You are on page 1of 504

‫تفسير سورة فاطر وهي مكية‬

‫علِ ا ْلمَلَا ِئكَةِ ُرسُلًا‬


‫ت وَالْأَ ْرضِ جَا ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ فَاطِرِ ال ّ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * مَا َيفْتَحِ‬
‫ث وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَ ْلقِ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫حةٍ مَثْنَى وَثُلَا َ‬
‫أُولِي َأجْنِ َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِد ِه وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫سكْ فَلَا مُرْ ِ‬
‫سكَ َلهَا َومَا ُيمْ ِ‬
‫ح َمةٍ فَلَا ُممْ ِ‬
‫اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ‬

‫يمدح ال تعالى نفسه الكريمة المقدسة‪ ،‬على خلقه السماوات والرض‪ ،‬وما اشتملتا عليه من‬
‫المخلوقات‪ ،‬لن ذلك دليل على كمال قدرته‪ ،‬وسعة ملكه‪ ،‬وعموم رحمته‪ ،‬وبديع حكمته‪ ،‬وإحاطة‬
‫علمه‪.‬‬

‫علِ ا ْلمَلَا ِئكَةِ رُسُلًا } في تدبير أوامره‬


‫ولما ذكر الخلق‪ ،‬ذكر بعده ما يتضمن المر‪ ،‬وهو‪ :‬أنه { جَا ِ‬
‫القدرية‪ ،‬ووسائط بينه وبين خلقه‪ ،‬في تبليغ أوامره الدينية‪.‬‬

‫وفي ذكره أنه جعل الملئكة رسل‪ ،‬ولم يستثن منهم أحدا‪ ،‬دليل على كمال طاعتهم لربهم‬
‫وانقيادهم لمره‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }‬

‫ولما كانت الملئكة مدبرات بإذن اللّه‪ ،‬ما جعلهم اللّه موكلين فيه‪ ،‬ذكر قوتهم على ذلك وسرعة‬
‫سيرهم‪ ،‬بأن جعلهم { أُولِي أَجْ ِنحَةٍ } تطير بها‪ ،‬فتسرع بتنفيذ ما أمرت به‪ { .‬مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }‬
‫أي‪ :‬منهم من له جناحان وثلثة وأربعة‪ ،‬بحسب ما اقتضته حكمته‪.‬‬

‫{ يَزِيدُ فِي الْخَ ْلقِ مَا يَشَاءُ } أي‪ :‬يزيد بعض مخلوقاته على بعض‪ ،‬في صفة خلقها‪ ،‬وفي القوة‪،‬‬
‫وفي الحسن‪ ،‬وفي زيادة العضاء المعهودة‪ ،‬وفي حسن الصوات‪ ،‬ولذة النغمات‪.‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ } فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه‪ ،‬ول يستعصي عليها شيء‪ ،‬ومن‬
‫{ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ذلك‪ ،‬زيادة مخلوقاته بعضها على بعض‪.‬‬

‫سكَ َلهَا‬
‫حمَةٍ فَلَا ُممْ ِ‬
‫ثم ذكر انفراده تعالى بالتدبير والعطاء والمنع فقال‪ { :‬مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ‬
‫سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ } فهذا يوجب التعلق باللّه تعالى‪ ،‬والفتقار‬
‫سكْ } من رحمته عنهم { فَلَا مُرْ ِ‬
‫َومَا ُي ْم ِ‬
‫إليه من جميع الوجوه‪ ،‬وأن ل يدعى إل هو‪ ،‬ول يخاف ويرجى‪ ،‬إل هو‪ { .‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي‬
‫حكِيمُ } الذي يضع الشياء مواضعها وينزلها منازلها‪.‬‬
‫قهر الشياء كلها { الْ َ‬

‫سمَاءِ‬
‫{ ‪ { } 4 - 3‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ َهلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬
‫ك وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ‬
‫سلٌ مِنْ قَبِْل َ‬
‫وَالْأَ ْرضِ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ * وَإِنْ ُيكَذّبُوكَ َفقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ‬
‫الُْأمُورُ }‬

‫يأمر تعالى‪ ،‬جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم‪ ،‬وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا‪ ،‬وباللسان‬
‫ثناء‪ ،‬وبالجوارح انقيادا‪ ،‬فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره‪ ،‬ثم نبههم على أصول النعم‪ ،‬وهي الخلق‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ }‬
‫والرزق‪ ،‬فقال‪َ { :‬هلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ‬

‫ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إل اللّه‪ ،‬نتج من ذلك‪ ،‬أن كان ذلك دليل على‬
‫ألوهيته وعبوديته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ } أي‪ :‬تصرفون عن عبادة الخالق‬
‫الرازق لعبادة المخلوق المرزوق‪.‬‬

‫سلٌ مِنْ قَبِْلكَ }‬


‫{ وَإِنْ ُيكَذّبُوكَ } يا أيها الرسول‪ ،‬فلك أسوة بمن قبلك من المرسلين‪َ { ،‬فقَدْ ُكذّ َبتْ ُر ُ‬
‫فأهلك المكذبون‪ ،‬ونجى اللّه الرسل وأتباعهم‪ { .‬وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ الُْأمُورُ }‬

‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلَا َتغُرّ ّنكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ *‬
‫{ ‪ { } 7 - 5‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّ‬
‫سعِيرِ * الّذِينَ َكفَرُوا‬
‫ع ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫خذُوهُ َ‬
‫إِنّ الشّ ْيطَانَ َلكُمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }‬
‫عذَابٌ شَدِي ٌد وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َلهُمْ َ‬

‫حقّ } أي‪ :‬ل شك‬


‫ن وَعْدَ اللّهِ } بالبعث والجزاء على العمال‪َ { ،‬‬
‫يقول تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّ‬
‫فيه‪ ،‬ول مرية‪ ،‬ول تردد‪ ،‬قد دلت على ذلك الدلة السمعية والبراهين العقلية‪ ،‬فإذا كان وعده حقا‪،‬‬
‫فتهيئوا له‪ ،‬وبادروا أوقاتكم الشريفة بالعمال الصالحة‪ ،‬ول يقطعكم عن ذلك قاطع‪ { ،‬فَلَا َتغُرّ ّن ُكمُ‬
‫الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بلذاتها وشهواتها ومطالبها النفسية‪ ،‬فتلهيكم عما خلقتم له‪ { ،‬وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ‬
‫ع ُدوّا } أي‪ :‬لتكن منكم عداوته على‬
‫خذُوهُ َ‬
‫} الذي هو { الشّ ْيطَانُ } الذي هو عدوكم في الحقيقة { فَاتّ ِ‬
‫بال‪ ،‬ول تهملوا محاربته كل وقت‪ ،‬فإنه يراكم وأنتم ل ترونه‪ ،‬وهو دائما لكم بالمرصاد‪.‬‬

‫سعِيرِ } هذا غايته ومقصوده ممن تبعه‪ ،‬أن يهان غاية‬


‫{ إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫الهانة بالعذاب الشديد‪.‬‬

‫ثم ذكر أن الناس انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها إلى قسمين‪ ،‬وذكر جزاء كل منهما‪،‬‬
‫عذَابٌ شَدِيدٌ } في‬
‫فقال‪ { :‬الّذِينَ َكفَرُوا } أي‪ :‬جحدوا ما جاءت به الرسل‪ ،‬ودلت عليه الكتب { َلهُمْ َ‬
‫نار جهنم‪ ،‬شديد في ذاته ووصفه‪ ،‬وأنهم خالدون فيها أبدا‪.‬‬
‫عمِلُوا } بمقتضى ذلك اليمان‪،‬‬
‫{ وَالّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم‪ ،‬بما دعا اللّه إلى اليمان به { وَ َ‬
‫بجوارحهم‪ ،‬العمال { الصّالِحَاتِ َلهُمْ َمغْفِ َرةٌ } لذنوبهم‪ ،‬يزول بها عنهم الشر والمكروه { وََأجْرٌ‬
‫كَبِيرٌ } يحصل به المطلوب‪.‬‬

‫ضلّ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْ َهبْ‬


‫عمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫{ ‪َ { } 8‬أ َفمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ َ‬
‫سكَ عَلَ ْيهِمْ حَسَرَاتٍ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َيصْ َنعُونَ }‬
‫َنفْ ُ‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬أ َفمَنْ زُيّنَ لَهُ } عمله السيئ‪ ،‬القبيح‪ ،‬زينه له الشيطان‪ ،‬وحسنه في عينه‪.‬‬

‫حسَنًا } أي‪ :‬كمن هداه اللّه إلى الصراط المستقيم والدين القويم‪ ،‬فهل يستوي هذا وهذا؟‬
‫{ فَرَآهُ َ‬

‫فالول‪ :‬عمل السيئ‪ ،‬ورأى الحق باطل‪ ،‬والباطل حقا‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬عمل الحسن‪ ،‬ورأى الحق حقا‪ ،‬والباطل باطل‪ ،‬ولكن الهداية والضلل بيد اللّه تعالى‪{ ،‬‬
‫سكَ عَلَ ْي ِهمْ } أي‪ :‬على الضالين الذين زين‬
‫فَإِنّ اللّهَ ُيضِلّ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَ ْذ َهبْ َنفْ ُ‬
‫حسَرَاتٍ } فليس عليك إل البلغ‪ ،‬وليس عليك‬
‫لهم سوء أعمالهم‪ ،‬وصدهم الشيطان عن الحق { َ‬
‫من هداهم شيء‪ ،‬وال [هو] الذي يجازيهم بأعمالهم‪ { .‬إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َيصْ َنعُونَ }‬

‫سقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَ ّيتٍ فََأحْيَيْنَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا‬
‫سلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَ ُ‬
‫{ ‪ { } 9‬وَاللّهُ الّذِي أَرْ َ‬
‫كَذَِلكَ النّشُورُ }‬

‫سقْنَاهُ إِلَى بََلدٍ‬


‫سلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا َف ُ‬
‫يخبر تعالى عن كمال اقتداره‪ ،‬وسعة جوده‪ ،‬وأنه { أَرْ َ‬
‫مَ ّيتٍ } فأنزله اللّه عليها { فَأَحْيَيْنَا ِبهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا }‬

‫فحييت البلد والعباد‪ ،‬وارتزقت الحيوانات‪ ،‬ورتعت في تلك الخيرات‪ { ،‬كَذَِلكَ } الذي أحيا الرض‬
‫بعد موتها‪ ،‬ينشر ال الموات من قبورهم‪ ،‬بعدما مزقهم البلى‪ ،‬فيسوق إليهم مطرا‪ ،‬كما ساقه إلى‬
‫الرض الميتة‪ ،‬فينزله عليهم فتحيا الجساد والرواح من القبور‪ ،‬ويأتون للقيام بين يدي ال ليحكم‬
‫بينهم‪ ،‬ويفصل بحكمه العدل‪.‬‬

‫ب وَا ْل َع َملُ الصّالِحُ يَ ْر َفعُهُ‬


‫صعَدُ ا ْلكَِلمُ الطّ ّي ُ‬
‫جمِيعًا إِلَ ْيهِ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 10‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ ا ْلعِ ّزةَ فَلِلّهِ ا ْلعِ ّزةُ َ‬
‫شدِي ٌد َو َمكْرُ أُولَ ِئكَ ُهوَ يَبُورُ }‬
‫عذَابٌ َ‬
‫وَالّذِينَ َي ْمكُرُونَ السّيّئَاتِ َلهُمْ َ‬
‫أي‪ :‬يا من يريد العزة‪ ،‬اطلبها ممن هي بيده‪ ،‬فإن العزة بيد اللّه‪ ،‬ول تنال إل بطاعته‪ ،‬وقد ذكرها‬
‫صعَدُ ا ْلكَلِمُ الطّ ّيبُ } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلم حسن طيب‪ ،‬فيرفع‬
‫بقوله‪ { :‬إِلَيْهِ َي ْ‬
‫إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين المل العلى { وَا ْل َع َملُ الصّالِحُ } من أعمال‬
‫القلوب وأعمال الجوارح { يَ ْر َفعُهُ } اللّه تعالى إليه أيضا‪ ،‬كالكلم الطيب‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب‪ ،‬فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة‪،‬‬
‫فهي التي ترفع كلمه الطيب‪ ،‬فإذا لم يكن له عمل صالح‪ ،‬لم يرفع له قول إلى اللّه تعالى‪ ،‬فهذه‬
‫العمال التي ترفع إلى اللّه تعالى‪ ،‬ويرفع اللّه صاحبها ويعزه‪.‬‬

‫وأما السيئات فإنها بالعكس‪ ،‬يريد صاحبها الرفعة بها‪ ،‬ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه‪ ،‬ول يزداد‬
‫عذَابٌ شَدِيدٌ }‬
‫إل إهانة ونزول‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬والعمل الصالح يرفعه وَالّذِينَ َي ْمكُرُونَ السّيّئَاتِ َلهُمْ َ‬
‫يهانون فيه غاية الهانة‪َ { .‬و َمكْرُ أُولَ ِئكَ ُهوَ يَبُورُ } أي‪ :‬يهلك ويضمحل‪ ،‬ول يفيدهم شيئا‪ ،‬لنه‬
‫مكر بالباطل‪ ،‬لجل الباطل‪.‬‬

‫ح ِملُ مِنْ أُنْثَى وَلَا َتضَعُ إِلّا‬


‫جعََلكُمْ أَ ْزوَاجًا َومَا َت ْ‬
‫طفَةٍ ُثمّ َ‬
‫خَلقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ مِنْ نُ ْ‬
‫{ ‪ { } 11‬وَاللّهُ َ‬
‫عمُ ِرهِ ِإلّا فِي كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ }‬
‫ِبعِ ْلمِ ِه َومَا ُي َعمّرُ مِنْ ُم َعمّ ٍر وَلَا يُ ْن َقصُ مِنْ ُ‬

‫يذكر تعالى خلقه الدمي‪ ،‬وتنقله في هذه الطوار‪ ،‬من تراب إلى نطفة وما بعدها‪.‬‬

‫جعََل ُكمْ أَ ْزوَاجًا } أي‪ :‬لم يزل ينقلكم‪ ،‬طورا بعد طور‪ ،‬حتى أوصلكم إلى أن كنتم أزواجا‪،‬‬
‫{ ُثمّ َ‬
‫ذكرا يتزوج أنثى‪ ،‬ويراد بالزواج‪ ،‬الذرية والولد‪ ،‬فهو وإن كان النكاح من السباب فيه‪ ،‬فإنه‬
‫ح ِملُ مِنْ أُنْثَى وَلَا َتضَعُ إِلّا ِبعِ ْلمِهِ } وكذلك أطوار‬
‫مقترن بقضاء اللّه وقدره‪ ،‬وعلمه‪َ { ،‬ومَا تَ ْ‬
‫الدمي‪ ،‬كلها بعلمه وقضائه‪.‬‬

‫عمُ ِرهِ } أي‪ :‬عمر الذي كان معمرا عمرا طويل { إِلّا }‬
‫{ َومَا ُي َعمّرُ مِنْ ُم َعمّرٍ وَلَا يُ ْن َقصُ مِنْ ُ‬
‫بعلمه تعالى‪ ،‬أو ما ينقص من عمر النسان الذي هو بصدد أن يصل إليه‪ ،‬لول ما سلكه من‬
‫أسباب قصر العمر‪ ،‬كالزنا‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقطيعة الرحام‪ ،‬ونحو ذلك مما ذكر أنها من‬
‫أسباب قصر العمر‪.‬‬

‫والمعنى‪ :‬أن طول العمر وقصره‪ ،‬بسبب وبغير سبب كله بعلمه تعالى‪ ،‬وقد أثبت ذلك { فِي‬
‫كِتَابٍ } حوى ما يجري على العبد‪ ،‬في جميع أوقاته وأيام حياته‪.‬‬
‫{ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } أي‪ :‬إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة‪ ،‬وإحاطة كتابه فيها‪ ،‬فهذه‬
‫ثلثة أدلة من أدلة البعث والنشور‪ ،‬كلها عقلية‪ ،‬نبه اللّه عليها في هذه اليات‪ :‬إحياء الرض بعد‬
‫موتها‪ ،‬وأن الذي أحياها سيحيي الموتى‪ ،‬وتنقل الدمي في تلك الطوار‪.‬‬

‫فالذي أوجده ونقله‪ ،‬طبقا بعد طبق‪ ،‬وحال بعد حال‪ ،‬حتى بلغ ما قدر له‪ ،‬فهو على إعادته وإنشائه‬
‫النشأة الخرى أقدر‪ ،‬وهو أهون عليه‪ ،‬وإحاطة علمه بجميع أجزاء العالم‪ ،‬العلوي والسفلي‪ ،‬دقيقها‬
‫وجليلها‪ ،‬الذي في القلوب‪ ،‬والجنة التي في البطون‪ ،‬وزيادة العمار ونقصها‪ ،‬وإثبات ذلك كله في‬
‫كتاب‪ .‬فالذي كان هذا [نعته] يسيرا عليه‪ ،‬فإعادته للموات أيسر وأيسر‪ .‬فتبارك من كثر خيره‪،‬‬
‫ونبه عباده على ما فيه صلحهم‪ ،‬في معاشهم ومعادهم‪.‬‬

‫ج َومِنْ ُكلّ‬
‫{ ‪َ { } 14 - 12‬ومَا يَسْ َتوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَ ْذبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُ ُه وَ َهذَا مِلْحٌ ُأجَا ٌ‬
‫حمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْ ِرجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا وَتَرَى ا ْلفُلْكَ فِيهِ َموَاخِرَ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ‬
‫تَ ْأكُلُونَ لَ ْ‬
‫جلٍ‬
‫شمْسَ وَالْ َقمَرَ ُكلّ يَجْرِي لَِأ َ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫ل وَ َ‬
‫شكُرُونَ * يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ‬
‫تَ ْ‬
‫طمِيرٍ * إِنْ تَدْعُو ُهمْ لَا‬
‫ك وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا َيمِْلكُونَ مِنْ قِ ْ‬
‫سمّى ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ لَهُ ا ْلمُ ْل ُ‬
‫مُ َ‬
‫س ِمعُوا مَا اسْتَجَابُوا َلكُمْ وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكْفُرُونَ بِشِ ْر ِككُ ْم وَلَا يُنَبّ ُئكَ مِ ْثلُ خَبِيرٍ }‬
‫س َمعُوا دُعَا َء ُك ْم وََلوْ َ‬
‫يَ ْ‬

‫هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته‪ ،‬أنه جعل البحرين لمصالح العالم الرضي كلهم‪ ،‬وأنه لم‬
‫يسوّ بينهما‪ ،‬لن المصلحة تقتضي أن تكون النهار عذبة فراتا‪ ،‬سائغا شرابها‪ ،‬لينتفع بها‬
‫الشاربون والغارسون والزارعون‪ ،‬وأن يكون البحر ملحا أجاجا‪ ،‬لئل يفسد الهواء المحيط‬
‫بالرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولنه ساكن ل يجري‪ ،‬فملوحته تمنعه من‬
‫التغير‪ ،‬ولتكون حيواناته أحسن وألذ‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومِنْ ُكلٍ } من البحر الملح والعذب { تَ ْأكُلُونَ‬
‫حمًا طَرِيّا } وهو السمك المتيسر صيده في البحر‪ { ،‬وَتَسْ َتخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْ َبسُو َنهَا } من لؤلؤ‬
‫لَ ْ‬
‫ومرجان وغيرهما‪ ،‬مما يوجد في البحر‪ ،‬فهذه مصالح عظيمة للعباد‪.‬‬

‫ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر‪ ،‬أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب‪،‬‬
‫فتراها تمخر البحر وتشقه‪ ،‬فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر‪ ،‬ومن محل إلى محل‪ ،‬فتحمل السائرين‬
‫وأثقالهم وتجاراتهم‪ ،‬فيحصل بذلك من فضل اللّه وإحسانه شيء كثير‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬

‫ومن ذلك أيضا‪ ،‬إيلجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل‪ ،‬يدخل هذا على هذا‪ ،‬وهذا على هذا‪،‬‬
‫كلما أتى أحدهما ذهب الخر‪ ،‬ويزيد أحدهما وينقص الخر‪ ،‬ويتساويان‪ ،‬فيقوم بذلك ما يقوم من‬
‫مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم‪.‬‬
‫وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر‪ ،‬الضياء والنور‪ ،‬والحركة والسكون‪ ،‬وانتشار العباد‬
‫في طلب فضله‪ ،‬وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف وغير ذلك مما هو من‬
‫حقَ الناس الضرر‪.‬‬
‫الضروريات‪ ،‬التي لو فقدت لَلَ ِ‬

‫سمّى } أي‪ :‬كل من الشمس والقمر‪ ،‬يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن‬
‫جلٍ ُم َ‬
‫وقوله‪ُ { :‬كلّ َيجْرِي لَِأ َ‬
‫يسيرا‪ ،‬فإذا جاء الجل‪ ،‬وقرب انقضاء الدنيا‪ ،‬انقطع سيرهما‪ ،‬وتعطل سلطانهما‪ ،‬وخسف القمر‪،‬‬
‫وكورت الشمس‪ ،‬وانتثرت النجوم‪.‬‬

‫فلما بين تعالى ما بيّن من هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه‪،‬‬
‫قال‪ { :‬ذَِل ُكمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ } أي‪ :‬الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها‪ ،‬هو الرب‬
‫المألوه المعبود‪ ،‬الذي له الملك كله‪.‬‬

‫طمِيرٍ } أي‪ :‬ل يملكون شيئا‪،‬‬


‫{ وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الوثان والصنام { مَا َيمِْلكُونَ مِنْ ِق ْ‬
‫ل قليل ول كثيرا‪ ،‬حتى ول القطمير الذي هو أحقر الشياء‪ ،‬وهذا من تنصيص النفي وعمومه‪،‬‬
‫عوْنَ‪ ،‬وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات والرض؟‬
‫فكيف ُيدْ َ‬

‫ومع هذا { إِنْ تَدْعُوهُمْ } ل يسمعوكم لنهم ما بين جماد وأموات وملئكة مشغولين بطاعة ربهم‪.‬‬
‫س ِمعُوا } على وجه الفرض والتقدير { مَا اسْ َتجَابُوا َلكُمْ } لنهم ل يملكون شيئا‪ ،‬ول يرضى‬
‫{ وََلوْ َ‬
‫أكثرهم بعبادة من عبده‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُونَ بِشِ ْر ِككُمْ } أي‪ :‬يتبرأون منكم‪،‬‬
‫ويقولون‪ { :‬سُ ْبحَا َنكَ أَ ْنتَ وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ }‬

‫{ وَلَا يُنَبّ ُئكَ مِ ْثلُ خَبِيرٍ } أي‪ :‬ل أحد ينبئك‪ ،‬أصدق من ال العليم الخبير‪ ،‬فاجزم بأن هذا المر‪،‬‬
‫الذي نبأ به كأنه رَ ْأيُ عين‪ ،‬فل تشك فيه ول تمتر‪ .‬فتضمنت هذه اليات‪ ،‬الدلة والبراهين‬
‫الساطعة‪ ،‬الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود‪ ،‬الذي ل يستحق شيئا من العبادة سواه‪ ،‬وأن عبادة‬
‫ما سواه باطلة متعلقة بباطل‪ ،‬ل تفيد عابده شيئا‪.‬‬

‫حمِيدُ * إِنْ يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ‬


‫{ ‪ { } 18 - 15‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ أَنْتُمُ ا ْلفُقَرَاءُ إِلَى اللّ ِه وَاللّهُ ُهوَ ا ْلغَنِيّ ا ْل َ‬
‫حمِْلهَا لَا‬
‫جدِيدٍ * َومَا ذَِلكَ عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى وَإِنْ تَ ْدعُ مُ ْثقَلَةٌ إِلَى ِ‬
‫بِخَ ْلقٍ َ‬
‫ب وََأقَامُوا الصّلَا َة َومَنْ تَ َزكّى‬
‫شوْنَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَ ْي ِ‬
‫خَ‬‫شيْءٌ وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِ ّنمَا تُنْذِرُ الّذِينَ يَ ْ‬
‫ح َملْ مِنْهُ َ‬
‫يُ ْ‬
‫فَإِ ّنمَا يَتَ َزكّى لِ َنفْسِهِ وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫يخاطب تعالى جميع الناس‪ ،‬ويخبرهم بحالهم ووصفهم‪ ،‬وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه‪:‬‬
‫فقراء في إيجادهم‪ ،‬فلول إيجاده إياهم‪ ،‬لم يوجدوا‪.‬‬

‫فقراء في إعدادهم بالقوى والعضاء والجوارح‪ ،‬التي لول إعداده إياهم [بها]‪ ،‬لما استعدوا لي‬
‫عمل كان‪.‬‬

‫فقراء في إمدادهم بالقوات والرزاق والنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬فلول فضله وإحسانه وتيسيره‬
‫المور‪ ،‬لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء‪.‬‬

‫فقراء في صرف النقم عنهم‪ ،‬ودفع المكاره‪ ،‬وإزالة الكروب والشدائد‪ .‬فلول دفعه عنهم‪ ،‬وتفريجه‬
‫لكرباتهم‪ ،‬وإزالته لعسرهم‪ ،‬لستمرت عليهم المكاره والشدائد‪.‬‬

‫فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية‪ ،‬وأجناس التدبير‪.‬‬

‫فقراء إليه‪ ،‬في تألههم له‪ ،‬وحبهم له‪ ،‬وتعبدهم‪ ،‬وإخلص العبادة له تعالى‪ ،‬فلو لم يوفقهم لذلك‪،‬‬
‫لهلكوا‪ ،‬وفسدت أرواحهم‪ ،‬وقلوبهم وأحوالهم‪.‬‬

‫فقراء إليه‪ ،‬في تعليمهم ما ل يعلمون‪ ،‬وعملهم بما يصلحهم‪ ،‬فلول تعليمه‪ ،‬لم يتعلموا‪ ،‬ولول‬
‫توفيقه‪ ،‬لم يصلحوا‪.‬‬

‫فهم فقراء بالذات إليه‪ ،‬بكل معنى‪ ،‬وبكل اعتبار‪ ،‬سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا‪،‬‬
‫ولكن الموفق منهم‪ ،‬الذي ل يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه‪ ،‬ويتضرع له‪،‬‬
‫ويسأله أن ل يكله إلى نفسه طرفة عين‪ ،‬وأن يعينه على جميع أموره‪ ،‬ويستصحب هذا المعنى في‬
‫كل وقت‪ ،‬فهذا أحرى بالعانة التامة من ربه وإلهه‪ ،‬الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها‪.‬‬

‫حمِيدُ } أي‪ :‬الذي له الغنى التام من جميع الوجوه‪ ،‬فل يحتاج إلى ما يحتاج إليه‬
‫{ وَاللّهُ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ‬
‫خلقه‪ ،‬ول يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق‪ ،‬وذلك لكمال صفاته‪ ،‬وكونها كلها‪ ،‬صفات كمال‪،‬‬
‫ونعوت وجلل‪.‬‬

‫ومن غناه تعالى‪ ،‬أن أغنى الخلق في الدنيا والخرة‪ ،‬الحميد في ذاته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬لنها حسنى‪،‬‬
‫وأوصافه‪ ،‬لكونها عليا‪ ،‬وأفعاله لنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة‪ ،‬وفي أوامره ونواهيه‪،‬‬
‫فهو الحميد على ما فيه‪ ،‬وعلى ما منه‪ ،‬وهو الحميد في غناه [الغني في حمده]‪.‬‬
‫جدِيدٍ } يحتمل أن المراد‪ :‬إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بغيركم من‬
‫{ إِنْ يَشَأْ يُ ْذهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ بِخَ ْلقٍ َ‬
‫الناس‪ ،‬أطوع للّه منكم‪ ،‬ويكون في هذا تهديد لهم بالهلك والبادة‪ ،‬وأن مشيئته غير قاصرة عن‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد بذلك‪ ،‬إثبات البعث والنشور‪ ،‬وأن مشيئة اللّه تعالى نافذة في كل شيء‪ ،‬وفي‬
‫إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا‪ ،‬ولكن لذلك الوقت أجل قدره اللّه‪ ،‬ل يتقدم عنه ول يتأخر‪.‬‬

‫علَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ } أي‪ :‬بممتنع‪ ،‬ول معجز له‪.‬‬


‫{ َومَا ذَِلكَ َ‬

‫ويدل على المعنى الخير‪ ،‬ما ذكره بعده في قوله‪ { :‬وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى } أي‪ :‬في يوم‬
‫القيامة كل أحد يجازى بعمله‪ ،‬ول يحمل أحد ذنب أحد‪ { .‬وَإِنْ تَ ْدعُ مُ ْثقَلَةٌ } أي‪ :‬نفس مثقلة‬
‫شيْ ٌء وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‬
‫ح َملْ مِنْهُ َ‬
‫بالخطايا والذنوب‪ ،‬تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها { لَا يُ ْ‬
‫} فإنه ل يحمل عن قريب‪ ،‬فليست حال الخرة بمنزلة حال الدنيا‪ ،‬يساعد الحميم حميمه‪ ،‬والصديق‬
‫صديقه‪ ،‬بل يوم القيامة‪ ،‬يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد‪ ،‬ولو على والديه وأقاربه‪.‬‬

‫شوْنَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَ ْيبِ وََأقَامُوا الصّلَاةَ } أي‪ :‬هؤلء الذين يقبلون النذارة وينتفعون‬
‫خَ‬‫{ إِ ّنمَا تُ ْنذِرُ الّذِينَ يَ ْ‬
‫بها‪ ،‬أهل الخشية للّه بالغيب‪ ،‬أي‪ :‬الذين يخشونه في حال السر والعلنية‪ ،‬والمشهد والمغيب‪ ،‬وأهل‬
‫إقامة الصلة‪ ،‬بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها‪ ،‬لن الخشية للّه تستدعي من‬
‫العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب‪ ،‬والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب‪ ،‬والصلة‬
‫تدعو إلى الخير‪ ،‬وتنهى عن الفحشاء والمنكر‪.‬‬

‫{ َومَنْ تَ َزكّى فَإِ ّنمَا يَتَ َزكّى لِ َنفْسِهِ } أي‪ :‬ومن زكى نفسه بالتنقّي من العيوب‪ ،‬كالرياء والكبر‪،‬‬
‫والكذب والغش‪ ،‬والمكر والخداع والنفاق‪ ،‬ونحو ذلك من الخلق الرذيلة‪ ،‬وتحلّى بالخلق‬
‫الجميلة‪ ،‬من الصدق‪ ،‬والخلص‪ ،‬والتواضع‪ ،‬ولين الجانب‪ ،‬والنصح للعباد‪ ،‬وسلمة الصدر من‬
‫الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الخلق‪ ،‬فإن تزكيته يعود نفعها إليه‪ ،‬ويصل مقصودها إليه‪،‬‬
‫ليس يضيع من عمله شيء‪.‬‬

‫{ وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ } فيجازي الخلئق على ما أسلفوه‪ ،‬ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه‪ ،‬ول‬
‫يغادر صغيرة ول كبيرة إل أحصاها‪.‬‬

‫ل وَلَا ا ْلحَرُورُ‬
‫ظّ‬‫ت وَلَا النّورُ * وَلَا ال ّ‬
‫عمَى وَالْ َبصِيرُ * وَلَا الظُّلمَا ُ‬
‫{ ‪َ { } 24 - 19‬ومَا يَسْ َتوِي الْأَ ْ‬
‫سمِعٍ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ * إِنْ‬
‫سمِعُ مَنْ يَشَاءُ َومَا أَ ْنتَ ِبمُ ْ‬
‫* َومَا يَسْ َتوِي الْأَحْيَا ُء وَلَا الَْأ ْموَاتُ إِنّ اللّهَ ُي ْ‬
‫حقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ ُأمّةٍ إِلّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ }‬
‫أَ ْنتَ إِلّا نَذِيرٌ * إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْ َ‬
‫يخبر تعالى أنه ل يتساوى الضداد في حكمة اللّه‪ ،‬وفيما أودعه في فطر عباده‪َ { .‬ومَا يَسْ َتوِي‬
‫ل وَلَا ا ْلحَرُورُ َومَا َيسْ َتوِي الَْأحْيَاءُ‬
‫ظّ‬‫ت وَلَا النّو ُر وَلَا ال ّ‬
‫عمَى } فاقد البصر { وَالْ َبصِيرُ وَلَا الظُّلمَا ُ‬
‫الْأَ ْ‬
‫وَلَا الَْأ ْموَاتُ } فكما أنه من المتقرر عندكم‪ ،‬الذي ل يقبل الشك‪ ،‬أن هذه المذكورات ل تتساوى‪،‬‬
‫فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى‪.‬‬

‫فل يستوي المؤمن والكافر‪ ،‬ول المهتدي والضال‪ ،‬ول العالم والجاهل‪ ،‬ول أصحاب الجنة‬
‫وأصحاب النار‪ ،‬ول أحياء القلوب وأمواتها‪ ،‬فبين هذه الشياء من التفاوت والفرق ما ل يعلمه إل‬
‫اللّه تعالى‪ ،‬فإذا علمت المراتب‪ ،‬وميزت الشياء‪ ،‬وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من‬
‫ضده‪ ،‬فليختر الحازم لنفسه‪ ،‬ما هو أولى به وأحقها باليثار‪.‬‬

‫سمِعٍ مَنْ‬
‫سمِعُ مَنْ يَشَاءُ } سماع فهم وقبول‪ ،‬لنه تعالى هو الهادي الموفق { َومَا أَ ْنتَ ِب ُم ْ‬
‫{ إِنّ اللّهَ ُي ْ‬
‫فِي ا ْلقُبُورِ } أي‪ :‬أموات القلوب‪ ،‬أو كما أن دعاءك ل يفيد سكان القبور شيئا‪ ،‬كذلك ل يفيد‬
‫المعرض المعاند شيئا‪ ،‬ولكن وظيفتك النذارة‪ ،‬وإبلغ ما أرسلت به‪ ،‬قبل منك أم ل‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬إِنْ أَ ْنتَ إِلّا نَذِيرٌ * إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ } أي‪ :‬مجرد إرسالنا إياك بالحق‪ ،‬لن اللّه‬
‫تعالى بعثك على حين فترة من الرسل‪ ،‬وطموس من السبل‪ ،‬واندراس من العلم‪ ،‬وضرورة عظيمة‬
‫إلى بعثك‪ ،‬فبعثك اللّه رحمة للعالمين‪.‬‬

‫وكذلك ما بعثناك به من الدين القويم‪ ،‬والصراط المستقيم‪ ،‬حق ل باطل‪ ،‬وكذلك ما أرسلناك به‪،‬‬
‫من هذا القرآن العظيم‪ ،‬وما اشتمل عليه من الذكر الحكيم‪ ،‬حق وصدق‪ { .‬بَشِيرًا } لمن أطاعك‪،‬‬
‫بثواب اللّه العاجل والجل‪ { ،‬وَنَذِيرًا } لمن عصاك‪ ،‬بعقاب اللّه العاجل والجل‪ ،‬ولست ببدع من‬
‫الرسل‪.‬‬

‫فما { مِنْ ُأمّةٍ } من المم الماضية والقرون الخالية { إِلّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } يقيم عليهم حجة اللّه‬
‫حيّ عَنْ بَيّنَةٍ }‬
‫{ لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّنَ ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ‬

‫ت وَبِالزّبُ ِر وَبِا ْلكِتَابِ‬


‫{ ‪ { } 26 - 25‬وَإِنْ ُيكَذّبُوكَ َفقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ جَاءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَا ِ‬
‫خ ْذتُ الّذِينَ َكفَرُوا َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ }‬
‫ا ْلمُنِيرِ * ثُمّ أَ َ‬

‫أي‪ :‬وإن يكذبك أيها الرسول‪ ،‬هؤلء المشركون‪ ،‬فلست أول رسول كذب‪َ { ،‬فقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ‬
‫قَبِْلهِمْ جَاءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } الدالت على الحق‪ ،‬وعلى صدقهم فيما أخبروهم به‪ { ،‬وَبالزّبُرِ }‬
‫أي‪ :‬الكتب المكتوبة‪ ،‬المجموع فيها كثير من الحكام‪ { ،‬وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُنِيرِ } أي‪ :‬المضيء في أخباره‬
‫الصادقة‪ ،‬وأحكامه العادلة‪ ،‬فلم يكن تكذيبهم إياهم ناشئا عن اشتباه‪ ،‬أو قصور بما جاءتهم به‬
‫الرسل‪ ،‬بل بسبب ظلمهم وعنادهم‪.‬‬

‫خ ْذتُ الّذِينَ َكفَرُوا } بأنواع العقوبات { َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ } عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم‬
‫{ ُثمّ أَ َ‬
‫التنكيل‪ ،‬فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم‪ ،‬فيصيبكم كما أصاب أولئك‪ ،‬من العذاب الليم والخزي‬
‫الوخيم‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ ُمخْتَِلفًا أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ‬
‫{ ‪ { } 28 - 27‬أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫س وَال ّدوَابّ وَالْأَ ْنعَامِ ُمخْتَِلفٌ‬
‫حمْرٌ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ‬
‫الْجِبَالِ جُ َددٌ بِيضٌ وَ ُ‬
‫غفُورٌ }‬
‫أَ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫يذكر تعالى خلقه للشياء المتضادات‪ ،‬التي أصلها واحد‪ ،‬ومادتها واحدة‪ ،‬وفيها من التفاوت‬
‫والفرق ما هو مشاهد معروف‪ ،‬ليدل العباد على كمال قدرته وبديع حكمته‪.‬‬

‫فمن ذلك‪ :‬أن اللّه تعالى أنزل من السماء ماء‪ ،‬فأخرج به من الثمرات المختلفات‪ ،‬والنباتات‬
‫المتنوعات‪ ،‬ما هو مشاهد للناظرين‪ ،‬والماء واحد‪ ،‬والرض واحدة‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬الجبال التي جعلها اللّه أوتادا للرض‪ ،‬تجدها جبال مشتبكة‪ ،‬بل جبل واحدا‪ ،‬وفيها‬
‫ألوان متعددة‪ ،‬فيها جدد بيض‪ ،‬أي‪ :‬طرائق بيض‪ ،‬وفيها طرائق صفر وحمر‪ ،‬وفيها غرابيب‬
‫سود‪ ،‬أي‪ :‬شديدة السواد جدا‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬الناس والدواب‪ ،‬والنعام‪ ،‬فيها من اختلف اللوان والوصاف والصوات والهيئات‪،‬‬
‫ما هو مرئي بالبصار‪ ،‬مشهود للنظار‪ ،‬والكل من أصل واحد ومادة واحدة‪.‬‬

‫فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى‪ ،‬التي خصصت ما خصصت منها‪ ،‬بلونه‪ ،‬ووصفه‪،‬‬
‫وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك‪ ،‬وحكمته ورحمته‪ ،‬حيث كان ذلك الختلف‪ ،‬وذلك التفاوت‪،‬‬
‫فيه من المصالح والمنافع‪ ،‬ومعرفة الطرق‪ ،‬ومعرفة الناس بعضهم بعضا‪ ،‬ما هو معلوم‪.‬‬

‫وذلك أيضا‪ ،‬دليل على سعة علم اللّه تعالى‪ ،‬وأنه يبعث من في القبور‪ ،‬ولكن الغافل ينظر في هذه‬
‫الشياء وغيرها نظر غفلة ل تحدث له التذكر‪ ،‬وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى‪ ،‬ويعلم بفكره‬
‫الصائب وجه الحكمة فيها‪.‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم‪ ،‬كان أكثر له خشية‪،‬‬
‫وأوجبت له خشية اللّه‪ ،‬النكفاف عن المعاصي‪ ،‬والستعداد للقاء من يخشاه‪ ،‬وهذا دليل على‬
‫ضيَ اللّهُ‬
‫فضيلة العلم‪ ،‬فإنه داع إلى خشية اللّه‪ ،‬وأهل خشيته هم أهل كرامته‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ر ِ‬
‫شيَ رَبّهُ }‬
‫عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ ذَِلكَ ِلمَنْ خَ ِ‬

‫{ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة‪ ،‬ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات‪.‬‬

‫غفُورٌ } لذنوب التائبين‪.‬‬


‫{ َ‬

‫{ ‪ { } 30 - 29‬إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّ ِه وََأقَامُوا الصّلَا َة وَأَ ْنفَقُوا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَانِيَةً‬
‫شكُورٌ }‬
‫غفُورٌ َ‬
‫يَرْجُونَ ِتجَا َرةً لَنْ تَبُورَ * لِ ُي َوفّ َيهُمْ ُأجُورَهُ ْم وَيَزِيدَ ُهمْ مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ َ‬

‫{ إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ } أي‪ :‬يتبعونه في أوامره فيمتثلونها‪ ،‬وفي نواهيه فيتركونها‪ ،‬وفي‬
‫أخباره‪ ،‬فيصدقونها ويعتقدونها‪ ،‬ول يقدمون عليه ما خالفه من القوال‪ ،‬ويتلون أيضا ألفاظه‪،‬‬
‫بدراسته‪ ،‬ومعانيه‪ ،‬بتتبعها واستخراجها‪.‬‬

‫ثم خص من التلوة بعد ما عم‪ ،‬الصلة التي هي عماد الدين‪ ،‬ونور المسلمين‪ ،‬وميزان اليمان‪،‬‬
‫وعلمة صدق السلم‪ ،‬والنفقة على القارب والمساكين واليتامى وغيرهم‪ ،‬من الزكاة والكفارات‬
‫والنذور والصدقات‪ { .‬سِرّا وَعَلَانِيَةً } في جميع الوقات‪.‬‬

‫{ يَ ْرجُونَ } [بذلك] { تِجَا َرةً لَنْ تَبُورَ } أي‪ :‬لن تكسد وتفسد‪ ،‬بل تجارة‪ ،‬هي أجل التجارات‬
‫وأعلها وأفضلها‪ ،‬أل وهي رضا ربهم‪ ،‬والفوز بجزيل ثوابه‪ ،‬والنجاة من سخطه وعقابه‪ ،‬وهذا‬
‫فيه أنهم يخلصون بأعمالهم‪ ،‬وأنهم ل يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة شيئا‪.‬‬

‫وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال‪ { :‬لِ ُي َوفّ َيهُمْ أُجُورَ ُهمْ } أي‪ :‬أجور أعمالهم‪ ،‬على حسب قلتها‬
‫شكُورٌ } غفر‬
‫غفُورٌ َ‬
‫وكثرتها‪ ،‬وحسنها وعدمه‪ { ،‬وَيَزِي َدهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } زيادة عن أجورهم‪ { .‬إِنّهُ َ‬
‫لهم السيئات‪ ،‬وقبل منهم القليل من الحسنات‪.‬‬

‫حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ إِنّ اللّهَ ِبعِبَا ِدهِ‬
‫{ ‪ { } 35 - 31‬وَالّذِي َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ ُهوَ الْ َ‬
‫طفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا َفمِ ْنهُمْ ظَالِمٌ لِ َنفْسِ ِه َومِ ْنهُمْ ُمقْتَصِدٌ َومِنْهُمْ‬
‫لَخَبِيرٌ َبصِيرٌ * ثُمّ َأوْرَثْنَا ا ْلكِتَابَ الّذِينَ اصْ َ‬
‫ضلُ ا ْلكَبِيرُ * جَنّاتُ عَدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا ُيحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ‬
‫سَا ِبقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِِإذْنِ اللّهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َف ْ‬
‫شكُورٌ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَ ْذ َهبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا َل َغفُورٌ َ‬
‫سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * َوقَالُوا الْ َ‬
‫ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ‬
‫ذَ َه ٍ‬
‫ب وَلَا َيمَسّنَا فِيهَا ُلغُوبٌ }‬
‫* الّذِي أَحَلّنَا دَارَ ا ْل ُمقَامَةِ مِنْ َفضْلِهِ لَا َيمَسّنَا فِيهَا َنصَ ٌ‬
‫يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله { ُهوَ ا ْلحَقّ } من كثرة ما اشتمل عليه من الحق‪،‬‬
‫كأن الحق منحصر فيه‪ ،‬فل يكن في قلوبكم حرج منه‪ ،‬ول تتبرموا منه‪ ،‬ول تستهينوا به‪ ،‬فإذا كان‬
‫هو الحق‪ ،‬لزم أن كل ما دل عليه من المسائل اللهية والغيبية وغيرها‪ ،‬مطابق لما في الواقع‪ ،‬فل‬
‫يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه‪.‬‬

‫{ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب والرسل‪ ،‬لنها أخبرت به‪ ،‬فلما وجد وظهر‪ ،‬ظهر به صدقها‪.‬‬
‫فهي بشرت به وأخبرت‪ ،‬وهو صدقها‪ ،‬ولهذا ل يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة‪ ،‬وهو كافر‬
‫بالقرآن أبدا‪ ،‬لن كفره به‪ ،‬ينقض إيمانه بها‪ ،‬لن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن‪ ،‬ولن‬
‫أخبارها مطابقة لخبار القرآن‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ ِبعِبَا ِدهِ لَخَبِيرٌ َبصِيرٌ } فيعطي كل أمة وكل شخص‪ ،‬ما هو اللئق بحاله‪ .‬ومن ذلك‪ ،‬أن‬
‫الشرائع السابقة ل تليق إل بوقتها وزمانها‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ما زال اللّه يرسل الرسل رسول بعد رسول‪،‬‬
‫حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فجاء بهذا الشرع‪ ،‬الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ويتكفل بما هو الخير في كل وقت‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬لما كانت هذه المة أكمل المم عقول‪ ،‬وأحسنهم أفكارا‪ ،‬وأرقهم قلوبا‪ ،‬وأزكاهم أنفسا‪،‬‬
‫اصطفاهم ال تعالى‪ ،‬واصطفى لهم دين السلم‪ ،‬وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب‪ ،‬ولهذا‬
‫طفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه المة‪َ { .‬فمِ ْنهُمْ ظَالِمٌ لِ َنفْسِهِ }‬
‫قال‪ { :‬ثُمّ َأوْرَثْنَا ا ْلكِتَابَ الّذِينَ اصْ َ‬
‫بالمعاصي‪[ ،‬التي] هي دون الكفر‪َ { .‬ومِ ْنهُمْ ُمقْتَصِدٌ } مقتصر على ما يجب عليه‪ ،‬تارك للمحرم‪{ .‬‬
‫َومِ ْنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي‪ :‬سارع فيها واجتهد‪ ،‬فسبق غيره‪ ،‬وهو المؤدي للفرائض‪ ،‬المكثر من‬
‫النوافل‪ ،‬التارك للمحرم والمكروه‪.‬‬

‫فكلهم اصطفاه اللّه تعالى‪ ،‬لوراثة هذا الكتاب‪ ،‬وإن تفاوتت مراتبهم‪ ،‬وتميزت أحوالهم‪ ،‬فلكل منهم‬
‫قسط من وراثته‪ ،‬حتى الظالم لنفسه‪ ،‬فإن ما معه من أصل اليمان‪ ،‬وعلوم اليمان‪ ،‬وأعمال‬
‫اليمان‪ ،‬من وراثة الكتاب‪ ،‬لن المراد بوراثة الكتاب‪ ،‬وراثة علمه وعمله‪ ،‬ودراسة ألفاظه‪،‬‬
‫واستخراج معانيه‪.‬‬

‫وقوله { بِِإذْنِ اللّهِ } راجع إلى السابق إلى الخيرات‪ ،‬لئل يغتر بعمله‪ ،‬بل ما سبق إلى الخيرات إل‬
‫بتوفيق اللّه تعالى ومعونته‪ ،‬فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفضْلُ ا ْلكَبِيرُ } أي‪ :‬وراثة الكتاب الجليل‪ ،‬لمن اصطفى تعالى من عباده‪ ،‬هو الفضل‬
‫الكبير‪ ،‬الذي جميع النعم بالنسبة إليه‪ ،‬كالعدم‪ ،‬فأجل النعم على الطلق‪ ،‬وأكبر الفضل‪ ،‬وراثة هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫عدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا } أي‪ :‬جنات مشتملت على‬
‫ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال‪ { :‬جَنّاتُ َ‬
‫الشجار‪ ،‬والظل‪ ،‬والظليل‪ ،‬والحدائق الحسنة‪ ،‬والنهار المتدفقة‪ ،‬والقصور العالية‪ ،‬والمنازل‬
‫المزخرفة‪ ،‬في أبد ل يزول‪ ،‬وعيش ل ينفد‪.‬‬

‫والعدن "القامة" فجنات عدن أي‪ :‬جنات إقامة‪ ،‬أضافها للقامة‪ ،‬لن القامة والخلود وصفها‬
‫ووصف أهلها‪.‬‬

‫{ ُيحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ َذ َهبٍ } وهو الحلي الذي يجعل في اليدين‪ ،‬على ما يحبون‪ ،‬ويرون‬
‫أنه أحسن من غيره‪ ،‬الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء‪.‬‬

‫س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ } من سندس‪ ،‬ومن‬


‫{ و } يحلون فيها { ُلؤُْلؤًا } ينظم في ثيابهم وأجسادهم‪ { .‬وَلِبَا ُ‬
‫إستبرق أخضر‪.‬‬

‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ } وهذا يشمل كل‬
‫{ و } لما تم نعيمهم‪ ،‬وكملت لذتهم { قَالُوا ا ْل َ‬
‫حزن‪ ،‬فل حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم‪ ،‬ول في طعامهم وشرابهم‪ ،‬ول في لذاتهم‬
‫ول في أجسادهم‪ ،‬ول في دوام لبثهم‪ ،‬فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدا‪ ،‬وهو في تزايد أبد الباد‪.‬‬

‫شكُورٌ } حيث قبل منا الحسنات وضاعفها‪ ،‬وأعطانا من‬


‫{ إِنّ رَبّنَا َل َغفُورٌ } حيث غفر لنا الزلت { َ‬
‫فضله ما لم تبلغه أعمالنا ول أمانينا‪ ،‬فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب‪ ،‬وبشكره وفضله‬
‫حصل لهم كل مرغوب محبوب‪.‬‬

‫حلّنَا } أي‪ :‬أنزلنا نزول حلول واستقرار‪ ،‬ل نزول معبر واعتبار‪ { .‬دَارَ ا ْل ُمقَامَةِ } أي‪:‬‬
‫{ الّذِي أَ َ‬
‫الدار التي تدوم فيها القامة‪ ،‬والدار التي يرغب في المقام فيها‪ ،‬لكثرة خيراتها‪ ،‬وتوالي مسراتها‪،‬‬
‫وزوال كدوراتها‪ ،‬وذلك الحلل { مِنْ َفضْلِهِ } علينا وكرمه‪ ،‬ل بأعمالنا‪ ،‬فلول فضله‪ ،‬لما وصلنا‬
‫إلى ما وصلنا إليه‪.‬‬

‫صبٌ وَلَا َيمَسّنَا فِيهَا ُلغُوبٌ } أي‪ :‬ل تعب في البدان ول في القلب والقوى‪ ،‬ول‬
‫{ لَا َيمَسّنَا فِيهَا َن َ‬
‫في كثرة التمتع‪ ،‬وهذا يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة‪ ،‬ويهيئ لهم من أسباب‬
‫الراحة على الدوام‪ ،‬ما يكونون بهذه الصفة‪ ،‬بحيث ل يمسهم نصب ول لغوب‪ ،‬ول هم ول حزن‪.‬‬

‫ويدل على أنهم ل ينامون في الجنة‪ ،‬لن النوم فائدته زوال التعب‪ ،‬وحصول الراحة به‪ ،‬وأهل‬
‫الجنة بخلف ذلك‪ ،‬ولنه موت أصغر‪ ،‬وأهل الجنة ل يموتون‪ ،‬جعلنا اللّه منهم‪ ،‬بمنه وكرمه‪.‬‬
‫عذَا ِبهَا‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمْ مِنْ َ‬
‫جهَنّمَ لَا ُيقْضَى عَلَ ْيهِمْ فَ َيمُوتُوا وَلَا ُي َ‬
‫{ ‪ { } 37 - 36‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َلهُمْ نَارُ َ‬
‫كَذَِلكَ َنجْزِي ُكلّ َكفُورٍ * وَهُمْ َيصْطَ ِرخُونَ فِيهَا رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْع َملُ‬
‫َأوَلَمْ ُن َعمّ ْركُمْ مَا يَ َت َذكّرُ فِيهِ مَنْ تَ َذكّ َر َوجَا َءكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُوا َفمَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َنصِيرٍ }‬

‫لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم‪ ،‬ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا } أي‪:‬‬
‫جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من اليات‪ ،‬وأنكروا لقاء ربهم‪.‬‬

‫جهَنّمَ } يعذبون فيها أشد العذاب‪ ،‬وأبلغ العقاب‪ { .‬لَا ُي ْقضَى عَلَ ْيهِمْ } بالموت { فَ َيمُوتُوا }‬
‫{ َل ُهمْ نَارُ َ‬
‫خ ّففُ عَ ْن ُهمْ مِنْ عَذَا ِبهَا } فشدة العذاب وعظمه‪ ،‬مستمر عليهم في جميع النات‬
‫فيستريحوا‪ { ،‬وَلَا يُ َ‬
‫واللحظات‪.‬‬

‫صطَرِخُونَ فِيهَا } أي‪ :‬يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون‪:‬‬


‫{ َكذَِلكَ نَجْزِي ُكلّ َكفُو ٍر وَهُمْ َي ْ‬
‫{ رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْع َملُ } فاعترفوا بذنبهم‪ ،‬وعرفوا أن اللّه عدل فيهم‪،‬‬
‫ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها‪ ،‬فيقال لهم‪َ { :‬أوََلمْ ُن َعمّ ْركُمْ مَا } أي‪ :‬دهرا وعمرا { يَتَ َذكّرُ فِيهِ‬
‫مَنْ تَ َذكّرَ } أي‪ :‬يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل‪ ،‬متعناكم في الدنيا‪ ،‬وأدررنا عليكم الرزاق‪،‬‬
‫وقيضنا لكم أسباب الراحة‪ ،‬ومددنا لكم في العمر‪ ،‬وتابعنا عليكم اليات‪ ،‬وأوصلنا إليكم النذر‪،‬‬
‫وابتليناكم بالسراء والضراء‪ ،‬لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا‪ ،‬فلم ينجع فيكم إنذار‪ ،‬ولم تفد فيكم‬
‫موعظة‪ ،‬وأخرنا عنكم العقوبة‪ ،‬حتى إذا انقضت آجالكم‪ ،‬وتمت أعماركم‪ ،‬ورحلتم عن دار‬
‫المكان‪ ،‬بأشر الحالت‪ ،‬ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على العمال‪ ،‬سألتم الرجعة؟ هيهات‬
‫هيهات‪ ،‬فات وقت المكان‪ ،‬وغضب عليكم الرحيم الرحمن‪ ،‬واشتد عليكم عذاب النار‪ ،‬ونسيكم‬
‫أهل الجنة‪ ،‬فامكثوا فيها خالدين مخلدين‪ ،‬وفي العذاب مهانين‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فذُوقُوا َفمَا لِلظّاِلمِينَ‬
‫مِنْ َنصِيرٍ } ينصرهم فيخرجهم منها‪ ،‬أو يخفف عنهم من عذابها‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 38‬إِنّ اللّهَ عَالِمُ غَ ْيبِ ال ّ‬

‫لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين‪ ،‬وذكر أعمال الفريقين‪ ،‬أخبر تعالى عن سعة علمه تعالى‪،‬‬
‫واطلعه على غيب السماوات والرض‪ ،‬التي غابت عن أبصار الخلق وعن علمهم‪ ،‬وأنه عالم‬
‫بالسرائر‪ ،‬وما تنطوي عليه الصدور من الخير والشر والزكاء وغيره‪ ،‬فيعطي كل ما يستحقه‪،‬‬
‫وينزل كل أحد منزلته‪.‬‬
‫جعََلكُمْ خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ َفمَنْ َكفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُرهُ وَلَا يَزِيدُ ا ْلكَافِرِينَ ُكفْرُهُمْ عِنْدَ‬
‫{ ‪ُ { } 39‬هوَ الّذِي َ‬
‫رَ ّبهِمْ إِلّا َمقْتًا وَلَا يَزِيدُ ا ْلكَافِرِينَ كُفْرُ ُهمْ إِلّا خَسَارًا }‬

‫يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده‪ ،‬أنه قدر بقضائه السابق‪ ،‬أن يجعل بعضهم يخلف‬
‫بعضا في الرض‪ ،‬ويرسل لكل أمة من المم النذر‪ ،‬فينظر كيف يعملون‪ ،‬فمن كفر باللّه وبما‬
‫جاءت به رسله‪ ،‬فإن كفره عليه‪ ،‬وعليه إثمه وعقوبته‪ ،‬ول يحمل عنه أحد‪ ،‬ول يزداد الكافر بكفره‬
‫إل مقت ربه له وبغضه إياه‪ ،‬وأي‪ :‬عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم؟!‬

‫{ وَلَا يَزِيدُ ا ْلكَافِرِينَ ُكفْرُهُمْ إِلّا خَسَارًا } أي‪ :‬يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في‬
‫الجنة‪ ،‬فالكافر ل يزال في زيادة من الشقاء والخسران‪ ،‬والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان‪.‬‬

‫خَلقُوا مِنَ الْأَ ْرضِ َأمْ َلهُمْ‬


‫{ ‪ُ { } 40‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ شُ َركَا َءكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا َ‬
‫ضهُمْ َب ْعضًا إِلّا‬
‫سمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا َفهُمْ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْهُ َبلْ إِنْ َيعِدُ الظّاِلمُونَ َب ْع ُ‬
‫شِ ْركٌ فِي ال ّ‬
‫غُرُورًا }‬

‫يقول تعالى مُعجّزًا للهة المشركين‪ ،‬ومبينا نقصها‪ ،‬وبطلن شركهم من جميع الوجوه‪.‬‬

‫{ ُقلْ } يا أيها الرسول لهم‪ { :‬أَرَأَيْتُمْ } أي‪ :‬أخبروني عن شركائكم { الذين تدعون من دون ال }‬
‫هل هم مستحقون للدعاء والعبادة‪ ،‬فـ { أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا [مِنَ الْأَ ْرضِ } هل خلقوا بحرا أم خلقوا‬
‫جبال أو خلقوا] حيوانا‪ ،‬أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الشياء‪ ،‬هو اللّه تعالى‪َ ،‬أمْ‬
‫سمَاوَاتِ } في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون‪ :‬ليس لهم شركة‪.‬‬
‫لشركائكم شِ ْركٌة { فِي ال ّ‬

‫فإذا لم يخلقوا شيئا‪ ،‬ولم يشاركوا الخالق في خلقه‪ ،‬فلم عبدتموهم ودعوتموهم مع إقراركم‬
‫بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي على صحة عبادتهم‪ ،‬ودل على بطلنها‪.‬‬

‫ثم ذكر الدليل السمعي‪ ،‬وأنه أيضا منتف‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬أمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا } يتكلم بما كانوا به‬
‫يشركون‪ ،‬يأمرهم بالشرك وعبادة الوثان‪َ { .‬فهُمْ } في شركهم { عَلَى بَيّنَةٍ } من ذلك الكتاب الذي‬
‫نزل عليهم في صحة الشرك؟‬

‫ليس المر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن‪ ،‬ول جاءهم نذير قبل رسول اللّه محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ولو قدر نزول كتاب إليهم‪ ،‬وإرسال رسول إليهم‪ ،‬وزعموا أنه أمرهم‬
‫بشركهم‪ ،‬فإنا نجزم بكذبهم‪ ،‬لن اللّه قال‪َ { :‬ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِلّا نُوحِي إِلَ ْيهِ أَنّهُ لَا‬
‫إِلَهَ ِإلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } فالرسل والكتب‪ ،‬كلها متفقة على المر بإخلص الدين للّه تعالى‪َ { ،‬ومَا‬
‫ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْبُدُوا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ حُ َنفَاءَ }‬

‫فإن قيل‪ :‬إذا كان الدليل العقلي‪ ،‬والنقلي قد دل على بطلن الشرك‪ ،‬فما الذي حمل المشركين على‬
‫الشرك‪ ،‬وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟‬

‫ضهُمْ َب ْعضًا إِلّا غُرُورًا } أي‪ :‬ذلك الذي مشوا عليه‪،‬‬


‫أجاب تعالى بقوله‪َ { :‬بلْ إِنْ َيعِدُ الظّاِلمُونَ َب ْع ُ‬
‫ليس لهم فيه حجة‪ ،‬فإنما ذلك توصية بعضهم لبعض به‪ ،‬وتزيين بعضهم لبعض‪ ،‬واقتداء المتأخر‬
‫بالمتقدم الضال‪ ،‬وأمانيّ مَنّاها الشيطان‪ ،‬وزين لهم [سوء] أعمالهم‪ ،‬فنشأت في قلوبهم‪ ،‬وصارت‬
‫صفة من صفاتها‪ ،‬فعسر زوالها‪ ،‬وتعسر انفصالها‪ ،‬فحصل ما حصل من القامة على الكفر‬
‫والشرك الباطل المضمحل‪.‬‬

‫س َك ُهمَا مِنْ َأحَدٍ مِنْ َبعْ ِدهِ إِنّهُ‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ َأمْ َ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 41‬إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫غفُورًا }‬
‫كَانَ حَلِيمًا َ‬

‫يخبر تعالى عن كمال قدرته‪ ،‬وتمام رحمته‪ ،‬وسعة حلمه ومغفرته‪ ،‬وأنه تعالى يمسك السماوات‬
‫والرض عن الزوال‪ ،‬فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق‪ ،‬ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما‪.‬‬

‫ولكنه تعالى‪ ،‬قضى أن يكونا كما وجدا‪ ،‬ليحصل للخلق القرار‪ ،‬والنفع‪ ،‬والعتبار‪ ،‬وليعلموا من‬
‫عظيم سلطانه وقوة قدرته‪ ،‬ما به تمتلئ قلوبهم له إجلل وتعظيما‪ ،‬ومحبة وتكريما‪ ،‬وليعلموا كمال‬
‫حلمه ومغفرته‪ ،‬بإمهال المذنبين‪ ،‬وعدم معالجته للعاصين‪ ،‬مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم‪ ،‬ولو‬
‫غفُورًا }‬
‫أذن للرض لبتلعتهم‪ ،‬ولكن وسعتهم مغفرته‪ ،‬وحلمه‪ ،‬وكرمه { إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ‬

‫حدَى الُْأمَمِ فََلمّا‬


‫جهْدَ أَ ْيمَا ِن ِهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَ َيكُونُنّ أَ ْهدَى مِنْ إِ ْ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫{ ‪ { } 43 - 42‬وََأقْ َ‬
‫ئ وَلَا َيحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّ ّيئُ إِلّا‬
‫جَاءَهُمْ َنذِيرٌ مَا زَا َدهُمْ إِلّا ُنفُورًا * اسْ ِتكْبَارًا فِي الْأَ ْرضِ َو َمكْرَ السّ ّي ِ‬
‫حوِيلًا }‬
‫جدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَ ْ‬
‫بِأَهْلِهِ َفهَلْ يَ ْنظُرُونَ إِلّا سُنّةَ الَْأوّلِينَ فَلَنْ تَ ِ‬

‫أي وأقسم هؤلء‪ ،‬الذين كذبوك يا رسول اللّه‪ ،‬قسما اجتهدوا فيه باليمان الغليظة‪ { .‬لَئِنْ جَا َءهُمْ‬
‫حدَى الُْأمَمِ } أي‪ :‬أهدى من اليهود والنصارى [أهل الكتب]‪ ،‬فلم يفوا بتلك‬
‫نَذِيرٌ لَ َيكُونُنّ أَ ْهدَى مِنْ إِ ْ‬
‫القسامات والعهود‪.‬‬
‫{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ نَذِيرٌ } لم يهتدوا‪ ،‬ولم يصيروا أهدى من إحدى المم‪ ،‬بل لم يدوموا على ضللهم‬
‫الذي كان‪ ،‬بل { مَا زَا َدهُمْ } ذلك { إِلّا ُنفُورًا } وزيادة ضلل وبغي وعناد‪.‬‬

‫وليس إقسامهم المذكور‪ ،‬لقصد حسن‪ ،‬وطلب للحق‪ ،‬وإل لوفقوا له‪ ،‬ولكنه صادر عن استكبار في‬
‫الرض على الخلق‪ ،‬وعلى الحق‪ ،‬وبهرجة في كلمهم هذا‪ ،‬يريدون به المكر والخداع‪ ،‬وأنهم أهل‬
‫الحق‪ ،‬الحريصون على طلبه‪ ،‬فيغتر به المغترون‪ ،‬ويمشي خلفهم المقتدون‪.‬‬

‫{ وَلَا َيحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّ ّيئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ‪ ،‬ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { إِلّا‬
‫بِأَهْلِهِ } فمكرهم إنما يعود عليهم‪ ،‬وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالت وتلك القسامات‪ ،‬أنهم كذبة‬
‫في ذلك مزورون‪ ،‬فاستبان خزيهم‪ ،‬وظهرت فضيحتهم‪ ،‬وتبين قصدهم السيئ‪ ،‬فعاد مكرهم في‬
‫نحورهم‪ ،‬ورد اللّه كيدهم في صدورهم‪.‬‬

‫فلم يبق لهم إل انتظار ما يحل بهم من العذاب‪ ،‬الذي هو سنة اللّه في الولين‪ ،‬التي ل تبدل ول‬
‫تغير‪ ،‬أن كل من سار في الظلم والعناد والستكبار على العباد‪ ،‬أن يحل به نقمته‪ ،‬وتسلب عنه‬
‫نعمته‪ ،‬فَلْيَتَرّقب هؤلء‪ ،‬ما فعل بأولئك‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 45 - 44‬أوَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َوكَانُوا َأشَدّ‬
‫سمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَ ْرضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وََلوْ‬
‫شيْءٍ فِي ال ّ‬
‫مِ ْنهُمْ ُق ّوةً َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعْجِ َزهُ مِنْ َ‬
‫سمّى فَِإذَا جَاءَ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫ظهْرِهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّ ُرهُمْ إِلَى َأ َ‬
‫ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا مَا تَ َركَ عَلَى َ‬
‫أَجَُل ُهمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ َبصِيرًا }‬

‫يحض تعالى على السير في الرض‪ ،‬في القلوب والبدان‪ ،‬للعتبار‪ ،‬ل لمجرد النظر والغفلة‪،‬‬
‫وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل‪ ،‬وكانوا أكثر منهم أموال وأولدا وأشد‬
‫قوة‪ ،‬وعمروا الرض أكثر مما عمرها هؤلء‪ ،‬فلما جاءهم العذاب‪ ،‬لم تنفعهم قوتهم‪ ،‬ولم تغن‬
‫عنهم أموالهم ول أولدهم من اللّه شيئا‪ ،‬ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَ ْرضِ } لكمال علمه وقدرته { إِنّهُ كَانَ‬
‫شيْءٍ فِي ال ّ‬
‫{ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعْجِ َزهُ مِنْ َ‬
‫عَلِيمًا قَدِيرًا }‬

‫خذُ اللّهُ‬
‫ثم ذكر تعالى كمال حلمه‪ ،‬وشدة إمهاله وإنظاره أرباب الجرائم والذنوب‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫ظهْرِهَا مِنْ دَابّةٍ } أي‪ :‬لستوعبت العقوبة‪ ،‬حتى‬
‫النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا } من الذنوب { مَا تَ َركَ عَلَى َ‬
‫الحيوانات غير المكلفة‪.‬‬
‫سمّى فَِإذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫{ وََلكِنْ } يمهلهم تعالى ول يهملهم و { ُيؤَخّ ُرهُمْ إِلَى َأ َ‬
‫ِبعِبَا ِدهِ َبصِيرًا } فيجازيهم بحسب ما علمه منهم‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬

‫تم تفسير سورة فاطر‪ ،‬والحمد للّه رب العالمين‬

‫تفسير سورة يس وهي مكية‬

‫حكِيمِ * إِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ * عَلَى‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ يس * وَا ْلقُرْآنِ ا ْل َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 12 - 1‬بِ ْ‬
‫صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * تَنْزِيلَ ا ْلعَزِيزِ الرّحِيمِ * لِتُ ْنذِرَ َق ْومًا مَا أُ ْنذِرَ آبَاؤُ ُهمْ َفهُمْ غَافِلُونَ * َلقَدْ حَقّ ا ْلقَ ْولُ‬
‫جعَلْنَا‬
‫جعَلْنَا فِي أَعْنَا ِقهِمْ أَغْلَالًا َف ِهيَ إِلَى الَْأ ْذقَانِ َفهُمْ ُم ْقمَحُونَ * وَ َ‬
‫عَلَى َأكْثَرِهِمْ َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * إِنّا َ‬
‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ َأمْ لَمْ‬
‫سدّا فَأَغْشَيْنَا ُهمْ َفهُمْ لَا يُ ْبصِرُونَ * وَ َ‬
‫سدّا َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ َ‬
‫مِنْ بَيْنِ أَيْدِي ِهمْ َ‬
‫حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ فَبَشّ ْرهُ ِب َم ْغفِ َر ٍة وَأَجْرٍ كَرِيمٍ *‬
‫شيَ الرّ ْ‬
‫تُنْذِرْ ُهمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * إِ ّنمَا تُنْذِرُ مَنِ اتّ َبعَ ال ّذكْ َر َوخَ ِ‬
‫حصَيْنَاهُ فِي ِإمَامٍ مُبِينٍ }‬
‫شيْءٍ أ ْ‬
‫إِنّا نَحْنُ نُحْيِي ا ْل َموْتَى وَ َنكْ ُتبُ مَا قَ ّدمُوا وَآثَارَهُمْ َوكُلّ َ‬

‫هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم‪ ،‬الذي وصفه الحكمة‪ ،‬وهي وضع كل شيء موضعه‪،‬‬
‫وضع المر والنهي في الموضع اللئق بهما‪ ،‬ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما اللئق‬
‫بهما‪ ،‬فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة‪.‬‬

‫ومن حكمة هذا القرآن‪ ،‬أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته‪ ،‬فينبه العقول على المناسبات‬
‫والوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها‪.‬‬

‫{ إِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } هذا المقسم عليه‪ ،‬وهو رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وإنك من جملة‬
‫المرسلين‪ ،‬فلست ببدع من الرسل‪ ،‬وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من الصول الدينية‪ ،‬وأيضا‬
‫فمن تأمل أحوال المرسلين وأوصافهم‪ ،‬وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم‪ ،‬عرف أنك من خيار‬
‫المرسلين‪ ،‬بما فيك من الصفات الكاملة‪ ،‬والخلق الفاضلة‪.‬‬

