن احتمالٌة‬
‫تنفٌذك هذه المهارات على أرض الواقع ٌومًا ما جعلت األمر أكثر جدٌة‪ ،‬ومع ذلك‬
‫بٌنما كنت أضرب صدر دمٌة الطفل الببلستٌكٌة بكفً مرارً ا‪ ،‬لم أكن أسمع إال‬
‫صوت تهشم األضبلع‪ ،‬ودعابات زمبلبً‪.‬‬
‫وٌإدي التعامل مع الجثث إلى عكس الواقع؛ حٌث تتظاهر بؤن الدمٌة حقٌقٌة‪ ،‬بٌنما‬
‫تتظاهر بؤن الجثث ؼٌر حقٌقٌة‪ ،‬لكنك ال تستطٌع أن تفعل ذلك فً الٌوم‬
‫ُ‬
‫وقفــت أمــام جثــة الرجــل التــً كــان علــًَّ‬ ‫األول لتشــرٌح الجثــث؛ فحٌنمــا‬
‫ً‬
‫قلٌــبل ومنتفخــة؛ فلــم أســتطع إنكــار حقٌقــة موتــها‬ ‫تشــرٌحها‪ ،‬وجــدتها زرقــاء‬
‫وأنــها لٌسـت‬
‫حقٌقٌة‪ ،‬أو إٌهام نفسً بعدم بشرٌة هذه الجثة؛ ولذلك بدت لً حقٌقة أننً فً خبلل‬
‫أربعة أشهر سوؾ أشطر رأس هذا الرجل بمنشار ؼٌر معقولة‪.‬‬
‫وكان أساتذة التشرٌح ٌشدون من أزرنا‪ ،‬وكانت نصٌحتهم لنا هً أن نلقً نظرة‬
‫متمعنة واحدة على وجه الجثة‪ ،‬ثم نؽطٌها؛ فهذا سٌسهل العمل أكثر‪ .‬وما إن‬
‫تجهزنا‪ ،‬وأخذنا أنفاسًا عمٌقة‪ ،‬وارتسمت مبلمح الجدٌة على وجوهنا إلزاحة الؽطاء‬
‫عن رأس الجثة أمامنا‪ ،‬حتى أتى أحد الجراحٌن وتوقؾ للتحدث معنا ً‬
‫قلٌبل‪،‬‬
‫متك ًبا بمرفقٌه على وجه الجثة‪ ،‬وراح ٌشٌر إلى عبلمات وندوب مختلفة على جذع‬
‫الجثة العاري‪ ،‬موضحً ا بدقة التارٌخ الطبً للمرٌض؛ حٌث راح ٌبٌن أن أحد هذه‬
‫الندوب كان أثرً ا لجراحة فتق أربً‪ ،‬أما هذا فهو لجراحة استبصال بطانة الشرٌان‬
‫السباتً‪ ،‬موضحً ا أٌضًا أن هذه العبلمات تشٌر إلى خدوش‪ ،‬مع احتمال وجود‬
‫صفراء‪ ،‬وارتفاع نسبة البٌلٌروبٌن؛ لذا على األؼلب فإن هذا الشخص قد توفً بسبب‬
‫سرطان البنكرٌاس‪ ،‬على الرؼم من عدم وجود ندوب تدل على ذلك؛ وهو ما‬
‫ٌعنً أنه ال بد من أن السرطان قد قضى علٌه بسرعة‪ .‬وفً تلك األثناء‪ ،‬لم أستطع‬
‫التوقؾ عن التحدٌق إلى مرفقً الجراح اللذٌن كان ٌحركهما فوق رأس الجثة‬
‫المؽطاة مع كل ما كان ٌذكره من فرضٌات‪ ،‬ومصطلحات طبٌة؛ فخطر ببالً أنه ‪-‬‬
‫كؤستاذ تشرٌح ‪ -‬مصاب بعمى التعرؾ على الوجوه؛ وهو اضطراب عصبً ٌفقد‬
‫فٌه الشخص القدرة على رإٌة الوجوه‪ ،‬وهو ما سؤصاب به عما قرٌب دون شك بهذا‬
‫المنشار الذي أحمله فً ٌدي‪.‬‬
‫بعد عدة أسابٌع‪ ،‬تبددت هذه المشاعر الدرامٌة‪ .‬ولكن فً أثناء تحدثً إلى الطبلب‬
‫الذٌن ال ٌدرسون الطب‪ ،‬وإخبارهم بقصص الجثث‪ ،‬وجدت نفسً أسلط الضوء‬
‫على القصص العجٌبة‪ ،‬والمروعة‪ ،‬وؼٌر المعقولة‪ ،‬وكؤننً أإكد لهم أننً شخص‬
‫طبٌعً‪ ،‬مع أننً كنت أقضً ست ساعات فً األسبوع فً تمزٌق الجثث‪ .‬وأحٌا ًنا‪،‬‬
‫كنت أحكً عن اللحظة التً ألتفت فٌها ألرى إحدى زمٌبلتً؛ وهً واحدة من النساء‬
‫مرهفات الحس‪ ،‬البلتً ٌحملن أكوابًا مزٌنة بالرسومات البارزة‪ ،‬تنقر بؤطراؾ‬
‫ً‬
‫إزمٌبل داخل العمود الفقري المرأة؛‬ ‫أصابعها على الكرسً فً بهجة‪ ،‬بٌنما تدق‬
‫فٌتطاٌر فتات العظم فً الهواء‪ ،‬فكنت أحكً لهم هذه القصة كؤننً أنؤى بنفسً‬
‫عنــها‪ ،‬لكــن تشــابهً مــع هــذه الزمٌلــة ال ٌمكــن إنكــاره‪ .‬وكــٌؾ ال؟ ألــم‬
‫بقطاعــة ملولبــة بالشـؽؾ‬‫أفكــك مــن فــوري القفــص الصــدري لــهذا الرجــل َّ‬
‫نفسـه؟ حتـى وأنـت‬
‫ً‬
‫جثــثا مٌتــة‪ ،‬مؽطــاة الــوجوه‪ ،‬ال تعــرؾ أســماء أصــحابها‪ ،‬تجــد‬ ‫تتفحــص‬
‫إنســانٌتهم تحــدق إلٌــك؛ فبٌنمــا كنــت أشــق بطــن هــذه الجثــة‪ ،‬وجــدت حبتــً‬
‫مورفــٌن ؼــٌر‬
‫مهضومتٌن؛ أي أن هذا الرجل توفً وهو ٌتؤلم‪ ،‬وربما كان وحٌ ًدا‪ ،‬وقد أمسك‬
‫زجاجة الحبوب وهو ٌفكر فً االنتحار‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬لقد تبرع أصحاب هذه الجثث بجثامٌنهم عندما كانوا أحٌا ًء بمحض إرادتهم‬
‫الستخدامها فً أؼراض التشرٌح؛ ولذلك سرعان ما تؽٌرت اللؽة المستخدمة‬
‫مع هذه الجثث بما ٌتناسب مع هذه الحقٌقة؛ فقد تم توجٌهنا إلى عدم استخدام كلمة‬
‫"جثث"‪ ،‬وصارت كلمة "متبرعون" هً التعبٌر المفضل‪ ،‬وبالفعل كانت‬
‫فكرة سرقة الجثث التً ارتبطت قدٌمًا فً األذهان بالتشرٌح قد تبددت (فلم ٌعد على‬
‫الطبلب المبتدبٌن إحضار الجثث بؤنفسهم‪ ،‬كما كانت الحال فً القرن التاسع‬
‫عشــر‪ .‬وتــوقفت كلٌــات الطــب عــن دعمــها لنبــش القبــور للحصــول علـى‬
‫الجثـث؛ حـٌث أدى هـذا النـهب فـً حـد ذاتـه إلـى ظـهور صـورة أخـرى مـن‬
‫صـور القتـل‪ ،‬وأصـبح‬
‫أو ‪burke‬وسٌلة شابعة لدرجة صٌاؼة مصطلح جدٌد فً اللؽة للتعبٌر عنه‪ ،‬وهو‬
‫سرا عن طرٌق الخنق أو‬ ‫القتل للتشرٌح ؛ وٌعرفه قاموس أكسفورد بـ"القتل ً‬
‫الشنق‪ ،‬أو لهدؾ بٌع جثة الضحٌة الستخدامها فً أؼراض التشرٌح")؛ ولكن األطباء‬
‫ال ٌتبرعون بؤجسادهم أب ًدا؛ ذلك ألنهم أكثر علمًا بفحوى التشرٌح؛ فما معلومــات‬
‫المتبــرعٌن عنــه‪ ،‬إذن؟ لــذلك قــال لــً أحــد أســاتذة التشــرٌح ٌــومًا‪" :‬ال تخبــر‬
‫مــرٌضًا بالتفاصــٌل الــدموٌة للجراحــة‪ ،‬إذا كــان ذلــك ســٌثنٌه عــن الموافقــة‬
‫علــى‬
‫الخضوع لها"‪.‬‬
‫ولكن حتى إذا عرؾ المتبرعون قدرً ا كافًٌا عما سٌحدث لهم ‪ -‬وربما هذا هو ما‬
‫ٌحدث بالفعل‪ ،‬على الرؼم من تحوط أستاذ التشرٌح هذا ‪ -‬فلن تكون فكرة أن ٌتم‬
‫ٌقطع طبلب كلٌة الطب المتحذلقون‬ ‫تشرٌحك هً أكثر ما ٌإلم المرء‪ ،‬بل فكرة أن ِّ‬
‫ذوو االثنٌن والعشرٌن عامًا جثمان والدتك‪ ،‬أو والدك‪ ،‬أو جدٌك إلى قطع‪ ،‬وفً‬
‫كل مرة قرأت فٌها تعلٌمات ما قبل الدخول إلى المعمل‪ ،‬ورأٌت كلمة "منشار‬
‫العظم"‪ ،‬كنت أتساءل عما إذا كانت هذه المحاضرة هً التً سؤتقٌؤ فٌها أخٌرً ا‪ ،‬لكن‬
‫نادرً ا ما كنت أشعر بهذا االنزعاج داخل المعمل‪ ،‬حتى عندما اكتشفت أن "منشار‬
‫العظم" المذكور ما هو إال المنشار الخشبً الصدئ المعروؾ‪ .‬ولم تكن المرة التً‬
‫حقا قرب المعمل‪ ،‬بل كانت فً أثناء زٌارتً قبر جدتً فً‬ ‫أوشكت فٌها أن أتقٌؤ ً‬
‫نٌوٌورك فً الذكرى العشرٌن لوفاتها‪ ،‬فقد وجدت نفسً أنحنً‪ ،‬موش ًكا أن أبكً‪،‬‬
‫وأعتــذر بشــدة‪ ،‬ال لجثتــها التــً قــد شـرَّ حتها؛ بـل ألحفـاد صـاحبة هـذه الجثـة‪.‬‬
‫وذات مـرة‪ ،‬فـً منتصـؾ إحـدى تجـارب التشـرٌح المعملٌـة‪ ،‬طلـب ابـن المتبرعـة‬
‫اسـتعادة‬
‫جثمان والدته نصؾ المُشرَّ ح‪ .‬نعم‪ ،‬كانت قد وافقت األم على التبرع بجثمانها؛ لكنه‬
‫لم ٌستطع تحمل ذلك‪ .‬ولعلمً أننً كنت سؤفعل الشًء ذاته لو كنت مكانه؛‬
‫(تمت إعادة ما تبقى من الجثة)‪.‬‬
‫حرفٌا إلى أعضاء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكنا نتعامل فً معمل التشرٌح مع الجثث كؤشٌاء؛ فكنا نقطعها‬
‫وأنسجة‪ ،‬وأعصاب‪ ،‬وعضبلت‪ .‬وفً الٌوم األول لك فً فعل هذا‪ ،‬ال ٌمكنك‬
‫ببســاطة أن تتجــاهل بشــرٌة هــذه الجثــث‪ ،‬لكــن بعــد أن تسـلخ األطـراؾ‪،‬‬
‫ً‬
‫فـصا‬ ‫وتقطـع العضـبلت المُرهقـة‪ ،‬وتسـتخرج الـربتٌن‪ ،‬وتشـق القلـب‪ ،‬وتسـتؤصل‬
‫مـن الكبـد‪،‬‬
‫ٌصبح من الصعب أن تتخٌل أن كومة األنسجة هذه كانت إنسا ًنا‪ .‬وبعد أن تنهً‬
‫دراستك‪ ،‬ال ٌعد معمل التشرٌح بالنسبة إلٌك مكا ًنا النتهاك المحرمات‪ ،‬بل ٌصبح‬
‫مكا ًنا ٌشعرك بالسعادة‪ ،‬وٌتبلشى فٌه إحساسك ببشرٌة الجثة‪ ،‬ففً لحظات التؤمل‬
‫النادرة التً تمر علٌنا‪ ،‬كنا نعتذر للجثث فً صمت‪ ،‬ال إلحساسنا باالعتداء‬
‫علٌها؛ بل لعدم شعورنا بؤننا اعتدٌنا علٌها‪.‬‬
‫شرا مطل ًقا على كل حال؛ ففً كل التخصصات الطبٌة‪،‬‬ ‫ولم ٌكن عدم اإلحساس هذا ً‬
‫ال تشرٌح الجثث فقط‪ٌ ،‬تعدى األطباء على جوانب الجسد المقدسة؛ حٌث‬
‫ٌنتهكون الجسد بكل الطرق التً ٌمكن تخٌلها‪ ،‬وٌرون األجساد فً أكثر حاالتها‬
‫ضع ًفا‪ ،‬ورعبًا‪ ،‬وخصوصٌة‪ ،‬وٌصاحبونها فً حٌاتها‪ ،‬وبعد فنابها؛ فرإٌة الجسد‬
‫كشًء أو آلة هً الجانب اآلخر لمحاولة تخفٌؾ المعاناة البشرٌة األكثر تعقٌ ًدا‪،‬‬
‫وعلى المنوال نفسه تصبح هذه المعاناة مجرد أداة تعلٌمٌة‪ ،‬ومع أن أساتذة التشرٌح‬
‫ٌمثلــون الجــانب األكثــر حــدة فـً هـذه العبلقـة بـٌن األطبـاء والجثـث‪ ،‬ظـل‬
‫الجـانب اإلنسـانً فـً عبلقتـهم بـالجثث مـوجو ًدا؛ ففـً األٌـام األولـى لـً فـً‬
‫تجـارب التشـرٌح‪،‬‬
‫طوٌبل فً الحجاب الحاجز للمتبرع حتى ٌسهل علًَّ إٌجاد‬ ‫ً‬ ‫حٌنما أحدثت بسرعة ً‬
‫شقا‬
‫الشرٌان الطحالً‪ ،‬ارتسمت مبلمح الؽضب والذعر على وجه المراقب‪ ،‬ال ألننً‬
‫مهما من الجثة‪ ،‬أو أسؤت فهم مبدأ أساسً من مبادئ التشرٌح‪ ،‬أو‬ ‫أتلفت جزءًا ً‬
‫أفسدت جزءًا ال ٌتعٌن علًَّ تشرٌحه فً الوقت الحالً؛ بل ألننً بدوت متؽطرسًا‬
‫وأنــــا أفعــــل ذلــــك‪ .‬وعلمتنــــً تلــــك النظــــرة التــً اعتلــت وجــهه‪ ،‬وعــدم‬
‫قــدرته علــى التعبــٌر عــن مقــدار حزنــه‪ ،‬عــن مبــادئ الطــب أكثــر ممــا‬
‫علمتنــً أٌــة محاضــرة كنــت‬
‫ســؤحضرها فــً حٌــاتً‪ ،‬وعنــدما أخبرتــه بــؤن أســتاذ تشــرٌح آخــر قـد أمـرنً‬
‫بإحـداث الشـق هكـذا‪ ،‬تحـول حزن المـراقب إلـى ؼضـب عـارم‪ ،‬وامتـؤل الـرواق‬
‫فجـؤة باألسـاتذة‬
‫الؽاضبٌن‪.‬‬
‫فً أوقات أخرى‪ ،‬بدا هذا الجانب اإلنسانً أبسط كثٌرً ا؛ ففً إحدى المرات‪ ،‬سؤلنا‬
‫األستاذ وهو ٌعرض علٌنا ما تبقى من السرطان البنكرٌاسً ألحد المتبرعٌن‪ً ،‬‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"كم عمر هذا المصاب؟"‪.‬‬
‫فؤجبنا‪" :‬أربعة وسبعون"‪.‬‬
‫فقال األستاذ مازحً ا‪" :‬وهو عمري نفسه"‪ ،‬ثم وضع المسبار جانبًا‪ ،‬وؼادر القاعة؛‬
‫لندرك أن أستاذنا هو صاحب الورم السرطانً الذي عرضه علٌنا‪.‬‬
‫●●●‬
‫لقد عمقت كلٌة الطب فهمً للعبلقة بٌن المعنى‪ ،‬والحٌاة‪ ،‬والموت؛ فقد رأٌت بعٌنً‬
‫مفهوم القرابة اإلنسانٌة الذي كتبت عنه وأنا طالب فً الجامعة ٌتحقق فً‬
‫العبلقة بٌن الطبٌب والمرٌض‪ .‬كذلك عندما كنا طبلبًا فً كلٌة الطب واجهنا الموت‪،‬‬
‫وشعرنا بالمعاناة‪ ،‬وعرفنا ما ٌجب فعله للعناٌة بالمرٌض‪ ،‬وفً الوقت ذاته لم ٌكن‬
‫علٌنــا تحمــل وطــؤة المســبولٌة الحقٌقٌــة‪ ،‬علـى الـرؼم مـن إحسـاسنا بشـبح تلـك‬
‫المسـبولٌة‪ .‬وٌقضـً طلبـة الطـب العـامٌن األولـٌن فـً فصـول؛ حـٌث ٌكـوِّ نون‬
‫الصـداقات‬
‫وٌذاكرون وٌقرأون؛ فكان من السهل اعتبار هذه األشٌاء مجرد امتداد للدراسة‬
‫الجامعٌة؛ لكن صدٌقتً لوسً‪ ،‬التً قابلتها فً عامً األول فً كلٌة الطب (التً‬
‫أصبحت زوجتً الح ًقا)‪ ،‬كانت تفهم المعنى الضمنً للدراسات األكادٌمٌة تلك؛ فقد‬
‫كانت طاقة الحب فً داخلها ؼٌر محدودة‪ ،‬وتعلمت منها الكثٌر ً‬
‫حقا‪ .‬ففً‬
‫إحدى اللٌالً‪ ،‬وعندما كانت تجلس على األرٌكة‪ ،‬وهً تفحص كومة من الخطوط‬
‫المتموجة التً تشكل رسمًا لكهربٌة قلب‪ ،‬ارتبكت فجؤة‪ ،‬واكتشفت حالة خطٌرة‬
‫ْ‬
‫فـهمت فحـوى‬ ‫مــن عــدم انتظــام ضــربات القلــب‪ .‬وعلـى حـٌن ؼـرة‪ ،‬بعـد أن‬
‫اكتشـافها‪ ،‬بـدأت تبكـً؛ فبصـرؾ النظـر عـمَّن هـو الشـخص الـذي أمـر بـإجراء‬
‫رسـم كـهربٌة‬
‫القلب هذا‪ ،‬فقد توفً المرٌض فً نهاٌة األمر؛ حٌث لم تكن الخطوط المتعرجة‬
‫بطٌنٌا تدهور لٌصل‬ ‫ً‬ ‫المرسومة على الصفحة مجرد خطوط‪ ،‬بل كانت تظهر ارتجا ًفا‬
‫فً‬
‫النهاٌة إلى حد توقؾ النبض؛ فكان األمر مبكًٌا ً‬
‫حقا‪.‬‬
‫وفً أثناء دراستنا أنا ولوسً فً كلٌة الطب بجامعة ٌٌل‪ ،‬كان شٌب نوالند ال ٌزال‬
‫ٌحاضر هناك‪ ،‬ولكننً لم أكن أعرفه إال بصفتً أحد قرابه؛ فهو جراح وفٌلسوؾ‬
‫عندما كنت فً المرحلة ‪How We Die ،‬مشهور صدر كتابه البارز عن الفناء‬
‫الثانوٌة‪ ،‬لكننً لم أقرأه إال فً أثناء دراستً فً كلٌة الطب‪ .‬وعلى عكس الكثٌر من‬
‫الكتب التً قرأتها‪ٌ ،‬تناول هذا الكتاب الحقٌقة الجوهرٌة للوجود بطرٌقة شاملة‬
‫ومباشرة؛ وهً أن جمٌع الكابنات الحٌة تموت‪ ،‬سواء كانت سمكة ذهبٌة‪ ،‬أو‬
‫لٌبل‪ ،‬وأتذكر منه على‬ ‫طفبل رضٌعًا‪ .‬وقد استؽرقت فً قراءة هذا الكتاب فً ؼرفتً ً‬ ‫ً‬
‫وجه الخصوص وصؾ الكاتب مرض جدته‪ ،‬وكٌؾ ألقت هذه الفقرة بالتحدٌد‬
‫الضوء على الطرٌقة التً تتداخل بها الجوانب الشخصٌة‪ ،‬والطبٌة‪ ،‬والروحٌة بشكل‬
‫رابع‪ ،‬كما ذكر نوالند كٌؾ كان ٌلعب فً طفولته لعبة ٌؽرس فٌها إصبعه فً‬
‫جلد جدته؛ لٌرى كم ٌستؽرق من الوقت لٌعود إلى وضعه الطبٌعً؛ فطول المدة التً‬
‫ٌستؽرقها هو أحد المإشرات على عملٌة التقدم فً السن‪ ،‬إلى جانب ضٌق‬
‫ً‬
‫حدٌثا؛ ما ٌنذر بـ"إصابتها بالتدرٌج بفشل القلب االحتقانً‪ ...‬أي‬ ‫تنفسها المكتشؾ‬
‫النقص الحاد فً كمٌة األكسجٌن التً ٌمكن للدم امتصاصها من أنسجة الربة‬
‫قاببل‪" :‬لكن كان أكثر األشٌاء وضوحً ا هو انسحاب‬ ‫المتقدمة فً العمر"‪ ،‬ثم أردؾ ً‬
‫جدتً التدرٌجً من الحٌاة ‪ ...‬وعندما توقفت جدتً عن الصبلة‪ ،‬توقفت كذلك عن‬
‫فعل أي شًء آخر"‪ .‬وعند إصابتها بالسكتة الدماؼٌة الممٌتة‪ ،‬اقتبس نوالند مقولة‬
‫عندما نؤتً إلى العالم‪ ،‬فإننا" ‪Religio Medici :‬السٌر توماس براون فً كتابه‬
‫نجهل الصراعات واآلالم التً سنواجهها‪ ،‬ولكنها لٌست باألمر الذي ٌسهل التخلص‬
‫منه"‪.‬‬
‫ً‬
‫طوٌــبل فــً دراســة األدب فــً جامعــة ســتانفورد‪ ،‬ودراســة‬ ‫وقــد قضــٌت وقــ ًتا‬
‫ً‬
‫محــاوال فــهم تفاصــٌل المــوت علــى‬ ‫تــارٌخ الطــب فــً جامعــة كامبرٌــدج؛‬
‫نحــو أفضــل‪ ،‬حتـى‬
‫تخرجت وأنا أشعر بؤنها ال تزال مبهمة بالنسبة إلًَّ ؛ لكن األوصاؾ التً أوردها‬
‫نوالند أقنعتنً بؤننً لن أفهم هذه األشٌاء إال حٌنما أتعامل معها وجهًا لوجه‪.‬‬
‫ولقد درست الطب فً محاولة لفهم الموت من الناحٌتٌن التجرٌبٌة والبٌولوجٌة‪ ،‬حٌث‬
‫إنهما السمتان المتبلزمتان اللتان ٌصعب فهمهما؛ فهذا أمر شخصً للؽاٌة‪،‬‬
‫وفً الوقت نفسه شدٌد العمومٌة؛ إذ ٌحدث للجمٌع‪.‬‬
‫أتذكر كذلك ما كتبه نوالند فً الفصول األولى لكتابه عن تجربته عندما كان طالب‬
‫طب عدٌم الخبرة موجو ًدا وحده فً ؼرفة العملٌات مع مرٌض توقؾ قلبه‪ .‬وفً‬
‫محاولة ٌابسة منه‪ ،‬شق نوالند مرٌلة المرٌض وحاول إنعاش قلبه ً‬
‫ٌدوٌا‪ ،‬كؤنه ٌحاول‬
‫منح قلبه خبلصة إكسٌر الحٌاة‪ .‬ولكن فً النهاٌة توفً المرٌض‪ ،‬لٌجده أستاذه‬
‫المشرؾ مؽطى بالدم والفشل‪.‬‬
‫وعندما التحقت بكلٌة الطب‪ ،‬كان الوضع قد تؽٌر‪ ،‬لدرجة أن هذا المشهد أصبح‬
‫مستحٌبل؛ فبصعوبة ٌُسمح لنا كطبلب بلمس المرٌض‪ ،‬ناهٌك عن شق مرٌلته؛‬ ‫ً‬
‫لكن الشًء الذي لم ٌتؽٌر هو الروح البطولٌة لتحمل المسبولٌة وسط الدم والفشل؛‬
‫حٌث اكتشفت أن هذه هً الصورة الحقٌقٌة للطبٌب‪.‬‬
‫وكانت الوالدة األولى التً أشهدها هً الوفاة األولى كذلك‪.‬‬
‫وفً ذلك الوقت‪ ،‬كنت قد أكملت من فوري الخطوة األولى لبلنضمام إلى اللجنة‬
‫الطبٌة‪ ،‬وذلك بعد إنهاء سنتٌن من االستذكار الجاد؛ بدفن رأسً فً صفحات‬
‫الكتب‪ ،‬والؽوص فً المكتبات‪ ،‬واالستؽراق فً قراءة مذكرات المحاضرات فً‬
‫المقاهً‪ ،‬ومراجعة البطاقات التعلٌمٌة المصورة التً أكتبها بنفسً فً فراشً قبل‬
‫النوم‪.‬‬
‫وكان علًَّ أن أقضً العامٌن التالٌٌن بٌن المستشفى والعٌادة؛ لتطبٌق المعرفة‬
‫النظرٌة أخٌرً ا لتخفٌؾ اآلالم الحقٌقٌة‪ ،‬والتعامل مع المرضى‪ ،‬ال بالشكل المجرد‬
‫الذي‬
‫كنت أركز علٌه فً البداٌة‪ .‬وبدأت العمل فً قسم أمراض النساء والتولٌد؛ حٌث‬
‫كانت مناوبتً المسابٌة فً جناح الحمل والوالدة‪.‬‬
‫دلفت إلى المبنى فً أثناء ؼروب الشمس‪ ،‬وأنا أحاول تذكر جمٌع مراحل المخاض‪،‬‬
‫ومقدار التمدد المناسب لعنق الرحم‪ ،‬وأسماء "المراحل" الدالة على قرب نزول‬
‫وأٌا كان ما ٌمكنه مساعدتً حٌنما ٌحٌن وقت العمل‪ ،‬فكطالب فً كلٌة‬ ‫الطفل‪ً ،‬‬
‫الطب‪ ،‬تكمن مهمتً فً التعلم عن طرٌق المراقبة فحسب‪ ،‬وتجنب التدخل فً‬
‫سٌر العمل‪ ،‬بٌنما ٌعمل على توجٌهً بشكل أساسً كل من األطباء المقٌمٌن‪ ،‬الذٌن‬
‫أنهوا دراسة الطب فً الكلٌة‪ ،‬وٌتمُّون اآلن تدرٌبهم فً أحد التخصصات‪،‬‬
‫والممرضات ذوات الخبرة السرٌرٌة الطوٌلة‪ .‬ومع ذلك ال ٌزال الخوؾ كام ًنا فً‬
‫داخلً ‪ -‬وٌمكننً أن أشعر برفرفة أجنحته ‪ -‬من أن ٌتم استدعابً عن طرٌق‬
‫المصادفة أو االحتمال إلجراء عملٌة والدة وحدي‪ ،‬فؤفشل‪.‬‬
‫وصلت إلى استراحة األطباء لمقابلة الطبٌبة المقٌمة‪ ،‬فدلفت إلى الؽرفة‪ ،‬ورأٌت شابة‬
‫ذات شعر داكن تجلس على األرٌكة‪ ،‬وتلتهم شطٌرة بحٌوٌة‪ ،‬بٌنما تشاهد‬
‫التلفاز‪ ،‬وتقرأ ً‬
‫مقاال فً جرٌدة‪ ،‬فقدمت نفسً إلٌها‪.‬‬
‫أهبل بك‪ ،‬أنا مٌلٌسا‪ .‬ستجدنً هنا أو فً ؼرفة تلقً المكالمات إذا‬‫فردت قابلة‪ً " :‬‬
‫احتجت إلًَّ ‪ .‬ولعل أفضل ما ٌمكنك فعله هو أن تراقب المرٌضة جارسٌا بعناٌة‪ ،‬فهً‬
‫فً الثانٌة والعشرٌن من العمر‪ ،‬وتعانً مخاضًا مبكرً ا لتوأمٌن‪ ،‬أما بقٌة الحاالت‬
‫فهً طبٌعٌة"‪.‬‬
‫وفً أثناء تناول مٌلٌسا قضمات الشطٌرة‪ ،‬لخصت لً حالة جارسٌا‪ ،‬وأمطرتنً‬
‫بوابل من الحقابق والمعلومات‪ ،‬موضحة أن عمر التوأم ٌبلػ ثبلثة وعشرٌن أسبوعًا‬
‫ونصؾ األسبوع فقط؛ وكان األمل أن نحافظ على الحمل ألطول فترة‪ ،‬حتى ٌنمو‬
‫الطفبلن بصورة أكبر‪ ،‬رؼم أن تلك المدة لٌست بالقصٌرة؛ حٌث تعتبر فترة أربعة‬
‫وعشرٌن أسبوعًا هً بداٌة الحٌاة الطبٌعٌة‪ ،‬وٌُحدث كل ٌوم إضافً فار ًقا فً‬
‫نموهما؛ لذا كانت المرٌضة تتناول عقاقٌر متنوعة للسٌطرة على االنقباضات‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك رنَّ جهاز االتصال الخاص بمٌلٌسا‪.‬‬
‫فؤنزلت مٌلٌسا ساقٌها من فوق األرٌكة‪ ،‬وقالت لً‪" :‬حس ًنا‪ٌ ،‬جب أن أذهب اآلن‪.‬‬
‫ٌمكنك أن تبقى هنا‪ ،‬إذا أردت؛ فلدٌنا قنوات تلٌفزٌونٌة مسلٌة‪ ،‬أو ٌمكنك أن‬
‫تؤتً معً"‪.‬‬
‫تبعت مٌلٌسا إلى ؼرفة الممرضات‪ ،‬ورأٌت شاشات الرصد تصطؾ على أحد‬
‫الجدران‪ ،‬وتعرض خطوط قٌاس عن بعد متعرجة‪.‬‬
‫فسؤلت مٌلٌسا ً‬
‫قاببل‪" :‬ما هذا؟"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فــؤجابتنً قابلــة‪" :‬هــذه مخرجــات مقٌــاس قـوة المخـاض ومعـدل نبضـات قلـب‬
‫الجنـٌنٌن‪ .‬واآلن دعنـً أُرك المرٌضـة‪ ،‬ولكنـها ال تتحـدث اإلنجلٌزٌـة؛ فـهل تتحـدث‬
‫أنـت‬
‫اإلسبانٌة؟"‪.‬‬
‫هززت رأسً بالنفً‪ ،‬فٌما صحبتنً مٌلٌسا إلى ؼرفة المرٌضة‪ ،‬وهً ؼرفة مظلمة؛‬
‫حٌث تستلقً األم على السرٌر‪ ،‬هادبة‪ ،‬ومسترخٌة‪ ،‬وقد رُبطت أشرطة الرصد‬
‫حول بطنها لقٌاس معدل االنقباضات لدٌها‪ ،‬ومعدل ضربات قلب التوأمٌن‪ ،‬ثم إرسال‬
‫البٌانات إلى الشاشات التً رأٌتها فً ؼرفة الممرضات‪ .‬وبٌنما كان األب واق ًفا‬
‫إلى جانب السرٌر ممس ًكا بٌد زوجته‪ ،‬وقد ارتسمت على وجهه مبلمح القلق‪ ،‬همست‬
‫إلٌهما مٌلٌسا بشًء ما باإلسبانٌة‪ ،‬ثم صحبتنً إلى الخارج‪.‬‬
‫ســارت األمــور علــى مــا ٌــرام فــً الســاعات التالٌــة؛ إذ نــامت مٌلٌســا فــً‬
‫االســتراحة‪ ،‬بٌنمــا كنـت أحـاول فـك شـفرة الخـط ؼـٌر المقـروء المكتـوب فـً‬
‫ملـؾ جارسـٌا‪ ،‬فكـانت‬
‫محاولتً أشبه بمحاولة قراءة الهٌروؼلٌفٌة‪ ،‬وعرفت أن اسم جارسٌا األول هو إلٌنا‪،‬‬
‫وأن هذا هو حملها الثانً‪ ،‬وأنها لم تتابع وضع الحمل؛ ألنه لم ٌكن لدٌها‬
‫ؼطاء تؤمٌنً‪ ،‬ثم دونت أسماء العقاقٌر التً كانت تتناولها لكً أبحث عنها الح ًقا‪،‬‬
‫كما قرأت القلٌل عن االبتسار فً كتاب وجدته فً استراحة األطباء‪ ،‬واتضح لً‬
‫أن األطفال المبتسرٌن‪ ،‬إذا استطاعوا البقاء على قٌد الحٌاة‪ ،‬فسٌكونون عرضة‬
‫لمعدالت مرتفعة من اإلصابة بنزٌؾ المخ والشلل الدماؼً؛ لكن أخً األكبر سومان‬
‫قد وُ لد مبكرً ا بنحو ثمانٌة أسابٌع تقرٌبًا منذ ثبلثة عقود‪ ،‬وها هو ذا اآلن جراح‬
‫أعصاب ممارس‪ .‬بعدها‪ ،‬ذهبت إلى الممرضة‪ ،‬وطلبت منها أن تعلمنً قراءة تلك‬
‫الخطــوط المتعرجــة الــدقٌقة التــً تظــهر علــى شــاشة الرصــد ‪ -‬التـً لـم تكـن‬
‫بالنسـبة إلـًَّ أكثـر وضـوحً ا مـن خـط األطبـاء ‪ -‬ألنـه ٌمكـن التنبـإ مـن خبللـها‬
‫باسـتقرار حالـة‬
‫المرٌض أو تدهورها‪ ،‬فؤومؤت الممرضة باإلٌجاب‪ ،‬وبدأت تشرح لً من خبلل‬
‫قراءة االنقباضات وردود فعل قلبًْ الجنٌنٌن علٌها‪ ،‬فً حٌن أنك إذا نظرت إلى‬
‫الشاشة‬
‫عن كثب‪ ،‬فلن ترى سوى _‪.‬‬
‫ولكن فجؤة‪ ،‬توقفت الممرضة‪ ،‬وبدا علٌها القلق الشدٌد‪ .‬ودون أن تنطق بكلمة‪،‬‬
‫نهضت وركضت بسرعة إلى حجرة إلٌنا‪ ،‬ثم ؼادرتها بسرعة‪ ،‬وسحبت هاتفها‪،‬‬
‫واستدعت الطبٌبة مٌلٌسا‪ .‬وبعد دقٌقة وصلت مٌلٌسا‪ ،‬بعٌنٌها الناعستٌن‪ ،‬وألقت نظرة‬
‫خاطفة على الخطوط المتعرجة‪ ،‬وهرعت إلى ؼرفة المرٌضة‪ ،‬فتبعتها‪ ،‬ثم‬
‫فتحــت هاتفــها واتصــلت بــالطبٌب المعــالج‪ ،‬وتحــدثت معــه بســرعة مســتخدمة‬
‫ً‬
‫جزبــٌا‪ ،‬ولكننــً فـهمت أن التوأمـٌن‬ ‫مصــطلحات طبٌــة خاصــة لــم أفــهمها إال‬
‫فـً حالـة‬
‫خطرة‪ ،‬وأن فرصتهما الوحٌدة للنجاة هً إجراء عملٌة قٌصرٌة عاجلة‪.‬‬
‫انتقلنا فً هذا الجو المتوتر إلى ؼرفة العملٌات؛ حٌث استلقت إلٌنا على الطاولة‪،‬‬
‫بٌنما تسري العقاقٌر فً أوردتها‪ ،‬ووضعت ممرضة المحلول المطهر بشكل‬
‫هستٌري‬
‫علــى بطــن الســٌدة المنتفــخ‪ ،‬وبــدأت أنــا والطبــٌب المعــالج‪ ،‬والطبٌبــة المقٌمــة‬
‫بتعقــٌم أٌــدٌنا وسـواعدنا بـالكحول المطـهر‪ ،‬وحـاولت تقلٌـد طرٌقتـهما المتعجلـة‬
‫فـً ؼسـل‬
‫أٌــدٌهما‪ ،‬وهمــا واقفــان بصــمت بٌنمــا ٌطلقــان السـباب فـً أنفسـهما‪ ،‬ثـم وضـع‬
‫أطبـاء التخـدٌر أنـابٌب التخـدٌر للمرٌضـة‪ ،‬فٌمـا راح كبـٌر الجـراحٌن والطبـٌب‬
‫المشـرؾ‬
‫ٌتملمبلن فً عصبٌة‪.‬‬
‫قال الطبٌب المشرؾ‪" :‬أسرعوا‪ ،‬لٌس لدٌنا الكثٌر من الوقت‪ .‬ال بد أن نتحرك‬
‫أسرع!"‪.‬‬
‫ً‬
‫طوٌبل‬ ‫محدثا ً‬
‫شقا‬ ‫ً‬ ‫وكنت أقؾ إلى جانب الطبٌب المعالج وهو ٌشق بطن السٌدة‪،‬‬
‫منحنًٌا تحت السرة‪ ،‬وفوق الرحم البارز بالضبط‪ .‬وحاولت أن أتابع كل حركة‪،‬‬
‫بٌنما كنت أبحث فً ذاكرتً عن الرسوم التشرٌحٌة التً اطلعت علٌها فً الكتاب‬
‫الذي قرأته فً استراحة األطباء‪ ،‬وما إن المس المشرط الجلد‪ ،‬حتى انشق فورً ا‪ ،‬ثم‬
‫شق الطبٌب الؽشاء البرٌتونً األبٌض السمٌك المستقٌم الذي ٌؽطً العضلة‪ ،‬لٌفصل‬
‫بعدها الؽشاء والعضلة التحتٌة بٌدٌه؛ كاش ًفا عن الرحم الذي ٌشبه ثمرة‬
‫الشــمام‪ .‬وشــق الــرحم كـذلك‪ ،‬فظـهر وجـه صـؽٌر‪ ،‬ثـم اختفـى بـٌن الـدماء‪،‬‬
‫فـؤدخل الطبـٌب ٌـدٌه‪ ،‬وسـحب الجنـٌن األول‪ ،‬ثـم الجنـٌن الثـانً‪ ،‬لٌجـد لونـهما‬
‫ً‬
‫مـاببل إلـى‬
‫القــرمزي‪ ،‬وكــانا ال ٌكـادان ٌتحركـان‪ ،‬كمـا كـانت أعٌنـهما مؽمضـة تمـامًا كطـابر‬
‫وقـع مـن العـش قبـل األوان‪ .‬كـذلك كـانت عظامـهما مربٌـة مـن خـبلل جلـدهما‬
‫نصـؾ‬
‫الشفاؾ‪ ،‬وبدوا كاألطفال الذٌن ٌظهرون فً الرسوم التخطٌطٌة أكثر من كونهما‬
‫طفلٌن حقٌقٌٌن‪ ،‬وكان الطفبلن أصؽر من أن تحملهما بالطرٌقة التقلٌدٌة التً‬
‫ٌُحمل بها األطفال؛ حٌث لم ٌتعد حجمهما حجم كؾ الجراح كثٌرً ا‪ .‬وسرعان ما أُخذ‬
‫الطفبلن إلى طبٌب وحدة العناٌة المركزة الخاصة بحدٌثً الوالدة‪ ،‬الذي كان‬
‫فً انتظارهما‪ ،‬فهرع بالطفلٌن إلى الوحدة‪.‬‬
‫وبزوال الخطــر الحــالً‪ ،‬تبــاطؤت وتــٌرة ســٌر العملٌــة الجراحٌــة‪ ،‬وتحــول‬
‫المنـاخ المتوتـر إلـى هـدوء نسـبً‪ ،‬ومـؤلت رابحـة اللحـم المحتـرق الؽرفـة؛ حـٌث‬
‫سـٌطرت المكـواة‬
‫الجراحٌة على قطرات الدم الصؽٌرة المتدفقة‪ ،‬ثم خاط الطبٌب الرحم كً ٌلتبم مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وبدت الؽرز كصفً أسنان ٌمضؽان الجرح المفتوح‪.‬‬
‫وسؤلت مٌلٌسا الطبٌب قابلة‪" :‬بروفٌسور‪ ،‬أترٌد خٌاطة الؽشاء البرٌتونً؟ فقد قرأت‬
‫مإخرً ا أنه ال حاجة إلى خٌاطته"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أرى أنه من األفضل أن نعٌده إلى وضعه األول؛ فؤنا‬ ‫فؤجابها الطبٌب المعالج ً‬
‫أحب أن أترك األشٌاء كما وجدتها؛ لذا دعٌنا كً نخٌطه"‪.‬‬
‫الؽشــاء البــرٌتونً هــو الؽشــاء الــذي ٌحــٌط بــالتجوٌؾ البطنــً‪ ،‬ولســبب مــا‬
‫لــم أر لحظــة فتحــه‪ ،‬كمــا لــم أعــد أراه اآلن علــى اإلطــبلق‪ .‬وقــد بــدا لــً‬
‫الجــرح ككتلــة مــن‬
‫األنسجة ؼٌر المنتظمة‪ ،‬لكنه بدا للجراحٌن واضحً ا تمامًا؛ كما تبدو كتلة الرخام‬
‫للنحَّ ات‪.‬‬
‫وقد طلبت مٌلٌسا أن تخٌط الؽشاء البرٌتونً‪ ،‬فوصلت بملقطها إلى الجرح‪ ،‬وسحبت‬
‫طبقة من النسٌج شفافة اللون من بٌن العضلة والرحم؛ فؤصبح الؽشاء‬
‫البرٌتونً والفجوة التً بداخله واضحٌن‪ .‬بعدها‪ ،‬خاطت مٌلٌسا الجرح وأؼلقته‪ ،‬ثم‬
‫انتقلت إلى العضلة والؽشاء البرٌتونً‪ ،‬فضمتهما معًا وخاطتهما بإبرة كبٌرة‬
‫وصنعت بعض الؽرز العقدٌة الكبٌرة‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬ؼادر الطبٌب المعالج‪ ،‬وأخٌرً ا تم‬
‫تخٌٌط بقٌة طبقات الجلد‪ ،‬ثم سؤلتنً مٌلٌسا إذا كنت أرؼب فً تخٌٌط آخر‬
‫ؼرزتٌن‪.‬‬
‫ارتعشت ٌداي وأنا أمرر اإلبرة داخل األنسجة تحت الجلد‪ ،‬وفً أثناء إحكامً‬
‫متساو‪ ،‬وبرزت منه كتلة من‬ ‫ٍ‬ ‫للخٌاطة‪ ،‬رأٌت اإلبرة تنحرؾ ً‬
‫قلٌبل؛ فؤصبح الجلد ؼٌر‬
‫الدهون‪.‬‬
‫متساو‪ٌ ،‬جب أن تلتقط طبقة الجلد بدقة ‪ ،‬أترى ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫فشهقت مٌلٌسا قابلة‪" :‬إنه ؼٌر‬
‫الشرٌط األبٌض الرقٌق؟"‪.‬‬
‫فؤجبتها باإلٌجاب‪ ،‬واتضح لً أنه لٌس علًَّ تدرٌب عقلً فقط‪ ،‬بل كذلك عٌنًَّ ‪.‬‬
‫فقــالت مٌلٌســا‪" :‬المقــص!"‪ ،‬وقصــت الؽــرز التــً خط ُتهــا‪ ،‬التــً ال تحــدثها إال‬
‫هــاو‪ ،‬وأعــادت خٌاطــة الجــرح‪ ،‬ووضــعت الضــمادات‪ ،‬ثــم أُخـذت‬ ‫ٍ‬ ‫ٌــدا‬
‫المرٌضـة إلـى ؼرفـة‬
‫اإلفاقة‪.‬‬
‫وكما أخبرتنً مٌلٌسا مسب ًقا‪ ،‬فإن قضاء الجنٌن مدة أربعة وعشرٌن أسبوعًا داخل‬
‫رحم األم هو الحد األدنى كً ٌستطٌع البقاء على قٌد الحٌاة‪ ،‬بٌنما لم ٌقض‬
‫هذان التوأمان سوى ثبلثة وعشرٌن أسبوعًا وستة أٌام داخل الرحم؛ لذا كانت‬
‫أعضاإهما قد تكونت بالفعل‪ ،‬لكنها لم تصبح جاهزة بالقدر الكافً لتولً مسبولٌة‬
‫إبقابــهما علــى قٌــد الحٌــاة‪ .‬كــذلك كــان الطفــبلن ٌحتــاجان إلــى قضــاء مــا‬
‫ٌقــرب مــن أربعــة أشــهر أخــرى فــً حضــانة الــرحم لكــً ٌحصــبل علــى‬
‫الـدم المحمـل باألكسـجٌن‬
‫والعناصر الؽذابٌة عن طرٌق الحبل السري‪ ،‬أما اآلن فمن المفترض أن ٌحصبل على‬
‫األكسجٌن عن طرٌق ربتٌهما ؼٌر القادرتٌن على التمدد ونقل الهواء؛ أي عملٌة‬
‫التنفــــس المعقــــدة‪ .‬وعنــــدما ذهبــــت لرإٌــة الرضــٌعٌن بوحــدة العناٌــة‬
‫ً‬
‫محــاطا بحضَّانــة ببلســتٌكٌة‬ ‫المــركزة لحــدٌثً الــوالدة‪ ،‬كــان كــل منــهما‬
‫شــفافة‪ ،‬وبؤجــهزة اإلنــذار‬
‫الضخمة التً جعلت حجمٌهما ٌبدوان أصؽر كثٌرً ا مما هما علٌه‪ ،‬فاستطعت رإٌتهما‬
‫بصعوبة من بٌن األسبلك واألنابٌب المتشابكة‪ ،‬كما وجدت فً كل حضَّانة‬
‫عد ًدا من المنافذ الجانبٌة الصؽٌرة؛ حتى ٌتسنى للوالدٌن من خبللها لمس ساق الطفل‬
‫أو ذراعه ومداعبتها برفق لمنحه نوعًا من التواصل البشري الحٌوي‪.‬‬
‫أشرقت الشمس إٌذا ًنا بانتهاء مناوبتً؛ فعدت إلى منزلً وصورة التوأمٌن وهما‬
‫ٌخرجان من الرحم تإرق منامً؛ حٌث شعرت بؤننً مثل تلك الربة ؼٌر الناضجة؛‬
‫ً‬
‫مستعدا بعد لتحمل مسبولٌة إبقاء األرواح على قٌد الحٌاة‪.‬‬ ‫أي أننً لم أكن‬
‫وعندما عدت إلى العمل فً تلك اللٌلة‪ُ ،‬كلفت بإجراء عملٌة والدة جدٌدة؛ حٌث لم‬
‫ٌتوقع أحد حدوث أٌة مشكبلت فً هذه العملٌة‪ ،‬وبالفعل جرت األمور بصورة‬
‫طبٌعٌة؛ حٌث كان ذلك الٌوم هو الموعد المقرر لها الوالدة فٌه‪ ،‬وبدأت مع الممرضة‬
‫فً متابعة التطور الطبٌعً للحالة‪ ،‬بٌنما كانت انقباضات الرحم تجهد جسد‬
‫األم بشكل تصاعدي منتظم‪ ،‬ثم أبلؽتنً الممرضة بتمدد عنق الرحم من ثبلثة إلى‬
‫خمسة‪ ،‬ثم إلى عشرة سنتٌمترات‪.‬‬
‫وقالت‪" :‬حس ًنا‪ ،‬حان وقت دفع الجنٌن"‪ ،‬ثم التفتت إلًَّ قابلة‪" :‬ال تقلق‪ ،‬سوؾ نخبرك‬
‫حٌنما تقترب لحظة الوالدة"‪.‬‬
‫وكانت مٌلٌسا فً استراحة األطباء‪ ،‬وبعد فترة من الوقت‪ ،‬تم استدعاء فرٌق التولٌد‬
‫إلى ؼرفة العملٌات؛ فؤعطتنً ثوب العملٌات‪ ،‬وقفازات‪ ،‬وزوجً ا من أؼطٌة‬
‫الحذاء الطوٌلة‪.‬‬
‫وقالت لً‪" :‬ستصبح األمور فوضوٌة هنا"‪.‬‬
‫دخلنا ؼرفة العملٌات‪ ،‬ووقفت جانبًا فً حالة ارتباك‪ ،‬حتى دفعت بً مٌلٌسا إلى‬
‫األمام‪ ،‬فً قلب الحدث‪ ،‬وأمام الطبٌب المعالج بالضبط‪.‬‬
‫وراحت الممرضة تشجع األم قابلة‪" :‬هٌا ادفعً! واآلن دفعة أخرى بالطرٌقة ذاتها‪،‬‬
‫لكن دون صراخ"‪.‬‬
‫لكن الصراخ لم ٌتوقؾ‪ ،‬وسرعان ما صاحبه تدفق فٌض من الدم وؼٌره من‬
‫السوابل‪ ،‬ولم تنجح الرسوم التوضٌحٌة الطبٌة المتقنة فً تقدٌم تصور لهذا المشهد‬
‫كما‬
‫هــو علــى الطبٌعــة بالــذات فٌمــا ٌخــص تــدفق الــدم؛ فالــدم ال ٌتـدفق بـؽزارة‬
‫فـً أثنـاء معالجـة األسـنان واألظـافر فقـط‪ ،‬بـل فـً أثنـاء الـوالدة أٌـضًا‪( ،‬كمـا لـم‬
‫ٌكـن األمـر‬
‫رومانسٌا حالمًا كما ٌبدو فً صور مصورة األطفال الشهٌرة آن جٌدٌس)‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫ً‬
‫الموقؾ‪ ،‬اتضح لً أن تعلم الطب بالممارسة ٌختلؾ تمامًا عن دراستً النظرٌة له‬
‫فً محاضرات الكلٌة؛ فقراءة الكتب وحل أسبلة االختٌار من متعدد لٌست كاتخاذ‬
‫إجراءات طبٌة على أرض الواقع‪ ،‬مع تحمل مسبولٌة هذه اإلجراءات‪ .‬كذلك فإن‬
‫معرفتً أنه ٌجب علًَّ التعقل فً أثناء سحب رأس الجنٌن لتسهٌل خروج الكتفٌن‬
‫لٌست كتنفٌذ تلك الخطوات فً الواقع؛ فماذا لو سحبته بشدة أكثر من البلزم؟‬
‫قاببل ‪" :‬إصابات عصبٌة حتمٌة") ‪ .‬وكانت رأس الجنٌن تظهر مع‬ ‫( صرخ عقلً‪ً ،‬‬
‫كل دفعة وتتراجع مرة أخرى بتراجع األم عن الدفع‪ ،‬فنتقدم ثبلث خطوات لؤلمام‪،‬‬
‫ونتقهقر خطوتٌن للخلؾ‪ .‬ولم ٌكن بإمكانً أن أفعل شٌ ًبا سوى االنتظار‪ ،‬فقد جعل‬
‫العقل البشري التكاثر‪ ،‬الذي ٌعتبر المهمة األساسٌة ألي كابن حً‪ ،‬مسؤلة‬
‫خطــٌرة‪ ،‬كمــا جعــل هــذا العقــل نفســه أشــٌاء كوحــدات المخــاض والــوالدة‪،‬‬
‫وأجــهزة قٌــاس ضــربات القلـب‪ ،‬والتخـدٌر فـوق الجافٌـة‪ ،‬والجراحـات القٌصـرٌة‬
‫الطاربـة‬
‫ممكنة و ضرورٌة‪.‬‬
‫وقفت ساك ًنا‪ ،‬دون أن أعرؾ متى أتدخل أو ماذا أفعل؛ فوجَّ ه صوت الطبٌب المعالج‬
‫ٌديَّ إلى رأس الجنٌن الذى بدأ ٌظهر‪ ،‬وفً الدفعة التالٌة‪ ،‬وجهت أنا كتفً‬
‫الجنٌن برفق وهما ٌخرجان‪ .‬وقد كانت المولودة كبٌرة الحجم‪ ،‬وممتلبة الجسم‪،‬‬
‫ومبتلة‪ ،‬وٌعادل حجمها ثبلث مرات حجم الجنٌنٌن ذوي حجم العصافٌر اللذٌن‬
‫رأٌتــهما اللٌلـة الماضـٌة‪ .‬ثـم أمسـكت مٌلٌسـا الحبـل السـري بـإحكام؛ ألقصـه‬
‫بنفسـً‪ .‬وأخـٌرً ا فتحـت المـولودة عٌنٌـها وبـدأت تبكـً؛ فحملتـها لـدقٌقة‪ ،‬وشـعرت‬
‫بوزنـها‬
‫وحجمها‪ ،‬ثم مررتها إلى الممرضة‪ ،‬التً ناولتها لؤلم‪.‬‬
‫خرجت إلى حجرة االنتظار ألخبر باقً أفراد األسرة الممتدة باألخبار السعٌدة؛ فبدأ‬
‫ً‬
‫احتفاال باألنباء السارة‪ ،‬وبدأوا‬ ‫أفراد األسرة العشرة أو أكثر بالقفز إلى األعلى‬
‫ٌتصافحون وٌتعانقون فٌما بٌنهم؛ فشعرت بؤننً كمرسال أتى لهم بخبر قد انتظروه‬
‫طوٌبل‪ ،‬ثم تبلشت الفوضى المصاحبة لعملٌة الوالدة‪ ،‬وبدأت أشعر بالزهو؛‬ ‫ً‬
‫فؤنا الشخص الذي أتت ٌداه بؤحدث فرد فً هذه العابلة؛ ابنة أخت هذا الرجل‪ ،‬وابنة‬
‫عم هذه الفتاة‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬هل لدٌك‬ ‫وعدت إلى جناح المستشفى‪ ،‬متحمسًا‪ ،‬وهرعت إلى مٌلٌسا ألسؤلها ً‬
‫أخبار عن توأمً اللٌلة الماضٌة؟"‪.‬‬
‫اكفهر وجهها‪ ،‬وأخبرتنً بؤن المولود األول توفً بعد ظهر أمس‪ ،‬بٌنما تمكن المولود‬
‫الثانً من البقاء على قٌد الحٌاة لنحو أربع وعشرٌن ساعة‪ ،‬ثم توفً فً الوقت‬
‫ذاته تقرٌبًا الذي ولد فٌه المولود الجدٌد الٌوم‪ .‬وفً تلك اللحظة‪ ،‬لم ٌسعنً سوى‬
‫تذكر استعارات صموٌل بٌكٌت التً تشابهت إلى حد كبٌر مع حالة التوأمٌن‪،‬‬
‫وهو ٌقول‪" :‬ولدنا ذات ٌوم‪ ،‬وسنموت ٌومًا ما‪ ،‬فً الٌوم ذاته‪ ،‬وفً اللحظة ذاتها ‪....‬‬
‫فالحٌاة قصٌرة؛ إذ ٌسطع الضوء للحظة‪ ،‬ثم ٌؤتً اللٌل ثانٌة"‪ .‬فشعرت بؤننً‬
‫كـ"حاصد األرواح" الذي ٌحمل فً ٌده " ً‬
‫ملقطا ً‬
‫طبٌا"‪.‬‬
‫ً‬
‫أطفاال أموا ًتا ال‬ ‫أردفت مٌلٌسا قابلة‪" :‬أتظن هذا سٌ ًبا؟ معظم األمهات البلتً ٌلدن‬
‫ٌزال علٌهن المرور بمرحلة المخاض والوالدة قادرات على الحمل والوالدة‪ .‬فهل‬
‫ٌمكنك تخٌل ذلك؟ على األقل كان لهذٌن الرضٌعٌن فرصة للبقاء على قٌد الحٌاة"‪.‬‬
‫شعرت بؤننً كعود الثقاب الذي ٌشتعل‪ ،‬ولكنه ال ٌضًء‪ ،‬ذلك عندما سمعت نحٌب‬
‫األم فً الؽرفة رقم ‪ ، ٦٢٠‬ورأٌت احمرار جفنً األب السفلٌٌن‪ ،‬بٌنما تسٌل‬
‫الــدموع علــى وجــهه فــً صــمت؛ إنــه الجــانب اآلخــر للســعادة‪ ،‬والحضــور‬
‫المــإلم‪ ،‬والصــادم للمــوت ‪ ...‬فمــاذا علــًَّ أن أفعــل فــً مثــل هــذا المـوقؾ‪،‬‬
‫وأي كلمـات ٌمكنـها‬
‫التخفٌؾ عنهما؟‬
‫قاببل‪" :‬هل كانت الجراحة القٌصرٌة العاجلة هً الخٌار الصحٌح؟"‪.‬‬ ‫فسؤلت مٌلٌسا ً‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬ببل شك؛ فقد كانت هذه فرصتهما الوحٌدة للنجاة"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬وماذا كان سٌحدث إذا لم تفعلً ذلك؟"‪.‬‬‫فسؤلتها ً‬
‫فؤجابتنً قابلة‪ٌ" :‬موت الجنٌن على األرجح؛ فعندما تكون قراءات قلب الجنٌن ؼٌر‬
‫حامضٌا؛ وهكذا ٌتعرض الحبل السري للخطر‬ ‫ً‬ ‫طبٌعٌة‪ٌ ،‬صبح دم الجنٌن‬
‫بشكل ما‪ ،‬أو قد ٌحدث شًء آخر أكثر خطورة"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ولكن كٌؾ تحددٌن مدى سوء قراءات قلب الجنٌن؟ أقصد أٌهما أسوأ‪،‬‬ ‫فسؤلتها ً‬
‫أن ٌولد الجنٌن قبل أوانه أم انتظار والدته أكثر من البلزم؟"‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬هذا ٌعود إلى تقدٌرك الشخصً"‪.‬‬
‫ٌا له من قرار! فهل اتخذت قرارً ا فً حٌاتً أصعب من المفاضلة بٌن شطٌرة اللحم‬
‫المقدد أو المفروم؟ فكٌؾ لً أن أتعلم اتخاذ مثل هذه القرارات‪ ،‬والتعاٌش معها؟‬
‫أعرؾ أنه ما زال أمامً الكثٌر ألتعلمه فً الممارسة الطبٌة‪ ،‬ولكن هل ستكفً هذه‬
‫المعرفة عندما ٌتعلق األمر بالحٌاة والموت؟ إن الذكاء وحده ال ٌكفً بالطبع؛ بل‬
‫ال بد من الجانب األخبلقً كذلك؛ لذا علًَّ أن أإمن بؤننً لن أكتسب المعرفة فقط‪،‬‬
‫بل الحكمة أٌضًا؛ ففً آخر األمر‪ ،‬عندما دلفت إلى المستشفى البارحة‪ ،‬كان‬
‫المٌبلد والوفاة مجرد مفاهٌم نظرٌة بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬أما اآلن فقد رأٌتهما عن كثب‪ .‬ربما‬
‫أصاب صموٌل بٌكٌت فٌما أورد على لسان شخصٌته المسرحٌة بوزو‪ ،‬وربما‬
