You are on page 1of 417

T.

me/bookjuice
‫‪T.me/bookjuice‬‬

‫التحالف‬
‫الأخري‬
‫‪b‬‬
‫التحالف الأخري‬
‫رواية‬

‫محمد البدري‬

‫‪T.me/bookjuice‬‬
‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫موقع عصري الكتب‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬

‫‪T.me/bookjuice‬‬
‫�إهداء‬

‫إليك �أيتها الأرواح النقية التي غادرت عاملي منذ �سنني‪...‬‬ ‫� ِ‬


‫�إىل الذين رحلوا وتركونا‪ ،‬وبرحيلهم هذا ازدادت الدنيا ب� ًؤ�سا‬
‫وظال ًما‪...‬‬
‫�إىل من �أحبوين ب�صدق‪� ،‬إىل جداتي االثنتني‪ ...‬رحمة اهلل تعاىل‬
‫عليكما و�أ�سكنكما اهلل ف�سيح جنانه‪...‬‬
‫�إىل �صديقي املقرب ورفيق دربي؛ �أبي‪ ،‬حفظك اهلل و�أطال يف عمرك‬
‫وعافيتك‪ ...‬فواهلل �أنت عندي خري من �ألف �صديق و�ألف كلمة من‬
‫جناحا‬
‫ً‬ ‫تاجا‪ ...‬وواهلل ما حققتُ‬
‫ال�سعادة‪ ،‬وكان حذاء قدميك فوق ر�أ�سي ً‬
‫قط �إال بك‪� ...‬شك ًرا لك يا �أبي العزيز‪.‬‬
‫أوفيك‬
‫�إىل �أمي‪ ...‬واهلل لو نرثت الكلمات كالقمح يف احلقول لن � ِ‬
‫حقك �أبدًا‪.‬‬
‫و�صفك‪ ،‬فال�صباح دائ ًما جميل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫�إىل ال�صباح الزاهي من دون �أن �أزيد‬
‫�إىل هدى م�صطفى‪� ،‬أنتِ النور بعد الظالم‪� ،‬أنتِ م�ضاد لالكتئاب‬
‫وم�صدر �إىل ال�سعادة‪� ،‬أنتِ الهواء واملاء وكل م�سببات احلياة‪.‬‬
‫�إليكِ �أهدي روايتي وحياتي‪.‬‬
‫�إىل �إخوتي ال�صغار‪ ...‬من �شاركتهم الأحالم‪� ،‬إ�سراء وروان‪.‬‬
‫�إىل الأ�صدقاء القدامى ورفقاء الدرب الطويل‪� ،‬إىل �أ�شقائي الذين‬
‫مل ي�شاطروين دمائي‪ ،‬كنتم دائ ًما م�صدر �إلهام وت�شجيع‪� ...‬إىل حممد‬
‫م�صطفى وحممود �أ�شرف‪.‬‬
T.me/bookjuice
)1(
‫حور�س‬

T.me/bookjuice
‫(‪)1‬‬

‫عام ‪ 48‬ق‪.‬م‬
‫مدينة الإ�سكندرية‪...‬‬

‫ع‬
‫جزيرة فارو�س‪...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عب البحر عبابه وزجمرت �أنيابه عن �سفينة وحيدة ترتنح كري�شة يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قدما فنار‬
‫عر�ض عا�صفة �ضارية‪ ،‬انت�صب على ارتفاع مائتي وخم�سني ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الإ�سكندرية ال�شاهق‪ ،‬كان الق�سم الأول من الفنار يحمل يف جعبته �أكرث‬

‫ع‬
‫من ثالثمائة غرفة جم َّهزة للقائمني على ت�شغيل الفنار‪� ،‬أما الق�سم الثاين‬
‫يتم فيه تخزين الأخ�شاب والزيوت للفنار ويف قمة الفنار يقبع فانو�س هائل‬
‫احلجم �أ�ضاء عتمة البحر بنور منبعث يخرتق احلجب وير�شد ال�سفن �إىل‬
‫ليل‪ ،‬تعلوه مر�آة دائرية هائلة كا�سرة للأ�شعة والتي ي�شق �ضو ُءها‬‫املرافئ ً‬
‫البحر الزاخر نها ًرا‪ ،‬يعلو قم َة الفنار متثا ٌل لإيزي�س ربة الفنار كما‬
‫�أطلق عليها جماهري الإ�سكندرية منذ مت البناء يف عهد امللك بطليمو�س‬
‫الثاين؛ «فيالدلفو�س» ويف قلب الفنار منحدر حلزوين �سرمدي‪ ،‬ي�ستعمله‬
‫العمال لتحريك البغال يف حركة دائبة‪ ،‬ال تتوقف ً‬
‫ليل �أو نها ًرا‪� ،‬صعودًا‬
‫ونزول‪ ،‬حتمل الوقود اخل�شبي والزيوت على ظهورها التي تغذي الفانو�س‬ ‫ً‬
‫العمالق‪ ،‬ميتد من �أطراف اجلزيرة ممر «الهيبا�ستاديوم»؛ والذي يربط‬
‫بني جزيرة فارو�س وباقي مدينة الإ�سكندرية وعلى جانبيه �أُ ُتن م�شتعلة‬
‫لتنري الطريق للعابرين وعلى �أعتابه انربى متثال عظيم لبطليمو�س الأول؛‬
‫«�سوتري» املنقذ‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫يف ذلك اليوم ت�أمرت غيوم ال�سماء على القمر ف�أفل بني ظلماتها‬
‫وطياتها احلالكة‪ ،‬انتف�ض الربق يف �أفق ال�سماء تبعه رعد ي�صم الآذان‪،‬‬
‫بجانب الفنار الح الق�صر امللكي‪ ،‬وعن ميينه احلدائق الغناء و�أ�شجار‬
‫الزينون اخل�ضراء‪ ،‬وبجوارها مزارع الكروم و�أ�شجار التفاح التي تكللت‬
‫بحلل بي�ضاء فتباينت ك�أنها حوريات �أر�سلتها ال�سماء �إىل الأر�ض‪ ،‬وعن‬
‫�شماله املعابد التي تزينت بالأعمدة الرخامية النا�صعة وبالتماثيل‬
‫املنت�صبة فوقها‪ ،‬و�أمامها �أُ ُتن م�شتعلة تنري نريانها الطرق كنجوم ال�سماء‬
‫يف الليل‪ ،‬وبعدها يقبع منزل �صغري حيث هناك تتم دباغة ورق الربدي‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫عند الغرفة امللكية‪ ،‬انت�صب حار�سان عند الباب ومن ورائهما �ساحة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫العر�ش؛ به ٌو وا�سع يرتفع بني �صفني من الأعمدة ال�شاهقة‪ ،‬ويف نهاية البهو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫كان يجل�س امللك على عر�شه‪ ،‬كانت حتيطه هالة من التوتر والقلق‪ ،‬ف�أخذ‬

‫والتوز عي‬
‫مي�شط قدميه ذها ًبا و�إيا ًبا‪ ،‬ثم اجته �إىل �شرفته التي طلت على بحر‬
‫�سرمدي ال حتده نهاية‪ ،‬الحت عيناه ً‬
‫�شمال لرتى العمدان ال�شاهقة ملعبد‬
‫الإله زيو�س‪ ،‬رمق عينيه الزاجرتني يف مهابة‪ ،‬ثم عاد ينظر �إىل ذلك اليم‬
‫اخل�ضم و�إىل ال�سماء احلالكة التي تزينت ب�شهاب عابر‪ ،‬خيم ال�صمت‬
‫للحظات �ضرب فيها الربق ال�سماء و�أنار اجلنابات بنور باهت‪ ،‬دخل‬
‫حاجب الق�صر ليعلن عن �أحد احل�ضور‪ ،‬ركع للحظات ثم انت�صب فقال‪:‬‬
‫‪�--‬إن القائد �أخيال�س قائد اجلي�ش يف اخلارج وي�ست�أذن للدخول‪.‬‬
‫قالها احلار�س وانتظر الأمر من امللك‪ ،‬التفت امللك �إىل احلاجب ثم‬
‫جل�س على عر�شه‪ ،‬و�أ�شار �إليه ً‬
‫قبول بنظرة من عينيه الداكنتني‪ ،‬كان للملك‬
‫عينان رماديتان قريبتان �إىل ال�سوداء‪ ،‬كان يف عمر ال�سابعة ع�شرة‪ ،‬كان‬
‫نحيل ذا يدين ع�صبيتني ونظرة حممومة يف عينيه‪ ،‬و�سي ًما ين�سال‬ ‫�شا ًّبا ً‬
‫من ذقنه �ضفرية �صغرية تخ�ضبت بالذهب امل�صهور وحلقات نحا�سية‬
‫�صغرية مت�شابكة تلألأت يف بهاء‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫خرج احلاجب‪ ،‬حلظات ثم دخل «�أخيال�س» قائد اجلي�ش‪ ،‬واليد اليمنى‬
‫للملك ال�شاب‪ ،‬كان له عينان ثاقبتان يحيطهما ُكحل طاغي ال�سواد ٍ‬
‫طاف‬
‫طويل كال�سيف وحاد الطباع كالذئب‪ ،‬يرتدي‬ ‫بني جفونه‪ ،‬عري�ض املنكبني ً‬
‫على كتفيه فرو منر بري تلألأت �أنيابه حول عنقه يف قالدة‪ ،‬وعلى ر�أ�سه‬
‫قلن�سوة من ال�صلب‪ ،‬وبني فكيه �أ�سنان تلمع من الذهب اخلال�ص انحنى‬
‫� ً‬
‫إجالل للملك قبل �أن يقول‪:‬‬
‫فليحي موالي امللك ال�شاب بطليمو�س الثالث ع�شر‪� ،‬سليل عائلة‬ ‫‪َ --‬‬
‫البطاملة‪ ،‬وفرعون م�صر ً‬
‫�شمال وجنو ًبا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�ألقاها ثم انت�صب‪ ،‬فقال امللك‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪َ --‬‬


‫فليحي عايل املقام القائد �أخيال�س‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ثم راح ي�س�أل بنربات مرتقبة‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لعل الأخبار تكون �سارة‪.‬‬
‫وب�شيء من الرتدد امل�شوب بالقلق قال �أخيال�س‪:‬‬
‫‪�--‬أخ�شى يا موالي �أن �أخباري �سوف تكون �أخبا ًرا ِ�س ً‬
‫جال‪ ،‬وال �أعرف ما‬
‫وقعها على امللك‪.‬‬
‫بنظرات عاب�سة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قال امللك‬
‫هات ما عندك‪.‬‬ ‫‪�--‬آمل �أال ي�ضيع زيو�س برقه عب ًثا‪ِ ،‬‬
‫متالك �أخيال�س �أنفا�سه وا�ستجمع بع�ض الهواء يف رئتيه وقال ب�صوت‬
‫يكاد يكون مهتزًّا‪:‬‬
‫‪--‬عادت �شقيقتك من �سوريا‪ ،‬وهناك ا�ستطاعت �أن جتمع ً‬
‫ردحا لي�س‬
‫بقليل من اجلنود‪ ،‬ثم رب�ضت هي و�أ�سطولها البحري يف ح�صن‬
‫بلوزيوم‪ ،‬وهو ح�صن يقع �شرق دلتا نهر النيل يف �شمال �أر�ض الفريوز‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫ا�ستغرق امللك حلظات ال�ستيعاب كلمات �أخيال�س وعندما جاء الفهم‬
‫�أخ ًريا الحت على وجهه نظرات الغ�ضب وقال بنربات ال تخلو من ال�صخب‪:‬‬
‫جال؟ قل يل بحق زيو�س‪ ،‬كيف ا�ستطاعت‬ ‫‪--‬وكيف تكون تلك الأخبار ِ�س ً‬
‫�أن تدخل �أر�ض الفريوز‪ ،‬ويدن�س �أ�سطولها مياهنا املقد�سة؟ ماذا‬
‫تنتظرون‪� ،‬أن تدخل الإ�سكندرية وت�ستويل عليها؟‬
‫ملتم�سا العذر‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال �أخيال�س‬
‫‪�--‬إن �شقيقتك كليوباترا قد �أخذتنا على حني غرة يا موالي‪ ،‬فقد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ا�ستغلت ان�شغالنا بالأمور الداخلية للمملكة ودن�ست �أقدامها �أرا�ضينا‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وجنودنا عند ح�صن بلوزيوم منهم من انحاز لها ومنهم من هرب‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وا�ستطاعت ال�سيطرة على ا َمل َرا ِفئ‪ ،‬و�أبراج املراقبة‪ ،‬وامل�ستوطنات‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫الرومانية التابعة للقائد جابينيو�س‪.‬‬
‫ا�ست�شاط امللك غ�ض ًبا ثم ت�ساءل يف حنق‪:‬‬
‫‪�--‬أين بوثينيو�س؟‬
‫‪--‬يف اجلناح الغربي للق�صر‪ ،‬ي�ستقبل �أ�شراف و�شيوخ حي الدلتا‪...‬‬
‫تلوك �أل�سنتهم بغمغمة ال�شكوى من ال�ضرائب الباهظة التي فر�ضها‬
‫عليهم القائد جابينيو�س‪ ،‬يلتم�سون �أن تلني لهم �أن�سابهم ال�شريفة‪.‬‬
‫وعندما انتهى‪ ،‬ترقبت عيناه الت�سا�ؤل يف عني امللك‪ ،‬وبعد حلظات‬
‫مرت هد�أت فيها نربات امللك قال‪:‬‬
‫‪--‬ومن �أي الأن�ساب ال�شريفة ينحدرون؟‬
‫‪--‬تتحاكى كتبهم ب�أن جدهم الكبري كان يعي�ش يف م�صر منذ �آالف‬
‫يوما‪،‬‬
‫ال�سنني‪� ،‬إنهم ي َّدعون ب�أنه توا�صل مع ال�سماء والآلهة واملالئكة ً‬
‫أفاع‪� ،‬شق البحار‪ ،‬و�أخرج من الأر�ض الأنهار‪.‬‬ ‫ح َّول اجلماد �إىل � ٍ‬
‫‪11‬‬
‫مل يب ُد على امللك �سوى نظرات غري م�صدقة ما �سمعته �أذناه وبنربات‬
‫ال تخلو من ال�سخرية قال‪:‬‬
‫‪�--‬أهو ج ُّدهم �أم �إله من �آلهة الأوليمب؟‬
‫�أكمل �أخيال�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬يقولون ب�أنه ر�سول من ال�سماء‪ ،‬جاء ليخرجهم من م�صر بعد �أن مت‬
‫ا�ستعبادهم لعقود‪.‬‬

‫ع‬
‫�أثارت كلمات �أخيال�س الف�ضول عند امللك‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫‪--‬وما كتابهم؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬ي�سمى بالتوراة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫‪--‬ولعلني منذ زمن ال �أ�صدق �أ�ساطريهم الكاذبة‪ .‬والتوزي‬
‫قال امللك‪:‬‬

‫‪�--‬سكن اليهود �أر�ض الفريوز واملنطقة ال�شمالية من الإ�سكندرية منذ‬


‫ري مع البطاملة الأوائل‪ ،‬قبل �أن تك�سر روما‬ ‫زمن‪ ،‬وقد كان لهم ٌّ‬
‫حظ وف ٌ‬
‫�شوكة م�صر يف ع�صر امللك بطليمو�س الثاين ع�شر» �أولتي�س» وتعني‬
‫القائد «جابينيو�س» على جباية ال�ضرائب‪ ،‬وقد �ضاقت �صدورهم‬
‫ذرعا بال�ضرائب الباهظة‪ ،‬فها هم اليوم قد جاءوا فاحتني الأفمام‬ ‫ً‬
‫�آملني �إطعامها‪.‬‬
‫قال امللك ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪ِ --‬ول ي�سكنون �أر�ض الفريوز دون غريها؟‬
‫�أجاب �أخيال�س‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫‪--‬يتباركون بجبل الطور‪ ،‬تتقاول الأقاويل عندهم‪� ،‬أن ربهم يهوه قد‬
‫جتلى على ذلك اجلبل‪.‬‬
‫نظر امللك لأخيال�س ومل ُيع ِّقب‪.‬‬

‫يف ذلك الوقت �شقت مقدمة ال�سفينة البحر ف�أحدثت بع�ض الأمواج‬
‫الهادئة‪� ،‬ضرب �صوت ال�شراع الهادئ م�سامعهم ف�أ�صابهم بع�ض االرتياح‬
‫اجلليل‪ ،‬انتابت �أج�سادهم رع�شة قوية حتمل يف دبرها انت�شاء عندما‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�شاهدت �أعينهم الفنار العظيم‪ ،‬الذي يتحاكى عنه امل�سافرون والرحالة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫من الرومان‪ ،‬وعلى ُبعد �ألف ذراع ميزت �أعينهم متثال زيو�س على العر�ش‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫مم�س ًكا ب ُيمناه بر ًقا هب يف ال�سماء‪ ،‬خرج البخار كثي ًفا من �أفواه الرجال‬

‫والتوز عي‬
‫على حد �سواء �إثر رع�شة الربد القار�سة‪� ،‬أنزلوا ال�شراعات ور�ست ال�سفينة‬
‫عند د�سكار ميناء الإ�سكندرية‪ ،‬تقدم جندي من ال�سفينة التي اعتالها‬
‫بحارة من الرومان‪ ،‬طافت نظراته متفح�صة الوجوه للحظات‪ ،‬ثم قال‬
‫با�ستق�صاء‪:‬‬
‫‪--‬من �أين انحدرمت وما مق�صدكم؟‬
‫�أثار �صوت احلار�س انتباه البحارة‪ ،‬تقدم �أحدهم ويبدو �أنه رئي�سهم �أو‬
‫قبطان ال�سفينة‪ ،‬اقرتب من احلار�س وقال ب�صوت خ�شن دل على غالظته‪:‬‬
‫طويل مع الأمواج من روما �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬فمعنا‬‫‪--‬لقد خ�ضنا عرا ًكا ً‬
‫عبيد من كل لون ومن كل بلد‪� ،‬أتينا قا�صدين التجارة‪.‬‬
‫�سمح لهم اجلندي باملكوث بعد �أن د َّون �أ�سماءهم يف �سجل خا�ص‬
‫بال�سفن التي تر�سو عند امليناء‪� ،‬أ�سقطوا الهلبان يف املاء وتركوا �أحد‬
‫البحارة حلرا�سة ال�سفينة‪ ،‬وما �إن ت�أهبوا للرحيل حتى ج ُّروا عبيدهم‬
‫وراءهم مكبلني بالأ�صفاد واملقامع‪ ،‬فقال �أحدهم‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫‪--‬فلن�أمل بيع العبيد بثمن زاخر‪ ،‬وليباركنا زيو�س ويوفقنا‪.‬‬
‫قالها القبطان ورمق �أ�صحابه بابت�سامة من حتت حلية كثة وكثيفة‬
‫ومت�شابكة كالغابات‪.‬‬
‫ف�أردف �أحدهم‪:‬‬
‫‪--‬لن يباركنا زيو�س �أبدً ا طاملا نبيع �أبناء جلدتنا‪.‬‬
‫كان من �ألقاها �شاب روماين عري�ض املنكبني وو�سيم بخ�صالت‬
‫�صفراء طويلة تتحرك مع الرياح وكان هو ال�شاب الوحيد يف ال�سفينة �أما‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الآخرين فترتاوح �أعمارهم بني �أربعة وخم�سة عقود‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫رمقه القبطان بنظرات مت�شككة و�س�أل بالرغم من معرفة الإجابة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫م�سب ًقا‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬من تق�صد يا �إريو�س؟‬
‫�أ�شار ال�شاب �إريو�س بعينيه �إىل �أحد العبيد الرومانيني‪ ،‬ومل تكن هيئته‬
‫كهيئة العبيد �أبدً ا‪ ،‬ال اللون الأبي�ض امل�شرب باحلمرة وال مالب�سه املهندمة‬
‫التي نه�شتها الأمواج وال �شارة اجلنود التي كان يحملها‪ ،‬كانت الأفكار‬
‫تدور على �أنه كان جند ًّيا هار ًبا من معركة ما‪ ،‬ولكن ذلك النوع من العبيد‬
‫طويل يحمل‬‫الأكرث طل ًبا يف حلبات القتال و�ساحات الكولو�سيوم‪ ،‬وكان ً‬
‫ج�سده الكثري من اجلراح والكدمات ك�أمنا كان يقاتل زيو�س نف�سه ف�صعقه‬
‫بربقه و�أدماه‪ ،‬تابعت عينا �إريو�س ج�سده املفتول وخ�صالته الداكنة و�شعره‬
‫الك�ستنائي املبلل فقال‪:‬‬
‫‪--‬عندما كنا يف �أوج العا�صفة ال�ضارية‪ ،‬انزلقت قدمي بغت ًة مني وكدت �أن‬
‫�أ�سقط يف غائلة املوج ولكن حال بينها وبيني ذلك الروماين ال�شجاع‪،‬‬
‫فهاج املاء وماج لكنه انت�شلني بب�أ�س �شديد بع�ضالته احلديدية‪،‬‬
‫‪14‬‬
‫�أُق�سم بزيو�س العظيم‪ ،‬كنت �أعتقد �أنه �إله من �آلهة الأوليمب وجتلى‬
‫لإنقاذي‪ ،‬حملني و�أنا خائر القوى م�ست�سلم حتت وط�أة الأمواج‪ ،‬وما‬
‫�إن ات�ضحت الر�ؤيا حتى تبني يل وجهه الوديع والو�سيم‪ ،‬كيف يكون‬
‫هذا عبدً ا من العبيد يا �ستافلو�س؟ �ألأننا انت�شلناه من املياه ن�صبح له‬
‫�أ�سيادًا وي�صري لنا عبدً ا؟‬
‫كان �ستافلو�س يحمل من الغالظة ما يكفي ليعرف �إريو�س ال�شاب‬
‫كلماته التي �سوف ينطق بها‪ ،‬ولكن مل تكن فكرة املحاولة �سيئة لتلك‬
‫الدرجة‪ ،‬تد َّثر �ستافلو�س بالفرو واجللد اخل�شن مما �أعطى له مظه ًرا‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�شر�سا �إىل حدٍّ ما‪ ،‬قال لل�شاب �إريو�س بحنق �شديد‪:‬‬

‫ل‬
‫ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬تلك هي جتارتنا يا �إريو�س‪ ،‬ولو تعاملنا مع العبيد بالعاطفة لأ�صبح‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ثقيل كثقل الأوليمب‪� ،‬إمنا هي جتارة وما نحن �سوى جتار‪.‬‬ ‫الأمر ً‬
‫قال �إريو�س بنربات ميل�ؤها عدم الر�ضى‪:‬‬
‫‪--‬لكنه �أنقذ حياتي يا �ستافلو�س‪.‬‬
‫رد �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪--‬ونحن �أنقذنا حياته عندما انت�شلناه من الأمواج العاتية‪.‬‬
‫تن�س �أنه كان يحمل �شارة اجلنود‬ ‫‪�--‬إذن فقد �سد دينه و�أ�صبح ح ًّرا‪ ،‬وال َ‬
‫الرومان‪ ،‬يرتدي رداءهم‪ ،‬ويحمل �أ�سلحتهم‪.‬‬
‫قال بيتالو�س بنربات هادئة‪:‬‬
‫قاتل و�إال ف�سوف‬ ‫‪--‬ا�سمع �أيها الفتى‪ ،‬يف تلك احلياة عليك �أن تكون ً‬
‫مقتول‪ ،‬تلك هي القاعدة الوحيدة التي عليك اتباعها‪� ،‬أما‬ ‫ً‬ ‫تكون‬
‫عن اجلندي الهارب فعقاب الهروب من اجلي�ش هو املوت‪ ،‬وم�صري‬
‫العبودية �أف�ضل من م�صري املوت بكل ت�أكيد‪ ،‬ولعل كونه جند ًّيا �ساب ًقا‬
‫‪15‬‬
‫�سوف يجعله يح�صد املجد �سري ًعا يف حلبات القتال وبني �أ�سوار‬
‫الكولو�سيوم‪.‬‬
‫رجل حكي ًما �إىل حدٍّ ما‪ ،‬بلغ عمره العقد ال�ساد�س وبد�أ‬ ‫كان بيتالو�س ً‬
‫ال�صلع يزحف �إىل ر�أ�سه وبالرغم من هذا كان يتمتع بالقوة واللياقة‪ ،‬له‬
‫�سرعة ور�شاقة ال ميتلكها من يف مثل �سنه‪ ،‬كان يعمل يف روما حدادًا ي�صنع‬
‫ال�سيوف والرماح وال�سهام‪ ،‬وكان ميتلك مهارة جيدة يف ا�ستخدام �سيوف‬
‫املبارزة‪ ،‬واعتاد �إريو�س الذهاب �إليه كل �صباح ليتعلم �أ�صول املبارزات‬

‫ع‬
‫فار�سا يف يوم ما كما �أبناء العائالت النبيلة‬‫بال�سيوف‪ ،‬كان يحلم �أن يكون ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫و�أن يح�صد املجد بني �صفوف اجلي�ش الروماين‪ ،‬ولكن البحار تبتلع كل‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وقت لآخر‪.‬‬‫الأحالم يف غياباتها من ٍ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬يا له من م�صري �أف�ضل بكل ت�أكيد! م�صري ينح�صر بني وحو�ش‬

‫ع‬
‫و� ُأ�سود ال�صحراء وبني جمهور �سريع الغ�ضب واالنفعال ي�صرخون‬
‫ويهتفون لتفتك بهم الوحو�ش �إر ًبا �إر ًبا‪ ،‬يا له من م�صري م�شرق ح ًّقا!‬
‫قالها ب�شطط وب�شيء من اال�ستهزاء‪.‬‬
‫�س�أل ثاينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬وما املميز يف ذلك العبد عن غريه �أيها ال�شاب يجعلك تدافع عن‬
‫حريته والتي يبدو �أنه ال ي�أبه بها �إطال ًقا؟‬
‫كان ثاينيو�س �ضخم اجلثة له كر�ش يتدىل ملرتين �أمامه‪ ،‬ق�ضى حياته‬
‫كلها تاج ًرا للعبيد يف روما‪ ،‬كان ي�شتهر بال�شراهة حتى �إنه ال يتوقف عن‬
‫الطعام �إال حينما ي�أتي وقت ال�شراب‪ ،‬كان يف منت�صف العقد اخلام�س‪،‬‬
‫كان يحب الذهاب �إىل الإ�سكندرية من �أجل حاناتها وحمظياتها التي‬
‫ت�شتهر باجلمال الباهر يف روما‪.‬‬
‫�أجاب �إريو�س‪:‬‬
‫‪16‬‬
‫‪--‬انظر �إليه يا ثاينيو�س‪� ،‬أال يبدو لك �أنه من �إحدى العائالت النبيلة؟‬
‫جريحا بني الأمواج‪ ،‬ولي�س فا ًّرا من املعركة كما تزعمون‪،‬‬ ‫ثم �إنه كان ً‬
‫حتى �إننا ال نعرف ما ق�صته وما وراءه‪.‬‬
‫اقرتب منه بيتالو�س وا�ض ًعا يده على كتفه وقال يف رفق‪:‬‬
‫‪--‬وماذا تقرتح �أن نفعل به؟‬
‫�صمت الفتى للحظات ثم عاد يقول‪:‬‬
‫‪--‬اتركوه يذهب ح ًّرا طلي ًقا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�صاح �ستافلو�س‪:‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ال يا �إريو�س؛ مل نتكبد عناء ال�سفر و�شقاء الأمواج من روما �إىل م�صر‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫عب ًثا‪� ،‬إمنا جئنا لغاية‪ ،‬وهي التجارة وك�سب قوت يومنا‪ ،‬ولن �أ�سمح‬
‫لك ب�إف�ساد الأمر لأجل م�شاعرك اجليا�شة والعطوفة‪� ،‬أما عن �شارته‪،‬‬
‫فهو جندي هارب من املعركة وكان م�صريه املوت ال حمالة �إما غر ًقا‬
‫يف قلب البحر و�إما ب�سهم يخرتق قلبه بال هوادة‪ ،‬فعلى الأقل يجب‬
‫�أن يكون ممت ًنا لأننا انت�شلناه من م�صريين ينتهي كالهما بالهالك‪.‬‬
‫كانت كلماته القا�سية تكفي لي�صمت ال�شاب وال يجادل يف الأمر‬
‫جمددًا‪ ،‬رمق منقذه ب�شفقة‪ ،‬لكن املنقذ اليوم يف عامل �آخر‪ ،‬مل ي�أبه‬
‫حلديثهم ومل يئن لعبوديته ولن يفرح بحريته‪ ،‬كان هائ ًما يف �شيء �أعظم‬
‫�شخ�صا يبتلعه ال�صمت كما‬
‫و�أكرب‪ ،‬تعجب �إريو�س من �صمته املهيب‪ ،‬مل ي َر ً‬
‫فعل مع منقذه‪ ،‬جميع العبيد يتحدثون ويلمزون ويهم�سون �إال هو �صامت‬
‫�صمتًا مري ًبا‪ ،‬حتى عند توزيع الطعام بني العبيد والذي هو ك�سرة خبز ال‬
‫ت�سمن وال تغني من جوع‪ ،‬مل يتناول �شي ًئا ومل تراوده �أمعا�ؤه بالرغم من‬
‫خوائها‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫انق�سمت الإ�سكندرية �إىل ثالثة �أحياء‪ ،‬حي بر�شوم املخ�ص�ص للإغريق‬
‫والرومان وحي راكتو�س الذي تخ�ص�ص للم�صريني واملنطقة ال�شمالية‬
‫لليهود‪ .‬فرت �أعينهم �إىل معمار الإ�سكندرية والذي ال يختلف كث ًريا‬
‫عن روما‪ ،‬كانت الأبراج مربعة مبنية بالقرميد‪ ،‬نظروا �إىل املعابد التي‬
‫ترفعها �أعمدة رخامية �شاهقة والبالط النا�صع الذي حمل العربات ذات‬
‫العجالت اخل�شبية جترها �أح�صنة م�صرية �أ�صيلة‪ ،‬وعند قرية راكتو�س‪،‬‬
‫هال �أعينهم متثال «دينوقراطي�س»؛ م�ست�شار الإ�سكندر الأكرب ومهند�س‬

‫ع‬
‫الإ�سكندرية العظيم النابغة‪� ،‬أمام مكتبة الإ�سكندرية‪ ،‬وعلى ر�أ�سه �إكليل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫املعرفة املطلقة‪ ،‬ينبت من جبينه قرون ثور جامح تثري الرهبة يف قلوب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الناظرين‪ ،‬رفعت املكتبة �أعمدة دائرية تزينت بنقو�ش بارزة عن تاريخ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫املكتبة منذ البناء‪ ،‬ويف احلائط ال�شمايل من املكتبة ُنق�شت لوحة ُر�سم‬

‫ع‬
‫جال�سا يف حلقة دائرية من الرجال يلقنونه علوم‬‫عليها الإ�سكندر الأكرب ً‬
‫الفل�سفة واملنطق‪ ،‬وتقف من خلفهم «�آثينا» �إلهة احلكمة تبارك املجل�س‬
‫بنظرات حكيمة تنبثق عن عينني ثاقبتني‪.‬‬
‫مكثوا بحي برو�شوم املخ�ص�ص للإغريق والرومان عن غريهم‪ ،‬حيث‬
‫احلانات واخلمر واملحظيات التي يتحاكى عنها البحارة وين�شدون الأغاين‬
‫عن جمالها‪ ،‬ا�ست�أثر كل منهم مبحظية تتمايل بني �أيديهم على �أنغام‬
‫الناي امل�شتعلة‪ ،‬كانوا يتناوبون حرا�سة العبيد فيما بينهم‪ ،‬وملا حان دور‬
‫ال�شاب �إريو�س يف حرا�سة العبيد‪ ،‬جتمع ال�شيوخ يف حانة «ديوني�سيو�س»؛‬
‫التي �سماها مالكها تي ُّم ًنا ب�إله اخلمر الإغريقي‪� ،‬شربوا اخلمر كما لو �أنه‬
‫ماء‪ ،‬ت�ساقطت �أبدانهم ك�أوراق ال�شجر يف اخلريف مغبة اخلمر الذي �سار‬
‫ب�صوت مد ٍّو على كل‬
‫ٍ‬ ‫بني العروق كالدماء‪ ،‬رفعوا �أنخا ًبا كثرية و�ضحكوا‬
‫طبق ُو�ضع �أمامه كرجل مل ي َر الطعام يف‬
‫دعابة‪ ،‬وانق�ض ثاينيو�س على ٍ‬
‫‪18‬‬
‫حياته قط‪ ،‬تناولوا الطعام ب�شراهة كما �شربوا ب�شراهة‪ ،‬ومن وراء حليته‬
‫ال�ضخمة قال �ستافلو�س بغطر�سة من �أثر ثموله‪:‬‬
‫‪�--‬إال ت�شبعن �أعينكم من حمظيات الإ�سكندرية‪ ،‬فلن جتدوا حمظيات‬
‫كمثلهن يف العامل �أجمع‪ ،‬فهنا يتجمع اجلمال الروماين بالنبيذ‬
‫امل�صري‪ ،‬فينتج �أبناء من �صليب فينو�س‪.‬‬
‫�ضحك البحارة‪ ،‬ثم قال ثاينيو�س بعد �أن جترع ك� ًأ�سا من النبيذ‪:‬‬
‫أخيك �إريو�س نف�س املحظيات؟‬ ‫‪�--‬ألن ي�شاطرنا ابن � َ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قال �ستافلو�س بل�سان ثقيل كاحلجر‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪�--‬إن �إريو�س �شاب عفيف‪ ،‬بتول‪ ،‬مل يلم�س امر�أة من قبل‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�ضحك ثاينيو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬لهذا تراه ال يجل�س جمال�س الرجال‪ ،‬ال يالعب حمظيات جميالت‪،‬‬
‫يعامل العبيد كواحد منهم ولي�س ك�سيد لهم‪.‬‬
‫‪--‬هذا من نافل القول يا ثاينيو�س‪� ،‬إن �إريو�س طيب القلب‪ ،‬ال يعدو عن‬
‫�صبي يف �سن الع�شرين ال يفقه �شي ًئا يف مكائد ود�سائ�س احلياة‪.‬‬
‫قال بيتالو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن هذا الفتى له طالع منحو�س كالنجم الآفل‪ ،‬ف�إن عملنا هذا‬
‫ينكدر حتت وط�أته الرجال الأ�شداء‪ ،‬رجال ذوو ب�أ�س �شديد �صنعتهم‬
‫امل�صاعب‪ ،‬رجال حاربوا الوحو�ش واملردة وعفاريت الرب والبحر‪،‬‬
‫رجال قاوموا جمال حوريات البحر وك�سروا لعناته‪ ،‬فما بالك بفتًى ال‬
‫يعدو �سن الع�شرين‪� ،‬أي لعنة �أ�صابت ذلك الفتى؟‬
‫قال �ستافلو�س بحزن دفني‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫‪--‬ال يعرتيني �شك �أن اللعنة التي قد �أ�صابته هي لعنتي �أنا‪ ،‬فهو ابن‬
‫�أخي يتبعني يف كل خطوة �أخطوها دون تردد‪ ،‬يتخذين كمعلم له‪،‬‬
‫يوما‪ ،‬بل �أنا ال �أعد نف�سي ً‬
‫رجل فقد‬ ‫ولكنه يجهل �أنني مل �أكن معل ًما ً‬
‫عقله من فرط ثموله‪.‬‬
‫كان �صوت �ستافلو�س مهتزًّا ميتلئ بالكبت وب�شيء وا�ضح من احلزن‪،‬‬
‫قال ثاينيو�س خمف ًفا‪:‬‬
‫‪--‬ن�أ�سف لعدم ت�أويل �أوجعاك حق ت�أويلها‪ ،‬ولعل م�صارع الأقدار تق�ضي‬

‫ع‬
‫�أف�ضلها‪ ،‬ورمبا يف يوم من الأيام كنت �أنت «�أنكايزي�س» العجوز وكان‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�إريو�س كجدنا «�إينيا�س» جنل الفار�س» �أنت�شي�سي�س» البطل‪ ،‬الذي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أنقذ �أباه ال�شيخ من حريق طروادة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫مل بني �أنياب ذئب‪:‬‬
‫قال �ستافلو�س بي�أ�س َح ٍ‬

‫ع‬
‫‪�--‬أنكايزي�س؛ �إن كنت تريد ت�شبيهي‪ ،‬فعليك ت�شبيهي ب�إري�س‪� ،‬إله احلرب‬
‫والدمار‪ ،‬فنحن مت�شابهان �أوج الت�شابه‪ ،‬فهو قد �أحرق طروادة عن‬
‫بكرة �أبيها‪� ،‬أما �أنا ف�أحرق كل مظاهر احلب والر�أفة يف قلب �إريو�س‬
‫فظا قو ًّيا لكيال يقع بني مكائد احلياة‪� ،‬أخ�شى عليه من قلبه‬ ‫ليكون ًّ‬
‫املليء بالر�أفة‪.‬‬
‫�أردف بيتالو�س‪:‬‬
‫‪--‬مه ًما يكن‪ ،‬فلديك نوايا �سليمة‪.‬‬
‫�ضحك �ستافلو�س مبرارة وا�ضحة وجترع ك� ًأ�سا من النبيذ وقال‪:‬‬
‫‪--‬وهل النوايا ال�سليمة �أطف�أت نريان طروادة امل�شتعلة؟‬
‫�صمت البحارة وزاغت عني �ستافلو�س يف بحر عميق من ذكريات‬
‫املا�ضي ال�سحيق‪ ،‬عندما كان �إريو�س �صغ ًريا ودي ًعا‪ ،‬كان على �صدر �أمه‬
‫‪20‬‬
‫كاملالئكة‪ ،‬ولكن تركه �أبواه وحيدً ا يف حياة �ضارية‪ ،‬اهتم بالر�ضيع حتى‬
‫�شب فرعه‪ ،‬وملا بلغ �أ�شده علمه ال�صيد وعلمه �أ�صول املبارزة‪ ،‬علمه كيف‬
‫ي�ستل �سيفه من غمده بحنكة حمارب‪ ،‬علمه كيف مي�سك القو�س وكيف‬
‫آمال عظيمة ولكن الأمور حالت دون ذلك‪،‬‬ ‫يرد ال�سهم‪ ،‬كان يبني عليه � ً‬
‫ولرمبا كان هذا ما ينوء به �صدر �ستافلو�س‪ ،‬فهو ي�صنع ن�سخة م�صغرة‬
‫منه يف �إريو�س ال�شاب‪ ،‬تراوده نف�سه بالت�أنيب تارة وبالكوابي�س �أخرى‪،‬‬
‫يوما‪.‬‬
‫فيخر�سها بك�أ�س من اخلمر العتيق‪ ،‬فتت�شتت الأفكار ك�أنها مل تكن ً‬
‫عاد �ستافلو�س من غياهب الذكريات عندما قال ثاينيو�س‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬يجب �أن نغادر الإ�سكندرية غدً ا‪ ،‬نبيع العبيد ونك�سب بع�ض الدراخم‪،‬‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ونعود بعدها �إىل روما‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫قال بيتالو�س‪:‬‬
‫‪--‬و�أي الطرق �ستهتدون؟‬
‫�أردف �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أمامنا طريقان ن�ستطيع �أن نهتدي بهما �إىل طيبة‪ ،‬الطريق الأول‬
‫يوما يف �أف�ضل‬
‫طويل و�آمن ولكن نبلغ الهدف بعد م�سرية ثالثني ً‬
‫الأحوال‪ ،‬والآخر ق�صري لكنه مليء باملخاطر وال�صعوبات ونبلغ‬
‫يوما‪.‬‬
‫الهدف يف حوايل م�سرية ت�سعة ع�شر ً‬
‫ن�ستطيع بيع العبيد يف ممفي�س �أو حتى مريميدا وال نتكبد عناء ال�سفر‬
‫�إىل اجلنوب‪.‬‬
‫‪--‬يف طيبة ال ي�سكن �إال خوا�ص اخلوا�ص من علية القوم‪ ،‬غري �أنني‬
‫�أعرف جتار اجلنوب كما �أعرفكم‪ ،‬ون�ستطيع جني ع�شرات الأ�ضعاف‬
‫من الربح عن �أي دار �أخرى �إذ كانت ممفي�س �أو حتى مريميدا‪� ،‬أو‬
‫‪21‬‬
‫بخ�سا جدًّا‪ ،‬فحا�شية امللك‬‫حتى هنا يف الإ�سكندرية يكون الثمن ً‬
‫يقومون ب�شراء العبيد للملك على غري �إرادة التجار‪.‬‬
‫‪--‬و�أي طريق �سن�سلك‪ ،‬الأول �أم الثاين؟‬
‫‪�--‬إن �أردمت �سلك الطريق الأول‪ ،‬فت�أهبوا لعط�ش ي�ش ِّمر عن �سواعده ف�إن‬
‫امل�سافة بني الإ�سكندرية و�سيوة من ال�صحراء الغربية م�سرية ثمانية‬
‫�أيام‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫قال بيتالو�س‬

‫ع‬
‫‪�--‬أ�ست�سلك بنا �صحراء جرداء‪.‬؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أردف �ستافلو�س بنربات ُمطم ِئنة‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬ال تقلق‪� ،‬أعرف م�سالك الوديان والطرق املمهدة‪ ،‬وامل�ستنقعات‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫العذبة‪ ،‬و�إن كنتم تخ�شون ظم�أ ال�صحراء فلت�سلكوا طري ًقا �آخر‪.‬‬
‫‪--‬وما هو؟‬
‫‪--‬من الإ�سكندرية �إىل ممفي�س ومن ممفي�س �إىل الفيوم ومن الفيوم‬
‫�إىل �أخميم ومن �أخميم ن�ستطيع الو�صول �إىل طيبة وكما قلت لكم‬
‫يوما وليلة‪.‬‬
‫م�سرية ذلك الطريق ثالثون ً‬
‫قال ثاينيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إذن فلن�سلك ال�صحراء وليكن بو�سايدن معنا‪.‬‬
‫ممازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال بيتالو�س‬
‫‪�--‬إن بو�سايدن لن يروي حلقك العاط�ش �إذا علم �أنك كنت تق�ضي ليلة‬
‫غا�شمة مع حمظية من حمظيات الإ�سكندرية‪ ،‬ف�ستزداد غريته مما‬
‫خ�صتك الآلهة عنه‪.‬‬
‫�ضحك وقال‪:‬‬
‫‪22‬‬
‫‪--‬ت ًّبا له‪� ،‬أال تكفيه زمرة املحظيات التي قد �أغدقتها عليه �أفروديت‪.‬‬
‫نظر �ستافلو�س �إىل ثاينيو�س ثم �أردف بابت�سامة بلهاء‪:‬‬
‫‪�--‬أتعلم يا ثاينيو�س‪� ،‬أنت رجل جيد ولكن فيك عي ًبا واحدً ا فقط‪� ،‬أنت‬
‫ت�شبه زوجتي‪.‬‬
‫�أطلقوا ال�ضحكات ب�شراهة‪ ،‬و�ساد ال�صمت للحظات ا�ستطرد فيها‬
‫�ستافلو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أعدوا عدتكم وت�أهبوا خلروجكم من الإ�سكندرية غدً ا‪ ،‬ال منلك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الوقت لنماطل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫قالها و�سكت �أ�صحابه للحظات‪� ،‬شرد ثاينيو�س ً‬
‫قليل‪� ،‬شعر بل�سع ٍة برد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫اخرتقت ج�سده بقوة وقرر �أن ينهيها بابتالع جرعة �أخرى من النبيذ‪ ،‬ثم‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫قال بنربات هادئة على غري العادة‪:‬‬
‫‪�--‬أال تراودك الأفكار يا �ستافلو�س؟‬
‫‪�--‬أي �أفكار؟‬
‫‪�--‬إن الأفكار تراودين وقلبي يحثني على املكوث يف الإ�سكندرية وعدم‬
‫العودة �إىل روما‪.‬‬
‫كانت كلماته غريبة على �آذان �أ�صحابه‪ ،‬نظروا له نظرات متل�ؤها‬
‫الريبة امل�صحوبة بالت�سا�ؤل العجيب‪ ،‬فقال له �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أجمنون �أنت‪� ،‬أم �إن الكحول حل�س عقلك؟‬
‫‪�--‬إن روما ممزقة بعد حرب قي�صر وبومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬والأحوال‬
‫غري م�ستقرة جراء ذلك‪.‬‬
‫‪�--‬أردف بيتالو�س‪:‬‬
‫‪--‬بعد �أن قدم ال�شعب الإكليل الذهبي ليوليو�س قي�صر‪� ،‬أعتقد �أنه الآن‬
‫بيده ال�سلطة الكاملة والهيمنة على روما وما حولها‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫ثم قال �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪--‬وجمل�س ال�شيوخ؟‬
‫‪--‬يظهرون احلب والطاعة واخل�ضوع‪ ،‬وي�ضمرون الكره واملع�صية‪.‬‬
‫اعتدل ثاينيو�س يف جل�سته وقال‪:‬‬
‫‪--‬كما قلت يظهرون الطاعة وي�ضمرون املع�صية‪� ،‬إن يوليو�س قي�صر يف‬
‫طريقه للهيمنة الكاملة‪ ،‬و�صنع �إمرباطوريته‪ ،‬وجمل�س ال�شيوخ كاحلية‬
‫التي تنتظر �سهو فري�ستها للدغها وبث ال�سم يف عروقها‪ ،‬ينتظرون‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سهو قي�صر لالنقالب على حكمه وحتويل روما من �إمرباطورية‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�إىل جمهورية‪ ،‬بجانب احلرب الأهلية التي افتعلها بومبايو�س والتي‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يتخذها املجل�س كحجة خللع القي�صر‪� ،‬إمنا �أرى �سقوط روما قري ًبا‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫قال بيتالو�س‪:‬‬
‫قوي ل�شيوخ‬‫‪--‬طاملا ال�شعب مع يوليو�س قي�صر فلن يهاب �شي ًئا‪ ،‬وهو ن ٌّد ٌّ‬
‫املجل�س‪ ،‬وروما ال تختلف كث ًريا عن الإ�سكندرية‪ ،‬فهي ممزقة بني‬
‫امللك ال�شاب بطليمو�س الرابع ع�شر و�شقيقته كليوباترا‪ ،‬ولذلك‬
‫طردها من م�صر جراء ذلك‪.‬‬
‫�أردف �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن بطليمو�س حديث العهد و�ساذج‪ ،‬لن ي�ستطيع حكم زمام بالد‬
‫عريقة مثل بالد م�صر‪ ،‬وامل�صلحة العامة تق�ضي �أن كليوباترا هي‬
‫من حتكم‪.‬‬
‫‪�--‬شاعت الأخبار �أن �أهل الإ�سكندرية قد غ�ضبوا لأنها اغت�صبت‬
‫دموعا كدموع‬ ‫منه احلكم‪ ،‬وا�ستغاث هو ب�أهل الإ�سكندرية ذار ًفا ً‬
‫التما�سيح‪ ،‬فطالبوا بتنازلها عن العر�ش وعندما رف�ضت‪� ،‬أخرجها‬
‫‪24‬‬
‫�أخيال�س بالقوة تنديدً ا مبطالب اجلماهري الغا�ضبة‪ ،‬وكليوباترا لن‬
‫تتنازل عن عر�ش م�صر ب�سهولة �أبدً ا‪.‬‬
‫‪--‬يجب على كليوباترا �أن مت�سك زمام الأمور‪ ،‬ف�إن َح َكم امللك ال�شاب‬
‫ف�ست�سقط م�صر يف نزاع بني البالد اخلارجية وحرب �أهلية‪ ،‬ورمبا‬
‫يزول حكم البطاملة من م�صر‪ ،‬وذلك لي�س يف م�صلحة روما �أبدً ا‪.‬‬
‫الذعا يف اخلارج‪ ،‬حمل الهواء عبق حمظيات الإ�سكندرية‬ ‫كان اجلو ً‬
‫الذي فاق الأفق‪ ،‬وجتاوز احلدود‪ ،‬كان العبيد يجل�سون يف �إ�سطبل للخيول‪،‬‬
‫وكان �إريو�س منهم ًكا يف تفريق الطعام واللنب الدافئ بينهم‪ ،‬وبعدها‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫فرق مالب�س من ال�صوف حلماية �أج�سادهم العارية من برد الإ�سكندرية‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫القار�س‪ ،‬نظر �إىل منقذه والذي عزف عن الطعام وال�شراب‪ ،‬كان يبدو �أنه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�ضيق مل ُي َر له مثيل‪ ،‬ل�سان �شحيح الكالم ووجه كئيب و�صامت‬ ‫يعاين من ٍ‬

‫والتوز عي‬
‫ميتلئ بالندوب وحلية طويلة �شب فيها ال�شيب‪ ،‬عينان ذئبيتان ت�شو�شت‬
‫فيهما الر�ؤية فال تريان‪ ،‬رمق �إريو�س منقذه بنظرة فاح�ص ٍة طويلة‪ ،‬ثم‬
‫قال‪:‬‬
‫‪�--‬إن مل ت�أكل ف�سيهزل ج�سدك القوي كنعجة ال حتمل اللنب‪.‬‬
‫نظر له املنقذ ومل ي ُع ِّقب كان �صامتًا وباردًا كتمثال من الثلج‪ ،‬فا�ستطرد‬
‫�إريو�س ببع�ض االمتنان‪:‬‬
‫‪--‬باملنا�سبة‪ ،‬مل يتثنَّ يل �شكرك على �إنقاذك حلياتي‪.‬‬
‫�ساد �صمت ميتلئ بالعبو�س للحظات قال فيها الرجل‪:‬‬
‫‪--‬مل �أفعل �إال �سداد الدين‪.‬‬
‫وبابت�سامة عري�ضة على وجهه قال باندفاع مفاجئ‪:‬‬
‫‪�--‬أنت روماين �صحيح؟‬
‫‪25‬‬
‫�أجاب منقذه بعبو�س م�ستمر‪:‬‬
‫‪--‬بلى‪.‬‬
‫�أردف بنربات مت�أ�سفة‪:‬‬
‫‪�--‬أعتذر عما �صدر من عمي �ستافلو�س‪ ،‬هو طيب القلب‪ ،‬لكن ي�ضمر‬
‫ذلك بداخله‪.‬‬
‫‪--‬ال يهم‪.‬‬
‫�ألقاها بال مباالة مفرطة‪ ،‬رمقه �إريو�س بنظرة حائرة‪ ،‬كانت تعابري‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وجهه م�صدومة‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ال يهم �أنك �أم�سيت عبدً ا بعد �أن كنت ح ًّرا طلي ًقا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ب�صوت ملول‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ب�صمت للحظات ثم �أردف‬‫ٍ‬ ‫رمق الرجل �إريو�س‬

‫ع‬
‫‪--‬وهل تظن �أنك حر �أيها ال�شاب؟‬
‫كان ال�س�ؤال مباغتًا وغري متوقع مطل ًقا‪ ،‬ظل �إريو�س يفكر يف �إجابة‬
‫على �س�ؤال مل يفهمه قط‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬وهل �أنت �أحدهم؟ �أق�صد الأحرار‪.‬‬
‫نظر �إىل ال�سال�سل يف يديه وقدميه وقال‪:‬‬
‫‪--‬ل�ست عبدً ا لعمك �أو عبدً ا لل�سال�سل والأ�صفاد‪� ،‬إمنا اال�ستعباد له‬
‫الكثري من الأ�شكال وال�صور‪ ،‬كنت ده ًرا من الزمان عبدً ا‪ ،‬بل �أ�سو�أ‪،‬‬
‫�إين» كربومثيو�س»؛ الذي �سرق �شعلة ال�سماء‪ ،‬لكنه انطف�أ جراء ذلك‪.‬‬
‫�صمت �إريو�س للحظة ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬لقد وجدت معك �شارة اجلنود‪ ،‬هل �أنت من جنود روما؟‬
‫‪--‬بلى‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫قال بف�ضول كالفي�ضان‪:‬‬
‫‪--‬ما ا�سمك؟ وما ق�صتك؟ �أعتقد �أننا عندما انت�شلناك من البحر‬
‫بالقرب من اليونان كنت ميتًا ملي ًئا باجلراح الغائرة‪ ،‬ولكن كان‬
‫للقدر ر�أي �آخر وتركتك الآلهة ح ًّيا لغر�ض ما‪ُ .‬ق�ص يل ما عندك؟‬
‫كان ُيلقي الأ�سئلة ويعلم �أنه لن يتلقى �إجابة �شافية‪ ،‬عاد املنقذ ل�صمته‬
‫جمددًا‪� ،‬صمتًا غري ًبا ومري ًبا م�صحو ًبا بتيه رمبا كان مق�صودًا‪ ،‬قال‬
‫�إريو�س وطرق ر�أ�سه � ً‬
‫أر�ضا‪:‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬أتعلم؟ كلنا عبيد‪ ،‬ولكن تختلف العبودية من �شخ�ص �إىل �آخر‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فهناك عبيد للمال وهناك عبيد لل�سلطة‪ ،‬تختلف الألوان‪ ،‬وتختلف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الأج�ساد‪ ،‬وتختلف الرغبات‪ ،‬ولكن ال يختلف مبد�أ العبودية �أبدً ا‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫نظر له منقذه باهتمام ثم قال‪:‬‬


‫‪--‬و�أي العبيد �أنت يا �إريو�س؟‬
‫فكر �إريو�س للحظات ثم قال‪:‬‬
‫يوما �أن‬
‫علي الأمر‪ ،‬مل �أرغب ً‬ ‫يوما‪� ،‬إمنا ُفر�ض َّ‬‫أخي ً‬ ‫‪--‬ال �أعلم‪ .‬ومل � َّ‬
‫نخا�سا يبيع العبيد‪.‬‬
‫�أكون ً‬
‫ثم ا�ستطرد ب�صوت ميل�ؤه �شجن و�آمال وعينني ملعتا ملعا ًنا خاط ًفا‪:‬‬
‫‪--‬كنت �أريد �أن �أكون حمار ًبا قو ًّيا‪� ،‬أريد �أن �أموت يف �سبيل �شيء ما‪ ،‬ال‬
‫للمال وال لل�سلطة‪� ،‬أريد �أن �أموت حمار ًبا يف �سبيل الواجب وال�شرف‬
‫واملجد‪ ،‬ورمبا �أتوق لأن يكتب ا�سمي بحروف بارزة يف ُكتب التاريخ‪،‬‬
‫�أريد �أن �أحرر البالد كالإ�سكندر املقدوين العظيم‪.‬‬
‫ابت�سم الرجل ابت�سامة طفيفة ميل�ؤها العبو�س ثم قال‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫‪--‬عندما كنت يف مثل �سنك متنيت تلك الأماين �أيها ال�شاب‪ ،‬كنت‬
‫�أمتنى �أن �أكون حمار ًبا تخ�شاه وحو�ش الرب والبحر‪� ،‬أن ُيكتب ا�سمي‬
‫يف التاريخ‪ ،‬ويرتدد يف �أغاين اجلميالت والرحالة‪ ،‬لكن �صدقني‪،‬‬
‫للقوة لعنة ال �أظن �أنك تتحمل وط�أتها‪.‬‬
‫قال �إريو�س ب�صوت ميل�ؤه الت�سا�ؤل‪:‬‬
‫لك �سيدي؟‬‫‪--‬ماذا حدث َ‬
‫تاه الرجل بعينيه �إىل ال�سماء ثم عاد بنربات خافتة وقال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬مل �أكن قو ًّيا كفاية‪� ،‬سقطتُ و�سقط كل من حويل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫�صمت الرجل ثم ناء بظهره وا�ستلقى و�أغلق عينيه‪ ،‬ثم غا�ص يف �سبات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫عميق‪ ،‬ال هو نوم وال هو ا�ستيقاظ‪� ،‬إمنا حالة من الأ َرق امل�شتعل‪ ،‬ج�سد يف‬

‫والتوزي‬
‫�إغفاء وعقل يهيم يف الأرجاء‪.‬‬

‫ع‬
‫يف اجلناح الغربي من الق�صر جل�س �شيوخ حي دلتا على النمارق‪،‬‬
‫ومرت �أرجل العبيد بينهم‪ ،‬حتمل بني �أيديها �أواين من ف�ضة عليها ك�ؤو�س‬
‫من اخلمر والع�صري‪ ،‬ويف منت�صف البهو تلذذت املائدة ب�ألوان الطعام‬
‫ال�شهية وانواع اخلمور املعتقة‪ ،‬وحلوم من كل دابة وطري‪ ،‬وعلى اجلانبني‬
‫�أُتن م�شتعلة تنبعث منها رائحة بخور طا ٍغ ويف ال�سقف تدىل فانو�س عمالق‬
‫مر�صع بالأحجار الكرمية التي كانت ت�شع نو ًرا كلما �أ�شعلوا املوقد نا ًرا‪� ،‬أو‬
‫عندما يخرتق �شعاع ال�شم�س �أهدابها‪ ،‬نفخ احلاجب يف البوق ليعلن عن‬
‫قدوم امللك‪ ،‬ف�صمتت �أل�سنة القوم وانتبهت �أ�سماعهم‪ ،‬دخل امللك وبني‬
‫يديه �صوجلان معقوف ويف اليد الأخرى �سوط‪ ،‬انت�صب فوق تاجه �أرابي�س‬
‫نافخة �أوداجها‪ ،‬جل�س على عر�شه فانحنى له كل من يف البهو وتوالت‬
‫الرءو�س يف الأنحاء حتى جل�س امللك على عر�شه‪ ،‬وعلى ميني العر�ش وقف‬
‫‪28‬‬
‫�ساعد امللك واملربي اخلا�ص للملك ال�شاب‪« ،‬بوثينيو�س»؛ رجل ق�صري‬
‫ونحيل له حلية طويلة تكللت بال�شيب يتدىل يف نهايتها �ضفائر معقودة‬
‫بحلقات ذهبية وعلى ر�أ�سه �إكليل مييز ر�أ�س م�ست�شاري امللك‪.‬‬
‫توىل بوثينيو�س �أمور امللك منذ ال�صغر‪ ،‬و�أ�شرف على �إقطاعاته‬
‫ملك من احلنكة ما جعله كلمة امللك ول�سانه‬ ‫وممتلكاته يف كافة اململكة‪َ ،‬‬
‫وكبري امل�ست�شارين‪ ،‬ويف �أوقات يجل�س على العر�ش وي�صوغ القوانني‪،‬‬
‫ويتكلم ب�صوت امللك وي�صدر الأحكام با�سمه عندما يكون غائ ًبا‪ ،‬ومل تكن‬
‫�أمور البالط ت�سري �إال ب�أوامر منه‪ ،‬حمل يف عقله دها ًء كالثعلب ويقظة‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كيقظة البوم‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫انحنى بوثينيو�س �أمام امللك ثم �أردف‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫فليحي عايل املقام موالي امللك بطليمو�س الثالث ع�شر «ثيو�س‬ ‫‪َ --‬‬
‫فليوباتور»‪� ،‬سليل الفراعنة وابن امللك العظيم بطليمو�س الثاين ع�شر‬
‫«�أوليتي�س» وحفيد بطليمو�س الأول «�سوتري» املنقذ‪.‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فليحي كبري امل�ست�شارين احلكيم بوثينيو�س‪.‬‬
‫قالها امللك‪ ،‬ثم نظر للرهط من �شيوخ حي دلتا بانزعاج وا�ضح ثم‬
‫انزعاجا‪:‬‬
‫ً‬ ‫عادت نظراته لبوثينيو�س وا�ستطرد بنربات �أكرث‬
‫‪�--‬أخربين �أخيال�س مبا حدث يف حي دلتا و�سيطرة كليوباترا على‬
‫�أطراف �سيناء ومرافئ بلوزيوم و�أبراج املراقبة وامل�ستوطنات‬
‫الرومانية التابعة للقائد جابينيو�س‪� ،‬أخربين بحق الآلهة كيف حدث‬
‫هذا؟‬
‫كانت نربته حتمل الغ�ضب واالنزعاج و�شي ًئا من ال�صخب‪ ،‬حتى �إن‬
‫كل من يف البهو ظلوا ينظرون بع�ضهم لبع�ض ثم ينظرون للملك و�أعينهم‬
‫حتاول �أن تفهم ما الأمر‪ ،‬حاول بوثينيو�س امت�صا�ص غ�ضب امللك وثورته‪:‬‬
‫‪29‬‬
‫‪--‬على موالي ال�شاب �أن يهد�أ ف�إن �شقيقتك كليوباترا بفعلها هذا قد‬
‫غرزت وتدً ا داخل قلب جي�شها �سي�ؤدي �إىل احت�ضاره �سري ًعا‪.‬‬
‫‪--‬كيف ذاك؟‬
‫�س�أل امللك وقد هد�أت نرباته‪.‬‬
‫‪«--‬فقد و�ضعت جي�شها يف م�أزق �شديد‪ ،‬عندما ح�صرته بني جي�شنا‪،‬‬
‫وجي�ش يوليو�س قي�صر‪».‬‬
‫‪--‬وما بالك تذكر جي�ش يوليو�س قي�صر الآن؟‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قال بوثينيو�س‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪�--‬إن �سيطرة كليوباترا على م�ستوطنات القائد جابينيو�س �ستثري غ�ضب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫م�ساعده الأول‬
‫روما و�ستثري حفيظة بومبايو�س ماجنو�س خلنوع قوات ِ‬

‫ع‬
‫جابينيو�س لكليوباترا‪ ،‬و�أمر من �أمرين حادث ال حمالة‪� ،‬إما �أن ي�أتي‬
‫ليطيح بجي�ش كليوباترا و�إما �أن يكون حلي ًفا لنا عند �شيوخ جمل�س‬
‫روما فيقر جمل�س ال�شيوخ ب�أن امللك ال�شاب له احلق يف اجللو�س على‬
‫العر�ش كملك م�ستقل كما البطاملة الأوائل‪ ،‬و�أن و�صية امللك الراحل‬
‫ما هي �إال حم�ض �أماين لن تتحقق �أبدً ا‪.‬‬
‫قال امللك بنربات منفعلة‪:‬‬
‫‪--‬ونرتك كليوباترا تهيم يف الأرجاء حتى تقرر روما الأمر؟‬
‫‪--‬بالطبع ال يا جاللة امللك‪ .‬لقد �أعطيت �أم ًرا بخروج قوات لال�ستطالع‬
‫وعلى ر�أ�سها القائد «�سيبتيمبيو�س»‪ ،‬حتى يتم جتهيز الأ�سطول‬
‫البحري يف �أقرب وقت ممكن‪ ،‬و�سوف يخرجون من موانئ‬
‫الإ�سكندرية وال�سواحل ال�شمالية بقيادة �أخيال�س �إىل الفارما حيث‬
‫ترب�ض هي وجي�شها‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫بدا على وجه امللك الر�ضى ثم قال‪:‬‬
‫‪�--‬أح�سنت �صن ًعا‪.‬‬
‫ابت�سم بوثينيو�س ثم قال‪:‬‬
‫‪�--‬أمر جاللتك‪ ،‬ولكن على موالي الآن �أن ي�ستمع ل�شكوى �شيوخ حي‬
‫دلتا‪.‬‬
‫مل يب ُد على امللك �أنه م�سرور بامل�أدبة التي �أقامها بوثينيو�س ل�شيوخ حي‬
‫دلتا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬مل يكن عليك ح ًّقا �إقامة وليمة كتلك ال�ست�ضافة �أمثالهم‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫حمتجا‪:‬‬
‫قال بوثينيو�س ًّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬نحن نحتاج الآن �إىل دعم �شيوخ حي دلتا �أكرث من �أي وقت م�ضى‪،‬‬
‫وعلينا جمع حلفاء قريبني من ح�صن كليوباترا ليزودونا بالأخبار‪.‬‬
‫قال امللك يف متلمل وعدم �صرب‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬فلننت ِه من هذا �سري ًعا‪.‬‬
‫�أ�شار بوثينيو�س �إىل �أحد الرجال‪� ،‬شاب يف العقد الثالث معقود‬
‫احلاجبني وله حلية �سوداء طويلة‪ ،‬اقرتب وانحنى �أمام امللك‪ ،‬فقال‬
‫بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬هذا بنيامني فو�ضه �شيوخ حي دلتا حتى يديل ب�شكواهم جلاللتكم‪.‬‬
‫انتظر الرجل الأمر‪ ،‬فقال امللك بنربات حادة‪:‬‬
‫‪--‬حتدث‪ ،‬وال تفرط‪.‬‬
‫فقال بنيامني‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫فلتحي �أيها امللك العظيم‪ ،‬عندما حكم البطاملة الأوائل كان لنا‬ ‫‪َ --‬‬
‫ن�صيب وحظ كرمي يف خراج الأر�ض وهناك منا من كان يعمل يف‬
‫مناجم الفريوز‪ ،‬وهناك من كان يعمل يف البالط امللكي حيث تقبلنا‬
‫البطاملة وترجموا كتبنا و�أودعوها مكتبة الإ�سكندرية العظيمة‪ ،‬كنا‬
‫نفر من بالدنا خو ًفا من بط�ش الرومان‪ ،‬وجئنا �إىل م�صر حتى‬
‫نتاجر‪ ،‬وما �إن جاءت وفود الرومان التابعة للقائد جابينيو�س حتى‬
‫فر�ض ال�ضرائب الباهظة على �شيوخ حي دلتا‪ ،‬كما �ألزم اليهود بدفع‬
‫�ضريبة قيمتها درخمتان عن كل ذكر بالغ‪ ،‬والتي كنا نقدمها من قبل‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫للمعبد الرئي�سي ببيت املقد�س‪ ،‬وورب مو�سي مل نعهد خرا ًبا قط حتى‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫دخل الرومان م�صر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫مل يتحدث امللك بحرف �آخر‪ ،‬الحظ بوثينيو�س �ضيق �صدر امللك ف�أ�شار‬

‫ع‬
‫�إىل الرجل‪ ،‬فانحنى وعاد حيث كان‪ ،‬ف�أردف بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا يرى موالي امللك؟‬
‫متلمل امللك وقال‪:‬‬
‫‪--‬كيف لنا �أن نرتك القائد جابينيو�س يهيم بني الأرجاء ويقلب علينا‬
‫النا�س؟‬
‫‪�--‬أقول �آ�س ًفا يا موالي‪ ،‬تلك هي �ضريبة العر�ش‪ ،‬ال ن�ستطيع �أن جند‬
‫حل لتلك امل�شكلة يف الوقت الراهن‪� ،‬إن القائد جابينيو�س �ضريبة‬ ‫ًّ‬
‫ندفعها الآن ملا فعله مع امللك بطليمو�س الثاين ع�شر‪ ،‬عندما �أعاد له‬
‫عر�شه بعد �أن نهبته �شقيقتك برنكي يف حرب ا�ستعادة العر�ش منذ‬
‫�سنني طويلة‪.‬‬
‫�أردف امللك بنربات متمردة‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫‪--‬وما بايل �أنا ب�أبي؟‬
‫قال بوثينيو�س حمذ ًرا‪:‬‬
‫‪--‬على امللك �أن يحذر قبل �أن يفتعل �شرا ًرا فت�ستحيل نا ًرا‪ ،‬يجب علينا‬
‫�أال ن�أخذ �أي قرار‪ ،‬حتى ننتهي من كليوباترا و ُتخمتها على �أرجاء �أر�ض‬
‫الفريوز‪ ،‬ف�إنها ت�شكل خط ًرا علينا الآن �أكرث من القائد جابينيو�س‪،‬‬
‫و�إن تراخينا يف �أمرها‪ ،‬فلن نعرف �إىل �أي حد �سيتفاقم �أمرها‪ ،‬وال‬
‫نريد �أن نثري حفيظة روما يف الوقت الراهن‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫هد�أ امللك وقال‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬اذهب الآن و�أخرب القائد �أخيال�س بالأمر‪ ،‬وليجمع �شتات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الأ�سطول‪ ،‬ويهيئ �أمره و�أ ْن ِه تلك الوليمة �سري ًعا‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪�--‬أمر جاللتك‪.‬‬
‫قالها يوثينيو�س ثم انحنى وغادر‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫(‪)2‬‬

‫بعد ثالثة �أقمار‪.‬‬


‫كانت الأمواج تت�صارع وتت�ضارب ك�ضربات القلب الهائج‪ ،‬خيم‬
‫ال�صمت على الأرجاء فكان �صوت الأمواج كوح�ش ي�شمر عن �سواعده‪،‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫أر�ضا يف خ�ضوع �أمام متثال ربة الفنار «�إيزي�س»‪ ،‬يف‬‫انحنت كليوباترا � ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫هيكل �ضخم على مرتفع �صخري اعتلى ح�صن بلوزيوم احلربي التي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫اتخذت مرا ِفئه لري�سو عليه الأ�سطول من ال�سفن والقواد�س‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫عزفت كليوباترا عن عبادة �آلهة الإغريق والرومان منذ ال�صغر‪ ،‬وكانت‬
‫تعبد �إيزي�س حتى يف يوم من الأيام �سمتها جماهري الإ�سكندرية «مبعوثة‬
‫�إيزي�س»‪ ،‬وكلما �ضاق �صدرها كانت تنحني يف ملكوت الغيب‪ ،‬ومتخر يف‬
‫بحار اخل�شوع تدعو وتت�ضرع حتى تغيب ال�شم�س �أو ت�شرق‪ ،‬كانت ت�ست�أن�س‬
‫ب�أرواح امللوك والآلهة احلائمة يف الف�ضاء مرتمنة مبتون ودعاء و�أنا�شيد‬
‫مرددة مع �أ�صوات املطر تذكارات املجد القدمي‪.‬‬
‫تكون جي�ش كليوباترا من البدو والعماليق‪ ،‬والقرا�صنة الأحرار‪،‬‬
‫حاولت جمع �شتات �أمرها بعد �أن مت نفيها من م�صر‪ ،‬كانت من دون‬
‫حلفاء �أو ذهب �أو �أي قوات ُتذكر‪ ،‬اجتهت �إىل �سوريا ومتالكت رباطة‬
‫ج�أ�شها هناك‪ ،‬وا�ستطاعت تكوين جي�شها مرو ًرا ب�أور�شاليم وقرب�ص‪،‬‬
‫وعلى الرغم من كرثة العدد ف�إنهم مل يكونوا حماربني ذوي ب�أ�س و�شدة‪،‬‬
‫وقد كان هذا ر� َأي احلكيم «�ألك�سندر هيليو�س»‪ ،‬كان معاو ًنا للملك الراحل‪،‬‬
‫والآن امل�ساعد الأول والويف لكليوباترا‪ ،‬كان والء �ألك�سندر هيليو�س الكامل‬
‫‪34‬‬
‫للعر�ش ولو�صية امللك الراحل‪ ،‬حتى ت�آمر كل من يف البالط على كليوباترا‬
‫ونفاها �أخيال�س قائد اجلي�ش خارج البالد‪.‬‬
‫عاما كلل ر�أ�سه �شعر �أبي�ض كالثلج‬
‫كان يبلغ من العمر خم�سة و�ستني ً‬
‫عا�ش كامل عمره يف الإ�سكندرية‪ ،‬در�س علوم الطب والهند�سة والكيمياء‪،‬‬
‫قر�أ يف كتب الفل�سفة التي �أودعها «�ألك�ساندرو�س �أوميكا�س املقدوين» يف‬
‫مكتبة الإ�سكندرية‪ ،‬كت ًبا كتبها الفال�سفة الأوائل؛ �أر�سطو‪ ،‬و�أفالطون‬
‫و�سقراط‪ ،‬الذي قد تربى على �أيديهم �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س‪ ،‬كان‬
‫ميلك من ال�سيا�سة ما جعله معاو ًنا للملك الراحل‪ ،‬ومن الوفاء ما جعل‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كليوباترا تثق فيه‪ ،‬وقد �شملت معرفة احلكيم هيليو�س عل ًما م�صحو ًبا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫بحنكة �سيا�سية فذة وبراعة ع�سكرية لي�س لها مثيل‪ ،‬حيث توىل العديد من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫احلروب ومنها حرب ا�سرتداد العر�ش التي قادها امللك على ابنته برنكي‬

‫والتوز عي‬
‫حتت لواء روما و�أحد �أفراد احلكومة الثالثية «بومبايو�س ماجنو�س»‪،‬‬
‫وتوىل من�صب �أمني املكتبة ل�سنوات عديدة ب�أمر من امللك الراحل‪ ،‬حتى‬
‫مت تعيني فليو�سرتاتو�س �أمي ًنا على املكتبة ب�أمر من امللك اجلديد ثيو�س‬
‫فليوباتور‪� ،‬أو بالأحرى ب�أمر من معاون امللك بوثينيو�س‪.‬‬
‫‪--‬دخل احلكيم «هيليو�س» املحراب املقد�س لربة الفنار‪ ،‬دلت مالب�سه‬
‫املتوا�ضعة ومالحمه املجعدة على الهيبة والوقار‪ ،‬ترقبت عيناه كما‬
‫العادة كليوباترا اخلا�ضعة يف ملكوت الآلهة يف انحناء جليل‪ ،‬و�صوت‬
‫خافت يرتل متو ًنا �سرية ال يعرفها �إال ُمرددها‪� ،‬شق �صوته جتاليد‬
‫الهدوء‪:‬‬
‫‪--‬موالتي كليوباترا‪.‬‬
‫انت�شل �صوته كليوباترا من خ�شوعها الدفني‪ ،‬انت�صبت واقفة يف هدوء‬
‫والتفتت �إليه‪ ،‬كانت فتاة يف الثانية والع�شرين من عمرها‪ ،‬لها وجه خمري‬
‫وعينان رماديتان ورثتهما عن �أبيها يطوف حولهما ال ُك ْحل‪ ،‬و�شعر مموج‬
‫‪35‬‬
‫�أ�س َود حالك تدلت خ�صالته على وجهها‪ ،‬وعلى �أنفها املدبب حلقة ذهبية‬
‫احللي الالمعة‪ ،‬و�شفاه وردية رقيقة وممطوطة‪ ،‬ملكت من اجلمال ما‬ ‫من ِّ‬
‫يبهر العيون ويذيب قلوب الرجال ويثري �سخط الن�ساء‪.‬‬
‫اقرتبت من هيليو�س‪ ،‬ثم �أردفت‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فليحي احلكيم �ألك�سندر هيليو�س‪.‬‬
‫قال ب�صوت �أقرب �إىل احلزين‪:‬‬
‫‪--‬تتبادر الأخبار عن �سقوط مقاليد القوة يف �أيدي غري الأكفاء‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫نطقت كليوباترا يف ثبات‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫‪--‬اعتدنا الأخبار امل�شئومة منذ زمن‪ِ ،‬‬

‫ش‬
‫هات ما عندك‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫نف�سا �إىل �صدره و�أخرجه بزفري‬ ‫جل�س احلكيم هيليو�س ثم �سحب ً‬

‫ع‬
‫م�سموع ثم قال‪:‬‬
‫‪�--‬إن �أعيننا يف البالط قليلة‪ ،‬لكنها تفي بالغر�ض‪ ،‬تف�شت الأخبار عن‬
‫�شقيقك الأ�صغر بطليمو�س وا�ستعداده ملواجهتك‬ ‫ِ‬ ‫ا�ستعداد جي�ش‬
‫أبيت يكون النفي موتًا‪.‬‬
‫وطردك من م�صر نف ًيا و�إن � ِ‬
‫مل يب ُد على كليوباترا �أي تعابري �صادمة كانت مالحمها جامدة وثابتة‪،‬‬
‫فقالت‪:‬‬
‫‪--‬توقعت هذا عندما وطئت �أقدامنا �أر�ض بلوزيوم‪� ،‬أعط �أوامر للجي�ش‬
‫باال�ستعداد‪ ،‬يجب �أن يكون الأ�سطول البحري جاهزً ا ملالقاة جي�ش‬
‫بطليمو�س‪.‬‬
‫ب�صوت ي�ساوره القلق‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قال احلكيم هيليو�س‬
‫جاللتك‪ ،‬لكن‪....‬‬
‫ِ‬ ‫‪�--‬أمر‬
‫‪36‬‬
‫توقف للحظة ثم عاد بنربة �أكرث قل ًقا‪:‬‬
‫‪--‬يا موالتي �إن تقابل جي�شك بجي�ش بطليمو�س ف�ستكون معركة �ضارية‪،‬‬
‫و�إن جي�ش بطليمو�س قوي وفوق ذلك كله قائد اجلي�ش هو �أخيال�س‪.‬‬
‫اجتهت كليوباترا �إىل �شرفة املحراب‪ ،‬ثم نظرت �إىل الأفق الذهيب‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪--‬مل يكن بطليمو�س عد ًّوا يل قط‪.‬‬
‫ثم ا�ستطردت بعد حلظة �صمت‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬العدو احلقيقي ال يجل�س على العر�ش �أيها احلكيم‪ ،‬بل هو املتحكم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫فيه كما يتحكم يف البالط امللكي وامل�ست�شارين‪ ،‬من ت�آمروا على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫�إخراجي من مملكتي‪� ،‬إن �شقيقي امل�سكني ما هو �إال �ستار يت�سرت من‬
‫خلفه احلاكم احلقيقي مل�صر‪ ،‬لكل الأفاعي ر�أ�س واحد �إال بوثينيو�س‬
‫ميلك منها �أل ًفا‪.‬‬
‫ع َّقب هيليو�س‪ :‬ولعل امللك ال�صغري ال يدرك عاقبة �أفعاله‪.‬‬
‫‪--‬بالطبع‪� ،‬إنه ال يعدو عن غالم‪ ،‬ال يفقه �شي ًئا من تلك الد�سائ�س‪،‬‬
‫فال عجب �أنه وافق على ت�آمر ه�ؤالء ال�سفهاء ليخلعوين عن‬
‫العر�ش بكالمهم املع�سول‪ ،‬واند�س �أعوانهم �س ًّرا بني جماهري و�أهل‬
‫الإ�سكندرية‪ ،‬وروجوا بينهم الإ�شاعات الكاذبة‪ ،‬بذروا بذور ال�شك‬
‫بيني وبني �شعبي ومنت تلك البذور مع الوقت حتى �أ�صبحت كال�سيف‬
‫يف خا�صرتي‪.‬‬
‫مقرتحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال هيليو�س‬
‫‪--‬مل ال تلجئي �إىل روما كما فعل والدك من قبل يف حرب ا�سرتداد‬
‫العر�ش؟‬
‫‪37‬‬
‫‪--‬عندما انقلبت برنكي على �أبي وا�ستنجد بروما‪ ،‬واندلعت حرب‬
‫ا�سرتداد العر�ش‪ ،‬ما كان من روما �إال �أن تعيد له عر�شه حتت راية‬
‫القائد بومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬ولكنه �أ�صبح حينها حتت وط�أة ال�سلطة‬
‫الرومانية ولوال اجلباية التي كان يدفعها �أبي لروما لكانت م�صر‬
‫جمرد مقاطعة تابعة لروما‪ ،‬و�أنا لن �أ�سمح بذلك �أبدً ا‪ ،‬لن �أ�سمح‬
‫لأحد �أن ي�سلب مني العر�ش‪ ،‬ويكفي دخول القائد جابينيو�س �أر�ض‬
‫الإ�سكندرية بجي�ش �صغري ل�صالح روما‪ ،‬وجباية ال�ضرائب الباهظة‬
‫التي ت�صب يف م�ستوطناته املتفرقة يف كافة اململكة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬حاويل على الأقل احلديث مع امللك ال�صغري‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫قالت كليوباترا بيقني‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪--‬لن يجدي احلديث نف ًعا‪ ،‬ف�إنهم ميلئون �أذنه بكل فرية تتفتق عنها‬

‫ع‬
‫�أذهانهم‪ ،‬و�إن و�صية �أبي تن�ص على �أن يعتلي كالنا ُحكم م�صر‪ ،‬وقد‬
‫كان جمل�س �شيوخ روما هو امل�سئول عن حتقيق تلك الو�صية‪� ...‬إال‬
‫�أن احلرب الأهلية التي قد اندلعت بني يوليو�س قي�صر وبومبايو�س‬
‫ماجنو�س �أدت �إىل ف�صم عرى احلكومة الثالثية يف روما‪ ،‬وما لنا‬
‫الآن خيار �آخر �إال احلرب‪.‬‬
‫�أذعن احلكيم هيليو�س للأمر‪ ،‬ف�أمر بتجهيز اجلي�ش‪ ،‬م�ستعي ًنا بخربته‬
‫الع�سكرية الفذة‪� ،‬أ�شرف بنف�سه على جتهيز الأ�سطول البحري وا�ض ًعا‬
‫رامون ال�سهام مب�شاعيل مثبتة فوق �سطح ال�سفن لتكون �سهامهم ك�سهام‬
‫«هف�ستو�س» �إله النريان‪� ،‬أمر امل�شاة بتكوين �صفوف ك�صفوف �سبارطة‬
‫القدمية ليكونوا ذوي ب�أ�س �شديد ودروعهم ثقيلة وثابتة كجبل الأوليمب ال‬
‫يخرتقها خمرتق‪ ،‬و�ضع على القواد�س �ص ًّفا من رماة ال�سهام ويليه �صف‬
‫من امل�شاة بدروع مدككة‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫وعندما انتهت كليوباترا من عبادتها يف الهيكل‪ ،‬با�شرت اجلي�ش مع‬
‫القائد «رابو�س»‪ ،‬قائد الأ�سطول البحري‪ ،‬وقائد القرا�صنة الأحرار‪ ،‬الذي‬
‫كان ميتلك ج�سدً ا �صخر ًّيا ال تهده الزالزل وال تثنيه الأعا�صري‪� ،‬أ�س َود‬
‫اللون‪ ،‬طويل وعري�ض املنكبني‪ ،‬كان كب ًريا وقائدً ا للقرا�صنة الأحرار يف‬
‫طويل من الزمن‪ ،‬و�شارك يف ثورة‬ ‫ردحا ً‬‫البحر الأ�س َود‪ ،‬ق�ضى يف م�صر ً‬
‫العبيد الأوىل بقيادة «�سبارتاكو�س»‪ ،‬عندما قابلته كليوباترا كانت بحاجة‬
‫ما�سة �إىل حلفاء‪ ،‬عر�ضت عليه �أن يكون قائدً ا للجي�ش وي�ضم القرا�صنة‬
‫الأحرار �إىل جي�شها‪ ،‬رف�ض يف البداية ومل يكن �إقناعه �أمرا ً‬
‫�سهل �أبدً ا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ولكن يف النهاية ا�ستطاعت �إقناعه بالأمر‪ ،‬فمن�صب م�ساعد امللك كان‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مغر ًيا وي�صعب رف�ضه ولكن عليها �أن جتل�س على عر�شها � ًأول‪ ،‬ومع مرور‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫الوقت �أ�صبحت بينهما ثقة متبادلة‪� ،‬أعلن رابو�س الوالء لها بجميع �سفنه‬
‫والقرا�صنة الأحرار حتت �إمرتها وطرف �إ�شارتها‪.‬‬
‫اقرتبت منه كليوباترا قبل �أن ينحني لها � ً‬
‫إجالل وتعظي ًما ثم يقول‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فلتحي موالتي كليوباترا‪.‬‬
‫ال ينحني القرا�صنة الأحرار �أبدً ا بعد �أن ينالوا حريتهم‪ ،‬ولكن كان‬
‫ينحن خو ًفا‬
‫الأمر خمتل ًفا مع القائد رابو�س مل يكن ينحني لأنها امللكة ومل ِ‬
‫كذلك‪ ،‬ومل مينعه كربيا�ؤه‪� ،‬إمنا كان ينحني جلمالها ال َّأخاذ ولعينيها‬
‫الالمعتني الرماديتني‪ ،‬ذلك الإتيان الأنثوي العا�صف‪ ،‬اجلمال وحده ما‬
‫يجعل املرء ينحني ل�شيء ما‪ ،‬حتى و�إن كان قائد القرا�صنة الأحرار‪ .‬قالت‬
‫كليوباترا بابت�سامة ودودة‪:‬‬
‫‪--‬يبدو �أن القائد رابو�س من�شغل عنا منذ مدة وال يبا�شرنا بامل�ستجدات‪.‬‬
‫بادلها االبت�سام ثم �أردف‪:‬‬
‫‪39‬‬
‫‪--‬حا�شا �أن �أن�صرف عن ذاتكم يا موالتي‪ ،‬ولكن تدريب جنود ال يعرفون‬
‫�شي ًئا عن عتاد �أو عن مكائد لهو مع�ضلة يف حد ذاته‪.‬‬
‫‪--‬حري بنا �أن نعي �أن قائدنا رابو�س مل ي�ضيع الوقت عب ًثا‪.‬‬
‫‪--‬بالطبع يا موالتي‪.‬‬
‫ثم �س�ألت امللكة‪ :‬ما اجلديد؟‬
‫قال بحما�س كبري‪:‬‬
‫‪--‬على عالية املقام �أن ترى بنف�سها‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫ارت�صت حوله ال�سفن والقواد�س ترتًا‪� ،‬أ�شار‬
‫تقدم بها نحو املرف�أ الذي َّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬


‫�إىل �إحدى ال�سفن و�أخذ بالإ�سهاب وال�شرح‪:‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫‪�--‬إن التعديل الذي �أقمناه يف‬

‫الفوالذية وتلك كانت فكرة احلكيم هيليو�س‪� ،‬إنه عبقريزي‬


‫ال�سفن ح َّولها من �سفينة دفاعية �إىل‬

‫بكلعما‬
‫ال�سفينة القواطع‬ ‫مقدمة‬ ‫�سفينة هجومية‪ ،‬فنحن قد �أ�ضفنا يف‬

‫حتمله الكلمة‪ ،‬فالآن عند الهجوم يتم ا�ستخدام القاطع الأمامي‬


‫لل�سفن الخرتاق �سفن العدو ب�ضراوة وبال رحمة‪ ،‬و�أ�ضفنا م�شاعل‬
‫مثبتة يف �أر�ضية ال�سفينة لي�ستخدمها �أ�صحاب ال�سهام لي�شعلوا‬
‫�سهامهم لتخرتق �أ�شرعة ال�سفن املعادية فتحرتق وت�صري رمادًا‪،‬‬
‫دروعا حلماية‬
‫وخلف رماة ال�سهام �صف طويل من امل�شاة‪ ،‬يحملون ً‬
‫رامني ال�سهام من �سهام العدو‪ ،‬وعند �أي مناو�شة عن قرب �أو �أي‬
‫احتالل لل�سفن فيكون فيها جنود �أ�شداء ي�ستطيعون �صد العدو‪.‬‬
‫كان ي�شرح بحما�س وثقة كبريين‪ ،‬لكن مل يب ُد على كليوباترا اهتمام‬
‫كبري مبا كان يقول‪ ،‬ويف حلظة مباغتة نظرت له يف عينيه ثم قالت‪:‬‬
‫‪40‬‬
‫‪--‬ا�سمعني �أيها القائد رابو�س‪ ،‬نحن نواجه عد ًّوا يفوقنا يف عدد اجلند‬
‫وقوة العتاد وفوق كل هذا قائدهم داهية ع�سكرية‪� ،‬إن �أخيال�س مل‬
‫يخ�سر معركة قط‪ ،‬و�أنا �أعرف ذلك الرجل حق معرفة‪� ،‬إنه رجل‬
‫عقل جهنم ًّيا يحثه على كل �شر‪ ،‬يحمل‬‫كال�شياطني املردة‪ ،‬يحمل ً‬
‫يل كل �ضغينة‪ ،‬ويكنُّ يل كل مكيدة‪ ،‬وجب عليك �أن تعرف من تواجه‬
‫�أيها القائد رابو�س‪.‬‬
‫قال رابو�س‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لقد ق�ص يل احلكيم هيليو�س الق�صة كاملة‪� ،‬أخربين كيف بثوا ال�سم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫يف عقل امللك وا�ستغلوا حداثة �سنه وملئوا �آذانه بالهيمنة الكاملة على‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫قالت كليوباترا باهتمام‪:‬ب ل‬


‫م�صر‪ ،‬ولكني �أخ�شى الذي حدث �أن ي�ؤثر على �سري خطتنا‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬ماذا تق�صد؟‬


‫‪--‬يل �آذان يف كل مكان‪ ،‬و�إحداها يف روما‪� ،‬أر�سل يل �أحد الأ�صدقاء‬
‫ر�سالة من روما يخربين فيها عن ر�سالة ملكية من بطليمو�س �إىل‬
‫جمل�س �شيوخ روما يق�ص فيها عن هزمية القائد جابينيو�س م�ساعد‬
‫بومبايو�س وال�سيطرة على م�ستوطناته الرومانية‪.‬‬
‫ا�شتعل غ�ضب جلي يف عيني كليوباترا ثم �أردفت‪:‬‬
‫‪--‬اللعني!‪ ...‬يحاول �أن يتقرب من �شيوخ جمل�س روما بجعلي عد ًّوا‬
‫م�شرت ًكا بينهم‪.‬‬
‫‪--‬وهذا ما يحاول بوثينيو�س حتقيقه‪� ،‬إذا حدث ذلك وا�ستطاعوا �أخذ‬
‫جمل�س ال�شيوخ حتت �إبطهم‪ ،‬فحينها �ستقر روما �أن امللك ال�شرعي‬
‫حاولت ا�سرتداد العر�ش‪ ،‬لن‬
‫ِ‬ ‫لبالد م�صر هو بطليمو�س وحده‪ ،‬و�إذا‬
‫‪41‬‬
‫تعدو املحاولة �إال اغت�صا ًبا ل�سلطة ملك �شرعي‪ ،‬و�سوف تتدخل روما‬
‫ويتدخل جي�ش قي�صر ل�صدك‪.‬‬
‫‪--‬وماذا ترى؟‬
‫�صمت رابو�س للحظات‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أرى هزمية تتوق للحاق بنا‪.‬‬
‫‪--‬وكيف تتحول الهزمية �إىل ن�صر؟‬
‫‪�--‬إن جي�شنا وبالرغم من عدده ينق�صه اخلربة‪ ،‬ف�إن البدو ال يعرفون‬

‫ع‬
‫عن احلرب �شي ًئا‪ ،‬والقرا�صنة الأحرار عددهم ال يكفي ل�صد جي�ش‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�شقيقك‪.‬‬
‫ِ‬

‫ل‬ ‫بل‬
‫‪--‬وهل هناك �سبيل؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫�ألقتها يف ي�أ�س‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ال�سبل كلها معوجة وال �أرى ً‬
‫�سبيل م�ستقي ًما �أبدً ا‪.‬‬
‫�صمت لربهة فكر فيها ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬عندي اقرتاح ولكن �أ�شك يف حتقيقه‪.‬‬
‫‪--‬حتدث‪.‬‬
‫قال رابو�س‪� :‬إن جي�شنا يحتاج �إىل نخبة من اجلنود لتنت�صب عزميته‪.‬‬
‫‪--‬ومن �أين لنا تلك النخبة؟‬
‫‪--‬عندما كنت يف م�صر مكثت مدة لي�ست بقليلة يف اجلنوب‪ ،‬و�سمعت‬
‫الكثري من الق�ص�ص‪ ،‬ومنها عن مقاتلني �أكفاء يلني لهم احلديد بني‬
‫�أيديهم‪ ،‬يف احلقيقة �سمعت �أقاويل كثرية‪� ،‬أنهم و ِلدوا من �أرحام‬
‫الآلهة‪ ،‬يلقبون باحلماة‪ ،‬حماة م�صر العليا �أو حماة اجلنوب‪ ،‬ومنهم‬
‫من يلقبهم باملالئكة ال�سوداء �أو حماة الهوية‪ ،‬يقولون �إنهم يحمون‬
‫‪42‬‬
‫�شعب اجلنوب من بط�ش امللك وحا�شيته‪ ،‬يعملون يف خفاء متقن‪ ،‬ال‬
‫ُيخ ِّلفون وراءهم دالئل وال �آثار‪.‬‬
‫‪--‬هذا �أمر م�ستحيل‪.‬‬
‫قالها احلكيم هيليو�س وهو يقرتب منهم‪.‬‬
‫التفتت كليوباترا �إليه ثم �س�ألت‪:‬‬
‫‪--‬ومن هم �أيها احلكيم؟‬
‫قال �ألك�سندر هيليو�س‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬إنهم �أقوام لهم ب�أ�س �شديد و�صلف وكربياء عظيم‪�َ ،‬سمراء جلودهم‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫كب�أ�سهم‪� ،‬سكنوا اجلنوب ب�أر�ض تدعى كو�ش‪ ،‬ينحدرون من ُ�صلب‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫الإله حور�س وا�ست�أثروا بن�سله‪ ،‬كانوا يلقبون قد ًميا بامليدجاي‪ ،‬كانوا‬
‫احلر�س اخلا�ص لفراعنة م�صر الأوائل‪ ،‬بنوا الأهرام وال�صروح‪،‬‬
‫يلني لهم احلديد بني �أيديهم كالعجني ي�شكلوه كيف ي�شاءون‪ ،‬لقد‬
‫انقر�ض ن�سلهم كما تقول الكتب القدمي‪.‬‬
‫�سكت و�ساد ال�صمت للحظات ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬قر�أت مئات الكتب يف املكتبة العظيمة تتحدث عن تاريخ الأوائل‪،‬‬
‫يوما‪.‬‬
‫ُيقال ب�أن بني عروقهم دما ًء �سارت يف ج�سد حور�س ً‬
‫�س�ألت كليوباترا‪ :‬وكيف ن�ستطيع �إيجادهم؟‬
‫فقال القائد رابو�س‪:‬‬
‫جاللتك‪� .‬إنهم كال�سراب ي�صعب‬
‫ِ‬ ‫‪--‬على حد علمي‪ ،‬هذا �شيء م�ستحيل‬
‫تعقبهم �أو ر�صدهم‪ ،‬يعملون يف اخلفاء‪ ،‬جلودهم كجلود احلرباء‬
‫تت�شكل كيف ي�شاءون‪ ،‬وي�ضمرون الكره للحكم البطلمي يف م�صر و�أي‬
‫‪43‬‬
‫�شخ�ص يحمل دماء البطاملة بني عروقه‪ ،‬تلك الدماء التي ت�سري بني‬
‫عروقك‪.‬‬
‫قالت كليوباترا ب�ضيق‪:‬‬
‫‪--‬وما ع�سانا نفعل؟ نحن كمن يحارب ب�سيف من خ�شب‪.‬‬
‫قال هيليو�س‪ :‬ينت�صر �سيف اخل�شب عندما يكون �أبطال املعركة من‬
‫ورق‪.‬‬
‫ت�ساءل رابو�س‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬إالم يرمي الطبيب احلكيم هيليو�س؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫�أجاب هيليو�س‪:‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫‪�--‬إىل الآن نحن منلك موق ًعا ا�سرتاتيج ًّيا ممي ًزا ي�سمح لنا بفر�ض خطة‬

‫ع‬
‫هجوما �سنكون له‬
‫أخوك بطليمو�س ً‬ ‫املعركة كيف ن�شاء‪ ،‬وعندما ي�شن � ِ‬
‫جاللتك �أال تقلقي �أبدً ا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫باملر�صاد‪ ،‬على‬
‫ع َّقب القائد رابو�س‪ :‬نحن ال منلك الآن �إال �أ�سطولنا البحري‪ ،‬وللأ�سف‬
‫ال�شديد ال يعرف م�سالك البحار �إال القرا�صنة الأحرار‪ ،‬و�إذا مت اخرتاق‬
‫ُّ‬
‫ف�ستندك تلك احلوائط فوق رءو�سنا‪ ،‬وال �أرى‬ ‫الأ�سطول �أو ُ�صنع ثغرة فيه‬
‫�أن نخو�ض يف تلك املخاطرة بكامل قوانا‪.‬‬
‫فقالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ِ‬
‫فليدل القائد رابو�س بحلول‪.‬‬
‫�أدىل القائد رابو�س‪:‬‬
‫‪--‬منذ فرتة و�أنا �أفكر يف اال�سرتاتيجيات التي �سوف نتبعها يف املعركة‪،‬‬
‫و�أعتقد �أنني تو�صلت �إىل ا�سرتاتيجية �سوف تفي بالغر�ض يف حالتنا‬
‫‪44‬‬
‫تلك‪ ،‬علينا �أن ُنق�سم الأ�سطول ملجموعات وعلى ر�أ�س كل جمموعة‬
‫رجل من القرا�صنة الأحرار‪ ،‬املجموعة الأوىل تتخابط مع جي�ش‬
‫بطليمو�س وبعد فرتة تتبعها املجموعة الثانية ثم الثالثة وكذلك‬
‫حتى يظن العدو �أن �أ�سطولنا كبري وحتى �إذا خارت عزمية اجلنود‬
‫�أتبعناهم مبزيد من الإمدادات‪.‬‬
‫ابت�سم احلكيم هيليو�س ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬كما يدخر قائد اجلي�ش احل�صيف جز ًءا من جي�شه يحتاط بهم من‬

‫ع‬
‫خلفه‪ ،‬حتى �إذا �أرهقه العدو من الأمام دعا �أولئك وهم يف عافية‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وكانوا له در ًءا وملج�أً �إذا اغتمت املعركة‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬هو كذلك �أيها احلكيم هيليو�س‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�أردف مداع ًبا‪ :‬ولعلك �أيها القائد رابو�س داهية ع�سكرية فذة قد‬
‫�أغدقتها الآلهة علينا‪ ،‬وال �أعرف هل هو دهاء متدح به �أم مكر ُتذم عليه‪.‬‬
‫�ضحكوا‪ ،‬فقالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪�--‬إذا كان دها ًء فهو لنا‪ ،‬و�إذا كان مك ًرا فهو لأعدائنا‪.‬‬
‫�أردف رابو�س‪:‬‬
‫‪--‬بل �إن دهائي ومكري قد �سخرتهما لأدافع عن جاللتك‪.‬‬

‫اقرتبت عرباتهم من �أبواب الإ�سكندرية‪ ،‬وعلى �أعتابها باحة وا�سعة‬


‫انربى على �أر�ضها �سبعة متاثيل لآلهة الأوليمب‪ ،‬وعلى العر�ش العايل‬
‫جل�س زيو�س مبالحمه ال�صارمة وعن ميينه زوجته هريا وعلى ر�أ�سها‬
‫تاج التتويج بابت�سامة طفيفة‪ ،‬وقفت الآلهة ال�سبع وراء العر�ش يرمقون‬
‫‪45‬‬
‫�سجى على الأر�ض وفوق‬ ‫بروميثيو�س �سارق ال�شعلة ومنقذ الب�شرية‪ُ ،‬م ًّ‬
‫�أكتافه �صخرة هائلة من �صخور اجلحيم‪ ،‬ينهال عليه كل �صباح ن�سر‬
‫عمالق يدعى �أثون‪ ،‬ينه�ش كبده ويفرغ �أمعاءه‪ ،‬ثم يتعافى يف ال�صباح‬
‫التايل يف عقاب �سرمدي‪ ،‬ظل �إريو�س يرمق التماثيل بعينني زائغتني‬
‫وعقل دائب على التفكري‪ ،‬انقطعت �أو�صال �أفكاره عندما اقرتب منه عمه‬
‫�ستافلو�س و�أردف‪:‬‬
‫فيم تزوغ عيناك يا ابن �أخي؟‬ ‫‪َ --‬‬

‫ع‬
‫�س�أل بغتة‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬ما ذنب برومثيو�س يا �ستافلو�س؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ابت�سم �ستافلو�س على غري العادة ثم قال‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬مل يحمل �إال قل ًبا ودي ًعا كقلبك يا �إريو�س‪.‬‬
‫مثل ُّ‬
‫ال�ش ْعل ِة احل ْمراءِ‪ ،‬وعقابه كان‬ ‫�أردف �إريو�س ِب� ًأ�سى‪ :‬قد عا�ش َ‬
‫كزوابع ال ْأ�شواك‪.‬‬
‫‪--‬قال �ستافلو�س بنربات حتمل �شي ًئا من اللوم‪:‬‬
‫كموج من الأ�سى‪ ،‬يجب‬‫قلبك الأليف امل�ؤلف �سيكون من �سوط الدنيا ٍ‬
‫ال�ص َّماء‪ ،‬ال ي�سمع وال يرى وال ي�شعر‪.‬‬‫ال�ص ْخرة َّ‬ ‫على قلبك �أن يكون َ‬
‫مثل َّ‬
‫للعاطفة عواقب وخيمة و�أقرب الأمثلة‪.‬‬
‫‪--‬ثم �أ�شار بعينيه �إىل متثال بروميثيو�س ال�ساقط � ً‬
‫أر�ضا وا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬حلظة واحدة من ال�شفقة جعلته يف عقاب �سرمدي‪.‬‬
‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫فقال الفتى‬
‫‪--‬وما خطيئتي �إذا كان قلبي ي�شبه قلبه؟‬
‫‪46‬‬
‫‪--‬العاطفة خطيئة الإن�سان الأزلية!‪ ...‬و�أنت‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد بنربات حتمل القلق واحلب م ًعا‪:‬‬
‫‪�--‬أنت يا �إريو�س كجمال الفجر ال�سرمدي‪ ،‬والدنيا ك�شم�س حترق‬
‫الفجر ب�شعلتها‪ ،‬والفجر ال يقدر على ال�شعلة و�إن كان ملي ًئا بالردي‪.‬‬
‫متوهج ك�شم�س تطلع‬
‫ٍ‬ ‫‪--‬ل�ست فج ًرا ملي ًئا بالردي‪ ،‬بل �أم�شي بروح حا ٍمل‬
‫يف ليل الليايل‪ ،‬وقلبي كان كالبئر ال�سحيقة ال قرار لها وال نهاية‪.‬‬
‫‪--‬ال تخدعنك الأحالم والآمال‪� ،‬أنت يف عامل الآثام والبغ�ضاء‪� ،‬إن مل‬

‫ع‬
‫تخن ف�سوف ُتخان‪ ،‬هكذا ي�سري الأمر‪،‬‬ ‫ت�أكل ف�سوف ت�ؤكل‪� ،‬إن مل ُ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عليك �أن تفهم‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬و�إن متردت العوا�صف على ال�سماء‪ ،‬ف�إن الآثام من الدنيا‪ ،‬والدنيا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫من الآثام‪ ،‬و�إن انقلبت املوازين و�أ�صبحت ال�سماء كالأر�ض والأر�ض‬
‫كال�سماء‪ ،‬ف�إين بعيد عن البغ�ضاء كالقمم ال�شماء‪.‬‬
‫‪�--‬أخ�شى عليك يا ابن �أخي �أن ي�أخذك حلمك �إىل الأقا�صي وال تعرف‬
‫طريق عودة‪.‬‬
‫قال الفتى ب�ضيق �صدر‪:‬‬
‫وذرين و�أحالمي وحيدً ا‪ ،‬وال تقتلها بخنجر‬ ‫تخ�ش يا �ستافلو�س‪َ ،‬‬‫‪--‬ال َ‬
‫كلماتك‪.‬‬
‫‪�--‬أنت كفر�س جامح بني ال�سهول البي�ضاء‪ ،‬و�أخ�شى عليك جلجلة‬
‫الأرا�ضي‪.‬‬
‫‪--‬والفر�س اجلامح خري من حمار ينوء ظهره بحمل �صاحبه‪.‬‬
‫‪�--‬أرى التمرد يف عينيك يا ابن �أخي‪.‬‬
‫‪--‬لي�س متردًا يا �ستافلو�س‪.‬‬
‫قال �ستافلو�س غا�ض ًبا‪ :‬وماذا ت�سميه بحق الآلهة؟‬
‫‪47‬‬
‫‪�--‬أ�سميه حرية‪.‬‬
‫‪--‬وهل تراين �أزج بك بني العبيد؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬لكن لكل طائر م�شربه‪.‬‬
‫‪--‬وم�شربي ال يعجبك؟‬
‫تطل جدايل‪.‬‬‫‪�--‬أرجوك يا �ستافلو�س‪ ،‬ال ِ‬
‫‪�--‬أنا عمك ويف مرتبة �أبيك‪.‬‬
‫‪--‬وال �أجحد لك ذلك‪.‬‬
‫‪--‬ولكن غمغمة كلماتك تعك�س ما يف �صدرك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كانا دائ ًما ما يحتدمان بالكلمات وال ي�صالن حلل �أبدً ا‪ ،‬كان �ستافلو�س‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كالقيود حول عنق �إريو�س‪ ،‬وكان الأخري ال ميتلك من ال�شجاعة واجلر�أة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ما يفك وثاقه ويحرر رقبته‪� ،‬سكت ً‬

‫والتوزي‬
‫قليل ثم �أردف‪:‬‬

‫ع‬
‫حبي�سا يف �صدري‪.‬‬‫‪--‬ال تقلق يا �ستافلو�س ما يف �صدري �سيظل ً‬
‫‪�--‬أط ِلق له العنان �إن كان هذا ما يريحك‪.‬‬
‫‪--‬لو �أطلقت له العنان ملا ت�صافحت مع النا�س �إال بال�سيف‪.‬‬
‫فهم �ستافلو�س ما يرمي �إليه �إريو�س‪ ،‬كانت تلك الرغبة املجحفة التي‬
‫تتملكه لالن�ضمام �إىل اجلي�ش يف روما تتحكم يف كلماته وانفعاالته‪ ،‬مل‬
‫يكره �ستافلو�س يف حياته �سوى �شيئني‪ ،‬زوجته القبيحة وحديث �إريو�س‬
‫و�أحالمه عن االن�ضمام �إىل اجلي�ش‪ ،‬نظر له نظرة طويلة ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬ويحك يا �إريو�س! ما يدور يف َخ َلدك �سيكون �سب ًبا يف هالكك‪.‬‬
‫احم َّر وجهه غ�ض ًبا وقال‪ :‬ومتى كانت الأحالم هال ًكا؟‬
‫وبنظرة �شزراء قال‪:‬‬
‫‪--‬تكون هال ًكا عندما ُتهلك �أ�صحابها‪.‬‬
‫‪--‬اهدم ف�ؤادي ما ا�ستطعت‪ ،‬ولكن ف�ؤادي كال�شفق يف الف�ضاء النائي‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫هداما للأفئدة‪ ...‬لكني �أق�سم بالآلهة �أنني‬ ‫�صاح �ستافلو�س‪ :‬ل�ست ً‬
‫�أخ�شى عليك‪.‬‬
‫�أردف �إريو�س ُمتَم ْلمِ ًل‪ :‬كيف حتمل يف نف�سك ال�شيء و�ضده؟‬
‫‪--‬ماذا تق�صد؟‬
‫‪--‬تارة تقول �إنك تعلمني ال�شدة والغلظة لكيال �أقع بني املكائد‬
‫علي‬
‫والد�سائ�س التي ت�صنعها احلياة‪ ،‬وتارة �أخرى تقول �إنك تخ�شى َّ‬
‫من احلياة‪ ،‬كيف �أتعلم ما مل �أجرب؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫هد�أت نربات �ستافلو�س وو�ضع يده على كتف �إريو�س و�أردف‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬ل�ست مناف ًقا يا بني‪ ،‬وال �أحمل يف نف�سي ال�شيء و�ضده‪ ،‬ولكني �أحمل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫غليظا‪ ،‬وقلب �أب يخ�شى على‬ ‫فظا ً‬ ‫داخل �صدري قلبني‪ ،‬قلب نخا�س ًّ‬

‫والتوز عي‬
‫ولده‪ ،‬و�أحيا ًنا يختلط القلبان‪.‬‬
‫‪�--‬إن الإن�سان ال يحمل �إال قل ًبا واحدً ا يف �صدره يطغى على ل�سانه‬
‫فظا وو�ضي ًعا‪.‬‬ ‫وج�سده‪ ،‬وال متلك �إال قلب نخا�س ًّ‬
‫قالها وغادر مغا�ض ًبا‪ ،‬رحل نحو البوابات وحيدً ا‪ ،‬وعندما وجدتْه عني‬
‫بيتالو�س يبتعد‪ ،‬اقرتب من �ستافلو�س ومل�س يف وجهه ال�ضيق‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أجتادلت �أنت و�إريو�س جمددًا؟‬
‫�أجاب ب�صوت يلفحه احلزن‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪.‬‬
‫‪--‬وكيف �سارت الأمور؟‬
‫‪--‬كالعادة‪ ،‬يغلبني يف احلديث ثم ينك�ص على عاقبيه غا�ض ًبا‪.‬‬
‫�أطلق بيتالو�س �ضحكة ثم �أردف‪:‬‬
‫‪�--‬إن ذلك الفتى له روح حمارب عظيم‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫‪�--‬إن الفتى كالزوبعة املتمردة‪ ،‬وال �أ�ستطيع �أن �أ�سيطر عليها‪.‬‬
‫‪--‬ولن ت�ستطيع �أبدً ا‪� ،‬إن الفتى ما زال حديث ال�سن ومندف ًعا‪ ،‬ولكنه‬
‫فطن كالن�سر املحلق‪ ،‬ثاقب الر�أي وذكي‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬ولكن تنق�صه اخلربة‪.‬‬
‫ظل كئي ًبا يف جلة الن�سيان‪� ،‬أرى‬‫‪--‬عندما تدنو منه نظراتي‪ ،‬ال �أرمق �إال ًّ‬
‫حبي�سا ينتظر �أن يعتقه �صاحبه فيطري �إىل القبة الزرقاء‪ ،‬ناث ًرا‬ ‫ط ًريا ً‬
‫كل قيوده من كل بنان‪.‬‬

‫ع‬
‫قال ب�صوت ي�ساوره القلق‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪�--‬أخ�شى �أن يطري الطري فال يعود‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اللهب امل�ؤجج يف دمه‪ ،‬ولو �أح�ضرتَ له جنمة من‬ ‫‪�--‬صدقني‪ ،‬لن تطفئ َ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ال�سماء‪� ،‬أو �صعدت به �إىل �أقا�صي الأوليمب‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬وماذا ع�ساي �أن �أفعل؟‬
‫‪--‬حرر الفتى‪ ،‬ودعه يرتوي منْ َم ْن َه ِل احلياة‪ ،‬و�إن كان يريد االن�ضمام‬
‫�إىل اجلي�ش‪ ،‬فدعه‪ ،‬دعه يخطو خطواته كما يريد‪.‬‬
‫‪--‬قال �ستافلو�س برتدد‪:‬‬
‫‪--‬ال �أعرف!‪� ...‬إنني الآن �أجدين يف حرية وجلاجة من �أمري‪.‬‬
‫�ضحك بيتالو�س وهو يقول‪:‬‬
‫‪--‬دعك من جلاجتك املعهودة وحدث الفتى مبا ي�سره‪.‬‬

‫بني �صفني من الكبا�ش ومتاثيل �أبو الهول املقد�سة وقف �صاحب‬


‫القدا�سة بردائه الأبي�ض الف�ضفا�ض امل�صنوع من الكتان الرقيق يعتليه‬
‫فرو منر مرقط‪ ،‬وفوق ر�أ�سه احلليق تاج مر�سوم عليه زهرة اللوت�س التي‬
‫‪50‬‬
‫متثل اجلنوب‪ ،‬كان ينظر �إىل الغروب الذهبي بعينني ذابلتني وج�سد هزيل‬
‫ا�ستباحه املر�ض‪ ،‬تقدم نحو البحرية املقد�سة‪ ،‬وانحنى وثنى ركبتيه‪ ،‬ثم‬
‫غرف غرفة ماء بيده‪ ،‬ومتتم عليها مبتون الطهارة‪ ،‬ارت�شفت �شفتاه حتى‬
‫ارتوى‪ ،‬اتك�أ ج�سده الهزيل على ع�صاه متج ًها �إىل قد�س الأقدا�س‪ ،‬كان‬
‫لقد�س الأقدا�س �سبعة �أبواب نحا�سية متعاقبة ولكل باب منهم مفتاح‬
‫�ضخم ال يحمله �إال ع�شرة رجال ذوي ب�أ�س‪َ ،‬ف ُفتحت الأبواب ال�سبعة با ًبا‬
‫بعد باب‪ ،‬وقد �أمر الكاهن الأعظم باقي الكهنة �أن يغ�سلوا الثالوث املقد�س‬
‫بالدم الطاهر وامل�سك واللبان وحرق البخور‪ ،‬دلف الكاهن الأعظم �أبواب‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قد�س الأقدا�س بخطوات ثابتة ووقورة‪ ،‬ثم دخل �إىل الغرفة التي يتعبد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫فيها كل م�ساء وجثا على ركبتيه يف خ�شوع متمت ًما مبتون اخلال�ص‪ ،‬مرت‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دقائق حتى التقطت �أذناه جلجلة عجالت و�صهيل فر�س م�ألوف يعرفه كما‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫يعرف وجوه الكهنة‪.‬‬
‫ترجل القائد «حوررب» من على فر�سه‪ ،‬كان طويل اجل�سد‪� ،‬أ�سمر‬
‫يوما كيف‬ ‫اجللد وحاد العينني وبارز الع�ضالت‪ ،‬وعلى كتفه و�شم مل ُيذكر ً‬
‫ُو�شم به‪ ،‬كان ل�صقر بري منق�ض‪ ،‬خلع درعه الذهبية بنقو�شها البارزة‪،‬‬
‫ثم �س َّلم فر�سه �إىل �أحد احلرا�س‪ ،‬واجته نحو بوابة املعبد‪ ،‬ترقبت عيناه‬
‫ثالثة متاثيل �شاهقة للثالوث املقد�س‪ ،‬الأب �أوزوري�س والأم �إيزي�س‪ ،‬واالبن‬
‫حور�س‪ ،‬انحنى ومتتم بكلمات طاملا كان يرددها‪:‬‬
‫«اجلالل لك يا من �أتيت بال�ضياء‪� ،‬إنك ت�شرق‪� ،‬إنك ت�ضيء‪ ،‬يا من‬
‫ت�صنع ال�ضياء‪ ،‬لت�سطع بالنور‪ ،‬يا ملك الأبدية و�سيد اخللود يا خالق‬
‫الب�شر و�صانع ملكوت ال�شمال واجلنوب وال�شرق والغرب �أيها «الواحد»‬
‫يا �سيد ال�سماء تبجل ا�سمك يف ال�سماوات‪ ،‬يا من خ�شع له الكون يف‬
‫�صورته البهية عندما ت�شرق ال�شم�س وتغيب‪ ،‬لتدع كل املقربني ي�ستقرون‬
‫بني القاطنني يف ال�سماء‪ ...‬لتدع العامل ال�سفلي يفتح �أبوابه‪� ،‬إن الذين‬
‫‪51‬‬
‫يقطنون يف الأعايل وه�ؤالء الذين ي�سكنون الأعماق يعبدونك وحدك‪ ،‬لي�س‬
‫«�ست» الثعبان ا�ضطرمت يف قلبه نريان الطمع‪ ،‬وقد‬
‫لك عدو قادر‪ ،‬عدوك ّ‬
‫توان‪ ...‬يا �إلهي‪ ...‬يا �إلهي‪...‬‬
‫هوت به بال ٍ‬
‫�إن �أ�صوات املديح والتبجيل‪ ،‬ترتاق�ص حول �أذين‪ ،‬يرددها ل�ساين بال‬
‫تعب وال �إرهاق اجلالل لك يا �سيد ال�سماء‪ ...‬يا �إلهي دعني �أقتب�س‪...‬‬
‫لعل م�صارع الأبواب ترفع عن الأ�سرار اخلفية‪� ،‬أ�سرار العوامل الغابرة‪،‬‬
‫�أ�سرار احل�ضارات الأوىل‪� ،‬أ�سرار الباطن ال�سحيق‪� ،‬إين الكاهن املحارب‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الذي ي�صب ماء التطهري لأجل القاطنني يف ملكوتك‪ ،‬يا من تعطي الأرواح‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫اخلبز واجلعة يف ال�صباح وامل�ساء‪ ،‬يا من تفتح الطريق ومتهد امل�سالك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫للأرواح ال�ضائعة‪ ،‬مهد يل طريقي‪ ،‬و�صب يف �أوداج قلبي النقاء‪ ،‬نقا ًء‬

‫والتوزي‬
‫عيني تب�صران نورك‪� ،‬إن قلبي كان على امليزان‬ ‫كام ًنا يف روحي‪ ،‬اجعل َّ‬

‫ع‬
‫نق ًّيا مل يرتكب خطيئة وال �إث ًما‪ ،‬لي�ست هناك خطيئة عالقة بي‪ ،‬مل �أقل‬
‫لتمنحن �أن �أكون كه�ؤالء املقربني‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كذ ًبا �أدريه وال فعلت �شي ًئا بقلب ٍّ‬
‫غا�ش‪،‬‬
‫�أنا الكاهن املحارب‪ ،‬الذي يحفظ �آيات التبجيل ومتون اخلال�ص‪ ،‬ع�سى‬
‫�أن �أ�شق طريقي و�سط النجوم التي ال تغم�ض يف ال�سماوات �أبدً ا‪ ،‬يا من‬
‫يفي�ض ب�أ�شعة ال�ضياء على �أرا�ضي ال�شمال واجلنوب‪� ،‬أ�شعتك ال ميكن‬
‫معرفتها وال �ضيا�ؤك ميكن ت�صويره‪ ...‬يا حور�س العظيم‪».‬‬
‫تربى حوررب بني حوائط املعبد وبني وجوه الكهنة‪ ،‬اتخذه الكاهن‬
‫الأكرب كا ْبن مل َ‬
‫يحظ به يف حياته الأوىل‪ ،‬تع َّلم الن�صو�ص والأ�سماء‬
‫املقد�سة‪ ،‬وعندما ا�شتد فرعه �س َّلمه الكاهن الأعظم �إىل رود �آمون يف‬
‫�أر�ض كو�ش‪ ،‬تعلم �أ�ساليب القتال و�أالعيبه‪ ،‬وكان �أول �شخ�ص يجمع بني‬
‫قلوب الكهنة و�أفئدة املحاربني‪ ،‬وكما اعتاد منذ ال�صغر دلف �إىل قد�س‬
‫الأقدا�س‪ ،‬ثم دلف �إىل غرفة الكاهن الأعظم يف خ�شوع وهدوء‪ ،‬فوجد‬
‫‪52‬‬
‫�صاحب القدا�سة �ساجدً ا يف �إجالل‪ ،‬حلظات ثم انتهى من عبادته‪،‬‬
‫فانت�صب‪ ،‬نظر �إىل حوررب وابت�سم ثم قال ب�صوت �شاحب‪:‬‬
‫فليحي القائد حوررب حامي م�صر العليا وكو�ش‪.‬‬ ‫‪َ --‬‬
‫ب�صوت خا�شع وخفي�ض‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫فقال حوررب‬
‫فليحي �صاحب القدا�سة الكاهن �سوفر‪.‬‬ ‫‪َ --‬‬
‫‪--‬كيف حالك وحال زوجتك �آ�سيا؟‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قالها حوررب وعيناه ترمقان الكاهن الأعظم بقلق‪ ،‬كان باد ًيا عليه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫املر�ض ال�شديد‪ ،‬كان الكاهن الأعظم �أ ًبا �صا ً‬

‫بل‬
‫حلا حلوررب‪ ،‬هو ال يذكر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫عن �أبويه �شي ًئا‪ ،‬كل ما يذكره �أنه ترعرع بني �أعني الكهنة يف املعبد‪ ،‬وتوىل‬

‫والتوز عي‬
‫�أمره كبري الكهنة‪.‬‬
‫اجته كبري الكهنة �سوفر �إىل �شرفة قد�س الأقدا�س رام ًقا �شعاع قر�ص‬
‫ال�شم�س يف انحدار ورحيل‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫عاما‪ ،‬ويف هذا املكان املقد�س وعندما كنت كاه ًنا �شا ًّبا‪،‬‬ ‫‪--‬منذ ثالثني ً‬
‫كنت �ساجدً ا يف مو�ضعي هذا‪ ،‬حتى غفت عيني‪ ،‬ف�أيقظني الإله‬
‫م�ستخدما �أجنحته امل�صوغة من الذهب‬ ‫ً‬ ‫حور�س على هيئة �صقر‪،‬‬
‫والياقوت والزمرد‪ ،‬ورافقته الأم �إيزي�س وكانت ترتدي ردا ًء �أرجوان ًّيا‬
‫من الزبرجد‪� ...‬أبهى من �شعاع الغروب و�أجمل من زهرة اللوت�س‬
‫الزرقاء‪ ،‬كنت �أظن �أنني ذاهب �إىل الغرب حتى خرج من ال�سماء‬
‫�ضوء �سرمدي �أبهى من زنابق احلقول‪ ...‬وان�شق ال�ضوء وخرج منه‬
‫فر�س �أبي�ض له جناحان وجثا عند قدمي‪ ،‬ثم امتطيته وانطلق بي �إىل‬
‫ال�سماء‪ ،‬وتوقف عند مدخل طريق النور امل�ؤدي �إىل العر�ش ال�سماوي‪،‬‬
‫والذي �إن عربه احرتق‪ ،‬ووجد ُتني �أحلق وقد نبت يل جناحان كالذي‬
‫‪53‬‬
‫عند فر�س ال�سماء‪ ،‬فر�أيت باب العر�ش والذي كان طوله طول‬
‫مزيجا‬
‫ال�سماء‪ ،‬انفتح الباب فدلفت لأجد العر�ش‪ ،‬وك�أن العر�ش كان ً‬
‫من الذهب والياقوت واملرجان والزبرجد والي�شب و�أحجار كرمية من‬
‫ال�سماء مل �أعلمها قط‪ ،‬وحول العر�ش ر�أيت تا�سوع الأرباب املقد�س‬
‫وبجوارها املالئكة‪ ،‬ثم ر�أيت �سبع �شمو�س تتلألأ يف �أفق ال�سماء‬
‫وجتمعت فخرج منها حور�س‪ ،‬و�سلمني ً‬
‫طفل �صغ ًريا من دمه لأرعاه‪،‬‬
‫اقرتب مني كائن الكروبيم املجنح وله �أربعة وجوه كوجوه الب�شر‪،‬‬

‫ع‬
‫والأ�سد‪ ،‬والثور‪ ،‬والن�سر‪ ،‬فامتطيته و�أعادين �إىل الأر�ض‪ ،‬فا�ستيقظت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مفزوعا على �صوت خافت لطفل ت�سربت �صرخاته من بني �أبواب‬

‫ك‬
‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫�سبع‪ ،‬انتف�ضت الدماء يف عروقي‪ ،‬حتى و�صويل �إىل م�صدر ال�صوت‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أمام الباب الكبري لقد�س الأقدا�س وجدتك يا حوررب هناك ت�صرخ‪،‬‬

