You are on page 1of 94

‫مذكرات محدي قنديل‬

‫ت َم َرتَ ْين‬ ‫ش‬ ‫ِ‬


‫ع‬
‫ُ‬ ‫ْ‬

‫‪0‬‬
‫ُنشرت هذه المذكرات فً موقع جرٌدة الشروق المصرٌة‬
‫مُسلسلة على حلقات عام ‪2014‬م وقمنا فً مدونة مذكرات‬
‫كتاب قرأته بنسخ هذه الحلقات وإعدادها فً كتاب اكترونً‬
‫ونعتذر عن أي خطؤ وقع فً ترتٌب الحلقات‪.‬‬

‫مدونة مذكرات كتاب قرأته‬


‫‪http://ktoob1435.blogspot.com‬‬

‫‪1‬‬
‫أخى األصؽر هو عاصم قندٌل‪ ،‬المحامى اآلن‪ ،‬وهو آخر العنقود كما ٌقال‪،‬‬
‫أما ماجد‪ ،‬اللواء المتقاعد الذى قضى عمره فى سالح المدفعٌة‪ ،‬فقد ولد بعد‬
‫والدتى بعامٌن‪ ،‬وبعده بعامٌن أٌضا ولدت مٌرفت‪ ،‬وهى ربة أسرة‬
‫متزوجة من لواء األسلحة والذخٌرة المتقاعد صالح صالح‪ ،‬وبعد عامٌن‬
‫آخرٌن جاءت شقٌقتى مآثر‪ ،‬التى عٌنت معٌدة بقسم اللؽة اإلسبانٌة فى كلٌة‬
‫األلسن‪ ،‬ثم حصلت على منحة لدراسة الدكتوراه فى إسبانٌا‪ ،‬وهناك بدأت‬
‫حٌاتها كمترجمة فورٌة حتى تقاعدت قبل سنوات‪ ،‬أما مٌرفت التى‬
‫تصؽرنى بؤربعة أعوام فهى تعاملنى كؤمى‪.‬‬
‫أنجبت مٌرفت ومآثر أوالدا وبنات‪ ،‬أما أنا وماجد وعاصم فلم ٌنجب‬
‫ثالثتنا‪ ،‬والحمد هلل أننا راضون بما قسم هللا لنا‪.‬‬
‫عشنا جمٌعا أٌام صبانا فى طنطا التى انتقل إلٌها والدى مدرسا للؽة‬
‫العربٌة فى مدرسة طنطا الثانوٌة للبنات‪ ،‬وكنا نسكن فى بٌت من ثالثة‬
‫طوابق فى ‪ 16‬شارع الفاتح‪ ،‬كان بٌتنا مثل كثٌر من البٌوت المصرٌة‬
‫ٌعرؾ ربنا‪ ،‬وٌعمر المساجد وٌعمِّر فى األرض وٌعامل الناس بالحسنى‪.‬‬
‫كان أبى ٌسمح لى‪ ،‬بل ٌطلب منى أحٌانا‪ ،‬قراءة جرٌدة المصرى‪ ،‬وكانت‬
‫هى الجرٌدة الوحٌدة التى ٌشترٌها كل ٌوم‪ ،‬قرأت جرٌدة االشتراكٌة فى‬
‫بٌت صدٌق كان والده ٌشترٌها بانتظام‪ ،‬فؤصبحت أبحث عنها أنا اآلخر بٌن‬
‫الحٌن والحٌن‪ ،‬وأظنها أثرت كثٌرا فى توجٌه مٌولى‪ ،‬بل واستفزتنى إلى‬
‫أبعد حد عندما قرأت فٌها مقال أحمد حسٌن الشهٌر رعاٌاك ٌا موالى‪.‬‬
‫كان المقال ممتدا على صفحتٌن تصدرته صورة لطفل حافى القدمٌن‬
‫مهلهل المالبس وصور أخرى لنساء ورجال تنطق أحوالهم بالبإس فى‬
‫أزقة القاهرة وأعماق الرٌؾ‪ُ ،‬‬
‫وذ ٌِّ َل المقال بتوقٌع المخلص‪ :‬أحمد حسٌن‪.‬‬
‫كانت دراستنا مستقرة‪ ،‬ولم ٌرسب أحدنا فى عام من األعوام‪ ،‬وال أذكر‬
‫أننى رسبت فى مادة سوى مرة واحدة عندما كنت فى مدرسة طنطا‬
‫االبتدابٌة للبنٌن‪ ،‬وعندما جاءت الشهادة بدابرة حمراء فى اللؽة اإلنجلٌزٌة‬

‫‪2‬‬
‫خلع والدى حزامه وضربنى به مرة واحدة كانت هى األولى واألخٌرة‪،‬‬
‫التى ضربنى فٌها‪ ،‬أنا أو واحد من إخوتى فى حٌاته‪.‬‬

‫أذكر من زمالبى فى مدرسة طنطا الثانوٌة الجدٌدة‪ :‬جمال بدوى وعمرو‬


‫موسى‪ ..‬جمال أصبح فٌما بعد صحفٌا المعا وكاتبا كبٌرا‪ ،‬وكنت أعتبره‬
‫واحدا من أفضل من تحدثوا على شاشة التلٌفزٌون وهو ٌروى كحكاء بارع‬
‫قصصا مثٌرة من التارٌخ‪.‬‬
‫أما الطالب الثانى الذى امتدت عالقتى به هو اآلخر‪ ،‬فكان عمرو موسى‪،‬‬
‫وزٌر الخارجٌة وأمٌن الجامعة العربٌة ثم مرشح الرباسة‪ ،‬فكان كل من‬
‫ٌعرفه ٌتوسم فٌه النبوغ‪ ،‬وكان متفوقا طوال دراسته‪ ،‬وؼالبا ما كنا نتنافس‬
‫معا على المركزٌن األول والثانى‪ ،‬وظل طوٌال ٌتحدث عن هذه المعركة‬
‫إلى اآلخرٌن أٌنما تواجدنا معا‪ ،‬وٌضٌؾ ضاحكا أنه كان بالطبع األول‬
‫على الدوام‪ ،‬وكنت أقول إننى سلمت بؤنه كان األول منذ عٌن وزٌرا‪.‬‬
‫وكان لى فى ذلك الوقت بطل أسطورى واحد هو لطفى فطٌم‪ .‬كان فى‬
‫العشرٌنٌات من عمره‪ ،‬وكان جارا لنا‪ ،‬لفت نظرى بزٌارات البولٌس‬
‫السٌاسى المتكررة له‪ ،‬واختفابه ألٌام أو شهور بعد أن ٌؽادر منزله فى‬
‫بوكس الشرطة‪.‬‬

‫كان لطفى لؽزا بالنسبة لى وعدد من أقرانى‪ ،‬وازداد اللؽز ؼموضا حٌن‬
‫قال أحدنا إنه شٌوعى‪ ،‬ولم ٌكن هناك بد من أن أتربص به ذات مرة‪،‬‬
‫وأسؤله إذا ما كان شٌوعٌا حقا‪ ،‬وما هذه الشٌوعٌة؟ وقد أجابنى ٌومها‬
‫بإٌجاز‪ ،‬لكنه وعدنى أن نلتقى مرة كل أسبوع فى الحدٌقة المواجهة‬
‫لمدرسة طنطا الثانوٌة القدٌمة فى شارع البحر لٌحدثنى باستفاضة‪.‬‬
‫عندما التقٌنا فى الموعد المحدد نبهنى أن أكتم سر لقابنا ومكانه فازداد‬
‫األمر بالنسبة لى إثارة‪ ،‬وأعطانى ٌومها محاضرة موجزة تذكرت منها‬
‫عبارتٌن براقتٌن‪« ،‬العدالة االجتماعٌة» و«المساواة بٌن البشر»‪ ،‬لما قلت‬
‫‪3‬‬
‫ألبى ما سمعت قال إن ذلك كله فى اإلسالم‪ ،‬وطلب منى أن أستعد فى‬
‫عصر الٌوم التالى لٌصطحبنى إلى جمعٌة «الشبان المسلمٌن» سؤلته‪:‬‬
‫الشبان أم اإلخوان؟ أذكر ما قال‪« :‬ال‪ ،‬اإلخوان شداد شوٌة»‪ ..‬ربما كان‬
‫ٌعنى متشددٌن‪ ،‬أو ٌعنى أنهم مٌالون إلى العنؾ‪ ،‬خاصة أن األنباء كانت‬
‫تواترت عندبذ عن مقتل النقراشى باشا‪ ،‬ربٌس الوزراء‪ ،‬واللواء سلٌم‬
‫زكى‪ ،‬حكمدار العاصمة‪ ،‬على أٌدٌهم‪.‬‬
‫دعانى لطفى فطٌم إلى بٌته حٌث أطلعنى على بعض المنشورات المكتوبة‬
‫بخط ٌده‪ ،‬وكان أحدها قاموسا فى ألفاظ السباب‪ ،‬لعن فٌه خاش الملك‬
‫والحكومة واإلنجلٌز جمٌعا‪ٌ ،‬ومها طلب منى أن أعاونه فى نسخ‬
‫المنشورات بخطى ألن الشرطة أصبحت تعرؾ خطه جٌدا‪ ،‬وعندما‬
‫تهربت طلب منى أن أعاونه فى توزٌعها على األقل‪ ،‬وبدت لى المهمة‬
‫أكثر إثارة‪.‬‬
‫قال إنه ٌعرؾ أننى أصلى الجمعة فى مسجد قرٌب من البٌت‪ ،‬ولكنه ٌطلب‬
‫منى أن أصلٌها فى األسبوع التالى فى مسجد السٌد البدوى الحاشد عادة‬
‫بالمصلٌن؛ لكى نوزع فٌه منشورات معادٌة للملك‪.‬‬
‫ذهبت إلى منزله صباح الجمعة‪ ،‬حٌث شحنت حزمة من المنشورات داخل‬
‫سترتى‪ ،‬وفعل هو اآلخر الشىء نفسه‪ ،‬وذهبنا إلى المسجد‪ ،‬توجه هو إلى‬
‫الطابق األرضى وطلب منى التوجه إلى الطابق العلوى‪ ،‬وقال‪« :‬عندما‬
‫تنتهى الصالة وٌبدأ المصلون فى التسلٌم أقذؾ المنشورات من أعلى إلى‬
‫صحن المسجد بعد أن ٌلتفت الناس بالسالم إلى جانبهم األٌمن وقبل أن‬
‫ٌلتفتوا للتسلٌم إلى ٌسارهم‪ ،‬وهرول إلى أسفل تجاه الباب دون أن تجرى»‪،‬‬
‫وتمت المهمة بنجاح‪ ،‬وكنت أشعر بسعادة بالؽة وأنا أرى المنشورات‬
‫تتطاٌر مع الرٌح الخفٌفة فى صحن المسجد كما لو كنا فى كرنفال‪.‬‬
‫كانت تعلٌمات لطفى أن ٌتحاشى كل منا أن ٌلتقى اآلخر ألسبوع كامل‪،‬‬
‫ولكننى شؽلت عنه سنوات طواال كان قد طلق خاللها النشاط السٌاسى‬
‫وسافر إلى الخارج‪ ،‬ربما إلى هولندا‪ ،‬وعندما عاد نجح فى مٌدان نشر‬

‫‪4‬‬
‫الكتب وتوزٌعها‪ ،‬وأصبح أستاذا لعلم النفس فى الجامعة‪ ،‬وقد علمت مإخرا‬
‫أنه عاش فى السعودٌة نحو عشر سنوات توفى بعدها فى عام ‪.1998‬‬
‫أما المؽامرة األخرى التى ما أزال أختزن تفاصٌلها فكانت أٌضا أٌام‬
‫دراستى الثانوٌة‪ ،‬حٌث علمت أن هناك صحٌفة محلٌة تصدر فى طنطا‬
‫باسم جرٌدة اإلخالص‪ ،‬وكان صاحبها وربٌس تحرٌرها هو األستاذ محمد‬
‫عبدالسالم شتا‪.‬‬
‫ذهبت إلى األستاذ عبدالسالم فى الجرٌدة‪ ،‬وكانت فى حارة خلؾ قسم أول‬
‫طنطا‪ٌ ،‬ومها كان الرجل رابضا خلؾ مكتبه‪ ،‬ورحب بى ببعض المبالؽة‪،‬‬
‫وطلب منى أن أجمع أخبارا من هنا وهناك وآتى بها إلٌه بعد أسبوع‪ ،‬لكنه‬
‫حذرنى من أنه سٌكون من الصعب القٌام بهذا العمل اإال لو أعطانى بطاقة‬
‫صحفٌة‪ ،‬وقال إن لدٌه نوعٌْن من البطاقات‪ ،‬أحدهما «عادى» واآلخر‬
‫«لوكس‪».‬‬

‫اخترت اللوكس على الرؼم من أن ثمنها كان أربعة جنٌهات‪ ،‬هى كل ما‬
‫كان فى حصالتى‪ ،‬وحصلت على ما ٌثبت أننى أصبحت (مراسال صحفٌا)‪،‬‬
‫أذكر أننى ذهبت إلى اإلسكندرٌة فى ذلك الصٌؾ‪ ،‬وعندما كنت أدخل إلى‬
‫بالج سٌدى بشر نمرة ‪ 2‬الخاص‪ ،‬كنت أبرز الكارنٌه اللوكس وأقول‬
‫عال‪ :‬صحافة‪ ،‬فٌسمح لى بالدخول دون أن أدفع الرسوم‪ ،‬وكنت‬
‫بصوت ٍ‬
‫أحس بزهو عظٌم‪.‬‬
‫فى ذلك الوقت كان هناك جدل محتدم فى البرلمان حول ترمٌم الٌخت‬
‫الملكى (المحروسة) فى إٌطالٌا‪ ،‬وكانت الحكومة خصصت لهذا الؽرض‬
‫ملٌون جنٌه‪ ،‬وهو األمر الذى استفز نواب المعارضة‪ ،‬وخاصة المحامى‬
‫الكبٌر مصطفى مرعى بك‪ ،‬والذى قدم استجوابا فى هذا الشؤن وألقى‬
‫خطابا نارٌا قال فٌه كلمته الشهٌرة‪« :‬الٌخت ملك فاروق ولٌس ملكا للدولة‬
‫فلماذا تتكلؾ الدولة بتصلٌحه؟»‪ ،‬وقد تؤثرت كثٌرا بالخطاب فكتبت مقاال‬

‫‪5‬‬
‫على خطى مرعى نفسها‪ ،‬وتسللت به فى المساء إلى المطبعة وقمت بدسه‬
‫فى الصحٌفة بعد أن خدعت (المطبعجى) فى وردٌة اللٌل‪.‬‬
‫حلت الكارثة باإلخالص‪ ،‬وأؼلقت الصحٌفة‪ ،‬وألقى القبض على محمد‬
‫عبدالسالم شتا فى قسم أول‪ ،‬ولكن سرعان ما دبر أمره‪ ،‬فؤفرج عنه خالل‬
‫ساعات‪.‬‬
‫عندما اقتربت امتحانات التوجٌهٌة (الثانوٌة العامة) تبدلت األحوال‪ ،‬مرض‬
‫والدى مرضا شدٌدا اضطر معه للعالج فى مستشفى الجمعٌة الخٌرٌة فى‬
‫القاهرة‪ ،‬أما أمى فقد أرهقها السفر بٌن طنطا والقاهرة‪ ،‬واضطربت أحوال‬
‫البٌت‪ ،‬وكنت أنا وإخوتى فى ؼم دابم‪ ،‬فؤنهٌت االمتحان بصعوبة‪ ،‬ولم‬
‫أحصل سوى على ‪ %60‬بالكاد‪.‬‬
‫كانت صدمة قاسٌة للعابلة التى كانت تتوقع البنها المتفوق دابما أن ٌدخل‬
‫الطب‪ ،‬وٌلبس البالطو األبٌض وٌنادونه‪ٌ« :‬ا دكتور‪».‬‬
‫‪1952‬ــ ‪1956‬‬
‫قادنى مجموعً فى الثانوٌة العامة إلى واحد من اختٌارٌن؛ إما كلٌة العلوم‬
‫وإما معهد الكٌمٌاء الصناعٌة‪ ،‬وكان أبى ٌتكهن بؤن للتعدٌن والبترول‬
‫مستقبال كبٌرا فى مصر؛ ولذلك رجح كفة كلٌة العلوم‪ ،‬بل وقال‪« :‬اعمل‬
‫حسابك من اآلن‪ ،‬عندما تبدأون فى التخصص‪ ،‬فسوؾ تدرس فى قسم‬
‫الجٌولوجٌا»‪ ،‬وكانت كلٌة العلوم المتاحة هى علوم اإلسكندرٌة‪.‬‬
‫كانت نقلة ثقٌلة فى حٌاتى من البٌت الدافا إلى المجهول‪ ،‬سافرت مع‬
‫والدى إلى اإلسكندرٌة‪ ،‬وكان لنا هناك أقارب ٌعٌشون فى حى فٌكتورٌا‪،‬‬
‫طلب والدى منهم أن ٌساعدونا على إٌجاد مسكن لى ٌفضل أن ٌكون «مع‬
‫ناس طٌبٌن»‪ ،‬واهتدٌنا إلى عابلة ٌونانٌة‪ ،‬كانا زوجٌن فى الستٌنٌات من‬
‫عمرهما‪ ،‬وكانت الشقة نظٌفة‪ ،‬فاتفقنا مع الرجل على السكن واإلفطار‬
‫مقابل ‪ 12‬جنٌها فى الشهر‪ ،‬واشتركت فى مطعم مجاور للكلٌة لتناول‬
‫الؽداء فٌه مقابل أربعة جنٌهات أخرى‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫أذكر أننى اشترٌت كتبا كثٌرة‪ ،‬وكان معظمها باإلنجلٌزٌة‪ ،‬وكنت أستؽرق‬
‫فى الدراسة إلى حد أنه لم ٌكن ٌؽرٌنى فى المدٌنة الكبٌرة شا سواها‪ ،‬ولم‬
‫ٌكن لى بع ُد أصحاب وال رفاق أزورهم وٌزوروننى‪ ،‬وداهمتنى نوبات من‬
‫ٌمض شهران حتى استولى علىّ‬ ‫ِ‬ ‫الصداع لم أكن أعرفها من قبل‪ ،‬ولم‬
‫شعور جارؾ أن أعٌد امتحان التوجٌهٌة وأحصل على مجموع أستعٌد به‬
‫كرامتى وسط أقرانى وأعٌد به البهجة إلى األسرة‪ ،‬وأظن أن هذا كان دافعا‬
‫مهما لعودتى إلى طنطا‪ ،‬وأعتقد أن أبى وأمى لم ٌمانعا فى ذلك بل ربما‬
‫كانا ٌحبذانه‪.‬‬
‫بدأت أجمع كتب التوجٌهٌة مرة أخرى وأعد نفسى لالمتحان‪ ،‬اإال أن نوبات‬
‫الصداع كانت تتكرر بسرعة أكبر وحدة بالؽة‪ ،‬ولم أكن أستطٌع القراءة‬
‫أكثر من دقابق معدودة‪ ،‬وظن الجمٌع فى بداٌة األمر أننى أحتاج إلى‬
‫نظارة طبٌة ولكن نظرى كان سلٌما‪ ،‬وهكذا صحبنى أبى إلى القاهرة حٌث‬
‫طفنا بؤطباء فى كل التخصصات عدا أمراض النساء واألطفال‪.‬‬
‫وهكذا قفلنا عابدٌن إلى طنطا ونحن فى حٌرة‪ ،‬والصداع ال ٌزال على‬
‫حاله‪ ،‬وكان التفسٌر المنطقى الذى توصلت إلٌه صدٌقات أمى بعد أن‬
‫أمضٌن معها ٌوما كامال ٌبحثن فٌه األمر هو أن «الولد معمول له عمل‪».‬‬
‫وهكذا جىء برجل معمم إلى البٌت‪ ،‬وأعدت له ؼرفة مظلمة وحده‪ ،‬خرج‬
‫منها بعد ساعة لٌعلن على الجمٌع أن الولد معمول له عمل فعال‪ ،‬وأن هذا‬
‫العمل مدفون فى الحقول المجاورة لمستشفى طنطا األمٌرى‪ ،‬وأننا ٌجب أن‬
‫نخرج فى الٌوم التالى فى الفجر لنبحث عنه ونبطل مفعوله‪ ،‬وعندما جاء‬
‫الرجل بالحنطور مع أول خٌط من خٌوط النهار نزلت إلٌه مع أبى الذى‬
‫كان ممتعضا امتعاضا شدٌدا لتورطه فى كل هذه الرواٌة‪ ،‬لكنه حاول‬
‫إخفاء شعوره‪ ،‬وتوقؾ الحنطور بنا بجانب سور المستشفى‪ ،‬ونزل الرجل‬
‫معصوب العٌنٌن ونحن وراءه‪ ،‬وعندما أمسك بالسور بٌده‪ ،‬خطا ثالث‬
‫خطوات ع ادها بحرص‪ ،‬ثم توقؾ وخلع مندٌله من فوق عٌنٌه ونادى على‬
‫واحد من الفالحٌن الذٌن كانوا ٌعملون فى الحقل بالقرب منا‪« :‬افحت هنا‬

‫‪7‬‬
‫ٌا جدع»‪ ،‬وإذا بخرقة ملفوفة فى قطعة من القماش القذر تظهر من باطن‬
‫األرض فٌتلقفها الرجل بٌده متلهفا كما لو كان قد وجد كنزا‪.‬‬
‫عاد بنا الحنطور إلى البٌت‪ ،‬حٌث طلب الرجل طشت ؼسٌل ملٌبا بالماء‪،‬‬
‫ونثر فٌه كثٌرا من الملح وهو ٌقرأ القرآن وٌفك اللفافة بٌدٌه‪ ،‬حتى ظهرت‬
‫بداخلها ورقة ملفوفة بعناٌة فقال الرجل إنها العمل‪ ،‬وعندما َه ام بإلقاء‬
‫الورقة فى الماء أطبق والدى على ٌده‪ ،‬وصمم على أن ٌقرأ ما فى الورقة‪،‬‬
‫حاول الرجل أن ٌقنع والدى بؤن من ٌلقى نظرة واحدة على العمل تعمى‬
‫عٌناه‪ ،‬ولكن والدى لم ٌتراجع‪ ،‬وقد ازداد إعجابى لحظتها به‪ ،‬ولم أكن‬
‫أتخٌل أنه ٌخفى وراء وجهه السمح كل هذه القوة والحزم‪ ،‬وبدأ والدى فى‬
‫قراءة الورقة‪ ،‬ولم ٌجد مكتوبا فٌها سوى آٌات من القرآن فتساءل‪ :‬كٌؾ‬
‫ٌجلب كتاب هللا الضرر؟ وفوق هذا وذاك لم ٌجد ذكرا السمى فى الورقة‪،‬‬
‫فطرد الرجل شر طردة‪ ،‬ومنذ ذلك الحٌن وأنا ال أصدق الدجالٌن أو أتعامل‬
‫مع العرافٌن‪.‬‬
‫وعندما اشتد بى الصداع‪ ،‬وكانت حدته قد وصلت إلى درجة أننى لم أكن‬
‫أستطٌع النوم اإال بصعوبة‪ ،‬ولم تنفع المهدبات أو المنومات‪ ،‬فنصح عمى‬
‫أبى أن أدخن سٌجارة عندما أدخل سرٌرى‪ ،‬فربما دارت بى رأسى ونمت‪،‬‬
‫وهكذا كانت أول سٌجارة فى حٌاتى هى تلك التى أوقدها لى عمى بٌنما‬
‫كان أبى واقفا إلى جواره‪ ،‬ولم أنم لٌلتها‪ ،‬ولم أقلع عن التدخٌن منذ ذلك‬
‫الحٌن‪.‬‬
‫فاتنى الدور األول من امتحانات التوجٌهٌة ولم ٌكن قد تبقى على الدور‬
‫الثانى سوى شهرٌن اثنٌن‪ ،‬لكنهما كانا كافٌٌْن مع دأبى وإصراري‪ ،‬ودخلت‬
‫االمتحان‪ ،‬وأهلنً مجموعً بـ ‪ %74.5‬لدخول كلٌة طب قصر العٌنً‪،‬‬
‫فعم الفرح األهل والمعارؾ‪ ،‬وبدأت فى االستعداد للرحٌل إلى القاهرة‪.‬‬
‫زمالبً الكبار‬
‫أذكر من زمالبً فً مدرسة طنطا الثانوٌة الجدٌدة‪ :‬جمال بدوى وعمرو‬
‫موسى‪ ..‬جمال أصبح فٌما بعد صحفٌا المعا وكاتبا كبٌرا وكنت أعتبره‬

‫‪8‬‬
‫واحدا من أفضل من تحدثوا على شاشة التلٌفزٌون وهو ٌروى كحكاء بارع‬
‫قصصا مثٌرة من التارٌخ‪.‬‬

‫أضعت فى اكتشاؾ القاهرة كل ما كان ٌسمح به المصروؾ الذى كان‬


‫ٌعطٌه لى والدى‪ ،‬وكان عشرة جنٌهات فى الشهر‪ ،‬وهو مبلػ معتبر ٌمكن‬
‫أن ٌكفى كل صنوؾ التسلٌة البرٌبة‪ ،‬والواقع أننى لم أجرب ؼٌرها من‬
‫صنوؾ التسلٌة سوى مرة واحدة‪ ،‬كان ذلك عندما دعانى أحد الزمالء فى‬
‫الكلٌة إلى سهرة فى القلعة‪ ،‬وصارحنى أننا سندخن لٌلتها «أجدع حشٌش‬
‫فى مصر»‪ ،‬ولم أمانع‪ ،‬لكننى لم أشعر براحة تجاه المكان الذى قصدناه‬
‫وكان قبوا فى بٌت متهالك‪ ،‬وال بالجالسٌن حولى‪ ،‬كما أننى استنكفت أن‬
‫عال ساخرا‪:‬‬
‫أدخن «الجوزة»‪ ،‬وٌبدو أن أحدهم الحظ ذلك فنادى بصوت ٍ‬
‫«ٌا اخواننا لفوا سجاٌر لألفندى‪».‬‬
‫عاندت ألثبت للجمع أن «األفندى» ال ٌهزه الحشٌش فدخنت بدال من‬
‫السٌجارة ثالثا‪ ،‬ولكننى عندما ؼادرتهم مبكرا ضعت فى مسالك القلعة‬
‫وحوارٌها وأنا أبحث عن محطة األوتوبٌس‪ ،‬ولم ٌكن هذا ما أزعجنى‪،‬‬
‫وانما ما أزعجنى حقا هو الشعور بؤن هناك أحدا ٌطاردنى‪ ،‬تملكنى جبن‬
‫شدٌد لم أعرؾ كنهه‪ ،‬وكان هذا كافٌا كى ال أعاود الكرا ة مرة أخرى‪.‬‬
‫وفى أحد األٌام التقٌت إبراهٌم مصطفى رابدنا السابق فى جمعٌة الشبان‬
‫المسلمٌن‪ ،‬فؤخذنى معه إلى بٌت المهندس مصطفى مإمن فى شارع قصر‬
‫العٌنى‪ ،‬وكان زعٌم طلبة اإلخوان المسلمٌن فى جامعة القاهرة فى‬
‫األربعٌنٌات‪ ،‬وهناك حضرنا ندوة لمناقشة كتاب أحمد بهاء الدٌن الذى كان‬
‫صدر حدٌثا «النقطة الرابعة تعنى الحرب» (النقطة الرابعة هو برنامج‬
‫‪،)1949‬‬ ‫مساعدات أمرٌكٌة أطلقه ترومان عند تولٌه الرباسة فى‬
‫واستكملنا مناقشة الكتاب بعدبذ فى ندوة أخرى‪ ،‬وقد ألهبت هذه المناقشات‬
‫عدابى ألمرٌكا‪ ،‬لٌترسخ لديا اعتقاد بؤنها وراء معظم المصابب فى مصر‪،‬‬
‫وأنها تحرك كثٌرا من الخٌوط من وراء الستار‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫•تظاهرت دعمـًا لمحمد نجٌب بعد إقالته‪..‬وإزداد حنقى على الحكم بعد‬
‫اعتقال إحسان عبدالقدوس‬
‫مع نجيب‬
‫استؽرقت جوالتى هذه أشهرا قلٌلة لم أخرج منها بنتابج جلٌة حتى جاء‬
‫مارس ‪ 1954‬عندما حدثت األزمة المعروفة بٌن محمد نجٌب ومجلس‬
‫قٌادة الثورة‪ ،‬وكنت من بٌن أولبك الذٌن ٌناصرون محمد نجٌب ألنه ـ على‬
‫ما فهمت ـ كان هو من ٌنادى بعودة الجٌش إلى ثكناته‪ ،‬وتشكٌل حكومة‬
‫برلمانٌة‪ ،‬فى حٌن كان اآلخرون ٌصرون على البقاء فى السلطة‪ ،‬وكان‬
‫نجٌب رمز الثورة لدى الكثٌرٌن‪ ،‬وعندما صدر القرار بإقالته خرجت من‬
‫الجامعة مظاهرات استمرت عدة أٌام‪.‬‬
‫فى أحد هذه األٌام وصلنا إلى كوبرى قصر النٌل فطاردتنا الشرطة‬
‫واعتقلت الكثٌرٌن‪ ،‬ولكننى استطعت النجاة مع البعض عندما سارعنا‬
‫بالع ْدو تجاه فندق شبرد‪ ،‬واختبؤنا فى جراج عمارة الشمس المجاورة له؛‬
‫َ‬
‫حٌث استتر بعضنا داخل السٌارات واآلخرون تحتها أو خلفها‪ ،‬وظللنا فى‬
‫هذا المخبؤ ساعات حتى تؤكدنا أن الشرطة ؼادرت المكان عندما صاح‬
‫ضابط فى الخارج‪« :‬حارجع لكم تانى ٌا والد الكلب‪».‬‬
‫•حصلت على درجتٌن من مابة فى الكٌمٌا العضوٌة‪ ..‬فحبست نفسى‬
‫شهرٌن بعدما حلقت شعرى «على الزٌرو»‬
‫وزاد حنقى على الحكم بعد اعتقال إحسان عبدالقدوس‪ ،‬ولم أفهم كٌؾ‬
‫تعتقل الثورة ذلك الرجل الذى كشؾ األسلحة الفاسدة‪ ،‬ولكننى كنت أحاول‬
‫على الدوام االهتمام بالدراسة‪ ،‬وؼالبا ما كنت أفشل‪ ،‬وكان مصٌرى‬
‫المحتوم الرسوب فى كل المواد‪ ،‬وأذكر أننى حصلت فى إحداها على‬
‫صفر‪ ،‬أما فى الكٌمٌاء الحٌوٌة‪ ،‬وكان كتابها ٌزٌد على ‪ 300‬صفحة باللؽة‬
‫اإلنجلٌزٌة‪ ،‬فلم أستطع اإلجابة سوى على فقرة واحدة من سإال بٌن أسبلة‬
‫االمتحان الخمسة‪ ،‬وكان السإال على ما أذكر حول تركٌب ؼاز األوزون‪،‬‬
‫ونلت مقابل هذه اإلجابة درجتٌن اثنتٌن من مابة درجة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫لم تصدمنى النتٌجة كثٌرا‪ ،‬وقررت العودة إلى طنطا‪ ،‬وحلقت شعرى‬
‫«على الزٌرو» وحبست نفسى فى المنزل لم أؼادره لمدة شهرٌن‬
‫فاستطعت بذلك اجتٌاز امتحانات الدور الثانى‪ ،‬ونقلت إلى سنة أولى طب‪،‬‬
‫أى إلى دراسة الطب الحقٌقٌة فى قصر العٌنى‪.‬‬
‫فى خرٌؾ ‪ 1955‬بدأت االنشؽال بالمجلة التى كانت الكلٌة على وشك‬
‫إصدارها‪ ،‬وبدأنا العمل باختٌار الطلبة واألساتذة الذٌن سٌكتبون المقاالت‬
‫أو ٌجمعون األخبار والمعلومات‪ ،‬وأخذنا ننقب فى تارٌخ الكلٌة ونبحث عن‬
‫خرٌجٌها البارزٌن الذٌن تولوا مناصب مهمة وما زالوا على قٌد الحٌاة‪،‬‬
‫وجمعنا قدرا كبٌرا من الصور الفرٌدة‪.‬‬
‫احتفلت أخبار الٌوم معنا عندما انتهت طباعة المجلة‪ ،‬وانضمت إلى‬
‫االحتفال زمٌلتنا سمٌحة النجدى التى تصدرت صورتها الؽالؾ‪ ،‬وقد‬
‫توفٌت فى رٌعان شبابها بعد تخرجها بسنوات‪ ،‬وكانت آٌة فى الجمال‬
‫والخلق‪ ،‬أما أنا فقد كدت أطٌر فرحا بنشر مقالى فى المجلة (بقلم حمدى‬
‫قندٌل) تحت عنوان «ذباب ونعاج فى الجامعة»‪ ،‬وكان ٌدور حول العالقة‬
‫بٌن الطلبة والطالبات‪ ،‬الموضوع الذى شؽل بالى كثٌرا‪ ،‬وعندما اطلعت‬
‫على المقال مإخرا هالنى ما فٌه من سطحٌة‪.‬‬
‫قبل فجٌعة االمتحان‪ ،‬وكنا وقتها فى عام ‪ ،1956‬واجهتنا فجٌعة أقسى‪ ،‬إذ‬
‫جاءنا الدكتور ناصح أمٌن ٌنقل لنا النبؤ الصادم أن إدارة الكلٌة قررت‬
‫مصادرة المجلة؛ بدعوى أننا تطاولنا على الجامعة وأساتذتها‪ ،‬وكنا بالفعل‬
‫قد انتقدنا األساتذة ولكننا لم نتطاول علٌهم‪ ،‬لهذا رجحنا أن ٌكون سبب‬
‫المصادرة هو مقال محمد العزبى‪ ،‬وكان مقاال ملتهبا عن الكفاح الوطنى‬
‫لطلبة الطب عبر الزمن‪ ،‬أو أن ٌكون أصحاب العٌون واآلذان المفتوحة قد‬
‫علموا أننا من أنصار محمد نجٌب‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫فى براغ‬
‫بعدها بؤٌام نادانى صبرى أٌوب إلى المالعب لٌحدثنى فى أمر قال إنه‬
‫‪ IUS‬كما تعرؾ‪،‬‬ ‫مهم‪« :‬أنا على صلة باتحاد الطلبة العالمى فى براغ‬
‫وسٌعقد االتحاد مإتمره السنوى هذا العام فى المدٌنة نفسها‪ ،‬وهم ٌواجهون‬
‫أزمة مع السلطات المصرٌة التى ترفض مشاركة طلبة من مصر فى‬
‫مإتمر تعقده منظمة ٌسارٌة» على الرؼم من أن عبدالناصر كان قد عقد‬
‫‪،1955‬‬ ‫صفقة األسلحة التشٌكٌة الشهٌرة فى العام السابق‪ ،‬أى فى عام‬
‫وعلى الرؼم من وقوفه ضد سٌاسة األحالؾ العسكرٌة الؽربٌة فقد كان‬
‫حذرا من تسلل الخطر الشٌوعى إلى مصر فى ذلك الحٌن‪ ،‬وهكذا رفضت‬
‫سلطات األمن مشاركة مصر فى المإتمر‪.‬‬
‫اتصل بى صبرى ذات ٌوم وسؤلنى إذا ما كنت أستطٌع المرور علٌه فى‬
‫المساء‪ ،‬وعندما ذهبت إلٌه كان لدٌه ضٌؾ أجنبى هو ربٌس اتحاد الطلبة‬
‫العالمى (ٌورى بلٌكان)‪ ،‬وهو تشٌكى أصبح فٌما بعد ربٌسا للتلٌفزٌون‪،‬‬
‫تكلم بلٌكان طوٌال عن االتحاد وعن المإتمر وودعناه بعد أن وعدناه‬
‫بالحضور‪ ،‬كذلك وعدناه بؤن ننسق‪ ،‬كما طلب‪ ،‬مع ٌاسر عرفات الذى‬
‫أبلؽنا فٌما بعد بؤنه سٌحضر المإتمر هو اآلخر‪.‬‬
‫لم ٌكن ٌاسر عرفات شخصٌة معروفة عندبذ‪ ،‬كان مجرد طالب مثلنا‬
‫ٌدرس فى كلٌة الهندسة بجامعة القاهرة‪ ،‬وإن كنا قد اجتمعنا به من قبل فى‬
‫ندوة عقدت فى مقر اتحاد الطلبة الفلسطٌنٌٌن باعتباره ربٌسا لالتحاد‪.‬‬
‫بعد مقابلة بلٌكان‪ ،‬أعلن عبدالناصر عن تؤمٌم قناة السوٌس‪ ،‬وتؤزمت‬
‫العالقة مع الؽرب‪ ،‬ومع ذلك ظل رفض الجامعة للمشاركة فى المإتمر‬
‫على ما هو‪ ،‬وهكذا بدأنا نتشاور حول تشكٌل وفدنا‪ ،‬واتفقنا على أن‬
‫نصطحب معنا زمٌلنا سلٌمان إدرٌس (الذى أصبح زعٌما نقابٌا فى شركة‬
‫الحدٌد والصلب فٌما بعد) واقترحت أن نضم طالبة إلٌنا أٌضا‪ ،‬فرشح‬
‫صبرى سناء فتح هللا (الناقدة المسرحٌة الكبٌرة فٌما بعد)‪ ،‬وكانت تتدرب‬
‫فى دار أخبار الٌوم عندما كنا نطبع المجلة‪ ،‬وكثٌرا ما كانت تعاوننا فى‬