‫الحٌاة مجرد "لحظة"‪ ،‬أقصر كثٌرً ا من أن ُتدرك؛ لكن ٌجب أن ٌنصب تركٌزي على‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثٌ ًقا بتوقٌت الموت‪ ،‬وكٌفٌة حدوثه؛ فؤنا‬ ‫دوري الذي اقترب‪ ،‬والمرتبط‬
‫طبٌا‪.‬‬ ‫ً‬
‫ملقطا ً‬ ‫كحاصد أرواح‪ ،‬ولكنً أحمل‬
‫فور انتهاء مناوبتً فً قسم أمراض النساء والتولٌد‪ ،‬بدأت مناوبتً فً قسم جراحة‬
‫األورام‪ ،‬التً كانت بصحبة زمٌلة كلٌة الطب ماري‪ .‬وبعد عدة أسابٌع‪ ،‬بعد‬
‫لٌلة طوٌلة ببل نوم‪ ،‬تم اختٌارها للمساعدة على إجراء جراحة وٌبل؛ وهً جراحة‬
‫معقدة تتضمن إعادة ترتٌب معظم األعضاء الموجودة فً البطن؛ فً محاولة‬
‫الستبصال سرطان البنكرٌاس‪ .‬وفً هذه العملٌة ٌقؾ طالب الطب ثاب ًتا ‪-‬أو ٌنسحب‬
‫على أحسن تقدٌر‪ -‬لمدة قد تصل إلى تسع ساعات متواصلة‪ .‬وتعتبر مشاركة‬
‫طالب الطب فً هذه الجراحة تجربة تعلٌمٌة ممتازة بالنسبة إلٌه؛ ألنها معقدة للؽاٌة‪،‬‬
‫وال ٌسمح إال لمشرفً األطباء المقٌمٌن بالمشاركة فٌها بفاعلٌة‪ ،‬ولكنها كذلك‬
‫جراحــة منــهكة‪ ،‬وتعتبــر االختبــار األصــعب إلثبــات مــهارة الجــراح العــام‪.‬‬
‫وبعــد بــدء الجراحــة بخمـس عشـرة دقٌقـة‪ ،‬رأٌـت مـاري تبكـً فـً الـرواق؛‬
‫حـٌث ٌبـدأ الجـراح‬
‫جراحة وٌبل دابمًا بإدخال كامٌرا دقٌقة من خبلل شق صؽٌر فً بطن المرٌض‬
‫للبحث عن األورام الخبٌثة؛ فإذا كان السرطان منتشرً ا بصورة كبٌرة تصبح الجراحة‬
‫ببل جدوى؛ وهكذا ٌتم إلؽاإها‪ ،‬وكانت ماري واقفة فً ؼرفة العملٌات‪ ،‬وأمامها‬
‫جراحة ستستؽرق تسع ساعات‪ ،‬فقالت فً نفسها‪" :‬أنا متعبة للؽاٌة‪ ،‬أتمنى أن‬
‫فعبل؛ فتمت خٌاطة الشق فً‬ ‫ٌكون الورم قد انتشر"‪ .‬وكان الورم الخبٌث قد انتشر ً‬
‫جسد المرٌض وإلؽاء الجراحة‪ .‬فً البداٌة شعرت ماري باالرتٌاح‪ ،‬ثم بإحساس‬
‫ت خارج ؼرفة العملٌات شاعرة باالحتٌاج إلى‬ ‫عمٌق بالعار ٌنخر فً روحها؛ فاندفع ْ‬
‫أن تفضً لشخص ما بما ٌثقل ضمٌرها‪ ،‬وما أن رأتنً‪ ،‬حتى روت لً ما حدث‪.‬‬
‫●●●‬
‫فً السنة الرابعة فً كلٌة الطب‪ ،‬شاهدت العدٌد من زمبلبً‪ ،‬الواحد تلو اآلخر‪،‬‬
‫ٌقررون التخصص فً تخصصات أقل فً مطالبها؛ (كالطب اإلشعاعً‪ ،‬أو طب‬
‫األمــراض الجلـدٌة)‪ ،‬وتقـدموا بطلبـات اإلقامـة‪ .‬وقـد حـٌرنً ذلـك؛ فجمعـت بٌـانات‬
‫مـن عـدة كلٌـات طـب عرٌقـة‪ ،‬وعلمـت أن هـذه التخصـصات هـً الشـابعة فـً‬
‫ذلـك‬
‫الوقت‪ ،‬كما أنه مع نهاٌة الدراسة فً كلٌة الطب‪ٌ ،‬مٌل معظم الطبلب إلى التركٌز‬
‫على التخصصات التً تضمن لهم "نمط الحٌاة" الذي ٌرؼبون فٌه؛ حٌث توفر‬
‫لــهم العمـل بعـدد سـاعات أكثـر راحـة‪ ،‬والحصـول علـى رواتـب أعلـى‪،‬‬
‫والتعـرض لقـدر أقـل مـن الضـؽوطات‪ ،‬وٌبـدو أن المثالٌـة‪ ،‬التـً عبـروا عنـها فـً‬
‫مقـاالت اختبـارات‬
‫التقدم لكلٌة الطب‪ ،‬قد النت أو تبلشت تمامًا‪ .‬ولما اقترب موعد التخرج‪ ،‬جلسنا لنعٌد‬
‫كتابة قسم حفل التخرج‪ ،‬وهو أحد طقوس جامعة ٌٌل؛ وهو عبارة عن‬
‫خلٌط من كلمات أبقراط‪ ،‬وابن مٌمون‪ ،‬وأوسلر‪ ،‬باإلضافة إلى كلمات عدد من‬
‫أجدادنا األطباء العظام معًا‪ ،‬فجادل بعض الطبلب‪ ،‬وطالبوا بحذؾ الجزء القابل‬
‫إن علٌنا تقدٌم مصلحة المرٌض على مصالحنا الشخصٌة‪( ،‬ولكن لم ٌسمح بقٌتنا‬
‫طوٌبل‪ ،‬ولم ُتحذؾ الكلمات‪ .‬وقد أدهشنً هذا النوع من‬ ‫ً‬ ‫باستمرار هذه المناقشة‬
‫ً‬
‫منطقٌا تمامًا‪،‬‬ ‫الؽرور؛ ألنه مناقض لروح الطب‪ ،‬ولكن تجب اإلشارة إلى كونه‬
‫فبالطبع‪ٌ ،‬ختار ‪ ٢١١‬من الناس وظابفهم وف ًقا للراتب‪ ،‬وبٌبة العمل‪ ،‬وساعات‬
‫العمل؛ لكن هذا هو بٌت القصٌد؛ أي أن اختٌارك الوظٌفة ٌتم عن طرٌق وضعك‬
‫نمط الحٌاة فً المقام األول‪ ،‬ال رسالتك فً الحٌاة)‪.‬‬
‫أمــا أنـا فقـررت اختٌـار تخصـص جراحـة األعصـاب‪ ،‬وقـد تؤصـل هـذا القـرار‪،‬‬
‫الـذي فكـرت فٌـه فتـرة طوٌلـة فـً إحـدى اللٌـالً فـً ؼرفـة مجـاورة لؽرفـة‬
‫العملٌـات‪ ،‬عنـدما‬
‫اســتمعت فــً رهبــة بالؽـة إلـى جـراح أعصـاب أطفـال ٌجلـس فـً أسـى مـع‬
‫والـدي طفـل اكتشـفوا أنـه مصـاب بـورم كبـٌر فـً المـخ‪ ،‬بعـد أن قدم إلـى‬
‫المسـتشفى ٌشـتكً مـن‬
‫الصــداع؛ فلـم ٌخبرهمـا الطبـٌب بالتشـخٌص السـرٌري للحالـة فقـط‪ ،‬بـل تنـاول‬
‫الحقـابق اإلنسـانٌة كـذلك‪ ،‬معتـر ًفا بحجـم المؤسـاة‪ ،‬ومقـدمًا التوجٌـه المناسـب‪ .‬كـانت‬
‫والدة الطفل طبٌبة أشعة؛ حٌث كانت قد فحصت صور األشعة بالفعل‪ ،‬وعرفت أن‬
‫الورم خبٌث؛ لذا كانت حٌنها تجلس فً حزن على مقعد ببلستٌكً تحت‬
‫ضوء الفلورٌسنت‪.‬‬
‫فً تلك الحظة بدأ الطبٌب ٌتحدث بهدوء ً‬
‫قاببل‪" :‬واآلن ٌا كلٌر"‪.‬‬
‫فقاطعته األم قابلة‪" :‬هل األمر بالسوء الذي ٌبدو علٌه؟ هل تعتقد أنه ورم‬
‫سرطانً؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال أعرؾ‪ ،‬ولكن ما أعرفه ‪ -‬وتعرفٌنه كذلك ‪ -‬هو أن حٌاتك‬ ‫فؤجابها الطبٌب ً‬
‫على وشك أن تتؽٌر‪ ،‬أقصد أنها قد تؽٌرت بالفعل‪ .‬أمامنا رحلة طوٌلة‪ ،‬هل‬
‫تفــهمٌن؟ ال بــد أن تكونــا مــعًا ألجــل كــل منكمــا‪ ،‬لكــن علٌكمــا أن تســترٌحا‬
‫حٌنمـا تحتـاجان إلـى ذلـك أٌـضًا‪ .‬فمـن شـؤن هـذا النـوع مـن األمـراض أن ٌقـرب‬
‫أحـدكما مـن‬
‫اآلخر‪ ،‬أو أن ٌفرق بٌنكما‪ ،‬واآلن علٌكما أن ٌشد أحدكما أزر اآلخر‪ ،‬أكثر من أي‬
‫وقت مضى‪ ،‬ولكننً ال أرٌد من أي منكما أن ٌسهر طوال اللٌل إلى جانب السرٌر‪،‬‬
‫أو‬
‫أال ٌؽادر المستشفى أب ًدا‪ .‬اتفقنا؟"‪.‬‬
‫أكمل الطبٌب حدٌثه شارحً ا العملٌة المخطط إجراإها‪ ،‬والنتابج واالحتماالت‬
‫المتوقعة‪ ،‬والقرارات التً ٌجب اتخاذها اآلن‪ ،‬وتلك التً علٌهم بدء التفكٌر فٌها اآلن‪،‬‬
‫ولكن لٌس علٌهم اتخاذ قرار فوري بشؤنها‪ ،‬وتلك التً لٌس علٌهم القلق بشؤنها بعد‪.‬‬
‫وبنهاٌة الحدٌث‪ ،‬لم ٌب ُد على العابلة االرتٌاح‪ ،‬لكن بدت علٌهم القدرة على‬
‫مواجهة المستقبل؛ لذلك شاهدت وجهً الوالدٌن ‪ -‬فً البداٌة باهتٌن‪ ،‬وشاحبٌن‪،‬‬
‫كؤنهما من عالم آخر ‪ -‬وقد اعتلى مبلمحهما التركٌز واالنتباه‪ .‬وبٌنما أنا جالس‬
‫هنــاك‪ ،‬أدركــت أن كــل إنسـان ٌواجـه األسـبلة المرتبطـة بـالحٌاة‪ ،‬والمـوت‪،‬‬
‫والقٌمـة فـً مرحلـة مـا مـن حٌاتـه‪ ،‬وعـادة مـا ُتثـار فـً سـٌاق طبـً‪ .‬وفـً‬
‫المـواقؾ الحقٌقٌـة التـً‬
‫ً‬
‫وبٌولوجٌا‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫ً‬
‫فلسفٌا‪،‬‬ ‫ٌواجه فٌها اإلنسان هذه األسبلة‪ ،‬تصبح بالضرورة أمرً ا‬
‫كابن حً‪ ،‬خاضع لقوانٌن الفٌزٌاء‪ ،‬ولؤلسؾ فإن ذلك ٌشمل القوانٌن التً‬
‫تقول إن التحول ٌتزاٌد باطراد؛ فاألمراض هً جزٌبات تحولت عن المسار‬
‫الصحٌح‪ ،‬ولعل المطلب األساسً للحٌاة هو عملٌة التحول المعروفة بالتمثٌل‬
‫الؽذابً‪،‬‬
‫التً ٌعنً توقفها الموت‪.‬‬
‫وٌعــالج جمــٌع األطبــاء األمــراض‪ ،‬بٌنمــا ٌعمــل جــراحو األعصــاب فــً قلــب‬
‫اختبــار للــهوٌة ذاتــها؛ فكــل جراحــة فــً المــخ هـً بالضـرورة معالجـة ٌـدوٌة‬
‫لجوهرنـا نحـن‪،‬‬
‫والمحادثة مع مرٌض سٌخضع لجراحة فً المخ‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬عادة ما ٌكون‬
‫خضوع المرٌض لجراحة فً المخ من أخطر القرارات التً ٌواجهها هو وأسرته لما‬
‫له‬
‫من أثر فً أٌة واقعة حٌاتٌة مهمة بعد ذلك‪ .‬وفً تلك المنعطفات الحرجة‪ ،‬ال ٌتعلق‬
‫األمر بمجرد المفاضلة بٌن الحٌاة والموت فقط‪ ،‬بل بؤي نوع من الحٌاة ٌستحق‬
‫العٌش أٌضًا؛ فعلى سبٌل المثال‪ ،‬هل توافق على مقاٌضة قدرتك ‪-‬أو قدرة والدتك‪-‬‬
‫على الكبلم فً مقابل العٌش أشهرً ا إضافٌة مع الحرمان من هذه القدرة؟ أو‬
‫هل توافق على تمدد البقعة البصرٌة العمٌاء فً مقابل التخلص من االحتمال‬
‫الضعٌؾ لئلصابة بنزٌؾ المخ الممٌت؟ أو هل توافق على التضحٌة بحركة ٌدك‬
‫الٌمنى‬
‫فــً مقــابل تــوقؾ النوبــات المرضــٌة؟ ومـا حجـم المعـاناة التـً سـتتحمل‬
‫خضـوع طفلـك لـها بفعـل مـرض عصـبً قبـل أن تتمنـى مفارقتـه الحٌـاة؟ وألن‬
‫المـخ هـو مـا ٌحـدد‬
‫كٌفٌــة تعــاملنا مــع العــالم الخــارجً تجبـر أٌـة مشـكلة عصـبٌة المـرٌض‬
‫وعابلتـه‪ ،‬مـع الطبـٌب كمرشـد فـً أفضـل األحـوال‪ ،‬علـى اإلجابـة عـن السـإال؛‬
‫مـا الـذي ٌجعـل‬
‫للحٌاة قٌمة كافٌة تدفعك إلى االستمرار فً عٌشها؟‬
‫كنــــــت متــــــؤثرً ا بجراحــــــة األعصــــــاب وتوجــــــهها المُلــــح نحـــو تحقـــٌق‬
‫المثالٌـــة؛ مثـــل مبـــدأ المثالٌـــة الٌونـــانً القـــدٌم‪ ،‬فصـــرت أعتقـــد أن‬
‫الفضـــٌلة تتطلـــب المثالٌـــة األخبلقٌـــة‪،‬‬
‫والوجدانٌة‪ ،‬والعقلٌة‪ ،‬والبدنٌة‪ .‬بدا لً كذلك أن جراحة األعصاب تمثل أكثر‬
‫المواجهات تحدًٌا ومباشرة مع القٌمة‪ ،‬والهوٌة‪ ،‬والموت‪ .‬وإلى جانب المسبولٌات‬
‫الكبٌرة‬
‫التً ٌتحملها جراحو األعصاب‪ ،‬فإنهم متفوقون فً الكثٌر من المجاالت األخرى؛‬
‫كطب العناٌة المركزة‪ ،‬وعلم األعصاب‪ ،‬والطب اإلشعاعً؛ لذلك أدركت أنه لٌس‬
‫علًَّ تدرٌب عقلً وٌديَّ فقط؛ بل علًَّ كذلك تدرٌب عٌنًَّ ‪ ،‬وربما أعضاء أخرى‬
‫أٌضًا‪ .‬كانت الفكرة ؼامرة واستحواذٌة للؽاٌة؛ فصرت أفكر فً أننً ربما أتمكن من‬
‫أن أكون أحد هإالء العباقرة واسعً الثقافة‪ ،‬الذٌن خطوا خطواتهم فً تلك الؽابة‬
‫الكثٌفة من المشكبلت الوجدانٌة‪ ،‬والعلمٌة‪ ،‬والروحٌة‪ ،‬ونجحوا فً العثور على‬
‫طرق للخروج منها‪ ،‬أو صنعوا طرقهم الخاصة‪.‬‬
‫بعد انتهاء الدراسة فً كلٌة الطب‪ ،‬تزوجت أنا ولوسً‪ ،‬وذهبنا إلى كالٌفورنٌا لبدء‬
‫فترة اإلقامة الخاصة بنا كطبٌبٌن؛ حٌث كانت إقامتً فً جامعة ستانفورد‪،‬‬
‫بٌنما إقامة لوسً فً جامعة كالٌفورنٌا بسان فرانسٌسكو‪ .‬وها نحن أوالء قد أنهٌنا‬
‫رسمٌا‪ ،‬وأصبحت المسبولٌة الحقٌقٌة واضحة أمامنا‪ .‬وفً‬ ‫ً‬ ‫دراستنا فً كلٌة الطب‬
‫وقت قصٌر كونت صداقات حمٌمة فً المستشفى‪ ،‬وخاصة مع زمٌلتً المقٌمة‬
‫فٌكتورٌا‪ ،‬والجراح العام المقٌم الذي ٌكبرنا بؤعوام قلٌلة جٌؾ‪ .‬وعلى مدار السنوات‬
‫السبع التالٌة من التدرٌب‪ ،‬كنا فً طرٌقنا إلى االنتقال من دور المتفرجٌن فً هذه‬
‫الدراما الطبٌة إلى لعب أدوار أساسٌة فٌها‪.‬‬
‫وفً عامك األول كمتدرب مقٌم‪ ،‬ال تتخطى أهمٌتك أو مشاركتك فً أمور حٌاة‬
‫المرضى أو موتهم أهمٌة موظؾ تقلٌدي ال ٌُسمح له إال بتمرٌر األوراق‪ ،‬هذا على‬
‫هاببل فً ذلك الحٌن؛ ففً ٌومً األول فً المستشفى‪،‬‬ ‫الرؼم من أن ضؽط العمل كان ً‬
‫قال لً مشرؾ األطباء المقٌمٌن‪" :‬إننا كجراحً أعصاب مقٌمٌن لسنا أفضل‬
‫الجراحٌن فحسب؛ بل إننا أفضل األطباء فً المستشفى بوجه عام‪ .‬ضع هذا الهدؾ‬
‫نصب عٌنٌك‪ ،‬واجعلنا نفتخر بك"‪ ،‬أما مدٌر المستشفى‪ ،‬فقال لً فً أثناء مروره‬
‫فً جناح جراحة األعصاب‪" :‬درِّ ب نفسك على استخدام ٌدك الٌسرى دابمًا؛ فبل بد‬
‫من أن تتعلم إتقان استخدام كلتا ٌدٌك بالبراعة نفسها"‪ .‬وقال لً أحد كبار‬
‫األطبــاء المقــٌمٌن‪" :‬تــو َّخ حــذرك‪ ،‬فالمـدٌر علـى وشـك تطلـٌق زوجتـه؛ لـذلك‬
‫فـهو ٌنـهك نفسـه فـً العمـل بحـق‪ .‬ال تحـاول التحـدث معـه فـً أمـور تافـهة"‪.‬‬
‫كـذلك المتـدرب‬
‫الودود الذي كان من المفترض أن ٌوجهنً‪ ،‬ولكنه لم ٌفعل‪ ،‬بل ناولنً قابمة بها ثبلثة‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬وقال لً‪" :‬كل ما أستطٌع أن أقوله لك هو‬ ‫وأربعون مرٌضًا ً‬
‫أنهم لن ٌكفوا عن إزعاجك بالمطالب‪ ،‬ولكن ما أضمنه لك هو أن معاناتك هذه سوؾ‬
‫تنتهً بانتهاء وردٌتك"‪ ،‬ثم ابتعد‪.‬‬
‫ولم أؼادر المستشفى فً أول ٌومٌن‪ ،‬لكن سرعان ما أصبحت أنجز أكوام األوراق ‪-‬‬
‫التً كانت تبدو مستحٌلة اإلنجاز‪ ،‬وتستهلك الوقت فً البداٌة ‪ -‬فً ساعة واحدة؛‬
‫لكنك حٌنما تعمل فً مستشفى‪ ،‬فإن األوراق التً تملإها لٌست مجرد أوراق‪ ،‬بل هً‬
‫أجزاء من حكاٌات ملٌبة بالمخاطر واالنتصارات؛ على سبٌل المثال أتى طفل‬
‫ٌدعى ماثٌو ٌبلػ من العمر ثمانٌة أعوام ٌشتكً من الصداع لٌكتشؾ أنه مصاب‬
‫بورم ٌبلمس منطقة تحت المهاد‪ ،‬وهً المسبولة عن تنظٌم دوافعنا األساسٌة؛‬
‫النوم‪ ،‬والجوع‪ ،‬والعطش‪ ،‬والعواطؾ‪ .‬وإذا ُترك أي جزء من الورم‪ ،‬فإنه سٌعرض‬
‫ماثٌو إلى حٌاة ملٌبة بضرورة الخضوع إلى اإلشعاعات‪ ،‬والمزٌد من الجراحات‪،‬‬
‫وقسطرة المخ ‪ ...‬أي أن الورم‪ ،‬باختصار‪ ،‬سٌستهلك طفولته‪ .‬ورؼم أن استبصال‬
‫الورم بشكل كامل سٌمنع ذلك‪ ،‬فإنه قد ٌلحق الضرر بمنطقة تحت المهاد؛ ما‬
‫ٌجعــل مــاثٌو حبــٌس شــهواته‪ .‬وعلــى الــرؼم مــن هــذا‪ ،‬بــدأ الجــراح العمــل‬
‫عــن طــرٌق تمــرٌر منظــار داخلــً صــؽٌر مــن خــبلل أنــؾ الطفــل‪ ،‬ثــم‬
‫أحــدث ثقــبًا فــً أرضـٌة‬
‫الجمجمة‪ .‬ولما دخل المنظار الجمجمة‪ ،‬رأى الطبٌب الورم بوضوح واستؤصله‪ .‬وبعد‬
‫عدة أٌام‪ ،‬كان ماثٌو ٌرقص بمرح فً الجناح‪ ،‬وٌتناول الحلوى من الممرضات‪،‬‬
‫مستعدا للعودة إلى البٌت‪ .‬وفً تلك اللٌلة‪ ،‬مؤلت أوراق خروجه التً ال ُتحصى‬ ‫ً‬
‫بسعادة ؼامرة‪.‬‬
‫وفً أحد أٌام الثبلثاء‪ ،‬فقدت أول مرٌضة لً‪.‬‬
‫كانت سٌدة تبلػ من العمر اثنٌن وثمانٌن عامًا‪ ،‬كانت قصٌرة القامة وأنٌقة‪ ،‬كما كانت‬
‫األكثر صحة بٌن نزالء قسم الجراحة العامة؛ حٌث قضٌت شهرً ا كمتدرب‪.‬‬
‫(وفً أثناء تشرٌح جثتها‪ ،‬أصٌب متخصص علم األمراض بالدهشة حٌنما عرؾ‬
‫قاببل‪" :‬لقد أوحت لً أعضاإها بؤنها امرأة خمسٌنٌة!")‪ .‬كانت تلك السٌدة‬ ‫عمرها‪ً ،‬‬
‫قد دخلت المستشفى إلصابتها بإمساك سببه انسداد متوسط الحدة فً األمعاء‪ ،‬وبعد‬
‫ستة أٌام انتظر خبللها األطباء على أمل أن تنفك األمعاء بنفسها دون تدخل‬
‫جراحً‪ ،‬أجرٌنا جراحة بسٌطة لمساعدتها على ذلك‪ .‬وفً نحو الساعة الثامنة مساء‬
‫االثنٌن‪ ،‬مررت كً أطمبن على المرٌضة‪ ،‬فوجدتها مستٌقظة‪ ،‬وبحالة جٌدة‪ .‬وفً‬
‫أثناء حدٌثنا معًا‪ ،‬أخرجت قابمة مهام الٌوم من جٌبً وحذفت آخر بند فٌها؛ (متابعة‬
‫ما بعد العملٌة للسٌدة هارفً)‪ ،‬وبهذا حان وقت العودة إلى بٌتً وأخذ‬
‫قسط من الراحة‪.‬‬
‫بعــد منتصــؾ اللٌــل‪ ،‬رنَّ جــرس الــهاتؾ؛ حــٌث أُبــل ُ‬
‫ؽت بتــدهور حالــة‬
‫المرٌضــة‪ .‬حٌنــها تبلشــى شــعوري بالرضــا عـن هـذا العمـل الـروتٌنً فجـؤة‪،‬‬
‫ونهضـت مـن سـرٌري‬
‫ألعتدل فً جلستً‪ ،‬وبدأت أصدر األوامر عبر الهاتؾ‪" :‬لترً ا من محلول لٌنجر‬
‫الكتات‪ ،‬ورسم قلب‪ ،‬وأشعة سٌنٌة للصدر فورً ا‪ ،‬وأنا فً الطرٌق إلى المستشفى"‪.‬‬
‫فطلبت منً إضافة بعض‬‫ْ‬ ‫اتصلت بالطبٌبة المشرفة ألطلعها على الحالة‪،‬‬‫ُ‬ ‫بعدها‪،‬‬
‫التحالٌل الطبٌة ومعاودة االتصال بها حٌنما تتضح األمور؛ فهرعت إلى المستشفى‬
‫ووجدت السٌدة هارفً تصارع اللتقاط أنفاسها‪ ،‬وكان نبضها متسارعًا‪ ،‬وضؽط الدم‬
‫ٌنهار‪ ،‬وال تتحسن حالتها مهما فعلت‪ ،‬وألننً كنت الجراح العام المتدرب‬
‫الوحٌد فً تلك المناوبة‪ ،‬لم ٌتوقؾ جهاز االتصال الخاص بً عن الرنٌن من‬
‫مكالمات ٌمكن االعتذار عنها‪( ،‬مثل مكالمات المرضى الذٌن ٌحتاجون إلى عقاقٌر‬
‫منومة)‪،‬‬
‫ومكالمات ال ٌمكن االعتذار عنها‪( ،‬مثل تمزق ألوعٌة دموٌة متمددة فً ؼرفة‬
‫الطوارئ)‪ ،‬فشعرت بؤننً أؼرق‪ ،‬وأنه ٌتم سحبً فً ألؾ اتجاه مختلؾ‪ ،‬بٌنما ال‬
‫تزال‬
‫حالــة الســٌدة ال تتحســن‪ .‬فـؤجرٌت الترتٌبـات البلزمـة لنقلـها إلـى وحـدة العناٌـة‬
‫المـركزة؛ حـٌث أمطرنـاها بجرعـة مـن األدوٌـة والسـوابل‪ ،‬فـً محاولـة إلبقابـها‬
‫علـى قٌـد‬
‫الحٌاة‪ ،‬وقضٌت الساعات القلٌلة التالٌة أهرول بٌن ؼرفة الطوارئ لتفقد مرٌضً‬
‫المهدد بالموت‪ ،‬ووحدة العناٌة المركزة لتفقد مرٌضتً التً تصارع الموت بالفعل‪.‬‬
‫وفً تمام الساعة ‪ ٦:٢٦‬صباحً ا‪ ،‬كان مرٌض الطوارئ فً طرٌقه إلى ؼرفة‬
‫نسبٌا‪ ،‬واحتاجت إلى اثنً عشر لترً ا‬ ‫ً‬ ‫العملٌات‪ ،‬وكانت حالة السٌدة هارفً قد استقرت‬
‫من‬
‫السوابل‪ ،‬ووحدتً دم‪ ،‬وجهاز تنفس‪ ،‬وثبلثة عقاقٌر مختلفة لرفع ضؽط الدم؛ لكً‬
‫تبقى على قٌد الحٌاة‪.‬‬
‫ؼادرت المستشفى أخٌرً ا فً الساعة الخامسة مساء الثبلثاء‪ ،‬لم تكن حالة‬ ‫ُ‬ ‫وعندما‬
‫السٌدة هارفً تتحسن‪ ،‬أو تسوء‪ .‬وفً الساعة السابعة مساءً‪ ،‬رن جرس الهاتؾ‬
‫لتخبــرنً الممرضــة بتــوقؾ نبــض الســٌدة هــارفً‪ ،‬ومحاولــة فــرٌق وحــدة‬
‫العناٌــة المــركزة إنعــاش قلبــها‪ ،‬فعــدت إلــى المســتشفى مســرعًا ألجــد الســٌدة‬
‫قـد نجـت مجـد ًدا‬
‫بصعوبة‪ ،‬وفً هذه المرة‪ ،‬لم أعد إلى البٌت‪ ،‬بل ذهبت إلى مطعم لتناول العشاء‬
‫بالقرب من المستشفى؛ تحسبًا لحدوث أي شًء‪.‬‬
‫فً تمام الساعة الثامنة مساءً‪ ،‬رن جرس الهاتؾ؛ ماتت السٌدة هارفً‪.‬‬
‫عدت إلى البٌت ألنام‪.‬‬
‫شــعرت بشــًء مــا بــٌن الؽضــب والــحزن‪ ،‬ولســبب مــا ظــهرت لــً الســٌدة‬
‫هـارفً مجـد ًدا مـن بـٌن أكـوام األوراق لتصـبح مرٌضـتً؛ فحضـرت تشـرٌح‬
‫جثمانـها فـً الـٌوم‬
‫التــالً‪ ،‬وشــاهدت متخصــصً علــم األمــراض ٌشــقون الجثمــان وٌســتخرجون‬
‫أعضــاءها‪ ،‬وتفحصــت أعضــاءها بنفســً‪ ،‬وتحســستها بؤصــابعً‪ ،‬وتفقــدت‬
‫الؽــرز التــً‬
‫صنعت فً أمعابها‪ .‬ومنذ ذلك الحٌن فصاع ًدا‪ ،‬قررت أن أعامل جمٌع األوراق‬
‫كمرضى‪ ،‬ولٌس العكس‪.‬‬
‫وفً عامً األول من اإلقامة‪ ،‬أحسست بنصٌبً من الموت؛ فكنت فً بعض األحٌان‬
‫أشم رابحته‪ ،‬وفً أحٌان أخرى كنت أشعر بالرابحة شدٌدة القوة‪ ،‬وإلٌك بعض‬
‫األمثلة لبعض من المرضى الذٌن رأٌتهم ٌحتضرون‪:‬‬
‫‪ .٠‬مدمن خمر‪ ،‬فقد دمه القدرة على التجلط‪ ،‬فنزؾ حتى الموت؛ حٌث تسرب الدم‬
‫فً مفاصله وتحت جلده‪ ،‬فكانت الكدمات تنتشر كل ٌوم‪ ،‬وقبل أن ٌبدأ الرجل‬
‫ً‬
‫عادال؛ لقد كنت أخفؾ الخمر بالماء"‪.‬‬ ‫الهذٌان‪ ،‬نظر إلًَّ ‪ ،‬وقال‪" :‬لٌس هذا‬
‫‪ .٤‬طبٌبة علم أمراض‪ ،‬تموت إثر إصابتها بااللتهاب الربوي‪ ،‬تتحشرج حشرجة‬
‫الموت‪ ،‬وهً فً طرٌقها للتشرٌح‪ ،‬فكانت رحلتها األخٌرة إلى معمل علم األمراض‪،‬‬
‫حٌث قضت أعوامًا طوٌلة من حٌاتها‪.‬‬
‫‪ .٠‬رجل أُجرٌت له جراحة عصبٌة بسٌطة لعبلج نوبات ألم كان ٌصاب بها فً‬
‫وجهه؛ حٌث توضع نقطة صؽٌرة من اإلسمنت الطبً السابل على العصب المشتبه‬
‫به‬
‫حتى ال ٌضؽط علٌه الورٌد‪ ،‬وبعد أسبوع من الجراحة‪ ،‬بدأت تنتابه نوبات صداع‬
‫شدٌدة؛ فؤُجرٌت له كل الفحوص تقرٌبًا‪ ،‬ولم ٌتم التوصل مطل ًقا إلى تشخٌص‬
‫محدد لحالته‪.‬‬
‫‪ .٢‬عشرات الحاالت من رضوض الرأس الناتجة عن محاوالت انتحار‪ ،‬واإلصابة‬
‫بطلقات نارٌة‪ ،‬ومشاجرات‪ ،‬وحوادث دراجات نارٌة وسٌارات‪ ،‬أو التعرض لهجوم‬
‫من الؽزالن األمرٌكٌة الضخمة‪.‬‬
‫وٌمكنك فً بعض األحٌان استشعار الموت بسهولة فً الهواء‪ ،‬وفً الضؽط واألسى‬
‫الواقعٌن علٌك؛ لذا فإنك تستنشقه بشكل طبٌعً‪ ،‬دون أن تشعر‪ .‬ولكن فً أٌام‬
‫أخرى‪ ،‬تشعر به ٌطبق على أنفاسك‪ ،‬كٌوم حار رطب‪ .‬هكذا كنت أشعر فً بعض‬
‫األٌام فً المستشفى‪ ،‬كؤننً محاصر فً ؼابة تمتد على مرمى البصر فً ٌوم حار؛‬
‫حٌث ٌؽمرنً العرق‪ ،‬وتنهمر فوقً دموع عاببلت الموتى‪.‬‬
‫وفــً العــام الثــانً مــن التــدرٌب‪ ،‬تكــون أول مــن ٌصــل إلــى ؼرفــة‬
‫الطــوارئ؛ فتعــجز عــن إنقــاذ بعـض المرضـى‪ ،‬وتتمكـن مـن إنقـاذ بعضـهم‬
‫اآلخـر‪ ،‬ففـً المـرة األولـى التـً‬
‫اندفعت بمرٌض فً ؼٌبوبة من ؼرفة الطوارئ إلى ؼرفة العملٌات‪ ،‬استطعت أن‬
‫أسحب الدم الذي نزؾ داخل جمجمته؛ فشاهدته وهو ٌستعٌد وعٌه‪ ،‬وٌتحدث‬
‫مع عابلته‪ ،‬وٌشتكً من الجرح الذي أُصٌب به فً رأسه‪ ،‬فشعرت بنشوة حقٌقٌة‪،‬‬
‫وأخذت أتجول فً المستشفى فً الثانٌة صباحً ا‪ ،‬حتى إننً لم أعد أشعر بالمكان‬
‫من حولً؛ فضللت طرٌقً‪ ،‬واستؽرقت خمسًا وأربعٌن دقٌقة ألعثر على طرٌق‬
‫العودة‪.‬‬
‫كــان جــدول العمــل مــره ًقا؛ فقــد كنــا كمقــٌمٌن نعمــل لمــدة مابـة سـاعة فـً‬
‫حـدا أقصـى لسـاعات العمـل‪،‬‬ ‫األسـبوع‪ ،‬ورؼـم أن القوانـٌن الرسـمٌة قـد وضـعت ً‬
‫بحـٌث ال‬
‫تتخطى الثمانً والثمانٌن ساعة‪ ،‬فدابمًا ما كان هناك المزٌد من العمل الذي علٌنا‬
‫إنجازه‪ ،‬فكانت عٌناي تدمعان‪ ،‬ورأسً ٌنبض‪ ،‬وكنت أتناول مشروبات الطاقة فً‬
‫الثانٌة صباحً ا‪ .‬كنت أسٌطر على نفسً فً العمل‪ ،‬لكن بمجرد أن أخرج من باب‬
‫المستشفى‪ٌ ،‬داهمنً اإلرهاق الشدٌد؛ فكنت أترنح فً موقؾ السٌارات‪ ،‬وكثٌرً ا ما‬
‫أؼفو فً السٌارة قبل أن أقودها فً طرٌق العودة إلى البٌت لمدة خمس عشرة دقٌقة‬
‫ألنام‪.‬‬
‫لٌس بمقدور جمٌع األطباء المقٌمٌن تحمل الضؽط؛ فذات ٌوم قابلت طبٌبًا مقٌمًا لم‬
‫ٌستطع تحمل اللوم أو المسبولٌة‪ ،‬وقد كان جراحً ا موهوبًا‪ ،‬لكنه لم ٌستطع‬
‫االعتراؾ بؤخطابه‪ ،‬فجلست معه ٌومًا فً االستراحة؛ حٌث طلب منً المساعدة‬
‫إلنقاذ مسٌرته المهنٌة‪.‬‬
‫فقلت له‪" :‬كل ما علٌك فعله هو أن تنظر إلى عٌنًَّ ‪ ،‬وتقول أنا آسؾ‪ .‬ما حدث كان‬
‫خطبً‪ ،‬ولن أكرره ثانٌة"‪.‬‬
‫فقال لً‪" :‬لكنه خطؤ الممرضة التً _"‪.‬‬
‫حقا‪ .‬حاول ثانٌة"‪.‬‬ ‫قاببل‪" :‬ال‪ ،‬ال بد أن تتعلم أن تقول إنك آسؾ وأن تعنٌها ً‬ ‫فقاطعته ً‬
‫فقال لً‪" :‬لكن _"‪.‬‬
‫فقاطعته ثانٌة ً‬
‫قاببل‪" :‬ال‪ ،‬قلها "‪.‬‬
‫استمر هذا الحوار لمدة ساعة‪ ،‬إلى أن تؤكدت أنه ال جدوى من المحاولة معه‪.‬‬
‫كذلك دفع الضؽط طبٌبة مقٌمة أخرى إلى ترك المجال تمامًا؛ حٌث اختارت أن تنتقل‬
‫إلى وظٌفة استشارٌة أقل فً مطالبها‪.‬‬
‫بٌنما قد ٌدفع آخرون ثم ًنا أكبر‪.‬‬
‫وكلما زادت مهاراتً‪ ،‬زاد حجم المسبولٌة الملقاة على عاتقً بالطبع؛ فعلى الرؼم‬
‫من أننً قد تعلمت التمٌٌز بٌن من ٌمكن إنقاذ حٌاتهم‪ ،‬ومن ال ٌمكن؛ وهو ما‬
‫جدا تصعب تنمٌته فً داخلك‪ ،‬فإننً ارتكبت أخطاء فً حٌاتً‬ ‫ٌتطلب حدسًا حساسًا ً‬
‫المهنٌة أٌضًا‪ .‬فذات مرة سارعت بؤحد المرضى إلى ؼرفة العملٌات‪ ،‬ونجحت فً‬
‫إنقــاذه بصــعوبة بالؽــة؛ حــٌث اســتمر قلبــه فــً النبــض‪ ،‬لكنــه فــً الــوقت‬
‫نفســه فقــد القــدرة علــى الكــبلم إلــى األبـد‪ ،‬وأصـبح ٌتؽـذى مـن خـبلل أنبـوب‬
‫التؽـذٌة‪ ،‬وصـار‬
‫محكومًا علٌه بحٌاة لم ٌكن ٌرٌدها قط ‪ ...‬وقد كان فشلً هذا بالنسبة إلًَّ مشٌ ًنا أكثر‬
‫من موت المرٌض ذاته؛ فقد أصبح سرٌان عملٌة التمثٌل الؽذابً التلقابٌة‬
‫ثقٌبل ال ٌحتمل‪ ،‬وعادة ما ٌُترك المرٌض فً مثل هذه الحاالت فً‬ ‫كذلك عب ًبا ً‬
‫المستشفى؛ حٌث تزوره عابلته بوتٌرة أقل؛ إذ ال ترى لؤلمر نهاٌة‪ ،‬إلى أن تصٌبه‬
‫قرح‬
‫الفــراش أو االلتــهاب الــربوي التــً ال مفــر منــها‪ ،‬وهنــاك مــن المرضــى مــن‬
‫ٌصــر علــى هــذه الحٌــاة وٌتمســك بــها‪ ،‬مــع إدراكــه عواقبــها؛ وهــو مــا ال‬
‫ٌفعلــه الكثــٌرون‪ ،‬أو‬
‫ٌعجزون عن فعله‪ ،‬وعلى جراحً األعصاب بذل قصارى جهدهم لتجنٌبهم تلك‬
‫الحٌاة‪.‬‬
‫وكان ما دفعنً إلى هذه المهنة‪ ،‬هو رؼبتً فً مبلحقة الموت‪ ،‬وفً فهمه‪ ،‬ونزع‬
‫الؽطاء عنه‪ ،‬ومواجهته وجهًا لوجه‪ ،‬دون أن تطرؾ عٌناي‪ .‬وبقدر ما جذبتنً‬
‫جراحة‬
‫األعصاب بسبب ربطها بٌن المخ والوعً‪ ،‬جذبتنً لربطها بٌن الحٌاة والموت أٌضًا؛‬
‫فقد ظننت أن قضاء حٌاتً بٌن االثنٌن لن ٌوصلنً فقط إلى الشعور الحقٌقً‬
‫بالشــفقة؛ بــل ســٌسمو بــذاتً أٌــضًا؛ وذلــك عــن طــرٌق االبتعــاد عــن المادٌــة‬
‫التافــهة‪ ،‬وعــن األمــور الشـخصٌة التافـهة‪ ،‬حتـى أصـل إلـى هنـاك‪ ،‬إلـى قلـب‬
‫الجوهـر‪ ،‬إلـى‬
‫القرارات الحقٌقٌة المتعلقة بالحٌاة والموت والنضال ‪ ...‬ال بد أننً سؤجد هذا النوع‬
‫من السمو هناك‪ ،‬ألٌس كذلك؟!‬
‫لكنَّ شٌ ًبا آخر كان ٌتكشؾ بالتدرٌج فً أثناء فترة اإلقامة؛ ففً خضم عبلج ذلك‬
‫العدد البلنهابً من إصابات المخ‪ ،‬بدأت أشك فً أن الوجود فً قلب مثل هذه‬
‫اللحظات والنظر عن كثب إلى ضوبها المتوهج ٌعمً عٌنًَّ أكثر عن حقٌقتها؛ كؤنك‬
‫تحاول تعلم مبادئ علم الفلك عن طرٌق التحدٌق إلى الشمس مباشرة‪ .‬ففً‬
‫حقا‪ ،‬بل أكون فً قلب هذه اللحظات‬ ‫تلك اللحظات الحاسمة‪ ،‬ال أكون مع المرضى ً‬
‫فحسب‪ ،‬فقد راقبت الكثٌر من المعاناة‪ ،‬واألسوأ من ذلك‪ ،‬هو أننً صرت متبلد‬
‫المشاعر فً أكثرها صعوبة؛ فالؽرق‪ ،‬حتى لو فً بحر من الدم‪ٌ ،‬علمك التؤقلم‪،‬‬
‫والطفو‪ ،‬والسباحة‪ ،‬وكذلك االستمتاع بالحٌاة‪ .‬وٌحدث هذا فً مجالنا عن طرٌق‬
‫التقرب من فرٌق التمرٌض‪ ،‬واألطباء‪ ،‬وؼٌرهم ممن ٌتشبثون بالقارب نفسه‪،‬‬
‫والمحاصرٌن وسط موجات المد نفسها‪.‬‬
‫وعملت مع زمٌلً جٌؾ فً قسم الرضوض‪ ،‬فعندما كان ٌستدعٌنً إلى ؼرفة‬
‫الرضوض لمشاورتً فً حالة إصابة فً الرأس‪ ،‬كنا نعمل فً تناؼم دابم‪ ،‬أو قد ٌقٌِّم‬
‫حالة إصابة فً البطن‪ ،‬فٌسؤلنً عن تقٌٌمً لوظابؾ المرٌض اإلدراكٌة‪ .‬وفً واحدة‬
‫عضوا فً مجلس‬ ‫ً‬ ‫من هذه االستشارات أجبته ً‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ٌ ،‬مكنه أن ٌصبح‬
‫الشٌوخ ٌومًا ما‪ ،‬على أن ٌمثل والٌة صؽٌرة فقط"‪ ،‬فضحك جٌؾ وأصبح عدد سكان‬
‫الوالٌات منذ ذلك الحٌن مقٌاسنا لحدة إصابة الرأس؛ لذلك كثٌرً ا ما كان‬
‫ً‬
‫قــاببل‪" :‬أتظــن أن هــذا المــرٌض ٌمكــن أن ٌصــبح نــاببًا عــن‬ ‫ٌســؤلنً جــٌؾ‬
‫والٌــة واٌــومنج أم كــالٌفورنٌا؟"‪ .‬فــً محاولــة منـه لتحـدٌد مـدى شـمول خطـة‬
‫الرعاٌـة الخاصـة‬
‫بالمرٌض‪ ،‬أو أقول له‪" :‬جٌؾ‪ ،‬أعرؾ أن ضؽط دمه ؼٌر مستقر‪ ،‬لكن ٌجب أن آخذه‬
‫إلى ؼرفة العملٌات‪ ،‬وإال فسٌذهب من والٌة واشنطن إلى والٌة أٌداهو؛ فهل‬
‫ً‬
‫مستقرا؟"‪.‬‬ ‫ٌمكنك أن تجعل ضؽط دمه‬
‫ذات ٌــوم‪ ،‬كنــت فــً الكـافتٌرٌا لشـراء ؼـدابً المعتـاد ‪-‬كـوال قلٌلـة السـعرات‬
‫الحرارٌـة وشـطٌرة مثلجـات ‪ -‬فـرنَّ جـهاز االتصـال الخـاص بـً معلـ ًنا عـن حالـة‬
‫رض خطـٌرة‬
‫آتٌة‪ ،‬فهرولت إلى حجرة الرضوض‪ ،‬ودسست شطٌرة المثلجات خلؾ جهاز كمبٌوتر‬
‫كان فً الؽرفة فً الوقت الذي وصل فٌه المسعفون‪ ،‬دافعٌن السرٌر النقال‪،‬‬
‫قاببل‪" :‬ذكر ٌبلػ اثنٌن وعشرٌن عامًا‪ ،‬حادثة دراجة‬ ‫وٌخبرنً أحدهم بالتفاصٌل ً‬
‫نارٌة تسٌر بسرعة أربعة وستٌن كٌلومترً ا تقرٌبًا فً الساعة‪ٌ ،‬بدو أن مخه سٌخرج‬
‫من أنفه ‪."...‬‬
‫بدأت العمل مباشرة؛ فطلبت طاولة أنابٌب‪ ،‬وبدأت أقٌِّم الوظابؾ الحٌوٌة للمصاب‪.‬‬
‫وبعد أن قمت بتركٌب األنابٌب له‪ ،‬بدأت أفحص اإلصابات المختلفة التً‬
‫حلت به‪ ،‬بداٌة من الوجه الملًء بالكدمات‪ ،‬والكشط الجلدي‪ ،‬وحدقتٌه المتسعتٌن‪ ،‬ثم‬
‫ضخخنا كمٌات كبٌرة من المانٌتول للمرٌض؛ لتقلٌل تورم المخ‪ ،‬ثم نقلناه‬
‫سرٌعًا إلى الماسح الضوبً؛ حٌث وجدنا اآلتً‪ :‬جمجمة مهشمة‪ ،‬ونزٌ ًفا ً‬
‫حادا‬
‫منتشرً ا‪ .‬كنت قد بدأت التخطٌط لشق فروة رأسه بالفعل‪ ،‬وكٌؾ سؤثقب العظام‪،‬‬
‫وأزٌل الدم‪ ،‬ولكن فجؤة هبط ضؽط دمه؛ فؤسرعنا به إلى ؼرفة الرضوض مرة‬
‫أخرى‪ .‬وبمجرد وصول بقٌة أعضاء فرٌق الرضوض‪ ،‬توقؾ نبض المرٌض‪،‬‬
‫فؤحاطت‬
‫بــه زوبعــة مــن اإلجــراءات؛ حــٌث تــم وضــع قســطرة فــً شــرٌانه الفخــذي‪،‬‬
‫وإدخــال أنــابٌب فــً صــدره بعمـق‪ ،‬والـدفع بمزٌـد مـن العقـاقٌر فـً المحـالٌل‬
‫التـً تسـري فـً‬
‫أوردته‪ ،‬وفً الوقت ذاته كنا نضؽط على قلبه لٌستمر تدفق الدم‪ .‬وبعد مرور ثبلثٌن‬
‫دقٌقة من المحاوالت‪ ،‬تركناه ٌموت فً سبلم؛ فبسبب إصابة رأسه الشدٌدة‪،‬‬
‫همس الجمٌع بؤنه لٌس بوسعنا إنقاذه بؤٌة حال من األحوال‪.‬‬
‫انســحبت مــن ؼرفــة الرضــوض بمجــرد أن سُمح لعابلــة المتوفــى بتــودٌع‬
‫جثمانــه‪ ،‬وبعــد ذلــك تــذكرت مشــروب الكــوال قلٌــل السـعرات الحرارٌـة‬
‫وشـطٌرة المثلجـات ‪...‬‬
‫والحرارة الخانقة فً ؼرفة الرضوض؛ لذا طلبت من أحد مقٌمً ؼرفة الطوارئ‬
‫شؽل مكانً‪ ،‬وتسللت‪ ،‬مثل الشبح‪ ،‬إلى ؼرفة الرضوض إلنقاذ شطٌرة المثلجات‬
‫وذلك أمام جثة االبن الذي لم أستطع إنقاذه‪.‬‬
‫كان وضع شطٌرة المثلجات فً المجمد لثبلثٌن دقٌقة كافًٌا إلعادة تجمٌدها‪ .‬وبٌنما‬
‫كنت آكلها‪ ،‬شعرت بؤنها لذٌذة للؽاٌة‪ ،‬وأنا ألتقط رقابق الشٌكوالتة من بٌن‬
‫أسنانً؛ ذلك حٌنما كانت العابلة تودع فقٌدها للمرة األخٌرة‪ .‬عندها تساءلت‪ :‬هل‬
‫كانت المدة القصٌرة التً قضٌتها طبٌبًا قد جعلتنً أكثر أخبلقٌة أم العكس؟!‬
‫بعدها بؤٌام قلٌلة‪ ،‬سمعت أن لوري‪ ،‬صدٌقتً من كلٌة الطب‪ ،‬قد صدمتها سٌارة‪ ،‬وأن‬
‫جراح األعصاب أجرى لها جراحة فً محاولة إلنقاذها‪ ،‬ثم توقؾ نبضها‪،‬‬
‫وتم إنعاش قلبها‪ ،‬لكنها توفٌت فً الٌوم التالً‪ .‬ولم أكن أرؼب فً معرفة المزٌد عن‬
‫هذه الواقعة؛ فقد أصبحت األٌام التً أعرؾ فٌها مجرد خبر أن أحدهم "قد‬
‫توفً فً حادث سٌارة" دون معرفة التفاصٌل شٌ ًبا من الماضً‪ ،‬أما اآلن‪ ،‬فتثٌر هذه‬
‫الكلمات فً ذهنً صورً ا لدفع السرٌر النقال‪ ،‬والدم الذي ٌؽرق أرضٌة ؼرفة‬
‫الرضوض‪ ،‬واألنبوب الموضوع داخل حلق لوري‪ ،‬والضؽط على صدرها لمحاولة‬
‫إنعاش قلبها‪ ،‬كما ٌمكننً أن أرى ٌدٌن‪ٌ ،‬ديَّ على وجه التحدٌد‪ ،‬وهً تحلق فروة‬
‫رأسها‪ ،‬والمشرط وهو ٌشق رأسها‪ ،‬وأن أسمع ضجٌج المثقاب‪ ،‬وأشم رابحة العظم‬
‫المحترق‪ ،‬وأرى ؼباره المتناثر‪ ،‬وأسمع صوت الشق وأنا أنزع جزءًا من جمجمتها‪.‬‬
‫كنت أستطٌع أن أتخٌل لوري اآلن ورأسها نصؾ حلٌق‪ ،‬ودماؼها مشوه؛ فلم تعد‬
‫تبدو كما كانت على اإلطبلق‪ ،‬بل أصبحت ؼرٌبة عن أصدقابها وعابلتها‪ .‬وربما‬
‫كانت هناك أنابٌب فً صدرها‪ ،‬وجبٌرة تلتؾ حول ساقها كذلك ‪...‬‬
‫لم أطلب مزٌ ًدا من التفاصٌل؛ فقد كان لديَّ فابض منها‪.‬‬
‫فً هذه اللحظة‪ ،‬أتت إلى ذهنً جمٌع المواقؾ التً لم أستطع التعاطؾ فٌها مع‬
‫بدال من صرؾ مخاوفه‪،‬‬ ‫المرضى؛ كالمرات التً فضلت فٌها صرؾ المرٌض ً‬
‫وتجاهلت‬
‫ألــم المرضــى بســبب ضــؽوطات أخــرى‪ ،‬وتــذكرت كــذلك أولبـك المرضـى‬
‫الـذٌن رأٌـت معاناتـهم‪ ،‬والحظتـها‪ ،‬وحولتـها إلـى مجموعـة مـن التشـخٌصات‪،‬‬
‫وفشـلت فـً فـهم‬
‫مدلولها‪ .‬اجتاحتنً كل هذه الذكرٌات الحاقدة الؽاضبة ببل رحمة‪.‬‬
‫وكنت أخشى أن أكون فً طرٌقً إلى أن أصبح طبٌبًا من الصورة النمطٌة‬
‫لـتولستوي عن األطباء المشؽولٌن بالشكلٌات التافهة‪ ،‬والعبلج الروتٌنً للمرض‪،‬‬
‫بٌنما‬
‫ٌتجاهلون الجانب اإلنسانً األكثر أهمٌة‪"( .‬فذات مرة أتت لً مرٌضة‪ُ ،‬تدعى‬
‫حدٌثا بسرطان المخ‪ .‬وقبل مجٌبها إلًَّ ‪ ،‬فحصها‬‫ً‬ ‫ناتاشا‪ ،‬بعد أن تم تشخٌص حالتها‬
‫ؼٌري من األطباء فرادى وجماعات‪ ،‬وتحدثوا عن حالتها بالفرنسٌة‪ ،‬واأللمانٌة‪،‬‬
‫والبلتٌنٌة‪ ،‬والم بعضهم بعضًا لعدم توصلهم إلى التشخٌص الصحٌح‪ ،‬ووصفوا‬
‫لها مجموعة هابلة من العقاقٌر لعبلج كل األمراض المعروفة لهم‪ ،‬لكن لم ٌخطر‬
‫ببال أي منهم قط أنهم ببساطة ربما ال ٌعرفون المرض الذي تعانٌه")؛ لذا عندما‬
‫أتتنــً المرٌضــة كــانت متحــٌرة‪ ،‬ومــذعورة‪ ،‬وٌؽمرهــا الشــك‪ .‬وقـد كنـت‬
‫مـره ًقا ومشـو ًشا؛ فـؤجبت عـن أسـبلتها فـورً ا‪ ،‬وأكـدت لـها أن الجراحـة سـتنجح‪،‬‬
‫ولكننـً قلـت‬
‫لنفسً إنه لٌس لديَّ متسع من الوقت لئلجابة عن أسبلتها بالتفصٌل؛ فلم لم أوفر‬
‫الوقت ألفعل ذلك؟ وفً مرة أخرى رفض طبٌب بٌطري عنٌد محاوالت األطباء‬
‫والممرضات ومتخصص العبلج الطبٌعً نصحه وإقناعه ألسابٌع؛ فتدهورت حالة‬
‫جرح ظهره كما حذره الجمٌع‪ ،‬فتم استدعابً فً ؼرفة العملٌات‪ ،‬وبدأت أخٌط‬
‫الجرح المفتوح‪ ،‬وبٌنما كان المرٌض ٌصرخ من األلم‪ ،‬كنت أقول لنفسً إنه ٌستحق‬
‫ذلك‪.‬‬
‫لكن بعد إسعافه‪ ،‬قلت فً نفسً إنه ال أحد ٌستحق ذلك‪.‬‬
‫وكان عزابً الوحٌد‪ ،‬والضعٌؾ فً الوقت ذاته‪ ،‬معرفتً بؤن الطبٌبٌن العمبلقٌن‬
‫وٌلٌام كارلوس ولٌامز ورٌتشارد سٌلزر قد اعترفا بارتكاب ما هو أسوأ من ذلك‪،‬‬
‫وأقســــمت بــــؤن أقــــدم مــــا هــــو أفضــــل منـــهما‪ .‬فبشــكل عــام‪ ،‬فــً خضــم‬
‫المآســً واإلخفــاقات‪ ،‬كنــت أخشــى مــن أننــً قــد بــدأت أفقــد رإٌتــً لؤلهمٌــة‬
‫المتفــردة للعبلقــات‬
‫اإلنسانٌة‪ ،‬لٌس بٌن المرضى وعاببلتهم‪ ،‬بل بٌن الطبٌب والمرٌض‪ .‬ولم ٌكن التفوق‬
‫التقنً كافًٌا؛ فؤلننً طبٌب مقٌم‪ ،‬لم ٌكن هدفً األسمى هو إنقاذ األرواح ‪ -‬فكلنا‬
‫ســٌموت فــً النــهاٌة ‪ -‬بــل مســاعدة المــرٌض‪ ،‬أو عابلتــه‪ ،‬علــى تفــهم فكــرة‬
‫المــوت أو المــرض‪ ،‬فعنــدما ٌــؤتً مــرٌض مصــاب بنزٌــؾ ممـٌت فـً المـخ‪،‬‬
‫تشـكل محادثـة جـراح‬
‫األعصــاب األولــى مــع عابلــة المــرٌض الطرٌقــة التــً ســٌتذكرون بــها‬
‫وفاتــه؛ فــإما أن ٌســلِّموا بتركــه ٌرحـل فـً هـدوء‪ ،‬متفـهمٌن أنـه ("ربمـا حـان‬
‫وقتـه")‪ ،‬أو أن ٌشـعروا‬
‫باألســى مــا حـٌوا‪ ،‬قـابلٌن فـً أنفسـهم إن ("هـإالء األطبـاء لـم ٌسـتمعوا إلٌنـا! ولـم‬
‫ً‬
‫مجـاال السـتخدام‬ ‫ٌكلفـوا أنفسـهم عنـاء محاولـة إنقـاذه!")‪ .‬فحٌنمـا ال ٌجـد الطبـٌب‬
‫المشرط الطبً‪ ،‬تصبح كلماته هً أداته الوحٌدة‪.‬‬
‫وفً خضم تلك المعاناة الخاصة التً ٌسببها التلؾ الشدٌد فً المخ‪ ،‬عادة ما تشعر‬
‫عابلة المرٌض بهذه المعاناة أكثر من المرٌض ذاته‪ .‬ولكن لٌس األطباء وحدهم هم‬
‫من ال ٌرون الصورة الكاملة للمعاناة؛ فالعاببلت التً تتجمع حول مرٌضها العزٌز ‪-‬‬
‫الذي سُحق مخه داخل هذا الرأس الحلٌق ‪ -‬ال ترى الصورة الكاملة كذلك؛‬
‫بل ترى الماضً‪ ،‬والذكرٌات المتراكمة‪ ،‬وطاقة الحب الهابلة التً شعرت بها بمجرد‬
‫تعرض مرٌضها لهذه الوعكة الصحٌة؛ فكل هذا ممثل فً الجسم الراقد أمامها‪،‬‬
‫بٌنما أرى أنا النتابج المحتملة لمرٌضها‪ ،‬وأجهزة التنفس الموصولة به من خبلل‬
‫جراحٌا‪ ،‬والسوابل المصفرة التً تقطر من خبلل فتحة فً‬ ‫ً‬ ‫فتحة فً رقبته أُجرٌت له‬
‫بطنه‪ ،‬ومرحلة التعافً الجزبً الطوٌلة المإلمة‪ ،‬التً ال ٌعود المرٌض منها كما‬
‫عدوا للموت‪ ،‬كما‬‫عهدوه أب ًدا فً أؼلب األحوال‪ .‬وفً مثل هذه اللحظات‪ ،‬ال أكون ً‬
‫أكون عادة‪ ،‬بل أكون سفٌرً ا له؛ فٌكون علًَّ أن أساعد هذه العاببلت على تفهم حقٌقة‬
‫أن الشخص الذي تعرفه ‪ -‬الشخص السلٌم‪ ،‬والمفعم بالحٌوٌة‪ ،‬والمستقل ‪-‬‬
‫قــد أصــبح شــٌ ًبا مــن الماضــً‪ ،‬وأنــه ســٌعٌش مـن اآلن بصـحبة أكٌـاس‬
‫السـوابل المتصـلة بجسـده؛ لكـً ٌصـمد فـً معركتـه مـع المـرض‪ ،‬علـى الـرؼم‬
‫مـن عـدم قـدرته علـى‬
‫القتال‪.‬‬
‫وإذا كنت أكثر تدٌ ًنا فً شبابً‪ ،‬فربما كنت سؤختار أن أصبح رجل دٌن؛ فقد كنت‬
‫أقوم بوظٌفته فً مثل هذه اللحظات‪ ،‬فً محاولة جعل عابلة المرٌض تصبر على‬
‫االبتبلء‪.‬‬
