You are on page 1of 32

‫قصص قصيرة من ‪ 100‬قصة مختارة‪ ،‬بقلم هنري‬

‫‪ .1‬هدية المجوس‬
‫‪ .2‬عالمية في مقهى‬
‫‪ .3‬بين الجوالت‬
‫‪ .4‬منور الغرفة‬
‫‪ .5‬خدمة الحب‬
‫‪ .6‬خروج ماجي‬
‫‪ .7‬الشرطي والنشيد‬
‫‪ .8‬مذكرات كلب أصفر‬
‫‪ .9‬شراب الحب إليكي شونشتاين‬
‫‪.10‬الغرفة المفروشة‬
‫‪.11‬الورقة األخيرة‬
‫‪.12‬الشاعر والفالح‬
‫‪.13‬التجول في افاسيا‬
‫‪.14‬تقرير البلدية‬
‫‪.15‬برهان الحلوى‬

‫هدية المجوس‬
‫دوالر واحد وسبعة وثمانون سنتًا منها ستون سنتًا على شكل بنسات‪ ،‬هذا هو كله‪ .‬والتي جمعت بعد‬
‫عناء ومجادالت مع الجزار وصاحب البقالة وبائع ال ُخضار‪ .‬ثالث مرات أعادت ديال حسابه‪ ،‬لكنه ما‬
‫زال نفسه‪ ..‬دوالر واحد وسبعة وثمانون سنتًا هو حصيلة ما كانت تملكه لـ عيد الميالد الذي سيأتي في‬
‫اليوم التالي‪.‬‬

‫ولقد كان جليًا كفاية أنه ما باليد حيلة لجني المزيد من المال‪ ،‬األمر الذي جعل ديال تتخبط على األريكة‬
‫الصغيرة المهترئة في حيرةٍ من أمرها وتطلق التنهيدات العميقة‪ ،‬والذي يثبت أن الحياة ما هي إال‬
‫رحلة شاقة مليئة باألحزان والصعاب‪.‬‬
‫إن المنزل الذي كانت تحوم به ديال قاضيةً وقتها ما بين النحيب تارة والتنهد تارة أخرى‪ ،‬كان عبارة ً‬
‫عن شقة مفروشة تكلف ثمانية دوالرات إسبوعيًا‪ ،‬لها مدخل يحتوي صندوق بريد صغير ال يتسع‬
‫لرسالة‪ ،‬وباب منهك ذي جرس ال يعمل‪ ،‬باإلضافة إلى لوحة عنوان باسم “السيد جيمس ديلينجهام‬
‫يونغ”‪.‬‬

‫دوالرا في األسبوع‪،‬‬
‫ً‬ ‫وقد كانت عائلة ديلينجهام تمر بحالة من الرخاء المادي عندما كانت تجني ‪30‬‬
‫دوالرا‪ ،‬حتى تراجعت األوضاع لدرجة التفكير باختصار اسم العائلة‬
‫ً‬ ‫لكن ما إن تقلص الدخل إلى ‪20‬‬
‫ً‬
‫كامال‪ .‬على أية حال‪ ،‬ذات االسم الطويل كان‬ ‫المكتوب على لوحة الباب إلى “د” فقط ً‬
‫بدال من اسمها‬
‫يُختصر ليصبح “جيم” فقط ما إن تحتضنه ديال بحرارة‪.‬‬

‫ومجرد ما مسحت ديال دموعها ووضعت القليل من البودرة على خدَّيها‪ ،‬وقفت حزينةً تنظر من النافذةِ‬
‫ي‪.‬‬
‫إلى قِطتها الرماديَّة وهي تمشي قرب سياج الفناء الخلفي الذي َّلونته الثلوج هو اآلخر باللون الرماد ّ‬
‫دوالرا فقط لشراء هدية جيم‪ ،‬بعد أن دأبت على ادخار‬ ‫ً‬ ‫سيأتي يوم الميالد غدًا وهي ال تملك إال ‪1.87‬‬
‫دوالرا األسبوعيّة‪ ،‬كانت النفقات أكبر مما تتوقع‪ ،‬وما جنته أقل مما‬
‫ً‬ ‫كل ما تطاله يداها من العشرين‬
‫تحتاج لشراء هدية جيم الذي قضت الساعات الطوال تفكر بشيء استثنائي وبراق يليق به‪.‬‬

‫وقد كان هناك مرايا ضيقة جدًا بين نوافذ الغرفة مثل تلك الموجودة في الشقق الرخيصة‪ ،‬والتي بالكاد‬
‫يتمكن فيها الشخص النحيل جدًا من مالحظة انعكاسه إلى ح ٍد ما بعد القيام بحركة سريعة‪ ،‬األمر الذي‬
‫أتقنته ديال لشدة نحافتها‪.‬‬

‫استدارت ديال فجأة عن النافدة‪ ،‬لتقف قبالة المرآة وتتأمل نفسها‪ ،‬كانت عيناها تحمل بريقًا لماعًا انطفأ‬
‫وهي ترى وجهها الشاحب‪ ،‬لكنَّها سرعان ما أطلقت العنان لشعرها الطويل لينساب كالشالل‪.‬‬

‫أما عن جيم‪ ،‬فقد كان الفخر والغرور ينتابه المتالكه شيئين فقط‪ ،‬أحدهما شعر ديال الطويل‪ ،‬الذي‬
‫وقدرا‪ ،‬واآلخر هو ساعته الذهبية الموروثة من أبيه وجده‪ ،‬والتي ستجعل‬
‫ً‬ ‫يضاهي ُملك ملكة سبأ قيمةً‬
‫الملك سليمان بالرغم من كنوزه الهائلة وثروته الضخمة يتحسس لحيته غيرة ً منها‪.‬‬

‫تدفق شعر ديال البني كالشالل حتى ركبتيها‪ ،‬لكن سرعان ما جمعته بعد أن تساقطت من عينيها دمعة‬
‫حارة تشتت على السجادة الحمراء البالية‪ ،‬وارتدت معطفها وقبعتها القديمان‪ ،‬لتفتح الباب وتخرج من‬
‫الشقة بكل ما بها من أسى نحو الشارع‪ ،‬حيث استوقفتها الفتة تحمل “اآلنسة سفروني لجميع أنواع‬
‫الشعر”‪ ،‬واندفعت من الباب لترى سيدة ً ضخمة وشديدة البياض بالكاد تبدو “سفروني”‪.‬‬

‫هل تشترين شعري؟” سألت ديال‪.‬‬


‫” نعم أشتري الشعر‪ ،‬ارفعي قبعتك أللقي نظرة” ردت اآلنسة سفروني‪.‬‬
‫رفعت ديال قبعتها وانساب شعرها لألسفل‪.‬‬
‫دوالرا” قالت األنسة وهي ترفع شعرها بمهارة‪.‬‬
‫ً‬ ‫“عشرون‬
‫“أعطها لي بسرعة” قالت ديال‪.‬‬

‫بعد انقضاء ساعتين‪ ،‬كانت المتاجر قد نهبت إحدى ثروات جيم‪ ،‬وكانت ديال تجوب المحال بحثًا عن‬
‫هدية له‪.‬‬

‫صا لشخص مثل جيم وليس ألحد غيره‪ ،‬لم يكن هناك‬ ‫أخيرا‪ ،‬من المؤكد أنّها صنعت خصي ً‬ ‫ً‬ ‫لقد وجدتها‬
‫ما يماثلها في المتاجر التي جابت جميعها‪ ،‬كانت سلسلة فضية من البالتينيوم‪ ،‬بسيطة ودقيقة‬
‫التصميم‪ ،‬جودة مضمونها ال تقل قيمة عن مظهرها الخارجي – كما يجب أن تكون كل األشياء الجيدة‪،‬‬
‫سرا بسبب جوانبها‬‫كانت هذه السلسلة راقية وقيمة تما ًما مثل جيم الذي لطالما استرق النظر إلى ساعته ً‬
‫الجلدية القديمة بدل من سلسلة أنيقة‪ ،‬أرادت ديال بشدة أن تبدله ذلك الشعور بآخر يجعله يفخر برؤية‬
‫دوالرا‪ ،‬وعادت‬‫ً‬ ‫الوقت في كل مكان‪ ،‬ومن أجل ذلك‪ ،‬لم تتأن عن شراء السلسلة بواحد وعشرون‬
‫أدراجها إلى المنزل مع الـ ‪ 87‬سنتًا المتبقية‪.‬‬
‫عندما وصلت ديال منزلها‪ ،‬هدأت ً‬
‫قليال واستعادت توازنها‪ ،‬ثم أخرجت مكواة وذهبت تعمل جادة في‬
‫محاولة إلصالح شعرها‪ ،‬الذي كان عبارة عن فوضى تسبب بها الكرم ممزو ًجا بالحب‪ ،‬والتي هي‬
‫دائ ًما مهمة جبارة‪ ،‬ال بل مهمة عظيمة‪.‬‬

‫وفي غضون أربعين دقيقة‪ ،‬كان رأسها مغطى بشعرها الصغير المجعد الذي جعلها تبدو كتلميذة على‬
‫مقاعد الدراسة‪ ،‬وأخذت ديال تنظر إليه في المرآة بعناية‪.‬‬

‫ي أصبحت أشبه‬ ‫قالت لنفسها‪“ :‬إن لم يقتلني جيم” قبل أن ينظر لي نظرة ثانية‪ ،‬سيخبرني كم أن ّ‬
‫ُمنشدات الكنائس‪ ،‬لكن ما عساي أن أفعل بدوالر وسبعة وثمانين سنتًا؟‬
‫وتحضير الطعام وجلست تنتظر جيم ‪-‬الذي ال يتأخر البتة‪ -‬حاملة بيدها في تمام السابعة‪ ،‬كانت ديال انتهت من صنع القهوة‬
‫السلسلة وجالسة على زاوية الطاولة تترقب بالقرب من الباب‪ .‬وعندما طالت خطوات جيم وهو يسير درج الطابق األول‬
‫مسامعها‪ ،‬شحب وجهها وهمست ديال تتوسل ربها أن يجعلها تبدو جميلة في عينيه كما كانت‪ ،‬لقد اعتادت ديال تالوة وتمتمتة‬
‫صالوات متواضعة تخبأ بها أبسط همومها اليوميَّة‪.‬‬

‫ووقورا للغاية‪ ،‬بشكل ال يتالئم مع مسؤوليات‬


‫ً‬ ‫أط َّل جيم من الباب ثم اغلقه وراءه‪ ،‬جيم ذو االثنين والعشرين عا ًما بدا نحيال‬
‫العائلة التي أثقلت كاهله ونالت منه حتى عجز عن شراء معطف جديد وقفازات‪.‬‬

‫تسمر جيم واقفًا وأخذ يحدق ويطيل النظر بديال في نظرة ال تفهمها وال تنم عن مشاعر واضحة مثل تلك التي جهزت ديال نفسها‬
‫الستقبالها‪ ،‬كان فقط يتفحصها بدقة شديدة الغرابة‪.‬‬

‫ي بهذه الطريقة! لقد قصصت شعري وبعته ألنني لم أود‬ ‫تركت ديال الطاولة وتوجهت نحوه قائلة‪“ :‬عزيزي جيم! ال تنظر إل ّ‬
‫سيطول شعري سريعًا! هيا قل لي “ميالد سعيد” ودعنا نكون‬ ‫َّ‬ ‫تفويت عيد الميالد دون أن أجلب لك هدية! لن تمانع‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫سعداء‪ ،‬أنت ال تعرف بعد كم هي جميلة الهدية التي أحضرتها لك”‬
‫ت شعرك؟” سأل جيم ببطء كما لو أنه لم يفهم رغم أنَّه كان قد فكر مليًا في ذلك‪.‬‬ ‫“لقد قصص ِ‬
‫“قصصته وبعته‪ ،‬هل ستتوقف عن حبي كالسابق؟ لكني أنا ما زلت أنا‪ ،‬لم أتغير حتى لو قصصت شعري” قالت ديال‪.‬‬
‫ت شعرك؟”‪.‬‬ ‫ً‬
‫تسائال‪“ :‬ماذا تقولين؟ حقًا قصص ِ‬ ‫بدأت عينا جيم تتفحصان الغرفة بفضول‪ ،‬ثم أردف م‬

‫“ال تجهد نفسك باحثًا يا جيم‪ ،‬أنا أخبرك أن ّ‬


‫ي بِعتُه‪ ،‬هذا كل ما باألمر‪ ،‬إنَّها ليلة عيد الميالد يا عزيزي‪ ،‬كن لطيفًا معي‪ ،‬لقد بعته‬
‫ُضر طعام عيد الميالد يا جيم” قالت ديال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ح‬ ‫أل‬ ‫أخبرني‬ ‫هيا‬ ‫المقصوص‪،‬‬ ‫شعري‬ ‫مثل‬ ‫من أجلك! بالنهاية حبي لك ال يقدر بثمن‬
‫بدا جيم يستجمع شتات نفسه‪ ،‬ثم احتضنت ذراعيه ديال بكل دفء قبل أن يخرج من معطفه علبة ويضعها على الطاولة قائال‪“ :‬ال‬
‫ت مالمح الغرابة والدهشة التي‬ ‫تسيئي فهمي يا ديال‪ ،‬إن شعرك لن يقلل من مقدار محبتي لك‪ ،‬لكنك لو فتحت هذه العلبة لفهم ِ‬
‫ارتسمت على محياي”‪.‬‬

‫مرا‬
‫أزالت أصابع ديال البيضاء الرقيقة غالف العلبة‪ ،‬ولوهلة‪ ،‬تملكها الفرح حتى غصت بدمعة حارة لم تخفيها وتبعها بكاء ً‬
‫صا بعدما أدركت أن العلبة تحتوي مشبك شعر رائع مصنوع من المحار ومرصع بالجواهر يتناسب تما ًما مع‬ ‫أحزنهما‪ ،‬خصو ً‬
‫لون شعرها المميز‪ ،‬لقد كان يبدو باهظ الثمن ولطالما راودتها الرغبة بإقتناء شيء مثله دون القدرة على تنفيذها‪ ،‬لكن اآلن‪ ،‬لن‬
‫يجدي امتالكه نفعًا بعدما خسرت شعرها الجميل‪.‬‬

‫أمسكت ديال المشبك بقوة ونظرت بعينين تملؤهما الحزن وعلى وجهها ابتسامة بريئة‪ ،‬ثم قالت‪“ :‬ال بأس! شعري ينمو بسرعة‬
‫يا جيم!”‬
‫قفزت ديال كطفلة صغيرة وصرخت متعجبة بعد أن أدركت أن جيم لم ير هديته الجميلة بعد‪ ،‬قدمتها نحوه بيدين مفتوحتين بكل‬
‫حماس‪ ،‬وبدت السلسلة الثمينة أقل رونقًا في حضور روحها الصافية‪.‬‬

‫“أليست رائعة يا جيم؟ لقد بحثت في جميع أنحاء المدينة للعثور عليها‪ ،‬ستنظر إلى الوقت مائة مرة في اليوم‪،‬‬
‫أعطني ساعتك! أريد أن أرى كيف يبدوان معًا!”‪.‬‬
‫وبدال من اإلستجابة لرغبتها‪ ،‬جلس جيم على األريكة وانحنى إلى الوراء مبتس ًما‪ ،‬ثم قال‪“ :‬دعينا نترك هدايا عيد الميالد جانبًا‪،‬‬
‫إنَّها هدايا جميلة حقًا‪ ،‬لكن بصراحة‪ ،‬لقد بعت ساعتي حتى أتمكن من شراء مشبك الشعر لك‪ ،‬على أية حال‪ ،‬أين طعام الليلة؟”‪.‬‬