‫‪12‬‬
‫إعدادها اتصلنا بسناء فوافقت على الفور‪ ،‬وهكذا بدأنا التحضٌر للسفر الذى‬
‫اتفقنا مع ٌاسر عرفات أن ٌكون عن طرٌق أثٌنا‪.‬‬
‫بحرا إلى اليونان‬
‫ً‬
‫فً إحدى جلسات المإتمر‪ ،‬الصؾ األول من الٌسار‪ٌ :‬اسر عرفات‬
‫وصالح خلؾ وزهٌر العلمً ‪ ..‬الصؾ الثانً من الٌسار‪ :‬سناء فتح هللا‬
‫وأنا وصبري أٌوب وسلٌمان إدرٌس‬
‫حجزنا السفر بالبحر بالباخرة التركٌة (إسكندرون)‪ ،‬وقبل أن نستقل القطار‬
‫جمٌعا من أثٌنا فى الٌوم التالى اقترح ٌاسر عرفات أن نزور األكروبول‬
‫فذهبنا معا إلى حٌث ٌقع هذا المعبد الشهٌر فوق هضبة عالٌة (اسمه‬
‫بالٌونانٌة ٌعنى الهضبة العالٌة‪).‬‬
‫من فوق الهضبة أخذ عرفات ٌحدق طوٌال من خالل نظارة معظمة ثم‬
‫نادانى‪ ،‬ولما اقتربت طلب منى أن أثبت عٌنى فى النظارة وسؤلنى‪« :‬هل‬
‫ترى فلسطٌن؟»‪ ..‬فلسطٌن؟! فلسطٌن تبعد عن هنا مبات الكٌلومترات ٌا‬
‫ٌاسر‪ ..‬قال عرفات‪« :‬ولكننى أراها بوضوح‪ ،‬بل إننى أرى قبة الصخرة‬
‫تلمع»‪ ،‬عندما سددت النظارة إلى الوجهة التى حددها لم أتبٌن شٌبا سوى‬
‫مٌاه البحر على مدى البصر‪ ،‬وظللت سنوات بعد أن بدأ اسم عرفات ٌلمع‬
‫فى أواخر الستٌنٌات حابرا بٌن ظنونى‪ ،‬فإما أنه خٌل إلٌه بالفعل أنه رأى‬
‫فلسطٌن لشدة تعلقه بها‪ ،‬وإما أنه قد بدأ ٌلعب دور السٌاسٌٌن الذٌن ٌبٌعون‬
‫األوهام للناس وٌلعبون بعواطفهم‪.‬‬
‫كانت رحلة ممتعة بالقطار استقبلنا بعدها فى محطة براغ استقبال الفاتحٌن‪،‬‬
‫وقدمت لنا باقات الزهور‪ ،‬وعندما تقدمنا صبرى وسط جمع من البنات‬
‫والصبٌة الذٌن كانوا ٌلوحون بؤعالم مصرٌة وفلسطٌنٌة صؽٌرة بدا كما لو‬
‫كان ربٌس دولة‪ ،‬خاصة أنه كان الوحٌد بٌن القادمٌن والمستقبلٌن الذى‬
‫ٌلبس بدلة بصدٌرى تتدلى منه سلسلة ساعة‪ ،‬ولما افتتح المإتمر وجاء دور‬
‫صبرى لٌلقى كلمة مصر تكرر المشهد ودوت القاعة بالتصفٌق والهتاؾ‬
‫لناصر ووقؾ األعضاء جمٌعا تقدٌرا واحتراما‪ ،‬أما أنا وسناء وسلٌمان فقد‬

‫‪13‬‬
‫سالت من مآقٌنا الدموع‪ ،‬ذقت منذ ذلك الحٌن معنى االعتزاز ببلدى‬
‫وبنفسى كمصرى‪.‬‬
‫زمالؤنا السوفييت‬
‫لم نكن على أى حال فى حاجة لبذل جهد الستخراج تؤشٌرة أو استصدار‬
‫تذاكر سفر فقد قام زمالإنا السوفٌٌت بترتٌب كل شىء على نحو دقٌق‪،‬‬
‫وسافر وفدنا بالقطار إلى موسكو حٌث استقبلنا استقباال أكثر تواضعا من‬
‫ذلك الذى وقع فى براغ وإن لم ٌقل دفبا وحماسا‪ ،‬كانوا ٌسموننا وفد‬
‫ناصر‪ ،‬وربما لهذا استضافونا فى فندق ال ٌلٌق إال بالوزراء ومن على‬
‫شاكلتهم‪ ،‬والحق أن كل فنادق موسكو الكبرى كانت عندبذ أشبه بالقصور‪.‬‬
‫فى موسكو كان أول بند فى البرنامج بعد الذهاب إلى مسرح البولشوى (أى‬
‫المسرح الكبٌر باللؽة الروسٌة) هو زٌارة إذاعة موسكو (أظن أن اسمها‬
‫عندبذ كان‪ :‬صوت روسٌا)‪ ،‬هناك استضافونا فى القسم العربى‪ ،‬وأجروا‬
‫حدٌثا مع كل منا حول تؤمٌم القناة وحول مإتمر براغ وكذلك حول الثورة‬
‫المصرٌة‪.‬‬
‫كانت هذه أول مرة ٌخرج فٌها صوتى على موجات األثٌر‪ ،‬ولم أكن أعلم‬
‫عندبذ أننى سؤعمل فى األستودٌوهات بقٌة عمرى‪ ،‬وال كنت أعلم أن‬
‫الشاب الذى جلس معى نحتسى الشاى إلى أن ٌنتهى صبرى وسناء من‬
‫التسجٌل سٌصبح بعد سنوات وزٌرا لخارجٌة روسٌا ثم ربٌسا لحكومتها‬
‫فى عهد ٌلتسٌن‪ ،‬كان الشاب هو ٌفجٌنى برٌماكوؾ»‪ ،‬الذى كان ٌعمل‬
‫بالقسم العربى فى اإلذاعة عندبذ‪ ،‬فى المساء جاءنا المترجم إلى الفندق‪،‬‬
‫وهناك أبلؽنا أن اإلذاعة تعرض علٌنا نحن الثالثة العمل بها‪ ،‬وافق صبرى‬
‫على الفور‪ ،‬ورفضت سناء دون تردد‪ ،‬أما أنا فقد استمهلته حتى الؽد ألتخذ‬
‫قرارى‪.‬‬
‫طمؤننا صبرى أنه لن ٌباشر العمل اإال بعد سفرنا‪ ،‬أما أنا فظللت ؼارقا فى‬
‫الصمت‪ ،‬كل ما كان ٌشؽل بالى هى الزٌارة التى قررت أن أقوم بها فى‬
‫الصباح للسفارة المصرٌة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ذهبت دون موعد‪ ،‬وطلبت مقابلة سفٌرنا الشهٌر محمد عوض القونى الذى‬
‫استقبلنى بعد انتظار قصٌر‪ ،‬فروٌت له قصة وفدنا وأخبرته بالعرض الذى‬
‫تلقٌناه‪ ،‬وبؤننى راؼب فى العمل فى اإلذاعة عدة شهور ولكننى أرٌد أوال‬
‫استبذان السلطات المصرٌة‪ ،‬كان هذا هو القرار الذى توصلت إلٌه خاصة‬
‫بعد أن زاد إعجابى بعبدالناصر بعد تؤمٌمه للقناة‪ ،‬وأٌقنت أنه ال ٌمكننى‬
‫العمل بدون إذن واالصطدام مع النظام‪ ،‬أثنى القونى على قرارى‪ ،‬وقال إنه‬
‫سٌبلػ القاهرة باألمر وسٌفٌدنى بعد ذلك بالرد‪.‬‬
‫•تلقٌت عرضـًا وأنا فى موسكو للعمل فى «اإلذاعة»‪ ..‬فطلبت اإلذن من‬
‫القاهرة فجاء الرد‪ :‬خالك بٌقولك إرجع حاال‬
‫كان قد مضى على إقامتنا فى موسكو ثالثة أسابٌع‪ ،‬واآلن علىا أن أرحل‪،‬‬
‫كان السفٌر القونى قد تلقى ردا على رسالته من القاهرة‪ ،‬وكان الرد موجزا‬
‫للؽاٌة‪« :‬خالك بٌقولك‪ :‬عد فورا إلى القاهرة»‪ ،‬كان خالى المقدم صادق‬
‫حالوة ٌشؽل المنصب المناسـب لطلبى بالتحدٌد‪ ،‬كان ربٌس قسم مكافحة‬
‫الشٌوعٌة فى وزارة الداخلٌة!‬
‫•حملت المدفع الرشاش وأنا عابد للبٌت وكنت أشعر بالرجولة الكاملة‬
‫العدوان‬
‫فى القاهرة كانت تهدٌدات الؽرب قد تصاعدت‪ ،‬وبدأ التلوٌح بالعدوان على‬
‫مصر‪ ،‬وهكذا التحقت بالحرس الوطنى ضمن الكتٌبة التى بدأ تشكٌلها فى‬
‫قصر العٌنى‪ ،‬وقد تقاطر األساتذة والطلبة لالنضمام إلى الكتٌبة‪ ،‬وبدأ‬
‫التدرٌب بشكل ٌومى لنحو ساعتٌن‪ ،‬ووزعت علٌنا فٌما بعد مدافع رشاشة‪،‬‬
‫وأذكر أننى فى أول ٌوم حملت فٌه مدفعى وأنا عابد إلى البٌت شعرت‬
‫بالرجولة الكاملة وبالمسبولٌة الكاملة أٌضا‪ ،‬وكان كثٌرون ؼٌرى ٌحملون‬
‫مدافعهم وبنادقهم فى الشوارع‪ ،‬لم تكن الثورة تخشى شعبها‪.‬‬
‫وقبل العدوان الثالثى بؤٌام تم توزٌع معظم فرق الحرس الوطنى فى البالد‬
‫على مواقعها‪ ،‬وكان الموقع الذى خصص لفصٌلتى فى القاهرة مجاورا‬
‫لحى المرج‪ ،‬وكنا نقضى اللٌل فى المزارع مختببٌن فى قنوات الرى أو‬

‫‪15‬‬
‫تحت الشجر نعٌن أنفسنا على البرد بالشاى الذى كان ٌجىء به أهل الكفر‬
‫المجاور فى براد‪ ،‬ما إن ٌفرغ حتى ٌؤتونا بؽٌره‪.‬‬
‫كانت مهمتنا أن نقاوم أى إنزال محتمل للؽزاة بالمظالت وأن نخبر بذلك‬
‫ثكنة عسكرٌة ؼٌر بعٌدة عنا‪ ،‬وقد أمضٌنا هناك نحو عشرٌن ٌوما‪ ،‬ولكننا‬
‫لم نصادؾ سوى حادث واحد عندما هبط طٌار بالمظلة إثر سقوط طابرته‬
‫المؽٌرة على بعد كٌلومتر منا‪ ،‬وهكذا هرعنا جمٌعا تجاهه عدا واحد فقط‬
‫من مجموعتنا ظل ٌهتؾ بحماس‪«« :‬روحوا‪ ..‬ربنا معاكم‪ ..‬أنا حاحرس‬
‫لكم هنا البطاطٌن» وقد أصبنا بخٌبة أمل كبٌرة عندما وصلنا إلى مكان‬
‫هبوط الطٌار فإذا به قد اختفى بعد أن ألقى الفالحون القبض علٌه وقٌل‬
‫إنهم سلموه للجٌش‪.‬‬
‫كانت أمى قد أصٌبت بالسرطان قبل وفاتها‪ ،‬ولكنها ظلت تصارعه‬
‫بشجاعة وإصرار وكذلك بتفاإل مذهل أكثر من خمس عشرة سنة‪ ،‬وكانت‬
‫مقبلة على الحٌاة على الدوام تماما كما كانت قبل أن ٌطالها المرض اللعٌن‪.‬‬
‫والواقع أنها لم تكن مرضت من قبل سوى لعدة أشهر فى منتصؾ‬
‫الخمسٌنٌات عندما أصٌبت بنوبة ربو عندما كنا نعٌش فى طنطا‪ ،‬وهكذا‬
‫نصحها األطباء بالسكن فى منطقة جافة‪ ،‬فكان قرار العابلة باالنتقال إلى‬
‫القاهرة حٌث كنت أدرس فى قصر العٌنى وماجد ٌدرس فى الحربٌة‪،‬‬
‫وكان والدى قد ترك تعلٌم البنات ورقى ناظرا لمدرسة المحلة الكبرى‬
‫الثانوٌة‪ ،‬ولم ٌكن قد تبقى على إحالته للمعاش سوى عدة شهور‪ ..‬وكانت‬
‫المفاضلة بٌن حلوان أو مصر الجدٌدة‪ ،‬فرجحت كفة مصر الجدٌدة فى‬
‫النهاٌة‪..‬‬
‫كانت مصر الجدٌدة فى منتصؾ الخمسٌنٌات ضاحٌة جمٌلة هادبة‪ ،‬تم‬
‫تخطٌطها منذ بداٌة إنشابها وفقا الشتراطات عمرانٌة صارمة‪ ،‬وكانت‬
‫تتمٌز بمبانٌها المتناسقة ذات الطرز اإلٌطالٌة والعربٌة‪.‬‬
‫ولو كان هناك منا من لم ٌذهب إلى مصر الجدٌدة وقتها لكفاه أن ٌشاهد‬
‫عبدالحلٌم حافظ وهو ٌسٌر فى شوارعها فى فٌلم الوسادة الخالٌة الذى‬
‫صور هناك فى الوقت الذى انتقلنا فٌه إلٌها‪ ..‬والٌزال هناك حتى اآلن‬
‫‪16‬‬
‫شواهد على المعمار القدٌم ماثلة فى كنٌسة البازٌلٌك‪ ،‬وفندق هلٌوبولٌس‬
‫هاوس الذى أصبح ٌسمى قصر االتحادٌة‪ ،‬وهناك أٌضا جروبى‬
‫واألمفترٌون‪ ،‬وكذلك قصر البارون ذو المعمار التاٌلندى‪.‬‬
‫ولم ٌكن مترو مصر الجدٌدة وسٌلة مواصالت مثلى فقط للسكان‪ ،‬بل إنه‬
‫كان العامل الذى اجتذب الكثٌرٌن مثلنا للسكن فى هذه الضاحٌة‪ ،‬وكان‬
‫باإلضافة إلى ذلك ٌستخدم بؽرض النزهة‪ ،‬وكانت عرباته التى صنعت فى‬
‫بلجٌكا نظٌفة ومواعٌده نموذجا للدقة كما أن ركوبه كان مجانٌا فى أٌامه‬
‫األولى‪ ،‬وال بد لمن ٌتذكر أن البارون إمبان الذى أنشؤ ضاحٌة مصر‬
‫الجدٌدة منذ أكثر من مابة سنة قد مد خطوط المترو لٌشجع األهالى على‬
‫السكن فى الحى‪ ،‬أن ٌتساءل الٌوم‪ :‬كٌؾ فات على كل المسبولٌن فى مصر‬
‫من بعد أن ٌمدوا خطوطا للمترو إلى مناطق مثل الشروق ومدٌنتى‬
‫والرحاب؛ حتى تٌسر الحٌاة على سكانها وتجتذب آخرٌن للخروج من قمقم‬
‫القاهرة؟‬
‫ً‬
‫فسادا ‪ ..‬دمروا القصور‬ ‫•ٌعرؾ سكان مصر الجدٌدة من عاثوا فٌها‬
‫القدٌمة لتبنى مكانها عمارات لوزراء مبارك وأعوانه وأنجاله‬
‫مصر الجديدة‬
‫ولكن السإال األول هو‪ :‬كٌؾ تدهور حال مصر الجدٌدة على النحو الذى‬
‫نراه اآلن؟ ال شك أن الزٌادة السكانٌة الهابلة قد تكون العامل األهم‪ ،‬لكن‬
‫الذى خرب مصر الجدٌدة فعال هو الفوضى التى اجتاحت مصر كلها‬
‫فؤتاحت للكل أن ٌضربوا بالقوانٌن واللوابح عرض الحابط‪ ،‬والفساد الذى‬
‫شاع من قمة الحكم إلى قاع المحلٌات‪.‬‬
‫وٌعرؾ سكان مصر الجدٌدة األصلٌون‪ ،‬الكبار الذٌن عاثوا فٌها فسادا‪ ،‬كما‬
‫ٌعرفون الوافدٌن الجدد منهم باالسم‪ ،‬وٌعرفون ما دمروه من القصور‬
‫القدٌمة لتبنى مكانها عمارات فارهة أصبحت سكنى لعدد من وزراء مبارك‬
‫وأعوانه وأنجاله وأصفٌابهم‪ ،‬وعلى الرؼم من أن سوزان مبارك كانت‬
‫حرٌصة على إقامة لمسات تجمٌل فى الحى هنا وهناك مثل منع مرور‬
‫السٌارات فى الكوربة كل ٌوم جمعة أو بناء مكتبة باسم الحى أو إقامة‬
‫‪17‬‬
‫حدٌقة باسمها‪ ،‬فإن هذه كانت مجرد لمسات لتجمٌل البٌبة المجاورة‬
‫لقصرها‪ ،‬أو كانت استكماال لدٌكور استقبالها مع الجوقة التى كانت‬
‫تصاحبها فى المناسبات المعدة سلفا للتصوٌر‪.‬‬

‫ظهرت نتٌجة امتحانات ثانٌة طب فى المساء‪ ،‬ونقلت إلى السنة الثالثة وإن‬
‫كان علىّ أن أدخل امتحان اإلعادة بعد شهور فى التشرٌح والفسٌولوجى‪،‬‬
‫ولكننى قبل أن أذهب إلى البٌت ألخبر العابلة بالنتٌجة‪ ،‬توجهت أوال إلى‬
‫أخبار الٌوم لعلِّى أستطٌع مقابلة األستاذ مصطفى أمٌن‪.‬‬
‫لم تستؽرق المقابلة سوى بضع دقابق وفوجبت به بعدها ٌطلب سكرتٌره‬
‫سلٌم فى التلٌفون وٌبلؽه بؤننى سؤعمل محررا فى مجلة «آخر ساعة» وأن‬
‫مرتبى سٌكون ‪ 15‬جنٌها شهرٌا‪.‬‬
‫بعد ذلك جاءنى زمٌلى محمد العزبى ٌبلؽنى بؤن هناك عرضا لكلٌنا من‬
‫مجلة «التحرٌر» مقابل راتب قدره خمسة وعشرون جنٌها‪.‬‬
‫كانت مجلة «التحرٌر» تصدر عن «دار التحرٌر للطبع والنشر» التى‬
‫‪1953‬‬ ‫تصدر كذلك جرٌدة «الجمهورٌة»‪ ،‬وكانت الدار أنشبت عام‬
‫لتتحدث بلسان الثورة‪ ،‬وكان ربٌس تحرٌر المجلة هو المقدم عبد العزٌز‬
‫صادق‪ ،‬أحد أعضاء الصؾ الثانى فى «الضباط األحرار»‪ ،‬ولم ٌكن تولى‬
‫ضابط لمثل هذه المهام أمرا ٌلفت النظر فى تلك األٌام التى بدأ فٌها‬
‫الضباط ٌتسربون إلى الصحافة واإلذاعة‪.‬‬
‫آه يا دمشق ‪ 1959‬ــ ‪2011‬‬
‫طلب منى زمٌلى فى مجلة «التحرٌر» أسعد حسنى فى فبراٌر ‪ 1959‬أن‬
‫نلتقى مع نصوح بابٌل نقٌب الصحفٌٌن فى سورٌا وصاحب جرٌدة‬
‫«األٌام»‪ ،‬ذهبنا إلى هناك وأنا على ٌقٌن أن أسعد رتب لى اللقاء حتى‬
‫أجرى حدٌثا للمجلة مع الرجل‪ ،‬وأنه صاحبنى ألنه صدٌق له‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫لم تستؽرق المقابلة سوى وقت قصٌر للؽاٌة‪ ،‬كل ما فهمته فى الدقابق‬
‫األولى أنه متحمس للوحدة بٌن مصر وسورٌا‪ ،‬وبعدها دخل مباشرة فى‬
‫راض عنها‬
‫ٍ‬ ‫الموضوع‪ ،‬جرٌدته كانت عرٌقة وشهٌرة فى سورٌا‪ ،‬وهو‬
‫راض عن إخراجها الصحفى؛ ولذلك فهو ٌعرض علًا‬ ‫ٍ‬ ‫تماما‪ ،‬اإال أنه ؼٌر‬
‫أن أكون مسبوال عن ذلك‪ ،‬وفاجؤنى الرجل بؤنه ٌود لو أجبته فى الحال إذا‬
‫كنت على استعداد للسفر معه إلى دمشق خالل األسبوع نفسه‪.‬‬
‫أجبت باإلٌجاب حتى قبل أن أعرؾ الراتب الذى سٌعرضه؛ وعندما‬
‫أخبرت أبى باألمر سؤلنى سإاال واحدا‪« :‬وما الذى ستفعله بدراستك؟»‬
‫قلت إن زمالبى سوؾ ٌوافونى بالكتب والمذكرات‪ ،‬ووعدت بالحضور إلى‬
‫القاهرة ألداء االمتحان‪ ،‬كنت على ٌقٌن أن العابلة لن تمانع؛ فقد ربانى أبى‬
‫وأمى على حب السفر‪ ،‬بل كانا ٌحرضانى علٌه‪.‬‬

‫فىسنة ‪ 1958‬كنت سافرت إلى سورٌا‪ ،‬وكانت الوحدة وقتها قد أعلنت‪،‬‬


‫وكان معى زمٌلى السابق فى كلٌة الطب صبرى أٌوب نصٌؾ‪.‬‬
‫فى الٌوم التالى للزٌارة تلقٌت مكالمة تلٌفونٌة فى الفندق‪ ،‬قال المتحدث إنه‬
‫المقدم طلعت صدقى من المكتب الثانى‪ ،‬أى مخابرات اإلقلٌم الشمالى‪ ،‬وإنه‬
‫ٌرٌد أن ٌقابلنى‪.‬‬
‫قال إنه ٌود أن ٌحدثنى فى موضوع مهم‪ٌ« :‬ا أخ حمدى لماذا تعملون‬
‫وحدكم؟» لم أفهم السإال‪ ،‬ولكنه استمر ٌسؤل‪« :‬لماذا ال تستعٌنون بنا؟ هل‬
‫تعتقدون أنه بعد أن تقضوا فى دمشق أٌاما معدودة فقط تستطٌعون‬
‫الحصول على المعلومات الصحٌحة الالزمة؟‪».‬‬
‫بدأت مقاصده تتضح فنفٌت أى صلة لنا بالمخابرات المصرٌة‪ ،‬فقال لى‪:‬‬
‫«سواء كنتم تعملون للمخابرات المصرٌة أم ال‪ ،‬فسوؾ أعرض علٌك اآلن‬
‫عرضا أرجو أال تتحرج من رفضه على الفور لو أردت‪ ،‬أما إذا كنت تود‬
‫أن تقدم لسورٌا وللعروبة خدمة فسوؾ أكون شاكرا‪».‬‬

‫‪19‬‬
‫صمت برهة وصمت أنا اآلخر‪ ،‬فاستطرد ٌقول‪« :‬تعرؾ مشكلة لواء‬
‫اإلسكندرونة»‪ ،‬قلت‪« :‬أعرفها‪ ..‬هذه أرض سورٌة استولى علٌها‬
‫األتراك»‪ ،‬قال‪« :‬ونحن نجاهد من أجل استردادها‪ ،‬وٌعمل فٌها رجالنا‬
‫على الدوام‪ ،‬ولكن مجموعة منهم ألقى القبض علٌه فى العام الماضى‪ ،‬وهم‬
‫اآلن ٌحاكمون‪ ،‬ولدٌنا رسالة مهمة ٌمكن أن تساعد على تبربتهم‪ ،‬وهذه‬
‫الرسالة نرٌد تسلٌمها إلى القنصل (السورى) فى إسطنبول‪».‬‬
‫ذكر لى اسم القنصل الذى ال ٌحضرنى اآلن‪ ،‬وسؤلنى إذا ما كنت على‬
‫استعداد لتوصٌل الرسالة‪ ،‬أشهد أنه نبهنى بشدة إلى مخاطر المهمة‪،‬‬
‫وأبلؽنى بؤن المخابرات التركٌة لو ضبطت الرسالة معى أثنـاء التفتـٌش‬
‫الدقٌق على الحدود فربما ٌكون مصٌرى اإلعدام‪.‬‬
‫وافقت دون تردد‪ ،‬ولكننى قلت إن لى شرطا واحدا هو أن أبلػ السفٌر فى‬
‫أنقرة‪ ،‬التى سؤزورها بعد زٌارتى إلسطنبول‪ ،‬قال‪« :‬افعل ما ترى‪ ..‬المهم‬
‫أن تصل الرسالة بسرعة‪».‬‬
‫فى اسطنبول‬
‫ق ادرت أنه مادامت الصحؾ العربٌة ممنوعة فى تركٌا‪ ،‬فسوؾ تلفت المجلة‬
‫نظر ضابط الجمرك‪ ،‬واألرجح أنه سٌركز اهتمامه فٌها‪ ،‬وبذلك لن ٌلتفت‬
‫إلى المظروؾ‪ٌ ،‬ا إلهى‪ ،‬هذا ما حدث تماما عندما بلؽنا نقطة الحدود‬
‫التركٌة‪ ،‬صادر الضابط المجلة ولم ٌفتش الحقٌبة‪ ،‬أحمدك ٌارب‪ ،‬السإال‬
‫الوحٌد الذى سؤله لى الضابط هو ما إذا كان معى بن أم ال‪ ،‬وهو السإال‬
‫نفسه الذى وجهه لكل الذٌن معنا فى السٌارة؛ إذ ٌبدو أن مهربى البن كانوا‬
‫كثٌرا ما ٌستخدمون هذا الطرٌق‪.‬‬

‫عندما وصلنا إسطنبول أخذت أعد الساعات حتى ٌؤتى الصباح وأسلم‬
‫الرسالة‪ ،‬كانت تعلٌمات طلعت صدقى أال أتصل بالقنصل‪ ،‬وإنما أن أذهب‬
‫إلى القنصلٌة فى الصباح كمواطن عادى وأطلب مقابلته‪ ،‬وسوؾ ٌكون‬

‫‪20‬‬
‫مستعدا الستقبالى‪ ،‬وهذا ما حدث‪ ،‬بعدها ذهبت إلى أنقرة وأبلؽت السفٌر‬
‫باألمر‪.‬‬
‫منذ الٌوم األول عاملنى نصوح بابٌل كؤب ال كصاحب عمل‪ ،‬كان حرٌصا‬
‫على راحتى الشخصٌة أوال‪ ،‬على سكنى وما إلى ذلك‪ ،‬بل إنه وفقا للعقد‬
‫الذى وقعناه كان علٌه أن ٌدفع لى مرتب شهر مقدما اإال أنه قال إنه ملتزم‬
‫بوعده لكنه سٌعطٌنى نصؾ المبلػ فقط خشٌة أن تضٌع الفلوس فى‬
‫«الكالم الفارغ» إذا ما تسلمتها دفعة واحدة‪ ،‬وقال إنه سٌحتفظ بالباقى لدٌه‬
‫إلى أن أطلبه وقت الحاجة‪.‬‬
‫حٌن ؼادرت الجرٌدة بعد انتهاء فترة عملى المإقتة بها‪ ،‬شاءت الصدؾ أن‬
‫ٌنطلق مشروع لصحٌفة ٌومٌة جدٌدة فى دمشق هى جرٌدة «الجماهٌر»‬
‫التى التحقت بالعمل بها بدعوة من القابمٌن علٌها‪ ،‬وكان وراءها قطبان‬
‫شهٌران فى حزب البعث‪ ،‬د‪ .‬جمال الدٌن األتاسى ود‪ .‬عبد الكرٌم زهور‪،‬‬
‫وكان كالهما ٌمثل جناحا ذا صبؽة اشتراكٌة ممٌزة فى الحزب الذى أصدر‬
‫‪ 23‬فبراٌر‬ ‫قرارا بحل نفسه فى الٌوم التالى إلعالن الوحدة‪ ،‬أى فى‬
‫‪.1958‬‬
‫انتظم العمل‪ ،‬ولم ٌكن هناك ما ٌنؽصنى سوى ذلك التوتر المكتوم بٌن‬
‫مإسسى الجرٌدة وبٌن عبد الحمٌد السراج الذى أصبح وزٌرا لداخلٌة‬
‫الوحدة وربٌسا للمكتب التنفٌذى لإلقلٌم الشمالى‪ ،‬وكان هذا التوتر ٌعكس‬
‫فى حقٌقته العالقة المضطربة بٌن البعث والسراج؛ أقرب الضباط‬
‫السورٌٌن إلى عبد الناصر‪.‬‬
‫االنتخابات‬
‫أعلن وقتها عن إجراء االتحاد القومى ألول انتخابات له فى دولة الوحدة‬
‫التى كنت واحدا من المالٌٌن المتحمسة لها‪ ،‬فقررت أن أرشح نفسى فى‬
‫دمشق لمجرد أن أإكد أن هذه الوحدة واقع ولٌس مجرد شعارات‪.‬‬
‫تمض أٌام حتى‬
‫ِ‬ ‫قدمت أوراقى إلى وزارة الداخلٌة كما هو مقرر‪ ،‬ولكن لم‬
‫اتصل بى ضابط مصرى شاب ٌعمل فى مكتب االتصال المصرى فى‬

‫‪21‬‬
‫الداخلٌة السورٌة‪ ،‬وهو المكتب المعنى بشبون المواطنٌن المصرٌٌن‬
‫المقٌمٌن فى اإلقلٌم الشمالى‪ ،‬وطلب منى الذهاب إلٌه‪ ،‬وفى مكتبه فاجؤنى‬
‫عندما طلب منى سحب ترشٌحى‪ ،‬عندما سؤلت عن السبب‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«أصارحك‪ ،‬أنت المصرى الوحٌد الذى رشح نفسه فى سورٌا‪ ،‬وإذا‬
‫سقطت فى االنتخابات فسوؾ ٌستؽل ذلك للنٌل من الوحدة»‪ ،‬عبثا حاولت‬
‫أن أجادل‪ ،‬فقد قال الضابط بحسم‪« :‬أمـامك ‪ 48‬سـاعة لتقرر ا‬
‫وإال فإننا‬
‫سوؾ نصادر بطاقتك الشخصٌة ونعتبر ترشحك الؼٌا‪».‬‬
‫نشرت مقاال فى «الجماهٌر» حكٌت فٌه القصة بتفاصٌلها‪ ،‬وفى الٌوم‬
‫التالى وصلنى إخطار رسمى بؤن ترشٌحى اعتبر الؼٌا ألن «أوراقه لٌست‬
‫مكتملة»‪ ،‬وصودرت البطاقة‪.‬‬
‫تمض أٌام حتى وقعت أزمة أخرى داخل الجرٌدة بسبب تحقٌق صحفى‬
‫ِ‬ ‫لم‬
‫قام بنشره صدٌقى الصحفى المصرى الشهٌر سعد زؼلول فإاد‪.‬‬
‫سعد لم ٌكن صحفٌا فقط‪ ،‬لكنه كان أٌضا فى طلٌعة الفدابٌٌن فى حقبة‬
‫النضال من أجل االستقالل فى األربعٌنٌات والخمسٌنٌات‪ ،‬وكانت له‬
‫صوالت وجوالت على امتداد الوطن العربى كله‪ ،‬حكم علٌه خاللها‬
‫باإلعدام مرتٌن وأفلت من المشنقة‪ ،‬وقاتل إلى جانب الجزابرٌٌن أثناء‬
‫ثورتهم‪ ،‬ورافق الفلسطٌنٌٌن فى كفاحهم سنوات‪ ،‬وظل على الدوام نقٌا‬
‫صافى النفس ال ٌملك من الدنٌا اإال ما ٌكاد ٌستره‪ ،‬حتى استراح من رحلته‬
‫المضنٌة فى الحٌاة‪.‬‬
‫كلؾ سعد مع مصور الجرٌدة «سركٌس بالجٌان» بإعداد تحقٌق صحفى‬
‫حول انتخابات االتحاد القومى‪ ،‬وبالفعل قدم التحقٌق فى الٌوم التالى‪ ،‬اإال أنه‬
‫أسهب كثٌرا فى التفاصٌل حتى إن التحقٌق تعدى الصفحة المخصصة له‬
‫فاختصرت منه نحو فقرتٌن عند النشر‪.‬‬
‫جاء سعد فى المساء إلى مقر الجرٌدة فى حى «المهاجرٌن» على حافة‬
‫جبل قاسٌون فى دمشق‪ ،‬وكان مكتبى فى قاعة كبٌرة أجلس فى جانب منها‬
‫فى حٌن ٌجلس فى الجانب اآلخر «إمٌل شوٌري» مدٌر التحرٌر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وما إن أبلؽت سعد بؤننى قمت باالختصار حتى ثار‪ ،‬كان ٌعتقد أن إمٌل هو‬
‫الذى حذؾ ما حذؾ ألنه بعثى‪ ،‬وألن التحقٌق الصحفى شهد بنزاهة‬
‫التصوٌت والفرز الذى أشرؾ علٌه السراج عدو البعث‪ ،‬لم ٌصدق سعد‬
‫أننى الذى قمت باختصار التحقٌق‪ ،‬وفجؤة قفز إلى الجانب اآلخر من الؽرفة‬
‫لٌبدأ بٌنه وبٌن إمٌل تالسن حاد‪ ،‬انتهى بؤن التقط سعد مطفؤة السجابر من‬
‫على مكتب إمٌل وقذفه بها فى وجهه‪ ،‬كان هذا آخر أٌام سعد فى الجرٌدة‪.‬‬
‫إلى بيروت‬
‫بعد هذه الواقعة بؤٌام وصلنى مقال الدكتور جمال األتاسى قبل أن أتناول‬
‫إفطارى‪ ،‬فقد كان معتادا أن ٌرسل مقاالته بانتظام‪ ،‬كانت مقدمة المقال‬
‫معتادة تعكس األزمة المؤلوفة مع السراج ومع السلطة فى القاهرة التى‬
‫كتب عنها األتاسى مرات من قبل‪ ،‬ولكن اللهجة هذه المرة كانت حادة‪ ،‬بل‬
‫إنها تصاعدت حتى قال األتاسى فى نهاٌة المقال‪« :‬عندما توصلت مع أخى‬
‫عبد الكرٌم زهور إلى تحلٌل المرحلة‪ ،‬والمخاطر الخارجٌة والداخلٌة‪،‬‬
‫وسٌادة عقلٌة كمال الدٌن حسٌن وعبد القادر حاتم وؼٌرهما فى إدارة‬
‫المجتمع على النقٌض من عقلٌة الربٌس عبد الناصر‪ ،‬وجدنا أن الحل‬
‫الوحٌد المتاح لنا هو االعتصام بالصمت كتعبٌر عن االحتجاج»‪ ،‬وهكذا‬
‫صمتت «الجماهٌر» وتوقفت عن الصدور فى عام ‪.1959‬‬
‫قال سعد‪« :‬ال تحمل همّا‪ ..‬سنسافر إلى بٌروت»‪ ..‬كانت بٌروت بالنسبة‬
‫لى حلما لم أستطع تحقٌقه طوال إقامتى فى دمشق‪ ،‬وكانت وقتها مركز‬
‫السٌاحة والتجارة فى المنطقة‪ ،‬وقبل هذا وذاك منبر الصحافة العربٌة‬
‫الحرة‪.‬‬