‫ع‬
‫حملتك‪ ،‬وعلمت ب�أنك ابن من �أبناء الآلهة‪ ،‬كنت �أحيا ًنا �أ�صحو من‬
‫نومي على �أ�صوات وترانيم ت�أتي من حجرتك‪ ،‬واكت�شفت �أن حور�س‬
‫كان يزورك‪ ،‬وي�ضع يف قلبك الأ�سرار املقد�سة‪ ،‬وملا بد�أ ل�سانك ينطق‬
‫بالأ�سرار خفت عليك‪ ،‬و�أر�سلتك �إىل �أر�ض مدجا يف كو�ش لتتعلم‬
‫�أ�ساليب القتال و�صرت الآن �آخر الأ�شخا�ص الذين يحملون دماء‬
‫الإله حور�س‪ ،‬ولقد حر�صت على �أن ي�شرف على تعليمك القائد رود‬
‫�آمون ف�صرت عاملًا ب�أمور القتال واحلرب و�أ�صبحت لك حنكة فذة‪،‬‬
‫ولقد ر�أى فيك القائد رود �آمون منذ �صغرك �أنك �سوف ت�صبح �سيد‬
‫قومك‪ ،‬و�سيكون لك �سلطة امللك يف اجلنوب‪ ،‬و�سوف حت�ضر ال�سالم‬
‫الأبدي �إىل اجلنوب بعدما عانى �أهل اجلنوب الكثري‪� ،‬أنت يا حوررب‬
‫�سوف تكون �أول قائد للميدجاي منذ �أكرث من �ألف عام‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظة قال فيها حوررب‪:‬‬
‫‪54‬‬
‫‪--‬يتوجب على امليدجاي حماية فرعون‪ ،‬ف�أي فرعون �س�أحمي وقد‬
‫اندثرت �آثارهم؟‬
‫‪�--‬إن �أج�ساد الفراعنة ما هو �إال وعاء يحمل روح الإله‪ ،‬و�إن فرعون‬
‫ودما‪.‬‬
‫الذي �ستحميه لي�س حل ًما ً‬
‫‪--‬وماذا يكون؟‬
‫�أ�شار الكاهن �إىل احلوائط املنقو�شة بتاريخ الأوائل ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬هنا يا حوررب‪ ،‬على امل�سالت وعلى احلوائط واملقابر والربديات‬

‫ع‬
‫ُنق�ش التاريخ القدمي‪ ،‬تلك احلوائط خلدت � ً‬

‫ص‬
‫أبطال وملو ًكا عظماء‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫دانت لهم الأر�ض‪ ،‬وقدموا دماءهم على ك�ؤو�س من ذهب لرتوي تلك‬

‫ب‬
‫لفافة لمنلنورق الربدي‪ ،‬و�أكمل‪:‬‬
‫ش‬
‫الأرا�ضي املقد�سة‪.‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫الربديات �أ�سماء ملوك عظماء من الأ�سرة ال�سابعة ع�شرةعالذي‬
‫حترك الكاهن ثم التقط‬
‫الربديات‪ ،‬يف تلك‬ ‫تلك‬ ‫‪--‬منذ �أيام كنت يف الإ�سكندرية و�أح�ضرت‬

‫د َّونهم الكاهن الأعظم مانيتون ومنهم امللك �سقنن رع �أعظم ملوك‬


‫الأ�سرة ال�سابعة ع�شرة‪ ،‬والذي بد�أ مبحاربة الرعاة وطردهم من‬
‫�أر�ض م�صر‪ ،‬حتى قتله ملك الرعاة �أبوفي�س‪ ،‬ومل يتوقف الأمر حتى‬
‫توىل وريثه الأكرب كام�س القتال حتى ُقتل هو � ً‬
‫أي�ضا يف �ساحة القتال‪،‬‬
‫وجاء الوريث الأ�صغر طارد الرعاة من م�صر امللك �أحم�س وقتل‬
‫«�ست» يف‬
‫الأفعى ال�شريرة �أبوفي�س‪ ،‬وانت�صر �آمون رب اجلنوب على ّ‬
‫ذلك اليوم‪.‬‬
‫قال ِب� ًأ�سى �شديد‪:‬‬
‫‪--‬و�أم�س الرعاة‪ ،‬كيوم البطاملة‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫‪�--‬إنَّ طارِد الرعاة قد تربى بني �أجدادك يف �أر�ض مدجا‪ ،‬تعلم كما‬
‫تعلم امليدجاي‪ ،‬و�أتقن �أ�ساليب قتالهم‪ ،‬وعرف الأ�سماء املقد�سة‪،‬‬
‫توا�صل مع الأرواح القدمية وتناجى مع النجوم والكواكب‪ ،‬ا�ستطاع‬
‫ومب�ساعدة امليدجاي ك�سر �شوكة الرعاة‪ ،‬و�إعادة ملكه املنهوب‪،‬‬
‫وارتداء التاج املزدوج مل�صر‪ ،‬ومن حينها �أ�صبح امليدجاي حماة‬
‫للفرعون‪.‬‬
‫�صمت حوررب ومل يع ِّقب فا�ستطرد الكاهن �سوفر‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬تف�شت الأخبار يف الإ�سكندرية عن حرب �ست�شتعل قري ًبا‪ ،‬بني كليوباترا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫و�شقيقها بطليمو�س‪ ،‬ا�ستطاعت كليوباترا �أن ت�سيطر على ح�صن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أي�ضا �أن تك�سر �شوكة امل�ستوطنات‬‫بلوزيوم يف ال�شمال وا�ستطاعت � ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الرومانية التابعة للقائد جابينيو�س‪.‬‬

‫ع‬
‫قال وبدا على وجهه الأ�سى‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬لقد علمت ذلك ولهذا �أر�سلت �آ�سيا ومعها بع�ض اجلنود‬
‫لي�ستق�صوا عن الأمر يف املكتبة العظيمة يعمل هناك �أحد �أقاربها‪،‬‬
‫ف�إن الإ�سكندرية الآن تنقلب ر� ًأ�سا على عقب‪ ،‬ومعها يزداد اجلنود‬
‫ً‬
‫توح�شا يف باقي اململكة‪.‬‬
‫مل�س الكاهن وجه حوررب املُ ْك َف ِه َّر‪ ،‬ثم ت�ساءل‪:‬‬
‫‪--‬هل حدث �شيء ما؟‬
‫قال بغ�ضب مكظوم‪:‬‬
‫مر�سال من طيبة‪ ،‬يق�ص فيه عن قتل بع�ض‬‫ً‬ ‫‪--‬نعم‪ ،‬لقد �أر�سل يل باكو‬
‫اجلنود الرومان عائلة يف طيبة‪ ،‬ومع العائلة طفل ما يزال يف املهد‪.‬‬
‫�صمت الكاهن الأعظم معر ًبا عن حزنه‪ ،‬فا�ستطرد حوررب‪:‬‬
‫‪56‬‬
‫علي مغادرة �سمنود غدً ا‪ ،‬فيجب �أن ينال �آخرون م�صريهم‬ ‫‪--‬ولهذا َّ‬
‫العادل‪.‬‬
‫قال الكاهن بعد �أن قاوم ح�شرجة �صدره‪:‬‬
‫‪--‬لري�شدك الرب �آمون يف خطواتك‪.‬‬
‫مل�س حوررب �أنفا�س الكاهن الثقيلة فقال‪:‬‬
‫‪�--‬أما زلت ت�صارع املر�ض؟‬

‫ع‬
‫هم�سا‪:‬‬
‫قال ب�صوت خفي�ض يكاد يكون ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪�--‬س�أم�شي قري ًبا يف الظلمات ب�صحبة الرب �آمون‪ ،‬وهو يقودين �إىل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اجلنان يف ال�سماء‪ ،‬فلقد �أتاين و�أخربين ب�أنني �سوف �أذهب �إىل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫الغرب بعد ب�ضعة �أيام‪ ...‬فبحق �أوزوري�س النائم عليك �أن ت�سعى �إىل‬
‫حترير �أر�ضنا من ه�ؤالء الربابرة املتوح�شني‪.‬‬
‫انحنى حوررب �إىل الكاهن الأعظم ثم خرج من املعبد وامتطى فر�سه‬
‫وغادر‪ ،‬غادر وهو يعلم �أنه لرمبا تكون تلك املرة الأخرية التي يرى فيها‬
‫معلمه و�أباه الكاهن الأعظم‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫(‪)3‬‬

‫كانت «�أر�سينوي» ذات الأربعة ع�شر ربي ًعا الأخت ال�صغرى لكليوباترا‬
‫وبطليمو�س‪ ،‬لها عينان بنيتان متيالن للأ�صفر ورثتهما عن �أمها‪ ،‬وطباع‬
‫حادة من �أبيها‪ ،‬وقلب وديع مل يحمل �ضغينة قط‪ ،‬كانت حتب التطريز‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫والغناء والقراءة‪ ،‬وجتيد انتقاء الثياب لكل منا�سبة‪ ،‬وكانت حتب العزف‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫على القيثارة والأجرا�س‪� ،‬أر�سينوي كانت ت�شبه �أمها يف املالمح‪� ،‬شعرها ذو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫طويل وودي ًعا‪ ،‬نحيلة وذات طول متو�سط‪،‬‬‫لون �أ�س َود مطف�أ‪ ،‬ووجهها كان ً‬

‫ع‬
‫كانت عيناها �صفراوين‪ ،‬ويف نور ال�شم�س تت�ألقان كالذهب املتلألئ‪،‬‬
‫اعتادت الأمرية �أر�سينوي القراءة يف �إلياذة «هومريو�س» و�أح�ضر لها‬
‫مربيها «جانيميدي�س» كل الربديات واللفائف من مكتبة الإ�سكندرية التي‬
‫تق�ص ق�صة ح�صار طروادة‪ ،‬والبطل �أخيل الذي حتدى كل �آلهة الأوليمب‬
‫وانتقم من قاتل ابن عمه‪ ،‬كانت تقر�أ بال�ساعات دون ملل �أو �إرهاق‪ ،‬عن‬
‫كل �شيء‪ ،‬ولكنها كانت مولعة بالتاريخ القدمي والأ�ساطري‪ ،‬لأنها تبيح لها‬
‫اخليال ال�صرف‪ ،‬تبيح لها حياة �أخرى متنت �أن تعي�شها‪� ،‬أي حياة مهما‬
‫كانت �ستكون �أف�ضل من تلك على �أي حال‪.‬‬
‫كانت فطنة‪� ،‬إال �أنها مل تفهم قط ما يدور يف البالط من م�ؤامرات‬
‫يوما ما يدور بني �أخويها بطليمو�س وكليوباترا‪ ،‬ولكن‬
‫ود�سائ�س‪ ،‬ومل تفهم ً‬
‫مربيها «جانيميدي�س»‪ ،‬كان �أعلم النا�س مبا يدور يف البالط‪ ،‬لكنه يخ�شى‬
‫عليها من امل�ؤامرات التي ُتاك ليل نهار يف البالط‪ ،‬كان ً‬
‫رجل فط ًنا‬
‫‪58‬‬
‫وذك ًّيا يعلم كيف ي�صمت ومتى يتحدث‪َ ،‬م َل َك من احلنكة ما جعله ُيقْ�صيها‬
‫عن الأعني بقدر امل�ستطاع‪ ،‬وعندما طرد بطليمو�س كليوباترا من م�صر‬
‫�أخربها �أن تبقى مع �أخيها خو ًفا عليها من املجهول‪ ،‬وبالرغم من هذا مل‬
‫ت�ست�سغ نف�سه حكام البالط وال حتى امللك ال�شاب‪ ،‬جل ما يهمه هو �سالمة‬
‫ِ‬
‫الأمرية ال�صغرية‪ ،‬و�إبعادها عن العر�ش املعلون‪ ،‬وكان دائ ًما ما يق�ص‬
‫عليها ق�صة الأمرية امللعونة التي �أغواها العر�ش فبعثت �آلهة الأوليمب‬
‫بهيدي�س ليلقيها يف باطن الأر�ض‪ ،‬كانت ما تنفك تفكر يف الق�ص�ص‬
‫التي يق�صها مربيها جانيميدي�س واملغزى من ورائها‪ ،‬وما عالقة الأمرية‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫امللعونة بالأمرية برنكي‪ِ ،‬ول لعنتها الآلهة يف باطن الأر�ض‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أَحبها وكره كل من يف الق�صر‪ ،‬كان ينحدر جانيميدي�س من �أ�صول‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�إغريقية‪ ،‬ب�شرته بي�ضاء م�شربة باللون الأحمر‪ ،‬له وجه و�سيم و�شعر مموج‬

‫والتوز عي‬
‫وحلية طويلة‪ ،‬ويرتدي رداء ذا نقب ٍة طويلة‪ ،‬توىل �أمر الأمرية �أر�سينوي‬
‫منذ الوالدة حينما كانت الأمور يف الق�صر منقلبة ر� ًأ�سا على عقب عندما‬
‫انقلبت الأمرية برنكي على �أبيها امللك بطليمو�س الثاين ع�شر �أوليتي�س‬
‫وا�ستولت على الإ�سكندرية حتى جل�أ �أبوها �إىل بومبايو�س �أحد �أ�ضالع‬
‫احلكومة الثالثية يف روما‪ ،‬وب�أمر منه ا�ستطاع الدخول �إىل الإ�سكندرية‬
‫و�إعادة العر�ش املنهوب‪ ،‬ومت معاقبة برنكي بالتحنيط وهي على قيد‬
‫احلياة‪ ،‬ومت تعيني م�ساعد بومبايو�س القائد جابينيو�س على جباية‬
‫ال�ضرائب ل�صالح روما ب�أمر من احلكومة الثالثية يف روما‪ ،‬ومنذ ذلك‬
‫احلني كان يحاول �إبعادها عن ال�صراع القائم على العر�ش‪.‬‬
‫يف امل�ساء ا�ستدعى امللك ال�شاب الأمرية �أر�سينوي‪ ،‬وما �إن و�صل لها‬
‫الأمر حتى علم جانيميدي�س مبا ينوي امللك فعله وم�ست�شاره بوثينيو�س‪،‬‬
‫وطلب من الأمرية احل�ضور معها واملثول �أمام امللك‪ُ ،‬نفخت الأبواق عند‬
‫دخول الأمرية وانحنت هي وجانيميدي�س �أمام امللك‪ ،‬ثم انتقلت الأمرية‬
‫‪59‬‬
‫بجوار امللك على العر�ش‪ ،‬وعلى �شماله م�ست�شاره بوثينيو�س‪ ،‬والذي قال‬
‫بابت�سامة ارت�سمت على فمه‪:‬‬
‫‪--‬التحية للأمرية ال�صغرية وامللكة امل�ستقبلية لعر�ش م�صر‪.‬‬
‫عندما �ألقى بوثينيو�س كلماته رنت يف �آذان احلا�ضرين‪ ،‬رمقه‬
‫جانيميدي�س بعينني متهكمتني على ما قال‪ ،‬نظرت الأمرية �أر�سينوي �إىل‬
‫جانيميدي�س ب�أطراف عينيها وتبادال النظرات للحظات ثم عادت تقول‪:‬‬
‫‪--‬ملكة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أردف امللك‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫‪--‬مل ت�ضلك � ِ‬

‫بل‬
‫أذناك يا �أر�سينوي‪� ،‬سوف تكونني ملكة م�صر يف تتويج‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫مهيب �سوف ت�شهده اململكة ب�أ�سرها‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ت�ساءلت الأمرية‪ :‬وكليوباترا؟‬
‫ف�أردف بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬مل تعد كليوباترا ملكة على م�صر بعد الآن‪.‬‬
‫�ألقى جانيميدي�س نظرات �شزراء �إىل بوثينيو�س ثم قال �إىل امللك‪:‬‬
‫‪�--‬أ�ستميحك عذ ًرا يا موالي!‪ ...‬لكن الأمرية �أر�سينوي لي�ست م�ستعدة‬
‫لتكون ملكة‪ ،‬و�إن اململكة الآن على �أعتاب حربها مع كليوباترا‪ ،‬وال �أرى‬
‫�أن تتويج الأمرية �سوف يكون �أم ًرا حكي ًما يف ذلك الوقت الع�صيب‪.‬‬
‫كانت كلماته حماولة م�ستميتة لعدول امللك عن قراره ولكن مالحمه مل‬
‫يب ُد عليها تراجع‪ ،‬بل تزداد �إ�صرا ًرا‪� ،‬أردف بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن بقاء اململكة بال ملكة �سيت�سبب يف طمع الكثري يف العر�ش‪ ،‬وتتويج‬
‫الأمرية ال�صغرية �سيكون �أكرب حتذير حلدث رهيب هو ال حمالة‬
‫واقع‪ ،‬وحربنا مع كليوباترا باتت قريبة‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫كز جانيميدي�س على �أ�سنانه وجحد بوثينيو�س بنظرات غا�ضبة‬
‫كال�شهب‪ ،‬ثم ا�ستطرد يف حماولة لإقناع امللك‪:‬‬
‫‪--‬ولكن �أيها امللك‪...‬‬
‫مل يعطه امللك فر�صة وقاطعه بحزم‪:‬‬
‫‪--‬ق�ضي الأمر يا جانيميدي�س ال �أريد مزيدً ا من اجلدال‪� ،‬سيكون تتويج‬
‫الأمرية خالل �أيام‪.‬‬
‫وعقل غافل من امللك‪ ،‬غ�ضب كفي�ضان‬ ‫مل�س جانيميدي�س �آذا ًنا مغلقة ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫غا�شم مما حاكه بوثينيو�س للأمرية‪ ،‬ولكنه كان يتوقع الأمر منذ البداية‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫فعند تتويج الأمرية �أر�سينوي يتم �إق�صاء كليوباترا عن العر�ش �إىل الأبد‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وهذا ما ي�سعى �إليه بوثينيو�س ب�أي ثمن كان‪ ،‬و�إن حاولت كليوباترا ا�سرتداد‬

‫والتوز عي‬
‫العر�ش ف�سيكون م�صريها كم�صري الأمرية برنكي‪ ،‬انحنى جانيميدي�س ثم‬
‫ان�سحب يف هدوء تام وعلى حمياه عالمات االمتعا�ض والغ�ضب‪.‬‬
‫قالت الأمرية‪:‬‬
‫‪--‬ولكني �أرف�ض ذلك‪.‬‬
‫بيدك خيار‪.‬‬
‫رد امللك‪ :‬هذا �أمر‪ ،‬ولي�س ِ‬
‫ابت�سم بوثينيو�س‪ ،‬ف�صاحت الأمرية بغيظ‪:‬‬
‫‪�--‬أنت يا بوثينيو�س كح�صان طروادة‪ ،‬لوهلة تبدو هاد ًئا وودي ًعا ولكنك‬
‫خمادع ومليء بالأ�شواك‪.‬‬
‫جحدها امللك بنظرات غا�ضبة‪ ،‬و�أردف يف حدة‪:‬‬
‫‪�--‬أر�سينوي‪.‬‬
‫مل تغب االبت�سامة عن وجه بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪61‬‬
‫‪--‬ال مانع عندي يا موالتي �أن �أكون ح�صان طروادة املخادع �أو حتى‬
‫ال�شيطان هيدي�س ال�شرير‪ ،‬ولكن م�صلحة اململكة هي �شاغلي الأول‬
‫والأخري‪.‬‬
‫نظرت الأمرية �إىل بوثينيو�س بتقزز وغادرت على عاقبيها غا�ضبة‪،‬‬
‫ف�أردف امللك‪:‬‬
‫‪�--‬أعتذر لك يا بوثينيو�س‪ ،‬ف�إن �شقيقتي �أر�سينوي ال تدري ما تفعله �أو‬
‫تقوله يف حلظتها تلك‪ ،‬فقد ورثت غ�ضب �أبي العاتي‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ال ب�أ�س يا موالي‪ ،‬ف�إن الأمرية ال�صغرية تتبع تعليمات مربيها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جانيميدي�س‪ ،‬و�إين �أرى �أنه حبذا لو �أبعدناها عنه ملدة �صغرية حتى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ال يد�س �أفكاره يف ر�أ�سها فت�ستع�صي علينا‪ ،‬ولكن دع ذلك الأمر بعد‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫التتويج‪.‬‬

‫ع‬
‫قام امللك من على عر�شه ثم ا�ستوى على كر�سي �أمام النافذة ا�ستلذت‬
‫�أطرافه بل�سعة هواء باردة ثم �أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أكرث ما يقلقني يا بوثينيو�س هو الو�صية التي �سلمها �أبي �إىل روما قبل‬
‫موته‪ ،‬و�أخ�شى �أن يكون هذا الأمر عائ ًقا وتتخذ روما �صف كليوباترا‪،‬‬
‫فتيل لتلك النريان‪.‬‬‫و�أخ�شى �أن تتويج �أر�سينوي يكون ً‬
‫قال بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن احلرب الأهلية بني يوليو�س قي�صر وبومبايو�س جتري جمرى‬
‫ال�سم يف دماء روما‪ ،‬و�شيوخ املجل�س تتخابط عقولهم و�آرا�ؤهم بني‬ ‫ُّ‬
‫م�ؤيد ليوليو�س قي�صر وم�ؤيد لبومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬ويف ظل هذه‬
‫االن�شقاقات لن يفكر �أحد يف �أمر و�صية امللك الراحل‪ ،‬لقد �أر�سلت‬
‫�إىل جمل�س �شيوخ روما ر�سالة ملكية عن �سقوط م�ستوطنات القائد‬
‫جابينيو�س يف يد كليوباترا‪ ،‬وال �أظن �أن تتخذ روما �صف كليوباترا بعد‬
‫‪62‬‬
‫هذا‪� ،‬سوف تكون �إهانة عظيمة لبومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬وبومبايو�س له‬
‫�شعبية جارفة ون�صيب عظيم بني �صفوف جمل�س ال�شيوخ‪.‬‬
‫قال امللك ب�أمل م�شوب بالقلق‪:‬‬
‫‪�--‬آمل ذلك يا بوثينيو�س‪� ...‬آمل ذلك‪.‬‬
‫انحنى بوثينيو�س وان�سحب من الغرفة امللكية‪ ،‬خرج فوجد جانيميدي�س‬
‫يقف يف ردهة الق�صر وعيناه ت�شتعالن َك ُ�شهب تت�ساقط من ال�سماء‪ ،‬رمق‬
‫بوثينيو�س بنظرات حادة ك�سيوف م�شحوذة‪ ،‬اقرتب منه بوثينيو�س ثم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أردف‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬لعل قرارات امللك مل ت�شعل فيك نا ًرا �أعرفها جيدً ا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫قال جانيميدي�س بغ�ضب مكظوم‪:‬‬
‫‪--‬قرارات امللك! مل �أعهد للملك قرارات �سوى قرارات حمقاء �أمالها‬
‫عليه رجال يرتدون ثياب احلمالن‪ ،‬ولكن �أرواحهم ك�أرواح ال�شياطني‪.‬‬
‫�ضحك بوثينيو�س ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬جانيميدي�س!‪� ...‬أنت �شخ�ص كامل ورائع ولكن من امل�ؤ�سف �أن يكون‬
‫�شخ�ص يف مواهبك‪ ،‬قوتك وبراعتك وذكائك يفتقر �إىل الطموح‪.‬‬
‫‪--‬عن �أي طموح تتحدث؟‬
‫‪--‬ال ي�ستطيع الإن�سان �أن يرى نف�سه �إال يف املر�آة‪ ...‬ودعني �أكون مر�آتك‬
‫اليوم يا جانيميدي�س ودعني �أخربك من �أنت ح ًّقا‪ ،‬ف�أنت نف�سك ال‬
‫تعرف نف�سك مطل ًقا‪ ،‬ف�أنت يا جانيميدي�س امر�ؤ نبيل ومعدنك نقي ال‬
‫ت�شوبه �شائبة‪ ،‬و�أتذكر ذلك كالبارحة ح ًّقا عندما َ‬
‫كنت قائدً ا للجي�ش‪،‬‬
‫وفار�سا‬
‫ً‬ ‫�شجاعا‬
‫ً‬ ‫كنت �أ�صغر قائد للجي�ش عرفته اململكة‪ ،‬كنت قائدً ا‬
‫ال ُي�شق له غبار‪ ،‬كانت عيناك ت�شتعالن بالن�صر وطموحك لي�س له‬
‫‪63‬‬
‫حدود‪ ،‬حتى مات امللك و�أو�صاك بابنته ال�صغرية فاعتزلت القتال‬
‫وتركت الأمر لأخيال�س‪ ،‬فهل �أنت جانيميدي�س ح ًّقا �أم �شبح لرجل قد‬
‫فار�سا عظي ًما ميتطي‬
‫رحل عنا منذ زمن؟ �أتعلم ما �أراه الآن؟ �أرى ً‬
‫حما ًرا‪.‬‬
‫قال بحزم �شديد‪:‬‬
‫‪--‬كفاك عب ًثا يا بوثينيو�س!‪ ...‬لن تغريني كلماتك‪� ،‬أعلم ما يجول يف‬
‫عقلك‪ ،‬كل ما يهمك هو الظفر بالعر�ش وما كان �أمر تتويج الأمرية‬

‫ع‬
‫�أر�سينوي �إال لإق�صاء كليوباترا عن العر�ش للأبد‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫انفعل بوثينيو�س ب�ضراوة ولكن حافظ على نرباته الهادئة‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪�--‬صار مرادي قري ًبا جدًّا‪ ،‬و�سيتم تطهري الإ�سكندرية من عائلة‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ا�ستباحت م�صر منذ عقود‪ ،‬و�أعرتف لك‪ ،‬مل يكن هديف ً‬

‫ع‬
‫يوما‪.‬‬
‫نبيل ً‬
‫‪--‬طموحك كالفي�ضان‪ ،‬و�سيغرق كل من ال يعرف ال�سباحة‪ ،‬و�إين ل�سباح‬
‫ماهر‪ ،‬ولن �أترك الأمرية بني ُد َّوامات بحارك �أبدً ا‪ ،‬و�ستجد �سيفي‬
‫دوما يا بوثينيو�س‪ ،‬ف�أنت متلك يف نف�سك عنا�صر املفا�سد‬ ‫مت�أه ًبا ً‬
‫واملكاره كلها تتقلب كالأفاعي على جوانب الكهوف وامل�ستنقعات‪.‬‬
‫�ضحك بوثينيو�س ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬ويحك يا جانيميدي�س! �إن البالط الآن حتت �أقدامي وال �أقول هذا‬
‫تهديدً ا ووعيدً ا �إمنا �أقوله حتذي ًرا‪.‬‬
‫‪--‬قد فعلت ما ال �أندم عليه‪ ،‬ولي�س يف تهديدك ما يخيفني‪ ،‬فقد مرت‬
‫تهديداتك بي مر الرياح اخلاوية التي ال �آبه بها‪.‬‬
‫‪--‬يبدو يل �أنك م�ص ٌّر على معاداتي يا جانيميدي�س‪ ،‬ومل تدع يل خيا ًرا‬
‫�إال �أن �أتخذك كعدو يل‪ ...‬و�إن يل يف الرجال لنظرة‪ ،‬و�أرى يف �أعماق‬
‫روحك وه ًنا يا جامييدي�س‪ ،‬وه ًنا ال ت�ستطيع عيناك َك ْبته‪ ،‬وهو عيبك‬
‫‪64‬‬
‫يف نف�س الوقت‪ ،‬ف�إن حر�صك على الأمرية ح َّولك من حمارب يجابه‬
‫الآلهة �إىل جمرد رجل ال ي�ستطيع حمل �سيف من فرط وهنه‪.‬‬
‫�صمت جانيميدي�س هنيهة وحدق يف عني بوثينيو�س بتحدٍّ وقال‪:‬‬
‫‪--‬ل�ست �أنا باخلائن وال بالو�ضيع الذي تظنه‪ ،‬و�إن ال�شرف لهو مو�ضع‬
‫حديثي الآن‪ ،‬و�إين �أف�ضل املوت لت ِّوي على �أن �أ�ساعدك ولو للحظة‬
‫على الظفر بالعر�ش‪.‬‬
‫عم ال�صمت املكان للحظات تبادال فيها نظرات حمتدمة‪ ،‬وحلظات‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أخرى غادر فيها جانيميدي�س البالط‪ ،‬وان�سحب فيها بوثينيو�س �إىل مكتبة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الق�صر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫�صحراء �شا�سعة تبدو وك�أنها �سرمدية ال نهاية لها‪ ،‬ترب�صت بهم �ضباع‬
‫الفحا غام ًرا �أب�صارهم بالغبار‪ ،‬حاولوا‬
‫و� ُأ�سود ال�صحراء‪ ،‬كان الهواء ً‬
‫تق�صي طريقهم مب�سارات النجوم‪� ،‬شاهدت �أعينهم الأودية اململوءة‬ ‫ِّ‬
‫وجبال متعالية تناطح ال�سحاب ال�شاهق‪ ،‬عك�ست اجلبال‬ ‫ً‬ ‫�سح ًرا وهيبة‬
‫ر�سوم الأ�شباح و�ألوان غيوم ال�سماء‪ ،‬كانت الأ�ساطري قد ًميا تتحدث عن‬
‫�أن للجبال لغة �سماوية ترتفع عن الأ�صوات والأل�سنة‪ ،‬لغة خالدة ال يفهمها‬
‫خملوق تتناجى فيما بينها عن الرحالة بني �أوديتها وطرقها‪.‬‬
‫ح َّول �إريو�س وجهه ونظر �إىل الف�ضاء ك�أنه يبحث عن �سر ما بني دقائق‬
‫الأثري‪ ،‬كانت احلياة �أمامه كحب�س �ضيق‪ ،‬بالرغم من �ش�ساعة ال�صحراء‬
‫ولكنه ال يرى يف جوانبها �إال الرمال ودبيب العقارب‪.‬‬
‫كان يراقبه من بعيد‪ ،‬مل يغ�ض الطرف عنه طوال الطريق‪ ،‬ينتابه‬
‫الف�ضول �أحيا ًنا وال �شيء ي�شفي ذلك الف�ضول اجلارف‪ ،‬يجذبه الطموح‬
‫‪65‬‬
‫وتدفعه روح املغامرة لل�سعي �إىل املجد‪ ،‬يت�صارع مع �شخ�ص بداخله‪،‬‬
‫�شخ�ص لي�س هو‪ ،‬ال يعلم متى ُولد ومتى �سوف يقرر اخلروج‪ ،‬كل ما يعرفه‬
‫�أنه ناقم على تلك احلياة التي يحياها الآن‪.‬‬
‫توقفوا عند م�ستنقع من املاء العذب‪� ،‬شربوا حتى ارتووا‪ ،‬وقدموا‬
‫�أفرا�سهم لرتتوي‪ ،‬مر بع�ض الوقت حتى انت�صبت اخليمة وت�أهبت ملبيت‬
‫الليل وا�ستكمال امل�سري يف ال�صباح‪� ،‬أ�شعلوا نا ًرا وجل�سوا حولها‪ ،‬وبعد‬
‫�ساعة مرت بني الأحاديث والتذكارات مرور الظالل‪ ،‬وقف بيتالو�س‬
‫و�أح�ضر �سيفني و�س َّلم �إريو�س �أحدها وقال‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬قف يا فتى ونازلني كما الأيام اخلوايل‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫تناول من يده ال�سيف وانت�صب و�أردف‪:‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬ولعلك �صرت الآن عجو ًزا ً‬

‫ع‬
‫هرما‪ ،‬فلن �أق�سو عليك‪.‬‬
‫�أطلق بيتالو�س �ضحكة وقال‪:‬‬
‫‪--‬هيا �أرين ما لديك‪ ،‬هذا العجوز الهرم �سوف يركل م�ؤخرتك حتى‬
‫تطلع ال�شم�س‪.‬‬
‫تبادلت ال�سيوف �ضربات خفيفة يف البداية‪� ،‬أم�سك الفتى ال�سيف‬
‫مبع�صمني قويني‪ ،‬كان ال بد من �أن يفوز بهذا النزال بالذات‪ ،‬لأنه الحظ‬
‫�أن منقذه يراقب من بعيد‪ ،‬كان يريد �أن يثري �إعجابه ويلفت انتباهه‬
‫بطريقة ما‪ ،‬رفع �سيفه لأعلى و�سدد �ضربة �سريعة ولكن بيتالو�س ا�ستطاع‬
‫�أن يتفاداها بر�شاقة �شاب يف الع�شرين‪ ،‬رجع خطوتني �إىل الوراء ً‬
‫متخذا‬
‫و�ضعية دفاعية‪ ،‬اندفع �إريو�س بحما�س �شديد‪ ،‬حتا�شاه بيتالو�س و�ضربه‬
‫أر�ضا‪� ،‬أطلق �ضحكة وقال م�ستهز ًئا‪:‬‬
‫بظهر ال�سيف على ر�أ�سه و�أ�سقطه � ً‬
‫‪--‬هيا يا فتى ولعلني �سوف �أت�ساهل معك تلك املرة‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫طبقات مبطنة من املالب�س‪ ،‬كان كمن طوق نف�سه وال‬ ‫ٍ‬ ‫كان يرتدي‬
‫بع�ضا من الطبقات الكثيفة ونظر لبيتالو�س بتحدٍّ ‪،‬‬‫ي�ستطيع احلركة‪ ،‬خلع ً‬
‫وكان الأخري يلهث متعر ًقا‪ ،‬وعلى الرغم من براعته ف�إن تق ُّدمه يف العمر‬
‫قد بد�أ يظهر يف النزال‪ ،‬عقد �إريو�س حاجبيه وعزم على الهجوم ب�شرا�سة‪،‬‬
‫�سدد ب�ضع �ضربات ا�ستطاع بيتالو�س �صدها‪ ،‬ويف ال�ضربة اخلام�سة تعرث‬
‫واختل وزن بيتالو�س‪ ،‬اقتن�ص �إريو�س الفر�صة ووجه �ضربة �أطاحت‬
‫أر�ضا‪ ،‬التقط �أنفا�سه ورفع الن�صل �إىل وجهه‪،‬‬‫بال�سيف من يده و�أ�سقطته � ً‬
‫ابت�سم ثم �أردف‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬اكتفيت �أيها العجوز �أم تريد املزيد؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫قالها ومد يده‪ ،‬تناول بيتالو�س يد �إريو�س ووقف‪ ،‬لفظ �أنفا�سه ب�صعوبة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ثم �أردف‪:‬‬
‫كهول مثلي‪.‬‬‫‪--‬ال تفرح كث ًريا �أيها ال�شاب فمعظم �أخ�صامك لن يكونوا ً‬
‫ق�ضيا الليل نائ َمني بن�صف �أعني‪ ،‬تناوبوا احلرا�سة فيما بينهما‪� ،‬أخذ‬
‫�إريو�س �أول الليل وبيتالو�س حتى ال�صباح‪ ،‬ومع �إ�شراق القر�ص الذهبي‬
‫ت�أهبا للم�سري‪ ،‬م�شى �إريو�س بخطوات وا�سعة حتى م�شى مبحاذاة منقذه‪،‬‬
‫نظر له منقذه ثم �أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أنت مبارز جيد �أيها ال�شاب‪ ،‬ولكن ينق�صك الكثري لتتعلمه‪.‬‬
‫بدا على وجه �إريو�س ال�سرور من كلمات منقذه‪ ،‬ثم �أردف بحما�س‪:‬‬
‫‪--‬وماذا ينق�صني؟‬
‫فادحا عندما‬ ‫‪--‬ينق�صك احلكمة �أيها ال�شاب‪ ،‬ليلة �أم�س �أخط�أت خط�أ ً‬
‫ً‬
‫أر�ضا‬‫اندفعت بكامل قواك‪ ،‬ا�ستغل العجوز اندفاعك و�أ�سقطك � ً‬
‫ب�ضربة �سيف‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫�أردف �إريو�س‪:‬‬
‫‪--‬ولكني تغلبت عليه يف النهاية‪.‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬مل تتغلب عليه‪ ،‬ومل تقرتب حتى‪ ،‬بل العجوز تركك تربح النزال‪.‬‬
‫ت�ساءل‪« :‬كيف علمت هذا؟»‬
‫‪�--‬أنت ت�ستخدم ال�سيف ك�سالح وهذا خط�أ ج�سيم‪.‬‬
‫مل يفهم �إريو�س ما قاله‪ ،‬ثم �س�أل‪:‬‬
‫‪�--‬أ َولي�س ال�سيف ً‬

‫ع‬
‫�سالحا؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬ال‪ ،‬يجب �أن يكون الن�صل جز ًءا ال يتجز�أ من اجل�سد‪ ،‬ال�سالح‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫احلقيقي هو العقل والهدوء بجانب املرونة يف احلركة‪� ،‬أنت تعرف‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫كيف مت�سك بال�سيف ولكن ال تعرف كيف تفكر �أو كيف تقتل ً‬
‫رجل‪.‬‬

‫ع‬
‫حلوحا على ل�سانه‪:‬‬
‫كان ال�س�ؤال ً‬
‫‪--‬كيف تعلمت كل هذا؟‬
‫‪--‬قد تعلمت الكثري بني �صفوف اجلي�ش‪.‬‬
‫قال بعينني تلمعان‪:‬‬
‫‪--‬تلك هي �أمنيتي الوحيدة يف احلياة‪ ،‬وال �أظن �أنني �سوف �أ�ستطيع‬
‫حتقيقها �أبدً ا‪.‬‬
‫‪--‬هل تريد االن�ضمام �إىل اجلي�ش؟‬
‫�أجاب‪ :‬نعم‪.‬‬
‫‪--‬لعلك ال ت�ستحق هذا البالء ف�أنت حتمل قل ًبا نق ًّيا‪.‬‬
‫‪--‬بالء! ملاذا؟‬
‫ت�ساءل بف�ضوله املعتاد‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫قال منقذه بنربات حادة‪:‬‬
‫‪--‬لعلك ال تعرف �شي ًئا �أيها ال�شاب‪ ،‬هل ر�أيت حر ًبا قط؟ يف احلروب‬
‫ال يوجد غري �شيئني فقط‪ ،‬الدموع والدماء‪ ،‬و�أ�شالء تتطاير يف كل‬
‫مكان‪ ،‬لعلك تظن �أنك �سوف حت�صد املجد وتتقرب للنبالء بب�سالتك‬
‫و�شجاعتك‪ ،‬الأمور ال ت�سري بهذه الطريقة �أبدً ا‪ ،‬بني �صفوف اجلي�ش‪،‬‬
‫متوت الأحالم‪ ،‬ويغادر الأ�صدقاء‪ ،‬ويرحل كل من �أحببت‪.‬‬
‫كانت كلماته حتمل �أث ًرا غري ًبا يف نف�س �إريو�س‪ ،‬كان ي�شعر بقلبه‬

‫ع‬
‫احلزين بني نرباته املرتدية‪ ،‬كان وجهه يحمل �ألف ق�صة‪ ،‬وعيناه حتمل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�ضو ًءا قد خبا و�ضاع بني الأيام‪� ،‬صمت �إريو�س ويف جعبته مئات الت�سا�ؤالت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اجلارفة‪.‬‬

‫و‬ ‫ل‬
‫غريتم�‬‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫ألوفة‪ ،‬جاءت‬ ‫يف الليل كان البهو هاد ًئا حتى ملئت �أرجائه حركة‬
‫الأخبار عن قتيل‪ ،‬مل ُيعرف من هو‪ ،‬ولكن يبدو �أنه ذو �ش�أن رفيع يف‬
‫البالط‪ ،‬وقد جاء على �أثره القائد ماريو�س من الإ�سكندرية‪ ،‬كان ماريو�س‬
‫نباحا‪،‬‬
‫�أحد �أذرع بوثينيو�س يف الإ�سكندرية‪ ،‬و�أحد كالبه �إن تطلب الأمر ً‬
‫طويل القامة يحمل وجهه ندبات غائرة‪ ،‬يرتدي على كتفيه فرو ذئب بري‪،‬‬
‫كان يهابه كل من يف الإ�سكندرية مما �سمعوه‪ ،‬يتحاكى �أهل الإ�سكندرية‬
‫عن �أنه ميزق جلود املتمردين ب�أنيابه املجردة‪ ،‬كان من �أ�صل روماين‪ ،‬جاء‬
‫من روما وهو �صغري‪ ،‬تربى بني الأزقة وبني احلانات‪ ،‬تعلم كيف ينبح وكيف‬
‫ُّ‬
‫ينق�ض عندما ي�شت ُّم اخلوف‪ ،‬ا�ستعان به بوثينيو�س لي�ستطيع �إم�ساك زمام‬
‫الإ�سكندرية وجماهريها �سريعي اال�شتعال‪ ،‬ع َّينه م�ساعدً ا لكبري احلر�س‬
‫امللكي‪ ،‬مل يكن يخ�شى �شي ًئا‪ ،‬لكن كان ككل الكالب وف ًّيا لأ�صحابه كا�ش ًفا‬
‫‪69‬‬
‫�أنيابه على الغرباء‪ ،‬طلب مقابلة بوثينيو�س يف �أمر عاجل‪ ،‬وكان بوثينيو�س‬
‫حينها يف مكتبة الق�صر‪ ،‬فدلف �إليه �أحد احلرا�س انحنى ثم �أردف‪:‬‬
‫‪�--‬إن القائد ماريو�س يف اخلارج وي�ست�أذن للدخول‪.‬‬
‫كان بوثينيو�س يطالع �إحدى اللفائف وبجواره �أمني املكتبة يف البالط‪،‬‬
‫وعندما �ألقاها احلار�س على م�سامعه انتبه و�أردف بنربات هام�سة‪:‬‬
‫‪--‬ماريو�س!‪ ...‬ما جاء به ال�ساعة؟‬
‫ثم فكر للحظات قبل �أن ي�ستطرد‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫‪َ --‬‬

‫ك‬
‫ايذنْ له بالدخول‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫خرج احلار�س وما لبث حتى دخل القائد ماريو�س‪ ،‬انحنى احرتاما ثم‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�أردف‪:‬‬

‫ع‬ ‫‪َ --‬‬


‫فليحي عايل املقام بوثينيو�س‪.‬‬
‫‪--‬ما الأمر يا ماريو�س؟ ما �أتيت من الإ�سكندرية �إال لأمر عظيم‪.‬‬
‫قالها بال مباالة وهو يطالع كتا ًبا‪.‬‬
‫‪--‬نعم يا عايل املقام‪ ...‬هو كذلك‪.‬‬
‫نظر له نظرة خاطفة ثم قال‪َ � :‬إذن حتدث‪.‬‬
‫�صمت ماريو�س برتدد ثم نطق �أخ ًريا‪ :‬لقد ُقتل �أكتيون‪.‬‬
‫انتبهت �أفئدة بوثينيو�س ونظر �إىل ماريو�س باهتمام‪ ،‬ثم التفت �إىل‬
‫�أمني املكتبة بجواره و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬اتركنا الآن يا تايبرييو�س‪.‬‬
‫انحنى تايبرييو�س ثم �أردف‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫‪�--‬أمرك يا موالي‪.‬‬
‫قالها ثم غادر‪.‬‬
‫ثم خاطب ماريو�س ً‬
‫قائل‪ :‬اللعنة! ُقتل؟‬
‫‪--‬نعم‪.‬‬
‫�س�أل بوثينيو�س با�ستق�صاء‪:‬‬
‫‪--‬ومن قا ِتله؟‬

‫ع‬
‫‪--‬جمهول‪....‬‬

‫ك‬ ‫ل‬
‫يقولونتب�أنها كانت امر�أة م�صرية قتلته ثم ذابت بني‬‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬
‫ثم ا�ستدرك ماريو�س يف ارتباك‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫‪--‬لكن اجلنود‬

‫�صمت للحظات ا�ستوعب فيها الكلمة ثم قال‪ :‬امر�وأة‪.‬التوز عي‬


‫الأرجاء‪.‬‬

‫�ألقاها وتعالت �ضحكات عالية م�ستهزئة ملأت الأرجاء ال�صامتة‪ ،‬ثم‬


‫ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬متخ�ض اجلبل عن ف�أرة‪ .‬قد ًميا كان ميوت اجلنود يف �ساحة القتال‪،‬‬
‫على يد الأقدار والآلهة‪� ...‬أما الآن؟ فعلى يد امر�أة‪.‬‬
‫ثم احتد كال�سيف و�صاح كزوبعة‪:‬‬
‫‪--‬ولكن كيف بحق الآلهة؟‪ ...‬كيف المر�أة ال حيلة لها وال قوة �أن تقتل‬
‫رئي�س احلر�س اخلا�ص بفرعون م�صر؟‬
‫ارتبك ماريو�س وتعرق جبينه العري�ض‪ ،‬ابتلع ريقه‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫‪71‬‬
‫‪--‬مل تكن امر�أة عادية‪ ...‬بل كانت م َّدربة و ِب ِن َّية مبيتة‪ ،‬يقول اجلنود‬
‫ب�أنها زارت املكتبة العظمى عدة مرات‪� ،‬أودعت بع�ض املخطوطات‬
‫والربديات‪ ،‬ثم غادرت وفعلت فعلتها واختفت كاحلرباء‪.‬‬
‫ت�ساءل بوثينيو�س وما تزال نرباته احلادة جترح ماريو�س ك�سكني‪:‬‬
‫‪--‬كيف ُقتل؟‬
‫‪--‬ال�شنق عندي �أي�سر من ذكر التفا�صيل‪.‬‬
‫‪--‬و�أين ُقتل؟‬

‫ع‬
‫‪--‬عند معبد �سرابيوم كان يتعبد هناك‪ ،‬فانق�ضت عليه و�أخرجت قلبه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من بني �أ�ضالعه وف َّرت‪ ،‬حلق بها اجلنود ولكنهم ف�شلوا بالإم�ساك‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بها‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫كز على �أ�سنانه وقال ب�صوت خفي�ض‪:‬‬
‫‪--‬ال�سرابيوم‪ ...‬يا لها من �إهانة!‬
‫ثم ا�ستطرد بغ�ضب عارم‪:‬‬
‫‪--‬اقلب الإ�سكندرية ر� ًأ�سا على عقب حتى جتدها‪ ...‬اذهب �إىل‬
‫حي راكتو�س‪ ،‬وال تدع �أحدً ا يخرج �أو يدخل منهم حتى يتعر�ض‬
‫وا�ستق�ص عن الأمر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لال�ستجواب‪ ،‬واذهب �إىل املكتبة العظمى‬
‫‪�--‬أمرك يا موالي‪.‬‬
‫وهم باملغادرة‪ ،‬فا�ستوقفه بوثينيو�س بنربات حتمل‬ ‫قالها ماريو�س َّ‬
‫التهديد والوعيد‪:‬‬
‫‪--‬ماريو�س!‪ ...‬ال تف�شل‪ ،‬وابتهل للآلهة كث ًريا ب�أال ينفد حظك الوفري‪،‬‬
‫ف�أنا رجل ال يحتمل الأخطاء‪ ،‬وخط�أ �آخر وال �أعلم كيف �س�أحفظ‬
‫كيا�ستي‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫‪--‬قد علمت �أين �س�أغمد خنجري‪ ،‬لن يغم�ض يل جفن حتى �أجد تلك‬
‫العاهرة‪.‬‬
‫‪--‬من الأف�ضل لك‪.‬‬
‫قالها و�أكمل مطالعته‪ ،‬انحنى ماريو�س ثم ان�سحب متوج ًها �إىل‬
‫الإ�سكندرية‪.‬‬
‫�ضجيجا من‬
‫ً‬ ‫يف ال�صباح كانت �ساحة القتال يف الق�صر ت�صدر‬
‫ت�شابك ال�سيوف‪� ،‬ساحة وا�سعة مبلطة‪ ،‬يت�شابك فيها الطالب بال�سيوف‬

‫ع‬
‫والرماح وبالأيادي‪ ،‬ويف زاوية وقف �أخيال�س و�أمامه �شابان مفتوال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫اجل�سد‪� ،‬أحدهما كان ً‬
‫تلميذا لأخيال�س والآخر �شا ًّبا ترعرع ون�ش�أ يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫البالط‪ ،‬ت�شابكا بالأيادي‪ ،‬ثم انق�ض تلميذ �أخيال�س على الفتى بقب�ضة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�صلبة �أدمت �إحدى عينيه‪ ،‬وظفر بخ�صره على حني غرة ثم �ألقاه � ً‬
‫أر�ضا‬
‫يف حركة قا�ضية‪� ،‬سقط الفتى ومل ينت�صب‪� ،‬أ�شار �أخيال�س بيده‪ ،‬فتوقف‬
‫القتال‪ ،‬اقرتب �أخيال�س من تلميذه ور َّبت على كتفه يف فخر‪ ،‬كان ذلك‬
‫حني دخل بوثينيو�س �ساحة القتال‪ ،‬فكف الطالب �أيديهم بع�ضهم عن‬
‫البع�ض‪ ،‬وتلملمت م�ؤخراتهم و�سكنت �أطرافهم يف حلظات‪ ،‬وانحنى كل‬
‫من يف ال�ساحة‪ ،‬تقدم بوثينيو�س نحو �أخيال�س وتلميذه توبايو�س وقال‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فليحي القائد �أخيال�س‪.‬‬
‫فليحي م�ست�شار امللك‪.‬‬
‫َ‬ ‫قال �أخيال�س‪:‬‬
‫ابت�سم بوثينيو�س ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬بالرغم من تن�صيبك قائدً ا للجي�ش‪ ،‬ف�إنك ما زلت قائ ًما على‬
‫التدريب يف ال�ساحة‪.‬‬
‫�ضحك �أخيال�س‪:‬‬
‫‪73‬‬
‫‪--‬العادة حتكم يا �صديقي القدمي‪.‬‬
‫ثم وجه حديثه لتوبايو�س‪ :‬وكيف حالك �أيها املحارب ال�شاب؟‬
‫�أجاب توبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬بخري حال يا موالي‪.‬‬
‫قال �أخيال�س‪:‬‬
‫‪--‬اتركنا الآن يا توبايو�س‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أذعن توبايو�س لأمر �أخيال�س وان�صرف‪ ،‬ف�أردف بوثينيو�س‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫‪--‬تعال‪ِ ،‬‬

‫بل‬
‫ام�ش معي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫م�شى بوثينيو�س و�أخيال�س على �أطراف البحرية‪� ،‬شخ�ص ب�صر‬

‫ع‬
‫بوثينيو�س �إىل ال�سماء يرتقب الغيوم‪ ،‬حلظات ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬كيف حال اجلي�ش يف بلوزيوم؟‬
‫‪�--‬إن جي�ش كليوباترا قد توغل و�سيطر على املنطقة ب�أ�سرها‪.‬‬
‫‪--‬وهل هناك من خماطر؟‬
‫حك �أخيال�س ذقنه ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ولكن لها � ً‬
‫أ�سطول بحر ًّيا �ضخ ًما‪ ،‬ومع ذلك فجنودها ال يعرفون‬
‫عن القتال �شي ًئا‪.‬‬
‫‪--‬يتوىل تدريبهم رابو�س‪ ،‬قائد القرا�صنة الأحرار‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬وال �أعرف كيف ا�ستطاعت كليوباترا �أن تتخذه كحليف‪ ،‬فما‬
‫�سمعته �أنا‪� ،‬أن رابو�س رجل �صلب ال تغريه املنا�صب وال يغره الذهب‪.‬‬
‫‪--‬لكل رجل نقطة �ضعف‪ ،‬ويبدو �أن كليوباترا ا�ستطاعت معرفتها‬
‫وا�ستغاللها ب�سهولة‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫‪--‬وهذا ما كنت �أخ�شاه‪ ،‬ف�إن رابو�س رجل ذو ب�أ�س وقوة‪ ،‬ووفا�ؤه الكامل‬
‫لكليوباترا دون غريها‪.‬‬
‫‪--‬وكيف ت�سري الأمور هناك؟‬
‫�أجاب �أخيال�س‪ :‬يتناو�ش اجلنود هناك يف حرب ك ٍّر وف ٍّر‪ ،‬والأمر بيننا‬
‫وبينهم ِ�سجال‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظة‪ ،‬ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬لكن املعركة الفا�صلة تكون قريبة‪ ،‬ففي وقت ق�صري �سوف يكون‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫�أ�سطولنا جاهزًا ملالقاة �أ�سطول كليوباترا‪.‬‬

‫ت‬
‫قال �أخيال�س‪ :‬ب ل‬
‫ل‬
‫‪--‬لقد حتدثت �إىل جانيميدي�س‪ ،‬يبدو �أنه رجل �صلب ال تغره غائرة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ع�أ‪.‬‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬
‫�سوى امللك ملا‬ ‫ت‬‫أحد‬ ‫‪�--‬أعرف جانيميدي�س جيدً ا‪ ،‬فهو ال يذعن لأوامر �‬
‫ميلكه من �سلطة‪ ،‬ولكن غري ذلك ف�إن جانيميدي�س رجل ذو مبد‬
‫‪�--‬سيكون عائ ًقا يف الطريق‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح!‪ ...‬لقد �سمعت عن تتويج الأمرية �أر�سينوي لتكون‬
‫ملكة على م�صر‪� ،‬سمعت اخلرب‪ ،‬ولي�س ال�سمع كالعيان‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪� ،‬إن الأمر حقيقي‪� ،‬إن تتويج الأمرية �أر�سينوي �سيكون مبثابة‬
‫طعنة عميقة يف قلب كليوباترا تنزف منها حتى املوت‪.‬‬
‫قال �أخيال�س بنربات حمذرة‪:‬‬
‫‪--‬ولكن عليك باحلذر‪ .‬فروما بالأم�س لي�ست كروما اليوم‪� ،‬أمل ي�أ ِتك‬
‫اخلرب �أن غايو�س يوليو�س قي�صر تغلب على غرميه بومبايو�س‬

‫‪75‬‬
‫ماجنو�س يف احلرب الأهلية‪ ،‬وفر بومبايو�س �إىل اليونان وت�شابك‬
‫اجلنود ملرة �أخرية عند فار�سالو�س وانك�سر جي�ش بومبايو�س‬
‫ماجنو�س وفر �إىل البعيد املجهول‪.‬‬
‫‪--‬بلى‪ ،‬قد جاءت الأخبار وقد رحل على �آثارها القائد جابينيو�س ومعه‬
‫جمموعة كبرية من اجلنود التي جمعها من �شتى م�ستوطناته مل�ساندة‬
‫قائده بومبايو�س‪.‬‬
‫‪--‬بجلو�س يوليو�س قي�صر على عر�ش روما يختلف الأمر كث ًريا‪.‬‬
‫�ألقاها بقلق‪ ،‬وكان حم ًّقا‪� ،‬ستختلف الأمور الآن وكالهما يعلم ذلك‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ب�صمت ومل ينطق �أحدهما ب�شيء �آخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تبادال النظرات‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫الفحا‪،‬‬
‫بط�شت بهم الرياح كجالد ال يعرف الرحمة‪ ،‬كان الهواء ً‬
‫لفحت �أج�سادهم الرمال وجلدت ظهورهم‪ ،‬كانت ال�صحراء بد�أت‬
‫تكت�سي بالظالم من حولهم‪ ،‬وكان الغ�سق بد�أ باالنق�شاع ومل مينع الظالم‬
‫من االنت�شار‪ ،‬كان اختيار ال�صحراء للم�سري اختيا ًرا غري موفق‪ ،‬وقفت‬
‫عرباتهم عند م�ستنقع من م�ستنقعات ال�صحراء‪� ،‬أ�صاب ثاينيو�س َن َ�ص ٌب‬
‫كبري من رحلتهم‪ ،‬كان كب ًريا يف ال�سن جتاوز اخلم�سني من عمره �أثقل‬
‫ب�صوت يرتدد �صداه يف الفراغ الذي ا�صطبغ‬
‫ٍ‬ ‫عليه ج�سده وناء بحمله‪ ،‬قال‬
‫�أفقه باللون الأحمر مع مغيب ال�شم�س‪:‬‬
‫‪�--‬أين نحن يا �ستافلو�س؟‪ ...‬وكم من الوقت تبقى لن�صل �إىل وجهتنا؟‬
‫قال �ستافلو�س‪ :‬ما زال �أمامنا رحلة طويلة‪ ...‬ت�سعة �أيام ورمبا ع�شرة‪،‬‬
‫والليل قادم‬

‫‪76‬‬
‫�صاح ثاينيو�س بغ�ضب‪ :‬ت�سعة �أيام! لقد ق�ضينا �أكرث من �ستة �أيام يف‬
‫عر�ض ال�صحراء‪ ،‬وال �أجد �أننا حتى نقرتب‪.‬‬
‫حاول �ستافلو�س تهدئته‪ :‬ح�س ًنا اهد�أ‪ ،‬نحن لن نذهب �إىل �سيوة كما‬
‫خططنا‪ ،‬لقد اتخذت طري ًقا خمت�ص ًرا �سيقودنا �إىل طيبة بعد �أيام‪.‬‬
‫كز ثاينيو�س على �أ�سنانه وقال بغ�ضبه امل�شتعل‪:‬‬
‫‪--‬كان عليك على الأقل �أن تخربنا ال �أن ت�سوقنا كاخلراف التي ال تعرف‬
‫�شي ًئا‪ ،‬وها نحن تائهون يف عر�ض ال�صحراء والليل قادم‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أطلق بيتالو�س �ضحكة رددتها الرياح‪ ،‬ورفع عينيه �إىل ال�سماء‪ ،‬وبلهجة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ال مبالي ٍة قال‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬وهل ال�صغري جائع �أم يخيفه ظالم الليل؟ �أنت تتذمر كطفل �صغري‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫الليل ي�أتي بعد الغ�سق يف هذا املوعد كل يوم تقري ًبا‪.‬‬
‫قال ثاينيو�س غا�ض ًبا‪:‬‬
‫‪--‬اللعنة عليك يا بيتالو�س‪ ،‬كفاك ً‬
‫مزاحا‪.‬‬
‫مل ي ُرق لثاينيو�س �أن ي�ستخف به الآخرون‪ ،‬ومل يكن يقت�صر القلق على‬
‫ثاينيو�س فقط‪ ،‬بل �إن جميعهم ي�شعرون مبذاق القلق يف الهواء بالفعل‪،‬‬
‫ولكن منهم من ا�ستطاع ك ْبته ومنهم من مل ي�ستطع‪ ،‬لقد ق�ضى �ستافلو�س‬
‫عاما كاملة يف جتارة العبيد‪ ،‬ولكن هذه املرة كانت خمتلفة‪ ،‬كان‬ ‫�أربعني ً‬
‫هناك نوع من توتر الأع�صاب يقف على �شفري اخلوف وكان هذا يثري‬
‫التوج�س يف قلوبهم جمي ًعا‪ ،‬يف تلك الليلة كان �شيء خمتلف عن املعتاد‪،‬‬
‫كان الظالم �أكرث من جمرد ظالم‪ ،‬وكان ميوج يف الأفق هواء بارد جعل‬
‫ال�شعريات تنت�صب على �أذرعهم ورءو�سهم‪� ،‬أيام �ستة مرت عليهم يف هذه‬
‫الرحلة بني �أودية ل�صحراء مقفرة‪ ،‬كان كل يوم �أ�سو�أ من �سابقه‪� ،‬أما اليوم‬
‫‪77‬‬
‫فكان الأ�سو�أ على الإطالق‪ ،‬فالرياح الباردة تهب وجتعل من �صوت الرمال‬
‫ك�أنها حركة ع�شرات الكائنات والوحو�ش الكا�سرة‪� ،‬شعروا ب�أن ثمة �شي ًئا‬
‫ما يراقبهم‪.‬‬
‫مل يكن �إريو�س معهم كما العادة‪ ،‬كان ج�سده يقف بينهم ولكن وجدانه‬
‫وعقله يف مكان �آخر‪ ،‬عقله اجلامح يطري يف الأفق‪ ،‬ومل ي�شاركهم يف �شعور‬
‫�شخ�صا �آخر‪ ،‬نظر �إليه ثم قال‪:‬‬
‫ً‬ ‫القلق بل �شارك‬
‫‪--‬يبدو �أن رحلتنا ما زالت طويلة‪ ،‬و�أرجو �أال متانع �أن �أجل�س معك بني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الفينة والأخرى‪ .‬يبدو �أننا تهنا يف ال�صحراء‪ ،‬الكل خائف و‪....‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ب‬
‫مل يكمل حديثه‪ ،‬قاطعه منقذه بحدة‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫‪--‬ا�صمت �أيها‬

‫والتوزي‬
‫ال�شاب‪.‬‬

‫ع‬
‫قالها و�شخ�صت عيناه للحظة يف الأفق‪ ،‬ثم ا�ستطرد املنقذ‪:‬‬
‫‪--‬هل ت�ستمع ملا �أ�سمعه؟‬
‫حاول �إريو�س �أن ي�ستمع ملا ي�شري �إليه منقذه ومل ي�سمع �إال �صوت الرياح‪،‬‬
‫�أردف �إريو�س يف تعجب‪:‬‬
‫‪�--‬أنا ال �أ�سمع �شي ًئا �إال هبوب الريح املزجمرة!‬
‫انثنت قامته و�أم�سك قب�ضة من الرمال بني �أنامله وبعدها و�ضع �إحدى‬
‫�أذنيه على الرمال للحظات ثم انت�صب‪ ،‬ف�س�أل �إريو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تفعل؟‬
‫قال بلهجة جادة‪ :‬هناك من يقتفي �آثاركم وهو على ُبعد دقائق من‬
‫الآن‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫فقال ال�شاب �إريو�س بتعجب‪:‬‬
‫‪--‬وكيف لك �أن تعرف؟‬
‫‪�--‬إن هبوب الرياح يحمل بني عزيفه الكلمات‪� ،‬أ�صوات حفوف اخليل‬
‫تتناقلها الرمال‪.‬‬
‫‪--‬وهل تعرف لغة الريح؟‬
‫‪--‬يف اجلي�ش تعلمت لغة الريح واحليوان واجلبال‪ ،‬ودبيب الرمال تنبئ‬
‫عن �أفرا�س تقرتب‪.‬‬
‫‪�--‬أال تعرف من يقتفي �آثارنا؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬يعرفون ال�صحراء كما تعرفون �أنف�سكم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ثم نظر �إىل �إريو�س وا�ستطرد بنرباته اجلدية‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬فك قيدي يا �إريو�س‪.‬‬
‫فبهتت كلماته ال�شاب �إريو�س لدقيقة وقد تغريت مالحمه‪ ،‬كان‬
‫م�شدوهً ا للحظات �أردف بعدها برتدد‪:‬‬
‫‪--‬ال �أ�ستطيع‪.‬‬
‫ظهرت عليه لوائح الغم والأ�سف والعجز وا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬ولكني �سوف �أخرب �ستافلو�س مبا �أخربتني به‪.‬‬
‫ثم نظر املنقذ يف عينيه نظرة طويلة غريبة‪ ،‬نظرة حتمل بع�ض القلق‬
‫امل�شوب باخلوف‪:‬‬
‫‪�--‬أال تثق بي؟‬
‫‪�--‬أثق بك!‪ ...‬ولكن لي�س بيدي مقاليد الأمور‪.‬‬
‫تركه �إريو�س وجالت بعقله �أفكار مت�ضع�ضعة وم�شتتة‪ ،‬هل ي�صدقه؟‬
‫�أم مير مر الكرام وال يفكر بفعلة يندم عليها الح ًقا‪ ،‬وقبيل �أن يلتفت‬
‫‪79‬‬
‫ر�أى عيني منقذه تتبعانه بتلك النظرة الغريبة ذاتها‪ ،‬بدت له �أنها نظرة‬
‫�صادقة ال حتمل الأكاذيب‪ ،‬ح�سم �أمره بعد هنيهة من التفكري وذهب حيث‬
‫يجل�سون‪ ،‬و�أ�سر النجوى مع �ستافلو�س‪ ،‬فقام �إذ ذاك من مكانه‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫‪--‬ما بك يا �إريو�س؟‬
‫‪--‬هناك من يقتفي �آثارنا يا �ستافلو�س‪.‬‬
‫‪--‬ماذا تقول؟‪ ...‬كيف علمت؟‬
‫�أ�شار �إريو�س بعينيه �إىل منقذه وقال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬هو جندي من جنود روما‪ ،‬يعلم كث ًريا مما ال نعلم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫قال �ستافلو�س بعدم �صرب‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫‪--‬ال تكن ً‬

‫والتوزي‬
‫�ساذجا يا �إريو�س‪� ،‬إنه يتالعب بك‪.‬‬

‫ع‬
‫انفعل �إريو�س‪:‬‬
‫‪--‬لي�س بو�سعي �أن �أخمن من م�سار النجوم مدى اقرتاب ال�ساعة من‬
‫مطلع ال�شم�س‪ ،‬ولكني �أق�سم بالآلهة �أنه �صادق يا �ستافلو�س‪ ،‬عليك‬
‫�أن تثق بي ولو مرة واحدة يف تلك احلياة‪.‬‬
‫ت�أفف وقال‪:‬‬
‫‪--‬وماذا على �أن �أفعل؟‬
‫قليل ثم قال‪ :‬ال �أعرف‪ ،‬على الأقل خذ احلذر وحرره‪� ،‬إنه‬ ‫�صمت ً‬
‫جندي ويعرف كيف ي�ستخدم ال�سيف‪.‬‬
‫�صاح �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪--‬لن يحدث هذا �أبدً ا‪� ،‬إنه يخدعك فقط لتحرره‪ ،‬يتالعب بك و�أنت‬
‫كالأبله ت�صدقه‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫‪--‬و�إىل �أين �سيهرب يا �ستافلو�س؟ ال �أعتقد �أنه �سينبت له جناحان‬
‫ويطري �إىل ال�سماء‪.‬‬
‫�ألقاها ب�شيء من اال�ستهزاء‪.‬‬
‫قال �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪--‬و�إن كان كاذ ًبا؟‬
‫‪--‬فلن تخ�سر مثقال ذرة‪.‬‬
‫مرت دقائق مل يعلم فيها �ستافلو�س كيف يت�صرف‪ ،‬هل ي�ستمع �إىل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�إريو�س؟ �أم يغ�ض الطرف‪ ،‬مل تدُم الأفكار يف ر�أ�سه كث ًريا‪ ،‬التقطت �آذانهم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�صوتًا لأفرا�س تقرتب‪� ،‬أثارت من ورائها عا�صفة عاتية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫عربة انت�صب عليها رجل ي�شد جلام ح�صان �أهوج ويده الأخرى �أم�سكت‬
‫حربة طويلة‪ ،‬مل يب ُد من الرجال �أي مالمح‪ ،‬كانت وجوههم مغطاة‪،‬‬
‫توقفت العربة على ب ُعد ع�شرة �أمتار منهم‪� ،‬أ�شار �ستافلو�س �إىل �إريو�س‬
‫بنظره‪ ،‬فهم �إريو�س ما يريده �ستافلو�س‪ ،‬ت�سلل بخفة �إىل عربات العبيد‬
‫وفك وثاقهم‪ ،‬ثم اجته �إىل منقذه فك ال�سال�سل من يديه وقدميه و�سلمه‬
‫خنج ًرا‪ ،‬حتفز �ستافلو�س وك�شف عن ن�صله الالمع‪ ،‬ا�ست َّل بيتالو�س ال�سيف‬
‫من غمده‪.‬‬
‫ومن الناحية الأخرى ترجل رجل من على �صهوة فر�سه اقرتب خطوتني‬
‫�إىل الأمام ثم قال بنربات حتذيرية‪:‬‬
‫‪�--‬سلموا لنا قافلتكم و�أموالكم وعبيدكم و�إال ف ُعدوا �أنف�سكم مبنازل‬
‫الهالك‪.‬‬
‫اقرتب بيتالو�س من �ستافلو�س يف حذر وقال بهم�س طفيف‪:‬‬
‫‪--‬ماذا �سوف نفعل يا �ستافلو�س؟‬
‫‪81‬‬
‫‪�--‬إن �سلمناهم ما منلك ف�سوف منوت ً‬
‫عط�شا من �شم�س ال�صحراء �أو‬
‫ن�صبح عبيدً ا لهم‪ ،‬و�إن قاتلناهم فرمبا ينجو �أحد منا‪.‬‬
‫قال بيتالو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أنت تخريين بني املوت واملوت يا رجل؟‬
‫�أردف �ستافلو�س‪ :‬ال �أجد خيارات �أف�ضل الآن‪.‬‬
‫‪�--‬سح ًقا‪ ...‬املوت هو املوت‪ ،‬نختار القتال‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وعلى اجلانب الآخر مل�س �صاحب العربة املقا َومة يف وجوه الرجال‪ ،‬ويف‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫حلظات مباغتة رفع حربته وقب�ض عليها بقوة و�ألقى �إىل �ستافلو�س نظرة‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل�س �ستافلو�س يف عينيه الت�أهب والعزم‪� ،‬أر�سل الرجل حربته فالحت يف‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫الهواء ب�سال�سة واخرتقت �صدر �ستافلو�س‪ ،‬وك�أن احلربة كانت ً‬
‫طبول‬

‫ع‬
‫حلرب �ضارية‪ ،‬التحم الفريقان يف حلظات‪ ،‬رك�ض �إريو�س نحو �ستافلو�س‪،‬‬
‫مل يكن يظن �أن النهاية ت�أتي بتلك ال�سرعة‪ ،‬كان منظر عمه �ستافلو�س‬
‫مزلزل لنف�سه‪ ،‬ويف حلظة اغتاله الندم يف كل حلظة �صاح فيها على‬ ‫ً‬
‫�ستافلو�س‪ ،‬يف كل جدال دار بينهما‪ ،‬متنى للحظة �أن ي�ستيقظ من ذلك‬
‫الكابو�س ويرك�ض �إليه ويحت�ضنه بقوة ويقول له‪�« :‬أنا �آ�سف على كل �شيء»‪،‬‬
‫لكن يف تلك اللحظة �أ�صابت ل�سانه لعنة ال�صمت‪ ،‬احت�ضن �إريو�س كف‬
‫�ستافلو�س و�شد عليه بقوة‪ ،‬وبعد ح�شرجة عنيفة �أردف �ستافلو�س‪:‬‬
‫‪--‬اهرب يا �إريو�س‪ ...‬اهرب بعيدً ا يا بني‪.‬‬
‫قالها و�سكنت �أطرافه‪.‬‬
‫�سرت رعدة يف جلد �إريو�س وتعاركت نب�ضات قلبه مع �صدره حتى‬
‫كاد ين�شق‪ ،‬ن�شع العرق من على جبينه واعتدل فرتقبت نظراته منقذه‬
‫وهو ي�صارع ماء امل�ستنقع وفوقه �أحد الرجال مم�سك ب�سيف يكاد يخرتق‬
‫‪82‬‬
‫�صدره‪ ،‬تفادى �ضرباته ب�صعوبة بالغة‪ ،‬فتحاملت �أقدامه مقا ِوم ًة ماء‬
‫امل�ستنقع اللزج‪ ،‬قب�ض املنقذ على خنجره بقوة وانق�ض على الرجل وجرح‬
‫فخذه بجرح بالغ‪ ،‬تناثرت دماء الرجل حتى اختلطت مباء امل�ستنقع‪،‬‬
‫باغته �أحد الرماة ب�سهم اخرتق كتفه‪ ،‬فكز على �أ�سنانه �أملًا‪ ،‬اقتن�ص‬
‫الرجل الفر�صة و�أطبق على عنقه ب�ساعديه �سقط يف ماء امل�ستنقع‪ ،‬وهن‬
‫ج�سده ووهنت �أنفا�سه واعت�صر الأمل قلبه‪ ،‬وجاهدت رئتاه لتلتقط بع�ض‬
‫الهواء‪ ،‬لكن ال فائدة‪ ،‬ا�ست�سلمت ُجل �أع�ضائه‪ ،‬كان كل �شيء يبدو رماد ًّيا‪،‬‬
‫يبدو الأمر م�ألو ًفا �إليه ب�شدة‪ ،‬يبدو ال�صراع م�ألو ًفا‪ ،‬ج�سد واهن‪ ،‬ورئة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يوما ف ِل َم يقاوم الآن �إذن؟ ا�ست�سلمت‬
‫فارغة‪ ،‬وظالم ُيعم‪ ،‬لقد متنى املوت ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أطرافه وغابت الر�ؤية رويدً ا رويدً ا حتى �أ�سدل الظالم راياته ورحلت‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دقائق ال�ضوء الأخرية‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬

‫‪83‬‬
‫(‪)4‬‬

‫نائ ًما كان‪ ،‬يراوده ُحلم‪ ،‬ا�ستيقظ ومل يغم�ض له جفن طوال الليل‬
‫جمددًا مما �شاهد يف امللكوت تلك الليلة‪ ،‬كانت ال�سماء متدح الأر�ض‬
‫ب�أمطارها التي انهالت بال ا�ستئذان وال �سابق �إنذار‪ ،‬كانت الأفكار ت�صدح‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يف ر�أ�س احلكيم �ألك�سندر هيليو�س كناقو�س املعابد‪ ،‬انتظر حتى انبلج‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الفجر وت�سللت �أ�شعة ال�شم�س من النوافذ‪ ،‬لفح ج�سده ب�شال حال بينه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وبني ن�سيم بارد ترتعد له الأطراف‪ ،‬اعتلى عربته و�أ�شار �إىل الفار�س فلفح‬

‫والتوزي‬
‫ً‬ ‫ال ْأح ِ�ص َنة ب�سوط على �أظهرها ف�أطلقت‬

‫ع‬
‫�صهيل قو ًّيا وهرولت م�سرعة‬
‫يف احلركة‪ ،‬اعتادت كليوباترا �أن جتتمع مع القائد رابو�س كل �صباح يف‬
‫الغرفة امللكية ملناق�شة امل�ستجدات‪.‬‬
‫دلف احلكيم �إىل الغرفة امللكية بقلق يخم�ش �صدره‪ ،‬كانت كليوباترا‬
‫جال�سة ويكلل عينيها الأرق‪ ،‬باد ًيا على حمياها الإرهاق الطويل‪ ،‬انحنى‬
‫�ألك�سندر هيليو�س احلكيم‪ ،‬فقالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل يا هيليو�س‪ ،‬اجل�س‪.‬‬
‫جل�س احلكيم هيليو�س‪ ،‬ورمقها بتمعن و�أردف‪:‬‬
‫أنك‬
‫عينيك تتنب�آن ب� ِ‬
‫ِ‬ ‫‪--‬يبدو �أن الليل يا موالتي مل يرفق بكالنا‪ ،‬ف�إن‬
‫كاململكة التي تعاين من حرب �أهلية‪.‬‬
‫�صبت كليوباترا ك�أ�س النبيذ‪:‬‬
‫‪--‬وما الذي منع احلكيم هيليو�س من النوم؟‬
‫‪84‬‬
‫‪--‬مل �أذق طعم النوم مذ راودتني تلك الر�ؤيا الغريبة‪.‬‬
‫‪--‬ر�ؤيا؟‬
‫‪--‬نعم يا موالتي‪ ...‬ما �شاهدته يف امللكوت كان عجي ًبا‪ ،‬وال �أجد له‬
‫تف�س ًريا قط‪.‬‬
‫ت�ساءلت باهتمام‪ ،‬فاحلكيم �ألك�سندر هيليو�س ال يجيد الرثثرة وهي‬
‫تعلم كلماته بالت�أكيد لها مغزً ى‪:‬‬
‫‪--‬ومباذا تتعلق ر�ؤياك يا هيليو�س احلكيم؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬تتعلق ِ‬

‫ري‬
‫بك يا موالتي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬عاد ًة ما يحلم احلكماء بالآلهة واملالئكة وتكون �أحالمهم ذات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قدا�سة‪.‬‬

‫فلتق�ص علينا ر�ؤياك‪ ،‬ف�آذاين كلها معك‪ .‬والتوز عي‬


‫�صمتت حلظة �شربت فيها ك�أ�س النبيذ ثم ا�ستطردت‪:‬‬
‫‪َّ --‬‬
‫قال الطبيب بعد حلظات �صامتة جمع فيها ر�ؤياه‪:‬‬
‫أخاك بطليمو�س يف �أر�ض وا�سعة جدباء قافرة‪ ،‬ثم من‬ ‫‪--‬وجدت � ِ‬
‫الال�شيء ا�شتعل ج�سده نا ًرا كنار هف�ستو�س حتى �صار رمادًا‪ ،‬ثم‬
‫�صدحت ال�سماء بالأمطار‪� ،‬أمطار حمراء كالدماء‪ ،‬ت�ساقطت الأمطار‬
‫على الرماد لتنبت �شجرة عظيمة ينبت من فروعها الأكاليل‪ ،‬ثم جاء‬
‫يوليو�س قي�صر وقطف � ً‬
‫إكليل وكلل به ر�أ�س موالتي على قمة الكابيتول‬
‫ون�صبك ملكة على روما بني جموع من النا�س واالحتفاالت وال�صخب‬ ‫ِ‬
‫والرق�ص‪ ...‬لكن الغريب يف الأمر �أن الإكليل كان فا�سدً ا‪.‬‬
‫�ضرب ال�صمت كليوباترا للحظات �شردت فيها عينها‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫‪--‬يا لها من ر�ؤيا عجيبة �أيها احلكيم!‪ ...‬ولكن ماذا تعني؟‬
‫‪--‬يبدو يل يا موالتي �أن م�صريك وم�صري اململكة بالكامل يتعلق مب�صري‬
‫روما ويوليو�س قي�صر ب�شكل ما‪.‬‬
‫‪--‬كيف؟‬
‫‪--‬ال �أعرف‪ ،‬ولكن يبدو �أن احلرب الأهلية التي انتهت بفوز يوليو�س‬
‫قي�صر �ستكون حد ًثا عظي ًما ي�ؤثر على اململكة ب�أ�سرها‪.‬‬
‫قالت بقلق بارد‪:‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬إنني �أخ�شى من روما �أكرث مما �أخ�شى من بطليمو�س وم�ست�شاريه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�ساءل هيليو�س‪ :‬ملاذا يا موالتي؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صبت كليوباترا ك� ًأ�سا �أخرى من النبيذ‪ ،‬ثم انت�صبت واجتهت نحو‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ال�شرفة‪ ،‬زفرت �أنفا�سها بهدوء وب�صرب‪ ،‬ت�أملت الأفق الذي امتلأ بالغيوم‬
‫ول�سعة هواء باردة الم�ست وجنتيها‪ ،‬داعبت �أناملها الورود التي زينت‬
‫ال�شرفة ال�صغرية‪ ،‬ثم التفتت �إىل احلكيم هيليو�س وجترعت ً‬
‫قليل من‬
‫النبيذ و�أردفت‪:‬‬
‫‪--‬كان �أبي يرتدد على معبد الإله زيو�س‪ ،‬يتعبد وي�صلي ويدعو‪ ،‬يحرق‬
‫البخور ويغ�سل التمثال بالدم وامل�سك واللبان‪ ،‬كما تعلمنا من �أهل‬
‫تلك البلد‪ ،‬وكانت ت�شاركه �أختي برنكي يف طقو�سه‪ ،‬كان �أبي يف�ضل‬
‫علي وعلى باقي �إخوتي‪ ،‬ويف احلقيقة مل �أحب �أبي من نوع‬ ‫برنكي َّ‬
‫خا�ص‪ ،‬ولكن بعدما فعلت برنكي فعلتها حتول حب �أبي العظيم �إىل‬
‫كراهية ال تقل عظمة‪ ،‬مرت �شهور ع�صيبة �إىل �أن جاءت للأ�سرة‬
‫يل‪ ،‬فقد كانت روما حتتفل بتن�صيب‬ ‫�أنباء تعترب ح�سنة بالن�سبة �إ َّ‬
‫القيادة اجلمهورية اجلديدة للحكم الثالثي املكون من يوليو�س‬
‫قي�صر وبومبايو�س ماجنو�س وماركو�س كرا�سو�س‪ ،‬و�أن جمل�س ال�شيوخ‬
‫‪86‬‬
‫قد �آزر �أبي املنفي‪ ،‬و�أن القائد العظيم جابينيو�س م�ساعد بومبايو�س‬
‫كان يف طريقه �إىل الإ�سكندرية ليعزل امللكة املغت�صبة للحكم ويعيد‬
‫�أبي �إىل عر�ش م�صر‪ ،‬وا�شتعلت حرب ا�ستعادة العر�ش‪ ،‬والتي انتهت‬
‫بهزمية برنكي‪ ،‬كان �أبي ميل�ؤه الأ�سى ال�شديد‪ ،‬قتل �أبي برنكي ودفنها‬
‫يف �أر�ض جمهولة من دون حتنيط عقا ًبا ملا فعلته‪ ،‬ومل تكن ثالث‬
‫فقد �أكرث الأ�شياء ح ًّبا‬
‫فقد َ‬ ‫ال�سنوات التالية لأبي �سنوات �سعيدة‪ْ ،‬‬
‫�إىل قلبه‪ ،‬العر�ش ووريثه‪ ...‬وبالرغم من �أنه عاد �إىل العر�ش ف�إنه‬
‫مل يجل�س عليه باعتباره فرعو ًنا عظي ًما كالبطاملة الأوائل‪ ،‬ولكنه تواله‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بف�ضل روما‪ ،‬وكان عليه �أن يتقبل الإهانة بقبوله تعيني مفت�ش روماين‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫لل�ضرائب ير�أ�س مفت�شه امل�صري‪ ،‬ودخول قوات رومانية تابعة للقائد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جابينيو�س تهيم يف الأرجاء حتت لواء احلفاظ على اال�ستقرار‪،‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫ولكنه يف احلقيقة �أ�صبح حتت وط�أة احلكومة الرومانية‪ ،‬و�أخ�شى �أن‬
‫متيل الأمور معي كما فعلت مع �أبي‪.‬‬
‫�سكت الكالم وعادت كليوباترا تت�أمل الأفق البعيد‪ ،‬كانت نرباتها‬
‫طلل حزي ًنا ومفع ًما باملرارة م َّيزه احلكيم هيليو�س‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫حتمل ً‬
‫من �صالبتها ف�إنه يوقن �أنه بالداخل ما زالت تلك الطفلة اجلريحة التي‬
‫غدرت بها الأيام‪ ،‬فقدت العر�ش مرة ولن ت�سمح بذلك جمددًا مهما كلفها‬
‫الأمر‪ ،‬حتى و�إن ا�ضطرت �إىل غرز خنجر يف قلب كل من يعمل يف البالط‪،‬‬
‫أطفال‪ ،‬لن مينعها �شيء عن الظفر بالعر�ش �أبدً ا‪ ،‬كانت‬ ‫رجال ون�سا ًء و� ً‬
‫ً‬
‫م�ستعدة حتى لتحدي الآلهة والأقدار‪ ،‬كانت م�ستعدة لفعل �أي �شيء يف‬
‫�سبيل �أن يعود لها حقها ال�شرعي‪ ،‬حتى و�إن تط َّلب الأمر قتلها‪.‬‬
‫اقرتبت من ال�شاطئ �سفينة خمرت حتى و�صلت للد�سكار‪ ،‬حملت‬
‫بحارة �صدورهم عارية داكني الب�شرة‪ ،‬غري عابئني بلفحة‬ ‫على �سطحها َّ‬
‫أي�ضا جتا ًرا وم�سافرين ورحالة‪� ،‬أنزلوا الهلبان يف‬ ‫الهواء الباردة‪ ،‬حملت � ً‬
‫‪87‬‬
‫ترجل منها رجل طويل القامة يرتدي‬ ‫املاء‪ ،‬وبعد �أن �سكنت �أطرافها‪َّ ،‬‬
‫رداء ال�صيادين‪ ،‬بدا وك�أنه يف العقد الرابع من عمره‪ ،‬كان جل ًّيا �أنه مل‬
‫البحارة‪ ،‬ودل على هذا ب�شرته البي�ضاء امل�شربة بالأحمر و�شعره‬ ‫يكن من َّ‬
‫الطويل املظفر باجلدائل‪ .‬كان يبدو �أنه ذا �ش�أن رفيع ولي�س ب�صياد من‬
‫نف�سا �أخ ًريا‬
‫العامة‪ ،‬ولكن مالب�سه الرثة دلت على عك�س ذلك‪ .‬ا�ستن�شق ً‬
‫من يود البحر قبل �أن يلفح على وجهه قما�شة �أذابت و�أغرقت مالحمه بني‬
‫طياتها‪ ،‬تلفت حوله يف حذر قبل �أن يتوغل بني الزحام‪ ،‬ذاب بني النا�س‬
‫كال�شمعة‪ ،‬ورويدً ا رويدً ا و�صل �إىل ح�صن بلوزيوم‪ ،‬رمق الأ�سوار ال�شاهقة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫التي اعتالها الرماة بنظرة خاطفة‪ ،‬وعلى باب احل�صن رقد كب�شان‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫عظيمان ك�أنهما يحميان احل�صن بقرون يهابها الناظرون‪ ،‬تلفت الرجل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بحذر �شديد قبل �أن يقرتب من �أبواب احل�صن العمالقة‪� ،‬أوقفه احلار�س‬

‫والتوزي‬
‫بنظرة حادة‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬

‫ع‬ ‫ب�صوت �شحيح‪:‬‬


‫ٍ‬
‫‪--‬من �أنت؟ وماذا تريد؟‬
‫�أ�شاح الرجل القما�شة من على وجهه‪ ،‬ثم قال‬
‫‪�--‬أتيت ملقابلة القائد رابو�س‪.‬‬
‫جحده احلار�س بنظرة مت�شككة‪ ،‬ثم رمق مالب�سه الرثة وقال بلهجة‬
‫ميل�ؤها الريبة‪:‬‬
‫‪--‬ومن �أخربه؟‬
‫‪�--‬صديق قدمي‪.‬‬
‫‪--‬انتظر هنا‪.‬‬
‫ثوان على �أعقابها دقائق حتا�شا‬‫قالها احلار�س ودلف للح�صن‪ ،‬مرت ٍ‬
‫الرجل فيها نظرات العابرين حتى خرج احلار�س و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل يا �سيدي‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫�أ�شار احلار�س فانفتحت البوابة على م�صراعيها‪� ،‬أعاد الرجل الو�شاح‬
‫على وجهه وتلفت حوله ثم دلف �إىل الداخل يف خطوات وا�سعة‪ ،‬وما‬
‫�إن وطئت �أقدامه �أر�ض احل�صن حتى �أغلق احلرا�س البوابات‪ ،‬ترقبت‬
‫حتا ذراعيه يف ترحاب‪ ،‬تعانقا‪ ،‬فقال‬ ‫نظراته القائد رابو�س يقرتب فا ً‬
‫القائد رابو�س‪:‬‬
‫‪--‬تايبرييو�س‪ ،‬كيف حالك يا �صديقي القدمي؟‬
‫‪--‬بخري حال‪ ،‬و�أنت كيف حالك وكيف حال موالتي كليوباترا؟ قد مر‬

‫ع‬
‫وقت طويل منذ لقائنا الأخري‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬بخري‪ ...‬لكن كما تعلم يزداد التوتر كلما اقرتب موعد املعركة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫الفا�صلة‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ثم ا�ستطرد ً‬

‫زيع‬
‫�سائل‪ :‬كيف تركت الإ�سكندرية وراءك؟‬
‫قال تايبرييو�س ب�صوت ميل�ؤه الأ�سف‪:‬‬
‫‪--‬لي�ست �أف�ضل حال‪� ،‬إن الإ�سكندرية ت�شتعل الآن عن بكرة �أبيها‪.‬‬
‫ً‬
‫الحظ رابو�س مالب�س تايبرييو�س غري امل�ألوفة‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫‪--‬وما �أمر تلك الثياب الرثة؟‬
‫‪--‬لقد جئت يف �سفينة �صيد‪ ،‬ارتديت تلك املالب�س حتى ال يراين �أحد‬
‫من جنود البالط‪ ،‬فقد �أ�صدر امللك قانو ًنا بعقاب كل من يعاون‬
‫كليوباترا‪ ،‬وال �أنوي فقْد ر�أ�سي قري ًبا‪.‬‬
‫قال رابو�س‪:‬‬
‫‪--‬هل حتمل الأخبار؟‬
‫‪--‬نعم‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫كان تايبرييو�س يعمل يف البالط امللكي �أمي ًنا على املكتبة يف الق�صر‬
‫و�أحيا ًنا يف املكتبة العظمى يعمل على ن�سخ املخطوطات واللفائف الهامة‬
‫من الهرياطيقية �إىل اليونانية والرومانية‪ ،‬كان له جوا�سي�س و�أعني يف كل‬
‫جحر‪ ،‬ا�ستطاعت كليوباترا تروي�ضه وا�ستخدام جوا�سي�سه يف البالط ويف‬
‫�شتى اململكة حل�سابها‪.‬‬
‫�س�أل رابو�س‪� :‬أخبار جيدة �أم �سيئة؟‬
‫‪�--‬أخبار ِ�سجال بني ذلك وذاك‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬من الأف�ضل �أن تق�صها �أمام موالتي كليوباترا‪ ،‬تعال‪ِ ،‬‬
‫ام�ش‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫معي‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ً‬
‫متوغل مرو ًرا ب�إ�سطبالت‬ ‫م�شى القائد رابو�س بتابرييو�س‪ ،‬وجا�س به‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫الأح�صنة املدككة‪ ،‬وبجوارها امتدت �ساحة القتال الوا�سعة التي يتدرب‬

‫ع‬
‫فيها اجلنود حتت قيادة القائد رابو�س‪ ،‬توقف تابرييو�س‪ ،‬وتابعت عيناه‬
‫قتال اجلنود لدقيقة‪ ،‬ثم تابعوا م�سريهم حتى و�صلوا �إىل الق�صر‪ ،‬مل‬
‫يكن ق�ص ًرا كق�صر امللوك كان بيتًا عال ًيا‪ ،‬ترفعه �أعمدة رخامية وله باحة‬
‫وا�سعة ينت�صب على جانبيها التماثيل الهائلة من متاثيل اجلنوب‪ ،‬مت‬
‫ت�شيده لتمكث فيه كليوباترا حتى تنتهي احلرب وجتل�س على عر�شها‪ ،‬عربا‬
‫طويل على جانبيه الأ�شجار واحلدائق الغ َّناء‪ ،‬دلف القائد رابو�س‬‫مم ًّرا ً‬
‫�إىل الغرفة امللكية‪ ،‬وجدت عيناه كليوباترا جال�سة تنغم�س يف حديثها مع‬
‫احلكيم هيليو�س‪ ،‬انحنى للحظات قبل �أن ينت�صب ويردف‪:‬‬
‫‪�--‬أعتذر عن املقاطعة‪ ...‬ا�سمحي يل يا موالتي‪.‬‬
‫�أردفت كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل �أيها القائد رابو�س‪ ،‬حتدث‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد جاء تابرييو�س يحمل الأخبار من الإ�سكندرية‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ...‬أح�ضره �إىل هنا ً‬
‫حال‪.‬‬
‫‪�--‬أمرك يا موالتي‪.‬‬
‫خرج القائد رابو�س‪ ،‬مرت حلظات حتى دخل وعلى �أعقابه تابرييو�س‬
‫الذي انحنى يف �إجالل ثم رفع ر�أ�سه وقال‪:‬‬
‫وليحي احلكيم هيليو�س‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪َ --‬‬
‫فلتحي عالية املقام موالتي كليوباترا‪،‬‬
‫قال احلكيم هيليو�س‪:‬‬
‫‪�--‬آي تابرييو�س مل نرك منذ مدة طويلة‪ ،‬حتى �إنني ال �أذكر كم مر من‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الوقت‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ابت�سم تايبرييو�س‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫‪--‬خم�سة �أ�شهر و�أ�سبوعني وثالثة �أيام �أيها احلكيم‪.‬‬
‫�أطلق القائد رابو�س �ضحكة ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬ولعلك تعد الأيام والليايل لأنك ت�شتاق �إلينا �أم �أن هناك �سبب �آخر؟‬
‫‪--‬ما يحدث يف الإ�سكندرية يف الآونة الأخرية غري مب�شر باخلري �أبدً ا‪.‬‬
‫مل�ست كليوباترا نرباته الكئيبة‪� ،‬أردفت‪:‬‬
‫‪--‬حتدث يا تابرييو�س‪ ،‬كلنا �آذان م�صغية‪.‬‬
‫ارتبك تابرييو�س ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬يف احلقيقة يا موالتي �أحمل �أخبا ًرا جيدة و�أخبا ًرا دون ذلك‪ ،‬فب�أيهم‬
‫�أبد�أ؟‬
‫قالت كليوباترا‪ :‬حتدث باخلرب الهام‪.‬‬
‫�أخذ حلظة مرتددة وعزم الكالم‪:‬‬

‫‪91‬‬
‫�شقيقتك ال�صغرية‬
‫ِ‬ ‫�شقيقك بطليمو�س �أ�صدر �أم ًرا بتن�صيب‬
‫ِ‬ ‫‪�--‬إن‬
‫�أر�سينوي كملكة �شرعية لبالد م�صر‪.‬‬
‫أنفا�سا‬
‫�ساد ال�صمت للحظات تبادلوا فيها النظرات‪ ،‬زفر هيليو�س � ً‬
‫غا�ضبة وقال‪:‬‬
‫ليق�صيك عن العر�ش للأبد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪--‬اللعنة!‪� ...‬إن بطليمو�س يخطط‬
‫ع َّقب تابرييو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أعوانه يذيعون الأمر يف �شتى املدائن والقرى‪� ،‬سيقيم احتفاالت يف‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الإ�سكندرية لتن�صيب الأمرية ال�صغرية‪ ...‬ولكني �أ�شعر �أن هناك‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�شي ًئا غري ًبا يدور يف البالط امللكي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ت�ساءل القائد رابو�س‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬وما هو؟‬
‫‪--‬هناك حرب باردة تدور بني بوثينيو�س وم�ست�شار الأمرية جانيميدي�س‪،‬‬
‫متاما خطورة‬
‫فقد �أثار قرار امللك حفيظة جانيميدي�س لأنه يعلم ً‬
‫ذلك القرار يف هذا الوقت‪ ،‬و�أن هذا يخالف و�صية امللك الراحل‪...‬‬
‫و�أن هذا القرار �سيثري حفيظة روما ويوليو�س قي�صر وخا�صة بعد‬
‫انت�صاره على بومبايو�س ماجنو�س يف احلرب الأهلية وخروج القائد‬
‫جابينيو�س من م�صر على ر�أ�س قواته مل�ساعدة قائده بومبايو�س‪.‬‬
‫قال احلكيم هيليو�س‪:‬‬
‫‪--‬لو �أن ما تقوله �صحيح‪ ،‬ف�إن خروج القائد جابينيو�س من م�صر على‬
‫ر�أ�س قواته ينبئنا �أن بومبايو�س ماجنو�س يف م�أزق حقيقي‪ ،‬وال يح�سد‬
‫عليه مطل ًقا‪.‬‬
‫تناولت كليوباترا ك�أ�س النبيذ وجترعت منه حتى نفذ‪ ،‬ثم قالت بغ�ضب‪:‬‬
‫‪92‬‬
‫‪�--‬إن �أخي البائ�س يرتك ال�شراب يتحول �إىل خل‪ ،‬ومملكتي �إىل �أ�شالء‪.‬‬
‫�أردف القائد رابو�س‪:‬‬
‫‪--‬هل حتمل �أخبا ًرا �أخرى يا تابرييو�س؟‬
‫‪--‬نعم �أيها القائد‪ ...‬لقد ُقتل �أكتيون‪ ،‬كبري احلر�س امللكي‪.‬‬
‫�أردف هيليو�س غري م�صدق‪ُ :‬قتل؟‬
‫قال تايبرييو�س‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬يف معبد �سرابيوم‪ُ ،‬قتل وهو يتعبد‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قال هيليو�س بنربات مذهولة‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬يا �إلهي‪ ...‬ومن ا�ستطاع فعل ذلك؟ �إن �أكتيون ال ينفك يتحرك �إال‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫برهط من اجلنود يالزمونه كظله‪ ،‬يتحا�شاه النا�س ويخ�شون نظراته‪.‬‬
‫قال القائد رابو�س‪:‬‬
‫‪َ --‬ومن املحارب العظيم الذي قام بالأمر‪.‬‬
‫�صمت تايبرييو�س للحظات ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬مل يكن حمار ًبا وال جند ًّيا قط بل كانت‪ ...‬امر�أة‪.‬‬
‫انتابه رابو�س التعجب‪ :‬امر�أة؟‬
‫‪--‬نعم‪.‬‬
‫�س�أل القائد رابو�س‪:‬‬
‫فحل مثله بني رهط من جنوده وتلوذ‬ ‫‪--‬وكيف ا�ستطاعت �أن تقتل ً‬
‫بالهرب؟‬
‫�أجاب تايبرييو�س‪ :‬لي�ست امر�أة عادية‪ ،‬وهي �صديقة مقربة‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫انتاب كليوباترا الف�ضول وقالت‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تق�صد ب�أنها لي�ست عادية �آي تايبرييو�س؟‬
‫‪--‬هي لي�ست مبحارِبة عادية‪ ،‬ومل تتلقَّ تدريبات عادية كاجلنود‪ ،‬بل هي‬
‫كما يزعمون خمتارة من ِقبل الآلهة‪ ،‬حتمل يف دمائها دماء اجلبابرة‪.‬‬
‫قال هيليو�س‪ :‬يزعمون!‪ ...‬من هم؟‬
‫ا�ستطرد تايبرييو�س‪:‬‬
‫‪--‬قبيلة عريقة تقطن يف اجلنوب‪ ،‬ت�سمى بامليدجاي �أو احلماة‪ ،‬تكنُّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكره للحكم البطلمي يف م�صر وخا�ص ًة � ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫أخاك ثيو�س ملا يفعله يف‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�شعب اجلنوب‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�ضرب ال�صمت �أل�سنتهم للحظات تبادلت فيها كليوباترا النظرات مع‬

‫ع‬
‫القائد رابو�س واحلكيم هيليو�س‪ ،‬ثم قالت باهتمام بدا على حمياها‪:‬‬
‫‪--‬وماذا تعرف عن تلك القبيلة يا تابرييو�س؟‬
‫�أجاب تايبرييو�س‪:‬‬
‫‪--‬يف احلقيقة يا موالتي‪ ،‬لي�س الكثري‪ُ ،‬جل ما �أعرفه �أنها قبيلة �سكنت‬
‫اجلنوب منذ �آالف الأعوام ي�سكنون ب�أر�ض تدعى كو�ش‪ ،‬يجيدون‬
‫التخفي كاحلرباء‪ ،‬قائدهم ي�سمى حوررب ويعني املتعبد حلور�س‬
‫العظيم‪ ،‬وهو �صديق مقرب � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬و�أنا معجب به ب�شدة‪.‬‬
‫ت�ساءل هيليو�س‪� :‬أتعرف �أين خمب�ؤها الآن؟‬
‫‪--‬نعم �أيها احلكيم‪ ،‬ولكن اجلنود يقلبون الإ�سكندرية ر� ًأ�سا على عقب‬
‫لإيجادها‪ ،‬ولكنها تختبئ يف مكان لن يعرث اجلنود عليه �أبدً ا‪.‬‬
‫قالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪94‬‬
‫‪�--‬أريدك �أن حت�ضر يل تلك الفتاة يا تابرييو�س‪ ،‬ب�أي ثمن‪.‬‬
‫كانت كلماتها مباغتة‪ ،‬ارتبك تابرييو�س‪ ،‬ابتلع ريقه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬ولكن يا موالتي‪ ،‬هذا �أمر �صعب‪ ،‬فاجلنود يبحثون عنها يف كل مكان‪،‬‬
‫ً‬
‫م�ستحيل‪،‬‬ ‫واخلروج بها من الإ�سكندرية يف الوقت الراهن يكاد يكون‬
‫ثم �إنها من النوع الذي ي�صعب تروي�ضه و�إغرا�ؤه‪.‬‬
‫قال القائد رابو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إننا نبحث عن تلك القبيلة منذ وقت طويل يا تابرييو�س‪ ،‬ولكن ُجل‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ما وجدناه هو الال�شيء‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أردف تايبرييو�س‪ :‬ال يقطنون مكا ًنا‪ ،‬فهم منت�شرون يف كافة اململكة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫يحاولون بكل ما �أوتوا من قوة التخل�ص من حا�شية امللك‪ ،‬يقتلون حكام‬
‫الأقاليم يف اجلنوب التابعني واملوالني للملك‪ ،‬والآن كبري احلر�س امللكي‪.‬‬
‫قالت كليوباترا‪� :‬إذن فغايتنا واحدة‪ ،‬وهي التخل�ص من بطليمو�س‬
‫وم�ست�شاريه‪� ،‬أح�ضر يل تلك الفتاة يا تابرييو�س‪ ،‬ب�أي ثمن كان‪ ،‬حتى و�إن‬
‫تعلق الأمر بتالنت من الذهب والف�ضة‪.‬‬
‫‪--‬ال ين�شدون الذهب يا موالتي‪.‬‬
‫ت�ساءلت‪ :‬وماذا ين�شدون �إذن؟‬
‫‪--‬ين�شدون اخلال�ص‪.‬‬
‫�صمتت كليوباترا للحظة ثم �أردفت‪:‬‬
‫‪--‬وال �أ�ستطيع �أن �أهب ما ال �أملك‪ ،‬ولكن با�ستطاعتي امل�ساعدة‪.‬‬
‫ع َّقب تايبرييو�س‪ :‬ولكني مل �أجد يف �صدورهم �سوى الكره ال�شديد لكل‬
‫من ت�سري دماء البطاملة يف عروقه‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫قالت بنربات ثابتة‪:‬‬
‫‪�--‬إن املجد ال ي�صنعه احلظ‪ ،‬بل ت�صدقه احلرائق‪ ،‬ويف احلرب ال مكان‬
‫للحب والكره وال مكان للعواطف‪ ،‬وعدو العدو �صديق حميم‪.‬‬
‫�صدقت يا موالتي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قال القائد رابو�س‪:‬‬
‫فا�ستطردت كليوباترا‪ :‬وال تقلق يا تابرييو�س �سوف �أ�ؤَمن خروجكما‬
‫من الإ�سكندرية‪ ،‬ا�س ِرتح الآن وبت الليلة‪ ،‬ثم انطلق غدً ا �إىل الإ�سكندرية‪.‬‬
‫‪�«--‬أمرك يا موالتي‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫قالها تايبرييو�س ثم انحنى وان�سحب‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪96‬‬
‫(‪)5‬‬

‫كانت رحلته طويلة من �سمنود �إىل طيبة‪ ،‬طالت فيها حليته و�شعره‪،‬‬
‫ا�صطاد �أرن ًبا و�سمكة‪� ،‬أ�شعل النريان وا�ستلقى على الرمال الناعمة‬

‫ع‬
‫وترقبت عيناه النجوم املتلألئة يف الأفق‪ .‬كانت ال�سماء تر�سم امل�شاهد‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫والأحداث كما الأم�س‪� ،‬أغم�ض عينيه يف ي� ٍأ�س �شديد ًّ‬

‫ت‬
‫غا�ضا الطرف عن‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫معاناته التي ال تفت�أ تتوقف‪ ،‬ق�ضى الليل يف حزن �سرمدي يرميه يف هاوية‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�شديدة العمق‪ ،‬وعند �شروق ال�شم�س يف ال�صباح‪� ،‬أكمل رحلته‪ ،‬كانت‬
‫�أ�سوار طيبة تقرتب من ن�صب عينيه‪ ،‬وكلما اقرتبت كانت تقرتب معها‬
‫«�ست» الإله حور�س يف‬
‫يوما‪ ،‬هنا �صرع ّ‬ ‫ين�سها ً‬
‫ذكريات يخ�شاها ولكن مل َ‬
‫عامل �آخر موازٍ ‪ ،‬كان يتذكر يوم اجلنازة‪ ،‬كان م�سا ًء هاد ًئا‪ ،‬وقفت الأ�شجار‬
‫�شم�س تذوب يف ال�سماء كال�شمع‪ ،‬كانت‬ ‫يومها بغري حراك‪ ،‬ذهبية حتت ٍ‬
‫احلرية عميقة والغ�ضب جار ًفا‪ ،‬وبدت تنهيدات الن�ساء رقيقة وهادئة‪� ،‬إال‬
‫تبك وكانت �صامتة بغري حراك كما الأ�شجار‪ ،‬ك�شفت عن وجهه‬ ‫هي مل ِ‬
‫للمرة الأخرية وطفقت تدعو �أنوبي�س �أن يتقبل فلذة كبدها‪ ،‬غادر اجلميع‬
‫ببطء وهدوء‪ ،‬من دون �صوت وال كلمات عزاء‪ ،‬فالعزاء �سوف يكون عدمي‬
‫الفائدة‪ ،‬ومن ي َر عينيها ي َر ذلك العمق ال�سحيق‪ ،‬تلك الهاوية الهائلة‬
‫التي ان�شقت بني اجلفون‪ ،‬تلك اجلفون التي ت�صرخ عن املعنى احلقيقي‬
‫للخ�سارة‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫توقف �أمام بحرية ارتوى وروى فر�سه‪ ،‬توغل بني الزحام ال�شديد‪ ،‬ثم‬
‫اتخذ طريقه �إىل منت�صف املدينة‪ ،‬دخل متجن ًبا النظرات‪� ،‬أخفى ر�أ�سه‬
‫بقما�شة‪ ،‬حلظات ثم �شعر بدبيب تهتز له الأر�ض من الوط�أة‪ ،‬و�سمع‬
‫�أبوا ًقا ت�صم الآذان عن موكب ملكي مير‪ ،‬ثالث �أفيال عمالقة حملت على‬
‫ظهورها هوادج �شاهقة‪ ،‬حتا�شاها النا�س بنظرات متل�ؤها الرهبة‪ ،‬ومن‬
‫حولها العربات امللكية التي انت�صب على ظهورها جنود مت�أهبة رماحهم‪،‬‬
‫توقف املوكب ب�إ�شارة من احلار�س‪ ،‬خ�ضعت الأفيال حتت �ضربات ال�سوط‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ترجل رجل من على هودجه العايل‪ ،‬طويل اجل�سد واللحية‪ ،‬على‬ ‫وانحنت‪َّ ،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫كتفيه فرو بني اللون‪ ،‬كان القائد فاريو�س من �أ�صول رومانية‪ ،‬تربى يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�شر�سا ًّ‬
‫وفظا‪،‬‬ ‫الإ�سكندرية‪ ،‬ع َّينه بوثينيو�س ليحكم زمام اجلنوب‪ ،‬كان ً‬

‫ع‬
‫وبالكاد ي�ست�سيغ �أهل اجلنوب‪ ،‬اقرتب منه �أحد اجلنود و�سلمه بردية‬
‫ملفوفة يزينها اخلتم امللكي‪ ،‬ف�ض اخلتم ب�أنامله الطويلة‪ ،‬ثم �أ�شار‬
‫حلار�سه بنظره‪ ،‬نادى احلار�س يف النا�س‪ ،‬فتجمعوا كالذباب على الع�سل‬
‫لت�سمع �آذانهم الأمر امللكي‪ ،‬اعتلى هودجه العايل ثم فتح الربديات وطفق‬
‫يقر�أ ما فيها‪:‬‬
‫‪--‬با�سم امللك العظيم بطليمو�س الثالث ع�شر ثيو�س فليوباتور‪� ،‬أنتم‬
‫تدينون بكل ما لديكم من �أموال وب�ضاعة و�أطفال جلاللته حاكم‬
‫امل�صريني والإغريق‪ ،‬وبا�سم الآباء الأوائل والقدماء‪� ،‬سوف يتم تتويج‬
‫الأمرية �أر�سينوي كملكة م�ستقلة على عر�ش م�صر‪ ،‬يف تتويج �سوف‬
‫ت�شهده كافة اململكة على �أر�ض الإ�سكندرية‪ ،‬وبا�سم امللك العظيم‬
‫�سوف يتم معاقبة كل �شخ�ص يتعاون مع الأمرية املنفية كليوباترا‬
‫�أ�شد عقاب‪ ،‬بال�شنق �أو احلرق �أو ما هو �أ�سو�أ‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫انتهى القائد فاريو�س من القراءة‪ ،‬ف�ضرب ال�صمت �أل�سنة النا�س‪،‬‬
‫حلظات ثم �س َّلم الربدية �إىل احلار�س و�أ�شار �إىل ِ‬
‫م�ساعده بنظره‪� ،‬ضرب‬
‫احلرا�س الأفيال بال�سوط حتى هرولت منت�صبة‪ ،‬كان حوررب يقف يف‬
‫اجلوار متخف ًيا بني الرهط‪ ،‬تابعت عيناه املوكب وهو يبتعد حتى اختفى‬
‫ً‬
‫متوغل �إىل دهاليز املدينة‪ ،‬رمق املعابد التي‬ ‫يف الأفق‪ ،‬بعدها تابع رحلته‬
‫تناطح ال�سحاب وامل�سالت ال�شاهقة التي انت�صبت على مد الب�صر‪ ،‬وعند‬
‫و�صوله �إىل منت�صف املدينة‪ ،‬كان املكان م�ألو ًفا له‪ ،‬وبالرغم من مرور‬
‫وقت طويل‪ ،‬فتلك الباحة الوا�سعة وذلك املنزل الب�سيط كانا م�ألوفني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�شدة‪ ،‬طرق الباب عدة طرقات‪ ،‬مرت اللحظات ثقيلة كثقل اجلبال‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وانفتح الباب عن �شاب طويل القامة‪ ،‬داكن الب�شرة‪ ،‬طويل ال�شعر‪ ،‬له‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حلية خفيفة ت�ضفرت عند ذقنه‪ ،‬بدا وك�أنه يف منت�صف عقده الثاين‪ ،‬وما‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�إن وقعت عيناه على حوررب حتى تعانقا بحرارة �شديدة‪ ،‬ثم قال الرجل‪:‬‬
‫‪--‬حوررب‪ ،‬كيف حالك �أيها القائد؟‬
‫‪�--‬أنا بخري يا باكو‪ ،‬كيف حالك يا �صديقي؟‬
‫تدرب باكو على القتال بجوار حوررب و�آ�سيا يف مع�سكرات اجلنوب‪،‬‬
‫تعلم منهم الكثري من �أ�ساليب القتال‪ ،‬علمه حوررب كيف مي�سك ال�سيف‬
‫وكيف يعتلي �صهوة الفر�س‪.‬‬
‫�أردف باكو بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬بخري حال‪ ،‬وكيف حال الكاهن الأعظم؟‬
‫�أردف حوررب ِب� ًأ�سى �شديد‪:‬‬
‫‪--‬للأ�سف ينه�ش املر�ض ج�سده‪.‬‬
‫‪--‬كما ينه�ش يف باقي اململكة‪.‬‬
‫‪--‬ما �أمر ذلك املوكب؟‬
‫‪99‬‬
‫�أجاب‪� :‬إنه موكب ملكي‪ ،‬مير ب�أمر من امللك بني املدائن والقرى‪،‬‬
‫�سوف يتم �إعالن �أر�سينوي الأمرية ال�صغرى كملكة على م�صر ب�أمر من‬
‫بطليمو�س‪.‬‬
‫‪--‬ذلك اللعني!‪ ...‬ما الذي ينوي فعله؟‬
‫‪--‬يريد بطليمو�س و�ضع املنطقة ب�أ�سرها حتت �أقدامه‪ ،‬و�أنا �أبذل ما‬
‫يف و�سعي لأجنب �أهل القرية املتاعب‪ ،‬ولهذا �أحتاج �إىل م�ساعدة‪،‬‬
‫فبعد �أن غادرت طيبة �إىل ال�شمال ا�ستوح�ش اجلنود‪ ،‬فمنذ مت تعيني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فاريو�س حاك ًما على طيبة ن�شر وباءه يف الأرجاء‪� ،‬إنه وباء م�ستفحل‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫فكما ترى �أ�صبح اجلنود �أكرث وح�شية منذ و�صوله‪ ،‬ال ي�ستطيع �أحد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يف املدينة التحرك دون التعر�ض لال�ستجواب �أو التهديد �أو دفع‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ال�ضرائب �أو ال�ضرب‪� ،‬أو ما هو �أ�سو�أ‪.‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫عقد حاجبيه وقال‪ :‬ما هو �أ�سو�أ؟‬


‫‪--‬قتل طفلك واغت�صاب زوجتك‪ ،‬وتعليق ر�أ�سك على رماحهم اللعينة‬
‫لتكون عربة للمارين واملتمردين‪ ،‬كما حدث منذ مدة لي�ست ببعيدة‪،‬‬
‫�أحرق اجلنود عائلة ومن بينها طفل يف مهده‪.‬‬
‫�صاح حوررب بغ�ضب عارم‪:‬‬
‫‪--‬اللعنة!‪ ...‬فبحق �أوزوري�س النائم‪ ،‬ما حدث يف املا�ضي‪ ،‬يتكرر‬
‫جمددًا‪.‬‬
‫ثم كز على �أ�سنانه و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬على امللك اللعني �أن يدفع ثمن جرائمه يف �أهل اجلنوب‪ ،‬عليه �أن‬
‫يدفع ثمن قتل ابني الوحيد‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫‪�--‬إن اخلروج للقتال يبعث على �شعور جيد‪ ،‬فهنا ويف كافة اململكة يذعن‬
‫اجلميع للجنود حتت التهديد بالقتل‪ ،‬ا�سرتح اليوم ونتحدث غدً ا‬
‫فرحلتك كانت طويلة ومرهقة‪.‬‬
‫قالها باكو و�سكت وهو يرمق �صديقه الوحيد ت�أكله نريان الأ�سى والندم‬
‫واالنتقام‪ ،‬جن عليه الليل وتناثرت النجوم يف ال�سماء‪� ،‬صعد حوررب �إىل‬
‫الغرفة بالدور العلوي للمنزل‪ ،‬خلع درعه و�سيفه‪ ،‬فتدفقت الدماء بني‬

‫ع‬
‫عروقه‪ ،‬توجه نحو بحرية �أمام املنزل‪� ،‬أ�سقط ج�سده يف املاء البارد‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أغم�ض جفونه حتى تال�شى كل �شيء بهدوء وببطء‪ ،‬تذكر عندما �شاهد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�آ�سيا لأول مرة‪ ،‬كانت يف مع�سكر اجلنوب حتت يد القائد رود �آمون‪ ،‬كان‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يف الثامنة ع�شر عندما فتح احلب عينيه ب�أ�شعته ال�سحرية‪ ،‬ومل�س نف�سه‬
‫لأول مرة ب�أ�صابعه النارية‪ ،‬كانت �آ�سيا املر�أة الأوىل التي �أيقظت روحه‬
‫مبحا�سنها وخ�صالت �شعرها احلالكة‪ ،‬وم�شت به �إىل جنة العواطف‬
‫العلوية‪ ،‬ويف يوم كانت تطيح ب�أقرانها يف قتال غا�شم واحدً ا تلو الآخر‪،‬‬
‫كانت قوية وجميلة‪ ،‬ينهمر منها العرق كالعبق‪ ،‬كانت خ�صالتها املموجة‬
‫كاحلربة التي تخرتق قلبه كلما هامت يف الأرجاء‪ ،‬وعيناها كالدوامة‬
‫التي ت�سحبه دون مقاومة‪ ،‬كان يحدق �إليها بال�ساعات‪ ،‬وعندما ف�ضحته‬
‫النظرات تقدمت �إليه وطبعت ُقبلة على خده وغادرت م�سرعة يف خجل‪،‬‬
‫كانت �أنفا�سها ك�صيف عتيق‪ ،‬اعتلته ن�سمة هواء يافعة حتيي ال�شباب‬
‫وترمم العظام‪ ،‬وتيقظ املوتى من قبورهم‪ ،‬رحلت و�شعرها املموج يلهث‬
‫خلفها كح�صان بري �أ�س َود ثائر ي�صعب تروي�ضه‪ ،‬ولكنه �أق�سم على‬
‫يوما ما‪ ،‬واعتاد كلما هب الليل �أن يت�سلل وحيدً ا خارج‬
‫تروي�ضه وامتطائه ً‬
‫ليل خارج‬‫مبال بتحذيرات �أقران �سنه التي تنهى عن ال�سري ً‬
‫املع�سكر غري ٍ‬
‫املع�سكر‪ ،‬كان يخرج خل�سة ومي�شي على حواف البحريات و�شواطئ النيل‪،‬‬
‫‪101‬‬
‫كان يلقي احلجارة على �سطح املاء‪ ،‬ويتابع تلك الدوائر املتعاقبة‪ ،‬كان‬
‫يحب متابعة ال�شعب املرجانية امل�ضيئة حتت الأمواج العاتية ً‬
‫ليل‪ ،‬ويف يوم‬
‫م�سرعا �إىل‬
‫ً‬ ‫�شعر ب�أقدام تدو�س على الأوراق اجلافة على ال�شاطئ‪ ،‬فطفق‬
‫ال�صعود‪.‬‬
‫�إنها «�آ�سيا»‪.‬‬
‫ين�س‬
‫كانت ب�شعرها املموج احلالك‪ ،‬جال�سة على ال�شاطئ يف هدوء‪ ،‬مل َ‬
‫عبق �أنفا�سها يف قبلتها الأوىل قط‪ ،‬كانت عيناها ك�سنابل القمح يف يوم‬

‫ع‬
‫ح�صاد مثمر‪ ،‬و�شفتاها كالكواكب والنجوم التي ر�صعت ال�سماء بالبهاء‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫والنور‪� ،‬أ�صابه التيه عندما ر�أى عينيها ال�ساحرتني وخ�صالتها املدببة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ك�أل�سنة اللهب امل�شتعلة التي حترق �صدره كلما نظر لها‪ ،‬خرج من ال�شاطئ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وجل�س بجوارها‪ ،‬نظرت �إليه ثم �أردفت بابت�سامة هزت �أوداجه‪:‬‬

‫ع‬
‫ليل خارج املع�سكر؟‬‫‪--‬ماذا تفعل يف هذا الوقت ً‬
‫نظر �إىل القمر‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪�--‬أدعو �آمون رب القمر‪.‬‬
‫بابت�سامة مل تغب عن �شفتيها قالت‪:‬‬
‫‪--‬تدعو رب القمر حتت املاء؟‬
‫‪--‬توجد الآلهة يف كل مكان‪ ،‬حتت املاء‪ ،‬ويف �أعايل ال�سماء‪.‬‬
‫‪--‬وهل ا�ستجاب رب القمر دعاءك؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬لقد ا�ستجاب‪.‬‬
‫‪--‬ومباذا كنت تدعو؟‬
‫ارتبك حوررب‪ ،‬ثم متالك نف�سه وا�ستدرك‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬كنت �أدعوه �أن ي�سكنني يف اجلنان‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫قالت‪ :‬وكيف علمت �أنه ا�ستجاب؟‬
‫‪�--‬أنا بداخل �إحداها الآن‪.‬‬
‫ابت�سمت‪ ،‬وعم ال�صمت املكان للحظات رمق فيها النجوم‪ ،‬ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬ولكني �أخ�شى‪.‬‬
‫‪--‬ماذا تخ�شى؟‬
‫‪�--‬أخ�شى �أن �أكون يف �أعماق البحار �أغرق‪ ،‬و�أرى الهالو�س‪.‬‬
‫‪--‬وهل امليدجاي يغرقون؟‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫نظر �إىل عينيها ثم �أردف‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬نعم‪ ،‬يغرقون‪ ،‬ف�أنا �أغرق ِ‬

‫ل‬
‫فيك وال �أجد من يغيثني‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫تالم�ست الأنامل على الرمال الناعمة‪ ،‬وتقابلت النظرات ومل تتنافر‪،‬‬
‫انت�صبت ثم همت بالرحيل‪ ،‬ونظرت �إليه نظرة وقالت بابت�سامة �ساحرة‪:‬‬
‫‪--‬ال تقلق ف�إن �أمواجي ال ُتغرق من ت�ألف‪.‬‬
‫قالتها ورحلت‪ ،‬رمقها وهي ترحل �ساحبة معها الهواء والقمر والنجوم‬
‫وال�سماء‪ ،‬كان كل �شيء خاو ًيا من دونها‪ ،‬راقبها حتى اختفت عن �أنظاره‪،‬‬
‫علم حينها �أن �آ�سيا مل تكن امر�أة عادية بل كانت ك�أ�شعة ال�شم�س الدافئة‬
‫التي تخرتق احلجب بعد ليل طويل بارد‪ ،‬خلبت �ألبابه وتركت قل ًبا اهتزت‬
‫�أوداجه‪ ،‬تلك امل�ضغة ال�صغرية التي تريد �أن ت�شق �صدره وتهرب �إىل حيث‬
‫�أنفا�سها موجودة‪.‬‬
‫�أفاق من غياهب ذكرياته‪ ،‬فتح جفونه ثم خرج من البحرية‪ ،‬جفف‬
‫ج�سده وارتدى مالب�سه ثم �صعد غرفته‪� ،‬أ�شعل �شمعة ثم ا�ستلقى منهم ًكا‬
‫«�ست» ال�شريرة‬
‫على ال�سرير‪� ،‬أغم�ض عينيه وغط يف نوم عميق‪ ،‬كانت روح ّ‬
‫تطارده يف �أحالمه وتذكره باملا�ضي الأليم الذي يحاول جاهدً ا الهروب‬
‫‪103‬‬
‫كابو�سا يتكرر با�ستمرار‪ ،‬يقف يف قد�س الأقدا�س ويرى حور�س‬
‫منه‪ ،‬كان ً‬
‫«�ست» على حربته‬
‫أر�ضا ويقب�ض ّ‬‫و«�ست» يت�صارعان‪ ،‬ثم ي�سقط حور�س � ً‬
‫ّ‬
‫فزعا‪.‬‬
‫ويهوي بها على قلب حور�س‪ ،‬يرتعد‪ ،‬ثم يبكي‪ ،‬ثم ي�ستيقظ ً‬

‫عامدة �إىل نافذتها تتطلع �إىل ال�سماء ِب� ًأ�سى‪ ،‬رمقت املعابد والأبراج‬
‫املبنية بالقرميد‪� ،‬سمعت �أ�صواتًا ت�أتي من ال�شوارع ل�صياح الأطفال ون�ساء‬

‫ع‬
‫يرثثرن بال تعب‪ ،‬وللحظة متنت لو �أنها كانت فتاة عادية وفقرية ترك�ض‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حافية القدمني بني ال�شوارع متجردة من كل �أ�صفاد وحبال تربط �أفئدتها‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كانت تتمنى لو ا�ستطاعت �أن ترك�ض حتى تنقطع �أنفا�سها وت�صل �إىل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫مكان بعيد‪ ،‬حيث التالل اخل�ضراء وال�سهول املفرو�شة بالأزهار والأنهار‬ ‫ٍ‬

‫ع‬
‫ال�سرمدية‪ ،‬وال�سماء تتكلل بالكواكب والنجوم الأرجوانية‪ ،‬تتنف�س بعمق‬
‫ما�ض‪ ،‬بال عر�ش �أو حفل تن�صيب‬ ‫�شديد ك�أنها بال حا�ضر �أو م�ستقبل �أو ٍ‬
‫مرغمة على ح�ضوره‪� ،‬سمعت طرقة خفيفة على الباب‪ ،‬التفتت بعيدً ا عن‬
‫النافذة وقالت‪« :‬تف�ضل»‪.‬‬
‫دلف �إىل غرفتها وبيده ُف�ستان‪ ،‬كان �شقيقها يعلم ما تريد وما حتب‪،‬‬
‫اقرتب منها ورفع ال ُف�ستان �أمامها كي تتفح�صه‪:‬‬
‫‪--‬هذا الف�ستان هدية‪َ ،‬ه ُل ِّمي حت�س�سيه وتلم�سي ن�سيجه الناعم‪.‬‬
‫مدت يدها تتح�س�سه فوجدته �أمل�س يتفلت من بني يديها ك�أنه ماء‪،‬‬
‫�أبي�ض مكلل بالأحجار الكرمية‪ ،‬مل ت َر �شي ًئا �أجمل من هذا قط‪ ،‬ملعت‬
‫عينها وهي تتلم�سه وتتخيل كيف �سيكون �شكلها بعدما ترتديه‪ ،‬ويف حلظة‬
‫�أثار اخلاطر خوفها ونف�ضت يديها عن الف�ستان وقالت برتدد‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ال �أريده‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫كانت ابت�سامة بطليمو�س تف�صح عن حبه لأخته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪�--‬إنها هدية يا �أر�سينوي‪ ،‬حلفل التتويج‪� ،‬سرتتدين هذا الف�ستان و�سوف‬
‫تكللني بالذهب وجميع �أ�صناف اجلواهر‪� ،‬سوف تكونني �أجمل ملكة‬
‫يوما‪.‬‬
‫جل�ست على العر�ش ً‬
‫يوما ومل يكن الأمر يف خاطرها قط‪ ،‬كانت يف‬ ‫ملكة!‪ ...‬مل ُت ِرد هذا ً‬
‫تلك اللحظة تريد �أن تقفز من النافذة �أو ت�سحب ً‬
‫ن�صل وتنهي به حياتها‪،‬‬
‫لكنها لن ت�ستطيع �أبدً ا‪ ،‬كل ما ت�ستطيع فعله هو املقاومة‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لن يحدث هذا �إال يف حالة واحدة‪ ،‬وهي موتي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫عمد بطليمو�س �إىل جوار الباب وعلق الف�ستان ثم قال‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫‪--‬الأمر ال يتعلق ِ‬