‫ول يخفى ما بين المقسم به‪ ،‬وهو القرآن الحكيم‪ ،‬وبين المقسم عليه‪[ ،‬وهو] رسالة الرسول محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬من التصال‪ ،‬وأنه لو لم يكن لرسالته دليل ول شاهد إل هذا القرآن الحكيم‪،‬‬
‫لكفى به دليل وشاهدا على رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل القرآن العظيم أقوى الدلة‬
‫المتصلة المستمرة على رسالة الرسول‪ ،‬فأدلة القرآن كلها أدلة لرسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬الدالة على رسالته‪ ،‬وهو أنه { عَلَى‬
‫صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } معتدل‪ ،‬موصل إلى اللّه وإلى دار كرامته‪ ،‬وذلك الصراط المستقيم‪ ،‬مشتمل على‬
‫أعمال‪ ،‬وهي العمال الصالحة‪ ،‬المصلحة للقلب والبدن‪ ،‬والدنيا والخرة‪ ،‬والخلق الفاضلة‪،‬‬
‫المزكية للنفس‪ ،‬المطهرة للقلب‪ ،‬المنمية للجر‪ ،‬فهذا الصراط المستقيم‪ ،‬الذي هو وصف الرسول‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬ووصف دينه الذي جاء به‪ ،‬فتأمل جللة هذا القرآن الكريم‪ ،‬كيف جمع بين‬
‫القسم بأشرف القسام‪ ،‬على أجل مقسم عليه‪ ،‬وخبر اللّه وحده كاف‪ ،‬ولكنه تعالى أقام من الدلة‬
‫الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه‪ ،‬من رسالة رسوله ما‬
‫نبهنا عليه‪ ،‬وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه‪ ،‬وهذا الصراط المستقيم { تَنْزِيلَ ا ْلعَزِيزِ الرّحِيمِ }‬
‫فهو الذي أنزل به كتابه‪ ،‬وأنزله طريقا لعباده‪ ،‬موصل لهم إليه‪ ،‬فحماه بعزته عن التغيير والتبديل‪،‬‬
‫ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم‪ ،‬حتى أوصلتهم إلى دار رحمته‪ ،‬ولهذا ختم الية بهذين السمين‬
‫الكريمين‪ :‬العزيز‪ .‬الرحيم‪.‬‬

‫فلما أقسم تعالى على رسالته وأقام الدلة عليها‪ ،‬ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها‬
‫فقال‪ { :‬لِتُ ْنذِرَ َق ْومًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ َفهُمْ غَافِلُونَ } وهم العرب الميون‪ ،‬الذين لم يزالوا خالين من‬
‫الكتب‪ ،‬عادمين الرسل‪ ،‬قد عمتهم الجهالة‪ ،‬وغمرتهم الضللة‪ ،‬وأضحكوا عليهم وعلى سفههم‬
‫عقول العالمين‪ ،‬فأرسل اللّه إليهم رسول من أنفسهم‪ ،‬يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬وإن كانوا‬
‫من قبل لفي ضلل مبين‪ ،‬فينذر العرب الميين‪ ،‬ومن لحق بهم من كل أمي‪ ،‬ويذكر أهل الكتب‬
‫بما عندهم من الكتب‪ ،‬فنعمة اللّه به على العرب خصوصا‪ ،‬وعلى غيرهم عموما‪ .‬ولكن هؤلء‬
‫الذين بعثت فيهم لنذارهم بعدما أنذرتهم‪ ،‬انقسموا قسمين‪ :‬قسم رد لما جئت به‪ ،‬ولم يقبل النذارة‪،‬‬
‫وهم الذين قال اللّه فيهم { َلقَدْ حَقّ ا ْلقَ ْولُ عَلَى َأكْثَرِهِمْ َف ُهمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬نفذ فيهم القضاء‬
‫والمشيئة‪ ،‬أنهم ل يزالون في كفرهم وشركهم‪ ،‬وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق‬
‫فرفضوه‪ ،‬فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم‪.‬‬

‫جعَلْنَا فِي أَعْنَا ِق ِهمْ أَغْلَالًا } وهي جمع "غل"‬


‫وذكر الموانع من وصول اليمان لقلوبهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّا َ‬
‫و "الغل" ما يغل به العنق‪ ،‬فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل‪ ،‬وهذه الغلل التي في العناق عظيمة‬
‫قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق‪َ { ،‬فهُمْ ُم ْقمَحُونَ } أي‪ :‬رافعو رءوسهم من شدة‬
‫الغل الذي في أعناقهم‪ ،‬فل يستطيعون أن يخفضوها‪.‬‬

‫سدّا } أي‪ :‬حاجزا يحجزهم عن اليمان‪َ { ،‬فهُمْ لَا‬


‫جعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ‬
‫يُ ْبصِرُونَ } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم‪ ،‬فلم تفد فيهم النذارة‪ { .‬وَ َ‬
‫أَأَنْذَرْ َت ُهمْ أَمْ َلمْ تُنْذِ ْرهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ } وكيف يؤمن من طبع على قلبه‪ ،‬ورأى الحق باطل والباطل‬
‫حقا؟!‬
‫والقسم الثاني‪ :‬الذين قبلوا النذارة‪ ،‬وقد ذكرهم بقوله‪ { :‬إِ ّنمَا تُنْذِرُ } أي‪ :‬إنما تنفع نذارتك‪ ،‬ويتعظ‬
‫حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ }‬
‫شيَ الرّ ْ‬
‫بنصحك { مَنِ اتّ َبعَ ال ّذكْرَ } [أي‪ ]:‬من قصده اتباع الحق وما ذكر به‪ { ،‬وَخَ ِ‬
‫أي‪ :‬من اتصف بهذين المرين‪ ،‬القصد الحسن في طلب الحق‪ ،‬وخشية اللّه تعالى‪ ،‬فهم الذين‬
‫ينتفعون برسالتك‪ ،‬ويزكون بتعليمك‪ ،‬وهذا الذي وفق لهذين المرين { فَ َبشّ ْرهُ ِب َمغْفِ َرةٍ } لذنوبه‪،‬‬
‫{ وََأجْرٍ كَرِيمٍ } لعماله الصالحة‪ ،‬ونيته الحسنة‪.‬‬

‫{ إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي ا ْل َموْتَى } أي‪ :‬نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على العمال‪ { ،‬وَ َنكْتُبُ مَا قَ ّدمُوا } من‬
‫الخير والشر‪ ،‬وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم‪ { ،‬وَآثَا َرهُمْ } وهي آثار الخير‬
‫وآثار الشر‪ ،‬التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم‪ ،‬وتلك العمال التي‬
‫نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم‪ ،‬فكل خير عمل به أحد من الناس‪ ،‬بسبب علم العبد وتعليمه‬
‫ونصحه‪ ،‬أو أمره بالمعروف‪ ،‬أو نهيه عن المنكر‪ ،‬أو علم أودعه عند المتعلمين‪ ،‬أو في كتب ينتفع‬
‫بها في حياته وبعد موته‪ ،‬أو عمل خيرا‪ ،‬من صلة أو زكاة أو صدقة أو إحسان‪ ،‬فاقتدى به غيره‪،‬‬
‫أو عمل مسجدا‪ ،‬أو محل من المحال التي يرتفق بها الناس‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬فإنها من آثاره التي‬
‫تكتب له‪ ،‬وكذلك عمل الشر‪.‬‬

‫ولهذا‪ { :‬من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬ومن سن سنة سيئة‬
‫فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع‪ ،‬يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى‬
‫اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك‪ ،‬ونزول درجة الداعي إلى الشر المام‬
‫فيه‪ ،‬وأنه أسفل الخليقة‪ ،‬وأشدهم جرما‪ ،‬وأعظمهم إثما‪.‬‬

‫حصَيْنَاهُ فِي ِإمَامٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬كتاب هو أم الكتب‬


‫شيْءٍ } من العمال والنيات وغيرها { أ ْ‬
‫{ َو ُكلّ َ‬
‫وإليه مرجع الكتب‪ ،‬التي تكون بأيدي الملئكة‪ ،‬وهو اللوح المحفوظ‪.‬‬

‫{ ‪ { } 30 - 13‬وَاضْ ِربْ َل ُهمْ مَثَلًا َأصْحَابَ ا ْلقَرْيَةِ ِإذْ جَاءَهَا ا ْلمُ ْرسَلُونَ } إلى آخر القصة‪.‬‬

‫أي‪ :‬واضرب لهؤلء المكذبين برسالتك‪ ،‬الرادين لدعوتك‪ ،‬مثل يعتبرون به‪ ،‬ويكون لهم موعظة‬
‫إن وفقوا للخير‪ ،‬وذلك المثل‪ :‬أصحاب القرية‪ ،‬وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه‪ ،‬وما جرى‬
‫عليهم من عقوبته ونكاله‪.‬‬

‫وتعيين تلك القرية‪ ،‬لو كان فيه فائدة‪ ،‬لعينها اللّه‪ ،‬فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف‬
‫والتكلم بل علم‪ ،‬ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والختلف الذي ل‬
‫يستقر له قرار‪ ،‬ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح‪ ،‬الوقوف مع الحقائق‪ ،‬وترك التعرض لما ل‬
‫فائدة فيه‪ ،‬وبذلك تزكو النفس‪ ،‬ويزيد العلم‪ ،‬من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر القوال التي ل‬
‫دليل عليها‪ ،‬ول حجة عليها ول يحصل منها من الفائدة إل تشويش الذهن واعتياد المور‬
‫المشكوك فيها‪.‬‬

‫والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثل للمخاطبين‪ { .‬إِذْ جَا َءهَا ا ْلمُرْسَلُونَ } من اللّه تعالى‬
‫يأمرونهم بعبادة اللّه وحده‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬وينهونهم عن الشرك والمعاصي‪.‬‬

‫{ ِإذْ أَرْسَلْنَا إِلَ ْيهِمُ اثْنَيْنِ َف َكذّبُو ُهمَا َفعَزّزْنَا بِثَاِلثٍ } أي‪ :‬قويناهما بثالث‪ ،‬فصاروا ثلثة رسل‪ ،‬اعتناء‬
‫من اللّه بهم‪ ،‬وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم‪َ { ،‬فقَالُوا } لهم‪ { :‬إِنّا إِلَ ْيكُمْ مُرْسَلُونَ } فأجابوهم‬
‫بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل‪ :‬فـ { قَالُوا مَا أَنْ ُتمْ إِلّا َبشَرٌ مِثْلُنَا } أي‪:‬‬
‫فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لممهم‪ { :‬إِنْ نَحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ‬
‫َيمُنّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ }‬

‫شيْءٍ } أي‪ :‬أنكروا عموم الرسالة‪ ،‬ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم‪،‬‬
‫حمَنُ مِنْ َ‬
‫{ َومَا أَنْ َزلَ الرّ ْ‬
‫فقالوا‪ { :‬إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا َتكْذِبُونَ }‬

‫فقالت هؤلء الرسل الثلثة‪ { :‬رَبّنَا َيعَْلمُ إِنّا إِلَ ْي ُكمْ َلمُرْسَلُونَ } فلو كنا كاذبين‪ ،‬لظهر اللّه خزينا‪،‬‬
‫ولبادرنا بالعقوبة‪.‬‬

‫{ َومَا عَلَيْنَا إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } أي‪ :‬البلغ المبين الذي يحصل به توضيح المور المطلوب بيانها‪،‬‬
‫وما عدا هذا من آيات القتراح‪ ،‬ومن سرعة العذاب‪ ،‬فليس إلينا‪ ،‬وإنما وظيفتنا ‪-‬التي هي البلغ‬
‫المبين‪ -‬قمنا بها‪ ،‬وبيناها لكم‪ ،‬فإن اهتديتم‪ ،‬فهو حظكم وتوفيقكم‪ ،‬وإن ضللتم‪ ،‬فليس لنا من المر‬
‫شيء‪.‬‬

‫فقال أصحاب القرية لرسلهم‪ { :‬إِنّا َتطَيّرْنَا ِبكُمْ } أي‪ :‬لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إل‬
‫الشر‪ ،‬وهذا من أعجب العجائب‪ ،‬أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد‪،‬‬
‫وأجل كرامة يكرمهم بها‪ ،‬وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة‪ ،‬قد قدم بحالة شر‪ ،‬زادت على الشر‬
‫الذي هم عليه‪ ،‬واستشأموا بها‪ ،‬ولكن الخذلن وعدم التوفيق‪ ،‬يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به‬
‫عدوه‪.‬‬

‫جمَ ّنكُمْ } أي‪ :‬نقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتلت‬


‫ثم توعدوهم فقالوا‪ { :‬لَئِنْ َلمْ تَنْ َتهُوا لَنَرْ ُ‬
‫{ وَلَ َيمَسّ ّنكُمْ مِنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫فقالت لهم رسلهم‪ { :‬طَائِ ُر ُكمْ َم َعكُمْ } وهو ما معهم من الشرك والشر‪ ،‬المقتضي لوقوع المكروه‬
‫والنقمة‪ ،‬وارتفاع المحبوب والنعمة‪ { .‬أَئِنْ ُذكّرْ ُتمْ } أي‪ :‬بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صلحكم‬
‫وحظكم‪ ،‬قلتم لنا ما قلتم‪.‬‬

‫{ َبلْ أَنْ ُتمْ َقوْمٌ مُسْ ِرفُونَ } متجاوزون للحد‪ ،‬متجرهمون في قولكم‪ ،‬فلم يزدهم [دعاؤهم] إل نفورا‬
‫واستكبارا‪.‬‬

‫سعَى } حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل‬
‫جلٌ يَ ْ‬
‫{ وَجَاءَ مِنْ َأ ْقصَى ا ْلمَدِينَةِ َر ُ‬
‫وآمن به‪ ،‬وعلم ما رد به قومه عليهم فقال [لهم]‪ { :‬يَا َقوْمِ اتّ ِبعُوا ا ْلمُرْسَلِينَ } فأمرهم باتباعهم‬
‫ونصحهم على ذلك‪ ،‬وشهد لهم بالرسالة‪ ،‬ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه‪ ،‬فقال‪ { :‬اتّ ِبعُوا مَنْ لَا‬
‫يَسْأَُلكُمْ أَجْرًا } أي‪ :‬اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير‪ ،‬وليس [يريد منكم أموالكم ول‬
‫أجرا على نصحه لكم وإرشاده إياكم‪ ،‬فهذا موجب لتباع من هذا وصفه‪.‬‬

‫بقي] أن يقال‪ :‬فلعله يدعو ول يأخذ أجرة‪ ،‬ولكنه ليس على الحق‪ ،‬فدفع هذا الحتراز بقوله‪ { :‬وَ ُهمْ‬
‫ُمهْتَدُونَ } لنهم ل يدعون إل لما يشهد العقل الصحيح بحسنه‪ ،‬ول ينهون إل بما يشهد العقل‬
‫الصحيح بقبحه‪.‬‬

‫فكأن قومه لم يقبلوا نصحه‪ ،‬بل عادوا لئمين له على اتباع الرسل‪ ،‬وإخلص الدين للّه وحده‪،‬‬
‫جعُونَ } أي‪ :‬وما المانع لي من عبادة من هو‬
‫فقال‪َ { :‬ومَا ِليَ لَا أَعْ ُبدُ الّذِي َفطَرَنِي وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫المستحق للعبادة‪ ،‬لنه الذي فطرني‪ ،‬وخلقني‪ ،‬ورزقني‪ ،‬وإليه مآل جميع الخلق‪ ،‬فيجازيهم‬
‫بأعمالهم‪ ،‬فالذي بيده الخلق والرزق‪ ،‬والحكم بين العباد‪ ،‬في الدنيا والخرة‪ ،‬هو الذي يستحق أن‬
‫يعبد‪ ،‬ويثنى عليه ويمجد‪ ،‬دون من ل يملك نفعا ول ضرا‪ ،‬ول عطاء ول منعا‪ ،‬ول حياة ول موتا‬
‫شفَاعَ ُتهُمْ } لنه‬
‫حمَنُ ِبضُرّ لَا ُتغْنِ عَنّي َ‬
‫خذُ مِنْ دُونِهِ آِلهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرّ ْ‬
‫ول نشورا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَأَتّ ِ‬
‫ل أحد يشفع عند ال إل بإذنه‪ ،‬فل تغني شفاعتهم عني شيئا‪ ،‬وَلَا ُهمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده‬
‫اللّه بي‪.‬‬

‫{ إِنّي ِإذًا } أي‪ :‬إن عبدت آلهة هذا وصفها { َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فجمع في هذا الكلم‪ ،‬بين‬
‫نصحهم‪ ،‬والشهادة للرسل بالرسالة‪ ،‬والهتداء والخبار بِتعيّن عبادة اللّه وحده‪ ،‬وذكر الدلة‬
‫عليها‪ ،‬وأن عبادة غيره باطلة‪ ،‬وذكر البراهين عليها‪ ،‬والخبار بضلل من عبدها‪ ،‬والعلن‬
‫س َمعُونِ } فقتله قومه‪ ،‬لما‬
‫بإيمانه جهرا‪ ،‬مع خوفه الشديد من قتلهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّي آمَ ْنتُ بِرَ ّبكُمْ فَا ْ‬
‫سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به‪.‬‬
‫خلِ الْجَنّةَ } فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده‬
‫فـ { قِيلَ } له في الحال‪ { :‬ا ْد ُ‬
‫غفَرَ‬
‫وإخلصه‪ ،‬وناصحا لقومه بعد وفاته‪ ،‬كما نصح لهم في حياته‪ { :‬يَا لَ ْيتَ َق ْومِي َيعَْلمُونَ ِبمَا َ‬
‫جعَلَنِي مِنَ ا ْل ُمكْ َرمِينَ } بأنواع‬
‫لِي رَبّي } أي‪ :‬بأي‪ :‬شيء غفر لي‪ ،‬فأزال عني أنواع العقوبات‪ { ،‬وَ َ‬
‫المثوبات والمسرات‪ ،‬أي‪ :‬لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم‪ ،‬لم يقيموا على شركهم‪.‬‬

‫سمَاءِ } أي‪ :‬ما احتجنا‬


‫قال اللّه في عقوبة قومه‪َ { [ :‬ومَا أَنْزَلْنَا عَلَى َق ْومِهِ] مِنْ َب ْع ِدهِ مِنْ جُ ْندٍ مِنَ ال ّ‬
‫أن نتكلف في عقوبتهم‪ ،‬فننزل جندا من السماء لتلفهم‪َ { ،‬ومَا كُنّا مُنْزِلِينَ } لعدم الحاجة إلى ذلك‪،‬‬
‫وعظمة اقتدار اللّه تعالى‪ ،‬وشدة ضعف بني آدم‪ ،‬وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب اللّه يكفيهم‬
‫ح َدةً } أي‪ :‬صوتا واحدا‪ ،‬تكلم به بعض ملئكة‬
‫ح ًة وَا ِ‬
‫{ إِنْ كَا َنتْ } أي‪ :‬كانت عقوبتهم { إِلّا صَيْ َ‬
‫اللّه‪ { ،‬فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم‪ ،‬وانزعجوا لتلك الصيحة‪ ،‬فأصبحوا‬
‫خامدين‪ ،‬ل صوت ول حركة‪ ،‬ول حياة بعد ذلك العتو والستكبار‪ ،‬ومقابلة أشرف الخلق بذلك‬
‫الكلم القبيح‪ ،‬وتجبرهم عليهم‪.‬‬

‫قال اللّه متوجعا للعباد‪ { :‬يَا حَسْ َرةً عَلَى ا ْلعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ َرسُولٍ إِلّا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي‪:‬‬
‫ما أعظم شقاءهم‪ ،‬وأطول عناءهم‪ ،‬وأشد جهلهم‪ ،‬حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة‪ ،‬التي هي سبب‬
‫لكل شقاء وعذاب ونكال"‬

‫ل َلمّا‬
‫جعُونَ * وَِإنْ كُ ّ‬
‫ن َأ ّن ُهمْ إَِل ْي ِهمْ لَا َي ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 32 - 31‬أََل ْم يَرَوْا َكمْ أَهَْل ْكنَا َقبَْل ُهمْ مِنَ ا ْل ُقرُو ِ‬
‫ن}‬
‫ضرُو َ‬
‫جمِيعٌ َل َد ْينَا ُمحْ َ‬
‫َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬ألم ير هؤلء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون المكذبة‪ ،‬التي أهلكها ال تعالى‬
‫وأوقع بها عقابها‪ ،‬وأن جميعهم قد باد وهلك‪ ،‬فلم يرجع إلى الدنيا‪ ،‬ولن يرجع إليها‪ ،‬وسيعيد‬
‫اللّه الجميع خلقا جديدا‪ ،‬ويبعثهم بعد موتهم‪ ،‬ويحضرون بين يديه تعالى‪ ،‬ليحكم بينهم بحكمه‬
‫عظِيمًا }‬
‫ن َل ُدنْ ُه َأجْرًا َ‬
‫ت مِ ْ‬
‫سنَةً ُيضَاعِ ْفهَا َويُؤْ ِ‬
‫حَ‬‫ن َتكُ َ‬
‫العدل الذي ل يظلم مثقال ذرة { وَإِ ْ‬

‫جعَ ْلنَا‬
‫حبّا َف ِمنْ ُه َي ْأكُلُونَ * َو َ‬
‫خ َرجْنَا ِم ْنهَا َ‬
‫ح َي ْينَاهَا وََأ ْ‬
‫{ ‪ { } 36 - 33‬وَآيَ ٌة َل ُهمُ ا ْلَأرْضُ ا ْل َم ْيتَ ُة َأ ْ‬
‫عمَِلتْ ُه َأ ْيدِيهِمْ َأفَلَا‬
‫ن َثمَرِهِ َومَا َ‬
‫ن ا ْل ُعيُونِ * ِل َي ْأكُلُوا مِ ْ‬
‫ج ْرنَا فِيهَا مِ َ‬
‫عنَابٍ َو َف ّ‬
‫ت مِنْ َنخِيلٍ وَأَ ْ‬
‫جنّا ٍ‬
‫فِيهَا َ‬
‫ن}‬
‫س ِهمْ َو ِممّا لَا َيعَْلمُو َ‬
‫ن َأنْ ُف ِ‬
‫ج كُّلهَا ِممّا ُت ْنبِتُ ا ْلَأرْضُ َومِ ْ‬
‫س ْبحَانَ اّلذِي خََلقَ ا ْلَأزْوَا َ‬
‫شكُرُونَ * ُ‬
‫َي ْ‬

‫أي‪ { :‬وَآ َيةٌ َل ُهمُ } على البعث والنشور‪ ،‬والقيام بين يدي اللّه تعالى للجزاء على العمال‪ ،‬هذه {‬
‫حبّا َفمِنْهُ‬
‫جنَا ِم ْنهَا َ‬
‫خ َر ْ‬
‫ا ْلَأرْضُ ا ْل َم ْيتَ ُة } أنزل اللّه عليها المطر‪ ،‬فأحياها بعد موتها‪ { ،‬وََأ ْ‬
‫جعَ ْلنَا‬
‫ن } من جميع أصناف الزروع‪ ،‬ومن جميع أصناف النبات‪ ،‬التي تأكله أنعامهم‪َ { ،‬و َ‬
‫َي ْأكُلُو َ‬
‫جنّاتٍ } أي‪ :‬بساتين‪ ،‬فيها أشجار كثيرة‪ ،‬وخصوصا‬
‫فِيهَا } أي‪ :‬في تلك الرض الميتة { َ‬
‫جرْنَا فِيهَا } أي‪ :‬في الرض { مِنَ‬
‫النخيل والعناب‪ ،‬اللذان هما أشرف الشجار‪َ { ،‬و َف ّ‬
‫ن}‬
‫ا ْل ُعيُو ِ‬

‫ن َثمَرِ ِه } قوتا وفاكهة‪ ،‬وأ ْدمًا‬


‫جعلنا في الرض تلك الشجار‪ ،‬والنخيل والعناب‪ِ { ،‬ل َي ْأكُلُوا مِ ْ‬
‫عمَِلتْ ُه َأ ْيدِي ِهمْ } [وليس لهم فيه صنع‪ ،‬ول عمل‪ ،‬إن هو‬
‫ولذة‪ { ،‬و } الحال أن تلك الثمار { مَا َ‬
‫إل صنعة أحكم الحاكمين‪ ،‬وخير الرازقين‪ ،‬وأيضا فلم تعمله أيديهم] بطبخ ول غيره‪ ،‬بل أوجد‬
‫اللّه هذه الثمار‪ ،‬غير محتاجة لطبخ ول شيّ‪ ،‬تؤخذ من أشجارها‪ ،‬فتؤكل في الحال‪َ { .‬أفَلَا‬
‫شكُرُونَ } من ساق لهم هذه النعم‪ ،‬وأسبغ عليهم من جوده وإحسانه‪ ،‬ما به تصلح أمور دينهم‬
‫َي ْ‬
‫ودنياهم‪ ،‬أليس الذي أحيا الرض بعد موتها‪ ،‬فأنبت فيها الزروع والشجار‪ ،‬وأودع فيها لذيذ‬
‫الثمار‪ ،‬وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصون‪ ،‬وفجر الرض اليابسة الميتة بالعيون‪ ،‬بقادر على‬
‫أن يحيي الموتى؟ بل‪ ،‬إنه على كل شيء قدير‪.‬‬

‫ض } فنوع فيها من‬


‫ت ا ْلأَرْ ُ‬
‫ج كُّلهَا } أي‪ :‬الصناف كلها‪ِ { ،‬ممّا ُت ْنبِ ُ‬
‫س ْبحَانَ اّلذِي خََلقَ ا ْلَأزْوَا َ‬
‫{ ُ‬
‫س ِهمْ } فنوعهم إلى ذكر وأنثى‪ ،‬وفاوت بين خلقهم‬
‫ن َأنْ ُف ِ‬
‫الصناف ما يعسر تعداده‪َ { .‬ومِ ْ‬
‫وخُلُقِهمْ‪ ،‬وأوصافهم الظاهرة والباطنة‪َ { .‬و ِممّا لَا َيعَْلمُونَ } من المخلوقات التي قد خلقت‬
‫وغابت عن علمنا‪ ،‬والتي لم تخلق بعد‪ ،‬فسبحانه وتعالى أن يكون له شريك‪ ،‬أو ظهير‪ ،‬أو‬
‫س ِميّ‪ ،‬أو شبيه‪ ،‬أو مثيل في صفات كماله ونعوت‬
‫عوين‪ ،‬أو وزير‪ ،‬أو صاحبة‪ ،‬أو ولد‪ ،‬أو َ‬
‫جلله‪ ،‬أو يعجزه شيء يريده‪.‬‬

‫ستَ َقرّ‬
‫شمْسُ َتجْرِي ِل ُم ْ‬
‫ن * وَال ّ‬
‫خ ِمنْ ُه ال ّنهَارَ َفِإذَا ُهمْ ُمظِْلمُو َ‬
‫{ ‪ { } 40 - 37‬وَآيَ ٌة َل ُهمُ الّليْلُ َنسْلَ ُ‬
‫شمْسُ‬
‫حتّى عَادَ كَا ْلعُ ْرجُونِ ا ْل َقدِيمِ * لَا ال ّ‬
‫َلهَا ذَِلكَ تَ ْقدِيرُ ا ْل َعزِيزِ ا ْلعَلِيمِ * وَالْ َق َمرَ َقدّ ْرنَا ُه َمنَازِلَ َ‬
‫ل فِي فََلكٍ َيسْ َبحُونَ }‬
‫ل سَابِقُ ال ّنهَارِ َوكُ ّ‬
‫ن ُتدْ ِركَ الْ َق َمرَ وَلَا الّليْ ُ‬
‫َي ْن َبغِي َلهَا أَ ْ‬

‫أي‪ { :‬وَآ َيةٌ َل ُهمُ } على نفوذ مشيئة اللّه‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬وإحيائه الموتى بعد موتهم‪ { .‬الّليْلُ‬
‫َنسْلَخُ ِمنْ ُه ال ّنهَارَ } أي‪ :‬نزيل الضياء العظيم الذي طبق الرض‪ ،‬فنبدله بالظلمة‪ ،‬ونحلها محله {‬
‫َفإِذَا ُه ْم ُمظْلِمُونَ } وكذلك نزيل هذه الظلمة‪ ،‬التي عمتهم وشملتهم‪ ،‬فتطلع الشمس‪ ،‬فتضيء‬
‫ستَ َقرّ َلهَا } [أي‪:‬‬
‫جرِي ِل ُم ْ‬
‫شمْسُ َت ْ‬
‫القطار‪ ،‬وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَال ّ‬
‫دائما تجري لمستقر لها] قدره اللّه لها‪ ،‬ل تتعداه‪ ،‬ول تقصر عنه‪ ،‬وليس لها تصرف في‬
‫نفسها‪ ،‬ول استعصاء على قدرة اللّه تعالى‪ { .‬ذَِلكَ تَ ْقدِيرُ ا ْل َعزِيزِ } الذي بعزته دبر هذه‬
‫المخلوقات العظيمة‪ ،‬بأكمل تدبير‪ ،‬وأحسن نظام‪ { .‬ا ْلعَلِيمُ } الذي بعلمه‪ ،‬جعلها مصالح لعباده‪،‬‬
‫ومنافع في دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫حتّى } يصغر جدا‪ ،‬فيعود‬


‫{ وَالْ َق َمرَ َقدّ ْرنَا ُه َمنَازِلَ } ينزل بها‪ ،‬كل ليلة ينزل منها واحدة‪َ { ،‬‬
‫ن الْ َقدِيمِ } أي‪ :‬عرجون النخلة‪ ،‬الذي من قدمه نش وصغر حجمه وانحنى‪ ،‬ثم بعد‬
‫{ كَا ْل ُع ْرجُو ِ‬
‫ذلك‪ ،‬ما زال يزيد شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يتم [نوره] ويتسق ضياؤه‪.‬‬

‫{ َوكُلّ } من الشمس والقمر‪ ،‬والليل والنهار‪ ،‬قدره [اللّه] تقديرا ل يتعداه‪ ،‬وكل له سلطان‬
‫ن ُتدْ ِركَ الْ َق َمرَ } أي‪ :‬في‬
‫شمْسُ َي ْن َبغِي َلهَا أَ ْ‬
‫ووقت‪ ،‬إذا وجد عدم الخر‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لَا ال ّ‬
‫سلطانه الذي هو الليل‪ ،‬فل يمكن أن توجد الشمس في الليل‪ { ،‬وَلَا الّليْلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ } فيدخل‬
‫ن } أي‪:‬‬
‫س َبحُو َ‬
‫عليه قبل انقضاء سلطانه‪َ { ،‬وكُلّ } من الشمس والقمر والنجوم { فِي فََلكٍ َي ْ‬
‫يترددون على الدوام‪ ،‬فكل هذا دليل ظاهر‪ ،‬وبرهان باهر‪ ،‬على عظمة الخالق‪ ،‬وعظمة‬
‫أوصافه‪ ،‬خصوصا وصف القدرة والحكمة والعلم في هذا الموضع‪.‬‬

‫ك ا ْل َمشْحُونِ * َوخَلَ ْقنَا َل ُهمْ ِمنْ ِمثْلِ ِه مَا‬


‫حمَ ْلنَا ُذ ّر ّيتَ ُهمْ فِي الْفُ ْل ِ‬
‫{ ‪ { } 50 - 41‬وَآيَ ٌة َل ُهمْ َأنّا َ‬
‫حمَ ًة ِمنّا َو َمتَاعًا إِلَى حِينٍ *‬
‫ن * إِلّا َر ْ‬
‫صرِيخَ َل ُهمْ وَلَا ُه ْم ُينْ َقذُو َ‬
‫شأْ ُنغْ ِر ْقهُ ْم فَلَا َ‬
‫ن َن َ‬
‫َيرْ َكبُونَ * وَإِ ْ‬
‫ن آيَاتِ َر ّب ِهمْ‬
‫ن آيَ ٍة مِ ْ‬
‫حمُونَ * َومَا َت ْأتِي ِهمْ مِ ْ‬
‫ن َأ ْيدِي ُكمْ َومَا خَلْ َف ُكمْ َلعَّل ُكمْ ُت ْر َ‬
‫ل َل ُهمُ اتّقُوا مَا َبيْ َ‬
‫وَِإذَا قِي َ‬
‫ن آ َمنُوا‬
‫ن كَ َفرُوا لِّلذِي َ‬
‫ل َل ُهمْ َأنْفِقُوا ِممّا َرزَ َق ُكمُ اللّ ُه قَالَ اّلذِي َ‬
‫ع ْنهَا ُم ْعرِضِينَ * وَِإذَا قِي َ‬
‫إِلّا كَانُوا َ‬
‫عدُ ِإنْ ُك ْن ُتمْ‬
‫ن َمتَى َهذَا ا ْلوَ ْ‬
‫ن َأ ْن ُتمْ إِلّا فِي ضَلَالٍ ُمبِينٍ * َويَقُولُو َ‬
‫ط َعمَ ُه إِ ْ‬
‫ن َلوْ َيشَاءُ اللّهُ َأ ْ‬
‫َأ ُنطْ ِعمُ مَ ْ‬
‫س َتطِيعُونَ َت ْوصِيَ ًة وَلَا‬
‫صمُونَ * فَلَا َي ْ‬
‫حدَ ًة َت ْأخُذُ ُهمْ وَ ُهمْ َيخِ ّ‬
‫ص ْيحَةً وَا ِ‬
‫ن إِلّا َ‬
‫ظرُو َ‬
‫صَا ِدقِينَ * مَا َي ْن ُ‬
‫ن}‬
‫جعُو َ‬
‫إِلَى أَهِْل ِهمْ َي ْر ِ‬

‫أي‪ :‬ودليل لهم وبرهان‪ ،‬على أن اللّه وحده المعبود‪ ،‬لنه المنعم بالنعم‪ ،‬الصارف للنقم‪ ،‬الذي‬
‫حمَ ْلنَا ُذ ّر ّي َتهُمْ } قال كثير من المفسرين‪ :‬المراد بذلك‪ :‬آباؤهم‪.‬‬
‫من جملة نعمه { َأنّا َ‬

‫ن ِمثْلِهِ } أي‪ :‬من مثل ذلك الفلك‪ ،‬أي‪ :‬جنسه‬


‫{ َوخَلَ ْقنَا َل ُهمْ } أي‪ :‬للموجودين من بعدهم { مِ ْ‬
‫ن } به‪ ،‬فذكر نعمته على الباء بحملهم في السفن‪ ،‬لن النعمة عليهم‪ ،‬نعمة على‬
‫{ مَا َي ْر َكبُو َ‬
‫ي في التفسير‪ ،‬فإن ما ذكره كثير من المفسرين‪،‬‬
‫الذرية‪ .‬وهذا الموضع من أشكل المواضع عل ّ‬
‫من أن المراد بالذرية الباء‪ ،‬مما ل يعهد في القرآن إطلق الذرية على الباء‪ ،‬بل فيها من‬
‫اليهام‪ ،‬وإخراج الكلم عن موضوعه‪ ،‬ما يأباه كلم رب العالمين‪ ،‬وإرادته البيان والتوضيح‬
‫لعباده‪.‬‬
‫و َثمّ احتمال أحسن من هذا‪ ،‬وهو أن المراد بالذرية الجنس‪ ،‬وأنهم هم بأنفسهم‪ ،‬لنهم هم من‬
‫ن } إن أريد‪:‬‬
‫ن ِمثْلِ ِه مَا َي ْر َكبُو َ‬
‫ذرية [بني] آدم‪ ،‬ولكن ينقض هذا المعنى قوله‪َ { :‬وخَلَ ْقنَا َل ُهمْ مِ ْ‬
‫وخلقنا من مثل ذلك الفلك‪ ،‬أي‪ :‬لهؤلء المخاطبين‪ ،‬ما يركبون من أنواع الفلك‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫ن}‬
‫ن ِمثْلِ ِه مَا َي ْر َكبُو َ‬
‫تكريرا للمعنى‪ ،‬تأباه فصاحة القرآن‪ .‬فإن أريد بقوله‪َ { :‬وخَلَ ْقنَا َل ُهمْ مِ ْ‬
‫البل‪ ،‬التي هي سفن البر‪ ،‬استقام المعنى واتضح‪ ،‬إل أنه يبقى أيضا‪ ،‬أن يكون الكلم فيه‬
‫شحُون‪َ ِ،‬وخَلَ ْقنَا َل ُهمْ‬
‫حمَ ْلنَاهم فِي ا ْلفُ ْلكِ ا ْل َم ْ‬
‫تشويش‪ ،‬فإنه لو أريد هذا المعنى‪ ،‬لقال‪ :‬وَآيَ ٌة َل ُهمْ َأنّا َ‬
‫ن ِمثْلِهِ مَا يَ ْر َكبُونَ ‪ ،‬فأما أن يقول في الول‪ :‬وحملنا ذريتهم‪ ،‬وفي الثاني‪ :‬حملناهم‪ ،‬فإنه ل‬
‫مِ ْ‬
‫يظهر المعنى‪ ،‬إل أن يقال‪ :‬الضمير عائد إلى الذرية‪ ،‬واللّه أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬

‫فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع‪ ،‬ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى‪ ،‬وذلك‬
‫أن من عرف جللة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه‪ ،‬للمور الحاضرة والماضية‬
‫والمستقبلة‪ ،‬وأنه يذكر من كل معنى أعله وأكمل ما يكون من أحواله‪ ،‬وكانت الفلك من آياته‬
‫تعالى ونعمه على عباده‪ ،‬من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة‪ ،‬ولم تزل موجودة في‬
‫كل زمان‪ ،‬إلى زمان المواجهين بالقرآن‪.‬‬

‫فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن‪ ،‬وذكر حالة الفلك‪ ،‬وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك‬
‫في غير وقتهم‪ ،‬وفي غير زمانهم‪ ،‬حين يعلمهم [صنعة] الفلك [البحرية] الشراعية منها‬
‫والنارية‪ ،‬والجوية السابحة في الجو‪ ،‬كالطيور ونحوها‪[ ،‬والمراكب البرية] مما كانت الية‬
‫العظمى فيه لم توجد إل في الذرية‪ ،‬نبّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال‪:‬‬

‫ك ا ْل َمشْحُونِ } أي‪ :‬المملوء ركبانا وأمتعة‪ .‬فحملهم اللّه‬


‫حمَ ْلنَا ُذ ّر ّيتَ ُهمْ فِي الْفُ ْل ِ‬
‫{ وَآيَ ٌة َل ُهمْ َأنّا َ‬
‫تعالى‪ ،‬ونجاهم بالسباب التي علمهم اللّه بها‪ ،‬من الغرق‪ ،‬و[لهذا] نبههم على نعمته عليهم‬
‫خ َل ُهمْ } أي‪ :‬ل أحد‬
‫شأْ ُن ْغرِ ْق ُهمْ فَلَا صَرِي َ‬
‫حيث أنجاهم مع قدرته على ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬وَِإنْ َن َ‬
‫ن } مما هم فيه { إِلّا‬
‫يصرخ لهم فيعاونهم على الشدة‪ ،‬ول يزيل عنهم المشقة‪ { ،‬وَلَا ُهمْ ُينْ َقذُو َ‬
‫ن } حيث لم نغرقهم‪ ،‬لطفا بهم‪ ،‬وتمتيعا لهم إلى حين‪ ،‬لعلهم يرجعون‪،‬‬
‫َرحْمَ ًة ِمنّا َو َمتَاعًا إِلَى حِي ٍ‬
‫أو يستدركون ما فرط منهم‪.‬‬

‫{ وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ اتّقُوا مَا َبيْنَ َأ ْيدِي ُكمْ َومَا خَ ْل َف ُكمْ } أي‪ :‬من أحوال البرزخ والقيامة‪ ،‬وما في الدنيا‬
‫ن } أعرضوا عن ذلك‪ ،‬فلم يرفعوا به رأسا‪ ،‬ولو جاءتهم كل آية‪،‬‬
‫حمُو َ‬
‫من العقوبات { َلعَّل ُكمْ ُت ْر َ‬
‫ع ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ } وفي إضافة اليات‬
‫ت َربّ ِهمْ إِلّا كَانُوا َ‬
‫ولهذا قال‪َ { :‬ومَا َت ْأتِيهِمْ ِمنْ آ َيةٍ ِمنْ آيَا ِ‬
‫إلى ربهم‪ ،‬دليل على كمالها ووضوحها‪ ،‬لنه ما أبين من آية من آيات اللّه‪ ،‬ول أعظم بيانا‪.‬‬
‫وإن من جملة تربية اللّه لعباده‪ ،‬أن أوصل إليهم اليات التي يستدلون بها على ما ينفعهم‪ ،‬في‬
‫دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫{ وَِإذَا قِيلَ َل ُهمْ َأنْفِقُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ } أي‪ :‬من الرزق الذي منّ به اللّه عليكم‪ ،‬ولو شاء لسلبكم‬
‫ن َلوْ َيشَاءُ‬
‫ن كَ َفرُوا لِّلذِينَ آ َمنُوا } معارضين للحق‪ ،‬محتجين بالمشيئة‪َ { :‬أ ُنطْ ِعمُ مَ ْ‬
‫إياه‪ { ،‬قَالَ اّلذِي َ‬
‫ن } حيث تأمروننا بذلك‪.‬‬
‫ط َعمَهُ ِإنْ َأ ْن ُتمْ } أيها المؤمنون { إِلّا فِي ضَلَالٍ ُمبِي ٍ‬
‫اللّ ُه َأ ْ‬

‫وهذا مما يدل على جهلهم العظيم‪ ،‬أو تجاهلهم الوخيم‪ ،‬فإن المشيئة‪ ،‬ليست حجة لعاص أبدا‪،‬‬
‫فإنه وإن كان ما شاء اللّه كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فإنه تعالى مكّن العباد‪ ،‬وأعطاهم من القوة‬
‫ما يقدرون على فعل المر واجتناب النهي‪ ،‬فإذا تركوا ما أمروا به‪ ،‬كان ذلك اختيارا منهم‪ ،‬ل‬
‫جبرا لهم ول قهرا‪.‬‬

‫ن } قال اللّه‬
‫ن ُك ْنتُمْ صَا ِدقِي َ‬
‫ع ُد إِ ْ‬
‫ن } على وجه التكذيب والستعجال‪َ { :‬متَى َهذَا ا ْلوَ ْ‬
‫{ َويَقُولُو َ‬
‫حدَ ًة } وهي نفخة الصور‬
‫ص ْيحَةً وَا ِ‬
‫ن إِلّا َ‬
‫ظرُو َ‬
‫تعالى‪ :‬ل يستبعدوا ذلك‪ ،‬فإنه [عن] قريب { مَا َي ْن ُ‬
‫خصّمُونَ } أي‪ :‬وهم ل هون عنها‪ ،‬لم تخطر على قلوبهم في‬
‫خذُ ُهمْ } أي‪ :‬تصيبهم { وَ ُهمْ َي ِ‬
‫{ َت ْأ ُ‬
‫حال خصومتهم‪ ،‬وتشاجرهم بينهم‪ ،‬الذي ل يوجد في الغالب إل وقت الغفلة‪.‬‬

‫س َتطِيعُونَ َت ْوصِيَ ًة } أي‪ :‬ل قليلة‬


‫وإذا أخذتهم وقت غفلتهم‪ ،‬فإنهم ل ينظرون ول يمهلون { فَلَا َي ْ‬
‫ن}‬
‫جعُو َ‬
‫ول كثيرة { وَلَا إِلَى أَهِْل ِهمْ َي ْر ِ‬

‫ث إِلَى َر ّبهِمْ َي ْنسِلُونَ * قَالُوا يَا َويَْلنَا مَنْ‬


‫ن ا ْلَأجْدَا ِ‬
‫خ فِي الصّورِ َفإِذَا ُه ْم مِ َ‬
‫{ ‪َ { } 54 - 51‬ونُفِ َ‬
‫حدَ ًة َفإِذَا ُهمْ‬
‫ص ْيحَةً وَا ِ‬
‫ن كَانَتْ إِلّا َ‬
‫ن * إِ ْ‬
‫صدَقَ ا ْل ُم ْرسَلُو َ‬
‫حمَنُ َو َ‬
‫عدَ ال ّر ْ‬
‫َب َع َثنَا ِمنْ َم ْرقَ ِدنَا َهذَا مَا َو َ‬
‫ن إِلّا مَا ُك ْنتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫جزَوْ َ‬
‫شيْئًا وَلَا ُت ْ‬
‫س َ‬
‫ن * فَا ْليَ ْومَ لَا ُتظَْلمُ نَفْ ٌ‬
‫ضرُو َ‬
‫جمِيعٌ َل َد ْينَا ُمحْ َ‬
‫َ‬

‫النفخة الولى‪ ،‬هي نفخة الفزع والموت‪ ،‬وهذه نفخة البعث والنشور‪ ،‬فإذا نفخ في الصور‪،‬‬
‫خرجوا من الجداث والقبور‪ ،‬ينسلون إلى ربهم‪ ،‬أي‪ :‬يسرعون للحضور بين يديه‪ ،‬ل يتمكنون‬
‫من التأنّي والتأخر‪ ،‬وفي تلك الحال‪ ،‬يحزن المكذبون‪ ،‬ويظهرون الحسرة والندم‪ ،‬ويقولون‪:‬‬
‫ن َب َع َثنَا مِنْ َم ْر َقدِنَا } أي‪ :‬من رقدتنا في القبور‪ ،‬لنه ورد في بعض الحاديث‪ ،‬أن‬
‫{ يَا َويَْلنَا مَ ْ‬
‫ص َدقَ‬
‫حمَنُ َو َ‬
‫ع َد الرّ ْ‬
‫لهل القبور رقدة قبيل النفخ في الصور‪ ،‬فيجابون‪ ،‬فيقال [لهم‪َ { ]:‬هذَا مَا وَ َ‬
‫ا ْل ُمرْسَلُونَ } أي‪ :‬هذا الذي وعدكم اللّه به‪ ،‬ووعدتكم به الرسل‪ ،‬فظهر صدقهم رَ ْأيَ عين‪.‬‬
‫ول تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع‪ ،‬لمجرد الخبر عن وعده‪ ،‬وإنما ذلك للخبار بأنه‬
‫في ذلك اليوم العظيم‪ ،‬سيرون من رحمته ما ل يخطر على الظنون‪ ،‬ول حسب به الحاسبون‪،‬‬
‫حمَنِ } ونحو ذلك‪ ،‬مما يذكر‬
‫ت لِل ّر ْ‬
‫شعَتِ ا ْلَأصْوَا ُ‬
‫خَ‬‫حمَنِ } { َو َ‬
‫حقّ لِل ّر ْ‬
‫كقوله‪ { :‬ا ْلمُ ْلكُ َي ْو َم ِئذٍ ا ْل َ‬
‫اسمه الرحمن‪ ،‬في هذا‪.‬‬

‫حدَ ًة } ينفخ فيها إسرافيل في الصور‪ ،‬فتحيا‬


‫{ ِإنْ كَانَتْ } البعثة من القبور { إِلّا صَ ْيحَةً وَا ِ‬
‫حضَرُونَ } الولون والخرون‪ ،‬والنس والجن‪ ،‬ليحاسبوا على‬
‫جمِيعٌ َل َد ْينَا ُم ْ‬
‫الجساد‪َ { ،‬فِإذَا ُهمْ َ‬
‫أعمالهم‪.‬‬

‫ن إِلّا مَا‬
‫جزَوْ َ‬
‫ش ْيئًا } ل ينقص من حسناتها‪ ،‬ول يزاد في سيئاتها‪ { ،‬وَلَا ُت ْ‬
‫س َ‬
‫{ فَا ْليَ ْومَ لَا تُظَْلمُ نَفْ ٌ‬
‫ُك ْنتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير أو شر‪ ،‬فمن وجد خيرا فليحمد اللّه على ذلك‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل‬
‫يلومن إل نفسه‪.‬‬

‫ج ُهمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى‬


‫ن * ُهمْ وََأزْوَا ُ‬
‫شغُلٍ فَا ِكهُو َ‬
‫جنّ ِة ا ْليَ ْو َم فِي ُ‬
‫صحَابَ ا ْل َ‬
‫{ ‪ِ { } 58 - 55‬إنّ َأ ْ‬
‫ب َرحِيمٍ }‬
‫ا ْلَأرَا ِئكِ ُم ّت ِكئُونَ * َل ُهمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وََل ُه ْم مَا َيدّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا ِمنْ رَ ّ‬

‫[لما ذكر تعالى] أن كل أحد ل يجازى إل ما عمله‪ ،‬ذكر جزاء الفريقين‪ ،‬فبدأ بجزاء أهل‬
‫ن } أي‪ :‬في شغل مفكه للنفس‪ ،‬مُِلذّ لها‪ ،‬من‬
‫شغُلٍ فَا ِكهُو َ‬
‫الجنة‪ ،‬وأخبر أنهم في ذلك اليوم { فِي ُ‬
‫كل ما تهواه النفوس‪ ،‬وتلذه العيون‪ ،‬ويتمناه المتمنون‪.‬‬

‫جهُمْ } من الحور العين‪ ،‬اللتي‬


‫ومن ذلك افتضاض العذارى الجميلت‪ ،‬كما قال‪ُ { :‬همْ وََأ ْزوَا ُ‬
‫قد جمعن حسن الوجوه والبدان وحسن الخلق‪ { .‬فِي ظِلَالٍ عَلَى ا ْلَأرَا ِئكِ } أي‪ :‬على السرر‬
‫ن } عليها‪ ،‬اتكاء على كمال الراحة والطمأنينة‬
‫المزينة باللباس المزخرف الحسن‪ُ { .‬م ّت ِكئُو َ‬
‫واللذة‪.‬‬

‫{ َل ُهمْ فِيهَا فَاكِهَ ٌة } كثيرة‪ ،‬من جميع أنواع الثمار اللذيذة‪ ،‬من عنب وتين ورمان‪ ،‬وغيرها‪،‬‬
‫ن } أي‪ :‬يطلبون‪ ،‬فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه‪.‬‬
‫{ وََل ُهمْ مَا َيدّعُو َ‬

‫ن رَبّ َرحِيمٍ } ففي هذا كلم الرب تعالى لهل الجنة‬


‫ولهم أيضا { سَلَامٌ } حاصل لهم { مِ ْ‬
‫وسلمه عليهم‪ ،‬وأكده بقوله‪ { :‬قَوْلًا } وإذا سلم عليهم الرب الرحيم‪ ،‬حصلت لهم السلمة التامة‬
‫من جميع الوجوه‪ ،‬وحصلت لهم التحية‪ ،‬التي ل تحية أعلى منها‪ ،‬ول نعيم مثلها‪ ،‬فما ظنك‬
‫بتحية ملك الملوك‪ ،‬الرب العظيم‪ ،‬الرءوف الرحيم‪ ،‬لهل دار كرامته‪ ،‬الذي أحل عليهم‬
‫رضوانه‪ ،‬فل يسخط عليهم أبدا‪ ،‬فلول أن اللّه تعالى قدر أن ل يموتوا‪ ،‬أو تزول قلوبهم عن‬
‫أماكنها من الفرح والبهجة والسرور‪ ،‬لحصل ذلك‪.‬‬

‫فنرجو ربنا أن ل يحرمنا ذلك النعيم‪ ،‬وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم‪.‬‬

‫ع َهدْ إَِل ْي ُكمْ يَا َبنِي آ َدمَ َأنْ لَا َت ْعبُدُوا‬


‫{ ‪ { } 67 - 59‬وَا ْمتَازُوا ا ْليَ ْو َم َأ ّيهَا ا ْل ُمجْ ِرمُونَ * أََلمْ َأ ْ‬
‫جبِلّا َكثِيرًا‬
‫ستَقِيمٌ * وَلَ َق ْد َأضَلّ ِم ْن ُكمْ ِ‬
‫ع ُبدُونِي َهذَا صِرَاطٌ ُم ْ‬
‫عدُ ّو ُمبِينٌ * وَأَنِ ا ْ‬
‫ن ِإنّ ُه َل ُكمْ َ‬
‫شيْطَا َ‬
‫ال ّ‬
‫عدُونَ * اصْلَوْهَا ا ْليَ ْومَ ِبمَا ُك ْن ُتمْ َتكْ ُفرُونَ * ا ْل َي ْومَ‬
‫ج َهنّ ُم اّلتِي ُك ْنتُمْ تُو َ‬
‫ن * َهذِ ِه َ‬
‫َأفَلَمْ َتكُونُوا َتعْقِلُو َ‬
‫سنَا عَلَى‬
‫طمَ ْ‬
‫سبُونَ * وََل ْو َنشَا ُء َل َ‬
‫ش َهدُ َأ ْرجُُل ُهمْ ِبمَا كَانُوا َي ْك ِ‬
‫ختِمُ عَلَى َأفْوَا ِه ِهمْ َو ُتكَّل ُمنَا َأ ْيدِي ِهمْ َو َت ْ‬
‫َن ْ‬
‫س َتطَاعُوا‬
‫خنَا ُهمْ عَلَى َمكَا َن ِت ِهمْ َفمَا ا ْ‬
‫صرُونَ * وََلوْ َنشَا ُء َل َمسَ ْ‬
‫س َتبَقُوا الصّرَاطَ َفَأنّى ُيبْ ِ‬
‫ع ُي ِن ِهمْ فَا ْ‬
‫أَ ْ‬
‫ن}‬
‫جعُو َ‬
‫ُمضِيّا وَلَا َي ْر ِ‬

‫لما ذكر تعالى جزاء المتقين‪ ،‬ذكر جزاء المجرمين { و } أنهم يقال لهم يوم القيامة { ا ْمتَازُوا‬
‫ن } أي‪ :‬تميزوا عن المؤمنين‪ ،‬وكونوا على حدة‪ ،‬ليوبخهم ويقرعهم على‬
‫ج ِرمُو َ‬
‫ا ْليَ ْومَ َأ ّيهَا ا ْل ُم ْ‬
‫ع َهدْ إَِل ْي ُكمْ } أي‪ :‬آمركم وأوصيكم‪،‬‬
‫رءوس الشهاد قبل أن يدخلهم النار‪ ،‬فيقول لهم‪ { :‬أََلمْ َأ ْ‬
‫ن } أي‪ :‬ل تطيعوه؟ وهذا‬
‫شيْطَا َ‬
‫ن لَا َت ْع ُبدُوا ال ّ‬
‫على ألسنة رسلي‪[ ،‬وأقول لكم‪ { ]:‬يَا َبنِي آ َدمَ أَ ْ‬
‫التوبيخ‪ ،‬يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي‪ ،‬لنها كلها طاعة للشيطان وعبادة‬
‫عدُ ّو ُمبِينٌ } فحذرتكم منه غاية التحذير‪ ،‬وأنذرتكم عن طاعته‪ ،‬وأخبرتكم بما‬
‫له‪ِ { ،‬إنّ ُه َل ُكمْ َ‬
‫ع ُبدُونِي } بامتثال أوامري وترك زواجري‪َ { ،‬هذَا } أي‪:‬‬
‫يدعوكم إليه‪ { ،‬و } أمرتكم { أَنِ ا ْ‬
‫ستَقِيمٌ } فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ترجع‬
‫صرَاطٌ ُم ْ‬
‫عبادتي وطاعتي‪ ،‬ومعصية الشيطان { ِ‬
‫إلى هذين المرين‪ ،‬أي‪ :‬فلم تحفظوا عهدي‪ ،‬ولم تعملوا بوصيتي‪ ،‬فواليتم عدوكم‪ ،‬فـ { َأضَلّ‬
‫جبِلّا َكثِيرًا } أي‪ :‬خلقا كثيرا‪.‬‬
‫ِم ْنكُمْ ِ‬

‫{ َأفََلمْ َتكُونُوا َتعْقِلُونَ } أي‪ :‬فل كان لكم عقل يأمركم بموالة ربكم ووليكم الحق‪ ،‬ويزجركم عن‬
‫اتخاذ أعدى العداء لكم وليا‪ ،‬فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك‪ ،‬فإذا أطعتم الشيطان‪،‬‬
‫وعاديتم الرحمن‪ ،‬وكذبتم بلقائه‪ ،‬ووردتم القيامة دار الجزاء‪ ،‬وحق عليكم القول بالعذاب فـ‬
‫ن } وتكذبون بها‪ ،‬فانظروا إليها عيانا‪ ،‬فهناك تنزعج منهم‬
‫عدُو َ‬
‫ج َه ّنمُ اّلتِي ُك ْن ُتمْ تُو َ‬
‫{ َهذِ ِه َ‬
‫القلوب‪ ،‬وتزوغ البصار‪ ،‬ويحصل الفزع الكبر‪.‬‬
‫ن } أي‪:‬‬
‫ثم يكمل ذلك‪ ،‬بأن يؤمر بهم إلى النار‪ ،‬ويقال لهم‪ { :‬اصْلَوْهَا ا ْليَ ْو َم ِبمَا ُك ْنتُ ْم َتكْ ُفرُو َ‬
‫ادخلوها على وجه تصلكم‪ ،‬ويحيط بكم حرها‪ ،‬ويبلغ منكم كل مبلغ‪ ،‬بسبب كفركم بآيات اللّه‪،‬‬
‫وتكذيبكم لرسل اللّه‪.‬‬

‫خ ِتمُ عَلَى َأفْوَا ِه ِهمْ } بأن نجعلهم‬


‫قال ال تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء‪ { :‬ا ْليَ ْومَ َن ْ‬
‫خرسا فل يتكلمون‪ ،‬فل يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر والتكذيب‪َ { .‬و ُتكَّل ُمنَا َأ ْيدِي ِهمْ‬
‫ن } أي‪ :‬تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه‪ ،‬وينطقها الذي أنطق‬
‫سبُو َ‬
‫ش َهدُ َأ ْرجُُلهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْك ِ‬
‫َو َت ْ‬
‫كل شيء‪.‬‬

‫س َتبَقُوا‬
‫ب أبصارهم‪ ،‬كما طمسنا على نطقهم‪ { .‬فَا ْ‬
‫ع ُي ِن ِهمْ } بأن ُنذْهِ َ‬
‫ط َمسْنَا عَلَى أَ ْ‬
‫{ وَلَ ْو َنشَاءُ َل َ‬
‫الصّرَاطَ } أي‪ :‬فبادروا إليه‪ ،‬لنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة‪َ { ،‬فأَنّى ُي ْبصِرُونَ } وقد‬
‫طمست أبصارهم‪.‬‬

‫ضيّا } إلى المام‬


‫س َتطَاعُوا ُم ِ‬
‫خنَا ُهمْ عَلَى َمكَا َنتِ ِهمْ } أي‪ :‬لذهبنا حركتهم { َفمَا ا ْ‬
‫سْ‬‫{ وَلَ ْو َنشَاءُ َل َم َ‬
‫ن } إلى ورائهم ليبعدوا عن النار‪ .‬والمعنى‪ :‬أن هؤلء الكفار‪ ،‬حقت عليهم كلمة‬
‫جعُو َ‬
‫{ وَلَا َي ْر ِ‬
‫العذاب‪ ،‬ولم يكن ُبدّ من عقابهم‪.‬‬

‫وفي ذلك الموطن‪ ،‬ما َثمّ إل النار قد برزت‪ ،‬وليس لحد نجاة إل بالعبور على الصراط‪ ،‬وهذا‬
‫ل يستطيعه إل أهل اليمان‪ ،‬الذين يمشون في نورهم‪ ،‬وأما هؤلء‪ ،‬فليس لهم عند اللّه عهد في‬
‫النجاة من النار؛ فإن شاء طمس أعينهم وأبقى حركتهم‪ ،‬فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه‬
‫وبادروه‪ ،‬وإن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم ول التأخر‪ .‬المقصود‪ :‬أنهم ل يعبرونه‪،‬‬
‫فل تحصل لهم النجاة‪.‬‬

‫ن}‬
‫{ ‪َ { } 68‬و َمنْ ُن َع ّمرْهُ ُن َن ّكسْ ُه فِي ا ْلخَ ْلقِ َأفَلَا َيعْقِلُو َ‬

‫ن ُن َع ّمرْهُ } من بني آدم { ُن َن ّكسْهُ فِي ا ْلخَ ْلقِ } أي‪ :‬يعود إلى الحالة التي ابتدأ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ن } أن الدمي ناقص من كل وجه‪،‬‬
‫حالة الضعف‪ ،‬ضعف العقل‪ ،‬وضعف القوة‪َ { .‬أفَلَا َيعْقِلُو َ‬
‫فيتداركوا قوتهم وعقولهم‪ ،‬فيستعملونها في طاعة ربهم‪.‬‬
‫ن * ِل ُي ْنذِرَ مَنْ‬
‫ش ْعرَ َومَا َي ْن َبغِي َلهُ ِإنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ َوقُرْآنٌ ُمبِي ٌ‬
‫{ ‪َ { } 70 - 69‬ومَا عَّل ْمنَا ُه ال ّ‬
‫حقّ الْ َقوْلُ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫حيّا َو َي ِ‬
‫كَانَ َ‬

‫ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬عما رماه به المشركون‪ ،‬من أنه شاعر‪ ،‬وأن‬
‫ش ْعرَ َومَا َي ْن َبغِي َل ُه } أن يكون شاعرا‪ ،‬أي‪ :‬هذا من‬
‫الذي جاء به شعر فقال‪َ { :‬ومَا عَّل ْمنَاهُ ال ّ‬
‫جنس المحال أن يكون شاعرا‪ ،‬لنه رشيد مهتد‪ ،‬والشعراء غاوون‪ ،‬يتبعهم الغاوون‪ ،‬ولن اللّه‬
‫تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله‪ ،‬فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ‪،‬‬
‫ن } أي‪ :‬ما هذا الذي جاء‬
‫وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له‪ِ { ،‬إنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ َو ُقرْآنٌ ُمبِي ٌ‬
‫به إل ذكر يتذكر به أولو اللباب‪ ،‬جميع المطالب الدينية‪ ،‬فهو مشتمل عليها أتم اشتمال‪ ،‬وهو‬
‫يذكر العقول‪ ،‬ما ركز اللّه في فطرها من المر بكل حسن‪ ،‬والنهي عن كل قبيح‪.‬‬

‫ن ُمبِينٍ } أي‪ :‬مبين لما يطلب بيانه‪ .‬ولهذا حذف المعمول‪ ،‬ليدل على أنه مبين لجميع‬
‫{ َوقُرْآ ٍ‬
‫الحق‪ ،‬بأدلته التفصيلية والجمالية‪ ،‬والباطل وأدلة بطلنه‪ ،‬أنزله اللّه كذلك على رسوله‪.‬‬

‫حيّا } أي‪ :‬حي القلب واعيه‪ ،‬فهو الذي يزكو على هذا القرآن‪ ،‬وهو الذي‬
‫ن كَانَ َ‬
‫{ ِل ُي ْن ِذرَ مَ ْ‬
‫يزداد من العلم منه والعمل‪ ،‬ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للرض الطيبة الزاكية‪.‬‬
‫ق الْقَوْلُ عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ } لنهم قامت عليهم به حجة اللّه‪ ،‬وانقطع احتجاجهم‪ ،‬فلم يبق لهم‬
‫{ َو َيحِ ّ‬
‫ن بها‪.‬‬
‫أدنى عذر وشبهة ُيدْلُو َ‬

‫عمِلَتْ َأ ْيدِينَا َأ ْنعَامًا َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * َوذَلّ ْلنَاهَا‬


‫{ ‪َ { } 73 - 71‬أوََلمْ َيرَوْا َأنّا خَلَ ْقنَا َل ُهمْ ِممّا َ‬
‫ن}‬
‫ش ُكرُو َ‬
‫َل ُهمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُب ُهمْ َو ِم ْنهَا َي ْأكُلُونَ * وََل ُهمْ فِيهَا َمنَافِعُ َو َمشَارِبُ َأفَلَا َي ْ‬

‫يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من النعام وذللها‪ ،‬وجعلهم مالكين لها‪ ،‬مطاوعة لهم‬
‫في كل أمر يريدونه منها‪ ،‬وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم وحمل أثقالهم ومحاملهم‬
‫وأمتعتهم من محل إلى محل‪ ،‬ومن أكلهم منها‪ ،‬وفيها دفء‪ ،‬ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها‬
‫أثاثا ومتاعا إلى حين‪ ،‬وفيها زينة وجمال‪ ،‬وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها‪َ { ،‬أفَلَا‬
‫شكُرُونَ } اللّه تعالى الذي أنعم بهذه النعم‪ ،‬ويخلصون له العبادة ول يتمتعون بها تمتعا خاليا‬
‫َي ْ‬
‫من العبرة والفكرة‪.‬‬
‫صرَهُمْ وَ ُهمْ َل ُهمْ‬
‫س َتطِيعُونَ َن ْ‬
‫ن * لَا َي ْ‬
‫صرُو َ‬
‫خذُوا ِمنْ دُونِ اللّهِ آِلهَ ًة َلعَّلهُمْ ُي ْن َ‬
‫{ ‪ { } 75 - 74‬وَا ّت َ‬
‫ن}‬
‫ضرُو َ‬
‫ج ْندٌ ُمحْ َ‬
‫ُ‬

‫هذا بيان لبطلن آلهة المشركين‪ ،‬التي اتخذوها مع اللّه تعالى‪ ،‬ورجوا نصرها وشفعها‪ ،‬فإنها‬
‫صرَهُمْ } ول أنفسهم ينصرون‪ ،‬فإذا كانوا ل يستطيعون‬
‫س َتطِيعُونَ َن ْ‬
‫في غاية العجز { لَا َي ْ‬
‫نصرهم‪ ،‬فكيف ينصرونهم؟ والنصر له شرطان‪ :‬الستطاعة [والقدرة] فإذا استطاع‪ ،‬يبقى‪:‬‬
‫هل يريد نصرة من عبده أم ل؟ فَنَ ْفيُ الستطاعة‪ ،‬ينفي المرين كليهما‪.‬‬

‫حضَرُونَ } أي‪ :‬محضرون هم وهم في العذاب‪ ،‬ومتبرئ بعضهم من بعض‪،‬‬


‫ج ْندٌ ُم ْ‬
‫{ وَ ُهمْ َل ُهمْ ُ‬
‫أفل تبرأوا في الدنيا من عبادة هؤلء‪ ،‬وأخلصوا العبادة للذي بيده الملك والنفع والضر‪،‬‬
‫والعطاء والمنع‪ ،‬وهو الولي النصير؟‬

‫ن}‬
‫{ ‪ { } 76‬فَلَا َيحْ ُز ْنكَ قَوُْل ُهمْ ِإنّا َنعْلَمُ مَا ُيسِرّونَ َومَا ُيعِْلنُو َ‬

‫أي‪ :‬فل يحزنك يا أيها الرسول‪ ،‬قول المكذبين‪ ،‬والمراد بالقول‪ :‬ما دل عليه السياق‪ ،‬كل قول‬
‫يقدحون فيه في الرسول‪ ،‬أو فيما جاء به‪.‬‬

‫سرّونَ َومَا ُيعِْلنُونَ }‬


‫أي‪ :‬فل تشغل قلبك بالحزن عليهم { ِإنّا َنعَْلمُ مَا ُي ِ‬

‫فنجازيهم على حسب علمنا بهم‪ ،‬وإل فقولهم ل يضرك شيئا‪.‬‬

‫ضرَبَ َلنَا َمثَلًا‬


‫{ ‪َ { } 83 - 77‬أوََلمْ َيرَ ا ْلِإ ْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ ِمنْ ُنطْفَ ٍة َفإِذَا هُ َو خَصِيمٌ ُمبِينٌ * َو َ‬
‫ل خَلْقٍ‬
‫شأَهَا أَوّلَ َمرّةٍ وَ ُهوَ ِبكُ ّ‬
‫حيِيهَا اّلذِي َأ ْن َ‬
‫ل ُي ْ‬
‫حيِي ا ْل ِعظَامَ وَ ِهيَ َرمِيمٌ * قُ ْ‬
‫ن ُي ْ‬
‫سيَ خَلْ َقهُ قَالَ مَ ْ‬
‫َو َن ِ‬
‫س اّلذِي خََلقَ‬
‫ن * أَوََليْ َ‬
‫خضَرِ نَارًا َفِإذَا َأ ْن ُتمْ ِمنْ ُه تُو ِقدُو َ‬
‫جرِ ا ْلَأ ْ‬
‫شَ‬‫ل َل ُكمْ مِنَ ال ّ‬
‫جعَ َ‬
‫عَلِيمٌ * اّلذِي َ‬
‫ش ْيئًا‬
‫ن َيخْلُقَ ِمثَْل ُهمْ بَلَى وَهُ َو ا ْلخَلّاقُ ا ْلعَلِي ُم * ِإ ّنمَا َأ ْمرُهُ ِإذَا َأرَادَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ بِقَا ِدرٍ عَلَى أَ ْ‬
‫ال ّ‬
‫جعُونَ }‬
‫شيْءٍ وَإَِليْ ِه ُترْ َ‬
‫ت كُلّ َ‬
‫س ْبحَانَ اّلذِي ِب َيدِ ِه مََلكُو ُ‬
‫ن * فَ ُ‬
‫ن َف َيكُو ُ‬
‫ل لَ ُه كُ ْ‬
‫ن يَقُو َ‬
‫أَ ْ‬

‫هذه اليات الكريمات‪ ،‬فيها [ذكر] شبهة منكري البعث‪ ،‬والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه‬
‫وأوضحه‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬أوََلمْ َيرَ ا ْلِإ ْنسَانُ } المنكر للبعث و الشاك فيه‪ ،‬أمرا يفيده اليقين التام‬
‫ن ُنطْفَ ٍة } ثم تنقله في الطوار شيئا فشيئا‪ ،‬حتى كبر وشب‪ ،‬وتم‬
‫بوقوعه‪ ،‬وهو ابتداء خلقه { مِ ْ‬
‫خصِيمٌ ُمبِينٌ } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة‪ ،‬فلينظر التفاوت بين‬
‫عقله واستتب‪َ { ،‬فإِذَا ُهوَ َ‬
‫هاتين الحالتين‪ ،‬وليعلم أن الذي أنشأه من العدم‪ ،‬قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق‪ ،‬من‬
‫باب أولى‪.‬‬

‫ب َلنَا َمثَلًا } ل ينبغي لحد أن يضربه‪ ،‬وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق‪ ،‬وأن‬
‫{ َوضَرَ َ‬
‫المر المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق‪ .‬فسر هذا المثل [بقوله]‪ { :‬قَالَ }‬
‫ي رَمِيمٌ } أي‪ :‬هل أحد يحييها؟ استفهام إنكار‪ ،‬أي‪ :‬ل أحد‬
‫حيِي ا ْل ِعظَامَ وَ ِه َ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ذلك النسان { مَ ْ‬
‫يحييها بعد ما بليت وتلشت‪.‬‬

‫هذا وجه الشبهة والمثل‪ ،‬وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر‪ ،‬وهذا‬
‫القول الذي صدر من هذا النسان غفلة منه‪ ،‬ونسيان لبتداء خلقه‪ ،‬فلو فطن لخلقه بعد أن لم‬
‫يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا‪ ،‬لم يضرب هذا المثل‪.‬‬

‫شأَهَا َأوّلَ َمرّ ٍة }‬


‫حيِيهَا اّلذِي َأ ْن َ‬
‫فأجاب تعالى عن هذا الستبعاد بجواب شاف كاف‪ ،‬فقال‪ { :‬قُلْ ُي ْ‬
‫وهذا بمجرد تصوره‪ ،‬يعلم به علما يقينا ل شبهة فيه‪ ،‬أن الذي أنشأها أول مرة قادر على‬
‫العادة ثاني مرة‪ ،‬وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور‪ { ،‬وَهُ َو ِبكُلّ خَ ْلقٍ عَلِيمٌ }‬

‫هذا أيضا دليل ثان من صفات اللّه تعالى‪ ،‬وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته في‬
‫جميع أحوالها‪ ،‬في جميع الوقات‪ ،‬ويعلم ما تنقص الرض من أجساد الموات وما يبقى‪،‬‬
‫ويعلم الغيب والشهادة‪ ،‬فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم‪ ،‬علم أنه أعظم وأجل من إحياء اللّه‬
‫الموتى من قبورهم‪.‬‬

