Professional Documents
Culture Documents
ممشى الولد والكلب مسرد حكائي
ممشى الولد والكلب مسرد حكائي
)(2
رقم اإليداع 2023/1536
الرتقيم الدويل1861648693 :
اهليئة السعودية للملكية الفكرية:
رقم التسجيل23-12-1553973 :
07\04\2023
)(3
"عملية الكتابة هي تهديم يف حد ذاتها"
~ فوكو~
مسارات فلسفية
ت :محمد ميالد -ص 15
)(4
()0
()1
ولكن إلى أين؟ وهذه األرض تحتي مستديرة العود األبدي ،وصبية الضباب يلعبون
ويضحكون ،وهم يمثلون مسرحيات ألفريد جاري" :أوبو أوبو أوبو" ..والسحاب
يلف النمل املجنح ويالحق الحص ى امللساء فوق كتب السحرة.
"إن تكن عبثية ،فلتكن حتى النهاية ،حيث يسقط ظل الال ش يء أمام أعيننا
الجافة".
يقول الولد الشقي وهو يجر كلبه من ياقة القميص .تعال وادخل في لباس ي السفلي
لتعض الكرتين النرجسيتين.
ً
لكن الكلب ينفض ياقته وينبح بالفزع ويمش ي قربه هادئا منكس الرأس ولسانه
يلحس األسفلت األزرق.
لم يتوقف صبية الضباب عن الظهور على جانبي الشارع الضيق وهم يرقصون
الكرانكا الخضراء .ويصيح الكلب" :من علمكم رقصة الشياطين هذي" وعيناه
تتسعان ولكنه ال يترك جرلسانه على األسفلت األزرق.
)(5
ً
"سينقطع الغناء لتعيش وحيدا" وتتموج بعدها كتل الظالم البنفسجية أمام
بصري.
#سيقتلونك
هاشتـ..ا..
وهذه لغة جديدة على الجاموس البري .فيترك القطيع رعي العشب ويرفع راسه
ً
وخطمه إلى السماء متشمما.
"هذا هو القديم"
"تماسك"
"ال تسقط"
ً ً
وصبي ضباب يمثل في الكولوسيوم واضعا قناعا من الثلج القديم.
"إنها إشاعات ..إشاعات فقط ..مجرد إشاعات يا حبيبتي ..وروما ..ليس بها مترو
أنفاق حتى اآلن ..منذ جستن األول وهم يتداولون أمرهم" ..ثم استبدلوا املترو
بمدونة القانون ليعلنوا بداية نهايتهم ..بداية موتهم..
حينها يعود قطيع الجواميس البرية للرعي مرة أخرى .وتعبر بين أجسادهم الهزيلة
ريح حارة من الجنوب.
ً
إن كان عبثا فليكن حتى املوت ..ألن حبك لم يكن مجرد أكذوبة إبريلية يا ذات
ً
الشعر األحمر ..ويرى الكلب لهبا فوق قمة حصاة صغيرة ويرى انعكاس صورتي على
لحائها األصفر األملس فيلتفت وينظر إلي .يظل يحدق في وجهي ويعود ليحدق في
صورتي على الحصاة .يلعق لسانه بحركة دائرية محترفة ثم يجره على األسفلت.
"كن بخير"
...
ويحكي الولد للكلب قصة رعب فيموء كالقطط..
دخلون الشاليمو داخل كرة العين ويمصون سائلها الذهبي". ُ
"ي ِ
يعوي الكلب ويتلوى على بطنه.
ً ً َ
لو تزوجت من شابة صقلية ،لها تاريخ عربيد كالشهب ،تعطيك حنانا وتعطي زنجيا
جسدها لتبلغ كمال متعة الحياة .أليست خنفساء البحر تعبر بين األصداف ،وتمد
ساقها املثيرة لتتحسس برودة مياه الشاطئ .ثم تقول"َ :وي َوي".
)(6
ً
يضم الكلب فخذيه وينحني للوراء .متلفتا حوله حتى ال يراه أحد .فيراه كل الناس.
ً ً ُ
حذاء الولد فطرا بري ـا فتفوح رائحة عفنة. ويدوس
ُ
"مثل مراوح الورق عند األميرات" ..تتدلى غالالت حمراء من آبار النفط الصحراوية
العابرة على جسد الصقلية ذات الشعراألحمر.
إنها تعطي قبلة لكل من يسأل.
"قبلة في الفم؟"
يلتفت الكلب ويسأل بدهشة.
"قبلة في الشفتين الحمراوين"
ويرفع الولد قبعته ويخلخل شعره الفلفلي بأصابعه الصغيرة ثم يعيد القبعة إلى
رأسه.
"وما املانع؟"
"ال ولكن"..
ً
ويبدو الكلب حائرا ويجرلسانه على األسفلت..
هناك من يعيشون داخل الصفر .وداخل الصفر عالم من اللبن األبيض
والجواميس السمينة واألعشاب الطويلة ذات النهايات الدبوسية الطرية .وحلوى
ً
بالونات حمراء وصفراء وزرقاء .ينزع الولد سبيبة من لحيته متأملا ويعض جانب
لسانه فيصرخ ويبكي ويلوح بكفه األيسر وكفه األيمن يحيط بفكه من أسفل.
إنها أوساخ ..اوساخ ..يجمعونها في املساء لتجمعها سيارات النفايات من أمام
املنازل في الصباح .أو العكس.
"ولنسمه ممش ى الولد والكلب"
ويحاول الكلب الضحك لكن تشريح خطمه ال يساعده فيكتفي بلحس التراب.
إنها غابة من ذكريات .ولها وظيفة ما .ربما تكثيف الوحشة .ولكن ما وظيفة
الوحشة؟ وجحر النمل املجنح يغرق في ماء الحمام ..رائحة الصابون الغريبة تمرق
بسرعة بين الخنادق اإلبرية املتشعبة .ويهرول العدو من مواجهة املوت.
عشر دقائق هنا وعشر دقائق هناك ..جنود هنا ..جنود هناك ..أن كانت عبثية
فلتكن حتى النهاية..
...
)(7
روكو ..الولد األسود ذو الشعر الفلفلي املوزع على مساحات متباعدة فوق راسه
يأكل املوزة بقشرها.
ً
"إنني نادرا ما أتغوط"
وبالونات وجنتيه تنتفخ .ويلعق الكلب لسانه بحركة دائرية محترفة كعادته ويتخيل
أن راسه خلف مؤخرة كلبة من النوع املهجن بنطفة كلب بوليس ي.
"ملاذا؟"
"ال أعرف ..ربما لكي تتملكني فأنا كلب والخضوع عادة الكالب".
ثم يتابع بأنفه فراشة تدور عكس دوران لسانه .والولد ال يهتم بها بل يواصل أكل
املوزبقشره.
"لتكون األرض نظيفة".
ً
ال تنخفض الطاقة أبدا إال أثناء حزن عميق .والحزن وهم كسائر املشاعر .ولكنه
حقيقي التأثير.
ً
"ال تكن مخنثا وتتابع الفراشات"
يخجل الكلب ويطأطئ رأسه مثل أولئك الذين يحبون الفلسفة.
أس ًرة
الغابات هامدة رغم موجات عابرة ومتفرقة من زقزقة العصافير .وثالثة ِ
ملقاة قرب بحيرة .األسرة الخشبية لألسماك الطائرة وعروسين .والكرس ي الوحيد
لسيد الغابة .وهناك هاتف محمول واحد فقط ال صاحب له .وفي الجانب الغربي
معسكر ملليشيات متمردة تشرب وتسكر وتنام .ألن التمرد لم يعد يجدي" .ال ش يء
يجدي" .يقول القائد املرابط تحت شجرة السرو ذات الزيت الطيار.
أنني أشتاق لصبية الضباب .أشتاق لعبثهم وضجيجهم .ولن يغير موتهم من ذلك
ً
شيئا .فسينمون في خريف ما .أرسم إيموجي ضاحك بدمعة واحدة على الخد
األيسر .وتكبر البكتريا على األرض وتصبح بأحجام ضخمة ألنها تعرضت للتهميش.
من قال أن التمرد ال يجدي؟
يطلق جندي رصاصة على اآلخرفينتبه القائد لوهلة ثم يعود للنوم مرة أخرى.
تغيب الفراشة ويشعر الكلب باألس ى .وينهض الولد ليمش ي فيتبعه الكلب ويقفز
لينفض التراب العالق بمؤخرة الولد العارية.
"احترس"
)(8
يعود الكلب لجرلسانه على األرض.
"إنها ليست عبثية يا روكو ..إنها ألم"
"فليكن"
ويشيرإلى ثمرة جو افة صفراء في أعلى الشجرة
"انظر"
ينتابهما شعوربالرغبة في الضحك والشجا في نفس الوقت.
"ستكسرذراعك"
"أصمت"
ويعتلي أغصان الشجرة
"من هو سيد الغابة؟"
"أنت؟!"
" بل القرادة"
يسحق ثمرة الجو افة بيده الصغيرة
ً
"دائما القرادة"
...
تزحف القرادة فوق الكرس ي ،وتحاول أن تمأله بجسدها دون جدوى .مع ذلك ولهذا
ً
السبب تحديدا؛ ستظل سيدة الغابة.
ويتنصت قطيع الجواميس البرية أصوات املالعق والشوك البرونزية وهي تتصادم
مع صحون الخزف الصيني الفارغة .وتتحرك ألعلى وأسفل لألمام والخلف .على
مائدة مستطيلة طويلة ،أطول من مائدة العشاء األخير ،وتتخيل الجواميس الخبز
املقدس ينمو بين األصابع املتقيحة.
"املرأة تمأل حياتك دون أن تكون معك ..إنها معجزة بيولوجية"..
ً
"عجبا ايها القائد"
يطلق القائد طلقتين أعلى رأسه وتفر الطيور من شجرة الزينة ،فتسقط هدايا عيد
امليالد .ويسمع الكلب صوت الطلقة فينصب أذنيه ويئن لوهلة والولد منشغل
بإخراج الدود من ثمرة الجو افة.
)(9
"سأخلع قبعتي فالجو حار".
ً
ينهض الكلب قافزا فيرفع الولد راسه عن الجو افة:
"إنهم صبية الضباب!!!".
ً ُ ً
يبقى القائد وحيدا وقد قـ ِت َل جميع رجاله ،لقد سكروا وقتلوا بعضهم بعضا فجمع
قناني الخمر ودفنها في األرض وبنى فوقها سقيفة من بقايا شجرة السرو الوحيدة في
الغابة.
"سأحافظ على كنزي الصغير"
ً
وقهقه مغتبطا وهو ي ِغلم ،فتطاير اللبن األبيض على كرشه املشعرة وغط في نوم
عميق ،ليرى أمه تقف وعلى يدها سوط من جلد الجاموس البري وهي تلومه
بنظرات حزينة.
"سأصطاد السمك بديدان الطمي"
غيرأن أمه تظل تحدق فيه بقسوة.
ويتمنى لو أنه كان يحلم.
"هل جربت الدخان؟"
ً
يغمغم الولد ويرد الكلب نافيا.
"وال انا جربت الدخان"
ثم ينهض ويهرول ليتبعه الكلب وهو يلعق لسانه بحركة دائرية ثم يجره على األتربة
فتلتصق به بقايا أوراق األشجار.
وعلى البحيرة تتوزع مالبس العروس والعريس الداخلية فوق السريرين .ويبدو أن
اإلنسان يصطنع معاركه الخاسرة باستمرار لكي يشعر بالحياة ثم يندم عليها .فعلى
مالءة السرير ثالث وردات جافة ،حمراء وصفراء ووردية .وخاتمان من ذهب ،على
ً ً
أحدهما أملاسة صغيرة جدا .شفافة ومعادية للفوض ى .فليكن عبثا.
ً
لقد وجدهما القائد وقد شنقا نفسيهما فوق شجرة السرو فدفنهما بعيدا وظل
يتذكر فخذي العروس السمراء الالمعة ولكنه يخش ى وجه أمه اكثر ..لذلك شرب
ً
كثيرا تلك الليلة وشاركه القمر املستدير بكأسين ،أو ثالث من غالالت الضوء
األبيض املزرق .كان كل ش يء يعصف بالقلب بال رحمة.