‫حزمنا حقاببنا‪ ،‬ووضعناهما فى سٌارته «الفورد» العتٌقة المكشوفة‪،‬‬


‫وانطلقت بنا السٌارة صوب الحدود اللبنانٌة عبر طرق جبلٌة ٌعرفها سعد‬
‫جٌدا‪ ،‬وعندما عبرنا الحدود إذا بالجو ٌمتلا فجؤة بؤزٌز الرصاص‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫قال سعد‪« :‬ال تخش شٌبا‪ ،‬هذه الطلقات هى تحٌة لقدومنا‪ ،‬فنحن اآلن فى‬
‫أرض لبنانٌة ٌقٌم بها الدروز التابعون للشٌخ شبلى أؼا العرٌان‪ ،‬وهو‬
‫ورجاله أصدقابى منذ كنت أهرِّ ب لهم السالح فى العام الماضى عندما‬
‫كانوا ٌقاومون الربٌس اللبنانى كمٌل شمعون الذى استدعى األسطول‬
‫السادس لضرب مصر وسورٌا»‪ ،‬وهكذا واصلنا السٌر إلى قلب بٌروت‬
‫حٌث أقمنا فى فندق متواضع صؽٌر‪».‬‬
‫كان الفندق فى «ساحة البرج»‪ ،‬لم أعد أذكر اسمه‪ ،‬وكان أفضل ما ٌمٌزه‬
‫أنه كان ٌقبل الزبابن دون حاجة إلى جواز سفر‪ ،‬أما أسوأ ما فٌه فكان‬
‫الؽرفة التى أعطوها لنا‪ ،‬فقد كان فى الؽرفة سرٌر ثالث خال ولكنه شؽل‬
‫فى الٌوم التالى بزبون جدٌد كان شابا أمرٌكٌا فى عمرنا‪.‬‬
‫فى المساء أخذنى سعد إلى شرفة الؽرفة المطلة على الساحة وهو بادى‬
‫الؽضب‪ ..‬قال‪« :‬الواد ده ‪ ، CIA‬الزم نمشى»‪ ..‬عذرته‪ ،‬إذ كان قد قضى‬
‫الكثٌر من أٌامه مطاردا فقلت‪« :‬فى كل األحوال أنا ال أستطٌع البقاء معه‬
‫تحت سقؾ واحد‪ ..‬رابحة جواربه تقتلنى‪».‬‬
‫عدت إلى دمشق بعد نحو عام من هروبً؛ حٌث كنت موفدا من تلٌفزٌون‬
‫القاهرة لمدة أسبوع أقرأ فٌه نشرات األخبار فى تلٌفزٌون دمشق‪ ،‬وكان‬
‫زمالإنا السورٌون ٌؤتون هم اآلخرون إلى القاهرة بٌن وقت وآخر تنفٌذا‬
‫لبرنامج التبادل بٌن المحطتٌن‪.‬‬
‫بشار األسد‬
‫أصبح لى هناك أصدقاء سورٌون ال حصر لهم‪ ،‬وأذكر طالل الزٌن‪ ،‬وهو‬
‫واحد من أكبر مالك ناقالت الؽاز فى العالم‪ ،‬الذى التقٌته فى الٌونان عام‬
‫‪ 2003‬عندما أقامت السفارة المصرٌة حفل استقبال لسوزان مبارك أثناء‬
‫زٌارتها ألثٌنا‪ ،‬وكان الحفل فى واقع األمر لجمع التبرعات للمشروعات‬
‫الخٌرٌة التى ترعاها حرم الربٌس السابق ولمكتبة اإلسكندرٌة أٌضا‪ ،‬وكان‬
‫الزٌن مدعوا فتبرع بشٌك بملٌون دوالر‪ ،‬ولكنه جاءنى بعدها إلى الفندق‬
‫مندهشا من أن الشٌك أعٌد له حتى ٌعٌد كتابته باسم سوزان مبارك!‬

‫‪24‬‬
‫لم تتح لى فرصة اللقاء باألسد األب من قبل ولكنى التقٌت الربٌس بشار‬
‫عدة مرات عام ‪ 2006‬و‪.2008‬‬
‫عندما جلسنا معا فى أول لقاء عام ‪ 2006‬قلت له‪ٌ« :‬ا دكتور بشار‪ ،‬أنتم لم‬
‫تستفٌدوا من درس االنفصال بٌن مصر وسورٌا‪ ،‬وأنت تعرؾ أن واحدا‬
‫من أسبابه كان سلوك بعض ضباط القٌادة المصرٌٌن المقٌمٌن فى دمشق‪،‬‬
‫أنتم اآلن تكررون الخطؤ نفسه‪ ،‬لكنه بدال من أن تكون سورٌا هى المفعول‬
‫به أصبحت هى الفاعل‪».‬‬
‫وعندما أوشكت المقابلة أن تنتهى قلت‪ٌ« :‬ا سٌادة الربٌس‪ ،‬إن كان لى أن‬
‫أطلب منك شٌبا واحدا قبل أن أؼادر فهو ضرورة أن تقود بنفسك انفراجة‬
‫سٌاسٌة داخلٌة‪ ،‬وأن تقترب من معارضٌك وأن تفرج عن المعتقلٌن‬
‫السٌاسٌٌن»‪ ،‬فقال‪« :‬وعد سوؾ أفى به‪ ،‬ولنا فى ذلك لقاء آخر‪».‬‬
‫وجاء اللقاء الثانى بعدها بؤسابٌع‪ ،‬سافرت إلى لبنان ضمن وفد شعبى‬
‫مصرى بعد نشوب حرب تموز (ٌولٌو) ‪ 2006‬مباشرة‪ ،‬أذكر أننا عندما‬
‫تجمعنا فى تظاهرة فى مطار القاهرة اقترب منى أحد لواءات الشرطة‬
‫وهمس فى أذنى‪« :‬قل لحسن نصر هللا إن مصر كلها معاه‪».‬‬
‫بعد ذلك بؤسابٌع أخرى كان لقاإنا الثالث عندما لبى الربٌس بشار طلبى‬
‫بإجراء حدٌث حول حرب «تموز» لتلٌفزٌون دبى‪ ،‬وتطرقت إلى‬
‫الموضوعٌن الحساسٌن لدٌه‪ :‬لماذا لم ٌطلق الجٌش السورى طلقة واحدة‬
‫فى الجوالن‪ ،‬ولماذا ال ٌفرج عن المعتقلٌن السٌاسٌٌن؟ ولم تكن إجاباته‬
‫شافٌة‪ ..‬عندما تحدث عن الجوالن مثال قال إن المقاومة هناك «قرار‬
‫شعبى‪ ،‬ومن ؼٌر المنطقى أن تقول دولة إنها ستذهب إلى المقاومة؛ ألن‬
‫الشعب ٌتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما ٌقرر هذا الشىء»‪ ،‬أى أن‬
‫الشعب هو المسبول!‬
‫وقلت له ٌومها أٌضا إن «أول حق للناس فى وطنهم أن ٌتكلموا بحرٌة»‪،‬‬
‫وعدت ألذ ِّكر أن جماعة مثل جماعة منتدى األتاسى أو مثل األعضاء فى‬
‫االتحاد االشتراكى وآخرٌن ؼٌرهم قد ٌكونون أكثر والء لبلدهم وهم فى‬
‫المعتقل من بعض الذٌن خارج السجون‪ ،‬ولكنه رد بـ«الكلٌشٌه» التقلٌدى‪:‬‬
‫‪25‬‬
‫«ال نرٌد الحرٌات التى تستؽل من الخارج‪ ..‬نرٌد حرٌات ضمن إطار‬
‫الوطن‪».‬‬
‫الثورة السورية‬
‫عندما اشتعلت الثورة فى سورٌا بعد مصر تعاطفت مع الثوار مثلما‬
‫تعاطؾ معظم المصرٌٌن الذٌن هبوا ضد االستبداد والفساد فى بلدهم‪،‬‬
‫ولكننى لم أعلن ذلك صراحة فى البداٌة‪ ،‬وتفاقمت األمور على نحو ما‬
‫نعرؾ‪ ،‬وامتدت الثورة إلى مناطق أوسع‪.‬‬
‫وقتها هاجم أعوان بشار رسام الكارٌكاتٌر المعارض الشهٌر على فرزات‬
‫فى ساحة األموٌٌن وهو عابد إلى بٌته فجرا وأوسعوه ضربا على ٌدٌه‬
‫وأصابعه فنقل إلى المستشفى مصابا بارتجاج فى المخ «علشان تتلم‬
‫ماترسمشى ضد أسٌادك»‪ ،‬وكان إبراهٌم قاشوش الذى ؼنى أؼنٌة الثورة‬
‫الشهٌرة «ٌالال ارحل ٌا بشار» قد ذبح من حنجرته قبلها بؤسابٌع على‬
‫أٌدى الشبٌحة أنفسهم‪.‬‬
‫عندها وصل بى االستفزاز إلى مداه فقلت فى برنامجى الذى كنت أقدمه‬
‫فى قناة «التحرٌر» حٌنبذ إن أمثالى «اللى كانوا بٌشوفوا أمل فى بشار‬
‫األسد فى وقت ما‪ ،‬ال ٌمكن بعد كل المجازر اللى حصلت ٌقفوا النهارده‬
‫جنب نظامه‪ ،‬مهما كنا متؤكدٌن إن قوى أجنبٌة بتستهدؾ هذا النظام‪ ..‬اللى‬
‫عارؾ إن فٌه قوة أجنبٌة متقصداه ما ٌدٌلهاش فرصة‪ ،‬ما ٌفتحلهاش‬
‫الباب‪».‬‬
‫وأٌقنت أن بشار وصل فى عناده إلى نقطة الالعودة‪ ،‬فحسمت أمرى‬
‫وواصلت الوقوؾ إلى جانب المعارضة‪ ،‬ولكن األمور تطورت على النحو‬
‫الذى تطورت إلٌه فٌما بعد‪ ،‬وهالنى التدخل الفاضح للؽرب الذى كان‬
‫ٌهدؾ إلى إسقاط بشار منذ زمن‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫فى ‪ٌ 21‬ولٌو ‪ ،1960‬بدأ إرسال «التلٌفزٌون العربى» ولم تمر شهور‬
‫حتى طلب منى ربٌس تحرٌر األخبار بهى الدٌن نصر أن أقرأ ألول مرة‬
‫نشرة أخبار التاسعة الربٌسٌة‪.‬‬
‫لما حاولت التملص أبلؽنى أن هذه أوامر‪« ،‬الدكتور حاتم قال‪ :‬خلوا الجدع‬
‫السورى ده ٌقرا لنا النشرة اللٌلة دى»‪ ،‬وضحك‪ .‬كان عبدالقادر حاتم‬
‫ٌعرؾ العاملٌن جمٌعا واحدا واحدا‪ ،‬إذ لم ٌكن عددنا عندبذ فى التلٌفزٌون‬
‫كله ٌزٌد على ‪ ،600‬وكان ٌظن أننى سورى ربما ألن أحدا أبلؽه أننى‬
‫كنت أعمل بالصحافة فى سورٌا قبل التحاقى بالتلٌفزٌون‪.‬‬
‫كان من المقرر أن ٌقرأ أنور المشرى تلك النشرة‪ ،‬وكانت أوراقها بالفعل‬
‫فى ٌده عندما أبلؽوه أن ٌتخلى عنها لى‪ ،‬لم ٌؽضب‪ ،‬وبرقة بالؽة وحرص‬
‫صادق طلب منى أن أقرأ النشرة أمامه قبل أن أقرأها على الهواء حتى‬
‫ٌطمبن إلى إلقابى‪.‬‬
‫عندما بدأت تقدٌم برنامج «أقوال الصحؾ» فى سبتمبر ‪ 1961‬توقؾ بعد‬
‫الحلقة الخامسة‪ ،‬قال لى ربٌس تحرٌر األخبار‪« :‬الوزٌر بٌقول لك استرٌح‬
‫شوٌة»‪ .‬كانت هذه هى الشفرة فى ذلك الحٌن لإلعراب عن ؼضب‬
‫السلطة‪ ،‬بعدها علمت أن سبب الؽضب هو أننى أوردت خبرا عن الربٌس‬
‫عبدالناصر فى نهاٌة البرنامج ولٌس فى بداٌته‪.‬‬
‫ذهبت إلى مكتب الربٌس فى منشٌة البكرى‪ ،‬وطلبت مقابلة سامى شرؾ‬
‫سكرتٌر الربٌس للمعلومات‪ ،‬قلت له‪ٌ« :‬ا سامى بك‪ ،‬أرٌد أن أعرؾ من‬
‫الربٌس شخصٌا إذا كان ٌعترض على إذاعة خبر عنه فى نهاٌة برنامج»‪،‬‬
‫وحكٌت له الحكاٌة‪ ،‬ضحك سامى شرؾ وطلب منى االنتظار فى استراحة‬
‫مكتبه‪.‬‬
‫بعد قلٌل نادانى ثانٌة‪ ،‬وقال‪« :‬الرٌس بٌقول لك خد الجراٌد وروح على‬
‫األستودٌو بتاعك على طول من ؼٌر ما تكلم حد‪».‬‬

‫‪27‬‬
‫فى سنة ‪ 1963‬كان ٌصلنى فى مبنى التلٌفزٌون قفص من المانجو الفاخر‬
‫كل أسبوع دون أن أعرؾ مصدره‪ ،،‬وعندما طلبت من األمن أن ٌتحرى‬
‫األمر أخبرونى أن القفص جاء مع سابق سٌارة لٌموزٌن سوداء فارهة‬
‫ولكنه ٌرفض اإلفصاح عن اسم المرسل‪.‬‬
‫انتظرت لألسبوع التالى‪ ،‬وتتبعت السابق‪ ،‬وما إن ركب السٌارة حتى‬
‫فتحت بابها الخلفى وقفزت داخلها‪ ،‬أخذت أسؤل‪« :‬مٌن اللى قاعد جنبى؟‬
‫مٌن اللى قاعد جنبى؟»‪ ،‬وعندما جاءنى الجواب عرفت أنها امرأة‪.‬‬
‫طلبت منها أن تخلع الخمار‪ ،‬وعندما فعلت تمنٌت لو لم أكن ألححت فى‬
‫الطلب‪ ،‬كانت دمٌمة للؽاٌة فؽلبنى إحباط شدٌد‪ ،‬ولكننى حاولت أن أكون‬
‫لطٌفا بل وافقت على تلبٌة دعوتها على العشاء‪ ،‬ذهبنا إلى كازٌنو مجاور‬
‫لقصر العٌنى الجدٌد‪ ،‬وما إن جلست حتى نادت النادل‪« :‬هات له كٌلو‬
‫كباب‪».‬‬
‫كظمت ؼٌظى وأنا أقول لها‪« :‬أوال أنا الذى أنادى الرجل ال أنتِ‪ ،‬ثانٌا ما‬
‫حكاٌة هات له هذه؟ وأخٌرا‪ :‬الكباب هنا لٌس بالكٌلو ولكنه بالطبق‪».‬‬
‫بعد العشاء مدت ٌدها تحت المابدة وبدأت تلعب فى بنطلونى فاستعذت باهلل‬
‫من الفضٌحة التى ٌمكن أن تحدث‪ ،‬حتى اكتشفت أنها تمد لى ٌدها بعشرة‬
‫جنٌهات ألدفع الحساب‪ ،‬اعتذرت شاكرا‪ ،‬وتنفست الصعداء عندما ؼادرت‪،‬‬
‫ولما جاء الثالثاء التالى ولم ٌصل قفص المانجو لعننى كل الزمالء الذٌن‬
‫كانوا ٌنتظرون القفص كل أسبوع‪ .‬ما أذكره عن تلك السنوات من حٌاتى‬
‫فى التلٌفزٌون أننا كنا سعداء‪ ،‬راضٌن برواتبنا المتواضعة‪ ،‬بدأت بـ ‪14.5‬‬
‫جنٌه‪ ،‬وانتهت بـ ‪ 55‬وكنت أتقاضى ‪ 70‬جنٌها بدل مالبس فى السنة‪ ،‬فى‬
‫هذه السنوات اشترٌت سٌارة نصر ‪ 1300‬بقسط شهرى ‪ 20‬جنٌها على‬
‫مدى ‪ 24‬شهرا‪ ،‬كما تزوجت من زمٌلتى مذٌعة النشرة الفرنسٌة فى‬
‫اإلذاعة علٌة البرعى فى عام ‪ 1966‬فى حفل استقبال فى فندق شبرد أظن‬
‫أنه كان أنٌقا كلفنى ‪ 240‬جنٌها‪ ،‬بالتقسٌط أٌضا‪.‬‬
‫عندما علم األستاذ أنٌس منصور بنٌتى فى الزواج قال لى‪« :‬اوعى تعملها‬
‫ٌا حمدى‪ ،‬إنت طالع‪ ،‬واللى طالع الزم ٌخفؾ الحمولة»‪ ،‬أشهد أن حمولتى‬
‫‪28‬‬
‫لم تحل بٌنى وبٌن ارتقاء درجات السلم‪ ،‬إن لم تكن قد دفعتنى إلى مزٌد من‬
‫الصعود‪.‬‬
‫بعد حفل افتتاح مهرجان التلٌفزٌون الدولى فى االسكندرٌة عام ‪،1964‬‬
‫وعندما أوشكت أن أؼادر قابلت سعاد حسنى ولما علمت أننى مؽادر إلى‬
‫القاهرة طلبت منى أن أصطحبها معى ألنها مرتبطة بتصوٌر فى القاهرة‪.‬‬
‫انطلقنا حتى وصلنا إلى االستراحة فى منتصؾ الطرٌق الصحراوى‪،‬‬
‫وهناك ؼلبنى اإلجهاد والنوم فسؤلتها إذا ما كانت تستطٌع قٌادة السٌارة بدال‬
‫منى فقالت إنها متعبة تماما‪ ،‬وهكذا استؽرقنا فى النوم كل فى كرسٌه حتى‬
‫جاء موظؾ فى المكتب ودق على الزجاج‪« :‬إصحى ٌافندى النهار طلع»‪،‬‬
‫وال أظن أنه تبٌن أن النابمة إلى جوارى هى سعاد حسنى‪.‬‬
‫وما أدراك ما الستينيات‬
‫كنا فى عام ‪ 1962‬عندما طلب التلٌفزٌون منى فى الدقٌقة األخٌرة تقدٌم‬
‫حفل نادى ضباط الجٌش بالزمالك مساء ‪ٌ 26‬ولٌو احتفاال بالذكرى السنوٌة‬
‫لطرد الملك‪ ،‬بعدما تؽٌب عن الحفل مقدمه األصلى‪.‬‬
‫عندما وصلت علمت أن مهمتى ستقتصر على تقدٌم أم كلثوم‪ ،‬وجدت أن‬
‫األمر ال ٌحتاج إلى عناء‪ ،‬وصعدت إلى خشبة المسرح فوجدت أمامى على‬
‫بعد أمتار جمال عبدالناصر جالسا فى الصدارة ومن حوله أعضاء مجلس‬
‫قٌادة الثورة‪ ،‬لكننى لم أتحقق من شخصٌاتهم ألننى لم أستطع أن أحول‬
‫نظرى عن عبدالناصر‪ ،‬وعلى الرؼم من أنه ابتسم ابتسامة عرٌضة‬
‫ثوان من الصمت قلت‪« :‬أٌها‬ ‫ٍ‬ ‫مشجعة فإن رعشة خفٌفة أصابتنى‪ ،‬وبعد‬
‫السادة‪ ،‬إلٌكم أم كلثوم»‪ ،‬وقفلت عابدا‪ ،‬فوجدت أم كلثوم فى طرٌقى تتقدم‬
‫على خشبة المسرح‪ ،‬فاستوقفتنى وقالت‪« :‬ده كل اللى ربنا فتح بٌه‬
‫علٌك؟‪».‬‬
‫جحيم النكسة‬
‫أتذكر ٌوم ‪ٌ 5‬ونٌو ‪ 1967‬بكل تفاصٌله‪ ،‬عندما وصلنا إلى الشبون العامة‬
‫للقوات المسلحة قٌل لنا إننا سنذهب إلى قاعدة فاٌد الجوٌة التى سٌصل‬
‫‪29‬‬
‫إلٌها الفرٌق طاهر ٌحٌى‪ ،‬ربٌس وزراء العراق‪ ،‬لٌتفقد القوة العراقٌة‬
‫المرابطة هناك‪ ،‬وسٌرافقه فى الزٌارة حسٌن الشافعى نابب الربٌس‪.‬‬
‫كان معى المصوران محمد رجب وفاروق صالح‪ ،‬ومهندس الصوت محمد‬
‫البلتاجى‪ ،‬وصلنا وقت اإلفطار‪ ،‬فتناولنا إفطارنا مع الطٌارٌن المصرٌٌن‬
‫فى «مٌس» الضباط‪ ،‬ثم قمنا بتصوٌر وصول الضٌؾ العراقى‪ ،‬وبعدها‬
‫اتجهنا إلى القوة العراقٌة التى كانت تقوم بتدرٌبات روتٌنٌة‪.‬‬
‫وفجؤة‪ ،‬بٌنما نحن هناك إذا بدوى انفجار هابل تبعته انفجارات أخرى‬
‫متتالٌة‪ ،‬وكانت الساعة وقتها تشٌر إلى التاسعة اإال الربع‪ ،‬أخذتنا المفاجؤة‬
‫فلم نتبٌن تماما ماذا حدث‪ ،‬اإال أننى بعد دقابق لمحت طابرة تحترق عن بعد‬
‫على المدرج‪ ،‬وبعدها مباشرة لمحت طابرة إسرابٌلٌة تمرق فوقنا فى الجو‪،‬‬
‫وتتالت االنفجارات‪ ،‬سارعنا إلى سٌارة التلٌفزٌون‪ ،‬وعندما سؤلنا السابق‪:‬‬
‫إلى أٌن؟ قلت‪« :‬تحرك فى أى اتجاه لكن بسرعة‪».‬‬
‫بعد أن ذهبت بنا السٌارة ٌمٌنا وٌسارا ونحن ال نعرؾ أٌن المفر‪ ،‬انتهى بنا‬
‫‪ 20‬طٌارا‬ ‫األمر فى نادى الطٌارٌن على ضفاؾ القناة‪ ،‬كان هناك نحو‬
‫ٌتصاٌحون بهستٌرٌا‪ ،‬وظل واحد منهم ٌخبط رأسه فى جدار حتى سال منه‬
‫الدم‪.‬‬
‫فهمت من أحدهم أن معظمهم فقدوا طابراتهم قبل أن ٌصلوا إلٌها‪ ،‬وأن‬
‫ثالثة من زمالبهم فقط استطاعوا الطٌران لكنهم ال ٌعلمون مصٌرهم‪.‬‬
‫خرجت من المكان قبل أن أصاب بالجنون‪ ،‬وعندما وصلت إلى السلم‬
‫األمامى إذا بسٌارة جٌب مكشوفة قادمة وفٌها حسٌن الشافعى جالس إلى‬
‫جوار الجندى السابق‪ ،‬سؤلنى إن كانت لدىّ معلومات مفصلة عما حدث‬
‫فؤجبته بما أعرؾ‪ ،‬قال إنه سٌعود إذن إلى القاهرة‪ ،‬لكنه استدرك‪« :‬تفتكر‬
‫ناخد أى طرٌق؟»‪ ،‬نصحت بالطرٌق الصحراوى‪.‬‬
‫عدنا نحن على الطرٌق الزراعى الذى كان ٌمر بثالثة مطارات عسكرٌة‬
‫هى أبوصوٌر ثم بلبٌس ثم أنشاص‪ ،‬لعلنا نستطٌع أن نجد شٌبا مناسبا‬
‫للتصوٌر‪ ،‬وكانت الطابرات اإلسرابٌلٌة تدوى فوق رءوسنا بٌن حٌن وآخر‬

‫‪30‬‬
‫فنؽادر السٌارة ونرتمى إلى جانب الطرٌق‪ ،‬أما المطارات فكانت تتصاعد‬
‫منها النٌران جمٌعا‪ ،‬فى حٌن كان رادٌو السٌارة ٌنقل لنا أخبارا عن‬
‫عشرات الطابرات التى أسقطتها قواتنا‪.‬‬
‫المإكد أن قٌادة الجٌش خدعتنا خدعة كبرى‪ ،‬ولألسؾ فإننا تحققنا من ذلك‬
‫بعد ساعات‪ ،‬فقد علمت فى صباح الٌوم التالى ‪ٌ 6‬ونٌو أن عبدالحكٌم عامر‬
‫أصدر قراره فى الفجر بانسحاب الجٌش من سٌناء‪.‬‬
‫بالرؼم من شعبٌة عبدالحكٌم عامر بٌن كثٌر من الضباط‪ ،‬فإننى لم أنبهر به‬
‫على مدى السنوات القلٌلة السابقة منذ انفصال سورٌا عن دولة الوحدة فى‬
‫سنة ‪ ،1961‬وذلك بسبب سلوك أعوانه المدللٌن فى دمشق وبسبب فسادهم‬
‫الذى انتشرت روابحه فى القاهرة‪ ،‬ولم أكن أعتقد أنه ٌملك الكفاءة الالزمة‬
‫لقٌادة جٌش مثل جٌش مصر‪.‬‬
‫التنحي‬
‫‪4‬‬ ‫ٌوم ‪ٌ 9‬ونٌو عندما ألقى عبدالناصر خطاب التنحى‪ ،‬كنت فى أستودٌو‬
‫وقتها مع همت مصطفى حٌث قدمنا الخطاب الذى بدأ بثه من بٌت‬
‫عبدالناصر فى منشٌة البكرى فى السابعة مساء‪ ،‬ولما وقعت المفاجؤة‬
‫المذهلة عندما قال‪« :‬قررت أن أتنحى تماما ونهابٌا عن أى منصب رسمى‬
‫أو دور سٌاسى»‪ ،‬وقبل أن ٌكمل الخطاب حتى نهاٌته‪ ،‬قررنا معا أن‬
‫نطالب عبدالناصر بالبقاء‪« ..‬كالم رجالة؟»‪ ،‬سؤلت همت‪ ..‬قالت‪« :‬كالم‬
‫رجالة»‪ ..‬انطلقنا فور أن انتهى الخطاب‪.‬‬
‫بعد دقابق طلبنا الوزٌر إلى مكتبه‪ ،‬وعندما دخلنا صاح فٌنا‪« :‬إنتو عملتوها‬
‫مسرحٌة؟ الرٌس ٌتنحى وبعدٌن التلٌفزٌون بتاعه ٌقول له‪ :‬أله؟»‪ ..‬جادلته‬
‫همت‪ ،‬وانطلقت أنا إلى شباك مكتبه أفتحه وأقول له‪ٌ« :‬ا سٌادة الوزٌر‬
‫اسمع الناس وأنت فى الدور التاسع بتقول إٌه»‪ ،‬كان الصٌاح من حوارى‬
‫بوالق ٌتصاعد مطالبا الربٌس بالبقاء وتحمل المسبولٌة‪ ،‬ولم نكن ندرى‬
‫وقتها أن مصر كلها بل وشعوب العرب جمٌعا تطالبه بؤن ٌبقى‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫أثبتت األٌام أن بقاءه كان الضمان األول الستنهاض الهمم وبدء حرب‬
‫االستنزاؾ ووضع الخطة التى كانت أساسا لحرب أكتوبر‪ ،‬وفى أٌام قلٌلة‬
‫بدأ الجٌش ٌستعٌد روحه فانتصر فى معركة رأس العش بعد ثالثة أسابٌع‬
‫فقط من النكسة‪ ،‬ثم أؼرق الباخرة إٌالت وبدأ حرب االستنزاؾ عندما رفع‬
‫عبدالناصر شعار «ال صوت ٌعلو على صوت المعركة»‪ ،‬واستهل هذه‬
‫الحرب بإقامة حابط الصوارٌخ الشهٌر‪.‬‬
‫فى ‪ 28‬سبتمبر ‪ 1970‬انتقل عبدالناصر إلى باربه‪ ،‬ما إن تتالى بث آٌات‬
‫القرآن الكرٌم على الشاشة وأنا فى البٌت حتى هرولت إلى مبنى‬
‫التلٌفزٌون‪ ،‬طردت من ذهنى أن ٌكون عبدالناصر قد أصابه سوء‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فقد طاردنى هاجس أنه ربما ٌكون قد اؼتٌل‪ ،‬ولعل هذا ما دفعنى إلى‬
‫الذهاب ال إلى إدارة األخبار وإنما إلى مكتب الوزٌر‪.‬‬
‫هناك كانت تنتظرنى الصاعقة‪ ..‬لم ٌكن األستاذ هٌكل الذى عٌن وزٌرا‬
‫لإلعالم قبل عدة شهور فى المكتب‪ ..‬حضر أنور السادات لٌلقى البٌان‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتهٌؤت ألن أقدم السادات وأعلن أنه سٌوجه بٌانا‬ ‫وصحبته إلى أستودٌو ‪،4‬‬
‫إلى األمة‪ ،‬وكان ذلك فى الساعة الحادٌة عشرة اإال خمس دقابق‪ ،‬لكننى قبل‬
‫بثوان تذكرت فجؤة بؤى صفة أقدمه‪ ،‬فربما ٌكون قد‬
‫ٍ‬ ‫أن أظهر على الشاشة‬
‫حدث فى الساعات القلٌلة السابقة ما ال أدرٌه‪ ..‬سؤلته‪« :‬بؤى لقب أقدمك‬
‫سٌادة النابب؟»‪ ..‬رمقنى بنظرة لم أتبٌن عندبذ معناها وقال‪« :‬أنور‬
‫السادات‪ ،‬مش كفاٌة كده؟‪!».‬‬
‫كان للثورة أخطاإها والشك‪ ،‬وفى مقدمتها مصادرة الحرٌات وسٌطرتها‬
‫على اإلعالم‪ ،‬عن نفسى فقد اعتذرت لإلخوان المسلمٌن منذ سنوات عن‬
‫األحادٌث التى أجرٌتها مع المعتقلٌن منهم فى السجن الحربى عام ‪،1965‬‬
‫وقد راجت فى بعض مإلفات اإلخوان بعدبذ أكذوبة‪ ،‬أننى كنت أطلب من‬
‫ضباط السجن أن ٌبدلوا المعتقلٌن الذٌن كنت أستجوبهم بآخرٌن حتى‬
‫أحصل على اعترافات صرٌحة‪ ،‬بل إننى كنت أصفع بعضهم إن لم ٌعترؾ‬
‫االعتراؾ الذى أرٌد‪ ،‬وأشارك فى تعذٌبهم أحٌانا!‬

‫‪32‬‬
‫أٌقنت أننى ارتكبت خطؤ مهنٌا وأخالقٌا باستجواب معتقلٌن قٌدت حرٌتهم‬
‫فاعتذرت‪ ،‬ورحب اإلخوان باعتذارى بامتنان‪ ،‬ولكننى عندما اختلفت مع‬
‫مرسى فى ‪ 2012‬وهاجمته‪ ،‬عادوا عن طرٌق تنظٌمهم اإللكترونى‬
‫ٌذ ِّكرون‪ ،‬فى لؽة ال عالقة لها بدٌن وال خلق‪ ،‬بحكاٌة السجن الحربى‬
‫وٌضٌفون إلٌها رواٌات ورواٌات عن عبدالناصر وحكمه وأٌام الستٌنٌات‬
‫التى كثٌرا ما كرروا أنهم لم ٌشهدوا فٌها سوى المذابح والمشانق‪.‬‬
‫عندما جاء عام ‪ ،1973‬ذهبت إلى مكتب الدكتور عبدالقادر حاتم مباشرة‪،‬‬
‫وعندما قابلته قلت‪« :‬جبت ألسلم نفسى إذا كان بمقدورى أن أساهم‬
‫بشىء»‪ ،‬أشهد أن الدكتور «حاتم» لم ٌتردد‪ ،‬طلب منى النزول إلى‬
‫األستودٌو مباشرة‪ ،‬حٌث أقمت إقامة تكاد تكون دابمة عدة أٌام هى األٌام‬
‫التى سبقت انسحاب القوات المصرٌة الذى وصفته السلطة وقتبذ بؤنه‬
‫«انسحاب تكتٌكى» بسبب «ثؽرة الدفرسوار» ٌوم ‪ 15‬أكتوبر‪.‬‬
‫فى ذلك الوقت أجرٌت الحدٌث الشهٌر مع الكولونٌل «عساؾ ٌاجورى»‬
‫صاحب أعلى رتبة بٌن الضباط اإلسرابٌلٌٌن الذٌن أسرهم الجٌش‬
‫المصرى‪.‬‬
‫عندما عدت إلى المنزل قابلتنى والدتى بوجه عابس‪ ،‬ثم إذا بها تعاتبنى‬
‫على إجراء حدٌث مع ٌاجورى‪ ،‬لم أستطع أن أضبط أعصابى فصحت‪:‬‬
‫«تعاتبٌننى ٌا أمى على الحدٌث؟ لٌه؟ ألن الرجل كان إسرابٌلٌا؟» قالت‪:‬‬
‫«ال‪ ،‬ألنه أسٌر»‪ ،‬أفحمتنى إجابتها فلم أنطق بكلمة‪.‬‬
‫كنت وال أزال أعتقد أن الربٌس السادات خذل جٌشه‪ ،‬إذ إن الجٌش كان قد‬
‫حقق فى الحرب انتصارا مبهرا‪ ،‬وكان باستطاعته التقدم إلى الممرات فى‬
‫سٌناء مما ٌضع مصر فى موقؾ تفاوضى أفضل عند انتهاء العملٌات‬
‫العسكرٌة‪ ،‬لكن السادات أجهض هذا التقدم فى وقت مبكر‪ ،‬حتى إن صدٌقه‬
‫«هنرى كٌسنجر» قال إنه بدد كل أوراق الضؽط التى كان ٌمتلكها فى‬
‫البداٌة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫غزو الكويت‬
‫عندما ؼزا صدام الكوٌت فى ‪ 2‬أؼسطس ‪ 1990‬كنت فى ؼاٌة القلق على‬
‫أصدقابى هناك‪ ،‬كنت أرٌد معرفة ماذا حدث لهم‪ ،‬وخاصة جواد بو خمسٌن‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬وكان واحدا من كبار رجال األعمال فى الكوٌت‪،‬‬
‫فوجبت برجل ٌتصل بى من األردن‪ٌ ،‬قول بلهجة ٌمنٌة‪« :‬معى خطاب‬
‫عاجل من أبو عماد وهو مهم جدا‪ ..‬أرجوك أن تقابلنى فى عمان‪».‬‬
‫هرولت إلى عمان ألتسلم الخطاب الذى أبلؽنى فٌه بوخمسٌن أنه نجح فى‬
‫تهرٌب عابلته‪ ،‬وأنها فى طرٌقها اآلن إلى القاهرة حٌث ستقٌم فٌها تحت‬
‫مسبولٌتى‪ ،‬ولكن المسبولٌة الفادحة بالفعل كانت تنتظرنى فى مظروؾ‬
‫آخر كبٌر حمله الرسول ذاته‪ ،‬فقد كانت فٌه رسالة مفادها أن «هذه‬
‫األوراق هى توكٌالت رسمٌة لك منى بالتصرؾ فى أموالى»‪ ،‬كانت‬
‫األوراق موجهة منه إلى البنوك التى ٌتعامل معها فى القاهرة وبٌروت‬
‫ولندن‪ ،‬وكانت حساباته فٌها بمالٌٌن ٌصعب إحصاإها‪ ،‬أما سطور الرسالة‬
‫األخٌرة فكانت بالعامٌة المصرٌة‪« :‬أما عن نفسى‪ ،‬فؤنا مش طالع من‬
‫هنا‪».‬‬
‫بعد أسابٌع قلٌلة جاءنى صوته فى اتصال تلٌفونى ٌبلؽنى أنه مع أصحابه‬
‫الذٌن أعرؾ بعضهم ٌنظمون هناك صفوؾ المقاومة‪ ،‬تبٌن أن هإالء‬
‫الرجال ومبات ؼٌرهم قد نظموا تحت االحتالل ما ٌشبه الحكومة المدنٌة‪،‬‬
‫وحملوا السالح وحملوا القلم أٌضا‪.‬‬
‫كان معظم من تبقى فى الكوٌت وقتها هم أقل الناس دخال ممن لم ٌستطع‬
‫الهرب‪ ،‬وكانت هناك شبكة محكمة تنقل الؽذاء والمال ممن عنده إلى من‬
‫لٌس عنده‪ ،‬كانت هناك خالٌا من األطباء المتطوعٌن‪ ،‬وكان المهندسون‬
‫وؼٌرهم من أصحاب المهن ٌوزعون الخبز والزٌت واألرز وكبار القوم‬
‫ٌجمعون القمامة‪.‬‬
‫كان صدام ٌظن أنه سٌكون الطرؾ الرابح‪ ،‬وكانت الوالٌات المتحدة تظن‬
‫أنها الرابحة‪ ،‬ولكننا بعد انتهاء «عاصفة الصحراء» اكتشفنا أن الرابح‬
‫الوحٌد من الحرب كانت الـ‪CNN‬‬
‫‪34‬‬
‫كانت محطة تلٌفزٌون ‪ CNN‬قد أنشبت فى الوالٌات المتحدة فى عام‬
‫‪ ،1980‬لكنها لم تعرؾ على المستوى العالمى سوى بعد ؼزو الكوٌت‪،‬‬
‫وربما لهذا ٌقول كثٌرون إنها ولدت مع الؽزو الذى كلفت بتؽطٌته عدٌدٌن‬
‫من مراسلٌها ونقلت كل أحداث الحرب خطوة بخطوة‪ ،‬وكان كل من‬
‫الجانبٌن العراقى واألمرٌكى ٌوجه إنذاراته إلى اآلخر من خاللها‪.‬‬
‫بعد دحر القوات العراقٌة ذهبت إلى الكوٌت وكان المطار الذى خرجت‬
‫منه ودخلت مرات ومرات من قبل خرابا ٌبابا‪« ..‬أكو أوامر أن ٌحرق‬
‫األصل (العراق) الفرع (الكوٌت) وتؤكل األم كالقطط أوالدها»‪ ،‬قالها‬
‫ضابط عراقى بزهو إلى جمع من األسرى الكوٌتٌٌن‪« :‬المحافظة ‪ 19‬ال‬
‫ٌمكن أن تكون أكثر بهاء من العاصمة بؽداد‪ ،‬سنسوٌها باألرض حتى‬
‫تصبح أحقر من أقذر أحٌاء البصرة»‪ ،‬لكن القدر الساخر جعلنا نرى‬
‫البصرة تدمر‪ ،‬ومعها كركوك وكربالء ومابة مدٌنة ومدٌنة فى العراق‬
‫ذاته‪ ،‬أما الكوٌت فقد ظلت معظم مبانٌها على حالها أو أقرب ما تكون إلى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ورؼم كل الخراب الذى خلفه العراق فى الكوٌت فإنه ٌهون أمام الجرٌمة‬
‫الكبرى‪ ،‬حٌث أحرقت القوات العراقٌة أكثر من ‪ 700‬ببر للبترول قبل‬
‫انسحابها‪ ،‬وهكذا ؼطت السماء سحابة سوداء امتدت إلى الدول المجاورة‬
‫(استؽرق إطفاإها ‪ 8‬أشهر‪).‬‬

