You are on page 1of 73

‫مكتبة فريق (متميزون)‬

‫لتحويل الكتب النادرة الى صيغة نصية‬


‫قام بالتحويل لسلسلة (رجل المستحيل)‬
‫كلمه مهمة‪:‬‬
‫هذا العمل (تحويل سلسلة رجل المستحيل للدكتور نبيل فاروق الي صيغة نصية) هو بمثابة خدمة حصرية للمكفوفين‪ ،‬من‬
‫منطلق حرص الجميع على تقديم ما أمكن من دعم لإلنسان الكفيف‪ ،‬الذي يحتاج أكثر من غيره للدعم االجتماعي والعلمي والتقني‬
‫بحيث تعينه خدماتنا هذه على ممارسة حياته باستقاللية وراحة‪ ،‬وتعزز لديه الثقة بالنفس واالندماج بالمجتمع بشكل طبيعي‪.‬‬
‫وبسبب شح الخدمات المتوفرة للمكفوفين حرصنا على توفير خدمات نوعية تساعد الكفيف في المجاالت التعليمية العلمية والثقافية‬
‫وذلك بتسخير ما يتوفر من تقنيات خاصة لتحويل الكتب الي نصوص تكون بين أيديهم بشكل مجاني‪ ،‬ويمكن لبرامج القراءة الخاصة‬
‫بالمكفوفين قراءتها‪.‬‬
‫مع تحيات‪:‬‬
‫فريق (متميزون)‬
‫انضم الى الجروب‬
‫انضم الى القناة‬
‫سلسلة رجل المستحيل‬
‫العدد رقم (‪)1‬‬
‫بعد العدد (‪)160‬‬

‫ما بعد الوداع‬


‫تأليف‪ :‬إنچي أشرف‪.‬‬
‫رجل المستحيل‪..‬‬
‫(أدهم صبري)‪ ..‬ضابط مخابرات مصري‪ ،‬يرمز إليه بالرمز (ن – ‪( ..)١‬حرف النون)‪ ،‬يعني أنه فئة‬
‫نادرة‪ ،‬أما الرقم (واحد)‪ ،‬فيعني أنه األول من نوعه؛ هذا ألن (أدهم) صبري) رجل من نوع خاص‪،‬‬
‫فهو يجيد استخدام جميع أنواع األسلحة‪ ،‬من المسدس إلى قاذفة القنابل‪ ..‬وكل فنون القتال‪ ،‬من‬
‫المصارعة وحتى (التايكوندو)‪ ..‬هذا باإلضافة إلى إجادته التامة لعدة لغات حية‪ ،‬وبراعته الفائقة في‬
‫استخدام أدوات التنكر و (المكياج)‪ ،‬وقيادة السيارات والطائرات‪ ،‬وحتى الغواصات‪ ،‬إلى جانب‬
‫مهارات أخرى متعددة‪..‬‬
‫لقد أجمع الكل أنه من المستحيل أن يجيد رجل واحد‪ ،‬في عمر (أدهم صبري)‪ ،‬كل هذه المهارات‬
‫مجتمعة‪..‬‬
‫ولكن (أدهم صبري) حقق هذا المستحيل‪ ،‬واستحق عن جدارة ذلك اللقب‪ ،‬الذي أطلقته عليه إدارة‬
‫المخابرات العامة‪..‬‬
‫لقب (رجل المستحيل)‪.‬‬
‫د‪ .‬نبيل فاروق‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫‪ -١‬اختطاف‪..‬‬
‫انهمرت دموع (قدري) في غزارة تضاهي غزارة سقوط األمطار من حوله وهو يقود سيارته‬
‫الخاصة في تلك الساعة المتأخرة في طريق عودته إلى منزله بعد جهد يوم عمل طويل‪..‬‬
‫ولو اقتربنا قليال من (قدري) لوجدناه يختلف كثيرا عما كان في السابق‪..‬‬
‫لم يعد ذلك البدين المرح‪ ،‬الذي يشع وجهه نضارة ويمتلئ وجهه بابتسامة طفولية دائمة‪..‬‬
‫بل صار شخصا مختلفا تماما‪..‬‬
‫لقد صار شخصا فقد الكثير من وزنه‪ ،‬وتهدلت مالمحه لتضفي العديد من السنوات إلى عمره‬
‫الحقيقي‪..‬‬
‫شخص فقدت عيناه بريقهما‪..‬‬
‫وفقدت شفتاه ابتسامتهما‪..‬‬
‫شخص قّلما يضحك أو حتى يبتسم‪..‬‬
‫صار شخصا يعاني الوحدة بعد أن فقد أقرب شخصين إلى قلبه في الوجود كله‪..‬‬
‫(أدهم صبري) و (منى توفيق)‪..‬‬
‫يا لها من فترة طويلة مرت عليه في بطء وكآبة منذ أن فقدهما يوم زفافهما إثر ذلك االنفجار المروع!‬
‫ولكنه أبدا لم يشعر أنهما قد لقيا مصرعهما‪..‬‬
‫قلبه يؤكد له أنهما ما زاال على قيد الحياة‪..‬‬
‫ولكن أين‪..‬؟‬
‫ولماذا يصّر ان على عدم الظهور‪...‬؟‬
‫لقد قضى فترة ليست بالقصيرة في البحث عنهما في كل مكان دون كلل أو ملل‪..‬‬
‫حتى وقع ضحية خدعة حقيرة‪ ،‬قام بها (ليونيد) نجل (إيجور تورجنيف) المعروف لدى أجهزة‬
‫المخابرات العالمية باسم (مستر إكس)‪)1( .‬‬
‫تلك الخدعة التي نجح خاللها في إيهام الجميع أن من يتحرك داخل األحداث هو (أدهم) نفسه‪ ،‬في حين‬
‫كان يقوم بخدعة ماكرة لجعل الجميع يبحث في اتجاه بعيد كل البعد عن (أدهم صبري) الحقيقي‪.‬‬
‫كم انفجر داخله حينها غضب ممزوج بمرارة هائلة عندما تبين كيف انخدع كالغر الساذج وتصور أن‬
‫(لوجراند) هو (أدهم) نفسه‪)2( .‬‬
‫كان يقود سيارته في شرود وعشرات المواقف والذكريات تتالحق أمام عينيه مثل شريط السينما‪ ،‬ولم‬
‫يشعر بنفسه إال وهو يوقف سيارته أمام مدخل البناية التي يقطن بها‪ ،‬فمسح دموعه بكفيه في بطء‪ ،‬ثم‬
‫فتح باب السيارة في هدوء‪ ،‬وترجل منها ثم توقف بضع لحظات ليلقي نظرة ال مبالية على المطر‬
‫الذي ينهمر بغزارة ليغرق الشارع من حوله‪.‬‬
‫تحرك في تثاقل ودلف إلى البناية‪ ،‬ثم استقل المصعد إلى الطابق الخامس‪ ،‬واتجه ليفتح باب منزله ثم‬
‫دلف في بطء إلى الداخل‬
‫وغصة مريرة تتعاظم داخله مع كل خطوة يخطوها وتعتصر كيانه في قسوة‪ ،‬فبدأت دموعه في‬
‫االنسياب ثانية وهو يمد أنامله ليضيء مصباح الردهة‪ ،‬وما إن فعل حتى ارتجف جسده كله عندما‬
‫أ‬
‫ارتفع صوت يأتي من داخل ردهة منزله يقول في سخرية الذعة‪:‬‬
‫‪ -‬ها قد أتيت أخيرا يا سيد (قدري)‪ ..‬إننا ننتظرك هنا منذ قرابة السبع ساعات‪.‬‬
‫التفت (قدري بسرعة إلى مصدر الصوت‪ ،‬وتضاعفت ارتجافته عندما فوجئ برجل طويل القامة‪،‬‬
‫أشقر الشعر‪ ،‬بالغ األناقة يجلس على أريكة تتوسط الردهة‪ ،‬ويحيط به أربعة رجال أشداء لهم‬
‫عضالت مفتولة بارزة على نحو شديد‪ ،‬ويحملون مسدسات من نوع متطور حديث‪ ،‬وكان الجميع‬
‫يتطلعون إليه بنظرة صارمة شرسة‪ ،‬فهتف (قدري)‪:‬‬
‫‪ -‬من أنتم؟‪ ..‬وكيف دخلتم إلى منز‪..‬‬
‫قاطعه األشقر األنيق وهو يلوح بكفه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ليس مسموح لك بإلقاء أية أسئلة يا سيد (قدري)‪.‬‬
‫تطلع إليه (قدري) في توتر بالغ ثم غمغم‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدون منى بالضبط؟‬
‫ابتسم األشقر في خبث وتجاهل سؤاله وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كنت الصديق األقرب إلى (أدهم صبري)‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫انتفض جسد (قدري) بمنتهي العنف مع ذكر الرجل السم (أدهم)‪ ،‬واندفع ليقترب منه‪ ،‬ولكن الرجال‬
‫األشداء صوبوا أسلحتهم بحركة بالغة السرعة والصرامة نحو قدري‪ ،‬الذي توقف على بعد خطوة‬
‫واحدة من األشقر‪ ،‬وهو يسأله بلهفة الكون كله‪:‬‬
‫‪ -‬بلي لقد كنت كذلك‪ ..‬هل تعلم أين هو؟‪ ..‬هل لديك مـ‪..‬‬
‫قاطعه الرجل قائال‪:‬‬
‫‪ -‬مهال يا سيد (قدري)‪ ..‬ستعرف كل شيء في أوانه‪.‬‬
‫نطقها ثم أشار بيده إشارة مبهمة وهو يتطلع إلى نقطة ما خلف (قدري)‪ ،‬وقبل أن يستدير هذا األخير‪،‬‬
‫فوجئ بضربة قوية على مؤخرة رأسه‪ ،‬فدارت عينيه في محجريهما‪ ،‬وشعر بدوار شديد وهو يترنح‬
‫بشدة ولكنه حاول التماسك وهو يهتف في ألم‪:‬‬
‫‪ -‬أيها األوغاد سوف‪..‬‬
‫قاطعته ضربة أخرى على مؤخرة رأسه‪ ،‬وفي هذه المرة غامت الدنيا تماما أمام عينيه‪ ،‬وسقط أرضا‬
‫فاقد الوعي‪ ،‬دون أن ينطق حرفا آخر‪.‬‬
‫وفي ظفر ابتسم األشقر وهو يخرج محقنا من جيبه‪ ،‬ثم كشف ذراع (قدري) وحقنه به وهو يغمغم‬
‫هدوء شرس‪:‬‬
‫‪ -‬هذا المخدر سيبقيك فاقد الوعي ليوم كامل‪ ..‬فلتنعم بنوم هادئ قبل أن تواجه الجحيم أيها المصري‪.‬‬
‫نطقها ثم اعتدل‪ ،‬وأخرج هاتفه المحمول من جيبه‪ ،‬وطلب رقًم ا خاصا‪ ،‬ثم غمغم في هدوء شديد‪:‬‬
‫‪ -‬فلتحضر السيارة يا (جون)‪.‬‬
‫بعد مرور دقيقتين‪ ،‬كان األربعة األشداء يحملون (قدري) فوق محفة إسعاف‪ ،‬ويهبطون به ثم يدفعونه‬
‫داخل سيارة إسعاف تقبع أمام مدخل البناية تماما‪ ،‬وعلى الفور قال األشقر موجها حديثه إلى سائق‬
‫السيارة‪:‬‬
‫‪ -‬فلنتوجه على الفور إلى المطار‪.‬‬
‫نطقها ثم التقط هاتفه المحمول ثانية‪ ،‬وقام باالتصال برقم خاص ثم غمغم في ظفر عندما سمع صوت‬
‫محدثه‪:‬‬
‫أل‬
‫‪ -‬لقد تم الجزء األول من العملية بنجاح يا مستر (فريدريك)‪.‬‬
‫قالها وأنهي اتصاله وعينيه تحمالن نظرة تحمل كل الظفر‪..‬‬
‫والشراسة‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫أغلقت (جيهان فريد) عينيها بقوة وهي تمسك بإطارين من المعدن في إحكام‪ ،‬وتحاول تحريك قدميها‪،‬‬
‫وخيل إليها أنهما قد وضعا في وعاء مملوء باألسمنت الذي يمنعها من مجرد محاولة تحريكهما‪،‬‬
‫وانهمر العرق غزير من جبينها على الرغم من برودة الجو‪ ،‬وبعد دقائق طويلة من المحاولة غمغمت‬
‫في يأس عارم‪:‬‬
‫‪ -‬لم أعد أستطيع‪.‬‬
‫غمغمت الممرضة التي تقف إلى جوارها تماما‪:‬‬
‫‪ -‬ال بأس‪ ..‬يكفي هذا اليوم‪.‬‬
‫نطقتها ثم جذبت مقعدا متحركا وساعدت (جيهان) في الجلوس فوقه برفق شديد‪ ،‬ثم اعتدلت وتطلعت‬
‫إلى (جيهان) في إشفاق وهي تغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أقوم بـإحضار طعام العشاء و‪..‬‬
‫قاطعتها (جيهان) في مرارة‪:‬‬
‫‪ -‬لست أرغب في تناول الطعام اآلن‪.‬‬
‫غمغمت الممرضة في خفوت مشفق‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ينبغي أن تتناولي الطعام اآلن قبل موعد تناول األدوية التي‪..‬‬
‫عادت (جيهان) تقاطعها في مرارة قد تضاعفت شدتها‪:‬‬
‫‪ -‬لست أرغب في تناول أية أدوية‪ ..‬لقد سئمت األدوية وسئمت المستشفيات واألطباء و‪..‬‬
‫” مساء الخير “‬
‫قاطعها ذلك الصوت الهاديء‪ ،‬فالتفتت بحركة حادة تتطلع إلى الشاب الوسيم الذي وقف بجوار باب‬
‫الغرفة المفتوح‪ ،‬يتطلع إليها بابتسامة هادئة‪ ،‬فغمغمت في عصبية‪:‬‬
‫‪ -‬من أنت؟‬
‫تقدم الشاب نحوها بخطوات هادئة واثقة ومد كفه ليصافحها وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬دكتور (حازم رؤوف)‪ ..‬أخصائي المخ واألعصاب الذي سيشرف على عالجك الفترة القادمة‪ ،‬بعد‬
‫سفر دكتور (محمود) إلى (كندا) الستكمال رسالة الدكتوراه الخاصة به‪.‬‬
‫صافحته (جيهان) وهي تتأمل مالمحه الوسيمة في تمّعن‪ ،‬ثم لم تلبث أن أشاحت بوجهها في ضيق‬
‫وهي تغمغم في خفوت‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبا بك‪.‬‬
‫تنحنحت الممرضة‪ ،‬ثم غمغمت وهي توجه حديثها نحو الطبيب‪:‬‬
‫‪ -‬المريضة ترفض تناول الطعام‪ ،‬وذلك سيؤثر بالتالي على موعد تناول األدوية و‪..‬‬
‫قاطعتها (جيهان) في غضب‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعتقدين أنني سأخشى منه؟‪ ..‬لقد أخبرتك أنني لن أتناول الطعام وانا أصّر على‪..‬‬
‫قاطعها (حازم) في حنان‪ ،‬وهو يبتسم في هدوء قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ال بأس‪.‬‬
‫صمتت تماما وهي تتطلع إلى عينيه الدافئتين‪ ،‬ولم تدر سّر خفقان قلبها الشديد عندما اقترب منها‬
‫ليتطلع إلى عينيها مباشرة وهو يردف‪:‬‬
‫‪ -‬يمكننا تأجيل تناول الطعام قليال‪.‬‬
‫لم تنبس ببنت شفة عندما أحاط معصمها بأصابعه في رفق‪ ،‬بينما رفع ساعته أمام عينيه وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أقوم بإجراء بعض الفحوصات السريعة لك‪ ،‬وسوف أتركك بعدها لتنالي قسطا وافرا من‬
‫الراحة‪.‬‬
‫صمت بضع لحظات وهو يتطلع بإمعان إلى ساعته‪ ،‬ثم لم يلبث أن ابتسم في هدوء وهو يترك‬
‫معصمها في رفق قائال‪:‬‬
‫‪ -‬عظيم‪ ..‬النبض طبيعي تماما‪.‬‬
‫قالها ثم تناول سّماعته الطبية‪ ،‬وبدأ في الكشف عليها باهتمام بالغ‪ ،‬واستسلمت هي تماما له قبل أن‬
‫يزيح منظاره الطبي بعيدا عن عينيه وهو يغمغم في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬كل شيء على ما يرام‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم غمغم في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أنصرف اآلن‪ ،‬وأعود إليك غدا بإذن اهلل للبدء في عالجك ببرنامج طبي حديث‪ ،‬أتعشم أن‬
‫يؤتي ثمارا جيدة في مرحلة عالجك الفترة القادمة‪.‬‬
‫أشاحت بوجهها في يأس وهي تغمغم في مرارة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أريد البدء في أي عالج‪ ..‬لقد سئمت كل شيء وفقدت األمل في‪...‬‬
‫قاطعها في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬خطأ‪.‬‬
‫شيء ما في حزم صوته جعلها تلتفت لتتطلع إليه في اهتمام وصمت‪ ،‬بينما أردف هو بنفس الحزم‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬فقدان األمل يعتبر أكبر خطأ يقع فيه اإلنسان‪ ..‬فما دام اهلل (سبحانه وتعالى) موجود فاألمل إذن‬
‫مازال موجودا‪ ..‬كل ما علينا هو أن نقوم بأداء ما علينا ثم نترك الباقي إلرادته ورحمته‪ ،‬وهو عّز‬
‫وجّل رحيم بعباده‪.‬‬
‫لم تدر كيف نجحت كلماته في انتزاع مرارتها‪ ،‬فوجدت نفسها تغمغم في خشوع‪:‬‬
‫‪ -‬ونعم باهلل‪.‬‬
‫صمت بضع لحظات‪ ،‬ثم ابتسم وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬واآلن هل ستتناولين طعام العشاء؟‬
‫وجدت نفسها تبتسم في ارتياح وهي تغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬ال بأس‪.‬‬
‫بادلها االبتسام‪ ،‬ثم أشار إلى الممرضة لتنفيذ األمر‪ ،‬وانصرف في هدوء تاركا خلفه (جيهان) تتساءل‬
‫عن سر الشعور باالرتياح الذي غمر كيانها بعد كلماته البسيطة التي كان لها وقع السحر في نفسها‪..‬‬
‫استغرقت في التفكير في ذلك الطبيب الشاب ذو االبتسامة البسيطة الساحرة‪ ،‬ولم تشعر بمرور الوقت‬
‫سوى مع صوت طرقات خافتة انتزعتها من شرودها فغمغمت‪:‬‬
‫‪ -‬تفضل‪.‬‬

