You are on page 1of 11

‫في العوامل المجتمعية لظاهرة الجنون‬

‫‪www.b-sociology.com‬‬
‫يوجد الجنون بداخل العقل يوجد الجنون حيث يوجد المجتمع‬
‫‪*-‬الجنون بوصفه ظاهرة اجتماعية‪:‬‬
‫‪-‬التمثل االجتماعي للمرض‪ :‬الجنون وتعدد الهويات‬
‫ما طبيعة عالقة الجنون‪ ،‬كحالة سيكولوجية‪ ،‬بالمجتمع؟ وما هو نمط هذه العالقة؟ هل‬
‫يعد الجنون نتاجا الختالالت اجتماعية أكثر منها الختالالت نفسية؟ من أين تبدأ حدود‬
‫الفردي في حاالت الجنون وأين تنتهي؟ ومتى يبدأ دور العوامل االجتماعية‪ ،‬ومتى‬
‫ينتهي في حالة اإلصابة بالجنون؟ ما هي القيم االجتماعية واألخالقية والثقافية التي‬
‫تحدد سلوك ومواقف المجتمع إزاء الجنون؟ كيف يمكن وضع حدود السيكولوجي‬
‫والسوسيولوجي لتحديد وتعريف الجنون تعريفا معرفيا‪ ،‬يستند على قواعد المنهج‬
‫السوسيولوجي؟‬

‫ما هو دور الروابط االجتماعية في صوغ شخصية المجنون؟ وما تأثير المواقف‬
‫االجتماعية في تصنيف حالة الجنون؟ هل الجنون له معنى اجتماعيا محددا ومتفقا‬
‫عليه؟ أم هناك تقييم متنوع ومتعدد األبعاد لتوصيف حاالت الجنون؟‬

‫للجنون عدة توصيفات‪ ،‬فهو في منظور التحليل النفسي‪ :‬يعتبر مرضا عقليا‪ .‬وفي‬
‫المقاربة القانونية يتم التعاطي معه على أساس ما يعرف بالمسؤولية القانونية؛ إذ يبقى‬
‫التساؤل قائما حول حدود تدخل الموقف النفسي في التأثير على األحكام القانونية‪،‬‬
‫ومدى شرعية الموقف القانوني إزاء رأي التحليل النفسي وخالصاته‪.‬‬
‫هناك‪ ،‬في الواقع‪ ،‬إعادة نظر أساسية في التعريف القانوني والتعريف الطبي والنفسي‬
‫لهوية المجنون‪ ،‬حيث الجدل مستمر حول ما إن كان المجنون ضحية أم جانيا‪،‬‬
‫مريضا أم مسؤوال؟‬

‫قامت السوسيولوجيا بجهد كبير لكي يحظى الجنون باالعتراف‪ ،‬وانتقلت بالظاهرة‬
‫من الزوايا المعتمة إلى دائرة الضوء‬

‫تحاول السوسيولوجيا مساءلة البديهيات المتعلقة بالجنون‪ ،‬والتي تواضع المجتمع‬


‫ومؤسساته على تبنيها وتلقينها ألعضائه‪ ،‬وإعادة النظر في مضمونها وأحكامها‬
‫وتعريفاتها‪ ،‬وعيا منها بأهمية الصحة النفسية والعقلية في األوضاع االجتماعية‬
‫لألفراد‪ ،‬وإدراكا منها لحجم الرهانات المجتمعية والسياسية والمعرفية التي تحيط بكل‬
‫أنماط التوظيف في اتخاذ القرار المتعلق بتحديد مصير الكائن البشري‪ ،‬بصفته كائنا‬
‫اجتماعيا‪.‬‬