‫‪35‬‬
‫فى صباح ٌوم ‪ 26‬سبتمبر ‪ ،1962‬أذٌع نبؤ قٌام انقالب فى الٌمن‬
‫«السعٌد» بقٌادة الزعٌم (العقٌد) عبدهللا السالل ومقتل اإلمام محمد البدر‪،‬‬
‫خالل قصؾ قصر البشابر (قصر الحكم) فى صنعاء وقٌام نظام جمهورى‬
‫فى البالد‪.‬‬
‫كانت إذاعة «صوت العرب» هٌؤت األذهان لقٌام الثورة‪ ،‬ودعت قبل‬
‫أشهر الشعب الٌمنى لالنتفاض ضد اإلمام أحمد حمٌد الدٌن‪ ،‬وقبل الثورة‬
‫بؤسبوع واحد فقط‪ ،‬كان قد أعلن فى الٌمن عن وفاة اإلمام أحمد الذى حكم‬
‫البالد لنحو ثالثٌن سنة‪ ،‬ولم ٌعرؾ أحد على وجه الدقة كٌؾ مات‪ ،‬بل إن‬
‫الكثٌرٌن شككوا فى أنه مات قبل إعالن وفاته بٌوم واحد كما زعم ابنه‬
‫اإلمام البدر‪ ،‬واألرجح أن ذلك كان قد حدث قبل ذلك بفترة‪ ،‬وأن اإلمام‬
‫البدر الذى كان ولٌا للعهد عندبذ أرجؤ إذاعة الخبر حتى ٌتمكن من ترسٌخ‬
‫سلطته أوال‪.‬‬
‫بدأت معارك اإلذاعة بٌن البلدٌن (مصر والٌمن ) عندما بث رادٌو صنعاء‬
‫فى بداٌة سبتمبر ‪ 1961‬هجوما شدٌدا على عبدالناصر فى قالب قصٌدة‬
‫تمض أسابٌع‬
‫ِ‬ ‫شعرٌة من ‪ 64‬بٌتا من تؤلٌؾ اإلمام أحمد حمٌد الدٌن‪ ،‬ولم‬
‫حتى كال عبدالناصر لإلمام الصاع صاعٌن فى خطبة االحتفال بعٌد‬
‫النصر‪.‬‬
‫كان اإلمام أحمد ٌحتفظ بمفتاح اإلذاعة فى خزٌنته الخاصة‪ ،‬وكان المهندس‬
‫المختص ٌؤخذ منه مفتاحها كل ٌوم لٌفتتح اإلرسال ثم ٌعٌد المفتاح إلٌه بعد‬
‫ذلك‪ ،‬وكانت مواعٌد اإلرسال تعتمد على مزاج اإلمام وعلى ارتباطاته‬
‫ومواعٌده‪.‬‬
‫كان عبدهللا جزٌالن مدٌر الكلٌة الحربٌة ومدرسة األسلحة هو الذى خطط‬
‫للهجوم على قصر البشابر‪ ،‬وزود بعض الفصابل التى شاركت فى الثورة‬
‫فى صنعاء بالسالح‪.‬‬
‫وكان المتوقع من اإلمام البدر أن ٌسلم إذا ما حاصرت القوات القصر‪ ،‬لكنه‬
‫أمر الحرس بإطالق النار على المهاجمٌن‪ ،‬وأوفد قابد الحرس الزعٌم‬
‫عبدهللا السالل للتفاوض مع الثوار‪ ،‬فؤعلن انضمامه لهم ونصابوه قابدا عاما‬
‫‪36‬‬
‫للقوات المسلحة باعتباره صاحب أكبر رتبة عسكرٌة (هكذا ٌمكن اعتباره‬
‫نجٌب الثورة الٌمنٌة إذا ما قارنا الوضع بالثورة فى مصر‪).‬‬
‫وفى حٌن أعلنت اإلذاعة مقتل البدر فى الهجوم‪ ،‬كان قد تسلل عبر سرداب‬
‫تحت القصر فى مالبس أحد الحراس‪ ،‬وهرب فى اتجاه السعودٌة‪.‬‬
‫استولت «حركة الضباط الشبان» على حامٌة قصر البشابر وعلى صنعاء‬
‫على الفور‪ ،‬ولم تستخدم فى ذلك سوى ‪ 13‬دبابة و ‪ 6‬مدرعات وبضعة‬
‫مدافع منها اثنان مضادان للطابرات‪ ،‬وكذلك سٌطرت فى الوقت نفسه على‬
‫حامٌة كل من تعز والحدٌدة‪.‬‬
‫وكانت كل من السفارة المصرٌة والبعثة العسكرٌة المصرٌة فى الٌمن على‬
‫صلة وثٌقة بالضباط الشبان‪ ،‬وعلى دراٌة بالتحضٌر للثورة ثم بتوقٌت‬
‫إعالنها‪ ،‬ومع ذلك فعندما قامت الثورة أرسل السالل إلى القاهرة برقٌة‬
‫نصها‪« :‬تسلم فورا إلى قابد العروبة سٌادة الربٌس جمال عبدالناصر‪..‬‬
‫نبلؽكم بقٌام الجٌش بإعالن الثورة واإلطاحة بحكم آل حمٌد الدٌن‪».‬‬
‫فى اليمن الثائر‬
‫فى أول أكتوبر سافرنا بطابرة إلى الٌمن‪ ،‬كنا مع عدد من كبار ضباط‬
‫الجٌش الذٌن ذهبوا فى البداٌة لتقدٌر الموقؾ‪ ،‬ورسم الخطط الالزمة قبل‬
‫أن تبدأ قوات الصاعقة وؼٌرها سفرها فى الٌوم التالى إلى كل من صنعاء‬
‫وتعز‪ ،‬كانت طابرتنا متجهة إلى صنعاء‪ ،‬وكان مهبط الطابرات فى المطار‬
‫مجرد طرٌق ممهد بالكاد‪ ،‬وال أعتقد أنه كان مرصوفا باألسفلت‪ ،‬وكان‬
‫ٌجاوره كشك صؽٌر ال بد أنه برج المراقبة‪.‬‬
‫كان تدبٌر أمور معٌشتنا وترتٌبات عملنا أمرا صعبا وخاصة ما ٌتعلق‬
‫بوسابل النقل‪ ،‬وقد نصحنى محمد عبدالواحد؛ المسبول الوحٌد فى السفارة‬
‫فى ذلك الوقت‪ ،‬أن أتوجه إلى «الزعٌم» السالل شخصٌا‪ ،‬ولم تكن هناك‬
‫صعوبة فى تحدٌد لقاء معه فى الٌوم التالى‪.‬‬
‫قال السالل إنه لألسؾ ال توجد سٌارة ٌمكن االستؽناء عنها لدى الحكومة‪،‬‬
‫وإن أسرع حل أمامه أن ٌخصص لى سٌارة اإلمام البدر‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫عندما الحظ ترددى قال‪« :‬هذا هو الحل الوحٌد لديا اآلن»‪ ،‬وهكذا لم ٌكن‬
‫أمامى سوى القبول شاكرا‪ ،‬وقد نبهنى ٌومها إلى أنه ال ٌمكننا الحصول‬
‫على بنزٌن للسٌارة إال بتوقٌعه شخصٌا‪ ،‬لكن تلك لم تكن أسوأ مفاجؤة‪.‬‬
‫المفاجؤة األسوأ كانت عندما تسلمت السٌارة‪ ،‬وكانت سٌارة أمرٌكٌة فارهة‬
‫من أحدث طراز فى شركة «شٌفرولٌه» على ما أذكر‪ ،‬وكانت الفتة للنظر‬
‫إلى حد بعٌد؛ لذلك كنت أحاول تفادى ركوبها كلما استطعت‪.‬‬
‫عندما حضر أنور السادات إلى الٌمن لتوقٌع اتفاقٌة التعاون العسكرى بٌن‬
‫البلدٌن‪ ،‬سلمت السٌارة لمكتبه؛ إذ ال ٌلٌق أن ٌتحرك مسبول مصرى فى‬
‫مكانته بسٌارة متواضعة فى حٌن أركب أنا شٌفرولٌه‪ ،‬واستلمتها عند‬
‫سفره‪.‬‬
‫حضرت إحدى جلسات السادات خالل هذه الزٌارة‪ ،‬وكان ٌجلس مع بعض‬
‫شٌوخ القبابل الٌمنٌة‪ ،‬وٌبدو أن الحدٌث كان ٌدور قبل دخولى عن تدخل‬
‫اإلنجلٌز فى حرب الٌمن وعن ذكرٌات السادات عندما كان ٌشارك فى‬
‫المقاومة ضد القوات البرٌطانٌة فى القناة أثناء احتاللها لمصر‪ ،‬أذكر أنه‬
‫قال‪« :‬أنا بإٌدى خلصت على أذنابهم فى مصر‪ ،‬وكمان دوختهم فى‬
‫معسكراتهم فى القناة‪ ..‬كل ٌوم آجى لهم من حتة‪ ..‬دوخٌنى ٌا لمونة كده»‬
‫(ربما كان ٌقصد اتهامه باالشتراك فى مقتل الوزٌر الوفدى أمٌن باشا‬
‫عثمان ربٌس جمعٌة الصداقة المصرٌة البرٌطانٌة فى عام ‪ ،)1946‬وكان‬
‫ٌستخدم ٌده كما لو كان ٌعصر بها شٌبا‪.‬‬
‫التفت إلى الشٌوخ فلمحت فى عٌونهم نظرة دهشة؛ ربما ألنهم لم ٌستوعبوا‬
‫تماما ذلك التعبٌر الؽرٌب على آذانهم‪ ،‬وٌبدو أن السادات انتبه إلى ذلك‬
‫فاعتدل فى كرسٌه‪ ،‬وقال‪ٌ« :‬عنى إنجلٌز دخلوا الحرب‪ ،‬الجن األزرق‬
‫دخل الحرب‪ ،‬أنا باقول لكم‪ ،‬أنا مش ساٌب كرسٌّه ده إال لو طلعوا اإلنجلٌز‬
‫من عدن‪ٌ ،‬عنى مابنخافشى من اإلنجلٌز‪ ،‬وال إنتو حتخافوا من اإلنجلٌز وال‬
‫من الجن األزرق»‪ ،‬عندبذ هلل واحد من الشٌوخ‪ ،‬ورفع رشاشه بٌده‪ ،‬فؤخذ‬
‫السادات ٌكرر‪ٌ« :‬عنى اطمنوا‪ ..‬اطمنوا تمام‪».‬‬

‫‪38‬‬
‫بعد أن سجلت رسابلى األولى مع وحدات الصاعقة‪ ،‬بدأت أجرى أٌضا‬
‫أحادٌث مع شخصٌات ٌمنٌة‪ ،‬لعل أطرفها كان الحدٌث مع محمد حلمى‬ ‫َ‬
‫العراؾ الخاص باإلمام الذى كان ٌلقب بالفلكى‪ ،‬وكان اإلمام ال ٌقدم على‬
‫قرار أو ٌتحرك إلى مكان قبل أن ٌدله ماذا تقول النجوم فى ذلك‪.‬‬
‫ٌومها قال لى إن حسابات الفلك كانت قد أكدت له أن ثورة ستقوم فى‬
‫الٌمن‪ ،‬ولكنه خشى أن ٌبلػ اإلمام أحمد حتى ال ٌؤمر بحبسه أو إٌذابه‪ ،‬وقد‬
‫صدر حكم بإعدام حلمى بعد الثورة بتهمة الفساد‪ ،‬وسجن فى تعز انتظارا‬
‫لتنفٌذ الحكم‪ ،‬وأفرج عنه قبل تنفٌذه‪.‬‬
‫عندما تحركت مع الوحدات المقاتلة خارج صنعاء كان القتال ال ٌزال‬
‫حامٌا بٌن الملكٌٌن والجمهورٌٌن‪ ،‬وتوسعت ساحة المعركة فى أنحاء‬
‫متفرقة فى الٌمن‪ ،‬وكان السعودٌون ال ٌكفون عن التدخل بالمال والسالح‪،‬‬
‫ولكن البعض أخذ على القٌادة العسكرٌة المصرٌة والسفارة المصرٌة هناك‬
‫أنهما أٌضا قاما بتوزٌع أموال على رجال القبابل لشراء والبهم‪.‬‬
‫كانت الٌمن مجاهل لم ٌكتشفها المصرٌون من قبل‪ ،‬ولم تكن هناك خرابط‬
‫طوبوؼرافٌة ٌمكن االستعانة بها فى العملٌات العسكرٌة‪ ،‬وكانت طبٌعة‬
‫األرض الجبلٌة مختلفة تماما عما ألفه المصرٌون‪ ،‬وقد أنهك ذلك القوات‬
‫الجوٌة كما أجهد القوات البرٌة وواجه الضباط والجنود متاعب عدٌدة فى‬
‫التعامل مع الٌمنٌٌن الذٌن ال ٌعرفون طبابعهم وعاداتهم‪ ،‬وكذلك فى التؤقلم‬
‫مع المناخ‪ ،‬خاصة عندما تتباٌن درجات الحرارة بٌن النهار واللٌل أو بٌن‬
‫مناطق الجبال والودٌان‪.‬‬
‫حدثت مفاجؤة كبرى فى أوابل أكتوبر؛ إذ أرسلت السعودٌة طابرة تحمل‬
‫عتادا عسكرٌا إلى القوات الملكٌة فى الٌمن‪ ،‬ولكن قابد هذه الطابرة توجه‬
‫بها إلى مطار أسوان‪.‬‬
‫وجهت الخارجٌة السعودٌة عندبذ خطابا إلى مصر تطلب إعادة الطٌارٌن‬
‫والفنى الذى كان ٌصاحبهما إلى الرٌاض باعتبار أنهم فارون من الخدمة‬

‫‪39‬‬
‫العسكرٌة‪ ،‬لكن مصر تجاهلت الخطاب وأعادت شحن العتاد إلى قوات‬
‫الثورة فى الٌمن‪.‬‬
‫وكانت القاهرة قد رصدت فى ذلك الحٌن وجود جنود من الحرس الوطنى‬
‫السعودى ضمن قوات الملكٌٌن‪ ،‬وكذلك عناصر إٌرانٌة (أثناء حكم الشاه‬
‫عندبذ) وبعض المرتزقة الفرنسٌٌن الذٌن حاربوا فى الجزابر‪ ،‬واإلنجلٌز‬
‫الذٌن حاربوا فى عدن ورودٌسٌا‪ ،‬والبلجٌكٌٌن أٌضا‪ ،‬وكان ٌقال وقتها إن‬
‫هناك ضباطا إسرابٌلٌٌن همهم األول هو مراقبة القوات المصرٌة عن قرب‬
‫لٌتعرفوا على مدى كفاءتها ومواطن ضعفها‪.‬‬
‫أما الدعم البرٌطانى فكان مكشوفا ومتوقعا؛ ذلك أن برٌطانٌا كانت تخشى‬
‫أن تتسلل الثورة إلى محمٌتها فى عدن‪ ،‬كما أنها كانت تود االنتقام من‬
‫جمال عبدالناصر الذى كان ٌهاجم حلؾ بؽداد‪.‬‬
‫فى نهاٌة أكتوبر كانت قوة الجٌش المصرى فى الٌمن بكاملها تكاد ال تزٌد‬
‫على ألفى جندى‪ ،‬وكان عبدالناصر معارضا فى البداٌة للتوسع فى التدخل‬
‫العسكرى‪ ،‬على الرؼم من أنه كان ٌود أن ٌستعٌد مكانته بعد انفصال‬
‫سورٌا عن دولة الوحدة‪ ،‬وأن ٌساند الثوار فى الٌمن الجنوبى‪ ،‬وٌهز أركان‬
‫حكم الملك سعود‪ ،‬وٌإكد زعامته لألمة العربٌة‪.‬‬
‫وكانت هناك أفكار باالعتماد على متطوعٌن‪ ،‬لٌس من مصر فقط وإنما من‬
‫دول عربٌة أخرى‪ ،‬لكن المشٌر «عامر» كان ٌضؽط‪ ،‬كما فهمت‪ ،‬لدخول‬
‫مصر بثقلها حتى تستطٌع أن تسٌطر على منافذ البحر األحمر من باب‬
‫المندب فى الجنوب حتى قناة السوٌس شماال‪ ،‬وتؽلبت وجهة نظره فى‬
‫النهاٌة‪ ،‬وأجمع المجلس الرباسى فى القاهرة على الحملة العسكرٌة‪ ،‬فبدأت‬
‫ألوؾ أخرى فى التدفق‪.‬‬
‫وعندما تحسن الموقؾ العسكرى فى نهاٌة إبرٌل ‪ ،1963‬نصح اللواء أنور‬
‫القاضى قابد القوات المصرٌة فى الٌمن بعودة الجانب األكبر من قواته إلى‬
‫مصر خاصة أن الجٌش الٌمنى كان قد بدأ بناإه‪ ،‬كما أن عددا من الجبهات‬
‫كان قد هدأ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وبدأت القوات تعود إلى مصر بالفعل وتقام االحتفاالت الستقبالها‪ ،‬اإال أن‬
‫الموقؾ سرعان ما تبدل فتورطت القوات المصرٌة فى وحل الٌمن مرة‬
‫أخرى حتى إن المراقبٌن األجانب سموها «فٌتنام مصر»‪ ،‬وٌقال إن عدد‬
‫القوات وصل إلى ذروته فى منتصؾ عام ‪ 1965‬عندما بلػ ‪ 70‬ألفا‪ ،‬بقى‬
‫جانب منهم هناك حتى ما بعد انتهاء نكسة ‪ .1967‬أما أنا فكنت قد عدت‬
‫إلى القاهرة مع بداٌة ‪.1963‬‬
‫انقالب‬
‫فى ‪ 8‬فبراٌر ‪ 1963‬دق جرس الهاتؾ فى بٌتى وكان المتحدث الدكتور‬
‫حاتم‪ ،‬قال‪« :‬تعلم أن انقالبا تم فى العراق‪ ..‬الٌوم تذهب إلى السٌد سامى‬
‫شرؾ‪ ،‬وتنفذ ما ٌقوله لك»‪ ..‬ذهبت إلى سامى شرؾ فقال إن وفدا إعالمٌا‬
‫مصرٌا سٌسافر فى الٌوم التالى إلى بؽداد وإننى سؤكون ضمن هذا الوفد‬
‫مع مصور اختاره‪ ،‬ولكن وجود المصور معى سٌكون للتعمٌة حتى نوحى‬
‫بؤن المهمة هى تؽطٌة األخبار‪« ..‬مهمتك األولى هناك هى إقناع المسبولٌن‬
‫بإذاعة إنتاج التلٌفزٌون المصرى على شاشة بؽداد‪ ..‬طبعا لن تقول ذلك‬
‫صراحة‪ ..‬اعمل ما تراه مناسبا‪ ،‬وإذا احتجت إلى مساعدة اتصل بفخرى‬
‫عثمان السكرتٌر الثالث بالسفارة»‪ ،‬وأردؾ أن الدكتور حاتم سٌتابع تنفٌذ‬
‫المهمة‪ ،‬وأن الطرٌقة الوحٌدة لالتصال به هى إمالء الرسابل فى مكتب‬
‫الملحق العسكرى‪ ،‬حٌث ترسل بالشفرة من هناك‪ ..‬فى الٌوم التالى تجماع‬
‫فى حدٌقة مكتب معلومات الرباسة فى منشٌة البكرى وفد الصحفٌٌن‬
‫المصرٌٌن‪ ،‬وأعطانى سامى شرؾ مظروفا صؽٌرا به رسالة توصٌة‬
‫موجهة منه إلى فخرى عثمان السكرتٌر الثالث فى السفارة‪.‬‬
‫فى بغداد‬
‫عندما وصلنا بؽداد ٌوم ‪ 10‬فبراٌر كان إطالق النار ال ٌزال مسموعا‬
‫بوضوح فى بعض شوارع العاصمة العراقٌة‪ ،‬التى كانت تعج بالدبابات‬
‫والمصفحات المجهزة بمدافع الماكٌنة‪ ،‬وخاصة فى منطقة مٌدان «باب‬
‫المعظم»‪ ،‬حٌث توجد وزارة الدفاع التى كانت معقل عبدالكرٌم قاسم‪،‬‬
‫وكان قاسم قد أعدم مع ابن خالته ربٌس محكمة الثورة العقٌد عباس‬

‫‪41‬‬
‫المهداوى فى استودٌو التلٌفزٌون الذى نقال إلٌه تحت الحراسة فى الٌوم‬
‫السابق لوصولنا‪.‬‬
‫وضعنا حقاببنا فى ؼرفتنا بالفندق‪ ،‬وانطلقت مع زمٌلى المصور رشاد‬
‫القوصى إلى وزارة الدفاع‪ ..‬كانت بقاٌا المعارك ال تزال تدور هناك‪،‬‬
‫وكانت هناك سٌارة «جٌب» تربط خلفها ضابطا من الموالٌن لقاسم‬
‫وتسحله على األرض‪ ..‬وعندما اقتربنا من وزارة الدفاع دخلنا مرمى‬
‫النٌران المتبادلة التى كادت تفتك بنا‪ ،‬وكانت النٌران ال تزال مشتعلة فى‬
‫جانب من الوزارة بدا كما لو كان قد حطم تماما‪ ،‬وأمامه مظاهرة محدودة‬
‫لمجموعة من البعثٌٌن تهتؾ بسقوط الشٌوعٌة‪.‬‬
‫كانت األوضاع حٌنبذ قد بدأت تستتب‪ ،‬وبدأت القٌادات الجدٌدة البعثٌة‬
‫والقومٌة تتولى إدارة مإسسات الدولة‪ ..‬كانت اإلذاعة والتلٌفزٌون من‬
‫نصٌب عبدالستار الدورى‪ ،‬وهو قٌادى بارز فى فرع حزب البعث فى‬
‫بؽداد‪ ،‬وعندما تولى مسبولٌته الجدٌدة لم ٌكن قد دخل التلٌفزٌون من قبل‪..‬‬
‫عندما ذهبت إلٌه استرحت له وٌبدو أنه استراح لى كذلك‪ ،‬وتوطدت العالقة‬
‫بٌننا بسرعة حتى إننى خاطرت وصارحته فى اللقاء الثالث بٌننا بمهمتى‪،‬‬
‫فقال بحماس ظاهر‪« :‬عز المنى‪ ..‬أنا فى االنتظار‪».‬‬
‫هكذا ذهبت إلى مكتب الملحق العسكرى ألبلػ الدكتور «حاتم» بالنبؤ‪،‬‬
‫وأطلب منه إرسال ما ٌرٌد من برامج‪ ..‬كان الملحق العسكرى المصرى‬
‫فى بؽداد فى ذلك الحٌن هو العقٌد عبدالمجٌد فرٌد الذى أصبح فٌما بعد‬
‫سكرتٌرا عاما لرباسة الجمهورٌة فى القاهرة‪ ،‬أما مساعده فكان المقدم‬
‫السورى طلعت صدقى الذى كنت قد التقٌته قبل سنوات فى دمشق‪ ،‬ولكن‬
‫كلٌهما كان قد طرد من العراق‪ ..‬كانت العالقات المصرٌة العراقٌة قد‬
‫توترت أٌام حكم قاسم الشٌوعى إلى حد بعٌد‪ ،‬وكانت سفارتنا فى بؽداد‬
‫مقصدا معتادا للمظاهرات المعادٌة‪ ،‬وهكذا فعندما تولى عبدالسالم عارؾ‬
‫الرباسة تنفست القاهرة الصعداء على الرؼم من أن حزب البعث العربى‬
‫االشتراكى هو الذى كان له الدور األبرز فى االنقالب‪ ،‬ولم تكن أٌام‬
‫عارؾ كلها مرٌحة بالنسبة إلى مصر؛ إذ نجح البعثٌون فى السٌطرة علٌه‬

‫‪42‬‬
‫وزحزحته عن القوى القومٌة األخرى حتى مقتله فى ‪ ،1966‬إثر سقوط‬
‫طابرته الهلٌكوبتر فى حادث ؼامض‪..‬‬
‫فى الٌوم التالى اتصل بى مكتب الملحق العسكرى إلبالؼى أن رد الدكتور‬
‫حاتم وصل‪ ،‬ولما اطلعت علٌه كدت أقفز من السعادة ألن المواد ستصل‬
‫بعد ‪ 24‬ساعة من القاهرة فى طابرة مصر للطٌران‪ ..‬أبلؽت الدورى الذى‬
‫لم ٌكن أقل ابتهاجا‪ ،‬وأصدر أوامره بإعداد قاعة عرض خاصة حتى أعود‬
‫من المطار لنشاهد معا ما أرسلته القاهرة‪ ،‬وعندما عدت بالصندوق الذى‬
‫ٌحتوى على الشرابط أطفبت أنوار القاعة‪ ،‬وجلست إلى جانب الدورى‬
‫وحدنا‪ ..‬كانت المفاجؤة عندما بدأ العرض‪ ..‬كان أول ما شاهدناه أؼنٌة‬
‫«ناصر كلنا بنحبك»‪ٌ ..‬اللؽباء‪ ،‬دعاٌة سافرة على هذا النحو‪ ،‬هكذا قلت‬
‫لنفسى‪ ،‬ولكن المصابب تتالت بعد أن شاهدنا ثالثة شرابط أخرى كانت‬
‫كلها أفالما تسجٌلٌة عن عبدالناصر وثورته‪ ..‬اعتذرت للدورى‪ ..‬قلت إن‬
‫خطؤ ما ال بد أنه حدث‪ ،‬وإننى سؤبلػ القاهرة على الفور‪ ،‬وكنت واثقا من‬
‫أن األمر سوؾ ٌتم تصحٌحه على نحو السرعة‪.‬‬
‫هكذا عدت ثانٌة إلى مكتب الملحق العسكرى حٌث كتبت رسالة سرٌعة إلى‬
‫الدكتور حاتم بؤسلوب تلؽرافى‪« :‬وصل الطرد‪ ..‬الشرابط التى شاهدتها مع‬
‫مدٌر اإلذاعة والتلٌفزٌون كلها تتحدث عن سٌادة الربٌس وعن الثورة‬
‫بشكل مباشر وربما مستفز للمسبولٌن البعثٌٌن هنا‪ ..‬أرجو تفضلكم بإرسال‬
‫مواد أخرى تحمل الرسالة اإلعالمٌة التى نرٌد إبالؼها تدرٌجٌا‪..‬‬
‫احترامى»‪ ..‬لم ٌؤخذ الدكتور حاتم وقتا طوٌال فى الرد على رسالتى؛ إذ‬
‫جاءت لى منه رسالة فى المساء‪ ،‬وعندما استدعانى مكتب الملحق‬
‫العسكرى الستالمها وجدتها مختصرة تماما وواضحة جدا‪ٌ« :‬حضر‬
‫حمدى قندٌل إلى القاهرة‪ ،‬وٌحل محله ممدوح زاهر (كبٌر مندوبى‬
‫األخبار)‪ ،‬وال ٌنتظر حمدى وصول ممدوح»‪ ،‬وهكذا عدت إلى مصر فى‬
‫الٌوم التالى‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الحجر الصحى‬
‫فى مطار القاهرة انتظرتنى مفاجؤة أخرى‪ ،‬أننى لم أحقن بلقاح ما كان علىّ‬
‫أن أتناوله قبل سفرى من بؽداد‪ ،‬أو هكذا أبلؽنى الرجل الذى قادنى إلى‬
‫الحجر الصحى‪ ..‬اتصلت بمكتب الدكتور حاتم ألحٌطهم بالمشكلة لكن أحدا‬
‫لم ٌتحرك‪ ..‬حاولت االتصال بالدكتور النبوى المهندس الذى كان وزٌرا‬
‫للصحة‪ ،‬ولكن منزله أبلؽنى أنه ٌحضر حفل أم كلثوم‪ ،‬وكان الٌوم بالفعل‬
‫ٌوم خمٌس؛ فاضطررت إلى االستسالم للحجر الصحى حتى انتهى بعد‬
‫أٌام‪ ،‬وعندما ذهبت إلى الدكتور حاتم فى مكتبه انتظرت ساعات وساعات‬
‫ٌوما بعد آخر دون أن ٌؤذن بالمقابلة على ؼٌر ما اعتدت‪.‬‬
‫بعد نحو أسبوع استقبلنى الوزٌر‪ ،‬وما إن دخلت مكتبه حتى قال‪ٌ« :‬عنى‬
‫تفضحنا كده عند الرباسة»‪ ..‬سؤلت‪« :‬فضٌحة إٌه ٌافندم‪ ..‬رباسة إٌه ٌا‬
‫فندم؟»‪ ..‬قال‪« :‬أال تعرؾ أن البرقٌات من مكتب أى ملحق عسكرى تمر‬
‫بالرباسة أوال‪ ،‬وهى التى توزعها بعد ذلك على أصحابها؟»‪ ..‬قلت إننى لم‬
‫أعرؾ ذلك من قبل‪ ،‬وتعلٌمات السٌد سامى شرؾ تقضى بؤن أوجه‬
‫رسابلى من مكتب الملحق‪« ..‬طٌب اتفضل دلوقتى»‪ ..‬عاد الدكتور حاتم‬
‫بعد أٌام فؤبلػ إدارة األخبار بالسماح لى بقراءة النشرات بعد أن عوقبت‬
‫على فضح اإلعالم لدى الرباسة‪ ..‬كانت هذه حكاٌة زٌارتى األولى إلى‬
‫العراق‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫كان التلٌفزٌون المؽربى ( ‪M) 2‬قد أوفد فرٌق تصوٌر لتؽطٌة أخبار‬
‫مهرجان القاهرة السٌنمابى الدولى عام ‪ 1991‬وإجراء مقابالت مع عدد‬
‫من الفنانٌن‪ ،‬كانت نجالء فتحى من بٌنهم‪ ،‬ولما لم تكن مشاركة فى‬
‫المهرجان فقد طلب منى المخرج أن أسعى لترتٌب موعد معها‪.‬‬
‫عندما حدثتها عن المقابلة وافقت ولكنها اعتذرت عن عدم إجرابها فى‬
‫المنزل ألنها كانت تعدل فى دٌكوراته‪ ،‬فاقترحت أن ٌجرى الحدٌث فى‬
‫حدٌقة الفندق الذى ٌقام به المهرجان‪ ،‬ولكنها خرجت باقتراح آخر‪« :‬ولماذا‬
‫ال ٌكون ذلك فى بٌت شقٌقتى فى الدقى‪ ،‬وهو قرٌب منكم؟‪».‬‬
‫فى المساء جاءنى اتصال تلٌفونى من اللواء محمد السكرى وكٌل اتحاد‬
‫التنس‪ ،‬وكنت قد قابلته منذ سنوات فى نادى الٌخت‪ ،‬قال‪« :‬أال تعرؾ أن‬
‫نجالء فتحى شقٌقة زوجتى؟»‪ ،‬قلت إنها أول مرة أعرؾ فٌها ذلك‪ ،‬فقال‬
‫إنها أبلؽته بمكالمتى‪ ،‬وإنه ٌدعونى لزٌارته مع فرٌق التصوٌر فى الؽد‬
‫لنتناول فنجان شاى قبل أن أعود للمؽرب‪ ،‬وكان ٌظن أننى مقٌم هناك‪،‬‬
‫اعتذرت الرتباطات أخرى‪ ،‬فدعانى للعشاء فى األسبوع التالى‪.‬‬
‫ذهبت إلى العشاء وأنا فى ؼاٌة القلق خشٌة اأال أجد موضوعا مناسبا أحدثها‬
‫فٌه عندما نلتقى‪ ،‬لكننا عندما التقٌنا ذهب كل هذا القلق تماما‪.‬‬
‫أول ما الحظته بعد أن جلست أن الكل ٌنادٌها بـ«زهرة»‪ ،‬وعندما سؤلت‬
‫قالت إن اسمها الحقٌقى هو فاطمة الزهراء‪ ،‬دهشت أنها بسٌطة للؽاٌة فى‬
‫ملبسها وتلقابٌة فى حدٌثها‪ ،‬وعندما علمت منها أنها تعرؾ بارٌس جٌدا‬
‫انطلقنا نتحدث عن ذكرٌاتنا فٌها‪ ،‬كما لو كنا قد زرنا كل شبر فٌها معا‪ .‬ما‬
‫فاجؤنى حقا هو أنها ال تمت بصلة للصورة النمطٌة للنجمة السٌنمابٌة التى‬
‫كانت فى ذهنى‪.‬‬
‫وعندما أوشكت أن أؼادر وعدتها أن أتصل بها حتى «أحدثها عن‬
‫انطباعى عن الفٌلم بعد أن أشاهده»‪ ،‬ولكننى كنت قد قررت أن ألقاها مرة‬
‫ثانٌة‪ ،‬وذهبت وأنا على ٌقٌن أنها لٌست شاطرة فقط‪ ،‬ولكنها ذكٌة ومرحة‬

‫‪45‬‬
‫وذات شخصٌة قوٌة‪ ،‬وأنها ستضفى على حٌاتى بهجة لم أعرفها منذ‬
‫وصلت إلى القاهرة‪ ،‬وهكذا تكرر اللقاء عدة مرات حتى جاء الصٌؾ‬
‫فذهبت مع ابنتها الوحٌدة ٌاسمٌن لتقضى أسبوعٌن فى العجمى‪ ،‬وعندما‬
‫علمت أنها صدٌقة لزوجة صدٌقى رجل األعمال ممدوح مرسى الذى‬
‫ٌقضى شهور الصٌؾ فى فٌللته هناك‪ ،‬حجزت أنا اآلخر ؼرفة فى فندق‬
‫باإلسكندرٌة‪ ،‬وواظبنا على اللقاء كل ٌوم‪.‬‬
‫اكتشفت وقتها أن بٌننا الكثٌر مما ٌجمعنا‪ ،‬كانت تصحو مبكرا‪ ،‬وكانت‬
‫تحب السفر وتجٌد لعب الطاولة‪ ،‬كما أنها كانت تنفر من حفالت وسهرات‬
‫المجتمع‪ ،‬وكانت تتابع جٌدا الشؤن العام وتمٌل إلى نهج الٌسار على الرؼم‬
‫من أن عبدالناصر أمام أرض والدها حسٌن بك فتحى الذى كان من أعٌان‬
‫الفٌوم‪.‬‬
‫كانت المرأة التى تطلعت لالرتباط بها‪ ،‬وعندما عدنا إلى القاهرة فى‬
‫سٌارتى كانت معنا ٌاسمٌن‪ ،‬وكانت فى نحو الرابعة عشرة من عمرها‪ ،‬ولم‬
‫أجد صعوبة فى التفاهم معها‪ ،‬بل إنها راحت تداعبنى ونحن فى الطرٌق‪.‬‬
‫كان قد مضى على عودتنا من اإلسكندرٌة نحو أسبوعٌن عندما كلمتنى فى‬
‫التلٌفون فى الصباح‪ ،‬كنت قد اعتدت هذه المكالمة منها بعد أن تصحب‬
‫ٌاسمٌن بنفسها إلى المدرسة‪ ،‬سؤلت‪« :‬عملتى لفة فى النادى النهارده؟»‪،‬‬
‫قالت‪« :‬كتٌر‪ ،‬أكتر من الالزم»‪ ،‬فلما سؤلت عن السبب قالت‪« :‬ألنى كنت‬
‫بافكر فى موضوع مهم»‪ ،‬خٌر؟ فاجؤتنى‪« :‬أنا هتجوزك النهارده!» أخذت‬
‫أردد دون أن أدرى‪« :‬عظٌم عظٌم»‪ ،‬فباؼتتنى بسإال عملى‪« :‬إنت مش‬
‫معاك بطاقة؟»‪ ،‬قلت إننى لم أستخرج بطاقة شخصٌة بعد‪ ،‬فطلبت منى أن‬
‫أذهب إلى منزلها فى الخامسة بعد الظهر ومعى جواز السفر‪« ،‬موافق ا‬
‫وال‬
‫حنرجع فى كالمنا؟»‪ ،‬قلت‪« :‬موافق أكٌد‪ ،‬ولكننا البد أن نلتقى أوال لنبحث‬
‫الترتٌبات‪».‬‬
‫وأنا فى الطرٌق إلٌها أخذت أقلب فى األمر‪ ،‬ال فى أمر الزواج ولكن فى‬
‫أسلوب عرضه‪ ،‬وزاد إعجابى بها أنها على هذا القدر من الصراحة‪ ،‬إذا‬
‫كان المؤلوؾ هو أن ٌبادر الرجل بطلب الزواج‪ ،‬فلماذا ال ٌكون هذا من‬

