Professional Documents
Culture Documents
التحالف الأخير @BookJuice عصير الكتب
التحالف الأخير @BookJuice عصير الكتب
me/bookjuice
T.me/bookjuice
التحالف
الأخري
b
التحالف الأخري
رواية
محمد البدري
T.me/bookjuice
لمزيد من الكتب الحرصية
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
T.me/bookjuice
�إهداء
T.me/bookjuice
()1
عام 48ق.م
مدينة الإ�سكندرية...
ع
جزيرة فارو�س...
ر ش
والتوزي
الإ�سكندرية ال�شاهق ،كان الق�سم الأول من الفنار يحمل يف جعبته �أكرث
ع
من ثالثمائة غرفة جم َّهزة للقائمني على ت�شغيل الفنار� ،أما الق�سم الثاين
يتم فيه تخزين الأخ�شاب والزيوت للفنار ويف قمة الفنار يقبع فانو�س هائل
احلجم �أ�ضاء عتمة البحر بنور منبعث يخرتق احلجب وير�شد ال�سفن �إىل
ليل ،تعلوه مر�آة دائرية هائلة كا�سرة للأ�شعة والتي ي�شق �ضو ُءهااملرافئ ً
البحر الزاخر نها ًرا ،يعلو قم َة الفنار متثا ٌل لإيزي�س ربة الفنار كما
�أطلق عليها جماهري الإ�سكندرية منذ مت البناء يف عهد امللك بطليمو�س
الثاين؛ «فيالدلفو�س» ويف قلب الفنار منحدر حلزوين �سرمدي ،ي�ستعمله
العمال لتحريك البغال يف حركة دائبة ،ال تتوقف ً
ليل �أو نها ًرا� ،صعودًا
ونزول ،حتمل الوقود اخل�شبي والزيوت على ظهورها التي تغذي الفانو�س ً
العمالق ،ميتد من �أطراف اجلزيرة ممر «الهيبا�ستاديوم»؛ والذي يربط
بني جزيرة فارو�س وباقي مدينة الإ�سكندرية وعلى جانبيه �أُ ُتن م�شتعلة
لتنري الطريق للعابرين وعلى �أعتابه انربى متثال عظيم لبطليمو�س الأول؛
«�سوتري» املنقذ.
8
يف ذلك اليوم ت�أمرت غيوم ال�سماء على القمر ف�أفل بني ظلماتها
وطياتها احلالكة ،انتف�ض الربق يف �أفق ال�سماء تبعه رعد ي�صم الآذان،
بجانب الفنار الح الق�صر امللكي ،وعن ميينه احلدائق الغناء و�أ�شجار
الزينون اخل�ضراء ،وبجوارها مزارع الكروم و�أ�شجار التفاح التي تكللت
بحلل بي�ضاء فتباينت ك�أنها حوريات �أر�سلتها ال�سماء �إىل الأر�ض ،وعن
�شماله املعابد التي تزينت بالأعمدة الرخامية النا�صعة وبالتماثيل
املنت�صبة فوقها ،و�أمامها �أُ ُتن م�شتعلة تنري نريانها الطرق كنجوم ال�سماء
يف الليل ،وبعدها يقبع منزل �صغري حيث هناك تتم دباغة ورق الربدي.
والتوز عي
مي�شط قدميه ذها ًبا و�إيا ًبا ،ثم اجته �إىل �شرفته التي طلت على بحر
�سرمدي ال حتده نهاية ،الحت عيناه ً
�شمال لرتى العمدان ال�شاهقة ملعبد
الإله زيو�س ،رمق عينيه الزاجرتني يف مهابة ،ثم عاد ينظر �إىل ذلك اليم
اخل�ضم و�إىل ال�سماء احلالكة التي تزينت ب�شهاب عابر ،خيم ال�صمت
للحظات �ضرب فيها الربق ال�سماء و�أنار اجلنابات بنور باهت ،دخل
حاجب الق�صر ليعلن عن �أحد احل�ضور ،ركع للحظات ثم انت�صب فقال:
�--إن القائد �أخيال�س قائد اجلي�ش يف اخلارج وي�ست�أذن للدخول.
قالها احلار�س وانتظر الأمر من امللك ،التفت امللك �إىل احلاجب ثم
جل�س على عر�شه ،و�أ�شار �إليه ً
قبول بنظرة من عينيه الداكنتني ،كان للملك
عينان رماديتان قريبتان �إىل ال�سوداء ،كان يف عمر ال�سابعة ع�شرة ،كان
نحيل ذا يدين ع�صبيتني ونظرة حممومة يف عينيه ،و�سي ًما ين�سال �شا ًّبا ً
من ذقنه �ضفرية �صغرية تخ�ضبت بالذهب امل�صهور وحلقات نحا�سية
�صغرية مت�شابكة تلألأت يف بهاء.
9
خرج احلاجب ،حلظات ثم دخل «�أخيال�س» قائد اجلي�ش ،واليد اليمنى
للملك ال�شاب ،كان له عينان ثاقبتان يحيطهما ُكحل طاغي ال�سواد ٍ
طاف
طويل كال�سيف وحاد الطباع كالذئب ،يرتدي بني جفونه ،عري�ض املنكبني ً
على كتفيه فرو منر بري تلألأت �أنيابه حول عنقه يف قالدة ،وعلى ر�أ�سه
قلن�سوة من ال�صلب ،وبني فكيه �أ�سنان تلمع من الذهب اخلال�ص انحنى
� ً
إجالل للملك قبل �أن يقول:
فليحي موالي امللك ال�شاب بطليمو�س الثالث ع�شر� ،سليل عائلة َ --
البطاملة ،وفرعون م�صر ً
�شمال وجنو ًبا.
ر ش
والتوزي
ثم راح ي�س�أل بنربات مرتقبة:
ع
--لعل الأخبار تكون �سارة.
وب�شيء من الرتدد امل�شوب بالقلق قال �أخيال�س:
�--أخ�شى يا موالي �أن �أخباري �سوف تكون �أخبا ًرا ِ�س ً
جال ،وال �أعرف ما
وقعها على امللك.
بنظرات عاب�سة:
ٍ قال امللك
هات ما عندك. �--آمل �أال ي�ضيع زيو�س برقه عب ًثاِ ،
متالك �أخيال�س �أنفا�سه وا�ستجمع بع�ض الهواء يف رئتيه وقال ب�صوت
يكاد يكون مهتزًّا:
--عادت �شقيقتك من �سوريا ،وهناك ا�ستطاعت �أن جتمع ً
ردحا لي�س
بقليل من اجلنود ،ثم رب�ضت هي و�أ�سطولها البحري يف ح�صن
بلوزيوم ،وهو ح�صن يقع �شرق دلتا نهر النيل يف �شمال �أر�ض الفريوز.
10
ا�ستغرق امللك حلظات ال�ستيعاب كلمات �أخيال�س وعندما جاء الفهم
�أخ ًريا الحت على وجهه نظرات الغ�ضب وقال بنربات ال تخلو من ال�صخب:
جال؟ قل يل بحق زيو�س ،كيف ا�ستطاعت --وكيف تكون تلك الأخبار ِ�س ً
�أن تدخل �أر�ض الفريوز ،ويدن�س �أ�سطولها مياهنا املقد�سة؟ ماذا
تنتظرون� ،أن تدخل الإ�سكندرية وت�ستويل عليها؟
ملتم�سا العذر:
ً قال �أخيال�س
�--إن �شقيقتك كليوباترا قد �أخذتنا على حني غرة يا موالي ،فقد
ص ع
ا�ستغلت ان�شغالنا بالأمور الداخلية للمملكة ودن�ست �أقدامها �أرا�ضينا،
ع
�أثارت كلمات �أخيال�س الف�ضول عند امللك ،فقال:
ر ش
ع --ولعلني منذ زمن ال �أ�صدق �أ�ساطريهم الكاذبة .والتوزي
قال امللك:
12
--يتباركون بجبل الطور ،تتقاول الأقاويل عندهم� ،أن ربهم يهوه قد
جتلى على ذلك اجلبل.
نظر امللك لأخيال�س ومل ُيع ِّقب.
يف ذلك الوقت �شقت مقدمة ال�سفينة البحر ف�أحدثت بع�ض الأمواج
الهادئة� ،ضرب �صوت ال�شراع الهادئ م�سامعهم ف�أ�صابهم بع�ض االرتياح
اجلليل ،انتابت �أج�سادهم رع�شة قوية حتمل يف دبرها انت�شاء عندما
ريص ع
�شاهدت �أعينهم الفنار العظيم ،الذي يتحاكى عنه امل�سافرون والرحالة
والتوز عي
على حد �سواء �إثر رع�شة الربد القار�سة� ،أنزلوا ال�شراعات ور�ست ال�سفينة
عند د�سكار ميناء الإ�سكندرية ،تقدم جندي من ال�سفينة التي اعتالها
بحارة من الرومان ،طافت نظراته متفح�صة الوجوه للحظات ،ثم قال
با�ستق�صاء:
--من �أين انحدرمت وما مق�صدكم؟
�أثار �صوت احلار�س انتباه البحارة ،تقدم �أحدهم ويبدو �أنه رئي�سهم �أو
قبطان ال�سفينة ،اقرتب من احلار�س وقال ب�صوت خ�شن دل على غالظته:
طويل مع الأمواج من روما �إىل الإ�سكندرية ،فمعنا--لقد خ�ضنا عرا ًكا ً
عبيد من كل لون ومن كل بلد� ،أتينا قا�صدين التجارة.
�سمح لهم اجلندي باملكوث بعد �أن د َّون �أ�سماءهم يف �سجل خا�ص
بال�سفن التي تر�سو عند امليناء� ،أ�سقطوا الهلبان يف املاء وتركوا �أحد
البحارة حلرا�سة ال�سفينة ،وما �إن ت�أهبوا للرحيل حتى ج ُّروا عبيدهم
وراءهم مكبلني بالأ�صفاد واملقامع ،فقال �أحدهم:
13
--فلن�أمل بيع العبيد بثمن زاخر ،وليباركنا زيو�س ويوفقنا.
قالها القبطان ورمق �أ�صحابه بابت�سامة من حتت حلية كثة وكثيفة
ومت�شابكة كالغابات.
ف�أردف �أحدهم:
--لن يباركنا زيو�س �أبدً ا طاملا نبيع �أبناء جلدتنا.
كان من �ألقاها �شاب روماين عري�ض املنكبني وو�سيم بخ�صالت
�صفراء طويلة تتحرك مع الرياح وكان هو ال�شاب الوحيد يف ال�سفينة �أما
ر ش
والتوزي
م�سب ًقا:
ع
--من تق�صد يا �إريو�س؟
�أ�شار ال�شاب �إريو�س بعينيه �إىل �أحد العبيد الرومانيني ،ومل تكن هيئته
كهيئة العبيد �أبدً ا ،ال اللون الأبي�ض امل�شرب باحلمرة وال مالب�سه املهندمة
التي نه�شتها الأمواج وال �شارة اجلنود التي كان يحملها ،كانت الأفكار
تدور على �أنه كان جند ًّيا هار ًبا من معركة ما ،ولكن ذلك النوع من العبيد
طويل يحملالأكرث طل ًبا يف حلبات القتال و�ساحات الكولو�سيوم ،وكان ً
ج�سده الكثري من اجلراح والكدمات ك�أمنا كان يقاتل زيو�س نف�سه ف�صعقه
بربقه و�أدماه ،تابعت عينا �إريو�س ج�سده املفتول وخ�صالته الداكنة و�شعره
الك�ستنائي املبلل فقال:
--عندما كنا يف �أوج العا�صفة ال�ضارية ،انزلقت قدمي بغت ًة مني وكدت �أن
�أ�سقط يف غائلة املوج ولكن حال بينها وبيني ذلك الروماين ال�شجاع،
فهاج املاء وماج لكنه انت�شلني بب�أ�س �شديد بع�ضالته احلديدية،
14
�أُق�سم بزيو�س العظيم ،كنت �أعتقد �أنه �إله من �آلهة الأوليمب وجتلى
لإنقاذي ،حملني و�أنا خائر القوى م�ست�سلم حتت وط�أة الأمواج ،وما
�إن ات�ضحت الر�ؤيا حتى تبني يل وجهه الوديع والو�سيم ،كيف يكون
هذا عبدً ا من العبيد يا �ستافلو�س؟ �ألأننا انت�شلناه من املياه ن�صبح له
�أ�سيادًا وي�صري لنا عبدً ا؟
كان �ستافلو�س يحمل من الغالظة ما يكفي ليعرف �إريو�س ال�شاب
كلماته التي �سوف ينطق بها ،ولكن مل تكن فكرة املحاولة �سيئة لتلك
الدرجة ،تد َّثر �ستافلو�س بالفرو واجللد اخل�شن مما �أعطى له مظه ًرا
ل
ً
ع
فار�سا يف يوم ما كما �أبناء العائالت النبيلةبال�سيوف ،كان يحلم �أن يكون ً
ع
و� ُأ�سود ال�صحراء وبني جمهور �سريع الغ�ضب واالنفعال ي�صرخون
ويهتفون لتفتك بهم الوحو�ش �إر ًبا �إر ًبا ،يا له من م�صري م�شرق ح ًّقا!
قالها ب�شطط وب�شيء من اال�ستهزاء.
�س�أل ثاينيو�س:
--وما املميز يف ذلك العبد عن غريه �أيها ال�شاب يجعلك تدافع عن
حريته والتي يبدو �أنه ال ي�أبه بها �إطال ًقا؟
كان ثاينيو�س �ضخم اجلثة له كر�ش يتدىل ملرتين �أمامه ،ق�ضى حياته
كلها تاج ًرا للعبيد يف روما ،كان ي�شتهر بال�شراهة حتى �إنه ال يتوقف عن
الطعام �إال حينما ي�أتي وقت ال�شراب ،كان يف منت�صف العقد اخلام�س،
كان يحب الذهاب �إىل الإ�سكندرية من �أجل حاناتها وحمظياتها التي
ت�شتهر باجلمال الباهر يف روما.
�أجاب �إريو�س:
16
--انظر �إليه يا ثاينيو�س� ،أال يبدو لك �أنه من �إحدى العائالت النبيلة؟
جريحا بني الأمواج ،ولي�س فا ًّرا من املعركة كما تزعمون، ثم �إنه كان ً
حتى �إننا ال نعرف ما ق�صته وما وراءه.
اقرتب منه بيتالو�س وا�ض ًعا يده على كتفه وقال يف رفق:
--وماذا تقرتح �أن نفعل به؟
�صمت الفتى للحظات ثم عاد يقول:
--اتركوه يذهب ح ًّرا طلي ًقا.
ن
ر ش
والتوز عي
عب ًثا� ،إمنا جئنا لغاية ،وهي التجارة وك�سب قوت يومنا ،ولن �أ�سمح
لك ب�إف�ساد الأمر لأجل م�شاعرك اجليا�شة والعطوفة� ،أما عن �شارته،
فهو جندي هارب من املعركة وكان م�صريه املوت ال حمالة �إما غر ًقا
يف قلب البحر و�إما ب�سهم يخرتق قلبه بال هوادة ،فعلى الأقل يجب
�أن يكون ممت ًنا لأننا انت�شلناه من م�صريين ينتهي كالهما بالهالك.
كانت كلماته القا�سية تكفي لي�صمت ال�شاب وال يجادل يف الأمر
جمددًا ،رمق منقذه ب�شفقة ،لكن املنقذ اليوم يف عامل �آخر ،مل ي�أبه
حلديثهم ومل يئن لعبوديته ولن يفرح بحريته ،كان هائ ًما يف �شيء �أعظم
�شخ�صا يبتلعه ال�صمت كما
و�أكرب ،تعجب �إريو�س من �صمته املهيب ،مل ي َر ً
فعل مع منقذه ،جميع العبيد يتحدثون ويلمزون ويهم�سون �إال هو �صامت
�صمتًا مري ًبا ،حتى عند توزيع الطعام بني العبيد والذي هو ك�سرة خبز ال
ت�سمن وال تغني من جوع ،مل يتناول �شي ًئا ومل تراوده �أمعا�ؤه بالرغم من
خوائها.
17
انق�سمت الإ�سكندرية �إىل ثالثة �أحياء ،حي بر�شوم املخ�ص�ص للإغريق
والرومان وحي راكتو�س الذي تخ�ص�ص للم�صريني واملنطقة ال�شمالية
لليهود .فرت �أعينهم �إىل معمار الإ�سكندرية والذي ال يختلف كث ًريا
عن روما ،كانت الأبراج مربعة مبنية بالقرميد ،نظروا �إىل املعابد التي
ترفعها �أعمدة رخامية �شاهقة والبالط النا�صع الذي حمل العربات ذات
العجالت اخل�شبية جترها �أح�صنة م�صرية �أ�صيلة ،وعند قرية راكتو�س،
هال �أعينهم متثال «دينوقراطي�س»؛ م�ست�شار الإ�سكندر الأكرب ومهند�س
ع
الإ�سكندرية العظيم النابغة� ،أمام مكتبة الإ�سكندرية ،وعلى ر�أ�سه �إكليل
ر ش
والتوزي
املكتبة منذ البناء ،ويف احلائط ال�شمايل من املكتبة ُنق�شت لوحة ُر�سم
ع
جال�سا يف حلقة دائرية من الرجال يلقنونه علومعليها الإ�سكندر الأكرب ً
الفل�سفة واملنطق ،وتقف من خلفهم «�آثينا» �إلهة احلكمة تبارك املجل�س
بنظرات حكيمة تنبثق عن عينني ثاقبتني.
مكثوا بحي برو�شوم املخ�ص�ص للإغريق والرومان عن غريهم ،حيث
احلانات واخلمر واملحظيات التي يتحاكى عنها البحارة وين�شدون الأغاين
عن جمالها ،ا�ست�أثر كل منهم مبحظية تتمايل بني �أيديهم على �أنغام
الناي امل�شتعلة ،كانوا يتناوبون حرا�سة العبيد فيما بينهم ،وملا حان دور
ال�شاب �إريو�س يف حرا�سة العبيد ،جتمع ال�شيوخ يف حانة «ديوني�سيو�س»؛
التي �سماها مالكها تي ُّم ًنا ب�إله اخلمر الإغريقي� ،شربوا اخلمر كما لو �أنه
ماء ،ت�ساقطت �أبدانهم ك�أوراق ال�شجر يف اخلريف مغبة اخلمر الذي �سار
ب�صوت مد ٍّو على كل
ٍ بني العروق كالدماء ،رفعوا �أنخا ًبا كثرية و�ضحكوا
طبق ُو�ضع �أمامه كرجل مل ي َر الطعام يف
دعابة ،وانق�ض ثاينيو�س على ٍ
18
حياته قط ،تناولوا الطعام ب�شراهة كما �شربوا ب�شراهة ،ومن وراء حليته
ال�ضخمة قال �ستافلو�س بغطر�سة من �أثر ثموله:
�--إال ت�شبعن �أعينكم من حمظيات الإ�سكندرية ،فلن جتدوا حمظيات
كمثلهن يف العامل �أجمع ،فهنا يتجمع اجلمال الروماين بالنبيذ
امل�صري ،فينتج �أبناء من �صليب فينو�س.
�ضحك البحارة ،ثم قال ثاينيو�س بعد �أن جترع ك� ًأ�سا من النبيذ:
أخيك �إريو�س نف�س املحظيات؟ �--ألن ي�شاطرنا ابن � َ
ريص ع
قال �ستافلو�س بل�سان ثقيل كاحلجر:
19
--ال يعرتيني �شك �أن اللعنة التي قد �أ�صابته هي لعنتي �أنا ،فهو ابن
�أخي يتبعني يف كل خطوة �أخطوها دون تردد ،يتخذين كمعلم له،
يوما ،بل �أنا ال �أعد نف�سي ً
رجل فقد ولكنه يجهل �أنني مل �أكن معل ًما ً
عقله من فرط ثموله.
كان �صوت �ستافلو�س مهتزًّا ميتلئ بالكبت وب�شيء وا�ضح من احلزن،
قال ثاينيو�س خمف ًفا:
--ن�أ�سف لعدم ت�أويل �أوجعاك حق ت�أويلها ،ولعل م�صارع الأقدار تق�ضي
ع
�أف�ضلها ،ورمبا يف يوم من الأيام كنت �أنت «�أنكايزي�س» العجوز وكان
ر ش
والتوزي
مل بني �أنياب ذئب:
قال �ستافلو�س بي�أ�س َح ٍ
ع
�--أنكايزي�س؛ �إن كنت تريد ت�شبيهي ،فعليك ت�شبيهي ب�إري�س� ،إله احلرب
والدمار ،فنحن مت�شابهان �أوج الت�شابه ،فهو قد �أحرق طروادة عن
بكرة �أبيها� ،أما �أنا ف�أحرق كل مظاهر احلب والر�أفة يف قلب �إريو�س
فظا قو ًّيا لكيال يقع بني مكائد احلياة� ،أخ�شى عليه من قلبه ليكون ًّ
املليء بالر�أفة.
�أردف بيتالو�س:
--مه ًما يكن ،فلديك نوايا �سليمة.
�ضحك �ستافلو�س مبرارة وا�ضحة وجترع ك� ًأ�سا من النبيذ وقال:
--وهل النوايا ال�سليمة �أطف�أت نريان طروادة امل�شتعلة؟
�صمت البحارة وزاغت عني �ستافلو�س يف بحر عميق من ذكريات
املا�ضي ال�سحيق ،عندما كان �إريو�س �صغ ًريا ودي ًعا ،كان على �صدر �أمه
20
كاملالئكة ،ولكن تركه �أبواه وحيدً ا يف حياة �ضارية ،اهتم بالر�ضيع حتى
�شب فرعه ،وملا بلغ �أ�شده علمه ال�صيد وعلمه �أ�صول املبارزة ،علمه كيف
ي�ستل �سيفه من غمده بحنكة حمارب ،علمه كيف مي�سك القو�س وكيف
آمال عظيمة ولكن الأمور حالت دون ذلك، يرد ال�سهم ،كان يبني عليه � ً
ولرمبا كان هذا ما ينوء به �صدر �ستافلو�س ،فهو ي�صنع ن�سخة م�صغرة
منه يف �إريو�س ال�شاب ،تراوده نف�سه بالت�أنيب تارة وبالكوابي�س �أخرى،
يوما.
فيخر�سها بك�أ�س من اخلمر العتيق ،فتت�شتت الأفكار ك�أنها مل تكن ً
عاد �ستافلو�س من غياهب الذكريات عندما قال ثاينيو�س:
ل
ن ل بل ت ك
ونعود بعدها �إىل روما.
ر ش
والتوز عي
قال بيتالو�س:
--و�أي الطرق �ستهتدون؟
�أردف �ستافلو�س:
�--أمامنا طريقان ن�ستطيع �أن نهتدي بهما �إىل طيبة ،الطريق الأول
يوما يف �أف�ضل
طويل و�آمن ولكن نبلغ الهدف بعد م�سرية ثالثني ً
الأحوال ،والآخر ق�صري لكنه مليء باملخاطر وال�صعوبات ونبلغ
يوما.
الهدف يف حوايل م�سرية ت�سعة ع�شر ً
ن�ستطيع بيع العبيد يف ممفي�س �أو حتى مريميدا وال نتكبد عناء ال�سفر
�إىل اجلنوب.
--يف طيبة ال ي�سكن �إال خوا�ص اخلوا�ص من علية القوم ،غري �أنني
�أعرف جتار اجلنوب كما �أعرفكم ،ون�ستطيع جني ع�شرات الأ�ضعاف
من الربح عن �أي دار �أخرى �إذ كانت ممفي�س �أو حتى مريميدا� ،أو
21
بخ�سا جدًّا ،فحا�شية امللكحتى هنا يف الإ�سكندرية يكون الثمن ً
يقومون ب�شراء العبيد للملك على غري �إرادة التجار.
--و�أي طريق �سن�سلك ،الأول �أم الثاين؟
�--إن �أردمت �سلك الطريق الأول ،فت�أهبوا لعط�ش ي�ش ِّمر عن �سواعده ف�إن
امل�سافة بني الإ�سكندرية و�سيوة من ال�صحراء الغربية م�سرية ثمانية
�أيام.
ً
مت�سائل: قال بيتالو�س
ع
�--أ�ست�سلك بنا �صحراء جرداء.؟
والتوزي ر
ع
العذبة ،و�إن كنتم تخ�شون ظم�أ ال�صحراء فلت�سلكوا طري ًقا �آخر.
--وما هو؟
--من الإ�سكندرية �إىل ممفي�س ومن ممفي�س �إىل الفيوم ومن الفيوم
�إىل �أخميم ومن �أخميم ن�ستطيع الو�صول �إىل طيبة وكما قلت لكم
يوما وليلة.
م�سرية ذلك الطريق ثالثون ً
قال ثاينيو�س:
�--إذن فلن�سلك ال�صحراء وليكن بو�سايدن معنا.
ممازحا:
ً قال بيتالو�س
�--إن بو�سايدن لن يروي حلقك العاط�ش �إذا علم �أنك كنت تق�ضي ليلة
غا�شمة مع حمظية من حمظيات الإ�سكندرية ،ف�ستزداد غريته مما
خ�صتك الآلهة عنه.
�ضحك وقال:
22
--ت ًّبا له� ،أال تكفيه زمرة املحظيات التي قد �أغدقتها عليه �أفروديت.
نظر �ستافلو�س �إىل ثاينيو�س ثم �أردف بابت�سامة بلهاء:
�--أتعلم يا ثاينيو�س� ،أنت رجل جيد ولكن فيك عي ًبا واحدً ا فقط� ،أنت
ت�شبه زوجتي.
�أطلقوا ال�ضحكات ب�شراهة ،و�ساد ال�صمت للحظات ا�ستطرد فيها
�ستافلو�س:
�--أعدوا عدتكم وت�أهبوا خلروجكم من الإ�سكندرية غدً ا ،ال منلك
ص ع
الوقت لنماطل.
ص ع
�سهو قي�صر لالنقالب على حكمه وحتويل روما من �إمرباطورية
والتوزي ر
ع
قال بيتالو�س:
قوي ل�شيوخ--طاملا ال�شعب مع يوليو�س قي�صر فلن يهاب �شي ًئا ،وهو ن ٌّد ٌّ
املجل�س ،وروما ال تختلف كث ًريا عن الإ�سكندرية ،فهي ممزقة بني
امللك ال�شاب بطليمو�س الرابع ع�شر و�شقيقته كليوباترا ،ولذلك
طردها من م�صر جراء ذلك.
�أردف �ستافلو�س:
�--إن بطليمو�س حديث العهد و�ساذج ،لن ي�ستطيع حكم زمام بالد
عريقة مثل بالد م�صر ،وامل�صلحة العامة تق�ضي �أن كليوباترا هي
من حتكم.
�--شاعت الأخبار �أن �أهل الإ�سكندرية قد غ�ضبوا لأنها اغت�صبت
دموعا كدموع منه احلكم ،وا�ستغاث هو ب�أهل الإ�سكندرية ذار ًفا ً
التما�سيح ،فطالبوا بتنازلها عن العر�ش وعندما رف�ضت� ،أخرجها
24
�أخيال�س بالقوة تنديدً ا مبطالب اجلماهري الغا�ضبة ،وكليوباترا لن
تتنازل عن عر�ش م�صر ب�سهولة �أبدً ا.
--يجب على كليوباترا �أن مت�سك زمام الأمور ،ف�إن َح َكم امللك ال�شاب
ف�ست�سقط م�صر يف نزاع بني البالد اخلارجية وحرب �أهلية ،ورمبا
يزول حكم البطاملة من م�صر ،وذلك لي�س يف م�صلحة روما �أبدً ا.
الذعا يف اخلارج ،حمل الهواء عبق حمظيات الإ�سكندرية كان اجلو ً
الذي فاق الأفق ،وجتاوز احلدود ،كان العبيد يجل�سون يف �إ�سطبل للخيول،
وكان �إريو�س منهم ًكا يف تفريق الطعام واللنب الدافئ بينهم ،وبعدها
والتوز عي
ميتلئ بالندوب وحلية طويلة �شب فيها ال�شيب ،عينان ذئبيتان ت�شو�شت
فيهما الر�ؤية فال تريان ،رمق �إريو�س منقذه بنظرة فاح�ص ٍة طويلة ،ثم
قال:
�--إن مل ت�أكل ف�سيهزل ج�سدك القوي كنعجة ال حتمل اللنب.
نظر له املنقذ ومل ي ُع ِّقب كان �صامتًا وباردًا كتمثال من الثلج ،فا�ستطرد
�إريو�س ببع�ض االمتنان:
--باملنا�سبة ،مل يتثنَّ يل �شكرك على �إنقاذك حلياتي.
�ساد �صمت ميتلئ بالعبو�س للحظات قال فيها الرجل:
--مل �أفعل �إال �سداد الدين.
وبابت�سامة عري�ضة على وجهه قال باندفاع مفاجئ:
�--أنت روماين �صحيح؟
25
�أجاب منقذه بعبو�س م�ستمر:
--بلى.
�أردف بنربات مت�أ�سفة:
�--أعتذر عما �صدر من عمي �ستافلو�س ،هو طيب القلب ،لكن ي�ضمر
ذلك بداخله.
--ال يهم.
�ألقاها بال مباالة مفرطة ،رمقه �إريو�س بنظرة حائرة ،كانت تعابري
ع
--وهل تظن �أنك حر �أيها ال�شاب؟
كان ال�س�ؤال مباغتًا وغري متوقع مطل ًقا ،ظل �إريو�س يفكر يف �إجابة
على �س�ؤال مل يفهمه قط ،ثم قال:
--وهل �أنت �أحدهم؟ �أق�صد الأحرار.
نظر �إىل ال�سال�سل يف يديه وقدميه وقال:
--ل�ست عبدً ا لعمك �أو عبدً ا لل�سال�سل والأ�صفاد� ،إمنا اال�ستعباد له
الكثري من الأ�شكال وال�صور ،كنت ده ًرا من الزمان عبدً ا ،بل �أ�سو�أ،
�إين» كربومثيو�س»؛ الذي �سرق �شعلة ال�سماء ،لكنه انطف�أ جراء ذلك.
�صمت �إريو�س للحظة ثم �أردف:
--لقد وجدت معك �شارة اجلنود ،هل �أنت من جنود روما؟
--بلى.
26
قال بف�ضول كالفي�ضان:
--ما ا�سمك؟ وما ق�صتك؟ �أعتقد �أننا عندما انت�شلناك من البحر
بالقرب من اليونان كنت ميتًا ملي ًئا باجلراح الغائرة ،ولكن كان
للقدر ر�أي �آخر وتركتك الآلهة ح ًّيا لغر�ض ماُ .ق�ص يل ما عندك؟
كان ُيلقي الأ�سئلة ويعلم �أنه لن يتلقى �إجابة �شافية ،عاد املنقذ ل�صمته
جمددًا� ،صمتًا غري ًبا ومري ًبا م�صحو ًبا بتيه رمبا كان مق�صودًا ،قال
�إريو�س وطرق ر�أ�سه � ً
أر�ضا:
ع
�--أتعلم؟ كلنا عبيد ،ولكن تختلف العبودية من �شخ�ص �إىل �آخر،
27
--عندما كنت يف مثل �سنك متنيت تلك الأماين �أيها ال�شاب ،كنت
�أمتنى �أن �أكون حمار ًبا تخ�شاه وحو�ش الرب والبحر� ،أن ُيكتب ا�سمي
يف التاريخ ،ويرتدد يف �أغاين اجلميالت والرحالة ،لكن �صدقني،
للقوة لعنة ال �أظن �أنك تتحمل وط�أتها.
قال �إريو�س ب�صوت ميل�ؤه الت�سا�ؤل:
لك �سيدي؟--ماذا حدث َ
تاه الرجل بعينيه �إىل ال�سماء ثم عاد بنربات خافتة وقال:
ع
--مل �أكن قو ًّيا كفاية� ،سقطتُ و�سقط كل من حويل.
والتوزي
�إغفاء وعقل يهيم يف الأرجاء.
ع
يف اجلناح الغربي من الق�صر جل�س �شيوخ حي دلتا على النمارق،
ومرت �أرجل العبيد بينهم ،حتمل بني �أيديها �أواين من ف�ضة عليها ك�ؤو�س
من اخلمر والع�صري ،ويف منت�صف البهو تلذذت املائدة ب�ألوان الطعام
ال�شهية وانواع اخلمور املعتقة ،وحلوم من كل دابة وطري ،وعلى اجلانبني
�أُتن م�شتعلة تنبعث منها رائحة بخور طا ٍغ ويف ال�سقف تدىل فانو�س عمالق
مر�صع بالأحجار الكرمية التي كانت ت�شع نو ًرا كلما �أ�شعلوا املوقد نا ًرا� ،أو
عندما يخرتق �شعاع ال�شم�س �أهدابها ،نفخ احلاجب يف البوق ليعلن عن
قدوم امللك ،ف�صمتت �أل�سنة القوم وانتبهت �أ�سماعهم ،دخل امللك وبني
يديه �صوجلان معقوف ويف اليد الأخرى �سوط ،انت�صب فوق تاجه �أرابي�س
نافخة �أوداجها ،جل�س على عر�شه فانحنى له كل من يف البهو وتوالت
الرءو�س يف الأنحاء حتى جل�س امللك على عر�شه ،وعلى ميني العر�ش وقف
28
�ساعد امللك واملربي اخلا�ص للملك ال�شاب« ،بوثينيو�س»؛ رجل ق�صري
ونحيل له حلية طويلة تكللت بال�شيب يتدىل يف نهايتها �ضفائر معقودة
بحلقات ذهبية وعلى ر�أ�سه �إكليل مييز ر�أ�س م�ست�شاري امللك.
توىل بوثينيو�س �أمور امللك منذ ال�صغر ،و�أ�شرف على �إقطاعاته
ملك من احلنكة ما جعله كلمة امللك ول�سانه وممتلكاته يف كافة اململكةَ ،
وكبري امل�ست�شارين ،ويف �أوقات يجل�س على العر�ش وي�صوغ القوانني،
ويتكلم ب�صوت امللك وي�صدر الأحكام با�سمه عندما يكون غائ ًبا ،ومل تكن
�أمور البالط ت�سري �إال ب�أوامر منه ،حمل يف عقله دها ًء كالثعلب ويقظة
ر ش
والتوز عي
فليحي عايل املقام موالي امللك بطليمو�س الثالث ع�شر «ثيو�س َ --
فليوباتور»� ،سليل الفراعنة وابن امللك العظيم بطليمو�س الثاين ع�شر
«�أوليتي�س» وحفيد بطليمو�س الأول «�سوتري» املنقذ.
َ --
فليحي كبري امل�ست�شارين احلكيم بوثينيو�س.
قالها امللك ،ثم نظر للرهط من �شيوخ حي دلتا بانزعاج وا�ضح ثم
انزعاجا:
ً عادت نظراته لبوثينيو�س وا�ستطرد بنربات �أكرث
�--أخربين �أخيال�س مبا حدث يف حي دلتا و�سيطرة كليوباترا على
�أطراف �سيناء ومرافئ بلوزيوم و�أبراج املراقبة وامل�ستوطنات
الرومانية التابعة للقائد جابينيو�س� ،أخربين بحق الآلهة كيف حدث
هذا؟
كانت نربته حتمل الغ�ضب واالنزعاج و�شي ًئا من ال�صخب ،حتى �إن
كل من يف البهو ظلوا ينظرون بع�ضهم لبع�ض ثم ينظرون للملك و�أعينهم
حتاول �أن تفهم ما الأمر ،حاول بوثينيو�س امت�صا�ص غ�ضب امللك وثورته:
29
--على موالي ال�شاب �أن يهد�أ ف�إن �شقيقتك كليوباترا بفعلها هذا قد
غرزت وتدً ا داخل قلب جي�شها �سي�ؤدي �إىل احت�ضاره �سري ًعا.
--كيف ذاك؟
�س�أل امللك وقد هد�أت نرباته.
«--فقد و�ضعت جي�شها يف م�أزق �شديد ،عندما ح�صرته بني جي�شنا،
وجي�ش يوليو�س قي�صر».
--وما بالك تذكر جي�ش يوليو�س قي�صر الآن؟
ريص ع
قال بوثينيو�س:
ع
جابينيو�س لكليوباترا ،و�أمر من �أمرين حادث ال حمالة� ،إما �أن ي�أتي
ليطيح بجي�ش كليوباترا و�إما �أن يكون حلي ًفا لنا عند �شيوخ جمل�س
روما فيقر جمل�س ال�شيوخ ب�أن امللك ال�شاب له احلق يف اجللو�س على
العر�ش كملك م�ستقل كما البطاملة الأوائل ،و�أن و�صية امللك الراحل
ما هي �إال حم�ض �أماين لن تتحقق �أبدً ا.
قال امللك بنربات منفعلة:
--ونرتك كليوباترا تهيم يف الأرجاء حتى تقرر روما الأمر؟
--بالطبع ال يا جاللة امللك .لقد �أعطيت �أم ًرا بخروج قوات لال�ستطالع
وعلى ر�أ�سها القائد «�سيبتيمبيو�س» ،حتى يتم جتهيز الأ�سطول
البحري يف �أقرب وقت ممكن ،و�سوف يخرجون من موانئ
الإ�سكندرية وال�سواحل ال�شمالية بقيادة �أخيال�س �إىل الفارما حيث
ترب�ض هي وجي�شها.
30
بدا على وجه امللك الر�ضى ثم قال:
�--أح�سنت �صن ًعا.
ابت�سم بوثينيو�س ثم قال:
�--أمر جاللتك ،ولكن على موالي الآن �أن ي�ستمع ل�شكوى �شيوخ حي
دلتا.
مل يب ُد على امللك �أنه م�سرور بامل�أدبة التي �أقامها بوثينيو�س ل�شيوخ حي
دلتا ،فقال:
ريص ع
--مل يكن عليك ح ًّقا �إقامة وليمة كتلك ال�ست�ضافة �أمثالهم.
ر ش
والتوز عي
--نحن نحتاج الآن �إىل دعم �شيوخ حي دلتا �أكرث من �أي وقت م�ضى،
وعلينا جمع حلفاء قريبني من ح�صن كليوباترا ليزودونا بالأخبار.
قال امللك يف متلمل وعدم �صرب:
--ح�س ًنا ،فلننت ِه من هذا �سري ًعا.
�أ�شار بوثينيو�س �إىل �أحد الرجال� ،شاب يف العقد الثالث معقود
احلاجبني وله حلية �سوداء طويلة ،اقرتب وانحنى �أمام امللك ،فقال
بوثينيو�س:
--هذا بنيامني فو�ضه �شيوخ حي دلتا حتى يديل ب�شكواهم جلاللتكم.
انتظر الرجل الأمر ،فقال امللك بنربات حادة:
--حتدث ،وال تفرط.
فقال بنيامني:
31
فلتحي �أيها امللك العظيم ،عندما حكم البطاملة الأوائل كان لنا َ --
ن�صيب وحظ كرمي يف خراج الأر�ض وهناك منا من كان يعمل يف
مناجم الفريوز ،وهناك من كان يعمل يف البالط امللكي حيث تقبلنا
البطاملة وترجموا كتبنا و�أودعوها مكتبة الإ�سكندرية العظيمة ،كنا
نفر من بالدنا خو ًفا من بط�ش الرومان ،وجئنا �إىل م�صر حتى
نتاجر ،وما �إن جاءت وفود الرومان التابعة للقائد جابينيو�س حتى
فر�ض ال�ضرائب الباهظة على �شيوخ حي دلتا ،كما �ألزم اليهود بدفع
�ضريبة قيمتها درخمتان عن كل ذكر بالغ ،والتي كنا نقدمها من قبل
ريص ع
للمعبد الرئي�سي ببيت املقد�س ،وورب مو�سي مل نعهد خرا ًبا قط حتى
ع
�إىل الرجل ،فانحنى وعاد حيث كان ،ف�أردف بوثينيو�س:
--ماذا يرى موالي امللك؟
متلمل امللك وقال:
--كيف لنا �أن نرتك القائد جابينيو�س يهيم بني الأرجاء ويقلب علينا
النا�س؟
�--أقول �آ�س ًفا يا موالي ،تلك هي �ضريبة العر�ش ،ال ن�ستطيع �أن جند
حل لتلك امل�شكلة يف الوقت الراهن� ،إن القائد جابينيو�س �ضريبة ًّ
ندفعها الآن ملا فعله مع امللك بطليمو�س الثاين ع�شر ،عندما �أعاد له
عر�شه بعد �أن نهبته �شقيقتك برنكي يف حرب ا�ستعادة العر�ش منذ
�سنني طويلة.
�أردف امللك بنربات متمردة:
32
--وما بايل �أنا ب�أبي؟
قال بوثينيو�س حمذ ًرا:
--على امللك �أن يحذر قبل �أن يفتعل �شرا ًرا فت�ستحيل نا ًرا ،يجب علينا
�أال ن�أخذ �أي قرار ،حتى ننتهي من كليوباترا و ُتخمتها على �أرجاء �أر�ض
الفريوز ،ف�إنها ت�شكل خط ًرا علينا الآن �أكرث من القائد جابينيو�س،
و�إن تراخينا يف �أمرها ،فلن نعرف �إىل �أي حد �سيتفاقم �أمرها ،وال
نريد �أن نثري حفيظة روما يف الوقت الراهن.
ص ع
هد�أ امللك وقال:
والتوز عي
�--أمر جاللتك.
قالها يوثينيو�س ثم انحنى وغادر.
33
()2
ع والتوزي
عزفت كليوباترا عن عبادة �آلهة الإغريق والرومان منذ ال�صغر ،وكانت
تعبد �إيزي�س حتى يف يوم من الأيام �سمتها جماهري الإ�سكندرية «مبعوثة
�إيزي�س» ،وكلما �ضاق �صدرها كانت تنحني يف ملكوت الغيب ،ومتخر يف
بحار اخل�شوع تدعو وتت�ضرع حتى تغيب ال�شم�س �أو ت�شرق ،كانت ت�ست�أن�س
ب�أرواح امللوك والآلهة احلائمة يف الف�ضاء مرتمنة مبتون ودعاء و�أنا�شيد
مرددة مع �أ�صوات املطر تذكارات املجد القدمي.
تكون جي�ش كليوباترا من البدو والعماليق ،والقرا�صنة الأحرار،
حاولت جمع �شتات �أمرها بعد �أن مت نفيها من م�صر ،كانت من دون
حلفاء �أو ذهب �أو �أي قوات ُتذكر ،اجتهت �إىل �سوريا ومتالكت رباطة
ج�أ�شها هناك ،وا�ستطاعت تكوين جي�شها مرو ًرا ب�أور�شاليم وقرب�ص،
وعلى الرغم من كرثة العدد ف�إنهم مل يكونوا حماربني ذوي ب�أ�س و�شدة،
وقد كان هذا ر� َأي احلكيم «�ألك�سندر هيليو�س» ،كان معاو ًنا للملك الراحل،
والآن امل�ساعد الأول والويف لكليوباترا ،كان والء �ألك�سندر هيليو�س الكامل
34
للعر�ش ولو�صية امللك الراحل ،حتى ت�آمر كل من يف البالط على كليوباترا
ونفاها �أخيال�س قائد اجلي�ش خارج البالد.
عاما كلل ر�أ�سه �شعر �أبي�ض كالثلج
كان يبلغ من العمر خم�سة و�ستني ً
عا�ش كامل عمره يف الإ�سكندرية ،در�س علوم الطب والهند�سة والكيمياء،
قر�أ يف كتب الفل�سفة التي �أودعها «�ألك�ساندرو�س �أوميكا�س املقدوين» يف
مكتبة الإ�سكندرية ،كت ًبا كتبها الفال�سفة الأوائل؛ �أر�سطو ،و�أفالطون
و�سقراط ،الذي قد تربى على �أيديهم �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س ،كان
ميلك من ال�سيا�سة ما جعله معاو ًنا للملك الراحل ،ومن الوفاء ما جعل
والتوز عي
حتت لواء روما و�أحد �أفراد احلكومة الثالثية «بومبايو�س ماجنو�س»،
وتوىل من�صب �أمني املكتبة ل�سنوات عديدة ب�أمر من امللك الراحل ،حتى
مت تعيني فليو�سرتاتو�س �أمي ًنا على املكتبة ب�أمر من امللك اجلديد ثيو�س
فليوباتور� ،أو بالأحرى ب�أمر من معاون امللك بوثينيو�س.
--دخل احلكيم «هيليو�س» املحراب املقد�س لربة الفنار ،دلت مالب�سه
املتوا�ضعة ومالحمه املجعدة على الهيبة والوقار ،ترقبت عيناه كما
العادة كليوباترا اخلا�ضعة يف ملكوت الآلهة يف انحناء جليل ،و�صوت
خافت يرتل متو ًنا �سرية ال يعرفها �إال ُمرددها� ،شق �صوته جتاليد
الهدوء:
--موالتي كليوباترا.
انت�شل �صوته كليوباترا من خ�شوعها الدفني ،انت�صبت واقفة يف هدوء
والتفتت �إليه ،كانت فتاة يف الثانية والع�شرين من عمرها ،لها وجه خمري
وعينان رماديتان ورثتهما عن �أبيها يطوف حولهما ال ُك ْحل ،و�شعر مموج
35
�أ�س َود حالك تدلت خ�صالته على وجهها ،وعلى �أنفها املدبب حلقة ذهبية
احللي الالمعة ،و�شفاه وردية رقيقة وممطوطة ،ملكت من اجلمال ما من ِّ
يبهر العيون ويذيب قلوب الرجال ويثري �سخط الن�ساء.
اقرتبت من هيليو�س ،ثم �أردفت:
َ --
فليحي احلكيم �ألك�سندر هيليو�س.
قال ب�صوت �أقرب �إىل احلزين:
--تتبادر الأخبار عن �سقوط مقاليد القوة يف �أيدي غري الأكفاء.
ش
هات ما عندك.
والتوزي ر
نف�سا �إىل �صدره و�أخرجه بزفري جل�س احلكيم هيليو�س ثم �سحب ً
ع
م�سموع ثم قال:
�--إن �أعيننا يف البالط قليلة ،لكنها تفي بالغر�ض ،تف�شت الأخبار عن
�شقيقك الأ�صغر بطليمو�س وا�ستعداده ملواجهتك ِ ا�ستعداد جي�ش
أبيت يكون النفي موتًا.
وطردك من م�صر نف ًيا و�إن � ِ
مل يب ُد على كليوباترا �أي تعابري �صادمة كانت مالحمها جامدة وثابتة،
فقالت:
--توقعت هذا عندما وطئت �أقدامنا �أر�ض بلوزيوم� ،أعط �أوامر للجي�ش
باال�ستعداد ،يجب �أن يكون الأ�سطول البحري جاهزً ا ملالقاة جي�ش
بطليمو�س.
ب�صوت ي�ساوره القلق:
ٍ قال احلكيم هيليو�س
جاللتك ،لكن....
ِ �--أمر
36
توقف للحظة ثم عاد بنربة �أكرث قل ًقا:
--يا موالتي �إن تقابل جي�شك بجي�ش بطليمو�س ف�ستكون معركة �ضارية،
و�إن جي�ش بطليمو�س قوي وفوق ذلك كله قائد اجلي�ش هو �أخيال�س.
اجتهت كليوباترا �إىل �شرفة املحراب ،ثم نظرت �إىل الأفق الذهيب
وقالت:
--مل يكن بطليمو�س عد ًّوا يل قط.
ثم ا�ستطردت بعد حلظة �صمت:
ريص ع
--العدو احلقيقي ال يجل�س على العر�ش �أيها احلكيم ،بل هو املتحكم
ص ع
--حاويل على الأقل احلديث مع امللك ال�صغري.
ع
�أذهانهم ،و�إن و�صية �أبي تن�ص على �أن يعتلي كالنا ُحكم م�صر ،وقد
كان جمل�س �شيوخ روما هو امل�سئول عن حتقيق تلك الو�صية� ...إال
�أن احلرب الأهلية التي قد اندلعت بني يوليو�س قي�صر وبومبايو�س
ماجنو�س �أدت �إىل ف�صم عرى احلكومة الثالثية يف روما ،وما لنا
الآن خيار �آخر �إال احلرب.
�أذعن احلكيم هيليو�س للأمر ،ف�أمر بتجهيز اجلي�ش ،م�ستعي ًنا بخربته
الع�سكرية الفذة� ،أ�شرف بنف�سه على جتهيز الأ�سطول البحري وا�ض ًعا
رامون ال�سهام مب�شاعيل مثبتة فوق �سطح ال�سفن لتكون �سهامهم ك�سهام
«هف�ستو�س» �إله النريان� ،أمر امل�شاة بتكوين �صفوف ك�صفوف �سبارطة
القدمية ليكونوا ذوي ب�أ�س �شديد ودروعهم ثقيلة وثابتة كجبل الأوليمب ال
يخرتقها خمرتق ،و�ضع على القواد�س �ص ًّفا من رماة ال�سهام ويليه �صف
من امل�شاة بدروع مدككة.
38
وعندما انتهت كليوباترا من عبادتها يف الهيكل ،با�شرت اجلي�ش مع
القائد «رابو�س» ،قائد الأ�سطول البحري ،وقائد القرا�صنة الأحرار ،الذي
كان ميتلك ج�سدً ا �صخر ًّيا ال تهده الزالزل وال تثنيه الأعا�صري� ،أ�س َود
اللون ،طويل وعري�ض املنكبني ،كان كب ًريا وقائدً ا للقرا�صنة الأحرار يف
طويل من الزمن ،و�شارك يف ثورة ردحا ًالبحر الأ�س َود ،ق�ضى يف م�صر ً
العبيد الأوىل بقيادة «�سبارتاكو�س» ،عندما قابلته كليوباترا كانت بحاجة
ما�سة �إىل حلفاء ،عر�ضت عليه �أن يكون قائدً ا للجي�ش وي�ضم القرا�صنة
الأحرار �إىل جي�شها ،رف�ض يف البداية ومل يكن �إقناعه �أمرا ً
�سهل �أبدً ا
و ت ل ا و ر ش �--إن التعديل الذي �أقمناه يف
بكلعما
ال�سفينة القواطع مقدمة �سفينة هجومية ،فنحن قد �أ�ضفنا يف
ع
--لقد ق�ص يل احلكيم هيليو�س الق�صة كاملة� ،أخربين كيف بثوا ال�سم
ع
عن احلرب �شي ًئا ،والقرا�صنة الأحرار عددهم ال يكفي ل�صد جي�ش
ل بل
--وهل هناك �سبيل؟
ع
--ال�سبل كلها معوجة وال �أرى ً
�سبيل م�ستقي ًما �أبدً ا.
�صمت لربهة فكر فيها ثم �أردف:
--عندي اقرتاح ولكن �أ�شك يف حتقيقه.
--حتدث.
قال رابو�س� :إن جي�شنا يحتاج �إىل نخبة من اجلنود لتنت�صب عزميته.
--ومن �أين لنا تلك النخبة؟
--عندما كنت يف م�صر مكثت مدة لي�ست بقليلة يف اجلنوب ،و�سمعت
الكثري من الق�ص�ص ،ومنها عن مقاتلني �أكفاء يلني لهم احلديد بني
�أيديهم ،يف احلقيقة �سمعت �أقاويل كثرية� ،أنهم و ِلدوا من �أرحام
الآلهة ،يلقبون باحلماة ،حماة م�صر العليا �أو حماة اجلنوب ،ومنهم
من يلقبهم باملالئكة ال�سوداء �أو حماة الهوية ،يقولون �إنهم يحمون
42
�شعب اجلنوب من بط�ش امللك وحا�شيته ،يعملون يف خفاء متقن ،ال
ُيخ ِّلفون وراءهم دالئل وال �آثار.
--هذا �أمر م�ستحيل.
قالها احلكيم هيليو�س وهو يقرتب منهم.
التفتت كليوباترا �إليه ثم �س�ألت:
--ومن هم �أيها احلكيم؟
قال �ألك�سندر هيليو�س:
ل
ن ل بل ت ك
كب�أ�سهم� ،سكنوا اجلنوب ب�أر�ض تدعى كو�ش ،ينحدرون من ُ�صلب
ر ش
والتوز عي
الإله حور�س وا�ست�أثروا بن�سله ،كانوا يلقبون قد ًميا بامليدجاي ،كانوا
احلر�س اخلا�ص لفراعنة م�صر الأوائل ،بنوا الأهرام وال�صروح،
يلني لهم احلديد بني �أيديهم كالعجني ي�شكلوه كيف ي�شاءون ،لقد
انقر�ض ن�سلهم كما تقول الكتب القدمي.
�سكت و�ساد ال�صمت للحظات ثم ا�ستطرد:
--قر�أت مئات الكتب يف املكتبة العظيمة تتحدث عن تاريخ الأوائل،
يوما.
ُيقال ب�أن بني عروقهم دما ًء �سارت يف ج�سد حور�س ً
�س�ألت كليوباترا :وكيف ن�ستطيع �إيجادهم؟
فقال القائد رابو�س:
جاللتك� .إنهم كال�سراب ي�صعب
ِ --على حد علمي ،هذا �شيء م�ستحيل
تعقبهم �أو ر�صدهم ،يعملون يف اخلفاء ،جلودهم كجلود احلرباء
تت�شكل كيف ي�شاءون ،وي�ضمرون الكره للحكم البطلمي يف م�صر و�أي
43
�شخ�ص يحمل دماء البطاملة بني عروقه ،تلك الدماء التي ت�سري بني
عروقك.
قالت كليوباترا ب�ضيق:
--وما ع�سانا نفعل؟ نحن كمن يحارب ب�سيف من خ�شب.
قال هيليو�س :ينت�صر �سيف اخل�شب عندما يكون �أبطال املعركة من
ورق.
ت�ساءل رابو�س:
والتوزي ر
�--إىل الآن نحن منلك موق ًعا ا�سرتاتيج ًّيا ممي ًزا ي�سمح لنا بفر�ض خطة
ع
هجوما �سنكون له
أخوك بطليمو�س ً املعركة كيف ن�شاء ،وعندما ي�شن � ِ
جاللتك �أال تقلقي �أبدً ا.
ِ باملر�صاد ،على
ع َّقب القائد رابو�س :نحن ال منلك الآن �إال �أ�سطولنا البحري ،وللأ�سف
ال�شديد ال يعرف م�سالك البحار �إال القرا�صنة الأحرار ،و�إذا مت اخرتاق
ُّ
ف�ستندك تلك احلوائط فوق رءو�سنا ،وال �أرى الأ�سطول �أو ُ�صنع ثغرة فيه
�أن نخو�ض يف تلك املخاطرة بكامل قوانا.
فقالت كليوباترا:
�--إذن ِ
فليدل القائد رابو�س بحلول.
�أدىل القائد رابو�س:
--منذ فرتة و�أنا �أفكر يف اال�سرتاتيجيات التي �سوف نتبعها يف املعركة،
و�أعتقد �أنني تو�صلت �إىل ا�سرتاتيجية �سوف تفي بالغر�ض يف حالتنا
44
تلك ،علينا �أن ُنق�سم الأ�سطول ملجموعات وعلى ر�أ�س كل جمموعة
رجل من القرا�صنة الأحرار ،املجموعة الأوىل تتخابط مع جي�ش
بطليمو�س وبعد فرتة تتبعها املجموعة الثانية ثم الثالثة وكذلك
حتى يظن العدو �أن �أ�سطولنا كبري وحتى �إذا خارت عزمية اجلنود
�أتبعناهم مبزيد من الإمدادات.
ابت�سم احلكيم هيليو�س ثم �أردف:
--كما يدخر قائد اجلي�ش احل�صيف جز ًءا من جي�شه يحتاط بهم من
ع
خلفه ،حتى �إذا �أرهقه العدو من الأمام دعا �أولئك وهم يف عافية
ع
�س�أل بغتة:
ع والتوزي
--مل يحمل �إال قل ًبا ودي ًعا كقلبك يا �إريو�س.
مثل ُّ
ال�ش ْعل ِة احل ْمراءِ ،وعقابه كان �أردف �إريو�س ِب� ًأ�سى :قد عا�ش َ
كزوابع ال ْأ�شواك.
--قال �ستافلو�س بنربات حتمل �شي ًئا من اللوم:
كموج من الأ�سى ،يجبقلبك الأليف امل�ؤلف �سيكون من �سوط الدنيا ٍ
ال�ص َّماء ،ال ي�سمع وال يرى وال ي�شعر.ال�ص ْخرة َّ على قلبك �أن يكون َ
مثل َّ
للعاطفة عواقب وخيمة و�أقرب الأمثلة.
--ثم �أ�شار بعينيه �إىل متثال بروميثيو�س ال�ساقط � ً
أر�ضا وا�ستطرد:
--حلظة واحدة من ال�شفقة جعلته يف عقاب �سرمدي.
ً
منفعل: فقال الفتى
--وما خطيئتي �إذا كان قلبي ي�شبه قلبه؟
46
--العاطفة خطيئة الإن�سان الأزلية! ...و�أنت.
ثم ا�ستطرد بنربات حتمل القلق واحلب م ًعا:
�--أنت يا �إريو�س كجمال الفجر ال�سرمدي ،والدنيا ك�شم�س حترق
الفجر ب�شعلتها ،والفجر ال يقدر على ال�شعلة و�إن كان ملي ًئا بالردي.
متوهج ك�شم�س تطلع
ٍ --ل�ست فج ًرا ملي ًئا بالردي ،بل �أم�شي بروح حا ٍمل
يف ليل الليايل ،وقلبي كان كالبئر ال�سحيقة ال قرار لها وال نهاية.
--ال تخدعنك الأحالم والآمال� ،أنت يف عامل الآثام والبغ�ضاء� ،إن مل
ع
تخن ف�سوف ُتخان ،هكذا ي�سري الأمر، ت�أكل ف�سوف ت�ؤكل� ،إن مل ُ
والتوزي
قليل ثم �أردف:
ع
حبي�سا يف �صدري.--ال تقلق يا �ستافلو�س ما يف �صدري �سيظل ً
�--أط ِلق له العنان �إن كان هذا ما يريحك.
--لو �أطلقت له العنان ملا ت�صافحت مع النا�س �إال بال�سيف.
فهم �ستافلو�س ما يرمي �إليه �إريو�س ،كانت تلك الرغبة املجحفة التي
تتملكه لالن�ضمام �إىل اجلي�ش يف روما تتحكم يف كلماته وانفعاالته ،مل
يكره �ستافلو�س يف حياته �سوى �شيئني ،زوجته القبيحة وحديث �إريو�س
و�أحالمه عن االن�ضمام �إىل اجلي�ش ،نظر له نظرة طويلة ثم �أردف:
--ويحك يا �إريو�س! ما يدور يف َخ َلدك �سيكون �سب ًبا يف هالكك.
احم َّر وجهه غ�ض ًبا وقال :ومتى كانت الأحالم هال ًكا؟
وبنظرة �شزراء قال:
--تكون هال ًكا عندما ُتهلك �أ�صحابها.
--اهدم ف�ؤادي ما ا�ستطعت ،ولكن ف�ؤادي كال�شفق يف الف�ضاء النائي.
48
هداما للأفئدة ...لكني �أق�سم بالآلهة �أنني �صاح �ستافلو�س :ل�ست ً
�أخ�شى عليك.
�أردف �إريو�س ُمتَم ْلمِ ًل :كيف حتمل يف نف�سك ال�شيء و�ضده؟
--ماذا تق�صد؟
--تارة تقول �إنك تعلمني ال�شدة والغلظة لكيال �أقع بني املكائد
علي
والد�سائ�س التي ت�صنعها احلياة ،وتارة �أخرى تقول �إنك تخ�شى َّ
من احلياة ،كيف �أتعلم ما مل �أجرب؟
ص ع
هد�أت نربات �ستافلو�س وو�ضع يده على كتف �إريو�س و�أردف:
والتوز عي
ولده ،و�أحيا ًنا يختلط القلبان.
�--إن الإن�سان ال يحمل �إال قل ًبا واحدً ا يف �صدره يطغى على ل�سانه
فظا وو�ضي ًعا. وج�سده ،وال متلك �إال قلب نخا�س ًّ
قالها وغادر مغا�ض ًبا ،رحل نحو البوابات وحيدً ا ،وعندما وجدتْه عني
بيتالو�س يبتعد ،اقرتب من �ستافلو�س ومل�س يف وجهه ال�ضيق ،ف�أردف:
�--أجتادلت �أنت و�إريو�س جمددًا؟
�أجاب ب�صوت يلفحه احلزن:
--نعم.
--وكيف �سارت الأمور؟
--كالعادة ،يغلبني يف احلديث ثم ينك�ص على عاقبيه غا�ض ًبا.
�أطلق بيتالو�س �ضحكة ثم �أردف:
�--إن ذلك الفتى له روح حمارب عظيم.
49
�--إن الفتى كالزوبعة املتمردة ،وال �أ�ستطيع �أن �أ�سيطر عليها.
--ولن ت�ستطيع �أبدً ا� ،إن الفتى ما زال حديث ال�سن ومندف ًعا ،ولكنه
فطن كالن�سر املحلق ،ثاقب الر�أي وذكي.
--نعم ،ولكن تنق�صه اخلربة.
ظل كئي ًبا يف جلة الن�سيان� ،أرى--عندما تدنو منه نظراتي ،ال �أرمق �إال ًّ
حبي�سا ينتظر �أن يعتقه �صاحبه فيطري �إىل القبة الزرقاء ،ناث ًرا ط ًريا ً
كل قيوده من كل بنان.
ع
قال ب�صوت ي�ساوره القلق:
ر ش
والتوزي
ال�سماء� ،أو �صعدت به �إىل �أقا�صي الأوليمب.
ع
--وماذا ع�ساي �أن �أفعل؟
--حرر الفتى ،ودعه يرتوي منْ َم ْن َه ِل احلياة ،و�إن كان يريد االن�ضمام
�إىل اجلي�ش ،فدعه ،دعه يخطو خطواته كما يريد.
--قال �ستافلو�س برتدد:
--ال �أعرف!� ...إنني الآن �أجدين يف حرية وجلاجة من �أمري.
�ضحك بيتالو�س وهو يقول:
--دعك من جلاجتك املعهودة وحدث الفتى مبا ي�سره.
ص ع
قد�س الأقدا�س بخطوات ثابتة ووقورة ،ثم دخل �إىل الغرفة التي يتعبد
ريص ع
الذي ي�صب ماء التطهري لأجل القاطنني يف ملكوتك ،يا من تعطي الأرواح
والتوزي
عيني تب�صران نورك� ،إن قلبي كان على امليزان كام ًنا يف روحي ،اجعل َّ
ع
نق ًّيا مل يرتكب خطيئة وال �إث ًما ،لي�ست هناك خطيئة عالقة بي ،مل �أقل
لتمنحن �أن �أكون كه�ؤالء املقربني،
ِ كذ ًبا �أدريه وال فعلت �شي ًئا بقلب ٍّ
غا�ش،
�أنا الكاهن املحارب ،الذي يحفظ �آيات التبجيل ومتون اخلال�ص ،ع�سى
�أن �أ�شق طريقي و�سط النجوم التي ال تغم�ض يف ال�سماوات �أبدً ا ،يا من
يفي�ض ب�أ�شعة ال�ضياء على �أرا�ضي ال�شمال واجلنوب� ،أ�شعتك ال ميكن
معرفتها وال �ضيا�ؤك ميكن ت�صويره ...يا حور�س العظيم».
تربى حوررب بني حوائط املعبد وبني وجوه الكهنة ،اتخذه الكاهن
الأكرب كا ْبن مل َ
يحظ به يف حياته الأوىل ،تع َّلم الن�صو�ص والأ�سماء
املقد�سة ،وعندما ا�شتد فرعه �س َّلمه الكاهن الأعظم �إىل رود �آمون يف
�أر�ض كو�ش ،تعلم �أ�ساليب القتال و�أالعيبه ،وكان �أول �شخ�ص يجمع بني
قلوب الكهنة و�أفئدة املحاربني ،وكما اعتاد منذ ال�صغر دلف �إىل قد�س
الأقدا�س ،ثم دلف �إىل غرفة الكاهن الأعظم يف خ�شوع وهدوء ،فوجد
52
�صاحب القدا�سة �ساجدً ا يف �إجالل ،حلظات ثم انتهى من عبادته،
فانت�صب ،نظر �إىل حوررب وابت�سم ثم قال ب�صوت �شاحب:
فليحي القائد حوررب حامي م�صر العليا وكو�ش. َ --
ب�صوت خا�شع وخفي�ض: ٍ فقال حوررب
فليحي �صاحب القدا�سة الكاهن �سوفر. َ --
--كيف حالك وحال زوجتك �آ�سيا؟
--بخري.
ريص ع
قالها حوررب وعيناه ترمقان الكاهن الأعظم بقلق ،كان باد ًيا عليه
بل
حلا حلوررب ،هو ال يذكر
والتوز عي
�أمره كبري الكهنة.
اجته كبري الكهنة �سوفر �إىل �شرفة قد�س الأقدا�س رام ًقا �شعاع قر�ص
ال�شم�س يف انحدار ورحيل ،ف�أردف:
عاما ،ويف هذا املكان املقد�س وعندما كنت كاه ًنا �شا ًّبا، --منذ ثالثني ً
كنت �ساجدً ا يف مو�ضعي هذا ،حتى غفت عيني ،ف�أيقظني الإله
م�ستخدما �أجنحته امل�صوغة من الذهب ً حور�س على هيئة �صقر،
والياقوت والزمرد ،ورافقته الأم �إيزي�س وكانت ترتدي ردا ًء �أرجوان ًّيا
من الزبرجد� ...أبهى من �شعاع الغروب و�أجمل من زهرة اللوت�س
الزرقاء ،كنت �أظن �أنني ذاهب �إىل الغرب حتى خرج من ال�سماء
�ضوء �سرمدي �أبهى من زنابق احلقول ...وان�شق ال�ضوء وخرج منه
فر�س �أبي�ض له جناحان وجثا عند قدمي ،ثم امتطيته وانطلق بي �إىل
ال�سماء ،وتوقف عند مدخل طريق النور امل�ؤدي �إىل العر�ش ال�سماوي،
والذي �إن عربه احرتق ،ووجد ُتني �أحلق وقد نبت يل جناحان كالذي
53
عند فر�س ال�سماء ،فر�أيت باب العر�ش والذي كان طوله طول
مزيجا
ال�سماء ،انفتح الباب فدلفت لأجد العر�ش ،وك�أن العر�ش كان ً
من الذهب والياقوت واملرجان والزبرجد والي�شب و�أحجار كرمية من
ال�سماء مل �أعلمها قط ،وحول العر�ش ر�أيت تا�سوع الأرباب املقد�س
وبجوارها املالئكة ،ثم ر�أيت �سبع �شمو�س تتلألأ يف �أفق ال�سماء
وجتمعت فخرج منها حور�س ،و�سلمني ً
طفل �صغ ًريا من دمه لأرعاه،
اقرتب مني كائن الكروبيم املجنح وله �أربعة وجوه كوجوه الب�شر،
ع
والأ�سد ،والثور ،والن�سر ،فامتطيته و�أعادين �إىل الأر�ض ،فا�ستيقظت
ك
ً
ر ش
والتوزي
�أمام الباب الكبري لقد�س الأقدا�س وجدتك يا حوررب هناك ت�صرخ،
ع
حملتك ،وعلمت ب�أنك ابن من �أبناء الآلهة ،كنت �أحيا ًنا �أ�صحو من
نومي على �أ�صوات وترانيم ت�أتي من حجرتك ،واكت�شفت �أن حور�س
كان يزورك ،وي�ضع يف قلبك الأ�سرار املقد�سة ،وملا بد�أ ل�سانك ينطق
بالأ�سرار خفت عليك ،و�أر�سلتك �إىل �أر�ض مدجا يف كو�ش لتتعلم
�أ�ساليب القتال و�صرت الآن �آخر الأ�شخا�ص الذين يحملون دماء
الإله حور�س ،ولقد حر�صت على �أن ي�شرف على تعليمك القائد رود
�آمون ف�صرت عاملًا ب�أمور القتال واحلرب و�أ�صبحت لك حنكة فذة،
ولقد ر�أى فيك القائد رود �آمون منذ �صغرك �أنك �سوف ت�صبح �سيد
قومك ،و�سيكون لك �سلطة امللك يف اجلنوب ،و�سوف حت�ضر ال�سالم
الأبدي �إىل اجلنوب بعدما عانى �أهل اجلنوب الكثري� ،أنت يا حوررب
�سوف تكون �أول قائد للميدجاي منذ �أكرث من �ألف عام.