‫والتوز عي‬
‫بك �أبدً ا‪ ،‬بل يتعلق بالعر�ش‪ ،‬لقد جل�س �آبا�ؤنا و�أجدادنا‬
‫على هذا العر�ش لقرون‪ ،‬وال �أنوي �أن ي�ضيع من بني يدي‪ ،‬دعينا‬
‫نحكم �سو ًّيا تلك اململكة العريقة‪ ،‬دعينا نعيد �أجماد البطاملة الأوائل‪.‬‬
‫ارتابت من كلمات �شقيقها وهو ين�سج �شباك �أحالمه‪:‬‬
‫‪--‬هل ن�سيت و�صية �أبي؟ �أن حتكم �أنت وكليوباترا �سو ًّيا‪ ،‬عليك‬
‫مب�شاركتها �أحالمك و�آمالك فهي الوريث ال�شرعي‪.‬‬
‫�أ�صابه الغ�ضب ال�شديد ملا �سمعه‪� ،‬أطبقت �أنامله على ذراعها بخ�شونة‬
‫حتى غا�صت �أ�صابعه يف حلمها‪� ،‬آملتها ب�شدة وهو يردد‪:‬‬
‫‪�--‬إن �أبي كان �أحمق عندما كتب تلك الو�صية‪� ،‬إن كليوباترا ال تعدو عن‬
‫كونها خائنة‪ ،‬خانت العر�ش‪ ،‬وخانت عائلتنا وكل ما ن�ؤمن به‪.‬‬
‫حب�ست �أر�سينوي �صرخاتها داخل �صدرها حتى كادت تنفجر‪ ،‬رمقها‬
‫ب�إنعام ثم �أ�ضاف‪:‬‬
‫‪105‬‬
‫أبيت‪،‬‬
‫�شئت �أم � ِ‬ ‫‪�--‬أنا الوريث ال�شرعي للعر�ش و�سوف تكوين � ِ‬
‫أنت امللكة ِ‬
‫لن يختلف الأمر كث ًريا �إذا فعل ِته عن ً‬
‫ر�ضى �أم عن �سخط‪.‬‬
‫�أ�صابها اخلوف والفزع وقالت بخنوع‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬كما تريد‪.‬‬
‫ابت�سم بطليمو�س وم�س خ�صالتها بنوع من احلنان وقال‪:‬‬
‫‪--‬عندما ينق�شون التاريخ على احلوائط يا �شقيقتي العزيزة‪� ،‬سوف‬

‫ع‬
‫كنت امللكة الوحيدة والأجمل والأبهى من بني‬ ‫أنك ِ‬‫�أجعلهم يكتبون � ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جميع امللكات التي جل�ست على العر�ش‪ ،‬و�صدقيني لن يكون لكليوباترا‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ذكر يف التاريخ‪� ،‬أو يف اللفائف والكتب‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫خرج بطليمو�س وعمدت جمددًا �إىل النافذة‪ ،‬بكت ب�شدة وب�أمل‪ ،‬كانت‬

‫ع‬
‫تبكي بال �صوت حتى ال ي�سمعها �أحد‪ ،‬كانت تخاف من كل �شيء‪ ،‬كانت‬
‫�ساذجة وبريئة‪ ،‬تتمنى لو ينتهي الأمر يف غم�ضة عني‪ ،‬تغم�ض عينيها ثم‬
‫تفتحها فينتهي كل �شيء برمته‪ ،‬العر�ش وبطليمو�س وكليوباترا‪.‬‬

‫يف ال�صباح ا�ستيقظ على �ضجيج ال�سيوف التي ت�صافحت من مكان‬


‫لي�س ببعيد‪ ،‬وبج�سد منهك ومتعب انت�صب‪ ،‬ال يذكر �آخر مرة قد غط‬
‫عميق كهذا‪ ،‬ومل مينع هذا حظه من الكوابي�س‪ ،‬وب�صعوبة بالغة‬ ‫يف نوم ٍ‬
‫انت�صب وارتدى درعه و�سيفه‪ ،‬يف ال�ساحة الوا�سعة �أمام املنزل وقف رهط‬
‫من الغلمان يتدربون على ال�سيف‪ ،‬و�أمامهم وقف «باكو» يرتقب قتالهم‬
‫لوقت ق�صري‪،‬‬
‫بنظرات منتبهة‪ ،‬عمد حوررب �إىل ال�ساحة وظل يرمقهم ٍ‬
‫كان يعلم تلك املهارات التي يتلقونها‪ ،‬فهي املهارة التي قد تعلمها يف كو�ش‬
‫‪106‬‬
‫ومع�سكرات اجلنوب‪ ،‬مر بع�ض الوقت وترك باكو الغلمان يتدربون‪ ،‬اقرتب‬
‫من حوررب‪ ،‬ابت�سم ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬كادت ال�شم�س �أن تغرب و�أنت ال تزال تغط يف النوم‪.‬‬
‫‪--‬مل �أمن منذ ثالثة �أقمار‪ ،‬كنت متع ًبا للغاية‪.‬‬
‫ثم رمق املتدربني يف �ساحة املنزل و�أردف‪ :‬من ه�ؤالء؟‬
‫يل لتعليمهم القتال لي�ستطيعوا‬ ‫‪--‬ه�ؤالء هم غلمان املدينة‪ ،‬عمدوا �إ َّ‬
‫الدفاع عن �أنف�سهم وعائلتهم‪� ،‬سوف متر ال�سنون والقرون ويطم�س‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الزمن ذكرى الآالف والآالف من �أولئك الذين يعي�شون الآن ولكن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫الأجيال القادمة‪ ،‬عليها �أن تدون التاريخ بال�سيف‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬بلى‪ ...‬لعل ال�سيف هو الطريقة الوحيدة التي �سوف تعيد لنا ما فقده‬

‫والتوز عي‬
‫�أ�سالفنا على مر الزمان‪.‬‬
‫‪--‬باملنا�سبة‪ ،‬عليك مغادرة املدينة الليلة‪.‬‬
‫أق�ض يومي الأول حتى‪ ،‬ومل يتم ما جئت لأجله‪.‬‬ ‫‪--‬املغادرة! مل � ِ‬
‫ً‬
‫مر�سال من الإ�سكندرية‪ ،‬تقول‬ ‫�أردف باكو‪ :‬لقد �أر�سلت زوجتك �آ�سيا‬
‫حال‪ ،‬وت�س�أل عن تايبرييو�س يف املكتبة‬ ‫فيه �إن عليك الذهاب للإ�سكندرية ً‬
‫العظيمة‪.‬‬
‫قال حوررب بنربات متفاجئة‪:‬‬
‫‪--‬تايبرييو�س‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫قال حوررب بقلق‪:‬‬
‫‪--‬لعلها تورطت يف املتاعب‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫انفجر باكو يف ال�ضحك‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬
‫تخ�ش عليها‪ ...‬بل �إين �أخ�شى على جماهري‬ ‫‪--‬من؟ �آ�سيا؟‪ ...‬ال َ‬
‫الإ�سكندرية منها‪.‬‬
‫‪َّ --‬‬
‫علي املغادرة الآن‪.‬‬
‫ا�ستوقفه باكو‪ :‬قبل �أن تغادر‪ ،‬عليك �أن ترى �شي ًئا � ًأول‪.‬‬
‫‪--‬ما هو؟‬
‫‪َ --‬‬
‫تعال معي‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬إىل �أين؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬معبد �آمون املقد�س‪� ،‬س ُي�سر الكهنة بعودتك كث ًريا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫خا�ض به �إىل قلب املدينة‪ ،‬وبنظرات ت�ستعيد الذكريات م�سح بعينيه‬

‫ع‬
‫الأحجار والتماثيل وامل�سالت والطرق والأ�سواق واملنازل ال�شاهقة البنيان‪،‬‬
‫ُكل �شيء تغري‪ ،‬الأحجار والنا�س والوجوه‪ ،‬وعند املعبد رحب بهم الكهنة‬
‫بابت�سامات وعناق‪ ،‬جثا حوررب على ركبتيه يف خ�شوع �أمام التمثال‬
‫الكبري‪� ،‬أحرق البخور وامل�سك وم�سح التمثال بالدم‪ ،‬ورتل املتون املقد�سة‪،‬‬
‫باركه الكهنة وم�سحوا بالزيت ر�أ�سه‪ ،‬وعندما فرغ‪� ،‬صعد به باكو �إىل �أحد‬
‫غالما يف‬
‫غرف الكهنة ال�صغرية‪ ،‬وعندما دلف �إىل الغرفة ترقبت عيناه ً‬
‫العقد الثاين من العمر‪ ،‬وعلى فرا�ش �صغري ا�ستلقى ج�سد مليء بجراح‬
‫مدهونة بالدهان واملروخ وملفوف باللفائف الطبية‪ ،‬نظر حوررب �إىل باكو‬
‫نظرة طويلة ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬من ه�ؤالء؟‬
‫‪--‬وجدناهم تائهني يف عراء ال�صحراء‪ ،‬مب�سرية يومني من طيبة‪،‬‬
‫�أحدهما حمارب �شجاع كاد �أن ميوت من فرط جراحه‪ ،‬والآخر‬
‫غالم كاد �أن ميوت من �شم�س ال�صحراء‪ .‬وال �أعتقد �أن اجلريح �سوف‬
‫‪108‬‬
‫ينجو‪ ،‬ف�إن جراحه ت�أبى �أن تندمل‪ ،‬ج�سده ُم�صاب باحلمى يت�صبب‬
‫منه العرق من كل مكان‪.‬‬
‫اقرتب حوررب خطوتني من الغالم‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬من �أنتم يا فتى؟‬
‫قال الغالم بتوتر و�صوت ميل�ؤه الرتدد‪:‬‬
‫‪--‬ا�سمي هو �إريو�س‪ ،‬كنا �أربعة رجال نق�صد طيبة للتجارة‪ ،‬ولكن‬
‫اعرت�ض قافلتنا قطاع طرق‪ ،‬قتلوا اجلميع و�سرقوا العبيد‪� ،‬إال �أنا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وهذا الرجل‪ ،‬ا�ستطعنا �أن نلوذ بالفرار‪ ،‬بعدما حاولت �إنقاذه من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الغرق يف ماء امل�ستنقعات‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�س�أل حوررب‪� :‬أال يعرف �أحدكما الآخر؟‬
‫�أجاب �إريو�س‪ :‬ال �أعرف حتى ا�سمه‪ ،‬كان �أحد العبيد ولكني فككت‬
‫وثاقه لأنه يجيد كيف ي�ستخدم ال�سيف‪.‬‬
‫قال حوررب‪:‬‬
‫‪--‬فقط هذا كل ما تعرفه؟‬
‫ا�ستطرد �إريو�س‪:‬‬
‫‪ُ --‬جل ما �أعرفه عنه �أنه كان جند ًّيا من جي�ش روما‪ ،‬قبل �أن ننت�شله من‬
‫املياه ملي ًئا باجلراح والندوب ونعاجله‪.‬‬
‫كان جلده ميتلئ بالندبات‪ ،‬وما يف ج�سده مو�ضع �شرب �إال فيه �ضربة‬
‫ب�سيف �أو رمية ب�سهم �أو طعنة برمح‪ ،‬كان يغرق يف حميط من العرق‬
‫ال�ساخن‪ ،‬حتركت �أنامله ب�صعوبة بالغة‪ ،‬ثم يف حماولة م�ستميتة فتح‬
‫جفونه يف ا�ستجداء عظيم‪ ،‬ثم حت�س�ست �أنامله الطويلة قما�شة خم�ضبة‬
‫‪109‬‬
‫باملاء البارد قد اعتلت جبينه العري�ض‪ ،‬فنزعها‪ ،‬حاول احلركة فا�ستحال‬
‫ج�سده نا ًرا‪ ،‬كنار �شمعة ت�أكل يف نف�سها‪ ،‬وك�أنها حرب �إغريقية ا�شتعلت‬
‫بداخله‪ ،‬تت�ساقط �سهامها كاملطر فت�صيب ج�سده فيهيج‪ ،‬وت�سن ال�سيوف‬
‫وت�شحذ فيمتد الوجع ك�أ�سراب احلمام املهاجر‪ ،‬حترك ل�سانه بالكلمات‬
‫يف كلل‪:‬‬
‫‪�--‬أين �أنا؟‬
‫�أردف باكو‪:‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬أنت يف طيبة‪ ،‬قلب اجلنوب‪ ،‬من �أنت �أيها املحارب؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫حاول الوقوف‪ ،‬اقرتب منه �إريو�س و�ساعده على النهو�ض‪ ،‬حتاملت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ب�صوت ج�سور‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫مقاوما �آالم ج�سده العتيقة‪ ،‬ثم قال‬ ‫قدماه على الأر�ض‬

‫والتوزي‬
‫ً‬

‫ع‬
‫‪--‬ا�سمي هو �ألك�سيو�س كورنيليو�س‪ ،‬قائد فيالق ال�شمال‪ ،‬وقاهر بالد‬
‫الغال‪ ،‬وامل�ساعد الأول واليد اليمنى للإمرباطور الوحيد للبالد‪،‬‬
‫غايو�س يوليو�س قي�صر‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫(‪)2‬‬
‫قي�رص‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪111‬‬
‫(‪)1‬‬

‫قبلها ب�أربعة �أعوام‪...‬‬


‫‪ 52‬ق‪.‬م‬

‫ع‬
‫مقاطعة �إلي�شيا يف الغال‪...‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫خرج البخار كثي ًفا من �أفواه الرجال واخليول على حدٍّ �سواء‪� ،‬أ�شرقت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ال�شم�س وبزغ النهار باردًا‪ ،‬وقد جتمعت القبائل الغالية والتج�أت �إىل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫معقل حتت �أمر «فر�سن جرتيك�س»‪ ،‬كان جرتيك�س زعيم قبيلة �أرڤرين؛‬

‫ع‬
‫وحد جميع القبائل الغالية يف ثورة �ضد القوات الرومانية وا�ستطاع �أن‬ ‫َّ‬
‫يلوذ بالقبائل �إىل تل حم�صن لقبيلة ماندوبي‪ ،‬وهناك حا�صره يوليو�س‬
‫قي�صر بفيالقه‪ ،‬كان ح�صا ًرا ً‬
‫طويل دام لثالثة �أ�شهر متتالية نفد فيها‬
‫الطعام وال�شراب من ح�صنهم‪ ،‬و�ضاقت بهم الأر�ض مبا رحبت‪ ،‬وقرر‬
‫ارت�صت ال�صفوف‬‫فر�سن جرتيك�س �أن يواجه قي�صر يف معركة فا�صلة‪َّ ،‬‬
‫الرومانية �ص ًّفا بعد �ص ًّفا يف ان�ضباط مهيب‪� ،‬أطلق قائد الفيالق �صافرة‬
‫عال ال يهتز لزجمرة العدو‪ ،‬ومل‬‫فت�شابكت الدروع الرومانية ك�أنها �سور ٍ‬
‫يكن للقبائل الغالية ب�أ�س �شديد وال باع يف احلرب‪ ،‬كانوا نخا�سني وقتلة‬
‫ول�صو�صا‪� ،‬أو هكذا قال الرومان لأنف�سهم‪� ،‬أطلق قائد الفيالق �صافرة‬
‫ً‬
‫�أخرى فبد�أت ال�صفوف يف الهجوم‪ ،‬كان قائد الفيالق يطلق ال�صافرة‬
‫للهجوم ثم يطلقها للدفاع فتعود الدروع يف �صفوف مرتا�صة‪ ،‬مل تكن‬
‫للقبائل الغالية �صفو ًفا وال ا�سرتاتيجية‪ ،‬كانت حربهم ع�شوائية وم�شتتة‪،‬‬
‫يوما ً‬
‫كامل‪ ،‬ا�ستطاعت الفيالق ال�سيطرة على املعركة‬ ‫وبعد معركة دامت ً‬
‫‪112‬‬
‫وك�سر ال�شوكة الغالية وال�سيطرة على �إلي�شيا و�أ�سر فر�سن جرتيك�س‪ ،‬ملك‬
‫القبائل الغالية كما يلقبوه‪.‬‬
‫كان املع�سكر �صاخ ًبا ميتلئ ب�ضجيج اجلنود وال�سيوف‪ ،‬وقف ماركو�س‬
‫�أنطونيو�س على ر�أ�س الفيالق‪ ،‬كان �شا ًّبا يف بداية العقد الثالث‪ ،‬و�سيم‬
‫الوجه‪ ،‬متو�سط الطول‪� ،‬أ�س َود وحالك ال�شعر‪ ،‬بدا على وجهه خفة الظل‬
‫واملرح‪ ،‬ولد يف روما اب ًنا لأحد العائالت النبيلة ولكنه �سلك در ًبا خمتل ًفا‬
‫جاحما‪� ،‬إن �أراد �شي ًئا يفعله من دون �أدنى تردد �أو حتى تفكري‪،‬‬
‫متاما‪ ،‬كان ً‬‫ً‬

‫ع‬
‫ال يهمه الآراء وال يهمه النا�س‪ ،‬فقط ما يهمه �سيفه ومعدته‪ ،‬وال �شيء‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�آخر‪ ،‬لديه غريزة واندفاع مفاجئ‪ ،‬لهفة �أو حاجة غام�ضة‪ ،‬بالهة �أو‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫انعدام قدرة على ال�سيطرة على تلك الغريزة الفو�ضوية‪ ،‬وعلى الرغم‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫من فو�ضويته اجلارفة كان وال�ؤه الكامل ليوليو�س قي�صر‪ ،‬وكان يحارب‬
‫حتت لوائه بدافع احلب واالحرتام والذهب بالطبع‪ ،‬ظل واق ًفا يراقب‬
‫جنديني يتم جلدهما ملخالفتهما القوانني‪ ،‬كانا �سكرا َنني وت�شاجرا على‬
‫النبيذ‪ ،‬ف�أمر ماركو�س �أنطونيو�س مبائة جلده لكل منهما‪ ،‬وعند الو�صول‬
‫�إىل اجللدة املائة‪� ،‬أ�شار بيده فتوقف اجلندي عن اجللد‪ ،‬ثم �ألقى نظرة‬
‫�إىل الفيالق وقال‪:‬‬
‫‪--‬العدالة تعرف قلب كل �شخ�ص‪ ،‬لقد ارتكبا خط�أ ج�سي ًما و�سيدفعان‬
‫ثم ًنا وخي ًما‪ ،‬وكذلك �أي رجل هنا يخالف القانون‪ ،‬املت�شاجرون‬
‫وال�سكارى �سيتم جلدهم‪ ،‬والل�صو�ص �سيتم �شنقهم‪ ،‬والهاربون �سيتم‬
‫�صلبهم‪ ،‬بال �أي جمد �أو كرامة �أو �شرف‪.‬‬
‫الطريقة التي كان يتحدث بها ك�أنه مل ين�ش�أ �ضمن عائلة نبيلة بتاتًا‪،‬‬
‫كان �سوق ًّيا ولديه طريقة فو�ضوية‪ ،‬ولكن مل ميانع قي�صر هذا �أبدً ا‪ ،‬بل �إنه‬
‫يحبه بطريقته الفو�ضوية �أكرث من ان�ضباطه‪ ،‬ويحب جموحه الال�إرادي‪،‬‬
‫‪113‬‬
‫عاما‪ ،‬عندما كان يف �أوج �شبابه‪ ،‬بالرجل‬
‫كان يذكره بنف�سه قبل ع�شرين ً‬
‫الذي ال يهتم بالقوانني وال القيود‪.‬‬
‫نظر ماركو�س �أنطونيو�س �إىل اجلالد وقال‪ :‬اعر�ضهم على الطبيب‬
‫الليلة‪.‬‬
‫ثم �سمع �صوت خ َّيالة تقرتب من بعيد‪ ،‬كانت رايتهم تتو�شح بالأحمر‬
‫وعليها الن�سر الذهبي املنق�ض‪ ،‬عربوا البوابة وطفق احلرا�س يرتقبونهم‪،‬‬
‫لقد �أح�ضروا امللك املنهزم؛ فر�سن جرتيك�س‪ ،‬اقرتب ماركو�س �أنطونيو�س‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ترجل قائدهم من على �صهوة فر�سه‪ ،‬وخلع خوذته‪،‬‬ ‫ورمق قائدهم وابت�سم‪َّ ،‬‬

‫ب �ألك�سيو�س كورنليو�س‪.‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫كانت مالحمه �صلبة وجدية‪ ،‬اقرتب منه مارك �أنتوين وقال بابت�سامة‪:‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ال�شمالية‪،‬‬ ‫‪َ --‬‬
‫فليحي قائد الفيالق‬

‫فليحي ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬لقد �أح�ضرت فر�سن جرتيك�سزيع‬


‫امللك‬
‫بادله �ألك�سيو�س بابت�سامة طفيفة و�أردف‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫الغايل‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬قي�صر بانتظارك‪.‬‬
‫‪--‬ثم نظر �إىل عدد اخليالة ومل يكن عددهم يتعدى الثالثني جند ًّيا‪،‬‬
‫فا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬هل كانت معركة �ضارية؟‬
‫‪--‬لقد ن�صبوا لنا الكمائن‪ ،‬فقدنا الكثري من اجلنود والعتاد‪ ،‬ولكن‬
‫كانت تلك �آخر قواتهم‪ ،‬وا�ستطعنا �أ�سر �أكرث من ع�شرة �آالف منهم‪،‬‬
‫من ن�ساء وكهول وجنود‪ ،‬ويف النهاية ا�ست�سلم ملكهم‪ ،‬وكان رجا�ؤه‬
‫الوحيد هو مقابلة قي�صر‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫‪--‬يا للآلهة! ع�شرة �آالف عبد! �سوف يحقق قي�صر ثروة طائلة �إذا‬
‫عر�ض العبيد يف الأ�سواق الرومانية ت�ستطيع �أن ت�سدد ديون روما �أن‬
‫�أراد ذلك‪.‬‬
‫مل يع َّلق �ألك�سيو�س‪ ،‬ثم ابت�سم ماركو�س �أنطونيو�س كالثعالب و�س�أل‪:‬‬
‫‪--‬و�أنت؟‬
‫مل يفهم �ألك�سيو�س �س�ؤاله‪ ،‬عقد حاجبيه وقال‪� :‬أنا ماذا؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬أمل جتد بني الأ�سريات من تقع يف حبك؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬قلت لك للمرة الألف‪� ،‬أنا رجل متزوج‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬وزوجتك يف روما‪ .‬يا �إلهي! نحن يف حرب منذ ثماين �سنني‪ ،‬ومل‬

‫قال‪ :‬رجل متزوج‪ .‬هذا النوع ُيظلم كث ًريا يف و‬


‫احلرب‪.‬التوز عي‬
‫تلم�س فيها امر�أة‪� ،‬أي نوع من الرجال �أنت؟‬

‫�أطلق ماركو�س �أنطونيو�س �ضحكة وقال‪:‬‬


‫‪�--‬أتطوق للذهاب �إىل روما‪ ،‬ثماين �سنوات ال �أرمق فيها �إال ال�سيوف‬
‫والدروع والأ�شالء املتطايرة‪.‬‬
‫نف�سا �إىل �صدره بابت�سامة حاملة وا�ستطرد‪:‬‬
‫ثم �سحب ً‬
‫‪�--‬أمتنى فقط لو �أين الآن يف روما‪ ،‬يف حو�ض ماء �ساخن مفعم بالورود‬
‫والروائح الزكية‪� ،‬أتنف�س هوا ًء نق ًّيا غري ملوث بالدماء‪ ،‬ثم �أ�صعد �إىل‬
‫قمة الكابيتول و�أتبول على العامل‪.‬‬
‫جاحما‪ ،‬لكن �أر�ض الواقع �صلبة و�ستك�سر عنقك‪.‬‬ ‫خيال ً‬ ‫‪--‬متتلك ً‬
‫‪115‬‬
‫‪�--‬إن العواقب غري هامة‪ ،‬طاملا الفعل ً‬
‫خارجا عن �إرادة حرة‪ ،‬وال ت�شوبها‬
‫�شائبة‪.‬‬
‫‪�--‬أين در�ست الفل�سفة بحق الآلهة؟‬
‫‪�--‬أبي عليه اللعنة‪ ،‬كان يجعلني �أقر�أ بال�ساعات‪.‬‬
‫‪--‬من رحمة الآلهة �أنك مل ت�صبح فيل�سو ًفا‪.‬‬
‫‪--‬كنت �أقر�أ يف ال�صباح وامل�ساء‪ ،‬حتى اكت�شفت مواهب �أكرث � ً‬
‫إمتاعا‪.‬‬
‫ابت�سم �ألك�سيو�س وقال‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬إذا كنت ت�سمي التبول على العامل موهبة‪ ،‬ف�أنا �أن�سحب من هذا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫النقا�ش‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫‪�--‬أ�ستطيع �أن ابتلع غالو ًنا من اجلعة كل ثالث دقائق‪ ،‬تلك هي موهبتي‬

‫ع‬
‫الأف�ضل‪ ،‬بجانب �أنني و�سيم‪ ...‬يا �إلهي! �أنا مليء باملواهب ولكن ال‬
‫�أحد يقدِّ ر ذلك‪.‬‬
‫مازحا‪:‬‬
‫قال �ألك�سيو�س ً‬
‫‪--‬يا لها من مواهب مثرية لالهتمام ح ًّقا! هل فكرت يف العمل يف حانة‬
‫�أو ماخور وتلتفت �إىل مواهبك الفذة ً‬
‫قليل؟‬
‫‪�--‬أنت ت�ستهزئ بي الآن لكنك مل ت�شاهدين يف حانة من قبل‪� ،‬إن تَ�س َّنت‬
‫يل الفر�صة ف�سوف �أجعلك ت�شاهد لعلك تقدِّ ر تلك املوهبة‪.‬‬
‫و�ضع �ألك�سيو�س يده على فم �أنطونيو�س و�أردف‪:‬‬
‫وا�سرتخ ً‬
‫قليل‪� ،‬أنت ترثثر �أكرث من‬ ‫ِ‬ ‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬ا�صمت الآن‪� ،‬أغلق فمك‬
‫الالزم‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫ثم �س�أل‪� :‬أين قي�صر؟‬
‫�أجاب ماركو�س �أنطونيو�س‪:‬‬
‫‪--‬قي�صر يف خمدعه‪� ،‬سوف �أنبئه بح�ضورك‪.‬‬

‫قبل �شهر من الآن‪.‬‬


‫قاعة وا�سعة غائرة مدعومة ب�أعمدة نا�صعة بي�ضاء تو�شحت بالأحمر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ارت�صت املقاعد املدرجة على جانبي القاعة مب�سافات مت�ساوية‪،‬‬ ‫والذهبي‪َّ ،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ويف نهاية القاعة ينت�صب ثالثة مقاعد عالية متتاز ب�شعار الن�سر الذهبي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الذي الح فوقها مرفر ًفا ك�أنه ن�سر حقيقي‪ ،‬كانت تلك املقاعد تخ�ص ممثلي‬

‫والتوز عي‬
‫ا�صل الدولة الرومانية ور�ؤ�ساء �شيوخ املجل�س‪،‬‬ ‫احلكومة الثالثية‪ ،‬و َق َن ِ‬
‫وهم يوليو�س قي�صر‪ ،‬وبومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬وماركو�س كرا�سو�س‪ ،‬كانت‬
‫املقاعد فارغة �إال من مقعد بومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬كان هو من تبقى ليحكم‬
‫جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬كانت القاعة الوا�سعة متتلئ بال�ضو�ضاء وال�صخب‪ ،‬كان‬
‫كل من يف القاعة من �شيوخ يرتا�شقون بال�سب وال�شتائم‪ ،‬تختلف رغباتهم‬
‫وو�سائلهم و�أهدافهم وكل منهم يحاول �إثبات ر�أيه يف غوغاء مليئة بالزيف‬
‫وال�صراخ‪.‬‬
‫�صاح بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬صمتًا‪.‬‬
‫قالها و�صمت كل من يف القاعة‪ ،‬كان بومبايو�س يف العقد ال�ساد�س من‬
‫عمره‪� ،‬إال �أن وجهه يقول عك�س ذلك‪ ،‬كان و�سي ًما واعدً ا كال�شباب‪ ،‬وعيناه‬
‫تلمعان كالقط‪ ،‬حافظت حروبه على ر�شاقته و�صالبته‪ ،‬قبل �أن ين�ضم �إىل‬
‫‪117‬‬
‫جمل�س ال�شيوخ كان قائد جي�ش �سوال الأول والذي كان يلقبه �شيوخ املجل�س‬
‫وعامة ال�شعب ب�أ�سماءٍ عدة‪ ،‬كالدكتاتور والطاغي والدموي املجنون‪ ،‬حيث‬
‫رهطا من اجلنود على ر�أ�س �شيوخ‬ ‫دخل بجي�شه �إىل �شيوخ املجل�س وو�ضع ً‬
‫املجل�س لرياقب �أقوالهم و�أفعالهم‪ ،‬وعلى حوائط روما ل�صقت قوائم‬
‫باملعار�ضني واعتربهم خائنني وكل من يعاونهم يكون خائ ًنا لروما‪ ،‬ويف‬
‫تلك الظروف الع�صيبة ن�ش�أ العهد‪ ،‬عهد مقد�س بالدم بني يوليو�س قي�صر‬
‫وبومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬عهد مل ُيك�سر حتى الآن‪.‬‬

‫ع‬
‫رمق بومبايو�س �شيوخ املجل�س بنظر ٍة‪ ،‬ثم �أ�شار بعينيه �إىل كاتو و�أردف‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬تف�ضل يا كاتو‪ ،‬كلي �آذان م�صغية‪ ،‬املجل�س �سي�سمعك‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫كان كاتو يف منت�صف العقد الرابع‪ ،‬رفي ًعا‪ ،‬ولديه يدان ع�صبيتان‪،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫تنبثق العروق من مع�صميه ورقبته‪ ،‬وله عينان بارزتان‪ ،‬كان من حمامي‬

‫ع‬
‫العامة‪ ،‬وكل �إخال�صه ومبادئه ت�صب يف امل�صلحة العامة لروما وتداول‬
‫رف�ضا تا ًّما للإمرباطورية‪،‬‬‫راف�ضا ً‬ ‫ال�سلطة بني �أفراد اجلمهورية‪ ،‬كان ً‬
‫خا�صة بعد ما �شاهده من �أفعال �سوال الإجرامية‪ ،‬وقف كاتو وتنحنح‪ ،‬ثم‬
‫نظر �إىل بومبايو�س ماجنو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬حتياتي �إىل القن�صل العظيم بومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬لدي �س�ؤال لك‪،‬‬
‫هل ت�سمح؟‬
‫رمقه بومبايو�س للحظات �صامتة‪ ،‬فهو يعلم �أن كاتو ال ينطق خ ًريا‬
‫�أبدً ا‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل يا كاتو‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪�--‬أرمق تلك املقاعد اخلاوية الآن و�أت�ساءل‪ ،‬ملاذا تظل خاوي ًة دائ ًما؟»‬
‫‪118‬‬
‫ثم �أ�شار �إىل املقعد الأول وا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬ماركو�س كرا�سو�س امل�سكني‪ ،‬مات يف حربه �ضد العبيد واملتمردين‬
‫قن�صل عظي ًما بحق‪ ،‬و�أنا �أجد‬‫ً‬ ‫وقتله �سبارتاكو�س بوح�شية‪ ،‬كان‬
‫املوت عذ ًرا كاف ًيا على ما �أعتقد‪ ،‬ولكن ما عذر �صديقك و�شريكك‬
‫يف احلكم؟‬
‫ثم قال بنربات حتمل اال�ستهزاء‪:‬‬
‫‪--‬ابن فينو�س‪ ،‬ابن �إينيا�س البطل كما يلقبه البع�ض‪ ،‬غايو�س يوليو�س‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قي�صر‪ِ ،‬ل ال يعود �إىل روما؟ �أال يكفيه ثماين �سنوات من احلروب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫غري امل�شروعة‪ ،‬لقد انتهت بالد الغال منذ وقت لي�س بقليل‪ ،‬ملا يظل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫كر�سيه خال ًيا لثماين �سنوات ويحمل لقب قن�صل حتى الآن؟‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫ثم رمق ال�شيوخ بنظر ٍة طويلة‪ ،‬وقال بحدة‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أطلق قي�صر نف�سه كالذئب خلف دماء ال�شعب الغايل و�أ�صبح‬
‫فاح�ش الرثاء من وراء حليهم وذهبهم وعبيدهم‪� ،‬أيخفى عليكم �أن‬
‫قي�صر قتل ثالثمائة �ألف كلتي‪ ،‬وهاجم ق ًرى م�ساملة؛ قتل � ً‬
‫أطفال‪،‬‬
‫ورمل زوجات‪ ،‬و�شرد عائالت وحرق ق ًرى عن بكرة �أبيها‪ ،‬ق ًرى م�ساملة‬
‫تدفع ال�ضرائب للدولة الرومانية؟ �أال يحمل يف قلبه ذرة من الت�سامح‬
‫والر�أفة؟ اللعنة عليكم جمي ًعا‪ ،‬اللعنة على �صمتكم قبل حديثكم‪.‬‬
‫�أثارت كلماته ال�صخب بني ال�شيوخ من معار�ض �إىل م�ؤيد‪� ،‬صاح‬
‫اجلميع بغ�ضب‪ ،‬وقف بوبليبو�س وقال لكاتو‪:‬‬
‫‪--‬تلك الطريقة التي ت�شكر بها جرنال روما العظيم يوليو�س قي�صر؟ يف‬
‫خالل ثماين ال�سنوات �أر�سل قي�صر مائة �ألف عبد �إىل روما‪ ،‬هل هذا‬
‫جزا�ؤه يف النهاية؟‬

‫‪119‬‬
‫كان بوبليبو�س �أحد �شيوخ املجل�س امل�ؤيدين ليوليو�س قي�صر‪ ،‬ولقد‬
‫�أثارت كلماته اللغط بينهم‪ ،‬غ�ضب �سي�سرو‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا ي�ستمر يوليو�س قي�صر يف ال�صراع والنزاع؟ حتى �إنه مل ي�سدد‬
‫فل�سا واحدً ا من ديون روما حتى الآن‪� ،‬أ�صبح ميلك من الرثوة والذهب‬ ‫ً‬
‫ما يجعله مل ًكا‪ ،‬فلما ال يعود �إىل روما كع�ضو يف جمل�س ال�شيوخ؟ �إنه‬
‫يريد �أن ي�شرتي التاج والعر�ش‪� ،‬إمنا �أرى قي�صر �سوال الثاين‪ ،‬يريد‬
‫تدمري اجلمهورية ويحكم روما كديكتاتور حقري‪.‬‬

‫ع‬
‫كان �سي�سرو من �أ�شد معار�ضي قي�صر وحربه يف بالد الغال‪ ،‬يكره‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قي�صر ويحب روما‪ ،‬يرى يف اجلمهورية اخلال�ص‪ ،‬و�أن ما يفعله قي�صر ما‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫هو �إال بداية لبناء �إمرباطورية يحكمها كملك وديكتاتور‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪--‬وما هي مطالبك يا �سي�سرو؟‬

‫ع‬ ‫قالها بومبايو�س ماجنو�س‪.‬‬


‫‪�--‬أطالب بتفكيك جي�ش يوليو�س قي�صر وت�سريحه‪ ،‬و�إنهاء حكمه على‬
‫بالد الغال يف احلال‪ ،‬و�أن يتم ا�ستدعا�ؤه وتوجيه تهمة اخليانة‬
‫وجرائم حرب �إليه‪ ،‬وك�سره لقانون روما املقد�س‪.‬‬
‫ارتفعت �أ�صوات ال�شيوخ و�صياحهم �أكرث‪ ،‬انق�سم املجل�س بني م�ؤيد‬
‫عال هز‬‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ل�سي�سرو وكاتو وبني معار�ض‪ ،‬قال بومبايو�س ماجنو�س‬
‫�أرجاء املجل�س‪:‬‬
‫‪�--‬صمتًا الآن‪.‬‬
‫�صمتوا‪ ،‬ثم ا�ستطرد بعدما هد�أت نرباته‪:‬‬
‫‪--‬جيد جدًّا‪ ،‬هذا هو املجل�س الذي تريدونه؟ جمموعة من احلمقى‬
‫ي�صيحون يف غوغاء كالقرود التي تتعارك على موزة‪ ،‬جميع خطبكم‬
‫‪120‬‬
‫متل�ؤها احليوية واحلما�س كالعادة �أيها النبالء‪ ،‬ولكن دعوين �أوجه‬
‫�إليكم بع�ض الأ�سئلة � ًأول‪ ،‬من منكم قد �شاهد حر ًبا؟ من منكم قاد‬
‫رحما �أو �سه ًما ً‬
‫طائ�شا؟‬ ‫جي�شا؟ من منكم تلقى ً‬ ‫ً‬
‫ثم �صاح‪ :‬ال �أحد! قي�صر كان كر ًميا مع ال�شعب‪ ،‬يحب روما كما تفعلون‪،‬‬
‫يحب ال�شعب كما تفعلون‪� ،‬أال ت�سمع �آذانكم الأ�صوات التي تهتف با�سمه يف‬
‫�شوارع روما؟ �إن ال�شعب هو الذي يحكم ولي�س �أنتم �أيها النبالء‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬نحن الأر�ستقراطيني ال ن�ستطيع مبفردنا التغلب على قي�صر وجي�شه‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وال �أنت وجنودك وحدهم ميكنهم ذلك‪ ،‬تخ َّل عنه يا بومبايو�س‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫َّ‬

‫ش‬
‫تخل عنه وحتالف معنا‪ ،‬ف�أنت الرجل الأول يف روما‪� ،‬أنت من يحبه‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�صحيحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال�شعب بحق‪� ،‬إنهم يهتفون با�سم قي�صر الآن ولي�س هذا‬
‫فمن الأوىل �أن يهتفوا با�سم رجل روما احلقيقي‪ ،‬قاتل الديكتاتور‬
‫�سوال وحمرر روما من اال�ستعباد‪.‬‬
‫�ألقاها و�ساد ال�صمت املكان‪.‬‬
‫‪--‬ل�ست بحاجة �إليكم �أيها النبالء‪ ،‬فب�إ�شارة من �أ�صبعي �أ�ستطيع‬
‫حتريك فيالقي من �إ�سبانيا ومتلأ ال�شوارع من روما �إىل الألب‪،‬‬
‫و�سحق قي�صر كح�شرة ال قيمة لها‪ ،‬لكني لن �أفعل‪.‬‬
‫‪--‬كل هذا من �أجل جوليا ابنة يوليو�س قي�صر؟ �أنت تبدي م�صلحتك‬
‫ال�شخ�صية على م�صلحة روما‪.‬‬
‫ً‬
‫قن�صل يف جمل�س‬ ‫‪�--‬ألقاها كا�سيو�س‪ ،‬منذ �أن �أ�صبح يوليو�س قي�صر‬
‫ال�شيوخ وهو يكنُّ له الكره ال�شديد‪ ،‬لأنه �سرق حب العامة‪ ،‬وا�ستطاع‬
‫�أن يتقرب �إىل ال�شعب والعامة �أكرث من �أي �شخ�ص �آخر‪.‬‬
‫�صاح بومبايو�س بغ�ضب عارم‪:‬‬
‫‪121‬‬
‫‪--‬لن �أ�سمح لك �أن تنطق ا�سمها من فمك القذر‪ ،‬و�أق�سم بالآلهة �إن‬
‫تكررت ف�سي�سبق �سيفي ل�ساين‪.‬‬
‫بهتت كلماته كا�سيو�س‪ ،‬ف�آثر ال�صمت وجل�س‪ ،‬فقال كاتو‪:‬‬
‫‪--‬بومبايو�س‪ ،‬يجب عليك �أن تقلق‪ ،‬فهو مل ي�صبح �صديقك الذي‬
‫تعرفه‪� ،‬إن ثماين �سنوات من احلرب كفيلة بتغيري �أي رجل كان يقاتل‬
‫مع جحافلك‪ ،‬لقد �ضاعف �أجورهم و�أ�صبح وال�ؤهم التام له وحده‬
‫دون روما‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬س�أوفر علينا الكثري من اجلدال والنقا�ش غري املجدي‪� ،‬أنا وقي�صر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أ�صدقاء بعهد دماء مقد�س‪� ،‬أعرفه �أكرث من �أي �أحد منكم‪� ،‬إنه‬

‫يتخللهنهمهمات وت�سا�ؤالت عدة‪ ،‬كان‬


‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫حمارب قوي وابن خمل�ص ونبيل لروما وللجمهورية‪.‬‬

‫وجال ًّمتا‪،‬وهو يعلم �أن‬


‫ي‬ ‫ز‬
‫يوليو�س قي�صر ارتكب الكثري من اجلرائم والب�شائع‪ ،‬ولكنه احلب‪ ،‬ع‬
‫�ساد �صمت �شامخ بني ال�شيوخ‬
‫قي�صر ح ًّبا‬ ‫بومبايو�س ماجنو�س يحب جوليا ابنة يوليو�س‬
‫ذلك‬
‫الذي يجعلنا نرتكب احلماقات‪ ،‬مل يكن يت�صور بومبايو�س ماجنو�س بعد‬
‫ما �شاهده يف احلروب من فظائع �أن يدق قلبه ل�شخ�ص قط‪ ،‬ظن �أن قلبه‬
‫قد مات مع كل حرب خا�ضها‪ ،‬مع كل �شخ�ص مات ب�سيفه‪ ،‬ولكن خرجت‬
‫جوليا من الال�شيء وا�ستحوذت على ُكل �شيء‪ ،‬قلبه وحياته وعقله‪ ،‬مل‬
‫يع�شق بومبايو�س امر�أة كما ع�شق جوليا‪ ،‬وت�ضاعف حبه و�شغفه عندما‬
‫عرف �أنها �سوف ت�ضع مولودها الأول هذا ال�شهر‪ ،‬وجميع من يف جمل�س‬
‫ال�شيوخ يعلم �أن بومبايو�س ال يريد �أخذ �إجراء �ضد يوليو�س قي�صر من‬
‫�أجل زوجته جوليا‪.‬‬
‫�شق �صوت كاتو جتاليد الهدوء‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫تن�س �أن بالع�صبة‬ ‫‪�--‬أرجوك يا بومبايو�س‪ ،‬فكر يف الأمر ولو ً‬
‫قليل‪ ،‬وال َ‬
‫نحافظ على الدولة‪ ،‬ال تفكر بعواطفك ودع القرار ال�صائب يرفرف‬
‫يف ال�سماء معل ًنا عن احلقيقة املرة‪.‬‬
‫ت�ساءل بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أي حقيقة يا كاتو؟‬
‫‪--‬احلقيقة التي ال تخفى عن كل اجلال�سني هنا‪ ،‬احلقيقة التي ت�شرق‬
‫كال�شم�س يف ال�سماء ويراها كل من يجل�س هنا‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�ألقى �إليهم بومبايو�س نظرة ثم ت�ساءل‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬وما احلقيقة التي تباينت لكم كال�شم�س وك�سفت عندي؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬احلقيقة هي �أن قي�صر �أ�صبح قوة ال ن�ستطيع الوقوف‬
‫�أمامها‪� ،‬أ�صبح بيده ذهب بالد الغال‪ ،‬وجحافلك حتت �أوامره‪ ،‬يحبه‬
‫ال�شعب عن جهل ما يخفى عنهم‪.‬‬
‫ت�ساءل بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬وما يخفى عن ال�شعب يا كا�سيو�س؟‬
‫‪�--‬أن يوليو�س قي�صر ما هو �إال ذئب �ضارٍ‪ ،‬ا�ستحال الدماء الغالية‪ ،‬ك�سر‬
‫القوانني املقد�سة‪ ،‬ي�سعى لبناء مملكة �أو �إمرباطورية‪ ،‬يكون هو فيها‬
‫امللك‪ ،‬وال�شعب يكونون هم العبيد‪.‬‬
‫ثم قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬وللأ�سف يا بومبايو�س‪ ،‬مل يفعل يوليو�س قي�صر ما ينفي االتهامات‬
‫تن�س �أن املجل�س يتحدث با�سم ال�شعب‪،‬‬
‫املوجهة �إليه �أمام املجل�س‪ ،‬وال َ‬
‫وال�شعب هو من يحكم‪ ،‬وحكمه قانون ال يجوز ك�سره‪.‬‬
‫�أردف كاتو‪:‬‬
‫‪123‬‬
‫‪--‬عندما �أفكر يف الأحداث التي حتدث الآن‪ ،‬ي�صيبني الفزع والرعب‪،‬‬
‫وت�أتيني الذكريات كما الر�ؤى كناقو�س املعابد‪ ،‬يدق يف ر�أ�سي بال‬
‫هوادة‪� ،‬أتذكر عندما انت�صر �سوال يف حربه وعاد �إىل روما‪� ،‬أتذكر‬
‫كيف كمم �أفواه �شيوخ املجل�س‪ ،‬وكيف فر�ض قوانينه على جمل�س‬
‫ال�شيوخ‪� ،‬أتذكر كلمته اللعينة ك�أنه قالها البارحة «كلمتي هي قانون‬
‫روما اجلديد»‪ ،‬ثم ت�أتيني الر�ؤى �أن قي�صر يدخل روما بعد �أن ينت�صر‬
‫يف الغال‪ ،‬يدخل بجنوده �إىل �أر�ض املجل�س‪ ،‬ثم ال يجر�ؤ �أحد على‬
‫التحدث قط‪ ،‬هذا ما ت�سمونه اجلمهورية؟ هل هذا ما يريده ال�شعب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ح ًّقا؟ حتى �إن كان ال�شعب يحب قي�صر‪ ،‬ف�إنه يجهل ما يرتتب عليه‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫هذا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�صمت بومبايو�س للحظات طالت‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لقد ا�ستمعت ما يكفي‪ ،‬خوفكم �أيها النبالء مفهوم‪� ،‬أ�ستطيع تفهم‬
‫خوفكم واندفاعكم يف مهاجمة قي�صر‪ ،‬وهو خوف ينبثق عن حب‬
‫روما و�أقدر ذلك ح ًّقا‪ ،‬لكن قي�صر لي�س ب�سوال‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬على املرء �أخذ احلذر يا بومبايو�س‪� ،‬صديقك قي�صر يف حربه‬
‫ال�ضرو�س من ثماين �سنوات‪ ،‬وثماين �سنوات كفيلة بتحويل �أنبل‬
‫الرجال �إىل �أحقرها‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �أنه �أ�صبح كامللك بني جنوده‪،‬‬
‫كيف تثق يف رجل ملك ُكل �شيء بعدما كان ال ميلك �شي ًئا؟‬
‫ثم �أ�ضاف �سي�سرو‪:‬‬
‫‪�--‬أنت تعلم يا بومبايو�س كيف بد�أ �سوال يف ال�صعود �إىل ال�سلطة‪ ،‬تعلم‬
‫كيف كانت حروبه التو�سيعية با�سم روما وبا�سم املجد وب�أ�سماءٍ عدة‪،‬‬
‫وما �أ�شبه اليوم بالبارحة‪ ،‬وما �أ�شبه �سوال بيوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫�أردف بومبايو�س يف حماولة لتهدئة ال�شيوخ‪:‬‬
‫‪�--‬أ�ستطيع �أن �أ�ضمن لك يا �سي�سرو ب�أن عهد �سوال لن يتكرر جمددًا‪،‬‬
‫�أنتم �أيها النبالء‪� ،‬أنتم �أيها ال�شيوخ‪ ،‬جميعكم تعلمون �أنني كنت‬
‫قائدً ا جلي�ش �سوال ل�سنوات‪ ،‬ح�صلت فيها على ُكل �شيء تقري ًبا‪،‬‬
‫الذهب واملجد والن�ساء‪ ،‬ولكني مل �أوافق على �أن يحكم �سوال كملك‬
‫�أو ديكتاتور‪� ،‬أنتم تعلمون �أنني �أحب روما �أكرث من �أي �شيء‪ ،‬تعلمون‬
‫كيف �أقد�س القانون الروماين‪� ،‬أن القانون عندي هو العقيدة التي ال‬
‫ي�ستطيع �أحد تخطيها �أو امل�سا�س بها‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬جميعنا نعلم كم حتب روما يا بومبايو�س‪ ،‬ولكن نعلم � ً‬

‫ا‬ ‫ري‬
‫أي�ضا ماذا حتب‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�أكرث من روما‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫قالها كاتو ثم جل�س‪.‬‬
‫انفعل بومبايو�س ب�ضراوة‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أخذت روما مني ُكل �شيء‪� ،‬أخذت �شبابي وقوتي‪ ،‬لثالثني ً‬
‫عاما‬
‫�أخو�ض احلروب من �أجل روما‪ ،‬كدت �أن �أُقتل �آالف املرات من �أجل‬
‫روما‪ ،‬ذرفت الدماء والدموع من �أجل روما‪ ،‬ماذا فعلتم �أنتم �أيها‬
‫النبالء لروما؟ دعوين �أخربكم‪ ،‬ال �شيء‪ ،‬مل تفعلوا �شي ًئا مطل ًقا‪،‬‬
‫تطلقوا نباحكم كالكالب ال�شاردة ال �أكرث‪ ،‬ماذا تريد مني روما‬
‫�أكرث من هذا؟ �ألي�س من حقي �أن �أعي�ش �آخر �أيامي يف هدوء بني‬
‫يدي زوجتي وطفلي؟ اللعنة عليكم‪ ،‬اللعنة عليكم جمي ًعا‪ ،‬اللعنة على‬
‫قي�صر وحروبه‪ ،‬اللعنة على روما‪.‬‬
‫كان ال بد من حلظة لالنفجار‪ ،‬ل�سنوات كان يتحمل بومبايو�س كلمات‬
‫ال�شيوخ و�شكواهم ب�أنه ال بد من اتخاذ �إجراء يحد من �سلطة يوليو�س‬
‫قي�صر‪ ،‬ولكن كيف؟ لي�س بيده اجليو�ش الكافية وال القوة ليفعل هذا‪ ،‬لقد‬
‫‪125‬‬
‫�سرق قي�صر منه ُكل �شيء‪ ،‬اجليو�ش وحب العامة وال�سلطة‪ ،‬ولكن كان‬
‫بيده من �أغناه عن هذا كله وهو جوليا‪ ،‬كانت جوليا هي عزاءه الوحيد يف‬
‫تلك العا�صفة املتالطمة‪ ،‬مل يكن لديه م�شكلة �أن يرتك ُكل �شيء برمته‪،‬‬
‫اجليو�ش وال�سلطة وجمل�س ال�شيوخ‪ ،‬ليحظى فقط بلحظة هادئة مع زوجته‬
‫جوليا فوق الكابيتول �أو بني يديها حتت�ضنه بقوة وتن�سيه �أيام احلرب‬
‫العجاف‪ ،‬هذا كل ما كان يحتاجه‪ ،‬ركن هادئ يق�ضي فيه �أيامه املتبقية‬
‫يف �سالم‪.‬‬

‫ع‬
‫ب�صوت خفي�ض‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫اقرتب كاتو من بومبايو�س‪ ،‬وقال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪�--‬أتفهم غ�ضبك يا بومبايو�س‪ ،‬لكننا هنا جمي ًعا �أ�صدقا�ؤك يف �صفك‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫نحبك لأنك رجل نبيل يف �صفاتك و�أخالقك‪ ،‬وفوق ذلك كله �أنت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫رجل حمارب وتتطلع �إىل احلرية كما نتطلع‪� ،‬إن فاز قي�صر يف حربه‬

‫ع‬
‫يف بالد الغال ف�سوف ميتلك ُكل الذي ي�ؤهله لأن يكون ديكتاتور روما‬
‫القادم‪ ،‬الفيالق والذهب وحب العامة ووفاء القادة‪ ،‬رجل كهذا علينا‬
‫�أخذ احليطة يف �أمره‪.‬‬
‫‪--‬وماذا تريد مني �أن �أفعل يا كاتو؟‬
‫‪--‬قي�صر على و�شك �أخذ معقله الأخري يف بالد الغال‪ ،‬وامللك الغايل‬
‫فر�سن جيرتيك�س جمع كل القبائل الغالية حتت رايته‪ ،‬للتحرك نحو‬
‫�إلي�شيا‪.‬‬
‫‪--‬كم عدد جنوده؟‬
‫‪�--‬أربعون �ألف جندي‪ ،‬على نقي�ض �صفوف ال�شعب الغايل‪ ،‬فعدد‬
‫جنودهم يتخطى املائة واخلم�سني �أل ًفا‪.‬‬
‫‪--‬لكن جحافل يوليو�س قي�صر وقادة الفيالق لهم ا�سرتاتيجية مزدوجة‬
‫تنح�صر بني الهجوم والدفاع‪ ،‬وال�شعب الغايل ال يحمل ا�سرتاتيجية‬
‫وال �صفو ًفا منظمة وال قادة‪ ،‬حروبهم ع�شوائية وغري منظمة‪ ،‬ويف‬
‫‪126‬‬
‫تلك املقارنة لن ينهزم قي�صر ب�سهولة‪.‬‬
‫‪--‬دعنا فقط ن�أمل �أن يخ�سر قي�صر هذه املرة‪.‬‬
‫‪--‬ال �أحد يعرف نتيجة احلرب‪ ،‬ولكن دعني �أ�ؤكد لك‪ ،‬قي�صر لن يخ�سر‬
‫حربه‪.‬‬
‫�أردف كاتو بنربات ميل�ؤها القلق‪:‬‬
‫‪--‬يا بومبايو�س‪� ،‬أنت القن�صل املتبقي من جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬عليك �أن‬
‫تفعل �شي ًئا‪� ،‬إذا ربح قي�صر هذه احلرب‪� ،‬أق�سم بالآلهة �أنه �سوف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ي�صبح �سوال الثاين‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬اتركه يا كاتو‪ ،‬ف�إذا خ�سر قي�صر هذه احلرب ولقي حتفه ف�سيطفئ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�سوال القادم نف�سه‪ ،‬ولن نحتاج �إىل خو�ض معركة ال نعلم عواقبها‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫كان هذا كاف ًيا لري�ضي كاتو‪ ،‬اطم�أن قلبه عندما ت�أكد �أن بومبايو�س‬
‫ي�شاطرهم خوفهم و�شكوكهم حول قي�صر‪� ،‬أو بالأحرى يرف�ض فكرة‬
‫الإمرباطورية ً‬
‫رف�ضا قاط ًعا‪ ،‬وكان هذا كاف ًيا‪ ...‬حتى الآن‪.‬‬

‫كان ماه ًرا جدًّا يف مهارات الكالم‪ ،‬در�س الفل�سفة واملنطق واملعرفة‬
‫لإقليد�س و�أر�سطو‪ ،‬كان يعرف عن ال�شعر وكان يحفظ �أ�شعار هومريو�س‬
‫يوما ع�ض ًوا يف جمل�س ال�شيوخ‪.‬‬
‫وبندار جيدً ا‪ ،‬كان يت�أهل لي�صبح ً‬
‫كان بروتو�س �شا ًّبا يف منت�صف العقد الثاين له �شعر طويل بلون بني‬
‫منطفئ‪ ،‬وعينان زرقاوان متوهجتان‪ ،‬وجهه هادئ وكئيب �إىل حد كبري‪،‬‬
‫كان يرتدي م�ؤخ ًرا رداء �شيوخ املجل�س الأبي�ض وفوق الأبي�ض ال�صايف �شال‬
‫مر�صع بالذهب‪ ،‬كان يجل�س معهم يف املجل�س‪ ،‬ي�ستمع وي�ستمع وال‬ ‫�أحمر َّ‬
‫‪127‬‬
‫يتحدث‪ ،‬مل يكن من النوع الرثثار‪ ،‬كان ال يرتك فر�صة �إال ويتعلم فيها‬
‫�شي ًئا ما‪ ،‬كان �صامتًا معظم الوقت‪ ،‬ال ُيخرج مهاراته الكالمية �إال يف‬
‫الوقت املنا�سب‪ ،‬ويف معظم الأوقات كان يقر�أ �أو يكتب‪.‬‬
‫منغم�سا يف القراءة �إىل �أبعد حد‪،‬‬
‫ً‬ ‫جال�سا يف باحة املنزل وكان‬
‫كان ً‬
‫جاءت من ورائه مت�سللة على �أطراف �أ�صابعها خ�شية �أن ي�سمع �أ�صوات‬
‫خطواتها‪ ،‬اقرتبت منه وو�ضعت يديها على عينيه وقالت‪:‬‬
‫‪--‬عليك بالتنب�ؤ‪ ،‬من �أنا؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ابت�سم بروتو�س و�أردف‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬ح�س ًنا‪ ...‬لعلني �س�أقول نف�س الإجابة يف ُكل مرة‪ِ � ،‬‬

‫بل‬
‫أنت زوجتي العزيزة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بور�شيا‪� ،‬صحيح؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫كانت بور�شيا ابنة عم لربوتو�س‪ ،‬كانت فتاة يف عقدها الثاين‪ ،‬جميلة‬
‫كالقمر كما ي�صفها بروتو�س دائ ًما‪ ،‬مرحة وب�شو�شة الوجه‪.‬‬
‫جل�ست بجواره وقالت‪:‬‬
‫‪--‬هذا �صحيح ككل مرة‪ ،‬ماذا تقر�أ؟‬
‫‪--‬قوانني �أفالطون‪.‬‬
‫‪--‬هل �أكملت قراءته؟‬
‫‪--‬اقرتبت من �إنهائه‪.‬‬
‫�أم�سكت بور�شيا الكتاب من يده و�أردفت‪ :‬وماذا تعلمت؟‬
‫‪--‬منذ ثالث �أ�سابيع و�أنا �أقر�أ الكتب الفل�سفية لأفالطون ومنها؛ قوانني‬
‫�أفالطون واجلمهورية‪ ،‬وكهف �أفالطون‪ ،‬ودفاع �سقراط‪ ،‬ورمبا‬
‫تو�صلت �إىل ما حتتاجه الدولة يف النهاية‪ ،‬كان �أفالطون جمهور ًّيا‬
‫بكل ت�أكيد‪ ،‬ولعلى �أحمل وجهة نظر خمتلفة ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫‪--‬وما هي يا بروتو�س؟‬
‫‪�--‬أنا �أرى �أن الدميقراطية حمكوم عليها بالف�شل الذريع‪ ،‬وال بد من‬
‫وجود ديكتاتور المع يدير الدولة بذكاء‪ ،‬ديكتاتور عاقل وم�ستنري‪،‬‬
‫يعرف متى يعطي ومتى مينع‪ ،‬متى ين�صر الفقراء ومتى يقمع‬
‫الأغنياء‪ ،‬فالدميقراطية تعطي للفا�شلني ح ًّقا يف اتخاذ القرارات‪.‬‬
‫�أغلقت بور�شيا الكتاب وابت�سمت وعقدت حاجبيها ثم قالت‪:‬‬
‫‪--‬ال تدع �أبي كاتو ي�سمعك‪ ،‬و�إال ف�سوف يقتل ابن �أخته الوحيد‪ ،‬وزوجي‬

‫ع‬
‫العزيز‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�ضحك بروتو�س وقال‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬عمي كاتو متع�صب للجمهورية �إىل �أبعد حد ولكنه ُيحب عائلته �أكرث‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫من �أي �شيء‪.‬‬


‫ت�ساءلت‪� :‬أنت يا بروتو�س‪� ،‬شاب رائع ولكن ملاذا دائ ًما ت�شعر بالأ�سى؟‬
‫�أجاب بروتو�س‪:‬‬
‫رجل عقالن ًّيا‪ ،‬وال �أحب اتباع‬‫‪--‬ح�س ًنا‪� ...‬أنا �أحاول دائ ًما �أن �أكون ً‬
‫امل�شاعر �أو �إظهارها‪.‬‬
‫‪�--‬ألي�س الأ�سى من امل�شاعر؟‬
‫‪--‬بلى! ولكن لكل قاعدة �شواذ‪ ،‬ولكل ا�ستثناء هد ًفا‪ ،‬قال �أحد الفال�سفة‬
‫يوما‪� ،‬إن ال�شعور بالأ�سى �سالح ذو حدين‪� ،‬إما �أن يحطمك و�إما �أن‬ ‫ً‬
‫يجعل منك فيل�سو ًفا‪.‬‬
‫قليل‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫فكرت بور�شيا ً‬
‫‪--‬هذا �شيء م�ستحيل البتة يا بروتو�س‪ .‬فالأ�سى وحده ال يكفي‪،‬‬
‫فالإن�سان ت�سيطر عليه الطبيعة احليوانية البحتة املتقلبة‪ ،‬وتتمثل يف‬
‫‪129‬‬
‫احلب والكره واال�شمئزاز‪ ،‬حتى ممار�سة اجلن�س � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬و�أعتقد �أن‬
‫اندراجا يف بحريات العاطفة الالمنتهية‪.‬‬
‫ً‬ ‫كل هذا يعد‬
‫ابت�سم بروتو�س و�أُعجب بر ِّد بور�شيا‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬اندراج �آثم‪ ،‬ال ينتج عنه �سوى املزيد من مناه�ضات العقل‪ ،‬وتقدي�س‬
‫فان‪.‬‬
‫كل ما هو ٍ‬
‫‪�--‬أنت تتحدث عن العقل يا بروتو�س‪ ،‬العقل مادة‪ ،‬وكل مادة فانية‪.‬‬
‫�ضحك بروتو�س وقال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬يبدو �أن �أ�ستاذك يف الفل�سفة قد �أح�سن تعليمك يا بور�شيا‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ثم ا�ستطرد بنربات حتمل �شي ًئا من املرح غري االعتيادي‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪--‬ولكني ال �أحتدث عن العقل كمادة �أيتها الفيل�سوفة النابغة‪� ،‬إمنا‬

‫ع‬
‫�أحتدث عن الت�أثري‪ ،‬يظل ت�أثريه موجودًا على مر الع�صور والأزمنة‪،‬‬
‫فلم �أ َر ً‬
‫عقل يعمل �إال وكان له ت�أثري ملحوظ يف م�سار الب�شرية ب�أكملها‪.‬‬
‫�أطلقت بور�شيا �ضحكة قبل �أن تردف‪:‬‬
‫‪�--‬إنْ تب َّنى العامل فل�سفتك‪َ ،‬ف�س ُيقبل اجلميع على االنتحار‪.‬‬
‫‪--‬لن ي�شكلوا فر ًقا‪� .‬إن العامل غبي‪ ،‬وهذا هو ُلب الق�صيدة‪� .‬إن قد�س‬
‫فان ف�سيكون م�صريه الفناء بكل ت�أكيد‪.‬‬‫الإن�سان ٍ‬
‫اقرتبت منه ومل�ست وجنته ب�أناملها وقالت‪:‬‬
‫‪--‬وهل ي�ستطيع بروتو�س الو�سيم‪� ،‬أن يعي�ش يف عامل فارغ؟‬
‫ابت�سم‪:‬‬
‫‪--‬عزيزتي بور�شيا‪ ،‬عامل فارغ �أف�ضل من عامل مليء بالأغبياء بكل‬
‫ت�أكيد‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫‪--‬حتى و�إن ا�ستطعت العي�ش وحيدً ا‪ ،‬فلن جتد من يقد�س عقلك يف‬
‫النهاية‪.‬‬
‫‪--‬العقل لي�س بحاجة للتقدي�س يا بور�شيا‪ ،‬فكل مقد�س هو مقد�س و�إن‬
‫مل يتم تقدي�سه‪.‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ،‬أنا �أتفهم هذه الفل�سفة‪ .‬ولكن �ألي�ست العقول مت�ساوية‪ ،‬والعقل‬
‫مقد�سا يف كل حاالته املختلفة؛ �إذا كان عقل فيل�سوف نبيل �أو‬
‫الب�شري ً‬
‫عقل مزارع من العامة؟‬
‫‪--‬ال!‪ ...‬ونعم يف نف�س الوقت‪� .‬إن الذكاء �أو الغباء هو �شيء غري �إرادي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫البتة‪ ،‬وهذا يعد عقالن ًّيا يف حيز الت�صنيف‪ ،‬ولكن خارج حيز‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الت�صنيف ي�صبح الأمر خمتل ًفا‪ ،‬تت�ساوى العقول ويت�ساوى التفكري‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ولكن تتفاوت يف م�ستوى الإدراك‪ ،‬وهذه لرمبا تكون فل�سفة فلكية‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫غري حقيقية �إطال ًقا‪ ،‬ولكن ما �أحاول قوله �أنه عند اخلروج من‬
‫حيز الت�صنيف تت�ضح الأمور �أكرث‪ ،‬وال جود للحقيقة املطلقة بتاتًا‪،‬‬
‫مزارعا من‬
‫ً‬ ‫فال يوجد عقل غبي بن�سبة مائة يف املائة حتى و�إن كان‬
‫نبيل‪ ،‬وترتاوح الن�سب‪،‬‬‫العامة‪ ،‬وال ذكي كذلك و�إن كان فيل�سو ًفا ً‬
‫والقول الف�صل �أننا كلنا �أغبياء وحمقى ولكن ب�أ�شكال خمتلفة‪ ،‬وتلك‬
‫طبيعة الب�شرية ككل‪.‬‬
‫قليل وبدا عليها �أمارات احلزن‪ ،‬مل�س بروتو�س يف‬ ‫�صمتت بور�شيا ً‬
‫وجهها ال�ضيق غري امل�ألوف‪ ،‬مل يكن �شيء ل ُيحزن بور�شيا وال �شيء يجعلها‬
‫عاب�سة‪ ،‬كانت مبت�سمة دائ ًما ويف �أي وقت‪ ،‬نظر �إليها بروتو�س يف عينيها‬
‫وعبثت �أنامله بخ�صالتها يف حنان وقال‪:‬‬
‫‪--‬ماذا ِ‬
‫بك يا بور�شيا؟‬
‫قالت‪ :‬ال �شيء‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫أنت جميلة حتى يف حزنك يا بور�شيا‪.‬‬ ‫‪ِ �--‬‬
‫ابت�سمت بور�شيا‪ ،‬ثم ا�ستطرد بروتو�س‪:‬‬
‫كنت تناطحينني‬ ‫جعلك عاب�سة وحزينة بعد �أن ِ‬ ‫‪�--‬أخربيني ماذا حدث ِ‬
‫يف الفل�سفة؟‬
‫‪--‬لقد علمت من �أبي �أنك �سوف ت�سافر �إىل قي�صر يف الغال‪ ،‬هل هذا‬
‫�صحيح؟‬
‫تنهد بروتو�س و�أردف بابت�سامة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬كنت �أعرف �أن عمي كاتو ال يكتم �س ًّرا �أبدً ا‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫ثم داعب وجنتيها وا�ستطرد‪ :‬لكن ال تخايف يا عزيزتي‪ ،‬لن ي�صيبني‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫مكروه‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لكن ملاذا تريد ال�سفر يا بروتو�س؟‬
‫ثوان قبل �أن يجيب‪:‬‬‫قليل‪ ،‬ك�أنه يعود �إىل املا�ضي‪ ،‬مرت ٍ‬ ‫�صمت بروتو�س ً‬
‫‪--‬مل �أ َر قي�صر منذ ثماين �سنوات‪� ،‬أذكر عندما كنت �صغ ًريا‪ ،‬كان‬
‫قي�صر يف املنفى �أثناء ُحكم �سوال‪ ،‬كانت ابنته جوليا �أعز �صديقة يل‪،‬‬
‫وعندما عاد قي�صر من منفاه‪ ،‬ترعرعنا �سو ًّيا يف بيته‪ ،‬كان يحبني‬
‫طفل و�أحتاج ملا يحتاجه‬ ‫بقدر ما يحبها‪ ،‬ويف يوم كنت �أبكي‪ ،‬كنت ً‬
‫الأطفال من حنان الأب‪ ،‬يف ذلك اليوم �ضمني قي�صر �إىل �صدره‬
‫تبك يا عزيزي بروتو�س‬ ‫ب�شدة واحت�ضنني بني ذراعيه وقال يل‪« :‬ال ِ‬
‫رف�ضت �أن تعطيني �إياه الآلهة»‪ .‬كان قي�صر لطي ًفا‬ ‫ف�أنت ابني الذي َ‬
‫معي �إىل �أبعد حد‪ ،‬كان يعاملني كابن له ومن �صلبه‪ ،‬مل ي�شعرين‬
‫يوما ب�أنني يتيم �أو لقيط‪� ،‬أو حتى نغل‪ ،‬كان فقط �أبي و�أنا ابنه‬ ‫قي�صر ً‬
‫من دون �إلقاء ت�سا�ؤالت‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫ثم ابت�سم وا�ستطرد‪ :‬والآن �أذهب �إليه‪� ،‬أحييه يف انت�صاره الأخري‪ ،‬ثم‬
‫نعود �سو ًّيا �إىل روما بالن�صر واملجد‪.‬‬
‫قالت بور�شيا‪:‬‬
‫‪--‬لكنه مل يك�سب حربه بعد‪.‬‬
‫‪--‬من يعرف قي�صر‪ ،‬يعرف �أنه ال يخ�سر حربه �أبدً ا‪.‬‬
‫ابت�سمت بور�شيا و�أردفت‪� :‬سوف �أدعو لك الآلهة �أن تعيدك يل �ساملًا‬
‫يا بروتو�س‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ِ �--‬‬

‫ري‬
‫أعدك �أن �أعود �ساملًا يا بور�شيا‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫قالها بروتو�س بيقني وثقة‪ ،‬ثم تناول الكتاب من يديها و�أكمل قراءته‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬

‫‪133‬‬
‫(‪)2‬‬

‫دخلت اثنتان من اخلدم وانحنتا‪ ،‬ثم بد�أتا ُتار�سان عملهما‪ ،‬كانتا‬


‫هدية من قي�صر البنة �أخته �آ ْت َيا‪� ،‬إحداهما فتاة يف العقد الثاين والأخرى‬
‫عجوز �شمطاء �ضئيلة احلجم ومل تنب�سا االثنتان ببنت �شفة‪ ،‬ملأت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫اخلادمتان احلو�ض باملاء ال�ساخن وعطرتاه بالزيوت‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫خلعت �آ ْت َيا �سرتتها و�ساعدتها اخلادمتان‪ ،‬كانت بي�ضاء نا�صعة‪ ،‬ذات‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�شعر ك�ستنائي مميز مييل �إىل الأ�شقر الربتقايل‪ ،‬نزلت �إىل املغط�س‪ ،‬كان‬

‫ع‬
‫املاء �ساخ ًنا جدًّا ومفع ًما بالورود والروائح الزكية وخال�صة زهرة التوليب‪،‬‬
‫�أ�شارت �آ ْت َيا �إىل اخلادمة فاقرتبت‪ ،‬غ�سلت �شعرها الأ�شقر َّ‬
‫وم�شطته يف‬
‫�صمت‪ ،‬وكانت الأخرى ترثثر بال توقف عن يوليو�س قي�صر‪ ،‬عن و�سامته‬
‫تلق‬
‫وب�سالته وعن �شجاعته املطلقة و�أنه ال يعرف اخلوف يف املعارك‪ ،‬ومل ِ‬
‫بال ملا ترثثر به اخلادمة‪.‬‬‫�آ ْت َيا ً‬
‫كانت �آ ْت َيا تنحدر من عائلة جويل‪ ،‬لقرون كانت عائلة جويل من‬
‫العائالت النبيلة يف روما‪ ،‬كانوا يتقلدون ال�سيا�سة واملنا�صب الهامة يف‬
‫ملول للغاية‪ ،‬و�صريحة �إىل حد ال�شجاعة‪ ،‬وجريئة‬ ‫�شخ�صا ً‬ ‫ً‬ ‫روما‪ ،‬كانت‬
‫�إىل حد الفظاظة‪ ،‬كانت ت�ستعد ملقابلة بروتو�س‪ ،‬لقد ت�سرب خرب �سفر‬
‫بروتو�س �إىل يوليو�س قي�صر‪ ،‬انت�شر اخلرب كالنار يف اله�شيم بني �شيوخ‬
‫املجل�س والنبالء وبالطبع �إىل كالبورنيا زوجة يوليو�س قي�صر التي قد‬
‫تزوجها قبل �سفره �إىل الغال مبا�شر ًة‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫متاما‪ ،‬خرجت من املغط�س‪ ،‬تناولت ك�أ�س نبيذ‬ ‫وعندما �صارت نظيفة ً‬
‫وطفقت ترت�شف منه‪ ،‬كانت تغني وترق�ص مع ك�أ�س النبيذ املنع�ش‪ ،‬ويف‬
‫تناغم مع ال�ضوء املنبعث من النوافذ انت�شت برحابة‪ ،‬رمقت انعكا�سها يف‬
‫م�شطت‬ ‫املر�آة‪ .‬تقدمت اخلادمتان و�أح�ضرتا املنا�شف وطفقتا جتففانها‪َّ .‬‬
‫الفتاة خ�صالتها ال�صفراء حتى ت�ألق وملع كالذهب‪ ،‬واقرتبت العجوز‬
‫وعطرتها بالزنبق الآتي من اليونان‪ ،‬من وراء �أذنيها وحتت �إبطيها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وبني �أ�صابع يديها وقدميها‪ ،‬ثم لفحت ج�سدها برداءٍ �أبي�ض تناولته من‬
‫خادمتها‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫فاح يف الرواق رائحة اللحم امل�شوي وال�سمك‪ ،‬كانت م�أدبة �صغرية‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫لكن متوقعة‪ ،‬ارتدت �آ ْت َيا الطبقة الداخلية من مالب�سها‪ ،‬ثم ارتدت ف�ستا ًنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ين اللون‪ ،‬واجتهت �إىل غرفة ال�صغريين‪ ،‬كان �أوكتافيو�س‬ ‫حرير ًّيا �أرجوا َّ‬

‫والتوز عي‬
‫يكتف بهذا‪ ،‬فقد‬‫يف الثالثة ع�شرة من عمره يحمل �شعر �أمه الذهبي‪ .‬ومل ِ‬
‫حمل حدتها وجر�أتها‪ .‬كان ذك ًّيا وحاد املالحظة‪ ،‬عيناه ذئبيتان‪ ،‬وعلى‬
‫متاما �شقيقته �أوكتافيا التي مل تب ُد ك�أنها من �آل جويل‪ ،‬كانت‬ ‫النقي�ض ً‬
‫خ�صالتها بنية اللون‪ ،‬كانت تكرب �شقيقها �أوكتافيو�س بخم�س �سنوات‪� ،‬إال‬
‫�أنها مل حتمل ذكاءه اال�ستثنائي‪ ،‬كانت �صادقة وبريئة للحد الذي يجعلها‬
‫لي�ست من �آل جويل ح ًّقا‪...‬‬
‫كان �أوكتافيو�س و�أوكتافيا قد قررا ارتداء لون �أزرق منطفئ م ًعا‬
‫يف هذا اليوم‪ ،‬تلألأ �شعر �أوكتافيو�س كالذهب اخلال�ص‪ ،‬بينما تلألأت‬
‫الأحجار الكرمية على رقبة �أوكتافيا‪ ،‬رمقتهم �آ ْت َيا بتعبري الفتور اخلافت‬
‫الذي اعتاد �أن يكت�سي وجهها معظم الوقت‪ ،‬ثم �أردفت‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬يبدو هذا جيدً ا �إىل حدٍّ ما‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬

‫‪135‬‬
‫‪--‬نعم‪ .‬تبدين جميلة � ً‬
‫أي�ضا يا �أمي‪.‬‬
‫ابت�سمت ابت�سامة ك�سولة و�أردفت‪:‬‬
‫‪�--‬شك ًرا يا عزيزي‪.‬‬
‫تنحنحت �آ ْت َيا و�أردفت‪ً � :‬أول ال حديث �أثناء الطعام‪ ،‬ثان ًيا عليكما‬
‫احرتاما له‪...‬‬
‫ً‬ ‫االنحناء لربوتو�س عند دخوله‬
‫قاطعها �أوكتافيو�س بحدة‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ .‬بالت�أكيد لن �أنحني لأحد‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قالت �آ ْت َيا ب�صرب يكاد ينفد‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬عزيزي �إن بروتو�س يكربك بال�سن‪ ،‬عليك احرتامه واتباع التقاليد‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫املعروفة‪ ،‬ثم �إنه �سوف ي�صحبك معه �إىل بالد الغال‪ ،‬لتقابل عمك‬

‫ع‬
‫قي�صر‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا!‪ ...‬ملاذا؟‬
‫‪--‬عندما يعود عمك قي�صر �إىل روما �ستنهال عليه الهدايا والعطايا‬
‫من العامة والنبالء على حدٍّ �سواء‪ ،‬و�أنت الآن يا عزيزي �أوكتافيو�س‬
‫الوحيد الذي يحق له �أن يعود مع قي�صر باملجد‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر لن يعود �إىل روما بهذه ال�سهولة‪.‬‬
‫ت�ساءلت �آ ْت َيا‪ :‬ملاذا؟‬
‫‪--‬هل تظنني �أن �شيوخ املجل�س �سوف ي�سمحون لقي�صر بدخول روما‬
‫بعدما فعله يف الغال؟ قي�صر الآن قد خا�ض حر ًبا غري م�شروعة ولن‬
‫ي�سامح جمل�س ال�شيوخ يف هذا �أبدً ا‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫‪--‬ال تقل هذا على عمك يا �أوكتافيو�س‪.‬‬
‫قالتها ناهية وبحدة‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س بهدوء‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ .‬ما �أقوله لن يغري احلقيقة‪ ،‬قي�صر ال ي�ستطيع الدخول �إىل‬
‫روما �إال يف حالة واحدة‪ ،‬يدخل كما دخل �سوال‪.‬‬
‫قالت �آ ْت َيا منفعلة‪:‬‬
‫‪�ُ --‬صن ل�سانك عن هذا احلديث‪� ،‬سوف ت�سافر مع بروتو�س‪� ،‬ستغامر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بحياتك لتبجيل عمك العظيم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫قال بقلق‪ :‬لكن الطريق �إىل الغال طويل وحمفوف باملخاطر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫هد�أت ثم اقرتبت منه وو�ضعت يدها على كتفه وقالت‪:‬‬
‫أنك خائف‪ ،‬لكن الرومان ال يخافون‪� ،‬سوف جتعل �أمك فخورة‬ ‫‪�--‬أعلم � َ‬
‫بك‪� ،‬صحيح؟‬
‫قال �أوكتافيو�س يف ي�أ�س‪ :‬نعم يا �أمي‪.‬‬
‫اقرتبت اخلادمة من �آ ْت َيا وقالت‪:‬‬
‫‪�--‬سيدتي‪� ،‬إن ال�سيدة كالبورنيا قد ح�ضرت يف اخلارج‪.‬‬
‫‪�--‬س�أخرج لها ً‬
‫حال‪.‬‬
‫كانت كالزهرة الذابلة‪ ،‬ولكنها جميلة‪ ،‬كظل �شجرة ال جتد من ي�ستظل‬
‫يوما‬
‫حتتها‪ ،‬على الرغم من مرور ثماين �سنوات ف�إنها تثق �أنه �سوف يعود ً‬
‫ما‪ ،‬ذلك ال َق َ�سم الذي �أق�سمه �أمام الآلهة‪ ،‬هي تعرف قي�صر جيدً ا‪ ،‬هو ال‬
‫ينكث بوعوده �أبدً ا‪ ،‬ولكن ثماين �سنوات كانت كفيلة ب�أن يت�سرب القلق �إىل‬
‫�صدرها‪ ،‬لقد وعدها ب�أنه �سيعود و�سوف يعود‪ ،‬لكن متى؟ لقد �أكل الفراغ‬
‫‪137‬‬
‫ف�ؤادها‪ .‬يف منزلها كانت تنت�صب �شجرة عتيقة ترتفع فوق بركة �صغرية‬
‫مياهها �صافية وباردة‪� ،‬أوراقها ذات لون �أحمر داكن‪ .‬هنا كان لقا�ؤهم‬
‫الأول‪ .‬كانت ترمق الأوراق املت�ساقطة يف ي�أ�س‪ ،‬ال حقيقة �أب�شع من الوحدة‪،‬‬
‫كانت وحيدة‪ ،‬ال تفعل �شي ًئا �سوى االنتظار‪ ،‬ذلك الذي جعل من ثمانية‬
‫الأعوام �ألف عام �أو رمبا �أكرث‪.‬‬
‫جل�ست كالبورنيا‪ ،‬ثم خرجت �آ ْت َيا وقالت ِّ‬
‫مرحبة‪:‬‬
‫‪--‬عزيزتي كالبورنيا‪ ،‬كيف حالك؟‬

‫ع‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قالتها كالبورنيا‪ ،‬ثم �أ�شارت �آ ْت َيا �إىل �إحدى اخلادمات فاقرتبت و�صبت‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ك� ًأ�سا من النبيذ لكل منهما‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫نظرت �آ ْت َيا �إىل وجه كالبورنيا للحظة‪:‬‬
‫‪--‬ح ًّقا‪ .‬عزيزتي كالبورنيا‪� ،‬أعرف مباذا ت�شعرين‪� ،‬إنه ل�شعور فظيع �أن‬
‫انتظرت كل هذا الوقت‪ ،‬ثماين‬
‫ِ‬ ‫ي�شعر املرء بالوحدة‪ ،‬وال �أعرف ملاذا‬
‫�سنوات يا كالبورنيا‪ ،‬ثماين �سنوات من احلرب واملوت واالنتظار‪.‬‬
‫قالت كالبورنيا‪:‬‬
‫‪�--‬سوف �أنتظره ولو تط َّلب الأمر مائة عام �أخرى من االنتظار‪.‬‬
‫‪�--‬أ�سو�أ ما يف االنتظار هو الأمل‪ ،‬الأمل يجعل الأمور ثقيلة كالأوليمب‪،‬‬
‫طريق �صعب املرا�س‪ ،‬االنتظار طريق طويل ينتهي �إىل الهاوية‪.‬‬
‫ارت�شفت �آ ْت َيا من ك�أ�س النبيذ وا�ستطردت‪:‬‬
‫أنت يا‬ ‫‪--‬العمر مير ً‬
‫بخطى عجوله‪ ،‬ال يتوقف للنداءات وال للتو�سالت‪ ،‬و� ِ‬
‫�شبابك يف االنتظار‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أفنيت زهرة‬
‫عزيزتي � ِ‬
‫‪138‬‬
‫‪--‬احلب يجعلنا نرتكب احلماقات ب�صد ٍر رحب‪.‬‬
‫عينيك‪ ،‬بداخلك الع�شق وقد توغل‬
‫ِ‬ ‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪ ،‬احلب‪� ،‬أراه يف‬
‫يف روحك و�أ�صبح ي�شكل خط ًرا عليك‪.‬‬
‫‪--‬الع�شق لي�س مبر�ض‪.‬‬
‫‪--‬مل �أ َر ً‬
‫مر�ضا فتا ًكا يفتك ب�أ�صحابه مثل الع�شق؛ فموته بطيء‪ ،‬تنت�شي‬
‫به الروح‪ ،‬ويت�أجج منه القلب‪ ،‬وال تعلم �أنه مر�ض‪� ،‬إال حني ي�أتي‬
‫بالهالك‪.‬‬

‫ع‬
‫تلك احلماقة التي فعلتها با�سم احلب مل تكن �سوى فعل �أحمق من‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�ضمن كثري‪ ،‬ولكن لرمبا هذا ما يجعلنا ب�ش ًرا يف النهاية‪ ،‬تلك احلماقة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫التي نرتكبها كل فينة و�أخرى ما تذكرنا ب�أننا خمتلفون‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬يا لهذه الرائحة العظيمة!‬
‫قالها بروتو�س وهو يدخل‪ ،‬وقفت �آ ْت َيا وفتحت ذراعيها وقالت‪:‬‬
‫‪--‬عزيزي بروتو�س‪َ ،‬‬
‫تعال هنا‪.‬‬
‫اقرتب منها وعانقها ب�شدة ثم رمقها وقال‪:‬‬
‫أنت جميلة �أكرث من �أي وقت م�ضى‪.‬‬ ‫‪--‬انظري � ِ‬
‫إليك‪ِ � ،‬‬
‫قالت يف �شيء من اال�ستحياء‪ :‬بروتو�س‪ ،‬كفى‪.‬‬
‫ثم التفت �إىل كالبورنيا‪ ،‬تقدم �إليها ثم انحنى وتناول يدها وقبلها ثم‬
‫قال‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فلتحي زوجة قي�صر‪ ،‬كالبورنيا اجلميلة‪.‬‬
‫بابت�سامة باهتة قالت‪:‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك‪ ،‬بروتو�س‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫ثم خاطب �آ ْت َيا‪:‬‬
‫‪�--‬أين الطفالن؟‬
‫حال‪.‬‬ ‫‪�--‬سوف �أح�ضرهما ً‬
‫قالتها ثم ان�صرفت �إىل �أعلى لإح�ضار الولدين‪ ،‬خيم ال�صمت للحظات‬
‫حتى قالت كالبورنيا‪:‬‬
‫‪--‬متى �سوف ت�سافر �إىل الغال يا بروتو�س؟‬
‫كانت حزينة ونرباتها حزينة‪ ،‬كان الأمر جل ًّيا وال يحتاج تف�س ًريا‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫رمقها بروتو�س ب�شيء من الأ�سى وقال‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬بعد ع�شرة �أيام‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬لقد كتبت ر�سالة �إىل قي�صر‪ ،‬فهل من املمكن �أن حتملها معك �إليه؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬بكل ت�أكيد يا كالبورنيا‪.‬‬
‫و�ضعت اخلادمات الطعام على املن�ضدة‪ ،‬فاحت رائحة اللحم امل�شوي‬
‫وتطاير الدخان كال�سحاب يف ُكل مكان‪ ،‬نزل الطفالن وح�ضر اجلميع‬
‫جال�سني على املائدة‪ ،‬اقرتبت خادمة من بروتو�س‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪--‬خب ًزا‪ ،‬واثنتني من ال�سمك وقطعة من اللحم امل�شوي‪ ،‬و�آه ك� ًأ�سا كبرية‬
‫من النبيذ املعتق املح َّلى بالع�سل‪.‬‬
‫انحنت اخلادمة وابتعدت‪ ،‬وعاد بروتو�س بنظراته �إىل �أوكتافيو�س‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك يا فتى؟‬
‫نظر له �أوكتافيو�س بنظرة باهتة وقال‪:‬‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫ثم قالت �آ ْت َيا‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أخربين �أوكتافيو�س �أنه يريد ال�سفر معك �إىل الغال‪ ،‬ليبجل عمه‬
‫بالهدايا‪ ،‬فما ر�أيك يا بروتو�س؟‬
‫مل يب ُد على �أوكتافيو�س الر�ضى‪ ،‬ابت�سم بروتو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪ ،‬ال م�شكلة‪ ،‬ولكن الرحلة �إىل الغال طويلة‪ ،‬وهو �صغري وال‬
‫�أظنه �سوف يتحمل امل�شقة‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س بحدة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬ل�ست �صغ ًريا‪� ،‬سوف �أبلغ الرابعة ع�شرة قري ًبا‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬ح�س ًنا �أيها ال�شاب‪ ،‬جتهز فالرحلة من روما �إىل الغال طويلة وحتتاج‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫لرجال‪.‬‬
‫ابت�سمت �آ ْت َيا ابت�سامة تن ُّم عن الر�ضى‪ ،‬بد�أ بروتو�س يلتهم ال�سمك‪،‬‬
‫ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬لكن ما �أخ�شاه هو نتيجة املعركة الفا�صلة‪ .‬على الرغم �أنه يحا�صرهم‬
‫الآن ف�إنهم يفوقونه عددًا‪ ،‬ففيالق قي�صر �أربعني �ألف رجل‪� ،‬أما‬
‫ال�شعب الغايل فثالثة �أ�ضعاف فيالقه‪.‬‬
‫بدا القلق على وجه كالبورنيا وقالت‪:‬‬
‫‪�--‬سيحيا‪ ،‬لقد جنا ل�سنوات عديدة‪� ،‬صحيح؟‬
‫قال بروتو�س‪ :‬فلن�أمل ذلك‬
‫‪--‬هل �سيخ�سر قي�صر هذه املرة؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ال‪� ،‬أنا �أثق يف انت�صار قي�صر‪ ،‬و�إال مل �أكن �أنوي ال�سفر له‪.‬‬
‫�أردف �أوكتافيو�س‪ :‬مبنا�سبة ال�سفر‪ ،‬هل ت�سمح يل يا بروتو�س ب�س�ؤال؟‬
‫‪141‬‬
‫‪--‬بالت�أكيد يا �أوكتافيو�س‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪--‬ما الذي يحثك على ال�سفر �إىل الغال؟ �أنت ل�ست ابن قي�صر وال‬
‫وريثه‪ ،‬فما الدافع احلقيقي وراء �سفرك؟ ف�أنت يف النهاية �شيخ من‬
‫�شيوخ املجل�س‪ ،‬عمك كاتو من �أكرب �أعداء عمي قي�صر‪.‬‬
‫�ألقت �آ ْت َيا �إىل �أوكتافيو�س نظرة �شزراء وقالت بحدة‪� :‬أوكتافيو�س‪.‬‬
‫كان فط ًنا وذك ًّيا ذكا ًء �شديدً ا‪� ،‬أُعجب بروتو�س بفطانته‪ ،‬ابت�سم ثم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫قال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫‪--‬دعيه يا �آ ْت َيا‪� ،‬سوف �أجيبك �أيها ال�صغري‪ ،‬وبكل �صراحة‪ ،‬لقد �أمرين‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫جمل�س ال�شيوخ بال�سفر لأ�ستطلع �أحوال قي�صر‪� ،‬أحوال جي�شه‬

‫ع‬
‫وفيالقه‪ ،‬لكني ال �أنوي فعل ذلك‪.‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‪ ...‬ففي النهاية الآن قي�صر يف �أعني جمل�س ال�شيوخ جمرم‬
‫وخائن‪ ،‬و�أنت يا بروتو�س ملاذا ت�ساند خائن؟‬
‫�أجاب بروتو�س‪:‬‬
‫أي�ضا �أحب روما‪ ،‬فال �أر�ضى بهزمية قي�صر‪ ،‬وال‬ ‫‪�--‬أحب قي�صر ولكني � ً‬
‫�أر�ضى بحرب �أهلية‪.‬‬
‫‪--‬احلرب ال مفر منها‪.‬‬
‫‪--‬ماذا تق�صد يا فتى؟‬
‫قالها بروتو�س باهتمام‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪� :‬إن بومبايو�س ماجنو�س لي�س فيل�سو ًفا �أبدً ا‪ ،‬هو فقط‬
‫ينتظر اللحظة املنا�سبة للهجوم‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫‪--‬و�ضح يا �أوكتافيو�س‪.‬‬
‫‪�--‬إن مل يكن هذا جل ًّيا‪ ،‬ف�إن بومبايو�س يحاول م�ساندة قي�صر لأجل‬
‫�سبب واحد فقط وهو جوليا‪ ،‬ولكن �إىل متى؟ هو فقط ينتظر �أن‬
‫يعرف نتيجة املعركة الفا�صلة بني قي�صر و�شعب الغال‪ ،‬ولهذا يا‬
‫بروتو�س يريد املجل�س �إر�سالك �إىل الغال‪ ،‬وقي�صر لن يطعن �صديقه‬
‫و�أخاه؛ من �أعطاه الفيالق والقوة لغزو الغال‪ ،‬فبالتايل قي�صر لن‬
‫وجمل�س ال�شيوخ لن‬
‫ُ‬ ‫يبد�أ الهجوم‪ ،‬ولكن �إن ربح ف�سيحاول دخول روما‬
‫عاجل �أم � ً‬
‫آجل‪.‬‬ ‫ي�سمح و�ستحدث احلرب ً‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قالت كالبورنيا‪ :‬ولكن ملاذا يكره بومبايو�س زوجي قي�صر؟‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫‪--‬لي�س كرهً ا‪ ،‬بل على العك�س‪ ،‬بينهما حب الأ�صدقاء‪� ،‬إمنا تلك هي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ال�سيا�سة‪� .‬إن قي�صر �سرق من بومبايو�س كل ما ميلك‪ ،‬فيالقه وحب‬
‫العامة‪ ،‬وهذا كان ً‬
‫كفيل ب�أن ت�شتعل بينهما نار احلقد على الرغم من‬
‫كونهما �أخوين وبينهما عهد دماء مقد�س‪.‬‬

‫كانت �صغرية وكان يكربها ب�ضعف عمرها تقري ًبا‪ ،‬ولكن كانت تعرف‬
‫كيف تع�شق‪َ ،‬ع ِ�شقها بجنون‪ ،‬ولي�س ع�ش ًقا عاد ًّيا بل ك�أنها �آخر الن�ساء‬
‫على وجه الأر�ض‪ .‬كانت جوليا مبثابة طوق النجاة يف بحر عاتي الأمواج‪،‬‬
‫ال�سالم الداخلي الذي ظل يبحث عنه طوال حياته والذي مل يجده �إال‬
‫يف عينيه ويف ظلها‪ ،‬على الرغم من فارق ال�سن بينهما �أحبته جوليا‬
‫ب�شدة كما لو �أنه �شاب يف مقتبل العمر‪ ،‬كانت �صغرية وجميلة وهو يقرتب‬
‫�إىل الكهولة بخطوات ال ترتاجع قيد �أمنلة‪ ،‬كانت بي�ضاء ك�أمها تتدىل‬
‫�ضفائرها ال�سوداء وت�سيل خ�صالتها كما ت�سيل �أ�شعة ال�شم�س يف ال�سماء‪،‬‬
‫‪143‬‬
‫عيناها حتمالن زرقة البحر كما يراهما بومبايو�س دائما‪ ،‬و�ضع ر�أ�سه‬
‫على �صدرها‪ ،‬ثم �أطبق �أذنه على بطنها وقال بابت�سامة مليئة بال�سعادة‪:‬‬
‫‪�--‬إنني �أ�سمع �صوت ركالته‪� ،‬أراهن �أنه ي�سمع �صوتي الآن‪.‬‬
‫تخللت خ�صال ِته البي�ضاء ب�أناملها الطويلة ك�أنه طفل �صغري وقالت‪:‬‬
‫‪--‬يقول �أبولونيو�س �إنها فتاة‪ ،‬فهل يزعجك هذا؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬كل ما يهمني هو � ِ‬
‫أنت يا جوليا‪.‬‬

‫ع‬
‫ثم �أ�ضاف بابت�سامة حمبة‪:‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬كل ما �أمتناه هو �أن حتمل تلك ال�صغرية مالحمك‪� ،‬صفاتك‬

‫ت‬
‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫وخ�صالك‪ ،‬لون خ�صالتك احلالك ووهج عينيك الدافئ‪� ،‬أناملك‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫التي حتت�ضنني ك�أين طفل �صغري وحيد‪ ،‬يبكي‪� ،‬أنت ُكل ما �أملك يا‬

‫ع‬
‫جوليا‪.‬‬
‫�أم�سك �أ�صابعها ورمق عينيها ً‬
‫طويل وقال‪:‬‬
‫‪--‬ماذا �سوف ن�سميها؟‬
‫فكرت ً‬
‫قليل و�أردفت‪� :‬أريد ت�سميتها كورنيليا تيم ًنا با�سم �أمي‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫‪--‬هل لديك اقرتاحات؟‬
‫�أراح ر�أ�سه على قدميها وقال‪ :‬ال �أهتم باال�سم‪ ،‬طاملا �أن الطفلة منك‬
‫أنت‪.‬‬
‫� ِ‬
‫‪--‬ملاذا يا بومبايو�س؟‬
‫قال بتعجب‪ :‬ماذا تق�صدين بـ «ملاذا»؟‬
‫‪144‬‬
‫‪--‬لقد كنت الرجل الأول يف روما‪� ،‬صاحب القوة‪ ،‬املخل�ص واملخ ِّل�ص‬
‫الكبري‪ ،‬متلك الفيالق التي متكنك من غزو العامل‪ ،‬وحب �شيوخ‬
‫املجل�س الذي �أن �أردت ف�سوف يرفعك على عر�ش روما كملك �أو‬
‫�إمرباطور‪ ،‬ملاذا تخليت عن كل هذا‪ ،‬ملاذا تخليت عن جحافلك لأبي؟‬
‫بعد حلظات من التفكري‪ ،‬مل يجد �إال �إجابة واحدة‪:‬‬
‫أنت ال�سبب الوحيد والكايف الذي جعلني �أتخلى عن كل‬ ‫‪ِ �--‬‬
‫أنت يا جوليا‪ِ � ،‬‬
‫�شيء‪ ،‬املجد‪ ،‬الفيالق‪ ،‬ال�سلطة‪ ،‬وكل ما �آمل فيه الآن هو حياة هادئة‬

‫ع‬
‫وم�ستقرة‪ ،‬دقائق طويلة �أظل �أراقبك فيها‪� ،‬أم�سك بيدك و�أرمق‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عينيك بال كلل وال ملل‪ ،‬وعندما ي�أتيني املوت‪� ،‬أبت�سم ويف قرارة‬

‫ك‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫أياما يغمرين فيها حبك‪.‬‬ ‫نف�سي �أعلم �أنني قد ع�شت � ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ثم زاغت عيناه يف الفراغ للحظات ي�ستجمع فيها �شي ًئا ما‪ ،‬و�أ�ضاف‪:‬‬
‫‪--‬عندما ر�أيتك لأول مرة كنت عائدً ا من حرب �ضرو�س‪ ،‬كانت‬
‫ثورات العبيد واملتمردين ت�شتعل يف ال�شمال‪ ،‬كان قائد الثورة‬
‫يدعى �سبارتاكو�س‪ ،‬تخابط جي�شه مع فيالق ماركو�س كرا�سو�س‬
‫وا�ستطاع هزمية كرا�سو�س هزمية �شنعاء وقتله‪ ،‬فا�ضطررت للتدخل‬
‫يوما خان ًقا ميتلئ باحلرارة والدماء‪ ،‬ويف‬ ‫بجحافلي �آنذاك‪ ،‬كان ً‬
‫النهاية ا�ستطعنا ال�سيطرة على املعركة وتقابلنا �أنا وهو وج ًها لوجه‬
‫أر�ضا بعد نزال �شر�س دار بيننا‪ ،‬وقبل �أن �أ�ضع �سيفي يف‬ ‫�أ�سقطتُه � ً‬
‫عيني وقال‪� :‬إذا قتلتني الآن‪ ،‬فقد قتلت ً‬
‫رجل ح ًّرا‪� ،‬أما‬ ‫حلقه نظر يف َّ‬
‫�أنت ف�ستموت موت العبيد‪ .‬تركته يكمل كلماته �إىل النهاية‪ ،‬وغمدت‬
‫�سيفي بال تردد يف حلقه‪ ،‬كنت �صغ ًريا و�أحمق‪� ،‬شعرت حينها �أنني‬
‫رجل ح ًّرا بحق‪ ،‬لذلك �أق�سمت عندما �أعود �سوف‬ ‫و�ضيع‪ ،‬وهو كان ً‬
‫�أعتزل الدماء و�أعتزل كل �شيء‪ ،‬ول�سوف �أجد لنف�سي زاوية �أنتظر‬

‫‪145‬‬
‫فيها املوت ب�صمت‪ ،‬ولكني وجدتك من بني كل هذا الزحام يف عقلي‬
‫ي�ضمد روحي املتهالكة‪ ،‬كنت �أجد يف عينيك‬ ‫هبطت كاملالك الذي ِّ‬ ‫ِ‬
‫ال�سكون والرباءة‪ ،‬وجدت ذراعني ت َُ�ض َّما ِن ِني كالطفل ال�صغري‪،‬‬
‫يوما‪.‬‬
‫ذراعني رمبا �أموت بينهما ً‬
‫كنت �ستختار؟»‬‫‪�«--‬إذا عدتَ بالزمن‪ ،‬فماذا َ‬
‫ق َّبل بومبايو�س يدها و�أردف بال تردد‪:‬‬
‫‪�--‬أ�ؤكد لك يا جوليا �أنني �سوف �أختارك �أنت‪� ،‬أنا رجل ال يحب �أن يندم‬

‫ع‬
‫على قراراته‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬حتى قرار �إعطاء �أبي جحافلك وفيالقك؟‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬مل �أندم للحظة �أنني �أعطيت يوليو�س قي�صر جحافلي ليخو�ض بها‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫احلرب يف الغال‪ ،‬هو �صديق يل وبيننا عهد دماء مقد�س‪ ،‬والأهم من‬

‫ع‬
‫هذا �أنه والدك‪.‬‬
‫ابت�سمت جوليا‪ ،‬كانت را�ضية و�سعيدة‪ ،‬كم كانت حتب �أن ينا�ضل‬
‫بومبايو�س من �أجل حبها كالأ�ساطري واحلكايات القدمية‪ ،‬ومل ميانع‬
‫هو َق ْيد �أمنلة‪ ،‬ولو كان �سيخو�ض حروبه من جديد من �أجلها‪ ،‬من �أجل‬
‫�إ�سعادها‪ ،‬من �أجل االبت�سامة التي متلأ وجهها‪ .‬كانت هي نافذة احلياة‬
‫والهواء الذي يتنف�سه والدماء التي ت�سري بني عروقه‪ ،‬وهكذا يجعله‬
‫احلب �ضعي ًفا و�أحيا ًنا �أحمق‪ ،‬ذلك الذي يحوله من حمارب �شر�س يجابه‬
‫اجلبابرة �إىل طفل يف زمرة الأوالد‪ ،‬جمرد طفل كل ما يتمناه هو عناق‬
‫طويل �سرمدي‪ ،‬و�صدر يختبئ داخله من الوحدة التي ت�شمر �سواعدها‬
‫كوح�ش ي�أكل الأرواح ال�شاردة‪.‬‬
‫اعتدل بومبايو�س وقال ب�شيء من الرتدد‪:‬‬
‫‪--‬ولكن ال �أعلم‪ ،‬ملاذا يفعل يوليو�س قي�صر هذا‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫ت�ساءلت جوليا‪ :‬ماذا فعل �أبي يا بومبايو�س؟‬
‫‪�--‬إنه يتحدى جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬خرق القوانني وال �أعرف �إىل متى �سوف‬
‫�أ�ستطيع �أن �أدافع عنه �أمام �شيوخ املجل�س‪ ،‬فجميع ال�شيوخ بال‬
‫أنت‪ ،‬تقول‬
‫ا�ستثناء يعلمون �أنني �أت�ساهل مع يوليو�س قي�صر لأجلك � ِ‬
‫عيونهم ما ال جتر�ؤ �أل�سنتهم على النطق به‪.‬‬
‫اقرتبت منه وقالت‪� :‬أعلم كم هذا �صعب عليك يا بومبايو�س‪ ،‬لكن‬
‫�أرجوك ال تتخ َّل عن �أبي مهما حدث‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لن �أتخلى عن يوليو�س قي�صر حتى يتخلى هو عن روما‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫تقدم خادم وانحنى ثم قال‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪�--‬سيدي القن�صل‪� ،‬إن كاتو باخلارج ومعه بروتو�س وي�ست�أذنان بالدخول‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫نظر بومبايو�س �إىل جوليا وقال‪:‬‬
‫‪--‬كاتو‪ .‬ما الذي جاء به هنا الآن؟‬
‫قالت جوليا بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬يبدو �أن �شيوخ املجل�س واقعون يف غرامك وال يريدون �أن يبتعدوا‬
‫عنك ولو لليلة واحدة‪.‬‬
‫بادلها بومبايو�س بابت�سامة وقال للخادم‪:‬‬
‫‪--‬دعهم يتف�ضلون الآن‪.‬‬
‫خرج اخلادم ومل يلبث دقيقة حتى تقدم ويف ذيله كاتو وبروتو�س‪ ،‬قال‬
‫بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل يا كاتو‪َ ،‬‬
‫تعال �إىل هنا‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫اقرتب كاتو وجل�س‪ ،‬ف�أردف بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك �أيها القن�صل؟‬
‫‪--‬بخري �أيها الفتى‪ ،‬اجل�س‪.‬‬
‫جل�س بروتو�س ثم نظر �إىل جوليا و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك يا جوليا؟‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬

‫ع‬
‫ثم رمقته وقالت‪ :‬يا للآلهة! �أنت مل تتغري �إطال ًقا يا بروتو�س‪ ،‬ك�أنني‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫تركتك البارحة‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ابت�سمت ثم قالت‪� :‬شكرا لك‪.‬ب ل‬


‫ً‬ ‫‪--‬للأ�سف‪ ،‬ل�ستُ‬

‫ر‬
‫أنت فجميلة دائ ًما‪.‬‬‫جميل كما العادة‪� ،‬أما � ِ‬

‫زيع‬ ‫والتو‬
‫ً‬
‫نطق بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا هناك يا كاتو؟ ما الذي �أح�ضرك الآن؟‬
‫‪--‬جئت للتحدث �إليك‪ ،‬ف�أنت مل حت�ضر جل�سة اليوم‪.‬‬
‫و�ضع بومبايو�س يده على بطن جوليا و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬كما ترى �أق�ضي بع�ض الوقت مع زوجتي وابني‪.‬‬
‫‪--‬علينا التحدث يا بومبايو�س‪.‬‬
‫قالها كاتو و�ألقى نظرة عابرة و�سريعة �إىل جوليا‪.‬‬
‫نظر بومبايو�س �إىل جوليا و�أردف‪:‬‬
‫�سمحت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪--‬اتركينا على انفراد للحظة يا جويل �إن‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫‪--‬ثم نظرت �إىل كاتو بحنق وبابت�سامة متخرثة وقالت‪:‬‬
‫‪--‬ولو �أين �أعرف ما �سوف يقوله كاتو‪.‬‬
‫قالتها بانزعاج وغادرت‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪ :‬حتدث يا كاتو‪� ،‬إنني �أ�ستمع‪.‬‬
‫ً‬
‫و�شمال وت�أكد �أن ال �أحد ي�ستمع وبعد �أن اطمئن‪ ،‬قال‬ ‫نظر كاتو ميي ًنا‬
‫ب�صوت خفي�ض‪:‬‬
‫‪�--‬إن بروتو�س �سوف ي�سافر �إىل الغال‪ ،‬ليوليو�س قي�صر‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قال بومبايو�س لربوتو�س‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪�--‬صحيح يا فتى؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬نعم �أيها القن�صل‪ ،‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫‪--‬وملاذا تريد الذهاب �إىل قي�صر الآن‪ ،‬ومل يتم ح�سم معركته بعد؟‬
‫�أجاب بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬يريد بع�ض ال�شيوخ تفقد �أحوال يوليو�س قي�صر؛ ما �سوف يتبقى‬
‫من فيالقه وقواته‪ ،‬وما خطوته التالية‪ ،‬هل �سيتقدم ملا بعد الغال �أم‬
‫�سوف يعود �إىل روما‪.‬‬
‫‪--‬هذا ما يقوله ال�شيوخ فماذا تقول �أنت؟‬
‫‪--‬كان بومبايو�س يعلم قوة العالقة بني يوليو�س قي�صر وبروتو�س‪،‬‬
‫وموافقة بروتو�س ملجل�س ال�شيوخ �أثارت اخلاطر بداخله‪.‬‬
‫قليل قبل �أن يجيب‪:‬‬‫فكر بروتو�س ً‬
‫‪--‬ب�صراحة �أيها القن�صل‪� ،‬سوف �أ�سافر الغال لأنني �أريد ال�سفر ولي�س‬
‫لأوامر �شيوخ املجل�س‪� ،‬سوف �أنقل الأخبار كما يريدون بالفعل‪ ،‬ولكن‬
‫ما ال ي�ضر قي�صر وير�ضى به جمل�س ال�شيوخ‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫قال كاتو با�ستياء‪:‬‬
‫‪--‬مل �أظن �أنك تخون روما من �أجل خائن‪.‬‬
‫‪--‬جمل�س ال�شيوخ لي�س روما يا كاتو‪.‬‬
‫‪--‬لي�س روما نعم‪ ،‬ولكن هو �صوت ال�شعب وال�شعب هو من يحكم‪.‬‬
‫�أردف بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إذن �أفهم من كلماتك يا بروتو�س �أنك يف جانب قي�صر �إذا ربح حربه‬

‫ع‬
‫وتوجه �صوب روما بفيالقه وقواته احلربية؟ �أال تعتقد �أن تلك خيانة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�ستحق العقاب؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬نعم �أيها القن�صل‪� ،‬إنها خيانة عظمى بكل ت�أكيد‪ ،‬ولكن دعنا نرتيث‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وال ن�سبق الأحداث وال نلقي االتهامات جزا ًفا‪ ،‬حتى نعرف ما يدور‬

‫ع‬
‫يف عقل قي�صر‪.‬‬
‫�أردف كاتو بحنق‪:‬‬
‫‪--‬نحن نعرف ماذا يدور يف عقل قي�صر‪ ،‬نعرف فيما يفكر‪ ،‬وخطواته‬
‫التالية هي قيادة فيالقه والدخول بها �إىل روما‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬لعل بروتو�س حمق يا كاتو‪.‬‬
‫‪�--‬إنه �صغري‪ ،‬ال يفقه من الأمور �شي ًئا‪ ،‬وغدً ا عندما يعود قي�صر بفيالقه‬
‫�سوف يدرك احلقيقة املرة‪� ،‬أن قي�صر ما هو �إال خائن خرق قوانني‬
‫روما املقد�سة التي مل يجر�ؤ �أحد على خرقها بعد الديكتاتور �سوال‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪150‬‬
‫�صحيحا يا بروتو�س وعاد قي�صر �إىل روما‬
‫ً‬ ‫‪�--‬إن كان ما يقوله كاتو‬
‫بقوات ع�سكرية‪ ،‬وبالطبع قد حاز حب النا�س والذهب والفيالق‪ ،‬ثم‬
‫وعد النا�س باملدينة الفا�ضلة‪ ،‬فماذا �سوف يكون موقفك �آنذاك؟‬
‫فكر بروتو�س قبل �أن يجيب‪:‬‬
‫‪--‬هذا م�ستحيل �أيها القن�صل‪ ،‬حتى يف زمن اجلبابرة �سيكون ذلك‬
‫ً‬
‫م�ستحيل‪ ،‬فال�س�ؤال هنا‪ :‬كيف تَ�ص َّور �أفالطون املدينة‬ ‫الأمر‬
‫الفا�ضلة؟ و َمل مل يحاول حتى �أن يبني حج ًرا واحدً ا فيها؟ َمل كانت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فقط يف خميلته وبني �سطوره وكتاباته فقط؟ بب�ساطة لأن ما كان‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يف خميلته مثايل لدرجة ال�سذاجة‪ ،‬فما مت تخيله مت تخيله باملنطق‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫اخليايل البحت‪ ،‬و�إن ذلك املنطق يحمل ً‬

‫ش‬
‫خلل عظي ًما‪ ،‬وين�ص على‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�أن الب�شر ت�سيطر عليهم قوة اخلري املطلقة‪ ،‬وبفر�ض �أن تلك املدينة‬
‫موجودة‪ ،‬ففي فرتة وجيزة جدًّا �سيجتاحها اجلهل واجلهالء‪،‬‬
‫�سيطمع فيها كل حاكم وكل �سيا�سي‪ ،‬وك�أي عامل وك�أي دولة ثمة ب�شر‬
‫بال ذكاء �أو موهبة يتقلدون منا�صب قوية ومهمة‪ ،‬و�سوف يكون هذا‬
‫مناف ًيا للمنطق اخليايل امل�ستخدم يف تخيل املدينة‪ ،‬وهناك قاعدة‬
‫يف املنطق الواقعي تن�ص على �أن القوة يف �أيدي غري الأكفاء ال تثمر‬
‫�إال خرا ًبا‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬وبر�أيك متى ينجح الرجل يف بناء مدينة فا�ضلة‪ ،‬ولو حتى لفرتة‬
‫وجيزة؟‬
‫علم بروتو�س ما يرمي �إليه بومبايو�س‪ ،‬فكر ً‬
‫قليل ومل يجد مف ًّرا من‬
‫الإجابة‪:‬‬
‫‪151‬‬
‫‪--‬عندما ينفرد الرجل باحلكم املطلق للدولة‪ ،‬ي�سن القوانني كما‬
‫ي�شاء‪ ،‬يحكم باملوت كما ي�شاء‪ ،‬وباحلياة كما ي�شاء‪ ،‬هكذا لن تتداول‬
‫ال�سلطة لأكرث من رجل واحد‪ ،‬وبا�ستطاعته بناء املدينة الفا�ضلة كما‬
‫ي�شاء‪ ،‬ب�شرط �أن يحمل ذلك ال�شخ�ص ال�صفات الأ�سا�سية والنبيلة‬
‫للإن�سان‪.‬‬
‫ظفر بومبايو�س بابت�سامة وقال‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا ما كنت �أريد �سماعه منك‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ثم ا�ستدرك بروتو�س وقال‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬ولكن �أيها القن�صل �صدقني‪ ،‬ال�سلطة املطلقة عندما ت�أتي‪ُ ،‬ت�ضر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫معها املوت دائ ًما‪.‬‬

‫ع‬
‫ت�ساءل بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬كيف؟‬
‫�أجاب بروتو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن ال�سلطة املطلقة مل تخلق للب�شر‪ ،‬ومن يحاول احل�صول عليها‬
‫يلقَ الهالك احلتمي‪ ،‬فهي كال�سراب يف ال�صحراء‪ ،‬يرك�ض وراءها‬
‫النا�س‪ ،‬ويرك�ضون بال توقف‪ ،‬ويف النهاية ميوتون ً‬
‫عط�شا‪.‬‬
‫ابت�سم بومبايو�س وقال لكاتو‪:‬‬
‫‪--‬على الأقل يف النهاية �سيغدو الفتى فيل�سو ًفا واعدً ا‪.‬‬
‫ت�سرب ال�صراخ من وراء احلوائط‪ ،‬كان ال�صوت جل ًّيا وم�ألو ًفا لدى كل‬
‫اجلال�سني‪ ،‬كان �صوت جوليا‪ ،‬لوهل ٍة �أفعم بومبايو�س و�سوا�س مقلق‪ ،‬جاءت‬
‫اخلادمة م�سرعة وقالت‪:‬‬
‫‪152‬‬
‫‪�--‬سيدي القن�صل‪� ،‬إن ال�سيدة جوليا تلد الآن‪.‬‬
‫ارتبك بومبايو�س للحظات وقال‪:‬‬
‫‪--‬ا�ستد ِع �أبولونيو�س ً‬
‫حال‪.‬‬
‫اجته بومبايو�س ب�سرعة �إىل م�ضجعها وتبعه كاتو وبروتو�س‪ ،‬كانت‬
‫م�سجاة على ال�سرير ت�صرخ وتتعرق‪ ،‬وعليها و�شاح �أبي�ض بات‬ ‫�أمامه َّ‬
‫خم�ض ًبا بالدماء‪ ،‬كانت تنزف ب�شدة وب�شراهة‪ ،‬اقرتب منها و�أم�سك يدها‬
‫وقال بقلق عظيم‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬سوف تكونني بخري‪� ،‬أعدك‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ابت�سمت جوليا وقالت ب�أنفا�س ترتاجع‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫‪--‬ال تكذب‪� ،‬‬

‫ت‬
‫وبعد دقائق ح�ضر �أبولونيو�س‪ ،‬وابتعد بومبايو�س و‬
‫تكذب‪.‬‬ ‫عندما‬ ‫أعرفك‬

‫خطوتنيزيع‬
‫ترتكيني وحيدً ا‪.‬‬ ‫ال‬ ‫جوليا‪،‬‬ ‫يا‬ ‫انفلتت منه الدموع من دون �إرادة‪ :‬ال‬
‫للوراء‪،‬‬
‫كانت ت�صرخ وكل �صرخة كانت كاملطرقة فوق ر�أ�سه‪ ،‬مل ي�ستطع التحمل‬
‫�أكرث من هذا وان�سحب خارج الغرفة‪ ،‬جل�س على الأر�ض كالطفل ال�صغري‪،‬‬
‫�صراخا ومعها يزداد القلق واال�ضطراب الذي يهدم روحه كزلزال‬ ‫ً‬ ‫تزداد‬
‫عات‪� ،‬ضرب ال�صمت كاتو وبروتو�س‪ ،‬مل تكن الكلمات لتجدي نف ًعا �أبدً ا يف‬ ‫ٍ‬
‫تلك اللحظة‪� ،‬أطلقت جوليا �صرخة �أخرية عالية تردد �صداها يف الأركان‬
‫و�ساد ال�صمت‪� ،‬صمت كالوح�ش ي�أكل الهواء والأنفا�س والآمال‪ ،‬حلظات ثم‬
‫خرج �أبولونيو�س من الغرفة‪ ،‬انتف�ض بومبايو�س واق ًفا‪ ،‬كان وجه الطبيب‬
‫�أبولونيو�س منطف ًئا ومكفه ًّرا‪ ،‬نظر �إىل بومبايو�س وقال ِب� ًأ�سى‪:‬‬
‫‪َّ --‬‬
‫تعازي لك �أيها القن�صل‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫ظل واق ًفا لدقيقة ي�ستوعب كلمات �أبولونيو�س امل�شئومة‪ ،‬تقدم بخطوات‬
‫متداع‪ ،‬مل�س الأ�صابع الباردة‪،‬‬
‫ثقيلة �إىل الغرفة‪ ،‬اقرتب منها و�سقط كجبل ٍ‬
‫ورمق الوهج ال�شاحب الذي يهب من عينيها‪ ،‬كانت حريته عميقة‪ ،‬ودموعه‬
‫ال تكاد تنفد‪ ،‬يبكي ب�شدة‪ ،‬يئن كالذئب‪ ،‬ي�صرخ كالوح�ش‪ ،‬و�ضع ر�أ�سه‬
‫على �صدرها وغا�ص فيها لآخر مرة‪ ،‬ق َّبلها لآخر مرة‪ ،‬احت�ضنها ب�شدة‬
‫لآخر مرة‪ ،‬لآخر مرة يداعب فيها تلك اخل�صالت‪ ،‬لآخر مرة يلم�س فيها‬
‫وجنتيها بحنان‪.‬‬

‫ع‬
‫«رحل اجلميع‪ ،‬ويظل احلزن �سرمد ًّيا‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫كان و ً‬
‫جال�ساال على عر�ش مت‬
‫ت‬
‫ع‬ ‫و‬
‫وبخ�صالت بي�ضاء نا�صعةزي‬
‫و�شاحه الأحمر‪ ،‬كان يرتدي ردا ًء‬ ‫الهواء‬ ‫بالكاد �ساعة بعد الغ�سق لفح‬
‫ذا نقب ٍة طويلة ح َّلقت خلفه من الهواء العا�صف‪،‬‬
‫زينها‬ ‫ت�شيده يف العراء على الأرا�ضي الغالية‪،‬‬
‫كهل‪ ،‬كان ج�سده مييل �إىل‬ ‫على ر�أ�سه الإكليل الذهبي‪ ،‬مل يكن �شا ًّبا وال ً‬
‫هرما بل‬
‫النحافة‪ ،‬وعلى الرغم من �سنني عمره اخلم�سني‪ ،‬مل يكن ج�سده ً‬
‫كان قو ًّيا‪ ،‬مل يحمل الكثري من التجاعيد‪ ،‬كان ن�ضر الوجه‪ ،‬يحمل هيبة‬
‫عظيمة يف جل�سته و�صوته و�صمته‪ ،‬كانت نظراته حادة وعيناه ذئبيتني‬
‫ً‬
‫طويل ومدب ًبا‪ ،‬وحاجباه معقو َدين‪،‬‬ ‫متيالن للأ�س َود املنطفئ‪ ،‬و�أنفه‬
‫وجبهته عري�ضة‪.‬‬
‫ارت�ص اجلنود يف �صفوف من�ضبطة �صامتة حول يوليو�س قي�صر‪� ،‬أ�شار‬‫َّ‬
‫ماركو�س �أنطونيو�س �إىل اجلنود فتقدموا به مقيدً ا من يديه وقدميه‪ ،‬كان‬
‫يرتدي الأ�س َود من قمة ر�أ�سه حتى �أخم�ص قدميه‪ ،‬وعلى ر�أ�سه يرتدي‬
‫خوذة م�صنوعة من ر�أ�س ذئب �شمايل عمالق‪ ،‬كان خم�ض ًبا بالدماء‬
‫‪154‬‬
‫والتعب‪ ،‬اقرتب منه قائد الفيالق ال�شمالية �ألك�سيو�س كورنيليو�س وفك‬
‫أر�ضا بخ�شونة و�أخرج �سيفه من غمده وا�ض ًعا �إياه على‬ ‫وثاقه‪ ،‬ثم طرحه � ً‬
‫عنقه ثم رمق قي�صر بابت�سامة طفيفة و�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أمامك الآن‪ ،‬فر�سن جرتيك�س‪ ،‬ابن كلتيل وكبري قبيلة �أفريين‪ ،‬مفتعل‬
‫الثورة يف �إلي�شيا‪ ،‬وملك بالد الغال كما يلقبه البع�ض‪ ،‬ماذا تريد �أن‬
‫تفعل به �أيها القن�صل العظيم؟‬
‫وتقدم جنديان وجرداه من مالب�سه حتى �أ�صبح عار ًيا كما ولدته �أمه‪،‬‬