‫‪46‬‬
‫حق المرأة أٌضا؟ ولكنها عندما فتحت لى الباب‪ ،‬كان سإالى األول‪:‬‬
‫ت علىّ الزواج‪ ،‬ألم تفكرى ماذا‬ ‫«ولكن افترضى أننى ماطلت عندما عرض ِ‬
‫سٌكون علٌه حالك عندبذ؟»‪ ،‬قالت‪« :‬فكرت جٌدا‪ ..‬أنت تعلم أننا لسنا فى‬
‫قصة ؼرام مشتعل‪ ،‬نحن بالؽان ولنا تجارب زواج من قبل‪ ،‬وما بٌننا هو‬
‫إعجاب شدٌد‪ ،‬ولن أحزن كثٌرا علٌك إذا تنصلت ألنك لن تستؤهل ثقتى فى‬
‫رجاحة عقلك ولن تكون الزوج المناسب لى‪».‬‬
‫رئيس التحرير ‪ 1998‬ــ ‪2003‬‬
‫كنا فى فبراٌر ‪ 1998‬عندما قال لى جمال بدوى إن صفوت الشرٌؾ طلب‬
‫منه أن ٌسؤلنى إذا ما كنت على استعداد ألقدم برنامجا فى التلٌفزٌون‬
‫المصرى‪ ،‬وعندما وافقت رتب جمال الموعد وذهبت إلى الوزٌر فى‬
‫مكتبه‪.‬‬
‫حدثنى عن الكتٌبة اإلعالمٌة‪ ،‬وعن الرٌادة التى ٌجب أن تحتفظ بها مصر‪،‬‬
‫وعن إٌمان النظام بحرٌة اإلعالم‪ ،‬وعن أن انطالق هذه الحرٌات ٌعتمد‬
‫على أن توضع فى أٌ ٍد حكٌمة‪ ،‬قال‪« :‬إحنا مش حنالقى حد زٌك فاهم‬
‫األمور كوٌس»‪ ،‬توقفت قلٌال عند هذه العبارة‪ ،‬لكننى مع ذلك شكرته‪،‬‬
‫وقلت إن أساس العالقة ٌجب أن ٌكون الوضوح‪ ،‬وإن لى متطلبات بدونها‬
‫من الصعب أن أعمل‪ ،‬أنا ال أضع شروطا‪ ،‬ولكنى أرى أن نجاح البرنامج‬
‫عال‪ ،‬وثانٌها المرونة‬
‫ٌعتمد على ثالث ركابز؛ أوالها توافر سقؾ حرٌة ٍ‬
‫اإلدارٌة بحٌث ال أقع فى حبابل روتٌن ماسبٌرو‪ ،‬أما الثالثة فهى قبول‬
‫اإلعالنات فى البرنامج‪.‬‬
‫قال صفوت الشرٌؾ‪« :‬األولى والثانٌة فهمناها‪ ،‬بل وقبلناها أٌضا‪ ،‬لكنى‬
‫أود أن أعرؾ لماذا اإلعالن؟»‪ ،‬قلت‪« :‬أوال ألن هذا هو المستقبل‪ ..‬فى‬
‫المستقبل لن ُتستثنى البرامج اإلخبارٌة من اإلعالنات‪ ،‬وسوؾ تنافس‬
‫األخبار برامج المنوعات‪ ،‬وما أفكر فٌه أٌضا هو أن تخصص نسبة من‬
‫اإلعالنات لإلنفاق على البرنامج نفسه خاصة من أجل استضافة متحدثٌن‬
‫من الخارج أو من أجل سفرى لتؽطٌة بعض األحداث‪».‬‬

‫‪47‬‬
‫قال‪« :‬سوؾ نرصد للبرنامج المٌزانٌة المناسبة بإعالن أو بدونه‪ ،‬لكننى ال‬
‫أمانع فى قبول اإلعالنات على أى حال»‪ ،‬أضفت‪« :‬ولكن اسمح لى ٌا‬
‫صفوت بك أن تكون لى كلمة فى الموافقة على هذه اإلعالنات‪ ،‬نحن لن‬
‫نسمح مثال بقبول إعالنات عن مالبس داخلٌة أو عن فٌدٌو كلٌب جدٌد‬
‫وسط حدٌث عن القضاٌا الجادة‪ ،‬ولعلنا نبدأ بالبحث عن رعاة بٌن شركات‬
‫الموباٌل مثال‪».‬‬
‫انساب الحدٌث فى مودة بادٌة‪ ،‬وبدأنا ندخل فى التفاصٌل‪ ،‬فسؤلنى عن‬
‫االسم الذى أقترحه للبرنامج‪ ،‬قلت إن لدىّ ثالثة اقتراحات‪ ،‬ولكنى أفضل‬
‫بٌنها اسم «ربٌس التحرٌر»‪ ..‬بصراحة‪ ،‬أفضله ألن معناه أننى أنا‬
‫المسبول عما أقول‪ ،‬أى أننى‪ ،‬بعد إذنك‪ ،‬ال أتقبل تعلٌمات من أحد‪ ،‬ضحك‬
‫صفوت الشرٌؾ‪ ،‬وقال‪« :‬مفٌش مانع أبدا»‪ ،‬ثم سؤلنى‪ :‬متى أكون على‬
‫استعداد لتقدٌم الحلقة األولى؟‪ ،‬قلت‪« :‬فور انتهاء الترتٌبات اللوجٌستٌة‪،‬‬
‫الدٌكور وما شابه»‪ ،‬قال‪« :‬ربنا ٌوفقك‪ ،‬دعنا إذن نبدأ بحلقة كل شهر»‪،‬‬
‫فقلت إن المرة فى الشهر لٌست وصفة للنجاح ولكننى ال أمانع‪ ،‬فلنجعلها‬
‫فترة جس نبض ٌتعرؾ فٌها كل جانب إلى اآلخر وٌطمبن له‪ ،‬وبعدها‬
‫ٌجب أن ٌكون البرنامج أسبوعٌا‪.‬‬
‫قال الوزٌر‪« :‬إذن فال ٌتبقى لنا اآلن اإال الحدٌث عن األجر‪ ،‬وأنت تعلم‬
‫طبعا أن أجورنا ال تتوازى مع ما تدفعه القنوات الخاصة‪ ،‬لكنى أعدك بؤنك‬
‫ستتقاضى أعلى أجر بمقدورنا أن نقدمه لك‪ ،‬وعلى أى حال فسوؾ أترك‬
‫)‬ ‫هذه التفصٌالت لعبدالرحمن حافظ (ربٌس اتحاد اإلذاعة والتلٌفزٌون‬
‫لٌبحثها معك‪».‬‬
‫قلت إن ذلك ال ٌمثل مشكلة‪ ،‬وعلى الرؼم من أننى ال أعرؾ البحة األجور‬
‫هنا وال ما الذى سؤتقاضاه فإنه مهما كان األجر فسٌظل رمزٌا‪ ،‬وما أطلبه‬
‫أن تخصص لى نسبة ‪ %10‬مما ستدفعه الجهات الراعٌة للبرنامج‪.‬‬
‫بدأت فى إعداد البرنامج‪ ،‬كنت قد قررت أن ٌكون «ربٌس التحرٌر»‬
‫عرضا بسٌطا وعمٌقا‪ ،‬ساخنا وساخرا لقضاٌا البلد‪ ،‬واخترت للحلقة األولى‬
‫موضوعا حساسا ألختبر بذلك قٌود الرقابة هو حرب الخلٌج‪ ،‬واستضفت‬
‫‪48‬‬
‫للمناقشة المشٌر عبدالؽنى الجمسى والدكتور مراد ؼالب وزٌر الخارجٌة‬
‫األسبق والمفكر المصرى الٌسارى محمد سٌد أحمد‪ ،‬كما استضفت أٌضا‬
‫المفكر الكوٌتى الدكتور أحمد الربعى ألتبٌن مدى كفاءة التلٌفزٌون فى‬
‫إجراء ترتٌبات سفره وفى دفع المكافؤة المناسبة‪ ،‬وتم ذلك كله على خٌر‬
‫وجه‪.‬‬
‫لم ٌصدق البعض أن ٌخرج مثل هذا الكالم من التلٌفزٌون الرسمى‪ ،‬فؤخذوا‬
‫ٌعزون ذلك إلى أن قابله مسنود‪ ،‬أو ألن هناك اتفاقا تحت الطاولة بٌنى‬
‫وبٌن أهل الحكم‪ ،‬أو ألن وزارة اإلعالم كانت تبحث عن واجهة توحى بؤن‬
‫الدولة تبنت سٌاسة منفتحة تإمن بالدٌمقراطٌة‪.‬‬
‫لما اقترب موعد الحلقة الثانٌة من «ربٌس التحرٌر» دعوت المفكر‬
‫الفلسطٌنى الدكتور عزمى بشارة للحضور‪ ،‬فى حٌن توجهت أنا إلى‬
‫بٌروت لتسجٌل أول حدٌث فى التلٌفزٌون المصرى مع أمٌن عام حزب هللا‬
‫حسن نصر هللا للحلقة ذاتها‪ ،‬وكنت أنوى تخصٌص الفقرة الثالثة فى الحلقة‬
‫لمناقشة قضٌة الصحافة الصفراء‪ ،‬ودعوت للمشاركة فٌها الدكتور‬
‫مصطفى كمال حلمى ربٌس مجلس الشورى ومكرم محمد أحمد نقٌب‬
‫الصحفٌٌن وكذلك صفوت الشرٌؾ‪ ،‬لكنه اعتذر بدعوى أنه سٌظهر فى‬
‫برنامج تلٌفزٌونى آخر‪.‬‬
‫استمر التجهٌز للحلقة‪ ،‬وسارت األمور دون متاعب تذكر‪ ،‬وفى الٌوم‬
‫المقرر للتسجٌل‪ ،‬وهو ٌوم البث نفسه‪ ،‬فوجبت بالمخرج ٌتصل بى لٌقول‬
‫إنه ذهب إلى المسرح فى الصباح فوجده محجوزا لتسجٌل برنامج «لو‬
‫بطلنا نحلم»‪ ،‬كما أن إحدى المدارس الخاصة استؤجرته لتقٌم فٌه حفال‪،‬‬
‫حاولت فض االشتباك بكل ما أمكننى من اتصاالت اإال أن ذلك كان‬
‫مستحٌال‪ ،‬لم أنجح سوى فى ترتٌب تسجٌل عزمى بشارة فى الفندق الذى‬
‫كان ٌقٌم فٌه‪.‬‬
‫أحد عشر موظفا‬
‫الطرٌؾ أننى عندما ذهبت إلى الفندق وجدت آلتى التصوٌر وإلى جانبهما‬
‫‪ 11‬من موظفى التلٌفزٌون‪ ،‬قلت‪ٌ« :‬ا إخواننا‪ ،‬أى محطة خاصة تجرى‬
‫‪49‬‬
‫مثل هذا التسجٌل ٌكفٌها ثالثة أشخاص على األكثر»‪ ،‬وبدأت أسؤل كال‬
‫منهم عن عمله‪ ،‬مصور‪ ،‬مهندس صوت‪ ،‬فنى كهربا‪ ،‬عامل لنقل المعدات‪،‬‬
‫وهكذا إلى أن وصلت إلى االثنٌن األخٌرٌن‪ ،‬قال أولهما إنه جاء من‬
‫الشبون المالٌة لٌسدد مكافؤة الضٌؾ‪ ،‬أما األخٌر فالتفت لى‪ ،‬قابال‪« :‬أصل‬
‫الضٌؾ هٌاخد مكافؤته بالعملة الصعبة»‪ ،‬فهمت ٌومها لماذا كان ٌوجد ‪35‬‬
‫ألؾ موظؾ فى ماسبٌرو عندبذ‪.‬‬
‫فات موعد البرنامج دون أن ٌذاع فلم أجد بدا‪ ،‬كى أحفظ ماء وجه‬
‫التلٌفزٌون‪ ،‬من االتصال بعزمى بشارة‪ ،‬وكذلك بمسبول اإلعالم فى حزب‬
‫هللا لالعتذار عن عدم بث الحلقة‪ ،‬متعلال بؤن عواصؾ الخماسٌن دكت‬
‫مخزن الدٌكور‪ ،‬وأن النار اشتعلت فى جانب من االستودٌو‪ ،‬وذهبت إلى‬
‫ربٌس االتحاد ثابرا أحاول أن أبٌن له أن ما حدث ٌعتبر فضٌحة‬
‫للتلٌفزٌون‪ ،‬وأطلب وضع قواعد واضحة حتى ال ٌتكرر ذلك مرة أخرى‪،‬‬
‫وأسؤل عن الموعد الجدٌد المحدد للحلقة‪ ،‬فوعدنى بحسم ذلك كله على‬
‫الفور وإبالؼى بالنتٌجة‪ ،‬لكننى ظللت أكثر من شهر فى االنتظار‪ ،‬وكما هو‬
‫متوقع انهالت الصحؾ هجوما على التلٌفزٌون ألنه لم ٌعلن للمشاهدٌن أن‬
‫البرنامج سٌؽٌب‪ ،‬ولم ٌوضح سبب ؼٌابه‪.‬‬
‫وعندما جاء االحتفال بعٌد تحرٌر سٌناء ( ‪ 25‬أبرٌل) كان قد مضى على‬
‫بث الحلقة األولى ‪ٌ 50‬وما‪ ،‬وكانت القوات المسلحة تحتفل بالعٌد فى‬
‫مسرح الجالء‪ ،‬وكنت قد دعٌت إلى االحتفال فى قاعة كبار الزوار فوجبت‬
‫بصفوت الشرٌؾ أمامى ٌقؾ إلى جانب فاروق حسنى وزكرٌا عزمى‬
‫وعدد آخر من الوزراء‪ ،‬بادرنى‪« :‬إنت زعالن لٌه ٌا أستاذ حمدى؟»‪،‬‬
‫فقلت‪« :‬سعادتك بتسؤلنى بعد شهرٌن إنت زعالن لٌه؟»‪ ..‬قال‪« :‬أعمل إٌه‬
‫ٌعنى إذا كنت طالب ‪ 10‬آالؾ جنٌه فى الحلقة؟»‪ ،‬فوجدتها فرصة ألتبرأ‬
‫من هذه الشابعة أمام كبار القوم جمٌعا‪« :‬هذا ؼٌر صحٌح بالمرة‪ ،‬وأنا لم‬
‫أطلب هذا المبلػ ولم أحدد أى مبلػ على اإلطالق»‪ ،‬قال‪« :‬أصلهم قالوا لى‬
‫كده»‪ ..‬سؤلت‪« :‬من هم سٌادة الوزٌر؟»‪ ،‬وطلبت االستشهاد بربٌس اتحاد‬
‫اإلذاعة والتلٌفزٌون الذى كان موجودا فى الحفل‪ ،‬قال الوزٌر‪« :‬بعدٌن»‪،‬‬
‫ولكنى صممت على استدعابه‪ ،‬فجاء عبدالرحمن حافظ وحاول إمساك‬
‫‪50‬‬
‫العصا من المنتصؾ‪ ،‬ال هو قادر على إؼضاب الوزٌر وال على إنكار‬
‫الحقٌقة‪ ،‬قلت‪ٌ« :‬كفٌنى هذا ٌا سٌادة الوزٌر‪ ..‬أستؤذن»‪ ..‬ومضٌت‪..‬‬
‫ونشرت صحٌفة الوفد نص المناقشة التى دارت فى االحتفال بعدها بؤٌام‪.‬‬
‫على الرؼم من تدخل الوزٌر لم تبث الحلقة الثانٌة سوى فى ٌوم ‪ 27‬ماٌو‪،‬‬
‫ومع أنها ؼابت أسابٌع فإنها أذٌعت فجؤة ودون تنوٌه مسبق‪.‬‬
‫مع مبارك‬
‫بعد ذلك بؤٌام جاء احتفال عٌد اإلعالمٌٌن الذى ٌقام سنوٌا فى مدٌنة اإلنتاج‬
‫اإلعالمى بمناسبة ذكرى مولد اإلذاعة الحكومٌة المصرٌة عام ‪،1934‬‬
‫وٌحضره الربٌس مبارك فى العادة‪.‬‬
‫كانت هذه أول مرة ألقاه فٌها منذ أكثر من عشر سنوات‪ ،‬أخذ مبارك‬
‫ٌتجول بٌننا ونحن نتناول المرطبات‪ ،‬وعندما رآنى اقترب منى وأمسك‬
‫بٌدى‪ ،‬وهو ٌصطحبنى تجاه البحٌرة الصناعٌة التى أقٌم بجوارها الحفل‪،‬‬
‫وعندما وصلنا إلى هناك توقؾ والتفت لى ٌسؤل‪« :‬هو صفوت الشرٌؾ‬
‫عامل فٌك إٌه بالظبط؟»‪ ..‬قلت‪« :‬مفٌش حاجة ٌارٌس‪ ،‬ده مجرد سوء‬
‫تفاهم‪».‬‬
‫كنت أعلم ؼرام مبارك بالمقالب‪ ،‬وخاصة مع مساعدٌه‪ ،‬والضحك على‬
‫الجمٌع فى النهاٌة‪ ،‬وكانت تسالٌه المفضلة عندما ٌوقع بٌن صفوت‬
‫الشرٌؾ وفاروق حسنى معروفة لى بتفاصٌلها‪ ،‬وهكذا كنت حذرا اأال أقع‬
‫فى الفخ‪ ،‬ومع ذلك فقد استدرجنى ألروى له حكاٌة االحتفال بعٌد سٌناء‬
‫التى كان قد سمع بها‪ ،‬كما قال‪ ،‬عندما كان ٌشهد االحتفال‪ ،‬استمع باهتمام‬
‫ومودة‪ ،‬ثم قال‪« :‬لو فٌه مشاكل تانى كلمنى»‪ ،‬ولكننى لم أفعل‪.‬‬
‫الريس أم سيادة الريس؟‬
‫فى مرة أخرى نبهنى صفوت الشرٌؾ إلى أننى الوحٌد على شاشة‬
‫التلٌفزٌون الذى ٌسمى مبارك «الرٌس»‪ ،‬هكذا «حاؾ» بدال من «سٌادة‬
‫الرٌس»‪ ،‬قلت ألن برنامجى قابم على أننى أتحدث مع المشاهدٌن كما لو‬
‫كنت جالسا معهم فى بٌوتهم‪ ،‬والناس فى بٌوتهم عندما ٌتحدثون إلى‬
‫‪51‬‬
‫بعضهم البعض وٌؤتون على ذكر الربٌس فهم ٌلقبونه بالرٌس ولٌس سٌادة‬
‫الرٌس‪ ،‬قال الوزٌر‪« :‬أنت تجادل والسالم»‪ ،‬فقلت‪« :‬ال ٌا صفوت بك‪..‬‬
‫ٌعنى سٌادتك مثال وأنت تتكلم فى البٌت مع الهانم عن الربٌس‪ ،‬هل تقول‬
‫الرٌس أم تقول سٌادة الرٌس؟»‪ ..‬ضحك الوزٌر ضحكة مجلجلة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«طبعا بؤقول سٌادة الرٌس‪ ..‬دى عاٌزه كالم‪».‬‬
‫من أبرز أحادٌث البرنامج‪ ،‬حدٌث أجرٌته مع المطرب الشعبى شعبان‬
‫عبدالرحٌم‪ ،‬وكان ذلك بعد أؼنٌته الشهٌرة «باحب عمرو موسى وباكره‬
‫إسرابٌل»‪ ،‬التى وصلت أصداإها إلى قناة ‪ ، CNN‬وقد ترددت قلٌال فى‬
‫استضافته‪ ،‬ولكننى عندما علمت أن شرابطه وزعت ‪ 6‬مالٌٌن نسخة‪ ،‬وهو‬
‫رقم ؼٌر مسبوق فى توزٌع الشرابط الصوتٌة‪ ،‬اتصلت به على الفور‪.‬‬
‫وعندما جاءنا إلى االستودٌو كنت حرٌصا على أن ٌظهر فى أفضل صورة‬
‫ممكنة حتى ال ٌظن أحد أننا أتٌنا به لنسخر منه ومن مالبسه‪.‬‬
‫وما أزال أعتقد أن استضافة شعبان عبدالرحٌم فى «ربٌس التحرٌر» كان‬
‫قرارا صاببا‪ ،‬فقد كان ظهور أؼنٌته مهما اختلفت اآلراء حولها حدثا ال‬
‫ٌمكن تجاهله‪.‬‬
‫مقص الرقيب‬
‫كانت إسرابٌل هدفا دابما لطلقات البرنامج‪ ،‬وفى إحدى المرات كنت قد‬
‫وصفت شٌمون بٌرٌز بالنازى‪ ،‬وصمم الرقٌب على حذؾ العبارة‪ ،‬وكنت‬
‫أعرؾ سلفا أننى لو شكوت لصفوت الشرٌؾ فى هذه الحالة بالذات فلن‬
‫أحصل منه على شىء؛ ذلك ألنه كان قد نبهنى من قبل أن «مبارك»‬
‫منزعج للؽاٌة ألنى وصفت اإلسرابٌلٌٌن بالسفلة‪ ،‬وكنت قد خففت من‬
‫تكرار هذا الوصؾ‪ ،‬لكننى لم أتوقؾ عنه على الرؼم من ذلك‪.‬‬
‫وصل رواج البرنامج إلى الذروة عندما بدأ بثه أسبوعٌا فى ‪ ،2001‬وقد‬
‫‪ 20‬دقٌقة فى الحلقة‪،‬‬ ‫بدا ذلك جلٌا فى حجم اإلعالنات التى بلؽت نحو‬
‫وارتفع سعرها ‪%.150‬‬

‫‪52‬‬
‫حصار عرفات‬
‫كانت حلقة أول أبرٌل ‪ 2002‬هى الحلقة التى أصابتنى بؤكبر قدر من القلق‬
‫والتوتر‪ ،‬كان ٌاسر عرفات محاصرا وقتها فى المقاطعة؛ لذلك لم ٌستطع‬
‫حضور مإتمر القمة فى بٌروت خشٌة أن ٌمنعه اإلسرابٌلٌون من العودة‪،‬‬
‫فشارك فى نقاشات المإتمر من خالل دابرة فٌدٌو مؽلقة‪ ،‬وكان هذا أمرا‬
‫مهٌنا للؽاٌة‪ ،‬للرإساء والملوك ال لعرفات نفسه‪ ،‬وإثر انعقاد القمة قامت‬
‫إسرابٌل بعملٌة االجتٌاح الكبرى لألراضى الفلسطٌنٌة‪.‬‬
‫استفزت هذه األحداث الجماهٌر العربٌة‪ ،‬فوجدت أن الموقؾ ال ٌحتمل‬
‫الكالم‪ ،‬وقررت اختصار البرنامج قدر اإلمكان وإلؽاء ندوته المعتادة‪،‬‬
‫وحذؾ الشكاوى وكذلك األقوال المؤثورة‪ ،‬واختصار التعلٌق فٌما ٌشبه‬
‫رسالة موجهة إلى القادة العرب وإلى الجماهٌر فى آن واحد‪ ..‬وعندما‬
‫سجلت الرسالة بلػ طولها نحو ‪ 14‬دقٌقة‪ ،‬فؤبلؽت صفوت الشرٌؾ بذلك‬
‫سلفا وطلبت منه أن ٌذاع البرنامج على هذا النحو‪ ،‬لكنه قال إنه ال ٌفضل‬
‫ٌطلع محمد الوكٌل ربٌس قطاع األخبار‬ ‫ذلك‪ ،‬وأرجؤ اتخاذ القرار إلى أن ا‬
‫على التسجٌل‪.‬‬
‫ال أدرى ما الذى حدث بعد ذلك‪ ،‬ولكنه عندما أذٌع البرنامج لم ٌستؽرق‬
‫أكثر من ثمانى دقابق‪ ،‬وكان المونتاج الذى أجرى فٌه ؼشٌما إلى حد بالػ‪،‬‬
‫وكانت الحلقة مثل جمر متقد‪ ،‬وخاصة عندما رددت أكثر من مرة عبارة‪:‬‬
‫«رفعت األقالم وطوٌت الصحؾ‪».‬‬

‫‪53‬‬
‫فى سبتمبر عام ‪ 1997‬كنت أقدم برنامجا فى «رادٌو وتلٌفزٌون العرب »‬
‫‪ ،ART‬عندما ذهبت إلى القذافى فى سرت ألجرى معه حدٌثا بمناسبة‬
‫االحتفال بذكرى ثورة الفاتح‪.‬‬
‫بدأ القذافى بالحدٌث عن تارٌخ العالم واألجناس التى سكنته ومإامرات‬
‫االستعمار التى ال تنتهى والتحضٌر للثورة اللٌبٌة‪ ،‬ومع ذلك بدا حدٌثه‬
‫متماسكا فى بعض األحٌان بل شابقا إلى حد ما فى أحٌان أخرى‪.‬‬
‫عندما كادت الساعة المخصصة للحدٌث تنتهى تؤهبت للختام‪ ،‬فإذا بٌد تمتد‬
‫من ورابى ٌقدم لى صاحبها ورقة صؽٌرة كتب علٌها «تم مد اإلرسال‬
‫ساعة أخرى»‪ ،‬لم أتبٌن َمن صاحب الٌد‪ ،‬ولكن المفاجا أن طرؾ كم‬
‫البدلة أكد أنها بدلة عسكرٌة‪.‬‬
‫‪ 11‬العبا فقط‪ ..‬وٌعتبر‬ ‫•كان ٌستنكر اقتصار مبارٌات الكرة على‬
‫«المالكمة» سلو ًكا همجًٌا‪ ..‬ودعا إللؽاء رٌاض األطفال والمدارس‬
‫االبتدابٌة‬
‫تحدث القذافى عن مبارٌات كرة القدم واستنكر اقتصارها على ‪ 11‬العبا‬
‫فقط من كل فرٌق‪ ،‬وعندما سؤلته عن الحل المثالى من وجهة نظره قال‪:‬‬
‫إنه فى الجماهٌرٌة الشعبٌة البد أن ٌشارك الشعب كله‪ ،‬وال ٌقتصر دوره‬
‫على الفرجة السلبٌة‪ ،‬وإنما أن ٌنزل الجمٌع إلى أرض الملعب‪ ،‬ولم ٌكن‬
‫حدٌثه عن المالكمة مختلفا كثٌرا؛ إذ كان ٌعتبرها داللة على أن البشرٌة لم‬
‫تتخلص بعد من سلوكها الهمجى‪ ،‬وكان ٌرى أن المالكمٌن والمتفرجٌن هم‬
‫ساللة البشر الذٌن لم ٌتحضروا بعد‪.‬‬
‫سؤلته أٌضا لماذا ٌطالب بإلؽاء رٌاض األطفال‪ ،‬فقال‪« :‬أنا لست ضدها‬
‫وحدها‪ ،‬أنا أنادى أٌضا بإلؽاء المدارس االبتدابٌة‪ ،‬رٌاض األطفال‬
‫والمدارس االبتدابٌة مثل تسمٌن الدجاج‪ ،‬ال أدرى لماذا ٌرمى الناس‬
‫أوالدهم على هذا النحو‪ ،‬لماذا ٌنجبونهم ما داموا ال ٌستطٌعون تربٌتهم؟‬

