You are on page 1of 4

‫لطالما أحببت المشي في المطر‪.‬لكن ليس هذا اليوم ‪...

‬أنه اليوم الثالث على التوالي الذي أقصد فيه مقر شركة رائدة في‬
‫المقاوالت و ال أجد رب العمل‪.‬يقع مقرها على أعلى التلة المقابلة للحي الفقير الذي أسكن فيه‪.‬كنت أرقب هذه التلة المليئة‬
‫بالمنازل الفاخرة منذ أن كنت صغيرا‪..‬كل مساء أصعد لسطح المنزل و أحلم أن أشتري بيتا بين هؤالء القوم الرائعين‪.....‬‬

‫اليوم مختلف فقد تم قبولي في الشركة ‪.‬أظن بسبب إصراري و عدم يأسي من التقدم إليهم مرات و مرات‪.‬اليوم األول في‬
‫العمل كان يتردد دوما في ذهني‪.‬التعرف على زمالء العمل رائع دائما في مخيلتي فهم أناس ذوو تجارب و شخصيات‬
‫مختلفة‪.‬مثقفون‪.‬يعتنون بهندامهم و نظافتهم الشخصية‪....‬أناس بعيدون عن رواد المقاهي الشعبية المليئة بالبطالين الذين‬
‫كنت منهم باألمس‪.‬‬
‫في أول دخول لي رافقني المسير الى قاعة المكاتب مسؤول الشركة الرئيسي ‪ .‬كان تجاذبنا ألطراف الحديث يتمحور حول‬
‫جو العمل‪.‬كان يحاول تحضيري نفسيا و كأنني سأتلقى صدمة قوية!!!!!!‪...‬لماذا‪.‬فزمالئي في نهاية جامعيون مثقفون‬
‫مهندسون و دكاترة و من عائالت ميسورة الحال‪....‬صحيح أنني لم أرتاد الجامعة ‪.‬لكن عندي تصور مسبق عن اإلنسان‬
‫الذي يفني عمره في العلم و العمل بأنه انسان محترم و متفهم ‪......‬‬
‫كان هدفي من هذه الوظيفة جمع المال من أجل شراء خاتم ‪.‬ألحفظ ماء وجهي عندما أتقدم لخطبة فتاة أحالمي التي تسكن‬
‫في الحي المجاور‪.‬كان علي أن أسرع قبل أن يسبقني إليها خاطب أخر و أصبح ضحية حب عذري كروايات الجيب التي‬
‫تملئ غرفتي‪.‬‬
‫لحظة أن وطئت قدمي القاعة الكبيرة ‪.‬صدمتني نظرات ثاقبة خلف المكاتب و شاشات الحواسيب‪...‬نظرات متفحصة لي‬
‫من أخمص قدمي الى تالبيب شعري‪...‬قدمني المسؤول إليهم‪.‬و يا ليته لم يفعل فالكل إنصرف الى أعماله دون إكتراث‪...‬لم‬
‫يكن منظري مع مالبسي المتواضعة جذابا جدا لكنه أيضا ال يستحق مثل هذا الترحيب البارد‪...‬إخترت مقعدا قرب النافذة‬
‫تطل على حديقة عصرية متعوب عليها فقد كانت األغصان مقلمة ببراعة و تشقها ساقية صغيرة يمتد فوقها جسر حجري‬
‫صغير تم تزيينه بحجارة كلسية تم جمعها من الجوار ينتهي الجسر الى طريق صغير يمتد الى ظاللة مغطاة بالقرميد‬
‫الفاخر‪....‬في اإلطاللة األخرى من المكتب أستطيع رؤية الحي الفقير بوضوح‪...‬مقهى عمي عزوز ‪.‬لقد إفتقدني‬