‫ومع هذا التركٌز المتجدد‪ ،‬لم تعد الموافقة المسبقة ‪ -‬ذلك الطقس الذي ٌوقع فٌه‬
‫المرٌض على إقرار بموافقته على الخضوع للجراحة ‪ -‬ممارسة قانونٌة لتعرٌفه فً‬
‫أسرع وقت ممكن بجمٌع المخاطر التً قد ٌتعرض لها‪ ،‬مثل صوت المذٌع فً‬
‫إعبلن عن مستحضر طبً جدٌد‪ ،‬بل أصبحت كقطع عهد مع صدٌق فً محنة‪،‬‬
‫كؤننً‬
‫أقول له ها نحن أوالء معًا اآلن‪ ،‬وهذا ما سنمر به‪ ،‬ولكننً أعدك بؤن أرشدك بقدر‬
‫ما أستطٌع؛ كً ٌرسو زورقك بؤمان‪.‬‬
‫فً ذلك الوقت من فترة إقامتً‪ ،‬أصبحت أكثر كفاءة وخبرة‪ ،‬وتمكنت أخٌرً ا من‬
‫التقاط أنفاسً‪ ،‬ولم أعد أحاول التشبث بحٌاتً الؽالٌة؛ فقد نجحت فً تقبل المسبولٌة‬
‫الكاملة لسبلمة مرضاي‪.‬‬
‫وكثٌرً ا ما كنت أتذكر والدي؛ فلكونً أنا ولوسً طالبٌن فً كلٌة الطب‪ ،‬حضرنا معًا‬
‫بعض جوالت المستشفى معه فً كٌنجمان‪ ،‬وكنا نشاهد كٌؾ ٌحقق الراحة‬
‫لمرضاه وٌدخل المرح علٌهم‪ ،‬حتى إننً أذكر أنه قال المرأة كانت تتعافى من‬
‫جراحة فً القلب‪" :‬هل أنت جابعة؟ أي طعام أجلب لك؟"‪.‬‬
‫فؤجابته قابلة‪" :‬أي شًء‪ ،‬فؤنا أتضور جوعًا"‪.‬‬
‫فقال لها أبً‪" :‬حس ًنا‪ ،‬ما رأٌك بسرطان البحر وبعض شرابح السمك؟"‪ ،‬والتقط‬
‫قاببل لهم‪" :‬تحتاج مرٌضتً إلى تناول سرطان‬ ‫الهاتؾ واتصل بقسم التمرٌض ً‬
‫البحر وبعض من شرابح السمك‪ ،‬فورً ا!"‪ .‬ثم التفت إلٌها مبتسمًا‪ ،‬وأردؾ ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"الطعام فً الطرٌق‪ ،‬لكنه قد ٌبدو كشطٌرة لحم دٌك رومً"‪.‬‬
‫لقد كانت هذه العبلقات اإلنسانٌة البسٌطة‪ ،‬وهذه الثقة التً ؼرسها أبً فً مرضاه‬
‫ملهمة لً للؽاٌة‪.‬‬
‫وقــد جلســت ســٌدة فــً الخامســة والثبلثــٌن مــن العمــر علــى ســرٌرها فــً‬
‫وحــدة العناٌــة المــركزة بــادًٌا علــى وجـهها الـفزع؛ فقـد كـانت تتسـوق لجلـب‬
‫مسـتلزمات حفـل‬
‫لشقٌقتها حٌن أصابتها نوبة مرضٌة‪ ،‬بٌنما أظهر الفحص باألشعة أن هناك ورمًا‬
‫حمٌ ًدا فً المخ ٌضؽط على الفص الجبهً األٌمن‪ ،‬أما من حٌث المخاطر الجراحٌة‪،‬‬
‫فكان هذا هو أقل األورام ضررً ا‪ ،‬كما أصابها فً أقل مراكز المخ ضررً ا؛ حٌث‬
‫ً‬
‫نهابٌا‪ ،‬وكان بدٌل الجراحة تناول‬ ‫بإمكان الجراحة أن تقضً على نوبات المرض‬
‫عقاقٌر‬
‫ضــارة مضــادة للنوبـات طـوال حٌاتـها‪ .‬لكننـً شـعرت بـؤن فكـرة الخضـوع‬
‫لجراحـة فـً المـخ ترعبـها للؽاٌـة؛ فقـد وجـدت المرٌضـة نفسـها علـى حـٌن ؼـرة‬
‫وحٌـدة فـً مكـان‬
‫ؼرٌب‪ ،‬بعد أن تم إحضارها من الضجٌج المؤلوؾ للمركز التجاري إلى وحدة العناٌة‬
‫المركزة الؽرٌبة عنها الملٌبة باإلشارات الصوتٌة‪ ،‬واإلنذارات‪ ،‬وروابح المطهرات‪.‬‬
‫ً‬
‫مفصبل عن‬ ‫ً‬
‫حدٌثا‬ ‫وؼالبًا ما كانت سترفض الخضوع للجراحة‪ ،‬إذا بدأت معها‬
‫المخاطر والمضاعفات المحتملة للجراحة‪ ،‬وهو ما كان بإمكانً فعله‪ ،‬ثم أسجل‬
‫رفضها‬
‫فً جدول‪ ،‬وأعتبر أننً قد قمت بواجبً‪ ،‬وأنتقل إلى المهمة التالٌة‪ .‬ولكننً ً‬
‫بدال من‬
‫ذلك جمعت عابلتها بعدما استؤذنتها‪ ،‬وجلسنا جمٌعًا فً حضورها نتحدث‬
‫بــهدوء عــن الخٌــارات المتاحــة أمامــها‪ .‬وخــبلل حــدٌثنا‪ ،‬رأٌــت جســامة‬
‫الخٌـار الـذي تواجـهه تتضـاءل إلـى قـرار صـعب‪ ،‬لكنـه مفـهوم‪ .‬ونتٌجـة ألننـً قـد‬
‫عـاملت المرٌضـة‬
‫كإنسان ال كمشكلة علًَّ حلها‪ ،‬اختارت الخضوع للجراحة التً تمت بسبلم‪ ،‬وعادت‬
‫السٌدة إلى بٌتها بعد ٌومٌن‪ ،‬ولم تداهمها أٌة نوبات مرضٌة من هذا النوع‬
‫ثانٌة‪.‬‬
‫كلٌة‪ ،‬لكن أمراض‬‫ٌؽٌر أي مرض خطٌر حٌاة المرٌض ‪ -‬وحٌاة عابلته بالكامل ‪ً -‬‬
‫المخ تتسم إلى جانب خطورتها بالؽموض؛ فموت االبن ٌزعزع حٌاة أبوٌه المستقرة‪،‬‬
‫ولكن إلى أٌة درجة ٌختلؾ هذا عن الموت الدماؼً الذي قد ٌتعرض له االبن بٌنما‬
‫ال ٌزال جسمه داف ًبا‪ ،‬وقلبه نابضًا؟ وال ٌوجد ما ٌعبر عن فداحة الموقؾ أكثر من‬
‫نظــرة عــٌنً المــرٌض‪ ،‬عنــدما ٌســتمع إلـى تشـخٌص جـراح األعصـاب‪ ،‬حتـى‬
‫إنـه أحٌـا ًنا مـا تكـون هـذه األخبـار محزنـة لـدرجة تعـرض المـخ لصـدمة‪ .‬وتعـرؾ‬
‫هـذه الظـاهرة‬
‫بـ"الصدمة نفسٌة المنشؤ"؛ وهً حالة خطٌرة من اإلؼماء الذي ٌصاب به بعض‬
‫األشخاص بعد سماع أخبار سٌبة‪ ،‬فعندما سمعت أمً‪ ،‬وهً وحدها فً الجامعة‪،‬‬
‫خبر وفاة أبٌها‪ ،‬الذي شجعها على الدراسة فً رٌؾ الهند فً الستٌنٌات‪ ،‬بعد مكوثه‬
‫طوٌبل‪ ،‬أصٌبت بصدمة نفسٌة المنشؤ‪ ،‬واستمرت حتى عادت‬ ‫ً‬ ‫فً المستشفى وق ًتا‬
‫أمــــً إلـــى وطنــها لحضــور الجنــازة‪ .‬وذات مــرة‪ ،‬أصــٌب أحــد مرضــاي‬
‫بؽٌبوبــة مفاجبــة‪ ،‬بعــد تشــخٌص حالتــه بســرطان المــخ؛ فطلبــت إجــراء‬
‫مجموعــة مــن الفحــوص‬
‫ً‬
‫بــاحثا عــن ســبب لــهذه الؽٌبوبــة‪ ،‬ولكــن دون جــدوى‪.‬‬ ‫واألشــعة ورســم المــخ‪،‬‬
‫وكــان االختبـار الـذي حسـم األمـر هـو أبسـط االختبـارات؛ حـٌث رفعـت ذراع‬
‫المـرٌض فـوق‬
‫وجهه‪ ،‬ثم تركتها؛ فالمرٌض المصاب بؽٌبوبة نفسٌة المنشؤ ٌمتلك المقاومة الكافٌة‬
‫لتجنب اصطدام ذراعه بوجهه‪ ،‬وٌتلخص عبلج هذه الحالة فً التحدث إلى المرٌض‬
‫بطرٌقة مطمبنة‪ ،‬حتى ٌستوعب الكلمات التً ُتلقى على مسامعه وٌستفٌق‪.‬‬
‫وهناك نوعان من سرطان المخ هما‪ :‬األورام األولٌة التً تنشؤ فً المخ ً‬
‫أوال‪،‬‬
‫واألورام الخبٌثة التً تنشؤ فً أجزاء أخرى من الجسم؛ الربة ؼالبًا‪ ،‬ثم تنتقل لتصٌب‬
‫المخ‪.‬‬
‫وال ٌمكن للجراحة عبلج المرض‪ ،‬لكن ٌمكنها إبطاء تدهور حالة المرٌض؛ ففً‬
‫معظم حاالت سرطان المخ‪ ،‬من المرجح أن ٌصمد المصاب دون تدهور حالته عامًا‬
‫أو‬
‫اثنٌن‪ .‬على سبٌل المثال‪ ،‬تم تحوٌل المرٌضة لً‪ ،‬وهً سٌدة فً أواخر الخمسٌنات‪،‬‬
‫ذات عٌنٌن خضراوٌن باهتتٌن‪ ،‬إلى قسمً قبل ٌومٌن من مستشفى آخر قرٌب‬
‫من بٌتها‪ ،‬على بعد نحو مابة وستٌن كٌلومترً ا‪ .‬وكان زوجها ٌقؾ إلى جانب سرٌرها‬
‫مرتدًٌا قمٌصه المنقوش المُدخل فً بنطاله الجٌنز المجعد‪ ،‬محر ًكا دبلة زواجه‬
‫بعصبٌة‪ ،‬فقدمت نفسً إلٌهما وجلست‪ ،‬وبدأت السٌدة لً تخبرنً بقصتها؛ ففً األٌام‬
‫شعرت بوخز فً ٌدها الٌمنى‪ ،‬ثم بدأت تفقد السٌطرة‬ ‫ْ‬ ‫القلٌلة الماضٌة‬
‫علٌها‪ ،‬حتى إنها لم تعد قادرة على تزرٌر قمٌصها؛ فذهبت إلى قسم الطوارئ‬
‫المحلً؛ خشٌة أن تكون مصابة بسكتة‪ ،‬فؤُجرٌت لها أشعة بالرنٌن المؽناطٌسً‪ ،‬ثم‬
‫أُرسلت إلى هنا‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬هل أخبرك أحد بنتٌجة أشعة الرنٌن المؽناطٌسً؟"‪.‬‬ ‫فسؤلت السٌدة "لً" ً‬ ‫ُ‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬ال"‪ .‬إذن تم تمرٌر الكرة إلًَّ ‪ ،‬كما ٌحدث عادة فً مثل هذه األخبار‬
‫السٌبة؛ ففً معظم األحوال‪ ،‬كنت أتشاجر مع طبٌب األورام عمن سٌخبر‬
‫المرٌض باألخبار السٌبة‪ .‬فكم مرة فعلت ذلك؟ حسبت أنه قد حان الوقت للتوقؾ عن‬
‫فعله‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬حس ًنا‪ .‬لدٌنا الكثٌر لنتحدث عنه‪ .‬إذا كنت ال تمانعٌن‪ ،‬فهل ٌمكنك إخباري‬
‫بما تظنٌن أنه ٌحدث لك؟ إذ ٌساعدنً كثٌرً ا أن أستمع إلٌك؛ ألتؤكد من‬
‫اإلجابة عن جمٌع األسبلة"‪.‬‬
‫فردت السٌدة لً قابلة‪" :‬حس ًنا‪ .‬ظننت أننً مصابة بسكتة‪ ،‬لكن أعتقد ‪ ...‬أن هذا لٌس‬
‫صحٌحً ا‪ ،‬ألٌس كذلك؟"‪.‬‬
‫قاببل‪ " :‬هذا صحٌح‪ .‬لست مصابة بسكتة"‪ ،‬ثم توقفت عن الحدٌث؛ حٌث‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫أدركت حجم الفجوة بٌن الحٌاة التً كانت تعٌشها منذ أسبوع‪ ،‬والتً كانت‬ ‫ْ‬
‫بصــــدد عٌشــها بــدءًا مــن تلــك اللحظــة‪ .‬ولــم تبــد الســٌدة "لــً" وزوجــها‬
‫مســتعدٌن لســماع كلمــة ســرطان فــً المــخ ‪ -‬ومــن منــا مســتعد لــذلك؟‪ -‬لــذا‬
‫بــدأت أتــراجع عــن‬
‫قلٌبل‪ ،‬وقلت لها‪" :‬تظهر أشعة الرنٌن المؽناطٌسً كتلة فً المخ‪ ،‬وهً التً‬ ‫إخبارهما ً‬
‫تسبب لك هذه األعراض"‪.‬‬
‫صمت‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬هل ترٌدٌن رإٌة صورة الرنٌن المؽناطٌسً؟"‪.‬‬ ‫فسؤلتها ً‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬نعم"‪.‬‬
‫فؤحضرت الصور إلى الكمبٌوتر بجانب السرٌر‪ ،‬وأشرت إلى أنفها وعٌنٌها وأذنٌها‬ ‫ُ‬
‫ألشرح لها فحوى الصور‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬انتقلت إلى األعلى؛ حٌث ٌظهر الورم ‪ -‬حلقة‬
‫بٌضاء متكتلة تحٌط بجسم نخري أسود‪.‬‬
‫فسؤلتنً قابلة‪" :‬ما هذا؟"‪.‬‬
‫ٌمكن أن ٌكون أي شًء‪ ،‬ربما عدوى ‪ .‬لن نعرؾ إال بعد إجراء الجراحة‪.‬‬
‫قوٌا لتجنب مخاوفهما الواضحة‪ ،‬وترك جمٌع‬ ‫كان مٌلً إلى تفادي السإال ال ٌزال ً‬
‫االحتماالت تدور فً رأسٌهما‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬لن نتؤكد من هوٌته إال بعد إجراء الجراحة‪ ،‬لكنه ٌبدو ورمًا فً المخ"‪.‬‬
‫فسؤلتنً قابلة‪" :‬ورم سرطانً؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬مرة أخرى‪ ،‬لن نعرؾ إال بعد استبصاله وفحصه على ٌد‬ ‫فرددت علٌها‪ً ،‬‬
‫أطباء علم األمراض‪ ،‬لكن تخمٌنً أنه كذلك"‪.‬‬
‫وف ًقا لؤلشعة‪ ،‬لم ٌكن لديَّ أدنى شك فً أن هذه الكتلة ورم أرومً دبقً‪ ،‬وهو‬
‫سرطان شرس ‪ -‬أسوأ أنواع السرطانات فً الواقع‪ ،‬لكننً أكملت حدٌثً بهدوء‪،‬‬
‫محاوال التلمٌح إلى السٌدة لً وزوجها بحقٌقة األمر‪ .‬وبعد أن طرحت احتمالٌة أن‬ ‫ً‬
‫ٌكون هناك سرطان فً المخ‪ ،‬ظننت أنهما سٌفترضان ما هو أسوأ من ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫من األفضل تقدٌم هذه المؤساة لهما بالتدرٌج؛ حٌث ٌطلب القلٌل من المرضى معرفة‬
‫الحقٌقة كاملة فً الحال‪ ،‬بٌنما ٌحتاج معظمهم إلى بعض الوقت الستٌعابها‪.‬‬
‫ولــم ٌســؤلنً الزوجــان عــن التشــخٌص التفصــٌلً للحالــة‪ ،‬علــى عكــس مــا‬
‫ٌحــدث فــً حـاالت الرضـوض؛ حـٌث ٌتـوجب علـى الطبـٌب شـرح الحالـة‪،‬‬
‫واتخـاذ قـرار مـهم‬
‫بشؤنها فً نحو عشر دقابق‪ ،‬وهنا ٌجب أن أضع األمور جمٌعًا فً نصابها‪ ،‬فشرحت‬
‫لهما بالتفصٌل توقعاتً للٌومٌن التالٌٌن بشؤن ما تتضمنه الجراحة‪ ،‬وكٌفٌة‬
‫حلــــق جزء صــــؽٌر فقــــط مــــن شــــعرها‪ ،‬حتــــى ٌظـــل جمٌــل المنظــر‪،‬‬
‫ً‬
‫قلٌــبل بعــد الجراحــة‪ ،‬لكنــها ســتقوى ثانٌــة بعــد‬ ‫واحتمــال أن تضــعؾ ذراعــها‬
‫ذلــك‪ ،‬وأنــها ســتؽادر‬
‫المستشفى بعد ثبلثة أٌام إذا سار كل شًء على ما ٌرام‪ ،‬وأن هذه الجراحة ستكون‬
‫مجرد خطوة أولى فً ماراثون طوٌل‪ ،‬وأن الراحة مهمة للمرٌضة‪ ،‬وأننً ال أتوقع‬
‫منهما تذكر أي مما قلت‪ ،‬وأننً سؤعٌد شرحه مرة أخرى متى احتجنا إلى ذلك‪.‬‬
‫بعد إتمام الجراحة‪ ،‬تحدثنا ثانٌة؛ حٌث ناقشنا هذه المرة العبلج الكٌمٌابً‪ ،‬والعبلج‬
‫اإلشعاعً‪ ،‬والتشخٌص التفصٌلً للحالة‪ .‬وفً ذلك الوقت‪ ،‬كنت قد تعلمت قاعــدتٌن‬
‫أســاسٌتٌن؛ أوالهمــا‪ ،‬أنــه ال ٌصــلح االســتعانة باإلحصــاءات المفصــلة إال فــً‬
‫قــاعات األبحــاث‪ ،‬ال فــً ؼــرؾ المسـتشفٌات‪ .‬ومـن بـٌن هـذه اإلحصـاءات‪،‬‬
‫منحنـى‬
‫كــاببلن مــٌٌر‪ ،‬الـذي ٌقـٌس عـدد المرضـى النـاجٌن علـى مـدار الـوقت‪ ،‬وٌعتبـر‬
‫المقٌـاس الـذي نسـتخدمه لقٌـاس مـدى تقـدم الحالـة‪ ،‬الـذي نفـهم مـن خبللـه مـدى‬
‫ضـراوة‬
‫المرض‪ .‬وبالنسبة إلى الورم األرومً الدبقً‪ ،‬فٌهبط المنحنى إلى نحو خمسة بالمابة‬
‫فقط من المرضى ممن ٌعٌشون لمدة عامٌن قبل تدهور الحالة‪ ،‬ومن ثم الوفاة‪ ،‬أما‬
‫القاعدة الثانٌة‪ ،‬فهً أنه من الضروري أن تكون دقٌ ًقا‪ ،‬لكن فً الوقت نفسه علٌك‬
‫فبدال من أن تقول للمرٌض‪" :‬إن متوسط‬ ‫دومًا أن تترك بصٌصًا من األمل؛ ً‬
‫عٌش المرٌض بهذا المرض هو أحد عشر شهرً ا فقط"‪ ،‬أو‪" :‬لن تستطٌع العٌش بهذا‬
‫المرض ألكثر من عامٌن بنسبة خمسة وتسعٌن فً المابة"‪ ،‬قل له‪ٌ" :‬عٌش معظم‬
‫المصابٌن بهذا المرض ألشهر عدٌدة‪ ،‬وقد تطول المدة لتصل إلى عدة سنوات"؛ فهذا‬
‫الوصؾ أكثر صد ًقا فً رأًٌ‪ .‬ولعل المشكلة هً أنه ال ٌمكنك إخبار مرٌض معٌن‬
‫بمكانه بدقة على هذا المنحنى؛ فإنك ال تعرؾ إن كان سٌموت خبلل ستة أشهر أم‬
‫ستٌن شهرً ا؛ لهذا السبب بدأت أإمن بؤنه من االستخفاؾ أن تكون محد ًدا أكثر‬
‫من كونك دقٌ ًقا؛ لذا كنت أتساءل عن هإالء األطباء الذٌن ال ٌمارسون دور الطبٌب‬
‫إال باالسم‪ ،‬الذٌن ٌعطون المرٌض أرقامًا محددة‪ ،‬فٌؤتً إلًَّ المرٌض‪ ،‬وٌقول لً‪:‬‬
‫("أخبرنً الطبٌب بؤنه ٌتبقى من عمري ستة أشهر فقط")‪ ،‬فمن هإالء األطباء؟ ومن‬
‫علمهم هذه اإلحصاءات؟‬
‫ؼالبًا‪ ،‬بمجرد سماع المرضى هذه األخبار‪ٌ ،‬لوذون بالصمت‪( .‬ففً النهاٌة فإن أحد‬
‫معانً كلمة مرٌض فً اللؽة اإلنجلٌزٌة هو "الشخص الذي ٌتحمل المصاعب ببل‬
‫شكوى")‪ .‬وسواء كان هذا الصمت بدافع الكرامة أم الصدمة‪ ،‬عادة ما ٌسود؛ لذا‬
‫تصبح طمؤنة المرٌض هً الطرٌقة المثلى للتواصل‪ .‬وفً هذه المواقؾ‪ٌ ،‬تماسك‬
‫عدد‬
‫قلٌل منهم فً الحال‪( ،‬عادة ما ٌكون شركاء حٌاة المرضى هم من ٌفعلون‪ ،‬ال‬
‫المرضى أنفسهم)؛ فتجد شرٌك حٌاة المرٌض ٌقول‪" :‬سوؾ نقاوم هذا الشًء‬
‫ونهزمه‪،‬‬
‫أٌها الطبٌب"‪ .‬وتتنوع أسلحة المقاومة من الدعاء‪ ،‬إلى األموال‪ ،‬إلى األعشاب‬
‫الطبٌعٌة‪ ،‬إلى زراعة الخبلٌا الجذعٌة؛ لكن عادة ما ٌبدو لً هذا التماسك نوعًا من‬
‫التفاإل الهش‪ ،‬ؼٌر الواقعً‪ ،‬وهو البدٌل الوحٌد للشعور الساحق بالٌؤس‪ .‬وفً أٌة‬
‫حالة من حاالت الجراحة العاجلة‪ٌ ،‬صبح الموقؾ أشبه بؤوقات الحرب؛ وفً‬
‫ؼرفة العملٌات‪ٌ ،‬بدو الورم الرمادي الداكن المتعفن وسط التفافات المخ الدهنٌة‬
‫المستدٌرة كؤحد الؽزاة؛ فكنت أشعر بالؽضب الحقٌقً فور رإٌته (ألجد نفسً‬
‫أؼمؽم‪ ،‬بٌنما أستؤصله‪ ،‬بكلمات مثل‪ :‬تمكنت منك أٌها الوؼد )‪ .‬وقد مرت جراحة‬
‫استبصال الورم بسبلم‪ ،‬على الرؼم من علمً بؤن خبلٌا السرطان المجهرٌة قد‬
‫انتشرت بالفعل فً أجزاء أخرى من المخ تبدو سلٌمة اآلن‪ ،‬لكن العودة الحتمٌة‬
‫تقرٌبًا للسرطان كانت مشكلة ٌوم آخر؛ حٌث نتناول حالة المرٌضة خطوة خطوة‬
‫كمــا قلــت‪ .‬فــبل تقتضــً الصــراحة فـً مثـل هـذه الحـاالت كشـؾ الحقـابق‬
‫كاملـة‪ ،‬بـدءًا مـن أكثرهـا خطـورة‪ ،‬بـل مخاطبـة عقـول المرضـى وفـ ًقا لطرٌقـة‬
‫تفكـٌرهم‪ ،‬واألخـذ‬
‫بؤٌدٌهم قدر المستطاع‪.‬‬
‫لكنَّ للصراحة ثم ًنا‪.‬‬
‫ذات مساء فً عامً الثالث من اإلقامة‪ ،‬قابلت جٌؾ‪ ،‬زمٌلً فً قسم الجراحة‬
‫العامة‪ ،‬وهو تخصص كثٌر المطالب وحساس مثل تخصصً‪ .‬وقد الحظ كبلنا إحباط‬
‫أوال"؛ فبدأت أصؾ له موت طفل ضُرب على رأسه‬ ‫اآلخر‪ ،‬فقال لً‪" :‬احك أنت ً‬
‫الرتدابه الحذاء ذا اللون الخطؤ‪ ،‬لكنه كان على وشك التعافً ‪ ...‬ومن بٌن كل حاالت‬
‫أورام المخ الممٌتة‪ ،‬ؼٌر المرجو شفاإها هذه‪ ،‬قد وضعت أملً فً نجاة هذا الطفل‪،‬‬
‫لكنه لم ٌفعل‪ .‬فبلذ جٌؾ بالصمت‪ ،‬وانتظرت أن ٌخبرنً بقصته‪ ،‬ولكن ً‬
‫بدال من‬
‫ذلك‪ ،‬ضحك‪ ،‬ولكم ذراعً‪ً ،‬‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ ،‬أعتقد أننً تعلمت شٌ ًبا ما‪ ،‬وهو أننً كلما‬
‫شعرت باإلحباط فً عملً‪ٌ ،‬مكننً التحدث إلى جراح أعصاب كً أشعر‬
‫بؤن مشكبلتً أهون ً‬
‫قلٌبل"‪.‬‬
‫كنت أقود سٌارتً عاب ًدا إلى البٌت‪ ،‬بعد أن شرحت إلحدى األمهات برفق أن ولٌدها‬
‫قد وُ لد دون مخ‪ ،‬وأنه سٌموت قرٌبًا‪ ،‬فشؽلت الرادٌو؛ حٌث كانت محطة إن‬
‫بً آر تنقل أخبار الجفاؾ المستمر فً والٌة كالٌفورنٌا‪ ،‬وفجؤة وجدت الدموع تنهمر‬
‫من عٌنً لتؽرق وجهً‪.‬‬
‫لقد كان لوجودي مع المرضى فً هذه اللحظات ثمنه العاطفً‪ ،‬لكن كانت له ثماره‬
‫التً جنٌتها كذلك؛ لذا ال أعتقد أننً قد تساءلت للحظة فً أي وقت عن سبب‬
‫أدابً هذا العمل‪ ،‬أو مدى جدواه؛ فقد كانت قدسٌة الحفاظ على الحٌاة ‪ -‬ال الحٌاة فً‬
‫معناها المجرد‪ ،‬بل هوٌة اإلنسان‪ ،‬ولن أبالػ إن قلت إننً أحمً روحه‬
‫كذلك ‪ -‬جلٌة أمامً طوال الوقت‪.‬‬
‫لقد أدركت أننً قبل إجراء جراحة فً دماغ مرٌض‪ ،‬ال بد أن أفهم عقله ً‬
‫أوال؛ فٌما‬
‫ٌتعلق بهوٌته‪ ،‬وقٌمه‪ ،‬وما ٌجعل لحٌاته قٌمة‪ ،‬واألضرار التً قد أعجز عن‬
‫عبلجــها إن لحقــت بــه؛ مــا ٌجعــل اســتسبلمً لموتـه خٌـارً ا أكثـر منطقٌـة‪ .‬وقـد‬
‫بـاهظا؛ حـٌث كـان الفشـل المحتـوم ٌشـعرنً‬‫ً‬ ‫كـان ثمـن إخبلصـً لتحقـٌق النجـاح‬
‫بالـذنب‬
‫بشكل ال ٌُحتمل‪ .‬ولعل مثل هذه األعباء هً ما ٌجعل الطب مقدسًا وصعب المنال‪،‬‬
‫فلكً تتحمل مسبولٌة حٌاة ؼٌرك‪ ،‬ال بد أن تتحمل سحقها ظهرك أحٌا ًنا‪.‬‬
‫وبحلول منتصؾ فترة اإلقامة‪ٌ ،‬تم تخصٌص وقت معٌن لتدرٌب إضافً‪ ،‬ولعل‬
‫الشًء الفرٌد فً الطب هو أخبلقٌات جراحة األعصاب ‪ -‬التً تقول بضرورة التمٌز‬
‫فً كل شًء ‪ -‬حٌث تجعل التمٌز فً جراحة األعصاب وحدها ؼٌر كاؾٍ‪ ،‬فحتى‬
‫ٌتمٌز جراح األعصاب فً مجاله‪ ،‬ال بد أن ٌُ ْقدم على مجاالت أخرى‪ ،‬وأن ٌتمٌز فٌها‬
‫عاما‪ ،‬مثل الصحفً وجراح األعصاب سانجاي‬ ‫كذلك‪ .‬وأحٌا ًنا ما ٌكون هذا المجال ً‬
‫جوبتا‪ ،‬ولكن ٌركز معظم األطباء على مجال مرتبط بجراحة األعصاب‪ ،‬وٌعد أكثر‬
‫المجاالت دقة وأعبلها مكانة هو الذي ٌدمج بٌن جراحة األعصاب وعلم األعصاب‬
‫معًا‪.‬‬
‫وفً عامً الرابع فً فترة اإلقامة‪ ،‬بدأت أعمل فً مختبر فً ستانفورد مخصص‬
‫ألساسٌات علم األعصاب الحركً‪ ،‬وتطوٌر التكنولوجٌا التعوٌضٌة العصبٌة‪ ،‬التً‬
‫مثبل‪ ،‬من التحكم عن طرٌق العقل فً مإشر‬ ‫من شؤنها تمكٌن المصابٌن بالشلل‪ً ،‬‬
‫حاسوب أو ذراع آلٌة‪ .‬وكان جمٌع العاملٌن بالمختبر ٌحبون المدٌر وٌنادونه باسم‬
‫"فً"؛ وهو أستاذ فً الهندسة الكهربابٌة والبٌولوجٌا العصبٌة‪ ،‬وٌنتمً إلى الجٌل‬
‫الثانً من الهنود مثلً‪ .‬وكان "فً" ٌكبرنً بسبعة أعوام‪ ،‬لكننا كنا متفاهمٌن‬
‫كإخوة‪ .‬وقد أصبح مختبره واح ًدا من المختبرات الرابدة فً مجال قراءة إشارات‬
‫المخ فً العالم‪ ،‬لكن بمباركته بدأت مشروعًا ٌهدؾ إلى العكس؛ أي إرسال اإلشارات‬
‫إلى المخ ‪ ،‬ففً النهاٌة إذا لم ٌكن بإمكان ذراعك اآللٌة التعوٌضٌة الشعور بمدى‬
‫إحكام قبضتها على كؤس زجاجٌة‪ ،‬فإنك ستكسر الكثٌر من الكبوس‪ .‬ولكن إرسال‬
‫اإلشارات إلى المخ‪ ،‬أو "تعدٌل العملٌات العصبٌة"‪ ،‬كان ٌهدؾ إلى ما هو أبعد من‬
‫ذلك؛ فربما تمكننا القدرة على التحكم فً إطبلق اإلشارات العصبٌة من عبلج‬
‫مجموعة من األمراض العصبٌة والنفسٌة المستعصٌة ؼٌر القابلة للعبلج فً الوقت‬
‫ً‬
‫وصوال إلى داء هنتٌنجتون‪ ،‬والفصام‪ ،‬ومتبلزمة‬ ‫الحالً؛ بدءًا من االكتباب‪،‬‬
‫تورٌت‪ ،‬والوسواس القهري ‪ ...‬والعدٌد من األمراض المحتملة التً ال حصر لها؛‬
‫لذلك فً تلك المرحلة نحٌت الجراحة جانبًا‪ ،‬وبدأت العمل على تعلم تطبٌق تقنٌات‬
‫جدٌدة فً مجال العبلج الجٌنً فً سلسلة من التجارب "األولى من نوعها"‪.‬‬
‫وذات ٌوم بعد قضابً مدة عام فً هذا المختبر‪ ،‬اجتمعت أنا و"فً" كعادتنا كل‬
‫أسبوع‪ ،‬وكنت قد بدأت أحب هذه المحادثات كثٌرً ا‪ ،‬فلم ٌكن "فً" كؤي عالم عرفته؛‬
‫حٌث كان عذب اللسان‪ ،‬وشدٌد االهتمام بالمرضى وبمهمته السرٌرٌة‪ ،‬ودابمًا ما كان‬
‫ٌعترؾ لً بؤنه ٌتمنى لو كان جراح أعصاب‪ ،‬فقد اتضح لً أن مجاالت العلوم‬
‫هً مجاالت حساسة وتنافسٌة شرسة‪ ،‬إلى جانب أنها ملٌبة بإؼراءات تجذبك نحو‬
‫اتخاذ أسهل الطرق‪.‬‬
‫وٌمكن للمرء االعتماد على "فً" دابمًا فً اختٌار الطرٌق المباشر والنزٌه (وأقل‬
‫سرا مع أكثر المجبلت المرموقة‬ ‫الطرق أنانٌة كذلك)‪ .‬وبٌنما ٌتعاون معظم العلماء ً‬
‫لنشر أسمابهم فً صفحاتها‪ ،‬كان "فً" ٌإمن بؤن التزامنا الوحٌد هو التحلً بالصدق‬
‫فٌما ٌتعلق بالقصة العلمٌة‪ ،‬ورواٌتها كاملة‪ .‬كذلك لم أقابل فً حٌاتً من‬
‫ً‬
‫مثالٌا بحق‪.‬‬ ‫كان ناجحً ا إلى هذه الدرجة وخٌِّرً ا فً الوقت ذاته مثل "فً"؛ فقد كان‬
‫وبدال من أن ٌبتسم حٌنما جلست أمامه‪ ،‬بدا علٌه األسى‪ ،‬ووجدته‬ ‫ً‬ ‫وفً ذلك الٌوم‪،‬‬
‫قاببل‪" :‬أنا بحاجة إلى التحدث إلٌك كطبٌب‪ٌ ،‬ا بول"‪.‬‬ ‫ٌتنهد ً‬
‫فرددت علٌه ً‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ ،‬هات ما عندك"‪.‬‬
‫فقال لً‪" :‬لقد أخبرنً األطباء بؤننً مصاب بسرطان البنكرٌاس"‪.‬‬
‫فقلت له‪ " :‬فً ‪ ...‬حس ًنا‪ .‬أخبرنً بالقصة كاملة"‪.‬‬
‫بدأ "فً" ٌحكً عن فقدانه التدرٌجً للوزن‪ ،‬وعسر الهضم‪ ،‬واألشعة المقطعٌة‬
‫"االحترازٌة" التً خضع لها ‪ -‬وؼالبًا ال ٌخضع لها المرٌض فً هذه المرحلة ‪-‬‬
‫وأظهرت‬
‫تضخم البنكرٌاس؛ فناقشنا الخطوات التً سنتخذها‪ ،‬وجراحة وٌبل المخٌفة التً‬
‫سٌخضع لها فً المستقبل القرٌب؛ حٌث قلت له‪"( :‬سوؾ تشعر بؤن شاحنة قد‬
‫صدمتك")‪ ،‬وأفضل الجراحٌن فً إجراء هذه الجراحة‪ ،‬وتؤثٌر هذا المرض على‬
‫زوجته وأوالده‪ ،‬وكٌؾ ستجري األمور فً المختبر فً أثناء فترة ؼٌابه الطوٌلة‪،‬‬
‫فدابمًا ما‬
‫ٌنذر سرطان البنكرٌاس بمستقبل موحش‪ ،‬لكن لم ٌكن بإمكاننا أن نعرؾ ما ٌعنٌه‬
‫ذلك فً حالة "فً"‪.‬‬
‫صمت "فً" برهة‪ ،‬ثم قال‪" :‬بول‪ ،‬هل تعتقد أن حٌاتً ذات جدوى؟ وهل اتخذت‬
‫خٌارات صحٌحة؟"‪.‬‬
‫صدمتنً أسبلته كثٌرً ا؛ فقد أدهشنً أن تخطر مثل هذه األسبلة ‪ -‬التً تتمحور حول‬
‫األخبلقٌات ‪ -‬ببال شخص أعتبره قدوة أخبلقٌة‪.‬‬
‫كانت الجراحة‪ ،‬والعبلج الكٌمٌابً‪ ،‬والعبلج اإلشعاعً التً خضع لها "فً" مرهقة‪،‬‬
‫لكنها كانت ناجحة‪ ،‬فعاد إلى العمل بعدها بعام‪ ،‬فً الوقت الذي عدت فٌه‬
‫إلى استكمال واجباتً السرٌرٌة فً مستشفى ستانفورد‪ .‬وكان شعره قد خؾ وكساه‬
‫الشٌب‪ ،‬وانطفؤ برٌق عٌنٌه‪ .‬وفً آخر محادثة أسبوعٌة بٌننا‪ ،‬التفت لً ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"أتعــرؾ؟ الــٌوم هــو أول ٌــوم أدرك فٌــه أن األمــر ٌســتحق العنــاء‪ .‬أعنــً‬
‫أننــً كنــت سـؤتحمل أي شـًء ألجـل أوالدي بـالطبع‪ ،‬لكـن الـٌوم هـو أول ٌـوم‬
‫أشـعر فٌـه بـؤن لمعاناتً جدوى"‪.‬‬
‫ٌا لقلة تفهمنا نحن األطباء للجحٌم الذي ندفع بمرضانا فٌه!‬
‫وفً عامً السادس من فترة اإلقامة‪ ،‬عدت إلى العمل بدوام كامل فً المستشفى‪ ،‬ولم‬
‫أعد أذهب إلى مختبر" فً" إال فً أٌام العطبلت وأوقات الفراغ‪ ،‬كؤنه كان لديَّ‬
‫أيٌّ منــها‪ .‬وفــً الــواقع‪ ،‬ال ٌفــهم معظــم النــاس‪ ،‬بمــن فــً ذلــك الزمــبلء‬
‫المقــربون‪ ،‬الثقــب األســود المســمى بفتــرة إقامــة جراحــة األعصــاب‪ .‬فــذات‬
‫لٌلــة‪ ،‬أخبــرتنً إحــدى‬
‫الممرضات المفضبلت إلًَّ ‪ ،‬بعد المكوث فً المستشفى حتى العاشرة مسا ًء تقرٌبًا‬
‫لمساعدتً على تطبٌب حالة طوٌلة وصعبة‪" :‬ال أكاد أصدق أن ؼ ًدا ٌوم عطلة‪ ،‬هل‬
‫هو‬
‫عطلة لك أٌضًا؟"‪.‬‬
‫فؤجبتها‪ً ،‬‬
‫قاببل‪" :‬إممم‪ ،‬ال"‪.‬‬
‫قلٌبل‪ ،‬ألٌس كذلك؟‬ ‫فردت الممرضة قابلة‪" :‬لكن على األقل ٌمكنك أن تؤتً متؤخرً ا ً‬
‫متى تؤتً هنا عادة؟"‪.‬‬
‫أجبتها‪" :‬فً السادسة صباحً ا"‪.‬‬
‫متسابلة فً دهشة‪ٌ" :‬ا إلهً! ً‬
‫حقا؟"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فقالت الممرضة‬
‫رددت ً‬
‫قاببل‪" :‬نعم"‪.‬‬
‫فعادت تسؤلنً‪" :‬تؤتً فً الموعد نفسه كل ٌوم؟"‪.‬‬
‫قلت مجٌبًا‪" :‬كل ٌوم"‪.‬‬
‫عادت تسؤلنً بالدهشة نفسها‪" :‬وفً عطبلت نهاٌة األسبوع أٌضًا؟"‪.‬‬
‫فرددت علٌها بقولً‪" :‬ال تسؤلً"‪.‬‬
‫ٌقول األطباء فً وصؾ فترة اإلقامة‪ :‬تمر األٌام ببطء‪ ،‬بٌنما تمر السنوات بسرعة؛‬
‫حٌث ٌبدأ الٌوم عادة فً فترة إقامة جراح األعصاب فً السادسة صباحً ا وال ٌنتهً‬
‫إال بانتهاء العملٌات الجراحٌة‪ ،‬األمر الذي ٌعتمد‪ ،‬بشكل جزبً‪ ،‬على مدى إنجازك‬
‫فً ؼرفة العملٌات‪.‬‬
‫وٌتم الحكم على مهارة الجراح المقٌم من خبلل تقنٌة عمله وسرعة إنجازه؛ فبل‬
‫ً‬
‫عشوابٌا‪ ،‬وال أن تكون بطٌ ًبا‪ .‬وبدءًا من إؼبلقك أول‬ ‫ٌمكنك كجراح مقٌم أن تكون‬
‫ً‬
‫محـاوال أن تكـون دقـٌ ًقا‪ ،‬وسـتجد‬ ‫ً‬
‫طوٌـبل‬ ‫جــرح تخٌطــه فصــاع ًدا‪ ،‬اقــض وقــ ًتا‬
‫ً‬
‫تجمـٌلٌا دقـٌ ًقا!"‪ ،‬أو‪" :‬لقـد‬ ‫ممـرض ؼرفـة العملٌـات ٌقـول‪ٌ" :‬بـدو أن بٌننـا طبـٌبًا‬
‫فـهمت‬
‫إستراتٌجٌتك؛ فبمجرد أن أنتهً من خٌاطة النصؾ العلوي من الجرح‪ ،‬سٌكون‬
‫النصؾ السفلً قد التؤم وحده! فبل تإدي سوى نصؾ العمل فحسب‪ ،‬إنك ذكً‬
‫للؽاٌة!"؛ لذا دابمًا ما ٌنصح مشرؾُ األطباء المقٌمٌن الطبٌب المقٌم المبتدئ ً‬
‫قاببل له‪:‬‬
‫"تعلَّ ْم أن تكون سرٌعًا اآلن‪ ،‬وسوؾ تتعلم إتقان العمل الح ًقا"؛ ذلك ألنه فً‬
‫ؼرفة العملٌات تراقب عٌون الجمٌع الساعة طوال الوقت‪ ،‬وهذا لمصلحة المرٌض؛‬
‫لكً ٌعرفوا منذ متى والمرٌض تحت تؤثٌر المخدر؛ حٌث ٌمكن فً أثناء العملٌات‬
‫الجراحٌة الطوٌلة أن تتلؾ أعصاب المرٌض‪ ،‬أو تنهار عضبلته‪ ،‬أو تفشل ُكلٌتاه‪،‬‬
‫كما أنه من مصلحة الجمٌع معرفة موعد مؽادرة المستشفى فً هذه اللٌلة‪.‬‬
‫ولقـــد أدركــت أنــه مــن أجــل اختصــار الــوقت داخــل ؼرفــة العملٌــات‪ٌ ،‬عمــل‬
‫الجــراحون وفــق إســتراتٌجٌتٌن محــددتٌن؛ ولعــل أفضــل وصــؾ لــهما هــو‬
‫تشــبٌه واحــدة‬
‫بالسلحفاة واألخرى باألرنب البري؛ حٌث ٌتحرك الجراح الذي ٌنتهج إستراتٌجٌة‬
‫األرنب البري بؤقصى سرعة ممكنة‪ ،‬فتظهر ٌداه مشوشتٌن‪ ،‬وتتساقط األدوات‬
‫منهما على األرض محدثة جلبة‪ ،‬وٌشق الجلد بسرعة فٌبدو مثل ستارة تنفتح‪ ،‬ثم‬
‫ٌضع الجزء الذي استؤصله من الجمجمة على طاولة الفحص قبل أن ٌستقر‬
‫فتات العظام المتناثر الناتج عن ثقبه الجمجمة‪ .‬ونتٌجة ذلك‪ ،‬قد ٌحتاج الشق إلى‬
‫توسٌعه بمقدار سنتٌمتر واحد من أٌة جهة منه؛ ألن الجراح لم ٌحدثه بالدقة‬
‫المطلوبة‪ .‬وعلى الجانب اآلخر‪ٌ ،‬عمل الجراح الذي ٌنتهج إستراتٌجٌة السلحفاة بتؤن‪،‬‬
‫وببل تحركات ضابعة‪ ،‬مع تقدٌر حسبته مرتٌن قبل إحداث الشق مرة واحدة‪.‬‬
‫وبهذه اإلستراتٌجٌة ال حاجة إلى إعادة أٌة خطوة من خطوات العملٌة الجراحٌة؛‬
‫فٌسري كل شًء بسبلسة ونظام‪ .‬فإذا تعثر األرنب البري عدة عثرات صؽٌرة‪،‬‬
‫واضطر إلى التعدٌل باستمرار‪ ،‬تفوز السلحفاة‪ .‬كذلك إذا استؽرقت السلحفاة الكثٌر‬
‫من الوقت فً التخطٌط لكل خطوة‪ ،‬فإن األرنب البري ٌفوز‪.‬‬
‫ولعل الشًء المضحك فً ؼرفة العملٌات فٌما ٌتعلق بالوقت‪ ،‬سواء تحركت بسرعة‬
‫هوجاء‪ ،‬أم تحركت تحركات محسوبة‪ ،‬هو أنك ال تشعر بمرور الوقت على‬
‫اإلطبلق؛ فإذا كان الملل‪ ،‬كما عرفه الفٌلسوؾ األلمانً مارتن هٌدجر‪ ،‬هو إدراك‬
‫مرور الوقت‪ ،‬فاألمر هو العكس تمامًا فٌما ٌتعلق بالعملٌات الجراحٌة؛ فالتركٌز‬
‫تعسفٌا على ذلك‬‫ً‬ ‫الشدٌد ٌجعل عقارب الساعة تبدو ثابتة تمامًا‪ ،‬كؤنها ضبطت‬
‫التوقٌت؛ حٌث ٌمكن أن تمر ساعتان‪ ،‬وتشعر بؤنهما دقٌقة واحدة‪ .‬وبمجرد إتمام‬
‫الؽرزة األخٌرة وإؼبلق الجرح‪ٌ ،‬عود الشعور الطبٌعً بالوقت فجؤة‪ ،‬وتسمع صوت‬
‫حركة عقارب الساعة‪ ،‬كؤنها تجري كاألرنب‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬تبدأ التساإل؛ متى‬
‫ٌستفٌق المرٌض؟ ومتى ٌحٌن موعد بدء الجراحة التالٌة؟ ومتى أعود إلى البٌت‬
‫اللٌلة؟‬
‫لم أكن أشعر بطول الٌوم إال بانتهاء الحالة األخٌرة‪ ،‬كما أشعر بثقل قدمًَّ ؛ فتبدو‬
‫المهام اإلدارٌة األخٌرة التً علًَّ إنجازها قبل مؽادرة المستشفى كمطرقة تسحق‬
‫عظمً‪.‬‬
‫أال ٌمكن تؤجٌلها إلى الؽد؟‬
‫نعم‪.‬‬
‫أتنهد‪ ،‬وسرعان ما تسطع شمس ٌوم جدٌد‪.‬‬
‫ألننً مشرؾ األطباء المقٌمٌن تقع المسبولٌة الكاملة تقرٌبًا على كاهلً؛ فصارت‬
‫فرص النجاح ‪ -‬أو الفشل ‪ -‬أكبر من أي وقت مضى‪ .‬وقد دفعنً ألم الفشل إلى فهم‬
‫ً‬
‫أخبلقٌا؛ فالنٌات الحسنة ال تكفً عند اعتماد‬ ‫حقٌقة أن التمٌز الطبً ٌعتبر مطلبًا‬
‫الكثٌرٌن على مهاراتً‪ ،‬وعندما ٌفصل بٌن المؤساة واالنتصار سنتٌمتر واحد أو‬
‫اثنان‪.‬‬
‫ذات ٌــوم‪ ،‬تــم احتجــاز مــاثٌو ‪ -‬الطفــل الصــؽٌر الــذي كــان مصــابًا بــورم فــً‬
‫المـخ ‪ -‬الـذي أحبـه جمـٌع العـاملٌن فـً جنـاح جراحـة المـخ واألعصـاب منـذ‬
‫سـنوات قلٌلـة‪ ،‬فـً‬
‫المستشفى مرة أخرى‪ ،‬ففً الحقٌقة‪ ،‬كانت منطقة تحت المهاد قد تضررت إلى حد ما‬
‫فً أثناء جراحة استبصال الورم‪ ،‬فتحول الطفل الرابع ذو األعوام الثمانٌة إلى‬
‫وحــش فــً الثانٌــة عشـرة مـن العمـر‪ .‬ولـم ٌكـن مـاثٌو ٌتـوقؾ عـن تنـاول الطعـام‬
‫أبـ ًدا‪ ،‬كمـا كـان ٌصـاب بنوبـات مرضـٌة عنٌفـة؛ فظـهرت علـى ذراع والـدته آثـار‬
‫خـدوش‬
‫بنفسجٌة اللون‪ .‬وفً النهاٌة‪ ،‬تم حجزه فً إحدى دور الرعاٌة؛ فقد أصبح شرٌرً ا إلى‬
‫درجة مخٌفة‪ ،‬وٌفصله عن أذى نفسه سنتٌمتر واحد‪ .‬وفً كل جراحة‪ٌ ،‬قرر‬
‫الجراح مع عابلة المرٌض أن فوابد الجراحة تفوق مخاطرها‪ ،‬لكن ال ٌزال هذا‬
‫مإلمًا؛ فلم ٌرد أحد أن ٌتخٌل كٌؾ سٌصبح ماثٌو عندما ٌبلػ العشرٌن من عمره‪،‬‬
‫وٌتجاوز وزنه المابة وثبلثٌن كٌلوجرامًا‪.‬‬
‫كهربابٌا بعمق ثمانٌة سنتٌمترات فً دماغ مرٌض لعبلج‬ ‫ً‬ ‫فً ٌوم آخر‪ ،‬وضعت قطبًا‬
‫الشلل الرعاش الذي أصابه؛ مستهد ًفا نواة تحت المهاد؛ وهً جسٌم دقٌق‬
‫ٌشــبه اللــوزة‪ ،‬وٌوجـد فـً عمـق المـخ‪ .‬وتـإدي أجزاء مختلفـة مـن هـذه النـواة‬
‫وظـابؾ مختلفـة متعلقـة بالحركـة واإلدراك والمشـاعر‪ .‬وفـً ؼرفـة العملٌـات‪،‬‬
‫شـؽلنا التٌـار‬
‫لتقٌٌم حدة الرعشة‪ ،‬بٌنما كانت عٌوننا جمٌعًا مركزة على ذراع المرٌض الٌسرى‪،‬‬
‫وأجمعنا على أنه بدأ ٌتحسن‪.‬‬
‫بعدها‪ٌ ،‬ؤتً صوت المرٌض فجؤة لٌحٌرنا‪ ،‬وٌعلو على صوت همهماتنا المعبرة‬
‫بشكل إٌجابً عن ذلك التحسن ً‬
‫قاببل‪" :‬أشعر ‪ ...‬بحزن شدٌد"‪.‬‬
‫فصحت فً الفنً ً‬
‫قاببل‪" :‬أوقؾ التٌار"‪.‬‬
‫فقال المرٌض‪ٌ" :‬ا إلهً! ها هو ذا الشعور بالحزن ٌتبلشى"‪.‬‬
‫فقلت له‪" :‬دعنا نعد التحقق من التٌار الكهربً وقدرتك على مقاومته‪ ،‬حس ًنا؟ أعٌدوا‬
‫تشؽٌل التٌار‪."...‬‬
‫فقال المرٌض‪" :‬ال‪ ،‬إن األمر برمته ‪ٌ ...‬شعرنً بـ ‪ ...‬بالحزن الشدٌد‪ .‬أشعر باألسى‬
‫و‪ ،‬و‪ ...،‬الحزن"‪.‬‬
‫فتوجهت بالحدٌث إلى الفنً ً‬
‫قاببل‪" :‬أخرج القطب الكهربابً!"‪.‬‬
‫سحبنا القطب الكهربابً وأدخلناه ثانٌة‪ ،‬بفارق أقل من نصؾ سنتٌمتر من جهة‬
‫الٌمٌن هذه المرة‪ ،‬فتوقؾ االرتعاش‪ ،‬وشعر المرٌض بؤنه بخٌر لحسن الحظ‪.‬‬
‫ذات مرة‪ ،‬كنت أجري جراحة فً وقت متؤخر من اللٌل مع أحد األطباء المعالجٌن‬
‫بقسم جراحة األعصاب‪ ،‬وهً جراحة لقطع القحؾ تحت القذال بسبب تشوه‬
‫جذع المخ‪ .‬وتعتبر هذه الجراحة واحدة من أكثر الجراحات تعقٌ ًدا؛ فهً ُتجرى فً‬
‫جزء ربما ٌكون األكثر حساسٌة فً الجسم؛ ما ٌجعل مجرد وصولك إلى ذلك‬
‫الجزء أمرً ا شدٌد الخطورة‪ ،‬مهما بلؽت خبرتك‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬كنت أشعر بسبلسة‬
‫متناهٌة فً العمل فً تلك اللٌلة‪ ،‬كؤن األدوات جزء من أصابعً‪ ،‬كما بدا كل من‬
‫الجلد والعضبلت والعظام كاش ًفا عن نفسه لً‪ ،‬فهؤنذا أحدق إلى النتوء األصفر‬
‫البلمع‪ ،‬وهو كتلة فً عمق جذع المخ‪ .‬وفجؤة‪ ،‬أوقفنً الطبٌب المعالج‪.‬‬
‫قاببل لً‪" :‬ما الذي سٌحدث إذا أحدثت قطعًا فً هذه النقطة‬‫فؤشار إلى ذلك الجزء ً‬
‫على عمق نصؾ سنتٌمتر‪ٌ ،‬ا بول؟"‪.‬‬
‫فبدأت دروس التشرٌح العصبً تتسلل إلى رأسً محدثة طنٌ ًنا فً أذنًَّ فؤجبته بشًء‬
‫من الرٌبة ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"رإٌة مزدوجة؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬كبل‪ ،‬بل متبلزمة المنحبس"؛ أي أنه بإمكان نصؾ سنتٌمتر‬ ‫فؤجاب الطبٌب ً‬
‫تاما لهذا المرٌض‪ ،‬باستثناء قدرته على طرؾ عٌنٌه؛ لذلك لم‬ ‫زابد أن ٌسبب ً‬
‫شلبل ً‬
‫قاببل‪" :‬أعرؾ هذا؛ ألن هذا ما حدث‬ ‫ٌرفع الجرَّ اح عٌنٌه عن المجهر‪ ،‬وأردؾ ً‬
‫بالضبط فً المرة الثالثة إلجرابً هذه الجراحة"‪.‬‬
‫وتتطلب جراحة األعصاب التزامًا بالبراعة الشخصٌة للجراح‪ ،‬والتزامًا بالحفاظ على‬
‫شخصٌة المرٌض؛ حٌث ٌتطلب اتخاذ قرار إجراء الجراحة فً المقام األول تقٌٌمًا‬
‫لقدرات الجراح الشخصٌة‪ ،‬وكذلك تتطلب شعورً ا عمٌ ًقا بشخصٌة المرٌض‪،‬‬
‫وباألشٌاء ذات القٌمة فً حٌاته؛ لذلك تعتبر بعض مناطق المخ ممنوعة اللمس‪ ،‬مثل‬
‫منطقة القشرة الحركٌة األولٌة؛ فؤي ضرر ٌلحق بهذه المنطقة ٌإدي إلى شلل أجزاء‬
‫الجسم المتصلة بها؛ لكن أكثر مناطق القشرة المخٌة حساسٌة هً المنطقتان‬
‫اللتــــان تتحكمــــان فــً اللؽــة؛ وؼــالبًا مــا تقعــان فــً الجــانب األٌســر؛‬
‫وتســمٌان بمنطقتــً فٌرنٌــك وبــروك؛ إحــداهما مســبولة عــن فــهم اللؽــة‪،‬‬
‫واألخــرى مســبولة عــن‬
‫تحدثها‪ ،‬ولذلك ٌنتج عن أي ضرر ٌلحق بمنطقة بروك عدم القدرة على التحدث أو‬
‫الكتابة‪ ،‬وذلك على الرؼم من قدرة المرٌض على فهم اللؽة بسهولة‪ ،‬أما تضرر‬
‫منطقــة فٌرنٌــك فٌســبب عــدم القــدرة علـى فـهم اللؽـة‪ ،‬ورؼـم أن المـرٌض ال‬
‫كلـٌا‪ ،‬تـؤتً اللؽـة التـً سـٌتحدثها فـً شـكل كلمـات‪،‬‬‫ٌفقـد قـدرته علـى التحـدث ً‬
‫وعبـارات‪،‬‬
‫وصور ؼٌر متصلة؛ فهً مجرد كلمات ببل دالالت لؽوٌة‪ .‬أما إذا تضررت‬
‫ً‬
‫أساسٌا من إنسانٌته إلى األبد‪.‬‬ ‫ً‬
‫منعزال؛ حٌث فقد جزءًا‬ ‫المنطقتان‪ ،‬فٌصبح المرٌض‬
‫فإذا‬
‫أصٌب شخص برض أو صدمة فً الرأس‪ ،‬وتضررت هاتان المنطقتان بشدة‪ٌ ،‬كون‬
‫أهون على الجراح أن ٌتوفى المرٌض‪ ،‬على أن ٌنقذ حٌاته بعد أن فقد هذه الملكة؛‬
‫فؤي حٌاة ٌحٌاها المرء دون لؽة؟‬
‫ً‬
‫رجبل‬ ‫وعندما كنت طالبًا فً كلٌة الطب‪ ،‬كان أول مرٌض أقابله ٌعانً هذه المشكلة‬
‫ٌبلػ من العمر اثنٌن وستٌن عامًا‪ ،‬مصابًا بورم فً المخ‪ .‬فقد مررنا بؽرفته فً أثناء‬
‫قاببل‪" :‬كٌؾ حالك الٌوم‪ٌ ،‬ا سٌد‬‫الجولة التفقدٌة الصباحٌة‪ ،‬وسؤله الطبٌب المقٌم ً‬
‫ماٌكل؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أربعة ستة واحد ثمانٌة تسعة عشرة!"‪.‬‬ ‫فؤجاب المرٌض بعذوبة ً‬
‫لقد أثر الورم فً مراكز التحدث الخاصة بالمرٌض؛ فصار ال ٌنطق إال باألرقام‪،‬‬
‫لكنه لم ٌفقد قدرته على النطق ذاته‪ ،‬كما كان ال ٌزال قادرً ا على التعبٌر عن‬
‫مشاعره؛‬
‫سٌبل آخر من األرقام‪ ،‬ولكن بإلحاح هذه‬ ‫فهو ٌبتسم وٌتجهم وٌتنهد‪ ،‬ثم تلفظ المرٌض ً‬
‫المرة؛ فقد كان ٌحاول إخبارنا بشًء ما‪ ،‬ولكن األرقام لم تنجح إال فً التعبٌر‬
‫عن خوفه وؼضبه‪ .‬وبعدها هم الفرٌق بترك الؽرفة‪ ،‬لكن شٌ ًبا ما جعلنً أتخلؾ‬
‫عنهم‪.‬‬
‫فؤمسك المرٌض بٌدي‪ ،‬وقال فً تضرع‪" :‬أربعة عشرة واحد اثنان ثمانٌة‪ .‬أربعة‬
‫عشرة واحد اثنان ثمانٌة"‪.‬‬
‫فقلت له‪" :‬أنا آسؾ"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أربعة عشرة واحد اثنان ثمانٌة"‪ ،‬ولكنه قالها بحزن‬ ‫فؤعاد علًَّ الجملة نفسها‪ً ،‬‬