‫‪54‬‬
‫التعلٌم االبتدابى تربٌة‪ ،‬والتربٌة ٌجب أن ٌكون مكانها البٌت‪ ،‬أما رٌاض‬
‫األطفال فٌقتصر دخولها على الٌتامى‪».‬‬
‫•القذافى سؤلنى فى ‪ :2005‬لماذا تصر على مهاجمة مبارك‪ ..‬وما‬
‫اعتراضك على نجله جمال؟‪ ..‬وحاورته للمرة االولى فؤبلؽنى الشٌخ صالح‬
‫كامل أن «الجماعة زعالنٌن» فى الرٌاض‬
‫بعد اللقاء التقٌت الشٌخ صالح كامل فى بارٌس وكان وجهه ٌنطق بما فى‬
‫صدره‪ ،‬أوجز الشٌخ صالح الموقؾ فى كلمات صارت فٌما بعد مثال ٌتردد‬
‫كلما مرت برامجى بالمآزق التى ألفتها‪« :‬الجماعة زعالنٌن»‪ ،‬وأخبرنى‬
‫أنه تلقى مكالمة ؼاضبة من الرٌاض خالصتها أننى كثٌرا ما تركت القذافى‬
‫ٌهذى دون أن أجادله‪.‬‬
‫مدافعا عن مبارك‬
‫ً‬ ‫القذافى‬
‫لم تكن هذه هى المرة الوحٌدة التى التقٌت فٌها القذافى فى عمل تلٌفزٌونى؛‬
‫إذ كانت المرة الثانٌة فى إبرٌل ‪ 2005‬عندما كنت أقدم برنامجى «قلم‬
‫رصاص» من دبى‪ ،‬وكان الحدٌث فى مقره بطرابلس فى «باب‬
‫العزٌزٌة‪».‬‬
‫عندما دخلت علٌه مكتبه بادرنى بالسإال‪« :‬لماذا إصرارك على الهجوم‬
‫على الربٌس مبارك؟»‪ ،‬قلت‪ٌ« :‬ا سٌادة العقٌد أنا ال أهاجم‪ ،‬أنا أنتقد»‪،‬‬
‫قال‪« :‬ولكن ما اعتراضك بالذات على جمال مبارك؟»‪ ،‬أجبت‪« :‬لٌس لى‬
‫علٌه أى اعتراض كشخص»‪ ،‬ثم أضفت‪« :‬لكن الجمهورٌات ال تورث ٌا‬
‫سٌدى‪».‬‬
‫ـر القذافى إجابتى وقال‪« :‬عندما آتى إلى القاهرة فى المرة القادمة‬
‫َع َب َ‬
‫سؤصطحبك معى إلى الربٌس مبارك»‪ ،‬فضلت أن أتفادى النقاش فؤجبت‬
‫بؤنه لٌس بٌنى وبٌن الربٌس خالؾ ٌستدعى الوساطة‪ ،‬وانتهى الحدٌث عند‬
‫هذا الحد‪.‬‬
‫•وقعت عقد «قلم رصاص» مع «اللٌبٌة» باعتبارها «ذات توجه حر»‪..‬‬
‫وبعد الحلقة الخامسة جاءنى أحد المسبولٌن وهو ٌهذى‪« :‬القابد‪ ..‬القابد»‬
‫‪55‬‬
‫تأميم الليبية‬
‫فى ماٌو سنة ‪ ،2009‬كنت جالسا فى سكنى فى لندن الذى ٌطل على‬
‫حدابق كنسنجتون‪ ،‬امتداد «هاٌد بارك»‪ ،‬أتؤهب إلجازة نهاٌة األسبوع بعد‬
‫أن أنهٌت تسجٌل الحلقة الخامسة من برنامجى «قلم رصاص» فى قناة‬
‫عال‪« :‬القابد القابد‪.‬‬
‫اللٌبٌة‪ ،‬عندما دخل علًا «توفٌق» وهو ٌهذى بصوت ٍ‬
‫توفٌق رجل لٌبى طٌب فى المجمل‪ٌ ،‬عمل فى مجال المقاوالت على ما‬
‫أظن‪ ،‬وهو صدٌق مقرب من عبدالسالم مشرى‪ ،‬ربٌس مجلس إدارة‬
‫مإسسة «الؽد» المسبولة عن القناة‪ ،‬انتدبه لٌكون مسبوال إدارٌا ٌذلل‬
‫العقبات أمام برنامجى فى أسابٌع انطالقته األولى‪ ،‬وقد عرفته متزنا رزٌنا؛‬
‫األمر الذى أثار دهشتى لما رأٌته ٌصٌح على هذا النحو الهستٌرى‪.‬‬
‫«القابد» ألى لٌبى ال أحد ؼٌر القذافى‪ ،‬والقذافى كما كنت أعلم ال شؤن له‬
‫بنا أو بالقناة‪ ،‬القناة تصدر عن مإسسة مستقلة عن الدولة هى مإسسة‬
‫الؽد‪.‬‬
‫هذا ما قاله لى مشرى عندما التقٌنا فى دبى ألول مرة‪ ،‬كنا فى شهر ٌناٌر‪،‬‬
‫وكان الرجل قد جاء لٌتفاوض مع تلٌفزٌون دبى على شراء بعض‬
‫المسلسالت والبرامج من بٌنها برنامجى «قلم رصاص»‪ ،‬وعندما علم أن‬
‫البرنامج أوقؾ اتصل بى فالتقٌنا وعرض علًا تقدٌم البرنامج فى قناته‪،‬‬
‫وشدد ٌومها على أن القناة لٌست تابعة إلعالم الدولة‪ ،‬وأن «مإسسة الؽد»‬
‫أطلقتها بتموٌل من بعض المنظمات األهلٌة‪ ،‬فطلبت منه أن ٌمهلنى حتى‬
‫نلتقى فى طرابلس‪.‬‬
‫كانت الدنٌا من حولى وأنا ذاهب إلى لٌبٌا قد أظلمت‪ ،‬لٌس فٌها طاقة نور‬
‫واحدة‪ ،‬أخذت أحاسب نفسى حسابا عسٌرا وأتدبر فٌما إذا كان الخطؤ‬
‫خطبى أم خطؤ ؼٌرى‪ ،‬لكن المحصلة فى النهاٌة كانت جلٌة‪ :‬لم تعد هناك‬
‫بالد تتحمل مشروعى‪ ،‬وال هناك محطات ذات وزن ٌمكنها أن تطٌق ما‬
‫أقول‪ ،‬لكننى لم أستسلم‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫جلست مع مشرى ربٌس مإسسة «الؽد» التى تشرؾ على قناة «اللٌبٌة»‬
‫ساعات فى طرابلس نبحث مشروع العقد الذى كان قد أعده‪ ،‬كان كل ما‬
‫ٌهمنى بالدرجة األولى قدر الحرٌة المتاح‪ ،‬وانتهٌنا فى ذلك إلى أن ٌنص‬
‫العقد على أن البرنامج «ذو توجه حر»‪ ،‬وهو على ما أظن نص فرٌد من‬
‫نوعه فى مثل هذه العقود وإن كانت النصوص ال تضمن الكثٌر فى النهاٌة‪.‬‬
‫طال النقاش فٌما بعد حول مكان تصوٌر البرنامج‪ ،‬وانتهٌنا أخٌرا إلى أن‬
‫البرنامج سٌصور فى لندن؛ عاصمة الصحافة العربٌة المهاجرة‪.‬‬
‫عندما أوشكت على السفر إلى لندن استضافتنى منى الشاذلى فى برنامجها‬
‫«العاشرة مسا ًء» الذى كان ٌتص ّدر برامج المساء فى حلقة كاملة‪ ،‬وفٌه‬
‫رت المفاجؤة التى لم ٌكن أحد قد علم بها من قبل‪ ،‬أن قطارى ستكون‬ ‫فجا ُ‬
‫محطته القادمة فى «اللٌبٌة‪».‬‬
‫اندهشت منى بالطبع وأخذت تمطرنى بسإال تلو اآلخر‪ :‬لماذا اللٌبٌة؟‬
‫وٌبدو أن إجاباتى لم تكن مقنعة تماما حتى قلت لها فى النهاٌة إن مثل هذا‬
‫الوضع السٌرٌالى الذى أنا فٌه لٌس له اإال حل سٌرٌالى أٌضا‪ ،‬وعندما بدأ‬
‫البرنامج فى استقبال مكالمات المشاهدٌن التلٌفونٌة ؼمرنى أصحابها‬
‫بحبهم‪ ،‬ونبهتنى إحدى المتصالت إلى اختٌار مسكن فى لندن بال شرفات‬
‫(إشارة إلى حوادث مقتل عدد من الشخصٌات المصرٌة البارزة من‬
‫شرفات مساكنهم فى لندن ‪.‬‬
‫بعد ذلك سؤلت منى‪« :‬ولماذا ال تعود إلى بٌتك؛ إلى مصر؟»‪ ،‬وكانت‬
‫تعرؾ اإلجابة بالطبع‪ ،‬قلت‪« :‬النهاردة أنا عقد اللٌبٌة فى جٌبى‪ ،‬وفى الؽد‬
‫سوؾ أؼادر إلى لندن‪ ،‬ومع ذلك أقول بوضوح‪ :‬لو قدم لى عرضا من‬
‫التلٌفزٌون المصرى اآلن فسوؾ أقبله على الفور وأنسى عقد اللٌبٌة‪ ،‬لكننى‬
‫على ٌقٌن أن هذا لن ٌحدث‪ ،‬ال توجد فى مصر قناة ترٌد برنامجى‪ ،‬أعمل‬
‫إٌه؟ أنشر إعالنا فى الجراٌد أقول فٌه إنى أبحث عن وظٌفة؟‪».‬‬
‫صمتت منى كما لم تصمت فى برنامجها من قبل‪ ،‬وسالت من عٌونها دمعة‬
‫ؼالبتها‪ ،‬تحدثت عنها الصحؾ كثٌرا فٌما بعد‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫•فى الطرٌق من لندن إلى القاهرة شعرت أنى طرٌ ٌد بال رجعة بعدما‬
‫ضاق اإلعالم المصرى ببرنامجى‬
‫كان األلم ٌعتصرنى وأنا ذاهب إلى المطار‪ ،‬وكؤننى طرٌد بؽٌر رجعة‪،‬‬
‫ُكتبت علًا الهجرة مرة أخرى‪ ،‬واألنكى هذه المرة أننى لم أكن أعرؾ إلى‬
‫أى عالم أنا ذاهب‪ ،‬كٌؾ هم هإالء القوم الذٌن سؤتعامل معهم‪ ،‬وما بالضبط‬
‫نظم العمل فى تلك القناة التى ستؤوى برنامجً؟‬
‫ما عرفته أن قناة اللٌبٌة كانت فى منطقة نفوذ «مإسسة القذافى العالمٌة‬
‫للجمعٌات الخٌرٌة» التى شكلها القابد لٌعمل تحت مظلتها الورٌث سٌؾ‬
‫اإلسالم‪ ،‬وكان قد تنامى دوره داخل لٌبٌا‪ ،‬وعندما بدأ الحصار أصبح‬
‫وجهها المفضل فى الؽرب‪ ،‬خاصة بعد أن تؤهل بشهادة دكتوراه عن‬
‫الدٌمقراطٌة فى المجتمع المدنى حصل علٌها من كلٌة االقتصاد فى جامعة‬
‫لندن بعد أن قدم ملٌونا ونصؾ الملٌون جنٌه إسترلٌنى منحة للجامعة‪.‬‬
‫•سيف اإلسالم لم يقترب من ساسة بريطانيا قدر اقترابه من «الجشع‬
‫مستشارا لوالده‬
‫ً‬ ‫المتصابى» تونى بلير الذى كان‬
‫ألتق سٌؾ اإلسالم من قبل‪ ،‬ال قبل عملى بـ «اللٌبٌة» وال بعده‪ ،‬وعلى‬
‫لم ِ‬
‫الرؼم من أنه كان كثٌرا ما ٌتردد على لندن متنقال على الطابرة الخاصة‬
‫لمحمد رشٌد الرجل الؽامض المسبول عن أموال منظمة التحرٌر‬
‫الفلسطٌنٌة‪ ،‬فإنه‪ ،‬على ما أعلم‪ ،‬لم ٌعقد اجتماعا واحدا حول اإلمبراطورٌة‬
‫اإلعالمٌة التى كثٌرا ما كان ٌقال إنه على وشك إطالقها من لندن‪ ،‬والتى‬
‫كان ٌفترض أن قناة «اللٌبٌة» هى فصٌلها المتقدم‪.‬‬
‫كان بالػ االهتمام بالمال وشبونه‪ ،‬وعلى الرؼم من كل ما كان ٌشاع عن‬
‫مهاراته وجوالته فى المحافل السٌاسٌة فإنه لم ٌقترب من الساسة‬
‫البرٌطانٌٌن قدر اقترابه من ذلك الرجل الجشع المتصابى تونى بلٌر الذى‬
‫كان مستشارا لوالده‪ ،‬وهو أٌضا الذى ساعده على نٌل الدكتوراه على نحو‬
‫ما نشرت الصحؾ البرٌطانٌة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫كانت الحلقة األولى التى أذٌعت ٌوم ‪ 26‬مارس ‪ 2009‬أكثر سخونة من‬
‫التنوٌه‪ ،‬كان هناك مإتمر قمة عربٌة على وشك االنعقاد خالل أٌام‪ ،‬هذه‬
‫المرة فى الدوحة‪.‬‬
‫وهكذا انطلقت أصول وأجول فى حدٌثى عن القمة وعن ؼٌره من‬
‫موضوعات الساعة‪ ،‬وحكٌت أٌضا للمشاهدٌن عن ظروؾ مصادرة‬
‫برامجى السابقة‪ ،‬وقلت‪« :‬بعضهم كتب لى إن أحوال الحرٌات فى لٌبٌا‬
‫عدمانة‪ ،‬قلت ده صحٌح‪ ،‬إنما حد ٌقول لنا فٌن فى أرض العروبة ممكن‬
‫الواحد ٌتنفس؟ الوضع سٌرٌالى والحل الزم ٌكون سٌرٌالى‪ ،‬وفى كل‬
‫األحوال من أول ٌوم قالوا لى إخوانا فى لٌبٌا مفٌش خط أحمر‪ ،‬أنا ما‬
‫اشتؽلتش قبل كده فى محطة اإال واتقال لى إنه مفٌش خط أحمر‪ ،‬وبعد كده‬
‫شفت الخط األحمر والجن األزرق‪ ،‬لكن دى أول مرة ٌتكتب لى فى العقد‬
‫إنى أقدم برنامجا ذا طبٌعة حرة‪ ،‬وآدى إحنا‪ ،‬أنا وأنتم‪ ،‬حنشوؾ‪».‬‬
‫وفى مكان آخر فى الحلقة قلت‪« :‬قلم رصاص حٌفضل ٌدافع عن‬
‫الحرٌات‪ ،‬وحٌفضل ملتزم بالمبادئ القومٌة‪ ،‬وحٌفضل ملتزم بمواجهة قوى‬
‫الهٌمنة الكبرى‪ ،‬حٌفضل ملتزم بؤن طرٌق السالم ٌجب أن تسنده المقاومة‪،‬‬
‫حٌفضل ملتزم بمطاردة فساد أصحاب السلطة وأصحاب الثروة‪ ،‬حٌفضل‬
‫ملتزم بمعارضة تورٌث الحكم فى البالد اللى بتسمى نفسها جمهورٌة ا‬
‫وال‬
‫ثورٌة‪ ،‬ما احناش حنتحرك بالرٌموت كنترول‪ ،‬وال حنتؽٌر بتبدٌل القناة‪،‬‬
‫حنتصادر‪ ،‬بس كل ما نتصادر حتزودنا المصادرة قوة وإٌمان‪».‬‬
‫علي توفيق البيت‪ ،‬كما ذكرت‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بعد أن سجلت الحلقة الخامسة دخل‬
‫يهذى‪« :‬القائد‪ ،‬القائد ‪.‬‬
‫تلقى مشرى مكالمة من مكتب معمر القذافى تطلب منه إٌقاؾ بث حلقة‬
‫البرنامج التى كان مقررا إذاعتها فى المساء‪ ،‬فاعتذر عن عدم تنفٌذ األمر‬
‫بؤنه ٌتلقى تعلٌماته من سٌؾ اإلسالم‪ ،‬واتصل بسٌؾ اإلسالم ٌبلؽه بما‬
‫حدث فؤمره بإذاعة الحلقة‪ ،‬وأذٌعت الحلقة بالفعل فى المساء‪ ،‬وعندها تتالت‬
‫األحداث‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫فى ساعات قلٌلة صدر قرار بحبس مشرى داخل مكتب القذافى ذاته فى‬
‫باب العزٌزٌة‪ ،‬ثم قرار آخر بإٌقاؾ بث القناة‪ ،‬تاله قرار ثالث بضمها إلى‬
‫هٌبة اإلذاعة والتلفزٌون الحكومٌة‪ ،‬وبعد منتصؾ اللٌل بقلٌل فوجا‬
‫العاملون فى القناة بمعمر القذافى ٌدخل علٌهم وبصحبته على الكٌالنى‬
‫القذافى ربٌس الهٌبة‪ ،‬كانا وحدهما دون حراسة‪ ،‬وقؾ القذافى فى ردهة‬
‫مبنى القناة األمامٌة وأخذ ٌجول فٌها جٌبة وذهابا لدقابق معدودة‪ ،‬بعدها‬
‫التفت إلى الكٌالنى ٌسؤله‪« :‬خالص وضعت ٌدك على كل شًء؟»‪ ،‬ولما‬
‫أجاب باإلٌجاب ؼادر معمر‪.‬‬
‫أمم القذافى القناة هى وأخواتها‪ ،‬كان للخبر صدى كبٌر فى صحؾ مصر‬
‫المعارضة وفى الصحؾ العربٌة‪ ،‬وأرجع معظمها سبب تؤمٌم القناة وإلؽاء‬
‫البرنامج إلى الحلقة األخٌرة التى تعرضت بالنقد لموقؾ مصر الرسمى من‬
‫المقاومة الفلسطٌنٌة‪ ،‬وكذلك لتحوٌل عضو فى حزب هللا إلى النٌابة بتهمة‬
‫القٌام بؤنشطة وعملٌات داخل األراضى المصرٌة دون إخطار السلطات‪.‬‬
‫المصادر الصحفٌة كلها أجمعت على أن «مبارك» كان ؼاضبا ؼضبا‬
‫شدٌدا وأنه كلم القذافى‪ ،‬مساومًا حسب البعض ومهددا حسب آخرٌن؛ مما‬
‫أدى بالقذافى إلى تؤمٌم القناة‪ ،‬الخالصة أن «القذافى طوق أزمة مع مبارك‬
‫بكبح االنتقادات اإلعالمٌة»‪ ،‬كان هذا هو مانشٌت جرٌدة «القدس العربى»‬
‫ٌوم ‪ 28‬إبرٌل ‪.2009‬‬
‫كنت قد زهدت اإلقامة فى الخارج وكان الحنٌن ٌجذبنى إلى الوطن ألإدى‬
‫رسالتى هناك‪ ،‬فحزمت حقاببى عابدا إلى القاهرة؛ واتصلت بالصدٌق القدٌم‬
‫محمود جبرٌل فى طرابلس‪ ،‬وهو خبٌر دولى بارز فى التخطٌط‪( ،‬بعد‬
‫الثورة أصبح أول ربٌس للمكتب التنفٌذى للمجلس الوطنى االنتقالً)‪.‬‬
‫طلبت من جبرٌل أن ٌتدخل لدى من ٌعنٌهم األمر حتى تصرؾ مستحقاتى‬
‫المتؤخرة‪ ،‬فوعدنى أن ٌطلب ذلك من ربٌس الوزراء البؽدادى المحمودى‪.‬‬
‫وبالفعل اتصل بى فى القاهرة فى الٌوم التالى ولكن ال لٌبشرنى بانتهاء‬
‫المشكلة وإنما لٌنقل لى عرض المحمودى بؤن أعود للعمل فى القناة نفسها‬
‫تحت إدارتها الحكومٌة الجدٌدة فى طرابلس‪ ،‬فاعتذرت شاكرا‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫تؤكدت من سبب إٌقاؾ البرنامج وما لحق ذلك من تطورات‪ .‬انزعج مبارك‬
‫بداٌة ألن لٌبٌا أوت البرنامج بعد أن أوقؾ فى دبى‪ ،‬وانزعج أكثر من‬
‫مواصلتى النتقاده بحدة‪ ،‬وٌبدو أن انزعاجه بلػ حده عندما اتصل تلٌفونٌا‬
‫بالقذافى‪.‬‬
‫قال لى أحد األصدقاء اللٌبٌٌن الذٌن كانوا ٌحٌطون بـ«القابد» إنه حضر‬
‫المكالمة وإنها استؽرقت ‪ 22‬دقٌقة‪ ،‬وإنها تناولت فى البداٌة عددا من‬
‫المسابل الشابكة فى العالقات المصرٌة ــ اللٌبٌة‪ ،‬ثم شكا مبارك من‬
‫البرنامج‪ ،‬وعندما لم ٌعده معمر بإجراء محدد لوا ح مبارك فى ابتزاز‬
‫مكشوؾ بؤنه قبل أٌام منع إحدى الصحؾ القومٌة المصرٌة من فتح النار‬
‫على القذافى شخصٌا‪ ،‬وطلب منه صراحة أن ٌتخذ موقفا ال ٌقل حسما‪.‬‬
‫ولما كنت ال أشك فى صدق الصدٌق اللٌبى فقد فتحت النار أنا اآلخر‪،‬‬
‫وأعلنت فى أكثر من برنامج تلٌفزٌونى استضافنى بعد عودتى إلى القاهرة‬
‫أن الرباسة هى السبب فى إٌقاؾ «قلم رصاص»‪ ،‬لٌس فقط فى «اللٌبٌة»‬
‫وإنما أٌضا فى قناة دبى‪.‬‬
‫بعد أٌام اتصل بى المهندس أسامة الشٌخ وقال إن وزٌر اإلعالم أنس الفقى‬
‫طلب منه إبالؼى أنه «ٌود أن ٌنقل لك رسالة مإداها أنه ال أحد فى‬
‫الرباسة ضدك‪ ،‬بل إن الكل ٌرحب بعودتك إلى القاهرة وال ٌمانع فى أن‬
‫تعمل بؤى من المإسسات المصرٌة‪».‬‬
‫تمض أٌام حتى طلبنى الدكتور زكرٌا عزمى ٌبلؽنى بالرسالة نفسها‬
‫ِ‬ ‫ولم‬
‫وذات النص‪ ،‬حتى هٌا لى أنه إذا لم تكن ممالة من الربٌس السابق ذاته‬
‫فال بد أن أحدا ما أرسل نصها مكتوبا إلى الفقى وعزمى‪.‬‬
‫عندها قلت‪« :‬ولكن ذلك ؼٌر صحٌح ٌا دكتور‪ ..‬أنتم الذٌن أوقفتم‬
‫البرنامج»‪ ،‬سؤلنى زكرٌا عزمى إن كنت أملك دلٌال مادٌا على ذلك‪،‬‬
‫فؤجبت باإلٌجاب على الرؼم من أنه لم ٌكن فى حوزتى بالطبع مثل هذا‬
‫الدلٌل‪ ،‬قال‪« :‬إذن نلتقى ونناقش األمر»‪ ،‬أجبت بؤن له أن ٌحدد الموعد‬
‫والمكان‪ ،‬وكانت هذه آخر مرة أسمع فٌها صوت زكرٌا عزمى‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ما إن مرت عدة أسابٌع حتى كلمنى على مارٌا القابم بؤعمال مكتب‬
‫‪ ،2009‬لم أعد‬ ‫المتابعة اللٌبى فى القاهرة‪ ،‬كنا فى مطلع شهر أكتوبر‬
‫أندهش مما تؤتى به مثل تلك المكالمات من مسبولٌن لٌبٌٌن‪ ،‬دعانى‪ ،‬باسم‬
‫القابد‪ ،‬لزٌارة لٌبٌا «للمشاركة فى االحتفال الذى سٌقام بمدٌنة سبها فى‬
‫‪ 50‬عاما على تؤسٌس حركة‬ ‫الجماهٌرٌة العظمى بمناسبة مرور‬
‫الوحدوٌٌن األحرار‪».‬‬
‫قررت أن أقبل الدعوة على الرؼم من كل شًء لسبب وحٌد أن أحصل‬
‫على حقوقى وأؼلق ملؾ «اللٌبٌة»‪ ،‬كنت عازما على أن أحدث «القابد»‬
‫فى األمر عندما ألتقٌه‪ ،‬وكان ذلك مقررا فى الٌوم التالى الذى سنذهب فٌه‬
‫إلى بلدة «سبها‪».‬‬
‫أعد مسرحا مفتوحا كبٌرا امتأل بؤلوؾ من أهل «سبها»‪ ،‬تطل علٌه منصة‬
‫اصطففنا فى ناحٌة منها ننتظر «القابد»‪ ،‬كان ٌبدو ٌومها أكثر وقارا وأقل‬
‫اندفاعا‪ ،‬لم ٌطرق المابدة التى أمامه بقبضته‪ ،‬وال رفع ٌدٌه وصوته مهلال‬
‫هاتفا كعادته‪ ،‬ولم ٌقذؾ بورق بٌن ٌدٌه كما فعل فى األمم المتحدة أثناء‬
‫كلمته‪.‬‬
‫جلس القذافى على المنصة ٌحٌط به ضٌوؾ الشرؾ القادمون من مناحى‬
‫األرض جمٌعا‪ ،‬وجلست إلى جانبه ابنته عابشة‪ ،‬وأخذ منظمو الحفل‬
‫ٌسوقون الضٌوؾ إلى المنصة العرٌضة التى تعلو عن األرض بضعة‬
‫أمتار‪ ،‬وجاءنى أحمد قذاؾ الدم ٌطلب منى الصعود إلى هناك لكننى‬
‫اعتذرت‪ ،‬فقد كنت مشحونا بالؽضب من تعامل «اللٌبٌة» معى‪ ،‬وكنت‬
‫أعرؾ أننى لو وقفت أمامه وجها لوجه فال مناص من أن أتكلم بحدة‪ ،‬ولم‬
‫أجد هذا البقا فى مناسبة عامة كهذه المناسبة‪.‬‬
‫أشهد أن قذاؾ الدم كان كرٌما لٌلتها معى‪ ،‬تفهم رؼبتى فى الجلوس فى‬
‫الحدٌقة دون أن ٌلح‪ ،‬ثم مر بى أكثر من مرة همس لى فى إحداها بحكاٌة‬
‫الطباخٌن الذٌن أهداهم زعٌم ٌوؼوسالفٌا «تٌتو» إلى «القابد»‪ ،‬وأخبرنى‬
‫بؤن السفرجٌة الذٌن ٌقدمون لنا العشاء إٌطالٌون‪ ،‬تبهج معمر كثٌرا مثل‬
‫هذه اللفتات‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫سادة لٌبٌا فى الماضى ٌخدمون ضٌوفها الٌوم‪ ،‬على الرؼم من أنه عفا عن‬
‫إٌطالٌا بعد أن اعتذر ربٌس وزرابها برلسكونى عن حقبة االستعمار ودفع‬
‫التعوٌض المناسب‪ ،‬ولو أنه أخذ فى مقابل العفو ترضٌات مجزٌة‪.‬‬
‫•عدالة السماء أنهت حياة العقيد فى «أنابيب الصرف الصحى» حكاية‬
‫مكالمة الـ ‪ 22‬دقيقة بين مبارك ومعمر التى انتهت بوقف برنامجى‬
‫ومصادرة القناة‬
‫كانت هذه آخر مرة أرى فٌها القذافى قبل أن ٌلقى مصٌره البشع وهو‬
‫مختبا فى أحد أنابٌب الصرؾ فى سرت‪ ،‬جفلت من المشهد الوحشى الذى‬
‫مثل إساءة بالؽة للثورة والثوار‪ ،‬ولكننى‪ ،‬شؤن كثٌرٌن كما أعتقد‪ ،‬أٌقنت‬‫ّ‬
‫مرة أخرى أن عدالة السماء اقتصت ألولبك الذٌن أصدر علٌهم القذافى‬
‫أحكامه بالسجن والتعذٌب واإلعدام‪ ،‬اإال أننى ما كنت أود أبدا أن ٌتم‬
‫القصاص على أٌدى قوى الؽرب وحلفابه فى قطر‪ ،‬أو أن ٌنتهى بتسلٌم‬
‫البالد إلى الظالمٌٌن الذٌن أؼرقوا البالد فى الفوضى‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫كنت كؽٌرى مهتما بتصرٌحات الدكتور محمد البرادعى فى الخارج‪،‬‬
‫خاصة عندما أعلن فى ‪ CNN‬أنه ٌعتزم خوض انتخابات الرباسة المقررة‬
‫فى ‪ 2011‬إذا ما رفعت القٌود الدستورٌة على الترشٌح‪.‬‬
‫حاولت الصحؾ القومٌة تلوٌث سمعة البرادعى بؤكبر قدر من البذاءات‬
‫والشابعات‪ ،‬من بٌنها مثال أنه حاصل على الجنسٌة النمساوٌة‪ ،‬ولكننى‬
‫تحققت من كذب هذه الشابعة‪ ،‬أما الشابعة األخرى فإنه عمٌل للوالٌات‬
‫المتحدة‪ ،‬وأنه هو الذى أعانها على ؼزو العراق عندما قام مع وزٌر‬
‫الخارجٌة السوٌدى السابق هانز بلٌكس بالتفتٌش على األسلحة الكٌماوٌة‬
‫والبٌولوجٌة العراقٌة‪ ،‬فلم تكن تقوم على أساس‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫قررت الذهاب إلى المطار الستقبال الدكتور البرادعى ٌوم الجمعة‬
‫فبراٌر ‪ ،2010‬وتجمع نحو ثالثة آالؾ شخص فى المطار‪ ،‬تؤخرت‬
‫الطابرة نحو ثالث ساعات‪ ،‬وعندما استطاع الرجل أن ٌجد طرٌقه بٌن‬
‫الجموع التى تدافعت تجاهه‪ ،‬فوجبت به ٌستقل سٌارته وٌنطلق بها وسط‬
‫الشباب الذٌن كانوا قد قضوا ساعات فى ساحة المطار ٌنادون باسمه‪ ،‬فال‬
‫تتوقؾ السٌارة لحظة لتحٌتهم‪ ،‬وإنما تنطلق بسرعة حمقاء ال تم ِّكنه من أن‬
‫ٌطل علٌهم من كرسٌها الخلفى وراء الزجاج المؽلق‪.‬‬
‫فى ‪ 23‬فبراٌر استضاؾ الدكتور البرادعى أؼلب ممثلى القوى الوطنٌة‬
‫وعددا من الشخصٌات المستقلة فى منزله فى اجتماع أعد له د‪ .‬حسن‬
‫نافعة‪ ،‬وكانت هذه أول مرة ألتقى فٌها البرادعى‪.‬‬
‫توصل المجتمعون إلى ضرورة تؤسٌس جمعٌة وطنٌة للتؽٌٌر ٌعلن‬
‫البرادعى قٌامها‪ ،‬وقام عصام سلطان بكتابة بٌان مختصر‪ ،‬ولكن البرادعى‬
‫تردد كثٌرا قبل أن ٌمتثل للضؽوط‪ ،‬وٌوافق على أن ٌعلن قٌام الجمعٌة‬
‫بنفسه‪ ،‬وأكد أن ذلك ال ٌعنى أنه ربٌسها‪.‬‬
‫فى األٌام التالٌة بدأ البرادعى ٌباشر بنفسه وضع تصور لخطة عمل‬
‫الجمعٌة وآلٌات تنفٌذها‪ ،‬وعقد اجتماعا مطوال لهذا الؽرض مع حسن نافعة‬
‫ود‪ .‬أبوالؽار ود‪ .‬األسوانى‪ ،‬ثم سافر‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫اتفقنا بعد عودة البرادعى على توزٌع العمل بٌننا فى لجان ٌعٌان لكل منها‬
‫مسبول‪ ،‬فؤصبح الدكتور عبدالجلٌل مصطفى مسبوال عن االتصال‬
‫والتوقٌعات على بٌان الجمعٌة‪ ،‬والدكتور أبو الؽار مسبوال عن المصرٌٌن‬
‫فى الخارج‪ ،‬والدكتور محمد ؼنٌم وجورج إسحق مسبولٌن عن لجان‬
‫المحافظات‪ ،‬والمستشار الخضٌرى مسبوال عن اللجنة القانونٌة‪ ،‬وعصام‬
‫سلطان مسبوال عن مساندة األعضاء‪ ،‬أما أنا فكلفت بؤن أكون المتحدث‬
‫اإلعالمى للجمعٌة‪.‬‬
‫معلومة مغلوطة‬
‫بعد أن التقٌنا الصحفٌٌن انتحٌت بالدكتور البرادعى جانبا‪ ،‬قلت‪ٌ« :‬ا دكتور‬
‫محمد أنت تعلم بالطبع أننى ناصرى‪ ،‬ولكن ما سؤحدثك فٌه اآلن ال ٌنطلق‬
‫من هذه الخلفٌة‪ ،‬فقد عاهدنا أنفسنا جمٌعا أن نطرح جانبا معتقداتنا السٌاسٌة‬
‫ونعمل أوال على إحداث التؽٌٌر‪ ،‬لقد قرأت الٌوم حدٌثك فى جرٌدة‬
‫المصرى الٌوم‪ ،‬وٌإسفنى أنك ذكرت فٌه معلومة مؽلوطة هى أن‬
‫عبدالناصر دفن اإلخوان المسلمٌن أحٌاء فى سنة ‪ ،1967‬هذا أوال ؼٌر‬
‫صحٌح‪ ،‬لكن األهم من ذلك أن نشره سوؾ ٌستعدى الناصرٌٌن‪ ،‬ونحن ال‬
‫نرٌد استعداء أى فرٌق سٌاسى‪ ،‬بٌنما نعمل على تجمٌع الكل حول أهداؾ‬
‫الجمعٌة»‪ ،‬طمؤننى الدكتور البرادعى أنه سٌراعى ذلك فى المستقبل‪.‬‬
‫فى الٌوم التالى نزل البرادعى إلى الشارع ألول مرة لٌصلى الجمعة‪ ،‬وبعد‬
‫أن طاؾ بشارع المعز توجه للصالة فى مسجد الحسٌن‪ ،‬كنا نظن ٌومها أن‬
‫احتكاكه بالناس سٌدفعه للنزول إلى الشارع واللقاء بالجماهٌر‪ ،‬إال أن‬
‫استقباله فى الحسٌن لم ٌثمر سوى عن افتتاحه لحسابه الشهٌر على‬
‫«توٌتر»‪ ،‬وكنا قد الحظنا قبل ذلك أنه وجه شكره للشباب الذٌن استقبلوه‬
‫فى المطار من خالل رسالة فى «فٌس بوك»‪ ،‬أما عندما أعلن عن‬
‫حضوره مإتمر «الحملة الشعبٌة لدعم البرادعى» فى ‪ 17‬دٌسمبر ‪،2010‬‬
‫فقد ؼاب عن المإتمر‪ ،‬وفسر ؼٌابه بمرض والدته‪ ،‬وألقى كلمة فى‬
‫المإتمر عن طرٌق الموباٌل‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫التواصل باإلنترنت‬
‫منذ الٌوم األول كان البرادعى ٌتحدث إلى الناس عن بعد‪ ،‬وكان ؼرامه‬
‫بشبكة اإلنترنت واضحا‪ ،‬وكانت هى وسٌلته األولى لالتصال بمإٌدٌه بل‬
‫وبؤقرب معاونٌه أٌضا‪ ،‬وعندما أبلؽناه اندهاشنا لسفره بعد أٌام من استقباله‬
‫الحماسى فى المطار كان رده جاهزا‪« :‬اإلنترنت ألؽت المسافات»‪ ،‬وكان‬
‫ٌكرر هذا الرد كلما سافر‪.‬‬
‫أما أثناء وجوده فى القاهرة فكان برنامجه مزدحما بلقاءات وفود من‬
‫مختلؾ الطوابؾ‪ ،‬ومن الشباب خاصة‪ ،‬لكنه لم ٌعقد مإتمرا جماهٌرٌا‬
‫واحدا‪ ،‬لم أستطع وقتها أن أجزم بالسبب فى ذلك‪ ،‬هل ألنه ٌنفر من‬
‫الجماهٌر‪ ،‬أم ألنه ٌخشاها‪ ،‬أم ألنه ٌحتقرها؟ لم أكن قرٌبا منه بالقدر الذى‬
‫ٌمكننى من التعرؾ على ما فى داخله‪.‬‬
‫سندوتش فول‬
‫كنا كثٌرا ما نتندر فٌما بٌننا وقتبذ بقصة سابق المستشار الخضٌرى الذى‬
‫كان ٌتؤفؾ إذا ما علم أنه سٌقل المستشار من اإلسكندرٌة إلى القاهرة لٌقابل‬
‫الدكتور البرادعى‪ ،‬شاكٌا أنه عندما ٌذهب إلى هناك فهو عادة ما ٌحتاج‬
‫إلى واسطة للحصول على كوب من الشاى‪.‬‬
‫ولكننا ونحن نتندر على ما فى األمر من طرافة كنا نعرؾ داللته‪ ،‬وهى أن‬
‫الدكتور البرادعى ومن حوله لم ٌنجحوا فى التواصل اإلنسانى مع من‬
‫ٌترددون علٌهم‪ ،‬بل إننا نحن المسبولٌن فى الجمعٌة‪ ،‬الذٌن سمتنا الصحؾ‬
‫«أمناء سر البرادعى» أو «حكومة الظل»‪ ،‬لم ٌعرض علٌنا مرة إذا ما‬
‫تؤخر اجتماعنا لدٌه فى المساء أن نتناول سندوتش فول أو نذهب إلى مطعم‬
‫قرٌب نتناول فٌه عشاءنا معا‪ ،‬لم نجد فى طباعه أى لمسة شرقٌة‪.‬‬
‫األهم من سندوتش الفول أن ال أحد منا كان ٌستطٌع أن ٌتصل بالبرادعى‬
‫مباشرة‪ ،‬فقد احتفظ برقم هاتفه سرا على الجمٌع‪ ،‬وكان الطرٌق الوحٌد‬
‫لالتصال محصورا فى شقٌقه على البرادعى الذى ٌالزمه كظله‪ ،‬نقول له‬
‫ما نقول وننتظر الرد أٌضا من خالله‪ ،‬أما إذا كان هناك أمر عاجل فال‬

‫‪66‬‬
‫سبٌل إلبالؼه سوى من خالل البرٌد اإللكترونى‪ ،‬وكنا نكظم ؼٌظنا؛ آملٌن‬
‫مع مرور األٌام أنه سوؾ ٌدرك أن هذا األسلوب ال ٌلٌق مع القامات التى‬
‫التفت حوله‪.‬‬
‫أزمة المبعدين‬
‫األزمة الحقٌقٌة التى واجهت الجمعٌة كانت قد وقعت ٌوم ‪ 8‬أبرٌل عندما‬
‫أبعدت الكوٌت ‪ 26‬مصرٌا كانوا فى طرٌقهم كعادتهم كل أسبوع إلى مقهى‬
‫للتشاور فٌما ٌمكنهم عمله للحصول على حقهم فى التصوٌت فى انتخابات‬
‫بالدهم‪ ،‬وهو الحق الذى دعت إلٌه «الجمعٌة الوطنٌة للتؽٌٌر» ضمن‬
‫مطالبها السبعة‪.‬‬
‫معظم هإالء تم اعتقالهم فى الٌوم السابق للموعد‪ ،‬والبعض اعتقلوا من‬
‫أماكن عملهم‪ ،‬وسٌقوا مقٌدٌن باألؼالل أمام زمالبهم كؤنهم مجرمون فى‬
‫حوادث جنابٌة‪ ،‬وآخرون اختطفوا‪ ،‬وهم فى طرٌقهم إلى المقهى‪ ،‬واحتجز‬
‫عدد آخر ألنه تصادؾ وجودهم لمجرد الفرجة بعد أن بات الجمٌع لٌلة لدى‬
‫أمن الدولة تعرضوا فٌها لتحقٌقات مضنٌة حول صلتهم بالدكتور‬
‫البرادعى‪ ،‬بدأت السلطات الكوٌتٌة فى ترحٌلهم فى الٌوم التالى دون أن‬
‫ٌقدموا للمحاكمة‪.‬‬
‫كنت على صلة بواحد من هإالء المرحلٌن فاتصلت بى عابلته تبلؽنى‬
‫الخبر‪ ،‬فنقلناه للدكتور البرادعى‪ ،‬ولكننا كنا نعرؾ أن تعلٌقه سٌؤتٌنا متؤخرا‬
‫خاصة أنه كان فى إجازة فى منتجع بالبحر األحمر طالت بضعة أٌام‬
‫بمناسبة شم النسٌم‪.‬‬
‫اتصلت بالدكتور حسن نافعة واتفقنا على إصدار بٌان عاجل نستنكر فٌه‬
‫الحادث‪ ،‬وعلى االتصال بالسفٌر الكوٌتى بالقاهرة‪ ،‬وعلى إخطار المحامى‬
‫عصام سلطان المسبول عن لجنة مساندة األعضاء‪ ،‬وأخذنا فى إبالغ‬
‫منظمات حقوق اإلنسان المصرٌة والكوٌتٌة والعربٌة بالخبر فى سعى‬
‫لٌعامل المرحلون معاملة حسنة إذا لم نستطع إٌقاؾ ترحلٌهم من الكوٌت‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫صؽت البٌان واتفقت على نصه مع حسن نافعة وأرسلته للصحؾ‪،‬‬
‫وأرسلت النص إلى على البرادعى‪ ،‬فإذا به ٌرد برسالة ٌطلب منى فٌها‬
‫إٌقاؾ توزٌع البٌان أو سحبه إذا ما كنت قد أصدرته‪ ،‬وأضاؾ أنه قد «تم‬
‫االتفاق على أن الدكتور البرادعى هو وحده المخول بإصدار بٌانات باسم‬
‫الجمعٌة»‪ ،‬ثم نقل لى نص رسالة الدكتور البرادعى‪ ،‬باإلنجلٌزٌة كالعادة‪،‬‬
‫ترجمة رسالته تقول‪« :‬هذا البٌان ٌمكن أن ٌصدر بصفة شخصٌة‪ ،‬على‬
‫لسان شخص أو مجموعة أشخاص‪ ،‬ولكن لٌس باسم الجمعٌة‪ ،‬إننا ال‬
‫نعرؾ القانون الكوٌتى‪ ،‬وال نرٌد أن ندخل فى نزاع مع الحكومة الكوٌتٌة‬
‫أو حكومات عربٌة أخرى‪ ،‬نحن ال نعرؾ كل الحقابق‪ ،‬كما أن الجمعٌة‬
‫التى تمثل جمٌع المصرٌٌن ٌجب أن ٌقتصر حدٌثها على مطالبها السبعة‬
‫المتفق علٌها‪ ،‬أما باقى األمور فٌجب التعبٌر عنها فى تصرٌحات خاصة‬
‫كما أفعل أنا فى توٌتر‪ ،‬وهذا الموضوع بالذات ٌخص الحكومة المصرٌة‬
‫حتى اآلن ‪.‬‬
‫كذب‬
‫صدمتنى الرسالة ألسباب عدة؛ أولها أن الدكتور البرادعى لم ٌكلؾ نفسه‬
‫االتصال بى أو بؤى من الزمالء الستٌضاح األمر ومناقشة التصدى له‪.‬‬
‫السبب اآلخر هو أن الرسالة فٌها كذب ال وصؾ آخر له ؼٌر الكذب؛ إذ‬
‫إننا لم نتفق من قبل على أن إصدار بٌانات الجمعٌة مقصور على البرادعى‬
‫وحده‪ ،‬ثم إن ما فاجؤنى أٌضا كان معالجة الموضوع بؤسلوب المنظمات‬
‫الدولٌة البٌروقراطى‪ ،‬وخذالن أنصارنا‪.‬‬
‫أرسلت الرد‪ ،‬وكان نصه‪« :‬األخ األستاذ على البرادعى‪ ،‬أبلؽتنى فى‬
‫رسالتك أن الدكتور البرادعى هو المخول وحده بإصدار البٌانات باسم‬
‫الجمعٌة كما هو متفق علٌه‪ ،‬وبالرؼم من أننى لم أبلػ باتفاق كهذا فإن‬
‫الرسالة على هذا النحو تلؽى مسبولٌة اللجنة اإلعالمٌة أو المتحدث‬
‫اإلعالمى‪ ،‬وهكذا فإننى أطلب منك إبالغ الدكتور البرادعى والزمالء‬
‫المسبولٌن عن بقٌة اللجان أننى أعفٌت نفسى من أى عمل إعالمى ٌتعلق‬
‫بالجمعٌة التى سؤظل وفٌا ألهدافها السبعة من أجل التؽٌٌر‪ ،‬تمنٌاتى‪».‬‬