‫المجوس‬ ‫الذين كانوا حكما ًء رائعين قدموا لقد جاءت فكرة جلب الهدايا في عيد الميالد كما تعلمون من‬
‫لليسوع الهبات ‪-‬كما ذكر في إنجيل متى‪ -‬وكونهم حكماء‪ ،‬كانت هداياهم أيضًا كذلك وتعبر في محتواها‬
‫عن ما يفوق قيمتها‪ ،‬أبطال قصتنا الساذجة هنا كانا طفالن رقيقان ضحيا في سبيل بعضهما البعض‬
‫بكل ما يملكان من الكنوز‪ .‬لكن في كلمة أخيرة لحكماء هذه األيام‪ ،‬بودي أن أذكر أن بطالنا كانا األكثر‬
‫وإن من بين كل الذين قدموا واستقبلوا أية هدايا‪ ،‬سيضل المجوس هم األفضل عبر األزمنة‬ ‫حكمة‪َّ ،‬‬
‫واألماكن‪.‬‬

‫العالمي في مقهى‬
‫في منتصف الليل كان المقهى مزدحم ‪ ،‬وعن طريق الصدفة كانت الطاولة الصغيرة التي‬
‫جلست عليها قد هربت من أعين الزائرين وفيها كرسيان شاغران يمدان يديهما بضيافة‬
‫للرعاة ‪.‬‬
‫ثم جلس عالمي في أحدهم‪ ،‬وكنت سعيدا‪ ،‬ألنني حملت نظرية مفادها أنه منذ آدم لم يكن‬
‫هناك مواطن حقيقي في العالم‪ .‬نسمع عنهم‪ ،‬ونرى ملصقات أجنبية على الكثير من‬
‫األمتعة‪ ،‬لكننا نجد المسافرين بدال من العالمي‪.‬‬
‫أدعوك إلى النظر في المشهد ‪ -‬الطاوالت المغطاة بالرخام‪ ،‬ومجموعة المقاعد الجدارية‬
‫المنجدة بالجلد‪ ،‬وشركة المثليين‪ ،‬والسيدات اللواتي يرتدين مراحيض نصف الدولة‪،‬‬
‫ويتحدثن في جوقة مرئية رائعة من الذوق أو االقتصاد أو البذخ أو الفن‪ ،‬والحارز‬
‫المحبوبة‪ ،‬والموسيقى التي تخدم بحكمة للجميع من خالل غاراتها على الملحنين؛ مزيج‬
‫الكالم والضحك ‪ -‬وإذا صح التعبير‪ ،‬فإن ‪ Würzburger‬في المخاريط الزجاجية‬
‫الطويلة التي تنحني إلى شفتيك ككرز ناضج يتمايل على فرعه إلى منقار جاي اللص‪.‬‬
‫أخبرني نحات من ماوش تشونك أن المشهد كان باريسيا حقا‪.‬‬
‫تم تسمية العالمي الخاص بي راشمور كوجالن‪ ،‬وسيتم سماعه من الصيف المقبل في‬
‫كوني آيالند‪ .‬أخبرني أنه سينشئ "جاذبية" جديدة هناك‪ ،‬وتقدم تحويال ملكيا‪ .‬ثم رنت‬
‫محادثته على طول أوجه التشابه بين خط العرض والطول‪ .‬أخذ العالم العظيم المستدير في‬
‫يده‪ ،‬إذا جاز التعبير‪ ،‬بشكل مألوف‪ ،‬بازدراء‪ ،‬ولم يبدو أكبر من بذرة كرز ماراسكينو في‬
‫فاكهة عنب مائدة‪ .‬تحدث باحترام عن خط االستواء‪ ،‬وتخطى من القارة إلى أخرى‪ ،‬وسخر‬
‫من المناطق‪ ،‬ومسح أعالي البحار بمنديله‪ .‬بموجة من يده كان يتحدث عن بازار معين في‬
‫حيدر أباد‪ .‬نفحة! كان سيجعلك على الزالجات في البالند‪ .‬الرمز البريدي! اآلن ركبت‬
‫القواطع مع كاناكا في كيااليكاهيكي‪ .‬بريستو! لقد جرك عبر مستنقع ما بعد البلوط في‬
‫أركنساس‪ ،‬وتركك تجف للحظة على السهول القلوية في مزرعته في أيداهو‪ ،‬ثم دورك إلى‬
‫مجتمع دوقات فيينا‪ .‬أنون سيخبرك عن نزلة برد أصيب بها في نسيم بحيرة شيكاغو‬
‫وكيف عالجها إسكاميال في بوينس أيريس مع ضخ ساخن من حشائش تشوتشوال‪.‬‬
‫كنت ستوجه الرسالة إلى " ‪E. Rushmore Coglan, Esq., the Earth, Solar‬‬
‫‪ ," System, the Universe‬وكنت قد أرسلتها بالبريد‪ ،‬وأنت تشعر بالثقة في أنه سيتم‬
‫تسليمها إليه‪.‬‬
‫كنت متأكدا من أنني وجدت أخيرا العالم الحقيقي الوحيد منذ آدم‪ ،‬واستمعت إلى خطابه‬
‫العالمي خوفا خشية أن أكتشف فيه المالحظة المحلية لمجرد العالم‪ .‬لكن آرائه لم ترفرف‬
‫أو تتدلى أبدا؛ كان محايدا تجاه المدن والبلدان والقارات مثل الرياح أو الجاذبية‪.‬‬
‫وكما تثرثر راشمور كوجالن من هذا الكوكب الصغير فكرت بفرح في عالمي عظيم‬
‫تقريبا كتب للعالم بأسره وكرس نفسه لبومباي‪ .‬في قصيدة عليه أن يقول إن هناك فخرا‬
‫وتنافسا بين مدن األرض‪ ،‬وأن "الرجال الذين يتكاثرون منهم‪ ،‬يتاجرون صعودا وهبوطا‪،‬‬
‫لكنهم يتشبثون بمدنهم كطفل بثوب األم"‪ .‬وكلما ساروا "من خالل الشوارع الصاخبة غير‬
‫المعروفة" يتذكرون مدينتهم األصلية "األكثر إخالصا وحماقة ومولعا؛ مما يجعل اسمها‬
‫مجرد التنفس رابطهم على رباطهم"‪ .‬واستيقظت فرحتي ألنني أمسكت بالسيد كيبلينغ وهو‬
‫يغفو‪ .‬هنا وجدت رجال لم يصنع من الغبار؛ رجال لم يكن لديه تفاخر ضيق بمسقط رأس‬
‫أو بلد‪ ،‬شخص‪ ،‬إذا تفاخر على اإلطالق‪ ،‬سيتفاخر بكرة أرضه المستديرة بأكملها ضد‬
‫المريخ وسكان القمر‪.‬‬
‫تم التعجيل بالتعبير عن هذه الموضوعات من راشمور كوجالن أسرع ‪ -‬المزيد من‬
‫كوغالن في الزاوية الثالثة إلى طاولتنا‪ .‬بينما كان كوجالن يصف لي التضاريس على‬
‫طول السكك الحديدية السيبيرية‪ ،‬انزلقت األوركسترا إلى مزيج‪ .‬كان الهواء الختامي‬
‫"ديكسي"‪ ،‬ومع هبط المالحظات المبهجة‪ ،‬كانت تعمل بالطاقة تقريبا من خالل التصفيق‬
‫الكبير لأليدي من كل طاولة تقريبا‪.‬‬
‫يجدر القول إن هذا المشهد الرائع يمكن مشاهدته كل مساء في العديد من المقاهي في مدينة‬
‫نيويورك‪ .‬تم استهالك الكثير من المشروب على النظريات لحساب ذلك‪ .‬لقد خمن البعض‬
‫على عجل أن جميع الجنوبيين في المدينة يتجولون في المقاهي عند حلول الليل‪ .‬هذا‬
‫التصفيق للهواء "المتمرد" في مدينة شمالية يحير قليال؛ لكنه ليس غير قابل للحل‪ .‬الحرب‬
‫مع إسبانيا‪ ،‬ومحاصيل النعناع والبطيخ السخية لسنوات عديدة‪ ،‬وعدد قليل من الفائزين في‬
‫مضمار سباق نيو أورليانز‪ ،‬والمآدب الرائعة التي قدمها مواطنو إنديانا وكانساس الذين‬
‫يشكلون جمعية كارولينا الشمالية‪ ،‬جعلت الجنوب إلى حد ما "بدعة" في مانهاتن‪ .‬سوف‬
‫يلبس مانيكيرك بهدوء أن السبابة اليسرى تذكرها كثيرا برجل نبيل في ريتش موند‪،‬‬
‫فيرجينيا‪ .‬أوه‪ ،‬بالتأكيد؛ لكن الكثير من السيدات يجب أن يعملن اآلن ‪ -‬الحرب‪ ،‬كما تعلم‪.‬‬
‫عندما كان يتم لعب "ديكسي"‪ ،‬قفز شاب ذو شعر داكن من مكان ما مع صرخة حرب‬
‫عصابات موسبي ولوح بشكل محموم قبعته ذات الحواف الناعمة‪ .‬ثم ضل طريقه من‬
‫خالل الدخان‪ ،‬وسقط إلى الكرسي الشاغر على طاولتنا وسحب السجائر‪.‬‬
‫كان المساء في الفترة التي يتم فيها إذابة االحتياطي‪ .‬ذكر أحدنا ثالثة من‬
‫‪ Würzburgers‬إلى النادل؛ اعترف الشاب ذو الشعر الداكن بإدراجه في األمر بابتسامة‬
‫وإيماءة‪ .‬سارعت إلى طرح سؤال عليه ألنني أردت تجربة نظرية لدي‪.‬‬
‫"هل تمانع أن تخبرني‪ "،‬بدأت‪" ،‬سواء كنت من ‪"-‬‬
‫ضرب راشمور كوجالن الطاولة وكنت في صمت‪.‬‬
‫قال‪" :‬عفوا‪ ،‬لكن هذا سؤال ال أحب أن أسمعه أبدا‪ .‬ما الذي يهم من أين يأتي الرجل؟ هل‬
‫من العدل الحكم على رجل من خالل عنوان مكتب البريد الخاص به؟ لماذا‪ ،‬لقد رأيت‬
‫سكان كنتاكي الذين يكرهون الويسكي‪ ،‬والفيرجينيين الذين لم ينحدرون من بوكاهون تاس‪،‬‬
‫والهنود الذين لم يكتبوا رواية‪ ،‬والمكسيكيون الذين لم يرتدوا سراويل مخملية مع دوالرات‬
‫فضية مخيطة على طول اللحامات‪ ،‬واإلنجليز المضحكون‪ ،‬واليانكيز المنفقون‪،‬‬
‫والجنوبيون ذوو الدم البارد‪ ،‬والغربيون ضيقو األفق‪ ،‬وسكان نيويورك الذين كانوا‬
‫مشغولون جدا لدرجة أن يتوقفوا لمدة ساعة في الشارع لمشاهدة كاتب بقالة مسلح واحد‬
‫يقوم بالتوت البري في أكياس ورقية‪ .‬دع الرجل يكون رجال وال تعيقه عن تسمية أي قسم‪.‬‬
‫قلت‪" :‬عفوا‪ ،‬لكن فضولي لم يكن خامال تماما‪ .‬أعرف الجنوب‪ ،‬وعندما تعزف الفرقة‬
‫"ديكسي" أحب أن أراقب‪ .‬لقد شكلت االعتقاد بأن الرجل الذي يصفق لهذا الهواء مع‬
‫العنف الخاص والوالء القطاعي ظاهريا هو دائما من مواليد سيكوكس‪ ،‬نيوجيرسي‪ ،‬أو‬
‫المنطقة الواقعة بين موراي هيل ليسيوم ونهر هارلم‪ ،‬هذه المدينة‪ .‬كنت على وشك أن‬
‫أضع رأيي على المحك من خالل االستفسار عن هذا الرجل عندما قاطعت نظريتك‬
‫األكبر‪ ،‬يجب أن أعترف‪.‬‬
‫واآلن تحدث إلي الشاب ذو الشعر الداكن‪ ،‬وأصبح من الواضح أن عقله يتحرك أيضا على‬
‫طول مجموعة األخاديد الخاصة به‪.‬‬
‫قال في ظروف غامضة‪" :‬أود أن أكون بريوينكل‪ ،‬على قمة الوادي‪ ،‬وأغني أيضا‪-‬‬
‫‪".ralloo-ralloo‬‬
‫من الواضح أن هذا كان غامضا جدا‪ ،‬لذلك التفت مرة أخرى إلى كوغالن‪.‬‬
‫قال‪" :‬لقد كنت في جميع أنحاء العالم اثنتي عشرة مرة"‪ .‬أعرف إسكيماو في أوبرنافيك‬
‫الذي يرسل إلى سينسيناتي من أجل ربطات عنقه‪ ،‬ورأيت راعي الماعز في أوروغواي‬
‫الذي فاز بجائزة في مسابقة ألغاز طعام اإلفطار في باتل كريك‪.‬‬
‫انا ادفع ايجار لغرفة في القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬وآخر في يوكوهاما على مدار السنة‪ .‬لدي نعال‬
‫في انتظاري في بيت الشاي في شنغهاي‪ ،‬وليس علي أن أخبرهم كيف أطبخ بيضي في‬
‫ريو دي جانيرو أو سياتل‪ .‬إنه عالم قديم صغير عظيم‪ .‬ما فائدة التباهي بأن تكون من‬
‫الشمال‪ ،‬أو الجنوب‪ ،‬أو منزل مانور القديم في ديل‪ ،‬أو شارع إقليدس‪ ،‬كليفالند‪ ،‬أو بايك‬
‫بيك‪ ،‬أو مقاطعة فيرفاكس‪ ،‬فيرجينيا‪ ،‬أو شقق هوليجان أو أي مكان؟ سيكون عالما أفضل‬
‫عندما نتوقف عن كوننا أغبياء بشأن بعض المدن العفنة أو عشرة أفدنة من المستنقعات‬
‫لمجرد أننا ولدنا هناك‪.‬‬
‫قلت بإعجاب‪" :‬يبدو أنك كوزموبوليت حقيقي"‪" .‬لكن يبدو أيضا أنك ستشجب الوطنية‪".‬‬
‫أعلن كوغالن بحرارة‪" :‬بقايا العصر الحجري"‪ .‬نحن جميعا إخوة ‪ -‬صينيون وإنجليز‬
‫وزولوس وباتاغونيون والشعب في منعطف نهر كاو‪ .‬في يوم من األيام‪ ،‬سيتم القضاء‬
‫على كل هذا الفخر الصغير في مدينة أو والية أو قسم أو بلد‪ ،‬وسنكون جميعا مواطنين في‬
‫العالم‪ ،‬كما يجب أن نكون‪.‬‬
‫"لكن بينما تتجول في األراضي األجنبية‪ "،‬أصررت‪" ،‬ال تعود أفكارك إلى مكان ما ‪-‬‬
‫بعض العزيز و‪"-‬‬
‫" ناري بقعة"‪ ،‬قاطع كوجالن بتقلب‪" .‬تجربة األرض‪ ،‬الكروية‪ ،‬قطعة كبيرة من المادة‬
‫الكوكبية‪ ،‬المسطحة قليال في القطبين‪ ،‬والمعروفة باسم األرض‪ ،‬هي مسكني‪ ".‬لقد قابلت‬
‫العديد من المواطنين في هذا البلد في الخارج‪ .‬لقد رأيت رجاال من شيكاغو يجلسون في‬
‫جندول في البندقية في ليلة ضوء القمر ويتفاخرون بقناة الصرف الخاصة بهم‪ .‬لقد رأيت‬
‫جنوبيا عند تقديمه إلى ملك إنجلترا هذا الملك‪ ،‬دون ضرب عينيه‪ ،‬المعلومات التي تفيد بأن‬
‫جده من جانب والدته كانت مرتبطة بالزواج من بيركنز‪ ،‬من تشارلستون‪ .‬كنت أعرف أحد‬
‫سكان نيويورك الذي اختطفه بعض قطاع الطرق األفغان للحصول على فدية‪ .‬أرسل شعبه‬
‫المال وعاد إلى كابول مع الوكيل‪" .‬أفغانستان؟" قال له السكان األصليون من خالل مترجم‬
‫فوري‪ .‬حسنا‪ ،‬ليس بطيئا جدا‪ ،‬هل تعتقد ذلك؟ يقول‪" :‬أوه‪ ،‬ال أعرف"‪ ،‬ويبدأ في إخبارهم‬
‫عن سائق سيارة أجرة في الجادة السادسة وبرودواي‪ .‬هذه األفكار ال تناسبني‪ .‬أنا لست‬
‫مرتبطا بأي شيء ليس قطره ‪ 8000‬ميل‪ .‬فقط ضعني في األسفل مثل ‪ .E‬راشمور‬
‫كوجالن‪ ،‬مواطن في المجال األرضي‪.‬‬
‫قام كوزموبوليت الخاص بي بوداع كبير وتركني‪ ،‬ألنه اعتقد أنه رأى شخصا ما من خالل‬
‫الثرثرة ويدخن الذي يعرفه‪ .‬لذلك تركت مع ‪ periwinkle‬المحتمل‪ ،‬الذي تم تخفيضه‬
‫إلى ‪ Würzburger‬دون مزيد من القدرة على التعبير عن تطلعاته إلى جثم‪ ،‬رخي‪ ،‬على‬
‫قمة الوادي‪.‬‬
‫جلست أفكر في كوزموبوليتي الواضح وأتساءل كيف تمكن الشاعر من تفويته‪ .‬لقد آمنت‬
‫به‪ .‬كيف كان األمر؟ "الرجال الذين يتكاثرون منهم يتاجرون صعودا وهبوطا‪ ،‬لكنهم‬
‫يتشبثون بمدنهم" عندما كانوا طفال بثوب األم‪ ".‬ليس كذلك راشمور كوغالن‪ .‬مع العالم‬
‫كله من أجله ‪-‬‬
‫توقفت تأمالتي بسبب ضوضاء وصراع هائلين في جزء آخر من المقهى‪ .‬رأيت فوق‬
‫رؤوس الرعاة الجالسين انخرط راشمور كوجالن وشخص غريب عني في معركة رائعة‪.‬‬
‫قاتلوا بين الطاوالت مثل الجبابرة‪ ،‬وتحطمت النظارات‪ ،‬وقبض الرجال على قبعاتهم‬
‫وسقطوا‪ ،‬وصرخت امرأة سمراء‪ ،‬وبدأت شقراء في غناء "‪."Teas ing‬‬
‫كان كوزموبوليت الخاص بي يحافظ على فخر وسمعة األرض عندما أغلق النوادل على‬
‫كال المقاتلين بتشكيل إسفين الطيران الشهير وحملهم في الخارج‪ ،‬وال يزالون يقاومون‪.‬‬
‫اتصلت بمكارثي‪ ،‬أحد الحامقين الفرنسيين‪ ،‬وسألته عن سبب الصراع‪.‬‬
‫"الرجل ذو ربطة العنق الحمراء" (كان ذلك كوزموبوليتي)‪ ،‬قال‪" ،‬أصبح ساخنا بسبب‬
‫األشياء التي قيلت عن األرصفة وإمدادات المياه في المكان الذي جاء منه من قبل الرجل‬
‫اآلخر‪".‬‬
‫"لماذا‪ "،‬قلت‪ ،‬في حيرة من أمري‪" ،‬هذا الرجل مواطن في العالم ‪ -‬عالمي‪.‬‬
‫قال‪" :‬في األصل من ماتاوامكياغ‪ ،‬مين‪ "،‬تابع مكارثي‪ ،‬ولن يقف من أجل عدم طرق‬
‫المكان‪.‬‬