‫بالتأكيد ‪.‬كنت دائما مع إثنين من أبناء الحي نلعب معه الدومينو الى منتصف الليل‪...‬و بالمقابل يسمح لنا بالجلوس مجانا‬
‫فقد كان أغلبنا مفلسا ‪.‬بالكاد تسمح له ميزانيته بشرب شيء‪....‬علي أن أغير مجامعي‪ .‬فال يعقل أن أبقى مع هؤالء العاطلين‬
‫‪.‬و أنا الذي أطمح للنجاح و إخراج عائلتي من منزلنا البالي الذي ورثناه عن جدي‪.‬بدال منهم علي التعرف على أناس‬
‫مثقفين و ميسوري الحال كزمالئي الحاليين‪........‬‬
‫قابلت المدير اليوم ‪.‬رجل خمسيني سمعت عنه الكثير قبل مقابلته ‪.‬رجل ناجح جدا يدير ‪ 6‬شركات في الوقت نفسه‪.‬أكاديمي‬
‫‪....‬فهو دكتور حائز على شهادته من جامعة أوربية عريقة‪.‬مكتبه مليء بالتحف المتنوعة من الطراز الفيكتوري إضافة‬
‫لبعض التماثيل الخشبية تبدو وثنية و بشعة‪.‬‬
‫إتضح لي أن الرجل أكثر من كتب ديل كارنيجي فهو ال يتوقف عن ممازحتي و اإلبتسام لي بأسنانه البيضاء المنتظمة‬
‫على ذلك الفك المربع‪.‬‬
‫تسارعت األيام أكثر من أيام البطالة التعيسة مع عمي عزوز و باقي الشلة‪...‬كانت محصلة لقائي برب العمل مشجعة فقد‬
‫وعدني بالمساندة دائما في ما يضمن له دوام اإلنتاجية‪...‬مع مالحظة صغيرة ‪.‬قالها بإقتضاب (أخبرنا عن أي شيء سيء‬
‫يقوم به زمالئك‪ .‬و هذه ليست بوشاية )‪.....‬صدقا إن لم تكن وشاية فماهي مثال !!!!!!!!!‬
‫كانت محصلة كالمه جميلة منمقة بعضها مستعارة من كتب اإلدارة الناجحة‪....‬لكنها تفي بالغرض إلستقبال شاب يافع‬
‫متحمس للحياة و العمل‪.‬‬
‫واضبت على المجيء باكرا كل يوم‪ .‬أمر على بواب أسود البشر كثير النظر الى المارين بطريقة مزعجة تدفع الى عدم‬
‫اإلرتياح ‪.‬إكتشفت الحقا أنه أكبر واش يمكن أن يقابله المرء‪.‬مرة وشى بي لدى رب العمل لمجرد أني لبست سرواال‬
‫قصيرا في أحد أيام الصيف القائظة‪.‬أدخل الى مقر الشركة في الطابق الثاني من بناية صغيرة‪.‬حينها يواجهني مكتب واسع‬
‫تجلس فيه فتاة ذات قدر من جمال و دائمة اإلبتسام بطريقة واضحة اإلبتذال‪.‬‬
‫أسمها خديجة‪.‬عملها ادارة و تسيير المكتب ‪.‬أعطتني قائمة بالوثائق الالزمة للتأمين و التوظيف الرسمي في هذه‬
‫الشركة‪.‬كانت دائما ما تتعمد أن تنظر مباشرة في عيني ‪ .‬تلك العينان العسليتان مع حاجبين دقيقين يكادان يحيطان‬
‫بعينها‪..‬رسالة بأسلوب قديم عفى عليه الزمن‪ .‬تريني حليها و خاصة كفيها الفارغين من أي خاتم ‪...‬وددت اآلن لو أقولها‬
‫لها بصراحة‪.‬لم أكن ذلك الساذج سهل الصيد و لست مهتما بعالقة عابرة مضيعة للوقت مع فتاة الباربي هذه ‪.‬لم يكن غير‬