‫ن } فإذا أخرج‬
‫خضَرِ نَارًا َفِإذَا َأ ْن ُتمْ ِمنْ ُه تُو ِقدُو َ‬
‫جرِ ا ْلَأ ْ‬
‫شَ‬‫ل َل ُكمْ مِنَ ال ّ‬
‫جعَ َ‬
‫ثم ذكر دليل ثالثا { اّلذِي َ‬
‫[النار] اليابسة من الشجر الخضر‪ ،‬الذي هو في غاية الرطوبة‪ ،‬مع تضادهما وشدة تخالفهما‪،‬‬
‫فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ } على سعتهما وعظمهما‬


‫ثم ذكر دليل رابعا فقال‪َ { :‬أوََليْسَ اّلذِي خََلقَ ال ّ‬
‫ق ِمثَْلهُمْ } أي‪[ :‬أن] يعيدهم [بأعيانهم]‪ { .‬بَلَى } قادر على ذلك‪ ،‬فإن خلق‬
‫ن َيخْلُ َ‬
‫{ بِقَا ِدرٍ عَلَى أَ ْ‬
‫السماوات والرض أكبر من خلق الناس‪ { .‬وَ ُهوَ ا ْلخَلّاقُ ا ْلعَلِيمُ } وهذا دليل خامس‪ ،‬فإنه تعالى‬
‫الخلق‪ ،‬الذي جميع المخلوقات‪ ،‬متقدمها ومتأخرها‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬كلها أثر من آثار خلقه‬
‫وقدرته‪ ،‬وأنه ل يستعصي عليه مخلوق أراد خلقه‪.‬‬
‫شيْئًا } نكرة في‬
‫فإعادته للموات‪ ،‬فرد من أفراد [آثار] خلقه‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إ ّنمَا َأ ْمرُهُ ِإذَا َأرَا َد َ‬
‫ن } أي‪ :‬في الحال من غير تمانع‪.‬‬
‫ن َف َيكُو ُ‬
‫ل لَ ُه كُ ْ‬
‫ن يَقُو َ‬
‫سياق الشرط‪ ،‬فتعم كل شيء‪ { .‬أَ ْ‬

‫شيْءٍ } وهذا دليل سادس‪ ،‬فإنه تعالى هو الملك المالك لكل‬


‫ل َ‬
‫ن اّلذِي ِب َيدِهِ مََلكُوتُ كُ ّ‬
‫س ْبحَا َ‬
‫{ َف ُ‬
‫شيء‪ ،‬الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له‪ ،‬وعبيد مسخرون ومدبرون‪،‬‬
‫يتصرف فيهم بأقداره الحكمية‪ ،‬وأحكامه الشرعية‪ ،‬وأحكامه الجزائية‪.‬‬

‫ن}‬
‫جعُو َ‬
‫فإعادته إياهم بعد موتهم‪ ،‬لينفذ فيهم حكم الجزاء‪ ،‬من تمام ملكه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإَِل ْيهِ ُت ْر َ‬
‫من غير امتراء ول شك‪ ،‬لتواتر البراهين القاطعة والدلة الساطعة على ذلك‪ .‬فتبارك الذي‬
‫جعل في كلمه الهدى والشفاء والنور‪.‬‬

‫تم تفسير سورة يس‪ ،‬فللّه [تعالى] الحمد كما ينبغي لجلله‪ ،‬وله الثناء كما يليق بكماله‪ ،‬وله‬
‫المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه‪ ،‬وصلى اللّه على محمد وآله وسلم‪.‬‬

‫تفسير سورة الصافات‪،‬‬


‫وهي مكية‬

‫صفّا * فَالزّاجِرَاتِ َزجْرًا * فَالتّالِيَاتِ ِذكْرًا *‬


‫ت َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ وَالصّافّا ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا وَ َربّ ا ْلمَشَا ِرقِ * إِنّا زَيّنّا ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫إِنّ إَِل َهكُمْ َلوَاحِدٌ * َربّ ال ّ‬
‫س ّمعُونَ إِلَى ا ْلمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْ َذفُونَ مِنْ ُكلّ‬
‫حفْظًا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَ ّ‬
‫بِزِينَةٍ ا ْل َكوَا ِكبِ * وَ ِ‬
‫شهَابٌ ثَا ِقبٌ * فَاسْ َتفْ ِتهِمْ أَهُمْ‬
‫طفَةَ فَأَتْ َبعَهُ ِ‬
‫طفَ ا ْلخَ ْ‬
‫عذَابٌ وَاصِبٌ * إِلّا مَنْ خَ ِ‬
‫جَا ِنبٍ * دُحُورًا وََلهُمْ َ‬
‫شدّ خَ ْلقًا أَمْ مَنْ خََلقْنَا إِنّا خََلقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَا ِزبٍ }‬
‫أَ َ‬

‫هذا قسم منه تعالى بالملئكة الكرام‪ ،‬في حال عبادتها وتدبيرها ما تدبره بإذن ربها‪ ،‬على ألوهيته‬
‫صفّا } أي‪ :‬صفوفا في خدمة ربهم‪ ،‬وهم الملئكة‪.‬‬
‫ت َ‬
‫تعالى وربوبيته‪ ،‬فقال‪ { :‬وَالصّافّا ِ‬

‫{ فَالزّاجِرَاتِ زَجْرًا } وهم الملئكة‪ ،‬يزجرون السحاب وغيره بأمر اللّه‪.‬‬

‫{ فَالتّالِيَاتِ ِذكْرًا } وهم الملئكة الذين يتلون كلم اللّه تعالى‪.‬‬

‫فلما كانوا متألهين لربهم‪ ،‬ومتعبدين في خدمته‪ ،‬ول يعصونه طرفة عين‪ ،‬أقسم بهم على ألوهيته‬
‫حدٌ } ليس له شريك في اللهية‪ ،‬فأخلصوا له الحب والخوف والرجاء‪ ،‬وسائر‬
‫فقال‪ { :‬إِنّ إَِل َهكُمْ َلوَا ِ‬
‫أنواع العبادة‪.‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا وَ َربّ ا ْلمَشَا ِرقِ } أي‪ :‬هو الخالق لهذه المخلوقات‪ ،‬والرازق‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َربّ ال ّ‬
‫لها‪ ،‬المدبر لها‪.،‬فكما أنه ل شريك له في ربوبيته إياها‪ ،‬فكذلك ل شريك له في ألوهيته‪ .،‬وكثيرا‬
‫ما يقرر تعالى توحيد اللهية بتوحيد الربوبية‪ ،‬لنه دال عليه‪ .‬وقد أقر به أيضا المشركون في‬
‫العبادة‪ ،‬فيلزمهم بما أقروا به على ما أنكروه‪.‬‬

‫وخص اللّه المشارق بالذكر‪ ،‬لدللتها على المغارب‪ ،‬أو لنها مشارق النجوم التي سيذكرها‪ ،‬فلهذا‬
‫س ّمعُونَ إِلَى ا ْلمَلَإِ‬
‫حفْظًا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ مَارِدٍ لَا َي ّ‬
‫ب وَ ِ‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ ا ْل َكوَا ِك ِ‬
‫قال‪ { :‬إِنّا زَيّنّا ال ّ‬
‫الْأَعْلَى }‬

‫ذكر اللّه في الكواكب هاتين الفائدتين العظيمتين‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬كونها زينة للسماء‪ ،‬إذ لولها‪ ،‬لكانت السماء جرما مظلما ل ضوء فيها‪ ،‬ولكن زينها فيها‬
‫لتستنير أرجاؤها‪ ،‬وتحسن صورتها‪ ،‬ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر‪ ،‬ويحصل فيها من‬
‫المصالح ما يحصل‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬حراسة السماء عن كل شيطان مارد‪ ،‬يصل بتمرده إلى استماع المل العلى‪ ،‬وهم‬
‫الملئكة‪ ،‬فإذا استمعت قذفتها بالشهب الثواقب { مِنْ ُكلّ جَا ِنبٍ } طردا لهم‪ ،‬وإبعادا عن استماع ما‬
‫يقول المل العلى‪.‬‬

‫ب وَاصِبٌ } أي‪ :‬دائم‪ ،‬معد لهم‪ ،‬لتمردهم عن طاعة ربهم‪.‬‬


‫عذَا ٌ‬
‫{ وََلهُمْ َ‬

‫ولول أنه [تعالى] استثنى‪ ،‬لكان ذلك دليل على أنهم ل يستمعون شيئا أصل‪ ،‬ولكن قال‪ { :‬إِلّا مَنْ‬
‫طفَةَ } أي‪ :‬إل من تلقف من الشياطين المردة‪ ،‬الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة‬
‫خ ْ‬
‫طفَ الْ َ‬
‫خِ‬‫َ‬
‫شهَابٌ ثَا ِقبٌ } تارة يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه‪ ،‬فينقطع خبر السماء‪ ،‬وتارة يخبر‬
‫{ فَأَتْ َبعَهُ ِ‬
‫بها قبل أن يدركه الشهاب‪ ،‬فيكذبون معها مائة كذبة يروجونها بسبب الكلمة التي سمعت من‬
‫السماء‪.‬‬

‫ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال‪ { :‬فَاسْ َتفْتِهِمْ } أي‪ :‬اسأل منكري خلقهم بعد موتهم‪َ { .‬أهُمْ‬
‫شدّ خَ ْلقًا } أي‪ :‬إيجادهم بعد موتهم‪ ،‬أشد خلقا وأشق؟‪ { .‬أَمْ مَنْ خََلقْنَا } من [هذه] المخلوقات؟ فل‬
‫أَ َ‬
‫بد أن يقروا أن خلق السماوات والرض أكبر من خلق الناس‪.‬‬

‫فيلزمهم إذا القرار بالبعث‪ ،‬بل لو رجعوا إلى أنفسهم وفكروا فيها‪ ،‬لعلموا أن ابتداء خلقهم من‬
‫طين لزب‪ ،‬أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّا خََلقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَا ِزبٍ }‬
‫حمَإٍ مَسْنُونٍ }‬
‫ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ‬
‫أي‪ :‬قوي شديد كقوله تعالى‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ مِ ْ‬
‫سخَرُونَ * وَإِذَا ُذكّرُوا لَا يَ ْذكُرُونَ * وَإِذَا رََأوْا آيَةً يَسْ َتسْخِرُونَ *‬
‫ت وَيَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 21 - 12‬بلْ عَجِ ْب َ‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ * ُقلْ‬
‫َوقَالُوا إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫ح َدةٌ فَإِذَا هُمْ يَ ْنظُرُونَ * َوقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا َيوْمُ الدّينِ *‬
‫َنعَ ْم وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِ ّنمَا ِهيَ َزجْ َر ٌة وَا ِ‬
‫هَذَا َيوْمُ ا ْل َفصْلِ الّذِي كُنْتُمْ بِهِ ُتكَذّبُونَ }‬

‫عجِ ْبتَ } يا أيها الرسول وأيها النسان‪ ،‬من تكذيب من كذب بالبعث‪ ،‬بعد أن أريتهم من‬
‫{ َبلْ َ‬
‫اليات العظيمة والدلة المستقيمة‪ ،‬وهو حقيقة محل عجب واستغراب‪ ،‬لنه مما ل يقبل النكار‪{ ،‬‬
‫سخَرُونَ } ممن جاء بالخبر عن البعث‪ ،‬فلم يكفهم‬
‫و } أعجب من إنكارهم وأبلغ منه‪ ،‬أنهم { يَ ْ‬
‫مجرد النكار‪ ،‬حتى زادوا السخرية بالقول الحق‪.‬‬

‫{ و } من العجب أيضا أنهم { ِإذَا ُذكّرُوا } ما يعرفون في فطرهم وعقولهم‪ ،‬وفطنوا له‪ ،‬وألفت‬
‫نظرهم إليه { لَا يَ ْذكُرُونَ } ذلك‪ ،‬فإن كان جهل‪ ،‬فهو من أدل الدلئل على شدة بلدتهم العظيمة‪،‬‬
‫حيث ذكروا ما هو مستقر في الفطر‪ ،‬معلوم بالعقل‪ ،‬ل يقبل الشكال‪ ،‬وإن كان تجاهل وعنادا‪،‬‬
‫فهو أعجب وأغرب‪.‬‬

‫ومن العجب [أيضا] أنهم إذا أقيمت عليهم الدلة‪ ،‬وذكروا اليات التي يخضع لهل فحول الرجال‬
‫وألباب اللباء‪ ،‬يسخرون منها ويعجبون‪.‬‬

‫سحْرٌ مُبِينٌ } فجعلوا أعلى الشياء‬


‫ومن العجب أيضا‪ ،‬قولهم للحق لما جاءهم‪ { :‬إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫وأجلها‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬في رتبة أخس الشياء وأحقرها‪.‬‬

‫ومن العجب أيضا‪ ،‬قياسهم قدرة رب الرض والسماوات‪ ،‬على قدرة الدمي الناقص من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬فقالوا استبعادا وإنكارا‪ { :‬أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ }‬

‫ولما كان هذا منتهى ما عندهم‪ ،‬وغاية ما لديهم‪ ،‬أمر اللّه رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على‬
‫ترهيبهم فقال‪ُ { :‬قلْ َنعَمْ } ستبعثون‪ ،‬أنتم وآباؤكم الولون { وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } ذليلون صاغرون‪،‬‬
‫ل تمتنعون‪ ،‬ول تستعصون على قدرة اللّه‪.‬‬

‫{ فَإِ ّنمَا ِهيَ َزجْ َر ٌة وَاحِ َدةٌ } ينفخ إسرافيل فيها في الصور { فَإِذَا هُمْ } مبعوثون من قبورهم‬
‫{ يَ ْنظَرُونَ } كما ابتدئ خلقهم‪ ،‬بعثوا بجميع أجزائهم‪ ،‬حفاة عراة غرل‪ ،‬وفي تلك الحال‪ ،‬يظهرون‬
‫الندم والخزي والخسار‪ ،‬ويدعون بالويل والثبور‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا يَا وَيْلَنَا َهذَا َيوْمُ الدّينِ } فقد أقروا بما كانوا في الدنيا به يستهزءون‪.‬‬
‫صلِ } بين العباد فيما بينهم وبين ربهم من الحقوق‪ ،‬وفيما بينهم وبين‬
‫فيقال لهم‪ { :‬هَذَا َيوْمُ ا ْل َف ْ‬
‫غيرهم من الخلق‪.‬‬

‫جهُ ْم َومَا كَانُوا َيعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللّهِ فَا ْهدُوهُمْ إِلَى‬
‫{ ‪ { } 26 - 22‬احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ‬
‫صِرَاطِ ا ْلجَحِيمِ * َو ِقفُو ُهمْ إِ ّنهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا َلكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َي ْومَ مُسْتَسِْلمُونَ }‬

‫أي إذا أحضروا يوم القيامة‪ ،‬وعاينوا ما به يكذبون‪ ،‬ورأوا ما به يستسخرون‪ ،‬يؤمر بهم إلى‬
‫النار‪ ،‬التي بها كانوا يكذبون‪ ،‬فيقال‪ { :‬احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا } أنفسهم بالكفر والشرك والمعاصي {‬
‫جهُمْ } الذين من جنس عملهم‪ ،‬كل يضم إلى من يجانسه في العمل‪.‬‬
‫وَأَ ْزوَا َ‬

‫{ َومَا كَانُوا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } من الصنام والنداد التي زعموها‪ .،‬فاجمعوهم جميعا‬
‫جحِيمِ } أي‪ :‬سوقوهم سوقا عنيفا إلى جهنم‪.‬‬
‫{ فَا ْهدُوهُمْ ِإلَى صِرَاطِ الْ َ‬

‫وبعد ما يتعين أمرهم إلى النار‪ ،‬ويعرفون أنهم من أهل دار البوار‪ ،‬يقال‪َ { :‬و ِقفُوهُمْ } قبل أن‬
‫توصلوهم إلى جهنم { إِ ّن ُهمْ مَسْئُولُونَ } عما كانوا يفترونه في الدنيا‪ ،‬ليظهر على رءوس الشهاد‬
‫كذبهم وفضيحتهم‪.‬‬

‫فيقال لهم‪ { :‬مَا َلكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ } أي‪ :‬ما الذي جرى عليكم اليوم؟ وما الذي طرقكم ل ينصر‬
‫بعضكم بعضا‪ ،‬ول يغيث بعضكم بعضا‪ ،‬بعدما كنتم تزعمون في الدنيا‪ ،‬أن آلهتكم ستدفع عنكم‬
‫العذاب‪ ،‬وتغيثكم وتشفع لكم عند اللّه‪ ،‬فكأنهم ل يجيبون هذا السؤال‪ ،‬لنهم قد علهم الذل‬
‫والصغار‪ ،‬واستسلموا لعذاب النار‪ ،‬وخشعوا وخضعوا وأبلسوا‪ ،‬فلم ينطقوا‪.‬‬

‫ولهذا قال‪َ { :‬بلْ ُهمُ الْ َيوْمَ ُمسْتَسِْلمُونَ }‬

‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِ ّنكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ * قَالُوا‬
‫{ ‪ { } 39 - 27‬وََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫َبلْ لَمْ َتكُونُوا ُمؤْمِنِينَ * َومَا كَانَ لَنَا عَلَ ْي ُكمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ َبلْ كُنْتُمْ َق ْومًا طَاغِينَ * َفحَقّ عَلَيْنَا َق ْولُ‬
‫غوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ * فَإِ ّن ُهمْ َي ْومَئِذٍ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ * إِنّا كَذَِلكَ َن ْف َعلُ‬
‫رَبّنَا إِنّا َلذَا ِئقُونَ * فَأَ ْ‬
‫بِا ْلمُجْ ِرمِينَ * إِ ّن ُهمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ َلهُمْ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ يَسْ َتكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتَا ِركُو آِلهَتِنَا لِشَاعِرٍ‬
‫ق َوصَدّقَ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُكمْ لَذَا ِئقُو ا ْلعَذَابِ الْأَلِيمِ * َومَا تُجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْ ُتمْ‬
‫حّ‬‫مَجْنُونٍ * َبلْ جَاءَ بِالْ َ‬
‫َت ْعمَلُونَ }‬
‫لما جمعوا هم وأزواجهم وآلهتهم‪ ،‬وهدوا إلى صراط الجحيم‪ ،‬ووقفوا‪ ،‬فسئلوا‪ ،‬فلم يجيبوا‪ ،‬وأقبلوا‬
‫فيما بينهم‪ ،‬يلوم بعضهم بعضا على إضللهم وضللهم‪.‬‬

‫فقال التباع للمتبوعين الرؤساء‪ { :‬إِ ّن ُكمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ } أي‪ :‬بالقوة والغلبة‪ ،‬فتضلونا‪،‬‬
‫ولول أنتم لكنا مؤمنين‪.‬‬

‫{ قَالُوا } لهم { َبلْ لَمْ َتكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬ما زلتم مشركين‪ ،‬كما نحن مشركون‪ ،‬فأي‪ :‬شيء‬
‫فضلكم علينا؟ وأي‪ :‬شيء يوجب لومنا؟‬

‫{ و } الحال أنه { مَا كَانَ لنا عليكم مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي‪ :‬قهر لكم على اختيار الكفر { َبلْ كُنْتُمْ َقوْمًا‬
‫طَاغِينَ } متجاوزين للحد‬

‫{ َفحَقّ عَلَيْنَا } نحن وإياكم { إِنّا َلذَا ِئقُونَ } العذاب‪.،‬أي‪ :‬حق علينا قدر ربنا وقضاؤه‪ ،‬أنا وإياكم‬
‫سنذوق العذاب‪ ،‬ونشترك في العقاب‪.‬‬

‫غوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ } أي‪ :‬دعوناكم إلى طريقتنا التي نحن عليها‪ ،‬وهي الغواية‪،‬‬
‫{ فـ } لذلك { أَ ْ‬
‫فاستجبتم لنا‪ ،‬فل تلومونا ولوموا أنفسكم‪.‬‬

‫قال تعالى‪ { :‬فَإِ ّنهُمْ َي ْومَئِذٍ } أي‪ :‬يوم القيامة { فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ } وإن تفاوتت مقادير عذابهم‬
‫بحسب جرمهم‪.‬‬

‫كما اشتركوا في الدنيا على الكفر‪ ،‬اشتركوا في الخرة بجزائه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّا كَذَِلكَ َن ْفعَلُ‬
‫بِا ْلمُجْ ِرمِينَ }‬

‫ثم ذكر أن إجرامهم‪ ،‬قد بلغ الغاية وجاوز النهاية فقال‪ { :‬إِ ّن ُهمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ َلهُمْ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ }‬
‫فدعوا إليها‪ ،‬وأمروا بترك إلهية ما سواه { يَسْ َتكْبِرُونَ } عنها وعلى من جاء بها‪.‬‬

‫{ وَ َيقُولُونَ } معارضة لها { أَئِنّا لَتَا ِركُوا آِلهَتِنَا } التي لم نزل نعبدها نحن وآباؤنا { لـ } قول‬
‫{ شَاعِرٍ مَجْنُونٍ } يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم‪ .‬فلم يكفهم ‪ -‬قبحهم اللّه ‪ -‬العراض عنه‪،‬‬
‫ول مجرد تكذيبه‪ ،‬حتى حكموا عليه بأظلم الحكام‪ ،‬وجعلوه شاعرا مجنونا‪ ،‬وهم يعلمون أنه ل‬
‫يعرف الشعر والشعراء‪ ،‬ول وصفه وصفهم‪ ،‬وأنه أعقل خلق اللّه‪ ،‬وأعظمهم رأيا‪.‬‬

‫ولهذا قال تعالى‪ ،‬ناقضا لقولهم‪َ { :‬بلْ جَاءَ } محمد { بِا ْلحَقّ } أي‪ :‬مجيئه حق‪ ،‬وما جاء به من‬
‫الشرع والكتاب حق‪َ { .‬وصَدّقَ ا ْلمُرْسَلِينَ } [أي‪ :‬ومجيئه صدق المرسلين] فلول مجيئه وإرساله لم‬
‫يكن الرسل صادقين‪ ،‬فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله‪ ،‬لنهم أخبروا به وبشروا‪ ،‬وأخذ اللّه عليهم‬
‫العهد والميثاق‪ ،‬لئن جاءهم‪ ،‬ليؤمنن به ولينصرنه‪ ،‬وأخذوا ذلك على أممهم‪ ،‬فلما جاء ظهر صدق‬
‫الرسل الذين قبله‪ ،‬وتبين كذب من خالفهم‪. ،‬فلو قدر عدم مجيئه‪ ،‬وهم قد أخبروا به‪ ،‬لكان ذلك‬
‫قادحا في صدقهم‪.‬‬

‫وصدق أيضا المرسلين‪ ،‬بأن جاء بما جاءوا به‪ ،‬ودعا إلى ما دعوا إليه‪ ،‬وآمن بهم‪ ،‬وأخبر بصحة‬
‫رسالتهم ونبوتهم وشرعهم‪.‬‬

‫ولما كان قولهم السابق‪ { :‬إِنّا لَذَا ِئقُونَ } قول صادرا منهم‪ ،‬يحتمل أن يكون صدقا أو غيره‪ ،‬أخبر‬
‫تعالى بالقول الفصل الذي ل يحتمل غير الصدق واليقين‪ ،‬وهو الخبر الصادر منه تعالى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ إِ ّن ُكمْ لَذَا ِئقُوا ا ْلعَذَابِ الْأَلِيمِ } أي‪ :‬المؤلم الموجع‪.‬‬

‫{ َومَا تُجْ َزوْنَ } في إذاقة العذاب الليم { إِلّا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } فلم نظلمكم‪ ،‬وإنما عدلنا فيكم؟‬

‫ولما كان هذا الخطاب لفظه عاما‪ ،‬والمراد به المشركون‪ ،‬استثنى تعالى المؤمنين فقال‪:‬‬

‫{ ‪ { } 49 - 40‬إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُخَْلصِينَ * أُولَ ِئكَ َلهُمْ رِ ْزقٌ َمعْلُومٌ * َفوَاكِ ُه وَ ُهمْ ُمكْ َرمُونَ * فِي‬
‫جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُ َتقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ * بَ ْيضَاءَ َل ّذةٍ لِلشّارِبِينَ * لَا‬
‫ل وَلَا ُهمْ عَ ْنهَا يُنْ َزفُونَ * وَعِنْدَ ُهمْ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ عِينٌ * كَأَ ّنهُنّ بَ ْيضٌ َمكْنُونٌ }‬
‫غوْ ٌ‬
‫فِيهَا َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُخَْلصِينَ } فإنهم غير ذائقي العذاب الليم‪ ،‬لنهم أخلصوا للّه‬
‫العمال‪ ،‬فأخلصهم‪ ،‬واختصهم برحمته‪ ،‬وجاد عليهم بلطفه‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ رِزْقٌ َمعْلُومٌ } أي‪ :‬غير مجهول‪ ،‬وإنما هو رزق عظيم جليل‪ ،‬ل يجهل أمره‪ ،‬ول يبلغ‬
‫كنهه‪.‬‬

‫فسره بقوله‪َ { :‬فوَاكِهُ } من جميع أنواع الفواكه التي تتفكه بها النفس‪ ،‬للذتها في لونها وطعمها‪.‬‬
‫{ وَ ُهمْ ُمكْ َرمُونَ } ل مهانون محتقرون‪ ،‬بل معظمون مجلون موقرون‪ .‬قد أكرم بعضهم بعضا‪،‬‬
‫وأكرمتهم الملئكة الكرام‪ ،‬وصاروا يدخلون عليهم من كل باب‪ ،‬ويهنئونهم ببلوغ أهنأ‬
‫الثواب‪.،‬وأكرمهم أكرم الكرمين‪ ،‬وجاد عليهم بأنواع الكرامات‪ ،‬من نعيم القلوب والرواح‬
‫والبدان‪.‬‬
‫{ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ } أي‪ :‬الجنات التي النعيم وصفها‪ ،‬والسرور نعتها‪ ،‬وذلك لما جمعته‪ ،‬مما ل‬
‫عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ .،‬وسلمت من كل مخل بنعيمها‪ ،‬من جميع‬
‫المكدرات والمنغصات‪.‬‬

‫ومن كرامتهم عند ربهم‪ ،‬وإكرام بعضهم بعضا‪ ،‬أنهم على { سُرُرٍ } وهي المجالس المرتفعة‪،‬‬
‫المزينة بأنواع الكسية الفاخرة‪ ،‬المزخرفة المجملة‪ ،‬فهم متكئون عليها‪ ،‬على وجه الراحة‬
‫والطمأنينة‪ ،‬والفرح‪.‬‬

‫{ مُ َتقَابِلِينَ } فيما بينهم قد صفت قلوبهم‪ ،‬ومحبتهم فيما بينهم‪ ،‬ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض‪،‬‬
‫فإن مقابلة وجوههم‪ ،‬تدل على تقابل قلوبهم‪ ،‬وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره‪ ،‬أو يجعله إلى‬
‫جانبه‪ ،‬بل من كمال السرور والدب‪ ،‬ما دل عليه ذلك التقابل‪.‬‬

‫{ ُيطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ } أي‪ :‬يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم بالشربة اللذيذة‪،‬‬
‫بالكاسات الجميلة المنظر‪ ،‬المترعة من الرحيق المختوم بالمسك‪ ،‬وهي كاسات الخمر‪.‬‬

‫وتلك الخمر‪ ،‬تخالف خمر الدنيا من كل وجه‪ ،‬فإنها في لونها { بَ ْيضَاءَ } من أحسن اللوان‪ ،‬وفي‬
‫طعمها { َل ّذةٍ لِلشّارِبِينَ } يتلذذ شاربها بها وقت شربها وبعده‪ ،‬وأنها سالمة من غول العقل وذهابه‪،‬‬
‫ونزفه‪ ،‬ونزف مال صاحبها‪ ،‬وليس فيها صداع ول كدر‪ ،‬فلما ذكر طعامهم وشرابهم ومجالسهم‪،‬‬
‫وعموم النعيم وتفاصيله داخلة في قوله‪ { :‬جَنّاتِ ال ّنعِيمِ }‬

‫لكن فصل هذه الشياء لتعلم فتشتاق النفوس إليها‪ ،‬ذكر أزواجهم فقال‪ { :‬وَعِنْدَ ُهمْ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ‬
‫عِينٌ } أي‪ :‬وعند أهل دار النعيم‪ ،‬في محلتهم القريبة‪ ،‬حور حسان‪ ،‬كاملت الوصاف‪ ،‬قاصرات‬
‫الطرف‪ ،‬إما أنها قصرت طرفها على زوجها‪ ،‬لعفتها وعدم مجاوزته لغيره‪ ،‬ولجمال زوجها‬
‫وكماله‪ ،‬بحيث ل تطلب في الجنة سواه‪ ،‬ول ترغب إل به‪ ،‬وإما لنها قصرت طرف زوجها‬
‫عليها‪ ،‬وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق‪ ،‬الذي أوجب لزوجها‪ ،‬أن يقصر طرفه عليها‪،‬‬
‫وقصر الطرف أيضا‪ ،‬يدل على قصر النفس والمحبة عليها‪ ،‬وكل المعنيين محتمل‪ ،‬وكلهما‬
‫صحيح‪ ،‬و [كل] هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة‪ ،‬ومحبة بعضهم بعضا‪ ،‬محبة ل‬
‫يطمح إلى غيره‪ ،‬وشدة عفتهم كلهم‪ ،‬وأنه ل حسد فيها ول تباغض‪ ،‬ول تشاحن‪ ،‬وذلك لنتفاء‬
‫أسبابه‪.‬‬

‫{ عِينٌ } أي‪ :‬حسان العين جميلتها‪ ،‬ملح الحدق‪.‬‬


‫{ كَأَ ّنهُنّ } أي‪ :‬الحور { بَ ْيضٌ َمكْنُونٌ } أي‪ :‬مستور‪ ،‬وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن‬
‫أحسن اللوان وأبهاها‪ ،‬ليس فيه كدر ول شين‪.‬‬

‫علَى َب ْعضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ * َيقُولُ‬
‫ضهُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 61 - 50‬فََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫أَئِ ّنكَ َلمِنَ ا ْل ُمصَ ّدقِينَ * أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َل َمدِينُونَ * قَالَ َهلْ أَنْتُمْ ُمطِّلعُونَ * فَاطّلَعَ‬
‫حضَرِينَ *‬
‫جحِيمِ * قَالَ تَاللّهِ إِنْ كِ ْدتَ لَتُ ْردِينِ * وََلوْلَا ِن ْعمَةُ رَبّي َلكُ ْنتُ مِنَ ا ْل ُم ْ‬
‫سوَاءِ الْ َ‬
‫فَرَآهُ فِي َ‬
‫َأ َفمَا نَحْنُ ِبمَيّتِينَ * إِلّا َموْتَتَنَا الْأُولَى َومَا نَحْنُ ِب ُمعَذّبِينَ * إِنّ َهذَا َل ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ * ِلمِ ْثلِ هَذَا‬
‫فَلْ َي ْع َملِ ا ْلعَامِلُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى نعيمهم‪ ،‬وتمام سرورهم‪ ،‬بالمآكل والمشارب‪ ،‬والزواج الحسان‪ ،‬والمجالس‬
‫الحسنة‪ ،‬ذكر تذاكرهم فيما بينهم‪ ،‬ومطارحتهم للحاديث‪ ،‬عن المور الماضية‪ ،‬وأنهم ما زالوا في‬
‫المحادثة والتساؤل‪ ،‬حتى أفضى ذلك بهم‪ ،‬إلى أن قال قائل منهم‪ { :‬إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ } في الدنيا‪،‬‬
‫ينكر البعث‪ ،‬ويلومني على تصديقي به‪.‬‬

‫عظَامًا أَئِنّا َلمَدِينُونَ } أي‪ :‬مجازون‬


‫و { َيقُولُ } لي { أَئِ ّنكَ َلمِنَ ا ْل ُمصَ ّدقِينَ أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِ‬
‫بأعمالنا؟ أي‪ :‬كيف تصدق بهذا المر البعيد‪ ،‬الذي في غاية الستغراب‪ ،‬وهو أننا إذا تمزقنا‪،‬‬
‫فصرنا ترابا وعظاما‪ ،‬أننا نبعث ونعاد‪ ،‬ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا؟"‪.‬‬

‫أي‪ :‬يقول صاحب الجنة لخوانه‪ :‬هذه قصتي‪ ،‬وهذا خبري‪ ،‬أنا وقريني‪ ،‬ما زلت أنا مؤمنا‬
‫مصدقا‪ ،‬وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث‪ ،‬حتى متنا‪ ،‬ثم بعثنا‪ ،‬فوصلت أنا إلى ما ترون‪ ،‬من‬
‫النعيم‪ ،‬الذي أخبرتنا به الرسل‪ ،‬وهو ل شك‪ ،‬أنه قد وصل إلى العذاب‪.‬‬

‫فـ { َهلْ أَنْ ُتمْ مُطِّلعُونَ } لننظر إليه‪ ،‬فنزداد غبطة وسرورا بما نحن فيه‪ ،‬ويكون ذلك رَ ْأيَ عين؟‬
‫والظاهر من حال أهل الجنة‪ ،‬وسرور بعضهم ببعض‪ ،‬وموافقة بعضهم بعضا‪ ،‬أنهم أجابوه لما‬
‫قال‪ ،‬وذهبوا تبعا له‪ ،‬للطلع على قرينه‪.‬‬

‫سوَاءِ ا ْلجَحِيمِ } أي‪ :‬في وسط العذاب وغمراته‪ ،‬والعذاب قد أحاط به‪.‬‬
‫{ فَاطّلَعَ } فرأى قرينه { فِي َ‬

‫فـ { قَالَ } له لئما على حاله‪ ،‬وشاكرا للّه على نعمته أن نجاه من كيده‪ { :‬تَاللّهِ إِنْ كِ ْدتَ‬
‫لَتُرْدِينِ } أي‪ :‬تهلكني بسبب ما أدخلت عليّ من الشّبَه بزعمك‪.‬‬

‫حضَرِينَ } في العذاب معك‪.‬‬


‫{ وََلوْلَا ِن ْعمَةُ رَبّي } على أن ثبتني على السلم { َلكُ ْنتُ مِنَ ا ْل ُم ْ‬
‫{ َأ َفمَا َنحْنُ ِبمَيّتِينَ إِلّا َموْتَتَنَا الْأُولَى َومَا َنحْنُ ِب ُمعَذّبِينَ } [أي‪ :‬يقوله المؤمن‪ ،‬مبتهجا بنعمة اللّه على‬
‫أهل الجنة بالخلود الدائم فيها والسلمة من العذاب; استفهام بمعنى الثبات والتقرير] أي‪ :‬يقول‬
‫لقرينه المعذب‪ :‬أفتزعم أننا لسنا نموت سوى الموتة الولى‪ ،‬ول بعث بعدها ول عذاب‬

‫علَى َب ْعضٍ يَتَسَاءَلُونَ } وحذف المعمول‪ ،‬والمقام مقام لذة وسرور‪ ،‬فدل‬
‫ضهُمْ َ‬
‫وقوله‪ { :‬فََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذون بالتحدث به‪ ،‬والمسائل التي وقع فيها النزاع والشكال‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم‪ ،‬والبحث عنه‪ ،‬فوق اللذات الجارية في أحاديث‬
‫الدنيا‪ ،‬فلهم من هذا النوع النصيب الوافر‪ ،‬ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما‬
‫ل يمكن التعبير عنه‪.‬‬

‫فلما ذكر تعالى نعيم الجنة‪ ،‬ووصفه بهذه الوصاف الجميلة‪ ،‬مدحه‪ ،‬وشوّق العاملين‪ ،‬وحثّهم على‬
‫العمل فقال‪ { :‬إِنّ هَذَا َل ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } الذي حصل لهم به كل خير‪ ،‬وكل ما تهوى النفوس‬
‫وتشتهي‪ ،‬واندفع عنهم به كل محذور ومكروه‪ ،‬فهل فوز يطلب فوقه؟ أم هو غاية الغايات‪ ،‬ونهاية‬
‫النهايات‪ ،‬حيث حل عليهم رضا رب الرض والسماوات‪ ،‬وفرحوا بقربه‪ ،‬وتنعموا بمعرفته‬
‫واستروا برؤيته‪ ،‬وطربوا لكلمه؟‬

‫{ ِلمِ ْثلِ َهذَا فَلْ َي ْع َملِ ا ْلعَامِلُونَ } فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس النفاس وأولى ما شمر إليه العارفون‬
‫الكياس‪ ،‬والحسرة كل الحسرة‪ ،‬أن يمضي على الحازم‪ ،‬وقت من أوقاته‪ ،‬وهو غير مشتغل‬
‫بالعمل‪ ،‬الذي يقرب لهذه الدار‪ ،‬فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟"‬

‫شجَ َرةٌ‬
‫جعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظّاِلمِينَ * إِ ّنهَا َ‬
‫{ ‪َ { } 74 - 62‬أذَِلكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَ َرةُ ال ّزقّومِ * إِنّا َ‬
‫جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِ ّنهُمْ لَآكِلُونَ مِ ْنهَا َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ‬
‫صلِ الْ َ‬
‫تَخْرُجُ فِي َأ ْ‬
‫ج َعهُمْ لَإِلَى ا ْلجَحِيمِ * إِ ّنهُمْ َأ ْلفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالّينَ *‬
‫حمِيمٍ * ثُمّ إِنّ مَ ْر ِ‬
‫شوْبًا مِنْ َ‬
‫* ثُمّ إِنّ َلهُمْ عَلَ ْيهَا َل َ‬
‫ضلّ قَبَْل ُهمْ َأكْثَرُ الَْأوّلِينَ * وََلقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ‬
‫َفهُمْ عَلَى آثَا ِرهِمْ ُيهْرَعُونَ * وََلقَ ْد َ‬
‫كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ * إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْل ُمخَْلصِينَ }‬

‫{ َأذَِلكَ خَيْرٌ نُزُلًا } أي‪ :‬ذلك النعيم الذي وصفناه لهل الجنة خير‪ ،‬أم العذاب الذي يكون في‬
‫الجحيم من جميع أصناف العذاب؟ فأي الطعامين أولى؟ الذي وصف في الجنة { َأمْ } طعام أهل‬
‫جعَلْنَاهَا فِتْنَةً } أي عذابا ونكال { لِلظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر‬
‫النار؟ وهو { شَجَ َرةُ ال ّزقّومِ إِنّا َ‬
‫والمعاصي‪.‬‬
‫صلِ ا ْلجَحِيمِ } أي‪ :‬وسطه فهذا مخرجها‪ ،‬ومعدنها أشر المعادن وأسوؤها‪،‬‬
‫{ إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ َتخْرُجُ فِي َأ ْ‬
‫وشر المغرس‪ ،‬يدل على شر الغراس وخسته‪ ،‬ولهذا نبهنا اللّه على شرها بما ذكر أين تنبت به‪،‬‬
‫وبما ذكر من صفة ثمرتها‪.‬‬

‫وأنها كـ { رُءُوسُ الشّيَاطِينِ } فل تسأل بعد هذا عن طعمها‪ ،‬وما تفعل في أجوافهم وبطونهم‪،‬‬
‫وليس لهم عنها مندوحة ول معدل‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فَإِ ّنهُمْ لَآكِلُونَ مِ ْنهَا َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ } فهذا طعام أهل النار‪ ،‬فبئس الطعام‬
‫حمِيمٍ }‬
‫شوْبًا مِنْ َ‬
‫طعامهم‪ ،‬ثم ذكر شرابهم فقال‪ { :‬ثُمّ إِنّ َلهُمْ عَلَ ْيهَا } أي‪ :‬على أثر هذا الطعام { َل َ‬
‫شوِي ا ْلوُجُوهَ بِئْسَ‬
‫أي‪ :‬ماء حارا‪ ،‬قد انتهى‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنْ َيسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ‬
‫حمِيمًا َفقَطّعَ َأ ْمعَاءَهُمْ }‬
‫سقُوا مَاءً َ‬
‫ب وَسَا َءتْ مُرْ َت َفقًا } وكما قال تعالى‪ { :‬وَ ُ‬
‫الشّرَا ُ‬

‫جحِيمِ } ليذوقوا من عذابه الشديد‪ ،‬وحره‬


‫ج َع ُهمْ } أي‪ :‬مآلهم ومقرهم [ومأواهم] { لَإِلَى الْ َ‬
‫{ ُثمّ إِنّ مَرْ ِ‬
‫العظيم‪ ،‬ما ليس عليه مزيد من الشقاء‪.‬‬

‫وكأنه قيل‪ :‬ما الذي أوصلهم إلى هذه الدار؟ فقال‪ { :‬إِ ّن ُهمْ أَ ْل َفوْا } أي‪ :‬وجدوا { آبَاءَهُ ْم ضَالّينَ َف ُهمْ‬
‫عَلَى آثَارِ ِهمْ ُيهْرَعُونَ } أي‪ :‬يسرعون في الضلل‪ ،‬فلم يلتفتوا إلى ما دعتهم إليه الرسل‪ ،‬ول إلى‬
‫ما حذرتهم عنه الكتب‪ ،‬ول إلى أقوال الناصحين‪ ،‬بل عارضوهم بأن قالوا‪ { :‬إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى‬
‫ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى آثَا ِرهِمْ ُمقْتَدُونَ }‬

‫ضلّ قَبَْلهُمْ } أي‪ :‬قبل هؤلء المخاطبين { َأكْثَرُ الَْأوّلِينَ } وقليل منهم آمن واهتدى‪.‬‬
‫{ وََلقَ ْد َ‬

‫{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ } ينذرونهم عن غيهم وضللهم‪.‬‬

‫{ فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ } كانت عاقبتهم الهلك‪ ،‬والخزي‪ ،‬والفضيحة‪ ،‬فليحذر هؤلء‬
‫أن يستمروا على ضللهم‪ ،‬فيصيبهم مثل ما أصابهم‪.‬‬

‫ولما كان المنذرون ليسوا كلهم ضالين‪ ،‬بل منهم من آمن وأخلص الدين للّه‪ ،‬استثناه اللّه من‬
‫خَلصِينَ } أي‪ :‬الذين أخلصهم اللّه‪ ،‬وخصهم برحمته لخلصهم‪،‬‬
‫الهلك فقال‪ { :‬إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُ ْ‬
‫فإن عواقبهم صارت حميدة‪.‬‬

‫ثم ذكر أنموذجا من عواقب المم المكذبين فقال‪:‬‬


‫جعَلْنَا‬
‫{ ‪ { } 82 - 75‬وََلقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَ ِن ْعمَ ا ْلمُجِيبُونَ * وَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ا ْلكَ ْربِ ا ْلعَظِيمِ * وَ َ‬
‫ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي ا ْلعَاَلمِينَ * إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي‬
‫حسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ * ثُمّ أَغْ َرقْنَا الْآخَرِينَ }‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السلم‪ ،‬أول الرسل‪ ،‬أنه لما دعا قومه إلى اللّه‪ ،‬تلك المدة‬
‫علَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ‬
‫الطويلة فلم يزدهم دعاؤه‪ ،‬إل فرارا‪ ،‬أنه نادى ربه فقال‪َ { :‬ربّ لَا تَذَرْ َ‬
‫دَيّارًا } الية‪.‬‬

‫وقال‪َ { :‬ربّ ا ْنصُرْنِي عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْل ُمفْسِدِينَ } فاستجاب اللّه له‪ ،‬ومدح تعالى نفسه فقال‪ { :‬فَلَ ِن ْعمَ‬
‫ا ْلمُجِيبُونَ } لدعاء الداعين‪ ،‬وسماع تبتلهم وتضرعهم‪ ،‬أجابه إجابة طابق ما سأل‪ ،‬نجاه وأهله من‬
‫الكرب العظيم‪ ،‬وأغرق جميع الكافرين‪ ،‬وأبقى نسله وذريته متسلسلين‪ ،‬فجميع الناس من ذرية‬
‫نوح عليه السلم‪ ،‬وجعل له ثناء حسنا مستمرا إلى وقت الخرين‪ ،‬وذلك لنه محسن في عبادة‬
‫الخالق‪ ،‬محسن إلى الخلق‪ ،‬وهذه سنته تعالى في المحسنين‪ ،‬أن ينشر لهم من الثناء على حسب‬
‫إحسانهم‪.‬‬

‫ودل قوله‪ { :‬إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُمؤْمِنِينَ } أن اليمان أرفع منازل العباد وأنه مشتمل على جميع‬
‫شرائع الدين وأصوله وفروعه‪ ،‬لن اللّه مدح به خواص خلقه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 113 - 83‬وَإِنّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } إلى آخر القصة‪ ،‬أي‪ :‬وإن من شيعة نوح عليه‬
‫السلم‪ ،‬ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة‪ ،‬ودعوة الخلق إلى اللّه‪ ،‬وإجابة الدعاء‪ ،‬إبراهيم‬
‫الخليل عليه السلم‪.‬‬

‫{ ِإذْ جَاءَ رَبّهُ ِبقَلْبٍ سَلِيمٍ } من الشرك والشبه‪ ،‬والشهوات المانعة من تصور الحق‪ ،‬والعمل به‪،‬‬
‫وإذا كان قلب العبد سليما‪ ،‬سلم من كل شر‪ ،‬وحصل له كل خير‪ ،‬ومن سلمته أنه سليم من غش‬
‫الخلق وحسدهم‪ ،‬وغير ذلك من مساوئ الخلق‪ ،‬ولهذا نصح الخلق في اللّه‪ ،‬وبدأ بأبيه وقومه‬
‫فقال‪ِ { :‬إذْ قَالَ لِأَبِي ِه َو َق ْومِهِ مَاذَا َتعْ ُبدُونَ } هذا استفهام بمعنى النكار‪ ،‬وإلزام لهم بالحجة‪.‬‬

‫{ أَ ِئ ْفكًا آِل َهةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ } أي‪ :‬أتعبدون [من دونه] آلهة كذبا‪ ،‬ليست بآلهة‪ ،‬ول تصلح للعبادة‪،‬‬
‫فما ظنكم برب العالمين‪ ،‬أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب‬
‫على القامة على شركهم‪.‬‬

‫وما الذي ظننتم برب العالمين‪ ،‬من النقص حتى جعلتم له أندادا وشركاء‪.‬‬
‫فأراد عليه السلم‪ ،‬أن يكسر أصنامهم‪ ،‬ويتمكن من ذلك‪ ،‬فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم‪ ،‬لما‬
‫ذهبوا إلى عيد من أعيادهم‪ ،‬فخرج معهم‪.‬‬

‫سقِيمٌ } في الحديث الصحيح‪" :‬لم يكذب إبراهيم عليه السلم إل‬


‫{ فَ َنظَرَ نَظْ َرةً فِي النّجُومِ َفقَالَ إِنّي َ‬
‫سقِيمٌ } وقوله { َبلْ َفعَلَهُ كَبِيرُ ُهمْ هَذَا } وقوله عن زوجته "إنها أختي"‬
‫ثلث كذبات‪ :‬قوله { إِنّي َ‬
‫والقصد أنه تخلف عنهم‪ ،‬ليتم له الكيد بآلهتهم‪.‬‬

‫{ فَـ } لهذا { َتوَّلوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } فلما وجد الفرصة‪.‬‬

‫{ فَرَاغَ إِلَى آِلهَ ِتهِمْ } أي‪ :‬أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة‪َ { ،‬فقَالَ } متهكما بها { َألَا‬
‫طقُونَ } أي‪ :‬فكيف يليق أن تعبد‪ ،‬وهي أنقص من الحيوانات‪ ،‬التي تأكل أو‬
‫تَ ْأكُلُونَ مَا َلكُمْ لَا تَ ْن ِ‬
‫تكلم؟ فهذه جماد ل تأكل ول تكلم‪.‬‬

‫{ فَرَاغَ عَلَ ْيهِمْ ضَرْبًا بِالْ َيمِينِ } أي‪ :‬جعل يضربها بقوته ونشاطه‪ ،‬حتى جعلها جذاذا‪ ،‬إل كبيرا لهم‪،‬‬
‫لعلهم إليه يرجعون‪.‬‬

‫{ فََأقْبَلُوا إِلَ ْيهِ يَ ِزفّونَ } أي‪ :‬يسرعون ويهرعون‪ ،‬أي‪ :‬يريدون أن يوقعوا به‪ ،‬بعدما بحثوا وقالوا‪{ :‬‬
‫مَنْ َف َعلَ هَذَا بِآِلهَتِنَا إِنّهُ َلمِنَ الظّاِلمِينَ }‬

‫س ِمعْنَا فَتًى َي ْذكُرُهُمْ ُيقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } يقول‪ { :‬تَاللّهِ لََأكِيدَنّ َأصْنَا َمكُمْ َبعْدَ أَنْ ُتوَلّوا‬
‫وقيل لهم { َ‬
‫جعُوا إِلَى‬
‫طقُونَ فَ َر َ‬
‫مُدْبِرِينَ } فوبخوه ولموه‪ ،‬فقال‪َ { :‬بلْ َفعَلَهُ كَبِيرُ ُهمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَن ِ‬
‫طقُونَ قَالَ َأفَ َتعْ ُبدُونَ‬
‫عِل ْمتَ مَا َهؤُلَاءِ يَن ِ‬
‫سهِمْ َلقَدْ َ‬
‫سهِمْ َفقَالُوا إِ ّنكُمْ أَنْتُمْ الظّاِلمُونَ ثُمّ ُنكِسُوا عَلَى رُءُو ِ‬
‫أَنفُ ِ‬
‫مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَن َف ُعكُمْ شَيْئًا وَلَا َيضُ ّركُمْ } الية‪.‬‬

‫و { قَالَ } هنا‪ { :‬أَ َتعْ ُبدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي‪ :‬تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فكيف تعبدونهم‪ ،‬وأنتم‬
‫الذين صنعتموهم‪ ،‬وتتركون الخلص للّه؟ الذي { خََل َقكُ ْم َومَا َت ْعمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا } أي‪:‬‬
‫جحِيمِ } جزاء على ما فعل‪ ،‬من تكسير آلهتهم‪.‬‬
‫عاليا مرتفعا‪ ،‬وأوقدوا فيها النار { فَأَ ْلقُوهُ فِي الْ َ‬

‫سفَلِينَ } رد اللّه كيدهم في نحورهم‪ ،‬وجعل‬


‫جعَلْنَاهُمُ الْأَ ْ‬
‫{ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا } ليقتلوه أشنع قتلة { َف َ‬
‫النار على إبراهيم بردا وسلما‪.‬‬

‫{ وَ } لما فعلوا فيه هذا الفعل‪ ،‬وأقام عليهم الحجة‪ ،‬وأعذر منهم‪ { ،‬قال إِنّي ذَا ِهبٌ إِلَى رَبّي } أي‪:‬‬
‫مهاجر إليه‪ ،‬قاصد إلى الرض المباركة أرض الشام‪ { .‬سَ َيهْدِينِ } يدلني إلى ما فيه الخير لي‪ ،‬من‬
‫أمر ديني ودنياي‪ ،‬وقال في الية الخرى‪ { :‬وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَأَدْعُو رَبّي‬
‫شقِيّا }‬
‫عَسَى أَلّا َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ‬

‫{ َربّ َهبْ لِي } ولدا يكون { مِنَ الصّالِحِينَ } وذلك عند ما أيس من قومه‪ ،‬ولم ير فيهم خيرا‪،‬‬
‫دعا اللّه أن يهب له غلما صالحا‪ ،‬ينفع اللّه به في حياته‪ ،‬وبعد مماته‪ ،‬فاستجاب اللّه له وقال‪:‬‬
‫{ فَ َبشّرْنَاهُ ِبغُلَامٍ حَلِيمٍ } وهذا إسماعيل عليه السلم بل شك‪ ،‬فإنه ذكر بعده البشارة [بإسحاق‪ ،‬ولن‬
‫ن وَرَاءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ } فدل على أن‬
‫ق َومِ ْ‬
‫سحَا َ‬
‫اللّه تعالى قال في بشراه بإسحاق { فَبَشّرْنَاهَا] بِإِ ْ‬
‫إسحاق غير الذبيح‪ ،‬ووصف اللّه إسماعيل‪ ،‬عليه السلم بالحلم ‪ ،‬وهو يتضمن الصبر‪ ،‬وحسن‬
‫الخلق‪ ،‬وسعة الصدر والعفو عمن جنى‪.‬‬

‫س ْعيَ } أي‪ :‬أدرك أن يسعى معه‪ ،‬وبلغ سنا يكون في الغالب‪ ،‬أحب ما‬
‫{ فََلمّا بََلغَ } الغلم { َمعَهُ ال ّ‬
‫يكون لوالديه‪ ،‬قد ذهبت مشقته‪ ،‬وأقبلت منفعته‪ ،‬فقال له إبراهيم عليه السلم‪ { :‬إِنّي أَرَى فِي ا ْلمَنَامِ‬
‫حكَ } أي‪ :‬قد رأيت في النوم والرؤيا‪ ،‬أن اللّه يأمرني بذبحك‪ ،‬ورؤيا النبياء وحي‬
‫أَنّي أَذْ َب ُ‬
‫{ فَا ْنظُرْ مَاذَا تَرَى } فإن أمر اللّه تعالى‪ ،‬ل بد من تنفيذه‪ { ،‬قَالَ } إسماعيل صابرا محتسبا‪،‬‬
‫جدُنِي إِنْ‬
‫مرضيا لربه‪ ،‬وبارا بوالده‪ { :‬يَا أَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا ُت ْؤمَرُ } أي‪[ :‬امض] لما أمرك اللّه { سَتَ ِ‬
‫شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ } أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر‪ ،‬وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى‪،‬‬
‫لنه ل يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى‪.‬‬

‫{ فََلمّا َأسَْلمَا } أي‪ :‬إبراهيم وابنه إسماعيل‪ ،‬جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده‪ ،‬امتثال لمر ربه‪ ،‬وخوفا‬
‫من عقابه‪ ،‬والبن قد وطّن نفسه على الصبر‪ ،‬وهانت عليه في طاعة ربه‪ ،‬ورضا والده‪ { ،‬وَتَلّهُ‬
‫لِلْجَبِينِ } أي‪ :‬تل إبراهيم إسماعيل على جبينه‪ ،‬ليضجعه فيذبحه‪ ،‬وقد انكب لوجهه‪ ،‬لئل ينظر‬
‫وقت الذبح إلى وجهه‪.‬‬

‫{ وَنَادَيْنَاهُ } في تلك الحال المزعجة‪ ،‬والمر المدهش‪ { :‬أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَ ْد صَ ّد ْقتَ } أي‪ :‬قد فعلت‬
‫ما أمرت به‪ ،‬فإنك وطّنت نفسك على ذلك‪ ،‬وفعلت كل سبب‪ ،‬ولم يبق إل إمرار السكين على حلقه‬
‫{ إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ } في عبادتنا‪ ،‬المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم‪.‬‬

‫{ إِنّ هَذَا } الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلم { َل ُهوَ الْبَلَاءُ ا ْلمُبِينُ } أي‪ :‬الواضح‪ ،‬الذي تبين به‬
‫صفاء إبراهيم‪ ،‬وكمال محبته لربه وخلته‪ ،‬فإن إسماعيل عليه السلم لما وهبه اللّه لبراهيم‪ ،‬أحبه‬
‫حبا شديدا‪ ،‬وهو خليل الرحمن‪ ،‬والخلة أعلى أنواع المحبة‪ ،‬وهو منصب ل يقبل المشاركة‬
‫ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب‪ ،‬فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه‬
‫إسماعيل‪ ،‬أراد تعالى أن يصفي وُدّه ويختبر خلته‪ ،‬فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه‪ ،‬فلما‬
‫قدّم حب اللّه‪ ،‬وآثره على هواه‪ ،‬وعزم على ذبحه‪ ،‬وزال ما في القلب من المزاحم‪ ،‬بقي الذبح ل‬
‫ن َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي‪ :‬صار بدله ذبح من الغنم‬
‫فائدة فيه‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬إِنّ هَذَا َل ُهوَ الْ َبلَاءُ ا ْلمُبِي ُ‬
‫عظيم‪ ،‬ذبحه إبراهيم‪ ،‬فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لسماعيل‪ ،‬ومن جهة أنه من جملة‬
‫العبادات الجليلة‪ ،‬ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫سلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي‪ :‬وأبقينا عليه ثناء صادقا في الخرين‪ ،‬كما‬
‫{ وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ َ‬
‫كان في الولين‪ ،‬فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلم‪ ،‬فإنه [فيه] محبوب معظم مثني عليه‪.‬‬

‫طفَى }‬
‫حمْدُ لِلّ ِه وَسَلَامٌ عَلَى عِبَا ِدهِ الّذِينَ اصْ َ‬
‫{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي‪ :‬تحيته عليه كقوله‪ُ { :‬قلِ ا ْل َ‬

‫{ إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه‪ ،‬ومعاملة خلقه‪ ،‬أن نفرج عنهم الشدائد‪ ،‬ونجعل لهم‬
‫العاقبة‪ ،‬والثناء الحسن‪.‬‬

‫{ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } بما أمر اللّه باليمان به‪ ،‬الذين بلغ بهم اليمان إلى درجة اليقين‪ ،‬كما‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ }‬
‫قال تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬

‫{ وَبَشّرْنَاهُ بِِإسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّاِلحِينَ } هذه البشارة الثانية بإسحاق‪ ،‬الذي من ورائه يعقوب‪ ،‬فبشر‬
‫بوجوده وبقائه‪ ،‬ووجود ذريته‪ ،‬وكونه نبيا من الصالحين‪ ،‬فهي بشارات متعددة‪.‬‬

‫{ وَبَا َركْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى ِإسْحَاقَ } أي‪ :‬أنزلنا عليهما البركة‪ ،‬التي هي النمو والزيادة في علمهما‬
‫وعملهما وذريتهما‪ ،‬فنشر اللّه من ذريتهما ثلث أمم عظيمة‪ :‬أمة العرب من ذرية إسماعيل‪ ،‬وأمة‬
‫ن وَظَاِلمٌ لِ َنفْسِهِ مُبِينٌ } أي‪ :‬منهم‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬وأمة الروم من ذرية إسحاق‪َ { .‬ومِنْ ذُرّيّ ِت ِهمَا ُمحْسِ ٌ‬
‫الصالح والطالح‪ ،‬والعادل والظالم الذي تبين ظلمه‪ ،‬بكفره وشركه‪ ،‬ولعل هذا من باب دفع اليهام‪،‬‬
‫فإنه لما قال‪ { :‬وَبَا َركْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } اقتضى ذلك البركة في ذريتهما‪ ،‬وأن من تمام‬
‫البركة‪ ،‬أن تكون الذرية كلهم محسنين‪ ،‬فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا وظالما‪ ،‬واللّه أعلم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 122 - 114‬وََلقَدْ مَنَنّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } إلى آخر القصة‪.‬‬

‫يذكر تعالى مِنّتهُ على عبديه ورسوليه‪ ،‬موسى‪ ،‬وهارون ابني عمران‪ ،‬بالنبوة والرسالة‪ ،‬والدعوة‬
‫إلى اللّه تعالى‪ ،‬ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون‪ ،‬ونصرهما عليه‪ ،‬حتى أغرقه اللّه وهم‬
‫ينظرون‪ ،‬وإنزال اللّه عليهما الكتاب المستبين‪ ،‬وهو التوراة التي فيها الحكام والمواعظ وتفصيل‬
‫كل شيء‪ ،‬وأن اللّه هداهما الصراط المستقيم‪ ،‬بأن شرع لهما دينا ذا أحكام وشرائع مستقيمة‬
‫موصلة إلى اللّه‪ ،‬ومَنّ عليهما بسلوكه‪.‬‬
‫علَى مُوسَى وَهَارُونَ } أي‪ :‬أبقى عليهما ثناء حسنا‪ ،‬وتحية في‬
‫{ وَتَ َركْنَا عَلَ ْي ِهمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ َ‬
‫حسِنِينَ إِ ّن ُهمَا مِنْ عِبَادِنَا‬
‫الخرين‪ ،‬ومن باب أولى وأحرى في الولين { إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫{ ‪ { } 132 - 123‬وَإِنّ إِلْيَاسَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ * ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ أَلَا تَ ّتقُونَ * أَتَدْعُونَ َبعْلًا وَتَذَرُونَ‬
‫حضَرُونَ * إِلّا عِبَادَ اللّهِ‬
‫حسَنَ الْخَاِلقِينَ * اللّهَ رَ ّبكُمْ وَرَبّ آبَا ِئ ُكمُ الَْأوّلِينَ * َفكَذّبُوهُ فَإِ ّنهُمْ َل ُم ْ‬
‫أَ ْ‬
‫حسِنِينَ * إِنّهُ‬
‫ا ْلمُخَْلصِينَ * وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى ِإلْ يَاسِينَ * إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬

‫يمدح تعالى عبده ورسوله‪ ،‬إلياس عليه الصلة والسلم‪ ،‬بالنبوة والرسالة‪ ،‬والدعوة إلى اللّه‪ ،‬وأنه‬
‫أمر قومه بالتقوى‪ ،‬وعبادة اللّه وحده‪ ،‬ونهاهم عن عبادتهم‪ ،‬صنما لهم يقال له "بعل" وتركهم عبادة‬
‫اللّه‪ ،‬الذي خلق الخلق‪ ،‬وأحسن خلقهم‪ ،‬ورباهم فأحسن تربيتهم‪ ،‬وأدرّ عليهم النعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه‪ ،‬إلى عبادة صنم‪ ،‬ل يضر‪ ،‬ول ينفع‪ ،‬ول يخلق‪،‬‬
‫ول يرزق‪ ،‬بل ل يأكل ول يتكلم؟" وهل هذا إل من أعظم الضلل والسفه والغي؟"‬

‫حضَرُونَ } أي يوم‬
‫{ " َفكَذّبُوهُ" } فيما دعاهم إليه‪ ،‬فلم ينقادوا له‪ ،‬قال اللّه متوعدا لهم‪ { :‬فَإِ ّن ُهمْ َلمُ ْ‬
‫القيامة في العذاب‪ ،‬ولم يذكر لهم عقوبة دنيوية‪.‬‬

‫{ ِإلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْل ُمخَْلصِينَ } أي‪ :‬الذين أخلصهم اللّه‪ ،‬ومنّ عليهم باتباع نبيهم‪ ،‬فإنهم غير محضرين‬
‫في العذاب‪ ،‬وإنما لهم من اللّه جزيل الثواب‪.‬‬

‫{ وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ } أي‪ :‬على إلياس { فِي الْآخِرِينَ } ثناء حسنا‪.‬‬

‫{ سَلَامٌ عَلَى ِإلْ يَاسِينَ } أي‪ :‬تحية من اللّه‪ ،‬ومن عباده عليه‪.‬‬

‫{ إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } فأثنى اللّه عليه كما أثنى على إخوانه‬
‫صلوات اللّه وسلمه عليهم أجمعين‪.‬‬

‫ج َمعِينَ * إِلّا عَجُوزًا فِي‬


‫{ ‪ { } 138 - 133‬وَإِنّ لُوطًا َلمِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ * ِإذْ نَجّيْنَا ُه وَأَهَْلهُ أَ ْ‬
‫ا ْلغَابِرِينَ * ثُمّ َدمّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِ ّنكُمْ لَ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ُمصْ ِبحِينَ * وَبِاللّ ْيلِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ }‬

‫وهذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله‪ ،‬لوط بالنبوة والرسالة‪ ،‬ودعوته إلى اللّه قومه‪ ،‬ونهيهم‬
‫عن الشرك‪ ،‬وفعل الفاحشة‪.‬‬
‫فلما لم ينتهوا‪ ،‬نجاه اللّه وأهله أجمعين‪ ،‬فسروا ليل فنجوا‪.‬‬

‫{ ِإلّا عَجُوزًا فِي ا ْلغَابِرِينَ } أي‪ :‬الباقين المعذبين‪ ،‬وهي زوجة لوط لم تكن على دينه‪.‬‬

‫حجَا َرةً مِنْ‬


‫جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهَا ِ‬
‫{ ُثمّ َدمّرْنَا الْآخَرِينَ } بأن قلبنا عليهم ديارهم { َف َ‬
‫سجّيلٍ مَ ْنضُودٍ } حتى همدوا وخمدوا‪.‬‬
‫ِ‬

‫ن وَبِاللّ ْيلِ } أي‪ :‬في هذه الوقات‪ ،‬يكثر‬


‫{ وَإِ ّنكُمْ لَ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ } أي‪ :‬على ديار قوم لوط { ُمصْبِحِي َ‬
‫ترددكم إليها ومروركم بها‪ ،‬فلم تقبل الشك والمرية { َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } اليات والعبر‪ ،‬وتنزجرون عما‬
‫يوجب الهلك؟‬

‫{ ‪ { } 148 - 139‬وَإِنّ يُونُسَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } إلى آخر القصة‪.‬‬

‫وهذا ثناء منه تعالى‪ ،‬على عبده ورسوله‪ ،‬يونس بن متى‪ ،‬كما أثنى على إخوانه المرسلين‪ ،‬بالنبوة‬
‫والرسالة‪ ،‬والدعوة إلى اللّه‪ ،‬وذكر تعالى عنه‪ ،‬أنه عاقبه عقوبة دنيوية‪ ،‬أنجاه منها بسبب إيمانه‬
‫وأعماله الصالحة‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إذْ أَ َبقَ }‬

‫أي‪ :‬من ربه مغاضبا له‪ ،‬ظانا أنه ل يقدر عليه‪ ،‬ويحبسه في بطن الحوت‪ ،‬ولم يذكر اللّه ما‬
‫غاضب عليه‪ ،‬ول ذنبه الذي ارتكبه‪ ،‬لعدم فائدتنا بذكره‪ ،‬وإنما فائدتنا بما ُذكّرنا عنه أنه أذنب‪،‬‬
‫وعاقبه اللّه مع كونه من الرسل الكرام‪ ،‬وأنه نجاه بعد ذلك‪ ،‬وأزال عنه الملم‪ ،‬وقيض له ما هو‬
‫سبب صلحه‪.‬‬

‫فلما أبق لجأ { إِلَى ا ْلفُ ْلكِ ا ْلمَشْحُونِ } بالركاب والمتعة‪ ،‬فلما ركب مع غيره‪ ،‬والفلك شاحن‪ ،‬ثقلت‬
‫السفينة‪ ،‬فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركبان‪ ،‬وكأنهم لم يجدوا لحد مزية في ذلك‪ ،‬فاقترعوا على‬
‫أن من قرع وغلب‪ ،‬ألقي في البحر عدل من أهل السفينة‪ ،‬وإذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه‪.‬‬

‫حضِينَ } أي‪ :‬المغلوبين‪.‬‬


‫فلما [اقترعوا] أصابت القرعة يونس { َفكَانَ مِنَ ا ْل ُمدْ َ‬

‫ت وَ ُهوَ } وقت التقامه { مُلِيمٌ } أي‪ :‬فاعل ما يلم عليه‪ ،‬وهو‬


‫فألقي في البحر { فَالْ َت َقمَهُ الْحُو ُ‬
‫مغاضبته لربه‪.‬‬

‫{ فََلوْلَا أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْلمُسَبّحِينَ } أي‪ :‬في وقته السابق بكثرة عبادته لربه‪ ،‬وتسبيحه‪ ،‬وتحميده‪ ،‬وفي‬
‫بطن الحوت حيث قال‪ { :‬لَا إَِلهَ إِلّا أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }‬
‫{ َللَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } أي‪ :‬لكانت مقبرته‪ ،‬ولكن بسبب تسبيحه وعبادته للّه‪ ،‬نجاه اللّه‬
‫تعالى‪ ،‬وكذلك ينجي اللّه المؤمنين‪ ،‬عند وقوعهم في الشدائد‪.‬‬

‫{ فَنَ َبذْنَاهُ بِا ْلعَرَاءِ } بأن قذفه الحوت من بطنه بالعراء‪ ،‬وهي الرض الخالية العارية من كل أحد‪،‬‬
‫سقِيمٌ } أي‪ :‬قد سقم ومرض‪ ،‬بسبب حبسه في‬
‫بل ربما كانت عارية من الشجار والظلل‪ { .‬وَ ُهوَ َ‬
‫بطن الحوت‪ ،‬حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة‪.‬‬

‫شجَ َرةً مِنْ َيقْطِينٍ } تظله بظلها الظليل‪ ،‬لنها بادرة باردة الظلل‪ ،‬ول يسقط عليها‬
‫{ وَأَنْبَتْنَا عَلَ ْيهِ َ‬
‫ذباب‪ ،‬وهذا من لطفه به‪ ،‬وبره‪.‬‬

‫ثم لطف به لطفا آخر‪ ،‬وامْتَنّ عليه مِنّة عظمى‪ ،‬وهو أنه أرسله { إِلَى مِائَةِ أَ ْلفٍ } من الناس { َأوْ‬
‫يَزِيدُونَ } عنها‪ ،‬والمعنى أنهم إن ما زادوا لم ينقصوا‪ ،‬فدعاهم إلى اللّه تعالى‪.‬‬

‫{ فَآمَنُوا } فصاروا في موازينه‪ ،‬لنه الداعي لهم‪.‬‬

‫{ َفمَ ّتعْنَا ُهمْ إِلَى حِينٍ } بأن صرف اللّه عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فََلوْلَا كَا َنتْ‬
‫عذَابَ الْخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمْ َ‬
‫قَرْيَةٌ آمَ َنتْ فَ َن َف َعهَا إِيمَا ُنهَا ِإلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا آمَنُوا كَ َ‬
‫َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }‬

‫ت وََلهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خََلقْنَا ا ْلمَلَا ِئكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَا ِهدُونَ *‬
‫{ ‪ { } 157 - 149‬فَاسْ َتفْ ِتهِمْ أَلِرَ ّبكَ الْبَنَا ُ‬
‫طفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا َلكُمْ كَ ْيفَ‬
‫أَلَا إِ ّنهُمْ مِنْ ِإ ْف ِكهِمْ لَ َيقُولُونَ * وَلَدَ اللّ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ * َأصْ َ‬
‫ح ُكمُونَ * َأفَلَا َت َذكّرُونَ * َأمْ َلكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا ِبكِتَا ِبكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ }‬
‫تَ ْ‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ { :‬فَاسْ َتفْ ِتهِمْ } أي‪ :‬اسأل المشركين باللّه غيره‪ ،‬الذين‬
‫عبدوا الملئكة‪ ،‬وزعموا أنها بنات اللّه‪ ،‬فجمعوا بين الشرك باللّه‪ ،‬ووصفه بما ل يليق بجلله‪،‬‬
‫{ َألِرَ ّبكَ الْبَنَاتُ وََلهُمُ الْبَنُونَ } أي‪ :‬هذه قسمة ضيزى‪ ،‬وقول جائر‪ ،‬من جهة جعلهم الولد للّه‬
‫تعالى‪ ،‬ومن جهة جعلهم أردأ القسمين وأخسهما له وهو البنات التي ل يرضونهن لنفسهم‪ ،‬كما‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَا َن ُه وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ } ومن جهة جعلهم الملئكة‬
‫قال في الية الخرى { وَيَ ْ‬
‫بنات اللّه‪ ،‬وحكمهم بذلك‪.‬‬

‫قال تعالى في بيان كذبهم‪ { :‬أَمْ خََلقْنَا ا ْلمَلَا ِئكَةَ إِنَاثًا وَ ُهمْ شَاهِدُونَ } خلقهم؟ أي‪ :‬ليس المر كذلك‪،‬‬
‫فإنهم ما شهدوا خلقهم‪ ،‬فدل على أنهم قالوا هذا القول‪ ،‬بل علم‪ ،‬بل افتراء على اللّه‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ن وَلَدَ اللّ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‬
‫{ َألَا إِ ّنهُمْ مِنْ ِإ ْف ِكهِمْ } أي‪ :‬كذبهم الواضح { لَ َيقُولُو َ‬
‫ح ُكمُونَ } هذا الحكم الجائر‪.‬‬
‫طفَى } أي‪ :‬اختار { الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا َلكُمْ كَ ْيفَ تَ ْ‬
‫صَ‬‫{ َأ ْ‬

