You are on page 1of 4

‫لم يفتح عينيه الكليلتين إال صباح الغد على جلبة السيارات‬

‫وضجيج المدينة‪ ،‬يتأمل شاردا حزين العينين‪ ،‬هائما في عالمه‬


‫وأفكاره‪ ،‬متقوقعا على ذاته‪ .‬راح يفكر في أيام طفولته وربيع‬
‫عمره‪ ،‬في حياته التي ضاعت سدى‪.‬‬

‫إنه طوفان عارم يشل إرادته‪ ،‬ويغرقه في أمواجه الصاخبة‪،‬‬


‫ويقذف به هنا وهناك‪ .‬وجد نفسه ضائعا بين األزقة الملتوية‬
‫الساجية‪ ،‬باحثا عن مقهى "العروبة"‪ ،‬مقهى صديقه المقرب‬
‫المعطي‪ ،‬الذي كان يرتاده كثيرا قبل سنوات غيابه‪ .‬كان كل‬
‫الناس ينفرون منه عندما يستوقفهم ليسألهم عن مكان المقهى‪،‬‬
‫جراء مظهره المريب والمخيف وهيأته الغريبة الغامضة‪.‬‬

‫كان أسمر البشرة‪ ،‬متوسط القامة‪ ،‬ضامر العود‪.‬‬

‫مرتديا مالبسه الباهتة البالية التي خرج بها من بيته قبل خمسة‬
‫عشر حوال‪ .‬ترى األلم والشجن باديين على مقلتيه الغائرتين‪،‬‬
‫تحت حاجبيه العثين األشيبين‪ ،‬وعلى جبينه العريض خطوط‬
‫نحتتها السنين الموجعة حاملة بين طياتها ذكرى ومعاناة‪...‬‬
‫بعد ساعات من البحث الطويل والمشي المتعب وجد المقهى‬
‫أخيرا‪ ،‬ظل واقفا أمامه يحدجه وعلى وجهه ابتسامة عريضة‪.‬‬
‫فقد وجد أخيرا من سيرشده ويدله على أسرته الصغيرة التي‬
‫يشتاق إليها ويتأسف لفراقها‪ .‬دخل عالل المقهى وتوجه صوب‬
‫شاب ثالثيني كان يجلس منعزال في الزاوية وقال‪:‬‬

‫‪" -‬السالم عليكم يا بني‪ ،‬هل يوجد صاحب المقهى السي‬


‫المعطي؟"‬

‫‪"-‬وعليكم السالم‪ ،‬لقد ذهب إلى بيته قبل قليل‪ ،‬ماذا تريد منه‪،‬‬
‫فأنا ابنه؟ «‬

‫‪ "-‬هل هذا أنت يا مراد؟! " صاح عالل في دهشة يخالطها‬


‫الفرح‪ ،‬فارتمى عليه يحضنه والدموع تنهمر من مقلتيه‪.‬‬

‫ثم أردف قائال‪ " :‬لقد كبرت وصرت رجال يعتمد عليه‪ ،‬أين أجد‬
‫والدك؟ "‬

‫‪"-‬لقد مر وقت طويل منذ غيابك يا عمي عالل‪ ،‬حتى ظن الجميع‬


‫أنك مت‪ ،‬أين كنت كل هذه السنوات؟ "‬
‫‪"-‬إنها قصة طويلة يا بني! وهذا ليس الوقت األنسب ألرويها‬
‫لك‪ .‬أريد رؤية المعطي أوال‪".‬‬

‫‪"-‬حسنا‪ ،‬تعال معي إلى البيت لترتاح قليال فأنت تبدو مرهقا‪،‬‬
‫وتلقى أبي‪".‬‬

‫وظل طول الطريق صامتا يتأمل الشوارع المكتظة المزدحمة‬


‫وناطحات السحاب الشاهقة‪ .‬حتى توقفت السيارة‪ ،‬ثم دخل عالل‬
‫وراء مراد إلى البيت‪.‬‬

‫وكان الحاج المعطي جالسا في البهو‪ ،‬وما أن لمح عالل حتى‬


‫انتفض قائما وقد اتسعت عيناه في ذهول‪.‬‬

‫‪"-‬أ‪..‬أ…أهذا أنت يا عالل !؟ أين كنت يا صديقي؟ لماذا رحلت‬


‫فجأة وتركتنا جميعا‪ ،‬وتركت أسرتك وهي في أشد الحاجة إليك!‬
‫"‬

‫أطرق عالل رأسه في أسى ثم قال‪ ":‬لقد كان ذلك خارجا عن‬
‫إرادتي! "‬
‫ثم ارتمى على صاحبه وضمه إلى صدره بشدة وشوق‪ .‬وجلسا‬
‫معا يتبادالن أطراف الحديث‪ ،‬وحكى‬

‫عالل لهما قصته المؤلمة التي غيرت مجرى حياته وجعلته‬


‫يعيش بعيدا عن أسرته وأحبابه‪.‬‬

You might also like