‫هذه المرة‪ ،‬ناظرً ا إلى عٌنًَّ ‪.‬‬
‫عندها تركت الؽرفة أللحق بالفرٌق‪ .‬وتوفً هذا المرٌض بعد أشهر قلٌلة‪ ،‬و ُدفنت‬
‫معه رسالته التً كان ٌرؼب فً التفوه بها‪ ،‬ولكنه عجز عن ذلك‪.‬‬
‫وعندما تضؽط األورام أو التشوهات على مناطق اللؽة‪ٌ ،‬تخذ الجراح العدٌد من‬
‫ً‬
‫عصبٌا‬ ‫اإلجراءات االحترازٌة‪ ،‬وٌطلب مجموعة من الفحوصات المختلفة‪ ،‬وفحصًا‬
‫مفصبل‪ ،‬لكن تجرى جراحة استبصال الورم هذه والمرٌض مستٌقظ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جسمانٌا‬
‫وٌتحدث‪ .‬وبمجرد كشؾ الجراح عن المخ‪ ،‬وقبل استبصال الورم‪ٌ ،‬ستخدم الجراح‬
‫كهربابٌا صؽٌرً ا ٌمسكه بٌده لتوصٌل تٌار كهربابً لصدم منطقة صؽٌرة من‬ ‫ً‬ ‫قطبًا‬
‫القشرة المخٌة بٌنما ٌإدي المرٌض العدٌد من المهام الشفهٌة‪ ،‬كتسمٌة بعض‬
‫ً‬
‫كهربٌا إلى‬ ‫األشٌاء‪ ،‬أو تهجً الحروؾ األبجدٌة‪ ،‬وهكذا‪ .‬وعندما ٌرسل القطب تٌارً ا‬
‫منطقة حساسة فً القشرة المخٌة‪ٌ ،‬تعطل حدٌث المرٌض؛ فٌتفوه بعبارات‬
‫متقطعة‪ ،‬كؤنما تعرض مخه لعطل فنً‪ .‬ومن ثم‪ٌ ،‬حدد كل من المخ ومكان الورم ما‬
‫ً‬
‫مستٌقظا طوال هذه العملٌة‬ ‫ٌمكن استبصاله بؤمان‪ ،‬بٌنما ٌبقى المرٌض‬
‫الجراحٌة‪ ،‬ولكنه مشؽول ببعض المهام اللؽوٌة والمحادثات البسٌطة‪.‬‬
‫وذات مساء‪ ،‬كنت أتجهز إلجراء إحدى هذه العملٌات الجراحٌة‪ ،‬فراجعت صور‬
‫أشعة الرنٌن المؽناطٌسً الخاصة بالمرٌض‪ ،‬والحظت أن الورم قد ؼطى مناطق‬
‫اللؽة بالكامل؛ وهو ما ال ٌنذر بالخٌر‪ .‬وبمراجعتً للمبلحظات‪ ،‬وجدت أن اللجنة‬
‫المسبولة عن األورام بالمستشفى ‪ -‬التً تتكون من مجموعة من خبراء الجراحٌن‬
‫وأطباء األورام‪ ،‬وأطباء األشعة‪ ،‬وأطباء علم األمراض ‪ -‬قد اعتبرت إجراء الجراحة‬
‫لهذه الحالة أمرً ا شدٌد الخطورة‪ ،‬فكٌؾ للجراح أن ٌقدم على هذا على الرؼم من‬
‫رأي اللجنة المختصة؟ فشعرت باالستٌاء‪ ،‬ولكننً أدركت أنه قد تكون وظٌفتنا فً‬
‫بعض الحاالت هً الرفض‪ .‬وبالفعل‪ ،‬تم إحضار المرٌض إلى الؽرفة‪ ،‬فنظر إلى‬
‫قاببل‪" :‬أرٌد منك أن تخرج هذا الشًء البؽٌض من‬ ‫عٌنًَّ مباشرة‪ ،‬وأشار إلى رأسه ً‬
‫رأسً‪ ،‬فهمت؟"‪.‬‬
‫ودلؾ الطبٌب المعالج إلى الؽرفة‪ ،‬ورأى تعبٌر وجهً‪ ،‬فقال لً‪" :‬أعرؾ ما طلبه‬
‫المرٌض منك‪ ،‬وقد حاولت أن أثنٌه عن ذلك لساعتٌن فبل تنزعج؛ ولكن هل أنت‬
‫مستعد لذلك؟"‪.‬‬
‫وبدال من جعل المرٌض الخاضع لهذه الجراحة ٌتلو الحروؾ األبجدٌة‪ ،‬أو ٌعد‬ ‫ً‬
‫األرقام كالمعتاد‪ ،‬أمطرنا المرٌض بوابل من العبارات ؼٌر البلبقة والتحذٌرات‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ألم تستؤصلوا ذلك الشًء البؽٌض من رأسً بعد؟ لماذا تتباطبون؟‬ ‫ثم سؤلنا ً‬
‫أسرعوا! أرٌد منكم أن تخرجوه‪ .‬ال آبه ببقابً هنا طوال الٌوم‪ ،‬ولكن أخرجوه‬
‫فقط!"‪.‬‬
‫استؤصلت الورم الضخم ببطء‪ ،‬بٌنما كنت أترقب أصؽر داللة على إٌجاد المرٌض‬
‫صعوبة فً التحدث‪ .‬وفً أثناء حدٌثه الذي لم ٌتوقؾ‪ ،‬وضعت الورم على الطبق‬
‫البتري أخٌرً ا‪ ،‬بٌنما كان مخه الخالً من األورام ٌلمع‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬لماذا توقفت؟ أال تفهم؟ طلبت منك أن تخرج هذا الشًء‬ ‫فصاح فًَّ المرٌض ً‬
‫من رأسً!"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬لقد انتهٌت‪ ،‬ها هو ذا خارج رأسك"‪.‬‬ ‫فرددت علٌه ً‬
‫ً‬
‫مستحٌبل نظرً ا إلى حجم الورم‬ ‫كٌؾ احتفظ المرٌض بقدرته على التحدث؟ بدا هذا‬
‫ومكانه‪ ،‬ولكن من المفترض أن اللؽة البذٌبة تصدر عن مركز مختلؾ ً‬
‫قلٌبل عن‬
‫ً‬
‫تلقابٌا‬ ‫بقٌة مفردات اللؽة؛ فربما جعل الورم مخ المرٌض ٌعٌد ضبط آلٌة عمله‬
‫بطرٌقة ما ‪...‬‬
‫لكن الجمجمة لن تنؽلق وحدها؛ لذا سٌكون لدٌنا وقت للتفكٌر فً األمر ؼ ًدا‪.‬‬
‫كنــت قــد اكتسـبت كـل المـهارات المطلوبـة فـً فتـرة اإلقامـة‪ ،‬فؤصـبحت متمكـ ًنا‬
‫مـن العملٌـات األسـاسٌة‪ ،‬كمـا حصـل بحثـً علـى أرفـع الجـوابز‪ ،‬فصـارت‬
‫عـروض العمـل‬
‫تنهال علًَّ من جمٌع أنحاء الببلد‪ .‬وبدأت جامعة ستانفورد فً البحث عن منصب‬
‫ٌتناسب مع اهتماماتً بالضبط‪ ،‬كجراح أعصاب وعالم أعصاب مهتم بتقنٌات‬
‫التعدٌل العصبً‪ .‬وذات ٌوم‪ ،‬جاء أحد المقٌمٌن المبتدبٌن إلًَّ ‪ ،‬وقال‪" :‬سمعت من‬
‫رإسابً أنك إذا عملت هناك‪ ،‬فسوؾ تكون مرشدي فً الكلٌة!"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬صه! ال تجلب النحس"‪.‬‬ ‫فرددت علٌه ً‬
‫وكنت أشعر بؤن مسارات علم األحٌاء واألخبلقٌات والحٌاة والموت المبعثرة بدأت‬
‫مثالٌا ‪ -‬منظورً ا أرى من خبلله‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أخبلقٌا‬ ‫تتبلقى أخٌرً ا لتشكل لً ‪ -‬إذا لم ٌكن نظامًا‬
‫العالم‪ ،‬وشعورً ا بمكانتً فٌه‪ .‬ولعل هذا التبلقً ناتج عن التقاء أطباء التخصصات‬
‫المشحونة بالحاالت العصٌبة مع المرضى فً لحظات عسٌرة‪ ،‬وفً أكثر اللحظات‬
‫صد ًقا؛ حٌث تصبح حٌاة المرٌض وهوٌته مهددتٌن؛ وتصبح مهمتهم هنا هً معرفة‬
‫األشٌاء التً تجعل حٌاة المرٌض ذات قٌمة‪ ،‬والتخطٌط إلنقاذ هذه األشٌاء إن‬
‫أمكن‪ ،‬أو السماح له بالرحٌل بسبلم إذا لم ٌستطٌعوا إنقاذها‪ .‬وتتطلب هذه الملكة‬
‫شعورً ا عمٌ ًقا بالمسبولٌة‪ ،‬حتى ٌشعر الجراح بالذنب‪ ،‬وٌلوم نفسه إذا أخطؤ‪.‬‬
‫كنت أحضر مإتمرً ا فً سان دٌٌجو عندما رن هاتفً؛ حٌث كانت المتصلة زمٌلتً‬
‫فً اإلقامة فٌكتورٌا‪.‬‬
‫ولما رددت على الهاتؾ قالت‪" :‬بول؟"‪.‬‬
‫فتقلصت معدتً‪ ،‬وشعرت بؤن شٌ ًبا ما لٌس على ما ٌرام‪ ،‬ورددت علٌها ً‬
‫قاببل‪:‬‬
‫"ماذا حدث؟"‪.‬‬
‫لم ترد‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬فٌكتورٌا‪ ،‬هل تسمعٌننً؟"‪.‬‬
‫فردت علًَّ قابلة‪" :‬إنه جٌؾ‪ .‬لقد انتحر"‪.‬‬
‫فقلت‪" :‬ماذا؟"‪.‬‬
‫ً‬
‫مشؽوال للؽاٌة ‪...‬‬ ‫كان جٌؾ ٌنهً زمالة الجراحة فً جامعة مٌدوٌست‪ ،‬وكان كبلنا‬
‫ففقدنا االتصال بٌننا‪ ،‬حتى إننً لم أستطع تذكر آخر محادثة لنا معًا‪.‬‬
‫فردت فٌكتورٌا قابلة‪" :‬كان ‪ٌ ...‬ا إلهً! من الواضح أنه قد مر بؤزمة نفسٌة‪ ،‬وتوفً‬
‫مرٌضه‪ .‬وفً اللٌلة الماضٌة‪ ،‬صعد إلى سطح البناٌة وقفز‪ .‬ال أعرؾ أٌة مبلبسات‬
‫أخرى"‪.‬‬
‫وبحثــت عــن أي شــًء ٌمكننــً الســإال عنـه لعـلًِّ أفـهم‪ ،‬لكنـً لـم أجـد‪ ،‬ولـم‬
‫أتخٌـل سـوى ذلـك الشـعور بالـذنب الـذي ؼمـر جـٌؾ‪ ،‬كموجـة عارمـة رفعتـه إلـى‬
‫سـطح‬
‫البناٌة‪ ،‬ودفعته من فوقها‪.‬‬
‫تمنٌت آس ًفا‪ ،‬لو كان بإمكانً أن أتنزه أنا وجٌؾ معًا بعد مؽادرة المستشفى ذلك‬
‫المساء‪ ،‬وتمنٌت لو كان بإمكاننا رثاء مرضانا كما اعتدنا أن نفعل‪ ،‬وتمنٌت لو كان‬
‫باستطاعتً إخباره بما فهمت عن جوهر الحٌاة‪ ،‬وعن مسار حٌاتنا الذي اخترنا أن‬
‫نسلكه‪ .‬آه لو كان بإمكانً اآلن االستماع إلى مشورته الحكٌمة‪ ،‬الصاببة! أعلم أنه‬
‫لٌس منا من لن ٌطوله الموت؛ فهو قدرنا‪ ،‬وقدر مرضانا كذلك ككابنات حٌة تتنفس‬
‫وتإدي عملٌة التمثٌل الؽذابً؛ لذلك ٌحٌا معظمنا مسلِّمًا بحقٌقة الموت؛‬
‫ت‬
‫فهو ٌحل على من حولك كما سٌحل علٌك ٌومًا ما‪ .‬لكن تدربت أنا وجٌؾ سنوا ٍ‬
‫على تحدي أسباب الموت‪ ،‬والتؽلب علٌها‪ ،‬فاكتشفنا جوهر الحٌاة‪ .‬وكنا قد أخذنا‬
‫على عاتقنا عبء تحمل مسبولٌة الموت‪ ،‬ورؼم أن إنقاذ حٌاة مرضانا وهوٌاتهم قد‬
‫ً‬
‫مثالٌا‪ ،‬فإن العالم لٌس‬ ‫ٌكون فً أٌدٌنا‪ ،‬فالموت ٌفوز دابمًا‪ .‬حتى إذا كنت طبٌبًا‬
‫كذلك‪ .‬وٌكمن السر فً استعدادك للمواجهة‪ ،‬ومعرفتك بؤنك ستخسر معركتك أمام‬
‫الموت‪ ،‬وأن ٌدٌك قد تفلتان زمام األمور‪ ،‬أو قد ٌكون تقدٌرك فً ؼٌر محله‪،‬‬
‫لكن علٌك أن تثابر على الفوز ألجل مرضاك‪ ،‬كما علٌك أن تتٌقن أنه لٌس بإمكانك‬
‫الوصول إلى حد الكمال‪ ،‬فإنه ٌجب أٌضًا أن تإمن بوجود نقطة تقترب من‬
‫المثالٌة‪ ،‬وعلٌك أن تناضل لبلقتراب منها قدر اإلمكان‪.‬‬
‫انجزء انثاني‬
‫ناضم حتى اننفس األخير‬
‫‬
‫سجبل بمن وافتهم المنٌة مع التعلٌق التالً‪ :‬من ٌُعلِّم الرجال‬‫ً‬ ‫لو كنت مإل ًفا‪ ،‬لوضعت‬
‫كٌؾ ٌموتون‪ ،‬علٌه أن ٌُعلِّمهم كذلك كٌؾ ٌحٌون‪.‬‬
‫مٌشٌل دي مونتٌن من كتاب‬
‫" ‪" That to Study Philosophy is to Learn to Die‬‬
‫كنت راق ًدا على سرٌر المستشفى إلى جانب زوجتً لوسً‪ ،‬وقد راح كبلنا ٌبكً‪،‬‬
‫ً‬
‫معلنة أن هوٌة‬ ‫بٌنما ال تزال صور األشعة المقطعٌة مضٌبة شاشة الكمبٌوتر‪،‬‬
‫المرٌض‬
‫كطبٌب ‪ -‬أو باألحرى هوٌتً ‪ -‬لم تعد مهمة‪ ،‬وكان التشخٌص واضحً ا؛ حٌث ؼزا‬
‫السرطان العدٌد من أجهزتً العضوٌة‪ ،‬وكانت الؽرفة هادبة عندما أخبرتنً‬
‫لوسً بؤنها تحبنً؛ فقلت لها‪" :‬ال أرٌد أن أموت"‪ ،‬كما أخبرتها بؤن تتزوج بعد‬
‫وفاتً؛ فلم ٌكن بوسعً تحمل فكرة أن تكون وحٌدة‪ ،‬وأخبرتها كذلك بؤن علٌنا‬
‫إعــادة تموٌــل رهننــا العقــاري فــورً ا‪ ،‬ثــم بــدأنا نتصــل بــؤفراد العابلــة‪ .‬بعــدها‬
‫دخلـت فٌكتورٌـا الؽرفـة‪ ،‬وبـدأنا ننـاقش صـور األشـعة‪ ،‬والعبلجـات المسـتقبلٌة‬
‫المحتملـة‪.‬‬
‫وعندما بدأت تتحدث عن كٌفٌة التخطٌط الستكمالً اإلقامة‪ ،‬أوقفتها‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬فٌكتورٌا‪ ،‬لن أعود إلى هذا المستشفى كطبٌب أب ًدا‪ ،‬أتفهمٌن ذلك؟"‪.‬‬
‫فصــبل مــن حٌــاتً قــد انتــهى‪ ،‬أو ربمــا كــان كتــاب حٌـاتً بكاملـه‬ ‫ً‬ ‫ٌبــدو أن‬
‫وبـدال مـن أن أكـون ٌـد العـون التـً تسـاعد المرضـى علـى‬ ‫ً‬ ‫علـى وشـك أن ٌنؽلـق‪.‬‬
‫تؽـٌٌر حٌاتـهم‪،‬‬
‫شعرت بؤننً شاة تابهة ومشتتة؛ فالمرض الخطٌر ال ٌؽٌر الحٌاة فقط‪ ،‬بل ٌدمرها‬
‫كذلك‪ .‬ولم ٌكن األمر ٌشبه لحظة التنوٌر ‪ -‬حٌنما ٌنبثق الضوء لٌبٌن لك ما هو‬
‫حقا ‪ -‬بقدر ما كان ٌشبه نسؾ أحدهم الطرٌق أمامً‪ ،‬ولم ٌعد بإمكانً سوى‬ ‫مهم ً‬
‫التكٌؾ مع األمر‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬لقد حققت الكثٌر من النجاحات‪،‬‬ ‫وصل أخً جٌفان‪ ،‬ووقؾ إلى جانب سرٌري ً‬
‫ٌا أخً‪ ،‬وأنت تعرؾ هذا‪ ،‬ألٌس كذلك؟"‪.‬‬
‫تنــهدت فــور ســماعً كلماتــه؛ فقــد كــانت نٌتــه طٌبــة‪ ،‬لكــن الكلمـات خـرجت‬
‫ً‬
‫مسـتقببل مـرتقبًا‬ ‫جوفـاء بـبل معنـى‪ ،‬فقـد كنـت أعمـل طٌلـة حٌـاتً كـً أبنـً‬
‫واعـ ًدا‪ ،‬ذلـك‬
‫جدا‪ ،‬ولكن‬ ‫المستقبل الذي لن ٌتحقق‪ .‬كما خططت لتحقٌق الكثٌر‪ ،‬واقتربت من هدفً ً‬
‫هؤنذا أشعر بالوهن الشدٌد؛ فقد انهار مستقبلً الذي حلمت به‪ ،‬وانهارت‬
‫معه هوٌتً الشخصٌة‪ ،‬وأصبحت أواجه ذات المؤزق الوجودي الذي ٌواجهه‬
‫مرضاي‪ .‬وبعد تؤكٌد تشخٌص اإلصابة بسرطان الربة‪ ،‬لم ٌعد هناك وجود لمستقبلً‬
‫الذي خططت له كثٌرً ا بعناٌة‪ ،‬وعملت لتحقٌقه بشق األنفس‪ .‬وها هو ذا الموت الذي‬
‫شخصٌا‪ .‬وها نحن أوالء أخٌرً ا نتقابل وجهًا لوجه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ألفته فً عملً ٌزورنً أنا‬
‫لكن لٌس بإمكانً التعرؾ علٌه‪ .‬وهؤنذا أقؾ فً مفترق طرق؛ حٌث ٌُفترض أن أرى‬
‫آثار أقدام عدد ال ٌحصى من المرضى الذٌن عالجتهم على مدار السنوات الماضٌة؛‬
‫وأتبعها‪ ،‬لكننً ال أرى إال صحراء بٌضاء‪ ،‬خاوٌة‪ ،‬وقاسٌة‪ ،‬وجرداء باهتة‪ ،‬كؤن‬
‫عاصفة رملٌة قد اجتاحت ذلك المسار لتمحو أثر كل ما هو مؤلوؾ بالنسبة إلًَّ ‪.‬‬
‫كــانت الشــمس تؽــرب‪ ،‬وكنــت ســؤؼادر المســتشفى فــً صــباح الــٌوم التــالً‪،‬‬
‫بٌنمــا كنــت قــد حــددت موعــ ًدا مــع طبٌبــة األورام فــً وقـت الحـق مـن ذلـك‬
‫األسـبوع‪ ،‬لكـن‬
‫الممرضــة أخبــرتنً بــؤن طبٌبــة األورام ســوؾ تمــر علــًَّ فــً تلـك اللٌلـة قبـل‬
‫أن تؽـادر إلحضـار أطفالـها‪ .‬وكـان اسـمها إٌمـا هـاٌوارد‪ ،‬وكـانت ترٌـد التعـرؾ‬
‫علـًَّ قبـل زٌـارتً‬
‫ُ‬
‫عالجت بعضًا من‬ ‫الفعلٌة األولى لعٌادتها‪ .‬وكنت أعرفها معرفة سطحٌة؛ فقد‬
‫مرضاها قبل ذلك‪ ،‬لكننا لم نتحدث ساب ًقا إال فً حدود تبادل المجامبلت المهنٌة‪.‬‬
‫وكان والداي وإخوتً متفرقٌن فً أرجاء الؽرفة‪ ،‬ال ٌتحدثون كثٌرً ا‪ ،‬بٌنما جلست‬
‫لوسً إلى جانبً ممسكة بٌدي‪ ،‬عندما فتحت الطبٌبة إٌما الباب ودخلت الؽرفة‪،‬‬
‫وتبعها أحد زمبلبها‪ ،‬وأحد األطباء المقٌمٌن‪ .‬وعلى الرؼم مما أوحى به معطفها‬
‫طوٌبل فً العمل‪ ،‬فقد كانت ابتسامتها مشرقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫األبٌض المجعد من قضابها ٌومًا‬
‫طوٌبل وداك ًنا‪ ،‬لكن كانت تتخلله‬ ‫ً‬ ‫وكانت إٌما تكبرنً بؤعوام قلٌلة‪ ،‬وكان شعرها‬
‫طوٌبل فً صراعات‬ ‫ً‬ ‫بعض الخصبلت الرمادٌة؛ كما هً الحال مع من ٌقضون وق ًتا‬
‫ً‬
‫كرسٌا‪ ،‬وجلست‪.‬‬ ‫ْ‬
‫سحبت‬ ‫مع الموت‪ .‬وعندما دخلت‪،‬‬
‫جدا الٌوم‪ ،‬لكننً‬ ‫قالت‪" :‬مرحبًا‪ ،‬اسمً إٌما‪ .‬أعتذر ألن زٌارتً ستكون قصٌرة ً‬
‫أردت أن أمرَّ علٌك وأعرفك بً"‪.‬‬
‫وتصافحنا‪ ،‬بٌنما كانت ذراعً متصلة بؤنبوب المحالٌل الورٌدٌة‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬شكرً ا لمرورك بً؛ فؤنا أعرؾ أن علٌك إحضار أطفالك‪.‬‬ ‫فرددت علٌها ً‬
‫أعرفك على عابلتً"‪ ،‬فؤومؤت إٌما بالتحٌة لكل من لوسً وإخوتً ووالديَّ ‪.‬‬
‫ثم قالت الطبٌبة‪" :‬أنا آسفة لما ٌحدث لك‪ ،‬أو باألحرى لكم جمٌعًا؛ لكن على أٌة حال‬
‫لدٌنا الكثٌر من الوقت للتحدث فً ؼضون ٌومٌن‪ .‬وقد ذهبت بالفعل إلى‬
‫المختبر‪ ،‬وطلبت منهم إجراء بعض الفحوص على عٌنة الورم الخاصة بك‪ ،‬وهو ما‬
‫سٌساعدنا على تحدٌد نوع العبلج؛ فقد نستخدم العبلج الكٌمٌابً أو ال‪ ،‬وذلك‬
‫على حسب نتابج الفحوص"‪.‬‬
‫وحكٌت للطبٌبة أنه منذ ثمانٌة عشر شهرً ا‪ ،‬احتجزنً األطباء فً المستشفى؛ نظرً ا‬
‫إلى إصابتً بالتهاب الزابدة الدودٌة؛ حٌث لم أكن أعامل كمرٌض‪ ،‬بل كزمٌل‬
‫ٌستشٌرونه فً حالتً‪ .‬وتوقعت حدوث األمر ذاته هنا‪ ،‬وسكت برهة قبل أن أقول‪:‬‬
‫"أعرؾ أن هذا لٌس الوقت المناسب‪ ،‬لكننً أود الحدٌث عن خطورة حالتً فٌما‬
‫ٌتعلق بمنحنٌات التعافً وف ًقا لطرٌقة كاببلن ‪ -‬مٌٌر"‪.‬‬
‫فردت الطبٌبة قابلة‪" :‬ال‪ .‬كبل ألبتة‪ ،‬دعنا من هذه المسؤلة اآلن"‪.‬‬
‫وساد الصمت للحظة‪ ،‬قلت فٌها فً نفسً‪ :‬كٌؾ تجرإ على أن تقول هذا؟ فهذه هً‬
‫الطرٌقة التً ٌفهم بها األطباء ‪ -‬مثلً ‪ -‬االحتماالت الممكنة؛ لذا من حقً أن‬
‫تجٌبنً‪.‬‬
‫وبعــــدها أردفــــت قابلــــة‪ٌ" :‬مكننــــا التحـــدث عــن أنــواع العــبلج الحــ ًقا‪،‬‬
‫وٌمكننــا التحــدث عــن عودتــك إلــى العمــل كــذلك‪ ،‬إذا كــانت هــذه هــً‬
‫رؼبتــك‪ .‬وبمــا أن التركٌبــة‬
‫التقلٌدٌة للعبلج الكٌمٌابً ‪ -‬سٌسببلتٌن‪ ،‬وبٌمٌترٌكسٌد‪ ،‬وربما أفاستٌن أٌضًا ‪ -‬ترتبط‬
‫بارتفاع معدل االعتبلل العصبً المحٌطً؛ لذا فإننا ؼالبًا سنستعٌض عن‬
‫سٌسببلتٌن بكاربوببلتٌن الذي سٌحمً أعصابك بصورة أفضل؛ بما أنك جراح‪ ،‬ودقة‬
‫ٌدٌك هً أؼلى ما تملك"‪.‬‬
‫العودة للعمل؟ عم تتحدث هذه السٌدة؟ أهً واهمة؟ أم أننً أخطؤت توقع مضاعفات‬
‫حالتً؟ وكٌؾ نتحدث عن أي من هذا دون تقدٌر واقعً الحتماالت بقابً‬
‫على قٌد الحٌاة؟ ها هً ذي األرض التً قد ته َّدمت وتوحلت تحت قدمًَّ ‪ ،‬على مدار‬
‫األٌام القلٌلة الماضٌة‪ ،‬تتوحل ثانٌة‪.‬‬
‫وتابعت الطبٌبة بعد ذلك كبلمها قابلة‪ٌ" :‬مكننا مناقشة التفاصٌل الح ًقا؛ ألننً أعرؾ‬
‫أنه من الصعب استٌعاب كل هذه األمور مرة واحدة‪ .‬حس ًنا‪ ،‬كل ما أردت‬
‫هو مقابلتك قبل موعدنا الفعلً ٌوم الخمٌس؛ فهل هناك ما ٌمكننً أن أقدمه لك‪ ،‬أو‬
‫أجٌب عنه الٌوم عدا موضوع منحنى كاببلن ‪ -‬مٌٌر؟"‪.‬‬
‫جزٌبل لك‪ ،‬أقدر مرورك بً كثٌرً ا"‪.‬‬‫ً‬ ‫فؤجبتها وعقلً ٌدور‪ً ،‬‬
‫قاببل‪" :‬ال‪ .‬شكرً ا‬
‫فقالت الطبٌبة‪" :‬ها هً ذي البطاقة الخاصة بً‪ ،‬مدو ًنا علٌها رقم العٌادة‪ .‬وٌمكنك‬
‫االتصال بً متى شبت إذا ج َّد شًء قبل موعدنا بعد ٌومٌن"‪.‬‬
‫سرعان ما تواصلت عابلتً وأصدقابً مع شبكة زمبلبنا من األطباء للعثور على‬
‫أفضل متخصصً عبلج سرطان الربة فً جمٌع أنحاء الببلد‪ .‬وكنت أعلم أن هناك‬
‫مركزٌن كبٌرٌن لعبلج السرطان فً والٌتً هٌوستن ونٌوٌورك؛ فهل علًَّ تلقً‬
‫العبلج هناك؟ أما بخصوص كٌفٌة االنتقال إلى هناك بشكل مإقت أو دابم‪ ،‬فٌمكننا‬
‫عمل هذه الترتٌبات الح ًقا‪ .‬وسرعان ما جاءت الردود وباإلجماع تقرٌبًا بؤنه لم تكن‬
‫متخصصة فً عبلج سرطان الربة فً‬‫ً‬ ‫إٌما أفضل وأشهر أطباء األورام التً عملت‬
‫إحدى الهٌبات االستشارٌة الكبٌرة لعبلج السرطان فقط‪ ،‬بل كانت قد اشتهرت أٌضًا‬
‫بالتعاطؾ مع المرضى‪ ،‬وهً تعرؾ متى تتحدث بصراحة مع مرضاها‪ ،‬ومتى‬
‫تتحفظ فً معلوماتها؛ فصرت أفكر فً سلسلة األحداث التً دفعتنً إلى هذا العالم‬
‫حتى ٌتحدد مكان إقامتً عن طرٌق عملٌة اختٌار إلكترونٌة‪ ،‬لٌنتهً بً المطاؾ‬
‫هنا بتشخٌص مخٌؾ على ٌد أفضل طبٌبة لمعالجته‪.‬‬
‫كنت قد قضٌت أفضل جزء من األسبوع طرٌح الفراش؛ ٌتطور السرطان بداخلً‪،‬‬
‫وأصبحت واه ًنا بشكل ملحوظ‪ ،‬كما تؽٌر جسدي كثٌرً ا‪ ،‬وكذلك تؽٌرت الهوٌة‬
‫القابعــة داخــل هــذا الجســد‪ .‬ولــم ٌعــد تــرك الفــراش للــذهاب إلــى المرحــاض‬
‫ً‬
‫وتخطـٌطا؛ لـذلك وضـع لـً‬ ‫عملٌــة حركٌـة آلٌـة‪ ،‬بـل أصـبحت تتطلـب جـه ًدا‬
‫أطبـاء العـبلج‬
‫الطبٌعً قابمة ببعض األدوات التً من شؤنها تسهٌل انتقالً إلى البٌت؛ كعصا‪،‬‬
‫ومقعد مرحاض قابل لتعدٌل وضعٌته‪ ،‬وألواح من الفلٌن لدعم الساق وقت التمدد فً‬
‫الفراش‪ ،‬كما وصفوا لً مجموعة جدٌدة من مسكنات اآلالم‪ .‬وعندما خرجت من‬
‫المستشفى‪ ،‬سؤلت نفسً متعجبًا كٌؾ كنت أقضً ما ٌقرب من ست‬
‫وثبلثٌن ساعة متصلة فً ؼرفة العملٌات منذ ستة أٌام فقط! هل تمكن منً المرض‬
‫إلى هذا الحد خبلل أسبوع واحد؟ نعم‪ ،‬إلى حد كبٌر‪ ،‬لكننً أٌضًا كنت أستخدم‬
‫عــد ًدا مـن الحٌـل واألفكـار المفٌـدة التـً قـدمها لـً زمبلبـً الجـراحون كـً‬
‫أسـتطٌع مواصـلة العمـل هـذه المـدة‪ ،‬ومـع ذلـك‪ ،‬كنـت أشـعر بـؤلم مبـرح‪ ،‬فـهل‬
‫صـرفنً تؤكٌـد‬
‫مخاوفً طب ًقا لصور األشعة المقطعٌة ونتابج المختبر ‪ -‬وهً أننً لست مصابًا‬
‫بالسرطان فحسب‪ ،‬بل إن جسدي منهك وعلى وشك االنهٌار ‪ -‬عن واجبً لمساعدة‬
‫اآلخرٌن‪ ،‬وخدمة مرضاي‪ ،‬واإلسهام فً مجال جراحة األعصاب‪ ،‬والسعً إلى عمل‬
‫فعبل‪ ،‬ولعل المفارقة تكمن فً كونً مثل ع َّداء‬ ‫الخٌر؟ شعرت بؤن هذا قد حدث ً‬
‫انهار بمجرد اجتٌازه خط النهاٌة؛ فدون نداء الواجب الذي ٌحثنً على رعاٌة‬
‫ً‬
‫علٌبل‪.‬‬ ‫المرضى أصبحت‬
‫وعاد ًة حٌنما كنت أتعامل مع مرٌض ذي حالة ؼرٌبة‪ ،‬كنت أستشٌر الطبٌب‬
‫المتخصص‪ ،‬وأقضً الوقت فً القراءة عن الحالة‪ .‬ولم تختلؾ حالتً عن هذا كثٌرً ا‪،‬‬
‫لكننــً عنــدما بــدأت القــراءة عـن العـبلج الكٌمٌـابً الـذي ٌتضـمن عوامـل‬
‫متنوعـة‪ ،‬ومجموعـة كبـٌرة مـن العقـاقٌر األؼـرب واألحـدث التـً اسـتهدفت‬
‫إحـداث تؽـٌٌرات‬
‫معٌنة‪ ،‬منعنً الكم الهابل من األسبلة التً راودتنً من التوصل إلى أٌة دراسة مفٌدة‬
‫هادفة (فكما ٌقول ألكسندر بوب‪" :‬إن ضٌق المعرفة أمر خطٌر‪ ،‬فإما أن‬
‫تنهل منها‪ ،‬أو ال تمسها مطل ًقا")‪ ،‬فلوال خبرتً الطبٌة‪ ،‬ما ن َّقبت فً عالم المعلومات‬
‫الجدٌد ذلك‪ ،‬ولما استطعت تحدٌد مكانتً على منحنى كاببلن ‪ -‬مٌٌر‪ ،‬لكننً‬
‫على أٌة حال انتظرت موعد زٌارة عٌادة الطبٌبة إٌما بترقب‪.‬‬
‫وحاولت الحفاظ على رباطة جؤشً‪.‬‬
‫جلست أتؤمل صورة لً أنا ولوسً منذ أن كنا فً كلٌة الطب؛ حٌث كنا نرقص‬
‫ونضحك‪ .‬كان األمر محز ًنا للؽاٌة؛ فلم ٌكن ذلك الثنابً الذي كان ٌخطط للحٌاة‬
‫معًا‪ ،‬مدر ًكا وال متوقعًا مدى ضعفه‪ .‬وعندما توفٌت صدٌقتً لوري فً حادث سٌر‬
‫كانت مخطوبة‪ ،‬فهل كان وضعها أكثر قسوة؟‬
‫انخرطت عابلتً فً دوامة تحوٌل حٌاتً من حٌاة طبٌب إلى حٌاة مرٌض‪ ،‬فؤنشؤنا‬
‫حسابًا فً إحدى الصٌدلٌات لتوصٌل المستلزمات الطبٌة بالبرٌد‪ ،‬وطلبنا مسن ًدا‬
‫للسرٌر‪ ،‬واشترٌنا مرتبة مرٌحة لتخفٌؾ آالم الظهر الحارقة‪ .‬لكن اآلن‪ ،‬أصبحت‬
‫مٌزانٌتنا المالٌة‪ ،‬التً كانت تعتمد منذ أٌام فقط على ارتفاع دخلً إلى ستة أضعاؾ‬
‫بحلول العام التالً‪ ،‬محفوفة بالمخاطر‪ ،‬وبدا أنه من الضروري أن نبحث عن بدابل‬
‫مالٌة جدٌدة لحماٌة لوسً بعد وفاتً‪ ،‬لكن والدي كان ٌرى أن هذه األفكار تعد‬
‫استسبلمًا للمرض‪ ،‬وأننً سوؾ أهزمه‪ ،‬وسوؾ أُشفى منه بشكل أو بآخر ‪ -‬تلك‬
‫العبارات التً اعتدت سماعها على لسان عاببلت المرضى‪ ،‬التً لم أكن أعرؾ لها‬
‫ردا كذلك كً أقوله لوالدي اآلن‪.‬‬ ‫ردا‪ ،‬وال أعرؾ ً‬ ‫ً‬
‫فماذا عن السٌنارٌو البدٌل؟‬
‫بعــدها بــٌومٌن توجــهت أنــا ولوســً إلــى عٌــادة إٌمــا‪ ،‬بٌنمــا انتظــر أبــواي‬
‫فــً ؼرفــة االنتظــار‪ .‬وبـدأ المسـاعد ٌقـٌس معـدالتً الحٌوٌـة‪ ،‬وأدركـت أن إٌمـا‬
‫وممرضـتها كـانتا‬
‫كرسٌا‪ ،‬وجلست أمامً لكً نتحدث وجهًا لوجه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دقٌقتٌن للؽاٌة‪ .‬بعدها‪ ،‬جذبت إٌما‬
‫وعٌ ًنا لعٌن‪.‬‬
‫أهبل بك مرة أخرى‪ .‬هذا ألٌكسس مساعدي‪ ،‬وأشارت إلٌه؛ حٌث‬ ‫بدأت حدٌثها قابلة‪ً " :‬‬
‫كان جالسًا أمام الحاسوب ٌدوِّ ن المبلحظات‪ ،‬ثم أردفت قابلة‪" :‬أعرؾ أن‬
‫أمامنا الكثٌر لنناقشه‪ ،‬لكن دعنً أسؤلك فً البداٌة كٌؾ حالك؟"‪.‬‬
‫فؤجبتها ً‬
‫قاببل‪" :‬أنا بخٌر وف ًقا لظروفً الحالٌة‪ ،‬وأعتقد أننً أستمتع بـ "إجازاتً"‪.‬‬
‫وأنت كٌؾ حالك؟"‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬أنا بخٌر"‪ ،‬وصمتت‪ .‬أعرؾ أنه عادة ما ال ٌسؤل المرضى أطباءهم‬
‫عن حالهم‪ ،‬لكن كانت إٌما زمٌلة كذلك‪ ،‬فؤردفت مبتسمة‪" :‬أنا مسبولة عن‬
‫رعاٌة النزالء هذا األسبوع‪ ،‬وطبعًا أنت تعرؾ مدى صعوبة هذا األمر"‪ .‬نعم‪ ،‬أنا‬
‫ولوسً نعرؾ ؛ فقد كان أطباء العٌادات الخارجٌة ٌتناوبون على خدمة النزالء‬
‫دورٌا‪ ،‬ما ٌضٌؾ عدة ساعات من العمل إلى الٌوم المزدحم باألعمال بالفعل‪.‬‬ ‫ً‬
‫وبعد المزٌد من الدعابات‪ ،‬بدأنا بهدوء مناقشة المعلومات التً وجدتها فً أثناء بحثً‬
‫عن سرطان الربة‪ ،‬فقالت إٌما إن أمامً لكً أُشفى من هذا المرض طرٌقٌن‪:‬‬
‫أولهما الطرٌق التقلٌدي وهو العبلج الكٌمٌابً الذي ٌستهدؾ بشكل عام تقسٌم الخبلٌا‬
‫بسرعة‪ ،‬أو على وجه التحدٌد الخبلٌا السرطانٌة فً األساس‪ ،‬لكنه ٌدمر‬
‫كذلك خبلٌا نخاع العظم‪ ،‬وبصٌبلت الشعر‪ ،‬واألمعاء‪ ،‬وهكذا‪ .‬ثم راجعت البٌانات‬
‫والخٌارات‪ ،‬وأخذت تحاضرنً كؤنها تتحدث إلى طبٌب آخر‪ ،‬لكنها لم تتطرق‬
‫إلى منحنى كاببلن ‪ -‬مٌٌر على اإلطبلق‪ .‬ولحسن الحظ‪ ،‬تم مإخرً ا تطوٌر أسالٌب‬
‫عبلجٌة جدٌدة تستهدؾ عٌوبًا جزٌبٌة معٌنة فً الخبلٌا السرطانٌة ذاتها‪ ،‬وكنت‬
‫قد سمعت أقاوٌل كثٌرة عن هذه الجهود؛ حٌث تعتبر كؤسلحة الدمار الشامل فً‬
‫القضاء على الخبلٌا السرطانٌة‪ ،‬واندهشت حٌنما عرفت التقدم الذي أحرزه‬
‫األطباء فً هذا المجال؛ فقد بدا أن هذه التقنٌة أدت إلى نجاة "بعض" المرضى لمدة‬
‫طوٌلة‪.‬‬
‫وقالت إٌما‪" :‬لقد تسلمت نتابج معظم فحوصك؛ ووجدت أنك مصاب بطفرة إنزٌم‬
‫لكننا لسنا متؤكدٌن بعد مما ٌعنٌه ذلك‪PI3K ، ،‬فوسفوإٌنوزٌتاٌد ‪ ٠‬كاٌنٌز‬
‫أما نتٌجة فحص أكثر الطفرات شٌوعًا لمثلك من المرضى‪ ،‬وهو كفاءة المرشحات‬
‫فإنها قٌد االنتظار‪ ،‬لكننً أتحدى أن هذا هو ما تعانٌه‪ .‬وإذا كان ‪EGFR ،‬الكلوٌة‬
‫ً‬
‫بــدال مــن‬ ‫األمــر كــذلك‪ ،‬فإنــه ٌمكنــك تنــاول حبــوب تســمى تارســٌفا‬
‫الخضــوع للعــبلج الكٌمٌــابً‪ .‬وسـوؾ أتسـلم نتـابج فحوصـك ؼـ ًدا الجمعـة‪ ،‬لكنـك‬
‫مـرٌض بمـا فٌـه‬
‫الكفاٌة؛ لذا حددت لك موع ًدا لبدء العبلج الكٌمٌابً ٌوم االثنٌن فً حالة كان فحص‬
‫كفاءة المرشحات الكلوٌة ً‬
‫سلبٌا"‪.‬‬
‫وشعرت بؤن هناك صلة فكرٌة بٌنً وبٌن الطبٌبة إٌما فور انتهاء حدٌثها؛ فؤنا أتبع‬
‫ً‬
‫وخططا‬ ‫المنهجٌة نفسها فً جراحة األعصاب‪ ،‬حٌث أضع دومًا خطة أساسٌة‬
‫بدٌلة حسب ما ٌتطلبه األمر‪.‬‬
‫ثم أردفت الطبٌبة قابلة‪" :‬بالنسبة إلى العبلج الكٌمٌابً‪ ،‬فسوؾ ٌكون خٌارنا بٌن‬
‫عقاري كاربوببلتٌن أو سٌسببلتٌن‪ .‬وتشٌر الدراسات التً تفاضل بٌن كبل العقارٌن‬
‫إلى أنه ٌمكن تحمل عقار كاربوببلتٌن أكثر من عقار سٌسببلتٌن؛ ولكن عادة ما ٌؤتً‬
‫عقار سٌسببلتٌن بنتابج محتملة أفضل من نظٌره‪ ،‬لكنه ذو تؤثٌر أكثر ُس ِّمٌَّة‪،‬‬
‫خاصــة علــى األعصــاب‪ ،‬ذلــك علــى الــرؼم مــن أن جمــٌع البٌــانات الــواردة‬
‫إلٌنــا عنــه قــدٌمة‪ ،‬إلــى جــانب أنــه ال مجــال للمقــارنات المباشــرة فــً أنظمــة‬
‫العــبلج الكٌمٌــابً‬
‫الحدٌثة‪ ،‬فما رأٌك فً هذا؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬لست قل ًقا كثٌرً ا بشؤن حماٌة أعصاب ٌديَّ من أجل مواصلة عملً‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫كجراح؛ فهناك الكثٌر ألفعله فً حٌاتً‪ .‬وإذا فقدت براعة ٌديَّ ‪ٌ ،‬مكننً أن أجد‬
‫وظٌفة أخرى‪ ،‬أو أال أعمل على اإلطبلق‪ ،‬أو أي خٌار آخر"‪.‬‬
‫فتوقفت الطبٌبة‪ ،‬ثم قالت‪" :‬إذن دعنً أسؤلك‪ ،‬هل مجال الجراحة مهم بالنسبة إلٌك؟‬
‫وهل هو المجال الذي تود العمل فٌه؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬نعم؛ فقد قضٌت نحو ثلث حٌاتً أتجهز للعمل فً هذا المجال"‪.‬‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫فردت الطبٌبة قابلة‪" :‬حس ًنا‪ ،‬إذن أنصحك بعقار كاربوببلتٌن‪ .‬وال أعتقد أنه سٌؽٌر‬
‫احتماالت نجاتك‪ ،‬لكننً أعتقد أن بإمكانه تؽٌٌر نمط حٌاتك بالكامل على نحو‬
‫مثٌر‪ ،‬فهل لدٌك أسبلة أخرى؟"‪.‬‬
‫فشعرت باالرتٌاح التباعها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بدت الطبٌبة إٌما متٌقنة أن هذا هو الطرٌق الصحٌح؛‬
‫كما بدأت أإمن بؤن عودتً إلى الجراحة أمر ممكن‪ ،‬وهو ما جعلنً أسترخً‬
‫ً‬
‫قلٌبل‪.‬‬
‫فسؤلتها مازحً ا‪" :‬هل ٌمكننً أن أدخن؟"‪.‬‬
‫فضحكت لوسً‪ ،‬بٌنما أدارت إٌما عٌنٌها‪ ،‬وردت فً اقتضاب قابلة‪:‬‬
‫"ال‪ ،‬أي أسبلة جادة؟ "‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬نعم‪ ،‬منحنى كاببلن ‪ -‬مٌٌر ‪."...‬‬
‫فردت قابلة‪" :‬لن نناقش هذا اآلن"‪.‬‬
‫لم أفهم سبب مقاومتها للتحدث فً هذا األمر‪ ،‬لكننً فً النهاٌة طبٌب ٌؤلؾ‬
‫اإلحصاءات‪ ،‬ما ٌعنً أنه ٌمكننً البحث عنه بنفسً ‪ ...‬هذا ما سؤفعله إذن‪.‬‬
‫فقلــــت لــــها‪" :‬حســــ ًنا‪ ،‬أعتقـــد أن كــل شــًء واضــح‪ .‬إذن ســؤنتظر منــك‬
‫معرفــة نتــابج فحــص كفــاءة المرشــحات الكلوٌــة ؼــ ًدا‪ ،‬فــإذا ظــهرت‪ ،‬فســوؾ‬
‫نبــدأ تنــاول حبــوب‬
‫تارسٌفا‪ ،‬وإذا لم تفعل‪ ،‬فسنبدأ العبلج الكٌمٌابً ٌوم االثنٌن"‪.‬‬
‫ثم أردفت قابلة‪" :‬صحٌح‪ ،‬أود منك كذلك أن تعرؾ أننً طبٌبتك من اآلن‪ ،‬فإذا‬
‫واجهتك أٌة مشكلة فٌما ٌتعلق بالرعاٌة الصحٌة األولٌة أو بؤي شًء آخر‪ ،‬فبلبد أن‬
‫تؤتً إلًَّ ً‬
‫أوال"‪.‬‬
‫وهنا شعرت مرة أخرى بصلة فكرٌة تربطنا‪.‬‬
‫وحظا سعٌ ًدا فً عملك فً جناح النزالء"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فرددت علٌها ً‬
‫قاببل‪" :‬شكرً ا لك‪،‬‬
‫ؼادرت إٌما الؽرفة‪ ،‬ثم أطلت برأسها بعد ثانٌة قابلة‪ٌ" :‬مكنك رفض هذا‪ ،‬لكنَّ هناك‬
‫بعضًا من فاعلً الخٌر ممن ٌجمعون التبرعات لمرضى سرطان الربة ٌرؼبون فً‬
‫ً‬
‫مهتما‪ ،‬وال‬ ‫مقابلتك‪ .‬ال تجب اآلن؛ بل فكر فً األمر‪ ،‬وأخبر ألٌكسس بما إذا كنت‬
‫تفعل شٌ ًبا ال ترٌده"‪.‬‬
‫حٌنما ؼادرنا العٌادة أشارت إلًَّ لوسً قابلة‪" :‬إنها طبٌبة عظٌمة‪ ،‬وأرى أنها مناسبة‬
‫لك‪ ،‬على الرؼم من اعتقادي ‪ ،"...‬توقفت للحظة وهً تبتسم‪ ،‬ثم أردفت‪:‬‬
‫"إنها معجبة بك"‪.‬‬
‫فسؤلتها ً‬
‫قاببل‪" :‬وماذا أٌضًا؟"‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬حس ًنا‪ ،‬هناك دراسة تقول إن األطباء ٌسٌبون تشخٌص حاالت‬
‫المرضى الذٌن ٌكنون لهم مشاعر"‪.‬‬
‫فرددت علٌها ضاح ًكا‪" :‬أعتقد أن خوفك من هذه المسؤلة سٌؤتً فً المرتبة األخٌرة‬
‫بقابمة مخاوفنا"‪.‬‬
‫بدأت أدرك أن مواجهة موتً عن كثب لم تؽٌر شٌ ًبا فً حالتً‪ ،‬لكنها فً الوقت نفسه‬
‫قد ؼٌرت كل شًء فً حٌاتً؛ فقبل أن ٌتم تشخٌص إصابتً بالسرطان‪ ،‬كنت‬
‫أعرؾ أننً سؤموت ٌومًا ما‪ ،‬لكننً لم أكن أعرؾ متى‪ ،‬أما بعد التشخٌص‪ ،‬فقد‬
‫عرفت أننً سؤموت ٌومًا ما‪ ،‬ولم أكن أعرؾ متى‪ ،‬لكننً عرفت ذلك ٌقٌ ًنا اآلن‪.‬‬
‫ولم تكن مشكلتً فً الشق العلمً لؤلمر‪ ،‬بل كانت فً فكرة الموت المرعبة فً حد‬
‫ذاتها‪ ،‬التً لم ٌكن أمامً سبٌل للهروب منها‪.‬‬
‫بدأ الؽموض الذي كان ٌحٌط بحالتً من الناحٌة الطبٌة ٌتبلشى ببطء‪ ،‬فعلى األقل‬
‫صارت لديَّ معلومات كافٌة عن حالتً‪ ،‬ما ٌحفزنً لتؤلٌؾ عمل أدبً اآلن‪.‬‬
‫ومع أن النسب الواردة فً نتٌجة فحص طفرة كفاءة المرشحات الكلوٌة كانت‬
‫ؼامضة‪ ،‬بدا أن هذه الطفرة ستمكننً من العٌش لنحو عام إضافً فً المتوسط دون‬
‫مضاعفات‪ ،‬مع احتمال بعدم تدهور الحالة أكثر‪ ،‬أما عدم وجود هذه الطفرة فٌعنً‬
‫التعجٌل بتدهور الحالة‪ ،‬ما ٌإدي إلى احتمال حدوث الوفاة بنسبة ‪ ٢٠١‬فً‬
‫ؼضون عامٌن‪ ،‬وٌبدو أن استٌعابً لما تبقى من حٌاتً سٌحتاج إلى بعض الجهد‪.‬‬
‫وفً الٌوم التالً‪ ،‬ذهبت أنا ولوسً إلى أحد المستشفٌات المتخصصة فً مجال‬
‫الخصوبة والصحة اإلنجابٌة؛ فدابمًا ما كنا نخطط لئلنجاب بحلول نهاٌة فترة اإلقامة‪.‬‬
‫لكــن اآلن ‪ ...‬قــد ٌإثــر عــبلج الســرطان فــً قــدرتً علــى اإلنجــاب بشــكل‬
‫مــا؛ لـذا قررنـا اسـتشارة طبٌبـة مختصـة قبـل بـدء العـبلج‪ .‬ولمـا جلسـنا مـع‬
‫الطبٌبـة‪ ،‬وجـدت علـى‬
‫مكتبها عد ًدا كبٌرً ا من الكتٌبات الملونة التً تضم مجموعة مختلفة من النزهات‬
‫االجتماعٌة المتوافرة لمرضى السرطان من الشباب كالحلقات النقاشٌة‪ ،‬والحفبلت‬
‫الؽنابٌة‪ ،‬والسهرات الترفٌهٌة‪ ،‬وهكذا‪ .‬وكنت أؼبط هإالء الشباب الذٌن علت‬
‫وجوههم السعادة؛ حٌث كنت أدرك أنهم ‪ -‬وف ًقا لئلحصاءات ‪ -‬مصابون بؤنواع من‬
‫السرطان أكثر قابلٌة للعبلج من النوع المصاب به أنا‪ ،‬وأن احتمالٌة نجاتهم من‬
‫المرض أكبر‪ ،‬أما سرطان الربة‪ ،‬فٌصاب به ‪ ٢١.١١٠٤‬فقط من البالؽٌن ستة‬
‫وثبلثٌن‬
‫عامًا‪ .‬وأعرؾ بالفعل أن جمٌع مرضى السرطان تعساء الحظ‪ ،‬لكنَّ هناك نوعًا من‬
‫السرطان ٌمكن هزٌمته‪ ،‬وهناك نوع آخر تعجز عن التعاٌش معه‪ ،‬وال بد أن‬
‫تكون تعٌس الحظ حتى تصاب بالنوع الثانً‪ .‬وعندما سؤلت الطبٌبة زوجتً عن‬
‫قدرتها على رعاٌة الطفل حال وفاتً بدأت الدموع تنهمر من عٌنٌها‪.‬‬
‫ظهرت كلمة أمل للمرة األولى فً اللؽة اإلنجلٌزٌة منذ نحو ألؾ عام للداللة على‬
‫مزٌج من الثقة والرؼبة‪ ،‬لكن ما كنت أرؼب فٌه‪ ،‬وهو الحٌاة لم ٌكن هو ما أثق‬
‫بؤنه سوؾ ٌحدث‪ ،‬وهو الموت‪ .‬إذن عندما كنت أتحدث عن األمل‪ ،‬هل كنت أعنً‬
‫مجاال لرؼبة ال أساس لها؟"‪ ،‬كبل؛ فاإلحصاءات الطبٌة ال تصؾ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حقا أن "أترك‬
‫األرقام فقط‪ ،‬مثل قٌاس متوسط احتمالٌة النجاة من مضاعفات المرض‪ ،‬بل تقٌس‬
‫كذلك ثقتنا باألرقام‪ ،‬عن طرٌق أدوات مثل مستوٌات الثقة‪ ،‬وفترات الثقة‪،‬‬
‫ً‬
‫إحصابٌا‪،‬‬ ‫ً‬
‫مجاال لبلحتماالت المستبعدة‬ ‫وقفزات الثقة؛ لذا هل كنت أعنً أن "أترك‬
‫لكنها ال تزال معقولة‪ ،‬كفرصة نجاة تفوق مقدار الثقة المحدد بـ ‪٢١‬؟"‪ .‬هل كان‬
‫هذا هو األمل بالنسبة إلًَّ ؟ وهل ٌمكننا تقسٌم هذا المنحنى إلى أقسام وجدانٌة؛ من‬
‫"مهزوم"‪ ،‬إلى "متشابم"‪ ،‬إلى "واقعً"‪ ،‬إلى "متفابل"‪ ،‬إلى "واهم"؟ ألم تكن‬
‫األرقام مجرد أرقام؟ هل استسلمنا جمٌعًا لـ"أمل" أن ٌتجاوز كل مرٌض لدٌنا المعدل‬
‫المتوسط؟‬
‫بدا لً أن عبلقتً باإلحصاءات قد تؽٌرت منذ أن أصبحت واح ًدا من الذٌن تشملهم؛‬
‫أي أحد المرضى‪.‬‬
‫خبلل فترة إقامتً‪ ،‬جلست مع عدد ال نهابً من المرضى وعاببلتهم لمناقشة‬
‫التشخٌصات المفجعة‪ ،‬وهً إحدى أهم وظابؾ الطبٌب التً أعتبرها أكثر سهولة‪،‬‬
‫عندما‬
‫ٌكــون المــرٌض فــً الرابعــة والتســعٌن مــن العمــر‪ ،‬وقــد وصــل إلــى مرحلــة‬
‫ً‬
‫حــادا فــً المــخ‪ ،‬لكــن بالنسـبة إلـى‬ ‫متقــدمة مــن الخبــل‪ ،‬وٌعــانً نزٌــ ًفا‬
‫مـرٌض مثلـً ‪ -‬رجـل فـً‬
‫شخصت حالته بؤنه مصاب بؤحد أنواع السرطان الممٌتة‬ ‫السادسة والثبلثٌن من العمر ُ‬
‫‪ -‬فبل توجد كلمات تقال‪.‬‬
‫لٌس السبب وراء رفض األطباء إعطاء مرضاهم تكهنات محددة بشؤن متوسط‬
‫صمود المرٌض أمام مرضه هو عجزهم عن تحدٌدها‪ .‬وبالطبع إذا كانت توقعات‬
‫المرٌض خارج حدود االحتماالت الممكنة‪ ،‬كؤن ٌتوقع شخص أن ٌعٌش حتى عمر‬
‫مثبل‪ ،‬أو أن ٌعتقد شخص أن بقع الجلد ؼٌر الخطٌرة عبلمة على‬ ‫الـ‪ ٠٠١‬عامًا ً‬
‫الموت‬
‫الوشٌك‪ ،‬فعلى األطباء جعلها داخل حدود االحتماالت الواقعٌة‪ .‬وٌجب أال ٌسعى‬
‫المرضى إلى مخاطبة األطباء بهدؾ إشباع الجانب العلمً لدٌهم‪ ،‬بل لمخاطبة‬
‫الجــانبٌن النفســً واإلنســانً داخلـهم؛ حـٌث ٌشـبه التعمـق فـً اإلحصـاءات‬
‫محاولـة ري ظمبـك بـالماء المـالح‪ ،‬لكـن لؤلسـؾ ال عـبلج لـذعر المـرٌض‬
‫المتـرتب علـى مواجـهته‬
‫الموت‪.‬‬
‫ً‬
‫هاتفٌا مفاده أننً‬ ‫ً‬
‫اتصاال‬ ‫عندما عدنا إلى البٌت من مستشفى الصحة اإلنجابٌة‪ ،‬تلقٌت‬
‫مصاب بالفعل بطفرة المرشحات الكلوٌة القابلة للعبلج‪ ،‬وبنا ًء علٌه تم‬
‫استبعاد العبلج الكٌمٌابً‪ ،‬وأصبحت حبوب تارسٌفا البٌضاء الصؽٌرة عبلجً‪،‬‬
‫وسرعان ما بدأت أشعر بؤننً أستعٌد بعضًا من قوتً بعد وقت قصٌر من تناول‬
‫الحبوب‪ .‬ورؼم أننً لم أعد أعرؾ ماهٌة األمل‪ ،‬بدأت أشعر ببصٌص منه‪ ،‬وتراجع‬
‫الضباب المحٌط بحٌاتً بمقدار سنتٌمتر‪ ،‬وبدأ أول شعاع للشمس ٌسطع فً‬
‫األفق‪ .‬وخبلل األسابٌع التالٌة‪ ،‬عادت شهٌتً للطعام‪ ،‬واكتسبت القلٌل من الوزن‪،‬‬
‫وبدأت البثور المإلمة التً تقترن باستجابة الجسم الجٌدة للطعام تظهر على‬
‫بشرتً‪ ،‬ودابمًا ما أحبت لوسً بشرتً الناعمة‪ ،‬لكنها أصبحت ملٌبة بالندوب اآلن‪،‬‬
‫وصارت تنزؾ باستمرار بفعل أدوٌة سٌولة الدم؛ فها قد بدأ كل ما ٌجعلنً‬
‫وسٌمًا ٌتبلشى ببطء‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬كً أكون منص ًفا‪ ،‬كنت سعٌ ًدا لبقابً على قٌد الحٌاة‬
‫على الرؼم من دمامتً‪ ،‬كما أخبرتنً لوسً بؤنها ال تزال تحب بشرتً بالقدر‬
‫ذاته‪ ،‬ببثورها وبكل شًء‪ ،‬ولكننً كنت أعرؾ أن هوٌاتنا ال تنبع فقط من عقولنا‪ ،‬بل‬
‫من أحوالنا البدنٌة كذلك‪ ،‬وكنت فً تلك المرحلة أعانً تؤثر هوٌتً بالحال‬
‫البدنٌة؛ لكننً لم أعد ذلك الرجل الذي أحب التنزه سٌرً ا على األقدام‪ ،‬والتخٌٌم‪،‬‬