‫{ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ } وتميزون هذا القول الباطل الجائر‪ ،‬فإنكم لو تذكرتم لم تقولوا هذا القول‪.‬‬

‫{ َأمْ َلكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬حجة ظاهرة على قولكم‪ ،‬من كتاب أو رسول‪.‬‬

‫وكل هذا غير واقع‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَأْتُوا ِبكِتَا ِبكُمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } فإن من يقول قول ل يقيم عليه‬
‫حجة شرعية‪ ،‬فإنه كاذب متعمد‪ ،‬أو قائل على اللّه بل علم‪.‬‬

‫حضَرُونَ * سُبْحَانَ‬
‫جعَلُوا بَيْنَ ُه وَبَيْنَ ا ْلجِنّةِ َنسَبًا وََلقَدْ عَِل َمتِ الْجِنّةُ إِ ّنهُمْ َل ُم ْ‬
‫{ ‪ { } 160 - 158‬وَ َ‬
‫صفُونَ * إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُخَْلصِينَ }‬
‫عمّا َي ِ‬
‫اللّهِ َ‬

‫أي‪ :‬جعل هؤلء المشركون باللّه بين اللّه وبين الجنة نسبا‪ ،‬حيث زعموا أن الملئكة بنات اللّه‪،‬‬
‫وأن أمهاتهم سروات الجن‪ ،‬والحال أن الجنة قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه‪[ ،‬ليجازيهم]‬
‫عبادا أذلء‪ ،‬فلو كان بينهم وبينه نسب‪ ،‬لم يكونوا كذلك‪.‬‬

‫{ سُبْحَانَ اللّهِ } الملك العظيم‪ ،‬الكامل الحليم‪ ،‬عما يصفه به المشركون من كل وصف أوجبه‬
‫كفرهم وشركهم‪.‬‬

‫{ ِإلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْل ُمخَْلصِينَ } فإنه لم ينزه نفسه عما وصفوه به‪ ،‬لنهم لم يصفوه إل بما يليق بجلله‪،‬‬
‫وبذلك كانوا مخلصين‪.‬‬

‫{ ‪ { } 163 - 161‬فَإِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ * مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ ِبفَاتِنِينَ * إِلّا مَنْ ُهوَ صَالِي ا ْلجَحِيمِ }‬

‫أي‪ :‬إنكم أيها المشركون ومن عبدتموه مع اللّه‪ ،‬ل تقدرون أن تفتنوا وتضلوا أحدا إل من قضى‬
‫اللّه أنه من أهل الجحيم‪ ،‬فينفذ فيه القضاء اللهي‪ ،‬والمقصود من هذا‪ ،‬بيان عجزهم وعجز آلهتهم‬
‫عن إضلل أحد‪ ،‬وبيان كمال قدرة اللّه تعالى‪ ،‬أي‪ :‬فل تطمعوا بإضلل عباد اللّه المخلصين‬
‫وحزبه المفلحين‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 166 - 164‬ومَا مِنّا إِلّا لَهُ َمقَامٌ َمعْلُومٌ * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافّونَ * وَإِنّا لَ َنحْنُ ا ْلمُسَبّحُونَ }‬

‫هذا [فيه] بيان براءة الملئكة عليهم السلم‪ ،‬عما قاله فيهم المشركون‪ ،‬وأنهم عباد اللّه‪ ،‬ل يعصونه‬
‫طرفة عين‪ ،‬فما منهم من أحد إل له مقام وتدبير قد أمره اللّه به ل يتعداه ول يتجاوزه‪ ،‬وليس لهم‬
‫من المر شيء‪.‬‬
‫{ وَإِنّا لَ َنحْنُ الصّافّونَ } في طاعة اللّه وخدمته‪.‬‬

‫{ وَإِنّا لَ َنحْنُ ا ْلمُسَبّحُونَ } ل عما ل يليق به‪ .‬فكيف ‪ -‬مع هذا ‪ -‬يصلحون أن يكونوا شركاء للّه؟!‬
‫تعالى ال‪.‬‬

‫{ ‪ { } 182 - 167‬وَإِنْ كَانُوا لَ َيقُولُونَ * َلوْ أَنّ عِنْدَنَا ِذكْرًا مِنَ الَْأوّلِينَ * َلكُنّا عِبَادَ اللّهِ‬
‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ * وََلقَدْ سَ َبقَتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ‬
‫ا ْلمُخَْلصِينَ * َف َكفَرُوا بِهِ فَ َ‬
‫ا ْلمَ ْنصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ * فَ َتوَلّ عَ ْنهُمْ حَتّى حِينٍ } إلى آخر السورة‪.‬‬

‫يخبر تعالى أن هؤلء المشركين‪ ،‬يظهرون التمني‪ ،‬ويقولون‪ :‬لو جاءنا من الذكر والكتب‪ ،‬ما جاء‬
‫الولين‪ ،‬لخلصنا للّه العبادة‪ ،‬بل لكنا المخلصين على الحقيقة‪.‬‬

‫سوْفَ‬
‫وهم كَذَبَة في ذلك‪ ،‬فقد جاءهم أفضل الكتب فكفروا به‪ ،‬فعلم أنهم متمردون على الحق { َف َ‬
‫َيعَْلمُونَ } العذاب حين يقع بهم‪ ،‬ول يحسبوا أيضا أنهم في الدنيا غالبون‪ ،‬بل قد سبقت كلمة اللّه‬
‫التي ل مرد لها ول مخالف لها لعباده المرسلين وجنده المفلحين‪ ،‬أنهم الغالبون لغيرهم‪،‬‬
‫المنصورون من ربهم‪ ،‬نصرا عزيزا‪ ،‬يتمكنون فيه من إقامة دينهم‪ ،‬وهذه بشارة عظيمة لمن‬
‫اتصف بأنه من جند اللّه‪ ،‬بأن كانت أحواله مستقيمة‪ ،‬وقاتل من أمر بقتالهم‪ ،‬أنه غالب منصور‪.‬‬

‫ثم أمر رسوله بالعراض عمن عاندوا‪ ،‬ولم يقبلوا الحق‪ ،‬وأنه ما بقي إل انتظار ما يحل بهم من‬
‫س ْوفَ يُ ْبصِرُونَ } من يحل به النكال‪ ،‬فإنه سيحل بهم‪.‬‬
‫العذاب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَأَ ْبصِرْ ُهمْ فَ َ‬

‫{ فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ } أي‪ :‬نزل عليهم‪ ،‬وقريبا منهم { َفسَا َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ } لنه صباح الشر‬
‫والعقوبة‪ ،‬والستئصال‪.‬‬

‫ثم كرر المر بالتّولي عنهم‪ ،‬وتهديدهم بوقوع العذاب‪.‬‬

‫ولما ذكر في هذه السورة‪ ،‬كثيرا من أقوالهم الشنيعة‪ ،‬التي وصفوه بها‪ ،‬نزه نفسه عنها فقال‪:‬‬
‫{ سُبْحَانَ رَ ّبكَ } أي‪ :‬تنزه وتعالى { َربّ ا ْلعِ ّزةِ } [أي‪ ]:‬الذي عز فقهر كل شيء‪ ،‬واعتز عن كل‬
‫سوء يصفونه به‪.‬‬

‫{ وَسَلَامٌ عَلَى ا ْلمُرْسَلِينَ } لسلمتهم من الذنوب والفات‪ ،‬وسلمة ما وصفوا به فاطر الرض‬
‫والسماوات‪.‬‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } اللف واللم‪ ،‬للستغراق‪ ،‬فجميع أنواع الحمد‪ ،‬من الصفات الكاملة‬
‫{ وَا ْل َ‬
‫العظيمة‪ ،‬والفعال التي ربى بها العالمين‪ ،‬وأدرّ عليهم فيها النعم‪ ،‬وصرف عنهم بها النقم‪ ،‬ودبرهم‬
‫تعالى في حركاتهم وسكونهم‪ ،‬وفي جميع أحوالهم‪ ،‬كلها للّه تعالى‪ ،‬فهو المقدس عن النقص‪،‬‬
‫المحمود بكل كمال‪ ،‬المحبوب المعظم‪ ،‬ورسله سالمون مسلم عليهم‪ ،‬ومن اتبعهم في ذلك له‬
‫السلمة في الدنيا والخرة‪[ .‬وأعداؤه لهم الهلك والعطب في الدنيا والخرة]‬

‫تم تفسير سورة الصافات في ‪ 6‬شوال سنة ‪1343‬هـ على يد جامعه‪:‬عبد الرحمن بن ناصر‬
‫السعدي وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم تسليما والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات‪ .‬المجلد‬
‫السابع من تيسير الكريم المنان في تفسير آيات القرآن لجامعه‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‬
‫غفر ال له ولوالديه وجميع المسلمين‪.‬‬

‫تفسير سورة ص‬
‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِي ِم ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي عِ ّزةٍ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫شقَاقٍ * كَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبِْلهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَا َدوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَ ُهمْ مُنْذِرٌ مِ ْنهُمْ‬
‫وَ ِ‬
‫طلَقَ ا ْلمَلَأُ‬
‫شيْءٌ عُجَابٌ * وَانْ َ‬
‫حدًا إِنّ هَذَا َل َ‬
‫ج َعلَ الْآِلهَةَ إَِلهًا وَا ِ‬
‫َوقَالَ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ * َأ َ‬
‫س ِمعْنَا ِبهَذَا فِي ا ْلمِلّةِ الْآخِ َرةِ إِنْ هَذَا‬
‫شيْءٌ يُرَادُ * مَا َ‬
‫مِ ْنهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آِلهَ ِتكُمْ إِنّ هَذَا لَ َ‬
‫عذَابِ * أَمْ‬
‫شكّ مِنْ ِذكْرِي َبلْ َلمّا َيذُوقُوا َ‬
‫إِلّا اخْتِلَاقٌ * َأؤُنْزِلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ مِنْ بَيْنِنَا َبلْ هُمْ فِي َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا فَلْيَرْ َتقُوا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫حمَةِ رَ ّبكَ ا ْلعَزِيزِ ا ْلوَهّابِ * أَمْ َلهُمْ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫عِنْدَ ُهمْ خَزَائِنُ رَ ْ‬
‫فِي الْأَسْبَابِ * جُ ْندٌ مَا هُنَاِلكَ َمهْزُومٌ مِنَ الَْأحْزَابِ }‬

‫هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن‪ ،‬وحال المكذبين به معه ومع من جاء به‪ ،‬فقال‪ { :‬ص‬
‫وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ } أي‪ :‬ذي القدر العظيم والشرف‪ ،‬المُ َذكّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم‪،‬‬
‫بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية‪ ،‬ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء‪،‬‬
‫فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه‪.‬‬

‫وهنا ل يحتاج إلى ذكر المقسم عليه‪ ،‬فإن حقيقة المر‪ ،‬أن المقسم به وعليه شيء واحد‪ ،‬وهو هذا‬
‫القرآن‪ ،‬الموصوف بهذا الوصف الجليل‪ ،‬فإذا كان القرآن بهذا الوصف‪ ،‬علم ضرورة العباد إليه‪،‬‬
‫فوق كل ضرورة‪ ،‬وكان الواجب عليهم تَلقّيه باليمان والتصديق‪ ،‬والقبال على استخراج ما‬
‫يتذكر به منه‪.‬‬
‫شقَاقٍ } عزة‬
‫فهدى اللّه من هدى لهذا‪ ،‬وأبى الكافرون به وبمن أنزله‪ ،‬وصار معهم { عِ ّز ٍة وَ ِ‬
‫وامتناع عن اليمان به‪ ،‬واستكبار وشقاق له‪ ،‬أي‪ :‬مشاقة ومخاصمة في رده وإبطاله‪ ،‬وفي القدح‬
‫بمن جاء به‪.‬‬

‫فتوعدهم بإهلك القرون الماضية المكذبة بالرسل‪ ،‬وأنهم حين جاءهم الهلك‪ ،‬نادوا واستغاثوا في‬
‫صرف العذاب عنهم ولكن { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أى‪ :‬وليس الوقت‪ ،‬وقت خلص مما وقعوا فيه‪،‬‬
‫ول فرج لما أصابهم‪ ،‬فَلْ َيحْذَرْ هؤلء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم‪ ،‬فيصيبهم ما أصابهم‪.‬‬

‫عجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُ ْنذِرٌ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬عجب هؤلء المكذبون في أمر ليس محل عجب‪ ،‬أن‬
‫{ وَ َ‬
‫جاءهم منذر منهم‪ ،‬ليتمكنوا من التلقي عنه‪ ،‬وليعرفوه حق المعرفة‪ ،‬ولنه من قومهم‪ ،‬فل تأخذهم‬
‫النخوة القومية عن اتباعه‪ ،‬فهذا مما يوجب الشكر عليهم‪ ،‬وتمام النقياد له‪.‬‬

‫ولكنهم عكسوا القضية‪ ،‬فتعجبوا تعجب إنكار َوقَالُوا من كفرهم وظلمهم‪َ { :‬هذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ }‬

‫حدًا } أى‪ :‬كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والنداد‪ ،‬ويأمر‬


‫ج َعلَ الْآِل َهةَ إَِلهًا وَا ِ‬
‫وذنبه ‪-‬عندهم‪ -‬أنه { أَ َ‬
‫عجَابٌ } أي‪ :‬يقضي منه العجب‬
‫شيْءٌ ُ‬
‫بإخلص العبادة للّه وحده‪ { .‬إِنّ هَذَا } الذي جاء به { لَ َ‬
‫لبطلنه وفساده‪.‬‬

‫{ وَا ْنطَلَقَ ا ْلمَلَأُ مِ ْنهُمْ } المقبول قولهم‪ ،‬محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك‪ { .‬أَنِ‬
‫امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آِلهَ ِتكُمْ } أى‪ :‬استمروا عليها‪ ،‬وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى‬
‫عبادتها‪ ،‬ول يردكم عنها راد‪ ،‬ول يصدنكم عن عبادتها‪ ،‬صاد‪ { .‬إِنّ هَذَا } الذي جاء به محمد‪،‬‬
‫شيْءٌ يُرَادُ } أي‪ :‬يقصد‪ ،‬أي‪ :‬له قصد ونية غير صالحة في ذلك‪ ،‬وهذه‬
‫من النهي عن عبادتها { َل َ‬
‫شبهة ل تروج إل على السفهاء‪ ،‬فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق‪ ،‬ل يرد قوله بالقدح في‬
‫نيته‪ ،‬فنيته وعمله له‪ ،‬وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده‪ ،‬من الحجج والبراهين‪ ،‬وهم قصدهم‪،‬‬
‫أن محمدا‪ ،‬ما دعاكم إلى ما دعاكم‪ ،‬إل ليرأس فيكم‪ ،‬ويكون معظما عندكم‪ ،‬متبوعا‪.‬‬

‫س ِمعْنَا ِبهَذَا } القول الذي قاله‪ ،‬والدين الذي دعا إليه { فِي ا ْلمِلّةِ الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬في الوقت‬
‫{ مَا َ‬
‫الخير‪ ،‬فل أدركنا عليه آباءنا‪ ،‬ول آباؤنا أدركوا آباءهم عليه‪ ،‬فامضوا على الذي مضى عليه‬
‫آباؤكم‪ ،‬فإنه الحق‪ ،‬وما هذا الذي دعا إليه محمد إل اختلق اختلقه‪ ،‬وكذب افتراه‪ ،‬وهذه أيضا‬
‫شبهة من جنس شبهتهم الولى‪ ،‬حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول‪ ،‬وهو أنه قول‬
‫مخالف لما عليه آباؤهم الضالون‪ ،‬فأين في هذا ما يدل على بطلنه؟‪.‬‬
‫{ َأءُن ِزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي‪ :‬ما الذي فضله علينا‪ ،‬حتى ينزل الذكر عليه من دوننا‪،‬‬
‫ويخصه اللّه به؟ وهذه أيضا شبهة‪ ،‬أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إل بهذا‬
‫الوصف‪َ ،‬يمُنّ اللّه عليهم برسالته‪ ،‬ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه‪ ،‬ولهذا‪ ،‬لما كانت هذه القوال‬
‫الصادرة منهم ل يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول‪ ،‬أخبر تعالى من أين صدرت‪ ،‬وأنهم‬
‫شكّ مِنْ ِذكْرِي } ليس عندهم علم ول بينة‪.‬‬
‫{ فِي َ‬

‫فلما وقعوا في الشك وارتضوا به‪ ،‬وجاءهم الحق الواضح‪ ،‬وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم‪،‬‬
‫قالوا ما قالوا من تلك القوال لدفع الحق‪ ،‬ل عن بينة من أمرهم‪ ،‬وإنما ذلك من باب الئتفاك‬
‫منهم‪.‬‬

‫ومن المعلوم‪ ،‬أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد‪ ،‬إن قوله غير مقبول‪ ،‬ول قادح أدنى‬
‫قدح في الحق‪ ،‬وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلمه‪ ،‬ولهذا توعدهم بالعذاب فقال‪َ { :‬بلْ َلمّا‬
‫يَذُوقُوا عَذَابِ } أي‪ :‬قالوا هذه القوال‪ ،‬وتجرأوا عليها‪ ،‬حيث كانوا ممتعين في الدنيا‪ ،‬لم يصبهم‬
‫من عذاب اللّه شيء‪ ،‬فلو ذاقوا عذابه‪ ،‬لم يتجرأوا‪.‬‬

‫حمَةِ رَ ّبكَ ا ْلعَزِيزِ ا ْلوَهّابِ } فيعطون منها من شاءوا‪ ،‬ويمنعون منها من‬
‫{ َأمْ عِنْ َدهُمْ خَزَائِنُ َر ْ‬
‫شاءوا‪ ،‬حيث قالوا‪ { :‬أَءُن ِزلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي‪ :‬هذا فضله تعالى ورحمته‪ ،‬وليس ذلك‬
‫بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه‪.‬‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون‪ { .‬فَلْيَرْ َتقُوا‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ َأمْ َلهُمْ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫فِي الْأَسْبَابِ } الموصلة لهم إلى السماء‪ ،‬فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه‪ ،‬فكيف يتكلمون‪ ،‬وهم‬
‫أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند‪ ،‬والتعاون على نصر الباطل‬
‫وخذلن الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود ل يتم لهم‪ ،‬بل سعيهم خائب‪ ،‬وجندهم مهزوم‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬جُ ْندٌ مَا هُنَاِلكَ َمهْزُومٌ مِنَ الَْأحْزَابِ }‬

‫ط وََأصْحَابُ‬
‫{ ‪ { } 15 - 12‬كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ َوفِرْعَوْنُ ذُو الَْأوْتَادِ * وَ َثمُودُ َوقَوْمُ لُو ٍ‬
‫ح َدةً‬
‫ح ًة وَا ِ‬
‫عقَابِ * َومَا يَنْظُرُ َهؤُلَاءِ إِلّا صَيْ َ‬
‫سلَ َفحَقّ ِ‬
‫الْأَ ْيكَةِ أُولَ ِئكَ الَْأحْزَابُ * إِنْ ُكلّ إِلّا كَ ّذبَ الرّ ُ‬
‫مَا َلهَا مِنْ َفوَاقٍ }‬

‫يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ما فعل بالمم من قبلهم‪ ،‬الذين كانوا أعظم قوة منهم وتحزبا على‬
‫عوْنُ ذُو الَْأوْتَادِ } أى‪ :‬الجنود العظيمة‪ ،‬والقوة الهائلة‪.‬‬
‫ح وَعَاد } قوم هود { َوفِرْ َ‬
‫الباطل‪َ { ،‬قوْم نُو ٍ‬
‫{ وَ َثمُود } قوم صالح‪َ { ،‬و َقوْمُ لُوطٍ وََأصْحَابُ الْأَ ْيكَةِ } أي‪ :‬الشجار والبساتين الملتفة‪ ،‬وهم قوم‬
‫شعيب‪ { ،‬أُولَ ِئكَ الَْأحْزَابُ } الذين اجتمعوا بقوتهم وعَدَدِهمْ وعُ َددِهمْ على رد الحق‪ ،‬فلم تغن عنهم‬
‫شيئا‪.‬‬

‫عقَابِ } اللّه‪ ،‬وهؤلء‪ ،‬ما الذي يطهرهم‬


‫سلَ َفحَقّ } عليهم { ِ‬
‫{ إِنْ ُكلّ } من هؤلء { ِإلّا كَ ّذبَ الرّ ُ‬
‫ويزكيهم‪ ،‬أن ل يصيبهم ما أصاب أولئك‪.‬‬

‫فلينتظروا { صَيْحَةً وَاحِ َدةً مَا َلهَا مِنْ َفوَاقٍ } أي‪ :‬من رجوع ورد‪ ،‬تهلكهم وتستأصلهم إن أقاموا‬
‫على ما هم عليه‪.‬‬

‫حسَابِ *اصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ }‬


‫جلْ لَنَا ِقطّنَا قَ ْبلَ َيوْمِ الْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 17 - 16‬وقَالُوا رَبّنَا عَ ّ‬

‫جلْ لَنَا ِقطّنَا }‬


‫أي‪ :‬قال هؤلء المكذبون‪ ،‬من جهلهم ومعاندتهم الحق‪ ،‬مستعجلين للعذاب‪ { :‬رَبّنَا عَ ّ‬
‫أي‪ :‬قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجل { قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ } وَلجّوا في هذا القول‪ ،‬وزعموا أنك‬
‫يا محمد‪ ،‬إن كنت صادقا‪ ،‬فعلمة صدقك أن تأتينا بالعذاب‪ ،‬فقال لرسوله‪ { :‬اصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ‬
‫} كما صبر مَنْ قبلك من الرسل‪ ،‬فإن قولهم ل يضر الحق شيئا‪ ،‬ول يضرونك في شيء‪ ،‬وإنما‬
‫يضرون أنفسهم‪.‬‬

‫شيّ‬
‫{ ‪ { } 20 - 17‬وَا ْذكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَ ْيدِ إِنّهُ َأوّابٌ * إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ َمعَهُ يُسَبّحْنَ بِا ْلعَ ِ‬
‫صلَ ا ْلخِطَابِ }‬
‫ح ْكمَ َة َو َف ْ‬
‫وَالْإِشْرَاقِ * وَالطّيْرَ َمحْشُو َرةً ُكلّ َلهُ َأوّابٌ * وَشَ َددْنَا مُ ْلكَ ُه وَآتَيْنَاهُ ا ْل ِ‬

‫لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه‪ ،‬أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده‪ ،‬ويتذكر‬
‫طلُوعِ‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ ُ‬
‫ن وَسَبّحْ ِب َ‬
‫حال العابدين‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪ { :‬فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُو َ‬
‫س َوقَ ْبلَ غُرُو ِبهَا }‬
‫شمْ ِ‬
‫ال ّ‬

‫ومن أعظم العابدين‪ ،‬نبي اللّه داود عليه الصلة والسلم { ذَا الْأَيْدِ } أي‪ :‬القوة العظيمة على‬
‫عبادة اللّه تعالى‪ ،‬في بدنه وقلبه‪ { .‬إِنّهُ َأوّابٌ } أي‪ :‬رجّاع إلى اللّه في جميع المور بالنابة إليه‪،‬‬
‫بالحب والتأله‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬وكثرة التضرع والدعاء‪ ،‬رجاع إليه عندما يقع منه بعض‬
‫الخلل‪ ،‬بالقلع والتوبة النصوح‪.‬‬

‫شيّ‬
‫ومن شدة إنابته لربه وعبادته‪ ،‬أن سخر اللّه الجبال معه‪ ،‬تسبح معه بحمد ربها { بِا ْل َع ِ‬
‫وَالْإِشْرَاقِ } أول النهار وآخره‪.‬‬
‫{ و } سخر { الطّيْرَ َمحْشُو َرةً } معه مجموعة { ُكلّ } من الجبال والطير‪ ،‬ل تعالى { َأوّابٌ }‬
‫امتثال لقوله تعالى‪ { :‬يَا جِبَالُ َأوّبِي َمعَهُ وَالطّيْرَ } فهذه مِنّةُ اللّه عليه بالعبادة‪.‬‬

‫شدَدْنَا مُ ْلكَهُ } أي‪ :‬قويناه بما أعطيناه من السباب وكثرة‬


‫ثم ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال‪ { :‬وَ َ‬
‫ح ْكمَةَ } أي‪ :‬النبوة‬
‫ا ْلعَدَد وا ْلعُدَدِ التي بها قوّى اللّه ملكه‪ ،‬ثم ذكر منته عليه بالعلم فقال‪ { :‬وَآتَيْنَاهُ ا ْل ِ‬
‫خطَابِ } أي‪ :‬الخصومات بين الناس‪.‬‬
‫صلَ الْ ِ‬
‫والعلم العظيم‪َ { ،‬و َف ْ‬

‫سوّرُوا ا ْلمِحْرَابَ * ِإذْ َدخَلُوا عَلَى دَاوُدَ َففَ ِزعَ مِ ْنهُمْ‬


‫خصْمِ إِذْ تَ َ‬
‫{ ‪ { } 26 - 21‬وَ َهلْ أَتَاكَ نَبَأُ ا ْل َ‬
‫سوَاءِ‬
‫ط وَاهْدِنَا إِلَى َ‬
‫ط ْ‬
‫حكُمْ بَيْنَنَا بِا ْلحَقّ وَلَا ُتشْ ِ‬
‫صمَانِ َبغَى َب ْعضُنَا عَلَى َب ْعضٍ فَا ْ‬
‫خ ْ‬
‫خفْ َ‬
‫قَالُوا لَا تَ َ‬
‫خطَابِ‬
‫ح َدةٌ َفقَالَ َأ ْكفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْ ِ‬
‫ج ًة وَِليَ َن ْعجَ ٌة وَا ِ‬
‫سعُونَ َنعْ َ‬
‫الصّرَاطِ * إِنّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْ ٌع وَتِ ْ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ إِلّا‬
‫سؤَالِ َنعْجَ ِتكَ إِلَى ِنعَاجِ ِه وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ ا ْلخُلَطَاءِ لَيَ ْبغِي َب ْع ُ‬
‫* قَالَ َلقَدْ ظََل َمكَ ِب ُ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َوقَلِيلٌ مَا ُه ْم وَظَنّ دَاوُدُ أَ ّنمَا فَتَنّاهُ فَاسْ َت ْغفَرَ رَبّ ُه وَخَرّ رَا ِكعًا وَأَنَابَ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حكُمْ‬
‫خلِيفَةً فِي الْأَ ْرضِ فَا ْ‬
‫جعَلْنَاكَ َ‬
‫ك وَإِنّ َلهُ عِنْدَنَا لَزُ ْلفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنّا َ‬
‫* َف َغفَرْنَا َلهُ ذَِل َ‬
‫بَيْنَ النّاسِ بِا ْلحَقّ وَلَا تَتّبِعِ ا ْل َهوَى فَ ُيضِّلكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ َيضِلّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َل ُهمْ عَذَابٌ‬
‫حسَابِ }‬
‫شَدِيدٌ ِبمَا نَسُوا َيوْمَ الْ ِ‬

‫لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس‪ ،‬وكان معروفا بذلك مقصودا‪ ،‬ذكر‬
‫تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود‪ ،‬وموعظة لخلل ارتكبه‪ ،‬فتاب‬
‫اللّه عليه‪ ،‬وغفر له‪ ،‬وقيض له هذه القضية‪ ،‬فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ { :‬وَ َهلْ أَتَاكَ‬
‫سوّرُوا } على داود { ا ْلمِحْرَابَ } أي‪ :‬محل عبادته من غير إذن‬
‫خصْمِ } فإنه نبأ عجيب { إِذْ تَ َ‬
‫نَبَأُ ا ْل َ‬
‫ول استئذان‪ ،‬ولم يدخلوا عليه مع باب‪ ،‬فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة‪ ،‬فزع منهم وخاف‪،‬‬
‫حكُمْ بَيْنَنَا بِا ْلحَقّ }‬
‫صمَانِ } فل تخف { َبغَى َب ْعضُنَا عَلَى َب ْعضٍ } بالظلم { فَا ْ‬
‫خ ْ‬
‫فقالوا له‪ :‬نحن { َ‬
‫سوَاءِ الصّرَاطِ }‬
‫ط وَا ْهدِنَا إِلَى َ‬
‫شطِ ْ‬
‫أي‪ :‬بالعدل‪ ،‬ول تمل مع أحدنا { وَلَا تُ ْ‬

‫والمقصود من هذا‪ ،‬أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف‪ ،‬وإذا كان ذلك‪،‬‬
‫فسيقصان عليه نبأهما بالحق‪ ،‬فلم يشمئز نبي اللّه داود من وعظهما له‪ ،‬ولم يؤنبهما‪.‬‬

‫فقال أحدهما‪ { :‬إِنّ َهذَا َأخِي } نص على الخوة في الدين أو النسب أو الصداقة‪ ،‬لقتضائها عدم‬
‫سعُونَ َن ْعجَةً } أي‪ :‬زوجة‪ ،‬وذلك خير‬
‫س ٌع وَتِ ْ‬
‫البغي‪ ،‬وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره‪َ { .‬لهُ تِ ْ‬
‫كثير‪ ،‬يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه‪.‬‬
‫ج ٌة وَاحِ َدةٌ } فطمع فيها { َفقَالَ َأ ْكفِلْنِيهَا } أي‪ :‬دعها لي‪ ،‬وخلها في كفالتي‪ { .‬وَعَزّنِي فِي‬
‫{ وَِليَ َنعْ َ‬
‫خطَابِ } أي‪ :‬غلبني في القول‪ ،‬فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد‪.‬‬
‫الْ ِ‬

‫فقال داود ‪ -‬لما سمع كلمه ‪ -‬ومن المعلوم من السياق السابق من كلمهما‪ ،‬أن هذا هو الواقع‪،‬‬
‫فلهذا لم يحتج أن يتكلم الخر‪ ،‬فل وجه للعتراض بقول القائل‪ { :‬لم حكم داود‪ ،‬قبل أن يسمع‬
‫جهِ } وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير‬
‫سؤَالِ َنعْجَ ِتكَ إِلَى ِنعَا ِ‬
‫كلم الخصم الخر } ؟ { َلقَدْ ظََل َمكَ بِ ُ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ } لن الظلم من صفة النفوس‪.‬‬
‫منهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ الْخَُلطَاءِ لَيَ ْبغِي َب ْع ُ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } فإن ما معهم من اليمان والعمل الصالح‪ ،‬يمنعهم من الظلم‪.‬‬
‫{ ِإلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫شكُورُ } { وَظَنّ دَاوُدُ } حين حكم بينهما‬
‫{ َوقَلِيلٌ مَا ُهمْ } كما قال تعالى { َوقَلِيلٌ مِنْ عِبَا ِديَ ال ّ‬
‫{ أَ ّنمَا فَتَنّاهُ } أي‪ :‬اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه { فَاسْ َت ْغفَرَ رَبّهُ } لما صدر منه‪ { ،‬وَخَرّ‬
‫رَا ِكعًا } أي‪ :‬ساجدا { وَأَنَابَ } للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة‪.‬‬

‫{ َف َغفَرْنَا لَهُ ذَِلكَ } الذي صدر منه‪ ،‬وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّ لَهُ عِ ْندَنَا لَزُ ْلفَى }‬
‫أي‪ :‬منزلة عالية‪ ،‬وقربة منا‪َ { ،‬وحُسْنَ مَآبٍ } أي‪ :‬مرجع‪.‬‬

‫وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلم‪ ،‬لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره‪ ،‬فالتعرض له‬
‫من باب التكلف‪ ،‬وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته‪ ،‬وأنه ارتفع محله‪،‬‬
‫فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها‪.‬‬

‫حكُمْ بَيْنَ النّاسِ‬


‫خلِيفَةً فِي الْأَ ْرضِ } تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية‪ { ،‬فَا ْ‬
‫جعَلْنَاكَ َ‬
‫{ يَا دَاوُدُ إِنّا َ‬
‫حقّ } أي‪ :‬العدل‪ ،‬وهذا ل يتمكن منه‪ ،‬إل بعلم بالواجب‪ ،‬وعلم بالواقع‪ ،‬وقدرة على تنفيذ الحق‪،‬‬
‫بِالْ َ‬
‫{ وَلَا تَتّ ِبعِ ا ْل َهوَى } فتميل مع أحد‪ ،‬لقرابة أو صداقة أو محبة‪ ،‬أو بغض للخر { فَ ُيضِّلكَ } الهوى‬
‫{ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } ويخرجك عن الصراط المستقيم‪ { ،‬إِنّ الّذِينَ َيضِلّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } خصوصا‬
‫حسَابِ } فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم‪ ،‬لم‬
‫عذَابٌ شَدِيدٌ ِبمَا نَسُوا َيوْمَ الْ ِ‬
‫المتعمدين منهم‪َ { ،‬لهُمْ َ‬
‫يميلوا مع الهوى الفاتن‪.‬‬

‫سمَاءَ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا بَاطِلًا ذَِلكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 27‬ومَا خََلقْنَا ال ّ‬
‫ج َعلُ ا ْلمُ ّتقِينَ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا ْل ُمفْسِدِينَ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ نَ ْ‬
‫ج َعلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َكفَرُوا مِنَ النّارِ * أَمْ َن ْ‬
‫كَا ْلفُجّارِ * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لِيَدّبّرُوا آيَاتِ ِه وَلِيَتَ َذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }‬

‫يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات والرض‪ ،‬وأنه لم يخلقهما باطل‪ ،‬أي‪ :‬عبثا ولعبا‬
‫من غير فائدة ول مصلحة‪.‬‬
‫{ ذَِلكَ ظَنّ الّذِينَ َكفَرُوا } بربهم‪ ،‬حيث ظنوا ما ل يليق بجلله‪َ { .‬فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ }‬
‫فإنها التي تأخذ الحق منهم‪ ،‬وتبلغ منهم كل مبلغ‪.‬‬

‫وإنما خلق اللّه السماوات والرض بالحق وللحق‪ ،‬فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته وسعة‬
‫سلطانه‪ ،‬وأنه تعالى وحده المعبود‪ ،‬دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات والرض‪ ،‬وأن‬
‫البعث حق‪ ،‬وسيفصل اللّه بين أهل الخير والشر‪.‬‬

‫ج َعلُ الّذِينَ آمَنُوا‬


‫ول يظن الجاهل بحكمة اللّه أن يسوي اللّه بينهما في حكمه‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أمْ َن ْ‬
‫ج َعلُ ا ْلمُ ّتقِينَ كَا ْلفُجّارِ } هذا غير لئق بحكمتنا‬
‫سدِينَ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ َن ْ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ كَا ْلمُفْ ِ‬
‫وَ َ‬
‫وحكمنا‪.‬‬

‫{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ } فيه خير كثير‪ ،‬وعلم غزير‪ ،‬فيه كل هدى من ضللة‪ ،‬وشفاء من‬
‫داء‪ ،‬ونور يستضاء به في الظلمات‪ ،‬وكل حكم يحتاج إليه المكلفون‪ ،‬وفيه من الدلة القطعية على‬
‫كل مطلوب‪ ،‬ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه‪.‬‬

‫{ لِ َيدّبّرُوا آيَا ِتهِ } أي‪ :‬هذه الحكمة من إنزاله‪ ،‬ليتدبر الناس آياته‪ ،‬فيستخرجوا علمها ويتأملوا‬
‫أسرارها وحكمها‪ ،‬فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه‪ ،‬وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة‪ ،‬تدرك بركته‬
‫وخيره‪ ،‬وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن‪ ،‬وأنه من أفضل العمال‪ ،‬وأن القراءة المشتملة‬
‫على التدبر أفضل من سرعة التلوة التي ل يحصل بها هذا المقصود‪.‬‬

‫{ وَلِيَ َت َذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬أولو العقول الصحيحة‪ ،‬يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب‪ ،‬فدل‬
‫هذا على أنه بحسب لب النسان وعقله يحصل له التذكر والنتفاع بهذا الكتاب‪.‬‬

‫شيّ الصّافِنَاتُ‬
‫{ ‪َ { } 40 - 30‬ووَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَ ْيمَانَ ِنعْمَ ا ْلعَ ْبدُ إِنّهُ َأوّابٌ * ِإذْ عُ ِرضَ عَلَيْهِ بِا ْلعَ ِ‬
‫طفِقَ‬
‫حبّ ا ْلخَيْرِ عَنْ ِذكْرِ رَبّي حَتّى َتوَا َرتْ بِا ْلحِجَابِ * رُدّوهَا عََليّ َف َ‬
‫الْجِيَادُ * َفقَالَ إِنّي َأحْبَ ْبتُ ُ‬
‫غفِرْ لِي‬
‫سدًا ثُمّ أَنَابَ * قَالَ َربّ ا ْ‬
‫ن وَأَ ْلقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَ َ‬
‫ق وَالْأَعْنَاقِ * وََلقَدْ فَتَنّا سُلَ ْيمَا َ‬
‫مَسْحًا بِالسّو ِ‬
‫وَ َهبْ لِي مُ ْلكًا لَا يَنْ َبغِي لَِأحَدٍ مِنْ َبعْدِي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ * فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ َتجْرِي بَِأمْ ِرهِ رُخَاءً‬
‫عطَاؤُنَا فَامْنُنْ‬
‫صفَادِ * هَذَا َ‬
‫غوّاصٍ * وَآخَرِينَ ُمقَرّنِينَ فِي الَْأ ْ‬
‫حَ ْيثُ َأصَابَ * وَالشّيَاطِينَ ُكلّ بَنّا ٍء وَ َ‬
‫حسْنَ مَآبٍ }‬
‫حسَابٍ * وَإِنّ لَهُ عِ ْندَنَا لَزُ ْلفَى وَ ُ‬
‫سكْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫َأوْ َأمْ ِ‬

‫لما أثنى تعالى على داود‪ ،‬وذكر ما جرى له ومنه‪ ،‬أثنى على ابنه سليمان عليهما السلم فقال‪:‬‬
‫{ َووَهَبْنَا ِلدَاوُدَ سُلَ ْيمَانَ } أي‪ :‬أنعمنا به عليه‪ ،‬وأقررنا به عينه‪.‬‬
‫{ ِن ْعمَ ا ْلعَبْدُ } سليمان عليه السلم‪ ،‬فإنه اتصف بما يوجب المدح‪ ،‬وهو { إِنّهُ َأوّابٌ } أي‪ :‬رجّاع‬
‫إلى اللّه في جميع أحواله‪ ،‬بالتأله والنابة‪ ،‬والمحبة والذكر والدعاء والتضرع‪ ،‬والجتهاد في‬
‫مرضاة اللّه‪ ،‬وتقديمها على كل شيء‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي‪ :‬التي من وصفها الصفون‪ ،‬وهو رفع‬
‫إحدى قوائمها عند الوقوف‪ ،‬وكان لها منظر رائق‪ ،‬وجمال معجب‪ ،‬خصوصا للمحتاج إليها‬
‫كالملوك‪ ،‬فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب‪ ،‬فألهته عن صلة المساء‬
‫وذكره‪.‬‬

‫فقال ندما على ما مضى منه‪ ،‬وتقربا إلى اللّه بما ألهاه عن ذكره‪ ،‬وتقديما لحب اللّه على حب‬
‫حبّ ا ْلخَيْرِ } وضمن { أحببت } معنى { آثرت } أي‪ :‬آثرت حب الخير‪ ،‬الذي‬
‫غيره‪ { :‬إِنّي َأحْبَ ْبتُ ُ‬
‫هو المال عموما‪ ،‬وفي هذا الموضع المراد الخيل { عَنْ ِذكْرِ رَبّي حَتّى َتوَا َرتْ بِا ْلحِجَابِ }‬

‫ق وَالْأَعْنَاقِ } أي‪ :‬جعل يعقرها بسيفه‪ ،‬في‬


‫سحًا بِالسّو ِ‬
‫طفِقَ } فيها { مَ ْ‬
‫{ ُردّوهَا عََليّ } فردوها { َف َ‬
‫سوقها وأعناقها‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ فَتَنّا سُلَ ْيمَانَ } أي‪ :‬ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة‬
‫سدًا } أي‪ :‬شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه‪،‬‬
‫البشرية‪ { ،‬وَأَ ْلقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَ َ‬
‫ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان‪ { ،‬ثُمّ أَنَابَ } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب‪.‬‬

‫حدٍ مِنْ َبعْدِي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ } فاستجاب اللّه له‬


‫غفِرْ لِي وَ َهبْ لِي مُ ْلكًا لَا يَنْ َبغِي لِأَ َ‬
‫فـ { قَالَ َربّ ا ْ‬
‫وغفر له‪ ،‬ورد عليه ملكه‪ ،‬وزاده ملكا لم يحصل لحد من بعده‪ ،‬وهو تسخير الشياطين له‪ ،‬يبنون‬
‫ما يريد‪ ،‬ويغوصون له في البحر‪ ،‬يستخرجون الدر والحلي‪ ،‬ومن عصاه منهم قرنه في الصفاد‬
‫وأوثقه‪.‬‬

‫سكْ } من شئت { ِبغَيْرِ‬


‫عطَاؤُنَا } َفقَرّ به عينا { فَامْنُنْ } على من شئت‪َ { ،‬أوْ َأمْ ِ‬
‫وقلنا له‪ { :‬هَذَا َ‬
‫حسَابٍ } أي‪ :‬ل حرج عليك في ذلك ول حساب‪ ،‬لعلمه تعالى بكمال عدله‪ ،‬وحسن أحكامه‪ ،‬ول‬
‫ِ‬
‫تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الخرة‪ ،‬بل له في الخرة خير عظيم‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬وَإِنّ َلهُ عِنْدَنَا لَزُ ْلفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي‪ :‬هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع‬
‫الكرامات للّه‪.‬‬

‫فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السلم‬
‫فمنها‪ :‬أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من قبله‪ ،‬ليثبت فؤاده‬
‫وتطمئن نفسه‪ ،‬ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإنابتهم‪ ،‬ما يشوقه إلى منافستهم‪ ،‬والتقرب‬
‫إلى اللّه الذي تقربوا له‪ ،‬والصبر على أذى قومه‪ ،‬ولهذا ‪ -‬في هذا الموضع ‪ -‬لما ذكر اللّه ما‬
‫ذكر من أذية قومه وكلمهم فيه وفيما جاء به‪ ،‬أمره بالصبر‪ ،‬وأن يذكر عبده داود فيتسلى به‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته‪ ،‬قوة القلب والبدن‪ ،‬فإنه يحصل منها من آثار‬
‫الطاعة وحسنها وكثرتها‪ ،‬ما ل يحصل مع الوهن وعدم القوة‪ ،‬وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها‪،‬‬
‫وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الرجوع إلى اللّه في جميع المور‪ ،‬من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه‪ ،‬كما أثنى‬
‫اللّه على داود وسليمان بذلك‪ ،‬فليقتد بهما المقتدون‪ ،‬وليهتد بهداهم السالكون { أُولَ ِئكَ الّذِينَ َهدَى‬
‫اللّهُ فَ ِب ُهدَاهُمُ اقْتَ ِدهِ }‬

‫ومنها‪ :‬ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السلم‪ ،‬من حسن الصوت العظيم‪ ،‬الذي جعل اللّه بسببه‬
‫الجبال الصم‪ ،‬والطيور البهم‪ ،‬يجاوبنه إذا رجّع صوته بالتسبيح‪ ،‬ويسبحن معه بالعشي والشراق‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من أكبر نعم اللّه على عبده‪ ،‬أن يرزقه العلم النافع‪ ،‬ويعرف الحكم والفصل بين الناس‪،‬‬
‫كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السلم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم وابتلئهم بما‬
‫به يزول عنهم المحذور‪ ،‬ويعودون إلى أكمل من حالتهم الولى‪ ،‬كما جرى لداود وسليمان عليهما‬
‫السلم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن النبياء صلوات اللّه وسلمه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه تعالى‪،‬‬
‫لن مقصود الرسالة ل يحصل إل بذلك‪ ،‬وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من‬
‫المعاصي‪ ،‬ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن داود عليه السلم‪[ ،‬كان] في أغلب أحواله ملزما محرابه لخدمة ربه‪ ،‬ولهذا تسور‬
‫الخصمان عليه المحراب‪ ،‬لنه كان إذا خل في محرابه ل يأتيه أحد‪ ،‬فلم يجعل كل وقته للناس‪،‬‬
‫مع كثرة ما يرد عليه من الحكام‪ ،‬بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه‪ ،‬وتقر عينه بعبادته‪ ،‬وتعينه‬
‫على الخلص في جميع أموره‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي استعمال الدب في الدخول على الحكام وغيرهم‪ ،‬فإن الخصمين لما دخل على‬
‫داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود‪ ،‬فزع منهم‪ ،‬واشتد عليه ذلك‪ ،‬ورآه غير لئق‬
‫بالحال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما ل ينبغي‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬كمال حلم داود عليه السلم‪ ،‬فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان‪ ،‬وهو الملك‪،‬‬
‫ول انتهرهما‪ ،‬ول وبخهما‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬جواز قول المظلوم لمن ظلمه "أنت ظلمتني" أو "يا ظالم" ونحو ذلك أو باغ علي لقولهما‪{ :‬‬
‫صمَانِ َبغَى َب ْعضُنَا عَلَى َب ْعضٍ }‬
‫خ ْ‬
‫َ‬

‫ومنها‪ :‬أن الموعوظ والمنصوح‪ ،‬ولو كان كبير القدر‪ ،‬جليل العلم‪ ،‬إذا نصحه أحد‪ ،‬أو وعظه‪ ،‬ل‬
‫يغضب‪ ،‬ول يشمئز‪ ،‬بل يبادره بالقبول والشكر‪ ،‬فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب‬
‫ولم يثنه ذلك عن الحق‪ ،‬بل حكم بالحق الصرف‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن المخالطة بين القارب والصحاب‪ ،‬وكثرة التعلقات الدنيوية المالية‪ ،‬موجبة للتعادي‬
‫بينهم‪ ،‬وبغي بعضهم على بعض‪ ،‬وأنه ل يرد عن ذلك إل استعمال تقوى اللّه‪ ،‬والصبر على‬
‫المور‪ ،‬باليمان والعمل الصالح‪ ،‬وأن هذا من أقل شيء في الناس‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الستغفار والعبادة‪ ،‬خصوصا الصلة‪ ،‬من مكفرات الذنوب‪ ،‬فإن اللّه‪ ،‬رتب مغفرة ذنب‬
‫داود على استغفاره وسجوده‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬إكرام اللّه لعبده داود وسليمان‪ ،‬بالقرب منه‪ ،‬وحسن الثواب‪ ،‬وأن ل يظن أن ما جرى لهما‬
‫منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى‪ ،‬وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين‪ ،‬أنه إذا غفر لهم وأزال أثر‬
‫ذنوبهم‪ ،‬أزال الثار المترتبة عليه كلها‪ ،‬حتى ما يقع في قلوب الخلق‪ ،‬فإنهم إذا علموا ببعض‬
‫ذنوبهم‪ ،‬وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الولى‪ ،‬فأزال اللّه تعالى هذه الثار‪ ،‬وما ذاك بعزيز‬
‫على الكريم الغفار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الحكم بين الناس مرتبة دينية‪ ،‬تولها رسل اللّه وخواص خلقه‪ ،‬وأن وظيفة القائم بها‬
‫الحكم بالحق ومجانبة الهوى‪ ،‬فالحكم بالحق يقتضي العلم بالمور الشرعية‪ ،‬والعلم بصورة القضية‬
‫المحكوم بها‪ ،‬وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي‪ ،‬فالجاهل بأحد المرين ل يصلح للحكم‪ ،‬ول يحل‬
‫له القدام عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى‪ ،‬ويجعله منه على بال‪ ،‬فإن النفوس ل تخلو منه‪ ،‬بل‬
‫يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده‪ ،‬وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض لحد‬
‫الخصمين‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن سليمان عليه السلم من فضائل داود‪ ،‬ومن منن اللّه عليه حيث وهبه له‪ ،‬وأن من أكبر‬
‫نعم اللّه على عبده‪ ،‬أن يهب له ولدا صالحا‪ ،‬فإن كان عالما‪ ،‬كان نورا على نور‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله { ِن ْعمَ ا ْلعَبْدُ إِنّهُ َأوّابٌ }‬

‫ومنها‪ :‬كثرة خير اللّه وبره بعبيده‪ ،‬أن يمن عليهم بصالح العمال ومكارم الخلق‪ ،‬ثم يثني عليهم‬
‫بها‪ ،‬وهو المتفضل الوهاب‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬تقديم سليمان محبة اللّه تعالى على محبة كل شيء‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن كل ما أشغل العبد عن اللّه‪ ،‬فإنه مشئوم مذموم‪ ،‬فَلْ ُيفَا ِرقْه ولْيُقْ ِبلْ على ما هو أنفع له‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬القاعدة المشهورة "من ترك شيئا ل عوضه اللّه خيرا منه" فسليمان عليه السلم عقر الجياد‬
‫الصافنات المحبوبة للنفوس‪ ،‬تقديما لمحبة اللّه‪ ،‬فعوضه اللّه خيرا من ذلك‪ ،‬بأن سخر له الريح‬
‫الرخاء اللينة‪ ،‬التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد‪ ،‬غدوها شهر‪ ،‬ورواحها شهر‪ ،‬وسخر له‬
‫الشياطين‪ ،‬أهل القتدار على العمال التي ل يقدر عليها الدميون‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن تسخير الشياطين ل يكون لحد بعد سليمان عليه السلم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن سليمان عليه السلم‪ ،‬كان ملكا نبيا‪ ،‬يفعل ما أراد‪ ،‬ولكنه ل يريد إل العدل‪ ،‬بخلف‬
‫النبي العبد‪ ،‬فإنه تكون إرادته تابعة لمر اللّه‪ ،‬فل يفعل ول يترك إل بالمر‪ ،‬كحال نبينا محمد‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬وهذه الحال أكمل‪.‬‬

‫صبٍ وَعَذَابٍ * ا ْر ُكضْ‬


‫{ ‪ { } 44 - 41‬وَا ْذكُرْ عَبْدَنَا أَيّوبَ ِإذْ نَادَى رَبّهُ أَنّي مَسّ ِنيَ الشّ ْيطَانُ بِ ُن ْ‬
‫ح َمةً مِنّا وَ ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ *‬
‫سلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *وَوَهَبْنَا َلهُ أَهَْل ُه َومِثَْلهُمْ َم َعهُمْ رَ ْ‬
‫بِرِجِْلكَ هَذَا ُمغْتَ َ‬
‫جدْنَا ُه صَابِرًا ِنعْمَ ا ْلعَ ْبدُ إِنّهُ َأوّابٌ }‬
‫ضغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْ َنثْ إِنّا وَ َ‬
‫ك ِ‬
‫وَخُذْ بِ َي ِد َ‬

‫أي‪ { :‬وَا ْذكُرْ } في هذا الكتاب ذي الذكر { عَ ْبدَنَا أَيّوبَ } بأحسن الذكر‪ ،‬وأثن عليه بأحسن الثناء‪،‬‬
‫حين أصابه الضر‪ ،‬فصبر على ضره‪ ،‬فلم يشتك لغير ربه‪ ،‬ول لجأ إل إليه‪.‬‬
‫صبٍ‬
‫فـ { نَادَى رَبّهُ } داعيا‪ ،‬وإليه ل إلى غيره شاكيا‪ ،‬فقال‪ :‬رب { أَنّي مَسّ ِنيَ الشّيْطَانُ بِ ُن ْ‬
‫وَعَذَابٍ } أي‪ :‬بأمر مشق متعب معذب‪ ،‬وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح‪ ،‬ثم تقيح بعد‬
‫ذلك واشتد به المر‪ ،‬وكذلك هلك أهله وماله‪.‬‬

‫فقيل له‪ { :‬ا ْر ُكضْ بِرِجِْلكَ } أي‪ :‬اضرب الرض بها‪ ،‬لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب‪،‬‬
‫فيذهب عنك الضر والذى‪ ،‬ففعل ذلك‪ ،‬فذهب عنه الضر‪ ،‬وشفاه اللّه تعالى‪.‬‬

‫{ َووَهَبْنَا َلهُ أَهْلَهُ } قيل‪ :‬إن اللّه تعالى أحياهم له { َومِثَْلهُمْ َم َعهُمْ } في الدنيا‪ ،‬وأغناه اللّه‪ ،‬وأعطاه‬
‫حمَةً مِنّا } بعبدنا أيوب‪ ،‬حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجل وآجل‪.‬‬
‫مال عظيما { َر ْ‬
‫{ وَ ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا‪ ،‬فيعلموا أن من صبر‬
‫على الضر‪ ،‬أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجل وآجل‪ ،‬ويستجيب دعاءه إذا دعاه‪.‬‬

‫ضغْثًا } أي حزمة شماريخ { فَاضْ ِربْ بِ ِه وَلَا َتحْ َنثْ }‬


‫{ َوخُذْ بِ َي ِدكَ ِ‬

‫قال المفسرون‪ :‬وكان في مرضه وضره‪ ،‬قد غضب على زوجته في بعض المور‪ ،‬فحلف‪ :‬لئن‬
‫شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة‪ ،‬فلما شفاه اللّه‪ ،‬وكانت امرأته صالحة محسنة إليه‪ ،‬رحمها اللّه‬
‫ورحمه‪ ،‬فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة‪ ،‬فيبر في يمينه‪.‬‬

‫{ إِنّا وَجَدْنَاهُ } أي‪ :‬أيوب { صَابِرًا } أي‪ :‬ابتليناه بالضر العظيم‪ ،‬فصبر لوجه اللّه تعالى‪ِ { .‬نعْمَ‬
‫ا ْلعَبْدُ } الذي كمل مراتب العبودية‪ ،‬في حال السراء والضراء‪ ،‬والشدة والرخاء‪.‬‬

‫{ إِنّهُ َأوّابٌ } أي‪ :‬كثير الرجوع إلى اللّه‪ ،‬في مطالبه الدينية والدنيوية‪ ،‬كثير الذكر لربه والدعاء‪،‬‬
‫والمحبة والتأله‪.‬‬

‫ق وَ َيعْقُوبَ أُولِي الْأَ ْيدِي وَالْأَ ْبصَارِ * إِنّا أَخَْلصْنَا ُهمْ‬


‫{ ‪ { } 47 - 45‬وَا ْذكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَا َ‬
‫طفَيْنَ الْأَخْيَارِ }‬
‫بِخَاِلصَةٍ ِذكْرَى الدّارِ * وَإِ ّنهُمْ عِنْدَنَا َلمِنَ ا ْل ُمصْ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَا ْذكُرْ عِبَادَنَا } الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا‪ { ،‬إِبْرَاهِيمَ } الخليل { و } ابنه‬
‫ق وَ } ابن ابنه { َي ْعقُوبَ أُولِي الْأَ ْيدِي } أي‪ :‬القوة على عبادة اللّه تعالى { وَالْأَ ْبصَارَ } أي‪:‬‬
‫{ ِإسْحَا َ‬
‫البصيرة في دين اللّه‪ .‬فوصفهم بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح الكثير‪.‬‬

‫صةٍ } عظيمة‪ ،‬وخصيصة جسيمة‪ ،‬وهي‪ِ { :‬ذكْرَى الدّارِ } جعلنا ذكرى الدار‬
‫{ إِنّا أَخَْلصْنَا ُهمْ بِخَاِل َ‬
‫الخرة في قلوبهم‪ ،‬والعمل لها صفوة وقتهم‪ ،‬والخلص والمراقبة للّه وصفهم الدائم‪ ،‬وجعلناهم‬
‫ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر‪ ،‬ويعتبر بهم المعتبر‪ ،‬ويذكرون بأحسن الذكر‪.‬‬
‫طفَيْنَ } الذين اصطفاهم اللّه من صفوة خلقه‪ { ،‬الَْأخْيَارِ } الذين لهم كل‬
‫{ وَإِ ّنهُمْ عِنْدَنَا َلمِنَ ا ْل ُمصْ َ‬
‫خلق كريم‪ ،‬وعمل مستقيم‪.‬‬

‫س َع وَذَا ا ْل ِك ْفلِ َو ُكلّ مِنَ الْأَخْيَارِ * هَذَا ِذكْرٌ }‬


‫ل وَالْيَ َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫{ ‪ { } 49 - 48‬وَا ْذكُرْ إِ ْ‬

‫أي‪ :‬واذكر هؤلء النبياء بأحسن الذكر‪ ،‬وأثن عليهم أحسن الثناء‪ ،‬فإن كل منهم من الخيار الذين‬
‫اختارهم اللّه من الخلق‪ ،‬واختار لهم أكمل الحوال‪ ،‬من العمال‪ ،‬والخلق‪ ،‬والصفات الحميدة‪،‬‬
‫والخصال السديدة‪.‬‬

‫{ هَذَا } أي‪ :‬ذكر هؤلء النبياء الصفوة وذكر أوصافهم‪ { ،‬ذكر } في هذا القرآن ذي الذكر‪،‬‬
‫يتذكر بأحوالهم المتذكرون‪ ،‬ويشتاق إلى القتداء بأوصافهم الحميدة المقتدون‪ ،‬ويعرف ما منّ اللّه‬
‫عليهم به من الوصاف الزكية‪ ،‬وما نشر لهم من الثناء بين البرية‪.‬‬

‫فهذا نوع من أنواع الذكر‪ ،‬وهو ذكر أهل الخير‪ ،‬ومن أنواع الذكر‪ ،‬ذ ْزقُنَا مَا لَهُ مِنْ َنفَادٍ }‬

‫حسْنَ‬
‫أي‪ { :‬وَإِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ } ربهم‪ ،‬بامتثال الوامر واجتناب النواهي‪ ،‬من كل مؤمن ومؤمنة‪ { ،‬لَ ُ‬
‫مَآبٍ } أي‪ :‬لمآبا حسنا‪ ،‬ومرجعا مستحسنا‪.‬‬

‫ثم فسره وفصله فقال‪ { :‬جَنّاتِ عَدْنٍ } أي‪ :‬جنات إقامة‪ ،‬ل يبغي صاحبها بدل منها‪ ،‬من كمالها‬
‫وتمام نعيمها‪ ،‬وليسوا بخارجين منها ول بمخرجين‪.‬‬

‫حةً َلهُمُ الْأَ ْبوَابُ } أي‪ :‬مفتحة لجلهم أبواب منازلها ومساكنها‪ ،‬ل يحتاجون أن يفتحوها هم ‪،‬‬
‫{ ُمفَتّ َ‬
‫بل هم مخدومون‪ ،‬وهذا دليل أيضا على المان التام‪ ،‬وأنه ليس في جنات عدن‪ ،‬ما يوجب أن‬
‫تغلق لجله أبوابها‪.‬‬

‫{ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا } على الرائك المزينات‪ ،‬والمجالس المزخرفات‪َ { .‬يدْعُونَ فِيهَا } أي‪ :‬يأمرون‬
‫خدامهم‪ ،‬أن يأتوا { ِبفَا ِكهَةٍ كَثِي َر ٍة وَشَرَابٍ } من كل ما تشتهيه نفوسهم‪ ،‬وتلذه أعينهم‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على كمال النعيم‪ ،‬وكمال الراحة والطمأنينة‪ ،‬وتمام اللذة‪.‬‬

‫{ وَعِنْ َدهُمْ } من أزواجهم‪ ،‬الحور العين { قَاصِرَاتُ } طرفهن على أزواجهن‪ ،‬وطرف أزواجهن‬
‫عليهن‪ ،‬لجمالهم كلهم‪ ،‬ومحبة كل منهما للخر‪ ،‬وعدم طموحه لغيره‪ ،‬وأنه ل يبغي بصاحبه بدل‪،‬‬
‫ول عنه عوضا‪ { .‬أَتْرَابٌ } أي‪ :‬على سن واحد‪ ،‬أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه‪.‬‬

‫{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ } أيها المتقون { لِ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ } جزاء على أعمالكم الصالحة‪.‬‬
‫{ إِنّ هَذَا لَرِ ْزقُنَا } الذي أوردناه على أهل دار النعيم { مَا لَهُ مِنْ َنفَادٍ } أي‪ :‬انقطاع‪ ،‬بل هو دائم‬
‫مستقر في جميع الوقات‪ ،‬متزايد في جميع النات‪.‬‬

‫وليس هذا بعظيم على الرب الكريم‪ ،‬الرءوف الرحيم‪ ،‬البر الجواد‪ ،‬الواسع الغني‪ ،‬الحميد اللطيف‬
‫الرحمن‪ ،‬الملك الديان‪ ،‬الجليل الجميل المنان‪ ،‬ذي الفضل الباهر‪ ،‬والكرم المتواتر‪ ،‬الذي ل تحصى‬
‫نعمه‪ ،‬ول يحاط ببعض بره‪.‬‬

‫حمِيمٌ‬
‫جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ * َهذَا فَلْ َيذُوقُوهُ َ‬
‫{ ‪َ { } 64 - 55‬هذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * َ‬
‫شكْلِهِ أَ ْزوَاجٌ * َهذَا َفوْجٌ ُمقْتَحِمٌ َم َعكُمْ لَا مَرْحَبًا ِبهِمْ إِ ّنهُ ْم صَالُوا النّارِ * قَالُوا‬
‫وَغَسّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ َ‬
‫ضعْفًا‬
‫َبلْ أَنْتُمْ لَا مَ ْرحَبًا ِبكُمْ أَنْ ُتمْ قَ ّدمْ ُتمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ * قَالُوا رَبّنَا مَنْ َقدّمَ لَنَا هَذَا فَزِ ْدهُ عَذَابًا ِ‬
‫غتْ عَ ْنهُمُ‬
‫خذْنَاهُمْ سِخْرِيّا أَمْ زَا َ‬
‫فِي النّارِ * َوقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنّا َنعُدّ ُهمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَأَتّ َ‬
‫صمُ أَ ْهلِ النّارِ }‬
‫حقّ تَخَا ُ‬
‫الْأَ ْبصَارُ * إِنّ ذَِلكَ لَ َ‬

‫{ هَذَا } الجزاء للمتقين ما وصفناه { وَإِنّ لِلطّاغِينَ } أي‪ :‬المتجاوزين للحد في الكفر والمعاصي‬
‫{ َلشَرّ مَآبٍ } أي‪ :‬لشر مرجع ومنقلب‪.‬‬

‫جهَنّمَ } التي جمع فيها كل عذاب‪ ،‬واشتد حرها‪ ،‬وانتهى قرها { َيصَْلوْ َنهَا } أي‪:‬‬
‫ثم فصله فقال‪َ { :‬‬
‫يعذبون فيها عذابا يحيط بهم من كل وجه‪ ،‬لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل‪.‬‬

‫{ فَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } المعد لهم مسكنا ومستقرا‪.‬‬

‫حمِيمٌ } ماء حار‪ ،‬قد‬


‫{ هَذَا } المهاد‪ ،‬هذا العذاب الشديد‪ ،‬والخزي والفضيحة والنكال { فَلْ َيذُوقُوهُ َ‬
‫اشتد حره‪ ،‬يشربونه فَيقَطعُ أمعاءهم‪ { .‬وَغَسّاقٌ } وهو أكره ما يكون من الشراب‪ ،‬من قيح‬
‫وصديد‪ ،‬مر المذاق‪ ،‬كريه الرائحة‪.‬‬

‫شكِْلهِ } أي‪ :‬من نوعه { أَ ْزوَاجٌ } أي‪ :‬عدة أصناف من أصناف العذاب‪ ،‬يعذبون بها‬
‫{ وَآخَرُ مِنْ َ‬
‫ويخزون بها‪.‬‬

‫حمٌ َم َعكُمْ }‬
‫وعند تواردهم على النار يشتم بعضهم بعضا‪ ،‬ويقول بعضهم لبعض‪َ { :‬هذَا َفوْجٌ مُقْتَ ِ‬
‫النار { لَا مَرْحَبًا ِبهِمْ إِ ّنهُ ْم صَالُوا النّارِ }‬

‫{ قَالُوا } أي‪ :‬الفوج المقبل المقتحم‪َ { :‬بلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا ِبكُمْ أَنْتُمْ َق ّدمْ ُتمُوهُ } أي‪ :‬العذاب { لَنَا }‬
‫بدعوتكم لنا‪ ،‬وفتنتكم وإضللكم وتسببكم‪ { .‬فَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } قرار الجميع‪ ،‬قرار السوء والشر‪.‬‬
‫ض ْعفًا فِي النّارِ } وقال في‬
‫عذَابًا ِ‬
‫ثم دعوا على المغوين لهم‪ ،‬فـ { قَالُوا رَبّنَا مَنْ قَدّمَ لَنَا َهذَا فَزِ ْدهُ َ‬
‫ض ْعفٌ وََلكِنْ لَا َتعَْلمُونَ }‬
‫ل ِ‬
‫الية الخرى‪ { :‬قَالَ ِل ُك ّ‬

‫{ َوقَالُوا } وهم في النار { مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنّا َنعُدّ ُهمْ مِنَ الْأَشْرَارِ } أي‪ :‬كنا نزعم أنهم من‬
‫الشرار‪ ،‬المستحقين لعذاب النار‪ ،‬وهم المؤمنون‪ ،‬تفقدهم أهل النار ‪ -‬قبحهم اللّه ‪ -‬هل يرونهم‬
‫في النار؟‬

‫غتْ عَ ْنهُمْ الْأَ ْبصَارُ } أي‪ :‬عدم رؤيتنا لهم دائر بين أمرين‪ :‬إما أننا‬
‫{ أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّا َأمْ زَا َ‬
‫غالطون في عدنا إياهم من الشرار‪ ،‬بل هم من الخيار‪ ،‬وإنما كلمنا لهم من باب السخرية‬
‫والستهزاء بهم‪ ،‬وهذا هو الواقع‪ ،‬كما قال تعالى لهل النار‪ { :‬إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي َيقُولُونَ‬
‫س ْوكُمْ ِذكْرِي َوكُنْتُمْ‬
‫حمِينَ *فَاتّخَذْ ُتمُوهُمْ سِخْرِيّا حَتّى أَنْ َ‬
‫حمْنَا وَأَ ْنتَ خَيْرُ الرّا ِ‬
‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫رَبّنَا آمَنّا فَا ْ‬
‫حكُونَ }‬
‫مِ ْنهُمْ َتضْ َ‬

‫والمر الثاني‪ :‬أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب‪ ،‬وإل فهم معنا معذبون‬
‫ولكن تجاوزتهم أبصارنا‪ ،‬فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم‪ ،‬فتكون العقائد التي اعتقدوها في الدنيا‪،‬‬
‫وكثرة ما حكموا لهل اليمان بالنار‪ ،‬تمكنت من قلوبهم‪ ،‬وصارت صبغة لها‪ ،‬فدخلوا النار وهم‬
‫بهذه الحالة‪ ،‬فقالوا ما قالوا‪.‬‬

‫ويحتمل أن كلمهم هذا كلم تمويه‪ ،‬كما موهوا في الدنيا‪ ،‬موهوا حتى في النار‪ ،‬ولهذا يقول أهل‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا‬
‫حمَةٍ ادْخُلُوا ا ْلجَنّةَ لَا َ‬
‫سمْتُمْ لَا يَنَاُل ُهمُ اللّهُ بِ َر ْ‬
‫العراف لهل النار‪ { :‬أَ َهؤُلَاءِ الّذِينَ َأ ْق َ‬
‫أَنْتُمْ َتحْزَنُونَ }‬

‫قال تعالى مؤكدا ما أخبر به‪ ،‬وهو أصدق القائلين‪ { :‬إِنّ ذَِلكَ } الذي ذكرت لكم { َلحَقّ } ما فيه‬
‫شك ول مرية { َتخَاصُمُ َأ ْهلِ النّارِ }‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ‬


‫حدُ ا ْل َقهّارُ * َربّ ال ّ‬
‫{ ‪ُ { } 88 - 65‬قلْ إِ ّنمَا أَنَا مُنْذِ ٌر َومَا مِنْ إَِلهٍ إِلّا اللّهُ ا ْلوَا ِ‬
‫عظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ ُمعْ ِرضُونَ * مَا كَانَ ِليَ مِنْ عِلْمٍ بِا ْلمَلَإِ‬
‫َومَا بَيْ َن ُهمَا ا ْلعَزِيزُ ا ْلغَفّارُ * ُقلْ ُهوَ نَبَأٌ َ‬
‫صمُونَ * إِنْ يُوحَى إَِليّ إِلّا أَ ّنمَا أَنَا َنذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَ ّبكَ ِل ْلمَلَا ِئكَةِ إِنّي خَاِلقٌ بَشَرًا‬
‫الْأَعْلَى إِذْ َيخْ َت ِ‬
‫ج َمعُونَ *‬
‫سجَدَ ا ْلمَلَا ِئكَةُ كُّلهُمْ أَ ْ‬
‫ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي َف َقعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَ َ‬
‫سوّيْتُهُ وَنَفَ ْ‬
‫مِنْ طِينٍ * فَإِذَا َ‬
‫إِلّا إِبْلِيسَ اسْ َتكْبَ َر َوكَانَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَنْ َتسْجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ بِيَ َديّ أَسْ َتكْبَ ْرتَ‬
‫أَمْ كُ ْنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَا ٍر َوخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِ ْنهَا فَإِ ّنكَ‬
‫رَجِيمٌ * وَإِنّ عَلَ ْيكَ َلعْنَتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ * قَالَ َربّ فَأَ ْنظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ * قَالَ فَإِ ّنكَ مِنَ‬
‫ج َمعِينَ * إِلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ‬
‫غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫ا ْلمُنْظَرِينَ * إِلَى َي ْومِ ا ْل َو ْقتِ ا ْل َمعْلُومِ * قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لَأُ ْ‬
‫ج َمعِينَ * ُقلْ مَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ‬
‫جهَنّمَ مِ ْنكَ َو ِممّنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ َأ ْ‬
‫حقّ َأقُولُ * لََأمْلَأَنّ َ‬
‫ق وَالْ َ‬
‫حّ‬‫* قَالَ فَالْ َ‬
‫أَجْ ٍر َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُ َتكَلّفِينَ * إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * وَلَ َتعَْلمُنّ نَبََأهُ َبعْدَ حِينٍ }‬

‫{ ُقلْ } يا أيها الرسول لهؤلء المكذبين‪ ،‬إن طلبوا منك ما ليس لك ول بيدك‪ { :‬إِ ّنمَا أَنَا مُنْذِرٌ } هذا‬
‫نهاية ما عندي‪ ،‬وأما المر فلله تعالى‪ ،‬ولكني آمركم‪ ،‬وأنهاكم‪ ،‬وأحثكم على الخير وأزجركم عن‬
‫ضلّ َفعَلَ ْيهَا { َومَا مِنْ إِلَهٍ إِلّا اللّهُ } أي‪ :‬ما أحد يؤله ويعبد بحق إل‬
‫ن َ‬
‫الشر َفمَنِ اهْتَدَى فَلِ َنفْسِ ِه َومَ ْ‬
‫حدُ ا ْل َقهّارُ } هذا تقرير للوهيته‪ ،‬بهذا البرهان القاطع‪ ،‬وهو وحدته تعالى‪ ،‬وقهره لكل‬
‫اللّه { ا ْلوَا ِ‬
‫شيء‪ ،‬فإن القهر ملزم للوحدة‪ ،‬فل يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا‪.‬‬