‫العمل يشغل بالي ‪.‬كما أن قلبي كان ملك تلك الفتاة المتواضعة إبنة الحي الشعبي المجاور‪ .‬كنت سمكة تونة عنيدة متجهة‬
‫الى المحيط ال يهمها صغار األسماك و ال القروش المتربصة في األرجاء‪.‬‬
‫كنت أحب العمل بشغف و أكثر من ذلك أحب اإلنتهاء منه بسرعة و ذكاء‪.‬كنت أحضر مالبسي و أختارها بعناية فائقة‪.‬و‬
‫أغسلها كل ثالثة أيام ‪ .‬و أرشها بعطر رجالي فاخر‪ .‬كنت أنيقا بطريقة كالسيكية منفرة للبعض ‪.‬لكن الجود بالموجود حتى‬
‫على النفس‪.‬‬
‫أغلب العمال الجدد كانوا من ضواحي المدينة‪.‬وجوههم شاحبة جدا ‪.‬خاصة عند الصباح‪ .‬يركبون الحافلة لمدة نصف ساعة‬
‫يوميا حتى أثر ذلك على مشيتهم ‪.‬بعضهم كان يحضر مشروع تخرجه في هذه الشركة‪.‬كانوا صامتين دائما‪.‬مجرد أالت‬
‫بشرية بال مشاعر ‪.‬كان العمل معهم جحيما و شرا ال بد منه ‪.‬أول صدماتي في هذا العمل كانت األجور‪....‬أجر صغير ال‬
‫يتناسب مع الوقت و الجهد المبذول ‪.‬لم يكن أكثر من اجر البواب تقريبا‪.‬و مع ذلك العمال صابرون على هذا اإلجحاف‬
‫الكبير ‪.‬فعملي وحده فقط يدر على رب العمل ماال وفيرا و مع ذلك كان نسبتي من األرباح هي أجرا قليال و ثابتا غير قابل‬
‫للزيادة‪.‬‬
‫بدأت أختلط بالزمالء مع تقادمي في العمل‪.‬بقي أكثرهم ينظر لي بإنتقاص فأنا لم أكن أضاهيهم أناقة و ال تعليما‪.‬و أغلبهم‬
‫متحررون ماليا ‪.‬يعملون لتحسين سيرتهم الذاتية قبل أن يفتحوا مكتبا خاصا بهم‪.‬ال شيء يثير إهتمامهم بفتى فقير متوسط‬
‫المستوى التعليمي‪.‬و لديه سرواالن يتناوب على إرتدائهما األسبوع كله‪.‬لو كان مظهري مناسبا ربما تقبلني هؤالء‬
‫المتعجرفون‪.‬حتى في الخرجات الميدانية نفس المعاملة أتلقاها من أؤلئك الحمقى المرفهين‪ .‬من جانب أخر كانوا ال يتقون‬
‫هللا في أموال رب العمل فكل ما يبقى من ميزانية المهمة ينهبه مسؤول المهمة ‪.‬شاب الضواحي المتأنق الذي يبقى في‬
‫جناح مكاتب النساء أكثر من جناح الرجال‪....‬كان يسجل كل تفاصيل المهمة بما فيه تصرفاتنا الشخصية كذلك !!!! و‬
‫يقدمها على طبق لرب العمل‪.‬في منتصف النهار نتجه للمطبخ ‪.‬لعل الطباخة طهت شيئا يسكت جوعنا حتى المساء‪.‬لكن‬
‫دائما نجد طعام رديئا ينقصه الملح و بنكهة صناعية ‪.‬ألنه خال من اللحم‪.....‬نعم خال من اللحم !!!مع أن مداخيل الشركة‬
‫كافية لذبح بقرة كل ثالثة أيام‪.‬‬

‫الكل هنا رسمي في اإلبتسامة و إنتقاء الكلمات ‪.‬ال يوجد مكان للعفوية في هذا المكان‪.‬مجرد كومة من النفاق المبتذل و‬