�ساد ال�صمت للحظة قال فيها حوررب:
54
--يتوجب على امليدجاي حماية فرعون ،ف�أي فرعون �س�أحمي وقد
اندثرت �آثارهم؟
�--إن �أج�ساد الفراعنة ما هو �إال وعاء يحمل روح الإله ،و�إن فرعون
ودما.
الذي �ستحميه لي�س حل ًما ً
--وماذا يكون؟
�أ�شار الكاهن �إىل احلوائط املنقو�شة بتاريخ الأوائل ثم قال:
--هنا يا حوررب ،على امل�سالت وعلى احلوائط واملقابر والربديات
ع
ُنق�ش التاريخ القدمي ،تلك احلوائط خلدت � ً
ص
أبطال وملو ًكا عظماء
ب
لفافة لمنلنورق الربدي ،و�أكمل:
ش
الأرا�ضي املقد�سة.
ع
--تف�شت الأخبار يف الإ�سكندرية عن حرب �ست�شتعل قري ًبا ،بني كليوباترا
ر ش
والتوزي
الرومانية التابعة للقائد جابينيو�س.
ع
قال وبدا على وجهه الأ�سى:
--نعم ،لقد علمت ذلك ولهذا �أر�سلت �آ�سيا ومعها بع�ض اجلنود
لي�ستق�صوا عن الأمر يف املكتبة العظيمة يعمل هناك �أحد �أقاربها،
ف�إن الإ�سكندرية الآن تنقلب ر� ًأ�سا على عقب ،ومعها يزداد اجلنود
ً
توح�شا يف باقي اململكة.
مل�س الكاهن وجه حوررب املُ ْك َف ِه َّر ،ثم ت�ساءل:
--هل حدث �شيء ما؟
قال بغ�ضب مكظوم:
مر�سال من طيبة ،يق�ص فيه عن قتل بع�ضً --نعم ،لقد �أر�سل يل باكو
اجلنود الرومان عائلة يف طيبة ،ومع العائلة طفل ما يزال يف املهد.
�صمت الكاهن الأعظم معر ًبا عن حزنه ،فا�ستطرد حوررب:
56
علي مغادرة �سمنود غدً ا ،فيجب �أن ينال �آخرون م�صريهم --ولهذا َّ
العادل.
قال الكاهن بعد �أن قاوم ح�شرجة �صدره:
--لري�شدك الرب �آمون يف خطواتك.
مل�س حوررب �أنفا�س الكاهن الثقيلة فقال:
�--أما زلت ت�صارع املر�ض؟
ع
هم�سا:
قال ب�صوت خفي�ض يكاد يكون ً
ر ش
والتوز عي
الغرب بعد ب�ضعة �أيام ...فبحق �أوزوري�س النائم عليك �أن ت�سعى �إىل
حترير �أر�ضنا من ه�ؤالء الربابرة املتوح�شني.
انحنى حوررب �إىل الكاهن الأعظم ثم خرج من املعبد وامتطى فر�سه
وغادر ،غادر وهو يعلم �أنه لرمبا تكون تلك املرة الأخرية التي يرى فيها
معلمه و�أباه الكاهن الأعظم.
57
()3
كانت «�أر�سينوي» ذات الأربعة ع�شر ربي ًعا الأخت ال�صغرى لكليوباترا
وبطليمو�س ،لها عينان بنيتان متيالن للأ�صفر ورثتهما عن �أمها ،وطباع
حادة من �أبيها ،وقلب وديع مل يحمل �ضغينة قط ،كانت حتب التطريز
ع
كانت عيناها �صفراوين ،ويف نور ال�شم�س تت�ألقان كالذهب املتلألئ،
اعتادت الأمرية �أر�سينوي القراءة يف �إلياذة «هومريو�س» و�أح�ضر لها
مربيها «جانيميدي�س» كل الربديات واللفائف من مكتبة الإ�سكندرية التي
تق�ص ق�صة ح�صار طروادة ،والبطل �أخيل الذي حتدى كل �آلهة الأوليمب
وانتقم من قاتل ابن عمه ،كانت تقر�أ بال�ساعات دون ملل �أو �إرهاق ،عن
كل �شيء ،ولكنها كانت مولعة بالتاريخ القدمي والأ�ساطري ،لأنها تبيح لها
اخليال ال�صرف ،تبيح لها حياة �أخرى متنت �أن تعي�شها� ،أي حياة مهما
كانت �ستكون �أف�ضل من تلك على �أي حال.
كانت فطنة� ،إال �أنها مل تفهم قط ما يدور يف البالط من م�ؤامرات
يوما ما يدور بني �أخويها بطليمو�س وكليوباترا ،ولكن
ود�سائ�س ،ومل تفهم ً
مربيها «جانيميدي�س» ،كان �أعلم النا�س مبا يدور يف البالط ،لكنه يخ�شى
عليها من امل�ؤامرات التي ُتاك ليل نهار يف البالط ،كان ً
رجل فط ًنا
58
وذك ًّيا يعلم كيف ي�صمت ومتى يتحدثَ ،م َل َك من احلنكة ما جعله ُيقْ�صيها
عن الأعني بقدر امل�ستطاع ،وعندما طرد بطليمو�س كليوباترا من م�صر
�أخربها �أن تبقى مع �أخيها خو ًفا عليها من املجهول ،وبالرغم من هذا مل
ت�ست�سغ نف�سه حكام البالط وال حتى امللك ال�شاب ،جل ما يهمه هو �سالمة
ِ
الأمرية ال�صغرية ،و�إبعادها عن العر�ش املعلون ،وكان دائ ًما ما يق�ص
عليها ق�صة الأمرية امللعونة التي �أغواها العر�ش فبعثت �آلهة الأوليمب
بهيدي�س ليلقيها يف باطن الأر�ض ،كانت ما تنفك تفكر يف الق�ص�ص
التي يق�صها مربيها جانيميدي�س واملغزى من ورائها ،وما عالقة الأمرية
ص ع
امللعونة بالأمرية برنكيِ ،ول لعنتها الآلهة يف باطن الأر�ض.
والتوز عي
وحلية طويلة ،ويرتدي رداء ذا نقب ٍة طويلة ،توىل �أمر الأمرية �أر�سينوي
منذ الوالدة حينما كانت الأمور يف الق�صر منقلبة ر� ًأ�سا على عقب عندما
انقلبت الأمرية برنكي على �أبيها امللك بطليمو�س الثاين ع�شر �أوليتي�س
وا�ستولت على الإ�سكندرية حتى جل�أ �أبوها �إىل بومبايو�س �أحد �أ�ضالع
احلكومة الثالثية يف روما ،وب�أمر منه ا�ستطاع الدخول �إىل الإ�سكندرية
و�إعادة العر�ش املنهوب ،ومت معاقبة برنكي بالتحنيط وهي على قيد
احلياة ،ومت تعيني م�ساعد بومبايو�س القائد جابينيو�س على جباية
ال�ضرائب ل�صالح روما ب�أمر من احلكومة الثالثية يف روما ،ومنذ ذلك
احلني كان يحاول �إبعادها عن ال�صراع القائم على العر�ش.
يف امل�ساء ا�ستدعى امللك ال�شاب الأمرية �أر�سينوي ،وما �إن و�صل لها
الأمر حتى علم جانيميدي�س مبا ينوي امللك فعله وم�ست�شاره بوثينيو�س،
وطلب من الأمرية احل�ضور معها واملثول �أمام امللكُ ،نفخت الأبواق عند
دخول الأمرية وانحنت هي وجانيميدي�س �أمام امللك ،ثم انتقلت الأمرية
59
بجوار امللك على العر�ش ،وعلى �شماله م�ست�شاره بوثينيو�س ،والذي قال
بابت�سامة ارت�سمت على فمه:
--التحية للأمرية ال�صغرية وامللكة امل�ستقبلية لعر�ش م�صر.
عندما �ألقى بوثينيو�س كلماته رنت يف �آذان احلا�ضرين ،رمقه
جانيميدي�س بعينني متهكمتني على ما قال ،نظرت الأمرية �أر�سينوي �إىل
جانيميدي�س ب�أطراف عينيها وتبادال النظرات للحظات ثم عادت تقول:
--ملكة.
ص ع
�أردف امللك:
بل
أذناك يا �أر�سينوي� ،سوف تكونني ملكة م�صر يف تتويج
ع والتوزي
ت�ساءلت الأمرية :وكليوباترا؟
ف�أردف بوثينيو�س:
--مل تعد كليوباترا ملكة على م�صر بعد الآن.
�ألقى جانيميدي�س نظرات �شزراء �إىل بوثينيو�س ثم قال �إىل امللك:
�--أ�ستميحك عذ ًرا يا موالي! ...لكن الأمرية �أر�سينوي لي�ست م�ستعدة
لتكون ملكة ،و�إن اململكة الآن على �أعتاب حربها مع كليوباترا ،وال �أرى
�أن تتويج الأمرية �سوف يكون �أم ًرا حكي ًما يف ذلك الوقت الع�صيب.
كانت كلماته حماولة م�ستميتة لعدول امللك عن قراره ولكن مالحمه مل
يب ُد عليها تراجع ،بل تزداد �إ�صرا ًرا� ،أردف بوثينيو�س:
�--إن بقاء اململكة بال ملكة �سيت�سبب يف طمع الكثري يف العر�ش ،وتتويج
الأمرية ال�صغرية �سيكون �أكرب حتذير حلدث رهيب هو ال حمالة
واقع ،وحربنا مع كليوباترا باتت قريبة.
60
كز جانيميدي�س على �أ�سنانه وجحد بوثينيو�س بنظرات غا�ضبة
كال�شهب ،ثم ا�ستطرد يف حماولة لإقناع امللك:
--ولكن �أيها امللك...
مل يعطه امللك فر�صة وقاطعه بحزم:
--ق�ضي الأمر يا جانيميدي�س ال �أريد مزيدً ا من اجلدال� ،سيكون تتويج
الأمرية خالل �أيام.
وعقل غافل من امللك ،غ�ضب كفي�ضان مل�س جانيميدي�س �آذا ًنا مغلقة ً
ريص ع
غا�شم مما حاكه بوثينيو�س للأمرية ،ولكنه كان يتوقع الأمر منذ البداية
والتوز عي
العر�ش ف�سيكون م�صريها كم�صري الأمرية برنكي ،انحنى جانيميدي�س ثم
ان�سحب يف هدوء تام وعلى حمياه عالمات االمتعا�ض والغ�ضب.
قالت الأمرية:
--ولكني �أرف�ض ذلك.
بيدك خيار.
رد امللك :هذا �أمر ،ولي�س ِ
ابت�سم بوثينيو�س ،ف�صاحت الأمرية بغيظ:
�--أنت يا بوثينيو�س كح�صان طروادة ،لوهلة تبدو هاد ًئا وودي ًعا ولكنك
خمادع ومليء بالأ�شواك.
جحدها امللك بنظرات غا�ضبة ،و�أردف يف حدة:
�--أر�سينوي.
مل تغب االبت�سامة عن وجه بوثينيو�س:
61
--ال مانع عندي يا موالتي �أن �أكون ح�صان طروادة املخادع �أو حتى
ال�شيطان هيدي�س ال�شرير ،ولكن م�صلحة اململكة هي �شاغلي الأول
والأخري.
نظرت الأمرية �إىل بوثينيو�س بتقزز وغادرت على عاقبيها غا�ضبة،
ف�أردف امللك:
�--أعتذر لك يا بوثينيو�س ،ف�إن �شقيقتي �أر�سينوي ال تدري ما تفعله �أو
تقوله يف حلظتها تلك ،فقد ورثت غ�ضب �أبي العاتي.
ع
--ال ب�أ�س يا موالي ،ف�إن الأمرية ال�صغرية تتبع تعليمات مربيها
ر ش
والتوزي
التتويج.
ع
قام امللك من على عر�شه ثم ا�ستوى على كر�سي �أمام النافذة ا�ستلذت
�أطرافه بل�سعة هواء باردة ثم �أردف:
�--أكرث ما يقلقني يا بوثينيو�س هو الو�صية التي �سلمها �أبي �إىل روما قبل
موته ،و�أخ�شى �أن يكون هذا الأمر عائ ًقا وتتخذ روما �صف كليوباترا،
فتيل لتلك النريان.و�أخ�شى �أن تتويج �أر�سينوي يكون ً
قال بوثينيو�س:
�--إن احلرب الأهلية بني يوليو�س قي�صر وبومبايو�س جتري جمرى
ال�سم يف دماء روما ،و�شيوخ املجل�س تتخابط عقولهم و�آرا�ؤهم بني ُّ
م�ؤيد ليوليو�س قي�صر وم�ؤيد لبومبايو�س ماجنو�س ،ويف ظل هذه
االن�شقاقات لن يفكر �أحد يف �أمر و�صية امللك الراحل ،لقد �أر�سلت
�إىل جمل�س �شيوخ روما ر�سالة ملكية عن �سقوط م�ستوطنات القائد
جابينيو�س يف يد كليوباترا ،وال �أظن �أن تتخذ روما �صف كليوباترا بعد
62
هذا� ،سوف تكون �إهانة عظيمة لبومبايو�س ماجنو�س ،وبومبايو�س له
�شعبية جارفة ون�صيب عظيم بني �صفوف جمل�س ال�شيوخ.
قال امللك ب�أمل م�شوب بالقلق:
�--آمل ذلك يا بوثينيو�س� ...آمل ذلك.
انحنى بوثينيو�س وان�سحب من الغرفة امللكية ،خرج فوجد جانيميدي�س
يقف يف ردهة الق�صر وعيناه ت�شتعالن َك ُ�شهب تت�ساقط من ال�سماء ،رمق
بوثينيو�س بنظرات حادة ك�سيوف م�شحوذة ،اقرتب منه بوثينيو�س ثم
ص ع
�أردف:
ع
�أر�سينوي �إال لإق�صاء كليوباترا عن العر�ش للأبد.
والتوزي ر
ا�ستباحت م�صر منذ عقود ،و�أعرتف لك ،مل يكن هديف ً
ع
يوما.
نبيل ً
--طموحك كالفي�ضان ،و�سيغرق كل من ال يعرف ال�سباحة ،و�إين ل�سباح
ماهر ،ولن �أترك الأمرية بني ُد َّوامات بحارك �أبدً ا ،و�ستجد �سيفي
دوما يا بوثينيو�س ،ف�أنت متلك يف نف�سك عنا�صر املفا�سد مت�أه ًبا ً
واملكاره كلها تتقلب كالأفاعي على جوانب الكهوف وامل�ستنقعات.
�ضحك بوثينيو�س ثم �أردف:
--ويحك يا جانيميدي�س! �إن البالط الآن حتت �أقدامي وال �أقول هذا
تهديدً ا ووعيدً ا �إمنا �أقوله حتذي ًرا.
--قد فعلت ما ال �أندم عليه ،ولي�س يف تهديدك ما يخيفني ،فقد مرت
تهديداتك بي مر الرياح اخلاوية التي ال �آبه بها.
--يبدو يل �أنك م�ص ٌّر على معاداتي يا جانيميدي�س ،ومل تدع يل خيا ًرا
�إال �أن �أتخذك كعدو يل ...و�إن يل يف الرجال لنظرة ،و�أرى يف �أعماق
روحك وه ًنا يا جامييدي�س ،وه ًنا ال ت�ستطيع عيناك َك ْبته ،وهو عيبك
64
يف نف�س الوقت ،ف�إن حر�صك على الأمرية ح َّولك من حمارب يجابه
الآلهة �إىل جمرد رجل ال ي�ستطيع حمل �سيف من فرط وهنه.
�صمت جانيميدي�س هنيهة وحدق يف عني بوثينيو�س بتحدٍّ وقال:
--ل�ست �أنا باخلائن وال بالو�ضيع الذي تظنه ،و�إن ال�شرف لهو مو�ضع
حديثي الآن ،و�إين �أف�ضل املوت لت ِّوي على �أن �أ�ساعدك ولو للحظة
على الظفر بالعر�ش.
عم ال�صمت املكان للحظات تبادال فيها نظرات حمتدمة ،وحلظات
ص ع
�أخرى غادر فيها جانيميدي�س البالط ،وان�سحب فيها بوثينيو�س �إىل مكتبة
ع
هرما ،فلن �أق�سو عليك.
�أطلق بيتالو�س �ضحكة وقال:
--هيا �أرين ما لديك ،هذا العجوز الهرم �سوف يركل م�ؤخرتك حتى
تطلع ال�شم�س.
تبادلت ال�سيوف �ضربات خفيفة يف البداية� ،أم�سك الفتى ال�سيف
مبع�صمني قويني ،كان ال بد من �أن يفوز بهذا النزال بالذات ،لأنه الحظ
�أن منقذه يراقب من بعيد ،كان يريد �أن يثري �إعجابه ويلفت انتباهه
بطريقة ما ،رفع �سيفه لأعلى و�سدد �ضربة �سريعة ولكن بيتالو�س ا�ستطاع
�أن يتفاداها بر�شاقة �شاب يف الع�شرين ،رجع خطوتني �إىل الوراء ً
متخذا
و�ضعية دفاعية ،اندفع �إريو�س بحما�س �شديد ،حتا�شاه بيتالو�س و�ضربه
أر�ضا� ،أطلق �ضحكة وقال م�ستهز ًئا:
بظهر ال�سيف على ر�أ�سه و�أ�سقطه � ً
--هيا يا فتى ولعلني �سوف �أت�ساهل معك تلك املرة.
66
طبقات مبطنة من املالب�س ،كان كمن طوق نف�سه وال ٍ كان يرتدي
بع�ضا من الطبقات الكثيفة ونظر لبيتالو�س بتحدٍّ ،ي�ستطيع احلركة ،خلع ً
وكان الأخري يلهث متعر ًقا ،وعلى الرغم من براعته ف�إن تق ُّدمه يف العمر
قد بد�أ يظهر يف النزال ،عقد �إريو�س حاجبيه وعزم على الهجوم ب�شرا�سة،
�سدد ب�ضع �ضربات ا�ستطاع بيتالو�س �صدها ،ويف ال�ضربة اخلام�سة تعرث
واختل وزن بيتالو�س ،اقتن�ص �إريو�س الفر�صة ووجه �ضربة �أطاحت
أر�ضا ،التقط �أنفا�سه ورفع الن�صل �إىل وجهه،بال�سيف من يده و�أ�سقطته � ً
ابت�سم ثم �أردف:
ص ع
--اكتفيت �أيها العجوز �أم تريد املزيد؟
ر ش
والتوز عي
ثم �أردف:
كهول مثلي.--ال تفرح كث ًريا �أيها ال�شاب فمعظم �أخ�صامك لن يكونوا ً
ق�ضيا الليل نائ َمني بن�صف �أعني ،تناوبوا احلرا�سة فيما بينهما� ،أخذ
�إريو�س �أول الليل وبيتالو�س حتى ال�صباح ،ومع �إ�شراق القر�ص الذهبي
ت�أهبا للم�سري ،م�شى �إريو�س بخطوات وا�سعة حتى م�شى مبحاذاة منقذه،
نظر له منقذه ثم �أردف:
�--أنت مبارز جيد �أيها ال�شاب ،ولكن ينق�صك الكثري لتتعلمه.
بدا على وجه �إريو�س ال�سرور من كلمات منقذه ،ثم �أردف بحما�س:
--وماذا ينق�صني؟
فادحا عندما --ينق�صك احلكمة �أيها ال�شاب ،ليلة �أم�س �أخط�أت خط�أ ً
ً
أر�ضااندفعت بكامل قواك ،ا�ستغل العجوز اندفاعك و�أ�سقطك � ً
ب�ضربة �سيف.
67
�أردف �إريو�س:
--ولكني تغلبت عليه يف النهاية.
--ال ،مل تتغلب عليه ،ومل تقرتب حتى ،بل العجوز تركك تربح النزال.
ت�ساءل« :كيف علمت هذا؟»
�--أنت ت�ستخدم ال�سيف ك�سالح وهذا خط�أ ج�سيم.
مل يفهم �إريو�س ما قاله ،ثم �س�أل:
�--أ َولي�س ال�سيف ً
ع
�سالحا؟
ر ش
والتوزي
كيف مت�سك بال�سيف ولكن ال تعرف كيف تفكر �أو كيف تقتل ً
رجل.
ع
حلوحا على ل�سانه:
كان ال�س�ؤال ً
--كيف تعلمت كل هذا؟
--قد تعلمت الكثري بني �صفوف اجلي�ش.
قال بعينني تلمعان:
--تلك هي �أمنيتي الوحيدة يف احلياة ،وال �أظن �أنني �سوف �أ�ستطيع
حتقيقها �أبدً ا.
--هل تريد االن�ضمام �إىل اجلي�ش؟
�أجاب :نعم.
--لعلك ال ت�ستحق هذا البالء ف�أنت حتمل قل ًبا نق ًّيا.
--بالء! ملاذا؟
ت�ساءل بف�ضوله املعتاد.
68
قال منقذه بنربات حادة:
--لعلك ال تعرف �شي ًئا �أيها ال�شاب ،هل ر�أيت حر ًبا قط؟ يف احلروب
ال يوجد غري �شيئني فقط ،الدموع والدماء ،و�أ�شالء تتطاير يف كل
مكان ،لعلك تظن �أنك �سوف حت�صد املجد وتتقرب للنبالء بب�سالتك
و�شجاعتك ،الأمور ال ت�سري بهذه الطريقة �أبدً ا ،بني �صفوف اجلي�ش،
متوت الأحالم ،ويغادر الأ�صدقاء ،ويرحل كل من �أحببت.
كانت كلماته حتمل �أث ًرا غري ًبا يف نف�س �إريو�س ،كان ي�شعر بقلبه
ع
احلزين بني نرباته املرتدية ،كان وجهه يحمل �ألف ق�صة ،وعيناه حتمل
و ل
غريتم�ا و ر ش
ع ي ز
ألوفة ،جاءت يف الليل كان البهو هاد ًئا حتى ملئت �أرجائه حركة
الأخبار عن قتيل ،مل ُيعرف من هو ،ولكن يبدو �أنه ذو �ش�أن رفيع يف
البالط ،وقد جاء على �أثره القائد ماريو�س من الإ�سكندرية ،كان ماريو�س
نباحا،
�أحد �أذرع بوثينيو�س يف الإ�سكندرية ،و�أحد كالبه �إن تطلب الأمر ً
طويل القامة يحمل وجهه ندبات غائرة ،يرتدي على كتفيه فرو ذئب بري،
كان يهابه كل من يف الإ�سكندرية مما �سمعوه ،يتحاكى �أهل الإ�سكندرية
عن �أنه ميزق جلود املتمردين ب�أنيابه املجردة ،كان من �أ�صل روماين ،جاء
من روما وهو �صغري ،تربى بني الأزقة وبني احلانات ،تعلم كيف ينبح وكيف
ُّ
ينق�ض عندما ي�شت ُّم اخلوف ،ا�ستعان به بوثينيو�س لي�ستطيع �إم�ساك زمام
الإ�سكندرية وجماهريها �سريعي اال�شتعال ،ع َّينه م�ساعدً ا لكبري احلر�س
امللكي ،مل يكن يخ�شى �شي ًئا ،لكن كان ككل الكالب وف ًّيا لأ�صحابه كا�ش ًفا
69
�أنيابه على الغرباء ،طلب مقابلة بوثينيو�س يف �أمر عاجل ،وكان بوثينيو�س
حينها يف مكتبة الق�صر ،فدلف �إليه �أحد احلرا�س انحنى ثم �أردف:
�--إن القائد ماريو�س يف اخلارج وي�ست�أذن للدخول.
كان بوثينيو�س يطالع �إحدى اللفائف وبجواره �أمني املكتبة يف البالط،
وعندما �ألقاها احلار�س على م�سامعه انتبه و�أردف بنربات هام�سة:
--ماريو�س! ...ما جاء به ال�ساعة؟
ثم فكر للحظات قبل �أن ي�ستطرد:
ك
ايذنْ له بالدخول.
والتوزي ر
�أردف:
70
�--أمرك يا موالي.
قالها ثم غادر.
ثم خاطب ماريو�س ً
قائل :اللعنة! ُقتل؟
--نعم.
�س�أل بوثينيو�س با�ستق�صاء:
--ومن قا ِتله؟
ع
--جمهول....
ك ل
يقولونتب�أنها كانت امر�أة م�صرية قتلته ثم ذابت بنيا ري ص
ثم ا�ستدرك ماريو�س يف ارتباك:
ع
--عند معبد �سرابيوم كان يتعبد هناك ،فانق�ضت عليه و�أخرجت قلبه
والتوزي ر
ع
كز على �أ�سنانه وقال ب�صوت خفي�ض:
--ال�سرابيوم ...يا لها من �إهانة!
ثم ا�ستطرد بغ�ضب عارم:
--اقلب الإ�سكندرية ر� ًأ�سا على عقب حتى جتدها ...اذهب �إىل
حي راكتو�س ،وال تدع �أحدً ا يخرج �أو يدخل منهم حتى يتعر�ض
وا�ستق�ص عن الأمر.
ِ لال�ستجواب ،واذهب �إىل املكتبة العظمى
�--أمرك يا موالي.
وهم باملغادرة ،فا�ستوقفه بوثينيو�س بنربات حتمل قالها ماريو�س َّ
التهديد والوعيد:
--ماريو�س! ...ال تف�شل ،وابتهل للآلهة كث ًريا ب�أال ينفد حظك الوفري،
ف�أنا رجل ال يحتمل الأخطاء ،وخط�أ �آخر وال �أعلم كيف �س�أحفظ
كيا�ستي.
72
--قد علمت �أين �س�أغمد خنجري ،لن يغم�ض يل جفن حتى �أجد تلك
العاهرة.
--من الأف�ضل لك.
قالها و�أكمل مطالعته ،انحنى ماريو�س ثم ان�سحب متوج ًها �إىل
الإ�سكندرية.
�ضجيجا من
ً يف ال�صباح كانت �ساحة القتال يف الق�صر ت�صدر
ت�شابك ال�سيوف� ،ساحة وا�سعة مبلطة ،يت�شابك فيها الطالب بال�سيوف
ع
والرماح وبالأيادي ،ويف زاوية وقف �أخيال�س و�أمامه �شابان مفتوال
ر ش
والتوز عي
�صلبة �أدمت �إحدى عينيه ،وظفر بخ�صره على حني غرة ثم �ألقاه � ً
أر�ضا
يف حركة قا�ضية� ،سقط الفتى ومل ينت�صب� ،أ�شار �أخيال�س بيده ،فتوقف
القتال ،اقرتب �أخيال�س من تلميذه ور َّبت على كتفه يف فخر ،كان ذلك
حني دخل بوثينيو�س �ساحة القتال ،فكف الطالب �أيديهم بع�ضهم عن
البع�ض ،وتلملمت م�ؤخراتهم و�سكنت �أطرافهم يف حلظات ،وانحنى كل
من يف ال�ساحة ،تقدم بوثينيو�س نحو �أخيال�س وتلميذه توبايو�س وقال:
َ --
فليحي القائد �أخيال�س.
فليحي م�ست�شار امللك.
َ قال �أخيال�س:
ابت�سم بوثينيو�س ثم �أردف:
--بالرغم من تن�صيبك قائدً ا للجي�ش ،ف�إنك ما زلت قائ ًما على
التدريب يف ال�ساحة.
�ضحك �أخيال�س:
73
--العادة حتكم يا �صديقي القدمي.
ثم وجه حديثه لتوبايو�س :وكيف حالك �أيها املحارب ال�شاب؟
�أجاب توبايو�س:
--بخري حال يا موالي.
قال �أخيال�س:
--اتركنا الآن يا توبايو�س.
ص ع
�أذعن توبايو�س لأمر �أخيال�س وان�صرف ،ف�أردف بوثينيو�س:
بل
ام�ش معي.
ع
بوثينيو�س �إىل ال�سماء يرتقب الغيوم ،حلظات ثم �أردف:
--كيف حال اجلي�ش يف بلوزيوم؟
�--إن جي�ش كليوباترا قد توغل و�سيطر على املنطقة ب�أ�سرها.
--وهل هناك من خماطر؟
حك �أخيال�س ذقنه ثم �أردف:
--ال ،ولكن لها � ً
أ�سطول بحر ًّيا �ضخ ًما ،ومع ذلك فجنودها ال يعرفون
عن القتال �شي ًئا.
--يتوىل تدريبهم رابو�س ،قائد القرا�صنة الأحرار.
--نعم ،وال �أعرف كيف ا�ستطاعت كليوباترا �أن تتخذه كحليف ،فما
�سمعته �أنا� ،أن رابو�س رجل �صلب ال تغريه املنا�صب وال يغره الذهب.
--لكل رجل نقطة �ضعف ،ويبدو �أن كليوباترا ا�ستطاعت معرفتها
وا�ستغاللها ب�سهولة.
74
--وهذا ما كنت �أخ�شاه ،ف�إن رابو�س رجل ذو ب�أ�س وقوة ،ووفا�ؤه الكامل
لكليوباترا دون غريها.
--وكيف ت�سري الأمور هناك؟
�أجاب �أخيال�س :يتناو�ش اجلنود هناك يف حرب ك ٍّر وف ٍّر ،والأمر بيننا
وبينهم ِ�سجال.
�ساد ال�صمت للحظة ،ثم ا�ستطرد:
--لكن املعركة الفا�صلة تكون قريبة ،ففي وقت ق�صري �سوف يكون
ت
قال �أخيال�س :ب ل
ل
--لقد حتدثت �إىل جانيميدي�س ،يبدو �أنه رجل �صلب ال تغره غائرة.
75
ماجنو�س يف احلرب الأهلية ،وفر بومبايو�س �إىل اليونان وت�شابك
اجلنود ملرة �أخرية عند فار�سالو�س وانك�سر جي�ش بومبايو�س
ماجنو�س وفر �إىل البعيد املجهول.
--بلى ،قد جاءت الأخبار وقد رحل على �آثارها القائد جابينيو�س ومعه
جمموعة كبرية من اجلنود التي جمعها من �شتى م�ستوطناته مل�ساندة
قائده بومبايو�س.
--بجلو�س يوليو�س قي�صر على عر�ش روما يختلف الأمر كث ًريا.
�ألقاها بقلق ،وكان حم ًّقا� ،ستختلف الأمور الآن وكالهما يعلم ذلك،
76
�صاح ثاينيو�س بغ�ضب :ت�سعة �أيام! لقد ق�ضينا �أكرث من �ستة �أيام يف
عر�ض ال�صحراء ،وال �أجد �أننا حتى نقرتب.
حاول �ستافلو�س تهدئته :ح�س ًنا اهد�أ ،نحن لن نذهب �إىل �سيوة كما
خططنا ،لقد اتخذت طري ًقا خمت�ص ًرا �سيقودنا �إىل طيبة بعد �أيام.
كز ثاينيو�س على �أ�سنانه وقال بغ�ضبه امل�شتعل:
--كان عليك على الأقل �أن تخربنا ال �أن ت�سوقنا كاخلراف التي ال تعرف
�شي ًئا ،وها نحن تائهون يف عر�ض ال�صحراء والليل قادم.
ريص ع
�أطلق بيتالو�س �ضحكة رددتها الرياح ،ورفع عينيه �إىل ال�سماء ،وبلهجة
والتوز عي
الليل ي�أتي بعد الغ�سق يف هذا املوعد كل يوم تقري ًبا.
قال ثاينيو�س غا�ض ًبا:
--اللعنة عليك يا بيتالو�س ،كفاك ً
مزاحا.
مل ي ُرق لثاينيو�س �أن ي�ستخف به الآخرون ،ومل يكن يقت�صر القلق على
ثاينيو�س فقط ،بل �إن جميعهم ي�شعرون مبذاق القلق يف الهواء بالفعل،
ولكن منهم من ا�ستطاع ك ْبته ومنهم من مل ي�ستطع ،لقد ق�ضى �ستافلو�س
عاما كاملة يف جتارة العبيد ،ولكن هذه املرة كانت خمتلفة ،كان �أربعني ً
هناك نوع من توتر الأع�صاب يقف على �شفري اخلوف وكان هذا يثري
التوج�س يف قلوبهم جمي ًعا ،يف تلك الليلة كان �شيء خمتلف عن املعتاد،
كان الظالم �أكرث من جمرد ظالم ،وكان ميوج يف الأفق هواء بارد جعل
ال�شعريات تنت�صب على �أذرعهم ورءو�سهم� ،أيام �ستة مرت عليهم يف هذه
الرحلة بني �أودية ل�صحراء مقفرة ،كان كل يوم �أ�سو�أ من �سابقه� ،أما اليوم
77
فكان الأ�سو�أ على الإطالق ،فالرياح الباردة تهب وجتعل من �صوت الرمال
ك�أنها حركة ع�شرات الكائنات والوحو�ش الكا�سرة� ،شعروا ب�أن ثمة �شي ًئا
ما يراقبهم.
مل يكن �إريو�س معهم كما العادة ،كان ج�سده يقف بينهم ولكن وجدانه
وعقله يف مكان �آخر ،عقله اجلامح يطري يف الأفق ،ومل ي�شاركهم يف �شعور
�شخ�صا �آخر ،نظر �إليه ثم قال:
ً القلق بل �شارك
--يبدو �أن رحلتنا ما زالت طويلة ،و�أرجو �أال متانع �أن �أجل�س معك بني
ص ع
الفينة والأخرى .يبدو �أننا تهنا يف ال�صحراء ،الكل خائف و....
والتوزي
ال�شاب.
ع
قالها و�شخ�صت عيناه للحظة يف الأفق ،ثم ا�ستطرد املنقذ:
--هل ت�ستمع ملا �أ�سمعه؟
حاول �إريو�س �أن ي�ستمع ملا ي�شري �إليه منقذه ومل ي�سمع �إال �صوت الرياح،
�أردف �إريو�س يف تعجب:
�--أنا ال �أ�سمع �شي ًئا �إال هبوب الريح املزجمرة!
انثنت قامته و�أم�سك قب�ضة من الرمال بني �أنامله وبعدها و�ضع �إحدى
�أذنيه على الرمال للحظات ثم انت�صب ،ف�س�أل �إريو�س:
--ماذا تفعل؟
قال بلهجة جادة :هناك من يقتفي �آثاركم وهو على ُبعد دقائق من
الآن.
78
فقال ال�شاب �إريو�س بتعجب:
--وكيف لك �أن تعرف؟
�--إن هبوب الرياح يحمل بني عزيفه الكلمات� ،أ�صوات حفوف اخليل
تتناقلها الرمال.
--وهل تعرف لغة الريح؟
--يف اجلي�ش تعلمت لغة الريح واحليوان واجلبال ،ودبيب الرمال تنبئ
عن �أفرا�س تقرتب.
�--أال تعرف من يقتفي �آثارنا؟
ص ع
--يعرفون ال�صحراء كما تعرفون �أنف�سكم.
ر ش
والتوز عي
--فك قيدي يا �إريو�س.
فبهتت كلماته ال�شاب �إريو�س لدقيقة وقد تغريت مالحمه ،كان
م�شدوهً ا للحظات �أردف بعدها برتدد:
--ال �أ�ستطيع.
ظهرت عليه لوائح الغم والأ�سف والعجز وا�ستطرد:
--ولكني �سوف �أخرب �ستافلو�س مبا �أخربتني به.
ثم نظر املنقذ يف عينيه نظرة طويلة غريبة ،نظرة حتمل بع�ض القلق
امل�شوب باخلوف:
�--أال تثق بي؟
�--أثق بك! ...ولكن لي�س بيدي مقاليد الأمور.
تركه �إريو�س وجالت بعقله �أفكار مت�ضع�ضعة وم�شتتة ،هل ي�صدقه؟
�أم مير مر الكرام وال يفكر بفعلة يندم عليها الح ًقا ،وقبيل �أن يلتفت
79
ر�أى عيني منقذه تتبعانه بتلك النظرة الغريبة ذاتها ،بدت له �أنها نظرة
�صادقة ال حتمل الأكاذيب ،ح�سم �أمره بعد هنيهة من التفكري وذهب حيث
يجل�سون ،و�أ�سر النجوى مع �ستافلو�س ،فقام �إذ ذاك من مكانه ،وقال له:
--ما بك يا �إريو�س؟
--هناك من يقتفي �آثارنا يا �ستافلو�س.
--ماذا تقول؟ ...كيف علمت؟
�أ�شار �إريو�س بعينيه �إىل منقذه وقال:
ع
--هو جندي من جنود روما ،يعلم كث ًريا مما ال نعلم.
والتوزي
�ساذجا يا �إريو�س� ،إنه يتالعب بك.
ع
انفعل �إريو�س:
--لي�س بو�سعي �أن �أخمن من م�سار النجوم مدى اقرتاب ال�ساعة من
مطلع ال�شم�س ،ولكني �أق�سم بالآلهة �أنه �صادق يا �ستافلو�س ،عليك
�أن تثق بي ولو مرة واحدة يف تلك احلياة.
ت�أفف وقال:
--وماذا على �أن �أفعل؟
قليل ثم قال :ال �أعرف ،على الأقل خذ احلذر وحرره� ،إنه �صمت ً
جندي ويعرف كيف ي�ستخدم ال�سيف.
�صاح �ستافلو�س:
--لن يحدث هذا �أبدً ا� ،إنه يخدعك فقط لتحرره ،يتالعب بك و�أنت
كالأبله ت�صدقه.
80
--و�إىل �أين �سيهرب يا �ستافلو�س؟ ال �أعتقد �أنه �سينبت له جناحان
ويطري �إىل ال�سماء.
�ألقاها ب�شيء من اال�ستهزاء.
قال �ستافلو�س:
--و�إن كان كاذ ًبا؟
--فلن تخ�سر مثقال ذرة.
مرت دقائق مل يعلم فيها �ستافلو�س كيف يت�صرف ،هل ي�ستمع �إىل
ص ع
وعلى اجلانب الآخر مل�س �صاحب العربة املقا َومة يف وجوه الرجال ،ويف
والتوزي ر
الهواء ب�سال�سة واخرتقت �صدر �ستافلو�س ،وك�أن احلربة كانت ً
طبول
ع
حلرب �ضارية ،التحم الفريقان يف حلظات ،رك�ض �إريو�س نحو �ستافلو�س،
مل يكن يظن �أن النهاية ت�أتي بتلك ال�سرعة ،كان منظر عمه �ستافلو�س
مزلزل لنف�سه ،ويف حلظة اغتاله الندم يف كل حلظة �صاح فيها على ً
�ستافلو�س ،يف كل جدال دار بينهما ،متنى للحظة �أن ي�ستيقظ من ذلك
الكابو�س ويرك�ض �إليه ويحت�ضنه بقوة ويقول له�« :أنا �آ�سف على كل �شيء»،
لكن يف تلك اللحظة �أ�صابت ل�سانه لعنة ال�صمت ،احت�ضن �إريو�س كف
�ستافلو�س و�شد عليه بقوة ،وبعد ح�شرجة عنيفة �أردف �ستافلو�س:
--اهرب يا �إريو�س ...اهرب بعيدً ا يا بني.
قالها و�سكنت �أطرافه.
�سرت رعدة يف جلد �إريو�س وتعاركت نب�ضات قلبه مع �صدره حتى
كاد ين�شق ،ن�شع العرق من على جبينه واعتدل فرتقبت نظراته منقذه
وهو ي�صارع ماء امل�ستنقع وفوقه �أحد الرجال مم�سك ب�سيف يكاد يخرتق
82
�صدره ،تفادى �ضرباته ب�صعوبة بالغة ،فتحاملت �أقدامه مقا ِوم ًة ماء
امل�ستنقع اللزج ،قب�ض املنقذ على خنجره بقوة وانق�ض على الرجل وجرح
فخذه بجرح بالغ ،تناثرت دماء الرجل حتى اختلطت مباء امل�ستنقع،
باغته �أحد الرماة ب�سهم اخرتق كتفه ،فكز على �أ�سنانه �أملًا ،اقتن�ص
الرجل الفر�صة و�أطبق على عنقه ب�ساعديه �سقط يف ماء امل�ستنقع ،وهن
ج�سده ووهنت �أنفا�سه واعت�صر الأمل قلبه ،وجاهدت رئتاه لتلتقط بع�ض
الهواء ،لكن ال فائدة ،ا�ست�سلمت ُجل �أع�ضائه ،كان كل �شيء يبدو رماد ًّيا،
يبدو الأمر م�ألو ًفا �إليه ب�شدة ،يبدو ال�صراع م�ألو ًفا ،ج�سد واهن ،ورئة
ص ع
يوما ف ِل َم يقاوم الآن �إذن؟ ا�ست�سلمت
فارغة ،وظالم ُيعم ،لقد متنى املوت ً
83
()4
نائ ًما كان ،يراوده ُحلم ،ا�ستيقظ ومل يغم�ض له جفن طوال الليل
جمددًا مما �شاهد يف امللكوت تلك الليلة ،كانت ال�سماء متدح الأر�ض
ب�أمطارها التي انهالت بال ا�ستئذان وال �سابق �إنذار ،كانت الأفكار ت�صدح
ريص ع
يف ر�أ�س احلكيم �ألك�سندر هيليو�س كناقو�س املعابد ،انتظر حتى انبلج
والتوزي
ً ال ْأح ِ�ص َنة ب�سوط على �أظهرها ف�أطلقت
ع
�صهيل قو ًّيا وهرولت م�سرعة
يف احلركة ،اعتادت كليوباترا �أن جتتمع مع القائد رابو�س كل �صباح يف
الغرفة امللكية ملناق�شة امل�ستجدات.
دلف احلكيم �إىل الغرفة امللكية بقلق يخم�ش �صدره ،كانت كليوباترا
جال�سة ويكلل عينيها الأرق ،باد ًيا على حمياها الإرهاق الطويل ،انحنى
�ألك�سندر هيليو�س احلكيم ،فقالت كليوباترا:
--تف�ضل يا هيليو�س ،اجل�س.
جل�س احلكيم هيليو�س ،ورمقها بتمعن و�أردف:
أنك
عينيك تتنب�آن ب� ِ
ِ --يبدو �أن الليل يا موالتي مل يرفق بكالنا ،ف�إن
كاململكة التي تعاين من حرب �أهلية.
�صبت كليوباترا ك�أ�س النبيذ:
--وما الذي منع احلكيم هيليو�س من النوم؟
84
--مل �أذق طعم النوم مذ راودتني تلك الر�ؤيا الغريبة.
--ر�ؤيا؟
--نعم يا موالتي ...ما �شاهدته يف امللكوت كان عجي ًبا ،وال �أجد له
تف�س ًريا قط.
ت�ساءلت باهتمام ،فاحلكيم �ألك�سندر هيليو�س ال يجيد الرثثرة وهي
تعلم كلماته بالت�أكيد لها مغزً ى:
--ومباذا تتعلق ر�ؤياك يا هيليو�س احلكيم؟
ص ع
--تتعلق ِ
ري
بك يا موالتي.
85
--يا لها من ر�ؤيا عجيبة �أيها احلكيم! ...ولكن ماذا تعني؟
--يبدو يل يا موالتي �أن م�صريك وم�صري اململكة بالكامل يتعلق مب�صري
روما ويوليو�س قي�صر ب�شكل ما.
--كيف؟
--ال �أعرف ،ولكن يبدو �أن احلرب الأهلية التي انتهت بفوز يوليو�س
قي�صر �ستكون حد ًثا عظي ًما ي�ؤثر على اململكة ب�أ�سرها.
قالت بقلق بارد:
ع
�--إنني �أخ�شى من روما �أكرث مما �أخ�شى من بطليمو�س وم�ست�شاريه.
ع والتوزي
ال�شرفة ،زفرت �أنفا�سها بهدوء وب�صرب ،ت�أملت الأفق الذي امتلأ بالغيوم
ول�سعة هواء باردة الم�ست وجنتيها ،داعبت �أناملها الورود التي زينت
ال�شرفة ال�صغرية ،ثم التفتت �إىل احلكيم هيليو�س وجترعت ً
قليل من
النبيذ و�أردفت:
--كان �أبي يرتدد على معبد الإله زيو�س ،يتعبد وي�صلي ويدعو ،يحرق
البخور ويغ�سل التمثال بالدم وامل�سك واللبان ،كما تعلمنا من �أهل
تلك البلد ،وكانت ت�شاركه �أختي برنكي يف طقو�سه ،كان �أبي يف�ضل
علي وعلى باقي �إخوتي ،ويف احلقيقة مل �أحب �أبي من نوع برنكي َّ
خا�ص ،ولكن بعدما فعلت برنكي فعلتها حتول حب �أبي العظيم �إىل
كراهية ال تقل عظمة ،مرت �شهور ع�صيبة �إىل �أن جاءت للأ�سرة
يل ،فقد كانت روما حتتفل بتن�صيب �أنباء تعترب ح�سنة بالن�سبة �إ َّ
القيادة اجلمهورية اجلديدة للحكم الثالثي املكون من يوليو�س
قي�صر وبومبايو�س ماجنو�س وماركو�س كرا�سو�س ،و�أن جمل�س ال�شيوخ
86
قد �آزر �أبي املنفي ،و�أن القائد العظيم جابينيو�س م�ساعد بومبايو�س
كان يف طريقه �إىل الإ�سكندرية ليعزل امللكة املغت�صبة للحكم ويعيد
�أبي �إىل عر�ش م�صر ،وا�شتعلت حرب ا�ستعادة العر�ش ،والتي انتهت
بهزمية برنكي ،كان �أبي ميل�ؤه الأ�سى ال�شديد ،قتل �أبي برنكي ودفنها
يف �أر�ض جمهولة من دون حتنيط عقا ًبا ملا فعلته ،ومل تكن ثالث
فقد �أكرث الأ�شياء ح ًّبا
فقد َ ال�سنوات التالية لأبي �سنوات �سعيدةْ ،
�إىل قلبه ،العر�ش ووريثه ...وبالرغم من �أنه عاد �إىل العر�ش ف�إنه
مل يجل�س عليه باعتباره فرعو ًنا عظي ًما كالبطاملة الأوائل ،ولكنه تواله
ص ع
بف�ضل روما ،وكان عليه �أن يتقبل الإهانة بقبوله تعيني مفت�ش روماين
ريص ع
التي اعتالها الرماة بنظرة خاطفة ،وعلى باب احل�صن رقد كب�شان
والتوزي
بنظرة حادة ،ثم �أردف:
ع
وقت طويل منذ لقائنا الأخري
زيع
�سائل :كيف تركت الإ�سكندرية وراءك؟
قال تايبرييو�س ب�صوت ميل�ؤه الأ�سف:
--لي�ست �أف�ضل حال� ،إن الإ�سكندرية ت�شتعل الآن عن بكرة �أبيها.
ً
الحظ رابو�س مالب�س تايبرييو�س غري امل�ألوفة ،ف�أردف:
--وما �أمر تلك الثياب الرثة؟
--لقد جئت يف �سفينة �صيد ،ارتديت تلك املالب�س حتى ال يراين �أحد
من جنود البالط ،فقد �أ�صدر امللك قانو ًنا بعقاب كل من يعاون
كليوباترا ،وال �أنوي فقْد ر�أ�سي قري ًبا.
قال رابو�س:
--هل حتمل الأخبار؟
--نعم.
89
كان تايبرييو�س يعمل يف البالط امللكي �أمي ًنا على املكتبة يف الق�صر
و�أحيا ًنا يف املكتبة العظمى يعمل على ن�سخ املخطوطات واللفائف الهامة
من الهرياطيقية �إىل اليونانية والرومانية ،كان له جوا�سي�س و�أعني يف كل
جحر ،ا�ستطاعت كليوباترا تروي�ضه وا�ستخدام جوا�سي�سه يف البالط ويف
�شتى اململكة حل�سابها.
�س�أل رابو�س� :أخبار جيدة �أم �سيئة؟
�--أخبار ِ�سجال بني ذلك وذاك.
ع
--ح�س ًنا ،من الأف�ضل �أن تق�صها �أمام موالتي كليوباترا ،تعالِ ،
ام�ش
والتوزي ر
الأح�صنة املدككة ،وبجوارها امتدت �ساحة القتال الوا�سعة التي يتدرب
ع
فيها اجلنود حتت قيادة القائد رابو�س ،توقف تابرييو�س ،وتابعت عيناه
قتال اجلنود لدقيقة ،ثم تابعوا م�سريهم حتى و�صلوا �إىل الق�صر ،مل
يكن ق�ص ًرا كق�صر امللوك كان بيتًا عال ًيا ،ترفعه �أعمدة رخامية وله باحة
وا�سعة ينت�صب على جانبيها التماثيل الهائلة من متاثيل اجلنوب ،مت
ت�شيده لتمكث فيه كليوباترا حتى تنتهي احلرب وجتل�س على عر�شها ،عربا
طويل على جانبيه الأ�شجار واحلدائق الغ َّناء ،دلف القائد رابو�سمم ًّرا ً
�إىل الغرفة امللكية ،وجدت عيناه كليوباترا جال�سة تنغم�س يف حديثها مع
احلكيم هيليو�س ،انحنى للحظات قبل �أن ينت�صب ويردف:
�--أعتذر عن املقاطعة ...ا�سمحي يل يا موالتي.
�أردفت كليوباترا:
--تف�ضل �أيها القائد رابو�س ،حتدث.
قال :لقد جاء تابرييو�س يحمل الأخبار من الإ�سكندرية.
90
--ح�س ًنا� ...أح�ضره �إىل هنا ً
حال.
�--أمرك يا موالتي.
خرج القائد رابو�س ،مرت حلظات حتى دخل وعلى �أعقابه تابرييو�س
الذي انحنى يف �إجالل ثم رفع ر�أ�سه وقال:
وليحي احلكيم هيليو�س.
َ َ --
فلتحي عالية املقام موالتي كليوباترا،
قال احلكيم هيليو�س:
�--آي تابرييو�س مل نرك منذ مدة طويلة ،حتى �إنني ال �أذكر كم مر من
ريص ع
الوقت.
91
�شقيقتك ال�صغرية
ِ �شقيقك بطليمو�س �أ�صدر �أم ًرا بتن�صيب
ِ �--إن
�أر�سينوي كملكة �شرعية لبالد م�صر.
أنفا�سا
�ساد ال�صمت للحظات تبادلوا فيها النظرات ،زفر هيليو�س � ً
غا�ضبة وقال:
ليق�صيك عن العر�ش للأبد.
ِ --اللعنة!� ...إن بطليمو�س يخطط
ع َّقب تابرييو�س:
�--أعوانه يذيعون الأمر يف �شتى املدائن والقرى� ،سيقيم احتفاالت يف
ع
--وما هو؟
--هناك حرب باردة تدور بني بوثينيو�س وم�ست�شار الأمرية جانيميدي�س،
متاما خطورة
فقد �أثار قرار امللك حفيظة جانيميدي�س لأنه يعلم ً
ذلك القرار يف هذا الوقت ،و�أن هذا يخالف و�صية امللك الراحل...
و�أن هذا القرار �سيثري حفيظة روما ويوليو�س قي�صر وخا�صة بعد
انت�صاره على بومبايو�س ماجنو�س يف احلرب الأهلية وخروج القائد
جابينيو�س من م�صر على ر�أ�س قواته مل�ساعدة قائده بومبايو�س.
قال احلكيم هيليو�س:
--لو �أن ما تقوله �صحيح ،ف�إن خروج القائد جابينيو�س من م�صر على
ر�أ�س قواته ينبئنا �أن بومبايو�س ماجنو�س يف م�أزق حقيقي ،وال يح�سد
عليه مطل ًقا.
تناولت كليوباترا ك�أ�س النبيذ وجترعت منه حتى نفذ ،ثم قالت بغ�ضب:
92
�--إن �أخي البائ�س يرتك ال�شراب يتحول �إىل خل ،ومملكتي �إىل �أ�شالء.
�أردف القائد رابو�س:
--هل حتمل �أخبا ًرا �أخرى يا تابرييو�س؟
--نعم �أيها القائد ...لقد ُقتل �أكتيون ،كبري احلر�س امللكي.
�أردف هيليو�س غري م�صدقُ :قتل؟
قال تايبرييو�س:
--نعم ،يف معبد �سرابيومُ ،قتل وهو يتعبد.
ر ش
والتوز عي
برهط من اجلنود يالزمونه كظله ،يتحا�شاه النا�س ويخ�شون نظراته.
قال القائد رابو�س:
َ --ومن املحارب العظيم الذي قام بالأمر.
�صمت تايبرييو�س للحظات ثم قال:
--مل يكن حمار ًبا وال جند ًّيا قط بل كانت ...امر�أة.
انتابه رابو�س التعجب :امر�أة؟
--نعم.
�س�أل القائد رابو�س:
فحل مثله بني رهط من جنوده وتلوذ --وكيف ا�ستطاعت �أن تقتل ً
بالهرب؟
�أجاب تايبرييو�س :لي�ست امر�أة عادية ،وهي �صديقة مقربة.
93
انتاب كليوباترا الف�ضول وقالت:
--ماذا تق�صد ب�أنها لي�ست عادية �آي تايبرييو�س؟
--هي لي�ست مبحارِبة عادية ،ومل تتلقَّ تدريبات عادية كاجلنود ،بل هي
كما يزعمون خمتارة من ِقبل الآلهة ،حتمل يف دمائها دماء اجلبابرة.
قال هيليو�س :يزعمون! ...من هم؟
ا�ستطرد تايبرييو�س:
--قبيلة عريقة تقطن يف اجلنوب ،ت�سمى بامليدجاي �أو احلماة ،تكنُّ
ريص ع
الكره للحكم البطلمي يف م�صر وخا�ص ًة � ِ
ل ا
أخاك ثيو�س ملا يفعله يف
ع
القائد رابو�س واحلكيم هيليو�س ،ثم قالت باهتمام بدا على حمياها:
--وماذا تعرف عن تلك القبيلة يا تابرييو�س؟
�أجاب تايبرييو�س:
--يف احلقيقة يا موالتي ،لي�س الكثريُ ،جل ما �أعرفه �أنها قبيلة �سكنت
اجلنوب منذ �آالف الأعوام ي�سكنون ب�أر�ض تدعى كو�ش ،يجيدون
التخفي كاحلرباء ،قائدهم ي�سمى حوررب ويعني املتعبد حلور�س
العظيم ،وهو �صديق مقرب � ً
أي�ضا ،و�أنا معجب به ب�شدة.
ت�ساءل هيليو�س� :أتعرف �أين خمب�ؤها الآن؟
--نعم �أيها احلكيم ،ولكن اجلنود يقلبون الإ�سكندرية ر� ًأ�سا على عقب
لإيجادها ،ولكنها تختبئ يف مكان لن يعرث اجلنود عليه �أبدً ا.
قالت كليوباترا:
94
�--أريدك �أن حت�ضر يل تلك الفتاة يا تابرييو�س ،ب�أي ثمن.
كانت كلماتها مباغتة ،ارتبك تابرييو�س ،ابتلع ريقه ،ثم قال:
--ولكن يا موالتي ،هذا �أمر �صعب ،فاجلنود يبحثون عنها يف كل مكان،
ً
م�ستحيل، واخلروج بها من الإ�سكندرية يف الوقت الراهن يكاد يكون
ثم �إنها من النوع الذي ي�صعب تروي�ضه و�إغرا�ؤه.
قال القائد رابو�س:
�--إننا نبحث عن تلك القبيلة منذ وقت طويل يا تابرييو�س ،ولكن ُجل
ريص ع
ما وجدناه هو الال�شيء.
96
()5
كانت رحلته طويلة من �سمنود �إىل طيبة ،طالت فيها حليته و�شعره،
ا�صطاد �أرن ًبا و�سمكة� ،أ�شعل النريان وا�ستلقى على الرمال الناعمة
ع
وترقبت عيناه النجوم املتلألئة يف الأفق .كانت ال�سماء تر�سم امل�شاهد
ت
غا�ضا الطرف عن
ريص ع
ترجل رجل من على هودجه العايل ،طويل اجل�سد واللحية ،على وانحنتَّ ،
ع
وبالكاد ي�ست�سيغ �أهل اجلنوب ،اقرتب منه �أحد اجلنود و�سلمه بردية
ملفوفة يزينها اخلتم امللكي ،ف�ض اخلتم ب�أنامله الطويلة ،ثم �أ�شار
حلار�سه بنظره ،نادى احلار�س يف النا�س ،فتجمعوا كالذباب على الع�سل
لت�سمع �آذانهم الأمر امللكي ،اعتلى هودجه العايل ثم فتح الربديات وطفق
يقر�أ ما فيها:
--با�سم امللك العظيم بطليمو�س الثالث ع�شر ثيو�س فليوباتور� ،أنتم
تدينون بكل ما لديكم من �أموال وب�ضاعة و�أطفال جلاللته حاكم
امل�صريني والإغريق ،وبا�سم الآباء الأوائل والقدماء� ،سوف يتم تتويج
الأمرية �أر�سينوي كملكة م�ستقلة على عر�ش م�صر ،يف تتويج �سوف
ت�شهده كافة اململكة على �أر�ض الإ�سكندرية ،وبا�سم امللك العظيم
�سوف يتم معاقبة كل �شخ�ص يتعاون مع الأمرية املنفية كليوباترا
�أ�شد عقاب ،بال�شنق �أو احلرق �أو ما هو �أ�سو�أ.
98
انتهى القائد فاريو�س من القراءة ،ف�ضرب ال�صمت �أل�سنة النا�س،
حلظات ثم �س َّلم الربدية �إىل احلار�س و�أ�شار �إىل ِ
م�ساعده بنظره� ،ضرب
احلرا�س الأفيال بال�سوط حتى هرولت منت�صبة ،كان حوررب يقف يف
اجلوار متخف ًيا بني الرهط ،تابعت عيناه املوكب وهو يبتعد حتى اختفى
ً
متوغل �إىل دهاليز املدينة ،رمق املعابد التي يف الأفق ،بعدها تابع رحلته
تناطح ال�سحاب وامل�سالت ال�شاهقة التي انت�صبت على مد الب�صر ،وعند
و�صوله �إىل منت�صف املدينة ،كان املكان م�ألو ًفا له ،وبالرغم من مرور
وقت طويل ،فتلك الباحة الوا�سعة وذلك املنزل الب�سيط كانا م�ألوفني
ص ع
ب�شدة ،طرق الباب عدة طرقات ،مرت اللحظات ثقيلة كثقل اجلبال،
ص ع
فاريو�س حاك ًما على طيبة ن�شر وباءه يف الأرجاء� ،إنه وباء م�ستفحل،
100
�--إن اخلروج للقتال يبعث على �شعور جيد ،فهنا ويف كافة اململكة يذعن
اجلميع للجنود حتت التهديد بالقتل ،ا�سرتح اليوم ونتحدث غدً ا
فرحلتك كانت طويلة ومرهقة.
قالها باكو و�سكت وهو يرمق �صديقه الوحيد ت�أكله نريان الأ�سى والندم
واالنتقام ،جن عليه الليل وتناثرت النجوم يف ال�سماء� ،صعد حوررب �إىل
الغرفة بالدور العلوي للمنزل ،خلع درعه و�سيفه ،فتدفقت الدماء بني
ع
عروقه ،توجه نحو بحرية �أمام املنزل� ،أ�سقط ج�سده يف املاء البارد،
ر ش
والتوز عي
يف الثامنة ع�شر عندما فتح احلب عينيه ب�أ�شعته ال�سحرية ،ومل�س نف�سه
لأول مرة ب�أ�صابعه النارية ،كانت �آ�سيا املر�أة الأوىل التي �أيقظت روحه
مبحا�سنها وخ�صالت �شعرها احلالكة ،وم�شت به �إىل جنة العواطف
العلوية ،ويف يوم كانت تطيح ب�أقرانها يف قتال غا�شم واحدً ا تلو الآخر،
كانت قوية وجميلة ،ينهمر منها العرق كالعبق ،كانت خ�صالتها املموجة
كاحلربة التي تخرتق قلبه كلما هامت يف الأرجاء ،وعيناها كالدوامة
التي ت�سحبه دون مقاومة ،كان يحدق �إليها بال�ساعات ،وعندما ف�ضحته
النظرات تقدمت �إليه وطبعت ُقبلة على خده وغادرت م�سرعة يف خجل،
كانت �أنفا�سها ك�صيف عتيق ،اعتلته ن�سمة هواء يافعة حتيي ال�شباب
وترمم العظام ،وتيقظ املوتى من قبورهم ،رحلت و�شعرها املموج يلهث
خلفها كح�صان بري �أ�س َود ثائر ي�صعب تروي�ضه ،ولكنه �أق�سم على
يوما ما ،واعتاد كلما هب الليل �أن يت�سلل وحيدً ا خارج
تروي�ضه وامتطائه ً
ليل خارجمبال بتحذيرات �أقران �سنه التي تنهى عن ال�سري ً
املع�سكر غري ٍ
املع�سكر ،كان يخرج خل�سة ومي�شي على حواف البحريات و�شواطئ النيل،
101
كان يلقي احلجارة على �سطح املاء ،ويتابع تلك الدوائر املتعاقبة ،كان
يحب متابعة ال�شعب املرجانية امل�ضيئة حتت الأمواج العاتية ً
ليل ،ويف يوم
م�سرعا �إىل
ً �شعر ب�أقدام تدو�س على الأوراق اجلافة على ال�شاطئ ،فطفق
ال�صعود.
�إنها «�آ�سيا».
ين�س
كانت ب�شعرها املموج احلالك ،جال�سة على ال�شاطئ يف هدوء ،مل َ
عبق �أنفا�سها يف قبلتها الأوىل قط ،كانت عيناها ك�سنابل القمح يف يوم
ع
ح�صاد مثمر ،و�شفتاها كالكواكب والنجوم التي ر�صعت ال�سماء بالبهاء
ر ش
والتوزي
وجل�س بجوارها ،نظرت �إليه ثم �أردفت بابت�سامة هزت �أوداجه:
ع
ليل خارج املع�سكر؟--ماذا تفعل يف هذا الوقت ً
نظر �إىل القمر ،ثم قال:
�--أدعو �آمون رب القمر.
بابت�سامة مل تغب عن �شفتيها قالت:
--تدعو رب القمر حتت املاء؟
--توجد الآلهة يف كل مكان ،حتت املاء ،ويف �أعايل ال�سماء.
--وهل ا�ستجاب رب القمر دعاءك؟
--نعم ،لقد ا�ستجاب.
--ومباذا كنت تدعو؟
ارتبك حوررب ،ثم متالك نف�سه وا�ستدرك ،ثم قال:
--كنت �أدعوه �أن ي�سكنني يف اجلنان.
102
قالت :وكيف علمت �أنه ا�ستجاب؟
�--أنا بداخل �إحداها الآن.
ابت�سمت ،وعم ال�صمت املكان للحظات رمق فيها النجوم ،ثم ا�ستطرد:
--ولكني �أخ�شى.
--ماذا تخ�شى؟
�--أخ�شى �أن �أكون يف �أعماق البحار �أغرق ،و�أرى الهالو�س.
--وهل امليدجاي يغرقون؟
ريص ع
نظر �إىل عينيها ثم �أردف:
ل
فيك وال �أجد من يغيثني.
عامدة �إىل نافذتها تتطلع �إىل ال�سماء ِب� ًأ�سى ،رمقت املعابد والأبراج
املبنية بالقرميد� ،سمعت �أ�صواتًا ت�أتي من ال�شوارع ل�صياح الأطفال ون�ساء
ع
يرثثرن بال تعب ،وللحظة متنت لو �أنها كانت فتاة عادية وفقرية ترك�ض
ع
ال�سرمدية ،وال�سماء تتكلل بالكواكب والنجوم الأرجوانية ،تتنف�س بعمق
ما�ض ،بال عر�ش �أو حفل تن�صيب �شديد ك�أنها بال حا�ضر �أو م�ستقبل �أو ٍ
مرغمة على ح�ضوره� ،سمعت طرقة خفيفة على الباب ،التفتت بعيدً ا عن
النافذة وقالت« :تف�ضل».
دلف �إىل غرفتها وبيده ُف�ستان ،كان �شقيقها يعلم ما تريد وما حتب،
اقرتب منها ورفع ال ُف�ستان �أمامها كي تتفح�صه:
--هذا الف�ستان هديةَ ،ه ُل ِّمي حت�س�سيه وتلم�سي ن�سيجه الناعم.
مدت يدها تتح�س�سه فوجدته �أمل�س يتفلت من بني يديها ك�أنه ماء،
�أبي�ض مكلل بالأحجار الكرمية ،مل ت َر �شي ًئا �أجمل من هذا قط ،ملعت
عينها وهي تتلم�سه وتتخيل كيف �سيكون �شكلها بعدما ترتديه ،ويف حلظة
�أثار اخلاطر خوفها ونف�ضت يديها عن الف�ستان وقالت برتدد:
--ال ،ال �أريده.
104
كانت ابت�سامة بطليمو�س تف�صح عن حبه لأخته ،فقال:
�--إنها هدية يا �أر�سينوي ،حلفل التتويج� ،سرتتدين هذا الف�ستان و�سوف
تكللني بالذهب وجميع �أ�صناف اجلواهر� ،سوف تكونني �أجمل ملكة
يوما.
جل�ست على العر�ش ً
يوما ومل يكن الأمر يف خاطرها قط ،كانت يف ملكة! ...مل ُت ِرد هذا ً
تلك اللحظة تريد �أن تقفز من النافذة �أو ت�سحب ً
ن�صل وتنهي به حياتها،
لكنها لن ت�ستطيع �أبدً ا ،كل ما ت�ستطيع فعله هو املقاومة ،قالت:
ع
--لن يحدث هذا �إال يف حالة واحدة ،وهي موتي.
والتوز عي
بك �أبدً ا ،بل يتعلق بالعر�ش ،لقد جل�س �آبا�ؤنا و�أجدادنا
على هذا العر�ش لقرون ،وال �أنوي �أن ي�ضيع من بني يدي ،دعينا
نحكم �سو ًّيا تلك اململكة العريقة ،دعينا نعيد �أجماد البطاملة الأوائل.