‫فالذي يقهر جميع الشياء هو الواحد الذي ل نظير له‪ ،‬وهو الذي يستحق أن يعبد وحده‪ ،‬كما كان‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا } أي‪:‬‬
‫قاهرا وحده‪ ،‬وقرر ذلك أيضا بتوحيد الربوبية فقال‪َ { :‬ربّ ال ّ‬
‫خالقهما‪ ،‬ومربيهما‪ ،‬ومدبرها بجميع أنواع التدابير‪ { .‬ا ْلعَزِيزُ } الذي له القوة‪ ،‬التي بها خلق‬
‫المخلوقات العظيمة‪ { .‬ا ْل َغفّارُ } لجميع الذنوب‪ ،‬صغيرها‪ ،‬وكبيرها‪ ،‬لمن تاب إليه وأقلع منها‪.‬‬

‫فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد‪ ،‬دون من ل يخلق ول يرزق‪ ،‬ول يضر ول ينفع‪ ،‬ول يملك من‬
‫المر شيئا‪ ،‬وليس له قوة القتدار‪ ،‬ول بيده مغفرة الذنوب والوزار‪.‬‬

‫{ ُقلْ } لهم‪ ،‬مخوفا ومحذرا‪ ،‬ومنهضا لهم ومنذرا‪ُ { :‬هوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي‪ :‬ما أنبأتكم به من البعث‬
‫والنشور والجزاء على العمال‪ ،‬خبر عظيم ينبغي الهتمام الشديد بشأنه‪ ،‬ول ينبغي إغفاله‪.‬‬

‫ولكن { أَنْتُمْ عَنْهُ ُمعْ ِرضُونَ } كأنه ليس أمامكم حساب ول عقاب ول ثواب‪ ،‬فإن شككتم في قولي‪،‬‬
‫وامتريتم في خبري‪ ،‬فإني أخبركم بأخبار ل علم لي بها ول درستها في كتاب‪ ،‬فإخباري بها على‬
‫وجهها‪ ،‬من غير زيادة ول نقص‪ ،‬أكبر شاهد لصدقي‪ ،‬وأدل دليل على حق ما جئتكم به‪ ،‬ولهذا‬
‫صمُونَ } لول تعليم اللّه إياي‪،‬‬
‫قال‪ { :‬مَا كَانَ ِليَ مِنْ عِلْمٍ بِا ْلمَلَإِ الْأَعْلَى } أي‪ :‬الملئكة { إِذْ يَخْ َت ِ‬
‫وإيحاؤه إلي‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنْ يُوحَى إَِليّ إِلّا أَ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬ظاهر النذارة‪ ،‬جليها‪ ،‬فل‬
‫نذير أبلغ من نذارته صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬

‫ثم ذكر اختصام المل العلى فقال‪ { :‬إِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَا ِئ َكةِ } على وجه الخبار { إِنّي خَاِلقٌ بَشَرًا‬
‫مِنْ طِينٍ } أي‪ :‬مادته من طين‪.‬‬

‫ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي َف َقعُوا َلهُ سَاجِدِينَ } فوطّن‬


‫سوّيْتُهُ } أي‪ :‬سويت جسمه وتم‪ { ،‬وَ َنفَ ْ‬
‫{ فَِإذَا َ‬
‫الملئكة الكرام أنفسهم على ذلك‪ ،‬حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه‪ ،‬امتثال لربهم‪ ،‬وإكراما لدم عليه‬
‫السلم‪ ،‬فلما تم خلقه في بدنه وروحه‪ ،‬وامتحن اللّه آدم والملئكة في العلم‪ ،‬وظهر فضله عليهم‪،‬‬
‫أمرهم اللّه بالسجود‪.‬‬

‫فسجدوا كلهم أجمعون إل إبليس لم يسجد { اسْ َتكْبَرَ } عن أمر ربه‪ ،‬واستكبر على آدم { َوكَانَ مِنَ‬
‫ا ْلكَافِرِينَ } في علم اللّه تعالى‪.‬‬

‫سجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ بِ َي َديّ } أي‪ :‬شرفته وكرمته‬


‫فـ { قَالَ } اللّه موبخا ومعاتبا‪ { :‬مَا مَ َن َعكَ أَنْ تَ ْ‬
‫واختصصته بهذه الخصيصة‪ ،‬التي اختص بها عن سائر الخلق‪ ،‬وذلك يقتضي عدم التكبر عليه‪.‬‬

‫{ أسْ َتكْبَ ْرتَ } في امتناعك { أَمْ كُ ْنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }‬

‫{ قَالَ } إبليس معارضا لربه ومناقضا‪ { :‬أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وبزعمه‬
‫أن عنصر النار خير من عنصر الطين‪ ،‬وهذا من القياس الفاسد‪ ،‬فإن عنصر النار مادة الشر‬
‫والفساد‪ ،‬والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإخراج أنواع الشجار‬
‫والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها‪ ،‬والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها‪ ،‬والطين قائم بنفسه‪ ،‬فهذا‬
‫قياس شيخ القوم‪ ،‬الذي عارض به المر الشفاهي من اللّه‪ ،‬قد تبين غاية بطلنه وفساده‪ ،‬فما بالك‬
‫بأقيسة التلميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها أعظم بطلنا وفسادا من هذا القياس‪.‬‬

‫فـ { قَالَ } اللّه له‪ { :‬فَاخْرُجْ مِ ْنهَا } أي‪ :‬من السماء والمحل الكريم‪ { .‬فَإِ ّنكَ َرجِيمٌ } أي‪ :‬مبعد‬
‫مدحور‪.‬‬

‫{ وَإِنّ عَلَ ْيكَ َلعْنَتِي } أي‪ :‬طردي وإبعادي { ِإلَى َيوْمِ الدّينِ } أي‪ :‬دائما أبدا‪.‬‬

‫{ قَالَ َربّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } لشدة عداوته لدم وذريته‪ ،‬ليتمكن من إغواء من قدر اللّه‬
‫أن يغويه‪.‬‬

‫فـ(قال) اللّه مجيبا لدعوته‪ ،‬حيث اقتضت حكمته ذلك‪ { :‬فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُ ْنظَرِينَ إِلَى َيوْمِ ا ْل َو ْقتِ‬
‫ا ْل َمعْلُومِ } حين تستكمل الذرية‪ ،‬يتم المتحان‪.‬‬

‫فلما علم أنه منظر‪ ،‬بادى ربه‪ ،‬من خبثه‪ ،‬بشدة العداوة لربه ولدم وذريته‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ ِبعِزّ ِتكَ‬
‫ج َمعِينَ } يحتمل أن الباء للقسم‪ ،‬وأنه أقسم بعزة اللّه ليغوينهم كلهم أجمعين‪.‬‬
‫غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫لَأُ ْ‬
‫{ ِإلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ } علم أن ال سيحفظهم من كيده‪ .‬ويحتمل أن الباء للستعانة‪ ،‬وأنه لما‬
‫علم أنه عاجز من كل وجه‪ ،‬وأنه ل يضل أحدا إل بمشيئة اللّه تعالى‪ ،‬فاستعان بعزة اللّه على‬
‫إغواء ذرية آدم هذا‪ ،‬وهو عدو اللّه حقا‪.‬‬

‫ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون‪ ،‬المقرون لك بكل نعمة‪ ،‬ذرية من شرفته وكرمته‪ ،‬فنستعين‬
‫بعزتك العظيمة‪ ،‬وقدرتك‪ ،‬ورحمتك الواسعة لكل مخلوق‪ ،‬ورحمتك التي أوصلت إلينا بها‪ ،‬ما‬
‫أوصلت من النعم الدينية والدنيوية‪ ،‬وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم‪ ،‬أن تعيننا على محاربته‬
‫وعداوته‪ ،‬والسلمة من شره وشركه‪ ،‬ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا‪ ،‬ونؤمن بوعدك الذي‬
‫قلت لنا‪ { :‬وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فقد دعوناك كما أمرتنا‪ ،‬فاستجب لنا كما وعدتنا‪.‬‬
‫{ إنك ل تخلف الميعاد }‬

‫حقّ َأقُولُ } أي‪ :‬الحق وصفي‪ ،‬والحق قولي‪.‬‬


‫ق وَالْ َ‬
‫حّ‬‫{ قَالَ } اللّه تعالى { فَالْ َ‬

‫ج َمعِينَ } فلما بين الرسول للناس الدليل ووضح لهم السبيل‬


‫ك َو ِممّنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ أَ ْ‬
‫جهَنّمَ مِ ْن َ‬
‫{ لََأمْلَأَنّ َ‬
‫قال ال له‪:‬‬

‫{ ُقلْ مَا َأسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ } أي‪ :‬على دعائي إياكم { مِنْ َأجْ ٍر َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُ َتكِّلفِينَ } أدعي أمرا ليس‬
‫لي‪ ،‬وأقفو ما ليس لي به علم‪ ،‬ل أتبع إل ما يوحى إليّ‪.‬‬

‫{ إِنْ ُهوَ } أي‪ :‬هذا الوحي والقرآن { إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به كل ما ينفعهم‪ ،‬من مصالح‬
‫دينهم ودنياهم‪ ،‬فيكون شرفا ورفعة للعاملين به‪ ،‬وإقامة حجة على المعاندين‪.‬‬

‫فهذه السورة العظيمة‪ ،‬مشتملة على الذكر الحكيم‪ ،‬والنبأ العظيم‪ ،‬وإقامة الحجج والبراهين‪ ،‬على‬
‫من كذب بالقرآن وعارضه‪ ،‬وكذب من جاء به‪ ،‬والخبار عن عباد اللّه المخلصين‪ ،‬وجزاء‬
‫المتقين والطاغين‪ .‬فلهذا أقسم في أولها بأنه ذو الذكر‪ ،‬ووصفه في آخرها بأنه ذكر للعالمين‪.‬‬

‫وأكثر التذكير بها فيما بين ذلك‪ ،‬كقوله‪ { :‬واذكر عبدنا } ‪ { -‬واذكر عبادنا } ‪ { -‬رحمة من عندنا‬
‫وذكرى } { هذا ذكر }‬

‫اللّهم علمنا منه ما جهلنا‪ ،‬وذكرنا منه ما نسينا‪ ،‬نسيان غفلة ونسيان ترك‪.‬‬

‫{ وَلَ َتعَْلمُنّ نَبََأهُ } أي‪ :‬خبره { َبعْدَ حِينٍ } وذلك حين يقع عليهم العذاب وتتقطع عنهم السباب‪.‬‬

‫تم تفسير سورة ص بمنه تعالى وعونه‪.‬‬


‫تفسير سورة الزمر‬
‫وهي مكية‬

‫حكِيمِ * إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫خذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ مَا‬
‫ص وَالّذِينَ اتّ َ‬
‫حقّ فَاعْبُدِ اللّهَ مُخِْلصًا َلهُ الدّينَ * أَلَا لِلّهِ الدّينُ الْخَاِل ُ‬
‫ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَِلفُونَ إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ‬
‫َنعْبُدُ ُهمْ إِلّا لِ ُيقَرّبُونَا إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى إِنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫ُهوَ كَا ِذبٌ َكفّارٌ }‬

‫يخبر تعالى عن عظمة القرآن‪ ،‬وجللة من تكلم به ونزل منه‪ ،‬وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم‪،‬‬
‫أي‪ :‬الذي وصفه اللوهية للخلق‪ ،‬وذلك لعظمته وكماله‪ ،‬والعزة التي قهر بها كل مخلوق‪ ،‬وذل له‬
‫كل شيء‪ ،‬والحكمة في خلقه وأمره‪.‬‬

‫فالقرآن نازل ممن هذا وصفه‪ ،‬والكلم وصف للمتكلم‪ ،‬والوصف يتبع الموصوف‪ ،‬فكما أن اللّه‬
‫تعالى هو الكامل من كل وجه‪ ،‬الذي ل مثيل له‪ ،‬فكذلك كلمه كامل من كل وجه ل مثيل له‪ ،‬فهذا‬
‫وحده كاف في وصف القرآن‪ ،‬دال على مرتبته‪.‬‬

‫ولكنه ‪ -‬مع هذا ‪ -‬زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه‪ ،‬وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬الذي هو‬
‫أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب‪ ،‬وبما نزل به‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬فنزل بالحق الذي ل مرية فيه‪،‬‬
‫لخراج الخلق من الظلمات إلى النور‪ ،‬ونزل مشتمل على الحق في أخباره الصادقة‪ ،‬وأحكامه‬
‫العادلة‪ ،‬فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق‪ ،‬من جميع المطالب العلمية‪ ،‬وما بعد الحق إل‬
‫الضلل‪.‬‬

‫ولما كان نازل من الحق‪ ،‬مشتمل على الحق لهداية الخلق‪ ،‬على أشرف الخلق‪ ،‬عظمت فيه‬
‫خِلصًا لَهُ‬
‫النعمة‪ ،‬وجلّت‪ ،‬ووجب القيام بشكرها‪ ،‬وذلك بإخلص الدين للّه‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬فَاعْبُدِ اللّهَ مُ ْ‬
‫الدّينَ } أي‪ :‬أخلص للّه تعالى جميع دينك‪ ،‬من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة‪ :‬السلم‬
‫واليمان والحسان‪ ،‬بأن تفرد اللّه وحده بها‪ ،‬وتقصد به وجهه‪ ،‬ل غير ذلك من المقاصد‪.‬‬

‫{ َألَا لِلّهِ الدّينُ ا ْلخَاِلصُ } هذا تقرير للمر بالخلص‪ ،‬وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله‪ ،‬وله‬
‫التفضل على عباده من جميع الوجوه‪ ،‬فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب‪ ،‬فهو‬
‫الدين الذي ارتضاه لنفسه‪ ،‬وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به‪ ،‬لنه متضمن للتأله للّه في حبه‬
‫وخوفه ورجائه‪ ،‬وللنابة إليه في عبوديته‪ ،‬والنابة إليه في تحصيل مطالب عباده‪.‬‬
‫وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها‪ ،‬دون الشرك به في شيء من العبادة‪ .‬فإن اللّه بريء‬
‫منه‪ ،‬وليس للّه فيه شيء‪ ،‬فهو أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬وهو مفسد للقلوب والرواح والدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء‪ ،‬فلذلك لما أمر بالتوحيد والخلص‪ ،‬نهى عن الشرك به‪،‬‬
‫وأخبر بذم من أشرك به فقال‪ { :‬وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ } أي‪ :‬يتولونهم بعبادتهم ودعائهم‪،‬‬
‫[معتذرين] عن أنفسهم وقائلين‪ { :‬مَا َنعْ ُبدُهُمْ إِلّا لِ ُيقَرّبُونَا إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى } أي‪ :‬لترفع حوائجنا للّه‪،‬‬
‫وتشفع لنا عنده‪ ،‬وإل‪ ،‬فنحن نعلم أنها‪ ،‬ل تخلق‪ ،‬ول ترزق‪ ،‬ول تملك من المر شيئا‪.‬‬

‫أي‪ :‬فهؤلء‪ ،‬قد تركوا ما أمر اللّه به من الخلص‪ ،‬وتجرأوا على أعظم المحرمات‪ ،‬وهو‬
‫الشرك‪ ،‬وقاسوا الذي ليس كمثله شيء‪ ،‬الملك العظيم‪ ،‬بالملوك‪ ،‬وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم‬
‫السقيم‪ ،‬أن الملوك كما أنه ل يوصل إليهم إل بوجهاء‪ ،‬وشفعاء‪ ،‬ووزراء يرفعون إليهم حوائج‬
‫رعاياهم‪ ،‬ويستعطفونهم عليهم‪ ،‬ويمهدون لهم المر في ذلك‪ ،‬أن اللّه تعالى كذلك‪.‬‬

‫وهذا القياس من أفسد القيسة‪ ،‬وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق‪ ،‬مع ثبوت الفرق‬
‫العظيم‪ ،‬عقل ونقل وفطرة‪ ،‬فإن الملوك‪ ،‬إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم‪ ،‬لنهم ل‬
‫يعلمون أحوالهم‪ .‬فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم‪ ،‬وربما ل يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة‪،‬‬
‫فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء‪ ،‬ويخافون منهم‪،‬‬
‫فيقضون حوائج من توسطوا لهم‪ ،‬مراعاة لهم‪ ،‬ومداراة لخواطرهم‪ ،‬وهم أيضا فقراء‪ ،‬قد يمنعون‬
‫لما يخشون من الفقر‪.‬‬

‫وأما الرب تعالى‪ ،‬فهو الذي أحاط علمه بظواهر المور وبواطنها‪ ،‬الذي ل يحتاج من يخبره‬
‫بأحوال رعيته وعباده‪ ،‬وهو تعالى أرحم الراحمين‪ ،‬وأجود الجودين‪ ،‬ل يحتاج إلى أحد من خلقه‬
‫يجعله راحما لعباده‪ ،‬بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم‪ ،‬وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى‬
‫السباب التي ينالون بها رحمته‪ ،‬وهو يريد من مصالحهم ما ل يريدونه لنفسهم‪ ،‬وهو الغني‪،‬‬
‫الذي له الغنى التام المطلق‪ ،‬الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه‪،‬‬
‫فأعطى كل منهم ما سأل وتمنى‪ ،‬لم ينقصوا من غناه شيئا‪ ،‬ولم ينقصوا مما عنده‪ ،‬إل كما ينقص‬
‫البحر إذا غمس فيه المخيط‪.‬‬

‫وجميع الشفعاء يخافونه‪ ،‬فل يشفع منهم أحد إل بإذنه‪ ،‬وله الشفاعة كلها‪.‬‬

‫فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به‪ ،‬وسفههم العظيم‪ ،‬وشدة جراءتهم عليه‪.‬‬
‫ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك ل يغفره اللّه تعالى‪ ،‬لنه يتضمن القدح في اللّه تعالى‪ ،‬ولهذا‬
‫ح ُكمُ‬
‫قال حاكما بين الفريقين‪ ،‬المخلصين والمشركين‪ ،‬وفي ضمنه التهديد للمشركين‪ { :-‬إِنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫بَيْ َنهُمْ فِيمَا ُهمْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ }‬

‫وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم‪ ،‬ومن يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه‬
‫الجنة‪ ،‬ومأواه النار‪ { .‬إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي } أي‪ :‬ل يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم { مَنْ ُهوَ‬
‫كَا ِذبٌ َكفّارٌ } أي‪ :‬وصفه الكذب أو الكفر‪ ،‬بحيث تأتيه المواعظ واليات‪ ،‬ول يزول عنه ما اتصف‬
‫به‪ ،‬ويريه اللّه اليات‪ ،‬فيجحدها ويكفر بها ويكذب‪ ،‬فهذا أنّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب‪،‬‬
‫وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه‪ ،‬فهو ل يؤمن؟"‬

‫خلُقُ مَا َيشَاءُ سُ ْبحَانَهُ ُهوَ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْل َقهّارُ }‬


‫طفَى ِممّا يَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 4‬لوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَتّخِ َذ وَلَدًا لَاصْ َ‬

‫طفَى ِممّا‬
‫صَ‬‫أي‪َ { :‬لوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَتّخِ َذ وَلَدًا } كما زعم ذلك من زعمه‪ ،‬من سفهاء الخلق‪ { .‬لَا ْ‬
‫يَخُْلقُ مَا يَشَاءُ } أي‪ :‬لصطفى بعض مخلوقاته التي يشاء اصطفاءه‪ ،‬واختصه لنفسه‪ ،‬وجعله‬
‫بمنزلة الولد‪ ،‬ولم يكن حاجة إلى اتخاذ الصاحبة‪.‬‬

‫{ سُبْحَا َنهُ } عما ظنه به الكافرون‪ ،‬أو نسبه إليه الملحدون‪.‬‬

‫{ ُهوَ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْل َقهّارُ } أي‪ :‬الواحد في ذاته‪ ،‬وفي أسمائه‪ ،‬وفي صفاته‪ ،‬وفي أفعاله‪ ،‬فل شبيه له‬
‫في شيء من ذلك‪ ،‬ول مماثل‪ ،‬فلو كان له ولد‪ ،‬لقتضى أن يكون شبيها له في وحدته‪ ،‬لنه‬
‫بعضه‪ ،‬وجزء منه‪.‬‬

‫القهار لجميع العالم العلوي والسفلي‪ ،‬فلو كان له ولد لم يكن مقهورا‪ ،‬ولكان له إدلل على أبيه‬
‫ومناسبة منه‪.‬‬

‫ووحدته تعالى وقهره متلزمان‪ ،‬فالواحد ل يكون إل قهارا‪ ،‬والقهار ل يكون إل واحدا‪ ،‬وذلك‬
‫ينفي الشركة له من كل وجه‪.‬‬

‫حقّ ُي َكوّرُ اللّ ْيلَ عَلَى ال ّنهَا ِر وَ ُيكَوّرُ ال ّنهَارَ عَلَى اللّ ْيلِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 7 - 5‬خََلقَ ال ّ‬
‫س وَاحِ َدةٍ ثُمّ‬
‫خَلقَكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬
‫سمّى أَلَا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َغفّارُ * َ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي لِأَ َ‬
‫شمْ َ‬
‫وَسَخّرَ ال ّ‬
‫جهَا وَأَنْ َزلَ َلكُمْ مِنَ الْأَ ْنعَامِ َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ يَخُْل ُقكُمْ فِي ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ خَ ْلقًا مِنْ َبعْدِ خَلْقٍ‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫َ‬
‫فِي ظُُلمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ * إِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ‬
‫شكُرُوا يَ ْرضَهُ َلكُ ْم وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى ثُمّ إِلَى رَ ّبكُمْ‬
‫عَ ْنكُ ْم وَلَا يَ ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْل ُكفْرَ وَإِنْ تَ ْ‬
‫ج ُعكُمْ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }‬
‫مَرْ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } أي‪ :‬بالحكمة والمصلحة‪ ،‬وليأمر العباد وينهاهم‪،‬‬
‫يخبر تعالى أنه { خَلَقَ ال ّ‬
‫ويثيبهم ويعاقبهم‪.‬‬

‫{ ُي َكوّرُ اللّ ْيلَ عَلَى ال ّنهَا ِر وَ ُي َكوّرُ ال ّنهَارَ عَلَى اللّ ْيلِ } أي‪ :‬يدخل كل منهما على الخر‪ ،‬ويحله‬
‫محله‪ ،‬فل يجتمع هذا وهذا‪ ،‬بل إذا أتى أحدهما انعزل الخر عن سلطانه‪.‬‬

‫س وَا ْلقَمَرَ } بتسخير منظم‪ ،‬وسير مقنن‪ُ { .‬كلّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي }‬
‫شمْ َ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫سمّى } وهو انقضاء هذه الدار وخرابها‪ ،‬فيخرب اللّه آلتها‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫متأثرا عن تسخيره تعالى { لِأَ َ‬
‫وشمسها وقمرها‪ ،‬وينشئ الخلق نشأة جديدة ليستقروا في دار القرار‪ ،‬الجنة أو النار‪.‬‬

‫{ َألَا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي ل يغالب‪ ،‬القاهر لكل شيء‪ ،‬الذي ل يستعصي عليه شيء‪ ،‬الذي من عزته‬
‫ببأوجد هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬وسخرها تجري بأمره‪ { .‬ا ْل َغفّارُ } لذنوب عباده التوابين‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا ثُمّ اهْتَدَى } الغفار لمن‬
‫ن وَ َ‬
‫ب وَآمَ َ‬
‫المؤمنين‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنّي َل َغفّارٌ ِلمَنْ تَا َ‬
‫أشرك به بعد ما رأى من آياته العظيمة‪ ،‬ثم تاب وأناب‪.‬‬

‫ج َعلَ‬
‫ح َدةٍ } على كثرتكم وانتشاركم‪ ،‬في أنحاء الرض‪ُ { ،‬ثمّ َ‬
‫س وَا ِ‬
‫ومن عزته أن { خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬
‫جهَا } وذلك ليسكن إليها وتسكن إليه‪ ،‬وتتم بذلك النعمة‪ { .‬وَأَنْ َزلَ َلكُمْ مِنَ الْأَ ْنعَامِ } أي‪:‬‬
‫مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫خلقها بقدر نازل منه‪ ،‬رحمة بكم‪َ { .‬ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ } وهي التي ذكرها في سورة النعام { ثمانية‬
‫أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } { ومن البل اثنين ومن البقر اثنين }‬

‫وخصها بالذكر‪ ،‬مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها‪ ،‬لكثرة نفعها‪ ،‬وعموم مصالحها‪،‬‬
‫ولشرفها‪ ،‬ولختصاصها بأشياء ل يصلح غيرها‪ ،‬كالضحية والهدي‪ ،‬والعقيقة‪ ،‬ووجوب الزكاة‬
‫فيها‪ ،‬واختصاصها بالدية‪.‬‬

‫ولما ذكر خلق أبينا وأمنا‪ ،‬ذكر ابتداء خلقنا‪ ،‬فقال‪َ { :‬يخُْل ُقكُمْ فِي بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ خَ ْلقًا مِنْ َب ْعدِ خَ ْلقٍ }‬
‫أي‪ :‬طورا بعد طور‪ ،‬وأنتم في حال ل يد مخلوق تمسكم‪ ،‬ول عين تنظر إليكم‪ ،‬وهو قد رباكم في‬
‫ذلك المكان الضيق { فِي ظُُلمَاتٍ ثَلَاثٍ } ظلمة البطن‪ ،‬ثم ظلمة الرحم‪ ،‬ثم ظلمة المشيمة‪ { ،‬ذَِل ُكمْ }‬
‫الذي خلق السماوات والرض‪ ،‬وسخر الشمس والقمر‪ ،‬وخلقكم وخلق لكم النعام والنعم { اللّهُ‬
‫رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬المألوه المعبود‪ ،‬الذي رباكم ودبركم‪ ،‬فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته ل شريك له‬
‫في ذلك‪ ،‬فهو الواحد في ألوهيته‪ ،‬ل شريك له‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ } بعد هذا‬
‫البيان ببيان استحقاقه تعالى للخلص وحده إلى عبادة الوثان‪ ،‬التي ل تدبر شيئا‪ ،‬وليس لها من‬
‫المر شيء‪.‬‬
‫{ إِنْ َتكْفُرُوا فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ عَ ْن ُكمْ } ل يضره كفركم‪ ،‬كما ل ينتفع بطاعتكم‪ ،‬ولكن أمره ونهيه لكم‬
‫محض فضله وإحسانه عليكم‪.‬‬

‫{ وَلَا يَ ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْل ُكفْرَ } لكمال إحسانه بهم‪ ،‬وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة ل يسعدون بعدها‪،‬‬
‫ولنه خلقهم لعبادته‪ ،‬فهي الغاية التي خلق لها الخلق‪ ،‬فل يرضى أن يدعوا ما خلقهم لجله‪.‬‬

‫شكُرُوا } للّه تعالى بتوحيده‪ ،‬وإخلص الدين له { يَ ْرضَهُ َلكُمْ } لرحمته بكم‪ ،‬ومحبته‬
‫{ وَإِنْ َت ْ‬
‫للحسان عليكم‪ ،‬ولفعلكم ما خلقكم لجله‪.‬‬

‫وكما أنه ل يتضرر بشرككم ول ينتفع بأعمالكم وتوحيدكم‪ ،‬كذلك كل أحد منكم له عمله‪ ،‬من خير‬
‫ج ُعكُمْ } في يوم القيامة { فَيُنَبّ ُئ ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ‬
‫وشر { وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى } { ثُمّ إِلَى رَ ّب ُكمْ مَرْ ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ } إخبارا أحاط به علمه‪ ،‬وجرى عليه قلمه‪ ،‬وكتبته عليكم الحفظة الكرام‪ ،‬وشهدت به‬
‫عليكم الجوارح‪ ،‬فيجازي كل منكم ما يستحقه‪.‬‬

‫{ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي‪ :‬بنفس الصدور‪ ،‬وما فيها من وصف برّ أو فجور‪ ،‬والمقصود من‬
‫هذا‪ ،‬الخبار بالجزاء بالعدل التام‪.‬‬

‫سيَ مَا كَانَ َيدْعُو ِإلَيْهِ‬


‫خوّلَهُ ِن ْعمَةً مِنْهُ نَ ِ‬
‫ن ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ُثمّ ِإذَا َ‬
‫{ ‪ { } 8‬وَإِذَا مَسّ الْإِ ْنسَا َ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيِلهِ ُقلْ َتمَتّعْ ِب ُكفْ ِركَ قَلِيلًا إِ ّنكَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ }‬
‫ج َعلَ لِلّهِ أَنْدَادًا لِ ُي ِ‬
‫مِنْ قَ ْبلُ َو َ‬

‫يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبره‪ ،‬وقلة شكر عبده‪ ،‬وأنه حين يمسه الضر‪ ،‬من مرض‬
‫أو فقر‪ ،‬أو وقوع في كربة َبحْرٍ أو غيره‪ ،‬أنه يعلم أنه ل ينجيه في هذه الحال إل اللّه‪ ،‬فيدعوه‬
‫متضرعا منيبا‪ ،‬ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك‪.‬‬

‫سيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَ ْيهِ‬


‫خوّلَهُ } اللّه { ِن ْعمَةً مِنْهُ } بأن كشف ما به من الضر والكربة‪ { ،‬نَ ِ‬
‫{ ُثمّ إِذَا َ‬
‫مِنْ قَ ْبلُ } أي‪ :‬نسي ذلك الضر الذي دعا اللّه لجله‪ ،‬ومر كأنه ما أصابه ضر‪ ،‬واستمر على‬
‫شركه‪.‬‬

‫ضلّ عَنْ سَبِيِلهِ } أي‪ :‬ليضل بنفسه‪ ،‬ويضل غيره‪ ،‬لن الضلل فرع عن‬
‫ج َعلَ لِلّهِ أَنْدَادًا لِ ُي ِ‬
‫{ َو َ‬
‫الضلل‪ ،‬فأتى بالملزوم ليدل على اللزم‪.‬‬

‫{ ُقلْ } لهذا العاتي‪ ،‬الذي بدل نعمة اللّه كفرا‪َ { :‬تمَتّعْ ِب ُكفْ ِركَ قَلِيلًا إِ ّنكَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ } فل‬
‫يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار‪.‬‬
‫{ َأفَرَأَ ْيتَ إِنْ مَ ّتعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمّ جَاءَ ُهمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَ ْن ُهمْ مَا كَانُوا ُيمَ ّتعُونَ }‬

‫حمَةَ رَبّهِ ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي‬


‫حذَرُ الْآخِ َر َة وَيَرْجُو رَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 9‬أمْ مَنْ ُهوَ قَا ِنتٌ آنَاءَ اللّ ْيلِ سَاجِدًا َوقَا ِئمًا يَ ْ‬
‫ن وَالّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }‬
‫الّذِينَ َيعَْلمُو َ‬

‫هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره‪ ،‬وبين العالم والجاهل‪ ،‬وأن هذا من المور التي تقرر في‬
‫العقول تباينها‪ ،‬وعلم علما يقينا تفاوتها‪ ،‬فليس المعرض عن طاعة ربه‪ ،‬المتبع لهواه‪ ،‬كمن هو‬
‫قانت أي‪ :‬مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلة‪ ،‬وأفضل الوقات وهو أوقات الليل‪ ،‬فوصفه‬
‫بكثرة العمل وأفضله‪ ،‬ثم وصفه بالخوف والرجاء‪ ،‬وذكر أن متعلق الخوف عذاب الخرة‪ ،‬على ما‬
‫سلف من الذنوب‪ ،‬وأن متعلق الرجاء‪ ،‬رحمة اللّه‪ ،‬فوصفه بالعمل الظاهر والباطن‪.‬‬

‫{ ُقلْ َهلْ َيسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُونَ } ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي‪ ،‬وما له في ذلك من‬
‫السرار والحكم { وَالّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ } شيئا من ذلك؟ ل يستوي هؤلء ول هؤلء‪ ،‬كما ل يستوي‬
‫الليل والنهار‪ ،‬والضياء والظلم‪ ،‬والماء والنار‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ } إذا ذكروا { أُولُو الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬أهل العقول الزكية الذكية‪ ،‬فهم الذين يؤثرون‬
‫العلى على الدنى‪ ،‬فيؤثرون العلم على الجهل‪ ،‬وطاعة اللّه على مخالفته‪ ،‬لن لهم عقول ترشدهم‬
‫للنظر في العواقب‪ ،‬بخلف من ل لب له ول عقل‪ ،‬فإنه يتخذ إلهه هواه‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 10‬قلْ يَا عِبَادِي الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا رَ ّبكُمْ لِلّذِينَ َأحْسَنُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَ ْرضُ اللّهِ‬
‫حسَابٍ }‬
‫سعَةٌ إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫وَا ِ‬

‫أي‪ :‬قل مناديا لشرف الخلق‪ ،‬وهم المؤمنون‪ ،‬آمرا لهم بأفضل الوامر‪ ،‬وهي التقوى‪ ،‬ذاكرا لهم‬
‫السبب الموجب للتقوى‪ ،‬وهو ربوبية اللّه لهم وإنعامه عليهم‪ ،‬المقتضي ذلك منهم أن يتقوه‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ما مَنّ اللّه عليهم به من اليمان فإنه موجب للتقوى‪ ،‬كما تقول‪ :‬أيها الكريم تصدق‪ ،‬وأيها‬
‫الشجاع قاتل‪.‬‬

‫حسَنَة }‬
‫وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال‪ِ { :‬للّذِينَ َأحْسَنُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا } بعبادة ربهم { َ‬
‫ع ِملَ صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى‬
‫ورزق واسع‪ ،‬ونفس مطمئنة‪ ،‬وقلب منشرح‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬مَنْ َ‬
‫وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً }‬

‫سعَةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض‪ ،‬فهاجروا إلى غيرها‪ ،‬تعبدون فيها ربكم‪،‬‬
‫{ وَأَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫وتتمكنون من إقامة دينكم‪.‬‬
‫حسَنُوا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َنةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع‪ ،‬وهو‬
‫ولما قال‪ { :‬لِلّذِينَ أَ ْ‬
‫أن النص عام‪ ،‬أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة‪ ،‬فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها‬
‫س َعةٌ } وهنا بشارة نص عليها‬
‫ويمتهن‪ ،‬ل يحصل له ذلك‪ ،‬دفع هذا الظن بقوله‪ { :‬وَأَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫النبي صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬بقوله ( ل تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ل يضرهم من‬
‫خذلهم ول من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) تشير إليه هذه الية‪ ،‬وترمي إليه من‬
‫قريب‪ ،‬وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة‪ ،‬فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى‬
‫غيرها‪ ،‬وهذا عام في كل زمان ومكان‪ ،‬فل بد أن يكون لكل مهاجر‪ ،‬ملجأ من المسلمين يلجأ إليه‪،‬‬
‫وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه‪.‬‬

‫حسَابٍ } وهذا عام في جميع أنواع الصبر‪ ،‬الصبر على أقدار‬


‫{ إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫اللّه المؤلمة فل يتسخطها‪ ،‬والصبر عن معاصيه فل يرتكبها‪ ،‬والصبر على طاعته حتى يؤديها‪،‬‬
‫فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب‪ ،‬أي‪ :‬بغير حد ول عد ول مقدار‪ ،‬وما ذاك إل لفضيلة‬
‫الصبر ومحله عند اللّه‪ ،‬وأنه معين على كل المور‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 16 - 11‬قلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخِْلصًا َلهُ الدّينَ * وَُأمِرْتُ لِأَنْ َأكُونَ َأ ّولَ ا ْلمُسِْلمِينَ‬
‫عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ * ُقلِ اللّهَ أَعْبُدُ ُمخِْلصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي َ‬
‫* ُقلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ‬
‫سهُ ْم وَأَهْلِي ِهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَلَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ‬
‫شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ُقلْ إِنّ ا ْلخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫خ ّوفُ اللّهُ ِبهِ عِبَا َدهُ يَا عِبَادِ فَا ّتقُونِ }‬
‫ا ْلمُبِينُ * َلهُمْ مِنْ َف ْوقِهِمْ ظَُللٌ مِنَ النّا ِر َومِنْ تَحْ ِت ِهمْ ظَُللٌ ذَِلكَ يُ َ‬

‫أي { ُقلْ } يا أيها الرسول للناس‪ { :‬إني أمرت أن أعبد ال مخلصا له الدين } في قوله في أول‬
‫السورة‪ { :‬فَاعْ ُبدِ اللّهَ مُخِْلصًا لَهُ الدّينَ }‬

‫{ وَُأمِ ْرتُ لِأَنْ َأكُونَ َأ ّولَ ا ْلمُسِْلمِينَ } لني الداعي الهادي للخلق إلى ربهم‪ ،‬فيقتضي أني أول من‬
‫ائتمر بما آمر به‪ ،‬وأول من أسلم‪ ،‬وهذا المر ل بد من إيقاعه من محمد صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وممن زعم أنه من أتباعه‪ ،‬فل بد من السلم في العمال الظاهرة‪ ،‬والخلص للّه في العمال‬
‫الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫عظِيمٍ }‬
‫عصَيْتُ رَبّي } في ما أمرني به من الخلص والسلم‪ { .‬عَذَابَ َيوْمٍ َ‬
‫{ ُقلْ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ‬
‫يخلد فيه من أشرك‪ ،‬ويعاقب فيه من عصى‪.‬‬

‫{ ُقلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخِْلصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْ ُتمْ مِنْ دُونِهِ } كما قال تعالى‪ُ { :‬قلْ يَا أَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ*‬
‫لَا أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَا ِبدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَا ِبدٌ مَا عَبَدْ ُتمْ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*‬
‫َلكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }‬
‫س ُهمْ } حيث حرموها الثواب‪ ،‬واستحقت بسببهم‬
‫{ ُقلْ إِنّ الْخَاسِرِينَ } حقيقة هم { الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫وخيم العقاب { وَأَهْلِي ِهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } أي‪ :‬فرق بينهم وبينهم‪ ،‬واشتد عليهم الحزن‪ ،‬وعظم‬
‫الخسران‪َ { .‬ألَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ } الذي ليس مثله خسران‪ ،‬وهو خسران مستمر‪ ،‬ل ربح‬
‫بعده‪ ،‬بل ول سلمة‪.‬‬

‫ثم ذكر شدة ما يحصل لهم من الشقاء فقال‪َ { :‬ل ُهمْ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مِنَ النّارِ } أي‪ :‬قطع عذاب‬
‫كالسحاب العظيم { َومِنْ تَحْ ِتهِمْ ظَُللٌ }‬

‫خ ّوفُ‬
‫{ ذَِلكَ } الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار‪ ،‬سوط يسوق ال به عباده إلى رحمته‪ُ { ،‬ي َ‬
‫اللّهُ ِبهِ عِبَا َدهُ يَا عِبَادِ فَا ّتقُونِ } أي‪ :‬جعل ما أعده لهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى‬
‫التقوى‪ ،‬وزاجر عما يوجب العذاب‪ .‬فسبحان من رحم عباده في كل شيء‪ ،‬وسهل لهم الطرق‬
‫الموصلة إليه‪ ،‬وحثهم على سلوكها‪ ،‬ورغبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس‪ ،‬وتطمئن له القلوب‪،‬‬
‫وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير‪ ،‬وذكر لهم السباب الزاجرة عن تركه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 18 - 17‬وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أَنْ َيعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ َلهُمُ الْبُشْرَى فَبَشّرْ عِبَادِ *‬
‫الّذِينَ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْل َق ْولَ فَيَتّ ِبعُونَ َأحْسَنَهُ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َهدَاهُمُ اللّ ُه وَأُولَ ِئكَ ُهمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }‬

‫لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أَنْ َيعْبُدُوهَا }‬
‫والمراد بالطاغوت في هذا الموضع‪ ،‬عبادة غير اللّه‪ ،‬فاجتنبوها في عبادتها‪ .‬وهذا من أحسن‬
‫الحتراز من الحكيم العليم‪ ،‬لن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها‪.‬‬

‫{ وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ } بعبادته وإخلص الدين له‪ ،‬فانصرفت دواعيهم من عبادة الصنام إلى عبادة‬
‫الملك العلم‪ ،‬ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات‪َ { ،‬لهُمُ الْبُشْرَى } التي ل يقادر‬
‫قدرها‪ ،‬ول يعلم وصفها‪ ،‬إل من أكرمهم بها‪ ،‬وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن‪،‬‬
‫والرؤيا الصالحة‪ ،‬والعناية الربانية من اللّه‪ ،‬التي يرون في خللها‪ ،‬أنه مريد لكرامهم في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬ولهم البشرى في الخرة عند الموت‪ ،‬وفي القبر‪ ،‬وفي القيامة‪ ،‬وخاتمة البشرى ما‬
‫يبشرهم به الرب الكريم‪ ،‬من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة‪.‬‬

‫ولما أخبر أن لهم البشرى‪ ،‬أمره اللّه ببشارتهم‪ ،‬وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال‪:‬‬
‫{ فَ َبشّرْ عِبَادِ الّذِينَ يَسْ َت ِمعُونَ ا ْل َقوْلَ }‬
‫وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي‬
‫اجتنابه‪ ،‬فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه‪ ،‬وأحسنه على الطلق كلم اللّه وكلم‬
‫حدِيثِ كِتَابًا مُ َتشَا ِبهًا } الية‪.‬‬
‫رسوله‪ ،‬كما قال في هذه السورة‪ { :‬اللّهُ نَ ّزلَ أَحْسَنَ الْ َ‬

‫وفي هذه الية نكتة‪ ،‬وهي‪ :‬أنه لما أخبر عن هؤلء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون‬
‫أحسنه‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي اللباب‪ ،‬وحتى‬
‫نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي اللباب؟‬

‫حدِيثِ كِتَابًا مُ َتشَا ِبهًا } الية‪.‬‬


‫قيل‪ :‬نعم‪ ،‬أحسنه ما نص اللّه عليه { اللّهُ نَ ّزلَ أَحْسَنَ الْ َ‬

‫حسَنَهُ أُولَ ِئكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ } لحسن الخلق والعمال‬


‫{ الّذِينَ يَسْ َت ِمعُونَ ا ْل َقوْلَ فَيَتّ ِبعُونَ أَ ْ‬
‫{ وَأُولَ ِئكَ ُهمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬العقول الزاكية‪.‬‬

‫ومن لبهم وحزمهم‪ ،‬أنهم عرفوا الحسن من غيره‪ ،‬وآثروا ما ينبغي إيثاره‪ ،‬على ما سواه‪ ،‬وهذا‬
‫علمة العقل‪ ،‬بل ل علمة للعقل سوى ذلك‪ ،‬فإن الذي ل يميز بين القوال‪ ،‬حسنها‪ ،‬وقبيحها‪ ،‬ليس‬
‫من أهل العقول الصحيحة‪ ،‬أو الذى يميز‪ ،‬لكن غلبت شهوته عقله‪ ،‬فبقي عقله تابعا لشهوته فلم‬
‫يؤثر الحسن‪ ،‬كان ناقص العقل‪.‬‬

‫حقّ عَلَيْهِ كَِلمَةُ ا ْلعَذَابِ َأفَأَ ْنتَ تُ ْنقِذُ مَنْ فِي النّارِ * َلكِنِ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ‬
‫{ ‪َ { } 20 - 19‬أ َفمَنْ َ‬
‫خِلفُ اللّهُ ا ْلمِيعَادَ }‬
‫َلهُمْ غُ َرفٌ مِنْ َف ْو ِقهَا غُ َرفٌ مَبْنِيّةٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَعْدَ اللّهِ لَا يُ ْ‬

‫أي‪ :‬أفمن وجبت عليه كلمة العذاب باستمراره على غيه وعناده وكفره‪ ،‬فإنه ل حيلة لك في‬
‫هدايته‪ ،‬ول تقدر تنقذ من في النار ل محالة‪.‬‬

‫لكن الغنى كل الغنى‪ ،‬والفوز كل الفوز‪ ،‬للمتقين الذين أعد لهم من الكرامة وأنواع النعيم‪ ،‬ما ل‬
‫يقادر قدره‪.‬‬

‫{ َل ُهمْ غُ َرفٌ } أي‪ :‬منازل عالية مزخرفة‪ ،‬من حسنها وبهائها وصفائها‪ ،‬أنه يرى ظاهرها من‬
‫باطنها وباطنها من ظاهرها‪ ،‬ومن علوها وارتفاعها‪[ ،‬أنها] ترى كما يرى الكوكب الغابر في‬
‫الفق الشرقي أو الغربي‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مِنْ َف ْو ِقهَا غُ َرفٌ } أي‪ :‬بعضها فوق بعض "مَبْنِيّةٌ" بذهب‬
‫وفضة‪ ،‬وملطها المسك الذفر‪.‬‬

‫{ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } المتدفقة‪ ،‬المسقية للبساتين الزاهرة والشجار الطاهرة‪ ،‬فتغل بأنواع‬
‫الثمار اللذيذة‪ ،‬والفاكهة النضيجة‪.‬‬
‫{ وَعْدَ اللّهِ لَا يُخِْلفُ اللّهُ ا ْلمِيعَادَ } وقد وعد المتقين هذا الثواب‪ ،‬فل بد من الوفاء به‪ ،‬فليوفوا‬
‫بخصال التقوى‪ ،‬ليوفيهم أجورهم‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً َفسََلكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَ ْرضِ ُثمّ يُخْرِجُ ِبهِ زَرْعًا مُخْ َتِلفًا‬
‫{ ‪َ { } 21‬ألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫حطَامًا إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ }‬
‫جعَلُهُ ُ‬
‫أَ ْلوَانُهُ ُثمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُمصْفَرّا ُثمّ يَ ْ‬

‫يذكر تعالى أولي اللباب‪ ،‬ما أنزله من السماء من الماء‪ ،‬وأنه سلكه ينابيع في الرض‪ ،‬أي‪:‬‬
‫أودعه فيها ينبوعا‪ ،‬يستخرج بسهولة ويسر‪ { ،‬ثُمّ ُيخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَِلفًا أَ ْلوَانُهُ } من بر وذرة‪،‬‬
‫صفَرّا ثُمّ‬
‫وشعير وأرز‪ ،‬وغير ذلك‪ُ { .‬ثمّ َيهِيجُ } عند استكماله‪ ،‬أو عند حدوث آفة فيه { فَتَرَاهُ ُم ْ‬
‫حطَامًا } متكسرا { إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } يذكرون بها عناية ربهم ورحمته‬
‫جعَلُهُ ُ‬
‫يَ ْ‬
‫بعباده‪ ،‬حيث يسر لهم هذا الماء‪ ،‬وخزنه بخزائن الرض تبعا لمصالحهم‪.‬‬

‫ويذكرون به كمال قدرته‪ ،‬وأنه يحيي الموتى‪ ،‬كما أحيا الرض بعد موتها‪ ،‬ويذكرون به أن الفاعل‬
‫لذلك هو المستحق للعبادة‪.‬‬

‫اللّهم اجعلنا من أولي اللباب‪ ،‬الذين نوهت بذكرهم‪ ،‬وهديتهم بما أعطيتهم من العقول‪ ،‬وأريتهم من‬
‫أسرار كتابك وبديع آياتك ما لم يصل إليه غيرهم‪ ،‬إنك أنت الوهاب‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 22‬أ َفمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْ َرهُ لِلْإِسْلَامِ َف ُهوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ َفوَ ْيلٌ لِ ْلقَاسِ َيةِ قُلُو ُبهُمْ مِنْ ِذكْرِ اللّهِ‬
‫أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }‬

‫أي‪ :‬أفيستوي من شرح اللّه صدره للسلم‪ ،‬فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها‪ ،‬منشرحا قرير‬
‫علَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ } كمن ليس كذلك‪،‬‬
‫العين‪ ،‬على بصيرة من أمره‪ ،‬وهو المراد بقوله‪َ { :‬ف ُهوَ َ‬
‫بدليل قوله‪َ { :‬فوَ ْيلٌ لِ ْلقَاسِ َيةِ قُلُو ُبهُمْ مِنْ ِذكْرِ اللّهِ } أي‪ :‬ل تلين لكتابه‪ ،‬ول تتذكر آياته‪ ،‬ول تطمئن‬
‫بذكره‪ ،‬بل هي معرضة عن ربها‪ ،‬ملتفتة إلى غيره‪ ،‬فهؤلء لهم الويل الشديد‪ ،‬والشر الكبير‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلل أعظم من ضلل من أعرض عن وليه؟ ومن كل السعادة‬
‫في القبال عليه‪ ،‬وقسا قلبه عن ذكره‪ ،‬وأقبل على كل ما يضره؟"‬

‫شوْنَ رَ ّبهُمْ ثُمّ‬


‫شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ َيخْ َ‬
‫{ ‪ { } 23‬اللّهُ نَ ّزلَ َأحْسَنَ ا ْلحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَا ِبهًا مَثَا ِنيَ َتقْ َ‬
‫جلُودُهُ ْم َوقُلُو ُبهُمْ إِلَى ِذكْرِ اللّهِ ذَِلكَ هُدَى اللّهِ َيهْدِي ِبهِ مَنْ يَشَا ُء َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ‬
‫تَلِينُ ُ‬
‫هَادٍ }‬
‫حسَنَ ا ْلحَدِيثِ } على الطلق‪ ،‬فأحسن الحديث كلم اللّه‪،‬‬
‫يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه { أَ ْ‬
‫وأحسن الكتب المنزلة من كلم اللّه هذا القرآن‪ ،‬وإذا كان هو الحسن‪ ،‬علم أن ألفاظه أفصح‬
‫اللفاظ وأوضحها‪ ،‬وأن معانيه‪ ،‬أجل المعاني‪ ،‬لنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه‪ ،‬متشابها في‬
‫الحسن والئتلف وعدم الختلف‪ ،‬بوجه من الوجوه‪ .‬حتى إنه كلما تدبره المتدبر‪ ،‬وتفكر فيه‬
‫المتفكر‪ ،‬رأى من اتفاقه‪ ،‬حتى في معانيه الغامضة‪ ،‬ما يبهر الناظرين‪ ،‬ويجزم بأنه ل يصدر إل‬
‫من حكيم عليم‪ ،‬هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع‪.‬‬

‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ‬


‫وأما في قوله تعالى‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ ُم ْ‬
‫مُتَشَا ِبهَاتٌ } فالمراد بها‪ ،‬التي تشتبه على فهوم كثير من الناس‪ ،‬ول يزول هذا الشتباه إل بردها‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ } فجعل التشابه‬
‫إلى المحكم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مِنْهُ آيَاتٌ ُم ْ‬
‫حدِيثِ } وهو سور وآيات‪،‬‬
‫لبعضه‪ ،‬وهنا جعله كله متشابها‪ ،‬أي‪ :‬في حسنه‪ ،‬لنه قال‪َ { :‬أحْسَنَ الْ َ‬
‫والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا‪.‬‬

‫{ مَثَا ِنيَ } أي‪ :‬تثنى فيه القصص والحكام‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬وصفات أهل الخير‪ ،‬وصفات أهل‬
‫الشر‪ ،‬وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته‪ ،‬وهذا من جللته‪ ،‬وحسنه‪ ،‬فإنه تعالى‪ ،‬لما علم احتياج الخلق‬
‫إلى معانيه المزكية للقلوب‪ ،‬المكملة للخلق‪ ،‬وأن تلك المعاني للقلوب‪ ،‬بمنزلة الماء لسقي‬
‫الشجار‪ ،‬فكما أن الشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت‪ ،‬بل ربما تلفت‪ ،‬وكلما تكرر سقيها‬
‫حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة‪ ،‬فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلم اللّه تعالى‬
‫عليه‪ ،‬وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن‪ ،‬لم يقع منه موقعا‪ ،‬ولم تحصل‬
‫النتيجة منه‪ ،‬ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم‪ ،‬اقتداء بما هو تفسير له‪ ،‬فل تجد فيه‬
‫الحوالة على موضع من المواضع‪ ،‬بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى‪ ،‬غير مراع لما مضى‬
‫مما يشبهه‪ ،‬وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة‪ ،‬وهكذا ينبغي للقارئ‬
‫للقرآن‪ ،‬المتدبر لمعانيه‪ ،‬أن ل يدع التدبر في جميع المواضع منه‪ ،‬فإنه يحصل له بسبب ذلك خير‬
‫كثير‪ ،‬ونفع غزير‪.‬‬

‫ولما كان القرآن العظيم بهذه الجللة والعظمة‪ ،‬أثّر في قلوب أولي اللباب المهتدين‪ ،‬فلهذا قال‬
‫شوْنَ رَ ّب ُهمْ } لما فيه من التخويف والترهيب المزعج‪ُ { ،‬ثمّ تَلِينُ‬
‫شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْ َ‬
‫تعالى‪َ { :‬تقْ َ‬
‫جُلُو ُدهُ ْم َوقُلُو ُبهُمْ إِلَى ِذكْرِ اللّهِ } أي‪ :‬عند ذكر الرجاء والترغيب‪ ،‬فهو تارة يرغبهم لعمل الخير‪،‬‬
‫وتارة يرهبهم من عمل الشر‪.‬‬
‫{ ذَِلكَ } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { هُدَى اللّهِ } أي‪ :‬هداية منه لعباده‪ ،‬وهو من جملة‬
‫فضله وإحسانه عليهم‪َ { ،‬يهْدِي بِهِ } أي‪ :‬بسبب ذلك { مَنْ َيشَاءُ } من عباده‪ .‬ويحتمل أن المراد‬
‫بقوله‪ { :‬ذَِلكَ } أي‪ :‬القرآن الذي وصفناه لكم‪.‬‬

‫{ هُدَى اللّهِ } الذي ل طريق يوصل إلى اللّه إل منه { َي ْهدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } ممن حسن‬
‫ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَامِ }‬
‫قصده‪ ،‬كما قال تعالى { َي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬

‫{ َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَادٍ } لنه ل طريق يوصل إليه إل توفيقه والتوفيق للقبال على‬
‫كتابه‪ ،‬فإذا لم يحصل هذا‪ ،‬فل سبيل إلى الهدى‪ ،‬وما هو إل الضلل المبين والشقاء‪.‬‬

‫جهِهِ سُوءَ ا ْل َعذَابِ َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة َوقِيلَ لِلظّاِلمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْسِبُونَ‬
‫{ ‪َ { } 26 - 24‬أ َفمَنْ يَ ّتقِي ِبوَ ْ‬
‫شعُرُونَ * فَأَذَا َق ُهمُ اللّهُ الْخِ ْزيَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا‬
‫* كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَأَتَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ‬
‫وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ }‬

‫أي‪ :‬أفيستوي هذا الذي هداه اللّه‪ ،‬ووفقه لسلوك الطريق الموصلة لدار كرامته‪ ،‬كمن كان في‬
‫الضلل واستمر على عناده حتى قدم القيامة‪ ،‬فجاءه العذاب العظيم فجعل يتقي بوجهه الذي هو‬
‫أشرف العضاء‪ ،‬وأدنى شيء من العذاب يؤثر فيه‪ ،‬فهو يتقي فيه سوء العذاب لنه قد غلت يداه‬
‫ورجله‪َ { ،‬وقِيلَ لِلظّاِلمِينَ } أنفسهم‪ ،‬بالكفر والمعاصي‪ ،‬توبيخا وتقريعا‪ { :‬ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْسِبُونَ‬
‫}‬

‫شعُرُونَ }‬
‫{ َك ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } من المم كما كذب هؤلء‪ { ،‬فَأَتَاهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ‬
‫جاءهم في غفلة أول نهار‪ ،‬أو هم قائلون‪.‬‬

‫{ فََأذَا َقهُمُ اللّهُ } بذلك العذاب { ا ْلخِ ْزيَ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } فافتضحوا عند اللّه وعند خلقه { وََلعَذَابُ‬
‫الْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } فليحذر هؤلء من المقام على التكذيب‪ ،‬فيصيبهم ما أصاب أولئك‬
‫من التعذيب‪.‬‬

‫{ ‪ { } 31 - 27‬وََلقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيّا‬
‫جلٍ َهلْ‬
‫عوَجٍ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ * ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا َرجُلًا فِيهِ شُ َركَاءُ مُتَشَا ِكسُونَ وَ َرجُلًا سََلمًا لِ َر ُ‬
‫غَيْرَ ذِي ِ‬
‫ت وَإِ ّنهُمْ مَيّتُونَ * ثُمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عِ ْندَ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ * إِ ّنكَ مَ ّي ٌ‬
‫يَسْ َتوِيَانِ مَثَلًا ا ْل َ‬
‫صمُونَ }‬
‫رَ ّبكُمْ َتخْ َت ِ‬
‫يخبر تعالى أنه ضرب في القرآن من جميع المثال‪ ،‬أمثال أهل الخير وأمثال أهل الشر‪ ،‬وأمثال‬
‫التوحيد والشرك‪ ،‬وكل مثل يقرب حقائق الشياء‪ ،‬والحكمة في ذلك { َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ } عندما‬
‫نوضح لهم الحق فيعلمون ويعملون‪.‬‬

‫عوَجٍ } أي‪ :‬جعلناه قرآنا عربيا‪ ،‬واضح اللفاظ‪ ،‬سهل المعاني‪ ،‬خصوصا‬
‫{ قُرآنًا عَرَبِيّا غَيْرَ ذِي ِ‬
‫عوَجٍ } أي‪ :‬ليس فيه خلل ول نقص بوجه من الوجوه‪ ،‬ل في ألفاظه ول‬
‫على العرب‪ { .‬غَيْرَ ذِي ِ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَى عَ ْب ِدهِ‬
‫في معانيه‪ ،‬وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته كما قال تعالى‪ { :‬الْ َ‬
‫عوَجَا قَ ّيمًا }‬
‫ج َعلْ لَهُ ِ‬
‫ا ْلكِتَابَ وَلَمْ يَ ْ‬

‫{ َلعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ } ال تعالى‪ ،‬حيث سهلنا عليهم طرق التقوى العلمية والعملية‪ ،‬بهذا القرآن العربي‬
‫المستقيم‪ ،‬الذي ضرب اللّه فيه من كل مثل‪.‬‬

‫ثم ضرب مثل للشرك والتوحيد فقال‪ { :‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا رَجُلًا } أي‪ :‬عبدا { فِيهِ شُ َركَاءُ مُ َتشَاكِسُونَ‬
‫} فهم كثيرون‪ ،‬وليسوا متفقين على أمر من المور وحالة من الحالت حتى تمكن راحته‪ ،‬بل هم‬
‫متشاكسون متنازعون فيه‪ ،‬كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد الخر غيره‪ ،‬فما تظن حال هذا الرجل‬
‫مع هؤلء الشركاء المتشاكسين؟‬

‫جلٍ } أي‪ :‬خالصا له‪ ،‬قد عرف مقصود سيده‪ ،‬وحصلت له الراحة التامة‪َ { .‬هلْ‬
‫{ وَ َرجُلًا سََلمًا لِ َر ُ‬
‫يَسْ َتوِيَانِ } أي‪ :‬هذان الرجلن { مَثَلًا } ؟ ل يستويان‪.‬‬

‫كذلك المشرك‪ ،‬فيه شركاء متشاكسون‪ ،‬يدعو هذا‪ ،‬ثم يدعو هذا‪ ،‬فتراه ل يستقر له قرار‪ ،‬ول‬
‫يطمئن قلبه في موضع‪ ،‬والموحد مخلص لربه‪ ،‬قد خلصه اللّه من الشركة لغيره‪ ،‬فهو في أتم‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ } على تبيين الحق من الباطل‪ ،‬وإرشاد‬
‫راحة وأكمل طمأنينة‪ ،‬فـ { َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلًا الْ َ‬
‫الجهال‪َ { .‬بلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ }‬

‫جعَلْنَا لِ َبشَرٍ مِنْ قَبِْلكَ الْخُ ْلدَ َأفَإِنْ ِمتّ‬


‫ت وَإِ ّنهُمْ مَيّتُونَ } أي‪ :‬كلكم ل بد أن يموت { َومَا َ‬
‫{ إِ ّنكَ مَ ّي ٌ‬
‫َفهُمُ ا ْلخَالِدُونَ }‬

‫صمُونَ } فيما تنازعتم فيه‪ ،‬فيفصل بينكم بحكمه العادل‪،‬‬


‫{ ُثمّ إِ ّنكُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ عِنْدَ رَ ّب ُكمْ تَخْ َت ِ‬
‫حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُوهُ }‬
‫ويجازي كُلّا ما عمله { أَ ْ‬

‫جهَنّمَ مَ ْثوًى‬
‫{ ‪َ { } 35 - 32‬فمَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ كَ َذبَ عَلَى اللّهِ َوكَ ّذبَ بِالصّدْقِ ِإذْ جَا َءهُ أَلَيْسَ فِي َ‬
‫ق َوصَدّقَ بِهِ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلمُ ّتقُونَ * َل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ ذَِلكَ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ * وَالّذِي جَاءَ بِالصّ ْد ِ‬
‫عمِلُوا وَ َيجْزِ َيهُمْ َأجْرَهُمْ بَِأحْسَنِ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫سوَأَ الّذِي َ‬
‫حسِنِينَ * لِ ُي َكفّرَ اللّهُ عَ ْن ُهمْ أَ ْ‬
‫جَزَاءُ ا ْلمُ ْ‬
‫يقول تعالى‪ ،‬محذرا ومخيرا‪ :‬أنه ل أظلم وأشد ظلما { ِممّنْ كَ َذبَ عَلَى اللّهِ } إما بنسبته إلى ما ل‬
‫يليق بجلله‪ ،‬أو بادعاء النبوة‪ ،‬أو الخبار بأن اللّه تعالى قال كذا‪ ،‬أو أخبر بكذا‪ ،‬أو حكم بكذا وهو‬
‫كاذب‪ ،‬فهذا داخل في قوله تعالى‪ { :‬وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } إن كان جاهل‪ ،‬وإل فهو‬
‫أشنع وأشنع‪.‬‬

‫{ َوكَ ّذبَ بِالصّ ْدقِ ِإذْ جَا َءهُ } أي‪ :‬ما أظلم ممن جاءه الحق المؤيد بالبينات فكذبه‪ ،‬فتكذيبه ظلم‬
‫عظيم منه‪ ،‬لنه رد الحق بعد ما تبين له‪ ،‬فإن كان جامعا بين الكذب على اللّه والتكذيب بالحق‪،‬‬
‫كان ظلما على ظلم‪.‬‬

‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لِ ْلكَافِرِينَ } يحصل بها الشتفاء منهم‪ ،‬وأخذ حق اللّه من كل ظالم وكافر‪{ .‬‬
‫{ َألَيْسَ فِي َ‬
‫إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }‬

‫ولما ذكر الكاذب المكذب وجنايته وعقوبته‪ ،‬ذكر الصادق المصدق وثوابه‪ ،‬فقال‪ { :‬وَالّذِي جَاءَ‬
‫بِالصّدْقِ } في قوله وعمله‪ ،‬فدخل في ذلك النبياء ومن قام مقامهم‪ ،‬ممن صدق فيما قاله عن خبر‬
‫اللّه وأحكامه‪ ،‬وفيما فعله من خصال الصدق‪.‬‬

‫{ َوصَدّقَ بِهِ } أي‪ :‬بالصدق لنه قد يجيء النسان بالصدق‪ ،‬ولكن قد ل يصدق به‪ ،‬بسبب‬
‫استكباره‪ ،‬أو احتقاره لمن قاله وأتى به‪ ،‬فل بد في المدح من الصدق والتصديق‪ ،‬فصدقه يدل على‬
‫علمه وعدله‪ ،‬وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } أي‪ :‬الذين وفقوا للجمع بين المرين { ُهمُ ا ْلمُ ّتقُونَ } فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى‬
‫الصدق بالحق والتصديق به‪.‬‬

‫{ َل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ } من الثواب‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر‪ .‬فكل ما تعلقت به إرادتهم ومشيئتهم‪ ،‬من أصناف اللذات والمشتهيات‪ ،‬فإنه حاصل لهم‪ ،‬معد‬
‫مهيأ‪ { ،‬ذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلمُحْسِنِينَ } الذين يعبدون اللّه كأنهم يرونه‪ ،‬فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم‬
‫{ ا ْلمُحْسِنِينَ } إلى عباد اللّه‪.‬‬

‫حسَنِ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ } عمل النسان له‬


‫عمِلُوا وَيَجْزِ َيهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫سوَأَ الّذِي َ‬
‫{ لِ ُي َكفّرَ اللّهُ عَ ْنهُمْ َأ ْ‬
‫ثلث حالت‪ :‬إما أسوأ‪ ،‬أو أحسن‪ ،‬أو ل أسوأ‪ ،‬ول أحسن‪.‬‬

‫والقسم الخير قسم المباحات وما ل يتعلق به ثواب ول عقاب‪ ،‬والسوأ‪ ،‬المعاصي كلها‪ ،‬والحسن‬
‫عمِلُوا }‬
‫سوَأَ الّذِي َ‬
‫الطاعات كلها‪ ،‬فبهذا التفصيل‪ ،‬يتبين معنى الية‪ ،‬وأن قوله‪ { :‬لِ ُي َكفّرَ اللّهُ عَ ْنهُمْ أَ ْ‬
‫حسَنِ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫أي‪ :‬ذنوبهم الصغار‪ ،‬بسبب إحسانهم وتقواهم‪ { ،‬وَيَجْزِ َيهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫أي‪ :‬بحسناتهم كلها { إِنّ اللّهَ لَا يَظِْلمُ مِ ْثقَالَ ذَ ّر ٍة وَإِنْ َتكُ حَسَ َنةً ُيضَاعِ ْفهَا وَ ُيؤْتِ مِنْ َلدُنْهُ َأجْرًا‬
‫عَظِيمًا }‬

‫خ ّوفُو َنكَ بِالّذِينَ مِنْ دُونِ ِه َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‬
‫{ ‪ { } 37 - 36‬أَلَيْسَ اللّهُ ِبكَافٍ عَبْ َد ُه وَيُ َ‬
‫ضلّ أَلَيْسَ اللّهُ ِبعَزِيزٍ ذِي انْ ِتقَامٍ }‬
‫* َومَنْ َيهْدِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ ُم ِ‬

‫{ َألَيْسَ اللّهُ ِبكَافٍ عَ ْب َدهُ } أي‪ :‬أليس من كرمه وجوده‪ ،‬وعنايته بعبده‪ ،‬الذي قام بعبوديته‪ ،‬وامتثل‬
‫أمره واجتنب نهيه‪ ،‬خصوصا أكمل الخلق عبودية لربه‪ ،‬وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬فإن‬
‫اللّه تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه‪ ،‬ويدفع عنه من ناوأه بسوء‪.‬‬

‫خ ّوفُو َنكَ بِالّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الصنام والنداد أن تنالك بسوء‪ ،‬وهذا من غيهم وضللهم‪.‬‬
‫{ وَ ُي َ‬

‫ضلّ } لنه تعالى الذي بيده الهداية‬


‫{ َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَا ٍد َومَنْ َي ْهدِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ ُم ِ‬
‫والضلل‪ ،‬وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‪َ { .‬ألَيْسَ اللّهُ ِبعَزِيزٍ } له العزة الكاملة التي‬
‫قهر بها كل شيء‪ ،‬وبعزته يكفي عبده ويدفع عنه مكرهم‪ { .‬ذِي انْ ِتقَامٍ } ممن عصاه‪ ،‬فاحذروا‬
‫موجبات نقمته‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلْ َأفَرَأَيْ ُتمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ‬
‫{ ‪ { } 38‬وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫حمَتِهِ ُقلْ حَسْ ِبيَ‬
‫سكَاتُ َر ْ‬
‫حمَةٍ َهلْ هُنّ ُممْ ِ‬
‫ت ضُ ّرهِ َأوْ أَرَادَنِي بِ َر ْ‬
‫شفَا ُ‬
‫إِنْ أَرَادَ ِنيَ اللّهُ ِبضُرّ َهلْ هُنّ كَا ِ‬
‫علَيْهِ يَ َت َو ّكلُ ا ْلمُ َتوَكّلُونَ }‬
‫اللّهُ َ‬

‫أي‪ :‬ولئن سألت هؤلء الضلل الذين يخوفونك بالذين من دونه‪ ،‬وأقمت عليهم دليل من أنفسهم‪،‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } لم يثبتوا للهتهم من خلقها شيئا‪ { .‬لَ َيقُولُنّ اللّهُ } الذي‬
‫فقلت‪ { :‬مَنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫خلقها‪ .‬وحده‪ُ { .‬قلْ } لهم مقررا عجز آلهتهم‪ ،‬بعد ما تبينت قدرة اللّه‪َ { :‬أفَرَأَيْ ُتمْ } أي‪ :‬أخبروني {‬
‫مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ أَرَادَ ِنيَ اللّهُ ِبضُرّ } أيّ ضر كان‪.‬‬

‫حمَةٍ }‬
‫شفَاتُ ضُ ّرهِ } بإزالته بالكلية‪ ،‬أو بتخفيفه من حال إلى حال؟‪َ { .‬أوْ أَرَادَنِي بِ َر ْ‬
‫{ َهلْ هُنّ كَا ِ‬
‫حمَتِهِ } ومانعاتها عني؟‪.‬سيقولون‪:‬‬
‫سكَاتُ رَ ْ‬
‫ي بها منفعة في ديني أو دنياي‪َ { .‬هلْ هُنّ ُممْ ِ‬
‫يوصل إل ّ‬
‫ل يكشفون الضر ول يمسكون الرحمة‪.‬‬

‫قل لهم بعد ما تبين الدليل القاطع على أنه وحده المعبود‪ ،‬وأنه الخالق للمخلوقات‪ ،‬النافع الضار‬
‫وحده‪ ،‬وأن غيره عاجز من كل وجه‪.‬عن الخلق والنفع والضر‪ ،‬مستجلبا كفايته‪ ،‬مستدفعا مكرهم‬
‫وكيدهم‪ُ { :‬قلْ حَسْ ِبيَ اللّهُ عَلَيْهِ يَ َت َوكّلُ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ } أي‪ :‬عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم‬
‫ودفع مضارهم‪.،‬فالذي بيده ‪ -‬وحده ‪ -‬الكفاية هو حسبي‪ ،‬سيكفيني كل ما أهمني وما ل أهتم به‪.‬‬
‫عذَابٌ‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ َ‬
‫عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ َف َ‬
‫{ ‪ُ { } 40 - 39‬قلْ يَا َقوْمِ ا ْ‬
‫عذَابٌ مُقِيمٌ }‬
‫حلّ عَلَيْهِ َ‬
‫يُخْزِي ِه وَيَ ِ‬

‫عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ } أي‪ :‬على حالتكم التي رضيتموها‬


‫أي‪ُ { :‬قلْ } لهم يا أيها الرسول‪ { :‬يَا َقوْمِ ا ْ‬
‫لنفسكم‪ ،‬من عبادة من ل يستحق من العبادة شيئا ول له من المر شيء‪.‬‬

‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ } لمن‬


‫{ إِنّي عَا ِملٌ } على ما دعوتكم إليه‪ ،‬من إخلص الدين للّه تعالى وحده‪ { .‬فَ َ‬
‫العاقبة‬