‫هل الجنون مظهر من مظاهر السلوك المضاد في مجتمع انسدت فيه كل وسائل‬
‫التعبير واإلبداع والحرية؟ هل الجنون حقيقة مرضية أم هو نوع من الرفض والتحايل‬
‫على الرقابة االجتماعية والثقافية والسياسية؟ هل الجنون رد مرضي على اإلقصاء‬
‫والتهميش اللذين يقع الفرد ضحية لهما في مجتمع انغلقت فيه قنوات االرتقاء‬
‫االجتماعي؟هل الجنون صيغة تضحي بامتالك اإلرادة للتخلص من رقابة وسطوة‬
‫منظومة القيم المهيمنة؟ ما هي عالقة الجنون بعدم تكافؤ الفرص في مجتمع توقف‬
‫عن االعتراف بالكفاءة والتنافس النزيه‪ ،‬لتحل محلها قيم معادية لألخالق‬
‫والعقل؟األكيد أن الجنون هو محصلة عالقة غير طبيعية بين الفرد والمجتمع‪ ،‬ونتاج‬
‫ديناميات اجتماعية تحت تأثير توترات حادة وعنيفة أصابت العالقات االجتماعية‬
‫ومنظومة القيم في عمق نسقها باإلعاقة واألعطاب؛ فالجنون من المنظور‬
‫السوسيولوجي تعبير عن سيرة مجتمع تعرضت فيه الروابط للتهشيم والتفكك‪ ،‬أو كما‬
‫يحاول ميشال فوكو توضيح ذلك من خالل أبحاثه عندما يربط بين المرض العقلي‬
‫والبنيات االجتماعية‪.‬‬

‫‪-‬السوسيولوجيا والصحة الجسدية والعقلية‪:‬‬


‫في الواقع عالقة السوسيولوجيا بالصحة تبدو حديثة إلى حد كبير‪ ،‬حيث يمكن اعتبار‬
‫ثالثينيات القرن الماضي مرحلة االحتكاك األول للسوسيولوجيا بهذا النوع من‬
‫التخصصات‪ .‬غير أن ذلك االهتمام كان في بداياته األولى‪ ،‬ولم يرق إلى مستوى‬
‫الحقل المعرفي التخصصي‪ ( .‬راجع‪:‬‬

‫‪Gerhardt U., Ideas about illness: an intellectual and political history of‬‬
‫‪medical sociology, MacMillan, London, 1990).‬‬

‫‪M. FOUCAULT -Histoire de la folie et l'âge classique, Paris, Plon,‬‬


‫‪1961.‬‬

‫‪D. JODELET - Folies et représentations sociales, Paris, PUF, 1989.‬‬

‫‪P. ADAM, C. HERZLICH - Sociologie de la santé et de la‬‬


‫‪médecine, Paris, Nathan, Sociologie 128, 1994.‬‬
‫‪M. AUGE, C. HERZLICH - Le sens du mal - Anthropologie, Histoire,‬‬
‫‪Sociologie de la maladie, Editions des Archives Contemporaines,‬‬
‫‪1984.‬‬
‫‪I. BASZANGER - Douleur et médecine. La fin d’un oubli, Paris, Le‬‬
‫‪Seuil, 1995.‬‬
‫‪M. BUNGENER - Trajectoires brisées, familles captives : la maladie‬‬
‫‪mentale à domicile, Paris, Editions de l’INSERM, 1995.‬‬
‫رغم الجهود التي بذلها السوسيولوجيون الكالسيكيون‪ ،‬إال أن مقارباتهم لموضوع‬
‫الجنون بقيت محتشمة وجنينية‪ ،‬ولم تكن بالعمق الذي ُعرفت به السوسيولوجيا في‬
‫تناولها لظواهر مغايرة‪ .‬لم يهتم السوسيولوجيون بالجنون كمعطى سوسيولوجي إال‬
‫في حدود ضيقة وسطحية‪ ،‬برغم مالمستهم لظواهر اجتماعية شبيهة من حيث بعض‬
‫جوانبها بظاهرة الجنون كاالنتحار مثال‪ ،‬وهذه المالحظة تنطبق على أهم‬
‫السوسيولوجيين‪ ،‬وأكثرهم عراقة في مجال البحث السوسيولوجي سواء تعلق األمر‬
‫بدوركهايم أو فيبر أو سبنسر أو ماركس أو زيمل أوإلياس أو غيرهم‪.‬‬

‫بصفة عامة لم تكن الصحة موضوع استثمار سوسيولوجي‪ ،‬وبالتالي لم ترق ألن‬
‫تصبح حقال معرفيا يهتم السوسيولوجيون بدراسته‪ ( .‬راجع‪:‬‬