‫التمثيل السيء‪.‬لدرجة أنني صرت أحفظ ما علي قوله‪...‬صباح الخير كيف حالك‪.‬يوم جميل مساء الخير جو رائع‪...‬كم هو‬
‫مثير لإلحباط تكرار أن تكون تلك الجمل هي كل كالمي معهم يوميا‪.‬أنا عفوي و حيوي بطبعي‪.‬هذا ماجعل تلك الفتاة‬
‫تنجذب إلي على ما أظن‪.‬لم يكن بيننا إال النظرات البعيدة خلف الزجاج المصمت فهي كاتبة في البلدية ‪.‬كنت أقابلها كلما‬
‫أحتجت وثيقة ما‪.‬أو حتى دون حاجة كنت أفعل ذلك ألتمكن من رؤيتها‪.‬صعب أن تقابل من يعجبك لدرجة أن يكون توأم‬
‫روحك و ال تتمكن من الكالم معه اال بشكل رسمي أو مجامالت خفيفة‪.‬كنت أعرفها من قبل فهي جارة أحد أصدقاء‬
‫الطفولة ‪.‬و لعبنا مع بعضنا كثيرا ‪.‬لم أكن أتوقع أن تكبر لتصير بكل هذا الجمال الطبيعي ذلك الجمال الذي يحتاج الى عين‬
‫متذوقة للفن لتقديره حق قدره ‪.‬‬
‫كانت ال تحادث الشبان اال في إطار العمل‪.‬و ال تسير في مجموعة أبدا‪.‬شخصية إنطوائية آسرة‪.‬كنت أراقبها و هي تشتري‬
‫إفطارها من محل مجاور ‪.‬تفضل القهوة بدون سكر ‪....‬مثلي تماما‪.‬إنها قوية و ضعيفة جدا في الوقت نفسه‪.‬ال يجرئ‬
‫شخص يحترم ذاته قليال على معاكستها في الطريق‪.‬فقد كان عندها حضور طاغ يجبرك على مراقبتها من مسافة أمان‬
‫معتبرة‪.‬إستمريت في مراقبتها كلما توفر لي وقت بعد الدوام‪.‬‬
‫كانت زوجة رب العمل هي من تدفع مستحقاتنا المالية و تفعل ذلك بطريقة خبيثة ‪.‬تلك المرأة األربعينية الجميلة ‪.‬حسب‬
‫الشائعات فهو كان يحبها من أيام الثانوية‪...‬هذا مطمئن ‪.‬نعم هؤالء القوم عندهم قلوب و يحبون بهاالبشر و ليس المال‬
‫فقط‪.....‬كانت طريقتها في دفع المستحقات‪.‬أن تنادي على كل عامل وحده في مكتبها و تدفع له مستحقاته‪...‬لم أفهم حينها‬
‫سبب هذه السرية المبالغ فيها ‪.‬كانت قادرة على إرسال ظرف لكل عامل الى مكتبه‪.‬‬

‫صار روتيني الدائم‪..‬هو التنقل بين العمل و المنزل ‪.‬لم أعد أجلس مع أخواتي الصغيرات‪.‬أبي نادرا ما أراه‪.‬فأوقاتنا في‬
‫العمل متقابلة ‪.‬كنت أتجاهل أفراد شلتي القديمة‪.‬حتى من أقابله وجها لوجه أحدثه بكل برود‪.‬رغبتي في التسلق الى أعلى‬
‫تدفعني الى ذلك ‪.‬سامحوني ‪.‬ال مجال لي للتحدث مع أمثالكم‪.‬حتى أنه شاع عني أنني صرت متعجرفا أو أنني أصفي‬
‫سجل معارفي إستعدادا إلفتتاح مشروع كبير في المدينة ‪.‬و أن غناي المتخيل فجأة كان نتيجة معامالت مشبوهة‪.‬الفراغ‬
‫السائد في األحياء الشعبية هو سبب إنتشار اإلشاعات بكثرة هنا‪.‬مات أب أحد األصدقاء من شلة عمي عزوز‪.‬لم أذهب‬