‫‪68‬‬
‫مع الجنزورى‬
‫كنت وقتها على صلة بالدكتور كمال الجنزورى ربٌس الوزراء األسبق‪،‬‬
‫كان قد اتصل بى عندما أذٌع حدٌثى مع عمرو اللٌثى لٌهنبنى على الحدٌث‪،‬‬
‫وكان هذا أول اتصال بٌننا‪ ،‬قال إنه ٌود أن ٌرانى‪ ،‬فذهبت إلٌه فى مكتبه‬
‫الخاص الذى لم ٌكن ٌبعد عن بٌتى كثٌرا فى مصر الجدٌدة‪ ،‬وبعدها أخذت‬
‫أتردد علٌه بانتظام‪.‬‬
‫كان شدٌد االنتقاد للحلقة المحٌطة بمبارك‪ ،‬وقاربا جٌدا للمقاالت السٌاسٌة‪،‬‬
‫وفى أكثر من مرة طلب منى أرقام تلٌفونات الكتاب المعارضٌن لٌبلؽهم‬
‫إعجابه بما كتبوه أو لٌناقشهم فٌه‪ ،‬وحمالنى رسابل إلى البعض منهم‪،‬‬
‫وعندما أسسنا الجمعٌة الوطنٌة للتؽٌٌر حاولت أن أحثه على إصدار بٌان‬
‫ٌعلن فٌه معارضته للحكم‪ ،‬ولكنه آثر الترٌث حتى ال ٌرتبط ذلك بعودة‬
‫البرادعى‪ ،‬الذى لم ٌكن متحمسا له حماسه للجمعٌة‪ ،‬كان شدٌد االنتقاد‬
‫لؽٌاب البرادعى المتكرر عن مصر‪ ،‬وكان دابما ما ٌطلب منى أن نضؽط‬
‫علٌه حتى ٌعود‪.‬‬
‫مقر لإليجار‬
‫ٌبست مجموعتنا من الحدٌث عن حضور البرادعى وؼٌابه‪ ،‬اإال أننا عندما‬
‫اجتمعنا فى ‪ 9‬ماٌو ناقشنا أمرا آخر كنا قد بحثناه من قبل‪ ،‬هو البحث عن‬
‫مقر للجمعٌة ٌجرى فٌه البرادعى لقاءاته‪ ،‬ونعقد فٌه اجتماعاتنا‪.‬‬
‫وكنا قد حدثنا البرادعى من قبل فى ذلك‪ ،‬متسابلٌن عما إذا كان مكتب والده‬
‫للمحاماة فى وسط البلد ٌمكن أن ٌصلح للؽرض‪ ،‬لكنه قال إن المكتب شؤن‬
‫العابلة ال شؤنه‪ ،‬فطلبنا من جورج إسحق أن ٌوظؾ اتصاالته للبحث عن‬
‫مكتب نستؤجره‪.‬‬
‫بلؽنا جورج فى اجتماعنا هذا أن هناك عدة مكاتب متاحة‪ ،‬وأن إٌجارها‬
‫ٌتراوح بٌن ثالثة آالؾ وخمسة آالؾ جنٌه شهرٌا‪ ،‬فقررنا أن نسهم جمٌعا‬
‫فى سداد اإلٌجار‪ ،‬لكننى سؤلت‪ :‬وهل سٌسهم معنا الدكتور البرادعى هو‬
‫اآلخر؟ جاءت اإلجابة من أحدنا‪« :‬الدكتور البرادعى قال إنه لن ٌسهم فى‬

‫‪69‬‬
‫استبجار مكتب»‪ ،‬قلت‪« :‬وأنا لن أساهم اإال إذا دفع هو نصٌبا مماثال‬
‫ألنصبتنا جمٌعا ‪.‬‬
‫كان التواصل بٌن البرادعى وبٌن قٌادات الجمعٌة قد أصبح محدودا للؽاٌة‪،‬‬
‫وبدا واضحا أٌضا أنه ال ٌثق كثٌرا فى الجمعٌة الوطنٌة للتؽٌٌر‪ ،‬وربما‬
‫كان هذا هو السبب فى ذهابه لزٌارة اإلخوان المسلمٌن فى مقر كتلتهم‬
‫البرلمانٌة فى المنٌل‪ ،‬وما دفع اإلخوان لٌعلنوا حشد كل قواهم لجمع‬
‫التوقٌعات على بٌان األهداؾ السبعة‪.‬‬
‫بشائر يناير‬
‫عندما أتى ٌناٌر ذهبت ألول مرة‪ ،‬بعد سنوات الؽربة‪ ،‬إلى ضرٌح‬
‫عبدالناصر لنحتفل بذكرى مولده ٌوم ‪ ،15‬ونلتقى الناصرٌٌن القادمٌن من‬
‫األقالٌم‪ ،‬كان همنا ٌومها أن نحشد القوى الوطنٌة خلؾ الدعوة التى كانت‬
‫الجمعٌة الوطنٌة للتؽٌٌر قد أطلقتها فى الٌوم السابق لتشكٌل حكومة إنقاذ‬
‫وطنى لفترة انتقالٌة‪.‬‬
‫ٌوم ‪ٌ 22‬ناٌر جاء شباب الجمعٌة الوطنٌة للتؽٌٌر ٌعرضون على قٌادتها‬
‫خطة التحرك فى ‪ٌ 25‬ناٌر التى حددتها قوى الشباب بحركاتها المختلفة‪،‬‬
‫وكانت تقوم على أساس االنطالق من مناطق القاهرة األكثر فقرا مثل‬
‫بوالق وإمبابة وناهٌا وشبرا متجهة إلى مٌدان التحرٌر‪ ،‬فإذا لم ٌكن‬
‫التحرك كبٌرا بالقدر المؤمول ٌتحول إلى اعتصام فى مٌدان مصطفى‬
‫محمود‪ ،‬وفى عواصم المحافظات كانت الخطة تقضى بتوجه المظاهرات‬
‫للتجمع فى مٌادٌنها الكبرى‪ ،‬وفى الٌوم التالى اجتمعنا فى الجمعٌة الوطنٌة‬
‫للتؽٌٌر‪ ،‬حٌث دعونا إلى أن تكون وقفتنا ٌوم ‪ 25‬أمام مكتب النابب العام‬
‫مع البرلمان الشعبى‪ ،‬فى هذا االجتماع قال عصام العرٌان إن الجماعة‬
‫ستقصر مشاركتها فى الوقفة على بعض رموزها فقط‪ ،‬لكنها لن تمنع من‬
‫ٌرٌد النزول من شبابها‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫مطلوب أمنيا‬
‫اتصل بى لٌلتها شقٌقى عاصم‪ ،‬وهو ضابط شرطة سابق‪ٌ ،‬حذرنى من أن‬
‫الشرطة تتحٌن ظهورى فى أى مظاهرة بالشارع العتقالى بعد الخطاب‬
‫الحاد الذى كنت قد ألقٌته قبل أسابٌع فى نقابة الصحفٌٌن احتفاال بحصول‬
‫عالء األسوانى على جابزة «اإلنجاز العلمى» من جامعة إلٌنوى‬
‫األمرٌكٌة‪.‬‬
‫لكن القوى الوطنٌة كانت قد قررت النزول على الرؼم من اإلنذار الذى‬
‫وجهته لنا وزارة الداخلٌة بضرورة الحصول على تصارٌح للتظاهر‪،‬‬
‫‪24‬‬ ‫وكان اللواء إسماعٌل الشاعر مساعد وزٌر الداخلٌة قد صرح ٌوم‬
‫أٌضا بؤن «الوزٌر أصدر توجٌهات باعتقال من ٌخرجون على الشرعٌة‪».‬‬
‫وأنا فى طرٌقى إلى دار القضاء العالى كنت أعتقد على الرؼم من ثقتى‬
‫بإحكام التخطٌط للمظاهرات‪ ،‬أنها سوؾ تجبر النظام على إقالة وزٌر‬
‫الداخلٌة‪ ،‬وربما تقدٌمه للمحاكمة بتهمة التعذٌب‪ ،‬وسوؾ تتجاوب مع بعض‬
‫المطالب الشعبٌة مثل تحدٌد الحد األدنى لألجور مثال‪ ،‬وعندها نلتقط‬
‫أنفاسنا‪ ،‬ونعاود التجهٌز لخطوة أخرى‪ ،‬لكننى لم أستبعد قط أن ٌضطر‬
‫مبارك إلى إقالة الوزارة‪ ،‬وتشكٌل حكومة إنقاذ لتسد بعض أبواب الؽضب‪.‬‬
‫فى الثانٌة عشرة كان عددنا قد بلػ األلؾ تقرٌبا أمام دار القضاء العالى‪،‬‬
‫لكننى لم أشاهد من قٌادات اإلخوان أحدا سوى محمد البلتاجى‪ ،‬فى حٌن‬
‫كانت قوات الشرطة التى تحٌط بنا وتلك الرابضة فى لورٌات األمن‬
‫المركزى تزٌد على عدة آالؾ‪.‬‬
‫متظاهرة من مدريد‬
‫فوجبت بشقٌقتى مآثر تشق طرٌقها نحونا فحاولت أن أثنٌها عن البقاء‪،‬‬
‫ولكنها قالت إنها وصلت من مدرٌد فى اللٌلة السابقة لتشهد هذه اللحظة‪،‬‬
‫تمكنت بعد حوالى نصؾ الساعة أن أقنعها بالذهاب‪ ،‬وأن أجد ضابطا شابا‬
‫سمح لها بالخروج خرقا للتعلٌمات التى كانت تقضى بحصار الوقفة ومنع‬

‫‪71‬‬
‫الدخول إلٌها أو الخروج منها‪ ،‬وعندما ركبت سٌارتها عدت ثانٌة حٌث‬
‫كان الخطباء ٌصعدون إلى الساللم لٌلقوا خطبهم النارٌة واحدا بعد آخر‪.‬‬
‫قصة األٌام الثمانٌة عشر المجٌدة بعدبذ أصبحت معروفة للكل‪ ،‬ال أدعى‬
‫أنه كان لى فٌها دور ٌذكر إلى جانب دور المالٌٌن الذٌن حققوا الحلم‪،‬‬
‫كانت الطلٌعة ٌومها للشباب والضحاٌا كانوا فى صفوفهم‪.‬‬
‫عندما قرأت صحؾ الصباح فى الٌوم التالى‪ٌ 26 ،‬ناٌر‪ ،‬لم أفاجؤ بنشرها‬
‫تصرٌحا لجورج إسحق قال فٌه‪« :‬هللا ٌحرق البرادعى‪ ..‬ال نرٌد معرفة أى‬
‫شىء عنه»‪ ،‬كان ٌشٌر إلى ؼٌاب الدكتور البرادعى عن ٌوم اندالع‬
‫‪ٌ 8‬ولٌو‬ ‫الثورة‪ ،‬ؼاب البرادعى بعد ذلك عن جمعة «الثورة أوال» فى‬
‫‪ ،2011‬وتخلؾ أٌضا عن االحتفال بالذكرى األولى لثورة ٌناٌر فى‬
‫‪ ،2012‬وكان قد أعلن قبل ذلك بؤٌام انسحابه من انتخابات الرباسة‪.‬‬
‫عندما فوجا البرادعى باإلحباط الذى حدث للشباب‪ ،‬وبانقالب بعضهم‬
‫علٌه‪ ،‬حاول أن ٌحتوى الموقؾ بالدعوة إلى تؤسٌس كٌان هالمى سماه‬
‫حزب الدستور ‪.‬‬

‫لماذا حزب الدستور؟‬


‫كتبت عندبذ مقاال بعنوان «لماذا حزب الدستور؟»‪ ،‬وتساءلت‪ :‬لماذا كل‬
‫هذا الجهد لقٌام حزب جدٌد‪ ،‬وهناك حزب ٌرفع الشعارات نفسها مثل‬
‫الحزب المصرى الدٌمقراطى االجتماعى؟ لماذا لم ٌندمج «الدستور» فى‬
‫أى حزب آخر ٌتفق معه فى األهداؾ بدال من عناء قٌام حزب جدٌد؟ لكن‬
‫األحزاب «المدنٌة» لم تتحالؾ فى تكتل سمى «جبهة اإلنقاذ» اإال كرد فعل‬
‫على قٌام الدكتور مرسى‪ ،‬الربٌس عندبذ‪ ،‬بإصدار إعالنه الدستورى فى‬
‫‪ 21‬نوفمبر ‪ 2012‬وعندما علمت أن البرادعى سوؾ ٌتصدر قٌادتها لم‬
‫أستبشر كثٌرا بالخبر‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫خائن‪ ..‬متردد‪ ..‬كاذب‬
‫مرت األٌام‪ ،‬وبعد ‪ٌ 30‬ونٌو عادت الجبهة فعلقت علٌه آمالها‪ ،‬وأعلنت مع‬
‫تنسٌقٌة ‪ٌ 30‬ونٌو أنهما ٌفوضان الرجل متحدثا باسمهما مع القوات‬
‫المسلحة‪ ،‬وانتهى التفاوض إلى تعٌٌن البرادعى ناببا للربٌس فى ‪ٌ 9‬ونٌو‬
‫‪14‬‬ ‫‪ ،2013‬ولكنه خان األمانة التى علقها علٌه أنصاره‪ ،‬واستقال فى‬
‫أؼسطس احتجاجا على فض اعتصامات مإٌدى مرسى بالقوة‪ ،‬لم أجد فى‬
‫ذلك جدٌدا؛ إذ كٌؾ ٌنجح البرادعى فى إدارة شبون الدولة وهو الذى لم‬
‫ٌنجح فى إدارة شبون حزبه؟ وعندما كتبت ٌومها أقول إن البرادعى‪ ،‬كما‬
‫عرفته‪ ،‬متردد‪ ،‬كاذب‪ ،‬أنانى‪ ،‬ال ٌتحمل مسبولٌة‪ ،‬ال ٌقبل رأٌا آخر‪،‬‬
‫البرادعى لٌس منا‪ ،‬لم أكن أقول ٌومها شٌبا جدٌدا‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫عندما انتهى سباق االنتخابات الرباسٌة عام ‪ 2012‬باإلعادة بٌن الدكتور‬
‫محمد مرسى والفرٌق أحمد شفٌق‪ ،‬اختصرت مقالً فً «المصري الٌوم»‬
‫فً عدة سطور كانت بمثابة بٌان عنوانه «نداء إلى قوى الثورة»‪ ،‬قلت فٌه‬
‫إن االنتظار لن ٌطول بنا ألربع سنوات‪ ،‬سٌتفجر السخط الشعبً ؼدا أو‬
‫بعد ؼد أٌا ما كان الفابز هذه المرة‪».‬‬
‫أجرٌت الجولة الثانٌة لالنتخابات الرباسٌة ٌومً ‪ 16‬و ‪ٌ 17‬ونٌو ‪،2012‬‬
‫وفى مساء ٌوم ‪ 21‬جاءتنً مكالمة من د‪ .‬محمد البلتاجى ٌدعونً مع‬
‫آخرٌن لالجتماع مع مرسى لمناقشة الموقؾ بعد الجولة الثانٌة‪ ،‬ولم تكن‬
‫نتٌجة الجولة قد ظهرت بعد‪.‬‬
‫موقؾ المجلس العسكري كان وقتها ؼامضا تماما‪ ،‬كل ما كنا نعلمه أنه‬
‫على صلة مستمرة مع الفرٌق شفٌق‪ ،‬لكنه كان قد فتح قناة لالتصال مع‬
‫اإلخوان أٌضا من خالل الدعوة السلفٌة وحزب النور‪.‬‬
‫السلفيون والجيش‬
‫كان السلفٌون ٌطبخون شٌبا مع المجلس العسكري فً تلك األٌام السابقة‬
‫على الجولة الثانٌة لالنتخابات‪ ،‬لكن هذه الطبخة لم تنكشؾ سوى بعد‬
‫االنتخابات بشهور‪ ،‬عندما صرح الشٌخ ٌاسر برهامً فً نوفمبر ‪2013‬‬
‫أن المجلس كانت لدٌه مخاوؾ من سٌطرة اإلخوان على الحكم إذا فاز‬
‫مرشحهم فً االنتخابات‪ ،‬فاتفق مع السلفٌٌن على أن ٌطلبوا من اإلخوان‬
‫تقدٌم مبادرة تتضمن توجٌه رسالة تطمٌن قوٌة لجمٌع مإسسات الدولة‬
‫وجمٌع أطٌافها‪ ،‬والحرص على دعم الدولة الحدٌثة‪ ،‬وتقدٌم تعهدات من‬
‫قبل الربٌس القادم تضمن تحقٌق االستقرار داخل الوطن‪ ،‬وعدم تصفٌة‬
‫مإسسات الدولة بدعوى مواجهة الفساد‪ ،‬ولكن من خالل إعادة هٌكلتها‬
‫بشكل تدرٌجى ٌضمن استقرار كٌان هذه المإسسات (الشرطة‪ ،‬القضاء‪،‬‬
‫المخابرات‪ ،‬المحافظٌن‪ ،‬والمحلٌات)‪ ،‬وإعادة النظر فى تشكٌل الجمعٌة‬
‫التؤسٌسٌة لكتابة الدستور‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫لو كان المجلس العسكري قد أفصح عن نواٌاه عندبذ‪ ،‬أو كان حزب النور‬
‫قد اتصل بالقوى المدنٌة لكانوا قد شكلوا قوة ضاؼطة ال ٌمكن بحال‬
‫تجاهلها‪ ،‬خاصة أن عددا من القٌادات السٌاسٌة البارزة كان قد أعلن عن‬
‫مبادراته‪.‬‬
‫مع اإلخوان‪ ..‬مباشرة‬
‫ذهبنا مباشرة إلى اإلخوان المسلمٌن الذٌن تتركز المخاوؾ من احتمال‬
‫لجوبهم إلـى العنؾ إذا ما فاز شفٌق‪ ،‬وذهبنا إلٌهم فً العلن وبسرعة‪ ،‬هكذا‬
‫قررت أن المؽامرة تستحق‪ ،‬خاصة أن ضررها ٌقع علًا وحدى‪ ،‬ولم‬
‫أزعم إننً أمثل أحدا‪ ،‬مضٌت فً طرٌقً إلى فندق «فٌرمونت‪».‬‬
‫عندما دخلت قاعة االجتماع وجدت عبدالؽفار شكر هناك‪ ،‬ثم دخل‬
‫عبدالجلٌل مصطفى وبعده حسن نافعة وسكٌنة فإاد وعبدالخالق فاروق‬
‫الذٌن كانوا فً اجتماع التٌار الثالث أٌضا‪ ،‬وشارك فً االجتماع كذلك د‪.‬‬
‫عمار على حسن ود‪ .‬محمد السعٌد إدرٌس ود‪ .‬هبة رءوؾ والنابب سعد‬
‫عبود ود‪ .‬رباب المهدى وأٌمن الصٌاد ووابل قندٌل ومحمد الصاوي ود‪.‬‬
‫سٌؾ عبدالفتاح‪ ،‬أما شباب الثورة فكان هناك منهم وابل ؼنٌم وشادي‬
‫الؽزالً حرب ووابل خلٌل ومحمد القصاص وإسالم لطفى وطارق الخولً‬
‫وأحمد إمام ومصطفى شوقً‪ .‬وعالء األسوانً جاء متؤخرا‪ ،‬وقال ما عنده‬
‫فً دقابق‪ ،‬ثم ؼادر الرتباطات أخرى ولم ٌحضر ثانٌة‪.‬‬
‫أتٌح لً أن أكون أول من تحدث فى االجتماع‪ ،‬كررت مخاوفً مما إذا‬
‫كان اإلخوان المسلمون ٌحشدون الناس فى العلن لرفض قرارات المجلس‬
‫العسكرى وإعالناته الدستورٌة فى الوقت الذى ٌجرون فٌه االتصاالت‬
‫كعادتهم مع المجلس فى الخفاء‪.‬‬
‫وأعاد الكل على مسامع الدكتور مرسى كل ما ٌزعجهم بال تزوٌق وال‬
‫مجاملة‪ ،‬بعدها انتقلنا إلى صلب ما ذهبنا من أجله‪ٌ ،‬ا د‪.‬مرسى‪ ،‬إذا شاءت‬
‫لجنة االنتخابات الرباسٌة أن تكون الرباسة لشفٌق فنحن هنا معكم لكى‬
‫نحول دون أن ٌنزلق البلد إلى شفا هاوٌة‪ ،‬وإذا كانت الرباسة من نصٌبكم‬
‫فلن ٌمكنكم البقاء فى الحكم بتؤٌٌد اإلخوان وحدهم‪ ،‬الشعب له مطالب علٌكم‬
‫‪75‬‬
‫أن تلبوها‪ ،‬إن تعهدتم بتلبٌتها أمام الشعب فسنساندكم‪ ،‬بل ونصطؾ معكم‬
‫فى جبهة واحدة‪ ،‬وإن حدتم عنها كان هذا فراقا بٌننا وبٌنكم‪ ،‬طال النقاش‬
‫بٌننا حتى الرابعة فجرا‪.‬‬
‫تعهدات مرسى‬
‫فً مإتمرنا الصحفً الشهٌر ٌوم الجمعة ‪ٌ 22‬ونٌو‪ ،‬أى قبل إعالن النتٌجة‬
‫بعدة أٌام‪ ،‬كررنا نحن ثباتنا على موقفنا‪ ،‬وقلت فى كلمتى إننا نرفض‬
‫الهٌمنة باسم الدٌن أو االستبداد باسم العسكر وإننا نتسامح فٌما مضى من‬
‫أخطاء‪ ،‬وتعهد محمد مرسى بما تعهد به أمام الناس جمٌعا‪ ،‬دولة‬
‫دٌمقراطٌة مدنٌة‪ ،‬كفالة الحرٌات‪ ،‬ضمان حقوق المواطنة‪ ،‬نواب ربٌس من‬
‫األقباط والشباب والنساء مسبولون عن ملفات محددة‪ ،‬ربٌس حكومة‬
‫مستقل‪ ،‬حكومة ؼالبٌة وزرابها من ؼٌر اإلخوان‪ ،‬وجمعٌة تؤسٌسٌة‬
‫للدستور تمثل أطٌاؾ الشعب‪.‬‬
‫شـكلت من‬ ‫فى الٌوم التالى لما سمته الصحافة «إعالن فٌرمونت» ُ‬
‫المجتمعٌن جبهة سمت نفسها «الجبهة الوطنٌة الستكمال الثورة» ضمت‬
‫أٌضا عددا محدودا من قٌادات اإلخوان‪ ،‬كان من أنشطهم البلتاجى وخالد‬
‫حنفى (أمٌن حزب الحرٌة والعدالة فى القاهرة فٌما بعد)‪ ،‬وعلى الرؼم من‬
‫أننى لم أحضر االجتماع التؤسٌسى للجبهة فقد تم اختٌارى منسق للجنتها‬
‫اإلعالمٌة‪ ،‬لكننى لم أتو َل فعلٌا هذه المسبولٌة‪.‬‬
‫حضرت اجتماعٌن للجبهة‪ ،‬علمت منهما أن الدكتور سٌؾ عبدالفتاح اختٌر‬
‫منسقا لها‪ ،‬وأن الجبهة أخذت فى إرسال ترشٌحاتها للمناصب الكبرى إلى‬
‫الربٌس‪ ،‬وأن أعضاءها اتفقوا على اأال ٌتولوا أى مناصب فى اإلدارة‬
‫الجدٌدة للدولة‪ ،‬وإن كان االستثناء الوحٌد لهذا القرار هو ترشٌح د‪.‬‬
‫عبدالجلٌل مصطفى ربٌسا للوزراء (رفض د‪ .‬عبدالجلٌل الترشٌح كعادته‬
‫فى االعتذار عن أى منصب تنفٌذى منذ قٌام الثورة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وجها لوجه‬
‫فى ٌوم ‪ٌ 14‬ولٌو بدأ الربٌس مقابالته التى سمٌت «مشاورات حول‬
‫المشهد السٌاسى الراهن» باجتماعٌن؛ كان أولهما مع السفٌر محمد رفاعة‬
‫الطهطاوى الذى سمى فٌما بعد ربٌسا للدٌوان‪ ،‬والثانى معى‪ ،‬كان انطباعى‬
‫عنه بعد اجتماعنا المضنى فى «فٌرمونت» أنه رجل طٌب على الرؼم من‬
‫أنه كان ٌحاول اإلفالت من االلتزام ببند أو آخر من بنود االتفاق‪.‬‬
‫بادرنى الرجل بترحٌب دافا‪ ،‬وعندما جلسنا دخل فى الموضوع مباشرة‪:‬‬
‫«كٌؾ ترى األوضاع؟»‪ ،‬قلت‪ٌ« :‬ا سٌادة الربٌس‪ ،‬كٌؾ لى أن أدلى برأى‬
‫صابب وأنا ال أعرؾ بدقة ما ٌدور حولك فى الكوالٌس؟‪».‬‬
‫تحدثت عن الوضع بقدر ما فهمته‪ ،‬وفصلت بعض الشىء فٌما تداولته‬
‫جبهتنا فى اجتماعاتها‪ ،‬وفى أننا نبعث برإٌتنا بانتظام إلى الرباسة‪ ،‬لكن ما‬
‫رجوناه من تشاور ٌبدو وكؤنه اتصال من جانب واحد‪ ،‬بدا على الربٌس‬
‫االنزعاج‪ ،‬وطلب من الدكتور ٌاسر على‪ ،‬الذى كان حاضرا الجلسة‪ ،‬أن‬
‫ٌذ ِّكره باألمر فٌما بعد‪.‬‬
‫أضفت‪« :‬موضوع إعادة تشكٌل الجمعٌة التؤسٌسٌة للدستور بحٌث تكون‬
‫أكثر توازنا لم ٌحدث فٌه أى تطور‪ ،‬وممثلو الحرٌة والعدالة فى الجمعٌة لم‬
‫ٌنبس واحد منهم بكلمة تشٌر إلى ما اتفقنا علٌه‪».‬‬
‫قال الربٌس‪« :‬سنعمل على ذلك»‪ ،‬وأتبع بكلمات امتنان وهو ٌتذكر اللٌلة‬
‫التى توصلنا فٌها إلى االتفاق فى «فٌرمونت»‪ ،‬سؤلت‪« :‬وهل تسمح لك‬
‫القوى التى خلؾ الستار بتنفٌذه؟»‪ ،‬بدأ الدكتور مرسى حدٌثا مستفٌضا‬
‫فهمت من مجمله أن الرجل مدرك لتعقٌدات الموقؾ‪ ،‬وأنه الٌزال ٌتحسس‬
‫أقدامه فى حقل األلؽام الشابك‪ ،‬ولكنه على استعداد لمؽامرة محسوبة‪،‬‬
‫كلمنى أحٌانا بالرمز‪ ،‬وكثٌرا بصرٌح العبارة عن عالقاته المتشابكة مع‬
‫المجلس العسكرى «الذى ٌحتاج إلًا وأحتاج إلٌه»‪ ،‬ومع القضاء‪ ،‬ومع‬
‫اإلعالم‪ ،‬وحتى مع الشرطة‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫كان ٌرى أن عالقته بالشرطة سوؾ تسوى‪ ،‬خاصة بعد االجتماعات‬
‫المتتالٌة التى عقدها مع رجالها‪ ،‬لكنه عندما تحدث عن اإلعالم كانت‬
‫كلماته تنطق بخٌبة أمل واضحة‪ ،‬قلت‪« :‬نحن اإلعالمٌٌن نشكو أٌضا‪ ،‬لكن‬
‫الكل مع ذلك مإمن بؤمرٌن أساسٌٌن‪ :‬ضمانات الحرٌة‪ ،‬واستقالل اإلعالم‬
‫الرسمى عن الحكومة»‪ ،‬قال الربٌس‪« :‬وأنا اآلخر‪ ،‬وأإكد لك أنه ال ٌمكن‬
‫أن تحدث مذبحة لإلعالم فى عهدى‪».‬‬
‫انتقل بنا الحدٌث من بعد إلى التعرض بإٌجاز ألوضاع المإسسات‬
‫اإلعالمٌة‪ ،‬قلت إننى معترض منذ زمن على وجود وزارة لإلعالم‪،‬‬
‫واقتراحى أن تكون لإلعالم وزارة دولة لنعطى إشارة إلى أنه لٌس فى نٌتنا‬
‫اإلبقاء علٌها إال لمهمة قصٌرة محددة هى إعادة هٌكلة أجهزة اإلعالم‪،‬‬
‫عندما طرحت بعض األسماء المرشحة للوزارة‪ ،‬أدركت من تعلٌقه أن‬
‫المجلس العسكرى قد تكون له كلمته فى االختٌار‪ ،‬وربما لوزارات السٌادة‬
‫جمٌعا‪.‬‬
‫عاد بنا الحدٌث إلى الوضع العام‪ ،‬قلت‪« :‬ربما تندهش ٌا سٌادة الربٌس إذا‬
‫ما اقترحت علٌك التهدبة مع المجلس العسكرى لبعض الوقت‪ ،‬نعم‪ ،‬نحن ال‬
‫نقبل دولة برأسٌن‪ ،‬لكننى مع ذلك‪ ،‬أرى الترٌث قلٌال‪ ،‬وأذهب فى القول‬
‫إلى حد مطالبتك بؤال تصؽى لفترة إلى صٌاح المٌادٌن حتى لو تصدرتها‬
‫أصوات اإلخوان‪ ،‬الناس تود أن تلتقط أنفاسها وتنعم باستقرار ٌتٌح‬
‫لالقتصاد أن ٌنتعش بعد االستقطاب الحاد الذى خلافته االنتخابات الرباسٌة‪،‬‬
‫لكن واجبك األخالقى العاجل هو العفو عن المعتقلٌن والمحاكمٌن عسكرٌا‪،‬‬
‫وؼٌر ذلك مقدور علٌه‪».‬‬
‫قاطعنى الربٌس‪« :‬وهذا سٌبدأ مع رمضان‪ ،‬وربما قبله»‪ ،‬استطردت‪:‬‬
‫«وعندما تضطر إلى حسم األمور األخرى فٌجب أن ُتحسم فى حزمة‬
‫واحدة‪ ،‬وأن ٌتم ذلك بعد تشكٌل حكومة وطنٌة قوٌة تساندك فى مواجهة‬
‫التبعات»‪ ،‬كنت أقصد العالقة مع المجلس العسكرى‪ ،‬ولكننى أوجزت‪،‬‬
‫خاصة وأننى الحظت أن مرسى ٌتكلم بحساب خشٌة آالت التنصت كما‬
‫كنت أتصور‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫أكد الدكتور مرسى أن الحكومة ستتم تسمٌة ربٌسها خالل أٌام‪ ،‬وأن اختٌار‬
‫الوزراء متروك لربٌس الحكومة‪ ،‬وإن كان هو معنٌا باألمر بالطبع‪،‬‬
‫شجعنى هذا على تذكٌره بكفاءات مرموقة‪ ،‬خاصة ممن ٌمكن أن تسقط‬
‫أسماإهم من الذاكرة بسبب إقامتهم فى الخارج‪ ،‬مثل الدكتور هانى عازر‬
‫الذى صمم وأشرؾ على إنشاء محطة سكك حدٌد برلٌن‪ ،‬وهى أكبر‬
‫محطات قطارات فى أوروبا‪ ،‬وحصلت على جابزة أفضل محطة فى‬
‫العالم‪.‬‬
‫توقفت أٌضا عند اسم الدكتور محمد البرادعى‪ ،‬وقلت إنه إن كانت هناك‬
‫عوامل فى رأٌى تحول دون تولٌه منصبا دابما‪ ،‬فمن الممكن مع ذلك أن‬
‫ٌكون ممثال شخصٌا لك فى بعض المهام الدولٌة‪ ،‬وتوقفت أكثر عند اسم‬
‫عمرو موسى‪ ،‬وقلت‪« :‬لٌته ٌكون قرٌبا منك فى موقع ٌلٌق به‪ ،‬ولٌته‬
‫ٌقبل»‪ ،‬امتدح الدكتور مرسى بحرارة موقؾ موسى بعد خسارته‬
‫االنتخابات‪ ،‬وقال إنه رجل دولة بحق‪.‬‬

‫كان هذا الصمت ٌقلقنا كثٌرا فى الجبهة مما دعانا إلى إصدار تصرٌح‬
‫صحفى طالبنا فٌه الربٌس بتنفٌذ تعهداته قبل رمضان‪ ،‬أى فى خالل‬
‫األسبوعٌن التالٌٌن‪.‬‬
‫حكومة قنديل‬
‫وفى ٌوم ‪ٌ 28‬ولٌو‪ ،‬وبعد أن كلؾ هشام قندٌل بتشكٌل الحكومة‪،‬‬
‫اضطررنا للخروج إلى العلن‪ ،‬فعقدنا مإتمرا صحفٌا فى ساقٌة الصاوى‪،‬‬
‫أعلنا فٌه استٌاءنا خاصة من تكلٌؾ ربٌس حكومة ٌفتقر إلى المعاٌٌر التى‬
‫تم االتفاق علٌها‪ ،‬ومن الؽموض الذى ٌلؾ قصر الرباسة فٌما ٌتعلق‬
‫بتشكٌل الفرٌق الرباسى‪ ،‬استؤنا كذلك من ؼٌاب الشفافٌة بٌن الربٌس‬
‫والشعب‪ ،‬ومن انعدام التشاور مع الجبهة‪ ،‬ومن تجاهل تعدٌل تشكٌل اللجنة‬
‫التؤسٌسٌة للدستور‪ ،‬وطالبنا الربٌس بتصحٌح المسار‪ ،‬أى إننا عدنا مرة‬
‫أخرى ننادى بما نادٌنا به قبل شهر فى اجتماعنا فى «فٌرمونت‪».‬‬

‫‪79‬‬
‫بعد تولى مرسى الحكم بخمسة أسابٌع‪ ،‬نشرت مقاال كان عنوانه «أنعى‬
‫إلٌكم الشراكة مع الرباسة»‪ ،‬وجاء ضمن ما جاء فٌه‪..‬‬
‫«إن لم ٌكن قد بلػ الربٌس صدى تشكٌل حكومة قندٌل‪ ،‬فقد بلؽنا نحن‪،‬‬
‫بلؽنا فى انتقادات حادة حمالتنا كشركاء مسبولٌة االختٌار‪ ،‬ومسبولٌة خداع‬
‫الرأى العام الذى أوحٌنا إلٌه باتفاقنا مع الدكتور مرسى أن األمور ستسٌر‬
‫على نحو أفضل ‪.‬‬
‫الٌوم‪ ،‬بعد تشكٌل الحكومة على النحو الذى شكلت به‪ ،‬وبعد النكوص عن‬
‫التعهدات التى أعلنت ضمن اتفاق الشراكة فى «فٌرمونت»‪ ،‬فإننا ال‬
‫نستطٌع تحمل مسبولٌة هذه الشراكة‪ ،‬بل إنها فى واقع االمر لم تعد قابمة‪».‬‬
‫فى خالل ذلك حضرت اجتماعٌن من تلك االجتماعات التى كان مرسى‬
‫ٌعقدها مع الشخصٌات السٌاسٌة والثقافٌة‪ ،‬اكتشفت بعدهما أن هدؾ هذه‬
‫االجتماعات هو الفضفضة ونشر الصور‪.‬‬
‫وعلى الرؼم من أنه كان ٌبدو كما لو كان ٌنصت لمن ٌتكلم باهتمام بالػ‬
‫وٌكتب مالحظاته كطالب مجتهد‪ ،‬فإننى الحظت أنه كان منتشٌا بكرسٌه فى‬
‫الصدارة‪ ،‬تماما كطفل حصل على لعبة جدٌدة لم ٌحصل علٌها أى من‬
‫رفاقه‪ ،‬والحظت كذلك أنه أكثر حرصا على أن ٌإم المجتمعٌن فى صالة‬
‫العصر بعد كل اجتماع من حرصه على تنفٌذ اقتراحاتهم‪ ،‬وهكذا اعتذرت‬
‫عن االجتماع الثالث‪ ،‬وأبلؽت أمٌن الرباسة أن هذه االجتماعات بال جدول‬
‫أعمال وأنه ال جدوى منها‪.‬‬
‫بدأت فى الوقت نفسه أدلى بتصرٌحات أو أكتب فى «توٌتر» عبارات‬
‫أكثر حدة‪ ،‬مثل «ٌصعب الثقة فى أن مرسى سٌكون حاكما دٌمقراطٌا»‪،‬‬
‫«الربٌس أعلن عن أرقام لم ٌلمسها المصرٌون»‪«،‬ما ٌفعله اإلخوان لم‬
‫ٌجرإ علٌه حزب مبارك»‪ٌ« ،‬ا دكتور مرسى وضح لنا عالقتك بصدٌقك‬
‫العظٌم بٌرٌز»‪ ،‬إلى أن جاءت مظاهرات «جمعة الحساب» فى مٌدان‬
‫التحرٌر ٌوم ‪ 12‬أكتوبر‪ ،‬وهى التى خرجت فٌها القوى المدنٌة تحاسب‬
‫الربٌس على وعود مابة الٌوم‪ ،‬وتعترض على سٌاسات الحكم خاصة فٌما‬