‫والركض‪ ،‬الذي اعتاد التعبٌر عن حبه باألحضان الؽامرة‪ ،‬والقذؾ بابنة أخٌه‬
‫الضاحكة فً الهواء‪ .‬وفً أفضل األحوال‪ٌ ،‬مكننً أن أهدؾ إلى أن أصبح ذلك‬
‫الرجل مرة أخرى‪.‬‬
‫وفً أولى مقاببلتً نصؾ األسبوعٌة مع الطبٌبة إٌما‪ ،‬انتقلت محادثاتً معها من‬
‫الموضوعات الطبٌة من قبٌل ("ما وصل إلٌه الطفح الجلدي؟")‪ ،‬إلى موضوعات‬
‫حٌاتٌــة أكثــر‪ ،‬فكــان مــن بـٌن نصـابحها التقلٌـدٌة المتعلقـة بالسـرطان لـً أنـه‬
‫علـى مـرٌض السـرطان أن ٌعٌـد النظـر فـً حٌاتـه التـً ٌعٌشـها‪ ،‬وأن ٌقضـً وقـ ًتا‬
‫أطـول مـع‬
‫عابلته‪ ،‬وأن ٌحٌا حٌاة تنعم بالهدوء‪.‬‬
‫كمــــا قــــالت لــــً إٌمــــا‪ٌ" :‬ســـتقٌل بعــض المرضــى مــن العمــل تمــامًا‬
‫عنــدما ٌتــم تشــخٌص إصــابتهم بالســرطان‪ ،‬بٌنمــا ٌنكــب بعضــهم اآلخــر علٌــه‬
‫باســتماتة‪ .‬وطبــعًا كــبل‬
‫التصرفٌن مقبول"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬كنت قد خططت لمسٌرتً المهنٌة خبلل األربعٌن عامًا المقبلة؛‬ ‫فرددت علٌها ً‬
‫على أن أقضً العشرٌن عامًا األولى منها جراحً ا وعالم أعصاب‪ ،‬والعشرٌن عامًا‬
‫األخٌرة منها كاتبًا؛ لكن ٌبدو أننً أعٌش اآلن العشرٌن عامًا األخٌرة؛ لذا ال أعرؾ‬
‫أي المسارٌن أختار"‪.‬‬
‫فــؤجابت إٌمــا قابلــة‪" :‬حســ ًنا‪ ،‬ال ٌمكننــً إخبــارك بــهذا‪ ،‬لكــن ٌمكننــً القــول‬
‫إنــه بــإمكانك العــودة إلــى مزاولــة الجراحــة إذا أردت‪ ،‬لكــن علٌــك أن تحــدد‬
‫المســار األهــم‬
‫بالنسبة إلٌك"‪.‬‬
‫عدت أقول‪" :‬لو كنت أعرؾ كم ٌتبقى لً من العمر‪ ،‬فسٌكون االختٌار أكثر سهولة؛‬
‫فإذا كان أمامً عامان‪ ،‬فسؤكتب؛ وإذا كان أمامً عشرة أعوام‪ ،‬فسؤعود‬
‫للجراحة والعلم"‪.‬‬
‫فقالت إٌما‪" :‬تعرؾ أننً ال أستطٌع إعطاءك عد ًدا محد ًدا من األعوام"‪.‬‬
‫نعــم‪ ،‬أعــرؾ هــذا‪ ،‬وصــار علــًَّ تــذكر امتناعــها المتكــرر عــن اإلجابــة‪،‬‬
‫وإٌجــاد مــا أبحــث عــن معرفتــه بنفســً‪ .‬وكــان جزء منــً ٌشــعر بــؤن هــذا‬
‫االمتنـاع مجـرد تـهرب مـن‬
‫المسبولٌة‪ ،‬حس ًنا‪ ،‬أعرؾ أننً أٌضًا لم أعط المرضى أرقامًا محددة قط‪ ،‬لكن ألم ٌكن‬
‫لديَّ شعور دابم بما سٌفعله المرٌض نتٌجة هذا؟ وكٌؾ كنت أتخذ القرارات‬
‫المتعلقة بالحٌاة والموت؟ وتذكرت المرات التً أخطؤت فٌها‪ ،‬كتلك المرة التً‬
‫نصحت فٌها عابلة بفقد األمل فً شفاء ابنها‪ ،‬لٌزورنً الوالدان بعدها بعامٌن‬
‫وٌرٌانً مقطعًا مصورً ا له على موقع ٌوتٌوب وهو ٌعزؾ البٌانو‪ ،‬بٌنما كانا ٌوزعان‬
‫ً‬
‫احتفاال بنجاته‪.‬‬ ‫الكعك‬
‫كانت زٌارتً طبٌبة األورام الزٌارة األهم من بٌن العدٌد من الزٌارات المختلفة‬
‫لمقدمً الرعاٌة الطبٌة؛ لكنها كذلك لم تكن الوحٌدة؛ فبعد إصرار لوسً‪ ،‬بدأنا نزور‬
‫استشارٌة عبلقات زوجٌة متخصصة فً عبلج األزواج المصابٌن بالسرطان‪ ،‬فكنا‬
‫نجلس فً مكتبها الخالً من النوافذ‪ ،‬على مقعدٌن متجاورٌن ذوي مسندٌن‪ ،‬ونبدأ‬
‫أنــا ولوســً فــً ســرد كــٌؾ تــؤزمت حٌــاتنا‪ ،‬وحاضـرنا ومسـتقبلنا‪ ،‬بعـد‬
‫تشـخٌص مرضـً بالسـرطان‪ ،‬وألـم معرفتنـا ‪ -‬وجـهلنا فـً الـوقت نفسـه ‪ -‬بمـا هـو‬
‫آتٍ‪ ،‬وصـعوبة‬
‫التخطٌط‪ ،‬وضرورة مساندة أحدنا اآلخر‪ ،‬فلقد ساعدنا السرطان‪ ،‬فً الحقٌقة‪ ،‬على‬
‫إنقاذ زواجنا‪.‬‬
‫وفً نهاٌة أولى جلساتنا‪ ،‬قالت االستشارٌة‪" :‬حس ًنا‪ ،‬أنتما أفضل زوجٌن أراهما‬
‫ٌتعامبلن مع اإلصابة بالسرطان‪ ،‬وال أعتقد أن لديَّ ًأٌا ما أنصحكما به"‪.‬‬
‫ضحكت فً أثناء مؽادرتنا العٌادة؛ فعلى األقل هؤنذا أشعر بالتفوق فً شًء ما مرة‬ ‫ُ‬
‫أخرى‪ ،‬وها هً السنوات التً قضٌتها فً خدمة المرضى ؼٌر المرجو شفاإهم‬
‫تإتً ثمارها‪ ،‬والتفت إلى لوسً متوقعًا ابتسامتها؛ لكنها كانت تهز رأسها فحسب‪.‬‬
‫فقالت لً وهً تمسك بٌدي‪" :‬أال تفهم المقصد من ذلك؟ إذا كنا األفضل فً التعامل‬
‫مع ظروؾ مرضك‪ ،‬فهذا ٌعنً أن عبلقتنا الزوجٌة لن تتحسن عن ذلك"‪.‬‬
‫قلٌبل‪ ،‬فهل سنؤلفه‬‫قاببل فً نفسً إنه إذا لم ٌخؾ حمل الموت ً‬ ‫صرت أفكر بعدها‪ً ،‬‬
‫على األقل؟‬
‫منذ أن تم تشخٌص إصابتً بمرض ال ٌرجى شفاإه‪ ،‬أصبحت أرى العالم من‬
‫منظورٌن؛ فبدأت أرى الموت كطبٌب وكمرٌض‪ .‬فكطبٌب‪ ،‬كنت أعرؾ أنه لٌس‬
‫علًَّ‬
‫قول إن "السرطان معركة وسوؾ أفوز بها!"‪ ،‬أو أن أتساءل‪" :‬لماذا أصاب به أنا‬
‫على وجه التحدٌد؟"‪( ،‬فتكون اإلجابة‪ :‬ولم ال أصاب به أنا على وجه التحدٌد؟")؛‬
‫فقد عرفت الكثٌر عن الرعاٌة الطبٌة‪ ،‬ومضاعفات المرض‪ ،‬ومنهجٌة العبلجات‬
‫المختلفة‪ ،‬كما عرفت سرٌعًا من طبٌبة األورام الخاصة بً‪ ،‬ومن خبلل دراستً‪،‬‬
‫أدركــت أن سـرطان الربـة مـن الـدرجة الرابعـة لـم ٌعـد بـبل عـبلج‪ ،‬بـل صـارت‬
‫اإلصـابة بـه الـٌوم قصـة ٌمكـن تؽـٌٌر نـهاٌتها‪ ،‬مثـل مـرض اإلٌـدز فـً أواخـر‬
‫الثمـانٌنٌات مـن‬
‫القرن العشرٌن‪ .‬إنه ال ٌزال مرضًا ممٌ ًتا‪ ،‬لكن ظهرت له عبلجات جدٌدة ٌمكنها ‪-‬‬
‫للمرة األولى ‪ -‬وقؾ تدهور حالة المرٌض الذي ٌعجل بوفاته‪.‬‬
‫ومع أن خبرتً كطبٌب وعالم متدرب قد ساعدتنً على فهم البٌانات‪ ،‬وتقبل مدلولها‬
‫فٌما ٌتعلق بالتشخٌص‪ ،‬لم تساعدنً هذه البٌانات كمرٌض؛ فلم تخبرنا أنا‬
‫ولوسً بما إذا كان علٌنا اإلنجاب‪ ،‬أو ما ٌعنٌه اإلقدام على بناء حٌاة جدٌدة بٌنما‬
‫تتبلشى حٌاتً‪ .‬كذلك لم تخبرنا البٌانات بما إذا كان علًَّ االستماتة من أجل‬
‫مسٌرتً المهنٌة‪ ،‬أو السعً خلؾ الطموحات التً سعٌت كثٌرً ا إلٌها عازمًا‪ ،‬لكن‬
‫دون ضمان أننً سؤحققها كاملة‪.‬‬
‫ومثلً مثل مرضاي‪ ،‬كان علًَّ مواجهة موتً‪ ،‬ومحاولة فهم ما ٌجعل حٌاتً تستحق‬
‫العٌش؛ وهو ما كنت أحتاج فٌه إلى مساعدة إٌما؛ وألننً كنت ممز ًقا لكونً‬
‫طبٌبًا ومرٌضًا فً آن واحد؛ رحت أتوؼل فً العلوم الطبٌة‪ ،‬ثم أعود إلى األدب‪،‬‬
‫بحثا عن أجوبة ترضٌنً؛ فقد كنت أناضل‪ ،‬وأنا أواجه موتً‪ ،‬إلعادة بناء حٌاتً‬ ‫ً‬
‫القدٌمة‪ ،‬أو ربما بناء حٌاة جدٌدة‪.‬‬
‫●●●‬
‫لــم أكــن أقضــً معظــم أٌــام األســبوع فــً العــبلج المعــرفً‪ ،‬بــل فــً العــبلج‬
‫الطبــٌعً؛ فكثــٌرً ا مــا أوصــٌت كــل مرضـاي تقـرٌبًا بتلقـً العـبلج الطبـٌعً‪،‬‬
‫واآلن أجـد نفسـً‬
‫مصدومًا من صعوبة فعل ذلك‪ ،‬فلكونك طبٌبًا‪ ،‬قد تتفهم معنى المرض‪ ،‬لكنك لن‬
‫تدركه بحق إال إذا أصابك‪ .‬األمر أشبه بالوقوع فً الحب أو اإلنجاب؛ حٌث ال‬
‫تدرك قٌمة أكوام األوراق والتفاصٌل الدقٌقة التً ٌتعٌن علٌك استخراجها للتمتع بؤي‬
‫منهما‪ .‬كذلك األمر عندما ُتحقن بالمحلول الملحً الورٌدي على سبٌل المثال؛‬
‫حٌث ٌمكنك الشعور بمذاق الملح بمجرد أن ٌبدأ سرٌان المحلول فً دمك‪ .‬أخبرنً‬
‫الجمٌع بؤن هذا شعور طبٌعً‪ ،‬لكننً اكتشفت بعد دراستً ومزاولتً الطب مدة‬
‫أحد عشر عامًا‪ ،‬أننً لم أكن أعرؾ ذلك‪.‬‬
‫مــع بــداٌة تلقـً العـبلج الطبـٌعً‪ ،‬لـم أكـن قـادرً ا علـى رفـع أي ثقـل بعـد‪ ،‬بـل‬
‫كنـت أرفـع سـاقًَّ فقـط‪ ،‬كـان ذلـك األمـر مـره ًقا ومـهٌ ًنا؛ فعلـى الـرؼم مـن أن‬
‫عقلـً كـان‬
‫ســلٌمًا‪ ،‬لــم أكــن أشــعر بــؤننً الشــخص ذاتـه الـذي كنـت علٌـه‪ ،‬فقـد أصـبح‬
‫جسـمً خـابر القـوى وضـعٌ ًفا؛ إذ صـار الشـخص الـذي ٌمكنـه الـركض ألكثـر مـن‬
‫عشـرٌن‬
‫كٌلومترً ا مجرد ذكرى‪ ،‬وهذا األمر ٌشكل هوٌتك أٌضًا؛ حٌث ٌمكن أللم الظهر‬
‫الشدٌد أن ٌشكل هوٌة اإلنسان‪ ،‬كما ٌمكن لئلجهاد والؽثٌان أن ٌفعبل ذلك؛ ولكن‬
‫عندما سؤلتنً مدربتً الشخصٌة كارٌن عن أهدافً‪ ،‬اخترت هدفٌن‪ ،‬وهما أن أقود‬
‫دراجتً وأن أعدو‪ ،‬فبل بد من تحلً المرء بالعزٌمة فً مواجهة الضعؾ‪ .‬وبالفعل‬
‫داومـت علـى ممارسـة هـذٌن النشـاطٌن ٌـومًا تلـو اآلخـر‪ ،‬وكـانت كـل زٌـادة‬
‫ضـبٌلة فـً قوتـً تفتـح لـً المزٌـد مـن اآلفـاق الممكنـة‪ ،‬واألنمـاط المتاحـة أمـام‬
‫شـخصٌتً‪ .‬بـدأت‬
‫أمارس التمارٌن فترات أكثر وأطول‪ ،‬وبؤوزان أكبر‪ ،‬مُجه ًدا نفسً لدرجة أصل معها‬
‫إلى حافة التقٌإ‪ .‬وبعد شهرٌن من التمرٌنات‪ ،‬أصبحت أتمكن من الجلوس‬
‫ثبلثٌن دقٌقة كاملة دون أن أشعر بالتعب‪ ،‬كما صار بإمكانً الخروج لتناول العشاء‬
‫مع أصدقابً ثانٌة‪.‬‬
‫وفً ظهٌرة أحد األٌام‪ ،‬قدت سٌارتً بصحبة لوسً إلى طرٌق كندا‪ ،‬وهو مكاننا‬
‫المفضل لركوب الدراجات (وبدافع الفخر‪ ،‬أود ذكر أننا كنا معتادٌن ركوب‬
‫الدراجات‬
‫هاببل بالنسبة إلى وزنً الضبٌل)‪ .‬وبالفعل‪،‬‬‫هناك‪ ،‬لكن حجم التبلل كان ال ٌزال ً‬
‫نجحت فً قٌادة الدراجة باهتزاز لمسافة نحو عشرة كٌلومترات‪ .‬أعرؾ أنها مسافة‬
‫تكاد ال تذكر مقارنة بتلك التً قطعناها فً الصٌؾ الماضً‪ ،‬وتقدر بنحو خمسٌن‬
‫كٌلومترً ا‪ ،‬ولكننً على األقل قد استطعت حفظ توازنً على عجلتٌن‪.‬‬
‫لكننً وجدت نفسً أتساءل‪ :‬أهو انتصار أم هزٌمة؟‬
‫بدأت أترقب لقاءاتً مع إٌما؛ فقد كنت أشعر بنفسً فً مكتبها‪ ،‬كنت أشعر بؤننً نؾْ‬
‫س ٌ ذات قٌمة‪ ،‬أما خارجه‪ ،‬فلم أعد أعرؾ من أنا‪ .‬وألننً لم أكن أعمل‪،‬‬
‫لم أكن أشعر بشخصً الذي أعرؾ‪ ،‬وهو جراح األعصاب والعالم الشاب ذو‬
‫ً‬
‫حقٌقٌا‬ ‫المستقبل الواعد‪ .‬وفً البٌت‪ ،‬كنت أشعر بالوهن؛ فؤخشى أننً لم أعد زوجً ا‬
‫فً‬
‫عــٌن لوســً؛ حــٌث تحــولت مــن فــاعل إلــى مفعــول بــه فــً كــل مــواقؾ‬
‫حٌــاتً‪ ،‬وهــو مــا ورد فــً فلســفة القــرن الــرابع عشــر؛ حـٌث كـانت كلمـة‬
‫مـرٌض تعنـً ببسـاطة‬
‫ً‬
‫فاعبل‬ ‫"المفعول به لفعل ما"‪ ،‬وهو ما كنت أشعر به‪ ،‬أما عندما كنت طبٌبًا‪ ،‬فقد كنت‬
‫فعاال‪ ،‬أما اآلن كمرٌض‪ ،‬فلست سوى شًء تحدث له أشٌاء؛ لكن فً‬ ‫وسببًا ً‬
‫مكتب إٌما‪ ،‬كنا نمزح أنا ولوسً‪ ،‬ونتحاور بلؽة األطباء‪ ،‬ونتحدث بحرٌة عن آمالنا‬
‫وأحبلمنا‪ ،‬ونحاول التوصل إلى خطة للمضً قدمًا‪ .‬بعد مرور شهرٌن‪ ،‬كانت‬
‫إٌما ال تزال ؼامضة فٌما ٌتعلق بتكهناتها بشؤن حالتً‪ ،‬وكلما ذكرت لها إحصابٌة‪،‬‬
‫كانت تصدنً وتذكرنً بضرورة التركٌز على األولوٌات‪ .‬وعلى الرؼم من شعوري‬
‫باالستٌاء من هذا التصرؾ‪ ،‬كنت على األقل أشعر بؤننً شخص ذو هوٌة ال مجرد‬
‫شًء ٌمثل القانون الثانً للدٌنامٌكا الحرارٌة (القابل إن جمٌع األنظمة تمٌل‬
‫نحو الفوضى والتلؾ‪ ،‬إلى آخره)‪.‬‬
‫ً‬
‫وضرورٌا‪ ،‬وال رجعة‬ ‫وكنت مندفعًا تجاه الموت؛ فصار العدٌد من القرارات ً‬
‫ملحا‬
‫فٌه‪ ،‬وكان أهمها هو‪ :‬هل كان علٌنا أنا ولوسً أن ننجب أم ال؟ فحتى إذا كان‬
‫زواجنا قد تعكر صفوه كثٌرً ا مع قرب انتهاء فترة اإلقامة‪ ،‬فإننا ال نزال ٌحب كل منا‬
‫اآلخر كثٌرً ا‪ ،‬كما كانت عبلقتنا ال تزال ذات معنى؛ فهً بمنزلة معجم متطور‬
‫ٌضم المعانً المهمة فً الحٌاة‪ ،‬وإذا كانت العبلقات اإلنسانٌة تشكل حجر األساس‬
‫فً معنى الحٌاة‪ ،‬بدا لنا أن تربٌة األطفال تضٌؾ بع ًدا آخر لهذا المعنى‪ .‬وما دمنا‬
‫أردنا اإلنجاب؛ فقد كنا مدفوعٌن بفطرتنا الطبٌعٌة إلضافة كرسً آخر إلى طاولة‬
‫العابلة‪.‬‬
‫كان كبلنا ٌتوق إلى أن ٌصبح وال ًدا‪ ،‬وكان كل منا ٌفكر فً اآلخر؛ فقد تمنت لوسً‬
‫أن أعٌش سنوات دون تدهور صحتً‪ ،‬لكنها كانت تفهم تشخٌص حالتً؛ لذا‬
‫ت بؤن االختٌار فٌما ٌتعلق بما إذا كنت أرٌد أن أقضً ما تبقى من حٌاتً كؤب‬ ‫شعر ْ‬
‫هو اختٌار ٌعود إلًَّ ‪.‬‬
‫ذات لٌلة‪ ،‬سؤلتنً لوسً ونحن ممددان على الفراش قابلة‪" :‬ما أكثر ما ٌخٌفك أو‬
‫ٌحزنك ٌا بول؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أن أتركك"‪.‬‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫ً‬
‫كاملة‪ ،‬ولم أتحمل تخٌل لوسً ببل‬ ‫كنت أعرؾ أن الطفل سٌُدخل البهجة على العابلة‬
‫زوج أو أطفال بعد وفاتً؛ لكننً أصررت على أن ٌكون القرار األخٌر لها؛‬
‫فؽالبًا ما ستكون علٌها تربٌة الطفل وحدها فً نهاٌة المطاؾ‪ ،‬وأن تعتنً بكلٌنا عندما‬
‫ٌشتد بً المرض‪.‬‬
‫سؤلتنً لوسً قابلة‪" :‬هل سٌقلل المولود الجدٌد من الوقت الذي نقضٌه معًا؟ كذلك أال‬
‫تظن أن تودٌع طفلك سٌجعل موتك أكثر إٌبلمًا؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ولكن ألن ٌكون هذا عظٌمًا؟"؛ فشعرت أنا ولوسً بؤن الحٌاة الحقٌقٌة‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫لٌست فً تجنب المعاناة‪.‬‬
‫ومنذ سنوات‪ ،‬خطر لً أن داروٌن ونٌتشه قد اتفقا على شًء واحد‪ ،‬وهو أن السمة‬
‫األساسٌة للكابن الحً هً الكفاح‪ ،‬أما أٌة طرٌقة أخرى لوصؾ الحٌاة فتشبه‬
‫‪ -‬فً رأًٌ ‪ -‬رسم نمر دون خطوط على جلده؛ وبذلك نجرده من السمة األساسٌة‬
‫لهٌبته‪ .‬كذلك بعد سنوات عدٌدة من العٌش مع الموت‪ ،‬توصلت إلى فهم أن‬
‫أســــهل طرٌقــــة للمــــوت لٌســــت بالضــــرورة هــــً األفضــل؛ لــذا درســنا‬
‫األمــر بالتفصــٌل‪ ،‬وباركتــه عــابلتانا‪ .‬وهكــذا قررنــا إنجــاب طفــل‪ ،‬وأننــا‬
‫ً‬
‫بــدال مــن‬ ‫ســنواصل الحٌــاة‬
‫االستسبلم للموت‪.‬‬
‫وبسبب العقاقٌر التً كنت أتناولها‪ ،‬بدا أن اإلخصاب المساعد هو الطرٌقة الوحٌدة‬
‫لئلنجاب؛ لذلك توجهنا إلى عٌادة طبٌبة متخصصة فً مجال العبلج الهرمونً‬
‫للصــحة اإلنجابٌــة فــً مــدٌنة بــالو ألتــو بوالٌــة كــالٌفورنٌا‪ ،‬وقــد كــانت‬
‫الطبٌبــة ذات كفــاءة ومحترفــة‪ ،‬لكـن عـدم خبرتـها فـً التعـامل مـع ذوي‬
‫األمـراض التـً ال ٌـرجى‬
‫شفاإها‪ ،‬ولٌس المصابٌن بالعقم‪ ،‬كان واضحً ا؛ فكانت تبحث عن كلمات مناسبة‪،‬‬
‫وعٌناها على الملؾ الموضوع أمامها‪ ،‬ثم سؤلتنا فً النهاٌة‪:‬‬
‫"منذ متى وأنتما تحاوالن اإلنجاب؟"‪.‬‬
‫فؤجبتها‪" :‬حس ًنا‪ ،‬لم نحاول بعد"‪.‬‬
‫فردت قابلة‪" :‬آه‪ ،‬صحٌح‪ .‬بالطبع"‪.‬‬
‫وأخٌرً ا سؤلتنا‪" :‬بالنسبة إلى ‪ ...‬إمممم حالتك ‪ ،‬أعتقد أنكما ترٌدان الحمل بسرعة‪،‬‬
‫ألٌس كذلك؟"‪.‬‬
‫فؤجابت لوسً قابلة‪" :‬بلى‪ ،‬نرٌد أن نبدأ العبلج فورً ا"‪.‬‬
‫فقالت‪" :‬أقترح البدء بالحقن المجهري إذن"‪.‬‬
‫بــدت الطبٌبــة متحــٌرة عنــدما ذكــرت أننــا نرٌــد تقلٌــل فــرص التخصــٌب‬
‫المحتملــة؛ فمعظـم مـن ٌـؤتون إلـى هنـا ٌرٌـدون اؼتنـام الفـرص واالنتفـاع بـؤكبر‬
‫عـدد ممكـن مـن‬
‫مصرا على تجنب هذا الموقؾ؛ فبعد وفاتً ستقع على لوسً‬ ‫ً‬ ‫األجنة‪ ،‬لكننً كنت‬
‫مسبولٌة نصؾ دستة من األجنة ‪ -‬آخر ما تبقى من جٌناتنا الوراثٌة المشتركة‪ ،‬وآخر‬
‫جزء منــً علــى األرض ‪ -‬محفوظــة بتقنٌــة مــا؛ فــٌكون مــن المــإلم للوســً‬
‫التخلــص منــها‪ ،‬ولكنــها فــً الــوقت ذاتـه‪ ،‬ال ٌسـعها االسـتفادة بـها‪ ،‬وهـذا هـو مـا‬
‫تجلبـه هـذه‬
‫التقنٌة التً ال ٌستطٌع الكثٌرون تقبُّلها‪ .‬لكن بعد عدة محاوالت للتلقٌح داخل الرحم‪،‬‬
‫كان من الواضح أننا نحتاج إلى مستوى أعلى من التكنولوجٌا؛ فقد كنا‬
‫نحتاج على األقل إلى انتقاء الجنٌن األكثر صحة وزرعه‪ ،‬بٌنما ستموت األجنة‬
‫األخرى‪ .‬حتى فً إنجاب أطفال فً حٌاتً الجدٌدة هذه‪ ،‬ما زال الموت ٌلعب دوره‪.‬‬
‫وبعد ستة أسابٌع من بدء العبلج‪ ،‬كان الموعد قد حان للخضوع ألول أشعة مقطعٌة‬
‫لقٌاس فاعلٌة عقار تارسٌفا‪ .‬وعندما نهضت خارج الماسح الضوبً‪ ،‬نظر إلًَّ‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا أٌها الطبٌب‪ ،‬لٌس من المفترض أن أقول هذا‪،‬‬ ‫تقنً األشعة المقطعٌة‪ً ،‬‬
‫لكن الحاسوب بالخلؾ إذا أردت أن تلقً نظرة على األشعة"‪ ،‬فحمَّلت الصور‬
‫على الجهاز وأنا أكتب اسمً علٌها‪.‬‬
‫وكانت البثور عبلمة مطمبنة‪ ،‬كما زادت قوتً‪ ،‬رؼم أننً كنت ال أزال أشعر بآالم‬
‫الظهر واإلنهاك‪ .‬بعدها‪ ،‬جلست هناك‪ ،‬وأنا أذ ِّكر نفسً بما قالت إٌما‪ ،‬وهو حتى‬
‫إن كان هناك نمو صؽٌر فً حجم الورم‪ ،‬فإنه ما دام صؽٌرً ا‪ ،‬فهذا ٌعتبر نجاحً ا فً‬
‫حد ذاته (وبالطبع توقع والدي أن الورم سٌكون قد اختفى تمامًا؛ فقال لً‪:‬‬
‫"سوؾ تكون صورة األشعة نظٌفة تمامًا ٌا بوبً!" مستخدمًا اسم شهرتً فً‬
‫العابلة)‪ .‬وصرت أكرر لنفسً أن أي نمو بسٌط للورم ٌعتبر مإشرً ا جٌ ًدا‪ ،‬والتقطت‬
‫أنفاسً‪ ،‬ثم ضؽطت الزر‪ ،‬وظهرت الصور على الشاشة‪ ،‬فظهرت ربتاي‪ ،‬اللتان‬
‫تخللهما عدد ال نهابً من األورام من قبل‪ ،‬نظٌفتٌن عدا من عُقٌْدة حجمها سنتٌمتر‬
‫واحد أعلى الفص األٌمن‪ .‬وبدا أن عمودي الفقري قد بدأ ٌشفى‪ ،‬كما تقلص حجم‬
‫الورم بصورة كبٌرة وواضحة‪.‬‬
‫انتابنً شعور ؼامر باالرتٌاح‪.‬‬
‫إن وضع الورم مستقر‪.‬‬
‫وعنــدما قــابلنا إٌمــا فــً الــٌوم التــالً‪ ،‬رفضــت التحــدث عــن أٌــة تكــهنات‬
‫أٌــضًا‪ ،‬لكنــها قـالت‪" :‬أنـت بصـحة جٌـدة وصـار بـإمكاننا التقـابل كـل سـتة‬
‫أسـابٌع‪ .‬وفـً المقابلـة‬
‫التالٌة‪ٌ ،‬مكننا التحدث عن شكل حٌاتك فً المستقبل"‪ ،‬وحٌنها شعرت بفوضى‬
‫الشهور الماضٌة تنحسر‪ ،‬وبدا أن األمور بدأت تستقر‪ ،‬كما بدأ خوفً من المستقبل‬
‫ٌهدأ‪.‬‬
‫وفً عطلة نهاٌة األسبوع‪ ،‬كان هناك اجتماع مع خرٌجً قسم الجراحة العصبٌة‬
‫بجامعة ستانفورد السابقٌن‪ ،‬وكنت أتوق إلى هذه الفرصة إلعادة االتصال بهوٌتً‬
‫القدٌمة؛ لكنَّ وجودي هناك قد زاد من حدة الشعور بالتباٌن السرٌالً الذي آلت إلٌه‬
‫ً‬
‫محاطا بالنجاح‪ ،‬والمستقبل الواعد‪،‬‬ ‫حٌاتً فً ذلك الوقت‪ ،‬ووجدت نفسً‬
‫والطمــوح‪ ،‬وبــؤقرانً ورإســابً الــذٌن تســٌر حٌاتــهم فــً مســار لــم ٌعـد لـً‪،‬‬
‫والـذٌن ال ٌزال ممكـ ًنا ألجسـامهم تحمـل الـوقوؾ لمـدة ثمـانً سـاعات متواصـلة‬
‫فـً جراحـة‬
‫منهكة‪ .‬وبٌنما كانت أشعة الشمس بازؼة فً سماء مستقبلهم‪ ،‬كانت شمس حٌاتً‬
‫توشك على الؽروب‪ .‬وكانت زمٌلتً فٌكتورٌا تفتح الهداٌا ‪ -‬من منح‪ ،‬وعروض‬
‫عمل‪ ،‬وكتب ‪ -‬بسعادة؛ وهو ما كان من المفترض أن أشاركها إٌاه‪ .‬ولكن ها هم‬
‫أوالء أقرانً األكبر منً ٌعٌشون المستقبل الذي لم أعد أشاركهم إٌاه؛ فٌتلقون‬
‫المكافآت المبكرة فً المسٌرة المهنٌة‪ ،‬والترقٌات‪ ،‬والبٌوت الجدٌدة‪.‬‬
‫لم ٌسؤلنً أحد عن خططً‪ ،‬وهو ما أراحنً كثٌرً ا؛ ألنه لم ٌكن لديَّ أي منها‪ .‬ولما‬
‫صرت اآلن قادرً ا على المشً دون عصا‪ ،‬الح فً األفق الشك فً المستقبل على‬
‫شكل‬
‫ً‬
‫عاجزا‪ ،‬أم عالمًا‪ ،‬أم‬ ‫أسبلة من قبٌل‪ :‬من سؤكون فً المستقبل؟ وإلى متى؟ شخصًا‬
‫معلمًا؟ أم ربما عالم أحٌاء؟ أم جراح أعصاب مرة أخرى كما لمَّحت إٌما؟ أم أبًا‬
‫ٌجلس فً البٌت لرعاٌة األطفال؟ أم كاتبًا؟ فمن ٌمكننً أن أكون‪ ،‬أو من ٌجب أن‬
‫أكون؟ وكطبٌب‪ ،‬كنت مدر ًكا ما ٌواجهه المرضى المصابون بؤمراض تقلب حٌاتهم‬
‫رأسًا على عقب‪ ،‬وهً اللحظات التً أردت كثٌرً ا استكشافها معهم‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ألٌس‬
‫المرض الذي ال ٌرجى شفاإه هو الهدٌة المثلى لشاب رؼب دابمًا فً فهم الموت؟‬
‫فمــــا أفضــــل طرٌقــــة لفــــهمه مــــن معاٌشــته مباشــرة؟ لكننــً لــم أكــن‬
‫أعــرؾ مــدى صــعوبة الوضــع‪ ،‬وحجــم العراقٌــل التــً ٌجــب علــًَّ‬
‫اســتكشافها‪ ،‬والتخطــٌط لــها‪،‬‬
‫وتحدٌدها‪ .‬وكنت أتخٌل دابمًا أن عمل الطبٌب ٌشبه وصل قضٌبٌن من قضبان‬
‫السكك الحدٌدٌة أحدهما باآلخر‪ ،‬ما ٌوفر للمرٌض رحلة سلسة من المرض إلى‬
‫التعافً‪ .‬ولم أكن أتوقع احتمالٌة أن تكون مواجهتً لموتً مربكة‪ ،‬ومشوشة إلى هذا‬
‫سنا‪ ،‬وكٌؾ أردت "تشكٌل الضمٌر الذي ٌفتقر‬ ‫الحد‪ .‬وتذكرت نفسً وأنا أصؽر ً‬
‫إلٌه البشر فً أعماق روحً‪ ،‬كما ٌشكل الحداد صنٌعة ٌده"‪ ،‬ولكن عندما نظرت‬
‫جدا بما ال ٌكفً‬‫بعمق إلى داخلً‪ ،‬وجدت األدوات هشة للؽاٌة‪ ،‬والنار ضعٌفة ً‬
‫لتشكٌل ضمٌري الخاص‪.‬‬
‫كنت أشعر بالضٌاع فً أرض موتً الخراب الخالٌة من المبلمح‪ ،‬ولم أجد لً مرش ًدا‬
‫وسط أكوام أوراق الدراسات العلمٌة‪ ،‬والمسارات الداخلٌة الجزٌبٌة‪ ،‬والمنحنٌات‬
‫البلنهابٌة إلحصاءات النجاة من سرطان الربة‪ ،‬فبدأت أبحث عن ضالتً فً األدب‬
‫‪The‬لـ سولجنٌتسٌن‪ ،‬و ‪Cancer Ward‬مرة أخرى‪ ،‬وقرأت ً‬
‫كبل من‪:‬‬
‫‪Mind and‬لـ تولستوي و ‪Ivan Ilyich‬لـ بً‪ .‬إس‪ .‬جونسون‪ ،‬و ‪Unfortunates‬‬
‫لـ ناجل‪ ،‬وكتابات وولؾ‪ ،‬وكافكا‪ ،‬ومونتٌن‪ ،‬وفروست‪ ،‬وجرٌفل‪Cosmos ،‬‬
‫ومذكرات مرضى السرطان‪ ،‬وأي شًء كتبه أي شخص عن الموت‪ .‬كذلك رحت‬
‫أبحث عن معجم أتمكن من خبلله من فهم ماهٌة الموت؛ إلٌجاد هوٌة لنفسً‪ ،‬ومن‬
‫ثم المضً قدمًا مرة أخرى‪ .‬وقد أبعدتنً الخبرة الطبٌة التً اكتسبتها بالعمل المباشر‬
‫عن المجالٌن األدبً واألكادٌمً‪ ،‬لكننً شعرت اآلن بؤننً كً أعً هذه الخبرة‪،‬‬
‫ال بد من أن أصوؼها ككلمات فً شكل عمل أدبً‪ .‬كذلك وصؾ هٌمنجواي خبرته‬
‫قاببل‪ :‬هً اكتساب خبرات ؼنٌة‪ ،‬ثم التوقؾ من أجل تؤملها‬ ‫بطرٌقة مماثلة‪ً ،‬‬
‫والكتابة عنها؛ لذلك كنت أحتاج إلى الكلمات لكً أمضً فً طرٌقً‪.‬‬
‫هكــذا كــان األدب هــو مــا أعــادنً إلــى حٌــاتً فــً تلـك الفتـرة؛ فقـد كـان عـدم‬
‫فـؤٌا مـا فعلـت‪ٌ ،‬طمـس‬ ‫ً‬
‫قـاتبل‪ً ،‬‬ ‫ٌقـٌنً ‪ -‬الـذي ال ٌـتزعزع ‪ -‬بخصـوص مسـتقبلً‬
‫شـبح المـوت‬
‫مؽزى أفعالً‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أتذكر إحدى اللحظات التً استسلم فٌها قلقً الؽامر‪ ،‬عندما‬
‫تبلشى بحر الشكوك الوعر‪ ،‬حٌنما استٌقظت متؤلمًا فً مواجهة ٌوم آخر‪،‬‬
‫وشعرت بؤننً ؼٌر قادر على فعل أي شًء بعد اإلفطار‪ ،‬فخطر ببالً أنه‪ ،‬ال‬
‫ٌمكننً االستمرار‪ ،‬ثم تردد فً أذنً فورً ا صدى كلمات صموٌل بٌكٌت التً تعلمتها‬
‫منــــذ زمــن بعٌــد قبــل تخــرجً؛ فقلــت فــً نفســً ســؤستمر‪ ،‬ثــم نهضــت مــن‬
‫الفــراش وأخــذت خطــوة إلــى األمــام‪ ،‬وأنــا أكــرر العبــارة مــرة تلــو أخــرى‬
‫ً‬
‫قــاببل‪" :‬ال ٌمكننــً‬
‫االستمرار‪ .‬سؤستمر"‪.‬‬
‫فً ذلك الصباح‪ ،‬اتخذت قراري‪ ،‬وهو أننً سوؾ أرؼم نفسً على العودة إلى ؼرفة‬
‫العملٌات‪ .‬لماذا؟ ألننً أستطٌع‪ ،‬وألن هذا هو أنا‪ .‬وألنه سٌكون علًَّ أن أتعلم‬
‫ً‬
‫متجوال‪ ،‬لكننً‬ ‫ً‬
‫حتمٌا‬ ‫العٌش بصورة مختلفة عن التً ألفتها‪ ،‬وأن أرى الموت زابرً ا‬
‫أعلم أنه إذا كنت سؤموت‪ ،‬فإننً ما زلت على قٌد الحٌاة إلى أن أموت ً‬
‫فعبل‪.‬‬
‫وعلى مدار األسابٌع الستة التالٌة‪ ،‬أجرٌت بعض التؽٌٌرات فً برنامج العبلج‬
‫الطبٌعً؛ فصرت أركز على اكتساب القوة البدنٌة المطلوبة فً ؼرفة العملٌات‬
‫تحدٌ ًدا‬
‫ألداء مهام تحتاج إلى طاقة؛ كالوقوؾ لساعات طوٌلة‪ ،‬والتحكم فً أدوات الجراحة‬
‫الدقٌقة‪ ،‬وزراعة المسامٌر التً ٌحتاج زرعها إلى جهد‪.‬‬
‫تبع ذلك الخضوع ألشعة مقطعٌة أخرى‪ ،‬أظهرت انكماش حجم الورم أكثر ً‬
‫قلٌبل‪،‬‬
‫وخبلل مراجعة إٌما للصور معً‪ ،‬قالت لً‪" :‬ال أعرؾ كم من الوقت ٌتبقى فً‬
‫عمرك‪ ،‬لكن علًَّ أن أخبرك بؤن المرٌض الذي زرته قبلك الٌوم ٌتناول دواء تارسٌفا‬
‫منذ سبع سنوات ببل أٌة مشكبلت؛ لذلك ال ٌزال أمامنا طرٌق طوٌل لنستطٌع‬
‫التعــامل مــع ســرطانك باألرٌحٌــة نفسـها التـً نتعـامل بـها مـع هـذا المـرٌض‪.‬‬
‫وحٌنمـا أنظـر إلٌـك‪ ،‬أشـعر بـؤن فكـرة نجـاتك مـن المـوت لعشـر سـنوات لٌسـت‬
‫بالجنونٌـة‪،‬‬
‫وأعلم علم الٌقٌن أن األعمار لٌست بؤٌدٌنا‪ ،‬وأنك قد ال تنجو لهذه الفترة‪ ،‬لكن الفكرة‬
‫فً حد ذاتها لٌست جنونٌة"‪.‬‬
‫هذا هو التكهن إذن‪ ،‬بل لٌس تكه ًنا‪ ،‬ولكنه مبرِّ ر لقراري بالعودة إلى الجراحة‬
‫العصبٌة‪ ،‬والعودة إلى الحٌاة‪ .‬كان جزء منً مبتهجً ا حٌال احتمالٌة العٌش عشر‬
‫سنوات‪ ،‬لكنَّ جزءًا آخر منً تمنى لو أن الطبٌبة قالت لً‪" :‬أرى أن عودتك إلى‬
‫العمل كجراح أعصاب جنون‪ ،‬فاختر شٌ ًبا أسهل"‪ .‬أدهشنً ما أدركته من أنه على‬
‫الرؼم من كل شًء‪ ،‬فقد نبهتنً الشهور القلٌلة الماضٌة إلى أنه لم ٌكن علًَّ تحمل‬
‫المسبولٌة العظٌمة التً تتطلبها جراحة األعصاب‪ ،‬وأن جزءًا منً كان ٌرؼب فً‬
‫إعفابه من الرجوع إلى تحمل هذه المسبولٌة مرة أخرى‪ ،‬فجراحة األعصاب عمل‬
‫شاق بحق؛ لذا لم ٌكن أحد لٌلومنً على قرار عدم العودة إلٌها (ودابمًا ما كان‬
‫أطبــاء األعصــاب ٌســؤلوننً عمـا إذا كـان هـذا القـرار دعـوة إلـى تخلٌـهم عـن‬
‫عملـهم كـذلك‪ ،‬وكنـت أجٌبـهم دابـمًا بنعـم؛ فـهً لٌسـت وظٌفـة فـً رأٌـً؛ ألنـها إذا‬
‫كـانت‬
‫كذلك‪ ،‬فهً واحدة من أسوأ الوظابؾ على ظهر األرض)‪ .‬وقد حاول اثنان من‬
‫أساتذتً أن ٌثنٌانً عن الفكرة‪ ،‬ولكننً قلت لنفسً‪" :‬ألٌس علٌك أن تقضً وقتك مع‬
‫قاببل‪ " :‬ألٌس علٌك أن تفعل ذلك؟"‪ .‬ففً‬ ‫عابلتك اآلن؟"‪( .‬وكررت علًَّ السإال ً‬
‫البداٌة‪ ،‬كنت قد قررت اإلقدام على هذا العمل؛ ألنه شًء عظٌم بالنسبة إلًَّ )‪.‬‬
‫ذات ٌوم كنت أنا ولوسً قد وصلنا إلى قمة النجاح‪ ،‬وبدأت كل األسرار الطبٌة وكل‬
‫تحول طبً حٌوي وتكنولوجً للجٌل األخٌر ٌنكشؾ أمامنا؛ لذلك فقد ؼمرتنً‬
‫فً نهاٌة المطاؾ رؼبة عارمة فً حمل الحفار الطبً مرة أخرى؛ فللواجب‬
‫األخبلقً ثقله‪ ،‬وكل ما له ثقل له جاذبٌة كذلك‪ ،‬وهكذا جذبنً الواجب المرهق إلى‬
‫تحمل‬
‫المسبولٌة نحو ؼرفة العملٌات مرة أخرى‪ ،‬وهو ما أٌدته لوسً تمامًا‪.‬‬
‫واتصلت بمدٌر البرنامج ألخبره بؤننً مستعد للعودة‪ ،‬فوجدته متحمسًا لفكرة رجوعً‬
‫للؽاٌة‪ ،‬وتحدثت مع فٌكتورٌا عن أفضل الطرق إلعادتً إلى المسار الطبً‪،‬‬
‫فطلبــت أن ٌــرافقنً زمٌــل مقــٌم لــدعمً طـوال الـوقت فـً حالـة خـروج‬
‫األمـور عـن المسـار الصـحٌح‪ ،‬كمـا تقـرر أننـً سـؤجري جراحـة واحـدة فقـط فـً‬
‫الـٌوم‪ ،‬وأننـً لـن‬
‫أشرؾ على المرضى خارج ؼرفة العملٌات‪ ،‬أو أكون قٌد االستدعاء‪ ،‬وأننً سؤعمل‬
‫بحذر‪ .‬وبنا ًء علٌه‪ ،‬وصل جدول ؼرفة العملٌات‪ ،‬وتقرر إجرابً جراحة استبصال‬
‫للفص الصدؼً‪ ،‬وهً إحدى جراحاتً المفضلة‪ ،‬فعادة ما ٌكون سبب اإلصابة‬
‫بنوبات الصرع اختبلل فً منطقة الحصٌن‪ ،‬الذي ٌقع فً عمق الفص الصدؼً؛ لذا‬
‫ٌمكن الستبصال الحصٌن أن ٌعالج الصرع‪ ،‬لكنه جراحة معقدة‪ ،‬وتتطلب استبصال‬
‫الحصٌن بدقة من منطقة الحنون‪ ،‬وهً الؽشاء الرقٌق الشفاؾ الذي ٌؽطً‬
‫المخ قرب الجذع مباشرة‪.‬‬
‫وقضٌت لٌلة التحضٌر للجراحة مستؽر ًقا فً قراءة بعض الكتب الجراحٌة‪ ،‬أراجع‬
‫أساسٌات التشرٌح وخطوات الجراحة التً كنت بصدد إجرابها‪ .‬وبعدها نمت فً‬
‫قلق‪ ،‬وأنا أرى أمامً الزاوٌة المستهدفة من رأس المرٌض‪ ،‬والمنشار وهو ٌشق‬
‫الجمجمة‪ ،‬وانعكاس الضوء على منطقة الحنون ما إن استؤصلت الفص الصدؼً‪.‬‬
‫ولما‬
‫استٌقظت‪ ،‬نهضت من الفراش وارتدٌت قمٌصًا ورابطة عنق ‪ ...‬وعندما وصلت إلى‬
‫المستشفى‪ ،‬بدلت مبلبسً وارتدٌت زي الجراح األزرق المؤلوؾ لً للمرة األولى‬
‫منذ‬
‫ثمانٌــة عشــر أســبوعًا؛ (فقــد أعــدت كــل ألبسـتً الطبٌـة إلـى المسـتشفى منـذ‬
‫ظـنا منـً أننـً لـن أحتـاج إلٌـها ثانٌـة)‪ .‬وتحـدثت مـع المـرٌض ً‬
‫قلٌـبل‬ ‫عـدة شـهور؛ ً‬
‫ألتؤكـد أنـه‬
‫لٌست لدٌه أٌة أسبلة ٌفاجبنً بها فً اللحظة األخٌرة‪ ،‬ثم بدأت أجهز ؼرفة العملٌات‪،‬‬
‫وتم تثبٌت األنابٌب للمرٌض‪ ،‬وؼسلت أنا والطبٌب المعالج أٌدٌنا‪ ،‬وهكذا‬
‫أصبحنا جاهزٌن لبدء الجراحة‪ ،‬فالتقطت المشرط‪ ،‬وبدأت بشق الجلد الذي ٌعلو‬
‫ً‬
‫محاوال التؤكد من عدم نسٌانً شٌ ًبا أو ارتكابً أٌة‬ ‫األذن مباشرة‪ ،‬وتقدمت ببطء‬
‫وصوال إلى العظم باستخدام الكاوي الكهربً‪ ،‬ورفعت الجلد‬ ‫ً‬ ‫أخطاء‪ ،‬ثم عمَّقت الشق‬
‫بالخطافات‪ .‬بعد ذلك بدا لً كل شًء مؤلو ًفا؛ حٌث بدأت الذاكرة العضلٌة‬
‫تعمل‪ ،‬فالتقطت الحفار‪ ،‬وأحدثت ثبلثة ثقوب فً الجمجمة‪ ،‬وبدأ الطبٌب المعالج‬
‫ٌضخ الماء إلبقاء الحفار بار ًدا وأنا أعمل‪ ،‬ثم التقطت المحجاج‪ ،‬وهو حفار طبً‬
‫ٌستخدم للقطع الجانبً‪ ،‬وأوصلت الثقوب بعضها بعضًا‪ ،‬فظهرت أمامً كتلة عظمٌة‬
‫كبٌرة‪ ،‬فانتزعتها بصعوبة بٌنما كان صوت تصدعها واضحً ا‪ ،‬وظهرت لً‬
‫الجافٌــة بلونــها الفضــً‪ .‬ولحســن الحــظ لــم أتلفــها بــالحفار‪ ،‬وهــو خطــؤ شــابع‬
‫بــٌن الجــراحٌن المبتــدبٌن‪ ،‬ثــم اســتخدمت ســكٌ ًنا حــادة لشــق الجافٌــة دون‬
‫جــرح المــخ‪،‬‬
‫ونجحت ثانٌة‪ ،‬فبدأت أسترخً‪ ،‬وثبت الجافٌة مرة أخرى بؽرز صؽٌرة إلبعادها عن‬
‫بقعة الجراحة الربٌسٌة‪ ،‬فظهر أمامً المخ المعًا وهو ٌنبض ببطء‪ ،‬وظهرت‬
‫األوردة السٌلفٌوسٌة الضخمة تمتد بصورة طبٌعٌة فً الجزء العلوي من الفص‬
‫الصدؼً‪ ،‬وكذلك التفافات المخ الوردٌة المؤلوفة‪.‬‬
‫فجؤة‪ ،‬خفتت الرإٌة‪ ،‬فوضعت األدوات جانبًا وابتعدت عن طاولة الجراحة‪ ،‬وراح‬
‫الظبلم ٌزٌد من حولً وٌؽمرنً شعور بالخفة‪.‬‬
‫فقلت للطبٌب المعالج‪" :‬آسؾ ٌا سٌدي‪ ،‬أشعر بقلٌل من اإلعٌاء‪ ،‬وأعتقد أننً أحتاج‬
‫إلى االستلقاء‪ ،‬وسوؾ ٌكمل المقٌم المبتدئ جاك الجراحة"‪.‬‬
‫قلٌبل من عصٌر البرتقال‬ ‫وصل جاك بسرعة‪ ،‬واستؤذنت أنا لبلنصراؾ‪ ،‬ثم ارتشفت ً‬
‫فً استراحة األطباء‪ ،‬مستلقًٌا على األرٌكة‪ ،‬وبعد عشرٌن دقٌقة‪ ،‬بدأت أشعر‬
‫قاببل‪" :‬إؼماء عصبً قلبً المنشؤ"‪ ،‬بمعنى إٌقاؾ الجهاز‬ ‫بالتحسن‪ ،‬فهمست لنفسً ً‬
‫العصبً الذاتً للقلب مإق ًتا‪ ،‬أو بمفهومه األكثر شٌوعًا‪ :‬خلل فً األعصاب‪ .‬ها‬
‫هً ذي مشكلة جدٌدة تواجهنً‪ ،‬فلم ٌكن هذا تصوري عن عودتً إلى ؼرفة‬
‫العملٌات‪ .‬فذهبت إلى ؼرفة المبلبس‪ ،‬وألقٌت بزًٌ المتسخ فً قسم الؽسل‪ ،‬وارتدٌت‬
‫مبلبسً العادٌة‪ .‬وفً طرٌقً للخارج‪ ،‬أخذت معً كومة من األردٌة النظٌفة‪ ،‬وقلت‬
‫لنفسً سٌكون الؽد أفضل‪.‬‬
‫فعبل‪ .‬ومع كل ٌوم ٌمر علًَّ ‪ ،‬رحت أشعر بؤن الحاالت كلها مؤلوفة‬ ‫كان الؽد كذلك ً‬
‫بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬لكننً أعمل بشكل أبطؤ‪ .‬وفً الٌوم الثالث‪ ،‬كنت أستؤصل فقرة‬
‫حالتــها متــدهورة فــً العمــود الفقــري لمــرٌض‪ ،‬فحــدقت إلــى الفقــرة‬
‫المتورمــة‪ ،‬وأنــا ال أتــذكر الخطــوة التالٌــة؛ فــاقترح الزمٌــل المشــرؾ علــًَّ أن‬
‫آخــذ قطـعًا صـؽٌرة منـه‬
‫باستخدام قراضة العظام‪.‬‬
‫قاببل له‪" :‬نعم‪ ،‬أعرؾ أن هذا ما ٌفعله األطباء عادة فً هذه المرحلة‪ ،‬لكنَّ‬ ‫فؽمؽمت ً‬
‫هناك طرٌقة أخرى ‪."...‬‬
‫قلٌبل لعشرٌن دقٌقة‪ ،‬وعقلً ٌبحث عن طرٌقتً الفضلى التً قد تعلمتها لفعل‬ ‫تؤملت ً‬
‫ذلك‪ ،‬ولما وصلت إلى المستوى التالً من العمود الفقري‪ ،‬ومض الحل فً‬
‫ذاكرتً‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أداة كوب بسرعة! مطرقة كارٌسون"‪.‬‬ ‫فصحت ً‬
‫استطعت استبصال الفقرة بالكامل فً ثبلثٌن ثانٌة‪ ،‬فالتفت إلى الزمٌل المشرؾ‪،‬‬
‫وقلت له‪" :‬هكذا أفعلها!"‪.‬‬
‫على مدار األسبوعٌن التالٌٌن‪ ،‬استمرت قوتً فً التحسن‪ ،‬وكذلك سرعتً وأسلوبً‪،‬‬
‫كما تعلمت ٌداي ثانٌة كٌؾ تعالج األوعٌة الدموٌة الدقٌقة دون جرحها‪،‬‬
‫واستحضرت أصابعً الحٌل القدٌمة التً تعلمتها ساب ًقا‪ .‬وبعد مرور شهر‪ ،‬كنت‬
‫أعمل بكامل طاقتً‪.‬‬
‫واقتصــرت علــى العمــل داخــل حــدود ؼرفـة العملٌـات‪ ،‬مسـن ًدا األعمـال‬
‫اإلدارٌـة‪ ،‬والعناٌـة بالمرضـى‪ ،‬والمنـاوبات اللٌلٌـة‪ ،‬ومنـاوبات عطلـة نـهاٌة‬
‫األسـبوع إلـى فٌكتورٌـا‬
‫وؼٌرها من المقٌمٌن المشرفٌن؛ فلقد أتقنت كل هذه المهارات بالفعل‪ ،‬ولم ٌعد‬
‫ٌنقصنً سوى إتقان الفروق الدقٌقة الخاصة بالجراحات المعقدة‪ .‬وفً نهاٌة كل ٌوم‪،‬‬
‫كنت أشعر باإلجهاد إلى أبعد حد‪ ،‬وبؤلم حارق فً العضبلت‪ ،‬ثم تتحسن حالتً ببطء‬
‫بعد ذلك؛ لكن الحق أن األمر برمته كان محز ًنا؛ فقد تبلشت المتعة الؽامرة‬
‫التً كنت أجدها فً ؼرفة العملٌات‪ ،‬وحلت محلها محاوالت جاهدة للتؽلب على‬
‫الشعور بالؽثٌان‪ ،‬واأللم‪ ،‬واإلعٌاء‪ .‬وعند عودتً إلى البٌت فً كل لٌلة‪ ،‬كنت‬
‫أبتلع حفنة من مسكنات األلم‪ ،‬ثم أستلقً فً الفراش إلى جانب لوسً التً عادت إلى‬
‫العمل بجدول كامل كذلك‪ ،‬وكانت لوسً حٌنها فً الثلث األول من شهور‬
‫الحمل‪ ،‬على أن تلد فً شهر ٌونٌو‪ ،‬وهو الشهر الذي سؤنهً فٌه إقامتً‪ ،‬وقد كانت‬
‫لدٌنا صورة لجنٌننا‪ ،‬فً طور الكٌسة األرٌمٌة‪ ،‬أخذت له قبل زرعه‪( ،‬فقلت‬
‫للوسً حٌن شاهدتها‪ٌ" :‬بدو أن له ؼشاء الخلٌة الخاص بك")‪ .‬وفً تلك األثناء كنت‬
‫ال أزال عازمًا على إعادة حٌاتً إلى مسارها السابق‪.‬‬
‫وبعــد مــرور ســتة أشـهر علـى تشـخٌص إصـابتً بالسـرطان‪ ،‬خضـعت ألشـعة‬
‫مقطعٌـة أخـرى؛ حـٌث أكـدت النتٌجـة اسـتقرار الحالـة؛ فبـدأت أبحـث عـن وظـابؾ‬
‫مـرة‬
‫أخرى‪ .‬وما دام الورم تحت السٌطرة‪ ،‬فلن تتدهور حالتً لعدة سنوات؛ لذا بدا أنه‬
‫صار بإمكانً أن أسلك المسار المهنً الذي عملت سنوات ألجله‪ ،‬وكان على وشك‬
‫التدهور بتدهور حالتً الصحٌة مرة أخرى؛ ها هو ذا صوت األبواق ٌتعالى ابتهاجً ا‬
‫بالنصر!‬
‫●●●‬
‫خبلل زٌارتً التالٌة إلٌما‪ ،‬تحدثنا عن حٌاتً ومسارها‪ ،‬فتذكرت حٌنها محاولة‬
‫هنري أدامز للمقارنة بٌن القوة العلمٌة لمحرك االحتراق والقوة الوجودٌة لئلٌمان‪،‬‬
‫وهكذا نحٌنا األسبلة العلمٌة جانبًا بعض الوقت‪ ،‬وبدأنا نتناول الجانب الوجودي‬
‫فحسب‪ ،‬لكن الجانبٌن فً كل األحوال هما من اختصاص الطبٌب؛ ذلك ألننً‬
‫كنــت قــد علمــت مإخــرً ا أن وظٌفــة الجــراح العــالم فــً جامعــة ســتانفورد ‪-‬‬
‫التــً كــان مــن المفتــرض أن أشـؽلها ‪ -‬قـد أُسـندت بـالفعل إلـى جـراح زمٌـل فـً‬
‫أثنـاء مرضـً‪،‬‬
‫فشعرت بؤننً محطم‪ ،‬وأخبرت إٌما بذلك‪ ،‬فعلقت قابلة‪:‬‬
‫"حس ًنا‪ ،‬من الممكن أن تكون وظٌفة الطبٌب األستاذ هذه مرهقة للؽاٌة‪ ،‬وأنت تعرؾ‬
‫ذلك بالفعل‪ .‬أنا آسفة"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬نعم‪ ،‬إن العلم الذي أثار شؽفً كان عبارة عن مشروعات انتهت‬ ‫فرددت علٌها ً‬
‫فً عشرٌن عامًا‪ ،‬فإن لم ٌعد الوقت ملكً نتٌجة مرضً‪ ،‬فؤنا لست متؤك ًدا‬
‫من اهتمامً بؤن أصبح عالمًا"‪ ،‬وحاولت مواساة نفسً ً‬
‫قاببل‪" :‬ال ٌمكنك تحقٌق أكثر‬
‫مما حققت فً ظل ظروؾ مرضك"‪.‬‬
‫فقالت إٌما‪" :‬صحٌح‪ ،‬وتذكر أنك تحرز بالفعل تقدمًا عظٌمًا؛ فهؤنتذا تعمل مرة‬
‫أخرى‪ ،‬كما أنك بانتظار طفل‪ ،‬فؤنت بصدد العثور على أولوٌاتك‪ ،‬وهذا لٌس‬
‫ً‬
‫سهبل"‪.‬‬
‫فً وقت الحق من ذلك الٌوم‪ ،‬أوقفتنً فً الرواق إحدى األستاذات صؽٌرات السن؛‬
‫وهً طبٌبة مقٌمة سابقة وصدٌقة مقربة‪.‬‬
‫فقالت لً‪" :‬بول‪ ،‬هناك نقاشات كثٌرة فً اجتماعات الكلٌة عن وضعك وعما‬
‫سٌفعلونه معك"‪.‬‬
‫فسؤلتها متعجبًا‪" :‬ما سٌفعلونه معً! كٌؾ؟"‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬أعتقد أن بعض األساتذة قلقون حٌال تخرجك"‪.‬‬