‫حلّ عَلَ ْيهِ } في الخرى { عَذَابٌ ُمقِيمٌ } ل يحول عنه‬


‫عذَابٌ يُخْزِيهِ } في الدنيا‪ { .‬وَ َي ِ‬
‫و { مَنْ يَأْتِيهِ َ‬
‫ول يزول‪.،‬وهذا تهديد عظيم لهم‪ ،‬وهم يعلمون أنهم المستحقون للعذاب المقيم‪ ،‬ولكن الظلم والعناد‬
‫حال بينهم وبين اليمان‪.‬‬

‫ضلّ عَلَ ْيهَا َومَا‬


‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫{ ‪ { } 41‬إِنّا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ لِلنّاسِ بِا ْلحَقّ َفمَنِ اهْتَدَى فَلِ َنفْسِهِ َومَنْ َ‬
‫أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِب َوكِيلٍ }‬

‫يخبر تعالى أنه أنزل على رسوله الكتاب المشتمل على الحق‪ ،‬في أخباره وأوامره ونواهيه‪ ،‬الذي‬
‫هو مادة الهداية‪ ،‬وبلغ لمن أراد الوصول إلى اللّه وإلى دار كرامته‪ ،‬وأنه قامت به الحجة على‬
‫العالمين‪.‬‬

‫{ َفمَنِ اهْتَدَى } بنوره واتبع أوامره فإن نفع ذلك يعود إلى نفسه { َومَنْ ضَلّ } بعدما تبين له‬
‫ضلّ عَلَ ْيهَا } ل يضر اللّه شيئا‪َ { .‬ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِب َوكِيلٍ } تحفظ عليهم أعمالهم‬
‫الهدى { فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫وتحاسبهم عليها‪ ،‬وتجبرهم على ما تشاء‪ ،‬وإنما أنت مبلغ تؤدي إليهم ما أمرت به‪.‬‬

‫سكُ الّتِي َقضَى عَلَ ْيهَا ا ْل َموْتَ‬


‫{ ‪ { } 42‬اللّهُ يَ َت َوفّى الْأَ ْنفُسَ حِينَ َموْ ِتهَا وَالّتِي َلمْ َت ُمتْ فِي مَنَا ِمهَا فَ ُيمْ ِ‬
‫سمّى إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫سلُ الْأُخْرَى إِلَى َأ َ‬
‫وَيُرْ ِ‬

‫يخبر تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد‪ ،‬في حال يقظتهم ونومهم‪ ،‬وفي حال حياتهم وموتهم‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬اللّهُ يَ َت َوفّى الْأَ ْنفُسَ حِينَ َموْ ِتهَا } وهذه الوفاة الكبرى‪ ،‬وفاة الموت‪.‬‬

‫وإخباره أنه يتوفى النفس وإضافة الفعل إلى نفسه‪ ،‬ل ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ‬
‫وأعوانه‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬قلْ يَ َت َوفّاكُمْ مََلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِب ُكمْ } { حَتّى ِإذَا جَاءَ أَ َ‬
‫َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَ ُهمْ لَا ُيفَرّطُونَ } لنه تعالى يضيف الشياء إلى نفسه‪ ،‬باعتبار أنه الخالق المدبر‪،‬‬
‫ويضيفها إلى أسبابها‪ ،‬باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من المور سببا‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَالّتِي لَمْ َت ُمتْ فِي مَنَا ِمهَا } وهذه الموتة الصغرى‪ ،‬أي‪ :‬ويمسك النفس التي لم تمت في‬
‫سكُ } من هاتين النفسين النفس { الّتِي َقضَى عَلَ ْيهَا ا ْل َم ْوتَ } وهي نفس من كان‬
‫منامها‪ { ،‬فَ ُيمْ ِ‬
‫مات‪ ،‬أو قضي أن يموت في منامه‪.‬‬

‫سمّى } أي‪ :‬إلى استكمال رزقها وأجلها‪ { .‬إِنّ فِي ذَِلكَ‬


‫جلٍ ُم َ‬
‫سلُ } النفس { الْأُخْرَى إِلَى َأ َ‬
‫{ وَيُرْ ِ‬
‫لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ } على كمال اقتداره‪ ،‬وإحيائه الموتى بعد موتهم‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه‪ ،‬مخالف جوهره جوهر البدن‪ ،‬وأنها‬
‫مخلوقة مدبرة‪ ،‬يتصرف اللّه فيها في الوفاة والمساك والرسال‪ ،‬وأن أرواح الحياء والموات‬
‫تتلقى في البرزخ‪ ،‬فتجتمع‪ ،‬فتتحادث‪ ،‬فيرسل اللّه أرواح الحياء‪ ،‬ويمسك أرواح الموات‪.‬‬

‫ش َفعَاءَ ُقلْ َأوََلوْ كَانُوا لَا َيمِْلكُونَ شَيْئًا وَلَا َي ْعقِلُونَ * ُقلْ‬
‫خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ ُ‬
‫{ ‪ { } 44 - 43‬أَمِ اتّ َ‬
‫جعُونَ }‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُثمّ إِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫جمِيعًا َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شفَاعَةُ َ‬
‫لِلّهِ ال ّ‬

‫ينكر تعالى‪ ،‬على من اتخذ من دونه شفعاء يتعلق بهم ويسألهم ويعبدهم‪ُ { .‬قلْ } لهم ‪ -‬مبينا‬
‫جهلهم‪ ،‬وأنها ل تستحق شيئا من العبادة‪َ { :-‬أوََلوْ كَانُوا } أي‪ :‬من اتخذتم من الشفعاء { لَا َيمِْلكُونَ‬
‫شَيْئًا } أي‪ :‬ل مثقال ذرة في السماوات ول في الرض‪ ،‬ول أصغر من ذلك ول أكبر‪ ،‬بل وليس‬
‫لهم عقل‪ ،‬يستحقون أن يمدحوا به‪ ،‬لنها جمادات من أحجار وأشجار وصور وأموات‪.،‬فهل يقال‪:‬‬
‫إن لمن اتخذها عقل؟ أم هو من أضل الناس وأجهلهم وأعظمهم ظلما؟‪.‬‬

‫جمِيعًا } لن المر كله للّه‪.‬وكل شفيع فهو يخافه‪ ،‬ول يقدر أن يشفع‬
‫شفَاعَةُ َ‬
‫{ ُقلْ } لهم‪ { :‬لِلّهِ ال ّ‬
‫عنده أحد إل بإذنه‪ ،‬فإذا أراد رحمة عبده‪ ،‬أذن للشفيع الكريم عنده أن يشفع‪ ،‬رحمة بالثنين‪ .‬ثم‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬جميع ما فيهما من الذوات‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫قرر أن الشفاعة كلها له بقوله { َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫والفعال والصفات‪ .‬فالواجب أن تطلب الشفاعة ممن يملكها‪ ،‬وتخلص له العبادة‪ { .‬ثُمّ إِلَيْهِ‬
‫جعُونَ } فيجازي المخلص له بالثواب الجزيل‪ ،‬ومن أشرك به بالعذاب الوبيل‪.‬‬
‫تُرْ َ‬

‫شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ‬
‫{ ‪ { } 46 - 45‬وَإِذَا ُذكِرَ اللّ ُه َوحْ َدهُ ا ْ‬
‫حكُمُ بَيْنَ‬
‫شهَا َدةِ أَ ْنتَ َت ْ‬
‫ب وَال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ عَاِلمَ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫دُونِهِ ِإذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * ُقلِ الّلهُمّ فَاطِرَ ال ّ‬
‫عِبَا ِدكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْ َتِلفُونَ }‬
‫يذكر تعالى حالة المشركين‪ ،‬وما الذي اقتضاه شركهم أنهم { إِذَا ُذكِرَ اللّهُ } توحيدا له‪ ،‬وأمر‬
‫بإخلص الدين له‪ ،‬وترك ما يعبد من دونه‪ ،‬أنهم يشمئزون وينفرون‪ ،‬ويكرهون ذلك أشد الكراهة‪.‬‬

‫{ وَِإذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الصنام والنداد‪ ،‬ودعا الداعي إلى عبادتها ومدحها‪ِ { ،‬إذَا ُهمْ‬
‫يَسْتَبْشِرُونَ } بذلك‪ ،‬فرحا بذكر معبوداتهم‪ ،‬ولكون الشرك موافقا لهوائهم‪ ،‬وهذه الحال أشر‬
‫الحالت وأشنعها‪ ،‬ولكن موعدهم يوم الجزاء‪ .‬فهناك يؤخذ الحق منهم‪ ،‬وينظر‪ :‬هل تنفعهم آلهتهم‬
‫التي كانوا يدعون من دون اللّه شيئا؟‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬خالقهما ومدبرهما‪ { .‬عَاِلمَ ا ْلغَ ْيبِ } الذي‬
‫ولهذا قال { ُقلِ الّل ُهمّ فَاطِرَ ال ّ‬
‫شهَا َدةِ } الذي نشاهده‪.‬‬
‫غاب عن أبصارنا وعلمنا { وَال ّ‬

‫حكُمُ بَيْنَ عِبَا ِدكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ } وإن من أعظم الختلف اختلف الموحدين‬
‫{ أَ ْنتَ َت ْ‬
‫المخلصين القائلين‪ :‬إن ما هم عليه هو الحق‪ ،‬وإن لهم الحسنى في الخرة دون غيرهم‪،‬‬
‫والمشركين الذين اتخذوا من دونك النداد والوثان‪ ،‬وسووا فيك من ل يسوى شيئا‪ ،‬وتنقصوك‬
‫غاية التنقص‪ ،‬واستبشروا عند ذكر آلهتهم‪ ،‬واشمأزوا عند ذكرك‪ ،‬وزعموا مع هذا أنهم على الحق‬
‫وغيرهم على الباطل‪ ،‬وأن لهم الحسنى‪.‬‬

‫س وَالّذِينَ أَشْ َركُوا إِنّ اللّهَ‬


‫قال تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئِينَ وَال ّنصَارَى وَا ْلمَجُو َ‬
‫شهِيدٌ }‬
‫شيْءٍ َ‬
‫علَى ُكلّ َ‬
‫صلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫َيفْ ِ‬

‫ط َعتْ‬
‫صمُوا فِي رَ ّبهِمْ فَالّذِينَ َكفَرُوا قُ ّ‬
‫صمَانِ اخْ َت َ‬
‫خ ْ‬
‫وقد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقوله‪َ { :‬هذَانِ َ‬
‫صهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُو ِنهِ ْم وَا ْلجُلُو ُد وََلهُمْ َمقَامِعُ‬
‫حمِيمُ ُي ْ‬
‫س ِهمُ الْ َ‬
‫صبّ مِنْ َفوْقِ رُءُو ِ‬
‫َلهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ُي َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حدِيدٍ } إلى أن قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬
‫مِنْ َ‬
‫س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ }‬
‫ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ‬
‫الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِنْ ذَ َه ٍ‬

‫ن وَهُمْ ُمهْ َتدُونَ } { إِنّهُ مَنْ يُشْ ِركْ‬


‫وقال تعالى‪ { :‬الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَا َنهُمْ ِبظُلْمٍ أُولَ ِئكَ َل ُهمُ الَْأمْ ُ‬
‫بِاللّهِ َفقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَ ْيهِ الْجَنّ َة َومَ ْأوَاهُ النّارُ } ففي هذه الية‪ ،‬بيان عموم خلقه تعالى وعموم علمه‪،‬‬
‫وعموم حكمه بين عباده‪.،‬فقدرته التي نشأت عنها المخلوقات‪ ،‬وعلمه المحيط بكل شيء‪ ،‬دال على‬
‫حكمه بين عباده وبعثهم‪ ،‬وعلمه بأعمالهم‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬وبمقادير جزائها‪ ،‬وخلقه دال على علمه‬
‫{ َألَا َيعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }‬

‫جمِيعًا َومِثْلَهُ َمعَهُ لَافْ َت َدوْا ِبهِ مِنْ سُوءِ ا ْلعَذَابِ‬


‫{ ‪ { } 48 - 47‬وََلوْ أَنّ لِلّذِينَ ظََلمُوا مَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَبَدَا َل ُهمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ َيكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَ َبدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا َكسَبُوا وَحَاقَ ِب ِهمْ مَا‬
‫كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى أنه الحاكم بين عباده‪ ،‬وذكر مقالة المشركين وشناعتها‪ ،‬كأن النفوس تشوقت إلى ما‬
‫يفعل اللّه بهم يوم القيامة‪ ،‬فأخبر أن لهم { سُوءَ ا ْلعَذَابِ } أي‪ :‬أشده وأفظعه‪ ،‬كما قالوا أشد الكفر‬
‫وأشنعه‪ ،‬وأنهم على ‪ -‬الفرض والتقدير ‪ -‬لو كان لهم ما في الرض جميعا‪ ،‬من ذهبها وفضتها‬
‫ولؤلؤها وحيواناتها وأشجارها وزروعها وجميع أوانيها وأثاثها ومثله معه‪ ،‬ثم بذلوه يوم القيامة‬
‫ليفتدوا به من العذاب وينجوا منه‪ ،‬ما قبل منهم‪ ،‬ول أغنى عنهم من عذاب اللّه شيئا‪َ { ،‬يوْمَ لَا يَ ْنفَعُ‬
‫مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلّا مَنْ أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ }‬

‫{ وَبَدَا َلهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ َيكُونُوا َيحْتَسِبُونَ } أي‪ :‬يظنون من السخط العظيم‪ ،‬والمقت الكبير‪ ،‬وقد‬
‫كانوا يحكمون لنفسهم بغير ذلك‪.‬‬

‫{ وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا َكسَبُوا } أي‪ :‬المور التي تسوؤهم‪ ،‬بسبب صنيعهم وكسبهم‪َ { .‬وحَاقَ ِبهِمْ مَا‬
‫كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } من الوعيد والعذاب الذي نزل بهم‪ ،‬وما حل عليهم العقاب‪.‬‬

‫خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ َبلْ‬


‫ن ضُرّ دَعَانَا ثُمّ ِإذَا َ‬
‫{ ‪ { } 52 - 49‬فَإِذَا مَسّ الْإِنْسَا َ‬
‫ِهيَ فِتْنَ ٌة وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ * قَدْ قَاَلهَا الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ *‬
‫فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالّذِينَ ظََلمُوا مِنْ َهؤُلَاءِ سَ ُيصِي ُبهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا َومَا هُمْ ِب ُمعْجِزِينَ *‬
‫سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫َأوَلَمْ َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ يَبْ ُ‬

‫يخبر تعالى عن حالة النسان وطبيعته‪ ،‬أنه حين يمسه ضر‪ ،‬من مرض أو شدة أو كرب‪ { .‬دَعَانَا‬
‫خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا } فكشفنا ضره وأزلنا مشقته‪ ،‬عاد بربه‬
‫} ملحا في تفريج ما نزل به { ثُمّ إِذَا َ‬
‫علَى عِ ْلمٍ } أي‪ :‬علم من اللّه‪ ،‬أني له أهل‪ ،‬وأني‬
‫كافرا‪ ،‬ولمعروفه منكرا‪ .‬و { قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ َ‬
‫مستحق له‪ ،‬لني كريم عليه‪ ،‬أو على علم مني بطرق تحصيله‪.‬‬

‫قال تعالى‪َ { :‬بلْ ِهيَ فِتْنَةٌ } يبتلي اللّه به عباده‪ ،‬لينظر من يشكره ممن يكفره‪ { .‬وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا‬
‫َيعَْلمُونَ } فلذلك يعدون الفتنة منحة‪ ،‬ويشتبه عليهم الخير المحض‪ ،‬بما قد يكون سببا للخير أو‬
‫للشر‪.‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬قدْ قَاَلهَا الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } أي‪ :‬قولهم { إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } فما زالت متوارثة عند‬
‫المكذبين‪ ،‬ل يقرون بنعمة ربهم‪ ،‬ول يرون له حقا‪.،‬فلم يزل دأبهم حتى أهلكوا‪ ،‬ولم يغن { عَ ْنهُمْ‬
‫مَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ } حين جاءهم العذاب‪.‬‬

‫{ فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا } والسيئات في هذا الموضع‪ :‬العقوبات‪ ،‬لنها تسوء النسان وتحزنه‪.‬‬
‫{ وَالّذِينَ ظََلمُوا من هؤلء سَ ُيصِي ُبهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا } فليسوا خيرا من أولئك‪ ،‬ولم يكتب لهم‬
‫براءة في الزبر‪.‬‬

‫ولما ذكر أنهم اغتروا بالمال‪ ،‬وزعموا ‪ -‬بجهلهم ‪ -‬أنه يدل على حسن حال صاحبه‪ ،‬أخبرهم‬
‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَاءُ } من عباده‪ ،‬سواء كان صالحا‬
‫تعالى‪ ،‬أن رزقه‪ ،‬ل يدل على ذلك‪ ،‬وأنه { يَبْ ُ‬
‫أو طالحا { وَ َيقْدِرُ } الرزق‪ ،‬أي‪ :‬يضيقه على من يشاء‪ ،‬صالحا أو طالحا‪ ،‬فرزقه مشترك بين‬
‫البرية‪.،‬واليمان والعمل الصالح يخص به خير البرية‪ { .‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } أي‪:‬‬
‫بسط الرزق وقبضه‪ ،‬لعلمهم أن مرجع ذلك‪ ،‬عائد إلى الحكمة والرحمة‪ ،‬وأنه أعلم بحال عبيده‪،‬‬
‫فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم‪ ،‬لنه لو بسطه لبغوا في الرض‪ ،‬فيكون تعالى مراعيا في ذلك‬
‫صلح دينهم الذي هو مادة سعادتهم وفلحهم‪ ،‬واللّه أعلم‪.‬‬

‫حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ‬


‫سهِمْ لَا َتقْنَطُوا مِنْ رَ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 59 - 53‬قلْ يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫جمِيعًا إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَ ّبكُمْ وَأَسِْلمُوا لَهُ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َيكُمُ ا ْلعَذَابُ ثُمّ‬
‫الذّنُوبَ َ‬
‫لَا تُ ْنصَرُونَ * وَاتّ ِبعُوا َأحْسَنَ مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي ُكمْ مِنْ رَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َيكُمُ ا ْلعَذَابُ َبغْتَ ًة وَأَنْتُمْ لَا‬
‫طتُ فِي جَ ْنبِ اللّ ِه وَإِنْ كُ ْنتُ َلمِنَ السّاخِرِينَ * َأوْ‬
‫شعُرُونَ * أَنْ َتقُولَ َنفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرّ ْ‬
‫تَ ْ‬
‫َتقُولَ َلوْ أَنّ اللّهَ هَدَانِي َلكُ ْنتُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ * َأوْ َتقُولَ حِينَ تَرَى ا ْل َعذَابَ َلوْ أَنّ لِي كَ ّرةً فََأكُونَ مِنَ‬
‫ت َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫حسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَ ْتكَ آيَاتِي َفكَذّ ْبتَ ِبهَا وَاسْ َتكْبَ ْر َ‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه‪ ،‬ويحثهم على النابة قبل أن ل يمكنهم ذلك فقال‪ُ { :‬قلْ }‬
‫يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه‪ ،‬مخبرا للعباد عن ربهم‪ { :‬يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ‬
‫سهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب‪ ،‬والسعي في مساخط علم‬
‫أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫الغيوب‪.‬‬

‫حمَةِ اللّهِ } أي‪ :‬ل تيأسوا منها‪ ،‬فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة‪ ،‬وتقولوا قد كثرت‬
‫{ لَا َتقْنَطُوا مِنْ رَ ْ‬
‫ذنوبنا وتراكمت عيوبنا‪ ،‬فليس لها طريق يزيلها ول سبيل يصرفها‪ ،‬فتبقون بسبب ذلك مصرين‬
‫على العصيان‪ ،‬متزودين ما يغضب عليكم الرحمن‪ ،‬ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه‬
‫وجوده‪ ،‬واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك‪ ،‬والقتل‪ ،‬والزنا‪ ،‬والربا‪ ،‬والظلم‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من الذنوب الكبار والصغار‪ { .‬إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } أي‪ :‬وصفه المغفرة والرحمة‪ ،‬وصفان‬
‫لزمان ذاتيان‪ ،‬ل تنفك ذاته عنهما‪ ،‬ولم تزل آثارهما سارية في الوجود‪ ،‬مالئة للموجود‪.،‬تسح يداه‬
‫من الخيرات آناء الليل والنهار‪ ،‬ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار‪ ،‬والعطاء‬
‫أحب إليه من المنع‪ ،‬والرحمة سبقت الغضب وغلبته‪. ،‬ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن‬
‫لم يأت بها العبد‪ ،‬فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة‪ ،‬أعظمها وأجلها‪ ،‬بل ل سبب لها‬
‫غيره‪ ،‬النابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح‪ ،‬والدعاء والتضرع والتأله والتعبد‪ .،‬فهلم إلى هذا‬
‫السبب الجل‪ ،‬والطريق العظم‪.‬‬

‫ولهذا أمر تعالى بالنابة إليه‪ ،‬والمبادرة إليها فقال‪ { :‬وَأَنِيبُوا إِلَى رَ ّبكُمْ } بقلوبكم { وَأَسِْلمُوا لَهُ }‬
‫بجوارحكم‪ ،‬إذا أفردت النابة‪ ،‬دخلت فيها أعمال الجوارح‪ ،‬وإذا جمع بينهما‪ ،‬كما في هذا‬
‫الموضع‪ ،‬كان المعنى ما ذكرنا‪.‬‬

‫وفي قوله { إِلَى رَ ّبكُ ْم وَأَسِْلمُوا َلهُ } دليل على الخلص‪ ،‬وأنه من دون إخلص‪ ،‬ل تفيد العمال‬
‫الظاهرة والباطنة شيئا‪ { .‬مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ ا ْلعَذَابُ } مجيئا ل يدفع { ُثمّ لَا تُ ْنصَرُونَ } فكأنه قيل‪:‬‬
‫ما هي النابة والسلم؟ وما جزئياتها وأعمالها؟‬

‫فأجاب تعالى بقوله‪ { :‬وَاتّ ِبعُوا َأحْسَنَ مَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكُمْ مِنْ رَ ّبكُمْ } مما أمركم من العمال الباطنة‪،‬‬
‫كمحبة اللّه‪ ،‬وخشيته‪ ،‬وخوفه‪ ،‬ورجائه‪ ،‬والنصح لعباده‪ ،‬ومحبة الخير لهم‪ ،‬وترك ما يضاد ذلك‪.‬‬

‫ومن العمال الظاهرة‪ ،‬كالصلة‪ ،‬والزكاة والصيام‪ ،‬والحج‪ ،‬والصدقة‪ ،‬وأنواع الحسان‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬مما أمر اللّه به‪ ،‬وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا‪ ،‬فالمتبع لوامر ربه في هذه المور‬
‫شعُرُونَ } وكل هذا حثّ‬
‫ونحوها هو المنيب المسلم‪ { .،‬مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ ا ْلعَذَابُ َبغْتَ ًة وَأَنْ ُتمْ لَا تَ ْ‬
‫على المبادرة وانتهاز الفرصة‪.‬‬

‫ثم حذرهم { أَن } يستمروا على غفلتهم‪ ،‬حتى يأتيهم يوم يندمون فيه‪ ،‬ول تنفع الندامة‪.‬و { َتقُولَ‬
‫طتُ فِي جَ ْنبِ اللّهِ } أي‪ :‬في جانب حقه‪ { .‬وَإِنْ كُنْت } في الدنيا { َلمِنَ‬
‫حسْرَتَى عَلَى مَا فَرّ ْ‬
‫َنفْسٌ يَا َ‬
‫السّاخِرِينَ } في إتيان الجزاء‪ ،‬حتى رأيته عيانا‪.‬‬

‫{ َأوْ َتقُولَ َلوْ أَنّ اللّهَ َهدَانِي َلكُ ْنتُ مِنَ ا ْلمُتّقِينَ } و"لو" في هذا الموضع للتمني‪.،‬أي‪ :‬ليت أن اللّه‬
‫هداني فأكون متقيا له‪ ،‬فأسلم من العقاب وأستحق الثواب‪ ،‬وليست "لو" هنا شرطية‪ ،‬لنها لو كانت‬
‫شرطية‪ ،‬لكانوا محتجين بالقضاء والقدر على ضللهم‪ ،‬وهو حجة باطلة‪ ،‬ويوم القيامة تضمحل كل‬
‫حجة باطلة‪.‬‬
‫{ َأوْ َتقُولَ حِينَ تَرَى ا ْلعَذَابَ } وتجزم بوروده { َلوْ أَنّ لِي كَ ّرةً } أي‪ :‬رجعة إلى الدنيا لكنت { مِنَ‬
‫حسِنِينَ } قال تعالى‪ :‬إن ذلك غير ممكن ول مفيد‪ ،‬وإن هذه أماني باطلة ل حقيقة لها‪ ،‬إذ ل‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫يتجدد للعبد َلوْ رُدّ‪ ،‬بيان بعد البيان الول‪.‬‬

‫{ بَلَى َقدْ جَاءَ ْتكَ آيَاتِي } الدالة دللة ل يمترى فيها‪ .‬على الحق { َف َكذّ ْبتَ ِبهَا وَاسْ َتكْبَ ْرتَ } عن‬
‫اتباعها { َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } فسؤال الرد إلى الدنيا‪ ،‬نوع عبث‪ { ،‬وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَ ْنهُ‬
‫وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‬

‫جهَنّمَ مَ ْثوًى‬
‫سوَ ّدةٌ أَلَيْسَ فِي َ‬
‫{ ‪ { } 61 - 60‬وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّ ِه وُجُو ُه ُهمْ مُ ْ‬
‫سهُمُ السّو ُء وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ }‬
‫لِ ْلمُ َتكَبّرِينَ * وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ ا ّت َقوْا ِب َمفَازَتِهِمْ لَا َيمَ ّ‬

‫يخبر تعالى عن خزي الذين كذبوا عليه‪ ،‬وأن وجوههم يوم القيامة مسودة كأنها الليل البهيم‪،‬‬
‫يعرفهم بذلك أهل الموقف‪ ،‬فالحق أبلج واضح كأنه الصبح‪.،‬فكما سوّدوا وجه الحق بالكذب‪ ،‬سود‬
‫اللّه وجوههم‪ ،‬جزاء من جنس عملهم‪.‬‬

‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لِ ْلمُ َتكَبّرِينَ }‬


‫فلهم سواد الوجوه‪ ،‬ولهم العذاب الشديد في جهنم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَلَيْسَ فِي َ‬
‫عن الحق‪ ،‬وعن عبادة ربهم‪ ،‬المفترين عليه؟ بلى واللّه‪ ،‬إن فيها لعقوبة وخزيا وسخطا‪ ،‬يبلغ من‬
‫المتكبرين كل مبلغ‪ ،‬ويؤخذ الحق منهم بها‪.‬‬

‫والكذب على اللّه يشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد والصاحبة‪ ،‬والخبار عنه بما ل يليق‬
‫بجلله‪ ،‬أو ادعاء النبوة‪ ،‬أو القول في شرعه بما لم يقله‪ ،‬والخبار بأنه قاله وشرعه‪.‬‬

‫ولما ذكر حالة المتكبرين‪ ،‬ذكر حالة المتقين‪ ،‬فقال‪ { :‬وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ ا ّت َقوْا ِب َمفَازَتِهِمْ } أي‪:‬‬
‫بنجاتهم‪ ،‬وذلك لن معهم آلة النجاة‪ ،‬وهي تقوى اللّه تعالى‪ ،‬التي هي العدة عند كل هول وشدة‪.‬‬
‫سهُمُ السّوءُ } أي‪ :‬العذاب الذي يسوؤهم { وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ } فنفى عنهم مباشرة العذاب‬
‫{ لَا َيمَ ّ‬
‫وخوفه‪ ،‬وهذا غاية المان‪.‬‬

‫فلهم المن التام‪ ،‬يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السلم‪ ،‬فحينئذ يأمنون من كل سوء ومكروه‪،‬‬
‫شكُورٌ }‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي َأذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ إِنّ رَبّنَا َل َغفُورٌ َ‬
‫وتجري عليهم نضرة النعيم‪ ،‬ويقولون { ا ْل َ‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ‬


‫شيْءٍ َوكِيلٌ * َلهُ َمقَالِيدُ ال ّ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫{ ‪ { } 63 - 62‬اللّهُ خَاِلقُ ُكلّ َ‬
‫وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }‬
‫شيْءٍ } هذه‬
‫يخبر تعالى عن عظمته وكماله‪ ،‬الموجب لخسران من كفر به فقال‪ { :‬اللّهُ خَاِلقُ ُكلّ َ‬
‫العبارة وما أشبهها‪ ،‬مما هو كثير في القرآن‪ ،‬تدل على أن جميع الشياء ‪ -‬غير اللّه ‪ -‬مخلوقة‪،‬‬
‫ففيها رد على كل من قال بقدم بعض المخلوقات‪ ،‬كالفلسفة القائلين بقدم الرض والسماوات‪،‬‬
‫وكالقائلين بقدم الرواح‪ ،‬ونحو ذلك من أقوال أهل الباطل‪ ،‬المتضمنة تعطيل الخالق عن خلقه‪.‬‬

‫وليس كلم اللّه من الشياء المخلوقة‪ ،‬لن الكلم صفة المتكلم‪ ،‬واللّه تعالى بأسمائه وصفاته أول‬
‫ليس قبله شيء‪ ،‬فأخذ أهل العتزال من هذه الية ونحوها أنه مخلوق‪ ،‬من أعظم الجهل‪ ،‬فإنه‬
‫تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته‪ ،‬ولم يحدث له صفة من صفاته‪ ،‬ولم يكن معطل عنها بوقت من‬
‫الوقات‪ ،‬والشاهد من هذا‪ ،‬أن اللّه تعالى أخبر عن نفسه الكريمة أنه خالق لجميع العالم العلوي‬
‫والسفلي‪ ،‬وأنه على كل شيء وكيل‪ ،‬والوكالة التامة ل بد فيها من علم الوكيل‪ ،‬بما كان وكيل‬
‫عليه‪ ،‬وإحاطته بتفاصيله‪ ،‬ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه‪ ،‬ليتمكن من التصرف فيه‪ ،‬ومن‬
‫حفظ لما هو وكيل عليه‪ ،‬ومن حكمة‪ ،‬ومعرفة بوجوه التصرفات‪ ،‬ليصرفها ويدبرها على ما هو‬
‫الليق‪ ،‬فل تتم الوكالة إل بذلك كله‪ ،‬فما نقص من ذلك‪ ،‬فهو نقص فيها‪.‬‬

‫ومن المعلوم المتقرر‪ ،‬أن اللّه تعالى منزه عن كل نقص في صفة من صفاته‪.،‬فإخباره بأنه على‬
‫كل شيء وكيل‪ ،‬يدل على إحاطة علمه بجميع الشياء‪ ،‬وكمال قدرته على تدبيرها‪ ،‬وكمال تدبيره‪،‬‬
‫وكمال حكمته التي يضع بها الشياء مواضعها‪.‬‬

‫حمَةٍ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬مفاتيحها‪ ،‬علما وتدبيرا‪ ،‬فـ { مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َلهُ َمقَالِيدُ ال ّ‬
‫حكِيمُ } فلما بين من عظمته ما‬
‫سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِد ِه وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫سكْ فَلَا مُرْ ِ‬
‫سكَ َلهَا َومَا ُيمْ ِ‬
‫فَلَا ُممْ ِ‬
‫يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجلل وإكراما‪ ،‬ذكر حال من عكس القضية فلم يقدره حق قدره‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ } الدالة على الحق اليقين والصراط المستقيم‪ { .‬أُولَ ِئكَ هُمُ‬
‫الْخَاسِرُونَ } خسروا ما به تصلح القلوب من التأله والخلص للّه‪ .،‬وما به تصلح اللسن من‬
‫إشغالها بذكر اللّه‪ ،‬وما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه‪.،‬وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب‬
‫والبدان‪ ،‬وخسروا جنات النعيم‪ ،‬وتعوضوا عنها بالعذاب الليم‪.‬‬

‫ك وَإِلَى الّذِينَ مِنْ‬


‫حيَ إِلَ ْي َ‬
‫{ ‪ُ { } 66 - 64‬قلْ َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ْأمُرُونّي أَعْبُدُ أَ ّيهَا الْجَاهِلُونَ * وََلقَدْ أُو ِ‬
‫ك وَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * َبلِ اللّهَ فَاعْبُ ْد َوكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ }‬
‫عمَُل َ‬
‫قَبِْلكَ لَئِنْ أَشْ َر ْكتَ لَ َيحْبَطَنّ َ‬

‫{ ُقلْ } يا أيها الرسول لهؤلء الجاهلين‪ ،‬الذين دعوك إلى عبادة غير اللّه‪َ { :‬أ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ْأمُرُونّي‬
‫أَعْبُدُ أَ ّيهَا الْجَاهِلُونَ } أي‪ :‬هذا المر صدر من جهلكم‪ ،‬وإل فلو كان لكم علم بأن اللّه تعالى الكامل‬
‫من جميع الوجوه‪ ،‬مسدي جميع النعم‪ ،‬هو المستحق للعبادة‪ ،‬دون من كان ناقصا من كل وجه‪ ،‬ل‬
‫ينفع ول يضر‪ ،‬لم تأمروني بذلك‪.‬‬

‫ك وَإِلَى الّذِينَ‬
‫حيَ إِلَ ْي َ‬
‫وذلك لن الشرك باللّه محبط للعمال‪ ،‬مفسد للحوال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلقَدْ أُو ِ‬
‫عمَُلكَ } هذا مفرد مضاف‪ ،‬يعم كل‬
‫مِنْ قَبِْلكَ } من جميع النبياء‪ { .‬لَئِنْ َأشْ َر ْكتَ لَ َيحْبَطَنّ َ‬
‫عمل‪.،‬ففي نبوة جميع النبياء‪ ،‬أن الشرك محبط لجميع العمال‪ ،‬كما قال تعالى في سورة النعام‬
‫‪ -‬لما عدد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم‪ { :‬ذَِلكَ هُدَى اللّهِ َيهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وََلوْ‬
‫أَشْ َركُوا لَحَ ِبطَ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬

‫{ وَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دينك وآخرتك‪ ،‬فبالشرك تحبط العمال‪ ،‬ويستحق العقاب والنكال‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬بلِ اللّهَ فَاعْبُدْ } لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك‪ ،‬وأخبر عن شناعته‪ ،‬أمره‬
‫بالخلص فقال‪َ { :‬بلِ اللّهَ فَاعْبُدْ } أي‪ :‬أخلص له العبادة وحده ل شريك له‪َ { ،‬وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ‬
‫} للّه على توفيق اللّه تعالى‪.،‬فكما أنه تعالى يشكر على النعم الدنيوية‪ ،‬كصحة الجسم وعافيته‪،‬‬
‫وحصول الرزق وغير ذلك‪.،‬كذلك يشكر ويثنى عليه بالنعم الدينية‪ ،‬كالتوفيق للخلص‪ ،‬والتقوى‪،‬‬
‫بل نعم الدين‪ ،‬هي النعم على الحقيقة‪ ،‬وفي تدبر أنها من اللّه تعالى والشكر للّه عليها‪ ،‬سلمة من‬
‫آفة العجب التي تعرض لكثير من العاملين‪ ،‬بسبب جهلهم‪ ،‬وإل‪ ،‬فلو عرف العبد حقيقة الحال‪ ،‬لم‬
‫يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر‪.‬‬

‫طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ‬
‫جمِيعًا قَ ْبضَتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَالسّماوَاتُ مَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 67‬ومَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ وَالْأَ ْرضُ َ‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ }‬
‫سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬وما قدر هؤلء المشركون ربهم حق قدره‪ ،‬ول عظموه حق تعظيمه‪ ،‬بل فعلوا ما‬
‫يناقض ذلك‪ ،‬من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله‪ ،‬فأوصافه ناقصة من كل وجه‪،‬‬
‫وأفعاله ليس عنده نفع ول ضر‪ ،‬ول عطاء ول منع‪ ،‬ول يملك من المر شيئا‪.‬‬

‫فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم‪ ،‬الذي من عظمته الباهرة‪ ،‬وقدرته القاهرة‪ ،‬أن‬
‫جميع الرض يوم القيامة قبضة للرحمن‪ ،‬وأن السماوات ‪ -‬على سعتها وعظمها ‪ -‬مطويات‬
‫بيمينه‪ ،‬فل عظمه حق عظمته من سوّى به غيره‪ ،‬ول أظلم منه‪.‬‬

‫عمّا يُشْ ِركُونَ } أي‪ :‬تنزه وتعاظم عن شركهم به‪.‬‬


‫{ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ ثُمّ‬
‫صعِقَ مَنْ فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 70 - 68‬وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َف َ‬
‫ب وَجِيءَ بِالنّبِيّينَ‬
‫ُنفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَِإذَا ُهمْ قِيَامٌ يَ ْنظُرُونَ * وَأَشْ َر َقتِ الْأَ ْرضُ بِنُورِ رَ ّبهَا وَ ُوضِعَ ا ْلكِتَا ُ‬
‫ت وَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَا َي ْفعَلُونَ }‬
‫عمَِل ْ‬
‫ق وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُونَ * وَ ُوفّ َيتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫شهَدَا ِء َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلحَ ّ‬
‫وَال ّ‬

‫لما خوفهم تعالى من عظمته‪ ،‬خوفهم بأحوال يوم القيامة‪ ،‬ورغّبهم ورهّبهم فقال‪ { :‬وَ ُنفِخَ فِي‬
‫الصّورِ } وهو قرن عظيم‪ ،‬ل يعلم عظمته إل خالقه‪ ،‬ومن أطلعه اللّه على علمه من خلقه‪ .،‬فينفخ‬
‫فيه إسرافيل عليه السلم‪ .،‬أحد الملئكة المقربين‪ ،‬وأحد حملة عرش الرحمن‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪:‬‬


‫صعِقَ } أي‪ :‬غشي أو مات‪ ،‬على اختلف القولين‪ { :‬مَنْ فِي ال ّ‬
‫{ َف َ‬
‫كلهم‪ ،‬لما سمعوا نفخة الصور أزعجتهم من شدتها وعظمها‪ ،‬وما يعلمون أنها مقدمة له‪ِ { .‬إلّا مَنْ‬
‫شَاءَ اللّهُ } ممن ثبته اللّه عند النفخة‪ ،‬فلم يصعق‪ ،‬كالشهداء أو بعضهم‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وهذه النفخة‬
‫الولى‪ ،‬نفخة الصعق‪ ،‬ونفخة الفزع‪.‬‬

‫{ ُثمّ ُنفِخَ فِيهِ } النفخة الثانية نفخة البعث { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون } أي‪ :‬قد قاموا من قبورهم لبعثهم‬
‫وحسابهم‪ ،‬قد تمت منهم الخلقة الجسدية والرواح‪ ،‬وشخصت أبصارهم { يَنْظُرُونَ } ماذا يفعل اللّه‬
‫بهم‪.‬‬

‫{ وَأَشْ َر َقتِ الْأَ ْرضُ بِنُورِ رَ ّبهَا } علم من هذا‪ ،‬أن النوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضحمل‪،‬‬
‫وهو كذلك‪ ،‬فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور‪ ،‬والقمر يخسف‪ ،‬والنجوم تندثر‪ ،‬ويكون الناس في‬
‫ظلمة‪ ،‬فتشرق عند ذلك الرض بنور ربها‪ ،‬عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم‪ ،‬وذلك اليوم يجعل‬
‫اللّه للخلق قوة‪ ،‬وينشئهم نشأة َي ْق َووْنَ على أن ل يحرقهم نوره‪ ،‬ويتمكنون أيضا من رؤيته‪ ،‬وإل‪،‬‬
‫فنوره تعالى عظيم‪ ،‬لو كشفه‪ ،‬لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‪.‬‬

‫{ َو ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ } أي‪ :‬كتاب العمال وديوانه‪ ،‬وضع ونشر‪ ،‬ليقرأ ما فيه من الحسنات والسيئات‪،‬‬
‫ش ِفقِينَ ِممّا فِي ِه وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا ِلهَذَا ا ْلكِتَابِ‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ‬
‫حدًا } ويقال‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ أَ َ‬
‫حصَاهَا َووَجَدُوا مَا َ‬
‫صغِي َر ًة وَلَا كَبِي َرةً إِلّا َأ ْ‬
‫لَا ُيغَادِ ُر َ‬
‫حسِيبًا }‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ َ‬
‫للعامل من تمام العدل والنصاف‪ { :‬اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ‬

‫شهَدَاءِ } من‬
‫{ َوجِيءَ بِالنّبِيّينَ } ليسألوا عن التبليغ‪ ،‬وعن أممهم‪ ،‬ويشهدوا عليهم‪ { .‬س وَال ّ‬
‫حقّ } أي‪ :‬العدل التام والقسط العظيم‪ ،‬لنه‬
‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ بِالْ َ‬
‫الملئكة‪ ،‬والعضاء والرض‪َ { .‬و ُق ِ‬
‫حساب صادر ممن ل يظلم مثقال ذرة‪ ،‬ومن هو محيط بكل شيء‪ ،‬وكتابه الذي هو اللوح‬
‫المحفوظ‪ ،‬محيط بكل ما عملوه‪ ،‬والحفظة الكرام‪ ،‬والذين ل يعصون ربهم‪ ،‬قد كتبت عليهم ما‬
‫عملوه‪ ،‬وأعدل الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم‪ ،‬فحكم بذلك من يعلم مقادير العمال ومقادير‬
‫استحقاقها للثواب والعقاب‪.‬‬

‫فيحصل حكم يقر به الخلق‪ ،‬ويعترفون للّه بالحمد والعدل‪ ،‬ويعرفون به من عظمته وعلمه وحكمته‬
‫ت وَ ُهوَ‬
‫عمَِل ْ‬
‫ورحمته ما لم يخطر بقلوبهم‪ ،‬ول تعبر عنه ألسنتهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬و ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫أَعْلَمُ ِبمَا َي ْفعَلُونَ }‬

‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َلهُمْ‬


‫جهَنّمَ ُزمَرًا حَتّى إِذَا جَاءُوهَا فُ ِت َ‬
‫{ ‪ { } 75 - 71‬وَسِيقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َ‬
‫سلٌ مِ ْنكُمْ يَتْلُونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِ رَ ّب ُك ْم وَيُنْذِرُو َنكُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ َهذَا قَالُوا بَلَى وََلكِنْ‬
‫خَزَنَ ُتهَا أََلمْ يَأْ ِتكُمْ ُر ُ‬
‫جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ *‬
‫ح ّقتْ كَِلمَةُ ا ْلعَذَابِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ * قِيلَ ا ْدخُلُوا أَ ْبوَابَ َ‬
‫َ‬
‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َل ُهمْ خَزَنَ ُتهَا سَلَامٌ‬
‫وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ إِلَى ا ْلجَنّةِ ُزمَرًا حَتّى إِذَا جَاءُوهَا َوفُتِ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َد ُه وََأوْرَثَنَا الْأَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ الْجَنّةِ‬
‫عَلَ ْيكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * َوقَالُوا ا ْل َ‬
‫ح ْمدِ رَ ّبهِمْ‬
‫ح ْولِ ا ْلعَرْشِ ُيسَبّحُونَ بِ َ‬
‫حَ ْيثُ نَشَاءُ فَ ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ * وَتَرَى ا ْلمَلَا ِئكَةَ حَافّينَ مِنْ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫ق َوقِيلَ ا ْل َ‬
‫َو ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ بِا ْلحَ ّ‬

‫لما ذكر تعالى حكمه بين عباده‪ ،‬الذين جمعهم في خلقه ورزقه وتدبيره‪ ،‬واجتماعهم في الدنيا‪،‬‬
‫واجتماعهم في موقف القيامة‪ ،‬فرقهم تعالى عند جزائهم‪ ،‬كما افترقوا في الدنيا باليمان والكفر‪،‬‬
‫جهَنّمَ } أي‪ :‬سوقا عنيفا‪ ،‬يضربون بالسياط‬
‫والتقوى والفجور‪ ،‬فقال‪ { :‬وَسِيقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َ‬
‫الموجعة‪ ،‬من الزبانية الغلظ الشداد‪ ،‬إلى شر محبس وأفظع موضع‪ ،‬وهي جهنم التي قد جمعت‬
‫كل عذاب‪ ،‬وحضرها كل شقاء‪ ،‬وزال عنها كل سرور‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ ُيدَعّونَ ِإلَى نَارِ‬
‫جهَنّمَ دَعّا } أي‪ :‬يدفعون إليها دفعا‪ ،‬وذلك لمتناعهم من دخولها‪.‬‬
‫َ‬

‫ويساقون إليها { ُزمَرًا } أي‪ :‬فرقا متفرقة‪ ،‬كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها‪ ،‬وتشاكل‬
‫سعيها‪ ،‬يلعن بعضهم بعضا‪ ،‬ويبرأ بعضهم من بعض‪ { .‬حَتّى ِإذَا جَاءُوهَا } أي‪ :‬وصلوا إلى‬
‫حتْ } لهم أي‪ :‬لجلهم { أَ ْبوَا ُبهَا } لقدومهم وقِرًى لنزولهم‪.‬‬
‫ساحتها { فُتِ َ‬

‫{ َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا } مهنئين لهم بالشقاء البدي‪ ،‬والعذاب السرمدي‪ ،‬وموبخين لهم على العمال‬
‫سلٌ مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬من جنسكم تعرفونهم وتعرفون‬
‫التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع‪ { :‬أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ رُ ُ‬
‫صدقهم‪ ،‬وتتمكنون من التلقي عنهم؟‪ { .‬يَتْلُونَ عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِ رَ ّبكُمْ } التي أرسلهم اللّه بها‪ ،‬الدالة على‬
‫الحق اليقين بأوضح البراهين‪.‬‬
‫{ وَيُنْذِرُو َنكُمْ ِلقَاءَ َي ْومِكُمْ هَذَا } أي‪ :‬وهذا يوجب عليكم اتباعهم والحذر من عذاب هذا اليوم‪،‬‬
‫باستعمال تقواه‪ ،‬وقد كانت حالكم بخلف هذه الحال؟‬

‫{ قَالُوا } مقرين بذنبهم‪ ،‬وأن حجة اللّه قامت عليهم‪ { :‬بَلَى } قد جاءتنا رسل ربنا بآياته وبيناته‪،‬‬
‫حقّتْ كَِلمَةُ ا ْل َعذَابِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } أي‪:‬‬
‫وبينوا لنا غاية التبيين‪ ،‬وحذرونا من هذا اليوم‪ { .‬وََلكِنْ َ‬
‫بسبب كفرهم وجبت عليهم كلمة العذاب‪ ،‬التي هي لكل من كفر بآيات اللّه‪ ،‬وجحد ما جاءت به‬
‫المرسلون‪ ،‬فاعترفوا بذنبهم وقيام الحجة عليهم‪.‬‬

‫جهَنّمَ } كل طائفة تدخل من الباب‬


‫فـ { قِيلَ } لهم على وجه الهانة والذلل‪ { :‬ا ْدخُلُوا أَ ْبوَابَ َ‬
‫الذي يناسبها ويوافق عملها‪ { .‬خَاِلدِينَ فِيهَا } أبدا‪ ،‬ل يظعنون عنها‪ ،‬ول يفتر عنهم العذاب ساعة‬
‫ول ينظرون‪ { .‬فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ } أي‪ :‬بئس المقر‪ ،‬النار مقرهم‪ ،‬وذلك لنهم تكبروا على‬
‫الحق‪ ،‬فجازاهم اللّه من جنس عملهم‪ ،‬بالهانة والذل‪ ،‬والخزي‪.‬‬

‫ثم قال عن أهل الجنة‪ { :‬وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ } بتوحيده والعمل بطاعته‪ ،‬سوق إكرام وإعزاز‪،‬‬
‫يحشرون وفدا على النجائب‪ِ { .‬إلَى ا ْلجَنّةِ ُزمَرًا } فرحين مستبشرين‪ ،‬كل زمرة مع الزمرة‪ ،‬التي‬
‫تناسب عملها وتشاكله‪ { .‬حَتّى ِإذَا جَاءُوهَا } أي‪ :‬وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل النيقة‪،‬‬
‫حتْ } لهم { أَ ْبوَا ُبهَا } فتح إكرام‪ ،‬لكرام‬
‫وهبّ عليهم ريحها ونسيمها‪ ،‬وآن خلودها ونعيمها‪َ { .‬وفُتِ َ‬
‫الخلق‪ ،‬ليكرموا فيها‪َ { .‬وقَالَ َل ُهمْ خَزَنَ ُتهَا } تهنئة لهم وترحيبا‪ { :‬سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمْ } أي‪ :‬سلم من كل‬
‫آفة وشر حال‪.‬عليكم { طِبْ ُتمْ } أي‪ :‬طابت قلوبكم بمعرفة اللّه ومحبته وخشيته‪ ،‬وألسنتكم بذكره‪،‬‬
‫وجوارحكم بطاعته‪ { .‬فـ } بسبب طيبكم { ا ْدخُلُوهَا خَالِدِينَ } لنها الدار الطيبة‪ ،‬ول يليق بها إل‬
‫الطيبون‪.‬‬

‫حتْ } بالواو‪ ،‬إشارة إلى أن أهل النار‪ ،‬بمجرد‬


‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا } وفي الجنة { َوفُتِ َ‬
‫وقال في النار { فُتِ َ‬
‫وصولهم إليها‪ ،‬فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ول إمهال‪ ،‬وليكون فتحها في وجوههم‪ ،‬وعلى‬
‫وصولهم‪ ،‬أعظم لحرها‪ ،‬وأشد لعذابها‪.‬‬

‫وأما الجنة‪ ،‬فإنها الدار العالية الغالية‪ ،‬التي ل يوصل إليها ول ينالها كل أحد‪ ،‬إل من أتى بالوسائل‬
‫الموصلة إليها‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه‪ ،‬فلم تفتح لهم بمجرد ما‬
‫وصلوا إليها‪ ،‬بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬حتى يشفع‪ ،‬فيشفعه اللّه تعالى‪.‬‬

‫وفي اليات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق‪ ،‬وأن لكل منهما خزنة‪ ،‬وهما‬
‫الداران الخالصتان‪ ،‬اللتان ل يدخل فيهما إل من استحقهما‪ ،‬بخلف سائر المكنة والدور‪.‬‬
‫{ َوقَالُوا } عند دخولهم فيها واستقرارهم‪ ،‬حامدين ربهم على ما أولهم ومنّ عليهم وهداهم‪:‬‬
‫حمْدُ لِلّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َدهُ } أي‪ :‬وعدنا الجنة على ألسنة رسله‪ ،‬إن آمنا وصلحنا‪ ،‬فوفّى لنا بما‬
‫{ الْ َ‬
‫وعدنا‪ ،‬وأنجز لنا ما منّانا‪ { .‬وََأوْرَثَنَا الْأَ ْرضَ } أي‪ :‬أرض الجنة { نَتَ َبوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَ ْيثُ َنشَاءُ }‬
‫أي‪ :‬ننزل منها أي مكان شئنا‪ ،‬ونتناول منها أي نعيم أردنا‪ ،‬ليس ممنوعا عنا شيء نريده‪ { .‬فَ ِن ْعمَ‬
‫أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ } الذين اجتهدوا بطاعة ربهم‪ ،‬في زمن قليل منقطع‪ ،‬فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا‬
‫مستمرا‪.‬‬

‫وهذه الدار التي تستحق المدح على الحقيقة‪ ،‬التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه‪.،‬ورضيها الجواد‬
‫الكريم لهم نزل‪ ،‬وبنى أعلها وأحسنها‪ ،‬وغرسها بيده‪ ،‬وحشاها من رحمته وكرامته ما ببعضه‬
‫يفرح الحزين‪ ،‬ويزول الكدر‪ ،‬ويتم الصفاء‪.‬‬

‫ح ْولِ ا ْلعَرْشِ } أي‪ :‬قد قاموا في‬


‫{ وَتَرَى ا ْلمَلَا ِئكَةَ } أيها الرائي ذلك اليوم العظيم { حَافّينَ مِنْ َ‬
‫خدمة ربهم‪ ،‬واجتمعوا حول عرشه‪ ،‬خاضعين لجلله‪ ،‬معترفين بكماله‪ ،‬مستغرقين بجماله‪.‬‬
‫حمْدِ رَ ّبهِمْ } أي‪ :‬ينزهونه عن كل ما ل يليق بجلله‪ ،‬مما نسب إليه المشركون وما لم‬
‫{ ُيسَبّحُونَ ِب َ‬
‫ينسبوا‪.‬‬

‫حقّ } الذي ل اشتباه فيه ول إنكار‪،‬‬


‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ } أي‪ :‬بين الولين والخرين من الخلق { بِالْ َ‬
‫{ َو ُق ِ‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } لم يذكر القائل من هو‪ ،‬ليدل ذلك على أن جميع‬
‫ممن عليه الحق‪َ { .‬وقِيلَ ا ْل َ‬
‫الخلق نطقوا بحمد ربهم وحكمته على ما قضى به على أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬حمد فضل‬
‫وإحسان‪ ،‬وحمد عدل وحكمة‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الزمر بحمد اللّه وعونه‪.‬‬

‫تفسير سورة المؤمن‬


‫مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ * غَافِرِ الذّ ْنبِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫طوْلِ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ ِإلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫شدِيدِ ا ْل ِعقَابِ ذِي ال ّ‬
‫َوقَابِلِ ال ّت ْوبِ َ‬

‫يخبر تعالى عن كتابه العظيم وبأنه صادر ومنزل من ال‪ ،‬المألوه المعبود‪ ،‬لكماله وانفراده بأفعاله‪،‬‬
‫{ ا ْلعَزِيزِ } الذي قهر بعزته كل مخلوق { ا ْلعَلِيمِ } بكل شيء‪.‬‬
‫{ غَافِرِ الذّ ْنبِ } للمذنبين { َوقَا ِبلِ ال ّت ْوبِ } من التائبين‪ { ،‬شَدِيدِ ا ْل ِعقَابِ } على من تجرأ على‬
‫ط ْولِ } أي‪ :‬التفضل والحسان الشامل‪.‬‬
‫الذنوب ولم يتب منها‪ { ،‬ذِي ال ّ‬

‫فلما قرر ما قرر من كماله وكان ذلك موجبًا لن يكون وحده‪ ،‬المألوه الذي تخلص له العمال‬
‫قال‪ { :‬لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ إِلَ ْيهِ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من ال الموصوف بهذه الوصاف أن هذه الوصاف مستلزمة‬
‫لجميع ما يشتمل عليه القرآن‪ ،‬من المعاني‪.‬‬

‫فإن القرآن‪ :‬إما إخبار عن أسماء ال‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وهذه أسماء‪ ،‬وأوصاف‪ ،‬وأفعال‪.‬‬

‫وإما إخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة‪ ،‬فهي من تعليم العليم لعباده‪.‬‬

‫وإما إخبار عن نعمه العظيمة‪ ،‬وآلئه الجسيمة‪ ،‬وما يوصل إلى ذلك‪ ،‬من الوامر‪ ،‬فذلك يدل عليه‬
‫ط ْولِ }‬
‫قوله‪ { :‬ذِي ال ّ‬

‫وإما إخبار عن نقمه الشديدة‪ ،‬وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي‪ ،‬فذلك يدل عليه قوله‪ { :‬شَدِيدِ‬
‫ا ْل ِعقَابِ }‬

‫ب َوقَا ِبلِ‬
‫وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والنابة‪ ،‬والستغفار‪ ،‬فذلك يدل عليه قوله‪ { :‬غَافِرِ الذّ ْن ِ‬
‫ال ّت ْوبِ شَدِيدِ ا ْل ِعقَابِ }‬

‫وإما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود‪ ،‬وإقامة الدلة العقلية والنقلية على ذلك‪ ،‬والحث عليه‪،‬‬
‫والنهي عن عبادة ما سوى ال‪ ،‬وإقامة الدلة العقلية والنقلية على فسادها والترهيب منها‪ ،‬فذلك‬
‫يدل عليه قوله تعالى‪ { :‬لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ }‬

‫وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل‪ ،‬وثواب المحسنين‪ ،‬وعقاب العاصين‪ ،‬فهذا يدل عليه قوله‪{ :‬‬
‫إِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات‪.‬‬

‫{ ‪ { } 6 - 4‬مَا يُجَا ِدلُ فِي آيَاتِ اللّهِ إِلّا الّذِينَ َكفَرُوا فَلَا َيغْرُ ْركَ َتقَلّ ُبهُمْ فِي الْ ِبلَادِ * َكذّ َبتْ قَبَْل ُهمْ‬
‫حضُوا بِهِ ا ْلحَقّ‬
‫طلِ لِيُ ْد ِ‬
‫ح وَالْأَحْزَابُ مِنْ َبعْدِ ِه ْم وَ َه ّمتْ ُكلّ ُأمّةٍ بِرَسُوِلهِمْ لِيَ ْأخُذُو ُه وَجَادَلُوا بِالْبَا ِ‬
‫َقوْمُ نُو ٍ‬
‫صحَابُ النّارِ }‬
‫ح ّقتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا أَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫عقَابِ * َوكَذَِلكَ َ‬
‫خذْ ُتهُمْ َفكَ ْيفَ كَانَ ِ‬
‫فَأَ َ‬
‫يخبر تبارك وتعالى أنه ما يجادل في آياته إل الذين كفروا والمراد بالمجادلة هنا‪ ،‬المجادلة لرد‬
‫آيات ال ومقابلتها بالباطل‪ ،‬فهذا من صنيع الكفار‪ ،‬وأما المؤمنون فيخضعون ل تعالى الذي يلقي‬
‫الحق ليدحض به الباطل‪ ،‬ول ينبغي للنسان أن يغتر بحالة النسان الدنيوية‪ ،‬ويظن أن إعطاء ال‬
‫إياه في الدنيا دليل على محبته له وأنه على الحق ولهذا قال‪ { :‬فَلَا َيغْرُ ْركَ َتقَلّ ُبهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي‪:‬‬
‫ترددهم فيها بأنواع التجارات والمكاسب‪ ،‬بل الواجب على العبد‪ ،‬أن يعتبر الناس بالحق‪ ،‬وينظر‬
‫إلى الحقائق الشرعية ويزن بها الناس‪ ،‬ول يزن الحق بالناس‪ ،‬كما عليه من ل علم ول عقل له‪.‬‬

‫ثم هدد من جادل بآيات ال ليبطلها‪ ،‬كما فعل من قبله من المم من قوم نوح وعاد والحزاب من‬
‫بعدهم‪ ،‬الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه‪ ،‬وعلى الباطل لينصروه‪ { ،‬و } أنه بلغت بهم‬
‫الحال‪ ،‬وآل بهم التحزب إلى أنه { َه ّمتْ ُكلّ ُأمّةٍ } من المم { بِرَسُوِلهِمْ لِيَ ْأخُذُوهُ } أي‪ :‬يقتلوه‪.‬‬
‫وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي ل شك فيه ول‬
‫اشتباه‪ ،‬هموا بقتلهم‪ ،‬فهل بعد هذا البغي والضلل والشقاء إل العذاب العظيم الذي ل يخرجون‬
‫منه؟ ولهذا قال في عقوبتهم الدنيوية والخروية‪ { :‬فََأخَذْ ُتهُمْ } أي‪ :‬بسبب تكذيبهم وتحزبهم { َفكَ ْيفَ‬
‫عقَابِ } كان أشد العقاب وأفظعه‪ ،‬ما هو إل صيحة أو حاصب ينزل عليهم أو يأمر الرض‬
‫كَانَ ِ‬
‫أن تأخذهم‪ ،‬أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون‪.‬‬

‫علَى الّذِينَ َكفَرُوا } أي‪ :‬كما حقت على أولئك‪ ،‬حقت عليهم كلمة‬
‫ح ّقتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ َ‬
‫{ َوكَذَِلكَ َ‬
‫الضلل التي نشأت عنها كلمة العذاب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَ ّن ُهمْ َأصْحَابُ النّارِ }‬

‫حمْدِ رَ ّبهِمْ وَيُ ْؤمِنُونَ بِ ِه وَيَسْ َت ْغفِرُونَ‬


‫حوْلَهُ يُسَبّحُونَ ِب َ‬
‫ش َومَنْ َ‬
‫حمِلُونَ ا ْلعَرْ َ‬
‫{ ‪ { } 9 - 7‬الّذِينَ يَ ْ‬
‫عذَابَ‬
‫ك َو ِقهِمْ َ‬
‫غفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا وَاتّ َبعُوا سَبِيَل َ‬
‫حمَ ًة وَعِ ْلمًا فَا ْ‬
‫شيْءٍ رَ ْ‬
‫س ْعتَ ُكلّ َ‬
‫لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا وَ ِ‬
‫جهِ ْم وَذُرّيّا ِت ِهمْ إِ ّنكَ‬
‫ن صَلَحَ مِنْ آبَا ِئ ِه ْم وَأَ ْزوَا ِ‬
‫عدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُ ْم َومَ ْ‬
‫خ ْلهُمْ جَنّاتِ َ‬
‫جحِيمِ * رَبّنَا وَأَدْ ِ‬
‫الْ َ‬
‫حمْتَ ُه وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ }‬
‫حكِيمُ * َو ِقهِمُ السّيّئَاتِ َومَنْ َتقِ السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ َر ِ‬
‫أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬

‫يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين‪ ،‬وما قيض لسباب سعادتهم من السباب‬
‫الخارجة عن قدرهم‪ ،‬من استغفار الملئكة المقربين لهم‪ ،‬ودعائهم لهم بما فيه صلح دينهم‬
‫وآخرتهم‪ ،‬وفي ضمن ذلك الخبار عن شرف حملة العرش ومن حوله‪ ،‬وقربهم من ربهم‪ ،‬وكثرة‬
‫حمِلُونَ ا ْلعَرْشَ } أي‪:‬‬
‫عبادتهم ونصحهم لعباد ال‪ ،‬لعلمهم أن ال يحب ذلك منهم فقال‪ { :‬الّذِينَ يَ ْ‬
‫عرش الرحمن‪ ،‬الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها‪ ،‬وأقربها من ال تعالى‪،‬‬
‫الذي وسع الرض والسماوات والكرسي‪ ،‬وهؤلء الملئكة‪ ،‬قد وكلهم ال تعالى بحمل عرشه‬
‫العظيم‪ ،‬فل شك أنهم من أكبر الملئكة وأعظمهم وأقواهم‪ ،‬واختيار ال لهم لحمل عرشه‪،‬‬
‫وتقديمهم في الذكر‪ ،‬وقربهم منه‪ ،‬يدل على أنهم أفضل أجناس الملئكة عليهم السلم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ح ِملُ عَرْشَ رَ ّبكَ َف ْوقَهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِيَةٌ }‬
‫{ وَ َي ْ‬

‫حمْدِ رَ ّب ِهمْ } هذا مدح لهم‬


‫حوْلَهُ } من الملئكة المقربين في المنزلة والفضيلة { يُسَبّحُونَ بِ َ‬
‫{ َومَنْ َ‬
‫بكثرة عبادتهم للّه تعالى‪ ،‬وخصوصًا التسبيح والتحميد‪ ،‬وسائر العبادات تدخل في تسبيح ال‬
‫وتحميده‪ ،‬لنها تنزيه له عن كون العبد يصرفها لغيره‪ ،‬وحمد له تعالى‪ ،‬بل الحمد هو العبادة للّه‬
‫تعالى‪ ،‬وأما قول العبد‪" :‬سبحان ال وبحمده" فهو داخل في ذلك وهو من جملة العبادات‪.‬‬

‫{ وَيَسْ َت ْغفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا } وهذا من جملة فوائد اليمان وفضائله الكثيرة جدًا‪ ،‬أن الملئكة الذين‬
‫ل ذنوب عليهم يستغفرون لهل اليمان‪ ،‬فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم‪.‬‬

‫ثم ولما كانت المغفرة لها لوازم ل تتم إل بها ‪-‬غير ما يتبادر إلى كثير من الذهان‪ ،‬أن سؤالها‬
‫وطلبها غايته مجرد مغفرة الذنوب‪ -‬ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة‪ ،‬بذكر ما ل تتم إل به‪،‬‬
‫حمَ ًة وَعِ ْلمًا } فعلمك قد أحاط بكل شيء‪ ،‬ل يخفى عليك خافية‪،‬‬
‫شيْءٍ َر ْ‬
‫س ْعتَ ُكلّ َ‬
‫فقال‪ { :‬رَبّنَا وَ ِ‬
‫ول يعزب عن علمك مثقال ذرة في الرض ول في السماء‪ ،‬ول أصغر من ذلك ول أكبر‪،‬‬
‫ورحمتك وسعت كل شيء‪ ،‬فالكون علويه وسفليه قد امتل برحمة ال تعالى ووسعتهم‪ ،‬ووصل إلى‬
‫ما وصل إليه خلقه‪.‬‬

‫غفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا } من الشرك والمعاصي { وَاتّ َبعُوا سَبِيَلكَ } باتباع رسلك‪ ،‬بتوحيدك وطاعتك‪.‬‬
‫{ فَا ْ‬
‫جحِيمِ } أي‪ :‬قهم العذاب نفسه‪ ،‬وقهم أسباب العذاب‪.‬‬
‫عذَابَ الْ َ‬
‫{ َو ِقهِمْ َ‬

‫ن صَلَحَ } أي‪ :‬صلح باليمان‬


‫{ رَبّنَا وَأَدْخِ ْل ُهمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْ َتهُمْ } على ألسنة رسلك { َومَ ْ‬
‫جهِمْ } زوجاتهم وأزواجهن وأصحابهم ورفقائهم { وَذُرّيّا ِتهِمْ }‬
‫والعمل الصالح { مِنْ آبَا ِئ ِه ْم وَأَ ْزوَا ِ‬
‫{ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ } القاهر لكل شيء‪ ،‬فبعزتك تغفر ذنوبهم‪ ،‬وتكشف عنهم المحذور‪ ،‬وتوصلهم‬
‫حكِيمُ } الذي يضع الشياء مواضعها‪ ،‬فل نسألك يا ربنا أمرا تقتضي حكمتك‬
‫بها إلى كل خير { الْ َ‬
‫خلفه‪ ،‬بل من حكمتك التي أخبرت بها على ألسنة رسلك‪ ،‬واقتضاها فضلك‪ ،‬المغفرة للمؤمنين‪.‬‬

‫{ َو ِقهِمُ السّيّئَاتِ } أي‪ :‬العمال السيئة وجزاءها‪ ،‬لنها تسوء صاحبها‪َ { .‬ومَنْ َتقِ السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ }‬
‫حمْتَهُ } لن رحمتك لم تزل مستمرة على العباد‪ ،‬ل يمنعها إل ذنوب العباد‬
‫أي‪ :‬يوم القيامة { َفقَدْ َر ِ‬
‫وسيئاتهم‪ ،‬فمن وقيته السيئات وفقته للحسنات وجزائها الحسن‪ { .‬وَذَِلكَ } أي‪ :‬زوال المحذور‬
‫بوقاية السيئات‪ ،‬وحصول المحبوب بحصول الرحمة‪ُ { ،‬هوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } الذي ل فوز مثله‪ ،‬ول‬
‫يتنافس المتنافسون بأحسن منه‪.‬‬
‫وقد تضمن هذا الدعاء من الملئكة كمال معرفتهم بربهم‪ ،‬والتوسل إلى ال بأسمائه الحسنى‪ ،‬التي‬
‫يحب من عباده التوسل بها إليه‪ ،‬والدعاء بما يناسب ما دعوا ال فيه‪ ،‬فلما كان دعاؤهم بحصول‬
‫الرحمة‪ ،‬وإزالة أثر ما اقتضته النفوس البشرية التي علم ال نقصها واقتضاءها لما اقتضته من‬
‫المعاصي‪ ،‬ونحو ذلك من المبادئ والسباب التي قد أحاط ال بها علمًا توسلوا بالرحيم العليم‪.‬‬

‫وتضمن كمال أدبهم مع ال تعالى بإقرارهم بربوبيته لهم الربوبية العامة والخاصة‪ ،‬وأنه ليس لهم‬
‫من المر شيء وإنما دعاؤهم لربهم صدر من فقير بالذات من جميع الوجوه‪ ،‬ل يُدْلِي على ربه‬
‫بحالة من الحوال‪ ،‬إن هو إل فضل ال وكرمه وإحسانه‪.‬‬

‫وتضمن موافقتهم لربهم تمام الموافقة‪ ،‬بمحبة ما يحبه من العمال التي هي العبادات التي قاموا‬
‫بها‪ ،‬واجتهدوا اجتهاد المحبين‪ ،‬ومن العمال الذين هم المؤمنون الذين يحبهم ال تعالى من بين‬
‫خلقه‪ ،‬فسائر الخلق المكلفين يبغضهم ال إل المؤمنين منهم‪ ،‬فمن محبة الملئكة لهم دعوا ال‪،‬‬
‫واجتهدوا في صلح أحوالهم‪ ،‬لن الدعاء للشخص من أدل الدلئل على محبته‪ ،‬لنه ل يدعو إل‬
‫لمن يحبه‪.‬‬

‫وتضمن ما شرحه ال وفصله من دعائهم بعد قوله‪ { :‬وَيَسْ َت ْغفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا } التنبيه اللطيف‬
‫على كيفية تدبر كتابه‪ ،‬وأن ل يكون المتدبر مقتصرًا على مجرد معنى اللفظ بمفرده‪ ،‬بل ينبغي له‬
‫أن يتدبر معنى اللفظ‪ ،‬فإذا فهمه فهمًا صحيحًا على وجهه‪ ،‬نظر بعقله إلى ذلك المر والطرق‬
‫الموصلة إليه وما ل يتم إل به وما يتوقف عليه‪ ،‬وجزم بأن ال أراده‪ ،‬كما يجزم أنه أراد المعنى‬
‫الخاص‪ ،‬الدال عليه اللفظ‪.‬‬

‫والذي يوجب له الجزم بأن ال أراده أمران‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬معرفته وجزمه بأنه من توابع المعنى والمتوقف عليه‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬علمه بأن ال بكل شيء عليم‪ ،‬وأن ال أمر عباده بالتدبر والتفكر في كتابه‪.‬‬

‫وقد علم تعالى ما يلزم من تلك المعاني‪ .‬وهو المخبر بأن كتابه هدى ونور وتبيان لكل شيء‪ ،‬وأنه‬
‫أفصح الكلم وأجله إيضاحًا‪ ،‬فبذلك يحصل للعبد من العلم العظيم والخير الكثير‪ ،‬بحسب ما وفقه‬
‫ال له وقد كان في تفسيرنا هذا‪ ،‬كثير من هذا من به ال علينا‪.‬‬

‫وقد يخفى في بعض اليات مأخذه على غير المتأمل صحيح الفكرة‪ ،‬ونسأله تعالى أن يفتح علينا‬
‫من خزائن رحمته ما يكون سببًا لصلح أحوالنا وأحوال المسلمين‪ ،‬فليس لنا إل التعلق بكرمه‪،‬‬
‫والتوسل بإحسانه‪ ،‬الذي ل نزال نتقلب فيه في كل النات‪ ،‬وفي جميع اللحظات‪ ،‬ونسأله من‬
‫فضله‪ ،‬أن يقينا شر أنفسنا المانع والمعوق لوصول رحمته‪ ،‬إنه الكريم الوهاب‪ ،‬الذي تفضل‬
‫بالسباب ومسبباتها‪.‬‬

