You are on page 1of 43

(1)

‫ممشى الولد والكلب‬


‫مسرد حكائي ________‬

‫أمل فايز حسن‬

‫)‪(2‬‬
‫رقم اإليداع ‪2023/1536‬‬
‫الرتقيم الدويل‪1861648693 :‬‬
‫اهليئة السعودية للملكية الفكرية‪:‬‬
‫رقم التسجيل‪23-12-1553973 :‬‬
‫‪07\04\2023‬‬

‫)‪(3‬‬
‫"عملية الكتابة هي تهديم يف حد ذاتها"‬
‫~ فوكو~‬

‫مسارات فلسفية‬
‫ت‪ :‬محمد ميالد‪ -‬ص ‪15‬‬

‫)‪(4‬‬
‫(‪)0‬‬

‫اإلنسان كائن ُمغامر؛ وأكبرمغامراته أن يستمر في الحياة‬

‫(‪)1‬‬

‫ولكن إلى أين؟ وهذه األرض تحتي مستديرة العود األبدي‪ ،‬وصبية الضباب يلعبون‬
‫ويضحكون‪ ،‬وهم يمثلون مسرحيات ألفريد جاري‪" :‬أوبو أوبو أوبو"‪ ..‬والسحاب‬
‫يلف النمل املجنح ويالحق الحص ى امللساء فوق كتب السحرة‪.‬‬
‫"إن تكن عبثية‪ ،‬فلتكن حتى النهاية‪ ،‬حيث يسقط ظل الال ش يء أمام أعيننا‬
‫الجافة"‪.‬‬
‫يقول الولد الشقي وهو يجر كلبه من ياقة القميص‪ .‬تعال وادخل في لباس ي السفلي‬
‫لتعض الكرتين النرجسيتين‪.‬‬
‫ً‬
‫لكن الكلب ينفض ياقته وينبح بالفزع ويمش ي قربه هادئا منكس الرأس ولسانه‬
‫يلحس األسفلت األزرق‪.‬‬
‫لم يتوقف صبية الضباب عن الظهور على جانبي الشارع الضيق وهم يرقصون‬
‫الكرانكا الخضراء‪ .‬ويصيح الكلب‪" :‬من علمكم رقصة الشياطين هذي" وعيناه‬
‫تتسعان ولكنه ال يترك جرلسانه على األسفلت األزرق‪.‬‬

‫)‪(5‬‬
‫ً‬
‫"سينقطع الغناء لتعيش وحيدا" وتتموج بعدها كتل الظالم البنفسجية أمام‬
‫بصري‪.‬‬
‫‪#‬سيقتلونك‬
‫هاشتـ‪..‬ا‪..‬‬
‫وهذه لغة جديدة على الجاموس البري‪ .‬فيترك القطيع رعي العشب ويرفع راسه‬
‫ً‬
‫وخطمه إلى السماء متشمما‪.‬‬
‫"هذا هو القديم"‬
‫"تماسك"‬
‫"ال تسقط"‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وصبي ضباب يمثل في الكولوسيوم واضعا قناعا من الثلج القديم‪.‬‬
‫"إنها إشاعات‪ ..‬إشاعات فقط‪ ..‬مجرد إشاعات يا حبيبتي‪ ..‬وروما‪ ..‬ليس بها مترو‬
‫أنفاق حتى اآلن‪ ..‬منذ جستن األول وهم يتداولون أمرهم"‪ ..‬ثم استبدلوا املترو‬
‫بمدونة القانون ليعلنوا بداية نهايتهم‪ ..‬بداية موتهم‪..‬‬
‫حينها يعود قطيع الجواميس البرية للرعي مرة أخرى‪ .‬وتعبر بين أجسادهم الهزيلة‬
‫ريح حارة من الجنوب‪.‬‬
‫ً‬
‫إن كان عبثا فليكن حتى املوت‪ ..‬ألن حبك لم يكن مجرد أكذوبة إبريلية يا ذات‬
‫ً‬
‫الشعر األحمر‪ ..‬ويرى الكلب لهبا فوق قمة حصاة صغيرة ويرى انعكاس صورتي على‬
‫لحائها األصفر األملس فيلتفت وينظر إلي‪ .‬يظل يحدق في وجهي ويعود ليحدق في‬
‫صورتي على الحصاة‪ .‬يلعق لسانه بحركة دائرية محترفة ثم يجره على األسفلت‪.‬‬
‫"كن بخير"‬
‫‪...‬‬
‫ويحكي الولد للكلب قصة رعب فيموء كالقطط‪..‬‬
‫دخلون الشاليمو داخل كرة العين ويمصون سائلها الذهبي"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫"ي ِ‬
‫يعوي الكلب ويتلوى على بطنه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫لو تزوجت من شابة صقلية‪ ،‬لها تاريخ عربيد كالشهب‪ ،‬تعطيك حنانا وتعطي زنجيا‬
‫جسدها لتبلغ كمال متعة الحياة‪ .‬أليست خنفساء البحر تعبر بين األصداف‪ ،‬وتمد‬
‫ساقها املثيرة لتتحسس برودة مياه الشاطئ‪ .‬ثم تقول‪"َ :‬وي َوي"‪.‬‬

‫)‪(6‬‬
‫ً‬
‫يضم الكلب فخذيه وينحني للوراء‪ .‬متلفتا حوله حتى ال يراه أحد‪ .‬فيراه كل الناس‪.‬‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫حذاء الولد فطرا بري ـا فتفوح رائحة عفنة‪.‬‬ ‫ويدوس‬
‫ُ‬
‫"مثل مراوح الورق عند األميرات"‪ ..‬تتدلى غالالت حمراء من آبار النفط الصحراوية‬
‫العابرة على جسد الصقلية ذات الشعراألحمر‪.‬‬
‫إنها تعطي قبلة لكل من يسأل‪.‬‬
‫"قبلة في الفم؟"‬
‫يلتفت الكلب ويسأل بدهشة‪.‬‬
‫"قبلة في الشفتين الحمراوين"‬
‫ويرفع الولد قبعته ويخلخل شعره الفلفلي بأصابعه الصغيرة ثم يعيد القبعة إلى‬
‫رأسه‪.‬‬
‫"وما املانع؟"‬
‫"ال ولكن‪"..‬‬
‫ً‬
‫ويبدو الكلب حائرا ويجرلسانه على األسفلت‪..‬‬
‫هناك من يعيشون داخل الصفر‪ .‬وداخل الصفر عالم من اللبن األبيض‬
‫والجواميس السمينة واألعشاب الطويلة ذات النهايات الدبوسية الطرية‪ .‬وحلوى‬
‫ً‬
‫بالونات حمراء وصفراء وزرقاء‪ .‬ينزع الولد سبيبة من لحيته متأملا ويعض جانب‬
‫لسانه فيصرخ ويبكي ويلوح بكفه األيسر وكفه األيمن يحيط بفكه من أسفل‪.‬‬
‫إنها أوساخ‪ ..‬اوساخ‪ ..‬يجمعونها في املساء لتجمعها سيارات النفايات من أمام‬
‫املنازل في الصباح‪ .‬أو العكس‪.‬‬
‫"ولنسمه ممش ى الولد والكلب"‬
‫ويحاول الكلب الضحك لكن تشريح خطمه ال يساعده فيكتفي بلحس التراب‪.‬‬
‫إنها غابة من ذكريات‪ .‬ولها وظيفة ما‪ .‬ربما تكثيف الوحشة‪ .‬ولكن ما وظيفة‬
‫الوحشة؟ وجحر النمل املجنح يغرق في ماء الحمام‪ ..‬رائحة الصابون الغريبة تمرق‬
‫بسرعة بين الخنادق اإلبرية املتشعبة‪ .‬ويهرول العدو من مواجهة املوت‪.‬‬
‫عشر دقائق هنا وعشر دقائق هناك‪ ..‬جنود هنا‪ ..‬جنود هناك‪ ..‬أن كانت عبثية‬
‫فلتكن حتى النهاية‪..‬‬
‫‪...‬‬

‫)‪(7‬‬
‫روكو‪ ..‬الولد األسود ذو الشعر الفلفلي املوزع على مساحات متباعدة فوق راسه‬
‫يأكل املوزة بقشرها‪.‬‬
‫ً‬
‫"إنني نادرا ما أتغوط"‬
‫وبالونات وجنتيه تنتفخ‪ .‬ويلعق الكلب لسانه بحركة دائرية محترفة كعادته ويتخيل‬
‫أن راسه خلف مؤخرة كلبة من النوع املهجن بنطفة كلب بوليس ي‪.‬‬
‫"ملاذا؟"‬
‫"ال أعرف‪ ..‬ربما لكي تتملكني فأنا كلب والخضوع عادة الكالب"‪.‬‬
‫ثم يتابع بأنفه فراشة تدور عكس دوران لسانه‪ .‬والولد ال يهتم بها بل يواصل أكل‬
‫املوزبقشره‪.‬‬
‫"لتكون األرض نظيفة"‪.‬‬
‫ً‬
‫ال تنخفض الطاقة أبدا إال أثناء حزن عميق‪ .‬والحزن وهم كسائر املشاعر‪ .‬ولكنه‬
‫حقيقي التأثير‪.‬‬
‫ً‬
‫"ال تكن مخنثا وتتابع الفراشات"‬
‫يخجل الكلب ويطأطئ رأسه مثل أولئك الذين يحبون الفلسفة‪.‬‬
‫أس ًرة‬
‫الغابات هامدة رغم موجات عابرة ومتفرقة من زقزقة العصافير‪ .‬وثالثة ِ‬
‫ملقاة قرب بحيرة‪ .‬األسرة الخشبية لألسماك الطائرة وعروسين‪ .‬والكرس ي الوحيد‬
‫لسيد الغابة‪ .‬وهناك هاتف محمول واحد فقط ال صاحب له‪ .‬وفي الجانب الغربي‬
‫معسكر ملليشيات متمردة تشرب وتسكر وتنام‪ .‬ألن التمرد لم يعد يجدي‪" .‬ال ش يء‬
‫يجدي"‪ .‬يقول القائد املرابط تحت شجرة السرو ذات الزيت الطيار‪.‬‬
‫أنني أشتاق لصبية الضباب‪ .‬أشتاق لعبثهم وضجيجهم‪ .‬ولن يغير موتهم من ذلك‬
‫ً‬
‫شيئا‪ .‬فسينمون في خريف ما‪ .‬أرسم إيموجي ضاحك بدمعة واحدة على الخد‬
‫األيسر‪ .‬وتكبر البكتريا على األرض وتصبح بأحجام ضخمة ألنها تعرضت للتهميش‪.‬‬
‫من قال أن التمرد ال يجدي؟‬
‫يطلق جندي رصاصة على اآلخرفينتبه القائد لوهلة ثم يعود للنوم مرة أخرى‪.‬‬
‫تغيب الفراشة ويشعر الكلب باألس ى‪ .‬وينهض الولد ليمش ي فيتبعه الكلب ويقفز‬
‫لينفض التراب العالق بمؤخرة الولد العارية‪.‬‬
‫"احترس"‬

‫)‪(8‬‬
‫يعود الكلب لجرلسانه على األرض‪.‬‬
‫"إنها ليست عبثية يا روكو‪ ..‬إنها ألم"‬
‫"فليكن"‬
‫ويشيرإلى ثمرة جو افة صفراء في أعلى الشجرة‬
‫"انظر"‬
‫ينتابهما شعوربالرغبة في الضحك والشجا في نفس الوقت‪.‬‬
‫"ستكسرذراعك"‬
‫"أصمت"‬
‫ويعتلي أغصان الشجرة‬
‫"من هو سيد الغابة؟"‬
‫"أنت؟!"‬
‫" بل القرادة"‬
‫يسحق ثمرة الجو افة بيده الصغيرة‬
‫ً‬
‫"دائما القرادة"‬
‫‪...‬‬

‫تزحف القرادة فوق الكرس ي‪ ،‬وتحاول أن تمأله بجسدها دون جدوى‪ .‬مع ذلك ولهذا‬
‫ً‬
‫السبب تحديدا؛ ستظل سيدة الغابة‪.‬‬
‫ويتنصت قطيع الجواميس البرية أصوات املالعق والشوك البرونزية وهي تتصادم‬
‫مع صحون الخزف الصيني الفارغة‪ .‬وتتحرك ألعلى وأسفل لألمام والخلف‪ .‬على‬
‫مائدة مستطيلة طويلة‪ ،‬أطول من مائدة العشاء األخير‪ ،‬وتتخيل الجواميس الخبز‬
‫املقدس ينمو بين األصابع املتقيحة‪.‬‬
‫"املرأة تمأل حياتك دون أن تكون معك‪ ..‬إنها معجزة بيولوجية‪"..‬‬
‫ً‬
‫"عجبا ايها القائد"‬
‫يطلق القائد طلقتين أعلى رأسه وتفر الطيور من شجرة الزينة‪ ،‬فتسقط هدايا عيد‬
‫امليالد‪ .‬ويسمع الكلب صوت الطلقة فينصب أذنيه ويئن لوهلة والولد منشغل‬
‫بإخراج الدود من ثمرة الجو افة‪.‬‬

‫)‪(9‬‬
‫"سأخلع قبعتي فالجو حار"‪.‬‬
‫ً‬
‫ينهض الكلب قافزا فيرفع الولد راسه عن الجو افة‪:‬‬
‫"إنهم صبية الضباب!!!"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫يبقى القائد وحيدا وقد قـ ِت َل جميع رجاله‪ ،‬لقد سكروا وقتلوا بعضهم بعضا فجمع‬
‫قناني الخمر ودفنها في األرض وبنى فوقها سقيفة من بقايا شجرة السرو الوحيدة في‬
‫الغابة‪.‬‬
‫"سأحافظ على كنزي الصغير"‬
‫ً‬
‫وقهقه مغتبطا وهو ي ِغلم‪ ،‬فتطاير اللبن األبيض على كرشه املشعرة وغط في نوم‬
‫عميق‪ ،‬ليرى أمه تقف وعلى يدها سوط من جلد الجاموس البري وهي تلومه‬
‫بنظرات حزينة‪.‬‬
‫"سأصطاد السمك بديدان الطمي"‬
‫غيرأن أمه تظل تحدق فيه بقسوة‪.‬‬
‫ويتمنى لو أنه كان يحلم‪.‬‬
‫"هل جربت الدخان؟"‬
‫ً‬
‫يغمغم الولد ويرد الكلب نافيا‪.‬‬
‫"وال انا جربت الدخان"‬
‫ثم ينهض ويهرول ليتبعه الكلب وهو يلعق لسانه بحركة دائرية ثم يجره على األتربة‬
‫فتلتصق به بقايا أوراق األشجار‪.‬‬
‫وعلى البحيرة تتوزع مالبس العروس والعريس الداخلية فوق السريرين‪ .‬ويبدو أن‬
‫اإلنسان يصطنع معاركه الخاسرة باستمرار لكي يشعر بالحياة ثم يندم عليها‪ .‬فعلى‬
‫مالءة السرير ثالث وردات جافة‪ ،‬حمراء وصفراء ووردية‪ .‬وخاتمان من ذهب‪ ،‬على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحدهما أملاسة صغيرة جدا‪ .‬شفافة ومعادية للفوض ى‪ .‬فليكن عبثا‪.‬‬
‫ً‬
‫لقد وجدهما القائد وقد شنقا نفسيهما فوق شجرة السرو فدفنهما بعيدا وظل‬
‫يتذكر فخذي العروس السمراء الالمعة ولكنه يخش ى وجه أمه اكثر‪ ..‬لذلك شرب‬
‫ً‬
‫كثيرا تلك الليلة وشاركه القمر املستدير بكأسين ‪،‬أو ثالث من غالالت الضوء‬
‫األبيض املزرق‪ .‬كان كل ش يء يعصف بالقلب بال رحمة‪.‬‬
‫"سنبحث عن آكل النمل ذو األنف الطويل"‬