‫وٌتطلب التخرج من مرحلة اإلقامة شٌبٌن؛ أولهما تلبٌة مجموعة من المتطلبات‬
‫الوطنٌة والمحلٌة‪ ،‬وهو ما حققته بالفعل‪ ،‬وثانٌهما مباركة الكلٌة هذا التخرج‪.‬‬
‫فقلت لها منده ًشا‪ " :‬ماذا؟ ال أقصد أن أبدو مؽرورً ا‪ ،‬لكننً جراح جٌد‪ ،‬جٌد مثل‬
‫‪."...‬‬
‫فقاطعتنً الزمٌلة قابلة‪" :‬أعرؾ هذا‪ .‬أعتقد أنهم ٌرٌدون فقط أن ٌروك تتحمل‬
‫األعباء الكاملة كمشرؾ لؤلطباء المقٌمٌن؛ ذلك ألنهم ٌحبونك ً‬
‫حقا"‪.‬‬
‫أدركت حقٌقة األمر؛ فقد كنت أعمل فً األشهر القلٌلة الماضٌة مجرد فنً جراحة‬
‫فحسب‪ ،‬وكنت أستخدم السرطان عذرً ا لعدم تحمل مسبولٌة مرضاي الكاملة‪.‬‬
‫فعبل‪ ،‬لكننً اآلن بدأت أحضر إلى المستشفى‬ ‫وعلى الجانب اآلخر‪ ،‬كان عذرً ا جٌ ًدا ً‬
‫مبكرً ا‪ ،‬وأمكث فٌه حتى وقت متؤخر‪ ،‬وأرعى مرضاي رعاٌة كاملة مرة أخرى‪،‬‬
‫مضٌ ًفا أربع ساعات إضافٌة إلى ٌوم العمل الذي كان ٌبلػ بالفعل اثنتً عشرة ساعة؛‬
‫فعاد المرضى لٌكونوا محور تركٌزي طوال الوقت‪ .‬وفً الٌومٌن األولٌن‪ ،‬كنت‬
‫أظن أننً سؤستقٌل بسبب معاناتً نوبات الؽثٌان واأللم واإلعٌاء واالنسحاب فً‬
‫لحظات التعب إلى سرٌر شاؼر لبلستراحة ً‬
‫قلٌبل؛ لكن بحلول الٌوم الثالث‪ ،‬بدأت‬
‫أستمتع بالعمل مرة أخرى‪ ،‬وعلى الرؼم من اآلالم التً تحتل جسدي‪ ،‬أعادت لً‬
‫عودة التواصل مع مرضاي معنى العمل بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬كما بدأت أتناول مضادات‬
‫القًء‪ ،‬ومضادات االلتهاب ؼٌر الستٌروٌدٌة بٌن العملٌات الجراحٌة‪ ،‬وقبل المناوبات‬
‫مباشرة‪ .‬وقد كنت أعانً فً البداٌة‪ ،‬لكننً عدت إلى العمل بكامل طاقتً‪،‬‬
‫وبدال من البحث عن سرٌر شاؼر‪ ،‬أصبحت أسترٌح على أرٌكة المقٌمٌن المبتدبٌن‪،‬‬ ‫ً‬
‫وأشرؾ على قٌامهم برعاٌة مرضاي‪ ،‬وأحاضرهم‪ ،‬بٌنما أشعر بتقلصات مستمرة‬
‫فً ظهري‪ ،‬وكلما تعذب جسدي‪ ،‬زاد استمتاعً بالعمل‪ ،‬لدرجة أننً فً نهاٌة‬
‫األسبوع األول‪ ،‬نمت أربعٌن ساعة متواصلة‪.‬‬
‫كما صرت أتخذ القرارات المهمة‪ ،‬فذات مرة تحدثت إلى الطبٌب المعالج إلحدى‬
‫الحاالت‪ً ،‬‬
‫قاببل له‪:‬‬
‫حاال جدول جراحات الؽد‪ ،‬فوجدت أن أول حالة محتجزة‬ ‫"أٌها الطبٌب‪ ،‬كنت أراجع ً‬
‫إلجراء تدخل جراحً بٌن نصفً المخ‪ ،‬لكننً أعتقد أنها ستكون أكثر أما ًنا‬
‫وسهولة‪ ،‬إذا أجرٌناها عن طرٌق القشرة الجدارٌة"‪.‬‬
‫حقا؟ دعنً أُلق نظرة على صور األشعة ‪ ...‬أتعرؾ؟‬ ‫قاببل‪ً " :‬‬
‫فؤجاب الطبٌب المعالج ً‬
‫أنت على حق‪ .‬هل ٌمكنك تؽٌٌر الحجز؟"‪.‬‬
‫قاببل له‪" :‬مرحبًا سٌدي‪.‬‬ ‫وفً الٌوم التالً‪ ،‬تحدثت إلى الطبٌب المعالج لحالة أخرى‪ً ،‬‬
‫أنا الجراح بول‪ ،‬وقد رأٌت من فوري السٌد إؾ وعابلته فً وحدة العناٌة المركزة‪.‬‬
‫وأعتقد أن علٌنا إجراء جراحة استبصال الؽضروؾ العنقً األمامً‪ ،‬فهل تمانع إذا‬
‫حددنا له موع ًدا ؼ ًدا؟ أو متى تكون متفر ًؼا؟"‪.‬‬
‫كذلك كنت أعمل بكامل سرعتً فً ؼرفة العملٌات؛ فذات مرة تحدثت إلى الممرضة‬
‫ً‬
‫قاببل لها‪:‬‬
‫"هل ٌمكنك استدعاء دكتور إس؟ فسؤنتهً من هذه الجراحة قبل أن ٌصل"‪.‬‬
‫فردت علًَّ قابلة‪" :‬إنه على الهاتؾ‪ ،‬وٌقول إنه ال ٌمكنك بؤٌة حال أن تكون قد‬
‫انتهٌت بالفعل"‪.‬‬
‫الهثا‪ ،‬فؽسل ٌدٌه سرٌعًا‪ ،‬وبدأ ٌنظر من خبلل‬ ‫فجاء الطبٌب المعالج راكضًا‪ً ،‬‬
‫المجهر‪.‬‬
‫قلٌبل ألتجنب الجٌوب األنفٌة‪ .‬لكننً استؤصلت‬ ‫فقلت له‪" :‬لقد اتخذت زاوٌة حادة ً‬
‫ً‬
‫كامبل"‪.‬‬ ‫الورم‬
‫فسؤلنً الطبٌب‪" :‬هل تجنبت الجٌوب األنفٌة؟"‪.‬‬
‫فؤجبته‪" :‬نعم ٌا سٌدي"‪.‬‬
‫فسؤلنً‪" :‬وأخرجت الورم ككتلة سلٌمة؟"‪.‬‬
‫فؤجبته‪" :‬نعم ٌا سٌدي‪ ،‬ها هو ذا على الطاولة إذا أردت أن تلقً نظرة"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬هذا جٌد جٌ ًدا بحق‪ .‬متى أصبحت بهذه السرعة؟ أعتذر ألننً لم أكن‬ ‫فرد علًَّ ً‬
‫معك قبل اآلن"‪.‬‬
‫فرددت علٌه‪ً ،‬‬
‫قاببل‪" :‬ال علٌك‪ٌ ،‬ا سٌدي"‪.‬‬
‫ولعل الجانب الشابك فً المرض هو أنك عندما تتعرض له‪ ،‬تتؽٌر منظومة قٌمك‬
‫باستمرار؛ حٌث تحاول معرفة ما هو مهم لك‪ ،‬وتستمر فً محاولة فهمه‪ ،‬فكنت‬
‫أشعر بؤن شخصًا قد سرق بطاقتً االبتمانٌة‪ ،‬وأصبح علًَّ تعلم كٌفٌة العٌش دونها‪،‬‬
‫واالقتصاد فً اإلنفاق‪ .‬وقد ُتقرر قضاء المتبقً من عمرك كجراح أعصاب‪ ،‬ثم‬
‫تؽٌر رأٌك بعد شهرٌن‪ .‬وبعد شهرٌن آخرٌن من ذلك‪ ،‬ربما ترؼب فً تعلم عزؾ‬
‫آلة الساكسفون أو تكرٌس نفسك للعبادة‪ ،‬فالموت حدث ٌمر به اإلنسان مرة‬
‫واحدة‪ ،‬أما التعاٌش مع مرض ال ٌرجى شفاإه فهو عملٌة مستمرة‪.‬‬
‫أدهشنً أننً اجتزت المراحل الخمس للحزن المتمثلة فً صٌؽة "اإلنكار ←‬
‫الؽضب ← المساومة ← االكتباب ← التقبل" التً ربما تكون صٌؽة مبتذلة‪،‬‬
‫ولكننً‬
‫ً‬
‫مستعدا‬ ‫مررت بها بالعكس؛ فعندما تم تشخٌص حالتً بؤنها اإلصابة بالسرطان‪ ،‬كنت‬
‫للموت‪ ،‬حتى إنه انتابنً شعور بالرضا حٌاله‪ ،‬فتقبلته وتؤهبت له‪ .‬بعد‬
‫ذلك‪ ،‬أصبت باالكتباب؛ حٌث بدا واضحً ا أننً لن أموت قرٌبًا؛ وهو خبر جٌد‬
‫بالطبع‪ ،‬لكنه أٌضًا محٌر وموهن للؽاٌة‪ ،‬فوف ًقا لتطور أبحاث السرطان‪ ،‬وطبٌعة‬
‫اإلحصاءات‪ ،‬من الممكن أن أعٌش الثنً عشر شهرً ا‪ ،‬أو مابة وعشرٌن شهرً ا مع‬
‫استقرار الحالة وعدم تدهورها أكثر‪ .‬وعادة ما تإدي اإلصابة باألمراض الخطٌرة‬
‫إلى‬
‫ً‬
‫بــدال مــن ذلــك‪ ،‬عــرفت أننــً‬ ‫رســم صــورة واضــحة لحٌــاة المــرء‪ .‬ولكــن‬
‫ســؤموت؛ وهــو مــا كنــت أعرفــه مــن قبــل‪ .‬وهكــذا‪ ،‬كــانت معــرفتً هــً‬
‫نفســها‪ ،‬لكـن قـدرتً علـى‬
‫التخطــٌط لحٌــاتً إلــى أن ٌحــٌن موعــد رحــٌلً قــد دمــرت تمــامًا‪ ،‬وكــان‬
‫ســٌمكننً أن أخطــط‪ ،‬إذا كنــت أعــرؾ كـم شـهرً ا أو عـامًا ٌتبقـى فـً عمـري‪ٌ .‬ـا‬
‫لٌتـه كـان بـإمكان‬
‫الطبٌب أن ٌخبرنً بؤن أمامً ثبلثة أشهر حتى أقضً هذا الوقت مع عابلتً‪ ،‬أو‬
‫ٌخبرنً بؤن أمامً عامًا فؤإلؾ كتابًا‪ ،‬أو ٌعطٌنً عشر سنوات بحد أقصى‪ ،‬فؤعود‬
‫إلى‬
‫عملً وأعالج األمراض العصبٌة المختلفة‪ .‬أما العٌش ٌومًا فٌومًا فهو ؼٌر مج ٍد فً‬
‫محنتً؛ فماذا عساي أن أفعل بذلك الٌوم؟‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وعند نقطة معٌنة‪ ،‬بدأت أتفكر فً حظً ً‬
‫قلٌبل‪ ،‬وكؤن إٌمانً قد تبلشى‪،‬‬
‫فصرت أقول فً نفسً‪" :‬أعرؾ ما أمرُّ به جٌ ًدا‪ ،‬لكننً عاجز عن إدراك المؽزى‬
‫منه؛ فإذا كان ما ٌحدث اختبارً ا لقوة تحملً‪ ،‬فؤنا واهن بحق‪ .‬كما كان من الممكن أن‬
‫ٌكون االختبار أكثر سهولة من ذلك‪ ،‬كؤن ٌكون ً‬
‫مثبل اختبارً ا لقدرتً على تناول‬
‫شطٌرة اللحم دون إضافة صلصة الخردل الحارة التً أعشقها‪ ،‬أما هذا االختبار فهو‬
‫ؼاٌة فً القسوة ‪ ،"...‬وبعدها انتابتنً نوبة من الؽضب العارم‪ ،‬فصحت فً‬
‫قاببل لها‪" :‬هل كنت أعمل طوال حٌاتً ألصل إلى هذه المرحلة‪ ،‬ثم ٌنهار كل‬ ‫نفسً ً‬
‫ما حققته؟"‪.‬‬
‫وأخٌرً ا اآلن‪ ،‬من الممكن أن أكون قد وصلت إلى مرحلة اإلنكار‪ ،‬أو اإلنكار التام‪.‬‬
‫ً‬
‫طوٌبل؛‬ ‫ولكن فً ظل ؼٌاب المعرفة األكٌدة‪ٌ ،‬تعٌن علًَّ افتراض أننً سؤعٌش وق ًتا‬
‫فربما هذا هو الطرٌق الوحٌد للمضً قدمًا‪.‬‬
‫أصبحت أجري العملٌات الجراحٌة حتى وقت متؤخر من اللٌل‪ ،‬أو فً الصباح‬
‫مركزا اهتمامً على التخرج من اإلقامة‪ .‬وكانت قد مرت تسعة أشهر على‬ ‫ً‬ ‫الباكر‪،‬‬
‫تشخٌص إصابتً بالسرطان‪ ،‬وكان جسدي ٌتلقى الضربات الواحدة تلو األخرى؛‬
‫فكنت ال أتناول الطعام عند عودتً إلى المنزل من شدة التعب؛ ولهذا بدأت أزٌد‬
‫جرعتً من التاٌلٌنول‪ ،‬ومضادات االلتهاب ؼٌر اإلستٌروٌدٌة‪ ،‬ومضادات القًء‬
‫بالتدرٌج‪ .‬وأصبت كذلك بنوبات متواصلة من السعال سببها ندوب الورم المٌت فً‬
‫ربتً على األرجح‪ .‬وكنت أشد من أزر نفسً‪ ،‬فؤقول إن علًَّ المواصلة على هذا‬
‫النحو ببل هوادة شهرٌن إضافٌٌن‪ ،‬وبعدها سؤتخرج من اإلقامة‪ ،‬وأمارس دور األستاذ‬
‫األكثر هدوءًا مقارنة بالدور الذي أمارسه اآلن‪.‬‬
‫وفً فبراٌر سافرت إلى والٌة وٌسكونسن إلجراء مقابلة عمل؛ حٌث تلقٌت عرضًا‬
‫ٌشتمل على كل ما تمنٌته من مبلٌٌن الدوالرات إلنشاء معمل علوم األعصاب‪،‬‬
‫وتؤســٌس العٌــادة الخاصــة وترإسـها‪ ،‬ومرونـة فـً المواعٌـد؛ نظـرً ا إلـى وضـعً‬
‫الصـحً‪ ،‬ومنصـب أسـتاذ بعقـد تجـرٌبً‪ ،‬وفـرص عمـل مؽرٌـة للوسـً‪ ،‬وراتـب‬
‫مـرتفع‪،‬‬
‫ومدٌر رابع‪ ،‬باإلضافة إلى المناظر الطبٌعٌة الخبلبة التً تزٌن هذه المدٌنة المثالٌة‪،‬‬
‫كذلك قال لً ربٌس قسم جراحة األعصاب‪" :‬أتفهم حالتك الصحٌة‪ ،‬وأعرؾ أن‬
‫عبلقتك بطبٌبة األورام التً تتابع حالتك طٌبة ووطٌدة على األرجح؛ لذا إذا أردت‬
‫االستمرار فً حضور جلساتها العبلجٌة لك هناك‪ ،‬فسنقلُّك إلى هناك ذهابًا وإٌابًا‬
‫مـركزا لعـبلج السـرطان مـن الـدرجة األولـى‬ ‫ً‬ ‫علــى متــن طــابرة‪ ،‬رؼـم أن لـدٌنا‬
‫هنـا‪ ،‬إذا أردت التعـرؾ علٌـه‪ .‬فـهل هنـاك مـا ٌمكننـً عرضـه أكثـر مـن هـذا كلـه‬
‫لجعـل هـذه‬
‫الوظٌفة أكثر إؼرا ًء بالنسبة إلٌك؟"‪.‬‬
‫تذكرت حٌنها ما أخبرتنً به إٌما؛ فقد انتقلت من مرحلة عدم القدرة على تصدٌق‬
‫أننً سؤكون جراحً ا إلى كونً جراحً ا بالفعل؛ ذلك التحول إلى النقٌض‪ .‬لقد‬
‫أبقــــت إٌمــــا هـــذا الــجزء مــن هوٌتــً فــً بــالً دابــمًا‪ ،‬حتــى عنــدما كنــت‬
‫وفعلــت مــا تحــدٌت نفســً كطبــٌب أن أفعلــه منــذ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫عــاجزا عــن االمتثــال لــه‪،‬‬
‫أعــوام؛ وهــو تقبــل‬
‫مسبولٌتً الشخصٌة مهما كانت مرهقة‪ ،‬وأعادتنً إلى نقطة ٌمكننً العودة من‬
‫خبللها إلى ذاتً التً عهدتها‪ .‬وها هً ذي قد وصلت إلى قمة ما ٌرٌده أي جراح‬
‫متدرب‪ ،‬ونجحت فً أن أصبح جراحً ا وعالمًا ولٌس جراح أعصاب فقط؛ فكل‬
‫متدرب ٌصبو إلى هذا الهدؾ‪ ،‬لكن ال أحد تقرٌبًا ٌتمكن من تحقٌقه‪.‬‬
‫فً تلك اللٌلة‪ ،‬أقلنً ربٌس القسم إلى الفندق بعد تناول العشاء معًا‪ ،‬فؤوقؾ السٌارة‬
‫بمحاذاة الطرٌق‪ ،‬وقال لً‪" :‬دعنً أرك شٌ ًبا"؛ فترجلنا من السٌارة ووقفنا‬
‫أمــــام المســــتشفى نشــــاهد البحــــٌرة المتجمــــدة التـــً ٌطــل علٌــها‪ ،‬بٌنمــا‬
‫أخــذت حافتــها البعٌــدة تتــؤلأل بانعكاســات األضــواء المتســللة مــن منــازل‬
‫أعضــاء هٌبــة التــدرٌس‬
‫بالجامعة‪ ،‬وقال‪" :‬فً الصٌؾ‪ٌ ،‬مكنك السباحة أو اإلبحار إلى العمل‪ .‬وفً الشتاء‪،‬‬
‫ٌمكنك التزلج أو التزحلق على الجلٌد"‪.‬‬
‫كان األمر فً روعته أشبه بالخٌال‪ .‬وفً هذه اللحظة خطر ببالً أن األمر محض‬
‫خٌال بالفعل ‪ ،‬ولكن لم ٌكن بإمكاننا االنتقال إلى وٌسكونسن مطل ًقا؛ فماذا إذا‬
‫أصبت بانتكاسة شدٌدة خبلل عامٌن؟ سوؾ تكون لوسً بعٌدة عن أصدقابها‬
‫وعابلتها‪ ،‬ووحٌدة تعتنً بزوج على شفا الموت‪ ،‬وبطفل ولٌد‪ .‬وبقدر ما كنت أقاوم‬
‫السرطان‪ ،‬أدركت أنه ؼٌَّر المعادلة تمامًا؛ ففً األشهر الماضٌة‪ ،‬كنت أحاول بكامل‬
‫ً‬
‫محاوال‬ ‫طاقتً استعادة مسار حٌاتً إلى ما كان علٌه قبل إصابتً بالسرطان‪،‬‬
‫منع السرطان من بسط نفوذه على أي جزء من حٌاتً‪ .‬وعلى الرؼم من رؼبتً‬
‫الشدٌدة فً الشعور باالنتصار اآلن‪ ،‬فقد كنت أشعر بمخالب السرطان القوٌة تطبق‬
‫علــًَّ ‪ ،‬وتجــذبنً إلــى الــوراء؛ فتعــرقلنً عــن تحقٌقــه‪ ،‬فقــد فرضــت علــًَّ‬
‫لعنــة السـرطان عـٌش حٌـاتً بمنطـق ؼـرٌب ومـرهق؛ وهـو التفكـٌر فـً المـوت‬
‫دابـمًا‪ ،‬مـع عـدم‬
‫السماح له ‪ -‬فً الوقت نفسه ‪ -‬بإعاقة حٌاتً عن التقدم؛ فحتى عندما تقهقر السرطان‪،‬‬
‫ها هو ذا ٌلقً بظبلله عمٌقة األثر فً حٌاتً‪.‬‬
‫وفــً البــداٌة عنــدما فقــدت منصــب األســتاذ فـً جامعـة سـتانفورد‪ ،‬كنـت أعزي‬
‫نفسـً بـؤن فكـرة إدارة معمـل ال تبـدو منطقٌـة إال إذا كنـت سـؤعٌش عشـرٌن عـامًا‬
‫دون‬
‫تــدهور حــالتً الصــحٌة‪ .‬وقـد تؤكـدت مـن حقٌقـة هـذا األمـر اآلن؛ حـٌث بـدأ‬
‫فروٌـد مسـاره المـهنً كعـالم أعصـاب نـاجح‪ ،‬وعنـدما أدرك أنـه سـوؾ ٌحتـاج‬
‫إلـى قـرن مـن‬
‫الزمان على األقل لتحقٌق طموحاته فً هذا المجال وفهم المخ البشري‪ ،‬نحَّ ى مجهره‬
‫جانبًا‪ ،‬وهو ما أعتقد أننً شعرت بشًء مشابه له؛ فنتٌجة لتشخٌص مرضً‪،‬‬
‫صار إحداثً نقلة فً جراحة األعصاب من خبلل بحثً أمرً ا بعٌد المنال؛ لذلك لٌس‬
‫المختبر هو المكان الذي أرٌد أن أقضً فٌه ما تبقى من حٌاتً‪.‬‬
‫وقد تردد صدى كلمات إٌما فً أذنً حٌن قالت‪ :‬علٌك أن تقرر ما هو أهم بالنسبة‬
‫إلٌك‪.‬‬
‫فً الوقت نفسه‪ ،‬كنت أقول لنفسً إذا لم أعد أرٌد الوصول إلى أعلى المراتب التً‬
‫ٌطمح إلٌها أي جراح أعصاب‪ ،‬وأي عالم أعصاب‪ ،‬فماذا أرٌد؟‬
‫أن أصبح أبًا؟‬
‫أن أصبح جراح أعصاب؟‬
‫أن أصبح معلمًا؟‬
‫لــم أكــن أعــرؾ مــا أرٌـد؛ لكـن إن كـان األمـر كـذلك‪ ،‬فقـد تعلمـت شـٌ ًبا لـم أجـده‬
‫فـً كتـابات أبقـراط‪ ،‬أو ابـن مـٌمون‪ ،‬أو أوسـلر‪ ،‬وهـو أنـه لـٌس مـن واجـب‬
‫الطبـٌب أن‬
‫ٌحول دون موت المرضى أو أن ٌعٌد حٌاتهم إلى سابق عهدها‪ ،‬بل أن ٌحتضن‬
‫المرٌض وعابلته الذٌن تفككت حٌاتهم‪ ،‬وأن ٌعمل وٌثابر حتى ٌتمكنوا من النهوض‬
‫ثانٌة‪ ،‬وفهم حقٌقة وجودهم على قٌد الحٌاة‪.‬‬
‫ها هً ذي ؼطرسة الجراح التً تكمن فً داخلً تتجلى أمامً تمامًا؛ فرؼم أننً‬
‫ركزت جهدي على تحمل مسبولٌتً إزاء المرضى وترك تؤثٌري فً حٌاتهم‪ ،‬كانت‬
‫هذه‬
‫المسبولٌة فً أفضل األحوال مإقتة‪ ،‬كما كان هذا التؤثٌر عابرً ا؛ فبعد تجاوز المرٌض‬
‫أزمته المرضٌة الحادة‪ ،‬فإنه ٌستفٌق‪ ،‬وتنزع األنابٌب عنه‪ ،‬وٌخرج من المستشفى‬
‫مــع عابلتــه؛ لٌعٌشـوا حٌـاة ؼـٌر تلـك التـً عـهدوها‪ ،‬وال تعـود إلـى مـا كـانت‬
‫علٌـه ٌـومًا مـا‪ .‬كـذلك‪ ،‬رؼـم أنـه ٌمكـن لكلمـات الطبـٌب أن تـرٌح عقـل المـرٌض‪،‬‬
‫كمـا ٌـرٌح‬
‫المشرط الطبً المخ باستبصال الورم منه‪ ،‬تبقى شكوكه ومخاوفه‪ ،‬سواء كانت‬
‫عاطفٌة أم بدنٌة‪ ،‬لٌصارعها وحده حتى تتبلشى‪.‬‬
‫ولم ُتعد لً إٌما هوٌتً القدٌمة‪ ،‬ولكنها حمت لً قدرتً على تشكٌل هوٌة جدٌدة‪،‬‬
‫وهو ما أدركت‪ ،‬فً نهاٌة المطاؾ‪ ،‬أننً مضطر إلى تقبله‪.‬‬
‫●●●‬
‫فــً صــباح ٌــوم ربــٌعً مشــرق‪ ،‬ذهبــت أنــا ولوســً إلــى إحــدى دور العبــادة‬
‫لحضــور نــدوة دٌنٌــة برفقــة أبــويَّ ‪ ،‬اللــذٌن جــاءا مــن والٌــة أرٌزونــا‬
‫لزٌــارتنا فــً عطلــة نــهاٌة‬
‫األسبوع‪ ،‬فجلسنا معًا على أحد المقاعد الخشبٌة الطوٌلة‪ ،‬وبدأت أمً محادثة مع‬
‫العابلة الجالسة بجوارنا‪ ،‬وصارت تجامل األم لجمال عٌنً ابنتها‪ ،‬ثم انتقلت‬
‫سرٌعًا إلى موضوعات أعمق‪ ،‬ما أبرز مهاراتها فً اإلنصات والتواصل بدؾء‬
‫ومودة مع اآلخرٌن‪ .‬وبٌنما كان ربٌس الندوة ٌسرد إحدى القصص الدٌنٌة‪ ،‬وجدت‬
‫نفسً أضحك ضحكة مكتومة فجؤة؛ فقد كان ٌتحدث عن إحباط رجل دٌن بسبب سوء‬
‫فهم الناس لحكمه ومواعظه وعدم استٌعاب المعانً الكامنة وراء كلماته‪.‬‬
‫لقد أعادتنً هذه القصة‪ ،‬التً تظهر سوء فهم عامة الناس‪ ،‬إلى التبحر فً الدٌن بعد‬
‫ؼٌاب طوٌل‪ ،‬بعد مرحلة الدراسة فً الجامعة‪ ،‬التً ضعؾ فٌها إٌمانً كثٌرً ا‬
‫بسبب دراسة العلوم‪.‬‬
‫ومــع أننــً قــد تــرعرعت فــً عابلـة متـدٌنة؛ حـٌث كـانت الصـلوات وتـبلوة‬
‫النصـوص الـدٌنٌة عـادة لٌلٌـة‪ ،‬بـدأت أإمـن‪ ،‬ككـل دارسـً العلـوم‪ ،‬باحتمالٌـة‬
‫التصـور المـادي‬
‫كـامبل لكـل ظواهـر‬ ‫ً‬ ‫للــواقع‪ ،‬وصــارت لــديَّ نظــرة علمٌــة بحتــة‪ ،‬تمنــح تفسـٌرً ا‬
‫الكـون‪ ،‬وقضـٌت فتـرة كبـٌرة مـن عشـرٌنٌاتً أحـاول بنـاء إطـار لـهذا التفسـٌر‪،‬‬
‫لكـن كـانت‬
‫المشكلة التً أواجهها واضحة‪ ،‬وهً أننً إذا جعلت العلم هو الفٌصل فً تفسٌر كل‬
‫شًء‪ ،‬فهذا ال ٌعنً نفً وجود قوة عظمى بٌدها كل أمور الكون فقط‪ ،‬بل‬
‫ً‬
‫بدٌهٌا‪ ،‬وهذا لٌس العالم‬ ‫ٌعنً كذلك نفً وجود الحب والمعنى؛ أي أن ٌصبح العالم‬
‫الذي نعٌش فٌه‪.‬‬
‫كذلك فإن المشكلة فً محاولة فهم العالم وفق المنهج العلمً هً أن هذا المنهج منتج‬
‫بشري‪ ،‬ومن ثم ال ٌمكن أن ٌصل إلى الحقٌقة المطلقة‪ .‬لقد وضعنا النظرٌات‬
‫العلمٌــة لتــرتٌب العــالم والسـٌطرة علٌـه‪ ،‬ولتقسـٌم الظواهـر الطبٌعٌـة إلـى وحـدات‬
‫أصـؽر ٌمكـن التحكـم فٌـها والتعـامل معـها‪ ،‬كـذلك فـإن العلـم ٌسـتند إلـى إعـادة‬
‫اإلنتاج والموضوعٌة ؼٌر الطبٌعٌة‪ .‬وبقدر ما ٌكسبه ذلك القدرة على تقدٌم‬
‫التفسٌرات لمسابل الجوهر والمادة‪ ،‬فإنه أٌضًا ٌجعل المنهج العلمً ؼٌر قادر على‬
‫تفسٌر‬
‫الطبٌعة الوجودٌة العمٌقة للحٌاة اإلنسانٌة‪ .‬من الممكن أن ٌقدم العلم أفضل الوسابل‬
‫لترتٌب البٌانات التجرٌبٌة المعاد إنتاجها‪ ،‬ولكن هذه القدرة تعنً كذلك‬
‫عــــجزه عــــن فــــهم أكثــر الجــوانب محورٌــة فــً الحٌــاة اإلنســانٌة‪ ،‬وهــً‬
‫األمــل‪ ،‬والخــوؾ‪ ،‬والحــب‪ ،‬والكراهٌــة‪ ،‬والجمــال‪ ،‬والحســد‪ ،‬والشــرؾ‪،‬‬
‫والضــعؾ‪ ،‬والكفــاح‪،‬‬
‫والمعاناة‪ ،‬والفضٌلة‪.‬‬
‫وسوؾ تبقى دابمًا هناك فجوة بٌن هذه األفكار المحورٌة والمنهج العلمً؛ فبل توجد‬
‫ً‬
‫كاملة‪ ،‬وسوؾ ٌبقى‬ ‫أٌة منظومة تفكٌر تستطٌع أن تستوعب الخبرة اإلنسانٌة‬
‫ً‬
‫مجاال للتؤمل والتفكٌر‪.‬‬ ‫دابمًا عالم ما وراء المادٌات‬
‫كبل منا ال ٌرى إال جزءًا واح ًدا من الصورة الكاملة؛ حٌث‬ ‫فً النهاٌة‪ ،‬ال شك فً أن ً‬
‫ثالثا‪ ،‬وٌرى‬‫ٌرى الطبٌب جزءًا‪ ،‬وٌرى المرٌض جزءًا ثانًٌا‪ ،‬وٌرى المهندس جزءًا ً‬
‫الخبٌر االقتصادي جزءًا رابعًا‪ ،‬وٌرى صابد اللإلإ جزءًا خامسًا‪ ،‬وٌرى المدمن‬
‫جزءًا سادسًا‪ ،‬وٌرى عامل الكاببلت جزءًا سابعًا‪ ،‬وٌرى راعً الؽنم جزءًا ثام ًنا‪،‬‬
‫وٌرى‬
‫المتسول الهندي جزءًا تاسعًا‪ ،‬وٌرى رجل الدٌن جزءًا عاشرً ا‪ .‬فبل ٌمكن لشخص‬
‫واحد تحصٌل المعرفة اإلنسانٌة بالكامل‪ ،‬بل إنها ُتكتسب من العبلقات التً نكونها‬
‫فٌما بٌننا‪ ،‬ومع العالم من حولنا‪ ،‬ومع ذلك ال ٌمكننا تحصٌلها كاملة أب ًدا‪ ،‬وهو ما‬
‫تفسره مقولة وردت على لسان أحد الحكماء‪:‬‬
‫"شخص ٌزرع وآخر ٌحصد ما لم ٌزرع‪ ،‬بل ؼٌره هم من فعلوا‪ ،‬وها هو ذا‬
‫ٌشاركهم ثمرة عملهم"‪.‬‬
‫نهضت خارج الماسح الضوبً لؤلشعة المقطعٌة‪ ،‬بعد مرور سبعة أشهر على‬
‫عودتً إلى الجراحة‪ ،‬فً آخر فحص أخضع له قبل إنهاء إقامتً‪ ،‬وقبل أن أصبح‬
‫أبًا‪،‬‬
‫وقبل أن ٌتحقق المستقبل الذي أطمح إلٌه‪.‬‬
‫فقال لً الف ِّنً‪" :‬هل ترٌد أن تلقً نظرة‪ ،‬أٌها الطبٌب؟"‪.‬‬
‫فؤجبته ً‬
‫قاببل‪" :‬لٌس اآلن‪ ،‬لديَّ الكثٌر ألقوم به الٌوم"‪.‬‬
‫كانت الساعة السادسة مسا ًء بالفعل‪ ،‬وكان علًَّ تفقد المرضى‪ ،‬وتنظٌم جدول الؽد‬
‫لؽرفة العملٌات‪ ،‬ومراجعة صور األشعة الخاصة بمن سٌخضعون للجراحة‪،‬‬
‫وإمبلء مبلحظاتً السرٌرٌة‪ ،‬ومتابعة حالة المرضى بعد استفاقتهم من الجراحة‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬وفً نحو الساعة الثامنة مساءً‪ ،‬جلست فً مكتب جراحة األعصاب‪ ،‬إلى‬
‫جانب وحدة لعرض صور األشعة‪ ،‬فشؽلتها‪ ،‬وألقٌت نظرة على صور أشعة مرضاي‬
‫للؽد ‪ -‬جراحتً عمود فقري بسٌطتٌن ‪ -‬وأخٌرً ا قررت مراجعة صور األشعة‬
‫الخاصة بً‪ ،‬فؤدخلت اسمً‪ ،‬وصرت أقلب الصور كؤنها كتٌب أطفال صؽٌر ملًء‬
‫بالصور‪ ،‬مقار ًنا الصور الجدٌدة بالقدٌمة‪ .‬وقد بدا كل شًء كما هو؛ فها هو ذا‬
‫الورم القدٌم كما هو ‪ ...‬عدا‪ ،‬لحظة‪.‬‬
‫قلٌبل فً الصور‪ ،‬وتفقدتها ثانٌة‪.‬‬‫عدت إلى الوراء ً‬
‫ها هو ذا‪ ...‬ورم جدٌد كبٌر ٌمؤل الفص األٌمن األوسط لربتً‪ ،‬وقد بدا ؼرٌبًا كؤنه‬
‫قمر مكتمل ٌمؤل األفق‪ ،‬وبالعودة إلى الصور القدٌمة‪ ،‬تمكنت بصعوبة من تتبع أثره‬
‫ً‬
‫مكتمبل‪.‬‬ ‫الخافت‪ ،‬واآلن ها هو ذا نذٌر شبحً قدم إلى الحٌاة‬
‫لــم أكــن ؼاضــبًا أو مــرتعبًا ممــا رأٌــت‪ ،‬بــل تعــاملت مــع األمــر ببســاطة‪،‬‬
‫كؤنــه حقٌقــة مــن حقــابق العـالم‪ ،‬كحقٌقـة المسـافة بـٌن الشـمس واألرض‪ .‬وبعـدها‬
‫اسـتقللت‬
‫سٌارتً إلى المنزل‪ ،‬وأخبرت لوسً بما رأٌت‪ ،‬وكان هذا لٌلة الخمٌس‪ ،‬ولم نكن‬
‫لنقابل إٌما حتى ٌوم االثنٌن؛ لذا جلست مع لوسً فً ؼرفة المعٌشة‪ ،‬ومعنا أجهزة‬
‫الحاسوب الشخصٌة‪ ،‬وحددنا الخطوات التالٌة من عٌنات‪ ،‬وفحوص‪ ،‬وعبلج‬
‫كٌمٌابً‪ ،‬وأدركنا أن العقاقٌر التً سؤتناولها هذه المرة ستكون أشرس‪ ،‬كما أدركنا‬
‫أن احتمــال اســتمراري ســنوات طوٌلـة دون تـدهور حـالتً الصـحٌة بـات أقـل‬
‫مـن ذي قبـل‪ ،‬وحٌنـها تـردد فـً أذنـً صـدى كلمـات إلـٌوت مـرة أخـرى‪ ،‬حـٌن‬
‫قـال‪" :‬لكنـً‬
‫أسمع خلؾ ظهري فً هبَّة خافتة خشخشة العظام‪ ،‬والضحكة المكتومة ملء الفم"‪.‬‬
‫أدركنا كذلك أنه ربما ٌستحٌل إجرابً الجراحات العصبٌة عدة أسابٌع‪ ،‬أو‬
‫ربما أشهر‪ ،‬أو لؤلبد؛ لكننا قررنا تؤجٌل هذه المسابل كلها للتحقق منها ٌوم االثنٌن‪.‬‬
‫ولما كان الٌوم ال ٌزال الخمٌس‪ ،‬وكنت قد جهزت حاالت الؽد لؽرفة العملٌات‬
‫بالفعل‪ ،‬قررت قضاء ٌوم أخٌر كجراح مقٌم‪.‬‬
‫وعندما ترجلت من سٌارتً أمام المستشفى فً الساعة الخامسة وعشرٌن دقٌقة فً‬
‫الصباح التالً‪ ،‬تنفست بعمق‪ ،‬فشممت رابحة شجرة الكافور التً تسللت إلى‬
‫أنفً ‪ ...‬فتساءلت هل هذا صنوبر؟ لم ألحظه قبل ذلك‪ ،‬ثم دخلت إلى المستشفى‪،‬‬
‫وقابلت فرٌق األطباء المقٌمٌن‪ ،‬واحتشدنا من أجل الجوالت التفقدٌة الصباحٌة‬
‫للمرضى‪ ،‬ثم تفقدنا ما حدث خبلل ساعات اللٌل‪ ،‬والنزالء الجدد‪ ،‬والفحوص الجدٌدة‪،‬‬
‫وذهبنا بعدها لتف ُّقد مرضانا قبل حضورنا مإتمر المرض والوفٌات‪ ،‬وهو‬
‫مإتمر منتظم ٌجتمع فٌه جراحو األعصاب لمراجعة األخطاء الطبٌة التً ار ُتكبت‪،‬‬
‫وحاالت اإلخفاق الناجمة عن تلك األخطاء‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬قضٌت دقٌقتٌن إضافٌتٌن‬
‫مــــع مــــرٌض ٌــــدعى الســــٌد آر‪ ،‬أصــــٌب بمتبلزمــــة نــــادرة تعــــرؾ‬
‫ُ‬
‫اســتؤصلت الــورم مــن مخــه‪ ،‬بــدأت تظــهر‬ ‫بمتبلزمــــة "جرٌســـتمان"‪ .‬فبعــد أن‬
‫علٌــه بعــض االضــطرابات‬
‫الوظٌفٌة‪ ،‬كعدم قدرته على الكتابة‪ ،‬أو تسمٌة أصابعه‪ ،‬أو إجراء العملٌات الحسابٌة‪،‬‬
‫أو تمٌٌز ٌده الٌمنى من الٌسرى‪ .‬وكانت المرة الوحٌدة التً قابلت فٌها‬
‫حالة كهذه منذ ثمانً سنوات‪ ،‬عندما كنت طالبًا بكلٌة الطب؛ حٌث كان أحد أوابل‬
‫المرضى الذٌن تابعت حالتهم فً قسم جراحة األعصاب مصابًا بهذه المتبلزمة‪.‬‬
‫وقد كان السٌد آر منتشًٌا تمامًا مثل ذلك المرٌض؛ فتساءلت هل كانت هذه النشوة‬
‫عرضًا من أعراض المتبلزمة لم ٌكتشفه أحد من قبل؟ ولكن كانت حالته تتحسن‬
‫على الرؼم من ذلك العرض؛ حٌث عاد ٌتحدث بطرٌقة طبٌعٌة تقرٌبًا‪ ،‬وأصبحت‬
‫أخطاإه فً الحساب طفٌفة؛ لذلك أظنه سٌتعافى تمامًا فً الؽالب‪.‬‬
‫حل المساء‪ ،‬وبدأت أتجهز لحالتً األخٌرة‪ .‬وفجؤة شعرت بهول اللحظة‪ ،‬هل هً آخر‬
‫مرة لً أتجهز فٌها إلجراء جراحة؟ ربما تكون كذلك‪ ،‬وشاهدت رؼوة الصابون‬
‫تقطر من ذراعً‪ ،‬ثم تجري إلى الحوض‪ .‬بعدها‪ ،‬دخلت ؼرفة العملٌات‪ ،‬وارتدٌت‬
‫مرٌلة الجراح‪ ،‬وؼطٌت المرٌض؛ حٌث أردت أن أضمن أن ٌكون العمل هذه المرة‬
‫ً‬
‫احتــرافٌا ودقــٌ ًقا‪ ،‬وأن تكــون هــذه الحالــة مثالٌــة‪ .‬وبــدأت بشــق الجلــد عنــد‬
‫ً‬
‫رجــبل متقـدمًا فـً العمـر تـدهورت حالـة‬ ‫أســفل ظــهره؛ فقــد كــان المــرٌض‬
‫عمـوده الفقـري؛‬
‫فضؽط على جذور األعصاب ساح ًقا إٌاها‪ ،‬مسببًا له آالمًا حادة‪ ،‬وسحبت المنطقة‬
‫الدهنٌة حتى ظهر الؽشاء العضلً وتمكنت من استشعار أطراؾ الفقرات‪ ،‬ثم‬
‫شــققت الؽشــاء وشــققت العضــلة بســبلسة؛ حتــى ظــهرت الفقــرة العرٌضــة‬
‫البلمعــة مــن خــبلل الشــق نظٌفـة ودون قطـرة دم واحـدة‪ .‬وعنـدها كـان الطبـٌب‬
‫المعـالج‬
‫ٌتجـول‪ ،‬بٌنمـا هممـت أنـا باسـتبصال الصـفٌحة الفقرٌـة‪ ،‬وهـً الجـدار الخلفـً‬
‫للفقـرات التـً كـانت حوافـها العظمٌـة مفرطـة النمـو‪ ،‬مـع األربطـة التـً تمتـد‬
‫أسـفلها‬
‫مباشرة‪ ،‬تضؽط على األعصاب‪.‬‬
‫فقال الطبٌب المعالج‪" :‬أرى أنك قد أبلٌت ببل ًء حس ًنا أٌها الطبٌب؛ لذا إذا أردت‬
‫حضور مإتمر الٌوم‪ ،‬فٌمكننً استدعاء زمٌل آخر إلنهاء الحالة"‪.‬‬
‫كان ظهري قد بدأ ٌإلمنً؛ فسؤلت نفسً عن السبب فً أننً لم أتناول جرعة إضافٌة‬
‫من مضادات االلتهاب ؼٌر الستٌروٌدٌة قبل إجراء الجراحة‪ .‬حس ًنا‪ ،‬سوؾ‬
‫أنهً هذه الحالة بسرعة على كل حال‪ ،‬فقد أوشكت على االنتهاء ً‬
‫فعبل‪.‬‬
‫وأجبت الطبٌب المعالج ً‬
‫قاببل‪" :‬ال داعً لهذا‪ ،‬أرٌد إنهاء الحالة بنفسً"‪.‬‬
‫تجهز الطبٌب المعالج‪ ،‬وانضم إلًَّ ‪ ،‬وأنهٌنا مهمة استبصال العظم معًا‪ ،‬ثم بدأ وحده‬
‫ٌستؤصل األربطة التً تعلو الجافٌة مباشرة‪ ،‬وهً األربطة التً تحتوي على‬
‫السابل الشوكً وجذور األعصاب‪ .‬ولعل الخطؤ الشابع فً هذه المرحلة هو ثقب‬
‫الجافٌة‪ ،‬وكنت حٌنها أعمل على االتجاه المقابل‪ ،‬وبجانب عٌنً‪ ،‬لمحت نقطة زرقاء‬
‫قرب أداة الطبٌب المعالج؛ حٌث بدأت الجافٌة تختلس النظر‪.‬‬
‫قــاببل‪" :‬احــذر!"‪ ،‬فــً اللحظــة التــً أحــدث فٌــها طــرؾ أداتــه ثقــبًا‬ ‫ً‬ ‫فصــحت‬
‫فــً الجافٌــة؛ فبــدأ السـابل الشـوكً الشـفاؾ ٌؽمـر الجـرح‪ .‬لـم أرتكـب هـذا الخطـؤ‬
‫فـً أي مـن‬
‫الجراحات التً أجرٌتها منذ أكثر من عام‪ ،‬ولكن على أٌة حال سوؾ ٌستؽرق‬
‫إصبلحه ساعة أخرى‪.‬‬
‫حاال؛ لدٌنا تسرٌب هنا"‪.‬‬ ‫فقلت لفرٌق العمل‪" :‬أحضروا مجموعة األدوات الدقٌقة ً‬
‫بمجرد أن انتهٌنا من إصبلح التسرٌب‪ ،‬واستؤصلنا األنسجة الناعمة الضاؼطة‪ ،‬حتى‬
‫كانت كتفاي تحترقان من األلم‪ .‬وهنا خلع الطبٌب المعالج مرٌلته‪ ،‬واعتذر عما‬
‫حــــدث وشــــكرنً‪ ،‬وتــــركنً ألؼلــــق الجــــرح‪ .‬اســـتطعت رص الطبقــات‬
‫ؼــرزا متســلسلة‬‫ً‬ ‫ً‬
‫محــدثا‬ ‫بعضــها فــوق بعــض بســبلسة‪ ،‬وبــدأت أخــٌط الجلــد‬
‫مــن خــٌط النــاٌلون‪.‬‬
‫ٌستخدم معظم جراحً األعصاب الدبابٌس الجراحٌة‪ ،‬لكننً كنت مقتنعًا بؤن خٌط‬
‫الناٌلون له معدالت أقل لئلصابة بعدوى؛ لذا قررت خٌاطة هذه الحالة‪ ،‬آخر‬
‫حالة‪ ،‬بطرٌقتً الخاصة‪ .‬وبعد أن انتهٌت‪ ،‬بدت خٌاطة الجلد مثالٌة وخالٌة من الشد‪،‬‬
‫كؤنه لم تكن هناك جراحة أساسًا‪.‬‬
‫جٌد‪ .‬ها قد وجدت شٌ ًبا واح ًدا جٌ ًدا‪.‬‬
‫عندما أزحنا الؽطاء عن المرٌض‪ ،‬سؤلتنً الممرضة التً لم أكن قد عملت معها من‬
‫قبل قابلة‪" :‬هل ستكون قٌد االستدعاء فً عطلة هذا األسبوع‪ ،‬أٌها الطبٌب؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال"‪ ،‬وربما لؤلبد‪.‬‬ ‫فؤجبتها‪ً ،‬‬
‫فسؤلتنً قابلة‪" :‬هل لدٌك حاالت أخرى الٌوم؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال"‪ ،‬وربما لؤلبد‪.‬‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫فــردت قابلــة‪" :‬حســ ًنا‪ .‬أظــن أن ذلـك ٌعنـً أن خاتمـة األسـبوع هـذه نـهاٌة‬
‫سـعٌدة! وهـا نحـن أوال قـد أنـهٌنا العمـل‪ .‬كـم أحـب النـهاٌات السـعٌدة! وأنـت‬
‫كـذلك‪ ،‬أٌـها‬
‫الطبٌب؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬نعم‪ ،‬بالتؤكٌد‪ .‬أحب النهاٌات السعٌدة"‪.‬‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫جلست أمام الحاسوب إلدخال األوامر‪ ،‬بٌنما بدأت الممرضات تنظٌؾ الؽرفة من‬
‫آثار الجراحة‪ ،‬وبدأ أطباء التخدٌر فً إفاقة المرٌض‪ .‬ودابمًا ما كنت أمزح مهد ًدا‬
‫بدال من االستماع إلى أصوات البوب‬ ‫فرٌق العمل بؤننً عندما أتولى قٌادتهم‪ً ،‬‬
‫اإلٌقاعٌة المفعمة بالحٌوٌة التً ٌحب الجمٌع االستماع إلٌها فً ؼرفة العملٌات‪،‬‬
‫سوؾ نستمع إلى األصوات اإلٌقاعٌة لبوسا نوفا‪ ،‬فشؽلت األصوات اإلٌقاعٌة لجٌتز‬
‫وجٌلبرتو فً الرادٌو‪ ،‬وبدأت األصوات اإلٌقاعٌة الناعمة‪ ،‬الرنانة تمؤل الؽرفة‪.‬‬
‫بعدها بوقت قصٌر ؼادرت ؼرفة العملٌات‪ ،‬وبدأت أجمع أؼراضً التً تراكمت‬
‫على مدار سبعة أعوام من العمل فً هذا المستشفى‪ ،‬مثل مبلبس إضافٌة للٌالً‬
‫التً كنت أبٌت فٌها‪ ،‬وفراشً أسنان‪ ،‬وقطع صابون‪ ،‬وشواحن للهاتؾ الخلوي‪،‬‬
‫ووجبات خفٌفة‪ ،‬ونموذج الجمجمة الخاص بً‪ ،‬ومجموعة من كتب جراحة‬
‫األعصاب‪ ،‬وهكذا‪ .‬وبعد التفكٌر ثانٌة‪ ،‬تركت الكتب مكانها‪ ،‬فسوؾ تكون أكثر إفادة‬
‫واستخدامًا هنا‪.‬‬
‫وفً طرٌقً إلى موقؾ السٌارات‪ ،‬اقترب منً أحد الزمبلء لٌسؤلنً عن شًء ما‪،‬‬
‫لكن جهاز االتصال البلسلكً الخاص به بدأ ٌرن‪ ،‬فنظر إلى الجهاز‪ ،‬ولوح لً‪ ،‬ثم‬
‫استدار‪ ،‬وركض عاب ًدا إلى المستشفى‪ ،‬والتفت برأسه إلى الخلؾ صابحً ا‪" :‬سوؾ‬
‫أراك الح ًقا!"‪ ،‬فانهمرت الدموع من عٌنًَّ حٌنما جلست فً السٌارة‪ ،‬وأدرت مفتاح‬
‫المحــرك‪ ،‬وقــدت ببــطء بــاتجاه الشــارع عابــ ًدا إلــى البــٌت‪ .‬ولمــا وصــلت‪،‬‬
‫دلفــت مـن البـاب األمـامً للمـنزل‪ ،‬وعلقـت معطفـً األبـٌض‪ ،‬وأزلـت شـارة‬
‫الـهوٌة الشـخصٌة‪،‬‬
‫وأخرجت البطارٌة من جهاز االتصال مؽل ًقا إٌاه‪ ،‬ثم خلعت مبلبسً‪ ،‬وأخذت حمامًا‬
‫ً‬
‫طوٌبل‪.‬‬
‫الح ًقا فً تلك اللٌلة‪ ،‬اتصلت بزمٌلتً فٌكتورٌا وأخبرتها بؤننً سؤتؽٌب ٌوم االثنٌن‪،‬‬
‫وربما أتؽٌب أب ًدا‪ ،‬وأننً لن أعد جدول ؼرفة العملٌات‪.‬‬
‫فردت فٌكتورٌا قابلة‪" :‬أتعرؾ؟ لقد انتابنً كابوس متكرر بؤن هذا الٌوم سٌؤتً‪ .‬ال‬
‫أعرؾ كٌؾ استطعت الصمود طوال هذه الفترة"‪.‬‬
‫قابلت إٌما أنا ولوسً ٌوم االثنٌن؛ حٌث أكدت لنا الخطة التً تصورناها‪ ،‬من أخذ‬
‫عٌنة من أنسجة القصبة الهوابٌة وتحلٌلها‪ ،‬والبحث عن الطفرات التً ٌمكن‬
‫عبلجــها‪ ،‬وفــً حالـة عـدم وجـود مثـل تلـك الطفـرات‪ ،‬فـإن العـبلج الكٌمٌـابً هـو‬
‫الطـرٌق الوحٌـد؛ ولكـن السـبب الحقـٌقً وراء زٌـارتً إلٌمـا كـان طلـب إرشـادها؛‬
‫فقـد‬
‫أخبرتها بؤننً سؤعتزل جراحة األعصاب‪.‬‬
‫فردت إٌما قابلة‪" :‬حس ًنا‪ ،‬ال بؤس‪ٌ .‬مكنك اعتزال جراحة األعصاب‪ ،‬إذا أردت‬
‫التركٌز على شًء آخر أهم بالنسبة إلٌك‪ ،‬لكن لٌس ألنك مرٌض؛ فإنك لست أكثر‬
‫مرضًا مما كنت األسبوع الماضً‪ ،‬بل هو مجرد نتوء صؽٌر‪ ،‬وقد قطعت بالفعل‬
‫مسافة كبٌرة فً مسارك الحالً؛ لذا ٌمكنك مواكبة السٌر‪ ،‬فجراحة األعصاب مهمة‬
‫بالنسبة إلٌك"‪.‬‬
‫ً‬
‫فاعبل‬ ‫هؤنذا ثانٌة‪ ،‬أتحول من طبٌب إلى مرٌض‪ ،‬من اإلصدار إلى التلقً‪ ،‬ومن كونً‬
‫مفعوال به مباشرً ا‪ ،‬فقد كانت حٌاتً‪ ،‬تسري فً خط طولً‪ ،‬تشكله‬ ‫ً‬ ‫إلى كونً‬
‫اختٌاراتً مُجمَّعة‪ ،‬إلى أن أصبت بهذا المرض‪ .‬وكما ٌحدث فً معظم الرواٌات‬
‫الحدٌثة‪ٌ ،‬عتمد مصٌر الشخص على األفعال اإلنسانٌة‪ ،‬سواء كانت أفعاله أم أفعال‬
‫ؼٌره‪ .‬أما فً روابع األدب القدٌمة مثل الملك لٌر ‪ ،‬فٌشبه سكان مدٌنة جلوسستر‬
‫مصٌرهم بـ"ذباب ٌهاجم األطفال بوحشٌة"‪ ،‬رؼم أن ؼرور لٌر كان هو الذي ٌحرك‬
‫األحداث الدرامٌة للمسرحٌة؛ ولهذا السبب أصبح السلوك البشري‪ ،‬منذ بداٌة عصر‬
‫التنوٌر‪ ،‬محط تركٌز األعمال المسرحٌة‪ ،‬لكننً أعٌش فً عالم مختلؾ اآلن ‪-‬‬
‫عالم أكثر قدمًا؛ حٌث لم ٌكن لؤلفعال اإلنسانٌة وزن أمام القوى الخارقة‪ ،‬عالم أشبه‬
‫بالدراما الٌونانٌة أكثر من دراما شكسبٌر؛ فلم ٌكن أودٌب وأبواه ٌمكنهم‬
‫الهروب من مصابرهم مهما بذلوا من جهد؛ حٌث كانوا ٌحتاجون إلى قوة خارقة‬
‫للنجاة من أفعالهم‪ ،‬والتحكم فً مصابرهم‪ .‬وأنا كذلك؛ فلم أكن أحتاج إلى‬
‫خطة عبلجٌة ‪ -‬حٌث قرأت بما فٌه الكفاٌة ألعرؾ الطرق الطبٌة المطروحة أمامً‬
‫‪ -‬بل أنا أحتاج إلى قوة خارقة‪.‬‬
‫ثم قالت إٌما‪" :‬لٌست هذه هً النهاٌة‪ ،‬أو بداٌة النهاٌة‪ ،‬بل هً نهاٌة البداٌة"؛ تلك‬
‫العبارة التً ال بد أنها است ْخدمتها آالؾ المرات مع من ٌبحثون عن إجابات‬
‫مستحٌلة‪ ،‬وكذلك أنا؛ ألم أستخدم عبارات مشابهة مع مرضاي؟‬
‫وعلى أٌة حال‪ ،‬جعلنً وقع تلك الكلمات أشعر بتحسن‪.‬‬
‫بعد أخذ العٌنة بؤسبوع‪ ،‬اتصل ألٌكسس‪ ،‬الممرض المتدرب لدى إٌما‪ ،‬لٌخبرنً بؤنه‬
‫ال توجد طفرات جدٌدة ٌمكن استهدافها بالعبلج‪ ،‬وهكذا فإن العبلج الكٌمٌابً‬
‫هو الخٌار األوحد‪ ،‬وتم تحدٌد موعد له ٌوم االثنٌن‪ ،‬فسؤلته عن المركبات الكٌمٌابٌة‬
‫المحددة المستخدمة فً العبلج‪ ،‬فؤخبرنً بؤن علًَّ أن أسؤل إٌما‪ ،‬التً كانت فً‬
‫طرٌقها إلى بحٌرة تاهو مع أطفالها‪ ،‬لكنها اتصلت بً‪.‬‬
‫ففً الٌوم التالً‪ٌ ،‬وم السبت‪ ،‬اتصلت إٌما‪ ،‬فسؤلتها عن المركبات الكٌمٌابٌة التً‬
‫ْ‬
‫فكرت فٌها‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬حس ًنا‪ .‬هل لدٌك أفكار محددة؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أعتقد أن السإال الربٌسً هو‪ :‬هل كان ٌجب علٌنا إضافة عقار‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫أفاستٌن للعبلج أم ال؟ أعرؾ أن البٌانات الواردة عنه متضاربة‪ ،‬وأنه ٌسبب أعراضًا‬
‫جانبٌة إضافٌة محتملة؛ لذلك بدأت بعض مراكز عبلج السرطان تتجنب استخدامه‪.‬‬
‫ورؼم ذلك‪ ،‬بما أن هناك دراسات عدٌدة تنصح به‪ ،‬فؤنا أمٌل إلى استخدامه‪،‬‬
‫ً‬
‫منطقٌا بالنسبة إلٌك‪ ،‬وٌمكننا العدول عن ذلك فورً ا إذا ثبت سوء‬ ‫إذا كان ذلك‬
‫استجابتً له"‪.‬‬
‫منطقٌا‪ ،‬كما أن شركات التؤمٌن الطبً تجعل صرؾ‬ ‫ً‬ ‫فردت قابلة‪" :‬بالفعل‪ٌ ،‬بدو هذا‬
‫هذا العقار فً المراحل األخٌرة من العبلج أمرً ا صعبًا‪ ،‬وهذا سبب آخر للبدء‬
‫به"‪.‬‬
‫فقلت لها‪" :‬شكرً ا التصالك‪ ،‬واآلن سؤتركك لتستمتعً بالبحٌرة"‪.‬‬
‫فــردت قابلــة‪" :‬حســ ًنا‪ ،‬لــديَّ طلــب واحــد فقــط"‪ ،‬وتــوقفت للحظــة قبــل أن‬
‫تتــابع‪" :‬أنـا سـعٌدة للؽاٌـة بـؤننا نضـع خطـة عبلجـك مـعًا؛ فـؤنت طبـٌب فـً نـهاٌة‬
‫المطـاؾ‪،‬‬
‫وتعرؾ جٌ ًدا ما تتحدث عنه‪ ،‬كما أن هذه حٌاتك وحالتك الصحٌة؛ لكن إذا أردت‬
‫منً أن أصبح الطبٌبة المسبولة عن حالتك مسبولٌة كاملة وحدي‪ ،‬فسؤكون‬
‫سعٌدة بذلك أٌضًا"‪.‬‬
‫لم أفكر قط فً إعفاء نفسً من مسبولٌة رعاٌتً الطبٌة‪ ،‬ودابمًا ما كنت أفترض أن‬
‫جمٌع المرضى ٌصبحون خبراء فً عبلج المرض حٌنما ٌصٌبهم‪ ،‬وتذكرت أننً‬
‫عندما كنت طالبًا مبتد ًبا فً كلٌة الطب ال ٌعرؾ شٌ ًبا‪ ،‬كثٌرً ا ما كنت أطلب من‬
‫المرضى أن ٌشرحوا لً أمراضهم وعبلجاتهم‪ ،‬فكانوا ٌحدثوننً عن أصابع أقدامهم‬
‫الزرقاء‪ ،‬والحبوب الوردٌة التً ٌتناولونها؛ ولكن كطبٌب لم أتوقع مطل ًقا من‬
‫المرضى أن ٌتخذوا قرارات عبلجهم وحدهم‪ ،‬بل أنا من كان ٌتحمل مسبولٌة عبلج‬
‫المرٌض‪ ،‬وأدركت أننً كنت أحاول فعل الشًء ذاته اآلن؛ فالطبٌب الشخصً فً‬