‫للجنازة‪.‬بل أنني مررت ثالث يوم على منزلهم و مجلس العزاء مازال قائما‪ .‬لكنني كنت مسرعا الى العمل‪.‬و لمأكن مهتما‬
‫بغير العمل‪.‬‬
‫كان رب العمل بارعا في اإلدارة ‪.‬يختار العمال من أبناء قبيلته لتنقص العصبية بين العمال و ليخلق جوا من التكافل‬
‫األسري المزعوم ويبعث روح العمل الجماعي فيهم و ليستغلهم أحسن إستغالل كذلك‪...‬في كل شركة هناك واش واضح‬
‫يتجنبه الجميع و عشرة مجهولين يخبرونه بالصغيرة و الكبيرة‪.‬كان يختار باق عماله من الطالب الفقراء الذين يسكنون‬
‫الضواحي ألنهم اقل فئة يمكنها المطالبة بالزيادات في األجور‪.‬كان يكثر من الخدمات الضرورية نقل غداء‪.‬رصيد هاتفي‬
‫مجاني‪.....‬الخ‪...‬و كل ذلك ليفرض و يشرعن أجوره الزهيدة على العمال البسطاء ‪.‬‬
‫بدأت أتثاقل في النوم كل صباح ‪ .....‬عانيت من األرق كل ليلة‪.‬كنت أضغط على نفسي بالعمل‪.‬بالتأكيد أعجب ذلك رب‬
‫العمل ‪.‬لم يكن يهمه طبعا حتى لو أعوج ظهري من اإلنكباب على الحاسوب فهو يراني و الحاسوب على حد‬
‫سواء‪....‬مجرد ألة لجني المال‪.....‬في إحتفالنا بعيد مولده لم يكلف نفسه عناء اإلبتسامة فشدة العنصر المتملق طغت على‬
‫جو اإلحتفالية‪.‬‬
‫عجزت عن تكوين صداقات معهم و حتى أدنى درجات اإلحترام و التأقلم‪ .‬الكل فض و حاد الطباع‪.‬عكس مظهرهم‬
‫الخارجي الجميل بأجسادهم الرياضية و لباسهم العصري من أفضل الماركات العالمية‪.‬‬
‫إعتمد علي المسؤول في كثير من المهمات نظير إجتهادي في التعلم و التطوير من نفسي و أصبح يستشيرني في العمل‬
‫دون الرجوع لغيري‪......‬وصفة مثالية لتفجير ينابيع الحسد و الدسائس‪.‬في هذا البالط الملكي على الطريقة العصرية‪.‬‬

‫كنت أكره مجالستهم‪.‬يتجمعون كل يوم بعد خروج رب العمل الى الشركة المجاورة‪.‬و إنشغال المسؤول أو ذهابه في‬
‫موعد‪.‬‬
‫كل كالمهم عن األبهة التي يعيشها صاحبنا و كيف يقضي أيامه و عطله‪.‬و كلما إنتهى الكالم يذكي ناره‪.‬شاب الضواحي‬
‫المسمى بفؤاد‪.‬كان يتنقل بين المكاتب بكل أريحية‪.‬و يتصرف و كأن المكان ملكه‪.‬عندما يبدأ حديثه معي‪.‬أتقزز من إهتمامه‬
‫المزيف‪.‬و إفتراءه على الناس‪.‬و األدهى أنه يقول نفس الكالم السيء و اإلفتراء عني أمام األخرين‪....‬سبحان هللا كيف ينام‬
‫أمثال هؤالء في الليل‪.‬تسبب فؤاد بطرد عدة عمال قبال ‪...‬وشى بهم الى المدير‪.‬الذي كان يثق به ثقة عمياء ‪.‬ربما ألن‬
‫وشاياته دائما تكون صادقة و إن كان فيها الكثير من المبالغة‪.‬‬