‫)‪(10‬‬
‫ذلك أن األشقياء ال ينقرضون بسرعة‪ .‬وتنزع الجدران صمتها وتصرخ عارية‪ .‬جدران‬
‫ً ً‬
‫من الهواء والنار‪ .‬كل ش يء يغلي على مرجل الزمن‪ .‬وسيصبح الولد عجوزا يوما ما‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والكلب يموت عما قريب إن لم يكن الكون كرتونيا بأكمله‪ ،‬فاملسألة كلها إذا عبث‬
‫كوهم الوسواس القهري‪.‬‬
‫ويمرغ آكل النمل خرطومه في األتربة ليمتص نمل الغابة‬ ‫ُ‬
‫إن األشياء معطى وهدف‪ِ .‬‬
‫املجنح‪ .‬وكذلك يحشره في بقايا ثمرة الجو افة فيشم رائحة أظافر الولد امللوثة‬
‫فيعطس ويبتعد بسرعة‪.‬‬
‫"تقدست أيتها األفخاذ الالمعة"‬
‫ِ‬
‫ويرسم شارة غريبة فوق جبهته ثم يجرع من الزجاجة ويضرط وترتخي أطر افه‬
‫وينام‪ .‬كل ذلك دفعة واحدة ألن أشهر السنة وأسابيع األشهر و أيام األسابيع‬
‫وساعات األيام تبددت كالعدالة‪ .‬وحين يتدحرج ظرف الرصاصة النحاس ي الفارغ‬
‫فوق الحص ى وتلتهب ذروة الحصاة‪ ،‬يحدق الكلب في وجهي وفي صورتي على لحاء‬
‫الحصاة السميك األملس مرات ومرات بدهشة‪.‬‬
‫"كن بخير"‬
‫ويترنح ضوء العين الزجاجية‪ ،‬ينسحق الطين تحت الحذاء العسكري‪ .‬وتحت ظل‬
‫القمر‪ .‬تهجم سحابات على بعضها وتلتحم في معركة ينتصر فيها الكل ويقفز‬
‫ً‬
‫صرصار الليل مختبئا داخل ثلم جذع التاريخ‪ .‬أنفاس محبوسة وأعين حزينة‬
‫ومتوجسة‪.‬‬
‫"من هناك؟"‬
‫"سأطلق النار"‬
‫ً‬
‫ويخرج هيكل شاب نحيل‪ ،‬ر افعا يديه‪.‬‬
‫ً‬
‫"ال أملك سالحا"‬
‫وعلى حافة سفح الجبل العالي‪ ،‬جلس الكلب والولد ير اقبان النجوم وهما ال‬
‫ً‬
‫يعلمان شيئا عما يدورأسفلهما على بعد مئات األمتار‪.‬‬
‫"انا جندي"‬
‫"تابع ألي مليشيا؟"‬
‫"وهل في أفريقيا من يحفظ اسم املليشيا التي يتبعها يا سيدي القائد"‬

‫)‪(11‬‬
‫ٌ‬
‫"حسن‪ ..‬ومن كان عدوكم؟"‬
‫"ال أعرف‪ ..‬لقد أجبروني على حمل السالح"‪..‬‬
‫"أنت تكذب"‬
‫ُ‬
‫"بل أقول الحقيقة ال أملك ما أخش ى عليه‪ ..‬لقد قتل جميع أفراد أسرتي"‬
‫يتسرب بين الرجلين حب خفي‪ ،‬وحزن خفي‪ ،‬وتوجس خفي‪ ،‬ومستقبل خفي‪.‬‬
‫تنحل روحه الشفافة على كون أحدب‬ ‫ُّ‬ ‫ويمتطي الخوف ظهر يعسوب مقدس‬
‫األنفاس‪ .‬عشوائية هي حياة اليعاسيب التعيسة‪ .‬وتقول األسطورة أن قصة حب‬
‫دامية بين يعسوب وفراشة أفضت إلى أن حرم اليعسوب على نفسه افتراس‬
‫الفراشات‪ .‬انتحرت الفراشة على لهب الحص ى الصفراء حين تأكدت بأن سرعة‬
‫حبيبها ال تسمح لهما بالوصال‪ .‬وقالت أساطير أخرى بأن الفراشة انتحرت ألن‬
‫اليعسوب أحب الحية‪ ،‬لذلك تراه يتبع الثعابين واألفاعي في كل مكان‪ .‬ولكن‬
‫اليعسوب بريء من كل تلك اإلشاعات‪ .‬كان مجرد حشرة بائسة‪ .‬ال أكثروال أقل‪ .‬وبما‬
‫أنه كذلك فقد نال قداسة التعساء؛ كعازف كمان بال جوقة‪.‬‬
‫ً‬
‫ويتسرب ضوء برتقالي من النافذة مهشمة الزجاج مرتميا على طاولة بها عشرات‬
‫من علب مساحيق التجميل‪ .‬ومرآة تعكس أعين اليعسوب الكبيرة ورأس الولد‬
‫والكلب‪.‬‬
‫ال تسألينني ملاذا‪ .‬إنك تبحثين عن سبب؛ اليس كذلك؟ وهذا أكثر صعوبة من‬
‫الصمت‪ .‬فلننه كل هذه الفوض ى‪ .‬فليس بالحب وحده يحيا اإلنسان‪ .‬ولنصعد إلى‬
‫شجرة السرو ونشنق نفسينا يا حبيبتي‪ .‬إنني مستعد ألن أفعلها وحدي‪ .‬وهنا حيث‬
‫ُ‬
‫تحفنا الغابات فإننا سننس ى كحزن قديم‪.‬‬
‫ً‬
‫"سأمسح املساحيق عن وجهي أوال ألكون صادقة مع املوت كما كنت صادقة مع‬
‫الحياة والحب"‪.‬‬
‫"دعيني أغسل قدميك الجميلتين قبل ذلك كما فعل املسيح مع تالميذه فالفرق‬
‫بين الو اقع والخيال هو الجهل"‪.‬‬
‫ً‬
‫"فلنتضرع إذا"‬
‫"من تحبينه عليه أن يكتفي بعبادتك"‪.‬‬
‫وتتبعثرالقصص الصغيرة امللونة في ريح الشمال كجسد اإلله بان كو‪.‬‬

‫)‪(12‬‬
‫أولئك الذين يتوصلون إلى وحدة الوجود‪ ،‬ال يحسدهم أحد‪.‬‬
‫ويمد الولد يده املرتعشة فيمسك بأحمرشفاه ويتأمله‪ ،‬يشمه ثم يعيده إلى مكانه‪.‬‬
‫‪ -‬كانت تعيش امرأة في هذا الكوخ املهجور‪.‬‬
‫يلعق الكلب لسانه بالحركة الدائرية‪ :‬تضع مساحيق كثيرة!!!‪..‬‬
‫‪ -‬ليس بالضرورة أن تستعملها كلها‪ ..‬يحب اإلنسان امتالك خيارات كثيرة في حياته‪..‬‬
‫‪ -‬ملاذا؟‬
‫رفع الولد بصره ورأى صورته والكلب على املرآة‪:‬‬
‫‪ -‬ربما ليشعربأنه حر‪.‬‬
‫ثم غادرا الكوخ ليبحثا عن آخرصبية الضباب‪.‬‬
‫وليل الصيف الحار يرضع من ثدي شمس غائبة‪ .‬مثل شاعرالحب‪ .‬فهذه املنمنمات‬
‫تلتصق بصخرة سوداء تلطمها امواج املحيط بعنف فال تنزلق عنها‪ .‬تلمع الصخرة‬
‫كلما غسلها ملح املاء‪ ،‬تعكس بلورات امللح ضوء الصحو الكسول‪ .‬ويلف ساحر‬
‫سمكة بخيوط النحاس‪ .‬ويتلوا تعاوذيه الشيطانية‪ .‬فاإلنسان إما هوائي أو مائي أو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ترابي أو ناري‪ .‬وتدور املروحة فوق رأسه ببطء فينطلق دخان البخور ر اقصا وحامال‬
‫الكائنات الروحية على ظهره‪" .‬لكن‪ ..‬ال ش يء يحدث يا امرأة اإلنسان" فهنا حيث‬
‫تحط النبوة ‪-‬ويشيرإلى قلبه‪ -‬ينمحي الخير والشر‪ ،‬ألن الرجل يترك أباه وأمه ليلتصق‬
‫ً‬
‫بامرأته‪ .‬ويسمي ذلك زواجا‪ .‬ويرى ذلك حسن‪ .‬فتتدحرج ثمرة الجو افة املحشوة‬
‫بالديدان تحت أقدامهما العارية‪.‬‬
‫"سأصطاد السمك بديدان الطمي"‪ .‬ويتأملها البربريان بتعجب‪ .‬وخلف األكمة‬
‫ً‬
‫يختبئ الكلب الشقي الذي سيموت قريبا كقربان للعبث‪.‬‬
‫ُّ‬
‫تحمرجمرة الطباق‪.‬‬
‫"أين وجدتها؟"‬
‫"جندي ميت"‬
‫ينهض القائد ويحفراألرض ليخرج زجاجة خمر‪.‬‬
‫ً‬
‫"هاك إذا"‬
‫ففي عالم األرواح ال ش يء بال مقابل‪.‬‬
‫ً‬
‫"هناك إذا مسرحية أخرى تكتب هناك"‪.‬‬

‫)‪(13‬‬
‫وتمثلها فرقة إسخيلوس من صبية الضباب املقنعين‪ .‬حيث كانت املرأة ترعى األبقار‬
‫في ذلك الكون املغاير‪ .‬لذلك كان الشباب يخشون الزواج من راعية‪.‬‬
‫وينحرف املمش ى نحو قرية األلف حانة‪ .‬حيث يقطن كل السكان داخل حاناتهم‪.‬‬
‫وتخلو الطرقات من املارة‪ .‬أما في املساء فتتحرك عربات الحمير محملة ببراميل‬
‫الخمر والنبيذ لتتوزع على القرى املجاورة تقودها فتيات صغيرات بدينات من كثرة‬
‫أكل لحم الخنزيروعلى رؤوسهن بواريك الشعراألحمرليقلدن الصقلية‪.‬‬
‫وتابعهن الولد والكلب بنظرات خالية من املعنى‪ .‬وأدركا أن املغامرة اإلنسانية تنتهي‬
‫عند الخمر والنساء‪ ،‬فلهث الكلب ولعق لسانه بالحركة الدائرية املحترفة‪ ،‬أما الولد‬
‫فقد رفع قدمه اليسرى وتبول على جدران معبد مهجور‪ .‬ثم غادرا بأسرع ما يكون‪،‬‬
‫لترتفع إلى السماء فقاعات الصابون‪ ،‬ورائحته املثيرة للغثيان حين تمتزج برائحة‬
‫التراب ورائحة الشمس الصيفية‪ .‬ويمتد املمش ى الرملي وعلى جانبيه أكوام من‬
‫َ‬
‫والخوذ‬ ‫نفايات الحرب‪ :‬الدبابات ذات األنف املكسور‪ ،‬واملدرعات الضاحكة‪،‬‬
‫املتبولة‪ ،‬وحديد ينبت كعشبة الشيطان في كل مكان‪ .‬وتحت ركام الحديد يحفر‬ ‫ِ‬
‫النمل املجنح أخاديده العميقة فتتكوم مخاريط التراب كأهرامات البشر القدماء‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي الداخل يتناقلون أخبارا ال قيمة لها سوى البحث عن الطعام‪ .‬متجنبة الخروج‬
‫إلى السماء حين تمطرنترات األمونيا‪.‬‬
‫"أنظر"‬
‫ويشيرالولد إلى ورقة كبيرة‪ .‬ويقفزالكلب ليثبتها بمقدمتيه‪.‬‬
‫"هل ترى الصور؟"‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ويمضيان يوما سعيدا في مشاهدة الصورعلى الصحيفة الصفراء‪.‬‬
‫"يصنع البشرأشياء عجيبة"‬
‫ً‬
‫يقول أحدهما‪ .‬وينبهر اآلخر‪ .‬ويتشكل مثلث من الطيور فوق راسيهما عابرا بسرعة‬
‫دون أن يرياه‪.‬‬
‫يرفع صبية الضباب أذرعهم ويوسعون ما بين أقدامهم ُويرعشون أكفهم ويقفزون‬
‫على ذلك الوضع يمينا ويسارا‪ ،‬ثم يدورون حول أنفسهم وتصيح جدران الهواء‬
‫"كرانكا‪ ..‬كرانكا أوب زيلي‪ ..‬كرانكا أوب زيلي"‪ ..‬وتضحك الفتاة الصقلية ذات‬
‫الشعر األحمر وهي تمسك بطنها لتحجز إنسياب دمائها الزرقاء من ثقب ُّ‬
‫السرة‪ .‬وما‬

‫)‪(14‬‬
‫يمكن أن يطلق عليه أيض األحاسيس بال تردد‪ ،‬فإن كانت عبثية فلتكن كذلك‪،‬‬
‫لتنبعث عفونة اإلنوجاد القسري من كل مسامات بين الخاليا‪.‬‬
‫"تعبت وتعب لساني"‬
‫لكنه يواصل طاعة طبيعته‪ ،‬فيلعق األرض بمساميرها وحديدها وأظرف الطلقات‬
‫النحاسية الفارغة ونترات األمونيا‪ .‬فتلسعه ويدورحول نفسه كاملجنون‪.‬‬
‫"هوو‪ ..‬توقف‪"..‬‬
‫وتستعر الحركة األولى من سيمفونية شهرزاد‪ .‬وتنتفخ أوداج النافخين على األبواق‪.‬‬
‫ويسير كورساكوف داخل نهر نيفا حتى يبلغ املاء كتفيه ثم يختفي رأسه تحت النهر‬
‫ً‬
‫تماما‪ .‬يرقص الشرق األقص ى باألوسط وبموت كلب إفريقي فوق لغم‪ .‬وفي الغرب‬
‫يجلس الرجل ذو القبعة املرتفعة والشارب املعقوف واالبتسامة الصفراء ورسغ يده‬
‫اليمنى فوق ركبته اليسرى املعقوفة فوق الركبة اليمنى والغليون على كف يده‬
‫اليسرى‪.‬‬
‫"ستموتون"‬
‫تبرق عيناه‪.‬‬
‫ويختنق الكلب من ربطة عنقه فيحاول نزعها بال أمل في النجاة‪.‬‬
‫ويهرول الجندي والقائد تحت ظالل األشجار حاملين قناني الخمر‪ ،‬وهما يأمالن أن‬
‫يفلتا من املوت وأن يتزوجا من ذوات البواريك الحمراء ويقتنيا جواميس برية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وينجبا ولدا ليرعى مع كلبه أحالما ماتت في صيف ما‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫هناك صيف في كل مكان‪ ،‬داخل األحذية وبين أسنان املشط‪ ،‬وتحت اإلبطين‪ ،‬وفي‬
‫غمامة الذاكرة‪ ،‬وله رائحة نمل محترق‪ .‬ليس النمل املجنح فقط‪ ،‬بل حتى النمل‬
‫الذي يتعش ى تحت الجلد‪ .‬أو ذلك املتخفي داخل األرواح املتململة‪ .‬ويحاول الكلب‬
‫طرده من لسانه الطويل‪ ،‬وهو يعود إلى الخلف‪ ،‬لكي ال يتبع سيده الصغير‪ .‬والسيد‬
‫ُ‬
‫الصغير لم يعرف بعد معاني االرتباط بين املوت والقبلة‪ .‬لذلك فاملسير طويل‪ ،‬إذ‬
‫ً‬
‫يطلق الجندي األسير النار على القائد‪ ،‬في وسط جبهته تماما‪ ،‬غير أن القائد ال‬
‫يموت‪ ،‬بل يعض قضيب األسير حتى يقطعه فيموت كالهما ببطء كدوران املجرات‪.‬‬
‫ً‬
‫يصبح الكون فارغا منهما‪ ،‬ومن العروسين‪ ،‬ومن اليعاسيب املراهقة‪ ،‬وثمرة‬

‫)‪(15‬‬
‫الجو افة ذات الديدان‪ ،‬والحب والفرح‪ ،‬وتغمره كآبة سيارة عطبت بسائقها وسط‬
‫الطريق الخلوي‪ ،‬لتظلل ما تحت الرمل من عظايات عطش ى شاحبة‪ .‬إنه روتين‬
‫الحياة الباهظ‪ ،‬والسخيف أكثرمن رجل يتسول قلب امرأة‪.‬‬
‫"ليس كل العالم روكو"‬
‫ويبدأ الكلب في التحول لبشري‪ .‬غيرأن الولد ال يدرك ذلك‪.‬‬
‫ويحاول الكلب التخلص من بشرية داهمت كينونته على حين غرة‪.‬‬
‫"بل كل العالم روكو"‬
‫ولكن هيهات‪.‬‬
‫ففي وادي البكاء‪ ،‬تنشق األرض عن أخدود الحقد من حروف اللغة‪ ،‬وتلك ميزة‬
‫بشرية ُمحتكرة‪.‬‬
‫"فليكن‪ ..‬ليس كل العالم روكو"‬
‫فيردد الولد‪:‬‬
‫"ليس كل العالم روكو"‬
‫ً‬
‫وتنقبض أذنا الكلب‪ .‬مقررا مفارقة صاحبه من طريق املجهول‪ .‬وال يالحظ الولد‬
‫اختفاء الكلب إال في مساء يحبل الوحشة في أعماق الجبال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن القماش األبيض يتمزق ثم تنسل خيوط نسيجه شيئا فشيئا ليخسر الحكمة‪.‬‬
‫ً‬
‫وهكذا يقبع الولد وحيدا فوق التل‪ ،‬وعيناه على امتداد املمش ى األزلي السرمدي‪.‬‬
‫ً‬
‫"إنك لم تفكرحتى في أن تطلق علي اسما يا روكو"‬
‫ً‬
‫ويستمرصمت حيرته مستلقيا على شفق الغروب‪.‬‬
‫وأسرة‬
‫كانت كتل السواد تنتشر‪ ،‬األعشاب والتالل واألشواك والفطر العفن ِ‬
‫َ‬
‫العاشقين والقرادة فوق كرسيها‪ ،‬وجثة القائد والجندي األسير‪ ،‬والصخور العابرة‬
‫وأشجار الصبار الشوكية‪ ،‬ورماد شجرة السرو‪ ،‬وكل الغطاء النباتي‪ ،‬وصبية‬
‫الضباب‪ ،‬وقباب األضرحة فوق السماء‪ ،‬والكتاب األسود‪ ،‬ودم الشيطان وصوت‬
‫الطيوراآليبة إلى أعشاشها لتغفوا تحت أجنحتها‪.‬‬
‫ً‬
‫"سأطلق عليك اسما"‪.‬‬
‫"ولكن ماذا؟"‬
‫"إنك لن تعود على أي حال"‬