"سنبحث عن آكل النمل ذو األنف الطويل"
)(10
ذلك أن األشقياء ال ينقرضون بسرعة .وتنزع الجدران صمتها وتصرخ عارية .جدران
ً ً
من الهواء والنار .كل ش يء يغلي على مرجل الزمن .وسيصبح الولد عجوزا يوما ما،
ً ً
والكلب يموت عما قريب إن لم يكن الكون كرتونيا بأكمله ،فاملسألة كلها إذا عبث
كوهم الوسواس القهري.
ويمرغ آكل النمل خرطومه في األتربة ليمتص نمل الغابة ُ
إن األشياء معطى وهدفِ .
املجنح .وكذلك يحشره في بقايا ثمرة الجو افة فيشم رائحة أظافر الولد امللوثة
فيعطس ويبتعد بسرعة.
"تقدست أيتها األفخاذ الالمعة"
ِ
ويرسم شارة غريبة فوق جبهته ثم يجرع من الزجاجة ويضرط وترتخي أطر افه
وينام .كل ذلك دفعة واحدة ألن أشهر السنة وأسابيع األشهر و أيام األسابيع
وساعات األيام تبددت كالعدالة .وحين يتدحرج ظرف الرصاصة النحاس ي الفارغ
فوق الحص ى وتلتهب ذروة الحصاة ،يحدق الكلب في وجهي وفي صورتي على لحاء
الحصاة السميك األملس مرات ومرات بدهشة.
"كن بخير"
ويترنح ضوء العين الزجاجية ،ينسحق الطين تحت الحذاء العسكري .وتحت ظل
القمر .تهجم سحابات على بعضها وتلتحم في معركة ينتصر فيها الكل ويقفز
ً
صرصار الليل مختبئا داخل ثلم جذع التاريخ .أنفاس محبوسة وأعين حزينة
ومتوجسة.
"من هناك؟"
"سأطلق النار"
ً
ويخرج هيكل شاب نحيل ،ر افعا يديه.
ً
"ال أملك سالحا"
وعلى حافة سفح الجبل العالي ،جلس الكلب والولد ير اقبان النجوم وهما ال
ً
يعلمان شيئا عما يدورأسفلهما على بعد مئات األمتار.
"انا جندي"
"تابع ألي مليشيا؟"
"وهل في أفريقيا من يحفظ اسم املليشيا التي يتبعها يا سيدي القائد"
)(11
ٌ
"حسن ..ومن كان عدوكم؟"
"ال أعرف ..لقد أجبروني على حمل السالح"..
"أنت تكذب"
ُ
"بل أقول الحقيقة ال أملك ما أخش ى عليه ..لقد قتل جميع أفراد أسرتي"
يتسرب بين الرجلين حب خفي ،وحزن خفي ،وتوجس خفي ،ومستقبل خفي.
تنحل روحه الشفافة على كون أحدب ُّ ويمتطي الخوف ظهر يعسوب مقدس
األنفاس .عشوائية هي حياة اليعاسيب التعيسة .وتقول األسطورة أن قصة حب
دامية بين يعسوب وفراشة أفضت إلى أن حرم اليعسوب على نفسه افتراس
الفراشات .انتحرت الفراشة على لهب الحص ى الصفراء حين تأكدت بأن سرعة
حبيبها ال تسمح لهما بالوصال .وقالت أساطير أخرى بأن الفراشة انتحرت ألن
اليعسوب أحب الحية ،لذلك تراه يتبع الثعابين واألفاعي في كل مكان .ولكن
اليعسوب بريء من كل تلك اإلشاعات .كان مجرد حشرة بائسة .ال أكثروال أقل .وبما
أنه كذلك فقد نال قداسة التعساء؛ كعازف كمان بال جوقة.
ً
ويتسرب ضوء برتقالي من النافذة مهشمة الزجاج مرتميا على طاولة بها عشرات
من علب مساحيق التجميل .ومرآة تعكس أعين اليعسوب الكبيرة ورأس الولد
والكلب.
ال تسألينني ملاذا .إنك تبحثين عن سبب؛ اليس كذلك؟ وهذا أكثر صعوبة من
الصمت .فلننه كل هذه الفوض ى .فليس بالحب وحده يحيا اإلنسان .ولنصعد إلى
شجرة السرو ونشنق نفسينا يا حبيبتي .إنني مستعد ألن أفعلها وحدي .وهنا حيث
ُ
تحفنا الغابات فإننا سننس ى كحزن قديم.
ً
"سأمسح املساحيق عن وجهي أوال ألكون صادقة مع املوت كما كنت صادقة مع
الحياة والحب".
"دعيني أغسل قدميك الجميلتين قبل ذلك كما فعل املسيح مع تالميذه فالفرق
بين الو اقع والخيال هو الجهل".
ً
"فلنتضرع إذا"
"من تحبينه عليه أن يكتفي بعبادتك".
وتتبعثرالقصص الصغيرة امللونة في ريح الشمال كجسد اإلله بان كو.
)(12
أولئك الذين يتوصلون إلى وحدة الوجود ،ال يحسدهم أحد.
ويمد الولد يده املرتعشة فيمسك بأحمرشفاه ويتأمله ،يشمه ثم يعيده إلى مكانه.
-كانت تعيش امرأة في هذا الكوخ املهجور.
يلعق الكلب لسانه بالحركة الدائرية :تضع مساحيق كثيرة!!!..
-ليس بالضرورة أن تستعملها كلها ..يحب اإلنسان امتالك خيارات كثيرة في حياته..
-ملاذا؟
رفع الولد بصره ورأى صورته والكلب على املرآة:
-ربما ليشعربأنه حر.
ثم غادرا الكوخ ليبحثا عن آخرصبية الضباب.
وليل الصيف الحار يرضع من ثدي شمس غائبة .مثل شاعرالحب .فهذه املنمنمات
تلتصق بصخرة سوداء تلطمها امواج املحيط بعنف فال تنزلق عنها .تلمع الصخرة
كلما غسلها ملح املاء ،تعكس بلورات امللح ضوء الصحو الكسول .ويلف ساحر
سمكة بخيوط النحاس .ويتلوا تعاوذيه الشيطانية .فاإلنسان إما هوائي أو مائي أو
ً ً
ترابي أو ناري .وتدور املروحة فوق رأسه ببطء فينطلق دخان البخور ر اقصا وحامال
الكائنات الروحية على ظهره" .لكن ..ال ش يء يحدث يا امرأة اإلنسان" فهنا حيث
تحط النبوة -ويشيرإلى قلبه -ينمحي الخير والشر ،ألن الرجل يترك أباه وأمه ليلتصق
ً
بامرأته .ويسمي ذلك زواجا .ويرى ذلك حسن .فتتدحرج ثمرة الجو افة املحشوة
بالديدان تحت أقدامهما العارية.
"سأصطاد السمك بديدان الطمي" .ويتأملها البربريان بتعجب .وخلف األكمة
ً
يختبئ الكلب الشقي الذي سيموت قريبا كقربان للعبث.
ُّ
تحمرجمرة الطباق.
"أين وجدتها؟"
"جندي ميت"
ينهض القائد ويحفراألرض ليخرج زجاجة خمر.
ً
"هاك إذا"
ففي عالم األرواح ال ش يء بال مقابل.
ً
"هناك إذا مسرحية أخرى تكتب هناك".
)(13
وتمثلها فرقة إسخيلوس من صبية الضباب املقنعين .حيث كانت املرأة ترعى األبقار
في ذلك الكون املغاير .لذلك كان الشباب يخشون الزواج من راعية.
وينحرف املمش ى نحو قرية األلف حانة .حيث يقطن كل السكان داخل حاناتهم.
وتخلو الطرقات من املارة .أما في املساء فتتحرك عربات الحمير محملة ببراميل
الخمر والنبيذ لتتوزع على القرى املجاورة تقودها فتيات صغيرات بدينات من كثرة
أكل لحم الخنزيروعلى رؤوسهن بواريك الشعراألحمرليقلدن الصقلية.
وتابعهن الولد والكلب بنظرات خالية من املعنى .وأدركا أن املغامرة اإلنسانية تنتهي
عند الخمر والنساء ،فلهث الكلب ولعق لسانه بالحركة الدائرية املحترفة ،أما الولد
فقد رفع قدمه اليسرى وتبول على جدران معبد مهجور .ثم غادرا بأسرع ما يكون،
لترتفع إلى السماء فقاعات الصابون ،ورائحته املثيرة للغثيان حين تمتزج برائحة
التراب ورائحة الشمس الصيفية .ويمتد املمش ى الرملي وعلى جانبيه أكوام من
َ
والخوذ نفايات الحرب :الدبابات ذات األنف املكسور ،واملدرعات الضاحكة،
املتبولة ،وحديد ينبت كعشبة الشيطان في كل مكان .وتحت ركام الحديد يحفر ِ
النمل املجنح أخاديده العميقة فتتكوم مخاريط التراب كأهرامات البشر القدماء.
ً
وفي الداخل يتناقلون أخبارا ال قيمة لها سوى البحث عن الطعام .متجنبة الخروج
إلى السماء حين تمطرنترات األمونيا.
"أنظر"
ويشيرالولد إلى ورقة كبيرة .ويقفزالكلب ليثبتها بمقدمتيه.
"هل ترى الصور؟"
ً ً
ويمضيان يوما سعيدا في مشاهدة الصورعلى الصحيفة الصفراء.
"يصنع البشرأشياء عجيبة"
ً
يقول أحدهما .وينبهر اآلخر .ويتشكل مثلث من الطيور فوق راسيهما عابرا بسرعة
دون أن يرياه.
يرفع صبية الضباب أذرعهم ويوسعون ما بين أقدامهم ُويرعشون أكفهم ويقفزون
على ذلك الوضع يمينا ويسارا ،ثم يدورون حول أنفسهم وتصيح جدران الهواء
"كرانكا ..كرانكا أوب زيلي ..كرانكا أوب زيلي" ..وتضحك الفتاة الصقلية ذات
الشعر األحمر وهي تمسك بطنها لتحجز إنسياب دمائها الزرقاء من ثقب ُّ
السرة .وما
)(14
يمكن أن يطلق عليه أيض األحاسيس بال تردد ،فإن كانت عبثية فلتكن كذلك،
لتنبعث عفونة اإلنوجاد القسري من كل مسامات بين الخاليا.
"تعبت وتعب لساني"
لكنه يواصل طاعة طبيعته ،فيلعق األرض بمساميرها وحديدها وأظرف الطلقات
النحاسية الفارغة ونترات األمونيا .فتلسعه ويدورحول نفسه كاملجنون.
"هوو ..توقف"..
وتستعر الحركة األولى من سيمفونية شهرزاد .وتنتفخ أوداج النافخين على األبواق.
ويسير كورساكوف داخل نهر نيفا حتى يبلغ املاء كتفيه ثم يختفي رأسه تحت النهر
ً
تماما .يرقص الشرق األقص ى باألوسط وبموت كلب إفريقي فوق لغم .وفي الغرب
يجلس الرجل ذو القبعة املرتفعة والشارب املعقوف واالبتسامة الصفراء ورسغ يده
اليمنى فوق ركبته اليسرى املعقوفة فوق الركبة اليمنى والغليون على كف يده
اليسرى.
"ستموتون"
تبرق عيناه.
ويختنق الكلب من ربطة عنقه فيحاول نزعها بال أمل في النجاة.
ويهرول الجندي والقائد تحت ظالل األشجار حاملين قناني الخمر ،وهما يأمالن أن
يفلتا من املوت وأن يتزوجا من ذوات البواريك الحمراء ويقتنيا جواميس برية
ً ً
وينجبا ولدا ليرعى مع كلبه أحالما ماتت في صيف ما.
...
هناك صيف في كل مكان ،داخل األحذية وبين أسنان املشط ،وتحت اإلبطين ،وفي
غمامة الذاكرة ،وله رائحة نمل محترق .ليس النمل املجنح فقط ،بل حتى النمل
الذي يتعش ى تحت الجلد .أو ذلك املتخفي داخل األرواح املتململة .ويحاول الكلب
طرده من لسانه الطويل ،وهو يعود إلى الخلف ،لكي ال يتبع سيده الصغير .والسيد
ُ
الصغير لم يعرف بعد معاني االرتباط بين املوت والقبلة .لذلك فاملسير طويل ،إذ
ً
يطلق الجندي األسير النار على القائد ،في وسط جبهته تماما ،غير أن القائد ال
يموت ،بل يعض قضيب األسير حتى يقطعه فيموت كالهما ببطء كدوران املجرات.