‫أل‬ ‫أ‬ ‫أ‬


‫فتح الباب ليطل وجه ممرضة أخرى تدفع أمامها عربة صغيرة‪ ،‬تحمل فوقها مجموعة من األطباق‪،‬‬
‫ثم توّقفت لترّص الطعام فوق منضدة صغيرة‪ ،‬ثم دفعت (جيهان) لتقترب من تلك المنضدة‪ ،‬وتوقفت‬
‫إلى جوارها تماما تراقبها في اهتمام بالغ وهي تتناول طعامها في هدوء‪.‬‬
‫لم تكد (جيهان) تنتهي من تناول طعامها‪ ،‬حتى تألق بريق ظافر في عيني الممرضة‪ ،‬لم تنتبه إليه‬
‫(جيهان) التي بدأت تشعر بدوار شديد يكتنف رأسها‪ ،‬فرفعت أصابعها لتضغط بها على صدغيها‪،‬‬
‫وحاولت أن تقول شيئا‪ ،‬ولكنها شعرت بثقل بالغ في لسانها وكأنه يحمل طنا من الحديد‪ ،‬فرفعت عينيها‬
‫لتستنجد بالممرضة‪ ،‬ولكن الممرضة انتزعت محقنا من جيبها بسرعة بالغة‪ ،‬وحقنتها به وهي تغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬معذرة يا مريضتي المسكينة‪ ،‬ولكن المبلغ الذي تقاضيته يدفعني لفعل ما هو أكثر من ذلك‪.‬‬
‫قالتها ثم انتزعت المحقن من ذراع (جيهان) التي تهاوت رأسها فوق صدرها‪ ،‬وعلى الفور قامت‬
‫الممرضة بالتقاط هاتفها المحمول‪ ،‬وطلبت رقما صغيرا‪ ،‬وعندما سمعت صوت محدثها على الطرف‬
‫اآلخر‪ ،‬غمغمت في حزم شديد‪:‬‬
‫‪ -‬اآلن‪.‬‬
‫لم تكد تنتهي من آخر حروف كلمتها‪ ،‬حتى انقطع التيار الكهربائي عن المستشفى بأكملها‪ ،‬وسادت‬
‫حالة من الهرج والمرج في المستشفى كله‪ ،‬ولكن الممرضة لم تِض ع لحظة واحدة‪ ،‬فقامت على الفور‬
‫بدفع المقعد المتحرك خارج الغرفة بسرعة ودقة بالغتين‪ ،‬وكأنها تعرف طريقها جيدا وسط الظالم‬
‫الدامس حتى توقفت في نهاية الممر‪ ،‬وهناك استقبلها رجالن يرتدي كل منهما منظارا خاصا من ذلك‬
‫النوع المخصص للرؤية في الظالم‪ ،‬وقام أحدهما بحمل (جيهان) على كتفه ببساطة‪ ،‬بينما كان الثاني‬
‫يحمل سالحا يؤمن به ظهره‪ ،‬ثم اتجها نحو مخرج الطوارئ‪ ،‬وهبطا السلم بسرعة بالغة‪ ،‬حتى توصال‬
‫إلى مدخل المستشفى الخلفي الذي توقفت أمامه سيارة إسعاف أسرعا بالصعود إليها مع حملهما‪،‬‬
‫وعلى الفور انطلقت السيارة بسرعة قصوى محدثة صريرا شديدا جّر اء احتكاك إطاراتها باألسفلت‪.‬‬
‫في داخل السيارة التقط أحد الرجلين هاتفه المحمول‪ ،‬وقام بطلب رقم خاص‪ ،‬ثم غمغم في ظفر عندما‬
‫أتاه صوت محدثه من الطرف اآلخر‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تمت العملية بنجاح يا سيدي‪ ،‬والصيد الثمين معنا اآلن‪.‬‬
‫صمت بضع لحظات استمع خاللها إلى محّد ثه‪ ،‬ثم غمغم في طاعة واحترام‪:‬‬
‫‪ -‬علم وسينّفذ يا سيدي‪.‬‬
‫ثم أنهي اتصاله‪ ،‬وقال بلهجة آمرة موّج ها حديثه نحو سائق السيارة‪:‬‬
‫‪ -‬اتجه على الفور إلى مطار القاهرة‪.‬‬
‫لم تمض نصف الساعة حتى كانت السيارة تعبر بوابة مطار القاهرة الدولي‪ ،‬وهناك تم إنهاء‬
‫إجراءات سفر (جيهان) على أنها مريضة تسافر في رحلة عالجية إلى إنجلترا‪..‬‬
‫في نفس الوقت الذي كانت فيه تتم نفس اإلجراءات لـ (قدري)‪ ،‬وبعد عدة دقائق كان االثنان يستقالن‬
‫نفس الطائرة الطبية الخاصة‪..‬‬
‫وذلك كان يعني أن الفترة القادمة ستشهد العديد من األحداث‪..‬‬
‫والتغّيرات‪..‬‬
‫والمفاجآت‪...‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫"هذا إهمال وتقصير جسيمين‪ ،‬يجب معاقبة المسؤول عنهما على الفور"‬
‫هتف مدير المخابرات العامة المصرية بتلك العبارة في غضب عارم وهو يضرب سطح مكتبه‬
‫بقبضته في قوة‪ ،‬فغمغم نائب المدير الذي يقف أمام مكتبه مباشرة‪:‬‬
‫‪ -‬اسمح لي يا سيدي‪ ..‬فهذا األمر لم ينطو على أي إهمال أو تقصير من جانبنا قط‪.‬‬
‫تضاعف غضب المدير وهو يلوح بكفه في وجه نائبه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬كيف تصف ما حدث إذن؟ كيف تبّر ر اختطاف رجل وفتاة من أبرز رجال المخابرات العامة‬
‫المصرية بهذه البساطة؟‬
‫تنحنح نائب المدير في حرج‪ ،‬ثم غمغم بصوت أقرب إلى الخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬دعني أوّض ح لسيادتك بعض األمور‪.‬‬
‫صمت لحظة التقط خاللها نفسا عميقا‪ ،‬ثم أردف‪:‬‬
‫‪ -‬أوال بالنسبة للسيد (قدري)‪ ،‬فقد حاولنا مرارا وتكرار على مدار السنوات الماضية تعيين حراسة‬
‫خاصة به‪ ،‬ولكن جميع محاوالتنا باءت بالفشل التام‪ ،‬بل في كل مرة كنا نحاول تعيين طاقم حراسة له‬
‫دون علمه كان ينجح في اكتشاف األمر‪ ،‬ومقابلته بالرفض في منتهى الحزم والغضب‪ ،‬مبررا ذلك‬
‫بأنه شخصية بسيطة ال تميل إلى تلك التعقيدات‪ ،‬وال يميل إطالقا إلى تقييد حريته بأن يكون هناك من‬
‫يراقب جميع تصرفاته‪ ،‬وأمام رفضه وإصراره الشديدين لم يكن أمامنا سوى الرضوخ لرغبته‪ ،‬وعدم‬
‫تعيين حراسة شخصية له‪.‬‬
‫صمت لحظة ازدرد خاللها لعابه ثم أردف وهو يواصل تطّلعه إلى وجه مديره الذي احتفظ بغضبه‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تّمت عملية اختطاف السيد (قدري) بمنتهى السرعة والبساطة‪ ..‬فقد تسلل مختطفوه إلى منزله‬
‫وقاموا بانتظاره إلى حين عودته‪ ،‬ثم قاموا بمباغتته وإفقاده وعيه ونقله داخل سيارة إسعاف إلى مطار‬
‫القاهرة‪ ،‬ودون أن يسترعي ذلك انتباه أحد من جيرانه الذين كانوا يغطون في نوم عميق في تلك‬
‫الساعة المتأخرة من ليل الشتاء البارد‪.‬‬
‫ظّل المدير على صمته بضع لحظات‪ ،‬ثم غمغم بلهجة جافة‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا عن جيهان؟‬
‫زفر نائبه في ضيق ثم غمغم‪:‬‬
‫‪ -‬لم يكن األمر يمثل أي صعوبة بالنسبة لـ (جيهان) بعد أن قام مختطفوها بقطع التيار الكهربائي عن‬
‫المستشفى وتسللوا إليها‪ ،‬مستغّلين الظالم وحالة الفوضى الشديدة‪ ،‬ولم يستغرق األمر سوى ثوان‬
‫معدودة حتى وكانت (جيهان) داخل سيارة إسعاف قامت بنقلها بدورها إلى مطار القاهرة‪.‬‬
‫عاد المدير يضرب سطح مكتبه بقبضته قائال في غضب‪:‬‬
‫‪ -‬بهذه البساطة؟‬
‫مّط نائبه شفتيه ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إن (جيهان) تعالج بمستشفى وادي النيل منذ فترة ليست بالقصيرة جراء إصابتها بشلل تام‪ ،‬ولم تعد‬
‫تمثل أية خطورة مثلما كانت في السابق بعد أن تم نقلها من قسم العمليات الخاصة إلى القسم اإلداري‪،‬‬
‫لذلك لم يتم تعيين حراسة خاصة لها‪ ..‬لم نجد مبررا لفعل ذلك على اإلطالق فمن يرغب في اختطاف‬
‫فتاة تقضي وقتا في المستشفيات أكبر مما تقضيه في منزلها وعملها‪.‬‬
‫عند تلك النقطة صمت مدير المخابرات تماما‪ ،‬فقد كان نائبه يبرر ما حدث بمنطق قوي غير قابل‬
‫للجدال‪ ،‬واعترف في أعماقه بأن عملية اختطافهما قد تمت بسرعة وبساطة مدهشتين‪ ،‬ولكنه حافظ‬
‫على انعقاد حاجبيه وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬هل توصلت مصادرنا إلى الجهة التي تم نقلهما إليها؟‬
‫أسرع نائبه يجيب وكأنه كان يتوّقع هذا السؤال تحديدا‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قام رجالنا بتتبع مسار الطائرة الطبية التي تقّلهما وتوّص لنا إلى أنها قد أقّلتهما إلى مطار (لندن‬
‫جاتويك) في (إنجلترا)‪ ،‬وهناك تم نقلهما إلى طائرة حربية انطلقت بهما على الفور إلى (روسيا)‪.‬‬
‫مط المدير شفتيه في ضيق وغمغم في حنق‪:‬‬
‫‪ -‬يا للسخافة‪.‬‬
‫قالها وهو يلتقط مظروفا أسود اللون في طرفه كتب حرف (إكس) بلون ذهبي أنيق‪ ،‬ثم فتح المظروف‬
‫والتقط منه ورقة مطوية‪ ،‬فّض ها في بطء وهو يتطلع إلى مساعده قائال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد وصل هذا المظروف إلى اإلدارة منذ قليل‪.‬‬
‫تطّلع نائب المدير إلى الظرف في دهشة وتساؤل‪ ،‬وهّم بنقل تساؤله إلى شفتيه‪ ،‬ولكنه الذ بالصمت‬
‫عندما أردف مديره قائال‪:‬‬
‫‪ -‬إنها منظمة جاسوسية تحمل اسم (مستر إكس)‪ ،‬ولست أدري كيف هذا وقد تم تدمير المنظمة التي‬
‫تحمل نفس االسم سابقا والقضاء على صاحبها ومؤسسها (إيجور تورجنيف) الذي كان يحمل اسم‬
‫كودي مستعار معروف عالميا باسم مستر إكس‪)3( .‬‬
‫ارتفع حاجبا النائب في دهشة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هل هي نفس المنظمة أم منظمة أخرى تحمل نفس االسم يا سيدي؟‬
‫زفر المدير بحدة وهو يلقي بالورقة فوق مكتبه‪ ،‬وغمغم في سخط‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ما ستتحرى عنه مصادرنا لمعرفة هل هو نفس الكيان السابق بعد أن تم إعادته وتأهيله‪ ،‬أم هي‬
‫منظمة أخرى تحمل نفس االسم‪.‬‬
‫غمغم النائب‪:‬‬
‫‪ -‬هل لهذه المنظمة عالقة باختطاف (قدري) و(جيهان)؟‬
‫أومأ المدير برأسه إيجابا‪ ،‬ثم غمغم في ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬إن هذه المنظمة أعلنت مسؤوليتها عن حادث اختطاف (قدري) و(جيهان) وصرحت بأنهما‬
‫بحوزتها اآلن‪.‬‬
‫هتف النائب في سخط‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنها عملية مساومة يا سيدي‪.‬‬
‫قال المدير في غضب‪:‬‬
‫‪ -‬بل أقذر أنواع المساومة‪ ..‬مساومة على وطن بأكمله‪.‬‬
‫قالها ثم التقط الورقة مرة أخرى‪ ،‬ومد يده ليلتقطها منه مساعده الذي جرت عينيه فوق سطورها‬
‫بسرعة بالغة‪ ،‬ثم لم يلبث حاجباه أن التقيا وهو يغمغم في سخط شديد‪:‬‬
‫‪ -‬اللعنة‪ ..‬كيف تتوقع تلك المنظمة المأفونة أننا سنرضخ لمطالبها؟‬
‫لم يحر المدير جوابا مباشرا‪ ،‬ولكنه نهض من خلف مكتبه واتجه نحو خريطة كبرى تحتل جدار‬
‫ضخم في غرفته‪ ،‬وتطلع إليها بضع لحظات قبل أن يلتفت نحو مساعده ويقول في حزم شديد‪:‬‬

‫أل‬ ‫أ‬
‫‪ -‬أريد عقد اجتماع فوري طارئ بجميع رؤساء األقسام‪ ،‬وقم باالتصال بوزارة الدفاع وتحديد موعد‬
‫الجتماع طارئ مع السيد وزير الدفاع‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم عاد يقول بصوت هادئ يحمل بين طياته دوامات الخطر‪:‬‬
‫‪ -‬األمر جد خطير والبد من بحثه جيدا‪ ..‬إنه أمن وسالمة وطن بأكمله‪.‬‬
‫انصرف نائبه على الفور لتنفيذ األمر تاركا خلفه المدير يعيد دراسة الموقف بكل دقة‪..‬‬
‫واهتمام‪..‬‬
‫و‪..‬‬
‫غضب‪...‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫‪ -٢‬مستر (إكس)‪..‬‬
‫اشتد تساقط الثلوج في تلك البقعة النائية من روسيا‪ ،‬وسط عاصفة ثلجية غير مسبوقة على البالد‬
‫وانخفضت درجات الحرارة إلى أدنى مستوى حتى بلغت الخمسين تحت الصفر في تلك البقعة تحديدا‬
‫من شمال روسيا‪.‬‬
‫تلك البقعة غير المأهولة‪ ،‬والتي يكسوها الجليد لمسافة تمتد ألميال شاسعة‪ ،‬والتي كان يطلق عليها‬
‫فيما مضى معتقل سيبيريا‪..‬‬
‫ذلك المعتقل الرهيب الذي أغلق بعد انهيار االتحاد السوفيتي وتفككه‪ ،‬وأصبح مكانا مهمال خربا غير‬
‫مأهول‪ ..‬وللوهلة األولى قد يبدو المكان مهجورا بالفعل ألي جهة تقوم بمسح المنطقة‪ ،‬ولكن حقيقة‬
‫األمر أن تلك المباني المهجورة القديمة وأطنان الثلوج القاتمة‪ ،‬ماهي إال ستار يخفي خلفه أكبر منظمة‬
‫للجاسوسية‪.‬‬
‫ذلك الوكر الذي شيد على عمق مسافة كبيرة من سطح األرض‪ ،‬وأعّد ليكون مركزا يسيطر من خالله‬
‫على جميع أجهزة المخابرات في العالم‪..‬‬
‫كان من المستحيل لمن يرى المنظر الخارجي للمكان‪ ،‬أن يصدق أن ذلك المكان المهجور يخفي تحته‬
‫مجموعة من المباني التي شيدت على أحدث طراز معماري‪ ،‬وزود بأحدث أجهزة الدفاع والتجسس‪.‬‬
‫وداخل إحدى حجرات ذلك الوكر الرهيب‪ ،‬جلس رجل في منتصف العمر خلف مكتبه ينفث دخان‬
‫سيجاره الكوبي الفاخر في شرود‪ ،‬وهو يسرح بأفكاره بعيدا‪ ،‬ومجموعة من األفكار والذكريات‬
‫تتالحق أمام عينيه‪..‬‬
‫تذكر والده الذي نجح فيما مضى أن ينشئ أكبر منظمة جاسوسية في العالم‪..‬‬
‫تذكر كيف نجحت مؤسسة والده في فرض سيطرتها على أجهزة المخابرات العالمية‪..‬‬
‫تذكر كيف نجح والده في إخفاء هويته الحقيقية عن الجميع لفترة طويلة تحت اسم مستعار يحمل لقب‬
‫(مستر إكس)‪..‬‬
‫ثم تذكر كيف دفع القدر في طريقه (أدهم صبري) شيطان المخابرات المصرية‪ ،‬الذي نجح فيما فشلت‬
‫في تحقيقه أعتى أجهزة المخابرات العالمية‪)4( .‬‬
‫لقد نجح في تدمير مؤسسة والده وتكبيده خسائر فادحة‪..‬‬
‫تذكر كيف نجحت أفعى الموساد السابقة في خداع والده‪ ،‬وبعد أن أوهمته لفترة طويلة أنها تعمل‬
‫لحساب منظمته‪ ،‬ثم غدرت به وكشفت هويته قبل أن تقتله‪)5( .‬‬
‫إنه لم يمقت في حياته كلها مثلما يمقت من دمرا والده‪..‬‬
‫(أدهم صبري) و (سونیا جراهام)‪..‬‬
‫وهو لن يترك ثأر والده حتى آخر نفس يتردد في صدره‪..‬‬
‫لقد أقسم أن ينتقم ممن دمروا والده مهما تخلفه األمر‪.‬‬
‫لقد قرر أن يبدأ خطة انتقامه من (أدهم صبري) الذي يعتبره السبب الرئيسي في سقوط والده‪..‬‬
‫ولكن كيف السبيل إليه‪ ،‬وهو الذي اختفى مع زوجته إثر ذلك االنفجار الذي حدث يوم زفافه‪..‬‬

‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬


‫لقد بحث عنه كثير جدا‪ ،‬حتى تفتق ذهنه إلى أن يقوم بدفع (قدري) أقرب أصدقائه للبحث عنه‪ ،‬بل‬
‫وإيهامه أنه على بعد خطوات قليلة منه‪ ،‬في حين كان هو نفسه من يقوم بخداع (قدري) عن طريق‬
‫رجله الذي يدعى (لوجراند)‪)6( .‬‬
‫لقد نجح في دفع المخابرات للسير وفق خطة محكمة تم إعدادها بدقة إليهام الجميع بأن من يسعون‬
‫خلفه هو (أدهم صبري) نفسه‪..‬‬
‫لقد أعد تلك الخطة لضرب عصفورين بحجر واحد‪..‬‬
‫أولهما أن يدفع (أدهم) للظهور من مخبأه‪..‬‬
‫ثانيهما أن يستأثر به وحده عندما يدفع الجميع للتحرك في اتجاه محدد موهما إياهم بأنهم يسعون خلف‬
‫(أدهم) شخصيا في حين يسير هو في اتجاه آخر مخالف تماما‪..‬‬
‫ولكن خطته األولى باءت بالفشل‪ ،‬فيما عدا انتصار واحد قد نجح في تحقيقه‪..‬‬
‫لقد نجح في الحصول على ابنه (آدم) بعد معركة عنيفة في ميناء مارسيليا‪)7(.‬‬
‫ذلك االبن الذي سيعده إعدادا خاصا ليكون هو الورقة الرابحة في معركته ضد الشيطان المصري و‪..‬‬
‫قاطعته صوت طرقات على باب غرفته فاعتدل في مجلسه‪ ،‬والتقط نفسا عميقا من سيجاره‪ ،‬ثم قال‬
‫بحروف اختلطت بدخان سيجاره‪:‬‬
‫‪ -‬ادخل يا (فريدريك)‪.‬‬
‫فتح الباب ودلف إلى الغرفة (فريدريك) مساعده وتوقف أمام مكتبه مباشرة في صمت تام‪..‬‬
‫تجاهل (ليونيد) وجود (فريدريك) بضع لحظات تشاغل خاللها بمطالعة بعض األوراق ثم رفع عينيه‬
‫نحو مساعده وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك من جديد؟‬
‫غمغم (فريدريك) في احترام بالغ‪:‬‬
‫‪ -‬كل األمور تسير مثلما خططت لها تماما يا سيدي‪.‬‬
‫صمت لحظة ثم أردف بكلمات سريعة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد نجح رجالنا في اختطاف (قدري) خبير التزييف والتزوير بالمخابرات العامة المصرية‪ ،‬وتلك‬
‫الفتاة القعيدة التي تدعى (جيهان فريد) وهما اآلن يقبعان داخل زنزانة محكمة في وكرنا السري‪.‬‬
‫لم يبد أي اهتمام على وجه (ليونيد) وإن بدأ الضجر يطل من عينيه فأسرع (فريدريك) يكمل‪:‬‬
‫‪ -‬ولقد قمنا بإرسال ذلك المظروف الذي يحمل شعار منظمتنا إلى المخابرات العامة المصرية‪،‬‬
‫وتأكدنا من خالل مصادرنا أنه قد وصل بالفعل إلى مدير المخابرات شخصيا‪.‬‬
‫انتظر (ليونيد) حتى انتهى مساعده من حواره‪ ،‬ثم غمغم في برود أقرب إلى الالمباالة‪:‬‬
‫‪ -‬عظيم‪.‬‬
‫قالها ثم أشار لمساعده باالنصراف‪ ،‬ولكن ذلك األخير لم يحرك ساكنا وهو يتنحنح حرجا‪ ،‬فأدرك‬
‫رئيسه أنه يريد قول شيئا فعاد يغمغم في ضجر‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك؟‬
‫ازدرد (فريدريك) لعابه في توتر ثم غمغم بصوت أقرب إلى الخفوت‪:‬‬
‫‪ -‬أريد أن أفهم‪.‬‬
‫انعقد حاجبا (ليونيد) بشدة فأردف (فريدريك) بتوتر قد تضاعفت حدته‪:‬‬