‫)‪(16‬‬
‫ويقفز من التل‪ ،‬ليمض ي في ممشاه‪ .‬وتنحني امرأة داخل البئر‪ ،‬ثم تسقط‪ .‬هذا‬
‫سبيلها الوحيد إلى االنتحار‪ ،‬لكنها ال تموت‪ ،‬بل تموت ببطء وبألم شديد‪ .‬كان هذا‬
‫قبل آالف السنين‪ ،‬إذ ال فرق في موضوعات التاريخ‪ .‬ويكفي أن دولوز لم يكن وحده‬
‫من اكتشف ذلك‪ .‬فسعف النخل يحاول الطيران منذ األزل‪ ،‬ونهايات النظريات‬
‫تشهد على ابتذال الضحك‪ .‬و ابتذال النواح من وجه آخر‪ .‬ومضارب الصحراء‪،‬‬
‫وروث املواش ي‪ ،‬واملقابلة الوظيفية‪ ،‬وفائض القيمة‪ ،‬ومضاربات البورصة‪ ..‬الخ‪ .‬إن‬
‫وخصيهم‪ ،‬وضفائر البنات في‬
‫ِ‬ ‫األصوات تنفصل عن حناجرها‪ ،‬ولكنها تتصل بجوفهم‬
‫عمر الرابعة عشر‪ ،‬وأخبار الصحف اليومية‪ ،‬وربطات العنق‪ .‬وسوق الجنس‪،‬‬
‫والفنادق من درجة السبعة نجوم‪ .‬وعطاءات العقود اإلدارية‪ ،‬والرشاوي‪ ،‬وغسيل‬
‫الفراش‪.‬‬
‫األموال‪ ،‬وديموقراطية عث ِ‬
‫"فلتكن بخـ‪"..‬‬
‫"ال"‬
‫ترتجف الصلصالة فوق الدوار الخشبي كنهدي أنثى‪ .‬واليدان تمسهما برفق‪ .‬يدان‬
‫ضخمتان أكبر من الكون كله‪ .‬وتتنهد الشمس‪ ،‬ويغوص القمر بين فخذيها‪ ،‬ويتناثر‬
‫َح ُّب الرمان على أهوارالعراق‪ .‬ومعه ٌ‬
‫ألم ُمر‪.‬‬
‫يقف الولد وينصت للكون الصامت‪ .‬يسمع هسيس النجوم البعيدة‪.‬‬
‫"لم َ‬
‫يبق لي ش يء"‬
‫يمتد املمش ى أمامه‪ ،‬يصعد ويهبط‪ ،‬ينعطف وينحرف وينكسر‪ ،‬ينخسف وينبعث‪.‬‬
‫"لم َ‬
‫يبق لي ش يء"‪..‬‬
‫يلتفت خلفه‪ ..‬ال ش يء‪ ،‬ثم يعود ليحدق أمامه‪ ،‬ال ش يء‪ ..‬ينظر يمينه‪ ..‬ال ش يء‪..‬‬
‫يساره‪ ..‬ال ش يء‪ ..‬تزداد دقات قلبه وتتسارع انفاسه‪ ..‬ال ش يء‪ ..‬ال ش يء‪ ..‬ال ش يء‪..‬‬
‫ويصرخ‪:‬‬
‫"مامااااااااا"‬

‫( ‪)2‬‬

‫)‪(17‬‬
‫ً‬
‫مزعجة جدا‪ ،‬أصوات املالعق والشوك وهي تصطدم ببعضها وتنقر على أطباق‬
‫الخزف الصيني‪" .‬يجب أن تكونوا جادين أكثر من ذلك"‪ .‬وينظر الكهل إلى الولد‪:‬‬
‫"ونحن نأكل اآلن؟ هل تعتقد أن هذا هزل؟" ويصمت الجميع لوهلة‪ ،‬وهي وهلة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كافية جدا ملناورة سريعة‪ .‬وتهتاج الجماهير‪ ،‬هكذا هم دائما ينتظرون الضربة‬
‫القاضية وكأنما يوجهونها بأيديهم‪ .‬ويستغرق العشب املحترق شساعة البراري‬
‫املأزومة باليأس‪ ،‬وتهرول الجياد الحرة مبتعدة قدر املستطاع عن دائرة الحضور‬
‫الضيقة‪ .‬لقد غادرت الجواميس البرية‪ ،‬وسقطت أجنحة النمل‪ ،‬ونمت الرصاصات‬
‫في سهول النسيان‪" .‬هذا هو تاريخي"‪ .‬تاريخ أول ارتشاف لألصابع باألصابع‪ .‬تاريخ‬
‫أول نظرة حب‪ ،‬وأول قبلة‪ ،‬وأول انكسار أمام الحقيقة‪ .‬هنا؛ حيث يبدأ اإلنسان في‬
‫النمو بالحزن‪.‬‬
‫ً‬
‫"وداعا"‬
‫ً‬
‫وداعا لذلك الولد‬
‫ومرحبا بعربات الحمير وهي تحمل براميل الخمر البلدي‪ ،‬منذ أن تعلم اإلنسان‬
‫تقطير الفواكه بعد تخمير عصيرها‪ .‬ولم يكن ذلك بالبعيد‪ .‬تقول كاميليا بأنها ال‬
‫تفكر في ش يء‪ .‬وتقسم على ذلك‪ .‬ثم توزع الحيرة مع الكؤوس على زبائنها‪" .‬ال أحد ال‬
‫ً‬
‫يفكر في ش يء"‪ .‬كيف يكون ذلك؟ فيلتقي بالخائن‪ .‬يراه من بعيد وهو يقود رتال من‬
‫الجراء القبيحة مثله‪ ،‬فيقف ويتأمله بصمت‪ .‬تضاء مصابيح الدم في العروق لكي‬
‫تتلقي وترسل بريدها امللوث‪ ،‬لكي تحدث ذلك التنبيه الى تشعبات من مفترقات‬
‫الدروب‪ .‬لكي توتر الحكومات العاملية‪ ،‬لكي تشتعل الحروب‪ ،‬لكي يموت الكالب‬
‫وأشباه الكالب‪ ،‬ويجتمع املدونون لصياغة مسارات أخرى للحقيقة الجديدة‪ ،‬لكي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تكون تاريخا جديدا‪ .‬فتنبت األقحوانات الحمراء من جديد‪ ،‬ومعها السوسن‬
‫األصفر والبنفسج وعباد الشمس وكافة أنواع املخدرات‪ .‬وتمتد أصابعها لتقطف‬
‫واحدة‪ .‬تشمها وتغمض عينيها كأول كذبات املراهقات‪ .‬ويصدقها هو كأول حماقات‬
‫املراهقين‪ .‬وينبح الخائن من بعيد "ليس للورود رحيق"‪ .‬وتلتفت زوجته الكلبة‬
‫ً‬
‫ناحية الحبيبين تاركة جروا يعبث تحت أثدائها القبيحة‪ .‬تلهث ثم تتبع الخائن‬
‫بصمت‪.‬‬

‫)‪(18‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ينظر روكو إلى الفتاة ويرى ممش ًى جديدا يخرج من شفتيها ساقطا تحت قدميها‬
‫ً‬
‫عابرا الجحيم‪ .‬تمتد يده وتمسك بفكها ورقبتها‪ .‬يسمرها ويأكل نهديها‪ .‬ثم يمزق‬
‫ً‬
‫تنورتها القصيرة ُمفسحا من القنوط بعض األمل‪" .‬كيف ال تفكر أمك؟ هذا محال؟‬
‫ال أحد ال يفكر؟"‪ .‬يتركها مقرفصة على األرض وهي تضم فخذيها بذراعيها وهي تبكي‬
‫على خيط دم أزرق يحلق فوق السماء‪ .‬ويرفع الخائن قدمه اليمنى ويتبول على‬
‫شجرة شاحبة ليضع عالمة على نطاق معيشته البائسة‪ .‬كل ش يء له عالمة حاسمة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تقسم ملصلحته دائما‪ .‬يحدقان في بعضهما بصمت‪:‬‬
‫"رأيت كل ش يء"‬
‫"ليس كل العالم روكو‪ ..‬أليس كذلك؟"‬
‫ثم يمض ي كل واحد منهما في طريقه‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫يا أرقاء الحياة‪..‬‬
‫هلموا‪..‬‬
‫فهنا تحت اقدام أغسطس‬
‫مات القرد مات‪..‬‬
‫كان يرقص‪..‬‬
‫واملارة يرمون النقود‪..‬‬
‫ويضحكون‪..‬‬
‫ثم‬
‫يغادرون‪..‬‬
‫كان يصيح‪:‬‬
‫هلموا يا أحفاد قيصر‪..‬‬
‫ً‬
‫ويرتمي ممثال دورامليت فتضحك الجماهير‪.‬‬
‫ويلخص القرد معيار الحضارات األوحد ويهمس للولد‪ .‬وينظر الولد لالحتفال بروما‬
‫على األرض اإلفريقية‪ .‬حيث يقف البيض ويتأملون السود بمرح‪.‬‬
‫إن حضارة البشرتقبع بين املطبخ واملرحاض‪.‬‬

‫)‪(19‬‬
‫ً‬
‫البيض مناديل الورق بكثرة‪ ،‬ألن السود واملسلمين تأخروا جدا وهم‬ ‫ويشتري ِ‬
‫يبحثون عن املاء من أجل الطهارة‪.‬‬
‫يقفز القرد فوق كتف الولد‪ ،‬ويحاول الولد أن يتحمل ثقل عضالته القوية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وطعنات شعره الرمادي‪ .‬كان السيئ دائما سببا لإليجابي‪ .‬ويبدو أن الكلب الخائن‬
‫قد أصيب بالغيرة فصاح‪:‬‬
‫‪ -‬الحتمية البيولوجية ستنتصرفي كل األحوال أيها القرد املتحذلق‪.‬‬
‫لكن القرد ال يأبه ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬توقف عن البكاء‪..‬‬
‫وعلى مشارف األدغال‪ ،‬تهرب الجواميس البرية‪ ،‬ومعها كل العواشب‪ ،‬وقليل من‬
‫املفترسات‪ .‬وتغلق الجسورالترابية‪ ،‬وتنتشراملدرعات العسكرية‪.‬‬
‫تحطم الحيوانات األسرة‪ ،‬ويهشمون الكرس ي‪ ،‬ويقتلون القرادة‪ ..‬وتجلس قرادة‬
‫أخرى فوق الكرس ي وتبدأ في عصرنة الغابة‪ ،‬بتجريفها أسرع من تجريف الطبيعة‬
‫لها‪ .‬وتتعلم الجواميس البرية السودوكو لتقض ي فترة نهاية خدمتها في اللعب‪ُ .‬يلقي‬
‫الولد بالشوكة والسكين‪ ،‬ويغادر مائدة الطعام بغضب‪ .‬إنه مناور بارع‪ ،‬فعندما‬
‫يرغب اإلنسان في البحث عن حريته‪ ،‬سيفعل ذلك‪ ،‬غير أن كل النهايات التاريخية‬
‫ً‬
‫كانت دائما رفع الراية البيضاء بعد أن نرى النقطة الحمراء في خرائط الجي بي إس‬
‫على الهاتف املحمول‪ .‬ويرفع العمال على أكتافهم األحمال الثقيلة‪ ،‬الحجارة‬
‫وجواالت اإلسمنت والفول والسمسم‪ ،‬والثالجات والبوتاجازات وحقائب السفر‪،‬‬
‫وكل األكاذيب التي تحيط بالرغبة في االنعتاق واالنفالت دون جدوى‪ .‬وإذا كانت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عبثية‪ ..‬فلتكن كذلك‪ .‬وليكن كل سفر الخروج خروجا للعالم‪ .‬تمردا لم يكن‬
‫تعلموا آذانكم بوسم‬ ‫باإلمكان تجنبه‪ ،‬ألنه هكذا يقول التاريخ‪ :‬هو ذا يأمركم أن ِ‬
‫واحد‪ ،‬ألطفالكم وكباركم ونسائكم ورجالكم وحيواناتكم‪ ،‬وكل حي يتنفس‪ .‬أما‬
‫َ‬
‫الجماد مما ال نفس فيه‪ ،‬فاحرقوه‪ ،‬إال القليل من الطعام والشراب‪ .‬كذلك‬
‫يأمركم‪ ،‬وكذلك تخرجون من بين األخاديد على نهر نيفا‪ ،‬وال تأكلوا وال تشربوا قبل‬
‫صباح كامل‪.‬‬

‫)‪(20‬‬
‫ورفعوا كل ش يء على ظهورهم‪ ،‬وهم يتبعون سحب الرب‪ ،‬وقلوبهم ترتجف مثل‬
‫قلوب الحمام‪ .‬وعلى الطرف اآلخر من النهر‪ ،‬جمعت املالئكة أجنحتها وجثت تترقب‬
‫وصول الولد والقرد‪.‬‬
‫كان يدخن بكثرة‪ ..‬وظلوا يفتشون عن مكان لدفنه لساعات طويلة‪ ،‬حتى وجدوا‬
‫ً‬
‫حيزا في مصنع اإلسمنت‪ .‬وتو افد العمال حول جثته‪ ،‬وقبروه وأعينهم تضحك‪ .‬أما‬
‫السيد املدير فكان يجتمع مع مجلس اإلدارة ليعرض السياسات الجديدة‪ .‬وخاصة‬
‫مطالبة الحكومة بضمانات بنكية حقيقية‪.‬‬
‫"إنهم لصوص"‬
‫"مجموعة لصوص"‬
‫تحولت كل املصانع إلى مقابر‪ .‬وبعضها إلى مدارس كونغفو‪ .‬وفي كل األحوال فإن‬
‫األم ال زالت تصر على أنه األب البيولوجي وليس القرد‪ .‬والالعب الرئيس ي في تحديد‬
‫مصيرالثقوب السوداء في خرقة املشاعرالبالية‪.‬‬
‫"ال تكرهه هكذا"‬
‫ولكنه ظل يقبع كحاشية سفلية؛ متعلقة وغيرمتصلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫"لقد كبرت األن وصرت شابا وأصبح عليك أن تغادر ممش ى الغابة الضيق‪ ..‬إن‬
‫طاقة اإلنسان تتبدد كالعطر"‪.‬‬
‫ً‬
‫وجه األم كان جميال‪ ،‬شفتاها مشققة ولسانها محتشد بالدمامل‪ ،‬وداخل محجرها‬
‫األيسر كرة حديدية سوداء‪ .‬وتخيلها والقرد يضغط على صدرها ويضرب فرجها‬
‫الجاف بحراب النحس النهاري‪ .‬يداه كيد الجزار‪ ،‬و انفه كأنف الكاهن‪ ،‬وأذناه كأذني‬
‫الجار املحتال‪ ،‬و انحناءة ظهره الصغيرة تؤكد وجود جينات من خياط القرية‬
‫املجاورة أما عقله فعقلية املدير‪ .‬كلهم كأنهم هو ما عدا األب املوثق بأوراق‬
‫الحكومة‪ .‬وهذا هو املوضع الطبيعي للحقيقة في هذا العالم‪.‬‬
‫اهيل على وجهه التراب‪ ،‬ولم يشعر الولد باألس ى‪ .‬ولكنه وفي طريق عودته يلتقي‬
‫ً‬
‫بابنة كاميليا التي تحمل سكينا وتصيح‪:‬‬
‫‪ -‬أنا حامل‪.‬‬