‫بين الجوالت‬

‫كان القمر يتألق على النزل الخاص الذي تملكه السيدة مورفي والربيع في ابانه ‪،‬‬
‫والرياض منضرة بورق الشجر الجديد ‪ ،‬والزهور تتفتح ‪ ،‬والهواء يرق ‪ ،‬والموسيقى‬
‫تزدهر في كل مكان‪.‬‬
‫وكانت نوافذ نزل السيدة مورفي مفتحة ‪ ،‬وعدد من النزالء يجلسون في درج المدخل على‬
‫حصر مستديرة منبسطة كالفطائر‪.‬‬
‫وفي نافذه من نوافذ الطابق الثاني المطلة على الطريق ‪ ،‬كانت السيدة ماكاسكي تنتظر‬
‫زوجها ‪ ،‬وقد برد العشاء على الطاولة ‪ ،‬فأعادت تسخينه السيدة ماكاسكي ‪.‬‬
‫وعاد السيد ماكاسكي في التاسعة يحمل معطفه على ذراعه ‪ ،‬وغليونه بين اسنانه ‪ ،‬بعد ان‬
‫اعتذر للنزالء الجالسين على الدرج القالق راحتهم ‪ ،‬وهو يتلمس بينهم مكانا على درج‬
‫السلم لنعله الكبير ‪.‬‬
‫وعندما فتح باب غرفته واجهته مفاجأة ‪ ،‬فبدال من أن تستقبله أغطية القدور وأدوات‬
‫المطبخ كما تعود ‪ ،‬استقبله سيل من األلفاظ ليس إال ‪.‬‬
‫وأدرك السيد ماكاسكي أن قمر الربيع اللطيف قد رقق صدر زوجته ‪.‬‬
‫وانطلقت قذائف االبدال الشفية ألدوات المطبخ على الصورة التالية ‪ (( :‬لقد سمعتك ‪ ..‬انك‬
‫تستطيع ان تعتذر لرعاع الطريق عن مس نعلك لحواشي ثيابهم ‪ .‬ولكنك قد تخطو على‬
‫رقبة زوجتك دون أن تفكر أن تفكر حتى في تقبيل قدمها ‪ ،‬لقد رأيتك تفعل ذلك وأنا مطلة‬
‫من النافذة ‪ ،‬والطعام يبرد ‪ ،‬وأي طعام هذا الذي نحصل عليه ‪ ،‬وأنت تنفق أجرك كله على‬
‫الخمر ‪ ،‬ومحصل الغاز جاء اليوم مرتين مطالبا بماله )) ‪ .‬قال السيد ماكاسكي وهو يرمي‬
‫معطفه وقبعته على مقعد ‪ (( :‬أن ضوضاءك يا امرأة مسبة لشهوتي للطعام ‪ ،‬فأنت عندما‬
‫تعمدين الى البذاءة تخلخلين أساس المجتمع ‪ ،‬وانه ليس اكثر من استشارة بفظاظة سيد‬
‫فاضل عندما تطالبينه بالشجار مع سيدات يزحمن الطريق ‪ ،‬ويحلن دون الخطو بينهن أال‬
‫يمكن ان تدخلي وجهك هذا – وجه الخنزير‪ -‬من النافذة ‪ ،‬وتعدي الطعام ؟‪ . ))..‬فنهضت‬
‫السيدة ماكاسكي متثاقلة ومضت الى الموقد ‪ ،‬وكان في سحنتها نذير للسيد ماكاسكي ‪ ،‬فان‬
‫زوايا فمها كانت في العادة عندما تتدلى فجأة ‪ ،‬وتصبح كشعبتي بارومتر ‪ ،‬تنبئ عما البد‬
‫من حدوثه من قذف اآلنية والمالعق والسكاكين ‪ .‬فقالت ‪ ((:‬وجه خنزير ‪ ،‬أهو كذالك ؟ ))‪.‬‬
‫ثم قذفت وجه زوجها بمقالة مملوءة بشرائح اللفت ولحم الخنزير‪.‬‬
‫وما كان السيد ماكاسكي حديث العهد بسرعة البديهة ‪ ،‬فقد عرف ما يعقب التمهيد ‪ ،‬فرد‬
‫اإلهانة بقطعة من لحم الخنزير المشوي مزخرفة بورق البرسيم ‪ ،‬وجدها على المائدة ‪،‬‬
‫وكان الجواب الذي تلقاه عليها فطيرة من فطائر الزبيب في صحن من الفخار ‪ .‬وأصابت‬
‫ما تحت عين السيدة ماكاسكي قطعة ضخمة من الجبن سددها زوجها باحكام ‪ .‬وعندها‬
‫استجابت بابريق ممتلئ بالقهوة الساخنة ذات العبق الخفيف‪ .‬كان المفروض أن تضع‬
‫الحرب اوزارها بهذا الختام ‪ ،‬تبعا ً لتقاليد المائدة‪ .‬ولكن السيد ماكاسكي لم يكن من رواد‬
‫المطاعم الرخيصة ‪ .‬وللبوهيميين الفقراء إذا شاءوا أن يختموا طعامهم بالقهوة ‪ ،‬ويخطئوا‬
‫هذا الخطأ االجتماعي الفاحش ‪ ،‬أما هو فأسمى منهم وأحرص على آداب اللياقة ‪ .‬إن طاسة‬
‫الماء التي تغسل فيها األيدي والفاكهة لم تكن غريبة عليه ‪ ،‬ورغم أن مثل هذه الطاسات لم‬
‫يكن لها وجود في منزل السيدة مورفي ‪ ،‬فقد كان لها فيه نظائر ‪ ،‬فكاد يفلق رأس منازلته‬
‫في بيت الزوجية بحوض الغسيل الحجري ‪ ،‬لوال أنها زاغت منه في الوقت المناسب ‪،‬‬
‫وتناولت هي األخرى مكواة ماطا بها كل آمالها في أن تكون نشوة الكأس التي تضع حداً‬
‫لهذه المبارزة الغذائية ‪ ،‬ولكن صرخة عالية معولة متصاعدة من أسفل السلم دفعتها هي‬
‫وزوجها أن عن النزال في شبه هدنة عقدت بغير اتفاق ‪.‬‬
‫وعند ركن البيت على ناصية الطريق ‪ ،‬كان الشرطي كليري يقف ناشراً إحدى اذنيه ‪،‬‬
‫مصغيا لصليل اآلنية التي يتقاذفها الخصمان ‪.‬‬
‫وقال الشرطي لنفسه ‪(( :‬هذا جون ماكاسكي وقرينته في معمعة القتال من جديد ‪ .‬أتراني‬
‫أصعد وأفض النزاع ؟ كال ‪ ..‬إنهما زوجان من حقهما أن ينعما بحياة ما أقل فيها ملذات‬
‫األزواج ‪ ،‬ولن تدوم المعركة طويال ‪ ،‬ومن المؤكد أنهما سيتحتم عليها إستعارة صحون‬
‫أكثر من الجيران ليبقياها مشتعلة األوار ))‪.‬‬
‫وفي نفس اللحظة التي كان الشرطي يحدث فيها نفسه هذا الحديث ‪ ،‬شقت أجواز الفضاء‬
‫تلك الصرخة المتصاعدة من الطابق األسفل ‪ ،‬منذرة بالويل والثبور ‪ ،‬وقال الشرطي‬
‫كليري لنفسه وهو يخطي مسرعا في االتجاه المعاكس ‪ (( :‬لعلها هرة تموء))‪.‬‬
‫وفزع النزالء الجالسون على سلم المدخل ‪ .‬ولما كان توني محاميا ً في شركة تأمين ‪ ،‬تولى‬
‫مهنته فيها وراثةً عن أبيه ‪ ،‬وكان التحقيق في دمه ‪ ،‬فقد دخل البيت ليكشف عما وراء هذا‬
‫الصراخ ‪ ،‬وعاد ينبئ النزالء أن مايك ابن السيدة مورفي قد ضاع ‪ ،‬وأعقبته السيدة مورفي‬
‫نفسها منطلقة من الباب حاملة تسعين كيلوجراما ً من الدموع واللوعات ‪ ،‬ضاربة بقبضتها‬
‫الهواء ‪ ،‬مستصرخة السماء لضياع أربعة عشر كيلوجراما ً من النمش والفساد ‪ ..‬وسمها‬
‫نذالة اذا اردت ‪ ،‬أن يعمد السيد توني في هذا الوقت الحرج الى اآلنسة بيردي بائعة‬
‫البرانيط النمسوية ‪ ،‬فيجلس الى جوارها ‪ ،‬وتتالقى أيديهما كما تتالقى أيدي المحبين ‪ ،‬أما‬
‫العانستان األختان ويلش اللتان كانتا تشكوان على الدوام مما يشيع في مدخل البيت من‬
‫ضوضاء ‪ ،‬فقد تساءلتا في لهفة عما إذا كان أحد قد بحث عن الغالم الضائع في ساعة‬
‫الحائط ‪.‬‬
‫ونهض الصاغ جريج من جلسته بجوار زوجته البدينة على أعلى درجة في السلم ‪ ،‬وزر‬
‫سترته وصاح في تعجب ‪ (( :‬أضاع الغالم حقا ؟ إني سأقلب عليه المدينة ظهرا لبطن ))‪.‬‬
‫وكانت زوجته ال تسمح له في مبارحة المنزل اذا جن الليل ‪ ،‬ولكنها االن قالت له في‬
‫صوت رجالي عا ٍل ‪(( :‬اذهب يا لودفيج ‪ ،‬إن الذي يستطيع أن ينظر الى فجيعة هذه األم‬
‫دون أن ينهض لنجدتها ‪ ،‬البد أن يكون قلبه قدّ من حجر ))‪.‬‬
‫وقال الصاغ‪(( :‬أعطيني يا حبيبتي ثالثين او ستين سنتا ً ‪ ،‬فإن الطفل إذا ضل فكثيراً ما‬
‫يبالغ في الشطط ‪ ،‬وقد تحتاج لركوب األوتوبيس ))‪.‬‬
‫أما العجوز ديني الساكن في البهو الصيفي للطابق الرابع ‪ ،‬والذي جلس على أدنى درجات‬
‫السلم يحاول قراءة جريدة تحت ضوء مصباح الشارع ‪ ،‬فقد قلب صفحة ليكمل قراءة‬
‫موضوع إضراب النجارين‪.‬‬
‫فصرخت السيدة مورفي تخاطب القمر ‪(( :‬مايك‪ ..‬مايك‪..‬أيها القمر‪..‬باهلل عليك أال تخبرني‬
‫أين فلذة كبدي الصغير ؟))‪.‬‬
‫سألها العجوز ديني‪(( :‬متى رأيته آخر مرة؟))‬
‫أجابت السيدة مورفي‪(( :‬أوه منذ األمس أو لعله قبل أربع ساعات ‪،‬لست أدري لكنه ضاع ‪،‬‬
‫مايك ولدي الصغير ‪ ..‬إنه كان يلعب في الشارع هذا الصباح أو لعل ذلك كان باألمس إني‬
‫مغرقة في العمل ومن الصعب تذكر الوقت وقد بحثت في المنزل من السطح إلى القبر فلم‬
‫أعثر له على أثر ‪ ،‬لقد ضاع ‪ ،‬أوه ‪ ،‬ال بحق السماء ال ))‪.‬‬
‫لكم صبرت المدينة شامخة صامتة عابسة من األزل على سباب الشاتمين ‪ ،‬إنهم يتهمونها‬
‫ت موحشة ‪،‬‬ ‫أنها قاسية كالحديد ‪ ،‬وأن صدرها ال يخفق يرحمة‪ ،‬ويقارنون شوارعها بغابا ٍ‬
‫وصحاري رمالها من حمم البراكين ‪ ،‬ولكن الصدفة الصلبة في جسم السرطان تحتها لحم‬
‫لذيذ ‪ ،‬ولعل إستعارة أخرى كانت تكون أنسب للمقام ‪ ،‬ولكن مع ذلك ال ينبغي ألحد أن‬
‫يمتعض من هذا التشبيه ‪ ،‬وما كنا لنشبه أحد بالسرطان ما لم يكن له من المخالب المفترسة‬
‫ما يبرر هذا اإلتهام ‪.‬‬
‫إن قلب اإلنسانية ال تمسه كارثة أروع من ضالل طفل صغير ‪ ،‬قدماه ضعيفتان حائرتان ‪،‬‬
‫والطريق موحش وما أكثر ما فيه من مزالق ‪.‬‬
‫اندفع الصاغ جريج إلى ناصية الطريق ‪ ،‬ومنها إلى الشارع الكبير ‪ ،‬حيث وصل إلى حانة‬
‫ي بكأس من الويسكي ‪ ،‬أرأيت شيطانا ً صغيرا في السادسة من‬ ‫بيلي ‪ ،‬وقال للخمار‪ (( :‬إل ّ‬
‫مكان ما بهذه النواحي‪ ،‬أرأيته باهلل ؟))‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عمره أعوج الساقين‪ ،‬قذر الوجه ضاع في‬
‫وظل السيد تومي محتفظا ً بيد اآلنسة بيردي وهو يجالسها على السلم ‪ ،‬وقالت اآلنسة‪:‬‬
‫((تصور هذا الطفل الصغير العزيز وهو يضيع من حضن أمه ‪ ،‬ومن يدري فقد يكون وقع‬
‫تحت سنابك جيا ٍد راكضة ‪ ،‬أليس هذا فظيعا ً ؟))‪.‬‬
‫وقال تومي وهو يعصر يدها مؤيداً‪(( :‬بالضبط ‪ ،‬فما قولك في أن أخرج وأساعد في البحث‬
‫عنه؟))‪.‬‬
‫قالت اآلنسة بيردي‪ (( :‬ال بأس ولكن تذكر يا سيد أنك مغامر جسور ‪ ،‬فماذا لو أصابك في‬
‫حماستك حادث ؟ وماذا يكون من ‪))..‬‬
‫واستمر العجوز ديني يقرأ عن إتفاقية التحكيم ‪ ،‬متابعا ً السطور بإصبعه‪.‬‬
‫وفي واجهة الطابق الثاني كان آل ماكاسكي قد أطال من النافذة يلتقطان أنفاسهما للجولة‬
‫الثانية ‪ ،‬والسيد ماكاسكي يغترف اللفت المطبوخ من صدريته بسبابته المعقوفة ‪ ،‬في حين‬
‫أن زوجته كانت تدعك عينا لم يفدها لحم الخنزير المشوي وما فيه من ملح الطعام ‪ .‬لقد‬
‫سمعا الصرخة الصاعدة من تحت ‪ ،‬فأطال برأسيهما من النافذة ‪ ،‬وقالت السيدة ماكاسكي‬
‫في صوت رزين‪ (( :‬إن مايك الصغير قد ضاع ‪ ،‬ذلك الطفل الجميل العفريت الشقي ))‪.‬‬
‫قال السيد م اكاسكي وهو يطل من النافذة‪(( :‬لعله نسي في مكان ما‪،‬هذا شيء سيء ‪ ،‬إن‬
‫األطفال ليختلفون من هذه الناحية عن النساء ‪ ،‬فلو كانت امرأة تلك التي فقدت لما همني‬
‫شيء ‪ ،‬فإنهن يتركن وراءهن الهدوء والسالم ))‪.‬‬
‫وتجاهلت السيدة ماكاسكي الضربة وأمسكت بذراع زوجها وقالت في حنان‪(( :‬إن ابن‬
‫السيدة مورفي الصغير مفقود ‪ ،‬وإنها لمدينة ضخمة على طفل ضائع ‪ ،‬انه في السادسة من‬
‫عمره ‪ ،‬وهذا ما كان ينبغي أن يكون عمر ولدنا لو كنا أنجبنا ولداً منذ ستة أعوام ))‬
‫قال السيد ماكاسكي وهو يتأمل في هذه الحقيقة‪ (( :‬جيدٌ أننا لم ننجب قط))‬
‫قال زوجته‪ (( :‬إذا فعلنا يا جون ‪ ،‬فكر فيما كان يغمر قلبينا من األسى هذه الليلة لو أن‬
‫صبينا فيالن خرج من البيت فالتقمته المدينة ‪ ،‬فلم يوجد في مكان ))‪.‬‬
‫قال السيد ماكاسكي‪(( :‬ان هذا الذي تقولين حمق وخرق ‪ ،‬فان ولدنا كان ينبغي أن يسمى‬
‫باسم أبي الشيخ المقيم في كاتريم ))‬
‫قالت السيدة ماكاسكي بال غضب‪(( :‬أنت كاذب فإن أخي كان يساوي مائة من آل ماكاسكي‬
‫الفالحين ‪ ،‬وولدنا يجب أن يسمى باسم خاله)) ‪ ،‬ومدن رأسها من النافذة لتنظر إلى ما‬
‫يجري تحتها من لفظ وضوضاء ‪ ،‬ثم قالت بلطف‪(( :‬جون إني آسفة ‪ ،‬لقد تسرعت معك))‬
‫‪ ،‬قال زوجها‪(( :‬انما تسرعت الفطائر واللفت والقهوة ‪ ،‬ولعلها كانت تصبيرة ‪ ،‬وعلى أي‬
‫حال فال بأس وال تعودي إلى البهتان))‪.‬‬
‫وزلقت السيدة ماكاسكي ذراعها تحت إبط زوجها ‪ ،‬وشبكت يدها في يده الغليظة ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫((أتسمع ولولة السيدة مورفي المسكينة؟ إنه لشيء فظيع أن يفقد طفل صغير في هذه‬
‫المدينة الضخمة الرهيبة ‪ ،‬ولو كان الضائع ولدنا فيالن لحطمت صدري بيدي حسرات))‪.‬‬
‫وسحب السيد ماكاسكي يده من يدها بغلظة ‪ ،‬وأحاط بها اكتاف زوجته وقال في خشونة‪:‬‬
‫((هذا هو الحمق بعينه ‪ ،‬ولو أن ولدنا بات قد خطف أو حدث له حادث لقتلت نفسي ‪،‬‬
‫أطفاال قط‪ ،‬ولئن كنت عاملتك بفظاظة أحيانا ً ‪ ،‬وخشونة أحيانا ً أخرى يا‬
‫ً‬ ‫ولكننا لم ننجب‬
‫جودي ‪ ،‬فانسي واغفري ما كان ))‪.‬‬
‫وعادا يطالن من النافذة جالسين ‪ ،‬ويشهدان المأساة التي تمثل تحتهما ‪.‬‬
‫وطالت جلستهما هذه ‪ ،‬وماج الشارع الضيق بأفواج من الناس يتساءلون ويمألون الجو‬
‫شائعات ‪ ،‬وتخمينات متضاربة ‪ ،‬والسيدة مورفي تذرع الطريق بينهم جيئة وذهابا كجبل‬
‫ندي يتدفق على سهله شالال من الدموع ‪ ،‬رائع الهدير ‪ ،‬والرسل يغذون ويروحون‪.‬‬
‫وتضاعفت الضوضاء والصياح فجأة ‪ ،‬فتساءل السيد ماكاسكي ((ال أدري ماذا جد اآلن يا‬
‫جودي )‪.‬‬
‫قالت السيدة ماكاسكي‪(( :‬انه صوت السيدة مورفي ‪ ،‬تقول أنها عثرت لصغيرها مايك نائما‬
‫وراء لفة من البساط تحت السرير))‪.‬‬
‫وقهقه ماكاسكي وهو يقول ساخرا‪(( :‬ها هو ذا ولدك فيالن ‪ ،‬أتظنين ولدي بات كان على‬
‫شقاوته يرضى لنفسه مثل هذه األالعيب ‪ ،‬إن الولد الذي لم نرزق به قط إذا ضل أو سرقته‬
‫قوى المدينة الخفية ‪ ،‬فلك أن تسميه فيالن ‪ ،‬مادام يختفي تحت السرير كالجرو األجرب)) ‪.‬‬
‫ونهضت السيدة ماكاسكي متثاقلة ومضت نحو صوان األطباق وزوايا فمها مدالة ‪.‬‬
‫وعندما انفض الزحام ظهر الشرطي كليري من وراء ركن البيت وبدت عليه الدهشة‬
‫عندما صوب أذنه نحو مسكن آل ماكاسكي حيث تعالى كما كان من قبل صليل المكاوي‬
‫واألطباق ‪ ،‬ورنين أدوات المطبخ ‪ ،‬وأخرج الشرطي كليري ساعته ‪ ،‬وقال متعجبا‪:‬‬
‫((وحق االفاعي السارحة ‪ ،‬أن ماكاسكي وزوجته يتعاركان منذ ساعة وربع الدقيقة ‪ ،‬إنه‬
‫قد يفوقها قوة عضل ‪ ،‬ولكنها تفوقه قطعا سالطة لسان))‪.‬‬
‫وعاد الشرطي كليري من حيث أتى ‪ ،‬وطوى العجوز ديني جريدته وصعد السلم عجوالً ‪،‬‬
‫عندما رأى السيدة مورفي تهم بإغالق الباب بالمزالج ‪ ،‬كما كانت تفعل كل ليلة ‪.‬‬