‫ع‬
‫مل يكن فر�سن جيرتيك�س كما توقع يوليو�س قي�صر �أبدً ا‪ ،‬كان �شا ًّبا يف عقده‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الثالث‪ ،‬ومل يكن مل ًكا كما يقولون بل كان جند ًّيا عات ًيا وحد القبائل حوله‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يف ع�صبة ا�ستع�صت على جحافل يوليو�س قي�صر لثالثة �أ�شهر كاملة‪ ،‬رمق‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يوليو�س قي�صر ج�سده العاري وابت�سم ابت�سامة هادئة و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تظن �أين فاعل بك �أيها امللك فر�سن جرتيك�س؟‬
‫نظر له فر�سن جرتيك�س للحظات ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬عدوك هو رجل واحد‪ ،‬رجل قوي هزمه رجل �أقوى منه‪ ،‬يقف هذا‬
‫الرجل �أمامك الآن عا ٍر كما ولدته �أمه‪ ،‬ذليل كما مل يذق الذل من‬
‫لك قي�صر‪ ،‬يف تلك‬ ‫قبل‪� ،‬ضعيف كما مل يكن من قبل‪� ،‬أنا �أ�ست�سلم َ‬
‫احلرب لقد تتوقنا للحرية كما تتوقتم �أنتم‪ ،‬حاولنا �أن ندافع عن‬
‫�أنف�سنا بكل ما �أوتينا من قوة‪ ،‬ن�سا�ؤنا ورجالنا قد لقوا حتفهم من‬
‫لك حياتي يا قي�صر‪ ،‬من �أجل �أن ترتك ما تبقى منا‬ ‫�أجلنا‪� ،‬أقدم َ‬
‫�أحياء‪� ،‬إذا مات ما تبقى منا‪ ،‬فلن يبقى �شيء من بالد الغال �إال‬
‫حمو ا�سمنا من التاريخ‪.‬‬‫ظالل �سوداء كالأ�شباح‪ ،‬و�سيتم ْ‬
‫ثم انبطح � ً‬
‫أر�ضا يف ذلة ومهانة وا�ستطرد‪:‬‬
‫‪155‬‬
‫‪�--‬أتو�سل �إليك يا قي�صر‪ ،‬ا�ستع ِبد �شعبي �أن �أردت‪ ،‬ولكن اتركهم �أحيا ًء‪.‬‬
‫ا�سرت�سل قي�صر يف حديثه‪ ،‬ونظر �إىل امللك املتداعي �أمامه‪� ،‬ساد‬
‫ال�صمت للحظات ترقب فيها اجلميع كلمات يوليو�س قي�صر‪� ،‬أردف بعد‬
‫هنيهة‪:‬‬
‫‪�--‬سوف �أدع �شعبك يعي�ش �أيها امللك فر�سن جرتيك�س‪.‬‬
‫ثم تقدم من ورائه حامل ال�شعار‪ ،‬والذي كان يتمثل يف الن�سر الذهبي‪،‬‬
‫ع�صا طويلة م�صبوبة بالف�ضة‪ ،‬وعلى ر�أ�سها مثبت ن�سر منق�ض‬ ‫كانت ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫من الذهب اخلال�ص وزنه تالنتان‪� ،‬أدناه احلار�س من فر�سن جرتيك�س‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اقرتب الأخري وانحنى وق َّبل الن�سر الذهبي معل ًنا الهزمية النهائية للقبائل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫الغالية‪ ،‬جرد اجلنود ال�سيوف من �أغمادها وطفقوا ي�ضربون بها على‬

‫ع‬
‫دروعهم ويهتفون بحرارة �شديدة‪« :‬يحيا قي�صر العظيم‪ ،‬يحيا قي�صر‬
‫العظيم‪».‬‬
‫�أ�شار قي�صر �إىل ماركو�س �أنطونيو�س فتقدم ومعه جنديان وحملوا‬
‫فر�سن جرتيك�س �إىل زنزانته‪ ،‬ثم وقف قي�صر واجته نحو جواده‪ ،‬كان‬
‫وعال‪ ،‬انحنى �أحد العبيد على يديه وركبتيه‬ ‫جواده � ً‬
‫أ�صيل‪ ،‬لونه �أبي�ض ٍ‬
‫أر�ضا مبحاذاة اجلواد لي�ستطيع قي�صر امتطاء �صهوة فر�سه ب�سهولة‪،‬‬‫� ً‬
‫ركب قي�صر جواده وما زال اجلنود يرددون با�سمه يف الأفق‪ ،‬وقف �أمام‬
‫فيالقه ورفع يده ف�صمت اجلميع‪ ،‬قال بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬اليوم هو االنت�صار الكبري‪ ،‬بالد الغال �أ�صبحت لنا الآن‪ ،‬والف�ضل‬
‫يعود لكم‪� ،‬أنتم اجلنود الذين اختارتهم الآلهة ليحققوا �إرادتها‬
‫يف الأر�ض‪ ،‬و�إرادة الآلهة هي �أن تكون روما هي املنت�صرة‪� ،‬أنتم مل‬
‫تن�صروا يوليو�س قي�صر فح�سب‪ ،‬بل ن�صرمت روما‪ ،‬فاحتفلوا اليوم‬
‫‪156‬‬
‫كما ت�شاءون‪ ،‬كلوا الطعام كما ت�شاءون‪ ،‬ا�شربوا النبيذ وكونوا �سكارى‬
‫كما ت�شاءون‪.‬‬
‫�سكت قي�صر وارتفعت هتافات اجلحافل لتجتاز الأفق‪ ،‬توجه �إىل‬
‫خمدعه‪ ،‬كان خمدعه عبارة عن خيمة ولكنها مل تكن خيمة عادية‪،‬‬
‫ت�شيدت بالأخ�شاب بالكامل ومت ت�صميمها لتبدو كالبيت احلقيقي‪،‬‬
‫يف الداخل تو�شحت الأرا�ضي واحلوائط بالأحمر والذهبي‪ ،‬كان اللون‬
‫الذهبي يلمع مع ال�شموع املثبتة يف احلوائط والأر�ض‪ ،‬وبجانب ال�شموع‬
‫مكث ر�أ�س غزال مثبت يبث يف الأج�ساد الق�شعريرة‪ ،‬جل�س قي�صر على‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫مكتبه ومن خلفه الرايات املعلقة ومنقو�ش عليها الإكليل الذهبي ومن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫داخله الن�سر املنق�ض‪ .‬على مكتبه تبعرثت اللفائف والر�سائل وخطط‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫املعارك‪ ،‬كان �سكار واق ًفا ينتظر دخول قي�صر‪ ،‬كان �أحد العبيد املثقفني‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫يحبه قي�صر ويعطيه �صالحيات لي�ست للعبيد‪ ،‬كان معل ًما جلوليا‪ ،‬ا�شرتاه‬
‫قي�صر عندما كان يف املنفى يف ع�صر �سوال‪ ،‬عندما كان مبملكة بيثينيا‪،‬‬
‫ومع مرور الوقت �أعجب قي�صر بفل�سفته وحاز الأخري ثقته‪ ،‬اقرتب من‬
‫يوليو�س قي�صر‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬كان خطا ًبا مله ًما ح ًّقا‪ ،‬ولكن هذا لن ي�سكتهم للأبد‪ ،‬لو كنت جند ًّيا‬
‫لكنت قل ًقا الآن و�أكرث من �أي وقت م�ضى‪.‬‬
‫نظر قي�صر ل�سكار باهتمام وقال‪ :‬ماذا تق�صد؟‬
‫‪--‬ما �أق�صده جلي �إىل �أبعد حد‪ ،‬ثماين �سنوات من احلرب‪ ،‬من الدموع‬
‫والدماء‪ ،‬من الطني والربد‪ ،‬وانتهت احلرب الآن‪ ،‬لو كنت جند ًّيا فما‬
‫�س�أفكر به هو الذهاب ثم الذهاب �إىل عائلتي �أو زوجتي �أو ع�شيقتي‪،‬‬
‫ال يهم �سبب العودة‪ ،‬كل ما يهم �أنني مللت و�أحتاج العودة �إىل دياري‪.‬‬
‫‪--‬تق�صد �أن يفر اجلنود؟‬
‫‪157‬‬
‫‪--‬هم الآن يعمي الن�صر �أعينهم‪ ،‬كل ما يحتاجونه هو �أن يفكروا‬
‫خال من الكحل‪ ،‬عليك بالتفكري يف ماذا‬ ‫للحظات �صغرية بعقل ٍ‬
‫�ستفعل‪.‬‬
‫قال قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬اجلنود اجليدون ال يهربون �أبدً ا من احلرب‬
‫‪--‬لكنهم ميلون‪ ،‬ويخافون‪ ،‬ولن يتبعك �أحد منهم �إىل روما‪.‬‬
‫‪�--‬سيفعلون‪ ،‬ولكنهم يحتاجون �إىل دافع �صغري‪.‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬أي دافع؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قالها �سكار ثم دخل ماركو�س �أنطونيو�س جل�س �أمام قي�صر ثم قال‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬ماذا �ستفعل بفر�سن جيرتيك�س‪ ،‬هل �ستقتله؟‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬لي�س ً‬

‫ع‬
‫متاما‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد قي�صر‪:‬‬
‫‪�--‬أكره �أن ميوت �أحد الرجال اجليدين هبا ًء‪.‬‬
‫ت�ساءل ماركو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ماذا �ستفعل؟‬
‫�أجاب قي�صر‪� :‬سوف �أر�سله �إىل روما‪ ،‬قري ًبا‪.‬‬
‫قال �سكار‪ :‬تر�سله �إىل روما‪ .‬ملاذا؟‬
‫ابت�سم قي�صر وقال‪:‬‬
‫‪�--‬سوف تعرف كل �شيء يف وقته �أيها العبد الرثثار‪.‬‬
‫دخل حار�س وانحنى لقي�صر و�سلمه لفافة و�أردف‪:‬‬

‫‪158‬‬
‫‪�--‬أخبار من روما �أيها القن�صل‪.‬‬
‫تناولها يوليو�س قي�صر‪ ،‬فك اللفافة وف�ض ال�شمع‪ ،‬فتحها وم�شت �أعينه‬
‫على احلروف والكلمات‪ ،‬ابت�سم ابت�سامة طفيفة ثم قر�أ بتمعن‪:‬‬
‫‪--‬من كالبورنيا �إىل زوجي العزيز قي�صر‪ ،‬لقد مرت ثماين �سنوات‬
‫طويلة‪ ،‬ثماين �سنوات �أذوق فيها احلرمان كل يوم‪� ،‬أذوق فيها مرارة‬
‫البعد عنك‪ ،‬ولكني ما زلت �أنتظر‪ ،‬و�أعلم �أن يوليو�س قي�صر ال ينكث‬
‫وعوده �أبدً ا‪ ،‬هنا يف روما‪ ،‬يهتف النا�س با�سمك يف ال�شوارع‪ ،‬يتحدثون‬

‫ع‬
‫عنك ب�إعجاب و�إجالل كبريين‪ ،‬وهناك من يهتف با�سم العظيم‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وابن الآلهة‪ ،‬و�أحيا ًنا ابن فينو�س‪ ،‬ولكن الأ�شياء اجلميلة عادة ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫تكون كاملة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫تخرثت ابت�سامة يوليو�س قي�صر كما يتخرث احلليب الفا�سد ثم �أكمل‪:‬‬
‫‪--‬و�إنه وبحزن �شديد �أكتب هذه الكلمات‪ ،‬لقد و�ضعت جوليا مبك ًرا‪،‬‬
‫كان الأطباء هناك وفعلوا ما ميكن فعله لإنقاذها هي وطفلها‪ ،‬ولكن‬
‫الطفل كان �ضعي ًفا ولقي حتفه‪� ،‬أما جوليا فظلت تنزف ب�شدة حتى‬
‫نبيل وحمل الكثري‬ ‫انقطعت �أنفا�سها‪ ،‬لقد كان الطفل ي�شبهك‪ ،‬كان ً‬
‫مما حتمل‪� ،‬أما بومبايو�س فيبكي كالأطفال‪ ،‬يئن وي�صرخ‪ ،‬ال يفارق‬
‫�ضريحها ويحافظ على الأكاليل الطازجة اخل�ضراء‪ ،‬يبكي مرا ًرا‬
‫رجل حزي ًنا كحزن‬ ‫وتكرا ًرا‪ ،‬هائ ًما ال يكف عن البكاء والندم‪ ،‬مل �أ َر ً‬
‫بومبايو�س �أبدً ا‪ ،‬على �أمل اللقاء‪ ،‬زوجتك كالبورنيا‪.‬‬
‫�أغلق يوليو�س قي�صر اللفافة‪ ،‬يف تلك اللحظة كان يريد �شي ًئا واحد‬
‫فقط‪ ،‬كان يريد البكاء وال�صراخ ك�أي رجل �آخر‪ ،‬ولكن يف تلك اللحظة‬
‫مل يكن ك�أي رجل �آخر‪ ،‬وال ميلك رفاهية البكاء‪ ،‬بل كان جند ًّيا وقائدً ا‬
‫مطروحا �أمامه‪،‬‬‫ً‬ ‫جلحافل ال يعرف رجالها الرحمة‪ ،‬كان البكاء لي�س خيا ًرا‬
‫‪159‬‬
‫جاهد تلك الرغبة املجحفة بالبكاء‪ ،‬وب�شيء من عدم الإرادة انفلتت من‬
‫عينيه دمعة‪ ،‬كان ي�شعر باحلزن والغ�ضب؛ باحلزن على فقدها‪ ،‬وبالغ�ضب‬
‫العارم على نف�سه لأنه تركها لثماين �سنوات دون �أن يراها‪.‬‬
‫م�سح دمعته املتدلية‪ ،‬حاول �أن يبدو طبيع ًّيا بقدر الإمكان ولكن وجهه‬
‫كان يقول كل كلمات الر�سالة امل�شئومة‪ ،‬ومل�س هذا �سكار يف عينيه‪ ،‬كان‬
‫متاما‪ ،‬حتول من مبت�سم �إىل كئيب و�صامت‪� ،‬شردت‬ ‫وجه قي�صر خمتل ًفا ً‬
‫عينا قي�صر يف الأفق للحظات‪ ،‬ثم قطع �شروده �سكار‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬قي�صر‪ ،‬ماذا هناك؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ابتلع قي�صر ريقه‪ ،‬وو�ضع اللفافة على مكتبه وقال‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬ابنتي جوليا‪ ،‬قد ماتت �أثناء والدتها‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫كان اخلرب كال�صاعقة على ر�أ�س �سكار‪ ،‬فقد كان معلمها يف الفل�سفة‬
‫منذ �صغرها‪ ،‬كربت بني يديه و�ش َّبت ك�أنها ابنته‪ ،‬وكان ماركو�س �أنطونيو�س‬
‫ي�ستمع ومل ي�ستوعب جيدً ا ما مت �إلقا�ؤه‪ ،‬ظل اجلميع �صامتني للحظات‬
‫ي�ستوعبون فيها اخلرب‪ ،‬قال ماركو�س �أنطونيو�س ِب� ًأ�سى‪:‬‬
‫‪�--‬أقدم �إليك عزائي ال�شديد‪.‬‬
‫�س�أل �سكار‪ :‬والر�ضيع؟‬
‫�أجاب قي�صر‪ :‬لقي حتفه بعد عناء طويل‪.‬‬
‫�صمتوا‪ ،‬فلم تكن هناك كلمات موا�ساة منا�سبة لتلك الكارثة‪.‬‬
‫يف الليل �أ�شعل اجلنود النريان واحتفلوا بانتهاء احلرب‪� ،‬أكلوا ب�شراهة‬
‫و�شربوا ب�شراهة‪ ،‬ك�أنهم عبيد ونالوا حريتهم اليوم‪ ،‬كانوا فرحني ب�أنهم‬
‫�سوف يرجعون لزوجاتهم وعائالتهم‪� ،‬ألقوا الأغاين و�أن�شدوا الق�صائد‪،‬‬
‫كانت ليلة باردة �صافية ونور النجوم ي�سقط على �أعايل اجلبال ال�شاهقة‪،‬‬
‫‪160‬‬
‫مل يخرج قي�صر من خمدعه‪ ،‬كان حزي ًنا‪ ،‬غمره ا�ضطراب عميق‪ ،‬قي�صر‬
‫الأ�سطورة التي يتحاكى عنها النا�س كان يتداعى‪ ،‬كانت روحه تئن بال‬
‫�صوت‪ ،‬وك�أن البكاء �أ�صبح جرمية‪ ،‬متنى لو يبكي‪ ،‬متنى لو ي�صرخ يف كل‬
‫�شيء ملدة �ساعة واحدة فقط‪ ،‬لل�سماء والأ�شجار والنجوم‪ ،‬كان يبدو هاد ًئا‬
‫�إىل حد مرعب‪ ،‬ولكن بداخله جحي ًما ال يكف عن اال�شتعال‪.‬‬
‫�سمع قي�صر من خارج خمدعه �ضو�ضاء غري م�ألوفة‪ ،‬مل يكن �ضجيج‬
‫�شخ�ص‬
‫ٍ‬ ‫اجلنود امل�ألوف لأذنيه فح�سب‪ ،‬بل هناك حتيات مت �إلقا�ؤها على‬
‫ما‪ ،‬خرج قي�صر من خيمته فوجد ح�صا ًنا يقرتب‪ ،‬ميز قي�صر الراكب‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وكيف يخفى عليه؟ �إنه بروتو�س‪ ،‬كان يبدو خمتل ًفا‪ ،‬لقد ترك بروتو�س‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫رجل‪ ،‬بث ح�ضور بروتو�س ال�سرور‬ ‫طفل �صغ ًريا‪ ،‬والآن �أ�صبح ً‬
‫يف روما ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ترجل بروتو�س من ح�صانه وبخطوات‬ ‫يف قلب يوليو�س قي�صر من جديد‪َّ ،‬‬

‫والتوز عي‬
‫�سريعة اقرتب من قي�صر‪ ،‬احت�ضنه ب�شدة ك�أنه يحت�ضن �أباه‪ ،‬وقابل‬
‫يوليو�س قي�صر تلك العاطفة بعاطفة �أكرب‪ ،‬نظر قي�صر �إىل بروتو�س وملعت‬
‫عيناه و�أردف بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬يا قا�سي القلب‪ ،‬كم مر من الوقت يا عزيزي بروتو�س؟‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬ثماين �سنوات‪ ،‬مرت �سري ًعا‪ ،‬ولكن ا�شتياقي لر�ؤيتك كان يزداد كل‬
‫حلظة وكل دقيقة‪ ،‬لقد عانيت كث ًريا من غيابك‪.‬‬
‫‪--‬لقد تغريتَ كث ًريا‪ ،‬غدوتَ ً‬
‫رجل‪ ،‬كم �أنا م�سرور لر�ؤيتك اليوم‪.‬‬
‫‪--‬كل �شيء يتغري‪.‬‬
‫ثم بنربات حزينة ا�ستطرد‪ :‬باملنا�سبة عزائي �إليك يف جوليا‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬كل �شيء يتغري‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد قي�صر‪:‬‬
‫‪161‬‬
‫‪َ --‬‬
‫تعال للداخل‪.‬‬
‫دلف قي�صر للداخل ومن ورائه بروتو�س‪ ،‬جل�س قي�صر على مكتبه‬
‫وجل�س �أمامه بروتو�س‪ ،‬ثم �أ�شار للحار�س فاقرتب و�صب ك�أ�سني من‬
‫النبيذ‪ ،‬جترع قي�صر ر�شفة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬كيف كان حالها قبل موتها‪� ،‬أق�صد جوليا؟‬
‫‪--‬كانت �سعيدة‪ ،‬ولكنها كانت تتوق لر�ؤيتك‪.‬‬

‫ع‬
‫جترع قي�صر من ك�أ�سه و�س�أل‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬هل كان يعاملها بومبايو�س باحرتام؟‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬بومبايو�س كان متي ًما بها‪ ،‬وحاله الآن �أ�سو�أ من �أي وقت م�ضى‪،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫اعتزل النا�س ويق�ضي نهاره عند �ضريح جوليا ً‬

‫ع‬
‫وليل يتجرع النبيذ‬
‫ويبكي وي�صرخ‪ ،‬ويف جمل�س ال�شيوخ غيابه كان منتقدً ا‪.‬‬
‫‪--‬كيف حال جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬وبالتحديد عمك كاتو؟‬
‫جترع بروتو�س ك�أ�س النبيذ كاملة وابت�سم وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أما عن جمل�س ال�شيوخ فهو غا�ضب‪ ،‬و�أما حتديدً ا عمي كاتو‪ ...‬فهو‬
‫غا�ضب �أكرث من �أي وقت م�ضى‪.‬‬
‫�أطلق قي�صر �ضحكة وقال‪ :‬كاتو دائ ًما غا�ضب‪.‬‬
‫�ضحك بروتو�س و�أردف‪ :‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫‪--‬كيف حال زوجتك بور�شيا؟ �أريد �أن �أ�سمع كل �أخبار روما‪.‬‬
‫‪--‬زوجتي بخري‪� ،‬أما روما فلي�ست بخري‪.‬‬
‫‪--‬ماذا هناك؟‬
‫‪162‬‬
‫‪�--‬شيوخ املجل�س منق�سمون‪ ،‬ي�صرخون ويتبادلون ال�سب‪ ،‬منهم من‬
‫جمرما‬
‫ً‬ ‫يراك ابن الآلهة واملخل�ص احلقيقي لروما‪ ،‬ومنهم من يراك‬
‫وافتعلت حر ًبا غري م�شروعة‪.‬‬
‫‪�--‬إذن؟‬
‫‪--‬ي�صرخون يف وجوه بع�ضهم وت�سقط روما بينهم وبني غوغائيتهم التي‬
‫يوما بعد يوم وال �أحد يبايل‪� ،‬أجل�س‬
‫متتلئ بالزيف‪ ،‬وتزداد الديون ً‬
‫بينهم و�أ�سمعهم ي�صرخون كالكالب ال�شاردة‪.‬‬
‫�صمت بروتو�س للحظة فكر فيها ثم ا�ستطرد‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬أنا الآن ع�ضو يف جمل�س ال�شيوخ‪� ،‬أمل تت�ساءل ولو للحظة‪ ،‬كيف‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫�سمحوا يل �أن �أ�سافر �إىل الغال؟‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫ابت�سم قي�صر و�أردف‪:‬‬

‫زيع‬
‫‪--‬مل �أ�س�أل لأنني �أعرف الإجابة‪.‬‬
‫‪--‬وما هي؟‬
‫‪--‬هناك �سبب واحد ي�سمح ل�شيوخ املجل�س �أن يعطوك املوافقة لل�سفر‬
‫مف�صل عن حال الفيالق‬ ‫ً‬ ‫�إىل الغال‪ ،‬وهي �أن تقدم لهم تقري ًرا‬
‫ً‬
‫م�ستقبل‪ ،‬وهل تنوي‬ ‫واجلحافل وما اخلطوة التي �سوف تخطوها‬
‫العودة �إىل روما �أم ال‪.‬‬
‫ً‬
‫مذهول‪:‬‬ ‫قال بروتو�س‬
‫‪--‬كيف عرفت يا قي�صر؟ ك�أنك كنت ً‬
‫جال�سا بيننا‪.‬‬
‫‪--‬الأمر ال يحتاج �إىل ذكاء يا عزيزي بروتو�س‪ ،‬هم يعرفون جيدً ا �أنني‬
‫لن �أ�سقط �إال من �شخ�ص مقرب‪ ،‬ولن يحدث ذلك �أبدً ا‪.‬‬
‫ثم ت�ساءل قي�صر‪:‬‬
‫‪163‬‬
‫‪--‬كيف حال كالبورنيا؟‬
‫‪--‬زهرة غاب عنها �ساقها لثماين �سنوات‪ ،‬بالت�أكيد ذابلة‪ ،‬تنظر وال‬
‫تفعل �شي ًئا �سوى االنتظار‪.‬‬
‫‪�--‬سوف �أكتب لها ر�سالة‪ ،‬عليك �أن تعطيها لها عند عودتك �إىل روما‪.‬‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪ ،‬لكن متى؟‬
‫‪--‬بعد يومني‪.‬‬
‫انتف�ض بروتو�س‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬يومني!‪ ...‬فقط؟ لقد كانت رحلتي من روما �إىل الغال يف ع�شرين‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يوما‪ ،‬مل �أح�سب �أن الغال بعيدة هكذا‪ ،‬وكل ما �أمكثه هنا يومان‪.‬‬‫ً‬

‫ل‬ ‫بل‬
‫‪�--‬سوف تعود مع ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪--‬ال �أفهم يا قي�صر‪ ،‬ما الداعي ل�سفرهما �إىل روما؟‬

‫ع‬
‫‪--‬هذا � ً‬
‫أي�ضا ما ال �أفهمه‪.‬‬
‫قالها �سكار بعدما دخل‪ ،‬وبابت�سامة قال لربوتو�س‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك يا فتى؟‬
‫ابت�سم بروتو�س و�أردف‪ :‬كيف حالك �أيها العجوز؟‬
‫ا�ستطرد �سكار‪ :‬بخري‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف ليوليو�س قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬كيف تتخلى عن �أف�ضل قادتك دفعة واحدة‪ ،‬قائد الفيالق ال�شمالية‬
‫ويدك اليمنى؟‬
‫قال قي�صر‪ :‬ما �سيفعلونه يف روما �أهم من �أي �شيء �آخر‪.‬‬
‫‪--‬لقد ا�ستدعيتهم كما �أمرت‪ ،‬ما الذي تخطط له؟‬
‫‪�--‬سوف تفهم قري ًبا يا �سكار‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫قال بروتو�س بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬على الأقل من اجليد �أن �أوكتافيو�س مل يح�ضر معي‪ ،‬و�إال ف�سيكون‬
‫غري م�سرور البتة‪ ،‬وهو حاد كال�سيف ك�أمه �آ ْت َيا‪.‬‬
‫‪�--‬أوكتافيان‪ .‬هل كان �سي�أتي معك؟‬
‫ت�ساءل قي�صر‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬ولكن ما حدث جلوليا جعلني �أقدم �سري ًعا على ال�سفر من دون‬
‫علم �أحد‪ ،‬لأكون بجوارك‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬هل �أ�صبح ً‬

‫ص‬
‫رجل الآن؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪�--‬أ�صبح فيل�سو ًفا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫ابت�سم قي�صر و�أردف‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫انتظر حلظة لقد �أح�ضرتُ لك هدية‪.‬‬ ‫‪ِ --‬‬
‫‪--‬ح ًّقا‪ .‬ما هي؟‬
‫مر�سوما‬
‫ً‬ ‫�أ�شار قي�صر �إىل �سكار‪ ،‬ف�أح�ضر �صندو ًقا من العاج القدمي‬
‫ومزخر ًفا بالنقو�ش‪ ،‬تناوله قي�صر من �سكار‪ ،‬وفتحه و�أخرج خنج ًرا ذهب ًّيا‬
‫يلمع ن�صله يف الهواء ك�شمعة يف �أح�ضان الظالم‪ ،‬ابت�سم ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬ذلك اخلنجر ثمني جدًّا‪ ،‬مقب�ضه من العاج ون�صله من الذهب‬
‫اخلال�ص‪ ،‬خفيف كالري�شة وحاد كال�سيوف‪ ،‬ال �أعرف ملاذا عندما‬
‫ر�أيت ذلك اخلنجر تذكرتك يا بروتو�س‪.‬‬
‫ثم و�ضعه يف ال�صندوق وا�ستطرد‪ :‬وهو الآن لك‪.‬‬
‫تناول بروتو�س ال�صندوق وقال ب�سرور‪� :‬شك ًرا لك يا قي�صر‪� ،‬إنه رائع‪.‬‬
‫دخل ماركو�س �أنطونيو�س مرتنح اخلطوات‪ ،‬كان النبيذ الذي جترعه‬
‫ثمل‬ ‫تلك الليلة �أكرث من النبيذ الذي جترعه �آخر ثماين �سنوات‪ ،‬كان ً‬
‫‪165‬‬
‫ومبتهجا‪ ،‬ووجنتاه حمراوين ومنت�ش ًيا برحابة‪ ،‬رمق بروتو�س للحظات ثم‬ ‫ً‬
‫�أردف بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬بروتو�س ال�صغري‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪--‬مارك �أنتوين‪ .‬يا للآلهة! لقد �صرت‪ ...‬خمتل ًفا‪.‬‬
‫قالها بروتو�س بعدما ت�أمل ج�سد مارك �أنتوين املليء باجلراح والندوب‪.‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬لقد كربت‪.‬‬‫‪--‬للحروب مغارمها يا فتى‪ ،‬و�أنت � ً‬
‫‪--‬نعم بالت�أكيد‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫نظر مارك �أنتوين �إىل قي�صر و�أردف‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ماذا تريد يا قي�صر؟ كنت �أتقامر مع اجلنود وكدت �أن �أفوز حتى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫جاءين �سكار‪ ،‬هل الأمر ي�ستحق مائة قطعة ذهبية؟‬

‫ع‬
‫قال قي�صر‪ :‬لقد �أغلق النبيذ عقلك و�أريدك �أن ت�صحو الآن‪.‬‬
‫قالها ثم �أ�شار �إىل �سكار ف�أح�ضر �إنا ًء به ماء بارد‪� ،‬صب ماركو�س املاء‬
‫ووجهه حتى ا�ستعاد القليل من عقله‪ ،‬جفف وجهه وقال‪:‬‬ ‫على ر�أ�سه ْ‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬كلي �آذان م�صغية �أيها القن�صل‪.‬‬
‫�أردف قي�صر‪:‬‬
‫‪�--‬سوف ت�سافر �أنت و�ألك�سيو�س بفر�سن جيرتيك�س �إىل روما‪ ،‬و�أنت لن‬
‫ت�سافر ب�صفتك جند ًّيا �أو م�ساعدً ا يل‪.‬‬
‫ت�ساءل ماركو�س‪:‬‬
‫‪--‬ب�أي �صفة �إذن؟‬
‫ً‬
‫قن�صل‪.‬‬ ‫�أجاب‪ :‬بل ب�صفتك‬
‫‪166‬‬
‫مل ي�ستوعب جميع من يف الغرفة ما قاله قي�صر‪ ،‬كيف؟ كيف يعني‬
‫مارك �أنتوين كقن�صل يف جمل�س ال�شيوخ؟ ذلك العربيد الثمل‪ ،‬دارت‬
‫الأفكار يف رءو�سهم يف دائرة �سرمدية‪ ،‬مل يكن قرا ًرا منطق ًّيا من قي�صر‪،‬‬
‫قال �سكار‪:‬‬
‫‪--‬من؟ مارك �أنتوين؟ قن�صل؟ ي�ستطيع �أن يحكم املجل�س و�شيوخه‪،‬‬
‫مثلك ومثل بومبايو�س‪ ،‬هل متزح يا قي�صر؟‬
‫�أردف ماركو�س بعد حلظات بن�صف عقل ي�ستوعب الكلمات‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬ما �أ�سمعه غريب جدًّا‪� ،‬أعتقد �أنني ما زلت ً‬

‫ري‬
‫ثمل‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫قال قي�صر‪ :‬هذا الو�ضع �سيكون م�ؤقتًا‪ ،‬حتى عودتي �إىل روما‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫�أردف �سكار‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ،‬إن كنت تريد تعيني �أحد كقن�صل‪ ،‬فالقائد �ألك�سيو�س �سوف‬
‫يكون خيا ًرا ممتا ًزا‪ ،‬رجل ع�سكري قوي وجاد‪ ،‬وذكي �إىل �أبعد‬
‫احلدود‪.‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬مارك �أنتوين هو املنا�سب للأمر‪.‬‬
‫‪--‬وكيف �ستجمع الأ�صوات؟‬
‫‪--‬املال ي�شرتي كل �شيء‪.‬‬
‫ثم قال بروتو�س‪ :‬ما الذي تنوي فعله يا قي�صر؟‬
‫قال �سكار‪� :‬أنت بهذا ال�شكل �سوف جتعل �شيوخ املجل�س يغ�ضبون �أكرث‬
‫من �أي وقت م�ضى‪....‬‬
‫ثم �صمت للحظات فكر فيها وا�ستطرد‪ :‬يا رباه!‪� ...‬أهذا ما تنوي فعله؟‬
‫ابت�سم قي�صر‪ ،‬فقال بروتو�س‪:‬‬
‫‪167‬‬
‫‪--‬ال �أفهم يا �سكار‪ ،‬ماذا يريد قي�صر �أن يفعل؟‬
‫‪--‬يريد ا�ستفزاز جمل�س ال�شيوخ بتعيني ماركو�س �أنطونيو�س كقن�صل‪،‬‬
‫فقي�صر لن يخون بومبايو�س‪ ،‬ويريد ا�ستدراج جمل�س ال�شيوخ ليبدءوا‬
‫هم بالهجوم‪.‬‬
‫‪--‬ولكن‪ ،‬كيف �سيقدمون على هذا و�أنت متلك الفيالق واجلحافل‬
‫ل�صدهم؟‬
‫�أردف قي�صر‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬وهنا ي�أتي دورك يا بروتو�س‪ ،‬يريد املجل�س تقري ًرا عن حال الفيالق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بعد احلرب الغالية و�سوف تعطيهم ما يريدون‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أطلق ماركو�س �أنطونيو�س �ضحكة وقال‪:‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬يا �إلهي! �أنت داهية يا قي�صر‪.‬‬

‫ع‬ ‫�أكمل قي�صر لربوتو�س‪:‬‬


‫‪--‬اذهب الآن يا بروتو�س حتى ت�سرتيح فرحلتك كانت طويلة‪ ،‬و�أنت يا‬
‫ماركو�س اعمِ د �إىل جتهيز الفيلق التا�سع‪ ،‬عليكم �أن تَ�صلوا �إىل روما‬
‫�ساملني بفري�سن جيرتيك�س‪ ،‬وخذ معك ثالثمائة تالنت من الذهب‬
‫قبل رحيلك‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬فري�سن جيرتيك�س يجب �أن تعود به �أنت �إىل روما‪ ،‬فهو راية انت�صارك‪،‬‬
‫�أما هذا الكم من الذهب‪ ،‬فماذا �أفعل به؟‬
‫�أردف قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬الوقت املنا�سب لذهاب فر�سن جيرتيك�س �إىل روما هو الآن‪ ،‬فنحن يف‬
‫�أ�شد احلاجة �إىل م�ساندة ال�شعب‪ ،‬وعند دخول روما بالفيلق التا�سع‬
‫‪168‬‬
‫�سيتجمهر النا�س حولك ليح ُّيوك ويرحبوا بك‪ ،‬وعليك �أن تغمرهم‬
‫بالذهب واملجد قدر امل�ستطاع‪.‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬فهمت‪.‬‬
‫غادر ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬فا�ستطرد قي�صر‪:‬‬
‫‪�--‬أين �ألك�سيو�س يا �سكار؟‬
‫‪--‬ا�ستدعيته ومل يح�ضر‪ ،‬هل ا�ستدعيه جمددًا؟‬
‫‪--‬ال‪� ،‬سوف �أذهب �إليه بنف�سي‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫خرج قي�صر من م�ضجعه‪ ،‬فتعالت �أ�صوات اجلنود حتية �إىل قي�صر‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫واتخذ طريقه �إىل خيمة القائد �ألك�سيو�س‪ ،‬دخل قي�صر خيمته‪� ،‬أ�ضاءت‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ال�شموع الأركان ب�ضوء خافت يخبو وي�ضيء بارتعا�شة متذبذبة‪ ،‬خ�ضع هو‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫أر�ضا �أمامها وب�صوت مبهم يرتل املتون‪ ،‬قال قي�صر‪:‬‬ ‫� ً‬
‫‪�--‬أنت تذكرين بنف�سي عندما كنت يف �سنك‪.‬‬
‫انت�شل �صوت قي�صر �ألك�سيو�س‪ ،‬وانت�صب واق ًفا م�ؤد ًيا التحية الع�سكرية‬
‫و�أردف‪:‬‬
‫فلتحي �أيها القن�صل العظيم‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫ابت�سم قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬ملن ت�صلي؟‬
‫‪--‬لزوجتي‪� ،‬آمل �أال ي�صيبها �أي مكروه‪.‬‬
‫‪--‬هل حتبها؟‬
‫‪--‬بالت�أكيد �أيها القن�صل‪.‬‬
‫أي�ضا كنت �أحب زوجتي كالبورنيا‪� ،‬أين تقطن يا �ألك�سيو�س؟‬ ‫‪�--‬أنا � ً‬
‫‪�--‬أقطن يف كوخ على �أحد ال�سهول‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫‪--‬هل ت�شتاق �إليه؟‬
‫‪--‬كنت �أ�ستن�شق كل يوم الهواء العليل و�أ�ستمع �إىل عواء الذئاب َّ‬
‫و�ضبح‬
‫البوم الذي يك�سر هدوء الليل‪� ،‬أقطن حيث الأ�شجار ورائحة الرتاب‬
‫يف ال�صباح‪ ،‬والنجوم التي تتلألأ يف الليل‪ ،‬وبجوارنا مزرعة �صغرية‪،‬‬
‫�أحيا ًنا �أزرع بها‪ ،‬كنت �أعي�ش يف �سالم‪.‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬ا�ستعد لل�سفر �إىل روما بعد يومني‪.‬‬
‫قالها قي�صر بابت�سامة‪.‬‬

‫ع‬
‫قال �ألك�سيو�س بتعجب‪ :‬روما‪ .‬ملاذا؟‬
‫اق�ض بع�ض‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪�--‬سوف تذهب �إىل روما مع ماركو�س �أنطونيو�س وبروتو�س‪ِ ،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الليايل اجلميلة مع زوجتك‪ ،‬ثم توج ْه �صوب اليونان‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫‪--‬اليونان‪ .‬ملاذا؟‬

‫ع‬
‫‪--‬هناك ينتظر الفيلق التا�سع ع�شر الأوامر‪ ،‬اجمع �شتات الفيلق‪ ،‬واجته‬
‫به �إىل احلدود الرومانية‪ ،‬وانتظر‪.‬‬
‫‪--‬ماذا �أنتظر؟‬
‫‪--‬انتظر بومبايو�س ماجنو�س‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد‪ :‬هو ال حمالة �سوف يفعل �شيئني ال ثالث لهما‪� ،‬إما �أن‬
‫ي�ستدعي فيالقه من �إ�سبانيا‪ ،‬ويف تلك احلالة �أريد منك الت�صدي لها مع‬
‫الفيلق التا�سع ع�شر‪ ،‬و�آمل �أال يفعل هذا ح ًّقا‪ .‬وال�شيء الثاين هو الهرب‬
‫�إىل �إ�سبانيا‪ ،‬ويف تلك احلالة خذه ك�أ�سري حتى و�صويل �إىل روما‪ ،‬وال مت�سه‬
‫ب�سوء‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫(‪)3‬‬

‫�أتى الهتاف با�سم يوليو�س قي�صر من ال�ساحة العامة �أمام املجل�س‬


‫ورددته الرياح حتى اخرتق حوائط املجل�س و�صم �آذان ال�شيوخ‪ ،‬مل يح�ضر‬
‫بومبايو�س جل�سة اليوم كما العادة منذ مدة‪ ،‬كان �إما يف ق�صره و�إما عند‬

‫ع‬
‫قرب جوليا‪ ،‬وكان لغيابه الفرتة الأخرية �أثر يف ت�شتت املجل�س ب�شكل كبري‪،‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وكان ال بد من و�ضع حدٍّ لهذا الأمر‪ ،‬وبعد انتهاء اجلل�سة‪ ،‬اقرتب كا�سيو�س‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫من كاتو‪ ،‬و�أردف بلهجة منزعجة‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪�--‬أين بومبايو�س بحق الآلهة يا كاتو؟ �إن املجل�س ال ينفك يتفكك ً‬
‫يوما‬
‫بعد يوم‪ ،‬يجب على بومبايو�س احل�ضور وو�ضع حد لهذا الأمر‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪--‬بومبايو�س حزين على جوليا وال يفارق ق�صره‪.‬‬
‫�أردف �سي�سرو وهو يقرتب‪:‬‬
‫‪--‬رمبا يكون هذا هو الوقت املنا�سب للتحرك يا كاتو‪.‬‬
‫�أردف كاتو‪ :‬ماذا تق�صد يا �سي�سرو؟‬
‫‪--‬نعم‪� .‬إنها الفر�صة املنا�سبة لإقناع بومبايو�س بالت�صدي لقي�صر‬
‫والوقوف �أمام طموحاته التي بلغت الأفق‪.‬‬
‫قالها كا�سيو�س بعينني تلمعان كالقطط‪.‬‬
‫‪--‬ثم ا�ستطرد �سي�سرو‪:‬‬
‫‪171‬‬
‫تلك هي اللحظة املنا�سبة بالت�أكيد‪ ،‬فبموت جوليا ينقطع كل خيط‬
‫يربط بومبايو�س ماجنو�س بيوليو�س قي�صر‪ ،‬كانت جوليا ال�سبب الوحيد‬
‫الذي كان مينع بومبايو�س من معار�ضة قي�صر‪ ،‬وها هي قد رحلت ورحل‬
‫معها كل ما يك ُّنه الرجالن �أحدهما للآخر‪.‬‬
‫‪�--‬أردف كاتو‪:‬‬
‫�أت�سمعون تلك الهتافات يف ال�ساحة‪� ،‬إنها كاجلحيم امل�صبوب فوق‬
‫ر�أ�سي‪ ،‬ال بد من بومبايو�س �أن ي�أخذ قراره الآن‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬أردف �سي�سرو‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬‫بل‬
‫الآن ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س‪� ،‬أف�ضل قادة قي�صر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫‪--‬ما الذي يحاول قي�صر فعله؟ فالتخلي عن �أف�ضلوالقادتهتو‬
‫يتجهان �إىل روما‪ ،‬و�سوف يعربان الريبيكون ب�أحد فيالق قي�صر ومعهم‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫والتخليععن‬
‫امللك الغايل فري�سن جيرتيك�س‪.‬‬

‫املجد يف العودة بامللك الغايل �إىل روما‪� ،‬أمر يثري يف نف�سي ال�شكوك‪،‬‬
‫فما الذي يدور يف عقل قي�صر؟‬
‫�ألقاها كا�سيو�س‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪�--‬إن عودة ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س �إىل روما‪� ،‬أمر‬
‫فعل هو ما �سيرتتب عليه‬‫ال ي�ستدعي القلق‪ ،‬ولكن ما ي�ستدعي القلق ً‬
‫هذا‪ ،‬فبعد فوز قي�صر باحلرب‪� ،‬سوف ي�ستحوذ على حب ال�شعب‬
‫�أكرث و�أكرث‪ ،‬ف�أنتم ت�سمعون الهتافات ب�أم �آذانكم‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪172‬‬
‫‪--‬فبالت�أكيد عند عودة ماركو�س و�ألك�سيو�س �سوف يغدقون على النا�س‬
‫الهدايا والذهب‪ ،‬ما �سوف يجعل املوقف �أكرث �صعوبة‪.‬‬
‫�أردف كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬ولهذا علينا التحرك ب�سرعة‪ ،‬قبل و�صول ماركو�س �أنطونيو�س‬
‫�إىل روما‪ ،‬يجب علينا �إقناع بومبايو�س مبواجهة قي�صر ب�أ�سرع وقت‪.‬‬
‫ت�ساءل �سي�سرو‪ :‬ماذا �سوف تفعلون �إن رف�ض بومبايو�س؟ يبدو �أنه‬
‫ان�سحب من قيادة املجل�س نهائ ًّيا‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قال كاتو‪� :‬إن حدث هذا ‪ -‬وهو م�ستبعد ‪ -‬ف�سوف يعود بروتو�س مع‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫مارك �أنتوين و�ألك�سيو�س كورنيليو�س �إىل روما‪ ،‬وهو الآن �شيخ من �شيوخ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫املجل�س‪ ،‬بالت�أكيد �سوف يكون له فائدة ُتذكر‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أنت �أدرى النا�س بربوتو�س‪ ،‬ف�إنه يحب قي�صر �أكرث من �أي �شيء �آخر‪،‬‬
‫ولن يعطينا من املعلومات التي ت�ضر بقي�صر‪.‬‬
‫�أردف كاتو‪:‬‬
‫‪--‬بروتو�س يحب يوليو�س قي�صر نعم‪ ،‬ولكن يحب روما � ً‬
‫أي�ضا ويحرتم‬
‫القانون الروماين املقد�س‪ ،‬ويعلم جيدً ا �أن عبور الريبيكون بقوات‬
‫ع�سكرية والدخول بها �إىل روما جرمية ال تغتفر‪.‬‬
‫ثم ع َّقب كا�سيو�س‪ :‬ما �أراه الآن‪ ،‬يجب علينا �أن ن�أخذ احليطة‪ ،‬ونح�شد‬
‫القوات �أمام املجل�س وال�ساحة‪ ،‬فهم �سوف ي�أتون بفيلق واحد فقط‪ ،‬ويجب‬
‫علينا �أخذ قرار قبل عبورهم الريبيكون‪.‬‬
‫ت�ساءل كاتو‪ :‬ماذا تريد �أن تفعل يا كا�سيو�س؟‬
‫‪173‬‬
‫�أجاب‪ :‬الآن �أمامهم يومان حتى ي�صلوا �إىل الريبيكون‪ ،‬بفيلق وحيد‬
‫يحملون ن�صر يوليو�س قي�صر �إىل روما‪ ،‬فما علينا فعله هو �أن يتخرث‬
‫انت�صار يوليو�س قي�صر‪ ،‬كما يتخرث احلليب بالرتاب‪.‬‬
‫قال كاتو‪ :‬عندما مير علينا ذئب مفرت�س فمن احلماقة �أن نبادر‬
‫بالهجوم عليه‪.‬‬
‫‪--‬ومن الغباء �أن مند له يد ال�صداقة والعون كما يفعل بومبايو�س‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬تريد ح�شد قوات ليحارب فيلق قي�صر على �أر�ض الغال قبل عبورهم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الريبيكون؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�أجاب‪ :‬نعم‪� ،‬إما �أن يقتلوا امللك الغايل‪ ،‬و�إما �أن يح�ضروه �إلينا‪ ،‬ففي‬
‫احلالتني �سيتبخر انت�صار وجمد يوليو�س قي�صر يف الهواء‪ ،‬كما مل يكن‬
‫يوما‪.‬‬
‫ً‬
‫قال كاتو‪� :‬أنت بهذا الأمر ميكن �أن تفتعل حر ًبا‪.‬‬
‫‪--‬علينا قتل كل قادة قي�صر‪ ،‬فهم �أذ ُرعه و� ُ‬
‫أرجله التي يتحرك بها‪،‬‬
‫�إذا مات ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س‪ ،‬ف�سوف يكون‬
‫قي�صر وحيدً ا و�ضعي ًفا‪.‬‬
‫ثم قال �سي�سرو بلهجة حتذيرية‪ :‬لو ف�شل الأمر يا كا�سيو�س‪ ،‬ف�ستُ�شعل‬
‫حر ًبا ال يكاد ينطفئ ومي�ضها‪ ،‬ثم من �أين لك قوات وجنود لتغتال قادة‬
‫قي�صر؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫‪--‬بومبايو�س ميتلك القوات الالزمة‪� ،‬أما عن �إقناعه‪ ،‬ف�أنت يا كاتو‬
‫ت�ستطيع فعل هذا‪ ،‬و�إن رف�ض بومبايو�س فبع�ض تالنتات من الذهب‬
‫كفيلة ل�شراء بع�ض املغتالني‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬بومبايو�س الآن ينزف من �أمل الفراق على �أكرث من كان يحبهم‪ ،‬فما‬
‫الذي �سوف ي�ضطره �إىل فعل هذا؟‬
‫�أردف كاتو‪ :‬روما‪� .‬ألي�س هذا �سب ًبا كاف ًيا؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬بومبايو�س لن تغ َّره خطبك الرنانة يا كاتو‪ ،‬علينا �أن نكون �أكرث‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫منطقية‪ ،‬ونحن ال ندري رد فعل بومبايو�س على ما تقرتحونه‪ ،‬فعلينا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫احلذر �أكرث من هذا‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن �إر�سال يوليو�س قي�صر مباركو�س �أنطونيو�س على ر�أ�س فيلق لهو‬
‫�أكرب ر�سالة على �أنه يطلب احلرب‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪�--‬أو الو�صول �إىل ت�سوية‪.‬‬
‫إالم تطمح تلك الت�سوية؟‬ ‫�س�أل كاتو‪ :‬و� َ‬
‫‪�--‬أن يعود يوليو�س قي�صر �إىل البالد فوق جحافله كمواطن روماين‬
‫و�شيخ من �شيوخ املجل�س‪ ،‬ويتم تعيينه كقن�صل مدى احلياة‪ ،‬وهو حر‬
‫يف ا�ستخدام حقوقه امل�شروعة والقانونية‪ ،‬وعالوة على ذلك رئا�سة‬
‫املجل�س‪ .‬لو كنت مكانه فلن �أتهاون عن مطلب واحد‪.‬‬
‫�أردف كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪175‬‬
‫‪--‬لن ن�سمح لقي�صر ب�أن يحكم روما كملك �أو �إمرباطور طاغية‪ ،‬وعلينا‬
‫�أن ن�ستخدم حق الفيتو لرف�ض تلك الت�سوية‪.‬‬
‫‪--‬فلن�أمل فقط يف الو�صول �إىل ت�سوية جت ِّنبنا احلرب‪.‬‬
‫قالها �سي�سرو‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪�--‬إنْ وطئت قدم يوليو�س قي�صر روما بجحافله ف�سوف تكون تلك‬
‫النهاية احلتمية للجمهورية‪� .‬إن انتهى الأمر بت�سوية �أو حتى بحرب‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ف�سوف يكون يوليو�س قي�صر هو �سوال الثاين بكل االحتماالت املتاحة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫واملمكنة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قال كا�سيو�س بنربات متوترة‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬علينا الذهاب �إىل بومبايو�س وحماولة �إقناعه‪.‬‬
‫ثم قال �سي�سرو‪ :‬نعم‪� ،‬أنت حمق‪ ،‬دعنا نذهب �إىل بومبايو�س ونرى �إىل‬
‫�أي حل �سوف يرنو‪.‬‬
‫قال كاتو‪ :‬قبل الذهاب �إىل بومبايو�س‪ ،‬علينا جمع الأ�صوات ال�ستخدام‬
‫حق الفيتو ملعار�ضة بومبايو�س �إن مل يوافق على �صد قي�صر‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪� :‬أن�صار قي�صر يف املجل�س لن يدعونا منار�س حق الفيتو‪،‬‬
‫يجب �أن يكون بومبايو�س يف جانبنا حتى ن�ستطيع �أن جنمع الأ�صوات‬
‫الكافية ال�ستخدام حق الفيتو‪ ،‬فب�أي طريقة كانت يجب �أن نقنع بومبايو�س‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬على كل حال‪ ،‬علينا �أن جنعل قرار احلرب هو القرار الأخري يف‬
‫القائمة‪ ،‬فبا�ستطاعتنا �أن نحاكم قي�صر �أمام املجل�س با�ستخدام‬
‫الكثري من التهم‪ ،‬ولكن لندعو الآلهة �أال ي�ستخدم �أن�صار قي�صر حق‬
‫‪176‬‬
‫الفيتو للمعار�ضة‪ ،‬فهم كثريون و�سي�ساند بع�ضهم ً‬
‫بع�ضا‪.‬‬
‫�أردف كاتو‪ :‬كل من يعاون ويقف لي�ساند قي�صر يف املجل�س هو خائن‬
‫للجمهورية وكل ما ت�ؤمن به روما‪.‬‬
‫‪--‬لي�س لهذا �صحة حتى الآن يا كاتو‪ ،‬فقي�صر مل يف�صح عن نواياه بعد‪،‬‬
‫ولكن �إن عرب الريبيكون بفيالقه‪ ،‬ف�ستكون احلرب قريبة‪� ،‬أقرب مما‬
‫نظن جمي ًعا‪.‬‬
‫قالها و�صمتوا‪ ،‬كل منهم يفكر يف امل�صري املحتم واملجهول‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫هائ ًما كان‪ ...‬ب ل‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫هو يف �أي مكان‪ ،‬لكن بالت�أكيد لي�س هنا‪ ،‬روحه مل تعد ت�سكن ج�سده‬
‫يبك فيها‪ ،‬مل يئن فيها‪ ،‬مل ي�صرخ فيها ِب� ًأ�سى‪،‬‬
‫بعد الآن‪ ،‬مل متر حلظة مل ِ‬
‫مي�شي حول املقربة مرا ًرا وتكرا ًرا بال ملل وال كلل‪ ،‬يحافظ على الأكاليل‬
‫الطازجة على قربها‪ ،‬يزرع الورود وي�سقيها بدموع عينيه وبكائه اله َّدار‪،‬‬
‫يف قلبه ثمة م�أ�ساة عظيمة وكلمات ي�صعب احلديث عنها‪ ،‬ي�شعر بالربد‬
‫والوحدة‪ ،‬يقبع يف الظلمات‪ ،‬انطف�أت نريانه الوحيدة وخبت روحه و�سقطت‬
‫توان‪ ،‬ال وطن‪ ،‬ال م�أوى‪ ،‬كانت هي وطنه وم�أواه‪ ،‬الآن ال �شيء‪،‬‬
‫أر�ضا بال ٍ‬‫� ً‬
‫كان الفراغ يغزوه‪ ،‬حلظة بعد حلظة‪ ،‬يجل�س الآن يف ق�صره اخلاوي‪ ،‬ترتدد‬
‫�ضحكاتها كالأ�شباح يف الأركان‪� ،‬صوتها ك�أن�شودة مالئكية ت�أبى املغادرة‬
‫يوما من بعد يوم‪ ،‬كان التكرار هو حاله‬ ‫من �آذانه‪ ،‬يراقب ت�ساقط الأيام ً‬
‫على مر الأيام التي يق�ضي فيها عزلته‪ .‬كان يبدو هاد ًئا �إال �أنه مبعرث؛‬
‫يوما‪ ،‬مبعرث‬ ‫يوما‪ ،‬مبعرث يف كل رداء ارتدته ً‬
‫مبعرث يف كل ركن جل�ست فيه ً‬
‫‪177‬‬
‫طويل‪ ،‬كل �شيء عابر‪،‬‬ ‫يف كل ابت�سامة تراءت له ك�ضيف م�سافر مل يلبث ً‬
‫لكن يبدو �أن حزنه مل يعرب بعد‪ ،‬وعندما ي�أتي الليل يظل يراقب قربها‪،‬‬
‫ينتظر‪ ،‬لكن ال فائدة من االنتظار ترجى‪ ،‬وعندما ي�أكل الليل الأمل ب�أنيابه‬
‫ال�سوداء‪ ،‬يذهب �إىل ق�صره ويتجرع النبيذ وي�سكر �إىل حد ال يرى فيه‬
‫طويل‪ .‬طالت حليته‬ ‫ظالل عابرة ال تظل ً‬ ‫�شي ًئا‪ ،‬وال يتذكر فيه �شي ًئا �إال ً‬
‫نحيل خفيف الوزن‪،‬‬ ‫وارت�سم ظل حتت عينيه من فرط �سهاده‪� ،‬أ�صبح ً‬
‫يغط يف �شيء ي�شبه النوم وي�ستيقظ بجراح جديدة ال ي�ستطيع رتقها‬
‫بكلمات املوا�ساة وال�شفقة‪ ،‬ي�صرخ ب�أمل وال �أحد ي�سمع‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫انكفا على ال�سرير ويف يده و�شاح �أبي�ض تخ�ضب باللون الأحمر‪ ،‬كان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ي�شت ُّمه بعمق �شديد‪ ،‬يغو�ص فيه‪ ،‬وك�أن رائحة دمائها هي الهواء النقي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لرئتيه‪� .‬أم�سك بيده م�شبك �شعرها العاجي‪ ،‬قب�ض عليه ب�شدة‪ ،‬ي�ستن�شقه‬

‫ع‬
‫�أحيا ًنا ويقبله �أخرى‪ ،‬كل الأ�شياء من حوله تذ ِّكره بها‪ ،‬كل �شيء بال‬
‫ا�ستثناء؛ الكرا�سي واحلوائط وال�سرير‪ ،‬واملر�آة التي كانت جتل�س �أمامها‬
‫ل�ساعات مت�شط �شعرها الذي ي�سيل ك�أ�شعة ال�شم�س يف ال�صباح بال كلل‪،‬‬
‫كيف يهرب الإن�سان من قدره؟ �س�أل ومل يجد �إجابة‪.‬‬
‫دخل كاتو و�سي�سرو وكا�سيو�س �إىل ق�صر بومبايو�س‪� ،‬أجل�سهم اخلادم‬
‫وقدم لهم النبيذ املعتق بالع�سل‪ ،‬قال كاتو‪:‬‬
‫‪--‬ماذا �سوف تقولون �إىل بومبايو�س؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬على بومبايو�س �أن يقف بجوارنا يف املجل�س �ضد قي�صر‪ ،‬فبومبايو�س‬
‫�إن ا�ستدعى فيالقه من �إ�سبانيا ف�سوف ي�سحق قي�صر كح�شرة‪.‬‬
‫‪«--‬و�إن رف�ض؟» قالها �سي�سرو‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫�أجاب كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ال يجب عليه �أن يرف�ض‪ ،‬الآن وبعد موت جوليا‪� ،‬أ�صبح يوليو�س قي�صر‬
‫ال يعني �شي ًئا لبومبايو�س‪ ،‬فلماذا �سوف يرف�ض؟ وعليه �أن يوافق‬
‫على الهجوم على ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س قبل‬
‫عبورهما الريبيكون‪.‬‬
‫�أردف كاتو‪ :‬بومبايو�س يرف�ض �سفك الدماء‪.‬‬
‫‪--‬دماء خائنني‪ ،‬ك�سروا القانون الروماين املقد�س‪ ،‬افتعلوا حر ًبا غري‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫م�شروعة‪ ،‬قتلوا الأبرياء‪� ،‬سفكوا دماء الغال ِّيني كذئاب جائعة ال‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫تعرف الرحمة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دخل اخلادم �إىل بومبايو�س وكان م�ضطج ًعا على ال�سرير هائ ًما يف‬

‫والتوز عي‬
‫الال�شيء‪ ،‬تنحنح اخلادم و�أردف‪:‬‬
‫بع�ضا من �شيوخ املجل�س يف اخلارج‪ ،‬كاتو‬ ‫‪�--‬سيدي القن�صل‪� ،‬إن ً‬
‫و�سي�سرو وكا�سيو�س‪ ،‬يطلبون لقاءك‪ ،‬فماذا �أقول لهم؟‬
‫�سمع بومبايو�س اخلادم ب�آذان ثقيلة‪ ،‬ا�ستوعب الكلمات بعد حلظات‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أخربهم‪� ...‬أنني �سوف �أح�ضر بعد دقائق‪.‬‬
‫انحنى اخلادم وخرج‪ ،‬تثاقلت قدماه على الأر�ض ك�أنه يحمل الكابيتول‬
‫فوق كتفيه‪ ،‬ثم انت�صب وبدل مالب�سه ب�شيء من الالمباالة‪ ،‬كان كل �شيء‬
‫فارغا من احلياة‪ ،‬خرج �إليهم بومبايو�س بخطوات تكاد ترتنح‪ ،‬وقفوا‬ ‫يبدو ً‬
‫حتية له‪ ،‬فجل�س و�أردف‪« :‬اجل�سوا‪».‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪--‬لك عزا�ؤنا �أيها القن�صل‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك يا كاتو؟‬
‫ثم ا�ستطرد‪ :‬ما الذي �أح�ضركم؟‬
‫قال �سي�سرو‪ :‬غيابك يف روما كان منتقدً ا‪ ،‬جمل�س ال�شيوخ ممزق ويف‬
‫�أ�شد احلاجة �إليك‪.‬‬
‫مل يعقب بومبايو�س‪ ،‬فقال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬هل �سمعت الأخبار؟ لقد ربح قي�صر حربه يف الغال وا�ستطاع �أ�سر‬
‫فر�سن جيرتيك�س‪ ،‬امللك الغايل‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬نعم‪� ،‬سمعت‪� ،‬أخبا ًرا حمزن ًة لكم �أيها النبالء‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪�--‬ألقاها بال مباالة مفرطة‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬و�سوف ير�سل امللك الغايل مع مارك �أنتوين و�ألك�سيو�س كورنيليو�س‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫ب�أحد فيالقه �إىل روما‪.‬‬
‫ثم �صاح كاتو‪ :‬بومبايو�س‪ ،‬افعل �شي ًئا ما‪.‬‬
‫‪--‬وماذا تريدين �أن �أفعل؟‬
‫قال كاتو‪� :‬سوف نقدم طل ًبا �إىل املجل�س‪ ،‬و�أرجو منك املوافقة على‬
‫ذلك الطلب ك�صديق � ًأول وكقن�صل ثان ًيا‪.‬‬
‫‪--‬ما الطلب؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬يجب على قي�صر ت�سريح جي�شه‪ ،‬يجب عليه التنازل عن قيادته‪،‬‬
‫و�أن يركع �أمام جمل�س ال�شيوخ وتتم حماكمته قانون ًّيا باحلرب غري‬
‫امل�شروعة واخليانة املطلقة للجمهورية‪ ،‬ويتم اعتباره كعدو ملجل�س‬
‫ال�شيوخ ولروما‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬قي�صر مل يقرر دخول روما بجحافله بعد‪ ،‬فبهذا ي�ستطيع الطعن على‬
‫طلبكم بحق الفيتو‪ ،‬وكل �أن�صاره يف املجل�س �سوف يقفون بجانبه‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ماذا �سنفعل؟ قي�صر ي�ستطيع �أن يزحف بفيالقه �إىل روما يف‬
‫�أي وقت‪.‬‬
‫‪�--‬إن فعل قي�صر هذا‪ ،‬ف�سوف �أعطي �أم ًرا جلحافلي يف �إ�سبانيا بعبور‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫البحر �إىل روما‪ ،‬ولن �أنتظره ليعرب الريبيكون‪ ،‬بل �س�أذهب �إليه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يوما‪ ،‬ال‬
‫و�أحموه هو وجحافله من على وجه الأر�ض‪ ،‬ك�أنه مل يكن ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تقلقوا �أيها النبالء‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫قال كاتو‪:‬‬


‫‪�--‬أما عن ح�ضور مارك �أنتوين و�ألك�سيو�س كورنيليو�س �إىل روما ب�أحد‬
‫الفيالق‪ ،‬فماذا �سوف نفعل؟‬
‫قال بومبايو�س‪ :‬ال ن�ستطيع اتخاذ قرار ب�أمرهم‪ ،‬حتى نرى يف �أي غاية‬
‫�سوف ي�أتون‪.‬‬
‫�أردف كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ن�ستطيع مهاجمتهم يا بومبايو�س‪ ،‬قبل �أن تط�أ �أقدامهم روما‪ ،‬ف ُهم‬
‫بفيلق واحد‪� .‬إن مات ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س كورنيليو�س‬
‫ف�سيكون قي�صر وحيدً ا و�ضعي ًفا‪.‬‬
‫قال بال مباالة مل تتغري‪ :‬افعلوا ما تريدون‪ ،‬ولكن �أنا ال �أحبذ ذلك‪.‬‬
‫‪--‬نحتاج �إىل قوات‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫�أردف بومبايو�س بنربات حادة‪:‬‬
‫‪--‬قواتي لن تتحرك من روما‪ ،‬ف�أنا �أرف�ض �سفك الدماء الرومانية‬
‫هبا ًء‪� ،‬إذا �أردمت فعل ذلك فافعلوه ب�أنف�سكم‪ ،‬ولكن بعيدً ا عني وعن‬
‫قواتي‪ ،‬ف�أنا لن �أ�شارك يف هذا‪.‬‬

‫نفخ حاملو الرايات يف الأبواق حتى رددت الرياح الأ�صوات بني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الأ�شجار والغابات يف �صدً ى خميف‪ ،‬وبد�أ �ضار ِبوا الطبول بقرع طبولهم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫حتى بد�أت ال�سماء ت�ستحيل من الأ�س َود النيلي �إىل الأزرق ال�شاحب‪ ،‬ومع‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بزوغ الفجر ت�صاعد �ضباب �أبي�ض �شاحب زحف �إىل الغابات واحلقول‪،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫بخطى ثابتة وعلى ر�أ�سه ماركو�س �أنطونيو�س و�ألك�سيو�س‬ ‫حترك الفيلق ً‬

‫ع‬
‫كورنيليو�س وبروتو�س‪ ،‬ومن ورائهم امللك الغايل مقموع وراء الق�ضبان يف‬
‫عربة جت َّمع حولها اجلنود و�أحاطوها كالذباب على الع�سل‪.‬‬
‫كان بروتو�س ي�شعر بالتعب والغثيان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪--‬كم نبعد عن الريبيكون؟‬
‫�أجاب ماركو�س‪:‬‬
‫‪--‬بهذا املعدل قد ن�صل غدً ا‪.‬‬
‫ثم ابت�سم وا�ستطرد‪ :‬ال �أعرف ما الذي �أح�ضرك‪ ،‬ف�أنت مل متكث كث ًريا‬
‫�أيها امل�سكني‪.‬‬
‫‪�--‬إن كان هذا ما يريده قي�صر فال م�شكلة‪.‬‬
‫�أردف �ألك�سيو�س‪:‬‬

‫‪182‬‬
‫‪--‬وما الذي يدفعك حلب قي�صر �إىل هذا احلد يا بروتو�س؟‬
‫�أجاب بروتو�س‪� :‬إن قي�صر بالن�سبة �إ َّ‬
‫يل �أكرث من قائد �أو قن�صل‪ ،‬تربيت‬
‫يف بيته وكان يعاملني كابن له يف الوقت الذي كنت فيه ً‬
‫منبوذا عند �أقرب‬
‫الب�شر يل‪ ،‬كان قي�صر كل ما �أملك‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬و�أنت �أيها القائد �ألك�سيو�س‪ ،‬ملاذا حتب قي�صر؟‬
‫‪--‬ال �أحبه‪ ،‬ولكني �أحرتمه‪ ،‬فهو قن�صل عظيم وجندي لي�س له مثيل‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وال �أحد ينال احرتامي ب�سهولة‪ ،‬ما ر�أيته يف قي�صر مل �أجده يف باقي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الرجال‪ ،‬وهو قا�سم م�شرتك بيننا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�س�أل بروتو�س‪ :‬وما هو؟‬

‫والتوز عي‬
‫‪--‬البحث عن املجد‪ ،‬كل من يذهب للحرب يذهب �سع ًيا وراء الذهب‬
‫واملال‪� ،‬أما يوليو�س قي�صر في�سعى وراء املجد‪ ،‬ووحده املجد من‬
‫ي�صنع الرجال‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪ :‬و�أنت تبحث عن املجد؟‬
‫�صمت �ألك�سيو�س للحظة ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬قبل ثماين �سنوات‪ ...‬رمبا‪� ،‬أما الآن فال‪.‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‬
‫‪--‬يف احلرب ترتك كل �شيء وراءك‪ ،‬كل من حتب‪ ،‬كل �شيء م�ألوف يف‬
‫متاما عما كنت �ساب ًقا‪.‬‬
‫رجل خمتل ًفا ً‬‫عاملك‪ ،‬وت�صبح ً‬
‫تركت وراءك؟‬
‫قال ماركو�س‪ :‬وماذا َ‬
‫‪--‬تركتُ كل من �أحب‪ ،‬كل الأركان امل�ألوفة وكل ال�ضحكات ال�صافية‪،‬‬
‫والهدوء وال�سكون‪.‬‬
‫‪183‬‬
‫‪--‬زوجتك؟‬
‫�أجاب بعد حلظة‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ت�ساءل بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬هل حتبها؟‬
‫‪--‬بكل ما �أحمل من عاطفة يف ج�سدي‪ ،‬ولكن الإن�سان ال يعرف قيمة‬
‫الأ�شياء �إال بعد فقدها‪.‬‬
‫�ضحك مارك �أنتوين وقال‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬لهذا مل �أتزوج حتى الآن‪ .‬قال يل رجل حكيم ذات يوم ن�صيحة ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫نهائية ومطلقة‪ ...‬الزواج ما هو �إال خيط بائ�س تربط به عنقك‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�إما �أن يقتلك و�إما �أن يرتك �آثاره عليك‪ .‬عليك بالرهبنة ف�إنها خري‬

‫ع‬
‫و�سيلة للنجاة‪.‬‬
‫ابت�سم بروتو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬ومن هذا احلكيم؟‬
‫رجل يف حانة وكان ً‬
‫ثمل‪،‬‬ ‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬لي�س حكي ًما باملعنى املعروف‪ ،‬كان ً‬
‫ولكنها كانت ن�صيحة جيدة يف النهاية‪.‬‬
‫�ضحك بروتو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬يا له من فيل�سوف ثمل!‬
‫قال ماركو�س‪:‬‬
‫‪�--‬سمعت �أنك فيل�سوف يا بروتو�س ال�صغري‪ ،‬هل هذا �صحيح؟‬
‫‪--‬هذا متوقف على تعريف الفل�سفة‪ ،‬عن ماهية الفل�سفة يف الأ�سا�س‪.‬‬
‫�سنجد هنا �أن ال�س�ؤال يف حد ذاته يعد �س� ًؤال فل�سف ًّيا من الطراز الأول‪،‬‬
‫‪184‬‬
‫ف�إن اجتهت �إىل الإجابات املنطقية‪ ،‬ف�سنجد �أن الفل�سفة هي الدافع‬
‫للت�سا�ؤل والتدقيق يف كل �شيء والبحث عن ماهية الكون ومظاهره‬
‫وقوانينه‪ ،‬الفل�سفة هي حماولة العثور على الإجابات الأ�سا�سية التي‬
‫يطرحها الوجود والكون‪ ،‬وبفر�ض �أن احلقائق ثابتة‪ ،‬فتكون الفل�سفة‬
‫هنا الباحث عن احلقيقة ومن ميتلك احلقيقة‪.‬‬
‫‪--‬يا للآلهة! �أنت تتحدث كالفال�سفة ح ًّقا‪.‬‬
‫قال �ألك�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬وهل تعرف كيف يتحدث الفال�سفة؟‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬نعم‪ ،‬يرثثرون ويرثثرون بال توقف‪ ،‬ثم ال تفهم من ثرثرتهم �شي ًئا‪.‬‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫�ضحك بروتو�س وقال‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪�--‬أحب فل�سفتك يف احلياة‪.‬‬


‫قال ماركو�س‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬احلياة هراء كبري وال �أحب التحلي باجلدية �إال يف الأوقات‬
‫املنا�سبة‪.‬‬
‫‪--‬و�أنت ماذا يعني لك قي�صر؟‬
‫�صمت مارك �أنتوين ً‬
‫قليل ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬يف احلقيقة ال �أعرف‪ ،‬ولكن دعنا نقول �إنه قدوتي يف احلياة‪� ،‬أحب‬
‫جتبه �أحيا ًنا‪ ،‬وحتديه للم�صاعب واحدً ا بعد‬ ‫قوة قي�صر‪ ،‬ثباته‪ُّ ،‬‬
‫الآخر بثبات اجلبال‪ ،‬رجل ال يخ�شى �شي ًئا‪ ،‬ال يخ�شى املوت كالنبالء‬
‫ويحارب بجانب �صفوف جنوده‪� ،‬أحب �صعوده من رجل نبيل عادي‬
‫�إىل قن�صل يف جمل�س ال�شيوخ‪� ،‬إىل الرجل الأول يف روما‪� ،‬إنه رجل‬
‫يوم ما‪.‬‬
‫عظيم و�آمل �أن �أكون مثله يف ٍ‬
‫‪185‬‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬و�أنت �أيها القائد �ألك�سيو�س‪ ،‬ملاذا �سوف ت�سافر �إىل روما؟‬
‫‪�--‬سوف �أجته �إىل اليونان يف �أمر ع�سكري ال �ش�أن لك به‪ ،‬و�إن مت هذا‬
‫الأمر فرمبا بعدها �أعتزل القتال نهائ ًّيا‪.‬‬
‫يوما‪،‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪ :‬تعتزل القتال‪ .‬يا رجل �أنت �أعظم مقاتل ر�أيته ً‬
‫مل يعينك قي�صر قائدً ا لفيالق الألب �إال ملهاراتك يف القتال‪.‬‬
‫‪--‬بعد ثماين �سنوات من احلرب �سع ًيا للمجد‪ ،‬ي�صبح املجد كالرماد‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كل ما �أفكر به الآن هو منزيل الريفي والهواء العليل يف الليل والهدوء‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫املطلق و�أنا �أغط يف النوم بني ذراع زوجتي‪ ،‬ثماين �سنوات مل �أ َر فيها‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قليل لي�س فكرة‬ ‫�إال الدم والدموع والربد‪ ،‬فرمبا ال�شعور بالدفء ً‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�سيئة �أبدً ا‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬هل تقطن يف الريف؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬يف �إحدى القرى الريفية التي تقع �أعلى التالل‪� ،‬أفتقد كل‬
‫�شيء تقري ًبا‪ ،‬حقول القمح التي تتلألأ كالذهب بعد الفجر عند‬
‫�شروق ال�شم�س وعند الغ�سق‪ ،‬رائحة الندى بعد �سقوط املطر‪ ،‬رائحة‬
‫خ�صالتها البنية اللون التي �أكاد �أن�ساها‪ ،‬و�أناملها وهي تتخلل �شعري‬
‫يف هدوء‪ ،‬يف احلرب كل �شيء �ضائع وال يبقى �إال ظالل الذكرى‬
‫العابرة‪.‬‬
‫قال بروتو�س‪ :‬املجد يتطلب الت�ضحية بكل �شيء‪.‬‬
‫�أردف مارك �أنتوين‪:‬‬
‫وهم وغري‬ ‫‪--‬املجد‪ .‬يا لها من كلمة �سخيفة! �أنا �أجد �أن املجد هو ْ‬
‫حقيقي‪� ،‬سراب كبري ال نهاية له‪ ،‬دوامة ُتغرق كل �صاحب طموح‬
‫طموحه الأفق‪� ،‬صحيح يا �ألك�سيو�س؟‬ ‫يجتاح ُ‬
‫‪186‬‬
‫‪�--‬أوافقك الر�أي ً‬
‫متاما‪.‬‬
‫كان الغ�سق �أثقل من كل مرة‪ ،‬تلونت ال�سماء بلون �أرجواين عميق‪،‬‬
‫�أكملوا م�سريهم حتى بد�أت تكت�سي الغابة من حولهم بالظالم‪ ،‬بد�أت‬
‫ال�سماء ت�سقط الثلج اخلفيف‪ ،‬وا�صطبغ �أفقها بالأحمر مع غروب ال�شم�س‪،‬‬
‫كانت هناك حركة غري مريحة بني الأ�شجار والأوراق املت�ساقطة جعلت‬
‫اخليول خائفة تتحرك بدافع خوف غري معروف‪ .‬زحف القمر بت�ؤدة يف‬
‫ال�سماء ال�سوداء‪ ،‬ومن ال�سواد احلالك خرج من بني الأ�شجار والغ�صون‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جمموعات من امللثمني يف حماولة للهجوم على الفيلق‪ ،‬خرجوا ب�صمت‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫من قلب الظالل‪ ،‬اثنان‪ ،‬ثم ثالثة‪ ،‬ثم ع�شرة‪ ،‬ثم جمموعات كبرية‪ ،‬كان‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫�أغلب الظن �أنهم من ال�شعب الغايل وقد جاءوا لتحرير ملكهم من الأ�سر‪.‬‬

‫ا�صطف الفيلق يف �صفوف منتظمة‪ ،‬ف�صاح مرة �أخرى‪:‬توزيع‬


‫«ا�صطفاف‪».‬‬ ‫�صاح �ألك�سيو�س يف الفيلق‪:‬‬

‫‪--‬احموا امللك الغايل‪.‬‬


‫ثم رفع �سيفه العمالق وقال‪ :‬لأجل يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫واندفع مزجم ًرا نحو املجموعات على �صهوة ح�صانه‪ ،‬ا�صدم معهم يف‬
‫قوة ومل يرتدد رنني ا�صطدام الفوالذ بالفوالذ‪.‬‬
‫كان بروتو�س ال يجيد القتال بال�سيف ولكنه �أخرج خنجره الذي �أعطاه‬
‫�إياه قي�صر وحتفزت �أطرافه‪ ،‬وكان يقف �أمامه ماركو�س �أنطونيو�س‬
‫م�ستل �سيفه من غمده‪ ،‬اندفع نحوه �أحد الرجال وت�شابكا بال�سيوف‬ ‫ًّ‬
‫ً‬
‫حماول‬ ‫والتقى ال�سيفان بحرارة‪ ،‬حترك ماركو�س �أنطونيو�س ب�شكل �سريع‬
‫‪187‬‬
‫تفادي ال�ضربات‪ ،‬ويف حلظ ٍة ت�أخر يف حركاته الدفاعية ف�شق الن�صل‬
‫خوذته و�أ�صابه بجرح مر على حاجبه ثم عينه‪� ،‬أطلق ماركو�س �صرخة‬
‫مفعمة بالأمل‪ ،‬ثم متالك نف�سه ووقف وقب�ض ب�شدة على �سيفه‪ ،‬واندفع‬
‫بقوة نحو الرجل ف�شق �صدره وت�سربت دما�ؤه حتى �أغرقت ن�صله‪.‬‬
‫ثم حاول الرجوع �إىل عربة فر�سن جيرتيك�س‪ ،‬ف�إن جنح املهاجمون‬
‫يف حترير امللك الغايل ف�سوف تذهب جهودهم �سدً ى‪ ،‬و�سوف يعودون �إىل‬
‫روما وعلى ر�أ�سهم �إكليل العار‪ ،‬وقد تخرث الن�صر و�ضاع‪ .‬امتطى فر�سه‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�سرعة واخرتق ال�صفوف ب�سيفه‪ .‬كانت الأعداد تتدفق وتزداد بال توقف‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ا�ستطاع بعد جمهود كبري الو�صول �إىل العربة‪ ،‬وظل يقاتل �أمامها ب�شرا�سة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وقوة‪ ،‬ا�ستطاع بروتو�س االنزواء يف �أحد الأركان وراء �شجرة كبرية‪ ،‬مل‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫بارعا يف احلروب‪ ،‬ظل خمتب ًئا يت�صبب عر ًقا‬ ‫يكن جبا ًنا لكنه مل يكن ً‬

‫ع‬
‫وميل�ؤه القلق‪ ،‬دقات قلبه تكاد ت�شق �صدره من اخلوف‪ ،‬مل ي�شاهد دما ًء‬
‫ت�سيل كما ت�سيل يف هذا اليوم‪ ،‬كانت �أول معركة يراها ب�أم عينيه‪ ،‬كان‬
‫الدماء والأ�شالء تتطاير يف كل مكان‪.‬‬
‫جنح ماركو�س �أنطونيو�س �أن ُيحكم ال�سيطرة على عربة امللك الغايل‪،‬‬
‫وقتَل كل من حاول حتريره‪ .‬وجتمهر حوله الفيلق يف �صفوف دفاعية‬
‫بعدما �صاح فيهم و�أعطى الأمر‪ ،‬ارتفعت ال�سيوف وهوت بال توقف‬
‫كانت جمزرة‪ ،‬اخرتقت فيها الن�صال احللقات املعدنية لدرع �ألك�سيو�س‬
‫جريحا من على �صهوة‬ ‫ً‬ ‫و�أ�صابته وك�سرت �أ�ضالعه‪� ،‬سقط �ألك�سيو�س‬
‫فر�سه‪ ،‬وظل يت�شابك ب�سيفه بقوة حتى قتل منهم الكثري‪ ،‬ثم �أعطى �أم ًرا‬
‫لباقي الفيلق باال�صطفاف الدفاعي‪ ،‬ت�شابكت الدروع بع�ضها مع البع�ض‬
‫ك�أنها درع موحدة وكبرية‪ ،‬وا�ستطاع الفيلق �أن ي�ستجمع �شتاته بعد معاناة‪،‬‬
‫وقف �ألك�سيو�س وقاد الفيلق كما كان يفعل دائ ًما‪ ،‬كان يعطي �أم ًرا بالهجوم‬
‫‪188‬‬
‫فيهاجم الفيلق دفعة واحدة‪ ،‬ثم يعطي �أم ًرا بالدفاع فيدافع دفعة واحدة‪،‬‬
‫وكانت تلك اال�سرتاتيجية �سب ًبا يف تقهقر املجموعات املقابلة‪ ،‬ا�ستطاعوا‬
‫�أ�سر القليل منهم والباقي ا�ستطاع الهرب‪ .‬ا�ستحال بيا�ض الثلج على‬
‫الأر�ض �إىل الأحمر من الدماء‪ ،‬انتابت بروتو�س رع�شة قوية يف ج�سده‬
‫وطفق يتقي�أ بال توقف‪ ،‬اقرتب ماركو�س من �ألك�سيو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬هل �أنت بخري؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬و�أنت؟‬

‫ع‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫رمق �ألك�سيو�س وجهه وقال‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫م�صابة‪.‬‬ ‫‪--‬عينك‬
‫‪--‬جرح �سطحي‪� ،‬سيت�سبب يف ندبة لكن ال تقلق‪.‬‬
‫ثم قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬ه�ؤالء اجلنود لي�سوا من ال�شعب الغايل‪ ،‬فهم منظمون �أكرث‪.‬‬
‫اقرتب بروتو�س وقال بتقزز‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬من �إذن؟‬
‫قال �ألك�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أح�ضر �أحد الأ�سرى وا�ستجوبه‪ ،‬فال �أحد يجر�ؤ على الهجوم على‬
‫�أحد فيالق قي�صر �إال �إذا كان لديه هدف بعينه‪ ،‬فهو بالت�أكيد يعلم‬
‫�أنه لن ي�ستطيع �أن يك�سر �شوكة الفيلق ب�سهولة‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫�أ�شار ماركو�س �إىل جندي ف�أح�ضر �أ�س ًريا من الأ�سرى ثم �ألقاه على‬
‫الأر�ض بخ�شونة ومبقب�ض ال�سيف هوى على ر�أ�سه فانبثقت من ر�أ�سه‬
‫الدماء‪� ،‬أ�شار ماركو�س �إىل اجلندي فكف عنه‪ ،‬اقرتب منه وقال‪:‬‬
‫‪--‬من �أنتم؟ وملاذا هاجمتم الفيلق؟‬
‫مل ُيجب الأ�سري �أ ًّيا من الأ�سئلة التي قد �ألقيت عليه‪ ،‬فقام ماركو�س‬
‫�أنطونيو�س ِبا�ستالل �سيفه من غمده بع�صبية‪ ،‬وبغ�ضب هوى بال�سيف‬
‫على ذراع الأ�سري ب�شكل مباغت وبقوة‪ ،‬انقطعت ذراعه وانفجرت الدماء‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بغزارة‪ ،‬وطفق الأخري ي�صرخ ب�أمل وعذاب وبال توقف‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬من �أر�سلكم؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أجاب الأ�سري بعد �صراخ ونحيب طويل‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪�--‬شيوخ املجل�س‪.‬‬
‫ظلوا للحظة ي�ستوعبون ما �ألقاه الأ�سري على م�سامعهم‪ ،‬قال ماركو�س‪:‬‬
‫‪�--‬شيوخ املجل�س؟‬
‫ف�أردف بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا!‪ ...‬كيف؟ كيف يفعلون �شي ًئا كهذا؟‬
‫�أردف �ألك�سيو�س وهو ينظف �سيفه املغطى بالدماء‪:‬‬
‫‪�--‬شيوخ املجل�س يريدون �أن ي�ضيع جمد يوليو�س قي�صر‪ ،‬ولكن مل �أعتقد‬
‫�أن يتجرءوا �إىل هذا احلد‪ ،‬ب�أن ير�سلوا مغتالني ليحاربونا‪.‬‬
‫قال ماركو�س‪ :‬علينا التحرك �سري ًعا‪� ،‬أمامنا م�سرية يوم واحد على‬
‫عبور الريبيكون‪ ،‬يجب �أن ن�صل �ساملني بامللك الغايل �إىل روما‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد بغ�ضب‪� :‬سوف يندمون على فعلتهم تلك‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫على الرغم من طريقته التي متتلئ بالالمباالة ف�إن غ�ضبه كان عات ًيا‪،‬‬
‫كالربكان الذي ال ينطفئ‪� .‬أمر ماركو�س بو�ضع �إحدى الرءو�س يف �صندوق‬
‫وارت�ص‬
‫َّ‬ ‫لتقدميها كهدية للمجل�س‪� .‬ضمدوا جراحهم ثم امتطوا �أفرا�سهم‬
‫ما تبقى من الفيلق‪ ،‬وبخطوات �سريعة كانوا يقرتبون من الريبيكون‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪191‬‬
‫(‪)4‬‬

‫ُ�ضربت طبول االحتفال واملجد‪ ،‬وحترك الفيلق بني �شوارع روما‬


‫املكتظة‪ ،‬ورفرفت الرايات احلمراء يف الهواء معلنة عن الن�صر واملجد‪،‬‬
‫وكان الهتاف با�سم قي�صر ه َّدا ًرا وبلغ الأفق‪� ،‬أغدق اجلنود الهدايا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫والذهب على العامة ب�سخاء عظيم‪ ،‬كلما �أغدقوا النا�س بالذهب ازداد‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫هتاف النا�س �أكرث‪ ،‬كانت ال�ساحة العامة �أمام املجل�س متتلئ بالنا�س �أكرث‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫من �أي وقت م�ضى‪ .‬وقف الفيلق يف منت�صف ال�ساحة وعلى ر�أ�س الفيلق‬

‫ع‬
‫ماركو�س �أنطونيو�س كان ي�ستمع لهتاف العامة بفخر وزهو كبريين‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫معرو�ضا على ال�شعب كراية للن�صر‪ ،‬وبني الهتافات‬ ‫امللك الغايل يف العربة‬
‫مر مارك �أنتوين بني اجلمع الغفري من النا�س على قدميه‪ ،‬كان يغدقون‬
‫عليه ال�سالم والقبالت ويلقون عليه الورود ك�أنه املنت�صر وخم ِّل�ص روما‬
‫الأعظم‪ ،‬وهو كان يتقبلها بابت�سامات و�ضحكات عالية متتلئ بال�سرور‬
‫والن�صر‪ ،‬وظل يهتف النا�س با�سمه حتى و�صل �إىل �أبواب املجل�س ورمق‬
‫عمدانه ال�شاهقة التي تو�شحت بالأحمر والذهبي‪ ،‬ثم تقدمه جندي ليعلن‬
‫عن ح�ضوره بالرغم من عدم وجود حاجة لذلك‪:‬‬
‫‪--‬بني �أيديكم ال�سيناتور والقن�صل مارك �أنتوين‪.‬‬
‫رنت الكلمة يف �آذان اجلميع بعدها دخل ماركو�س �أنطونيو�س جمل�س‬
‫ال�شيوخ‪ ،‬ثم �أغلق اجلنود باب املجل�س الكبري‪� ،‬ضرب ال�صمت جميع من يف‬
‫قاعة املجل�س‪ ،‬كل ال�شيوخ بال ا�ستثناء قد �أ�صاب �أل�سنتهم لعنة ال�صمت‪،‬‬
‫‪192‬‬
‫كان القن�صل بومبايو�س ماجنو�س غائ ًبا كالعادة و�أر�سل كاتو يف ح�ضوره‬
‫فو ًرا‪ ،‬قام كاتو من مقعده وقال‪:‬‬
‫‪--‬مرح ًبا‪ ،‬جرنال مارك �أنتوين‪.‬‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين وقال‪:‬‬
‫‪--‬مرح ًبا كاتو‪ ،‬يبدو يل �أنك قد افتقدتني كث ًريا‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫ً‬
‫جرنال‬ ‫‪�--‬أال �إنك خمطئ كالعادة يا �صديقي القدمي‪ ،‬ل�ست هنا ب�صفتي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وقن�صل من قنا�صل �شيوخ املجل�س‪.‬‬‫ً‬ ‫ولكن ب�صفتي �سيناتو ًرا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ارب َّد وجه كاتو‪ ،‬ثم �ألقى نظرة مرتع�شة �إىل كا�سيو�س و�سي�سرو‪ ،‬ثم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�س�أل‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫ً‬
‫قن�صل؟‬ ‫‪--‬ومن ع َّينك‬
‫قليل‪ ،‬هذا �س�ؤال يبدو بالغ ال�صعوبة‪� ،‬آه لقد تذكرت‪ ،‬من‬ ‫‪--‬دعني �أفكر ً‬
‫قن�صل هو رجل روما الأول والقن�صل يوليو�س قي�صر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ع َّينني‬
‫ت�ساءل كا�سيو�س‪ :‬ملاذا �أنت هنا يا ماركو�س؟‬
‫‪--‬يا �إلهي‪ ...‬هذا �أنت يا كا�سيو�س؟ لقد �أ�صابتك التخمة وكرب بطنك‬
‫حتى �إنك ال ترى قدمك‪ ،‬يبدو �أنك �أكرثت من تناول الطعام والنوم‬
‫�آخر ثماين �سنوات‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬يبدو �أن ثماين �سنوات من احلرب مل تغري فيك الكثري يا مارك‬
‫�أنتوين‪.‬‬
‫‪--‬نعم يا �سي�سرو‪ ،‬ويبدو �أن هذا املجل�س مل يتغري كث ًريا � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬فهو ما‬
‫زال يحمل يف جعبته الكثري من احلمقى‪.‬‬
‫‪193‬‬
‫غ�ضب كاتو وقال بحنق‪:‬‬
‫‪--‬ا�سمع �أيها املتباهي‪ ،‬لن نتغا�ضى عن تطاولك ولو للحظة‪ ،‬قل ماذا‬
‫تريد؟‬
‫‪�--‬أنا؟‪� ...‬أنا ال �أريد �شي ًئا‪� ،‬أنتم من تريدون‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪ :‬وماذا �سوف نريد منك؟‬
‫‪�--‬أن تنالوا تعاطفي ون�صل �إىل ت�سوية حمايدة‪ُ ،‬تنبكم بط�ش قي�صر‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س بكلمات من حتت ال�ضرو�س‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬تعاطفك؟ ماذا تقول �أيها اللعني؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫قال ماركو�س‪ :‬هذا �سيئ‪ ،‬ح ًّقا �سيئ‪� ،‬أن تتطاول على قن�صل لديه فيلق‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�أمام املجل�س لهو �شيء لي�س يف �صاحلك �أبدً ا‪� ،‬صدقني‪.‬‬

‫ع‬
‫قال كاتو‪ :‬هل تلقي علينا التهديدات؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬لي�س بعد‪.‬‬
‫ثم �أردف �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬وما هي الت�سوية التي تريد الو�صول �إليها �أيها القن�صل؟‬
‫عاقل يف هذا املجل�س‪.‬‬‫�شخ�صا ً‬
‫ً‬ ‫‪--‬جيد‪ ،‬يبدو �أن هناك‬
‫قال كاتو غا�ض ًبا‪� :‬صن ل�سانك يا هذا‪.‬‬
‫نظر ماركو�س �إىل كاتو بنظرة حتدٍّ وقال‪ :‬و�إال؟‬
‫‪--‬و�إال ف�سوف تندم على تلك الوقاحة‪.‬‬
‫‪�--‬أنت و�أي جي�ش؟‬
‫قال �سي�سرو �إىل كاتو‪:‬‬

‫‪194‬‬
‫‪--‬اهد�أ يا كاتو‪ ،‬علينا �أن ن�صل �إىل ت�سوية كما قال ماركو�س‪ ،‬ت�سوية‬
‫جتعل خيار احلرب خيا ًرا غري مطروح باملرة‪ ،‬وت�صل � ً‬
‫أي�ضا �إىل قرار‬
‫يدعم اجلمهورية‪.‬‬
‫هد�أ كاتو فقال ماركو�س‪ :‬ح�س ًنا‪ ،‬قي�صر يريد الدخول �إىل روما وجتنب‬
‫�إراقة الدماء‪ ،‬كفى دما ًء لثماين �سنوات‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ،‬أَ ْد ِل مبا عندك‪.‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬سيعود قي�صر �إىل روما كجندي مقاتل كما فعل بومبايو�س �سل ًفا‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يريد رئا�سة املجل�س كممثل للعامة‪ ،‬ويكون لديه �سلطة فوق �سلطة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جمل�س ال�شيوخ والنبالء‪.‬‬

‫و يحظى بها‬ ‫ر‬


‫‪--‬ممثل العامة‪ .‬ممثل العامة وظيفة مقد�سة والواليجبت�أن ز عي‬
‫قال كاتو‪:‬‬

‫رجل ع�سكري‪.‬‬
‫رجل ع�سكر ًّيا فقط‪ ،‬بل رجل روما الأول‪ ،‬يحظى بحب‬ ‫‪--‬قي�صر لي�س ً‬
‫العامة‪ ،‬هو نبيل ولكن لي�س مثلكم �أيها النبالء‪ ،‬ال يزدري العامة بل‬
‫يحبهم كالنبالء‪ ،‬و�إن كنت ال ت�صدق‪ ،‬فا�سمع الهتافات يف ال�ساحة‪،‬‬
‫هل ت�سمع‪ :‬يحيا قي�صر‪ ،‬يحيا قي�صر‪� ،‬أت�سمع هتافاتهم التي ت�صم‬
‫الآذان؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬بعد �أن انتهت حرب الغال مل يتبقَّ لقي�صر اجلحاف ُل الكافية ليزحف‬
‫بها �إىل روما ويتحدى جمل�س ال�شيوخ وميلي عليه الأوامر‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫‪�--‬أنت حمق يا كا�سيو�س‪ ،‬فقي�صر قد ال ميلك اجلحافل الكافية التي‬
‫ي�سيطر بها على املجل�س‪ ،‬ولكن جحافله يف الألب تنتظر الأوامر‪.‬‬
‫‪--‬نحن يف ال�شتاء‪.‬‬
‫‪--‬الوقت مير والربيع ي�أتي‪.‬‬
‫قال كاتو‪ :‬هل تلقي التهديدات جمددًا؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬تلك هي التهديدات‪.‬‬
‫ثم قال كا�سيو�س‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬وهل �سيدخل يوليو�س قي�صر بجحافله �إىل روما؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬و�إىل �أين �سيذهبون؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫قال كاتو‪ :‬يجب على قي�صر �أن ي�سرح جي�شه �إن كان ينوي الدخول �إىل‬

‫ع‬
‫روما‪.‬‬
‫‪--‬و َمل يفعل هذا؟‬
‫‪--‬لأنه قانون روما املقد�س‪.‬‬
‫ثم �ألقى نظرة �إىل ال�شيوخ و�صاح‪:‬‬
‫‪--‬منذ �أن ركب �سوال على ر�أ�س جي�شه ودخل روما بق ًوى ع�سكرية ال‬
‫�أحد ك�سر القانون الروماين‪ ،‬وال تتوقع منا �أن ن�سمح بهذا ثانية‪ ،‬هل‬
‫�أ�صابكم الن�سيان؟ هل تذكرون؟ كان ُحكم �سوال حك ًما ا�ستبداد ًّيا‬
‫وديكتاتور ًّيا‪ ،‬هل تذكرون �سفكه للدماء لكل من عار�ضه‪� ،‬أم �إنكم قد‬
‫ن�سيتم اللوائح ال�سوداء التي مت تعليقها على حوائط روما وت�صفية كل‬
‫املعار�ضني من دون حماكمة؟‬
‫قال ماركو�س‪:‬‬
‫‪196‬‬
‫‪--‬ح ًّقا؟ �أت�شبه قي�صر ب�سوال؟ ما فعله قي�صر �آخر ثماين �سنوات ال‬
‫ت�ستطيع �أنت وال املجل�س ب�أَ ْ�سره فعله يف مائة �سنة‪ ،‬فقد ت�ضاعف حجم‬
‫روما �أكرث من �أي وقت م�ضى‪ ،‬ومت �سداد الكثري من الديون الهائلة‪،‬‬
‫ومت �إر�سال �أكرث من ثالثمائة �ألف عبد خالل ثماين ال�سنوات‪ ،‬ماذا‬
‫تريدون �أكرث من هذا؟ و�أنتم ذ ِّكروين‪ ،‬ماذا فعلتم؟ كنتم تخو�ضون‬
‫يف �أمره �أثناء غيابه‪.‬‬
‫‪�--‬إن قي�صر جمرم‪ ،‬وال يعدو عن مغت�صب للبالد والأرا�ضي و�أ�شعل‬
‫حر ًبا غري �شرعية‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬يبدو يل �أن املجرم احلقيقي لي�س يف الغال‪ ،‬بل يجل�س على تلك‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫املقاعد املريحة‪ ،‬ويرتدي الأبي�ض والأحمر‪ ،‬املجرم احلقيقي هو هذا‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املجل�س‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫�صاح كاتو‪:‬‬


‫‪--‬كيف جتر�ؤ �أيها اللعني‪ ،‬هذا املجل�س ميثل ال�شعب‪.‬‬
‫‪--‬ال�شعب‪ .‬تبدو تلك الكلمة غريبة على �أذين �أيها النبالء‪ ،‬منذ متى؟‬
‫فلم ال‬
‫منذ متى يهتم املجل�س بال�شعب؟ و�إن كنتم تهتمون بال�شعب َ‬
‫تتقا�سمون ثرواتكم مع ال�شعب مثلما يفعل قي�صر؟ و�إن كنتم متثلون‬
‫ال�شعب ح ًّقا ف ْلن�س�أل ال�شعب‪.‬‬
‫اجته مارك �أنتوين �إىل باب املجل�س‪ ،‬فتح �أحد جنوده له الباب‪ ،‬خرج‬
‫�إىل ال�ساحة ومن ورائه ال�شيوخ‪ ،‬كانت ال�ساحة متتلئ بالنا�س‪ ،‬وقف على‬
‫املن�صة فح َّياه النا�س بحرارة �شديدة‪ ،‬رفع يده فبد�أ الهتاف اله َّدار يخفت‬
‫حلظة بعد حلظة حتى انعدم‪ ،‬ووقف النا�س لي�ستمعوا كلمة القن�صل‬
‫اجلديد‪ ،‬يف تلك اللحظة ح�ضر بومبايو�س ووقف بجوار ال�شيوخ وكان يبدو‬
‫�أنه ال يفهم �شي ًئا مما يحدث حتى نطق مارك �أنتوين‪:‬‬

‫‪197‬‬
‫‪--‬يا �شعب روما العظيم‪ ،‬منذ ثماين �سنوات �أخذ يوليو�س قي�صر قرا ًرا‬
‫جري ًئا ال يتخذه �إال الرجال العظماء‪ ،‬قرر الذهاب للحرب �إىل الغال‬
‫يف ال�شمال‪ ،‬لثماين �سنوات كاملة قي�صر يحارب يف الغال بال توقف‪،‬‬
‫بال راحة وبال مقابل‪� ،‬أنتم ال تعرفون ال�شمال‪ ،‬يف احلرب يكون الربد‬
‫قار�سا‪ ،‬و�صدقوين ال يوجد �إال الربد والطني‪ ،‬ويف النهاية ملاذا فعل‬ ‫ً‬
‫قي�صر هذا؟ لي�ستطيع جلب الرثوة والذهب �إىل ال�شعب الروماين‪،‬‬
‫لت َْ�س َطع روما �إىل الأفق بال توقف‪ ،‬تلك املعابد واملكتبات والألعاب يف‬
‫الكولو�سيوم َمن �سببها؟ �إنه قي�صر‪ .‬ذلك الذهب الذي بني �أيديكم‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫من �أعطاه لكم؟ �إنه قي�صر‪ .‬كل هذا الرتف من ال�ضرائب التي‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يجنيها قي�صر من بالد الغال‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫«فليحي قي�صر»‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم �صاح بحرارة‪:‬‬

‫ع‬
‫قالها ورددها النا�س بال توقف حتى ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ملاذا يعتقد جمل�س ال�شيوخ �أن قي�صر جمرم؟ ملاذا ال يريدونه �أن‬
‫يعود �إىل روما بالذهب واملجد من الغال؟ ملاذا يعتربونه جمرم حرب‬
‫وم�ستبدًّا وديكتاتور ًّيا وي�شبهونه ب�سوال؟ �سوال كان م�ستبدًّا نعم‪� ،‬أما‬
‫قي�صر ف�أنتم من تختارونه‪� .‬سوال قتلكم‪� ،‬أما قي�صر فيحبكم ويغدق‬
‫عليكم الذهب واملجد‪ ،‬وهو امل�سكني لثماين �سنوات يعي�ش يف خيمة‬
‫بني الدماء وال�سيوف والأ�شالء‪ ،‬ملاذا؟ لأجل �شعب روما‪ ،‬فمن هو‬
‫املجرم‪ ،‬يوليو�س قي�صر �أم هذا املجل�س الأ�سن؟‬
‫�صاح النا�س غ�ض ًبا على املجل�س و�شيوخه وبدءوا يلقون عليهم ال�سباب‬
‫واللعن‪ .‬كان بومبايو�س واق ًفا بعيدً ا اعرتاه غ�ضب �شديد مما ي�سمعه‪،‬‬
‫هرع ال�شيوخ �إىل داخل املجل�س وحلق بهم ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬رمقهم‬
‫بابت�سامة وقال‪:‬‬
‫‪198‬‬
‫‪�--‬أر�أيتم من يريد ال�شعب؟‬
‫ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪�--‬إن كنتم تريدون الو�صول �إىل الت�سوية‪ ،‬ف�س�أنتظركم غدً ا يف الليل‬
‫عند بيت �آ ْت َيا ابنة �أخت قي�صر بعد �أن �أنتهي من الطقو�س املقد�سة‬
‫ً‬
‫قن�صل ر�سم ًّيا للدولة الرومانية‪.‬‬ ‫و�أُ�صبح‬
‫وهم بالرحيل ولكن ا�ستوقفه اخلاطر للحظة‪ ،‬ثم التفت �إليهم‬ ‫قالها َّ‬
‫وقال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬صحيح كدت �أن�سى‪ ،‬لقد �أح�ضرت هدية �إليكم‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ثم �أ�شار �إىل اجلندي ف�أح�ضر �صندو ًقا �صغ ًريا‪� ،‬أ�شاح الغطاء و�أخرج‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫مقطوعا �ألقاه على الأر�ض فتدحرج كالكرة حتى و�صل �إىل �أرجلهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ر� ًأ�سا‬
‫فتعالت الهمهمات‪ ،‬فا�ستطرد ماركو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أظن �أن تلك تخ�صكم‪.‬‬
‫رحل ماركو�س‪ ،‬فقال كاتو لبومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬بومبايو�س‪� ،‬أرجوك افعل �شي ًئا‪ ،‬لقد �سمعت ب�أم �أذنيك‪ ،‬تلك الوقاحة‬
‫التي يتحدث بها تنبئ ب�أن يوليو�س قي�صر قد يزحف �إىل روما يف �أي‬
‫وقت‪.‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ،‬س�أعطي �أم ًرا �إىل فيالقي يف �إ�سبانيا باال�ستعداد‪ ،‬لن �أ�سمح‬
‫لقي�صر �أن يعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية‪ ،‬ولكن � ًأول علينا �أن نح�ضر‬
‫تلك الت�سوية‪ ،‬ولعلنا ن�صل �إىل حل يجنبنا �إراقة الدماء الرومانية‬
‫‪--‬مل يكن هناك حل �آخر‪� ،‬شعر بومبايو�س بالعجز يف تلك اللحظة‬
‫وا�شتعل الغ�ضب بداخله‪ ،‬كان ماركو�س �أنطونيو�س يتحدث بوقاحة‬
‫‪199‬‬
‫غري معهودة‪ ،‬و�إن ف�شلت املفاو�ضات ف�سي�ستدعي فيالقه من �إ�سبانيا‬
‫ولن ينتظر قي�صر ليعرب الريبيكون‪ ،‬بل �سيزحف بفيالقه �إىل قي�صر‬
‫كما كان يفعل �ساب ًقا مع �أي عدو‪ .‬كانت جوليا العائق الوحيد الذي‬
‫مينع بومبايو�س‪ ،‬فقد منعته وهي حية ولن متنعه وقد ماتت‪ .‬كان‬
‫ي�صارع نف�سه وقلبه لي�أخذ ذلك القرار‪ .‬لن ي�سمح لقي�صر بتن�صيب‬
‫نف�سه كامللك على عر�ش روما �أبدً ا مهما حدث‪ ،‬ماتت روحه مبوت‬
‫جوليا ولن متوت جمددًا بخ�سارته �أمام قي�صر‪.‬‬

‫ع‬
‫عندما و�صل بروتو�س �إىل روما اجته �إىل زوجته بور�شيا و�أر�سل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ر�سالة قي�صر �إىل كالبورنيا مع ر�سول‪ ،‬وتناولتها خادمتها من الر�سول‪.‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كانت كورنيليا جال�سة على مقعدها حتت ال�شجرة الكبرية ذات الأوراق‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫احلمراء الداكنة‪ .‬اقرتبت خادمتها منها ورمقتها بابت�سامة طويلة‪ ،‬فقالت‬

‫ع‬
‫كالبورنيا‪:‬‬
‫‪--‬ماذا هناك يا كارال؟‬
‫‪--‬هناك ر�سالة‪.‬‬
‫�ألقتها ثم �ضحكت‪.‬‬
‫رمقتها كالبورنيا بتعجب وعقدت حاجبيها و�س�ألت‪:‬‬
‫‪--‬ر�سالة؟ من املر�سل؟‬
‫‪--‬قي�صر‪.‬‬
‫انتف�ضت كالبورنيا من مكانها عندما عرفت �أن الر�سالة من قي�صر‪،‬‬
‫اختطفتها من يد كارال �سري ًعا‪ ،‬وف�ضت اخلتم بهرولة‪ ،‬ثم �شرعت يف‬
‫قراءتها بلهفة‪:‬‬
‫‪--‬عزيزتي كالبورنيا‪ ،‬لقد مرت ثماين �سنوات ومل ِ‬
‫نلتق‪ ،‬لكنني كنت‬
‫�ألتقي بك يف خيايل ويف �أحالمي ويف الليايل الباردة لأ�شعر بالدفء‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫ومللت من الوحدة‪� ،‬ساحميني على‬ ‫مللت من االنتظار‪ِ ،‬‬ ‫�أعلم �أنك قد ِ‬
‫�صمتي الطويل‪ ،‬لثماين �سنوات ال �أعي�ش �إال بني الدماء والدموع‬
‫والطني واحلديد‪ ،‬ومل يكن هناك وقت لر�سائل متتلئ بالعاطفة‬
‫وال�شغف‪ ،‬ت�أكدي �أنني كنت �أفكر فيك كل حلظة وكل يوم و�أح�صي‬
‫أعطيتك ميثا ًقا ولن �أك�سر ميثاقي‪� ،‬سوف‬
‫ِ‬ ‫الليايل والأيام لنلتقي‪ .‬لقد �‬
‫نلتقي قري ًبا ولكن لي�س الآن‪ ،‬ما زال هناك القليل من االنتظار‪ ،‬ف�شيوخ‬
‫املجل�س يف روما يعتقدون �أنني جمرم وقد ك�سرت القانون املقد�س‪.‬‬
‫�أر�سلت مارك �أنتوين �إليهم للو�صول �إىل ت�سوية منا�سبة لأعود �إىل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫روما يف �أقرب وقت‪ ،‬ولكنني ارتكبت اجلرمية الكربى‪ ،‬وهي �أنني‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�س�أعود وعلى ر�أ�سي �إكليل املجد والعزة‪ ،‬وهم كانوا ي�أملون �أن �أعود‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ب�إكليل العار والهزمية‪ ،‬ولكني يف النهاية جندي ول�ست �شاع ًرا �أو‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫فيل�سو ًفا‪� .‬إن ف�شلت الت�سوية ف�س�أعود �إىل روما بالقوة‪ ،‬وحتى �إن‬
‫ا�ضطررت النتظار الربيع لنكون م ًعا جمددًا‪ ،‬زوجك العزيز قي�صر‪.‬‬
‫انتهت كالبورنيا‪ ،‬وبابت�سامة �ض َّمت الر�سالة �إىل �صدرها لأنها كانت‬
‫حتمل رائحة قي�صر‪ ،‬كلماته وعاطفته‪ ،‬انتظرت كث ًريا وقد ينتهي انتظارها‬
‫يف �أي وقت‪ .‬تناولت كارال الر�سالة من يد كالبورنيا‪ ،‬وبعد حلظات من‬
‫القراءة ابت�سمت وقالت‪:‬‬
‫‪--‬يبدو �أن قي�صر متيم بك يا �سيدتي‪.‬‬
‫ت�ساءلت ب�شغف‪� :‬أتظنني هذا يا كارال؟‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪� ،‬إنه ي�صعب على جندي قد قا�سى احلرب لثماين �سنوات‬
‫�أن يكتب ر�سالة متتلئ بالعاطفة‪� ،‬إال �أن قي�صر قد غلبته عاطفته يف‬
‫ر�سالته لك‪.‬‬
‫‪--‬ولكن متى �سوف يعود؟‬

‫‪201‬‬
‫‪--‬يقول يف ر�سالته‪ ،‬يف �أقرب وقت‪.‬‬
‫قليل و�شردت للحظة و�أردفت‪:‬‬ ‫�صمتت ً‬
‫‪--‬رمبا يكون �أقرب وقت بعد ثماين �سنوات �أخرى‪.‬‬
‫قالت كارال‪:‬‬
‫‪--‬قي�صر لن ينكث بوعوده يا �سيدتي‪� ،‬إنه يحبك ب�شدة‪.‬‬
‫‪--‬كل ما يف الأمر �أنني مللت‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر ي�ستحق االنتظار يا �سيدتي‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫نظرت كالبورنيا �إىل خادمتها كارال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬‫‪--‬نعم‪� ،‬إنه ي�ستحق‪ ،‬لهذا �س�أنتظر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ثم لفحها ال�صمت واحلزن‪ ،‬ال بد �أن انتظارها لثماين �سنوات كان‬

‫ع‬
‫قليل‪ ،‬ورمبا يحدث اللقاء يف �أي‬ ‫طويل‪ ،‬فالآن عليها فقط �أن تنتظر ً‬ ‫ً‬
‫حلظة‪ ،‬كل ما عليها فقط فعله هو �أن تنتظر ب�ضعة �أيام �أخرى‪� ،‬أو رمبا‬
‫ب�ضعة �أ�سابيع �أو حتى �شهور‪ ،‬لكن ال تتمنى �أن ت�ستحيل ال�شهو ُر �سنني‪،‬‬
‫فتكون �أيام الفراق ده ًرا �آخر مير فيه العمر بال ا�ستئذان‪ ،‬فاالنتظار يقتل‬
‫كما ال�سيف‪ ،‬وهي قد �شبعت موتًا منذ زمن‪.‬‬

‫كان على ُبعد يوم واحد من احلدود الرومانية‪ ،‬يف رحلته �شاهد التالل‬
‫اخل�ضراء التي تو�شحت بالثلج الأبي�ض النا�صع‪ ،‬وال�سهول املفرو�شة‬
‫بالأزهار والأنهار اجلارية التي تلمع كالأحجار الكرمية‪ ،‬انت�صبت �أعواد‬
‫القمح التي كانت تقرتب وت�شع نو ًرا م�ألو ًفا‪ ،‬كان الربد ً‬
‫قار�سا لكنه �شعر‬
‫نف�سا من الهواء البارد �أ�شعل يف �صدره احلنني‪ ،‬رمق‬ ‫بالدفء‪� ،‬سحب ً‬
‫‪202‬‬
‫وارت�صت‬
‫املنازل واملزارع كما كان يفعل منذ ثماين �سنوات‪ ،‬مل يتغري �شيء‪َّ ،‬‬
‫الأ�شجار يف �صفوف وارتع�شت �أوراقها مبرور الرياح بني �أغ�صانها‪ ،‬كان‬
‫� ْأمر قي�صر بذهابه �إىل اليونان مفاج ًئا له‪ ،‬ف�إنَّ تخ ِّلي قي�صر عن �أف�ضل‬
‫قادته دفعة واحدة وبقاءه وحيدً ا يف الغال كان �أم ًرا م�ستبعدً ا‪ ،‬مل ي�ش�أ‬
‫�ألك�سيو�س �أن يح�ضر بقوات ع�سكرية كما �أمر قي�صر حتى ال يلفت االنتباه‪،‬‬
‫م�ساعده «فري�سي�س»‪ ،‬كان فتًى يف‬‫كان وحيدً ا على �صهوة ح�صانه ومعه ِ‬
‫عقده الثاين‪ ،‬يحمل �سيف �سيده‪ ،‬ينظف �أ�سلحته بعد املعارك‪ ،‬يهيئ درعه‬
‫�أحيا ًنا‪ ،‬كانت تقرتب منه املرافئ حلظة بعد حلظة‪ ،‬يتمنى فقط لو ينتهي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كل هذا‪ ،‬كان ذاه ًبا للحرب بح ًثا عن املجد‪ ،‬ولكن الآن ال ي�أمل �إال يف‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫دقائق هادئة يف بيته �أعلى التالل بعيدً ا عن ال�ضجيج ويظل يف �سكون تام‪.‬‬

‫ش‬ ‫ب لل َّ‬
‫ارت�صنت‬
‫و‬ ‫ر‬
‫الكبري وقف ماركو�س �أنطونيو�س يف منت�صف دائرة‬ ‫جوبيرت‬ ‫يف معبد‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و�‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ال�شموع بانتظام‪ ،‬وقف ثالثة‬
‫أنطونيو�س‬ ‫ماركو�س‬
‫مر�سومة بالدماء‪ ،‬وفوق الدائرة‬
‫�أحبار يرتلون الن�صو�ص الرومانية املقد�سة‪ ،‬مل يحب‬
‫الطقو�س الدينية قط‪ ،‬لكنه كان م�ضط ًّرا للخ�ضوع �إىل تلك الطقو�س‬
‫لإمتام تعيينه كقن�صل يف جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬بعد دقائق دخل �أحد الكهنة‬
‫بثور هائل احلجم ثم بد�أت الطبول يف القرع بوترية تخفت وترتفع مع‬
‫�أ�صوات متداخلة من الكهنة وترتيالتهم‪.‬‬
‫اقرتب الكاهن الأكرب �سيليفيان و�أح�ضر �سكي ًنا حادة‪ ،‬ويف حلظة ج َّز‬
‫أر�ضا و�أخرج خري ًرا عال ًيا وانبثقت الدماء من عنقه‬‫عنق الثور ف�سقط � ً‬
‫بغزارة �شديدة‪� ،‬أح�ضر الكاهن ك� ًأ�سا ذهبية ممتلئة بالنبيذ وقربها �إىل‬
‫عنق الثور بحذر‪ ،‬واكتفى بنقطة من الدم الذي اختلطت مع النبيذ‪ ،‬اقرتب‬
‫الكاهن واخرتق الدائرة و�س َّلمه ك�أ�س النبيذ‪ ،‬جترع ماركو�س الك�أ�س كلها‬
‫وعلى وجهه عالمات التقزز والنفور‪ ،‬تناول الكاهن ع�صاه وقال‪:‬‬
‫‪203‬‬
‫ً‬
‫قن�صل رومان ًّيا‪.‬‬ ‫‪--‬با�سم جوبيرت العظيم‪� ،‬أع ِّينك‬
‫ب�صوت ملول غري مكرتث‪ :‬و�أخ ًريا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قال مارك �أنتوين‬
‫ناوله اخلادم ك�أ�س النبيذ‪ ،‬فتجرعها دفعة واحدة و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا �أف�ضل‪ ،‬على الرغم من ق�ضائي ثماين �سنوات يف احلرب‪،‬‬
‫ف�إنني مل �أتذوق فيها الدماء‪ ،‬و�أ�شكر الآلهة على هذا‪� ،‬إنه مقرف‪.‬‬
‫دخل جندي من جنود مارك �أنتوين و�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬سيدي‪ ،‬ال�سيدة �آ ْت َيا �أر�سلت ً‬

‫ع‬
‫ر�سول يقول �إن جمل�س ال�شيوخ �سوف‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫يجتمعون عندها اليوم ومعهم بومبايو�س ماجنو�س‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬


‫‪--‬نعم‪� ،‬سوف �أذهب ً‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫حال‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش�‬


‫و‬ ‫ت‬
‫باحة املنزل‪ ،‬طرق الباب وانتظر للحظة حتى فتحت اخلادمة‪ ،‬دخلزيع‬
‫الكبري جلوبيرت‪ ،‬وامتطى �صهوة فر�سه‬ ‫املعبد‬ ‫من‬ ‫أنتوين‬ ‫خرج مارك �‬
‫ا�سه فتوقفوا عند‬‫إىل ح َّر‬ ‫واجته �إىل بيت �آ ْت َيا مع جنديني للحرا�سة‪� .‬أ�شار‬
‫مارك‬
‫�أنتوين‪ ،‬اقرتبت منه �آ ْت َيا وقالت‪:‬‬
‫‪--‬يا للآلهة! جرنال مارك �أنتوين‪ ،‬لقد تغريت كث ًريا‪.‬‬
‫عانقها ماركو�س وابت�سم و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬عزيزتي �آ ْت َيا‪ ،‬ت�سعدين ر�ؤيتك كث ًريا‪.‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫نظر لها للحظة وقال‪:‬‬
‫‪--‬بحق فينو�س‪� ،‬أنت جميلة كحوريات البحر‪ ،‬مل تتغريي كث ًريا ما ِ‬
‫زلت‬
‫كفتاة يف الع�شرين‪.‬‬
‫‪--‬ل�ست �أنا التي يف الع�شرين الآن‪ ،‬بل ابنتي‪.‬‬
‫‪204‬‬
‫‪�--‬صحيح؟ عندما غادرت كانوا ما زالوا � ً‬
‫أطفال‪ ،‬كيف حالهم؟‬
‫حال‪َ ،‬‬
‫تعال اجل�س‪.‬‬ ‫‪�--‬س�أجعل اخلدم ي�ستدعونهم ً‬
‫جل�سوا فا�ستطردت‪:‬‬
‫‪�--‬أخربين كيف حال قي�صر؟‬
‫‪�--‬أف�ضل من �أي وقت م�ضى‪ ،‬لكنه حزين على جوليا‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬موت جوليا كان �شا ًّقا على اجلميع‪.‬‬
‫ثم �أ�شارت �آ ْت َيا �إىل اخلادمة ف�أح�ضرت �أواين عليها ك�ؤو�س النبيذ‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فقالت �آ ْت َيا‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫‪--‬تف�ضل‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫قال ماركو�س‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ال �أحب �أن تختلط اخلمر بال�سيا�سة‪.‬‬
‫‪--‬ال فرق‪ ،‬فاالثنتان ت�ؤملان ر�أ�سي‪.‬‬
‫�ضحك و�أردف‪ :‬انظروا من يتحدث بفل�سفة‪.‬‬
‫قالت �آ ْت َيا‪ :‬على كل‪ ،‬ماذا ينوي قي�صر �أن يفعل؟‬
‫‪--‬قي�صر لن يتنازل عن العودة لروما بالن�صر‪.‬‬
‫قالها �أوكتافيو�س وهو يقرتب‪.‬‬
‫قالت �آ ْت َيا بعد حلظة �صمت‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬هذا �أوكتافيان ال�صغري‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬مرح ًبا‪ ،‬جرنال �أنتوين‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫‪--‬مرح ًبا يا فتى‪.‬‬
‫قالت �آ ْت َيا‪� :‬أعتذر جرنال �أنتوين‪ ،‬لكن �أوكتافيو�س مهوو�س بال�سيا�سة‪.‬‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ح ًّقا؟ �إذن �أخربين ماذا كنت تقول؟‬
‫‪--‬قي�صر لن يتنازل عن ن�صره ب�سهولة‪.‬‬
‫قال ماركو�س‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ،‬أخربين ماذا ترى؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قالت �آ ْت َيا‪ :‬يا للآلهة! لقد �أ�صابني الغثيان‪ ،‬ال �أحتمل ال�سيا�سة‪� ،‬س�أذهب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لأح�ضر �أوكتافيا‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫غادرت �آ ْت َيا‪ ،‬ف�س�أل �أوكتافيو�س‪:‬‬

‫ع‬ ‫ً‬
‫قن�صل‪� ،‬صحيح؟‬ ‫‪--‬لقد مت تعيينك‬
‫‪--‬بلى‪� ،‬صحيح‪.‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‬
‫‪--‬ال �أعرف دوافع قي�صر‪.‬‬
‫ابت�سم �أوكتافيو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬إن كنت ال تريد الإف�صاح ف�أنا �أحرتم هذا‪� ،‬أما �إن كنت ت�ستخف بي‬
‫متاما‪ ،‬ودا ِف ُع قي�صر وا�ضح كال�شم�س‪.‬‬
‫فهذا �شيء خمتلف ً‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين ب�إعجاب‪:‬‬
‫‪--‬ال �أ�ستخف بك‪ ،‬فقل يل ما دافع قي�صر؟‬
‫‪--‬الدافع احلقيقي الذي يجعل قي�صر يدفع الكثري من الذهب جلمع‬
‫قن�صل للدولة الرومانية هو يف‬ ‫ً‬ ‫الأ�صوات يف املجل�س لتعيينك‬
‫‪206‬‬
‫احلقيقة �أهم بكثري من الذهب‪ ،‬و�أحرتم قي�صر التخاذه هذا القرار‬
‫ال�صعب‪� .‬أما عن الهدف احلقيقي الذي يريد �أن ي�صل �إليه قي�صر‬
‫قن�صل‪ ،‬فهو الوالء‪.‬‬‫ً‬ ‫بتعيينك‬
‫‪--‬الوالء؟‬
‫قال �أوكتافيان‪:‬‬
‫‪--‬قي�صر يريد ك�شف الطبيعة الإن�سانية الرا�سخة يف نفو�س �شيوخ‬
‫املجل�س‪ ،‬فالإن�سان بطبيعته حيوان عاقل‪ ،‬فعندما يفقد الإن�سان هذا‬

‫ع‬
‫مفرت�سا �أم حيوا ًنا �ألي ًفا؟ هذا ما يريد‬
‫ً‬ ‫العقل‪ ،‬هل �سيكون حيوا ًنا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قي�صر معرفته بب�ساطة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫�س�أل ماركو�س بتعجب‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬ماذا تق�صد؟ ِّ‬


‫و�ضح‪.‬‬
‫‪--‬يريد قي�صر جتريد �شيوخ املجل�س من وقارهم املعهود بتعيينك‬
‫م�شو�شا‪ ،‬ففي تلك اللحظة التي يكون‬ ‫ً‬ ‫قن�صل‪ ،‬فالغ�ضب يجعل العقل‬ ‫ً‬
‫فيها العقل غري حا�ضر تخرج الغرائز احليوانية للإن�سان‪ ،‬والتي‬
‫تك�شف عن نوايا النفو�س‪ .‬قي�صر لي�س فقط جند ًّيا ولكن �شخ�ص‬
‫عقالين‪ ،‬هو ي�ستخدمك ك�أداة لإغ�ضاب املجل�س‪ ،‬ليطمئن قي�صر �إن‬
‫قرر يف امل�ستقبل العودة �إىل روما بفيالقه‪.‬‬
‫�س�أل مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬و�أنت يا فتى‪ ،‬كيف عرفت؟‬
‫الأمر ال يحتاج فل�سفة‪ ،‬فقط ترتيب الأمور مبنطقية‪.‬‬
‫‪--‬ويف ر�أيك‪ ،‬كيف �ست�سري تلك الت�سوية؟‬
‫�س�أل �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪207‬‬
‫‪--‬وماذا ين�شد قي�صر من تلك الت�سوية؟‬
‫‪--‬تعيينه كممثل للعامة‪ ،‬وكقن�صل مدى احلياة‪ ،‬وفوق كل هذا يريد‬
‫ح�صانة قانونية بقيادة �إقليم‪.‬‬
‫‪�--‬إن كان �شيوخ املجل�س �أذكياء ف�سيوافقون بكل ت�أكيد على كل مطالب‬
‫قي�صر �أ ًّيا تكن تلك املطالب‪ ،‬ولكن دعني �أ�ؤكد لك �أنهم �أغبياء‬
‫و�سوف يرف�ضون با�سم القانون وبا�سم روما وب�أ�سماء عدة‪.‬‬
‫�س�أل ماركو�س‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬وما الذي ي�ؤكد لك ذلك يا فتى؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬ال�سيف الذي يجرح مرة‪ ،‬يجرح دائ ًما‪� ،‬إنهم الآن ال يقفون �أمام‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫قي�صر وفيالقه فقط بل يقفون �أمام ال�شعب � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬ولو ا�شتعلت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫احلرب ف�سيكون ال�شعب يف �صف قي�صر‪ ،‬فالألعاب التي يقيمها‬