‫)‪(21‬‬
‫إن العدوى تنتقل بكل تالمس‪ .‬الفيروسات والبكتريا والحيوانات املنوية‪ ،‬والرغبة‪.‬‬
‫كل األمراض والخطابات الروحانية‪ .‬وكذلك الضحك الذي انتاب العمال وهم حول‬
‫الجثة‪.‬‬
‫"زوج عشيقة املديرالعام"‬
‫كانت أعينهم قبلها هي فقط التي تضحك‪ ..‬لكن األشياء تتغير حتى الجمادات مثل‬
‫النقود‪ .‬تزيد او تنقص‪ ،‬ولكنها تتغير‪ ،‬ثم تتبدد‪ .‬والعصفور على غصن الشجرة‬
‫ير اقب الدفن‪ .‬يزقزق بدون شغف بل كأداء واجب للعزاء‪.‬‬
‫وتنتفخ البطن بالغازات‪ ،‬الجزر تنعزل بكنوز القراصنة الذين قضوا‪ .‬كانت هكذا‬
‫توزع أموال الضرائب على الفاسدين‪ .‬العطاءات الحكومية التي يعدون عروضها‬
‫ويفضون مظاريفها ويرفضون بعضها ويقبلون بعضها‪ .‬وتتطاير املاليين على عودة‬
‫موضة السبعينات حيث فتحت املومس الطريق إلى أحالم البؤساء‪ .‬ودقت طبول‬
‫ً‬
‫القبائل القديمة لتتبدد حاملة ما تعتقده كنزا من الثروات الثقافية‪ .‬وتبدأ رحلة‬
‫البحث عن وظيفة‪ ،‬وعن نماذج األسئلة واجوبتها النموذجية‪ .‬و انغطاس الحزن في‬
‫قعر األمعاء‪ .‬والفزع في الوجوه املكفهرة الغاضبة‪ .‬والليالي التي ال تفارق نفسها‪،‬‬
‫محمية بالتسلية املزيفة وأصباغ التجميل؛ من برايمر وفاونديشان وكونسيليير‬
‫وبالشر وهاياليتر وبرونز وارتكازات الال شيئية في سجع مارتن هايديجر عند املوائد‬
‫ً‬
‫الزجاجية للمطاعم املحجوزة مسبقا‪ ،‬وفرو الثعالب خلف املوت بإرادة حرة‪.‬‬
‫والتوأمان تابعا دفن جثة من قتاله‪ ،‬تابعا بدقة دفنه‪ .‬لقد سار كل ش يء على ما‬
‫يرام‪ .‬ولكن من يأبه لتربصهما عند الزاوية املظلمة و انقضاضهما عليه بمناديل‬
‫الغاز‪ .‬برزت عروقه البنية على رقبته ووجه وباقي اجزاء جسده كأنما كانت تحاول أن‬
‫ً‬
‫تنجوا بنفسها‪ .‬وتدلى لسانه املزرق على الجانب األيسرساخرا من ممش ى الغابة‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬حيث تبدو وكأن التراجيديا تبدأ اليوم وليس من عصر اليونان‪ .‬وحيث الشر‬
‫ً‬
‫ليس شرا البتة‪.‬‬
‫ً‬
‫فتشا جيوبه وأخرجا مفتاحا من فتحة شرجه ثم غادرا والرائحة العفنة تتبعهما‬
‫حتى أن الكلبين البوليسيين امتنعا عن مالحقتها‪.‬‬
‫"ماذا يأكل هذا الكلب؟"‬
‫ً‬
‫"شيئا تعافه الكالب"‬

‫)‪(22‬‬
‫وكانت كرة العين الحديدية ال زالت في علبة الزيت‪ .‬وهي تحاول مسح شفتيها‬
‫املشققتين بأحمرشفاه‪ ،‬أو فلنقل بلون بنفسجي‪ ،‬وتنتظرعودته املشمئزة‪.‬‬
‫وأسدل الليل أستاره ببطء على كوخ الغابة‪ .‬ونام جميع األعداء وهم يحلمون‬
‫باصطياد بعضهم في صباح الغد حتى الغزالن التي تدعي البراءة‪.‬‬
‫"إن اإلنسان يصنع ماهيته"‪ ،‬يقول سارتر بتفاؤل يحسد عليه‪ .‬ويسند الولد‬
‫َ ً‬ ‫ً‬
‫قليا فيه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫يهتز‬ ‫والقمر‬ ‫األسود‬ ‫الزيت‬ ‫متأمال‬ ‫ذراعيه على سياج الجسر الحديدي‬
‫يفكرفي الطفل القادم‪ ،‬والقرد على كتفه يبحث عن قملة يأكلها‪.‬‬
‫"السيدة كاميليا"‪ ..‬يقولها بكامل أناقته وهو يحمل باقة ورد متنوعة األلوان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ َ‬
‫نحـية باقة الورد جانبا وتقول‪:‬‬ ‫وتنظركاميليا عبرالنافذة إلى خارج الحانة م ِ‬
‫‪ -‬ليس ابنك‪ ..‬أن ممش ى الغابة ضيق ولكنه يتسع لجميع التأمالت‪.‬‬
‫ويحاول النظرإلى عينيها بال أمل‪ ،‬فيغادر‪.‬‬
‫إنها اللعبة البرجوازية القديمة التي لم يستطع أن يجاريها أي حيوان له لغة‪ .‬والقمر‬
‫وتلوح‬
‫ينقلي داخل صفحة النهر‪ ،‬يهتز وينقسم إلى قطع زبد متموجة ومتوازية‪ِ .‬‬
‫ً‬
‫األسماك من األعماق للسماء وهي تبكي وتبتلع بعضها أيضا‪ ،‬إذ ليس هناك تناقض‬
‫البتة عندما نقرأ نقوش الكهوف‪ ،‬واملسالت‪ ،‬واألهرام واملعابد وغير ذلك‪ .‬ال تناقض‬
‫إذ كل األشياء تجثوا داخل مطاميرها قرب بعضها البعض‪ .‬أحفاد ديدان الجو افة‬
‫يلعبون في بطن السمك‪ .‬والراحة الصغيرة تصبح قبضة قاسية‪ .‬فليس للنيازك أن‬
‫تخترق الغالف الجوي إال بعملية انتحارية متهورة‪ .‬هكذا يتحدثون عن ُّ‬
‫الصدف‪،‬‬
‫والحياة ال تنحازلرأي ضد رأي بل تحتفظ بحيادها األزلي‪.‬‬
‫"الغابة غريبة هذا اليوم"‬
‫يقول القرد فيرد عليه‪:‬‬
‫"يأكلها املنطق"‬
‫"عليك أن تجرلسانك على األسفلت"‪.‬‬
‫ويرتاب القرد‪ ،‬لكنه يفعل ذلك على مضض‪ .‬فيضحك الكلب من بعيد‪.‬‬
‫والدودة تصدرالبيان األول وتطالب بالعقالنية‪ .‬وتقول وهي تحك أنفها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬الناس يتحدثون كثيرا ألن األمور ليست واضحة بالنسبة لهم‪ .‬أما الحيوانات‬
‫والحشرات فال‪..‬‬

‫)‪(23‬‬
‫ويمض ي الولد قرب الكرس ي‪ ،‬يصطاد رائحة اللحاءات الخشبية‪ ،‬والطين‪ ،‬وأوراق‬
‫القنب الجافة‪.‬‬
‫‪ -‬لكن يا صديقي‪ :‬ماذا يفعل العقل وحده‪.‬‬
‫ويقفزالقرد من شجرة ألخرى دون انتظارإجابة‪.‬‬
‫‪ -‬عليك أن تلحس األرض كما كان يفعل كلبي الخائن‪.‬‬
‫‪ -‬كان يتملقك‪ ..‬أما أنا فال ‪ ..‬عليك أن تتقبلني كما أنا ألتقبلك كما أنت‪..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الطفل بذراعيه‪ .‬ليمنع عنه البعوض املنتشر في الغابة‪ .‬مع ذلك يظل‬ ‫ويحيط‬
‫ً‬
‫الرضيع صامتا‪ ،‬وهو يتأمل مسرحية في السماء‪.‬‬
‫تتلبد الغيوم وتضحك وتقهقه وتبكي‪ .‬تنسحب جماهير الطيور من ساحة املعركة‪.‬‬
‫وتختبي اليعاسيب تحت أوراق الشجر‪ ،‬وتحبو الدودة لتهبط من ساق الكرس ي‪.‬‬
‫وتهتف الديدان من خلف الكواليس‪ .‬ال تعيش األسود إال في البراري‪ .‬كما ال تنمو‬
‫النقود إال في الحركة الدؤوبة‪ .‬تتغذى على بعضها‪ ،‬وعبرها تنمو غابات اإلسمنت‪،‬‬
‫واملالعب‪ ،‬ويواصل صيادو األسماك حصد امليداليات الشفافة‪ .‬ذلك أنهم أوالد‬
‫القرون املاضية كمزارعي األرز في فيتنام ومن يرتدون مريلة اإلعدام الحمراء ليقفوا‬
‫ً‬
‫تحت شرفات الجميالت النائمات دوما‪ .‬ويرى الولد األشياء كما هي عليه‪ .‬ويبحث‬
‫"أينا كان الخائن؟"‪ .‬إن الحياة ال تعود إلى الخلف‪ .‬ويدرك‬‫عن الكلب بنظره فقط‪ُّ .‬‬
‫ً‬
‫القرد ذلك فيسقط من الشجرة ويبدا في جرلسانه على الطين وهو يضحك‪.‬‬
‫"نحن صبية الضباب‪ ..‬نحن صبية الضباب"‬
‫أنتم صبية الضباب؟!‬
‫"سرقت األسماك الطائرة الهاتف الوحيد في الغابة وهربت"‬
‫وتتموج أشباحهم السحابية بين األشجارحين يعبربدوي صحراءهم وهو يقود جمله‬
‫حتى ال يشعر الجمل بالسأم من وجوه التجار الصارمة‪" .‬فلتصنع لي بدل األقدام‬
‫ً‬
‫عجالت مطاطية‪ ،‬وبدل الرقبة مقودا وعلق على السنام عالمة تجارية كي تواكب‬
‫العصر"‪ .‬فيكتئب البدوي عندما ينهار عامله ويشعر بأنه غراب‪ .‬وعندئذ ترتفع زوابع‬
‫ُ‬
‫الرمال القمعية إلى السماء‪ ،‬لتطلب النجدة من امللكوت‪" .‬يا صبية الضباب‪ ،‬إنكم‬
‫ً‬
‫تجلبون الخراب دائما"‪ .‬ويغضب الولد من حديث القرد فيخرق أنفه ويدخل في‬

‫)‪(24‬‬
‫الثقب خشبة من عشوائيات شجرة املستكة‪" .‬لكي تتعلم الكالم" يقول الولد ثم‬
‫ً‬
‫يهرول خلف صبية الضباب حامال رضيعه بين ذراعيه‪.‬‬
‫الكالب ال تخون‪ ،‬ولكنه الكلب الوحيد الذي يفكرباستمرارفي قتل صاحبه‪.‬‬
‫ً‬
‫ألن تأكال شيئا؟‪ ..‬ومن هذا الطفل؟ تقول صاحبة البنسيون ذات األثداء الكبيرة‪.‬‬
‫‪ -‬ابني‪..‬‬
‫تمد يدها وتخلع أثداءها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ألن تأكال شيئا؟ ومن هذا الطفل؟‬
‫‪ -‬قلت لك إنه ابني‪..‬‬
‫خرج عصفورة من ساعة‬ ‫تعود وتجمع األثداء املطاطية وتحشرها تحت ردائها‪َ .‬وت ُ‬
‫الحائط ولكنها ال تزقزق بل ترتد إلى الخلف بقوة‪ ،‬ويصدر عن ذلك صوت تكة‬
‫صغيرة‪ .‬ومن الركن يترنح رجل يرتدي بيجامة النوم املزركشة برسوم البطات امللونة‬
‫وعلى رأسه قبعة من ذات القماش‪ .‬يطوح قدمه اليسرى ويتمسك بالصندوق الذي‬
‫تقف خلفه املرأة‪.‬‬
‫ال يوجد قمر في السماء‪ ،‬وال تظهرالنجوم من فوق البنسيون الذي بال سقف‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬عليكما أن تأكال شيئا‪.‬‬
‫وتبدو وقحة وغاضبة‪.‬‬
‫‪ -‬ومن هذا الطفل؟‬
‫تهدر السماء بالرعد‪ .‬فيخرج الولد والقرد من البنسيون واملرأة تالحقهما ثم تقف‬
‫أمام الباب‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬عليكما أن تأكال شيئا‪.‬‬
‫ويسمعا تكة ارتداد عصفور الساعة الحائطية‪ ،‬ألن نواة األرض توقفت عن‬
‫الدوران‪ .‬ولكن الغابات والجبال تتحرك في السطح ومعها السحب والروبوتات‬
‫الحقودة‪ .‬وتتمازج االتجاهات‪ ،‬وتختلط األلوان عند الحانة‪ ،‬والثنائي الشرطي‬
‫يقفان داخل الحانة ويدخل أحدهما يده ليحك خصية اآلخر‪ .‬وهو يؤكد بأنهما‬
‫سيعيدان الطفل املخطوف إلى كاميليا ليكون عوضا عن ابنتها التي انتحرت بعد أن‬
‫أكلت يد الرضيع اليسرى‪ .‬ويؤكد الثاني‪" :‬لقد تراجعت أسعار األسهم في البورصة‬
‫بعد كل هذه الحوادث املؤملة في الغابة"‪ .‬فيتطاير البصاق من فم الكهل‪ ،‬ويطالب‬

‫)‪(25‬‬
‫بسن قانون لتجريم كراهية الخنازير‪ .‬فيصفق نصف البرملان‪ ،‬ويعترض النصف‬
‫الثاني‪ ،‬ثم يجمعون على سن القانون‪ .‬وتبدأ مراسم االحتفال‪ ،‬وتمتلئ القنوات‬
‫ً‬
‫الفضائية بالخنازير الباكية‪ .‬وتصبح كاميليا رمزا للحرية‪ .‬وتعلن الديدان تكوين‬
‫مليشيا بعقيدة قتالية هي الدفاع عن النفس‪ .‬وتبدأ محاوالت دؤوبة لتحريك نواة‬
‫االرض بتفجيرات نووية متواصلة فتسقط الفتة الحانة الخشبية‪ .‬ال ش يء في هذه‬
‫العبثية يثير الضحك‪ .‬ألن وحدة الوجود تطبع ألوانها على كل حاويات الشحن فوق‬
‫السفن الضخمة‪ .‬إنه عالم واسع حتى لو ظل القرد يجر لسانه طوال املمش ى‪ .‬وال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫زالت األرض تطبع نفسها على حافة مجد مهزوم‪ .‬ال زال للحب مكانا أساسيا في قلب‬
‫ً‬
‫الحروب‪ .‬يعبر الولد املمش ى‪ ،‬وتتنفس األرض صباحا ال يكدره الغدر‪ ،‬فتنطوي‬
‫ً‬
‫صفحات قديمة بشكل مؤقت‪ .‬واللثة التي ال تحمل أسنانا تضحك بأمل واسع‪.‬‬
‫فينظر الولد إلى األفق ويفكر في إيجاد ممش ى جديد للرضيع‪ .‬ممش ى ال يمر بالغابات‬
‫املوحشة كممشاه‪ ،‬بل باملروج‪ .‬ويقول القرد‪ :‬بدأت تكبر‪.‬‬
‫تخفف الشمس سطوتها وتسمح للغيمات القليلة أن تمش ي فوق رؤسهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ال ينكسرحلم اإلنسان أبدا‪ ..‬حتى وهو يلفظ أنفاسه األخيرة‪ .‬فيلتفت للقرد ويقول‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لذلك ال تتحدث الحيوانات كثيرا أيها القرد ألنها ال تحلم‪ ..‬هل فهمت‪.‬‬
‫يقفزالقرد فوق األشجارويرفع سبابته‪:‬‬
‫‪ -‬فلتسقط كل املمالك واالمبراطوريات‪ ..‬بيزنطة وفارس واألموية والعباسية‬
‫والعثمانية وليختنشتاين‪.‬‬
‫فيضحك الرضيع‪.‬‬
‫وتحتفل الغابة بالرضيع‪ .‬تتنازل القرادة عن كرسيها ليجلس الرضيع‪ ،‬وترش األفيال‬
‫املاء فوقه‪ ،‬وترفرف اليعاسيب بسرعتها املجنونة‪ .‬وتمتنع الحيات عن التهام‬
‫الضفادع‪ ،‬وتمد األشجار الشوكية فروعها بأمان للعصافير والطيور‪ .‬فليس للموت‬
‫عنوان‪.‬‬
‫ويقف الشرطيان على مفترق طرق مسفلتة ويمسحان عرقهما وهما يفتشان‬
‫بأعينهما عن اللص الغامض‪.‬‬
‫"إن األخالق نتاج من يرفضون االقتناع بالحقيقة"‪.‬‬
‫"بإسم القانون‪ ..‬أرفض ذلك"‪.‬‬