ارتابت من كلمات �شقيقها وهو ين�سج �شباك �أحالمه:
--هل ن�سيت و�صية �أبي؟ �أن حتكم �أنت وكليوباترا �سو ًّيا ،عليك
مب�شاركتها �أحالمك و�آمالك فهي الوريث ال�شرعي.
�أ�صابه الغ�ضب ال�شديد ملا �سمعه� ،أطبقت �أنامله على ذراعها بخ�شونة
حتى غا�صت �أ�صابعه يف حلمها� ،آملتها ب�شدة وهو يردد:
�--إن �أبي كان �أحمق عندما كتب تلك الو�صية� ،إن كليوباترا ال تعدو عن
كونها خائنة ،خانت العر�ش ،وخانت عائلتنا وكل ما ن�ؤمن به.
حب�ست �أر�سينوي �صرخاتها داخل �صدرها حتى كادت تنفجر ،رمقها
ب�إنعام ثم �أ�ضاف:
105
أبيت،
�شئت �أم � ِ �--أنا الوريث ال�شرعي للعر�ش و�سوف تكوين � ِ
أنت امللكة ِ
لن يختلف الأمر كث ًريا �إذا فعل ِته عن ً
ر�ضى �أم عن �سخط.
�أ�صابها اخلوف والفزع وقالت بخنوع:
--ح�س ًنا ،كما تريد.
ابت�سم بطليمو�س وم�س خ�صالتها بنوع من احلنان وقال:
--عندما ينق�شون التاريخ على احلوائط يا �شقيقتي العزيزة� ،سوف
ع
كنت امللكة الوحيدة والأجمل والأبهى من بني أنك ِ�أجعلهم يكتبون � ِ
ع
تبكي بال �صوت حتى ال ي�سمعها �أحد ،كانت تخاف من كل �شيء ،كانت
�ساذجة وبريئة ،تتمنى لو ينتهي الأمر يف غم�ضة عني ،تغم�ض عينيها ثم
تفتحها فينتهي كل �شيء برمته ،العر�ش وبطليمو�س وكليوباترا.
والتوز عي
�أ�سالفنا على مر الزمان.
--باملنا�سبة ،عليك مغادرة املدينة الليلة.
أق�ض يومي الأول حتى ،ومل يتم ما جئت لأجله. --املغادرة! مل � ِ
ً
مر�سال من الإ�سكندرية ،تقول �أردف باكو :لقد �أر�سلت زوجتك �آ�سيا
حال ،وت�س�أل عن تايبرييو�س يف املكتبة فيه �إن عليك الذهاب للإ�سكندرية ً
العظيمة.
قال حوررب بنربات متفاجئة:
--تايبرييو�س.
--نعم ،هذا �صحيح.
قال حوررب بقلق:
--لعلها تورطت يف املتاعب.
107
انفجر باكو يف ال�ضحك ،ثم �أردف:
تخ�ش عليها ...بل �إين �أخ�شى على جماهري --من؟ �آ�سيا؟ ...ال َ
الإ�سكندرية منها.
َّ --
علي املغادرة الآن.
ا�ستوقفه باكو :قبل �أن تغادر ،عليك �أن ترى �شي ًئا � ًأول.
--ما هو؟
َ --
تعال معي.
ريص ع
�--إىل �أين؟
ع
الأحجار والتماثيل وامل�سالت والطرق والأ�سواق واملنازل ال�شاهقة البنيان،
ُكل �شيء تغري ،الأحجار والنا�س والوجوه ،وعند املعبد رحب بهم الكهنة
بابت�سامات وعناق ،جثا حوررب على ركبتيه يف خ�شوع �أمام التمثال
الكبري� ،أحرق البخور وامل�سك وم�سح التمثال بالدم ،ورتل املتون املقد�سة،
باركه الكهنة وم�سحوا بالزيت ر�أ�سه ،وعندما فرغ� ،صعد به باكو �إىل �أحد
غالما يف
غرف الكهنة ال�صغرية ،وعندما دلف �إىل الغرفة ترقبت عيناه ً
العقد الثاين من العمر ،وعلى فرا�ش �صغري ا�ستلقى ج�سد مليء بجراح
مدهونة بالدهان واملروخ وملفوف باللفائف الطبية ،نظر حوررب �إىل باكو
نظرة طويلة ثم �أردف:
--من ه�ؤالء؟
--وجدناهم تائهني يف عراء ال�صحراء ،مب�سرية يومني من طيبة،
�أحدهما حمارب �شجاع كاد �أن ميوت من فرط جراحه ،والآخر
غالم كاد �أن ميوت من �شم�س ال�صحراء .وال �أعتقد �أن اجلريح �سوف
108
ينجو ،ف�إن جراحه ت�أبى �أن تندمل ،ج�سده ُم�صاب باحلمى يت�صبب
منه العرق من كل مكان.
اقرتب حوررب خطوتني من الغالم ،ثم �أردف:
--من �أنتم يا فتى؟
قال الغالم بتوتر و�صوت ميل�ؤه الرتدد:
--ا�سمي هو �إريو�س ،كنا �أربعة رجال نق�صد طيبة للتجارة ،ولكن
اعرت�ض قافلتنا قطاع طرق ،قتلوا اجلميع و�سرقوا العبيد� ،إال �أنا
ريص ع
وهذا الرجل ،ا�ستطعنا �أن نلوذ بالفرار ،بعدما حاولت �إنقاذه من
ع
�--أنت يف طيبة ،قلب اجلنوب ،من �أنت �أيها املحارب؟
والتوزي
ً
ع
--ا�سمي هو �ألك�سيو�س كورنيليو�س ،قائد فيالق ال�شمال ،وقاهر بالد
الغال ،وامل�ساعد الأول واليد اليمنى للإمرباطور الوحيد للبالد،
غايو�س يوليو�س قي�صر.
110
()2
قي�رص
ل ا ريص ع
ن لبل ت ك
ر ش
والتوز عي
111
()1
ع
مقاطعة �إلي�شيا يف الغال...
ر ش
والتوزي
معقل حتت �أمر «فر�سن جرتيك�س» ،كان جرتيك�س زعيم قبيلة �أرڤرين؛
ع
وحد جميع القبائل الغالية يف ثورة �ضد القوات الرومانية وا�ستطاع �أن َّ
يلوذ بالقبائل �إىل تل حم�صن لقبيلة ماندوبي ،وهناك حا�صره يوليو�س
قي�صر بفيالقه ،كان ح�صا ًرا ً
طويل دام لثالثة �أ�شهر متتالية نفد فيها
الطعام وال�شراب من ح�صنهم ،و�ضاقت بهم الأر�ض مبا رحبت ،وقرر
ارت�صت ال�صفوففر�سن جرتيك�س �أن يواجه قي�صر يف معركة فا�صلةَّ ،
الرومانية �ص ًّفا بعد �ص ًّفا يف ان�ضباط مهيب� ،أطلق قائد الفيالق �صافرة
عال ال يهتز لزجمرة العدو ،وملفت�شابكت الدروع الرومانية ك�أنها �سور ٍ
يكن للقبائل الغالية ب�أ�س �شديد وال باع يف احلرب ،كانوا نخا�سني وقتلة
ول�صو�صا� ،أو هكذا قال الرومان لأنف�سهم� ،أطلق قائد الفيالق �صافرة
ً
�أخرى فبد�أت ال�صفوف يف الهجوم ،كان قائد الفيالق يطلق ال�صافرة
للهجوم ثم يطلقها للدفاع فتعود الدروع يف �صفوف مرتا�صة ،مل تكن
للقبائل الغالية �صفو ًفا وال ا�سرتاتيجية ،كانت حربهم ع�شوائية وم�شتتة،
يوما ً
كامل ،ا�ستطاعت الفيالق ال�سيطرة على املعركة وبعد معركة دامت ً
112
وك�سر ال�شوكة الغالية وال�سيطرة على �إلي�شيا و�أ�سر فر�سن جرتيك�س ،ملك
القبائل الغالية كما يلقبوه.
كان املع�سكر �صاخ ًبا ميتلئ ب�ضجيج اجلنود وال�سيوف ،وقف ماركو�س
�أنطونيو�س على ر�أ�س الفيالق ،كان �شا ًّبا يف بداية العقد الثالث ،و�سيم
الوجه ،متو�سط الطول� ،أ�س َود وحالك ال�شعر ،بدا على وجهه خفة الظل
واملرح ،ولد يف روما اب ًنا لأحد العائالت النبيلة ولكنه �سلك در ًبا خمتل ًفا
جاحما� ،إن �أراد �شي ًئا يفعله من دون �أدنى تردد �أو حتى تفكري،
متاما ،كان ًً
ع
ال يهمه الآراء وال يهمه النا�س ،فقط ما يهمه �سيفه ومعدته ،وال �شيء
ر ش
والتوز عي
من فو�ضويته اجلارفة كان وال�ؤه الكامل ليوليو�س قي�صر ،وكان يحارب
حتت لوائه بدافع احلب واالحرتام والذهب بالطبع ،ظل واق ًفا يراقب
جنديني يتم جلدهما ملخالفتهما القوانني ،كانا �سكرا َنني وت�شاجرا على
النبيذ ،ف�أمر ماركو�س �أنطونيو�س مبائة جلده لكل منهما ،وعند الو�صول
�إىل اجللدة املائة� ،أ�شار بيده فتوقف اجلندي عن اجللد ،ثم �ألقى نظرة
�إىل الفيالق وقال:
--العدالة تعرف قلب كل �شخ�ص ،لقد ارتكبا خط�أ ج�سي ًما و�سيدفعان
ثم ًنا وخي ًما ،وكذلك �أي رجل هنا يخالف القانون ،املت�شاجرون
وال�سكارى �سيتم جلدهم ،والل�صو�ص �سيتم �شنقهم ،والهاربون �سيتم
�صلبهم ،بال �أي جمد �أو كرامة �أو �شرف.
الطريقة التي كان يتحدث بها ك�أنه مل ين�ش�أ �ضمن عائلة نبيلة بتاتًا،
كان �سوق ًّيا ولديه طريقة فو�ضوية ،ولكن مل ميانع قي�صر هذا �أبدً ا ،بل �إنه
يحبه بطريقته الفو�ضوية �أكرث من ان�ضباطه ،ويحب جموحه الال�إرادي،
113
عاما ،عندما كان يف �أوج �شبابه ،بالرجل
كان يذكره بنف�سه قبل ع�شرين ً
الذي ال يهتم بالقوانني وال القيود.
نظر ماركو�س �أنطونيو�س �إىل اجلالد وقال :اعر�ضهم على الطبيب
الليلة.
ثم �سمع �صوت خ َّيالة تقرتب من بعيد ،كانت رايتهم تتو�شح بالأحمر
وعليها الن�سر الذهبي املنق�ض ،عربوا البوابة وطفق احلرا�س يرتقبونهم،
لقد �أح�ضروا امللك املنهزم؛ فر�سن جرتيك�س ،اقرتب ماركو�س �أنطونيو�س
ب �ألك�سيو�س كورنليو�س.
ن ل ل ت ك
كانت مالحمه �صلبة وجدية ،اقرتب منه مارك �أنتوين وقال بابت�سامة:
و ت ل ا و ر ش ال�شمالية، َ --
فليحي قائد الفيالق
ص ع
�--أمل جتد بني الأ�سريات من تقع يف حبك؟
والتوزي ر
�--أ�ستطيع �أن ابتلع غالو ًنا من اجلعة كل ثالث دقائق ،تلك هي موهبتي
ع
الأف�ضل ،بجانب �أنني و�سيم ...يا �إلهي! �أنا مليء باملواهب ولكن ال
�أحد يقدِّ ر ذلك.
مازحا:
قال �ألك�سيو�س ً
--يا لها من مواهب مثرية لالهتمام ح ًّقا! هل فكرت يف العمل يف حانة
�أو ماخور وتلتفت �إىل مواهبك الفذة ً
قليل؟
�--أنت ت�ستهزئ بي الآن لكنك مل ت�شاهدين يف حانة من قبل� ،إن تَ�س َّنت
يل الفر�صة ف�سوف �أجعلك ت�شاهد لعلك تقدِّ ر تلك املوهبة.
و�ضع �ألك�سيو�س يده على فم �أنطونيو�س و�أردف:
وا�سرتخ ً
قليل� ،أنت ترثثر �أكرث من ِ --ح�س ًنا ،ا�صمت الآن� ،أغلق فمك
الالزم.
116
ثم �س�أل� :أين قي�صر؟
�أجاب ماركو�س �أنطونيو�س:
--قي�صر يف خمدعه� ،سوف �أنبئه بح�ضورك.
والتوز عي
ا�صل الدولة الرومانية ور�ؤ�ساء �شيوخ املجل�س، احلكومة الثالثية ،و َق َن ِ
وهم يوليو�س قي�صر ،وبومبايو�س ماجنو�س ،وماركو�س كرا�سو�س ،كانت
املقاعد فارغة �إال من مقعد بومبايو�س ماجنو�س ،كان هو من تبقى ليحكم
جمل�س ال�شيوخ ،كانت القاعة الوا�سعة متتلئ بال�ضو�ضاء وال�صخب ،كان
كل من يف القاعة من �شيوخ يرتا�شقون بال�سب وال�شتائم ،تختلف رغباتهم
وو�سائلهم و�أهدافهم وكل منهم يحاول �إثبات ر�أيه يف غوغاء مليئة بالزيف
وال�صراخ.
�صاح بومبايو�س:
�--صمتًا.
قالها و�صمت كل من يف القاعة ،كان بومبايو�س يف العقد ال�ساد�س من
عمره� ،إال �أن وجهه يقول عك�س ذلك ،كان و�سي ًما واعدً ا كال�شباب ،وعيناه
تلمعان كالقط ،حافظت حروبه على ر�شاقته و�صالبته ،قبل �أن ين�ضم �إىل
117
جمل�س ال�شيوخ كان قائد جي�ش �سوال الأول والذي كان يلقبه �شيوخ املجل�س
وعامة ال�شعب ب�أ�سماءٍ عدة ،كالدكتاتور والطاغي والدموي املجنون ،حيث
رهطا من اجلنود على ر�أ�س �شيوخ دخل بجي�شه �إىل �شيوخ املجل�س وو�ضع ً
املجل�س لرياقب �أقوالهم و�أفعالهم ،وعلى حوائط روما ل�صقت قوائم
باملعار�ضني واعتربهم خائنني وكل من يعاونهم يكون خائ ًنا لروما ،ويف
تلك الظروف الع�صيبة ن�ش�أ العهد ،عهد مقد�س بالدم بني يوليو�س قي�صر
وبومبايو�س ماجنو�س ،عهد مل ُيك�سر حتى الآن.
ع
رمق بومبايو�س �شيوخ املجل�س بنظر ٍة ،ثم �أ�شار بعينيه �إىل كاتو و�أردف:
والتوزي ر
تنبثق العروق من مع�صميه ورقبته ،وله عينان بارزتان ،كان من حمامي
ع
العامة ،وكل �إخال�صه ومبادئه ت�صب يف امل�صلحة العامة لروما وتداول
رف�ضا تا ًّما للإمرباطورية،راف�ضا ً ال�سلطة بني �أفراد اجلمهورية ،كان ً
خا�صة بعد ما �شاهده من �أفعال �سوال الإجرامية ،وقف كاتو وتنحنح ،ثم
نظر �إىل بومبايو�س ماجنو�س وقال:
--حتياتي �إىل القن�صل العظيم بومبايو�س ماجنو�س ،لدي �س�ؤال لك،
هل ت�سمح؟
رمقه بومبايو�س للحظات �صامتة ،فهو يعلم �أن كاتو ال ينطق خ ًريا
�أبدً ا ،ثم �أردف:
--تف�ضل يا كاتو.
قال كاتو:
�--أرمق تلك املقاعد اخلاوية الآن و�أت�ساءل ،ملاذا تظل خاوي ًة دائ ًما؟»
118
ثم �أ�شار �إىل املقعد الأول وا�ستطرد:
--ماركو�س كرا�سو�س امل�سكني ،مات يف حربه �ضد العبيد واملتمردين
قن�صل عظي ًما بحق ،و�أنا �أجدً وقتله �سبارتاكو�س بوح�شية ،كان
املوت عذ ًرا كاف ًيا على ما �أعتقد ،ولكن ما عذر �صديقك و�شريكك
يف احلكم؟
ثم قال بنربات حتمل اال�ستهزاء:
--ابن فينو�س ،ابن �إينيا�س البطل كما يلقبه البع�ض ،غايو�س يوليو�س
ص ع
قي�صرِ ،ل ال يعود �إىل روما؟ �أال يكفيه ثماين �سنوات من احلروب
والتوز عي ر ثم رمق ال�شيوخ بنظر ٍة طويلة ،وقال بحدة:
--لقد �أطلق قي�صر نف�سه كالذئب خلف دماء ال�شعب الغايل و�أ�صبح
فاح�ش الرثاء من وراء حليهم وذهبهم وعبيدهم� ،أيخفى عليكم �أن
قي�صر قتل ثالثمائة �ألف كلتي ،وهاجم ق ًرى م�ساملة؛ قتل � ً
أطفال،
ورمل زوجات ،و�شرد عائالت وحرق ق ًرى عن بكرة �أبيها ،ق ًرى م�ساملة
تدفع ال�ضرائب للدولة الرومانية؟ �أال يحمل يف قلبه ذرة من الت�سامح
والر�أفة؟ اللعنة عليكم جمي ًعا ،اللعنة على �صمتكم قبل حديثكم.
�أثارت كلماته ال�صخب بني ال�شيوخ من معار�ض �إىل م�ؤيد� ،صاح
اجلميع بغ�ضب ،وقف بوبليبو�س وقال لكاتو:
--تلك الطريقة التي ت�شكر بها جرنال روما العظيم يوليو�س قي�صر؟ يف
خالل ثماين ال�سنوات �أر�سل قي�صر مائة �ألف عبد �إىل روما ،هل هذا
جزا�ؤه يف النهاية؟
119
كان بوبليبو�س �أحد �شيوخ املجل�س امل�ؤيدين ليوليو�س قي�صر ،ولقد
�أثارت كلماته اللغط بينهم ،غ�ضب �سي�سرو ،فقال:
--ملاذا ي�ستمر يوليو�س قي�صر يف ال�صراع والنزاع؟ حتى �إنه مل ي�سدد
فل�سا واحدً ا من ديون روما حتى الآن� ،أ�صبح ميلك من الرثوة والذهب ً
ما يجعله مل ًكا ،فلما ال يعود �إىل روما كع�ضو يف جمل�س ال�شيوخ؟ �إنه
يريد �أن ي�شرتي التاج والعر�ش� ،إمنا �أرى قي�صر �سوال الثاين ،يريد
تدمري اجلمهورية ويحكم روما كديكتاتور حقري.
ع
كان �سي�سرو من �أ�شد معار�ضي قي�صر وحربه يف بالد الغال ،يكره
ر ش
والتوزي
--وما هي مطالبك يا �سي�سرو؟
ع
--نحن الأر�ستقراطيني ال ن�ستطيع مبفردنا التغلب على قي�صر وجي�شه،
ش
تخل عنه وحتالف معنا ،ف�أنت الرجل الأول يف روما� ،أنت من يحبه
ص ع
�--س�أوفر علينا الكثري من اجلدال والنقا�ش غري املجدي� ،أنا وقي�صر
122
تن�س �أن بالع�صبة �--أرجوك يا بومبايو�س ،فكر يف الأمر ولو ً
قليل ،وال َ
نحافظ على الدولة ،ال تفكر بعواطفك ودع القرار ال�صائب يرفرف
يف ال�سماء معل ًنا عن احلقيقة املرة.
ت�ساءل بومبايو�س:
�--أي حقيقة يا كاتو؟
--احلقيقة التي ال تخفى عن كل اجلال�سني هنا ،احلقيقة التي ت�شرق
كال�شم�س يف ال�سماء ويراها كل من يجل�س هنا.
ص ع
�ألقى �إليهم بومبايو�س نظرة ثم ت�ساءل:
ريص ع
ح ًّقا؟ حتى �إن كان ال�شعب يحب قي�صر ،ف�إنه يجهل ما يرتتب عليه
ع
--لقد ا�ستمعت ما يكفي ،خوفكم �أيها النبالء مفهوم� ،أ�ستطيع تفهم
خوفكم واندفاعكم يف مهاجمة قي�صر ،وهو خوف ينبثق عن حب
روما و�أقدر ذلك ح ًّقا ،لكن قي�صر لي�س ب�سوال.
قال كا�سيو�س:
--على املرء �أخذ احلذر يا بومبايو�س� ،صديقك قي�صر يف حربه
ال�ضرو�س من ثماين �سنوات ،وثماين �سنوات كفيلة بتحويل �أنبل
الرجال �إىل �أحقرها ،بالإ�ضافة �إىل �أنه �أ�صبح كامللك بني جنوده،
كيف تثق يف رجل ملك ُكل �شيء بعدما كان ال ميلك �شي ًئا؟
ثم �أ�ضاف �سي�سرو:
�--أنت تعلم يا بومبايو�س كيف بد�أ �سوال يف ال�صعود �إىل ال�سلطة ،تعلم
كيف كانت حروبه التو�سيعية با�سم روما وبا�سم املجد وب�أ�سماءٍ عدة،
وما �أ�شبه اليوم بالبارحة ،وما �أ�شبه �سوال بيوليو�س قي�صر.
124
�أردف بومبايو�س يف حماولة لتهدئة ال�شيوخ:
�--أ�ستطيع �أن �أ�ضمن لك يا �سي�سرو ب�أن عهد �سوال لن يتكرر جمددًا،
�أنتم �أيها النبالء� ،أنتم �أيها ال�شيوخ ،جميعكم تعلمون �أنني كنت
قائدً ا جلي�ش �سوال ل�سنوات ،ح�صلت فيها على ُكل �شيء تقري ًبا،
الذهب واملجد والن�ساء ،ولكني مل �أوافق على �أن يحكم �سوال كملك
�أو ديكتاتور� ،أنتم تعلمون �أنني �أحب روما �أكرث من �أي �شيء ،تعلمون
كيف �أقد�س القانون الروماين� ،أن القانون عندي هو العقيدة التي ال
ي�ستطيع �أحد تخطيها �أو امل�سا�س بها.
ص ع
--جميعنا نعلم كم حتب روما يا بومبايو�س ،ولكن نعلم � ً
ا ري
أي�ضا ماذا حتب
ع
ب�صوت خفي�ض:
ٍ اقرتب كاتو من بومبايو�س ،وقال
ر ش
والتوزي
رجل حمارب وتتطلع �إىل احلرية كما نتطلع� ،إن فاز قي�صر يف حربه
ع
يف بالد الغال ف�سوف ميتلك ُكل الذي ي�ؤهله لأن يكون ديكتاتور روما
القادم ،الفيالق والذهب وحب العامة ووفاء القادة ،رجل كهذا علينا
�أخذ احليطة يف �أمره.
--وماذا تريد مني �أن �أفعل يا كاتو؟
--قي�صر على و�شك �أخذ معقله الأخري يف بالد الغال ،وامللك الغايل
فر�سن جيرتيك�س جمع كل القبائل الغالية حتت رايته ،للتحرك نحو
�إلي�شيا.
--كم عدد جنوده؟
�--أربعون �ألف جندي ،على نقي�ض �صفوف ال�شعب الغايل ،فعدد
جنودهم يتخطى املائة واخلم�سني �أل ًفا.
--لكن جحافل يوليو�س قي�صر وقادة الفيالق لهم ا�سرتاتيجية مزدوجة
تنح�صر بني الهجوم والدفاع ،وال�شعب الغايل ال يحمل ا�سرتاتيجية
وال �صفو ًفا منظمة وال قادة ،حروبهم ع�شوائية وغري منظمة ،ويف
126
تلك املقارنة لن ينهزم قي�صر ب�سهولة.
--دعنا فقط ن�أمل �أن يخ�سر قي�صر هذه املرة.
--ال �أحد يعرف نتيجة احلرب ،ولكن دعني �أ�ؤكد لك ،قي�صر لن يخ�سر
حربه.
�أردف كاتو بنربات ميل�ؤها القلق:
--يا بومبايو�س� ،أنت القن�صل املتبقي من جمل�س ال�شيوخ ،عليك �أن
تفعل �شي ًئا� ،إذا ربح قي�صر هذه احلرب� ،أق�سم بالآلهة �أنه �سوف
ص ع
ي�صبح �سوال الثاين.
والتوز عي
كان هذا كاف ًيا لري�ضي كاتو ،اطم�أن قلبه عندما ت�أكد �أن بومبايو�س
ي�شاطرهم خوفهم و�شكوكهم حول قي�صر� ،أو بالأحرى يرف�ض فكرة
الإمرباطورية ً
رف�ضا قاط ًعا ،وكان هذا كاف ًيا ...حتى الآن.
كان ماه ًرا جدًّا يف مهارات الكالم ،در�س الفل�سفة واملنطق واملعرفة
لإقليد�س و�أر�سطو ،كان يعرف عن ال�شعر وكان يحفظ �أ�شعار هومريو�س
يوما ع�ض ًوا يف جمل�س ال�شيوخ.
وبندار جيدً ا ،كان يت�أهل لي�صبح ً
كان بروتو�س �شا ًّبا يف منت�صف العقد الثاين له �شعر طويل بلون بني
منطفئ ،وعينان زرقاوان متوهجتان ،وجهه هادئ وكئيب �إىل حد كبري،
كان يرتدي م�ؤخ ًرا رداء �شيوخ املجل�س الأبي�ض وفوق الأبي�ض ال�صايف �شال
مر�صع بالذهب ،كان يجل�س معهم يف املجل�س ،ي�ستمع وي�ستمع وال �أحمر َّ
127
يتحدث ،مل يكن من النوع الرثثار ،كان ال يرتك فر�صة �إال ويتعلم فيها
�شي ًئا ما ،كان �صامتًا معظم الوقت ،ال ُيخرج مهاراته الكالمية �إال يف
الوقت املنا�سب ،ويف معظم الأوقات كان يقر�أ �أو يكتب.
منغم�سا يف القراءة �إىل �أبعد حد،
ً جال�سا يف باحة املنزل وكان
كان ً
جاءت من ورائه مت�سللة على �أطراف �أ�صابعها خ�شية �أن ي�سمع �أ�صوات
خطواتها ،اقرتبت منه وو�ضعت يديها على عينيه وقالت:
--عليك بالتنب�ؤ ،من �أنا؟
ص ع
ابت�سم بروتو�س و�أردف:
بل
أنت زوجتي العزيزة
ع والتوزي
كانت بور�شيا ابنة عم لربوتو�س ،كانت فتاة يف عقدها الثاين ،جميلة
كالقمر كما ي�صفها بروتو�س دائ ًما ،مرحة وب�شو�شة الوجه.
جل�ست بجواره وقالت:
--هذا �صحيح ككل مرة ،ماذا تقر�أ؟
--قوانني �أفالطون.
--هل �أكملت قراءته؟
--اقرتبت من �إنهائه.
�أم�سكت بور�شيا الكتاب من يده و�أردفت :وماذا تعلمت؟
--منذ ثالث �أ�سابيع و�أنا �أقر�أ الكتب الفل�سفية لأفالطون ومنها؛ قوانني
�أفالطون واجلمهورية ،وكهف �أفالطون ،ودفاع �سقراط ،ورمبا
تو�صلت �إىل ما حتتاجه الدولة يف النهاية ،كان �أفالطون جمهور ًّيا
بكل ت�أكيد ،ولعلى �أحمل وجهة نظر خمتلفة ً
قليل.
128
--وما هي يا بروتو�س؟
�--أنا �أرى �أن الدميقراطية حمكوم عليها بالف�شل الذريع ،وال بد من
وجود ديكتاتور المع يدير الدولة بذكاء ،ديكتاتور عاقل وم�ستنري،
يعرف متى يعطي ومتى مينع ،متى ين�صر الفقراء ومتى يقمع
الأغنياء ،فالدميقراطية تعطي للفا�شلني ح ًّقا يف اتخاذ القرارات.
�أغلقت بور�شيا الكتاب وابت�سمت وعقدت حاجبيها ثم قالت:
--ال تدع �أبي كاتو ي�سمعك ،و�إال ف�سوف يقتل ابن �أخته الوحيد ،وزوجي
ع
العزيز.
ريص ع
--يبدو �أن �أ�ستاذك يف الفل�سفة قد �أح�سن تعليمك يا بور�شيا.
ع
�أحتدث عن الت�أثري ،يظل ت�أثريه موجودًا على مر الع�صور والأزمنة،
فلم �أ َر ً
عقل يعمل �إال وكان له ت�أثري ملحوظ يف م�سار الب�شرية ب�أكملها.
�أطلقت بور�شيا �ضحكة قبل �أن تردف:
�--إنْ تب َّنى العامل فل�سفتكَ ،ف�س ُيقبل اجلميع على االنتحار.
--لن ي�شكلوا فر ًقا� .إن العامل غبي ،وهذا هو ُلب الق�صيدة� .إن قد�س
فان ف�سيكون م�صريه الفناء بكل ت�أكيد.الإن�سان ٍ
اقرتبت منه ومل�ست وجنته ب�أناملها وقالت:
--وهل ي�ستطيع بروتو�س الو�سيم� ،أن يعي�ش يف عامل فارغ؟
ابت�سم:
--عزيزتي بور�شيا ،عامل فارغ �أف�ضل من عامل مليء بالأغبياء بكل
ت�أكيد.
130
--حتى و�إن ا�ستطعت العي�ش وحيدً ا ،فلن جتد من يقد�س عقلك يف
النهاية.
--العقل لي�س بحاجة للتقدي�س يا بور�شيا ،فكل مقد�س هو مقد�س و�إن
مل يتم تقدي�سه.
--ح�س ًنا� ،أنا �أتفهم هذه الفل�سفة .ولكن �ألي�ست العقول مت�ساوية ،والعقل
مقد�سا يف كل حاالته املختلفة؛ �إذا كان عقل فيل�سوف نبيل �أو
الب�شري ً
عقل مزارع من العامة؟
--ال! ...ونعم يف نف�س الوقت� .إن الذكاء �أو الغباء هو �شيء غري �إرادي
ص ع
البتة ،وهذا يعد عقالن ًّيا يف حيز الت�صنيف ،ولكن خارج حيز
131
أنت جميلة حتى يف حزنك يا بور�شيا. ِ �--
ابت�سمت بور�شيا ،ثم ا�ستطرد بروتو�س:
كنت تناطحينني جعلك عاب�سة وحزينة بعد �أن ِ �--أخربيني ماذا حدث ِ
يف الفل�سفة؟
--لقد علمت من �أبي �أنك �سوف ت�سافر �إىل قي�صر يف الغال ،هل هذا
�صحيح؟
تنهد بروتو�س و�أردف بابت�سامة:
ريص ع
--كنت �أعرف �أن عمي كاتو ال يكتم �س ًّرا �أبدً ا.
ر ش
والتوزي
مكروه.
ع
--لكن ملاذا تريد ال�سفر يا بروتو�س؟
ثوان قبل �أن يجيب:قليل ،ك�أنه يعود �إىل املا�ضي ،مرت ٍ �صمت بروتو�س ً
--مل �أ َر قي�صر منذ ثماين �سنوات� ،أذكر عندما كنت �صغ ًريا ،كان
قي�صر يف املنفى �أثناء ُحكم �سوال ،كانت ابنته جوليا �أعز �صديقة يل،
وعندما عاد قي�صر من منفاه ،ترعرعنا �سو ًّيا يف بيته ،كان يحبني
طفل و�أحتاج ملا يحتاجه بقدر ما يحبها ،ويف يوم كنت �أبكي ،كنت ً
الأطفال من حنان الأب ،يف ذلك اليوم �ضمني قي�صر �إىل �صدره
تبك يا عزيزي بروتو�س ب�شدة واحت�ضنني بني ذراعيه وقال يل« :ال ِ
رف�ضت �أن تعطيني �إياه الآلهة» .كان قي�صر لطي ًفا ف�أنت ابني الذي َ
معي �إىل �أبعد حد ،كان يعاملني كابن له ومن �صلبه ،مل ي�شعرين
يوما ب�أنني يتيم �أو لقيط� ،أو حتى نغل ،كان فقط �أبي و�أنا ابنه قي�صر ً
من دون �إلقاء ت�سا�ؤالت.
132
ثم ابت�سم وا�ستطرد :والآن �أذهب �إليه� ،أحييه يف انت�صاره الأخري ،ثم
نعود �سو ًّيا �إىل روما بالن�صر واملجد.
قالت بور�شيا:
--لكنه مل يك�سب حربه بعد.
--من يعرف قي�صر ،يعرف �أنه ال يخ�سر حربه �أبدً ا.
ابت�سمت بور�شيا و�أردفت� :سوف �أدعو لك الآلهة �أن تعيدك يل �ساملًا
يا بروتو�س.
ص ع
ِ �--
ري
أعدك �أن �أعود �ساملًا يا بور�شيا.
133
()2
ر ش
والتوزي
�شعر ك�ستنائي مميز مييل �إىل الأ�شقر الربتقايل ،نزلت �إىل املغط�س ،كان
ع
املاء �ساخ ًنا جدًّا ومفع ًما بالورود والروائح الزكية وخال�صة زهرة التوليب،
�أ�شارت �آ ْت َيا �إىل اخلادمة فاقرتبت ،غ�سلت �شعرها الأ�شقر َّ
وم�شطته يف
�صمت ،وكانت الأخرى ترثثر بال توقف عن يوليو�س قي�صر ،عن و�سامته
تلق
وب�سالته وعن �شجاعته املطلقة و�أنه ال يعرف اخلوف يف املعارك ،ومل ِ
بال ملا ترثثر به اخلادمة.�آ ْت َيا ً
كانت �آ ْت َيا تنحدر من عائلة جويل ،لقرون كانت عائلة جويل من
العائالت النبيلة يف روما ،كانوا يتقلدون ال�سيا�سة واملنا�صب الهامة يف
ملول للغاية ،و�صريحة �إىل حد ال�شجاعة ،وجريئة �شخ�صا ً ً روما ،كانت
�إىل حد الفظاظة ،كانت ت�ستعد ملقابلة بروتو�س ،لقد ت�سرب خرب �سفر
بروتو�س �إىل يوليو�س قي�صر ،انت�شر اخلرب كالنار يف اله�شيم بني �شيوخ
املجل�س والنبالء وبالطبع �إىل كالبورنيا زوجة يوليو�س قي�صر التي قد
تزوجها قبل �سفره �إىل الغال مبا�شر ًة.
134
متاما ،خرجت من املغط�س ،تناولت ك�أ�س نبيذ وعندما �صارت نظيفة ً
وطفقت ترت�شف منه ،كانت تغني وترق�ص مع ك�أ�س النبيذ املنع�ش ،ويف
تناغم مع ال�ضوء املنبعث من النوافذ انت�شت برحابة ،رمقت انعكا�سها يف
م�شطت املر�آة .تقدمت اخلادمتان و�أح�ضرتا املنا�شف وطفقتا جتففانهاَّ .
الفتاة خ�صالتها ال�صفراء حتى ت�ألق وملع كالذهب ،واقرتبت العجوز
وعطرتها بالزنبق الآتي من اليونان ،من وراء �أذنيها وحتت �إبطيها، َّ
وبني �أ�صابع يديها وقدميها ،ثم لفحت ج�سدها برداءٍ �أبي�ض تناولته من
خادمتها.
والتوز عي
يكتف بهذا ،فقديف الثالثة ع�شرة من عمره يحمل �شعر �أمه الذهبي .ومل ِ
حمل حدتها وجر�أتها .كان ذك ًّيا وحاد املالحظة ،عيناه ذئبيتان ،وعلى
متاما �شقيقته �أوكتافيا التي مل تب ُد ك�أنها من �آل جويل ،كانت النقي�ض ً
خ�صالتها بنية اللون ،كانت تكرب �شقيقها �أوكتافيو�س بخم�س �سنوات� ،إال
�أنها مل حتمل ذكاءه اال�ستثنائي ،كانت �صادقة وبريئة للحد الذي يجعلها
لي�ست من �آل جويل ح ًّقا...
كان �أوكتافيو�س و�أوكتافيا قد قررا ارتداء لون �أزرق منطفئ م ًعا
يف هذا اليوم ،تلألأ �شعر �أوكتافيو�س كالذهب اخلال�ص ،بينما تلألأت
الأحجار الكرمية على رقبة �أوكتافيا ،رمقتهم �آ ْت َيا بتعبري الفتور اخلافت
الذي اعتاد �أن يكت�سي وجهها معظم الوقت ،ثم �أردفت:
--ح�س ًنا ،يبدو هذا جيدً ا �إىل حدٍّ ما.
قال �أوكتافيو�س:
135
--نعم .تبدين جميلة � ً
أي�ضا يا �أمي.
ابت�سمت ابت�سامة ك�سولة و�أردفت:
�--شك ًرا يا عزيزي.
تنحنحت �آ ْت َيا و�أردفتً � :أول ال حديث �أثناء الطعام ،ثان ًيا عليكما
احرتاما له...
ً االنحناء لربوتو�س عند دخوله
قاطعها �أوكتافيو�س بحدة:
--ال .بالت�أكيد لن �أنحني لأحد.
والتوزي ر
املعروفة ،ثم �إنه �سوف ي�صحبك معه �إىل بالد الغال ،لتقابل عمك
ع
قي�صر.
قال �أوكتافيو�س:
--ماذا! ...ملاذا؟
--عندما يعود عمك قي�صر �إىل روما �ستنهال عليه الهدايا والعطايا
من العامة والنبالء على حدٍّ �سواء ،و�أنت الآن يا عزيزي �أوكتافيو�س
الوحيد الذي يحق له �أن يعود مع قي�صر باملجد.
--قي�صر لن يعود �إىل روما بهذه ال�سهولة.
ت�ساءلت �آ ْت َيا :ملاذا؟
--هل تظنني �أن �شيوخ املجل�س �سوف ي�سمحون لقي�صر بدخول روما
بعدما فعله يف الغال؟ قي�صر الآن قد خا�ض حر ًبا غري م�شروعة ولن
ي�سامح جمل�س ال�شيوخ يف هذا �أبدً ا.
136
--ال تقل هذا على عمك يا �أوكتافيو�س.
قالتها ناهية وبحدة.
قال �أوكتافيو�س بهدوء:
--ح�س ًنا .ما �أقوله لن يغري احلقيقة ،قي�صر ال ي�ستطيع الدخول �إىل
روما �إال يف حالة واحدة ،يدخل كما دخل �سوال.
قالت �آ ْت َيا منفعلة:
�ُ --صن ل�سانك عن هذا احلديث� ،سوف ت�سافر مع بروتو�س� ،ستغامر
ر ش
والتوز عي
هد�أت ثم اقرتبت منه وو�ضعت يدها على كتفه وقالت:
أنك خائف ،لكن الرومان ال يخافون� ،سوف جتعل �أمك فخورة �--أعلم � َ
بك� ،صحيح؟
قال �أوكتافيو�س يف ي�أ�س :نعم يا �أمي.
اقرتبت اخلادمة من �آ ْت َيا وقالت:
�--سيدتي� ،إن ال�سيدة كالبورنيا قد ح�ضرت يف اخلارج.
�--س�أخرج لها ً
حال.
كانت كالزهرة الذابلة ،ولكنها جميلة ،كظل �شجرة ال جتد من ي�ستظل
يوما
حتتها ،على الرغم من مرور ثماين �سنوات ف�إنها تثق �أنه �سوف يعود ً
ما ،ذلك ال َق َ�سم الذي �أق�سمه �أمام الآلهة ،هي تعرف قي�صر جيدً ا ،هو ال
ينكث بوعوده �أبدً ا ،ولكن ثماين �سنوات كانت كفيلة ب�أن يت�سرب القلق �إىل
�صدرها ،لقد وعدها ب�أنه �سيعود و�سوف يعود ،لكن متى؟ لقد �أكل الفراغ
137
ف�ؤادها .يف منزلها كانت تنت�صب �شجرة عتيقة ترتفع فوق بركة �صغرية
مياهها �صافية وباردة� ،أوراقها ذات لون �أحمر داكن .هنا كان لقا�ؤهم
الأول .كانت ترمق الأوراق املت�ساقطة يف ي�أ�س ،ال حقيقة �أب�شع من الوحدة،
كانت وحيدة ،ال تفعل �شي ًئا �سوى االنتظار ،ذلك الذي جعل من ثمانية
الأعوام �ألف عام �أو رمبا �أكرث.
جل�ست كالبورنيا ،ثم خرجت �آ ْت َيا وقالت ِّ
مرحبة:
--عزيزتي كالبورنيا ،كيف حالك؟
ع
--بخري.
والتوزي ر
ع
نظرت �آ ْت َيا �إىل وجه كالبورنيا للحظة:
--ح ًّقا .عزيزتي كالبورنيا� ،أعرف مباذا ت�شعرين� ،إنه ل�شعور فظيع �أن
انتظرت كل هذا الوقت ،ثماين
ِ ي�شعر املرء بالوحدة ،وال �أعرف ملاذا
�سنوات يا كالبورنيا ،ثماين �سنوات من احلرب واملوت واالنتظار.
قالت كالبورنيا:
�--سوف �أنتظره ولو تط َّلب الأمر مائة عام �أخرى من االنتظار.
�--أ�سو�أ ما يف االنتظار هو الأمل ،الأمل يجعل الأمور ثقيلة كالأوليمب،
طريق �صعب املرا�س ،االنتظار طريق طويل ينتهي �إىل الهاوية.
ارت�شفت �آ ْت َيا من ك�أ�س النبيذ وا�ستطردت:
أنت يا --العمر مير ً
بخطى عجوله ،ال يتوقف للنداءات وال للتو�سالت ،و� ِ
�شبابك يف االنتظار.
ِ أفنيت زهرة
عزيزتي � ِ
138
--احلب يجعلنا نرتكب احلماقات ب�صد ٍر رحب.
عينيك ،بداخلك الع�شق وقد توغل
ِ --نعم ،هذا �صحيح ،احلب� ،أراه يف
يف روحك و�أ�صبح ي�شكل خط ًرا عليك.
--الع�شق لي�س مبر�ض.
--مل �أ َر ً
مر�ضا فتا ًكا يفتك ب�أ�صحابه مثل الع�شق؛ فموته بطيء ،تنت�شي
به الروح ،ويت�أجج منه القلب ،وال تعلم �أنه مر�ض� ،إال حني ي�أتي
بالهالك.
ع
تلك احلماقة التي فعلتها با�سم احلب مل تكن �سوى فعل �أحمق من
ر ش
والتوز عي
--يا لهذه الرائحة العظيمة!
قالها بروتو�س وهو يدخل ،وقفت �آ ْت َيا وفتحت ذراعيها وقالت:
--عزيزي بروتو�سَ ،
تعال هنا.
اقرتب منها وعانقها ب�شدة ثم رمقها وقال:
أنت جميلة �أكرث من �أي وقت م�ضى. --انظري � ِ
إليكِ � ،
قالت يف �شيء من اال�ستحياء :بروتو�س ،كفى.
ثم التفت �إىل كالبورنيا ،تقدم �إليها ثم انحنى وتناول يدها وقبلها ثم
قال:
َ --
فلتحي زوجة قي�صر ،كالبورنيا اجلميلة.
بابت�سامة باهتة قالت:
�--شك ًرا لك ،بروتو�س.
139
ثم خاطب �آ ْت َيا:
�--أين الطفالن؟
حال. �--سوف �أح�ضرهما ً
قالتها ثم ان�صرفت �إىل �أعلى لإح�ضار الولدين ،خيم ال�صمت للحظات
حتى قالت كالبورنيا:
--متى �سوف ت�سافر �إىل الغال يا بروتو�س؟
كانت حزينة ونرباتها حزينة ،كان الأمر جل ًّيا وال يحتاج تف�س ًريا،
ع والتوزي
--نعم ،بكل ت�أكيد يا كالبورنيا.
و�ضعت اخلادمات الطعام على املن�ضدة ،فاحت رائحة اللحم امل�شوي
وتطاير الدخان كال�سحاب يف ُكل مكان ،نزل الطفالن وح�ضر اجلميع
جال�سني على املائدة ،اقرتبت خادمة من بروتو�س ،فقال:
--خب ًزا ،واثنتني من ال�سمك وقطعة من اللحم امل�شوي ،و�آه ك� ًأ�سا كبرية
من النبيذ املعتق املح َّلى بالع�سل.
انحنت اخلادمة وابتعدت ،وعاد بروتو�س بنظراته �إىل �أوكتافيو�س
وقال:
--كيف حالك يا فتى؟
نظر له �أوكتافيو�س بنظرة باهتة وقال:
--بخري.
140
ثم قالت �آ ْت َيا:
--لقد �أخربين �أوكتافيو�س �أنه يريد ال�سفر معك �إىل الغال ،ليبجل عمه
بالهدايا ،فما ر�أيك يا بروتو�س؟
مل يب ُد على �أوكتافيو�س الر�ضى ،ابت�سم بروتو�س وقال:
--بالت�أكيد ،ال م�شكلة ،ولكن الرحلة �إىل الغال طويلة ،وهو �صغري وال
�أظنه �سوف يتحمل امل�شقة.
قال �أوكتافيو�س بحدة:
ريص ع
--ل�ست �صغ ًريا� ،سوف �أبلغ الرابعة ع�شرة قري ًبا.
ر ش
والتوزي
جمل�س ال�شيوخ بال�سفر لأ�ستطلع �أحوال قي�صر� ،أحوال جي�شه
ع
وفيالقه ،لكني ال �أنوي فعل ذلك.
--ملاذا؟ ...ففي النهاية الآن قي�صر يف �أعني جمل�س ال�شيوخ جمرم
وخائن ،و�أنت يا بروتو�س ملاذا ت�ساند خائن؟
�أجاب بروتو�س:
أي�ضا �أحب روما ،فال �أر�ضى بهزمية قي�صر ،وال �--أحب قي�صر ولكني � ً
�أر�ضى بحرب �أهلية.
--احلرب ال مفر منها.
--ماذا تق�صد يا فتى؟
قالها بروتو�س باهتمام.
قال �أوكتافيو�س� :إن بومبايو�س ماجنو�س لي�س فيل�سو ًفا �أبدً ا ،هو فقط
ينتظر اللحظة املنا�سبة للهجوم.
142
--و�ضح يا �أوكتافيو�س.
�--إن مل يكن هذا جل ًّيا ،ف�إن بومبايو�س يحاول م�ساندة قي�صر لأجل
�سبب واحد فقط وهو جوليا ،ولكن �إىل متى؟ هو فقط ينتظر �أن
يعرف نتيجة املعركة الفا�صلة بني قي�صر و�شعب الغال ،ولهذا يا
بروتو�س يريد املجل�س �إر�سالك �إىل الغال ،وقي�صر لن يطعن �صديقه
و�أخاه؛ من �أعطاه الفيالق والقوة لغزو الغال ،فبالتايل قي�صر لن
وجمل�س ال�شيوخ لن
ُ يبد�أ الهجوم ،ولكن �إن ربح ف�سيحاول دخول روما
عاجل �أم � ً
آجل. ي�سمح و�ستحدث احلرب ً
كانت �صغرية وكان يكربها ب�ضعف عمرها تقري ًبا ،ولكن كانت تعرف
كيف تع�شقَ ،ع ِ�شقها بجنون ،ولي�س ع�ش ًقا عاد ًّيا بل ك�أنها �آخر الن�ساء
على وجه الأر�ض .كانت جوليا مبثابة طوق النجاة يف بحر عاتي الأمواج،
ال�سالم الداخلي الذي ظل يبحث عنه طوال حياته والذي مل يجده �إال
يف عينيه ويف ظلها ،على الرغم من فارق ال�سن بينهما �أحبته جوليا
ب�شدة كما لو �أنه �شاب يف مقتبل العمر ،كانت �صغرية وجميلة وهو يقرتب
�إىل الكهولة بخطوات ال ترتاجع قيد �أمنلة ،كانت بي�ضاء ك�أمها تتدىل
�ضفائرها ال�سوداء وت�سيل خ�صالتها كما ت�سيل �أ�شعة ال�شم�س يف ال�سماء،
143
عيناها حتمالن زرقة البحر كما يراهما بومبايو�س دائما ،و�ضع ر�أ�سه
على �صدرها ،ثم �أطبق �أذنه على بطنها وقال بابت�سامة مليئة بال�سعادة:
�--إنني �أ�سمع �صوت ركالته� ،أراهن �أنه ي�سمع �صوتي الآن.
تخللت خ�صال ِته البي�ضاء ب�أناملها الطويلة ك�أنه طفل �صغري وقالت:
--يقول �أبولونيو�س �إنها فتاة ،فهل يزعجك هذا؟
--ال ،كل ما يهمني هو � ِ
أنت يا جوليا.
ع
ثم �أ�ضاف بابت�سامة حمبة:
ت
ش ن ل بل
وخ�صالك ،لون خ�صالتك احلالك ووهج عينيك الدافئ� ،أناملك
والتوزي ر
التي حتت�ضنني ك�أين طفل �صغري وحيد ،يبكي� ،أنت ُكل ما �أملك يا
ع
جوليا.
�أم�سك �أ�صابعها ورمق عينيها ً
طويل وقال:
--ماذا �سوف ن�سميها؟
فكرت ً
قليل و�أردفت� :أريد ت�سميتها كورنيليا تيم ًنا با�سم �أمي.
--نعم ،بالت�أكيد.
--هل لديك اقرتاحات؟
�أراح ر�أ�سه على قدميها وقال :ال �أهتم باال�سم ،طاملا �أن الطفلة منك
أنت.
� ِ
--ملاذا يا بومبايو�س؟
قال بتعجب :ماذا تق�صدين بـ «ملاذا»؟
144
--لقد كنت الرجل الأول يف روما� ،صاحب القوة ،املخل�ص واملخ ِّل�ص
الكبري ،متلك الفيالق التي متكنك من غزو العامل ،وحب �شيوخ
املجل�س الذي �أن �أردت ف�سوف يرفعك على عر�ش روما كملك �أو
�إمرباطور ،ملاذا تخليت عن كل هذا ،ملاذا تخليت عن جحافلك لأبي؟
بعد حلظات من التفكري ،مل يجد �إال �إجابة واحدة:
أنت ال�سبب الوحيد والكايف الذي جعلني �أتخلى عن كل ِ �--
أنت يا جولياِ � ،
�شيء ،املجد ،الفيالق ،ال�سلطة ،وكل ما �آمل فيه الآن هو حياة هادئة
ع
وم�ستقرة ،دقائق طويلة �أظل �أراقبك فيها� ،أم�سك بيدك و�أرمق
ك
ِ
ر ش
والتوز عي
ثم زاغت عيناه يف الفراغ للحظات ي�ستجمع فيها �شي ًئا ما ،و�أ�ضاف:
--عندما ر�أيتك لأول مرة كنت عائدً ا من حرب �ضرو�س ،كانت
ثورات العبيد واملتمردين ت�شتعل يف ال�شمال ،كان قائد الثورة
يدعى �سبارتاكو�س ،تخابط جي�شه مع فيالق ماركو�س كرا�سو�س
وا�ستطاع هزمية كرا�سو�س هزمية �شنعاء وقتله ،فا�ضطررت للتدخل
يوما خان ًقا ميتلئ باحلرارة والدماء ،ويف بجحافلي �آنذاك ،كان ً
النهاية ا�ستطعنا ال�سيطرة على املعركة وتقابلنا �أنا وهو وج ًها لوجه
أر�ضا بعد نزال �شر�س دار بيننا ،وقبل �أن �أ�ضع �سيفي يف �أ�سقطتُه � ً
عيني وقال� :إذا قتلتني الآن ،فقد قتلت ً
رجل ح ًّرا� ،أما حلقه نظر يف َّ
�أنت ف�ستموت موت العبيد .تركته يكمل كلماته �إىل النهاية ،وغمدت
�سيفي بال تردد يف حلقه ،كنت �صغ ًريا و�أحمق� ،شعرت حينها �أنني
رجل ح ًّرا بحق ،لذلك �أق�سمت عندما �أعود �سوف و�ضيع ،وهو كان ً
�أعتزل الدماء و�أعتزل كل �شيء ،ول�سوف �أجد لنف�سي زاوية �أنتظر
145
فيها املوت ب�صمت ،ولكني وجدتك من بني كل هذا الزحام يف عقلي
ي�ضمد روحي املتهالكة ،كنت �أجد يف عينيك هبطت كاملالك الذي ِّ ِ
ال�سكون والرباءة ،وجدت ذراعني ت َُ�ض َّما ِن ِني كالطفل ال�صغري،
يوما.
ذراعني رمبا �أموت بينهما ً
كنت �ستختار؟»�«--إذا عدتَ بالزمن ،فماذا َ
ق َّبل بومبايو�س يدها و�أردف بال تردد:
�--أ�ؤكد لك يا جوليا �أنني �سوف �أختارك �أنت� ،أنا رجل ال يحب �أن يندم
ع
على قراراته.
ن
ر ش
والتوزي
احلرب يف الغال ،هو �صديق يل وبيننا عهد دماء مقد�س ،والأهم من
ع
هذا �أنه والدك.
ابت�سمت جوليا ،كانت را�ضية و�سعيدة ،كم كانت حتب �أن ينا�ضل
بومبايو�س من �أجل حبها كالأ�ساطري واحلكايات القدمية ،ومل ميانع
هو َق ْيد �أمنلة ،ولو كان �سيخو�ض حروبه من جديد من �أجلها ،من �أجل
�إ�سعادها ،من �أجل االبت�سامة التي متلأ وجهها .كانت هي نافذة احلياة
والهواء الذي يتنف�سه والدماء التي ت�سري بني عروقه ،وهكذا يجعله
احلب �ضعي ًفا و�أحيا ًنا �أحمق ،ذلك الذي يحوله من حمارب �شر�س يجابه
اجلبابرة �إىل طفل يف زمرة الأوالد ،جمرد طفل كل ما يتمناه هو عناق
طويل �سرمدي ،و�صدر يختبئ داخله من الوحدة التي ت�شمر �سواعدها
كوح�ش ي�أكل الأرواح ال�شاردة.
اعتدل بومبايو�س وقال ب�شيء من الرتدد:
--ولكن ال �أعلم ،ملاذا يفعل يوليو�س قي�صر هذا.
146
ت�ساءلت جوليا :ماذا فعل �أبي يا بومبايو�س؟
�--إنه يتحدى جمل�س ال�شيوخ ،خرق القوانني وال �أعرف �إىل متى �سوف
�أ�ستطيع �أن �أدافع عنه �أمام �شيوخ املجل�س ،فجميع ال�شيوخ بال
أنت ،تقول
ا�ستثناء يعلمون �أنني �أت�ساهل مع يوليو�س قي�صر لأجلك � ِ
عيونهم ما ال جتر�ؤ �أل�سنتهم على النطق به.
اقرتبت منه وقالت� :أعلم كم هذا �صعب عليك يا بومبايو�س ،لكن
�أرجوك ال تتخ َّل عن �أبي مهما حدث.
ع
--لن �أتخلى عن يوليو�س قي�صر حتى يتخلى هو عن روما.
والتوز عي
نظر بومبايو�س �إىل جوليا وقال:
--كاتو .ما الذي جاء به هنا الآن؟
قالت جوليا بابت�سامة:
--يبدو �أن �شيوخ املجل�س واقعون يف غرامك وال يريدون �أن يبتعدوا
عنك ولو لليلة واحدة.
بادلها بومبايو�س بابت�سامة وقال للخادم:
--دعهم يتف�ضلون الآن.
خرج اخلادم ومل يلبث دقيقة حتى تقدم ويف ذيله كاتو وبروتو�س ،قال
بومبايو�س:
--تف�ضل يا كاتوَ ،
تعال �إىل هنا.
147
اقرتب كاتو وجل�س ،ف�أردف بروتو�س:
--كيف حالك �أيها القن�صل؟
--بخري �أيها الفتى ،اجل�س.
جل�س بروتو�س ثم نظر �إىل جوليا و�أردف:
--كيف حالك يا جوليا؟
--بخري.
ع
ثم رمقته وقالت :يا للآلهة! �أنت مل تتغري �إطال ًقا يا بروتو�س ،ك�أنني
ر
أنت فجميلة دائ ًما.جميل كما العادة� ،أما � ِ
زيع والتو
ً
نطق بومبايو�س:
--ماذا هناك يا كاتو؟ ما الذي �أح�ضرك الآن؟
--جئت للتحدث �إليك ،ف�أنت مل حت�ضر جل�سة اليوم.
و�ضع بومبايو�س يده على بطن جوليا و�أردف:
--كما ترى �أق�ضي بع�ض الوقت مع زوجتي وابني.
--علينا التحدث يا بومبايو�س.
قالها كاتو و�ألقى نظرة عابرة و�سريعة �إىل جوليا.
نظر بومبايو�س �إىل جوليا و�أردف:
�سمحت.
ِ --اتركينا على انفراد للحظة يا جويل �إن
--بالت�أكيد.
148
--ثم نظرت �إىل كاتو بحنق وبابت�سامة متخرثة وقالت:
--ولو �أين �أعرف ما �سوف يقوله كاتو.
قالتها بانزعاج وغادرت.
قال بومبايو�س :حتدث يا كاتو� ،إنني �أ�ستمع.
ً
و�شمال وت�أكد �أن ال �أحد ي�ستمع وبعد �أن اطمئن ،قال نظر كاتو ميي ًنا
ب�صوت خفي�ض:
�--إن بروتو�س �سوف ي�سافر �إىل الغال ،ليوليو�س قي�صر.
ر ش
والتوز عي
--نعم �أيها القن�صل ،هذا �صحيح.
--وملاذا تريد الذهاب �إىل قي�صر الآن ،ومل يتم ح�سم معركته بعد؟
�أجاب بروتو�س:
--يريد بع�ض ال�شيوخ تفقد �أحوال يوليو�س قي�صر؛ ما �سوف يتبقى
من فيالقه وقواته ،وما خطوته التالية ،هل �سيتقدم ملا بعد الغال �أم
�سوف يعود �إىل روما.
--هذا ما يقوله ال�شيوخ فماذا تقول �أنت؟
--كان بومبايو�س يعلم قوة العالقة بني يوليو�س قي�صر وبروتو�س،
وموافقة بروتو�س ملجل�س ال�شيوخ �أثارت اخلاطر بداخله.
قليل قبل �أن يجيب:فكر بروتو�س ً
--ب�صراحة �أيها القن�صل� ،سوف �أ�سافر الغال لأنني �أريد ال�سفر ولي�س
لأوامر �شيوخ املجل�س� ،سوف �أنقل الأخبار كما يريدون بالفعل ،ولكن
ما ال ي�ضر قي�صر وير�ضى به جمل�س ال�شيوخ.
149
قال كاتو با�ستياء:
--مل �أظن �أنك تخون روما من �أجل خائن.
--جمل�س ال�شيوخ لي�س روما يا كاتو.
--لي�س روما نعم ،ولكن هو �صوت ال�شعب وال�شعب هو من يحكم.
�أردف بومبايو�س:
�--إذن �أفهم من كلماتك يا بروتو�س �أنك يف جانب قي�صر �إذا ربح حربه
ع
وتوجه �صوب روما بفيالقه وقواته احلربية؟ �أال تعتقد �أن تلك خيانة
ر ش
والتوزي
وال ن�سبق الأحداث وال نلقي االتهامات جزا ًفا ،حتى نعرف ما يدور
ع
يف عقل قي�صر.
�أردف كاتو بحنق:
--نحن نعرف ماذا يدور يف عقل قي�صر ،نعرف فيما يفكر ،وخطواته
التالية هي قيادة فيالقه والدخول بها �إىل روما.
قال بومبايو�س:
--لعل بروتو�س حمق يا كاتو.
�--إنه �صغري ،ال يفقه من الأمور �شي ًئا ،وغدً ا عندما يعود قي�صر بفيالقه
�سوف يدرك احلقيقة املرة� ،أن قي�صر ما هو �إال خائن خرق قوانني
روما املقد�سة التي مل يجر�ؤ �أحد على خرقها بعد الديكتاتور �سوال.
قال بومبايو�س:
150
�صحيحا يا بروتو�س وعاد قي�صر �إىل روما
ً �--إن كان ما يقوله كاتو
بقوات ع�سكرية ،وبالطبع قد حاز حب النا�س والذهب والفيالق ،ثم
وعد النا�س باملدينة الفا�ضلة ،فماذا �سوف يكون موقفك �آنذاك؟
فكر بروتو�س قبل �أن يجيب:
--هذا م�ستحيل �أيها القن�صل ،حتى يف زمن اجلبابرة �سيكون ذلك
ً
م�ستحيل ،فال�س�ؤال هنا :كيف تَ�ص َّور �أفالطون املدينة الأمر
الفا�ضلة؟ و َمل مل يحاول حتى �أن يبني حج ًرا واحدً ا فيها؟ َمل كانت
ص ع
فقط يف خميلته وبني �سطوره وكتاباته فقط؟ بب�ساطة لأن ما كان
ش
خلل عظي ًما ،وين�ص على
ريص ع
ثم ا�ستدرك بروتو�س وقال:
ع
ت�ساءل بومبايو�س:
--كيف؟
�أجاب بروتو�س:
�--إن ال�سلطة املطلقة مل تخلق للب�شر ،ومن يحاول احل�صول عليها
يلقَ الهالك احلتمي ،فهي كال�سراب يف ال�صحراء ،يرك�ض وراءها
النا�س ،ويرك�ضون بال توقف ،ويف النهاية ميوتون ً
عط�شا.
ابت�سم بومبايو�س وقال لكاتو:
--على الأقل يف النهاية �سيغدو الفتى فيل�سو ًفا واعدً ا.
ت�سرب ال�صراخ من وراء احلوائط ،كان ال�صوت جل ًّيا وم�ألو ًفا لدى كل
اجلال�سني ،كان �صوت جوليا ،لوهل ٍة �أفعم بومبايو�س و�سوا�س مقلق ،جاءت
اخلادمة م�سرعة وقالت:
152
�--سيدي القن�صل� ،إن ال�سيدة جوليا تلد الآن.
ارتبك بومبايو�س للحظات وقال:
--ا�ستد ِع �أبولونيو�س ً
حال.
اجته بومبايو�س ب�سرعة �إىل م�ضجعها وتبعه كاتو وبروتو�س ،كانت
م�سجاة على ال�سرير ت�صرخ وتتعرق ،وعليها و�شاح �أبي�ض بات �أمامه َّ
خم�ض ًبا بالدماء ،كانت تنزف ب�شدة وب�شراهة ،اقرتب منها و�أم�سك يدها
وقال بقلق عظيم:
ص ع
�--سوف تكونني بخري� ،أعدك.
ت
وبعد دقائق ح�ضر �أبولونيو�س ،وابتعد بومبايو�س و
تكذب. عندما أعرفك
خطوتنيزيع
ترتكيني وحيدً ا. ال جوليا، يا انفلتت منه الدموع من دون �إرادة :ال
للوراء،
كانت ت�صرخ وكل �صرخة كانت كاملطرقة فوق ر�أ�سه ،مل ي�ستطع التحمل
�أكرث من هذا وان�سحب خارج الغرفة ،جل�س على الأر�ض كالطفل ال�صغري،
�صراخا ومعها يزداد القلق واال�ضطراب الذي يهدم روحه كزلزال ً تزداد
عات� ،ضرب ال�صمت كاتو وبروتو�س ،مل تكن الكلمات لتجدي نف ًعا �أبدً ا يف ٍ
تلك اللحظة� ،أطلقت جوليا �صرخة �أخرية عالية تردد �صداها يف الأركان
و�ساد ال�صمت� ،صمت كالوح�ش ي�أكل الهواء والأنفا�س والآمال ،حلظات ثم
خرج �أبولونيو�س من الغرفة ،انتف�ض بومبايو�س واق ًفا ،كان وجه الطبيب
�أبولونيو�س منطف ًئا ومكفه ًّرا ،نظر �إىل بومبايو�س وقال ِب� ًأ�سى:
َّ --
تعازي لك �أيها القن�صل.
153
ظل واق ًفا لدقيقة ي�ستوعب كلمات �أبولونيو�س امل�شئومة ،تقدم بخطوات
متداع ،مل�س الأ�صابع الباردة،
ثقيلة �إىل الغرفة ،اقرتب منها و�سقط كجبل ٍ
ورمق الوهج ال�شاحب الذي يهب من عينيها ،كانت حريته عميقة ،ودموعه
ال تكاد تنفد ،يبكي ب�شدة ،يئن كالذئب ،ي�صرخ كالوح�ش ،و�ضع ر�أ�سه
على �صدرها وغا�ص فيها لآخر مرة ،ق َّبلها لآخر مرة ،احت�ضنها ب�شدة
لآخر مرة ،لآخر مرة يداعب فيها تلك اخل�صالت ،لآخر مرة يلم�س فيها
وجنتيها بحنان.
ع
«رحل اجلميع ،ويظل احلزن �سرمد ًّيا».
ع
مل يكن فر�سن جيرتيك�س كما توقع يوليو�س قي�صر �أبدً ا ،كان �شا ًّبا يف عقده
ر ش
والتوز عي
يوليو�س قي�صر ج�سده العاري وابت�سم ابت�سامة هادئة و�أردف:
--ماذا تظن �أين فاعل بك �أيها امللك فر�سن جرتيك�س؟
نظر له فر�سن جرتيك�س للحظات ثم قال:
--عدوك هو رجل واحد ،رجل قوي هزمه رجل �أقوى منه ،يقف هذا
الرجل �أمامك الآن عا ٍر كما ولدته �أمه ،ذليل كما مل يذق الذل من
لك قي�صر ،يف تلك قبل� ،ضعيف كما مل يكن من قبل� ،أنا �أ�ست�سلم َ
احلرب لقد تتوقنا للحرية كما تتوقتم �أنتم ،حاولنا �أن ندافع عن
�أنف�سنا بكل ما �أوتينا من قوة ،ن�سا�ؤنا ورجالنا قد لقوا حتفهم من
لك حياتي يا قي�صر ،من �أجل �أن ترتك ما تبقى منا �أجلنا� ،أقدم َ
�أحياء� ،إذا مات ما تبقى منا ،فلن يبقى �شيء من بالد الغال �إال
حمو ا�سمنا من التاريخ.ظالل �سوداء كالأ�شباح ،و�سيتم ْ
ثم انبطح � ً
أر�ضا يف ذلة ومهانة وا�ستطرد:
155
�--أتو�سل �إليك يا قي�صر ،ا�ستع ِبد �شعبي �أن �أردت ،ولكن اتركهم �أحيا ًء.
ا�سرت�سل قي�صر يف حديثه ،ونظر �إىل امللك املتداعي �أمامه� ،ساد
ال�صمت للحظات ترقب فيها اجلميع كلمات يوليو�س قي�صر� ،أردف بعد
هنيهة:
�--سوف �أدع �شعبك يعي�ش �أيها امللك فر�سن جرتيك�س.
ثم تقدم من ورائه حامل ال�شعار ،والذي كان يتمثل يف الن�سر الذهبي،
ع�صا طويلة م�صبوبة بالف�ضة ،وعلى ر�أ�سها مثبت ن�سر منق�ض كانت ً
ع
دروعهم ويهتفون بحرارة �شديدة« :يحيا قي�صر العظيم ،يحيا قي�صر
العظيم».