‫ع‬
‫لل�شعب والديون التي ي�سددها والذهب الذي يغدقه قي�صر على‬
‫كاف ليجعله مل ًكا �إذا �أراد الرجوع �إىل روما يف �أي وقت‪.‬‬
‫ال�شعب ٍ‬
‫‪--‬وما احلل الذي يجنبنا �إراقة الدماء؟‬
‫قال �أوكتافيو�س بنربات واثقة‪:‬‬
‫‪�--‬إراقة الدماء �أمر �ضروري عند بناء الإمرباطوريات‪ ،‬فاملجد ال ي�أتي‬
‫�إال بالت�ضحيات اجل�سيمة‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر ال يريد �إراقة الدماء‪.‬‬
‫�ساذجا‪ ،‬هو يعرف ماذا يريد ويحاول حتقيقه بذكاء‬ ‫ً‬ ‫‪--‬قي�صر لي�س‬
‫ودهاء‪ ،‬قي�صر يف النهاية جندي‪ ،‬وعندما تنفد من �أمامه اخليارات‬
‫�سيفعل ما يفعله اجلنود‪.‬‬
‫يف تلك اللحظة اقرتبت �آ ْت َيا ويف يدها �أوكتافيا‪ ،‬رمقها ماركو�س للحظة‬
‫ثم وقف و�أم�سك يديها وطبع عليها قبلة ثم نظر �إليها وقال‪:‬‬
‫‪208‬‬
‫‪--‬يا للآلهة! بحق �صليب فينو�س‪� ،‬أنت جميلة‪ ،‬مثل �أمك ً‬
‫متاما‪.‬‬
‫قالت �أوكتافيا يف حرج‪� :‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫�أردفت �آ ْت َيا لأوكتافيو�س‪:‬‬
‫تعال‪� ،‬أريدك للحظة يا �أوكتافيان‪.‬‬ ‫‪َ --‬‬
‫غادرت �آ ْت َيا و�أوكتافيو�س وجل�ست �أوكتافيا‪ ،‬فقال ماركو�س‪:‬‬
‫أ�صبحت كبرية‪ ،‬لقد تركتك �صغرية يف الثالثة ع�شرة من عمرك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪--‬لقد �‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ابت�سمت وقالت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬نعم‪ ،‬الوقت مير‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ثم ا�ستطردت و�س�ألت‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪--‬الندبة على عينك‪ ،‬هل هي من معركة؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬حاول �أحدهم ح�شر ال�سيف يف عيني‪.‬‬
‫‪--‬وماذا فعلت؟‬
‫‪--‬ح�شرته يف م�ؤخرته‪.‬‬
‫�ضحكت �أوكتافيا وقالت‪ :‬ح ًّقا؟‬
‫‪--‬نعم‪ .‬لقد ت�أمل هذا الرجل كث ًريا قبل موته‪.‬‬
‫كانت �أوكتافيا تت�ألق �أمام مارك �أنتوين‪ ،‬نظر لها نظرة �إعجاب‪ ،‬كانت‬
‫جميلة ولفتت �أنظاره من الوهلة الأوىل‪ ،‬تركها طفلة والآن باتت �أنثى ذات‬
‫جمال فاتن والفت‪ ،‬قالت �أوكتافيا‪:‬‬
‫‪--‬كيف يق�ضي الرجل ثماين �سنوات متتالية من احلرب جرنال �أنتوين؟‬
‫قليل‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫�صمت مارك �أنتوين ً‬

‫‪209‬‬
‫‪--‬ال�سنة الأوىل يف احلرب هي الأ�صعب دائ ًما‪ ،‬لي�س فقط على اجلنود‪،‬‬
‫قار�سا والدماء يف كل مكان‪ ،‬يقتلنا‬
‫أي�ضا‪ ،‬يكون الربد ً‬ ‫بل على القادة � ً‬
‫ال�ضمري قبل ال�سيف وتطاردنا �أ�شباح القتلى يف كل مكان‪� ،‬أما يف‬
‫ال�سنة الثانية فيبد�أ اجلنود يف الت�أقلم على كل �شيء‪ ،‬الربد ورائحة‬
‫الدماء والطني‪ ،‬يبد�أ ال�ضمري باالحت�ضار ومتوت تلك الأ�شباح مع‬
‫متاما‪،‬‬
‫الوقت‪ ،‬ثم يف باقي ال�سنوات يتحول الرجال �إىل �شيء خمتلف ً‬
‫بال قلب �أو رحمة‪ ،‬احلرب تقتل الرحمة يف قلوب الرجال يا �أوكتافيا‬
‫وحتولهم �إىل وحو�ش‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت�ساءلت‪ :‬وقي�صر؟‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬يف البداية ظننت �أن قي�صر ككل الرجال‪ ،‬ومع الوقت اكت�شفت �أنه‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قا�س‬
‫متاما عن �أي رجل‪� ،‬إن له قلب ٍ‬ ‫لي�س كذلك‪ ،‬قي�صر خمتلف ً‬

‫ع‬
‫ميتلئ بالعطف‪ ،‬ال �أعرف كيف؟ الأمر معقد‪ ،‬ولكنه رجل غريب‪،‬‬
‫يحمل �سمات النبالة ويحب العامة‪ ،‬مل يتحول �إىل ذئب جائع مثل‬
‫اجلنود يظل دائ ًما متح�ض ًرا كما كان دائ ًما‪ ،‬ولهذا ال�سبب �أتبع و�أحب‬
‫يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫على ُبعد �شارعني كان �شيوخ املجل�س يقرتبون من بيت �آ ْت َيا ومعهم‬
‫بومبايو�س ماجنو�س‪ ،‬كان القلق يدق �صدورهم جمي ًعا‪ ،‬متخبطني وال‬
‫وا�ضحا �أمام‬
‫ً‬ ‫يعرفون �إىل ما �سوف تئول �إليه تلك الت�سوية‪ .‬كان الأمر‬
‫�صارما للحد من ذلك التمرد‬ ‫ً‬ ‫بومبايو�س‪ ،‬وكان عليه �أن يتخذ قرا ًرا‬
‫الطموح اجلارف الذي َت َّلك �صديقه‬ ‫الذي �أجحف بيوليو�س قي�صر ذلك ُّ‬
‫وا�ستوىل على جوارحه‪ .‬على الرغم من يقينه التام بجرم يوليو�س قي�صر‬
‫ف�إنه كان يت�أمل من �أجله‪ ،‬كان يتمنى �أن يحافظ على العهد الذي �أعطاه‬
‫جلوليا قبل موتها‪ ،‬ولكن يوليو�س قي�صر لن يرتاجع‪ ،‬هو يعرف �صديقه‬
‫مكان ما يف‬
‫أي�ضا يكنُّ له احلب يف ٍ‬ ‫جيدً ا‪ ،‬عنيد دائ ًما‪ ،‬ومتمرد‪ ،‬ولكنه � ً‬
‫‪210‬‬
‫قلبه‪ ،‬تلك العواطف املتقلبة ترهق روحه ال�ضعيفة‪ .‬احلب والكره واحلقد‬
‫واحلنني‪ ،‬جميعها يف داخله يف �صراع من �أجل البقاء‪ ،‬وهو تائه بينها وال‬
‫يعرف هل �إن وجد يوليو�س قي�صر �أمامه �سوف يطعنه ب�سيف �أم يحت�ضنه‬
‫ِب� ًأ�سى‪ .‬ولكن كل الذي يدور يف خلده الآن لي�س له فائدة‪ ،‬لقد ُح�سم الأمر‪،‬‬
‫عليه �أن يواجه �صديقه و�أن يتحمل العواقب‪� ،‬أ ًّيا تكن تلك العواقب‪.‬‬
‫دخل �شيوخ املجل�س �إىل بيت �آ ْت َيا‪ ،‬كان مارك �أنتوين ً‬
‫جال�سا‪� ،‬أخرب‬
‫اخلدم �آ ْت َيا بح�ضور �شيوخ املجل�س‪� ،‬أمرتهم بتقدمي النبيذ وخرجت ومعها‬
‫�أوكتافيو�س‪ ،‬اقرتبت ثم قالت‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬تف�ضلوا‪ ،‬مرح ًبا بكم جمي ًعا‪.‬‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫‪--‬ا�سمعيني يا �آ ْت َيا‪ ،‬تلك جل�سة �سرية‪ ،‬وما �سيدور هنا من حديث ال‬
‫يجب �أن يعلم به �أحد‪.‬‬
‫قالت �آ ْت َيا‪:‬‬
‫‪--‬بالت�أكيد �أيها القن�صل‪.‬‬
‫ثم التفت بومبايو�س �إىل مارك �أنتوين و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل يا ماركو�س‪ ،‬حتدث‪.‬‬
‫‪--‬ال‪� ،‬أنا هنا لال�ستماع‪ ،‬ماذا تنتظرون من قي�صر؟‬
‫�أردف كاتو‪:‬‬
‫‪--‬العودة �إىل روما واملثول �أمام املجل�س ومواجهة التهم الآتية‪ ،‬احلرب‬
‫غري امل�شروعة واخليانة وك�سر القوانني الرومانية املقد�سة‪.‬‬
‫ثم �أكمل كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪211‬‬
‫‪--‬بجانب ت�سريح جي�شه �إىل الأبد والتخلي عن جميع �ألقابه وقادته‪.‬‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬وبحق الآلهة ملاذا �سوف يفعل هذا؟‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬ا�سمعني �أيها اجلرنال �أنتوين‪ ،‬نحن نريد �أن ن�صل �إىل ت�سوية ُتنبنا‬
‫�إراقة الدماء الرومانية من الطرفني‪ ،‬لذلك‪ ،‬على قي�صر التنازل‬
‫ً‬
‫قليل‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫قال ماركو�س‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫‪--‬ب�أي حق يتنازل الذئب للخراف؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�صاح بومبايو�س بغ�ضب‪:‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬صن ل�سانك يا فتى‪ .‬فب�إ�شارة مني �ستكون فيالقي يف �إ�سبانيا على‬
‫�أهبة اال�ستعداد و�أ�ستطيع �أن �أ�سحق قي�صر قبل عبوره الريبيكون‪.‬‬
‫�أردف مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬و�أنت يا بومبايو�س‪ ،‬ماذا حدث لك؟ هل �أ�صابك �شيوخ املجل�س‬
‫بالوهن؟ كيف حتول بومبايو�س العظيم من جندي عظيم �إىل جمرد‬
‫نبيل �أحمق من النبالء‪ ،‬كيف لك �أن تت�أمر مع النبالء على �صديقك‬
‫الذي يربطك به عهد دم مقد�س؟ قي�صر يحبك و�أنت ال تبادله تلك‬
‫العاطفة‪.‬‬
‫‪--‬ل�سنوات عديدة و�أنا �أدافع عن قي�صر‪ ،‬عن اندفاعه وعن حماقاته‪،‬‬
‫عن طموحه اجلارف كالطوفان‪ ،‬ولكن �إىل متى �س�أظل �أدفع ثمن‬
‫�أخطائه؟ قي�صر يريد ارتداء التاج‪ ،‬ولن �أ�سمح بهذا‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر ال يريد ارتداء التاج‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫أي�ضا عندما انت�صر يف حربه مل يكن يريد ارتداء التاج‪ ،‬حتى‬ ‫‪�--‬سوال � ً‬
‫دخل �إىل روما بقوات ع�سكرية‪.‬‬
‫�أردف ماركو�س‪� :‬أنت تعلم يا بومبايو�س �أن قي�صر لي�س �سوال‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر لن يعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية‪.‬‬
‫قالها بومبايو�س بحدة‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر يريد الت�أكد �أنه �سوف يدخل �إىل روما كجندي منت�صر‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫و�إن دخل �إىل روما من دون قواته‪ ،‬ف�سي�ستغل �شيوخ املجل�س �ضعفه‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ويحاكمونه حماكمة ع�سكرية كما قال كاتو‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫�أردف �سي�سرو‪ :‬وما احلل �إذن؟‬
‫‪--‬احلل هو تعيني قي�صر كممثل للعامة‪ ،‬حتى ال يحاكمه �أحد النبالء‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ممثل العامة‪ .‬يريد قي�صر �أن يحكم جمل�س ال�شيوخ بح�صانة‬
‫قانونية؟ ح�س ًنا هذا �أ�سو�أ من دخوله �إىل روما بقوات ع�سكرية‪.‬‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أنتم �أيها النبالء ال �شيء يعجبكم‪� ،‬أخربوين ما الذي تريدونه؟ �أن‬
‫يتخلى قي�صر عن قوته وي�سلم نف�سه للمجل�س ليحاكموه حماكمة‬
‫ع�سكرية؟ نحاول هنا جتنب �إراقة الدماء‪ ،‬و�أنتم ال تهتمون �إال‬
‫ب�إق�صاء قي�صر ب�أي و�سيلة ممكنة‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪213‬‬
‫‪�--‬إن كان قي�صر يريد جتنب حماكمة املجل�س فعليه �أن يق�ضي بع�ض‬
‫ال�سنوات يف املنفى‪.‬‬
‫ارت�سمت عالمات التعجب على وجه ماركو�س وقال‪ :‬من ًفى؟‬
‫ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬كنت �أعتقد �أنكم تتح َّلون ببع�ض املنطق هنا‪ ،‬ولكن يبدو يل �أنكم ال‬
‫ت�ستطيعون �إدراك حقيقة الأمر‪ ،‬قي�صر هنا هو القوي‪ ،‬هو من ميلي‬
‫ال�شروط ولي�س �أنت يا كاتو‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قال بومبايو�س‪:‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬الأمر غري املنطقي هنا يا ماركو�س ال�صغري هو ما يريد قي�صر‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الو�صول �إليه‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ما يريد قي�صر الو�صول �إليه هو �أمر طبيعي‪ ،‬لو فعل قي�صر ما‬
‫تريدونه �أنتم �أيها النبالء َل َفقد حياته يف حلظة دخوله �إىل روما‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أال تردد دائ ًما �أن ال�شعب يحب قي�صر؟ �إذا كان يحبه بالفعل فليحمِ ه‬
‫�إذن‪.‬‬
‫‪--‬ال�شعب يحب قي�صر بالفعل‪ ،‬ولكن يف النهاية ال�شعب لي�سوا بجنود‪،‬‬
‫وال�شيء الوحيد الذي �سوف يحمي قي�صر منكم �أيها النبالء هي‬
‫جحافله‪.‬‬
‫�أردف بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ما تقوله �إن قي�صر ي�صر على عبوره الريبيكون بقوات ع�سكرية؟‬
‫‪--‬قي�صر تنفد من �أمامه اخليارات‪ ،‬وعندما يحدث ذلك ف�سيفعل �أي‬
‫�شيء للدخول �إىل روما‪.‬‬
‫‪214‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬هناك حل �أخري دعنا نتطرق له‪.‬‬
‫�أردف كاتو‪ :‬وما هو؟‬
‫‪--‬عليك يا ماركو�س �أن تتوجه غدً ا �إىل جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬وقدم طلب‬
‫عودة قي�صر �إىل املجل�س‪ ،‬ودعنا نرى ماذا يريد ال�شعب‪.‬‬
‫‪--‬جميعنا نعرف ماذا يريد ال�شعب يا �صديقي �سي�سرو‪� ،‬أنتم فقط‬
‫الذين ت�ضعون �أيديكم على �آذانكم‪ ،‬وبالرغم من ذلك �سوف �أقدم‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫طلبي �إىل املجل�س غدً ا‪ ،‬ويف كل الأحوال �سيدخل قي�صر روما‪.‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫‪�--‬إذن ينتهي‬

‫و‬
‫آن‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫حديثنا‬

‫زيع‬
‫وكاتو‪.‬‬ ‫وكا�سيو�س‬ ‫�سي�سرو‬ ‫قالها وغادر غا�ض ًبا ومن ورائه‬
‫اقرتب �أوكتافيو�س من ماركو�س ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬تلك كانت حماقة كبرية‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين بحدة‪:‬‬
‫‪--‬املعذرة‪.‬‬
‫‪--‬ما فعلته كان ً‬
‫ت�سرعا‪ ،‬كان عليك �أن ت�أخذهم بال�سيا�سة‪ ،‬فالآن �إن‬
‫ذهبت �إىل املجل�س غدً ا لتقدمي الطلب‪ ،‬فلن ي�سمحوا لك‪ ،‬كان ذلك‬
‫ًّ‬
‫فخا‪ ،‬و�أنت وقعت فيه بب�ساطة ك�أنك ِغ ٌّر‪.‬‬
‫ت�ساءل مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تق�صد؟‬
‫‪215‬‬
‫‪�--‬سيمنعونك بكل ما لديهم من قوة‪ ،‬ولن ت�ستطيع �أن تط�أ قدمك �أر�ض‬
‫املجل�س‪ ،‬ولن ت�ستطيع �أن تقدم طلبك للنظر فيه‪.‬‬
‫‪--‬لن يجر�ؤوا‪.‬‬
‫‪--‬وماذا �سوف يخ�سرون؟ �سيمنعونك �أيها اجلرنال �أنتوين بالقوة‪ ،‬خذ‬
‫حذرك وا�ستع َّد لأي �شيء غري متوقع‪ ،‬ف�إنهم الآن لي�س لديهم �شيء‬
‫ليخ�سروه و�أنت هنا وحيد بفيلق م�شتت مل يتبقَّ منه �سوى القليل‪.‬‬
‫بعد دقيقة من التفكري وجد �أن �أوكتافيو�س ال�صغري حمق يف كل ما‬

‫ع‬
‫عاما ولكن كانت حكمته وفل�سفته‬ ‫قاله‪ ،‬كان يبلغ من العمر ثالثة ع�شر ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫غريبة ومبهرة لفتًى يف مثل �سنه‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫خرج بومبايو�س ماجنو�س من بيت �آ ْت َيا غا�ض ًبا من تلك الوقاحة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫املتج�سدة يف ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬كانت �شكوكهم ت�ستفحل كل حلظة‬

‫ع‬
‫ب�أن قي�صر لن يعود �إال كملك �أو �إمرباطور ويعلق القوائم ال�سوداء كما‬
‫فعل �سوال عندما دخل �إىل روما وعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية‪� ،‬شعروا‬
‫جمي ًعا بخليط من اخلوف والقلق امل�شوب ب�شيء من ال�شجاعة‪ ،‬يجب‬
‫عليهم �أن يواجهوا قي�صر على كل حال‪ ،‬قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا �سوف نفعل يا بومبايو�س؟‬
‫�صمت بومبايو�س ً‬
‫قليل ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬عليكم �أن تعار�ضوا الطلب الذي �سوف يقدمه مارك �أنتوين غدً ا‪.‬‬
‫قال كاتو‪ :‬وبعد؟‬
‫‪--‬ننتظر‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س بحنق‪:‬‬
‫‪--‬ننتظر عبور قي�صر الريبيكون بقوات ع�سكرية؟‬
‫‪216‬‬
‫‪--‬فيالقي يف �إ�سبانيا لي�ست م�ستعدة بعد‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬
‫‪--‬احلل الأف�ضل هو انتظار جتميع الأ�صوات يف املجل�س‪.‬‬
‫ثم �أردف كاتو‪:‬‬
‫‪--‬قي�صر ال يهمه القانون‪ ،‬عندما �س�ألت بروتو�س عن �أحوال جحافل‬
‫قي�صر قال يل �إنه لن يتبقى لقي�صر من جحافله �إال ثالثة فيالق‬
‫متمردة‪ ،‬قي�صر �ضعيف �أكرث من �أي وقت م�ضى‪ ،‬بقاء جحافله‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لثماين �سنوات متتالية من احلرب جعلهم متمردين يهربون‪ ،‬والباقي‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫منهم خارت قواهم وال ي�ستطيعون خو�ض حرب �أخرى‪ ،‬تلك فر�صتنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يا بومبايو�س‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إىل ماذا ترمي؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬حتت �أيدينا الآن اثنان من �أف�ضل قادة قي�صر‪ ،‬والتخل�ص منهم‬
‫�سهل‪ ،‬فهم هنا بال حماية‪ ،‬ماركو�س �أنطونيو�س مع بقايا‬ ‫�سيكون ً‬
‫فيلق‪� ،‬أما �ألك�سيو�س‪...‬‬
‫قاطعه كاتو‪:‬‬
‫‪--‬يقول بروتو�س �إنه متجه �إىل اليونان وال يعرف ال�سبب‪.‬‬
‫�أردف بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬واملطلوب؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪217‬‬
‫‪--‬علينا اغتيالهم يا بومبايو�س‪ ،‬من دونهم �سوف ي�صبح قي�صر وحيدً ا‬
‫و�ضعي ًفا‪� ،‬سوف ي�سهل الق�ضاء عليه‪� ،‬أنت تعلم هذا‪.‬‬
‫ال‪ ،‬ال ل�سفك الدماء‪.‬‬
‫‪--‬قال �سي�سرو‪:‬‬
‫نعم‪� ،‬أنا مع بومبايو�س‪ ،‬هل تريدون �إ�شعال حرب؟‬
‫‪--‬قال كاتو‪ :‬احلرب هي ما يريده قي�صر‪ ،‬ون�صف احلرب دهاء‪.‬‬

‫ع‬
‫قال �سي�سرو باحتجاج‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬باغتيالكم قادة قي�صر �سوف ت�سفكون دماء الآالف من الأبرياء‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬‫بل‬
‫ل‬
‫ً‬

‫ر‬
‫قن�صل رومان ًّيا‬ ‫قي�صر لن ي�صمت‪ ،‬وال تن�سوا �أن مارك �أنتوين �أ�صبح‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫و‬


‫�سي�سروالولوت �‬
‫الآن وله ح�صانة قانونية حتميه‪.‬‬
‫أتيحت لهم‬ ‫قال كا�سيو�س‪ :‬ح�صانة قانونية‪� .‬إنهم خونة يا‬
‫الفر�صة لذبحوا كل �شيوخ املجل�س دفعة واحدة‪ ،‬مارك �أنتوين ال�صغري‬
‫�أ�صبح يتحدث بوقاحة مل نعهدها لأنه فقط ي�ساند قي�صر‪ ،‬يجب �أن ن�ضع‬
‫حدًّا لهذا‪.‬‬
‫ثم �أردف بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬ت�ستطيعون فعل �أي �شيء �إال �سفك الدماء الرومانية‪.‬‬
‫�أردف كاتو يف غ�ضب‪:‬‬
‫‪--‬تلك فر�صتنا الوحيدة لننت�صر على قي�صر‪ ،‬ولن ت�أتي فر�صة كتلك‬
‫جمددًا‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪218‬‬
‫‪�--‬إن مل نفعل هذا الآن يا بومبايو�س‪ ،‬فنحن ال نختلف عن قي�صر‪ ،‬بعد‬
‫انتهاء حكم �سوال كان القانون هو دين روما الأوحد ومل يجر�ؤ �أحد‬
‫على تخطيه �أو ك�سره‪ ،‬حتى جاء قي�صر اللعني‪ ،‬و�إن مل نقف يف وجهه‬
‫ف�سوف يعود حكم �سوال با�سم يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫كان بومبايو�س يت�أمل من كل حرف يقال منهم‪ ،‬مل يعهد نف�سه خائ ًنا‬
‫ل�صديقه والعهد املقد�س الذي بينهم‪ ،‬ولكن ال يوجد حل �سوى االحتدام‪،‬‬
‫ب�شكل ما تخرج‬
‫ال مفر من ذلك‪ ،‬ولكن كلما عزم على مواجهة قي�صر ٍ‬

‫ع‬
‫جوليا من الال�شيء وترمقه بنظرات ميل�ؤها اللوم والعتاب‪ ،‬فيرتاجع عن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قراره‪ ،‬يقدم ثم يحجم يف �شتات عظيم ال يعرف كيف ميلك جلامه‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫‪--‬نحن نحتاج �إىل قوات ت�ستطيع القتال‪ ،‬فالقوات التي ا�شرتيناها لقتل‬
‫امللك الغايل كانت �ضعيفة وهربت من املعركة �أمام مارك �أنتوين‪،‬‬
‫نحن نحتاج �إىل قواتك يا بومبايو�س‪.‬‬
‫ثم �أردف كاتو‪:‬‬
‫‪�--‬أما �ألك�سيو�س فهو الآن بالت�أكيد مل يخرج من روما‪ ،‬علينا تتبعه‬
‫واغتياله‪ ،‬فهو بالت�أكيد �سوف ي�سافر �إىل اليونان ب�أمر من قي�صر‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هو بالت�أكيد �سوف ي�سافر وحيدً ا من دون قوات‪ ،‬ولن يكون هد ًفا‬
‫�صع ًبا‪ ،‬اترك يل هذا الأمر‪.‬‬
‫كان بومبايو�س ي�ستمع وال يعرف ماذا يفعل؛ هل يوافقهم �أم يرف�ض‬
‫الذي يقولونه‪ ،‬وكان ال�صمت هو �سالحه الوحيد يف الوقت احلايل‪ ،‬ولكن‬
‫يف داخله اخلوف يت�شعب �إىل جذوره بال رحمة‪ ،‬خوف من طموح قي�صر‪،‬‬
‫وخوف من عدم فعل �شيء‪ .‬كان ال بد �أن يفعل �شي ًئا‪ ،‬لكن ال يدري ما هو‬
‫حتديدً ا‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫‪--‬يف اليوم التايل وقفت قوات بومبايو�س يف ال�ساحة الوا�سعة �أمام‬
‫املجل�س ثم خرج لهم بومبايو�س و�صاح فيهم‪:‬‬
‫بعد قليل �سوف يح�ضر ماركو�س �أنطونيو�س �إىل املجل�س ليقدم طلبه‬
‫ممثل لل�شعب‪ ،‬عليكم ب�صده ولكن ال دماء‪ ،‬ال‬ ‫بتعيني يوليو�س قي�صر ً‬
‫تلم�سوا ماركو�س �أنطونيو�س وال ت�ؤذوه ب�أي �شكل كان‪ ،‬ماركو�س �أنطونيو�س‬
‫الآن قن�صل روماين‪ ،‬امنعوه من دخول املجل�س ولكن ال �أريد دما ًء‪.‬‬
‫‪--‬وعند دخوله املجل�س قال كاتو‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫هذا لن يجدي نف ًعا يا بومبايو�س‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪�--‬أردف بومبايو�س‪:‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫قلت ال دماء‪.‬‬
‫‪--‬قال �سي�سرو‪:‬‬
‫رادعا له بع�ض الوقت‪.‬‬
‫على الأقل �سيكون هذا ً‬
‫‪�--‬أردف كاتو‪ :‬و�ألك�سيو�س؟‬
‫�أجاب كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬لقد توليت �أمره‪ ،‬هو الآن يتجه �إىل املرافئ لل�سفر �إىل اليونان‪ ،‬لقد‬
‫�أر�سلت خلفه بع�ض املغتالني واجلنود‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف كاتو‪:‬‬
‫‪--‬نعم ينق�صنا ماركو�س و�سوف نق�ضي على �أف�ضل قادة قي�صر‪ ،‬ولكن‬
‫ملاذا متنع هذا يا بومبايو�س؟‬
‫‪220‬‬
‫‪�--‬أنا ال �آبه بدماء مارك �أنتوين �أبدً ا‪ ،‬ولكن �سفك الدماء على �أعتاب‬
‫املجل�س ل ُه َو �شيء فظيع ولي�س من مبادئي‪.‬‬
‫كان املجل�س ينتظر ح�ضور ماركو�س �أنطونيو�س ليديل بطلبه كقن�صل‬
‫روماين له حقوق قانونية‪ .‬جاء ا�ستدعاء الفيلق قبل �ساعة من الفجر‪،‬‬
‫والعامل ال يزال �ساك ًنا وغائ ًما‪ ،‬مل يكن ماركو�س ينوي التوجه بفيلقه �إىل‬
‫و�سوا�سا‬
‫ً‬ ‫جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬ولكن كلمات �أوكتافيو�س ال�صغري �أثارت يف داخله‬
‫مقل ًقا‪ ،‬وعند مطلع ال�شم�س اجته بفيلقه �إىل املجل�س‪ ،‬كان عدده �صغ ًريا‬
‫رجل‪ ،‬كانت قوات بومبايو�س حتيط املجل�س يف كل‬ ‫ال يتعدى اخلم�سني ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫مكان‪ .‬تقدم مارك �أنتوين بحذر متحفزًا �أن ي�ست َّل �سيفه يف �أي حلظة‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ويف حلظة نفخ �أحد رجال بومبايو�س يف البوق‪ ،‬انطلق البوق واخرتق �آذان‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫بومبايو�س‪ ،‬هجمت قوات بومبايو�س على ماركو�س �أنطونيو�س وفيلقه‪،‬‬
‫ارت�صت‬‫ا�ست َّل �سيفه ب�سرعة وتراجع خلطوات ومن ورائه الفيلق وقد َّ‬
‫الدروع‪ ،‬خرج بومبايو�س من جمل�س ال�شيوخ رام ًقا قواته وقد ع�صت‬
‫الأوامر‪ ،‬نظر �إىل كاتو نظرة غ�ضب وقال‪:‬‬
‫‪--‬هل �أنت من فعل ذلك؟‬
‫قال كاتو‪:‬‬
‫‪--‬مل يكن هناك طريقة �أخرى‪.‬‬
‫ويف تلك اللحظة احتدمت قوات بومبايو�س بفيلق مارك �أنتوين‬
‫ب�شدة‪ ،‬كانت قوات بومبايو�س �أكرث عددًا وقوة‪ ،‬فالفيلق كان منه ًكا من‬
‫رحلته الطويلة من الغال �إىل روما‪ ،‬وبعد دقائق من االحتدام بال�سيوف‪،‬‬
‫ا�ستطاعت قوات بومبايو�س اخرتاق �صفوف الفيلق‪ ،‬ف�صاح ماركو�س‪:‬‬
‫«تراجعوا»‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫تراجع الفيلق وا�ستطاع مارك �أنتوين �أن ميتطي �صهوة فر�سه والهرب‪،‬‬
‫ان�سحب الفيلق وراءه يف �سرعة‪ ،‬مل يكن يتوقع مارك �أنتوين �أن ميتلك‬
‫�شيوخ املجل�س اجلر�أة ليغتالوه على �أعتاب املجل�س‪ ،‬هرب بعيدً ا واجته‬
‫�صوب الغال‪.‬‬
‫نظر بومبايو�س �إىل كاتو و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬هني ًئا لك‪ ،‬لقد �أ�شعلت حر ًبا �أهلية لن تنتهي باخلري‪.‬‬
‫قال كاتو‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬هل تنتظر مني اعتذا ًرا؟ لقد فعلت ما يجب فعله‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قال �سي�سرو ِب� ًأ�سى‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪--‬ما حدث قد حدث‪ ،‬علينا �أن ن�ضع اخلطة التي �سوف نواجه بها‬

‫ع‬
‫قي�صر‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬ما حال فيالقك الآن يا بومبايو�س؟‬
‫‪�--‬سوف �أعطي لها �إ�شارة للتحرك‪.‬‬

‫بعد ثالثة �أيام‪.‬‬


‫هائجا كان‪ ،‬م�ضطر ًبا يزجمر كا�ش ًفا عن �أنيابه كوح�ش غا�ضب‪،‬‬ ‫ً‬
‫هكذا كان البحر والأمواج‪ ،‬حاول الربان �أن ميلك زمام ال�سفينة لكن كان‬
‫للرياح ر�أي �آخر‪� ،‬شقت مقدم ُة ال�سفينة ال�ضباب الكثيف‪ ،‬وقف على �سطح‬
‫م�ساعده فري�سي�س‪ ،‬كان فتًى ً‬
‫نحيل �إىل‬ ‫ال�سفينة القائد �ألك�سيو�س وبجواره ِ‬
‫حدٍّ ما‪ ،‬رمق الأمواج العاتية وقال �إىل �سيده �ألك�سيو�س‪:‬‬
‫‪222‬‬
‫‪--‬متى �سوف ن�صل �إىل اليونان �سيدي؟‬
‫�أ�شار �ألك�سيو�س �إىل جزيرة قريبة يف اجلنوب و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬هذا �ساحل كريت‪ ،‬نحن الآن نبعد يومني عن احلدود اليونانية؟‬
‫وبعد دقائق مرت من احلديث بينهما‪ ،‬خرج من ال�ضباب العاتي ثالث‬
‫�سفن‪ ،‬كانت �سف ًنا عمالقة ي�صعب عدم مالحظتها‪ ،‬وظلت ال�سفن تبحر‬
‫يف دائرة �أحاطت ب�سفينتهم وحا�صرتها من كل اجلوانب‪ ،‬انطلق �سهم يف‬
‫الهواء مزجم ًرا بغري رحمة‪ ،‬الح يف الهواء حتى �أ�صاب الأ�شرعة العالية‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ف�شبت بها النريان‪ ،‬فهم �ألك�سيو�س ما يدور و�أمر الفتى فري�سي�س بالنزول‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�إىل القبو ب�سرعة عندما كانت تقرتب زوارق �صغرية من ال�سفينة وعليها‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫رجال ال يحمل وجوههم اخلري‪ ،‬ت�سلق الرجال ال�سفينة‪ ،‬كانت النريان‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫تنت�شر يف ال�سفينة وكانت الرياح قوية‪ ،‬ت�أهب �ألك�سيو�س وا�ست َّل �سيفه‪،‬‬
‫انت�شر القلق على �سطح ال�سفينة بني البحارة وامل�سافرين‪.‬‬
‫‪--‬قتل اجلنود كل من يقابلونه على ال�سفينة‪ ،‬ثم هجم �أحدهم على‬
‫�ألك�سيو�س ولكن كان الأخري متحف ًزا ب�سيفه وا�ستطاع قطع حلقه يف‬
‫رحما‬
‫حلظة‪ ،‬تقدم نحوه ثالثة جنود �آخرين‪ ،‬وكان �أحدهم يحمل ً‬
‫والآخ ُر بلط ًة ق�صري ًة‪ ،‬والأخري �سي ًفا‪� .‬ألقى الرجل حربته وا�ستطاع‬
‫�ألك�سيو�س تفاديها‪ ،‬ثم هجم عليه الرجل بالبلطة و�أ�صاب ر�أ�سه‬
‫بجرح بالغ‪ ،‬ويف حلظة من التيه اخرتق ال�سيف كتفه‪� ،‬سقط � ً‬
‫أر�ضا‬
‫و�صرخ ب�أمل‪ ،‬بات ينزف ب�شدة ومل ي ُعد ي�ستطيع احلركة‪ ،‬اقرتب منه‬
‫الرجالن وقيداه‪ ،‬ثم اقرتب الثالث وهم�س يف �أذنه‪:‬‬
‫‪--‬كا�سيو�س ير�سل حتياته‪.‬‬
‫قالها وغمد ال�سيف يف بطنه خرجت الدماء منه كال�شالل‪� ،‬سقط � ً‬
‫أر�ضا‬
‫يف ن�صب‪ ،‬جره الرجل حتى حافة ال�سفينة و�ألقاه بني الأمواج العاتية‪.‬‬
‫‪223‬‬
‫�سقط �صري ًعا بني الأمواج‪ ،‬حاولت رئتاه التقاط بع�ض الهواء ولكن‬
‫كانت الأمواج ت�صارعه كغرمي لها‪ ،‬ويف حلظة مل ي�ستطع املقاومة‪َ ،‬و َهنَ‬
‫ج�سده ووهنت �أنفا�سه واعت�صر الأمل قلبه‪ ،‬ج�سد واهن‪ ،‬ورئة فارغة‪،‬‬
‫وظالم ي ُعم‪ ،‬كل �شيء يبدو رماد ًّيا‪ ،‬تثاقلت جفونه وا�ست�سلمت �أطرافه‪،‬‬
‫ويف حلظة �شعر بيد تقب�ض على يده وت�سحبه �إىل �أعلى‪ ،‬ال يعلم هل هي‬
‫مت�سك باحلياة‪� ،‬أغم�ض عينه وغا�ص يف الال�شيء‪ ،‬فقد‬ ‫هالو�س املوت �أم ُّ‬
‫وعيه ومل ي�شعر ب�شيء بعدها‪.‬‬

‫ع‬
‫متاما‪ ،‬كانت‬ ‫يوما‪ ،‬كان متقطع الأنفا�س و�ضائ ًعا ً‬ ‫بعد رحلة لع�شرين ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الرحلة طويلة وبال توقف‪ ،‬ال �شك �أنه نزف الكثري من الدماء‪ ،‬دخل‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫املع�سكر وعندما اطمئن قلبه �أنه و�صل �إىل مكان �آمن تراخت �أع�صابه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫أر�ضا من على �صهوة فر�سه‪ .‬كان يبدو عليه �أنه منطفئ‪ ،‬منهزم‬ ‫و�سقط � ً‬

‫ع‬
‫متداع �إىل �أق�صى احلدود‪ ،‬حمله جنديان‬ ‫ٍ‬ ‫و�ضعيف غري ثابت وم�شتت‪،‬‬
‫حتى التقط �أنفا�سه وا�ستطاع �أن يتوازن‪ ،‬تقدم بخطوات مت�سارعة �إىل‬
‫خيمة قي�صر‪ ،‬عندما �شاهده قي�صر انت�صب من على كر�سيه‪ ،‬جل�س‬
‫م�ساعده �سكار‪ ،‬ف�أح�ضر له‬ ‫ِ‬ ‫ماركو�س والتقط �أنفا�سه �أ�شار قي�صر �إىل‬
‫ك� ًأ�سا من النبيذ‪ ،‬جترعها ماركو�س بنهم ك�أنه مل ي�شرب منذ �سنني‪ ،‬رمقه‬
‫قي�صر باهتمام للحظات و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ماذا حدث يا ماركو�س؟‬
‫قال مارك �أنتوين‪ :‬لقد هاجمتنا قوات بومبايو�س‪.‬‬
‫قليل والتقط �أنفا�سك و�أخربين ما حدث من البداية‪.‬‬ ‫‪--‬اهد�أ ً‬
‫لفظ القليل من �أنفا�سه و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬عند رحلتنا �إىل روما بامللك الغايل فري�سن جيرتيك�س متت مهاجمتنا‪.‬‬
‫�س�أل �سكار‪:‬‬
‫‪224‬‬
‫‪--‬من الذي هاجمكم؟‬
‫�أجاب �أنتوين‪ :‬مرتزقة‪ ،‬ب�أمر من �شيوخ املجل�س‪.‬‬
‫قال يوليو�س قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬بعد كل هذه ال�سنني ما زال املجل�س ميلك ال�شجاعة ليتحداين‪.‬‬
‫ثم �س�أل‪ :‬و�أنتم ماذا فعلتم؟‬
‫‪--‬ا�ستطعنا �أنا والقائد �ألك�سيو�س التغلب عليهم‪� ،‬شتتوا الفيلق ولكنهم‬

‫ع‬
‫خ�سروا خ�سارة فادحة‪ ،‬مات منهم الكثري وا�ستطعنا يف النهاية‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الو�صول �إىل روما �ساملني بامللك الغايل‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬والقائد �ألك�سيو�س‪� ،‬أمل ير�سل �إليك �أي ر�سائل؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬ال‪� ،‬أخ�شى �أنهم قد هاجموه مثلما فعلوا معي‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪--‬و�أنت ماذا فعلوا معك؟‬
‫‪--‬انتهت الت�سوية بتقدمي طلب �إىل املجل�س بعودتك �إىل روما كقن�صل‬
‫وممثل للعامة‪ ،‬ولكن قوات بومبايو�س هاجمت ما تبقى من الفيلق‪،‬‬
‫وحاولوا قتلي‪.‬‬
‫قال قي�صر‪ :‬حماولة لقتل قن�صل يف الدولة الرومانية‪ .‬يبدو �أن‬
‫بومبايو�س قد فقد عقله‪.‬‬
‫‪--‬بومبايو�س كان يريد الو�صول �إىل ت�سوية‪ ،‬و�أظن �أن من حر�ض قواته‬
‫هو كاتو‪.‬‬
‫قال �سكار‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تنوي �أن تفعل يا قي�صر؟‬
‫�أجاب‪ :‬ماذا تظن بر�أيك؟‬

‫‪225‬‬
‫فهم �سكار ما ينوي قي�صر فعله‪� ،‬أردف يف احتجاج‪:‬‬
‫‪َ --‬ومن ِمن اجلنود �سري�ضى �أن يزحف معك �صوب روما؟‬
‫‪�--‬سري�ضون‪.‬‬
‫�س�أل‪:‬‬
‫‪--‬كيف؟‬
‫‪�--‬أتتذكر عندما �أخربتك �أنهم يحتاجون �إىل حافز؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬ولكن �أين ذلك احلافز؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ابت�سم قي�صر و�أ�شار �إىل مارك �أنتوين بعينيه و�أردف‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ها هو يجل�س �أمامك‪ ،‬جريح اجل�سد كاليونايدي�س العظيم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫قال �سكار‪ :‬هل كنت تخطط لذلك من البداية؟‬

‫ع‬
‫ف�أردف قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬مل يخيب �شيوخ املجل�س ظنوين قط‪.‬‬
‫كان قي�صر يتوقع �أن يفعل �شيوخ املجل�س �شي ًئا �أحمق كهذا‪ ،‬ولكن كل‬
‫ما يحزنه يف الأمر هو ا�شرتاك بومبايو�س �صديقه والذي يحبه ك�أخ له‪،‬‬
‫كيف ين�سى بومبايو�س عهد الدم بينهما؟ كيف ين�سى �صاحبه الوحيد؟‬
‫يبد هذا‪ .‬كان يحب بومبايو�س بحق ولكن ال مكان‬ ‫كان قي�صر حزي ًنا ومل ِ‬
‫للعواطف يف احلرب‪ ،‬كل ما عليه الرتكيز عليه الآن هو كيف �سيدخل �إىل‬
‫روما‪ ،‬يجب �أن يرتك جراحه بعيدً ا ً‬
‫قليل‪ ،‬بومبايو�س وجوليا وكل �شيء �إال‬
‫�شي ًئا واحدً ا وهو العودة باملجد �إىل روما‪.‬‬
‫قال قي�صر بعدما وقف‪:‬‬
‫تعال معي يا ماركو�س‪.‬‬‫‪َ --‬‬
‫‪226‬‬
‫�س�أل ماركو�س‪� :‬إىل �أين؟‬
‫‪--‬دعنا نرى ما �سيقوله الرجال‪.‬‬
‫قال ماركو�س‪ :‬ح�س ًنا‪ ،‬دعني �أبدل مالب�سي � ًأول‪.‬‬
‫‪--‬ال‪� ،‬أريدك ً‬
‫ملطخا بدمائك كما �أنت‪.‬‬
‫قال �سكار‪ :‬على الأقل دعه ي�سرتيح ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫‪�--‬ست�أتي الراحة بعد ذلك‪� ،‬أما الآن فنحن يف حرب ولي�س هناك راحة‬

‫ع‬
‫يف احلرب‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫خرج قي�صر ومن ورائه مارك �أنتوين‪ .‬رفع اجلنود التحيات الع�سكرية‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ارت�صت يف نظام �صاح‬‫ثم �صعد قي�صر �إىل فر�سه ونظر �إىل فيالقه التي َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫فيهم‪« :‬يا جنود‪ ».‬انتبهت �أفئدة اجلنود ونظراتهم وم�سامعهم‪ ،‬م�شى بني‬
‫�صفوف اجلنود بح�صانه‪ ،‬ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪�--‬أيها اجلنود‪ ،‬ثماين �سنوات ق�ضيناها �سو ًّيا يف حرب �ضرو�س‪ ،‬ثماين‬
‫�سنوات ق�ضيناها م ًعا يف الربد والطني واجلوع والدماء والدموع‪ ،‬هل‬
‫عاملتكم ك�أنكم جنود وك�أين نبيل من النبالء؟‬
‫�أجاب اجلنود يف �صوت واحد‪« :‬ال‪».‬‬
‫فا�ستطرد‪ :‬لقد �أعلن جمل�س ال�شيوخ وبومبايو�س ماجنو�س‪� ،‬أن غايو�س‬
‫يوليو�س قي�صر وفيالقه وكل من �سانده هو خائن‪ ،‬لقد �أر�سلت القن�صل‬
‫مارك �أنتوين للو�صول �إىل ت�سوية‪ ،‬تعيدكم �إىل عائالتكم وزوجاتكم‪،‬‬
‫وماذا فعل �شيوخ املجل�س؟ رف�ضوا الت�سوية وهاجموا القن�صل ماركو�س‬
‫�أنطونيو�س وحاولوا قتله والتخل�ص منه‪ ،‬انظروا �إليه غار ًقا يف دمائه‪،‬‬
‫حاول القن�صل الو�صول �إىل ت�سوية وكل ما فعله جمل�س ال�شيوخ هو �إعالن‬
‫�أنني عدو لروما‪ ،‬و�أعلنوا �أنكم كلكم �أعداء لروما وما �أنتم �إال خائنون‬
‫‪227‬‬
‫لروما‪ ،‬والآن عند حماولتنا للدخول �إىل روما �سيقابلنا جي�ش بومبايو�س‬
‫ومينعوننا من الدخول �إىل الوطن‪ ،‬ولكني روماين �أ�صيل و�أحب بالدي‬
‫و�س�أدخلها‪ ،‬فهل �أنتم معي؟‬
‫رددوا‪ :‬نعم‪ .‬يحيا يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫قال قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬الآن �س�أحترك نحو بالدي‪ ،‬و�أنتم تنتظركم عائالتكم و�أبنا�ؤكم‬
‫وزوجاتكم‪ ،‬دعونا نعود لهم �ساملني ونحن حاملني الن�صر‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ارتفعت الهتافات بحما�س �شديد‪ ،‬وبخطوات �سريعة اجتهت الفيالق‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�صوب الريبيكون وعلى ر�أ�سها غايو�س يوليو�س قي�صر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪228‬‬
‫(‪)5‬‬

‫الإ�سكندرية‪...‬‬
‫ا�صطبغت �سماء ال�شرق باللون الذهبي‪ ،‬مزاجه كان متعك ًرا للغاية‬
‫ليل‪ .‬رمق‬‫ومل يفلح الغروب يف حت�سني مزاجه‪ ،‬كانت الإ�سكندرية هادئة ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫حوررب الأعمدة الدائرية التي رفعت املكتبة العظمى من اخلارج وال�سالمل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫العالية وفوقها �أُتن وم�شاعل تنري الطريق‪ ،‬كانت الأحجار الكرمية تلمع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫من وهج النريان على متثال دينوقراطي�س مهند�س الإ�سكندرية النابغة‬

‫والتوز عي‬
‫الذي انت�صب �أمام املكتبة العظيمة يف �شموخ‪.‬‬
‫كان حوررب م�ضط ًّرا �إىل م�صاحبة الفتى �إريو�س من طيبة �إىل‬
‫الإ�سكندرية‪ ،‬خا�صة بعد موت كل من يعرفهم‪ ،‬وكان �إريو�س يحمل فوق‬
‫�أكتافه عب ًئا ينوء به‪ ،‬فبجانب موت عمه �ستافلو�س وكل من �أحبهم ً‬
‫يوما‪،‬‬
‫كتب له القائد �ألك�سيو�س ر�سالة قبل موته‪ ،‬وكانت كلماته الأخرية هي �أن‬
‫يحاول �أن ي�صل �إىل يوليو�س قي�صر ب�أي طريقة ممكنة و�إعطاءه الر�سالة‬
‫التي كتب بها كلماته الأخرية‪.‬‬
‫دخلوا املكتبة العظمى‪ ،‬وقف حوررب م�شدوهً ا‪ ،‬رمقوا مئات الرفوف‬
‫املعلقة التي متتلئ ب�آالف الربديات واللفائف والكتب‪ ،‬كانت املكتبة حتمل‬
‫بني رفوفها برديات منذ �آالف ال�سنوات‪ ،‬كانت حتمل كل احل�ضارات‬
‫الغابرة‪ ،‬احل�ضارة امل�صرية والعهود القدمية عن زمن الأ�سر ال�سالفة‪،‬‬
‫ثم ح�ضارة الإغريق وكتب الفل�سفة لأفالطون و�سقراط و�أر�سطو‪ ،‬ثم عن‬
‫ح�ضارة الرومان وكيف بد�أت احل�ضارة الرومانية بثوراتها و�صعودها‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫عكف العلماء يف املكتبة على ترجمة جميع الن�صو�ص من الهرياطيقية �إىل‬
‫الرومانية والإغريقية والعك�س‪.‬‬
‫كانت تلك هي املرة الأوىل التي ي�شاهد فيها حوررب املكتبة العظيمة‪،‬‬
‫كانت جميلة وخلبت �ألبابه‪ ،‬كانت ك�أن الرفوف معلقة بني ال�سحاب من‬
‫فرط ارتفاعها وعلى الرفوف �سالمل مثبتة حتى ي�سهل على الطالب‬
‫واملعلمني اقتناء الكتب والربديات‪.‬‬
‫اقرتب حوررب من موظف يبدو وك�أنه امل�شرف الكبري على املكتبة‬

‫ع‬
‫العظمى‪ ،‬كان امل�شرف يطالع كتا ًبا‪ ،‬فقال له حوررب‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫‪--‬املعذرة‪...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل يكمل حوررب كلماته‪ ،‬قاطعه دون النظر �إليه‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫َ‬
‫فتعال غدً ا يف‬ ‫‪�--‬إذا جئت ال�ستعارة كتاب �أو القراءة �أو االطالع‪،‬‬
‫ال�صباح‪ ،‬الوقت �أ�صبح مت�أخ ًرا وال ي�سمح لأحد بالتواجد يف املكتبة‬
‫�إال للم�شرفني والعلماء‪ ،‬و�أنت ل�ست من امل�شرفني وبالت�أكيد ل�ست من‬
‫�صباحا‪.‬‬
‫وتعال ً‬‫العلماء‪ ،‬فاخرج الآن َ‬
‫�أردف حوررب‪:‬‬
‫�شخ�ص ما‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪�--‬أنا هنا لأ�س�أل عن‬
‫�س�أل امل�شرف‪ :‬من؟‬
‫�أجاب حوررب‪:‬‬
‫‪--‬تايبرييو�س‪.‬‬
‫‪--‬تايبرييو�س يف مكتبة الق�صر امللكي‪َ ،‬‬
‫تعال له غدً ا �إن �أردت‪ .‬من‬
‫�أُخربه؟‬
‫‪--‬حوررب‪.‬‬
‫‪230‬‬
‫وهم بالرحيل‪ ،‬انتف�ض امل�شرف ونظر حلوررب باهتمام‬ ‫قالها َّ‬
‫وا�ستوقفه‪:‬‬
‫‪--‬توقف‪.‬‬
‫وقف حوررب والتفت‪:‬‬
‫‪--‬ما الأمر؟‬
‫ً‬
‫و�شمال وقال ب�صوت خفي�ض‪:‬‬ ‫اقرتب منه امل�شرف ثم التفت ميي ًنا‬
‫‪--‬اتبعني ب�صمت‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫تقدم امل�شرف ومن ورائه حوررب و�إريو�س‪ ،‬نزل به �إىل طريق مبلط‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ً‬
‫م�شعل‪ ،‬كان‬ ‫ونا�صع وعرب به من باب خلفي من املكتبة‪ ،‬وحمل يف يده‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫حوررب مرتب ًكا وال يفهم �شي ًئا‪ ،‬فقال امل�شرف‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أخربين تايبرييو�س عن ح�ضورك �إن حدث ٌ‬
‫خطب ما‪.‬‬
‫قال حوررب بنربات ميل�ؤها القلق‪:‬‬
‫‪--‬هل �آ�سيا بخري؟‬
‫‪--‬ال تقلق زوجتك بخري‪ ،‬ولكنها حمقاء وهذا داء ي�صعب معاجلته‪،‬‬
‫ويبقى عقل املر�أة مع�ضلة فل�سفية �أمام �أعتى الفال�سفة‪.‬‬
‫�س�أل حوررب‪ :‬ماذا فعلت؟‬
‫‪--‬قتلت رئي�س احلر�س امللكي �أكتيون‪ ،‬ويف �أي مكان؟‪ ...‬ال�سريابيوم‪،‬‬
‫قتلته وهو يتعبد‪ ،‬وت�صرفت ب�إهمال وعدم م�سئولية‪ ،‬تبعها اجلنود‬
‫ولكنها ا�ستطاعت الهروب‪ ،‬ا�ستطاع تايبرييو�س �أن يجد لها م�أ ًوى‬
‫�آم ًنا لن يخطر على بال اجلنود‪ ،‬وهو املكتبة العظمى‪.‬‬
‫كان حوررب يحاول ا�ستيعاب الكلمات‪ ،‬فا�ستطرد امل�شرف‪:‬‬
‫‪231‬‬
‫‪--‬والآن �أطلق بوثينيو�س كالبه عليها‪ ،‬والأ�سو�أ �أطلق يف البحث عنها‬
‫ماريو�س‪� .‬س�أل حوررب‪ :‬ومن ماريو�س؟‬
‫‪--‬يطلق عليه �أهل الإ�سكندرية ا�سم الكلب‪ ،‬ميزق �أعداءه ب�أنيابه‬
‫املجردة‪ ،‬هو وح�ش �ضا ٍر وم�سخ م�ستفحل‪ ،‬يجوب الإ�سكندرية بح ًثا‬
‫عن زوجتك‪ ،‬يعذب يف النا�س لي�أخذ منهم االعرتافات‪.‬‬
‫و�صلوا �إىل مب ًنى يبدو وك�أنه مهجور منذ مدة يقبع على ُبعد ع�شرين‬
‫ذراعا من احلديقة الوا�سعة للمكتبة‪ ،‬اجته امل�شرف �إىل الباب وبد�أ‬ ‫ً‬

‫ع‬
‫بفتحه‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬ذلك م�ستودع مهجور للفائف والكتب‪ ،‬خذ معك ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫م�شعل يوجد باب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بالداخل يقبع وراءه �سرداب حتت الأر�ض هناك �ستجد زوجتك‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫تناول حوررب امل�شعل من يد امل�شرف‪ ،‬ثم التفت �إىل �إريو�س وقال‪« :‬ابق‬

‫ع‬
‫�أنت هنا‪».‬‬
‫ثم دلف �إىل امل�ستودع‪� ،‬أنار امل�شع ُل �أركان امل�ستودع احلالكة‪ ،‬كان الهواء‬
‫�سجت خيوط العنكبوت على الرفوف الفارغة‪ ،‬وبخطوات‬ ‫ومكتوما‪ُ ،‬ن َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثقيل‬
‫�سريعة اجتاز املمر �إىل الباب الذي �أ�شار �إليه امل�شرف‪ ،‬فتحه‪ .‬كانت‬
‫ال�سالمل طويلة‪ ،‬وكان هناك �ضوء خافت ينبثق من الأ�سفل‪ ،‬كانت ال�سالمل‬
‫�ضيقة‪ ،‬حاول االتزان وعبورها بحذر‪ ،‬وعندما انتهت ال�سالمل كانت هناك‬
‫غرفة �أنار �أركا َنها �ضو ُء �شمعة على املن�ضدة‪ ،‬كانت غرفة �صغرية‪َ ،‬ح َو ْت‬
‫�سري ًرا �صغ ًريا ومن�ضدة عليها الكثري من اللفائف والكتب‪ ،‬كان حوررب‬
‫يبحث بعينيه عن زوجته يف تلك الغرفة ال�صغرية التي ي�صعب �أن يختفي‬
‫فيها �شيء ما‪ ،‬ويف حلظة �ساهية وجد �سكي ًنا على عنقه‪ ،‬كان ال�ضوء خافتًا‬
‫حتى �إنه مل مييز �آ�سيا �إال من ذراعها التي الت َّفت حول عنقه بخ�شونة وقوة‪،‬‬
‫قال لها‪:‬‬

‫‪232‬‬
‫‪--‬اهدئي‪ ،‬هذا �أنا‪ ،‬حوررب‪.‬‬
‫عندما تعرفت على �صوته تركته فو ًرا‪ ،‬اعتدل حوررب والت َفت لها‪،‬‬
‫طويل‪ ،‬وعندما انتهت قالت‪�« :‬أعتذر لك‪،‬‬ ‫فعانقته ب�شدة‪ ،‬كان عنا ًقا ً‬
‫ظننتك �أحد اجلنود‪».‬‬
‫‪--‬ما الذي فعل ِته يا �آ�سيا؟‬
‫‪--‬كان يجب على �أكتيون �أن يدفع الثمن‪.‬‬
‫قال حوررب بغ�ضب‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬ولكني خفت كث ًريا عليك‪� ،‬إن ب�إمكان اجلنود �أن مي�سكوا بك‪ ،‬ال �أعلم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ما هذا الإهمال الذي ت�أخذين به الأمور‪ ،‬وكيف ال تطلعينني على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�شيء كهذا قبل فعله؟ ف�أنا قائدك قبل �أن �أكون زوجك‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫قالت �آ�سيا‪:‬‬
‫‪--‬مل �أ�ستطع تدارك نف�سي عندما ر�أيته‪ ،‬لقد قتل �أكتيون ابننا يا‬
‫حوررب‪� ،‬إنه الث�أر‪ ،‬مل �أ�ستطع كبته بعد الآن‪.‬‬
‫أي�ضا حزين على فقد ابننا ولكني ال �أت�صرف ب�إهمال و�أنانية‪،‬‬ ‫‪�--‬أنا � ً‬
‫تعرفني ملاذا؟ لأنني القائد‪� ،‬أحمل فوق كتفي امل�سئولية‪ ،‬و�أنت ال‬
‫تت�صرفني على هذا النحو‪.‬‬
‫قالت بنربات خفي�ضة‪:‬‬
‫‪�--‬أعتذر لك �أيها القائد‪.‬‬
‫ثم ا�ستطردت‪� :‬أكتيون �أعطاين ا�س ًما قبل موته‪.‬‬
‫‪--‬ا�سم؟ من؟‬
‫‪--‬قال يل �إن امل�سئول عن موت ابننا مل يكن هو‪ ،‬بل كان بوثينيو�س‬
‫م�ست�شار امللك‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫‪--‬كيف؟ وملاذا يريد امل�ساعدة؟‬
‫‪--‬عندما ي�أتي املوت ينطق الل�سان بالأ�سرار‪ ،‬منذ �سنني عندما ا�شتعلت‬
‫تق�صى بوثينيو�س عن املت�سبب يف تلك‬ ‫ثورات اجلنوب بقيادتك‪َّ ،‬‬
‫الثورات عن طريق �أكتيون‪ ،‬قال له �أكتيون‪� ،‬إن املت�سبب يف الثورات‬
‫هو �شخ�ص يلقبه النا�س مبلك اجلنوب‪ ،‬ف�أمر بقتلك �أنت وكل من‬
‫يعرفك‪.‬‬
‫ا�شتعلت نريان الغ�ضب يف عني حوررب وقال‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬بحق �أوزوري�س النائم لو فقط ب�إمكاين الو�صول �إىل ر�أ�س بوثينيو�س‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫لف�صلته عن ج�سده‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ابت�سمت �آ�سيا و�أردفت‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ب�إمكانك فعل ذلك‪� ،‬إن �أردتَ ‪.‬‬
‫�س�أل حوررب‪ :‬كيف؟‬
‫‪--‬يقول تايبرييو�س �إن هناك حر ًبا قريبة �ست�شتعل فتيلها يف �أي حلظة‪،‬‬
‫بني بطليمو�س وكليوباترا‪ ،‬يزحف جي�ش بطليمو�س من فرع النيل‬
‫البلوزي ملواجهة كليوباترا يف بلوزيوم‪.‬‬
‫‪--‬وكيف عرف تايبرييو�س كل هذا؟‬
‫‪--‬تايبرييو�س لديه خمربون وجوا�سي�س يف جميع �أنحاء اململكة‪ ،‬من‬
‫كو�ش �إىل الإ�سكندرية‪.‬‬
‫‪--‬وماذا يفعل �أمني مكتبه بجوا�سي�س يف كافة اململكة؟‬
‫قليل وقالت‪:‬‬‫تناولت �آ�سيا ك�أ�س نبيذ من املن�ضدة جترعت ً‬
‫‪--‬لأنه بب�ساطة يعمل مع كليوباترا‪.‬‬
‫‪--‬كليوباترا‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫‪--‬كليوباترا تريد التوا�صل معنا‪.‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪--‬كليوباترا تعرف �أنك امل�سئول عن اجلنوب‪ ،‬يتبعك �أهل اجلنوب ب�أعني‬
‫أم�س احلاجة �إىل‬
‫مغم�ضة لأنك ابن الإله وابن كبري الكهنة‪ ،‬وهي يف � ِّ‬
‫أم�س احلاجة �إىل االنتقام‪ ،‬وعدو العدو �صديق‪،‬‬‫حلفاء‪ ،‬ونحن يف � ِّ‬
‫نحن ال نحمل ال�ضغائن لكليوباترا‪ ،‬ولكننا نحمل كل ال�ضغائن والكره‬

‫ع‬
‫للملك وم�ست�شاريه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فكر حوررب ً‬
‫قليل ثم قال‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬وكيف �سنخرج من الإ�سكندرية واجلنود يبحثون عنك يف كل مكان؟‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬اترك هذا الأمر لتايبرييو�س‪.‬‬

‫كانت الرياح تهب بقوة عندما عرب الريبيكون‪ ،‬ح َّلقت مناقب اجلنود‬
‫من �أثر الرياح يف منظر مهيب‪ ،‬انبعث من الظالم �صوت خافت وبعيد‪،‬‬
‫وكان عبارة عن عواء قطيع من الذئاب‪ ،‬ومع عواء الذئاب ا�شتد الريح‬
‫فتذبذب لهب م�شاعل اجلنود‪ .‬كان القمر حمجو ًبا وراء الغيوم ولكن‬
‫كانت ال�سماء متتلئ بالنجوم والكواكب التي �سطعت ب�ألوان عديدة‪ ،‬كانت‬
‫الأبواق ترتفع مع ارتفاع عزيف الرياح‪ ،‬وكان �صوت الأبواق خمي ًفا بني‬
‫الهدوء والظالم‪ .‬كان اجلنود ين�شدون الأغاين‪ ،‬كانت �أحلانها حزينة‬
‫�سمعتها الأ�شجار ووقفت يف �صفوف �صامتة‪ ،‬بدت ك�أنها �سوداء من �شدة‬
‫الظالم‪� ،‬أخف�ض اجلنود امل�شاعل كي يروا ال�صخور التي تهددهم بالتعرث‬
‫مع كل خطوة‪ ،‬ولكن بعد �ساعات من احلركة ال�سريعة �أ�شرقت ال�شم�س‪،‬‬
‫‪235‬‬
‫كان الليل خمي ًفا ك�أنه � ٌّ‬
‫أبدي‪ ،‬وك�أن ال�شم�س لن ت�شرق جمددًا‪ ،‬فبعث‬
‫ال�ضوء املنبثق من ال�شم�س الطم�أنينة يف قلوب اجلنود‪ ،‬توقفت الفيالق‬
‫عند جدول ماء‪� ،‬شربت جيادهم بعدما �شربوا‪� ،‬أطلق يوليو�س قي�صر‬
‫نظرة �إىل اجلنوب الذهيب و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬يبعدنا عن روما �أربعون ً‬
‫ميل جنو ًبا‪.‬‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين وهو بجوار قي�صر على �صهوة فر�سه‪:‬‬
‫‪�--‬أتعلم؟ �أنا �أح�سدك يا قي�صر‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬على ماذا؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬على تلك االبت�سامة على وجهك‪ ،‬ال �أعرف ملاذا تتح َّلى بكل هذا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫القدر من الهدوء ونحن الآن نقدم على �أب�شع جرمية يف تاريخ الدولة‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫الرومانية‪.‬‬
‫ابت�سم قي�صر وقال مبزحة‪:‬‬
‫‪--‬اجلرمية الوحيدة التي فعلتها يف حياتي هو �أنني عينتك يدي اليمنى‪.‬‬
‫‪--‬ح ًّقا؟‪� ...‬أنا ل�ست بهذا ال�سوء‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد بقلق‪:‬‬
‫‪--‬يف احلقيقة يا قي�صر �أنا �أجهل هل الذي نفعله هو ال�صواب �أم‬
‫اخليانة ب�أق�صى حاالتها‪.‬‬
‫‪�--‬أنا ال �أطالب �إال بحقوقي ال�شرعية‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪�--‬أنا معك يف كل احلاالت‪ ،‬و�أتبع الن�سر �أينما حلق‪ ،‬هل تفكر يف الهجوم‬
‫على روما مبا�شر ًة؟‬
‫‪236‬‬
‫خطوطا دفاعية قبل روما؛ مما �سيعطينا‬ ‫ً‬ ‫‪�--‬إن حالفنا احلظ فلن جند‬
‫الأف�ضلية يف الهجوم امل�ضاد‪.‬‬
‫�أردف مارك �أنتوين‪ :‬وقوات بومبايو�س؟‬
‫كاف‪ ،‬ولكن على الأقل �سيجمع تلك‬ ‫‪--‬قوات بومبايو�س عددها غري ٍ‬
‫القوات من املدينة ويحاول �صدنا حتى ي�ؤخر دخولنا �إىل روما‪ ،‬ال‬
‫�أكرث‪.‬‬
‫‪--‬وماذا �سنفعل الآن؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قال قي�صر‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫‪ِ �--‬‬

‫بل‬
‫أعط الأمر للج َّوالني مب�سح كل املناطق الدفاعية قبل روما‪ ،‬و�إذا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وجدوا مقاومة فليت�شابكوا بكل ما لديهم من قوة‪ ،‬ثم عليهم التوجه‬

‫والتوز عي‬
‫�إىل ال�ساحة العامة والإعالن لل�شعب �أنني �س�أدخل �إىل روما قري ًبا‪.‬‬
‫�أ�شار قي�صر �إىل حامل البوق‪ ،‬حمل بوقه‪ ،‬والذي كان عبارة عن‬
‫قرن ثور طويل وعمالق‪ ،‬نفخ يف البوق فرتدد �صداه على م�سامع اجلنود‬
‫والفيالق فوقفت يف انتظام‪ ،‬اعتدل قي�صر ناظ ًرا �إليهم وهو على �صهوة‬
‫عال‪:‬‬
‫فر�سه‪ ،‬ثم �أردف ب�صوت ٍ‬
‫‪�--‬أيها اجلنود نحن نقف الآن على الأرا�ضي الرومانية‪ ،‬ونحن نبعد عن‬
‫ميل فقط‪ ،‬تقدموا بحذر وال تلم�سوا املدنيني وال�شعب‬ ‫روما �أربعني ً‬
‫ب�أي �سوء‪ ،‬ال َن ْه َب �أو �سرقة‪ ،‬تلك روما بالدنا احلبيبة‪ ،‬تقدموا ف�إذا‬
‫وجدمت رجال بومبايو�س فاقتلوهم‪ ،‬ال تبدءوا الهجوم حتى تتبينوا‬
‫�أنهم من رجال بومباي �أو جنود املجل�س‪ ،‬ثم �سنتَّجه �إىل ال�ساحة‬
‫العامة‪� ،‬سيتم �إعطا�ؤكم �إعالن اال�ست�سالم‪ ،‬كل �شخ�ص يف روما‬
‫�صديق لغايو�س يوليو�س قي�صر �إال من يقرر عك�س ذلك‪ ،‬تقدموا‬
‫بالن�صر يا جنودي الأعزاء‪.‬‬
‫‪237‬‬
‫�صمت قي�صر وعلت الهتافات بال توقف‪� ،‬أمر مارك �أنتوين اجلوالني‬
‫بالتحرك �صوب روما‪ ،‬و�إن كانت هناك مقاومات يطلقوا الأبواق ك�إ�شارة‪،‬‬
‫و�إن مل يجدوا فليتجهوا �إىل ال�ساحة العامة‪.‬‬
‫بعد يومني يف روما كانت الأحوال م�ضطربة‪ ،‬انت�شرت �أخبار يوليو�س‬
‫قي�صر بني الرياح و�أل�سنة النا�س‪ ،‬كان �شيوخ املجل�س يتوج�سون من‬
‫اقرتاب قي�صر �إىل روما‪ ،‬انطلق كاتو وبروتو�س �إىل املجل�س م�ضطربني‪،‬‬
‫جال�سا يف املجل�س‪ ،‬دخل كاتو ووراءه بروتو�س‪.‬‬ ‫كان بومبايو�س ً‬

‫ع‬
‫قال كاتو بنربات ميل�ؤها القلق‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ميل من روما‪.‬‬
‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫‪--‬قي�صر على ُبعد ثالثني ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫انتف�ض بومبايو�س و�أردف‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬ثالثني ميل؟ هذا م�ستحيل‪.‬‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬اجلوالون والك�شافة على احلدود الرومانية‪.‬‬
‫�أردف كا�سيو�س‪ :‬وجحافلك يا بومبايو�س؟‬
‫‪--‬جحافلي عربت البحر �إىل النم�سا‪ ،‬كم يبعد قي�صر؟‬
‫قال كاتو‪ :‬على الأق�صى خم�سة �أيام‪.‬‬
‫كان القلق يدق يف قلوب كل من ي�ستمع كالناقو�س‪ ،‬ماذا �سوف يفعلون؟‬
‫رمبا الهرب والتقهقر هو �أ�سلم احللول حال ًّيا‪ ،‬كان بومبايو�س حزي ًنا‪ ،‬ملاذا‬
‫يفعل �صديق عمره هذا؟ ملاذا ي�صر على حرب �أهلية �ست�سفك فيها دماء‬
‫الآالف هبا ًء‪ ،‬كان ال بد من �أن ي�أخذ قرا ًرا‪ ،‬ولكن كانت كل القرارات‬
‫املتاحة ي�صعب اتخاذها‪ ،‬ف�إن تقهقر وهرب ف�إنه يحني ر�أ�سه بعد كل هذه‬
‫‪238‬‬
‫ال�سنني‪ ،‬و�إن قرر مواجهة قي�صر فالهزمية هي حليفه ال حمالة‪.‬‬
‫‪�--‬أردف بعد دقيقة من ال�صمت‪:‬‬
‫‪--‬لن ن�ستطيع الدفاع عن املدينة من دون قوات‪.‬‬
‫فقال كاتو‪ :‬وماذا �سوف نفعل؟‬
‫�أردف كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬هل ن�ستطيع مواجهته؟‬

‫ع‬
‫قال �سي�سرو بعد برهة تفكري‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬مواجهة قي�صر الآن تعني االنتحار‪ ،‬علينا الهروب‪ ،‬علينا مغادرة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫روما يف �أ�سرع وقت‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫قال كاتو بنربات منزعجة‪:‬‬
‫‪--‬تريدنا �أن نهرب ونرتك روما وراءنا‪ ،‬ك�أننا فئران تختبئ من قط‬
‫م�شاغب‪.‬‬
‫‪--‬و�إن وقفت لتواجه القط ف�سي�أكلك بال تردد‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬سنذهب �إىل اليونان‪ ،‬فار�سالو�س‪� ،‬سنجمع ما ن�ستطيع من القوات‬
‫هناك و�سنعود بها �إىل روما‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬ملاذا يا بومبايو�س؟ قي�صر ال ميلك الكثري من القوات‪،‬‬
‫ن�ستطيع جمع قوات كافية ونواجهه بها ون�سحقه ك�أنه ح�شرة‪.‬‬
‫قال بروتو�س �سري ًعا‪ :‬ال‪ ،‬عليكم الهروب الآن‪.‬‬
‫التفتوا �إليه جمي ًعا‪ ،‬ثم ت�ساءل بومبايو�س‪ :‬ملاذا؟‬

‫‪239‬‬
‫ابتلع ريقه وقال‪:‬‬
‫‪--‬لقد كذبت‪ ،‬قي�صر لديه �أكرث من فيلق واحد‪ ،‬لقد �أخربتكم هذا حتى‬
‫كاف‪ ،‬علينا الهرب‪.‬‬
‫ال يت�ضرر‪ ،‬ولكن الآن لي�س هناك وقت ٍ‬
‫م�شو�شا‪ ،‬كان يريد م�ساعدة قي�صر‪ ،‬لكن الآن يخاف من‬ ‫ً‬ ‫كان بروتو�س‬
‫احلرب الأهلية والدماء التي �سوف ُت�سفك‪ ،‬يخاف على عمه كاتو وعلى‬
‫بومبايو�س‪ ،‬لو قرروا �أن يواجهوه على جهل منهم بعدد قواته ف�سيهلكون ال‬
‫حمالة‪ ،‬لقد �ساند قي�صر مبا فيه الكفاية‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قال كاتو بعدما جحده بنظرة متتلئ باللوم‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬مل �أح�سب �أنك �ستنحاز �إىل قي�صر بعدما ك�سر كل القوانني‪ ،‬وها هو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ٍّ‬
‫كمحتل‪.‬‬ ‫الآن على احلدود الرومانية ويريد الدخول �إىل روما‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫مل ي�ستطع بروتو�س النظر يف عني كاتو وهو يتحدث‪ ،‬فقال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬ال وقت للعتاب الآن يا كاتو‪ ،‬علينا التحرك‪.‬‬
‫بعد �أيام هرب بومبايو�س وبروتو�س وكا�سيو�س �إىل فار�سالو�س يف‬
‫اليونان‪ ،‬و�سافر كاتو �إىل قلعته يف �أوتيكا‪ ،‬ومعهم هرب ن�صف جمل�س‬
‫ال�شيوخ خو ًفا من عقاب قي�صر والقوائم ال�سوداء التي رمبا �سيل�صقها‬
‫على جدران روما و�سوف ت�ضم �أ�سماء املعار�ضني كما فعل �سوال‪ ،‬وبقي‬
‫الن�صف الآخر الذي كان ي�ساند قي�صر‪.‬‬
‫عندما و�صل قي�صر �إىل احلدود الرومانية مل يجد �أي مقاومات‪ ،‬ومل‬
‫ير�سل له ج َّوالتُه �أي حتذيرات �أو �إ�شارات لوجود مقاومة قريبة من ال�ساحة‬
‫العامة‪َ ،‬ت َّمع العامة �أمام املجل�س ب�أعداد غفرية قد انت�شر خرب دخول‬
‫قي�صر يف جميع �أنحاء روما‪ ،‬تو�شحت ال�شوارع بالأحمر ورايات الن�صر‪،‬‬
‫والن�سر الذهبي الذي رفرف على الرايات على بيوت العامة والكولو�سيوم‬
‫‪240‬‬
‫وجمل�س ال�شيوخ‪ ،‬فر�شت ال�ساحة العامة بال�سجاد الأحمر ليمر عليه‬
‫قي�صر‪ ،‬وجتمهر النا�س يف كل روما منتظرين قي�صر املنت�صر عائدً ا‬
‫باملجد والفيالق والذهب الغايل‪ ،‬وعلى باب املجل�س وقف �شيوخ املجل�س‬
‫ومعهم الكاهن �سيليفيان كبري كهنة الإله جوبيرت‪ ،‬و�صديقه بوبليبو�س كان‬
‫وجهه ميتلئ بال�سرور لعودة قي�صر �إىل الوطن‪.‬‬
‫ويف الزاوية وراءهم وقفت زوجته كالبورنيا‪ ،‬لقد اقرتب قي�صر من‬
‫الو�صول‪ ،‬وكلما �أو�شك وقت االنتظار �أن ينتهي‪ ،‬كان ال�شوق يغمرها من‬
‫ر�أ�سها حتى �أخم�ص قدميها‪ ،‬ماذا �سوف تقول له؟ لقد �ضاعت الكلمات‪،‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫انتظرت ثماين �سنوات تتمنى فيها احلديث معه ولو حلظة‪ ،‬والآن �ضاعت‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫الكلمات‪ ،‬ثم ابت�سمت وتذكرت كيف تقابلت به �أول مرة‪ ،‬كان قد �أ�صابته‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫أر�ضا‪ ،‬رك�ضت �إليه وحاولت �أن تهون عليه الأمر‪ ،‬كانت‬ ‫نوبة �صرع و�سقط � ً‬

‫والتوز عي‬
‫تلك نقطة �ضعف قي�صر الوحيدة‪ ،‬وخالل ثماين ال�سنوات يف احلرب‬
‫�أ�صابته الكثري من نوبات ال�صرع‪ ،‬ولكن عندما ي�شعر �أنها تقرتب يختبئ‬
‫ويخرج احلرا�س من خمدعه وال يبقى �إال �سكار لي�ساعده يف تلك الأزمة‪.‬‬
‫كان ال�صرع لعنته الأبدية‪ ،‬فلن يتبع اجلنود ً‬
‫رجل ل َعنته الآلهة بال�صرع‪،‬‬
‫كانت هي الوحيدة التي تعرف هذا ال�سر‪ ،‬ومل يكن يقلق حيال ذلك‪ ،‬بل‬
‫كان يثق بها‪ ،‬وطاملا كان كذلك‪ ،‬ولكن هل من املمكن �أن تغريه احلرب؟‬
‫دار ال�س�ؤال يف عقلها ومل جتد له �إجابة‪ ،‬فثماين �سنوات من احلرب كفيلة‬
‫بتغيري �أي رجل‪ ،‬ولكن قي�صر لي�س �أي رجل‪� ،‬إنه �صلب لكنه عطوف‪ ،‬هكذا‬
‫كان دائ ًما‪ ،‬فال داعي للقلق‪ ،‬طم�أنت نف�سها بالكلمات‪ ،‬وابت�سمت وانتظرت‬
‫قدومه من بعيد‪ ،‬مل يتبقَّ من االنتظار �سوى دقائق‪.‬‬
‫ومن الناحية الأخرى وقفت �آ ْت َيا وطفالها �أوكتافيو�س و�أوكتافيا‪ ،‬كان‬
‫�أوكتافيو�س ال�صغري ال يذكر الكثري عن قي�صر‪� ،‬شكله‪ ،‬مالحمه‪ ،‬كان‬
‫�صغ ًريا عندما غادر قي�صر للحرب يف الغال‪ ،‬ولكنه قد �سمع من العامة يف‬
‫‪241‬‬
‫الأ�سواق وال�شوارع �أنه ابن الإله فينو�س‪ ،‬وابن �إينيا�س البطل‪ ،‬بطل طروادة‬
‫العظيم‪ ،‬وهناك من يقول �إنه ابن الإلهة �أفروديت‪ ،‬كان قي�صر بالن�سبة‬
‫جمهول حتى الآن‪ ،‬كان ينتظر هو الآخر ب�شغف‬ ‫ً‬ ‫�إىل �أوكتافيو�س �شي ًئا‬
‫فعل البطل الأ�سطوري‬ ‫�شديد‪ ،‬لريى من هو قي�صر‪ ،‬وكيف يبدو‪ ،‬هل هو ً‬
‫العظيم وابن الآلهة كما يقولون‪� ،‬أم جمرد رجل عادي خدمه احلظ‪ .‬كان‬
‫�أوكتافيو�س فتًى ذك ًّيا وال يت�أثر ب�سهولة بالكلمات التي ي�سمعها‪ ،‬كان عليه‬
‫�أن يرى كي ي�صدق‪.‬‬
‫فوق الأر�ض املر�صوفة ُفر�ش ال�سجاد الأحمر‪ ،‬وفوق ال�سجاد الأحمر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫حترك قي�صر على عربة يجرها �أربعة �أفرا�س بي�ضاء �أ�صيلة‪ ،‬كانت اخليول‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مزينة بالذهب واجلواهر الكرمية التي تلمع حتت �شعاع ال�شم�س الذهبي‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫وعليها وقف يوليو�س قي�صر يف �شموخ‪ ،‬ومن ورائه جحافله‪� ،‬آالف و�آالف‬

‫ع‬
‫من اجلنود على �أقدامهم‪ ،‬ثم جنود على �أح�صنتهم‪ ،‬ثم حاملو الرايات‪،‬‬
‫ومن خلفهم �ضاربوا الطبول ونافخوا الأبواق‪� .‬أغدق اجلنود الذهب يف‬
‫ال�شوارع ب�سخاء وبال ح�ساب‪ ،‬كان قي�صر كر ًميا مع ال�شعب‪ ،‬حتركت‬
‫العربات يف �شوارع روما مليئة بالذهب والف�ضة والأموال‪ ،‬وكان العامة‬
‫يرك�ضون وراء العربات ِب َن َهم‪ ،‬وهو كان يتقدم يف �شوارع روما ويح ِّيي‬
‫النا�س بالنظرات واالبت�سامات‪ ،‬كانت مالحمه متتلئ بالفخر والن�صر‪،‬‬
‫ارتفعت الهتافات با�سمه من كل مكان من بيوت العامة يف النوافذ ومن‬
‫ال�شوارع‪ ،‬كانت روما ب�أكملها حتتفل يف ال�شوارع‪ ،‬وكان الذهب ميلأ جيوب‬
‫النا�س‪ ،‬اقرتب موكب غايو�س يوليو�س قي�صر املهيب من ال�ساحة العامة‪،‬‬
‫كان هناك �آالف من النا�س بانتظاره‪ ،‬و�آالف �آخرون يهتفون‪ ،‬اقرتب‬
‫من جمل�س ال�شيوخ وتوقف موكبه الكبري‪� ،‬ألقى نظرة �إىل الواقفني �أمام‬
‫املجل�س‪ ،‬و�أول من وقعت عليه عيناه كانت كالبورنيا‪ ،‬كانت عيناها تلمعان‬
‫بدموع ال�شوق‪ ،‬مل تتغري كث ًريا‪ ،‬ما زالت جميلة كما عهدها دائ ًما‪ ،‬ابت�سم‬
‫‪242‬‬
‫�إليها‪ ،‬ومن الناحية الأخرى كانت تقف �آ ْت َيا‪ ،‬عرفها قي�صر من النظرة‬
‫الأوىل لطاملا كانت ملولة‪ .‬كان يتذكر �أوكتافيا‪ ،‬كانت �صغرية جدًّا عندما‬
‫غادر‪ ،‬لكن �صارت الآن امر�أة متل�ؤها الأنوثة كما يبدو‪ ،‬ومن هذا؟ يبدو‬
‫رجل كما تخيل‪ ،‬كان ي�شبه �آل جويل يف �شعرهم‬ ‫�أنه �أوكتافيان‪ ،‬لقد �صار ً‬
‫الأ�شقر وهدوء املالمح والو�سامة‪ ،‬على خالف �شقيقته �أوكتافيا التي كان‬
‫�شعرها مثله �أ�س َود وحال ًكا‪.‬‬
‫ترجل قي�صر من عربته واجته نحو املجل�س‪� ،‬صعد ال�سالمل العالية‬ ‫َّ‬
‫و�سط الهتافات ال�سرمدية‪ ،‬كان �أول �شيء يخطر يف باله هو زوجته‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كالبورنيا‪ ،‬اجته نحوها بخطوات �سريعة ومن ثم �ضمها �إىل ذراعيه‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫لقد انتظرت كث ًريا‪ ،‬ويكفي �إىل الآن انتظا ًرا‪ ،‬ق َّبل جبينها قبل �أن يرتكها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ويتجه �إىل الكاهن‪ ،‬الذي وقف ويف يده �صوجلان الن�سر‪ ،‬وعن ميينه التاج‬

‫والتوز عي‬
‫والإكليل الذهبي‪ ،‬وقف قي�صر �أمامه وامتثل لأمر الإله جوبيرت الكبري‪،‬‬
‫�سلمه الكاهن ال�صوجلان‪ ،‬كانت الهتافات ترتفع وال تتوقف‪� ،‬أ�شار الكاهن‬
‫بيده‪ ،‬فخفتت الهتافات رويدً ا رويدً ا‪ ،‬ف�أردف الكاهن‪:‬‬
‫‪--‬با�سم جوبيرت العظيم‪ ،‬كبري �آلهة روما‪ ،‬وبا�سم ال�سلطة املمنوحة يل‬
‫قن�صل مدى احلياة‪.‬‬‫ً‬ ‫من الآلهة‪� ،‬أعينك‬
‫ثم تناول الإكليل الذهبي وكلل به ر�أ�س قي�صر‪ ،‬ارتفعت الهتافات مرة‬
‫�أخرى‪ ،‬فرفع قي�صر يده فهد�أ احل�شد‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫أق�ض ثماين �سنوات من احلرب لأنني‬ ‫‪--‬يا �شعب روما العظيم‪ ،‬مل � ِ‬
‫�سافك للدماء‪� ،‬أو مارق ي�سعى وراء الذهب‪ ،‬ال�سبب الوحيد الذي‬
‫جعلني �أغزو الغال هو روما‪ ،‬املجد لروما‪ ،‬واملجد ل�شعب روما‪� ،‬أنا‬
‫ل�ست مل ًكا ول�ست ديكتاتو ًرا كما يهم�س البع�ض‪� ،‬أنا غايو�س يوليو�س‬
‫قي�صر‪ ،‬و�س�أظل هكذا حتى مماتي‪ ،‬وهذا الإكليل الذي كللتموين به‬

‫‪243‬‬
‫ال �أطمح لأن �أكون مل ًكا بارتدائه‪� ،‬أنا �س�أتقبله فقط لأنه هدية من‬
‫�شعب روما العظيم‪.‬‬
‫هتف بوبليبو�س‪ :‬يحيا قي�صر‪.‬‬
‫ورددها ال�شعب بعده بال نهاية‪...‬‬

‫ع‬
‫الإ�سكندرية يف نف�س الليلة‪...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�سللوا يف عتمة الليل‪ ،‬ملثمني يختفون ب�أح�ضان الظالل‪ ،‬ا�ستطاع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تايبرييو�س �أن يوفر لهم �سفينة بحارة �سوف ت�سافر �إىل بلوزيوم‪ ،‬خرجوا‬

‫والتوزي‬
‫ً‬

‫ع‬
‫و�شمال خو ًفا من �أن يراهم �أحد اجلنود‪،‬‬ ‫من املكتبة يتلفتون ميي ًنا‬
‫اجتهوا غر ًبا حتى امليناء‪ ،‬كان تايبرييو�س قد دفع �إىل جندي م�سب ًقا حتى‬
‫ي�ستطيعوا �أن يعربوا يف �أمان‪� .‬صعدوا على �سطح ال�سفينة‪ ،‬ال يعرفون كم‬
‫مر من الوقت حتى انطلقت ال�سفينة‪ ،‬قال تايبرييو�س‪:‬‬
‫‪--‬من ح�سن احلظ �أن امللك وم�ست�شاريه من�شغلون يف جتهيز‬
‫اال�ستعدادات حلفل تتويج الأمرية �أر�سينوي‪.‬‬
‫�أردف حوررب‪ :‬امللك اللعني يريد تعيني �أر�سينوي ملكة؟‬
‫‪�--‬صدقني‪ ،‬امللك ال يحكم‪ ،‬من يحكم اململكة الآن هو بوثينيو�س‪.‬‬
‫‪�--‬أخربين �أكرث عنهم جمي ًعا‪ ،‬امللك‪ ،‬بوثينيو�س‪� ،‬أر�سينوي‪ ،‬وبالطبع‬
‫كليوباترا‪.‬‬
‫ابت�سم تايبرييو�س وقال‪:‬‬
‫‪244‬‬
‫‪--‬من �أين �أبد�أ؟ دعنا نبد�أ بامللك‪ ،‬امللك ال يعدو عن دمية يحركها‬
‫بوثينيو�س بحبال خفية‪ ،‬هو ال يعرف ذلك‪ ،‬يظن �أنه هو من يحكم‪،‬‬
‫ولكن يف احلقيقة احلاكم احلقيقي للمملكة هو بوثينيو�س‪ ،‬والأ�سو�أ‬
‫من بوثينيو�س‪ ،‬هم رجاله؛ له رجال يف كل مكان‪ ،‬يف اجلنوب ويف‬
‫ال�شمال‪ ،‬رجاله يحكمون اململكة يف الأقاليم املتفرقة يف اجلنوب‪،‬‬
‫وكل هذا يدور برعاية رجل واحد وهو �أخيال�س قائد اجلي�ش واليد‬
‫اليمنى لبوثينيو�س‪ ،‬دعنا نقول �إنهما ر�أ�سان لأفعى واحدة‪� ،‬إن قطعت‬
‫واحدً ا ف�سيموت الآخر‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ثم قالت �آ�سيا‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫‪--‬والأمرية ال�صغرية؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬الأمرية ال�صغرية لي�ست م�صدر تهديد‪ ،‬هي ال يهمها العر�ش وال‬

‫والتوز عي‬
‫بطليمو�س وال حتى كليوباترا‪ ،‬كان مربيها جانيميدي�س يبعدها عن‬
‫العر�ش وامللك قدر الإمكان‪ ،‬حتى قرر بوثينيو�س تتويجها كملكة‬
‫لإق�صاء كليوباترا عن العر�ش للأبد‪.‬‬
‫�س�أل حوررب‪:‬‬
‫‪--‬مل يبقَ �إال‪...‬‬
‫قاطعه‪:‬‬
‫‪--‬كليوباترا‪ ...‬حورية البحر التي فتنت اجلميع‪ ،‬هي الوريث ال�شرعي‬
‫للعر�ش‪ ،‬ابنة �إيزي�س‪ ،‬عظيمة‪ ،‬ملكة‪� ،‬سيا�سية‪ ،‬متعجرفة‪ ،‬جميلة‪،‬‬
‫�أنيقة‪ ،‬نرج�سية‪ ،‬ذكية‪ ،‬داهية‪ ،‬ا�ستطاعت كليوباترا �أن ُتخ�ضع �أعتى‬
‫الرجال حتت �أقدامها وتتخذه كحليف لها‪ ،‬قائد القرا�صنة الأحرار‪،‬‬
‫القائد رابو�س‪.‬‬
‫�س�ألت �آ�سيا‪:‬‬
‫‪245‬‬
‫‪--‬ومن القرا�صنة الأحرار؟‬
‫‪--‬كانوا جمموعة من العبيد‪ ،‬عا�شوا يف مدار�س العبيد وتعلموا كيفية‬
‫م�صارعة الوحو�ش بني �أ�سوار الكولو�سيوم‪ ،‬وعندما قامت ثورات‬
‫العبيد بقيادة �سبارتاكو�س‪ ،‬قادهم رابو�س كقائد لهم مل�ساندة‬
‫�سبارتاكو�س الثائر يف ثورته‪ ،‬وعند موت �سبارتاكو�س عادوا �إىل‬
‫البحر الأ�س َود و�أطلقوا على �أنف�سهم القرا�صنة الأحرار‪ ،‬و�أ�صبحوا‬
‫مقاتلني �أ�شداء يعرفون م�سالك البحار‪ ،‬ورابو�س يعرف كيفية قيادة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الأ�ساطيل البحرية‪.‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪�--‬إذن ماذا تريد منا كليوباترا؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫قال تايبرييو�س‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫رجال ميكن الوثوق بهم‪ ،‬و�أنت كما يلقبك �أهل اجلنوب مبلك‬ ‫‪--‬تريد ً‬
‫اجلنوب‪� ،‬أنت عندهم ملك و�إن مل تكن كذلك والنا�س يتبعونك‪،‬‬
‫وكليوباترا تريد �أن تتخذك كحليف لها‪.‬‬
‫‪--‬وما الذي ي�ضمن لها �أنني �س�أوافق؟‬
‫‪--‬امل�صلحة امل�شرتكة بالت�أكيد‪.‬‬
‫ثم �س�أل تايبرييو�س‪:‬‬
‫‪--‬مل يتثنَّ يل �س�ؤالك يا �آ�سيا‪ ،‬ملاذا ِ‬
‫قتلت �أكتيون؟‬
‫‪�--‬أال ي�ستحق القتل؟‬
‫‪�--‬ألقتها بغ�ضب مكظوم‪.‬‬
‫‪--‬بلى‪ ،‬بالت�أكيد ي�ستحق‪ .‬ولكن امللك ي�ستحق � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬بوثينيو�س ي�ستحق‬
‫قتلت �أكتيون يف النهاية‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬و�أخيال�س ي�ستحق القتل‪ ،‬ولكنك ِ‬
‫‪--‬ث�أر قدمي‪.‬‬
‫‪--‬من؟‬
‫‪246‬‬
‫قال حوررب ِب� ًأ�سى �شديد‪:‬‬
‫‪--‬ابننا‪.‬‬
‫كانت الكلمة ثقيلة على ل�سانه‪� ،‬س�أل تايبرييو�س بعد حلظة‪:‬‬
‫‪--‬ماذا حدث؟‬
‫رمقت �آ�سيا الأمواج املتقلبة و�سرحت للحظات ثم �أردفت‪:‬‬
‫‪�--‬أتذ َّكر ذلك اليوم كالبارحة‪ ،‬كان ً‬
‫يوما عاد ًّيا كباقي الأيام الأخرى‪� ،‬إال‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أن رماح اجلنود ال تخطئ �أهدافها �أبدً ا‪ ،‬كان �أكتيون مكل ًفا بالتق�صي‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫عن املقاومة التي ت�شتعل فتيلها يف اجلنوب‪ ،‬دخل اجلنود طيبة وعلى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫«�ست»‪،‬‬
‫ر�أ�سهم كبري احلر�س امللكي �أكتيون‪ ،‬دخل �أكتيون معبد الإله ّ‬

‫والتوز عي‬
‫ثم �أمر جنوده بالبحث عن ملك اجلنوب كما يلقبه النا�س واملت�سبب‬
‫يف الثورات املتتالية التي تع�صف خو ًفا يف قلب امللك وم�ست�شاريه‪،‬‬
‫اندلعت احلرائق ذلك اليوم وقتل النا�س ومت �صلبهم على الطرق‬
‫واملنازل‪ ،‬مل يكن عددنا كاف ًيا‪ .‬كان حوررب خارج طيبة ذلك اليوم‪،‬‬
‫وبقليل من التق�صي عرف �أنني زوجته‪� ،‬أح�ضرنا اجلنود �إليه يف‬
‫«�ست» بال رحمة‪.‬‬
‫«�ست»‪ ،‬ذبح ابني كالقربان �أمام متثال ّ‬ ‫معبد ّ‬
‫ثم �أكمل حوررب‪:‬‬
‫‪--‬انهزم حور�س ذلك اليوم �أمام ّ‬
‫«�ست»‪.‬‬
‫ومنذ ذلك اليوم ت�أتيه الكوابي�س ويحلم ب�شيء واحد فقط‪ ،‬يقف يف‬
‫«�ست» وحور�س يتبارزان مبارزة بالربق‪ ،‬ثم ي�سقط‬
‫قد�س الأقدا�س ويرى ّ‬
‫«�ست» على حربته ويهوي بها على حور�س‪.‬‬ ‫حور�س � ً‬
‫أر�ضا ويقب�ض ّ‬
‫‪247‬‬
‫�سكتت الكلمات بعد ذلك‪ ،‬مل يعرف تايبرييو�س كيف يوا�سيهما‪ ،‬مل‬
‫يكن �شيء �سيكفي‪ ،‬واكتفى بال�صمت والندم على فتح جراح مل تندمل‬
‫بعد‪.‬‬
‫و�صلت ال�سفينة �إىل بلوزيوم يف اليوم التايل‪ ،‬عربوا البوابات العالية‬
‫للح�صن‪ ،‬كانوا ي�شعرون بالإرهاق والتعب و�شعرت �آ�سيا بالغثيان‪ ،‬مل تكن‬
‫تبلي ح�س ًنا بني الأمواج‪ ،‬غا�ص بهم تايبرييو�س �إىل قلب احل�صن‪ ،‬واجتهوا‬
‫�إىل خمدع كليوباترا‪ ،‬التفت �إليهم تايبرييو�س و�أردف‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬عليكم باالنحناء للملكة عند دخولكم ق�صرها‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫كان حوررب ال ي�ست�سيغ كل حامل لدماء البطاملة‪ ،‬ولكنه �سمع �أن‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫كليوباترا تختلف كث ًريا عن احلكام وامللكات الذين �سبقوها‪ ،‬فهي تعبد‬

‫ع‬
‫�إيزي�س‪ ،‬ويلقبها النا�س مببعوثة �إيزي�س‪ ،‬يقولون �إنها ورثت جمالها اخلالب‬
‫كالطبيعة‪ ،‬وكل من ر�أى وجهها وقع يف ع�شقها‪ ،‬مثلما فعل الكثريون‪ ،‬كانت‬
‫كليوباترا ذكية على الرغم من �سنها ال�صغرية‪� ،‬سمع الكثري من الأ�شياء‬
‫وهو بني الت�صديق والنفي تائه‪ ،‬ولن يهمه على �أي حال‪ ،‬لديه هدف‬
‫حمدد‪ ،‬و�سيحاول حتقيقه ب�أي طريقة ممكنة‪ ،‬االنتقام امللطخ بال�سالم‪،‬‬
‫لطاملا كان االنتقام وال�سالم مت�ضا َّدين‪ ،‬ولكن �أحيا ًنا يكون االنتقام هو‬
‫الطريقة املُثلى للو�صول �إىل ال�سالم الكامل‪.‬‬
‫يف الغرفة امللكية قال احلار�س‪:‬‬
‫‪�--‬أنتم تقفون يف ح�ضرة امللكة كليوباترا‪ ،‬ابنة �إيزي�س‪ ،‬وحفيدة‬
‫الإ�سكندر املقدوين العظيم والوريثة ال�شرعية للمملكة بحق الدماء‬
‫التي جتري بني عروقها‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫كانت كليوباترا جال�سة على عر�شها وعن ميينها احلكيم �ألك�سندر‬
‫ينحن بل اكتفى �أن يحني ر�أ�سه‬
‫هيليو�س‪ ،‬ركع اجلميع‪� ،‬إال حوررب مل ِ‬
‫كدليل على االحرتام‪ ،‬نكزه تايبرييو�س لينحني‪ ،‬لكنه مل يفعل‪.‬‬
‫وقفوا فقال تايبرييو�س‪:‬‬
‫‪--‬هذا حوررب يا موالتي‪ ،‬وكما يلقبه النا�س ملك اجلنوب‪.‬‬
‫قالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪�--‬أ�شكرك على قطعك تلك امل�سافة لتقابلني‪� ،‬آمل �أنها كانت رحلة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫موفقة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬كانت الرياح جيدة‪� ،‬شك ًرا جاللتك‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪�--‬إذن �أنت من يلقبوه مبلك اجلنوب؟‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬نعم جاللتك‪.‬‬


‫�س�ألت‪:‬‬
‫‪�--‬ألهذا ال تركع؟‬
‫‪--‬ال �أركع �إال للإله‪.‬‬
‫تناولت كليوباترا ك�أ�س نبيذ ثم �أردفت‪:‬‬
‫‪--‬عندما دخل الإ�سكندر املقدوين العظيم �أر�ض م�صر حرر �أهلها من‬
‫جربوت الفر�س‪ ،‬واختاره ال�شعب ليكون ابن �آمون على ما �أذكر‪،‬‬
‫ولقرون جل�س �أحد البطاملة على عر�ش م�صر‪� .‬أحببنا �شعبها حتى‬
‫�إننا تعلمنا منهم طقو�سهم الدينية وتقربنا منهم حتى �أ�صبحنا‬
‫مثلهم‪ ،‬تلك القرون �شهدت �أزهى الع�صور يف تلك اململكة‪ ،‬قرون من‬
‫ال�سالم والرخاء‪ ،‬و�أنا الآن الوريثة ال�شرعية للعر�ش‪ ،‬وعليك �أن تركع‬
‫وتندد بالوالء يل‪.‬‬
‫‪249‬‬
‫�صمت حوررب للحظات ثم قال بنربات قطعية‪:‬‬
‫‪�--‬أنا ال �أركع‪.‬‬
‫‪�--‬أال تخاف؟ لدي من الرجال ما يكفي لقتلك الآن ب�إ�شارة من �أ�صبعي‪،‬‬
‫�إن �أردت ذلك‪.‬‬
‫‪�--‬إن ال�سيوف التي ت�شهرها الثعالب ال جتدي نف ًعا مع ال ُأ�سود‪.‬‬
‫نظرت كليوباترا �إىل تايبرييو�س وقالت‪:‬‬
‫‪�--‬أنت قلت �إنك معجب بهذا الرجل!‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ابت�سم تايبرييو�س وقال‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬نعم جاللتك‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬هو جدير بالإعجاب بالفعل‪ ،‬ولكن منذ و�صوله يرف�ض االعرتاف‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ينحن عند دخوله‪ ،‬ويرف�ض الركوع والق�سم بالوالء‪.‬‬ ‫بكوين ملكة‪ ،‬مل ِ‬
‫ابت�سم احلكيم هيليو�س وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أهل اجلنوب طباعهم قا�سية يا موالتي‪ ،‬و�أنا �أثق �أنه ال يتعمد عدم‬
‫االحرتام‪.‬‬
‫قالت �آ�سيا‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تنتظرين من اجلنوب يا موالتي؟‬
‫وقفت كليوباترا واقرتبت منهم‪:‬‬
‫‪�--‬إن �أهل اجلنوب يتبعون حوررب ب�أعني مغم�ضة‪ ،‬و�أنا �أريد خ�ضوع‬
‫اجلنوب‪.‬‬
‫‪--‬واملقابل؟‬
‫‪�--‬س�أعطي اجلنوب ما يريد‪ ،‬ال�سالم‪.‬‬
‫‪250‬‬
‫قالت �آ�سيا‪:‬‬
‫‪--‬واالنتقام‪.‬‬
‫‪--‬االنتقام؟‬
‫ت�ساءلت كليوباترا‪.‬‬
‫‪--‬ر�أ�س بوثينيو�س‪� ،‬أنزعه بيدي‪.‬‬
‫ابت�سمت كليوباترا وقالت‪:‬‬
‫‪ِ --‬‬

‫ع‬
‫لك ذلك‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بعد حلظة دخل القائد رابو�س‪ ،‬انحنى قبل �أن يقول‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬لقد اقرتب �أ�سطول �أخيال�س يا موالتي‪ ،‬خرج من فرع النيل البلوزي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�سكتت كليوباترا للحظات‪ ،‬ثم قالت حلوررب و�آ�سيا‪:‬‬
‫‪--‬ام�شيا معي‪.‬‬
‫�سارت بهم كليوباترا خارج الق�صر وو�صلت بهم �إىل املرافئ‪ ،‬كان‬
‫مرت�صا يف مظهر مهيب وك�أنه �سرمدي ميتد �إىل ما ال‬ ‫الأ�سطول البحري ًّ‬
‫نهاية‪ ،‬نظرت كليوباترا �إىل الأ�سطول‪:‬‬
‫‪--‬عند خروجي من الإ�سكندرية‪ ،‬مل يكن معي �شيء‪ ،‬ال ذهب وال‬
‫حلفاء‪ ،‬خرجتُ �أج ُّر �أذيال اخليبة ورائي‪ ،‬كانت الأمور �صعبة‪ ،‬تذللتُ‬
‫وت�ضرعت للآلهة كث ًريا حتى �أ�صل �إىل ما �أريد‪� ،‬أتعرفون ملاذا؟ لأنني‬
‫�أُ ِومنُ ب�أنني الوريثة ال�شرعية للعر�ش‪ ،‬كنت �أعلم �أن الآلهة �ستقف‬
‫يف �ص ِّفي‪ ،‬ويف كل حلظة �ضعف �أذ ِّكر نف�سي بذلك‪� ،‬أنني الوريثة‬
‫ال�شرعية للعر�ش‪ ،‬ذلك حقي‪ ،‬كافحت كث ًريا حتى �أ�ستطيع تكوين‬
‫الأ�سطول الذي تراه �أمامك‪ ،‬كافحت �أكرث للح�صول على حلفاء‪ ،‬كل‬
‫‪251‬‬
‫ذلك لأجل هدف وهو العر�ش‪ ،‬و�س�أ�صل �إىل ذلك العر�ش مها كلف‬
‫الأمر‬
‫ثم نظرت �إىل حوررب و�أ�ضافت‪:‬‬
‫ب�شكل ما‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫‪�--‬أنت ابن حور�س‪ ،‬و�أنا ابنة �إيزي�س‪ ،‬نحن مت�شابهان‬
‫وو�ضعتنا الآلهة يف مركب واحد يف و�سط بحر ميتلئ بالأمواج الهائجة‬
‫والعوا�صف التي ال تعرف الرحمة‪ ،‬ف�إما �أن نتعاون �سو ًّيا وننجو‪ ،‬و�إما‬
‫�أن نهلك �سو ًّيا � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�س�أل حوررب‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪--‬ماذا تريدين؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قالت‪:‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬أريدك �أن تقاتل بجواري‪� ،‬أنتم قبائل قوية وال ي�ستهان بها‪ ،‬وال �أريدكم‬
‫�أن تقاتلوا معي هنا‪ ،‬بل تفعلون ما كنتم تفعلونه دائ ًما‪ ،‬مقاومة امللك‬
‫وحا�شيته‪.‬‬
‫‪--‬نحن نقاتل البطاملة منذ وقت طويل‪.‬‬
‫قالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬و�سينتهي ذلك القتال للأبد عند تقلدي العر�ش‪ ،‬و�سيعي�ش اجلنوب‬
‫وال�شمال يف تناغم كما كان دائ ًما‪.‬‬

‫كانت االحتفاالت �صاخبة يف ال�شوارع والأزقة‪ .‬ق�ضى قي�صر ليلته‬


‫الأوىل بني �أح�ضان زوجته كالبورنيا‪ ،‬ال تكاد ت�صدق �أن قي�صر قد عاد‬
‫‪252‬‬
‫ً‬
‫احتفال‬ ‫�أخ ًريا‪ ،‬كانت فرحتها عارمة‪ ،‬وعلى الأرجح هو � ً‬
‫أي�ضا‪� ،‬أقامت �آ ْت َيا‬
‫مهي ًبا يف بيتها لتكرمي قي�صر العائد بالن�صر‪ ،‬ح�ضر كل النبالء الذين‬
‫كانوا ي�ساندون قي�صر وي�ؤمنون بر�ؤيته ال�سيا�سية‪ ،‬ويف اخلارج يحتفل‬
‫العامة على طريقتهم‪ ،‬يف احلانات وعلى الأر�صفة وعلى الطرق‪ ،‬كان‬
‫اجلميع م�سرو ًرا‪ ،‬ويهيم بني الأركان �شعو ًرا بالر�ضى امل�صحوب بالق�صائد‬
‫والأغاين التي متدح قي�صر و�شجاعته‪ ،‬ابن الإله فينو�س‪ ،‬وحفيد �إينيا�س‬
‫بطل طروادة العظيم‪ .‬وظل اجلميع ين�شد �أ�شعار ال�شجاعة التي اختلط‬
‫فيها ا�سم قي�صر با�سم امللك ليونايد�س ملك �سبارطة‪ ،‬و�شبهوا معاركه يف‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫الغال مبعركة ثرموبيالي التي خا�ضها الإ�سبارطيون �ضد الفر�س بقيادة‬

‫يدهت ك�أ�س النبيذ وبجواره زوجته كالبورنيا التي‬


‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ك‬
‫ملكهم ليونايد�س‪.‬‬

‫شمن‬
‫ر �أهله لآالف ال�سنني‪ ،‬ثم‬ ‫تعلقت يف ذراعه كالطفل ال�صغري الذين�ضاع‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫ويف‬ ‫جل�س قي�صر‬

‫ع‬ ‫ز‬
‫قالتيب�صوت‬ ‫و‬ ‫الغامرة‪،‬‬ ‫وبال�صدفة البحتة وجدهم‪ ،‬كانت ت�شعر بال�سعادة‬
‫هام�س‪:‬‬
‫‪--‬ال �أ�صدق‪ ،‬لقد ح�ضرت �أخ ًريا‪.‬‬
‫ابت�سم قي�صر وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أنت ال�سبب الوحيد الذي جعلني طوال �سنوات �أت�شبث بالعودة يا‬
‫كالبورنيا‪.‬‬
‫غمرها �شعور بالدفء من كلماته التي تكاد �أن تكون ب�سيطة‪ ،‬ابت�سمت‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪--‬ح ًّقا؟‬
‫‪--‬بكل ت�أكيد يا عزيزتي‪.‬‬
‫‪253‬‬
‫‪--‬كنت �أعلم �أنك لن تنكث بعودك �أبدً ا‪ ،‬كنت �أعلم �أنك �ستعود يل يف‬
‫يوم من الأيام‪.‬‬
‫انتظرت كث ًريا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪�--‬أعلم � ِ‬
‫أنك‬
‫‪--‬و�أنت ت�ستحق االنتظار‪.‬‬
‫ثم طبعت قبلة على خده قبل �أن تغادر جواره وتتجه �إىل املائدة‪.‬‬
‫ظل �أوكتافيو�س يحدق يف وجه قي�صر للحظات ثم لدقيقة‪ ،‬كان �صع ًبا‬
‫عليه �أن يعرف نوع هذا الفئة من الرجال‪ ،‬قي�صر‪ ،‬هل هو �إن�سان عادي؟‬

‫ع‬
‫�أم رجل منحته الآلهة الهبات؟ ظل يفكر فيما يكمن داخل هذا ال�شخ�ص‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هل روح كما يف الأ�شخا�ص العاديني �أم �شيء خمتلف‪ ،‬اقرتب منه و�أردف‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬هل يل �أن �أ�س�ألك �س� ًؤال؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ابت�سم قي�صر وقال‪:‬‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪ ،‬تف�ضل يا �أوكتافيان ال�صغري‪.‬‬
‫ثم قرب ك�أ�س النبيذ �إىل فمه‪.‬‬
‫‪--‬كيف هو طعم املجد؟‬
‫�أوقف قي�صر ك�أ�س النبيذ قبل �أن تلم�س �شفتيه‪ ،‬ونظر �إىل �أوكتافيو�س‬
‫باهتمام ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬لقد �سمعت عنك الكثري �أيها ال�صغري‪ ،‬يقولون �إنك ذكي‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬صفة الذكاء هي �صفة عامة‪ ،‬ميتلكها الكثريون‪� ،‬أما �أنا ف�أتطلع �إىل‬
‫ما ال ميتلكه �أحد‪.‬‬
‫لفتت كلمات �أوكتافيو�س قي�صر‪:‬‬
‫‪254‬‬
‫‪--‬و�إىل ماذا تتطلع يا �أوكتافيو�س؟‬
‫قال �أوكتافيو�س‪� :‬أنا �أتطلع �إىل ما تتطلع �إليه �أنت‪.‬‬
‫‪--‬وما الذي �أتطلع �إليه يف ر�أيك؟‬
‫‪--‬رمبا كان هذا �س� ًؤال �صع ًبا للجميع‪ ،‬ما هي �أهداف قي�صر احلقيقية؟‬
‫ولكن مل يكن الأمر ي�شكل يل لغزً ا �صع ًبا‪ ،‬فالأفعال تنبئ عن الدوافع‪،‬‬
‫�أتعلم؟ �أنت �أذكى رجل ر�أيته يف حياتي‪ ،‬رجل يعرف كيف ي�ستخدم‬
‫النزعات الب�شرية داخل الب�شر‪ ،‬املجد‪ ،‬الن�صر‪ ،‬القوة‪ .‬للنزعات‬

‫ع‬
‫الب�شرية الكثري من الأ�شكال‪ ،‬ولن ي�ستطيع �أحد بناء �إمرباطورية �إال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مبعرفة النوازع الب�شرية وكيفية ا�ستغاللها ل�صاحله‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ابت�سم قي�صر وقال‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬مل يكذبوا عندما �أخربوين �أنك مميز وا�ستثنائي‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ولكنك مل جتبني على �س�ؤايل‪ ،‬كيف هو طعم املجد؟‬
‫‪(--‬ال مثيل له‪� ،‬شعور �أنك �إله هو �شعور ال ي�ضاهيه �شعور‪).‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪ :‬لقد �س�ألتني �س� ًؤال �أيها ال�صغري و�أجبتك‪ ،‬دعني �أ�س�ألك‬
‫أي�ضا �س� ًؤال‪.‬‬
‫� ً‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪ ،‬تف�ضل‪.‬‬
‫�س�أله‪ :‬لو كنت مكاين الآن‪ ،‬وكان ذلك املجد كله لك‪ ،‬الذهب‪ ،‬واجلحافل‬
‫والفيالق‪ ،‬حب العامة‪ ،‬واحرتام النبالء‪ ،‬ماذا �سوف تفعل؟‬
‫‪--‬قال بال تردد‪� :‬س�أحكم العامل‪.‬‬
‫ابت�سم قي�صر بفخر وقال‪:‬‬
‫‪255‬‬
‫‪--‬وكيف �ستفعل هذا؟‬
‫‪--‬من ُي ِرد بناء �إمرباطورية‪ ،‬ينب ِغ عليه �أن يحكم وحيدً ا‪ ،‬ولكن يجب �أن‬
‫يحدث ذلك بالدميقراطية‪.‬‬
‫‪--‬وكيف ي�ستقيم احلكم اال�ستبدادي بالدميقراطية؟‬
‫‪--‬الطريقة الوحيدة املمكنة لتحقيق ذلك هي ال�شعب‪ ،‬و�صنع التحالفات؛‬
‫النا�س ي�سهل خداعهم‪� .‬إذا كان الأمر يتعلق ببناء �إمرباطورية فعلى‬
‫الإمرباطور �إر�ضاء ال�شعب مهما كلفه الأمر‪ ،‬ال�شعب هو املحرك‬
‫الرئي�سي للدولة التي يحكمها رجل واحد فقط‪ ،‬و�إذا كان املرء‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�سيحكم كامللك‪ ،‬فعليه �أن يحتمي بال�شعب قبل فيالقه‪ ،‬مثلك الآن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يا قي�صر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ابت�سم قي�صر وانحنى حتى �أُ ُذن �أوكتافيو�س ومتتم �إليه بكلمات غري‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫م�سموعة‪ ،‬ك�أنه �سر ما‪ ،‬ابت�سم �أوكتافيو�س برحابة و�سرور قبل �أن يغادر‪،‬‬
‫وبعد دقيقة �شعر قي�صر بالتو ُّعك وبانقبا�ض يف ع�ضالته‪ .‬وقف وكانت‬
‫قدماه ال ت�ستطيعان حمله‪ ،‬ال يبدو هذا ت�أثري النبيذ‪ ،‬حاول م�سك جلام‬
‫نف�سه ولكنه بدا وك�أنه يرتنح‪ ،‬يبدو �أنها �سوف تفاجئه نوبة ال�صرع الآن‪،‬‬
‫الحظت كالبورنيا �أن قي�صر لي�س على ما يرام‪ ،‬ال يجب �أن يعلم �أحد بتلك‬
‫اللعنة التي ل َعنته بها الآلهة‪ ،‬تقدمت �إليه كالبورنيا بخطوات �سريعة‪،‬‬
‫�أم�سكت يده واجتهت به �إىل �أقرب غرفة‪ ،‬حاولت على قدر الإمكان �أال‬
‫يراهم �أحد‪� ،‬سقط قي�صر على ال�سرير انت�شرت يف ج�سده الت�شنجات‬
‫التي �أدت �إىل حركة ال �إرادية يف �أع�ضائه‪ ،‬كان ينتف�ض ك�أن زيو�س �أ�صابه‬
‫ب�صاعقة عاتية‪ ،‬كان ر�أ�سه يتحرك ب�شكل ه�ستريي وعيناه بي�ضاء ال �سواد‬
‫فيها‪� ،‬أ�سرعت كالبورنيا وو�ضعت ر�أ�سه فوق قدمها‪ ،‬ثم طفقت تهدئ من‬
‫روعه‪ ،‬م َّل�ست ب�أناملها على ر�أ�سه‪ ،‬وم�سحت عرقه املتديل كفي�ضان بطرف‬
‫ثوبها‪ ،‬كانت تلك نوبة كبرية‪ ،‬ميلأ قي�صر الرعب �أن يراه �أحد بذلك‬
‫‪256‬‬
‫ال�شكل‪ ،‬ذلك ال�ضعف الذي يتخلله‪ ،‬ال يجب �أن يراه �أحد يف �ضعفه‪ ،‬لن‬
‫رجل �ضعي ًفا‪ ،‬وبعد دقائق من الت�شنجات الهائلة‪ ،‬بد�أ قي�صر‬ ‫يتبع النا�س ً‬
‫يف الهدوء وبد�أت الت�شنجات تخفت كما بد�أت‪� ،‬أغم�ض قي�صر عينه وغط‬
‫يف نوم عميق‪.‬‬
‫�صباحا وجد كالبورنيا بجواره تتكئ على يديها وتغفو‬ ‫ً‬ ‫عندما ا�ستيقظ‬
‫بن�صف نوم وبن�صف �أعني مغم�ضة‪ ،‬يبدو �أنها �سهرت بجواره طوال الليل‪،‬‬
‫اعتدل قي�صر فا�ستيقظت كالبورنيا‪ ،‬قالت بقلق‪:‬‬
‫‪--‬هل ت�شعر الآن بتح�سن؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫‪--‬نعم‪� ،‬شك ًرا لك‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫اجتهت �إىل املن�ضدة وحملت ك�أ�س املاء‪ ،‬تناوله منها قي�صر حتى ارتوى‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫حلقه العاط�ش ك�صحراء جدباء‪ ،‬وعندما فرغ قال‪:‬‬
‫‪--‬يبدو �أنني لن �أ�شفى من تلك اللعنة �أبدً ا‪.‬‬
‫�س�ألت‪:‬‬
‫‪--‬كيف �صمدت ل�سنوات يف الغال؟‬
‫‪�--‬إنه �سكار‪ ،‬العبد اليوناين‪ ،‬كلما �شعرت بالنوبة‪ ،‬يخرج كل احلرا�س‪،‬‬
‫ويحاول ال�سيطرة على حالتي‪ ،‬لثماين �سنوات �أحاول ال�سيطرة عليها‪،‬‬
‫لكني �أف�شل‪.‬‬
‫مل يكن هناك وقت لي�ضيع‪ ،‬انت�صب قي�صر وحاول ا�ستعادة قوته‪،‬‬
‫بعد دقائق جنح يف ا�ستعادة ن�صف عافية واخلروج من �آثار تلك النوبة‪.‬‬
‫ارتدى درعه وقام با�ستدعاء فرقة من رجاله واجته بهم �إىل املجل�س‪،‬‬
‫دخل قي�صر املجل�س ومن ورائه جنوده املو�شحني بالنقائب احلمراء‪ ،‬وقف‬
‫�شيوخ املجل�س لدخول قي�صر‪ ،‬اقرتب من املقاعد الثالثة‪� .‬أم�س كان يجل�س‬
‫على تلك املقاعد �أنبل الرجال‪ ،‬واليوم مل يبقَ �سواه‪ ،‬رمق �شيوخ املجل�س‬
‫‪257‬‬
‫جنود قي�صر بخوف وقلق‪ ،‬يبدو الأمر م�ألو ًفا ً‬
‫قليل‪ ،‬دخول املجل�س بقوات‬
‫ع�سكرية � ْأمر �أثار التوج�س يف قلوب �شيوخ املجل�س‪ .‬جل�س قي�صر على‬
‫مقعده‪ ،‬ثم نظر �إىل وجوه �شيوخ املجل�س املكفهرة وقال‪:‬‬
‫‪--‬ميل�ؤكم اخلوف‪� ،‬أ�شت ُّمه من مقعدي هذا‪ ،‬ه�ؤالء هم �أف�ضل رجايل‪،‬‬
‫رجال �أثق فيهم �إىل �أبعد احلدود ق�ضينا �سو ًّيا ثماين �سنوات من‬
‫احلرب‪� ،‬سين�ضمون لكم يف هذا املجل�س و�سوف ي�ساعدونكم يف‬
‫اتخاذ القرارات ال�صحيحة‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وقف �أحد �شيوخ املجل�س وقال‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫قال قي�صر‪ :‬ب ل‬
‫‪--‬دخولك بقوات ع�سكرية �إىل �أر�ض املجل�س هو �ضد القوانني‪.‬‬

‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫وزي‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يتغري‪.‬‬ ‫‪--‬نعم‪� ،‬أعلم‪ ،‬ولكن القانون دائ ًما‬
‫قال �آخر‪ :‬نحن هنا منثل القانون ومنثل ال�شعب‪.‬‬
‫‪--‬ال يا عزيزي‪ ،‬ال�شعب ميثل نف�سه‪ ،‬و�إن �أردت ر�أي ال�شعب‪ ،‬فها هي‬
‫ال�شوارع‪ ،‬ال�شعب يثق يف قراراتي‪.‬‬
‫‪--‬هل تقول لنا �إنك �ست�صبح �سوال الثاين؟‬
‫‪--‬ال�شعب َب ِغ َ�ض و َك ِر َه �سوال ولهذا كان حك ًما ا�ستبداد ًّيا‪� ،‬أما �أنا فال�شعب‬
‫حليف يل �أمامكم �أيها النبالء‪ ،‬لكن ال تقلقوا‪� ،‬أنا ل�ست �سوال يف‬
‫النهاية‪ ،‬ف�أنا �أحمل يف قلبي الرحمة‪ ،‬لن �أقتل املعار�ضني ولن �أعلق‬
‫القوائم ال�سوداء كما فعل �سوال‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت لدقيقة قبل �أن يدخل مارك �أنتوين‪ ،‬اقرتب من قي�صر‬
‫و�أردف‪:‬‬
‫‪258‬‬
‫‪--‬لقد حددت موقع الهاربني‪ ،‬فر بومبايو�س ماجنو�س وبروتو�س‬
‫وكا�سيو�س �إىل اليونان يف فار�سالو�س‪ ،‬و�سافر كاتو مع ابنه ماركو�س‬
‫بور�سيو�س �إىل قلعته يف ال�شرق �أوتيكا‪ ،‬ماذا �سوف تفعل؟‬
‫�س�أل قي�صر‪� :‬أمل ير�سل القائد �ألك�سيو�س �أي ر�سائل من اليونان؟‬
‫قال مارك �أنتوين‪ :‬ال‪ ،‬مل ير�سل �شي ًئا‪.‬‬
‫قليل وفكر للحظات قبل �أن يقول‪:‬‬ ‫�صمت قي�صر ً‬
‫‪--‬جهز الفيالق‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�س�أل مارك �أنتوين‪ :‬ماذا تنوي �أن تفعل؟‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ال وقت للراحة‪ ،‬بومبايو�س لن ي�ست�سلم‪ ،‬لقد ا�ستدعى جحافله من‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�إ�سبانيا و�سيحاول دخول روما يف �أي وقت‪ ،‬ولن �أنتظر حدوث ذلك‪،‬‬
‫بل �س�أذهب �إليه فوق جحافلي و�أنهي هذا للأبد‪� ،‬أما كاتو ف�أر�سل له‬
‫بع�ض القوات التي ت�أ�سره‪ ،‬ولكن ال مت�سه ب�سوء �أبدً ا‪.‬‬
‫‪�--‬أمرك �أيها القن�صل‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫(‪)6‬‬

‫�ساد الهرج واملرج يف فار�سالو�س‪ ،‬يف كل مكان كانت ال�ضو�ضاء تتعاىل‬


‫كاملد املرتفع‪ ،‬خيول تقبع وت�صهل‪ ،‬وقادة ي�صدحون بالأوامر‪ ،‬وجنود‬
‫ي�سرعون بالتنفيذ فو ًرا بال جدال‪ ،‬انهمك احلدادون يف َ�سنِّ وتقومي‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ال�سيوف وتثبيت �صرر ال�سهام مزودة بري�شات جديدة‪ ،‬كانت جحافل‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫بومبايو�س تنتظر �أوامره للعودة �إىل روما فقط ب�إ�شارة من �أ�صبعه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫كان بومبايو�س يف غرفته احلربية مع كا�سيو�س وبروتو�س و�سي�سرو‪،‬‬