‫‪Herzlich C., Le développement de la Sociologie de la Médecine, en‬‬


‫‪France, et son contexte, pp.131-135, Santé, Médecine et Sociologie:‬‬
‫‪Colloque International de Sociologie Médicale, Editions du Centre‬‬
‫‪National de la Recherche Scientifique, Paris, 1976.‬‬

‫غير أنه مع نهاية الستينيات من القرن العشرين بدأ (في كل من فرنسا وإنجلترا‬
‫والواليات المتحدة األمريكية) نشر دراسات سوسيولوجية حول الطب كإشكالية‬
‫اجتماعية‪ ،‬وليبرز بذلك حقل جديد أمام البحث السوسيولوجي‪ .‬وقد كان عامل اختالف‬
‫أنظمة التأمين االجتماعي وراء هذا الصعود المتنامي في البحث المعرفي‬
‫السوسيولوجي‪ ،‬لما لتلك األنظمة من تأثير مباشر على الال مساواة وعلى أنماط‬
‫الولوج للعالج وجودته‪.‬‬

‫مع بارسونز وقع تحول أساسي في مقاربة السوسيولوجيا للموضوع‪ ،‬حيث اعتبر أن‬
‫وظيفة الطبيب موجهة اجتماعيا‪ ،‬ولم تكن تسمح أو تقبل باإلصالحات البنيوية‬
‫للمنظومة الصحية لمصلحة التطبيب في القطاع الخاص‪ ( .‬راجع ‪:Parsons T., The‬‬
‫‪Social System, Glencoe, 1951).‬‬

‫هيمنت هذه اإلشكالية على سوسيولوجيا الطب‪ ،‬وما زالت محور مناقشات بين‬
‫المتخصصين؛ فالتحليل السوسيولوجي لظواهر المرض‪ ،‬والجنون‪ ،‬ومراقبة العالقة‬
‫بين الصحة والنظام االجتماعي يتم وفق تصور يعتبر الكائن االجتماعي بوصفه‬
‫شخصا وفاعال اجتماعيا ينتمي لمحيطه وبيئته‪ .‬بموازاة ذلك‪ ،‬تعددت التساؤالت حول‬
‫وظيفة ومستقبل األنظمة الصحية‪ ،‬وحدث نوع من التراكم في األبحاث‬
‫السوسيولوجية حول الصحة‪ ،‬لتصبح حقال معرفيا تخصصيا قائما يتعاطى مع الصحة‬
‫كظاهرة اجتماعية تتجاوز الحقل العلمي للطب‪ ( .‬راجع ‪: Legros M., Sociologie‬‬
‫‪et Santé Publique, Etudes Vivantes, Paris, 1980).‬‬

‫عندما أصبحت الصحة معطى اجتماعيا‪ ،‬كان البد من تداول الصحة العقلية في‬
‫ارتباط مع نمط العالقات التي يقيمها األفراد مع مجتمعهم‪ ،‬مع التأكيد أن الصحة‬
‫العقلية ال تحتاج فقط لمقاربة عالجية نفسية‪ .‬األمر الذي يحتم تحليل العوامل‬
‫االجتماعية والثقافية لألمراض العقلية‪ ،‬وهنا يتدخل علم النفس االجتماعي‪ ( .‬راجع ‪:‬‬
‫‪Hollingshead A.B. et Redlich F.C., Social Class and Mental Illness,‬‬
‫‪Wiley, New York, 1958).‬‬
‫يحتاج األمر هنا للنظر في التمثالت القائمة إزاء الجنون وإزاء المؤسسات‬
‫االستشفائية النفسية‪.‬‬

‫جل هذه المقاربات تساعد إلى حد كبير على إبراز أهمية تحديد المرض العقلي ضمن‬
‫سيرورته االجتماعية‪( .‬راجع ‪:Bastide R., Sociologie des maladies mentales,‬‬
‫)‪Flammarion, Paris, 1965.‬‬

‫‪*-‬المقاربة السوسيولوجية‪ :‬المرض العقلي منتوج ثقافي‪ ،‬والتحليل النفسي منتوج‬


‫اجتماعي‬
‫ليست هناك مجموعات هامشية‪ ،‬ولكن هناك فئات وشرائح اجتماعية‪ ،‬غير منضبطة‬
‫للمجتمع الحديث وضحية ألوضاع مستجدة‬