‫)‪(26‬‬
‫ويرفع الوسطى ألعلى حيث تصبح السماء صافية أكثر مما يجب‪ .‬فيقبالن بعضهما‬
‫بعشق واألحذية العسكرية املمزقة تغطس في الطين وتجرمعها الطحالب الخضراء‪.‬‬
‫وتغني األنفاس الحارة‪ .‬الخوذات الحديدية املثقوبة تحتجز الدم‪ ،‬وترتعش األصابع‬
‫ذات الخواتم الفضية‪ .‬والشباب في املر اقص الليلية املتأللئة يحاولون تجنب فهم‬
‫الحياة‪ .‬تهبط روح الفتاة من السماء‪" .‬مجرد خيوط من الحمض النووي نحن"‪.‬‬
‫يقول لها الرضيع‪ .‬فتبكي وهي تضحك‪.‬‬
‫ً‬
‫"ال تخض مغامرة الحب أبدا"‬
‫ثم تمسح على شعيراته القليلة برفق‪ ،‬تقبله وتعود إلى السماء ألول وآخر مرة‪.‬‬
‫وتحدق سلحفاة معمرة في األفق‪.‬‬
‫كل األيدولوجيات تتبدد عندما ينبض قلب أحمر في ساحات الحب الخالية‪ ..‬ترهن‬
‫الشتاءات معاطف الربيع واألكواب الساخنة على طاولة املقاهي في أطراف‬
‫املحطات البعيدة‪.‬‬
‫ً‬
‫"سأبقى وحيدا حتى املوت‪ ..‬في انتظارك إلى األبد‪ ."..‬يكتب ذلك دون أن يفكر‪.‬‬
‫ما هي الحياة؟ إنها إحساس فقط‪.‬‬
‫ويسير الولد والقرد بمرح حتى الركن الجنوبي الغربي من الغابة وهما يتبعان أغنية‬
‫ً‬
‫الولد الذي ال يكذب أبدا‪ .‬والتي تغنيها جاكلي صانعة املعكرونة‪" .‬الولد الذي ال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يكذب أبدا‪ ..‬يعاني من كذب اآلخرين"‪ .‬وتمنحهما طبقا واحدا من املعكرونة ذات‬
‫ً‬
‫الصلصة الحارة‪ .‬كانت تلصق أقماعا على فوهة املفرمة‪ ،‬وتقول‪ :‬تخرجك فوهة‬
‫املفرمة في شكل دودة‪ ،‬أو حمار‪ ،‬أو قرد‪ ،‬أو أسد‪ ،‬أو أرنب‪ ..‬فال تقاوم ألنك لست من‬
‫ُ‬
‫يصنع القمع‪.‬‬
‫‪ -‬ومتى أصنع القمع؟‬
‫يسألها القرد فتقول‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لن تصنعه أبدا‪ .‬يجب أن تودع هذه األفكارالشريرة‪..‬‬
‫وتضحك فتتساقط من فمها الحراب املسننة‪ .‬إذ أنه ال شر وال خير في هذه الحياة‪.‬‬
‫وكتب جون ميلتون ملحمة الشياطين الصغيرة ذات الكروش الضخمة وامللساء‬
‫ً‬
‫ككروش الخرتيت‪ .‬ومن كان مقتنعا بذلك أكثر من الخيام الرابض في تبصر اته‬
‫الباكية‪ .‬ها هي حربة مسننة ذات حراشف‪ ،‬وأخرى ملساء‪ ،‬وثالثة مدببة‪ ،‬ورابعة‬

‫)‪(27‬‬
‫مطروقة كخوذة جندي روماني صرعه أسالف الخيام‪ .‬وتحشر جاكلي لقمة في فم‬
‫القرد فيمد لها مؤخرته‪" .‬هذا هو املكان الصحيح"‪ .‬هكذا هي يا موليير‪ .‬هكذا هي‪.‬‬
‫ً‬
‫فيتصبب الولد عرقا ويشرع في الهرب‪ .‬لقد توقف عن التدخين ألنه يضر بالرضيع‪.‬‬
‫وفي كون مواز لم يكن هناك من رضيع‪ ،‬بل مصانع للسجائر‪ ،‬تحدد مصير القطب‬
‫َ َ‬
‫نق ُّ‬ ‫ُ‬
‫ض الكلب فيقبض بفكيه على عنق‬ ‫املتجمد ومصير قبلة في الهواء‪ .‬ال تكتئب‪ .‬وي‬
‫القرد ويخنقه حتى تسيل الدماء السوداء السامة‪ ،‬ويموت ولسانه يتدلى من جانب‬
‫ً‬
‫فمه األيسر كزوج عشيقة املدير العام تماما‪ .‬يسحب الكلب الجثة ويدفنها خلف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شجرة وهو يتمتم بتعاويذ حزينة‪ .‬ويظل الولد متجمدا‪" .‬سأسير معك"‪ .‬تذكر دائما‬
‫إنه ممش ى الولد والكلب‪ ..‬هكذا أسميته أنت ال أنا"‪ .‬ينظر الولد إلى الرضيع ثم إلى‬
‫الكلب ثم يومئ برأسه‪ ،‬فيجرالكلب لسانه على األرض‪ ،‬ويسيران في املمش ى املجهول‪.‬‬
‫"ستحدث العدالة في العالم عندما يشنق جميع العمال والفقراء والبؤساء أنفسهم"‪ ..‬هكذا‬
‫هو الخوف املتجمد‪ .‬يمضغ الكلب الكالم وهما يشقان طريقهما بين قيعان الجثث الصارخة‪.‬‬
‫والباحثون عن وظائف شاغرة في الطوابير الخامسة يفتحون أفواههم املتعفنة لكي تنظفهم‬
‫ً‬
‫احتراما لتاريخ ُ‬
‫سيكتب في‬ ‫األوهام‪ .‬هؤالء يتكدسون في مشارح الزهور‪ ،‬ويخلع الولد قبعته‬
‫املستقبل‪ .‬يمسح شعره الفلفلي بأس ى من العرق‪ .‬وتضعف خطواته من األلم‪.‬‬

‫"اين صبيان الضباب؟"‬

‫"و أنا كذلك مشتاق لهم"‬


‫وينحدران في وادي الضباب ذاته‪" .‬ستتحوالن إلى صبية الضباب" ويفتح الكلب عينيه على‬
‫ً‬
‫ليال يحضن النهار‪ .‬واملوتى السابقون‬ ‫اتساعهما "و أنا كذلك؟"‪ .‬من يحكي قصة ليستأنس‬
‫صورهم تضحك باستمرار‪ .‬ال يتخيلهم وهم يبكون‪ .‬لذلك ترتعد السماء وتحبلهم في املنامات‬
‫ً‬
‫أحالما‪ .‬وتظهر قبيلة األقزام وهي ترقص حول خنزير وحش ي بساق مقطوعة وخطم محاصر‬
‫بنابين شقيين‪".‬هلموا‪ ..‬هلموا" وتبدأ ألعاب الحاوي‪ ،‬فينفخ النار من أعاله ثم أسفله‪..‬‬
‫فيضحك أبناء الغابة‪ ..‬ويحك األسد أنفه بالتراب حتى ال يقهقه‪" .‬هلموا هلموا فالحياة حلوة"‬
‫ويستمتع الولد والكلب في وادي الضباب‪ .‬ومن حولهم كراسات مسطرة بمربعات صغيرة‪ ،‬لكي‬
‫ُ‬
‫تكتب فيها األرقام بأيدي ضحايا مستقبليين حين يتبعثر السديم األصفر املشع حول بقعة‬
‫منخفضة هي مسرح يختصر الوجود‪" ..‬لقد خسر اإلنسان براءته يوم عرف املجاز"‪ .‬يبكي‬
‫يحلق ذقنه وذقن الرضيع‪.‬‬
‫الكلب أثناء جره للسانه على أشواك األرض ويتجهم وجه الولد وهو ِ‬

‫)‪(28‬‬
‫َ‬
‫"قتلت القرد" فيكتفي الكلب برفع لسانه واألشياء تأكل ذاتها‪ ،‬وتغتصب ذاتها‪ ،‬ألنها ال تشكل‬
‫كينونتها املحضة بإرادتها‪ .‬هكذا هي القرارات السمجة عبر الزمان‪" .‬إنه الجنون بعينه"‪ .‬يفتح‬
‫الرضيع فمه ليبتلع الظالم ثم يمد يده فينهش السماء بقسوة بريئة‪ .‬ال حب إال هنا في هذه‬
‫الزاوية املنكوبة بالجائحات‪ .‬ويرفع الجميع رؤوسهم نحو السماء ثم يخفضونها بقنوط صارم‪.‬‬
‫ً‬
‫تساقطت امليتافيزيقا العجوز ونمت أشجار من النعاس الغادر‪ .‬فلنتلكأ قليال لكي نكون نحن‪.‬‬
‫يقول الكلب "أو ال نكون"‪ .‬يريان لعاب الضباع وقفزاتها الرشيقة كاألجراس النحاسية املعلقة‬
‫في الكاتدرائيات القديمة‪" .‬من سيلتهم من؟ في هذه الحياة"‪ .‬يرتدي الكلب جوارب الشتاء‬
‫ويلعق األرض بحذر‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫"لقد انهزمت مملكة القراد وحطت في جسدك"‪.‬‬

‫"و أنت امتأل شعرك بالشيب"‪.‬‬

‫"أدركت ذلك حين رأيت امرأة في الزحام"‪.‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫وتمتلئ األسواق بالقنابل‪ ،‬وينحسر املاء عن الرمل مخلفا أصدافا مستوحشة فتلمع لتقاوم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫احتضارا ال نهائيا إلى أن يغمرها ماء البحر من جديد‪ .‬ويضحى املمش ى متعبا أكثر من ذي قبل‪.‬‬
‫يخلع الكلب جوارب الشتاء ويرتديها الولد وهو يتأوه وير اقب خط أثر لسان الكلب الطويل‪.‬‬
‫ً‬
‫"مضينا بعيدا"‬

‫"ربما‪ ..‬ال أدري"‬

‫"هل نعود؟"‬

‫"هل نتوقف؟"‬

‫"ال‪ ..‬ال سبيل إلى الوقوف"‬

‫)‪(29‬‬
‫"األرض تسير تحتهما‪ ،‬وتقفز الحقائب من السير‪ ،‬الكبيرة والصغيرة‪ ،‬الحمراء والكاروهات‪،‬‬
‫والبالستيكية والقماشية‪ ..‬وتر اقبها العيون التي تفكر في أشياء أخرى كثيرة‪ ،‬كحب التملك‪،‬‬
‫و افخاذ العروس السمراء‪ ،‬وكرس ي القرادة‪ ،‬ومكرونة مقهقهة‪ ،‬ورمل أحمر‪ ،‬ومشط بالستيكي‬
‫أسود‪ ،‬وصراع الفيروسات مع كريات الدم البيضاء‪ ،‬وحكم باإلعدام‪ ،‬ومخاوف كثيرة أخرى ال‬
‫حصر لها‪ .‬تزحف الظالل على السيراميك‪ ،‬وتشع انعكاسات املصابيح البيضاء عليه كقيء‬
‫املالئكة‪ .‬وتطؤها أحذية رجالية سوداء وكعب عال أحمر أنثوي‪ .‬وتعلن عشرات الرحالت‬
‫موعدها وتخفي ماليين وجهها املصبوغ بأصباغ التجميل املنكسرة على ألواح حديد النو افذ‬
‫ُ‬
‫رخيصة الثمن‪ ،‬واألعشاب التي تلقى بعد اقتالعها بال هدف تحت زوايا الجدران الحجرية‬
‫املتملقة النحدارات الجروف الصخرية فترقص معها؛ تدور وتنحني وترتفع وهي تلف خصرها‬
‫بذراعين صلدتين‪" .‬كانت كما يرى املرء في املنام"‪.‬‬
‫" َ‬
‫وعبرت؟"‬
‫ُ‬ ‫" َ‬
‫عبرت واختفت وأدركت بأنني كبرت"‪.‬‬

‫"لم تعد تحب ِصبية الضباب؟"‬

‫"بل ال زلت أحبهم‪ ..‬ولكن"‬

‫ينفض الكلب جسده فتتطايرالقرادات املنتفخة‪ .‬وتغوص كل واحدة في كرة من الثلج الجاف‪.‬‬

‫"ما كان اسمك؟"‬

‫"كان اسمي روكو"‬

‫"كان اسمك روكو‪ ..‬هذا جيد"‬

‫"واآلن؟"‬

‫"ال أتذكر‪ ..‬كانت هناك معركة في الغابة‪ ..‬معركة كبيرة حين فقدت االسم"‬

‫"هل مات الكثير؟"‬

‫"لقد قدم كل واحد منهم سيرته الذاتية"‬

‫وينظرإلى الرضيع‪.‬‬

‫"لقد ألفوا فيها الكثير"‬

‫)‪(30‬‬
‫وضحك‪..‬‬

‫"لم يكن فيها الكثير؟"‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫"تقريبا‪ ..‬كانت خالية تماما كقلب أم مات رضيعها"‬

‫"أو نظرة رضيع ماتت أمه"‬


‫ً‬
‫وبدا له أن شباكا من الشوك بدأت تنموا في قلبه‪ .‬فأدخل سبابته في فم الكلب املنكسر وأشاح‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عن هذا العجوزالثرثار الذي يجلس مرتديا جلبابا متسخا وممزقا فوق فرع شجرة قوي ويلعب‬
‫بإيره ليلفت انتباه الخنازير الوحشية التي أخذت تحدق فيه وتلعق لسانها بعيون ميتة‪.‬‬
‫ً‬
‫"وقد بدا الحب لي رفاهية طيلة حياتي"‪ .‬ويغوص في جوارب الشتاء‪ ،‬سائرا على يديه‪ .‬فيقلده‬
‫ً‬
‫الكلب‪" .‬ال يوجد ش يء ممنوع في الغابة"‪ .‬ويتلفت باحثا عن ش يء‪" .‬فال يوجد ش يء"‪ .‬ويستمران‬
‫في املش ي بأيديهما‪ .‬إننا في حاجة إلى قفازات من جلد السلحفاة العجوز‪ .‬وتتسمر أنظارهما نحو‬
‫األمام‪ .‬وتلحظ السلحفاة ذلك من بعيد فيحدثها قلبها القديم عن االجتياح‪ .‬تتحطم القواعد‪،‬‬
‫وتتأسس األخالق على الضعف و انعدام الحاجة‪ .‬حينها يتألأل الدم فوق سطح القمر‪ .‬وينحاز‬
‫ً‬
‫الساحر إلى مجتمعه دوما ألن األرواح ليست أنانية‪ .‬تسرب بؤس في خاليا الدرقة املرقطة‪ .‬وكان‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حزنا مؤقتا لكنه عميق يطوف في ممش ى الغابة‪" .‬األشياء تصنع وال توجد‪ ..‬أما ما يوجد‬
‫فليست األشياء بل الوجود نفسه" ويلعب العجوز بإيره وتتقدم نحوه الخنازير الوحشية‬
‫بحذر‪" .‬فلتتعلمن مني يا حلوات"‪ .‬ويبتلع الضرس األخير في فكه فتخنخن الخنازير الوحشية‬
‫وتطوح رأسها وتتقدم خطوتين نحوه‪ .‬إن كل ش يء هنا عسلي اللون‪ ،‬حتى الضباب والقمر‬
‫واألشجار وطحالب املاء والولد والكلب والديدان والقراد‪ ،‬كل ش يء منهمر كاملطر بحيث ال‬
‫يصلح عده‪ .‬ترتقي املأساة إلى السماء وقيعان األرض املجدبة‪ ،‬وتبكي الثعابين بال صوت تحت‬
‫ظالل األبنوس فتنمو لها أصابع خدج لدنة ونحيبهم صفير واهن‪" .‬ما تاريخ اليوم؟" ينزع الكلب‬
‫القلم من وراء أذنه بيمينه ويفرد الكواغد بيسراه‪" .‬وما هو اليوم؟"‪ .‬ومتى كان ذلك حقيقة؟‬
‫يلقي بما يحمله ويطرح رأسه لينام‪.‬‬