‫وتضمن ذلك‪ ،‬أن المقارن من زوج وولد وصاحب‪ ،‬يسعد بقرينه‪ ،‬ويكون اتصاله به سببًا لخير‬
‫يحصل له‪ ،‬خارج عن عمله وسبب عمله كما كانت الملئكة تدعو للمؤمنين ولمن صلح من آبائهم‬
‫ن صَلَحَ } فحينئذ يكون‬
‫وأزواجهم وذرياتهم‪ ،‬وقد يقال‪ :‬إنه ل بد من وجود صلحهم لقوله‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ذلك من نتيجة عملهم وال أعلم‪.‬‬

‫عوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ‬


‫سكُمْ إِذْ ُتدْ َ‬
‫{ ‪ { } 12 - 10‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا يُنَا َدوْنَ َل َم ْقتُ اللّهِ َأكْبَرُ مِنْ َمقْ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫ن وََأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَ َرفْنَا بِذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ *‬
‫فَ َتكْفُرُونَ * قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْ ِ‬
‫حكْمُ لِلّهِ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرِ }‬
‫عيَ اللّ ُه وَحْ َدهُ َكفَرْتُ ْم وَإِنْ ُيشْ َركْ بِهِ ُت ْؤمِنُوا فَالْ ُ‬
‫ذَِلكُمْ بِأَنّهُ ِإذَا دُ ِ‬

‫يخبر تعالى عن الفضيحة والخزي الذي يصيب الكافرين‪ ،‬وسؤالهم الرجعة‪ ،‬والخروج من النار‪،‬‬
‫وامتناع ذلك عليهم وتوبيخهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها‪ ،‬من الكفر‬
‫بال‪ ،‬أو بكتبه‪ ،‬أو برسله‪ ،‬أو باليوم الخر‪ ،‬حين يدخلون النار‪ ،‬ويقرون أنهم مستحقونها‪ ،‬لما فعلوه‬
‫من الذنوب والوزار‪ ،‬فيمقتون أنفسهم لذلك أشد المقت‪ ،‬ويغضبون عليها غاية الغضب‪ ،‬فينادون‬
‫عوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَ َت ْكفُرُونَ } أي‪ :‬حين دعتكم‬
‫عند ذلك‪ ،‬ويقال لهم‪َ { :‬ل َمقْتُ اللّهِ } أي‪ :‬إياكم { ِإذْ تُدْ َ‬
‫الرسل وأتباعهم إلى اليمان‪ ،‬وأقاموا لكم من البينات ما تبين به الحق‪ ،‬فكفرتم وزهدتم في اليمان‬
‫سكُمْ‬
‫الذي خلقكم ال له‪ ،‬وخرجتم من رحمته الواسعة‪ ،‬فمقتكم وأبغضكم‪ ،‬فهذا { َأكْبَرُ مِنْ َمقْ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫} أي‪ :‬فلم يزل هذا المقت مستمرًا عليكم‪ ،‬والسخط من الكريم حَالّا بكم‪ ،‬حتى آلت بكم الحال إلى‬
‫ما آلت‪ ،‬فاليوم حلّ عليكم غضب ال وعقابه حين نال المؤمنون رضوان ال وثوابه‪.‬‬

‫فتمنوا الرجوع و { قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْنِ } يريدون الموتة الولى وما بين النفختين على ما قيل‬
‫أو العدم المحض قبل إيجادهم‪ ،‬ثم أماتهم بعدما أوجدهم‪ { ،‬وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } الحياة الدنيا والحياة‬
‫الخرى‪ { ،‬فَاعْتَ َرفْنَا ِبذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي‪ :‬تحسروا وقالوا ذلك‪ ،‬فلم يفد ولم‬
‫ح َدهُ } أي‪ :‬إذا‬
‫عيَ اللّ ُه وَ ْ‬
‫ينجع‪ ،‬ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة‪ ،‬فقيل لهم‪ { :‬ذَِل ُكمْ بِأَنّهُ ِإذَا دُ ِ‬
‫دعي لتوحيده‪ ،‬وإخلص العمل له‪ ،‬ونهي عن الشرك به { َكفَرْتُمْ } به واشمأزت لذلك قلوبكم‬
‫ونفرتم غاية النفور‪.‬‬

‫{ وَإِنْ ُيشْ َركْ بِهِ ُت ْؤمِنُوا } أي‪ :‬هذا الذي أنزلكم هذ المنزل وبوأكم هذا المقيل والمحل‪ ،‬أنكم‬
‫تكفرون باليمان‪ ،‬وتؤمنون بالكفر‪ ،‬ترضون بما هو شر وفساد في الدنيا والخرة‪ ،‬وتكرهون ما‬
‫هو خير وصلح في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫تؤثرون سبب الشقاوة والذل والغضب وتزهدون بما هو سبب الفوز والفلح والظفر { وَإِنْ يَ َروْا‬
‫شدِ لَا يَتّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَ َروْا سَبِيلَ ا ْل َغيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلًا }‬
‫سَبِيلَ الرّ ْ‬

‫حكْمُ لِلّهِ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرِ } العلي‪ :‬الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه‪ ،‬علو الذات‪ ،‬وعلو‬
‫{ فَا ْل ُ‬
‫القدر‪ ،‬وعلو القهر ومن علو قدره‪ ،‬كمال عدله تعالى‪ ،‬وأنه يضع الشياء مواضعها‪ ،‬ول يساوي‬
‫بين المتقين والفجار‪.‬‬

‫{ ا ْلكَبِيرُ } الذي له الكبرياء والعظمة والمجد‪ ،‬في أسمائه وصفاته وأفعاله المتنزه عن كل آفة‬
‫وعيب ونقص‪ ،‬فإذا كان الحكم له تعالى‪ ،‬وقد حكم عليكم بالخلود الدائم‪ ،‬فحكمه ل يغير ول يبدل‪.‬‬

‫سمَاءِ رِ ْزقًا َومَا يَ َت َذكّرُ إِلّا مَنْ يُنِيبُ *‬


‫{ ‪ُ { } 17 - 13‬هوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَا ِت ِه وَيُنَ ّزلُ َل ُكمْ مِنَ ال ّ‬
‫ن وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ * َرفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو ا ْلعَرْشِ يُ ْلقِي الرّوحَ مِنْ‬
‫فَادْعُوا اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّي َ‬
‫شيْءٌ‬
‫خفَى عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ‬
‫َأمْ ِرهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ لِيُنْذِرَ َيوْمَ التّلَاقِ * َيوْمَ ُهمْ بَارِزُونَ لَا َي ْ‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ * الْ َيوْمَ ُتجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ لَا ظُلْمَ الْ َيوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ‬
‫ِلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫حسَابِ }‬
‫الْ ِ‬

‫يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده‪ ،‬بتبيين الحق من الباطل‪ ،‬بما يُرِي عباده من آياته النفسية‬
‫والفاقية والقرآنية‪ ،‬الدالة على كل مطلوب مقصود‪ ،‬الموضحة للهدى من الضلل‪ ،‬بحيث ل يبقى‬
‫عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق‪ ،‬وهذا من أكبر نعمه على عباده‪ ،‬حيث‬
‫لم يُ ْبقِ الحق مشتبهًا ول الصواب ملتبسًا‪ ،‬بل نوّع الدللت ووضح اليات‪ ،‬ليهلك من هلك عن‬
‫بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر‪ ،‬كانت الدلئل عليها أكثر وأيسر‪،‬‬
‫فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل‪ ،‬بل أكبرها‪ ،‬كثرت الدلة عليها العقلية‬
‫والنقلية وتنوعت‪ ،‬وضرب ال لها المثال وأكثر لها من الستدلل‪ ،‬ولهذا ذكرها في هذا الموضع‪،‬‬
‫ونبه على جملة من أدلتها فقال‪ { :‬فَادْعُوا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ }‬

‫ولما ذكر أنه يُرِي عباده آياته‪ ،‬نبه على آية عظيمة فقال‪ { :‬وينزل لكم من السماء رزقا } أي‪:‬‬
‫مطرًا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم‪ ،‬وذلك يدل على أن النعم كلها منه‪ ،‬فمنه نعم الدين‪،‬‬
‫وهي المسائل الدينية والدلة عليها‪ ،‬وما يتبع ذلك من العمل بها‪ .‬والنعم الدنيوية كلها‪ ،‬كالنعم‬
‫الناشئة عن الغيث‪ ،‬الذي تحيا به البلد والعباد‪ .‬وهذا يدل دللة قاطعة أنه وحده هو المعبود‪ ،‬الذي‬
‫يتعين إخلص الدين له‪ ،‬كما أنه ‪-‬وحده‪ -‬المنعم‪.‬‬
‫{ َومَا يَتَ َذكّرُ } باليات حين يذكر بها { إِلّا مَنْ يُنِيبُ } إلى ال تعالى‪ ،‬بالقبال على محبته وخشيته‬
‫وطاعته والتضرع إليه‪ ،‬فهذا الذي ينتفع باليات‪ ،‬وتصير رحمة في حقه‪ ،‬ويزداد بها بصيرة‪.‬‬

‫ولما كانت اليات تثمر التذكر‪ ،‬والتذكر يوجب الخلص للّه‪ ،‬رتب المر على ذلك بالفاء الدالة‬
‫على السببية فقال‪ { :‬فَادْعُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ } وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة‪،‬‬
‫والخلص معناه‪ :‬تخليص القصد للّه تعالى في جميع العبادات الواجبه والمستحبة‪ ،‬حقوق ال‬
‫وحقوق عباده‪ .‬أي‪ :‬أخلصوا للّه تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه‪.‬‬

‫{ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } لذلك‪ ،‬فل تبالوا بهم‪ ،‬ول يثنكم ذلك عن دينكم‪ ،‬ول تأخذكم بال لومة لئم‪،‬‬
‫ح َدهُ‬
‫فإن الكافرين يكرهون الخلص ل وحده غاية الكراهة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَ ْ‬
‫شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ }‬
‫اْ‬

‫ثم ذكر من جلله وكماله ما يقتضي إخلص العبادة له فقال‪َ { :‬رفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو ا ْلعَرْشِ } أي‪:‬‬
‫العلي العلى‪ ،‬الذي استوى على العرش واختص به‪ ،‬وارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته‪،‬‬
‫وارتفع به قدره‪ ،‬وجلت أوصافه‪ ،‬وتعالت ذاته‪ ،‬أن يتقرب إليه إل بالعمل الزكي الطاهر المطهر‪،‬‬
‫وهو الخلص‪ ،‬الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه‪ ،‬ثم ذكر نعمته على‬
‫عباده بالرسالة والوحي‪ ،‬فقال‪ { :‬يُ ْلقِي الرّوحَ } أي‪ :‬الوحي الذي للرواح والقلوب بمنزلة الرواح‬
‫للجساد‪ ،‬فكما أن الجسد بدون الروح ل يحيا ول يعيش‪ ،‬فالروح والقلب بدون روح الوحي ل‬
‫يصلح ول يفلح‪ ،‬فهو تعالى { يُ ْلقِي الرّوحَ مِنْ َأمْ ِرهِ } الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم‪.‬‬

‫{ عَلَى مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } وهم الرسل الذين فضلهم ال واختصهم ال لوحيه ودعوة عباده‪.‬‬

‫والفائدة في إرسال الرسل‪ ،‬هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم‪ ،‬وإزالة الشقاوة‬
‫عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لِيُنْذِرَ } من ألقى ال إليه الوحي { َيوْمَ التّلَاقِ } أي‪:‬‬
‫يخوف العباد بذلك‪ ،‬ويحثهم على الستعداد له بالسباب المنجية مما يكون فيه‪.‬‬

‫وسماه { يوم التلق } لنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض‪ ،‬والعاملون‬
‫وأعمالهم وجزاؤهم‪.‬‬

‫{ َيوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي‪ :‬ظاهرون على الرض‪ ،‬قد اجتمعوا في صعيد واحد ل عوج ول أمت‬
‫فيه‪ ،‬يسمعهم الداعي وينفذهم البصر‪.‬‬

‫شيْءٌ } ل من ذواتهم ول من أعمالهم‪ ،‬ول من جزاء تلك العمال‪.‬‬


‫خفَى عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ‬
‫{ لَا يَ ْ‬
‫{ ِلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ } أي‪ :‬من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للولين والخرين‪ ،‬أهل‬
‫السماوات وأهل الرض‪ ،‬الذي انقطعت فيه الشركة في الملك‪ ،‬وتقطعت السباب‪ ،‬ولم يبق إل‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ } أي‪ :‬المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته‬
‫العمال الصالحة أو السيئة؟ الملك { ِللّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫وأفعاله‪ ،‬فل شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه‪ { .‬ا ْل َقهّارِ } لجميع المخلوقات‪ ،‬الذي دانت‬
‫له المخلوقات وذلت وخضعت‪ ،‬خصوصًا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم‪ ،‬يومئذ‬
‫ل َتكَلّمُ نفس إل بإذنه‪.‬‬

‫{ الْ َيوْمَ تُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ } في الدنيا‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬قليل وكثير‪ { .‬لَا ظُ ْلمَ الْ َيوْمَ } على‬
‫حسَابِ } أي‪ :‬ل تستبطئوا ذلك‬
‫أحد‪ ،‬بزيادة في سيئاته‪ ،‬أو نقص من حسناته‪ { .‬إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫اليوم فإنه آت‪ ،‬وكل آت قريب‪ .‬وهو أيضا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة‪ ،‬لحاطة علمه‬
‫وكمال قدرته‪.‬‬

‫حمِي ٍم وَلَا‬
‫ظمِينَ مَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َ‬
‫{ ‪ { } 20 - 18‬وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ الْآ ِز َفةِ إِذِ ا ْلقُلُوبُ لَدَى ا ْلحَنَاجِرِ كَا ِ‬
‫خفِي الصّدُورُ * وَاللّهُ َي ْقضِي بِا ْلحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ‬
‫ن َومَا تُ ْ‬
‫شفِيعٍ يُطَاعُ * َيعَْلمُ خَائِ َنةَ الْأَعْيُ ِ‬
‫َ‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ }‬
‫شيْءٍ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّ‬
‫لَا َي ْقضُونَ بِ َ‬

‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ الْآ ِز َفةِ } أي‪ :‬يوم القيامة التي قد‬
‫أزفت وقربت‪ ،‬وآن الوصول إلى أهوالها وقلقلها وزلزلها‪ِ { ،‬إذِ ا ْلقُلُوبُ َلدَى الْحَنَاجِرِ } أي‪ :‬قد‬
‫ارتفعت وبقيت أفئدتهم هواء‪ ،‬ووصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر‪ ،‬شاخصة‬
‫ظمِينَ } ل يتكلمون إل من أذن له الرحمن وقال صوابا وكاظمين على ما في‬
‫أبصارهم‪ { .‬كَا ِ‬
‫قلوبهم من الروع الشديد والمزعجات الهائلة‪.‬‬

‫شفِيعٍ يُطَاعُ } لن الشفعاء ل يشفعون في‬


‫حمِيمٍ } أي‪ :‬قريب ول صاحب‪ { ،‬وَلَا َ‬
‫{ مَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َ‬
‫الظالم نفسه بالشرك‪ ،‬ولو قدرت شفاعتهم‪ ،‬فال تعالى ل يرضى شفاعتهم‪ ،‬فل يقبلها‪.‬‬

‫{ َيعَْلمُ خَائِ َنةَ الْأَعْيُنِ } وهو النظر الذي يخفيه العبد من جليسه ومقارنه‪ ،‬وهو نظر المسارقة‪،‬‬
‫خفِي الصّدُورُ } مما لم يبينه العبد لغيره‪ ،‬فال تعالى يعلم ذلك الخفي‪ ،‬فغيره من المور‬
‫{ َومَا ُت ْ‬
‫الظاهرة من باب أولى وأحرى‪.‬‬

‫حقّ } لن قوله حق‪ ،‬وحكمه الشرعي حق‪ ،‬وحكمه الجزائي حق وهو المحيط‬
‫{ وَاللّهُ َي ْقضِي بِالْ َ‬
‫علمًا وكتابة وحفظا بجميع الشياء‪ ،‬وهو المنزه عن الظلم والنقص وسائر العيوب‪ ،‬وهو الذي‬
‫يقضي قضاءه القدري‪ ،‬الذي إذا شاء شيئًا كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وهو الذي يقضي بين عباده‬
‫المؤمنين والكافرين في الدنيا‪ ،‬ويفصل بينهم بفتح ينصر به أولياءه وأحبابه‪.‬‬

‫شيْءٍ } لعجزهم‬
‫{ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } وهذا شامل لكل ما عبد من دون ال { لَا َي ْقضُونَ ِب َ‬
‫سمِيعُ } لجميع الصوات‪ ،‬باختلف اللغات‪،‬‬
‫وعدم إرادتهم للخير واستطاعتهم لفعله‪ { .‬إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّ‬
‫على تفنن الحاجات‪ { .‬الْ َبصِيرُ } بما كان وما يكون‪ ،‬وما نبصر وما ل نبصر‪ ،‬وما يعلم العباد‬
‫وما ل يعلمون‪.‬‬

‫قال في أول هاتين اليتين { وَأَ ْنذِرْهُمْ َيوْمَ الْآ ِزفَةِ } ثم وصفها بهذه الوصاف المقتضية للستعداد‬
‫لذلك اليوم العظيم‪ ،‬لشتمالها على الترغيب والترهيب‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 22 - 21‬أوَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا‬
‫ن وَاقٍ * ذَِلكَ‬
‫هُمْ أَشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً وَآثَارًا فِي الْأَ ْرضِ فَأَخَ َذهُمُ اللّهُ بِذُنُو ِبهِ ْم َومَا كَانَ َلهُمْ مِنَ اللّهِ مِ ْ‬
‫بِأَ ّنهُمْ كَا َنتْ تَأْتِيهِمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َف َكفَرُوا فََأخَذَ ُهمُ اللّهُ إِنّهُ َق ِويّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬أوَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬بقلوبهم وأبدانهم سير نظر واعتبار‪ ،‬وتفكر في‬
‫الثار‪ { ،‬فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبِْلهِمْ } من المكذبين‪ ،‬فسيجدونها شر العواقب‪،‬‬
‫عاقبة الهلك والدمار والخزي والفضيحة‪ ،‬وقد كانوا أشد قوة من هؤلء في ا ْلعَدَد وا ْلعُدَد وكبر‬
‫الجسام‪ { .‬و } أشد { آثارا في الرض } من البناء والغرس‪ ،‬وقوة الثار تدل على قوة المؤثر‬
‫خذَهُمُ اللّهُ } بعقوبته بذنوبهم حين أصروا واستمروا عليها‪.‬‬
‫فيها وعلى تمنعه بها‪ { .‬فَأَ َ‬

‫{ إِنّهُ َق ِويّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } فلم تغن قوتهم عند قوة اللّه شيئًا‪ ،‬بل من أعظم المم قوة‪ ،‬قوم عاد الذين‬
‫شدّ مِنّا ُق ّوةً } أرسل اللّه إليهم ريحا أضعفت قواهم‪ ،‬ودمرتهم كل تدمير‪.‬‬
‫قالوا‪ { :‬مَنْ أَ َ‬

‫ثم ذكر نموذجا من أحوال المكذبين بالرسل وهو فرعون وجنوده فقال‪:‬‬

‫{ ‪ { } 46 - 23‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } إلى آخر القصة‪.‬‬

‫أي‪ { :‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا } إلى جنس هؤلء المكذبين { مُوسَى } ابن عمران‪ { ،‬بِآيَاتِنَا } العظيمة‪ ،‬الدالة‬
‫دللة قطعية‪ ،‬على حقية ما أرسل به‪ ،‬وبطلن ما عليه من أرسل إليهم من الشرك وما يتبعه‪.‬‬
‫{ وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬حجة بينة‪ ،‬تتسلط على القلوب فتذعن لها‪ ،‬كالحية والعصا ونحوهما من‬
‫اليات البينات‪ ،‬التي أيد ال بها موسى‪ ،‬ومكنه مما دعا إليه من الحق‪.‬‬
‫عوْنَ وَهَامَانَ } وزيره { َوقَارُونَ } الذي كان من قوم موسى‪ ،‬فبغى عليهم‬
‫والمبعوث إليهم { فِرْ َ‬
‫بماله‪ ،‬وكلهم ردوا عليه أشد الرد { َفقَالُوا سَاحِرٌ كَذّابٌ }‬

‫{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِا ْلحَقّ مِنْ عِ ْندِنَا } وأيده ال بالمعجزات الباهرة‪ ،‬الموجبة لتمام الذعان‪ ،‬لم يقابلوها‬
‫بذلك‪ ،‬ولم يكفهم مجرد الترك والعراض‪ ،‬بل ول إنكارها ومعارضتها بباطلهم‪ ،‬بل وصلت بهم‬
‫الحال الشنيعة إلى أن { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الّذِينَ آمَنُوا َمعَ ُه وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُ ْم َومَا كَيْدُ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫حيث كادوا هذه المكيدة‪ ،‬وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم‪ ،‬لم يقووا‪ ،‬وبقوا في رقهم وتحت‬
‫عبوديتهم‪.‬‬

‫فما كيدهم إل في ضلل‪ ،‬حيث لم يتم لهم ما قصدوا‪ ،‬بل أصابهم ضد ما قصدوا‪ ،‬أهلكهم ال‬
‫وأبادهم عن آخرهم‪.‬‬

‫وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب ال تعالى‪ :‬إذا كان السياق في قصة معينة أو على‬
‫شيء معين‪ ،‬وأراد ال أن يحكم على ذلك المعين بحكم‪ ،‬ل يختص به ذكر الحكم‪ ،‬وعلقه على‬
‫الوصف العام ليكون أعم‪ ،‬وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلم لجلها‪ ،‬وليندفع اليهام‬
‫باختصاص الحكم بذلك المعين‪.‬‬

‫فلهذا لم يقل { وما كيدهم إل في ضلل } بل قال‪َ { :‬ومَا كَيْدُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ }‬

‫عوْنُ } متكبرًا متجبرًا مغررًا لقومه السفهاء‪ { :‬ذَرُونِي َأقْ ُتلْ مُوسَى وَلْيَ ْدعُ رَبّهُ } أي‪:‬‬
‫{ وقَالَ فِرْ َ‬
‫زعم ‪-‬قبحه ال‪ -‬أنه لول مراعاة خواطر قومه لقتله‪ ،‬وأنه ل يمنعه من دعاء ربه‪ ،‬ثم ذكر الحامل‬
‫له على إرادة قتله‪ ،‬وأنه نصح لقومه‪ ،‬وإزالة للشر في الرض فقال‪ { :‬إِنّي أَخَافُ أَنْ يُ َب ّدلَ دِي َنكُمْ }‬
‫ظهِرَ فِي الْأَ ْرضِ ا ْلفَسَادَ } وهذا من أعجب ما يكون‪ ،‬أن يكون شر الخلق‬
‫الذي أنتم عليه { َأوْ أَنْ ُي ْ‬
‫ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي ل يدخل إل عقل من قال ال‬
‫سقِينَ }‬
‫خفّ َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ‬
‫فيهم‪ { :‬فَاسْتَ َ‬

‫{ َوقَالَ مُوسَى } حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه‪ ،‬واستعان فيها بقوته‬
‫واقتداره‪ ،‬مستعينًا بربه‪ { :‬إِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ } أي‪ :‬امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع‬
‫المور { مِنْ ُكلّ مُ َتكَبّرٍ لَا ُي ْؤمِنُ بِ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ } أي‪ :‬يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على‬
‫الشر والفساد‪ ،‬يدخل فيه فرعون وغيره‪ ،‬كما تقدم قريبًا في القاعدة‪ ،‬فمنعه ال تعالى بلطفه من كل‬
‫متكبر ل يؤمن بيوم الحساب‪ ،‬وقيض له من السباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه‪.‬‬
‫ومن جملة السباب‪ ،‬هذا الرجل المؤمن‪ ،‬الذي من آل فرعون‪ ،‬من بيت المملكة‪ ،‬ل بد أن يكون له‬
‫كلمة مسموعة‪ ،‬وخصوصًا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه‪ ،‬فإنهم يراعونه في الغالب ما ل‬
‫يراعونه لو خالفهم في الظاهر‪ ،‬كما منع ال رسوله محمدًا صلى ال عليه وسلم بعمه أبي طالب‬
‫من قريش‪ ،‬حيث كان أبو طالب كبيرًا عندهم‪ ،‬موافقًا لهم على دينهم‪ ،‬ولو كان مسلمًا لم يحصل‬
‫منه ذلك المنع‪.‬‬

‫فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم‪ ،‬مقبحًا فعل قومه‪ ،‬وشناعة ما عزموا عليه‪:‬‬
‫{ أَ َتقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ َيقُولَ رَ ّبيَ اللّهُ } أي‪ :‬كيف تستحلون قتله‪ ،‬وهذا ذنبه وجرمه‪ ،‬أنه يقول ربي‬
‫ال‪ ،‬ولم يكن أيضا قولً مجردًا عن البينات‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وقَدْ جَا َءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِنْ رَ ّبكُمْ } لن‬
‫بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير‪ ،‬أي‪ :‬فهذا ل يوجب قتله‪.‬‬

‫فهل أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق‪ ،‬وقابلتم البرهان ببرهان يرده‪ ،‬ثم بعد ذلك نظرتم‪ :‬هل‬
‫يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم ل؟ فأما وقد ظهرت حجته‪ ،‬واستعلى برهانه‪ ،‬فبينكم وبين حل‬
‫قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي‪.‬‬

‫ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل‪ ،‬بأي حالة قدرت‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنْ َيكُ كَاذِبًا َفعَلَيْهِ كَذِبُ ُه وَإِنْ َيكُ‬
‫صَا ِدقًا ُيصِ ْبكُمْ َب ْعضُ الّذِي َي ِع ُدكُمْ }‬

‫أي‪ :‬موسى بين أمرين‪ ،‬إما كاذب في دعواه أو صادق فيها‪ ،‬فإن كان كاذبًا فكذبه عليه‪ ،‬وضرره‬
‫مختص به‪ ،‬وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه‪ ،‬وإن كان صادقًا وقد‬
‫جاءكم بالبينات‪ ،‬وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم ال عذابًا في الدنيا وعذابًا في الخرة‪ ،‬فإنه ل‬
‫بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم‪ ،‬وهو عذاب الدنيا‪.‬‬

‫وهذا من حسن عقله‪ ،‬ولطف دفعه عن موسى‪ ،‬حيث أتى بهذا الجواب الذي ل تشويش فيه عليهم‪،‬‬
‫وجعل المر دائرًا بين تينك الحالتين‪ ،‬وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم‪.‬‬

‫ثم انتقل رضي ال عنه وأرضاه وغفر له ورحمه ‪ -‬إلى أمر أعلى من ذلك‪ ،‬وبيان قرب موسى‬
‫من الحق فقال‪ { :‬إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ ُهوَ ُمسْ ِرفٌ } أي‪ :‬متجاوز الحد بترك الحق والقبال على‬
‫الباطل‪ { .‬كَذّابٌ } بنسبته ما أسرف فيه إلى ال‪ ،‬فهذا ل يهديه ال إلى طريق الصواب‪ ،‬ل في‬
‫مدلوله ول في دليله‪ ،‬ول يوفق للصراط المستقيم‪ ،‬أي‪ :‬وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق‪،‬‬
‫وما هداه ال إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية‪ ،‬فالذي اهتدى هذا الهدى ل يمكن‬
‫أن يكون مسرفًا ول كاذبًا‪ ،‬وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه‪.‬‬
‫ثم حذر قومه ونصحهم‪ ،‬وخوفهم عذاب الخرة‪ ،‬ونهاهم عن الغترار بالملك الظاهر‪ ،‬فقال‪ { :‬يَا‬
‫َقوْمِ َلكُمُ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ } أي‪ :‬في الدنيا { ظَاهِرِينَ فِي الْأَ ْرضِ } على رعيتكم‪ ،‬تنفذون فيهم ما شئتم‬
‫من التدبير‪ ،‬فهبكم حصل لكم ذلك وتم‪ ،‬ولن يتم‪َ { ،‬فمَنْ يَ ْنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللّهِ } أي‪ :‬عذابه { إِنْ‬
‫جَاءَنَا } ؟ وهذا من حسن دعوته‪ ،‬حيث جعل المر مشتركًا بينه وبينهم بقوله‪َ { :‬فمَنْ يَ ْنصُرُنَا }‬
‫وقوله‪ { :‬إِنْ جَاءَنَا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه‪ ،‬ويرضى لهم ما يرضى لنفسه‪.‬‬

‫عوْنُ } معارضًا له في ذلك‪ ،‬ومغررًا لقومه أن يتبعوا موسى‪ { :‬مَا أُرِيكُمْ ِإلّا مَا أَرَى‬
‫فـ { قَالَ فِرْ َ‬
‫َومَا َأهْدِيكُمْ إِلّا سَبِيلَ الرّشَادِ } وصدق في قوله‪ { :‬مَا أُرِي ُكمْ إِلّا مَا أَرَى } ولكن ما الذي رأى؟‬

‫رأى أن يستخف قومه فيتابعوه‪ ،‬ليقيم بهم رياسته‪ ،‬ولم ير الحق معه‪ ،‬بل رأى الحق مع موسى‪،‬‬
‫وجحد به مستيقنًا له‪.‬‬

‫وكذب في قوله‪َ { :‬ومَا أَهْدِي ُكمْ إِلّا سَبِيلَ الرّشَادِ } فإن هذا قلب للحق‪ ،‬فلو أمرهم باتباعه اتباعًا‬
‫مجردًا على كفره وضلله‪ ،‬لكان الشر أهون‪ ،‬ولكنه أمرهم باتباعه‪ ،‬وزعم أن في اتباعه اتباع‬
‫الحق وفي اتباع الحق‪ ،‬اتباع الضلل‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِي آمَنَ } مكررًا دعوة قومه غير آيس من هدايتهم‪ ،‬كما هي حالة الدعاة إلى ال تعالى‪،‬‬
‫ل يزالون يدعون إلى ربهم‪ ،‬ول يردهم عن ذلك راد‪ ،‬ول يثنيهم عتو من دعوه عن تكرار الدعوة‬
‫فقال لهم‪ { :‬يَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ عَلَ ْي ُكمْ مِ ْثلَ َيوْمِ الْأَحْزَابِ } يعني المم المكذبين‪ ،‬الذين تحزبوا على‬
‫أنبيائهم‪ ،‬واجتمعوا على معارضتهم‪ ،‬ثم بينهم فقال‪ { :‬مِ ْثلَ َد ْأبِ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِنْ‬
‫َبعْدِ ِهمْ } أي‪ :‬مثل عادتهم في الكفر والتكذيب وعادة ال فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل‬
‫الخرة‪َ { ،‬ومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُ ْلمًا لِ ْلعِبَادِ } فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه‪ ،‬ول جرم أسلفوه‪.‬‬

‫ولما خوفهم العقوبات الدنيوية‪ ،‬خوفهم العقوبات الخروية‪ ،‬فقال‪ { :‬وَيَا َقوْمِ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َيوْمِ‬
‫حقّا } إلى‬
‫جدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ‬
‫التّنَادِ } أي‪ :‬يوم القيامة‪ ،‬حين ينادي أهل الجنة أهل النار‪ { :‬أَنْ قَ ْد وَ َ‬
‫آخر اليات‪.‬‬

‫{ وَنَادَى َأصْحَابُ النّارِ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ أَنْ َأفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ قَالُوا إِنّ اللّهَ‬
‫حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }‬

‫وحين ينادي أهل النار مالكًا { ليقض علينا ربك } فيقول‪ { :‬إِ ّن ُكمْ مَاكِثُونَ } وحين ينادون ربهم‪:‬‬
‫{ رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ } فيجيبهم‪ { :‬اخْسؤُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ } وحين يقال‬
‫عوْهُمْ فَلَمْ يَسْ َتجِيبُوا َلهُمْ }‬
‫للمشركين‪ { :‬ادْعُوا شُ َركَا َء ُكمْ فَدَ َ‬
‫فخوفهم رضي ال عنه هذا اليوم المهول‪ ،‬وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ َيوْمَ ُتوَلّونَ مُدْبِرِين } أي‪ :‬قد ذهب بكم إلى النار { مَا َل ُكمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ } ل من أنفسكم قوة‬
‫تدفعون بها عذاب ال‪ ،‬ول ينصركم من دونه من أحد { َيوْمَ تُبْلَى السّرَائِرُ َفمَا لَهُ مِنْ ُق ّو ٍة وَلَا‬
‫نَاصِرٍ }‬

‫{ َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَادٍ } لن الهدى بيد ال تعالى‪ ،‬فإذا منع عبده الهدى لعلمه أنه غير‬
‫لئق به‪ ،‬لخبثه‪ ،‬فل سبيل إلى هدايته‪.‬‬

‫سفُ } بن يعقوب عليهما السلم { مِنْ قَ ْبلُ } إتيان موسى بالبينات الدالة على‬
‫{ وََلقَدْ جَا َءكُمْ يُو ُ‬
‫شكّ ِممّا جَا َءكُمْ بِهِ } في حياته‬
‫صدقه‪ ،‬وأمركم بعبادة ربكم وحده ل شريك له‪َ { ،‬فمَا زِلْتُمْ فِي َ‬
‫{ حَتّى إِذَا هََلكَ } ازداد شككم وشرككم‪ ،‬و { قُلْ ُتمْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ مِنْ َبعْ ِدهِ رَسُولًا } أي‪ :‬هذا ظنكم‬
‫الباطل‪ ،‬وحسبانكم الذي ل يليق بال تعالى‪ ،‬فإنه تعالى ل يترك خلقه سدى‪ ،‬ل يأمرهم وينهاهم‪،‬‬
‫ضلّ اللّهُ مَنْ‬
‫ويرسل إليهم رسله‪ ،‬وظن أن ال ل يرسل رسول ظن ضلل‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬كَذَِلكَ ُي ِ‬
‫ُهوَ مُسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ } وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ظلمًا وعلوا‪ ،‬فهم‬
‫المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضلل‪ ،‬وهم الكذبة‪ ،‬حيث نسبوا ذلك إلى ال‪،‬‬
‫وكذبوا رسوله‪.‬‬

‫فالذي وصفه السرف والكذب‪ ،‬ل ينفك عنهما‪ ،‬ل يهديه ال‪ ،‬ول يوفقه للخير‪ ،‬لنه رد الحق بعد‬
‫أن وصل إليه وعرفه‪ ،‬فجزاؤه أن يعاقبه ال‪ ،‬بأن يمنعه الهدى‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }‬
‫اللّهُ قُلُو َبهُمْ } { وَ ُنقَلّبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬
‫{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }‬

‫ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال‪ { :‬الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ } التي بينت الحق من‬
‫الباطل‪ ،‬وصارت ‪-‬من ظهورها‪ -‬بمنزلة الشمس للبصر‪ ،‬فهم يجادلون فيها على وضوحها‪،‬‬
‫ليدفعوها ويبطلوها { ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ } أي‪ :‬بغير حجة وبرهان‪ ،‬وهذا وصف لزم لكل من‬
‫جادل في آيات ال‪ ،‬فإنه من المحال أن يجادل بسلطان‪ ،‬لن الحق ل يعارضه معارض‪ ،‬فل يمكن‬
‫أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصل‪ { ،‬كَبُرَ } ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل { َمقْتًا‬
‫عِنْدَ اللّ ِه وَعِنْدَ الّذِينَ آمَنُوا } فال أشد بغضًا لصاحبه‪ ،‬لنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق‬
‫بالباطل ونسبته إليه‪ ،‬وهذه أمور يشتد بغض ال لها ولمن اتصف بها‪ ،‬وكذلك عباده المؤمنون‬
‫يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم‪ ،‬وهؤلء خواص خلق ال تعالى‪ ،‬فمقتهم دليل على‬
‫شناعة من مقتوه‪ { ،‬كَذَِلكَ } أي‪ :‬كما طبع على قلوب آل فرعون{ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى ُكلّ قَ ْلبِ مُ َتكَبّرٍ‬
‫جَبّارٍ } متكبر في نفسه على الحق برده وعلى الخلق باحتقارهم‪ ،‬جبار بكثرة ظلمه وعدوانه‪.‬‬
‫عوْنُ } معارضًا لموسى ومكذبًا له في دعوته إلى القرار برب العالمين‪ ،‬الذي على‬
‫{ َوقَالَ فِرْ َ‬
‫العرش استوى‪ ،‬وعلى الخلق اعتلى‪ { :‬يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا } أي‪ :‬بناء عظيمًا مرتفعًا‪،‬‬
‫والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإني لظنه كاذبًا } في دعواه أن لنا ربًا‪ ،‬وأنه فوق‬
‫السماوات‪.‬‬

‫ولكنه يريد أن يحتاط فرعون‪ ،‬ويختبر المر بنفسه‪ ،‬قال ال تعالى في بيان الذي حمله على هذا‬
‫عمَِلهِ } فزين له العمل السيئ‪ ،‬فلم يزل الشيطان يزينه‪ ،‬وهو‬
‫القول‪َ { :‬وكَذَِلكَ زُيّنَ ِلفِرْعَوْنَ سُوءُ َ‬
‫يدعو إليه ويحسنه‪ ،‬حتى رآه حسنًا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين‪ ،‬وهو من أعظم المفسدين‪{ ،‬‬
‫عوْنَ } الذي أراد أن يكيد به‬
‫َوصُدّ عَنِ السّبِيلِ } الحق‪ ،‬بسبب الباطل الذي زين له‪َ { .‬ومَا كَيْدُ فِرْ َ‬
‫الحق‪ ،‬ويوهم به الناس أنه محق‪ ،‬وأن موسى مبطل { إِلّا فِي تَبَابٍ } أي‪ :‬خسار وبوار‪ ،‬ل يفيده‬
‫إل الشقاء في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِي آمَنَ } معيدًا نصيحته لقومه‪ { :‬يَا َقوْمِ اتّ ِبعُونِ أَهْ ِدكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ } ل كما يقول لكم‬
‫فرعون‪ ،‬فإنه ل يهديكم إل طريق الغي والفساد‪.‬‬

‫{ يَا َقوْمِ إِ ّنمَا هَ ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ } يتمتع بها ويتنعم قليلً‪ ،‬ثم تنقطع وتضمحل‪ ،‬فل تغرنكم‬
‫وتخدعنكم عما خلقتم له { وَإِنّ الْآخِ َرةَ ِهيَ دَارُ ا ْلقَرَارِ } التي هي محل القامة‪ ،‬ومنزل السكون‬
‫والستقرار‪ ،‬فينبغي لكم أن تؤثروها‪ ،‬وتعملوا لها عمل يسعدكم فيها‪.‬‬

‫ع ِملَ سَيّ َئةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَلَا يُجْزَى إِلّا مِثَْلهَا } أي‪ :‬ل يجازى إل بما‬
‫{ مَنْ َ‬
‫يسوؤه ويحزنه لن جزاء السيئة السوء‪.‬‬

‫ل صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى } من أعمال القلوب والجوارح‪ ،‬وأقوال اللسان { فَأُولَ ِئكَ‬
‫ع ِم َ‬
‫{ َومَنْ َ‬
‫يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْ َزقُونَ فِيهَا ِبغَيْرِ حِسَابٍ } أي‪ :‬يعطون أجرهم بل حد ول عد‪ ،‬بل يعطيهم ال ما‬
‫ل تبلغه أعمالهم‪.‬‬

‫{ وَيَا َقوْمِ مَا لِي َأدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ } بما قلت لكم { وَتَدْعُونَنِي ِإلَى النّارِ } بترك اتباع نبي ال‬
‫موسى عليه السلم‪.‬‬

‫ثم فسر ذلك فقال‪ { :‬تَدْعُونَنِي لَِأ ْكفُرَ بِاللّ ِه وَأُشْ ِركَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ } أنه يستحق أن يعبد من‬
‫دون ال‪ ،‬والقول على ال بل علم من أكبر الذنوب وأقبحها‪ { ،‬وَأَنَا َأدْعُوكُمْ إِلَى ا ْلعَزِيزِ } الذي له‬
‫القوة كلها‪ ،‬وغيره ليس بيده من المر شيء‪ { .‬ا ْلغَفّارُ } الذي يسرف العباد على أنفسهم‬
‫ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه‪ ،‬كفر عنهم السيئات والذنوب‪ ،‬ودفع موجباتها‬
‫من العقوبات الدنيوية والخروية‪.‬‬

‫ع َوةٌ فِي الدّنْيَا وَلَا فِي الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬ل‬


‫{ لَا جَ َرمَ } أي‪ :‬حقًا يقينًا { أَ ّنمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَ ْ‬
‫يستحق من الدعوة إليه‪ ،‬والحث على اللجأ إليه‪ ،‬في الدنيا ول في الخرة‪ ،‬لعجزه ونقصه‪ ،‬وأنه ل‬
‫يملك نفعًا ول ضرًا ول موتًا ول حياة‪ ،‬ول نشورًا‪.‬‬

‫{ وَأَنّ مَ َردّنَا إِلَى اللّهِ } تعالى فسيجازي كل عامل بعمله‪ { .‬وَأَنّ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ هُمْ َأصْحَابُ النّارِ }‬
‫وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بالتجرؤ على ربهم بمعاصيه والكفر به‪ ،‬دون غيرهم‪.‬‬

‫فلما نصحهم وحذرهم وأنذرهم ولم يطيعوه ول وافقوه قال لهم‪:‬‬

‫{ َفسَتَ ْذكُرُونَ مَا َأقُولُ َل ُكمْ } من هذه النصيحة‪ ،‬وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب‪،‬‬
‫وتحرمون جزيل الثواب‪.‬‬

‫{ وَُأ َف ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ } أي‪ :‬ألجأ إليه وأعتصم‪ ،‬وألقي أموري كلها لديه‪ ،‬وأتوكل عليه في‬
‫مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم‪ { .‬إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ } يعلم أحوالهم‬
‫وما يستحقون‪ ،‬يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم‪ ،‬ويعلم أحوالكم فل تتصرفون إل‬
‫بإرادته ومشيئته‪ ،‬فإن سلطكم علي‪ ّ،‬فبحكمة منه تعالى‪ ،‬وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك‪.‬‬

‫{ َف َوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَرُوا } أي‪ :‬وقى ال القويّ الرحيم‪ ،‬ذلك الرجل المؤمن الموفق‪ ،‬عقوبات‬
‫ما مكر فرعون وآله له‪ ،‬من إرادة إهلكه وإتلفه‪ ،‬لنه بادأهم بما يكرهون‪ ،‬وأظهر لهم الموافقة‬
‫التامة لموسى عليه السلم‪ ،‬ودعاهم إلى ما دعاهم إليه موسى‪ ،‬وهذا أمر ل يحتملونه وهم الذين‬
‫لهم القدرة إذ ذاك‪ ،‬وقد أغضبهم واشتد حنقهم عليه‪ ،‬فأرادوا به كيدًا فحفظه ال من كيدهم ومكرهم‬
‫عوْنَ سُوءُ ا ْلعَذَابِ } أغرقهم ال تعالى في‬
‫وانقلب كيدهم ومكرهم‪ ،‬على أنفسهم‪ { ،‬وَحَاقَ بِآلِ فِرْ َ‬
‫صبيحة واحدة عن آخرهم‪.‬‬

‫شدّ‬
‫عوْنَ أَ َ‬
‫عةُ أَ ْدخِلُوا آلَ فِرْ َ‬
‫وفي البرزخ { النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا غُ ُدوّا وَعَشِيّا وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ‬
‫ا ْلعَذَابِ} فهذه العقوبات الشنيعة‪ ،‬التي تحل بالمكذبين لرسل ال‪ ،‬المعاندين لمره‪.‬‬

‫ض َعفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنْتُمْ‬
‫{ ‪ { } 50 - 47‬وَإِذْ يَ َتحَاجّونَ فِي النّارِ فَ َيقُولُ ال ّ‬
‫ح َكمَ بَيْنَ ا ْلعِبَادِ * َوقَالَ‬
‫ُمغْنُونَ عَنّا َنصِيبًا مِنَ النّارِ * قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا ُكلّ فِيهَا إِنّ اللّهَ َقدْ َ‬
‫خفّفْ عَنّا َي ْومًا مِنَ ا ْلعَذَابِ * قَالُوا َأوَ َلمْ َتكُ تَأْتِيكُمْ ُرسُُلكُمْ‬
‫جهَنّمَ ادْعُوا رَ ّبكُمْ ُي َ‬
‫الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ َ‬
‫بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ }‬

‫يخبر تعالى عن تخاصم أهل النار‪ ،‬وعتاب بعضهم بعضًا واستغاثتهم بخزنة النار‪ ،‬وعدم الفائدة‬
‫في ذلك فقال‪ { :‬وَِإذْ يَتَحَاجّونَ فِي النّارِ } يحتج التابعون بإغواء المتبوعين‪ ،‬ويتبرأ المتبوعون من‬
‫ض َعفَاءُ } أي‪ :‬التباع للقادة { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } على الحق‪ ،‬ودعوهم إلى ما‬
‫التابعين‪ { ،‬فَ َيقُولُ ال ّ‬
‫استكبروا لجله‪ { .‬إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا } أنتم أغويتمونا وأضللتمونا وزينتم لنا الشرك والشر‪َ { ،‬ف َهلْ‬
‫أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا َنصِيبًا مِنَ النّارِ } أي‪ :‬ولو قليلً‪.‬‬

‫{ قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } مبينين لعجزهم ونفوذ الحكم اللهي في الجميع‪ { :‬إِنّا ُكلّ فِيهَا إِنّ اللّهَ قَدْ‬
‫حكَمَ بَيْنَ ا ْلعِبَادِ } وجعل لكل قسطه من من العذاب‪ ،‬فل يزاد في ذلك ول ينقص منه‪ ،‬ول يغير ما‬
‫َ‬
‫حكم به الحكيم‪.‬‬

‫خفّفْ عَنّا َي ْومًا مِنَ‬


‫جهَنّمَ ادْعُوا رَ ّبكُمْ ُي َ‬
‫{ َوقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ } من المستكبرين والضعفاء { ِلخَزَنَةِ َ‬
‫ا ْلعَذَابِ } لعله تحصل بعض الراحة‪.‬‬

‫فـ { قَالُوا } لهم موبخين ومبينين أن شفاعتهم ل تنفعهم‪ ،‬ودعاءهم ل يفيدهم شيئًا‪َ { :‬أوَ لَمْ َتكُ‬
‫سُلكُمْ بِالْبَيّنَاتِ } التي تبينتم بها الحق والصراط المستقيم‪ ،‬وما يقرب من ال وما يبعد منه؟‬
‫تَأْتِيكُمْ رُ ُ‬

‫{ قَالُوا بَلَى } قد جاءونا بالبينات‪ ،‬وقامت علينا حجة ال البالغة فظلمنا وعاندنا الحق بعد ما تبين‪.‬‬
‫{ قَالُوا } أي‪ :‬الخزنة لهل النار‪ ،‬متبرئين من الدعاء لهم والشفاعة‪ { :‬فَادْعُوا } أنتم ولكن هذا‬
‫الدعاء هل يغني شيئا أم ل؟‬

‫قال تعالى‪َ { :‬ومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ } أي‪ :‬باطل لغ‪ ،‬لن الكفر محبط لجميع العمال‬
‫صادّ لجابة الدعاء‪.‬‬

‫شهَادُ * َيوْمَ لَا يَ ْنفَعُ‬


‫سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ َيقُومُ الَْأ ْ‬
‫{ ‪ { } 52 - 51‬إِنّا لَنَ ْنصُرُ رُ ُ‬
‫الظّاِلمِينَ َم ْعذِرَ ُتهُ ْم وََلهُمُ الّلعْ َن ُة وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ }‬

‫لما ذكر عقوبة آل فرعون في الدنيا‪ ،‬والبرزخ‪ ،‬ويوم القيامة‪ ،‬وذكر حالة أهل النار الفظيعة‪ ،‬الذين‬
‫سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } أي‪ :‬بالحجة‬
‫نابذوا رسله وحاربوهم‪ ،‬قال‪ { :‬إِنّا لَنَ ْنصُرُ رُ ُ‬
‫والبرهان والنصر‪ ،‬في الخرة بالحكم لهم ولتباعهم بالثواب‪ ،‬ولمن حاربهم بشدة العقاب‪.‬‬
‫{ َيوْمَ لَا يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُتهُمْ } حين يعتذرون { وََلهُمُ الّلعْنَةُ وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } أي‪ :‬الدار السيئة‬
‫التي تسوء نازليها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 55 - 53‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلهُدَى وََأوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ * ُهدًى وَ ِذكْرَى لِأُولِي‬
‫شيّ وَالْإِ ْبكَارِ }‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ بِا ْل َع ِ‬
‫ك وَسَبّحْ ِب َ‬
‫ق وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِب َ‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَ ّ‬
‫الْأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِ ّ‬

‫لما ذكر ما جرى لموسى وفرعون‪ ،‬وما آل إليه أمر فرعون وجنوده‪ ،‬ثم ذكر الحكم العام الشامل‬
‫له ولهل النار‪ ،‬ذكر أنه أعطى موسى { ا ْلهُدَى } أي‪ :‬اليات‪ ،‬والعلم الذي يهتدي به المهتدون‪.‬‬
‫{ وََأوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ } أي‪ :‬جعلناه متوارثًا بينهم‪ ،‬من قرن إلى آخر‪ ،‬وهو التوراة‪ ،‬وذلك‬
‫الكتاب مشتمل على الهدى الذي هو‪ :‬العلم بالحكام الشرعية وغيرها‪ ،‬وعلى التذكر للخير‬
‫بالترغيب فيه‪ ،‬وعن الشر بالترهيب عنه‪ ،‬وليس ذلك لكل أحد‪ ،‬وإنما هو { لِأُولِي الْأَلْبَابِ }‬

‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ }‬


‫{ فَاصْبِرْ } يا أيها الرسول كما صبر من قبلك من أولي العزم المرسلين‪ { .‬إِ ّ‬
‫أي‪ :‬ليس مشكوكًا فيه‪ ،‬أو فيه ريب أو كذب‪ ،‬حتى يعسر عليك الصبر‪ ،‬وإنما هو الحق المحض‪،‬‬
‫والهدى الصرف‪ ،‬الذي يصبر عليه الصابرون‪ ،‬ويجتهد في التمسك به أهل البصائر‪.‬‬

‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ } من السباب التي تحث على الصبر على طاعة ال وعن ما يكره ال‪.‬‬
‫فقوله‪ { :‬إِ ّ‬

‫{ وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِبكَ } المانع لك من تحصيل فوزك وسعادتك‪ ،‬فأمره بالصبر الذي فيه يحصل‬
‫شيّ‬
‫المحبوب‪ ،‬وبالستغفار الذي فيه دفع المحذور‪ ،‬وبالتسبيح بحمد ال تعالى خصوصًا { بِا ْل َع ِ‬
‫وَالْإِ ْبكَارِ } اللذين هما أفضل الوقات‪ ،‬وفيهما من الوراد والوظائف الواجبة والمستحبة ما فيهما‪،‬‬
‫لن في ذلك عونًا على جميع المور‪.‬‬

‫{ ‪ { } 56‬إِنّ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلّا كِبْرٌ مَا هُمْ‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ }‬
‫بِبَاِلغِيهِ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬

‫يخبر تعالى أن من جادل في آياته ليبطلها بالباطل‪ ،‬بغير بينة من أمره ول حجة‪ ،‬إن هذا صادر‬
‫من كبر في صدورهم على الحق وعلى من جاء به‪ ،‬يريدون الستعلء عليه بما معهم من الباطل‪،‬‬
‫فهذا قصدهم ومرادهم‪.‬‬

‫ولكن هذا ل يتم لهم وليسوا ببالغيه‪ ،‬فهذا نص صريح‪ ،‬وبشارة‪ ،‬بأن كل من جادل الحق أنه‬
‫مغلوب‪ ،‬وكل من تكبر عليه فهو في نهايته ذليل‪.‬‬
‫{ فَاسْ َتعِذْ } أي‪ :‬اعتصم والجأ { بِاللّهِ } ولم يذكر ما يستعيذ‪ ،‬إرادة للعموم‪ .‬أي‪ :‬استعذ بال من‬
‫الكبر الذي يوجب التكبر على الحق‪ ،‬واستعذ بال من شياطين النس والجن‪ ،‬واستعذ بال من‬
‫جميع الشرور‪.‬‬

‫سمِيعُ } لجميع الصوات على اختلفها‪ { ،‬الْ َبصِيرُ } بجميع المرئيات‪ ،‬بأي محل‬
‫{ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫وموضع وزمان كانت‪.‬‬

‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ *‬


‫خلْقِ النّا ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َأكْبَرُ مِنْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خلْقُ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 59 - 57‬لَ َ‬
‫ت وَلَا ا ْل ُمسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَ َذكّرُونَ * إِنّ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬
‫عمَى وَالْ َبصِي ُر وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َومَا َيسْ َتوِي الْأَ ْ‬
‫عةَ لَآتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫السّا َ‬

‫يخبر تعالى بما تقرر في العقول‪ ،‬أن خلق السماوات والرض ‪-‬على عظمهما وسعتهما‪ -‬أعظم‬
‫وأكبر‪ ،‬من خلق الناس‪ ،‬فإن الناس بالنسبة إلى خلق السماوات والرض من أصغر ما يكون فالذي‬
‫خلق الجرام العظيمة وأتقنها‪ ،‬قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى‪ .‬وهذا أحد‬
‫ل ل يقبل‬
‫الدلة العقلية الدالة على البعث‪ ،‬دللة قاطعة‪ ،‬بمجرد نظر العاقل إليها‪ ،‬يستدل بها استدل ً‬
‫الشك والشبهة بوقوع ما أخبرت به الرسل من البعث‪.‬‬

‫وليس كل أحد يجعل فكره لذلك‪ ،‬ويقبل بتدبره‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } ولذلك‬
‫ل يعتبرون بذلك‪ ،‬ول يجعلونه منهم على بال‪.‬‬

‫ت وَلَا ا ْلمُسِيءُ } أي‪:‬‬


‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬
‫عمَى وَالْ َبصِيرُ وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ثم قال تعالى‪َ { :‬ومَا يَسْ َتوِي الْأَ ْ‬
‫كما ل يستوي العمى والبصير‪ ،‬كذلك ل يستوي من آمن بال وعمل الصالحات‪ ،‬ومن كان‬
‫مستكبرًا على عبادة ربه‪ ،‬مقدمًا على معاصيه‪ ،‬ساعيًا في مساخطه‪ { ،‬قَلِيلًا مَا تَتَ َذكّرُونَ } أي‪:‬‬
‫تذكركم قليل وإل‪ ،‬فلو تذكرتم مراتب المور‪ ،‬ومنازل الخير والشر‪ ،‬والفرق بين البرار والفجار‪،‬‬
‫وكانت لكم همة عليه‪ ،‬لثرتم النافع على الضار‪ ،‬والهدى على الضلل‪ ،‬والسعادة الدائمة‪ ،‬على‬
‫الدنيا الفانية‪.‬‬

‫{ إِنّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا } قد أخبرت بها الرسل الذين هم أصدق الخلق ونطقت بها الكتب‬
‫السماوية‪ ،‬التي جميع أخبارها أعلى مراتب الصدق‪ ،‬وقامت عليها الشواهد المرئية‪ ،‬واليات‬
‫الفقية‪ { .‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ } مع هذه المور‪ ،‬التي توجب كمال التصديق‪ ،‬والذعان‪.‬‬
‫جهَنّمَ‬
‫جبْ َلكُمْ إِنّ الّذِينَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَ ْدخُلُونَ َ‬
‫{ ‪َ { } 60‬وقَالَ رَ ّبكُمُ ادْعُونِي َأسْتَ ِ‬
‫دَاخِرِينَ }‬

‫هذا من لطفه بعباده‪ ،‬ونعمته العظيمة‪ ،‬حيث دعاهم إلى ما فيه صلح دينهم ودنياهم‪ ،‬وأمرهم‬
‫بدعائه‪ ،‬دعاء العبادة‪ ،‬ودعاء المسألة‪ ،‬ووعدهم أن يستجيب لهم‪ ،‬وتوعد من استكبر عنها فقال‪:‬‬
‫جهَنّمَ دَاخِرِينَ } أي‪ :‬ذليلين حقيرين‪ ،‬يجتمع عليهم‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَ ْدخُلُونَ َ‬
‫العذاب والهانة‪ ،‬جزاء على استكبارهم‪.‬‬

‫سكُنُوا فِيهِ وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْيلَ لِتَ ْ‬
‫{ ‪ { } 65 - 61‬اللّهُ الّذِي َ‬
‫شيْءٍ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ *‬
‫شكُرُونَ * ذَِل ُكمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ خَالِقُ ُكلّ َ‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا يَ ْ‬
‫النّا ِ‬
‫سمَاءَ بِنَاءً‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ قَرَارًا وَال ّ‬
‫جحَدُونَ * اللّهُ الّذِي َ‬
‫كَذَِلكَ ُي ْؤ َفكُ الّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ‬
‫صوَ َركُ ْم وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * ُهوَ‬
‫ن ُ‬
‫َوصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫حيّ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ فَادْعُوهُ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ ا ْل َ‬
‫الْ َ‬

‫تدبر هذه اليات الكريمات‪ ،‬الدالة على سعة رحمة ال تعالى وجزيل فضله‪ ،‬ووجوب شكره‪،‬‬
‫وكمال قدرته‪ ،‬وعظيم سلطانه‪ ،‬وسعة ملكه‪ ،‬وعموم خلقه لجميع الشياء‪ ،‬وكمال حياته‪ ،‬واتصافه‬
‫بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة‪ ،‬وما فعله من الفعال الحسنة‪ ،‬وتمام ربوبيته‪،‬‬
‫وانفراده فيها‪ ،‬وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي الوقات وحاضرها‪،‬‬
‫ومستقبلها بيد ال تعالى‪ ،‬ليس لحد من المر شىء‪ ،‬ول من القدرة شيء‪ ،‬فينتج من ذلك‪ ،‬أنه‬
‫تعالى المألوه المعبود وحده‪ ،‬الذي ل يستحق أحد من العبودية شيئًا‪ ،‬كما لم يستحق من الربوبية‬
‫شيئًا‪ ،‬وينتج من ذلك‪ ،‬امتلء القلوب بمعرفة ال تعالى ومحبته وخوفه ورجائه‪ ،‬وهذان المران‬
‫‪-‬وهما معرفته وعبادته‪ -‬هما اللذان خلق ال الخلق لجلهما‪ ،‬وهما الغاية المقصودة منه تعالى‬
‫لعباده‪ ،‬وهما الموصلن إلى كل خير وفلح وصلح‪ ،‬وسعادة دنيوية وأخروية‪ ،‬وهما اللذان هما‬
‫أشرف عطايا الكريم لعباده‪ ،‬وهما أشرف اللذات على الطلق‪ ،‬وهما اللذان إن فاتا‪ ،‬فات كل‬
‫خير‪ ،‬وحضر كل شر‪.‬‬

‫فنسأله تعالى أن يمل قلوبنا بمعرفته ومحبته‪ ،‬وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة‪ ،‬خالصة‬
‫لوجهه‪ ،‬تابعة لمره‪ ،‬إنه ل يتعاظمه سؤال‪ ،‬ول يحفيه نوال‪.‬‬

‫سكُنُوا فِيهِ } من‬


‫ج َعلَ َلكُمُ اللّ ْيلَ } أي‪ :‬لجلكم جعل ال الليل مظلمًا‪ { ،‬لِ َت ْ‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬اللّهُ الّذِي َ‬
‫حركاتكم‪ ،‬التي لو استمرت لضرت‪ ،‬فتأوون إلى فرشكم‪ ،‬ويلقي ال عليكم النوم الذي يستريح به‬
‫القلب والبدن‪ ،‬وهو من ضروريات الدمي ل يعيش بدونه‪ ،‬ويسكن أيضًا‪ ،‬كل حبيب إلى حبيبه‪،‬‬
‫ويجتمع الفكر‪ ،‬وتقل الشواغل‪.‬‬

‫{ و } جعل تعالى { ال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا } منيرًا بالشمس المستمرة في الفلك‪ ،‬فتقومون من فرشكم إلى‬
‫أشغالكم الدينية والدنيوية‪ ،‬هذا لذكره وقراءته‪ ،‬وهذا لصلته‪ ،‬وهذا لطلبه العلم ودراسته‪ ،‬وهذا‬
‫لبيعه وشرائه‪ ،‬وهذا لبنائه أو حدادته‪ ،‬أو نحوها من الصناعات‪ ،‬وهذا لسفره برًا وبحرًا‪ ،‬وهذا‬
‫لفلحته‪ ،‬وهذا لتصليح حيواناته‪.‬‬

‫ضلٍ } أي‪ :‬عظيم‪ ،‬كما يدل عليه التنكير { عَلَى النّاسِ } حيث أنعم عليهم بهذه النعم‬
‫{ إِنّ اللّهَ َلذُو َف ْ‬
‫وغيرها‪ ،‬وصرف عنهم النقم‪ ،‬وهذا يوجب عليهم‪ ،‬تمام شكره وذكره‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا‬
‫شكُورُ } الذين يقرون بنعمة ربهم‪،‬‬
‫شكُرُونَ } بسبب جهلهم وظلمهم‪َ { .‬وقَلِيلٌ مِنْ عِبَا ِديَ ال ّ‬
‫يَ ْ‬
‫ويخضعون للّه‪ ،‬ويحبونه‪ ،‬ويصرفونها في طاعة مولهم ورضاه‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمُ } الذي فعل ما فعل { اللّهُ رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬المنفرد باللهية‪ ،‬والمنفرد بالربوبية‪ ،‬لن انفراده‬
‫بهذه النعم‪ ،‬من ربوبيته‪ ،‬وإيجابها للشكر‪ ،‬من ألوهيته‪ { ،‬لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } تقرير أنه المستحق للعبادة‬
‫شيْءٍ } تقرير لربوبيته‪.‬‬
‫وحده‪ ،‬ل شريك له‪ { ،‬خَالِقُ ُكلّ َ‬

‫ثم صرح بالمر بعبادته فقال‪ { :‬فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ } أي‪ :‬كيف تصرفون عن عبادته‪ ،‬وحده ل شريك‬
‫له‪ ،‬بعد ما أبان لكم الدليل‪ ،‬وأنار لكم السبيل؟"‬

‫حدُونَ } أي‪ :‬عقوبة على جحدهم ليات ال‪ ،‬وتعديهم على‬


‫{ َكذَِلكَ ُي ْؤ َفكُ الّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ‬
‫رسله‪ ،‬صرفوا عن التوحيد والخلص‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَِإذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ نَظَرَ َب ْعضُهُمْ إِلَى‬
‫َب ْعضٍ َهلْ يَرَاكُمْ مِنْ َأحَدٍ ُثمّ ا ْنصَ َرفُوا صَ َرفَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ }‬

‫ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ قَرَارًا } أي‪ :‬قارة ساكنة‪ ،‬مهيأة لكل مصالحكم‪ ،‬تتمكنون من حرثها‬
‫{ اللّهُ الّذِي َ‬
‫وغرسها‪ ،‬والبناء عليها‪ ،‬والسفر‪ ،‬والقامة فيها‪.‬‬

‫سمَاءَ بِنَاءً } سقفًا للرض‪ ،‬التي أنتم فيها‪ ،‬قد جعل ال فيها ما تنتفعون به من النوار‬
‫{ وَال ّ‬
‫صوَ َركُمْ } فليس في‬
‫ن ُ‬
‫حسَ َ‬
‫صوّ َركُمْ فَأَ ْ‬
‫والعلمات‪ ،‬التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر‪َ { ،‬و َ‬
‫حسَنِ َتقْوِيمٍ }‬
‫جنس الحيوانات‪ ،‬أحسن صورة من بني آدم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬لقَدْ خََلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي أَ ْ‬

‫وإذا أردت أن تعرف حسن الدمي وكمال حكمة ال تعالى فيه‪ ،‬فانظر إليه‪ ،‬عضوًا عضوًا‪ ،‬هل‬
‫تجد عضوًا من أعضائه‪ ،‬يليق به‪ ،‬ويصلح أن يكون في غير محله؟ وانظر أيضًا‪ ،‬إلى الميل الذي‬
‫في القلوب‪ ،‬بعضهم لبعض‪ ،‬هل تجد ذلك في غير الدمين؟ وانظر إلى ما خصه ال به من العقل‬
‫واليمان‪ ،‬والمحبة والمعرفة‪ ،‬التي هي أحسن الخلق المناسبة لجمل الصور‪.‬‬

‫{ وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } وهذا شامل لكل طيب‪ ،‬من مأكل‪ ،‬ومشرب‪ ،‬ومنكح‪ ،‬وملبس‪ ،‬ومنظر‪،‬‬
‫ومسمع‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من الطيبات التي يسرها ال لعباده‪ ،‬ويسر لهم أسبابها‪ ،‬ومنعهم من الخبائث‪،‬‬
‫التي تضادها‪ ،‬وتضر أبدانهم‪ ،‬وقلوبهم‪ ،‬وأديانهم‪ { ،‬ذَِلكُمُ } الذي دبر المور‪ ،‬وأنعم عليكم بهذه‬
‫النعم { اللّهُ رَ ّبكُمْ } { فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬تعاظم‪ ،‬وكثر خيره وإحسانه‪ ،‬المربي جميع‬
‫العالمين بنعمه‪.‬‬

‫حيّ } الذي له الحياة الكاملة التامة‪ ،‬المستلزمة لما تستلزمه من صفاته الذاتية‪ ،‬التي ل تتم‬
‫{ ُهوَ الْ َ‬
‫حياته إل بها‪ ،‬كالسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والكلم‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من صفات كماله‪ ،‬ونعوت‬
‫جلله‪.‬‬

‫{ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } أي‪ :‬ل معبود بحق‪ ،‬إل وجهه الكريم‪ { .‬فَادْعُوهُ } وهذا شامل لدعاء العبادة‪،‬‬
‫ودعاء المسألة { مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ } أي‪ :‬اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل‪ ،‬وجه ال تعالى‪ ،‬فإن‬
‫الخلص‪ ،‬هو المأمور به كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْ ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ حُ َنفَاءَ }‬

‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬جميع المحامد والمدائح والثناء‪ ،‬بالقول كنطق الخلق بذكره‪،‬‬
‫{ الْ َ‬
‫والفعل‪ ،‬كعبادتهم له‪ ،‬كل ذلك للّه تعالى وحده ل شريك له‪ ،‬لكماله في أوصافه وأفعاله‪ ،‬وتمام‬
‫نعمه‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 68 - 66‬قلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َلمّا جَاءَ ِنيَ الْبَيّنَاتُ مِنْ رَبّي‬
‫جكُمْ‬
‫طفَةٍ ثُمّ مِنْ عََلقَةٍ ُثمّ ُيخْرِ ُ‬
‫وَُأمِرْتُ أَنْ ُأسْلِمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ ُن ْ‬
‫سمّى وََلعَّلكُمْ‬
‫طفْلًا ثُمّ لِتَبُْلغُوا أَشُ ّد ُكمْ ثُمّ لِ َتكُونُوا شُيُوخًا َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى مِنْ قَ ْبلُ وَلِتَبُْلغُوا َأجَلًا مُ َ‬
‫ِ‬
‫َت ْعقِلُونَ * ُهوَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ فَِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ }‬

‫لما ذكر المر بإخلص العبادة للّه وحده‪ ،‬وذكر الدلة على ذلك والبينات‪ ،‬صرح بالنهي عن‬
‫عبادة ما سواه فقال‪ُ { :‬قلْ } يا أيها النبي { إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } من‬
‫الوثان والصنام‪ ،‬وكل ما عبد من دون ال‪.‬‬

‫ولست على شك من أمري‪ ،‬بل على يقين وبصيرة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬لمّا جَاءَ ِنيَ الْبَيّنَاتُ مِنْ رَبّي‬
‫وَُأمِرْتُ أَنْ ُأسْلِمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } بقلبي ولساني‪ ،‬وجوارحي‪ ،‬بحيث تكون منقادة لطاعته‪ ،‬مستسلمة‬
‫لمره‪ ،‬وهذا أعظم مأمور به‪ ،‬على الطلق‪ ،‬كما أن النهي عن عبادة ما سواه‪ ،‬أعظم مَ ْن ِهيّ عنه‪،‬‬
‫على الطلق‪.‬‬

‫ثم قرر هذا التوحيد‪ ،‬بأنه الخالق لكم والمطور لخلقتكم‪ ،‬فكما خلقكم وحده‪ ،‬فاعبدوه وحده فقال‪:‬‬
‫طفَةٍ } وهذا‬
‫{ ُهوَ الّذِي خََلقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلقه لصلكم وأبيكم آدم عليه السلم‪ { .‬ثُمّ مِنْ ُن ْ‬
‫ابتداء خلق سائر النوع النساني‪ ،‬ما دام في بطن أمه‪ ،‬فنبه بالبتداء‪ ،‬على بقية الطوار‪ ،‬من‬
‫طفْلًا } ثم هكذا تنتقلون في الخلقة اللهية‬
‫جكُمْ ِ‬
‫العلقة‪ ،‬فالمضغة‪ ،‬فالعظام‪ ،‬فنفخ الروح‪ُ { ،‬ثمّ يُخْ ِر ُ‬
‫حتى تبلغوا أشدكم من قوة العقل والبدن‪ ،‬وجميع قواه الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫{ ُثمّ لِ َتكُونُوا شُيُوخًا َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى مِنْ قَ ْبلُ } بلوغ الشد { وَلِتَبُْلغُوا } بهذه الطوار المقدرة‬
‫سمّى } تنتهي عنده أعماركم‪ { .‬وََلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } أحوالكم‪ ،‬فتعلمون أن المطور لكم في هذه‬
‫{ َأجَلًا مُ َ‬
‫الطوار كامل القتدار‪ ،‬وأنه الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬وأنكم ناقصون من كل وجه‪.‬‬

‫{ ُهوَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي هو المنفرد بالحياء والماتة‪ ،‬فل تموت نفس بسبب أو بغير سبب‪،‬‬
‫عمُ ِرهِ إِلّا فِي كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ }‬
‫إل بإذنه‪َ { .‬ومَا ُي َعمّرُ مِنْ ُم َعمّ ٍر وَلَا يُ ْن َقصُ مِنْ ُ‬

‫{ فَِإذَا َقضَى َأمْرًا } جليلً أو حقيرًا { فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } ل رد في ذلك‪ ،‬ول مثنوية‪ ،‬ول‬
‫تمنع‪.‬‬

‫{ ‪ { } 76 - 69‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ أَنّى ُيصْ َرفُونَ * الّذِينَ كَذّبُوا بِا ْلكِتَابِ‬
‫حمِيمِ ُثمّ‬
‫سحَبُونَ * فِي ا ْل َ‬
‫سلُ يُ ْ‬
‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَالسّلَا ِ‬
‫وَ ِبمَا أَ ْرسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَ َ‬
‫سجَرُونَ * ثُمّ قِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْ ِركُونَ * مِنْ دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلّوا عَنّا َبلْ لَمْ َنكُنْ‬
‫فِي النّارِ يُ ْ‬
‫ق وَ ِبمَا‬
‫نَدْعُو مِنْ قَ ْبلُ شَيْئًا كَ َذِلكَ ُيضِلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ * ذَِلكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َتفْرَحُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَ ّ‬
‫جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ }‬
‫خلُوا أَ ْبوَابَ َ‬
‫كُنْتُمْ َتمْرَحُونَ * ادْ ُ‬