‫انفتاح السوسيولوجيا على معالجة الوضع االجتماعي للمرض العقلي‪ ،‬أعاد من جديد‬
‫مساءلة الروابط االجتماعية بكل أشكالها وأنماطها‪ ،‬بدءا من عالقة الفرد بالمجتمع‪،‬‬
‫وانتهاء بالتعريفات والحدود االجتماعية التي يقيمها المجتمع بين العاقل والمجنون‪،‬‬
‫ودور الحيثيات السوسيولوجية في رسم طبيعة العالقة بين األفراد والجماعات‬
‫والمجتمع‪ .‬ويعود الفضل في هذا االنفتاح لــ كونت ودوركهايم اللذين يمكن اعتبارهما‬
‫مؤسسين لسوسيولوجيا األمراض العقلية‪ ،‬العترافهما باألبعاد االجتماعية إلشكالية‬
‫األمراض العقلية‪ .‬لقد حاول كونت تقديم تعريف سوسيولوجي للجنون في أبحاثه حول‬
‫الشروط السوسيولوجية لظهور الجنون‪ ،‬خصوصا في مراحل انتقال المجتمع بين‬
‫المرحلة العضوية ومرحلة األزمة‪ .‬بينما قام دوركهايم في تحاليله بنوع من المقابلة‬
‫بين التضامن العضوي واآللي‪ ،‬ليحدث تمييزا سوسيولوجيابين الحاالت العادية‬
‫والحاالت المرضية‪.‬‬
‫لقد حاولت السوسيولوجيا الكالسيكية تطوير سوسيولوجية الصحة من خالل االهتمام‬
‫بالعالقات بين األفراد وبين الجماعات والمجتمع في مقاربة الصحة العقلية‪ .‬وقامت‬
‫السوسيولوجيا بجهد كبير لكي يحظى الجنون باالعتراف‪ ،‬وانتقلت بالظاهرة من‬
‫الزوايا المعتمة إلى دائرة الضوء‪ ،‬وأصبحت تحت مجهر البحث والتحليل‪ .‬لقد اعتبر‬
‫فوكو أن الطب النفسي لم يقم سوى بإنتاج خطاب حول الجنون أو باألحرى مونولوج‪.‬‬

‫في حين أصبحت األمراض العقلية‪ ،‬كمادة بحثية‪ ،‬في الدراسات السوسيولوجية محط‬
‫متابعة ورصد من خالل دراسة منسوب تواجدها في التشكيالت االجتماعية‪ ،‬وتقييم‬
‫حجم ذلك التواجد باعتماد منهج المقارنة بين مختلف الشرائح االجتماعية‪ ،‬ومدى‬
‫ارتباط ذاك المنسوب وهذا الحجم بالال مساواة االجتماعية‪ ،‬وتحليل التنظيمات‬
‫االجتماعية المعتمدة في العالج المؤسساتي لألمراض العقلية‪ ،‬والعالقة بين األمراض‬
‫العقلية‪ ،‬والبنيات االجتماعية‪ ،‬واعتبار المرض العقلي منتوجا ثقافيا‪ ،‬فيما تم اعتبار‬
‫التحليل النفسي منتوجا اجتماعيا‪ .‬وهذا ما دفع السوسيولوجيا بقوة البحث المعرفي إلى‬
‫إعادة النظر في المفاهيم البديهية للصحة وبالتالي صوغ مفهومها الخاص حول‬
‫األمراض العقلية‪ ،‬واالهتمام باألطر التنظيمية والمؤسساتية والمهنية للصحة العقلية‪.‬‬

‫المجتمع ينتج شروط الجنون‪ ،‬ألنه ينتج المعاناة واإلكراه‪ ،‬عبر إنتاج عوامل الهشاشة‬