‫"ماذا يستفيد االنسان من الحياة إن عاشها؟"‬

‫وخرطت اإلجابة دماغه كثقب أسود‪.‬‬


‫ً‬
‫"ال تكن فيلسوفا‪ ..‬فهذا غباء"‬

‫ويلعب الولد بالحجارة‪ ،‬يقذفها فوق بعضها البعض‪.‬‬


‫)‪(31‬‬
‫"إن أزمة اإلنسان أكبرمن أن يفكرفيها كلب"‪.‬‬

‫يضحك الكلب ويشرع في لحس األرض‪.‬‬


‫وينظر الولد للنور في السماء‪ .‬ويتمنى لو ينتهي هذا املمش ى‪ .‬فيتثاءب الكلب ليشعره بامللل من‬
‫حديثه‪.‬‬

‫إنه ممش ى بال نهاية ولكنه مكرر‪ ،‬كإعالنات الحروب‪ ،‬واألوضاع الجنسية‪ .‬والحديث عن‬
‫التحضر‪ ،‬ومعاييرالعصرالرومانس ي‪.‬‬

‫"روكو ال يموت"‬

‫"كان اسمي روكو منذ عهد طويل"‬

‫واآلن؟‬

‫لقد نسيت‪ .‬إن كل األشياء تتساوى عندما تخدم العبث‪ .‬تكون الصدفة هي التي تجعلك تفتح‬
‫ً‬
‫عينيك لتجد نفسك إلها أو دودة‪ ،‬وهكذا فهما متساويان‪.‬‬

‫"روكو‪ ..‬انقذني يا روكو"‬


‫َ‬
‫العشب‬ ‫ويشعر الكلب بأنفاسه تنقطع‪ .‬لحيته طالت وبنى القراد فيها مستعمرة ضخمة‪ .‬أكل‬
‫وتقيأ وتبرز ولكن دون جدوى‪ .‬فقد حطت عليه الشيخوخة املبكرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫"ابتلعت أوالدي من أجلك يا روكو"‬

‫"أخطأت"‬

‫تتقلص معدته فيئن‪ ،‬وتتسرب مرارة إلى حلقه‪ .‬بعد قليل كانت جثته تنتفخ ولسانه يتدلى من‬
‫جانب فمه االيسركاآلخرين‪ .‬أما عيناه فكانتا رماديتين‪.‬‬

‫بكى روكو وهو جالس فوق تل رملي على جانب املمش ى والرضيع في حجره‪ .‬ولكن عفونة الجثة‬
‫كانت أكبرمما يمكن تحمله فغادربصمت‪.‬‬
‫ً‬
‫كان املمش ى سابحا في ضوء الشمس‪ .‬ورأى روكو أذنين طويلتين‪ .‬ثم قفزأرنب بري وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هل تريد رفيقا؟‬

‫‪ -‬هل تستطيع لحس األرض؟‬

‫)‪(32‬‬
‫‪ -‬لساني قصيرولكنني سأحاول‪.‬‬

‫***‬

‫(‪)4‬‬

‫في عود أبدي‪ ،‬وكون مواز‪ ،‬تبدأ القصص من جديد‪ .‬تبدأ بحرب عظيمة‪ ..‬كل ش يء ينعكس‪،‬‬
‫ً‬
‫بال رومانسية أبدا‪ .‬يؤسس أفالطون لديستوبيا املوت‪ .‬وتحكم البروليتاريا في جمهوريته‪.‬‬
‫ويستيقظ األلم في جيوب املساء املبعثرة على أشباح الصخور السوداء‪ .‬ينعكس كل ش يء‪،‬‬
‫ينهض الكلب من موته القديم‪ ،‬وكذلك الولد‪ ،‬على أعتاب مؤامرة جديدة محفوفة بجهل‬
‫ً ً‬
‫املسببات‪ ،‬بجهل األصالة‪ ،‬الرسام يتضاءل وتنمحي اللوحات لونا لونا‪ ،‬ثم تعود الورقة إلى‬
‫لحائها الشجري‪ .‬وينعكس بدوره املمش ى الذي بال بداية وال نهاية‪ .‬لذلك يقول الولد وهو يتقيأ‬
‫املوزة بقشرها‪:‬‬

‫‪ -‬صحيح أنني بعد أن ذقت طعم وجودي فضلت عليه العدم‪ ..‬لكن ماذا لو لم أخرج من العدم‬
‫إلى الوجود ؟ هل كان بإمكاني أن أعرف قيمة العدم وثرائه بالال ش يء؟‬

‫"سؤال ساذج" يجر الكلب لسانه ثم يتوقف فينبح نبحتين وينظر بطرفي عينيه الجزعتين‬
‫ً‬
‫دائما إلى صاحبه قبل أن يطأطئ رأسه مرة أخرى ليجر لسانه على األرض وهما يسيران‬
‫بظهريهما إلى الخلف‪ .‬وتتقلص األشجار‪ .‬تقفز جثة القرد‪ ،‬وتنمو زهرة البنت‪ ،‬ويختفي‬
‫الرضيع‪ .‬فيحملق الولد في كفيه بخوف‪.‬‬

‫تتحرك الشمس إلى الخلف‪ ،‬وترتفع األمطارمن األرض إلى السماء‪.‬‬


‫ً‬
‫ينظر صاحب العمل إلى العامل شزرا‪ .‬وينكسر قلب العامل‪ .‬األموال تعود ملن سرقوها‪ .‬لقد‬
‫أخذها أصحابها‪ ،‬وعادت ملن سرقوها‪ ..‬ال استرداد‪ ،‬العالم مخيف‪ ،‬أشباح صبية الضباب‬
‫تبكي مختبئة خلف أجمة‪ ،‬وهناك تاريخ يدون يبدأ من لحظة االستيقاظ من املوت‪ ،‬واالتجاه‬
‫إلى املوت نفسه‪" .‬األشياء هي نفسها مهما عكسناها" ويطير الولد فوق األشجار‪" .‬سنحصد‬
‫ً‬
‫املطر"‪ .‬ويتبعه الكلب‪ ،‬ليبدأ في لحس السحاب‪" .‬انخفض قليال أيها الكلب املجرم"‪ .‬ثم‬

‫)‪(33‬‬
‫يسقطان‪ .‬القائد يطلق رصاصته على األسير بسرعة ويستولى على علبة سجائره ثم يدخنها‬
‫بنهم‪ .‬فتنهض أشباح الجند‪ ،‬وتحلق حوله‪ .‬إنها النهاية‪ ،‬فيتقيأ الخمر كله دفعة واحدة‪ .‬وتهوي‬
‫ً‬
‫عصاة رقيقة على الطبل‪ .‬يحرك الشاب فخذه متتبعا اإليقاع‪ .‬إن املوسيقى أزلية لكنها لم تكن‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وجزء منه‪ .‬ترفع الفتاة تنورتها‪ ،‬وتخرج آللئ‬ ‫أسطورة مقدسة البتة‪ ،‬كانت متوائمة مع الو اقع‪،‬‬
‫من بين فخذيها وضابطي شرطة‪ ،‬يخرجان دائخين ومترنحين "رائحة زكية"‪ .‬الغربة العارمة‬
‫تدفن نفسها تحت تراب املمش ى‪ .‬وكل الكون املوازي ينتفض فتتطاير نقرات الجيتار حوله‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫"كلني‪ ..‬كلني"‪" ..‬ال أستطيع أن آكلك"‪ ..‬يصبح لسان الكلب ُمجرحا‪ .‬فيرفع رأسه وينتحب‪" .‬ال‬
‫ً‬
‫تتأنسن مرة أخرى"‪" ..‬إنها معضلة‪ ..‬معضلة حقا"‪ .‬الكتب الجديدة تحترق‪ ..‬ورائحة األلوان‬
‫تنتشر في الجو وتخترق خنادق النمل املجنح فيختنق جانب كبير منه وتهرب قلة إلى األسفل‪.‬‬
‫وتدور القلوب داخل الخالط فيضحك العجوز ذو اللثة الخالية من األسنان‪" .‬سائل من دم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القلب"‪ .‬ليس بديال عن األوميجا‪ ،‬ليس بديال عن ش يء جيد‪ .‬وتعبث الرائحة الذ ِفرة بابتسامة‬
‫العجوز‪ .‬تجثوا الخنازير على مقدماتها وتعطي العجوز مؤخراتها فيضحك بسعادة ويفرك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ذكره‪ .‬ومن الزقاق الشرقي‪ ،‬تخلع فتاة حذاءها طويل العنق لتبدأ عمال عابرا بثمن بخس بعد‬
‫ليلة طويلة عامرة بالركود‪ ،‬فيتوقف الولد والكلب ويحدقان في املشهد‪" .‬هل هذه حياة أم‬
‫موت؟"‪" ..‬بحسب" يهمس الكلب‪ .‬للحقيقة وجوه عديدة كما يقول هوجو‪" ،‬حتى األلم؟" يقول‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الكلب "لست متأكدا"‪ .‬ويبدو الكون املوازي مهووسا باإلنعكاس محاوال إلباس العبث نظاما‬
‫ً‬
‫معنويا‪.‬‬

‫وكانت األرض خصبة بالدم‪ ،‬بالرياحين الثلجية‪ ،‬وبو افر االنعتاق في الرقصات اإلفريقية‬
‫ألشباه العراة وهم يقلدون أصوات حيواناتهم بمهارة فقيرة ويحرقون الشوك ليستنشقوا‬
‫دخانه‪ .‬كانت األو اني الفخارية تنقع في الرمال‪ ،‬لتقطر نبيذ السمسم‪ .‬ولم يكونوا يعرفون‬
‫الكتابة ألنهم لم يكونوا يعرفون الحزن بعد‪ .‬هذا كان قبل عصر الحكماء الخمسة‪ ،‬أو اآللهة‬
‫ً‬
‫الخمسة الذين جابوا الكرة األرضية‪ .‬ومن هنا تشكل املمش ى الذي لم يعد مقدسا‪ ،‬إذ عبره‬
‫قراصنة الرمال وعاهرات الطيور‪ ،‬والجنود األغبياء‪ ،‬واملجانين‪ ،‬وصانعة املعكرونة‪ ،‬وماسحو‬
‫األحذية‪ ،‬والعازفون والطبالون وزمرة القراد امللكية‪ ،‬والعروسان املنتحران‪ ،‬ودببة القطب‬
‫املتجمد‪ ،‬وضارعات اسخيلوس‪ ،‬وحجيج املعابد واألضرحة املباركة‪ .‬وفي هذا املمش ى ‪-‬كما‬
‫يحكي العجوز للولد والكلب‪ -‬مش ى الشيطان نفسه وخلفه سار أوالده العشرة آالف‪ ،‬وزوج في‬
‫نفس هذا املمش ى ابنته الوحيدة لعموتارح ولفاوست بعد أن مات عموتارح وملئات آالف‬
‫آخرين‪ ،‬وتأسس محفله العاملي على من قطعوا أيديهم دليل اإليمان ونكران الذات‪ .‬والذين‬

‫)‪(34‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أمروا أن يمشوا ليدونوا تاريخا مزيفا للعالم‪" .‬لست وحدكما من مشيتما في هذا املمش ى"‬
‫وتفوح من تحت جلبابه املمزق رائحة عفنة‪ ،‬ثم يخرج منها خنزير صغير تضرج خداه بحمرة‬
‫ً‬
‫الخجل وعبرهم مسرعا فتجهم وجه العجوزوطردهما‪.‬‬

‫وعلى دقات الطبول تقافزا وهما يسيران‪ ،‬وجلجل الولد بصرخة منتعشة‪ ،‬وتثاءبت ديدان‬
‫الطين‪ .‬ثم امتألت مثانة األحجار بشعالت صغيرة‪ .‬فأخذ الكلب يحدق في صورة وجه الولد وفي‬
‫وجه الولد بحيرة‪" .‬هل رأيت وجهك من قبل؟"‪ ..‬تسلق الولد شجرة الجو افة وقطف واحدة‬
‫وغمس فيها وسطاه وشم الرائحة فأبعد وجهه عنها‪" .‬أوف‪ ..‬ال‪ ..‬وال أريد"‪" .‬أال تشعر‬
‫بالفضول؟" أخذ يمخرالثمرة ويفلطحها ليرى الدود‪ .‬الظمأ مندس هناك‪ ..‬مندس في كومة من‬
‫املناخات املضطربة‪ .‬وشاحنة بيضاء متهالكة تحمل األثاث الفقير عليها‪" .‬لو عاد لن يجدنا"‪.‬‬
‫ً‬
‫ولكنه لم يفكر حتى في العودة‪ .‬كان الحب مؤملا بالنسبة ملن لم يعتد عليه من قبل‪ .‬إنها فاجعة‬
‫و إيقاعات سريعة ترهق األعصاب الذهبية‪ .‬تنحني الشاحنة وتغوص عجالتها في ربيع من‬
‫ً‬
‫األمل كاملعتاد‪" .‬إن الحياة حسرات متجددة‪ ..‬هذا كل ش يء"‪" ..‬إنه ال يكرهك‪ ..‬أبدا لم‬
‫يكرهك‪ ..‬حتى قبل أن تموت‪ ..‬األشياء تتضاءل في الحقيقة عبر الزمن وال تكبر"‪ ..‬وتر اقب عبر‬
‫النافذة ممش ى الرمال الحمراء بلون الشفق‪ .‬يشمر الكلب قميصه من األسفل ويرفع قدمه‬
‫ليتبول ولكنه يتوقف ويحدق في السماء ثم يتلفت حوله ولم تخرج قطرة واحدة منه‪" .‬لقد‬
‫ُ‬
‫أصبت بالبروستاتا"‪ ..‬ويهبط الولد من الشجرة ويسير بقفزاته املرحة في املمش ى‪ ،‬فيتألم‬
‫ً‬
‫الكلب ويعصر لسانه على األرض سائرا خلفه‪.‬‬

‫***‬

‫والغرفة مظلمة‪ ،‬بنافذة واحدة مغلقة وزجاجها املبخر بالتراب يسمح بضوء أصفر مكتوم‬
‫يتلصص على الداخل‪ .‬هناك رائحة خل‪ .‬خل محض تنبعث من تحت مفرش مترب فوق‬
‫طاولة خشبية دائرية تتسمر كصنم في املنتصف‪ ،‬فوق املفرش تفاحة جافة ومقضومة‬
‫قضمة صغيرة‪ ،‬تلتصق بها خيوط عنكبوت ثم تسافر طائرة بزاوية خمس وأربعين درجة حتى‬
‫أقص ى الركن العلوي للسقف‪ .‬ويبدو هيكل لسرير ما‪ ..‬سرير صغير املساحة وقصير إذ ال يسع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إال فتاة في السادسة عشر أو خنزيرا مدجنا‪ .‬األرض مغطاة بمشمع بالستيكي ممسوح بأتربة‬
‫دقيقة الذرات‪ .‬وعلى املمش ى أن يلتف حولها ليواصل امتداداته السخيفة اململة كقصص‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ِبلزالك وهو يجرع من زجاجته ويضرب نقدا ذهبيا على طاولة القمار فتتبدد داخله القيم‪،‬‬
‫وينحاز تارة للحب وتارة لالنتقام من الذات‪ .‬ونقطة الضوء الحمراء تتبدل لخضراء ثم تتبدل‬
‫الخضراء لحمراء ثم تهجع األشجار متينة الخشب متحدية مفترسات الغابة‪ .‬غير أن صدى‬
‫)‪(35‬‬
‫األغنيات يتأرجح في السماء‪ ،‬ويلون رتابة املناخ الصيفي‪ .‬وحين يكسر الولد باب الغرفة تنطلق‬
‫صرخة الفتاة العارمة فيتراجع الولد ويهرول ويتبعه الكلب الذي يفشل في تثبيت لسانه على‬
‫ً‬
‫األرض‪" .‬لذلك أكره البيوت" ‪ ..‬وتظل صرخات الفتاة تنطلق بألم شديد‪" .‬هل رأيت شيئا؟"‪،‬‬
‫"ليس بالضرورة أن ترى لتؤمن"‪ .‬يتوقف الكلب ويضحك ويتبعه الولد في الضحك وهو يفرش‬
‫كفيه على بطنه ويحني ظهره إلى الخلف باغتباط‪ .‬يحلب الكلب مثانته ليخرج البول املحتقن‬
‫أثناء ضحكه‪ .‬ويقترح الولد إدخال قشة في ذكره لتسلك له املجاري فيخاف الكلب وتتسع‬
‫عيناه ثم يضع لسانه على األرض ليغيراملوضوع‪.‬‬
‫ً‬
‫"إننا ال ننام أبدا‪ ..‬أال ترى الهالل األزرق املشع يكاد يالمس طرفه الحاد أنفي"‪ .‬يمدد الكلب‬
‫جسده على األرض ويغفو أو يحاول أن يغفو رغم صرخات الفتاة التي تأتي من بعيد‪" ..‬علينا‬
‫أن نغلق الباب على روحها الناسكة"‪ .‬وال تتوقف آالم األشياء و أقالم الرصاص املنكسرة على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شفة قرمزية ناعمة‪ .‬هناك أسئلة‪ ،‬دائما هناك أسئلة‪ ،‬أسئلة بائسة عبثا تحاول ملء‬
‫الفراغات والتجاويف السوداء في حيطان الوجود العجائبية‪ .‬ربما يهرق عليها كافكا وغيرهم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بعضا من بصاقهم املحفوظ في براميل التعتيق اللغوية‪ .‬غير أن هذا لن يكفي أبدا‪ .‬إن املمش ى‬
‫ً‬
‫ينحرف دائما‪ ،‬ويغتسل برائحة رطوبة القراميد املنهارة‪ ،‬والتناجي بين العروسين املنتحرين‪.‬‬
‫كل األشياء هي كما هي‪ ،‬كانت كذلك‪ ،‬بل حتى عندما تكون فإنها تكون ألنها هكذا يجب أن‬
‫ُ‬
‫تكون‪ .‬ولذلك يصرخ املدان وحبل املشنقة ُيلف حول رقبته‪ .‬فمن يقتل الفتاة يجب أن ُيقتل‪.‬‬
‫ً‬
‫وهكذا يموت اثنان بدال عن واحد ألن العدالة هكذا تقول مرددة أقوال كانط املثالية‪ .‬لم‬
‫ً‬
‫يقتلها السكين بل الحب املغدور‪ .‬فسيقانها كانت رقيقة جدا كساق اليعسوب‪ ،‬ونهدها متكور‬
‫ً‬
‫كليمونة مقرفة‪ .‬أشياء ال تشبه إفريقيا كثيرا‪ .‬وال تشبه أي ش يء في الو اقع‪ .‬يمتص التكرار‬
‫ُ‬
‫العمر وحبكات املسرحيات األثينية‪ .‬كانت غلطة كبرى‪ ،‬ويضرب املدان جبهته على جدران‬
‫سجى على السرير الخشبي‪" .‬لن يصدقوا أنها انتحرت" ولكن‬ ‫الغرفة وهو يبكي وجسد الفتاة ُم ً‬
‫أي حتمية مغفلة تلك التي تفتقر إلى كل منطق الدنيا‪ .‬ويحاول الولد تثبيت الباب على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الجدران الواهنة دون جدوى فيركله غاضبا ثم يتركه ويعود إلى املمش ى متجاهال الصرخات‬
‫املزعجة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم يكن ذلك تحديا‪ ،‬بل محاولة للتجاوز‪ .‬إذ على الولد والكلب أن يقفزا دوما فوق املكعبات‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الحادة‪ .‬وال يمكن التغلب عليها إال باعتبارها لعبة‪ ،‬وليس تحديا‪ .‬وصمت النهار يرفرف على‬
‫القباب والصروح واألضرحة وشواهد القبور‪ ،‬فعلى الضفة الشرقية تنساب الستائر‬
‫املصنوعة من الكتان املتين وتنغمس في نهر الرمل‪ ،‬تبتل به وتعود لتزكم رائحة الند الهندي‬