‫أل‬ ‫أ أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬


‫‪ -‬أرجوك يا سيدي أريد أن أفهم ما يدور حولي على األقل‪.‬‬
‫تطلع إليه (ليونيد) بنظرات صارمة فانكمش (فريدريك) في رعب وهّم باالعتذار إلى سيده‬
‫واالنصراف بأقصى سرعة ممكنة‪ ،‬ولكنه فوجئ بـ (ليونيد) يغمغم في برود‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تريد أن تفهم؟‬
‫تطلع (فريدريك) إلى سيده لحظة‪ ،‬في صمت ثم ازدرد لعابه وغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا قمنا باختطاف الفتاة القعيدة؟‪ ..‬من المفترض أن المهمة هي صفقة يتم خاللها حصولنا على‬
‫معلومات عسكرية دقيقة مقابل إطالق سراح رجلين لهما وزنهما في المخابرات المصرية‪.‬‬
‫صمت لحظة ثم غمغم في حيرة‪:‬‬
‫‪ -‬قد أتفهم ذلك عندما قمنا باختطاف البدين الذي يعتبر أخطر رجال التزييف والتزوير في العالم كله‪..‬‬
‫ولكن ما أهمية اختطاف فتاة قعيدة تعمل بقسم إداري روتيني بالمخابرات المصرية؟ إنها تحتاج إلى‬
‫جهد مضاعف في االعتناء بها نظًر ا لظروفها الصحية دون الحاجة إليها فهي‪...‬‬
‫قاطعه (ليونيد) في صرامة‪:‬‬
‫‪ -‬غبي‪ ..‬يبدو أنك ال تفهم شيئا بالفعل‪.‬‬
‫امتقع وجه (فريدريك) ولم يتفوه بحرف واحد‪ ،‬بينما حدجه رئيسه بنظرة صارمة قبل أن يغمغم وهو‬
‫يطفئ سيجاره في منفضة فوق مكتبه‪ ،‬ثم يشعل سيجاًر ا آخر‪:‬‬
‫‪ -‬هذه الفتاة هي الطعم الرئيسي في هذه العملية‪ ،‬والتي سأحصل من خاللها على صيدي الثمين‪.‬‬
‫تضاعفت الحيرة في عيني (فريدريك)‪ ،‬ولكنه لم يجرؤ على نطق حرف واحد خشية تعنيف سيده‬
‫الذي التقط نفسا عميقا من سيجاره ثم نفثه في الهواء وهو يغمغم في خفوت وكأنه يحدث نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬قد تبدو العملية في ظاهرها أنها عملية مساومة تحصل خاللها منظمة جاسوسية على بعض‬
‫المعلومات العسكرية بالغة الخطورة مقابل إطالق سراح رجال المخابرات‪ ..‬ولكن العملية الحقيقية‬
‫تختلف تماما في جوهرها عن ما يبدو من مظهرها‪.‬‬
‫أطلت نظرة أقرب إلى البالهة من عيني (فريدريك)‪ ،‬ولكنه آثر االلتزام بالصمت‪ ،‬وتابع سيده وهو‬
‫يلتقط نفس آخر من سيجاره ويطلقه في الهواء ببطء‪ ،‬قبل أن يغمغم في مكر الثعالب‪:‬‬
‫‪ -‬األمر كله ما هو إال خدعة كبرى‪ ..‬فالغرض األساسي من هذه العملية هو استدراج الشخص الذي‬
‫بحثت عنه طويال وفشلت في العثور عليه تماما‪ ،‬لذا فسأدفعه دفعا إلى الظهور‪.‬‬
‫صمت لحظة عقد خاللها حاجبيه وهو يتراجع ليستند بظهره إلى مقعده‪ ،‬ثم أردف في مقت‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الشخص هو نفسه الشيطان المصري الذي فشلت في العثور علية سابقا‪ ،‬ولكن هذه المرة األمر‬
‫يختلف كثيرا‪.‬‬
‫غمغم (فريدريك) في خفوت شديد‪ ،‬وكأنما يخشى أن يعلو صوته فيتعرض لتقريع سيده‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن لم هذين الشخصين بالذات؟‬
‫مط (ليونيد) شفتيه ورفع أحد حاجبيه وهو يغمغم في دهاء‪:‬‬
‫‪ -‬ذلك البدين هو أقرب أصدقائه‪ ،‬وهو لن يتردد لحظة واحدة في أن يفديه بحياته إذا ما استشعر‬
‫بالخطر يدنو منه‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم تضاعف الخبث المطل من عينيه وهو يردف‪:‬‬
‫‪ -‬أما الفتاة فقد كانت زميلته سابقا‪ ،‬وقد أصيبت أثناء أداء إحدى المهام إلى جواره عندما تلقت‬
‫رصاصة في جسدها لتفدي زوجته الحالية‪ ،‬وهو يدين لها برد الجميل‪ ..‬إن نقطة ضعف ذلك الشيطان‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫هي الشهامة التي تجعله يضحي بنفسه فداء أصدقائه وزمالئه‪ ،‬وأنا سوف أستغل هذه النقطة لصالحي‬
‫تماما‪.‬‬
‫عند تلك النقطة اندفع (فريدريك) يقول في حيرة‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن كيف ستصل إليه أخبار اختطاف زمالئه‪ ،‬ونحن على تمام العلم من خالل مصادرنا بأن رجال‬
‫المخابرات المصرية ال يعلمون مكانه‪ ،‬بل إنهم كانوا طرفا في الصراع السابق خالل رحلة البحث‬
‫عنه‪ ،‬والتي انتهت بفشل جميع األطراف في التوصل إلى مكانه؟(‪)8‬‬
‫أطلق ليونيد ضحكة تشبه عواء الذئب‪ ،‬ثم داعب ذقنه بسبابته وإبهامه وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬قد تفشل مخابراته في التوصل إلى مكانه‪ ،‬ولكن األمر يختلف تماما بالنسبة له‪ ..‬فرجل مثله لن‬
‫تنقطع صلته بمخابراته بل يظل في مكمنه يتابع جميع األحداث عن بعد‪ ،‬وسيظهر حين يرغب وحده‬
‫في ذلك‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم غمغم وهو يبتسم في خبث‪:‬‬
‫‪ -‬وحين يصله خبر مثل اختطاف صديقه األثير وزميلته القعيدة‪ ،‬سيدفعه ذلك دفعا إلى الظهور‬
‫وحينها‪...‬‬
‫صمت بغتة‪ ،‬ثم طرقع بأصابعه في إشارة مفهومة لما ينتويه‪ ،‬فاتسعت عينا (فريدريك) في دهشة‬
‫ممزوجة باإلعجاب لذكائه الشديد‪ ،‬ولكنه تذكر شيئا ما فهتف بسرعة وكأنه توصل إلى حل مشكلة‬
‫كبرى‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن لماذا لم نقم بمساومته بطفله (آدم)؟ إنه في حوزتنا اآلن وسيجعله هذا يأتي زاحفا فور إعالننا‬
‫الـ‪...‬‬
‫قاطعته (ليونيد) في صرامة هادرة‪:‬‬
‫‪ -‬كال‪.‬‬
‫ابتلع (فريدريك) لسانه مع صرخة رئيسه الغاضبة وهو يتطلع إليه في ذعر بالغ‪ ،‬بينما أردف ذلك‬
‫األخير قائال بنفس الصرامة‪:‬‬
‫‪( -‬آدم) هو الورقة األخيرة الرابحة التي لن أجازف بفقدها قط اآلن‪ ..‬هناك العديد من الوسائل التي‬
‫ستمكنني من العثور على ذلك الشيطان ولكن مرحلة إعالن عثوري على (آدم) لم تحن بعد‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم أردف في مقت الكون كله‪:‬‬
‫‪ -‬ثم إنني أعد برنامج انتقام مختلف لذلك الشيطان‪ ..‬برنامج سأذيقه من خالله أشد أنواع المرارة‬
‫والهزيمة‪ ..‬سيكون انتقامي من خالل ابنه نفسه الذي أعده اآلن ليكون الخنجر الذي سيطعن ظهر‬
‫والده‪.‬‬
‫هرش (فريدريك) رأسه في حيرة وبدا له ما يقوله سيده عبارة عن مجموعة من األلغاز مستحيلة‬
‫الفهم‪ ،‬فاكتفي بإيماءة من رأسه وهّم بقول شيء ما ولكنه عاد لينكمش في توتر وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬هناك سؤال أخير يؤرقني يا سيدي‪.‬‬
‫زفر (ليونيد) في حدة ثم غمغم في ضجر‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو؟‬
‫تردد (فريدريك) لحظة‪ ،‬ثم حسم أمره وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا لقب (مستر إكس)؟ الجميع يعلم إن منظمة (مستر إكس) هي منظمة جاسوسيه قد تم القضاء‬
‫عليها بعد كشف هوية صاحبها أال وهو والدك (إيجور تورجنيف)‪ ..‬ما الداعي إذن إلطالق نفس االسم‬
‫على منظمتنا الجديدة؟‬
‫ضاقت حدقتا ليونيد وهو يتطلع إلى (فريدريك) بضع لحظات في صرامة جعلت ذلك األخير يلعن‬
‫ذلك اليوم الذي فكر فيه في العمل مع شخصية سادية مثله‪ ،‬فالتزم بالصمت وخفض عينيه أرضا‬
‫محاوال إخفاء رعبه وتوتره‪ ،‬ولكن جسده انتفض بشدة عندما ضرب (ليونيد) سطح مكتبه الزجاجي‬
‫بقبضتيه بقوة كادت أن تحطمه‪ ،‬وهّب واقفا بحركة حادة وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪( -‬مستر إكس) كان وسيظل أسطورة لن تنتهي في عالم الجاسوسية‪ ..‬قد يكون البعض قد نجح في‬
‫تدمير المنظمة سابقا ولكنني سأعيد أمجاد تلك المنظمة مرة أخرى‪ ..‬لقد أعدت بنائها وتنظيمها‬
‫وستظل محتفظة بنفس االسم تمجيدا وتخليدا لذكرى والدي‪ ..‬سيظل اسم (مستر إكس) يثير الرعب في‬
‫القلوب ويسيطر على أجهزة المخابرات العالمية ما حييت‪.‬‬
‫ازدادت ارتجافه (فريدريك) على نحو عجيب وخيل إليه أن ساقاه تعجزان عن حمله مع نظرة‬
‫الغضب العارم التي تطل من عيني رئيسه فغمغم في رعب‪:‬‬
‫‪ -‬أستأذنك في االنصراف يا سيدي‪.‬‬
‫رمقه (ليونيد) بنظرة صارمة قبل أن يشير بيده في صمت إلى باب الغرفة‪ ،‬فأسرع مساعده بمغادرة‬
‫الغرفة بخطوات كالركض تاركا خلفه رئيسه يعود ليجلس خلف مكتبه ويسبح ثانية في بحر أفكاره‬
‫التي سيطر عليها تساؤل واحد‪..‬‬
‫ترى هل ستنجح خطته في دفع (أدهم صبري) إلى الظهور؟‬
‫ولكن تساؤله ظل بدون إجابة‪..‬‬
‫على اإلطالق‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫” هراء “‬
‫انطلقت تلك الصيحة الغاضبة الصارمة من فم وزير الدفاع وهو يتطلع إلى الرسالة التي كان يحويها‬
‫المظروف األسود‪ ،‬قبل أن يلقي الورقة بحدة فوق مائدة االجتماعات‪ ،‬التف حولها مجموعة من‬
‫رؤساء األقسام وقيادات اإلدارة البارزين‪.‬‬
‫صمت وزير الدفاع لحظة‪ ،‬ثم أردف في غضب‪:‬‬
‫‪ -‬كيف يمكن لتلك المنظمة الحقيرة أن تجرؤ على طلب أمر كهذا؟‪ ..‬بل أي جنون هذا الذي يدفع‬
‫زعيمها إلى أن يظن بأنه يمكننا مقايضة أمن وسالمة الوطن بأمن وسالمة أفراد مهما بلغ شأن هؤالء‬
‫األفراد؟‬
‫غمغم مدير المخابرات وهو يمط شفتيه في ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬لن يمكننا الموافقة بالطبع على مطالب تلك المنظمة‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم أردف في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬وفي نفس الوقت‪ ،‬لن يمكننا التضحية برجالنا‪.‬‬
‫عاد يصمت لحظة تأمل خاللها وجه الوزير الغاضب‪ ،‬ثم أردف‪:‬‬
‫‪ -‬علينا إيجاد حل يضمن سالمة رجالنا دون أن يمسهم سوء‪.‬‬
‫صاح وزير الدفاع في حدة‪:‬‬
‫‪ -‬وهل هذا الحل يتضمن الموافقة على منحهم بعض المعلومات التي تخص تسليح مصر العسكري‬
‫وتفاصيل صفقات السالح األخيرة التي نضمن بها تفوق الجيش المصري على أي جيش آخر‬
‫بالمنطقة؟‬
‫هتف المدير بدوره في صرامة‪:‬‬
‫‪ -‬على جثثنا أن يتم منح تلك المنظمة معلومة واحدة تضر أمن مصر القومي‪.‬‬
‫غمغم نائب المدير‪:‬‬
‫‪ -‬هناك نقطة بالغة الخطورة يجب وضعها في االعتبار أيها السادة‪.‬‬
‫التفت إليه الجميع في اهتمام‪ ،‬فأكمل قائال‪:‬‬
‫‪ -‬وجود السيد (قدري) في قبضة تلك المنظمة يمثل نقطة ضعف بالغة الخطورة بالنسبة لنا‪.‬‬
‫التقى حاجبا وزير الدفاع‪ ،‬بينما أكمل النائب في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬فالسيد (قدري) بحكم منصبه بالغ الحساسية والخطورة‪ ،‬كان مّط لعا على أدق أسرار اإلدارة‪ ،‬وعلى‬
‫علم تام بجميع المعلومات التي تخص جميع العاملين باإلدارة داخل وخارج مصر‪ ،‬بل وبحكم منصبه‬
‫فقد كان له مطلق الحرية بالدخول إلى غرفة المعلومات واالطالع على جميع ما تحويه من ملفات‬
‫تحوي أدق أسرار البلد األمنية‪.‬‬
‫ظهر الضيق على وجوة الجميع عندما استطرد قائال‪:‬‬
‫‪ -‬الخطورة تكمن فيما إذا قررت تلك المنظمة إخضاع السيد (قدري) لالستجواب وانتزاع ما لديه من‬
‫معلومات تحت تأثير التعذيب مثال‪ ..‬فنحن نعلم أن السيد (قدري) غير مدّر ب إطالقا على احتمال أية‬
‫وسائل تعذيب‪ ..‬حينها سيبوح بما لديه من معلومات وهذا في حد ذاته كارثة كبرى‪.‬‬
‫ساد الصمت والوجوم بعد كلمات نائب المدير‪ ،‬وامتد الصمت لدقيقة كاملة قبل أن يقول أحد‬
‫المساعدين‪:‬‬
‫‪ -‬نحن نتفهم أمر اختطاف السيد (قدري) بالذات نظرا لخطورة منصبه‪ ،‬ولكن ما يثير الحيرة في األمر‬
‫هو أمر اختطاف الرائد (جيهان فريد) التي تعاني منذ فترة ليست بالقصيرة من إصابة بالعمود الفقري‬
‫أقعدتها عن الحركة تماما‪ ،‬وأصبحت تعمل بالقسم اإلداري‪ ..‬ما الحكمة إذن من اختطافها؟‬
‫كل بحثنا‬
‫عاد الصمت يلف قاعة االجتماعات لدقيقة كاملة‪ ،‬ثم غمغم المدير‪:‬‬
‫فلندع السبب وراء اختطاف (جيهان) جانبا‪ ،‬ففي نهاية األمر هي اآلن توجد في قبضة تلك المنظمة‬
‫مع (قدري)‪ ..‬ولنركز كل بحثنا وجهودنا في إيجاد مخرج من ذلك المأزق الرهيب‪.‬‬
‫غمغم وزير الدفاع في حنق‪:‬‬
‫‪ -‬أوافقك الرأي أنه مأزق رهيب‪ ،‬فهذه المنظمة المأفونة تمنحنا أسبوعا واحدا كي تتم صفقة تبادل‬
‫المعلومات باألسرى‪ ،‬وفي حال الرفض فسوف تقوم بقتل رجالنا كإجراء مبدئي‪ ،‬ثم تمنحنا فرصة‬
‫ثالثة أيام أخرى لتحصل منا على المعلومات المطلوبة‪ ،‬وفي حال الرفض ستقوم بتنفيذ سلسلة من‬
‫التفجيرات في أماكن حيوية من شأنها إلحاق أضرار فادحة بالبلد‪.‬‬
‫عاد الوجوم يسيطر على جميع الوجوه للحظات‪ ،‬قبل أن يلتفت المدير إلى أحد رؤساء األقسام ويقول‬
‫في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬هل استطعنا التوصل إلى تحديد الجهة التي استقرت بها الطائرة التي كانت تقّل (قدري) و(جيهان)؟‬
‫نهض رئيس القسم‪ ،‬واتجه بخطوات هادئة نحو خريطة ضخمة للعالم‪ ،‬ثم التقط عصا رفيعة طويلة‪،‬‬
‫وبدأ في اإلشارة بالعصا لمجموعة من المسارات وهو يقول في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قمنا بالتحري وتتبع سير الطائرة‪ ،‬فوجدنا أن الطائرة الطبية التي تقّلهما قد هبطت في مطار‬
‫(لندن جاتويك) ب(إنجلترا)‪ ،‬وهناك تم نقل رجالنا إلى طائرة حربية اتجهت بهما نحو (روسيا) حيث‬
‫استقرت الطائرة في مطار (سانت بطرسبرغ) لتتزود بالوقود قبل أن تعاود التحليق مرة أخرى نحو‬
‫الشمال الغربي‪ ،‬لتستقر في نقطة مبهمة لم يمكننا تحديد إحداثياتها بعد‪.‬‬
‫نهض المدير واتجه نحو الخريطة‪ ،‬وضاقت حدقتاه وهو يتطلع إلى حيث أشار رئيس القسم‪ ،‬وظل‬
‫على صمته بضع لحظات قبل أن يعتدل ويستدير ليعود إلى مائدة االجتماعات‪ ،‬بينما صاح وزير‬
‫الدفاع في غضب شديد‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا لم يتم مباغتة ومهاجمة الخاطفين من قبل رجالكم في أحد المطارات التي استقرت به الطائرة‬
‫مؤقتا؟ لماذا سمحتم لهم بالفرار برجالنا إلى نقطة مبهمة؟‬
‫مط مدير المخابرات شفتيه‪ ،‬وغمغم وهو يستند بظهره إلى مقعده‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف لم يمكننا ذلك قط‪ ..‬فمعرفتنا بأمر اختطاف رجالنا أتت بعد تحليق الطائرة فعليا وانطالقها‬