‫لم أسمح أن يتم التحكم بي‪.‬حرصت على أستفادتي من كل التسهيالت المتوفرة‪.‬و لم أكن أتأثر بهيبة المدير عند دخوله علينا‬
‫و كنت أحدثه بكل راحة و ببعض المراوغة أحيانا‪.‬عكس البقية ‪...‬يصيبهم الدوار عندما يدخل علينا ‪.‬ال يجيدون التعبير عن‬
‫وضعية العمل عندما يسألهم عنها‪....‬و كأنهم لصوص وقعوا بيده من شدة ثقل ألسنتهم عند مخاطبته‪.‬بينما لسانهم سليط‬
‫على المنظفة و الطباخة!!!!!‪.‬كانوا حثالة بإختصار‪.‬‬
‫إ‬
‫كتشفت مع مرور الوقت أنني مراقب في كل تحركاتي من الجميع ‪ .‬كأنهم ينتظرون زلة مني لينقضوا علي ‪.‬كان البعض‬
‫من الحياديين ينقل لي األخبار بأنتي أستفزهم‪ .‬و أنني صرت هدفا لهم‪.‬و األدهى أن سر طريقة دفع المستحقات هو أن‬
‫زوجة رب العاملة تضاعف راتب الوشاة و المتملقين‪ .‬كنت أعمل و أجتهد أكثر منهم ألكتشف بعد ذلك هذا الخبر‬
‫الصادم‪.......‬من شدة سوداوية هذا الوسط بدأت بوادر الكآبة و اإلهمال و التمرد تلوح في األفق‪.‬كانت خديجة تسألني بكل‬
‫حشرية أسئلة ال تنتهي و كنت إجيبها بكل أمانة علها تبتعد عني و تذهب إلزعاج شخص أخر‪.‬كان الجميع يتغامزون و‬
‫يتملقون كأننا في بالط أحد السالطين‪.‬‬
‫بدأت المعاملة تتغير شيئا فشيئا ‪.‬فصرت أستجوب كل أسبوع و تراجع إنتاجيتي كل مساء من طرف رب العمل و زوجته‪.‬‬
‫إستغربت ذلك فأنا أنشط من الكثير مع أن مظهري ناعس و مكتئب‪....‬إشتد الضغط و الرقابة على شخصي مع األيام‬
‫لدرجة خانقة حتى رب العمل صار ال يكلمني و ال يشاورني كعادته‪.‬كان طرف الخيط الذي أمسكته يوم إدعت علي فتاة‬
‫من الضواحي بأني أضيع الوقت صباحا قبل الدخول للعمل و إن انتاجيتي متعثرة مؤخرااا و األهم أنني أسرق أعمال‬
‫الموظفين و جهودهم و أنسبها إلي‪....‬قمة الصفاقة من تلك الفتاة البشعة ذات العينين الغائرتين‪.‬لم أستطع الدفاع عن نفسي‬
‫فقد تم تصيدي بعناية عندما قمت بأخطاء روتينية يقوم بها أي عامل معاصر في أي شركة‪.‬‬
‫كان محرك الدمى بما فيها الفتاة القبيحة هي خديجة الحشرية و التي تتلقى المعلومات الحصرية من كلبها األليف (فتى‬
‫الضواحي المتأنق)‪.‬و هو نفسه كان يقابلني بإبتسامة عريضة كل يوم ‪.‬و ضحكة صفراء على أي نكتة سمجة يسمعها من‬
‫شلته المكونة من الكسالى و المرفهين ‪.‬يستحيل أن يرتاح هؤالء الناس فكل الناس عندهم صنفان‪ .‬إما منافسون لهم أو‬
‫بائسون يجب إزاحتهم من الطريق‪.‬إشتقت للحي البائس‪.‬فال أحد هناك من هذه النوعية ‪.‬هناك إن كان لك عدو ‪.‬تجده واضحا‬