‫قاد التطور الذي رافق االهتمام السوسيولوجي بحقل األمراض العقلية إلى تعدد‬
‫األسئلة وتعقدها وبروز إشكاليات جوهرية؛ فقد أصبح الوعي العميق بالعوامل‬
‫االجتماعية المرتبطة بالصحة العقلية‪ ،‬وما رافق ذلك من انتفاء إمكانية بروز أشكال‬
‫جديدة للحياة االجتماعية‪ ،‬أو بدائل اجتماعية‪ ،‬جميعها بواعث أسهمت في عرقلة‬
‫سيرورة تمأسس المرض العقلي‪ ،‬فقد بينت التجارب أنه قبل اعتبار المرض العقلي‬
‫مجرد معاناة فردية يجب النظر إلى الذين يعانون من الهشاشة في المجتمع‪ ،‬كما لو‬
‫أنهم أقلية مضطهدة من دون رعاية‪ ،‬وليس مجرد مجموعة من المنحرفين فقط‪( .‬‬
‫راجع‪:‬‬

‫‪Sévigny R., Santé mentale et processus sociaux, Sociologie et Société,‬‬


‫‪vol.XVII, n.1, avril 1985, p. 5-14).‬‬

‫‪Howard Becker- Outsiders : études de sociologie de la déviance, Paris,‬‬


‫‪Métaillé.(2000).‬‬
‫إن تعقد وتنوع ميدان الدراسات في مجال الصحة العقلية يدعم ضرورة بروز أنماط‬
‫جديدة للحياة االجتماعية‪ ،‬وأشكال جديدة من الروابط االجتماعية لمواجهة حدة‬
‫المعاناة الناتجة عادة عن اإلقصاء االجتماعي‪ ،‬والحرمان وعدم االعتراف‪ .‬فقد كان‬
‫لبروز ظروف الحرمان المادي‪ ،‬وتبعثر منظومة القيم والمعايير والتهميش‬
‫االجتماعي‪ ،‬مؤشر عن والدة ظاهرة اجتماعية تجد جذورها في االختالاللوظيفي‬
‫للمجتمع وفي طريقة اشتغاله‪ .‬ليست هناك مجموعات هامشية‪ ،‬ولكن هناك فئات‬
‫وشرائح اجتماعية‪ ،‬غير منضبطة للمجتمع الحديث وضحية ألوضاع مستجدة؛ إنها‬
‫نتاج لتحوالت معقدة وحادة‪ ،‬وغير مسيطر عليها أو غير متوقعة‪ ،‬وتحوالت صادمة‬
‫وعنيفة تركت بصماتها على ميكانزمات المجتمع ودينامياته الداخلية‪ .‬لذلك تتساءل‬
‫السوسيولوجيا باستمرار حول جدوى وأهمية اإلجراءات التي تتخذ في سبيل حماية‬
‫واستشفاء الجنون‪ ،‬ومدى مطابقة تلك المقاربات المؤسساتية والنفسية لمتطلبات الفرد‬
‫بصفته االجتماعية وضمن سياقه المجتمعي‪ ،‬ومدى تأثير هذه اإلجراءات على‬
‫وضعية المرض العقلي في عالقته بالمجتمع‪.‬‬
‫لقد اهتمت السوسيولوجيا أيضا بتخفيف المعاناة الناتجة عن المرض العقلي‪ ،‬ومن ثم‬
‫كان هاجسها تحليل تلك الشبكة المعقدة من المتدخلين في متابعة ضحايا الجنون‪،‬‬
‫ألجل تحسين مردودية الفاعلين األساسيين‪ ،‬والرفع من جودة الخدمات‪ ،‬وإعادة‬
‫اإلدماج االجتماعي للمرضى ضمن رؤية شمولية‪ .‬ولعل اللجوء إلى مختصين في‬
‫السوسيولوجيا للمساعدة على تحليل وتفسير ظاهرة الجنون‪ ،‬واإلفادة من الخبرة‬
‫السوسيولوجية دليل على أهمية المقاربة السوسيولوجية‪ ،‬وقيمتها المعرفية والعلمية‪،‬‬
‫واعتراف بمركزية مساهمتها في هذا المجال بحكم ما راكمته من معارف أساسية‬
‫حول المرض العقلي والصحة العقلية‪.‬‬