‫من مطار (سانت بطرسبرج)‪.‬‬
‫ارتفع حاجبا وزير الدفاع في دهشة‪ ،‬ثم انخفضا ليلتقيا في غضب وهّم بالصياح في ثورة‪ ،‬ولكن مدير‬
‫المخابرات أوقفه بإشارة من كفه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬بالنسبة للسيد (قدري) فقد اعتاد التغّيب كثيرا عن العمل في الفترة األخيرة‪ ،‬وذلك نظرا لتدهور‬
‫حالته النفسية بعد فقده ألقرب شخصين إليه في الوجود‪ ،‬ونظرا لمعيشته بمفرده فقد بدا أمر اختفائه‬
‫أمرا طبيعيا قد تكرر كثيرا في الشهور الماضية‪ ..‬أما (جيهان) فقد كانت تعالج منذ فترة طويلة‬
‫بمستشفى وادي النيل‪ ،‬واعتادت التنقل كثيرا بين المستشفى ومنزلها الذي تقطن فيه بمفردها أيضا‪..‬‬
‫لذا فلم يثر غيابها أية شكوك على اإلطالق‪.‬‬
‫عاد صمت ثقيل يلف المكان لثوان معدودة‪ ،‬قبل أن يقول المدير في رصانة‪:‬‬
‫‪ -‬هذه المنظمة تحمل لقب مستر (إكس) ولقب مثل هذا يعيد إلى أذهاننا ذكرى تلك المنظمة التي قد تم‬
‫تدميرها على قبضة رجلنا العميد (أدهم صبري)‪.‬‬
‫نطق االسم األخير بمرارة بالغة‪ ،‬ثم صمت للحظات طوال ران خاللها على المكان صمت مهيب‪،‬‬
‫وكأن ذكر االسم قد أعاد إلى النفوس ذكرى بالغة التأثير والصعوبة‪ ،‬قبل أن يتمالك المدير نفسه‪،‬‬
‫ويلتقط نفسا عميقا ثم يكمل بصوت متحشرج‪:‬‬
‫‪ -‬أن تحمل تلك المنظمة ذلك اللقب تحديدا‪ ،‬فهو مؤشر شديد الوضوح إلى مالكها ومؤسسها الذي يبدو‬
‫أنه يرغب وبشدة في إعادة أمجاد والده‪.‬‬
‫غمغم أحد الحضور في اعتراض‪:‬‬
‫‪ -‬ولم يسعى إلى فضح نفسه على هذا النحو؟‪ ..‬إن عالم المخابرات ومنظمات الجاسوسية يعتمد عملها‬
‫أكثر ما يعتمد على السرية التامة‪.‬‬
‫انعقد حاجبا المدير وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬يمكنك اعتباره نوعا من أنواع التحدي وفرد العضالت‪ ،‬ويمكنك اعتباره أيضا نوعا من أنواع‬
‫الدعاية لقوة تلك المنظمة مثلما‪...‬‬
‫بتر عبارته بغتة‪ ،‬ثم شرد ببصره لحظات قبل أن يردف في حزن تسلل إلى صوته على الرغم منه‪:‬‬
‫أ‬
‫‪ -‬مثلما كان يحدث في السابق مع (ن_‪ ،)١‬الذي كان فيما مضى يعتبر أقوى دعاية وإعالن عن قوة‬
‫جهاز المخابرات العامة المصرية‪ ،‬على الرغم من عملنا الذي كان يحتم علينا إخفاء هويته عن‬
‫الجميع‪.‬‬
‫عاد الوجوم ليعلو جميع الوجوه‪ ،‬قبل أن يغمغم وزير الدفاع‪:‬‬
‫‪ -‬ما العمل إذن؟‪ ..‬كيف المخرج من ذلك المأزق؟‬
‫غمغم المدير في هدوء وهو يزن كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬الحل يكمن في التوصل إلى مكان رجالنا قبل أن تنتهي المهلة المسموح بها لنا وتحريرهما‪ ..‬ليس‬
‫هذا فقط‪ ،‬بل يجب تلقين تلك المنظمة درسا قاسيا حتى تصبح عبرة لمن يعتبر‪ ،‬ولتدرك أن أمن مصر‬
‫ورجالها خط أحمر‪ ،‬وأن من يجرؤ على تجاوزه سوف ينال جزاءه الرادع‪.‬‬
‫مط وزير الدفاع شفتيه وغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬إنها تبدو لي مهمة مستحيلة مع قصر الوقت الممنوح لنا‪.‬‬
‫تنهد المدير في عمق وحزن ثم غمغم‪:‬‬
‫‪ -‬لذا فهي تصلح لرجل واحد‪ ،‬رجل كان فيما مضى قادرا على تحطيم المستحيل‪.‬‬
‫زفر وزير الدفاع في ضيق‪ ،‬ثم قال في حدة‪:‬‬
‫‪ -‬نحن اآلن في الحاضر وليس الماضي‪ ..‬وحاضرنا اآلن يخلو من وجود رجلكم الذي اختفى منذ يوم‬
‫زفافه‪ ،‬وفشلت جميع محاوالتنا في العثور عليه‪.‬‬
‫انعقد حاجبا المدير في ضيق‪ ،‬بينما سرت همهمة خافتة بين الحضور‪ ،‬قطعها صوت المدير الذي قال‬
‫بغتة وقد استعاد صوته حزمه‪:‬‬
‫‪ -‬قبل البدء في وضع خطة استرداد (قدري) و(جيهان)‪ ،‬علينا أوال جمع معلومات كافية شديدة الدقة‬
‫عن تلك المنظمة‪ ..‬معلومات تخص صاحبها الفعلي‪ ،‬مصادر تمويلها‪ ،‬موقعها‪ ..‬باختصار الحصول‬
‫على جميع المعلومات التي تخص كل أمر يتعلق بها من قريب أو بعيد‪.‬‬
‫هتف أحد رؤساء األقسام المختص بالبحث وبجمع المعلومات في حماس‪:‬‬
‫‪ -‬سنبدأ على الفور‪ ،‬وسيكون هناك ملف كامل وافي يخص تلك المنظمة على مكتب سيادتك في وقت‬
‫قياسي‪.‬‬
‫أومأ مدير المخابرات برأسه إيماءة خفيفة‪ ،‬ثم أدار بصره في الحضور قبل أن يغمغم في بطء‪:‬‬
‫‪ -‬أما أنا فسأقوم بمحاولة أخيرة السترداد رجلنا (ن_‪.)۱‬‬
‫التفتت كل العيون تتطلع إليه في دهشة وتساؤل‪ ،‬فأردف وعيناه تتألقان ببريق شديد‪:‬‬
‫‪ -‬ولو نجحت تلك المحاولة فيمكننا القول بأن تلك المنظمة الجديدة سوف تلحق بسابقتها في القريب‬
‫العاجل‪.‬‬
‫نطقها وازداد تألق عينيه على نحو عجيب‪..‬‬
‫تألق يحمل األمل في رجوع البطل‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫الزمان‪ :‬الخامس عشر من شهر يناير‬
‫المكان‪ :‬جزيرة (كورسيكا) الفرنسية‪ ،‬ذات الطبيعة الخالبة الساحرة والتي تعتبر أجمل األماكن في‬
‫فرنسا بل في قارة أوروبا كلها‪..‬‬
‫داخل إحدى تلك الفيالت الصغيرة التي تقبع فوق الجزيرة‪ ،‬وفي إحدى حجراتها تحديدا‪ ،‬كان هناك‬
‫رجال ممشوق القوام‪ ،‬عريض المنكبين‪ ،‬أسود الشعر عدا الفودين اللذان اصطبغا بشيب زاده وقارا‬
‫ووسامة‪ ،‬يجلس أمام الكمبيوتر المحمول الخاص به‪ ،‬معقود الحاجبين وقد غرقت حواسه كلها في‬
‫تفكير عميق‪ ،‬بينما أخذت عيناه تتابعان بدقه المعلومات التي أخذت تتراص أمامه على الشاشة‪..‬‬
‫لم يكن ذلك الرجل سوى بطلنا العميد (أدهم صبري)‪ ،‬الذي اختفى منذ فترة ليست بالقليلة مع زوجته‬
‫المقدم (منى توفيق)‪..‬‬
‫في تلك اللحظة‪ ،‬كان (أدهم) يجلس مستغرقا تماما في متابعة المعلومات التي أخذت تبثها إحدى‬
‫قنوات اإلنترنت السرية الخاصة بجهاز المخابرات المصرية‪ ،‬والتي يلزم للسماح بدخولها معرفة‬
‫شفرة كودية مكونة من عشرة أرقام ال يعلمها سواه‪.‬‬
‫كانت المعلومات التي تبث خالل تلك القناة مكتوبة بلغة غريبة ال يوجد مثيلها بين لغات األرض‪ ..‬لغة‬
‫تجمع ما بين اإلنجليزية والعربية والفارسية والفرنسية‪..‬‬
‫كانت تلك هي اللغة السرية التي تستخدمها المخابرات العامة لبث المعلومات الخطيرة بالغة الخطورة‬
‫إلى رجالها عبر قنواتها الخاصة‪ ،‬التي تختص كل قناة منها برجل محدد من رجالها يتم التواصل معه‬
‫من خاللها عبر أي مكان في العالم‪.‬‬
‫استغرق (أدهم) بحواسه كلها في متابعة المعلومات المتراصة أمامه‪ ،‬ولم يشعر باقتراب (منى) التي‬
‫تسللت خلفة بهدوء وخفة شديدين‪ ،‬ثم فوجئ بها تحتضن عنقه بذراعيها في حنان غامر‪ ،‬وتريح‬
‫وجنتها على رأسه وهي تهمس‪:‬‬
‫‪ -‬صباح الخير يا حبيبي‪ ..‬ترى هل نمت جيدا؟‬
‫ارتسمت ابتسامة حانية‪ ،‬على شفتي (أدهم) وهو يرفع أنامله ليتلمس شعرها الناعم في حنان دافق‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬صباح الخير يا حبيبتي‪ ..‬وكيف ال أنام جيدا وبجواري أجمل مالك في الكون كله!‬
‫ابتسمت (منى) في رقة وحنان‪ ،‬وهزت رأسها في حركة أنثوية ناعمة لتزيح خصلة شعر نافرة عن‬
‫جبينها‪ ،‬ثم مالت نحوه وهّمت بطبع قبلة حانيه على وجنته‪ ،‬ولكن في تلك اللحظة وقعت عينيها على‬
‫المعلومات المتراصة أمامه على الشاشة‪ ،‬فاعتدلت بسرعة وعينيها تلتهمان المعلومات التهاما و‪..‬‬
‫انتفض جسدها بمنتهى العنف مع خفقات قلبها التي ازدادت بشدة وهي تطلق شهقة جزع‪ ،‬قبل أن‬
‫تخفض عينيها لتلتقيا بعيني (أدهم) وهي تغمغم ارتياع‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي!!‪( ..‬قدري) و(جيهان)‪.‬‬
‫فقد كانت تلك المعلومات السرية التي تبثها المخابرات المصرية عبر قناتها بتلك اللغة الفريدة‪ ،‬ما هي‬
‫اال معلومات تخص اختطاف (قدري) و(جيهان)‪ ،‬وتفاصيل تلك الصفقة الخطيرة‪..‬‬
‫ولكن مهال‪...‬‬
‫قبل أن نكمل سرد األحداث‪ ،‬هناك العديد من التساؤالت التي يطرحها عقل القارئ‪..‬‬
‫ترى كيف تم إنقاذ (أدهم) و(منى) من إصاباتهما الفادحة؟‬
‫ترى كيف وصل بطلينا الى هذه الجزيرة الخالبة؟‬
‫ترى أين اختفى (أدهم) و(منى) طوال تلك الفترة الطويلة السابقة؟!‬
‫وما السر وراء إصرار بطلينا على االختفاء عن أنظار الجميع؟!‬
‫لمعرفة إجابة تلك التساؤالت‪...‬‬
‫سوف نعود بالزمن الى فترة طويلة مضت‪..‬‬
‫وتحديدا إلى يوم لن ينمحي من عقول الجميع‪..‬‬
‫يوم تحولت فيه السعادة الجارفة إلى حزن ال مثيل له في الكون كله‪..‬‬
‫يوم تحولت فيه دموع الفرح إلى دموع العذاب والمرارة‪..‬‬
‫يوم زفاف (أدهم) و(منى)‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫‪ -٣‬المعجزة‪..‬‬
‫كان حفل الزفاف رائعا بحق‪..‬‬
‫الجميع في قمة السعادة‪..‬‬
‫األضواء تتألأل في كل مكان‪..‬‬
‫الضحكات تتعالى من جميع األفواه‪..‬‬
‫حتى وصل العروسان إلى قاعة الزفاف‪..‬‬
‫عندها احتبست جميع األنفاس وهم يتطلعون إلى أجمل عروسين وقعت عليهما أعينهم على اإلطالق‪..‬‬
‫(أدهم صبري) و(منى توفيق)‪..‬‬
‫(أدهم) جّم الوسامة بحّلته السوداء بالغة األناقة ورباط عنقه القصير‪..‬‬
‫و(منى) باهرة الحسن في ثوب الزفاف األبيض فائق الجمال والرقة والفخامة في آن واحد‪..‬‬
‫كانا في أبهى صورة جعلت شهقات اإلعجاب واالنبهار تنطلق من كل الحلوق‪..‬‬
‫كانت السعادة ترفرف حولهما وتحملها كل خلجة من خلجاتهما‪..‬‬
‫فها هو ذا أخيرا قد أتى ذلك اليوم الذي طالما حلما به طوال عمريهما‪..‬‬
‫كانا يبدوان كأسعد مخلوقين في العالم أجمع‪..‬‬
‫ثم حدث االنفجار الذي زلزل جميع القلوب‪..‬‬
‫‪9‬‬
‫انفجرت كعكة الزفاف ‪ -‬التي قادتها الصينية الحسناء (تيا) بنفسها ‪ -‬في وجه (أدهم) و(منى)‪) ( .‬‬
‫وأفاق الجميع على مشهد (أدهم) وهو يحتضن جسد (منى) في ذهول وصمت‪ ،‬قبل أن يصرخ بأعلى‬
‫صوته حزنا على فراق حبيبة عمره‪..‬‬
‫نهض (أدهم) حاماًل جسدها الرقيق بين ذراعيه‪ ،‬واتجه بها إلى سيارته وسط حشود الحاضرين دون‬
‫أن يجرؤ أحدهم على التفّو ه بحرف واحد‪..‬‬
‫وضعها بحنان الدنيا كّله في المقعد الخلفي لسيارته الخاصة‪ ،‬والتي حملت على سطحها الزينة‬
‫الخارجية للزفاف‪ ،‬اعتدل ليتطلع إليها في صمت حزين وبوجه أغرقته الدموع‪..‬‬
‫كانت دموعه تسيل كالمطر وألول مرة في عمره كله‪..‬‬
‫كان يعاني إصابات متفرقة‪ ،‬ولكنه لم يبالي بكل ما حاق بجسده‪..‬‬
‫فقد كانت اإلصابة األكبر في قلبه‪..‬‬
‫ذلك القلب الذي فقد أحب الناس إليه‪..‬‬
‫(منى توفيق)‪..‬‬
‫انطلق (أدهم) بسيارته تاركا شقيقه (أحمد) و(قدري) مع جموع الحاضرين يتساءلون‪..‬‬
‫ترى إلى أين يذهب بجثة (منى) وهو يعاني إصابات شديدة؟!‬
‫ولكن لم يستطع أحد الحصول على إجابة قط‪..‬‬
‫أما (أدهم) فقد انطلق بسيارته على غير هدى وهو ال يعلم إلى أين يذهب‪ ،‬أو ماذا يفعل‪..‬‬
‫كانت دموعه تغرق وجهه وأحزانه‪..‬‬
‫تغرق قلبه وتمزقه تمزيقا‪..‬‬
‫كان يعاني حزنا لم يشعر بمثله قط في عمره كله‪..‬‬
‫لقد أتت تلك اللحظة التي طالما خشي حدوثها طوال حياته‪..‬‬
‫موت (منى)‪...‬‬
‫تلك اللحظة التي اعتصرت كيانه في ألم وحزن هائلين‪..‬‬
‫تلك اللحظة التي انطفأ وأظلم العالم من بعدها في عينيه‪..‬‬
‫يا إلهي!!‬
‫كم كان يتمنى لو استطاع أن يفديها بعمره كله‪..‬‬
‫لقد تمنى دوما أن تأتي لحظته قبل لحظتها‪ ،‬ذلك ألنه كان يدرك حجم العذاب الذي سيذوقه عند فقدها‬
‫عذاب يصبح معه الموت أهون ألف مرة‪.‬‬
‫كان يقود سيارته بوجه جامد المالمح‪ ،‬ودموع تتساقط كالمطر دون شعور أو وعي‪..‬‬
‫تلك الدموع التي طالما حبستها عيناه‪ ،‬ولم يسمح لها بالتحرر قط‪ ،‬حتى يوم وفاة أقرب الناس إليه‪..‬‬
‫والده ووالدته‪..‬‬
‫ولكنه اليوم ال يملك القوة لكبح جماحها‪ ..‬لقد كانت (منى)‪ ،‬أقرب أهل األرض إلى قلبه‪..‬‬
‫لقد أحبها كما لم يحب مخلوقا قبل‪..‬‬
‫كانت تمثل العالم كله بالنسبة له‪..‬‬
‫اليوم فقد الزميلة‪..‬‬
‫والصديقة‪..‬‬
‫وحبيبة العمر كله‪..‬‬
‫فقد السند ورفيقة الكفاح‪..‬‬
‫فقد‪...‬‬
‫‪( -‬أدهم)‪..‬‬
‫كان ذلك الصوت الضعيف الواهن الذي نطق هامسا باسمه ليقطع سيل أفكاره وأحزانه‪..‬‬
‫كان الصوت شديد الخفوت‪ ،‬ولكن ما إن تسلل إلى أذني (أدهم) حتى انتفض جسده بمنتهى منتهى‬
‫العنف‪ ،‬وخفق قلبه بقوة هائلة‪ ،‬وهو يضغط فرامل سيارته بكل قوته ليوقفها بقوة كادت أن تقلبها رأسا‬
‫على عقب‪.‬‬
‫لم تكن السيارة قد توقفت بالفعل‪ ،‬عندما قفز منها وفتح بابها الخلفي بأصابع مرتجفة‪ ،‬وقلب كاد أن‬
‫يتوقف لشدة خفقانه‪..‬‬
‫احتواها بين ذراعيه بحنان الكون كله‪ ،‬وارتجف صوته وهو يهمس باسمها في أمل اختلط بلوعته‬
‫وعذابه‪..‬‬
‫مرت بضع ثوان لم تحرك خاللها (منى) ساكنا وهي ترقد مغمضة العينين بين ذراعيه‪ ..‬يهمس في‬
‫أذنها بلهجة هي الرجاء بعينه‪:‬‬
‫‪ -‬حبيبتي‪ ..‬إنه أنا‪ ..‬أجيبيني ولو بحرف واحد‪.‬‬
‫نطقها مع دموعه التي بدأت تسيل في ألم لتغرق وجهه‪ ،‬وتهبط عبر وجنتيه لتغرق وجه (منى)‪..‬‬
‫وبعد مرور لحظات – ذاب خاللها قلبه حتى كاد أن ينهار بين ضلوعه ‪ -‬عاد جسده لينتفض بمنتهى‬
‫العنف عندما حدث األمر الذي بدا له معجزة بكل المقاييس‪..‬‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫لقد فتحت (منى) عينيها ببطء شديد دون أن تنطق بحرف واحد‪ ..‬كل ما فعلته هو أن تطلعت إليه‬
‫بنظره تجمع ما بين األلم والحزن والحب في آن واحد‪..‬‬
‫عادت دموعه تنهمر كالسيل وهو يغمر وجه (منى) بالقبالت‪ ،‬ويضمها إليه هامسا وسط دموعه‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي!! (منى)‪ ..‬أنت على قيد الحياة‪ ..‬حمدا اهلل‪ ..‬حمدا هلل‪.‬‬
‫كانت أنفاسها قصيرة متقطعة‪ ،‬ووجهها شاحبا ممتقعا بشدة والدماء تغرق فستانها األبيض بغزارة‪..‬‬
‫ولم تمض لحظات معدودة حتى عادت (منى) تغلق عينيها مرة أخرى في بطء وصمت‪ ،‬فانتفض قلبه‬
‫بين ضلوعه بقوة وهلع وهو يغمغم في لوعة‪:‬‬
‫‪( -‬منى)‪ ..‬أرجوك ال تتركيني يا حبيبتي‪ ..‬لن يمكنني العيش بدونك‪.‬‬
‫ولكن (منى) لم تحرك ساكنا‪ ،‬بل أخذ وجهها يزداد شحوبا مع مرور كل لحظة‪ ،‬فأعادها إلى موضعها‬