ً
يصبح الكون فارغا منهما ،ومن العروسين ،ومن اليعاسيب املراهقة ،وثمرة
)(15
الجو افة ذات الديدان ،والحب والفرح ،وتغمره كآبة سيارة عطبت بسائقها وسط
الطريق الخلوي ،لتظلل ما تحت الرمل من عظايات عطش ى شاحبة .إنه روتين
الحياة الباهظ ،والسخيف أكثرمن رجل يتسول قلب امرأة.
"ليس كل العالم روكو"
ويبدأ الكلب في التحول لبشري .غيرأن الولد ال يدرك ذلك.
ويحاول الكلب التخلص من بشرية داهمت كينونته على حين غرة.
"بل كل العالم روكو"
ولكن هيهات.
ففي وادي البكاء ،تنشق األرض عن أخدود الحقد من حروف اللغة ،وتلك ميزة
بشرية ُمحتكرة.
"فليكن ..ليس كل العالم روكو"
فيردد الولد:
"ليس كل العالم روكو"
ً
وتنقبض أذنا الكلب .مقررا مفارقة صاحبه من طريق املجهول .وال يالحظ الولد
اختفاء الكلب إال في مساء يحبل الوحشة في أعماق الجبال.
ً ً
إن القماش األبيض يتمزق ثم تنسل خيوط نسيجه شيئا فشيئا ليخسر الحكمة.
ً
وهكذا يقبع الولد وحيدا فوق التل ،وعيناه على امتداد املمش ى األزلي السرمدي.
ً
"إنك لم تفكرحتى في أن تطلق علي اسما يا روكو"
ً
ويستمرصمت حيرته مستلقيا على شفق الغروب.
وأسرة
كانت كتل السواد تنتشر ،األعشاب والتالل واألشواك والفطر العفن ِ
َ
العاشقين والقرادة فوق كرسيها ،وجثة القائد والجندي األسير ،والصخور العابرة
وأشجار الصبار الشوكية ،ورماد شجرة السرو ،وكل الغطاء النباتي ،وصبية
الضباب ،وقباب األضرحة فوق السماء ،والكتاب األسود ،ودم الشيطان وصوت
الطيوراآليبة إلى أعشاشها لتغفوا تحت أجنحتها.
ً
"سأطلق عليك اسما".
"ولكن ماذا؟"
"إنك لن تعود على أي حال"
)(16
ويقفز من التل ،ليمض ي في ممشاه .وتنحني امرأة داخل البئر ،ثم تسقط .هذا
سبيلها الوحيد إلى االنتحار ،لكنها ال تموت ،بل تموت ببطء وبألم شديد .كان هذا
قبل آالف السنين ،إذ ال فرق في موضوعات التاريخ .ويكفي أن دولوز لم يكن وحده
من اكتشف ذلك .فسعف النخل يحاول الطيران منذ األزل ،ونهايات النظريات
تشهد على ابتذال الضحك .و ابتذال النواح من وجه آخر .ومضارب الصحراء،
وروث املواش ي ،واملقابلة الوظيفية ،وفائض القيمة ،ومضاربات البورصة ..الخ .إن
وخصيهم ،وضفائر البنات في
ِ األصوات تنفصل عن حناجرها ،ولكنها تتصل بجوفهم
عمر الرابعة عشر ،وأخبار الصحف اليومية ،وربطات العنق .وسوق الجنس،
والفنادق من درجة السبعة نجوم .وعطاءات العقود اإلدارية ،والرشاوي ،وغسيل
الفراش.
األموال ،وديموقراطية عث ِ
"فلتكن بخـ"..
"ال"
ترتجف الصلصالة فوق الدوار الخشبي كنهدي أنثى .واليدان تمسهما برفق .يدان
ضخمتان أكبر من الكون كله .وتتنهد الشمس ،ويغوص القمر بين فخذيها ،ويتناثر
َح ُّب الرمان على أهوارالعراق .ومعه ٌ
ألم ُمر.
يقف الولد وينصت للكون الصامت .يسمع هسيس النجوم البعيدة.
"لم َ
يبق لي ش يء"
يمتد املمش ى أمامه ،يصعد ويهبط ،ينعطف وينحرف وينكسر ،ينخسف وينبعث.
"لم َ
يبق لي ش يء"..
يلتفت خلفه ..ال ش يء ،ثم يعود ليحدق أمامه ،ال ش يء ..ينظر يمينه ..ال ش يء..
يساره ..ال ش يء ..تزداد دقات قلبه وتتسارع انفاسه ..ال ش يء ..ال ش يء ..ال ش يء..
ويصرخ:
"مامااااااااا"
( )2
)(17
ً
مزعجة جدا ،أصوات املالعق والشوك وهي تصطدم ببعضها وتنقر على أطباق
الخزف الصيني" .يجب أن تكونوا جادين أكثر من ذلك" .وينظر الكهل إلى الولد:
"ونحن نأكل اآلن؟ هل تعتقد أن هذا هزل؟" ويصمت الجميع لوهلة ،وهي وهلة
ً ً
كافية جدا ملناورة سريعة .وتهتاج الجماهير ،هكذا هم دائما ينتظرون الضربة
القاضية وكأنما يوجهونها بأيديهم .ويستغرق العشب املحترق شساعة البراري
املأزومة باليأس ،وتهرول الجياد الحرة مبتعدة قدر املستطاع عن دائرة الحضور
الضيقة .لقد غادرت الجواميس البرية ،وسقطت أجنحة النمل ،ونمت الرصاصات
في سهول النسيان" .هذا هو تاريخي" .تاريخ أول ارتشاف لألصابع باألصابع .تاريخ
أول نظرة حب ،وأول قبلة ،وأول انكسار أمام الحقيقة .هنا؛ حيث يبدأ اإلنسان في
النمو بالحزن.
ً
"وداعا"
ً
وداعا لذلك الولد
ومرحبا بعربات الحمير وهي تحمل براميل الخمر البلدي ،منذ أن تعلم اإلنسان
تقطير الفواكه بعد تخمير عصيرها .ولم يكن ذلك بالبعيد .تقول كاميليا بأنها ال
تفكر في ش يء .وتقسم على ذلك .ثم توزع الحيرة مع الكؤوس على زبائنها" .ال أحد ال
ً
يفكر في ش يء" .كيف يكون ذلك؟ فيلتقي بالخائن .يراه من بعيد وهو يقود رتال من
الجراء القبيحة مثله ،فيقف ويتأمله بصمت .تضاء مصابيح الدم في العروق لكي
تتلقي وترسل بريدها امللوث ،لكي تحدث ذلك التنبيه الى تشعبات من مفترقات
الدروب .لكي توتر الحكومات العاملية ،لكي تشتعل الحروب ،لكي يموت الكالب
وأشباه الكالب ،ويجتمع املدونون لصياغة مسارات أخرى للحقيقة الجديدة ،لكي
ً ً
تكون تاريخا جديدا .فتنبت األقحوانات الحمراء من جديد ،ومعها السوسن
األصفر والبنفسج وعباد الشمس وكافة أنواع املخدرات .وتمتد أصابعها لتقطف
واحدة .تشمها وتغمض عينيها كأول كذبات املراهقات .ويصدقها هو كأول حماقات
املراهقين .وينبح الخائن من بعيد "ليس للورود رحيق" .وتلتفت زوجته الكلبة
ً
ناحية الحبيبين تاركة جروا يعبث تحت أثدائها القبيحة .تلهث ثم تتبع الخائن
بصمت.
)(18
ً ً
ينظر روكو إلى الفتاة ويرى ممش ًى جديدا يخرج من شفتيها ساقطا تحت قدميها
ً
عابرا الجحيم .تمتد يده وتمسك بفكها ورقبتها .يسمرها ويأكل نهديها .ثم يمزق
ً
تنورتها القصيرة ُمفسحا من القنوط بعض األمل" .كيف ال تفكر أمك؟ هذا محال؟
ال أحد ال يفكر؟" .يتركها مقرفصة على األرض وهي تضم فخذيها بذراعيها وهي تبكي
على خيط دم أزرق يحلق فوق السماء .ويرفع الخائن قدمه اليمنى ويتبول على
شجرة شاحبة ليضع عالمة على نطاق معيشته البائسة .كل ش يء له عالمة حاسمة
ً ُ
تقسم ملصلحته دائما .يحدقان في بعضهما بصمت:
"رأيت كل ش يء"
"ليس كل العالم روكو ..أليس كذلك؟"
ثم يمض ي كل واحد منهما في طريقه.
...
يا أرقاء الحياة..
هلموا..
فهنا تحت اقدام أغسطس
مات القرد مات..
كان يرقص..
واملارة يرمون النقود..
ويضحكون..
ثم
يغادرون..
كان يصيح:
هلموا يا أحفاد قيصر..
ً
ويرتمي ممثال دورامليت فتضحك الجماهير.
ويلخص القرد معيار الحضارات األوحد ويهمس للولد .وينظر الولد لالحتفال بروما
على األرض اإلفريقية .حيث يقف البيض ويتأملون السود بمرح.
إن حضارة البشرتقبع بين املطبخ واملرحاض.
)(19
ً
البيض مناديل الورق بكثرة ،ألن السود واملسلمين تأخروا جدا وهم ويشتري ِ
يبحثون عن املاء من أجل الطهارة.
يقفز القرد فوق كتف الولد ،ويحاول الولد أن يتحمل ثقل عضالته القوية.
ً ً
وطعنات شعره الرمادي .كان السيئ دائما سببا لإليجابي .ويبدو أن الكلب الخائن
قد أصيب بالغيرة فصاح:
-الحتمية البيولوجية ستنتصرفي كل األحوال أيها القرد املتحذلق.
لكن القرد ال يأبه ويقول:
-توقف عن البكاء..
وعلى مشارف األدغال ،تهرب الجواميس البرية ،ومعها كل العواشب ،وقليل من
املفترسات .وتغلق الجسورالترابية ،وتنتشراملدرعات العسكرية.
تحطم الحيوانات األسرة ،ويهشمون الكرس ي ،ويقتلون القرادة ..وتجلس قرادة
أخرى فوق الكرس ي وتبدأ في عصرنة الغابة ،بتجريفها أسرع من تجريف الطبيعة
لها .وتتعلم الجواميس البرية السودوكو لتقض ي فترة نهاية خدمتها في اللعبُ .يلقي
الولد بالشوكة والسكين ،ويغادر مائدة الطعام بغضب .إنه مناور بارع ،فعندما
يرغب اإلنسان في البحث عن حريته ،سيفعل ذلك ،غير أن كل النهايات التاريخية
ً
كانت دائما رفع الراية البيضاء بعد أن نرى النقطة الحمراء في خرائط الجي بي إس
على الهاتف املحمول .ويرفع العمال على أكتافهم األحمال الثقيلة ،الحجارة
وجواالت اإلسمنت والفول والسمسم ،والثالجات والبوتاجازات وحقائب السفر،
وكل األكاذيب التي تحيط بالرغبة في االنعتاق واالنفالت دون جدوى .وإذا كانت
ً ً
عبثية ..فلتكن كذلك .وليكن كل سفر الخروج خروجا للعالم .تمردا لم يكن
تعلموا آذانكم بوسم باإلمكان تجنبه ،ألنه هكذا يقول التاريخ :هو ذا يأمركم أن ِ
واحد ،ألطفالكم وكباركم ونسائكم ورجالكم وحيواناتكم ،وكل حي يتنفس .أما
َ
الجماد مما ال نفس فيه ،فاحرقوه ،إال القليل من الطعام والشراب .كذلك
يأمركم ،وكذلك تخرجون من بين األخاديد على نهر نيفا ،وال تأكلوا وال تشربوا قبل
صباح كامل.
)(20
ورفعوا كل ش يء على ظهورهم ،وهم يتبعون سحب الرب ،وقلوبهم ترتجف مثل
قلوب الحمام .وعلى الطرف اآلخر من النهر ،جمعت املالئكة أجنحتها وجثت تترقب
وصول الولد والقرد.