‫‪80‬‬
‫ٌتعلق بوضع الدستور‪ ،‬وزاد من االحتقان ٌومها مهرجان البراءة لكل‬
‫المتهمٌن فى موقعة الجمل‪.‬‬
‫فجؤة اقتحم اإلخوان المٌدان‪ ،‬واعتدوا على المتظاهرٌن من القوى الثورٌة‪،‬‬
‫وحطموا المنصة‪ ،‬فطالبت اإلخوان باالنسحاب على الفور من التحرٌر‪ ،‬ثم‬
‫كتبت «ننتظر اعتذار اإلخوان عن حماقة ٌوم الجمعة‪ ،‬ننتظر بال أمل»‪،‬‬
‫‪ 22‬أكتوبر كان عنوانه‬ ‫وبعد أٌام نشرت مقاال فى المصرى الٌوم فى‬
‫أعلن اعتذارى عن مساندة الربٌس ‪.‬‬
‫العشاء األخير‬
‫دعوت أعضاء الجبهة بعدها بؤٌام على عشاء فى مطعم «القاهرة ‪ »40‬فى‬
‫الزمالك فحضر معظمهم‪ ،‬ولم ٌحضر من الجماعة اإال النابب السابق خالد‬
‫حنفى‪ ،‬وقلت ٌومها إننى أردت أن ٌكون لقاإنا هذا ودٌا ألننى على ٌقٌن‬
‫أنه سٌكون العشاء األخٌر‪ ،‬وقلت أٌضا إن الجبهة لٌس لها أى ثقل فى‬
‫المعترك السٌاسى‪ ،‬وأخذت أعدد ما آلت إلٌه مطالب «فٌرمونت» من‬
‫ضٌاع‪ ،‬وأإكد أننا لم نستطع ولن نستطٌع أن نفرض على الربٌس شٌبا‪ .‬فى‬
‫النهاٌة قلت إنه ال ٌمكن لى أن أواصل االنتساب إلى الجبهة اإال لو اعتذر‬
‫اإلخوان المسلمون عن أحداث جمعة الحساب‪ ،‬فوعد خالد حنفى بطرح‬
‫األمر على قٌادتهم‪ ،‬ولكننى كنت أعرؾ النتٌجة مسبقا‪ ،‬هكذا انفض لقاإنا‬
‫والكل مدرك أننا لن نلتقى ثانٌة فى إطار جبهة تؤكدنا أنها مجرد وهم‪ ،‬ولم‬
‫نلتق بالفعل‪.‬‬
‫ِ‬
‫هجوم من كل جانب‬
‫فى ذلك الوقت دعا حمدٌن صباحى إلى مإتمر جماهٌرى كبٌر فى مٌدان‬
‫عابدٌن ٌعلن فٌه تؤسٌس «التٌار الشعبى‪».‬‬
‫ألقٌت كلمة فى المإتمر دعوت فٌها أعضاء التٌار للعمل على حصد أؼلبٌة‬
‫فى البرلمان القادم تمكننا من الحفاظ على الهوٌة المصرٌة وبناء دولة‬
‫المواطنة والحداثة‪ ،‬وقوبلت الكلمة بحماس من اآلالؾ التى شاركت فى‬
‫المإتمر‪ ،‬اإال أنه عند خروجى من السرادق التفت لى واحد من الشباب‬

‫‪81‬‬
‫الذٌن ٌنظمون المإتمر صابحا‪ :‬وكانت فٌن دولة الحداثة دى لما رحت‬
‫لمرسى؟ ‪.‬‬
‫لم ٌكن هناك مجال وسط تدافع الجمهور كى أقول شٌبا‪ ،‬وعندما اتجهت‬
‫لسٌارتى التى لم تكن تبعد أكثر من مابة متر استوقفنى فى الطرٌق عدة‬
‫مرات عدد من الشباب أرادوا أن ٌناقشوا إعالن «فٌرمونت»‪ ،‬وكان‬
‫أحدهم ٌتكلم بطرٌقة فظة فى حٌن كان اآلخرون ؼاضبٌن تماما‪ ،‬حتى إن‬
‫السفٌر ٌاسر مراد الذى كان ٌصحبنى انفعل ألنهم تحدثوا إلى خاله على‬
‫هذا النحو‪ ،‬كانت هذه أول مرة أظهر فٌها بٌن الجماهٌر‪ ،‬وكانت تجربة‬
‫مرٌرة ترددت بعدها فى الذهاب إلى مٌدان التحرٌر أكثر من مرة‪.‬‬
‫عندما مررت بالتجربة المُرة األخرى فى مإتمر التٌار الشعبى تضاعؾ‬
‫إحباطى‪ ،‬وزاد من الؽم أن صحتى أخذت فى التدهور‪ ،‬واستمر الحال على‬
‫هذا النحو حتى اآلن‪ .‬وحرمنى ذلك من المشاركة فى العمل العام كما‬
‫اعتدت من قبل‪ ،‬كما زهدت الظهور فى برامج التلٌفزٌون‪.‬‬
‫ثم جاءت نكبتى فى مرسى وعهوده‪ ،‬التى انتهت بؤننى أعلنت لمن وثق بى‬
‫ٌوم إعالن «فٌرمونت» اعتذارى عن مساندة الربٌس‪ ،‬جاء هذا االعتذار‬
‫بعد أربعة أشهر تماما‪ ،‬نالنى خاللها ما نالنى من أذى من كل جانب‪ ،‬من‬
‫أنصار شفٌق‪ ،‬ومن أنصار اإلخوان‪.‬‬
‫أما أنصار الثورة فكانوا عاتبٌن علًا أشد العتب‪ ،‬إذ كٌؾ أذهب إلى‬
‫اإلخوان على الرؼم من دراٌتى بؤسالٌبهم؟ وكان هناك أٌضا المؽرضون‬
‫الذٌن صمموا على أننى أنا الذى دعوتهم النتخاب مرسى قبل جولة‬
‫االنتخابات الرباسٌة‪ ،‬واستمر هذا األذى ٌالحقنى حتى اآلن‪ ،‬وخاصة من‬
‫الكتابب اإللكترونٌة لإلخوان التى أدهشتنى سفالة الكثٌر من رسابلها‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫جزاء وفاقا‬
‫ربما كنت تحت وطؤة ضؽط نفسى عندما نشرت اعتذارى‪ ،‬لكن األٌام لو‬
‫عادت بى مرة أخرى إلى تلك اللحظة‪ ،‬بظروفها ذاتها‪ ،‬لما اعتذرت‪ ،‬لقد‬
‫حاولت أن أصل إلى تعهد من اإلخوان ٌضمن استقرار البلد وثباته على‬
‫طبٌعته المدنٌة كما حاول المجلس العسكرى‪ ،‬وحاول البرادعى‪ ،‬وحاول‬
‫السلفٌون‪ ،‬وحاول الكفراوى مع عمرو موسى‪ ،‬وحاول صباحى‪ ،‬وحاولت‬
‫كل القوى السٌاسٌة التى طرحت «وثٌقة العهد‪».‬‬
‫لكننى كنت الوحٌد الذى اعترفت بالفشل فى مسعاه ودفع الثمن ؼالٌا‪ ،‬وكان‬
‫هذا ٌكفى‪ ،‬ولم أجد فٌه ما ٌعٌب‪ ،‬العٌب أن نستمر فى خداع أنفسنا‪ ،‬ومن ثم‬
‫فى خداع الناس‪ ،‬لم نكن نحن الذٌن أخطؤنا‪ ،‬مرسى هو الذى أخطؤ فى حق‬
‫الشعب؛ ولذلك استحق الجزاء‪ ،‬أما نحن‪ ،‬فمهما كان تقٌٌم الناس لما فعلناه‪،‬‬
‫ومهما كانت ردود أفعالهم‪ ،‬فلن ٌثنٌنا شىء عن مواصلة المسٌرة لتحقٌق‬
‫أهداؾ ثورة ‪ٌ 25‬ناٌر التى استكملت فى ‪ٌ 30‬ونٌو‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فى أحد أٌام مارس ‪ ،2011‬تلقٌت مكالمة من مكتب اللواء عبدالفتاح‬
‫السٌسى عضو المجلس العسكرى ومدٌر المخابرات الحربٌة حددت لى‬
‫موعدا لمقابلته‪.‬‬
‫ٌومها عبرت الشارع إلى مبنى المخابرات المواجه لبٌتى‪ ،‬فوجدته فى‬
‫انتظارى أعلى السلم المإدى لمكتبه‪ ،‬كانت هذه أول مرة ألتقى فٌها واحدا‬
‫من أعضاء المجلس الذى كنا نعتبره حٌنبذ حامى الثورة‪ ،‬وكان انطباعى‬
‫األول عندما رأٌت الرجل أنه متواضع‪ ،‬دمث الخلق‪ ،‬خفٌض الصوت‪.‬‬
‫استؽرق لقاإنا نحو ثالث ساعات‪ ،‬دار فٌها الحدٌث حول المجلس‬
‫العسكرى واستٌابه قبل الثورة من األوضاع التى كانت قابمة‪ ،‬ومما كان‬
‫ٌدور من حدٌث حول التورٌث‪ ،‬وقال إنه على الرؼم من ذلك كله لم ٌفكر‬
‫المجلس لحظة فى االنقالب على الحكم «ألن االنقالب ؼٌر وارد فى عقٌدة‬
‫القوات المسلحة»‪ ،‬وأخذ ٌذكرنى بؤنه عندما حانت الفرصة بادر الجٌش‬
‫‪ٌ 31‬ناٌر إن‬ ‫بإعالن موقفه عن طرٌق المتحدث باسمه عندما قال فى‬
‫«القوات المسلحة لن تستخدم القوة ضد المحتجٌن‪ ،‬وأن حرٌة التعبٌر‬
‫مكفولة لكل المواطنٌن الذٌن ٌستخدمون الوسابل السلمٌة»‪ ،‬وبما اتخذته‬
‫القوات المسلحة من إجراءات بعد ذلك‪.‬‬
‫تحدثنا كثٌرا عن األوضاع القابمة‪ ،‬وقال إنه ٌود أن ٌعقد اجتماعات‬
‫أسبوعٌة مصؽرة مع بعض الشخصٌات المرتبطة بالثورة لٌجرى معها‬
‫نقاشا حول المستقبل‪ ،‬وطلب منى مقترحات فى هذا األمر‪ ،‬كان حدٌث‬
‫الرجل ٌوحى بؤنه ٌمسك من الخٌوط قدرا أكبر مما كنت أظن‪ ،‬وبؤنه‬
‫ٌستطٌع ترتٌب أفكاره جٌدا‪.‬‬
‫فى النهاٌة قال إن المشٌر ٌثق بى كثٌرا‪ ،‬وٌرٌد منى أن أقدم برنامجا ٌومٌا‬
‫فى التلٌفزٌون‪ ،‬رحبت‪ ،‬وسؤلت‪« :‬متى؟»‪ ..‬قال‪ٌ« :‬رٌدك أن تبدأ ؼدا»‪،‬‬
‫استمهلته ٌومٌن أرتب فٌهما أفكارى وأجرى اتصاالتى‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫العودة إلى التليفزيون‬
‫َحضارت مذكرة بحاجٌات التحرٌر واإلنتاج فى صفحة واحدة‪ ،‬وذهبت بها‬
‫فى الٌوم التالى إلى المخابرات‪ ،‬ولما لم أجد اللواء السٌسى سلمتها لمساعده‬
‫اللواء عباس كامل قبل أن أتوجه إلى المنصورة للمشاركة فى المإتمر‬
‫الذى نظمه الدكتور محمد ؼنٌم للدعوة للتصوٌت بال فى االستفتاء على‬
‫التعدٌالت الدستورٌة‪.‬‬
‫عدت بعد هذه الزٌارة حانقا على المجلس العسكرى الذى ٌخطو لتسلٌم‬
‫البالد إلى اإلخوان‪ ،‬لكننى وجدت أن األمانة مع المشٌر ومع اللواء السٌسى‬
‫تقتضى منى االعتذار عن تقدٌم البرنامج‪.‬‬
‫كان الدكتور سامى الشرٌؾ فى ذلك الوقت ٌرأس اتحاد اإلذاعة‬
‫والتلٌفزٌون‪ ،‬وهو أستاذ بارز فى اإلعالم‪ ،‬وإن لم تكن لدٌه خبرة عملٌة‬
‫كافٌة‪ ،‬وكان قد القى مصاعب جمة لم تمكنه من تحقٌق إنجاز ملموس‪.‬‬
‫وٌبدو أنه رأى أن أسرع وسٌلة ٌحس بها الجمهور العام أن التلٌفزٌون قد‬
‫التحق بركب الثورة هو أن ٌجرى تعدٌال جذرٌا على برنامج التلٌفزٌون‬
‫اإلخبارى الربٌسى «مصر النهارده»‪ ،‬أو استبداله ببرنامج آخر تقدمه‬
‫وجوه ارتبطت بـ ‪ٌ 25‬ناٌر‪ ،‬وهكذا اتصلت بى شركة «صوت القاهرة»‬
‫التابعة لالتحاد بعد شهر من لقابى باللواء السٌسى‪ ،‬واقترحت علًا تقدٌم‬
‫برنامج جدٌد‪.‬‬
‫أخذت أ ُ َقلِّبُ طوٌال فى االمر‪ ،‬وأخٌرا قررت أن أستكشؾ سقؾ الحرٌة‬
‫المتاح‪ ،‬فؤخذنا فى اإلعداد للبرنامج عدة أسابٌع‪ ،‬واتفقنا على تقدٌمه باسم‬
‫«قلم رصاص»‪ ،‬واخترت الطاقم المعاون‪ ،‬وتم تصمٌم وتسجٌل العناوٌن‪،‬‬
‫وجاء للقابى فى «صوت القاهرة» الدكتور الشرٌؾ واألستاذة نهال كمال‬
‫التى كانت ربٌسة التلٌفزٌون عندبذ؛ لٌطمبنا أن األمور تسٌر على ما ٌرام‪.‬‬
‫الحق أن اللواء سعد عباس ربٌس الشركة ٌَس َار لى كل إمكاناتها‪ ،‬وأحاطنى‬
‫بكثٌر من الود‪ ،‬ولكنه عندما اقترب الموعد المحدد إلطالق البرنامج فى‬

‫‪85‬‬
‫ماٌو ‪ 2011‬كنت قد أصبحت أقل ثقة فى قدرة المجلس العسكرى على‬
‫إدارة البالد‪ ،‬وفى مدى تحمله لحرٌة التعبٌر فى تلٌفزٌون الدولة الرسمى‪.‬‬
‫وكانت الصحؾ عندبذ تحمل لى كل ٌوم خبرا ٌفٌد بؤن هناك معارضة‬
‫شدٌدة بٌن العاملٌن فى ماسبٌرو لتقدٌمى برنامجا فٌه؛ بدعوى أن الفرصة‬
‫ٌجب أن تتاح ألبناء التلٌفزٌون الذٌن لم ٌعتبرونى واحدا منهم‪.‬‬
‫ووصل األمر بتشكٌل سمى نفسه «ثوار ماسبٌرو» حد االعتصام‬
‫احتجاجا‪ ،‬بل وقدم «الثوار» بالؼا إلى النابب العام ضد المذٌعة هالة فهمى‬
‫ألنها تجاسرت ونادت باالستعانة بى‪.‬‬
‫لم ٌؽضبنى ذلك كله‪ ،‬ولكننى رثٌت لحال هإالء الذٌن لم ٌعوا أننى كنت‬
‫أصعد إلى مكتبى فى ماسبٌرو على السقاالت فى عام ‪ ،1960‬قبل أن ٌبدأ‬
‫التلٌفزٌون إرساله بشهور‪ ،‬ومع ذلك كنت أتفهم طموحات الشباب الذٌن‬
‫ٌقدمون البرامج‪ ،‬بل وكنت أقدر عددا من الموهوبٌن منهم الذٌن بذلوا بعد‬
‫الثورة جهدا أعلم أنه شاق‪ ،‬لٌبثوا الحٌاة فى التلٌفزٌون الذى حنطه عهد‬
‫مبارك‪.‬‬
‫أوقفت تقدٌم برنامج «صوت القاهرة»‪ ،‬اإال أننى ال أزال أذكر مقاال لألستاذ‬
‫عبدالرحمن فهمى‪ ،‬فى جرٌدة «الجمهورٌة» قال فٌه إن الثورة تؤكل‬
‫رجالها‪ ،‬وكذلك مقاال لألستاذة منال الشٌن فى جرٌدة «الفجر»‪ ،‬شككت فٌه‬
‫فى أهداؾ «ثوار ماسبٌرو» وفى رؼبتهم فى االستبثار بما ٌقال عن كعكة‬
‫المال داخل المبنى المفلس‪ ،‬كما أذكر أٌضا نداء الشاعر جمال بخٌت‬
‫بٌومى لى اأال أترك ماسبٌرو للبوم والؽربان وأعداء النجاح‪ ،‬وأذكر قبل‬
‫ذلك وبعده مواقؾ العدٌد من الزمالء فى ماسبٌرو الذٌن تصدوا ألصحاب‬
‫األصوات الزاعقة‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫وجها لوجه مع شفيق‬
‫اكتفٌت فى تلك الشهور األولى التى تلت قٌام الثورة بالظهور فى بعض‬
‫برامج التلٌفزٌون‪ ،‬مثلما فعلت فى المناقشة الشهٌرة مع الفرٌق أحمد شفٌق‬
‫عندما دعتنى » ‪ « ON TV‬مع الدكتور عالء األسوانى ضٌوفا على ٌسرى‬
‫فودة ورٌم ماجد بحضور نجٌب ساوٌرس‪ ،‬كان ساوٌرس ٌومها ٌخشى أن‬
‫أكون عنٌفا مع الفرٌق شفٌق‪ ،‬لكن األسوانى خدعه وهاجم شفٌق بضراوة‬
‫فى حٌن كنت أكثر برودا مما كان ٌظن‪.‬‬
‫حافظت على هدوبى لسببٌن؛ أولهما أن أوازن انقضاض األسوانى الساحق‬
‫على الفرٌق شفٌق‪ ،‬أما السبب الثانى فلم ٌكن ٌعلم به أحد؛ إذ إننى كنت قد‬
‫قابلت شفٌق فى مكتبه بعد أن كلؾ بتشكٌل الوزارة‪ ،‬وصارحته بكل‬
‫مالحظاتى‪.‬‬
‫كان قد تؤكد ٌومها أن الدكتور ٌحٌى الجمل مرشح لمنصب نابب ربٌس‬
‫الوزراء‪ ،‬فتشاورت فى األمر مع الدكتور عبدالجلٌل مصطفى وقررنا‬
‫الذهاب إلٌه لحثه على رفض المنصب؛ ألننا كنا نرى أن أعضاء الجمعٌة‬
‫الوطنٌة للتؽٌٌر‪ ،‬التى كان الدكتور الجمل واحدا من قٌاداتها‪ٌ ،‬جب اأال‬
‫ٌتعاونوا مع حكومة شفٌق التى عٌنها مبارك‪.‬‬

‫ذهبنا إلى الدكتور الجمل فوجدناه جالسا مع الدكتور أحمد البرعى‪ ،‬جاء‬
‫الدكتور البرعى لٌبلؽه أنه مرشح لتولى إحدى الوزارات‪ ،‬وأن زوج ابنته‬
‫الدكتور هانى سرى الدٌن مرشح لوزارة أخرى‪ ،‬وأنه ٌرى أن هذا ال ٌلٌق؛‬
‫لذلك فهو ٌفضل االنسحاب‪ ،‬وٌرٌد أن ٌسمع رأى الدكتور الجمل فى األمر‪.‬‬
‫بعد أن انصرؾ الدكتور البرعى أبلؽنا الدكتور الجمل رسالتنا بوضوح‪،‬‬
‫فقال إنه عازؾ عن المشاركة فى الوزارة خاصة أن صحته ال تسمح‬
‫بذلك‪ ،‬ولكنه محرج أمام إصرار الفرٌق شفٌق الذى زاره فى مكتبه فى‬
‫الٌوم السابق‪ ،‬ولم ٌنصرؾ اإال بعد أن أخذ منه وعدا بالموافقة‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫خرجت إلى ؼرفة مجاورة قابلت فٌها ابنته الدكتورة مها‪ ،‬المحامٌة هى‬
‫األخرى؛ لتعٌننا فى مسعانا لدى والدها‪ ،‬فقالت إنها أبلؽته رفضها لمشاركته‬
‫فى وزارة شفٌق لكنه لم ٌستجب‪ ،‬فاتصلت بواحد من أقرب أصدقابه‪،‬‬
‫المهندس حسب هللا الكفراوى‪ ،‬الذى رد قابال‪« :‬قلت له امبارح بالش فى‬
‫آخر أٌامنا نؽلط‪ ،‬لكن الظاهر مفٌش فاٌدة‪».‬‬
‫عاودت مع الدكتور عبدالجلٌل الضؽط حتى اتجه لى الدكتور الجمل وقال‪:‬‬
‫«أنت تعرؾ الفرٌق شفٌق جٌدا‪ ،‬لماذا ال تذهب إلٌه‪ ،‬وتشرح له حالتى‬
‫الصحٌة‪ ،‬وتطلب منه أن ٌعفٌنى من وعدى له؟‪».‬‬
‫اتصلت بمكتب الفرٌق شفٌق وطلبت تحدٌد موعد ألمر عاجل‪ ،‬وعدت إلى‬
‫البٌت ظنا منى أن الموعد سوؾ ٌحدد بعد عدة ساعات على أفضل تقدٌر‪،‬‬
‫لكننى تلقٌت مكالمة من مراسم رباسة الوزارة وأنا فى طرٌقى‪ ،‬أبلؽونى‬
‫فٌها أن الموعد بعد ساعة‪ ،‬فعدت من حٌث أتٌت‪.‬‬
‫دخلت مجلس الوزراء فؤخذ الصحفٌون ٌسؤلوننى إذا ما كنت سؤقبل منصب‬
‫وزٌر اإلعالم وأنا الذى طالبت مرات بإلؽاء الوزارة‪ ،‬وسؤلنى أحدهم‪ :‬ما‬
‫أول إجراء سؤتخذه عندما أتولى المنصب؟ وهنؤنى بعض أمناء الرباسة‬
‫وتمنوا لى التوفٌق‪ ،‬وبالطبع لم ٌصدق أحد من هإالء أننى جبت ألمر آخر‬
‫فى الوقت الذى ٌتقاطر فٌه على المجلس المرشحون للمناصب الوزارٌة‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫كنت أعرؾ الفرٌق شفٌق منذ زمن‪ ،‬وكان بٌننا ود وتقدٌر متبادل‪ ،‬قلت له‬
‫عند دخولى إلٌه‪« :‬أنت تعلم جٌدا أننى سؤكون صرٌحا وأمٌنا معك‪ ،‬تعلم‬
‫كم أقدرك‪ ،‬وأرى أنك واحد من أفضل من ٌمكنهم تولى مثل هذا المنصب‪،‬‬
‫لكن ذلك كان فى الماضى‪ ،‬اآلن‪ ،‬شبت أم أبٌت‪ ،‬أنت محسوب على‬
‫مبارك‪ ،‬وزمن مبارك قد ولى‪ ،‬وسوؾ نظل نطارد رموزه‪ ،‬وال أرٌد لك‬
‫أن تتحمل ما سوؾ تتحمله؛ لذلك أنصحك ٌا سٌادة الفرٌق باالستقالة مهما‬
‫كان الحرج فى ذلك‪ ،‬سوؾ تواجه ما تؤباه على نفسك إذا ما بقٌت فى هذا‬
‫الكرسى»‪ ،‬صمت شفٌق قلٌال‪ ،‬وشكرنى على إخالصى معه‪ ،‬وقال فى‬

‫‪88‬‬
‫النهاٌة ما خالصته إنه كجندى ال ٌمكنه االنسحاب من المعركة‪ ،‬وإننى‬
‫متشابم أكثر مما ٌجب‪.‬‬
‫قلت‪« :‬على أى حال لم ٌكن فى نٌتى أن أكدر علٌك ٌومك بالحدٌث عن‬
‫هذا األمر على اإلطالق‪ ،‬والحقٌقة أننى قدمت إلٌك فى أمر آخر ٌتعلق‬
‫بالدكتور ٌحٌى الجمل‪».‬‬
‫أسهبت فى الحدٌث عن العملٌة الجراحٌة التى أجرٌت له قبل أسابٌع‪ ،‬وعن‬
‫األمراض التى ٌعانى منها‪ ،‬ورجوته اأال ٌضؽط علٌه كثٌرا بٌنما هو فى‬
‫فترة النقاهة‪.‬‬
‫كان الدكتور الجمل حٌنبذ فى قاعة االستقبال ٌنتظر موعده المحدد سلفا مع‬
‫الفرٌق شفٌق‪ ،‬وكان لقابى بالفرٌق قد تعدى المدة المقررة له بنحو ثلث‬
‫الساعة‪ ،‬وعندما خرج لٌودعنى‪ ،‬وجدت الدكتور الجمل ٌنتظر الدخول‪.‬‬
‫همس ٌسؤلنى‪« :‬قلت له كل حاجة؟»‪ ،‬قلت‪« :‬وأكتر‪».‬‬
‫بقٌة الحكاٌة قالها لى الدكتور الجمل فٌما بعد‪ ،‬تحدد موعد حلؾ الٌمٌن فى‬
‫الٌوم التالى‪ ،‬وعندما حاول االعتذار مرة أخرى اصطحبه الفرٌق شفٌق فى‬
‫سٌارته‪ ،‬وقال‪« :‬تعا َل معى اآلن‪ ،‬وبلػ المشٌر اعتذارك بنفسك‪».‬‬
‫بالطبع لم ٌكن هناك مجال لالعتذار‪ ،‬شكلت الحكومة‪ ،‬وعٌن الدكتور‬
‫الجمل ناببا لربٌس الوزراء‪ ،‬وعانى الفرٌق شفٌق ما عانى‪ ،‬حتى كان‬
‫لقاإنا فى ‪ ON TV‬الذى استقال فى الٌوم التالى له‪ ،‬وعٌن الدكتور عصام‬
‫شرؾ ربٌسا للوزراء‪.‬‬

‫عصام شرف‬
‫كنت على اتصال دابم مع الدكتور شرؾ منذ ترك وزارة النقل فى عهد‬
‫مبارك‪ ،‬وقتها كنت أقدم برنامجى فى دبى‪ ،‬وأردت أن أستضٌفه فى إحدى‬
‫حلقاته بعد أن فاز بإحدى الجوابز الدولٌة المرموقة‪ ،‬لكنه اعتذر عندما‬

‫‪89‬‬
‫أبلؽته أننى سوؾ أسؤله أٌضا عن خروجه من الوزارة‪ ،‬ومع ذلك حرصنا‬
‫على التواصل‪.‬‬
‫صدمت عندما كلؾ بتشكٌل الوزارة ألن خبرته لم تكن تإهله لهذه‬
‫المسبولٌة؛ وألن هناك من هو أقرب منه إلى الثورة وأقدر‪.‬‬
‫صحٌح أنه كان من الوزراء السابقٌن القالبل الذٌن ظهروا فى مٌدان‬
‫التحرٌر‪ ،‬لكنه لم ٌتؤكد لى أنه قاد‪ ،‬كما كان ٌقال‪ ،‬مظاهرة أساتذة جامعة‬
‫القاهرة التى سارت إلى مٌدان التحرٌر فى األٌام األولى للثورة‪ ،‬بل إن‬
‫بعضا من رموز حركة ‪ 9‬مارس أبلؽونى أنهم ال ٌعرفون إذا ما كان قد‬
‫شارك فى المظاهرة أم ال‪ ،‬واألرجح أن ترشٌحه للحكومة بدأ بورقة سربها‬
‫إلى مٌدان التحرٌر اللواء حسن الروٌنى قابد المنطقة المركزٌة وعضو‬
‫المجلس العسكرى ضمت ثالثة أسماء ٌرشح المٌدان واحدا منهم لرباسة‬
‫الوزارة‪.‬‬
‫على الرؼم من ذلك كنت أعرؾ أن الدكتور شرؾ شخصٌة نقٌة وجادة‪،‬‬
‫وإن لم ٌكن حازما بما فٌه الكفاٌة‪.‬‬
‫أٌدته آمال أن ٌوفق‪ ،‬وأعلنت بعد عدة أشهر من تولٌه المنصب مساندتى له‬
‫وتحفظى فى الوقت نفسه فى مقال كان عنوانه «نعم لعصام شرؾ‬
‫بشرط»‪ ،‬ولكننى بعد شهور أخرى طلبت منه أن ٌستقٌل عندما كان هناك‬
‫اتجاه قوى لتطبٌق العزل السٌاسى على أعضاء لجنة سٌاسات الحزب‬
‫الوطنى‪ ،‬وكان شرؾ عضوا فى هذه اللجنة‪.‬‬
‫وقد عطل تنفٌذ العزل عندبذ السإال الذى كان ٌدور فى الكوالٌس‪« :‬ونعمل‬
‫إٌه فى موضوع عصام شرؾ؟»‪ ،‬هكذا كان اقتراحى أن ٌرفض هو‬
‫االستثناء وٌستقٌل‪ ،‬ولكنه لم ٌفعل‪ ،‬وفى النهاٌة اضطر إلى تقدٌم استقالته‬
‫فى ‪ 21‬نوفمبر ‪.2011‬‬

‫‪90‬‬
‫فى عزاء خالد عبدالناصر‬
‫عندما ذهبت إلى عزاء الصدٌق خالد عبدالناصر‪ ،‬وعلى الرؼم من حدة‬
‫أسلوبى فى انتقاد المجلس العسكرى والحكومة‪ ،‬فإن اللواء إسماعٌل عتمان‬
‫مدٌر إدارة الشبون المعنوٌة وعضو المجلس العسكرى جاءنى لٌقول‪ٌ« :‬ا‬
‫أستاذ حمدى‪ ،‬سٌادة المشٌر عاوزك تطلع تقدم برنامج فى التلٌفزٌون‪ ،‬أنت‬
‫تعلم كم ٌقدرك»‪ ،‬قلت إننى آسؾ لعدم تلبٌة دعوته للمرة الثانٌة‪ ،‬ولكننى ال‬
‫أملك من أمرى شٌبا ألننى تعاقدت باألمس فقط مع قناة «التحرٌر»‪ ،‬ولٌس‬
‫هناك من حل كما أعتقد اإال أن ٌتفق التلٌفزٌون مع القناة على بث البرنامج‬
‫فى وقت واحد‪ ،‬فوعدنى بؤن ٌرى كٌؾ ٌتم ذلك وٌرد علًا فى الصباح‪.‬‬
‫وعند خروجى من العزاء التقٌت باللواء سمٌر فرج مدٌر الشبون المعنوٌة‬
‫األسبق ومحافظ األقصر عند قٌام الثورة‪ ،‬وكنت قد قابلته فى عشاء دعا‬
‫إلٌه الدكتور األسوانى قبل اندالع الثورة بؤسابٌع‪ ،‬وقلت له ٌومها‪« :‬نحن‬
‫نثق بك‪ ،‬ونرجو منكم أنتم كبار الضباط أن تتخذوا الموقؾ الذى ترتضٌه‬
‫ضمابركم فى اللحظة المناسبة»‪ ،‬ولم أضؾ إلى ذلك كلمة‪ ،‬واكتفى هو‬
‫بالقول‪« :‬إن شاء هللا‪ ،‬سنكون أهال لثقة الشعب‪».‬‬

‫اجتماع مع الرئيس منصور‬


‫عندما دعا الربٌس عدلى منصور فى ٌولٌو ‪ 2013‬القوى الوطنٌة إلى‬
‫مإتمر حول «المصالحة الوطنٌة والعدالة االنتقالٌة»‪ ،‬طلبت الكلمة فى‬
‫بداٌة الجلسة وقلت إن لديا نقطة نظام‪ ،‬كٌؾ ٌدعو جناح من الدولة (كنت‬
‫أقصد الفرٌق أول السٌسى) الشعب المصرى للنزول ٌوم الجمعة القادم‬
‫لتفوٌض القوات المسلحة لمواجهة العنؾ واإلرهاب‪ ،‬فى حٌن ٌدعو جناح‬
‫آخر الٌوم للمصالحة؟ وقلت إن الحدٌث عن المصالحة ال ٌجدى فى‬
‫الظروؾ القابمة‪ ،‬واقترحت فض االجتماع رسمٌا‪ ،‬وإن كان من الممكن‬
‫استمراره لمناقشة الوضع العام‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫علق المستشار عدلى منصور قابال إنه ٌتفق مع وجهة نظرى تماما‪ ،‬ولكنه‬
‫ٌفضل أن ٌترك القرار للمجتمعٌن‪ ،‬فضل الحضور أن ٌواصلوا الكالم‪،‬‬
‫كانت هذه هى المرة األولى التى أقابل فٌها ربٌسنا المإقت‪ ،‬فاجؤنى‬
‫بانطالقه فى الحدٌث وسرعة بدٌهته‪ ،‬وكذلك بحزمه وسماحته فى آن‪،‬‬
‫تمنٌت ٌومها أن تطول رباسته سنة أخرى أو اثنتٌْن‪.‬‬

‫عندما قامت الشرطة بفض اعتصام رابعة‪ٌ ،‬ومها اتصلت بوزٌرة اإلعالم‬
‫أقترح علٌها أن أقدم «تعلٌقا فى برنامج قصٌر شبه ٌومى بال مقابل فى‬
‫ضوء الظروؾ الحاسمة‪».‬‬
‫كان هذا نص رسالة ‪ SMS‬أرسلتها إلٌها عندما تعذر االتصال بها‪،‬‬
‫وانتظرت عدة أٌام بال جدوى‪ ،‬فطلبت من المخرج عبدالرحمن حجازى‪،‬‬
‫الذى كان مخرجا تنفٌذٌا لبرنامجى «ربٌس التحرٌر»‪ ،‬أن ٌذهب إلى مدٌر‬
‫مكتب الوزٌرة إلبالؼه أننى حاولت االتصال بها فوجدت هاتفها مؽلقا‪،‬‬
‫فؤرسلت لها رسالة‪ ،‬أرجو أن تكون قد وصلتها‪ ،‬علل الرجل تعذر االتصال‬
‫بؤن شاشة تلٌفون الوزٌرة «باٌظة»‪ ،‬وقال إنها ال بد ستتصل بى فى الٌوم‬
‫ذاته‪.‬‬
‫لم أسمع من الوزٌرة فى األٌام الخمسة التالٌة‪ ،‬وعندها تصادؾ أن اتصل‬
‫بى األستاذ جابر القرموطى فى برنامجه «مانشٌت» ألعلق على بعض‬
‫األحداث السٌاسٌة‪ ،‬فروٌت له ما جرى مع الوزٌرة دون أن أعلق بكلمة‪،‬‬
‫فما كان من القرموطى اإال أن َع ان َ‬
‫ؾ الوزٌرة تعنٌفا قاسٌا‪ ،‬زاد من حدته‬
‫سخرٌته من التلٌفون وشاشته «الباٌظة‪».‬‬
‫فى حدٌث لألستاذ محمد عبدالقدوس معها نشره فى «أخبار الٌوم»‪ ،‬قالت‬
‫الوزٌرة إن سبب زعلها منى هو أننى قلت كالما ال ٌجوز فى حقها وأساء‬
‫إلى شخصها فى إحدى الفضابٌات الخاصة‪ ..‬لكن مجلة «آخر ساعة»‬
‫نشرت مقاال لألستاذ عبدالرازق حسٌن كان عنوانه‪« :‬هل أصبح حمدى‬
‫قندٌل محظورا فى ماسبٌرو؟‪».‬‬

‫‪92‬‬
‫سواء كان حل اللؽز هو أن الوزٌرة اتخذت قرارا متعلقا بالعمل بسبب‬
‫زعلها من أمر شخصى‪ ،‬أو أنه كان بسبب خشٌتها مما ٌمكن أن أقول فى‬
‫البرنامج المقترح‪ ،‬أو بسبب تدخل من مدٌر مكتبها الذى كان مدٌرا لمكتب‬
‫الوزٌر األسبق أنس الفقى أو ألى سبب خاؾٍ آخر‪ ،‬فالمثٌر لألسؾ فى‬
‫النهاٌة أن صوتى لم ٌحجب فقط فى ظل نظام مبارك‪ ،‬ولكن أٌضا فى عهد‬
‫ما بعد ‪ٌ 30‬ونٌو‪ ..‬ذلك هو الفصل األخٌر الساخر‪ ..‬النهاٌة المثلى لدراما‬
‫الفصول السابقة من هذا الكتاب!‪ ..‬لكن‪ ..‬كٌؾ ٌكون الفصل األخٌر‪،‬‬
‫والستار لم ٌسدل بعد؟!‬

‫‪93‬‬

You might also like