‫في حنان ورفق بالغين‪ ،‬وأغلق الباب وعاد يقود سيارته بمنتهى السرعة واالنفعال‪.‬‬
‫ووسط انفعاالته‪ ،‬لم يفكر (أدهم) سوى في شيء واحد فقط‪..‬‬
‫إنقاذ (منى) بأي وسيلة‪..‬‬
‫ومهما كان الثمن‪!...‬‬
‫اعتصر عقله مفكرا‪...‬‬
‫أين يذهب؟ ماذا يفعل؟‬
‫كان يخشى الذهاب بها إلى أية مستشفى خشية أن يتتبعه من أرادوا قتله‪ ،‬فيفقد بذلك آخر أمل في نجاة‬
‫(منى)‪..‬‬
‫ليس أمامه إذن سوى اللجوء إلى الشخص الوحيد الذي يثق به والذي يمكنه مساعدته طبيا في مثل تلك‬
‫الظروف‪..‬‬
‫شقيقة الدكتور (أحمد)‪..‬‬
‫وبسرعة التقط هاتفه المحمول‪ ،‬وطلب رقم (أحمد) الذي لم يكد يسمع صوت شقيقه‪ ،‬حتى انفجرت‬
‫دموعه في غزارة وهو يهتف‪:‬‬
‫‪( -‬أدهم)‪ ..‬يا إلهي! أين أنت يا شقيقي؟ كيف‪..‬‬
‫قاطعه (أدهم) قائاًل في انفعال جارف وحزم شديد‪:‬‬
‫‪ -‬ال يوجد وقت لمثل هذه التساؤالت يا (أحمد)‪ ..‬اسمعني جيًد ا‪ ..‬لقد اكتشفت منذ لحظات أن (منى)‬
‫التزال بعد على قيد الحياة‪ ،‬ولكن حالتها الصحية في منتهى الخطورة وتحتاج إلى إسعاف طبي‬
‫عاجل‪ ،‬كل ما أطلبه منك اآلن هو سرعة القدوم إلّي معتصرا عقلك إليجاد مكان مناسب نقوم داخله‬
‫بإجراء اإلسعافات الالزمة لها‪.‬‬
‫ثم التقط نفسا عميقا‪ ،‬وتابع مؤكدا في حزم شديد‪:‬‬
‫‪ -‬ومع مراعاة أن ذلك المكان لن يكون تابعا ألية مستشفى على اإلطالق‪ ...‬وذلك لدواعي أمنية‪.‬‬
‫فور سماعه لصوت شقيقه‪ ،‬قام دكتور (أحمد) بمغادرة الفندق وقاد سيارته بمنتهى السرعة وهو‬
‫يحاول تمالك نفسه‪ ،‬مع ذلك االنفعال الجارف الذي مالء كيانه حتى النخاع‪..‬‬
‫كان يحاول استيعاب كل حرف ينطق به شقيقه‪..‬‬
‫لذا فقد هتف‪ ،‬وهو يعتصر عقله‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬أستطيع تدبر هذا األمر‪ ..‬فلدي صديق طبيب جراح‪ ،‬له باع طويل في جراحات الحروب‪،‬‬
‫ولدية عيادة قريبة مجهزة على أعلى مستوى من األجهزة والتجهيزات الطبية‪..‬‬
‫أ‬ ‫ّك‬
‫ثم صمت بضع لحظات اعتصر خاللها عقله وهو يحاول تذّكر العنوان قبل أن يصيح مكمال‪:‬‬
‫‪ -‬توجه الى ذلك العنوان (‪ )........‬فورا يا (أدهم) وأنا سألحق بك على وجه السرعة‪.‬‬
‫لم تمض دقائق معدودة حتى كان الطبيب الجراح والدكتور (أحمد) في استقبال (أدهم) و(منى) مع‬
‫طاقم تمريض كامل‪..‬‬
‫كان (أدهم) يحمل (منى) بين ذراعيه ويضمها إلى صدره في حنان جارف طوال الوقت‪ ،‬ولم يجرؤ‬
‫أحدهم على مطالبته بأن يحررها من بين ذراعيه‪ ،‬حتى تم إعداد غرفة العمليات بسرعة فائقة‪ ،‬ووقف‬
‫الجميع يتطلعون إليه بنظرة مترقبة‪..‬‬
‫عندئذ فقط تحرك ليدلف إلى غرفة العمليات‪ ،‬ومال ليضعها في رفق شديد فوق منضدة باردة تتوسط‬
‫الغرفة‪ ،‬تحيط بها مجموعة من األجهزة وأدوات الجراحة‪ ،‬وتعلوها مجموعة من األضواء الكاشفة‪،‬‬
‫وفي بطء اعتدل ليتطلع إلى وجهها لحظة في حزن وألم هائلين‪ ،‬قبل أن يعتدل ويستدير ليغادر الغرفة‬
‫بخطوات واسعة‪ ،‬تاركا المجال لألطباء والممرضين للبدء في إجراء اإلسعافات الطبية الالزمة إلنقاذ‬
‫حياتها‪.‬‬
‫أما (أدهم) فما إن أغلق باب غرفة العمليات وغابت (منى) عن ناظريه‪ ،‬حتى تسّمر مكانه في مواجهة‬
‫الباب مباشرة كتمثال من الشمع‪ ،‬وعيناه معلقتان بالباب دون أن يطرف له جفن‪..‬‬
‫كانت جراحه تنزف بشدة وتغرق مالبسه الممزقة‪ ،‬ولكنه لم يشعر بكل هذا وهو يقف في صمود‬
‫وصالبة يخفيان خلفهما أعماقه التي تذوب جزعا ولوعة وحزنا على رفيقة عمره وكفاحه‪..‬‬
‫مرت الدقائق بطيئة ثقيلة‪ ،‬ثم فتح الباب ليطل من خلفه وجه الدكتور (أحمد) مرتديا كمامة طبية‬
‫أزاحها فور رؤية وجه شقيقه الذي بلغ شحوبه مبلغه‪ ،‬وهتف وهو يقترب منه في قلق عارم‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي! أنت تحتاج إلى إسعاف عاجل‪ ،‬فجراحك تنزف بشدة وستفقد الوعي خالل لحظات لقد‬
‫تركـ‪...‬‬
‫قاطعه (أدهم) في صرامة بدت متناقضة تماما مع مظهره الرث‪:‬‬
‫‪ -‬لن أتحرك قيد أنملة قبل أن أطمئن على (منى)‪.‬‬
‫هتف (أحمد) في استنكار ممزوج بالقلق الشديد‪:‬‬
‫اًل‬
‫‪ -‬إن (منى) ستخضع لعدة عمليات وسيستغرق ذلك وقت طوي ‪ ..‬لقد تركتها بين يدي أبرع جراح في‬
‫ذلك المجال‪ ،‬أما أنا فسأقوم بتضميد جراحك والقيام بكل اإلسعافات الالزمة لـ‪....‬‬
‫عاد (أدهم) يقاطعه بصرامة هادرة وهو يشد قامته على نحو مهيب‪:‬‬
‫‪ -‬قلت لك أنني لن أتحرك خطوة واحدة قبل أن أطمئن على (منى)‪ ..‬حتى لو أدى ذلك إلى تصفية‬
‫جسدي من الدماء حتى آخر قطرة وس‪...‬‬
‫بتر عبارته بغتة وهو يتطلع إلى نقطة ما خلف (أحمد)‪ ،‬وارتفع حاجبا ذلك األخير في دهشة عارمة‬
‫عندما تالشت الصرامة من صوته ووجهه في لحظة واحدة‪ ،‬وحل محلها جزع ولوعة وألم تنطق بهم‬
‫كل خلجة من خلجاته وهو يهتف بصوت يفيض بالحسرة والمرارة‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪( ..‬منى)!‬
‫التفت (أحمد) إلى حيث يتطلع شقيقه‪ ،‬ثم اعتصرت قلبه قبضة باردة في قسوة‪ ،‬عندما وقع بصره على‬
‫ذلك المشهد المؤلم‪..‬‬
‫لقد كانت هناك ممرضة قد خرجت للتو من غرفة العمليات‪ ،‬وتحمل بين كفيها فستان زفاف (منى)‬
‫وقد تضرج بالدماء على نحو عنيف‪ ،‬بينما شق طوليا على نحو جعل قلب (أدهم) يتمزق وكأنما طعن‬
‫أ‬
‫بألف خنجر وخنجر‪..‬‬
‫وفي بطء‪ ،‬اتجه (أدهم) نحو الممرضة‪ ،‬والتقط منها الثوب ووقف يتأمله بنظرات تعجز كلمات الكون‬
‫كله عن وصف ما تحمله من عذاب وألم ولوعة‪ ،‬ثم رفعه إلى شفتيه ليقبله في حنان جارف‪ ،‬قبل أن‬
‫يضمه إلى صدره بشدة وهو يغلق عينيه محاواًل مقاومة تلك الدموع التي عادت لتمأل مقلتيه‪ ،‬ولكنه‬
‫فشل في ذلك تماما‪ ،‬فبدأت دموعه تتساقط من بين جفونه المغلقة في غزارة‪ ،‬لتسيل فوق وجنتيه‬
‫وتهبط لتغرق ثوب زفافها‪..‬‬
‫وفي حزن بالغ تطّلع (أحمد) إلى شقيقه الذي لم يره يوما بكل هذا الحزن والضعف‪ ،‬وخفق قلبه مشفقا‬
‫وهو يتأّمل دموعه التي لم يعتقد يوما أن شقيقه قادر على ذرفها مثل بقية البشر‪..‬‬
‫لقد اعتاد شقيقه قوًيا‪..‬‬
‫عنيدا‪..‬‬
‫صنديدا‪..‬‬
‫حتى في أشد لحظات الحزن لفقد أقرب األحباء‪ ،‬كان يرى شقيقه متماسكا‪ ،‬قويا‪..‬‬
‫ولكن المشهد الذي يراه اآلن‪ ،‬جعله يدرك ماذا تعني (منى) بالنسبة له‪..‬‬
‫لقد كان يدرك تماما أن شقيقه لم ولن يعشق امرأة سواها طوال عمره‪..‬‬
‫ولكنه لم يتصور قط‪ ..‬أن يصل عشقه لها إلى تلك الدرجة البالغة من الحب حد الدموع‪..‬‬
‫مرت اللحظات بطيئة‪ ،‬والمشهد ال يتغير وكأنه لوحة زيتية مرسومة‪ ،‬ولم يجرؤ (أحمد) على التفوه‬
‫بحرف واحد‪ ،‬حتى فتح (أدهم) عينيه ببطء‪ ،‬وتطلع إلى الثوب بضع لحظات في عذاب يصعب‬
‫وصفه‪ ،‬قبل أن يعتدل ليشد قامته في قوة‪ ،‬ثم يلتفت نحو شقيقه ليقول في حزم تناقض بشدة مع عينيه‬
‫الدامعتين‪:‬‬
‫‪ -‬اسمعني جيدا يا (أحمد)‪ ..‬سوف تقوم بتنفيذ كل أمر سأخبرك به اآلن دون مناقشة‪.‬‬
‫أومأ (أحمد) برأسه إيجابا‪ ،‬فتابع (أدهم) في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬أريدك أن تقود سيارتي الخاصة إلى أبعد مكان عن هنا‪ ،‬وتغرقها في نهر النيل‪..‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم أردف مكمال وهو يفكر بسرعة وعمق‪:‬‬
‫‪ -‬فلو كان هناك من يريد تتبعنا‪ ،‬فسوف تقوده إلينا أرقام السيارة بمنتهى السهولة‪.‬‬
‫أومأ الدكتور (أحمد) برأسه مطمئنا‪ ،‬وهو يربت على كتف شقيقه قائاًل ‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئن‪ ..‬سوف أقوم بتنفيذ جميع تعليماتك‪ ،‬ولكن عليك اآلن الخضوع لجراحة عاجلة وتعويض ما‬
‫فقدته من دماء و‪....‬‬
‫ّل‬ ‫ّل‬
‫بتر عبارته مع نظرات شقيقه بالغة الحزم والصرامة‪ ،‬وتط ع إليه في يأس وهو يعود ليتط ع إلى باب‬
‫غرفة العمليات المغلق دون أن يفلت ثوب الزفاف الذي ضمه بكل قوته وحنانه إلى صدره‪.‬‬
‫انطلق عقل (أحمد) يعمل بسرعة الصاروخ‪ ..‬البد من إيجاد وسيلة إلنقاذ شقيقه الذي يصر على عدم‬
‫الخضوع ألية إسعافات قبل أن يطمئن علي نجاة حبيبة عمره‪..‬‬
‫وفي هدوء اعتدل (أحمد) وأطل من عينيه بريق حازم وبدا شديد الشبه بشقيقه وهو يقول في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أذهب اآلن لتنفيذ جميع أوامرك اطمئن يا (أدهم)‪ ...‬ولكن قبل أن أذهب سأقوم بحقنك بنوع‬
‫من األدوية يستخدم كمسكن قوي لآلالم سيساعدك على الصمود حتى تطمئن إلى سالمة (منى)‪.‬‬
‫لم يبد أي انفعال على وجه شقيقه الذي واصل التطلع إلى الباب المغلق بوجه جامد‪ ،‬فاتجه الدكتور‬
‫(أحمد) إلى حقيبة كبيرة ملئت عن آخرها باألدوية‪ ،‬والتقط محقنا مأله بسائل أصفر‪ ،‬ثم اتجه نحو‬
‫أ‬
‫شقيقه الذي بدا وكأنه انفصل عن العالم من حوله‪ ،‬وفي سرعة ومهارة تليق بطبيب مثله كشف عن‬
‫ذراع شقيقه‪ ،‬ودفع السائل في عروقه وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬ستشعر براحة كبيرة اآلن‪.‬‬
‫قالها ثم تظاهر بأنه يهم بالخروج من المكان‪ ،‬بينما بدأ (أدهم) في الشعور بدوار شديد‪ ،‬وشعر برأسه‬
‫تتثاقل على نحو غريب‪ ،‬وساقيه تعجزان عن حمله فبدأ في الترنح بشدة‪ ،‬وفوجئ بـ (أحمد) يدنو منه‬
‫ويتطلع إليه بنظرات يملؤها األسف وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬سامحني يا (أدهم)‪ ..‬أنا أفعل هذا إلنقاذك‪.‬‬
‫انعقد حاجبا (أدهم) في غضب‪ ،‬وهّم بالصراخ في وجه شقيقه‪ ،‬ولكنه فوجئ بلسانه ثقيال للغاية‪ ،‬فهمهم‬
‫بكلمات خرجت خافته ثقيلة على الرغم منه‪:‬‬
‫‪ -‬لن أغفر لك ما‪...‬‬
‫لم يتم عبارته‪ ،‬إذ سقط أرضا وهو ما زال يتشبث بالثوب‪ ،‬فعاد شقيقه يغمغم في أسف شديد وهو يميل‬
‫نحوه‪:‬‬
‫‪ -‬سامحني يا (أدهم)‪ ..‬سامحني يا شقيقي‪.‬‬
‫قالها ثم اعتدل ودلف إلى حجرة جانبيه وأشار في صمت إلى مسعف يجلس مترقبا‪..‬‬
‫وعلى الفور اتجه المسعف برفقة (أحمد) وتعاونا لنقل (أدهم) فوق محفة طبية إلى إحدى الغرف‬
‫المجهزة طبيا‪..‬‬
‫وبدون إضاعة لحظة واحدة‪ ،‬بدأ (أحمد) في إسعاف شقيقه بمنتهى السرعة‪..‬‬
‫والدقة‪..‬‬
‫والمهارة‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫‪( -٤‬منى)‪..‬‬
‫(منى)‪..‬‬
‫كانت تلك الصرخة التي أطلقها (أدهم) من أعمق أعماقه وهو يستيقظ من غيبوبته العميقة‪..‬‬
‫لقد صرخ باسم (منى) ثم فتح عينيه وعقله يستعيد في لحظة واحدة ذكرى كل ما مّر به‪..‬‬
‫وفي اللحظة التالية‪ ،‬بدأ في النهوض من فراشه باحثا عنها‪ ،‬ولكن محاولته جعلته يكتشف وجود‬
‫عشرات األسالك الطبية التي تتصل بجسده وتنقل منه أو إليه سوائل الحياة‪..‬‬
‫وبدون إضاعة لحظة واحدة بدأ في نزع األسالك الطبية عن جسده بمنتهى السرعة‪.‬‬
‫ولم تمض ثوان معدودة‪ ،‬حتى اقتحم شقيقه الغرفة‪ ،‬وأضاء أنوارها بسرعة وهو يهتف في جزع‬
‫شديد‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي! ماذا حدث؟ لوحة المتابعة التي ف الخارج تصرخ‪ ،‬ما‪...‬‬
‫بتر عبارته وهو يحدق في وجه شقيقه الشاحب وهو يواصل نزع األسالك عن جسده‪ ،‬ثم لم يلبث أن‬
‫اندفع نحوه ليحتضنه في حرارة هاتفا‪:‬‬
‫‪( -‬أدهم)!!‪ ..‬لقد استيقظت أخيرا‪ ..‬حمدا هلل حمـ‪...‬‬
‫قاطعه (أدهم) وهو يحاول النهوض قائال في قلق عارم‪:‬‬
‫‪ -‬أين (منى)؟‪ ..‬كيف هي؟ أريد االطمئنان عليها‪ ..‬هل مازالـ‪..‬‬
‫قاطعه (أحمد) وهو يدفعه إلى فراشه مرة أخرى قائاًل ‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئن يا (أدهم)‪ ،‬كل شيء على ما يرام‪.‬‬
‫أمسك (أدهم) كتفي شقيقه قائال في لهفة وجزع‪:‬‬
‫‪ -‬كيف هي يا (أحمد)؟! أريد أن أراها اآلن‪.‬‬
‫غمغم (أحمد) وهو يحاول عبثا إعادة األسالك إلى جسده‪:‬‬
‫‪ -‬لقد خضعت (منى) إلى خمس جراحات متتالية‪ ،‬تمكننا من خاللها إنقاذ حياتها بأعجوبة‪ ،‬ولكنها اآلن‬
‫تحت تأثير غيبوبة عميقة منذ بضعة أيام و‪..‬‬
‫قاطعه (أدهم) وهو ينتزع الجزء المتبقي من األسالك بحركة سريعة وينهض واقفا وهو يقول في‬
‫حزم‪:‬‬
‫‪ -‬قدني إليها إذن‪ ..‬سوف أطمئن عليها مهما كان الثمن‪.‬‬
‫اًل‬
‫تنهد شقيقه في يأس وهو يتطلع إليه‪ ،‬قبل أن يعدل منظاره الطبي فوق أنفه ويهز كتفيه قائ ‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا سأقودك إليها‪ ..‬فما دمت ترغب في ذلك فلن تفلح قوة في الكون كله عن إثنائك‪.‬‬
‫ثم تطلع إلى شقيقه في قلق وهو يقول في لهجة أقرب إلى الرجاء‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن على األقل دعني أطمئن إلى معدالتك الحيوية‪ ..‬لقد استيقظت للتو من غيبوبة دامت لثالثة أيام‬
‫ويجب أن‪...‬‬
‫بتر عبارته وهو يتطلع إلى وجه شقيقه الذي حمل حزم وصرامة الدنيا كلها‪ ،‬قبل أن يوليه ظهره‬
‫ويندفع مغادرا الغرفة بخطوات واسعة‪ ،‬فاندفع (أحمد) خلف شقيقه وهو يهتف‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ..‬حسنا‪ ..‬إنها في تلك الغرفة‪.‬‬
‫قالها وهو يشير بيده إلى غرفة تقع في نهاية ممر طويل‪ ،‬ومع آخر حروف كلماته اتسعت عيناه في‬
‫ذهول وهو يتطلع إلى شقيقه الذي عبر الممر في قفزتين قويتين‪ ،‬قبل أن يدفع باب الغرفة بلهفة الكون‬
‫كله‪ ،‬فهّز (أحمد) رأسه مشفقا وهو يغمغم بصوت أقرب إلى الهمس‪:‬‬
‫‪ -‬يا له من حب‪.‬‬
‫أما (أدهم) فقد دلف إلى الغرفة‪ ،‬ثم تسمر مكانه وهو يتطلع إلى (منى) التي ترقد شاحبة الوجه مغمضة‬
‫العينين يتصل بجسدها عشرات األسالك واألجهزة‪..‬‬
‫وفي بطء اقترب منها‪ ،‬وأدار عينيه يتطلع إلى الجهاز الذي يحمل نبضات قلبها على شاشته في هيئة‬
‫مؤشر متذبذب‪ ،‬ظّل يتطلع إليها بضع لحظات‪ ،‬قبل أن يغلق عينيه ويردد حمدا اهلل من أعمق أعماق‬
‫كيانه‪ ..‬ثم فتح عينيه ليتطلع إلى وجه (منى) في حب جارف وهو يهمس‪:‬‬
‫‪ -‬ما زلت بعد على قيد الحياة يا (منى)‪ ..‬مازال قلبك ينبض‪ ..‬حمدا هلل‪ ..‬حمدا هلل‪.‬‬