‫غرفة المنور‬

‫أول ما تريك إياه السيدة باركر في بيتها ردهاته المزدوجة‪ .‬وانت لن تجرؤ على مقاطعتها‬
‫في وصفها لمحاسن هذه الردهات ‪ ،‬ومزايا السادة الذين سكنوها ثماني سنوات ‪ .‬وقد‬
‫تحاول أن تعترف لها همهمة أنك لست طبيبًا وال جراح أسنان ‪ ،‬فتتلقى السيدة باركر هذا‬
‫االعتراف بصورة تجعلك تنصرف إلى األبد عن شعورك الطيب القديم نحو أبويك اللذين‬
‫أهمال تعليمك مهنة من المهم الالئقة بردهات السيدة باركر ‪.‬‬
‫ثم تصعد وراءها في درج السلم إلى الطابق الثاني ‪ ،‬وترى غرفته الخلفية التي إيجارها ‪٨‬‬
‫دوالرات ‪ ،‬ولكنك مع اقتناعك بوصفها الخاص بغرف الطابق الثاني ‪ ،‬أن الغرفة تساوي‬
‫االثني عشر رياالً التي كان يدفعها فيها على الدوام السيد توزنبري ‪ ،‬حتى غادرها أخيراً‬
‫ليشرف على مزرعة برتقال ألخيه في فلوريدا ‪ ،‬بالقرب من بالم بيتش ‪ ،‬حيث تشتي دائما ً‬
‫السيدة ماكنير ‪ ،‬ساكنة الغرفة االمامية ذات الحمام الخاص ‪ ،‬مع إقتناعك بكل هذا فانك‬
‫تقول متلعثما ً انك تريد غرفة بإيجار أقل ‪ .‬وتقودك السيدة باركر ‪-‬إذً أنت صمدت‬
‫الحتقارها – الى غرفة السيد سكيدر الواسعة في الطابق الثالث ‪ .‬ورغم أن غرفة السيد‬
‫سكيدر لم تكن خالية ‪ ،‬اذ كان يؤلف فيها مسرحياته ‪ ،‬ويدخن سجائره ‪ ،‬ال يبرحها طوال‬
‫اليوم ‪ ،‬فإن كل راغب في استئجار غرفة كان حتما عليه يزور غرفة السيد سكيدر ليعجب‬
‫بسجوفها‪ .‬وفي أعقاب كل زيارة كان السيد سكيدر يضطر بدافع الذعر الناشئ من احتمال‬
‫طرده ‪ ،‬إلى دفع عالوة جديدة على اإليجار‪.‬‬
‫ثم اذا بقيت لك ساق تحملك ‪ ،‬ويدك المحمومة في جيبك متشبثة بالدوالرات الثالثة المنداة‬
‫بالعرق ‪ ،‬وصوتك المبحوح يعترف بفقرك المذل الشنيع ‪ ،‬فان السيدة باركر تنفض يدها‬
‫من إرشادك ‪ ،‬وتصيح صياح اإلوزة البرية منادية ( كالرا) ثم توليك ظهرها وتنزل ‪ ،‬ومن‬
‫ثم تقودك كالرا الخادمة الزنجية على السلم المكسو بالسجاد ‪ ،‬المؤدي الى الطابق الرابع ‪،‬‬
‫فتريك غرفة المنورالتي تشغل سبعة في ثمانية أقدام من وسط البهو‪ ،‬ويقوم على كل من‬
‫جانبيها مخزن مظلم لسقط المتاع ‪.‬‬
‫وكان في الغرفة سرير حديدي ضيق ‪ ،‬وحمالة مغسل ‪ ،‬وكرسي ورف يستعمل صوانا ً ‪،‬‬
‫وتبدو لك جدرانها األربعة كانما تنطبق عليك كجوانب نعش ‪ ،‬وتنساب يدك إلى عنقك ‪،‬‬
‫وتشهق ‪ ،‬وتتطلع الى اعالها فتحس انك تنظر اليه من قرار جب ثم تلتقط أنفاسك ثانية ‪.‬‬
‫ومن خالل زجاج المنور الصغير في سقف الحجرة ترى مربعا ً صغيراً من الالنهاية‬
‫الزرقاء ‪.‬‬
‫وتقول كالرا في لهجة نصفها ازدراء ونصفها من والية أالباما (دوالران‪..‬تفو!)‪.‬‬
‫وجاءت االنسة ليسون ذات يوم تبحث عن غرفة ‪ ،‬وكانت تحمل آلة كاتبة ‪ ،‬صنعت‬
‫لتحملها سيدة أضخم ‪ ،‬فقد كانت االنسة ليسون صبية صغيرة الغد ‪ ،‬ظل شعرها وعيناها‬
‫يكبران حتى بعد أن كف نومها ‪ ،‬وكأنما يقوالن لها‪(( :‬ياهلل! لماذا ال تكبرين معنا ؟))‪.‬‬
‫وأراها السيدة باركر ردهتها المزدوجة ‪ ،‬وقالت لها مشيرة إلى مخدع في الجدار‪ (( :‬هنا‬
‫يستطيع المرء أن يحتفظ بالهيكل العظمي أو المخدرات أو الفحم))‪ .‬وقالت اآلنسة ليسون‪:‬‬
‫(( لكنني لست طبيبة وال جراحة أسنان))‪.‬‬
‫وألقت عليها السيدة باركر تلك النظرة المنكرة ‪ ،‬الراثية ‪ ،‬الساخرة ‪ ،‬األشد برودة من الثلج‬
‫‪ ،‬والتي تدخرها ألولئك الذين فشلو في الحصول على اجازات الطب وجراحة األسنان ‪ ،‬ثم‬
‫قادتها إلى الغرف الخلفية في الطابق الثاني‪.‬‬
‫وقالت اآلنسة ليون‪ (( :‬ثمانية دوالرات ! ياللهول! إني لست اغا خان ‪ ،‬وان بدوت كذلك ‪،‬‬
‫وما انا اال عاملة فقيرة ‪ ،‬فأريني شيئا أعلى وأقل ))‬
‫ووثب السيد سكيدر عندما سمع طرقا على الباب‪ ،‬ناثراً على األرض منفضة السجائر بما‬
‫فيها من أعقاب ‪.‬‬
‫وقالت السيدة باركر وهي تبتسم ابتسامتها الشيطانية لمالمحه التي شاع فيها الشحوب‪(( :‬‬
‫ال تؤاخذني يا سيد سكيدر ‪ ،‬فما كنت أعلم انك هنا ‪ ،‬وقد سألت السيدة أن تلقي نظرة على‬
‫سجوف غرفتك))‪ .‬قالت اآلنسة ليسون وعلى ثغرها ابتسامة كابتسامة المالئكة‪ (( :‬إنها آية‬
‫في الجمال))‪.‬‬
‫وبعد خروجها انهمك السيد سكيدر في تغيير بطلة آخر مسرحية له ( لم تمثل ) ‪ ،‬وكانت‬
‫قرعاء سوداء الشعر ‪ ،‬إلى فتاة صغيرة القد ‪ ،‬لعوب لها مالمح مرحة ‪ ،‬وشعر كثيف براق‬
‫‪.‬‬
‫وقال مستر سكيدر يحدث نفسه ‪ ،‬ومعدله تواجهان سجوف الباب ‪ ،‬وقد استخفى في سحابة‬
‫من الدخان كخنفس بحري يسبح في الهواء‪(( :‬إن الممثلة آنا هيلد سترقص فرحا بهذا‬
‫الدور))‪.‬‬
‫وفي هذا الوقت كان نداء السيدة باركر لكالرا يعلن للعالم بناقوسه الرنان حالة اآلنسة‬
‫ليسون المالية ‪ ،‬وكان مارد أسود يقبض على ذراع اآلنسة ‪ ،‬ويقودها في السلم المظلم إلى‬
‫اللحد الذي تنجاب كوته العليا عن شعاع من النور ‪ ،‬ثم يغمغم بالكلمة المحملة بالسخرية‬
‫والوعيد (( رياالن ))‪.‬‬
‫وتنهدت اآلنسة ليون قائلة‪ (( :‬سآخذها )) ‪ ،‬ثم ألقت بنفسها على السرير العالي الصرير ‪.‬‬
‫وكانت االنسة ليسون تخرج إلى عملها كل يوم ‪ ،‬ثم تعود في المساء حاملة أوراقًا مكتوبة‬
‫تنسخها على اآللة الكاتبة ‪ ،‬ولكنها كانت تخلو من العمل أحيانا ً ‪ ،‬فتجلس على درج المدخل‬
‫مع النزالء اآلخرين‪..‬‬
‫إن االنسة ليسون عندما صورت لم يخطر لها في اللوح أن تسكن في غرفة منور ‪ ،‬فقد‬
‫كان قلبها عامرا بالمرح ‪ ،‬وكان خيالها ممتلئا ً بألطف وأغرب األفكار ‪ .‬ولقد سمحت قبل‬
‫ذلك للسيد سكيدر أن يقرأ لها ثالث فصول من مهزلته العظيمة ( التي لم تطبع ) ‪.‬‬
‫وكان الرجال من النزالء يبتهجون كلما وجدت اآلنسة ليسون فسحة من وقتها لتجالسهم‬
‫ساعة أو ساعتين على السلم ‪ ،‬ولكن اآلنسة لونج نكر التي تحتل درجة السلم العليا ‪،‬‬
‫وتشتغل مدرسة في مدرسة شعبية وتعلق على كل ما تقوله لها بكلمة ( حقا ً ) كانت ال‬
‫تشاطرهم هذا االبتهاج ‪ ،‬وكذلك كان شأن اآلنسة دورن صاحبة الدرج السفلى من السلم ‪،‬‬
‫والعاملة في محل تجاري‪ ،‬والتي تمارس صيد البط في مدينة المالهي كل يوم أحد‪،‬‬
‫وكانت االنسة ليسون تحتل الدرجة الوسطى ‪ ،‬فال تكاد تأخذ مكانها حتى يتجمع من حولها‬
‫الرجال ‪.‬‬
‫وكان هذا بنوع خاص ديدن المستر سكيدر الذي اصطفاها خياله لتمثل دور البطلة في‬
‫تمثيلية غرامية شخصية ( لم تكتب ) من واقع الحياة ‪.‬‬
‫والسيد هوفر البدين الخجول األحمق الموفى على الخامسة واألربعين ‪ ،‬وكذلك السيد‬
‫ايفانس الشاب الذي يتصنع السعال األجوف ليدفعها إلى رجائه أن يقلع عن التدخين ‪ ،‬وفي‬
‫الوقت الذي كان الرجال يصفونها بأنها ألطف وأظرف من على ظهر األرض ‪ ،‬كانت‬
‫صاحبتا الدرجتين العليا والسفلى يقابلن هذا الرأي بتحفظ شديد ‪.‬‬
‫وإني ألتوسل للقارئ ان يترك القصة تتوقف هنيهة ‪ ،‬يظهر فيها معلن األشخاص ‪ ،‬أمام‬
‫الستار‪ ،‬وتحت أضواء المسرح ‪ ،‬ليسكب دمعة حزينة على بدانة السيد هوفر ‪ ،‬وليقرع‬
‫الطبول على مأساة السمنة الفاحشة ‪ ،‬ولعنة الضخامة الجسيمة ‪ ،‬وكارثة البدانة الهائلة ‪ ،‬ان‬
‫الطن من شحم فالستاف قد يشتمل على حب أكثر مما تحويه األوقية من هزال روميو ‪،‬‬
‫لكن المحب أن حمد منه التنهد ‪ ،‬فهيهات أن يحمد منه اللهاث ‪ ،‬وفي موكب اآللهة يساق‬
‫صا في الهوى يخفق سدى فوق كرش‬ ‫البدين في حبائل موماس ‪ ،‬فإن أشد القلوب إخال ً‬
‫قطره متران ‪ .‬فتأخر يا هوفر تأخر ‪ ،‬إن هوفر الخجول االحمق الموفي على الخامسة‬
‫واألربعين ‪ ،‬ببدانته الفاحشة ال يصلح إال وقودا للجحيم ‪ ،‬تأخر فما من امل لك قط يا هوفر‬
‫‪.‬‬
‫وإذ يجلس نزالء السيدة باركر على السلم ذات أمسية من أمسيات الصيف ‪ ،‬تطلعت اآلنسة‬
‫ليسون الى السماء ‪ ،‬وصاحت هي تضحك ضحكتها الصغيرة الطروب‪ ( :‬هذا بيلي‬
‫جاكسون ‪ ،‬إني ألراه من هنا كذلك ) ‪ .‬وتطلع الكل إلى األعالي ‪ ،‬بعضهم ينظر إلى نوافذ‬
‫ناطحات السحاب ‪ ،‬وآخرون يبحثون عن طائرة ‪ ،‬يقودها من يدعى جاكسون ‪.‬‬
‫ووضحت اآلنسة ليسون مرادها ‪ ،‬وهي تشير الى السماء بإصبع صغير وقالت‪ (( :‬انما‬
‫اعني هذا النجم ‪ ،‬ليس النجم الكبير الساطع ‪ ،‬ولكن النجم الثابت الزرقة الذي بجواره ‪ ،‬إني‬
‫أراه كل ليلة من كوة المنور ‪ ،‬وقد سميته بيلي جاكسون ))‪.‬‬
‫قالت اآلنسة لونج مكر‪(( :‬حقًا! ما كنت أعلم إنك فلكية يا آنسة ليسون))‪ . .‬وأجابت الصبية‬
‫المولعة بالتطلع إلى النجوم ((إني ألعرف ما يعرفه أي فلكي على طراز األكمام المتوقع‬
‫ارتداؤها في الخريف القادم بالمريخ)) ‪.‬‬
‫قالت آنسة لونج نكر‪(( :‬حقا ! إن الكوكب الذي تشيرين إليه هو النجم الثالث في مجموعة‬
‫كاسيوبيا (الثريا) ‪ ،‬وهو بالتقريب في القدر الثاني ‪ ،‬وعبوره في خط الزوال هو‪ )..‬قال‬
‫السيد ايفانس الشاب‪ ( :‬أووه…أظن أن بيلي جاكسون اسما ً أفضل)‪.‬‬
‫وقال السيد هوفر بصوت يتنزى احتقاراً لآلنسة لونج نكر‪ (( :‬أحسب أن اآلنسة ليسون لها‬
‫من الحق ما ألي من هؤالء الفلكيين العجائز في تسمية النجوم))‪ .‬قالت آنسة لونج نكر‪(( :‬‬
‫حقاً!)) وعلقت آنسة دورن‪ (( :‬أترى هذا الكوكب من النيازك الراقية ؟ أني أصيب تسع‬
‫بطات وأرنبا ً من عشر في مدينة المالهي كل يوم أحد))‪.‬‬
‫قالت آنسة ليسون‪ (( :‬إنه ال يرى جيدا من هنا ‪ ،‬وحبذا لو رأيتموه من كوة غرفتي ‪ ،‬فلعلكم‬
‫تعلمون أن النجوم ترى من قاع جب حتى في وضح النهار ‪ ،‬إن غرفتي في الليل أشبه ما‬
‫تكون بهوة منجم الفحم ‪ ،‬وأن بيلي جاكسون ليبدو منها كالماسة الكبرى في دبوس تشبك به‬
‫غادة الليل غالئل قميصها ))‪.‬‬
‫ومر بعد ذلك حين لم تعد اآلنسة ليسون تحضر فيه رزم األوراق الضخمة لنسخها في‬
‫البيت ‪ ،‬وبدال من أن تشتغل كلما خرجت في الصباح ‪ ،‬كانت تدور على المكاتب من واحد‬
‫الى اخر تذيب حشاشة قلبها تحت رذاذ الرفض القاسي الذي تتلقاه من غلمان هذه المكاتب‬
‫بال رحمة ودام ذلك طويال ‪.‬‬
‫حتى كان ذات مساء صعدت فيه اآلنسة ليسون الدرج متعبة ‪ ،‬في الساعة التي كانت تعود‬
‫فيها إلى بيت السيدة باركر على الدوام ‪ ،‬بعد أن تتناول عشاءها في مطعم ‪ ،‬بيد أنها لم تكن‬
‫ذاقت طعا ًما هذا المساء ‪.‬‬
‫وعندما دخلت الردهة القاها السيد هوفر ‪ ،‬فانتهز الفرصة السانحة وطلب يدها للزواج ‪،‬‬
‫وكانت بدانته تكبس عليها كأنها جرف جليد ينهار ‪ ،‬فترنحت تكاد تسقط لوال أن تعلقت‬
‫بالسياج ‪ ،‬وحاول أن يضم يدها اليه ‪ ،‬فنتشتها وصفعته على وجهه في كالل ‪ ،‬ومضت‬
‫تصعد السلم درجة درجة ‪ ،‬تجر نفسها جراً متعمدة على السياج ‪ ،‬ومرت بباب السيد‬
‫سكيدر وهو يعمل في تنقيح الحركة المسرحية لبطلته ميرتل ديلورم (اآلنسة ليسون) في‬
‫هزليته (التي رفضت) بحيث تدخل المسرح من جانبه تتأود حتى تصل إلى جوار الكونت‬
‫‪ ،‬وزحفت زحفا على السلم المغطى بالسجاد حتى وصلت في النهاية إلى باب غرفة المنور‬
‫فقتحته ودخلت ‪ .‬وكانت من الضعف بحيث عجزت أن تشعل اإلضاءة أو تخلع ثيابها ‪،‬‬
‫فتهالكت على السرير الحديدي يكاد قدمها المنهار يعيا عن تحريك لوالب السرير ‪ ،‬وفي‬
‫هدا الجحر المظلم الذي هو مأواها ‪ ،‬فتحت أجفانها الثقيلة ببطء وتبسمت ‪.‬‬
‫ذلك أن (بيلي جاكسون) كان يشرف عليها من كوة المنور في هدوئه وثباته وثناه ‪ ،‬ومحا‬
‫الوجود كله من حولها ‪ ،‬فغرقت في وهدة من الظلمة ‪ ،‬ال ترى فيها اال ذلك الضوء المربع‬
‫الهافت ‪ ،‬المحيط بالنجم الذي سمته ذلك االسم المستغرب العقيم ‪ ،‬وحدثت نفسها أن اآلنسة‬
‫لونج نكر لم تجانب الصواب ‪ ،‬وأن هذا النجم ليس (بيلي جاكسون) ولكنه النجم الثالث من‬
‫نجوم الثريا ‪ ،‬بيد أن نفسها لم تطاوعها أن تطلق عليه هذا االسم الهزيل ‪.‬‬
‫وبينما هي مستلقية على ظهرها ‪ ،‬حاولت عبثا ً أن ترفع ذراعها مرتين‪ ،‬وفي المرة الثالثة‬
‫نجحت في أن تضع اصبعين نحيلين على شفتيها ‪ ،‬وتزرو قبلة لي الهوة المظلمة ‪ ،‬أرسلتها‬
‫الى (بيلي جاكسون) ثم هوى ذراعها كليالً إلى حيث كان ‪.‬‬
‫وغمغمت في ضعف‪( :‬الوداع يا بيلي ‪ ،‬إنك تبعد ماليين األميال ‪ ،‬وال تسطع حتى مرة‬
‫واحدة ‪ ،‬ومع ذلك فقد بقيت أكثر الوقت حيث أراك في عالك ‪ ،‬الذي انعدم في عيني كل‬
‫شيء فيه إال الظالم ‪ ،‬ألم تفعل ؟ ماليين من االميال ! الوداع يا بيلي جاكسون) ‪.‬‬
‫إن كالرا الخادم الزنجية قد وجدت الباب مغلقا في الساعة العاشرة من صباح اليوم الثاني‬
‫‪ ،‬وفتحوه عنوة ‪ ،‬ولما فشل الخل ‪ ،‬وتدليك المعاصم ‪ ،‬وبخور الريش المحروق في إعادتها‬
‫للحياة ‪ ،‬طلب أحدهم اإلسعاف بالتليفون ‪.‬‬
‫وقفت سيارة اإلسعاف بالباب تعلن عن نفسها بقرع األجراس ‪ ،‬وصعد السلم طبيب شاب‬
‫قوي في معطف أبيض ‪ ،‬يبدو على وجهه السمح التأهب والنشاط والثقة ‪ ،‬ويختلط فيه‬
‫الظرف بالعبوس ‪.‬‬
‫وقال الطبيب باقتضاب‪( :‬يوجد طلب لإلسعاف من ‪..٤٩‬هل من مصاب ؟ ) ‪ ،‬وقالت السيدة‬
‫باركر وهي تشد منخريها ‪ ،‬كما لو كان مصابها في حدوث شيء بيتها هو أكبر مصاب ‪( :‬‬
‫أجل يا دكتور ‪ ،‬ال أستطيع أن أتصور ما بها ‪ ،‬وما من شيء فعلناه ردها إلى الحياة ‪ ،‬إنها‬
‫صبية تدعى اآلنسة اليسى ‪ ،‬نعم اآلنسة اليسى ليسون ‪ ،‬لم تسبق السكنى في منزلي قط )‪.‬‬
‫وصاح الطبيب في صوت رهيب لم تتعوده السيدة باركر‪( :‬أية غرفة ؟) قال السيدة باركر‪:‬‬
‫(غرفة المنور‪ ..‬انها‪)..‬‬
‫ومن الواضح أن طبيب اإلسعاف كان ملما ً بمكان غرف المناور ‪ ،‬فقد صعد السلم أربعا ً‬
‫أربعا ً ‪ ،‬وتبعته السيدة باركر بالبطء الذي يتالءم وكبرياءها ‪.‬‬
‫وقابلته على بسطة السلم األولى ‪ ،‬وهو عائد ‪ ،‬يحمل على ذراعيه عالمة الفلك ‪ ،‬فوقف‬
‫لحظة ترك فيها لمبضع لسانه المتمرن الحرية في كلمة قالها همسا ً ‪ ،‬فلم تكد تسمعها السيدة‬
‫باركر حتى انكمشت وتضاءلت كرداء وقع من حيث كان معلقا ً على مسمار ‪ ،‬ومنذ ذلك‬
‫اليوم بقيت في بدنها وذهنها من هذه الكلمات غضون ‪ ،‬وكثيراً ما كان الفضوليون من‬
‫نزالئها يسألونها عما قال الطبيب فتجيب‪( :‬لقد كان ما كان ‪ ،‬ولو أني أوتيت مغفرة على‬
‫مجرد سماع ما قاله لكفاني) ‪.‬‬
‫ومضى الطبيب بحمله يخط طريقه بين شرذمة الكالب التي اجتذبها حب استطالع هذا‬
‫الطراد ‪ ،‬بل انهم فسحوا له في الطريق وتالصقوا بالجدران مرتبكين ‪ ،‬ألن وجهه كان‬
‫وجه شخص يحمل ميتا ً من موتاه ‪.‬‬
‫والحظوا انه لم يطرح ذلك الهيكل الذي حمله على سرير السيارة المعد ‪ ،‬وكان كل ما قاله‬
‫للسائق‪( :‬سق بسرعة االبالسة يا ويلسون)‪.‬‬
‫هذا كل ما كان ‪ ،‬فهل وجدتم قصة فيه أيها القراء ؟ إنني قرأت نبأ في صحف الصباح ‪،‬‬
‫لعل آخر جملة فيه تعينكم كما اعانتني على مزج الحوادث بعضها ببعض ‪.‬‬
‫جاء في النبأ أن مستشفى بلفي قد نقلت إليه فتاة شابة من رقم ‪ ٤٩‬شرق شارع ‪ ،‬تعاني‬
‫هزاالً شديداً ناتج عن الجوع والحرمان ‪ ،‬واختتم الخبر بهذه الكلمات‪ ( :‬إن الطبيب وليم‬
‫جاكسون الطبيب الذي أشرف على إسعاف الحالة يقول أن الفتاة تتماثل للشفاء ) ‪.‬‬
‫في خدمة الحب‬