‫و أذاه مباشر‪.‬بل و تجد عنده من كمال المروءة أنه ال يفتري عليك و يقول عنك ما ليس فيك‪.‬بالرغم أن أغلبهم قليل العلم و‬
‫الثقافة فأغلبهم لم يدخل الثانوية‪.‬لكن صفات رائعة كهذه‪.‬تكون نتاج تربية صحيحة في بيئة خالية من األطماع و الشهوات‬
‫المجنونة‪.‬‬

‫خسرت ثقة رب العمل طبعا فتقارير الوشاية الكاذبة كانت ال تهدأ‪.‬كان الجو مرضيا ‪....‬لم يتوقف السباق المحموم إلرضاء‬
‫رب العمل و زوجته باألكاذيب و التملق‪ .‬و إزاحة أي منافس محتمل بكل الوسائل القذرة‪...‬لم أكن مثلهم و لم أستطع أن‬
‫ألعب لعبتهم و أرد عليهم بالمثل‪.‬رغم أنني متدني المكانة اإلجتماعية و أقرب الى الهمجية مني الى التحضر في‬
‫نظرهم‪.......‬بالطبع تم طردي بأسلوب لطيف من الشخص الذي إستقبلني أول يوم و هو المسؤول الرئيسي‪...‬قال لي و أنا‬
‫خارج ‪...‬لقد حذرتك من جو العمل بين هؤالء الضباع البشرية من أول يوم ‪.‬أخبرته أن تحذيره بال فائدة فقد جبلت على‬
‫الصراحة و عزة النفس و التعفف عن السرقة و الخيانة‪......‬فكنت مقيدا ال أستطيع الدفاع و رد الصاع صاعين‪.....‬كل هذا‬
‫العداء و الهجوم الشخصي علي كان لسبب واحد‪.....‬أن إجتهادي و تفاني الواضح في العمل و أمانتي لمال الشركة‪...‬عرى‬
‫كسلهم و تخاذلهم و قلة مروئتهم‪.‬‬

‫أثناء خروجي توقع الجميع أن يروني منكسرا أجر ذيول الخيبة لكني لم أسمح لهم بأن يعيشو اللحظة ‪.‬خرجت من الباب‬
‫الخلفي و سلكت طريقا خاليا الى الحي يمر بمنطقة صناعية في أطراف المدينة ‪...‬إشتقت للعم عزوز و ضحكاته‬
‫الهستيرية ‪..‬هو و باقي الشلة ‪...‬بالرغم من أنهم عاطلون و فقراء و بالرغم من بساطتهم في التفكير‪...‬إال أنهم لم ينزلوا‬
‫أبدا‪ .‬للدرك الذي نزل اليه مدعوا التحضر هؤالء‪.‬الطريق الى الحي صار طويال ‪......‬إعتذرت من شلتي ‪.....‬لكنهم‬
‫تجاهلوا إعتذاري و إستمروا بلعب الدومينو‪....‬إنها طريقتهم في قبول اإلعتذار‪.......‬مقهى عمي عزوز صار أكثر دفئا‬
‫رغم أننا في عز الشتاء‪.‬‬
‫إحتاج أبي لبعض المال لكن إبنه البكر خذله ‪.‬إحتاجت أختي كذلك ماال يساعدها على متطلبات زفافها لكن خذلها نفس‬
‫اإلبن‪.‬رغم ذلك فنحن ندبر أمورنا و نعيش حياة بسيطة و سعيدة في بيت جدي البالي‪......‬‬
‫خطبت الفتاة التي أحببتها من رجل ميسور الحال من والية بعيدة عنا‪.‬و تزوجت بعد مدة صغيرة‪...‬صارا حبا عذريا كما‬
‫خشيت دائما‪.‬هنيئا لها‪ ....‬أتمنى أن تعيش بسالم بعيدا عن معركة الحياة التي خرجت منها جريحا‪.‬‬

You might also like