كان يدخن بكثرة ..وظلوا يفتشون عن مكان لدفنه لساعات طويلة ،حتى وجدوا
ً
حيزا في مصنع اإلسمنت .وتو افد العمال حول جثته ،وقبروه وأعينهم تضحك .أما
السيد املدير فكان يجتمع مع مجلس اإلدارة ليعرض السياسات الجديدة .وخاصة
مطالبة الحكومة بضمانات بنكية حقيقية.
"إنهم لصوص"
"مجموعة لصوص"
تحولت كل املصانع إلى مقابر .وبعضها إلى مدارس كونغفو .وفي كل األحوال فإن
األم ال زالت تصر على أنه األب البيولوجي وليس القرد .والالعب الرئيس ي في تحديد
مصيرالثقوب السوداء في خرقة املشاعرالبالية.
"ال تكرهه هكذا"
ولكنه ظل يقبع كحاشية سفلية؛ متعلقة وغيرمتصلة.
ً َ َ
"لقد كبرت األن وصرت شابا وأصبح عليك أن تغادر ممش ى الغابة الضيق ..إن
طاقة اإلنسان تتبدد كالعطر".
ً
وجه األم كان جميال ،شفتاها مشققة ولسانها محتشد بالدمامل ،وداخل محجرها
األيسر كرة حديدية سوداء .وتخيلها والقرد يضغط على صدرها ويضرب فرجها
الجاف بحراب النحس النهاري .يداه كيد الجزار ،و انفه كأنف الكاهن ،وأذناه كأذني
الجار املحتال ،و انحناءة ظهره الصغيرة تؤكد وجود جينات من خياط القرية
املجاورة أما عقله فعقلية املدير .كلهم كأنهم هو ما عدا األب املوثق بأوراق
الحكومة .وهذا هو املوضع الطبيعي للحقيقة في هذا العالم.
اهيل على وجهه التراب ،ولم يشعر الولد باألس ى .ولكنه وفي طريق عودته يلتقي
ً
بابنة كاميليا التي تحمل سكينا وتصيح:
-أنا حامل.
)(21
إن العدوى تنتقل بكل تالمس .الفيروسات والبكتريا والحيوانات املنوية ،والرغبة.
كل األمراض والخطابات الروحانية .وكذلك الضحك الذي انتاب العمال وهم حول
الجثة.
"زوج عشيقة املديرالعام"
كانت أعينهم قبلها هي فقط التي تضحك ..لكن األشياء تتغير حتى الجمادات مثل
النقود .تزيد او تنقص ،ولكنها تتغير ،ثم تتبدد .والعصفور على غصن الشجرة
ير اقب الدفن .يزقزق بدون شغف بل كأداء واجب للعزاء.
وتنتفخ البطن بالغازات ،الجزر تنعزل بكنوز القراصنة الذين قضوا .كانت هكذا
توزع أموال الضرائب على الفاسدين .العطاءات الحكومية التي يعدون عروضها
ويفضون مظاريفها ويرفضون بعضها ويقبلون بعضها .وتتطاير املاليين على عودة
موضة السبعينات حيث فتحت املومس الطريق إلى أحالم البؤساء .ودقت طبول
ً
القبائل القديمة لتتبدد حاملة ما تعتقده كنزا من الثروات الثقافية .وتبدأ رحلة
البحث عن وظيفة ،وعن نماذج األسئلة واجوبتها النموذجية .و انغطاس الحزن في
قعر األمعاء .والفزع في الوجوه املكفهرة الغاضبة .والليالي التي ال تفارق نفسها،
محمية بالتسلية املزيفة وأصباغ التجميل؛ من برايمر وفاونديشان وكونسيليير
وبالشر وهاياليتر وبرونز وارتكازات الال شيئية في سجع مارتن هايديجر عند املوائد
ً
الزجاجية للمطاعم املحجوزة مسبقا ،وفرو الثعالب خلف املوت بإرادة حرة.
والتوأمان تابعا دفن جثة من قتاله ،تابعا بدقة دفنه .لقد سار كل ش يء على ما
يرام .ولكن من يأبه لتربصهما عند الزاوية املظلمة و انقضاضهما عليه بمناديل
الغاز .برزت عروقه البنية على رقبته ووجه وباقي اجزاء جسده كأنما كانت تحاول أن
ً
تنجوا بنفسها .وتدلى لسانه املزرق على الجانب األيسرساخرا من ممش ى الغابة.
هنا ،حيث تبدو وكأن التراجيديا تبدأ اليوم وليس من عصر اليونان .وحيث الشر
ً
ليس شرا البتة.
ً
فتشا جيوبه وأخرجا مفتاحا من فتحة شرجه ثم غادرا والرائحة العفنة تتبعهما
حتى أن الكلبين البوليسيين امتنعا عن مالحقتها.
"ماذا يأكل هذا الكلب؟"
ً
"شيئا تعافه الكالب"
)(22
وكانت كرة العين الحديدية ال زالت في علبة الزيت .وهي تحاول مسح شفتيها
املشققتين بأحمرشفاه ،أو فلنقل بلون بنفسجي ،وتنتظرعودته املشمئزة.
وأسدل الليل أستاره ببطء على كوخ الغابة .ونام جميع األعداء وهم يحلمون
باصطياد بعضهم في صباح الغد حتى الغزالن التي تدعي البراءة.
"إن اإلنسان يصنع ماهيته" ،يقول سارتر بتفاؤل يحسد عليه .ويسند الولد
َ ً ً
قليا فيه.
ِ م يهتز والقمر األسود الزيت متأمال ذراعيه على سياج الجسر الحديدي
يفكرفي الطفل القادم ،والقرد على كتفه يبحث عن قملة يأكلها.
"السيدة كاميليا" ..يقولها بكامل أناقته وهو يحمل باقة ورد متنوعة األلوان.
ً ُ َ
نحـية باقة الورد جانبا وتقول: وتنظركاميليا عبرالنافذة إلى خارج الحانة م ِ
-ليس ابنك ..أن ممش ى الغابة ضيق ولكنه يتسع لجميع التأمالت.
ويحاول النظرإلى عينيها بال أمل ،فيغادر.
إنها اللعبة البرجوازية القديمة التي لم يستطع أن يجاريها أي حيوان له لغة .والقمر
وتلوح
ينقلي داخل صفحة النهر ،يهتز وينقسم إلى قطع زبد متموجة ومتوازيةِ .
ً
األسماك من األعماق للسماء وهي تبكي وتبتلع بعضها أيضا ،إذ ليس هناك تناقض
البتة عندما نقرأ نقوش الكهوف ،واملسالت ،واألهرام واملعابد وغير ذلك .ال تناقض
إذ كل األشياء تجثوا داخل مطاميرها قرب بعضها البعض .أحفاد ديدان الجو افة
يلعبون في بطن السمك .والراحة الصغيرة تصبح قبضة قاسية .فليس للنيازك أن
تخترق الغالف الجوي إال بعملية انتحارية متهورة .هكذا يتحدثون عن ُّ
الصدف،
والحياة ال تنحازلرأي ضد رأي بل تحتفظ بحيادها األزلي.
"الغابة غريبة هذا اليوم"
يقول القرد فيرد عليه:
"يأكلها املنطق"
"عليك أن تجرلسانك على األسفلت".
ويرتاب القرد ،لكنه يفعل ذلك على مضض .فيضحك الكلب من بعيد.
والدودة تصدرالبيان األول وتطالب بالعقالنية .وتقول وهي تحك أنفها:
ً
-الناس يتحدثون كثيرا ألن األمور ليست واضحة بالنسبة لهم .أما الحيوانات
والحشرات فال..
)(23
ويمض ي الولد قرب الكرس ي ،يصطاد رائحة اللحاءات الخشبية ،والطين ،وأوراق
القنب الجافة.
-لكن يا صديقي :ماذا يفعل العقل وحده.
ويقفزالقرد من شجرة ألخرى دون انتظارإجابة.
-عليك أن تلحس األرض كما كان يفعل كلبي الخائن.
-كان يتملقك ..أما أنا فال ..عليك أن تتقبلني كما أنا ألتقبلك كما أنت..
َ ُ
الطفل بذراعيه .ليمنع عنه البعوض املنتشر في الغابة .مع ذلك يظل ويحيط
ً
الرضيع صامتا ،وهو يتأمل مسرحية في السماء.
تتلبد الغيوم وتضحك وتقهقه وتبكي .تنسحب جماهير الطيور من ساحة املعركة.
وتختبي اليعاسيب تحت أوراق الشجر ،وتحبو الدودة لتهبط من ساق الكرس ي.
وتهتف الديدان من خلف الكواليس .ال تعيش األسود إال في البراري .كما ال تنمو
النقود إال في الحركة الدؤوبة .تتغذى على بعضها ،وعبرها تنمو غابات اإلسمنت،
واملالعب ،ويواصل صيادو األسماك حصد امليداليات الشفافة .ذلك أنهم أوالد
القرون املاضية كمزارعي األرز في فيتنام ومن يرتدون مريلة اإلعدام الحمراء ليقفوا
ً
تحت شرفات الجميالت النائمات دوما .ويرى الولد األشياء كما هي عليه .ويبحث
"أينا كان الخائن؟" .إن الحياة ال تعود إلى الخلف .ويدركعن الكلب بنظره فقطُّ .
ً
القرد ذلك فيسقط من الشجرة ويبدا في جرلسانه على الطين وهو يضحك.
"نحن صبية الضباب ..نحن صبية الضباب"
أنتم صبية الضباب؟!
"سرقت األسماك الطائرة الهاتف الوحيد في الغابة وهربت"
وتتموج أشباحهم السحابية بين األشجارحين يعبربدوي صحراءهم وهو يقود جمله
حتى ال يشعر الجمل بالسأم من وجوه التجار الصارمة" .فلتصنع لي بدل األقدام
ً
عجالت مطاطية ،وبدل الرقبة مقودا وعلق على السنام عالمة تجارية كي تواكب
العصر" .فيكتئب البدوي عندما ينهار عامله ويشعر بأنه غراب .وعندئذ ترتفع زوابع
ُ
الرمال القمعية إلى السماء ،لتطلب النجدة من امللكوت" .يا صبية الضباب ،إنكم
ً
تجلبون الخراب دائما" .ويغضب الولد من حديث القرد فيخرق أنفه ويدخل في
)(24
الثقب خشبة من عشوائيات شجرة املستكة" .لكي تتعلم الكالم" يقول الولد ثم
ً
يهرول خلف صبية الضباب حامال رضيعه بين ذراعيه.
الكالب ال تخون ،ولكنه الكلب الوحيد الذي يفكرباستمرارفي قتل صاحبه.
ً
ألن تأكال شيئا؟ ..ومن هذا الطفل؟ تقول صاحبة البنسيون ذات األثداء الكبيرة.
-ابني..
تمد يدها وتخلع أثداءها.
ً
-ألن تأكال شيئا؟ ومن هذا الطفل؟
-قلت لك إنه ابني..
خرج عصفورة من ساعة تعود وتجمع األثداء املطاطية وتحشرها تحت ردائهاَ .وت ُ
الحائط ولكنها ال تزقزق بل ترتد إلى الخلف بقوة ،ويصدر عن ذلك صوت تكة
صغيرة .ومن الركن يترنح رجل يرتدي بيجامة النوم املزركشة برسوم البطات امللونة
وعلى رأسه قبعة من ذات القماش .يطوح قدمه اليسرى ويتمسك بالصندوق الذي
تقف خلفه املرأة.
ال يوجد قمر في السماء ،وال تظهرالنجوم من فوق البنسيون الذي بال سقف.
ً
-عليكما أن تأكال شيئا.
وتبدو وقحة وغاضبة.
-ومن هذا الطفل؟
تهدر السماء بالرعد .فيخرج الولد والقرد من البنسيون واملرأة تالحقهما ثم تقف
أمام الباب.
ً
-عليكما أن تأكال شيئا.