‫إذا أحب المرء فنه فقلما يشق عليه عمل فيه‪.‬‬


‫هذه مقدمة لقضية منطقية ‪ ،‬وستستخلص من هذه القصة نتيجة‬
‫وستثبت في نفس الوقت أن هذه المقدمة باطلة ‪ ،‬وهو شيء جديد في المنطق ‪ ،‬ولكنه‬
‫براعة مألوفة في التأليف القصصي قد تكون أعرق في القدم من سور الصين الكبير نزح‬
‫جوالرابي من مستنقعات الغرب األوسط ‪ ،‬ينبض بالعبقرية في فن التصوير ‪ ،‬فقد قام‬
‫وهو في السادسة بعمل لوحة لمضخة الماء بالقرية‬
‫يغذ السير على مقربة منها أحد القرويين ‪ ،‬ووضع اللوحة في اطار ‪ ،‬وعرض االطار في‬
‫معرض حانوت بقال ‪ ،‬إلى جوار «كوز » من الذرة لم تتزاوج صفوف الحب فيه‬
‫كالمعتاد ‪ .‬وفي العشرين سافر إلى نيويورك بربطة عنق منتفشة ‪ ،‬ورصيد مالي‬
‫ملموموكانت ديليا كاروثرز من أهل قرية عامرة بأحراش الصنوبر ‪ ،‬من قرى الجنوب ‪،‬‬
‫تبهر أقاربها بما تسويه من هوائل في الموسيقى ‪ ،‬فتعاونوا على أن يجمعوا لها صبابة من‬
‫المال‪ ،‬لتنزح إلى الشمال وتستكمل هذا النبوغ ‪ ،‬بيد أنهم لم يقدر لهم أن يروا نبوغها يكد‬
‫‪ . . .‬ولكن صبرا فهذا جوهر القصة ‪.‬‬
‫تالقى جووديليا في متحف ضم طائفة من طالب الفن والموسيقى ‪ ،‬يتجاذبون الحديث عن‬
‫تبادل األضواء والظالل في الصور ‪ ،‬وعن وجنر ‪ ،‬والموسيقى وأعمال رامبراندت‪،‬‬
‫واللوحات ‪ ،‬ووالدنتوفل ‪ ،‬وورق الجدران الملون ‪ ،‬وشوان وأولنج ‪ ،‬وتحاب جووديليا ‪،‬‬
‫أو قل إذا شئت أحب كل منهما اآلخر ‪ ،‬وتزوجا في وقت قصير ‪ ،‬فانه – كما قرأت في‬
‫مطلع القصة – إذا أحب‬
‫المرء فنه ‪ ،‬فما من عمل يشق عليه فيه وبدأ آل الرابي حياتهما الزوجية في شقة ‪ ...‬شقة‬
‫منعزلة انعزال المفتاح الصارخ في أقصى اليسار من لوحة البيان ‪ .‬وكانا سعيدين ‪ ،‬فلكل‬
‫منهما فنه ‪ ،‬ولكل منهما صاحبه ‪ ،‬واني ألهيب بكل شاب ثري ‪ ،‬أن ما يملك ‪ ،‬ويتصدق‬
‫به على الفقراء ويحظى بالسكنى يبيع شقة مثل هذه مع فنه وديلياه إن كل نزالء هذه‬
‫المساكن يعززون رأيي ان سعادتهم هي السعادة الحقيقية الوحيدة ‪ ،‬فالبيت السعيد ولو‬
‫كان جحراً ال يضيق بساكنيه دع خزائن المالبس تنقلب فيه موائد للبليارد ‪ ،‬وطنف الموقد‬
‫يستحل إلى آلة للتجديف ‪ ،‬والمائدة ذات األجنحة المتحركة إلى غرفة نوم احتياطية ‪،‬‬
‫وحوض الغسيل إلى بيان « على الواقف » ودع الجدران األربعة تتعانق ‪ -‬إذا استطاعت‬
‫‪ -‬فانك وديليا بين أحضانها سعيدان ‪.‬‬
‫أما إذا كان البيت على النمط اآلخر ‪ ،‬فليتسع وليمتد ما شاء ‪ ،‬وليكن مدخله الجولدن جيت‬
‫وليكن مشجب القبعات فيه رأس هاتيراس ‪ ،‬ومشجب المعاطف رأس الرجاء الصالح ‪،‬‬
‫وليكن بابه الخلفي شبه جزيرة لبرادور ‪ -‬وتتلمذ جو في التصوير على ماجستر العظيم –‬
‫ولعلك تعرف ماله من ذيوع الصيت ‪ .‬إنه يتقاضى أجورا طنانة على دروس جوفاء ‪،‬‬
‫ومن هذا الطنين األجوف مأل صيته اآلفاق ‪ .‬وكانت ديليا تتلمذ على روز نستوك وال‬
‫بدانك تعرف شهرته كمقلق أعظم لمفاتيح البيان‬
‫كانا سعيدين سعادة ضافية ‪ ،‬طالت ما بقي معهما فضلة المال‬
‫ككل الـ ‪ . . .‬ولكني لن أعمد إلى السخرية ‪ .‬إن أهدافهما كانت‬
‫محددة وواضحة غاية الوضوح ‪ .‬فجو كان عليه أن يصبح قادراً في أقصر وقت على‬
‫إخراج لوحات يتالئم في مرسمه على الحظوة بشرائها السادة العجائز أصحاب الشوارب‬
‫الرفيعة والمحافظ المنتفخة ‪ ،‬وكانت ديليا على أن تحذق الموسيقى ‪ ،‬وتكبر عليها إلى‬
‫الحد الذي يسمح لها ‪ ،‬بالزوغان من المسرح إذا وجدت المقاصير ومقاعد الصفوف‬
‫األولى خالية ‪ ،‬والمضي‬
‫بزورها الموجع إلى مطعم منعزل تتعشى على الجنبري فيه‬
‫بيد أن أجمل شيء على ما أعتقد كان حياتهما المنزلية في الشقة‬
‫الصغيرة ‪ ،‬وتالغيهما الفياض بالمحبة‪ ،‬والتبسط بعد الفراغ من دروس النهار ‪ ،‬والعشاء‬
‫اللطيف والفطور الطري الخفيف ‪ ،‬وتقارض المطامع التي يشترط فيها الجمع بينهما ‪ ،‬أو‬
‫ال توضع موضع االعتبار ‪ ،‬وتبادل العون وااللهام ‪ ،‬و ‪ -‬وعفواً عن قلة الذوق ‪ -‬شطائر‬
‫الجبن والزيتون المحشو الحادية عشرة من كل صباح ‪.‬‬
‫ولكن الفن لم يلبث أن نكس وهو خليق أن يفعل أحيانا ً ‪ ،‬ولو لم‬
‫ينكس رايته ديدبان ‪ .‬كل شيء يذهب وما من شيء يجيء كما يقول الناس ‪.‬‬
‫وأعوزتهما أجور السيد ماجستر والهر روزنستـوك ‪ ،‬ولما كان‬
‫المحب لفنه ال يشق عليه شيء ‪ ،‬فقد قالت ديليا انها ترى لزاما عليها أن تقوم باعطاء‬
‫دروس في الموسيقى حتى يظل الزيت ينش في المقالة وبقيت يومين أو ثالثة تتصيد‬
‫تالميذ ‪ ،‬وذات مساء عادت إلى البيت مزهوة ‪ ،‬وقالت في ابتهاج ‪ « :‬لقد وجدت تلميذة يا‬
‫عزيزي جو ‪ .‬انها ابنة الجنرال أ ‪ .‬ب ‪ .‬بكنى في الشارع الحادي والسبعين ويا له من‬
‫بيت فخم يجدر بك أن ترى بابه األمامي يا جو ‪ ،‬وأحسبك سـتـسـمـيـه بيزنطي الطراز ‪،‬‬
‫أما داخله ‪ ،‬فآها يا جو ‪ ،‬إن عيني لم تقع له قط على نظير» ‪.‬‬

‫تلميذتي هي ابنته كليمنتينا ‪ ،‬وقد شغفتني حبا مذ رأيتها ‪ .‬إنها‬


‫تذوب رقة ‪ ،‬وتلبس البياض على الدوام‪ ،‬وترف سجاياها بساطة‬
‫وحالوة ‪ .‬وهي في الثامنة عشرة ال أكثر‪ .‬وسأعطيها ثالثة دروس في األسبوع ‪ .‬وتصور‬
‫يا جو ‪ . . .‬عن كل درس خمسة رياالت ‪ .‬وما يهمني األمر البتة ‪ ،‬فعندما أستزيد‬
‫تلميذاتي اثنتين أو ثالثة أخريات ‪ ،‬سأستأنف دروسي مع الهروزنستوك ‪ .‬واآلن حل عنك‬
‫هذا القطوب يا عزيزي ودعنا نستمتع بالعشاء » ‪ :‬قال جو وهو يغزو علبة البازالء‬
‫المحفوظة بسكين تحت مطرقة « ال بأس في هذا من ناحيتك ‪ ،‬ولكن ماذا يكون من أمري‬
‫أنا هل تحسبينني أتركك تجاهدين للقوت وأنا أحلق الهيا في سماء الفن ؟ كال وعظام‬
‫بنفنيوتوسليني أظنني قادراً على كسب لاير أو ريالين كل‬
‫الصحف أو رصف الطريق » يوم من بيع فقامت ديليا فتعلقت بعنقه قائلة ‪« :‬جو يا انك‬
‫أحمق ‪ .‬يجب أن تظل في مرسمك ‪ .‬ال‬
‫حبيبي تحسبني سأهجر موسيقاي وأشتغل في عمل آخر ‪ ،‬ولكني سأتعلم وأنا أعلم ‪ .‬إنني‬
‫مع موسيقاي على الدوام ‪ ،‬وسنستطيع أن نعيش في بحبوحة أصحاب الماليين على‬
‫خمسة عشر رياال في األسبوع ‪ ،‬فال تفكر في ترك السيد ماجستير ‪.‬‬
‫قال جو وهو يتناول صحن الجنبري والخضر ‪ « :‬ليكن وان كنت أكره لك إعطاء‬
‫الدروس ‪ ،‬فما فيه من فن ‪ ،‬وهذا ال يمنع أن عملك هذا آية في اللطف والشهامة! »‬
‫قالت ديليا ‪ « :‬إذا أحب المرء فنه فما من عمل يشق عليه فيه »‬
‫وقال جو ‪ « :‬إن ماجستير قد أثنى على ألوان السماء تلك في اللوحة التي رسمتها في‬
‫المتنزه العام‪ .‬وقد رخص لي تنكل أن أعلق لوحتين في معرضه ‪ ،‬وقد أبيع واحدة منهما‬
‫‪ ،‬إذا رأها أبله ثري من النوع المناسب! »‬
‫قالت ديليا بنعومة ‪ :‬ذلك ما أنا على يقين منه ‪ ،‬فدعنا اآلن نقم‬
‫بواجب الشكر للجنرال بكني وشواء الكندوز»‪.‬‬
‫وخالل أيام األسبوع التالي كلها بكر آل الرابي في االفطار ‪ ،‬فقد‬
‫كان جو متلهفا على رسم بعض مناظر الصبح بالمتنزه الكبير ‪ ،‬وكان على ديليا أن تهيئه‬
‫للخروج في السابعة ‪ ،‬بطينا مدلال مغمورا بالثناء والقبالت ‪ .‬وكانت السابعة في المساء‬
‫موعد عودته في أكثر األيام وفي نهاية األسبوع رمت ديليا رمية الظافر ‪ ،‬وبشيء من‬
‫الزهو الحلو المشوب بالوهن ‪ ،‬ثالث أوراق مالية من فئة الخمسة الرياالت على المائدة‬
‫ذات الثماني البوصات في العشر ‪ ،‬والقائمة في وسط البهو العاري ذي الثمانية األقدام‬
‫في العشرة ‪ .‬ثم قالت في كالل ‪ «:‬إن كليمنتينا تضنيني أحيانا ً ‪ ،‬وأخشى أن تكون قليلة‬
‫التمرن ‪ ،‬فإني أضطر إلى إعادة نفس الشيء لها عدة مرات ‪ ،‬ثم هي ال تفتأ تلبس األبيض‬
‫من الفرع إلى القدم‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى ماللة الشيء الرتيب بيد أن الجنرال بكنى ألطف‬
‫عجوز ‪ ،‬وكم أود لو أنك عرفته يا جو ‪ ، ،‬انه يوافينا أحيانا ونحن على البيان ‪ -‬وهو‬
‫أرمل كما تعلم – فيقف بجوارنا يشد عثنونه االبيض ‪ ،‬ويتساءل على الدوام ‪ :‬وكيف حال‬
‫النغمات ‪ :‬واالرباع واالثمان ؟ » وليتك ترى هذا الكنار الخشبي في غرفة االستقبال يا‬
‫جو والستائر االستراخانية على األبواب ‪ .‬ان كليمنتينا تسعل سعلة رقيقة مضحكة وآمل‬
‫أن تكون أقوى مما تبدو ‪ .‬لقد بدأت في الحق أتعلق بها ‪ ،‬فانها الرقة مجسمة والتربية في‬
‫أسمى طراز ‪ .‬ولقد كان أخو الجنرال بكني يوما ما سفيرا لبوليفيا ! »‬
‫وأخرج جو من جيبه أربع ورقات مالية غضة أصيلة ‪ ،‬واحدة عشرة والثانية بخمسة ‪،‬‬
‫والثالثة بريالين والرابعة بلاير ‪ ،‬أخرجها كما لو أنه الكونت مونت كريستو ‪ ،‬وضعها‬
‫بجوار أوراق ديليا وقال في حماسة ‪ :‬لقد بعت لوحة المسلة ذات األلوان المائية لرجل من‬
‫بيوريا » قالت ديليا ‪ « :‬ال تسخر مني ‪ .‬ال يمكن أن يكون من بيوريا! » ‪ ( -‬منها من‬
‫الرأس إلى القدم ‪ .‬ليتك رأيته يا ديل ‪ .‬رجل بدين بوشاح من الصوف ‪ ،‬ودبابيس أسنان‬
‫من الريش ‪ .‬رأى اللوحة في معرض تنكل ‪ ،‬وظنها ألول وهلة طاحونة هواء ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فقد أقدم واشتراها على أية حال‪ ،‬وطلب مني أن أرسم له لوحة زيتية أخرى لمخازن‬
‫الكوانا الجمركية ‪ ،‬ليأخذها معه وهو عائد إلى وطنه دروس موسيقية هيه أظن الفن ما‬
‫زال خفاق اللواء ؟ » قالت ديليا في اخالص ‪ :‬كم أنا فرحة بمضيك قـدمـا ‪ ،‬انك لخليق‬
‫بالفوز أيها الحبيب ‪ .‬ثالثة وثالثون رياال ‪ .‬هذه ثروة لم نملك مثلها من قبل ‪ .‬سنأكل الليلة‬
‫الجندوفلي! قال جو ‪ :‬وفليتو بالشمبنيون ‪ .‬أين ملقاط الزيتون ؟‬
‫وفي مساء السبت التالي سبقها جو في الوصول إلى البيت ‪ ،‬فنشر‬
‫رياالته الثمانية عشر على المائدة ‪ ،‬وغسل ما بدا على يديه كمقدار مائل من الصباغ‬
‫األسود ووصلت ديليا بعد نصف ساعة ‪ ،‬ويدها اليمنى ملفوفة في حزمة من الخرق‬
‫واألربطة وسألها جو بعد التحية المألوفة ‪ :‬ماذا حدث ؟ فضحكت ديليا ولكن دون ابتهاج‬
‫كبير ثم أجابت ‪ :‬لقد صممت كليمنتينا على أن تأكل قرصا بالجبن مقلية بعد الدرس ‪ .‬انها‬
‫لفتاة غريبة االطوار ‪ .‬قرص مقلية في الخامسة بعد الظهر ‪.‬‬
‫وكان الجنرال هناك ‪ ،‬وليتك رأيته يا جو وهو يهرع إلى المقالة كأن البيت ليس فيه خادم‬
‫واحد ‪ .‬وكنت أعرف أن كليمنتينا متوعكة مستوفزة األعصاب ‪ .‬وبينما أقدم لها القرص‬
‫أراقت على يدي ومعصمي مقدارا كبيرا من الزيت وهو في درجة الغليان ‪ .‬وأي ألم‬
‫أحسسته يا جو! لقد عبرت الفتاة الغالية عن أسفها الشديد ولكن الجنرال بكني ‪ ،‬هذا الشيخ‬
‫العجوز ‪ ،‬لقد كان يصاب بذهول ‪ ،‬وهبط السلم قفزا فأرسل أحدا ما قيل أنه الفران ‪ ،‬أو‬
‫لعله شخص آخر في الطابق األرضي ‪ ،‬إلى صيدلية ليحضر بعض الزيت وأدوات‬
‫للتضميد ‪ ،‬وقد هدأ ألم الحرق نوعا ما االن ‪.‬‬