‫نطقها ثم ركع على ركبتيه إلى جوار فراشها‪ ،‬وعيناه معلقتان بوجهها‪ ،‬ثم مد أنامله ليلتقط كفها‬
‫الصغير ويضمه بين أنامله في حنان ورفق وهو يلصقه بصدره فوق موضع قلبه‪ ،‬بينما أطلت نظرة‬
‫حب من عينيه تحمل أبلغ كلمات العشق والهيام والهوى‪.‬‬
‫لم ينبس بحرف واحد وهو يتطلع إليها لدقائق طوال في صمت تام‪ ،‬وكأنما لم يجد كالم يعبر به عما‬
‫يعتري كيانه من مشاعر‪ ،‬فاكتفي بالتطلع إليها في صمت ولوعة‪..‬‬
‫خفق قلبه في عنف وهو يستعيد ذكرى كل لحظة قضاها إلى جوارها‪..‬‬
‫تذكر كل لحظة خطر‪..‬‬
‫كل لحظة سعادة‪..‬‬
‫كل لحظة حب‪..‬‬
‫كل لحظة فقد‪..‬‬
‫اعتصر األلم قلبه وهو يتذكر كل لحظة رآها فيها سابقا بنفس الوضع‪..‬‬
‫فاقدة للوعي‪..‬‬
‫رقيقة‪..‬‬
‫ساكنة‪..‬‬
‫تصارع الموت مع كل نفس تلتقطه (‪.)10‬‬
‫كم تمزق قلبه في كل مرة كان الموت يقترب إليها‪..‬‬
‫كم عانى في بعدها من الوحدة والحزن األلم‪..‬‬
‫ولكن األمر هذه المرة يختلف‪..‬‬
‫لقد حدثت إصابتها في اليوم الذي طال انتظارهما له العمر كله‪..‬‬
‫كم كانت سعيدة رقيقة وهي بين ذراعيه قبل االنفجار بلحظات‪..‬‬
‫كم تمنى الموت عندما أخبره شقيقه بأنها قد لقت حتفها (‪..)11‬‬
‫يا إلهي‪ ..‬كم عانت تلك المسكينة من خطر وإصابات بسببه‪..‬‬
‫بسبب تلك الحياة القاسية التي يحياها‪..‬‬
‫جميع ما أصابها من آالم وأحزان وعذاب كان بسببه هو‪..‬‬
‫نعم‪ ..‬إنه يرى نفسه مسؤوال كل المسؤولية عما أصابها‪..‬‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫وبكل الحب في أعماقه مال نحوها‪ ،‬وطبع قبلة حانية فوق جبينها قبل أن يتطلع إلى مالمحها الرقيقة‬
‫في لوعة وهو يهمس‪:‬‬
‫‪ -‬حبيبتي‪ ..‬عودي إلي‪ ..‬وأقسم لك بأنني لن أسمح بتعرضك للخطر ثانية مهما كلفني األمر‪ ..‬سوف‬
‫أعتزل العالم وأعيش إلى جوارك‪ ..‬وحدك فقط‪ ،‬كل ما أطلبه منك هو أال تتركيني‪.‬‬
‫همس بعبارته في حب ممزوج باللوعة واأللم‪ ،‬وشعر برغبة عارمة في البكاء‪ ،‬وبدأت الدموع تتجمع‬
‫رويدا في مقلتيه‪ ،‬وارتجفت شفتاه وهو يحاول مقاومتها‪ ،‬ولكنه لم يجد في نفسه القدرة على الصمود‪..‬‬
‫فبدأ يذرف دموع لوعته تماما مثلما حدث يوم زفافهما‪.‬‬
‫خفض عينيه في مرارة شديدة‪ ،‬وعاد يغمغم بنبرات باكية ملتاعة‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك ال تتركيني يا (منى)‪.‬‬
‫مضت لحظة صمت‪ ،‬ثم انتفض جسده في عنف‪ ،‬وخفق قلبه على نحو لم يشهده من قبل‪ ،‬عندما فوجئ‬
‫بأنامل (منى) الرقيقة تنقبض لتضغط على أنامله في رفق‪ ،‬قبل أن تفلت أنامله وترتفع لتمسح دموعه‬
‫في حنان جارف مع صوتها الرقيق وهي تهمس‪:‬‬
‫‪ -‬لن أتركك أبدا يا (أدهم)‪.‬‬
‫صرخ باسمها وهو يرفع عينيه ليتطلع إلى عينيها المفتوحتين في ذهول وسعادة ال مثيل لها في الكون‬
‫كله‪..‬‬
‫كانت تتطلع إليه في حب وحنان رغم ضعفها الشديد‪ ،‬بينما أناملها تمسح قطرات دموعه في رفق‬
‫بالغ‪ ،‬وبعد لحظات من الصمت غمغمت في حنان‪:‬‬
‫‪ -‬لم أظن يوما أنك قادر على البكاء مثل باقي البشر يا (أدهم)!‬
‫اقترب منها ليطبع قبلة حانية على وجنتها‪ ،‬ثم تطلع إلى عينيها وهو يهمس بكل الحب‪:‬‬
‫‪ -‬لم أذرف الدموع يوما في حياتي كلها إال من أجلك وحدك يا حبيبتي‪.‬‬
‫احتوته بناظريها في حب جارف‪ ،‬وهمت بنطق شيء ما‪ ،‬ولكن الدكتور (أحمد) اقتحم الغرفة في تلك‬
‫اللحظة وهو يهتف‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ..‬ماذا حدث هنا أيضا؟ لوحة المتابعة الخارجية سجلت اضطراب‪...‬‬
‫بتر عبارته واتسعت عيناه عن آخرهما وتدلى فّك ه في ذهول وهو يحدق في وجه (منى) وعينيها‬
‫المفتوحتين للحظات‪ ،‬قبل أن يتمالك نفسه ويهتف في سعادة جمة‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪( ..‬منى)‪ ..‬لقد استيقظت أخيرا‪ ..‬لقد حدثت المعجزة‪ ..‬إنه يوم المفاجآت إذن‪.‬‬
‫ارتسمت ابتسامة مجهدة على شفتي (منى) بينما غمغم (أدهم) دون أن يرفع عينيه عن وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬لقد حدثت المعجزة‪ ..‬لقد عادت إلينا (منى)‪.‬‬
‫نطقها ثم التفت نحو شقيقه‪ ،‬وأطلت نظرة امتنان عميقة من عينيه وهو يغمغم في تأثر‪:‬‬
‫‪ -‬والفضل في ذلك يعود إليك بعد رعاية اهلل سبحانه وتعالى‪ ..‬كيف يمكنني أن أشكرك يا (أحمد)؟‬
‫غمغم (أحمد) في تأثر‪:‬‬
‫‪ -‬ومنذ متى يوجد شكر بين األشقاء يا عزيزي!‬
‫ثم أطلق (أحمد) ضحكة عالية أفرغ بها انفعاله‪ ،‬قبل أن يندفع نحو (منى) قائال في حماس‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أقوم اآلن بفحص جميع معد‪...‬‬
‫قاطعه (أدهم) في حزم وهو ينهض واقفا وبشكل يتنافى تماما مع ضعفه العاطفي الذي كان يمر به منذ‬
‫لحظات قليلة‪:‬‬
‫أل‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ -‬أخبرني أوال‪ ..‬ماذا فعلت بالنسبة لألمر الذي كلفتك به؟‬
‫اقترب (أحمد) من شقيقه وربت على كتفه مطمئنا وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئن‪ ..‬لقد نفذت به تماما‪ ،‬وسيارتك ترقد اآلن في قاع النيل في بقعة بعيدة عن هنا‪.‬‬
‫ابتسم (أدهم) وغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬عظيم‪.‬‬
‫ثم التقط نفسا عميقا وشد قامته على نحو عجيب‪ ،‬قبل أن يلتفت نحو (منى) قائال في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬هناك قرار اتخذته ولن أتراجع فيه قط أيها الرفاق‪.‬‬
‫صمت لحظة ثم عاد يغمغم في حزم شديد‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قررت اعتزال عالم المخابرات‪.‬‬
‫اتسعت عينا (منى) و(أحمد) في دهشة عارمة ثم قالت (منى)‪ ،‬بصوت خافت ضعيف‪:‬‬
‫‪( -‬أدهم)‪ ..‬أرجوك‪ ..‬ال تقم باتخاذ أي قرارات اآلن‪ ،‬فأنت تمر بحالة من الـ‪..‬‬
‫قاطعها (أدهم) بصوت دافئ حنون‪ ،‬قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أتعلمين يا عزيزتي‪ ،‬هناك لحظات فارقة يمر بها كل إنسان في حياته‪ ..‬تلك اللحظات تكون سببا كي‬
‫تتغير الطريقة التي ينظر بها لألمور‪ ..‬بل وتغير تقييمه لجميع جوانب الحياة‪ ..‬وبالنسبة لي‪ ..‬كانت‬
‫تلك اللحظات هي تلك التي حملتك فيها بين ذراعي وأنا أظن أنك قد فارقتني إلى األبد‪.‬‬
‫ارتفع حاجباها في حنان مشفق‪ ،‬بينما صمت (أدهم) لحظة التقط خاللها نفسا آخر عميق‪ ،‬ثم أردف‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أصابني اإلرهاق من تلك الحياة القاسية التي أعيشها منذ نعومة أظافري‪ ..‬تلك الحياة التي ألفت‬
‫فيها الخطر حتى أصبح جزءا من تكويني يحل محل الدم‪ ،‬لقد قضيت سنوات عمري كله وأنا أواجه‬
‫أجهزة المخابرات المختلفة وأباطرة الشر في كل مكان بال كلل أو هوادة‪ ،‬واآلن‪ ..‬أشعر باإلرهاق في‬
‫كل خلية من خالياي‪ ،‬وبرغبة عارمة في اعتزال ذلك العالم شديد الخطورة‪.‬‬
‫عاد يصمت لحظة‪ ،‬ثم غمغم في أسى وهو يتطلع إلى شقيقه‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تسبب عملي في إيذاء أقرب الناس لي‪ ..‬لقد كادت (منى) تفقد حياتها جراء عملية انتقامية كنت أنا‬
‫المستهدف منها‪ ..‬لن أسامح نفسي ما حييت إذا أصاب (منى) أدنى مكروه‪ ،‬لذا سأبذل قصارى جهدي‬
‫ألوفر لها كل الحماية واألمان‪.‬‬
‫صمت لحظة ثم قال بصوت استعاد حزمه‪:‬‬
‫‪ -‬إن وجودي مع (منى) داخل مصر يعرضنا لخطر بالغ‪ ،‬فبدون أدنى شك يقوم جهاز مخابراتنا اآلن‬
‫بتجنيد جيش من رجاله لمعرفة سر اختفائي مع (منى)‪ ،‬وحال حصول جهازنا على أية معلومة يمكنه‬
‫من خاللها التوصل إلينا‪ ،‬وبالتالي يمكن ألي جهاز مخابرات معادي أيضا الوصول إلينا‪.‬‬
‫تألقت عيناه ببريق شديد وهو يردف‪:‬‬
‫‪ -‬لذا فقد قررت مغادرة مصر واالختفاء مع (منى) عن جميع العيون تماما‪.‬‬
‫قال دكتور (أحمد) في حيرة‪:‬‬
‫‪ -‬وكيف سيتم ذلك؟ ستقوم األجهزة األمنية برصدك حال ظهورك على الفور وست‪...‬‬
‫قاطعة (أدهم) وابتسامة كبيرة تتألق على شفتيه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئن يا شقيقي العزيز‪ ،‬لدّي خطة محكمة‪.‬‬
‫صمت لحظة ثم أردف قائال‪:‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ -‬ولكنني سأحتاج إلى تعاونك التام معي يا (أحمد)‪.‬‬
‫ابتسم (أحمد) بدوره‪ ،‬وغمز بعينه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬رهن إشارتك يا سيادة العميد‪.‬‬
‫التقط (أدهم) نفسا عميقا‪ ،‬ثم سأله‪:‬‬
‫‪ -‬أريد أن أعرف أوال متى ستستعيد (منى) قدرتها على الوقوف على قدميها؟‬
‫مط دكتور (أحمد) شفتيه‪ ،‬وعدل وضع منظاره الطبي فوق أنفه‪ ،‬ثم اتجه ليلتقط مجموعة من التقارير‬
‫الطبية المعلقة بمشبك خاص في طرف فراش (منى) وفحصها بعناية وتركيز قبل أن يرفع عينيه نحو‬
‫(أدهم) وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬وفقا للتقارير الطبية ستتمكن (منى) من فعل ذلك بعد مرور ثالثة أسابيع على أقصى تقدير‪.‬‬
‫ارتسمت ابتسامة ارتياح كبيرة على شفتي (أدهم) وهو يغمغم باقتضاب‪:‬‬
‫‪ -‬عظيم‪.‬‬
‫ثم التفت إلى (منى) ليتأملها في حب وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬بعد ثالثة أسابيع سوف نكون خارج البالد بإذن اهلل يا عزيزتي‪.‬‬
‫اندفع (أحمد) يسأل شقيقه في لهفة‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن إلى أين يا (أدهم)؟‬
‫أدار (أدهم) ناظريه ليتطلع إلى شقيقه لحظات في صمت‪ ،‬ثم غمغم بلهجة أقرب إلى اعتذار‪:‬‬
‫‪ -‬معذرة يا شقيقي العزيز‪ ،‬لن يمكنني البوح لك بالوجهة التي سننطلق إليها‪ ..‬ذلك لدواع أمنية‪..‬‬
‫فالمعلومة التي ال تعرفها لن يمكنك البوح بها حتى وأنت تحت تأثير مصل الحقيقة‪.‬‬
‫أومأ دكتور (أحمد) برأسه متفهما وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬أردت فقط االطمئنان عليكما‪ ،‬لكن ال بأس لو كان هذا يوفر لكما الحماية واألمان‪.‬‬
‫ابتسم (أدهم) ابتسامة سريعة‪ ،‬ثم لم تلبث تلك االبتسامة أن تالشت وهو يقول في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬أريد منك شراء بعض المستلزمات‪ ،‬من أدوات تجميل وشعر مستعار ومجموعة من صبغات الشعر‬
‫والعدسات الالصقة ومقعد متحرك و‪...‬‬
‫صمت لحظة وضاقت حدقتاه في تركيز شديد ثم تابع‪:‬‬
‫‪ -‬كما أريد منك الذهاب إلى منزلي‪ ،‬وإحضار مجموعة من جوازات السفر المزيفة التي أعدها‬
‫عزيزنا (قدري) في وقت سابق‪ ،‬والتي كنت احتفظ بها احتياطيا‪.‬‬
‫ربت دكتور (أحمد) على كتف أخيه مطمئنا إياه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئن سوف أقوم بفعل كل ما أمرتني به‪ ،‬ولكن عليك أخذ قسطا كبيرا من الراحة‪ ،‬فأنت ما زلت‬
‫بعد في فترة النقاهة‪.‬‬
‫تنهد (أدهم) في عمق‪ ،‬وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬لن أنعم بالراحة أو يهدأ لي جفن حتى أبعد (منى) تماما عن أي خطر مهما كان الثمن‪.‬‬
‫قالها ثم عاد يقترب من (منى)‪ ،‬ويجذب مقعدا ليجلس إلى جوار فراشها تماما‪ ،‬ثم مد أنامله ليحتوي‬
‫كفها في حنان‪ ،‬وبدون أن ينطق حرفا‪ ،‬راح يتطلع إليها بنظرات تحمل كل الحب‪..‬‬
‫والدفء‪..‬‬
‫والحنان‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫مرت أيام العالج في ذلك المنزل ببطء شديد‪ ،‬وألم بال حدود خاصة بالنسبة إلى (منى) تحديدا‪..‬‬
‫لكن الشيء الوحيد الذي كان يخفف ألمها‪ ..‬هو وجود (أدهم) إلى جوارها‪..‬‬
‫لقد أحاطها (أدهم) بكل أنواع الرعاية واالهتمام‪ ،‬وعلى نحو لم تعهده فيه طوال عمره‪..‬‬
‫صحيح أنه كان دائما معها حنونا‪..‬‬
‫عطوفا‪..‬‬
‫دافئا‪..‬‬
‫رقيقا‪..‬‬
‫إال أن تلك األسابيع القليلة‪ ،‬جعلتها تكتشف أن ذلك اإلنسان لديه فيضا مهوال من الحب والحنان الذي‬
‫أغدقهما عليها في سخاء منقطع النظير‪..‬‬
‫كان يفعل المستحيل ليخفف ألمها وعذابها‪ ،‬في نفس الوقت الذي لم يلتفت خالله لكل ما حاق به‪.‬‬
‫لقد كان يتجاهل كل إصاباته وأوجاعه ليمنحها هي كل أسباب الراحة واألمان‪..‬‬
‫وجعلها هذا تدرك كم يعشقها‪..‬‬
‫كم هو متعلق بها‪..‬‬
‫كم يحتاج إليها وال يستطيع العيش بدونها‪..‬‬
‫وتعلقه الشديد بها هو ما جعل روح األمل بداخلها تنمو وتتعاظم‪..‬‬
‫لن يمكنها أن تخذل الشخص الذي تعلق بها إلى درجة الموت‪..‬‬
‫لذا‪ ..‬فقد أخذت تبذل قصارى جهدها كي تعود إلى سابق عهدها‪..‬‬
‫وقبل أن تمر الثالثة أسابيع بالفعل‪ ،‬كانت (منى) تقف على قدميها إلى جوار فراشها‪..‬‬
‫وعلى الرغم من إجهادها وضعفها البالغين وهي تفعل ذلك؛ إال أنها كانت تلوح فوق شفتيها ابتسامة‬
‫نصر كبيرة‪ ..‬بينما كان (أدهم) يتطلع إليها في حب وامتنان جارفين‪..‬‬
‫لم يكن بمقدورها السير خطوة واحدة‪..‬‬
‫ولكنها استطاعت الوقوف على قدميها‪..‬‬
‫وكان هذا يكفي تماما‪ ،‬على األقل في الوقت الحالي‪..‬‬
‫وبعد مرور ثالثة أسابيع بالتمام والكمال‪ ،‬كان (أدهم) يجلس إلى جوار (منى) في الطائرة المتجهة إلى‬
‫(ألمانيا)‪.‬‬
‫كان االثنان قد تغيرت مالمحها تماما لتطابق مالمح العجوزين (جون ألبيرت) وزوجته (إليزابيث‬
‫ديب)‪.‬‬
‫وفي (ألمانيا) خضعت (منى) لمجموعة أخرى من الجراحات العالجية والتكميلية على أرفع مستوى‬
‫طبي‪ ،‬كما خضعت – وبناء على إلحاح شديد منها ‪ -‬إلى مجموعة من العمليات التجميلية التي محت‬
‫أثر وندوب عملياتها السابقة‪.‬‬
‫استمر عالج (منى) في (ألمانيا) قرابة الثمانية أشهر‪ ،‬وبعد انتهاء فترة العالج والنقاهة‪ ،‬أصبحت‬
‫(منى) قادرة على السير ولكن بصعوبة نتيجة إصابة عضالت جسدها بوهن بالغ‪.‬‬
‫وعلى الفور وبدون تفكير‪ ،‬قام (أدهم) باصطحابها إلى (أمريكا الجنوبية)‪ ،‬وتحديدا إلى (ريو دي‬
‫جانيرو) في (البرازيل)‪..‬‬
‫لقد اختار (أدهم) ذلك المكان تحديدا لعالج (منى)‪ ،‬ولم يكن اختياره عشوائيا‪..‬‬