‫يعتبر المرض العقلي ظاهرة معقدة لها أشكال وأنماط متعددة ومختلفة‪ ،‬ما يجعلها غير‬
‫قابلة للحلول النهائية؛ إذ تنفلت في كل مرة من التعريفات المفاهيمية النمطية‪ ،‬لذلك ال‬
‫نجد إزاءها اتفاقا أو إجماعا على تفسيرها وتحليلها‪ .‬لعله في كل األحوال تتم إحالة‬
‫المرض العقلي على الشخص المصاب من دون ربط ذلك بالمجتمع الذي يقيم فيه ذلك‬
‫الفرد وجوده وعالقاته‪ .‬هذه الوضعية ليست بديهية أمام تساؤالت العلوم االجتماعية‬
‫التي ال تعترف بالعالقة السببية واآللية للمرض العقلي بالفرد بحسبان هذا األخير نتاج‬
‫شروطه االجتماعية والثقافية والقيمية‪ ( .‬راجع ‪:Sévigny R., La maladie‬‬
‫‪mentale, pp. 165-178, dans Traité des problèmes sociaux (sous la‬‬
‫‪direction de Dumont F., Langlois S. et Martin Y.), Institut Québécois‬‬
‫‪de Recherche sur la Culture, Québec, 1994.).‬‬

‫يحيل المفهوم المعاصر للصحة العقلية على مدى قدرة األفراد على التأقلم‪ ،‬وعلى‬
‫مدى أهليتهم ونمو مهاراتهم لالنخراط في المجتمع الذي يعدون جزءا منه وأعضاء‬
‫فيه؛ لذلك تهتم سوسيولوجيا الصحة العقلية بأقلمة ودعم الفرد في محيطه االجتماعي‪،‬‬
‫من خالل تنظيم وضبط التصرفات والسلوكيات‪ ،‬من دون إهمال دور المجتمع‬
‫والجماعات في توازن الصحة العقلية لألفراد‪.‬‬

‫إن مستوى العالج‪ ،‬ومستوى جودته‪ ،‬وشروط تفعيله‪ ،‬وعدم مرونة الولوج إليه‪ ،‬قد‬
‫يكون له قدر كبير من التأثير‪ ،‬واالنعكاس السلبي في تكريس اإلقصاء الذي يكون‬
‫المريض عرضة له؛ فالمجتمعات لها قدرة تدميرية هائلة‪ ،‬عندما يتعلق األمر بنبذ‬
‫األفراد غير المرغوب فيهم‪ ،‬ويمكن أن تستعمل في سبيل ذلك المؤسسات التي‬
‫أقامتها‪ ،‬لتمارس ذلك النبذ االجتماعي من خالل شرعنته‪ ،‬وإضفاء طابع إنساني عليه‪.‬‬
‫فكثير من المستشفيات ال تقوم بعالج ومتابعة ورعاية المرضى العقليين‪ ،‬بقدر ما تعيد‬
‫إنتاج معاناتهم وتُعمق إقصاءهم‪ ،‬وتعقد عمليات استعادتهم ألوضاعهم الطبيعية‬
‫ككائنات اجتماعية‪.‬‬

‫المجتمع ينتج شروط الجنون‪ ،‬ألنه ينتج المعاناة واإلكراه‪ ،‬عبر إنتاج عوامل الهشاشة‬
‫ورعاية تلك العوامل من خالل ديناميات اجتماعية تدعمها طبيعة الروابط السائدة‬
‫والمهيمنة‪ ،‬والتي تمثل في ظروف التوتر االجتماعي عامال إضافيا إلنتاج الشروط‬
‫السوسيولوجية‪ ،‬لبروز شبكة من الظواهر االجتماعية المترابطة‪ ،‬بما فيها االنحراف‬
‫والجريمة والعنصرية والشذوذ واإلدمان والجنون‪ ،‬ترتبط هذه الظواهر بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وتتداخل عوامل فرزها عبر مسارات معقدة‪ .‬لكن هذه الظواهر هي في‬
‫الوقت ذاته مادة اجتماعية جوهرية‪ ،‬لتطوير المقاربة السوسيولوجية وتجويد مناهجها‬
‫للحصول على مزيد من الفهم والتفسيرات لظواهر ارتبطت أساسا بنشأة المجتمع‪،‬‬
‫وتطور عالقاته الداخلية وتفاعلها‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬مؤمنون بال حدود‬

You might also like