ويسمعا تكة ارتداد عصفور الساعة الحائطية ،ألن نواة األرض توقفت عن
الدوران .ولكن الغابات والجبال تتحرك في السطح ومعها السحب والروبوتات
الحقودة .وتتمازج االتجاهات ،وتختلط األلوان عند الحانة ،والثنائي الشرطي
يقفان داخل الحانة ويدخل أحدهما يده ليحك خصية اآلخر .وهو يؤكد بأنهما
سيعيدان الطفل املخطوف إلى كاميليا ليكون عوضا عن ابنتها التي انتحرت بعد أن
أكلت يد الرضيع اليسرى .ويؤكد الثاني" :لقد تراجعت أسعار األسهم في البورصة
بعد كل هذه الحوادث املؤملة في الغابة" .فيتطاير البصاق من فم الكهل ،ويطالب
)(25
بسن قانون لتجريم كراهية الخنازير .فيصفق نصف البرملان ،ويعترض النصف
الثاني ،ثم يجمعون على سن القانون .وتبدأ مراسم االحتفال ،وتمتلئ القنوات
ً
الفضائية بالخنازير الباكية .وتصبح كاميليا رمزا للحرية .وتعلن الديدان تكوين
مليشيا بعقيدة قتالية هي الدفاع عن النفس .وتبدأ محاوالت دؤوبة لتحريك نواة
االرض بتفجيرات نووية متواصلة فتسقط الفتة الحانة الخشبية .ال ش يء في هذه
العبثية يثير الضحك .ألن وحدة الوجود تطبع ألوانها على كل حاويات الشحن فوق
السفن الضخمة .إنه عالم واسع حتى لو ظل القرد يجر لسانه طوال املمش ى .وال
ً ً
زالت األرض تطبع نفسها على حافة مجد مهزوم .ال زال للحب مكانا أساسيا في قلب
ً
الحروب .يعبر الولد املمش ى ،وتتنفس األرض صباحا ال يكدره الغدر ،فتنطوي
ً
صفحات قديمة بشكل مؤقت .واللثة التي ال تحمل أسنانا تضحك بأمل واسع.
فينظر الولد إلى األفق ويفكر في إيجاد ممش ى جديد للرضيع .ممش ى ال يمر بالغابات
املوحشة كممشاه ،بل باملروج .ويقول القرد :بدأت تكبر.
تخفف الشمس سطوتها وتسمح للغيمات القليلة أن تمش ي فوق رؤسهم.
ً
ال ينكسرحلم اإلنسان أبدا ..حتى وهو يلفظ أنفاسه األخيرة .فيلتفت للقرد ويقول:
ً
-لذلك ال تتحدث الحيوانات كثيرا أيها القرد ألنها ال تحلم ..هل فهمت.
يقفزالقرد فوق األشجارويرفع سبابته:
-فلتسقط كل املمالك واالمبراطوريات ..بيزنطة وفارس واألموية والعباسية
والعثمانية وليختنشتاين.
فيضحك الرضيع.
وتحتفل الغابة بالرضيع .تتنازل القرادة عن كرسيها ليجلس الرضيع ،وترش األفيال
املاء فوقه ،وترفرف اليعاسيب بسرعتها املجنونة .وتمتنع الحيات عن التهام
الضفادع ،وتمد األشجار الشوكية فروعها بأمان للعصافير والطيور .فليس للموت
عنوان.
ويقف الشرطيان على مفترق طرق مسفلتة ويمسحان عرقهما وهما يفتشان
بأعينهما عن اللص الغامض.
"إن األخالق نتاج من يرفضون االقتناع بالحقيقة".
"بإسم القانون ..أرفض ذلك".
)(26
ويرفع الوسطى ألعلى حيث تصبح السماء صافية أكثر مما يجب .فيقبالن بعضهما
بعشق واألحذية العسكرية املمزقة تغطس في الطين وتجرمعها الطحالب الخضراء.
وتغني األنفاس الحارة .الخوذات الحديدية املثقوبة تحتجز الدم ،وترتعش األصابع
ذات الخواتم الفضية .والشباب في املر اقص الليلية املتأللئة يحاولون تجنب فهم
الحياة .تهبط روح الفتاة من السماء" .مجرد خيوط من الحمض النووي نحن".
يقول لها الرضيع .فتبكي وهي تضحك.
ً
"ال تخض مغامرة الحب أبدا"
ثم تمسح على شعيراته القليلة برفق ،تقبله وتعود إلى السماء ألول وآخر مرة.
وتحدق سلحفاة معمرة في األفق.
كل األيدولوجيات تتبدد عندما ينبض قلب أحمر في ساحات الحب الخالية ..ترهن
الشتاءات معاطف الربيع واألكواب الساخنة على طاولة املقاهي في أطراف
املحطات البعيدة.
ً
"سأبقى وحيدا حتى املوت ..في انتظارك إلى األبد ."..يكتب ذلك دون أن يفكر.
ما هي الحياة؟ إنها إحساس فقط.
ويسير الولد والقرد بمرح حتى الركن الجنوبي الغربي من الغابة وهما يتبعان أغنية
ً
الولد الذي ال يكذب أبدا .والتي تغنيها جاكلي صانعة املعكرونة" .الولد الذي ال
ً ً ً
يكذب أبدا ..يعاني من كذب اآلخرين" .وتمنحهما طبقا واحدا من املعكرونة ذات
ً
الصلصة الحارة .كانت تلصق أقماعا على فوهة املفرمة ،وتقول :تخرجك فوهة
املفرمة في شكل دودة ،أو حمار ،أو قرد ،أو أسد ،أو أرنب ..فال تقاوم ألنك لست من
ُ
يصنع القمع.
-ومتى أصنع القمع؟
يسألها القرد فتقول:
ً
-لن تصنعه أبدا .يجب أن تودع هذه األفكارالشريرة..
وتضحك فتتساقط من فمها الحراب املسننة .إذ أنه ال شر وال خير في هذه الحياة.
وكتب جون ميلتون ملحمة الشياطين الصغيرة ذات الكروش الضخمة وامللساء
ً
ككروش الخرتيت .ومن كان مقتنعا بذلك أكثر من الخيام الرابض في تبصر اته
الباكية .ها هي حربة مسننة ذات حراشف ،وأخرى ملساء ،وثالثة مدببة ،ورابعة
)(27
مطروقة كخوذة جندي روماني صرعه أسالف الخيام .وتحشر جاكلي لقمة في فم
القرد فيمد لها مؤخرته" .هذا هو املكان الصحيح" .هكذا هي يا موليير .هكذا هي.
ً
فيتصبب الولد عرقا ويشرع في الهرب .لقد توقف عن التدخين ألنه يضر بالرضيع.
وفي كون مواز لم يكن هناك من رضيع ،بل مصانع للسجائر ،تحدد مصير القطب
َ َ
نق ُّ ُ
ض الكلب فيقبض بفكيه على عنق املتجمد ومصير قبلة في الهواء .ال تكتئب .وي
القرد ويخنقه حتى تسيل الدماء السوداء السامة ،ويموت ولسانه يتدلى من جانب
ً
فمه األيسر كزوج عشيقة املدير العام تماما .يسحب الكلب الجثة ويدفنها خلف
ً ً
شجرة وهو يتمتم بتعاويذ حزينة .ويظل الولد متجمدا" .سأسير معك" .تذكر دائما
إنه ممش ى الولد والكلب ..هكذا أسميته أنت ال أنا" .ينظر الولد إلى الرضيع ثم إلى
الكلب ثم يومئ برأسه ،فيجرالكلب لسانه على األرض ،ويسيران في املمش ى املجهول.
"ستحدث العدالة في العالم عندما يشنق جميع العمال والفقراء والبؤساء أنفسهم" ..هكذا
هو الخوف املتجمد .يمضغ الكلب الكالم وهما يشقان طريقهما بين قيعان الجثث الصارخة.
والباحثون عن وظائف شاغرة في الطوابير الخامسة يفتحون أفواههم املتعفنة لكي تنظفهم
ً
احتراما لتاريخ ُ
سيكتب في األوهام .هؤالء يتكدسون في مشارح الزهور ،ويخلع الولد قبعته
املستقبل .يمسح شعره الفلفلي بأس ى من العرق .وتضعف خطواته من األلم.
)(28
َ
"قتلت القرد" فيكتفي الكلب برفع لسانه واألشياء تأكل ذاتها ،وتغتصب ذاتها ،ألنها ال تشكل
كينونتها املحضة بإرادتها .هكذا هي القرارات السمجة عبر الزمان" .إنه الجنون بعينه" .يفتح
الرضيع فمه ليبتلع الظالم ثم يمد يده فينهش السماء بقسوة بريئة .ال حب إال هنا في هذه
الزاوية املنكوبة بالجائحات .ويرفع الجميع رؤوسهم نحو السماء ثم يخفضونها بقنوط صارم.
ً
تساقطت امليتافيزيقا العجوز ونمت أشجار من النعاس الغادر .فلنتلكأ قليال لكي نكون نحن.
يقول الكلب "أو ال نكون" .يريان لعاب الضباع وقفزاتها الرشيقة كاألجراس النحاسية املعلقة
في الكاتدرائيات القديمة" .من سيلتهم من؟ في هذه الحياة" .يرتدي الكلب جوارب الشتاء
ويلعق األرض بحذر.
()3
"هل نعود؟"
"هل نتوقف؟"
)(29
"األرض تسير تحتهما ،وتقفز الحقائب من السير ،الكبيرة والصغيرة ،الحمراء والكاروهات،
والبالستيكية والقماشية ..وتر اقبها العيون التي تفكر في أشياء أخرى كثيرة ،كحب التملك،
و افخاذ العروس السمراء ،وكرس ي القرادة ،ومكرونة مقهقهة ،ورمل أحمر ،ومشط بالستيكي
أسود ،وصراع الفيروسات مع كريات الدم البيضاء ،وحكم باإلعدام ،ومخاوف كثيرة أخرى ال
حصر لها .تزحف الظالل على السيراميك ،وتشع انعكاسات املصابيح البيضاء عليه كقيء
املالئكة .وتطؤها أحذية رجالية سوداء وكعب عال أحمر أنثوي .وتعلن عشرات الرحالت
موعدها وتخفي ماليين وجهها املصبوغ بأصباغ التجميل املنكسرة على ألواح حديد النو افذ
ُ
رخيصة الثمن ،واألعشاب التي تلقى بعد اقتالعها بال هدف تحت زوايا الجدران الحجرية
املتملقة النحدارات الجروف الصخرية فترقص معها؛ تدور وتنحني وترتفع وهي تلف خصرها
بذراعين صلدتين" .كانت كما يرى املرء في املنام".
" َ
وعبرت؟"
ُ " َ
عبرت واختفت وأدركت بأنني كبرت".
ينفض الكلب جسده فتتطايرالقرادات املنتفخة .وتغوص كل واحدة في كرة من الثلج الجاف.
"واآلن؟"
"ال أتذكر ..كانت هناك معركة في الغابة ..معركة كبيرة حين فقدت االسم"
وينظرإلى الرضيع.
)(30
وضحك..
إنه ممش ى بال نهاية ولكنه مكرر ،كإعالنات الحروب ،واألوضاع الجنسية .والحديث عن
التحضر ،ومعاييرالعصرالرومانس ي.
"روكو ال يموت"
واآلن؟
لقد نسيت .إن كل األشياء تتساوى عندما تخدم العبث .تكون الصدفة هي التي تجعلك تفتح
ً
عينيك لتجد نفسك إلها أو دودة ،وهكذا فهما متساويان.
"أخطأت"
تتقلص معدته فيئن ،وتتسرب مرارة إلى حلقه .بعد قليل كانت جثته تنتفخ ولسانه يتدلى من
جانب فمه االيسركاآلخرين .أما عيناه فكانتا رماديتين.
بكى روكو وهو جالس فوق تل رملي على جانب املمش ى والرضيع في حجره .ولكن عفونة الجثة
كانت أكبرمما يمكن تحمله فغادربصمت.
ً
كان املمش ى سابحا في ضوء الشمس .ورأى روكو أذنين طويلتين .ثم قفزأرنب بري وقال:
ً
-هل تريد رفيقا؟
)(32
-لساني قصيرولكنني سأحاول.
***
()4
في عود أبدي ،وكون مواز ،تبدأ القصص من جديد .تبدأ بحرب عظيمة ..كل ش يء ينعكس،
ً
بال رومانسية أبدا .يؤسس أفالطون لديستوبيا املوت .وتحكم البروليتاريا في جمهوريته.