�أ�شار قي�صر �إىل ماركو�س �أنطونيو�س فتقدم ومعه جنديان وحملوا
فر�سن جرتيك�س �إىل زنزانته ،ثم وقف قي�صر واجته نحو جواده ،كان
وعال ،انحنى �أحد العبيد على يديه وركبتيه جواده � ً
أ�صيل ،لونه �أبي�ض ٍ
أر�ضا مبحاذاة اجلواد لي�ستطيع قي�صر امتطاء �صهوة فر�سه ب�سهولة،� ً
ركب قي�صر جواده وما زال اجلنود يرددون با�سمه يف الأفق ،وقف �أمام
فيالقه ورفع يده ف�صمت اجلميع ،قال بابت�سامة:
--اليوم هو االنت�صار الكبري ،بالد الغال �أ�صبحت لنا الآن ،والف�ضل
يعود لكم� ،أنتم اجلنود الذين اختارتهم الآلهة ليحققوا �إرادتها
يف الأر�ض ،و�إرادة الآلهة هي �أن تكون روما هي املنت�صرة� ،أنتم مل
تن�صروا يوليو�س قي�صر فح�سب ،بل ن�صرمت روما ،فاحتفلوا اليوم
156
كما ت�شاءون ،كلوا الطعام كما ت�شاءون ،ا�شربوا النبيذ وكونوا �سكارى
كما ت�شاءون.
�سكت قي�صر وارتفعت هتافات اجلحافل لتجتاز الأفق ،توجه �إىل
خمدعه ،كان خمدعه عبارة عن خيمة ولكنها مل تكن خيمة عادية،
ت�شيدت بالأخ�شاب بالكامل ومت ت�صميمها لتبدو كالبيت احلقيقي،
يف الداخل تو�شحت الأرا�ضي واحلوائط بالأحمر والذهبي ،كان اللون
الذهبي يلمع مع ال�شموع املثبتة يف احلوائط والأر�ض ،وبجانب ال�شموع
مكث ر�أ�س غزال مثبت يبث يف الأج�ساد الق�شعريرة ،جل�س قي�صر على
والتوز عي
يحبه قي�صر ويعطيه �صالحيات لي�ست للعبيد ،كان معل ًما جلوليا ،ا�شرتاه
قي�صر عندما كان يف املنفى يف ع�صر �سوال ،عندما كان مبملكة بيثينيا،
ومع مرور الوقت �أعجب قي�صر بفل�سفته وحاز الأخري ثقته ،اقرتب من
يوليو�س قي�صر ،ثم قال:
--كان خطا ًبا مله ًما ح ًّقا ،ولكن هذا لن ي�سكتهم للأبد ،لو كنت جند ًّيا
لكنت قل ًقا الآن و�أكرث من �أي وقت م�ضى.
نظر قي�صر ل�سكار باهتمام وقال :ماذا تق�صد؟
--ما �أق�صده جلي �إىل �أبعد حد ،ثماين �سنوات من احلرب ،من الدموع
والدماء ،من الطني والربد ،وانتهت احلرب الآن ،لو كنت جند ًّيا فما
�س�أفكر به هو الذهاب ثم الذهاب �إىل عائلتي �أو زوجتي �أو ع�شيقتي،
ال يهم �سبب العودة ،كل ما يهم �أنني مللت و�أحتاج العودة �إىل دياري.
--تق�صد �أن يفر اجلنود؟
157
--هم الآن يعمي الن�صر �أعينهم ،كل ما يحتاجونه هو �أن يفكروا
خال من الكحل ،عليك بالتفكري يف ماذا للحظات �صغرية بعقل ٍ
�ستفعل.
قال قي�صر:
--اجلنود اجليدون ال يهربون �أبدً ا من احلرب
--لكنهم ميلون ،ويخافون ،ولن يتبعك �أحد منهم �إىل روما.
�--سيفعلون ،ولكنهم يحتاجون �إىل دافع �صغري.
ع
�--أي دافع؟
ع
متاما.
ثم ا�ستطرد قي�صر:
�--أكره �أن ميوت �أحد الرجال اجليدين هبا ًء.
ت�ساءل ماركو�س:
�--إذن ماذا �ستفعل؟
�أجاب قي�صر� :سوف �أر�سله �إىل روما ،قري ًبا.
قال �سكار :تر�سله �إىل روما .ملاذا؟
ابت�سم قي�صر وقال:
�--سوف تعرف كل �شيء يف وقته �أيها العبد الرثثار.
دخل حار�س وانحنى لقي�صر و�سلمه لفافة و�أردف:
158
�--أخبار من روما �أيها القن�صل.
تناولها يوليو�س قي�صر ،فك اللفافة وف�ض ال�شمع ،فتحها وم�شت �أعينه
على احلروف والكلمات ،ابت�سم ابت�سامة طفيفة ثم قر�أ بتمعن:
--من كالبورنيا �إىل زوجي العزيز قي�صر ،لقد مرت ثماين �سنوات
طويلة ،ثماين �سنوات �أذوق فيها احلرمان كل يوم� ،أذوق فيها مرارة
البعد عنك ،ولكني ما زلت �أنتظر ،و�أعلم �أن يوليو�س قي�صر ال ينكث
وعوده �أبدً ا ،هنا يف روما ،يهتف النا�س با�سمك يف ال�شوارع ،يتحدثون
ع
عنك ب�إعجاب و�إجالل كبريين ،وهناك من يهتف با�سم العظيم،
ر ش
والتوز عي
تخرثت ابت�سامة يوليو�س قي�صر كما يتخرث احلليب الفا�سد ثم �أكمل:
--و�إنه وبحزن �شديد �أكتب هذه الكلمات ،لقد و�ضعت جوليا مبك ًرا،
كان الأطباء هناك وفعلوا ما ميكن فعله لإنقاذها هي وطفلها ،ولكن
الطفل كان �ضعي ًفا ولقي حتفه� ،أما جوليا فظلت تنزف ب�شدة حتى
نبيل وحمل الكثري انقطعت �أنفا�سها ،لقد كان الطفل ي�شبهك ،كان ً
مما حتمل� ،أما بومبايو�س فيبكي كالأطفال ،يئن وي�صرخ ،ال يفارق
�ضريحها ويحافظ على الأكاليل الطازجة اخل�ضراء ،يبكي مرا ًرا
رجل حزي ًنا كحزن وتكرا ًرا ،هائ ًما ال يكف عن البكاء والندم ،مل �أ َر ً
بومبايو�س �أبدً ا ،على �أمل اللقاء ،زوجتك كالبورنيا.
�أغلق يوليو�س قي�صر اللفافة ،يف تلك اللحظة كان يريد �شي ًئا واحد
فقط ،كان يريد البكاء وال�صراخ ك�أي رجل �آخر ،ولكن يف تلك اللحظة
مل يكن ك�أي رجل �آخر ،وال ميلك رفاهية البكاء ،بل كان جند ًّيا وقائدً ا
مطروحا �أمامه،ً جلحافل ال يعرف رجالها الرحمة ،كان البكاء لي�س خيا ًرا
159
جاهد تلك الرغبة املجحفة بالبكاء ،وب�شيء من عدم الإرادة انفلتت من
عينيه دمعة ،كان ي�شعر باحلزن والغ�ضب؛ باحلزن على فقدها ،وبالغ�ضب
العارم على نف�سه لأنه تركها لثماين �سنوات دون �أن يراها.
م�سح دمعته املتدلية ،حاول �أن يبدو طبيع ًّيا بقدر الإمكان ولكن وجهه
كان يقول كل كلمات الر�سالة امل�شئومة ،ومل�س هذا �سكار يف عينيه ،كان
متاما ،حتول من مبت�سم �إىل كئيب و�صامت� ،شردت وجه قي�صر خمتل ًفا ً
عينا قي�صر يف الأفق للحظات ،ثم قطع �شروده �سكار:
ع
--قي�صر ،ماذا هناك؟
والتوزي ر
ع
كان اخلرب كال�صاعقة على ر�أ�س �سكار ،فقد كان معلمها يف الفل�سفة
منذ �صغرها ،كربت بني يديه و�ش َّبت ك�أنها ابنته ،وكان ماركو�س �أنطونيو�س
ي�ستمع ومل ي�ستوعب جيدً ا ما مت �إلقا�ؤه ،ظل اجلميع �صامتني للحظات
ي�ستوعبون فيها اخلرب ،قال ماركو�س �أنطونيو�س ِب� ًأ�سى:
�--أقدم �إليك عزائي ال�شديد.
�س�أل �سكار :والر�ضيع؟
�أجاب قي�صر :لقي حتفه بعد عناء طويل.
�صمتوا ،فلم تكن هناك كلمات موا�ساة منا�سبة لتلك الكارثة.
يف الليل �أ�شعل اجلنود النريان واحتفلوا بانتهاء احلرب� ،أكلوا ب�شراهة
و�شربوا ب�شراهة ،ك�أنهم عبيد ونالوا حريتهم اليوم ،كانوا فرحني ب�أنهم
�سوف يرجعون لزوجاتهم وعائالتهم� ،ألقوا الأغاين و�أن�شدوا الق�صائد،
كانت ليلة باردة �صافية ونور النجوم ي�سقط على �أعايل اجلبال ال�شاهقة،
160
مل يخرج قي�صر من خمدعه ،كان حزي ًنا ،غمره ا�ضطراب عميق ،قي�صر
الأ�سطورة التي يتحاكى عنها النا�س كان يتداعى ،كانت روحه تئن بال
�صوت ،وك�أن البكاء �أ�صبح جرمية ،متنى لو يبكي ،متنى لو ي�صرخ يف كل
�شيء ملدة �ساعة واحدة فقط ،لل�سماء والأ�شجار والنجوم ،كان يبدو هاد ًئا
�إىل حد مرعب ،ولكن بداخله جحي ًما ال يكف عن اال�شتعال.
�سمع قي�صر من خارج خمدعه �ضو�ضاء غري م�ألوفة ،مل يكن �ضجيج
�شخ�ص
ٍ اجلنود امل�ألوف لأذنيه فح�سب ،بل هناك حتيات مت �إلقا�ؤها على
ما ،خرج قي�صر من خيمته فوجد ح�صا ًنا يقرتب ،ميز قي�صر الراكب،
ريص ع
وكيف يخفى عليه؟ �إنه بروتو�س ،كان يبدو خمتل ًفا ،لقد ترك بروتو�س
والتوز عي
�سريعة اقرتب من قي�صر ،احت�ضنه ب�شدة ك�أنه يحت�ضن �أباه ،وقابل
يوليو�س قي�صر تلك العاطفة بعاطفة �أكرب ،نظر قي�صر �إىل بروتو�س وملعت
عيناه و�أردف بابت�سامة:
--يا قا�سي القلب ،كم مر من الوقت يا عزيزي بروتو�س؟
قال بروتو�س:
--ثماين �سنوات ،مرت �سري ًعا ،ولكن ا�شتياقي لر�ؤيتك كان يزداد كل
حلظة وكل دقيقة ،لقد عانيت كث ًريا من غيابك.
--لقد تغريتَ كث ًريا ،غدوتَ ً
رجل ،كم �أنا م�سرور لر�ؤيتك اليوم.
--كل �شيء يتغري.
ثم بنربات حزينة ا�ستطرد :باملنا�سبة عزائي �إليك يف جوليا.
--نعم ،كل �شيء يتغري.
ثم ا�ستطرد قي�صر:
161
َ --
تعال للداخل.
دلف قي�صر للداخل ومن ورائه بروتو�س ،جل�س قي�صر على مكتبه
وجل�س �أمامه بروتو�س ،ثم �أ�شار للحار�س فاقرتب و�صب ك�أ�سني من
النبيذ ،جترع قي�صر ر�شفة ،ثم قال:
--كيف كان حالها قبل موتها� ،أق�صد جوليا؟
--كانت �سعيدة ،ولكنها كانت تتوق لر�ؤيتك.
ع
جترع قي�صر من ك�أ�سه و�س�أل:
ع
وليل يتجرع النبيذ
ويبكي وي�صرخ ،ويف جمل�س ال�شيوخ غيابه كان منتقدً ا.
--كيف حال جمل�س ال�شيوخ ،وبالتحديد عمك كاتو؟
جترع بروتو�س ك�أ�س النبيذ كاملة وابت�سم وقال:
�--أما عن جمل�س ال�شيوخ فهو غا�ضب ،و�أما حتديدً ا عمي كاتو ...فهو
غا�ضب �أكرث من �أي وقت م�ضى.
�أطلق قي�صر �ضحكة وقال :كاتو دائ ًما غا�ضب.
�ضحك بروتو�س و�أردف :نعم ،هذا �صحيح.
--كيف حال زوجتك بور�شيا؟ �أريد �أن �أ�سمع كل �أخبار روما.
--زوجتي بخري� ،أما روما فلي�ست بخري.
--ماذا هناك؟
162
�--شيوخ املجل�س منق�سمون ،ي�صرخون ويتبادلون ال�سب ،منهم من
جمرما
ً يراك ابن الآلهة واملخل�ص احلقيقي لروما ،ومنهم من يراك
وافتعلت حر ًبا غري م�شروعة.
�--إذن؟
--ي�صرخون يف وجوه بع�ضهم وت�سقط روما بينهم وبني غوغائيتهم التي
يوما بعد يوم وال �أحد يبايل� ،أجل�س
متتلئ بالزيف ،وتزداد الديون ً
بينهم و�أ�سمعهم ي�صرخون كالكالب ال�شاردة.
�صمت بروتو�س للحظة فكر فيها ثم ا�ستطرد:
ل
ن ل بل ت ك
�سمحوا يل �أن �أ�سافر �إىل الغال؟
زيع
--مل �أ�س�أل لأنني �أعرف الإجابة.
--وما هي؟
--هناك �سبب واحد ي�سمح ل�شيوخ املجل�س �أن يعطوك املوافقة لل�سفر
مف�صل عن حال الفيالق ً �إىل الغال ،وهي �أن تقدم لهم تقري ًرا
ً
م�ستقبل ،وهل تنوي واجلحافل وما اخلطوة التي �سوف تخطوها
العودة �إىل روما �أم ال.
ً
مذهول: قال بروتو�س
--كيف عرفت يا قي�صر؟ ك�أنك كنت ً
جال�سا بيننا.
--الأمر ال يحتاج �إىل ذكاء يا عزيزي بروتو�س ،هم يعرفون جيدً ا �أنني
لن �أ�سقط �إال من �شخ�ص مقرب ،ولن يحدث ذلك �أبدً ا.
ثم ت�ساءل قي�صر:
163
--كيف حال كالبورنيا؟
--زهرة غاب عنها �ساقها لثماين �سنوات ،بالت�أكيد ذابلة ،تنظر وال
تفعل �شي ًئا �سوى االنتظار.
�--سوف �أكتب لها ر�سالة ،عليك �أن تعطيها لها عند عودتك �إىل روما.
--بالت�أكيد ،لكن متى؟
--بعد يومني.
انتف�ض بروتو�س:
ع
--يومني! ...فقط؟ لقد كانت رحلتي من روما �إىل الغال يف ع�شرين
ل بل
�--سوف تعود مع ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س.
ع
--هذا � ً
أي�ضا ما ال �أفهمه.
قالها �سكار بعدما دخل ،وبابت�سامة قال لربوتو�س:
--كيف حالك يا فتى؟
ابت�سم بروتو�س و�أردف :كيف حالك �أيها العجوز؟
ا�ستطرد �سكار :بخري.
ثم �أ�ضاف ليوليو�س قي�صر:
--كيف تتخلى عن �أف�ضل قادتك دفعة واحدة ،قائد الفيالق ال�شمالية
ويدك اليمنى؟
قال قي�صر :ما �سيفعلونه يف روما �أهم من �أي �شيء �آخر.
--لقد ا�ستدعيتهم كما �أمرت ،ما الذي تخطط له؟
�--سوف تفهم قري ًبا يا �سكار.
164
قال بروتو�س بابت�سامة:
--على الأقل من اجليد �أن �أوكتافيو�س مل يح�ضر معي ،و�إال ف�سيكون
غري م�سرور البتة ،وهو حاد كال�سيف ك�أمه �آ ْت َيا.
�--أوكتافيان .هل كان �سي�أتي معك؟
ت�ساءل قي�صر.
--نعم ،ولكن ما حدث جلوليا جعلني �أقدم �سري ًعا على ال�سفر من دون
علم �أحد ،لأكون بجوارك.
ع
--هل �أ�صبح ً
ص
رجل الآن؟
والتوز عي
انتظر حلظة لقد �أح�ضرتُ لك هدية. ِ --
--ح ًّقا .ما هي؟
مر�سوما
ً �أ�شار قي�صر �إىل �سكار ،ف�أح�ضر �صندو ًقا من العاج القدمي
ومزخر ًفا بالنقو�ش ،تناوله قي�صر من �سكار ،وفتحه و�أخرج خنج ًرا ذهب ًّيا
يلمع ن�صله يف الهواء ك�شمعة يف �أح�ضان الظالم ،ابت�سم ثم �أردف:
--ذلك اخلنجر ثمني جدًّا ،مقب�ضه من العاج ون�صله من الذهب
اخلال�ص ،خفيف كالري�شة وحاد كال�سيوف ،ال �أعرف ملاذا عندما
ر�أيت ذلك اخلنجر تذكرتك يا بروتو�س.
ثم و�ضعه يف ال�صندوق وا�ستطرد :وهو الآن لك.
تناول بروتو�س ال�صندوق وقال ب�سرور� :شك ًرا لك يا قي�صر� ،إنه رائع.
دخل ماركو�س �أنطونيو�س مرتنح اخلطوات ،كان النبيذ الذي جترعه
ثمل تلك الليلة �أكرث من النبيذ الذي جترعه �آخر ثماين �سنوات ،كان ً
165
ومبتهجا ،ووجنتاه حمراوين ومنت�ش ًيا برحابة ،رمق بروتو�س للحظات ثم ً
�أردف بابت�سامة:
--بروتو�س ال�صغري ،كيف حالك؟
--مارك �أنتوين .يا للآلهة! لقد �صرت ...خمتل ًفا.
قالها بروتو�س بعدما ت�أمل ج�سد مارك �أنتوين املليء باجلراح والندوب.
أي�ضا ،لقد كربت.--للحروب مغارمها يا فتى ،و�أنت � ً
--نعم بالت�أكيد.
ع
قال قي�صر :لقد �أغلق النبيذ عقلك و�أريدك �أن ت�صحو الآن.
قالها ثم �أ�شار �إىل �سكار ف�أح�ضر �إنا ًء به ماء بارد� ،صب ماركو�س املاء
ووجهه حتى ا�ستعاد القليل من عقله ،جفف وجهه وقال: على ر�أ�سه ْ
--ح�س ًنا ،كلي �آذان م�صغية �أيها القن�صل.
�أردف قي�صر:
�--سوف ت�سافر �أنت و�ألك�سيو�س بفر�سن جيرتيك�س �إىل روما ،و�أنت لن
ت�سافر ب�صفتك جند ًّيا �أو م�ساعدً ا يل.
ت�ساءل ماركو�س:
--ب�أي �صفة �إذن؟
ً
قن�صل. �أجاب :بل ب�صفتك
166
مل ي�ستوعب جميع من يف الغرفة ما قاله قي�صر ،كيف؟ كيف يعني
مارك �أنتوين كقن�صل يف جمل�س ال�شيوخ؟ ذلك العربيد الثمل ،دارت
الأفكار يف رءو�سهم يف دائرة �سرمدية ،مل يكن قرا ًرا منطق ًّيا من قي�صر،
قال �سكار:
--من؟ مارك �أنتوين؟ قن�صل؟ ي�ستطيع �أن يحكم املجل�س و�شيوخه،
مثلك ومثل بومبايو�س ،هل متزح يا قي�صر؟
�أردف ماركو�س بعد حلظات بن�صف عقل ي�ستوعب الكلمات:
ص ع
--ح�س ًنا ،ما �أ�سمعه غريب جدًّا� ،أعتقد �أنني ما زلت ً
ري
ثمل.
ع
--وهنا ي�أتي دورك يا بروتو�س ،يريد املجل�س تقري ًرا عن حال الفيالق
ص ع
خرج قي�صر من م�ضجعه ،فتعالت �أ�صوات اجلنود حتية �إىل قي�صر،
ع
قال �ألك�سيو�س بتعجب :روما .ملاذا؟
اق�ض بع�ض
والتوزي ر
--اليونان .ملاذا؟
ع
--هناك ينتظر الفيلق التا�سع ع�شر الأوامر ،اجمع �شتات الفيلق ،واجته
به �إىل احلدود الرومانية ،وانتظر.
--ماذا �أنتظر؟
--انتظر بومبايو�س ماجنو�س.
ثم ا�ستطرد :هو ال حمالة �سوف يفعل �شيئني ال ثالث لهما� ،إما �أن
ي�ستدعي فيالقه من �إ�سبانيا ،ويف تلك احلالة �أريد منك الت�صدي لها مع
الفيلق التا�سع ع�شر ،و�آمل �أال يفعل هذا ح ًّقا .وال�شيء الثاين هو الهرب
�إىل �إ�سبانيا ،ويف تلك احلالة خذه ك�أ�سري حتى و�صويل �إىل روما ،وال مت�سه
ب�سوء.
170
()3
ع
قرب جوليا ،وكان لغيابه الفرتة الأخرية �أثر يف ت�شتت املجل�س ب�شكل كبري،
ر ش
والتوز عي
�--أين بومبايو�س بحق الآلهة يا كاتو؟ �إن املجل�س ال ينفك يتفكك ً
يوما
بعد يوم ،يجب على بومبايو�س احل�ضور وو�ضع حد لهذا الأمر.
قال كاتو:
--بومبايو�س حزين على جوليا وال يفارق ق�صره.
�أردف �سي�سرو وهو يقرتب:
--رمبا يكون هذا هو الوقت املنا�سب للتحرك يا كاتو.
�أردف كاتو :ماذا تق�صد يا �سي�سرو؟
--نعم� .إنها الفر�صة املنا�سبة لإقناع بومبايو�س بالت�صدي لقي�صر
والوقوف �أمام طموحاته التي بلغت الأفق.
قالها كا�سيو�س بعينني تلمعان كالقطط.
--ثم ا�ستطرد �سي�سرو:
171
تلك هي اللحظة املنا�سبة بالت�أكيد ،فبموت جوليا ينقطع كل خيط
يربط بومبايو�س ماجنو�س بيوليو�س قي�صر ،كانت جوليا ال�سبب الوحيد
الذي كان مينع بومبايو�س من معار�ضة قي�صر ،وها هي قد رحلت ورحل
معها كل ما يك ُّنه الرجالن �أحدهما للآخر.
�--أردف كاتو:
�أت�سمعون تلك الهتافات يف ال�ساحة� ،إنها كاجلحيم امل�صبوب فوق
ر�أ�سي ،ال بد من بومبايو�س �أن ي�أخذ قراره الآن.
ص ع
�--أردف �سي�سرو:
ر ش
--ما الذي يحاول قي�صر فعله؟ فالتخلي عن �أف�ضلوالقادتهتو
يتجهان �إىل روما ،و�سوف يعربان الريبيكون ب�أحد فيالق قي�صر ومعهم
ي ز
والتخليععن
امللك الغايل فري�سن جيرتيك�س.
املجد يف العودة بامللك الغايل �إىل روما� ،أمر يثري يف نف�سي ال�شكوك،
فما الذي يدور يف عقل قي�صر؟
�ألقاها كا�سيو�س.
قال كاتو:
�--إن عودة ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س �إىل روما� ،أمر
فعل هو ما �سيرتتب عليهال ي�ستدعي القلق ،ولكن ما ي�ستدعي القلق ً
هذا ،فبعد فوز قي�صر باحلرب� ،سوف ي�ستحوذ على حب ال�شعب
�أكرث و�أكرث ،ف�أنتم ت�سمعون الهتافات ب�أم �آذانكم.
قال �سي�سرو:
172
--فبالت�أكيد عند عودة ماركو�س و�ألك�سيو�س �سوف يغدقون على النا�س
الهدايا والذهب ،ما �سوف يجعل املوقف �أكرث �صعوبة.
�أردف كا�سيو�س:
--نعم ،ولهذا علينا التحرك ب�سرعة ،قبل و�صول ماركو�س �أنطونيو�س
�إىل روما ،يجب علينا �إقناع بومبايو�س مبواجهة قي�صر ب�أ�سرع وقت.
ت�ساءل �سي�سرو :ماذا �سوف تفعلون �إن رف�ض بومبايو�س؟ يبدو �أنه
ان�سحب من قيادة املجل�س نهائ ًّيا.
ريص ع
قال كاتو� :إن حدث هذا -وهو م�ستبعد -ف�سوف يعود بروتو�س مع
والتوز عي
قال كا�سيو�س:
�--أنت �أدرى النا�س بربوتو�س ،ف�إنه يحب قي�صر �أكرث من �أي �شيء �آخر،
ولن يعطينا من املعلومات التي ت�ضر بقي�صر.
�أردف كاتو:
--بروتو�س يحب يوليو�س قي�صر نعم ،ولكن يحب روما � ً
أي�ضا ويحرتم
القانون الروماين املقد�س ،ويعلم جيدً ا �أن عبور الريبيكون بقوات
ع�سكرية والدخول بها �إىل روما جرمية ال تغتفر.
ثم ع َّقب كا�سيو�س :ما �أراه الآن ،يجب علينا �أن ن�أخذ احليطة ،ونح�شد
القوات �أمام املجل�س وال�ساحة ،فهم �سوف ي�أتون بفيلق واحد فقط ،ويجب
علينا �أخذ قرار قبل عبورهم الريبيكون.
ت�ساءل كاتو :ماذا تريد �أن تفعل يا كا�سيو�س؟
173
�أجاب :الآن �أمامهم يومان حتى ي�صلوا �إىل الريبيكون ،بفيلق وحيد
يحملون ن�صر يوليو�س قي�صر �إىل روما ،فما علينا فعله هو �أن يتخرث
انت�صار يوليو�س قي�صر ،كما يتخرث احلليب بالرتاب.
قال كاتو :عندما مير علينا ذئب مفرت�س فمن احلماقة �أن نبادر
بالهجوم عليه.
--ومن الغباء �أن مند له يد ال�صداقة والعون كما يفعل بومبايو�س.
ص ع
قال �سي�سرو:
ع والتوزي
�أجاب :نعم� ،إما �أن يقتلوا امللك الغايل ،و�إما �أن يح�ضروه �إلينا ،ففي
احلالتني �سيتبخر انت�صار وجمد يوليو�س قي�صر يف الهواء ،كما مل يكن
يوما.
ً
قال كاتو� :أنت بهذا الأمر ميكن �أن تفتعل حر ًبا.
--علينا قتل كل قادة قي�صر ،فهم �أذ ُرعه و� ُ
أرجله التي يتحرك بها،
�إذا مات ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س ،ف�سوف يكون
قي�صر وحيدً ا و�ضعي ًفا.
ثم قال �سي�سرو بلهجة حتذيرية :لو ف�شل الأمر يا كا�سيو�س ،ف�ستُ�شعل
حر ًبا ال يكاد ينطفئ ومي�ضها ،ثم من �أين لك قوات وجنود لتغتال قادة
قي�صر؟
قال كا�سيو�س:
174
--بومبايو�س ميتلك القوات الالزمة� ،أما عن �إقناعه ،ف�أنت يا كاتو
ت�ستطيع فعل هذا ،و�إن رف�ض بومبايو�س فبع�ض تالنتات من الذهب
كفيلة ل�شراء بع�ض املغتالني.
قال �سي�سرو:
--بومبايو�س الآن ينزف من �أمل الفراق على �أكرث من كان يحبهم ،فما
الذي �سوف ي�ضطره �إىل فعل هذا؟
�أردف كاتو :روما� .ألي�س هذا �سب ًبا كاف ًيا؟
ص ع
--بومبايو�س لن تغ َّره خطبك الرنانة يا كاتو ،علينا �أن نكون �أكرث
والتوز عي
قال كا�سيو�س:
�--إن �إر�سال يوليو�س قي�صر مباركو�س �أنطونيو�س على ر�أ�س فيلق لهو
�أكرب ر�سالة على �أنه يطلب احلرب.
قال �سي�سرو:
�--أو الو�صول �إىل ت�سوية.
إالم تطمح تلك الت�سوية؟ �س�أل كاتو :و� َ
�--أن يعود يوليو�س قي�صر �إىل البالد فوق جحافله كمواطن روماين
و�شيخ من �شيوخ املجل�س ،ويتم تعيينه كقن�صل مدى احلياة ،وهو حر
يف ا�ستخدام حقوقه امل�شروعة والقانونية ،وعالوة على ذلك رئا�سة
املجل�س .لو كنت مكانه فلن �أتهاون عن مطلب واحد.
�أردف كا�سيو�س:
175
--لن ن�سمح لقي�صر ب�أن يحكم روما كملك �أو �إمرباطور طاغية ،وعلينا
�أن ن�ستخدم حق الفيتو لرف�ض تلك الت�سوية.
--فلن�أمل فقط يف الو�صول �إىل ت�سوية جت ِّنبنا احلرب.
قالها �سي�سرو.
قال كاتو:
�--إنْ وطئت قدم يوليو�س قي�صر روما بجحافله ف�سوف تكون تلك
النهاية احلتمية للجمهورية� .إن انتهى الأمر بت�سوية �أو حتى بحرب،
ص ع
ف�سوف يكون يوليو�س قي�صر هو �سوال الثاين بكل االحتماالت املتاحة
ع والتوزي
--علينا الذهاب �إىل بومبايو�س وحماولة �إقناعه.
ثم قال �سي�سرو :نعم� ،أنت حمق ،دعنا نذهب �إىل بومبايو�س ونرى �إىل
�أي حل �سوف يرنو.
قال كاتو :قبل الذهاب �إىل بومبايو�س ،علينا جمع الأ�صوات ال�ستخدام
حق الفيتو ملعار�ضة بومبايو�س �إن مل يوافق على �صد قي�صر.
قال كا�سيو�س� :أن�صار قي�صر يف املجل�س لن يدعونا منار�س حق الفيتو،
يجب �أن يكون بومبايو�س يف جانبنا حتى ن�ستطيع �أن جنمع الأ�صوات
الكافية ال�ستخدام حق الفيتو ،فب�أي طريقة كانت يجب �أن نقنع بومبايو�س.
قال �سي�سرو:
--على كل حال ،علينا �أن جنعل قرار احلرب هو القرار الأخري يف
القائمة ،فبا�ستطاعتنا �أن نحاكم قي�صر �أمام املجل�س با�ستخدام
الكثري من التهم ،ولكن لندعو الآلهة �أال ي�ستخدم �أن�صار قي�صر حق
176
الفيتو للمعار�ضة ،فهم كثريون و�سي�ساند بع�ضهم ً
بع�ضا.
�أردف كاتو :كل من يعاون ويقف لي�ساند قي�صر يف املجل�س هو خائن
للجمهورية وكل ما ت�ؤمن به روما.
--لي�س لهذا �صحة حتى الآن يا كاتو ،فقي�صر مل يف�صح عن نواياه بعد،
ولكن �إن عرب الريبيكون بفيالقه ،ف�ستكون احلرب قريبة� ،أقرب مما
نظن جمي ًعا.
قالها و�صمتوا ،كل منهم يفكر يف امل�صري املحتم واملجهول.
ر ش
والتوزي
لرئتيه� .أم�سك بيده م�شبك �شعرها العاجي ،قب�ض عليه ب�شدة ،ي�ستن�شقه
ع
�أحيا ًنا ويقبله �أخرى ،كل الأ�شياء من حوله تذ ِّكره بها ،كل �شيء بال
ا�ستثناء؛ الكرا�سي واحلوائط وال�سرير ،واملر�آة التي كانت جتل�س �أمامها
ل�ساعات مت�شط �شعرها الذي ي�سيل ك�أ�شعة ال�شم�س يف ال�صباح بال كلل،
كيف يهرب الإن�سان من قدره؟ �س�أل ومل يجد �إجابة.
دخل كاتو و�سي�سرو وكا�سيو�س �إىل ق�صر بومبايو�س� ،أجل�سهم اخلادم
وقدم لهم النبيذ املعتق بالع�سل ،قال كاتو:
--ماذا �سوف تقولون �إىل بومبايو�س؟
قال كا�سيو�س:
--على بومبايو�س �أن يقف بجوارنا يف املجل�س �ضد قي�صر ،فبومبايو�س
�إن ا�ستدعى فيالقه من �إ�سبانيا ف�سوف ي�سحق قي�صر كح�شرة.
«--و�إن رف�ض؟» قالها �سي�سرو.
178
�أجاب كا�سيو�س:
--ال يجب عليه �أن يرف�ض ،الآن وبعد موت جوليا� ،أ�صبح يوليو�س قي�صر
ال يعني �شي ًئا لبومبايو�س ،فلماذا �سوف يرف�ض؟ وعليه �أن يوافق
على الهجوم على ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س قبل
عبورهما الريبيكون.
�أردف كاتو :بومبايو�س يرف�ض �سفك الدماء.
--دماء خائنني ،ك�سروا القانون الروماين املقد�س ،افتعلوا حر ًبا غري
ص ع
م�شروعة ،قتلوا الأبرياء� ،سفكوا دماء الغال ِّيني كذئاب جائعة ال
والتوز عي
الال�شيء ،تنحنح اخلادم و�أردف:
بع�ضا من �شيوخ املجل�س يف اخلارج ،كاتو �--سيدي القن�صل� ،إن ً
و�سي�سرو وكا�سيو�س ،يطلبون لقاءك ،فماذا �أقول لهم؟
�سمع بومبايو�س اخلادم ب�آذان ثقيلة ،ا�ستوعب الكلمات بعد حلظات
وقال:
�--أخربهم� ...أنني �سوف �أح�ضر بعد دقائق.
انحنى اخلادم وخرج ،تثاقلت قدماه على الأر�ض ك�أنه يحمل الكابيتول
فوق كتفيه ،ثم انت�صب وبدل مالب�سه ب�شيء من الالمباالة ،كان كل �شيء
فارغا من احلياة ،خرج �إليهم بومبايو�س بخطوات تكاد ترتنح ،وقفوا يبدو ً
حتية له ،فجل�س و�أردف« :اجل�سوا».
قال كاتو:
--لك عزا�ؤنا �أيها القن�صل.
179
�--شك ًرا لك يا كاتو؟
ثم ا�ستطرد :ما الذي �أح�ضركم؟
قال �سي�سرو :غيابك يف روما كان منتقدً ا ،جمل�س ال�شيوخ ممزق ويف
�أ�شد احلاجة �إليك.
مل يعقب بومبايو�س ،فقال كا�سيو�س:
--هل �سمعت الأخبار؟ لقد ربح قي�صر حربه يف الغال وا�ستطاع �أ�سر
فر�سن جيرتيك�س ،امللك الغايل.
ريص ع
--نعم� ،سمعت� ،أخبا ًرا حمزن ًة لكم �أيها النبالء.
والتوزي ر
ع
ب�أحد فيالقه �إىل روما.
ثم �صاح كاتو :بومبايو�س ،افعل �شي ًئا ما.
--وماذا تريدين �أن �أفعل؟
قال كاتو� :سوف نقدم طل ًبا �إىل املجل�س ،و�أرجو منك املوافقة على
ذلك الطلب ك�صديق � ًأول وكقن�صل ثان ًيا.
--ما الطلب؟
قال كا�سيو�س:
--يجب على قي�صر ت�سريح جي�شه ،يجب عليه التنازل عن قيادته،
و�أن يركع �أمام جمل�س ال�شيوخ وتتم حماكمته قانون ًّيا باحلرب غري
امل�شروعة واخليانة املطلقة للجمهورية ،ويتم اعتباره كعدو ملجل�س
ال�شيوخ ولروما.
180
قال بومبايو�س:
--قي�صر مل يقرر دخول روما بجحافله بعد ،فبهذا ي�ستطيع الطعن على
طلبكم بحق الفيتو ،وكل �أن�صاره يف املجل�س �سوف يقفون بجانبه.
قال كاتو:
�--إذن ماذا �سنفعل؟ قي�صر ي�ستطيع �أن يزحف بفيالقه �إىل روما يف
�أي وقت.
�--إن فعل قي�صر هذا ،ف�سوف �أعطي �أم ًرا جلحافلي يف �إ�سبانيا بعبور
ص ع
البحر �إىل روما ،ولن �أنتظره ليعرب الريبيكون ،بل �س�أذهب �إليه
181
�أردف بومبايو�س بنربات حادة:
--قواتي لن تتحرك من روما ،ف�أنا �أرف�ض �سفك الدماء الرومانية
هبا ًء� ،إذا �أردمت فعل ذلك فافعلوه ب�أنف�سكم ،ولكن بعيدً ا عني وعن
قواتي ،ف�أنا لن �أ�شارك يف هذا.
ص ع
الأ�شجار والغابات يف �صدً ى خميف ،وبد�أ �ضار ِبوا الطبول بقرع طبولهم
والتوزي ر
بخطى ثابتة وعلى ر�أ�سه ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س حترك الفيلق ً
ع
كورنيليو�س وبروتو�س ،ومن ورائهم امللك الغايل مقموع وراء الق�ضبان يف
عربة جت َّمع حولها اجلنود و�أحاطوها كالذباب على الع�سل.
كان بروتو�س ي�شعر بالتعب والغثيان ،فقال:
--كم نبعد عن الريبيكون؟
�أجاب ماركو�س:
--بهذا املعدل قد ن�صل غدً ا.
ثم ابت�سم وا�ستطرد :ال �أعرف ما الذي �أح�ضرك ،ف�أنت مل متكث كث ًريا
�أيها امل�سكني.
�--إن كان هذا ما يريده قي�صر فال م�شكلة.
�أردف �ألك�سيو�س:
182
--وما الذي يدفعك حلب قي�صر �إىل هذا احلد يا بروتو�س؟
�أجاب بروتو�س� :إن قي�صر بالن�سبة �إ َّ
يل �أكرث من قائد �أو قن�صل ،تربيت
يف بيته وكان يعاملني كابن له يف الوقت الذي كنت فيه ً
منبوذا عند �أقرب
الب�شر يل ،كان قي�صر كل ما �أملك.
قال مارك �أنتوين:
--و�أنت �أيها القائد �ألك�سيو�س ،ملاذا حتب قي�صر؟
--ال �أحبه ،ولكني �أحرتمه ،فهو قن�صل عظيم وجندي لي�س له مثيل،
ص ع
وال �أحد ينال احرتامي ب�سهولة ،ما ر�أيته يف قي�صر مل �أجده يف باقي
والتوز عي
--البحث عن املجد ،كل من يذهب للحرب يذهب �سع ًيا وراء الذهب
واملال� ،أما يوليو�س قي�صر في�سعى وراء املجد ،ووحده املجد من
ي�صنع الرجال.
قال مارك �أنتوين :و�أنت تبحث عن املجد؟
�صمت �ألك�سيو�س للحظة ثم قال:
--قبل ثماين �سنوات ...رمبا� ،أما الآن فال.
--ملاذا؟
--يف احلرب ترتك كل �شيء وراءك ،كل من حتب ،كل �شيء م�ألوف يف
متاما عما كنت �ساب ًقا.
رجل خمتل ًفا ًعاملك ،وت�صبح ً
تركت وراءك؟
قال ماركو�س :وماذا َ
--تركتُ كل من �أحب ،كل الأركان امل�ألوفة وكل ال�ضحكات ال�صافية،
والهدوء وال�سكون.
183
--زوجتك؟
�أجاب بعد حلظة :نعم.
ت�ساءل بروتو�س:
--هل حتبها؟
--بكل ما �أحمل من عاطفة يف ج�سدي ،ولكن الإن�سان ال يعرف قيمة
الأ�شياء �إال بعد فقدها.
�ضحك مارك �أنتوين وقال:
ر ش
والتوزي
�إما �أن يقتلك و�إما �أن يرتك �آثاره عليك .عليك بالرهبنة ف�إنها خري
ع
و�سيلة للنجاة.
ابت�سم بروتو�س وقال:
--ومن هذا احلكيم؟
رجل يف حانة وكان ً
ثمل، --ح�س ًنا ،لي�س حكي ًما باملعنى املعروف ،كان ً
ولكنها كانت ن�صيحة جيدة يف النهاية.
�ضحك بروتو�س و�أردف:
--يا له من فيل�سوف ثمل!
قال ماركو�س:
�--سمعت �أنك فيل�سوف يا بروتو�س ال�صغري ،هل هذا �صحيح؟
--هذا متوقف على تعريف الفل�سفة ،عن ماهية الفل�سفة يف الأ�سا�س.
�سنجد هنا �أن ال�س�ؤال يف حد ذاته يعد �س� ًؤال فل�سف ًّيا من الطراز الأول،
184
ف�إن اجتهت �إىل الإجابات املنطقية ،ف�سنجد �أن الفل�سفة هي الدافع
للت�سا�ؤل والتدقيق يف كل �شيء والبحث عن ماهية الكون ومظاهره
وقوانينه ،الفل�سفة هي حماولة العثور على الإجابات الأ�سا�سية التي
يطرحها الوجود والكون ،وبفر�ض �أن احلقائق ثابتة ،فتكون الفل�سفة
هنا الباحث عن احلقيقة ومن ميتلك احلقيقة.
--يا للآلهة! �أنت تتحدث كالفال�سفة ح ًّقا.
قال �ألك�سيو�س:
--وهل تعرف كيف يتحدث الفال�سفة؟
ل
ن ل بل ت ك
ش
�ضحك بروتو�س وقال:
ص ع
كل ما �أفكر به الآن هو منزيل الريفي والهواء العليل يف الليل والهدوء
والتوزي ر
�سيئة �أبدً ا.
ع
--هل تقطن يف الريف؟
--نعم ،يف �إحدى القرى الريفية التي تقع �أعلى التالل� ،أفتقد كل
�شيء تقري ًبا ،حقول القمح التي تتلألأ كالذهب بعد الفجر عند
�شروق ال�شم�س وعند الغ�سق ،رائحة الندى بعد �سقوط املطر ،رائحة
خ�صالتها البنية اللون التي �أكاد �أن�ساها ،و�أناملها وهي تتخلل �شعري
يف هدوء ،يف احلرب كل �شيء �ضائع وال يبقى �إال ظالل الذكرى
العابرة.
قال بروتو�س :املجد يتطلب الت�ضحية بكل �شيء.
�أردف مارك �أنتوين:
وهم وغري --املجد .يا لها من كلمة �سخيفة! �أنا �أجد �أن املجد هو ْ
حقيقي� ،سراب كبري ال نهاية له ،دوامة ُتغرق كل �صاحب طموح
طموحه الأفق� ،صحيح يا �ألك�سيو�س؟ يجتاح ُ
186
�--أوافقك الر�أي ً
متاما.
كان الغ�سق �أثقل من كل مرة ،تلونت ال�سماء بلون �أرجواين عميق،
�أكملوا م�سريهم حتى بد�أت تكت�سي الغابة من حولهم بالظالم ،بد�أت
ال�سماء ت�سقط الثلج اخلفيف ،وا�صطبغ �أفقها بالأحمر مع غروب ال�شم�س،
كانت هناك حركة غري مريحة بني الأ�شجار والأوراق املت�ساقطة جعلت
اخليول خائفة تتحرك بدافع خوف غري معروف .زحف القمر بت�ؤدة يف
ال�سماء ال�سوداء ،ومن ال�سواد احلالك خرج من بني الأ�شجار والغ�صون
ص ع
ب�سرعة واخرتق ال�صفوف ب�سيفه .كانت الأعداد تتدفق وتزداد بال توقف،
والتوزي ر
بارعا يف احلروب ،ظل خمتب ًئا يت�صبب عر ًقا يكن جبا ًنا لكنه مل يكن ً
ع
وميل�ؤه القلق ،دقات قلبه تكاد ت�شق �صدره من اخلوف ،مل ي�شاهد دما ًء
ت�سيل كما ت�سيل يف هذا اليوم ،كانت �أول معركة يراها ب�أم عينيه ،كان
الدماء والأ�شالء تتطاير يف كل مكان.
جنح ماركو�س �أنطونيو�س �أن ُيحكم ال�سيطرة على عربة امللك الغايل،
وقتَل كل من حاول حتريره .وجتمهر حوله الفيلق يف �صفوف دفاعية
بعدما �صاح فيهم و�أعطى الأمر ،ارتفعت ال�سيوف وهوت بال توقف
كانت جمزرة ،اخرتقت فيها الن�صال احللقات املعدنية لدرع �ألك�سيو�س
جريحا من على �صهوة ً و�أ�صابته وك�سرت �أ�ضالعه� ،سقط �ألك�سيو�س
فر�سه ،وظل يت�شابك ب�سيفه بقوة حتى قتل منهم الكثري ،ثم �أعطى �أم ًرا
لباقي الفيلق باال�صطفاف الدفاعي ،ت�شابكت الدروع بع�ضها مع البع�ض
ك�أنها درع موحدة وكبرية ،وا�ستطاع الفيلق �أن ي�ستجمع �شتاته بعد معاناة،
وقف �ألك�سيو�س وقاد الفيلق كما كان يفعل دائ ًما ،كان يعطي �أم ًرا بالهجوم
188
فيهاجم الفيلق دفعة واحدة ،ثم يعطي �أم ًرا بالدفاع فيدافع دفعة واحدة،
وكانت تلك اال�سرتاتيجية �سب ًبا يف تقهقر املجموعات املقابلة ،ا�ستطاعوا
�أ�سر القليل منهم والباقي ا�ستطاع الهرب .ا�ستحال بيا�ض الثلج على
الأر�ض �إىل الأحمر من الدماء ،انتابت بروتو�س رع�شة قوية يف ج�سده
وطفق يتقي�أ بال توقف ،اقرتب ماركو�س من �ألك�سيو�س وقال:
--هل �أنت بخري؟
--نعم ،و�أنت؟
ع
--بخري.
189
�أ�شار ماركو�س �إىل جندي ف�أح�ضر �أ�س ًريا من الأ�سرى ثم �ألقاه على
الأر�ض بخ�شونة ومبقب�ض ال�سيف هوى على ر�أ�سه فانبثقت من ر�أ�سه
الدماء� ،أ�شار ماركو�س �إىل اجلندي فكف عنه ،اقرتب منه وقال:
--من �أنتم؟ وملاذا هاجمتم الفيلق؟
مل ُيجب الأ�سري �أ ًّيا من الأ�سئلة التي قد �ألقيت عليه ،فقام ماركو�س
�أنطونيو�س ِبا�ستالل �سيفه من غمده بع�صبية ،وبغ�ضب هوى بال�سيف
على ذراع الأ�سري ب�شكل مباغت وبقوة ،انقطعت ذراعه وانفجرت الدماء
ص ع
بغزارة ،وطفق الأخري ي�صرخ ب�أمل وعذاب وبال توقف:
ع والتوزي
�--شيوخ املجل�س.
ظلوا للحظة ي�ستوعبون ما �ألقاه الأ�سري على م�سامعهم ،قال ماركو�س:
�--شيوخ املجل�س؟
ف�أردف بروتو�س:
--ماذا! ...كيف؟ كيف يفعلون �شي ًئا كهذا؟
�أردف �ألك�سيو�س وهو ينظف �سيفه املغطى بالدماء:
�--شيوخ املجل�س يريدون �أن ي�ضيع جمد يوليو�س قي�صر ،ولكن مل �أعتقد
�أن يتجرءوا �إىل هذا احلد ،ب�أن ير�سلوا مغتالني ليحاربونا.
قال ماركو�س :علينا التحرك �سري ًعا� ،أمامنا م�سرية يوم واحد على
عبور الريبيكون ،يجب �أن ن�صل �ساملني بامللك الغايل �إىل روما.
ثم ا�ستطرد بغ�ضب� :سوف يندمون على فعلتهم تلك.
190
على الرغم من طريقته التي متتلئ بالالمباالة ف�إن غ�ضبه كان عات ًيا،
كالربكان الذي ال ينطفئ� .أمر ماركو�س بو�ضع �إحدى الرءو�س يف �صندوق
وارت�ص
َّ لتقدميها كهدية للمجل�س� .ضمدوا جراحهم ثم امتطوا �أفرا�سهم
ما تبقى من الفيلق ،وبخطوات �سريعة كانوا يقرتبون من الريبيكون.
191
()4
ع
ماركو�س �أنطونيو�س كان ي�ستمع لهتاف العامة بفخر وزهو كبريين ،وكان
ً
معرو�ضا على ال�شعب كراية للن�صر ،وبني الهتافات امللك الغايل يف العربة
مر مارك �أنتوين بني اجلمع الغفري من النا�س على قدميه ،كان يغدقون
عليه ال�سالم والقبالت ويلقون عليه الورود ك�أنه املنت�صر وخم ِّل�ص روما
الأعظم ،وهو كان يتقبلها بابت�سامات و�ضحكات عالية متتلئ بال�سرور
والن�صر ،وظل يهتف النا�س با�سمه حتى و�صل �إىل �أبواب املجل�س ورمق
عمدانه ال�شاهقة التي تو�شحت بالأحمر والذهبي ،ثم تقدمه جندي ليعلن
عن ح�ضوره بالرغم من عدم وجود حاجة لذلك:
--بني �أيديكم ال�سيناتور والقن�صل مارك �أنتوين.
رنت الكلمة يف �آذان اجلميع بعدها دخل ماركو�س �أنطونيو�س جمل�س
ال�شيوخ ،ثم �أغلق اجلنود باب املجل�س الكبري� ،ضرب ال�صمت جميع من يف
قاعة املجل�س ،كل ال�شيوخ بال ا�ستثناء قد �أ�صاب �أل�سنتهم لعنة ال�صمت،
192
كان القن�صل بومبايو�س ماجنو�س غائ ًبا كالعادة و�أر�سل كاتو يف ح�ضوره
فو ًرا ،قام كاتو من مقعده وقال:
--مرح ًبا ،جرنال مارك �أنتوين.
ابت�سم مارك �أنتوين وقال:
--مرح ًبا كاتو ،يبدو يل �أنك قد افتقدتني كث ًريا.
--نعم ،بالت�أكيد.
ً
جرنال �--أال �إنك خمطئ كالعادة يا �صديقي القدمي ،ل�ست هنا ب�صفتي
ص ع
وقن�صل من قنا�صل �شيوخ املجل�س.ً ولكن ب�صفتي �سيناتو ًرا
والتوز عي
ً
قن�صل؟ --ومن ع َّينك
قليل ،هذا �س�ؤال يبدو بالغ ال�صعوبة� ،آه لقد تذكرت ،من --دعني �أفكر ً
قن�صل هو رجل روما الأول والقن�صل يوليو�س قي�صر. ً ع َّينني
ت�ساءل كا�سيو�س :ملاذا �أنت هنا يا ماركو�س؟
--يا �إلهي ...هذا �أنت يا كا�سيو�س؟ لقد �أ�صابتك التخمة وكرب بطنك
حتى �إنك ال ترى قدمك ،يبدو �أنك �أكرثت من تناول الطعام والنوم
�آخر ثماين �سنوات.
قال �سي�سرو:
--يبدو �أن ثماين �سنوات من احلرب مل تغري فيك الكثري يا مارك
�أنتوين.
--نعم يا �سي�سرو ،ويبدو �أن هذا املجل�س مل يتغري كث ًريا � ً
أي�ضا ،فهو ما
زال يحمل يف جعبته الكثري من احلمقى.
193
غ�ضب كاتو وقال بحنق:
--ا�سمع �أيها املتباهي ،لن نتغا�ضى عن تطاولك ولو للحظة ،قل ماذا
تريد؟
�--أنا؟� ...أنا ال �أريد �شي ًئا� ،أنتم من تريدون.
قال �سي�سرو :وماذا �سوف نريد منك؟
�--أن تنالوا تعاطفي ون�صل �إىل ت�سوية حمايدةُ ،تنبكم بط�ش قي�صر.
قال كا�سيو�س بكلمات من حتت ال�ضرو�س:
والتوزي ر
�أمام املجل�س لهو �شيء لي�س يف �صاحلك �أبدً ا� ،صدقني.
ع
قال كاتو :هل تلقي علينا التهديدات؟
--ال ،لي�س بعد.
ثم �أردف �سي�سرو:
--وما هي الت�سوية التي تريد الو�صول �إليها �أيها القن�صل؟
عاقل يف هذا املجل�س.�شخ�صا ً
ً --جيد ،يبدو �أن هناك
قال كاتو غا�ض ًبا� :صن ل�سانك يا هذا.
نظر ماركو�س �إىل كاتو بنظرة حتدٍّ وقال :و�إال؟
--و�إال ف�سوف تندم على تلك الوقاحة.
�--أنت و�أي جي�ش؟
قال �سي�سرو �إىل كاتو:
194
--اهد�أ يا كاتو ،علينا �أن ن�صل �إىل ت�سوية كما قال ماركو�س ،ت�سوية
جتعل خيار احلرب خيا ًرا غري مطروح باملرة ،وت�صل � ً
أي�ضا �إىل قرار
يدعم اجلمهورية.
هد�أ كاتو فقال ماركو�س :ح�س ًنا ،قي�صر يريد الدخول �إىل روما وجتنب
�إراقة الدماء ،كفى دما ًء لثماين �سنوات.
قال �سي�سرو:
--ح�س ًنا� ،أَ ْد ِل مبا عندك.
ع
�--سيعود قي�صر �إىل روما كجندي مقاتل كما فعل بومبايو�س �سل ًفا،
رجل ع�سكري.
رجل ع�سكر ًّيا فقط ،بل رجل روما الأول ،يحظى بحب --قي�صر لي�س ً
العامة ،هو نبيل ولكن لي�س مثلكم �أيها النبالء ،ال يزدري العامة بل
يحبهم كالنبالء ،و�إن كنت ال ت�صدق ،فا�سمع الهتافات يف ال�ساحة،
هل ت�سمع :يحيا قي�صر ،يحيا قي�صر� ،أت�سمع هتافاتهم التي ت�صم
الآذان؟
قال كا�سيو�س:
--بعد �أن انتهت حرب الغال مل يتبقَّ لقي�صر اجلحاف ُل الكافية ليزحف
بها �إىل روما ويتحدى جمل�س ال�شيوخ وميلي عليه الأوامر.
195
�--أنت حمق يا كا�سيو�س ،فقي�صر قد ال ميلك اجلحافل الكافية التي
ي�سيطر بها على املجل�س ،ولكن جحافله يف الألب تنتظر الأوامر.
--نحن يف ال�شتاء.
--الوقت مير والربيع ي�أتي.
قال كاتو :هل تلقي التهديدات جمددًا؟
--نعم ،تلك هي التهديدات.
ثم قال كا�سيو�س:
ريص ع
--وهل �سيدخل يوليو�س قي�صر بجحافله �إىل روما؟
ع
روما.
--و َمل يفعل هذا؟
--لأنه قانون روما املقد�س.
ثم �ألقى نظرة �إىل ال�شيوخ و�صاح:
--منذ �أن ركب �سوال على ر�أ�س جي�شه ودخل روما بق ًوى ع�سكرية ال
�أحد ك�سر القانون الروماين ،وال تتوقع منا �أن ن�سمح بهذا ثانية ،هل
�أ�صابكم الن�سيان؟ هل تذكرون؟ كان ُحكم �سوال حك ًما ا�ستبداد ًّيا
وديكتاتور ًّيا ،هل تذكرون �سفكه للدماء لكل من عار�ضه� ،أم �إنكم قد
ن�سيتم اللوائح ال�سوداء التي مت تعليقها على حوائط روما وت�صفية كل
املعار�ضني من دون حماكمة؟
قال ماركو�س:
196
--ح ًّقا؟ �أت�شبه قي�صر ب�سوال؟ ما فعله قي�صر �آخر ثماين �سنوات ال
ت�ستطيع �أنت وال املجل�س ب�أَ ْ�سره فعله يف مائة �سنة ،فقد ت�ضاعف حجم
روما �أكرث من �أي وقت م�ضى ،ومت �سداد الكثري من الديون الهائلة،
ومت �إر�سال �أكرث من ثالثمائة �ألف عبد خالل ثماين ال�سنوات ،ماذا
تريدون �أكرث من هذا؟ و�أنتم ذ ِّكروين ،ماذا فعلتم؟ كنتم تخو�ضون
يف �أمره �أثناء غيابه.
�--إن قي�صر جمرم ،وال يعدو عن مغت�صب للبالد والأرا�ضي و�أ�شعل
حر ًبا غري �شرعية.
ع
--يبدو يل �أن املجرم احلقيقي لي�س يف الغال ،بل يجل�س على تلك
197
--يا �شعب روما العظيم ،منذ ثماين �سنوات �أخذ يوليو�س قي�صر قرا ًرا
جري ًئا ال يتخذه �إال الرجال العظماء ،قرر الذهاب للحرب �إىل الغال
يف ال�شمال ،لثماين �سنوات كاملة قي�صر يحارب يف الغال بال توقف،
بال راحة وبال مقابل� ،أنتم ال تعرفون ال�شمال ،يف احلرب يكون الربد
قار�سا ،و�صدقوين ال يوجد �إال الربد والطني ،ويف النهاية ملاذا فعل ً
قي�صر هذا؟ لي�ستطيع جلب الرثوة والذهب �إىل ال�شعب الروماين،
لت َْ�س َطع روما �إىل الأفق بال توقف ،تلك املعابد واملكتبات والألعاب يف
الكولو�سيوم َمن �سببها؟ �إنه قي�صر .ذلك الذهب الذي بني �أيديكم
ريص ع
من �أعطاه لكم؟ �إنه قي�صر .كل هذا الرتف من ال�ضرائب التي
ع
قالها ورددها النا�س بال توقف حتى ا�ستطرد:
�--إذن ملاذا يعتقد جمل�س ال�شيوخ �أن قي�صر جمرم؟ ملاذا ال يريدونه �أن
يعود �إىل روما بالذهب واملجد من الغال؟ ملاذا يعتربونه جمرم حرب
وم�ستبدًّا وديكتاتور ًّيا وي�شبهونه ب�سوال؟ �سوال كان م�ستبدًّا نعم� ،أما
قي�صر ف�أنتم من تختارونه� .سوال قتلكم� ،أما قي�صر فيحبكم ويغدق
عليكم الذهب واملجد ،وهو امل�سكني لثماين �سنوات يعي�ش يف خيمة
بني الدماء وال�سيوف والأ�شالء ،ملاذا؟ لأجل �شعب روما ،فمن هو
املجرم ،يوليو�س قي�صر �أم هذا املجل�س الأ�سن؟
�صاح النا�س غ�ض ًبا على املجل�س و�شيوخه وبدءوا يلقون عليهم ال�سباب
واللعن .كان بومبايو�س واق ًفا بعيدً ا اعرتاه غ�ضب �شديد مما ي�سمعه،
هرع ال�شيوخ �إىل داخل املجل�س وحلق بهم ماركو�س �أنطونيو�س ،رمقهم
بابت�سامة وقال:
198
�--أر�أيتم من يريد ال�شعب؟
ثم ا�ستطرد:
�--إن كنتم تريدون الو�صول �إىل الت�سوية ،ف�س�أنتظركم غدً ا يف الليل
عند بيت �آ ْت َيا ابنة �أخت قي�صر بعد �أن �أنتهي من الطقو�س املقد�سة
ً
قن�صل ر�سم ًّيا للدولة الرومانية. و�أُ�صبح
وهم بالرحيل ولكن ا�ستوقفه اخلاطر للحظة ،ثم التفت �إليهم قالها َّ
وقال:
ريص ع
�--صحيح كدت �أن�سى ،لقد �أح�ضرت هدية �إليكم.
ل ا
ن ل بل ت ك
ثم �أ�شار �إىل اجلندي ف�أح�ضر �صندو ًقا �صغ ًريا� ،أ�شاح الغطاء و�أخرج
ر ش
والتوز عي
مقطوعا �ألقاه على الأر�ض فتدحرج كالكرة حتى و�صل �إىل �أرجلهم، ً ر� ًأ�سا
فتعالت الهمهمات ،فا�ستطرد ماركو�س:
�--أظن �أن تلك تخ�صكم.
رحل ماركو�س ،فقال كاتو لبومبايو�س:
--بومبايو�س� ،أرجوك افعل �شي ًئا ،لقد �سمعت ب�أم �أذنيك ،تلك الوقاحة
التي يتحدث بها تنبئ ب�أن يوليو�س قي�صر قد يزحف �إىل روما يف �أي
وقت.
--ح�س ًنا� ،س�أعطي �أم ًرا �إىل فيالقي يف �إ�سبانيا باال�ستعداد ،لن �أ�سمح
لقي�صر �أن يعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية ،ولكن � ًأول علينا �أن نح�ضر
تلك الت�سوية ،ولعلنا ن�صل �إىل حل يجنبنا �إراقة الدماء الرومانية
--مل يكن هناك حل �آخر� ،شعر بومبايو�س بالعجز يف تلك اللحظة
وا�شتعل الغ�ضب بداخله ،كان ماركو�س �أنطونيو�س يتحدث بوقاحة
199
غري معهودة ،و�إن ف�شلت املفاو�ضات ف�سي�ستدعي فيالقه من �إ�سبانيا
ولن ينتظر قي�صر ليعرب الريبيكون ،بل �سيزحف بفيالقه �إىل قي�صر
كما كان يفعل �ساب ًقا مع �أي عدو .كانت جوليا العائق الوحيد الذي
مينع بومبايو�س ،فقد منعته وهي حية ولن متنعه وقد ماتت .كان
ي�صارع نف�سه وقلبه لي�أخذ ذلك القرار .لن ي�سمح لقي�صر بتن�صيب
نف�سه كامللك على عر�ش روما �أبدً ا مهما حدث ،ماتت روحه مبوت
جوليا ولن متوت جمددًا بخ�سارته �أمام قي�صر.
ع
عندما و�صل بروتو�س �إىل روما اجته �إىل زوجته بور�شيا و�أر�سل
ع
كالبورنيا:
--ماذا هناك يا كارال؟
--هناك ر�سالة.
�ألقتها ثم �ضحكت.
رمقتها كالبورنيا بتعجب وعقدت حاجبيها و�س�ألت:
--ر�سالة؟ من املر�سل؟
--قي�صر.
انتف�ضت كالبورنيا من مكانها عندما عرفت �أن الر�سالة من قي�صر،
اختطفتها من يد كارال �سري ًعا ،وف�ضت اخلتم بهرولة ،ثم �شرعت يف
قراءتها بلهفة:
--عزيزتي كالبورنيا ،لقد مرت ثماين �سنوات ومل ِ
نلتق ،لكنني كنت
�ألتقي بك يف خيايل ويف �أحالمي ويف الليايل الباردة لأ�شعر بالدفء.
200
ومللت من الوحدة� ،ساحميني على مللت من االنتظارِ ، �أعلم �أنك قد ِ
�صمتي الطويل ،لثماين �سنوات ال �أعي�ش �إال بني الدماء والدموع
والطني واحلديد ،ومل يكن هناك وقت لر�سائل متتلئ بالعاطفة
وال�شغف ،ت�أكدي �أنني كنت �أفكر فيك كل حلظة وكل يوم و�أح�صي
أعطيتك ميثا ًقا ولن �أك�سر ميثاقي� ،سوف
ِ الليايل والأيام لنلتقي .لقد �
نلتقي قري ًبا ولكن لي�س الآن ،ما زال هناك القليل من االنتظار ،ف�شيوخ
املجل�س يف روما يعتقدون �أنني جمرم وقد ك�سرت القانون املقد�س.
�أر�سلت مارك �أنتوين �إليهم للو�صول �إىل ت�سوية منا�سبة لأعود �إىل
ص ع
روما يف �أقرب وقت ،ولكنني ارتكبت اجلرمية الكربى ،وهي �أنني
201
--يقول يف ر�سالته ،يف �أقرب وقت.
قليل و�شردت للحظة و�أردفت: �صمتت ً
--رمبا يكون �أقرب وقت بعد ثماين �سنوات �أخرى.
قالت كارال:
--قي�صر لن ينكث بوعوده يا �سيدتي� ،إنه يحبك ب�شدة.
--كل ما يف الأمر �أنني مللت.
--قي�صر ي�ستحق االنتظار يا �سيدتي.
ر ش
والتوزي
ثم لفحها ال�صمت واحلزن ،ال بد �أن انتظارها لثماين �سنوات كان
ع
قليل ،ورمبا يحدث اللقاء يف �أي طويل ،فالآن عليها فقط �أن تنتظر ً ً
حلظة ،كل ما عليها فقط فعله هو �أن تنتظر ب�ضعة �أيام �أخرى� ،أو رمبا
ب�ضعة �أ�سابيع �أو حتى �شهور ،لكن ال تتمنى �أن ت�ستحيل ال�شهو ُر �سنني،
فتكون �أيام الفراق ده ًرا �آخر مير فيه العمر بال ا�ستئذان ،فاالنتظار يقتل
كما ال�سيف ،وهي قد �شبعت موتًا منذ زمن.
كان على ُبعد يوم واحد من احلدود الرومانية ،يف رحلته �شاهد التالل
اخل�ضراء التي تو�شحت بالثلج الأبي�ض النا�صع ،وال�سهول املفرو�شة
بالأزهار والأنهار اجلارية التي تلمع كالأحجار الكرمية ،انت�صبت �أعواد
القمح التي كانت تقرتب وت�شع نو ًرا م�ألو ًفا ،كان الربد ً
قار�سا لكنه �شعر
نف�سا من الهواء البارد �أ�شعل يف �صدره احلنني ،رمق بالدفء� ،سحب ً
202
وارت�صت
املنازل واملزارع كما كان يفعل منذ ثماين �سنوات ،مل يتغري �شيءَّ ،
الأ�شجار يف �صفوف وارتع�شت �أوراقها مبرور الرياح بني �أغ�صانها ،كان
� ْأمر قي�صر بذهابه �إىل اليونان مفاج ًئا له ،ف�إنَّ تخ ِّلي قي�صر عن �أف�ضل
قادته دفعة واحدة وبقاءه وحيدً ا يف الغال كان �أم ًرا م�ستبعدً ا ،مل ي�ش�أ
�ألك�سيو�س �أن يح�ضر بقوات ع�سكرية كما �أمر قي�صر حتى ال يلفت االنتباه،
م�ساعده «فري�سي�س» ،كان فتًى يفكان وحيدً ا على �صهوة ح�صانه ومعه ِ
عقده الثاين ،يحمل �سيف �سيده ،ينظف �أ�سلحته بعد املعارك ،يهيئ درعه
�أحيا ًنا ،كانت تقرتب منه املرافئ حلظة بعد حلظة ،يتمنى فقط لو ينتهي
ص ع
كل هذا ،كان ذاه ًبا للحرب بح ًثا عن املجد ،ولكن الآن ال ي�أمل �إال يف
ش ب لل َّ
ارت�صنت
و ر
الكبري وقف ماركو�س �أنطونيو�س يف منت�صف دائرة جوبيرت يف معبد
ع
ر�سول يقول �إن جمل�س ال�شيوخ �سوف
ن ل
حال.
ص ع
فقالت �آ ْت َيا:
205
--مرح ًبا يا فتى.
قالت �آ ْت َيا� :أعتذر جرنال �أنتوين ،لكن �أوكتافيو�س مهوو�س بال�سيا�سة.
ابت�سم مارك �أنتوين و�أردف:
--ح ًّقا؟ �إذن �أخربين ماذا كنت تقول؟
--قي�صر لن يتنازل عن ن�صره ب�سهولة.