‫وأمسك جو يدها برفق ‪ ،‬وأخذ ينسل بعض الخيوط البيضاء من‬


‫تحت الضماد ‪ ،‬ثم قال ‪ « :‬ما هذا ؟ » قالت ديليا ‪« :‬هذا شيء ناعم نقع في الزيت»‬
‫ورأت المال على المائدة فقالت ‪« :‬هل بعت لوحة أخرى يا جو ؟ » قال جو ‪ « :‬أتظنين‬
‫؟ سلى الرجل القادم من بيوريا ‪ ،‬لقد حصل على مخزنه الجمركي اليوم ‪ ،‬وكان مترددا‬
‫في طلب لوحة أخرى لمنظر على نهر الهدسون ‪ .‬متى حرقت يدك بعد ظهر اليوم يا ديليا‬
‫؟ » قالت ديليا في شجن ‪ « :‬أظن الساعة كانت الخامسة ‪ .‬إن المكواة ‪ -‬أعني القرص‬
‫المقلية خرجت من النار حول ذلك الوقت ‪ .‬ليتك رأيت الجنرال بكنى يا جو وهو ‪»...‬‬
‫قال جو ‪« :‬اجلسي هنا هنيهة يا ديل وأجلسها على الكنبة ‪ ،‬وجلس بجوارها ‪ ،‬محيطا‬
‫كتفيها بذراعه ثم سأل ‪ :‬ما الذي كنت تصنعين في األسبوعين الماضيين يا ديل ؟‬
‫وواجهت السؤال بشجاعة لحظة أو لحظتين ‪ ،‬وبعين ممتلئة بالحب والكالل ‪ ،‬وغمغمت‬
‫جملة أو جملتين عن الجنرال بكني ‪ ،‬ولكنها سرعان‬
‫ما طأطأت رأسها ‪ ،‬وانفجرت عن فمها وعينيها الحقيقة والدموع‬
‫وراحت تعترف ‪ :‬لم أستطع أن أحصل على تالميذ ‪ ،‬ولم أطق أن‬
‫أراك تتخلى عن دروسك ‪ ،‬فحصلت على عمل لكي القمصان في تلك المغسلة الضخمة‬
‫بالشارع الرابع والعشرين ‪ ،‬وأحسبني نجحت في اختراع الجنرال بكني وكليمنتينا ‪ .‬أال‬
‫تظن ذلك يا جو ؟ وعندما وضعت فتاة في المغسلة مكواة محماة على يدي بعد ظهر اليوم‬
‫‪ ،‬قضيت الطريق كله في عودتى أزيف قصة القرص المقلية!! انك لست غاضبا ً مني يا‬
‫جو ‪ ،‬أليس كذلك؟ إني لو لم أحصل على هذا العمل فلربما كنت فشلت أنت في بيع‬
‫لوحاتك لهذا الرجل القادم من بيوريا » ‪ .‬قال جو في تؤدة ‪ :‬إنه لم يكن من بيوريا!‬
‫‪ -‬وماذا يهم من أين جاء ؟ ما أذكاك يا جو! قبلني ‪ ،‬وقل لي ماذا‬
‫أرابك من دروسي الموسيقية لكيمنتينا وأجاب جو ‪ :‬ما خامرني شك سوى الليلة ‪ ،‬ولقد‬
‫كنت حريـا أال أشك في شيء ‪ ،‬لوال أنني أنا الذي أرسلت هذه النفايات من القطن والزيت‬
‫‪ ،‬من غرفة اآلالت هذا األصيل‪ ،‬لفتاة في طابق علوي حرقت يدها مكواة ‪ .‬لقد كنت وقادا‬
‫لهذه اآلالت خالل األسبوعين الماضيين! كأنك لم ‪ . . .‬؟‬
‫‪ -‬إن عميلي القادم من بيوريا ‪ ،‬هو والجنرال بكني ‪ ،‬كالهما‬
‫منكرات لفن واحد ‪ ،‬ومن العسير أن تلحقي هذا الفن بالموسيقى أو‬
‫بالتصوير !! وضحك كالهما ثم قال جو ‪ :‬عندما يهوى المرء فنه فما من ‪ . . .‬؟ ولكن‬
‫ديليا أوقفت بيدها مجرى األلفاظ من شفتيه وقالت ‪ -‬كال ‪ . . .‬ال يحدث ذلك إال في الحب‬
‫»‪.‬‬