ويستيقظ األلم في جيوب املساء املبعثرة على أشباح الصخور السوداء .ينعكس كل ش يء،
ينهض الكلب من موته القديم ،وكذلك الولد ،على أعتاب مؤامرة جديدة محفوفة بجهل
ً ً
املسببات ،بجهل األصالة ،الرسام يتضاءل وتنمحي اللوحات لونا لونا ،ثم تعود الورقة إلى
لحائها الشجري .وينعكس بدوره املمش ى الذي بال بداية وال نهاية .لذلك يقول الولد وهو يتقيأ
املوزة بقشرها:
-صحيح أنني بعد أن ذقت طعم وجودي فضلت عليه العدم ..لكن ماذا لو لم أخرج من العدم
إلى الوجود ؟ هل كان بإمكاني أن أعرف قيمة العدم وثرائه بالال ش يء؟
"سؤال ساذج" يجر الكلب لسانه ثم يتوقف فينبح نبحتين وينظر بطرفي عينيه الجزعتين
ً
دائما إلى صاحبه قبل أن يطأطئ رأسه مرة أخرى ليجر لسانه على األرض وهما يسيران
بظهريهما إلى الخلف .وتتقلص األشجار .تقفز جثة القرد ،وتنمو زهرة البنت ،ويختفي
الرضيع .فيحملق الولد في كفيه بخوف.
)(33
يسقطان .القائد يطلق رصاصته على األسير بسرعة ويستولى على علبة سجائره ثم يدخنها
بنهم .فتنهض أشباح الجند ،وتحلق حوله .إنها النهاية ،فيتقيأ الخمر كله دفعة واحدة .وتهوي
ً
عصاة رقيقة على الطبل .يحرك الشاب فخذه متتبعا اإليقاع .إن املوسيقى أزلية لكنها لم تكن
ُ ً
وجزء منه .ترفع الفتاة تنورتها ،وتخرج آللئ أسطورة مقدسة البتة ،كانت متوائمة مع الو اقع،
من بين فخذيها وضابطي شرطة ،يخرجان دائخين ومترنحين "رائحة زكية" .الغربة العارمة
تدفن نفسها تحت تراب املمش ى .وكل الكون املوازي ينتفض فتتطاير نقرات الجيتار حوله.
ً ُ ُ
"كلني ..كلني"" ..ال أستطيع أن آكلك" ..يصبح لسان الكلب ُمجرحا .فيرفع رأسه وينتحب" .ال
ً
تتأنسن مرة أخرى"" ..إنها معضلة ..معضلة حقا" .الكتب الجديدة تحترق ..ورائحة األلوان
تنتشر في الجو وتخترق خنادق النمل املجنح فيختنق جانب كبير منه وتهرب قلة إلى األسفل.
وتدور القلوب داخل الخالط فيضحك العجوز ذو اللثة الخالية من األسنان" .سائل من دم
ً ً
القلب" .ليس بديال عن األوميجا ،ليس بديال عن ش يء جيد .وتعبث الرائحة الذ ِفرة بابتسامة
العجوز .تجثوا الخنازير على مقدماتها وتعطي العجوز مؤخراتها فيضحك بسعادة ويفرك
ً ً
ذكره .ومن الزقاق الشرقي ،تخلع فتاة حذاءها طويل العنق لتبدأ عمال عابرا بثمن بخس بعد
ليلة طويلة عامرة بالركود ،فيتوقف الولد والكلب ويحدقان في املشهد" .هل هذه حياة أم
موت؟"" ..بحسب" يهمس الكلب .للحقيقة وجوه عديدة كما يقول هوجو" ،حتى األلم؟" يقول
ً ً ً ً
الكلب "لست متأكدا" .ويبدو الكون املوازي مهووسا باإلنعكاس محاوال إلباس العبث نظاما
ً
معنويا.
وكانت األرض خصبة بالدم ،بالرياحين الثلجية ،وبو افر االنعتاق في الرقصات اإلفريقية
ألشباه العراة وهم يقلدون أصوات حيواناتهم بمهارة فقيرة ويحرقون الشوك ليستنشقوا
دخانه .كانت األو اني الفخارية تنقع في الرمال ،لتقطر نبيذ السمسم .ولم يكونوا يعرفون
الكتابة ألنهم لم يكونوا يعرفون الحزن بعد .هذا كان قبل عصر الحكماء الخمسة ،أو اآللهة
ً
الخمسة الذين جابوا الكرة األرضية .ومن هنا تشكل املمش ى الذي لم يعد مقدسا ،إذ عبره
قراصنة الرمال وعاهرات الطيور ،والجنود األغبياء ،واملجانين ،وصانعة املعكرونة ،وماسحو
األحذية ،والعازفون والطبالون وزمرة القراد امللكية ،والعروسان املنتحران ،ودببة القطب
املتجمد ،وضارعات اسخيلوس ،وحجيج املعابد واألضرحة املباركة .وفي هذا املمش ى -كما
يحكي العجوز للولد والكلب -مش ى الشيطان نفسه وخلفه سار أوالده العشرة آالف ،وزوج في
نفس هذا املمش ى ابنته الوحيدة لعموتارح ولفاوست بعد أن مات عموتارح وملئات آالف
آخرين ،وتأسس محفله العاملي على من قطعوا أيديهم دليل اإليمان ونكران الذات .والذين
)(34
ً ً ُ
أمروا أن يمشوا ليدونوا تاريخا مزيفا للعالم" .لست وحدكما من مشيتما في هذا املمش ى"
وتفوح من تحت جلبابه املمزق رائحة عفنة ،ثم يخرج منها خنزير صغير تضرج خداه بحمرة
ً
الخجل وعبرهم مسرعا فتجهم وجه العجوزوطردهما.
وعلى دقات الطبول تقافزا وهما يسيران ،وجلجل الولد بصرخة منتعشة ،وتثاءبت ديدان
الطين .ثم امتألت مثانة األحجار بشعالت صغيرة .فأخذ الكلب يحدق في صورة وجه الولد وفي
وجه الولد بحيرة" .هل رأيت وجهك من قبل؟" ..تسلق الولد شجرة الجو افة وقطف واحدة
وغمس فيها وسطاه وشم الرائحة فأبعد وجهه عنها" .أوف ..ال ..وال أريد"" .أال تشعر
بالفضول؟" أخذ يمخرالثمرة ويفلطحها ليرى الدود .الظمأ مندس هناك ..مندس في كومة من
املناخات املضطربة .وشاحنة بيضاء متهالكة تحمل األثاث الفقير عليها" .لو عاد لن يجدنا".
ً
ولكنه لم يفكر حتى في العودة .كان الحب مؤملا بالنسبة ملن لم يعتد عليه من قبل .إنها فاجعة
و إيقاعات سريعة ترهق األعصاب الذهبية .تنحني الشاحنة وتغوص عجالتها في ربيع من
ً
األمل كاملعتاد" .إن الحياة حسرات متجددة ..هذا كل ش يء"" ..إنه ال يكرهك ..أبدا لم
يكرهك ..حتى قبل أن تموت ..األشياء تتضاءل في الحقيقة عبر الزمن وال تكبر" ..وتر اقب عبر
النافذة ممش ى الرمال الحمراء بلون الشفق .يشمر الكلب قميصه من األسفل ويرفع قدمه
ليتبول ولكنه يتوقف ويحدق في السماء ثم يتلفت حوله ولم تخرج قطرة واحدة منه" .لقد
ُ
أصبت بالبروستاتا" ..ويهبط الولد من الشجرة ويسير بقفزاته املرحة في املمش ى ،فيتألم
ً
الكلب ويعصر لسانه على األرض سائرا خلفه.
***
والغرفة مظلمة ،بنافذة واحدة مغلقة وزجاجها املبخر بالتراب يسمح بضوء أصفر مكتوم
يتلصص على الداخل .هناك رائحة خل .خل محض تنبعث من تحت مفرش مترب فوق
طاولة خشبية دائرية تتسمر كصنم في املنتصف ،فوق املفرش تفاحة جافة ومقضومة
قضمة صغيرة ،تلتصق بها خيوط عنكبوت ثم تسافر طائرة بزاوية خمس وأربعين درجة حتى
أقص ى الركن العلوي للسقف .ويبدو هيكل لسرير ما ..سرير صغير املساحة وقصير إذ ال يسع
ً ً
إال فتاة في السادسة عشر أو خنزيرا مدجنا .األرض مغطاة بمشمع بالستيكي ممسوح بأتربة
دقيقة الذرات .وعلى املمش ى أن يلتف حولها ليواصل امتداداته السخيفة اململة كقصص
ً ً
ِبلزالك وهو يجرع من زجاجته ويضرب نقدا ذهبيا على طاولة القمار فتتبدد داخله القيم،
وينحاز تارة للحب وتارة لالنتقام من الذات .ونقطة الضوء الحمراء تتبدل لخضراء ثم تتبدل
الخضراء لحمراء ثم تهجع األشجار متينة الخشب متحدية مفترسات الغابة .غير أن صدى
)(35
األغنيات يتأرجح في السماء ،ويلون رتابة املناخ الصيفي .وحين يكسر الولد باب الغرفة تنطلق
صرخة الفتاة العارمة فيتراجع الولد ويهرول ويتبعه الكلب الذي يفشل في تثبيت لسانه على
ً
األرض" .لذلك أكره البيوت" ..وتظل صرخات الفتاة تنطلق بألم شديد" .هل رأيت شيئا؟"،
"ليس بالضرورة أن ترى لتؤمن" .يتوقف الكلب ويضحك ويتبعه الولد في الضحك وهو يفرش
كفيه على بطنه ويحني ظهره إلى الخلف باغتباط .يحلب الكلب مثانته ليخرج البول املحتقن
أثناء ضحكه .ويقترح الولد إدخال قشة في ذكره لتسلك له املجاري فيخاف الكلب وتتسع
عيناه ثم يضع لسانه على األرض ليغيراملوضوع.
ً
"إننا ال ننام أبدا ..أال ترى الهالل األزرق املشع يكاد يالمس طرفه الحاد أنفي" .يمدد الكلب
جسده على األرض ويغفو أو يحاول أن يغفو رغم صرخات الفتاة التي تأتي من بعيد" ..علينا
أن نغلق الباب على روحها الناسكة" .وال تتوقف آالم األشياء و أقالم الرصاص املنكسرة على
ً ً
شفة قرمزية ناعمة .هناك أسئلة ،دائما هناك أسئلة ،أسئلة بائسة عبثا تحاول ملء
الفراغات والتجاويف السوداء في حيطان الوجود العجائبية .ربما يهرق عليها كافكا وغيرهم
ً ً
بعضا من بصاقهم املحفوظ في براميل التعتيق اللغوية .غير أن هذا لن يكفي أبدا .إن املمش ى
ً
ينحرف دائما ،ويغتسل برائحة رطوبة القراميد املنهارة ،والتناجي بين العروسين املنتحرين.
كل األشياء هي كما هي ،كانت كذلك ،بل حتى عندما تكون فإنها تكون ألنها هكذا يجب أن
ُ
تكون .ولذلك يصرخ املدان وحبل املشنقة ُيلف حول رقبته .فمن يقتل الفتاة يجب أن ُيقتل.
ً
وهكذا يموت اثنان بدال عن واحد ألن العدالة هكذا تقول مرددة أقوال كانط املثالية .لم
ً
يقتلها السكين بل الحب املغدور .فسيقانها كانت رقيقة جدا كساق اليعسوب ،ونهدها متكور
ً
كليمونة مقرفة .أشياء ال تشبه إفريقيا كثيرا .وال تشبه أي ش يء في الو اقع .يمتص التكرار
ُ
العمر وحبكات املسرحيات األثينية .كانت غلطة كبرى ،ويضرب املدان جبهته على جدران
سجى على السرير الخشبي" .لن يصدقوا أنها انتحرت" ولكن الغرفة وهو يبكي وجسد الفتاة ُم ً
أي حتمية مغفلة تلك التي تفتقر إلى كل منطق الدنيا .ويحاول الولد تثبيت الباب على
ً ً
الجدران الواهنة دون جدوى فيركله غاضبا ثم يتركه ويعود إلى املمش ى متجاهال الصرخات
املزعجة.