‫)‪(36‬‬
‫األنوف‪ .‬يجلجل جرس املعبد‪ ،‬ويصطف الغلمان متماثلي الرداء‪ .‬ويبدأ طابور التعذيب‪ .‬ألن‬
‫اآلباء يعلقون أحالم النجاح على مؤسسات محددة مضحين بالسالم النفس ي‪ .‬فتدور مروحة‬
‫السقف ببطء‪ ،‬وتنساب قطرة عرق من وجه الرجل الذي يسحق طفال تحت بطنه‪ .‬ويأكل‬
‫الفزع الليل‪ ،‬حتى ال تتجانس ثمار الرمان مع بيئتها‪ ،‬تنعزل وتحتاط لنفسها بالبكاء املرير‪.‬‬
‫وتحرك الخنازير شفاهها القذرة‪" .‬سوف ترى أيها الولد معنى الحياة الحقيقي"‪ .‬ويختبئ‬
‫الكلب وراء ظهر صاحبه ولسانه ينجر في األرض بوهن‪ .‬وتدخل أفواج من القردة معابدها‬
‫املنحوتة في الهواء‪ .‬وال فرق بين الحجر والعدم‪ ،‬فكل جوقات املسرحيات القديمة كانت تهرج‬
‫من أجل االنغماس في معنى مختلق‪ .‬وينفض الكلب رأسه ويفكر في الهجوم على شمع النحل‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم ير اقب بنهم‪" .‬إنك ال تفكرأبدا يا روكو" يصرخ ويبكي فيتجمد الولد‪.‬‬
‫ً‬
‫"إنك ال تفكر في اآلخرين أبدا يا روكو"‪ ..‬يضحك الولد ويمتلئ صدر الكلب بالغضب والحزن‪.‬‬
‫ولكن كل السحابات البيضاء تجمع ذراتها من األرض‪ ،‬وتحلق تحت أجنحة البط البري‪ .‬فهناك‬
‫زهرات منقوشة على الدوالب األبيض‪ ،‬الذكرى القاسية‪ ،‬وقميص تركوازي منشور فوق كرس ي‬
‫ً‬
‫أبيض أيضا‪ .‬وطاولة كي‪ ،‬وسلة قاذورات تنفتح بدوسة قدم‪ .‬وحقيبة تتشتت داخلها وفوقها‬
‫مالبس‪ .‬وحاسب آلي‪ ،‬وعلب سجائر وأعقاب سجائر‪ ،‬وقلم حبر ال يعمل‪ ،‬وقداحة صفراء‪،‬‬
‫وحزام ملقى فوق بنطلون على السرير األبيض‪ ،‬وتحته مالبس أخرى‪ ،‬ونافذة ُّ‬
‫تطل على كتلة‬
‫أسمنت خرساء‪ ،‬ومروحة ومصباح نيون‪ ،‬ومصباحان أعلى السقف على جانبي املروحة‪،‬‬
‫وهناك صندوق بأدراج ال يعرف أحد ما بداخلها‪ ،‬ولكن فوقه قبعة رياضية ونظارتان‪ ،‬وراوتر‪،‬‬
‫ض ِيق بقبعة طرية معصورة بين الباب وإطاره‪ .‬وهناك نقوش لزهرة اللوتس في كل مكان‬ ‫وباب ُ‬
‫ً‬
‫وكأنها مقبرة فرعونية‪ .‬كل هذه األشياء ال تعني شيئا له‪ .‬فهو يلون سماءه باملوسيقى كما يردد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دائما‪ ،‬وبالتفكيرفي خطورة النمل املجنح خاصة في الخريف‪ .‬وهناك كراسات وأوراق أيضا‪ .‬وفي‬
‫الخارج تمتد مساحات شاسعة من مكعبات الخشب املدفونة حتى ثلثها في التراب الساخن‪ .‬وال‬
‫ش يء داخل تلك املكعبات كرسائل أو رسالة فلسفية‪ ،‬إنها هكذا‪ ،‬ش يء فوضوي كيفما اتفق‬
‫لها أن توجد‪ .‬ويقبض الكفان الشابان على مقود السيارة الرياضية‪ ،‬ويعلوا صوت موسيقى‬
‫الروك في الداخل ويكتمه الزجاج السميك عن الخروج‪ .‬وتتطاير الشرارات تحت اإلطارات‬
‫فتصرخ الفتاة مغتبطة ضاحكة وتنحني على صدر الشاب وتفرك له شعر صدره وتقبله‪ .‬كل‬
‫بعناية مصانع الشركات العابرة للقارات‪ .‬وتفرم املاكينة‬
‫ِ‬ ‫املجون يتطاير مع املعدن املسبوك‬
‫الضخمة كف رجل فيغمى عليه ُويطرد من العمل‪ .‬والقضاة يتهامسون ويتهامسون وهم‬
‫متجهمون كاملعتاد‪ .‬وفي حمام املحكمة يجر الفتى الفتاة وينغمس معها في الجنس والتدخين‪.‬‬

‫)‪(37‬‬
‫ويشاهدهما كبير القضاة من شاشة أمامه فيفتح سوستة بنطاله‪ .‬وبأصابع مرنة ومحترفة‪،‬‬
‫تتوزع أوراق الكوتشينة والنقود الخضراء‪ .‬وتفور زجاجات الجعة‪ .‬فتخمد أنفاس متعفنة في‬
‫األزقة مطفأة املصابيح‪ .‬واملصابيح الزرقاء تنير الهايبر ماركت الضخم واملول والكازينو وطوابير‬
‫السيارات التي تزحف أمام شبابيك أكشاك بيع األطعمة السريعة‪ ،‬ورو ائح العطور الفرنسية‬
‫تفوح من بين أثداء امرأة أربعينية وتهرب عبر النافذة وتخلق دوامة لركاب الطائرات والسفن‬
‫الفضائية والعمال الهنود الذين يحملون العامل مفروم الكف إلى املستشفى‪ .‬يلهث الكلب‬
‫من فوق برج شاهق العلو‪ ،‬وترفرف ياقة قميصه بصفعات الرياح الباردة‪ .‬وينظر الولد‬
‫ً‬
‫لألسفل حيث نقاط ضوء صغيرة تتحرك جيئة وذهابا‪ ،‬وعطر الالفندر يطرد البعوض‪،‬‬
‫وينظف أفخاذ اليعاسيب الليلية‪.‬‬

‫"ملاذا مراملمش ى من هنا؟"‪.‬‬

‫ينظرالكلب إلى الولد الصامت الذي يتأمل األفق املظلم‪.‬‬


‫ُ‬
‫"علينا أن نعبر هذه األبراج حتى نصل إلى معسكرات السيكادا األفريقية" حيث تلقى القرابين‬
‫البشرية هناك"‪.‬‬

‫ويموج الدخان في كل مكان واألصابع املزينة بالخواتم الفضية تقص السجائر وتطوف به في‬
‫رحالت سريعة بين الفم واملنفضة‪ .‬وتسقط خارج املدينة‪ ،‬املدينة املزهرة بالقسوة واالغتراب‬
‫األبدي‪ .‬إنها خيار الال خيار‪ .‬تصرخ الفتاة مغتبطة ضاحكة وتنحني على صدرالشاب وتفرك له‬
‫شعر صدره وتقبله كما تفعل مع غيره‪ .‬فينبثق من بين الظلمة جلباب مزركش الحواف‬
‫ً‬
‫بترميزات الهوتية‪ ،‬وينسدل شعر أبيض على الكتفين تاركا مساحة صلدة والمعة في املنتصف‬
‫لتجرب حظها‪ .‬يرفع السيد يده أمام وجهه ليصد ضربة ضوء ما عن عينيه وتتراخى ذراع‬
‫أنثوية ناعمة‪ .‬يصرخ الكلب بخوف ويتسمر الولد في انحناءته "دعنا نغادر"‪ ،‬يفعالن ذلك‬
‫بدون تردد‪ .‬ولم يهدأ قلبهما إال حين ملحا مخروطيات السيكاديا من بعيد‪" .‬ما املعنى من كل‬
‫ً‬
‫ش ي؟"‪" ،‬كل ش ي؟! كل ش يء؟!"‪ ،‬وعصب الحياة ينساب من بين الجبال أبيضا بخمر بلدي‬
‫ً‬
‫ودوران النرد حول نفسه ضاحكا‪ ..‬إنه يلعب النرد ألنه هو النرد نفسه‪ .‬والعيون املغولية‬
‫ً‬
‫املخططة كاملحار ال تهتم‪ .‬ال تهتم أبدا بصخب فقاعات الروك‪ .‬بل بينابيع البحيرات املالحة‬
‫وتجفيف السمك الدهني‪ .‬بالطعم الحقيقي لألشياء‪ ..‬وتتضخم كالورم لتبتلع األيام بوحشية‬
‫متعاظمة‪.‬‬

‫)‪(38‬‬
‫هناك أواليات كالجوع‪ ،‬تحالفات مرحلية تعطي أفضلية للحكايات الطويلة‪ .‬ولذلك كانت‬
‫ً‬
‫الحصاة تمنح اتزانا للصخور املترامية على بقاع الجدب‪ .‬وهنا بالتحديد‪ ،‬يتخافت أثر املمش ى‬
‫رغم كثرة الطراق ويستحم األفق بلهب الشفق‪ ،‬فينعكس كل الكون على الحصاة امللساء‬
‫وليس وجه الولد فقط‪ ،‬فحتى الكلب يرى ذاته فيها وتظل الكينونة مندسة وراء لسانه الجاف‬
‫وخلف عيني الولد امليتتين‪ .‬أرواح العظايا البالية تتبعثر في السماء بروائح الجمر والشعر‬
‫املحترق ومشية النعام في البراري قرب الجواميس الوحشية‪ .‬حيث يكون النوم أشد املهددات‬
‫ً‬
‫خطرا للجميع‪ .‬وإذ ينكسر املمش ى يتنفسان الصعداء‪ .‬وتنموا هياكل السمك وامللح متراصة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فوق بعضها لتشكل جدارا سريا للذين كانوا هنا من قبل انحسار التنورة عن جسد األرض‬
‫العاري‪ .‬ويضطجع السالم والحرمان في مضجع واحد ليتقاسما صمت الكآبة‪ .‬لكن‪ ،‬كل هذا‬
‫ُ‬
‫ليس بش يء‪ ،‬فاملهم هو األسرة‪ ،‬وينخس العجوز الخنزير ويدخله تحت جلبابه‪" .‬الفاميليا قبل‬
‫كل ش يء"‪ .‬العزوة‪ ،‬القوة‪ ،‬الكر والفر والهزيمة النكراء‪ .‬الهزيمة املخجلة من شدة قذارتها‬
‫ومرارة الفاجعة‪ .‬حينئذ تختفي الحشرات ألنها ال تريد أن تسمع أكثر من ذلك‪ .‬فتنكسر األقالم‬
‫ً‬
‫ويوضع الكتاب بال أجل لبعث جديد‪ .‬فليس إال منزال للخوف‪ ،‬للضرب اليومي‪ ،‬للسكر‪ ،‬واألم‬
‫الخائنة‪ .‬حيث تخفي الغابة كل البؤس متجملة بالوحشة وبموسيقى البلوز و انحسار امللح‬
‫عن شواطئ البحر الرملية في غروب يعوي بالريح والبرد‪ .‬إن القبعات مؤقتة‪ ،‬واألقمصة‬
‫املزركشة بالورود امللونة هي كذلك مؤقتة‪ .‬ولكن القرار بالفرار محسوم حتى ال يتحول إلى‬
‫أغنية شعبية كمنزل الشمس املشرقة‪ .‬ومن النقطة األولى‪ ،‬حيث ينطبع أثر القدم الصغير على‬
‫ً‬
‫مفرش الخالص‪ ،‬ترتسم مالمح قصة جديدة‪ ،‬مكررة ولكنها أقل ملال من عدم قول ش يء‪ .‬إنها‬
‫ُ‬
‫ليست حياة بل مسرد حكائي‪ .‬تتوهم فيه كل الشخصيات كاستحضار أرواح األسالف‪.‬‬
‫فالسبابة يجب أن تلمس ذلك الفراغ وتسافر املوجات الدائرية مبتعدة عن مركزها‪ .‬ترتعش‬
‫وجنات الولد‪ ،‬ولكنه ال يبكي‪ .‬كان ينظر إلى عينيها عبر النافذة ورآهما تحثانه على الفرار‬
‫بصمت‪ .‬كانت كجاموسة برية تحدق في صغيرها بين فكي املفترسات‪ .‬وحتى في الجنازة وقفت‬
‫بصمت وخشوع واآلالت توقفت عن العمل‪ ،‬والتف العمال حول املقبرة وهم يبتسمون‪" .‬إنه‬
‫ً‬
‫لم يكرهك أبدا حتى قبل وفاتك وبعد وفاتك"‪ .‬ثم يتهاوى جسدها النحيف وتسقط عينها‬
‫الفوالذية من محجرها‪ .‬ومعها تبدأ اآلالت الضخمة في العمل‪ ،‬تسقط األوتاد الحديدية على‬
‫بعضها وتقطع الكتل صفائح الحديد األرق بأشكال مختلفة‪ ،‬ورود وتيجان ملكية‪ ،‬وزخارف‬
‫عربية وكريات يتم تلوينها ُببهيات الحديد املخصوصة‪ .‬والحاسب اآللي يرصد األرقام ويحولها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إلى نقود وصراعات ال تحتمل ولكنها تحتمل في نهاية األمر‪ ،‬يجب أن تحتمل‪.‬‬