‫ع‬
‫كان غار ًقا يف التفكري ما اخلطوة القادمة؟ هل يعود �إىل روما ويفتعل‬
‫حر ًبا �أهلية �أخرى رمبا �ستحيل روما رمادًا؟ �أم ينتظر قي�صر ويحاربه‬
‫يف �أر�ض حداد؟ على املن�ضدة كانت هناك اخلرائط واخلطط احلربية‪،‬‬
‫وكان منه ًكا يف ا�ستطالع اخلرائط واتخاذ القرار الذي �سوف يقوم به‪،‬‬
‫وجل�س بومبايو�س يحدق يف ك�أ�س النبيذ التي �شعر مبذاقها رديئة وفا�سدة‬
‫على ل�سانه‪ ،‬كانت ب�شرته باردة‪ ،‬وعروقه الزرقاء تتفرع كروافد الأنهار‬
‫حتت جلده‪ ،‬وك�أن للحزن بحا ًرا تتعارك داخله ب�شرا�سة‪.‬‬
‫�أردف كا�سيو�س‪ :‬ماذا �سوف تفعل يا بومبايو�س؟‬
‫ردد بومبايو�س الكلمات ببطء‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أ�صبحت الفيالق جاهزة للتحرك‪.‬‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪(--‬قي�صر قد خرج من روما على ر�أ�س فيالقه‪ ،‬عليك التحرك �سري ًعا‪).‬‬
‫‪260‬‬
‫كان مرتب ًكا‪ ،‬ال يعرف ماذا يفعل‪ ،‬متتزج م�شاعره فال يفهم ما يدور‬
‫بداخله‪ ،‬كان يحب قي�صر بحق‪ ،‬ولكنه كان يخاف‪ ،‬كان خائ ًفا مما قد‬
‫يحدث‪ ،‬قي�صر الآن �أ�صبح �إل ًها على عر�ش روما ومن ال�صعب التنب�ؤ بنواياه‬
‫ودوافعه و�أهدافه‪ ،‬يفكر كث ًريا بال طائل يرجى‪ ،‬ال ي�ستطيع �أن يلجم زمام‬
‫م�شاعره املت�ضاربة بني حب قي�صر واخلوف منه �أو على الأحرى اخلوف‬
‫من طموحه‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪�--‬س�أخرج على ر�أ�س الفيالق و�أ�سحق قي�صر �إىل النهاية‪ ،‬ثم نعود �إىل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫روما‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ثم �أ�ضاف كا�سيو�س‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬لقد كلل ال�شعب قي�صر بالإكليل الذهبي‪.‬‬


‫�أردف �سي�سرو بقلق ي�ساوره‪:‬‬
‫‪--‬يف غ�ضون �سنوات �ستتحول روما �إىل مملكة �إن مل نتحرك‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬لن �أ�سمح بهذا‪.‬‬
‫�س�أل كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬و�أنت يا بروتو�س‪ ،‬ملاذا مل ت�سافر �إىل �أوتيكا مع عمك كاتو؟‬
‫قال بروتو�س‪ :‬قي�صر لن يتجه �إىل �أوتيكا‪.‬‬
‫�أردف �سي�سرو‪ :‬يف احلقيقة يا بروتو�س‪ ،‬ال �أ�ستطيع اجلزم؛ �أنت يف‬
‫�صفنا �أم يف �صف قي�صر‪.‬‬
‫‪�--‬أنا يف �صف القانون‪ ،‬ولكني �أحب قي�صر‪.‬‬
‫‪261‬‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬حتب خائ ًنا وا�ستبداد ًّيا؟‬
‫‪--‬ال يتعلق الأمر مباهية قي�صر‪ ،‬بل يتعلق ب�شخ�صه‪� ،‬أنت �أعلم النا�س‬
‫بنبالة قي�صر و�صفاته‪ ،‬ولكن قي�صر فيه نقي�صة واحدة‪ ،‬وال �أ�ستطيع‬
‫اجلزم هل هو عيب �أم ميزة‪ ،‬وهو طموحه‪.‬‬
‫كان بومبايو�س �صامتًا‪ ،‬يلفحه حزن عميق‪ ،‬تلفه ذكرياته وتعيده �إىل‬
‫املا�ضي‪ُ ،‬ت�ؤمله الذكريات كمن مي�شي على �أر�ض متتلئ بالأ�شواك‪ ،‬عندما‬

‫ع‬
‫تزوج بومبايو�س جوليا ابنة قي�صر‪ ،‬حلم بحلم ذات يوم وكانت �آماله‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كبرية عليه‪ ،‬وهو �أن يحكم هو وقي�صر �سو ًّيا‪َ ،‬‬

‫ت‬
‫متخذين القانون الروماين‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ك�سيف ودرع‪ .‬كان قي�صر ك�أخيه ال�صغري‪� ،‬أحبه ب�شدة‪ ،‬وهو من �أعطاه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫اجلحافل لغزو الغال‪ ،‬ولكن مل يكن يدري �أنه قد �أعطاه �سي ًفا رمبا ي�شق‬

‫ع‬
‫به �صدره يف يوم من الأيام‪ ،‬مل يكن يدري �أن الطموح يغري الأ�شخا�ص‪ ،‬مل‬
‫يكن يدري �أن �صديقه قي�صر قد يواجهه يف معركة يف يوم من الأيام‪ ،‬كان‬
‫ذلك م�ستبعدً ا‪ ،‬ولكن الأمر الآن وا�ضح وجلي �إىل �أبعد احلدود‪ ،‬قي�صر قد‬
‫خان عهد الدماء الذي بينهما‪ ،‬ولن يلتزم بومبايو�س بذلك العهد لأكرث‬
‫من هذا‪ ،‬يكفي حتى الآن‪.‬‬
‫دخل �أحد قادة بومبايو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬قي�صر على ُبعد �ساعة �أيها القن�صل‪.‬‬
‫اكفهرت وجوههم وتبادلوا النظرات يف توج�س‪ ،‬لكن بومبايو�س مل‬
‫يهتز‪ ،‬كان يعلم �أن قي�صر لن ينتظره‪� ،‬أردف‪:‬‬
‫‪ِ �--‬‬
‫أعط �أم ًرا للفيالق باال�ستعداد‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪:‬‬

‫‪262‬‬
‫‪--‬ال تذهب يا بومبايو�س‪.‬‬
‫‪--‬على �أحد �أن يقود الأ�سطول‪ ،‬وال �أحد منكم يعرف �شي ًئا عن احلروب‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬فلتكن الآلهة معك‪.‬‬
‫واكتفى بروتو�س بال�صمت‪ ،‬فال يعرف هل يدعو الآلهة �أن تن�صر‬
‫بومبايو�س ماجنو�س على يوليو�س قي�صر �أم العك�س‪ ،‬فكان ال�صمت هو‬
‫اخليار الأمثل‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ارتدى بومبايو�س درعه التي طاملا كان يرتديها يف حروبه القدمية‪ ،‬مل‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يرتد تلك الدرع منذ وقت طويل‪ ،‬و�أق�سم �أال يرتديها جمددًا‪ ،‬وها هو عهد‬ ‫ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�آخر ينكث به‪ ،‬برز على �صدرية الدرع ر�سومات حل�صان جامح‪ ،‬كما كان‬

‫والتوز عي‬
‫هو �ساب ًقا‪ً ،‬‬
‫جاحما وقو ًّيا وال يخ�سر معركة‪.‬‬
‫مت جتهيز الأ�سطول كما �أمر بومبايو�س‪ ،‬كانت ال�سماء ملبدة‬
‫بال�سحاب القامت‪ ،‬انفتحت الأ�شرعة ورفعتها الأمواج والهواء على حد‬
‫�سواء‪ ،‬واختلطت �أنا�شيد الرجال بذرات الهواء العا�صفة‪ ،‬كانت الرياح‬
‫هائجة والأمواج تت�ضارب وت�صدح بال�صراخ كالوح�ش‪ ،‬كان اخلليج ب�أكمله‬
‫م�ضطر ًبا متالط ًما‪ ،‬والأمواج ترتفع بقمم بي�ضاء ك�أنها جبال‪.‬‬
‫�شقت �سفينة بومبايو�س الأمواج ب�ضراوة‪ ،‬ركب املد املرتفع‪َ ،‬ي ِ�ص ُّر‬
‫�شراع �سفينته ويطقطق مع كل تبديل يف حركة الرياح‪ ،‬ووقف هو بدوره يف‬
‫املق�صورة العالية لل�سفينة‪ ،‬ينتظر الأ�سطول �إ�شاراته‪.‬‬
‫كان �أ�سطول قي�صر يقرتب‪� ،‬أخرج بومبايو�س �سيفه الكبري ف�أ�صدر‬
‫ً‬
‫�صليل عال ًيا‪ ،‬رفع �سيفه يف الهواء‪ ،‬فدوت �أبواق احلرب ب�أنني عميق بلغ‬
‫�أفق ال�سماء‪ ،‬وترددت الأبواق من �سفينة �إىل �سفينة‪ ،‬كان ال يف�صل �سفينة‬
‫‪263‬‬
‫بارعا يعرف كيف يقود‬
‫عن �سفينة �إال ب�ضعة �أمتار‪ ،‬كان بومبايو�س جند ًّيا ً‬
‫� ً‬
‫أ�سطول‪.‬‬
‫�أنزلوا الأ�شرعة وخف�ضوا ال�صواري‪ ،‬ويف قاع ال�سفينة يجذف‬
‫املجذفون‪ ،‬ثم �صاح بومبايو�س بالأمر‪« :‬ال�سهام‪».‬‬
‫فارتفع �صوت بوق �آخر طويل كعويل الوحو�ش‪ ،‬وقف رامو ال�سهام يف‬
‫�صفوف على �سطح ال�سفن‪� ،‬أ�شعلوا �سهامهم وت�أهبوا وو�ضعوا ال�سهام بني‬
‫�أقوا�سهم الطويلة‪ ،‬ف�أ�صدر بومبايو�س الأمر‪�« :‬أطلقوا‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫انطلق وابل من ال�سهام امل�شتعلة‪� ،‬أنارت ال�سماء يف و�ضح النهار‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كالنجوم املتوهجة‪ ،‬وت�ساقطت على �سفن يوليو�س قي�صر‪ ،‬احرتقت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫الأ�شرعة وانت�شرت النريان يف بع�ض ال�سفن فغرقت‪ ،‬ومتددت النار �إىل‬

‫ع‬
‫بع�ض اجلنود ف�ألقوا ب�أنف�سهم يف البحر‪ ،‬كانت الرياح قوية و�ساعدت يف‬
‫انت�شار النريان‪ ،‬هدير الرياح ينقل الرعب بني نفو�س اجلنود و�سرعان ما‬
‫ابتلعها هدير �ألف �صيحة من اجلنود‪.‬‬
‫مل تكن بداية موفقة ليوليو�س قي�صر‪ ،‬كان بومبايو�س يعرف فار�سالو�س‬
‫جيدً ا كما يعرف روما‪ ،‬فكانت حركة �أ�سطوله مثالية‪ ،‬ويعرف جنوده كيف‬
‫يتحكمون ب�سفنهم باحرتاف‪ ،‬وراء �صف ال�سفن امل�شتعلة ر�أى يوليو�س‬
‫قي�صر ثغرة يف �أ�سطول بومبايو�س‪ ،‬كان احلل الوحيد هو ك�سر النظام‬
‫الذي ت�سري به �سفن بومبايو�س با�ستغالل تلك الثغرة‪ ،‬يجب عليه الهجوم‬
‫مبا�شرة‪ ،‬و�أعطى الأمر ملاركو�س �أنطونيو�س‪.‬‬
‫انق�سم الأ�سطول لثالث جمموعات‪ ،‬املجموعة الأوىل والثانية كانتا‬
‫يف �صراع وتخابط مبا�شر مع �سفن بومبايو�س‪� ،‬أما املجموعة الثالثة‬
‫فانق�سمت عن الأ�سطول يف خفة وخفية مل ي َرها �أحد‪ ،‬قادها ماركو�س‬
‫‪264‬‬
‫�أنطونيو�س وراء جرف �صخري ملفاج�أة بومبايو�س من اجلنوب‪ ،‬والهجوم‬
‫على قلب الأ�سطول وت�شتيته‪.‬‬
‫بعد �ساعة من املواجهات املبا�شرة بني ال�سفن كان بومبايو�س منت�ص ًرا‬
‫على يوليو�س قي�صر‪ ،‬ويف حلظة خرجت املجموعة الثالثة من اجلنوب‪،‬‬
‫نفخت الأبواق وقال ماركو�س �أنطونيو�س‪:‬‬
‫‪--‬هجوم‪.‬‬
‫انفلتت الأ�شرعة ك�أنها �أجنحة لطائر‪ ،‬جدف الرجال �سري ًعا وكانت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الرياح يف �صالح ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬ارتفعت الرايات واندفعت ال�سفن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�سري ًعا �إىل قلب �أ�سطول بومبايو�س‪ ،‬ت�شابكت ال�سفن بع�ضها مع بع�ض‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫اختلطت �صرخات الرجال ب�صليل الفوالذ‪ ،‬ا�ستطاع مارك �أنتوين‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫ت�شتيت �أ�سطول بومبايو�س‪ ،‬فا�ستغل يوليو�س قي�صر تلك اللحظة‪ ،‬واندفع‬
‫موحد ومبا�شر‪ ،‬تراجع �أ�سطول بومبايو�س‬ ‫باملجموعتني الأخريني بهجوم َّ‬
‫حلظة فلحظة‪ ،‬تقهقر اجلنود بعدما احرتق �أكرث من ن�صف الأ�سطول‪،‬‬
‫عوما‪ ،‬و�إما‬
‫وبد�أ الرجال بالفرار؛ �إما �إىل البحر فوق قوارب �صغرية‪ ،‬و�إما ً‬
‫غر ًقا‪ ،‬منهم من فر �إىل البحر الوا�سع ومنهم من عاد �إىل فار�سالو�س‪.‬‬
‫مل يبقَ من �أ�سطول بومبايو�س �إال بع�ض ال�سفن‪ ،‬ا�ستطاع الهرب مبا‬
‫تبقى من �أ�سطوله‪ ،‬مل يكن هناك خيار �آخر‪ ،‬مل يعتَد الفرا َر من املعارك‬
‫كاجلبان‪ ،‬ولكن لن ميوت على يد يوليو�س قي�صر‪� ،‬أعز �أ�صدقائه‪ ،‬كان هذا‬
‫م�ؤملًا‪ ،‬بل �أكرث � ً‬
‫إيالما من اخل�سارة العميقة‪.‬‬
‫�شاهده قي�صر وهو يبتعد مبا تبقى من �أ�سطوله‪ ،‬ولكنه لن يلحق به‪،‬‬
‫لن ي�شكل خط ًرا الآن‪ ،‬ف�أ�سطوله احرتق ومل يتبقَّ له �شيء‪ ،‬رمبا يلحق به‬
‫الح ًقا‪ ،‬كان انت�صا ًرا عظي ًما‪ ،‬واحلزن مل يق َّل عنه عظم ًة‪ ،‬ولكن مل يظن‬
‫�أن االنت�صار �سيكون انت�صا ًرا حزي ًنا بهذا ال�شكل‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫اقرتب الأ�سطول من فار�سالو�س ور�سا عند ال�شاطئ‪� ،‬سيطر اجلنود‬
‫على اجلزيرة ومت �أ�سر بروتو�س وكا�سيو�س ومعهما بع�ض م�ساعدي‬
‫و�أن�صار بومبايو�س من املجل�س‪ ،‬و�أمر قي�صر اجلنود بعدم التعر�ض لهم‬
‫ب�سوء‪ ،‬ومترت�س الأ�سطول عند ال�شاطئ وجاءت الأوامر بق�ضاء الليلة يف‬
‫فار�سالو�س‪.‬‬
‫كان خمدع بومبايو�س ُمه َّي�أً ليجل�س فيه قي�صر‪ ،‬دخل غرفة بومبايو�س‬
‫احلربية‪ ،‬رمق اخلرائط على املن�ضدة وك�أ�س النبيذ الفارغة‪ ،‬اجتاحه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�ضيق ال�صدر‪ ،‬كان �ضمريه ي�ؤنبه َ ْ‬
‫وتلده ذاته بال رحمة‪ ،‬مل يعرب الريبيكون‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لي�ؤذي �أ�صدقاءه‪ ،‬ومل يكن ينوي فعل هذا‪ ،‬كان فقط يريد حماية نف�سه من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�شيوخ املجل�س‪ ،‬خرج و�أمام خيمة بومبايو�س كان الأ�سرى مكبلني‪ ،‬بروتو�س‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ثم كا�سيو�س‪ ،‬ثم بع�ض �شيوخ املجل�س‪ ،‬حتا�شى بروتو�س النظر يف عني‬
‫قي�صر‪ ،‬وتعمد قي�صر النظر �إليه نظرة طويلة متل�ؤها كلمات العتاب‪� ،‬أ�شار‬
‫قي�صر �إىل اجلندي‪ ،‬فطفق بفك وثاق الأ�سرى‪ ،‬نظر لهم قي�صر وقال‪:‬‬
‫‪--‬مل �أكن بالقاتل وال اخلائن ً‬
‫يوما‪ ،‬ل�ست �أنا الذي يقتل �أ�صدقاء‬
‫الأم�س‪ ،‬مل �أعرب الريبيكون لهذا‪� ،‬أنتم �أ�صدقائي القدامى‪ ،‬ومل‬
‫�أعرب الريبيكون بقوات ع�سكرية �إال للحفاظ على حياتي ولي�س لأكون‬
‫الديكتاتور الذي تظنونه‪ ،‬ومل �أكن �أنوي �أن �أنت�صر على �صديق هو‬
‫�أف�ضل مني وبيننا عهد دماء مقد�س‪� ،‬أنتم �أحرار الآن‪ ،‬مقاعدكم يف‬
‫جمل�س ال�شيوخ ما زالت فارغة تنتظركم �أن تعودوا لها‪.‬‬
‫الح ال�سرور على وجوههم‪ ،‬ثم هتفوا‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فليحي قي�صر الرحيم‪.‬‬
‫‪266‬‬
‫ثم اقرتب من بروتو�س ونظر يف عينيه‪ ،‬كانت عينا بروتو�س تلمع يف‬
‫باطنها الدموع‪ ،‬نطق قي�صر بعد حلظة‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫تعال يا بروتو�س معي‪.‬‬
‫دخل هو وبروتو�س �إىل اخليمة‪ ،‬قال قي�صر بنربات الئمة‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا يا بروتو�س؟‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬لقد خ�شيت منك‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬ملاذا؟‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬خ�شيت �أن تقتل عمي كاتو‪ ،‬وت�سفك بدماء �شيوخ املجل�س كما فعل‬
‫�سوال‪.‬‬
‫قال قي�صر بنربات حادة‪:‬‬
‫‪--‬حتى �إن كنت �أنوي فعل هذا‪ ،‬فلن �أفعله لأجلك‪ ،‬لقد منحتهم احلرية‬
‫لأجلك‪ ،‬هل تظن �أنني �سوف �أ�سامح نف�سي �إن �أ�صابك مكروه؟‬
‫‪�--‬أنا �أعتذر لك‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد بروتو�س وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أرجوك يا قي�صر‪ ،‬كفى دما ًء حتى الآن‪ ،‬الدماء ال جتلب �إال الدماء‪،‬‬
‫�أعقد ال�سالم مع بومبايو�س‪.‬‬
‫�سكت قي�صر ومل يعقب‪ ،‬فا�ستطرد مرة �أخرى‪:‬‬
‫‪--‬لقد حارب بومبايو�س لأجلك �سنوات عديدة‪ ،‬حارب جمل�س ال�شيوخ‪،‬‬
‫حارب النبالء لأجلك �أنت يا قي�صر‪ ،‬لأجل ابنتك جوليا‪ ،‬لقد عانى‬
‫‪267‬‬
‫كث ًريا‪ ،‬كان ي�أمل �أن تعود من الغال وحتكما روما �سو ًّيا ك�أخوين كما‬
‫كنتما دائ ًما‪.‬‬
‫قال قي�صر بحزن �آ�سر‪:‬‬
‫‪--‬جوليا ماتت!‬
‫�صمت بروتو�س للحظة وقال‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬ماتت جوليا ومبوتها كانت احلياة جحي ًما على بومبايو�س‪ ،‬لقد‬

‫ع‬
‫�أحبها �أكرث من �أي �شيء �آخر‪� ،‬أحبها �أكرث من نف�سه لأنها جمعت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حبني‪ ،‬حب الزوجة وحب ال�صديق‪ ،‬كان يزداد يف حبها كل يوم فقط‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لأنك �أبوها‪ ،‬لقد ر�أيته بنف�سي يبكي على قربها‪ ،‬يئن كالوحو�ش‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ويزعق كالطفل الناقم‪ ،‬لقد ر�أيت بومبايو�س ينهار‪.‬‬

‫ع‬
‫رق قلب قي�صر لكلمات بروتو�س فقال‪:‬‬
‫‪--‬هل تعلم �إىل �أين فر بومبايو�س؟‬
‫ابت�سم بروتو�س بفرح وقال‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬فر �إىل م�صر‪.‬‬
‫ت�ساءل قي�صر‪ :‬ملاذا؟‬
‫‪--‬القائد جابينيو�س �أحد م�ساعديه يف م�صر مع بع�ض القوات‪.‬‬
‫قال قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬عد الآن �إىل روما وانتظر عودتي �أنا وبومبايو�س‪� ،‬سو ًّيا‪ ،‬كما‬
‫كنا دائ ًما‪.‬‬
‫بثت كلمات قي�صر يف بروتو�س ال�سرور‪� ،‬سيعود كل �شيء كما كان‪،‬‬
‫و�ستعود روما قوية كما كانت‪ ،‬و�سيقود �شيوخ املجل�س بقيادة قي�صر‬
‫‪268‬‬
‫وبومبايو�س روما �إىل �أقا�صي الأر�ض‪ ،‬وهكذا كانت الأفكار تدور يف ر�أ�سه‬
‫بال توقف‪.‬‬

‫الإ�سكندرية‪...‬‬
‫‪--‬وقف الرجال فوق العربات يحملون براميل النبيذ و�أجولة الدقيق‪،‬‬
‫وانهمك بع�ض الرجال يف تثبيت حدوات اخليل وبغال اجلر على حد‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�سواء‪ ،‬كانت مظاهر االحتفال تنت�شر يف املدينة وخرب تتويج الأمرية‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�أر�سينوي بلغ �أفق اجلنوب �إىل نهاية ال�شمال‪ .‬انت�شرت الزينة يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أرجاء املدينة و�أقيمت االحتفاالت‪ .‬كانت عازفات الناي والراق�صات‬

‫والتوز عي‬
‫ب ال�شوارع‪ ،‬ويف الق�صر امللكي جل�ست حزينة‪ ،‬تنتظر الت�أبني �أو‬ ‫َي ُج ْ َ‬
‫على الأحرى التتويج‪ ،‬مل يكن هناك فرق‪ ،‬كانت الأجواء فاترة يف‬
‫الق�صر‪ ،‬الأمرية �أر�سينوي كانت يف غرفتها‪ ،‬هي ال تكره العر�ش‬
‫ولكنها تخاف منه ب�شكل ال �إرادي‪.‬‬
‫كلهم بال ا�ستثناء �أ�شرار وال ميكن الوثوق فيهم‪ ،‬هكذا قال لها‬
‫جانيميدي�س‪ ،‬بطليمو�س يريد ا�ستغالل الأمرية �أر�سينوي لإق�صاء كليوباترا‬
‫عن العر�ش‪ ،‬وكليوباترا �ستقتل �أر�سينوي �إن �شكلت عائ ًقا �أمامها‪ ،‬ويف كلتا‬
‫احلالتني الأمرية �أر�سينوي يف خطر حمدق‪.‬‬
‫‪--‬كانت ليلتها املا�ضية �سيئة‪ ،‬حمفوفة ب�أ�شباح نزقة‪ ،‬وكوابي�س ال تعرف‬
‫الرحمة‪ ،‬عن ال�سقوط يف الهاوية‪ ،‬عن املجهول‪ ،‬ت�صحو مه�شمة‪ ،‬بال‬
‫رغبة �أو هدف‪ ،‬وظلت على هذا احلال حتى م َّلت‪ ،‬كانت حياتها تزداد‬
‫�سوادًا‪ ،‬كانت تتمنى �أن ت�صبح من العامة‪ ،‬هي الآن �أمرية ولكن ت�سكن‬
‫يف �سجن ي�سمى الق�صر‪ ،‬و�أ�صفاد ت�سمى العر�ش‪.‬‬
‫‪269‬‬
‫دخل جانيميدي�س �إىل غرفتها‪ ،‬كانت غارقة يف احلزن‪� ،‬أردف‪:‬‬
‫‪--‬موالتي‪.‬‬
‫�ألقت �إليه �أر�سينوي نظرة و�أردفت‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل يا جانيميدي�س‪.‬‬
‫لقد �أح�ضر تايبرييو�س جمموعة جديدة من الكتب والربديات‪� ،‬إن‬
‫كنت تريدين االطالع عليها‪.‬‬
‫‪--‬قالت بنربات كئيبة‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫ال‪ ،‬ال �أريد‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪--‬ثم �س�ألت‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫متى �سيكون التتويج؟‬

‫ع‬
‫‪--‬تنهد ثم قال‪:‬‬
‫يف الليل‪.‬‬
‫‪--‬قالت‪ :‬هل هناك �سبيل للهرب من ذلك اخلط�أ اجل�سيم؟‬
‫لي�س هناك �سبيل‪.‬‬
‫‪--‬قالها وهو ي�شعر بالعجز‪.‬‬
‫ثم قال بنربات ُم َط ْمئنة لها‪:‬‬
‫‪--‬ال تقلقي يا موالتي‪� ،‬سيمر التتويج بخري‪ ،‬لن � ِ‬
‫أتركك وحيدة �أبدً ا‪ ،‬هذا‬
‫أحميك حتى �آخر رمق يف ج�سدي‪،‬‬‫عهد مني �أمام الآلهة‪� ،‬سوف �أظل � ِ‬
‫و�إن كلفني الأمر حياتي‪.‬‬
‫‪--‬لكني ال �أريد‪.‬‬
‫ثم ا�ستطردت ببع�ض احلما�س‪:‬‬
‫‪270‬‬
‫‪--‬دعنا نهرب يا جانيميدي�س‪ .‬ال �أريد �شي ًئا من هذا‪ ،‬ال �أريد ال�سلطة وال‬
‫�أريد العر�ش‪ ،‬خذين بعيدً ا عن الإ�سكندرية‪.‬‬
‫كانت كلمة مندفعة �أو�ضحت جلانيميدي�س مدى �شقاء الأمرية‬
‫ال�صغرية‪ ،‬لكن �إىل �أين؟ ال �سبيل للهرب‪ ،‬على جانيميدي�س �أن يواجه‬
‫ذلك اخلطر املحدق‪ ،‬عليه �أن يحمي الأمرية على الرغم من تعنت امللك‬
‫يف هذه القرارات الطائ�شة‪ ،‬وهو يعلم جيدً ا �أن بوثينيو�س لن يكتفي بهذا‪،‬‬
‫و�سوف يق�صيه عن الأمرية بعد التتويج لكي يت�سنى له العبث كما �شاء‪،‬‬
‫كان جانيميدي�س ي�شكل عائ ًقا �أمام �أهداف بوثينيو�س و�سيفعل �أي �شيء‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫للتخل�ص من هذا العائق‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قال‪ :‬ال ن�ستطيع الهرب �أيتها الأمرية‪ ،‬ولكن ما ن�ستطيع فعله‪ ،‬هو �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫نكون �أقوياء ملواجهة هذه امل�صاعب‪.‬‬
‫‪--‬لكني ال �أ�ستطيع‪.‬‬
‫�ألفتها ب�شيء من الي�أ�س‪ ،‬ثم ا�ستطردت بي�أ�س �أكرب‪:‬‬
‫‪�--‬أ�شعر بخطب ما‪� ،‬أ�شعر �أنني يف �سجن كبري‪ ،‬وذلك ال�سرير كالأ�صفاد‬
‫وتلك النافذة كالق�ضبان‪ ،‬والتاج الذي �س�أرتديه اليوم هو حبل �سيلتف‬
‫حول رقبتي ويه�شمها مع الوقت‪.‬‬
‫اقرتب منها جانيميدي�س واحت�ضنها �إىل �صدره بقوة‪ ،‬وفا�ضت من‬
‫عينيها الدموع‪ ،‬كانت حتتاج �إىل هذا منذ وقت طويل‪ ،‬حتتاج �إىل �شخ�ص‬
‫يحت�ضنها وير ِّبت على روحها املتهالكة‪ ،‬حتتاج �إىل �أنامل لتم�سح دموعها‬
‫ال�ساقطة بغزارة‪ ،‬هذا فقط ما كانت حتتاجه يف تلك اللحظة‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫بومبايو�س كان على دراية باخلرائط لكن الأ�سبوع الذي ق�ضاه بني‬
‫الأمواج الوعرة �أثبت �أن م�سالك البحار �شيء واخلرائط �شيء خمتلف‬
‫متاما‪ ،‬كانت اخل�سارة تلفحه كالنار بالرغم من برودة الهواء‪ ،‬كان على‬ ‫ً‬
‫ُبعد �ساعات من الإ�سكندرية‪ ،‬و�أر�سل يف ح�ضور جابينيو�س‪ .‬كان جابينيو�س‬
‫ذراعه اليمنى وعينه التي يرى بها ما يحدث يف اجلانب الآخر من العامل‪،‬‬ ‫َ‬
‫وهو من دخل �إىل الإ�سكندرية فوق ر�أ�س جي�ش وكان بطل معركة ا�سرتداد‬
‫العر�ش التي دارت بني بطليمو�س الثاين ع�شر وابنته برينكي‪ ،‬انت�صر‬
‫جابينيو�س يف املعركة انت�صا ًرا �ساح ًقا‪ ،‬ومت حتنيط برنكي على قيد احلياة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ومت دفنها يف �أر�ض جمهولة‪ ،‬وارتفع ا�سم جابينيو�س يف الإ�سكندرية‪ ،‬وذاع‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�صيته ك�أنه حمارب قوي‪ ،‬وهو من �أعاد العر�ش �إىل امللك‪ ،‬وكان ال�سمه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫رهبة يف قلوب جماهري الإ�سكندرية‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫اقرتب جابينيو�س ببع�ض القوات‪ ،‬اقرتب رويدً ا رويدً ا حتى دنت قواته‬
‫من �سفن بومبايو�س وال يف�صلهم بع�ضهم عن بع�ض �إال ب�ضعة �أمتار‪،‬‬
‫�صعد �إىل �سفينة بومبايو�س‪ ،‬كان بومبايو�س يجل�س يف مق�صورة ال�سفينة‪.‬‬
‫عندما كان ُيذكر ا�سم جابينيو�س على �أل�سنة جماهري الإ�سكندرية‪ ،‬كان يف‬
‫وح�شا �ضار ًيا ب�أنياب حادة‪ً ،‬‬
‫غول �أ�سطور ًّيا يقطع‬ ‫�أذهان جميع ال�سامعني ً‬
‫متاما‪،‬‬
‫�أعداءه ب�أنيابه املجردة‪� ،‬إال �أن القائد جابينيو�س كان على النقي�ض ً‬
‫كان �شا ًّبا يف منت�صف عقده الثالث‪ ،‬و�سي ًما وخ�صالته �شقراء‪� ،‬أنفه طويل‬
‫ومدبب‪ ،‬وكان يف ردائه الروماين ذي النقابة احلمراء كاملالئكة يف �أحالم‬
‫العذارى‪ ،‬اقرتب من بومبايو�س وقال‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫فليحي بومباي ماجنو�س العظيم‪.‬‬
‫وقف بومباي واقرتب من جابينيو�س وقال بابت�سامة باهتة‪:‬‬
‫‪--‬جابينيو�س‪ ،‬كيف حالك يا �صديقي القدمي؟‬

‫‪272‬‬
‫ثم ر َّبت على كتفيه‪.‬‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬
‫ثم قال ِب� ًأ�سى وحزن‪:‬‬
‫‪--‬عزائي ال�شديد ملوت جوليا‪ ،‬وخل�سارتك الفادحة �أمام يوليو�س‬
‫قي�صر‪.‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫ثم �س�أل‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬كيف حال الإ�سكندرية؟‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫�أجاب جابينيو�س‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬تتجه نحو حرب �أهلية‪ ،‬بني امللك ثيو�س فليوباتور وكليوباترا ال�سابعة‪،‬‬
‫ب�سبب العر�ش‪.‬‬
‫‪--‬لكن الو�صية التي �أودعها �أبوهم �إىل �شيوخ املجل�س‪ ،‬تن�ص على �أن‬
‫يحكموا م�صر �سو ًّيا‪.‬‬
‫قال جابينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬لكن م�ست�شاري امللك لن ي�سمحوا بهذا‪� .‬إن بوثينيو�س كبري امل�ست�شارين‬
‫يكنُّ الكره لكليوباترا‪ ،‬ا�ستطاع ال�سيطرة على عقل امللك‪ ،‬و�أمر قائد‬
‫اجلي�ش �أخيال�س بنفيها ف�أذعن للأمر‪ .‬مرت ثالث �سنوات حتى‬
‫عادت كليوباترا على ر�أ�س �أ�سطول كبري وحلفاء �أقوياء ور�ست عند‬
‫بلوزيوم الناحية الأخرى من ال�شمال‪.‬‬
‫قال بومبايو�س‪:‬‬
‫‪--‬يبدو �أنها امر�أة قوية‪.‬‬
‫‪273‬‬
‫‪�--‬سمعت �أنها كاحلوريات‪ ،‬تلقي ال�سحر يف وجه كل من تقابله‪ ،‬وت�سحره‬
‫بجمالها وحتركه كما ت�شاء ب�أ�صابعها‪ ،‬يلقبها �أهل الإ�سكندرية‬
‫مببعوثة �إيزي�س جلمالها ال�ساحر‪.‬‬
‫‪--‬ومن بر�أيك �سيفوز؟‬
‫ابت�سم جابينيو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬هل حتب الأحاجي؟‬
‫‪--‬هل لديك واحدة؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أردف‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬ثعبان وحرباء يف �صحراء قاحلة‪ ،‬يتعاركان على بقعة �صغرية من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املاء‪ ،‬للثعبان لدغة �سامة ال حياة بعدها‪ ،‬واحلرباء لها قدرة خارقة‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫على التخفي والقدرة على مواجهة املخاطر‪ ،‬بر�أيك من �سيفوز يف‬
‫النهاية؟‬
‫‪�--‬سيفوز من ي�ستطيع حتمل العط�ش‪.‬‬
‫ابت�سم جابينيو�س وقال‪� :‬أح�سنت يا بومباي‪ ،‬هذا هو احلال يف م�صر‬
‫الآن‪ ،‬ال�سلطة �أمر غريب يا �سيدي‪ ،‬فهي �سراب كبري يجري وراءه اجلميع‪،‬‬
‫والذي يتحمل عط�ش ال�سلطة هو من �سينجو يف النهاية‪.‬‬
‫ثم �س�أله‪ :‬ما الذي تنوي فعله؟‬
‫‪�--‬س�أذهب �إىل الإ�سكندرية‪� ،‬سوف �أق�ضي بع�ض الوقت هناك‪.‬‬
‫‪�--‬إذن ماذا تنتظر؟ هيا بنا‪.‬‬
‫ا�ستوقفه بومباي‪:‬‬
‫‪--‬ال‪� ،‬سوف تذهب �أنت وما تبقى من الأ�سطول �إىل �إ�سبانيا‪.‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‬
‫‪274‬‬
‫‪--‬اذهب �إىل �إ�سبانيا واجمع قواتي من هناك‪ ،‬ثم انتظر الأوامر‪.‬‬
‫قال‪ :‬كما ت�أمر �أيها القن�صل‪.‬‬
‫أر�ضا‪ ،‬ثم على قارب �صغري اجته �إىل‬ ‫خلع بومبايو�س خوذته و�ألقاها � ً‬
‫الإ�سكندرية بت�ؤدة وكانت الريح هادئة‪ .‬خمر قاربه ببطء بني الأمواج‪،‬‬
‫كانت ال�شم�س تكاد تغرب‪ ،‬والفنار العظيم يقرتب وتقرتب فارو�س معها‪،‬‬
‫كانت روحه منهزمة ويرى �أنه ال داعي للمقاومة �أكرث من هذا‪ ،‬لقد �أ�صابه‬
‫التعب والن�صب‪ ،‬كرب و�شاب ر�أ�سه‪ ،‬خارت قواه ومل ي�صبح ال�شاب الذي‬

‫ع‬
‫منهزما‪ ،‬ال بيت‪ ،‬ال حظ‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫كهل واهن العظام‪،‬‬ ‫كان بالأم�س‪ ،‬بل بات ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حلظة هانئة‪ ،‬خانه الوقت والعمر والأ�صدقاء وكل �شيء �آخر‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫يف الليل انت�صب �ضوء القمر على نوافذ الق�صر العالية ال�ضيقة‪ ،‬وعلى‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�أر�ضية قاعة العر�ش ال�ضخمة‪ ،‬كان الق�صر ميتلئ بالنا�س‪ ،‬بالنبالء يف‬
‫الغرفة امللكية‪ ،‬والعامة يف ال�ساحة الوا�سعة �أمام الق�صر‪ ،‬ا�شتعلت الأتن‬
‫ليل وت�أجج يف �أح�ضانها اللهب‪ ،‬يف الغرفة امللكية انت�شر‬ ‫يف الق�صر ً‬
‫النا�س‪ ،‬وارتفعت مو�سيقى الناي وكانت املحظيات يرق�صن ويرتقرقن‬
‫ويتمايلن مع املو�سيقى‪ ،‬فاحت يف البهو رائحة اللحم من مائدة متتلئ‬
‫بالطعام والنبيذ على حد �سواء‪.‬‬
‫يف حلظة �أطلق احلاجب بو ًقا كب ًريا‪ ،‬ف�صمت احل�شد وتوقفت‬
‫احرتاما‪ ،‬تقدم امللك ال�صغري وفوق‬
‫ً‬ ‫املو�سيقى‪ ،‬ودخل امللك وقف اجلميع‬
‫ر�أ�سه التاج الكبري وبني يديه �صوجلانه املعقوف ويف اليد الأخرى �سوط‪،‬‬
‫كانت تلك التقاليد القدمية التي قد تعلموها من �أهل تلك البلد‪ ،‬ومن‬
‫ورائه دخلت الأمرية �أر�سينوي‪ ،‬كانت ترتدي ف�ستانها الأبي�ض احلريري‬
‫الذي �أح�ضره لها �شقيقها بطليمو�س حلفل التتويج‪ ،‬كلل الف�ستان الكثري‬
‫من الأحجار الكرمية من الزمرد والل�ؤل�ؤ والفريوز‪ ،‬كانت جميلة ح ًّقا‪،‬‬

‫‪275‬‬
‫تت�ألق ك�أنها حورية بحر‪� ،‬سحرت كل من يف ال�ساحة امللكية‪ ،‬كانت ت�شعر‬
‫بالقلق واخلوف‪ ،‬كانت الأنظار ت�سيل نحوها ك�أنها طبيعة خالبة ت�سحر‬
‫كل املقل والعيون‪ ،‬كانت لها يف نف�سها مظهر اجلمال ومعه التوتر‪ ،‬كانت‬
‫خا�ضعة وتبدو مبظهر هادئ ومو َّقر من اخلارج لكن من الداخل تتخبط‬
‫م�شاعرها كالأمواج املت�ضاربة‪ ،‬ويف ي�أ�سها انبثق مظهر اجلالل ومعه وقار‬
‫الي�أ�س وعقله‪ ،‬ومع نظرات النا�س انتابتها ق�شعريرة غريبة ال تكاد تتوقف‪.‬‬
‫جل�س امللك على عر�شه وبجواره جل�ست �أر�سينوي‪ ،‬انحنى كل من يف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قاعة العر�ش‪ ،‬ثم قال احلاجب‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪�--‬أنتم تقفون يف ح�ضرة امللك ثيو�س فليوباتور امللقب ببطليمو�س الثالث‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ع�شر‪ ،‬ابن امللك �أولتي�س‪� ،‬سليل الفراعنة‪ ،‬وحفيد الإ�سكندر املقدوين‬

‫و االرتفاع‬
‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫الرءو�ست يف‬
‫العظيم‪.‬‬
‫وقف �ساعد امللك بوثينيو�س عن ميينه‪ ،‬توالت‬
‫ر� ًأ�سا بعد الآخر‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات‪ ،‬ثم �ألقى بوثينيو�س نظرة على‬
‫الرهط يف �ساحة العر�ش‪ ،‬واجته �إىل منت�صف ال�ساحة وقال ب�صوت ه َّدار‬
‫�سمعه اجلميع‪:‬‬
‫‪--‬منذ ما يزيد عن ثالثمائة عام دخل �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س العظيم‬
‫تلك البلد‪ ،‬ومل يدخلها كغازٍ �أو م�ستبد‪ ،‬بل كفاحت عظيم‪ ،‬حرر‬
‫تلك البلد من جربوت الفر�س‪� ،‬أحبه امل�صريون ك�أنه فرعون من‬
‫دمائهم و�أطلقوا عليه �أ�سماء عدة‪ ،‬ابن �آمون‪ ،‬وابن زيو�س والفرعون‬
‫املقدوين‪ ،‬ومن يجل�س الآن على العر�ش ت�سري بني عروقه دماء‬
‫كدماء الإ�سكندر العظيم‪ ،‬منذ قدمي الأزل وامللك يحتاج �إىل ملكة‪،‬‬
‫�أعطت الآلهة الرجال البعولة‪ ،‬و�أعطت للن�ساء احلكمة‪ ،‬واليوم هو‬
‫‪276‬‬
‫اليوم املن�شود لت�شهد الإ�سكندرية ملكة جديدة بعد خيانات كليوباترا‬
‫العظمى التي ارتكبتها يف حق اململكة‪.‬‬
‫�أ�شار بوثينيو�س �إىل احلاجب‪ ،‬فاقرتب ويف يده و�سادة حمراء حريرية‬
‫مطرزة بالذهب‪ ،‬وفوقها التاج‪ ،‬تناوله بوثينيو�س من يد احلاجب ثم‬
‫اقرتب من امللك بخطوات �ضيقة وهادئة‪ ،‬تناول امللك التاج من على‬
‫الو�سادة والتفت �إىل �أر�سينوي واقرتب منها خطوة‪ ،‬انقب�ض قلبها‬
‫وت�سارعت �ضرباته ك�أنه يريد �شق �صدرها والهرب بعيدً ا ولكن حافظت‬
‫على ثباتها‪ ،‬وبعد حلظة و�ضع امللك التاج على ر�أ�سها وكللها به‪ ،‬ثم �أردف‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫أ�صبحت امللكة الآن‪.‬‬
‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬مربوك يا �أختاه‪ ،‬لقد �‬

‫ك‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫ثم �صاح بوثينيو�س‪:‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪َ --‬‬


‫فلتحي امللكة �أر�سينوي‪.‬‬
‫ورددها كل من يف قاعة العر�ش بعده‪ ،‬وبعدها احتفل النا�س‪� ،‬أكلوا‬
‫ب�شراهة و�شربوا النبيذ حتى تبخرت العقول كما يتبخر املاء‪ ،‬بد�أت‬
‫املو�سيقى جمددًا وبد�أ معها الرق�ص ومتايل املحظيات كالأفاعي مع‬
‫النايات التي ترتفع وتخفت‪.‬‬
‫دخل �أخيال�س قاعة العر�ش وبحثت عيناه عن بوثينيو�س‪ ،‬كان �أخيال�س‬
‫يبدو مرتب ًكا ومتوت ًرا ب�شكل غري م�سبوق‪ ،‬وعندما وجدته عيناه بجوار‬
‫العر�ش‪� ،‬أ�شار �إليه بنظره‪ ،‬ا�ستطاع بوثينيو�س �أن يفطن �أن هناك م�شكلة‬
‫ما‪ ،‬خرجوا من قاعة العر�ش ووقفوا بعيدً ا عن ال�ضجيج‪ ،‬فقال بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا هناك يا �أخيال�س؟‬
‫قال �أخيال�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن بومبايو�س ماجنو�س يقرتب من الإ�سكندرية‪.‬‬
‫‪277‬‬
‫انتف�ض بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا‪ .‬ماذا تقول؟‬
‫‪--‬كما �أقول لك‪� ،‬إنه على ُبعد �ساعة من فارو�س‪.‬‬
‫�صمت بوثينيو�س ً‬
‫قليل‪ ،‬كان يفكر‪ ،‬ف�س�أل‪:‬‬
‫‪--‬هل معه قوات؟‬
‫‪--‬ال!‪ ...‬ما الذي �أح�ضره �إىل هنا الآن؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قال بوثينيو�س‪ :‬بعد �أن خ�سر يف فار�سالو�س ال مفر له �إال جابينيو�س‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬لقد رحل جابينيو�س على ر�أ�س ما تبقى من قواته �صوب �إ�سبانيا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫�صمت بوثينيو�س للحظات وقال بابت�سامة طفيفة وعينني تلمعان‬

‫ع‬
‫كالقطط‪:‬‬
‫‪--‬جيد‪ ...‬جيد جدًّا‪.‬‬
‫ت�ساءل �أخيال�س‪ :‬ماذا �سوف تفعل؟‬
‫‪�--‬أحر�ص على ا�ستقباله‪ ،‬فر�أ�سه �سوف ي�ساوي الكثري‪.‬‬
‫‪--‬تريد قتله؟ هل جننت؟‬
‫‪--‬ر�أ�سه ي�ساوي العر�ش‪ ،‬فيوليو�س قي�صر الآن هو القوة العظمى يف‬
‫روما‪ ،‬وتلك فر�صة جيدة للتحالف معه �ضد كليوباترا‪.‬‬
‫فا�ستطرد‪� :‬أح�ضر يل ر�أ�سه‪.‬‬
‫‪--‬لكن‪� ...‬إنه قن�صل روماين‪.‬‬
‫‪--‬تلك فر�صتنا يا �صديقي‪� ،‬ستكون تلك نهاية كليوباترا �إىل الأبد‪،‬‬
‫عليك �أال تخذلني يا �أخيال�س‪.‬‬
‫فكر �أخيال�س يف الأمر للحظة‪ ،‬ثم قال‪ :‬كما ت�أمر‪.‬‬
‫‪278‬‬
‫ابت�سم بوثينيو�س ور َّبت على كتف �أخيال�س وعاد �إىل قاعة العر�ش‬
‫جمددًا‪.‬‬
‫اجته �أخيال�س �إىل امليناء ومعه جمموعة من اجلنود الأكفاء‪ ،‬كان‬
‫قارب بومبايو�س ماجنو�س يقرتب �أكرث يف كل حلظة‪ ،‬عند ال�سالمل و�ضع‬
‫�أخيال�س اجلنود يف �صفني على كال الطرفني من ال�سلم‪ ،‬اقرتب قارب‬
‫بومبايو�س حتى حتاذى مع الر�صيف‪ ،‬كان معه جنديان‪ ،‬ترجل من قاربه‬
‫واجته �إىل ال�سلم‪� ،‬صعد ب�ضع �أدراج من ال�سالمل الرخامية‪ ،‬كان ظالم‬
‫الليل حال ًكا ولكنه ا�ستطاع ر�ؤية اجلنود‪ ،‬كان �شيء ي�صعب عدم مالحظته‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫و�إلقاء ال�شكوك حوله‪ ،‬و�أعلى ال�سلم وقف �أخيال�س‪� ،‬شعر بومبايو�س �أن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫هناك خط ًبا ما‪� ،‬شعر �أن هناك �أعي ًنا ترتب�ص به‪ ،‬ويف حلظة حاول �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ي�شهر �سيفه‪ ،‬لكنه مل يكن ر�شي ًقا مبا يكفي‪� ،‬أعطى �أخيال�س الأمر ب�إ�شارة‬

‫والتوز عي‬
‫من يده‪ ،‬فاقرتب جندي منه وغمد ال�سيف يف �صدره‪ ،‬وجتمع عليه اجلنود‪،‬‬
‫كانت الطعنات تتواىل يف ج�سده بال توقف‪ ،‬كان يت�أمل ولكن ال ي�صرخ‪،‬‬
‫مل يكن يتمنى �أن ميوت بتلك الطريقة ال�شنيعة‪ ،‬ال يريد �أن ميوت غد ًرا‪،‬‬
‫�سقط على ال�سالمل وتدحرج حتى و�صل �إىل الر�صيف‪ ،‬وت�سللت دما�ؤه‬
‫لتلطخ ال�سالمل الرخامية النا�صعة‪ ،‬كان ج�سده يت�شنج‪ ،‬ومن الأفق البعيد‬
‫كان يراها‪� ،‬إنها جوليا متد يدها له‪� ،‬إنه يراها كما لو كانت حقيقة‪ ،‬بل‬
‫هي احلقيقة الوحيدة التي يراها الآن‪ ،‬تباط�أت ت�شنجاته رويدً ا رويدً ا حتى‬
‫متاما‪.‬‬
‫خمدت ً‬
‫«رحل اجلميع‪ ،‬ويظل احلزن �سرمد ًّيا‪».‬‬

‫‪279‬‬
‫(‪)7‬‬

‫بلوزيوم‪...‬‬
‫مر�سال �إىل الإ�سكندرية حلوررب يف املكتبة العظمى‬ ‫ً‬ ‫�أر�سل باكو‬
‫و�أح�ضرها تايبرييو�س �إليه يف احلال‪� ،‬صب حوررب النبيذ بعناية ُمبالغ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫فيها وهو يدرك �أنه يحاول ت�أجيل املحتوم‪ ،‬فعندما متتلئ الك�أ�س لن يكون‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أمامه خيار �سوى مواجهة فحوى الر�سالة �أ ًّيا كانت‪ .‬ف�ض ختم الر�سالة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وقر�أ‪« :‬عزائي ال�شديد �إليك‪ ،‬لقد مات الكاهن الأعظم يف قد�س الأقدا�س‬

‫والتوزي‬
‫وهو يبتهل للآلهة‪ ،‬خرجت اجلنازة من �أيام يف م�شهد مهيب ج َّرت فيه‬

‫ع‬
‫الثريان تابوته الذهبي العظيم‪ ،‬كان عليك �أن ترى هذا‪ ،‬كان احلزن �آ�س ًرا‬
‫يف كل �أرجاء اجلنوب‪ ،‬املعابد واملنازل والأزقة‪ ،‬وحتى احلانات واملواخري‪.‬‬
‫كان الكاهن الأعظم يحبك بكل ما يقدر‪ ،‬كان يراك اب ًنا للآلهة‪ ،‬ابن‬
‫حور�س العظيم‪ ،‬ويف �أيامه الأخرية كان يبتهل للآلهة �أن تكون بخري‪،‬‬
‫و�أرجو �أنا � ً‬
‫أي�ضا �أن تكون كذلك‪».‬‬
‫�أغلق الر�سالة وابتلع ك�أ�س النبيذ‪� ،‬شعر باحلزن ال�شديد‪ ،‬كان يجب‬
‫�أن يكون بجواره يف �أيامه الأخرية‪ ،‬ولكنه كان بالت�أكيد حمفو ًفا بالكهنة‬
‫واملالئكة والدفء‪ ،‬اقرتبت �آ�سيا من حوررب ومل�ست يف وجهه �شي ًئا غري‬
‫معتاد‪ ،‬ت�ساءلت قبل �أن ترمق الر�سالة يف يده‪:‬‬
‫‪--‬ماذا حدث يا حوررب؟‬
‫قال بعد حلظة من ال�صمت‪:‬‬

‫‪280‬‬
‫‪--‬لقد مات الكاهن الأعظم‪.‬‬
‫لفحتها رياح ال�صدمة للحظات قبل �أن تقول يف � ًأ�سى‪ :‬عزائي ال�شديد‬
‫�إليك‪.‬‬
‫ثم اقرتبت منه واحت�ضنته بقوة‪� ،‬ضمته �إىل �صدرها ك�أنه طفل �صغري‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪--‬كان يتمنى �أن ي�صنع ال�سالم للجنوب قبل موته‪.‬‬
‫قالت �آ�سيا‪ :‬دعنا نحقق الذي حاول الكاهن �أن يحققه‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�س�أل حوررب‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬‫‪--‬ماذا �سنفعل مع كليوباترا؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪�--‬أنا ال �أ�ست�سيغها‪ ،‬ولكنها يف �أ�سو�أ الأحوال � ُ‬
‫أف�ضل من بطليمو�س‪.‬‬
‫قال حوررب‪� :‬أرى �أنها جيدة‪ ،‬ال تريد �سفك املزيد من الدماء‪.‬‬
‫‪--‬رمبا الآن‪ ،‬ولكن من يدري ماذا �سوف تفعل عندما تتقلد العر�ش‪.‬‬
‫‪--‬كما قلت‪� ،‬ستكون يف �أ�سو�أ الأحوال � َ‬
‫أف�ضل من بطليمو�س‪.‬‬
‫كانت كليوباترا يف غرفتها امللكية مع احلكيم هيليو�س‪ ،‬لقد جاءت‬
‫الأخبار عن و�صول بومبايو�س ماجنو�س �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬ميل�ؤها الرعب‬
‫العظيم �أن ي�ستغل بوثينيو�س الفر�صة وي�صنع حتال ًفا مع �أحد �أهم‬
‫�أ�ضالع احلكومة الثالثية‪ ،‬فكان الأمر مدعاة للقلق‪ ،‬ويف فمها �شعرت‬
‫مبذاق تعرفه جيدً ا‪� ،‬إنه اخلوف‪ ،‬ل�سنوات عا�شت يف اخلوف؛ اخلوف من‬
‫املجهول‪ ،‬اخلوف من اخل�سارة‪� ،‬أما هذا فكان �أ�سو�أ‪ ،‬فخوفها لي�س فقط‬
‫على العر�ش‪ ،‬بل على حياتها � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫التفتت كليوباترا �إىل هيليو�س و�س�ألت‪:‬‬

‫‪281‬‬
‫‪�--‬إذن‪ ،‬ماذا �سوف نفعل؟‬
‫قال‪ :‬االنتظار‪ ،‬الأ�سطول �أ�ضحى جاه ًزا لأي �أوامر‪ ،‬لي�س علينا الآن‬
‫�سوى االنتظار‪.‬‬
‫�أردفت يف قلق‪:‬‬
‫‪�--‬ستكون م�شكلة كبرية �إن حتالف بطليمو�س مع بومبايو�س ماجنو�س‪.‬‬
‫‪--‬لن يحدث هذا‪ ،‬بومبايو�س ماجنو�س فر من فار�سالو�س هار ًبا‪ ،‬ال‬
‫ي�أمل �إال يف مكان هادئ يق�ضي فيه �أيامه الأخرية‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫دخل القائد رابو�س الغرفة امللكية‪ ،‬انحنى للملكة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫‪َ --‬‬

‫ش‬
‫فلتحي موالتي كليوباترا‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫‪َ --‬‬


‫فلتحي �أيها القائد رابو�س‪.‬‬

‫ع‬ ‫فا�ستطردت‪ :‬ماذا هناك؟‬


‫‪--‬ال �أدري وقع اخلرب ِ‬
‫عليك يا موالتي‪� ،‬أهو جيد �أم ال‪.‬‬
‫قالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬حتدث �أيها القائد‪.‬‬
‫‪�--‬إن غايو�س يوليو�س قي�صر على ُبعد يوم واحد من الإ�سكندرية‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت حلظة‪ ،‬تبادال فيها النظرات‪ ،‬دارت �آالف الأفكار يف‬
‫ر�أ�س كليوباترا‪ ،‬ملاذا يتجه قي�صر �إىل الإ�سكندرية؟ لرمبا يطارد غرميه‬
‫بومبايو�س ماجنو�س‪� ،‬أو عقد ال�صلح معه‪� ،‬أو �أبرم حتال ًفا مع امللك‬
‫وم�ست�شاريه‪ ،‬كانت تلك الأخرية فكرة مرعبة �إىل �أبعد حد‪� ،‬سرحت ً‬
‫قليل‬
‫ثم قالت‪:‬‬

‫‪282‬‬
‫‪�--‬أخربين �أيها احلكيم هيليو�س عن غايو�س يوليو�س قي�صر‪� ،‬أي نوع‬
‫من الرجال هو؟‬
‫يوما‪،‬‬
‫قال احلكيم‪ :‬قي�صر هو من �أغرب الرجال الذين قد تقابلينهم ً‬
‫يقولون �إنه يقرتب من الكهولة بخطوات �شاب يف الع�شرين‪ ،‬هو لي�س ً‬
‫كهل‬
‫ولي�س �شا ًّبا‪ ،‬يقولون ب�أنه ابن الإلهة فينو�س وحفيد الفار�س �إينيا�س بطل‬
‫حرب طروادة‪ ،‬عندما كان يف حروبه يف بالد الغال عا�ش �سنني ً‬
‫طوال‬
‫قا�سية‪ ،‬ولي�س كامللوك الذين يجل�سون يف الهوادج‪ ،‬بل هو رجل ع�سكري‬
‫يف املقام الأول‪ ،‬ي�شارك جنوده حروبهم‪ ،‬ي�شاركهم يف الربد والدماء‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫والدموع‪ ،‬ال يرحم وهو رحيم يف نف�س ذات الوقت يف ازدواجية حريت‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫كل من حوله‪ ،‬ال �أحد يعرف ما يجول يف ر�أ�سه‪ ،‬ال �أقاربه وال جنوده وال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أ�صدقا�ؤه‪ ،‬كل ما يعرفونه هو طموحه‪ ،‬هو رجل يطمح ب�أن يحكم العامل يف‬

‫والتوز عي‬
‫يوم من الأيام‪ ،‬وبناء املدينة الفا�ضلة التي طاملا حتاكى عنها الفال�سفة‬
‫يف الكتب واحلكايات‪.‬‬
‫�س�ألت‪:‬‬
‫‪--‬كم عمره؟‬
‫�أجاب‪ :‬يقرتب من منت�صف عقده اخلام�س‪.‬‬
‫�سرحت كليوباترا ب�أفكارها‪ ،‬هي الآن يف حكم املنفية‪ ،‬بال �أمل‪ ،‬كان‬
‫ال بد من �أن حتاول االقرتاب منه ب�أي و�سيلة كانت‪ ،‬يبدو �أنه من نوع‬
‫الرجال ال�شرفاء‪ ،‬ورمبا �إن ا�ستمع �إىل ق�صتها �سيعيد لها حقها ال�شرعي‬
‫يف اجللو�س على العر�ش كحاكم م�شرتك مع بطليمو�س‪� ،‬أو رمبا كحاكم‬
‫منفرد كما كانت ت�أمل‪.‬‬
‫قالت كليوباترا �إىل القائد رابو�س‪:‬‬
‫‪--‬ا�ستد ِع يل حوررب و�آ�سيا الآن‪.‬‬
‫‪283‬‬
‫أمرك يا موالتي‪.‬‬
‫قال رابو�س‪ِ � :‬‬
‫وخرج ومل يلبث دقائق حتى عاد بحوررب و�آ�سيا �إىل الغرفة امللكية‪.‬‬
‫�أحنوا رءو�سهم يف احرتام و�أردف حوررب‪:‬‬
‫‪�--‬أمر جاللتك‪.‬‬
‫�أردفت‪:‬‬
‫‪�--‬أريد الدخول �إىل فارو�س‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫قال حوررب‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬الدخول �إىل فارو�س‪ .‬هذا يبدو خط ًرا‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫جاللتك‪.‬‬
‫ِ‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫كليوباترا‪.‬ف�أردف رابو�س‪ :‬وز عي‬
‫موالتي‪ ،‬هذا خطري ولي�س �آم ًنا‪.‬‬ ‫يا‬ ‫نعم‬ ‫هيليو�س‪:‬‬ ‫�أردف احلكيم‬
‫‪--‬لن �أدخل فارو�س ب�صفتي‬
‫مل يفهم اجلميع ما تقوله كليوباترا‪،‬‬
‫‪--‬كيف هذا يا موالتي؟‬
‫قالت‪� :‬أريد مقابلة غايو�س يوليو�س قي�صر عند و�صوله الإ�سكندرية‪،‬‬
‫ولن ي�سمح يل �أحد بهذا‪ ،‬ولن ن�ستطيع الدخول بقوات ع�سكرية‪ ،‬وال حل‬
‫�إال الدخول خل�سة‪.‬‬
‫قالت �آ�سيا‪� :‬إن وطئت قدمك �أر�ض الإ�سكندرية‪ ،‬ف�سيعرف اجلميع �أنك‬
‫ً‬
‫م�ستحيل وخط ًريا‪.‬‬ ‫امللكة اخلائنة‪� ،‬سيكون هذا �شي ًئا‬
‫‪--‬كل ما �أحتاجه قارب �صغري‪ ،‬وجندي روماين يكون م�صد ًرا للثقة‪،‬‬
‫ب�شرط �أن يرتدي رداء جنود يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫‪284‬‬
‫ال �أحد يعرف ماذا يدور يف ر�أ�س كليوباترا‪ ،‬واكتفوا بال�صمت وا ِّتباع‬
‫الأوامر وتبادُل نظرات احلرية‪.‬‬

‫على ُبعد �ساعة من الإ�سكندرية كانت الرايات ترفرف بني ن�سائم‬


‫الرياح‪ ،‬وبالرغم من حجب ال�ضباب العاتي ف�إنه كان ي�سهل متييزها‬
‫بو�ضوح‪ .‬كانت الراية حمراء وحمفوفة بالذهب‪ ،‬ويف املنت�صف الن�س ُر الذي‬

‫ع‬
‫حلق يف ت�ألق مهيب‪ .‬بني احلوائط ال�ضبابية �أب�صروا �أ�سوار الإ�سكندرية‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫العالية‪ ،‬و�أب�صروا الفنار ال�شاهق‪ ،‬نظر ماركو�س �أنطونيو�س �إىل الفنار‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عال! �أريد التبول من فوق‬
‫العايل يف ذهول وقال بابت�سامة‪« :‬يا له من فنار ٍ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫هذا الفنار ال�شاهق على العامل‪».‬‬
‫ابت�سم قي�صر ثم ا�ستطرد مارك �أنتوين يف �س�ؤال‪:‬‬
‫‪--‬هل تنوي عقد ال�صلح مع بومباي ماجنو�س؟‬
‫قال قي�صر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫عقد مارك �أنتوين حاجبيه وقال‪:‬‬
‫‪--‬بعد كل الذي دار بينكما؟‬
‫نظر قي�صر �إىل الأفق‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪�--‬إن بومباي ماجنو�س لي�س �أي �أحد‪� ،‬إنه �صديقي املقرب‪ ،‬كان بيننا‬
‫زوجا وف ًّيا جلوليا‪ ،‬وهو يف‬
‫فيما م�ضى عهد دماء مقد�س‪ ،‬هو كان ً‬
‫النهاية روماين �صالح‪.‬‬
‫و�إن رف�ض؟‬

‫‪285‬‬
‫‪--‬لن يرف�ض‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين بتعجب‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‬
‫�أردف قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أخربتك‪� ،‬إنه �صديق‪ ،‬وفوق كل هذا لي�س يف مو�ضع قوة ليتفاو�ض‪.‬‬
‫�س�أل‪ :‬وبعد؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬سيجل�س يف مقعده داخل املجل�س و�سيحكم كقن�صل روماين كما كان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫دائ ًما‪.‬‬

‫ر‬
‫‪--‬هل �ستدخل الإ�سكندرية بقوات ع�سكرية؟ والتوزي‬
‫�صمت مارك �أنتوين ً‬

‫ع‬
‫قليل وقال‪:‬‬

‫‪--‬ال‪� ،‬ستبقى �أنت هنا بالقوات‪ِ ،‬‬


‫وانتظر الأوامر‪.‬‬
‫�س�أل ماركو�س‪ :‬هل تعرف ما يدور يف م�صر؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬حرب �أهلية‪.‬‬
‫‪�--‬إذن كيف �ستذهب من دون قوات؟‬
‫‪--‬ال تقلق‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد ً‬
‫�سائل‪:‬‬
‫‪--‬من ي�ستحق العر�ش‪ ،‬بطليمو�س �أم كليوباترا؟‬
‫‪--‬هناك و�صية �أودعها امللك �إىل �شيوخ املجل�س قبل موته تن�ص على �أن‬
‫يحكما �سو ًّيا‪.‬‬
‫‪286‬‬
‫قال‪ :‬ثم‪...‬؟‬
‫‪--‬امللك �صغري ال�سن‪ ،‬ا�ستطاع م�ست�شاروه الت�أثري عليه وطرد كليوباترا‬
‫من الإ�سكندرية‪ .‬جمعت � ً‬
‫أ�سطول كب ًريا من ال�شرق وعادت ال�سرتداد‬
‫العر�ش‪.‬‬
‫قال يف �شيء من الذهول‪:‬‬
‫‪--‬ح ًّقا؟ يبدو �أن املدعوة كليوباترا �صلبة كال�صخر‪ ،‬يعجبني هذا النوع‬
‫من الن�ساء‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�ضحك مارك �أنتوين وقال‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬كل �أنواع الن�ساء جتد مكا ًنا يف قلب قي�صر العظيم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ابت�سم قي�صر وا�ستطرد مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪�--‬إن جمال احلياة يظهر يف تلك الأ�شياء الب�سيطة‪.‬‬
‫انطلق غايو�س يوليو�س قي�صر فوق قاربه ال�صغري ومعه جمموعة من‬
‫اجلنود للحرا�سة‪ ،‬وبقي مارك �أنتوين مع جحافل يوليو�س قي�صر حتى‬
‫عودته مع بومبايو�س ماجنو�س من الإ�سكندرية‪ ،‬اقرتب قارب قي�صر من‬
‫وترجل بعدها من‬
‫الد�سكار‪ ،‬ربط احلار�س طرف القارب بامليناء امللكي َّ‬
‫القارب ومن ورائه جنوده‪ ،‬وكان يف ا�ستقباله بوثينيو�س‪ .‬وقف يرتدي ردا ًء‬
‫�أ�س َود مطر ًزا بالذهب‪ ،‬وفوق ر�أ�سه �إكليل م�ست�شار امللك‪ ،‬ابت�سم بوثينيو�س‬
‫و�أردف يف ترحاب‪:‬‬
‫أهل بك يا قي�صر يف فارو�س‪.‬‬ ‫‪ً �--‬‬
‫�ألقى �إليه نظرة ثم خلع خوذته وقال‪:‬‬
‫‪--‬من �أنت؟‬
‫‪287‬‬
‫بابت�سامة �أردف‪:‬‬
‫‪--‬يف خدمتك بوثينيو�س‪ِ ،‬‬
‫�ساعد امللك ويده اليمنى‪.‬‬
‫�س�أل قي�صر بحدة‪:‬‬
‫‪--‬وملاذا مل ي�ستقبلني امللك نف�سه؟‬
‫قال بوثينيو�س‪ :‬اعتذاري الكامل لقي�صر‪ ،‬مل نق�صد �أي �إهانة‪� ،‬إن امللك‬
‫�ساعده ومر ِّبيه ويف مقام‬
‫فتًى �صغري وال يحب مغادرة ق�صره كث ًريا‪ ،‬و�أنا ِ‬
‫امللك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫قال قي�صر‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫‪--‬بالت�أكيد ِ‬

‫ش‬
‫�ساعد امللك يعرف �أن �سفن بومبايو�س ماجنو�س قد ر�ست‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يف مينائكم منذ ثالثة �أيام‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫‪�--‬إذن �أين هو؟‬
‫‪--‬تف�ضل معي‪.‬‬
‫م�ست�ساغا عند يوليو�س قي�صر من اللحظة الأوىل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مل يكن بوثينيو�س‬
‫�شعر ب�شيء ما بداخله غري مريح‪ ،‬فاحت من ردهة الق�صر رائحة بخور‬
‫مت ر�شه يف �أتن النار لتنبعث يف الأرجاء رائحة زكية تخرتق الأنوف‪ ،‬كانت‬
‫�ساحة العر�ش هادئة‪ ،‬جل�س امللك على عر�شه قبل �أن يدخل بوثينيو�س‬
‫القاعة ومن ورائه يوليو�س قي�صر‪ ،‬انحنى بوثينيو�س واكتفى قي�صر ب�إلقاء‬
‫نظرة �إىل امللك ال�صبي‪ ،‬فقي�صر لن يركع �أبدً ا وخا�صة ل�صبي مثله‪ ،‬وقف‬
‫بطليمو�س واقرتب من قي�صر و�أردف‪:‬‬
‫أهل بك يا قي�صر يف الإ�سكندرية‪.‬‬ ‫‪ً �--‬‬
‫قال قي�صر بابت�سامة عابثة‪� :‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫‪288‬‬
‫�أ�شار بوثينيو�س �إىل احلار�س وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أح�ضر الهدية‪.‬‬
‫اقرتب احلار�س و�أح�ضر من�ضدة �صغرية يف منت�صف القاعة وو�ضع‬
‫ومغطى بالنقو�ش‪ ،‬ثم اقرتب بوثينيو�س و�سلم قي�صر‬ ‫عليها �صندو ًقا مغل ًقا ًّ‬
‫خا ًمتا‪ ،‬تناوله قي�صر وهو ال يفهم �شي ًئا‪ ،‬نظر �إىل اخلامت للحظة‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫منقو�شا عليه �صورة �أ�سد‬ ‫م�ألو ًفا ب�شدة‪ ،‬كان خا ًمتا من الزمرد الالمع‬
‫مي�سك �سي ًفا يف يده‪ ،‬قال قي�صر‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬هذا خامت بومباي‪� ،‬أين هو؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫ابت�سم بوثينيو�س و�أ�شار �إىل ال�صندوق يف منت�صف القاعة‪ ،‬توج�س‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫قي�صر ودارت يف ر�أ�سه �آالف الأ�شياء‪ ،‬ماذا يوجد يف ال�صندوق؟ بالت�أكيد‬

‫والتوز عي‬
‫لي�س ما يظن‪ ،‬اقرتب بخطوات متثاقلة وب�أرجل ت�أبى �أن تتحرك‪ ،‬وعندما‬
‫و�صل �أخ ًريا �إىل ال�صندوق‪� ،‬أ�شاح غطاء ال�صندوق وكان ما يخ�شاه‪ ،‬كان‬
‫ر�أ�س بومباي ماجنو�س العظيم‪ ،‬ر�أ�س �صديقه الوحيد‪ ،‬كان �أزرق متعف ًنا‬
‫تنبثق منه رائحة العفن التي اختلطت برائحة الذكريات‪� .‬أ�شاح قي�صر‬
‫ر�أ�سه يف ي�أ�س و�أمل‪ ،‬و�أغلق ال�صندوق �سري ًعا يف نفور‪ ،‬ال يجب �أن تكون‬
‫تلك النهاية لرجل عظيم‪ ،‬مل يعتقد �أن النهاية �ستكون مليئة بطعم الرماد‬
‫والندم كهذه‪ ،‬مل يكن عليه �أن ميوت بتلك الطريقة املنزوعة من ال�شرف‬
‫�شجاعا‪ ،‬وجند ًّيا‬
‫ً‬ ‫والأخالق‪ ،‬لقد كان بومباي ً‬
‫رجل عظي ًما ورومان ًّيا‬
‫ممتا ًزا‪ ،‬وخ�ص ًما �شري ًفا‪ ،‬كان يعتقد بوثينيو�س و�أخيال�س �أن بهذا العمل‬
‫اخل�سي�س �سوف ينالون حظوة لدى يوليو�س قي�صر‪ ،‬ولكن من مالحمه‬
‫املليئة بالغ�ضب العارم‪ ،‬يبدو �أنهم قد �أخطئوا‪.‬‬
‫نظر قي�صر �إىل بوثينيو�س بغ�ضب و�صرخ‪:‬‬
‫‪َ --‬مل فعلتم هذا؟‬
‫‪289‬‬
‫قال بوثينيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ظن َّنا �أنك قد تكون م�سرو ًرا بهذا‪.‬‬
‫�صاح قي�صر‪:‬‬
‫ً‬
‫قن�صل رومان ًّيا �أيها احلمقى‪،‬‬ ‫‪--‬م�سرو ًرا‪ .‬لقد كان بومباي ماجنو�س‬
‫هل تدركون ما فعلتم؟‬
‫�أردف امللك‪:‬‬
‫‪--‬لقد كان بومباي عدوك يا قي�صر‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قال قي�صر وما زال الغ�ضب ي�سكنه‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬ال‪ ،‬مل يكن كذلك‪ ،‬ومل يكن ً‬

‫ر‬
‫زوجا البنتي‪،‬‬
‫يوما‪ ،‬بومباي ماجنو�س كان ً‬

‫والتوزي‬
‫كان �أخي وبيننا عهود مقد�سة‪.‬‬

‫ع‬
‫علم بوثينيو�س �أنهم قد وقعوا يف م�أزق �شديد مل يكن يف احل�سبان‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪--‬لقد حدث ما حدث‪ ،‬لقد ارتكبنا خط�أً �شني ًعا بغري ق�صد‪.‬‬
‫هد�أت نربات قي�صر وقال‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ .‬لقد ارتكبتم خط�أً لن �أغفره �أبدً ا‪.‬‬
‫قبل دقائق من الآن‪...‬‬
‫ر�سا قارب �آخر عند الد�سكار امللكي‪ ،‬كان جندي روماين‪ ،‬اقرتب منه‬
‫�ضابط امليناء‪ ،‬و�ألقى نظرة فاح�صة على ما كان يحمل يف قاربه‪ ،‬كان يف‬
‫قلب القارب �سجادة حمراء ملفوفة ب�إحكام حول �شيء بدا وك�أنه جمهول‬
‫املعامل‪ ،‬ومل ي�ستطع ال�ضابط التخمني ف�س�أل‪:‬‬

‫‪290‬‬
‫‪--‬ما هذا؟‬
‫‪--‬قال اجلندي‪ :‬هذه الهدية لقي�صر‪.‬‬
‫‪--‬وما فحواها؟‬
‫‪--‬ال �أعرف‪� ،‬أنا م�أمور ب�إي�صالها لقي�صر بال �إلقاء �أ�سئلة‪.‬‬
‫�صمت ال�ضابط ً‬
‫قليل وقال‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬اتركها و�سوف ن�سلمها لقي�صر‪.‬‬
‫‪--‬جاءتني الأوامر والتعليمات ب�أن �أ�سلمها لقي�صر نف�سه‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وبعد جدال ا�ستطاع اجلندي �أن يقنعه ب�أنه ال يق�صد �أي �ضرر‪ ،‬و�أنه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫قد �أتى بقاربه لي�سلم الهدية �إىل قي�صر‪ ،‬و�إن مل يفعل ف�سيتم معاقبتهم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫من قي�صر نف�سه‪ .‬وافق ال�ضابط‪ ،‬فطفق اجلندي وحمل ال�سجادة على‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫كتفه ورافقه حار�سان حتى الق�صر امللكي‪ ،‬وعندما دخل احلار�س �ساحة‬
‫العر�ش انهالت عليه الأنظار من قي�صر وبوثينيو�س وامللك � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬مل يفهم‬
‫� ٌّأي منهم ما هذا‪ ،‬فقال اجلندي‪:‬‬
‫‪--‬ط ْرد �إىل قي�صر‪.‬‬
‫�أردف قي�صر‪ :‬ما هذا؟‬
‫قال احلار�س‪ :‬هدية من كليوباترا �إىل قي�صر روما العظيم‪.‬‬
‫قال امللك‪:‬‬
‫‪--‬ال تقبلها يا قي�صر‪� ،‬إن كليوباترا ُمادعة‪.‬‬
‫بال ملا قاله امللك‪ ،‬واقرتب من ال�سجادة امللفوفة ب�إحكام‪،‬‬ ‫يلق قي�صر ً‬ ‫مل ِ‬
‫فالحظ حركة طفيفة‪� ،‬أخرج احلار�س خنج ًرا وطفق يقطع احلبال التي‬
‫كانت تلتف حولها وتربطها ب�إحكام‪ ،‬وبعد حلظة خرجت منها كليوباترا‬
‫ك�أنها �ساحرة ما‪ ،‬كان العرق يغطيها ويلمع على جلدها ك�أنها �أحجار كرمية‬
‫‪291‬‬
‫حتت �سيل �أ�شعة ال�شم�س ال�سرمدية‪ .‬تراجع قي�صر خطوتني �إىل الوراء‬
‫يف ده�شة‪ ،‬ما ر�آه كان غري متوقع مطل ًقا‪ ،‬ما ر�آه قي�صر ملأه بالده�شة‬
‫والعنفوان‪ ،‬مل تكن �إال امر�أة جميلة‪ ،‬خ�صالتها �سوداء مم َّوجة‪ ،‬حتمل‬
‫مالمح �إلهة اجلمال فينو�س‪ ،‬ارتفعت ال�صدمة يف وجوه كل الواقفني‪.‬‬
‫يكتف امللك‬ ‫انتف�ضت الدماء يف عروق ٍّ‬
‫كل من بوثينيو�س وامللك‪ ،‬ومل ِ‬
‫بال�صمت بل �صاح يف غوغاء‪�« :‬أيها احلرا�س‪».‬‬

‫ع‬
‫تبال كليوباترا مبا قاله‪ ،‬نظرت �إىل قي�صر نظرة طويلة ومدت له‬
‫ومل ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يدها‪ ،‬اقرتب منها قي�صر و�أم�سك يدها و�ساعدها على الوقوف‪ ،‬ن�شفت‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫العرق من على جبينها‪ ،‬واجتهت �إىل من�ضدة امللك و�سكبت ك� ًأ�سا من‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫النبيذ وارت�شفت منه يف ذهول من قي�صر ومن امللك وبوثينيو�س‪ ،‬رمقت‬

‫ع‬
‫ال�صندوق يف منت�صف القاعة وقالت‪:‬‬
‫‪--‬م�ؤ�سف �أن ت�أتي نهاية رجل عظيم كبومباي ماجنو�س بتلك الطريقة‪.‬‬
‫ويف تلك اللحظة دخل احلر�س امللكي‪ ،‬ف�صاح امللك‪:‬‬
‫‪--‬اقتلوا اخلائنة‪.‬‬
‫ا�ستوقفه قي�صر يف حزم‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬توقف‪� ،‬أريد �أن �أ�سمع‪.‬‬
‫�أوقف بوثينيو�س احلرا�س ب�إ�شارة من يده‪ ،‬انتف�ض امللك و�صاح يف‬
‫قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬ال ت�ستمع لأختي �إنها ملكة الأكاذيب‪.‬‬
‫‪292‬‬
‫قالت كليوباترا غري مبالية لكلمات �أخيها‪:‬‬
‫‪�--‬آمل �أنه قد �أعجبك ق�صري يا قي�صر‪.‬‬
‫بجمالك يا �سيدتي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪�--‬إنه جميل‪،‬‬
‫ومل تغادر عيناه عن عينيها‪.‬‬
‫قال امللك‪:‬‬
‫‪--‬ق�صرك‪� .‬إنها خائنة يا قي�صر‪.‬‬

‫ع‬
‫جترعت كليوباترا من ك�أ�س النبيذ وقالت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫قال قي�صر‪� :‬أناا�‬
‫‪�--‬أعتذر لك عن حماقة �أخي يا قي�صر‪ ،‬ف�إنه ينق�صه الت�أديب الالزم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬ال تتحالف مع كليوباترا يا قي�صر‪ ،‬و�إال فلن ميرواهذالتمروز عي‬
‫أ�ستمع‪ ،‬حتدثي‪.‬‬
‫قال بوثينيو�س بغ�ضب‪:‬‬
‫الكرام‪.‬‬
‫�أردف قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬هل هذه تهديدات؟‬
‫خرجت الكلمات من حتت ال�ضرو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إن الرومان ميلئون الإ�سكندرية‪ ،‬ولن �أتهاون �إن �أحرقت الإ�سكندرية‬
‫عن بكرة �أبيها‪.‬‬
‫قالت كليوباترا بابت�سامة‪ :‬كفى خط ًبا رنانة يا بوثينيو�س‪ .‬ل�سنوات‬
‫ي�ستمع �إليكم ال�شعب‪ ،‬حتى اقتنعوا �أنني خائنة‪ ،‬و�أعتقد �أن هذا لن يفلح‬
‫مع قي�صر‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫قال قي�صر‪ :‬هناك و�صية للملك الراحل‪ ،‬ماذا تقول تلك الو�صية يا‬
‫بوثينيو�س؟‬
‫قال بوثينيو�س‪ :‬تلك الو�صية خرقتها كليوباترا عندما خانت اململكة‪،‬‬
‫عندما دخلت بقوات غريبة �إىل م�صر‪.‬‬
‫‪--‬ال �أعتقد �أن حماولة ا�سرتداد عر�شها امل�سلوب تكون خيانة‪ ،‬بل‬
‫اخليانة العظمى عندما حتتال على امللك ال�صغري مبع�سول كلماتك‪.‬‬

‫ع‬
‫قال امللك‪� :‬سوف تندم يا قي�صر‪ ،‬ال �أحد يوجه اخليانة لكبري م�ست�شاري‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫امللك �أ ًّيا كان‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫قالها وغادر غا�ض ًبا ومن ورائه بوثينيو�س قبل �أن يلقي �إىل كليوباترا‬

‫ر‬
‫نظر قي�صر �إىل كليوباترا وقال‪ :‬حتدثي الآن يا وال‬
‫كليوباترا‪.‬توزي‬
‫نظرة �شزراء حتمل كل معاين الكره‪.‬‬

‫ع‬ ‫‪ُ �--‬‬


‫أن�شد منك احلماية‪.‬‬
‫قال قي�صر‪ :‬احلماية؟‬
‫‪--‬من بوثينيو�س كبري م�ست�شاري امللك؛ يريد التخل�ص مني ب�أي طريقة‪،‬‬
‫أيت‪� ،‬إنه بال �شرف‪ ،‬ما فعله مع بومبايو�س كان دني ًئا وخال ًيا‬
‫وكما ر� َ‬
‫من ال�شرف‪� ،‬أنت الرجل الوحيد الذي �أثق فيه الآن‪ ،‬عندما نفاين‬
‫أياما �شاقة‪ ،‬متتلئ‬ ‫�أخيال�س‪ ،‬كنت طفلة يف الثامنة ع�شرة‪ ،‬ع�شت � ً‬
‫طويل حتى ك َّونت‬ ‫باخلونة‪ ،‬والعامل ال يعرف الرحمة‪ ،‬ظللت وقتًا ً‬
‫�أ�سطويل وا�ستطعت العودة‪� ،‬أنا لن �أترك عر�شي‪� ،‬سوف �أعر�ض‬
‫عليك ً‬
‫عر�ضا‪.‬‬
‫‪294‬‬
‫�س�أل‪� :‬أي عر�ض؟‬
‫‪�--‬أعر�ض عليك ما ف�شلت فيه مع �أخي‪ ،‬الزواج‪ً ،‬‬
‫زواجا حقيق ًّيا‪.‬‬
‫كانت كلماتها مفاجئة لقي�صر‪ ،‬مل يتوقع �أن تعر�ض عليه امر�أة‬
‫الزواج يف يوم من الأيام بتلك ال�شجاعة والثقة التي كانت يف كليوباترا‪،‬‬
‫ا�ستطردت‪:‬‬
‫‪--‬لقد �سمعت عنك الكثري والكثري من احلكايات اخليالية‪ ،‬نحن‬
‫مت�شابهان جدًّا‪� ،‬أنت خ�ضت احلرب يف الغال ل�سنوات وكافحت‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لت�صل �إىل ما تريد‪� ،‬أما �أنا فكافحت كل الطامعني على هذا العر�ش‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أنت جنوت من املوت �آالف املرات بالت�أكيد‪ ،‬و�أنا كذلك‪ ،‬لقد حفظتنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الآلهة ل�شيء ما‪� .‬أنت ابن فينو�س و�أنا ابنة �إيزي�س‪ ،‬كالنا �أبناء‬

‫والتوز عي‬
‫للآلهة‪ .‬لقد �أرادتنا الآلهة �أن نتجمع �سو ًّيا لغر�ض ما‪.‬‬
‫‪�--‬أنا رجل متزوج‪.‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ .‬كالبورنيا‪ ،‬ولكن ملاذا مل تنجب لك وري ًثا حتى الآن؟‬
‫�صمت قي�صر ومل يعقب‪ ،‬فا�ستطردت‪:‬‬
‫‪--‬دعني �أح�ضر �إليك الوريث‪ ،‬وري ًثا �سوف يجمع بني فينو�س و�إيزي�س‪،‬‬
‫بني روما وم�صر‪ ،‬يحكم العامل ك�إله‪ ،‬ويجمع بني ال�شرق والغرب كما‬
‫فعل �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س‪.‬‬
‫كان وقع الفكرة يف ر�أ�س قي�صر مث ًريا لالهتمام‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪--‬اجعلني ملكة على م�صر‪ ،‬ورد �إىل عر�شي امل�سلوب و�سوف يتحد‬
‫ال�شرق والغرب م ًعا‪� ،‬ستحكم العامل ك�إله‪� ،‬ستك ِّون �إمرباطوريتك‬
‫العريقة التي ت�شرق فيها ال�شم�س يف م�صر وتغيب يف روما‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫كانت الفكرة مقبولة �إىل حد كبري يف ر�أ�سه‪� .‬إن كليوباترا هي ال�سبيل‬
‫الوحيد للو�صول �إىل عر�ش م�صر‪ ،‬للو�صول �إىل القوة وال�سلطة الكاملة‪،‬‬
‫�إذن‪ ...‬مل ال؟‬
‫�س�أل ومل يجد جوا ًبا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪296‬‬
‫(‪)8‬‬

‫فزعا يف قلوب‬
‫كان اقرتاب قوات رومانية من احلدود امل�صرية وق ًعا ُم ً‬
‫جماهري الإ�سكندرية‪ ،‬كانت احل�شود تتجمهر غا�ضبة �أمام الق�صر امللكي‬
‫وال�ساحات الوا�سعة‪ ،‬وكان خرب و�صول يوليو�س قي�صر �إىل م�صر �أوحى‬

‫ع‬
‫�إىل ال�شعب وجود تدخل روماين يف ال�ش�أن امل�صري‪ ،‬جمع �أخيال�س قوات‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫دروعا ذهبية مع خوذات تنبثق‬ ‫احلر�س امللكي‪ ،‬كانت مالب�سهم موحدة‪ً ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫منها قرون ك�أنها قرون ثور جامح‪ ،‬وانت�شرت القوات يف كل �أرجاء املدينة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫امتدت �سالمل املعبد الكبري �إىل ما ال نهاية‪� ،‬أعداد غفرية من الغا�ضبني‬
‫�أمام ال�سريابيوم تنتظر كلمة امللك‪ ،‬ارتفع �سقف معبد �سريابي�س فوق‬
‫الأعمدة ال�شاهقة التي تو�شحت باللون الأحمر املنطفئ‪ ،‬كان جماهري‬
‫الإ�سكندرية غا�ضبني من دخول يوليو�س قي�صر �إىل م�صر وفيال ُقه على‬
‫الأعتاب‪ ،‬وكان �أعوان بوثينيو�س يب ُّثون الأخبار على م�سامع النا�س بال‬
‫توقف عن خطورة هذا الأمر على اال�ستقالل امل�صري‪.‬‬
‫ُنفخت الأبواق امللكية التي هزت �أرجاء ال�سريابيوم‪ ،‬ومن �أعلى ال�سالمل‬
‫ال�شاهقة خرج امللك �إىل النا�س يرتدي رداءه امللكي الر�سمي‪ ،‬فوق ر�أ�سه‬
‫تاجه الذي انت�صب فوقه الأرابي�س‪ ،‬ومن �أ�سفله غطاء ر�أ�س ذ َّكر �أهل تلك‬
‫البلد بالفراعنة قد ًميا‪� ،‬صمت احل�شد املتجمع وانحنوا كلهم للملك بال‬
‫ا�ستثناء‪ ،‬ومن ورائه وقف بوثينيو�س و�أخيال�س‪� ،‬صمت اجلميع لي�سمعوا‬
‫كلمة امللك ف�أطبق ال�صمت على الأرجاء للحظات‪ ،‬قال امللك ب�صوته‬
‫العايل‪:‬‬

‫‪297‬‬
‫‪--‬يا �شعبي العظيم‪ ،‬ل�سنوات كافح هذا ال�شعب ليعي�ش يف وجه الطغيان‬
‫واالحتالل‪ ،‬منذ مئات ال�سنوات احتل الفر�س م�صر‪ ،‬عاملوا �أهلها‬
‫بتدنٍّ وذلة‪ ،‬ودخل �أجدادي مع �أليك�ساندرو�س �أوميكا�س وحرروا ذلك‬
‫ال�شعب العظيم من براثن االحتالل والذل‪� .‬أعلم يا �شعبي �أننا ق�ضينا‬
‫علي وهذا تق�صري عظيم مني‪،‬‬ ‫�أوقاتًا ع�صيبة‪� ،‬أعلم �أنكم ناقمون َّ‬
‫ولكن دمائي لي�ست دما ًء غريبة‪ ،‬دمائي حتمل دماء الفراعنة الأوائل‬
‫والإغريق على حدٍّ �سواء‪ ،‬و�أخاف على ذلك البلد ك�أهلها‪ ،‬ولن �أ�سمح‬
‫بتدخل روماين يف ال�ش�أن امل�صري‪� .‬إن كليوباترا ا�ستعانت بيوليو�س‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قي�صر لتعود �إىل عر�شها‪ ،‬وما املقابل؟ تريد ت�سليم الإ�سكندرية‬

‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ثم خلع تاجه ب ل‬
‫للرومان‪ ،‬و�أنا لن �أ�سمح بهذا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫أردف‪:‬‬ ‫امللكي و�‬

‫ع‬
‫‪�--‬أنا ال �أ�ستحق هذا التاج حتى �أ�سرتد حقوقي ال�شرعية من كليوباترا‬
‫والرومان‪.‬‬
‫ثم �ألقاه � ً‬
‫أر�ضا وا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬لقد تعر�ضت للخيانة‪ ،‬فهل �أنتم معي ملواجهة االحتالل الروماين؟‬
‫ت�صاعدت الهتافات الغا�ضبة للجماهري �أكرث وا ْلتهبت م�شاعر النا�س‬
‫بال توقف‪� ،‬أمر �أخيال�س احلر�س امللكي مبحا�صرة الق�صر وبداخله‬
‫يوليو�س قي�صر وكليوباترا‪ ،‬حاول املتجمهرون �أن يقتحموا الق�صر بالقوة‪،‬‬
‫لكن قوات احلر�س امللكي منعتهم‪ ،‬ففي النهاية يعلم بوثينيو�س جيدً ا عاقبة‬
‫التعدي على قن�صل روماين‪ ،‬ولي�س هذا فقط بل �إمرباطور روما اجلديد‪.‬‬
‫داخل الق�صر كانت كليوباترا ت�ستمع �إىل الهتافات اله َّدارة بانزعاج‬
‫�شديد‪ ،‬قالت �إىل قي�صر‪:‬‬
‫‪298‬‬
‫‪--‬الآن لقد �أيقن ال�شعب عن جهل �أنني خائنة‪ ،‬هم ال يعلمون �أن‬
‫بوثينيو�س كالأفاعي‪ ،‬وال يتوانى عن فعل �أي �شيء لي�صل �إىل �أهدافه‪.‬‬
‫قال قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬ال تقلقي‪ ،‬لقد �أر�سلت �إىل فيالقي �إ�شارة و�ستتحرك يف �أي حلظة‪.‬‬
‫�س�ألت يف قلق‪:‬‬
‫‪--‬هل �سننجو؟‬

‫ع‬
‫ابت�سم قي�صر و�أردف‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬لقد مررت مبا هو �أ�سو�أ‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪--‬مثل ماذا؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬موت ابنتي جوليا و�أنا يف الناحية الأخرى من العامل‪ ،‬كان ذلك �أ�سو�أ‬
‫ما مررت به يف حياتي‪.‬‬
‫قالت يف موا�ساة‪:‬‬
‫‪--‬عزائي ال�شديد لك‪.‬‬
‫قال‪� :‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫نفاك من م�صر من دون‬ ‫كنت تقولني يل �إن بوثينيو�س ِ‬ ‫ثم ا�ستطرد‪ِ :‬‬
‫ا�ستطعت النجاة؟‬
‫ِ‬ ‫قوات �أو حلفاء‪ ،‬كيف‬
‫‪--‬من يريد النجاة عليه �أن يرتدي جلود احلرباء‪.‬‬
‫ا�ستطعت احل�صول على حلفاء؟‬ ‫ِ‬ ‫‪--‬كيف‬
‫‪�--‬أحيا ًنا بعر�ض املنا�صب الهامة‪ ،‬ولكن ما جعلني �أ�صمد كل هذا الوقت‬
‫هو الإميان‪.‬‬
‫‪--‬الإميان‪.‬‬
‫‪299‬‬
‫‪--‬الإميان ب�أين �أ�ستطيع‪ ،‬الإميان ب�أن العر�ش هو حقي ال�شرعي‪.‬‬
‫ابت�سم قي�صر واكتفى ب�أن �ألقى �إليها نظرة �إعجاب‪.‬‬
‫متاما‪،‬‬
‫دخل حوررب الإ�سكندرية‪ ،‬كانت الأمور خارجة عن ال�سيطرة ً‬
‫يتجمهر النا�س مب�شاعيل‪ ،‬مل َي َر جم ًعا كمثل هذا يف يوم من �أيام ُعم َره‪،‬‬
‫ذاب بني احل�شود الغا�ضبة حتى و�صل �إىل ال�سريابيوم‪ ،‬كان احلر�س امللكي‬
‫يحيطه من كل زاوية ومن كل جانب‪ ،‬هو يعلم جيدً ا �أن بوثينيو�س وامللك‬
‫بالداخل‪ .‬هو ال يهتم بامللك باملرة‪ ،‬هو فقط يريد ر�أ�س بوثينيو�س‪ ،‬ال يريد‬

‫ع‬
‫�أكرث من هذا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يف الليل مل يخمد ال�صوت ككل الليايل يف الإ�سكندرية‪ ،‬بل ارتفع هدير‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صارخ‪ ،‬دخلت فرقة من احلر�س امللكي وا�صطحبوا الأمرية �أر�سينوي‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ومربيها جانيميدي�س �إىل ال�سريابيوم عند امللك يف احتفاء من النا�س‪.‬‬

‫ع‬
‫ملأ احلر�س امللكي الإ�سكندرية ومل ي�ستغرق الأمر وقتًا عندما ر�ست‬
‫ال�سفن عند امليناء الكبري‪ ،‬وعندها و�صل الأمر �إىل فيالق يوليو�س قي�صر‬
‫بالهجوم على الإ�سكندرية وفك احل�صار الذي �أطبقه عليهم بوثينيو�س‪.‬‬
‫�صارما‬
‫ً‬ ‫حترك مارك �أنتوين فو ًرا �صوب الإ�سكندرية‪� ،‬أعطى �أم ًرا‬
‫لأ�صحاب ال�سهام‪� .‬أ�شعل اجلنود ال�سهام وت�أهبت‪ ،‬ثم رفع �سيفه و�أعطى‬
‫الأمر‪�« :‬أطلقوا‪».‬‬
‫انطلق وابل من ال�سهام نحو ال�سفن التي ر�ست عند امليناء‪ ،‬كان الأمر‬
‫مباغتًا للجميع‪ .‬مل يعتقد �أحد �أن يوليو�س قي�صر �سوف يتجر�أ ويهاجم‬
‫الإ�سكندرية بفيالقه‪ ،‬احرتقت ال�سفن وا�شتعلت النريان يف امليناء ب�أكمله‪،‬‬
‫تكتف النريان ب�أكل امليناء‪ ،‬بل انت�شرت يف املدينة ب�أكملها كان كل‬ ‫ومل ِ‬
‫�شيء يحرتق‪ ،‬والنريان ال تتهاون يف االنت�شار يف كل �شيء؛ املعابد واملنازل‬
‫والأ�سواق‪ .‬زحفت غر ًبا حتى املكتبة العظيمة‪ ،‬ا�شتعلت النريان يف الرفوف‬
‫‪300‬‬
‫العالية للمكتبة‪ ،‬يف العمدان والربديات والكتب واللفائف‪ ،‬احرتقت املكتبة‬
‫عن بكرة �أبيها‪ ،‬وو�صلت الأخبار �إىل �أخيال�س يف ال�سريابيوم ومل ي�سرد‬
‫تلك الأخبار �أمام امللك‪.‬‬
‫ف�أ�س َّر �أخيال�س النجوى مع بوثينيو�س‪ ،‬كان بوثينيو�س يجتمع مع‬
‫حار�سه ماريو�س‪ ،‬اقرتب �أخيال�س من بوثينيو�س وقال يف فزع‪:‬‬
‫‪--‬لقد هاجمت قوات قي�صر الإ�سكندرية‪.‬‬
‫انتف�ض بوثينيو�س وقال‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬اللعنة‪ .‬ماذا تقول؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬كما �أخربك‪ ،‬لقد احرتقت املكتبة العظيمة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫قال بوثينيو�س‪:‬‬
‫وواجه قوات قي�صر بكل ما متلك من قوة‪.‬‬ ‫‪--‬ا�ستجمِ ع القوات امللكية ِ‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ .‬وامللك؟‬
‫‪�--‬سوف �أحاول �أن �أجد له مهر ًبا من الإ�سكندرية‪.‬‬
‫كل �شيء انها َر‪ ،‬كل ما خطط له ل�سنوات حتطم يف حلظة‪ ،‬كان كل ما‬
‫يفكر فيه يف تلك اللحظة هي النجاة‪ ،‬نظر �إىل ماريو�س وقال‪:‬‬
‫تعال �أنت معي‪.‬‬‫‪َ --‬‬
‫دخلت القوات الرومانية �إىل فارو�س بغري �إنذار م�سبق‪ ،‬جمع �أخيال�س‬
‫احلر�س امللكي وبع�ض القوات اليهودية يف احلي ال�شمايل‪ ،‬وت�شابكوا‬
‫بع�ضهم مع بع�ض‪ .‬انت�شر الذعر بني ال�شعب ومنهم من هرب خارج‬
‫الإ�سكندرية‪ .‬كانت ال�شوارع متتلئ باجلنود واجلثث والدماء والنريان‪،‬‬
‫ت�شا ُبك الفوالذ بالفوالذ كان له هدير ك�سر �سكون الليل‪ ،‬ا�ستطاع‬
‫بوثينيو�س �إي�صال امللك �إىل �سفينة مع جمموعة من اجلنود‪ ،‬وظل هو‬
‫‪301‬‬
‫يراقب الأمور من ال�سريابيوم‪ ،‬وبقيت �أر�سينوي معه رمبا �سوف يكون لها‬
‫نف ٌع ما‪ ،‬وبالت�أكيد جانيميدي�س لن يرتكها وحيدة مع بوثينيو�س‪ ،‬وظل معها‬
‫كحار�س �شخ�صي‪.‬‬
‫�سيطرت قوات يوليو�س قي�صر على الإ�سكندرية بعد معركة دامت‬
‫ل�ساعات مات فيها الآالف من الطرفني‪ .‬خرج بوثينيو�س من ال�سريابيوم‬
‫ب�صحبة امللكة ومعها جانيميدي�س‪ ،‬كانت �سفينته بانتظاره ولكن حال‬
‫بينهما حوررب‪ ،‬واقف بني النريان امل�شتعلة‪� ،‬شاه ًرا �سيفه ويعرف �إىل �أي‬

‫ع‬
‫عنق �سوف يوجهه‪ ،‬رك�ض حوررب نحو بوثينيو�س وكاد �أن يظفر به‪� ،‬إال �أن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فاريو�س قد وقف كاحلائط بينهم‪ ،‬رمق بوثينيو�س وجه حوررب للحظات‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كان وج ًها م�ألو ًفا �إىل حدٍّ ما‪ ،‬ومل ي�ستغرق وقتًا ً‬

‫ل‬
‫طويل حتى تعرف عليه‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫�إنه مفتعل الثورة يف اجلنوب‪ ،‬امليدجاي‪ ،‬مل يكن يظن �أنه �سوف يقابله‬

‫ع‬
‫وج ًها لوجه يف يوم من الأيام‪ ،‬ظن �أنه قد حتطم بعد ما حدث له يف‬
‫يوما‪.‬‬
‫اجلوب‪ ،‬ومل يظن �أنه �سين�شد االنتقام ً‬
‫‪ِ --‬‬
‫اق�ض عليه‪.‬‬
‫قالها بوثينيو�س �إىل فاريو�س واجته هر ًبا �إىل �سفينته‪ ،‬ولكن‬
‫جانيميدي�س رف�ض الهروب معه من الإ�سكندرية بالأمرية �أر�سينوي‪ ،‬ومل‬
‫يكن هناك �أي وقت لي�ضيعه‪ ،‬غادر وحيدً ا على �سفينته يف عر�ض البحر‪.‬‬
‫حترك ماريو�س بقوة نحو حوررب قبل �أن يخرج �سيفه الكبري‪ ،‬ل َّوح به‬
‫و�شمال ولكن حوررب كان ميلك من ال�سرعة ما ميكنه من تفادي‬ ‫ً‬ ‫ميي ًنا‬
‫�ضربات ماريو�س الثقيلة‪ ،‬وب�ضربة �سريعة ا�ستطاع جرح ماريو�س يف قدمه‬
‫بن�صله‪� ،‬أطلق ماريو�س زئ ًريا ه َّدا ًرا كزئري الوحو�ش‪ ،‬وانطلق نحو حوررب‬
‫بغ�ضب �شديد‪ ،‬رفع �سيفه وهوى به ف�أ�صدر �صليل ال�سيوف �صوتًا ه َّدا ًرا‬
‫تردد �صداه يف الأفق‪ ،‬تخابط الفوالذ مع الفوالذ يف �ضربات �سريعة بني‬

‫‪302‬‬
‫حوررب وماريو�س‪� ،‬سدد حوررب �ضربة مباغتة يف ذراع ماريو�س الأمين‪،‬‬
‫جرحا عمي ًقا وان�سالت الدماء الغزيرة من يده‪� ،‬صرخ ماريو�س‬ ‫جرحه ً‬
‫بكل ما �أوتي من قوة‪ ،‬ولكن �سرعان ما ا�ستعاد توازنه‪ ،‬وبقدمه العمالقة‬
‫دفع حوررب يف �صدره‪ ،‬ف�سقط الأخري � ً‬
‫أر�ضا‪ ،‬ولكنه كان �سري ًعا مبا يكفي‬
‫لي�سحب خنج ًرا ويغمده بقوة يف قدم ماريو�س‪ ،‬انفجرت الدماء من قدمه‬
‫ب�شكل ب�شع‪ ،‬وقف حوررب وقب�ض على �سيفه بقوة‪.‬‬
‫ويف حماولة �أخرية اندفع ماريو�س مبا تبقى لديه من قوة وب�ضربة‬
‫أر�ضا جمددًا‪ ،‬وقبل �أن يطلق �صيحة‬ ‫مزدوجة من �سيفه �أ�سقط حوررب � ً‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قوية هوى بال�سيف على حوررب‪ ،‬اخرتق ال�سيف �صدر حوررب ب�سال�سة‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫وانفجرت الدماء من �صدره ب�شراهة‪ .‬كان كل �شيء يف عينيه ي�صبح‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫رماد ًّيا ويتداعى تدريج ًّيا‪ ،‬كانت املدينة تتحول �إىل رماد وقلبه كذلك‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫وهو الآن يلفظ �أنفا�سه الأخرية يف هذه احلياة‪ ،‬وكل ما كان يفكر فيه هو‬
‫عناق طويل من زوجته قبل ذهابه �إىل احلياة الأخرى‪ ،‬لكن الآن‪ ،‬لقد فات‬
‫الأوان‪.‬‬
‫أر�ضا بعد حلظة‪ ،‬كان متع ًبا وينزف ب�شدة من كل مكان‪،‬‬‫هوى ماريو�س � ً‬
‫وما هي �إال ب�ضع دقائق ومات مت�أث ًرا بجراحه‪.‬‬

‫�أوتيكا‪ ...‬قلعة كاتو‪.‬‬


‫ت�سرب الي�أ�س �إىل رئتيه كما يت�سرب الهواء‪ ،‬بال جي�ش �أو قوات ُتدافع‬
‫عنه‪ ،‬والقوات القي�صرية تقرتب مع كل حلظة متر‪� ،‬أمامه على املكتب‬
‫جبل من الأوراق‪ ،‬ر�سائل كتبها �أفالطون عن كيفية موت الفيل�سوف‬
‫الإغريقي �سقراط‪ ،‬ال بد من طريقة مت ِّكنه من املوت ب�شرف‪ ،‬كما كان‬
‫‪303‬‬
‫يفعل الأ�سالف‪ ،‬لن يركع لقي�صر‪ ،‬لن يتملقه ليفوز بحياته‪ ،‬هو فقط يحب‬
‫يف للجمهورية‬ ‫يف‪ ،‬و ٌّ‬
‫روما‪ ،‬ومل يحمل ال�ضغينة لقي�صر‪ ،‬هو فقط �شخ�ص و ٌّ‬
‫قبل �أي �شيء‪ ،‬كان كاتو �شري ًفا لي�س كمعظم ال�شيوخ‪ ،‬ال يفكر يف املال‪ ،‬وال‬
‫يف الرثوة‪ ،‬كل ما يفكر فيه ال�صالح العام‪ ،‬للنبالء كما للعامة‪.‬‬
‫ت�سربت الأ�صوات �إىل �آذانه‪ ،‬لقد ح�ضرت القوات القي�صرية‪ ،‬وهو لن‬
‫ي�ست�سلم لها وال ي�ستطيع �أن يحاربها‪ ،‬مل يكن هناك �سوى طريقة واحدة‬
‫للموت ب�شرف‪.‬‬

‫ع‬
‫نف�سا عمي ًقا و�أغم�ض‬‫ووجهه �إىل �صدره‪� ،‬سحب ً‬
‫ا�ستل �سيفه من غمده‪َّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عينيه للحظة‪ ،‬ثم غمد الن�صل يف �صدره‪ ،‬ت�سربت الدماء من بني �أنامله‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ب�شراهة‪ ،‬دقائق وكان كاتو جثة هامدة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫بعد �أيام هد�أت الأو�ضاع يف الإ�سكندرية‪� ،‬سيطرت القوات القي�صرية‬
‫على فارو�س بالكامل‪ ،‬ا�ستطاع �أن يهرب جانيميدي�س بالأمرية �أر�سينوي‬
‫�إىل �أف�سو�س يف اليونان‪ ،‬وجاءت الأخبار عن م�صرع �شقيقها بطليمو�س‬
‫وغرقه �أثناء حماولته الهرب‪ ،‬ومت �أ�سر �أخيال�س من القوات القي�صرية‬
‫و�سيتم حماكمته حماكمة ع�سكرية وتعليق ر�أ�سه على خازوق‪ ،‬وا�ستطاع‬
‫بوثينيو�س الهرب من الإ�سكندرية‪ ،‬وعندما علمت كليوباترا غ�ضبت ب�شدة‬
‫و�أر�سلت وراءه مغتالني وقتلة وجنودًا‪ ،‬وو�ضعت على ر�أ�سه تالنت من‬
‫الذهب‪ ،‬و�أح�ضر اجلنود جثة حوررب‪ ،‬رمقتها ِب� ًأ�سى �شديد‪ ،‬كان حمار ًبا‬
‫عظي ًما ً‬
‫ورجل َن َ�ش َد االنتقام وال�سالم‪ ،‬ومل َ‬
‫يحظ ب�أي منهم يف احلياة‬
‫الأوىل‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫بعد �أيام قليلة �أح�ضر لها �أحد املغتالني ر�أ�س بوثينيو�س مقابل اجلائزة‬
‫املعرو�ضة‪ ،‬تالنت من الذهب‪ ،‬وكان ت�ستعد لدفع كل ما متلك لرتى ر�أ�س‬
‫هذا اللعني يف �صندوق‪ ،‬رمقت ر�أ�سه املبتور يف تقزز وب�صقت عليه بغ�ضب‬
‫مكبوت‪.‬‬
‫كانت �آ�سيا يف بلوزيوم مع احلكيم �ألك�سندر هيليو�س والقائد رابو�س‪،‬‬
‫وعندما علمت بالأمر اجتهت �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬كانت جثته جمللة يف قاعة‬
‫العر�ش تكر ًميا له‪ ،‬رمقت جثته بعينني ت�أبيان الت�صديق‪ ،‬رمبا لهذا ُخلق‪،‬‬
‫لتكون دما�ؤه امل�سفوكة ً‬

‫ع‬
‫�سبيل للخال�ص‪ ،‬ال ي�أتي ال�سالم �إال بالت�ضحيات‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫هكذا قال لها يف يوم من الأيام‪ ،‬وهكذا يكون الأمر‪ ،‬ال�سالم يحتاج �إىل‬

‫قاعة لالعر�ش‪َّ ،‬‬


‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫الدماء �أحيا ًنا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫مم�س ًكا بني كفيه �سيفه‪ ،‬انهالت �آ�سيا نعليه‬
‫ملك اجلنوب �إىل الأبد‪ ،‬يرحل حامي اجلنوب‪ ،‬والويرتكتوزي‬
‫م�سجاة على منارق حريرية‪،‬‬ ‫يف‬ ‫وو�ضعها‬ ‫مت تكرمي جثته‬

‫ع بال‬
‫بالبكاء ال�شديد‪ ،‬الآن يرحل‬
‫اجلنوب‬
‫حماية‪ ،‬الآن مل يبقَ لها �شيء �سوى الفراغ وكلمات املوا�ساة التي ال ُت�سمن‬
‫وال تغني من جوع‪.‬‬
‫قالت لها كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬عزائي ال�شديد لك‪.‬‬
‫لي�ست من عادة �آ�سيا ال�صلبة �أن تبكي‪ ،‬ولكنها الآن تبكي‪ ،‬ت�صرخ‪،‬‬
‫تئن‪ ،‬ال �شيء ي�ضاهي هذا الأمل‪ ،‬هذا الفراق‪ ،‬مل يتبقَّ لها �أحد بعد‬
‫حوررب‪ ،‬فا�ستطردت كليوباترا‪:‬‬
‫‪�--‬أعلم �أن ال �شيء �سيخفف �آالمك يا �آ�سيا‪ ،‬ولكن هذا �أق�صى ما‬
‫ميكنني فعله الآن‪.‬‬
‫‪305‬‬
‫ثم �أ�شارت �إىل �إحدى الو�صيفات‪ ،‬ف�أح�ضرت �صندو ًقا مغل ًقا وو�ضعته‬
‫على الطاولة‪ ،‬اجتهت كليوباترا ناحية ال�صندوق وفتحته‪� ،‬أم�سكت بيديها‬
‫املجردتني ر�أ�س بوثينيو�س املبتور و�أخرجته من ال�صندوق و�أردفت‪:‬‬
‫‪--‬ر�أ�س بوثينيو�س كما وعدتك‪� ،‬أر�سلت وراءه قتلة وو�ضعت على ر�أ�سه‬
‫تالنت من الذهب‪ ،‬لقد �سبب بوثينيو�س الكثري من الأوجاع ٍّ‬
‫لكل منا‪،‬‬
‫هو قتل ابنك وزوجك‪ ،‬ونفاين من م�صر‪ ،‬ها هو ر�أ�سه‪ ،‬فافعلي به ما‬
‫ت�شائني‪� ،‬أحرقيه وا ْلعني رماده‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كان يبدو هذا كاف ًيا لتنال �آ�سيا االنتقام‪� ،‬س�ألتها كليوباترا‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫قالت �آ�سيا‪ :‬ب ل‬
‫‪--‬ماذا �ستفعلني الآن؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫والتوزي‬ ‫‪�--‬سوف �أعود �إىل اجلنوب‪.‬‬
‫‪�--‬أحتاجك معي‪ ،‬هنا‪.‬‬
‫قالت �آ�سيا بنربات فاترة‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬كل ما حتتاجينه الآن هو بني يديك‪ ،‬اجلنود‪ ،‬اجلي�ش‪ ،‬احلب‪،‬‬
‫وعدت به‪ ،‬قدِّ مي اخلال�ص‪.‬‬
‫العر�ش‪ ،‬فقدِّ مي ما ِ‬
‫ورحلت �إىل اجلنوب‪ ،‬و�أر�سلت ج�سد حوررب �إىل معبد �أنوبي�س‪ ،‬وقف‬
‫كاهن �أنوبي�س الكبري ويرتدي فوق ر�أ�سه قناع ابن �آوى‪ ،‬فرغوا �أمعاءه من‬
‫ج�سده‪ ،‬و�أخرجوا قلبه من �صدره‪ ،‬ودهنوا جلده بالزيت و�سدوا امل�سام‬
‫املتفتحة ملنع التعفن‪ ،‬ثم لفوا ج�سده بلفائف الكتان امل�شبعة بالع�سل‪،‬‬
‫ذراعه اليمنى ثم الي�سرى‪ ،‬ثم �أرجله‪ ،‬ويف طقو�س خا�صة قر�أ الكهنة عليه‬
‫املتون القدمية واملقد�سة‪:‬‬
‫‪306‬‬
‫‪�--‬أنوبي�س هو الليلة التي ت�سبق ال�سماء‪ ،‬والليل الذي ي�سبق النهار‪،‬‬
‫وحكمة الظل املخفية‪ ،‬ونور العيون ال�ضالة التي تعك�س القمر‬
‫والنجوم‪� ،‬أنوبي�س هو الذي تطيعه الآلهة‪ ،‬مع االحرتام ال�شديد لكل‬
‫من اللحاء والق�ضم‪ ،‬والكلمات املقد�سة والفكني ال�ساحق والثابت‪،‬‬
‫�أنوبي�س هو ناظر من بعيد يراقب عندما يحني الوقت لوزن الروح‪،‬‬
‫واحلكم على حياتها �أنها خاطئة �أو �صحيحة‪� ،‬أنوبي�س يعرفنا جمي ًعا‬
‫من نحن ومن نكون‪ ،‬من ال يحب ومن ال يكره وال حتى يقف م�ؤقتًا‬
‫يف ح�سابه الأبدي للنتيجة‪ ،‬رعايته هي للتوازن‪ ،‬والقوانني من �أجل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫العدالة‪ ،‬هو القدي�س ابن �آوى املقد�س احلامي والوا�صي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ويف �سفينة جمللة بال�سواد حملت تابوته الذهبي �إىل الغرب يف هدوء‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وراقبت �آ�سيا ال�سفينة حتى اختفت يف الأفق‪ ،‬بقلب حزين‪ ،‬وعينني ال‬

‫«رحل اجلميع‪ ،‬ويظل احلزن �سرمد ًّيا‪ ».‬والتوز عي‬


‫َّ‬
‫متلن من البكاء‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫(‪)9‬‬

‫بعد عدة �أيام‪...‬‬


‫غطى‬‫ا�ستوى على ال�شرفة ومن ورائه كليوباترا التي لفحت ردا ًء ذهب ًّيا َّ‬

‫ع‬
‫مفاتنها‪ ،‬مل ت�صدق ما حدث‪ ،‬ال ت�صدق ما تراه �أمام عينيها الآن‪ ،‬قي�صر‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�إمرباطور روما اجلديد‪ ،‬بال �شك هي تعرف �أن زواجها من قي�صر هو‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫باطل يف عني القانون الروماين ال�صارم‪ ،‬ولكن ال م�شكلة حتى �أن تتخذه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫كع�شيق لها‪ ،‬يكفي فقط �أنها �سوف تنجب له وري ًثا‪ ،‬يرث روما وم�صر‬

‫ع‬
‫وي�صبح حاك ًما للعامل‪ ،‬كانت الفكرة تطاردها ب�شغف وترتاق�ص �أمام‬
‫عينيها كغزال يتوجب �صيده‪.‬‬
‫كان ج�سده متعر ًقا‪ ،‬يلمع باللون الربونزي �إثر ال�ضوء الأحمر املنبعث‬
‫من امل�شاعل املعلقة وال�شموع امل�شتعلة‪ ،‬والحظت كليوباترا الندوب‬
‫واجلروح القدمية التي كانت بادية على كتفيه وظهره العري�ض‪ ،‬جل�س‬
‫وا�ستوى �أمام النافذة وراقب حركت ال�سفن البعيدة‪ ،‬وعلى ال�شواطئ‬
‫ارت�صت قواته الع�سكرية‪ ،‬احت�ضنته كليوباترا من ظهره وقالت بعد �أن‬ ‫َّ‬
‫رمقت قواته ً‬
‫وبع�ضا من قواتها الع�سكرية‪:‬‬
‫‪�--‬أر�أيت يا قي�صر‪ ،‬انظر كيف يتبع النا�س ال�سلطان‪ ،‬كل ما هو يل هو‬
‫لك الآن‪ ،‬كل ممتلكاتي و�أموايل وجي�شي‪ ،‬وحتى العر�ش‪ ،‬هو لك الآن‪.‬‬
‫ابت�سم قي�صر وقال‪:‬‬

‫‪308‬‬
‫‪--‬هل تتملقينني؟ هل تغرينني مبع�سول الكالم حتى �أن�سى ما فعلناه‬
‫�سو ًّيا؟ ما فعلناه كان خر ًقا لكل القوانني ال�صارمة‪.‬‬
‫‪�--‬أي قي�صر‪� ،‬أال ترى القوة التي �أ�صبحت عليها؟ �سوف حتكم العامل‬
‫الآن‪ ،‬من ال�شرق �إىل الغرب‪ ،‬و�سوف �ألد لك وري ًثا‪� ،‬سوف يغزو‬
‫العامل‪ ،‬مثلما فعل �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س‪.‬‬
‫‪--‬كلميني بال ا ْلتواء يا ملكتي‪ ،‬ال �أحب فكرة �أنك تقبلينني فقط لأنني‬
‫الإمرباطور �أو لأنني �سوف �أحميك‪� ،‬سوف �أحميك بال مقابل ولكن ال‬
‫�أحب ا ْلتواء الكلمات‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫قالت بال تردد‪� :‬أق�سم ب�إيزي�س املقد�سة‪� ،‬أنني ال �أمتلقك‪ ،‬وال �أتخذك‬

‫بألت‪ :‬ما بك؟‬


‫ل‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫كو�سيلة للو�صول ل�شيء ما‪ ،‬ولكن كل ما �أحلم به‪ ،‬هو عامل نحكمه �سو ًّيا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫و‬ ‫ت‬
‫احلزن‪ ،‬ف�س�‬ ‫�سكت ومل�ست فيه‬

‫زيع‬
‫‪--‬بومباي ماجنو�س‪ ،‬موته ي�ؤملني �أكرث مما توقعت‪.‬‬
‫‪--‬لتلك الدرجة كنت حتبه؟‬
‫زوجا البنتي‬
‫قال قي�صر‪ :‬لي�س فقط ح ًّبا‪� ،‬إمنا احرتام‪ ،‬بومبايو�س كان ً‬
‫جوليا‪ ،‬وعند رحيلها حزن عليها ب�شدة‪ ،‬كان فقط يبحث عن �صديقه‬
‫القدمي ليحت�ضنه ب�شدة ويهون عليه الأمر‪� ،‬إال �أنه كان ميوت يف �صمت‪،‬‬
‫�أعرف هذا‪ ،‬وها هو قد مات غد ًرا ب�سيوف غري �شريفة‪ ،‬وبطريقة �أبعد ما‬
‫يكون عن النبل‪.‬‬
‫‪--‬هون عليك يا قي�صر‪.‬‬
‫�أما بومبايو�س ف�سوف يحرق جثته‪ ،‬و�سوف ير�سل رماده �إىل روما على‬
‫�سفينة جمللة بال�سواد‪ ،‬و�سوف يتم نرث رماده فوق الكابيتول ك�أي قائد‬
‫روماين عظيم‪.‬‬
‫‪309‬‬
‫يف ال�صباح جل�ست كليوباترا على عر�شها‪ ،‬وبجوارها جل�س يوليو�س‬
‫قي�صر‪� ،‬صب لهم اخلدم النبيذ بعد �أن تناوال الفطور‪ ،‬وبعد دقائق دخل‬
‫حار�س وانحنى لهما و�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬سيدي يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫‪--‬حتدث‪.‬‬
‫قال احلار�س‪:‬‬
‫‪--‬هناك فتًى يف اخلارج يت�ضرع ليقابلك يا �سيدي منذ طلوع ال�شم�س‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫قال قي�صر بغري اهتمام‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫‪�--‬أال تعرف ماذا يريد؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪--‬يقول �إنه يحمل ر�سالة لك‪.‬‬

‫ع‬ ‫عقد قي�صر حاجبيه و�أردف‪:‬‬


‫‪--‬ر�سالة‪ .‬ومن املر�سل؟‬
‫‪�--‬شخ�ص يدعى �ألك�سيو�س كورنيليو�س‪.‬‬
‫انتبه قي�صر وقال باهتمام‪:‬‬
‫‪�--‬أدخله فو ًرا‪.‬‬
‫خرج احلار�س ولبث حوايل دقيقة حتى دخل بالفتى �إريو�س‪ ،‬كان يلتفت‬
‫ً‬
‫و�شمال‪ ،‬يرمق العمدان الطويلة للق�صر امللكي‪ ،‬مل ي َر �شي ًئا كهذا يف‬ ‫ميي ًنا‬
‫حياته كلها‪ ،‬ويف �ساحة العر�ش انحنى �إريو�س‪ ،‬مل يكن يكاد ي�صدق �أنه‬
‫�أمام يوليو�س قي�صر بنف�سه‪ ،‬قال قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬من �أنت؟ وكيف تعرف القائد �ألك�سيو�س؟‬
‫‪310‬‬
‫ق�ص �إريو�س الق�صة ب�أكملها ليوليو�س قي�صر‪ ،‬منذ �أن انت�شلوا‬
‫�ألك�سيو�س من املاء‪� ،‬إىل �ضياعهم يف ال�صحراء‪� ،‬إىل موته امل�ؤ�سف‪ ،‬فقال‬
‫لقي�صر‪:‬‬
‫‪--‬قبل موته كتب لك هذه الر�سالة‪ ،‬وو�صاين �أن �أ�صل لك ب�أي طريقة‬
‫ممكنة‪� ،‬إن جنحت يف الدخول �إىل روما‬
‫و�سلمه الر�سالة‪ ،‬تناولها قي�صر و�أخذ يف قراءتها‪:‬‬
‫‪--‬با�سم جوبيرت الكبري �أكتب تلك الر�سالة �إىل غايو�س يوليو�س قي�صر‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لقد ق�ضيت عمري كله يف خدمتك‪ ،‬لقد حظيت بحبي واحرتامي‪ ،‬ال‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أعرف هل دخلت �إىل روما الآن‪� ،‬أم قتلت قبل �أن تط�أ قدمك �أر�ضها‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ف�إن كنت تقر�أ هذه الر�سالة الآن ف�أنت بالت�أكيد جنحت بالدخول‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�إىل روما‪ ،‬احذر جمل�س ال�شيوخ ف�إنهم يرتب�صون بك‪ ،‬احذر من‬
‫كا�سيو�س ف�إنه يكنُّ لك الكره ال�شديد‪ ،‬احذر من طموحك يا قي�صر‪،‬‬
‫فهذه رمبا تكون �آخر كلماتي و�سوف �أدفن يف �أر�ض لي�ست روما‪ ،‬وهذا‬
‫ما يحزنني‪ ،‬اجلندي املخل�ص لروما وقائد فيالق الألب؛ �ألك�سيو�س‬
‫كورنيليو�س‪.‬‬
‫�أغلق قي�صر الر�سالة ِب� ًأ�سى �شديد‪ ،‬و�أم�سك ك�أ�س النبيذ و�سكبها على‬
‫الأر�ض وقال بحزن‪:‬‬
‫‪�--‬إىل روح املحارب العظيم الراحل‪.‬‬
‫«ها هو رجل �آخر جيد يرحل‪ ».‬زفر بها قي�صر يف حزن و� ًأ�سى‪.‬‬
‫�أعطى يوليو�س قي�صر ال�شاب �إريو�س مكاف�أة على وفائه و�إخال�صه‪،‬‬
‫وخ�ص�ص له �سفينة لل�سفر بها �إىل روما‪ ،‬عني قي�صر كليوباترا كملكة‬
‫م�ستقلة على عر�ش م�صر مبوجب الو�صية التي تركها امللك الراحل‪،‬‬
‫وارتدت تاج الفراعنة املزدوج‪.‬‬
‫‪311‬‬
‫وق�ضى قي�صر �سنة �أخرى يف الإ�سكندرية برفقة كليوباترا‪ ،‬و�أجنب‬
‫منها ولدً ا و�أطلق عليه ا�سم «قي�صرون»‪ ،‬ثم بعدها قرر الرجوع �إىل روما‬
‫بابنه وملكته اجلديدة كليوباترا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪312‬‬
‫(‪)١٠‬‬