قال ماركو�س:
--ح�س ًنا� ،أخربين ماذا ترى؟
ع ً
قن�صل� ،صحيح؟ --لقد مت تعيينك
--بلى� ،صحيح.
--ملاذا؟
--ال �أعرف دوافع قي�صر.
ابت�سم �أوكتافيو�س و�أردف:
�--إن كنت ال تريد الإف�صاح ف�أنا �أحرتم هذا� ،أما �إن كنت ت�ستخف بي
متاما ،ودا ِف ُع قي�صر وا�ضح كال�شم�س.
فهذا �شيء خمتلف ً
ابت�سم مارك �أنتوين ب�إعجاب:
--ال �أ�ستخف بك ،فقل يل ما دافع قي�صر؟
--الدافع احلقيقي الذي يجعل قي�صر يدفع الكثري من الذهب جلمع
قن�صل للدولة الرومانية هو يف ً الأ�صوات يف املجل�س لتعيينك
206
احلقيقة �أهم بكثري من الذهب ،و�أحرتم قي�صر التخاذه هذا القرار
ال�صعب� .أما عن الهدف احلقيقي الذي يريد �أن ي�صل �إليه قي�صر
قن�صل ،فهو الوالء.ً بتعيينك
--الوالء؟
قال �أوكتافيان:
--قي�صر يريد ك�شف الطبيعة الإن�سانية الرا�سخة يف نفو�س �شيوخ
املجل�س ،فالإن�سان بطبيعته حيوان عاقل ،فعندما يفقد الإن�سان هذا
ع
مفرت�سا �أم حيوا ًنا �ألي ًفا؟ هذا ما يريد
ً العقل ،هل �سيكون حيوا ًنا
ع
--وما الذي ي�ؤكد لك ذلك يا فتى؟
ر ش
والتوزي
احلرب ف�سيكون ال�شعب يف �صف قي�صر ،فالألعاب التي يقيمها
ع
لل�شعب والديون التي ي�سددها والذهب الذي يغدقه قي�صر على
كاف ليجعله مل ًكا �إذا �أراد الرجوع �إىل روما يف �أي وقت.
ال�شعب ٍ
--وما احلل الذي يجنبنا �إراقة الدماء؟
قال �أوكتافيو�س بنربات واثقة:
�--إراقة الدماء �أمر �ضروري عند بناء الإمرباطوريات ،فاملجد ال ي�أتي
�إال بالت�ضحيات اجل�سيمة.
--قي�صر ال يريد �إراقة الدماء.
�ساذجا ،هو يعرف ماذا يريد ويحاول حتقيقه بذكاء ً --قي�صر لي�س
ودهاء ،قي�صر يف النهاية جندي ،وعندما تنفد من �أمامه اخليارات
�سيفعل ما يفعله اجلنود.
يف تلك اللحظة اقرتبت �آ ْت َيا ويف يدها �أوكتافيا ،رمقها ماركو�س للحظة
ثم وقف و�أم�سك يديها وطبع عليها قبلة ثم نظر �إليها وقال:
208
--يا للآلهة! بحق �صليب فينو�س� ،أنت جميلة ،مثل �أمك ً
متاما.
قالت �أوكتافيا يف حرج� :شك ًرا لك.
�أردفت �آ ْت َيا لأوكتافيو�س:
تعال� ،أريدك للحظة يا �أوكتافيان. َ --
غادرت �آ ْت َيا و�أوكتافيو�س وجل�ست �أوكتافيا ،فقال ماركو�س:
أ�صبحت كبرية ،لقد تركتك �صغرية يف الثالثة ع�شرة من عمرك. ِ --لقد �
ص ع
ابت�سمت وقالت:
والتوز عي
--الندبة على عينك ،هل هي من معركة؟
--نعم ،حاول �أحدهم ح�شر ال�سيف يف عيني.
--وماذا فعلت؟
--ح�شرته يف م�ؤخرته.
�ضحكت �أوكتافيا وقالت :ح ًّقا؟
--نعم .لقد ت�أمل هذا الرجل كث ًريا قبل موته.
كانت �أوكتافيا تت�ألق �أمام مارك �أنتوين ،نظر لها نظرة �إعجاب ،كانت
جميلة ولفتت �أنظاره من الوهلة الأوىل ،تركها طفلة والآن باتت �أنثى ذات
جمال فاتن والفت ،قالت �أوكتافيا:
--كيف يق�ضي الرجل ثماين �سنوات متتالية من احلرب جرنال �أنتوين؟
قليل ،ثم قال: �صمت مارك �أنتوين ً
209
--ال�سنة الأوىل يف احلرب هي الأ�صعب دائ ًما ،لي�س فقط على اجلنود،
قار�سا والدماء يف كل مكان ،يقتلنا
أي�ضا ،يكون الربد ً بل على القادة � ً
ال�ضمري قبل ال�سيف وتطاردنا �أ�شباح القتلى يف كل مكان� ،أما يف
ال�سنة الثانية فيبد�أ اجلنود يف الت�أقلم على كل �شيء ،الربد ورائحة
الدماء والطني ،يبد�أ ال�ضمري باالحت�ضار ومتوت تلك الأ�شباح مع
متاما،
الوقت ،ثم يف باقي ال�سنوات يتحول الرجال �إىل �شيء خمتلف ً
بال قلب �أو رحمة ،احلرب تقتل الرحمة يف قلوب الرجال يا �أوكتافيا
وحتولهم �إىل وحو�ش.
ن
ر ش
والتوزي
قا�س
متاما عن �أي رجل� ،إن له قلب ٍ لي�س كذلك ،قي�صر خمتلف ً
ع
ميتلئ بالعطف ،ال �أعرف كيف؟ الأمر معقد ،ولكنه رجل غريب،
يحمل �سمات النبالة ويحب العامة ،مل يتحول �إىل ذئب جائع مثل
اجلنود يظل دائ ًما متح�ض ًرا كما كان دائ ًما ،ولهذا ال�سبب �أتبع و�أحب
يوليو�س قي�صر.
على ُبعد �شارعني كان �شيوخ املجل�س يقرتبون من بيت �آ ْت َيا ومعهم
بومبايو�س ماجنو�س ،كان القلق يدق �صدورهم جمي ًعا ،متخبطني وال
وا�ضحا �أمام
ً يعرفون �إىل ما �سوف تئول �إليه تلك الت�سوية .كان الأمر
�صارما للحد من ذلك التمرد ً بومبايو�س ،وكان عليه �أن يتخذ قرا ًرا
الطموح اجلارف الذي َت َّلك �صديقه الذي �أجحف بيوليو�س قي�صر ذلك ُّ
وا�ستوىل على جوارحه .على الرغم من يقينه التام بجرم يوليو�س قي�صر
ف�إنه كان يت�أمل من �أجله ،كان يتمنى �أن يحافظ على العهد الذي �أعطاه
جلوليا قبل موتها ،ولكن يوليو�س قي�صر لن يرتاجع ،هو يعرف �صديقه
مكان ما يف
أي�ضا يكنُّ له احلب يف ٍ جيدً ا ،عنيد دائ ًما ،ومتمرد ،ولكنه � ً
210
قلبه ،تلك العواطف املتقلبة ترهق روحه ال�ضعيفة .احلب والكره واحلقد
واحلنني ،جميعها يف داخله يف �صراع من �أجل البقاء ،وهو تائه بينها وال
يعرف هل �إن وجد يوليو�س قي�صر �أمامه �سوف يطعنه ب�سيف �أم يحت�ضنه
ِب� ًأ�سى .ولكن كل الذي يدور يف خلده الآن لي�س له فائدة ،لقد ُح�سم الأمر،
عليه �أن يواجه �صديقه و�أن يتحمل العواقب� ،أ ًّيا تكن تلك العواقب.
دخل �شيوخ املجل�س �إىل بيت �آ ْت َيا ،كان مارك �أنتوين ً
جال�سا� ،أخرب
اخلدم �آ ْت َيا بح�ضور �شيوخ املجل�س� ،أمرتهم بتقدمي النبيذ وخرجت ومعها
�أوكتافيو�س ،اقرتبت ثم قالت:
ل
ن ل بل ت ك
ش
قال بومبايو�س:
ر ش
والتوزي
�صاح بومبايو�س بغ�ضب:
ع
�--صن ل�سانك يا فتى .فب�إ�شارة مني �ستكون فيالقي يف �إ�سبانيا على
�أهبة اال�ستعداد و�أ�ستطيع �أن �أ�سحق قي�صر قبل عبوره الريبيكون.
�أردف مارك �أنتوين:
--و�أنت يا بومبايو�س ،ماذا حدث لك؟ هل �أ�صابك �شيوخ املجل�س
بالوهن؟ كيف حتول بومبايو�س العظيم من جندي عظيم �إىل جمرد
نبيل �أحمق من النبالء ،كيف لك �أن تت�أمر مع النبالء على �صديقك
الذي يربطك به عهد دم مقد�س؟ قي�صر يحبك و�أنت ال تبادله تلك
العاطفة.
--ل�سنوات عديدة و�أنا �أدافع عن قي�صر ،عن اندفاعه وعن حماقاته،
عن طموحه اجلارف كالطوفان ،ولكن �إىل متى �س�أظل �أدفع ثمن
�أخطائه؟ قي�صر يريد ارتداء التاج ،ولن �أ�سمح بهذا.
--قي�صر ال يريد ارتداء التاج.
212
قال كاتو:
أي�ضا عندما انت�صر يف حربه مل يكن يريد ارتداء التاج ،حتى �--سوال � ً
دخل �إىل روما بقوات ع�سكرية.
�أردف ماركو�س� :أنت تعلم يا بومبايو�س �أن قي�صر لي�س �سوال.
--قي�صر لن يعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية.
قالها بومبايو�س بحدة.
--قي�صر يريد الت�أكد �أنه �سوف يدخل �إىل روما كجندي منت�صر،
ن
ر ش
والتوزي
الو�صول �إليه.
ع
--ما يريد قي�صر الو�صول �إليه هو �أمر طبيعي ،لو فعل قي�صر ما
تريدونه �أنتم �أيها النبالء َل َفقد حياته يف حلظة دخوله �إىل روما.
قال كا�سيو�س:
�--أال تردد دائ ًما �أن ال�شعب يحب قي�صر؟ �إذا كان يحبه بالفعل فليحمِ ه
�إذن.
--ال�شعب يحب قي�صر بالفعل ،ولكن يف النهاية ال�شعب لي�سوا بجنود،
وال�شيء الوحيد الذي �سوف يحمي قي�صر منكم �أيها النبالء هي
جحافله.
�أردف بومبايو�س:
�--إذن ما تقوله �إن قي�صر ي�صر على عبوره الريبيكون بقوات ع�سكرية؟
--قي�صر تنفد من �أمامه اخليارات ،وعندما يحدث ذلك ف�سيفعل �أي
�شيء للدخول �إىل روما.
214
قال �سي�سرو:
--ح�س ًنا ،هناك حل �أخري دعنا نتطرق له.
�أردف كاتو :وما هو؟
--عليك يا ماركو�س �أن تتوجه غدً ا �إىل جمل�س ال�شيوخ ،وقدم طلب
عودة قي�صر �إىل املجل�س ،ودعنا نرى ماذا يريد ال�شعب.
--جميعنا نعرف ماذا يريد ال�شعب يا �صديقي �سي�سرو� ،أنتم فقط
الذين ت�ضعون �أيديكم على �آذانكم ،وبالرغم من ذلك �سوف �أقدم
و
آن. ل ا حديثنا
زيع
وكاتو. وكا�سيو�س �سي�سرو قالها وغادر غا�ض ًبا ومن ورائه
اقرتب �أوكتافيو�س من ماركو�س ثم �أردف:
--تلك كانت حماقة كبرية.
قال مارك �أنتوين بحدة:
--املعذرة.
--ما فعلته كان ً
ت�سرعا ،كان عليك �أن ت�أخذهم بال�سيا�سة ،فالآن �إن
ذهبت �إىل املجل�س غدً ا لتقدمي الطلب ،فلن ي�سمحوا لك ،كان ذلك
ًّ
فخا ،و�أنت وقعت فيه بب�ساطة ك�أنك ِغ ٌّر.
ت�ساءل مارك �أنتوين:
--ماذا تق�صد؟
215
�--سيمنعونك بكل ما لديهم من قوة ،ولن ت�ستطيع �أن تط�أ قدمك �أر�ض
املجل�س ،ولن ت�ستطيع �أن تقدم طلبك للنظر فيه.
--لن يجر�ؤوا.
--وماذا �سوف يخ�سرون؟ �سيمنعونك �أيها اجلرنال �أنتوين بالقوة ،خذ
حذرك وا�ستع َّد لأي �شيء غري متوقع ،ف�إنهم الآن لي�س لديهم �شيء
ليخ�سروه و�أنت هنا وحيد بفيلق م�شتت مل يتبقَّ منه �سوى القليل.
بعد دقيقة من التفكري وجد �أن �أوكتافيو�س ال�صغري حمق يف كل ما
ع
عاما ولكن كانت حكمته وفل�سفته قاله ،كان يبلغ من العمر ثالثة ع�شر ً
ر ش
والتوزي
املتج�سدة يف ماركو�س �أنطونيو�س ،كانت �شكوكهم ت�ستفحل كل حلظة
ع
ب�أن قي�صر لن يعود �إال كملك �أو �إمرباطور ويعلق القوائم ال�سوداء كما
فعل �سوال عندما دخل �إىل روما وعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية� ،شعروا
جمي ًعا بخليط من اخلوف والقلق امل�شوب ب�شيء من ال�شجاعة ،يجب
عليهم �أن يواجهوا قي�صر على كل حال ،قال كا�سيو�س:
--ماذا �سوف نفعل يا بومبايو�س؟
�صمت بومبايو�س ً
قليل ثم �أردف:
--عليكم �أن تعار�ضوا الطلب الذي �سوف يقدمه مارك �أنتوين غدً ا.
قال كاتو :وبعد؟
--ننتظر.
قال كا�سيو�س بحنق:
--ننتظر عبور قي�صر الريبيكون بقوات ع�سكرية؟
216
--فيالقي يف �إ�سبانيا لي�ست م�ستعدة بعد.
قال �سي�سرو:
--احلل الأف�ضل هو انتظار جتميع الأ�صوات يف املجل�س.
ثم �أردف كاتو:
--قي�صر ال يهمه القانون ،عندما �س�ألت بروتو�س عن �أحوال جحافل
قي�صر قال يل �إنه لن يتبقى لقي�صر من جحافله �إال ثالثة فيالق
متمردة ،قي�صر �ضعيف �أكرث من �أي وقت م�ضى ،بقاء جحافله
ريص ع
لثماين �سنوات متتالية من احلرب جعلهم متمردين يهربون ،والباقي
والتوز عي
قال بومبايو�س:
�--إىل ماذا ترمي؟
قال كا�سيو�س:
--حتت �أيدينا الآن اثنان من �أف�ضل قادة قي�صر ،والتخل�ص منهم
�سهل ،فهم هنا بال حماية ،ماركو�س �أنطونيو�س مع بقايا �سيكون ً
فيلق� ،أما �ألك�سيو�س...
قاطعه كاتو:
--يقول بروتو�س �إنه متجه �إىل اليونان وال يعرف ال�سبب.
�أردف بومبايو�س:
--واملطلوب؟
قال كا�سيو�س:
217
--علينا اغتيالهم يا بومبايو�س ،من دونهم �سوف ي�صبح قي�صر وحيدً ا
و�ضعي ًفا� ،سوف ي�سهل الق�ضاء عليه� ،أنت تعلم هذا.
ال ،ال ل�سفك الدماء.
--قال �سي�سرو:
نعم� ،أنا مع بومبايو�س ،هل تريدون �إ�شعال حرب؟
--قال كاتو :احلرب هي ما يريده قي�صر ،ون�صف احلرب دهاء.
ع
قال �سي�سرو باحتجاج:
ش نبل
ل
ً
ر
قن�صل رومان ًّيا قي�صر لن ي�صمت ،وال تن�سوا �أن مارك �أنتوين �أ�صبح
ع
جوليا من الال�شيء وترمقه بنظرات ميل�ؤها اللوم والعتاب ،فيرتاجع عن
والتوزي ر
ع
قلت ال دماء.
--قال �سي�سرو:
رادعا له بع�ض الوقت.
على الأقل �سيكون هذا ً
�--أردف كاتو :و�ألك�سيو�س؟
�أجاب كا�سيو�س:
--لقد توليت �أمره ،هو الآن يتجه �إىل املرافئ لل�سفر �إىل اليونان ،لقد
�أر�سلت خلفه بع�ض املغتالني واجلنود.
ثم �أ�ضاف كاتو:
--نعم ينق�صنا ماركو�س و�سوف نق�ضي على �أف�ضل قادة قي�صر ،ولكن
ملاذا متنع هذا يا بومبايو�س؟
220
�--أنا ال �آبه بدماء مارك �أنتوين �أبدً ا ،ولكن �سفك الدماء على �أعتاب
املجل�س ل ُه َو �شيء فظيع ولي�س من مبادئي.
كان املجل�س ينتظر ح�ضور ماركو�س �أنطونيو�س ليديل بطلبه كقن�صل
روماين له حقوق قانونية .جاء ا�ستدعاء الفيلق قبل �ساعة من الفجر،
والعامل ال يزال �ساك ًنا وغائ ًما ،مل يكن ماركو�س ينوي التوجه بفيلقه �إىل
و�سوا�سا
ً جمل�س ال�شيوخ ،ولكن كلمات �أوكتافيو�س ال�صغري �أثارت يف داخله
مقل ًقا ،وعند مطلع ال�شم�س اجته بفيلقه �إىل املجل�س ،كان عدده �صغ ًريا
رجل ،كانت قوات بومبايو�س حتيط املجل�س يف كل ال يتعدى اخلم�سني ً
ريص ع
مكان .تقدم مارك �أنتوين بحذر متحفزًا �أن ي�ست َّل �سيفه يف �أي حلظة،
221
تراجع الفيلق وا�ستطاع مارك �أنتوين �أن ميتطي �صهوة فر�سه والهرب،
ان�سحب الفيلق وراءه يف �سرعة ،مل يكن يتوقع مارك �أنتوين �أن ميتلك
�شيوخ املجل�س اجلر�أة ليغتالوه على �أعتاب املجل�س ،هرب بعيدً ا واجته
�صوب الغال.
نظر بومبايو�س �إىل كاتو و�أردف:
--هني ًئا لك ،لقد �أ�شعلت حر ًبا �أهلية لن تنتهي باخلري.
قال كاتو:
ريص ع
--هل تنتظر مني اعتذا ًرا؟ لقد فعلت ما يجب فعله.
ر ش
والتوزي
--ما حدث قد حدث ،علينا �أن ن�ضع اخلطة التي �سوف نواجه بها
ع
قي�صر.
قال كا�سيو�س :ما حال فيالقك الآن يا بومبايو�س؟
�--سوف �أعطي لها �إ�شارة للتحرك.
ص ع
ف�شبت بها النريان ،فهم �ألك�سيو�س ما يدور و�أمر الفتى فري�سي�س بالنزول
ع
متاما ،كانت يوما ،كان متقطع الأنفا�س و�ضائ ًعا ً بعد رحلة لع�شرين ً
ع
متداع �إىل �أق�صى احلدود ،حمله جنديان ٍ و�ضعيف غري ثابت وم�شتت،
حتى التقط �أنفا�سه وا�ستطاع �أن يتوازن ،تقدم بخطوات مت�سارعة �إىل
خيمة قي�صر ،عندما �شاهده قي�صر انت�صب من على كر�سيه ،جل�س
م�ساعده �سكار ،ف�أح�ضر له ِ ماركو�س والتقط �أنفا�سه �أ�شار قي�صر �إىل
ك� ًأ�سا من النبيذ ،جترعها ماركو�س بنهم ك�أنه مل ي�شرب منذ �سنني ،رمقه
قي�صر باهتمام للحظات و�أردف:
--ماذا حدث يا ماركو�س؟
قال مارك �أنتوين :لقد هاجمتنا قوات بومبايو�س.
قليل والتقط �أنفا�سك و�أخربين ما حدث من البداية. --اهد�أ ً
لفظ القليل من �أنفا�سه و�أردف:
--عند رحلتنا �إىل روما بامللك الغايل فري�سن جيرتيك�س متت مهاجمتنا.
�س�أل �سكار:
224
--من الذي هاجمكم؟
�أجاب �أنتوين :مرتزقة ،ب�أمر من �شيوخ املجل�س.
قال يوليو�س قي�صر:
--بعد كل هذه ال�سنني ما زال املجل�س ميلك ال�شجاعة ليتحداين.
ثم �س�أل :و�أنتم ماذا فعلتم؟
--ا�ستطعنا �أنا والقائد �ألك�سيو�س التغلب عليهم� ،شتتوا الفيلق ولكنهم
ع
خ�سروا خ�سارة فادحة ،مات منهم الكثري وا�ستطعنا يف النهاية
والتوز عي
--و�أنت ماذا فعلوا معك؟
--انتهت الت�سوية بتقدمي طلب �إىل املجل�س بعودتك �إىل روما كقن�صل
وممثل للعامة ،ولكن قوات بومبايو�س هاجمت ما تبقى من الفيلق،
وحاولوا قتلي.
قال قي�صر :حماولة لقتل قن�صل يف الدولة الرومانية .يبدو �أن
بومبايو�س قد فقد عقله.
--بومبايو�س كان يريد الو�صول �إىل ت�سوية ،و�أظن �أن من حر�ض قواته
هو كاتو.
قال �سكار:
--ماذا تنوي �أن تفعل يا قي�صر؟
�أجاب :ماذا تظن بر�أيك؟
225
فهم �سكار ما ينوي قي�صر فعله� ،أردف يف احتجاج:
َ --ومن ِمن اجلنود �سري�ضى �أن يزحف معك �صوب روما؟
�--سري�ضون.
�س�أل:
--كيف؟
�--أتتذكر عندما �أخربتك �أنهم يحتاجون �إىل حافز؟
--نعم ،ولكن �أين ذلك احلافز؟
ع
ف�أردف قي�صر:
--مل يخيب �شيوخ املجل�س ظنوين قط.
كان قي�صر يتوقع �أن يفعل �شيوخ املجل�س �شي ًئا �أحمق كهذا ،ولكن كل
ما يحزنه يف الأمر هو ا�شرتاك بومبايو�س �صديقه والذي يحبه ك�أخ له،
كيف ين�سى بومبايو�س عهد الدم بينهما؟ كيف ين�سى �صاحبه الوحيد؟
يبد هذا .كان يحب بومبايو�س بحق ولكن ال مكان كان قي�صر حزي ًنا ومل ِ
للعواطف يف احلرب ،كل ما عليه الرتكيز عليه الآن هو كيف �سيدخل �إىل
روما ،يجب �أن يرتك جراحه بعيدً ا ً
قليل ،بومبايو�س وجوليا وكل �شيء �إال
�شي ًئا واحدً ا وهو العودة باملجد �إىل روما.
قال قي�صر بعدما وقف:
تعال معي يا ماركو�س.َ --
226
�س�أل ماركو�س� :إىل �أين؟
--دعنا نرى ما �سيقوله الرجال.
قال ماركو�س :ح�س ًنا ،دعني �أبدل مالب�سي � ًأول.
--ال� ،أريدك ً
ملطخا بدمائك كما �أنت.
قال �سكار :على الأقل دعه ي�سرتيح ً
قليل.
�--ست�أتي الراحة بعد ذلك� ،أما الآن فنحن يف حرب ولي�س هناك راحة
ع
يف احلرب.
ر ش
والتوز عي
فيهم« :يا جنود ».انتبهت �أفئدة اجلنود ونظراتهم وم�سامعهم ،م�شى بني
�صفوف اجلنود بح�صانه ،ثم ا�ستطرد:
�--أيها اجلنود ،ثماين �سنوات ق�ضيناها �سو ًّيا يف حرب �ضرو�س ،ثماين
�سنوات ق�ضيناها م ًعا يف الربد والطني واجلوع والدماء والدموع ،هل
عاملتكم ك�أنكم جنود وك�أين نبيل من النبالء؟
�أجاب اجلنود يف �صوت واحد« :ال».
فا�ستطرد :لقد �أعلن جمل�س ال�شيوخ وبومبايو�س ماجنو�س� ،أن غايو�س
يوليو�س قي�صر وفيالقه وكل من �سانده هو خائن ،لقد �أر�سلت القن�صل
مارك �أنتوين للو�صول �إىل ت�سوية ،تعيدكم �إىل عائالتكم وزوجاتكم،
وماذا فعل �شيوخ املجل�س؟ رف�ضوا الت�سوية وهاجموا القن�صل ماركو�س
�أنطونيو�س وحاولوا قتله والتخل�ص منه ،انظروا �إليه غار ًقا يف دمائه،
حاول القن�صل الو�صول �إىل ت�سوية وكل ما فعله جمل�س ال�شيوخ هو �إعالن
�أنني عدو لروما ،و�أعلنوا �أنكم كلكم �أعداء لروما وما �أنتم �إال خائنون
227
لروما ،والآن عند حماولتنا للدخول �إىل روما �سيقابلنا جي�ش بومبايو�س
ومينعوننا من الدخول �إىل الوطن ،ولكني روماين �أ�صيل و�أحب بالدي
و�س�أدخلها ،فهل �أنتم معي؟
رددوا :نعم .يحيا يوليو�س قي�صر.
قال قي�صر:
--الآن �س�أحترك نحو بالدي ،و�أنتم تنتظركم عائالتكم و�أبنا�ؤكم
وزوجاتكم ،دعونا نعود لهم �ساملني ونحن حاملني الن�صر.
228
()5
الإ�سكندرية...
ا�صطبغت �سماء ال�شرق باللون الذهبي ،مزاجه كان متعك ًرا للغاية
ليل .رمقومل يفلح الغروب يف حت�سني مزاجه ،كانت الإ�سكندرية هادئة ً
ت ك
العالية وفوقها �أُتن وم�شاعل تنري الطريق ،كانت الأحجار الكرمية تلمع
والتوز عي
الذي انت�صب �أمام املكتبة العظيمة يف �شموخ.
كان حوررب م�ضط ًّرا �إىل م�صاحبة الفتى �إريو�س من طيبة �إىل
الإ�سكندرية ،خا�صة بعد موت كل من يعرفهم ،وكان �إريو�س يحمل فوق
�أكتافه عب ًئا ينوء به ،فبجانب موت عمه �ستافلو�س وكل من �أحبهم ً
يوما،
كتب له القائد �ألك�سيو�س ر�سالة قبل موته ،وكانت كلماته الأخرية هي �أن
يحاول �أن ي�صل �إىل يوليو�س قي�صر ب�أي طريقة ممكنة و�إعطاءه الر�سالة
التي كتب بها كلماته الأخرية.
دخلوا املكتبة العظمى ،وقف حوررب م�شدوهً ا ،رمقوا مئات الرفوف
املعلقة التي متتلئ ب�آالف الربديات واللفائف والكتب ،كانت املكتبة حتمل
بني رفوفها برديات منذ �آالف ال�سنوات ،كانت حتمل كل احل�ضارات
الغابرة ،احل�ضارة امل�صرية والعهود القدمية عن زمن الأ�سر ال�سالفة،
ثم ح�ضارة الإغريق وكتب الفل�سفة لأفالطون و�سقراط و�أر�سطو ،ثم عن
ح�ضارة الرومان وكيف بد�أت احل�ضارة الرومانية بثوراتها و�صعودها.
229
عكف العلماء يف املكتبة على ترجمة جميع الن�صو�ص من الهرياطيقية �إىل
الرومانية والإغريقية والعك�س.
كانت تلك هي املرة الأوىل التي ي�شاهد فيها حوررب املكتبة العظيمة،
كانت جميلة وخلبت �ألبابه ،كانت ك�أن الرفوف معلقة بني ال�سحاب من
فرط ارتفاعها وعلى الرفوف �سالمل مثبتة حتى ي�سهل على الطالب
واملعلمني اقتناء الكتب والربديات.
اقرتب حوررب من موظف يبدو وك�أنه امل�شرف الكبري على املكتبة
ع
العظمى ،كان امل�شرف يطالع كتا ًبا ،فقال له حوررب:
ع والتوزي
َ
فتعال غدً ا يف �--إذا جئت ال�ستعارة كتاب �أو القراءة �أو االطالع،
ال�صباح ،الوقت �أ�صبح مت�أخ ًرا وال ي�سمح لأحد بالتواجد يف املكتبة
�إال للم�شرفني والعلماء ،و�أنت ل�ست من امل�شرفني وبالت�أكيد ل�ست من
�صباحا.
وتعال ًالعلماء ،فاخرج الآن َ
�أردف حوررب:
�شخ�ص ما.
ٍ �--أنا هنا لأ�س�أل عن
�س�أل امل�شرف :من؟
�أجاب حوررب:
--تايبرييو�س.
--تايبرييو�س يف مكتبة الق�صر امللكيَ ،
تعال له غدً ا �إن �أردت .من
�أُخربه؟
--حوررب.
230
وهم بالرحيل ،انتف�ض امل�شرف ونظر حلوررب باهتمام قالها َّ
وا�ستوقفه:
--توقف.
وقف حوررب والتفت:
--ما الأمر؟
ً
و�شمال وقال ب�صوت خفي�ض: اقرتب منه امل�شرف ثم التفت ميي ًنا
--اتبعني ب�صمت.
ر ش
والتوز عي
حوررب مرتب ًكا وال يفهم �شي ًئا ،فقال امل�شرف:
--لقد �أخربين تايبرييو�س عن ح�ضورك �إن حدث ٌ
خطب ما.
قال حوررب بنربات ميل�ؤها القلق:
--هل �آ�سيا بخري؟
--ال تقلق زوجتك بخري ،ولكنها حمقاء وهذا داء ي�صعب معاجلته،
ويبقى عقل املر�أة مع�ضلة فل�سفية �أمام �أعتى الفال�سفة.
�س�أل حوررب :ماذا فعلت؟
--قتلت رئي�س احلر�س امللكي �أكتيون ،ويف �أي مكان؟ ...ال�سريابيوم،
قتلته وهو يتعبد ،وت�صرفت ب�إهمال وعدم م�سئولية ،تبعها اجلنود
ولكنها ا�ستطاعت الهروب ،ا�ستطاع تايبرييو�س �أن يجد لها م�أ ًوى
�آم ًنا لن يخطر على بال اجلنود ،وهو املكتبة العظمى.
كان حوررب يحاول ا�ستيعاب الكلمات ،فا�ستطرد امل�شرف:
231
--والآن �أطلق بوثينيو�س كالبه عليها ،والأ�سو�أ �أطلق يف البحث عنها
ماريو�س� .س�أل حوررب :ومن ماريو�س؟
--يطلق عليه �أهل الإ�سكندرية ا�سم الكلب ،ميزق �أعداءه ب�أنيابه
املجردة ،هو وح�ش �ضا ٍر وم�سخ م�ستفحل ،يجوب الإ�سكندرية بح ًثا
عن زوجتك ،يعذب يف النا�س لي�أخذ منهم االعرتافات.
و�صلوا �إىل مب ًنى يبدو وك�أنه مهجور منذ مدة يقبع على ُبعد ع�شرين
ذراعا من احلديقة الوا�سعة للمكتبة ،اجته امل�شرف �إىل الباب وبد�أ ً
ع
بفتحه ،قال:
ت ك
م�شعل يوجد باب
ر ش
والتوزي
تناول حوررب امل�شعل من يد امل�شرف ،ثم التفت �إىل �إريو�س وقال« :ابق
ع
�أنت هنا».
ثم دلف �إىل امل�ستودع� ،أنار امل�شع ُل �أركان امل�ستودع احلالكة ،كان الهواء
�سجت خيوط العنكبوت على الرفوف الفارغة ،وبخطوات ومكتوماُ ،ن َ
ً ً
ثقيل
�سريعة اجتاز املمر �إىل الباب الذي �أ�شار �إليه امل�شرف ،فتحه .كانت
ال�سالمل طويلة ،وكان هناك �ضوء خافت ينبثق من الأ�سفل ،كانت ال�سالمل
�ضيقة ،حاول االتزان وعبورها بحذر ،وعندما انتهت ال�سالمل كانت هناك
غرفة �أنار �أركا َنها �ضو ُء �شمعة على املن�ضدة ،كانت غرفة �صغريةَ ،ح َو ْت
�سري ًرا �صغ ًريا ومن�ضدة عليها الكثري من اللفائف والكتب ،كان حوررب
يبحث بعينيه عن زوجته يف تلك الغرفة ال�صغرية التي ي�صعب �أن يختفي
فيها �شيء ما ،ويف حلظة �ساهية وجد �سكي ًنا على عنقه ،كان ال�ضوء خافتًا
حتى �إنه مل مييز �آ�سيا �إال من ذراعها التي الت َّفت حول عنقه بخ�شونة وقوة،
قال لها:
232
--اهدئي ،هذا �أنا ،حوررب.
عندما تعرفت على �صوته تركته فو ًرا ،اعتدل حوررب والت َفت لها،
طويل ،وعندما انتهت قالت�« :أعتذر لك، فعانقته ب�شدة ،كان عنا ًقا ً
ظننتك �أحد اجلنود».
--ما الذي فعل ِته يا �آ�سيا؟
--كان يجب على �أكتيون �أن يدفع الثمن.
قال حوررب بغ�ضب:
ص ع
--ولكني خفت كث ًريا عليك� ،إن ب�إمكان اجلنود �أن مي�سكوا بك ،ال �أعلم
والتوز عي
قالت �آ�سيا:
--مل �أ�ستطع تدارك نف�سي عندما ر�أيته ،لقد قتل �أكتيون ابننا يا
حوررب� ،إنه الث�أر ،مل �أ�ستطع كبته بعد الآن.
أي�ضا حزين على فقد ابننا ولكني ال �أت�صرف ب�إهمال و�أنانية، �--أنا � ً
تعرفني ملاذا؟ لأنني القائد� ،أحمل فوق كتفي امل�سئولية ،و�أنت ال
تت�صرفني على هذا النحو.
قالت بنربات خفي�ضة:
�--أعتذر لك �أيها القائد.
ثم ا�ستطردت� :أكتيون �أعطاين ا�س ًما قبل موته.
--ا�سم؟ من؟
--قال يل �إن امل�سئول عن موت ابننا مل يكن هو ،بل كان بوثينيو�س
م�ست�شار امللك.
233
--كيف؟ وملاذا يريد امل�ساعدة؟
--عندما ي�أتي املوت ينطق الل�سان بالأ�سرار ،منذ �سنني عندما ا�شتعلت
تق�صى بوثينيو�س عن املت�سبب يف تلك ثورات اجلنوب بقيادتكَّ ،
الثورات عن طريق �أكتيون ،قال له �أكتيون� ،إن املت�سبب يف الثورات
هو �شخ�ص يلقبه النا�س مبلك اجلنوب ،ف�أمر بقتلك �أنت وكل من
يعرفك.
ا�شتعلت نريان الغ�ضب يف عني حوررب وقال:
ص ع
--بحق �أوزوري�س النائم لو فقط ب�إمكاين الو�صول �إىل ر�أ�س بوثينيو�س
ع
--ب�إمكانك فعل ذلك� ،إن �أردتَ .
�س�أل حوررب :كيف؟
--يقول تايبرييو�س �إن هناك حر ًبا قريبة �ست�شتعل فتيلها يف �أي حلظة،
بني بطليمو�س وكليوباترا ،يزحف جي�ش بطليمو�س من فرع النيل
البلوزي ملواجهة كليوباترا يف بلوزيوم.
--وكيف عرف تايبرييو�س كل هذا؟
--تايبرييو�س لديه خمربون وجوا�سي�س يف جميع �أنحاء اململكة ،من
كو�ش �إىل الإ�سكندرية.
--وماذا يفعل �أمني مكتبه بجوا�سي�س يف كافة اململكة؟
قليل وقالت:تناولت �آ�سيا ك�أ�س نبيذ من املن�ضدة جترعت ً
--لأنه بب�ساطة يعمل مع كليوباترا.
--كليوباترا.
234
--كليوباترا تريد التوا�صل معنا.
--ملاذا؟
قالت:
--كليوباترا تعرف �أنك امل�سئول عن اجلنوب ،يتبعك �أهل اجلنوب ب�أعني
أم�س احلاجة �إىل
مغم�ضة لأنك ابن الإله وابن كبري الكهنة ،وهي يف � ِّ
أم�س احلاجة �إىل االنتقام ،وعدو العدو �صديق،حلفاء ،ونحن يف � ِّ
نحن ال نحمل ال�ضغائن لكليوباترا ،ولكننا نحمل كل ال�ضغائن والكره
ع
للملك وم�ست�شاريه.
كانت الرياح تهب بقوة عندما عرب الريبيكون ،ح َّلقت مناقب اجلنود
من �أثر الرياح يف منظر مهيب ،انبعث من الظالم �صوت خافت وبعيد،
وكان عبارة عن عواء قطيع من الذئاب ،ومع عواء الذئاب ا�شتد الريح
فتذبذب لهب م�شاعل اجلنود .كان القمر حمجو ًبا وراء الغيوم ولكن
كانت ال�سماء متتلئ بالنجوم والكواكب التي �سطعت ب�ألوان عديدة ،كانت
الأبواق ترتفع مع ارتفاع عزيف الرياح ،وكان �صوت الأبواق خمي ًفا بني
الهدوء والظالم .كان اجلنود ين�شدون الأغاين ،كانت �أحلانها حزينة
�سمعتها الأ�شجار ووقفت يف �صفوف �صامتة ،بدت ك�أنها �سوداء من �شدة
الظالم� ،أخف�ض اجلنود امل�شاعل كي يروا ال�صخور التي تهددهم بالتعرث
مع كل خطوة ،ولكن بعد �ساعات من احلركة ال�سريعة �أ�شرقت ال�شم�س،
235
كان الليل خمي ًفا ك�أنه � ٌّ
أبدي ،وك�أن ال�شم�س لن ت�شرق جمددًا ،فبعث
ال�ضوء املنبثق من ال�شم�س الطم�أنينة يف قلوب اجلنود ،توقفت الفيالق
عند جدول ماء� ،شربت جيادهم بعدما �شربوا� ،أطلق يوليو�س قي�صر
نظرة �إىل اجلنوب الذهيب و�أردف:
--يبعدنا عن روما �أربعون ً
ميل جنو ًبا.
ابت�سم مارك �أنتوين وهو بجوار قي�صر على �صهوة فر�سه:
�--أتعلم؟ �أنا �أح�سدك يا قي�صر.
ريص ع
--على ماذا؟
ع والتوزي
الرومانية.
ابت�سم قي�صر وقال مبزحة:
--اجلرمية الوحيدة التي فعلتها يف حياتي هو �أنني عينتك يدي اليمنى.
--ح ًّقا؟� ...أنا ل�ست بهذا ال�سوء.
ثم ا�ستطرد بقلق:
--يف احلقيقة يا قي�صر �أنا �أجهل هل الذي نفعله هو ال�صواب �أم
اخليانة ب�أق�صى حاالتها.
�--أنا ال �أطالب �إال بحقوقي ال�شرعية.
قال مارك �أنتوين:
�--أنا معك يف كل احلاالت ،و�أتبع الن�سر �أينما حلق ،هل تفكر يف الهجوم
على روما مبا�شر ًة؟
236
خطوطا دفاعية قبل روما؛ مما �سيعطينا ً �--إن حالفنا احلظ فلن جند
الأف�ضلية يف الهجوم امل�ضاد.
�أردف مارك �أنتوين :وقوات بومبايو�س؟
كاف ،ولكن على الأقل �سيجمع تلك --قوات بومبايو�س عددها غري ٍ
القوات من املدينة ويحاول �صدنا حتى ي�ؤخر دخولنا �إىل روما ،ال
�أكرث.
--وماذا �سنفعل الآن؟
ص ع
قال قي�صر:
بل
أعط الأمر للج َّوالني مب�سح كل املناطق الدفاعية قبل روما ،و�إذا
والتوز عي
�إىل ال�ساحة العامة والإعالن لل�شعب �أنني �س�أدخل �إىل روما قري ًبا.
�أ�شار قي�صر �إىل حامل البوق ،حمل بوقه ،والذي كان عبارة عن
قرن ثور طويل وعمالق ،نفخ يف البوق فرتدد �صداه على م�سامع اجلنود
والفيالق فوقفت يف انتظام ،اعتدل قي�صر ناظ ًرا �إليهم وهو على �صهوة
عال:
فر�سه ،ثم �أردف ب�صوت ٍ
�--أيها اجلنود نحن نقف الآن على الأرا�ضي الرومانية ،ونحن نبعد عن
ميل فقط ،تقدموا بحذر وال تلم�سوا املدنيني وال�شعب روما �أربعني ً
ب�أي �سوء ،ال َن ْه َب �أو �سرقة ،تلك روما بالدنا احلبيبة ،تقدموا ف�إذا
وجدمت رجال بومبايو�س فاقتلوهم ،ال تبدءوا الهجوم حتى تتبينوا
�أنهم من رجال بومباي �أو جنود املجل�س ،ثم �سنتَّجه �إىل ال�ساحة
العامة� ،سيتم �إعطا�ؤكم �إعالن اال�ست�سالم ،كل �شخ�ص يف روما
�صديق لغايو�س يوليو�س قي�صر �إال من يقرر عك�س ذلك ،تقدموا
بالن�صر يا جنودي الأعزاء.
237
�صمت قي�صر وعلت الهتافات بال توقف� ،أمر مارك �أنتوين اجلوالني
بالتحرك �صوب روما ،و�إن كانت هناك مقاومات يطلقوا الأبواق ك�إ�شارة،
و�إن مل يجدوا فليتجهوا �إىل ال�ساحة العامة.
بعد يومني يف روما كانت الأحوال م�ضطربة ،انت�شرت �أخبار يوليو�س
قي�صر بني الرياح و�أل�سنة النا�س ،كان �شيوخ املجل�س يتوج�سون من
اقرتاب قي�صر �إىل روما ،انطلق كاتو وبروتو�س �إىل املجل�س م�ضطربني،
جال�سا يف املجل�س ،دخل كاتو ووراءه بروتو�س. كان بومبايو�س ً
ع
قال كاتو بنربات ميل�ؤها القلق:
ع والتوزي
--ثالثني ميل؟ هذا م�ستحيل.
قال بروتو�س:
--اجلوالون والك�شافة على احلدود الرومانية.
�أردف كا�سيو�س :وجحافلك يا بومبايو�س؟
--جحافلي عربت البحر �إىل النم�سا ،كم يبعد قي�صر؟
قال كاتو :على الأق�صى خم�سة �أيام.
كان القلق يدق يف قلوب كل من ي�ستمع كالناقو�س ،ماذا �سوف يفعلون؟
رمبا الهرب والتقهقر هو �أ�سلم احللول حال ًّيا ،كان بومبايو�س حزي ًنا ،ملاذا
يفعل �صديق عمره هذا؟ ملاذا ي�صر على حرب �أهلية �ست�سفك فيها دماء
الآالف هبا ًء ،كان ال بد من �أن ي�أخذ قرا ًرا ،ولكن كانت كل القرارات
املتاحة ي�صعب اتخاذها ،ف�إن تقهقر وهرب ف�إنه يحني ر�أ�سه بعد كل هذه
238
ال�سنني ،و�إن قرر مواجهة قي�صر فالهزمية هي حليفه ال حمالة.
�--أردف بعد دقيقة من ال�صمت:
--لن ن�ستطيع الدفاع عن املدينة من دون قوات.
فقال كاتو :وماذا �سوف نفعل؟
�أردف كا�سيو�س:
--هل ن�ستطيع مواجهته؟
ع
قال �سي�سرو بعد برهة تفكري:
ر ش
والتوز عي
قال كاتو بنربات منزعجة:
--تريدنا �أن نهرب ونرتك روما وراءنا ،ك�أننا فئران تختبئ من قط
م�شاغب.
--و�إن وقفت لتواجه القط ف�سي�أكلك بال تردد.
قال بومبايو�س:
�--سنذهب �إىل اليونان ،فار�سالو�س� ،سنجمع ما ن�ستطيع من القوات
هناك و�سنعود بها �إىل روما.
قال كا�سيو�س :ملاذا يا بومبايو�س؟ قي�صر ال ميلك الكثري من القوات،
ن�ستطيع جمع قوات كافية ونواجهه بها ون�سحقه ك�أنه ح�شرة.
قال بروتو�س �سري ًعا :ال ،عليكم الهروب الآن.
التفتوا �إليه جمي ًعا ،ثم ت�ساءل بومبايو�س :ملاذا؟
239
ابتلع ريقه وقال:
--لقد كذبت ،قي�صر لديه �أكرث من فيلق واحد ،لقد �أخربتكم هذا حتى
كاف ،علينا الهرب.
ال يت�ضرر ،ولكن الآن لي�س هناك وقت ٍ
م�شو�شا ،كان يريد م�ساعدة قي�صر ،لكن الآن يخاف من ً كان بروتو�س
احلرب الأهلية والدماء التي �سوف ُت�سفك ،يخاف على عمه كاتو وعلى
بومبايو�س ،لو قرروا �أن يواجهوه على جهل منهم بعدد قواته ف�سيهلكون ال
حمالة ،لقد �ساند قي�صر مبا فيه الكفاية.
ص ع
قال كاتو بعدما جحده بنظرة متتلئ باللوم:
ع والتوزي
مل ي�ستطع بروتو�س النظر يف عني كاتو وهو يتحدث ،فقال بومبايو�س:
--ال وقت للعتاب الآن يا كاتو ،علينا التحرك.
بعد �أيام هرب بومبايو�س وبروتو�س وكا�سيو�س �إىل فار�سالو�س يف
اليونان ،و�سافر كاتو �إىل قلعته يف �أوتيكا ،ومعهم هرب ن�صف جمل�س
ال�شيوخ خو ًفا من عقاب قي�صر والقوائم ال�سوداء التي رمبا �سيل�صقها
على جدران روما و�سوف ت�ضم �أ�سماء املعار�ضني كما فعل �سوال ،وبقي
الن�صف الآخر الذي كان ي�ساند قي�صر.
عندما و�صل قي�صر �إىل احلدود الرومانية مل يجد �أي مقاومات ،ومل
ير�سل له ج َّوالتُه �أي حتذيرات �أو �إ�شارات لوجود مقاومة قريبة من ال�ساحة
العامةَ ،ت َّمع العامة �أمام املجل�س ب�أعداد غفرية قد انت�شر خرب دخول
قي�صر يف جميع �أنحاء روما ،تو�شحت ال�شوارع بالأحمر ورايات الن�صر،
والن�سر الذهبي الذي رفرف على الرايات على بيوت العامة والكولو�سيوم
240
وجمل�س ال�شيوخ ،فر�شت ال�ساحة العامة بال�سجاد الأحمر ليمر عليه
قي�صر ،وجتمهر النا�س يف كل روما منتظرين قي�صر املنت�صر عائدً ا
باملجد والفيالق والذهب الغايل ،وعلى باب املجل�س وقف �شيوخ املجل�س
ومعهم الكاهن �سيليفيان كبري كهنة الإله جوبيرت ،و�صديقه بوبليبو�س كان
وجهه ميتلئ بال�سرور لعودة قي�صر �إىل الوطن.
ويف الزاوية وراءهم وقفت زوجته كالبورنيا ،لقد اقرتب قي�صر من
الو�صول ،وكلما �أو�شك وقت االنتظار �أن ينتهي ،كان ال�شوق يغمرها من
ر�أ�سها حتى �أخم�ص قدميها ،ماذا �سوف تقول له؟ لقد �ضاعت الكلمات،
والتوز عي
تلك نقطة �ضعف قي�صر الوحيدة ،وخالل ثماين ال�سنوات يف احلرب
�أ�صابته الكثري من نوبات ال�صرع ،ولكن عندما ي�شعر �أنها تقرتب يختبئ
ويخرج احلرا�س من خمدعه وال يبقى �إال �سكار لي�ساعده يف تلك الأزمة.
كان ال�صرع لعنته الأبدية ،فلن يتبع اجلنود ً
رجل ل َعنته الآلهة بال�صرع،
كانت هي الوحيدة التي تعرف هذا ال�سر ،ومل يكن يقلق حيال ذلك ،بل
كان يثق بها ،وطاملا كان كذلك ،ولكن هل من املمكن �أن تغريه احلرب؟
دار ال�س�ؤال يف عقلها ومل جتد له �إجابة ،فثماين �سنوات من احلرب كفيلة
بتغيري �أي رجل ،ولكن قي�صر لي�س �أي رجل� ،إنه �صلب لكنه عطوف ،هكذا
كان دائ ًما ،فال داعي للقلق ،طم�أنت نف�سها بالكلمات ،وابت�سمت وانتظرت
قدومه من بعيد ،مل يتبقَّ من االنتظار �سوى دقائق.
ومن الناحية الأخرى وقفت �آ ْت َيا وطفالها �أوكتافيو�س و�أوكتافيا ،كان
�أوكتافيو�س ال�صغري ال يذكر الكثري عن قي�صر� ،شكله ،مالحمه ،كان
�صغ ًريا عندما غادر قي�صر للحرب يف الغال ،ولكنه قد �سمع من العامة يف
241
الأ�سواق وال�شوارع �أنه ابن الإله فينو�س ،وابن �إينيا�س البطل ،بطل طروادة
العظيم ،وهناك من يقول �إنه ابن الإلهة �أفروديت ،كان قي�صر بالن�سبة
جمهول حتى الآن ،كان ينتظر هو الآخر ب�شغف ً �إىل �أوكتافيو�س �شي ًئا
فعل البطل الأ�سطوري �شديد ،لريى من هو قي�صر ،وكيف يبدو ،هل هو ً
العظيم وابن الآلهة كما يقولون� ،أم جمرد رجل عادي خدمه احلظ .كان
�أوكتافيو�س فتًى ذك ًّيا وال يت�أثر ب�سهولة بالكلمات التي ي�سمعها ،كان عليه
�أن يرى كي ي�صدق.
فوق الأر�ض املر�صوفة ُفر�ش ال�سجاد الأحمر ،وفوق ال�سجاد الأحمر
ع
من اجلنود على �أقدامهم ،ثم جنود على �أح�صنتهم ،ثم حاملو الرايات،
ومن خلفهم �ضاربوا الطبول ونافخوا الأبواق� .أغدق اجلنود الذهب يف
ال�شوارع ب�سخاء وبال ح�ساب ،كان قي�صر كر ًميا مع ال�شعب ،حتركت
العربات يف �شوارع روما مليئة بالذهب والف�ضة والأموال ،وكان العامة
يرك�ضون وراء العربات ِب َن َهم ،وهو كان يتقدم يف �شوارع روما ويح ِّيي
النا�س بالنظرات واالبت�سامات ،كانت مالحمه متتلئ بالفخر والن�صر،
ارتفعت الهتافات با�سمه من كل مكان من بيوت العامة يف النوافذ ومن
ال�شوارع ،كانت روما ب�أكملها حتتفل يف ال�شوارع ،وكان الذهب ميلأ جيوب
النا�س ،اقرتب موكب غايو�س يوليو�س قي�صر املهيب من ال�ساحة العامة،
كان هناك �آالف من النا�س بانتظاره ،و�آالف �آخرون يهتفون ،اقرتب
من جمل�س ال�شيوخ وتوقف موكبه الكبري� ،ألقى نظرة �إىل الواقفني �أمام
املجل�س ،و�أول من وقعت عليه عيناه كانت كالبورنيا ،كانت عيناها تلمعان
بدموع ال�شوق ،مل تتغري كث ًريا ،ما زالت جميلة كما عهدها دائ ًما ،ابت�سم
242
�إليها ،ومن الناحية الأخرى كانت تقف �آ ْت َيا ،عرفها قي�صر من النظرة
الأوىل لطاملا كانت ملولة .كان يتذكر �أوكتافيا ،كانت �صغرية جدًّا عندما
غادر ،لكن �صارت الآن امر�أة متل�ؤها الأنوثة كما يبدو ،ومن هذا؟ يبدو
رجل كما تخيل ،كان ي�شبه �آل جويل يف �شعرهم �أنه �أوكتافيان ،لقد �صار ً
الأ�شقر وهدوء املالمح والو�سامة ،على خالف �شقيقته �أوكتافيا التي كان
�شعرها مثله �أ�س َود وحال ًكا.
ترجل قي�صر من عربته واجته نحو املجل�س� ،صعد ال�سالمل العالية َّ
و�سط الهتافات ال�سرمدية ،كان �أول �شيء يخطر يف باله هو زوجته
والتوز عي
والإكليل الذهبي ،وقف قي�صر �أمامه وامتثل لأمر الإله جوبيرت الكبري،
�سلمه الكاهن ال�صوجلان ،كانت الهتافات ترتفع وال تتوقف� ،أ�شار الكاهن
بيده ،فخفتت الهتافات رويدً ا رويدً ا ،ف�أردف الكاهن:
--با�سم جوبيرت العظيم ،كبري �آلهة روما ،وبا�سم ال�سلطة املمنوحة يل
قن�صل مدى احلياة.ً من الآلهة� ،أعينك
ثم تناول الإكليل الذهبي وكلل به ر�أ�س قي�صر ،ارتفعت الهتافات مرة
�أخرى ،فرفع قي�صر يده فهد�أ احل�شد ،ف�أردف:
أق�ض ثماين �سنوات من احلرب لأنني --يا �شعب روما العظيم ،مل � ِ
�سافك للدماء� ،أو مارق ي�سعى وراء الذهب ،ال�سبب الوحيد الذي
جعلني �أغزو الغال هو روما ،املجد لروما ،واملجد ل�شعب روما� ،أنا
ل�ست مل ًكا ول�ست ديكتاتو ًرا كما يهم�س البع�ض� ،أنا غايو�س يوليو�س
قي�صر ،و�س�أظل هكذا حتى مماتي ،وهذا الإكليل الذي كللتموين به
243
ال �أطمح لأن �أكون مل ًكا بارتدائه� ،أنا �س�أتقبله فقط لأنه هدية من
�شعب روما العظيم.
هتف بوبليبو�س :يحيا قي�صر.
ورددها ال�شعب بعده بال نهاية...
ع
الإ�سكندرية يف نف�س الليلة...
والتوزي
ً
ع
و�شمال خو ًفا من �أن يراهم �أحد اجلنود، من املكتبة يتلفتون ميي ًنا
اجتهوا غر ًبا حتى امليناء ،كان تايبرييو�س قد دفع �إىل جندي م�سب ًقا حتى
ي�ستطيعوا �أن يعربوا يف �أمان� .صعدوا على �سطح ال�سفينة ،ال يعرفون كم
مر من الوقت حتى انطلقت ال�سفينة ،قال تايبرييو�س:
--من ح�سن احلظ �أن امللك وم�ست�شاريه من�شغلون يف جتهيز
اال�ستعدادات حلفل تتويج الأمرية �أر�سينوي.
�أردف حوررب :امللك اللعني يريد تعيني �أر�سينوي ملكة؟
�--صدقني ،امللك ال يحكم ،من يحكم اململكة الآن هو بوثينيو�س.
�--أخربين �أكرث عنهم جمي ًعا ،امللك ،بوثينيو�س� ،أر�سينوي ،وبالطبع
كليوباترا.
ابت�سم تايبرييو�س وقال:
244
--من �أين �أبد�أ؟ دعنا نبد�أ بامللك ،امللك ال يعدو عن دمية يحركها
بوثينيو�س بحبال خفية ،هو ال يعرف ذلك ،يظن �أنه هو من يحكم،
ولكن يف احلقيقة احلاكم احلقيقي للمملكة هو بوثينيو�س ،والأ�سو�أ
من بوثينيو�س ،هم رجاله؛ له رجال يف كل مكان ،يف اجلنوب ويف
ال�شمال ،رجاله يحكمون اململكة يف الأقاليم املتفرقة يف اجلنوب،
وكل هذا يدور برعاية رجل واحد وهو �أخيال�س قائد اجلي�ش واليد
اليمنى لبوثينيو�س ،دعنا نقول �إنهما ر�أ�سان لأفعى واحدة� ،إن قطعت
واحدً ا ف�سيموت الآخر.
والتوز عي
بطليمو�س وال حتى كليوباترا ،كان مربيها جانيميدي�س يبعدها عن
العر�ش وامللك قدر الإمكان ،حتى قرر بوثينيو�س تتويجها كملكة
لإق�صاء كليوباترا عن العر�ش للأبد.
�س�أل حوررب:
--مل يبقَ �إال...
قاطعه:
--كليوباترا ...حورية البحر التي فتنت اجلميع ،هي الوريث ال�شرعي
للعر�ش ،ابنة �إيزي�س ،عظيمة ،ملكة� ،سيا�سية ،متعجرفة ،جميلة،
�أنيقة ،نرج�سية ،ذكية ،داهية ،ا�ستطاعت كليوباترا �أن ُتخ�ضع �أعتى
الرجال حتت �أقدامها وتتخذه كحليف لها ،قائد القرا�صنة الأحرار،
القائد رابو�س.
�س�ألت �آ�سيا:
245
--ومن القرا�صنة الأحرار؟
--كانوا جمموعة من العبيد ،عا�شوا يف مدار�س العبيد وتعلموا كيفية
م�صارعة الوحو�ش بني �أ�سوار الكولو�سيوم ،وعندما قامت ثورات
العبيد بقيادة �سبارتاكو�س ،قادهم رابو�س كقائد لهم مل�ساندة
�سبارتاكو�س الثائر يف ثورته ،وعند موت �سبارتاكو�س عادوا �إىل
البحر الأ�س َود و�أطلقوا على �أنف�سهم القرا�صنة الأحرار ،و�أ�صبحوا
مقاتلني �أ�شداء يعرفون م�سالك البحار ،ورابو�س يعرف كيفية قيادة
ص ع
الأ�ساطيل البحرية.
ع والتوزي
رجال ميكن الوثوق بهم ،و�أنت كما يلقبك �أهل اجلنوب مبلك --تريد ً
اجلنوب� ،أنت عندهم ملك و�إن مل تكن كذلك والنا�س يتبعونك،
وكليوباترا تريد �أن تتخذك كحليف لها.
--وما الذي ي�ضمن لها �أنني �س�أوافق؟
--امل�صلحة امل�شرتكة بالت�أكيد.
ثم �س�أل تايبرييو�س:
--مل يتثنَّ يل �س�ؤالك يا �آ�سيا ،ملاذا ِ
قتلت �أكتيون؟
�--أال ي�ستحق القتل؟
�--ألقتها بغ�ضب مكظوم.
--بلى ،بالت�أكيد ي�ستحق .ولكن امللك ي�ستحق � ً
أي�ضا ،بوثينيو�س ي�ستحق
قتلت �أكتيون يف النهاية.
كذلك ،و�أخيال�س ي�ستحق القتل ،ولكنك ِ
--ث�أر قدمي.
--من؟
246
قال حوررب ِب� ًأ�سى �شديد:
--ابننا.
كانت الكلمة ثقيلة على ل�سانه� ،س�أل تايبرييو�س بعد حلظة:
--ماذا حدث؟
رمقت �آ�سيا الأمواج املتقلبة و�سرحت للحظات ثم �أردفت:
�--أتذ َّكر ذلك اليوم كالبارحة ،كان ً
يوما عاد ًّيا كباقي الأيام الأخرى� ،إال
ريص ع
�أن رماح اجلنود ال تخطئ �أهدافها �أبدً ا ،كان �أكتيون مكل ًفا بالتق�صي
والتوز عي
ثم �أمر جنوده بالبحث عن ملك اجلنوب كما يلقبه النا�س واملت�سبب
يف الثورات املتتالية التي تع�صف خو ًفا يف قلب امللك وم�ست�شاريه،
اندلعت احلرائق ذلك اليوم وقتل النا�س ومت �صلبهم على الطرق
واملنازل ،مل يكن عددنا كاف ًيا .كان حوررب خارج طيبة ذلك اليوم،
وبقليل من التق�صي عرف �أنني زوجته� ،أح�ضرنا اجلنود �إليه يف
«�ست» بال رحمة.
«�ست» ،ذبح ابني كالقربان �أمام متثال ّ معبد ّ
ثم �أكمل حوررب:
--انهزم حور�س ذلك اليوم �أمام ّ
«�ست».
ومنذ ذلك اليوم ت�أتيه الكوابي�س ويحلم ب�شيء واحد فقط ،يقف يف
«�ست» وحور�س يتبارزان مبارزة بالربق ،ثم ي�سقط
قد�س الأقدا�س ويرى ّ
«�ست» على حربته ويهوي بها على حور�س. حور�س � ً
أر�ضا ويقب�ض ّ
247
�سكتت الكلمات بعد ذلك ،مل يعرف تايبرييو�س كيف يوا�سيهما ،مل
يكن �شيء �سيكفي ،واكتفى بال�صمت والندم على فتح جراح مل تندمل
بعد.
و�صلت ال�سفينة �إىل بلوزيوم يف اليوم التايل ،عربوا البوابات العالية
للح�صن ،كانوا ي�شعرون بالإرهاق والتعب و�شعرت �آ�سيا بالغثيان ،مل تكن
تبلي ح�س ًنا بني الأمواج ،غا�ص بهم تايبرييو�س �إىل قلب احل�صن ،واجتهوا
�إىل خمدع كليوباترا ،التفت �إليهم تايبرييو�س و�أردف:
ريص ع
--عليكم باالنحناء للملكة عند دخولكم ق�صرها.
والتوزي ر
كليوباترا تختلف كث ًريا عن احلكام وامللكات الذين �سبقوها ،فهي تعبد
ع
�إيزي�س ،ويلقبها النا�س مببعوثة �إيزي�س ،يقولون �إنها ورثت جمالها اخلالب
كالطبيعة ،وكل من ر�أى وجهها وقع يف ع�شقها ،مثلما فعل الكثريون ،كانت
كليوباترا ذكية على الرغم من �سنها ال�صغرية� ،سمع الكثري من الأ�شياء
وهو بني الت�صديق والنفي تائه ،ولن يهمه على �أي حال ،لديه هدف
حمدد ،و�سيحاول حتقيقه ب�أي طريقة ممكنة ،االنتقام امللطخ بال�سالم،
لطاملا كان االنتقام وال�سالم مت�ضا َّدين ،ولكن �أحيا ًنا يكون االنتقام هو
الطريقة املُثلى للو�صول �إىل ال�سالم الكامل.
يف الغرفة امللكية قال احلار�س:
�--أنتم تقفون يف ح�ضرة امللكة كليوباترا ،ابنة �إيزي�س ،وحفيدة
الإ�سكندر املقدوين العظيم والوريثة ال�شرعية للمملكة بحق الدماء
التي جتري بني عروقها.
248
كانت كليوباترا جال�سة على عر�شها وعن ميينها احلكيم �ألك�سندر
ينحن بل اكتفى �أن يحني ر�أ�سه
هيليو�س ،ركع اجلميع� ،إال حوررب مل ِ
كدليل على االحرتام ،نكزه تايبرييو�س لينحني ،لكنه مل يفعل.
وقفوا فقال تايبرييو�س:
--هذا حوررب يا موالتي ،وكما يلقبه النا�س ملك اجلنوب.
قالت كليوباترا:
�--أ�شكرك على قطعك تلك امل�سافة لتقابلني� ،آمل �أنها كانت رحلة
ريص ع
موفقة.
ع والتوزي
ينحن عند دخوله ،ويرف�ض الركوع والق�سم بالوالء. بكوين ملكة ،مل ِ
ابت�سم احلكيم هيليو�س وقال:
�--أهل اجلنوب طباعهم قا�سية يا موالتي ،و�أنا �أثق �أنه ال يتعمد عدم
االحرتام.
قالت �آ�سيا:
--ماذا تنتظرين من اجلنوب يا موالتي؟
وقفت كليوباترا واقرتبت منهم:
�--إن �أهل اجلنوب يتبعون حوررب ب�أعني مغم�ضة ،و�أنا �أريد خ�ضوع
اجلنوب.
--واملقابل؟
�--س�أعطي اجلنوب ما يريد ،ال�سالم.
250
قالت �آ�سيا:
--واالنتقام.
--االنتقام؟
ت�ساءلت كليوباترا.
--ر�أ�س بوثينيو�س� ،أنزعه بيدي.
ابت�سمت كليوباترا وقالت:
ِ --
ع
لك ذلك.
ر ش
والتوز عي
�سكتت كليوباترا للحظات ،ثم قالت حلوررب و�آ�سيا:
--ام�شيا معي.
�سارت بهم كليوباترا خارج الق�صر وو�صلت بهم �إىل املرافئ ،كان
مرت�صا يف مظهر مهيب وك�أنه �سرمدي ميتد �إىل ما ال الأ�سطول البحري ًّ
نهاية ،نظرت كليوباترا �إىل الأ�سطول:
--عند خروجي من الإ�سكندرية ،مل يكن معي �شيء ،ال ذهب وال
حلفاء ،خرجتُ �أج ُّر �أذيال اخليبة ورائي ،كانت الأمور �صعبة ،تذللتُ
وت�ضرعت للآلهة كث ًريا حتى �أ�صل �إىل ما �أريد� ،أتعرفون ملاذا؟ لأنني
�أُ ِومنُ ب�أنني الوريثة ال�شرعية للعر�ش ،كنت �أعلم �أن الآلهة �ستقف
يف �ص ِّفي ،ويف كل حلظة �ضعف �أذ ِّكر نف�سي بذلك� ،أنني الوريثة
ال�شرعية للعر�ش ،ذلك حقي ،كافحت كث ًريا حتى �أ�ستطيع تكوين
الأ�سطول الذي تراه �أمامك ،كافحت �أكرث للح�صول على حلفاء ،كل
251
ذلك لأجل هدف وهو العر�ش ،و�س�أ�صل �إىل ذلك العر�ش مها كلف
الأمر
ثم نظرت �إىل حوررب و�أ�ضافت:
ب�شكل ما،
ٍ �--أنت ابن حور�س ،و�أنا ابنة �إيزي�س ،نحن مت�شابهان
وو�ضعتنا الآلهة يف مركب واحد يف و�سط بحر ميتلئ بالأمواج الهائجة
والعوا�صف التي ال تعرف الرحمة ،ف�إما �أن نتعاون �سو ًّيا وننجو ،و�إما
�أن نهلك �سو ًّيا � ً
أي�ضا.
ر ش
والتوزي
قالت:
ع
�--أريدك �أن تقاتل بجواري� ،أنتم قبائل قوية وال ي�ستهان بها ،وال �أريدكم
�أن تقاتلوا معي هنا ،بل تفعلون ما كنتم تفعلونه دائ ًما ،مقاومة امللك
وحا�شيته.
--نحن نقاتل البطاملة منذ وقت طويل.
قالت كليوباترا:
--و�سينتهي ذلك القتال للأبد عند تقلدي العر�ش ،و�سيعي�ش اجلنوب
وال�شمال يف تناغم كما كان دائ ًما.
شمن
ر �أهله لآالف ال�سنني ،ثم تعلقت يف ذراعه كالطفل ال�صغري الذين�ضاع
ت ل ا و
ويف جل�س قي�صر
ع ز
قالتيب�صوت و الغامرة، وبال�صدفة البحتة وجدهم ،كانت ت�شعر بال�سعادة
هام�س:
--ال �أ�صدق ،لقد ح�ضرت �أخ ًريا.