‫أ‬ ‫أل‬ ‫أل‬


‫ذلك ألنها لم تكن هذه هي المرة األولى التي يتم فيها عالجهما في هذه المنطقة‪ .‬فقد سبق أن حدث ذلك‬
‫منذ سنوات بعيدة‪ ،‬وبعد أن كاد (أدهم) يلفظ أنفاسه األخيرة في ممر (كوهيدور بيليجرو) (‪.)12‬‬
‫لقد شاءت له األقدار أن يقع في قبضة تلك القبائل البدائية التي تدعى (الوطنيون)‪ ،‬والتي قامت بعالج‬
‫إصاباته وجراحه بطريقة مذهلة‪ ،‬وفي خالل أيام معدودة كان قد استعاد كامل قوته ولياقته البدنية‪.‬‬
‫(منى) أيضا قد خضعت لهذا العالج البدائي بعد أن فقدت قدراتها البدنية‪ ،‬وأصبحت عضالتها ضعيفة‬
‫غير قادرة على الحركة جراء إصاباتها الخطيرة‪ ،‬والتي سقطت بسببها في غيبوبة ألشهر طويلة‬
‫(‪.)13‬‬
‫لقد قامت تلك القبائل حينها بعالجها بطريقة أقرب إلى السحر‪ ،‬عن طريق أعشاب بدائية وخلطات‬
‫طبية عشبية معينة‪..‬‬
‫هذه المرة أيضا لجأ (أدهم) و(منى) إلى تلك القبائل لتلقي ذلك العالج السحري‪ ،‬فخضعت (منى) لذلك‬
‫العالج العشبي الذي ال يوجد له مثيل على اإلطالق‪.‬‬
‫وبعد مرور أسبوعين فقط كانت (منى) قد استعادت قدرتها التامة على الحركة بطريقة مذهلة‪ ،‬بل‬
‫وعادت أفضل مما كانت عليه‪.‬‬
‫كان من المستحيل لمن يرى (منى)‪ ،‬بعد أن استعادت قوتها ونشاطها‪ ،‬أن يصدق أنها نفس الفتاة التي‬
‫كانت تلفظ أنفاسها منذ شهور قليلة‪.‬‬
‫ووسط شعور غامر باالرتياح والسعادة‪ ،‬كان (أدهم) يتابع تحسن حالة (منى) الصحية‪..‬‬
‫لم يتركها لحظة واحدة‪.‬‬
‫لم يمل لحظة من الجلوس إلى جوارها باأليام واألسابيع‪..‬‬
‫لم يفتر حبه وحنانه في تعامله معها ولو للحظة واحدة‪..‬‬
‫لقد ظل يحيطها بكل الحب والعناية‪ ،‬حتى تأكد تماما أنها قد عادت أفضل من أي فترة مضت‪.‬‬
‫كانا في ذلك اليوم يجلسان لتناول طعام الغذاء في أحد الخيام الخاصة بتلك القبائل عندما قالت (منى)‬
‫بابتسامة سعادة كبيرة‪:‬‬
‫‪ -‬لم أشعر يوما أنني بخير أفضل من هذا الوقت يا (أدهم)‪.‬‬
‫امتدت يده واحتضنت أناملها بدفء وحنان‪ ،‬ثم غمغم هامسا‪:‬‬
‫‪ -‬كم يسعدني هذا يا أميرتي‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬ثم غمز بعينه وهو يردف‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن التوقيت قد أصبح مناسبا لبدء شهر العسل الذي تأخر كثيرا يا عزيزتي‪.‬‬
‫خفضت (منى) عينيها في حياء شديد‪ ،‬وتضرج وجهها بحمرة الخجل وهي تهمس باسمه‪ ،‬فأطلق‬
‫(أدهم) ضحكة عالية وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ..‬أما زلت تشعرين بالخجل حتى بعد أن صرت زوجا لك يا (منى)!‬
‫لم تنبس (منى) ببنت شفة‪ ،‬وإن زاد وجهها احمرارا وهي تطرق برأسها في حياء‪..‬‬
‫مد (أدهم) أنامله وأخذ يتلمس شعرها الناعم ووجهها الرقيق في حنان وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نقوم بقضاء شهر العسل في (فرنسا)‪ ،‬وليس (البرازيل)‪ ..‬لقد قمت بحجز تذكرتين على‬
‫الطائرة المتجهة إلى (فرنسا) ظهر الغد‪.‬‬
‫رفعت عينيها إليه في دهشة وهي تسأله‪:‬‬
‫‪ -‬ولم اخترت (فرنسا) تحديدا!‬
‫ابتسم ابتسامة كبيرة زادت من وسامته وهو يغمغم قائال‪:‬‬
‫‪( -‬فرنسا) هي الدولة التي قمنا فيها بأداء مهمتنا األولى يا عزيزتي‪ ..‬ثم أنني أعلم تماما أنك مثلي‬
‫تكنين لها عشقا خاصا (‪.)14‬‬
‫صمت لحظات‪ ،‬تأملها خاللها ثم عاد يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬واحتفاء بهذه المناسبة‪ ،‬فقد قمت بشراء فيال صغيرة تقع على جزيرة (كورسيكا)‪ ،‬وهي واحدة من‬
‫أجمل جزر (فرنسا) بل تعتبر من أجمل بقاع (أوروبا) كلها على اإلطالق‪.‬‬
‫تطلعت (منى) إلى وجه (أدهم) في حنان غامر وهي تهمس‪:‬‬
‫‪ -‬كم أحبك يا (أدهم)!‪ ..‬وكم أتمنى لو أستطيع منحك كل السعادة التي تستحقها‪.‬‬
‫احتواها بين ذراعيه في حنان‪ ،‬وغمغم وهو يضمها إلى صدره في رفق‪:‬‬
‫‪ -‬يكفيني وجودك إلى جواري ألشعر بكل السعادة يا (منى)‪.‬‬
‫وفي اليوم التالي‪ ،‬وفي تمام الساعة الثانية ظهرا بتوقيت (البرازيل) كان االثنان يستقالن الطائرة‬
‫المتجهة إلى (فرنسا)‪..‬‬
‫وهناك على جزيرة (كورسيكا) اختفي (أدهم) و(منى) فترة طويلة‪ ،‬بعيدا عن كل األنظار‪..‬‬
‫فترة كانت أجمل أيام عمريهما‪..‬‬
‫شهور استمتعا خاللها بالهدوء‪..‬‬
‫والسعادة‪..‬‬
‫والحب‪...‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫‪ -٥‬أسر‪ ..‬وأمل‪..‬‬
‫بعد معرفة سر اختفاء بطلينا‪..‬‬
‫نعود الى تلك اللحظة التي تركنا فيها (أدهم) و(منى) داخل فيلتهما الصغيرة التي تقع على جزيرة‬
‫(كورسيكا)‪..‬‬
‫‪ -‬يا إلهي!!‪(...‬قدري) و(جيهان)!‬
‫هتفت (منى) بتلك الكلمات في ارتياع وهي تتابع المعلومات التي تتراص أمامها على شاشة الكمبيوتر‬
‫المحمول والتي تبث خالل قناة مؤمنة خاصة تتبع جهاز المخابرات المصري‪.‬‬
‫وفي جزع اتخذت (منى) المقعد المواجه لـ (أدهم) ‪ -‬الذي انعقد حاجباه في تفكير عميق ‪ -‬وهتفت في‬
‫قلق عارم‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا سنفعل اآلن يا (أدهم)؟!‬
‫رفع (أدهم) عينيه إليها في صمت‪ ،‬ثم غمغم في خفوت‪:‬‬
‫‪ -‬لن يمكنني التخلي عن (قدري) و(جيهان) قط يا عزيزتي‪.‬‬
‫هتفت (منى) في حماس‪:‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫خفض عينية للحظات‪ ،‬ثم عاد يرفعهما لتلقيا بعينيها وهو يردف قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن هذا سيحتم عودتي الى ساحة القتال‪ ،‬وبالتالي كشف هويتي‪ ،‬وهذا سوف يعيدك لدائرة الخطر‬
‫مرة أخرى يا (منى)‪.‬‬
‫صمت لحظة‪ ،‬التقط خاللها نفسا عميقا‪ ،‬ثم تابع في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬وهذا ما لن أسمح بحدوثه ثانية مهما كلفني األمر‪.‬‬
‫هتفت (منى) في حيرة‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا سنفعل إذن؟‬
‫لم يحر جوابا مباشرا‪ ،‬ولكنه نهض واتجه نحو نافذة الغرفة‪ ،‬ووقف يتطلع إلى المناظر الخالبة التي‬
‫تحيط بالفيال في شرود‪ ،‬وعقله يعمل بتركيز شديد‪.‬‬
‫ولدقائق لم يتفوه بحرف واحد‪ ،‬وإنما انعقد حاجباه في تفكير عميق‪.‬‬
‫(منى) أيضا لم تنطق حرفا‪ ،‬بل احترمت صمته‪ ،‬بينما أخذ قلبها يخفق في عنف من أجله‪..‬‬
‫كانت تتطلع إليه في صمت‪ ،‬وقلبها يشعر بما يعانيه من حيرة وصراع داخلي‪..‬‬
‫صراع بين رغبته البالغة في إبقائها بعيدة عن أي خطر‪ ،‬ورغبته العارمة في إنقاذ صديق عمره‬
‫وزميلته السابقة‪..‬‬
‫لقد فعل المستحيل طوال الفترة الماضية ليؤمن لهما حياة هادئة سعيدة بعيدة عن أية مخاطر‪..‬‬
‫يا إلهي! كم تشعر نحوه بالشفقة والعطف‪!...‬‬
‫لقد عاش حياة قاسية منذ نعومة أظفاره‪..‬‬
‫حياة عسكرية لم ينعم خاللها بالراحة والهدوء‪..‬‬
‫حياة قاسية استغرقت سنوات عمره كلها ما بين التدريب إلعداده ليكون الرجل الفذ ذو القدرات‬
‫الخارقة‪..‬‬
‫الرجل الذي ال يقهر وال يعرف كلمة مستحيل‪..‬‬
‫وببن صراعات خاضها ضد أجهزة المخابرات العالمية ومنظمات التجسس‪..‬‬
‫كم دافع بحياته عن حياة اآلخرين‪!...‬‬
‫كم ضحى في سبيل رفعة وعزة وطنه‪!...‬‬
‫لقد آن األوان كي يستريح وينعم بالراحة والهدوء‪..‬‬
‫واآلن يأتي ذلك الخبر ليضعه في حيرة شديدة من أمره‪..‬‬
‫كانت تعلم مدى ارتباطه الوثيق بـ (قدري)‪..‬‬
‫أصدق أصدقاء عمره‪ ،‬بل وأقرب األصدقاء إلى قلبها هي أيضا‪..‬‬
‫وتعلم أنه من المستحيل أن يتخلى عن (قدري) أو عن (جيهان)‪..‬‬
‫وليت االمر يتوقف عند هذا الحد‪ ،‬بل يتجاوزه بمراحل‪..‬‬
‫هذا ألن األمر ال يخص أمن وسالمة أفراد فقط‪ ،‬بل يتجاوزه بكثير‪..‬‬
‫إنه يخص أمن وسالمه وطن بأكمله‪..‬‬
‫(مصر)‪..‬‬
‫معشوقته األولى‪..‬‬
‫التي لم ولن يتردد لحظة واحدة في التضحية بحياته من أجلها‪.‬‬
‫تساءلت في أعماقها‪ ،‬ترى ماذا سيفعل (أدهم) في هذا الموقف العصيب؟‬
‫هل سيستمر في تنفيذ قرار العزلة الذي اتخذه؟!‬
‫أم هل سيحّط م جدران عزلته‪ ،‬ويعود إلى عالم المخابرات مجددا؟‬
‫ولم يطل تساؤلها إذ التفت اليها (أدهم) في بطء وحزم‪ ،‬وتألقت عيناه وهو يقول في هدوء شديد‪:‬‬
‫‪ -‬لقد اتخذت قراري يا عزيزتي‪ ..‬سوف ألبي نداء وطني‪ ،‬ولن أتخلى عن (قدري) و(جيهان) أبدا‪.‬‬
‫وقبل أن تنطق (منى) بحرف واحد‪ ،‬أردف مكمال في صرامة شديدة‪:‬‬
‫‪ -‬وسوف أذهب وحدي لتلبية النداء‪ ،‬وستبقين أنت هنا في أمان كامل تنتظرين عودتي إليك فور انتهاء‬
‫مهمتي‪.‬‬
‫انعقد حاجباها في غضب شديد وهي تهب من مقعدها وتقول في حدة‪:‬‬
‫‪ -‬كال‪ ..‬لن أتركك تذهب وحدك‪ ،‬سوف أتبعك أينما ذهبت‪ ،‬حتى ولو إلى قلب الجحيم نفسه‪.‬‬
‫انعقد حاجباه في صرامة وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هذا أمر غير قابل للجدال‪ ،‬سوف تبقين هنا إلى حين عودتي أيتها المقدم‪.‬‬
‫أحنقها بشدة استخدامه لرتبتها الرسمية في حديثه‪ ،‬فضربت األرض بقدمها في عناد‪ ،‬وقالت في‬
‫غضب شديد‪:‬‬
‫‪ -‬هل تظن أننا داخل إدارة المخابرات‪ ،‬وتأمرني بحكم فرق الرتب بيننا‪ ..‬كال يا (أدهم) إننا اآلن‬
‫زوجان‪ ..‬وبصفتي زوجتك فلن أسمح لك بالذهاب دون أن أرافقك‪ ،‬مهما كانت األسباب‪.‬‬
‫أطل الغضب من عينيه وهو يشد قامته في حزم قائال بصوت هادئ على الرغم من صرامته‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك نسيت أننا مازلنا نعمل بالمخابرات العامة المصرية‪ ،‬وأنا أتحدث إليك اآلن بصفتي العميد‬
‫(أدهم) رئيسك المباشر‪ ،‬وليس زوجك أيتها المقدم (منى)‪.‬‬
‫شعرت (منى) بموجة غضب عارمة تجتاح قلبها وكيانها‪ ،‬وهّمت بالصراخ في وجهه‪ ،‬ولكن الكلمات‬
‫احتبست في حلقها‪ ،‬فلم تقو على نطق حرف واحد‪.‬‬
‫وفي صمت سالت دموعها على وجنتيها وهي تتطلع إليه بنظرة أقرب إلى الرجاء‪.‬‬
‫زفر (أدهم) في قوة‪ ،‬ثم اتجه نحوها وأمسك كتفيها‪ ،‬والنت مالمحه وهو يتطلع إلى عينيها مباشرة‬
‫قائال في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أقسمت أال أسمح بتعرضك للخطر مرة أخرى‪ ،‬لن أستطيع تحمل موقف آخر يشبه ذلك الذي‬
‫مررت به يوم زفافنا‪ ..‬الموت أهون ألف مرة مما عانيته حينها يا عزيزتي‪.‬‬
‫هتفت (منى) وسط دموعها‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا (أدهم) دعنا نذهب سويا‪ ..‬لن أستطيع احتمال تعرضك للخطر وحدك‪ ،‬وأنا أجلس هنا في‬
‫أمان‪.‬‬
‫خفق قلبه مشفقا‪ ،‬وأطلت حيرة قوية من عينيه وهو يمد أنامله ليمسح دموعها الغزيرة في صمت‪،‬‬
‫بينما غمغمت في مرارة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ارتضيت أن أعتزل العالم كله وأعيش إلى جوارك وحدك‪ ..‬حتى والدّي لم أخبرهما بأنني ما‬
‫زلت على قيد الحياة وتركتهما يظنان أنني قد لقيت حتفي‪ ،‬على الرغم من أن ذلك األمر يمّز ق قلبي‬
‫تمزيقا‪ ..‬فقط ألنك طلبت مني ذلك‪ ..‬واآلن ترغب في الظهور والعودة مرة أخرى لعالم المخابرات‬
‫وتركي وحيدة هنا‪ ..‬لن أستطيع احتمال هذا قط‪.‬‬
‫أطرق برأسه في أسى‪ ،‬وغمغم بلهجة حانية تفيض حنانا واعتذار‪:‬‬
‫‪ -‬معذرة يا عزيزتي‪ ،‬لم يكن أمامنا سوى هذا الحل‪ ..‬لقد فعلت هذا لتأمين حياتك وحياتهما‪ ،‬فأية‬
‫معلومة تصل والديك تخص أمر نجاتنا ستمثل خطورة كبيرة على حياتهما‪ ..‬فالجهة التي تريد‬
‫التوصل إلّي والقضاء علّي لن تجد أمامها سوى أقرب الناس إلينا لتراقبهم وترصد ردود أفعالهم‬
‫وتصرفاتهم‪ ..‬وعند الشك في أنهم يعلمون أية معلومة تخصنا سوف تقوم تلك الجهات بتعريضهم‬
‫ألشد أنوع االستجواب والتعذيب حتى تحصل منهم على ما تريد‪ ..‬لذا فجهل والديك بجميع أمورنا هو‬
‫الطريق الوحيد الذي يحفظ امنهما وسالمتهما‪.‬‬
‫صمتت تماما ولم يمكنها مجادلته‪..‬‬
‫كانت تعلم أنه على حق في هذا األمر‪..‬‬
‫فبدون أدنى شك فإن أي جهة تريد التوصل إليهما سوف تقوم بمراقبة أقرب الناس إليهما‪..‬‬
‫وبالنسبة لها فأقرب الناس إليها هما والديها‪..‬‬
‫لقد فضلت أن يظنا أنها قد لقيت حتفها ويظال في أمان‪ ..‬على أن يعلما بأمر وجودها على قيد الحياة‬
‫ويحيط بهما الخطر من كل جانب‪..‬‬
‫وهي لن تحتمل أن يمسهما أدنى سوء‪..‬‬
‫هزت رأسها بقوة لتنفض عنها مخاوفها العارمة المختلطة بحنينها العارم إلى والديها وهي تهتف‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو قرارك يا (أدهم)؟‬
‫تنهد بعمق وأشاح بوجهه في ضيق واضح‪ ،‬فهتفت‪:‬‬
‫‪ -‬ال داع لكل هذا القلق يا (أدهم)‪ ..‬سنكون بخير معا‪ ،‬لقد اعتدنا هذا طوال عمرنا‪ ،‬وواجهنا سويا كل‬
‫أنواع المخاطر‪ ..‬لماذا إذن كل هذا القلق اآلن!‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫عاد (أدهم) يلتفت إليها ليتطلع إلى عينيها لحظة‪ ،‬قبل أن يحتويها بين ذراعيه في حنان ويميل ليهمس‬
‫في أذنها بصوت مس شغاف قلبها‪:‬‬
‫‪ -‬ألنني تذوقت هذه المرة من العذاب والمرارة ما لم أتذوقه طوال عمري‪.‬‬
‫خفق قلبها في واستكانت بين ذراعيه للحظات لم ينبس كالهما ببنت شفة قبل أن يبعدها عنه في رفق‪،‬‬
‫ويبتسم وهو يتأمل مالمحها الجميلة التي نّمت كل خلجة من خلجاتها عن لهفة عارمة لمعرفة قراره ثم‬
‫غمغم في هدوء حازم‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ..‬سوف أقوم اآلن بإجراء اتصال بالغ األهمية‪ ..‬وبناء على هذا االتصال سأحدد قراري‬
‫النهائي‪.‬‬
‫هتفت في فضول شديد‪:‬‬
‫‪ -‬أي اتصال هذا؟ ومع من؟‬
‫ابتسم في غموض وهو يغمز بعينه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬خّمني‪.‬‬
‫نطقها وابتسامته تتسع‪..‬‬
‫وتتسع‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫” موعد الطعام “‬
‫انطلقت تلك الصيحة بصوت خشن حاد داخل تلك الزنزانة الضيقة التي تحوي (جيهان) و(قدري)‪،‬‬
‫فرفع ذلك األخير عينيه ليتطلع في المباالة إلى صينية الطعام التي تفوح منها رائحة شهية‪ ،‬ثم رفع‬
‫عينيه ليتطلع إلى الرجل الذي يحملها في سخرية وصمت‪.‬‬
‫كان الرجل بالغ الضخامة على نحو جعله أشبه بالغوريال‪ ،‬خاصة مع شعره األسود الطويل الذي‬
‫تركه مبعثرا فوق كتفيه‪ ،‬ولحيته الكثة السوداء‪ ،‬وكرشه الضخم ومالمحه الغليظة‪ ،‬فابتسم (قدري) في‬
‫سخرية تعلمها من صديق عمره وهو يغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تجدوا سوى هذه الغوريال لتقديم الطعام؟ يا إلهي! لقد فقدت شهيتي تماما وأشعر بغثيان شديد‪.‬‬
‫زمجر الضخم في غضب‪ ،‬فربت على كتفه الرجل الذي يقف إلى جواره مباشرة وهو يغمغم في‬
‫برود‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك يا (سام)‪ ..‬لقد أمرنا السيد بحسن معاملة ضيوفنا‪.‬‬
‫غمغمت (جيهان) التي تجلس فوق مقعد متحرك في سخرية على الرغم من ضعفها الواضح وهي‬
‫تتطلع إلى الضخم‪:‬‬
‫‪ -‬يا لكرم أخالقكم‪ ..‬ولكن ترى من سيكون لديه رغبة في تناول الطعام بعد رؤية هذه الغوريال‬
‫الدميمة؟‬
‫عاد الضخم يزمجر في غضب‪ ،‬ثم صاح بصوت يشبه خوار الثور وهو يلوح بقبضته‪:‬‬
‫‪ -‬دعني أهشم فكهما يا سيد (فريدريك) كي يتعلما كيفية التحدث إلـ‪..‬‬
‫قاطعه (فريدريك) في صرامة هادرة‪:‬‬
‫‪ -‬إياك أن تمسهما بسوء‪.‬‬
‫التفتت (جيهان) نحو (فريدريك) ثم غمغمت بنفس السخرية‪:‬‬
‫‪ -‬يا لقلبك الحنون! ترى من أنت أيضا؟ ممثل هزلي يلعب دور البطولة في مسرحية القرد والغوريال‪.‬‬
‫أ‬
‫صمت (فريدريك) لحظة تأمل خاللها مالمح (قدري) و(جيهان) التي تحمل نفس النظرة الساخرة‪ ،‬ثم‬
‫غمغم في برود صارم‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أمرنا السيد بحسن ضيافتكما‪ ،‬وما دامت هذه أوامره فسوف نقوم بتنفيذها بحذافيرها حتى ينتهي‬
‫أمر تلك الصفقة السخيفة‪.‬‬
‫عاد يصمت ليتأملهما في حنق بالغ ثم أردف‪:‬‬
‫‪ -‬ليس أمامنا اآلن سوى طاعة األوامر‪.‬‬
‫ثم تسللت الشراسة إلى مالمحه وهو يقول في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ولكنني أعدكما بأنه بعد انتهاء أمر تلك الصفقة سيكون لـ (سام) حوار خاص معكما‪ ..‬حوار شيق‪..‬‬
‫شيق للغاية‪.‬‬
‫نطقها وأطلق ضحكة شامتة عالية‪ ،‬ثم أشار للضخم فوضع صينية الطعام بحركة حادة فوق منضدة‬
‫تتوسط الزنزانة‪ ،‬قبل أن يستدير بسرعة ال تتناسب مع حجمه الضخم ويغادر الزنزانة في صمت‪،‬‬
‫وهو يرمقهما بنظرات نارية بينما قال (فريدريك)‪:‬‬
‫‪ -‬تذكرا أن المكان كله مراقب بالكاميرات‪ ،‬وعند قيامكما بأية حركة مريبة سوف يكون الموت‬
‫حليفكما‪.‬‬
‫لم تخف ابتسامة (قدري) و(جيهان) الساخرة عن شفتيهما لحظة واحده‪ ،‬فضغط (فريدريك) أسنانه في‬
‫حنق وهو يستدير ليغادر الزنزانة بدوره‪ ،‬وعلى الفور قام حارس ضخم بغلق باب الزنزانة‪ ،‬وسمع‬
‫(قدري) و(جيهان) صوت رتاج الزنزانة وهو يغلق من الخارج‪ ،‬وعندئذ التفتت (جيهان) نحو (قدري)‬
‫وغمغمت في اهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬هل سمعت ما قاله ذلك الوغد؟ إننا هنا من أجل إتمام صفقة ما‪.‬‬
‫تطلع (قدري) إلى الطعام بنظرة باردة تخلو من أية شهية‪ ،‬ثم التفت نحو (جيهان) وتطلع إليها لحظة‬
‫قبل أن يومئ برأسه إيجابا‪ ،‬ثم غمغم في حذر‪:‬‬
‫‪ -‬نعم إننا هنا من أجل إتمام صفقة ما‪ ..‬ولكن ترى أي نوع من الصفقات!‬
‫مطت (جيهان) شفتيها وهي تغمغم في تفكير‪:‬‬
‫‪ -‬من الواضح أنها عملية ابتزاز ومساومة للحصول على شيء مقابلنا‪.‬‬
‫عاد (قدري) يومئ برأسه إيجابا ثم غمغم وهو يخفض صوته بشكل أقرب إلى الهمس‪:‬‬
‫‪ -‬مادام األمر يخص عالم المخابرات‪ ،‬فاألرجح أنه قد تم اختطافنا للمساومة من أجل الحصول على‬
‫معلومات بالغة األهمية والخطورة‪.‬‬
‫ضاقت حدقتا (جيهان)‪ ،‬وغمغمت بينما عقلها يفحص األمر بدقة‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن األمر يتجاوز كونه مجرد صفقة للحصول على بعض المعلومات‪.‬‬
‫تطلع إليها (قدري) في تساؤل فأردفت في بطء‪:‬‬
‫‪ -‬فلو أن األمر يقتصر على الحصول على بعض المعلومات الكتفى هؤالء األوغاد باختطافك وحدك‪،‬‬
‫ولم يكن هناك داعي الختطافي أنا أيضا‪.‬‬
‫تطلع إليها (قدري) في دهشة بينما أردفت في ثقة‪:‬‬
‫‪ -‬بالنسبة لك فالجميع يعلم ماذا تعني أنت بالذات بالنسبة لجهاز مخابراتنا‪ ..‬إنك تعتبر ثروة قومية‪ ..‬أي‬
‫جهاز معادي كان يحلم بضم (قدري محمود) خبير التزييف والتزوير الذي طالت شهرته اآلفاق بسبب‬