ً ً
لم يكن ذلك تحديا ،بل محاولة للتجاوز .إذ على الولد والكلب أن يقفزا دوما فوق املكعبات
ُ ً
الحادة .وال يمكن التغلب عليها إال باعتبارها لعبة ،وليس تحديا .وصمت النهار يرفرف على
القباب والصروح واألضرحة وشواهد القبور ،فعلى الضفة الشرقية تنساب الستائر
املصنوعة من الكتان املتين وتنغمس في نهر الرمل ،تبتل به وتعود لتزكم رائحة الند الهندي
)(36
األنوف .يجلجل جرس املعبد ،ويصطف الغلمان متماثلي الرداء .ويبدأ طابور التعذيب .ألن
اآلباء يعلقون أحالم النجاح على مؤسسات محددة مضحين بالسالم النفس ي .فتدور مروحة
السقف ببطء ،وتنساب قطرة عرق من وجه الرجل الذي يسحق طفال تحت بطنه .ويأكل
الفزع الليل ،حتى ال تتجانس ثمار الرمان مع بيئتها ،تنعزل وتحتاط لنفسها بالبكاء املرير.
وتحرك الخنازير شفاهها القذرة" .سوف ترى أيها الولد معنى الحياة الحقيقي" .ويختبئ
الكلب وراء ظهر صاحبه ولسانه ينجر في األرض بوهن .وتدخل أفواج من القردة معابدها
املنحوتة في الهواء .وال فرق بين الحجر والعدم ،فكل جوقات املسرحيات القديمة كانت تهرج
من أجل االنغماس في معنى مختلق .وينفض الكلب رأسه ويفكر في الهجوم على شمع النحل.
ً
ثم ير اقب بنهم" .إنك ال تفكرأبدا يا روكو" يصرخ ويبكي فيتجمد الولد.
ً
"إنك ال تفكر في اآلخرين أبدا يا روكو" ..يضحك الولد ويمتلئ صدر الكلب بالغضب والحزن.
ولكن كل السحابات البيضاء تجمع ذراتها من األرض ،وتحلق تحت أجنحة البط البري .فهناك
زهرات منقوشة على الدوالب األبيض ،الذكرى القاسية ،وقميص تركوازي منشور فوق كرس ي
ً
أبيض أيضا .وطاولة كي ،وسلة قاذورات تنفتح بدوسة قدم .وحقيبة تتشتت داخلها وفوقها
مالبس .وحاسب آلي ،وعلب سجائر وأعقاب سجائر ،وقلم حبر ال يعمل ،وقداحة صفراء،
وحزام ملقى فوق بنطلون على السرير األبيض ،وتحته مالبس أخرى ،ونافذة ُّ
تطل على كتلة
أسمنت خرساء ،ومروحة ومصباح نيون ،ومصباحان أعلى السقف على جانبي املروحة،
وهناك صندوق بأدراج ال يعرف أحد ما بداخلها ،ولكن فوقه قبعة رياضية ونظارتان ،وراوتر،
ض ِيق بقبعة طرية معصورة بين الباب وإطاره .وهناك نقوش لزهرة اللوتس في كل مكان وباب ُ
ً
وكأنها مقبرة فرعونية .كل هذه األشياء ال تعني شيئا له .فهو يلون سماءه باملوسيقى كما يردد
ً ً
دائما ،وبالتفكيرفي خطورة النمل املجنح خاصة في الخريف .وهناك كراسات وأوراق أيضا .وفي
الخارج تمتد مساحات شاسعة من مكعبات الخشب املدفونة حتى ثلثها في التراب الساخن .وال
ش يء داخل تلك املكعبات كرسائل أو رسالة فلسفية ،إنها هكذا ،ش يء فوضوي كيفما اتفق
لها أن توجد .ويقبض الكفان الشابان على مقود السيارة الرياضية ،ويعلوا صوت موسيقى
الروك في الداخل ويكتمه الزجاج السميك عن الخروج .وتتطاير الشرارات تحت اإلطارات
فتصرخ الفتاة مغتبطة ضاحكة وتنحني على صدر الشاب وتفرك له شعر صدره وتقبله .كل
بعناية مصانع الشركات العابرة للقارات .وتفرم املاكينة
ِ املجون يتطاير مع املعدن املسبوك
الضخمة كف رجل فيغمى عليه ُويطرد من العمل .والقضاة يتهامسون ويتهامسون وهم
متجهمون كاملعتاد .وفي حمام املحكمة يجر الفتى الفتاة وينغمس معها في الجنس والتدخين.
)(37
ويشاهدهما كبير القضاة من شاشة أمامه فيفتح سوستة بنطاله .وبأصابع مرنة ومحترفة،
تتوزع أوراق الكوتشينة والنقود الخضراء .وتفور زجاجات الجعة .فتخمد أنفاس متعفنة في
األزقة مطفأة املصابيح .واملصابيح الزرقاء تنير الهايبر ماركت الضخم واملول والكازينو وطوابير
السيارات التي تزحف أمام شبابيك أكشاك بيع األطعمة السريعة ،ورو ائح العطور الفرنسية
تفوح من بين أثداء امرأة أربعينية وتهرب عبر النافذة وتخلق دوامة لركاب الطائرات والسفن
الفضائية والعمال الهنود الذين يحملون العامل مفروم الكف إلى املستشفى .يلهث الكلب
من فوق برج شاهق العلو ،وترفرف ياقة قميصه بصفعات الرياح الباردة .وينظر الولد
ً
لألسفل حيث نقاط ضوء صغيرة تتحرك جيئة وذهابا ،وعطر الالفندر يطرد البعوض،
وينظف أفخاذ اليعاسيب الليلية.
ويموج الدخان في كل مكان واألصابع املزينة بالخواتم الفضية تقص السجائر وتطوف به في
رحالت سريعة بين الفم واملنفضة .وتسقط خارج املدينة ،املدينة املزهرة بالقسوة واالغتراب
األبدي .إنها خيار الال خيار .تصرخ الفتاة مغتبطة ضاحكة وتنحني على صدرالشاب وتفرك له
شعر صدره وتقبله كما تفعل مع غيره .فينبثق من بين الظلمة جلباب مزركش الحواف
ً
بترميزات الهوتية ،وينسدل شعر أبيض على الكتفين تاركا مساحة صلدة والمعة في املنتصف
لتجرب حظها .يرفع السيد يده أمام وجهه ليصد ضربة ضوء ما عن عينيه وتتراخى ذراع
أنثوية ناعمة .يصرخ الكلب بخوف ويتسمر الولد في انحناءته "دعنا نغادر" ،يفعالن ذلك
بدون تردد .ولم يهدأ قلبهما إال حين ملحا مخروطيات السيكاديا من بعيد" .ما املعنى من كل
ً
ش ي؟"" ،كل ش ي؟! كل ش يء؟!" ،وعصب الحياة ينساب من بين الجبال أبيضا بخمر بلدي
ً
ودوران النرد حول نفسه ضاحكا ..إنه يلعب النرد ألنه هو النرد نفسه .والعيون املغولية
ً
املخططة كاملحار ال تهتم .ال تهتم أبدا بصخب فقاعات الروك .بل بينابيع البحيرات املالحة
وتجفيف السمك الدهني .بالطعم الحقيقي لألشياء ..وتتضخم كالورم لتبتلع األيام بوحشية
متعاظمة.
)(38
هناك أواليات كالجوع ،تحالفات مرحلية تعطي أفضلية للحكايات الطويلة .ولذلك كانت
ً
الحصاة تمنح اتزانا للصخور املترامية على بقاع الجدب .وهنا بالتحديد ،يتخافت أثر املمش ى
رغم كثرة الطراق ويستحم األفق بلهب الشفق ،فينعكس كل الكون على الحصاة امللساء
وليس وجه الولد فقط ،فحتى الكلب يرى ذاته فيها وتظل الكينونة مندسة وراء لسانه الجاف
وخلف عيني الولد امليتتين .أرواح العظايا البالية تتبعثر في السماء بروائح الجمر والشعر
املحترق ومشية النعام في البراري قرب الجواميس الوحشية .حيث يكون النوم أشد املهددات
ً
خطرا للجميع .وإذ ينكسر املمش ى يتنفسان الصعداء .وتنموا هياكل السمك وامللح متراصة
ً ً
فوق بعضها لتشكل جدارا سريا للذين كانوا هنا من قبل انحسار التنورة عن جسد األرض
العاري .ويضطجع السالم والحرمان في مضجع واحد ليتقاسما صمت الكآبة .لكن ،كل هذا
ُ
ليس بش يء ،فاملهم هو األسرة ،وينخس العجوز الخنزير ويدخله تحت جلبابه" .الفاميليا قبل
كل ش يء" .العزوة ،القوة ،الكر والفر والهزيمة النكراء .الهزيمة املخجلة من شدة قذارتها
ومرارة الفاجعة .حينئذ تختفي الحشرات ألنها ال تريد أن تسمع أكثر من ذلك .فتنكسر األقالم
ً
ويوضع الكتاب بال أجل لبعث جديد .فليس إال منزال للخوف ،للضرب اليومي ،للسكر ،واألم
الخائنة .حيث تخفي الغابة كل البؤس متجملة بالوحشة وبموسيقى البلوز و انحسار امللح
عن شواطئ البحر الرملية في غروب يعوي بالريح والبرد .إن القبعات مؤقتة ،واألقمصة
املزركشة بالورود امللونة هي كذلك مؤقتة .ولكن القرار بالفرار محسوم حتى ال يتحول إلى
أغنية شعبية كمنزل الشمس املشرقة .ومن النقطة األولى ،حيث ينطبع أثر القدم الصغير على
ً
مفرش الخالص ،ترتسم مالمح قصة جديدة ،مكررة ولكنها أقل ملال من عدم قول ش يء .إنها
ُ
ليست حياة بل مسرد حكائي .تتوهم فيه كل الشخصيات كاستحضار أرواح األسالف.
فالسبابة يجب أن تلمس ذلك الفراغ وتسافر املوجات الدائرية مبتعدة عن مركزها .ترتعش
وجنات الولد ،ولكنه ال يبكي .كان ينظر إلى عينيها عبر النافذة ورآهما تحثانه على الفرار
بصمت .كانت كجاموسة برية تحدق في صغيرها بين فكي املفترسات .وحتى في الجنازة وقفت
بصمت وخشوع واآلالت توقفت عن العمل ،والتف العمال حول املقبرة وهم يبتسمون" .إنه
ً
لم يكرهك أبدا حتى قبل وفاتك وبعد وفاتك" .ثم يتهاوى جسدها النحيف وتسقط عينها
الفوالذية من محجرها .ومعها تبدأ اآلالت الضخمة في العمل ،تسقط األوتاد الحديدية على
بعضها وتقطع الكتل صفائح الحديد األرق بأشكال مختلفة ،ورود وتيجان ملكية ،وزخارف
عربية وكريات يتم تلوينها ُببهيات الحديد املخصوصة .والحاسب اآللي يرصد األرقام ويحولها
ُ ُ ُ
إلى نقود وصراعات ال تحتمل ولكنها تحتمل في نهاية األمر ،يجب أن تحتمل.
)(39
***
ً َ َ ً
"أصبحت ضعيفا" ثم يستدرك الكلب"كنت أقوى حين كنت طفال" ،يحدق الولد في النبع
ً
الك َبر ..الحب ..أولها وأخطرها ..الطموح ..واملعاناة من الخيبات
ساهما "دخلتك أمراض ِ
ً
املستمرة ..وهكذا تتعلم الخوف الذي سيوقف رحلتنا في املمش ى" .رفع الولد رأسه متحديا
ً
شيئا ما "تعبت"" .ليس أكثر من لساني" ..يلتفت إليه وينظر إلى عينيه بجفاء "لسانك ال
يفكر" ..يعودان للنظر إلى األفق "التفكير ..مرض إضافي" ..وينمو حائط املبكى حول القصور،
والجدران العالية الالمعة والباردة ..تختفي املعطيات القديمة ،وتتجلى الذكرى خلف ضوء
الشموع ..ويربت السالم على األفئدة في أدب التعفن ..حيث تبلى اللغة وتفقد طبقيتها
ً
واحترازاتها ..ليس نتاجا ملساواة عابرة بل عن وعي أكبر ..فهم أكبر يتلصص املساحات بين
أشجار الغابات كلما مض ى بها الوقت .نقار الخشب يفقد السيطرة على منقاره ويسقط
ً
جريحا ،تلتصق العناكب بشباكها وتختنق حتى املوت ..تبتلع االسماك املاء وتنفق مرتفعة إلى
السطح ،وكل ما يتأنسن يخسر" .هل نواصل املش ي؟" .يلقي الولد بحجر على سطح املاء بغير
اكتراث "ال أعرف"" .ماذا لو شنقت نفس ي كما فعل العروسان؟" ..ولم تكن هناك فائدة ترجى
من فرد الفطائر بلفها بصباع واحد ،وال فائدة من قفزات البهلوانات ،وال كل الحركات
اإلغوائية التي تقوم بها املومسات ..لذلك تنهض من نومها وتحدق في السقف وفي جسدها
العاري والبارد .وخلف املحيطات تنهض مومس أخرى ،ثم ثالثة فرابعة فخامسة وهكذا بال
نهاية" ..إنه يوم الثورة ..ثورة املومسات" اعتصمن بغرض رفع األتعاب والتحرر من سطوة
املمش ى التاريخي .ويتبول الكلب بصعوبة دون أن يرفع قدمه ،إذ لم تعد من فائدة ترجى من
رفعها .يحاول بعدها عدة مرات أن يقفز فوق الشجرة ،وهناك في األعلى يصيح "من مدير
اإلدارة إلى رئيس القطاع بصورة إلى املدير التنفيذي ورئيس مجلس اإلدارة ..تحية طيبة،
املوضوع ."..:يصمت ويفكر في املوضوع .يضحك الولد ،ويترك النبع ليلحق بالكلب فوق
الغصن "خدر الصباح ...وبعض النعاس مالزم لجفنيك ....هذا الشعور املفرط في النبل ...