ابت�سم قي�صر وقال:
�--أنت ال�سبب الوحيد الذي جعلني طوال �سنوات �أت�شبث بالعودة يا
كالبورنيا.
غمرها �شعور بالدفء من كلماته التي تكاد �أن تكون ب�سيطة ،ابت�سمت
وقالت:
--ح ًّقا؟
--بكل ت�أكيد يا عزيزتي.
253
--كنت �أعلم �أنك لن تنكث بعودك �أبدً ا ،كنت �أعلم �أنك �ستعود يل يف
يوم من الأيام.
انتظرت كث ًريا.
ِ �--أعلم � ِ
أنك
--و�أنت ت�ستحق االنتظار.
ثم طبعت قبلة على خده قبل �أن تغادر جواره وتتجه �إىل املائدة.
ظل �أوكتافيو�س يحدق يف وجه قي�صر للحظات ثم لدقيقة ،كان �صع ًبا
عليه �أن يعرف نوع هذا الفئة من الرجال ،قي�صر ،هل هو �إن�سان عادي؟
ع
�أم رجل منحته الآلهة الهبات؟ ظل يفكر فيما يكمن داخل هذا ال�شخ�ص،
ر ش
ع والتوزي
ابت�سم قي�صر وقال:
--بالت�أكيد ،تف�ضل يا �أوكتافيان ال�صغري.
ثم قرب ك�أ�س النبيذ �إىل فمه.
--كيف هو طعم املجد؟
�أوقف قي�صر ك�أ�س النبيذ قبل �أن تلم�س �شفتيه ،ونظر �إىل �أوكتافيو�س
باهتمام ثم �أردف:
--لقد �سمعت عنك الكثري �أيها ال�صغري ،يقولون �إنك ذكي.
قال �أوكتافيو�س:
�--صفة الذكاء هي �صفة عامة ،ميتلكها الكثريون� ،أما �أنا ف�أتطلع �إىل
ما ال ميتلكه �أحد.
لفتت كلمات �أوكتافيو�س قي�صر:
254
--و�إىل ماذا تتطلع يا �أوكتافيو�س؟
قال �أوكتافيو�س� :أنا �أتطلع �إىل ما تتطلع �إليه �أنت.
--وما الذي �أتطلع �إليه يف ر�أيك؟
--رمبا كان هذا �س� ًؤال �صع ًبا للجميع ،ما هي �أهداف قي�صر احلقيقية؟
ولكن مل يكن الأمر ي�شكل يل لغزً ا �صع ًبا ،فالأفعال تنبئ عن الدوافع،
�أتعلم؟ �أنت �أذكى رجل ر�أيته يف حياتي ،رجل يعرف كيف ي�ستخدم
النزعات الب�شرية داخل الب�شر ،املجد ،الن�صر ،القوة .للنزعات
ع
الب�شرية الكثري من الأ�شكال ،ولن ي�ستطيع �أحد بناء �إمرباطورية �إال
والتوز عي ر --مل يكذبوا عندما �أخربوين �أنك مميز وا�ستثنائي.
قال �أوكتافيو�س:
--ولكنك مل جتبني على �س�ؤايل ،كيف هو طعم املجد؟
(--ال مثيل له� ،شعور �أنك �إله هو �شعور ال ي�ضاهيه �شعور).
ثم �أ�ضاف :لقد �س�ألتني �س� ًؤال �أيها ال�صغري و�أجبتك ،دعني �أ�س�ألك
أي�ضا �س� ًؤال.
� ً
--بالت�أكيد ،تف�ضل.
�س�أله :لو كنت مكاين الآن ،وكان ذلك املجد كله لك ،الذهب ،واجلحافل
والفيالق ،حب العامة ،واحرتام النبالء ،ماذا �سوف تفعل؟
--قال بال تردد� :س�أحكم العامل.
ابت�سم قي�صر بفخر وقال:
255
--وكيف �ستفعل هذا؟
--من ُي ِرد بناء �إمرباطورية ،ينب ِغ عليه �أن يحكم وحيدً ا ،ولكن يجب �أن
يحدث ذلك بالدميقراطية.
--وكيف ي�ستقيم احلكم اال�ستبدادي بالدميقراطية؟
--الطريقة الوحيدة املمكنة لتحقيق ذلك هي ال�شعب ،و�صنع التحالفات؛
النا�س ي�سهل خداعهم� .إذا كان الأمر يتعلق ببناء �إمرباطورية فعلى
الإمرباطور �إر�ضاء ال�شعب مهما كلفه الأمر ،ال�شعب هو املحرك
الرئي�سي للدولة التي يحكمها رجل واحد فقط ،و�إذا كان املرء
ريص ع
�سيحكم كامللك ،فعليه �أن يحتمي بال�شعب قبل فيالقه ،مثلك الآن
ع والتوزي
م�سموعة ،ك�أنه �سر ما ،ابت�سم �أوكتافيو�س برحابة و�سرور قبل �أن يغادر،
وبعد دقيقة �شعر قي�صر بالتو ُّعك وبانقبا�ض يف ع�ضالته .وقف وكانت
قدماه ال ت�ستطيعان حمله ،ال يبدو هذا ت�أثري النبيذ ،حاول م�سك جلام
نف�سه ولكنه بدا وك�أنه يرتنح ،يبدو �أنها �سوف تفاجئه نوبة ال�صرع الآن،
الحظت كالبورنيا �أن قي�صر لي�س على ما يرام ،ال يجب �أن يعلم �أحد بتلك
اللعنة التي ل َعنته بها الآلهة ،تقدمت �إليه كالبورنيا بخطوات �سريعة،
�أم�سكت يده واجتهت به �إىل �أقرب غرفة ،حاولت على قدر الإمكان �أال
يراهم �أحد� ،سقط قي�صر على ال�سرير انت�شرت يف ج�سده الت�شنجات
التي �أدت �إىل حركة ال �إرادية يف �أع�ضائه ،كان ينتف�ض ك�أن زيو�س �أ�صابه
ب�صاعقة عاتية ،كان ر�أ�سه يتحرك ب�شكل ه�ستريي وعيناه بي�ضاء ال �سواد
فيها� ،أ�سرعت كالبورنيا وو�ضعت ر�أ�سه فوق قدمها ،ثم طفقت تهدئ من
روعه ،م َّل�ست ب�أناملها على ر�أ�سه ،وم�سحت عرقه املتديل كفي�ضان بطرف
ثوبها ،كانت تلك نوبة كبرية ،ميلأ قي�صر الرعب �أن يراه �أحد بذلك
256
ال�شكل ،ذلك ال�ضعف الذي يتخلله ،ال يجب �أن يراه �أحد يف �ضعفه ،لن
رجل �ضعي ًفا ،وبعد دقائق من الت�شنجات الهائلة ،بد�أ قي�صر يتبع النا�س ً
يف الهدوء وبد�أت الت�شنجات تخفت كما بد�أت� ،أغم�ض قي�صر عينه وغط
يف نوم عميق.
�صباحا وجد كالبورنيا بجواره تتكئ على يديها وتغفو ً عندما ا�ستيقظ
بن�صف نوم وبن�صف �أعني مغم�ضة ،يبدو �أنها �سهرت بجواره طوال الليل،
اعتدل قي�صر فا�ستيقظت كالبورنيا ،قالت بقلق:
--هل ت�شعر الآن بتح�سن؟
ريص ع
وقف �أحد �شيوخ املجل�س وقال:
ن
ر ش
والتوز عي
�إ�سبانيا و�سيحاول دخول روما يف �أي وقت ،ولن �أنتظر حدوث ذلك،
بل �س�أذهب �إليه فوق جحافلي و�أنهي هذا للأبد� ،أما كاتو ف�أر�سل له
بع�ض القوات التي ت�أ�سره ،ولكن ال مت�سه ب�سوء �أبدً ا.
�--أمرك �أيها القن�صل.
259
()6
ريص ع
ال�سيوف وتثبيت �صرر ال�سهام مزودة بري�شات جديدة ،كانت جحافل
ع
كان غار ًقا يف التفكري ما اخلطوة القادمة؟ هل يعود �إىل روما ويفتعل
حر ًبا �أهلية �أخرى رمبا �ستحيل روما رمادًا؟ �أم ينتظر قي�صر ويحاربه
يف �أر�ض حداد؟ على املن�ضدة كانت هناك اخلرائط واخلطط احلربية،
وكان منه ًكا يف ا�ستطالع اخلرائط واتخاذ القرار الذي �سوف يقوم به،
وجل�س بومبايو�س يحدق يف ك�أ�س النبيذ التي �شعر مبذاقها رديئة وفا�سدة
على ل�سانه ،كانت ب�شرته باردة ،وعروقه الزرقاء تتفرع كروافد الأنهار
حتت جلده ،وك�أن للحزن بحا ًرا تتعارك داخله ب�شرا�سة.
�أردف كا�سيو�س :ماذا �سوف تفعل يا بومبايو�س؟
ردد بومبايو�س الكلمات ببطء:
--لقد �أ�صبحت الفيالق جاهزة للتحرك.
قال بروتو�س:
(--قي�صر قد خرج من روما على ر�أ�س فيالقه ،عليك التحرك �سري ًعا).
260
كان مرتب ًكا ،ال يعرف ماذا يفعل ،متتزج م�شاعره فال يفهم ما يدور
بداخله ،كان يحب قي�صر بحق ،ولكنه كان يخاف ،كان خائ ًفا مما قد
يحدث ،قي�صر الآن �أ�صبح �إل ًها على عر�ش روما ومن ال�صعب التنب�ؤ بنواياه
ودوافعه و�أهدافه ،يفكر كث ًريا بال طائل يرجى ،ال ي�ستطيع �أن يلجم زمام
م�شاعره املت�ضاربة بني حب قي�صر واخلوف منه �أو على الأحرى اخلوف
من طموحه.
قال بومبايو�س:
�--س�أخرج على ر�أ�س الفيالق و�أ�سحق قي�صر �إىل النهاية ،ثم نعود �إىل
ع
تزوج بومبايو�س جوليا ابنة قي�صر ،حلم بحلم ذات يوم وكانت �آماله
ت
متخذين القانون الروماين
ر ش
والتوزي
اجلحافل لغزو الغال ،ولكن مل يكن يدري �أنه قد �أعطاه �سي ًفا رمبا ي�شق
ع
به �صدره يف يوم من الأيام ،مل يكن يدري �أن الطموح يغري الأ�شخا�ص ،مل
يكن يدري �أن �صديقه قي�صر قد يواجهه يف معركة يف يوم من الأيام ،كان
ذلك م�ستبعدً ا ،ولكن الأمر الآن وا�ضح وجلي �إىل �أبعد احلدود ،قي�صر قد
خان عهد الدماء الذي بينهما ،ولن يلتزم بومبايو�س بذلك العهد لأكرث
من هذا ،يكفي حتى الآن.
دخل �أحد قادة بومبايو�س وقال:
--قي�صر على ُبعد �ساعة �أيها القن�صل.
اكفهرت وجوههم وتبادلوا النظرات يف توج�س ،لكن بومبايو�س مل
يهتز ،كان يعلم �أن قي�صر لن ينتظره� ،أردف:
ِ �--
أعط �أم ًرا للفيالق باال�ستعداد.
قال �سي�سرو:
262
--ال تذهب يا بومبايو�س.
--على �أحد �أن يقود الأ�سطول ،وال �أحد منكم يعرف �شي ًئا عن احلروب.
قال كا�سيو�س:
--فلتكن الآلهة معك.
واكتفى بروتو�س بال�صمت ،فال يعرف هل يدعو الآلهة �أن تن�صر
بومبايو�س ماجنو�س على يوليو�س قي�صر �أم العك�س ،فكان ال�صمت هو
اخليار الأمثل.
ريص ع
ارتدى بومبايو�س درعه التي طاملا كان يرتديها يف حروبه القدمية ،مل
والتوز عي
هو �ساب ًقاً ،
جاحما وقو ًّيا وال يخ�سر معركة.
مت جتهيز الأ�سطول كما �أمر بومبايو�س ،كانت ال�سماء ملبدة
بال�سحاب القامت ،انفتحت الأ�شرعة ورفعتها الأمواج والهواء على حد
�سواء ،واختلطت �أنا�شيد الرجال بذرات الهواء العا�صفة ،كانت الرياح
هائجة والأمواج تت�ضارب وت�صدح بال�صراخ كالوح�ش ،كان اخلليج ب�أكمله
م�ضطر ًبا متالط ًما ،والأمواج ترتفع بقمم بي�ضاء ك�أنها جبال.
�شقت �سفينة بومبايو�س الأمواج ب�ضراوة ،ركب املد املرتفعَ ،ي ِ�ص ُّر
�شراع �سفينته ويطقطق مع كل تبديل يف حركة الرياح ،ووقف هو بدوره يف
املق�صورة العالية لل�سفينة ،ينتظر الأ�سطول �إ�شاراته.
كان �أ�سطول قي�صر يقرتب� ،أخرج بومبايو�س �سيفه الكبري ف�أ�صدر
ً
�صليل عال ًيا ،رفع �سيفه يف الهواء ،فدوت �أبواق احلرب ب�أنني عميق بلغ
�أفق ال�سماء ،وترددت الأبواق من �سفينة �إىل �سفينة ،كان ال يف�صل �سفينة
263
بارعا يعرف كيف يقود
عن �سفينة �إال ب�ضعة �أمتار ،كان بومبايو�س جند ًّيا ً
� ً
أ�سطول.
�أنزلوا الأ�شرعة وخف�ضوا ال�صواري ،ويف قاع ال�سفينة يجذف
املجذفون ،ثم �صاح بومبايو�س بالأمر« :ال�سهام».
فارتفع �صوت بوق �آخر طويل كعويل الوحو�ش ،وقف رامو ال�سهام يف
�صفوف على �سطح ال�سفن� ،أ�شعلوا �سهامهم وت�أهبوا وو�ضعوا ال�سهام بني
�أقوا�سهم الطويلة ،ف�أ�صدر بومبايو�س الأمر�« :أطلقوا».
ع
بع�ض اجلنود ف�ألقوا ب�أنف�سهم يف البحر ،كانت الرياح قوية و�ساعدت يف
انت�شار النريان ،هدير الرياح ينقل الرعب بني نفو�س اجلنود و�سرعان ما
ابتلعها هدير �ألف �صيحة من اجلنود.
مل تكن بداية موفقة ليوليو�س قي�صر ،كان بومبايو�س يعرف فار�سالو�س
جيدً ا كما يعرف روما ،فكانت حركة �أ�سطوله مثالية ،ويعرف جنوده كيف
يتحكمون ب�سفنهم باحرتاف ،وراء �صف ال�سفن امل�شتعلة ر�أى يوليو�س
قي�صر ثغرة يف �أ�سطول بومبايو�س ،كان احلل الوحيد هو ك�سر النظام
الذي ت�سري به �سفن بومبايو�س با�ستغالل تلك الثغرة ،يجب عليه الهجوم
مبا�شرة ،و�أعطى الأمر ملاركو�س �أنطونيو�س.
انق�سم الأ�سطول لثالث جمموعات ،املجموعة الأوىل والثانية كانتا
يف �صراع وتخابط مبا�شر مع �سفن بومبايو�س� ،أما املجموعة الثالثة
فانق�سمت عن الأ�سطول يف خفة وخفية مل ي َرها �أحد ،قادها ماركو�س
264
�أنطونيو�س وراء جرف �صخري ملفاج�أة بومبايو�س من اجلنوب ،والهجوم
على قلب الأ�سطول وت�شتيته.
بعد �ساعة من املواجهات املبا�شرة بني ال�سفن كان بومبايو�س منت�ص ًرا
على يوليو�س قي�صر ،ويف حلظة خرجت املجموعة الثالثة من اجلنوب،
نفخت الأبواق وقال ماركو�س �أنطونيو�س:
--هجوم.
انفلتت الأ�شرعة ك�أنها �أجنحة لطائر ،جدف الرجال �سري ًعا وكانت
ص ع
الرياح يف �صالح ماركو�س �أنطونيو�س ،ارتفعت الرايات واندفعت ال�سفن
ريص ع
�ضيق ال�صدر ،كان �ضمريه ي�ؤنبه َ ْ
وتلده ذاته بال رحمة ،مل يعرب الريبيكون
ع والتوزي
ثم كا�سيو�س ،ثم بع�ض �شيوخ املجل�س ،حتا�شى بروتو�س النظر يف عني
قي�صر ،وتعمد قي�صر النظر �إليه نظرة طويلة متل�ؤها كلمات العتاب� ،أ�شار
قي�صر �إىل اجلندي ،فطفق بفك وثاق الأ�سرى ،نظر لهم قي�صر وقال:
--مل �أكن بالقاتل وال اخلائن ً
يوما ،ل�ست �أنا الذي يقتل �أ�صدقاء
الأم�س ،مل �أعرب الريبيكون لهذا� ،أنتم �أ�صدقائي القدامى ،ومل
�أعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية �إال للحفاظ على حياتي ولي�س لأكون
الديكتاتور الذي تظنونه ،ومل �أكن �أنوي �أن �أنت�صر على �صديق هو
�أف�ضل مني وبيننا عهد دماء مقد�س� ،أنتم �أحرار الآن ،مقاعدكم يف
جمل�س ال�شيوخ ما زالت فارغة تنتظركم �أن تعودوا لها.
الح ال�سرور على وجوههم ،ثم هتفوا:
َ --
فليحي قي�صر الرحيم.
266
ثم اقرتب من بروتو�س ونظر يف عينيه ،كانت عينا بروتو�س تلمع يف
باطنها الدموع ،نطق قي�صر بعد حلظة:
َ --
تعال يا بروتو�س معي.
دخل هو وبروتو�س �إىل اخليمة ،قال قي�صر بنربات الئمة:
--ملاذا يا بروتو�س؟
قال بروتو�س:
--لقد خ�شيت منك.
ريص ع
--ملاذا؟
ر ش
والتوز عي
--خ�شيت �أن تقتل عمي كاتو ،وت�سفك بدماء �شيوخ املجل�س كما فعل
�سوال.
قال قي�صر بنربات حادة:
--حتى �إن كنت �أنوي فعل هذا ،فلن �أفعله لأجلك ،لقد منحتهم احلرية
لأجلك ،هل تظن �أنني �سوف �أ�سامح نف�سي �إن �أ�صابك مكروه؟
�--أنا �أعتذر لك.
ثم ا�ستطرد بروتو�س وقال:
�--أرجوك يا قي�صر ،كفى دما ًء حتى الآن ،الدماء ال جتلب �إال الدماء،
�أعقد ال�سالم مع بومبايو�س.
�سكت قي�صر ومل يعقب ،فا�ستطرد مرة �أخرى:
--لقد حارب بومبايو�س لأجلك �سنوات عديدة ،حارب جمل�س ال�شيوخ،
حارب النبالء لأجلك �أنت يا قي�صر ،لأجل ابنتك جوليا ،لقد عانى
267
كث ًريا ،كان ي�أمل �أن تعود من الغال وحتكما روما �سو ًّيا ك�أخوين كما
كنتما دائ ًما.
قال قي�صر بحزن �آ�سر:
--جوليا ماتت!
�صمت بروتو�س للحظة وقال:
--نعم ،ماتت جوليا ومبوتها كانت احلياة جحي ًما على بومبايو�س ،لقد
ع
�أحبها �أكرث من �أي �شيء �آخر� ،أحبها �أكرث من نف�سه لأنها جمعت
ع
رق قلب قي�صر لكلمات بروتو�س فقال:
--هل تعلم �إىل �أين فر بومبايو�س؟
ابت�سم بروتو�س بفرح وقال:
--نعم ،فر �إىل م�صر.
ت�ساءل قي�صر :ملاذا؟
--القائد جابينيو�س �أحد م�ساعديه يف م�صر مع بع�ض القوات.
قال قي�صر:
--ح�س ًنا ،عد الآن �إىل روما وانتظر عودتي �أنا وبومبايو�س� ،سو ًّيا ،كما
كنا دائ ًما.
بثت كلمات قي�صر يف بروتو�س ال�سرور� ،سيعود كل �شيء كما كان،
و�ستعود روما قوية كما كانت ،و�سيقود �شيوخ املجل�س بقيادة قي�صر
268
وبومبايو�س روما �إىل �أقا�صي الأر�ض ،وهكذا كانت الأفكار تدور يف ر�أ�سه
بال توقف.
الإ�سكندرية...
--وقف الرجال فوق العربات يحملون براميل النبيذ و�أجولة الدقيق،
وانهمك بع�ض الرجال يف تثبيت حدوات اخليل وبغال اجلر على حد
والتوز عي
ب ال�شوارع ،ويف الق�صر امللكي جل�ست حزينة ،تنتظر الت�أبني �أو َي ُج ْ َ
على الأحرى التتويج ،مل يكن هناك فرق ،كانت الأجواء فاترة يف
الق�صر ،الأمرية �أر�سينوي كانت يف غرفتها ،هي ال تكره العر�ش
ولكنها تخاف منه ب�شكل ال �إرادي.
كلهم بال ا�ستثناء �أ�شرار وال ميكن الوثوق فيهم ،هكذا قال لها
جانيميدي�س ،بطليمو�س يريد ا�ستغالل الأمرية �أر�سينوي لإق�صاء كليوباترا
عن العر�ش ،وكليوباترا �ستقتل �أر�سينوي �إن �شكلت عائ ًقا �أمامها ،ويف كلتا
احلالتني الأمرية �أر�سينوي يف خطر حمدق.
--كانت ليلتها املا�ضية �سيئة ،حمفوفة ب�أ�شباح نزقة ،وكوابي�س ال تعرف
الرحمة ،عن ال�سقوط يف الهاوية ،عن املجهول ،ت�صحو مه�شمة ،بال
رغبة �أو هدف ،وظلت على هذا احلال حتى م َّلت ،كانت حياتها تزداد
�سوادًا ،كانت تتمنى �أن ت�صبح من العامة ،هي الآن �أمرية ولكن ت�سكن
يف �سجن ي�سمى الق�صر ،و�أ�صفاد ت�سمى العر�ش.
269
دخل جانيميدي�س �إىل غرفتها ،كانت غارقة يف احلزن� ،أردف:
--موالتي.
�ألقت �إليه �أر�سينوي نظرة و�أردفت:
--تف�ضل يا جانيميدي�س.
لقد �أح�ضر تايبرييو�س جمموعة جديدة من الكتب والربديات� ،إن
كنت تريدين االطالع عليها.
--قالت بنربات كئيبة:
ر ش
والتوزي
متى �سيكون التتويج؟
ع
--تنهد ثم قال:
يف الليل.
--قالت :هل هناك �سبيل للهرب من ذلك اخلط�أ اجل�سيم؟
لي�س هناك �سبيل.
--قالها وهو ي�شعر بالعجز.
ثم قال بنربات ُم َط ْمئنة لها:
--ال تقلقي يا موالتي� ،سيمر التتويج بخري ،لن � ِ
أتركك وحيدة �أبدً ا ،هذا
أحميك حتى �آخر رمق يف ج�سدي،عهد مني �أمام الآلهة� ،سوف �أظل � ِ
و�إن كلفني الأمر حياتي.
--لكني ال �أريد.
ثم ا�ستطردت ببع�ض احلما�س:
270
--دعنا نهرب يا جانيميدي�س .ال �أريد �شي ًئا من هذا ،ال �أريد ال�سلطة وال
�أريد العر�ش ،خذين بعيدً ا عن الإ�سكندرية.
كانت كلمة مندفعة �أو�ضحت جلانيميدي�س مدى �شقاء الأمرية
ال�صغرية ،لكن �إىل �أين؟ ال �سبيل للهرب ،على جانيميدي�س �أن يواجه
ذلك اخلطر املحدق ،عليه �أن يحمي الأمرية على الرغم من تعنت امللك
يف هذه القرارات الطائ�شة ،وهو يعلم جيدً ا �أن بوثينيو�س لن يكتفي بهذا،
و�سوف يق�صيه عن الأمرية بعد التتويج لكي يت�سنى له العبث كما �شاء،
كان جانيميدي�س ي�شكل عائ ًقا �أمام �أهداف بوثينيو�س و�سيفعل �أي �شيء
ر ش
والتوز عي
نكون �أقوياء ملواجهة هذه امل�صاعب.
--لكني ال �أ�ستطيع.
�ألفتها ب�شيء من الي�أ�س ،ثم ا�ستطردت بي�أ�س �أكرب:
�--أ�شعر بخطب ما� ،أ�شعر �أنني يف �سجن كبري ،وذلك ال�سرير كالأ�صفاد
وتلك النافذة كالق�ضبان ،والتاج الذي �س�أرتديه اليوم هو حبل �سيلتف
حول رقبتي ويه�شمها مع الوقت.
اقرتب منها جانيميدي�س واحت�ضنها �إىل �صدره بقوة ،وفا�ضت من
عينيها الدموع ،كانت حتتاج �إىل هذا منذ وقت طويل ،حتتاج �إىل �شخ�ص
يحت�ضنها وير ِّبت على روحها املتهالكة ،حتتاج �إىل �أنامل لتم�سح دموعها
ال�ساقطة بغزارة ،هذا فقط ما كانت حتتاجه يف تلك اللحظة.
271
بومبايو�س كان على دراية باخلرائط لكن الأ�سبوع الذي ق�ضاه بني
الأمواج الوعرة �أثبت �أن م�سالك البحار �شيء واخلرائط �شيء خمتلف
متاما ،كانت اخل�سارة تلفحه كالنار بالرغم من برودة الهواء ،كان على ً
ُبعد �ساعات من الإ�سكندرية ،و�أر�سل يف ح�ضور جابينيو�س .كان جابينيو�س
ذراعه اليمنى وعينه التي يرى بها ما يحدث يف اجلانب الآخر من العامل، َ
وهو من دخل �إىل الإ�سكندرية فوق ر�أ�س جي�ش وكان بطل معركة ا�سرتداد
العر�ش التي دارت بني بطليمو�س الثاين ع�شر وابنته برينكي ،انت�صر
جابينيو�س يف املعركة انت�صا ًرا �ساح ًقا ،ومت حتنيط برنكي على قيد احلياة
ريص ع
ومت دفنها يف �أر�ض جمهولة ،وارتفع ا�سم جابينيو�س يف الإ�سكندرية ،وذاع
ع والتوزي
اقرتب جابينيو�س ببع�ض القوات ،اقرتب رويدً ا رويدً ا حتى دنت قواته
من �سفن بومبايو�س وال يف�صلهم بع�ضهم عن بع�ض �إال ب�ضعة �أمتار،
�صعد �إىل �سفينة بومبايو�س ،كان بومبايو�س يجل�س يف مق�صورة ال�سفينة.
عندما كان ُيذكر ا�سم جابينيو�س على �أل�سنة جماهري الإ�سكندرية ،كان يف
وح�شا �ضار ًيا ب�أنياب حادةً ،
غول �أ�سطور ًّيا يقطع �أذهان جميع ال�سامعني ً
متاما،
�أعداءه ب�أنيابه املجردة� ،إال �أن القائد جابينيو�س كان على النقي�ض ً
كان �شا ًّبا يف منت�صف عقده الثالث ،و�سي ًما وخ�صالته �شقراء� ،أنفه طويل
ومدبب ،وكان يف ردائه الروماين ذي النقابة احلمراء كاملالئكة يف �أحالم
العذارى ،اقرتب من بومبايو�س وقال:
َ --
فليحي بومباي ماجنو�س العظيم.
وقف بومباي واقرتب من جابينيو�س وقال بابت�سامة باهتة:
--جابينيو�س ،كيف حالك يا �صديقي القدمي؟
272
ثم ر َّبت على كتفيه.
--بخري.
ثم قال ِب� ًأ�سى وحزن:
--عزائي ال�شديد ملوت جوليا ،وخل�سارتك الفادحة �أمام يوليو�س
قي�صر.
�--شك ًرا لك.
ثم �س�أل:
ريص ع
--كيف حال الإ�سكندرية؟
ر ش
والتوز عي
--تتجه نحو حرب �أهلية ،بني امللك ثيو�س فليوباتور وكليوباترا ال�سابعة،
ب�سبب العر�ش.
--لكن الو�صية التي �أودعها �أبوهم �إىل �شيوخ املجل�س ،تن�ص على �أن
يحكموا م�صر �سو ًّيا.
قال جابينيو�س:
--لكن م�ست�شاري امللك لن ي�سمحوا بهذا� .إن بوثينيو�س كبري امل�ست�شارين
يكنُّ الكره لكليوباترا ،ا�ستطاع ال�سيطرة على عقل امللك ،و�أمر قائد
اجلي�ش �أخيال�س بنفيها ف�أذعن للأمر .مرت ثالث �سنوات حتى
عادت كليوباترا على ر�أ�س �أ�سطول كبري وحلفاء �أقوياء ور�ست عند
بلوزيوم الناحية الأخرى من ال�شمال.
قال بومبايو�س:
--يبدو �أنها امر�أة قوية.
273
�--سمعت �أنها كاحلوريات ،تلقي ال�سحر يف وجه كل من تقابله ،وت�سحره
بجمالها وحتركه كما ت�شاء ب�أ�صابعها ،يلقبها �أهل الإ�سكندرية
مببعوثة �إيزي�س جلمالها ال�ساحر.
--ومن بر�أيك �سيفوز؟
ابت�سم جابينيو�س وقال:
--هل حتب الأحاجي؟
--هل لديك واحدة؟
ص ع
�أردف:
ع والتوزي
على التخفي والقدرة على مواجهة املخاطر ،بر�أيك من �سيفوز يف
النهاية؟
�--سيفوز من ي�ستطيع حتمل العط�ش.
ابت�سم جابينيو�س وقال� :أح�سنت يا بومباي ،هذا هو احلال يف م�صر
الآن ،ال�سلطة �أمر غريب يا �سيدي ،فهي �سراب كبري يجري وراءه اجلميع،
والذي يتحمل عط�ش ال�سلطة هو من �سينجو يف النهاية.
ثم �س�أله :ما الذي تنوي فعله؟
�--س�أذهب �إىل الإ�سكندرية� ،سوف �أق�ضي بع�ض الوقت هناك.
�--إذن ماذا تنتظر؟ هيا بنا.
ا�ستوقفه بومباي:
--ال� ،سوف تذهب �أنت وما تبقى من الأ�سطول �إىل �إ�سبانيا.
--ملاذا؟
274
--اذهب �إىل �إ�سبانيا واجمع قواتي من هناك ،ثم انتظر الأوامر.
قال :كما ت�أمر �أيها القن�صل.
أر�ضا ،ثم على قارب �صغري اجته �إىل خلع بومبايو�س خوذته و�ألقاها � ً
الإ�سكندرية بت�ؤدة وكانت الريح هادئة .خمر قاربه ببطء بني الأمواج،
كانت ال�شم�س تكاد تغرب ،والفنار العظيم يقرتب وتقرتب فارو�س معها،
كانت روحه منهزمة ويرى �أنه ال داعي للمقاومة �أكرث من هذا ،لقد �أ�صابه
التعب والن�صب ،كرب و�شاب ر�أ�سه ،خارت قواه ومل ي�صبح ال�شاب الذي
ع
منهزما ،ال بيت ،ال حظ ،ال
ً كهل واهن العظام، كان بالأم�س ،بل بات ً
275
تت�ألق ك�أنها حورية بحر� ،سحرت كل من يف ال�ساحة امللكية ،كانت ت�شعر
بالقلق واخلوف ،كانت الأنظار ت�سيل نحوها ك�أنها طبيعة خالبة ت�سحر
كل املقل والعيون ،كانت لها يف نف�سها مظهر اجلمال ومعه التوتر ،كانت
خا�ضعة وتبدو مبظهر هادئ ومو َّقر من اخلارج لكن من الداخل تتخبط
م�شاعرها كالأمواج املت�ضاربة ،ويف ي�أ�سها انبثق مظهر اجلالل ومعه وقار
الي�أ�س وعقله ،ومع نظرات النا�س انتابتها ق�شعريرة غريبة ال تكاد تتوقف.
جل�س امللك على عر�شه وبجواره جل�ست �أر�سينوي ،انحنى كل من يف
ص ع
قاعة العر�ش ،ثم قال احلاجب:
و االرتفاع
ع ي ز ل ا و
الرءو�ست يف
العظيم.
وقف �ساعد امللك بوثينيو�س عن ميينه ،توالت
ر� ًأ�سا بعد الآخر� ،ساد ال�صمت للحظات ،ثم �ألقى بوثينيو�س نظرة على
الرهط يف �ساحة العر�ش ،واجته �إىل منت�صف ال�ساحة وقال ب�صوت ه َّدار
�سمعه اجلميع:
--منذ ما يزيد عن ثالثمائة عام دخل �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س العظيم
تلك البلد ،ومل يدخلها كغازٍ �أو م�ستبد ،بل كفاحت عظيم ،حرر
تلك البلد من جربوت الفر�س� ،أحبه امل�صريون ك�أنه فرعون من
دمائهم و�أطلقوا عليه �أ�سماء عدة ،ابن �آمون ،وابن زيو�س والفرعون
املقدوين ،ومن يجل�س الآن على العر�ش ت�سري بني عروقه دماء
كدماء الإ�سكندر العظيم ،منذ قدمي الأزل وامللك يحتاج �إىل ملكة،
�أعطت الآلهة الرجال البعولة ،و�أعطت للن�ساء احلكمة ،واليوم هو
276
اليوم املن�شود لت�شهد الإ�سكندرية ملكة جديدة بعد خيانات كليوباترا
العظمى التي ارتكبتها يف حق اململكة.
�أ�شار بوثينيو�س �إىل احلاجب ،فاقرتب ويف يده و�سادة حمراء حريرية
مطرزة بالذهب ،وفوقها التاج ،تناوله بوثينيو�س من يد احلاجب ثم
اقرتب من امللك بخطوات �ضيقة وهادئة ،تناول امللك التاج من على
الو�سادة والتفت �إىل �أر�سينوي واقرتب منها خطوة ،انقب�ض قلبها
وت�سارعت �ضرباته ك�أنه يريد �شق �صدرها والهرب بعيدً ا ولكن حافظت
على ثباتها ،وبعد حلظة و�ضع امللك التاج على ر�أ�سها وكللها به ،ثم �أردف:
ل ا
أ�صبحت امللكة الآن.
ريص ع
--مربوك يا �أختاه ،لقد �
ك
ِ
ص ع
قال بوثينيو�س :بعد �أن خ�سر يف فار�سالو�س ال مفر له �إال جابينيو�س.
ع
كالقطط:
--جيد ...جيد جدًّا.
ت�ساءل �أخيال�س :ماذا �سوف تفعل؟
�--أحر�ص على ا�ستقباله ،فر�أ�سه �سوف ي�ساوي الكثري.
--تريد قتله؟ هل جننت؟
--ر�أ�سه ي�ساوي العر�ش ،فيوليو�س قي�صر الآن هو القوة العظمى يف
روما ،وتلك فر�صة جيدة للتحالف معه �ضد كليوباترا.
فا�ستطرد� :أح�ضر يل ر�أ�سه.
--لكن� ...إنه قن�صل روماين.
--تلك فر�صتنا يا �صديقي� ،ستكون تلك نهاية كليوباترا �إىل الأبد،
عليك �أال تخذلني يا �أخيال�س.
فكر �أخيال�س يف الأمر للحظة ،ثم قال :كما ت�أمر.
278
ابت�سم بوثينيو�س ور َّبت على كتف �أخيال�س وعاد �إىل قاعة العر�ش
جمددًا.
اجته �أخيال�س �إىل امليناء ومعه جمموعة من اجلنود الأكفاء ،كان
قارب بومبايو�س ماجنو�س يقرتب �أكرث يف كل حلظة ،عند ال�سالمل و�ضع
�أخيال�س اجلنود يف �صفني على كال الطرفني من ال�سلم ،اقرتب قارب
بومبايو�س حتى حتاذى مع الر�صيف ،كان معه جنديان ،ترجل من قاربه
واجته �إىل ال�سلم� ،صعد ب�ضع �أدراج من ال�سالمل الرخامية ،كان ظالم
الليل حال ًكا ولكنه ا�ستطاع ر�ؤية اجلنود ،كان �شيء ي�صعب عدم مالحظته
والتوز عي
من يده ،فاقرتب جندي منه وغمد ال�سيف يف �صدره ،وجتمع عليه اجلنود،
كانت الطعنات تتواىل يف ج�سده بال توقف ،كان يت�أمل ولكن ال ي�صرخ،
مل يكن يتمنى �أن ميوت بتلك الطريقة ال�شنيعة ،ال يريد �أن ميوت غد ًرا،
�سقط على ال�سالمل وتدحرج حتى و�صل �إىل الر�صيف ،وت�سللت دما�ؤه
لتلطخ ال�سالمل الرخامية النا�صعة ،كان ج�سده يت�شنج ،ومن الأفق البعيد
كان يراها� ،إنها جوليا متد يدها له� ،إنه يراها كما لو كانت حقيقة ،بل
هي احلقيقة الوحيدة التي يراها الآن ،تباط�أت ت�شنجاته رويدً ا رويدً ا حتى
متاما.
خمدت ً
«رحل اجلميع ،ويظل احلزن �سرمد ًّيا».
279
()7
بلوزيوم...
مر�سال �إىل الإ�سكندرية حلوررب يف املكتبة العظمى ً �أر�سل باكو
و�أح�ضرها تايبرييو�س �إليه يف احلال� ،صب حوررب النبيذ بعناية ُمبالغ
ريص ع
فيها وهو يدرك �أنه يحاول ت�أجيل املحتوم ،فعندما متتلئ الك�أ�س لن يكون
والتوزي
وهو يبتهل للآلهة ،خرجت اجلنازة من �أيام يف م�شهد مهيب ج َّرت فيه
ع
الثريان تابوته الذهبي العظيم ،كان عليك �أن ترى هذا ،كان احلزن �آ�س ًرا
يف كل �أرجاء اجلنوب ،املعابد واملنازل والأزقة ،وحتى احلانات واملواخري.
كان الكاهن الأعظم يحبك بكل ما يقدر ،كان يراك اب ًنا للآلهة ،ابن
حور�س العظيم ،ويف �أيامه الأخرية كان يبتهل للآلهة �أن تكون بخري،
و�أرجو �أنا � ً
أي�ضا �أن تكون كذلك».
�أغلق الر�سالة وابتلع ك�أ�س النبيذ� ،شعر باحلزن ال�شديد ،كان يجب
�أن يكون بجواره يف �أيامه الأخرية ،ولكنه كان بالت�أكيد حمفو ًفا بالكهنة
واملالئكة والدفء ،اقرتبت �آ�سيا من حوررب ومل�ست يف وجهه �شي ًئا غري
معتاد ،ت�ساءلت قبل �أن ترمق الر�سالة يف يده:
--ماذا حدث يا حوررب؟
قال بعد حلظة من ال�صمت:
280
--لقد مات الكاهن الأعظم.
لفحتها رياح ال�صدمة للحظات قبل �أن تقول يف � ًأ�سى :عزائي ال�شديد
�إليك.
ثم اقرتبت منه واحت�ضنته بقوة� ،ضمته �إىل �صدرها ك�أنه طفل �صغري،
فقال:
--كان يتمنى �أن ي�صنع ال�سالم للجنوب قبل موته.
قالت �آ�سيا :دعنا نحقق الذي حاول الكاهن �أن يحققه.
ر ش
والتوز عي
�--أنا ال �أ�ست�سيغها ،ولكنها يف �أ�سو�أ الأحوال � ُ
أف�ضل من بطليمو�س.
قال حوررب� :أرى �أنها جيدة ،ال تريد �سفك املزيد من الدماء.
--رمبا الآن ،ولكن من يدري ماذا �سوف تفعل عندما تتقلد العر�ش.
--كما قلت� ،ستكون يف �أ�سو�أ الأحوال � َ
أف�ضل من بطليمو�س.
كانت كليوباترا يف غرفتها امللكية مع احلكيم هيليو�س ،لقد جاءت
الأخبار عن و�صول بومبايو�س ماجنو�س �إىل الإ�سكندرية ،ميل�ؤها الرعب
العظيم �أن ي�ستغل بوثينيو�س الفر�صة وي�صنع حتال ًفا مع �أحد �أهم
�أ�ضالع احلكومة الثالثية ،فكان الأمر مدعاة للقلق ،ويف فمها �شعرت
مبذاق تعرفه جيدً ا� ،إنه اخلوف ،ل�سنوات عا�شت يف اخلوف؛ اخلوف من
املجهول ،اخلوف من اخل�سارة� ،أما هذا فكان �أ�سو�أ ،فخوفها لي�س فقط
على العر�ش ،بل على حياتها � ً
أي�ضا.
التفتت كليوباترا �إىل هيليو�س و�س�ألت:
281
�--إذن ،ماذا �سوف نفعل؟
قال :االنتظار ،الأ�سطول �أ�ضحى جاه ًزا لأي �أوامر ،لي�س علينا الآن
�سوى االنتظار.
�أردفت يف قلق:
�--ستكون م�شكلة كبرية �إن حتالف بطليمو�س مع بومبايو�س ماجنو�س.
--لن يحدث هذا ،بومبايو�س ماجنو�س فر من فار�سالو�س هار ًبا ،ال
ي�أمل �إال يف مكان هادئ يق�ضي فيه �أيامه الأخرية.
ش
فلتحي موالتي كليوباترا.
282
�--أخربين �أيها احلكيم هيليو�س عن غايو�س يوليو�س قي�صر� ،أي نوع
من الرجال هو؟
يوما،
قال احلكيم :قي�صر هو من �أغرب الرجال الذين قد تقابلينهم ً
يقولون �إنه يقرتب من الكهولة بخطوات �شاب يف الع�شرين ،هو لي�س ً
كهل
ولي�س �شا ًّبا ،يقولون ب�أنه ابن الإلهة فينو�س وحفيد الفار�س �إينيا�س بطل
حرب طروادة ،عندما كان يف حروبه يف بالد الغال عا�ش �سنني ً
طوال
قا�سية ،ولي�س كامللوك الذين يجل�سون يف الهوادج ،بل هو رجل ع�سكري
يف املقام الأول ،ي�شارك جنوده حروبهم ،ي�شاركهم يف الربد والدماء
والتوز عي
يوم من الأيام ،وبناء املدينة الفا�ضلة التي طاملا حتاكى عنها الفال�سفة
يف الكتب واحلكايات.
�س�ألت:
--كم عمره؟
�أجاب :يقرتب من منت�صف عقده اخلام�س.
�سرحت كليوباترا ب�أفكارها ،هي الآن يف حكم املنفية ،بال �أمل ،كان
ال بد من �أن حتاول االقرتاب منه ب�أي و�سيلة كانت ،يبدو �أنه من نوع
الرجال ال�شرفاء ،ورمبا �إن ا�ستمع �إىل ق�صتها �سيعيد لها حقها ال�شرعي
يف اجللو�س على العر�ش كحاكم م�شرتك مع بطليمو�س� ،أو رمبا كحاكم
منفرد كما كانت ت�أمل.
قالت كليوباترا �إىل القائد رابو�س:
--ا�ستد ِع يل حوررب و�آ�سيا الآن.
283
أمرك يا موالتي.
قال رابو�سِ � :
وخرج ومل يلبث دقائق حتى عاد بحوررب و�آ�سيا �إىل الغرفة امللكية.
�أحنوا رءو�سهم يف احرتام و�أردف حوررب:
�--أمر جاللتك.
�أردفت:
�--أريد الدخول �إىل فارو�س.
ن ل
جاللتك.
ِ
ع
حلق يف ت�ألق مهيب .بني احلوائط ال�ضبابية �أب�صروا �أ�سوار الإ�سكندرية
ر ش
والتوز عي
هذا الفنار ال�شاهق على العامل».
ابت�سم قي�صر ثم ا�ستطرد مارك �أنتوين يف �س�ؤال:
--هل تنوي عقد ال�صلح مع بومباي ماجنو�س؟
قال قي�صر :نعم.
عقد مارك �أنتوين حاجبيه وقال:
--بعد كل الذي دار بينكما؟
نظر قي�صر �إىل الأفق ،ثم قال:
�--إن بومباي ماجنو�س لي�س �أي �أحد� ،إنه �صديقي املقرب ،كان بيننا
زوجا وف ًّيا جلوليا ،وهو يف
فيما م�ضى عهد دماء مقد�س ،هو كان ً
النهاية روماين �صالح.
و�إن رف�ض؟
285
--لن يرف�ض.
قال مارك �أنتوين بتعجب:
--ملاذا؟
�أردف قي�صر:
--لقد �أخربتك� ،إنه �صديق ،وفوق كل هذا لي�س يف مو�ضع قوة ليتفاو�ض.
�س�أل :وبعد؟
ر
--هل �ستدخل الإ�سكندرية بقوات ع�سكرية؟ والتوزي
�صمت مارك �أنتوين ً
ع
قليل وقال:
ريص ع
�ضحك مارك �أنتوين وقال:
ش
�ساعد امللك يعرف �أن �سفن بومبايو�س ماجنو�س قد ر�ست
والتوزي ر
يف مينائكم منذ ثالثة �أيام.
ع
--بالت�أكيد.
�--إذن �أين هو؟
--تف�ضل معي.
م�ست�ساغا عند يوليو�س قي�صر من اللحظة الأوىل، ً مل يكن بوثينيو�س
�شعر ب�شيء ما بداخله غري مريح ،فاحت من ردهة الق�صر رائحة بخور
مت ر�شه يف �أتن النار لتنبعث يف الأرجاء رائحة زكية تخرتق الأنوف ،كانت
�ساحة العر�ش هادئة ،جل�س امللك على عر�شه قبل �أن يدخل بوثينيو�س
القاعة ومن ورائه يوليو�س قي�صر ،انحنى بوثينيو�س واكتفى قي�صر ب�إلقاء
نظرة �إىل امللك ال�صبي ،فقي�صر لن يركع �أبدً ا وخا�صة ل�صبي مثله ،وقف
بطليمو�س واقرتب من قي�صر و�أردف:
أهل بك يا قي�صر يف الإ�سكندرية. ً �--
قال قي�صر بابت�سامة عابثة� :شك ًرا لك.
288
�أ�شار بوثينيو�س �إىل احلار�س وقال:
�--أح�ضر الهدية.
اقرتب احلار�س و�أح�ضر من�ضدة �صغرية يف منت�صف القاعة وو�ضع
ومغطى بالنقو�ش ،ثم اقرتب بوثينيو�س و�سلم قي�صر عليها �صندو ًقا مغل ًقا ًّ
خا ًمتا ،تناوله قي�صر وهو ال يفهم �شي ًئا ،نظر �إىل اخلامت للحظة ،كان
ً
منقو�شا عليه �صورة �أ�سد م�ألو ًفا ب�شدة ،كان خا ًمتا من الزمرد الالمع
مي�سك �سي ًفا يف يده ،قال قي�صر:
ع
--هذا خامت بومباي� ،أين هو؟
والتوز عي
لي�س ما يظن ،اقرتب بخطوات متثاقلة وب�أرجل ت�أبى �أن تتحرك ،وعندما
و�صل �أخ ًريا �إىل ال�صندوق� ،أ�شاح غطاء ال�صندوق وكان ما يخ�شاه ،كان
ر�أ�س بومباي ماجنو�س العظيم ،ر�أ�س �صديقه الوحيد ،كان �أزرق متعف ًنا
تنبثق منه رائحة العفن التي اختلطت برائحة الذكريات� .أ�شاح قي�صر
ر�أ�سه يف ي�أ�س و�أمل ،و�أغلق ال�صندوق �سري ًعا يف نفور ،ال يجب �أن تكون
تلك النهاية لرجل عظيم ،مل يعتقد �أن النهاية �ستكون مليئة بطعم الرماد
والندم كهذه ،مل يكن عليه �أن ميوت بتلك الطريقة املنزوعة من ال�شرف
�شجاعا ،وجند ًّيا
ً والأخالق ،لقد كان بومباي ً
رجل عظي ًما ورومان ًّيا
ممتا ًزا ،وخ�ص ًما �شري ًفا ،كان يعتقد بوثينيو�س و�أخيال�س �أن بهذا العمل
اخل�سي�س �سوف ينالون حظوة لدى يوليو�س قي�صر ،ولكن من مالحمه
املليئة بالغ�ضب العارم ،يبدو �أنهم قد �أخطئوا.
نظر قي�صر �إىل بوثينيو�س بغ�ضب و�صرخ:
َ --مل فعلتم هذا؟
289
قال بوثينيو�س:
--ظن َّنا �أنك قد تكون م�سرو ًرا بهذا.
�صاح قي�صر:
ً
قن�صل رومان ًّيا �أيها احلمقى، --م�سرو ًرا .لقد كان بومباي ماجنو�س
هل تدركون ما فعلتم؟
�أردف امللك:
--لقد كان بومباي عدوك يا قي�صر.
ر
زوجا البنتي،
يوما ،بومباي ماجنو�س كان ً
والتوزي
كان �أخي وبيننا عهود مقد�سة.
ع
علم بوثينيو�س �أنهم قد وقعوا يف م�أزق �شديد مل يكن يف احل�سبان،
فقال:
--لقد حدث ما حدث ،لقد ارتكبنا خط�أً �شني ًعا بغري ق�صد.
هد�أت نربات قي�صر وقال:
--نعم .لقد ارتكبتم خط�أً لن �أغفره �أبدً ا.
قبل دقائق من الآن...
ر�سا قارب �آخر عند الد�سكار امللكي ،كان جندي روماين ،اقرتب منه
�ضابط امليناء ،و�ألقى نظرة فاح�صة على ما كان يحمل يف قاربه ،كان يف
قلب القارب �سجادة حمراء ملفوفة ب�إحكام حول �شيء بدا وك�أنه جمهول
املعامل ،ومل ي�ستطع ال�ضابط التخمني ف�س�أل:
290
--ما هذا؟
--قال اجلندي :هذه الهدية لقي�صر.
--وما فحواها؟
--ال �أعرف� ،أنا م�أمور ب�إي�صالها لقي�صر بال �إلقاء �أ�سئلة.
�صمت ال�ضابط ً
قليل وقال:
--ح�س ًنا ،اتركها و�سوف ن�سلمها لقي�صر.
--جاءتني الأوامر والتعليمات ب�أن �أ�سلمها لقي�صر نف�سه.
ص ع
وبعد جدال ا�ستطاع اجلندي �أن يقنعه ب�أنه ال يق�صد �أي �ضرر ،و�أنه
ع
تبال كليوباترا مبا قاله ،نظرت �إىل قي�صر نظرة طويلة ومدت له
ومل ِ
والتوزي ر
النبيذ وارت�شفت منه يف ذهول من قي�صر ومن امللك وبوثينيو�س ،رمقت
ع
ال�صندوق يف منت�صف القاعة وقالت:
--م�ؤ�سف �أن ت�أتي نهاية رجل عظيم كبومباي ماجنو�س بتلك الطريقة.
ويف تلك اللحظة دخل احلر�س امللكي ،ف�صاح امللك:
--اقتلوا اخلائنة.
ا�ستوقفه قي�صر يف حزم:
--ال ،توقف� ،أريد �أن �أ�سمع.
�أوقف بوثينيو�س احلرا�س ب�إ�شارة من يده ،انتف�ض امللك و�صاح يف
قي�صر:
--ال ت�ستمع لأختي �إنها ملكة الأكاذيب.
292
قالت كليوباترا غري مبالية لكلمات �أخيها:
�--آمل �أنه قد �أعجبك ق�صري يا قي�صر.
بجمالك يا �سيدتي.
ِ �--إنه جميل،
ومل تغادر عيناه عن عينيها.
قال امللك:
--ق�صرك� .إنها خائنة يا قي�صر.
ع
جترعت كليوباترا من ك�أ�س النبيذ وقالت:
293
قال قي�صر :هناك و�صية للملك الراحل ،ماذا تقول تلك الو�صية يا
بوثينيو�س؟
قال بوثينيو�س :تلك الو�صية خرقتها كليوباترا عندما خانت اململكة،
عندما دخلت بقوات غريبة �إىل م�صر.
--ال �أعتقد �أن حماولة ا�سرتداد عر�شها امل�سلوب تكون خيانة ،بل
اخليانة العظمى عندما حتتال على امللك ال�صغري مبع�سول كلماتك.
ع
قال امللك� :سوف تندم يا قي�صر ،ال �أحد يوجه اخليانة لكبري م�ست�شاري
ر
نظر قي�صر �إىل كليوباترا وقال :حتدثي الآن يا وال
كليوباترا.توزي
نظرة �شزراء حتمل كل معاين الكره.
ريص ع
لت�صل �إىل ما تريد� ،أما �أنا فكافحت كل الطامعني على هذا العر�ش.
والتوز عي
للآلهة .لقد �أرادتنا الآلهة �أن نتجمع �سو ًّيا لغر�ض ما.
�--أنا رجل متزوج.
قالت :نعم .كالبورنيا ،ولكن ملاذا مل تنجب لك وري ًثا حتى الآن؟
�صمت قي�صر ومل يعقب ،فا�ستطردت:
--دعني �أح�ضر �إليك الوريث ،وري ًثا �سوف يجمع بني فينو�س و�إيزي�س،
بني روما وم�صر ،يحكم العامل ك�إله ،ويجمع بني ال�شرق والغرب كما
فعل �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س.
كان وقع الفكرة يف ر�أ�س قي�صر مث ًريا لالهتمام ،قالت:
--اجعلني ملكة على م�صر ،ورد �إىل عر�شي امل�سلوب و�سوف يتحد
ال�شرق والغرب م ًعا� ،ستحكم العامل ك�إله� ،ستك ِّون �إمرباطوريتك
العريقة التي ت�شرق فيها ال�شم�س يف م�صر وتغيب يف روما.
295
كانت الفكرة مقبولة �إىل حد كبري يف ر�أ�سه� .إن كليوباترا هي ال�سبيل
الوحيد للو�صول �إىل عر�ش م�صر ،للو�صول �إىل القوة وال�سلطة الكاملة،
�إذن ...مل ال؟
�س�أل ومل يجد جوا ًبا.
296
()8
فزعا يف قلوب
كان اقرتاب قوات رومانية من احلدود امل�صرية وق ًعا ُم ً
جماهري الإ�سكندرية ،كانت احل�شود تتجمهر غا�ضبة �أمام الق�صر امللكي
وال�ساحات الوا�سعة ،وكان خرب و�صول يوليو�س قي�صر �إىل م�صر �أوحى
ع
�إىل ال�شعب وجود تدخل روماين يف ال�ش�أن امل�صري ،جمع �أخيال�س قوات
ر ش
والتوز عي
امتدت �سالمل املعبد الكبري �إىل ما ال نهاية� ،أعداد غفرية من الغا�ضبني
�أمام ال�سريابيوم تنتظر كلمة امللك ،ارتفع �سقف معبد �سريابي�س فوق
الأعمدة ال�شاهقة التي تو�شحت باللون الأحمر املنطفئ ،كان جماهري
الإ�سكندرية غا�ضبني من دخول يوليو�س قي�صر �إىل م�صر وفيال ُقه على
الأعتاب ،وكان �أعوان بوثينيو�س يب ُّثون الأخبار على م�سامع النا�س بال
توقف عن خطورة هذا الأمر على اال�ستقالل امل�صري.
ُنفخت الأبواق امللكية التي هزت �أرجاء ال�سريابيوم ،ومن �أعلى ال�سالمل
ال�شاهقة خرج امللك �إىل النا�س يرتدي رداءه امللكي الر�سمي ،فوق ر�أ�سه
تاجه الذي انت�صب فوقه الأرابي�س ،ومن �أ�سفله غطاء ر�أ�س ذ َّكر �أهل تلك
البلد بالفراعنة قد ًميا� ،صمت احل�شد املتجمع وانحنوا كلهم للملك بال
ا�ستثناء ،ومن ورائه وقف بوثينيو�س و�أخيال�س� ،صمت اجلميع لي�سمعوا
كلمة امللك ف�أطبق ال�صمت على الأرجاء للحظات ،قال امللك ب�صوته
العايل:
297
--يا �شعبي العظيم ،ل�سنوات كافح هذا ال�شعب ليعي�ش يف وجه الطغيان
واالحتالل ،منذ مئات ال�سنوات احتل الفر�س م�صر ،عاملوا �أهلها
بتدنٍّ وذلة ،ودخل �أجدادي مع �أليك�ساندرو�س �أوميكا�س وحرروا ذلك
ال�شعب العظيم من براثن االحتالل والذل� .أعلم يا �شعبي �أننا ق�ضينا
علي وهذا تق�صري عظيم مني، �أوقاتًا ع�صيبة� ،أعلم �أنكم ناقمون َّ
ولكن دمائي لي�ست دما ًء غريبة ،دمائي حتمل دماء الفراعنة الأوائل
والإغريق على حدٍّ �سواء ،و�أخاف على ذلك البلد ك�أهلها ،ولن �أ�سمح
بتدخل روماين يف ال�ش�أن امل�صري� .إن كليوباترا ا�ستعانت بيوليو�س
ع
�--أنا ال �أ�ستحق هذا التاج حتى �أ�سرتد حقوقي ال�شرعية من كليوباترا
والرومان.
ثم �ألقاه � ً
أر�ضا وا�ستطرد:
--لقد تعر�ضت للخيانة ،فهل �أنتم معي ملواجهة االحتالل الروماين؟
ت�صاعدت الهتافات الغا�ضبة للجماهري �أكرث وا ْلتهبت م�شاعر النا�س
بال توقف� ،أمر �أخيال�س احلر�س امللكي مبحا�صرة الق�صر وبداخله
يوليو�س قي�صر وكليوباترا ،حاول املتجمهرون �أن يقتحموا الق�صر بالقوة،
لكن قوات احلر�س امللكي منعتهم ،ففي النهاية يعلم بوثينيو�س جيدً ا عاقبة
التعدي على قن�صل روماين ،ولي�س هذا فقط بل �إمرباطور روما اجلديد.
داخل الق�صر كانت كليوباترا ت�ستمع �إىل الهتافات اله َّدارة بانزعاج
�شديد ،قالت �إىل قي�صر:
298
--الآن لقد �أيقن ال�شعب عن جهل �أنني خائنة ،هم ال يعلمون �أن
بوثينيو�س كالأفاعي ،وال يتوانى عن فعل �أي �شيء لي�صل �إىل �أهدافه.
قال قي�صر:
--ال تقلقي ،لقد �أر�سلت �إىل فيالقي �إ�شارة و�ستتحرك يف �أي حلظة.
�س�ألت يف قلق:
--هل �سننجو؟
ع
ابت�سم قي�صر و�أردف:
ر ش
والتوز عي
--موت ابنتي جوليا و�أنا يف الناحية الأخرى من العامل ،كان ذلك �أ�سو�أ
ما مررت به يف حياتي.
قالت يف موا�ساة:
--عزائي ال�شديد لك.
قال� :شك ًرا لك.
نفاك من م�صر من دون كنت تقولني يل �إن بوثينيو�س ِ ثم ا�ستطردِ :
ا�ستطعت النجاة؟
ِ قوات �أو حلفاء ،كيف
--من يريد النجاة عليه �أن يرتدي جلود احلرباء.
ا�ستطعت احل�صول على حلفاء؟ ِ --كيف
�--أحيا ًنا بعر�ض املنا�صب الهامة ،ولكن ما جعلني �أ�صمد كل هذا الوقت
هو الإميان.
--الإميان.
299
--الإميان ب�أين �أ�ستطيع ،الإميان ب�أن العر�ش هو حقي ال�شرعي.
ابت�سم قي�صر واكتفى ب�أن �ألقى �إليها نظرة �إعجاب.
متاما،
دخل حوررب الإ�سكندرية ،كانت الأمور خارجة عن ال�سيطرة ً
يتجمهر النا�س مب�شاعيل ،مل َي َر جم ًعا كمثل هذا يف يوم من �أيام ُعم َره،
ذاب بني احل�شود الغا�ضبة حتى و�صل �إىل ال�سريابيوم ،كان احلر�س امللكي
يحيطه من كل زاوية ومن كل جانب ،هو يعلم جيدً ا �أن بوثينيو�س وامللك
بالداخل .هو ال يهتم بامللك باملرة ،هو فقط يريد ر�أ�س بوثينيو�س ،ال يريد
ع
�أكرث من هذا.
والتوزي ر
ومربيها جانيميدي�س �إىل ال�سريابيوم عند امللك يف احتفاء من النا�س.
ع
ملأ احلر�س امللكي الإ�سكندرية ومل ي�ستغرق الأمر وقتًا عندما ر�ست
ال�سفن عند امليناء الكبري ،وعندها و�صل الأمر �إىل فيالق يوليو�س قي�صر
بالهجوم على الإ�سكندرية وفك احل�صار الذي �أطبقه عليهم بوثينيو�س.
�صارما
ً حترك مارك �أنتوين فو ًرا �صوب الإ�سكندرية� ،أعطى �أم ًرا
لأ�صحاب ال�سهام� .أ�شعل اجلنود ال�سهام وت�أهبت ،ثم رفع �سيفه و�أعطى
الأمر�« :أطلقوا».
انطلق وابل من ال�سهام نحو ال�سفن التي ر�ست عند امليناء ،كان الأمر
مباغتًا للجميع .مل يعتقد �أحد �أن يوليو�س قي�صر �سوف يتجر�أ ويهاجم
الإ�سكندرية بفيالقه ،احرتقت ال�سفن وا�شتعلت النريان يف امليناء ب�أكمله،
تكتف النريان ب�أكل امليناء ،بل انت�شرت يف املدينة ب�أكملها كان كل ومل ِ
�شيء يحرتق ،والنريان ال تتهاون يف االنت�شار يف كل �شيء؛ املعابد واملنازل
والأ�سواق .زحفت غر ًبا حتى املكتبة العظيمة ،ا�شتعلت النريان يف الرفوف
300
العالية للمكتبة ،يف العمدان والربديات والكتب واللفائف ،احرتقت املكتبة
عن بكرة �أبيها ،وو�صلت الأخبار �إىل �أخيال�س يف ال�سريابيوم ومل ي�سرد
تلك الأخبار �أمام امللك.
ف�أ�س َّر �أخيال�س النجوى مع بوثينيو�س ،كان بوثينيو�س يجتمع مع
حار�سه ماريو�س ،اقرتب �أخيال�س من بوثينيو�س وقال يف فزع:
--لقد هاجمت قوات قي�صر الإ�سكندرية.
انتف�ض بوثينيو�س وقال:
ص ع
--اللعنة .ماذا تقول؟
ع
عنق �سوف يوجهه ،رك�ض حوررب نحو بوثينيو�س وكاد �أن يظفر به� ،إال �أن
ل
طويل حتى تعرف عليه،
ع
وج ًها لوجه يف يوم من الأيام ،ظن �أنه قد حتطم بعد ما حدث له يف
يوما.
اجلوب ،ومل يظن �أنه �سين�شد االنتقام ً
ِ --
اق�ض عليه.
قالها بوثينيو�س �إىل فاريو�س واجته هر ًبا �إىل �سفينته ،ولكن
جانيميدي�س رف�ض الهروب معه من الإ�سكندرية بالأمرية �أر�سينوي ،ومل
يكن هناك �أي وقت لي�ضيعه ،غادر وحيدً ا على �سفينته يف عر�ض البحر.
حترك ماريو�س بقوة نحو حوررب قبل �أن يخرج �سيفه الكبري ،ل َّوح به
و�شمال ولكن حوررب كان ميلك من ال�سرعة ما ميكنه من تفادي ً ميي ًنا
�ضربات ماريو�س الثقيلة ،وب�ضربة �سريعة ا�ستطاع جرح ماريو�س يف قدمه
بن�صله� ،أطلق ماريو�س زئ ًريا ه َّدا ًرا كزئري الوحو�ش ،وانطلق نحو حوررب
بغ�ضب �شديد ،رفع �سيفه وهوى به ف�أ�صدر �صليل ال�سيوف �صوتًا ه َّدا ًرا
تردد �صداه يف الأفق ،تخابط الفوالذ مع الفوالذ يف �ضربات �سريعة بني
302
حوررب وماريو�س� ،سدد حوررب �ضربة مباغتة يف ذراع ماريو�س الأمين،
جرحا عمي ًقا وان�سالت الدماء الغزيرة من يده� ،صرخ ماريو�س جرحه ً
بكل ما �أوتي من قوة ،ولكن �سرعان ما ا�ستعاد توازنه ،وبقدمه العمالقة
دفع حوررب يف �صدره ،ف�سقط الأخري � ً
أر�ضا ،ولكنه كان �سري ًعا مبا يكفي
لي�سحب خنج ًرا ويغمده بقوة يف قدم ماريو�س ،انفجرت الدماء من قدمه
ب�شكل ب�شع ،وقف حوررب وقب�ض على �سيفه بقوة.
ويف حماولة �أخرية اندفع ماريو�س مبا تبقى لديه من قوة وب�ضربة
أر�ضا جمددًا ،وقبل �أن يطلق �صيحة مزدوجة من �سيفه �أ�سقط حوررب � ً
والتوز عي
وهو الآن يلفظ �أنفا�سه الأخرية يف هذه احلياة ،وكل ما كان يفكر فيه هو
عناق طويل من زوجته قبل ذهابه �إىل احلياة الأخرى ،لكن الآن ،لقد فات
الأوان.
أر�ضا بعد حلظة ،كان متع ًبا وينزف ب�شدة من كل مكان،هوى ماريو�س � ً
وما هي �إال ب�ضع دقائق ومات مت�أث ًرا بجراحه.
ع
نف�سا عمي ًقا و�أغم�ضووجهه �إىل �صدره� ،سحب ً
ا�ستل �سيفه من غمدهَّ ،
ر ش
ع والتوزي
بعد �أيام هد�أت الأو�ضاع يف الإ�سكندرية� ،سيطرت القوات القي�صرية
على فارو�س بالكامل ،ا�ستطاع �أن يهرب جانيميدي�س بالأمرية �أر�سينوي
�إىل �أف�سو�س يف اليونان ،وجاءت الأخبار عن م�صرع �شقيقها بطليمو�س
وغرقه �أثناء حماولته الهرب ،ومت �أ�سر �أخيال�س من القوات القي�صرية
و�سيتم حماكمته حماكمة ع�سكرية وتعليق ر�أ�سه على خازوق ،وا�ستطاع
بوثينيو�س الهرب من الإ�سكندرية ،وعندما علمت كليوباترا غ�ضبت ب�شدة
و�أر�سلت وراءه مغتالني وقتلة وجنودًا ،وو�ضعت على ر�أ�سه تالنت من
الذهب ،و�أح�ضر اجلنود جثة حوررب ،رمقتها ِب� ًأ�سى �شديد ،كان حمار ًبا
عظي ًما ً
ورجل َن َ�ش َد االنتقام وال�سالم ،ومل َ
يحظ ب�أي منهم يف احلياة
الأوىل.
304
بعد �أيام قليلة �أح�ضر لها �أحد املغتالني ر�أ�س بوثينيو�س مقابل اجلائزة
املعرو�ضة ،تالنت من الذهب ،وكان ت�ستعد لدفع كل ما متلك لرتى ر�أ�س
هذا اللعني يف �صندوق ،رمقت ر�أ�سه املبتور يف تقزز وب�صقت عليه بغ�ضب
مكبوت.