‫‪ 46‬ق‪.‬م‬
‫حزي ًنا كان‪ ،‬ال بد �أن يحزن‪ ،‬كان ملوت كاتو �أثر بالغ عليه بكل ت�أكيد‪،‬‬
‫كاتو وبالرغم من كل �شيء كان عمه‪ ،‬ووالد زوجته بور�شيا‪ ،‬ملاذا فعل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قي�صر هذا؟ ال بد �أن يكون هناك تف�سري للأمر‪ ،‬عندما عرفت بور�شيا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بالأمر ظلت تبكي‪ ،‬احت�ضنها بحنان وحاول �أن يهون عليها الأمر بقدر‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الإمكان‪ ،‬كان حزنه حمفو ًفا بالغ�ضب‪ ،‬وكان كا�سيو�س يف زيارة له يف بيته‪،‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫دخل عليه وجل�س‪ ،‬ف�س�أل‪:‬‬
‫‪�--‬أي بروتو�س‪ ،‬كيف حالك يا �صديقي؟‬
‫قال بروتو�س‪� :‬أنا بخري‪.‬‬
‫ف�س�أل كا�سيو�س جمددًا‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا مل تعد حت�ضر اجلل�سات يف املجل�س؟‬
‫قال بروتو�س‪ :‬ل�ست يف مزاج ي�سمح بهذا‪.‬‬
‫‪--‬وما الذي يخرث مزاجك؟‬
‫تنهد بروتو�س و�أخرجها مع زفريه‪:‬‬
‫‪--‬ال �شيء يا كا�سيو�س‪.‬‬
‫‪�--‬أنت تكذب يا بروتو�س‪ ،‬بل هناك كل �شيء يا �صديقي العزيز‪.‬‬
‫‪�--‬إذن ماذا هناك؟‬
‫‪313‬‬
‫قال كا�سيو�س بعد حلظة �صمت‪:‬‬
‫‪--‬يف املجل�س‪ ،‬يهم�سون با�سمك كث ًريا‪.‬‬
‫�صمت بروتو�س لي�ستوعب كلمات كا�سيو�س غري امل�ألوفة فا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬حتى �إنني ال �أنام الليل قل ًقا على ا�سمك و�شرفك‪.‬‬
‫‪--‬ومن الذي يخو�ض يف �شريف يا كا�سيو�س؟‬
‫‪--‬لقد بذلت ق�صارى جهدي لأرفع عنك التهم و�أقنع كل من يخو�ضون‬
‫فيك �أنك رجل �شريف‪ ،‬ولن تفعل �شي ًئا �س ِّي ًئا �إىل هذا احلد‪ ،‬و�إن كنت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حتب قي�صر‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬عن ماذا تتحدث يا كا�سيو�س؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قال كا�سيو�س‪ :‬عمك كاتو‪� ،‬أمل تقل �إن قي�صر لن يقتله؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬بلى‪.‬‬
‫‪�--‬إذن ملاذا مات؟ كل الرجال يقولون �إنك تواط�أتَ مع يوليو�س قي�صر‬
‫ليقتل عمك ووالد زوجتك بور�شيا‪.‬‬
‫قال بروتو�س بع�صبية‪:‬‬
‫‪--‬عمي مات م�ستنز ًفا ب�سيفه!‪ ...‬لقد اختار لنف�سه‪.‬‬
‫‪--‬ومن الذي �أر�سل �إليه القوات وهزمه يف �أوتيكا؟ كاتو ف�ضل �أن ميوت‬
‫ب�شرف �سيفه على �أن ميوت على يد ال�شر‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر مل يقتل كاتو‪.‬‬
‫�أردف كا�سيو�س بعد حلظة من ال�صمت‪:‬‬
‫‪--‬على من تكذب يا بروتو�س؟ ال تخدع نف�سك‪� ،‬أحيا ًنا �أفكر وعقلي يثور‬
‫ال �إراد ًّيا‪ ،‬هل تواط�أتَ بالفعل مع قي�صر لقتل عمك كاتو؟‬
‫‪�--‬أق�سم بالآلهة كلها مل يحدث‪ ،‬كنت �أحب عمي كاتو‪.‬‬
‫‪314‬‬
‫�صاح كا�سيو�س يف غ�ضب‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ملاذا وال�ؤك �أعمى؟‬
‫‪--‬والئي لي�س �أعمى يا كا�سيو�س‪.‬‬
‫‪--‬بل �أعمى يا بروتو�س‪ ،‬ووال�ؤك الأعمى �سبب يف حماقتك‪.‬‬
‫‪--‬ل�ست �أحمق يا كا�سيو�س‪.‬‬
‫هد�أت نربات كا�سيو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬يا ل�شقائك العظيم يا بروتو�س‪ ،‬وب�ؤ�سك الذي ال ينتهي‪ .‬ماذا فعلت‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بنف�سك؟ وبا�سم عائلتك؟ لقد خنت كل �شيء تعي�ش من �أجله‪ ،‬خنت‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫عمك كاتو‪ ،‬خنت زوجتك بور�شيا‪ ،‬وخنت روما‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�صمت بروتو�س بحزن �شديد‪ ،‬فقال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬سيعود �إىل روما غدً ا مع زوجته اجلديدة‪ ،‬والتي حتمل دما ًء غري‬
‫رومانية‪ ،‬هي �ساحرة من �ساحرات ال�شرق‪� ،‬ألقت ال�سحر يف قلبه ويف‬
‫عينه‪ ،‬ماذا �سوف تفعل؟‬
‫قال بروتو�س‪� :‬أعطيك تعهدي‪� ،‬سوف �أعار�ضه يف املجل�س‪.‬‬
‫�ضحك كا�سيو�س وقال با�ستهزاء‪:‬‬
‫‪�--‬سوف تعار�ضه؟ ح ًّقا‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪.‬‬
‫‪--‬على ماذا؟ على غزو الغال؟ �أم على قتل بومبايو�س ماجنو�س؟ �أم على‬
‫قتل عمك كاتو؟ انتظر حلظة‪� ،‬أم على الزواج غري ال�شرعي وغري‬
‫القانوين من �ساحرة م�صرية؟ �أخربين على ماذا حتديدً ا �سوف‬
‫تعار�ضه‪ ،‬لقد ك�سر قي�صر كل القوانني الرومانية؛ طرد �أ�شقاءنا من‬
‫روما‪ ،‬و�سوف يطلب التاج‪ ،‬ليكون الطاغية اجلديد‪.‬‬
‫‪315‬‬
‫ثم �صاح‪ :‬ملاذا �أنت لني ورعديد يف الدفاع عن مبادئك؟‬
‫قال بروتو�س يف دفاع عن نف�سه‪:‬‬
‫‪--‬ل�ست �أنا برعديد يا كا�سيو�س‪ .‬ولكن قل يل هل لديك برهان على �أن‬
‫قي�صر �سيطلب التاج يا كا�سيو�س؟‬
‫‪--‬غدً ا يا بروتو�س �سوف يت�ضح لك �أ ُّينا البادئ بالعدوان‪� ،‬سيت�ضح لك‬
‫وجه قي�صر احلقيقي‪� ،‬سوف ن�ستقبله غدً ا هو وملكته اللعينة‪ ،‬فلتكن‬
‫حا�ض ًرا‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تن�س �أنه قد عفا عن حياتنا‪.‬‬
‫قال بروتو�س‪ :‬ال َ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫‪--‬الأهم �أال َ‬

‫ل‬
‫تن�س �أنت من �أخذ حياة كاتو وبومبايو�س‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫‪--‬هل �أنت حزين على عمك كاتو يا بروتو�س؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬وهل �ستكتفي بال�صالة والدعاء؟ عليك �أن ت�أخذ �إجراء‪.‬‬
‫‪--‬ماذا تق�صد؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أ�سالفنا �أخرجوا امللوك والأباطرة من روما يف وقت ما‪ ،‬و�أنت يا‬
‫بروتو�س حتمل تلك الدماء العريقة بني عروقك‪ ،‬فكر يف الأمر‪ ،‬وال‬
‫تكن عبدً ا لقي�صر‪.‬‬
‫�صاح بغ�ضب‪:‬‬
‫‪--‬ل�ست عبدً ا لأحد‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫قال كا�سيو�س بنربات هادئة‪:‬‬
‫‪�--‬إنها الأفكار يا �صديقي بروتو�س‪� ،‬إنها الأفكار‪ ،‬الأفكار عندما تدخل‬
‫ً‬
‫عقل ما ي�ستحيل �إخراجها جمددًا‪ ،‬وي�ستحيل �أن ُت�ستبدل بها �أفكار‬
‫�أخرى‪ ،‬ما يقولونه عنك‪ ،‬الأفكار التي تدور حولك يف املجل�س لي�ست‬
‫�أفكا ًرا تفخر بها يا �صديقي‪ ،‬فكر يا بروتو�س‪ ،‬فكر وعليك باحل�ضور‬
‫غدً ا ال�ستقبال �صديقك قي�صر‪.‬‬
‫قالها ورحل وترك بروتو�س يف جحيم ال يكاد يهد�أ‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يف اليوم التايل �ضربت الطبول بهدير هز ال�صدور وارتفعت الأبواق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫العالية‪ ،‬جتمعت اجلماهري الغفرية يف ال�ساحات لي�شاهدوا تلك امللكة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ال�شرقية الأ�سطورية‪ ،‬تلك التي كبلت يوليو�س قي�صر بتعويذة �سحرية‬

‫والتوز عي‬
‫ممزوجا بال�سحر القدمي‪ ،‬كانت جميلة وهي حممولة‬ ‫ً‬ ‫وجعلته يتجرع احلب‬
‫على حمفة مت َّوجة بالتاج املزدوج للفراعنة‪ ،‬وبني يديها كان قي�صرون‪ ،‬بال‬
‫�شك كانت مالحمه هي مالمح قي�صرية نبيلة‪ ،‬و�أمام املحفة تقدم قي�صر‬
‫على عربته يرفع يده يف حتية للعامة وال�شعب‪ ،‬اقرتب من املجل�س وتوقف‬
‫موكبه‪ ،‬ترجل من العربة ومن ورائه كليوباترا وبني يديها قي�صرون‪،‬‬
‫واجته �إىل ال�سلم العايل للمجل�س‪ ،‬وعن اليمني كانت واقفة �آ ْت َيا وبجوارها‬
‫�أوكتافيو�س و�أوكتافيا‪ ،‬وعن ال�شمال مارك �أنتوين‪ ،‬بغري �إرادة منه بحثت‬
‫عيناه عنها‪� ،‬إنها بالت�أكيد مل حت�ضر‪� ،‬إن كالبورنيا امر�أة ح�سا�سة و�سوف‬
‫تتخذ الأمر ك�إهانة لها‪� ،‬صعد يوليو�س قي�صر وكليوباترا �سالمل املجل�س‪،‬‬
‫نظرت كليوباترا �إىل �آ ْت َيا وبجوارها الطفالن‪ ،‬جحدها �أوكتافيو�س‬
‫ال�صغري بنظرات حادة وغري مريحة‪ ،‬جتاهلت نظراته الغريبة‪ ،‬ووقف‬
‫يوليو�س قي�صر �أعلى ال�سلم العايل وبجواره كليوباترا‪ ،‬ارتفع الهتاف من‬
‫اجلماهري املتجمعة‪ ،‬رمقت كليوباترا اجلماهري الهاتفة ب�شغف‪� ،‬أ�شار‬
‫‪317‬‬
‫قي�صر �إىل �أحد احلرا�س‪ ،‬فنفخ يف البوق نفخة طويلة وعظيمة‪ ،‬ف�صمت‬
‫النا�س و�صمتت الأ�صوات‪ ،‬وقال قي�صر ب�صوته العايل‪:‬‬
‫بعادي‪ ،‬اليوم قد دخل �أر�ض‬ ‫ٍّ‬ ‫‪--‬يا �شعبي احلبيب‪ ،‬اليوم حدث لي�س‬
‫روما ولد يحمل بني دمائه �أعظم احل�ضارات‪ ،‬دما ًء رومانية ودما ًء‬
‫�إغريقية ودما ًء م�صرية‪� ،‬أبوه هو ابن فينو�س‪ ،‬و�أمه هي ابنة �إيزي�س‪.‬‬
‫وتناول الطفل من يد كليوباترا ورفعه �إىل �أعلى و�صاح‪:‬‬
‫‪�--‬إنه ابني‪ ،‬قي�صرون‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ارتفعت الهتافات بني النا�س‪ ،‬و�أمام معبد فينو�س كان هناك متثاالن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مغطيان‪ ،‬اقرتب منهما احلرا�س ونزعوا الغطاء‪ ،‬كان متثال لقي�صر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫فوق ر�أ�سه التاج وبجواره متثال لكليوباترا وحتمل بني ذراعيها ابنهما‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫قي�صرون‪ ،‬كانت التماثيل من اجلرانيت وتلمع حتت �شعاع ال�شم�س‪ ،‬ارتفع‬
‫هتاف النا�س‪« :‬يحيا قي�صر‪».‬‬
‫اقرتب منه مارك �أنتوين وبني يديه و�سادة وفوقها ُو�ضع التاج‪ ،‬قال‬
‫قي�صر �إىل ال�شعب‪:‬‬
‫‪--‬كما قلت لكم يا �شعبي العزيز �أنا ال �أحتاج �إىل تاج لأحكم روما‪،‬‬
‫�أنا فقط �أحتاجكم �أنتم‪� ،‬أنتم تاجي امللكي وعر�شي الذي �أحكم من‬
‫خالله‪.‬‬
‫�سمع كلمات اال�ستياء من احل�شود املتجمعة‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ولكني �س�أتقبله منكم‪ ،‬ولكن لي�س يل‪ ،‬ولكن تكر ًميا البني قي�صرون‪.‬‬
‫تناول قي�صر التاج وو�ضعه فوق ر�أ�سه ابنه قي�صرون‪ ،‬و�صاحت احل�شود‬
‫جمددًا‪:‬‬
‫‪--‬يحيا قي�صر‪.‬‬
‫‪318‬‬
‫ومن بني اجلموع الغفرية‪ ،‬يف زاوية هادئة كان بروتو�س وكا�سيو�س‬
‫قليل‪ ،‬وظل �صامتًا بع�ض‬ ‫يراقبان ما يحدث‪ ،‬كان الأمر مباغتًا لربوتو�س ً‬
‫الوقت لي�ستوعب ما حدث �أمام عينيه‪ ،‬هو الآن يعني امر�أة غريبة كامللكة‬
‫على روما‪ ،‬قاطع �صمته كا�سيو�س عندما نطق‪:‬‬
‫‪�--‬أر�أيت؟ هذا ما كنت �أحاول قوله لك يا بروتو�س‪ ،‬لكنك ال ت�ستمع‪.‬‬
‫مل ينطق بروتو�س ولو بكلمة‪ ،‬فا�ستطرد كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ر�أيت كيف قدم ابنه و�ألب�سه التاج كما ي�سلم امللك التاج البنه‪ .‬انظر‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لذلك التمثال الآن‪ ،‬انظر فوق ر�أ�س قي�صر‪ ،‬انظر �إىل ذلك التاج‪ ،‬ما‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫معنى هذا بحق جوبيرت؟ هل له مع ًنى �آخر مل �أفطن له غري املعنى‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املعروف‪ ،‬ها بروتو�س؟‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫مل يجب بروتو�س واكتفى بال�صمت‪ ،‬ف�أكمل كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬العامل غابة يا بروتو�س‪� ،‬إىل متى �سوف تظل على احلياد؟ بني �ضوء‬
‫احلقيقة ال�ساطع و�سدمي ال�شك املتقطع؟ يتخللك ال�ضعف‪ ،‬غري‬
‫منظم من الداخل‪� ،‬أَ ِفق يا بروتو�س‪� ،‬أَ ِفق وخذ قرا ًرا كالرجال‪ ،‬كما‬
‫فعل العظماء من قبلك‪ ،‬كما فعل �أ�سالفك على مر القرون‪.‬‬
‫�صمت بروتو�س م�شدوهً ا للحظات‪ ،‬ويف حلظة مباغتة قال‪:‬‬
‫‪�--‬أنا معك يا كا�سيو�س‪.‬‬
‫ابت�سم كا�سيو�س وقب�ض على يد بروتو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬علينا التحرك �سري ًعا‪.‬‬
‫وعندما انتهى االحتفال‪ ،‬ا�ستقرت كليوباترا يف ق�صر فاخر يقع على‬
‫خ�صو�صا‪،‬‬
‫ً‬ ‫نهر التيرب‪ ،‬حمفوف باحلدائق والأ�شجار‪ ،‬مت ت�شيده لكليوباترا‬
‫بنا ًء على �أوامر يوليو�س قي�صر‪ ،‬وقف قي�صر عند ال�شرفة التي طلت على‬
‫‪319‬‬
‫التيرب وبجواره �أوكتافيو�س‪� ،‬سمع �أوكتافيو�س الكثري عن كليوباترا‪� ،‬إنها‬
‫ذكية وملكة متعجرفة جتل�س على عر�ش من ذهب‪ ،‬ينحني لها اجلميع‬
‫ك�أنها �إله‪ ،‬ولكن ما يراه �أمامه الآن �شيء خمتلف عما �سمعه‪ ،‬جمرد امر�أة‬
‫جميلة‪ ،‬وك�أي امر�أة جميلة حتارب بهذا ال�سالح القاتل‪� ،‬سالح احلب‬
‫واجلمال‪ ،‬وقي�صر مثل كل الرجال‪ ،‬ين�صاع للجمال‪ ،‬وت�سيطر عليه �أحيا ًنا‬
‫غريزته احليوانية‪ ،‬رمبا يتخلل هذه العالقة الكثري من املعاين ال�سيا�سية‪،‬‬
‫أي�ضا يتخللها عاطفة بني كل من قي�صر وكليوباترا‪،‬‬ ‫ولكن ال ينكر �أبدً ا �أنها � ً‬
‫التفت قي�صر �إىل كليوباترا وقال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪--‬ما ر�أيك يف الق�صر؟‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قالت كليوباترا‪� :‬إنه رائع‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪�--‬أوكتافيان‪ .‬ما ر�أيك؟‬

‫ع‬ ‫ابت�سم �أوكتافيان وقال‪:‬‬


‫‪�--‬إنه جميل ويليق بجمال كليوباترا‪.‬‬
‫�أردفت كليوباترا‪� :‬شك ًرا لك �أيها ال�صغري‪.‬‬
‫قال قي�صر‪� :‬أوكتافيان فتًى رائع‪ ،‬ذكي �إىل �أبعد احلدود‪ ،‬له عقل‬
‫عظيم وحكمة غريبة ال ميتلكها �أقرانه‪ ،‬و�أثق يف يوم من الأيام �أنه �سيكون‬
‫يف من�صب رائع‪.‬‬
‫يف تلك اللحظة‪ ،‬دخل حار�س وانحنى‪:‬‬
‫‪�--‬سيدي قي�صر‪ ،‬لقد ح�ضرت القوات التي �أمرت لها �أن حت�ضر‪.‬‬
‫‪�--‬أنا قادم‪ ،‬فقط حلظات‪.‬‬
‫غادر احلار�س‪ ،‬فالتفت قي�صر �إىل كليوباترا وقال‪:‬‬

‫‪320‬‬
‫‪--‬تلك القوات �ستكون حتت �أمرك‪ ،‬و�س َيفْدونك بروحهم �إذا تطلب‬
‫الأمر‪� ،‬إنهم رجال حاربوا معي ل�سنوات طويلة يف الغال‪.‬‬
‫اقرتبت منه كليوباترا وقالت يف امتنان‪:‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫خرج قي�صر ليقابل قواته التي ح�ضرت �أمام الق�صر‪ ،‬مرت حلظات‬
‫تبادل فيها �أوكتافيو�س النظرات مع كليوباترا‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪--‬كم عمرك يا �أوكتافيو�س؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫فقال �أوكتافيو�س‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪--‬خم�سة ع�شر ً‬

‫ش‬
‫عاما‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫‪--‬عندما كنا يف االحتفال‪ ،‬كنت تنظر يل نظرات ال �أفهمها حتى الآن‪،‬‬
‫ولكن ما هو م�ؤكد �أنها مل تكن نظرات حتمل املحبة‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬لي�س ح ًّبا‪ ،‬نعم‪ ،‬ولي�س كرهً ا � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬ولي�س �شي ًئا �شخ�ص ًّيا بيني وبينك‪،‬‬
‫�أنا فقط ال �أ�ست�سيغك‪.‬‬
‫تفاج�أت كليوباترا من �صراحته املفرطة‪ ،‬فقالت‪ :‬ملاذا؟‬
‫‪�--‬أخربتك‪ ،‬لي�س هناك �أمر �شخ�صي‪ ،‬ولكن الأمر �سيا�سي بحت‪.‬‬
‫ت�ساءلت‪ :‬لقد و�صفتني باجلمال منذ قليل‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك هي احلقيقة‪� ،‬أنت جميلة‪ ،‬ولكن لي�س للجمال عالقة‬
‫تزوجت ً‬
‫رجل‬ ‫ِ‬ ‫بال�سيا�سة‪ ،‬و�آمل �أن يكون ذكا�ؤك بقدر جمالك‪� ،‬أنت الآن‬
‫�سيا�س ًّيا رومان ًّيا‪ ،‬و�ستقابلني الكثري من العوائق لتت�أقلمي مع جمتمع‬
‫قانوين‪ ،‬دينه هو القانون‪.‬‬
‫‪321‬‬
‫‪--‬ملاذا تقول هذا؟‬
‫‪--‬لأن قي�صر الآن ك�سر كل القوانني من �أجلك‪ ،‬تزوج غريبة بدماء غري‬
‫طفل‪ ،‬يف عني قانون روما هو جمرد نغل‪.‬‬ ‫رومانية و�أجنب منها ً‬
‫‪--‬قي�صر الآن يحكم روما‪.‬‬
‫‪--‬رمبا‪ ،‬لكن دعيني �أخربك �شي ًئا عن روما لن تفهميه لأنك ل�ست‬
‫رومانية‪ ،‬قي�صر وبالرغم من حبه ال�شديد لك والبنه قي�صرون يعلم‬
‫�أنه لي�س بوريث حقيقي‪� .‬إنْ َح َك َم قي�صر روما بالفعل‪ ،‬فلن ي�ستطيع‬
‫قي�صرون �أن يحكم بعده لأن دماءه لي�ست دما ًء رومانية نقية‪ ،‬وتلك‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫القوانني يف روما مقد�سة‪ ،‬لن ي�سمح العامة والنبالء بك�سرها على‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫حد �سواء‪ ،‬حتى قي�صر نف�سه لن يجر�ؤ على ك�سرها‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�سكتت كليوباترا وهي ترمق �أوكتافيان بنظرات متل�ؤها احلرية‪ ،‬ال‬

‫ع‬
‫تعرف كيف ميتاز ذلك الفتى بتلك الف�صاحة يف تلك ال�سن ال�صغرية‪،‬‬
‫«�ست» ال�شرير‪،‬‬
‫وجهه وديع كاملالئكة ولكن كلماته مقلقة كعا�صفة للإله ّ‬
‫ظلت تفكر فيها لوقت طويل‪ ،‬رمبا كان حم ًّقا‪ ،‬ورمبا ال‪ ،‬ولكن �إىل الآن‬
‫الأمور حتت ال�سيطرة‪.‬‬

‫بعد يومني‪.‬‬
‫�أقل ما يقال عنها‪ ،‬لقد غري وجهها طعم الدموع‪ ،‬تلك لي�ست كالبورنيا‬
‫�أبدً ا‪ ،‬هي �شيء �آخر‪� ،‬أي �شيء �آخر ممكن �أن تكون ولكن لي�ست كالبورنيا‬
‫بالت�أكيد؛ عاب�سة‪ ،‬حزينة‪ ،‬عيناها متوردتان حمراوان‪ ،‬منهزمة‪ ،‬تلك التي‬
‫كانت ال تفارق االبت�سامة وجهها منذ رجوع قي�صر من الغال‪ ،‬باتت �أكرث‬
‫النا�س تعا�سة‪ ،‬بال �شك‪ ،‬كيف وال؟ انتظرت �سنني ً‬
‫طوال والآن قي�صر يف‬

‫‪322‬‬
‫�أح�ضان ع�شيقته اجلديدة‪ ،‬فهي �أجمل منها‪ ،‬و�سيا�سية �أكرث منها‪ ،‬وملكة‪،‬‬
‫وفوق كل هذا �أح�ضرت له الوريث‪ ،‬كان ي�صعب عليها �أن تدخل يف تلك‬
‫املقارنة‪ ،‬لأنها بالت�أكيد �سوف تخ�سر بجدارة‪ ،‬ولي�س لها �أدنى فر�صة للربح‬
‫يف رهان حم�سوم النتائج‪ ،‬على الأقل �سوف تتوارى عن الأنظار‪ ،‬فالأنظار‬
‫�أطراف مدببة كالإبر احلادة تخرتق اجللد والروح بال ا�ستئذان‪.‬‬
‫ت�سرب ال�صوت �إىل �آذانها‪ ،‬ال�صوت يقرتب‪ ،‬هي تعرف �صوته بكل‬
‫ت�أكيد‪ ،‬جل�ست حتت تلك ال�شجرة العتيقة التي بد�أ عندها كل �شيء‪ ،‬ك�أنها‬

‫ع‬
‫تهرب‪ ،‬ال تريد �أن تراه‪ ،‬هي حتبه ب�شدة‪ ،‬بل و�أكرث من �أي �شيء �آخر‪ ،‬لكن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هي الآن غا�ضبة‪ ،‬متجهمة‪ ،‬حزينة‪ ،‬جمروحة‪� ،‬أكلت الوحدة ف�ؤادها حتى‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫فارغا‪ ،‬اقرتبت �أ�صوات وقع الأقدام على‬ ‫ت�آكل ومل يبقَ منه �شيء‪ ،‬و�أ�صبح ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫الأر�ض �أكرث‪ ،‬وبعد حلظة دخل قي�صر‪ ،‬كانت متلهفة تريد �أن ترك�ض نحوه‬
‫وحتت�ضنه ب�شدة‪ ،‬لكن هناك �شي ًئا ما منعها من فعل ذلك‪ ،‬حاجزً ا خف ًّيا‬
‫منعها من فعل ما تتمنى‪ ،‬اقرتب منها قي�صر وقال مبت�س ًما‪:‬‬
‫‪--‬متنيت مقابلة دافئة �أكرث من هذه‪.‬‬
‫ومبالمح �صارمة ومتجهمة‪ ،‬عاب�سة‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪--‬ال تتحدث معي‪.‬‬
‫‪�--‬أمل ت�شتاقي يل بعد كل هذه ال�سنوات؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ال �أ�شتاق لك‪.‬‬
‫جل�س قي�صر بجوارها و�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أعلم �أنك حزينة‪ ،‬لكن �أق�سم لك �أن هذا الزواج‪ ،‬كان ً‬
‫زواجا �سيا�س ًّيا‪،‬‬
‫ال �أكرث‪.‬‬
‫قالت غا�ضبة‪:‬‬
‫‪323‬‬
‫‪ً --‬‬
‫زواجا �سيا�س ًّيا‪� .‬أنت تكذب يا قي�صر‪ ،‬لأول مرة منذ �أن تقابلنا‪ ،‬هل‬
‫احلب يجعل الرجال يكذبون؟‬
‫قال قي�صر‪:‬‬
‫‪--‬لطاملا كنت حمبة يا كالبورنيا‪ ،‬و�أنا ال �أريد �سوى هذا احلب منك‪.‬‬
‫‪--‬هل تريد مني التخلي عن كرامتي؟‬
‫‪�--‬أنا ال �أحبها يا كالبورنيا‪ ،‬هذا الزواج كان مل�صلحة روما‪.‬‬
‫‪�--‬أنت قا�سي القلب يا قي�صر‪ ،‬كيف لك �أن حت�ضرها معك �إىل روما؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صمت‪ ،‬فا�ستطردت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬يكفي لها �أنها قد وهبت لك ما عجزتُ عن وهبك �إياه‪ ،‬وري ًثا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫�ألقتها وبكت‪ ،‬بكت بال �صوت‪ ،‬كان �أني ًنا لي�س له معامل‪ ،‬كانت جمروحة‬

‫ع‬
‫يف كرامتها‪ ،‬ل�سنوات طويلة حاولت كالبورنيا �أن ت�أتي له بوريث‪ ،‬ولكن‬
‫لي�س هناك فائدة‪� ،‬ألقت النذور للآلهة وت�ضرعت ولكن الآلهة رف�ضت‬
‫�أن تعطيها ما �أعطته لكثري من الن�ساء‪ ،‬م�سح قي�صر دموعها ب�أنامله‬
‫واحت�ضنها بني ذراعيه بحنان وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أق�سم لك يا كالبورنيا �أنني ال �أحب غريك‪ ،‬ولو عاد بي الزمن �إىل‬
‫الوراء فل�سوف �أختارك �أنت جمددًا‪ ،‬ولو رجع بي �ألف مرة‪� ،‬سوف‬
‫تكونني خياري الوحيد‪.‬‬
‫قالت وهي تبكي‪:‬‬
‫‪�--‬أنت مل تعد قي�صر بعد الآن‪ ،‬متى هجرت �أهدافك ورك�ضت وراء‬
‫ال�شهوة وال�سلطة؟ ما �أراه �أمامي لي�س قي�صر الذي حارب وخا�ض يف‬
‫احلروب العديدة من �أجل �شعبه‪.‬‬
‫‪�--‬أنا قي�صر‪ ،‬فقط قي�صر‪.‬‬
‫‪324‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪�--‬أنت �أي �شيء �آخر‪ ،‬ولكنك ل�ست قي�صر الذي عرفته منذ زمن‪� ،‬أنت‬
‫الآن قي�صر امللك‪ ،‬زوج امللكة‪ ،‬وهذا قي�صر خمتلف‪.‬‬
‫‪�--‬أنا �أحبك يا كالبورنيا‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر كان يحبني‪� ،‬أما �أنت فال‪.‬‬
‫قالتها وطفقت تبكي وغادرت �إىل غرفتها‪ ،‬حيث ال يوجد قي�صر‪ ،‬حيث‬
‫ت�ستطيع �أن تبكي بحرية وت�صرخ كما ت�شاء‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫يف جوف الليل جتمعوا يف بيت بروتو�س‪ ،‬جمموعة من �شيوخ املجل�س‬

‫والتوز عي‬
‫وعلى ر�أ�سهم كا�سيو�س‪ ،‬والذي بذل ق�صارى جهده يف بث تلك الفكرة يف‬
‫بارعا يف زراعة الأفكار‪ ،‬اعرتت بروتو�س‬ ‫�أذهانهم‪ ،‬لطاملا كان كا�سيو�س ً‬
‫�سخونة يف كل ج�سده‪ ،‬هو مفزوع ال يكاد ي�صدق �أنه اقتنع بتلك الفكرة‬
‫هاج�سا وخو ًفا من تلك الأفكار التي َت َّلكت منه‬
‫ً‬ ‫املرعبة‪ ،‬وبثت يف عروقه‬
‫ك�أ�سد َت َّلك من فري�سته‪ ،‬قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬إليكم ما يجب �أن يحدث‪ ،‬علينا حترير اجلمهورية من براثن‬
‫اال�ستبداد والديكتاتورية‪ ،‬علينا التخل�ص من قي�صر‪ ،‬للأبد‪.‬‬
‫�سرت رعدة يف ج�سد بروتو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تقول يا كا�سيو�س؟‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬تلك هي الطريقة الوحيدة يا �صديقي بروتو�س‪ ،‬ذلك‬
‫املدعو قي�صر‪ ،‬هو عجوز متغطر�س‪ ،‬يريد �أن يكون �إمرباطو ًرا‪ ،‬هل‬
‫�سن�صمت على هذا الأمر؟ ونتخلى عن روما‪ ،‬هذا عار لن �أقبل به �أبدً ا‪.‬‬
‫‪325‬‬
‫قال �ألبينو�س‪:‬‬
‫‪--‬وماذا علينا �أن نفعل؟‬
‫قال كا�سيو�س‪:‬‬
‫التما�سا لدى‬
‫ً‬ ‫‪--‬لقد خططت للأمر جيدً ا‪ ،‬يف البداية �سيلتم�س �ألبينو�س‬
‫قي�صر يف عودة بوبليو�س �إىل روما من منفاه‪ ،‬وعند االقرتاب لأخذ‬
‫االلتما�س‪� ،‬سنقرتب جمي ًعا منه‪ ،‬و�ستكون �أول طعنة من ن�صلي �أنا‪.‬‬
‫كان قي�صر قد نفى الكثري من �شيوخ املجل�س عند دخوله �إىل روما‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وكان بوبليو�س �أحد ال�شيوخ املنفيني‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ثم ا�ستطرد‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪�--‬سيعطل بع�ض الأ�صدقاء مارك �أنتوين يف اخلارج‪ ،‬كل خنجر يجب‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�أن يخرتق ج�سد قي�صر مرة واحدة‪ ،‬يجب علينا �أن ننهال عليه‬
‫بالطعنات على حني غرة‪ ،‬لكيال يتم توجيه االتهامات لأحد وت�ضيع‬
‫دما�ؤه بني اخلناجر املتفرقة‪.‬‬
‫قال بروتو�س ب�صوت يرتع�ش‪:‬‬
‫‪--‬و�إن ف�شل الأمر؟‬
‫‪--‬ال يجب �أن يف�شل‪ ،‬ولكن �إن ف�شل‪ ،‬ف�أنا �أف�ضل �أن �أموت بخنجري‬
‫ولي�س بال�صلب �أو تعليق ر�أ�سي على خازوق‪.‬‬
‫�صباحا �أمام املجل�س‪ ،‬واجته‬
‫ً‬ ‫و�صمتوا جمي ًعا‪ ،‬واتفقوا �أن يتقابلوا‬
‫بروتو�س �إىل �صندوق مزخرف على املن�ضدة‪ ،‬وب�أنامل ترتع�ش فتح‬
‫ال�صندوق و�أخرج منه اخلنجر‪ ،‬ذلك اخلنجر الذي ح�صل عليه منذ وقت‬
‫طويل‪ ،‬و�سيعود الآن �إىل �صاحبه‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫‪ 15‬مار�س ‪ 44‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫قالت كالبورنيا منا�شدة‪�« :‬أرجوك‪ ،‬ال تذهب اليوم �إىل املجل�س‪».‬‬
‫كان يوليو�س قي�صر يف ق�صر كليوباترا‪ ،‬جاءت �إليه الهثة‪ ،‬طوال الليل‬
‫كانت حتلم بالكوابي�س الفظيعة عن موت قي�صر ميتة �شنيعة‪ .‬بالرغم من‬
‫غ�ضبها وبالرغم من كربيائها العظيم‪ ،‬ف�إنها قررت التخلي عن كل �شيء‪،‬‬
‫عن الكرامة والكربياء يف �سبيل قي�صر‪ ،‬قال قي�صر بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬كالبورنيا‪ ،‬هل �صفحت عني �أخ ًريا؟‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬لكن �أرجوك ال تذهب �إىل املجل�س اليوم‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫عقد حاجبيه و�س�أل‪ :‬ملاذا؟ ماذا هناك؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫‪--‬حلمت بك � ً‬
‫أحالما �سيئة الليلة املا�ضية‪.‬‬
‫�أطلق يوليو�س قي�صر �ضحكة قبل �أن يق ِّبل جبينها‪ ،‬احت�ضنها بعمق‬
‫وب�شدة �إىل �صدره‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪--‬عزيزتي كالبورنيا‪� ،‬أنت الوحيدة التي �أ�شعر بحبها من دون تكليف‪ ،‬ال‬
‫تقلقي يا حبيبتي‪ ،‬معي بروتو�س ومارك �أنتوين يف املجل�س‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪� :‬سوف نتقابل اليوم يف منزلنا‪ ،‬و�س�أخربك عن �أ�شياء‬
‫عديدة متنيت �أن �أخربك �إياها منذ زمن‪ ،‬و�س�أكتفي بقول �إنني �أحبك‬
‫ب�شدة‪� ،‬أحبك �أكرث من �أي �شيء �آخر يف هذه احلياة‪ ،‬ويف ذهني ال يوجد‬
‫غريك‪.‬‬
‫ابت�سمت ولكن ما زال القلق يخم�ش �صدرها مبخالب م�شحوذة‪ ،‬غادر‬
‫قي�صر على ر�أ�س موكبه‪ ،‬وعند و�صوله �إىل املجل�س جت َّمع حوله رهط من‬
‫ال�شعب‪ ،‬كانوا يهتفون با�سمه بال توقف‪ ،‬و�أمام باب املجل�س وقف املت�آمرون‬
‫يف انتظار قي�صر‪ ،‬حيا قي�صر ال�شعب‪ ،‬قبل �أن يدخل �إىل املجل�س‪ ،‬ومن‬
‫‪327‬‬
‫ورائه مارك �أنتوين‪ ،‬ولكن جمموعة من املت�آمرين �أوقفوه يف حماولة‬
‫لإ�شغاله‪ ،‬دلف قي�صر �إىل �أر�ض املجل�س و�ألقى �إىل كا�سيو�س نظرة �شزراء‬
‫حتمل الغ�ضب ال�شديد للذي فعله بالقائد �ألك�سيو�س‪ ،‬جل�س قي�صر على‬
‫كر�سي القن�صل‪ ،‬وهتف اجلميع‪:‬‬
‫‪--‬يحيا قي�صر العظيم‪.‬‬
‫اقرتب �أحد ال�شيوخ و�سلم لقي�صر لفافة‪ ،‬فتح قي�صر اللفافة وقر�أ ما‬
‫فيها ثم قال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬قدم هذا االلتما�س كل من كا�سيو�س وبروتو�س و�ألبينو�س‪ ،‬ليقدموا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫اقرتبوا ثالثتهم‪ ،‬انحنى �ألبينو�س عند قدم قي�صر و�أردف يف رجاء‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬يا قي�صر العظيم‪� ،‬أطلب منك �أن متنح بوبليو�س �أخي الرحمة‪ ،‬و�أن‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫يعود �إىل روما من منفاه‪.‬‬
‫‪�--‬سوف �أنظر يف الأمر الح ًقا‪.‬‬
‫‪--‬ما الذي تنتظرونه؟ الآن‪.‬‬
‫�صرخ بها‪ ،‬ف�أخرج كا�سيو�س خنجره واندفع نحو قي�صر‪ ،‬غمد اخلنجر‬
‫يف �صدر قي�صر‪ ،‬ولي�س قي�صر بال ِغ ِّر الذي ي�سقط من ال�ضربة الأوىل‪،‬‬
‫انت�صب ودفع كا�سيو�س وحاول احلركة‪ ،‬تكالب عليه باقي املت�آمرين و�شكلوا‬
‫يوما‬
‫حوله دائرة‪ ،‬دائرة من الكالب اجلائعة‪ ،‬من اخلونة الذين �أ�سماهم ً‬
‫�أ�صدقاءه‪ ،‬انهال اجلميع على قي�صر بالطعنات‪� ،‬أكرث من خم�سة ع�شر‬
‫رجل يطعنون يف ج�سد قي�صر بال رحمة‪ ،‬وباقي �أع�ضاء املجل�س هاله‬ ‫ً‬
‫رك�ضا من املجل�س‪ ،‬ت�سربت الدماء حتت �أقدامهم بال‬ ‫الأمر وطفق يخرج ً‬
‫ا�ستئذان‪ ،‬وقي�صر ما زال يتلقى الطعنات الغادرة‪ ،‬يف �صدره ورقبته ووجهه‬
‫أر�ضا يتلوى �أ�سفل متثال �صاحبه احلقيقي‪،‬‬ ‫وقدمه‪ ،‬وبعد دقيقة �سقط � ً‬
‫بومباي ماجنو�س‪ ،‬متزقت مالب�سه البي�ضاء وا�ستحالت حمراء من دمائه‬
‫‪328‬‬
‫املتدفقة‪ ،‬وج�سده لي�س فيه مو�ضع �شرب لي�س به طعنة‪ ،‬ت�سربت الدماء من‬
‫مذهول‪ ،‬غري م�صدق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كل �أع�ضائه بغزارة وبال توقف‪ ،‬ووقف بروتو�س‬
‫متعر ًقا‪ ،‬مذبذ ًبا‪ ،‬م�شتتًا‪ ،‬هرب جميع القتلة �إال بروتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬ظل‬
‫ً‬
‫م�شلول واق ًفا يرمق قي�صر الذي يتلوى � ً‬
‫أر�ضا‪ ،‬قال كا�سيو�س يف �أذنه‪:‬‬
‫‪--‬هيا‪ ،‬حرر روما �إىل الأبد‪.‬‬
‫اقرتب بروتو�س ب�أقدام ترف�ض �أن تن�صاع للأوامر‪ ،‬انحنى �إىل قي�صر‬
‫املتخبط يف دمائه‪ ،‬اقرتب منه‪ ،‬رمقه قي�صر وهم�س‪« :‬بروتو�س‪ ،‬النجدة‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تردد للحظة ترتع�ش فيها يداه‪� ،‬أنامله‪ ،‬جل �أع�ضائه‪ ،‬رمق قي�صر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫اخلنجر يف يده للحظة �أخرى ونظر يف عينيه مرة �أخرى‪ ،‬مل يكن لقي�صر‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أن يبكي �أبدً ا مهما حدث‪ ،‬لكنه بكى وللمرة الأوىل‪ ،‬ويحاول جاهدً ا �أن‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫يرفع يده ليلم�س وجنتَي بروتو�س‪ ،‬كان يريد �أن يتحدث‪� ،‬أن ي�صرخ‪ ،‬لكن‬
‫ل�سانه ي�أبى التحرك‪ ،‬كانت الدموع تنهال من عي َني يوليو�س قي�صر ك�أنها‬
‫قطرات من النريان على ج�سد بروتو�س‪.‬‬
‫�صاح كا�سيو�س‪ :‬هيا‪ ،‬لي�س هناك وقت‪.‬‬
‫وبعد حلظة �أخرى ا�ستجمع فيها بروتو�س �شجاعته وغمد اخلنجر يف‬
‫�صدر قي�صر‪ ،‬ذلك اخلنجر الذي طعن املودة الأبدية‪ ،‬بد�أ ج�سد قي�صر‬
‫بالت�شنج‪ ،‬وب�آخر ما �أوتي من قوة رفع يده وهي تهتز وترتع�ش‪ ،‬و�أم�سك‬
‫ب�إزاره الطويل وحاول �أن يغطي وجهه‪ ،‬حتى ال يراه �أحد يبكي لأول مرة يف‬
‫حياته‪ ،‬ويف حلظة �سكن كل ج�سده‪ ،‬اختلطت الدماء بالدموع على وجهه‪،‬‬
‫وخرج القتلة واملت�آمرون ي�صرخون يف �شوارع روما‪:‬‬
‫‪«--‬لقد مات قي�صر‪ ،‬لقد مات الطاغية‪ ،‬لقد حتررت روما‪».‬‬

‫‪329‬‬
‫(‪)3‬‬
‫التحالف الأخري‬
‫(‪)1‬‬

‫‪ 44‬ق‪.‬م‬
‫روما‪...‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد اغتيال غايو�س يوليو�س قي�صر انت�شر الهرج واملرج يف املدينة‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫كانت كارثة بكل ما حتمل الكلمة من مع ًنى‪ ،‬مل يكن يتوقع �أحد هذا‪ ،‬يا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لل�سخرية! جمموعة من الكالب تقتل �أ�سدً ا يف عرينه‪� ،‬أ�صيب اجلميع‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بالذهول عند �سماع اخلرب الذي تطاير يف الأرجاء ب�سرعة مفزعة‪ ،‬ابن‬

‫ع‬
‫فينو�س حفيد �إينيا�س البطل قد مت اغتياله ب�شرا�سة وبال رحمة‪ ،‬باثنتني‬
‫وع�شرين طعنة غادرة اخرتقت ج�سده بال هوادة‪ ،‬يف الليل كان بهو‬
‫القاعة �أ�س َود ك�أنه حفرة من حفر اجلحيم ال�سبع‪ ،‬وبهدوء كاملياه الراكدة‬
‫ت�سلل �سكار مع جمموعة من �أن�صار قي�صر‪ ،‬كانت دما�ؤه على الأر�ض‬
‫متجلطة‪ ،‬عيناه مفتوحتني متل�ؤهما الكلمات والطموح‪ ،‬كان ي�أمل �أن يك ِّون‬
‫�إمرباطورية عظيمة كما فعلها �ألك�ساندرو�س �أوميكا�س‪ ،‬رمق �سكار جثته‬
‫وفا�ض الدمع من عينيه‪ ،‬كان يريد �أن يحت�ضنه‪� ،‬أن يقبله بني حاجبيه‬
‫ويتمتم يف �آذانه الن�صو�ص واملتون‪ ،‬حملوا ج�سده املليء بالطعنات وو�ضعوه‬
‫على عربة وبخطوات حذرة حتركوا به يف جوف الليل �إىل بيت زوجته‬
‫كالبورنيا‪.‬‬
‫يف النهاية مل يبقَ �شيء لها �إال الدماء والدموع‪ ،‬وب�أنامل ترتع�ش مل�ست‬
‫جبينه ووجنتيه‪ ،‬والدموع يف عينيها تنهمر بال ا�ستئذان‪ ،‬ظلت طوال‬
‫حياتها يف انتظاره‪ ،‬لكن الآن ي�ستحيل من انتظار حمفوف بالأمل �إىل نوع‬
‫‪332‬‬
‫�آخر من االنتظار‪ ،‬وهو انتظار بال حلظة �أمل‪ ،‬انتظار تعرف �أنه �سوف‬
‫يكون �سرمد ًّيا �إىل النهاية‪ ،‬هي لن تتزوج بعد قي�صر �أبدً ا‪ ،‬وبالرغم من‬
‫�أنها كانت �صغرية مل تبلغ العقد الثالث بعد‪ ،‬وجميلة كحوريات البحر‪،‬‬
‫ف�إنها �أق�سمت �أال يلم�سها رجل بعد قي�صر‪ ،‬و�سيكون عليها االنتظار للحياة‬
‫الأخرى‪ ،‬رمبا يكون بينهم لقاء �آخر وبال معيق �أو حزن هذه املرة‪.‬‬
‫هبطت �إىل جبينه وطبعت قبلة بني جبينه‪ ،‬قبله �أخرية‪ ،‬لآخر مرة‬
‫تتح�س�س فيها ب�شرة قي�صر ب�شفتيها الورديتني‪ ،‬ولآخر مرة تداعب‬
‫خ�صالته ب�أناملها‪ ،‬لقد وقع الأمر‪ ،‬وال فرار‪ ،‬هذا العذاب اجلارح‪ ،‬يف‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قلبها �صهوة ت�ستع�صي على الرتوي�ض‪ ،‬هذا القلب الذي بات معذ ًبا يف‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫كل الأوقات‪ ،‬معذ ًبا يف الفراق والهجر ويف القرب واللوعة‪� ،‬سيتحتم عليها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫عاما رمبا‪� ،‬أو �إن كان �أمر االنتظار مري ًرا على ف�ؤادها‪،‬‬ ‫االنتظار لثالثني ً‬

‫والتوز عي‬
‫فعليها �أن تنهي حياتها الآن‪ ،‬وبال تردد‪.‬‬
‫كان متهدج الأنفا�س يتعرق ك�أن مياه الأنهار ت�سري بني م�ساماته‪ ،‬تائ ًها‬
‫يف الال�شيء يرتع�ش ك�أنه طفل �صغري‪ ،‬حاول قتلة قي�صر الق�ضاء عليه‬
‫ولكنه ا�ستطاع �أن يلوذ بالفرار‪ ،‬ظل يرك�ض يف �شوارع املدينة بال هدف‪،‬‬
‫مفزوعا‪ ،‬خائ ًفا‪ ،‬يلفحه الندم وجلد الذات‪ ،‬لقد مات قي�صر‪� ،‬أعظم رجل‬ ‫ً‬
‫يف روما و�إمرباطور العامل اجلديد‪ ،‬كيف؟ كيف ا�ستطاعوا فعل هذا الأمر‬
‫ال�شنيع؟ كيف ميوت قي�صر وهو موجود؟ �سوف يق�ضي عليهم جمي ًعا‪،‬‬
‫كانت الأفكار ت�صدح يف ر�أ�سه بال توقف‪ ،‬ت�صيبه بالتعب و�أمل الر�أ�س‪،‬‬
‫اجته مارك �أنتوين �إىل بيت �آ ْت َيا بال تردد‪ ،‬بالت�أكيد �آل جويل يف خطر‬
‫عارما كالفي�ضان‪،‬‬ ‫الآن‪� ،‬س َّبب اغتيال قي�صر �صدمة لدى اجلميع‪ ،‬وحز ًنا ً‬
‫أر�ضا يرتع�ش‪ ،‬كان ملي ًئا بالعرق والتعب والأوجاع‪،‬‬ ‫دخل بيت �آ ْت َيا و�سقط � ً‬
‫حملته �آ ْت َيا وجاء اخلدم ب�إناء من املاء‪ ،‬غ�سل وجهه و�صب على ج�سده املاء‬
‫لعله يفيق من هذا الكابو�س املزعج‪ ،‬لكن‪ ،‬ال فائدة‪ ،‬قالت له �آ ْت َيا‪:‬‬
‫‪333‬‬
‫‪--‬اهد�أ‪ ،‬مارك �أنتوين‪.‬‬
‫مكتوما و�صاح‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫�صراخا‬ ‫�أطلق‬
‫‪--‬لقد قتلوه‪ ،‬قتلوا قي�صر يا �آ ْت َيا‪ ،‬عليهم لعنة الآلهة‪ ،‬بروتو�س اللعني‬
‫وكا�سيو�س‪ ،‬لن �أرحمهم �أبدً ا‪� ،‬س�أعلقهم على ال�صليب واحدً ا تلو‬
‫الآخر‪.‬‬
‫احت�ضنته �آ ْت َيا وقالت‪:‬‬
‫‪--‬اهد�أ‪ ،‬دعنا نفكر فيما �سوف نفعله‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫أم�س احلاجة �إىل عناق‪ ،‬ين�سيه هذا املنظر ال�شنيع الذي ر�آه‬ ‫كان يف � ِّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫يف �أر�ض املجل�س‪ ،‬كان اغتيال قي�صر له �أثر غريب يف نف�س �أوكتافيو�س‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ملاذا؟ لقد ملك قي�صر حب النا�س‪ ،‬العامة وبع�ض من دعم النبالء‪ ،‬كان‬

‫ع‬
‫رجل وقائدً ا منا�س ًبا ليكون مل ًكا وميلك كل املقومات ليكون �إمرباطو ًرا‪،‬‬ ‫ً‬
‫تلك امل�ؤامرة الدنيئة التي حيكت لقي�صر ووقع هو يف �شباكها ك�أنه ِغ ٌّر‪،‬‬
‫يبك‪ ،‬ومل تنهمر‬ ‫كيف لعقل مثل عقل قي�صر �أن يقع يف تلك املكيدة؟ مل ِ‬
‫من عينيه دمعة واحدة �س�أل �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬و�أين القتلة الآن؟‬
‫التقط مارك �أنتوين �أنفا�سه وقال‪:‬‬
‫‪--‬فروا عليهم اللعنة‪.‬‬
‫‪--‬وجثة قي�صر؟‬
‫‪--‬عند زوجته كالبورنيا‪ ،‬ذهب �سكار و�أح�ضرها من هناك‪.‬‬
‫نظرت �آ ْت َيا �إىل �أوكتافيو�س وقالت يف حدة‪:‬‬
‫‪--‬كفاك �إلقا ًء للأ�سئلة‪� ،‬أل�ست حزي ًنا على قي�صر؟‬
‫‪--‬لن ينفعنا احلزن الآن‪ ،‬علينا �أن نفكر ما اخلطوة التالية‪.‬‬
‫‪334‬‬
‫قال مارك �أنتوين بكلمات تخرج من حتت ال�ضرو�س ويف طياتها‬
‫الغ�ضب ال�شديد والدفني‪:‬‬
‫‪�--‬سوف �أذهب �إىل ال�شمال ول�سوف �أح�ضر ً‬
‫وحو�شا ت�أكل بني �أ�سنانها‬
‫حلوم بروتو�س وكا�سيو�س وتفتك بعظامهم‪ ،‬و�أق�سم �أنني �سوف‬
‫�أ�سلخهم واحدً ا تلو الآخر‪.‬‬
‫الأخذ بالث�أر هذا �شيء �أكيد‪ ،‬ولكن يف الوقت املنا�سب‪ ،‬هذا لي�س وقتًا‬
‫منا�س ًبا التخاذ قرار �أهوج ومت�سرع كهذا‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫علي الأوامر؟‬
‫قال يف غ�ضب‪ :‬هل جننت يا فتى‪ ،‬هل متلي َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪�--‬أعلم �أنك غا�ضب‪ ،‬وغ�ضبك نبيل‪ ،‬ولكن عليك بالرتيث‪ ،‬لقد مات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قي�صر‪ ،‬وقي�صر الآن يف عني ال�شعب �إله‪ ،‬عليه �أن يحظى مبرا�سم‬

‫والتوز عي‬
‫رثاء منا�سبة‪ ،‬على ال�شعب �أن يحزن على قي�صر كما تفعل �أنت الآن‪،‬‬
‫افعل هذا ثم ا�س َع وراء االنتقام كما ت�شاء‪ ،‬و�أنا معك يف هذا بكل‬
‫ت�أكيد‪.‬‬
‫قليل‪ ،‬كان الفتى حم ًّقا يف كل ما نطق به‪ ،‬على‬‫هد�أ ر َّوع مارك �أنتوين ً‬
‫قي�صر �أن يحظى مبرا�سم منا�سبة‪ ،‬و�أن ُترق جثته �أمام املجل�س الذي‬
‫قتل فيه ليكون ت�شريفه نكاية لأعدائه‪ ،‬على ال�شعب �أن يعرف �أن قي�صر‬
‫العظيم مات غد ًرا وفدا َء �شيءٍ �أعظم و�أكرب وهو روما‪ .‬كان ً‬
‫مت�سخا ومتع ًبا‪،‬‬
‫نقع نف�سه يف حو�ض املاء الدافئ‪ ،‬وال �شعور ًّيا تدفقت الدماء بني عروقه‬
‫برحابة‪ ،‬مل يكن هناك وقت لال�سرتخاء‪ ،‬خرج وارتدى مالب�س منا�سبة‬
‫واجته هو و�آ ْت َيا و�أوكتافيو�س و�أوكتافيا �إىل بيت كالبورنيا املكلل بالأحزان‪،‬‬
‫دخلوا وكانت كالبورنيا تبكي‪ ،‬مل جتف من عيونها الدموع‪ ،‬وكان قي�صر‬
‫على املن�ضدة‪ ،‬بال نب�ض‪ ،‬بال حراك‪ ،‬بال �أمل يف العودة‪ ،‬اقرتب مارك‬
‫�أنتوين منه‪ ،‬ورمقه بنظرة طويلة‪ ،‬ثم انكف�أ على ركبتيه وقال ببكاء مكتوم‪:‬‬
‫‪335‬‬
‫‪�--‬ساحمني �أيها القن�صل‪� ،‬ساحمني يا قي�صر‪ ،‬لو كنت موجودًا حينها‬
‫لكنت �س�أحميك بنف�سي وبكل ما �أملك من قوة‪ ،‬و�أُق�سم بجوبيرت‬
‫وجميع الآلهة �أنني ل�سوف �أحظى بث�أرك‪� ،‬سوف �أقتلهم جمي ًعا‬
‫ول�سوف �أعطيك الراحة الأبدية يف احلياة الأخرى‪.‬‬
‫اقرتبت �آ ْت َيا من جثة قي�صر واحت�ضنتها بحزن �آ�سر وبال كلمات‪،‬‬
‫وظل �أوكتافيان و�أوكتافيا يراقبان يف �صمت و�أ�ضواء ال�شموع ترتع�ش على‬
‫احلوائط‪ ،‬دخل �سكار عليهم‪ ،‬تنحنح فانتبه له اجلميع‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لقد مات اليوم �أعظم الرجال التي قد عرفتها ً‬
‫يوما‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬ثم �أخرج لفافة عليها ختم قي�صر وا�ستطرد‪:‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬وتلك و�صيته الأخرية‪ ،‬كتبها بخط يده قبل �أن يعرب الريبيكون‪.‬‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫انتاب اجلميع الف�ضول ملا حتتويه تلك الو�صية‪ ،‬فقال مارك �أنتوين‪:‬‬

‫ع‬ ‫‪--‬و�صية؟ مل �أعرف �أن قي�صر كتب �أي و�صية‪.‬‬


‫قال �سكار‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬مل يعلم ب�أمر تلك الو�صية �إال �أنا‪ ،‬كتبها قبل عبور الريبيكون‪،‬‬
‫وو�صاين قبل موته‪� ،‬إن هو قتل �أو مات �أن �أقر�أها على م�سامع ال�شعب‬
‫الروماين‪ ،‬ولكن من حقوقكم الآن �أن ت�سمعوها � ًأول قبل �أي �أحد‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬كلنا �آذان م�صغية‪.‬‬
‫ف�ض �سكار ختم اللفافة وفتحها و�شرع يف قراءتها ب�صوت وا�ضح وجلي‬
‫على م�سامع اجلميع‪:‬‬
‫‪--‬با�سم جوبيرت العظيم‪� ،‬إىل زوجتي العزيزة كالبورنيا �أعلم �أنك‬
‫انتظرت الكثري والكثري من الوقت لنكون م ًعا‪ ،‬ولكن لي�س هناك مع ًنى‬‫ِ‬
‫‪336‬‬
‫�أن �سكار يقر�أ هذه الكلمات على م�سامعك الآن �إال �أنني مت �أو قتلت‪،‬‬
‫�أعتذر لك على عمرك و�أيامك و�سنواتك التي قد ق�ضي ِتها يف االنتظار‪،‬‬
‫�أعلم �أن الأموال لن تعو�ضك عن �شيء �أبدً ا‪� ،‬إال �أنني �أكتب لك مائتي‬
‫تبقيك ثرية طوال حياتك‪ ،‬وباقي ثروتي وعقاراتي‬ ‫�ألف دينار �سوف ِ‬
‫وق�صوري وا�سمي �سوف تذهب �إىل ابني بالتبني غايو�س �أوكتافيو�س‬
‫قي�صر‪ ،‬هو فتًى ذكي و�أعلم يقي ًنا �أنه �سوف ي�صبح عظي ًما يف يوم من‬
‫الأيام‪ ،‬و�سوف يكمل ما بد�أته‪ ،‬والذي �سيعترب من الآن ابني ال�شرعي‪،‬‬
‫يحمل دمائي بني عروقه يرثني يف كل �أمالكي‪ ،‬و�أو�صيه الآن �أن يعطي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كل فرد من ال�شعب مائة دينار‪ ،‬وتلك هي و�صيتي وكلماتي الأخرية‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫غايو�س يوليو�س قي�صر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�ساد �صمت للحظات تبادلوا فيها جمي ًعا الأنظار‪ ،‬قال مارك �أنتوين‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪--‬هذا فقط؟‬
‫�أردف �سكار‪ :‬نعم‪� ،‬سيدي القن�صل‪.‬‬
‫كان مارك �أنتوين ينتظر �أن ُينطق ا�سمه يف و�صية قي�صر‪ ،‬لكن مل‬
‫تلميحا‪ ،‬كان يعتقد �أنه �إن كان الرجل الذي‬ ‫يحدث �شيء من هذا وال حتى ً‬
‫يلي قي�صر يف ال�سيا�سة‪� ،‬سيكون له ن�صي ًبا من ثروة قي�صر‪ ،‬ولكن �آماله‬
‫يبد لهم هذا‪.‬‬
‫منزعجا ولكن مل ِ‬
‫ً‬ ‫قد حتطمت بكلمات قي�صر الأخرية‪ ،‬وكان‬
‫�س�ألت �آ ْت َيا‪ :‬ما معنى هذا؟‬
‫�أجاب �سكار‪ :‬معنى هذا �أن �أوكتافيو�س ال�صغري �أ�صبح وريث قي�صر‬
‫ال�شرعي‪ ،‬يحق له الت�صرف يف كل �شيء كان ميتلكه قي�صر‪� ،‬أمواله‬
‫وعقاراته‪ ،‬وللأ�سف قد مت ترحيل فيالقه �إال من بع�ض الأحزاب القي�صرية‪،‬‬
‫واجلنود املوالني لقي�صر حتى النخاع‪ ،‬با�ستطاعته �أن يعطي لهم الأوامر‬
‫الآن‪.‬‬
‫‪337‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬ا�سمعني يا �سكار‪ ،‬هنالك بند يف الو�صية يقول فيه �إن كل مواطن‬
‫روماين �سوف يح�صل على مائة دينار‪� ،‬صحيح؟‬
‫‪�--‬صحيح‪� ،‬سيدي‪.‬‬
‫‪--‬علينا ت�أجيل هذا البند حلني �آخر‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا؟ �إنها و�صية قي�صر‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬إن هذا مبلغ طائل من الأموال‪� ،‬سوف تلقيه � ً‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫أر�ضا بال فائدة ُتذكر‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قي�صر‪،‬ل و�سي�صعب جتاهل هذا البند‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫�سكار‪:‬‬ ‫قال‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وزيع‬
‫مرا�سم‬ ‫يف‬ ‫‪�--‬س�أقر�أ الو�صية‬
‫نفعل‪.‬‬ ‫‪--‬هذا و�ضع م�ؤقت‪ ،‬حتى نعرف ماذا �سوف‬
‫قالت �آ ْت َيا‪:‬‬
‫‪--‬هل �سيح�صل �أوكتافيان على كل �شيء؟‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬لن يح�صل �أوكتافيان على �شيء‪.‬‬
‫تخرثت ابت�سامتها وقالت‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا؟ هذا حقه قانون ًّيا بوجود الو�صية‪.‬‬
‫‪--‬الو�صية عبارة عن ورقة وال قيمة لها طاملا املجل�س و�أتباع بروتو�س‬
‫وكا�سيو�س يحكمون املجل�س‪.‬‬
‫قال �سكار‪:‬‬
‫‪338‬‬
‫‪--‬هذا �صحيح‪� ،‬أعداء قي�صر يحكمون املجل�س الآن‪ ،‬بالرغم من‬
‫هروبهم ف�إنهم يحكمون املجل�س ببع�ض التابعني لهم‪.‬‬
‫�س�أل �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬وكيف �أ�ستطيع �أن �أرد �أموايل وحقوقي مرة �أخرى؟‬
‫‪--‬علينا �أن نعيد ال�سيطرة على املدينة و�أخذ الث�أر من بروتو�س‬
‫وكا�سيو�س‪ ،‬ثم نفكر كيف �سن�ستعيد �أموالك‪ ،‬ولهذا ال يجب �أن يعرف‬
‫ال�شعب ب�أمر البند يف الو�صية‪ ،‬ف�أنت لن ت�ستطيع �أن تعطي لل�شعب ما‬

‫ع‬
‫ال متلك‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�سمع �أوكتافيو�س كلمات مارك �أنتوين ومل ي�أمن له‪� ،‬شعر ب�شيء غريب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وغري مريح يف كلمات مارك �أنتوين‪ ،‬غري طبيعي وغري م�ألوف‪ ،‬و�صمت ومل‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫ً‬
‫م�ستقبل‪.‬‬ ‫يتحدث مرة �أخرى حتى يفكر جيدً ا فيما �سوف يفعله‬

‫من مكان ما بعيد الحت رايات ال�سفينة امللكية‪ ،‬تقرتب من املرافئ يف‬
‫�سرعة وعجالة غري مريحة‪ .‬خمرت ال�سفن ملرة �أخرية لت�صل �إىل الد�سكار‬
‫امللكي‪� ،‬شعرت بالراحة �أخ ًريا بعد رحلة مليئة بالقلق‪� .‬إن موت يوليو�س‬
‫قي�صر �سبب لها فاجعة غري متوقعة‪� ،‬أ�صابها الهلع للحظة وا�ستقلت‬
‫�سفنها ومعها ابنها قي�صرون واجتهت �إىل الإ�سكندرية فو ًرا‪ ،‬كان �أمامها‬
‫حل ًما ب�أن حتكم العامل مع قي�صر ولكنه الآن تبدد‪ ،‬ولكن الأمر خمتلف‬
‫قليل عن ذي قبل‪ ،‬فالآن لديها قي�صرون ابن قي�صر ومن دمه‪ ،‬وبالرغم‬ ‫ً‬
‫من عدم اعرتاف القانون الروماين به و�أنه جمرد نغل ولي�س اب ًنا �شرع ًّيا‪،‬‬
‫ف�إنه ال يزال الآن ملك م�صر و�سوف جتد طريقة ما ليعرتف القانون‬
‫بقي�صرون كابن �شرعي لقي�صر‪ ،‬يرثه ويرث كل ما تركه‪ ،‬كان الق�صر‬
‫‪339‬‬
‫امللكي هاد ًئا‪ ،‬جل�ست على عر�شها الذهبي يف منت�صف القاعة الكبرية‪،‬‬
‫�ساعدها ويدُها اليمنى القائد رابو�س‪ ،‬انحنى ثم قال‪:‬‬
‫تقدم �إليها ِ‬
‫‪--‬جاللتك‪.‬‬
‫�أ�صبح الآن رابو�س �ساعد امللكة واليد اليمنى كما وعدته �إن فازت‬
‫بالعر�ش‪ ،‬تفح�صت عيناها �ساحة العر�ش تبحث عنه‪ ،‬مل يكن موجودًا ومل‬
‫تكن تلك عادته‪ ،‬ف�س�ألت‪:‬‬
‫‪�--‬أين احلكيم هيليو�س؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ارب َّد وجه رابو�س وقال بعبو�س‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪�--‬إنه لي�س بخري‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫قر�أت مالحمه وعلمت �أن هناك خط ًبا ما‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ماذا هناك �أيها القائد رابو�س؟‬
‫قال‪:‬‬
‫‪--‬منذ فرتة �أ�صابه مر�ض �ألزمه الفرا�ش‪ ،‬ثم �أ�صابته احلمى ل�شهرين‪،‬‬
‫والآن يقول الأطباء‪...‬‬
‫ثم توقف للحظة مرتددًا ال يعرف ماذا �سوف يقول فيها‪ ،‬ا�ستطرد يف‬
‫� ًأ�سى‪:‬‬
‫‪--‬يقول الأطباء �إنها جمرد �أيام ورمبا �ساعات‪.‬‬
‫ح�ضرت الآن‪ ،‬كان يبتهل للإله لرياك قبل‬
‫ِ‬ ‫ثم �أ�ضاف‪ :‬من اجليد �أنك‬
‫رحيله‪.‬‬
‫مل ت�ستوعب كليوباترا ما يقوله رابو�س‪ ،‬هي تفقد كل من حتبهم‬
‫واحدً ا تلو الآخر‪ُ ،‬قتل حوررب‪ ،‬وغادرت �آ�سيا حزينة �إىل اجلنوب‪ ،‬والآن‬
‫‪340‬‬
‫احلكيم �ألك�سندر هيليو�س‪ ،‬كان نائ ًما على �سريره‪� ،‬شاحب الوجه‪ ،‬منطفئ‬
‫العينني‪ ،‬كان يف حالة يرثى لها‪ ،‬نه�ش املر�ض ج�سده يف الفرتة التي ق�ضتها‬
‫كليوباترا يف روما‪ ،‬اقرتبت منه يف خطوات مرتددة‪ ،‬تقدِّ م خطوة وت�ؤخر‬
‫�أخرى‪ ،‬وك�أنها تريد ت�أخري �شيء هو ال حمالة قادم‪ ،‬اقرتبت ومل�ست يدُها‬
‫�أنامله‪ ،‬وب�صعوبة بالغة فتح عينيه‪ ،‬حاول احلركة واالعتدال من مو�ضعه‬
‫ولكن ج�سده مل ي�ساعده‪ ،‬فقالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ا�س ِرتح‪.‬‬

‫ع‬
‫ابت�سم احلكيم وتنهد‪ ،‬دخل الهواء �إىل �صدره وخرج كخرير الرياح‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بني الأوراق‪� ،‬أردف‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪�--‬أحمد الآلهة �أنها قد ا�ستجابت لدعائي وابتهايل‪ ،‬وهو �أن �أراك قبل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�أن �أموت‪.‬‬
‫دموعا تكاد �أن تنفلت وقالت‪:‬‬
‫حب�ست كليوباترا ً‬
‫‪�--‬أرجوك ال تقل هذا‪� ،‬سوف تكون بخري‪.‬‬
‫جاللتك‪� ،‬أنت فقط مل تكوين ملكتي و�أمريتي‪ ،‬بل كنت‬ ‫ِ‬ ‫‪--‬ا�سمعيني‬
‫كابنتي‪ ،‬وكنتُ �أعاملك على هذا الأ�سا�س‪� ،‬أحببتك �أكرث من �أي‬
‫�شيء �آخر يف هذه احلياة‪ ،‬مل ترزقني الآلهة بالأوالد ولكن رزقتني‬
‫ل�ست‬
‫أنك ِ‬‫عو�ضا عن ذلك‪ ،‬وكان هذا كاف ًيا‪ ،‬والآن �أرحل و�أ�شعر � ِ‬‫بك ً‬
‫بحاجة يل‪ ،‬ترمقني الآن عني حزينة‪ ،‬ملاذا عيناك حزينتان يا ابنتي؟‬
‫أنت ابنة �إيزي�س‪ ،‬امللكة ال�شرعية لذلك العر�ش‪ ،‬رمبا‬
‫تن�سي دائ ًما‪ِ � ،‬‬
‫ال َ‬
‫حولك بال تردد‪ ،‬حتميك‬‫معك‪ ،‬حتوم ِ‬ ‫�أغادر بج�سدي ولكن روحي ِ‬
‫معك يف كل وقت‪.‬‬ ‫وت�صلي للآلهة وتبتهل لتكون ِ‬
‫تبك من قبل‪ ،‬انفلتت من عينيها دموع غزيرة‬ ‫بكت كليوباترا كما مل ِ‬
‫لي�س لها مانع الآن‪� ،‬شدت على يده بقوة وهي تقول‪:‬‬
‫‪341‬‬
‫‪�--‬أرجوك‪ ،‬ال ترتكني الآن‪� ،‬أنا ما زلت بحاجة �إليك‪ ،‬ال �أ�ستطيع فعل‬
‫�شيء من دونك‪ ،‬لقد �صمدتُ كل هذه ال�سنوات بف�ضلك �أنت‪ ،‬بف�ضل‬
‫م�شورتك‪ ،‬بف�ضل حبك‪ ،‬مل يحبني �أحد ب�صدق مثلما فعلت �أنت حتى‬
‫�أبي مل يحببني كما فعلت �أنت‪� ،‬أنت كل ما �أملك الآن فال ترحل‪ ،‬ال‬
‫ترتكني وحيدة و�سط هذه الأمواج العاتية‪.‬‬
‫لأول مرة تبكي كليوباترا بهذا ال�شكل املكلل باحلزن‪ ،‬لأول مرة ت�شعر‬
‫بطعم اخل�سارة املر‪ ،‬على الرغم من �أنها �أحبت قي�صر ف�إنها مل تذرف‬

‫ع‬
‫متاما‪ ،‬لقد كان مربيها منذ‬
‫الدموع عليه‪ .‬احلكيم هيليو�س �شيء خمتلف ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ال�صغر‪ ،‬هو من علمها القراءة والكتابة‪ ،‬علمها التاريخ والفل�سفة‪ ،‬علمها‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كل ما تعرفه تقري ًبا‪ ،‬ولواله لهلكت كليوباترا منذ زمن طويل‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫كابو�سا‬
‫خمدت �أنفا�سه وهي حتت�ضنه وتبكي وتدعو الآلهة �أن يكون هذا ً‬

‫ع‬
‫عاب ًرا‪ ،‬ودقائق ورمبا حلظات و�سوف ت�ستيقظ‪ ،‬لكنها تعرف هذا الطعم‬
‫جيدً ا‪ ،‬هذا الطعم ال يكون موجودًا �إال يف احلقيقة واحلياة‪ ،‬للحزن طعم‬
‫مر املذاق ال يتقنه اخليال‪.‬‬
‫�أمرت كليوباترا بتحنيطه ودفنه يف املقربة امللكية‪.‬‬
‫«رحل اجلميع‪ ،‬ويظل احلزن �سرمد ًّيا‪».‬‬

‫كان م�سا ًء هاد ًئا‪ ،‬بزغ النهار �صاف ًيا باردًا‪ ،‬ويف اجلو حزن عابر‪ ،‬يف‬
‫م�سجى على‬
‫ال�ساحة الوا�سعة �أمام جمل�س ال�شيوخ كان جثمان قي�صر ًّ‬
‫املن�صة �أعلى ال�سلم �أمام املجل�س ومن حتته الق�ش‪ ،‬وعلى جانبيه وقف‬
‫حار�سان‪ ،‬ووقف ال�شعب يف �صمت مهيب لتوديع الديكتاتور الذي �أحبه‬
‫�أكرث من �أي حاكم و�أي جمل�س‪َ ،‬ت َّمع كل �أهل روما لت�شييع جثمان غايو�س‬
‫‪342‬‬
‫يوليو�س قي�صر‪ ،‬خرج مارك �أنتوين‪ ،‬ومن جواره عائلة قي�صر‪ ،‬عن ميينه‬
‫وقف وريث قي�صر ال�شرعي �أوكتافيان‪ ،‬وعن �شماله وقفت �آ ْت َيا و�أوكتافيا‪.‬‬
‫قر�أ مارك �أنتوين و�صية قي�صر على م�سامع ال�شعب �إال من البند الذي يلزم‬
‫فيه قي�صر �أن يدفع لكل فرد من ال�شعب مائة دينار‪ ،‬كان يرى �أنه لي�س من‬
‫الوقت املنا�سب‪ ،‬و�ستكون تلك م�ضيعة كبرية للمال‪ ،‬ثم بعد ذلك �أ�شار‬
‫م�شعل واقرتب به �إىل الق�ش‪ ،‬فن�شبت النريان‬ ‫�إىل �أحد اجلنود‪ ،‬ف�أح�ضر ً‬
‫بال هوادة يف الق�ش قبل �أن تقرتب من جثمان قي�صر‪ ،‬ويف حلظات باتت‬
‫النريان الب�سيطة نريا ًنا هائلة‪ ،‬ويف الهواء العا�صف بات الرماد يتطاير‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رماد �أعظم رجل يف الدولة الرومانية‪ ،‬الإمرباطور احلقيقي لروما‪ ،‬ورمبا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�سوف يكون الإمرباطور احلقيقي للبالد ب�أ�سرها لو �أتيحت له الفر�صة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لذلك‪ .‬رمق اجلميع اللهب الربتقايل الذي حمل بني �أح�ضانه رماد الأمل‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫الذي احرتق‪ ،‬وظل اجلميع يراقب حتى خبت النريان رويدً ا رويدً ا وخفتت‬
‫متاما‪ ،‬جمع اجلنود ما تَب َّقى من رماد قي�صر‪ ،‬ومت نرثه من فوق تلة‬ ‫ً‬
‫الكابيتول‪.‬‬
‫يف الأيام التالية كان مارك �أنتوين يحقق يف ق�ضية اغتيال قي�صر‪،‬‬
‫على الرغم من �أنه يعرف املته َمني الرئي�س َّيني‪ ،‬بروتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬ف�إنه‬
‫كان لهم تابعون‪ .‬و�أر�سل يف ح�ضور كليوباترا‪ ،‬فلديه �أ�سئلة كثرية لأجل‬
‫امللكة عن والئها لقي�صر و�إىل روما‪ .‬وبعد �أيام كان يقرتب �أ�سطولها‬
‫من �شواطئ روما‪ ،‬ميزت عيونهم ال�سفينة امللكية الهائلة‪ ،‬كانت �سفينة‬
‫عمالقة ح ًّقا؛ �أ�شرعتها �شاهقة‪ ،‬وخمدعها وا�سع‪ ،‬على حواف ال�سفينة‬
‫وعلى الأ�شرعة نق�شت رموز فرعونية قدمية‪ ،‬كانت كليوباترا جتل�س يف‬
‫خمدعها تتكئ على منارق حريرية ومن فوقها مظلة من القما�ش‪ ،‬بينما‬
‫كان العبيد يحركون الري�ش فوق ر�أ�سها‪ .‬خا�ض مارك �أنتوين غمار �سطح‬
‫ال�سفينة املمتلئ بالعبيد واجلنود واحلر�س امللكي املميز بدروعه الذهبية‬
‫‪343‬‬
‫املنقو�شة بالرموز القدمية‪ ،‬اقرتب مارك �أنتوين من مق�صورة ال�سفينة‪،‬‬
‫رمق كليوباترا لأول مرة عن قرب‪ ،‬كانت جميلة بال �شك‪ ،‬ولكن مالحمها‬
‫كئيبة �إىل حدٍّ ما ولكنها تبدو بخري‪ ،‬انحنى بنظراته ور�أ�سه وقال‪:‬‬
‫بك يف‬
‫فلتحي كليوباترا فيلوباتور‪ ،‬ملكة ال�شمال واجلنوب مرح ًبا ِ‬ ‫‪َ --‬‬
‫جاللتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫روما‪ ،‬مرة �أخرى‬
‫�ألقت عليه كليوباترا نظرة باهتمام لكي تعرف من َت َّدث‪ ،‬ووجدت‬
‫ً‬
‫وعري�ضا وو�سي ًما على وجهه تظهر عالمات النبالة‪ ،‬له �أنف‬ ‫رجل ً‬
‫طويل‬ ‫ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫طويل ومدبب مما �أعطاه مظه ًرا الئ ًقا ومث ًريا للإعجاب‪ ،‬ابت�سمت له‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وقالت‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬جرنال �أنتوين‪� ،‬أرجوك دعنا نكون غري ر�سميني‪� ،‬سيكون الأمر �أخف‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫وط�أة‪� ،‬أال تعتقد؟‬

‫ع‬ ‫بادلها االبت�سام وقال‪:‬‬


‫‪--‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬تبدين حزينة‪ ،‬هل يل �أن �أعرف ال�سبب؟‬
‫‪--‬لقد مات �أف�ضل الرجال لدي دفعة واحدة‪ ،‬قي�صر � ًأول‪ ،‬و�ساعدي‬
‫ويدي اليمنى احلكيم هيليو�س‪ ،‬كانت خ�سارتي مفجعة يف الفرتة‬
‫الأخرية‪.‬‬
‫‪--‬عزائي ال�شديد ِ‬
‫لك‪.‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك‪.‬‬
‫‪--‬ا�سمحي يل �أن �أ�س� ِ‬
‫ألك �س� ًؤال؟‬
‫‪--‬بالت�أكيد‪ ،‬تف�ضل �أيها اجلرنال‪.‬‬
‫‪344‬‬
‫‪--‬هل � ِ‬
‫أحببت قي�صر؟‬
‫�صمتت ً‬
‫قليل وقالت‪:‬‬
‫‪--‬يف البداية كان قي�صر هو طوق النجاة يف بحر ميتلئ بالغرق‪ ،‬ومع‬
‫مرور الوقت �أ�صبح كزوجي و�أنا كزوجته‪.‬‬
‫‪--‬قن�صل روماين مع ملكة م�صرية‪ ،‬القانون مينع هذا؟‬
‫‪--‬نعم بالت�أكيد‪ ،‬ولكن قي�صر � ً‬
‫أي�ضا لي�س كمثل كل الرجال‪.‬‬
‫معك؟‬
‫ثم �س�أل‪ :‬ملاذا مل يح�ضر قي�صرون ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬هل �س�أح�ضر ابني �إىل الأر�ض التي اغتيل فيها �أبوه؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪�--‬أال تثقني بي؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪--‬يف احلقيقة �أنا ال �أثق ب�أحد‪ ،‬وال �أعرفك جيدً ا يا جرنال �أنتوين‬
‫لأعطيك تلك الثقة التي تتحدث عنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬دعيني �أحتدث ب�صراحة‪� ،‬أنا � ً‬
‫أي�ضا ال �أثق بك‪ ،‬و�أ�شك يف دعمك‬
‫لربوتو�س وكا�سيو�س واجلمهوريني يف اغتيال قي�صر‪.‬‬
‫‪�--‬أنت تتهمني يف امل�شاركة يف اغتيال قي�صر؟‬
‫�ألقتها و�ص َّبت ك� َأ�سي نبيذ واقرتبت من مارك �أنتوين‪ .‬تناول منها‬
‫الك�أ�س قبل �أن يقول‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫قالت وهي ُّ‬
‫تلف حوله يف دائرة بحركة بطيئة‪:‬‬
‫‪--‬وملاذا �سوف �أفعل هذا بر�أيك؟‬
‫‪--‬تختلف الدوافع‪...‬‬
‫‪345‬‬
‫قاطعته‪ :‬وما دافعي؟‬
‫�صمت ً‬
‫قليل ونظر يف عينيها الرماديتني نظرة طويلة فقالت‪:‬‬
‫‪--‬لقد ك َّر�ستُ نف�سي لق�ضيتك‪ ،‬كنت مولعة بقي�صر‪ ،‬كنت �س�أكون ملكة‬
‫م�صر وروما‪ ،‬فما الذي يجعلني �أ�ضحي بكل هذا؟‬
‫مل ينطق بكلمة‪ ،‬ف�أكملت بعد �أن احت�ست من ك�أ�س النبيذ‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أبحرت على ر�أ�س �أ�سطويل لتقدمي امل�ساعدة‪ ،‬وها �أنت هنا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تتهمني بقتل قي�صر‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬كل ما �أريد معرفته هو املوقف احلقيقي مل�صر وملكتها كليوباترا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫قالت كليوباترا‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬م�صر وكليوباترا تتبعان الن�سر �أينما ذهب‪� ،‬أنت الآن امل�سيطر على‬
‫روما بعد فرار قتلة قي�صر‪ ،‬ماذا �سوف تفعل؟‬
‫‪�--‬س�أن�شد االنتقام‪.‬‬
‫‪�--‬سمعت �أن قي�صر قد ترك و�صية‪� ،‬صحيح؟‬
‫قال مارك �أنتوين‪ :‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫‪--‬وهل مت ذكري �أو ذكر ابنه قي�صرون يف تلك الو�صية؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬لقد كتب قي�صر و�صيته قبل عبور الريبيكون‪ ،‬وال ت�أملي �أن ي�صبح‬
‫قي�صرون �إمرباطور روما القادم‪.‬‬
‫ابت�سمت ثم قالت‪:‬‬
‫‪--‬لي�س لدي �أي نية �سيا�سية لهذا‪.‬‬
‫‪--‬وما هي نواياك؟‬
‫‪346‬‬
‫قالت‪ :‬قي�صرون يقرتب من ثالث ال�سنوات‪ ،‬ال يعرف �شي ًئا عن والده‪،‬‬
‫�إنه �صغري جدًّا على �أن يفهم ما حدث هنا يف بالد �أبيه‪� ،‬إن ال�شعب ال‬
‫يتقبله ويعتربونه جمرد نغل ولي�س اب ًنا �شرع ًّيا لغايو�س يوليو�س قي�صر‪.‬‬
‫‪--‬وماذا تنتظرين من روما؟‬
‫اقرتبت منه ً‬
‫قليل وقالت‪:‬‬
‫‪--‬ال �أنتظر �شي ًئا من روما‪ ،‬ولكن �أنتظر الكثري منك‪.‬‬
‫‪--‬وماذا تنتظرين مني؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬إعال ًنا عا ًّما عن �صفة قي�صرون‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫قال مارك �أنتوين‪ :‬تريدين �إعال ًنا عا ًّما يعني �أن قي�صرون ابن �شرعي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫لقي�صر؟ هذا يعني �أنه �سوف ي�شارك يف مرياث قي�صر مع �أوكتافيان ابن‬
‫قي�صر بالتبني‪.‬‬
‫‪--‬ال �أريد �شي ًئا من مرياث قي�صر‪ ،‬جل ما �أريده االعرتاف بابني كابن‬
‫�شرعي لقي�صر‪ ،‬ولي�س جمرد نغل‪.‬‬
‫قال‪� :‬س�أرى ما ميكنني فعله يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬وال تقلقي؛ �إن جي�ش روما‬
‫�سي�ستمر يف حفظ عر�ش كليوباترا ابنة فليوباتور كما كان �سيفعل قي�صر‪.‬‬
‫اقرتبت منه حتى اختلجت الأنفا�س بالأنفا�س وقالت‪:‬‬
‫‪�--‬سيكون هذا كاف ًيا‪ ...‬حتى الآن‪.‬‬
‫ثم اجتهت �إىل عر�شها وجل�ست وقالت‪:‬‬
‫‪�--‬سوف �أجته �إىل الإ�سكندرية‪ ،‬و�آمل �أن نتقابل جمددًا �أيها القن�صل‬
‫مارك �أنتوين‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫ِم َثل يوليو�س قي�صر من قبل‪ ،‬مارك �أنتوين قد وقع يف �شباك كليوباترا‪،‬‬
‫ك�أنها �ألقت ال�سحر عليه كما فعلت مع قي�صر‪ ،‬كان ي�سمع عن ال�سحر‬
‫القدمي يف م�صر‪� ،‬أما الآن في�شعر به يف �صدره‪ .‬مل ي�شعر مارك �أنتوين‬
‫الفو�ضوي بتلك الفو�ضى بداخله من قبل‪ ،‬بد�أ �أ�سطولها بالتحرك ومعه‬
‫كان يراقب من بعيد‪ ،‬لقد �سرقت منه �شي ًئا ما ال ي�ستطيع حتديده‪ .‬كان‬
‫لقا ًء �سري ًعا ال يحتمل معاين عميقة‪ ،‬ولكن هناك �شي ًئا ما‪ ،‬ي�شعر بهذا يف‬
‫داخله؛ ذلك الع�صف الأنثوي العاتي يفتك به فت ًكا‪ ،‬الآن يرى ملاذا �أحب‬
‫قي�صر كليوباترا‪ ،‬هناك �شيء ما جذاب يف كليوباترا ال ي�ستطيع حتديده‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لقد ر�أى �أجمل منها‪ ،‬ومل يتعلق ب�إحداهن من قبل‪� ،‬أما تلك ف�شيء خمتلف‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫متاما ال يعرف حتديده‪ ،‬وظل م�ضطر ًبا حتى غابت �سفنها يف الأفق‪.‬‬ ‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫والتوزي‬ ‫مناد يف ال�ساحة العامة و�صاح ب�أعلى �صوته‪:‬‬
‫‪--‬يا �شعب روما العظيم‪ِ ،‬با�سم �أوكتافيو�س يوليو�س قي�صر االبن‬
‫وقف ٍ‬

‫ال�شرعي والوحيد ليوليو�س قي�صر‪ ،‬يتعهد لكم يا �أهل روما بتنفيذ‬


‫و�صية �أبيه الراحل‪ ،‬هناك بند يف الو�صية مل يعرفه ال�شعب بعد‪ ،‬بند‬
‫�أ�صر القن�صل مارك �أنتوين �أن يخفيه عن ال�شعب‪ ،‬وهو �أن يتم �إعطاء‬
‫كل مواطن روماين حر وكل جندي مائة دينار يف يده‪ ،‬ويتعهد بهذا‬
‫�أوكتافيو�س قي�صر‪.‬‬
‫كانت تلك الطريقة الأف�ضل لتقدمي نف�سه �إىل ال�شعب‪ ،‬مل يكن‬
‫�أوكتافيو�س غب ًّيا وال �أحمق‪ ،‬وبالت�أكيد مل يكن �سعيدً ا ب�إدارة مارك �أنتوين‬
‫�أموال قي�صر كالوا�صي‪ ،‬هو يعرف مارك �أنتوين جيدً ا‪� ،‬إنه متغري كاحلرباء‪،‬‬
‫ولن يعطيه �أمواله ب�سهولة‪ .‬كان يرى �أن مارك �أنتوين هو العدو احلقيقي‬
‫الآن ولي�س بروتو�س �أو كا�سيو�س‪ ،‬لقد غرته �أموال قي�صر الطائلة‪.‬‬
‫‪348‬‬
‫عندما �سمع مارك �أنتوين اخلرب الذي يرتدد على �أل�سنة النا�س وعلى‬
‫م�سامعهم يف ال�ساحات والأ�سواق ذهب غا�ض ًبا �إىل بيت �آ ْت َيا‪ ،‬طرق الباب‬
‫يف ع�صبية وعندما َفتح اخلدم الأبواب دخل مندف ًعا يف �شطط‪ ،‬ووجد يف‬
‫طريقه �آ ْت َيا‪ ،‬ف�صاح‪:‬‬
‫�سمعت ما فعله ابنك اللعني؟‬
‫ِ‬ ‫‪--‬هل‬
‫مل تكن �آ ْت َيا تفهم ِل هو ثائر بهذه الطريقة الفو�ضوية‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫‪--‬ماذا فعل �أوكتافيان؟‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�صاح بغ�ضب‪ :‬يريد �إعطاء العامة �أموالهم‪ .‬لقد انت�شر املنادون يف‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ال�ساحات والأ�سواق يرددون على م�سامع النا�س الو�صية التي كتبها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫قي�صر‪ ،‬كاملة بالبند الذي يعطي لكل مواطن مائة دينار‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪--‬يا للآلهة! متى؟ �أوكتافيان من فعل هذا؟‬
‫‪--‬نعم يا �أمي‪ ،‬لقد فعلتُها‪.‬‬
‫قالها �أوكتافيان وهو يقرتب‪.‬‬
‫فعلت هذا �أيها الفتى؟‬
‫�صرخ مارك �أنتوين‪ :‬ملاذا َ‬
‫كانت مالحمه هادئة �إىل حد الربود ومل يت�أثر بثورة مارك �أنتوين‪.‬‬
‫اقرتب و�صب له ك� ًأ�سا من النبيذ‪ ،‬وهو الذي مل يتجرعه من قبل‪ ،‬كانت‬
‫تلك �أول مرة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪--‬يف احلقيقة ال �أثق فيك‪ ،‬لقد كنت خائ ًفا من هذا االحتدام بيننا‪،‬‬
‫�أنت ترف�ض �أن تعطيني �أموال قي�صر‪ ،‬لذا قد عينت حمام ًيا‪� ،‬سوف‬
‫ي�ساعدك يف تخطي تلك الأزمات التي متر بها‪ ،‬من طمع وخيانة‪.‬‬
‫�أطلق �ضحكة جمنونة عالية و�أردف‪:‬‬

‫‪349‬‬
‫‪--‬طمع وخيانة‪ .‬يا للآلهة!‬
‫ثم هد�أ وا�ستطرد‪ :‬ح�س ًنا‪� .‬إن �أعطيتك �أموال قي�صر‪ ،‬فماذا �سوف‬
‫تفعل؟‬
‫قال بال تردد‪� :‬س�أحكم العامل‪.‬‬
‫�ضحك مارك �أنتوين با�ستهزاء‪ ،‬فا�ستطرد �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أتعلم ما حتتاجه روما؟ روما حتتاج �إىل �شيء �أكرب و�أعظم‪ ،‬لي�س‬
‫مت�سرعا وغا�ض ًبا مثل ال�شعب‪ ،‬روما‬
‫ً‬ ‫جبا ًنا ك�شيوخ املجل�س‪ ،‬ولي�س‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حتتاج �إىل قائد‪ ،‬و�أنت �أبعد ما يكون عن هذا القائد‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ثم �أ�ضاف‪� :‬س�أكون �أنا هذا القائد‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ازداد مارك �أنتوين يف �ضحكه اله�ستريي وقال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ح�س ًنا �أيها القائد‪� ،‬أرين كيف �ستعطي العامة �أموالهم‪� ،‬أُق�سم بجميع‬
‫فل�سا واحدً ا من �أموال قي�صر‪.‬‬
‫الآلهة �أنني لن �أعطيك ً‬
‫ابت�سم �أوكتافيو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬لقد �أعطيت العامة �أموالهم بالفعل‪ ،‬لن �أنتظر حتى تعطيني �أموايل‪،‬‬
‫بحق الو�صية التي تركها قي�صر �أنا الوريث ال�شرعي لأمواله وعقاراته‪،‬‬
‫واقرت�ضتُ على هذا الأ�سا�س � ً‬
‫أموال من الدولة‪.‬‬
‫يبدو �أن مارك �أنتوين ا�ستخف بهذا الفتى يف النهاية‪ ،‬قال بغ�ضب‬
‫وكلمات تخرج من حتت ال�ضرو�س‪� :‬أتتحداين؟‬
‫‪--‬ال �أحتداك‪ ،‬لأنني ال �أراك‪.‬‬
‫فارت الدماء يف عروق مارك �أنتوين و�أ�شهر خنج ًرا واندفع نحو‬
‫�أوكتافيو�س و�ضع اخلنجر على رقبته وقال بغ�ضب �شديد‪« :‬احذر مني يا‬
‫فتى‪ ،‬احذر مني‪».‬‬
‫‪350‬‬
‫متنى لو جز عنقه يف تلك اللحظة‪ ،‬و�أطفا اللهيب الذي ا�شتعل بداخله‬
‫وال ينطفئ‪ ،‬حافظ �أوكتافيو�س على هدوئه وثباته‪ ،‬اقرتبت منه �آ ْت َيا‬
‫و�صرخت يف رجاء‪:‬‬
‫‪�--‬أرجوك يا مارك �أنتوين‪ ،‬ابتعد عنه‪� ،‬إنه �صغري ال يدري ماذا يفعل‪.‬‬
‫�أبعد اخلنجر من فوق رقبته‪ ،‬ولإطفاء غ�ضبه اكتفى بجرحه يف خده‪،‬‬
‫انبثقت الدماء من وجه �أوكتافيان وهو يف هدوء يثري الغرابة‪ .‬غادر مارك‬
‫�أنتوين يف غ�ضب‪ ،‬طلبت �آ ْت َيا ح�ضور الطبيب يف احلال‪ ،‬يف هذه اللحظة‬

‫ع‬
‫علم �أوكتافيو�س عدوه احلقيقي‪ ،‬وعلم �أنه لن ي�ستطيع �أن ي�سرتد �أمواله‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من مارك �أنتوين بالتفاو�ض �أو بالقانون‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫يف الليل �أعطى �أوكتافيو�س الأمر �س ًّرا �إىل الأحزاب القي�صرية والقوات‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫املتبقية من فيالق وقوات قي�صر باال�ستعداد‪ .‬مل يكن يعلم �أحد وجهته‪،‬‬
‫خرج على ر�أ�س قواته �صوب جنوب كامبانيا‪ ،‬لأول مرة يرتدي �أوكتافيو�س‬
‫قي�صر الدرع الروماين‪ ،‬و�أتبعه اجلنود بحقه بالوراثة‪ ،‬هو الآن يخطط‬
‫للذهاب �إىل �صديقه «ماركو�س فيب�سانيو�س �أغريبا»‪ ،‬يف مقاطعة كامبانيا‬
‫بقواته القي�صرية هناك بالقرب من الغال‪� ،‬سيكون بخري هناك‪ ،‬هو يعلم‬
‫�أنه لو بقي يف روما �سيحاول مارك �أنتوين التخل�ص منه ب�شتى الطرق‬
‫املمكنة‪ ،‬كان هذا رمبا �أف�ضل قرار يف هذا الوقت املليء بامل�شاحنات‬
‫ال�سيا�سية يف روما‪.‬‬

‫مقاطعة بيثينيا‪.‬‬
‫كان مرتب ًكا‪ ،‬ي�شعر بالقلق واخلوف والقليل من الفخر امل�شوب بال�شك‪،‬‬
‫كانت طعنته هي الطعنة القاتلة لقي�صر‪ ،‬هو يعرف قي�صر جيدً ا‪ ،‬قي�صر‬
‫‪351‬‬
‫لن ميوت بطعنة عدو‪� ،‬إن مات قي�صر ف�سيموت من طعنة �صديق‪ ،‬هكذا‬
‫قال له يف يوم من الأيام‪ .‬تدور الكلمات بر�أ�سه يف دوائر �سرمدية ت�أبى‬
‫التبدد‪ ،‬كيف هو ال�سبيل �إىل اخلال�ص؟ وهل اخلو�ض يف غمار اخلطيئة‬
‫يعترب طري ًقا ً‬
‫طويل للغفران؟‬
‫«لقد مات الطاغية‪».‬‬
‫هكذا قال لنف�سه‪� ،‬إذن فلماذا ي�شعر باخل�سة واجلنب والنذالة‪ ،‬بال‬
‫�شك هو بطل جمهوري نبيل‪ ،‬ن�صر اجلمهورية وقهر الديكتاتورية‪ ،‬ك�سبت‬

‫ع‬
‫روما لكنه خ�سر خ�سارة فادحة‪ ،‬خ�سر نف�سه وخ�سر قي�صر‪ ،‬ولكن لي�س‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وج ْلد الذات الآن‪ ،‬ما حدث قد حدث‪ ،‬مات قي�صر‬

‫ت‬
‫داع للت�أنيب َ‬
‫هناك ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وانتهى الأمر‪ ،‬يجب �أن ي�صب تركيزه الآن على غريزة البقاء‪ ،‬يخم�ش‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫القلقُ �صدره على الرغم من العفو العام الذي مت �إ�صداره من جمل�س‬

‫ع‬
‫ال�شيوخ‪.‬‬
‫ا�ستطاع بروتو�س وكا�سيو�س ال�سيطرة على مقاطعة بيثينيا‪ ،‬وا�ستغالل‬
‫�أن بروتو�س ما زال �إىل الآن يعترب �سيناتو ًرا يف جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬وا�ستطاعوا‬
‫مب�ساعدة ملك بيثينيا و�أثريائها �شرا َء فيالق ورجال‪ ،‬وال�سيطر َة على‬
‫املقاطعات املجاورة‪ ،‬منها باتارا ولي�سيا‪.‬‬
‫تَف َّقد كا�سيو�س �أحوال الفيالق وذهب �إىل بروتو�س يف خمدعه‪ ،‬نظر‬
‫بروتو�س �إليه نظرة طويلة‪ ،‬فقال كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك يا �أخي؟‬
‫‪--‬ماذا تظن؟‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬ملاذا �أراك متجه ًما يا بروتو�س؟‬
‫‪--‬نحن ملعونون يا كا�سيو�س‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ل�سنا كذلك‪.‬‬
‫‪352‬‬
‫عيني قبل موته‪ ،‬لقد �سمعت كل الكلمات‬ ‫قال بروتو�س‪ :‬لقد نظر يف َّ‬
‫التي كان يود �أن ينطق بها‪ ،‬كان يريد �أن يقول يل‪ :‬ملاذا؟ ملاذا يا بني؟‬
‫�أُق�سم �أنه كان يريد �أن ي�صرخ بها يف وجهي يا كا�سيو�س‪ ،‬كان يظن �أنني‬
‫و�سالما‪� ،‬إال‬
‫ً‬ ‫�سوف �أفديه بنف�سي عندما اقرتبت منه‪ ،‬ر�أيت يف عينيه دف ًئا‬
‫يوما‪� ،‬أنا االبن الذي‬ ‫�أنني طعنته غد ًرا‪ ،‬للأ�سف مل �أكن االبن الذي متناه ً‬
‫طعن والده يف ظهره يا كا�سيو�س‪� ،‬أنا خائن‪ ،‬جبان‪ ،‬رعديد‪ ،‬كان يحبني‬
‫كابن له‪ ،‬كان ي�شعرين بالأمان‪ ،‬ال �أدري �أين كان عقلي و�أنا �أغمد اخلنجر‬
‫الذي �أهداه يل يف �صدره‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كان يبكي بحرقة �شديدة‪ ،‬تلك املبادئ املتغرية يف الإن�سان‪ ،‬تتغري‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫املبادئ يف حلظة مع غياب العقل وغياب العاطفة‪ .‬يف حلظة ظن �أنه �سوف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يحرر روما من ديكتاتور م�ستبد‪� ،‬إال �أنه قد �أ�سر نف�سه داخل ق�ضبان اللوم‬

‫والتوز عي‬
‫والندم والدموع والأوجاع‪� ،‬صاح فيه كا�سيو�س‪:‬‬
‫‪--‬لقد مات قي�صر يا بروتو�س‪.‬‬
‫‪--‬قي�صر يطاردين يا كا�سيو�س‪ ،‬يطاردين يف �أحالمي‪ ،‬يف نومي‬
‫وا�ستيقاظي‪ ،‬لقد قت ْلنا ً‬
‫رجل �شري ًفا يا كا�سيو�س‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬قي�صر كان ديكتاتو ًرا يا بروتو�س‪� ،‬أتعلم ماذا فعلنا؟‬
‫لقد ن�صرنا اجلمهورية‪ ،‬نحن �أبطال و ِفع ُلنا كان ً‬
‫فعل بطول ًّيا‪.‬‬
‫فعل دني ًئا ال يفعله �إال جبناء‬‫مدن�سا باخلطيئة‪ً ،‬‬ ‫فعل ً‬ ‫‪--‬ال‪ ،‬لقد كان ً‬
‫وخونة‪.‬‬
‫‪--‬ال يهم ما تراه الآن‪ ،‬دعنا نواجه الواقع‪ ،‬ما حدث قد حدث‪� ،‬إن كنت‬
‫ترى الأمر بطول ًّيا �أو �إن كنت تراه دني ًئا‪ ،‬فدعنا نفكر يف اخلطوة‬
‫التالية‪.‬‬
‫�س�أل بروتو�س‪ :‬ما و�ضعنا احلايل؟‬
‫‪353‬‬
‫‪--‬لقد فر�ضنا ال�سيطرة على املقاطعات املجاورة‪ .‬يزداد عدد الفيالق‬
‫يوما بعد يوم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪--‬كم فيل ًقا حتى الآن؟‬
‫‪--‬ت�سعة فيالق‪ ،‬خم�سون �سفينة‪ ،‬ع�شرون �ألف رجل من امل�شاة وع�شرة‬
‫�آالف من الرماة‪ ،‬و�ألفان من البحارة‪.‬‬
‫‪--‬هل �سيكون هذا كاف ًيا؟‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬نعم‪� ،‬سيكون هذا كاف ًيا جدًّا للعودة �إىل روما‪.‬‬

‫ع‬
‫قالها ثم ر َّبت على كتفه بابت�سامة ي�أمل �أن يطمئن بها قلب بروتو�س‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬ ‫بعد عام‪...‬‬
‫‪ 43‬ق‪.‬م‬
‫يف امل�ساء ا�ستدعى مارك �أنتوين �سي�سرو‪ ،‬وح�ضر الأخري متخو ًفا وق ِل ًقا‪،‬‬
‫ما يحدث تلك الأيام جدير بزعزعة قلوب �أعتى الرجال‪ ،‬كان �سي�سرو الآن‬
‫يقوم بقيادة املجل�س‪ ،‬هو الأكرث حكمة والأكرث خربة‪ ،‬وكان �شيوخ املجل�س‬
‫يتبعونه يف كل ما يقوله ويثقون يف قراراته ثقة عمياء‪ ،‬عندما دخل �سي�سرو‬
‫جال�سا ينتظر‪ ،‬جل�س �سي�سرو �أمامه‪ ،‬ف�صب خادم‬ ‫�إىل مارك �أنتوين كان ً‬
‫�أنتوين ك�أ�سني من النبيذ و�ألقى �إىل �سي�سرو نظرة وقال‪:‬‬
‫‪--‬تف�ضل‪.‬‬

‫‪354‬‬
‫تناول �سي�سرو ك�أ�س النبيذ ورمق مارك �أنتوين بنظرة �شك و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ماذا هناك �أيها القن�صل؟‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين وقال‪:‬‬
‫‪--‬كيف حال املجل�س الآن يا �سي�سرو؟‬
‫‪--‬بخري‪.‬‬
‫‪�--‬أثق �أنك �سوف تقود املجل�س قيادة ح�سنة‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قال �سي�سرو بابت�سامة‪� :‬شك ًرا‪� ،‬أيها القن�صل‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬يف الفرتة الأخرية مرت روما بظروف ع�صيبة‪ ،‬منذ اغتيال قي�صر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫وروما مع َّر�ضة �إىل خماطر عدة‪ ،‬وكانت عر�ضة للفو�ضى من حروب‬
‫الع�صابات وانت�شار الفو�ضى يف كل مكان‪.‬‬
‫‪�--‬صحيح‪� ،‬أيها القن�صل‪.‬‬
‫قال ماركو�س بعد �أن جترع ك�أ�س نبيذه‪:‬‬
‫‪--‬لقد اقرتبت فرتة حكمي كقن�صل من االنتهاء‪ ،‬لي�س يل رغبة يف �أخذ‬
‫فرتة �أخرى‪� ،‬أريد �شي ًئا �آخر‪.‬‬
‫�س�أل �سي�سرو يف توج�س‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تريد؟‬
‫‪�--‬أريد حكم مقاطعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬مقاطعة‪� .‬أي مقاطعة؟‬
‫�أردف مارك �أنتوين‪ :‬بالد الغال‪.‬‬
‫‪--‬الغال؟‬
‫‪355‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬الغال‪.‬‬
‫‪--‬لن ير�ضى املجل�س ب�أن حتكم مقاطعة �ضخمة كالغال ب�شكل م�ستقل‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين بلهجة غا�ضبة‪ :‬ت ًّبا للمجل�س‪� ،‬أنا �أحدثك �أنت الآن يا‬
‫فخراف تتبعك �أينما تذهب‪.‬‬ ‫�سي�سرو‪� ،‬أما املجل�س ِ‬
‫‪--‬ال �أ�ستطيع �أن �أ�سمح �أن يتكرر ما حدث مع قي�صر‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬افعل ما يحلو لك‪ ،‬لكنك �سوف تندم يف النهاية‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫علي التهديدات؟‬ ‫قال �سي�سرو‪ :‬هل تلقي َّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬نعم‪� ،‬أنت �شديد املالحظة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫كان �سي�سرو خائ ًفا‪ ،‬وتهديدات مارك �أنتوين كافية ليعيد النظر يف‬
‫ر�أيه قال‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬دعني �أرى ماذا �أ�ستطيع �أن �أفعل‪.‬‬
‫قال بابت�سامة‪ :‬كنت �أعلم �أنك عاقل يا �سي�سرو‪.‬‬
‫خرج �سي�سرو من عند مارك �أنتوين متجه ًما وم�ستا ًء ب�شدة‪ ،‬كان يتمنى‬
‫لو غمد خنج ًرا يف م�ؤخرة هذا ال�سافل املتطاول‪ ،‬كان ي�شعر بالغ�ضب‬
‫العارم‪ ،‬ويف حلظة اقرتب منه ثالث رجال‪ ،‬وو�ضع �أحدهم خنج ًرا على‬
‫رقبته‪ ،‬وقال �آخر‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫تعال معنا دون جلبة‪.‬‬
‫قال �سي�سرو يف تردد‪ :‬ح�س ًنا ح�س ًنا‪� ،‬أرجوك‪� ،‬سوف �أفعل ما ت�أمر‪.‬‬
‫ثم و�ضع الرجل الثالث غمامة على عينيه وو�ضعوه يف عربة‪ ،‬وحتركت‬
‫العربة �سري ًعا حني لفح الرجل احل�صان بال�سوط‪ ،‬كان �أغلب الظن �أن‬
‫‪356‬‬
‫هذه الأفعال من مارك �أنتوين‪ ،‬ولكن ملاذا؟ ومل يتحدث الرجال ولو كلمة‬
‫حتى يتنب�أ من وراء هذا الفعل الدينء‪ ،‬بعد �ساعة توقفت العربة وحتركوا‬
‫مريحا �إىل حدٍّ‬
‫به مغم�ض العينني حتى �أجل�سوه على مقعد‪ ،‬كان مقعدً ا ً‬
‫ما‪ ،‬وبعد حلظة �أزيحت الغمامة من على عينيه‪ ،‬فتح عينيه ببطء‪ ،‬كان‬
‫بني ال�شعر‪ ،‬لون عينيه �أ�س َود منطفئ‪،‬‬ ‫يجل�س �أمامه �شاب يف عقده الثاين‪ُّ ،‬‬
‫متو�سط الطول‪ ،‬كان �سي�سرو مرتب ًكا‪ ،‬ال يعرف هذا ال�شاب‪ ،‬وال يعرف‬
‫ماذا يريد‪ ،‬اقرتب منه هذا ال�شاب و�صب له ك� ًأ�سا من النبيذ وقال‪:‬‬
‫‪�--‬أعتذر على تلك الطريقة التي ح�ضرت بها �أيها ال�سيناتور‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قال �سي�سرو‪ :‬مع من �أحتدث؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫قال ال�شاب‪ :‬ماركو�س فيب�سانيو�س �أغريبا يف خدمتك �سيدي ال�سيناتور‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪--‬وماذا تريد؟‬


‫‪--‬ال يهم ما �أريد‪ ،‬بل ما يريد �سيدي‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪ :‬يريد �سيدي �أن يتعاون معك‪ ،‬نحن نحتاج �إىل م�ساعدة‬
‫بع�ضنا البع�ض‪.‬‬
‫‪--‬كلي �آذان م�صغية‪.‬‬
‫‪--‬جيد‪.‬‬
‫ثم ا�ستطرد‪:‬‬
‫‪--‬يبدو يل �أنك قبل �أن ت�أتي �إىل هنا كنت عند مارك �أنتوين‪ ،‬نحن‬
‫نراقبك منذ فرتة يا �سيدي‪ ،‬بالت�أكيد �أنت الآن على علم بحقيقة‬
‫ماركو�س �أنطونيو�س الفا�سدة‪ ،‬ونحن نعلم ما يريد مارك �أنتوين‬
‫فعله‪ ،‬ونعلم ماذا يريد منك �أن تفعل‪ ،‬لدينا جوا�سي�س يف كل مكان‪،‬‬
‫لدينا كل �أخبار املدينة و�شيوخ املجل�س‪.‬‬
‫‪357‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪ :‬يريد مارك �أنتوين �أن يحكم الغال‪� ،‬صحيح؟‬
‫قال �سي�سرو باندها�ش‪ :‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫‪--‬ما ر�أيك؟‬
‫‪--‬هذا الوقح هددين‪.‬‬
‫�س�أل ماركو�س فيب�سانيو�س‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هل �ستقدم له ما يريد؟‬

‫ع‬
‫قليل وقال‪ :‬يف احلقيقة ال �أعرف‪.‬‬‫فكر �سي�سرو ً‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬وهنا �سوف تكون �أكرث امتنا ًنا لقبول عر�ض �سيدي للم�ساعدة‪.‬‬

‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫‪--‬كيف �سيقدم �سيدك امل�ساعدة؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قال �أغريبا‪ :‬لديكم م�صلحة م�شرتكة‪� ،‬أو بالأحرى حتا ُلف م�شرتك‪.‬‬

‫ع‬ ‫‪--‬حتالف م�شرتك‪� .‬ضد من؟‬


‫‪--‬مارك �أنتوين‪.‬‬
‫�أردف ب�شيء من اال�ستهزاء‪:‬‬
‫‪--‬ومن �سيدك القادر على مواجهة قن�صل روما؟‬
‫‪�--‬سيدي هو قي�صر‪.‬‬
‫�شعر �سي�سرو بالتوتر عندما نطق �أغريبا اال�سم‪ ،‬اعتدل وابتلع ريقه‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪--‬لقد مات قي�صر‪.‬‬
‫قال �أغريبا‪� :‬سيدي غايو�س �أوكتافيو�س قي�صر حي يرزق‪.‬‬
‫�أردف �سي�سرو باندها�ش‪:‬‬

‫‪358‬‬
‫‪�--‬أوكتافيو�س‪ .‬وريث قي�صر؟‬
‫‪--‬بلى‪� ،‬سيدي ال�سيناتور‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪ :‬كيف �سيقدم ذلك ال�صبي امل�ساعدة يل؟‬
‫‪�--‬سيدي لي�س �صب ًّيا �أيها ال�سيناتور‪� ،‬أوكتافيو�س رجل عظيم مل �أ َر‬
‫جي�شا كب ًريا‪ ،‬وهناك جنود‬ ‫مثيل يف فل�سفته وحكمته‪ ،‬لقد جمع ً‬ ‫له ً‬
‫قدامى و�أحزاب قي�صرية حتت �أمره‪.‬‬
‫‪--‬جي�ش‪ .‬هل الرجال يتبعون �أوكتافيو�س �صاحب الت�سعة ع�شر ً‬
‫عاما؟‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أردف �أغريبا بابت�سامة‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫‪--‬بني عروق �سيدي‪ ،‬ت�سري دماء قي�صرية‪ ،‬يتبعه الرجال ل�شجاعته‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ونبله‪ ،‬وبالرغم من �صغر �سنه ف�إن الرجال يحرتمونه‪.‬‬
‫‪--‬وكيف �أ�ستطيع �أن �أقدم امل�ساعدة؟‬
‫قالها �سي�سرو وهو يفكر يف تقدمي امل�ساعدة بالفعل‪.‬‬
‫‪--‬يريد مارك �أنتوين احل�صول على الغال‪� ،‬صحيح؟‬
‫�أجاب‪ :‬نعم‪� ،‬صحيح‪.‬‬
‫‪�--‬إذن �أُعطيه ما يريد‪.‬‬
‫‪--‬بحق الآلهة وبعد ذلك؟‬
‫‪--‬يريد �سيدي �إلقاء الطعم ملارك �أنتوين � ًأول‪.‬‬
‫‪--‬وبعد �أن يبتلع الطعم؟‬
‫�أردف �أغريبا‪ :‬عند اقرتابه من الغال‪� ،‬سيعترب مارك �أنتوين عد ًّوا‬
‫للدولة الرومانية ب�أمر من املجل�س‪ ،‬وليكون الأمر حمبو ًكا جيدً ا �أر�سل‬
‫بع�ض القوات من قوات جمل�س ال�شيوخ وراء مارك �أنتوين ليحاربوه‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫‪--‬وبعد ذلك؟‬
‫‪�--‬أترك الأمر ل�سيدي بعد ذلك‪.‬‬
‫‪--‬قال �سي�سرو بقلق‪ :‬هذا �أمر خطري‪� ،‬إن ف�شل‪...‬‬
‫‪--‬قاطعه �أغريبا‪ :‬ال‪ ،‬لن يف�شل‪.‬‬
‫‪--‬ابت�سم �سي�سرو وقال‪ :‬ح�س ًنا‪� ،‬أنا موافق‪.‬‬
‫‪--‬جيد‪ ،‬هناك � ً‬
‫أي�ضا �شيء �آخر‪.‬‬
‫‪--‬ماذا؟‬
‫‪--‬يريد �سيدي �أوكتافيو�س �أن تدعمه عند جمل�س ال�شيوخ‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قال �سي�سرو بتململ‪ :‬جميعهم يريدون هذا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪�--‬سيدي خمتلف عن جميعهم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪--‬يف ماذا؟‬

‫ع‬
‫قال �أغريبا‪� :‬سيدي له ا�سرتاتيجية خمتلفة عن اجلميع‪ ،‬وله كل‬
‫املقومات التي يتمتع بها القائد؛ ذكي‪ ،‬فيل�سوف‪ ،‬حمارب‪ ،‬ملهم‪ ،‬وقيادي‪،‬‬
‫وو�سيم‪.‬‬
‫عقد حاجبيه وقال‪ :‬و�سيم؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬و�سيم‪.‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪� ،‬سوف �أنظر يف الأمر‪.‬‬
‫قالها �سي�سرو وكل ما يفكر فيه الآن التخل�ص من مارك �أنتوين‪� ،‬إن‬
‫جنح ما مت التخطيط له‪ ،‬ف�سوف ينتهي ما ي�سمى مباركو�س �أنطونيو�س‬
‫�إىل الأبد‪ ،‬و�ستنعم روما �أخ ًريا بال�سالم واال�ستقرار‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫(‪)2‬‬

‫بعد �أ�سبوع من خروج ماركو�س �أنطونيو�س على ر�أ�س فيالقه �صوب‬


‫الغال‪ ،‬وقف �سي�سرو يف منت�صف القاعة الوا�سعة للمجل�س‪ ،‬كل الآذان‬
‫عال اخرتق م�سامع‬ ‫انتبهت ملا �سوف يقوله �سي�سرو احلكيم‪ ،‬قال ب�صوت ٍ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كل اجلال�سني من �شيوخ املجل�س‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪�--‬إن اجلمهورية على حافة االنهيار‪ ،‬الآن يف �شمال الغال‪ ،‬افتعل اخلائن‬

‫بل‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫مارك �أنتوين ح�صا ًرا ع�سكر ًّيا حول مدينة ميوتنا وفورم غالورم‪ ،‬يا‬

‫والتوز عي‬
‫لها من كارثة! �إنها كارثة مبعنى الكلمة‪ ،‬و�أنا مواطن روماين ولن‬
‫�أ�صمت على هذه املهزلة‪ ،‬لقد �أر�سلت قوات ع�سكرية بقيادة القادة‬
‫هريتو�س وبان�سا لردع هذا املتطاول‪ ،‬الآن اخلال�ص �سوف ي�أتي‪� ،‬سوف‬
‫ي�أتي مب�ساعدة �أوكتافيان قي�صر‪� ،‬شاب ميتلئ باحلما�س والقوة‪ ،‬لي�س‬
‫لدينا �أي مثال �أكرث ت�أل ًقا عن التقوى التقليدية بني �شبابنا �إال ويتم‬
‫ذكر �أوكتافيو�س وريث قي�صر‪ ،‬هو ي�ساند اجلمهورية بكل ما �أوتي‬
‫من قوة‪� ،‬سوف ين�ضم �إلينا يف حربنا بفيالقه لن�سحق اخلائن مارك‬
‫�أنتوين‪.‬‬
‫�ألهبت خطبة �سي�سرو الدماء يف عروق ال�شيوخ‪ ،‬وترددت خطبته‬
‫يف ال�ساحات والأ�سواق على م�سامع العامة‪ ،‬يف هذه الأثناء كانت قوات‬
‫ماركو�س �أنطونيو�س تعاين‪ ،‬هجم عليه هريتو�س وبان�سا بقوات املجل�س‬
‫من اخللف ومن الأمام اندفعت قوات قي�صرية بقيادة ماركو�س �أغريبا‪،‬‬
‫قائد قوات �أوكتافيو�س قي�صر‪ ،‬وكان الن�صر للقوات القي�صرية‪ ،‬وانهزمت‬
‫‪361‬‬
‫قوات مارك �أنتوين الع�سكرية‪ ،‬جمع بقايا رجاله وفر �إىل ال�شمال القار�ص‪،‬‬
‫�أ�س�س ماركو�س مع�سك ًرا يف اجلبل ومترت�س فيه قبل الهطول الأول للثلوج‪،‬‬
‫كان ينوي �أن يجمع �شتات جنوده ويعود بهم يف الربيع‪ ،‬حيث �سي�ستطيع‬
‫منهزما ويكره �أن ي�ست�سلم‬
‫ً‬ ‫�أن يجمع قوات �أكرث والعودة بها �إىل روما‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫�شروطا‪ ،‬فهو يرى �أنه تَل َّقى هزمية �ساحقة من فتًى كان ي�ستطيع‬ ‫�أو يقدم‬
‫�سحقه بيديه املجردتني بالأم�س‪ ،‬والآن هذا الفتى قد هزمه �شر هزمية‪.‬‬
‫تطاير خرب هزمية مارك �أنتوين من الغال �إىل روما �سري ًعا‪ ،‬مل يكن‬

‫ع‬
‫يت�صور �أحد �أن �أوكتافيو�س ال�صغري �سوف يتغلب على اجلرنال ماركو�س‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫در�سا قا�س ًيا‪ ،‬هكذا ردد النا�س يف روما‪،‬‬
‫�أنطونيو�س‪ ،‬الفتى �أعطى الرجل ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫كان الن�صر الكبري واملجد الأكرب لأوكتافيو�س قي�صر بعد موت هريتو�س‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وبان�سا‪ ،‬وا�ستطاع �أن يجمع بني قواته القي�صرية وقوات هريتو�س وبان�سا‬

‫ع‬
‫يف �صفوف واحدة حتت لوائه‪ ،‬عاد �أغريبا بالقوات بعد املعركة �إىل مع�سكر‬
‫�أوكتافيو�س‪ ،‬ما �أ�شبه اليوم بالبارحة ح ًّقا‪ .‬وما �أ�شبه �أوكتافيو�س بقي�صر‪.‬‬
‫ك�أن الزمان يعيد نف�سه‪ ،‬ولكن يف تلك املرة كان �أوكتافيو�س �أذكى من‬
‫قي�صر‪ ،‬و�سيا�س ًّيا �أكرث منه ع�سكر ًّيا‪ ،‬قال له �أغريبا‪:‬‬
‫‪--‬ماذا �سوف تفعل يا �أوكتافيو�س بعد الن�صر يف ميوتنا؟‬
‫كان هاد ًئا كما العادة‪ ،‬هدو ًءا يقرتب من الربود‪ ،‬نظر له �أوكتافيان‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪--‬ما ر�أيك يا �صديقي �أغريبا؟‬
‫قال �أغريبا‪ :‬العودة �إىل روما؟‬
‫�صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪--‬نعم‪ ،‬يبدو هذا‬
‫‪--‬ولكن هل �سيتبعك اجلنود؟‬
‫‪362‬‬
‫‪�--‬سيفعلون‪ ،‬كما فعلوا مع �أبي‪ ،‬فقط يحتاجون �إىل خطبة تلهمهم‪.‬‬
‫انت�صب وخرج من خمدعه‪� ،‬أدى اجلنود التحية الع�سكرية وا�صطفوا‬
‫يف نظام‪ ،‬ركب �صهوة ح�صانه يف خفة‪ ،‬رمق �صفوف جنوده و�صاح ب�صوت‬
‫قوي‪:‬‬
‫‪�--‬أيها اجلنود‪ ،‬لقد قمنا بعمل رائع اليوم‪ ،‬اليوم انك�سر مارك �أنتوين‬
‫�إىل الأبد‪ ،‬وف َّر كاجلبان �إىل ال�شمال‪ ،‬يقولون �إن اجلنود ال ُيذكرون يف‬
‫التاريخ وال يكون ذكر �إال للملوك‪ ،‬واليوم �أنا جندي معكم‪ ،‬ما فعلناه‬