‫ماجي تدخل الحياة‬


‫كان «نادي ورقة البرسيم االجتماعي » يقيم مرقصا ً في مساء‬
‫السبت من كل أسبوع ‪ ،‬في دار «جمعية خذ وهات الرياضية »‬
‫بالجانب الشرقي من نيويورك ‪ .‬ولكي يباح لك ارتياد هذا المرقص يجب أن تكون عضواً‬
‫في «جمعية خذ وهات» أو ‪ . .‬إذا كنت منتميا ً إلى ذلك الفريق من الراقصين الذي يبدأ‬
‫الرقص بالقدم اليمنى ‪ ،‬فيكفي أن تكون عامالً في مصنع راينجولد لصناعة علب الورق ‪،‬‬
‫يضاف إلى ذلك أن كل عضو من أعضاء نادي ورقة البرسيم كان له الحق في أن‬
‫يصحب معه رفيقا ً من الجنس اآلخر من غير أعضاء النادي لرقصة واحدة ‪ ،‬وكان أكثر‬
‫أعضاء جمعية خذ وهات يصحب كل منهم الفتاة التي تستجيب له» من مصنع الورق ‪،‬‬
‫وقليل من الغرباء عن هؤالء وهؤالء من يفخر بأن قدمه وطئت يوما ً ما أعتاب هذه‬
‫المراقص الدورية وكانت ماجي تول ال تذهب إلى هذه المراقص إال بصحبة أنا ما کارثى‬
‫ورفيقها ‪ ،‬وكانت علة ذلك خمول عينيها ‪ ،‬وسعة فمها وقلة‬
‫خبرتها في الرقص ‪ . .‬وكانت ماجي وأنا تعمالن جنبا ً إلى جنب في مصنع العلب ‪،‬‬
‫وكانتا صديقتين حميمتين ‪ ،‬ومن أجل ذلك كانت أنا تلزم رفيقها جيمي بيرنس بأن يمر‬
‫على بيت ماجي مساء كل سبت حتى يتاح لصديقها ارتياد المرقص في صحبتهما وكانت‬
‫«جمعية خذ وهات الرياضية مخلصة السـمـهـا االخالص ‪ ،‬فـقـد كـان بـهـو الجـمـعـيـة‬
‫في شارع أوركارد مزوداً بكل االختراعات البانية للعضالت‪ .‬وبهذه العضالت المدربة‬
‫تعود األعضاء يشتبكوا مع دوائر الشرطة والمؤسسات االجتماعية والرياضية المنافسة‬
‫في مباريات ممتعة ‪ .‬وبغض النظر عن العمل الجدي الذي كان بنات مصنع العلب يقمن‬
‫به ‪ ،‬فقد كان لمراقصهن االسبوعية عمل آخر هو الترفيه والتستر على ما يجري أحيانا ً‬
‫من معارك وراء الجدران ‪ .‬ولو أنك كنت من الصفوة التي يباح لها أن تتهادى في السلم‬
‫الخلفي المظلم ‪ ،‬فلعلك ترى مباريات بين متالكمين من الوزن الثقيل ‪ ،‬على أتم وأدق ما‬
‫يمكن أن تكون عليه هذه المالكمات في حلبات الصراع المرخص بها من القانون ‪.‬‬
‫وكان مصنع العلب يغلق أبوابه أيام السبت في الثالثة بعد الظهر وفي عصر يوم من هذه‬
‫األيام عادت أنا وماجي إلى بيتيهما معا ً فلما وصال إلى بيت ماجي قالت أنا كالعادة ‪:‬‬
‫«كوني مستعدة في السابعة تماما ً يا ماجي ‪ ،‬فسنأتي جيمي وأنا الصطحابك »‬
‫ولكن ما هذا ؟ فعوضا ً عن كلمة الشكر المتواضعة المألوفة ‪ ،‬من‬
‫الفتاة التي ال رفيق لها ‪ ،‬نصبت الفتاة رأسها في الهواء ‪ ،‬وبدت على فمها الواسع نقرتان‬
‫ممتلئتان بالزهو ‪ ،‬وفي األعين العسلية الخابية جانبي التمع شيء أقرب ما يكون للبريق ‪،‬‬
‫وقالت ماجي‬
‫‪ -‬شكراً يا أنا ‪ . .‬ال عليكما مني ‪ ،‬أنت وجيمي ‪ ،‬هذه الليلة فلي صديق فاضل سيمر بي‬
‫ليصحبني إلى المرقص» وانقضت أنا الظريفة على صديقتها تهزها ‪ ،‬وتالغـيـهـا‬
‫وتستفسرها بتضرع عما كان ‪ ..‬ماجي تول توفق إلى رفيق ؟ ماجي الساذجة الصغيرة‬
‫المخلصة غير الفاتنة ‪ ..‬ماجي الحلوة غاية الحالوة كصديقة ‪ ،‬المنسية أشنع النسيان في‬
‫الدعوات إلى المرقص ‪ ،‬وفي جلسات الليالي المقمرة على دكك المتنزه العام الصغير! ‪. .‬‬
‫كيف حدث‬
‫هذا ؟ ومتى حدث ؟ ومن هذا الرفيق ؟‬
‫قالت ماجي ووجنتاها تتضرجان بحميا أول أعناب تقطفها من كروم كيوبيد ‪ :‬جيمي‬
‫سترين الليلة ‪ .‬إنه آية في الرشاقة واألناقة ‪ ،‬وهو أطول من جيمي بخمسة سنتيمترات‪،‬‬
‫وسأقدمه لك فور وصولنا إلى المرقص» وكانت أنا وجيمي من أوائل أعضاء نادي ورقة‬
‫البرسيم» وصوالً إلى المرقص هذه الليلة ‪ ،‬وتركزت عيون أنا المشرقة على باب القاعة‬
‫لتخطي أول نظرة تلقى على محظى صديقتها المختار ‪.‬‬
‫وفي الثامنة والنصف تهادت مس تول إلى القاعة مع رفيقها وهي تتأبط ذراع صاحبها‬
‫وسرعان ما اتجهت عيناها إلى صديقتها أنا‬
‫‪ :‬الوفي جيمي وصاحت أنا ‪:‬‬
‫‪ -‬هال ‪ . .‬هال! ‪ . .‬اآلن ماج لم تقع ‪ . .‬كال! أليس صـاحـبـهـا رشيقا ً ؟ أظن ذلك ‪ ..‬أليس‬
‫أنيقا ً ‪ . .‬انظر إليه ‪». .‬‬
‫قال جيمي بصوت محنق كأن فيه (صنفرة)‬
‫‪« -‬هيا أرخي لنفسك العنان ‪ . .‬أنشبي فيه أظفارك إن كانت لك‬
‫رغبة فيه ‪ ،‬ان الوافدين الجدد يكسبون ألول مرة دائما ً في غمرة‬
‫‪ ،‬فما أظنه يعصر كل الليمون هه! الزحام ‪ .‬ال عليك مني ‪« .‬اخرس يا ‪ . .‬إنك لتدرك ما‬
‫أريد ‪ .‬إنـي فـرحـة لماجي‬
‫جيمي ليس إال ‪ ،‬فهو أول صديق تضع يدها عليه ‪ ،‬وها هما ذان قادمان » وتهادت ماجي‬
‫عبر القاعة كيخت ( محندق » يقطره طراد فخم فقد كان رفيقها يبرر بحق كل مدائح‬
‫صديقتها فيه ‪ ،‬فهو أطول خمسة سنتيمترات من الرياضي الوسط من أعضاء (جمعية خذ‬
‫وهات) وشعره الفاحم جعد ‪ ،‬وعندما يجود بابتسامته المتواترة تسطع عيناه وثناياه ‪.‬‬
‫بيد أن شبان «نادي ورقة البرسيم لم يكن إعجابهم ينصب على‬
‫محاسن المرء بمقدار ما ينصب على حظه من الشجاعة ‪ ،‬وانتصاراته في المالكمة ‪،‬‬
‫ومناعته على سطوة القانون التي تهدد المالكمين على الدوام ‪.‬‬
‫وكان عضو الجماعة الذي يقتاد إلى عجلته عذراء من عذارى مصنع العلب يحتقر‬
‫مظاهر الرقاعة التي لم تكن تعتبر وسائل شريفة للنزال ‪ .‬لقد كانت ضخامة عضالت‬
‫العضد ‪ ،‬وتحدي السترة ألزرارها من فوق الصدر ‪ ،‬وااليمان الراسخ بسيطرة الرجل في‬
‫دستور الخليقة ‪ ،‬وحتى العرض الرزين للسيقان المعوجة ‪ ،‬كانت هذه كلها ذخائر الظرفاء‬
‫في نادي ورقة البرسيم ‪ ،‬وأسلحتهم المعترف بفعلها الساحر في معارك كـيـوبـيـد‬
‫الـغـرامـيــة ‪ .‬ومن أجل ذلك نظروا إلى انحناءات هذا الزائر الجديد ‪ ،‬ووقفاته المغرية‬
‫بشيء من الوجوم ‪ .‬لقد قدمته ماجي لهم على انه «مستر تيرى أو سوليفان صديق من‬
‫أصدقائي » وراحت تطوف به في البهو ‪ ،‬وتقدمه لكل قادم أعضاء «نادي ورقة البرسيم‬
‫وأوشكت أن تصبح جميلة بذلك البريق العجيب الذي يسرق في عين كل فتاة تصادف أول‬
‫صديق ‪ ،‬وعين كل هرة تالقي أول فأر من ‪« :‬لقد وجدت ودارت هذه الكلمة من فم إلى‬
‫فم بين بنات المصنع أعضاء ماجي تول رفيقا ً في النهاية ‪ .‬فدقوا النفير لرفيق ماج»‬
‫وكذلك عبر جمعية خذ وهات » عما يشعرون به من زراية مشوبة بقلة المباالة ‪.‬‬
‫كان من عادة ماجي في هذه المراقص األسبوعية أن تدفئ رقعة‬
‫بعينها من الجدار من طول ما تلصق بها ظهرها ‪ ،‬وكم كانت تغالي في االحساس‬
‫باالمتنان والتعبير عنه كلما دعاها إلى الرقص شخص يؤثر على نفسه ‪ ،‬فترخص متعته‬
‫وتزعزعها بهذه المغاالة ‪ .‬بل انها تعودت أن المتردد ‪ ،‬لتدفعه دفعا ً إلى دعوة صديقتها‬
‫لرقصة تدوس فيه قدميه ‪ .‬ولكن بغاثها استنسر الليلة ترى أنا تغمز بكوعها جيمي فأصبح‬
‫تيرى أو سوليفان األمير الساحر الظافر ‪ ،‬وأصبحت ماجي تول الفراشة التي نشرت‬
‫جناحيها لطيرانها األول ‪ .‬ولئن االختالط ال ينبغي أن يريق قطرة واحدة من رحيق تلك‬
‫السعادة المكللة بغالئل الورد وهي التي توجت ماجي في ليلتها الوحيدة البالغة أوج الكمال‬
‫‪.‬‬
‫وحاصرتها الفتيات لتقدمهن إلى صاحبها ‪ .‬وبدأ فجأة شبان «نادي ورقة البرسيم> يرون‬
‫فتنا ً في مس تول عميت عنها عيونهم سنتين فراحوا ينحنون لها‪ ،‬ملتمسين تسجيل أنفسهم‬
‫للرقصة التالية‪.‬‬
‫وكتب الفوز لماجي ‪ ،‬وإن جفت مباهج الليلة لتيرى أو سوليفان قبل األوان ‪ .‬لقد صفف‬
‫شعره الجعد ‪ ،‬ووقف أمام المرآة أمام نافذة حجرته المفتوحة سبع وقفات في عشر دقائق‬
‫يعرض محاسنه ومزاياه ‪ ،‬وقد رقص كما ترقص اآللهة ‪ ،‬وافتن في التأنق والسلوك‬
‫وإحاطة نفسه بجو خاص وتدافعت من شفتيه األلفاظ ‪ . .‬ورقص رقصتين متواليتين مع‬
‫فتاة مصنع العلب التي جاءت مع دمبسي دونفان‪.‬‬
‫إن دمبسي كان رئيس الجمعية وكان يرتدي مالبس السهرة وكان في قدرته أن يرفع‬
‫«البار» إلى مستوى ذقنه بيد واحدة مرتين وكان واحداً من أركان حرب مايك أوسوليفان‬
‫الكبير» ‪ ،‬وما كان‬
‫يهوله الهول قط ‪ .‬وما من شرطي جرؤ على القبض عليه يوما ما ‪ .‬وإنما كان كلما شج‬
‫رأس بائع فاكهة على عربة يد ‪ ،‬أو كسر ركبة عضو من أعضاء جمعية هنريك سويني‬