كانت �آ�سيا يف بلوزيوم مع احلكيم �ألك�سندر هيليو�س والقائد رابو�س،
وعندما علمت بالأمر اجتهت �إىل الإ�سكندرية ،كانت جثته جمللة يف قاعة
العر�ش تكر ًميا له ،رمقت جثته بعينني ت�أبيان الت�صديق ،رمبا لهذا ُخلق،
لتكون دما�ؤه امل�سفوكة ً
ع
�سبيل للخال�ص ،ال ي�أتي ال�سالم �إال بالت�ضحيات
ر ش مم�س ًكا بني كفيه �سيفه ،انهالت �آ�سيا نعليه
ملك اجلنوب �إىل الأبد ،يرحل حامي اجلنوب ،والويرتكتوزي
م�سجاة على منارق حريرية، يف وو�ضعها مت تكرمي جثته
ع بال
بالبكاء ال�شديد ،الآن يرحل
اجلنوب
حماية ،الآن مل يبقَ لها �شيء �سوى الفراغ وكلمات املوا�ساة التي ال ُت�سمن
وال تغني من جوع.
قالت لها كليوباترا:
--عزائي ال�شديد لك.
لي�ست من عادة �آ�سيا ال�صلبة �أن تبكي ،ولكنها الآن تبكي ،ت�صرخ،
تئن ،ال �شيء ي�ضاهي هذا الأمل ،هذا الفراق ،مل يتبقَّ لها �أحد بعد
حوررب ،فا�ستطردت كليوباترا:
�--أعلم �أن ال �شيء �سيخفف �آالمك يا �آ�سيا ،ولكن هذا �أق�صى ما
ميكنني فعله الآن.
305
ثم �أ�شارت �إىل �إحدى الو�صيفات ،ف�أح�ضرت �صندو ًقا مغل ًقا وو�ضعته
على الطاولة ،اجتهت كليوباترا ناحية ال�صندوق وفتحته� ،أم�سكت بيديها
املجردتني ر�أ�س بوثينيو�س املبتور و�أخرجته من ال�صندوق و�أردفت:
--ر�أ�س بوثينيو�س كما وعدتك� ،أر�سلت وراءه قتلة وو�ضعت على ر�أ�سه
تالنت من الذهب ،لقد �سبب بوثينيو�س الكثري من الأوجاع ٍّ
لكل منا،
هو قتل ابنك وزوجك ،ونفاين من م�صر ،ها هو ر�أ�سه ،فافعلي به ما
ت�شائني� ،أحرقيه وا ْلعني رماده.
ريص ع
كان يبدو هذا كاف ًيا لتنال �آ�سيا االنتقام� ،س�ألتها كليوباترا:
ص ع
العدالة ،هو القدي�س ابن �آوى املقد�س احلامي والوا�صي.
307
()9
ع
مفاتنها ،مل ت�صدق ما حدث ،ال ت�صدق ما تراه �أمام عينيها الآن ،قي�صر،
ر ش
والتوزي
كع�شيق لها ،يكفي فقط �أنها �سوف تنجب له وري ًثا ،يرث روما وم�صر
ع
وي�صبح حاك ًما للعامل ،كانت الفكرة تطاردها ب�شغف وترتاق�ص �أمام
عينيها كغزال يتوجب �صيده.
كان ج�سده متعر ًقا ،يلمع باللون الربونزي �إثر ال�ضوء الأحمر املنبعث
من امل�شاعل املعلقة وال�شموع امل�شتعلة ،والحظت كليوباترا الندوب
واجلروح القدمية التي كانت بادية على كتفيه وظهره العري�ض ،جل�س
وا�ستوى �أمام النافذة وراقب حركت ال�سفن البعيدة ،وعلى ال�شواطئ
ارت�صت قواته الع�سكرية ،احت�ضنته كليوباترا من ظهره وقالت بعد �أن َّ
رمقت قواته ً
وبع�ضا من قواتها الع�سكرية:
�--أر�أيت يا قي�صر ،انظر كيف يتبع النا�س ال�سلطان ،كل ما هو يل هو
لك الآن ،كل ممتلكاتي و�أموايل وجي�شي ،وحتى العر�ش ،هو لك الآن.
ابت�سم قي�صر وقال:
308
--هل تتملقينني؟ هل تغرينني مبع�سول الكالم حتى �أن�سى ما فعلناه
�سو ًّيا؟ ما فعلناه كان خر ًقا لكل القوانني ال�صارمة.
�--أي قي�صر� ،أال ترى القوة التي �أ�صبحت عليها؟ �سوف حتكم العامل
الآن ،من ال�شرق �إىل الغرب ،و�سوف �ألد لك وري ًثا� ،سوف يغزو
العامل ،مثلما فعل �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س.
--كلميني بال ا ْلتواء يا ملكتي ،ال �أحب فكرة �أنك تقبلينني فقط لأنني
الإمرباطور �أو لأنني �سوف �أحميك� ،سوف �أحميك بال مقابل ولكن ال
�أحب ا ْلتواء الكلمات.
زيع
--بومباي ماجنو�س ،موته ي�ؤملني �أكرث مما توقعت.
--لتلك الدرجة كنت حتبه؟
زوجا البنتي
قال قي�صر :لي�س فقط ح ًّبا� ،إمنا احرتام ،بومبايو�س كان ً
جوليا ،وعند رحيلها حزن عليها ب�شدة ،كان فقط يبحث عن �صديقه
القدمي ليحت�ضنه ب�شدة ويهون عليه الأمر� ،إال �أنه كان ميوت يف �صمت،
�أعرف هذا ،وها هو قد مات غد ًرا ب�سيوف غري �شريفة ،وبطريقة �أبعد ما
يكون عن النبل.
--هون عليك يا قي�صر.
�أما بومبايو�س ف�سوف يحرق جثته ،و�سوف ير�سل رماده �إىل روما على
�سفينة جمللة بال�سواد ،و�سوف يتم نرث رماده فوق الكابيتول ك�أي قائد
روماين عظيم.
309
يف ال�صباح جل�ست كليوباترا على عر�شها ،وبجوارها جل�س يوليو�س
قي�صر� ،صب لهم اخلدم النبيذ بعد �أن تناوال الفطور ،وبعد دقائق دخل
حار�س وانحنى لهما و�أردف:
�--سيدي يوليو�س قي�صر.
--حتدث.
قال احلار�س:
--هناك فتًى يف اخلارج يت�ضرع ليقابلك يا �سيدي منذ طلوع ال�شم�س.
ر ش
والتوزي
--يقول �إنه يحمل ر�سالة لك.
ص ع
لقد ق�ضيت عمري كله يف خدمتك ،لقد حظيت بحبي واحرتامي ،ال
312
()١٠
46ق.م
حزي ًنا كان ،ال بد �أن يحزن ،كان ملوت كاتو �أثر بالغ عليه بكل ت�أكيد،
كاتو وبالرغم من كل �شيء كان عمه ،ووالد زوجته بور�شيا ،ملاذا فعل
ص ع
قي�صر هذا؟ ال بد �أن يكون هناك تف�سري للأمر ،عندما عرفت بور�شيا
ص ع
حتب قي�صر.
ع والتوزي
--بلى.
�--إذن ملاذا مات؟ كل الرجال يقولون �إنك تواط�أتَ مع يوليو�س قي�صر
ليقتل عمك ووالد زوجتك بور�شيا.
قال بروتو�س بع�صبية:
--عمي مات م�ستنز ًفا ب�سيفه! ...لقد اختار لنف�سه.
--ومن الذي �أر�سل �إليه القوات وهزمه يف �أوتيكا؟ كاتو ف�ضل �أن ميوت
ب�شرف �سيفه على �أن ميوت على يد ال�شر.
--قي�صر مل يقتل كاتو.
�أردف كا�سيو�س بعد حلظة من ال�صمت:
--على من تكذب يا بروتو�س؟ ال تخدع نف�سك� ،أحيا ًنا �أفكر وعقلي يثور
ال �إراد ًّيا ،هل تواط�أتَ بالفعل مع قي�صر لقتل عمك كاتو؟
�--أق�سم بالآلهة كلها مل يحدث ،كنت �أحب عمي كاتو.
314
�صاح كا�سيو�س يف غ�ضب:
�--إذن ملاذا وال�ؤك �أعمى؟
--والئي لي�س �أعمى يا كا�سيو�س.
--بل �أعمى يا بروتو�س ،ووال�ؤك الأعمى �سبب يف حماقتك.
--ل�ست �أحمق يا كا�سيو�س.
هد�أت نربات كا�سيو�س وقال:
--يا ل�شقائك العظيم يا بروتو�س ،وب�ؤ�سك الذي ال ينتهي .ماذا فعلت
ص ع
تن�س �أنه قد عفا عن حياتنا.
قال بروتو�س :ال َ
ل
تن�س �أنت من �أخذ حياة كاتو وبومبايو�س.
ع والتوزي
--بالت�أكيد.
قال كا�سيو�س:
--وهل �ستكتفي بال�صالة والدعاء؟ عليك �أن ت�أخذ �إجراء.
--ماذا تق�صد؟
قال كا�سيو�س:
�--أ�سالفنا �أخرجوا امللوك والأباطرة من روما يف وقت ما ،و�أنت يا
بروتو�س حتمل تلك الدماء العريقة بني عروقك ،فكر يف الأمر ،وال
تكن عبدً ا لقي�صر.
�صاح بغ�ضب:
--ل�ست عبدً ا لأحد.
316
قال كا�سيو�س بنربات هادئة:
�--إنها الأفكار يا �صديقي بروتو�س� ،إنها الأفكار ،الأفكار عندما تدخل
ً
عقل ما ي�ستحيل �إخراجها جمددًا ،وي�ستحيل �أن ُت�ستبدل بها �أفكار
�أخرى ،ما يقولونه عنك ،الأفكار التي تدور حولك يف املجل�س لي�ست
�أفكا ًرا تفخر بها يا �صديقي ،فكر يا بروتو�س ،فكر وعليك باحل�ضور
غدً ا ال�ستقبال �صديقك قي�صر.
قالها ورحل وترك بروتو�س يف جحيم ال يكاد يهد�أ.
ص ع
يف اليوم التايل �ضربت الطبول بهدير هز ال�صدور وارتفعت الأبواق
والتوز عي
ممزوجا بال�سحر القدمي ،كانت جميلة وهي حممولة ً وجعلته يتجرع احلب
على حمفة مت َّوجة بالتاج املزدوج للفراعنة ،وبني يديها كان قي�صرون ،بال
�شك كانت مالحمه هي مالمح قي�صرية نبيلة ،و�أمام املحفة تقدم قي�صر
على عربته يرفع يده يف حتية للعامة وال�شعب ،اقرتب من املجل�س وتوقف
موكبه ،ترجل من العربة ومن ورائه كليوباترا وبني يديها قي�صرون،
واجته �إىل ال�سلم العايل للمجل�س ،وعن اليمني كانت واقفة �آ ْت َيا وبجوارها
�أوكتافيو�س و�أوكتافيا ،وعن ال�شمال مارك �أنتوين ،بغري �إرادة منه بحثت
عيناه عنها� ،إنها بالت�أكيد مل حت�ضر� ،إن كالبورنيا امر�أة ح�سا�سة و�سوف
تتخذ الأمر ك�إهانة لها� ،صعد يوليو�س قي�صر وكليوباترا �سالمل املجل�س،
نظرت كليوباترا �إىل �آ ْت َيا وبجوارها الطفالن ،جحدها �أوكتافيو�س
ال�صغري بنظرات حادة وغري مريحة ،جتاهلت نظراته الغريبة ،ووقف
يوليو�س قي�صر �أعلى ال�سلم العايل وبجواره كليوباترا ،ارتفع الهتاف من
اجلماهري املتجمعة ،رمقت كليوباترا اجلماهري الهاتفة ب�شغف� ،أ�شار
317
قي�صر �إىل �أحد احلرا�س ،فنفخ يف البوق نفخة طويلة وعظيمة ،ف�صمت
النا�س و�صمتت الأ�صوات ،وقال قي�صر ب�صوته العايل:
بعادي ،اليوم قد دخل �أر�ض ٍّ --يا �شعبي احلبيب ،اليوم حدث لي�س
روما ولد يحمل بني دمائه �أعظم احل�ضارات ،دما ًء رومانية ودما ًء
�إغريقية ودما ًء م�صرية� ،أبوه هو ابن فينو�س ،و�أمه هي ابنة �إيزي�س.
وتناول الطفل من يد كليوباترا ورفعه �إىل �أعلى و�صاح:
�--إنه ابني ،قي�صرون.
ع والتوزي
قي�صرون ،كانت التماثيل من اجلرانيت وتلمع حتت �شعاع ال�شم�س ،ارتفع
هتاف النا�س« :يحيا قي�صر».
اقرتب منه مارك �أنتوين وبني يديه و�سادة وفوقها ُو�ضع التاج ،قال
قي�صر �إىل ال�شعب:
--كما قلت لكم يا �شعبي العزيز �أنا ال �أحتاج �إىل تاج لأحكم روما،
�أنا فقط �أحتاجكم �أنتم� ،أنتم تاجي امللكي وعر�شي الذي �أحكم من
خالله.
�سمع كلمات اال�ستياء من احل�شود املتجمعة ،ف�أردف:
--ولكني �س�أتقبله منكم ،ولكن لي�س يل ،ولكن تكر ًميا البني قي�صرون.
تناول قي�صر التاج وو�ضعه فوق ر�أ�سه ابنه قي�صرون ،و�صاحت احل�شود
جمددًا:
--يحيا قي�صر.
318
ومن بني اجلموع الغفرية ،يف زاوية هادئة كان بروتو�س وكا�سيو�س
قليل ،وظل �صامتًا بع�ض يراقبان ما يحدث ،كان الأمر مباغتًا لربوتو�س ً
الوقت لي�ستوعب ما حدث �أمام عينيه ،هو الآن يعني امر�أة غريبة كامللكة
على روما ،قاطع �صمته كا�سيو�س عندما نطق:
�--أر�أيت؟ هذا ما كنت �أحاول قوله لك يا بروتو�س ،لكنك ال ت�ستمع.
مل ينطق بروتو�س ولو بكلمة ،فا�ستطرد كا�سيو�س:
--ر�أيت كيف قدم ابنه و�ألب�سه التاج كما ي�سلم امللك التاج البنه .انظر
ص ع
لذلك التمثال الآن ،انظر فوق ر�أ�س قي�صر ،انظر �إىل ذلك التاج ،ما
والتوز عي ر مل يجب بروتو�س واكتفى بال�صمت ،ف�أكمل كا�سيو�س:
--العامل غابة يا بروتو�س� ،إىل متى �سوف تظل على احلياد؟ بني �ضوء
احلقيقة ال�ساطع و�سدمي ال�شك املتقطع؟ يتخللك ال�ضعف ،غري
منظم من الداخل� ،أَ ِفق يا بروتو�س� ،أَ ِفق وخذ قرا ًرا كالرجال ،كما
فعل العظماء من قبلك ،كما فعل �أ�سالفك على مر القرون.
�صمت بروتو�س م�شدوهً ا للحظات ،ويف حلظة مباغتة قال:
�--أنا معك يا كا�سيو�س.
ابت�سم كا�سيو�س وقب�ض على يد بروتو�س و�أردف:
--علينا التحرك �سري ًعا.
وعندما انتهى االحتفال ،ا�ستقرت كليوباترا يف ق�صر فاخر يقع على
خ�صو�صا،
ً نهر التيرب ،حمفوف باحلدائق والأ�شجار ،مت ت�شيده لكليوباترا
بنا ًء على �أوامر يوليو�س قي�صر ،وقف قي�صر عند ال�شرفة التي طلت على
319
التيرب وبجواره �أوكتافيو�س� ،سمع �أوكتافيو�س الكثري عن كليوباترا� ،إنها
ذكية وملكة متعجرفة جتل�س على عر�ش من ذهب ،ينحني لها اجلميع
ك�أنها �إله ،ولكن ما يراه �أمامه الآن �شيء خمتلف عما �سمعه ،جمرد امر�أة
جميلة ،وك�أي امر�أة جميلة حتارب بهذا ال�سالح القاتل� ،سالح احلب
واجلمال ،وقي�صر مثل كل الرجال ،ين�صاع للجمال ،وت�سيطر عليه �أحيا ًنا
غريزته احليوانية ،رمبا يتخلل هذه العالقة الكثري من املعاين ال�سيا�سية،
أي�ضا يتخللها عاطفة بني كل من قي�صر وكليوباترا، ولكن ال ينكر �أبدً ا �أنها � ً
التفت قي�صر �إىل كليوباترا وقال:
ريص ع
--ما ر�أيك يف الق�صر؟
ر ش
والتوزي
�--أوكتافيان .ما ر�أيك؟
320
--تلك القوات �ستكون حتت �أمرك ،و�س َيفْدونك بروحهم �إذا تطلب
الأمر� ،إنهم رجال حاربوا معي ل�سنوات طويلة يف الغال.
اقرتبت منه كليوباترا وقالت يف امتنان:
�--شك ًرا لك.
خرج قي�صر ليقابل قواته التي ح�ضرت �أمام الق�صر ،مرت حلظات
تبادل فيها �أوكتافيو�س النظرات مع كليوباترا ،قالت:
--كم عمرك يا �أوكتافيو�س؟
ش
عاما.
ريص ع
القوانني يف روما مقد�سة ،لن ي�سمح العامة والنبالء بك�سرها على
ع
تعرف كيف ميتاز ذلك الفتى بتلك الف�صاحة يف تلك ال�سن ال�صغرية،
«�ست» ال�شرير،
وجهه وديع كاملالئكة ولكن كلماته مقلقة كعا�صفة للإله ّ
ظلت تفكر فيها لوقت طويل ،رمبا كان حم ًّقا ،ورمبا ال ،ولكن �إىل الآن
الأمور حتت ال�سيطرة.
بعد يومني.
�أقل ما يقال عنها ،لقد غري وجهها طعم الدموع ،تلك لي�ست كالبورنيا
�أبدً ا ،هي �شيء �آخر� ،أي �شيء �آخر ممكن �أن تكون ولكن لي�ست كالبورنيا
بالت�أكيد؛ عاب�سة ،حزينة ،عيناها متوردتان حمراوان ،منهزمة ،تلك التي
كانت ال تفارق االبت�سامة وجهها منذ رجوع قي�صر من الغال ،باتت �أكرث
النا�س تعا�سة ،بال �شك ،كيف وال؟ انتظرت �سنني ً
طوال والآن قي�صر يف
322
�أح�ضان ع�شيقته اجلديدة ،فهي �أجمل منها ،و�سيا�سية �أكرث منها ،وملكة،
وفوق كل هذا �أح�ضرت له الوريث ،كان ي�صعب عليها �أن تدخل يف تلك
املقارنة ،لأنها بالت�أكيد �سوف تخ�سر بجدارة ،ولي�س لها �أدنى فر�صة للربح
يف رهان حم�سوم النتائج ،على الأقل �سوف تتوارى عن الأنظار ،فالأنظار
�أطراف مدببة كالإبر احلادة تخرتق اجللد والروح بال ا�ستئذان.
ت�سرب ال�صوت �إىل �آذانها ،ال�صوت يقرتب ،هي تعرف �صوته بكل
ت�أكيد ،جل�ست حتت تلك ال�شجرة العتيقة التي بد�أ عندها كل �شيء ،ك�أنها
ع
تهرب ،ال تريد �أن تراه ،هي حتبه ب�شدة ،بل و�أكرث من �أي �شيء �آخر ،لكن
ص ع
�صمت ،فا�ستطردت:
ع
يف كرامتها ،ل�سنوات طويلة حاولت كالبورنيا �أن ت�أتي له بوريث ،ولكن
لي�س هناك فائدة� ،ألقت النذور للآلهة وت�ضرعت ولكن الآلهة رف�ضت
�أن تعطيها ما �أعطته لكثري من الن�ساء ،م�سح قي�صر دموعها ب�أنامله
واحت�ضنها بني ذراعيه بحنان وقال:
�--أق�سم لك يا كالبورنيا �أنني ال �أحب غريك ،ولو عاد بي الزمن �إىل
الوراء فل�سوف �أختارك �أنت جمددًا ،ولو رجع بي �ألف مرة� ،سوف
تكونني خياري الوحيد.
قالت وهي تبكي:
�--أنت مل تعد قي�صر بعد الآن ،متى هجرت �أهدافك ورك�ضت وراء
ال�شهوة وال�سلطة؟ ما �أراه �أمامي لي�س قي�صر الذي حارب وخا�ض يف
احلروب العديدة من �أجل �شعبه.
�--أنا قي�صر ،فقط قي�صر.
324
قالت:
�--أنت �أي �شيء �آخر ،ولكنك ل�ست قي�صر الذي عرفته منذ زمن� ،أنت
الآن قي�صر امللك ،زوج امللكة ،وهذا قي�صر خمتلف.
�--أنا �أحبك يا كالبورنيا.
--قي�صر كان يحبني� ،أما �أنت فال.
قالتها وطفقت تبكي وغادرت �إىل غرفتها ،حيث ال يوجد قي�صر ،حيث
ت�ستطيع �أن تبكي بحرية وت�صرخ كما ت�شاء.
والتوز عي
وعلى ر�أ�سهم كا�سيو�س ،والذي بذل ق�صارى جهده يف بث تلك الفكرة يف
بارعا يف زراعة الأفكار ،اعرتت بروتو�س �أذهانهم ،لطاملا كان كا�سيو�س ً
�سخونة يف كل ج�سده ،هو مفزوع ال يكاد ي�صدق �أنه اقتنع بتلك الفكرة
هاج�سا وخو ًفا من تلك الأفكار التي َت َّلكت منه
ً املرعبة ،وبثت يف عروقه
ك�أ�سد َت َّلك من فري�سته ،قال كا�سيو�س:
�--إليكم ما يجب �أن يحدث ،علينا حترير اجلمهورية من براثن
اال�ستبداد والديكتاتورية ،علينا التخل�ص من قي�صر ،للأبد.
�سرت رعدة يف ج�سد بروتو�س وقال:
--ماذا تقول يا كا�سيو�س؟
قال كا�سيو�س :تلك هي الطريقة الوحيدة يا �صديقي بروتو�س ،ذلك
املدعو قي�صر ،هو عجوز متغطر�س ،يريد �أن يكون �إمرباطو ًرا ،هل
�سن�صمت على هذا الأمر؟ ونتخلى عن روما ،هذا عار لن �أقبل به �أبدً ا.
325
قال �ألبينو�س:
--وماذا علينا �أن نفعل؟
قال كا�سيو�س:
التما�سا لدى
ً --لقد خططت للأمر جيدً ا ،يف البداية �سيلتم�س �ألبينو�س
قي�صر يف عودة بوبليو�س �إىل روما من منفاه ،وعند االقرتاب لأخذ
االلتما�س� ،سنقرتب جمي ًعا منه ،و�ستكون �أول طعنة من ن�صلي �أنا.
كان قي�صر قد نفى الكثري من �شيوخ املجل�س عند دخوله �إىل روما،
ص ع
وكان بوبليو�س �أحد ال�شيوخ املنفيني.
ع والتوزي
�أن يخرتق ج�سد قي�صر مرة واحدة ،يجب علينا �أن ننهال عليه
بالطعنات على حني غرة ،لكيال يتم توجيه االتهامات لأحد وت�ضيع
دما�ؤه بني اخلناجر املتفرقة.
قال بروتو�س ب�صوت يرتع�ش:
--و�إن ف�شل الأمر؟
--ال يجب �أن يف�شل ،ولكن �إن ف�شل ،ف�أنا �أف�ضل �أن �أموت بخنجري
ولي�س بال�صلب �أو تعليق ر�أ�سي على خازوق.
�صباحا �أمام املجل�س ،واجته
ً و�صمتوا جمي ًعا ،واتفقوا �أن يتقابلوا
بروتو�س �إىل �صندوق مزخرف على املن�ضدة ،وب�أنامل ترتع�ش فتح
ال�صندوق و�أخرج منه اخلنجر ،ذلك اخلنجر الذي ح�صل عليه منذ وقت
طويل ،و�سيعود الآن �إىل �صاحبه.
326
15مار�س 44ق.م.
قالت كالبورنيا منا�شدة�« :أرجوك ،ال تذهب اليوم �إىل املجل�س».
كان يوليو�س قي�صر يف ق�صر كليوباترا ،جاءت �إليه الهثة ،طوال الليل
كانت حتلم بالكوابي�س الفظيعة عن موت قي�صر ميتة �شنيعة .بالرغم من
غ�ضبها وبالرغم من كربيائها العظيم ،ف�إنها قررت التخلي عن كل �شيء،
عن الكرامة والكربياء يف �سبيل قي�صر ،قال قي�صر بابت�سامة:
--كالبورنيا ،هل �صفحت عني �أخ ًريا؟
ريص ع
قالت :نعم ،لكن �أرجوك ال تذهب �إىل املجل�س اليوم.
ع
--قدم هذا االلتما�س كل من كا�سيو�س وبروتو�س و�ألبينو�س ،ليقدموا.
ع والتوزي
يعود �إىل روما من منفاه.
�--سوف �أنظر يف الأمر الح ًقا.
--ما الذي تنتظرونه؟ الآن.
�صرخ بها ،ف�أخرج كا�سيو�س خنجره واندفع نحو قي�صر ،غمد اخلنجر
يف �صدر قي�صر ،ولي�س قي�صر بال ِغ ِّر الذي ي�سقط من ال�ضربة الأوىل،
انت�صب ودفع كا�سيو�س وحاول احلركة ،تكالب عليه باقي املت�آمرين و�شكلوا
يوما
حوله دائرة ،دائرة من الكالب اجلائعة ،من اخلونة الذين �أ�سماهم ً
�أ�صدقاءه ،انهال اجلميع على قي�صر بالطعنات� ،أكرث من خم�سة ع�شر
رجل يطعنون يف ج�سد قي�صر بال رحمة ،وباقي �أع�ضاء املجل�س هاله ً
رك�ضا من املجل�س ،ت�سربت الدماء حتت �أقدامهم بال الأمر وطفق يخرج ً
ا�ستئذان ،وقي�صر ما زال يتلقى الطعنات الغادرة ،يف �صدره ورقبته ووجهه
أر�ضا يتلوى �أ�سفل متثال �صاحبه احلقيقي، وقدمه ،وبعد دقيقة �سقط � ً
بومباي ماجنو�س ،متزقت مالب�سه البي�ضاء وا�ستحالت حمراء من دمائه
328
املتدفقة ،وج�سده لي�س فيه مو�ضع �شرب لي�س به طعنة ،ت�سربت الدماء من
مذهول ،غري م�صدق، ً كل �أع�ضائه بغزارة وبال توقف ،ووقف بروتو�س
متعر ًقا ،مذبذ ًبا ،م�شتتًا ،هرب جميع القتلة �إال بروتو�س وكا�سيو�س ،ظل
ً
م�شلول واق ًفا يرمق قي�صر الذي يتلوى � ً
أر�ضا ،قال كا�سيو�س يف �أذنه:
--هيا ،حرر روما �إىل الأبد.
اقرتب بروتو�س ب�أقدام ترف�ض �أن تن�صاع للأوامر ،انحنى �إىل قي�صر
املتخبط يف دمائه ،اقرتب منه ،رمقه قي�صر وهم�س« :بروتو�س ،النجدة».
ص ع
تردد للحظة ترتع�ش فيها يداه� ،أنامله ،جل �أع�ضائه ،رمق قي�صر
329
()3
التحالف الأخري
()1
44ق.م
روما...
ص ع
بعد اغتيال غايو�س يوليو�س قي�صر انت�شر الهرج واملرج يف املدينة،
ر ش
والتوزي
بالذهول عند �سماع اخلرب الذي تطاير يف الأرجاء ب�سرعة مفزعة ،ابن
ع
فينو�س حفيد �إينيا�س البطل قد مت اغتياله ب�شرا�سة وبال رحمة ،باثنتني
وع�شرين طعنة غادرة اخرتقت ج�سده بال هوادة ،يف الليل كان بهو
القاعة �أ�س َود ك�أنه حفرة من حفر اجلحيم ال�سبع ،وبهدوء كاملياه الراكدة
ت�سلل �سكار مع جمموعة من �أن�صار قي�صر ،كانت دما�ؤه على الأر�ض
متجلطة ،عيناه مفتوحتني متل�ؤهما الكلمات والطموح ،كان ي�أمل �أن يك ِّون
�إمرباطورية عظيمة كما فعلها �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س ،رمق �سكار جثته
وفا�ض الدمع من عينيه ،كان يريد �أن يحت�ضنه� ،أن يقبله بني حاجبيه
ويتمتم يف �آذانه الن�صو�ص واملتون ،حملوا ج�سده املليء بالطعنات وو�ضعوه
على عربة وبخطوات حذرة حتركوا به يف جوف الليل �إىل بيت زوجته
كالبورنيا.
يف النهاية مل يبقَ �شيء لها �إال الدماء والدموع ،وب�أنامل ترتع�ش مل�ست
جبينه ووجنتيه ،والدموع يف عينيها تنهمر بال ا�ستئذان ،ظلت طوال
حياتها يف انتظاره ،لكن الآن ي�ستحيل من انتظار حمفوف بالأمل �إىل نوع
332
�آخر من االنتظار ،وهو انتظار بال حلظة �أمل ،انتظار تعرف �أنه �سوف
يكون �سرمد ًّيا �إىل النهاية ،هي لن تتزوج بعد قي�صر �أبدً ا ،وبالرغم من
�أنها كانت �صغرية مل تبلغ العقد الثالث بعد ،وجميلة كحوريات البحر،
ف�إنها �أق�سمت �أال يلم�سها رجل بعد قي�صر ،و�سيكون عليها االنتظار للحياة
الأخرى ،رمبا يكون بينهم لقاء �آخر وبال معيق �أو حزن هذه املرة.
هبطت �إىل جبينه وطبعت قبلة بني جبينه ،قبله �أخرية ،لآخر مرة
تتح�س�س فيها ب�شرة قي�صر ب�شفتيها الورديتني ،ولآخر مرة تداعب
خ�صالته ب�أناملها ،لقد وقع الأمر ،وال فرار ،هذا العذاب اجلارح ،يف
والتوز عي
فعليها �أن تنهي حياتها الآن ،وبال تردد.
كان متهدج الأنفا�س يتعرق ك�أن مياه الأنهار ت�سري بني م�ساماته ،تائ ًها
يف الال�شيء يرتع�ش ك�أنه طفل �صغري ،حاول قتلة قي�صر الق�ضاء عليه
ولكنه ا�ستطاع �أن يلوذ بالفرار ،ظل يرك�ض يف �شوارع املدينة بال هدف،
مفزوعا ،خائ ًفا ،يلفحه الندم وجلد الذات ،لقد مات قي�صر� ،أعظم رجل ً
يف روما و�إمرباطور العامل اجلديد ،كيف؟ كيف ا�ستطاعوا فعل هذا الأمر
ال�شنيع؟ كيف ميوت قي�صر وهو موجود؟ �سوف يق�ضي عليهم جمي ًعا،
كانت الأفكار ت�صدح يف ر�أ�سه بال توقف ،ت�صيبه بالتعب و�أمل الر�أ�س،
اجته مارك �أنتوين �إىل بيت �آ ْت َيا بال تردد ،بالت�أكيد �آل جويل يف خطر
عارما كالفي�ضان، الآن� ،س َّبب اغتيال قي�صر �صدمة لدى اجلميع ،وحز ًنا ً
أر�ضا يرتع�ش ،كان ملي ًئا بالعرق والتعب والأوجاع، دخل بيت �آ ْت َيا و�سقط � ً
حملته �آ ْت َيا وجاء اخلدم ب�إناء من املاء ،غ�سل وجهه و�صب على ج�سده املاء
لعله يفيق من هذا الكابو�س املزعج ،لكن ،ال فائدة ،قالت له �آ ْت َيا:
333
--اهد�أ ،مارك �أنتوين.
مكتوما و�صاح:
ً ً
�صراخا �أطلق
--لقد قتلوه ،قتلوا قي�صر يا �آ ْت َيا ،عليهم لعنة الآلهة ،بروتو�س اللعني
وكا�سيو�س ،لن �أرحمهم �أبدً ا� ،س�أعلقهم على ال�صليب واحدً ا تلو
الآخر.
احت�ضنته �آ ْت َيا وقالت:
--اهد�أ ،دعنا نفكر فيما �سوف نفعله.
ر ش
والتوزي
ملاذا؟ لقد ملك قي�صر حب النا�س ،العامة وبع�ض من دعم النبالء ،كان
ع
رجل وقائدً ا منا�س ًبا ليكون مل ًكا وميلك كل املقومات ليكون �إمرباطو ًرا، ً
تلك امل�ؤامرة الدنيئة التي حيكت لقي�صر ووقع هو يف �شباكها ك�أنه ِغ ٌّر،
يبك ،ومل تنهمر كيف لعقل مثل عقل قي�صر �أن يقع يف تلك املكيدة؟ مل ِ
من عينيه دمعة واحدة �س�أل �أوكتافيو�س:
--و�أين القتلة الآن؟
التقط مارك �أنتوين �أنفا�سه وقال:
--فروا عليهم اللعنة.
--وجثة قي�صر؟
--عند زوجته كالبورنيا ،ذهب �سكار و�أح�ضرها من هناك.
نظرت �آ ْت َيا �إىل �أوكتافيو�س وقالت يف حدة:
--كفاك �إلقا ًء للأ�سئلة� ،أل�ست حزي ًنا على قي�صر؟
--لن ينفعنا احلزن الآن ،علينا �أن نفكر ما اخلطوة التالية.
334
قال مارك �أنتوين بكلمات تخرج من حتت ال�ضرو�س ويف طياتها
الغ�ضب ال�شديد والدفني:
�--سوف �أذهب �إىل ال�شمال ول�سوف �أح�ضر ً
وحو�شا ت�أكل بني �أ�سنانها
حلوم بروتو�س وكا�سيو�س وتفتك بعظامهم ،و�أق�سم �أنني �سوف
�أ�سلخهم واحدً ا تلو الآخر.
الأخذ بالث�أر هذا �شيء �أكيد ،ولكن يف الوقت املنا�سب ،هذا لي�س وقتًا
منا�س ًبا التخاذ قرار �أهوج ومت�سرع كهذا.
ص ع
علي الأوامر؟
قال يف غ�ضب :هل جننت يا فتى ،هل متلي َّ
والتوز عي
رثاء منا�سبة ،على ال�شعب �أن يحزن على قي�صر كما تفعل �أنت الآن،
افعل هذا ثم ا�س َع وراء االنتقام كما ت�شاء ،و�أنا معك يف هذا بكل
ت�أكيد.
قليل ،كان الفتى حم ًّقا يف كل ما نطق به ،علىهد�أ ر َّوع مارك �أنتوين ً
قي�صر �أن يحظى مبرا�سم منا�سبة ،و�أن ُترق جثته �أمام املجل�س الذي
قتل فيه ليكون ت�شريفه نكاية لأعدائه ،على ال�شعب �أن يعرف �أن قي�صر
العظيم مات غد ًرا وفدا َء �شيءٍ �أعظم و�أكرب وهو روما .كان ً
مت�سخا ومتع ًبا،
نقع نف�سه يف حو�ض املاء الدافئ ،وال �شعور ًّيا تدفقت الدماء بني عروقه
برحابة ،مل يكن هناك وقت لال�سرتخاء ،خرج وارتدى مالب�س منا�سبة
واجته هو و�آ ْت َيا و�أوكتافيو�س و�أوكتافيا �إىل بيت كالبورنيا املكلل بالأحزان،
دخلوا وكانت كالبورنيا تبكي ،مل جتف من عيونها الدموع ،وكان قي�صر
على املن�ضدة ،بال نب�ض ،بال حراك ،بال �أمل يف العودة ،اقرتب مارك
�أنتوين منه ،ورمقه بنظرة طويلة ،ثم انكف�أ على ركبتيه وقال ببكاء مكتوم:
335
�--ساحمني �أيها القن�صل� ،ساحمني يا قي�صر ،لو كنت موجودًا حينها
لكنت �س�أحميك بنف�سي وبكل ما �أملك من قوة ،و�أُق�سم بجوبيرت
وجميع الآلهة �أنني ل�سوف �أحظى بث�أرك� ،سوف �أقتلهم جمي ًعا
ول�سوف �أعطيك الراحة الأبدية يف احلياة الأخرى.
اقرتبت �آ ْت َيا من جثة قي�صر واحت�ضنتها بحزن �آ�سر وبال كلمات،
وظل �أوكتافيان و�أوكتافيا يراقبان يف �صمت و�أ�ضواء ال�شموع ترتع�ش على
احلوائط ،دخل �سكار عليهم ،تنحنح فانتبه له اجلميع ،فقال:
ع
--لقد مات اليوم �أعظم الرجال التي قد عرفتها ً
يوما.
ن
ر ش
والتوزي
انتاب اجلميع الف�ضول ملا حتتويه تلك الو�صية ،فقال مارك �أنتوين:
ص ع
كل فرد من ال�شعب مائة دينار ،وتلك هي و�صيتي وكلماتي الأخرية،
والتوز عي
--هذا فقط؟
�أردف �سكار :نعم� ،سيدي القن�صل.
كان مارك �أنتوين ينتظر �أن ُينطق ا�سمه يف و�صية قي�صر ،لكن مل
تلميحا ،كان يعتقد �أنه �إن كان الرجل الذي يحدث �شيء من هذا وال حتى ً
يلي قي�صر يف ال�سيا�سة� ،سيكون له ن�صي ًبا من ثروة قي�صر ،ولكن �آماله
يبد لهم هذا.
منزعجا ولكن مل ِ
ً قد حتطمت بكلمات قي�صر الأخرية ،وكان
�س�ألت �آ ْت َيا :ما معنى هذا؟
�أجاب �سكار :معنى هذا �أن �أوكتافيو�س ال�صغري �أ�صبح وريث قي�صر
ال�شرعي ،يحق له الت�صرف يف كل �شيء كان ميتلكه قي�صر� ،أمواله
وعقاراته ،وللأ�سف قد مت ترحيل فيالقه �إال من بع�ض الأحزاب القي�صرية،
واجلنود املوالني لقي�صر حتى النخاع ،با�ستطاعته �أن يعطي لهم الأوامر
الآن.
337
قال مارك �أنتوين:
--ا�سمعني يا �سكار ،هنالك بند يف الو�صية يقول فيه �إن كل مواطن
روماين �سوف يح�صل على مائة دينار� ،صحيح؟
�--صحيح� ،سيدي.
--علينا ت�أجيل هذا البند حلني �آخر.
قال �أوكتافيو�س:
--ملاذا؟ �إنها و�صية قي�صر.
ل ا
أر�ضا بال فائدة ُتذكر.
ع
ال متلك.
من مكان ما بعيد الحت رايات ال�سفينة امللكية ،تقرتب من املرافئ يف
�سرعة وعجالة غري مريحة .خمرت ال�سفن ملرة �أخرية لت�صل �إىل الد�سكار
امللكي� ،شعرت بالراحة �أخ ًريا بعد رحلة مليئة بالقلق� .إن موت يوليو�س
قي�صر �سبب لها فاجعة غري متوقعة� ،أ�صابها الهلع للحظة وا�ستقلت
�سفنها ومعها ابنها قي�صرون واجتهت �إىل الإ�سكندرية فو ًرا ،كان �أمامها
حل ًما ب�أن حتكم العامل مع قي�صر ولكنه الآن تبدد ،ولكن الأمر خمتلف
قليل عن ذي قبل ،فالآن لديها قي�صرون ابن قي�صر ومن دمه ،وبالرغم ً
من عدم اعرتاف القانون الروماين به و�أنه جمرد نغل ولي�س اب ًنا �شرع ًّيا،
ف�إنه ال يزال الآن ملك م�صر و�سوف جتد طريقة ما ليعرتف القانون
بقي�صرون كابن �شرعي لقي�صر ،يرثه ويرث كل ما تركه ،كان الق�صر
339
امللكي هاد ًئا ،جل�ست على عر�شها الذهبي يف منت�صف القاعة الكبرية،
�ساعدها ويدُها اليمنى القائد رابو�س ،انحنى ثم قال:
تقدم �إليها ِ
--جاللتك.
�أ�صبح الآن رابو�س �ساعد امللكة واليد اليمنى كما وعدته �إن فازت
بالعر�ش ،تفح�صت عيناها �ساحة العر�ش تبحث عنه ،مل يكن موجودًا ومل
تكن تلك عادته ،ف�س�ألت:
�--أين احلكيم هيليو�س؟
ع
--ماذا هناك �أيها القائد رابو�س؟
قال:
--منذ فرتة �أ�صابه مر�ض �ألزمه الفرا�ش ،ثم �أ�صابته احلمى ل�شهرين،
والآن يقول الأطباء...
ثم توقف للحظة مرتددًا ال يعرف ماذا �سوف يقول فيها ،ا�ستطرد يف
� ًأ�سى:
--يقول الأطباء �إنها جمرد �أيام ورمبا �ساعات.
ح�ضرت الآن ،كان يبتهل للإله لرياك قبل
ِ ثم �أ�ضاف :من اجليد �أنك
رحيله.
مل ت�ستوعب كليوباترا ما يقوله رابو�س ،هي تفقد كل من حتبهم
واحدً ا تلو الآخرُ ،قتل حوررب ،وغادرت �آ�سيا حزينة �إىل اجلنوب ،والآن
340
احلكيم �ألك�سندر هيليو�س ،كان نائ ًما على �سريره� ،شاحب الوجه ،منطفئ
العينني ،كان يف حالة يرثى لها ،نه�ش املر�ض ج�سده يف الفرتة التي ق�ضتها
كليوباترا يف روما ،اقرتبت منه يف خطوات مرتددة ،تقدِّ م خطوة وت�ؤخر
�أخرى ،وك�أنها تريد ت�أخري �شيء هو ال حمالة قادم ،اقرتبت ومل�ست يدُها
�أنامله ،وب�صعوبة بالغة فتح عينيه ،حاول احلركة واالعتدال من مو�ضعه
ولكن ج�سده مل ي�ساعده ،فقالت كليوباترا:
--ال ،ا�س ِرتح.
ع
ابت�سم احلكيم وتنهد ،دخل الهواء �إىل �صدره وخرج كخرير الرياح
ر ش
والتوز عي
�أن �أموت.
دموعا تكاد �أن تنفلت وقالت:
حب�ست كليوباترا ً
�--أرجوك ال تقل هذا� ،سوف تكون بخري.
جاللتك� ،أنت فقط مل تكوين ملكتي و�أمريتي ،بل كنت ِ --ا�سمعيني
كابنتي ،وكنتُ �أعاملك على هذا الأ�سا�س� ،أحببتك �أكرث من �أي
�شيء �آخر يف هذه احلياة ،مل ترزقني الآلهة بالأوالد ولكن رزقتني
ل�ست
أنك ِعو�ضا عن ذلك ،وكان هذا كاف ًيا ،والآن �أرحل و�أ�شعر � ِبك ً
بحاجة يل ،ترمقني الآن عني حزينة ،ملاذا عيناك حزينتان يا ابنتي؟
أنت ابنة �إيزي�س ،امللكة ال�شرعية لذلك العر�ش ،رمبا
تن�سي دائ ًماِ � ،
ال َ
حولك بال تردد ،حتميكمعك ،حتوم ِ �أغادر بج�سدي ولكن روحي ِ
معك يف كل وقت. وت�صلي للآلهة وتبتهل لتكون ِ
تبك من قبل ،انفلتت من عينيها دموع غزيرة بكت كليوباترا كما مل ِ
لي�س لها مانع الآن� ،شدت على يده بقوة وهي تقول:
341
�--أرجوك ،ال ترتكني الآن� ،أنا ما زلت بحاجة �إليك ،ال �أ�ستطيع فعل
�شيء من دونك ،لقد �صمدتُ كل هذه ال�سنوات بف�ضلك �أنت ،بف�ضل
م�شورتك ،بف�ضل حبك ،مل يحبني �أحد ب�صدق مثلما فعلت �أنت حتى
�أبي مل يحببني كما فعلت �أنت� ،أنت كل ما �أملك الآن فال ترحل ،ال
ترتكني وحيدة و�سط هذه الأمواج العاتية.
لأول مرة تبكي كليوباترا بهذا ال�شكل املكلل باحلزن ،لأول مرة ت�شعر
بطعم اخل�سارة املر ،على الرغم من �أنها �أحبت قي�صر ف�إنها مل تذرف
ع
متاما ،لقد كان مربيها منذ
الدموع عليه .احلكيم هيليو�س �شيء خمتلف ً
ع
عاب ًرا ،ودقائق ورمبا حلظات و�سوف ت�ستيقظ ،لكنها تعرف هذا الطعم
جيدً ا ،هذا الطعم ال يكون موجودًا �إال يف احلقيقة واحلياة ،للحزن طعم
مر املذاق ال يتقنه اخليال.
�أمرت كليوباترا بتحنيطه ودفنه يف املقربة امللكية.
«رحل اجلميع ،ويظل احلزن �سرمد ًّيا».
كان م�سا ًء هاد ًئا ،بزغ النهار �صاف ًيا باردًا ،ويف اجلو حزن عابر ،يف
م�سجى على
ال�ساحة الوا�سعة �أمام جمل�س ال�شيوخ كان جثمان قي�صر ًّ
املن�صة �أعلى ال�سلم �أمام املجل�س ومن حتته الق�ش ،وعلى جانبيه وقف
حار�سان ،ووقف ال�شعب يف �صمت مهيب لتوديع الديكتاتور الذي �أحبه
�أكرث من �أي حاكم و�أي جمل�سَ ،ت َّمع كل �أهل روما لت�شييع جثمان غايو�س
342
يوليو�س قي�صر ،خرج مارك �أنتوين ،ومن جواره عائلة قي�صر ،عن ميينه
وقف وريث قي�صر ال�شرعي �أوكتافيان ،وعن �شماله وقفت �آ ْت َيا و�أوكتافيا.
قر�أ مارك �أنتوين و�صية قي�صر على م�سامع ال�شعب �إال من البند الذي يلزم
فيه قي�صر �أن يدفع لكل فرد من ال�شعب مائة دينار ،كان يرى �أنه لي�س من
الوقت املنا�سب ،و�ستكون تلك م�ضيعة كبرية للمال ،ثم بعد ذلك �أ�شار
م�شعل واقرتب به �إىل الق�ش ،فن�شبت النريان �إىل �أحد اجلنود ،ف�أح�ضر ً
بال هوادة يف الق�ش قبل �أن تقرتب من جثمان قي�صر ،ويف حلظات باتت
النريان الب�سيطة نريا ًنا هائلة ،ويف الهواء العا�صف بات الرماد يتطاير،
ص ع
رماد �أعظم رجل يف الدولة الرومانية ،الإمرباطور احلقيقي لروما ،ورمبا
ص ع
طويل ومدبب مما �أعطاه مظه ًرا الئ ًقا ومث ًريا للإعجاب ،ابت�سمت له
ر ش
والتوز عي
--يف احلقيقة �أنا ال �أثق ب�أحد ،وال �أعرفك جيدً ا يا جرنال �أنتوين
لأعطيك تلك الثقة التي تتحدث عنها.
قال :دعيني �أحتدث ب�صراحة� ،أنا � ً
أي�ضا ال �أثق بك ،و�أ�شك يف دعمك
لربوتو�س وكا�سيو�س واجلمهوريني يف اغتيال قي�صر.
�--أنت تتهمني يف امل�شاركة يف اغتيال قي�صر؟
�ألقتها و�ص َّبت ك� َأ�سي نبيذ واقرتبت من مارك �أنتوين .تناول منها
الك�أ�س قبل �أن يقول:
--نعم ،هذا �صحيح.
قالت وهي ُّ
تلف حوله يف دائرة بحركة بطيئة:
--وملاذا �سوف �أفعل هذا بر�أيك؟
--تختلف الدوافع...
345
قاطعته :وما دافعي؟
�صمت ً
قليل ونظر يف عينيها الرماديتني نظرة طويلة فقالت:
--لقد ك َّر�ستُ نف�سي لق�ضيتك ،كنت مولعة بقي�صر ،كنت �س�أكون ملكة
م�صر وروما ،فما الذي يجعلني �أ�ضحي بكل هذا؟
مل ينطق بكلمة ،ف�أكملت بعد �أن احت�ست من ك�أ�س النبيذ:
--لقد �أبحرت على ر�أ�س �أ�سطويل لتقدمي امل�ساعدة ،وها �أنت هنا
ص ع
تتهمني بقتل قي�صر.
ع والتوزي
--م�صر وكليوباترا تتبعان الن�سر �أينما ذهب� ،أنت الآن امل�سيطر على
روما بعد فرار قتلة قي�صر ،ماذا �سوف تفعل؟
�--س�أن�شد االنتقام.
�--سمعت �أن قي�صر قد ترك و�صية� ،صحيح؟
قال مارك �أنتوين :نعم ،هذا �صحيح.
--وهل مت ذكري �أو ذكر ابنه قي�صرون يف تلك الو�صية؟
--ال ،لقد كتب قي�صر و�صيته قبل عبور الريبيكون ،وال ت�أملي �أن ي�صبح
قي�صرون �إمرباطور روما القادم.
ابت�سمت ثم قالت:
--لي�س لدي �أي نية �سيا�سية لهذا.
--وما هي نواياك؟
346
قالت :قي�صرون يقرتب من ثالث ال�سنوات ،ال يعرف �شي ًئا عن والده،
�إنه �صغري جدًّا على �أن يفهم ما حدث هنا يف بالد �أبيه� ،إن ال�شعب ال
يتقبله ويعتربونه جمرد نغل ولي�س اب ًنا �شرع ًّيا لغايو�س يوليو�س قي�صر.
--وماذا تنتظرين من روما؟
اقرتبت منه ً
قليل وقالت:
--ال �أنتظر �شي ًئا من روما ،ولكن �أنتظر الكثري منك.
--وماذا تنتظرين مني؟
ص ع
�--إعال ًنا عا ًّما عن �صفة قي�صرون.
347
ِم َثل يوليو�س قي�صر من قبل ،مارك �أنتوين قد وقع يف �شباك كليوباترا،
ك�أنها �ألقت ال�سحر عليه كما فعلت مع قي�صر ،كان ي�سمع عن ال�سحر
القدمي يف م�صر� ،أما الآن في�شعر به يف �صدره .مل ي�شعر مارك �أنتوين
الفو�ضوي بتلك الفو�ضى بداخله من قبل ،بد�أ �أ�سطولها بالتحرك ومعه
كان يراقب من بعيد ،لقد �سرقت منه �شي ًئا ما ال ي�ستطيع حتديده .كان
لقا ًء �سري ًعا ال يحتمل معاين عميقة ،ولكن هناك �شي ًئا ما ،ي�شعر بهذا يف
داخله؛ ذلك الع�صف الأنثوي العاتي يفتك به فت ًكا ،الآن يرى ملاذا �أحب
قي�صر كليوباترا ،هناك �شيء ما جذاب يف كليوباترا ال ي�ستطيع حتديده،
ريص ع
لقد ر�أى �أجمل منها ،ومل يتعلق ب�إحداهن من قبل� ،أما تلك ف�شيء خمتلف
ريص ع
�صاح بغ�ضب :يريد �إعطاء العامة �أموالهم .لقد انت�شر املنادون يف
والتوز عي
--يا للآلهة! متى؟ �أوكتافيان من فعل هذا؟
--نعم يا �أمي ،لقد فعلتُها.
قالها �أوكتافيان وهو يقرتب.
فعلت هذا �أيها الفتى؟
�صرخ مارك �أنتوين :ملاذا َ
كانت مالحمه هادئة �إىل حد الربود ومل يت�أثر بثورة مارك �أنتوين.
اقرتب و�صب له ك� ًأ�سا من النبيذ ،وهو الذي مل يتجرعه من قبل ،كانت
تلك �أول مرة ،فقال:
--يف احلقيقة ال �أثق فيك ،لقد كنت خائ ًفا من هذا االحتدام بيننا،
�أنت ترف�ض �أن تعطيني �أموال قي�صر ،لذا قد عينت حمام ًيا� ،سوف
ي�ساعدك يف تخطي تلك الأزمات التي متر بها ،من طمع وخيانة.
�أطلق �ضحكة جمنونة عالية و�أردف:
349
--طمع وخيانة .يا للآلهة!
ثم هد�أ وا�ستطرد :ح�س ًنا� .إن �أعطيتك �أموال قي�صر ،فماذا �سوف
تفعل؟
قال بال تردد� :س�أحكم العامل.
�ضحك مارك �أنتوين با�ستهزاء ،فا�ستطرد �أوكتافيو�س:
�--أتعلم ما حتتاجه روما؟ روما حتتاج �إىل �شيء �أكرب و�أعظم ،لي�س
مت�سرعا وغا�ض ًبا مثل ال�شعب ،روما
ً جبا ًنا ك�شيوخ املجل�س ،ولي�س
ص ع
حتتاج �إىل قائد ،و�أنت �أبعد ما يكون عن هذا القائد.
ع
--ح�س ًنا �أيها القائد� ،أرين كيف �ستعطي العامة �أموالهم� ،أُق�سم بجميع
فل�سا واحدً ا من �أموال قي�صر.
الآلهة �أنني لن �أعطيك ً
ابت�سم �أوكتافيو�س و�أردف:
--لقد �أعطيت العامة �أموالهم بالفعل ،لن �أنتظر حتى تعطيني �أموايل،
بحق الو�صية التي تركها قي�صر �أنا الوريث ال�شرعي لأمواله وعقاراته،
واقرت�ضتُ على هذا الأ�سا�س � ً
أموال من الدولة.
يبدو �أن مارك �أنتوين ا�ستخف بهذا الفتى يف النهاية ،قال بغ�ضب
وكلمات تخرج من حتت ال�ضرو�س� :أتتحداين؟
--ال �أحتداك ،لأنني ال �أراك.
فارت الدماء يف عروق مارك �أنتوين و�أ�شهر خنج ًرا واندفع نحو
�أوكتافيو�س و�ضع اخلنجر على رقبته وقال بغ�ضب �شديد« :احذر مني يا
فتى ،احذر مني».
350
متنى لو جز عنقه يف تلك اللحظة ،و�أطفا اللهيب الذي ا�شتعل بداخله
وال ينطفئ ،حافظ �أوكتافيو�س على هدوئه وثباته ،اقرتبت منه �آ ْت َيا
و�صرخت يف رجاء:
�--أرجوك يا مارك �أنتوين ،ابتعد عنه� ،إنه �صغري ال يدري ماذا يفعل.
�أبعد اخلنجر من فوق رقبته ،ولإطفاء غ�ضبه اكتفى بجرحه يف خده،
انبثقت الدماء من وجه �أوكتافيان وهو يف هدوء يثري الغرابة .غادر مارك
�أنتوين يف غ�ضب ،طلبت �آ ْت َيا ح�ضور الطبيب يف احلال ،يف هذه اللحظة
ع
علم �أوكتافيو�س عدوه احلقيقي ،وعلم �أنه لن ي�ستطيع �أن ي�سرتد �أمواله
مقاطعة بيثينيا.
كان مرتب ًكا ،ي�شعر بالقلق واخلوف والقليل من الفخر امل�شوب بال�شك،
كانت طعنته هي الطعنة القاتلة لقي�صر ،هو يعرف قي�صر جيدً ا ،قي�صر
351
لن ميوت بطعنة عدو� ،إن مات قي�صر ف�سيموت من طعنة �صديق ،هكذا
قال له يف يوم من الأيام .تدور الكلمات بر�أ�سه يف دوائر �سرمدية ت�أبى
التبدد ،كيف هو ال�سبيل �إىل اخلال�ص؟ وهل اخلو�ض يف غمار اخلطيئة
يعترب طري ًقا ً
طويل للغفران؟
«لقد مات الطاغية».
هكذا قال لنف�سه� ،إذن فلماذا ي�شعر باخل�سة واجلنب والنذالة ،بال
�شك هو بطل جمهوري نبيل ،ن�صر اجلمهورية وقهر الديكتاتورية ،ك�سبت
ع
روما لكنه خ�سر خ�سارة فادحة ،خ�سر نف�سه وخ�سر قي�صر ،ولكن لي�س
ت
داع للت�أنيب َ
هناك ٍ
ر ش
والتوزي
القلقُ �صدره على الرغم من العفو العام الذي مت �إ�صداره من جمل�س
ع
ال�شيوخ.
ا�ستطاع بروتو�س وكا�سيو�س ال�سيطرة على مقاطعة بيثينيا ،وا�ستغالل
�أن بروتو�س ما زال �إىل الآن يعترب �سيناتو ًرا يف جمل�س ال�شيوخ ،وا�ستطاعوا
مب�ساعدة ملك بيثينيا و�أثريائها �شرا َء فيالق ورجال ،وال�سيطر َة على
املقاطعات املجاورة ،منها باتارا ولي�سيا.
تَف َّقد كا�سيو�س �أحوال الفيالق وذهب �إىل بروتو�س يف خمدعه ،نظر
بروتو�س �إليه نظرة طويلة ،فقال كا�سيو�س:
--كيف حالك يا �أخي؟
--ماذا تظن؟
قال كا�سيو�س :ملاذا �أراك متجه ًما يا بروتو�س؟
--نحن ملعونون يا كا�سيو�س
--ال ،ل�سنا كذلك.
352
عيني قبل موته ،لقد �سمعت كل الكلمات قال بروتو�س :لقد نظر يف َّ
التي كان يود �أن ينطق بها ،كان يريد �أن يقول يل :ملاذا؟ ملاذا يا بني؟
�أُق�سم �أنه كان يريد �أن ي�صرخ بها يف وجهي يا كا�سيو�س ،كان يظن �أنني
و�سالما� ،إال
ً �سوف �أفديه بنف�سي عندما اقرتبت منه ،ر�أيت يف عينيه دف ًئا
يوما� ،أنا االبن الذي �أنني طعنته غد ًرا ،للأ�سف مل �أكن االبن الذي متناه ً
طعن والده يف ظهره يا كا�سيو�س� ،أنا خائن ،جبان ،رعديد ،كان يحبني
كابن له ،كان ي�شعرين بالأمان ،ال �أدري �أين كان عقلي و�أنا �أغمد اخلنجر
الذي �أهداه يل يف �صدره.
والتوز عي
والندم والدموع والأوجاع� ،صاح فيه كا�سيو�س:
--لقد مات قي�صر يا بروتو�س.
--قي�صر يطاردين يا كا�سيو�س ،يطاردين يف �أحالمي ،يف نومي
وا�ستيقاظي ،لقد قت ْلنا ً
رجل �شري ًفا يا كا�سيو�س.
قال كا�سيو�س :قي�صر كان ديكتاتو ًرا يا بروتو�س� ،أتعلم ماذا فعلنا؟
لقد ن�صرنا اجلمهورية ،نحن �أبطال و ِفع ُلنا كان ً
فعل بطول ًّيا.
فعل دني ًئا ال يفعله �إال جبناءمدن�سا باخلطيئةً ، فعل ً --ال ،لقد كان ً
وخونة.
--ال يهم ما تراه الآن ،دعنا نواجه الواقع ،ما حدث قد حدث� ،إن كنت
ترى الأمر بطول ًّيا �أو �إن كنت تراه دني ًئا ،فدعنا نفكر يف اخلطوة
التالية.
�س�أل بروتو�س :ما و�ضعنا احلايل؟
353
--لقد فر�ضنا ال�سيطرة على املقاطعات املجاورة .يزداد عدد الفيالق
يوما بعد يوم.
ً
--كم فيل ًقا حتى الآن؟
--ت�سعة فيالق ،خم�سون �سفينة ،ع�شرون �ألف رجل من امل�شاة وع�شرة
�آالف من الرماة ،و�ألفان من البحارة.
--هل �سيكون هذا كاف ًيا؟
قال كا�سيو�س :نعم� ،سيكون هذا كاف ًيا جدًّا للعودة �إىل روما.
ع
قالها ثم ر َّبت على كتفه بابت�سامة ي�أمل �أن يطمئن بها قلب بروتو�س.
354
تناول �سي�سرو ك�أ�س النبيذ ورمق مارك �أنتوين بنظرة �شك و�أردف:
--ماذا هناك �أيها القن�صل؟
ابت�سم مارك �أنتوين وقال:
--كيف حال املجل�س الآن يا �سي�سرو؟
--بخري.
�--أثق �أنك �سوف تقود املجل�س قيادة ح�سنة.
ريص ع
قال �سي�سرو بابت�سامة� :شك ًرا� ،أيها القن�صل.
ر ش
ع والتوزي
كان �سي�سرو خائ ًفا ،وتهديدات مارك �أنتوين كافية ليعيد النظر يف
ر�أيه قال:
--ح�س ًنا ،دعني �أرى ماذا �أ�ستطيع �أن �أفعل.
قال بابت�سامة :كنت �أعلم �أنك عاقل يا �سي�سرو.
خرج �سي�سرو من عند مارك �أنتوين متجه ًما وم�ستا ًء ب�شدة ،كان يتمنى
لو غمد خنج ًرا يف م�ؤخرة هذا ال�سافل املتطاول ،كان ي�شعر بالغ�ضب
العارم ،ويف حلظة اقرتب منه ثالث رجال ،وو�ضع �أحدهم خنج ًرا على
رقبته ،وقال �آخر:
َ --
تعال معنا دون جلبة.
قال �سي�سرو يف تردد :ح�س ًنا ح�س ًنا� ،أرجوك� ،سوف �أفعل ما ت�أمر.
ثم و�ضع الرجل الثالث غمامة على عينيه وو�ضعوه يف عربة ،وحتركت
العربة �سري ًعا حني لفح الرجل احل�صان بال�سوط ،كان �أغلب الظن �أن
356
هذه الأفعال من مارك �أنتوين ،ولكن ملاذا؟ ومل يتحدث الرجال ولو كلمة
حتى يتنب�أ من وراء هذا الفعل الدينء ،بعد �ساعة توقفت العربة وحتركوا
مريحا �إىل حدٍّ
به مغم�ض العينني حتى �أجل�سوه على مقعد ،كان مقعدً ا ً
ما ،وبعد حلظة �أزيحت الغمامة من على عينيه ،فتح عينيه ببطء ،كان
بني ال�شعر ،لون عينيه �أ�س َود منطفئ، يجل�س �أمامه �شاب يف عقده الثاينُّ ،
متو�سط الطول ،كان �سي�سرو مرتب ًكا ،ال يعرف هذا ال�شاب ،وال يعرف
ماذا يريد ،اقرتب منه هذا ال�شاب و�صب له ك� ًأ�سا من النبيذ وقال:
�--أعتذر على تلك الطريقة التي ح�ضرت بها �أيها ال�سيناتور.
ع
قليل وقال :يف احلقيقة ال �أعرف.فكر �سي�سرو ً
ت
ن ل بل
--كيف �سيقدم �سيدك امل�ساعدة؟
ر ش
والتوزي
قال �أغريبا :لديكم م�صلحة م�شرتكة� ،أو بالأحرى حتا ُلف م�شرتك.
358
�--أوكتافيو�س .وريث قي�صر؟
--بلى� ،سيدي ال�سيناتور.
قال �سي�سرو :كيف �سيقدم ذلك ال�صبي امل�ساعدة يل؟
�--سيدي لي�س �صب ًّيا �أيها ال�سيناتور� ،أوكتافيو�س رجل عظيم مل �أ َر
جي�شا كب ًريا ،وهناك جنود مثيل يف فل�سفته وحكمته ،لقد جمع ً له ً
قدامى و�أحزاب قي�صرية حتت �أمره.
--جي�ش .هل الرجال يتبعون �أوكتافيو�س �صاحب الت�سعة ع�شر ً
عاما؟
359
--وبعد ذلك؟
�--أترك الأمر ل�سيدي بعد ذلك.
--قال �سي�سرو بقلق :هذا �أمر خطري� ،إن ف�شل...
--قاطعه �أغريبا :ال ،لن يف�شل.
--ابت�سم �سي�سرو وقال :ح�س ًنا� ،أنا موافق.
--جيد ،هناك � ً
أي�ضا �شيء �آخر.
--ماذا؟
--يريد �سيدي �أوكتافيو�س �أن تدعمه عند جمل�س ال�شيوخ.
ر ش
والتوزي
--يف ماذا؟
ع
قال �أغريبا� :سيدي له ا�سرتاتيجية خمتلفة عن اجلميع ،وله كل
املقومات التي يتمتع بها القائد؛ ذكي ،فيل�سوف ،حمارب ،ملهم ،وقيادي،
وو�سيم.
عقد حاجبيه وقال :و�سيم؟
--نعم ،و�سيم.
--ح�س ًنا� ،سوف �أنظر يف الأمر.
قالها �سي�سرو وكل ما يفكر فيه الآن التخل�ص من مارك �أنتوين� ،إن
جنح ما مت التخطيط له ،ف�سوف ينتهي ما ي�سمى مباركو�س �أنطونيو�س
�إىل الأبد ،و�ستنعم روما �أخ ًريا بال�سالم واال�ستقرار.
360
()2
ريص ع
كل اجلال�سني من �شيوخ املجل�س:
بل
ر ش ن ل
مارك �أنتوين ح�صا ًرا ع�سكر ًّيا حول مدينة ميوتنا وفورم غالورم ،يا
والتوز عي
لها من كارثة! �إنها كارثة مبعنى الكلمة ،و�أنا مواطن روماين ولن
�أ�صمت على هذه املهزلة ،لقد �أر�سلت قوات ع�سكرية بقيادة القادة
هريتو�س وبان�سا لردع هذا املتطاول ،الآن اخلال�ص �سوف ي�أتي� ،سوف
ي�أتي مب�ساعدة �أوكتافيان قي�صر� ،شاب ميتلئ باحلما�س والقوة ،لي�س
لدينا �أي مثال �أكرث ت�أل ًقا عن التقوى التقليدية بني �شبابنا �إال ويتم
ذكر �أوكتافيو�س وريث قي�صر ،هو ي�ساند اجلمهورية بكل ما �أوتي
من قوة� ،سوف ين�ضم �إلينا يف حربنا بفيالقه لن�سحق اخلائن مارك
�أنتوين.
�ألهبت خطبة �سي�سرو الدماء يف عروق ال�شيوخ ،وترددت خطبته
يف ال�ساحات والأ�سواق على م�سامع العامة ،يف هذه الأثناء كانت قوات
ماركو�س �أنطونيو�س تعاين ،هجم عليه هريتو�س وبان�سا بقوات املجل�س
من اخللف ومن الأمام اندفعت قوات قي�صرية بقيادة ماركو�س �أغريبا،
قائد قوات �أوكتافيو�س قي�صر ،وكان الن�صر للقوات القي�صرية ،وانهزمت
361
قوات مارك �أنتوين الع�سكرية ،جمع بقايا رجاله وفر �إىل ال�شمال القار�ص،
�أ�س�س ماركو�س مع�سك ًرا يف اجلبل ومترت�س فيه قبل الهطول الأول للثلوج،
كان ينوي �أن يجمع �شتات جنوده ويعود بهم يف الربيع ،حيث �سي�ستطيع
منهزما ويكره �أن ي�ست�سلم
ً �أن يجمع قوات �أكرث والعودة بها �إىل روما ،كان
ً
�شروطا ،فهو يرى �أنه تَل َّقى هزمية �ساحقة من فتًى كان ي�ستطيع �أو يقدم
�سحقه بيديه املجردتني بالأم�س ،والآن هذا الفتى قد هزمه �شر هزمية.