‫داخلً هو من ٌتحمل مسبولٌة مرضً الشخصً‪ .‬أعرؾ أنه ال ٌجوز لعب الدورٌن‬
‫معًا‪ ،‬لكن بدا لً أن التخلً عن مسبولٌة عبلجً أمر ؼٌر مسبول‪ ،‬إن لم ٌكن‬
‫ً‬
‫مستحٌبل‪.‬‬
‫بدأت العبلج الكٌمٌابً ٌوم االثنٌن؛ حٌث ذهبت إلى مركز تلقً العبلج الكٌمٌابً مع‬
‫لوسً ووالدتً‪ ،‬وتم توصٌل ذراعً بالمحلول الورٌدي‪ ،‬وجلست على كرسً‬
‫مرٌح‪ ،‬وانتظرت؛ فسوؾ ٌستؽرق ضخ مزٌج العقاقٌر السابلة أربع ساعات ونصؾ‬
‫الساعة؛ لذا قضٌت كل هذه المدة ما بٌن الؽفو‪ ،‬والقراءة‪ ،‬وأحٌا ًنا التحدٌق‬
‫إلى الفراغ‪ ،‬بٌنما جلست كل من لوسً ووالدتً إلى جانبً‪ ،‬تحاوالن كسر الصمت‬
‫من حٌن آلخر ببعض الدردشات القصٌرة‪ .‬وقد الحظت تنوع الحالة الصحٌة لمن‬
‫ٌتلقون العبلج الكٌمٌابً معً بالؽرفة ذاتها؛ فبعضهم أصلع تمامًا‪ ،‬وبعضهم مصفؾ‬
‫الشعر‪ ،‬وبعضهم ذابل‪ ،‬وبعضهم مفعم بالحٌوٌة‪ ،‬وبعضهم أشعث‪،‬‬
‫وبعضهم اآلخر متؤنق‪ .‬وكان الجمٌع ٌستلقون فً صمت‪ ،‬بٌنما تقطر األنابٌب‬
‫الورٌدٌة السم فً أذرعهم الممددة‪ ،‬وكان مقررً ا أن أتلقى جرعة من العبلج الكٌمٌابً‬
‫كل ثبلثة أسابٌع‪.‬‬
‫وبدأت أشعر بؤثر العبلج فً الٌوم التالً؛ من إعٌاء شدٌد‪ ،‬وآالم مبرحة فً العظام‪،‬‬
‫كما صار تناول الطعام‪ ،‬الذي كان مصدرً ا عظٌمًا من مصادر البهجة بالنسبة‬
‫إلــًَّ ‪ ،‬كشــرب مــاء البحــر؛ لــذلك شــعرت بــؤن كــل مــا ٌجعــل لحٌــاتً مــذا ًقا‬
‫حلــوً ا صــار مــالح الطعــم؛ فعنــدما تنــاولت الكعـك بـالجبن الكـرٌمً الـذي أعـدته‬
‫لـً لوسـً‬
‫لئلفطار‪ ،‬شعرت بؤننً ألعق الملح فوضعته جانبًا‪ .‬كما أصبحت القراءة مرهقة‪،‬‬
‫وكنت قد وافقت على كتابة عدة فصول عن اإلمكانات العبلجٌة فٌما ٌتعلق ببحثً‬
‫مع "فً"؛ إلضافتها إلى كتابٌن مهمٌن عن جراحة األعصاب‪ ،‬لكننً نحٌت هذا‬
‫األمر جانبًا كذلك‪ .‬ومرت األٌام بٌن الجلوس أمام التلفاز‪ ،‬وإرؼام نفسً على تناول‬
‫الطعام‪ .‬وعلى مدار األسابٌع‪ ،‬بدأ الشعور بالتوعك ٌتبلشى ببطء‪ ،‬وبدأت حٌاتً تعود‬
‫إلى طبٌعتها إلى أن ٌحٌن موعد جلسة العبلج التالٌة‪.‬‬
‫استمررت فً الدوران فً حلقات مفرؼة؛ حٌث اح ُتجزت فً المستشفى‪ ،‬وخرجت‬
‫منه أكثر من مرة بسبب مضاعفات بسٌطة للعبلج الكٌمٌابً‪ ،‬كانت كافٌة تمامًا‬
‫الستبعاد فكرة العودة إلى العمل‪ .‬وفً تلك األثناء‪ ،‬قرر أساتذة قسم جراحة األعصاب‬
‫أننً استوفٌت كل المعاٌٌر الوطنٌة والمحلٌة الخاصة بالتخرج‪ ،‬فتم تحدٌد‬
‫موعد لحفل التخرج ٌوم السبت؛ أي قبل موعد والدة لوسً بنحو أسبوعٌن‪.‬‬
‫حل ٌوم السبت‪ ،‬وبٌنما كنت واق ًفا فً ؼرفة النوم أرتدي مبلبسً لحضور حفل‬
‫التخرج ‪ -‬الٌوم الذي أتوج فٌه أعوام اإلقامة السبعة ‪ -‬اجتاحنً شعور بالؽثٌان‬
‫الشدٌد‪ .‬ولم ٌكن ٌشبه ؼثٌان العبلج الكٌمٌابً المعتاد‪ ،‬الذي ٌجتاحك كموجة عارمة‪،‬‬
‫وٌمكنك التؽلب علٌه كما تتؽلب على الموجة أٌضًا؛ فبدأت أتقٌؤ عصارة‬
‫صفراوٌة مخضرة ببل توقؾ‪ٌ ،‬ختلؾ مذاقها الجٌري عن أحماض المعدة؛ فؤدركت‬
‫أنها قادمة من جوؾ معدتً‪.‬‬
‫ال ٌبدو أننً سؤذهب إلى حفل التخرج على كل حال‪.‬‬
‫كنت أحتاج عندها إلى كمٌة من السوابل الورٌدٌة لتجنب الجفاؾ؛ لذا أقلتنً لوسً‬
‫إلى قسم الطوارئ حٌث بدأت محاوالت تعوٌض فقد السوابل؛ فتوقؾ التقٌإ‬
‫وحل محله اإلسهال‪ ،‬وتحدثت إلى الطبٌب المقٌم‪ ،‬براد بود‪ ،‬وأخبرته بتارٌخً‬
‫الطبً‪ ،‬وكل العقاقٌر التً أتناولها‪ ،‬ثم ناقشنا أخٌرً ا التطورات التً طرأت على‬
‫مجال‬
‫ً‬
‫مســتمرا فــً‬ ‫العبلجــات الجزٌبٌــة‪ ،‬وخصــوصًا عقــار تارســٌفا الــذي كنــت‬
‫تناولــه‪ .‬وفــً النــهاٌة‪ ،‬وضــع الطبــٌب المقــٌم خطــة طبٌــة بســٌطة علــى أن‬
‫ٌســتمر تعـوٌض فقـد‬
‫السوابل عن طرٌق تؽذٌتً بالسوابل الورٌدٌة إلى أن أتمكن من شرب السوابل بكمٌة‬
‫كافٌة عن طرٌق الفم؛ لذلك نقلت فً تلك اللٌلة من قسم الطوارئ إلى ؼرفة‬
‫عادٌة بالمستشفى؛ لكن حٌنما راجعت الممرضة معً قابمة العقاقٌر التً سٌطلبونها‬
‫الحظت أن عقار تارسٌفا لم ٌكن ضمنها؛ فطلبت منها استدعاء الطبٌب‬ ‫ُ‬ ‫لً‪،‬‬
‫المقٌم لتصحٌح هذا الخطؤ شابع الحدوث؛ فقد كنت أتناول دزٌنة من العقاقٌر على كل‬
‫حال‪ ،‬ولٌس من السهل تسجٌلها جمٌعًا‪.‬‬
‫كان الوقت قد تجاوز منتصؾ اللٌل حٌنما أتى براد‪.‬‬
‫سإاال بخصوص العقاقٌر التً ستتناولها"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فقال لً‪" :‬سمعت أن لدٌك‬
‫متساببل‪" :‬نعم‪ ،‬لم ٌتم طلب عقار تارسٌفا‪ ،‬هل تمانع فً طلبه؟"‪.‬‬‫ً‬ ‫فقلت‬
‫قاببل‪" :‬نعم‪ ،‬لقد قررت أال تتناوله ثانٌة"‪.‬‬‫فرد ً‬
‫عدت أسؤله‪" :‬لماذا؟"‪.‬‬
‫جدا بحٌث ال ٌمكنك تناوله"‪.‬‬ ‫قاببل‪" :‬إن إنزٌمات كبدك مرتفعة ً‬ ‫فؤجابنً ً‬
‫شعرت بالحٌرة لهذا؛ فإنزٌمات كبدي مرتفعة منذ أشهر‪ ،‬وإذا كانت هذه مشكلة‪ ،‬فلم‬
‫لم نناقشها قبل اآلن؟ إنه خطؤ واضح على كل حال‪ ،‬فقلت لبراد‪" :‬ولكن إٌما ‪ -‬طبٌبة‬
‫األورام الخاصة بً ومدٌرتك ‪ -‬قد راجعت هذه النسب‪ ،‬وترٌد منً أن أستمر فً‬
‫تناوله"‪.‬‬
‫عادة ما ٌتخذ األطباء المقٌمون قرارات طبٌة دون االستماع إلى رأي الطبٌب‬
‫المعالج‪ ،‬لكن بما أنه صار ٌعرؾ رأي إٌما اآلن‪ ،‬فبل بد من أنه سوؾ ٌذعن له‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬لكنه قد ٌسبب لك مشكبلت معدٌة"‪.‬‬ ‫فرد الطبٌب ً‬
‫وهنا تضاعفت حٌرتً؛ فعادة ما تستدعً أوامر الطبٌب المعالج إنهاء المناقشة‪ ،‬فقلت‬
‫له‪" :‬ولكننً أتناوله منذ سنة ولم ٌسبب لً أٌة مشكبلت‪ .‬فهل تعتقد أن عقار‬
‫تارسٌفا هو السبب فً كل هذه االضطرابات المفاجبة‪ ،‬ولٌس العبلج الكٌمٌابً؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ربما‪ ،‬نعم"‪.‬‬ ‫فؤجابنً ً‬
‫أحقا ٌجادلنً هذا الطفل الذي ؼادر كلٌة‬‫فً تلك اللحظة‪ ،‬تحولت حٌرتً إلى ؼضب؛ ً‬
‫الطب منذ سنتٌن فقط‪ ،‬وٌبلػ تقرٌبًا عمر المقٌمٌن المبتدبٌن الذٌن أشرؾ‬
‫علٌهم؟ فلو كان كبلمه صحٌحً ا‪ ،‬لتقبلت األمر‪ ،‬ولكن كبلمه ال معنى له‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫"حس ًنا‪ ،‬ألم أخبرك عندما أتٌت ظهر الٌوم بؤنه دون هذه الحبوب نشطت‬
‫األورام الخبٌثة فً عظمً وسببت لً آالمًا حادة؟ ال أقصد أن أبالػ‪ ،‬لكننً قد‬
‫تعرضت لكسر فً العظم فً مباراة مبلكمة من قبل‪ ،‬وهذا األلم أشد من ألم الكسر‬
‫كثٌرً ا؛ فقد كنت أشعر بؤن شدته تبلػ عشرة على عشرة من مقٌاس األلم‪ ،‬وكنت على‬
‫وشك الصراخ بؤعلى صوت منه ً‬
‫فعبل"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ ،‬بالنظر إلى العمر النصفً لهذا العقار‪ ،‬لن ٌنتابك هذا األلم‬‫فرد الطبٌب ً‬
‫المبرح ؼالبًا لٌوم أو أكثر"‪.‬‬
‫استطعت أن أرى فً عٌنً براد أننً لم أكن مرٌضًا‪ ،‬بل كنت مجرد مشكلة أو مربع‬
‫فً جدول المهام الٌومٌة ٌرٌد وضع عبلمة صواب أمامه‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬اسمعنً‪ ،‬إذا لم تكن أنت الطبٌب بول كوالنثً‪ ،‬ما ناقشنا هذا من‬ ‫ثم أردؾ ً‬
‫األساس؛ لذا سوؾ أوقؾ العقار‪ ،‬وأثبت لك أنه السبب فً كل هذا األلم"‪.‬‬
‫إلى أٌن ذهبت الطرٌقة الودودة التً كنا نتحدث بها بعد ظهر الٌوم؟ تذكرت حٌنها‬
‫عندما كنت طالبًا فً كلٌة الطب‪ ،‬وأخبرتنً مرٌضة بؤنها كانت ترتدي دومًا أؼلى‬
‫جواربها فً عٌادة الطبٌب‪ ،‬حتى إذا ارتدت مرٌلة المرٌض وخلعت حذاءها‪ٌ ،‬رى‬
‫الطبٌب زوج الجوارب النفٌس ذلك‪ ،‬وٌعرؾ أنها من األثرٌاء؛ فٌعاملها باحترام‬
‫(هذا هو السبب إذن؛ فبل بد أننً أرتدي جوارب المستشفى التً كنت أستعٌرها‬
‫لسنوات!)‪.‬‬
‫ً‬
‫زمٌبل لً‬ ‫قال براد‪" :‬على كل حال‪ ،‬إن تارسٌفا عقار خاص‪ ،‬وٌتطلب الموافقة علٌه‬
‫حقا أن أوقظ شخصًا ألجل هذا األمر؟ أال ٌمكن‬ ‫أو طبٌبًا معالجً ا‪ ،‬فهل ترٌدنً ً‬
‫تؤجٌله حتى الصباح؟"‪.‬‬
‫ها هً ذي المشكلة‪.‬‬
‫إن أداء الطبٌب براد واجبه تجاهً ٌعنً إضافة بند إلى قابمة مهامه؛ وهو إجراء‬
‫مكالمة هاتفٌة محرجة لربٌسه‪ٌ ،‬ظهر من خبللها الخطؤ الذي ارتكب‪ ،‬كذلك كان‬
‫ٌعمل فً المناوبة اللٌلٌة؛ حٌث أجبرت أنظمة تعلٌم األطباء المقٌمٌن فً معظم‬
‫البرامج على العمل وفق نظام المناوبات‪ ،‬وهو ما صار ٌفرض على الطبٌب المناوب‬
‫أن‬
‫ٌعمــل بشــًء مــن المراوؼــة‪ ،‬أو ٌحــاول تقلٌــل حجــم المســبولٌة الواقعــة علٌــه‬
‫بشــًء مــن التحــاٌل‪ .‬فــإذا اسـتطاع الطبـٌب بـراد‪ ،‬علـى سـبٌل المثـال‪ ،‬تـؤجٌل‬
‫مسـؤلة عقـار‬
‫تارسٌفا لساعات قلٌلة فقط‪ ،‬فسوؾ تصبح مشكلة طبٌب آخر‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬أتناول هذا العقار فً الخامسة صباحً ا‪ ،‬وأنت تعرؾ‪ ،‬كما أعرؾ‬ ‫فرددت علٌه ً‬
‫أنا‪ ،‬أن "االنتظار حتى الصباح" ٌعنً ترك شخص آخر ٌتعامل مع المشكلة بعد‬
‫االنتهاء من جوالت الصباح‪ ،‬أي بعد الظهر تقرٌبًا‪ ،‬ألٌس كذلك؟"‪.‬‬
‫فقال الطبٌب براد‪" :‬حس ًنا"‪ ،‬ثم ؼادر الؽرفة‪.‬‬
‫فً الصباح اكتشفت أنه لم ٌطلب العقار‪.‬‬
‫مـرت بـً إٌمـا لتحـٌتً‪ ،‬وأخبـرتنً بؤنـها سـتحل مشـكلة طلـب عقـار تارسـٌفا‪ ،‬كمـا‬
‫عـاجبل‪ ،‬واعتـذرت ألنـها سـتؽادر المـدٌنة أسـبوعًا‪ .‬وعلـى مـدار‬ ‫ً‬ ‫تمنـت لـً شـفا ًء‬
‫الـٌوم‪،‬‬
‫تدهورت حالتً‪ ،‬وتفاقم اإلسهال بسرعة‪ ،‬فبدأت محاوالت تعوٌض الفاقد من السوابل‬
‫ثانٌة‪ ،‬لكن لٌس بالسرعة الكافٌة؛ حٌث بدأت الكلٌتان تفشبلن‪ ،‬وأصبح‬
‫جافا تمامًا بحٌث لم أعد أستطٌع الكبلم أو البلع‪ ،‬كما أظهر فحص المختبر التالً‬ ‫فمً ً‬
‫بلوغ معدل الصودٌوم فً دمً نسبة شبه قاتلة‪ ،‬وبنا ًء علٌه تم نقلً إلى‬
‫وحــدة العناٌــة المــركزة‪ ،‬وبعــدها تلــؾ جزء مــن اللــهاة والبلعــوم‪ ،‬وتقــ َّشر‬
‫فمــً بســبب الجفــاؾ‪ .‬كنــت أتــؤلم طــوال هــذا الــوقت متــؤرجحً ا بــٌن‬
‫مسـتوٌات مختلفـة مـن‬
‫الوعً‪ ،‬بٌنما اس ُتدعٌت مجموعة كبٌرة من األطباء المتخصصٌن للمساعدة‪ ،‬وكانوا‬
‫من أطباء العناٌة المركزة‪ ،‬وأمراض الكلى‪ ،‬واألمراض الباطنٌة‪ ،‬والؽدد الصماء‪،‬‬
‫ومتخصــصً األمــراض المُعــدٌة‪ ،‬وجــراحً األعصـاب‪ ،‬وكـذلك أطبـاء األورام‬
‫العامـة‪ ،‬واألورام الصـدرٌة‪ ،‬واألنـؾ واألذن والحنجـرة‪ .‬وظلـت لوسـً الحـامل فـً‬
‫أسـبوعها‬
‫الثامن والثبلثٌن إلى جانبً كل ٌوم‪ ،‬حتى إنها كانت تمكث فً ؼرفة االستدعاء‬
‫القدٌمة الخاصة بً‪ ،‬وتبعد عن وحدة العناٌة المركزة عدة خطوات‪ ،‬لبلطمبنان علًَّ‬
‫فً اللٌل‪ .‬كما كانت هً ووالدي ٌتحدثان إلى األطباء نٌابة عنً لعجزي عن التحدث‪.‬‬
‫وفً اللحظات التً كنت فٌها واعًٌا‪ ،‬كنت أعرؾ تمامًا أن أصوات األطباء الكثٌرة‬
‫التً أسمعها ستقول نتابج متضاربة؛ وهو ما ٌُعرؾ فً الطب بمشكلة "من قابد‬
‫السفٌنة؟"؛ فقد عارض أطبا ُء الكلى أطباء العناٌة المركزة‪ ،‬الذٌن عارضوا أطباء‬
‫الؽدد الصماء‪ ،‬الذٌن عارضوا بدورهم أطباء األورام‪ ،‬الذٌن عارضوا أطباء‬
‫األمراض‬
‫الباطنٌة؛ لذا شعرت بمسبولٌة أن رعاٌتً الطبٌة تقع على عاتقً‪ ،‬ففً أوقات وعًٌ‬
‫بما ٌجري حولً‪ ،‬كنت أكتب تفاصٌل متسلسلة لحالتً الصحٌة الحالٌة‪.‬‬
‫وبمساعدة لوسً‪ ،‬حاولت التوفٌق بٌن وجهات نظر األطباء المختلفة لجعل حقٌقة ما‬
‫أعانٌه وتفسٌراته واضحة‪ .‬وفً أوقات الحقة‪ ،‬وأنا نصؾ نابم‪ ،‬كنت أسمع‬
‫بصــعوبة والــدي ولوســً ٌناقشــان حــالتً مــع كــل فــرٌق مــن فــرق األطبــاء‬
‫علــى حــدة‪ ،‬وقــد اعتقــدنا أن الخطــة الربٌســٌة التــً علٌنــا اتباعـها هـً‬
‫معـالجتً عـن طـرٌق‬
‫السوابل إلى أن تزول آثار العبلج الكٌمٌابً‪ ،‬ولكن أطباء كل مجموعة رجحوا‬
‫احتماالت ذات صلة بتخصصهم‪ ،‬وطلبوا فحوصًا وعبلجات معٌنة الختصاصاتهم‪،‬‬
‫وهً األشٌاء التً بدا اختٌار بعضها ؼٌر ضروري وؼٌر حكٌم كذلك؛ ولكن تم‬
‫سحب العٌنات‪ ،‬وتحدٌد الفحوص‪ ،‬وبدأت أفقد وعًٌ بمسار األحداث وبالوقت‪.‬‬
‫وطلبت من األطباء المعالجٌن أن ٌشرحوا لً هذه الخطط مقدمًا‪ ،‬لكن العبارات كانت‬
‫تراوغ أذنًَّ ‪ ،‬واألصوات تنخفض وتصبح مكتومة‪ ،‬والظبلم ٌحٌط بً وسط‬
‫عبارات األطباء‪ ،‬بٌنما كنت أتؤرجح بٌن مستوٌات الوعً المختلفة‪ .‬تمنٌت من قلبً‬
‫أن تكون إٌما هنا‪ ،‬وأن تكون هً المسبولة عن حالتً‪.‬‬
‫ْ‬
‫ظهرت‪.‬‬ ‫وفجؤة‪،‬‬
‫فقلت لها‪" :‬هل عدت ً‬
‫فعبل؟"‪.‬‬
‫فــــؤجابتنً قابلــــة‪" :‬إنــــك فــــً وحــــدة العناٌــــة المــــركزة منــــذ أكثـــر مــن‬
‫أســبوع‪ ،‬لكــن ال تقلــق؛ فــؤنت تتحســن‪ .‬لقــد عــادت نتــابج معظــم فحوصــك‬
‫الطبٌــة إلــى مســتوٌاتها‬
‫الطبٌعٌة‪ ،‬وسوؾ تخرج من هنا قرٌبًا"‪ ،‬وعرفت بعد ذلك أنها كانت تتواصل مع‬
‫أطبابً من خبلل البرٌد اإللكترونً‪.‬‬
‫قــاببل‪" :‬هــل تــذكرٌن كــٌؾ عرضــت علــًَّ أن تكونــً الطبٌبــة‬ ‫ً‬ ‫فســؤلتها‬
‫وحــدك‪ ،‬وأكــون أنــا المــرٌض فقـط؟ أظنـها اآلن فكـرة جٌـدة؛ فقـد ظللـت أبحـث‬
‫فـً العلـوم واألدب‬
‫محاوال إٌجاد المنظور الصحٌح‪ ،‬لكننً لم أجده"‪.‬‬ ‫ً‬
‫فؤجابت إٌما قابلة‪" :‬ال أظن أن هذا شًء ٌمكنك إٌجاده من خبلل القراءة عنه"‪.‬‬
‫أصبحت إٌما قابدة السفٌنة اآلن‪ ،‬ما أضفى شعورً ا بالهدوء على فوضى إقامتً‬
‫بالمستشفى هذه المرة‪ .‬ها هً ذي كلمات تً‪ .‬إس‪ .‬إلٌوت تخطر ببالً ثانٌة‪:‬‬
‫دامٌاتا ‪ :‬القارب استجاب‬
‫فرحً ا باألٌدي الخبٌرة بالشراع والمجداؾ‬
‫البحر كان هادبا ‪ ...‬وقلبك كان سٌستجٌب‬
‫فرحً ا ‪ -‬عندما ُدعً ‪ -‬نابضًا بالطاعة لؤلٌدي المسٌطرة‬
‫أسندت ظهري إلى سرٌر المستشفى وأؼمضت عٌنً‪ ،‬واجتاحنً ظبلم الهذٌان مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وفً النهاٌة‪ ،‬استرخٌت‪.‬‬
‫أتــى الموعــد المحــدد لوضــع لوســً دون مخــاض‪ ،‬وتقــرر موعــد مؽـادرتً‬
‫المسـتشفى أخـٌرً ا‪ ،‬وكنـت وقتـها قـد فقـدت مـا ٌزٌـد علـى ثمانٌـة عشـر كـٌلوجرامًا‬
‫منـذ تشـخٌص‬
‫إصابتً بالسرطان‪ ،‬خمسة عشر كٌلوجرامًا منها خبلل األسبوع الماضً وحده؛ فها‬
‫هو ذا وزنً اآلن هو وزنً نفسه عندما كنت فً الصؾ الثامن‪ ،‬مع أن شعري قد‬
‫خؾ كثٌرً ا عن ذلك الوقت‪ ،‬بداٌة من الشهر الماضً فً األؼلب‪ .‬وهؤنذا مستٌقظ‬
‫وواع بالعالم من حولً‪ ،‬لكننً ذابل لدرجة أنه كان بإمكانً أن أرى عظمً‬ ‫ٍ‬ ‫ثانٌة‪،‬‬
‫تحــت الجلــد‪ ،‬كــؤننً صــورة أشــعة سـٌنٌة حـٌَّة‪ .‬وفـً البـٌت‪ ،‬كـان مجـرد رفـع‬
‫رأسـً شـٌ ًبا مجـه ًدا‪ ،‬وكـان اإلمسـاك بكـوب مـاء ٌتطلـب كلتـا الٌـدٌن‪ ،‬كمـا لـم تكـن‬
‫فكـرة‬
‫القراءة واردة على اإلطبلق‪.‬‬
‫كان كل من والديَّ ووالديْ لوسً بجوارنا لتقدٌم المساعدة‪ ،‬وبعد مرور ٌومٌن على‬
‫مؽادرتً المستشفى‪ ،‬شعرت لوسً بؤول انقباضات فً الرحم‪ ،‬فمكثت فً المنزل‪،‬‬
‫بٌنما كانت أمً هً من ٌقلنً إلى جلسات المتابعة مع إٌما‪.‬‬
‫سؤلتنً إٌما قابلة‪" :‬هل أنت محبط؟"‪.‬‬
‫فؤجبتها ً‬
‫قاببل‪" :‬كبل"‪.‬‬
‫فردت قابلة‪" :‬ولكن ٌحق لك أن تكون كذلك‪ ،‬فسوؾ تكون رحلة الشفاء طوٌلة"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا‪ ،‬نعم‪ ،‬بالفعل‪ .‬أنا محبط بشكل عام‪ ،‬لكن بمرور األٌام أصبح‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫أكثر استعدا ًدا للعودة إلى جلسات العبلج الطبٌعً‪ ،‬وبدء رحلة الشفاء‪ .‬فقد‬
‫فعلت هذا قبل ذلك‪ ،‬وهو ما ٌعنً أن األمر سٌكون مؤلو ًفا‪ ،‬ألٌس كذلك؟"‪.‬‬
‫فسؤلتنً قابلة‪" :‬هل رأٌت آخر صورة أشعة لك؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال‪ ،‬لقد توقفت عن مشاهدة هذه الصور"‪.‬‬ ‫فؤجبتها ً‬
‫ً‬
‫بسٌطا فً‬ ‫ً‬
‫مستقرا‪ ،‬بل إن هناك انخفاضًا‬ ‫فردت قابلة‪" :‬تبدو جٌدة‪ ،‬وٌبدو الورم‬
‫حجمه"‪.‬‬
‫ناقشنا بعض النقاط المتعلقة بخطة العبلج فً المرحلة التالٌة‪ ،‬وقررنا تعلٌق العبلج‬
‫الكٌمٌابً حتى أستعٌد عافٌتً‪ ،‬كما قررنا أننً لن أخضع للعبلجات التجرٌبٌة‬
‫فً حالتً هذه؛ لذا لن ٌكون خٌار العبلج مطروحً ا إال بعدما أستعٌد بعضًا من قوتً‪.‬‬
‫وعندها أسندت رأسً إلى الحابط لدعم عضبلت رقبتً الواهنة‪ ،‬وشعرت بؤن‬
‫أفكاري كانت مشوشة‪ ،‬وأننً بحاجة مرة أخرى إلى االطبلع على المستقبل‪ ،‬أو‬
‫معرفة وضعً الصحً فٌما ٌتعلق بالرسوم البٌانٌة لطرٌقة كاببلن ‪ -‬مٌٌر‪.‬‬
‫فسؤلت إٌما ً‬
‫قاببل‪" :‬إٌما‪ ،‬ما الخطوة التالٌة؟"‪.‬‬
‫فؤجابتنً قابلة‪" :‬أن تسترد عافٌتك‪ ،‬هذا هو كل شًء"‪.‬‬
‫ً‬
‫قــاببل‪" :‬لكــن‪ ،‬عنــدما ٌعــود الســرطان ‪ ...‬أعنــً‪ ،‬االحتمــاالت‬ ‫فــرددت علٌــها‬
‫هــً ‪ ،"...‬وتــوقفت‪ ،‬وصــرت أفكــر فٌمـا جـرى؛ فـؤول خـط عبلجـً هـو عقـار‬
‫تارسـٌفا‪ ،‬وقـد‬
‫فشــل‪ ،‬والثــانً هــو العــبلج الكٌمٌــابً وقــد قضــى علــًَّ تقــرٌبًا‪ .‬أمــا عــن‬
‫الخــط العبلجــً الثــالث‪ ،‬فــبل ٌعطــً كثــٌرً ا مــن الــوعود‪ ،‬هــذا إذا اســتطعت أن‬
‫ً‬
‫أصـبل‪.‬‬ ‫أصــل إلٌـه‬
‫وبخــبلؾ ذلــك‪ ،‬لـٌس أمـامً سـوى العبلجـات التجرٌبٌـة ؼـٌر المعروفـة نتابجـها‪.‬‬
‫وحٌنـها‪ ،‬وجـدت عبـارات الشـك تنسـاب مـن فمـً‪ ،‬فقلـت إلٌمـا‪" :‬أعنـً‪ ،‬هـل‬
‫سـؤكون‬
‫قادرً ا على الرجوع إلى مزاولة العمل فً ؼرفة العملٌات‪ ،‬أو السٌر على قدمً‪ ،‬أو‬
‫‪."...‬‬
‫فردت قابلة‪" :‬استنا ًدا إلى ما لدٌنا من مإشرات‪ ،‬أظنك قد تصمد لخمس سنوات دون‬
‫تدهور حالتك الصحٌة"‪.‬‬
‫أخٌرً ا نطقت إٌما بما أود أن أعرؾ‪ ،‬لكن بنبرة ؼٌر مطمبنة‪ ،‬ودون ثقة بما تقول‪ ،‬بل‬
‫قالتها بصٌؽة التمنً‪ ،‬كالمرٌض الذي ال ٌملك سوى التحدث باألرقام التً‬
‫ٌراها أمامه‪ ،‬دون معلومة جازمة؛ فبدت كؤنها تدافع عن شخص ما تتحكم فً حٌاته‬
‫قوى خارج نطاق سٌطرته‪ .‬ها نحن طبٌبة ومرٌض فً عبلقة تتسم بالرسمٌة‬
‫أحٌا ًنا‪ ،‬وأحٌا ًنا أخرى‪ ،‬مثل اآلن‪ ،‬لسنا سوى شخصٌن قد اجتمعا معًا فً وقت ٌقؾ‬
‫فٌه أحدهما على حافة الهاوٌة‪.‬‬
‫اتضح لً أن األطباء أٌضًا ٌحتاجون إلى األمل‪.‬‬
‫فً طرٌقً إلى البٌت عاب ًدا من موعدي مع إٌما‪ ،‬اتصلت والدة لوسً لتخبرنً بؤنهم‬
‫متجهون إلى المستشفى‪ ،‬وأن لوسً فً المخاض (فقلت لها‪" :‬احرصً على أن‬
‫تطلبً تخدٌر ما فوق الجافٌة مبكرً ا"؛ فقد عانت بما فٌه الكفاٌة)‪ .‬بعدها عدت إلى‬
‫المستشفى؛ حٌث كان والدي ٌدفعنً على كرسً متحرك‪ ،‬واستلقٌت على سرٌر‬
‫نقال فً ؼرفة الوالدة‪ ،‬بٌنما منعت الحزم الحرارٌة واألؼطٌة هٌكلً العظمً من‬
‫االرتجاؾ‪ .‬وخبلل الساعتٌن التالٌتٌن‪ ،‬شاهدت لوسً والممرضة ٌجرٌان طقوس‬
‫الوالدة؛ فعندما اشتدت االنقباضات‪ ،‬بدأت الممرضة تعد مرات الدفع قابلة‪" :‬واحد‪،‬‬
‫اثنان‪ ،‬ثبلثة‪ ،‬أربعة‪ ،‬خمسة‪ ،‬ستة‪ ،‬سبعة‪ ،‬ثمانٌة‪ ،‬تسعة‪ ،‬عشرة!"‪.‬‬
‫التفتت لوسً إلًَّ وابتسمت قابلة‪" :‬كؤننً أمارس الرٌاضة"‪.‬‬
‫ابتسمت إلٌها مستلقًٌا على السرٌر النقال‪ ،‬وأنا أشاهد بطنها ٌرتفع؛ فقد أدركت أننً‬
‫سؤتؽٌب عن حٌاة ابنتً أنا ولوسً فً مواقؾ عدة؛ فإذا كانت مشاهدتً‬
‫هذه هً أقوى حضور فً حٌاتها أستطٌع تقدٌمه إلٌها‪ ،‬فسؤفعل‪.‬‬
‫وفً وقت ما بعد منتصؾ اللٌل‪ ،‬أٌقظتنً الممرضة وهمست‪ ،‬قابلة‪" :‬حان الوقت"‪.‬‬
‫ثم جمعت األؼطٌة وساعدتنً على االنتقال إلى كرسً إلى جانب لوسً‪ .‬فً تلك‬
‫األثناء كانت متخصصة التولٌد‪ ،‬التً كانت فً مثل سنً تقرٌبًا‪ ،‬فً الؽرفة بالفعل‪،‬‬
‫فنظرت إلًَّ ‪ ،‬بٌنما ظهر رأس المولودة‪ ،‬وقالت‪ٌ" :‬مكننً أن أخبرك بشًء واحد‪:‬‬
‫إن شعر ابنتك كشعرك تمامًا‪ ،‬وهو كثٌؾ كذلك"‪ ،‬فؤومؤت إلٌها مواف ًقا‪ ،‬بٌنما كنت‬
‫أمسك بٌد لوسً خبلل اللحظات األخٌرة من المخاض‪ ،‬ثم وبعد دفعة أخٌرة‪،‬‬
‫فً تمام الساعة الثانٌة وإحدى عشرة دقٌقة من صباح الرابع من ٌولٌو‪ ،‬ها قد وصلت‬
‫إلٌزابٌث أكادٌا‪ ،‬أو كادي؛ االسم الذي اخترناه لها منذ شهور‪.‬‬
‫فحملتها الممرضة وسؤلتنً قابلة‪" :‬هل ٌمكن للمولودة مبلمسة بشرة أبٌها؟"‪.‬‬
‫قاببل‪" :‬ال‪ ،‬فؤنا أشعر بالبررردددد‬‫فؤجبتها وأسنانً ٌصطك بعضها ببعض من البرد ً‬
‫القارس‪ ،‬لكننً أود أن أحملها"‪.‬‬
‫ؼطت الممرضة طفلتً بؤؼطٌة كثٌرة وناولتنً إٌاها‪ .‬وبٌنما كنت أشعر بوزنها على‬
‫ذراعً‪ ،‬وأمسك بٌد لوسً بٌدي األخرى‪ ،‬سطعت احتماالت الحٌاة أمامنا؛ فصرنا‬
‫نفكر فً أنه ربما تستمر خبلٌا السرطان فً جسمً فً الضمور‪ ،‬وربما تنمو مرة‬
‫أخرى‪ .‬ونظرت إلى المساحة الخاوٌة أمامً‪ ،‬فلم أر أرضًا خرابًا قاحلة‪ ،‬بل رأٌت‬
‫شٌ ًبا‬
‫أبسط؛ صفحة بٌضاء سؤخطو إلٌها‪.‬‬
‫ها قد مؤلت الحٌوٌة بٌتنا‪.‬‬
‫بدأت كادي تزهر ٌومًا بعد ٌوم‪ ،‬وأسبوعًا بعد أسبوع؛ فها هو عناقها األول‪،‬‬
‫وابتسامتها األولى‪ ،‬وضحكتها األولى‪ .‬وكان طبٌب األطفال ٌسجل معدل نموها على‬
‫الرسم البٌانً بانتظام‪ ،‬وٌضع العبلمات‪ ،‬مشٌرً ا إلى تقدمها بمرور الوقت‪ .‬ومع كل‬
‫تقدم تحرزه‪ ،‬كانت تحٌط بها هالة من البهجة‪ ،‬لدرجة أننً كنت أشعر بتوهج‬
‫الضوء فً الؽرفة عندما تجلس فً حجري مبتسمة‪ ،‬مبتهجة بؽنابً ؼٌر الخالً من‬
‫النؽم‪.‬‬
‫كان الوقت بالنسبة إلًَّ سبلحً ا ذا حدٌن؛ فكل ٌوم ٌمر ٌبعدنً عن انتكاستً األخٌرة‬
‫وٌقربنً فً الوقت ذاته من عودتها مرة أخرى‪ ،‬ومن الموت فً النهاٌة‪ .‬ربما‬
‫ٌكــون المــوت أبعــد ممــا أعتقــد‪ ،‬لكنــه بالتؤكٌــد أقــرب ممــا أتمنــى‪ .‬ونتٌجــة‬
‫هــذه الحقٌقــة‪ ،‬هنــاك‪ ،‬فــً رأٌـً‪ ،‬ردا فعـل؛ أكثرهمـا وضـوحً ا هـو الرؼبـة‬
‫الهسـتٌرٌة فـً أداء‬
‫األنشطة المختلفة‪ ،‬أو "االستمتاع بالحٌاة إلى أقصى حد"؛ فؤسافر‪ ،‬وأتناول الطعام‬
‫الذي أحب‪ ،‬وأحقق عد ًدا من الطموحات المهملة‪ .‬ولكن ال تكمن قسوة السرطان‬
‫فً أنه ٌجعل وقتك محدو ًدا فحسب‪ ،‬بل كذلك طاقتك‪ ،‬كما ٌقلل عدد األنشطة التً‬
‫ٌمكنك فعلها فً ٌوم واحد‪ ،‬فٌجعلك كؤرنب متعب فً خضم سباق سرعة؛‬
‫لكن لو كانت لديَّ طاقة كافٌة‪ ،‬فؤنا أفضل اتباع أسلوب السلحفاة؛ وهو أن أمشً‬
‫بخطوات متهادٌة‪ ،‬وأتفكر‪ ،‬وأصر فً بعض األٌام ببساطة على الفوز‪.‬‬
‫إذا كان الوقت ٌتمدد حٌنما ٌتحرك اإلنسان بسرعة كبٌرة‪ ،‬فهل ٌنكمش حٌنما ال ٌكاد‬
‫ٌتحرك؟ ال بد أنه كذلك؛ فقد أصبحت األٌام قصٌرة للؽاٌة‪.‬‬
‫بدا الوقت ساك ًنا؛ فقد صار من الصعب تمٌٌز األٌام بعضها عن بعض‪ .‬وفً اللؽة‬
‫اإلنجلٌزٌة‪ ،‬نستخدم كلمة وقت بطرق مختلفة‪ ،‬فٌمكن أن تؤتً بمعنى التوقٌت‬
‫اآلن كما فً عبارة‪" :‬الساعة اآلن الثانٌة وخمس وأربعون دقٌقة" كما قد تعنً‬
‫الظروؾ مثلما فً عبارة "أمرُّ بظروؾ صعبة"‪ ،‬ولكن فً هذه األٌام‪ ،‬ال ٌبدو لً‬
‫الوقت‬
‫كســاعة تصــدر عقاربــها صــو ًتا أكثــر مـن كونـه مجـرد شـعور بـالوجود‬
‫فحسـب‪ ،‬باإلضـافة إلـى الشـعور المسـتمر باإلنـهاك والتحـرر‪ .‬وكجـراح أعصـاب‬
‫ٌنصـبُّ تـركٌزه علـى‬
‫المرٌض فً ؼرفة العملٌات‪ ،‬كنت أجد حركة عقارب الساعة تعسفٌة‪ ،‬لكننً لم أكن‬
‫أجدها ببل معنى قط‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فقد صار الوقت ببل معنى بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬كما‬
‫صارت أٌام األسبوع كذلك فً معظم األحٌان‪ .‬إن الممارسة الطبٌة معنٌة بالمستقبل‪،‬‬
‫فهً تقوم على فكرة اإلشباع المإجل؛ ذلك ألنك تفكر طوال الوقت فٌما ستفعل‬
‫بعد خمس سنوات من اآلن‪ ،‬ولكننً اآلن ال أعرؾ ما سؤفعله بعد خمس سنوات؛‬
‫فربما أكون فً عداد الوفٌات‪ ،‬وربما ال‪ ،‬وربما أكون بصحة جٌدة‪ ،‬وربما أعكؾ‬
‫على الكتابة‪ .‬ال أعرؾ؛ لذا لم ٌعد من المفٌد قضاء الوقت فً التفكٌر فً المستقبل‬
‫جدا بالنسبة إلًَّ ‪ ،‬لدرجة أن الفترة التً تلً وقت تناول الؽداء‬ ‫الذي صار قرٌبًا ً‬
‫ٌمكن أن ٌُطلق علٌها مستقبل فً رأًٌ‪.‬‬
‫أصبحت تصرٌفات األفعال بالنسبة إلًَّ مشوشة كذلك؛ فلم أكن أدرك أي األزمنة‬
‫أصح‪ ،‬فهل أقول‪" :‬أنا جراح أعصاب"‪ ،‬أو "كنت جراح أعصاب"‪ ،‬أو "ذات ٌوم‬
‫كنت جراح أعصاب‪ ،‬وسوؾ أعود لذلك ثانٌة؟"‪ .‬وقد قال الكاتب جراهام جرٌن ٌومًا‬
‫إن االستمتاع بالحٌاة ٌكون فً األعوام العشرٌن األولى من حٌاتك‪ ،‬والباقٌة‬
‫مجــــرد انعكــــاس لــــها؛ إذن أي زمــــن أعـــٌش اآلن؟ هــل عــدت بــالزمن‬
‫إلــى الــوراء؟ كمــا أصــبح المســتقبل بالنســبة إلــًَّ خــاوًٌا؛ وعنــدما أســمع‬
‫كــبلم اآلخــرٌن عنــه أشــعر‬
‫باالنزعاج؛ فمنذ عدة أشهر‪ ،‬حضرت االحتفالٌة الخامسة عشرة التً تنظمها جامعة‬
‫ستانفورد لل ِّم شمل الخرٌجٌن‪ ،‬وبٌنما كنت واق ًفا فً ساحة الكلٌة أتناول‬
‫المشروبات؛ والشمس ساطعة فً األفق‪ ،‬أخذ األصدقاء ٌلقون الوعود قبل الرحٌل‬
‫قابلٌن‪" :‬سنراك فً االحتفالٌة الخامسة والعشرٌن!"‪ ،‬وبدا لً وقتها أنه من‬
‫الوقاحة أن أجٌبهم ً‬
‫قاببل‪" :‬حس ًنا ‪ ...‬ال أظن ذلك"‪.‬‬
‫كلنا بشر فانون‪ ،‬ولست أنا الشخص الوحٌد الذي وصل إلى حالة تشوش األزمنة‬
‫هذه؛ فمعظم الطموحات إما أن ُتحقق أو أن ُتهجر؛ وفً كلتا الحالتٌن تصبح‬
‫فبدال من أن ٌصبح سلمًا ٌقود إلى أهداؾ الحٌاة‪،‬‬ ‫شٌ ًبا من الماضً‪ ،‬أما المستقبل؛ ً‬
‫تحول إلى حاضر دابم‪ ،‬وقد أصبح المال‪ ،‬والمكانة‪ ،‬وؼٌرهما من متاع الحٌاة من‬
‫توافه األمور؛ تمامًا كمطاردة الرٌاح‪.‬‬
‫لعل الشخص الوحٌد الذي ال ٌمكننا حرمانه من مستقبله هو طفلتنا كادي؛ ولذلك‬
‫أتمنى أن أعٌش فترة كافٌة تسمح لها بتكوٌن ذكرى لً‪ .‬وألن للكلمات عمرً ا ال‬
‫أملكه أنا؛ فكرت فً أن أترك لها مجموعة من الخطابات‪ ،‬لكن ماذا سؤقول فٌها؟ فؤنا‬
‫ال أعرؾ كٌؾ ستبدو هذه الفتاة عندما تبلػ سن الخامسة عشرة‪ ،‬وال أعرؾ‬
‫إذا كانت ستوافق على اسمها المستعار الذي اخترناه لها أم ال‪ .‬ربما هنالك شًء‬
‫واحد أقوله لهذه الطفلة التً تنعم بمستقبل طوٌل ٌتقاطع مع فترة وجٌزة من‬
‫مستقبلً‪ ،‬التً صارت حٌاتها بالنسبة إلًَّ شٌ ًبا من الماضً‪.‬‬
‫إنها رسالة بسٌطة‪:‬‬
‫عنــدما تصــلٌن إلــى إحــدى لحظــات الحٌـاة التـً ٌجـب أن تعبـري فٌـها عـن‬
‫سـجبل عمـا كنـت‪ ،‬ومـا حققـت‪ ،‬ومـا ٌعنٌـه وجـودك بالنسـبة إلـى‬ ‫ً‬ ‫نفسـك‪ ،‬وتقـدمً‬
‫العـالم‪،‬‬
‫أتمنــى أال تتجــاهلً حقٌقــة أنــك مــؤلت حٌــاة رجــل شــارؾ علــى المــوت‬
‫ببـهجة كبـٌرة ‪ -‬بـهجة لـم ٌـذقها فـً سـنواته السـابقة‪ ،‬ولكنـه ال ٌطمـح إلـى المزٌـد‬
‫منـها‪ ،‬بـل ٌشـعر‬
‫بالرضا والراحة لما ناله منها؛ وهو شًء عظٌم فً هذه اللحظات من حٌاتً‪.‬‬
‫خاتمة‬
‫لوسً كوالنثً‬
‫تركت لً موروثٌن جمٌلٌن؛‬
‫موروث الحب‬
‫ترضى عنه السماء‪.‬‬
‫وتركت لً ببل ًدا من األلم‪،‬‬
‫واسعة باتساع البحر؛‬
‫ما بٌن الخلود والفناء‬
‫بطول عمري وعمرك‪.‬‬
‫إٌمٌلً دٌكنسون‬
‫محاطا بعابلته على فراش المستشفى‪ ،‬على‬ ‫ً‬ ‫توفً بول ٌوم االثنٌن ‪ ١‬مارس ‪،٤١٠٦‬‬
‫بعد نحو مابتً متر من ؼرفة المخاض والوالدة‪ ،‬حٌث أتت ابنتنا كادي إلى الحٌاة‬
‫منذ‬
‫ثمانٌة أشهر‪ .‬وإذا رأٌتنا فً الفترة ما بٌن والدة كادي ووفاة بول نتناول اللحم‬
‫المشوي فً مطعم المشوٌات بالحً‪ ،‬ونبتسم ونحن نتناول المشروبات‪ ،‬وإلى جانبنا‬
‫رضٌعتنا ذات الشعر داكن اللون‪ ،‬والرموش الطوٌلة نابمة فً عربتها‪ ،‬لم تكن لتدرك‬
‫أن بول سٌرحل فً ؼضون أقل من سنة‪ ،‬وال نحن كذلك‪.‬‬
‫باقتراب حلول احتفاالت العام الجدٌد‪ ،‬وهً االحتفاالت األولى التً تشهدها كادي‪،‬‬
‫التً كانت تبلػ حٌنها خمسة أشهر‪ ،‬بدأ سرطان بول ٌقاوم الخط الثالث من‬
‫العقــاقٌر الموصــوفة لــه بعــد إٌقـاؾ عقـار تارسـٌفا‪ ،‬ومـن بعـده العـبلج‬
‫الكٌمٌـابً‪ .‬وفـً تلـك الفتـرة‪ ،‬بـدأت كـادي تتنـاول أول طعـام صـلب لـها؛ حـٌث‬
‫تنعـم بالـدؾء فـً‬
‫منامتها المخططة المزٌنة برسومات حلوى القصب‪ ،‬وتمضػ البطاطا المهروسة‪،‬‬
‫بٌنما تجمعت العابلة فً البٌت الذي شهد طفولة بول فً مدٌنة كٌنجمان‪ ،‬بوالٌة‬
‫أرٌزونــا‪ ،‬وكــان البــٌت ٌتــوهج بالشــموع وثــرثرة العابلــة المجتمعــة‪ .‬وقــد‬
‫تضــاءلت قــوة بــول خــبلل األشـهر التالٌـة؛ لكننـا واصـلنا اؼتنـام اللحظـات‬
‫المبـهجة‪ ،‬وفـً خضـم‬
‫أحزاننا كنا نعد حفبلت عشاء عابلٌة‪ ،‬ونستمتع كل لٌلة‪ ،‬وأٌضًا نستمتع بعٌنً طفلتنا‬
‫المتؤلقتٌن‪ ،‬وطبٌعتها الهادبة‪ .‬وبالطبع كان بول ٌكتب متك ًبا على كرسٌه‬
‫ً‬
‫منكبا‬ ‫المرٌح ذي المسندٌن‪ ،‬متدثرً ا بؽطاء صوفً دافا‪ .‬وخبلل شهوره األخٌرة‪ ،‬كان‬
‫فقط على إنهاء هذا الكتاب‪.‬‬
‫مر الشتاء‪ ،‬وبدأ الربٌع‪ ،‬وتفتحت أزهار أشجار الماجنولٌا وازدهرت بلونها الوردي‬
‫فً الجوار‪ ،‬ولكن على العكس تدهورت صحة بول بسرعة كبٌرة لدرجة أنه احتاج‬
‫بحلول نهاٌة شهر فبراٌر إلى مصدر إضافً لتزوٌده باألكسجٌن لٌتمكن من التنفس‬
‫بشكل مرٌح‪ ،‬وكنت ألقً ؼداءه الذي لم ٌمسه فً سلة القمامة فوق فطوره‬
‫الذي لم ٌمسه كذلك‪ ،‬وسٌضاؾ إلٌهما بعد ساعات قلٌلة عشاإه الذي لن ٌمسه أٌضًا‪.‬‬
‫كان بول ٌحب كثٌرً ا اإلفطار الذي أعده‪ ،‬وهو شطٌرة ملفوفة من الخبز‪،‬‬
‫وفً داخلها البٌض‪ ،‬والنقانق‪ ،‬والجبن‪ .‬لكن بسبب شهٌته التً ضعفت حوَّ لنا الفطور‬
‫إلى بٌض وخبز فقط‪ ،‬ثم إلى بٌض فقط‪ ،‬إلى أن صار ال ٌحتمل حتى البٌض‬
‫وحده‪ .‬حتى عصابره المفضلة نصؾ المخفوقة التً كنت أحرص على أن تمتلا‬
‫بكثٌر من السعرات الحرارٌة لم تعد شهٌة بالنسبة إلٌه‪.‬‬
‫بــدأ وقــت النــوم ٌتســلل مبكــرً ا‪ ،‬وصــار صــوت بــول ٌخفــت علــى فتــرات‬
‫متقطعــة‪ ،‬وأصــبح شــعوره بــالؽثٌان دابــمًا‪ ،‬بٌنمـا أظـهرت األشـعة السـٌنٌة‬
‫المقطعٌـة‪ ،‬والـرنٌن‬
‫المؽناطٌسً على المخ سوء حالة السرطان فً ربتً بول‪ ،‬وظهور أورام جدٌدة فً‬
‫مخه‪ ،‬بما فً ذلك منطقة السحاٌا الرقٌقة‪ ،‬وهو تؽلؽل سرطانً نادر وقاتل ٌثٌر‬
‫تكهنات باحتماالت الوفاة بعد عدة أشهر فقط فً ظل تدهور سرٌع لحالة األعصاب‪.‬‬
‫وبالطبع وقعت هذه األخبار على بول كالصاعقة فلم ٌقل الكثٌر‪ ،‬لكن بصفته‬
‫جراح أعصاب كان ٌعرؾ ما هو مقبل علٌه‪ .‬ورؼم أنه تقبل تكهنات األطباء فٌما‬
‫ٌتعلق بمتوسط عمره المحدود قبل تدهور الحالة‪ ،‬كان تدهور األعصاب فاجعة‬
‫جدٌدة له؛ فاحتمالٌة فقده مؽزى وجوده وفاعلٌته كانت موجعة بحق‪ ،‬وعلى ضوء‬
‫هذه التكهنات وضعنا إستراتٌجٌة مع طبٌبة األورام الخاصة ببول حول أهم‬
‫أولوٌاتــه‪ ،‬وهــً الحفــاظ علـى اتقـاده الـذهنً ألطـول فتـرة ممكنـة‪ ،‬كمـا رتبنـا‬
‫موعـ ًدا إلجـراء تجربـة سـرٌرٌة‪ ،‬واسـتشارة طبـٌب متخصـص فـً األورام‬
‫العصـبٌة‪ ،‬وزٌـارة‬
‫فرٌق الرعاٌة التلطٌفٌة لمناقشة خٌارات رعاٌة المحتضرٌن‪ ،‬وكان ذلك كله بؽرض‬
‫جعل بول ٌقضً ما تبقى من عمره بالشكل األمثل‪ ،‬وذلك قبل أن تسوء حالته‬
‫وف ًقا لتكهنات األطباء‪ .‬وفً تلك األثناء‪ ،‬كان قلبً ٌدمً‪ ،‬بٌنما أتظاهر بالقوة؛ فقد‬
‫كنت أتوقع معاناته‪ ،‬وأشعر بالقلق مما سٌحدث فً األسابٌع القلٌلة الباقٌة‪،‬‬
‫ذلك إذا كان أمامه أسابٌع‪ .‬كما تخٌلت جنازته بٌنما نشبك أٌدٌنا‪ ،‬ولم أكن أعلم أن بول‬
‫سٌرحل خبلل أٌام‪.‬‬
‫قضٌنا آخر ٌوم سبت لبول مع العابلة فً ؼرفة المعٌشة فً بٌتنا؛ حٌث كان بول‬
‫ٌحمل كادي بٌن ٌدٌه‪ ،‬وهو جالس على كرسٌه المرٌح ذي المسندٌن‪ ،‬ووالده ٌجلس‬
‫علــى الكرســً الــهزاز‪ ،‬بٌنمــا نجلــس أنــا ووالــدته علــى األرٌكــة علــى مقربــة‬
‫منــه‪ ،‬وكــان بــول ٌؽنــً لكــادي وٌــهدهدها بحنــان فــً حجــره؛ فكــانت كـادي‬
‫تبتسـم ابتسـامة‬
‫واسعة‪ ،‬ؼٌر واعٌة باألنبوب الذي ٌوصل األكسجٌن إلى أنؾ أبٌها‪ .‬وهكذا تقلص‬
‫قصرت الزٌارات على أقارب العابلة فحسب‪ ،‬بٌنما كان بول ٌقول‬ ‫ُ‬ ‫عالم بول؛ فقد‬
‫لً‪" :‬أرٌد أن ٌعرؾ الجمٌع أننً‪ ،‬وإن كنت ال أقابلهم‪ ،‬أحبهم‪ ،‬وأقدر صداقتهم‪ ،‬وأنه‬
‫مهما تدهورت بً الحال‪ ،‬فإن هذا لن ٌؽٌر من األمر شٌ ًبا"‪ .‬وفً ذلك الٌوم‬
‫لــم ٌكتــب أي شــًء‪ ،‬ولــم ٌكــن قــد أنــهى كتابــة نـص هـذا الكتـاب ً‬
‫كلـٌا‪ ،‬وقـد‬
‫أدرك حٌنـها أنـه لـن ٌنـهٌه ؼـالبًا؛ حـٌث لـم ٌعـد ٌمتلـك الطاقـة‪ ،‬وال الصـفاء‬
‫الـذهنً‪ ،‬وال‬
‫الوقت‪.‬‬
‫تجهز بول للخضوع للتجربة السرٌرٌة عن طرٌق التوقؾ عن تناول الحبوب الٌومٌة‬
‫من العبلج الموجه‪ ،‬الذي لم ٌسٌطر على السرطان إال بقدر ضبٌل‪ .‬ومع إٌقاؾ‬
‫العقار‪ ،‬تزاٌدت خطورة نمو السرطان بسرعة أو "انتشاره"؛ لذا طلبت منً طبٌبة‬
‫ً‬
‫ٌومٌا فً أثناء تكراره أمرً ا واح ًدا كل‬ ‫األورام الخاصة ببول تصوٌر مقاطع فٌدٌو له‬
‫ٌوم؛ لتعقب أي عجز فً طرٌقة تحدثه أو مشٌه‪ .‬وبالفعل‪ٌ ،‬وم السبت‪ ،‬اختار بول‬
‫عال فً ؼرفة المعٌشة‬ ‫نص األرض الخراب لـ تً‪ .‬إس‪ .‬إلٌوت‪ ،‬وقرأ منه بصوت ٍ‬
‫عبارة‪" :‬إبرٌل هو أقسى الشهور" بٌنما كنت أصور الفٌدٌو‪ ،‬كذلك قرأ عبارة‪" :‬إن‬
‫مزج الذكرى بالرؼبة كمزج الجذور الخامدة بؤمطار الربٌع"‪ .‬وانفجرت العابلة فً‬
‫ضحكات مكتومة عندما قلب الكتاب على فخذٌه‪ ،‬وأصر على سرد القصٌدة من‬
‫ذاكرته‪ ،‬مع أن ذلك لم ٌكن جزءًا من المهمة‪.‬‬
‫فقالت والدته باسمة‪" :‬هذا هو ابنً الذي أعرفه!"‪.‬‬
‫وبعد ذلك كنا نؤمل فً استمرار العطلة الهادبة؛ فقد كان من المقرر إذا كان بول‬
‫بخٌر‪ ،‬أن نذهب إلى دار العبادة‪ ،‬ثم نؤخذ كادي وابن عمها إلى أراجٌح األطفال فً‬
‫الحدٌقة أعلى التل‪ ،‬كما كنا سنستمر فً تقبل األخبار المإلمة األخٌرة‪ ،‬ونتشارك‬
‫أحزاننا‪ ،‬ونستمتع بما تبقى لنا من وقت معًا‪.‬‬
‫ولكن الوقت تسارع كثٌرً ا‪.‬‬
‫فً وقت مبكر من صباح هذا الٌوم‪ ،‬تحسست جبهة بول فوجدتها تحترق من الحمى؛‬
‫ً‬
‫نسبٌا‪ ،‬ولم‬ ‫حٌث وصلت درجة حرارته إلى ‪ ٢١‬درجة مبوٌة‪ ،‬رؼم أنه بدا بخٌر‬
‫تظهر علٌه أٌة أعراض جدٌدة‪ ،‬فدخلنا ؼرفة الطوارئ فً المستشفى‪ ،‬وخرجنا منها‬
‫عدة مرات خبلل ساعات قلٌلة‪ ،‬ومعنا والد بول وأخوه سومان‪ ،‬عابدٌن إلى‬
‫المنزل؛ حٌث مكث بقٌة العابلة‪ ،‬بعدما بدأ بول ٌتناول المضادات الحٌوٌة تحسبًا‬
‫لحدوث التهاب ربوي (كانت صورة األشعة السٌنٌة التً أُجرٌت على صدره ملٌبة‬
‫بــاألورام بــدرجة قــد تحجــب رإٌــة العــدوى)؛ فــهل ٌمكــن أن تكـون الحمـى‬
‫ناتجـة عـن سـرعة تطـور السـرطان؟ وبعـد الظـهٌرة‪ ،‬ؼفـا بـول فـً سـبلم‪ ،‬لكنـه‬
‫كـان فـً حالـة‬
‫صحٌة خطرة؛ فبدأت أبكً‪ ،‬وأنا أشاهده نابمًا‪ ،‬ثم تسللت إلى ؼرفة المعٌشة ألجد أباه‬
‫ٌبكً كذلك‪ ،‬فتشاركنا البكاء‪ .‬كنت قد بدأت أشعر بؤننً أفتقد بول بالفعل‪.‬‬
‫فــً مســاء ٌــوم األحــد‪ ،‬سـاءت حالـة بـول بسـرعة شـدٌدة؛ حـٌث جلـس علـى‬
‫حافـة السـرٌر‪ٌ ،‬كـافح لـٌتنفس فـً تطـور مـفزع للحالـة‪ ،‬فطلبـت سـٌارة إسـعاؾ‬
‫بسـرعة‪،‬‬
‫وعندما دلفنا إلى ؼرفة الطوارئ‪ ،‬وبٌنما كان بول ٌستلقً على محفة هذه المرة‪،‬‬