‫ع‬
‫اليوم عظيم‪ ،‬لقد �أنقذنا اجلمهورية من �أيادي قذرة مثل ماركو�س‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أنطونيو�س‪ ،‬اليوم �أيها الرجال �سوف تكونون �أثرياء‪ ،‬املال وال�سلطة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫واملجد‪ ،‬هذا كل ما يريده الإن�سان‪ ،‬كونوا معي و�سوف حت�صلون‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫عليهم‪� ،‬سوف نتجه جنو ًبا �صوب روما‪ ،‬دعونا نطهر روما من الآثام‬
‫ونتجه نحو اخلال�ص الأبدي‪ ،‬فهل �أنتم معي؟‬
‫رددوا‪ :‬يحيا قي�صر‪ ،‬يحيا قي�صر‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬ف�إنه اكت�سب احرتام‬‫على الرغم من �سنه ال�صغرية؛ ت�سعة ع�شر ً‬
‫الرجال ووفاءهم‪ ،‬كان يبدو واث ًقا من نف�سه �إىل �أبعد حد‪ ،‬هاد ًئا‪ ،‬ومتز ًنا‪،‬‬
‫غري فو�ضوي ومنظ ًما‪ ،‬كان ميلك العديد من ال�صفات التي ت�ؤهله �أن يكون‬
‫قائدً ا‪.‬‬
‫حتركت اجلحافل جنو ًبا �صوب روما‪ ،‬ومترت�س عند احلدود الرومانية‬
‫ومل ي�ش�أ الدخول �إىل روما بقوات ع�سكرية بغتة‪ ،‬كان �أذكى من هذا‪ ،‬وكان‬
‫عن�صر املفاج�أة �سلب ًّيا يف تلك احلالة‪ ،‬و�أر�سل �صديقه �أغريبا لي�ستدعي‬
‫�سي�سرو‪ ،‬وبعدها ب�أيام ح�ضر �سي�سرو �إليه‪.‬‬
‫�صب اخلادم ك� َأ�سي نبيذ وان�سحب‪ ،‬جل�س �سي�سرو �أمام �أوكتافيو�س‪،‬‬
‫ذلك ال�صبي الذي يلقبه عامة روما الآن بـ «ديفو�س قي�صر»‪ ،‬ويعني قي�صر‬
‫‪363‬‬
‫الإله �أو �شبح قي�صر‪ .‬كان فتًى هاد ًئا وودي ًعا بعيدً ا ً‬
‫متاما عن و�صفه ك�إله �أو‬
‫�شبح‪ ،‬نظر له �سي�سرو وقال‪:‬‬
‫‪--‬كان ن�ص ًرا رائ ًعا يف ميوتنا‪.‬‬
‫ابت�سم �أوكتافيو�س وقال‪:‬‬
‫‪�--‬شك ًرا لك �أيها ال�سيناتور‪ ،‬عزائي ال�شديد يف هريتو�س وبان�سا‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬كانوا ً‬
‫رجال جيدين‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف �سي�سرو‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪--‬بالنيابة عن نف�سي‪� ،‬أنا مم ٌّ‬

‫ك‬
‫نت لك جدًّا‪ ،‬لقد خل�صتني من كابو�س‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫مزعج ال ينفك ينتهي‪ ،‬ا�سمه مارك �أنتوين‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قال �أوكتافيو�س‪� :‬آمل �أن يكون الأمر كاف ًيا �أيها ال�سيناتور‪.‬‬

‫ع‬
‫توقف �سي�سرو عند كلمات �أوكتافيو�س‪ ،‬كانت كلمة ت�ستدعي التفكري‪،‬‬
‫وت�ساءل يف �شك‪:‬‬
‫‪--‬كاف ًيا!‪ ...‬لأي �أمر؟‬
‫طاملا كان �سي�سرو ي�ؤمن �أن ال �شيء جماين‪ ،‬لقد قدم �أوكتافيو�س خدمة‬
‫�إليه‪ ،‬ولكن كان ي�شعر بالتوج�س من مطالب �أوكتافيان املجهولة‪ ،‬هو يعلم‬
‫�أن الدماء التي ت�سري بني عروقه لي�ست دما ًء عادية‪ ،‬والدماء القي�صرية‬
‫دائ ًما ما تطلب املزيد من ال�سلطة والقوة‪.‬‬
‫قال �أوكتافيان‪:‬‬
‫‪�--‬سيدي ال�سيناتور‪� ،‬أعرفك جيدً ا منذ ال�صغر‪� ،‬سي�سرو �أغنى الرجال‬
‫يف روما على الإطالق‪ ،‬ذكي‪ ،‬طموح‪ ،‬متقلب‪ ،‬وانتهازي �إىل �أبعد‬
‫احلدود‪� .‬أنت يا �سيدي ا�ستطعت البقاء يف كل الع�صور التي َف َق َد‬
‫‪364‬‬
‫فيها الآالف حياتهم‪ ،‬ع�صر �سوال‪ ،‬ثم بومبايو�س‪ ،‬ثم قي�صر‪ ،‬ع�صور‬
‫متتلئ بالنزاعات واحلروب الأهلية‪ ،‬ال ي�ستطيع فعل هذا �إال متملق‬
‫ي�ستطيع �أن يغري لونه يف كل حلظة‪ ،‬وال ت�سئ فهمي‪� ،‬أنا �أحرتم غريزة‬
‫البقاء عندك‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪ :‬هل حتاول �إهانتي؟‬
‫‪--‬احلقيقة لي�ست �إهانة‪ ،‬دعنا نتحدث ب�صراحة‪ ،‬هال فعلنا هذا؟‬
‫‪�--‬أنا �أ�ستمع‪.‬‬
‫‪�--‬سوف �أعطيك بع�ض الأمور التي عليك �أن تنفذها بال تردد‪ ،‬وال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫�س�ؤال‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ما هي؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫‪--‬مارك �أنتوين‪ ،‬لقد ع�سكر يف ال�شمال مبا تَب َّقى من فيالقه‪� ،‬أريدك �أن‬

‫والتوز عي‬
‫تر�سل له اجلرنال ماركو�س ليبيدو�س ببع�ض القوات الع�سكرية‪ ،‬هو‬
‫قي�صري حتى النخاع‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫�صديق قدمي لأبي قي�صر‪،‬‬
‫ت�ساءل �سي�سرو‪ :‬ثم؟‬
‫‪--‬دع ليبيدو�س ي�صنع حتال ًفا مع مارك �أنتوين‪.‬‬
‫قليل‪ ،‬كان مرتب ًكا وال يفهم �شي ًئا مما قاله �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫�صمت �سي�سرو ً‬
‫‪--‬حتا ُل ًفا؟ مارك �أنتوين الآن عدو للدولة الرومانية ب�أمر منك‪ ،‬فلماذا‬
‫تريد �أن ت�صنع معه حتال ًفا؟‬
‫‪�--‬أخربتك‪ ،‬ال ت�س�أل‪.‬‬
‫قال �سي�سرو‪ :‬ح�س ًنا‪� ،‬سوف �أرى ما ميكنني فعله‪.‬‬
‫‪--‬مل �أنت ِه من كالمي‪.‬‬
‫‪�--‬أكمل‪.‬‬
‫‪365‬‬
‫قال �أوكتافيو�س بعد �أن ارت�شف ك�أ�س النبيذ‪:‬‬
‫‪�--‬أريد �أخذ كر�سي القن�صل يف املجل�س‪ ،‬و�أريد �سلطة الربيربيتور‬
‫�إمربيوم‪ ،‬لتكون قيادتي للجنود �شرعية‪.‬‬
‫قال �سي�سرو بحنق‪:‬‬
‫ً‬
‫قن�صل؟ وتريد قيادة‬ ‫‪--‬بحق الآلهة ما الذي تقوله؟ تريد �أن ت�صبح‬
‫روما كحاكم؟ �أنت فتًى يف التا�سعة ع�شرة من عمرك‪ ،‬تنق�صك‬
‫اخلربة وتنق�صك العالقات‪.‬‬

‫ع‬
‫‪�--‬أنت حم ٌّق �أيها ال�سيناتور‪ ،‬لي�س معي كل ما قلت‪ ،‬ولكن معي جي�ش‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫على احلدود الرومانية‪ ،‬وال �أريد دخول روما بقوات ع�سكرية كما‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فعل قي�صر‪� ،‬إن رف�ضت عرو�ضي‪ ،‬ف�إن اخليارات تنفذ من �أمامي‪ ،‬وال‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يبقى يل �إال �أن �أدخل �إىل روما كفاحت �أو غازٍ ال فرق‪ ،‬و�صدقني حني‬

‫ع‬
‫�أخو�ض حر ًبا �أفوز بها مهما كلف الأمر‪ ،‬ول�ست �أنا بالرحيم ك�أبي‬
‫قي�صر‪.‬‬
‫ارب َّد وجه �سي�سرو و ُبهت بعد كلمات �أوكتافيو�س ال�صارمة‪ ،‬فا�ستطرد‬
‫�أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬قدمني �إىل �شيوخ املجل�س ب�إحدى خطبك الرائعة‪ ،‬ف�أنت الآن حاكم‬
‫املجل�س‪ ،‬ولو دعمني �سي�سرو احلكيم‪ ،‬فلن يعار�ض �أحد‪.‬‬
‫‪--‬مل يكن �أمامه خيار �آخر �إال �أن ي�ستمع �إىل �أوكتافيو�س ويحاول �أن‬
‫يتفادى �أي فعل غبي �أو متهور‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا �أيها القن�صل‪ ،‬كما ت�أمر‪.‬‬
‫يف الغال ال يوجد �إال الثلوج والندم‪ ،‬ويف خالل �سنة ون�صف يف مع�سكر‬
‫مغلق‪ ،‬كان م�صدر غذائهم الوحيد هو ال�صيد يف الغابات‪� ،‬صيد الأرانب‬
‫والأيائل والغزالن‪ ،‬و�أحيا ًنا الطيور‪ .‬انت�شرت يف املع�سكر رائحة �أيل م�شوي‪،‬‬
‫‪366‬‬
‫كان هو يف خمدعه‪ً ،‬‬
‫ثمل‪ ،‬م�شتتًا‪� ،‬ضائ ًعا‪� ،‬ش َّبت نريان الك�سل واخلمول يف‬
‫ج�سده‪ ،‬ي�شرب النبيذ واخلمر حتى يرمتي متع ًبا على �سريره �أو حتى على‬
‫الأر�ض‪ ،‬ال فرق‪ .‬كانت ال�سنوات التي مرت كفيلة بتغريه‪ ،‬طالت حليته‬
‫قار�سا‪،‬‬
‫قليل و�أكرث جدية‪ ،‬كان اجلو ً‬ ‫و�أ�صبحت كثيفة وكثة‪� ،‬أ�صبح كئي ًبا ً‬
‫وقف ما تبقى من كتائبه وجنوده حتت الثلوج يرتدون فوق �أكتافهم فر ًوا‬
‫حليوانات مفرت�سة‪ ،‬مت ا�صطيادها و�سلخها ودبغها قبل دخول ال�شتاء‬
‫وهطول الثلوج‪ ،‬ويف حلظة كان هناك جلبة خارج املع�سكر‪ ،‬كانت هناك‬
‫كتائب تقرتب وعربات و�صفوف من اجلنود ورايات رفرفت يف الهواء‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ترجل اجلرنال «ماركو�س �إميليو�س ليبيدو�س» من على �صهوة‬ ‫العا�صف‪َّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫قليل مع وجه حازم ومالمح‬ ‫رجل يف عقده اخلام�س‪ ،‬ق�ص ًريا ً‬ ‫فر�سه‪ ،‬كان ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صارمة‪ ،‬اقرتب من املع�سكر ورافقه جمموعة من اجلنود حلرا�سته‪ ،‬خرج‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫قليل من الوقت حتى‬ ‫مارك �أنتوين من خمدعه و�ألقى �إليه نظرة‪� ،‬أخذ ً‬
‫ا�ستعاد جز ًءا من تركيزه‪� ،‬ض َّيق عينيه حتى يرى َمن هذا‪ ،‬وبعد حلظات‬
‫من التيه قد عرف �أخ ًريا‪ ،‬اقرتب منه وقال‪:‬‬
‫‪--‬جرنال ليبيدو�س؟ ما الذي �أح�ضرك هنا؟‬
‫قال ليبيدو�س‪ :‬هل �سنتحدث هنا؟‬
‫ف�أردف مارك �أنتوين‪:‬‬
‫تعال بالداخل‪.‬‬‫‪--‬بالت�أكيد ال‪ ،‬فاجلو قار�س‪َ ،‬‬
‫دخلوا �إىل خمدع مارك �أنتوين‪ ،‬و�أح�ضر لهم اخلدم الطعام‪ ،‬وكان‬
‫حلم الأيل واخلبز مع النبيذ‪ ،‬قال ليبيدو�س‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك يا �صديقي بعد هذا الوقت الطويل؟‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين ابت�سامة باهتة و�أردف بنربات ا�ستهزاء‪:‬‬

‫‪367‬‬
‫‪--‬كما ترى‪ ،‬لي�س هناك �أف�ضل من هذا‪.‬‬
‫قال ليبيدو�س يف نربات ميل�ؤها اللوم‪:‬‬
‫‪--‬كيف تعي�ش �أيها اجلرنال و�سط هذه القمامة؟‬
‫يوما �أنك �سوف ت�ألفها‪.‬‬
‫كاف ليجعلك ت�ألف �أ�شياء مل تتخيل ً‬ ‫‪--‬الوقت ٍ‬
‫قال ليبيدو�س‪ :‬بحق الآلهة‪ ،‬ما الذي حدث لك؟‬
‫‪--‬تغريت‪ ،‬كل �شيء يتغري‪.‬‬

‫ع‬
‫قال ليبيدو�س‪ :‬لقد كنت قن�صل روما‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫‪--‬ومل �أعد بعد الآن‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ثم �س�أل‪ :‬ما الذي �أح�ضرك الآن؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬املجل�س‪.‬‬
‫قالها ليبيدو�س و�شرب من ك�أ�س النبيذ‪.‬‬
‫�صاح �أنتوين‪ :‬ت ًّبا للمجل�س‪ ،‬لقد ن�صبوا يل كمي ًنا‪.‬‬
‫‪--‬املجل�س يحافظ على اجلمهورية‪.‬‬
‫�س�أل ماركو�س بحنق‪:‬‬
‫‪--‬وماذا يريد املجل�س اللعني الآن؟‬
‫‪--‬حتا ُل ًفا‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين بده�شة‪ :‬حتا ُل ًفا؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬حتا ُل ًفا �سر ًّيا‪ ،‬ال يجب �أن يعلم �أحد عنه �شي ًئا‪.‬‬
‫ابت�سم مارك �أنتوين وقال‪ :‬مكيدة؟ �أ�شعر بها‪.‬‬
‫‪--‬كما تقول‪ ،‬هي املكيدة‪.‬‬
‫‪368‬‬
‫�س�أل ماركو�س‪:‬‬
‫‪--‬حتا ُل ًفا مع من؟ ومكيدة �ضد من؟ ومن يريد التحالف مع �شخ�ص‬
‫منهزم مثلي؟‬
‫‪--‬لديك هنا �أكرث من «�ستِّ » فيالق م�شتتة‪ ،‬حتتاج �إىل الطعام والذهب‪،‬‬
‫و�أنت لن ت�ستطيع �إطعامها �أو الدفع لها‪.‬‬
‫‪--‬هذا �صحيح‪.‬‬
‫قال ليبيدو�س‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬سوف �أ�ساندك‪� ،‬سوف �أدفع �إىل فيالقك‪ ،‬و�سوف �أطعمهم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫‪--‬واملقابل؟‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪--‬عليك بال�صرب‪ ،‬الذي يريد التحالف معك يرف�ض ك�شف هويته الآن‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫�أطلق مارك �أنتوين �ضحكة وقال‪:‬‬


‫‪�--‬أهي �أحجية؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ولكن كل �شيء يف وقته املنا�سب‪.‬‬
‫قالها و�صب ك�أ�س نبيذ �أخرى‪ ،‬كان مارك �أنتوين مت�شك ًكا ومرتددًا من‬
‫ليبيدو�س‪ ،‬كان الأمر مري ًبا �إىل حدٍّ ما‪ ،‬ولكنه يف النهاية يحتاج �إىل فر�صة‬
‫ولو �ضئيلة لي�ستطيع النهو�ض بعد �سقوطه املدوي‪ ،‬وكان ليبيدو�س كمن‬
‫�ألقي له طوق جناة يف �أمواج متالطمة بال هوادة‪.‬‬

‫�ساد ال�صمت بني �شيوخ املجل�س عندما وقف �سي�سرو معل ًنا عن حدث‬
‫عظيم‪ .‬تَر َّقب اجلميع الكلمات التي �سوف تنبثق من فم �سي�سرو احلكيم‬
‫بعد حلظات قليلة‪� .‬أثار دخول قوات �أوكتافيو�س الع�سكرية �إىل روما �ضجة‬
‫‪369‬‬
‫كبرية‪ ،‬كان العامة ميل�ؤهم الفرح بعودة �أوكتافيو�س وريث قي�صر �إىل‬
‫روما‪ ،‬ولكنَّ للنبالء خوفهم وحذرهم كالعادة‪ ،‬قال �سي�سرو‪:‬‬
‫يوما عظي ًما يف تاريخ‬ ‫‪�--‬أيها الأع�ضاء املبجلون‪ ،‬اليوم �سوف يكون ً‬
‫روما‪ ،‬منذ عهود ونحن ن�أمل لروما اخلال�ص‪ ،‬مرو ًرا بعهد �سوال �إىل‬
‫عهد احلكم الثالثي الأول‪ ،‬بني يوليو�س قي�صر وبومبايو�س ماجنو�س‬
‫وماركو�س كرا�سو�س‪ ،‬والآن بعد كل هذا الوقت‪ ،‬دعونا ن�س�أل �س� ًؤال‪،‬‬
‫هل نن�شد اخلال�ص بالفعل؟ اخلال�ص‪ ،‬كلمة يحلم بها كل مواطن‬

‫ع‬
‫روماين منذ قرون‪ ،‬من العامة �أو من النبالء �أو حتى الكهنة والأحبار‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�شخ�صا رمبا قد �سمعتم عنه جميعكم‪ ،‬هو َمن‬ ‫اليوم �سوف �أقدم لكم ً‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حافظ على اجلمهورية من براثن اال�ستبداد‪ ،‬هو �صغري يف ال�سن‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫نعم‪ ،‬ولكنه يحمل من ال�صفات النبيلة ما جعله �أ�صغر قن�صل يف‬

‫ع‬
‫تاريخ روما ب�أ�سرها‪ ،‬ويحمل من الذكاء ما يكفي لإدارة الدولة‪ ،‬ومن‬
‫القوة ما ي�ضاهي به �أعتى جرناالت الدولة الرومانية؛ �أقدِّ م لكم‪،‬‬
‫غايو�س �أوكتافيو�س قي�صر‪.‬‬
‫وظل اجلميع يرمق �أوكتافيو�س وهو يقرتب من مقعد القن�صل بخطوات‬
‫هادئة‪ ،‬وارتفع الت�صفيق بني اجلال�سني‪ .‬جل�س �أوكتافيو�س على املقعد ورفع‬
‫يده‪َ ،‬‬
‫فخ َف َت الت�صفيق احلاد رويدً ا رويدً ا حتى انعدم‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س بعد حلظات من ال�صمت املطبق الذي لفح قاعة‬
‫املجل�س‪:‬‬
‫‪--‬يبدو هذا اليوم م�ألو ًفا يل ب�شدة‪ ،‬هنا‪ ،‬يف �أر�ض هذا املجل�س وقف‬
‫�أعظم الرجال على الإطالق‪� ،‬أعظم رجال روما على مر تاريخها‪،‬‬
‫هنا وقف غايو�س يوليو�س قي�صر يحدثكم عن �آماله يف بناء روما‬
‫جديدة‪ ،‬مدينة �أفالطونية فا�ضلة طاملا َت َّدث عنها الفال�سفة‪ ،‬وها‬

‫‪370‬‬
‫�أنا هنا اليوم �أيها الأعزاء‪� ،‬أقف على تلك الأر�ض التي وقف عليها‬
‫�أبي‪ ،‬و�أجل�س على املقعد الذي جل�س عليه‪� ،‬أنا �أفكر يف فرتة حكمي‬
‫كقن�صل �أن �أعرب بروما �إىل حقبة جديدة‪ ،‬حقبة خمتلفة يف كل �شيء؛‬
‫العدالة‪ ،‬املجل�س‪ ،‬ال�شعب‪ ،‬كل �شيء يجب �أن يتغري ليتنا�سب مع تلك‬
‫احلقبة اجلديدة‪� .‬أنتم �أيها ال�شيوخ‪ ،‬النبالء‪ ،‬الأغنياء‪ ،‬هل �أنتم معي‬
‫لبناء تلك احلقبة اجلديدة؟‬
‫طفق ال�شيوخ يف الت�صفيق احلاد‪ ،‬حتى �أ�ضاف �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬منذ �سنني اقرتف هذا املجل�س خط�أً ً‬

‫ع‬
‫فادحا عندما مت �إ�صدار عفو تام‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�إىل قتلة قي�صر‪ ،‬يا للوقاحة! كيف يتم غفران اخليانة؟ وهذا �أول �أمر‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يل كقن�صل‪� ،‬أنا �أعترب ًّ‬

‫ن‬
‫كل من بروتو�س وكا�سيو�س �أعدا ًء للجمهورية‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫الرومانية‪.‬‬
‫كانت كلماته مفاجئة للجميع‪ ،‬مقلقة ل�سي�سرو؛ لأن كا�سيو�س وبروتو�س‬
‫من �أ�صدقاء �سي�سرو القدامى‪ ،‬وهو َمن �ضغط على �شيوخ املجل�س ليتم‬
‫�إ�صدار هذا العفو العام‪ ،‬ومل يكن يف خميلته �أن �أوكتافيو�س �سوف يثري هذا‬
‫املو�ضوع جمددًا بني اجلموع وال�شيوخ‪� .‬شعر �سي�سرو بالغ�ضب والهزمية‪،‬‬
‫ذلك ال�شيخ املخ�ضرم قد احتال عليه �صبي يف التا�سعة ع�شرة من عمره‪،‬‬
‫ً‬
‫قن�صل ولديه‬ ‫الآن قد دخل �أوكتافيو�س روما بقواته الع�سكرية‪� ،‬أ�صبح‬
‫بديل لروما لوقت معني‬ ‫�سلطة بريربيتور �إمربيوم‪ ،‬والتي جتعله حاك ًما ً‬
‫من الزمن‪ ،‬ذلك الوقت الكايف ليحكم روما ك�إمرباطور‪ ،‬كما كان يريد‬
‫يوليو�س قي�صر �أن يفعل يف وقت ما‪� ،‬شعر �أنه قد �صنع ديكتاتو ًرا �آخر‪ ،‬لكن‬
‫هذا خمتلف بالرغم من �صغر �س ِّنه‪ ،‬يختلف عن �سوال ويختلف عن قي�صر‬
‫كذلك‪ ،‬قد جمع دهاء ال�سيا�سة والقوة الع�سكرية يف �آن واحد‪.‬‬
‫ا�ستطرد �أوكتافيو�س‪:‬‬

‫‪371‬‬
‫‪--‬كيف نريد �أن نقيم حقبة قائمة على العدالة ونحن مل نحققها‬
‫لأف�ضل الرجال؟ كيف لنا �أن ننام هانئني يف بيوتنا وعلى � ِأ�س َّرتنا‬
‫وبروتو�س وكا�سيو�س اخلونة َيهنئون باحلياة واحلرية؟ لي�س هذا �أنا‪.‬‬
‫لي�س �أنا الذي بيده حتقيق العدالة وال يحققها‪ ،‬هل �أنتم معي �أيها‬
‫ال�سيناتوريني؟ كونوا معي ول�سوف ت�شاهدون املدينة الفا�ضلة على‬
‫تلك الأر�ض‪ ،‬كما وعد �أبي قي�صر‪.‬‬
‫كان معظم ال�شيوخ معه‪ ،‬والآخرون ميل�ؤهم اخلوف منه ومن‬

‫ع‬
‫الديكتاتورية املحتملة‪ ،‬انت�شرت الأخبار �إىل العامة عن االنتقام املن�شود‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من قتلة قي�صر‪ ،‬و�أطلق عليه النا�س يف ال�شوارع «ديفي فيلو�س»‪ ،‬وتعني‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫«ابن الإله»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪372‬‬
‫(‪)3‬‬

‫‪--‬ر�سالة من روما يا �سيدي‪.‬‬


‫قالها احلار�س عندما دلف �إىل خمدع بروتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬كانت‬
‫�أمامهم خريطة على املن�ضدة ويبدو �أنهم يتفقون على حتركات يف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فيالقهم‪ ،‬وبجوار اخلرائط و�ضعت ك�ؤو�س النبيذ الفارغة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫نه�ض كا�سيو�س ب�سرعة وقال‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪�--‬أعطها يل‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫تناولها كا�سيو�س من يد احلار�س و�ألقى نظرة �إىل بروتو�س بقلق‪ ،‬ثم‬
‫م َّرت عيناه على الكلمات‪:‬‬
‫‪--‬من �سي�سرو‪� ،‬إىل �أ�صدقائي الأعزاء‪ ،‬بروتو�س وكا�سيو�س‪� ،‬أمتنى �أن‬
‫تكونا بخري حال‪ ،‬كتبت �إليكم هذه الر�سالة لتحذيركم‪� ،‬أن الفتى‬
‫�أوكتافيو�س جامح‪ ،‬يخافه اجلميع‪ ،‬من وراء هدوئه اجلارف ووجهه‬
‫الوديع تكمن املكيدة واخلداع واملكر يف �أ�صعب وجوهها‪ ،‬لقد �أَ ْع َل َنكما‬
‫منذ مدة عد َّوين للدولة الرومانية‪ ،‬ويح�شد قوات وجحافل ليزحف‬
‫�إليكم‪� ،‬أنقذونا يا �أبطال اجلمهورية من هذا الطاغي امل�ستبد كما‬
‫فعلتم �ساب ًقا‪� ،‬إنه �أ�سو�أ من �سوال و�أ�سو�أ من يوليو�س قي�صر نف�سه‪،‬‬
‫�أنقذوا اجلمهورية‪� ،‬أنقذوا �أهل روما‪� ،‬إن الفتى �أوكتافيو�س ميلك‬
‫خم�سة فيالق‪ ،‬ع�شرة �آالف من امل�شاة و�ألفني من الرماة‪ ،‬وال ميلك‬
‫الكثري من ال�سفن‪ ،‬مع كامل احرتامي‪� ،‬صديقكم العزيز‪� ،‬سي�سرو‪.‬‬
‫اقرتب منه بروتو�س وقال‪:‬‬
‫‪373‬‬
‫‪--‬ماذا هناك يا كا�سيو�س؟‬
‫‪--‬ر�سالة من �سي�سرو‪.‬‬
‫قال بروتو�س باندها�ش‪� :‬سي�سرو‪ .‬بعد كل هذه ال�سنوات؟‬
‫ثم �س�أل‪ :‬ماذا يريد؟‬
‫‪�--‬إنه حتذير ورجاء‪.‬‬
‫ف�س�أل‪ :‬ماذا قال يف تلك الر�سالة يا كا�سيو�س؟‬
‫‪--‬يقول �إن �أوكتافيو�س قد �أعلننا عد َّوين للجمهورية ويريد الزحف �إلينا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫لينتقم لقي�صر‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫بعد �نأن هزم مارك �أنتوين‪ ،‬وان�سحب‬ ‫بآن‪،‬‬
‫ت‬
‫ش‬
‫قال باندها�ش‪� :‬أوكتافيو�س ال�صغري؟‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫زيع‬
‫‪--‬نعم‪� ،‬إنه ي�سيطر على روما ال‬
‫مارك �أنتوين ً‬
‫�شمال مبا تَب َّقى من قواته‪.‬‬
‫‪--‬ومباذا �سوف يزحف �إلينا؟‬
‫قال كا�سيو�س بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬الأحمق‪ ،‬ال ميلك ما يكفي ليواجهنا‪ ،‬لديه فقط خم�سة فيالق‪ ،‬بينما‬
‫الآن يزداد عدد فيالقنا �إىل االثني ع�شر‪� ،‬سوف ن�سحقه‪.‬‬
‫مل يكن بروتو�س م�سرو ًرا مثل كا�سيو�س‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ا�سمع‪� ،‬أنا �أعرف �أوكتافيو�س منذ كان �صغري‪� ،‬إنه �سيا�سي وداهية‪.‬‬
‫‪--‬ال�سيا�سة لي�س لها عالقة باملعركة‪ ،‬املعركة يتم ح�سمها فقط باجلنود‪.‬‬
‫�س�أل بروتو�س‪ :‬وهل �سننتظر حتى يزحف �إلينا؟‬
‫‪--‬بالت�أكيد ال‪� ،‬سوف نزحف نحن �إىل روما‪ ،‬ون�أخذه على حني غرة‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫د َّوى غناء ال�سيوف يف ال�ساحة‪ ،‬وقف كا�سيو�س و�سط جنوده وفيالقه‬
‫عال‪ ،‬ولزم اجلميع ال�صمت‪ ،‬ف�صاح كا�سيو�س ب�صوته اجلهور‪:‬‬ ‫فوق منرب ٍ‬
‫‪�--‬أيها اجلنود‪� ،‬إن املجل�س ي�ستغيث بنا‪� ،‬إن امل�ستبد الذي حل على روما‬
‫من جديد يحمل بني عروقه دما ًء قي�صرية‪� ،‬إنه فتًى �صغري‪ ،‬يدعى‬
‫غايو�س �أوكتافيو�س قي�صر‪ ،‬ي�سيطر على روما الآن‪ ،‬يروع �أهلها‪� ،‬إنه‬
‫اال�ستبداد يا �سادة يقيم يف �أر�ض املجل�س‪ ،‬على احلوائط واجلدران‪،‬‬
‫ويف قلوب الرجال‪� ،‬سوف �أعود �إىل روما لتحريرها من الطاغية‬
‫امل�ستبد اجلديد‪ ،‬للمرة الثانية‪ ،‬للمرة الثانية دعونا نكون � ً‬
‫أبطال‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ونحرر اجلمهورية من براثن م�ستبد �آخر‪ ،‬يف البداية كان يوليو�س‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫قي�صر‪ ،‬والآن وريثه ال�صبي‪� ،‬أوكتافيو�س قي�صر‪� ،‬إىل متى �سوف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫تعاين روما من احلكم اال�ستبدادي؟ �أنا كمواطن روماين ال �أر�ضى‬

‫والتوز عي‬
‫بهذا‪ ،‬وكجندي �سوف �أحارب هذا حتى �آخر رمق يل‪ ،‬فهل �أنتم معي؟‬
‫انتهى كا�سيو�س من خطبته التي �ألهبت احلما�س يف عروق اجلنود‬
‫و�أعطى �أم ًرا باال�ستعداد للزحف نحو روما‪ ،‬حتت طبقات من ال�صوف‬
‫الأ�س َود واجللد املقوى بالزيت املغلي واحللقات النحا�سية‪ ،‬ارتدى اجلنود‬
‫دروعهم‪ ،‬وحتركت اجلحافل والقوات وعلى ر�أ�سها كا�سيو�س وبروتو�س‪.‬‬

‫يف روما �ساد هدوء ن�سبي‪...‬‬


‫كان م�سا ًء كئي ًبا غائ ًما‪ ،‬جل�س �أوكتافيو�س مع �أمه �آ ْت َيا و�شقيقته �أوكتافيا‪،‬‬
‫مل يكادوا ي�صدقون �أن هذا هو �أوكتافيو�س ال�صغري‪ ،‬كانت مفاج�أة لآ ْت َيا‬
‫�أنه تَغ َّلب على مارك �أنتوين‪ ،‬وعاد �إىل روما وهو ظافر بالن�صر‪ ،‬وظلت‬
‫متاما‪ ،‬مل يعد �أوكتافيان ال�صغري ذا‬ ‫تراقبه بنظرات طويلة‪ ،‬لقد اختلف ً‬
‫عاما الآن‪.‬‬‫الثالثة ع�شر ً‬
‫‪375‬‬
‫قالت �آ ْت َيا‪:‬‬
‫‪--‬كيف ق�ضيت �أيامك يف كامبانيا عندما َ‬
‫رحلت؟‬
‫أياما �صعبة‪ ،‬بالكاد جنحت يف تكوين قوات‬
‫قال �أوكتافيو�س‪ :‬كانت � ً‬
‫ع�سكرية‪ ،‬وكنت �س�أف�شل لوال �صديقي �أغريبا‪.‬‬
‫قالت �أوكتافيا‪:‬‬
‫‪--‬وملاذا رحلت يا �أوكتافيان؟ لقد خ�شيتُ عليك‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ابت�سم وقال‪� :‬أعتذر لك يا �شقيقتي العزيزة‪ ،‬لكن مل يكن هناك طريقة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أخرى ال�سرتداد حقي من �أنتوين‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قالت‪ :‬وهل جنحت با�سرتداد حقك؟‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬لي�س هذا فقط‪ ،‬بل وجمل�س ال�شيوخ الآن حتت يدي‪.‬‬
‫�س�ألت �آ ْت َيا‪ :‬ومارك �أنتوين؟‬
‫‪--‬فر ً‬
‫�شمال‪.‬‬
‫‪--‬هل �ستلحق به ً‬
‫�شمال؟‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬ال‪ ،‬ملارك �أنتوين خطط �أخرى‪.‬‬
‫كانت �آ ْت َيا فخورة ب�أوكتافيو�س كث ًريا‪ ،‬مل تعتقد �أنه يحمل هذا القدر من‬
‫احلنكة ال�سيا�سية‪ ،‬هو الآن ي�سيطر على روما وجمل�س ال�شيوخ‪ ،‬ف�س�ألت‪:‬‬
‫‪--‬كا�سيو�س وبروتو�س قتلة قي�صر‪ ،‬ماذا �سوف تفعل؟‬
‫قال بابت�سامة‪:‬‬

‫‪376‬‬
‫‪--‬ال تقلقي يا �أمي‪� ،‬سوف �أنتقم لأبي قي�صر مهما كلف الأمر‪.‬‬
‫‪--‬و�أتباعهم يف املجل�س؟‬
‫‪--‬املجل�س ب�أكمله حتت �أقدامي‪.‬‬
‫قالت يف �شيء من الرتدد‪:‬‬
‫‪--‬مارك �أنتوين‪� ،‬أعلم �أنه كان يرف�ض ت�سليمك �أموالك‪� ،‬إال �أنه فعل هذا‬
‫خو ًفا منه على هذه العائلة‪ ،‬يف النهاية هو ال ي�ستحق املوت‪.‬‬
‫تخرثت ابت�سامة �أوكتافيو�س‪ ،‬و�أ�شار �إىل جرح �صغري حمفور يف وجهه‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وقال ب�شيء من احلدة‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ل‬
‫‪�--‬أال تذكري هذا اجلرح‪ ،‬كان ب�سكني مارك �أنتوين‪ ،‬مارك �أنتوين حقري‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫‪--‬لكن ال تقلقي‪ ،‬ال �أنوي قتله يف النهاية‪ .‬والتوز عي‬
‫وال ي�ستحق ال�شفقة منك يا �أمي‪.‬‬
‫ثم هد�أت نرباته وا�ستطرد‪:‬‬

‫قالت �أوكتافيا‪ :‬بعد كل ما فعل؟‬


‫‪--‬نعم‪ ،‬بعد كل ما فعل‪.‬‬
‫يف هذه الأثناء دخل �أغريبا �أحنى ر�أ�سه لآ ْت َيا وقال‪:‬‬
‫‪--‬م�ساء اخلري �سيدتي‪ ،‬اعذريني �إن ح�ضرت بال موعد‪ ،‬لكن الأمر‬
‫هام‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪� :‬أعرفكم‪ ،‬ماركو�س فيب�سانيو�س �أغريبا‪� ،‬صديقي‬
‫الويف‪.‬‬
‫قال �أغريبا‪ :‬مرح ًبا �سيداتي‪.‬‬
‫‪377‬‬
‫رد ْدنَ له التحية‪ ،‬وقف �أوكتافيو�س وقال‪:‬‬
‫‪َ --‬‬
‫تعال معي‪.‬‬
‫واجته به �إىل غرفته‪ ،‬وعلى الطاولة �صب ك�أ�سني من النبيذ‪� ،‬أعطى له‬
‫�إحداهما وقال‪:‬‬
‫‪--‬ماذا هناك‪َ ،‬ت َّدثْ ‪.‬‬
‫تناول �أغريبا ك�أ�س النبيذ من يد �أوكتافيو�س وقال‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬نحن يف م�شكلة كبرية‪.‬‬

‫كتيزحفون �إىل روما‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫ب‬
‫قال �أوكتافيو�س بانتباه‪ :‬ما هي؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫‪�--‬إن كا�سيو�س‬

‫التو‬ ‫و‬
‫وبروتو�س‬

‫زيع‬
‫مل يهتز �أوكتافيو�س وقال يف هدوء‪:‬‬
‫‪--‬وما امل�شكلة يف هذا؟‬
‫مل يفهم �أغريبا هدوء �أوكتافيو�س غري املربر‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬إن كا�سيو�س وبروتو�س يفوقوننا عددًا يف الفيالق‪ ،‬تقول الأخبار �إن‬
‫لديهم �أكرث من ع�شرين فيل ًقا‪ ،‬ثالثني �ألف رجل من امل�شاة‪ ،‬وع�شرة‬
‫�آالف من الرماة‪ ،‬وثالثة �آالف من الك�شافة وامل�ستطلعني‪.‬‬
‫�أطلق �أوكتافيو�س �ضحكة‪ ،‬ف�صمت �أغريبا يف اندها�ش ً‬
‫قليل و�س�أل‪:‬‬
‫‪--‬ما امل�ضحك؟‬
‫جترع من ك�أ�س نبيذه وقال‪:‬‬
‫‪�--‬إن �سي�سرو مل يخيب ظني �أبدً ا‪ ،‬هو �أحمق مثل الكثري‪ ،‬كنت �أظنه‬
‫‪378‬‬
‫�أذكى من هذا‪.‬‬
‫مل ي�ستوعب �أغريبا ما يقوله �أوكتافيو�س ف�أردف‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تعني؟‬
‫‪�--‬إنها الطبيعة يا �أغريبا‪� ،‬إن كنت تنوي �أن ت�صطاد فري�سة جيدة‪،‬‬
‫عليك �أن ت�ضع طع ًما جيدً ا‪ ،‬كنت �أعلم �أن �سي�سرو �سوف يحذر‬
‫بروتو�س وكا�سيو�س منذ �أن �أعلنتهما �أعدا ًء للجمهورية‪ ،‬والآن‬
‫متاما‪.‬‬
‫بروتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬يزحفون �إىل روما كما خططت ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قال �أغريبا‪:‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬هذا ال ينفي �أن فيالقه ت�ستطيع �أن ت�سحقنا يف �أي وقت‪ ،‬و�أن �أعدادهم‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫تفوقنا عددًا ب�أ�ضعاف‪.‬‬
‫‪--‬منذ �سنني طويلة �س�ألني قي�صر �س� ًؤال بعد عودته �إىل روما من الغال‪،‬‬
‫قال يل‪ :‬لو كنت مكاين الآن‪ ،‬وكان ذلك املجد كله لك‪ ،‬الذهب‪،‬‬
‫واجلحافل والفيالق‪ ،‬حب العامة‪ ،‬واحرتام النبالء‪ ،‬ماذا �سوف‬
‫علي �آن ذاك‪ ،‬ولكني �أذكر هذا ك�أنه البارحة‪،‬‬ ‫تفعل؟ كان �س�ؤاله �صع ًبا َّ‬
‫قلت له بثقة وبال تردد‪� :‬س�أحكم العامل‪ ،‬و�س�ألني جمددًا‪ :‬كيف �ستفعل‬
‫هذا؟ �أخربته حينها‪� :‬إن الطريقة الوحيدة املمكنة لتحقيق ذلك هو‬
‫ال�شعب‪ ،‬و�صنع التحالفات‪ ،‬حينها ابت�سم قي�صر وانحنى على �أذين‬
‫وهم�س‪�« :‬سوف حتكم العامل يا فتى‪� ،‬أنا �أثق بهذا»‪ ،‬ال تقلق يا �أغريبا‪،‬‬
‫�سوف �أحكم العامل مهما كلفني الأمر‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪ :‬كل ما عليك فعله الآن‪ ،‬جهز بع�ض القوات ال�صغرية‪،‬‬
‫�سوف نخرج �س ًّرا من روما‪.‬‬
‫�س�أل �أغريبا‪� :‬إىل �أين؟‬
‫‪379‬‬
‫‪�--‬سوف نتجه �صوب الغال‪.‬‬
‫قال �أغريبا بعد حلظة من التفكري‪:‬‬
‫‪--‬تريد �صنع حتالف مع مارك �أنتوين؟‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬حتالف �أخري �سوف يق�ضي على �أعدائنا‪.‬‬
‫‪--‬وما الذي �سوف يرغم مارك �أنتوين على املوافقة؟‬
‫‪--‬لكي ت�ستطيع �أن حتكم �إمرباطورية يا �أغريبا‪ ،‬عليك �أن تفهم‬
‫الطبيعة الب�شرية الرا�سخة يف �أعماق اجلميع‪ ،‬عليك �أن تفهم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫غرائزهم وطبائعهم احليوانية‪ ،‬عليك �أن تعرف متى �سوف تطعم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الأ�سد‪ ،‬ومتى �سوف ترو�ضه‪� .‬إن مارك �أنتوين يغرق الآن يف بحر من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫اخل�سارة والندم‪ ،‬منذ فرتة �أر�سلت له اجلرنال ليبيدو�س ليمهد لهذا‬

‫ع‬
‫التحالف‪ ،‬الآن مارك �أنتوين يجهل �أنني من �أدفع �إىل فيالقه‪ ،‬و�أطعم‬
‫جنوده‪ ،‬ولن ي�ستطيع رف�ض التحالف‪ ،‬و�إال ف�سيكون رف�ضه كال�سكني‬
‫الباردة التي تذبحه ببطء وبهدوء‪.‬‬
‫‪--‬وكيف توقعت حدوث كل هذا والتخطيط له؟‬
‫‪--‬مل �أتوقع �شي ًئا‪� ،‬أخربتك �أنه على املرء �أن يكون على علم بالطبائع‬
‫الب�شرية وال�شهوات والغرائز احليوانية داخل الب�شر لي�ستطيع‬
‫ال�سيطرة عليها‪ ،‬وي�ستغلها يف �صاحله‪� ،‬شهوة ال�سلطة عند �سي�سرو‬
‫حتركه‪ ،‬وغريزة البقاء عند مارك �أنتوين كبرية‪� ،‬سي�سرو ا�ستخدم‬
‫�سلطته لتحذير �أ�صدقائه القدامى‪� ،‬أما مارك �أنتوين ف�سيحاول‬
‫البقاء بكل ما �أوتي من قوة‪ ،‬حتى و�إن كان الأمر هو ُ�صنع حتالف‬
‫�أخري مع عدو له‪ ،‬كل ما فعلته هو ا�ستغالل كل من �سي�سرو ومارك‬
‫�أنتوين والغريزة الني ت�سيطر على كل منهم‪.‬‬
‫ان�صاع �أغريبا �إىل �أوامر �أوكتافيو�س‪ ،‬جهز بع�ض القوات القي�صرية‪،‬‬
‫‪380‬‬
‫و�أيام قليلة وخرجوا �س ًّرا من روما‪ ،‬وال يعلم �أحد عن وجهتهم �شي ًئا‪.‬‬
‫بعد دخولهم �شمال الغال كان ال�ضباب كثي ًفا لدرجة انعدام الر�ؤية‪،‬‬
‫وقف ماركو�س �أنطونيو�س واجلرنال ليبيدو�س يف انتظار احلليف املجهول‬
‫�آملني �أن يح�ضر يف الوقت املنا�سب قبل هطول الثلج‪ ،‬ووقفوا �أمام املع�سكر‬
‫وبدا على مارك �أنتوين امللل وعدم ال�صرب‪ ،‬قال مارك �أنتوين يف متلمل‪:‬‬
‫‪--‬عليك اللعنة يا ليبيدو�س‪ ،‬نحن ننتظر منذ �ساعة‪.‬‬
‫قال ليبيدو�س‪ :‬انتظر‪� ،‬سوف ي�أتي الآن‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬سوف �أدخل لأ�شرب ك� ًأ�سا من النبيذ‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪--‬ال‪ ،‬يجب �أن ن�ستقبله ب�أنف�سنا‪ ،‬ويجب �أن يكون عقلك �صاف ًيا عند‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫احلديث معه‪ ،‬هو رجل حاد وال يحب الأخطاء‪.‬‬
‫‪--‬من هو حليفك ال�سري ليبيدو�س؟‬
‫‪�--‬سوف تعرف بعد قليل‪.‬‬
‫من الذي يحمل من ال�شجاعة ما يكفي ليخالف �أمر روما وجمل�س‬
‫ال�شيوخ ويتحالف مع �شخ�ص منهزم وخائن الآن؟ كان مارك �أنتوين‬
‫غار ًقا يف التفكري‪ ،‬حتى التقطت �أذناه �صوتًا لأقدام تقرتب تتبعها خيالة‪،‬‬
‫ومن ال�ضباب العاتي خرجت الفرق الع�سكرية‪ ،‬الحظ الرايات احلمراء‬
‫متاما‪� ،‬إنها‬
‫التي ترفرف وعليها الن�سر الذهبي املنق�ض‪ ،‬كان يدرك ما ر�آه ً‬
‫قوات قي�صرية‪ ،‬وعلى ر�أ�س القوات رجالن‪� ،‬أحدهما نحيل وطويل والآخر‬
‫قليل‪ ،‬وقفت القوات �أمام املع�سكر‪ ،‬اقرتب رجل وانحنى مبحاذاة‬ ‫ممتلئ ً‬
‫احل�صان وترجل �أوكتافيو�س من على ح�صانه ومن ورائه �أغريبا‪ ،‬اقرتب‬
‫من ماركو�س وليبيدو�س‪ ،‬كانت اخلوذة التي يرتديها منعت مارك �أنتوين‬
‫�أن يتعرف عليه من الوهلة الأوىل‪ ،‬خلع خوذته‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪381‬‬
‫‪--‬جرنال ليبيدو�س‪.‬‬
‫�ضيق مارك �أنتوين عينيه‪ ،‬هذا الفتى يبدو م�ألو ًفا جدًّا‪ ،‬وظل مرتب ًكا‬
‫حتى قال ليبيدو�س وقطع ال�شك باليقني‪:‬‬
‫‪--‬مرح ًبا‪� ،‬أوكتافيو�س قي�صر‪.‬‬
‫ال يكاد ي�صدق ما ي�سمعه وال ما يراه‪ ،‬بدا الأمر ك�أنه خممور �أو ثمل‪،‬‬
‫ولكنه مل يكن كذلك‪ ،‬رمق مارك �أنتوين �أوكتافيو�س يف ذهول وات�سعت‬

‫ع‬
‫حدقاته‪ ،‬كان �أوكتافيو�س يرتدي درع قي�صر احلربي‪ ،‬مل يكن يظن �أن هذا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الفتى قد اختلف كل هذا االختالف‪ ،‬يف هذا الوقت الق�صري ن�سب ًّيا؛ ب�ضع‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أعوام فقط‪ ،‬قال باندها�ش‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪�--‬أوكتافيو�س‪.‬‬

‫ع‬
‫مد يده وقال‪ :‬جرنال مارك �أنتوين‪.‬‬
‫مد مارك �أنتوين هو الآخر يده بعد حلظات من التيه غري املتعمد‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪--‬يا للآلهة! لقد كربت‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬كل �شيء يتغري‪� ،‬أنت � ً‬
‫أي�ضا اختلفت كث ًريا‪.‬‬
‫‪�--‬إذن �أنت احلليف املجهول؟‬
‫‪�--‬أظن هذا‪.‬‬
‫مل يكن مارك �أنتوين غا�ض ًبا ولكن غمار املفاج�أة جعلته غري قادر على‬
‫ترتيب الأفكار يف عقله‪� ،‬أردف‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬من الأف�ضل �أن نتحدث يف الداخل‪.‬‬
‫‪382‬‬
‫دخلوا �أربعتهم متعاقبني‪ ،‬مارك �أنتوين ثم اجلرنال ليبيدو�س ثم‬
‫�أوكتافيو�س ومن ورائه �أغريبا‪ ،‬جل�سوا على طاولة م�ستديرة‪ ،‬واكتفى‬
‫�أغريبا �أن وقف وراء �أوكتافيو�س‪ ،‬واقرتب خادم و�صب لهم ك�ؤو�سا من‬
‫النبيذ‪ ،‬قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪�--‬أنا �أ�ستمع‪ ،‬كلي �آذان م�صغية‪.‬‬
‫ابت�سم �أوكتافيو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬كيف تق�ضي حياتك هنا؟‬

‫ع‬
‫‪--‬كما ترى‪� ،‬أق�ضيها بال قيود‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫قال �أوكتافيو�س‪ :‬ما �سوف يحدث هنا يجب �أن يكون �س ًّرا بيننا نحن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الثالثة‪ ،‬و�إال فكلنا �سنكون هالكني ال حمالة‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫ثم نظر �إىل ليبيدو�س‪:‬‬
‫‪--‬جرنال ليبيدو�س‪.‬‬
‫‪--‬ال تقلق‪ ،‬لن تخرج كلمة من فمي‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪ :‬جيد‪ ،‬ما �سيحدث هنا هو حتالف‪ ،‬ولكنه �سيكون حتال ًفا‬
‫�سر ًّيا‪ ،‬لن يعرف به خملوق‪ ،‬ال �شيوخ املجل�س وال حتى اجلنود �إال يف الوقت‬
‫املنا�سب‪.‬‬
‫�س�أل مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬ماذا تريد �أن تفعل؟‬
‫‪--‬بروتو�س وكا�سيو�س يزحفون �إىل روما بقوات ع�سكرية‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪� :‬أال ت�ستطيع الت�صدي لهم؟‬
‫‪--‬ال‪ ،‬لي�س و�أنا وحيد‪.‬‬
‫‪383‬‬
‫‪--‬وملاذا �سوف �أمد لك يد العون‪ ،‬بعدما فعلته يف الغال مب�ساعدة‬
‫اجلرنال هريتو�س والقائد بان�سا؟‬
‫‪--‬لأنك حتتاجني كما �أحتاجك‪.‬‬
‫‪--‬ويف ماذا �سوف �أحتاجك؟‬
‫‪--‬نحن نحمل هد ًفا واحدً ا‪ ،‬نريد التخل�ص من قتلة قي�صر‪ ،‬و�أنا �أريد‬
‫ت�شريف ا�سم �أبي باالنتقام ِمن َق َت َل ِته‪ ،‬و�أنت تريد العودة �إىل ال�ساحة‬
‫ال�سيا�سية من جديد وحتتاج �إىل دفعة‪.‬‬
‫‪--‬وهل �سي�سمح املجل�س بعودتي‪ ،‬بعدما �أعلنني عد ًّوا للجمهورية‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أ�شار �أوكتافيو�س �إىل �أغريبا‪ ،‬ف�أخرج �أغريبا قائمة ورقية طويلة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫و�سلمها �إىل �أوكتافيو�س‪ ،‬و�ضع �أوكتافيو�س القائمة على الطاولة‪ ،‬ف�س�أل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫مارك �أنتوين‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ما هذا؟‬
‫قال �أوكتافيو�س‪ :‬تلك القائمة بها �أ�سماء كل �شيوخ املجل�س املعاونني‬
‫لربوتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬ولي�س هذا فقط‪ ،‬بل كل َمن لهم �صلة بربوتو�س‬
‫وكا�سيو�س من العامة والكهنة والأحبار‪ ،‬هذا التطهري �سيمهد لك العودة‬
‫�إىل روما بال م�شاكل‪.‬‬
‫تناول مارك �أنتوين القائمة‪ ،‬ترنحت نظراته فوق الأ�سماء‪ ،‬حتى‬
‫توقفت عيناه على �أحد الأ�سماء ف�أردف بتعجب‪:‬‬
‫‪�--‬سي�سرو؟ ح ًّقا‪.‬‬
‫‪--‬لقد خانني �سي�سرو‪ ،‬و�أنا ال �أحتمل اخليانة‪.‬‬
‫قال ليبيدو�س‪:‬‬
‫‪--‬يا لها من قائمة طويلة! �سيموت الآالف‪.‬‬

‫‪384‬‬
‫�أردف �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬يف الغالب �سيتم نفي معظمهم بجانب التحفظ على �أموالهم‬
‫وعقاراتهم يف روما‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪�--‬إن كان هذا التحالف بداية ل�صفحة جديدة بيننا‪ ،‬ف�سوف �أ�ضيف‬
‫بع�ض الأ�سماء �إىل تلك القائمة‪.‬‬
‫‪�--‬أ�ضف ما �شئت‪ ،‬لكن ال ت�سرف‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قال اجلرنال ليبيدو�س‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫‪--‬لقد حتركت فيالق كا�سيو�س وبروتو�س من بيثينيا‪ ،‬هل �ستتفقون على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫خطة املعركة‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪ :‬يظن بروتو�س وكا�سيو�س �أنني �سوف �أواجههم وحيدً ا‪،‬‬
‫ولهذا �سوف �أ�سافر �إىل روما و�أعلن احلرب عليهم دون علم �أحد بذلك‬
‫التحالف الذي دار بيننا‪� ،‬ستتحرك قواتك يا مارك �أنتوين وتتجه �إىل‬
‫روما‪ ،‬و�ستتحد قوتنا هناك‪ ،‬و�سوف ن�أخذهم على حني غرة‪.‬‬
‫�س�أل ليبيدو�س‪:‬‬
‫‪�--‬أين �سنواجههم حتديدً ا؟‬
‫‪--‬يف الغالب يف �أحد ال�سواحل اليونانية‪ ،‬يجب �أن نبد�أ الزحف نحوهم‬
‫يف �أ�سرع وقت ممكن‪ ،‬حتى ن�ستطيع اال�ستفادة من ا�سرتاتيجية‬
‫املفاج�أة‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫بعد �شهرين‪...‬‬
‫مقدونيا‪ ،‬فيليبي‪...‬‬
‫تعاظمت خماوفهم مع كل فر�سخ يقطعونه‪ ،‬واجلي�ش يعرب املمر املرتفع‬
‫فوق امل�ستنقعات‪� ،‬أثار اجلي�ش وراءه يف كل خطوة يخطوها عا�صفة من‬
‫الأتربة‪ ،‬جتمعت ال�صفوف يف م�سافات متباعدة‪ ،‬كان اجلي�ش يفر�ش‬
‫ال�صحراء‪ ،‬ك�أنه �سرمدي بال نهاية‪ ،‬وعلى ر�أ�سه كا�سيو�س وبروتو�س‪ ،‬كانوا‬
‫على ُبعد يوم واحد من جي�ش �أوكتافيان‪ ،‬قال كا�سيو�س‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬لقد �أر�سلت بع�ض قوات اال�ستطالع‪ ،‬لتنقل لنا عدد قوات العدو‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫قال بروتو�س‪ :‬نعم‪ ،‬هذا جيد‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫قالها و�شرد يف ال�صحراء ال�سرمدية‪ ،‬قال كا�سيو�س‪:‬‬

‫ع‬
‫‪--‬ملاذا �أنت قلق لهذه الدرجة‪� ،‬إن جي�شنا يفوق جي�ش �أوكتافيو�س‬
‫ب�أ�ضعاف؟‬
‫‪--‬ال �أعرف يا كا�سيو�س‪ ،‬لكني متوج�س ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫‪--‬ال داعي لهذا القلق‪ .‬غدً ا‪ ،‬عندما نعود �إىل روما‪� ،‬سوف نن�سى هذا‬
‫الأمل وتلك املعاناة‪ ،‬و�سنكون �أ�سياد روما‪.‬‬
‫قال ب� ًأ�سى‪ :‬بعد موت �سي�سرو وجميع �أ�صدقائنا يف املجل�س‪ ،‬من تَب َّقى‬
‫لنا يا كا�سيو�س؟‬
‫قال كا�سيو�س يف موا�ساة‪:‬‬
‫‪--‬نحن من تبقى‪ ،‬نحن �إخوة يا بروتو�س‪� ،‬إن مل يجمعنا دم واحد ف�إن‬
‫�أهدافنا ومبادئنا واحدة‪ ،‬وهذا يجعلنا �إخوة �أكرث ً‬
‫ترابطا‪.‬‬
‫باق على املعركة‬‫عندما ح�ضر الليل‪ ،‬ع�سكر اجلي�ش عند خليج فيليبي‪ٍ .‬‬
‫يوم واحد فقط‪ ،‬ي�أتي ال�صباح وت�أتي معها املعركة الفا�صلة‪ ،‬وجاءت قوات‬
‫‪386‬‬
‫اال�ستطالع التي �أر�سلها كا�سيو�س‪ ،‬جاء اجلندي واجته نحو خيمة بروتو�س‬
‫وكا�سيو�س‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪�--‬سيدي كا�سيو�س‪ ،‬هناك كارثة‪.‬‬
‫انتف�ض ك ٌّل من كا�سيو�س وبروتو�س‪ ،‬قال كا�سيو�س يف قلق يخم�ش‬
‫�صدره‪:‬‬
‫‪--‬ماذا هناك؟‬
‫قال اجلندي بعد حلظة التقط فيها �أنفا�سه‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪�--‬إنهم يفوقوننا عدد ًنا‪� ،‬إن �أوكتافيو�س لي�س وحده‪ ،‬بل معه مارك‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫�أنتوين‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬مارك �أنتوين‪ ،‬كيف؟‬
‫‪--‬ال �أعرف يا �سيدي‪ ،‬لكن قواتهم وراياتهم قد احتدت‪.‬‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬كم عددهم؟‬
‫‪�--‬أكرث من مائة �ألف رجل‪.‬‬
‫قال بروتو�س‪:‬‬
‫‪--‬يا للآلهة! �إنهم ي�ستطيعون �أن ي�سحقونا بن�صف العدد‪.‬‬
‫قال اجلندي‪ :‬هل نن�سحب‪.‬؟‬
‫‪--‬ال ميكن �أن نن�سحب‪ ،‬لي�س هناك وقت‪ ،‬ان ان�سحبنا ف�سيلحق بنا‬
‫وي�شتت اجلي�ش من اخللف‪.‬‬
‫‪--‬واحلل يا �سيدي؟‬

‫‪387‬‬
‫قال كا�سيو�س‪ :‬يجب علينا �أن نواجههم �أ ًّيا كانت العواقب‪.‬‬
‫�أردف بروتو�س‪ :‬العواقب هي املوت يا كا�سيو�س‪.‬‬
‫‪�--‬إذن هو املوت يا بروتو�س‪ ،‬املوت يف �سبيل احلرية‪.‬‬
‫يف ال�صباح حترك اجلي�شان‪ ،‬ووقف اجلي�شان ينتظران �أوامر القادة‪،‬‬
‫وقف جي�ش بروتو�س وكا�سيو�س بردائه الأ�س َود ودرعه الرمادي‪ ،‬وقوات‬
‫�أوكتافيو�س القي�صرية ذات النقابات احلمراء املتطايرة‪ ،‬وقوات مارك‬
‫�أنتوين التي ان�ضمت لقوات �أوكتافيو�س‪ ،‬وقف كا�سيو�س على ر�أ�س جي�شه‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫على �صهوة ح�صانه‪ ،‬ف�صاح يف اجلنود‪« :‬ا�ستعدوا‪ ،».‬انت�صبت رماح‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫اجلنود بعد �صياحه اله َّدار‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ف�صاح جمددًا‪« :‬هجوم‪».‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حتركت ال�صفوف الأوىل من جي�ش كا�سيو�س وبروتو�س‪ ،‬ومل يحرك‬
‫�أوكتافيو�س �أو مارك �أنتوين �ساك ًنا‪ ،‬بعد حلظات تَق َّدم مارك �أنتوين على‬
‫فر�سه‪ ،‬رفع يده و�صاح يف اجلنود هو � ً‬
‫أي�ضا‪« :‬ال ُأ�سود‪».‬‬
‫كانت مفاج�أة جلي�ش بروتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬خرجت من بني ال�صفوف‬
‫� ُأ�سود عمالقة مد َّربة‪ ،‬يلجمها ال�سال�سل على �أفواهها‪ ،‬يقب�ض على‬
‫ال�سال�سل حول رقابها مدربوها‪� ،‬أعطى مارك �أنتوين الإ�شارة‪ ،‬ففك‬
‫املدربني ال�سال�سل‪ ،‬انطلقت ال ُأ�سود يف ت�سابق مع الرياح‪ ،‬وانهالت على‬
‫اجلنود ومزقت �أح�شائهم وق�ضمت رءو�سهم‪ ،‬كان م�شهدً ا مهي ًبا‪ ،‬اهتز‬
‫جي�ش بروتو�س وكا�سيو�س‪ ،‬وبد�أ اجلنود بالفرار‪ ،‬فالذي �سوف يواجه هذا‬
‫هو هالك ال حمالة‪.‬‬
‫�أعطى �أوكتافيو�س الأمر ل�صديقه �أغريبا‪ ،‬فهجم بالقوات القي�صرية‪،‬‬
‫ومن ورائه مارك �أنتوين بقواته اخلا�صة‪� ،‬إن �أوكتافيو�س ال ي�شارك بنف�سه‬
‫يف املعارك‪ ،‬واعتربها مارك �أنتوين نقي�صة يف �أوكتافيو�س الذي �أرعب‬
‫‪388‬‬
‫جرناالت الدولة الرومانية‪ ،‬اجتاحت القوات القي�صرية �صفوف كا�سيو�س‬
‫وبروتو�س الثانية‪ ،‬ت�شتت اجلي�ش وك�سرت القوات القي�صرية ال�صفوف‬
‫املرت�صة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وظل مارك �أنتوين يبحث بعينيه على �إحدى �أعدائه يف املعركة‪ ،‬ووجدت‬
‫عيناه كا�سيو�س‪ ،‬ومل يكن هناك وقت للتفكري‪ ،‬اندفع نحوه بقوة جاحمة‪،‬‬
‫أر�ضا و�سقط �سيف كليهما‪ ،‬ومل يجد مارك �أنتوين �سوى‬ ‫و�سقطا االثنان � ً‬
‫قب�ضته التي هوى بها على وجه كا�سيو�س‪� ،‬صرخ كا�سيو�س �أملًا‪ ،‬ومل ِ‬
‫يكتف‬
‫بال�صراخ بل هوى بقب�ضته على عني مارك �أنتوين ف�أدماها‪ ،‬ويف حلظات‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫اغتم اجلو‪� ،‬سقطت الأمطار الغزيرة‪ ،‬ون�شب يف ال�سماء برق وبعدها د َّوى‬

‫ل‬
‫َّ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الرعد يف �آذان اجلميع‪ ،‬باتت الأر�ض مبللة ك�أنها م�ستنقعات �صغرية من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫فرط الأمطار املت�ساقطة‪ ،‬كانت تبدو وك�أنها عا�صفة عاتية لن تظهر‬

‫والتوز عي‬
‫الرحمة لأحد‪.‬‬
‫اختلط الطني بالدماء‪ ،‬والدموع اختلطت بالندم‪� ،‬ضرب مارك �أنتوين‬
‫يبحث عن �سكني يف الطني‪ ،‬وجد واحدة ولكن مل ميهله كا�سيو�س الفر�صة‪،‬‬
‫�أم�سك كا�سيو�س بحجر وهوى به على ر�أ�س ماركو�س �أنطونيو�س‪� ،‬سقط‬
‫أر�ضا يف وهن و�ضعف‪ ،‬اهتزت الر�ؤية يف عينيه‪ ،‬وكل �شيء كاد‬ ‫ماركو�س � ً‬
‫�أن يتداعى‪ ،‬التقط كا�سيو�س �سي ًفا‪ ،‬واقرتب منه‪ ،‬ورفعه يف الهواء وكاد‬
‫�أن يهوي به‪� ،‬إال �أنه ا�ستوقفه زئري الأ�سد الذي يقرتب من �أذنيه ب�سرعة‬
‫رهيبة‪ ،‬انق�ض الأ�سد على كا�سيو�س بال رحمة‪� ،‬ضرب كا�سيو�س الأ�سد‬
‫يكتف الأ�سد بهذا‪ ،‬بل‬
‫بر�أ�س ال�سيف �ضربتني حتى ترك ذراعه يف �أمل‪ ،‬ومل ِ‬
‫قب�ض ب�أنيابه على ر�أ�سه‪� ،‬صرخ كا�سيو�س‪ ،‬ومل يلبث ال�صراخ حتى خفت‬
‫مع �صدور �صوت لك�سر عظام‪.‬‬
‫التقط ماركو�س �أنطونيو�س خنج ًرا وظل يطعن يف كا�سيو�س‪� ،‬أو‬
‫ما تبقى منه على الأرجح‪ ،‬يطعن وي�صرخ‪ ،‬من �أجل قي�صر‪ ،‬من �أجل‬
‫‪389‬‬
‫يوما وما ذاق‬
‫�ألك�سيو�س‪ ،‬لوال هذا اخلائن ما مات قي�صر‪ ،‬لواله ما انهزم ً‬
‫خم�سا وع�شرين‬‫طعم الهزمية املر‪ ،‬كان غا�ض ًبا ومل يهد�أ حتى �سدد له ً‬
‫طعنة‪ ،‬تلك الطعنات التي تل َّقاها قي�صر يف يوم من الأيام على يديه وعلى‬
‫�أيادي �أنا�س �أ�سماهم �أ�صدقاء يف يوم ما‪.‬‬
‫بعد املعركة كانت اخليول مهتاجة يف مربطها‪ ،‬ت�صهل وتنخر مع‬
‫رائحة الدم التي �أفعمت الهواء‪ ،‬وازداد نعيق الغداف يف ال�سماء‪ ،‬وهوت‬
‫الطيور اجلارحة متزق اللحم الننت مبخالبها ومناقريها احلادة‪ .‬وقف‬

‫ع‬
‫�أوكتافيو�س على �صهوة ح�صانه ينتظر التقرير عن املعركة‪ ،‬ومن م�سافة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بعيدة �إىل حدٍّ ما‪ ،‬كان ماركو�س �أنطونيو�س يقرتب‪ً ،‬‬
‫ملطخا بالطني والدم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ويف يده ر�أ�س مقطوع‪ ،‬وقف بني القوات و�صاح ورفع الر�أ�س �إىل ال�سماء‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫‪--‬لقد قتلت اللعني‪.‬‬

‫ع‬
‫عندما دقق اجلميع يف الر�أ�س الذي مي�سكه ماركو�س �أنطونيو�س‪،‬‬
‫تعرف عليه اجلميع �إنه ر�أ�س كا�سيو�س بالت�أكيد‪� ،‬صاحت القوات يف حتية‬
‫بارعا يف هذا‪ ،‬واقرتب من �أوكتافيو�س و�ألقى‬ ‫ملارك �أنتوين‪ ،‬لطاملا كان ً‬
‫الر�أ�س حتت �أقدامه وقال‪�« :‬إنه كا�سيو�س‪».‬‬
‫�س�أل �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬وبروتو�س؟‬
‫‪--‬رمبا قتل يف املعركة ورمبا هرب‪.‬‬
‫�أمر �أوكتافيو�س بالبحث عن جثة بروتو�س بني اجلثث امللقاة ك�أنها‬
‫جبال‪ ،‬ولكن بعد بحث طويل ف�شل اجلنود �أن يجدوا جثته بني القتلى‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫(‪)4‬‬

‫‪ 39‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫كل‬‫بعد فوز ماركو�س �أنطونيو�س و�أوكتافيو�س يف معركة فيليبي على ٍّ‬
‫من كا�سيو�س وبروتو�س‪ ،‬عاد �أع�ضاء التحالف الثالث �إىل روما مظفرين‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بالن�صر‪ ،‬وتل َّقى ال�شعب هذا الن�صر ك�أنه ت�شريف ال�سم يوليو�س قي�صر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�إىل الأبد‪ ،‬ومت بناء متثال من اجلرانيت لقي�صر �أمام املجل�س تعظي ًما‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لذكراه‪ ،‬الآن ي�ستطيع قي�صر �أن ي�سرتيح يف احلياة الأخرى‪ ،‬روما لن‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫تن�سى ذلك الطاغي الرحيم وال�شهيد الذي ذرف دماءه لأجل ال�شعب‬
‫الروماين‪ ،‬وجتمع الثالثي الثاين‪ ،‬عند جمل�س ال�شيوخ‪ ،‬جل�س �أوكتافيو�س‬
‫على كر�سي القن�صل‪ ،‬و�صمت اجلميع لي�سمعوا كلماته‪:‬‬
‫‪--‬اليوم ن�شرف ا�سم �أبي‪ ،‬غايو�س يوليو�س قي�صر‪� ،‬أبي مات على هذه‬
‫الأر�ض‪ ،‬وعلى هذه الأر�ض ن�شرفه‪� ،‬سوف يتم �إطالق ا�سم «ديفو�س‬
‫يوليو�س» على ا�سم �أبي‪ ،‬كان اب ًنا للآلهة بحق‪ ،‬ابن فينو�س وحفيد‬
‫الفار�س �إينيا�س البطل‪ ،‬ال تن�سوا هذا‪ ،‬غدً ا عندما مير الوقت ويكتب‬
‫التاريخ‪ ،‬قولوا �إن �أعظم رجل قد مات هنا‪ ،‬مات من �أجل بالده‪،‬‬
‫مات غد ًرا بخنجر �صديق‪ ،‬الأبطال ال ينهزمون من �أعدائهم‪ ،‬بل‬
‫ال ينهزمون �إال من �أقرب النا�س لديهم‪ ،‬اذكروا هذا يف التاريخ‪،‬‬
‫لقد مات القتلة وغدً ا �سيذكرهم التاريخ ب�أ�سو�أ ال�صفات‪ ،‬و�سوف‬
‫يكونون �أ�شرار ق�ص�ص كثرية �سوف تروى‪� ،‬سيكونون �أ�صحاب �أدن�أ‬
‫م�ؤامرة حيكت على مر الأيام‪ ،‬و�أحقر اغتيال على مر التاريخ‪ ،‬لن‬
‫‪391‬‬
‫يتم ذكر بروتو�س وكا�سيو�س �إال ب�أبعد ال�صفات التي تقرتب من النبل‬
‫والأ�صالة‪.‬‬
‫انطلق هتاف ال�شيوخ وت�صفيقهم احلاد الذي كان ميتلئ باملديح‬
‫وكلمات العرفان باجلميل‪ .‬وبعد انق�ضاء اجلل�سة‪ ،‬ا�ستدعى �أوكتافيو�س‬
‫�أع�ضاء التحالف‪ ،‬ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬وماركو�س �إمييليو�س ليبيدو�س‪،‬‬
‫كان �أوكتافيو�س ينتظرهم يف غرفة االجتماعات‪ ،‬وعندما ح�ضروا جل�س‬
‫ك ٌّل منهم ويف يده ك�أ�س نبيذ‪ ،‬قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬خطبة رائعة اليوم يا فتى‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫قال �أوكتافيو�س بتج ُّهم‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫‪�--‬شك ًرا لك‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قال ليبيدو�س‪:‬‬

‫ع‬ ‫‪--‬الآن �أ�صبح اليوم يوليو�س قي�صر �إل ًها‪.‬‬


‫ثم �أ�ضاف مارك �أنتوين‪:‬‬
‫مقد�سا عند ال�شعب‪ ،‬وعلى الأرجح �سوف‬ ‫ً‬ ‫‪--‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪� ،‬أ�صبح‬
‫ي�شيدون له معبدً ا‪.‬‬
‫قال �أوكتافيو�س‪ :‬مل �أجمعكم اليوم للحديث عن �أبي‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪�--‬إذن قل ما تريد‪.‬‬
‫�أ�شار �أوكتافيو�س �إىل �أغريبا‪ ،‬فخرج ومل يلبث حتى �أح�ضر خريطة‬
‫كبرية‪ ،‬مل يفهم ك ٌّل من مارك �أنتوين وليبيدو�س ما يحدث‪ ،‬وحدقا‬
‫�أحدهما للآخر يف تيه للحظات‪ ،‬و�ضع �أغريبا اخلريطة على الطاولة‬
‫الكبرية‪ ،‬فاقرتب منها ثالثتهم‪ ،‬ف�أردف �أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪392‬‬
‫‪--‬لن ن�ستطيع �أن نحكم ثالثتنا من م�صدر حكم واحد‪.‬‬
‫ت�ساءل ليبيدو�س‪ :‬وماذا تنوي �أن تفعل؟‬
‫�أجاب‪� :‬سوف نق�سم الإقليم‪.‬‬
‫قال �أنتوين بتعجب‪:‬‬
‫‪--‬نق�سم الإقليم؟‬
‫‪--‬ومعها نق�سم امل�سئوليات‪.‬‬

‫ع‬
‫قال ليبيدو�س‪ِّ :‬‬
‫و�ضح �أكرث‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أ�شار �أوكتافيو�س �إىل اخلريطة �أمامه‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪�«--‬سوف �آخذ بالد الغال وه�سبانيا وروما وجميع املقاطعات املجاورة»‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ثم انتقلت �أ�صبعه �إىل مو�ضع �آخر من اخلريطة وا�ستطرد‪« :‬و�سوف‬
‫ي�أخذ مارك �أنتوين م�صر وال�شرق‪ ،‬و�أنت يا جرنال ليبيدو�س �سوف‬
‫ت�أخذ مقاطعة �أفريكا‪».‬‬
‫جتهم وجه ليبيدو�س وقال ب� ًأ�سى‪� :‬أفريكا‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬هي مقاطعة غنية و�سوف حتمي الإقليم من ناحية ال�شمال‬
‫الغربي‪.‬‬
‫لقد كان مارك �أنتوين م�سرو ًرا‪� ،‬سوف يح�صل على م�صر وال�شرق‪،‬‬
‫بجانب �أن ال�شرق جميل وغني ومليء باملقاطعات الرومانية الغنية‪� ،‬إال‬
‫�أن ال�سبب احلقيقي وراء �سروره تلك التي ع�صفت بف�ؤاده من اللحظة‬
‫ين�س‬
‫ين�سها طوال تلك ال�سنني التي مرت يف احلرب والربد‪ ،‬مل َ‬ ‫الأوىل‪ ،‬مل َ‬
‫تلك الأنفا�س احلارقة التي بثتها يف وجهه كال�سحر‪ ،‬ال ين�سى الرجل �أنثى‬
‫حملت �أنفا�سها عبق احلب والود له‪ ،‬لقد جرب هذا ال�سحر الآن‪ ،‬الذي‬
‫جترعه من قبله يوليو�س قي�صر‪� ،‬سح ًرا يرغمه على التفكري بها‪.‬‬
‫‪393‬‬
‫قال مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬هذا جيد‪ ،‬هل هناك �شيء �آخر؟‬
‫‪--‬نعم‪� ،‬أنا مل �أنت ِه بعد‪.‬‬
‫ب�صوت ملول‪ :‬يا للآلهة! �إذن �أكمل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قال‬
‫‪--‬علينا �أن جنعل حتا ُلفنا �أقوى ب�صور ٍة ما‪.‬‬
‫�س�أل‪ :‬ماذا تق�صد؟‬

‫ع‬
‫قال �أوكتافيو�س بعد حلظة تفكري‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫‪--‬زواج‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل يدرك مارك �أنتوين ما قاله �أوكتافيو�س من اللحظة الأوىل وظل‬

‫والتوزي‬
‫حلظات حتى ا�ستوعب �أخ ًريا كلمات �أوكتافيو�س‪:‬‬

‫ع‬ ‫‪--‬نعم‪ ،‬حتا ُلف عن طريق الزواج‪.‬‬


‫‪--‬زواج؟‬

‫انده�ش مارك �أنتوين‪:‬‬


‫‪--‬الزواج‪ .‬من تق�صد؟‬
‫‪�--‬سوف تتزوج من �شقيقتي �أوكتافيا‪.‬‬
‫أي�ضا عن طريق‬‫متاما‪� ،‬إن �أوكتافيو�س يريد �أن ي�ضمن ال�شرق � ً‬‫كما توقع ً‬
‫حتالف بالزواج‪ ،‬كان الأمر يف البداية ك�أنه مزحة يريد مارك �أنتوين �أن‬
‫ي�ضحك عليها‪ ،‬ولكن تلك املالمح اجلدية التي ات�سم بها �أوكتافيو�س مل‬
‫ُت ِبد الأمر كمزحة‪� .‬إنْ رف�ض مارك �أنتوين العر�ض الذي يقوله �أوكتافيو�س‬
‫ف�سوف يخ�سر كث ًريا‪ ،‬و�سوف يظن �أوكتافيو�س �أنه رف�ض لأنه يريد‬
‫اال�ستيالء على ال�شرق وحده‪ ،‬على الأرجح �أن �أوكتافيو�س الآن يقيم ملارك‬
‫‪394‬‬
‫�أنتوين اختبا ًرا‪ ،‬و�إن وافق ف�سوف يقيد للأبد يف زواج �سيا�سي بحت ال روح‬
‫فيه‪ .‬بالت�أكيد �إن �أوكتافيا جميلة‪ ،‬لكنه ال يحب القيود �أ ًّيا كان نوعها‪ ،‬ولكن‬
‫الآن هو لي�س يف مو�ضع قوة ليتحدى �أوكتافيو�س‪ ،‬ور ْف�ضه للأمر �سوف‬
‫ي�ضع �أمامه الكثري من العقبات‪ ،‬لذا مل يكن �أمامه �إال املوافقة على عر�ض‬
‫�أوكتافيو�س والزواج من �شقيقته �أوكتافيا‪ ،‬حتى ي�سافر فقط �إىل ال�شرق‬
‫وحينها �ستنفك تلك القيود‪ ،‬قال بعد حلظات من التفكري‪:‬‬
‫‪--‬و�أوكتافيا؟ هل هي موافقة على الأمر؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قال �أوكتافيو�س‪� :‬إن �أوكتافيا لن تعار�ض �أمري‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫كان ال منا�ص من الأمر‪ ،‬يجب عليه املوافقة‪ ،‬هو يعلم جيدً ا �أن �أوكتافيا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫لي�ست �سيئة لتكون زوجه‪ ،‬ولكن قلبه الآن يف مكان �آخر‪ ،‬هو الآن يف الغرب‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫وقلبه يرب�ض يف ال�شرق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪--‬ح�س ًنا‪ ،‬ال م�شكلة‪� ،‬إن كان زواجي من �أوكتافيا �سوف يجعل من‬
‫حتالفنا �أقوى‪.‬‬
‫‪--‬يف الأيام القادمة �سوف تكون املرا�سم التقليدية للزواج‪.‬‬
‫قال �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬بهذه ال�سرعة؟‬
‫‪--‬ال وقت لدينا‪ ،‬روما الآن �أ�صبحت مرتامية الأطراف‪ ،‬ومقاطعاتها‬
‫ن�صب جهودنا لتعود روما كما كانت قد ًميا‪،‬‬
‫بالآالف‪ ،‬يجب علينا �أن َّ‬
‫ونحافظ على النظام واال�ستقرار قدر الإمكان‪.‬‬
‫مل يكن مارك �أنتوين ي�شعر بالراحة‪ ،‬فغال ًبا �أوكتافيو�س يخطط ل�شيء‬
‫ما‪ ،‬وال �أحد يعرف ذلك ال�شيء �إال عند حدوثه‪ ،‬كالعادة‪ ،‬ذلك الفتى‬
‫‪395‬‬
‫الهادئ والوديع يحمل بداخله داهية‪ ،‬كالأفعى التي تنتظر �سهو فري�ستها‬
‫للدغها وبث ال�سم يف عروقها‪ ،‬وكان عليه احلذر ال�شديد لأي خطوة‬
‫يخطوها‪.‬‬

‫�أولئك الذين ماتوا لي�سوا �أمواتًا ح ًّقا‪ ،‬مل ميوتوا مبا يكفي ليغادروا‬
‫ر�أ�سه‪� ،‬إنهم يعي�شون بداخله ب�آمالهم وطموحاتهم وحتى ب�أكاذيبهم‪،‬‬

‫ع‬
‫قي�صر وكا�سيو�س وكاتو‪ ،‬هم يرتاق�صون يف عقله ويخم�شون قلبه مبخالب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ً‬

‫ك‬
‫وحو�شا‪ ،‬ال ي�ستطيع الإدراك‬ ‫أ�شباحا �أو‬
‫املا�ضي والذكريات‪ ،‬رمبا كانوا � ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫الآن‪ ،‬هو مل ي�صل �إىل اجلنة بعد‪ ،‬لكنه اقرتب من اجلحيم بالت�أكيد‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫غار ًقا يف ربوع الي�أ�س �أ�صبح ال يهتم ب�شيء‪ ،‬ويت�ساءل ما الذي حدث‬

‫ع‬
‫داخل هذه الروح‪.‬‬
‫ثمل بغري خمر‪ ،‬وج�سده متهالك ي�سري‬ ‫تائ ًها‪� ،‬ضائ ًعا‪ ،‬عقله �أ�صبح ً‬
‫بغري وجهة‪� .‬أ�صاب عقله اخلبال‪ ،‬بكى حتى بلل الرثى من حتت قدميه‪،‬‬
‫كانت اخليارات تنفذ من بني يديه‪ ،‬حلظة بعد حلظة‪ ،‬ويف حلظة انعدمت‬
‫كل اخليارات وتال�شت مع الرمال املتطايرة يف الهواء‪ ،‬مل يبقَ �سوى خيار‬
‫واحد الآن‪ ،‬ذلك اخليار الذي �سوف يخر�س تلك الأ�صوات يف عقله �إىل‬
‫الأبد‪ ،‬كان خيار املوت يكون �أكرث منطقية مع كل حلظة متر‪ ،‬ح�س ًنا‪� ،‬إن‬
‫كان هذا �سوف ي�صرف تلك الأ�شباح التي ترتب�ص به ف�سوف ُيق ِْدم عليه‬
‫بكل ت�أكيد‪ ،‬املوت هو احلل الأف�ضل الآن‪ ،‬على مر تلك احلياة التي قد‬
‫عا�شها وقع يف الكثري من الآثام‪ ،‬ولكن �إثمه الأكرب كان يف مبادئه‪ ،‬ذلك‬
‫الإن�سان املتغري املبادئ يندم كث ًريا‪ ،‬وهو يغرق يف بحر من الدموع والندم‪.‬‬
‫ال ب�أ�س‪.‬‬
‫‪396‬‬
‫ال ب�أ�س الآن‪� ،‬سوف ينتهي الآن كل �شيء عما قريب‪ ،‬فقط �سويعات‬
‫من الأمل وينتهي كل �شيء‪ ،‬مل يكن ميلك �سي ًفا ليموت بطريقة �شريفة‬
‫كما فعل عمه كاتو‪ ،‬وهو يرى �أنه ال ي�ستحق �أن ميوت بطريقة �شريفة من‬
‫الأ�سا�س‪� ،‬إنه يحتاج �إىل موت حقري ليكف هذا الندم الذي ي�شق �صدره‬
‫ب�سكني باردة الن�صل‪ ،‬و�ضع احلبل حول عنقه وقفز بال تردد‪ ،‬مل ي�ستغرق‬
‫الأمر كث ًريا حتى خمدت الأنفا�س‪ ،‬هكذا ميوت اجلبان‪ ،‬هكذا كان يرى‬
‫بروتو�س نف�سه‪ ،‬جبا ًنا رعديدً ا‪ ،‬قتل �أقرب النا�س �إليه غد ًرا‪ ،‬وي�ستحق �أن‬
‫ميوت بتلك الطريقة اخلالية من ال�شرف والنبل‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أولئك الذين ماتوا لي�سوا �أمواتًا ح ًّقا‪ ،‬مل ميوتوا مبا يكفي ليغادروا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ر�أ�سه‪...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�أي بروتو�س‪ .‬هل مت؟ و�إال ف�إن �آباءك براء منك‪.‬‬

‫مل يكن لأوكتافيا اعرتا�ض على الزواج من مارك �أنتوين �أبدً ا‪ ،‬هو رجل‬
‫نبيل وو�سيم‪ ،‬ومل تعتقد �أنها قد تتزوج �أقل منه يف يوم من الأيام‪ ،‬ولكن‬
‫مل يب ُد على مارك �أنتوين ال�سرور بهذا التحالف عن طريق الزواج‪ ،‬الأمر‬
‫�سيقيده بكل ت�أكيد‪ ،‬و�سوف يق�سمه �إىل ن�صفني‪ ،‬ن�صف يف ال�شرق والآخر‬
‫يف الغرب‪ ،‬بال �شك �سيعاين مارك �أنتوين من هذا الزواج‪ ،‬ولكنه على‬
‫الأقل �سوف ي�ضمن له هذا الزواج االحتفاظ بال�شرق لوقت �أطول‪ .‬كانت‬
‫القوانني وا�ضحة و�صارمة‪ ،‬ال ُي�سمح للروماين �إال بزوجة واحدة حتمل‬
‫وا�ضحا بالن�سبة �إىل مارك �أنتوين‪ ،‬ومت الزواج‬
‫ً‬ ‫دما ًء رومانية‪ ،‬فكان الأمر‬
‫يف ال�ساحة الوا�سعة �أمام معبد جوبيرت‪ ،‬وح�ضر النبالء واحتفل العامة يف‬
‫ال�شوارع‪ ،‬وا�ستمرت املرا�سم من الفجر حتى الغ�سق‪ ،‬يوم بال نهاية‪ ،‬فرح‬
‫العامة و�شربوا النبيذ وتعاركوا وعربدوا حتى غربت ال�شم�س‪ ،‬وكان العام‬
‫‪397‬‬
‫الذي ق�ضاه مارك �أنتوين مع زوجته �أوكتافيا �سري ًعا وبعدها �سافر �إىل‬
‫ال�شرق‪.‬‬
‫عندما عرفت كليوباترا ما حدث يف روما من تق�سيم للإقليم ومن‬
‫حتالفات الزواج التي حدثت بني مارك �أنتوين و�أوكتافيو�س قي�صر‪ ،‬هذا‬
‫التق�سيم الذي حدث بني التحالف الثالثي الثاين‪� ،‬سوف ي�سلم ال�شرق �إىل‬
‫املجهول‪ ،‬هي ال تعرف مارك �أنتوين جيدً ا‪ ،‬كل ما تعرفه �أنه كان قائدً ا‬
‫�شجاعا‪ ،‬والآن َي�ضع ال�شرق بني �أ�صابعه‪.‬‬
‫ً‬ ‫جيدً ا لدى يوليو�س قي�صر‪،‬‬

‫ع‬
‫ور�ست قوات مارك �أنتوين عند الد�سكار امللكي‪ ،‬للمرة الثانية يزور‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫متاما‬
‫فيها الإ�سكندرية‪ ،‬املرة الأوىل مع يوليو�س قي�صر‪ ،‬ويف الثانية وحيدً ا ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وال يعرف كيف �ستقابله كليوباترا بعد كل هذا الوقت‪ ،‬كانت كليوباترا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫جتل�س على عر�شها‪ ،‬وبجوارها على العر�ش ابنها قي�صرون‪ ،‬كان قد كرب‬

‫ع‬
‫قليل‪ ،‬يحمل ق�سمات �أبيه‪ ،‬ويبدو عليه النبل‪� ،‬أحنى مارك �أنتوين ر�أ�سه‬ ‫ً‬
‫لكليوباترا و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬جاللتك‪ ،‬كليوباترا‪.‬‬
‫وقفت كليوباترا ورمقت مارك �أنتوين‪ ،‬اختلف منذ �آخر مقابلة بينهم‪،‬‬
‫حليته كثيفة زادت من جاذبيته وو�سامته‪ ،‬قالت بابت�سامة‪:‬‬
‫‪--‬جرنال مارك �أنتوين‪.‬‬
‫عندها �أ�شارت �إىل �إحدى الو�صيفات فاقرتبت و�أخذت ابنها قي�صرون‬
‫معها‪ ،‬بدا على وجه مارك �أنتوين ال�سرور لر�ؤية كليوباترا بعد كل هذا‬
‫الوقت الطويل‪ ،‬ما زالت جميلة كما كانت منذ زمن‪ ،‬ابنة �إيزي�س املقد�سة‬
‫كما يلقبها جماهري الإ�سكندرية‪ ،‬هذا اجلمال‪ ،‬وتلك الأنوثة العا�صفة‬
‫تفتك به فت ًكا كلما نظر لها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪--‬كيف حالك؟ بعد كل هذا الوقت‪.‬‬
‫‪398‬‬
‫ابت�سمت كليوباترا بابت�سامة �ساحرة وقالت‪:‬‬
‫‪�--‬أنا بخري‪ ،‬ولكني ما �سمعته �أنك ل�ست بخري‪ ،‬وخ�سرت معركتك �أمام‬
‫�صبي‪.‬‬
‫بادلها مارك �أنتوين االبت�سام وقال‪:‬‬
‫‪--‬ولكني انت�صرت يف معركة �أعظم‪ ،‬وانتقمت من قتلة قي�صر‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪:‬‬
‫‪--‬لقد‬

‫ع‬
‫�سمعت عن هزميتي ومل حتركي �ساك ًنا‪.‬‬‫ِ‬

‫ري‬‫ص‬
‫‪�--‬أر�سلتُ لك القوات الع�سكرية التي تركها قي�صر يف الإ�سكندرية قبل‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫رحيله‪ ،‬ولكن يبدو �أن الإمدادات مل ت�صل لك‪ ،‬وكنت �س�أح�ضر بنف�سي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫َ‬
‫اعرت�ضت طريقي عا�صفة قوية‪.‬‬ ‫على ر�أ�س جي�ش‪ ،‬لوال‬
‫فهم مارك �أنتوين ما حتاول كليوباترا فعله‪� ،‬أطلق �ضحكة عالية وعقد‬
‫حاجبيه ثم �أردف‪:‬‬
‫‪--‬عا�صفة‪ .‬فليكن‪.‬‬
‫‪--‬دعنا نتحدث بجدية‪ ،‬لقد انتظرتك ً‬
‫طويل‪.‬‬
‫�س�أل مارك �أنتوين‪:‬‬
‫‪--‬ملاذا؟‬
‫‪--‬نحن بيننا وعد‪� ،‬أن�سيت؟‬
‫‪--‬وعد‪� .‬أي وعد؟‬
‫اقرتبت من الطاولة بهدوء و�صبت ك�أ�سني من النبيذ وناولته واحدة‪:‬‬
‫‪--‬احلماية‪ ،‬لقد وعدتني باحلماية‪ ،‬ووعدتني �أنك �سوف تعلن ال�صفة‬
‫العامة البن قي�صر‪.‬‬
‫‪399‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬مل � َ‬
‫أن�س وعودي �أبدً ا‪.‬‬
‫‪--‬وغيابك كل هذه ال�سنني‪� ،‬أال يعترب نك ًثا بالوعد؟‬
‫حمتجا‪ :‬كنت يف حرب �ضرو�س‪.‬‬ ‫قال ًّ‬
‫‪--‬واحلرب يربح بها اجلنود‪.‬‬
‫مل يفهم مارك �أنتوين ما ترمي �إليه كليوباترا بالتحديد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪--‬نعم‪.‬‬
‫‪�--‬أنت الآن حاكم ال�شرق‪ ،‬وحتتاج �إىل جي�ش‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫واقرتبت منه ثم هم�ست يف �أذنه‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫‪--‬وحتتاج �إىل �شيء �أكرث � ً‬

‫ش‬
‫إمتاعا‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫ابت�سم مارك �أنتوين وقال‪:‬‬

‫ع‬ ‫‪--‬هل حتاولني �إغرائي؟‬


‫‪�--‬أنا ال �أحاول‪� ،‬أنا �أغريك‪.‬‬
‫ثم �أ�ضافت‪ :‬دعنا ن�صنع حتال ًفا‪� ،‬أنا و�أنت‪� ،‬أنت بيدك ال�سلطة و�أنا‬
‫حتت �إمرتي اجلي�ش‪� ،‬سوف نكون قوة حتكم العامل‪.‬‬
‫الحت كلمات كليوباترا يف ر�أ�س مارك �أنتوين وما لبثت الكلمات حتى‬
‫كانت الفكرة‪ ،‬مل ال؟ ِ َل ال يحكم العامل كما كان يريد قي�صر �أن يفعل؟‬
‫وتقدمت كليوباترا �إىل النافذة التي طلت على املنارة الكبرية والبحر‬
‫ال�سرمدي الذي امتد حتى الأفق‪ ،‬اقرتب منها و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬هل تتزوجني بي يا موالتي‪ ،‬كليوباترا فليوباتور؟‬
‫عقدت حاجبيها‪ :‬كنت �أعتقد �أن الزواج من غريبة �ضد القانون‬
‫الروماين‪.‬‬
‫‪400‬‬
‫‪--‬ت ًّبا للقانون‪ ،‬وت ًّبا لروما‪.‬‬
‫ق�ضى مارك �أنتوين ال�سنني التالية من حياته يف �أح�ضان كليوباترا‪،‬‬
‫وكان بينهم عاطفة حقيقية تولدت مع الوقت‪ ،‬وبعد �سبعة �أعوام رزق منها‬
‫مارك �أنتوين بفتاة و�أ�سماها «كليوباترا �سيليني الثانية»‪ ،‬وطفل �أ�صرت‬
‫كليوباترا على ت�سميته «الإ�سكندر هيليو�س»؛ تي ُّم ًنا با�سم الطبيب الراحل‬
‫واحلكيم‪ ،‬و�أعطى لكليوباترا لقب «ملكة امللوك»‪ ،‬وع َّينها على بع�ض‬
‫املقاطعات التابعة لروما‪ ،‬وكتب و�صيته و�أر�سلها �إىل روما يف �سرية تامة‪.‬‬

‫ع‬
‫كان الأمر بديه ًّيا �إىل حد كبري‪� ،‬أن التحالف الذي �أقامه مع كليوباترا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�سيعطيه قوة عظمى‪ً ،‬‬
‫جي�شا وجنودًا‪ ،‬وح ًّقا يف املطالبة ب�إرث قي�صر الذي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ا�ستوىل عليه �أوكتافيو�س‪� ،‬إنه قي�صرون ابن قي�صر غري ال�شرعي‪ ،‬وعلى‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫هذا وزع مقاطعات رومانية على �أبنائه و�أبناء كليوباترا‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫(‪)5‬‬

‫‪ 32‬ق‪.‬م‬
‫�شق ال�سماء مذ َّنب بلون الدم واللهب‪ ،‬منذ �سنوات وتت�سلل الأخبار‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫من ال�شرق عن هذا التحالف اجلديد الذي انعقد يف �أق�صى ال�شرق‪ ،‬بني‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ماركو�س �أنطونيو�س وكليوباترا‪ ،‬علم �أن مارك �أنتوين قد رزق منها ب�أطفال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫غري �شرعيني‪ ،‬حزنت �أوكتافيا كث ًريا عند �سماع هذه الأخبار‪ ،‬وعلى هذا‬

‫ع‬
‫جاحما‪ ،‬بني عروقه دماء �أ�سالفه‬
‫فارت الدماء يف عروق �أوكتافيو�س‪ ،‬كان ً‬
‫ت�سري‪ ،‬لن ي�صمت �أوكتافيو�س على هذا بالت�أكيد‪ ،‬بل �إنه �شن احلرب على‬
‫مارك �أنتوين يف روما‪ ،‬يف ال�ساحات والأ�سواق‪ ،‬علم اجلميع بتلك العالقة‬
‫املحرمة بني مارك �أنتوين و�أرملة يوليو�س قي�صر‪ ،‬لن ي�سامح ال�شعب‬
‫الروماين �أبدً ا يف هذا‪ ،‬كانت القوانني �صارمة‪ ،‬و�أوالده الآن ال َيعدون عن‬
‫�أوالد غري �شرعيني‪� ،‬أو �أنغال ال يرثون وال يعرتف بهم ال�شعب الروماين‪.‬‬
‫دخل �أغريبا على �أوكتافيو�س و�أردف‪:‬‬
‫‪�--‬أخبار من ال�شرق‪.‬‬
‫ببطء �صب ك�أ�س النبيذ‪ ،‬و�أردف‪:‬‬
‫‪--‬حتدث‪.‬‬
‫‪402‬‬
‫‪--‬الأخبار تقول �إن مارك �أنتوين قد ا�ستوىل على العديد من املقاطعات‬
‫الرومانية وكتبها �إىل �أوالده غري ال�شرعيني يف و�صيته‪.‬‬
‫الح اال�ستياء على وجه �أوكتافيو�س وقال‪:‬‬
‫‪--‬و�صيته‪� .‬أين �أودعها؟‬
‫‪--‬معبد عذارى ف�ستال‪.‬‬
‫�شرب ك�أ�س النبيذ‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪�--‬أريد تلك الو�صية‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫‪--‬كيف؟‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫رمقه �أوكتافيو�س للحظات وقال‪:‬‬
‫‪--‬ب�أي طريقة كانت‪.‬‬
‫للمكان قد�سيته‪.‬‬
‫‪�--‬صاح �أوكتافيو�س‪ ،‬ذلك الهادئ الوديع حتول لأ�سد �ضا ٍر يف حلظة‪:‬‬
‫ال يهمني هذا‪ ،‬اللعنة عليك �أغريبا‪ ،‬قلت لك �أريد تلك الو�صية ب�أي‬
‫ثمن كان‪.‬‬
‫‪�--‬أغريبا ال يحب �أن يخرتق معبد �إله و�أن يروع كهنته‪ ،‬ف�أردف يف تردد‪:‬‬
‫‪--‬لكن‪....‬‬
‫قاطعه وهو حاد كال�سيف‪:‬‬
‫‪403‬‬
‫‪--‬لي�س هناك «لكن» يا �أغريبا‪ ،‬ماركو�س �أنطونيو�س قد ترك �شقيقتي‬
‫كل هذه الأعوام‪ ،‬ليهيم ع�ش ًقا مع اللعينة كليوباترا يف عالقة حمرمة‪،‬‬
‫وتلك الو�صية التي �أودعها يف معبد عذارى ف�ستال هي ذريعتي �أمام‬
‫جمل�س ال�شيوخ ل�شن احلرب على مارك �أنتوين‪.‬‬
‫قال �أغريبا‪ :‬ماذا تنوي �أن تفعل؟‬
‫‪�--‬س�أن�شد االنتقام من هذا اللعني‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬‫‪--‬عفليكن‪.‬‬
‫ا‬
‫قال منا�شدً ا‪� :‬أوكتافيو�س‪� ،‬سوف ت�شعل حر ًبا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫‪--‬كما ت�أمر‪ .‬ب ل‬
‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫الكهنة من املعبد وظل اجلنود يبحثون عن تلك الو�صية التي �أودعها ع‬
‫ف�ستال‪� ،‬أخرج‬ ‫عذارى‬ ‫قاد �أغريبا قواته الع�سكرية‪ ،‬واجته �صوب معبد‬
‫مارك‬
‫�أنتوين منذ مدة‪ ،‬وبعد بحث طويل وجد اجلنود �أخ ًريا تلك الو�صية‪.‬‬
‫ويف الأيام التالية توجه �أوكتافيو�س �إىل املجل�س‪ ،‬وقف يف منت�صف‬
‫القاعة الوا�سعة و�صاح خاط ًبا يف �شيوخ املجل�س‪:‬‬
‫‪�--‬أيها الأع�ضاء املبجلون‪ ،‬كلكم بال ا�ستثناء قد تبادر �إىل �أ�سماعكم‬
‫ق�صة الع�شق الآثمة التي حدثت يف ال�شرق‪� ،‬أ�س�ألكم الآن �أيها املبجلون‬
‫واملحرتمون‪� ،‬أين الطريق �إىل اخلال�ص؟ وكيف ي�أتي اخلال�ص بال‬
‫ف�ضيلة؟ �إن مارك �أنتوين قد ترك زوجتَه الروماني َة الدما ِء ولهث وراء‬
‫ع�شيقة يف الناحية الأخرى من العامل‪ ،‬ولي�س هذا فقط بل ورزق منها‬
‫‪404‬‬
‫ب�أبناء غري ال�شرعيني‪ ،‬نغول‪ ،‬لقد �ألقت عليه �سالح ال�سحر الأ�س َود يف‬
‫عينيه وقلبه‪� .‬إن مارك �أنتوين م�سحور �أيها ال�سادة‪ ،‬م�سحور من ِقبل‬
‫�ساحرة م�صرية‪ ،‬قد يتبادر �إىل �أذهانكم �أن مارك �أنتوين مذنب‪،‬‬
‫ولكنه لي�س مذن ًبا‪ ،‬بل هو ال�شيطان يف حد ذاته‪ ،‬كما كانوا يقولون‬
‫قد ًميا‪ :‬احذر فيمن تثق؛ ف�إن ال�شيطان كان مال ًكا ً‬
‫يوما ما‪.‬‬
‫ثم �أ�شار �إىل �أغريبا‪ ،‬فتقدم يف خطوات مت�سارعة و�سلم �أوكتافيو�س‬

‫ع‬
‫لفافة من الورق‪ ،‬ف�أكمل �أوكتافيو�س‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪--‬تلك هي و�صية مارك �أنتوين الأخرية‪ ،‬قد �أودعها يف معبد عذارى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ف�ستال‪ ،‬ول�سوف �أقر�ؤها على م�سامعكم �أجمعني‪.‬‬

‫أنطونيو�س‬
‫‪--‬با�سم جوبيرت العظيم �أكتب تلك الو�صية‪� ،‬أناوالت‬
‫ماركو�سو �ز عي‬
‫فتح الو�صية وبد�أ بقراءتها‪:‬‬

‫�أعطي كل �أموايل وكل عقاراتي وثروتي من بعدي �إىل ملكة امللوك‬


‫كليوباترا ومن بعدها �إىل �أوالدي «كليوباترا �سيليني الثانية»‬
‫أي�ضا ابن يوليو�س قي�صر «قي�صرون»‪،‬‬ ‫و«الإ�سكندر هيليو�س»‪ ،‬ومعهم � ً‬
‫ً‬
‫قن�صل �ساب ًقا لدى الدولة الرومانية �أعتربهم �أبنا ًء‬ ‫وب�صفتي‬
‫�شرعيني يل‪ ،‬و�أعترب قي�صرون اب ًنا �شرع ًّيا ليوليو�س قي�صر‪ ،‬ومن‬
‫حقوقه �أن يق�سم املرياث والرثوات مع �أوكتافيو�س قي�صر االبن‬
‫املتبنى من ِقبل قي�صر‪ ،‬و�أنا �أعلن �أن �أطفايل �أطفال �شرعيون ولهم‬
‫حقوق �شرعية رومانية‪ ،‬يرثوين و�أرثهم‪ ،‬و�أكتب لهم كل املقاطعات‬

‫‪405‬‬
‫الرومانية التابعة مل�صر والأرا�ضي والعقارات التابعة لتلك الأرا�ضي‪،‬‬
‫وتلك هي كلماتي الأخرية‪.‬‬
‫عندما انتهى �أوكتافيو�س من قراءة و�صية مارك �أنتوين على م�سامع‬
‫ال�شيوخ‪ ،‬زاد اللغط بني ال�صفوف وخرجت الكلمات التي تنم على عدم‬
‫الر�ضى والنقم ال�شديد‪ ،‬الآن �أ�صبح مارك �أنتوين ال يعدو عن خائن‪ ،‬خان‬
‫بالده وخان ال�شعب والقوانني ال�صارمة‪ ،‬وتركهم �أوكتافيو�س بني تخ ُّبطهم‬
‫ُ‬
‫وتالغطهم لدقيقة‪ ،‬دائ ًما ما يرتبك الإن�سان �أمام اخليارات‪ ،‬وكان عليه‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أن يح�سم الأمر‪ .‬تنحنح ف�صمت اجلميع وانتبهت الآذان له جمددًا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪--‬ال يكتفي مارك �أنتوين بك�سر القوانني واللوائح فقط‪ ،‬بل ويعطي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الأرا�ضي الرومانية واملقاطعات التابعة لروما لأبنائه غري ال�شرعيني‪،‬‬

‫ع‬
‫�أبناء ال يحملون دما ًء رومانية نقية‪ ،‬ويبتعدون كل البعد عن النبل‬
‫والأ�صالة‪� .‬إنَّ �أبي يوليو�س قي�صر قد وقع يف �شباك تلك ال�ساحرة‬
‫يف يوم من الأيام‪ ،‬ولكن قي�صر يعلم �أن من �سيحكم تلك الأرا�ضي‬
‫يجب �أن يحمل دما ًء رومانية نقية‪ ،‬ولهذا مل يذكر كليوباترا وال‬
‫ابنه قي�صرون يف و�صيته‪ ،‬لأنه يعلم جيدً ا �أن الأرا�ضي الرومانية ال‬
‫يحكمها �إال روماين‪.‬‬
‫ازداد حما�س ال�شيوخ وهتافهم بني املدرجات واملقاعد فا�ستطرد‬
‫�أوكتافيو�س‪:‬‬
‫‪--‬و�أنا بدوري كقن�صل روما ال �أ�ستطيع �أن �أوثر ال�صمت على هذا‪،‬‬
‫وب�صفتي مواط ًنا رومان ًّيا ف�أنا غا�ضب‪ ،‬غا�ضب ب�شدة‪ ،‬وما �سوف‬
‫‪406‬‬
‫�أفعله الآن هو ما يجب �أن يفعله �أي روماين حر؛ �سوف �أر�سل ً‬
‫جي�شا‬
‫�إىل الإ�سكندرية ي�أتيني بر�أ�س هذا اخلائن الذي يدعى ماركو�س‬
‫�أنطونيو�س‪ ،‬و�أطلب منكم هذا الت�صريح‪ ،‬فهل �أنتم معي يف هذه‬
‫احلرب؟‬
‫�صاح جميع من يف القاعة‪:‬‬
‫‪�--‬أي نعم‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قاد �أوكتافيو�س احلمالت‪ ،‬وكتب اخلطب التي �شنت حر ًبا على مارك‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أنتوين يف جميع ال�شوارع الرومانية وكل �ساحات روما العامة‪ ،‬ومت ن�شر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الوثائق وتعليق تلك الو�صية على حوائط املعابد واملواخري واحلانات‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫ون�شر بيا ًنا ين�ص فيه �أن م�صر هي امل�صدر الأ�سا�سي للقمح يف روما‪،‬‬
‫وبتويل مارك �أنتوين حكم ال�شرق‪� ،‬سوف مينع ح�ص�ص القمح التي ت�صل‬
‫�إىل روما‪ ،‬وتخوف ال�شعب والنبالء على حد �سواء‪ ،‬واجلميع‪ ،‬اجلميع بال‬
‫ا�ستثناء كان يبارك �أوكتافيو�س لينت�صر يف حربه �ضد ماركو�س �أنطونيو�س‪.‬‬

‫ا�ستطاعت ال�ستائر �أن متنع الغبار واحلرارة‪� ،‬إال �أنها مل متنع خيبة‬
‫الأمل‪ ،‬اعرتاه �شعور باحلزن وال�ضيق‪ ،‬حر ًبا �أخرى يجب �أن يخو�ضها‪ ،‬من‬
‫�أجل املجد من �أجل الكرامة ومن �أجل احلب بالت�أكيد‪ .‬هو يعرف ذلك‬
‫الفتى‪� ،‬إنه ثعبان �صغري ولكنه �إن لدغ ف�إن لدغته مميتة �إىل حد كبري‪.‬‬
‫اقرتبت منه كليوباترا ومل�ست يف عينيه هذا ال�ضيق الذي يزفره ب�أنفا�س‬
‫تتنهد‪:‬‬
‫‪407‬‬
‫‪--‬ال عليك‪� ،‬سوف متر هذه احلرب كما مرت غريها‪.‬‬
‫قال مارك �أنتوين بعد �أن نظر �إىل كليوباترا يف عينيها الرماديتني‪:‬‬
‫‪--‬ال �أخ�شى احلرب‪ ،‬وال �أخ�شى املوت‪.‬‬
‫�س�ألت‪:‬‬
‫‪�--‬إذن ماذا تخ�شى؟‬
‫‪�--‬أخ�شى ِ‬
‫عليك �أنت‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قالها واقرتب منها حتى اختلجت �أنفا�سهما‪ ،‬ثم طبع قبلة عميقة على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جبينها‪ ،‬وا�ستطرد‪:‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫‪--‬ال �أعرف م�صري تلك احلرب يا كليوباترا‪ ،‬لقد ع�شت حياة فو�ضوية‪،‬‬
‫حياة متتلئ بالفو�ضى والأنانية‪ ،‬ولكن الآن كل ما �أريده‪ ،‬هو املوت‬
‫بني ذراعيك‪ ،‬ال �أريد غريك �أنت‪ ،‬عديني �إن مت �أموت بني ذراعيك‪.‬‬
‫خائف ومهتز بال �شك‪ ،‬ذلك القائد الع�سكري العاتي‪ ،‬ح َّوله احلب �إىل‬
‫�شيء جمهول املعامل‪� ،‬ضعيف الروح‪ ،‬احلب يح ِّول �أعتى الرجال �إىل جمرد‬
‫�صبي يف ال�سابعة من عمره يخ�شى �ضياع حبيبه مع الأيام‪.‬‬
‫قالت بعد حلظة من ال�صمت‪:‬‬
‫‪�--‬أعدك‪ .‬فليكن املوت حلي ًفا لنا ال عد ًّوا‪ ،‬فال حياة يل بعدك‪.‬‬
‫‪--‬لن ننتظر حتى يح�ضر �إىل هنا‪� ،‬سوف �أقود اجلي�ش �إىل �ساحل‬
‫يوناين‪ ،‬حتى يت�سنى يل فر�ض خطة املعركة‪.‬‬
‫‪408‬‬
‫قالت كليوباترا‪:‬‬
‫‪--‬جي�شي حتت �أمرك‪ ،‬افعل ما تراه منا�س ًبا‪.‬‬
‫وانطلق على ر�أ�س اجلي�ش ومعه كليوباترا‪ ،‬ومترت�س يف خليج �أكتيوم‬
‫البحري‪ ،‬ور�سا الأ�سطول عند ال�شواطئ‪ ،‬كانت ال�سفن كثرية‪ ،‬وكبرية‪،‬‬
‫ذهبية تتلألأ حتت �شعاع ال�شم�س‪ ،‬يف هذا الوقت كان �أ�سطول �أوكتافيو�س‬
‫يقرتب من خليج �أكتيوم البحري بقيادة الأدمريال ماركو�س فيب�سانيو�س‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يوما‪ ،‬وا�ستطاع‬
‫�أغريبا‪ ،‬و�ضرب �أغريبا احل�صار على خليج �أكتيوم لثالثني ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫قطع الإمدادات التي كانت ت�صل �إىل �أ�سطول ماركو�س �أنطونيو�س‪ ،‬وقرر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مارك �أنتوين � ْأخذ قرار الهجوم‪ ،‬و�أعطى الأمر للأ�سطول‪ ،‬كان ً‬
‫حماطا من‬

‫والتوز عي‬
‫كل مكان‪ ،‬ومل يكن له مفر‪ ،‬ت�شكلت �سفن �أوكتافيو�س بت�شكيل ي�شبه حدوة‬
‫احل�صان‪.‬‬
‫�صاح �أغريبا يف قواته‪« :‬الرماة‪».‬‬
‫ا�ستعد الرماة بالأ�سهم‪ ،‬ف�أعطى �أغريبا الأمر‪�« :‬إطالق»‪.‬‬
‫انطلقت ال�سهام يف الهواء‪� ،‬أنارت �سماء الليل كالنجوم‪ ،‬و�أ�صابت‬
‫ال�سفن الكبرية التي مل ت�ستطع املناورة بخفة‪ ،‬ا�شتعلت الأ�شرعة وانتقلت‬
‫النريان بني الأ�سطول ب�سرعة رهيبة و�ساعدتها الرياح يف ذلك‪ ،‬عندما‬
‫وجد مارك �أنتوين قواته حترتق‪ ،‬بقي هو وكليوباترا يف �آخر الت�شكيل‪،‬‬
‫ثم �أعطى �أم ًرا للجزء ال�شمايل لل�سفن بالهجوم‪ ،‬انطلقت ال�سفن وفوقها‬
‫وابل من ال�سهام على �سفن‬‫اجلنود مت�أهبني بال�سهام‪� ،‬أطلقوا الآخرين ً‬

‫‪409‬‬
‫�أغريبا‪ ،‬ولكن كانت ال�سفن �صغرية وا�ستطاعت املناورة بخفة‪ ،‬ف�أطلق‬
‫اجلنود ً‬
‫وابل �آخر متعاق ًبا‪ ،‬ف�أ�صاب الكثري من ال�سفن واحرتقت جماديفها‬
‫وهوت �أ�شرعتها‪ ،‬كادت قوات �أوكتافيو�س تهلك حتى جاءتها الإمدادات‬
‫بقيادة اجلرنال ماركو�س �إميليو�س ليبيدو�س الع�ضو الثالث يف التحالف‬
‫الأخري‪.‬‬
‫انطلقت �سفن ليبيدو�س و�أثخنت على قوات مارك �أنتوين‪ ،‬تراجعت‬

‫ع‬
‫قواته‪ ،‬وقاد هو اجلزء الأخري من �أ�سطوله يف هجوم مبا�شر‪ ،‬هجوم لي�س‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫له فائدة ولكن كربياء ماركو�س �أنطونيو�س مينعه من االعرتاف بالهزمية‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫للمرة الثانية ينهزم على يد �أوكتافيو�س هزمية �شنعاء و�ساحقة‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫كانت كليوباترا على قاربها تبتعد وتبكي وت�شاهد النريان العظيمة‬
‫التي اندلعت يف �أ�سطولها احلربي‪ ،‬النريان كانت عظيمة وهي على �سطح‬
‫ً‬
‫مزلزل لنف�س كليوباترا‪ ،‬انهزام اجلي�ش وال�ضياع‬ ‫البحر‪ ،‬كان م�شهدً ا‬
‫ال�سرمدي‪ ،‬كل �شيء �ضاع واختفى و�أ�ضحى رمادًا واحرتق مع احرتاق‬
‫�سفنها‪.‬‬
‫ما تَب َّقى من جي�ش �أنطونيو�س ه َّبت فيه النريان بال هوادة‪� ،‬سقط هو‬
‫منهزما‪ ،‬يبكي بال‬
‫ً‬ ‫يف املاء‪� ،‬سبح حتى و�صل �إىل مع�سكره‪ ،‬كان وحيدً ا‪،‬‬
‫�أمل‪ ،‬جمع ما تبقى من قواته وف َّر بها �إىل ال�شمال‪.‬‬
‫بعد �أيام انت�شر خرب كاذب يف الأرجاء عن انتحار كليوباترا‪ ،‬وهو كان‬
‫تائ ًها‪� ،‬ضائ ًعا بكل ما حتمله الكلمة‪� ،‬صرخ يف ال�سماء وهو ثمل‪� ،‬صرخ على‬

‫‪410‬‬
‫الآلهة وعلى جنوده وعلى نف�سه‪ ،‬على الأقل من املمكن �أنه �سوف يقابلها‬
‫وو�صى جنوده �أن يتم دفن جثته مع جثة كليوباترا‪ ،‬كان‬ ‫يف العامل الآخر‪َّ ،‬‬
‫بال �أمل ح ًّقا‪� ،‬سل �سيفه من غمده‪ ،‬وببطء غمد الن�صل يف �صدره‪ ،‬نزف‬
‫مارك �أنتوين حتى مات‪ ،‬وكما تعهد جنوده �أر�سلوا اجلثة �إىل الإ�سكندرية‪،‬‬
‫ليتم دفنها مع كليوباترا‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪� 12‬أغ�سط�س‪ 30 ،‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫َر َ�ست قوات �أوكتافيو�س قي�صر عند امليناء امللكي يف الإ�سكندرية‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫وتَق َّدم بال �أدنى مقاومة ُتذ َكر ومن ورائه ح َّرا�سه‪ ،‬وكان يرتدي درعه‪� ،‬أو‬
‫بالأحرى درع قي�صر‪ ،‬وعندما وطئ �ساحة العر�ش‪ ،‬كانت جثة مارك �أنتوين‬
‫ملقاة بجوار العر�ش‪ ،‬يرتدي درعه وبني يديه �سيفه‪ ،‬وكانت كليوباترا‬
‫جال�سة على الطاولة ويف يدها ك�أ�س من النبيذ فارغة‪ ،‬قد جترعته منذ‬
‫حلظة و�ص َّبت ك� ًأ�سا �أخرى بال تردد‪ ،‬عينها �سوداء ووجهها باهت‪ ،‬يبدو‬
‫ً‬
‫�صراخا بال �أمل‪ .‬كان �أمامه �شبح‬ ‫�أنها قد بكت كث ًريا‪� ،‬صرخت كث ًريا‪،‬‬
‫ل�شخ�ص غادر منذ زمن‪ ،‬مل تكن تلك كليوباترا التي ر�آها منذ �سنوات‪،‬‬
‫منهزما ال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جمهول ال ي�ستطيع و�صفه‪� ،‬إن�سا ًنا‬ ‫لقد تغريت‪� ،‬أ�صبحت �شي ًئا‬
‫ي�ستطيع �أن يرفع عينيه وال جفونه‪ ،‬اقرتب منها ورمق جثة مارك �أنتوين‬
‫وقال بنرباته الهادئة‪:‬‬
‫لك العزاء ولكني ال �أجيد‬‫‪--‬نهاية م�ؤ�سفة لرجل �شجاع‪� ،‬أريد �أن �أرفع ِ‬
‫تلك الكلمات التي عادة ما يرجتلها الب�شر يف �ساعة م�ؤملة‪.‬‬
‫‪411‬‬
‫نطقت كليوباترا بل�سان ثقيل‪:‬‬
‫‪--‬على الأقل لقد مات ب�شرف‪.‬‬
‫‪--‬نعم‪ ،‬بالت�أكيد‪.‬‬
‫قالها �أوكتافيو�س بعد �أن �ألقى �إليه نظرة‪.‬‬
‫قالت يف رجاء‪:‬‬
‫‪--‬لقد فزت يف معركتك‪ ،‬اترك �أبنائي يعي�شون‪.‬‬

‫ع‬
‫‪--‬بالت�أكيد �إنهم �أطفال‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫‪--‬وقي�صرون؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صمت �أوكتافيو�س ً‬

‫و‬
‫قليل وقال ب� ًأ�سى‪:‬‬

‫ع‬ ‫التوزي‬
‫‪--‬هذا الرجاء جاء مت�أخ ًرا ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪ :‬قي�صر واحد يكفي‪.‬‬
‫فهمت كليوباترا ما يرمي �إليه �أوكتافيو�س وبكت‪ ،‬ف�س�أل‪:‬‬
‫‪--‬هل �ستعودين معي �إىل روما؟‬
‫�إذا عاد بها �إىل روما‪ ،‬ف�ستكون �أ�سرية لديه‪ ،‬وراية لن�صره‪� ،‬سيطوف‬
‫بها ال�شوارع وال�ساحات‪ ،‬عارية ال ترتدي �إال �إكليل الذل والعار‪ ،‬بال �شرف‬
‫عقل للحظات‪:‬‬‫وال جمد‪ ،‬ظلت تفكر بن�صف ٍ‬
‫‪--‬وهل هناك خيار �آخر؟‬
‫�أخرج �أوكتافيو�س قارورة من درعه‪ ،‬قارورة �صغرية بها �سائل �أرجواين‬
‫اللون‪ ،‬و�ضعها على الطاولة وقال‪:‬‬
‫‪412‬‬
‫‪--‬نعم‪ .‬هناك دائ ًما خيار �آخر‪.‬‬
‫رمقت القارورة للحظة‪ ،‬ت�أملت ال�سائل الأرجواين بداخلها‪ ،‬و�ساد‬
‫ال�صمت للحظات �أخرى‪ ،‬بعدها قالت‪:‬‬
‫‪--‬هل �س�أت�أمل؟‬
‫‪--‬حر�صتُ � َّأل يحدث هذا‪.‬‬
‫تناولت القارورة ب�أنامل ترتع�ش‪ ،‬ورمقت جثة مارك �أنتوين يف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫اجلوار‪ ،‬بعدها فتحت القارورة و�ص َّبت ال�سائل الذي فيها بك�أ�س النبيذ‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫و ِب َي ٍد ترف�ض �أن تن�صاع للأوامر �أم�سكت ك�أ�س النبيذ‪ ،‬ولآخر مرة رمقت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫«�ست» امللعونة‪،‬‬
‫�أوكتافيو�س‪ ،‬هذا الوجه الهادئ والوديع يقبع وراءه روح ّ‬
‫ت�شعر بهذا الآن‪ ،‬وبعد حلظات من الرتدد جترعت ك�أ�س النبيذ على دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬حينها غادر �أوكتافيو�س وحتركت كليوباترا ب�أرجل ثقيلة نحو جثة‬
‫مارك �أنتوين‪ ،‬احت�ضنته �إىل �صدرها بقوة‪ ،‬وغا�صت فيه لآخر مرة‪ ،‬ج�سده‬
‫كان باردًا كلوح من الثلج‪ ،‬ولكنها كانت ت�شعر بالدفء يف تلك اللحظة‪ ،‬ويف‬
‫حلظة �أخرى كان كل �شيء يتداعى والألوان تختفي تدريج ًّيا‪� ،‬أغم�ضت‬
‫عينيها وارتخت �أع�صابها برحابة‪ ،‬وكان مفعول ال�سم �سري ًعا وغري م�ؤمل‬
‫متاما‪.‬‬
‫كما وعدها �أوكتافيو�س ً‬
‫«رحل اجلميع‪ ،‬ويظل احلزن �سرمد ًّيا»‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫عاد �أوكتافيو�س �إىل روما بالن�صر ك�إمرباطور حقيقي‪ ،‬ودخلت‬
‫م�ص ُر حتت احلكم الروماين‪ ،‬ومل يكن هناك �أعداء �آخرون ليحاربهم‬
‫�أوكتافيو�س‪ ،‬و�شهدت روما يف عهده ا�ستقرا ًرا وازدها ًرا عرف با�سم‬
‫«باك�س رومانا»‪ .‬ويف عام ‪ 27‬قبل ميالد امل�سيح‪� ،‬أطلق على نف�سه ا�سم‬
‫«قي�صر ديفي فيليو�س» �أو «�أغ�سط�س»‪ ،‬وتو�سعت يف عهده روما و�ساد �سالم‬
‫وتق ُّدم ح�ضاري وفني يف كل املجاالت‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت «النهاية»‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫زيع‬ ‫شر وال وت‬

‫‪414‬‬
T.me/bookjuice

You might also like