‫)‪(39‬‬
‫***‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫"أصبحت ضعيفا" ثم يستدرك الكلب"كنت أقوى حين كنت طفال"‪ ،‬يحدق الولد في النبع‬
‫ً‬
‫الك َبر‪ ..‬الحب‪ ..‬أولها وأخطرها‪ ..‬الطموح‪ ..‬واملعاناة من الخيبات‬
‫ساهما "دخلتك أمراض ِ‬
‫ً‬
‫املستمرة‪ ..‬وهكذا تتعلم الخوف الذي سيوقف رحلتنا في املمش ى"‪ .‬رفع الولد رأسه متحديا‬
‫ً‬
‫شيئا ما "تعبت"‪" .‬ليس أكثر من لساني" ‪ ..‬يلتفت إليه وينظر إلى عينيه بجفاء "لسانك ال‬
‫يفكر"‪ ..‬يعودان للنظر إلى األفق "التفكير ‪ ..‬مرض إضافي"‪ ..‬وينمو حائط املبكى حول القصور‪،‬‬
‫والجدران العالية الالمعة والباردة‪ ..‬تختفي املعطيات القديمة‪ ،‬وتتجلى الذكرى خلف ضوء‬
‫الشموع‪ ..‬ويربت السالم على األفئدة في أدب التعفن‪ ..‬حيث تبلى اللغة وتفقد طبقيتها‬
‫ً‬
‫واحترازاتها‪ ..‬ليس نتاجا ملساواة عابرة بل عن وعي أكبر‪ ..‬فهم أكبر يتلصص املساحات بين‬
‫أشجار الغابات كلما مض ى بها الوقت‪ .‬نقار الخشب يفقد السيطرة على منقاره ويسقط‬
‫ً‬
‫جريحا‪ ،‬تلتصق العناكب بشباكها وتختنق حتى املوت‪ ..‬تبتلع االسماك املاء وتنفق مرتفعة إلى‬
‫السطح‪ ،‬وكل ما يتأنسن يخسر‪" .‬هل نواصل املش ي؟"‪ .‬يلقي الولد بحجر على سطح املاء بغير‬
‫اكتراث "ال أعرف"‪" .‬ماذا لو شنقت نفس ي كما فعل العروسان؟"‪ ..‬ولم تكن هناك فائدة ترجى‬
‫من فرد الفطائر بلفها بصباع واحد‪ ،‬وال فائدة من قفزات البهلوانات‪ ،‬وال كل الحركات‬
‫اإلغوائية التي تقوم بها املومسات‪ ..‬لذلك تنهض من نومها وتحدق في السقف وفي جسدها‬
‫العاري والبارد‪ .‬وخلف املحيطات تنهض مومس أخرى‪ ،‬ثم ثالثة فرابعة فخامسة وهكذا بال‬
‫نهاية‪" ..‬إنه يوم الثورة‪ ..‬ثورة املومسات" اعتصمن بغرض رفع األتعاب والتحرر من سطوة‬
‫املمش ى التاريخي‪ .‬ويتبول الكلب بصعوبة دون أن يرفع قدمه‪ ،‬إذ لم تعد من فائدة ترجى من‬
‫رفعها‪ .‬يحاول بعدها عدة مرات أن يقفز فوق الشجرة‪ ،‬وهناك في األعلى يصيح "من مدير‬
‫اإلدارة إلى رئيس القطاع بصورة إلى املدير التنفيذي ورئيس مجلس اإلدارة‪ ..‬تحية طيبة‪،‬‬
‫املوضوع‪ ."..:‬يصمت ويفكر في املوضوع‪ .‬يضحك الولد‪ ،‬ويترك النبع ليلحق بالكلب فوق‬
‫الغصن "خدر الصباح‪ ...‬وبعض النعاس مالزم لجفنيك‪ ....‬هذا الشعور املفرط في النبل ‪...‬‬
‫كيف يخسره العمال واملوظفون وهم يهجرون ساعات ما بعد االستيقاظ ‪ ...‬ملاذا عليهم أن‬
‫يعملوا؟"‪ ،‬ينبح الكلب ألول مرة في الكون الجديد؛ ويستنفر عضالته الواهنة‪ .‬ينتبه الولد‬
‫ً‬
‫ويرى القرد‪" ..‬مزيد من التكاليف"‪ ..‬ثم يطيرويختفي بعيدا عن نظرهما‪ .‬يصيح الكلب‪" :‬كلب"‪..‬‬
‫ً‬
‫فيتأمله الولد ويقهقه‪" ..‬أصبحت كوميديا"‪ ..‬في هذا الكون املوازي‪ ،‬تنعكس األشياء لكن‬
‫انعكاسها ال يمكن الشعور به‪ ،‬فاألشياء تظل كما هي عليه‪ ،‬فانعكاسها ليس سوى وعي مجرد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وليس انعكاسا فيزيائيا رغم أنه كذلك‪ .‬فلعبة االحتماالت تفض ي إلى حركة دائرية داحل حدود‬

‫)‪(40‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املوجود بالقوة والفعل‪ .‬واالنبثاق ال يعني أي تحوالت جوهرية ال حلوال وال تجسدا بل يسقط‬
‫الثلج بغزارة في الربيع‪ ،‬وتجف األزهار الحمراء كشفاه لم تتذوق طعم القبالت من قبل‪.‬‬
‫يمكنك في الو اقع أن تضع كل األشياء في أماكن متبادلة ولن يحدث ذلك أي قلق لدى زبائن‬
‫الكون‪ .‬ويتحرك جفن الولد األيسر "ستلتقي بحبيب قديم"‪" ..‬إنني أفضل أن ألتقي بأعدائي‬
‫عن الحبيب القديم"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ويمتد املمش ى بعيدا‪ ،‬يعلو ويهبط‪ ،‬ينعطف يمينا تارة ويسارا تارة أخرى أو يمض ي متعرجا أو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مستقيما‪ُ ،‬معبدا في بعض األحيان مطروقا فقط في أحيان كثيرة‪ ،‬خاليا موحشا في أغلب‬
‫ً‬
‫األوقات‪ ،‬محزنا كذلك وقد تنكسر فيه بعض قطرات الندى‪ .‬ومن على جانبيه كان صبية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الضباب يوما ما يرقصون‪ ،‬أما اليوم فإن هناك رؤوسا تنبت وتتبخر فجأة‪ ،‬رؤوس ضاحكة‬
‫وباكية ومتقيئة ومشمئزة‪ ،‬بأعين أو بأنوف‪ ،‬أو بال مالمح‪ ،‬أو مجرد أحرف للغة مجهولة‪ ،‬أشياء‬
‫ُ‬
‫وأشياء‪ ،‬ألم وألم‪ ،‬حب‪ ،‬وخذالن‪ ،‬وتقارير سرية ترفع ضد آخرين في املحال التجارية والجيران‬
‫واملر افق الحكومية والوزارات‪ ،‬تعذيب ووالدة‪ ،‬أشياء وأشياء وأشياء تتبأر في نقطة كثافة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫صغيرة عابرة إلى عمق كينونة الولد والكلب‪ ،‬تغذي الشرايين والعروق‪ ،‬فيكبران بالهم‪ .‬تخفت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قليال ولسان الكلب تمزق حتى لم َ‬
‫يبق منه إال ثلثه‪ .‬إن لم تكن سيدا‬ ‫ِحدة خطواتهما‪ ،‬يتكاسالن‬
‫ً‬
‫قويا فأنت ُمهان ُ‬
‫ومذل ال محالة‪ ،‬وال خيار ثالث‪ ،‬إن لم‬ ‫فأنت عبد وال خيار ثالث‪ .‬إن لم تكن‬
‫تملك إال قلبك القوي فأنت مشاكس تافه كالقرد الذي يظل يتابعهما باستمرار في كل مكان‪.‬‬
‫"ملاذا ال تمش ي معنا" وتجزع عيناه وهو ينظر للكلب الذي يشير بإيماءة من رأسه "ليس لدي‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مانع" ‪" ،‬ستأكلني؟!"‪" .‬لن آكلك‪ ..‬أصبحت عجوزا في الوقت الذي أصبحت أنت فيه أكثر قوة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وشبابا"‪ .‬لكن القرد يقفز من شجرة إلى أخرى ويختفي بكل حذر‪ .‬كان مشتاقا للمش ي معهما‬
‫بالفعل‪" .‬يمكنك أن تتخذ قراراتك بكل عقالنية ولكن النتائج ستكون غير عقالنية‪ ..‬حينها‬
‫تفقد فرصة املغامرة"‪ .‬ويدخالن إلى مقهى للكالب عند انحراف املمش ى إلى الغرب أو ربما‬
‫الشرق‪ ،‬ويجدان العديد من الكالب بأسيادها من البشر يجلسون على املقاعد قبالة بعضهم‬
‫البعض والطاوالت تتوسطهم وفوقها طعام للكالب "طعام شهي"‪" ..‬بكم الوجبة؟" يجيبه‬
‫ً‬
‫النادل‪ :‬مجانا‪ ..‬ال ش يء هنا بالنقود ما عدا تكاليف حجز الطاولة واملقاعد ودورة املياه‬
‫والخطوات من الطاولة إلى أي مكان آخر داخل املقهى وكسر الصمت بالحديث إلى بعضكما أو‬
‫مع النادل‪ ،‬ورفع اليدين لتناول الطعام‪ ،‬ومد الخطم داخل الطبق‪ ،‬وهناك تكاليف بسيطة‬
‫لغسل الصحون امللوثة بلعاب الكالب والبشروتكاليف أخرى ولكن في حالة التقيؤ على الطبق‬
‫ً‬
‫فقط‪ ..‬كل ش يء مجانا‪ ..‬وهل هناك ش يء في هذا العالم له ثمن سوى الحياة نفسها؟‪ .‬وتتطاير‬

‫)‪(41‬‬
‫األطباق وتخوض املرأة ذات العين الفوالذية معركة أخيرة‪ ،‬وتنتصر وتسقط‪ ،‬وتسقط جثة‬
‫ً‬
‫الرجل‪ .‬تتآكل األحالم القديمة يوما بعد يوم‪ ،‬تصبح اللغة صعبة‪ ،‬تثقل األلسنة وتصرخ‬
‫سقط أحرفه‪ ،‬على اللهب‬ ‫ُ‬
‫القلوب‪ ،‬وترحل اليعاسيب إلى وديان املوت والنار‪ .‬وكتاب مقلوب‪ ،‬ي ِ‬
‫ً‬
‫العالق في الحص ى‪ .‬والنار تظل هي النار‪ ،‬مقدسة دائما ألنها رمز للحياة واملوت والدمار والبناء‬
‫وتدخين األرجيلة‪ ،‬والقتل املتسلسل‪ .‬وكازينوهات الكائنات اللزجة‪.‬‬
‫ً‬
‫كل ما يمكنه أن يبكي تراه هناك في هذا العبث‪ ،‬وليكن عبثا‪ .‬عندها‪ .‬وتحت قديمها‪ ،‬وبين‬
‫ً‬
‫فخذيها‪ ،‬وشفتيها‪ ..‬كل ش يء محطم يزداد تحطما‪ ،‬بما في ذلك السفن الحربية الخشبية‪،‬‬
‫وقلوب املراهقين‪ ،‬والطبول‪ ،‬واملسارح‪ ،‬ومكبرات الصوت‪ ،‬والصواريخ الفرط صوتية‪،‬‬
‫واألدمغة البشرية‪" .‬في هذا الكون ال توجد قرارات محسومة إنها مضطربة ومشكوك فيها‬
‫ً‬
‫دائما‪ ،‬ولكنها محمية بالتعنت فقط" ويرفع العجوز قدميه فتخرج الخنازير وراء بعضها في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طابور طويل‪ ،‬فيضحك مقهقها "هلموا فاملمش ى ليس ملكا ألحد" ويرى أسنانه املتوهمة‬
‫تسقط في حجره‪" ،‬عمري طويل" وينظر بعينين بارقتين إلى نقطة مجهولة أمامه حين يسمع‬
‫غناء جاكلي "هذا العالم مقسم إلى عبيد وأسياد؛ وعين الحكمة أن تعرف موقعك من ذلك‪..‬‬
‫أنت ومعكرونتك العفنة إلى الجحيم"‪ .‬يجب أن تحذف من‬‫هل أنت سيد أم عبد؟"‪" .‬فلتذهبي ِ‬
‫القصص ساعات النوم والعمل والدخول إلى املرحاض والخروج منه‪ ،‬هذا وغيره مما يمليه‬
‫تشذيبها من العبث وتبئيرها في زوايا استعباد النص‪ ،‬واملروق السمج من وإلى لعنة الحزن‪.‬‬
‫ً‬
‫تلك التجريبية التي تجعل كل من الولد والكلب ال يتضورون جوعا للفناء‪ ،‬وصبية الضباب‬
‫يستلقون في مقابر الضوء‪ ،‬وهم يبعثرون شعورهم املضفرة بأشعة القمر الزرقاء‪ .‬وتجعل كل‬
‫ش يء يستلقي معهم على فوهة التفاهة‪ ،‬ودقات اإليقاعات النابضة كل صباح باألمل والبؤس‬
‫ً‬
‫والصحو‪ .‬لقد نبتت عروق على ذراع الولد‪ ..‬صارت نافرة ومتشعبة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يظل الولد ولدا‬
‫هنا وال ينغمس مع الرسامين املنكوبين بجائحة التعبير على األسطح‪ .‬كانت قرية الفن‬
‫ً‬
‫النموذجية والتي أنشئت بعد الحرب تعبيرا عن القنوط من األفكار واملفاهيم القديمة‬
‫ُ‬
‫املتعالية‪ ،‬كانت تلك القرية تقبع خلف التالل الخضراء‪ ،‬وكانت تحترق‪ .‬فقد فشلت تجربة‬
‫محاكاة عالم املثل بل أفضت لحرب أطول من املعتاد‪" .‬اإلنسان هو اإلنسان يا ولدي"‬
‫فيحييانه ويغادران القرية بال أمل في ارتداد الزمن إلى فلسفات الحياة املتفائلة‪" .‬إننا ننتحر‬
‫ببطء" وير اقبهما بصمت فتلك اللقاءات املرحلية املؤقتة مهمة إلعادة تقييم موضع السيف‬
‫من الندى‪.‬‬

‫)‪(42‬‬
‫ً‬
‫نعم‪ ..‬تثقل الخطوات يوما بعد يوم حين يكتشفان أن العالم ال يحتمل اإلنكشاف بقبح ُعريه‬
‫على األدمغة املترهبنة‪ ،‬حتى أن املوت ال يضحى املعضلة الكبرى كما كان في السابق‪ .‬ولذلك‬
‫يظل الكلب يجر الثلث املتبقي من لسانه ولكن ليس كما كان في السابق‪ ،‬ويتوقف الولد عن‬
‫قطف ثمار الجو افة كما كان في السابق‪ ،‬بل ينهار فجأة ليبكي كأرملة فوق جثة زوجها الجندي‪.‬‬
‫مع ذلك فإن ساحة الحرب مليئة بجثث أخرى وأرامل أخريات وربما في هذا فاجعة وعزاء في‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫نفس الوقت‪ ،‬فالعبث ينزع –رويدا رويدا‪ -‬إلى رسم أطره املستقرة مقاوما انعدام املعنى؛‬
‫وهكذا ُيمنح الولد والكلب فرصة خلق ماهيتهما ولو في األذهان فقط‪ .‬نعم فقد كان صبية‬
‫الضباب يرفعون أذرعهم ويوسعون ما بين أقدامهم ُويرعشون أكفهم ويقفزون على‬
‫ذلك الوضع يمينا ويسارا‪ ،‬ثم يدورون حول أنفسهم وتصيح جدران الهواء "كرانكا‪..‬‬
‫كرانكا أوب زيلي‪ ..‬كرانكا أوب زيلي"‪ ..‬وتضحك الفتاة الصقلية ذات الشعر األحمر‬
‫السرة‪ .‬وما يمكن أن يطلق‬‫وهي تمسك بطنها لتحجز انسياب دمائها الزرقاء من ثقب ُّ‬
‫عليه َ‬
‫أيض األحاسيس بال تردد‪ .‬كل ذلك انتهى اآلن‪ ..‬انتهى بال عودة‪ .‬وعلينا أن ال‬
‫ً‬
‫نفكر في النهايات أبدا‪ ..‬علين أن نمض ي في ذاكرة املمش ى‪ ..‬ممش ى الولد والكلب؛‬
‫لنحصد ثمار األفكار الشفافة‪ ..‬أفكار الحب والكره والحياة واملوت فينظر الولد إلى‬
‫األفق كما صار يفعل باستمرار‪ ..‬كان يرى والده هناك في السماء ووالدته ذات العين‬
‫الفوالذية مرتمية في أحضان املالئكة اآلخرين وعيناها ترجو منه الرحيل‪ .‬وفي تلك‬
‫ً‬
‫اللحظة تحديدا ينمو لسان الكلب من جديد‪ ..‬فيواصالن املش ي‪.‬‬

‫(تمت)‬

‫)‪(43‬‬

You might also like