‫أ‬
‫خبرته ومهارته الفائقة في ذلك المجال الذي ال يضاهيه فيه أخطر مزوري العالم على اإلطالق‪..‬‬
‫شخص مثلك يستحق أن تتم من أجله أعظم الصفقات نظرا لقيمته وخطورته‪.‬‬
‫غمغم (قدري) في خجل وتواضع‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك تبالغين قليال يا عزيزتي‪.‬‬
‫ابتسمت في إعجاب وهي تتأمله قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬بل هو أقل بكثير مما تستحقه‪..‬‬
‫ثم التقطت نفسا عميقا‪ ،‬وتسللت نبرة مريرة إلى صوتها وهي تغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬أما بالنسبة لي فاألمر يختلف كثيرا‪ ..‬ما الداعي الختطاف فتاة قعيدة عديمة الجدوى مثلي؟‬
‫تطلع إليها (قدري) في إشفاق بالغ‪ ،‬ثم غمغم في اعتراض‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقولين يا (جيهان)؟‪ ..‬إنك فتاة مخابرات مح‪..‬‬
‫قاطعته (جيهان) في مرارة وبدموع ترقرقت داخل مقلتيها على الرغم منها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أصبحت عاجزة عن الحركة تماما‪ ،‬وأصاب جسدي الوهن والضعف لشدة ما مررت به من‬
‫إصابات وعمليات جراحية‪ ..‬كما أنني أعمل منذ فترة طويلة بالقسم اإلداري‪ ..‬فما الداعي إذن‬
‫الختطافي؟‬
‫ربت (قدري) على كفها في حنان مشفق‪ ،‬ولكن عقله بدأ يفكر في كالم (جيهان) بسرعة ودقة‬
‫مذهلتين‪..‬‬
‫بوقا للغاية‪..‬‬
‫نعم‪ ،‬إن كالمها يبدو منطقيا للغاية‪..‬‬
‫قد يبدو األمر منطقي بالنسبة الختطافه هو‪ ،‬أما بالنسبة الختطاف فتاة مثلها فهو غير منطقي على‬
‫اإلطالق‪..‬‬
‫األمر إذن يتعدى بالفعل كونها مجرد صفقة أو مساومة للحصول على معلومات‪..‬‬
‫إنه يبدو أشبه بعملية ابتزاز لمشاعر شخص يهمه أمر فتاة في مثل ظروف (جيهان)‪..‬‬
‫شخص يتسم بشهامة منقطعة النظير‪ ،‬للدرجة التي معها يمكنه التضحية بنفسه من أجل إنقاذ اآلخرين‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬إن األمر كله يبدو بالنسبة له أقرب إلى فخ‪..‬‬
‫فخ لدفع شخص ما للظهور والقتال من أجلهما‪..‬‬
‫وبسرعة البرق ربط عقله بين االستنتاج الذي توصل إليه‪ ،‬وذلك السؤال الذي ألقاه عليه أحد الخاطفين‬
‫عن عالقته بـ (أدهم)‪..‬‬
‫عند تلك النقطة اعتدل (قدري) وخفق قلبه في عنف مع ارتجافه سرت في كيانه كله‪..‬‬
‫وأمام عينيه اللتان كان يكفي بريقهما إلنارة حجرة بأكملها‪ ،‬انزاحت جميع الصور لتحتل صورة‬
‫واحدة عينيه وعقله بل وكيانه كله‪..‬‬
‫صورة أقرب أهل األرض إلى قلبه‪..‬‬
‫صورة الرجل‪..‬‬
‫رجل المستحيل‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫‪ -٦‬سنعود‪..‬‬
‫مزيج عجيب من المشاعر ذلك الذي اجتاح كيان مدير المخابرات العامة المصرية فور سماعه صوت‬
‫(أدهم) عبر ذلك االتصال الذي أجراه ذلك األخير من خالل قناة اتصال خاصة للغاية ومؤمنة على‬
‫نحو غير قابل لالختراق‪..‬‬
‫مزيج يجمع بين الدهشة والسعادة وعدم التصديق والحنان األبوي في آن واحد‪..‬‬
‫مضت دقيقة من الصمت التام‪ ،‬قبل أن يهتف المدير في انفعال شديد‪:‬‬
‫‪( -‬أدهم)‪ ..‬يا إلهي! أين أنت يا رجل؟! كيف حالك؟! أين اختفيت طوال الفترة الماضية؟!‪...‬كيف حال‬
‫المقدم (منى)؟‬
‫غمغم (أدهم) قائال بصوت هادئ حاول قدر استطاعته أال يبدو عليه ذلك االنفعال الجارف الذي يمأل‬
‫نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا في خير حال يا سيدي‪ ،‬و(منى) أيضا بخير‪ ،‬والفضل كله يعود إلى رعاية اهلل (سبحانه وتعالى)‪.‬‬
‫هتف المدير بصوت أبوي دافئ‪:‬‬
‫‪ -‬أين أنتما يا (أدهم)!؟ ولم تعّمدت االختفاء طوال هذه الفترة الطويلة؟‬
‫تنهد (أدهم) في عمق‪ ،‬ثم غمغم في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬لدي أسبابي الخاصة التي ربما أشرحها لك فيما بعد يا سيدي‪ ،‬أما اآلن فالوقت لدينا أضيق من أن‬
‫نضيعه في مثل هذا النقاش‪ ،‬فحياة (قدري) و(جيهان) في خطر‪ ،‬بل مصر كلها في خطر‪.‬‬
‫انعقد حاجبا المدير في صرامة وهو يقول بصوت قد استعاد جديته‪:‬‬
‫‪ -‬لقد بحثنا عنك طويال دون جدوى‪ ،‬وأعتقد أنه ال يجوز لرجل مخابرات محنك مثلك االختفاء عن‬
‫الجهاز الذي ينتمي تلك الفترة‪ ..‬لقد تجاوزت كل الخطوط يا (ن‪.)١-‬‬
‫صمت لحظة ثم زفر في ضيق شديد‪ ،‬وهو يتابع‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أن الحياة اآلمنة البعيدة عن المخاطر قد راقت لك كثيرا فقررت االعتزال لتنعم بالهدوء‬
‫والراحة مع زوجتك وابنك (آدم) و‪..‬‬
‫قاطعه (أدهم) في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬األمر ليس كذلك على اإلطالق يا سيدي‪ ..‬كما أنني لم أسترد (آدم) بعد‪ ،‬فأنت تعلم أنني فقدته منذ‬
‫كان عمره بضعة أشهر قليلة‪ ،‬ولم أتمكن من استعادته على الرغم من محاوالتي المتكررة وجهودي‬
‫المضنية في ذلك الشأن و‪..‬‬
‫بتر عبارته عندما انبعثت من الجهاز صوت صيحة دهشة أعقبها صوت المدير يتساءل في ذهول‪:‬‬
‫‪ -‬لم تسترد ابنك؟ كيف هذا؟ من قام باالستحواذ عليه في ميناء مارسيليا إذن؟(‪)15‬‬
‫هّب (أدهم) من مقعده وهو يهتف‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي حدث يا سيدي؟ فلتقص علّي جميع التفاصيل‪ ..‬يبدو أن هناك الكثير من التطورات قد حدثت‬
‫خالل فترة اختفائنا‪.‬‬
‫لم يتفوه المدير بحرف واحد طوال لحظات طوال‪ ،‬وهو يحاول ابتالع دهشته العارمة‪..‬‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫لقد تصور مثلما تصور الجميع‪ ،‬أن من كان يتحرك داخل الصراع الذي دار بين أجهزة المخابرات‬
‫المختلفة وقام باسترداد (آدم) في نهاية األمر هو (أدهم) نفسه‪ ،‬ولكن جاء ذلك األخير لينسف اعتقاد‬
‫الجميع تماما‪.‬‬
‫بعد مرور ر لحظات من الصمت غمغم المدير في هدوء‪:‬‬
‫‪ -‬بعد انفجار الزفاف واختفائكما بحوالي األربعة أشهر وأمام رغبته العارمة في االطمئنان عليكما‬
‫ومحاولة استرجاعكما‪ ،‬قام (قدري) بمحاوالت عديدة للبحث عنكما‪ ،‬حتى التقط أعداؤنا ذلك الخيط‬
‫وبدأوا في خداع (قدري) بطريقة معينة لجذبه نحو اتجاه محدد‪ ،‬اكتشفنا فيما بعد أنه كان اتجاها مخالفا‬
‫تماما للحقيقة (‪.)16‬‬
‫انعقد حاجبا (أدهم) بشدة وهو يعود إلى مقعده في بطء‪ ،‬بينما تابع المدير قائال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قام أحدهم بخداع جميع أجهزة المخابرات العالمية بما فيها مخابراتنا نفسها‪ ،‬وقام بإيهام الجميع‬
‫بأن الشخص الذي يتحرك خلفه (قدري) هو أنت شخصيا‪.‬‬
‫ضّم (أدهم) قبضته في غضب مكتوم‪ ،‬وازداد انعقاد حاجبيه بينما تابع المدير‪:‬‬
‫‪ -‬في نفس الوقت قام رجل وامرأة بالتوصل إلى مكان (آدم) الذي كان يقبع بمدرسة داخلية منذ فترة‬
‫طويلة وقاما باصطحابه من مدرسته الداخلية إلى مكان مجهول‪ ،‬وظن الجميع حينها أنه أنت برفقة‬
‫(منى) أيضا‪ ..‬ولكننا اكتشفنا فيما بعد أن األمر برمته كان مجرد خدعة قد قام بها (ليونيد تورجنيف)‬
‫ابن مستر (إكس) السابق استطاع من خاللها اختطاف (آدم) (‪.)17‬‬
‫عند تلك النقطة شعر (أدهم) بموجة غضب كاسحة تجتاح عروقه‪ ،‬وانقبضت عضالت جسده كلها في‬
‫توتر بينما تابع المدير مكمال‪:‬‬
‫‪ -‬لم يتوقف األمر عند هذا الحد‪ ،‬فقد تمكن ذلك (الليونيد) من خداعنا مرة أخرى‪ ،‬وجعلنا نظن أن من‬
‫يتحرك داخل األحداث هو أنت شخصيا‪ ،‬وذلك عندما عاد لتنفيذ خطته الماكرة التي أمكنه من خاللها‬
‫أن يوقع بـ (تيا) الذراع األيمن (لسونيا جراهام) والتي كانت سببا رئيسيا من أسباب الدمار الذي حاق‬
‫بوالده‪ ،‬بل وكان يدبر أن يوقع بتلك األخيرة أيضا‪ ،‬ولكنه فشل في ذلك‪ ،‬واستطاعت (سونيا) أن تنقذ‬
‫مخدومتها من حبل المشنقة‪ ،‬عن طريق ابتزاز القاضي نفسه بتسجيالت فاضحة كانت قد سجلتها له‬
‫مسبقا‪.‬‬
‫كان (أدهم) ينصت في مزيج من الدهشة والغضب‪ ،‬ولكنه لم يتفوه بحرف واحد مع سيل المعلومات‬
‫الذي ينساب من بين شفتي المدير‪ ،‬ولكن غضبه قد تضاعفت حدته عندما أردف‪:‬‬
‫‪ -‬لقد نجح شخص مجهول في خداع الجميع واستحوذ على (آدم) بعد معركة عنيفة في ميناء‬
‫(مارسيليا) قبل أن يحمله إلى مكان مجهول‪.‬‬
‫هتف (أدهم) في غضب هادر‪:‬‬
‫‪ -‬ذلك الوغد‪.‬‬
‫غمغم المدير في بطء‪ ،‬وهو يزن حروف كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬لقد اعتقدنا طوال الفترة الماضية أنه أنت‪ ..‬ولكن األمر اآلن ال يحتاج إلى الكثير من الذكاء كي‬
‫نستنتج أن الذي قام باالستحواذ على ابنك في ميناء (مارسيليا) هو (ليونيد) نفسه‪.‬‬
‫زفر المدير في حدة ثم عاد يردف‪:‬‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ -‬لقد لعب (ليونيد) اللعبة بحنكة شديدة وأوهم الجميع بوجودك‪ ،‬حتى أنه دبر خصما وهميا على‬
‫اعتبار أنه أنت‪ ،‬ليدمر مجموعة من شركات المقاوالت التي يمتلكها‪ ،‬والتي هي في الواقع ال تمثل‬
‫سوى شيئا ضئيال أمام ثروته المهولة التي ورثها عن والده‪ ..‬لست أدري في الواقع لم قام بفعل كل هذا‬
‫ولم بذل كل هذا الجهد إليهام الجميع بوجودك و‪)18( ..‬‬
‫بتر المدير عبارته بغتة ثم غمغم والدهشة تمأل كيانه‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ترى أين كنت؟ وكيف لم تشعر بالصراع الذي‪..‬‬
‫قاطعه (أدهم) في هدوء على الرغم من بركان الغضب الذي ينفجر بداخله‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي لقد ذكرت أن ذلك الصراع قد تم بعد مرور أربعة أشهر فحسب من الزفاف‪ ..‬لقد كنت في‬
‫ذلك التوقيت تحديد في (ألمانيا) مصطحبا (منى) التي كانت تخضع لمجموعة من العمليات المتتالية‬
‫إلنقاذ حياتها‪ ..‬لقد كنا منفصلين عن العالم وكان كل ما يشغلني في تلك الفترة هو أن تظل (منى) على‬
‫قيد الحياة‪ ..‬أن تتجاوز مرحلة الخطر وتعود إلى سابق عهدها‪ ..‬لقد كانت (منى) تعاني آثار ذلك‬
‫االنفجار الذي أصابها بوهن وضعف لم يسبق أن مرت بهما في عمرها كله‪ ،‬وكان ينبغي أن أوفر لها‬
‫كل سبل األمان والحماية والرعاية‪.‬‬
‫عند تلك النقطة صمت المدير تماما‪ ،‬ولم يمكنه المناقشة أو االعتراض‪ ،‬فجميع من يعمل بالمخابرات‬
‫العامة المصرية وأولهم هو شخصيا يعلم جيدا ماذا تعني (منى توفيق) بالنسبة لـ (أدهم صبري)‪.‬‬
‫الجميع يعلمون أنه مستعد لتقديم كل التضحيات في سبيلها مهما كان حجم التضحيات‪..‬‬
‫صمت المدير ألنه يعلم أنه مادامت (منى) في خطر وتحتاج إلى حمايته ورعايته‪ ،‬سوف يلقي العالم‬
‫بأكمله وراء ظهره ويلتفت إليها وحدها‪..‬‬
‫لذا فكل ما فعله هو أن تنهد في عمق‪ ،‬قبل أن يغمغم في بطء وبلهجة ذات مغزى‪:‬‬
‫‪ -‬هناك معلومة تخص تلك المنظمة التي قامت باختطاف (جيهان) و(قدري) لم يتم ذكرها ذلك التقرير‬
‫الذي نشرته مخابراتنا عبر قناتها الخاصة‪.‬‬
‫غمغم (أدهم) في شرود وعقله مشغول في دراسة جميع التطورات التي حدثت أثناء اختفائه‪:‬‬
‫‪ -‬ما هي تلك المعلومة يا سيدي؟‬
‫أجابه المدير وهو يضغط حروف كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬هذه المنظمة تحمل شعار (إكس)‪ ..‬أعتقد أنك قد علمت اآلن من هو مالكها الحقيقي‪.‬‬
‫برقت عينا (أدهم) في شدة وخفق قلبه مع سماع اسم الشعار‪ ،‬واعتدل في حزم وهو يغمغم وحروفه‬
‫تتألق فوق شفتيه تماما مثل تألق عينيه‪:‬‬
‫‪( -‬ليونيد إيجور تورجنيف)‪.‬‬
‫ابتسم المدير وأدرك أن (أدهم) قد أمسك بطرف الخيط وغمغم‪:‬‬
‫‪ -‬بالضبط‪.‬‬
‫صمت لحظة ثم أردف في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن األمور قد تطورت كثيرا اآلن‪ ..‬وهناك مجموعة من الدوافع القوية التي تدفعك للعودة‬
‫والظهور مرة أخرى أيها البطل‪.‬‬
‫عاد يصمت لحظة ثم غمغم في حزم أكبر‪:‬‬
‫‪ -‬أول هذه الدوافع هي وطنك‪( ..‬مصر)‪( ..‬مصر) تحتاج إليك بشدة يا (أدهم)‪.‬‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫شعر (أدهم) بحماس جارف يسري في عروقه‪ ،‬وبانفعال بالغ شمل كيانه من شعر رأسه وحتى‬
‫أطراف أصابع قدميه‪ ،‬ووجد نفسه يعتدل ليشد قامته وهو يقول بمنتهى الحزم‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا رهن إشارة واحدة من (مصر) يا سيدي‪.‬‬
‫ابتسم مدير المخابرات وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬عظيم‪ ..‬ما زلت على عهدي بك يا (أدهم)‪.‬‬
‫قال (أدهم) في حرارة وإخالص‪:‬‬
‫‪ -‬وسأظل كذلك‪ ،‬حتى آخر نفس يتردد في صدري يا سيدي‪.‬‬
‫صمت لحظة ليسيطر على انفعاله‪ ،‬ثم التقط نفسا عميقا‪ ،‬وتابع في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أبدأ على الفور في تنفيذ المهمة‪ ،‬ولكن نظرا لضيق الوقت فالبد لنا من استغالل كل دقيقة في‬
‫المهلة المعطاة‪ ..‬لذا فأنا أقترح أن نتبادل المعلومات التي تخص تلك المنظمة ومالكها عبر قنواتنا‬
‫المؤمنة‪ ،‬غير القابلة لالختراق‪ ،‬وسوف أنطلق بعدها على الفور لتنفيذ المهمة بإذن اهلل‪.‬‬
‫صمت المدير مفكرا‪ ،‬ثم غمغم في حزم‪:‬‬
‫‪ -‬ال بأس‪ ..‬الوقت ليس في صالحنا بالفعل‪ ،‬ومن األفضل استغالل كل دقيقة‪.‬‬
‫ولمدة ساعة كاملة‪ ،‬استمر االتصال بينهما تم خاللها تزويد (أدهم) بكامل المعلومات المطلوبة‪ ،‬ورسم‬
‫الخطة التي سوف يتبعها لتنفيذ المهمة وعندما أغلق االتصال كانت عيناه تتألقان بشده وحماس جارف‬
‫يمأل عروقه‪.‬‬
‫وفي هدوء نهض من مقعده‪ ،‬واتجه نحو باب الغرفة وفتحه ليتطّلع إلى وجه (منى) التي تجلس فوق‬
‫أريكة في مقابل الغرفة تماما‪ ،‬وما أن وقع بصرها عليه حتى هبت من مجلسها‪ ،‬وقطعت المسافة التي‬
‫تفصلهما بخطوتين واسعتين‪ ،‬وهتفت بكل اللهفة والفضول في أعماقها‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو قرارك يا (أدهم)؟‬
‫تطلع إليها لحظات في صمت‪ ،‬كاد الفضول أن ينهشها نهشا خاللها‪ ،‬قبل أن تتسلل ابتسامة متألقة فوق‬
‫شفتيه لتمأل وجه (أدهم صبري) وهو يغمغم في قوة واقتضاب‪:‬‬
‫‪ -‬سنعود‪.‬‬
‫انتفض جسدها كله بمنتهى العنف مع حروف كلمته التي تنبض بكل القوة والحزم‪..‬‬
‫كلمة واحدة‪..‬‬
‫ولكنها تعنى الكثير‪..‬‬
‫كلمة تعني عودة البطل‪..‬‬
‫(أدهم صبري)‪..‬‬
‫رجل المستحيل‪..‬‬
‫∞∞∞∞∞‬
‫(تمت بحمد اهلل وتوفيقه)‬
‫‪ – Group Link‬لينك االنضمام الى الجروب‬
‫‪ – Link‬لينك القنـــــاة‬
‫الفهرس‪:‬‬
‫رجل المستحيل‪..‬‬
‫‪ -١‬اختطاف‪..‬‬
‫‪ -2‬مستر (إكس)‪..‬‬
‫‪ -3‬المعجزة‪..‬‬
‫‪( -4‬منى)‪..‬‬
‫‪ -5‬أسر‪ ..‬وأمل‪..‬‬
‫‪ -6‬سنعود‪..‬‬
‫‪Notes‬‬
‫]‪[←1‬‬
‫راجع رواية (أدهم) و(خدعة القرن)‪.‬‬
‫]‪[←2‬‬
‫راجع رواية (أدهم)‪.‬‬
‫]‪[←3‬‬
‫راجع رواية الوداع عدد رقم ‪.١٦٠‬‬
‫]‪[←4‬‬
‫راجع رواية نقطة الضعف‪.‬‬
‫]‪[←5‬‬
‫راجع رواية الوداع‪.‬‬
‫]‪[←6‬‬
‫راجع رواية أدهم‪.‬‬
‫]‪[←7‬‬
‫راجع رواية خدعة القرن‪.‬‬
‫]‪[←8‬‬
‫راجع رواية أدهم‪.‬‬
‫]‪[←9‬‬
‫راجع رواية الوداع رقم ‪.160‬‬
‫]‪[←10‬‬
‫راجع رواية حلفاء الشر‪/‬عقارب الساعة‪ /‬األفعى‪.‬‬
‫]‪[←11‬‬
‫راجع رواية الوداع‪.‬‬
‫]‪[←12‬‬
‫راجع رواية بال رحمة ‪ ،115‬مهرجان الموت ‪.116‬‬
‫]‪[←13‬‬
‫راجع رواية الضربة القاصمة عدد رقم ‪.100‬‬
‫]‪[←14‬‬
‫راجع رواية االختفاء الغامض عدد ‪.1‬‬
‫]‪[←15‬‬
‫راجع رواية خدعة القرن‪.‬‬
‫]‪[←16‬‬
‫راجع رواية (أدهم)‪.‬‬
‫]‪[←17‬‬
‫راجع رواية (أدهم)‪.‬‬
‫]‪[←18‬‬
‫راجع رواية خدعة القرن‪.‬‬

You might also like