‫للرحالت واآلداب ‪ ،‬جاء إليه شرطي يقول ‪ « :‬إن الضابط يحب أن يراك في المكتب‬
‫بضع دقائق عندما يحلو لك يا ولدي دمبسي » وفي المكتب تكون طائفة متنوعة من‬
‫السادة ‪ ،‬يضعون السالسل الذهبية على صدورهم ‪ ،‬والسيجار األسود في أفواههم ‪،‬‬
‫فيروي أحدهم عن الحادث قصة مضحكة ويطلق سراح دمبسي ‪ ،‬فيعود ليمارس في‬
‫نصف ساعة رفع االتقال ‪ .‬فالرقص إذن علي سلك مشدود عبر شالالت نياجارا ‪ ،‬كان‬
‫أحمد عاقبة من الرقص مرتين مع فتاة دمبسی دونوفان وتجلى على الباب في الساعة‬
‫العاشرة «مايك أوسوليفان الكبير » بوجهه المستدير ‪ ،‬حيث وقف خمس دقائق يتأمل‬
‫المكان ‪ .‬وكان من عادته في كل حفلة أن يقف وقفته هذه يبتسم للفتيات ‪ ،‬ويقدم السيجار‬
‫الفاخر للشبان المرحين‪.‬‬
‫وما أن وقف بالباب الليلة حتى كان دمبسي دونوفان بجواره يصب في أذنه سيالً من‬
‫األلفاظ ‪ ،‬فنظر مايك إلى الراقصين بإمعان ثم ابتسم وهز رأسه وانسحب ‪ ،‬وسرعان ما‬
‫وقفت الموسيقى وتبعثر الراقصون على المقاعد المثبتة في الجدران‪ ،‬وتخلى تيرى‬
‫أوسوليفان عن فتاة جميلة وعاد هو إلى حيث كانت ماجي وبإحدى الغرائز التي البد أن‬
‫نكون قد ورثناها عن الرومان ‪ ،‬تلفت كل من بالقاعة إليهما دون استثناء ‪ ،‬وطاف بالقاعة‬
‫كلها شعور خفي بأن معركة على األبواب‪ ،‬فقد اقترب اثنان أو ثالثة من أعضاء «جمعية‬
‫خذ وهات> في أكمامهم التي ضاقت بأذرعهم المفتولة ‪ ،‬من تيرى أوسوليفان‬
‫وقال دمبسي‪« :‬لحظة يا مستر أوسوليفان ‪ .‬لعلك سعيد ‪ .‬في أي مكان قلت انك تقيم ؟ » ‪.‬‬
‫كان الخصمان كفرسى رهان ‪ ،‬وان بدا أن دمبسي يزيد على منافسه عشرة أرطال ‪ .‬وان‬
‫كان أوسوليفان أعرض وأسرع فلدمبسي عين في برودة الثلج ‪ ،‬وفم كالشق يدل على‬
‫السيطرة والسلطان ‪ ،‬وفك يعز على التحطيم ‪ ،‬وسحنة لها جمال الغيد وقلة اكتراث‬
‫األبطال ‪.‬‬
‫وتسعرت في وجه الزائر نار لم يستطع كتمان ما يشوبها من تهكم‬
‫واحتقار ‪ .‬وكأنهما كانا خصمين بحكم قانون سن منذ كانت الصخور في كيانها في‬
‫الفخامة ‪ ،‬آية في القوة ‪ ،‬آية في انعدام النظراء ‪ ،‬حتى ليصعب المصهور ‪ .‬فقد كان‬
‫كالهما آية بينهما التفضيل ‪ .‬وما تتسع الدنيا لكليهما ‪ ،‬وما ينبغي إال لواحد منهما البقاء‬
‫وقال أوسوليفان بوقاحة ‪ :‬إنى أقيم في شارع جراند ‪ ،‬وال يعسر » عليك أن تلقاني في‬
‫بيتي ‪ ،‬فأين تقيم أنت ؟؟ وتجاهل دمبسي السؤال واستأنف ‪ « :‬تزعم أن اسمك أوسوليفان‬
‫أن مايك الكبير يقول أن عينه لم تقع عليك قط » قال فاتن المرقص ‪« :‬ما أكثر ما لم تقع‬
‫عليه عينه! » وقال دمبسي في بحة حلوة ‪« :‬ان آل أوسوليفان في هذه البقعة يعرف‬
‫بعضهم بعضا ً فى العادة‪ .‬وقد أتيت مرافقا ً لعضو من أعضائنا السيدات ‪ .‬ونحن نطالب‬
‫بفرصة إلصالح هذا الوضع ‪ ،‬فإن كانت لك شجرة نسب فدعنا نر بضعة براعم من آل‬
‫سوليفان التاريخيين نابتة عليها ‪ ،‬أو لعلك تؤثر أن نقتلعها منك من الجذور ؟ » وأجاب‬
‫أوسوليفان في هدوء ‪ « :‬أظن من الخير لك أن تعني بنفسك » ‪.‬‬
‫وبرقت عينا دمبسي‪ ،‬وأشار إليه بسبابة ملهمة كأنما خطرت له‬
‫فكرة باهرة ‪ ،‬وقال في لهجة ودية ‪« :‬لقد فقستها اآلن ‪ ،‬انها مجرد هفوة صغيرة ‪ ،‬فلست‬
‫من آل سوليفيان ‪ ،‬وإنما أنت قرد ذو ذنب ‪ ،‬فسامحنا إن كنا لم نعرفك منذ البداية » ‪.‬‬
‫وومضت عين أوسوليفان ‪ ،‬وتهيأ للقيام بحركة مباغتة ‪ ،‬ولكن آند‬
‫كوجهان ‪ ،‬كان متأهبا ً لها فقبض على ذراعه ‪.‬‬
‫وأومأ دمبسي برأسه ال ندى ووليم ماكماهان سكرتير النادي ‪،‬‬
‫وحث خطاه نحو باب في مؤخرة القاعة ‪ ،‬ولحق بالجمع الصغير عضوان آخران من‬
‫«جمعية خذ وهات»‪ ،‬وأصبح تيرى أوسوليفان اآلن في قبضة مجلس اللوائح والمراجع‬
‫االجتماعية ‪ ،‬فتحدثوا إليه في لطف وايجاز وقادوه من الباب الخلفي وتحتاج هذه المناورة‬
‫من أعضاء نادي ورقة البرسيم» إلى كلمة ايضاح ‪ .‬فقد كان خلف قاعة الجمعية غرفة‬
‫صغيرة يستأجرها النادي‬
‫لتسوية الخالفات الشخصية التي تنشأ في قاعة الرقص ‪ ،‬رجالً لرجل وبأسلحة الطبيعة ‪،‬‬
‫وتحت إشراف المجلس ‪ ،‬وما من سيدة تستطيع أن تزعم أنها شاهدت معركة ما في‬
‫مرقص «نادي ورقة البرسيم» خالل عدة أعوام ‪ ،‬وقد تكفل بذلك السادة من أعضاء‬
‫النادي ‪.‬‬
‫قام دمبسي وأعضاء المجلس بهذا الجزء التمهيدي في مهمتهم في‬
‫يسر وسالسة جعال أكثر من في القاعة ال يلحظون خاتمة الظفر‬
‫االجتماعي الذي ناله أوسوليفان الفاتن ‪ .‬وكان من بين هؤالء ماجي التي راحت تبحث‬
‫عن رفيقها بين الراقصين ‪.‬‬
‫وقال لها روز كاسيدي ‪« :‬لقد اختفى ‪ .‬ألم تشهدي ما كان ؟ إن‬
‫دمبسي دونوفان قد تالحى مع صاحبك ‪ ،‬وساقه في خطوة الراقص إلى حجرة المذبح ‪.‬‬
‫قولي باهلل ‪ :‬كيف ترين يا ماجي تصفيف شعري على هذا المنوال ؟ »‬
‫ودقت ماجي بيدها على صدرها ثم قالت في أنفاس مضطربة‬
‫‪ -‬ذهب ليصارع دمبسي ؟ يجب أن يوقفا ‪ .‬ان دمبسي دونوفان‬
‫ال يستطيع أن ينازله ‪ ،‬انه قاتلة ال محالة»‬
‫قال روز‪:‬‬
‫‪ « -‬وماذا يهمك ؟ أال تحدث في كل مرقص معارك ؟ »‬
‫انطلقت كالسهم تشق طريقها المتعرج بين أفواج الراقصين حتى أتت الباب الخلفي‬
‫فاقتحمته ‪ ،‬ثم رمت ثقلها على باب المعترك فدان لها ‪ ،‬وتبينت عينها من النظرة األولى‬
‫ما يجري هناك ‪. .‬‬
‫أعضاء مجلس اللوائح والمراجع واقفون جانبا ً ممسكين بالساعات‬
‫ودمبسي دونوفان يتراقص بأكمامه المشمورة خفيف الخطو ‪ ،‬حذراً حذر المالكم‬
‫العصري على أقل من مرمى ذراع من خصـمـه في حين أن تـيـرى أوسوليفان واقف‬
‫مشبك الذراعين على صدره وفي عيونه السوداء نظرة قاتلة ‪ .‬وبدون أن تطامن ماجي‬
‫من سرعة دخولها اندفعت صارخة إلى األمام ‪ . .‬اندفعت في الوقت المناسب لتمسك‬
‫بذراع أوسوليفان وتتعلق به وهو يرتفع فجأة ‪ ،‬فيطيش منه الخنجر الطويل الالمع الذي‬
‫سله من صدره ‪.‬‬
‫ووقع الخنجر على األرض فرن عليها ‪ .‬وياله من حادث أن يشهر سالح الفوالذ في‬
‫غرف «جمعية خذ وهات! » إنه حادث ال نظير له من قبل ‪ ،‬وقف له الكل دقيقة دون‬
‫حراك ‪ .‬ثم ركل آندی کوجان الخنجر ببوز حذائه في ذهول ‪ ،‬فعل العالم األثري بسالح‬
‫تاريخي ال علم له به ‪.‬‬
‫وعندئذ لفظ أوسوليفان من بين شفتيه كلمة لم يدرك معناها أحد‬
‫فتبادل دمبسي والمجلس النظرات ‪ ،‬ثم نظر دمبسي إلى أوسوليفام بال غضب كما ينظر‬
‫المرء إلى كلب ضال‪ ،‬وأوما ً برأسه إلى الباب قائالً في اقتضاب ‪:‬‬
‫إلى السلم الخلفي يا جيوسيبي ‪ .‬وسيرمي لك أحد ما قبعتك‬
‫وراءك! »‬

‫ومشت ماجي إلى دمبسي دونوفان‪ ،‬وفي وجنتيها نقطتان حمراوان براقتان تسيل عليهما‬
‫الدموع ‪ ،‬ثم حدقت في عينيه بشجاعة وقالت وقد خبا ما كان فى عينيها من إشراق حتى‬
‫مع البكاء ‪:‬‬
‫«لقد كنت أعرف ذلك يا دمبسي ‪ .‬كنت أعرف أنه افريقي ‪،‬‬
‫وان اسمه توني سبينلي ‪ ،‬وقد بادرت بالدخول عندما علمت أنكما‬
‫ستتالكمان ‪ .‬ان هؤالء االفريقيين يتسلحون بالخناجر على الدوام‪،‬‬
‫ولكنك لن تفهمني يا دمبسي ‪ .‬انني ما كان لي صاحب في حياتي قط ولقد مللت القدوم في‬
‫صحبة أنا وجيمي كل ليلة ‪ ،‬فتآمرت معه على أن يسمي نفسه أوسوليفان ‪ ،‬وأحضرته‬
‫معي ‪ ،‬وكنت أدرك أن دخوله المرقص كاسباني محال ‪ .‬أظن من الخير أن أستقيل من‬
‫النادي اآلن ؟ »‬
‫والتفت دمبسي الندي كوجان وقال مشيراً إلى الخنجر ‪:‬‬
‫‪ -‬ارم قاطعة الجبن هذه من النافذة ‪ ،‬وقل لهم في الداخل أن مستر‬
‫أوسوليفان قد تلقى إشارة تليفونية بالذهاب إلى مرقص تاماني!‬
‫ثم استدار إلى ماجي يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت يا ماجي هل لديك مانع من أن أوصلك إلى البيت ؟ مـا‬
‫رأيك في مساء السبت التالي ؟ هل تأتين إلى المرقص في صحبتي إذا جئت إليك ؟‬
‫وما أعجب السرعة التي استحالت بها عينا ماجي من الخمول إلى‬
‫اإلشراق من جديد ‪ ،‬وهي تجيبه متلعثمة ‪:‬‬
‫‪ -‬أصحيح يا دمبسي ‪ :‬هل ترفض البطة أن تعوم ؟ ‪.‬‬

‫الشرطي والنشيد الوطني‬

You might also like