‫ومن خلفه أبواه‪ ،‬التفت إلًَّ وهمس ً‬
‫قاببل‪" :‬قد تكون هذه هً النهاٌة"‪.‬‬
‫فقلت له‪" :‬سؤظل إلى جانبك"‪.‬‬
‫قام فرٌق العمل بالمستشفى بتحٌة بول بحرارة كالمعتاد‪ ،‬ولكنهم بدأوا ٌتحركون‬
‫بسرعة عندما رأوا حالته‪ .‬وبعد إجراء الفحوص األولٌة‪ ،‬وضعوا له جهاز ضخ‬
‫الـهواء المـوجب ثنـابً الضـؽط علـى أنفـه وفمـه لمسـاعدته علـى التنفـس‪ ،‬وهـو‬
‫جـهاز لـدعم التنفـس‪ٌ ،‬منـح المـرٌض دفعـة قوٌـة مـن الـهواء بشـكل مٌكـانٌكً فـً‬
‫كـل مـرة‬
‫ٌستنشق فٌها‪ ،‬ما ٌعنً أنه ٌإدي عنه جزءًا كبٌرً ا من عملٌة التنفس‪ .‬وعلى الرؼم من‬
‫أنه ٌساعد على آلٌة التنفس‪ ،‬فقد ٌكون مجه ًدا للمرٌض؛ فهو صاخب‪،‬‬
‫وقوي‪ ،‬وٌباعد بٌن شفتً المرٌض مع كل نفس ٌستنشقه‪ .‬وبمجرد أن بدأ أزٌز‬
‫الجهاز ٌنطلق‪ ،‬وقفت بالقرب من بول‪ ،‬وانحنٌت تجاه المحفة‪ ،‬وأمسكت بٌده‪.‬‬
‫ارتفع مستوى ثانً أكسٌد الكربون فً دم بول بدرجة خطرة‪ ،‬ما ٌعنً أن عملٌة‬
‫التنفس كانت منهكة بالنسبة إلٌه‪ ،‬ورجحت فحوص الدم أن بعضًا من كمٌة ثانً‬
‫أكسٌد الكربون الزابدة قد تراكمت بمرور الوقت على مدار أسابٌع؛ أي فً الوقت‬
‫الذي تفاقم فٌه المرض بربتٌه وزاد وهنه‪ .‬وألن مستوى ثانً أكسٌد الكربون فً مخه‬
‫ٌقظا‪ ،‬وظل ٌراقب ما ٌحدث‪ .‬وألنه كان طبٌبًا‪ ،‬فهم‬ ‫ارتفع عن المعدل الطبٌعً‪ ،‬ظل ً‬
‫بول نتابج الفحوص ؼٌر المبشرة‪ ،‬وكذلك أنا‪ .‬وبعدها سرت وراءه وهو مدفوع‬
‫على السرٌر النقال إلى ؼرفة بوحدة العناٌة المركزة؛ حٌث عانى العدٌد من مرضاه‬
‫سواء قبل أو بعد خضوعهم للجراحات العصبٌة‪ ،‬بٌنما ٌجلس أفراد عاببلتهم‬
‫إلى جوار أسرَّ تهم على كراسً ببلستٌكٌة‪ .‬وعندما وصلنا الؽرفة‪ ،‬سؤلنً بول من‬
‫بٌن أنفاس جهاز ضخ الهواء الموجب ثنابً الضؽط ً‬
‫قاببل‪" :‬هل سؤحتاج إلى تثبٌب‬
‫أنابٌب؟ هل هذا ضروري ؟"‪.‬‬
‫وخبلل ساعات اللٌل‪ ،‬ناقش بول ذلك السإال فً سلسلة من المحادثات مع أطبابه‪،‬‬
‫وعابلته‪ ،‬ثم معً‪ .‬ومع اقتراب منتصؾ اللٌل‪ ،‬جاء الطبٌب المعالج الخاص‬
‫ً‬
‫طوٌبل‪ ،‬لمناقشة خٌارات العبلج مع‬ ‫بوحدة الرعاٌة الحرجة‪ ،‬وكان معلمًا لـبول وق ًتا‬
‫العابلة بعد أن أخبرنا بؤن جهاز ضخ الهواء الموجب ثنابً الضؽط ما هو إال خٌار‬
‫مإقت؛ ومن ثم فإن التدخل الطبً الممكن الوحٌد لحالته هو تثبٌت أنابٌب للتنفس؛ أي‬
‫وضعه على جهاز التنفس الصناعً‪ ،‬فهل كان هذا ما ٌرٌده بول؟‬
‫هنا برز السإال الربٌسً بسرعة؛ وهو‪ :‬هل ٌمكن تفادي حالة توقؾ التنفس المفاجا‬
‫هذه؟‬
‫كان من بٌن مخاوفنا مسؤلة إذا ما كان بول سٌظل مرٌضًا بدرجة ال تسمح بنزع‬
‫جهاز التنفس الصناعً عنه‪ ،‬فهل سٌدخل فً مرحلة الهذٌان‪ ،‬ثم فشل األعضاء؛‬
‫الــــــدماغ ً‬
‫أوال‪ ،‬متبــــــوعًا ببقٌــــــة أعضــــــاء الجســـم؟ فلكوننـــا أطبـــاء‪،‬‬
‫كثـــٌرً ا مـــا حضـــرنا هـــذا الســـٌنارٌو المـــإلم‪ .‬وتســـاءل بـــول عـــن بـــدٌل؛‬
‫حـــٌث ٌمكـــن اللجـــوء إلـــى "رعاٌـــة‬
‫المحتضرٌن"‪ ،‬مع أن هذا قد ٌعجِّ ل بوفاته‪ ،‬وقال وهو ٌفكر فً السرطان الذي وصل‬
‫ً‬
‫مستقببل ذا قٌمة"؛‬ ‫إلى مخه‪" :‬حتى إذا نجوت من هذا‪ ،‬ال أظن أننً سؤحٌا‬
‫فتدخلت والدته فً ٌؤس قابلة‪" :‬لن نتخذ أٌة قرارات الٌوم‪ٌ ،‬ا بوبً‪ .‬دعنا نسترح‬
‫جمٌعًا"‪ .‬وبعد ضمان موافقتهم على طلبه "أال ٌعٌدوا إنعاشه"‪ ،‬وافق بول على‬
‫اقتراح أمه‪ ،‬ثم أتت الممرضات‪ ،‬البلتً بدا علٌهن التعاطؾ واألسؾ‪ ،‬بؤؼطٌة‬
‫أؼلقت مصابٌح الفلورٌسنت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إضافٌة‪ ،‬بٌنما‬
‫ً‬
‫مستٌقظا‪ ،‬وؼفوت أنا‬ ‫استطاع بول النوم حتى الشروق‪ ،‬بٌنما جلس والده إلى جانبه‬
‫قلٌبل فً ؼرفة مجاورة‪ ،‬على أمل الحفاظ على قوتً العقلٌة‪ ،‬وأنا أدرك أن‬ ‫ً‬
‫الٌوم التالً قد ٌكون أصعب ٌوم فً حٌاتً‪ ،‬فتسللت عابدة إلى ؼرفة بول فً‬
‫السادسة صباحً ا‪ ،‬وكان نور الصباح ال ٌزال ضعٌ ًفا‪ ،‬فٌما راحت أجهزة المراقبة‬
‫تصدر‬
‫أزٌزا متقطــعًا‪ ،‬ففتــح بــول عٌنٌــه‪ ،‬وتحــدثنا ثانٌــة عــن "رعاٌـة المحتضـرٌن"‪،‬‬ ‫ً‬
‫مـع تجنـب اتخـاذ أٌـة إجـراءات طبٌـة أعلـى مـن قـدرته علـى االحتمـال بـهدؾ‬
‫السـٌطرة علـى‬
‫عال‪ :‬هل بإمكانه العودة إلى البٌت؟ ورؼم أنه كان‬ ‫حالته المتدهورة‪ ،‬وتساءل بصوت ٍ‬
‫مرٌضًا لدرجة أننً انزعجت من أن تتدهور حالته أكثر وٌموت فً الطرٌق‪،‬‬
‫أخبرته بؤننً سؤبذل قصارى جهدي آلخذه إلى البٌت إذا كان هذا أهم شًء بالنسبة‬
‫موافقة على أن رعاٌة المحتضرٌن قد تكون هً المسار الذي‬ ‫ً‬ ‫إلٌه‪ ،‬كما أومؤت له‪،‬‬
‫سنسلكه‪ ،‬بعدها سؤلته‪ :‬هل هناك طرٌقة ما لتوفٌر جو البٌت ها هنا؟ ومن بٌن نفثات‬
‫جهاز ضخ الهواء الموجب ثنابً الضؽط أجابنً ً‬
‫قاببل‪" :‬كادي"‪.‬‬
‫وصلت كادي فً وقت قصٌر بعد أن أحضرتها صدٌقتنا فٌكتورٌا من البٌت‪ ،‬وبدأت‬
‫تضفً على المكان بهجتها المعتادة العفوٌة‪ ،‬بٌنما جلست بسعادة على ذراع بول‬
‫الٌمنى‪ ،‬تجذب جواربها الصؽٌرة‪ ،‬وتضرب بٌدٌها على أؼطٌة المستشفى‪ ،‬وتبتسم‪،‬‬
‫وتصدر أصوا ًتا ناعمة‪ ،‬ؼٌر منزعجة بجهاز ضخ الهواء الموجب ثنابً الضؽط‬
‫مستمرا فً نفث الهواء لٌبقً بول على قٌد الحٌاة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الذي كان‬
‫حضر أعضاء الفرٌق الطبً إلى ؼرفة بول فً مناوبات‪ ،‬وناقشوا حالته خارج‬
‫الؽرفة‪ ،‬وانضممت إلٌهم أنا وعابلة بول‪ ،‬وكانوا ٌرجحون أن توقؾ التنفس بهذه‬
‫الطرٌقة الحادة ناتج عن تطور السرطان بسرعة‪ ،‬كما كان مستوى ثانً أكسٌد‬
‫الكربون ال ٌزال ٌرتفع‪ ،‬وهو مإشر قوي على ضرورة تثبٌت أنابٌب للتنفس‪ .‬فً‬
‫تلك‬
‫األثناء‪ ،‬كانت عابلة بول ممزقة‪ ،‬بٌنما اتصلت طبٌبة األورام لتعرؾ تطورات‬
‫األمور آملة فً أن تكون حالة التنفس قد تحسنت‪ ،‬لكن األطباء الموجودٌن كانوا أقل‬
‫تفاإال‪ ،‬وحٌنها توسلت إلٌهم بؤقصى جهدي لمحاولة السٌطرة على حالة التدهور‬ ‫ً‬
‫المفاجبة هذه‪.‬‬
‫قلت لؤلطباء‪" :‬ال ٌرٌد بول إعادة إنعاشه‪ ،‬وإذا لم تكن أمامه فرصة لٌحٌا حٌاة ذات‬
‫قٌمة‪ ،‬فهو ٌفضل أن ٌنزع الجهاز وٌحتضن كادي"‪.‬‬
‫عدت إلى جانب سرٌر بول‪ ،‬فنظر إلًَّ بعٌنٌه السوداوٌن الٌقظتٌن من فوق طرؾ‬
‫قناع ضخ الهواء الموجب ثنابً الضؽط‪ ،‬وقال بوضوح وبصوت خافت لكنه ثابت‪:‬‬
‫"أنا مستعد"‪.‬‬
‫كان بنظرته تلك ٌعلن استعداده لنزع جهاز ضخ الهواء‪ ،‬وبدء تناول المورفٌن‪،‬‬
‫والموت‪.‬‬
‫تجمعت العابلة فً الؽرفة‪ ،‬وخبلل الدقابق الثمٌنة التً تلت قرار بول‪ ،‬عبرنا جمٌعًا‬
‫عن حبنا واحترامنا له‪ .‬وترقرقت الدموع فً عٌنٌه‪ ،‬وعبر عن امتنانه ألبوٌه‪ ،‬ثم‬
‫طلب منا التؤكد من أن ٌتم نشر كتابه بؤي شكل‪ ،‬وأخبرنً للمرة األخٌرة بؤنه ٌحبنً‪.‬‬
‫بعد ذلك دلؾ الطبٌب المعالج إلى الؽرفة وقال فً كلمات تشجٌعٌة‪" :‬بعدما‬
‫ترحل ٌا بول سوؾ تنهار عابلتك‪ ،‬لكنها ستستعٌد تماسكها مرة أخرى؛ مقتدٌة بمثال‬
‫الشجاعة الذي قدمته"‪ .‬وكانت عٌنا جٌفان مركزتٌن على بول‪ ،‬بٌنما قال له‬
‫سومان‪" :‬ارحل فً سبلم ٌا أخً"‪ .‬كان قلبً ٌتمزق من األلم‪ ،‬فصعدت إلى سرٌره‬
‫أشاركه معه للمرة األخٌرة‪.‬‬
‫تذكرت األسرَّ ة األخرى التً تشاركناها منذ زواجنا؛ فمنذ ثمانٌة أعوام‪ ،‬عندما كنا‬
‫طالبٌن فً كلٌة الطب‪ ،‬تشاركنا سرٌرً ا مزدوجً ا إلى جانب جدي الذي كان ٌحتضر‬
‫فً البٌت؛ حٌث قطعنا شهر العسل للمساعدة على رعاٌته‪ .‬وكنا نستٌقظ كل عدة‬
‫ساعات إلعطابه العقاقٌر‪ ،‬فتضاعؾ حبً لبول وأنا أشاهده ٌنحنً لٌستمع إلى‬
‫طلبات جدي التً ٌنطقها فً همس‪ ،‬أما هذا المشهد فلم نكن نتخٌله قط؛ فها هو ذا‬
‫بول نفسه ٌرقد فً فراش الموت بؤسرع مما تخٌلنا‪ .‬كذلك منذ اثنٌن وعشرٌن‬
‫شهرً ا‪ ،‬تشاركنا سرٌرً ا فً طابق آخر فً المستشفى ذاته‪ ،‬وصرنا نبكً عندما علمنا‬
‫بمرضه بالسرطان‪ .‬ومنذ ثمانٌة أشهر‪ ،‬تشاركنا سرٌري هنا فً هذا المستشفى بعد‬
‫مرور ٌوم على والدة كادي‪ ،‬عندما ؼفا كبلنا فً أول ؼفوة مرٌحة طوٌلة بعد‬
‫والدتها‪ ،‬حٌث أحاط كل منا اآلخر بذراعٌه‪ .‬كما فكرت فً سرٌرنا الدافا الشاؼر‬
‫فً‬
‫البٌت‪ ،‬وتذكرت كٌؾ وقعنا فً الحب فً بلدة نٌو هافٌن قبل اثنتً عشرة سنة‪،‬‬
‫واندهشت من مدى مبلءمة أجسامنا وأطرافنا بعضها بعضًا‪ ،‬وتذكرت أننا منذ‬
‫ذلك الحٌن ال ننام نومًا هنٌ ًبا إال إذا كنا متعانقٌن‪ ،‬وبٌن كل هذه الذكرٌات‪ ،‬كان كل ما‬
‫أتمنى هو أن ٌنعم بول بالراحة الهادبة نفسها اآلن‪.‬‬
‫وبعد مرور ساعة‪ ،‬تم نزع القناع‪ ،‬وإؼبلق أجهزة المراقبة‪ ،‬وبدأ المورفٌن ٌسري فً‬
‫دم بول عبر السابل الورٌدي‪ .‬وبدا نفسه حٌنها منتظمًا‪ ،‬لكنه لم ٌكن عمٌ ًقا‪ ،‬وبدا‬
‫بول مسترٌحً ا‪ .‬وعلى الرؼم من الشعور باالرتٌاح الذي اعتلى مبلمحه‪ ،‬سؤلته عما‬
‫إذا كان ٌحتاج إلى المزٌد من المورفٌن‪ ،‬فؤومؤ باإلٌجاب‪ ،‬وأؼمض عٌنٌه‪ ،‬وجلست‬
‫والدته على مقربة منه‪ ،‬بٌنما وضع والده ٌده أعلى رأسه‪ ،‬وفً النهاٌة‪ ،‬تسلل بول إلى‬
‫البلوعً‪.‬‬
‫جلس أفراد عابلة بول ‪ -‬والداه‪ ،‬وأخواه‪ ،‬وزوجة أخٌه‪ ،‬وابنته‪ ،‬وأنا ‪ -‬أكثر من تسع‬
‫ساعات متٌقظٌن‪ ،‬بٌنما كان ؼاببًا عن الوعً‪ٌ ،‬ؤخذ أنفاسًا متقطعة‪ ،‬وثقٌلة‪،‬‬
‫وجفناه مؽمضان‪ ،‬ودون أن تبدو على وجهه أٌة آالم‪ ،‬بٌنما ارتخت أصابعه الطوٌلة‬
‫بنعومة بٌن أصابعً‪ .‬أخذ والدا بول ابنتنا كادي‪ ،‬ثم وضعاها فً عربتها مرة‬
‫أخرى كً تتدفؤ وتتناول رضعتها وتنام‪ .‬امتؤلت الؽرفة بفٌض من مشاعر الحب‪،‬‬
‫ورحت أشاهد فٌها أطٌا ًفا لذكرٌات العطبلت واألعٌاد التً قضٌناها معًا على مدار‬
‫السنوات الماضٌة‪ .‬وفً تلك األثناء‪ ،‬رحت أداعب شعره وأهمس فً أذنه قابلة‪" :‬أنت‬
‫باالدن الشجاع"‪ ،‬وهو االسم المستعار الذي أنادٌه به نسبة إلى فارس العصور‬
‫الوسطى باالدن‪ ،‬وبدأت أؼنً بهدوء فً أذنه أؼنٌتنا المفضلة التً ألفناها خبلل‬
‫األشهر الماضٌة‪ ،‬التً تقول فكرتها "شكرً ا ألنك أحببتنً"‪ .‬بعدها‪ ،‬وصل اثنان من‬
‫األقارب المقربٌن وهما أحد أعمام بول وابنه‪ ،‬وتبادل أفراد العابلة طرفاتهم المحببة‬
‫ونكاتهم الخاصة‪ ،‬ثم أخذنا أدوارنا فً البكاء‪ ،‬وتؤمُّل وجه بول‪ ،‬ووجوه بعضنا‬
‫بعضًا فً قلق‪ ،‬مستؽرقٌن فً قٌمة وألم تلك اللحظات؛ فهً آخر تجمُّع لنا معًا قبل‬
‫رحٌل بول‪.‬‬
‫بــــدأت أشــــعة ضــــوء الؽــــروب الــــدافا تمٌــــل مــن خــبلل شــرفة الؽرفــة‬
‫المواجــهة للشــمال الؽــربً‪ ،‬بٌنمــا بــدأت أنفــاس بــول تــهدأ أكثــر‪ ،‬وفــركت‬
‫كــادي عٌنٌــها بكفٌــها‬
‫السمٌنتٌن؛ حٌث اقترب موعد نومها‪ ،‬ثم وصل صدٌق للعابلة لكً ٌؤخذها إلى البٌت‪،‬‬
‫فؤلصقت وجنتها بوجنة بول‪ ،‬بٌنما تبلمست خصبلت من شعرها وشعره‬ ‫ُ‬
‫الداكنٌن اللذٌن ٌشبه أحدهما اآلخر‪ ،‬وبدت السكٌنة على وجه بول‪ ،‬بٌنما بدا التساإل‬
‫على وجه كادي‪ ،‬والهدوء فً الوقت ذاته؛ فلم تكن صؽٌرته الجمٌلة تدرك‬
‫مطل ًقا أن هذه اللحظة لحظة الوداع‪ ،‬ثم ؼنٌت لكادي أؼنٌة ما قبل النوم‪ ،‬وؼنٌت له‬
‫كذلك‪ ،‬قبل أن أتركها‪.‬‬
‫بحلول ظبلم اللٌل على الؽرفة‪ ،‬توهج مصباح ضعٌؾ مثبت فً الحابط بدؾء‪،‬‬
‫وأصبحت أنفاس بول ضعٌفة وؼٌر منتظمة‪ .‬لكن الراحة كانت ال تزال بادٌة على‬
‫جسده‪ ،‬بٌنما كانت أطرافه مسترخٌة‪ ،‬وقبل تمام الساعة التاسعة‪ ،‬وبشفتٌن متباعدتٌن‬
‫وعٌنٌن مؽمضتٌن‪ ،‬استنشق بول‪ ،‬ثم زفر آخر نفس عمٌق له‪.‬‬
‫ٌعتبر هذا الكتاب ببل خاتمة تقرٌبًا؛ بسبب تدهور حالة بول الصحٌة بسرعة فً أٌامه‬
‫ً‬
‫أساسٌا من جوانب‬ ‫األخٌرة‪ ،‬وهو ما أراه سببًا ربٌسًا فً مصداقٌته‪ ،‬وجانبًا‬
‫الواقع الذي واجهه بول‪ ،‬فخبلل عامه األخٌر‪ ،‬عكؾ على الكتابة ببل توقؾ؛ مدفوعًا‬
‫بؽاٌة معٌنة‪ ،‬وبالوقت الذي ٌداهمه‪ .‬وقد بدأ كتابة دفعات منه فً منتصؾ‬
‫اللٌل عندما كان ال ٌزال مشر ًفا لؤلطباء المقٌمٌن؛ حٌث كان ٌنقر بخفة على أزرار‬
‫مستلق إلى جانبً على السرٌر‪ ،‬وبعد ذلك أصبح ٌقضً‬ ‫ٍ‬ ‫حاسوبه الشخصً وهو‬
‫فتــــرة مـــا بعــد الظــهٌرة علــى كرســٌه المــرٌح لــٌكتب‪ ،‬وٌكتــب مســودات‬
‫لفقــرات فــً ؼرفــة انتظــار طبٌبــة األورام‪ ،‬وٌجــٌب اتصــاالت محــرر‬
‫الكتــاب‪ ،‬بٌنمــا ٌتقطــر العــبلج‬
‫الكٌمٌابً فً أوردته‪ ،‬كما صار ٌحمل حاسوبه الشخصً فضً اللون أٌنما ذهب؛‬
‫لدرجة أنه عندما أصٌبت أطراؾ أصابعه بشقوق مإلمة بفعل العبلج الكٌمٌابً‪،‬‬
‫اشــترٌنا زوجً ا مــن القفــازات المطاطٌــة الناعمــة‪ ،‬لتمكنــه مــن اســتخدام لوحـة‬
‫مإشـر الفـؤرة ولوحـة مفـاتٌح الحاسـوب الشـخصً‪ .‬كـذلك كـان اهتمـام بـول األكبـر‬
‫خـبلل‬
‫زٌاراته للرعاٌة التلطٌفٌة تعلم إستراتٌجٌات الحفاظ على التركٌز الذهنً الذي ٌحتاج‬
‫إلٌه من أجل الكتابة‪ ،‬على الرؼم من اإلعٌاء الشدٌد الذي كان ٌعانٌه بسبب‬
‫مصرا على االستمرار فً الكتابة على الرؼم من كل‬ ‫ً‬ ‫تطور السرطان؛ فقد كان‬
‫شًء‪.‬‬
‫ٌبــرز هــذا الكتــاب الحاجــة الملحــة إلــى التســابق مــع الــوقت‪ ،‬وكـٌؾ ٌكـون‬
‫لـدٌك شـًء مـهم ال بـد أن تقولـه‪ .‬لقـد واجـه بـول المـوت ‪ -‬ففـهم تفاصـٌله‪،‬‬
‫وقاومـه‪ ،‬وتقبلـه ‪-‬‬
‫كطبٌب وكمرٌض أٌضًا‪ ،‬كما أراد أن ٌساعد الناس على فهمه‪ ،‬ومواجهة حقٌقة أنهم‬
‫سٌموتون ٌومًا ما‪ ،‬فالموت فً العقد الرابع من العمر لٌس بالشًء االعتٌادي‬
‫هذه األٌام‪ ،‬ولكن الموت ذاته لٌس كذلك‪ .‬وقد بعث بول برسالة عبر البرٌد‬
‫قاببل فٌها‪" :‬لعل المثٌر فً سرطان الربة أنه‬ ‫اإللكترونً إلى صدٌقه المقرب روبٌن‪ً ،‬‬
‫لٌس‬
‫بؽرٌب عنا؛ فهو مإلم وٌمكن تخٌله بصورة كافٌة؛ حٌث ٌمكن [للقارئ] أن ٌضع‬
‫قلٌبل‪ ،‬ثم ٌقول‪" :‬إذن هكذا تبدو الصورة‬ ‫نفسه مكان المرٌض‪ ،‬وٌسرح بخٌاله ً‬
‫ً‬
‫آجــبل"‪ ،‬وأعتقــد أن‬ ‫ً‬
‫عــاجبل أو‬ ‫مــن هنــا ‪ ...‬وبعــدها ٌعــود إلــى عالمــه الحقــٌقً‬
‫هــذا هــو مــا أصــبو إلٌــه؛ لــٌس اســتثارة مشــاعر المــوت فــً نفــوس القــراء‪،‬‬
‫وال نصــحهم بــؤن‬
‫ٌستمتعوا بحٌاتهم قبل فوات األوان‪ ،‬بل توصٌل رسالة مفادها‪" :‬هكذا سٌبدو الطرٌق‬
‫أمامك"‪ .‬وبالطبع‪ ،‬لم ٌصؾ بول الطرٌق فحسب‪ ،‬بل قطعه بكل شجاعة‪.‬‬
‫ٌمثــل قــرار بــول مواجــهة المــوت شـجاعة ال تقـدرها حـق قـدرها ثقافـة‬
‫مجتمعنـا‪ ،‬التـً تتجنـب فكـرة المـوت‪ ،‬وقـد اتسـمت قوتـه لـٌس بـالطموح وبـذل‬
‫الجـهد فقـط‪ ،‬بـل‬
‫بالسكٌنة أٌضًا‪ ،‬ال السخط والمرارة‪ .‬كذلك فقد قضى بول فترة طوٌلة من حٌاته‬
‫ٌجاهد لمعرفة كٌؾ ٌعٌش المرء حٌاة ذات قٌمة‪ ،‬وهً النقطة الربٌسٌة التً ٌدور‬
‫كتابه هذا حول استكشافها‪ ،‬وكما ٌقول األدٌب األمرٌكً إٌمرسون‪" :‬المشاهد هو‬
‫القاص دابمًا؛ فهو ٌحكً حلمه بطرٌقة ما‪ ،‬وٌنشره بطرٌقة ما ببهجة مهٌبة"؛‬
‫ً‬
‫قاصا‪ ،‬وٌعلمنا‬ ‫فقد كان تؤلٌؾ هذا الكتاب فرصة للمشاهد الشجاع بول كً ٌصبح‬
‫كٌؾ نواجه الموت بنزاهة‪.‬‬
‫لــن ٌعــرؾ معظـم أفـراد عـابلتنا وأصـدقابنا عـن المشـكبلت الزوجٌـة التـً‬
‫واجـهتها أنـا وبـول قبٌـل انتـهاء مـدة إقامتـه إال بعـد نشـر هـذا الكتـاب؛ لكننـً‬
‫سـعٌدة بكتابتـه‬
‫عنــها؛ فــهً جزء مــن واقعنــا الــذي عشــناه مــعًا‪ ،‬أو بمعنــى آخــر؛ هــً جزء‬
‫مــن الكفــاح‪ ،‬واإلنجــاز‪ ،‬والمعنــى فــً حٌــاة بـول‪ ،‬وحٌـاتً أٌـضًا‪ .‬وقـد كـان‬
‫تشـخٌص مرضـه‬
‫بالســــرطان بمنزلــة كســارة البنــدق التــً أعــادتنا إلــى أســاس زواجنــا الــهادئ‬
‫البــ َّناء؛ فتشــبث بعضــنا ببعــض مــن أجــل نجاتــه‪ ،‬علــى النحــو المــادي‪،‬‬
‫ونجــاتنا علــى النحــو‬
‫ً‬
‫جلــٌا‪ .‬وألجــل هــذا‪ ،‬كنــا نمــازح أصــدقاءنا‬ ‫العــاطفً؛ وأصــبح حبنــا واضــحً ا‬
‫المقــربٌن‪ ،‬قــابلٌن إن ســر إنقــاذ أٌــة عبلقـة هـو إصـابة أحـد طرفٌـها بمـرض ال‬
‫ٌـرجى شـفاإه‪.‬‬
‫والعكس بالعكس؛ فقد عرفنا أن سر نجاح التعامل مع المرض الذي ال ٌرجى شفاإه‬
‫هشا‪ ،‬ومتسامحً ا‪ ،‬وكرٌمًا‪ ،‬وشاعرً ا باالمتنان‪.‬‬‫هو أن تحب بعمق‪ ،‬وأن تكون ً‬
‫وبعــــد أشــــهر قلٌلــة مــن تشــخٌص مــرض بــول‪ ،‬كنــا نواجــه الشــك واأللــم‬
‫مــعًا؛ فاعتــدنا أن ٌقــؾ بعضــنا إلــى جــانب بعــض فــً صــؾ واحــد ونؽنــً‬
‫واحــدة مــن األؼــانً‬
‫العاطفٌة المعبرة؛ حٌث كانت كلماتها تنبض بالمعانً‪ ،‬فنقول‪" :‬سوؾ أشاركك البهجة‬
‫واأللم‪ ،‬حتى ننهً الرحلة معًا"‪.‬‬
‫عندما طلب منً بول فور تشخٌص حالته أن أتزوج بعد موته‪ ،‬كان طلبه هذا تمهٌ ًدا‬
‫للطرٌقة التً سٌتعامل بها خبلل فترة مرضه من بذل قصارى جهده لتؤمٌن‬
‫مستقبلً؛ فقد ألزم نفسه تمامًا بتؤمٌن أفضل مستقبل فٌما ٌتعلق بالمالٌات‪ ،‬والوظٌفة‪،‬‬
‫وإرضاء حس األمومة فً داخلً‪ .‬وفً الوقت ذاته‪ ،‬كنت أبذل قصارى‬
‫جهدي لتؤمٌن حاضره‪ ،‬ولجعل ما تبقى فً عمره أفضل ما ٌكون؛ فكنت أتتبع كل‬
‫عرض ٌظهر علٌه وأتعامل معه‪ ،‬ومع كل جانب من جوانب رعاٌته الصحٌة‪،‬‬
‫وكــان ذلــك أهــم دور ألعبــه كطبٌبــة فــً حٌــاتً‪ ،‬وفـً الـوقت ذاتـه‪ ،‬كنـت أدعـم‬
‫طموحاتـه‪ ،‬وأسـتمع إلـى مخاوفـه التـً كـان ٌـهمس بـها إلـًَّ ‪ ،‬بٌنمـا نرقـد فـً‬
‫ؼرفـة نومنـا‬
‫المظلمــة؛ حــٌث نقــر ونعتـرؾ بحقٌقـة مرضـه‪ ،‬ونتقبلـها‪ ،‬وٌخفـؾ كـل منـا عـن‬
‫اآلخـر‪ .‬ومنـذ ذلـك الـوقت أصـبحنا ال ننفصـل كمـا كنـا طـالبٌن فـً كلٌـة الطـب‬
‫فـً مرحلـة‬
‫الخطوبة‪ ،‬عندما كان كل منا ٌمسك بٌد اآلخر فً أثناء المحاضرات‪ ،‬وكذلك اآلن؛‬
‫حٌث أصبحنا نشبك أٌدٌنا فً جٌب معطؾ بول فً أثناء التمشً بعد جلسات‬
‫شتوٌا وقبعة حتى عندما ٌكون الطقس‬ ‫ً‬ ‫العبلج الكٌمٌابً؛ فقد صار ٌرتدي معط ًفا‬
‫داع‪ .‬وذات‬‫داف ًبا‪ .‬وهكذا صار ٌعرؾ أنه لن ٌكون وحٌ ًدا أب ًدا‪ ،‬وأنه لن ٌعانً ببل ٍ‬
‫مرة فً بٌتنا وعلى الفراش قبل رحٌله بؤسابٌع قلٌلة سؤلته قابلة‪" :‬هل ٌمكنك التنفس‬
‫جٌ ًدا‪ ،‬بٌنما أضع رأسً على صدرك هكذا؟"‪ ،‬فؤجابنً ً‬
‫قاببل‪" :‬إنها الطرٌقة‬
‫الوحٌدة التً تجعلنً أتنفس"‪ .‬وهكذا‪ ،‬كنت أنا وبول قٌمة مهمة فً حٌاة كل منا‬
‫لآلخر؛ األمر الذي أعده من أكبر النعم فً حٌاتً‪.‬‬
‫كان كبلنا ٌستمد القوة من عابلة بول‪ ،‬التً دعمتنا فً مواجهتنا مع مرضه‪ ،‬وأٌدت‬
‫قرارنا بإنجاب ابنتنا فً هذه العابلة‪ .‬وعلى الرؼم من حزن والدٌه الشدٌد لمرض‬
‫ابنهما‪ ،‬ظبل مصدرً ا دابمًا للراحة واألمان‪ ،‬كما استؤجرا مسك ًنا بالقرب منا كً ٌزورا‬
‫بول باستمرار حٌث ٌجلس والده وٌفرك قدمًْ ابنه لتدفبتهما‪ ،‬بٌنما تطبخ له‬
‫والدته طبق الدوسا الهندٌة بصلصة جوز الهند‪ ،‬كما كان بول‪ ،‬وأخواه جٌفان‬
‫وسومان‪ٌ ،‬ستلقون على األرابك‪ ،‬فٌرفع بول ساقٌه لتقلٌل حدة آالم الظهر‪ ،‬بٌنما‬
‫ٌتلفظون بـ "مفردات" مبارٌات كرة القدم‪ .‬وكنت أنا وإٌمٌلً‪ ،‬زوجة جٌفان‪ ،‬نستمع‬
‫إلى أحادٌثهم تلك ونضحك‪ ،‬بٌنما تؽفو كادي وابنا عمها إٌؾ وجٌمس‪ ،‬وفً‬
‫تلك األوقات كانت ؼرفة معٌشتنا تبدو كؤنها قرٌة صؽٌرة آمنة‪ ،‬وكذلك فً أوقات‬
‫الحقة فً الؽرفة ذاتها؛ حٌث كان بول ٌحمل كادي وٌجلسان على كرسً الكتابة‬
‫الخاص به‪ ،‬وٌقرأ لها أعمال روبرت فروست‪ ،‬وتً‪ .‬إس‪ .‬إلٌوت‪ ،‬وفٌتجنشتاٌن‬
‫عال‪ ،‬بٌنما ألتقط صورً ا لهما‪ .‬لقد أصبحت مثل هذه اللحظات البسٌطة‬ ‫بصوت ٍ‬
‫مفعمة بالطمؤنٌنة والجمال‪ ،‬والحظ كذلك‪ ،‬إذا كان بإمكاننا االعتراؾ بوجوده؛ فقد‬
‫جدا للعابلة وللمجتمع وللمصادفة‬ ‫صرنا نشعر بؤننا محظوظون‪ ،‬وممتنون ً‬
‫والبنتنا‪ ،‬ولمقابلة كل منا اآلخر فً الوقت الذي احتجنا فٌه إلى الثقة التامة والتقبل‬
‫أكثر من أي شًء آخر‪ .‬ورؼم أن السنوات األخٌرة كانت عسٌرة وموجعة ‪ -‬وأحٌا ًنا‬
‫مستحٌلة تقرٌبًا ‪ -‬كانت أجمل أٌام حٌاتً وأكثرها تؤثٌرً ا؛ حٌث كانت تتطلب محاولة‬
‫ٌومٌة للموازنة بٌن الحٌاة والموت‪ ،‬وبٌن البهجة واأللم‪ ،‬إلى جانب استكشاؾ‬
‫أعماق جدٌدة للشعور باالمتنان والحب‪.‬‬
‫واجه بول كل مرحلة من مراحل مرضه بكٌاسة معتم ًدا على قوته الشخصٌة‪ ،‬والدعم‬
‫الذي قدمته إلٌه عابلته وكل من حوله‪ ،‬ال بالتبجح أو باإلٌمان المضلل بؤنه‬
‫سوؾ "ٌقهر" السرطان أو "ٌتؽلب" علٌه‪ ،‬ولكن بصدق مكنه من أن ٌشعر بالحزن‬
‫على فقدان الخطة التً وضعها لمستقبله‪ ،‬مع وضع خطة جدٌدة‪ .‬لقد بكى بول‬
‫فً الٌوم الذي شخص فٌه األطباء مرضه بالسرطان‪ ،‬وكذلك وهو ٌنظر إلى رسمة‬
‫رسمناها على مرآة الحمام مكتوب علٌها "أرٌد أن أقضً بقٌة أٌامً معك"‪ ،‬وأٌضًا‬
‫فً آخر ٌوم عمل له فً ؼرفة العملٌات؛ حٌث كان ٌسمح لنفسه بؤن ٌظل صرٌحً ا‬
‫وهشا‪ ،‬أو باألحرى كان ٌسمح للبكاء بؤن ٌجلب الراحة إلى نفسه‪ .‬ومع دابه ؼٌر‬ ‫ً‬
‫المرجو شفاإه‪ ،‬كان مفعمًا بالحٌوٌة‪ ،‬وعلى الرؼم من تدهور حالته الجسدٌة ظل‬
‫ومقببل على الحٌاة‪ ،‬ومفعمًا باألمل‪ ،‬لٌس أمل الشفاء ؼٌر المرجَّ ح‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قوٌا‪،‬‬
‫أمله فً أن تمتلا أٌامه الباقٌة بهدؾ ومعنى‪.‬‬
‫وقوٌا‪ ،‬لكنه كذلك ٌوحً بمشاعر العزلة إلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ممٌزا‬ ‫ٌؤتً صوت بول فً هذا الكتاب‬
‫حد كبٌر‪ .‬وٌظهر كذلك فً هذه القصة ما أحاط به من مشاعر الحب والدؾء‬
‫والرحابــــة والقــــدر الــــهابل مــــن الســــماحة‪ .‬وٌثبــــت هــــذا الكتــــاب أن‬
‫جمٌعنــا ٌمثــل شــخصٌات مختلفــة بــاختبلؾ المكــان والزمــان؛ فــهو ٌوضــح‬
‫شــخصٌة بــول كطبــٌب‪،‬‬
‫وكمــرٌض‪ ،‬وكطــرؾ مــن أطـراؾ عبلقـة الطبـٌب بـالمرٌض‪ .‬وقـد كتـب بـول‬
‫كتابـه هـذا بصـوت واضـح ‪ -‬صـوت شـخص ال ٌملـك الكثـٌر مـن الـوقت‪ ،‬مـا‬
‫جعلـه مثـابرً ا‪ ،‬وال‬
‫ٌتوقؾ عن العمل‪ ،‬ورؼم أنه كانت هناك جوانب أخرى من شخصٌته؛ فهذه‬
‫مثبل ال توضح الحس الفكاهً له؛ فقد كان ٌتمتع بخفة ظل هابلة‪ ،‬وال‬ ‫الصفحات ً‬
‫توضح كذلك عذوبته‪ ،‬وال حنانه‪ ،‬وال القٌمة التً كان ٌضٌفها لعبلقاته بالعابلة‬
‫واألصدقاء‪ .‬لكن هذا هو الكتاب الذي ألَّفه؛ فكان هذا صوته خبلل تلك الفترة‪،‬‬
‫وكانت هذه رسالته التً أراد توصٌلها فً تلك الفترة‪ ،‬وكان هذا ما كتبه عندما احتاج‬
‫إلى الكتابة‪ .‬ولعل أكثر جانب أفتقده من شخصٌة بول‪ ،‬ذلك الجانب الذي‬
‫أفتقده أكثر مما أفتقد بول القوي الرابع الذي وقعت فً حبه‪ ،‬هو الرجل الذكً الذي‬
‫كان ؼاٌة فً التركٌز فً آخر عام فً حٌاته ‪ -‬بول الذي ألؾ هذا الكتاب‪ ،‬ذلك‬
‫الرجل الهش ؼٌر الضعٌؾ على اإلطبلق‪.‬‬
‫كــان بــول فخــورً ا بــهذا الكتــاب الــذي جــاء تتــوٌجً ا لحبــه الشــدٌد لـؤلدب‪،‬‬
‫الـذي كـان شـدٌ ًدا لـدرجة أنـه قـال ٌـومًا إنـه وجـد الشـعر مسـلًٌا أكثـر مـن كتـب‬
‫الحكمـاء التـً‬
‫ٌعشقها‪ ،‬وكذلك تتوٌجً ا لقدرته على تؤلٌؾ قصة مقنعة‪ ،‬ومإثرة للتعاٌش مع الموت‬
‫من واقع حٌاته الشخصٌة‪ .‬وعندما أرسل رسالة إلكترونٌة إلى صدٌقه المقرب‬
‫فً ماٌو ‪ٌ ٤١٠٠‬خبره فٌها بؤنه مصاب بسرطان خبٌث قال له‪" :‬لعل الخبر الجٌد هو‬
‫أننً عشت فترة أطول من برونتً‪ ،‬وكٌتس‪ ،‬وستٌفن كرٌن‪ ،‬أما الخبر السٌا‬
‫فهو أننً لم أإلؾ أي شًء"؛ لذلك كانت رحلة مرضه رحلة تحول من مهنة ٌحبها‬
‫إلى أخرى‪ ،‬ومن زوج إلى أب‪ ،‬وفً النهاٌة بالطبع من الحٌاة إلى الموت؛ وهو‬
‫التحول النهابً الذي ٌنتظرنا جمٌعًا؛ لذلك أنا فخورة بؤننً كنت شرٌكته خبلل هذه‬
‫الرحلة‪ ،‬بما فً ذلك فً أثناء تؤلٌفه هذا الكتاب‪ ،‬الذي جعله ٌعٌش مفعمًا‬
‫باألمل‪ ،‬وبذلك المزٌج الدقٌق بٌن المشاؼل والفرص التً كتب عنها بببلؼة شدٌدة‬
‫حتى رحٌله‪.‬‬
‫ُدفن بــول فــً أرض حقــل فــً جبــال ســانتا كــروز‪ ،‬تطــل ضــفته علــى‬
‫المحــٌط الــهادي‪ ،‬وســاحله مرصــع بالــذكرٌات؛ مــن نزهــات منعشــة‪،‬‬
‫وحفــبلت المــؤكوالت البحرٌــة‪،‬‬
‫وعصابر االحتفاالت بؤٌام مٌبلدنا‪ .‬وقبل وفاته بشهرٌن‪ ،‬فً إحدى عطبلت األسبوع‬
‫الدافبة من ٌناٌر‪ ،‬ؼطسنا قدمً كادي السمٌنتٌن فً الماء المالح على شاطا بحٌرة‬
‫أسفل ذلك الجبل‪ ،‬ولم ٌكن بول ٌهتم كثٌرً ا بمصٌر جسده بعد رحٌله؛ فترك لنا اتخاذ‬
‫القرار الخاص بهذا الشؤن نٌابة عنه‪ ،‬وأعتقد أننا اخترنا بقعة جٌدة؛ فقبره‬
‫ٌطــل مــن جــهة الؽــرب علــى المحــٌط‪ ،‬إلــى جــانب أكثــر مــن ثمانٌــة‬
‫كــٌلومترات مــن التــبلل الخضـراء‪ ،‬كمـا تحـٌط بـه تـبلل مؽطـاة باألعشـاب‬
‫البرٌـة‪ ،‬وأشـجار الصـنوبر‪،‬‬
‫وأشجار الفربٌون األصفر‪ .‬وعندما تجلس هناك‪ ،‬تسمع أصوات الرٌاح‪ ،‬وتؽرٌد‬
‫الطٌور‪ ،‬وشجار السناجب البرٌة‪ .‬وٌرقد بول فً بقعة تلٌق به‪ ،‬وٌبدو موقع مدفنه‬
‫حقا مكان ٌستحق أن ٌكون فٌه‪ ،‬نعم‪ ،‬جمٌعنا نستحق مكا ًنا ٌلٌق‬ ‫رفٌعًا ومشر ًفا‪ ،‬إنه ً‬
‫بنا‪ .‬وٌذكرنً هذا المشهد بجملة من أؼنٌة كان ٌحبها جدي‪ ،‬تقول‪" :‬سوؾ‬
‫نرتفع ببل وعً منا‪ ،‬ونصل إلى قمم التبلل الخالدة‪ ،‬حٌث الرٌاح باردة والمشهد‬
‫جلٌل"‪.‬‬
‫ولعل هذا الموقع ؼٌر مستقر طوال الوقت؛ فبل ٌمكن التنبإ بالطقس هناك؛ وألن بول‬
‫ُدفن فً الناحٌة المواجهة للرٌاح من الجبل‪ ،‬فقد زرته فً أوقات كانت بها‬
‫الشمس ساطعة‪ ،‬وأخرى كان الضباب ٌلؾ فٌها المكان‪ ،‬وثالثة كانت األمطار فٌها‬
‫ؼزٌرة وباردة؛ فبقدر هدوء هذه البقعة‪ٌ ،‬مكن كذلك أن تكون ؼٌر مرٌحة‪ ،‬وأن‬
‫تكون شعبٌة ومنعزلة فً الوقت ذاته‪ ،‬كالموت والحزن تمامًا‪ ،‬لكنها تتسم بالجمال فً‬
‫كل رقعة منها‪ ،‬وهو ما أظنه جٌ ًدا ومناسبًا‪.‬‬
‫كثٌرً ا ما أزور قبر بول‪ ،‬وآخذ معً زجاجة صؽٌرة من مشروبه المفضل الذي‬
‫اعتدنا شربه فً شهر العسل‪ ،‬وفً كل مرة أصب بعضًا منه على العشب كً‬
‫ٌترعرع‬
‫وٌإنس وحدته‪ .‬وعندما أذهب إلى قبره مع والدٌه وأخوٌه نتحدث بٌنما أداعب‬
‫العشب كؤنه شعر بول‪ ،‬كما تزور كادي قبره قبل قٌلولتها؛ حٌث تستلقً على‬
‫البساط تراقب السحاب ٌمر فوق رأسها‪ ،‬وتنتزع الزهور التً وضعناها هناك‪ .‬وفً‬
‫اللٌلة السابقة لتؤبٌن بول اجتمعت أنا وإخوتً وإخوته هناك مع عشرٌن من أقرب‬
‫سنا‪ ،‬وتساءلت برهة هل أفسدنا العشب ألننا صببنا كثٌرً ا من‬ ‫أصدقابه‪ ،‬وأكبرهم ً‬
‫المشروب علٌه؟‬
‫كثٌرً ا ما أعود إلى المدفن بعد ترك الزهور ‪ -‬من التٌولٌب‪ ،‬والسوسن‪ ،‬والقرنفل ‪-‬‬
‫ألجد رءوسها قد أكلتها الؽزالن‪ ،‬وهو استخدام مفٌد للزهور على كل حال‪ ،‬كؤي‬
‫من استخداماتها األخرى‪ ،‬وكان بول سٌحبه‪ ،‬كما أرى الدود وهو ٌقلب التربة‬
‫بسرعة؛ فتستمر دورة الطبٌعة‪ ،‬وتذكرنً بما رآه بول‪ ،‬وبما أحمله فً داخلً اآلن‬
‫أٌضًا‪ ،‬وهو تجسٌد العبلقة المعقدة بٌن الحٌاة والموت‪ ،‬والقدرة على التؤقلم‪ ،‬وإٌجاد‬
‫ً‬
‫مؤساوٌا‪ ،‬لكن حٌاته‬ ‫المعنى على الرؼم من ذلك كله؛ لذا كان ما حدث لـبول‬
‫ذاتها لم تكن مؤساة‪.‬‬
‫توقعت أال أشعر بشًء سوى الفراغ والحسرة بعد وفاة بول‪ ،‬ولم ٌخطر ببالً قط أن‬
‫بإمكانك أن تحب شخصًا بالطرٌقة ذاتها بعد رحٌله‪ ،‬أو أننً سؤستمر فً‬
‫الشعور بالحب واالمتنان إلى جانب الحزن الشدٌد‪ ،‬ذلك الحزن الذي ٌثقل علًَّ أحٌا ًنا‬
‫لدرجة تجعلنً أرتعش وأبنُّ تحت وطؤته‪ .‬فقد رحل بول‪ ،‬وهؤنذا أفتقده‬
‫بشدة فً كل لحظة تقرٌبًا‪ ،‬لكننً أشعر بطرٌقة ما بؤننً ما زلت ألعب دورً ا فً‬
‫الحٌاة التً ألفناها معًا؛ فكما ورد فً كتاب سً‪ .‬إس‪ .‬لوٌس‪" :‬لٌس الحرمان نهاٌة‬
‫الحب فً الزواج‪ ،‬بل هو مرحلة من مراحل الزواج الطبٌعٌة‪ ،‬مثل مرحلة شهر‬
‫العسل‪ .‬ولعل ما نرٌده هو أن نعٌش حٌاتنا الزوجٌة على نحو ممتع‪ ،‬وبالقدر نفسه‬
‫مــن اإلٌمــان بــها خــبلل هــذه المرحلــة أٌــضًا"‪ ،‬وهكــذا صــارت حٌــاتً‬
‫مشــؽولة بــالكثٌر مــن األمــور؛ كــاالهتمام بــابنتنا‪ ،‬وتوطٌــد عبلقتـً بعابلـة‬
‫الراحـل بـول‪ ،‬ونشـر هـذا‬
‫الكتاب‪ ،‬والسعً وراء عمل ذي قٌمة‪ ،‬وزٌارة قبر بول‪ ،‬والحزن على رحٌله‪،‬‬
‫وتكرٌمه‪ ،‬والمثابرة ‪ ...‬ها هو ذا حبً ٌستمر ‪ -‬وٌحٌا ‪ -‬بطرٌقة لم أتوقعها مطل ًقا‪.‬‬
‫عندما أرى المستشفى الذي عاش ومات فٌه بول‪ ،‬كطبٌب ومرٌض‪ ،‬أدرك أنه إذا لم‬
‫ٌمت‪ ،‬كان سٌقدم إسهامات عظٌمة كجراح أعصاب وعالم أعصاب‪ ،‬وكان‬
‫سٌساعد عد ًدا ال ٌحصى من المرضى وعاببلتهم خبلل أصعب اللحظات فً حٌاتهم‪،‬‬
‫وهً المهمة التً جذبته إلى جراحة األعصاب فً المقام األول؛ فقد كان شخصًا‬
‫بدال من مساعدته المباشرة تلك‪،‬‬ ‫صالحً ا ومفكرً ا عمٌ ًقا‪ ،‬وكان سٌستمر فً ذلك؛ ولكن ً‬
‫ٌعد هذا الكتاب طرٌقة جدٌدة له لمد ٌد العون إلى اآلخرٌن‪ ،‬وهو إسهام لم‬
‫ٌكن لٌقدمه شخص ؼٌره‪ .‬وهذا ال ٌقلل من ألم رحٌله وخسارتنا له‪ ،‬لكنه جعل رحلة‬
‫كفاحه هذه ذات قٌمة؛ ففً إحدى صفحات هذا الكتاب ٌقول بول‪" :‬كما‬
‫علٌــك أن تتــٌقن بؤنــه لــٌس بــإمكانك الوصــول إلــى حــد الكمــال‪ ،‬فإنــه ٌجــب‬
‫أٌــضًا أن تــإمن بــوجود نقطــة تقتــرب مــن المثالٌــة‪ ،‬وعلٌــك أن تناضــل‬
‫لبلقتــراب منــها قــدر‬
‫شــاقا ومــره ًقا‪ ،‬لكــن بــول لــم ٌتـردد لحظـة؛‬ ‫ً‬ ‫اإلمكــان"‪ ،‬وقــد كــان هــذا العمــل‬
‫فـهذه هـً الحٌـاة التـً مُنحـت لـه لٌحٌـاها‪ ،‬وهـذا هـو مـا حققـه مـن خبللـها‪ ،‬وهـا‬
‫هـو ذا‬
‫الكتاب جاء وافًٌا كما أراد‪.‬‬
‫كتبت فً دفتر الٌومٌات كلمة موجهة إلى كادي‪ ،‬قلت فٌها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بعد وفاة بول بٌومٌن‪،‬‬
‫"عندما ٌموت أحدهم ٌذكره من ٌعرفونه بؤعماله الطٌبة؛ لذا أود منك أن‬
‫تعلمً جٌ ًدا أن كل األعمال الطٌبة التً ٌذكر بها الناس أباك اآلن حقٌقٌة؛ فقد كان‬
‫رجبل طٌبًا وشجاعًا بحق"‪ .‬وعندما أفكر فً ؼاٌة بول‪ ،‬أتذكر دابمًا كلمات‬ ‫ً‬
‫أؼنٌة قرأتها ذات مرة فً إحدى الحكاٌات‪ ،‬تقول ‪ " :‬ما سوؾ ٌراه الشجاع الحقٌقً‪..‬‬
‫دعه ٌؤت من هنا‪ ...‬وسوؾ تتبلشى األوهام‪ ..‬لن ٌخاؾ مما سٌقوله الناس بل‬
‫سوؾ ٌعمل لٌل نهار لٌصبح مهاجرً ا"؛ فقد كان قراره بعدم الخوؾ من الموت‬
‫ومواجهته شاه ًدا لٌس فقط على ما كان علٌه فً ساعاته األخٌرة‪ ،‬لكن على الرجل‬
‫الذي كانه طوال حٌاته‪ .‬وقد تساءل "بول" عن الموت فترة طوٌلة من حٌاته‪ ،‬وعما‬
‫إذا كان بإمكانه مواجهته بنزاهة‪ ،‬وفً النهاٌة كانت اإلجابة‪ :‬نعم‪ ،‬بإمكانه‪.‬‬
‫لقد كنت زوجته‪ ،‬وأشهد بذلك‪.‬‬
‫شكر وتقدير‬
‫شــكر خــاص لــــ دورٌـان كارشـمار‪ ،‬وكٌـل بـول فـً وكالـة وٌلٌـام مـورٌس‬
‫إنـدٌفور‪ ،‬الـذي منـح دعـمُه ورعـاٌ ُته الشـدٌدة لبـول الثقـة لتـؤلٌؾ مثـل هـذا الكتـاب‬
‫المـهم‪ .‬أشـكر‬
‫كــذلك أنــدي وارد‪ ،‬محــرر بــول الخــاص فــً دار نشــر رانــدوم هــاوس؛‬
‫فبعزٌمتــه وحكمتــه وموهبتــه التحرٌرٌــة شـجع بـول علـى العمـل معـه‪ ،‬وجـذبه‬
‫بحسـه الفكـاهً‬
‫ولطفه لمصادقته‪ .‬وعندما أوصى بول عابلته ‪ -‬فً وصٌة ما قبل الموت بالمعنى‬
‫الحرفً ‪ -‬بؤن ٌحرصوا على نشر هذا الكتاب بعد وفاته‪ ،‬كنت قادرة على أن أعده‬
‫بذلك‬
‫لثقتنا المشتركة بدورٌان وأندي؛ ففً ذلك الوقت‪ ،‬كان نص الكتاب مجرد ملؾ‬
‫مفتوح على حاسوبه الشخصً؛ لكن بفضل موهبة وتفانً دورٌان وأندي‪ ،‬أثق بؤن‬
‫بول قد رحل وهو ٌعرؾ أن كلماته ستجد طرٌقها إلى القراء‪ ،‬وأن ابنتنا سوؾ‬
‫تتعرؾ بؤبٌها من خبللها‪ .‬وأتوجه بالشكر أٌضًا إلى إبراهام فرجٌس على مقدمته‬
‫التً‬
‫كانت ستسعد بول كثٌرً ا (ولكن جاء اعتراضً الوحٌد لتشبٌه الدكتور فرجٌس لحٌة‬
‫بول بـ "لحى الحكماء"؛ فهو لم ٌُعفها فً الحقٌقة إال ألنه لٌس لدٌه الوقت‬
‫لحبلقتها!)‪ .‬وأشعر كذلك باالمتنان تجاه إٌمٌلً راب لترحٌبها بمقابلتً فً خضم‬
‫أحزانً وتدرٌبً على كتابة هذه الخاتمة‪ ،‬وتعلٌمً من الكاتب ولماذا ٌكتب تمامًا‬
‫كما فعل بول معً‪ .‬أود أٌضًا أن أشكر كل من ساند عابلتنا‪ ،‬بمن فً ذلك قراء هذا‬
‫الكتاب‪ .‬وفً النهاٌة‪ ،‬أشكر جمٌع الداعمٌن واألطباء والعلماء الذٌن ٌعملون ببل‬
‫كلل للتوعٌة بمرض سرطان الربة وتطوٌر األبحاث عنه بهدؾ تحوٌل هذا المرض‬
‫الممٌت إلى مرض ٌمكن الشفاء منه‪.‬‬
‫لوسً كوالنثً‬
‫كان بول كوالنثً جراح أعصاب وكاتبًا‪ ،‬نشؤ فً مدٌنة كٌنجمان بوالٌة أرٌزونا‪،‬‬
‫وتخرج فً جامعة ستانفورد‪ ،‬بعد أن حصل على درجتً البكالورٌوس والماجستٌر‬
‫فً‬
‫األدب اإلنجلٌزي‪ ،‬ودرجة البكالورٌوس فً علم األحٌاء البشرٌة‪ .‬كذلك حصل على‬
‫درجة الماجستٌر فً تارٌخ وفلسفة العلوم والطب من جامعة كامبرٌدج‪ ،‬وتخرج‬
‫فً كلٌة الطب بجامعة ٌٌل بتقدٌر ممتاز مع مرتبة الشرؾ؛ حٌث انضم إلى مجتمع‬
‫ألفا أومٌجا ألفا الطبً الشرفً‪ .‬بعدها عاد إلى جامعة ستانفورد الستكمال‬
‫تدرٌب اإلقامة فً مجال الجراحة العصبٌة وزمالة ما بعد الدكتوراه فً علم‬
‫األعصاب‪ ،‬فً الفترة التً حصل فٌها على جابزة األكادٌمٌة األمرٌكٌة لجراحة‬
‫األعصاب‪،‬‬
‫وهً أعلى جابزة فً مجال األبحاث‪ .‬توفً بول فً مارس ‪ ،٦٠١٤‬ولكنه ال ٌزال‬
‫ً‬
‫حٌا فً قلوب عابلته الكبٌرة المحبة له بمن فٌها زوجته لوسً‪ ،‬وابنتهما إلٌزابٌث‬
‫أكادٌا‪.‬‬
‫انغالف انخهفي‬
‫‪Table of Contents‬‬
‫معرفة‪ ........................ .‬الؽبلؾ األمامً‬‫خطأ! اإلشارة المرجعية غير ّ‬
‫معرفة‪ ......................... .‬االؼلفة الداخلٌة‬
‫خطأ! اإلشارة المرجعية غير ّ‬
‫‪ ................................................................................ 5‬إهداء‬
‫‪ ................................................................................. 5‬كلمة‬
‫‪ ............................................................................... 5‬مقدمة‬
‫‪ .............................................................................. 10‬تمهٌد‬
‫‪ ..................................................................... 19‬الجزء األول‬
‫‪ ..................................................... 19‬حٌنما كنت مفعمًا بالصحة‬
‫‪ ..................................................................... 77‬الجزء الثانً‬
‫‪...................................................... 77‬ناضل حتى النفس األخٌر‬
‫‪ ........................................................................... 123‬خاتمة‬
‫‪ .................................................................... 138‬شكر وتقدٌر‬
‫‪................................................................. 140‬الؽبلؾ الخلفً‬
‫معرفة‪ ..................................... .‬مكتبة‬
‫خطأ! اإلشارة المرجعية غير ّ‬

You might also like