كيف يخسره العمال واملوظفون وهم يهجرون ساعات ما بعد االستيقاظ ...ملاذا عليهم أن
يعملوا؟" ،ينبح الكلب ألول مرة في الكون الجديد؛ ويستنفر عضالته الواهنة .ينتبه الولد
ً
ويرى القرد" ..مزيد من التكاليف" ..ثم يطيرويختفي بعيدا عن نظرهما .يصيح الكلب" :كلب"..
ً
فيتأمله الولد ويقهقه" ..أصبحت كوميديا" ..في هذا الكون املوازي ،تنعكس األشياء لكن
انعكاسها ال يمكن الشعور به ،فاألشياء تظل كما هي عليه ،فانعكاسها ليس سوى وعي مجرد
ً ً
وليس انعكاسا فيزيائيا رغم أنه كذلك .فلعبة االحتماالت تفض ي إلى حركة دائرية داحل حدود
)(40
ً ً
املوجود بالقوة والفعل .واالنبثاق ال يعني أي تحوالت جوهرية ال حلوال وال تجسدا بل يسقط
الثلج بغزارة في الربيع ،وتجف األزهار الحمراء كشفاه لم تتذوق طعم القبالت من قبل.
يمكنك في الو اقع أن تضع كل األشياء في أماكن متبادلة ولن يحدث ذلك أي قلق لدى زبائن
الكون .ويتحرك جفن الولد األيسر "ستلتقي بحبيب قديم"" ..إنني أفضل أن ألتقي بأعدائي
عن الحبيب القديم".
ً ً ً ً
ويمتد املمش ى بعيدا ،يعلو ويهبط ،ينعطف يمينا تارة ويسارا تارة أخرى أو يمض ي متعرجا أو
ً ً ً ً ً
مستقيماُ ،معبدا في بعض األحيان مطروقا فقط في أحيان كثيرة ،خاليا موحشا في أغلب
ً
األوقات ،محزنا كذلك وقد تنكسر فيه بعض قطرات الندى .ومن على جانبيه كان صبية
ً ً
الضباب يوما ما يرقصون ،أما اليوم فإن هناك رؤوسا تنبت وتتبخر فجأة ،رؤوس ضاحكة
وباكية ومتقيئة ومشمئزة ،بأعين أو بأنوف ،أو بال مالمح ،أو مجرد أحرف للغة مجهولة ،أشياء
ُ
وأشياء ،ألم وألم ،حب ،وخذالن ،وتقارير سرية ترفع ضد آخرين في املحال التجارية والجيران
واملر افق الحكومية والوزارات ،تعذيب ووالدة ،أشياء وأشياء وأشياء تتبأر في نقطة كثافة
َ ُ
صغيرة عابرة إلى عمق كينونة الولد والكلب ،تغذي الشرايين والعروق ،فيكبران بالهم .تخفت
ً ً
قليال ولسان الكلب تمزق حتى لم َ
يبق منه إال ثلثه .إن لم تكن سيدا ِحدة خطواتهما ،يتكاسالن
ً
قويا فأنت ُمهان ُ
ومذل ال محالة ،وال خيار ثالث ،إن لم فأنت عبد وال خيار ثالث .إن لم تكن
تملك إال قلبك القوي فأنت مشاكس تافه كالقرد الذي يظل يتابعهما باستمرار في كل مكان.
"ملاذا ال تمش ي معنا" وتجزع عيناه وهو ينظر للكلب الذي يشير بإيماءة من رأسه "ليس لدي
ً ُ
مانع" " ،ستأكلني؟!"" .لن آكلك ..أصبحت عجوزا في الوقت الذي أصبحت أنت فيه أكثر قوة
ً ً
وشبابا" .لكن القرد يقفز من شجرة إلى أخرى ويختفي بكل حذر .كان مشتاقا للمش ي معهما
بالفعل" .يمكنك أن تتخذ قراراتك بكل عقالنية ولكن النتائج ستكون غير عقالنية ..حينها
تفقد فرصة املغامرة" .ويدخالن إلى مقهى للكالب عند انحراف املمش ى إلى الغرب أو ربما
الشرق ،ويجدان العديد من الكالب بأسيادها من البشر يجلسون على املقاعد قبالة بعضهم
البعض والطاوالت تتوسطهم وفوقها طعام للكالب "طعام شهي"" ..بكم الوجبة؟" يجيبه
ً
النادل :مجانا ..ال ش يء هنا بالنقود ما عدا تكاليف حجز الطاولة واملقاعد ودورة املياه
والخطوات من الطاولة إلى أي مكان آخر داخل املقهى وكسر الصمت بالحديث إلى بعضكما أو
مع النادل ،ورفع اليدين لتناول الطعام ،ومد الخطم داخل الطبق ،وهناك تكاليف بسيطة
لغسل الصحون امللوثة بلعاب الكالب والبشروتكاليف أخرى ولكن في حالة التقيؤ على الطبق
ً
فقط ..كل ش يء مجانا ..وهل هناك ش يء في هذا العالم له ثمن سوى الحياة نفسها؟ .وتتطاير
)(41
األطباق وتخوض املرأة ذات العين الفوالذية معركة أخيرة ،وتنتصر وتسقط ،وتسقط جثة
ً
الرجل .تتآكل األحالم القديمة يوما بعد يوم ،تصبح اللغة صعبة ،تثقل األلسنة وتصرخ
سقط أحرفه ،على اللهب ُ
القلوب ،وترحل اليعاسيب إلى وديان املوت والنار .وكتاب مقلوب ،ي ِ
ً
العالق في الحص ى .والنار تظل هي النار ،مقدسة دائما ألنها رمز للحياة واملوت والدمار والبناء
وتدخين األرجيلة ،والقتل املتسلسل .وكازينوهات الكائنات اللزجة.
ً
كل ما يمكنه أن يبكي تراه هناك في هذا العبث ،وليكن عبثا .عندها .وتحت قديمها ،وبين
ً
فخذيها ،وشفتيها ..كل ش يء محطم يزداد تحطما ،بما في ذلك السفن الحربية الخشبية،
وقلوب املراهقين ،والطبول ،واملسارح ،ومكبرات الصوت ،والصواريخ الفرط صوتية،
واألدمغة البشرية" .في هذا الكون ال توجد قرارات محسومة إنها مضطربة ومشكوك فيها
ً
دائما ،ولكنها محمية بالتعنت فقط" ويرفع العجوز قدميه فتخرج الخنازير وراء بعضها في
ً ً
طابور طويل ،فيضحك مقهقها "هلموا فاملمش ى ليس ملكا ألحد" ويرى أسنانه املتوهمة
تسقط في حجره" ،عمري طويل" وينظر بعينين بارقتين إلى نقطة مجهولة أمامه حين يسمع
غناء جاكلي "هذا العالم مقسم إلى عبيد وأسياد؛ وعين الحكمة أن تعرف موقعك من ذلك..
أنت ومعكرونتك العفنة إلى الجحيم" .يجب أن تحذف منهل أنت سيد أم عبد؟"" .فلتذهبي ِ
القصص ساعات النوم والعمل والدخول إلى املرحاض والخروج منه ،هذا وغيره مما يمليه
تشذيبها من العبث وتبئيرها في زوايا استعباد النص ،واملروق السمج من وإلى لعنة الحزن.
ً
تلك التجريبية التي تجعل كل من الولد والكلب ال يتضورون جوعا للفناء ،وصبية الضباب
يستلقون في مقابر الضوء ،وهم يبعثرون شعورهم املضفرة بأشعة القمر الزرقاء .وتجعل كل
ش يء يستلقي معهم على فوهة التفاهة ،ودقات اإليقاعات النابضة كل صباح باألمل والبؤس
ً
والصحو .لقد نبتت عروق على ذراع الولد ..صارت نافرة ومتشعبة .مع ذلك ،يظل الولد ولدا
هنا وال ينغمس مع الرسامين املنكوبين بجائحة التعبير على األسطح .كانت قرية الفن
ً
النموذجية والتي أنشئت بعد الحرب تعبيرا عن القنوط من األفكار واملفاهيم القديمة
ُ
املتعالية ،كانت تلك القرية تقبع خلف التالل الخضراء ،وكانت تحترق .فقد فشلت تجربة
محاكاة عالم املثل بل أفضت لحرب أطول من املعتاد" .اإلنسان هو اإلنسان يا ولدي"
فيحييانه ويغادران القرية بال أمل في ارتداد الزمن إلى فلسفات الحياة املتفائلة" .إننا ننتحر
ببطء" وير اقبهما بصمت فتلك اللقاءات املرحلية املؤقتة مهمة إلعادة تقييم موضع السيف
من الندى.
)(42
ً
نعم ..تثقل الخطوات يوما بعد يوم حين يكتشفان أن العالم ال يحتمل اإلنكشاف بقبح ُعريه
على األدمغة املترهبنة ،حتى أن املوت ال يضحى املعضلة الكبرى كما كان في السابق .ولذلك
يظل الكلب يجر الثلث املتبقي من لسانه ولكن ليس كما كان في السابق ،ويتوقف الولد عن
قطف ثمار الجو افة كما كان في السابق ،بل ينهار فجأة ليبكي كأرملة فوق جثة زوجها الجندي.
مع ذلك فإن ساحة الحرب مليئة بجثث أخرى وأرامل أخريات وربما في هذا فاجعة وعزاء في
ً ُ ً
نفس الوقت ،فالعبث ينزع –رويدا رويدا -إلى رسم أطره املستقرة مقاوما انعدام املعنى؛
وهكذا ُيمنح الولد والكلب فرصة خلق ماهيتهما ولو في األذهان فقط .نعم فقد كان صبية
الضباب يرفعون أذرعهم ويوسعون ما بين أقدامهم ُويرعشون أكفهم ويقفزون على
ذلك الوضع يمينا ويسارا ،ثم يدورون حول أنفسهم وتصيح جدران الهواء "كرانكا..
كرانكا أوب زيلي ..كرانكا أوب زيلي" ..وتضحك الفتاة الصقلية ذات الشعر األحمر
السرة .وما يمكن أن يطلقوهي تمسك بطنها لتحجز انسياب دمائها الزرقاء من ثقب ُّ
عليه َ
أيض األحاسيس بال تردد .كل ذلك انتهى اآلن ..انتهى بال عودة .وعلينا أن ال
ً
نفكر في النهايات أبدا ..علين أن نمض ي في ذاكرة املمش ى ..ممش ى الولد والكلب؛
لنحصد ثمار األفكار الشفافة ..أفكار الحب والكره والحياة واملوت فينظر الولد إلى
األفق كما صار يفعل باستمرار ..كان يرى والده هناك في السماء ووالدته ذات العين
الفوالذية مرتمية في أحضان املالئكة اآلخرين وعيناها ترجو منه الرحيل .وفي تلك
ً
اللحظة تحديدا ينمو لسان الكلب من جديد ..فيواصالن املش ي.
(تمت)
)(43