تطاير خرب هزمية مارك �أنتوين من الغال �إىل روما �سري ًعا ،مل يكن
ع
يت�صور �أحد �أن �أوكتافيو�س ال�صغري �سوف يتغلب على اجلرنال ماركو�س
ر ش
والتوزي
وبان�سا ،وا�ستطاع �أن يجمع بني قواته القي�صرية وقوات هريتو�س وبان�سا
ع
يف �صفوف واحدة حتت لوائه ،عاد �أغريبا بالقوات بعد املعركة �إىل مع�سكر
�أوكتافيو�س ،ما �أ�شبه اليوم بالبارحة ح ًّقا .وما �أ�شبه �أوكتافيو�س بقي�صر.
ك�أن الزمان يعيد نف�سه ،ولكن يف تلك املرة كان �أوكتافيو�س �أذكى من
قي�صر ،و�سيا�س ًّيا �أكرث منه ع�سكر ًّيا ،قال له �أغريبا:
--ماذا �سوف تفعل يا �أوكتافيو�س بعد الن�صر يف ميوتنا؟
كان هاد ًئا كما العادة ،هدو ًءا يقرتب من الربود ،نظر له �أوكتافيان
وقال:
--ما ر�أيك يا �صديقي �أغريبا؟
قال �أغريبا :العودة �إىل روما؟
�صحيحا.
ً --نعم ،يبدو هذا
--ولكن هل �سيتبعك اجلنود؟
362
�--سيفعلون ،كما فعلوا مع �أبي ،فقط يحتاجون �إىل خطبة تلهمهم.
انت�صب وخرج من خمدعه� ،أدى اجلنود التحية الع�سكرية وا�صطفوا
يف نظام ،ركب �صهوة ح�صانه يف خفة ،رمق �صفوف جنوده و�صاح ب�صوت
قوي:
�--أيها اجلنود ،لقد قمنا بعمل رائع اليوم ،اليوم انك�سر مارك �أنتوين
�إىل الأبد ،وف َّر كاجلبان �إىل ال�شمال ،يقولون �إن اجلنود ال ُيذكرون يف
التاريخ وال يكون ذكر �إال للملوك ،واليوم �أنا جندي معكم ،ما فعلناه
ع
اليوم عظيم ،لقد �أنقذنا اجلمهورية من �أيادي قذرة مثل ماركو�س
ر ش
والتوز عي
عليهم� ،سوف نتجه جنو ًبا �صوب روما ،دعونا نطهر روما من الآثام
ونتجه نحو اخلال�ص الأبدي ،فهل �أنتم معي؟
رددوا :يحيا قي�صر ،يحيا قي�صر.
عاما ،ف�إنه اكت�سب احرتامعلى الرغم من �سنه ال�صغرية؛ ت�سعة ع�شر ً
الرجال ووفاءهم ،كان يبدو واث ًقا من نف�سه �إىل �أبعد حد ،هاد ًئا ،ومتز ًنا،
غري فو�ضوي ومنظ ًما ،كان ميلك العديد من ال�صفات التي ت�ؤهله �أن يكون
قائدً ا.
حتركت اجلحافل جنو ًبا �صوب روما ،ومترت�س عند احلدود الرومانية
ومل ي�ش�أ الدخول �إىل روما بقوات ع�سكرية بغتة ،كان �أذكى من هذا ،وكان
عن�صر املفاج�أة �سلب ًّيا يف تلك احلالة ،و�أر�سل �صديقه �أغريبا لي�ستدعي
�سي�سرو ،وبعدها ب�أيام ح�ضر �سي�سرو �إليه.
�صب اخلادم ك� َأ�سي نبيذ وان�سحب ،جل�س �سي�سرو �أمام �أوكتافيو�س،
ذلك ال�صبي الذي يلقبه عامة روما الآن بـ «ديفو�س قي�صر» ،ويعني قي�صر
363
الإله �أو �شبح قي�صر .كان فتًى هاد ًئا وودي ًعا بعيدً ا ً
متاما عن و�صفه ك�إله �أو
�شبح ،نظر له �سي�سرو وقال:
--كان ن�ص ًرا رائ ًعا يف ميوتنا.
ابت�سم �أوكتافيو�س وقال:
�--شك ًرا لك �أيها ال�سيناتور ،عزائي ال�شديد يف هريتو�س وبان�سا.
--نعم ،كانوا ً
رجال جيدين.
ثم �أ�ضاف �سي�سرو:
ك
نت لك جدًّا ،لقد خل�صتني من كابو�س
ر ش
والتوزي
قال �أوكتافيو�س� :آمل �أن يكون الأمر كاف ًيا �أيها ال�سيناتور.
ع
توقف �سي�سرو عند كلمات �أوكتافيو�س ،كانت كلمة ت�ستدعي التفكري،
وت�ساءل يف �شك:
--كاف ًيا! ...لأي �أمر؟
طاملا كان �سي�سرو ي�ؤمن �أن ال �شيء جماين ،لقد قدم �أوكتافيو�س خدمة
�إليه ،ولكن كان ي�شعر بالتوج�س من مطالب �أوكتافيان املجهولة ،هو يعلم
�أن الدماء التي ت�سري بني عروقه لي�ست دما ًء عادية ،والدماء القي�صرية
دائ ًما ما تطلب املزيد من ال�سلطة والقوة.
قال �أوكتافيان:
�--سيدي ال�سيناتور� ،أعرفك جيدً ا منذ ال�صغر� ،سي�سرو �أغنى الرجال
يف روما على الإطالق ،ذكي ،طموح ،متقلب ،وانتهازي �إىل �أبعد
احلدود� .أنت يا �سيدي ا�ستطعت البقاء يف كل الع�صور التي َف َق َد
364
فيها الآالف حياتهم ،ع�صر �سوال ،ثم بومبايو�س ،ثم قي�صر ،ع�صور
متتلئ بالنزاعات واحلروب الأهلية ،ال ي�ستطيع فعل هذا �إال متملق
ي�ستطيع �أن يغري لونه يف كل حلظة ،وال ت�سئ فهمي� ،أنا �أحرتم غريزة
البقاء عندك.
قال �سي�سرو :هل حتاول �إهانتي؟
--احلقيقة لي�ست �إهانة ،دعنا نتحدث ب�صراحة ،هال فعلنا هذا؟
�--أنا �أ�ستمع.
�--سوف �أعطيك بع�ض الأمور التي عليك �أن تنفذها بال تردد ،وال
والتوز عي
تر�سل له اجلرنال ماركو�س ليبيدو�س ببع�ض القوات الع�سكرية ،هو
قي�صري حتى النخاع.
ٌّ �صديق قدمي لأبي قي�صر،
ت�ساءل �سي�سرو :ثم؟
--دع ليبيدو�س ي�صنع حتال ًفا مع مارك �أنتوين.
قليل ،كان مرتب ًكا وال يفهم �شي ًئا مما قاله �أوكتافيو�س:
�صمت �سي�سرو ً
--حتا ُل ًفا؟ مارك �أنتوين الآن عدو للدولة الرومانية ب�أمر منك ،فلماذا
تريد �أن ت�صنع معه حتال ًفا؟
�--أخربتك ،ال ت�س�أل.
قال �سي�سرو :ح�س ًنا� ،سوف �أرى ما ميكنني فعله.
--مل �أنت ِه من كالمي.
�--أكمل.
365
قال �أوكتافيو�س بعد �أن ارت�شف ك�أ�س النبيذ:
�--أريد �أخذ كر�سي القن�صل يف املجل�س ،و�أريد �سلطة الربيربيتور
�إمربيوم ،لتكون قيادتي للجنود �شرعية.
قال �سي�سرو بحنق:
ً
قن�صل؟ وتريد قيادة --بحق الآلهة ما الذي تقوله؟ تريد �أن ت�صبح
روما كحاكم؟ �أنت فتًى يف التا�سعة ع�شرة من عمرك ،تنق�صك
اخلربة وتنق�صك العالقات.
ع
�--أنت حم ٌّق �أيها ال�سيناتور ،لي�س معي كل ما قلت ،ولكن معي جي�ش
والتوزي ر
يبقى يل �إال �أن �أدخل �إىل روما كفاحت �أو غازٍ ال فرق ،و�صدقني حني
ع
�أخو�ض حر ًبا �أفوز بها مهما كلف الأمر ،ول�ست �أنا بالرحيم ك�أبي
قي�صر.
ارب َّد وجه �سي�سرو و ُبهت بعد كلمات �أوكتافيو�س ال�صارمة ،فا�ستطرد
�أوكتافيو�س:
--قدمني �إىل �شيوخ املجل�س ب�إحدى خطبك الرائعة ،ف�أنت الآن حاكم
املجل�س ،ولو دعمني �سي�سرو احلكيم ،فلن يعار�ض �أحد.
--مل يكن �أمامه خيار �آخر �إال �أن ي�ستمع �إىل �أوكتافيو�س ويحاول �أن
يتفادى �أي فعل غبي �أو متهور ،فقال:
--ح�س ًنا �أيها القن�صل ،كما ت�أمر.
يف الغال ال يوجد �إال الثلوج والندم ،ويف خالل �سنة ون�صف يف مع�سكر
مغلق ،كان م�صدر غذائهم الوحيد هو ال�صيد يف الغابات� ،صيد الأرانب
والأيائل والغزالن ،و�أحيا ًنا الطيور .انت�شرت يف املع�سكر رائحة �أيل م�شوي،
366
كان هو يف خمدعهً ،
ثمل ،م�شتتًا� ،ضائ ًعا� ،ش َّبت نريان الك�سل واخلمول يف
ج�سده ،ي�شرب النبيذ واخلمر حتى يرمتي متع ًبا على �سريره �أو حتى على
الأر�ض ،ال فرق .كانت ال�سنوات التي مرت كفيلة بتغريه ،طالت حليته
قار�سا،
قليل و�أكرث جدية ،كان اجلو ً و�أ�صبحت كثيفة وكثة� ،أ�صبح كئي ًبا ً
وقف ما تبقى من كتائبه وجنوده حتت الثلوج يرتدون فوق �أكتافهم فر ًوا
حليوانات مفرت�سة ،مت ا�صطيادها و�سلخها ودبغها قبل دخول ال�شتاء
وهطول الثلوج ،ويف حلظة كان هناك جلبة خارج املع�سكر ،كانت هناك
كتائب تقرتب وعربات و�صفوف من اجلنود ورايات رفرفت يف الهواء
ص ع
ترجل اجلرنال «ماركو�س �إميليو�س ليبيدو�س» من على �صهوة العا�صفَّ ،
367
--كما ترى ،لي�س هناك �أف�ضل من هذا.
قال ليبيدو�س يف نربات ميل�ؤها اللوم:
--كيف تعي�ش �أيها اجلرنال و�سط هذه القمامة؟
يوما �أنك �سوف ت�ألفها.
كاف ليجعلك ت�ألف �أ�شياء مل تتخيل ً --الوقت ٍ
قال ليبيدو�س :بحق الآلهة ،ما الذي حدث لك؟
--تغريت ،كل �شيء يتغري.
ع
قال ليبيدو�س :لقد كنت قن�صل روما.
ع والتوزي
--املجل�س.
قالها ليبيدو�س و�شرب من ك�أ�س النبيذ.
�صاح �أنتوين :ت ًّبا للمجل�س ،لقد ن�صبوا يل كمي ًنا.
--املجل�س يحافظ على اجلمهورية.
�س�أل ماركو�س بحنق:
--وماذا يريد املجل�س اللعني الآن؟
--حتا ُل ًفا.
قال مارك �أنتوين بده�شة :حتا ُل ًفا؟
--نعم ،حتا ُل ًفا �سر ًّيا ،ال يجب �أن يعلم �أحد عنه �شي ًئا.
ابت�سم مارك �أنتوين وقال :مكيدة؟ �أ�شعر بها.
--كما تقول ،هي املكيدة.
368
�س�أل ماركو�س:
--حتا ُل ًفا مع من؟ ومكيدة �ضد من؟ ومن يريد التحالف مع �شخ�ص
منهزم مثلي؟
--لديك هنا �أكرث من «�ستِّ » فيالق م�شتتة ،حتتاج �إىل الطعام والذهب،
و�أنت لن ت�ستطيع �إطعامها �أو الدفع لها.
--هذا �صحيح.
قال ليبيدو�س:
ص ع
�--سوف �أ�ساندك� ،سوف �أدفع �إىل فيالقك ،و�سوف �أطعمهم.
�ساد ال�صمت بني �شيوخ املجل�س عندما وقف �سي�سرو معل ًنا عن حدث
عظيم .تَر َّقب اجلميع الكلمات التي �سوف تنبثق من فم �سي�سرو احلكيم
بعد حلظات قليلة� .أثار دخول قوات �أوكتافيو�س الع�سكرية �إىل روما �ضجة
369
كبرية ،كان العامة ميل�ؤهم الفرح بعودة �أوكتافيو�س وريث قي�صر �إىل
روما ،ولكنَّ للنبالء خوفهم وحذرهم كالعادة ،قال �سي�سرو:
يوما عظي ًما يف تاريخ �--أيها الأع�ضاء املبجلون ،اليوم �سوف يكون ً
روما ،منذ عهود ونحن ن�أمل لروما اخلال�ص ،مرو ًرا بعهد �سوال �إىل
عهد احلكم الثالثي الأول ،بني يوليو�س قي�صر وبومبايو�س ماجنو�س
وماركو�س كرا�سو�س ،والآن بعد كل هذا الوقت ،دعونا ن�س�أل �س� ًؤال،
هل نن�شد اخلال�ص بالفعل؟ اخلال�ص ،كلمة يحلم بها كل مواطن
ع
روماين منذ قرون ،من العامة �أو من النبالء �أو حتى الكهنة والأحبار.
ع
تاريخ روما ب�أ�سرها ،ويحمل من الذكاء ما يكفي لإدارة الدولة ،ومن
القوة ما ي�ضاهي به �أعتى جرناالت الدولة الرومانية؛ �أقدِّ م لكم،
غايو�س �أوكتافيو�س قي�صر.
وظل اجلميع يرمق �أوكتافيو�س وهو يقرتب من مقعد القن�صل بخطوات
هادئة ،وارتفع الت�صفيق بني اجلال�سني .جل�س �أوكتافيو�س على املقعد ورفع
يدهَ ،
فخ َف َت الت�صفيق احلاد رويدً ا رويدً ا حتى انعدم.
قال �أوكتافيو�س بعد حلظات من ال�صمت املطبق الذي لفح قاعة
املجل�س:
--يبدو هذا اليوم م�ألو ًفا يل ب�شدة ،هنا ،يف �أر�ض هذا املجل�س وقف
�أعظم الرجال على الإطالق� ،أعظم رجال روما على مر تاريخها،
هنا وقف غايو�س يوليو�س قي�صر يحدثكم عن �آماله يف بناء روما
جديدة ،مدينة �أفالطونية فا�ضلة طاملا َت َّدث عنها الفال�سفة ،وها
370
�أنا هنا اليوم �أيها الأعزاء� ،أقف على تلك الأر�ض التي وقف عليها
�أبي ،و�أجل�س على املقعد الذي جل�س عليه� ،أنا �أفكر يف فرتة حكمي
كقن�صل �أن �أعرب بروما �إىل حقبة جديدة ،حقبة خمتلفة يف كل �شيء؛
العدالة ،املجل�س ،ال�شعب ،كل �شيء يجب �أن يتغري ليتنا�سب مع تلك
احلقبة اجلديدة� .أنتم �أيها ال�شيوخ ،النبالء ،الأغنياء ،هل �أنتم معي
لبناء تلك احلقبة اجلديدة؟
طفق ال�شيوخ يف الت�صفيق احلاد ،حتى �أ�ضاف �أوكتافيو�س:
--منذ �سنني اقرتف هذا املجل�س خط�أً ً
ع
فادحا عندما مت �إ�صدار عفو تام
ن
كل من بروتو�س وكا�سيو�س �أعدا ًء للجمهورية
ر ش
والتوز عي
الرومانية.
كانت كلماته مفاجئة للجميع ،مقلقة ل�سي�سرو؛ لأن كا�سيو�س وبروتو�س
من �أ�صدقاء �سي�سرو القدامى ،وهو َمن �ضغط على �شيوخ املجل�س ليتم
�إ�صدار هذا العفو العام ،ومل يكن يف خميلته �أن �أوكتافيو�س �سوف يثري هذا
املو�ضوع جمددًا بني اجلموع وال�شيوخ� .شعر �سي�سرو بالغ�ضب والهزمية،
ذلك ال�شيخ املخ�ضرم قد احتال عليه �صبي يف التا�سعة ع�شرة من عمره،
ً
قن�صل ولديه الآن قد دخل �أوكتافيو�س روما بقواته الع�سكرية� ،أ�صبح
بديل لروما لوقت معني �سلطة بريربيتور �إمربيوم ،والتي جتعله حاك ًما ً
من الزمن ،ذلك الوقت الكايف ليحكم روما ك�إمرباطور ،كما كان يريد
يوليو�س قي�صر �أن يفعل يف وقت ما� ،شعر �أنه قد �صنع ديكتاتو ًرا �آخر ،لكن
هذا خمتلف بالرغم من �صغر �س ِّنه ،يختلف عن �سوال ويختلف عن قي�صر
كذلك ،قد جمع دهاء ال�سيا�سة والقوة الع�سكرية يف �آن واحد.
ا�ستطرد �أوكتافيو�س:
371
--كيف نريد �أن نقيم حقبة قائمة على العدالة ونحن مل نحققها
لأف�ضل الرجال؟ كيف لنا �أن ننام هانئني يف بيوتنا وعلى � ِأ�س َّرتنا
وبروتو�س وكا�سيو�س اخلونة َيهنئون باحلياة واحلرية؟ لي�س هذا �أنا.
لي�س �أنا الذي بيده حتقيق العدالة وال يحققها ،هل �أنتم معي �أيها
ال�سيناتوريني؟ كونوا معي ول�سوف ت�شاهدون املدينة الفا�ضلة على
تلك الأر�ض ،كما وعد �أبي قي�صر.
كان معظم ال�شيوخ معه ،والآخرون ميل�ؤهم اخلوف منه ومن
ع
الديكتاتورية املحتملة ،انت�شرت الأخبار �إىل العامة عن االنتقام املن�شود
372
()3
ص ع
فيالقهم ،وبجوار اخلرائط و�ضعت ك�ؤو�س النبيذ الفارغة.
ل ل
بعد �نأن هزم مارك �أنتوين ،وان�سحب بآن،
ت
ش
قال باندها�ش� :أوكتافيو�س ال�صغري؟
374
د َّوى غناء ال�سيوف يف ال�ساحة ،وقف كا�سيو�س و�سط جنوده وفيالقه
عال ،ولزم اجلميع ال�صمت ،ف�صاح كا�سيو�س ب�صوته اجلهور: فوق منرب ٍ
�--أيها اجلنود� ،إن املجل�س ي�ستغيث بنا� ،إن امل�ستبد الذي حل على روما
من جديد يحمل بني عروقه دما ًء قي�صرية� ،إنه فتًى �صغري ،يدعى
غايو�س �أوكتافيو�س قي�صر ،ي�سيطر على روما الآن ،يروع �أهلها� ،إنه
اال�ستبداد يا �سادة يقيم يف �أر�ض املجل�س ،على احلوائط واجلدران،
ويف قلوب الرجال� ،سوف �أعود �إىل روما لتحريرها من الطاغية
امل�ستبد اجلديد ،للمرة الثانية ،للمرة الثانية دعونا نكون � ً
أبطال
والتوز عي
بهذا ،وكجندي �سوف �أحارب هذا حتى �آخر رمق يل ،فهل �أنتم معي؟
انتهى كا�سيو�س من خطبته التي �ألهبت احلما�س يف عروق اجلنود
و�أعطى �أم ًرا باال�ستعداد للزحف نحو روما ،حتت طبقات من ال�صوف
الأ�س َود واجللد املقوى بالزيت املغلي واحللقات النحا�سية ،ارتدى اجلنود
دروعهم ،وحتركت اجلحافل والقوات وعلى ر�أ�سها كا�سيو�س وبروتو�س.
ريص ع
ابت�سم وقال� :أعتذر لك يا �شقيقتي العزيزة ،لكن مل يكن هناك طريقة
ع والتوزي
--لي�س هذا فقط ،بل وجمل�س ال�شيوخ الآن حتت يدي.
�س�ألت �آ ْت َيا :ومارك �أنتوين؟
--فر ً
�شمال.
--هل �ستلحق به ً
�شمال؟
قال �أوكتافيو�س:
--ال ،ملارك �أنتوين خطط �أخرى.
كانت �آ ْت َيا فخورة ب�أوكتافيو�س كث ًريا ،مل تعتقد �أنه يحمل هذا القدر من
احلنكة ال�سيا�سية ،هو الآن ي�سيطر على روما وجمل�س ال�شيوخ ،ف�س�ألت:
--كا�سيو�س وبروتو�س قتلة قي�صر ،ماذا �سوف تفعل؟
قال بابت�سامة:
376
--ال تقلقي يا �أمي� ،سوف �أنتقم لأبي قي�صر مهما كلف الأمر.
--و�أتباعهم يف املجل�س؟
--املجل�س ب�أكمله حتت �أقدامي.
قالت يف �شيء من الرتدد:
--مارك �أنتوين� ،أعلم �أنه كان يرف�ض ت�سليمك �أموالك� ،إال �أنه فعل هذا
خو ًفا منه على هذه العائلة ،يف النهاية هو ال ي�ستحق املوت.
تخرثت ابت�سامة �أوكتافيو�س ،و�أ�شار �إىل جرح �صغري حمفور يف وجهه
ع
--نحن يف م�شكلة كبرية.
التو و
وبروتو�س
زيع
مل يهتز �أوكتافيو�س وقال يف هدوء:
--وما امل�شكلة يف هذا؟
مل يفهم �أغريبا هدوء �أوكتافيو�س غري املربر ،ف�أردف:
�--إن كا�سيو�س وبروتو�س يفوقوننا عددًا يف الفيالق ،تقول الأخبار �إن
لديهم �أكرث من ع�شرين فيل ًقا ،ثالثني �ألف رجل من امل�شاة ،وع�شرة
�آالف من الرماة ،وثالثة �آالف من الك�شافة وامل�ستطلعني.
�أطلق �أوكتافيو�س �ضحكة ،ف�صمت �أغريبا يف اندها�ش ً
قليل و�س�أل:
--ما امل�ضحك؟
جترع من ك�أ�س نبيذه وقال:
�--إن �سي�سرو مل يخيب ظني �أبدً ا ،هو �أحمق مثل الكثري ،كنت �أظنه
378
�أذكى من هذا.
مل ي�ستوعب �أغريبا ما يقوله �أوكتافيو�س ف�أردف:
--ماذا تعني؟
�--إنها الطبيعة يا �أغريبا� ،إن كنت تنوي �أن ت�صطاد فري�سة جيدة،
عليك �أن ت�ضع طع ًما جيدً ا ،كنت �أعلم �أن �سي�سرو �سوف يحذر
بروتو�س وكا�سيو�س منذ �أن �أعلنتهما �أعدا ًء للجمهورية ،والآن
متاما.
بروتو�س وكا�سيو�س ،يزحفون �إىل روما كما خططت ً
ن
ر ش
والتوز عي
تفوقنا عددًا ب�أ�ضعاف.
--منذ �سنني طويلة �س�ألني قي�صر �س� ًؤال بعد عودته �إىل روما من الغال،
قال يل :لو كنت مكاين الآن ،وكان ذلك املجد كله لك ،الذهب،
واجلحافل والفيالق ،حب العامة ،واحرتام النبالء ،ماذا �سوف
علي �آن ذاك ،ولكني �أذكر هذا ك�أنه البارحة، تفعل؟ كان �س�ؤاله �صع ًبا َّ
قلت له بثقة وبال تردد� :س�أحكم العامل ،و�س�ألني جمددًا :كيف �ستفعل
هذا؟ �أخربته حينها� :إن الطريقة الوحيدة املمكنة لتحقيق ذلك هو
ال�شعب ،و�صنع التحالفات ،حينها ابت�سم قي�صر وانحنى على �أذين
وهم�س�« :سوف حتكم العامل يا فتى� ،أنا �أثق بهذا» ،ال تقلق يا �أغريبا،
�سوف �أحكم العامل مهما كلفني الأمر.
ثم �أ�ضاف :كل ما عليك فعله الآن ،جهز بع�ض القوات ال�صغرية،
�سوف نخرج �س ًّرا من روما.
�س�أل �أغريبا� :إىل �أين؟
379
�--سوف نتجه �صوب الغال.
قال �أغريبا بعد حلظة من التفكري:
--تريد �صنع حتالف مع مارك �أنتوين؟
--نعم ،حتالف �أخري �سوف يق�ضي على �أعدائنا.
--وما الذي �سوف يرغم مارك �أنتوين على املوافقة؟
--لكي ت�ستطيع �أن حتكم �إمرباطورية يا �أغريبا ،عليك �أن تفهم
الطبيعة الب�شرية الرا�سخة يف �أعماق اجلميع ،عليك �أن تفهم
ع
التحالف ،الآن مارك �أنتوين يجهل �أنني من �أدفع �إىل فيالقه ،و�أطعم
جنوده ،ولن ي�ستطيع رف�ض التحالف ،و�إال ف�سيكون رف�ضه كال�سكني
الباردة التي تذبحه ببطء وبهدوء.
--وكيف توقعت حدوث كل هذا والتخطيط له؟
--مل �أتوقع �شي ًئا� ،أخربتك �أنه على املرء �أن يكون على علم بالطبائع
الب�شرية وال�شهوات والغرائز احليوانية داخل الب�شر لي�ستطيع
ال�سيطرة عليها ،وي�ستغلها يف �صاحله� ،شهوة ال�سلطة عند �سي�سرو
حتركه ،وغريزة البقاء عند مارك �أنتوين كبرية� ،سي�سرو ا�ستخدم
�سلطته لتحذير �أ�صدقائه القدامى� ،أما مارك �أنتوين ف�سيحاول
البقاء بكل ما �أوتي من قوة ،حتى و�إن كان الأمر هو ُ�صنع حتالف
�أخري مع عدو له ،كل ما فعلته هو ا�ستغالل كل من �سي�سرو ومارك
�أنتوين والغريزة الني ت�سيطر على كل منهم.
ان�صاع �أغريبا �إىل �أوامر �أوكتافيو�س ،جهز بع�ض القوات القي�صرية،
380
و�أيام قليلة وخرجوا �س ًّرا من روما ،وال يعلم �أحد عن وجهتهم �شي ًئا.
بعد دخولهم �شمال الغال كان ال�ضباب كثي ًفا لدرجة انعدام الر�ؤية،
وقف ماركو�س �أنطونيو�س واجلرنال ليبيدو�س يف انتظار احلليف املجهول
�آملني �أن يح�ضر يف الوقت املنا�سب قبل هطول الثلج ،ووقفوا �أمام املع�سكر
وبدا على مارك �أنتوين امللل وعدم ال�صرب ،قال مارك �أنتوين يف متلمل:
--عليك اللعنة يا ليبيدو�س ،نحن ننتظر منذ �ساعة.
قال ليبيدو�س :انتظر� ،سوف ي�أتي الآن.
ص ع
�--سوف �أدخل لأ�شرب ك� ًأ�سا من النبيذ.
381
--جرنال ليبيدو�س.
�ضيق مارك �أنتوين عينيه ،هذا الفتى يبدو م�ألو ًفا جدًّا ،وظل مرتب ًكا
حتى قال ليبيدو�س وقطع ال�شك باليقني:
--مرح ًبا� ،أوكتافيو�س قي�صر.
ال يكاد ي�صدق ما ي�سمعه وال ما يراه ،بدا الأمر ك�أنه خممور �أو ثمل،
ولكنه مل يكن كذلك ،رمق مارك �أنتوين �أوكتافيو�س يف ذهول وات�سعت
ع
حدقاته ،كان �أوكتافيو�س يرتدي درع قي�صر احلربي ،مل يكن يظن �أن هذا
ع
مد يده وقال :جرنال مارك �أنتوين.
مد مارك �أنتوين هو الآخر يده بعد حلظات من التيه غري املتعمد،
وقال:
--يا للآلهة! لقد كربت.
قال �أوكتافيو�س:
--كل �شيء يتغري� ،أنت � ً
أي�ضا اختلفت كث ًريا.
�--إذن �أنت احلليف املجهول؟
�--أظن هذا.
مل يكن مارك �أنتوين غا�ض ًبا ولكن غمار املفاج�أة جعلته غري قادر على
ترتيب الأفكار يف عقله� ،أردف:
--ح�س ًنا ،من الأف�ضل �أن نتحدث يف الداخل.
382
دخلوا �أربعتهم متعاقبني ،مارك �أنتوين ثم اجلرنال ليبيدو�س ثم
�أوكتافيو�س ومن ورائه �أغريبا ،جل�سوا على طاولة م�ستديرة ،واكتفى
�أغريبا �أن وقف وراء �أوكتافيو�س ،واقرتب خادم و�صب لهم ك�ؤو�سا من
النبيذ ،قال مارك �أنتوين:
�--أنا �أ�ستمع ،كلي �آذان م�صغية.
ابت�سم �أوكتافيو�س و�أردف:
--كيف تق�ضي حياتك هنا؟
ع
--كما ترى� ،أق�ضيها بال قيود.
والتوز عي
ثم نظر �إىل ليبيدو�س:
--جرنال ليبيدو�س.
--ال تقلق ،لن تخرج كلمة من فمي.
ثم �أ�ضاف :جيد ،ما �سيحدث هنا هو حتالف ،ولكنه �سيكون حتال ًفا
�سر ًّيا ،لن يعرف به خملوق ،ال �شيوخ املجل�س وال حتى اجلنود �إال يف الوقت
املنا�سب.
�س�أل مارك �أنتوين:
--ماذا تريد �أن تفعل؟
--بروتو�س وكا�سيو�س يزحفون �إىل روما بقوات ع�سكرية.
قال مارك �أنتوين� :أال ت�ستطيع الت�صدي لهم؟
--ال ،لي�س و�أنا وحيد.
383
--وملاذا �سوف �أمد لك يد العون ،بعدما فعلته يف الغال مب�ساعدة
اجلرنال هريتو�س والقائد بان�سا؟
--لأنك حتتاجني كما �أحتاجك.
--ويف ماذا �سوف �أحتاجك؟
--نحن نحمل هد ًفا واحدً ا ،نريد التخل�ص من قتلة قي�صر ،و�أنا �أريد
ت�شريف ا�سم �أبي باالنتقام ِمن َق َت َل ِته ،و�أنت تريد العودة �إىل ال�ساحة
ال�سيا�سية من جديد وحتتاج �إىل دفعة.
--وهل �سي�سمح املجل�س بعودتي ،بعدما �أعلنني عد ًّوا للجمهورية.
ع
--ما هذا؟
قال �أوكتافيو�س :تلك القائمة بها �أ�سماء كل �شيوخ املجل�س املعاونني
لربوتو�س وكا�سيو�س ،ولي�س هذا فقط ،بل كل َمن لهم �صلة بربوتو�س
وكا�سيو�س من العامة والكهنة والأحبار ،هذا التطهري �سيمهد لك العودة
�إىل روما بال م�شاكل.
تناول مارك �أنتوين القائمة ،ترنحت نظراته فوق الأ�سماء ،حتى
توقفت عيناه على �أحد الأ�سماء ف�أردف بتعجب:
�--سي�سرو؟ ح ًّقا.
--لقد خانني �سي�سرو ،و�أنا ال �أحتمل اخليانة.
قال ليبيدو�س:
--يا لها من قائمة طويلة! �سيموت الآالف.
384
�أردف �أوكتافيو�س:
--يف الغالب �سيتم نفي معظمهم بجانب التحفظ على �أموالهم
وعقاراتهم يف روما.
قال مارك �أنتوين:
�--إن كان هذا التحالف بداية ل�صفحة جديدة بيننا ،ف�سوف �أ�ضيف
بع�ض الأ�سماء �إىل تلك القائمة.
�--أ�ضف ما �شئت ،لكن ال ت�سرف.
ريص ع
قال اجلرنال ليبيدو�س:
385
بعد �شهرين...
مقدونيا ،فيليبي...
تعاظمت خماوفهم مع كل فر�سخ يقطعونه ،واجلي�ش يعرب املمر املرتفع
فوق امل�ستنقعات� ،أثار اجلي�ش وراءه يف كل خطوة يخطوها عا�صفة من
الأتربة ،جتمعت ال�صفوف يف م�سافات متباعدة ،كان اجلي�ش يفر�ش
ال�صحراء ،ك�أنه �سرمدي بال نهاية ،وعلى ر�أ�سه كا�سيو�س وبروتو�س ،كانوا
على ُبعد يوم واحد من جي�ش �أوكتافيان ،قال كا�سيو�س:
ع
--لقد �أر�سلت بع�ض قوات اال�ستطالع ،لتنقل لنا عدد قوات العدو.
ع
--ملاذا �أنت قلق لهذه الدرجة� ،إن جي�شنا يفوق جي�ش �أوكتافيو�س
ب�أ�ضعاف؟
--ال �أعرف يا كا�سيو�س ،لكني متوج�س ً
قليل.
--ال داعي لهذا القلق .غدً ا ،عندما نعود �إىل روما� ،سوف نن�سى هذا
الأمل وتلك املعاناة ،و�سنكون �أ�سياد روما.
قال ب� ًأ�سى :بعد موت �سي�سرو وجميع �أ�صدقائنا يف املجل�س ،من تَب َّقى
لنا يا كا�سيو�س؟
قال كا�سيو�س يف موا�ساة:
--نحن من تبقى ،نحن �إخوة يا بروتو�س� ،إن مل يجمعنا دم واحد ف�إن
�أهدافنا ومبادئنا واحدة ،وهذا يجعلنا �إخوة �أكرث ً
ترابطا.
باق على املعركةعندما ح�ضر الليل ،ع�سكر اجلي�ش عند خليج فيليبيٍ .
يوم واحد فقط ،ي�أتي ال�صباح وت�أتي معها املعركة الفا�صلة ،وجاءت قوات
386
اال�ستطالع التي �أر�سلها كا�سيو�س ،جاء اجلندي واجته نحو خيمة بروتو�س
وكا�سيو�س ،قال:
�--سيدي كا�سيو�س ،هناك كارثة.
انتف�ض ك ٌّل من كا�سيو�س وبروتو�س ،قال كا�سيو�س يف قلق يخم�ش
�صدره:
--ماذا هناك؟
قال اجلندي بعد حلظة التقط فيها �أنفا�سه:
ريص ع
�--إنهم يفوقوننا عدد ًنا� ،إن �أوكتافيو�س لي�س وحده ،بل معه مارك
387
قال كا�سيو�س :يجب علينا �أن نواجههم �أ ًّيا كانت العواقب.
�أردف بروتو�س :العواقب هي املوت يا كا�سيو�س.
�--إذن هو املوت يا بروتو�س ،املوت يف �سبيل احلرية.
يف ال�صباح حترك اجلي�شان ،ووقف اجلي�شان ينتظران �أوامر القادة،
وقف جي�ش بروتو�س وكا�سيو�س بردائه الأ�س َود ودرعه الرمادي ،وقوات
�أوكتافيو�س القي�صرية ذات النقابات احلمراء املتطايرة ،وقوات مارك
�أنتوين التي ان�ضمت لقوات �أوكتافيو�س ،وقف كا�سيو�س على ر�أ�س جي�شه
ص ع
على �صهوة ح�صانه ،ف�صاح يف اجلنود« :ا�ستعدوا ،».انت�صبت رماح
ع والتوزي
حتركت ال�صفوف الأوىل من جي�ش كا�سيو�س وبروتو�س ،ومل يحرك
�أوكتافيو�س �أو مارك �أنتوين �ساك ًنا ،بعد حلظات تَق َّدم مارك �أنتوين على
فر�سه ،رفع يده و�صاح يف اجلنود هو � ً
أي�ضا« :ال ُأ�سود».
كانت مفاج�أة جلي�ش بروتو�س وكا�سيو�س ،خرجت من بني ال�صفوف
� ُأ�سود عمالقة مد َّربة ،يلجمها ال�سال�سل على �أفواهها ،يقب�ض على
ال�سال�سل حول رقابها مدربوها� ،أعطى مارك �أنتوين الإ�شارة ،ففك
املدربني ال�سال�سل ،انطلقت ال ُأ�سود يف ت�سابق مع الرياح ،وانهالت على
اجلنود ومزقت �أح�شائهم وق�ضمت رءو�سهم ،كان م�شهدً ا مهي ًبا ،اهتز
جي�ش بروتو�س وكا�سيو�س ،وبد�أ اجلنود بالفرار ،فالذي �سوف يواجه هذا
هو هالك ال حمالة.
�أعطى �أوكتافيو�س الأمر ل�صديقه �أغريبا ،فهجم بالقوات القي�صرية،
ومن ورائه مارك �أنتوين بقواته اخلا�صة� ،إن �أوكتافيو�س ال ي�شارك بنف�سه
يف املعارك ،واعتربها مارك �أنتوين نقي�صة يف �أوكتافيو�س الذي �أرعب
388
جرناالت الدولة الرومانية ،اجتاحت القوات القي�صرية �صفوف كا�سيو�س
وبروتو�س الثانية ،ت�شتت اجلي�ش وك�سرت القوات القي�صرية ال�صفوف
املرت�صة.
َّ
وظل مارك �أنتوين يبحث بعينيه على �إحدى �أعدائه يف املعركة ،ووجدت
عيناه كا�سيو�س ،ومل يكن هناك وقت للتفكري ،اندفع نحوه بقوة جاحمة،
أر�ضا و�سقط �سيف كليهما ،ومل يجد مارك �أنتوين �سوى و�سقطا االثنان � ً
قب�ضته التي هوى بها على وجه كا�سيو�س� ،صرخ كا�سيو�س �أملًا ،ومل ِ
يكتف
بال�صراخ بل هوى بقب�ضته على عني مارك �أنتوين ف�أدماها ،ويف حلظات
ل
َّ
والتوز عي
الرحمة لأحد.
اختلط الطني بالدماء ،والدموع اختلطت بالندم� ،ضرب مارك �أنتوين
يبحث عن �سكني يف الطني ،وجد واحدة ولكن مل ميهله كا�سيو�س الفر�صة،
�أم�سك كا�سيو�س بحجر وهوى به على ر�أ�س ماركو�س �أنطونيو�س� ،سقط
أر�ضا يف وهن و�ضعف ،اهتزت الر�ؤية يف عينيه ،وكل �شيء كاد ماركو�س � ً
�أن يتداعى ،التقط كا�سيو�س �سي ًفا ،واقرتب منه ،ورفعه يف الهواء وكاد
�أن يهوي به� ،إال �أنه ا�ستوقفه زئري الأ�سد الذي يقرتب من �أذنيه ب�سرعة
رهيبة ،انق�ض الأ�سد على كا�سيو�س بال رحمة� ،ضرب كا�سيو�س الأ�سد
يكتف الأ�سد بهذا ،بل
بر�أ�س ال�سيف �ضربتني حتى ترك ذراعه يف �أمل ،ومل ِ
قب�ض ب�أنيابه على ر�أ�سه� ،صرخ كا�سيو�س ،ومل يلبث ال�صراخ حتى خفت
مع �صدور �صوت لك�سر عظام.
التقط ماركو�س �أنطونيو�س خنج ًرا وظل يطعن يف كا�سيو�س� ،أو
ما تبقى منه على الأرجح ،يطعن وي�صرخ ،من �أجل قي�صر ،من �أجل
389
يوما وما ذاق
�ألك�سيو�س ،لوال هذا اخلائن ما مات قي�صر ،لواله ما انهزم ً
خم�سا وع�شرينطعم الهزمية املر ،كان غا�ض ًبا ومل يهد�أ حتى �سدد له ً
طعنة ،تلك الطعنات التي تل َّقاها قي�صر يف يوم من الأيام على يديه وعلى
�أيادي �أنا�س �أ�سماهم �أ�صدقاء يف يوم ما.
بعد املعركة كانت اخليول مهتاجة يف مربطها ،ت�صهل وتنخر مع
رائحة الدم التي �أفعمت الهواء ،وازداد نعيق الغداف يف ال�سماء ،وهوت
الطيور اجلارحة متزق اللحم الننت مبخالبها ومناقريها احلادة .وقف
ع
�أوكتافيو�س على �صهوة ح�صانه ينتظر التقرير عن املعركة ،ومن م�سافة
ع
عندما دقق اجلميع يف الر�أ�س الذي مي�سكه ماركو�س �أنطونيو�س،
تعرف عليه اجلميع �إنه ر�أ�س كا�سيو�س بالت�أكيد� ،صاحت القوات يف حتية
بارعا يف هذا ،واقرتب من �أوكتافيو�س و�ألقى ملارك �أنتوين ،لطاملا كان ً
الر�أ�س حتت �أقدامه وقال�« :إنه كا�سيو�س».
�س�أل �أوكتافيو�س:
--وبروتو�س؟
--رمبا قتل يف املعركة ورمبا هرب.
�أمر �أوكتافيو�س بالبحث عن جثة بروتو�س بني اجلثث امللقاة ك�أنها
جبال ،ولكن بعد بحث طويل ف�شل اجلنود �أن يجدوا جثته بني القتلى.
390
()4
39ق.م.
كلبعد فوز ماركو�س �أنطونيو�س و�أوكتافيو�س يف معركة فيليبي على ٍّ
من كا�سيو�س وبروتو�س ،عاد �أع�ضاء التحالف الثالث �إىل روما مظفرين
ص ع
بالن�صر ،وتل َّقى ال�شعب هذا الن�صر ك�أنه ت�شريف ال�سم يوليو�س قي�صر
ر ش
والتوزي
قال ليبيدو�س:
ع
قال ليبيدو�سِّ :
و�ضح �أكرث.
ر ش
والتوز عي
ثم انتقلت �أ�صبعه �إىل مو�ضع �آخر من اخلريطة وا�ستطرد« :و�سوف
ي�أخذ مارك �أنتوين م�صر وال�شرق ،و�أنت يا جرنال ليبيدو�س �سوف
ت�أخذ مقاطعة �أفريكا».
جتهم وجه ليبيدو�س وقال ب� ًأ�سى� :أفريكا.
--نعم ،هي مقاطعة غنية و�سوف حتمي الإقليم من ناحية ال�شمال
الغربي.
لقد كان مارك �أنتوين م�سرو ًرا� ،سوف يح�صل على م�صر وال�شرق،
بجانب �أن ال�شرق جميل وغني ومليء باملقاطعات الرومانية الغنية� ،إال
�أن ال�سبب احلقيقي وراء �سروره تلك التي ع�صفت بف�ؤاده من اللحظة
ين�س
ين�سها طوال تلك ال�سنني التي مرت يف احلرب والربد ،مل َ الأوىل ،مل َ
تلك الأنفا�س احلارقة التي بثتها يف وجهه كال�سحر ،ال ين�سى الرجل �أنثى
حملت �أنفا�سها عبق احلب والود له ،لقد جرب هذا ال�سحر الآن ،الذي
جترعه من قبله يوليو�س قي�صر� ،سح ًرا يرغمه على التفكري بها.
393
قال مارك �أنتوين:
--ح�س ًنا ،هذا جيد ،هل هناك �شيء �آخر؟
--نعم� ،أنا مل �أنت ِه بعد.
ب�صوت ملول :يا للآلهة! �إذن �أكمل. ٍ قال
--علينا �أن جنعل حتا ُلفنا �أقوى ب�صور ٍة ما.
�س�أل :ماذا تق�صد؟
ع
قال �أوكتافيو�س بعد حلظة تفكري:
والتوزي
حلظات حتى ا�ستوعب �أخ ًريا كلمات �أوكتافيو�س:
ص ع
قال �أوكتافيو�س� :إن �أوكتافيا لن تعار�ض �أمري.
والتوز عي
وقلبه يرب�ض يف ال�شرق ،قال:
--ح�س ًنا ،ال م�شكلة� ،إن كان زواجي من �أوكتافيا �سوف يجعل من
حتالفنا �أقوى.
--يف الأيام القادمة �سوف تكون املرا�سم التقليدية للزواج.
قال �أنتوين:
--بهذه ال�سرعة؟
--ال وقت لدينا ،روما الآن �أ�صبحت مرتامية الأطراف ،ومقاطعاتها
ن�صب جهودنا لتعود روما كما كانت قد ًميا،
بالآالف ،يجب علينا �أن َّ
ونحافظ على النظام واال�ستقرار قدر الإمكان.
مل يكن مارك �أنتوين ي�شعر بالراحة ،فغال ًبا �أوكتافيو�س يخطط ل�شيء
ما ،وال �أحد يعرف ذلك ال�شيء �إال عند حدوثه ،كالعادة ،ذلك الفتى
395
الهادئ والوديع يحمل بداخله داهية ،كالأفعى التي تنتظر �سهو فري�ستها
للدغها وبث ال�سم يف عروقها ،وكان عليه احلذر ال�شديد لأي خطوة
يخطوها.
�أولئك الذين ماتوا لي�سوا �أمواتًا ح ًّقا ،مل ميوتوا مبا يكفي ليغادروا
ر�أ�سه� ،إنهم يعي�شون بداخله ب�آمالهم وطموحاتهم وحتى ب�أكاذيبهم،
ع
قي�صر وكا�سيو�س وكاتو ،هم يرتاق�صون يف عقله ويخم�شون قلبه مبخالب
ك
وحو�شا ،ال ي�ستطيع الإدراك أ�شباحا �أو
املا�ضي والذكريات ،رمبا كانوا � ً
ر ش
والتوزي
غار ًقا يف ربوع الي�أ�س �أ�صبح ال يهتم ب�شيء ،ويت�ساءل ما الذي حدث
ع
داخل هذه الروح.
ثمل بغري خمر ،وج�سده متهالك ي�سري تائ ًها� ،ضائ ًعا ،عقله �أ�صبح ً
بغري وجهة� .أ�صاب عقله اخلبال ،بكى حتى بلل الرثى من حتت قدميه،
كانت اخليارات تنفذ من بني يديه ،حلظة بعد حلظة ،ويف حلظة انعدمت
كل اخليارات وتال�شت مع الرمال املتطايرة يف الهواء ،مل يبقَ �سوى خيار
واحد الآن ،ذلك اخليار الذي �سوف يخر�س تلك الأ�صوات يف عقله �إىل
الأبد ،كان خيار املوت يكون �أكرث منطقية مع كل حلظة متر ،ح�س ًنا� ،إن
كان هذا �سوف ي�صرف تلك الأ�شباح التي ترتب�ص به ف�سوف ُيق ِْدم عليه
بكل ت�أكيد ،املوت هو احلل الأف�ضل الآن ،على مر تلك احلياة التي قد
عا�شها وقع يف الكثري من الآثام ،ولكن �إثمه الأكرب كان يف مبادئه ،ذلك
الإن�سان املتغري املبادئ يندم كث ًريا ،وهو يغرق يف بحر من الدموع والندم.
ال ب�أ�س.
396
ال ب�أ�س الآن� ،سوف ينتهي الآن كل �شيء عما قريب ،فقط �سويعات
من الأمل وينتهي كل �شيء ،مل يكن ميلك �سي ًفا ليموت بطريقة �شريفة
كما فعل عمه كاتو ،وهو يرى �أنه ال ي�ستحق �أن ميوت بطريقة �شريفة من
الأ�سا�س� ،إنه يحتاج �إىل موت حقري ليكف هذا الندم الذي ي�شق �صدره
ب�سكني باردة الن�صل ،و�ضع احلبل حول عنقه وقفز بال تردد ،مل ي�ستغرق
الأمر كث ًريا حتى خمدت الأنفا�س ،هكذا ميوت اجلبان ،هكذا كان يرى
بروتو�س نف�سه ،جبا ًنا رعديدً ا ،قتل �أقرب النا�س �إليه غد ًرا ،وي�ستحق �أن
ميوت بتلك الطريقة اخلالية من ال�شرف والنبل.
ريص ع
�أولئك الذين ماتوا لي�سوا �أمواتًا ح ًّقا ،مل ميوتوا مبا يكفي ليغادروا
مل يكن لأوكتافيا اعرتا�ض على الزواج من مارك �أنتوين �أبدً ا ،هو رجل
نبيل وو�سيم ،ومل تعتقد �أنها قد تتزوج �أقل منه يف يوم من الأيام ،ولكن
مل يب ُد على مارك �أنتوين ال�سرور بهذا التحالف عن طريق الزواج ،الأمر
�سيقيده بكل ت�أكيد ،و�سوف يق�سمه �إىل ن�صفني ،ن�صف يف ال�شرق والآخر
يف الغرب ،بال �شك �سيعاين مارك �أنتوين من هذا الزواج ،ولكنه على
الأقل �سوف ي�ضمن له هذا الزواج االحتفاظ بال�شرق لوقت �أطول .كانت
القوانني وا�ضحة و�صارمة ،ال ُي�سمح للروماين �إال بزوجة واحدة حتمل
وا�ضحا بالن�سبة �إىل مارك �أنتوين ،ومت الزواج
ً دما ًء رومانية ،فكان الأمر
يف ال�ساحة الوا�سعة �أمام معبد جوبيرت ،وح�ضر النبالء واحتفل العامة يف
ال�شوارع ،وا�ستمرت املرا�سم من الفجر حتى الغ�سق ،يوم بال نهاية ،فرح
العامة و�شربوا النبيذ وتعاركوا وعربدوا حتى غربت ال�شم�س ،وكان العام
397
الذي ق�ضاه مارك �أنتوين مع زوجته �أوكتافيا �سري ًعا وبعدها �سافر �إىل
ال�شرق.
عندما عرفت كليوباترا ما حدث يف روما من تق�سيم للإقليم ومن
حتالفات الزواج التي حدثت بني مارك �أنتوين و�أوكتافيو�س قي�صر ،هذا
التق�سيم الذي حدث بني التحالف الثالثي الثاين� ،سوف ي�سلم ال�شرق �إىل
املجهول ،هي ال تعرف مارك �أنتوين جيدً ا ،كل ما تعرفه �أنه كان قائدً ا
�شجاعا ،والآن َي�ضع ال�شرق بني �أ�صابعه.
ً جيدً ا لدى يوليو�س قي�صر،
ع
ور�ست قوات مارك �أنتوين عند الد�سكار امللكي ،للمرة الثانية يزور
ر ش
والتوزي
جتل�س على عر�شها ،وبجوارها على العر�ش ابنها قي�صرون ،كان قد كرب
ع
قليل ،يحمل ق�سمات �أبيه ،ويبدو عليه النبل� ،أحنى مارك �أنتوين ر�أ�سه ً
لكليوباترا و�أردف:
--جاللتك ،كليوباترا.
وقفت كليوباترا ورمقت مارك �أنتوين ،اختلف منذ �آخر مقابلة بينهم،
حليته كثيفة زادت من جاذبيته وو�سامته ،قالت بابت�سامة:
--جرنال مارك �أنتوين.
عندها �أ�شارت �إىل �إحدى الو�صيفات فاقرتبت و�أخذت ابنها قي�صرون
معها ،بدا على وجه مارك �أنتوين ال�سرور لر�ؤية كليوباترا بعد كل هذا
الوقت الطويل ،ما زالت جميلة كما كانت منذ زمن ،ابنة �إيزي�س املقد�سة
كما يلقبها جماهري الإ�سكندرية ،هذا اجلمال ،وتلك الأنوثة العا�صفة
تفتك به فت ًكا كلما نظر لها ،قال:
--كيف حالك؟ بعد كل هذا الوقت.
398
ابت�سمت كليوباترا بابت�سامة �ساحرة وقالت:
�--أنا بخري ،ولكني ما �سمعته �أنك ل�ست بخري ،وخ�سرت معركتك �أمام
�صبي.
بادلها مارك �أنتوين االبت�سام وقال:
--ولكني انت�صرت يف معركة �أعظم ،وانتقمت من قتلة قي�صر.
ثم �أ�ضاف:
--لقد
ع
�سمعت عن هزميتي ومل حتركي �ساك ًنا.ِ
ريص
�--أر�سلتُ لك القوات الع�سكرية التي تركها قي�صر يف الإ�سكندرية قبل
ش
إمتاعا.
ع
كان الأمر بديه ًّيا �إىل حد كبري� ،أن التحالف الذي �أقامه مع كليوباترا
ر ش
والتوز عي
هذا وزع مقاطعات رومانية على �أبنائه و�أبناء كليوباترا.
401
()5
32ق.م
�شق ال�سماء مذ َّنب بلون الدم واللهب ،منذ �سنوات وتت�سلل الأخبار
ريص ع
من ال�شرق عن هذا التحالف اجلديد الذي انعقد يف �أق�صى ال�شرق ،بني
ع
جاحما ،بني عروقه دماء �أ�سالفه
فارت الدماء يف عروق �أوكتافيو�س ،كان ً
ت�سري ،لن ي�صمت �أوكتافيو�س على هذا بالت�أكيد ،بل �إنه �شن احلرب على
مارك �أنتوين يف روما ،يف ال�ساحات والأ�سواق ،علم اجلميع بتلك العالقة
املحرمة بني مارك �أنتوين و�أرملة يوليو�س قي�صر ،لن ي�سامح ال�شعب
الروماين �أبدً ا يف هذا ،كانت القوانني �صارمة ،و�أوالده الآن ال َيعدون عن
�أوالد غري �شرعيني� ،أو �أنغال ال يرثون وال يعرتف بهم ال�شعب الروماين.
دخل �أغريبا على �أوكتافيو�س و�أردف:
�--أخبار من ال�شرق.
ببطء �صب ك�أ�س النبيذ ،و�أردف:
--حتدث.
402
--الأخبار تقول �إن مارك �أنتوين قد ا�ستوىل على العديد من املقاطعات
الرومانية وكتبها �إىل �أوالده غري ال�شرعيني يف و�صيته.
الح اال�ستياء على وجه �أوكتافيو�س وقال:
--و�صيته� .أين �أودعها؟
--معبد عذارى ف�ستال.
�شرب ك�أ�س النبيذ:
ر ش
والتوز عي
رمقه �أوكتافيو�س للحظات وقال:
--ب�أي طريقة كانت.
للمكان قد�سيته.
�--صاح �أوكتافيو�س ،ذلك الهادئ الوديع حتول لأ�سد �ضا ٍر يف حلظة:
ال يهمني هذا ،اللعنة عليك �أغريبا ،قلت لك �أريد تلك الو�صية ب�أي
ثمن كان.
�--أغريبا ال يحب �أن يخرتق معبد �إله و�أن يروع كهنته ،ف�أردف يف تردد:
--لكن....
قاطعه وهو حاد كال�سيف:
403
--لي�س هناك «لكن» يا �أغريبا ،ماركو�س �أنطونيو�س قد ترك �شقيقتي
كل هذه الأعوام ،ليهيم ع�ش ًقا مع اللعينة كليوباترا يف عالقة حمرمة،
وتلك الو�صية التي �أودعها يف معبد عذارى ف�ستال هي ذريعتي �أمام
جمل�س ال�شيوخ ل�شن احلرب على مارك �أنتوين.
قال �أغريبا :ماذا تنوي �أن تفعل؟
�--س�أن�شد االنتقام من هذا اللعني.
ريص--عفليكن.
ا
قال منا�شدً ا� :أوكتافيو�س� ،سوف ت�شعل حر ًبا.
ع
لفافة من الورق ،ف�أكمل �أوكتافيو�س:
أنطونيو�س
--با�سم جوبيرت العظيم �أكتب تلك الو�صية� ،أناوالت
ماركو�سو �ز عي
فتح الو�صية وبد�أ بقراءتها:
405
الرومانية التابعة مل�صر والأرا�ضي والعقارات التابعة لتلك الأرا�ضي،
وتلك هي كلماتي الأخرية.
عندما انتهى �أوكتافيو�س من قراءة و�صية مارك �أنتوين على م�سامع
ال�شيوخ ،زاد اللغط بني ال�صفوف وخرجت الكلمات التي تنم على عدم
الر�ضى والنقم ال�شديد ،الآن �أ�صبح مارك �أنتوين ال يعدو عن خائن ،خان
بالده وخان ال�شعب والقوانني ال�صارمة ،وتركهم �أوكتافيو�س بني تخ ُّبطهم
ُ
وتالغطهم لدقيقة ،دائ ًما ما يرتبك الإن�سان �أمام اخليارات ،وكان عليه
ر ش
والتوزي
الأرا�ضي الرومانية واملقاطعات التابعة لروما لأبنائه غري ال�شرعيني،
ع
�أبناء ال يحملون دما ًء رومانية نقية ،ويبتعدون كل البعد عن النبل
والأ�صالة� .إنَّ �أبي يوليو�س قي�صر قد وقع يف �شباك تلك ال�ساحرة
يف يوم من الأيام ،ولكن قي�صر يعلم �أن من �سيحكم تلك الأرا�ضي
يجب �أن يحمل دما ًء رومانية نقية ،ولهذا مل يذكر كليوباترا وال
ابنه قي�صرون يف و�صيته ،لأنه يعلم جيدً ا �أن الأرا�ضي الرومانية ال
يحكمها �إال روماين.
ازداد حما�س ال�شيوخ وهتافهم بني املدرجات واملقاعد فا�ستطرد
�أوكتافيو�س:
--و�أنا بدوري كقن�صل روما ال �أ�ستطيع �أن �أوثر ال�صمت على هذا،
وب�صفتي مواط ًنا رومان ًّيا ف�أنا غا�ضب ،غا�ضب ب�شدة ،وما �سوف
406
�أفعله الآن هو ما يجب �أن يفعله �أي روماين حر؛ �سوف �أر�سل ً
جي�شا
�إىل الإ�سكندرية ي�أتيني بر�أ�س هذا اخلائن الذي يدعى ماركو�س
�أنطونيو�س ،و�أطلب منكم هذا الت�صريح ،فهل �أنتم معي يف هذه
احلرب؟
�صاح جميع من يف القاعة:
�--أي نعم.
ص ع
قاد �أوكتافيو�س احلمالت ،وكتب اخلطب التي �شنت حر ًبا على مارك
والتوز عي
ون�شر بيا ًنا ين�ص فيه �أن م�صر هي امل�صدر الأ�سا�سي للقمح يف روما،
وبتويل مارك �أنتوين حكم ال�شرق� ،سوف مينع ح�ص�ص القمح التي ت�صل
�إىل روما ،وتخوف ال�شعب والنبالء على حد �سواء ،واجلميع ،اجلميع بال
ا�ستثناء كان يبارك �أوكتافيو�س لينت�صر يف حربه �ضد ماركو�س �أنطونيو�س.
ا�ستطاعت ال�ستائر �أن متنع الغبار واحلرارة� ،إال �أنها مل متنع خيبة
الأمل ،اعرتاه �شعور باحلزن وال�ضيق ،حر ًبا �أخرى يجب �أن يخو�ضها ،من
�أجل املجد من �أجل الكرامة ومن �أجل احلب بالت�أكيد .هو يعرف ذلك
الفتى� ،إنه ثعبان �صغري ولكنه �إن لدغ ف�إن لدغته مميتة �إىل حد كبري.
اقرتبت منه كليوباترا ومل�ست يف عينيه هذا ال�ضيق الذي يزفره ب�أنفا�س
تتنهد:
407
--ال عليك� ،سوف متر هذه احلرب كما مرت غريها.
قال مارك �أنتوين بعد �أن نظر �إىل كليوباترا يف عينيها الرماديتني:
--ال �أخ�شى احلرب ،وال �أخ�شى املوت.
�س�ألت:
�--إذن ماذا تخ�شى؟
�--أخ�شى ِ
عليك �أنت.
ع والتوزي
--ال �أعرف م�صري تلك احلرب يا كليوباترا ،لقد ع�شت حياة فو�ضوية،
حياة متتلئ بالفو�ضى والأنانية ،ولكن الآن كل ما �أريده ،هو املوت
بني ذراعيك ،ال �أريد غريك �أنت ،عديني �إن مت �أموت بني ذراعيك.
خائف ومهتز بال �شك ،ذلك القائد الع�سكري العاتي ،ح َّوله احلب �إىل
�شيء جمهول املعامل� ،ضعيف الروح ،احلب يح ِّول �أعتى الرجال �إىل جمرد
�صبي يف ال�سابعة من عمره يخ�شى �ضياع حبيبه مع الأيام.
قالت بعد حلظة من ال�صمت:
�--أعدك .فليكن املوت حلي ًفا لنا ال عد ًّوا ،فال حياة يل بعدك.
--لن ننتظر حتى يح�ضر �إىل هنا� ،سوف �أقود اجلي�ش �إىل �ساحل
يوناين ،حتى يت�سنى يل فر�ض خطة املعركة.
408
قالت كليوباترا:
--جي�شي حتت �أمرك ،افعل ما تراه منا�س ًبا.
وانطلق على ر�أ�س اجلي�ش ومعه كليوباترا ،ومترت�س يف خليج �أكتيوم
البحري ،ور�سا الأ�سطول عند ال�شواطئ ،كانت ال�سفن كثرية ،وكبرية،
ذهبية تتلألأ حتت �شعاع ال�شم�س ،يف هذا الوقت كان �أ�سطول �أوكتافيو�س
يقرتب من خليج �أكتيوم البحري بقيادة الأدمريال ماركو�س فيب�سانيو�س
ص ع
يوما ،وا�ستطاع
�أغريبا ،و�ضرب �أغريبا احل�صار على خليج �أكتيوم لثالثني ً
والتوز عي
كل مكان ،ومل يكن له مفر ،ت�شكلت �سفن �أوكتافيو�س بت�شكيل ي�شبه حدوة
احل�صان.
�صاح �أغريبا يف قواته« :الرماة».
ا�ستعد الرماة بالأ�سهم ،ف�أعطى �أغريبا الأمر�« :إطالق».
انطلقت ال�سهام يف الهواء� ،أنارت �سماء الليل كالنجوم ،و�أ�صابت
ال�سفن الكبرية التي مل ت�ستطع املناورة بخفة ،ا�شتعلت الأ�شرعة وانتقلت
النريان بني الأ�سطول ب�سرعة رهيبة و�ساعدتها الرياح يف ذلك ،عندما
وجد مارك �أنتوين قواته حترتق ،بقي هو وكليوباترا يف �آخر الت�شكيل،
ثم �أعطى �أم ًرا للجزء ال�شمايل لل�سفن بالهجوم ،انطلقت ال�سفن وفوقها
وابل من ال�سهام على �سفناجلنود مت�أهبني بال�سهام� ،أطلقوا الآخرين ً
409
�أغريبا ،ولكن كانت ال�سفن �صغرية وا�ستطاعت املناورة بخفة ،ف�أطلق
اجلنود ً
وابل �آخر متعاق ًبا ،ف�أ�صاب الكثري من ال�سفن واحرتقت جماديفها
وهوت �أ�شرعتها ،كادت قوات �أوكتافيو�س تهلك حتى جاءتها الإمدادات
بقيادة اجلرنال ماركو�س �إميليو�س ليبيدو�س الع�ضو الثالث يف التحالف
الأخري.
انطلقت �سفن ليبيدو�س و�أثخنت على قوات مارك �أنتوين ،تراجعت
ع
قواته ،وقاد هو اجلزء الأخري من �أ�سطوله يف هجوم مبا�شر ،هجوم لي�س
ع والتوزي
كانت كليوباترا على قاربها تبتعد وتبكي وت�شاهد النريان العظيمة
التي اندلعت يف �أ�سطولها احلربي ،النريان كانت عظيمة وهي على �سطح
ً
مزلزل لنف�س كليوباترا ،انهزام اجلي�ش وال�ضياع البحر ،كان م�شهدً ا
ال�سرمدي ،كل �شيء �ضاع واختفى و�أ�ضحى رمادًا واحرتق مع احرتاق
�سفنها.
ما تَب َّقى من جي�ش �أنطونيو�س ه َّبت فيه النريان بال هوادة� ،سقط هو
منهزما ،يبكي بال
ً يف املاء� ،سبح حتى و�صل �إىل مع�سكره ،كان وحيدً ا،
�أمل ،جمع ما تبقى من قواته وف َّر بها �إىل ال�شمال.
بعد �أيام انت�شر خرب كاذب يف الأرجاء عن انتحار كليوباترا ،وهو كان
تائ ًها� ،ضائ ًعا بكل ما حتمله الكلمة� ،صرخ يف ال�سماء وهو ثمل� ،صرخ على
410
الآلهة وعلى جنوده وعلى نف�سه ،على الأقل من املمكن �أنه �سوف يقابلها
وو�صى جنوده �أن يتم دفن جثته مع جثة كليوباترا ،كان يف العامل الآخرَّ ،
بال �أمل ح ًّقا� ،سل �سيفه من غمده ،وببطء غمد الن�صل يف �صدره ،نزف
مارك �أنتوين حتى مات ،وكما تعهد جنوده �أر�سلوا اجلثة �إىل الإ�سكندرية،
ليتم دفنها مع كليوباترا.
ص ع
� 12أغ�سط�س 30 ،ق.م.
ع
--بالت�أكيد �إنهم �أطفال.
و
قليل وقال ب� ًأ�سى:
ع التوزي
--هذا الرجاء جاء مت�أخ ًرا ً
قليل.
ثم �أ�ضاف :قي�صر واحد يكفي.
فهمت كليوباترا ما يرمي �إليه �أوكتافيو�س وبكت ،ف�س�أل:
--هل �ستعودين معي �إىل روما؟
�إذا عاد بها �إىل روما ،ف�ستكون �أ�سرية لديه ،وراية لن�صره� ،سيطوف
بها ال�شوارع وال�ساحات ،عارية ال ترتدي �إال �إكليل الذل والعار ،بال �شرف
عقل للحظات:وال جمد ،ظلت تفكر بن�صف ٍ
--وهل هناك خيار �آخر؟
�أخرج �أوكتافيو�س قارورة من درعه ،قارورة �صغرية بها �سائل �أرجواين
اللون ،و�ضعها على الطاولة وقال:
412
--نعم .هناك دائ ًما خيار �آخر.
رمقت القارورة للحظة ،ت�أملت ال�سائل الأرجواين بداخلها ،و�ساد
ال�صمت للحظات �أخرى ،بعدها قالت:
--هل �س�أت�أمل؟
--حر�صتُ � َّأل يحدث هذا.
تناولت القارورة ب�أنامل ترتع�ش ،ورمقت جثة مارك �أنتوين يف
ريص ع
اجلوار ،بعدها فتحت القارورة و�ص َّبت ال�سائل الذي فيها بك�أ�س النبيذ،
413
عاد �أوكتافيو�س �إىل روما بالن�صر ك�إمرباطور حقيقي ،ودخلت
م�ص ُر حتت احلكم الروماين ،ومل يكن هناك �أعداء �آخرون ليحاربهم
�أوكتافيو�س ،و�شهدت روما يف عهده ا�ستقرا ًرا وازدها ًرا عرف با�سم
«باك�س رومانا» .ويف عام 27قبل ميالد امل�سيح� ،أطلق على نف�سه ا�سم
«قي�صر ديفي فيليو�س» �أو «�أغ�سط�س» ،وتو�سعت يف عهده روما و�ساد �سالم
وتق ُّدم ح�ضاري وفني يف كل املجاالت.
ريص ع
الكت «النهاية»
ن ل ل ب
زيع شر وال وت
414
T.me/bookjuice