‫{ َألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ } الواضحة البينة متعجبًا من حالهم الشنيعة‪ { .‬أَنّى‬
‫ُيصْ َرفُونَ } أي‪ :‬كيف ينعدلون عنها؟ وإلى أي شيء يذهبون بعد البيان التام؟ هل يجدون آيات‬
‫بينات تعارض آيات ال؟ ل وال‪ .‬أم يجدون شبهًا توافق أهواءهم‪ ،‬ويصولون بها لجل باطلهم؟‬
‫فبئس ما استبدلوا واختاروا لنفسهم‪ ،‬بتكذيبهم بالكتاب‪ ،‬الذي جاءهم من ال‪ ،‬وبما أرسل ال به‬
‫رسله‪ ،‬الذين هم خير الخلق وأصدقهم‪ ،‬وأعظمهم عقولً‪ ،‬فهؤلء ل جزاء لهم سوى النار الحامية‪،‬‬
‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ }‬
‫ولهذا توعدهم ال بعذابها فقال‪ { :‬فَ َ‬
‫سلُ } التي يقرنون بها‪ ،‬هم‬
‫{ ِإذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِمْ } التي ل يستطيعون معها حركة‪ { .‬وَالسّلَا ِ‬
‫وشياطينهم { ُيسْحَبُونَ في الحميم }‬

‫أي‪ :‬الماء الذي اشتد غليانه وحره‪ { .‬ثُمّ فِي النّارِ ُيسْجَرُونَ } يوقد عليهم اللهب العظيم‪ ،‬فيصلون‬
‫بها‪ ،‬ثم يوبخون على شركهم وكذبهم‪.‬‬

‫ويقال { َل ُهمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْ ِركُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } هل نفعوكم‪ ،‬أو دفعوا عنكم بعض العذاب؟‪.‬‬
‫{ قَالُوا ضَلّوا عَنّا } أي‪ :‬غابوا ولم يحضروا‪ ،‬ولو حضروا‪ ،‬لم ينفعوا‪ ،‬ثم إنهم أنكروا فقالوا‪َ { :‬بلْ‬
‫لَمْ َنكُنْ َندْعُو مِنْ قَ ْبلُ شَيْئًا } يحتمل أن مرادهم بذلك‪ ،‬النكار‪ ،‬وظنوا أنه ينفعهم ويفيدهم‪ ،‬ويحتمل‬
‫‪-‬وهو الظهر‪ -‬أن مرادهم بذلك‪ ،‬القرار على بطلن إلهية ما كانوا يعبدون‪ ،‬وأنه ليس للّه شريك‬
‫في الحقيقة‪ ،‬وإنما هم ضالون مخطئون‪ ،‬بعبادة معدوم اللهية‪ ،‬ويدل على هذا قوله تعالى‪ { :‬كَذَِلكَ‬
‫ضلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ } أي‪ :‬كذلك الضلل الذي كانوا عليه في الدنيا‪ ،‬الضلل الواضح لكل أحد‪،‬‬
‫ُي ِ‬
‫حتى إنهم بأنفسهم‪ ،‬يقرون ببطلنه يوم القيامة‪ ،‬ويتبين لهم معنى قوله تعالى‪َ { :‬ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ‬
‫يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ } ويدل عليه قوله تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُونَ‬
‫ضلّ ِممّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لَا يَسْ َتجِيبُ لَهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ } اليات‪.‬‬
‫بِشِ ْر ِككُمْ } { َومَنْ َأ َ‬

‫ويقال لهل النار { ذَِلكُمْ } العذاب‪ ،‬الذي نوع عليكم { ِبمَا كُنْتُمْ َتفْرَحُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ‬
‫وَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َتمْرَحُونَ } أي‪ :‬تفرحون بالباطل الذي أنتم عليه‪ ،‬وبالعلوم التي خالفتم بها علوم الرسل‬
‫وتمرحون على عباد ال‪ ،‬بغيًا وعدوانًا‪ ،‬وظلمًا‪ ،‬وعصيانًا‪ ،‬كما قال تعالى في آخر هذه السورة‪:‬‬
‫{ فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَ ِرحُوا ِبمَا عِنْدَ ُهمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ }‬

‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ }‬
‫وكما قال قوم قارون له‪ { :‬لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬

‫ضلِ‬
‫وهذا هو الفرح المذموم الموجب للعقاب‪ ،‬بخلف الفرح الممدوح الذي قال ال فيه‪ُ { :‬قلْ ِب َف ْ‬
‫حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا } وهو الفرح بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬
‫اللّ ِه وَبِ َر ْ‬

‫جهَنّمَ } كل بطبقة من طبقاتها‪ ،‬على قدر عمله‪ { .‬خَالِدِينَ فِيهَا } ل يخرجون منها‬
‫{ ادْخُلُوا أَ ْبوَابَ َ‬
‫أبدًا { فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ } مثوى يخزون فيه‪ ،‬ويهانون‪ ،‬ويحبسون‪ ،‬ويعذبون‪ ،‬ويترددون بين‬
‫حرها وزمهريرها‪.‬‬

‫جعُونَ }‬
‫عدَ اللّهِ حَقّ فَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُرْ َ‬
‫ن وَ ْ‬
‫{ ‪ { } 77‬فَاصْبِرْ إِ ّ‬
‫أي { فَاصْبِرْ } يا أيها الرسول‪ ،‬على دعوة قومك‪ ،‬وما ينالك منهم‪ ،‬من أذى‪ ،‬واستعن على صبرك‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ } سينصر دينه‪ ،‬و ُيعْلِي كلمته‪ ،‬وينصر رسله في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫بإيمانك { إِ ّ‬
‫واستعن على ذلك أيضًا‪ ،‬بتوقع العقوبة بأعدائك في الدنيا والخرة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ‬
‫جعُونَ } فنجازيهم بأعمالهم‪،‬‬
‫الّذِي َن ِعدُهُمْ } في الدنيا فذاك { َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ } قبل عقوبتهم { فَإِلَيْنَا يُرْ َ‬
‫عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ } ثم سلّاه وصبّره‪ ،‬بذكر إخوانه المرسلين فقال‪:‬‬
‫{ وَلَا َتحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلًا َ‬

‫ك َومَا‬
‫ك َومِ ْنهُمْ مَنْ َلمْ َن ْقصُصْ عَلَ ْي َ‬
‫صصْنَا عَلَ ْي َ‬
‫{ ‪ { } 78‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبِْلكَ مِ ْن ُهمْ مَنْ َق َ‬
‫ق وَخَسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلمُبْطِلُونَ }‬
‫حّ‬‫ضيَ بِالْ َ‬
‫كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَاءَ َأمْرُ اللّهِ ُق ِ‬

‫أي‪ { :‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ رُسُلًا } كثيرين إلى قومهم‪ ،‬يدعونهم ويصبرون على أذاهم‪ { .‬مِ ْنهُمْ‬
‫صصْ عَلَ ْيكَ } وكل الرسل مدبرون‪ ،‬ليس بيدهم‬
‫صصْنَا عَلَ ْيكَ } خبرهم { َومِ ْنهُمْ مَنْ لَمْ َن ْق ُ‬
‫مَنْ َق َ‬
‫شيء من المر‪.‬‬

‫وما كان لحد منهم { أَنْ يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ } من اليات السمعية والعقلية { ِإلّا بِإِذْنِ اللّهِ } أي‪ :‬بمشيئته‬
‫وأمره‪ ،‬فاقتراح المقترحين على الرسل التيان باليات‪ ،‬ظلم منهم‪ ،‬وتعنت‪ ،‬وتكذيب‪ ،‬بعد أن أيدهم‬
‫اللّه باليات الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به‪ { .‬فَِإذَا جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } بالفصل بين الرسل‬
‫ضىَ } بينهم { بِا ْلحَقّ } الذي يقع الموقع‪ ،‬ويوافق الصواب بإنجاء الرسل‬
‫وأعدائهم‪ ،‬والفتح‪ُ { .‬ق ِ‬
‫وأتباعهم‪ ،‬وإهلك المكذبين‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وخَسِرَ هُنَاِلكَ } أي‪ :‬وقت القضاء المذكور { ا ْلمُبْطِلُونَ }‬
‫الذين وصفهم الباطل‪ ،‬وما جاءوا به من العلم والعمل‪ ،‬باطل‪ ،‬وغايتهم المقصودة لهم‪ ،‬باطلة‪،‬‬
‫حذَر هؤلء المخاطبون‪ ،‬أن يستمروا على باطلهم‪ ،‬فيخسروا‪ ،‬كما خسر أولئك‪ ،‬فإن هؤلء ل‬
‫فَلْيَ ْ‬
‫خير منهم‪ ،‬ول لهم براءة في الكتب بالنجاة‪.‬‬

‫ج َعلَ َل ُكمُ الْأَ ْنعَامَ لِتَ ْركَبُوا مِ ْنهَا َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ * وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‬
‫{ ‪ { } 81 - 79‬اللّهُ الّذِي َ‬
‫حمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فََأيّ آيَاتِ اللّهِ‬
‫جةً فِي صُدُو ِركُ ْم وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ‬
‫وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَا َ‬
‫تُ ْنكِرُونَ }‬

‫يمتن تعالى على عباده‪ ،‬بما جعل لهم من النعام‪ ،‬التي بها‪ ،‬جملة من النعام‪:‬‬

‫منها‪ :‬منافع الركوب عليها‪ ،‬والحمل‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬منافع الكل من لحومها‪ ،‬والشرب من ألبانها‪.‬‬


‫ومنها‪ :‬منافع الدفء‪ ،‬واتخاذ اللت والمتعة‪ ،‬من أصوافها‪ ،‬وأوبارها وأشعارها‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫من المنافع‪.‬‬

‫{ وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَاجَةً فِي صُدُو ِركُمْ } من الوصول إلى الوطان البعيدة‪ ،‬وحصول السرور بها‪،‬‬
‫حمَلُونَ } أي‪ :‬على الرواحل البرية‪ ،‬والفلك البحرية‪،‬‬
‫والفرح عند أهلها‪ { .‬وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ‬
‫يحملكم ال الذي سخرها‪ ،‬وهيأ لها ما هيأ‪ ،‬من السباب‪ ،‬التي ل تتم إل بها‪.‬‬

‫{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الدالة على وحدانيته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وهذا من أكبر نعمه‪ ،‬حيث أشهد عباده‪،‬‬
‫آياته النفسية‪ ،‬وآياته الفقية‪ ،‬ونعمه الباهرة‪ ،‬وعدّدَها عليهم‪ ،‬ليعرفوه‪ ،‬ويشكروه‪ ،‬ويذكروه‪.‬‬

‫{ فََأيّ آيَاتِ اللّهِ تُ ْنكِرُونَ } أي‪ :‬أي آية من آياته ل تعترفون بها؟ فإنكم‪ ،‬قد تقرر عندكم‪ ،‬أن جميع‬
‫اليات والنعم‪ ،‬منه تعالى‪ ،‬فلم يبق للنكار محل‪ ،‬ول للعراض عنها موضع‪ ،‬بل أوجبت لذوي‬
‫اللباب‪ ،‬بذل الجهد‪ ،‬واستفراغ الوسع‪ ،‬للجتهاد في طاعته‪ ،‬والتبتل في خدمته‪ ،‬والنقطاع إليه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 85 - 82‬أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأكْثَرَ‬
‫مِ ْنهُ ْم وَأَشَدّ ُق ّوةً وَآثَارًا فِي الْأَ ْرضِ َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * فََلمّا جَاءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ‬
‫فَرِحُوا ِبمَا عِنْ َدهُمْ مِنَ ا ْلعِ ْل ِم وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ * فََلمّا رََأوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّهِ‬
‫وَحْ َد ُه َو َكفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ * فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي‬
‫خسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلكَافِرُونَ }‬
‫عِبَا ِد ِه وَ َ‬

‫يحث تعالى‪ ،‬المكذبين لرسولهم‪ ،‬على السير في الرض‪ ،‬بأبدانهم‪ ،‬وقلوبهم‪ :‬وسؤال العالمين‪.‬‬
‫{ فَيَ ْنظُرُوا } نظر فكر واستدلل‪ ،‬ل نظر غفلة وإهمال‪.‬‬

‫{ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } من المم السالفة‪ ،‬كعاد‪ ،‬وثمود وغيرهم‪ ،‬ممن كانوا أعظم‬
‫منهم قوة وأكثر أموالً وأشد آثارًا في الرض من البنية الحصينة‪ ،‬والغراس النيقة‪ ،‬والزروع‬
‫الكثيرة { َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } حين جاءهم أمر ال‪ ،‬فلم تغن عنهم قوتهم‪ ،‬ول افتدوا‬
‫بأموالهم‪ ،‬ول تحصنوا بحصونهم‪.‬‬

‫ثم ذكر جرمهم الكبير فقال‪ { :‬فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } من الكتب اللهية‪ ،‬والخوارق‬
‫العظيمة‪ ،‬والعلم النافع المبين‪ ،‬للهدي من الضلل‪ ،‬والحق من الباطل { فَ ِرحُوا ِبمَا عِنْدَ ُهمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ‬
‫} المناقض لدين الرسل‪.‬‬
‫ومن المعلوم‪ ،‬أن فرحهم به‪ ،‬يدل على شدة رضاهم به‪ ،‬وتمسكهم‪ ،‬ومعاداة الحق‪ ،‬الذي جاءت به‬
‫الرسل‪ ،‬وجعل باطلهم حقًا‪ ،‬وهذا عام لجميع العلوم‪ ،‬التي نوقض بها‪ ،‬ما جاءت به الرسل‪ ،‬ومن‬
‫أحقها بالدخول في هذا‪ ،‬علوم الفلسفة‪ ،‬والمنطق اليوناني‪ ،‬الذي رُدّت به كثير من آيات القرآن‪،‬‬
‫ونقصت قدره في القلوب‪ ،‬وجعلت أدلته اليقينية القاطعة‪ ،‬أدلة لفظية‪ ،‬ل تفيد شيئًا من اليقين‪ ،‬ويقدم‬
‫عليها عقول أهل السفه والباطل‪ ،‬وهذا من أعظم اللحاد في آيات ال‪ ،‬والمعارضة لها‪،‬‬
‫والمناقضة‪ ،‬فال المستعان‪.‬‬

‫{ َوحَاقَ ِبهِمْ } أي‪ :‬نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } من العذاب‪.‬‬

‫{ فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا } أي‪ :‬عذابنا‪ ،‬أقروا حيث ل ينفعهم القرار { قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َدهُ َوكَفَرْنَا ِبمَا‬
‫كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ } من الصنام والوثان‪ ،‬وتبرأنا من كل ما خالف الرسل‪ ،‬من علم أو عمل‪.‬‬

‫{ فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا } أي‪ :‬في تلك الحال‪ ،‬وهذه { سُنّةَ اللّهِ } وعادته { الّتِي َقدْ‬
‫خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ } أن المكذبين حين ينزل بهم بأس ال وعقابه إذا آمنوا‪ ،‬كان إيمانهم غير صحيح‪،‬‬
‫ول منجيًا لهم من العذاب‪ ،‬وذلك لنه إيمان ضرورة‪ ،‬قد اضطروا إليه‪ ،‬وإيمان مشاهدة‪ ،‬وإنما‬
‫اليمان النافع الذي ينجي صاحبه‪ ،‬هو اليمان الختياري‪ ،‬الذي يكون إيمانًا بالغيب‪ ،‬وذلك قبل‬
‫وجود قرائن العذاب‪.‬‬

‫{ َوخَسِرَ هُنَاِلكَ } أي‪ :‬وقت الهلك‪ ،‬وإذاقة البأس { ا ْلكَافِرُونَ } دينهم ودنياهم وأخراهم‪ ،‬ول‬
‫يكفي مجرد الخسارة‪ ،‬في تلك الدار‪ ،‬بل ل بد من خسران يشقي في العذاب الشديد‪ ،‬والخلود فيه‪،‬‬
‫دائما أبدًا‪.‬‬

‫تم تفسير سورة المؤمن بحمد ال ولطفه ومعونته‪ ،‬ل بحولنا وقوتنا‪ ،‬فله الشكر والثناء‬

‫سورة فصلت‬
‫مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ ُفصَّلتْ آيَاُتهُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرّ ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫س َمعُونَ * َوقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ‬
‫قُرْآنًا عَرَبِيّا ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْ َرضَ َأكْثَرُهُمْ َف ُهمْ لَا يَ ْ‬
‫ع َملْ إِنّنَا عَامِلُونَ * ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ‬
‫ِممّا تَدْعُونَا إِلَيْ ِه َوفِي آذَانِنَا َوقْرٌ َومِنْ بَيْنِنَا وَبَيْ ِنكَ حِجَابٌ فَا ْ‬
‫حدٌ فَاسْ َتقِيمُوا ِإلَيْ ِه وَاسْ َت ْغفِرُوهُ َووَ ْيلٌ ِل ْلمُشْ ِركِينَ * الّذِينَ لَا ُيؤْتُونَ‬
‫مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ ِإلَ ٌه وَا ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُمْ َأجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ }‬
‫ال ّزكَا َة وَهُمْ بِالْآخِ َرةِ ُهمْ كَافِرُونَ * إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ }‬
‫يخبر تعالى عباده أن هذا الكتاب الجليل والقرآن الجميل { تَنْزِيلُ } صادر { مِنَ الرّ ْ‬
‫الذي وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬الذي من أعظم رحمته وأجلها‪ ،‬إنزال هذا الكتاب‪ ،‬الذي حصل به‪،‬‬
‫من العلم والهدى‪ ،‬والنور‪ ،‬والشفاء‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والخير الكثير‪ ،‬ما هو من أجل نعمه على العباد‪،‬‬
‫وهو الطريق للسعادة في الدارين‪.‬‬

‫ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان فقال‪ُ { :‬فصَّلتْ آيَاُتهُ } أي‪ :‬فصل كل شيء من أنواعه على‬
‫حدته‪ ،‬وهذا يستلزم البيان التام‪ ،‬والتفريق بين كل شيء‪ ،‬وتمييز الحقائق‪ { .‬قُرْآنًا عَرَبِيّا } أي‪:‬‬
‫باللغة الفصحى أكمل اللغات‪ ،‬فصلت آياته وجعل عربيًا‪ِ { .‬ل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬لجل أن يتبين لهم‬
‫معناه‪ ،‬كما تبين لفظه‪ ،‬ويتضح لهم الهدى من الضلل‪ ،‬وا ْل َغيّ من الرشاد‪.‬‬

‫سقِ الكلم‬
‫عمًى فهؤلء لم يُ َ‬
‫وأما الجاهلون‪ ،‬الذين ل يزيدهم الهدى إل ضللً‪ ،‬ول البيان إل َ‬
‫علَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ أَمْ لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫سوَاءٌ َ‬
‫لجلهم‪َ { ،‬‬

‫{ َبشِيرًا وَنَذِيرًا } أي‪ :‬بشيرًا بالثواب العاجل والجل‪ ،‬ونذيرًا بالعقاب العاجل والجل‪ ،‬وذكر‬
‫تفصيلهما‪ ،‬وذكر السباب والوصاف التي تحصل بها البشارة والنذارة‪ ،‬وهذه الوصاف للكتاب‪،‬‬
‫مما يوجب أن يُتَلقّى بالقبول‪ ،‬والذعان‪ ،‬واليمان‪ ،‬والعمل به‪ ،‬ولكن أعرض أكثر الخلق عنه‬
‫س َمعُونَ } له سماع قبول وإجابة‪ ،‬وإن كانوا قد سمعوه سماعًا‪،‬‬
‫إعراض المستكبرين‪َ { ،‬ف ُهمْ لَا يَ ْ‬
‫تقوم عليهم به الحجة الشرعية‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬هؤلء المعرضون عنه‪ ،‬مبينين عدم انتفاعهم به‪ ،‬بسد البواب الموصلة إليه‪:‬‬
‫{ قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ } أي‪ :‬أغطية مغشاة { ِممّا َتدْعُونَا إِلَيْ ِه َوفِي آذَانِنَا َوقْرٌ } أي‪ :‬صمم فل نسمع لك‬
‫حجَابٌ } فل نراك‪.‬‬
‫{ َومِنْ بَيْنِنَا وَبَيْ ِنكَ ِ‬

‫القصد من ذلك‪ ،‬أنهم أظهروا العراض عنه‪ ،‬من كل وجه‪ ،‬وأظهروا بغضه‪ ،‬والرضا بما هم‬
‫ع َملْ إِنّنَا عَامِلُونَ } أي‪ :‬كما رضيت بالعمل بدينك‪ ،‬فإننا راضون كل‬
‫عليه‪ ،‬ولهذا قالوا‪ { :‬فَا ْ‬
‫الرضا‪ ،‬بالعمل في ديننا‪ ،‬وهذا من أعظم الخذلن‪ ،‬حيث رضوا بالضلل عن الهدى‪ ،‬واستبدلوا‬
‫الكفر باليمان‪ ،‬وباعوا الخرة بالدنيا‪.‬‬

‫{ ُقلْ } لهم يا أيها النبي‪ { :‬إِ ّنمَا أَنَا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ } أي‪ :‬هذه صفتي ووظيفتي‪ ،‬أني بشر‬
‫مثلكم‪ ،‬ليس بيدي من المر شيء‪ ،‬ول عندي ما تستعجلون به‪ ،‬وإنما فضلني اللّه عليكم‪ ،‬وميّزني‪،‬‬
‫ي وأمرني باتباعه‪ ،‬ودعوتكم إليه‪.‬‬
‫وخصّني‪ ،‬بالوحي الذي أوحاه إل ّ‬
‫{ فَاسْ َتقِيمُوا إِلَيْهِ } أي‪ .‬اسلكوا الصراط الموصل إلى اللّه تعالى‪ ،‬بتصديق الخبر الذي أخبر به‪،‬‬
‫واتباع المر‪ ،‬واجتناب النهي‪ ،‬هذه حقيقة الستقامة‪ ،‬ثم الدوام على ذلك‪ ،‬وفي قوله‪ { :‬إِلَيْهِ } تنبيه‬
‫على الخلص‪ ،‬وأن العامل ينبغي له أن يجعل مقصوده وغايته‪ ،‬التي يعمل لجلها‪ ،‬الوصول إلى‬
‫اللّه‪ ،‬وإلى دار كرامته‪ ،‬فبذلك يكون عمله خالصًا صالحًا نافعًا‪ ،‬وبفواته‪ ،‬يكون عمله باطلً‪.‬‬

‫ولما كان العبد‪- ،‬ولو حرص على الستقامة‪ -‬ل بد أن يحصل منه خلل بتقصير بمأمور‪ ،‬أو‬
‫ارتكاب منهي‪ ،‬أمره بدواء ذلك بالستغفار المتضمن للتوبة فقال‪ { :‬وَاسْ َت ْغفِرُوهُ } ثم توّعد من ترك‬
‫الستقامة فقال‪َ { :‬ووَ ْيلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ الذين ل يؤتون الزكاة } أي‪ :‬الذين عبدوا من دونه من ل يملك‬
‫نفعًا ول ضرًا‪ ،‬ول موتًا‪ ،‬ول حياة‪ ،‬ول نشورًا ودنسوا أنفسهم‪ ،‬فلم يزكوها بتوحيد ربهم‬
‫والخلص له‪ ،‬ولم يصلوا ول زكوا‪ ،‬فل إخلص للخالق بالتوحيد والصلة‪ ،‬ول نفع للخلق‬
‫بالزكاة وغيرها‪ { .‬وَ ُهمْ بِالْآخِ َرةِ هم كَافِرُونَ } أى‪ :‬ل يؤمنون بالبعث‪ ،‬ول بالجنة والنار‪ ،‬فلذلك لما‬
‫زال الخوف من قلوبهم‪ ،‬أقدموا على ما أقدموا عليه‪ ،‬مما يضرهم في الخرة‪.‬‬

‫ولما ذكر الكافرين‪ ،‬ذكر المؤمنين‪ ،‬ووصفهم وجزاءهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا } بهذا الكتاب‪ ،‬وما‬
‫اشتمل عليه مما دعا إليه من اليمان‪ ،‬وصدقوا إيمانهم بالعمال الصالحة الجامعة للخلص‪،‬‬
‫والمتابعة‪َ { .‬ل ُهمْ أَجْرٌ } أي‪ :‬عظيم { غَيْرُ َممْنُونٍ } أي‪ :‬غير مقطوع ول نافد‪ ،‬بل هو مستمر مدى‬
‫الوقات‪ ،‬متزايد على الساعات‪ ،‬مشتمل على جميع اللذات والمشتهيات‪.‬‬

‫جعَلُونَ لَهُ أَ ْندَادًا ذَِلكَ َربّ‬


‫{ ‪ُ { } 12 - 9‬قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََلقَ الْأَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ‬
‫سوَاءً‬
‫سيَ مِنْ َف ْوقِهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَا َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا‬
‫سمَا ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلْأَ ْرضِ اِئْتِيَا َ‬
‫لِلسّائِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا‬
‫سمَاءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ‬
‫ن وََأوْحَى فِي ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْ ِ‬
‫طَا ِئعِينَ * َف َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ‬
‫حفْظًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ }‬
‫ِب َمصَابِيحَ َو ِ‬

‫ينكر تعالى ويعجّب‪ ،‬من كفر الكافرين به‪ ،‬الذين جعلوا معه أندادا يشركونهم معه‪ ،‬ويبذلون لهم ما‬
‫يشاؤون من عباداتهم‪ ،‬ويسوونهم بالرب العظيم‪ ،‬الملك الكريم‪ ،‬الذي خلق الرض الكثيفة العظيمة‪،‬‬
‫في يومين‪ ،‬ثم دحاها في يومين‪ ،‬بأن جعل فيها رواسي من فوقها‪ ،‬ترسيها عن الزوال والتزلزل‬
‫وعدم الستقرار‪.‬‬

‫سوَاءً لِلسّائِلِينَ } عن ذلك‪ ،‬فل‬


‫فكمل خلقها‪ ،‬ودحاها‪ ،‬وأخرج أقواتها‪ ،‬وتوابع ذلك { فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫ينبئك مثل خبير‪ ،‬فهذا الخبر الصادق الذي ل زيادة فيه ول نقص‪.‬‬
‫سمَا ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ } قد ثار على‬
‫{ ُثمّ } بعد أن خلق الرض { اسْ َتوَى } أي‪ :‬قصد { ِإلَى } خلق { ال ّ‬
‫وجه الماء‪َ { ،‬فقَالَ َلهَا } ولما كان هذا التخصيص يوهم الختصاص‪ ،‬عطف عليه بقوله‪:‬‬
‫طوْعًا َأوْ كَرْهًا } أي‪ :‬انقادا لمري‪ ،‬طائعتين أو مكرهتين‪ ،‬فل بد من نفوذه‪.‬‬
‫{ وَلِلْأَ ْرضِ اِئْتِيَا َ‬
‫{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَا ِئعِينَ } ليس لنا إرادة تخالف إرادتك‪.‬‬

‫سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ } فَ َتمّ خلق السماوات والرض في ستة أيام‪ ،‬أولها يوم الحد‪،‬‬
‫{ َف َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ‬
‫وآخرها يوم الجمعة‪ ،‬مع أن قدرة اللّه ومشيئته صالحة لخلق الجميع في لحظة واحدة‪ ،‬ولكن مع‬
‫أنه قدير‪ ،‬فهو حكيم رفيق‪ ،‬فمن حكمته ورفقه‪ ،‬أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة‪.‬‬

‫واعلم أن ظاهر هذه الية‪ ،‬مع قوله تعالى في النازعات‪ ،‬لما ذكر خلق السماوات قال‪ { :‬وَالْأَ ْرضَ‬
‫َبعْدَ ذَِلكَ َدحَاهَا } يظهر منهما التعارض‪ ،‬مع أن كتاب اللّه‪ ،‬ل تعارض فيه ول اختلف‪.‬‬

‫والجواب عن ذلك‪ ،‬ما قاله كثير من السلف‪ ،‬أن خلق الرض وصورتها متقدم على خلق‬
‫السماوات كما هنا‪ ،‬ودحي الرض بأن { َأخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا َومَرْعَاهَا وَا ْلجِبَالَ أَرْسَاهَا } متأخر عن‬
‫خلق السماوات كما في سورة النازعات‪ ،‬ولهذا قال فيها‪ { :‬وَالْأَ ْرضَ َبعْدَ َذِلكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِ ْنهَا }‬
‫إلى آخره ولم يقل‪" :‬والرض بعد ذلك خلقها"‬

‫سمَاءٍ َأمْرَهَا } أي‪ :‬المر والتدبير اللئق بها‪ ،‬الذي اقتضته حكمة أحكم‬
‫وقوله‪ { :‬وََأوْحَى فِي ُكلّ َ‬
‫الحاكمين‪.‬‬

‫سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ } هي‪ :‬النجوم‪ ،‬يستنار‪ ،‬بها‪ ،‬ويهتدى‪ ،‬وتكون زينة وجمالً للسماء‬
‫{ وَزَيّنّا ال ّ‬
‫ظاهرًا‪ ،‬وجمالً لها‪ ،‬باطنًا‪ ،‬بجعلها رجومًا للشياطين‪ ،‬لئل يسترق السمع فيها‪ { .‬ذَِلكَ } المذكور‪،‬‬
‫من الرض وما فيها‪ ،‬والسماء وما فيها { َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ } الذي عزته‪ ،‬قهر بها الشياء ودبرها‪،‬‬
‫وخلق بها المخلوقات‪ { .‬ا ْلعَلِيمِ } الذي أحاط علمه بالمخلوقات‪ ،‬الغائب والشاهد‪.‬‬

‫فَتَ ْركُ المشركين الخلص لهذا الرب العظيم الواحد القهار‪ ،‬الذي انقادت المخلوقات لمره ونفذ‬
‫فيها قدره‪ ،‬من أعجب الشياء‪ ،‬واتخاذهم له أندادًا يسوونهم به‪ ،‬وهم ناقصون في أوصافهم‬
‫وأفعالهم‪ ،‬أعجب‪ ،‬وأعجب‪ ،‬ول دواء لهؤلء‪ ،‬إن استمر إعراضهم‪ ،‬إل العقوبات الدنيوية‬
‫والخروية‪ ،‬فلهذا خوفهم بقوله‪:‬‬

‫سلُ‬
‫عقَةِ عَادٍ وَ َثمُودَ * إِذْ جَاءَ ْتهُمُ الرّ ُ‬
‫عقَةً مِ ْثلَ صَا ِ‬
‫{ ‪ { } 14 - 13‬فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفقُلْ أَنْذَرْ ُت ُك ْم صَا ِ‬
‫مِنْ بَيْنِ أَيْدِي ِه ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ أَلّا َتعْ ُبدُوا إِلّا اللّهَ قَالُوا َلوْ شَاءَ رَبّنَا لَأَنْ َزلَ مَلَا ِئكَةً فَإِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ‬
‫كَافِرُونَ }‬

‫أي‪ :‬فإن أعرض هؤلء المكذبون بعد ما بين لهم من أوصاف القرآن الحميدة‪ ،‬ومن صفات الله‬
‫عقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ }‬
‫ل صَا ِ‬
‫العظيم { َف ُقلْ أَنْذَرْ ُتكُمْ صَاعِقَةً } أي‪ :‬عذابًا يستأصلكم ويجتاحكم‪ { ،‬مِ ْث َ‬
‫القبيلتين المعروفتين‪ ،‬حيث اجتاحهم العذاب‪ ،‬وحل عليهم‪ ،‬وبيل العقاب‪ ،‬وذلك بظلمهم وكفرهم‪.‬‬

‫سلُ مِنْ بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ } أي‪ :‬يتبع بعضهم بعضا متوالين‪ ،‬ودعوتهم‬
‫حيث { جَاءَ ْتهُمُ الرّ ُ‬
‫جميعا واحدة‪ { .‬أَنْ لَا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ } أي‪ :‬يأمرونهم بالخلص للّه‪ ،‬وينهونهم عن الشرك‪ ،‬فردوا‬
‫رسالتهم وكذبوهم‪ { ،‬قَالُوا َلوْ شَاءَ رَبّنَا لَأَنْ َزلَ مَلَا ِئكَةً } أي‪ :‬وأما أنتم فبشر مثلنا { فَإِنّا ِبمَا أُرْسِلْتُمْ‬
‫بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين‪ ،‬من المم وهي من أوهى الشّبَهِ‪ ،‬فإنه‬
‫ليس من شرط الرسال‪ ،‬أن يكون المرسل مََلكًا‪ ،‬وإنما شرط الرسالة‪ ،‬أن يأتي الرسول بما يدل‬
‫على صدقه‪ ،‬فَلْ َيقْدَحُوا‪ ،‬إن استطاعوا بصدقهم‪ ،‬بقادح عقلي أو شرعي‪ ،‬ولن يستطيعوا إلى ذلك‬
‫سبيل‪.‬‬

‫شدّ مِنّا ُق ّوةً َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّ‬


‫ق َوقَالُوا مَنْ أَ َ‬
‫{ ‪ { } 16 - 15‬فََأمّا عَادٌ فَاسْ َتكْبَرُوا فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَ ّ‬
‫حدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا فِي أَيّامٍ‬
‫اللّهَ الّذِي خََلقَهُمْ ُهوَ أَشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً َوكَانُوا بِآيَاتِنَا َيجْ َ‬
‫حسَاتٍ لِ ُنذِي َقهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ أَخْزَى وَ ُهمْ لَا يُ ْنصَرُونَ }‬
‫نَ ِ‬

‫هذا تفصيل لقصة هاتين المتين‪ ،‬عاد‪ ،‬وثمود‪ { .‬فََأمّا عَادٌ } فكانوا ‪-‬مع كفرهم باللّه‪ ،‬وجحدهم‬
‫بآيات اللّه‪ ،‬وكفرهم برسله‪ -‬مستكبرين في الرض‪ ،‬قاهرين لمن حولهم من العباد‪ ،‬ظالمين لهم‪،‬‬
‫قد أعجبتهم قوتهم‪َ { .‬وقَالُوا مَنْ أَشَدّ مِنّا ُق ّوةً } قال تعالى ردًا عليهم‪ ،‬بما يعرفه كل أحد‪َ { :‬أوَلَمْ‬
‫شدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً } فلول خلقه إياهم‪ ،‬لم يوجدوا فلو نظروا إلى هذه‬
‫يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََل َقهُمْ ُهوَ أَ َ‬
‫الحال نظرًا صحيحًا‪ ،‬لم يغتروا بقوتهم‪ ،‬فعاقبهم اللّه عقوبة‪ ،‬تناسب قوتهم‪ ،‬التي اغتروا بها‪.‬‬

‫{ فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا } أي‪ :‬ريحًا عظيمة‪ ،‬من قوتها وشدتها‪ ،‬لها صوت مزعج‪،‬‬
‫حسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى‬
‫ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ ُ‬
‫كالرعد القاصف‪ .‬فسخرها اللّه عليهم { سَبْعَ لَيَا ٍ‬
‫خلٍ خَاوِيَةٍ } { نحسات } فدمرتهم وأهلكتهم‪ ،‬فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم‪ .‬وقال‬
‫عجَازُ نَ ْ‬
‫كَأَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫هنا‪ { :‬لِ ُنذِي َقهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } الذي اختزوا به وافتضحوا بين الخليقة‪ { .‬وََلعَذَابُ‬
‫الْآخِ َرةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُ ْنصَرُونَ } أي‪ :‬ل يمنعون من عذاب اللّه‪ ،‬ول ينفعون أنفسهم‪.‬‬
‫عقَةُ ا ْل َعذَابِ ا ْلهُونِ‬
‫{ ‪ { } 18 - 17‬وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْتَحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْلهُدَى فََأخَذَ ْتهُ ْم صَا ِ‬
‫ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ }‬

‫وأما ثمود وهم القبيلة المعروفة الذين سكنوا الحجر وحواليه‪ ،‬الذين أرسل اللّه إليهم صالحًا عليه‬
‫السلم‪ ،‬يدعوهم إلى توحيد ربهم‪ ،‬وينهاهم عن الشرك وآتاهم اللّه الناقة‪ ،‬آية عظيمة‪ ،‬لها شرب‬
‫ولهم شرب يوم معلوم‪ ،‬يشربون لبنها يومًا ويشربون من الماء يومًا‪ ،‬وليسوا ينفقون عليها‪ ،‬بل‬
‫تأكل من أرض اللّه‪ ،‬ولهذا قال هنا‪ { :‬وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ } أي‪ :‬هداية بيان‪ ،‬وإنما نص عليهم‪،‬‬
‫وإن كان جميع المم المهلكة‪ ،‬قد قامت عليهم الحجة‪ ،‬وحصل لهم البيان‪ ،‬لن آية ثمود‪ ،‬آية‬
‫باهرة‪ ،‬قد رآها صغيرهم وكبيرهم‪ ،‬وذكرهم وأنثاهم‪ ،‬وكانت آية مبصرة‪ ،‬فلهذا خصهم بزيادة‬
‫البيان والهدى‪.‬‬

‫ولكنهم ‪-‬من ظلمهم وشرهم‪ -‬استحبوا العمى ‪-‬الذي هو الكفر والضلل‪ -‬على الهدى ‪-‬الذي هو‪:‬‬
‫العلم واليمان‪ { -‬فََأخَذَ ْتهُمْ صَاعِقَةُ ا ْلعَذَابِ ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } ل ظلمًا من اللّه لهم‪.‬‬

‫{ وَ َنجّيْنَا الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ } أي نجى اللّه صالحًا عليه السلم ومن اتبعه من المؤمنين‬
‫المتقين للشرك‪ ،‬والمعاصي‪.‬‬

‫شهِدَ‬
‫حشَرُ أَعْدَاءُ اللّهِ إِلَى النّارِ َفهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّى ِإذَا مَا جَاءُوهَا َ‬
‫{ ‪ { } 24 - 19‬وَ َيوْمَ يُ ْ‬
‫طقَنَا‬
‫شهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْ َ‬
‫س ْم ُعهُمْ وَأَ ْبصَارُهُ ْم وَجُلُو ُدهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * َوقَالُوا ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ َ‬
‫عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫شهَدَ عَلَ ْيكُمْ‬
‫جعُونَ * َومَا كُنْ ُتمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ َي ْ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ خََل َقكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫اللّهُ الّذِي أَ ْنطَقَ ُكلّ َ‬
‫س ْم ُعكُ ْم وَلَا أَ ْبصَا ُركُ ْم وَلَا جُلُو ُدكُ ْم وََلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنّ اللّهَ لَا َيعَْلمُ كَثِيرًا ِممّا َت ْعمَلُونَ * وَذَِلكُمْ ظَّنكُمُ الّذِي‬
‫َ‬
‫ظَنَنْ ُتمْ بِرَ ّبكُمْ أَ ْردَاكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ * فَإِنْ َيصْبِرُوا فَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُ ْم وَإِنْ يَسْ َتعْتِبُوا َفمَا ُهمْ‬
‫مِنَ ا ْل ُمعْتَبِينَ }‬

‫يخبر تعالى عن أعدائه‪ ،‬الذين بارزوه بالكفر به وبآياته‪ ،‬وتكذيب رسله ومعاداتهم ومحاربتهم‪،‬‬
‫وحالهم الشنيعة حين يحشرون‪ ،‬أي‪ :‬يجمعون‪ { .‬إِلَى النّارِ َفهُمْ يُوزَعُونَ } [أي]‪ :‬يرد أولهم على‬
‫آخرهم‪ ،‬ويتبع آخرهم أولهم‪ ،‬ويساقون إليها سوقا عنيفًا‪ ،‬ل يستطيعون امتناعًا‪ ،‬ول ينصرون‬
‫أنفسهم‪ ،‬ول هم ينصرون‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي‪ :‬حتى إذا وردوا على النار‪ ،‬وأرادوا النكار‪ ،‬أو أنكروا ما عملوه من‬
‫س ْم ُعهُ ْم وَأَ ْبصَارُهُ ْم َوجُلُودُهُمْ } عموم بعد خصوص‪ِ { [ .‬بمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ‬
‫شهِدَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫المعاصي‪َ { ،‬‬
‫} ] أي‪ :‬شهد عليهم كل عضو من أعضائهم‪ ،‬فكل عضو يقول‪ :‬أنا فعلت كذا وكذا‪ ،‬يوم كذا وكذا‪.‬‬
‫وخص هذه العضاء الثلثة‪ ،‬لن أكثر الذنوب‪ ،‬إنما تقع بها‪ ،‬أو بسببها‪.‬‬

‫فإذا شهدت عليهم عاتبوها‪َ { ،‬وقَالُوا لِجُلُودِ ِهمْ } هذا دليل عل أن الشهادة تقع من كل عضو كما‬
‫شيْءٍ } فليس في‬
‫طقَ ُكلّ َ‬
‫طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنْ َ‬
‫ش ِهدْتُمْ عَلَيْنَا } ونحن ندافع عنكن؟ { قَالُوا أَ ْن َ‬
‫ذكرنا‪ِ { :‬لمَ َ‬
‫إمكاننا‪ ،‬المتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي ل يستعصي عن مشيئته أحد‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ خََل َقكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } فكما خلقكم بذواتكم‪ ،‬وأجسامكم‪ ،‬خلق أيضا صفاتكم‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬النطاق‪.‬‬
‫جعُونَ } في الخرة‪ ،‬فيجزيكم بما عملتم‪ ،‬ويحتمل أن المراد بذلك‪ ،‬الستدلل على البعث‬
‫{ وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫بالخلق الول‪ ،‬كما هو طريقة القرآن‪.‬‬

‫س ْم ُعكُمْ وَلَا أَ ْبصَا ُركُ ْم وَلَا جُلُو ُد ُكمْ } أي‪ :‬وما كنتم تختفون عن‬
‫شهَدَ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫{ َومَا كُنْتُمْ َتسْتَتِرُونَ أَنْ يَ ْ‬
‫شهادة أعضائكم عليكم‪ ،‬ول تحاذرون من ذلك‪ { .‬وََلكِنْ ظَنَنْتُمْ } بإقدامكم على المعاصي { أَنّ اللّهَ‬
‫لَا َيعْلَمُ كَثِيرًا ِممّا َت ْعمَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر‪ ،‬وهذا الظن‪ ،‬صار سبب هلكهم وشقائهم‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَ َذِلكُمْ ظَّن ُكمُ الّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَ ّبكُمْ } الظن السيئ‪ ،‬حيث ظننتم به‪ ،‬ما ل يليق بجلله‪.‬‬
‫{ أَ ْردَاكُمْ } أي‪ :‬أهلككم { فََأصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } لنفسهم وأهليهم وأديانهم بسبب العمال التي‬
‫أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم‪ ،‬فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء‪ ،‬ووجب عليكم الخلود الدائم‪ ،‬في‬
‫العذاب‪ ،‬الذي ل يفتر عنهم ساعة‪:‬‬

‫{ فَإِنْ َيصْبِرُوا فَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُمْ } فل جََل َد عليها‪ ،‬ول صبر‪ ،‬وكل حالة قُدّر إمكان الصبر عليها‪،‬‬
‫فالنار ل يمكن الصبر عليها‪ ،‬وكيف الصبر على نار‪ ،‬قد اشتد حرها‪ ،‬وزادت على نار الدنيا‪،‬‬
‫بسبعين ضعفًا‪ ،‬وعظم غليان حميمها‪ ،‬وزاد نتن صديدها‪ ،‬وتضاعف برد زمهريرها وعظمت‬
‫سلسلها وأغللها‪ ،‬وكبرت مقامعها‪ ،‬وغلظ خُزّانها‪ ،‬وزال ما في قلوبهم من رحمتهم‪ ،‬وختام ذلك‬
‫خسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ }‬
‫سخط الجبار‪ ،‬وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثون‪ { :‬ا ْ‬

‫{ وَإِنْ َيسْ َتعْتِبُوا } أي‪ :‬يطلبوا أن يزال عنهم العتب‪ ،‬ويرجعوا إلى الدنيا‪ ،‬ليستأنفوا العمل‪َ { .‬فمَا هُمْ‬
‫مِنَ ا ْل ُمعْتَبِينَ } لنه ذهب وقته‪ ،‬وعمروا‪ ،‬ما يعمر فيه من تذكر وجاءهم النذير وانقطعت حجتهم‪،‬‬
‫مع أن استعتابهم‪ ،‬كذب منهم { وََلوْ ُردّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‬

‫{ ‪َ { } 25‬وقَ ّيضْنَا َلهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيّنُوا َلهُمْ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم َوحَقّ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلُ فِي ُأمَمٍ قَدْ‬
‫ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ }‬
‫خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ الْجِ ّ‬
‫أي‪ :‬وقضينا لهؤلء الظالمين الجاحدين للحق { قُرَنَاءَ } من الشياطين‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَنّا‬
‫أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّ ُهمْ أَزّا } أي تزعجهم إلى المعاصي وتحثهم عليها‪ ،‬بسبب ما‬
‫زينوا { َل ُهمْ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ } فالدنيا زخرفوها بأعينهم‪ ،‬ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها‬
‫المحرمة حتى افتتنوا‪ ،‬فأقدموا على معاصي اللّه‪ ،‬وسلكوا ما شاءوا من محاربة اللّه ورسله‬
‫والخرة َبعّدُوها عليهم وأنسوهم ذكرها‪ ،‬وربما أوقعوا عليهم الشّبه‪ ،‬بعدم وقوعها‪ ،‬فترحّل خوفها‬
‫من قلوبهم‪ ،‬فقادوهم إلى الكفر‪ ،‬والبدع‪ ،‬والمعاصي‪.‬‬

‫وهذا التسليط والتقييض من اللّه للمكذبين الشياطين‪ ،‬بسبب إعراضهم عن ذكر اللّه وآياته‪،‬‬
‫حمَنِ ُنقَ ّيضْ لَهُ شَيْطَانًا َف ُهوَ لَهُ قَرِينٌ‬
‫وجحودهم الحق كما قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫ل وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ }‬
‫وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِي ِ‬

‫{ َوحَقّ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلُ } أي‪ :‬وجب عليهم‪ ،‬ونزل القضاء والقدر بعذابهم { فِي } جملة { ُأ َممٍ قَدْ خََلتْ‬
‫ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } لديانهم وآخرتهم‪ ،‬ومن خسر‪ ،‬فل بد أن يذل‬
‫مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ‬
‫ويشقى ويعذب‪.‬‬

‫ن وَا ْل َغوْا فِيهِ َلعَّل ُكمْ َتغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنّ‬


‫س َمعُوا ِلهَذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫{ ‪َ { } 29 - 26‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَا تَ ْ‬
‫سوَأَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ * ذَِلكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ النّارُ َلهُمْ فِيهَا‬
‫الّذِينَ َكفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫جحَدُونَ * َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا رَبّنَا أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّانَا مِنَ الْجِنّ‬
‫دَارُ الْخُ ْلدِ جَزَاءً ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْ‬
‫سفَلِينَ }‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ الْأَ ْ‬
‫جعَ ْل ُهمَا َت ْ‬
‫وَالْإِنْسِ نَ ْ‬

‫س َمعُوا‬
‫يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن‪ ،‬وتواصيهم بذلك‪ ،‬فقال‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَا تَ ْ‬
‫ِلهَذَا ا ْلقُرْآنِ } أي‪ :‬أعرضوا عنه بأسماعكم‪ ،‬وإياكم أن تلتفتوا‪ ،‬أو تصغوا إليه ول إلى من جاء به‪،‬‬
‫فإن اتفق أنكم سمعتموه‪ ،‬أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه‪ ،‬فـ { ا ْل َغوْا فِيهِ } أي‪ :‬تكلموا بالكلم الذي‬
‫ل فائدة فيه‪ ،‬بل فيه المضرة‪ ،‬ول تمكنوا ‪-‬مع قدرتكم‪ -‬أحدًا يملك عليكم الكلم به‪ ،‬وتلوة ألفاظه‬
‫ومعانيه‪ ،‬هذا لسان حالهم‪ ،‬ولسان مقالهم‪ ،‬في العراض عن هذا القرآن‪َ { ،‬لعَّلكُمْ } إن فعلتم ذلك {‬
‫َتغْلِبُونَ } ]وهذه[ شهادة من العداء‪ ،‬وأوضح الحق‪ ،‬ما شهدت به العداء‪ ،‬فإنهم لم يحكموا‬
‫بغلبتهم لمن جاء بالحق إل في حال العراض عنه والتواصي بذلك‪ ،‬ومفهوم كلمهم‪ ،‬أنهم إن لم‬
‫يلغوا فيه‪ ،‬بل استمعوا إليه‪ ،‬وألقوا أذهانهم‪ ،‬أنهم ل يغلبون‪ ،‬فإن الحق‪ ،‬غالب غير مغلوب‪ ،‬يعرف‬
‫هذا‪ ،‬أصحاب الحق وأعداؤه‪.‬‬

‫ولما كان هذا ظلمًا منهم وعنادًا‪ ،‬لم يبق فيهم مطمع للهداية‪ ،‬فلم يبق إل عذابهم ونكالهم‪ ،‬ولهذا‬
‫سوَأَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ } وهو الكفر‬
‫قال‪ { :‬فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ َكفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَ ّن ُهمْ أَ ْ‬
‫والمعاصي‪ ،‬فإنها أسوأ ما كانوا يعملون‪ ،‬لكونهم يعملون المعاصي وغيرها‪ ،‬فالجزاء بالعقوبة‪ ،‬إنما‬
‫هو على عمل الشرك { وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ أَحَدًا }‬

‫{ ذَِلكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ } الذين حاربوه‪ ،‬وحاربوا أولياءه‪ ،‬بالكفر والتكذيب‪ ،‬والمجادلة والمجالدة‪{ .‬‬
‫النّارُ َلهُمْ فِيهَا دَارُ ا ْلخُلْدِ } أي‪ :‬الخلود الدائم‪ ،‬الذي ل يفتر عنهم العذاب ساعة‪ ،‬ول هم ينصرون‪،‬‬
‫حدُونَ } فإنها آيات واضحة‪ ،‬وأدلة قاطعة مفيدة لليقين‪ ،‬فأعظم‬
‫وذلك { جَزَاءً ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا َيجْ َ‬
‫الظلم وأكبر العناد‪ ،‬جحدها‪ ،‬والكفر بها‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا } أي‪ :‬التباع منهم‪ ،‬بدليل ما بعده‪ ،‬على وجه الحنق‪ ،‬على من أضلهم‪ { :‬رَبّنَا‬
‫أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّانَا مِنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ } أي‪ :‬الصنفين اللذين‪ ،‬قادانا إلى الضلل والعذاب‪ ،‬من‬
‫شياطين الجن‪ ،‬وشياطين النس‪ ،‬الدعاة إلى جهنم‪.‬‬

‫سفَلِينَ } أي‪ :‬الذلين المهانين كما أضلونا‪ ،‬وفتنونا‪ ،‬وصاروا‬


‫حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ الَْأ ْ‬
‫جعَ ْل ُهمَا تَ ْ‬
‫{ َن ْ‬
‫سببًا لنزولنا‪ .‬ففي هذا‪ ،‬بيان حنق بعضهم على بعض‪ ،‬وتبرّي بعضهم من بعض‪.‬‬

‫{ ‪ { } 32 - 30‬إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَلَا ِئ َكةُ أَلّا َتخَافُوا وَلَا َتحْزَنُوا‬
‫وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * َنحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا مَا‬
‫غفُورٍ َرحِيمٍ }‬
‫سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُ ُزلًا مِنْ َ‬
‫تَشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ‬

‫يخبر تعالى عن أوليائه‪ ،‬وفي ضمن ذلك‪ ،‬تنشيطهم‪ ،‬والحث على القتداء بهم‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ‬
‫قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } أي‪ :‬اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية ال تعالى‪ ،‬واستسلموا لمره‪ ،‬ثم‬
‫استقاموا على الصراط المستقيم‪ ،‬علمًا وعملً‪ ،‬فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الخرة‪.‬‬

‫{ تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ } الكرام‪ ،‬أي‪ :‬يتكرر نزولهم عليهم‪ ،‬مبشرين لهم عند الحتضار‪ { .‬أَلّا‬
‫تَخَافُوا } على ما يستقبل من أمركم‪ { ،‬وَلَا تَحْزَنُوا } على ما مضى‪ ،‬فنفوا عنهم المكروه الماضي‬
‫والمستقبل‪ { ،‬وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْ ُتمْ تُوعَدُونَ } فإنها قد وجبت لكم وثبتت‪ ،‬وكان وعد ال‬
‫مفعولً‪ ،‬ويقولون لهم أيضا ‪ -‬مثبتين لهم‪ ،‬ومبشرين‪َ { :‬نحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ‬
‫} يحثونهم في الدنيا على الخير‪ ،‬ويزينونه لهم‪ ،‬ويرهبونهم عن الشر‪ ،‬ويقبحونه في قلوبهم‪،‬‬
‫ويدعون ال لهم‪ ،‬ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف‪ ،‬وخصوصًا عند الموت وشدته‪ ،‬والقبر‬
‫وظلمته‪ ،‬وفي القيامة وأهوالها‪ ،‬وعلى الصراط‪ ،‬وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم‪ ،‬ويدخلون عليهم‬
‫عقْبَى الدّارِ } ويقولون لهم أيضا‪ { :‬وََلكُمْ فِيهَا } أي‪ :‬في‬
‫من كل باب { سَلَامٌ عَلَ ْيكُمْ ِبمَا صَبَرْ ُتمْ فَ ِنعْمَ ُ‬
‫سكُمْ } قد أعد وهيئ‪ { .‬وََلكُمْ فِيهَا مَا َتدّعُونَ } أي‪ :‬تطلبون من كل ما تتعلق‬
‫الجنة { مَا َتشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ‬
‫به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر‬
‫على قلب بشر‪.‬‬

‫غفُورٍ } غفر‬
‫غفُورٍ رَحِيمٍ } أي‪ :‬هذا الثواب الجزيل‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬نُ ُزلٌ وضيافة { مِنْ َ‬
‫{ نُزُلًا مِنْ َ‬
‫لكم السيئات‪ { ،‬رَحِيمٌ } حيث وفقكم لفعل الحسنات‪ ،‬ثم قبلها منكم‪ .‬فبمغفرته أزال عنكم المحذور‪،‬‬
‫وبرحمته‪ ،‬أنالكم المطلوب‪.‬‬

‫سِلمِينَ }‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫{ ‪َ { } 33‬ومَنْ َأحْسَنُ َقوْلًا ِممّنْ دَعَا ِإلَى اللّ ِه وَ َ‬

‫هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي‪ :‬ل أحد أحسن قول‪ .‬أي‪ :‬كلمًا وطريقة‪ ،‬وحالة { ِممّنْ دَعَا‬
‫إِلَى اللّهِ } بتعليم الجاهلين‪ ،‬ووعظ الغافلين والمعرضين‪ ،‬ومجادلة المبطلين‪ ،‬بالمر بعبادة ال‪،‬‬
‫بجميع أنواعها‪،‬والحث عليها‪ ،‬وتحسينها مهما أمكن‪ ،‬والزجر عما نهى ال عنه‪ ،‬وتقبيحه بكل‬
‫طريق يوجب تركه‪ ،‬خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين السلم وتحسينه‪ ،‬ومجادلة أعدائه‬
‫بالتي هي أحسن‪ ،‬والنهي عما يضاده من الكفر والشرك‪ ،‬والمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫ومن الدعوة إلى ال‪ ،‬تحبيبه إلى عباده‪ ،‬بذكر تفاصيل نعمه‪ ،‬وسعة جوده‪ ،‬وكمال رحمته‪ ،‬وذكر‬
‫أوصاف كماله‪ ،‬ونعوت جلله‪.‬‬

‫ومن الدعوة إلى ال‪ ،‬الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬والحث على‬
‫ذلك‪ ،‬بكل طريق موصل إليه‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬الحث على مكارم الخلق‪ ،‬والحسان إلى عموم الخلق‪،‬‬
‫ومقابلة المسيء بالحسان‪ ،‬والمر بصلة الرحام‪ ،‬وبر الوالدين‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ ،‬الوعظ لعموم الناس‪ ،‬في أوقات المواسم‪ ،‬والعوارض‪ ،‬والمصائب‪ ،‬بما يناسب ذلك‬
‫الحال‪ ،‬إلى غير ذلك‪ ،‬مما ل تنحصر أفراده‪ ،‬مما تشمله الدعوة إلى الخير كله‪ ،‬والترهيب من‬
‫جميع الشر‪.‬‬

‫ل صَالِحًا } أي‪ :‬مع دعوته الخلق إلى ال‪ ،‬بادر هو بنفسه‪ ،‬إلى امتثال أمر‬
‫ع ِم َ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫ال‪ ،‬بالعمل الصالح‪ ،‬الذي يُ ْرضِي ربه‪َ { .‬وقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } أي‪ :‬المنقادين لمره‪ ،‬السالكين‬
‫في طريقه‪ ،‬وهذه المرتبة‪ ،‬تمامها للصديقين‪ ،‬الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم‪،‬‬
‫وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل‪ ،‬كما أن من أشر الناس‪ ،‬قولً‪ ،‬من كان من دعاة الضالين‬
‫السالكين لسبله‪.‬‬
‫وبين هاتين المرتبتين المتباينتين‪ ،‬اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين‪ ،‬ونزلت الخرى‪ ،‬إلى‬
‫عمِلُوا َومَا‬
‫أسفل سافلين‪ ،‬مراتب‪ ،‬ل يعلمها إل ال‪ ،‬وكلها معمورة بالخلق { وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا َ‬
‫عمّا َي ْعمَلُونَ }‬
‫رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ‬

‫عدَا َوةٌ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫حسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫حسَنَ ُة وَلَا السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 35 - 34‬وَلَا تَسْ َتوِي الْ َ‬
‫عظِيمٍ }‬
‫ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ َ‬
‫حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِلّا الّذِي َ‬
‫كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬

‫حسَنَ ُة وَلَا السّيّئَةُ } أي‪ :‬ل يستوي فعل الحسنات والطاعات لجل رضا‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَلَا تَسْ َتوِي الْ َ‬
‫ال تعالى‪ ،‬ول فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ول ترضيه‪ ،‬ول يستوي الحسان إلى الخلق‪،‬‬
‫حسَانُ }‬
‫ول الساءة إليهم‪ ،‬ل في ذاتها‪ ،‬ول في وصفها‪ ،‬ول في جزائها { َهلْ جَزَاءُ الِْإحْسَانِ إِلّا الْإِ ْ‬

‫ثم أمر بإحسان خاص‪ ،‬له موقع كبير‪ ،‬وهو الحسان إلى من أساء إليك‪ ،‬فقال‪ { :‬ا ْد َفعْ بِالّتِي ِهيَ‬
‫حسَنُ } أي‪ :‬فإذا أساء إليك مسيء من الخلق‪ ،‬خصوصًا من له حق كبير عليك‪ ،‬كالقارب‪،‬‬
‫أَ ْ‬
‫والصحاب‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬إساءة بالقول أو بالفعل‪ ،‬فقابله بالحسان إليه‪ ،‬فإن قطعك فَصلْهُ‪ ،‬وإن‬
‫ظلمك‪ ،‬فاعف عنه‪ ،‬وإن تكلم فيك‪ ،‬غائبًا أو حاضرًا‪ ،‬فل تقابله‪ ،‬بل اعف عنه‪ ،‬وعامله بالقول‬
‫اللين‪ .‬وإن هجرك‪ ،‬وترك خطابك‪ ،‬فَط ّيبْ له الكلم‪ ،‬وابذل له السلم‪ ،‬فإذا قابلت الساءة‬
‫بالحسان‪ ،‬حصل فائدة عظيمة‪.‬‬

‫حمِيمٌ } أي‪ :‬كأنه قريب شفيق‪.‬‬


‫{ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬

‫ن صَبَرُوا } نفوسهم على ما تكره‪،‬‬


‫{ َومَا يَُلقّاهَا } أي‪ :‬وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة { إِلّا الّذِي َ‬
‫وأجبروها على ما يحبه ال‪ ،‬فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه‪،‬‬
‫فكيف بالحسان؟"‪.‬‬

‫فإذا صبر النسان نفسه‪ ،‬وامتثل أمر ربه‪ ،‬وعرف جزيل الثواب‪ ،‬وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس‬
‫عمله‪ ،‬ل يفيده شيئًا‪ ،‬ول يزيد العداوة إل شدة‪ ،‬وأن إحسانه إليه‪ ،‬ليس بواضع قدره‪ ،‬بل من‬
‫تواضع للّه رفعه‪ ،‬هان عليه المر‪ ،‬وفعل ذلك‪ ،‬متلذذًا مستحليًا له‪.‬‬

‫حظّ عَظِيمٍ } لكونها من خصال خواص الخلق‪ ،‬التي ينال بها العبد الرفعة في‬
‫{ َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو َ‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬التي هي من أكبر خصال مكارم الخلق‪.‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * َومِنْ آيَا ِتهِ‬


‫{ ‪ { } 39 - 36‬وَِإمّا يَنْزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫سجُدُوا لِلّهِ الّذِي خََل َقهُنّ إِنْ كُنْ ُتمْ إِيّاهُ‬
‫س وَلَا لِ ْل َقمَ ِر وَا ْ‬
‫شمْ ِ‬
‫جدُوا لِل ّ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ لَا تَسْ ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫ل وَال ّنهَارُ وَال ّ‬
‫اللّ ْي ُ‬
‫َتعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْ َتكْبَرُوا فَالّذِينَ عِنْدَ رَ ّبكَ ُيسَبّحُونَ لَهُ بِاللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ وَ ُهمْ لَا َيسَْأمُونَ * َومِنْ آيَا ِتهِ‬
‫ت وَرَ َبتْ إِنّ الّذِي َأحْيَاهَا َلمُحْيِي ا ْل َموْتَى إِنّهُ‬
‫شعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّز ْ‬
‫أَ ّنكَ تَرَى الْأَ ْرضَ خَا ِ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫عَلَى ُكلّ َ‬

‫لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من النس‪ ،‬وهو مقابلة إساءته بالحسان‪ ،‬ذكر ما يدفع به العدو‬
‫الجني‪ ،‬وهو الستعاذة بال‪ ،‬والحتماء من شره فقال‪:‬‬

‫{ وَِإمّا يَنْزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ } أي‪ :‬أي وقت من الوقات‪ ،‬أحسست بشيء من نزغات‬
‫الشيطان‪ ،‬أي‪ :‬من وساوسه وتزيينه للشر‪ ،‬وتكسيله عن الخير‪ ،‬وإصابة ببعض الذنوب‪ ،‬وإطاعة‬
‫له ببعض ما يأمر به { فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ } أي‪ :‬اسأله‪ ،‬مفتقرًا إليه‪ ،‬أن يعيذك ويعصمك منه‪ { ،‬إِنّهُ ُهوَ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } فإنه يسمع قولك وتضرعك‪ ،‬ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫ثم ذكر تعالى أن { مِنْ آيَاتِهِ } الدالة على كمال قدرته‪ ،‬ونفوذ مشيئته‪ ،‬وسعة سلطانه‪ ،‬ورحمته‬
‫بعباده‪ ،‬وأنه ال وحده ل شريك له { اللّ ْيلُ وَال ّنهَارُ } هذا بمنفعة ضيائه‪ ،‬وتصرف العباد فيه‪ ،‬وهذا‬
‫س وَا ْلقَمَرُ } اللذان ل تستقيم معايش العباد‪ ،‬ول أبدانهم‪،‬‬
‫شمْ ُ‬
‫بمنفعه ظلمه‪ ،‬وسكون الخلق فيه‪ { .‬وَال ّ‬
‫ول أبدان حيواناتهم‪ ،‬إل بهما‪ ،‬وبهما من المصالح ما ل يحصى عدده‪.‬‬

‫سجُدُوا لِلّهِ الذي خلقهن }‬


‫س وَلَا ِل ْلقَمَرِ } فإنهما مدبران مسخران مخلوقان‪ { .‬وَا ْ‬
‫شمْ ِ‬
‫جدُوا لِل ّ‬
‫{ لَا تَسْ ُ‬
‫أي‪ :‬اعبدوه وحده‪ ،‬لنه الخالق العظيم‪ ،‬ودعوا عبادة ما سواه‪ ،‬من المخلوقات‪ ،‬وإن كبر‪ ،‬جرمه‬
‫وكثرت مصالحه‪ ،‬فإن ذلك ليس منه‪ ،‬وإنما هو من خالقه‪ ،‬تبارك وتعالى‪ { .‬إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ }‬
‫فخصوه بالعبادة وإخلص الدين له‪.‬‬

‫{ فَإِنِ اسْ َتكْبَرُوا } عن عبادة ال تعالى‪ ،‬ولم ينقادوا لها‪ ،‬فإنهم لن يضروا ال شيئًا‪ ،‬وال غني‬
‫عنهم‪ ،‬وله عباد مكرمون‪ ،‬ل يعصون ال ما أمرهم‪ ،‬ويفعلون ما يؤمرون‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَالّذِينَ‬
‫ل وَال ّنهَا ِر وَهُمْ لَا يَسَْأمُونَ } أي‪ :‬ل يملون‬
‫عِنْدَ رَ ّبكَ } يعني‪ :‬الملئكة المقربين { يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّ ْي ِ‬
‫من عبادته‪ ،‬لقوتهم‪ ،‬وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك‪.‬‬

‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ } الدالة على كمال قدرته‪ ،‬وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية‪ { ،‬أَ ّنكَ تَرَى الْأَ ْرضَ‬
‫شعَةً } أي‪ :‬ل نبات فيها { فَِإذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ } أي‪ :‬المطر { اهْتَ ّزتْ } أي‪ :‬تحركت بالنبات‬
‫خَا ِ‬
‫{ وَرَ َبتْ } ثم‪ :‬أنبتت من كل زوج بهيج‪ ،‬فيحيي به العباد والبلد‪.‬‬
‫{ إِنّ الّذِي َأحْيَاهَا } بعد موتها وهمودها‪َ { ،‬ل ُمحْيِي ا ْل َموْتَى } من قبورهم إلى يوم بعثهم‪ ،‬ونشورهم‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الرض بعد موتها‪ ،‬ل تعجز عن إحياء‬
‫{ إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫الموتى‪.‬‬

‫خفَوْنَ عَلَيْنَا َأ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي النّارِ خَيْرٌ َأمْ مَنْ يَأْتِي‬
‫حدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا َي ْ‬
‫{ ‪ { } 40-42‬إِنّ الّذِينَ يُلْ ِ‬
‫عمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ َلمّا جَاءَ ُه ْم وَإِنّهُ‬
‫آمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ا ْ‬
‫حمِيدٍ }‬
‫حكِيمٍ َ‬
‫طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَلَا مِنْ خَ ْلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ َ‬
‫َلكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَا ِ‬

‫اللحاد في آيات ال‪ :‬الميل بها عن الصواب‪ ،‬بأي وجه كان‪ :‬إما بإنكارها وجحودها‪ ،‬وتكذيب من‬
‫جاء بها‪ ،‬وإما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي‪ ،‬وإثبات معان لها‪ ،‬ما أرادها ال منها‪.‬‬

‫فتوعّد تعالى من ألحد فيها بأنه ل يخفى عليه‪ ،‬بل هو مطلع على ظاهره وباطنه‪ ،‬وسيجازيه على‬
‫إلحاده بما كان يعمل‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي النّارِ } مثل الملحد بآيات ال { خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي‬
‫آمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } من عذاب ال مستحقًا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير‪.‬‬

‫عمَلُوا مَا شِئْتُمْ‬


‫لما تبين الحق من الباطل‪ ،‬والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال‪ { :‬ا ْ‬
‫} إن شئتم‪ ،‬فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته‪ ،‬وإن شئتم‪ ،‬فاسلكوا طريق الغيّ‬
‫المسخطة لربكم‪ ،‬الموصلة إلى دار الشقاء‪.‬‬

‫{ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬و ُقلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ‬
‫ن َومَنْ شَاءَ فَلْ َيكْفُرْ }‬
‫َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِ ْ‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ } أي‪ :‬يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع‬
‫مصالحهم الدينية والدنيوية والخروية‪ ،‬المُعلي لقدر من اتبعه‪َ { ،‬لمّا جَا َءهُمْ } نعمة من ربهم على‬
‫يد أفضل الخلق وأكملهم‪ { .‬و } الحال { إِنّهُ َلكِتَابٌ } جامع لوصاف الكمال { عَزِيزٌ } أي‪ :‬منيع‬
‫طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَلَا مِنْ خَ ْلفِهِ } أي‪:‬‬
‫من كل من أراده بتحريف أو سوء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لَا يَأْتِيهِ الْبَا ِ‬
‫ل يقربه شيطان من شياطين النس والجن‪ ،‬ل بسرقة‪ ،‬ول بإدخال ما ليس منه به‪ ،‬ول بزيادة ول‬
‫نقص‪ ،‬فهو محفوظ في تنزيله‪ ،‬محفوظة ألفاظه ومعانيه‪ ،‬قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }‬
‫حمِيدٌ } على ما له‬
‫حكِيمٍ } في خلقه وأمره‪ ،‬يضع كل شيء موضعه‪ ،‬وينزله منازله‪َ { .‬‬
‫{ تَنْزِيلٌ مِنْ َ‬
‫من صفات الكمال‪ ،‬ونعوت الجلل‪ ،‬وعلى ما له من العدل والفضال‪ ،‬فلهذا كان كتابه‪ ،‬مشتملً‬
‫على تمام الحكمة‪ ،‬وعلى تحصيل المصالح والمنافع‪ ،‬ودفع المفاسد والمضار‪ ،‬التي يحمد عليها‪.‬‬

‫عقَابٍ أَلِيمٍ }‬
‫سلِ مِنْ قَبِْلكَ إِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ وَذُو ِ‬
‫{ ‪ { } 43‬مَا ُيقَالُ َلكَ إِلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرّ ُ‬

‫سلِ‬
‫أي‪ { :‬مَا ُيقَالُ َلكَ } أيها الرسول من القوال الصادرة‪ ،‬ممن كذبك وعاندك { ِإلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرّ ُ‬
‫مِنْ قَبِْلكَ } أي‪ :‬من جنسها‪ ،‬بل ربما إنهم تكلموا بكلم واحد‪ ،‬كتعجب جميع المم المكذبة للرسل‪،‬‬
‫من دعوتهم إلى الخلص للّه وعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه‪،‬‬
‫وقولهم‪ { :‬مَا أَنْتُمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا }‬

‫واقتراحهم على رسلهم اليات‪ ،‬التي ل يلزمهم التيان بها‪ ،‬ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب‪ ،‬لما‬
‫تشابهت قلوبهم في الكفر‪ ،‬تشابهت أقوالهم‪ ،‬وصبر الرسل عليهم السلم على أذاهم وتكذيبهم‪،‬‬
‫فاصبر كما صبر من قبلك‪.‬‬

‫ي فقال‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ‬


‫ثم دعاهم إلى التوبة والتيان بأسباب المغفرة‪ ،‬وحذرهم من الستمرار على الغ ّ‬
‫عقَابٍ أَلِيمٍ } لمن‪ :‬أصر‬
‫لَذُو َم ْغفِ َرةٍ } أي‪ :‬عظيمة‪ ،‬يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب { وَذُو ِ‬
‫واستكبر‪.‬‬

‫ي وَعَرَ ِبيّ ُقلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا‬


‫ج ِم ّ‬
‫جمِيّا َلقَالُوا َلوْلَا ُفصَّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْ َ‬
‫عَ‬‫جعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَ ْ‬
‫{ ‪ { } 44‬وََلوْ َ‬
‫عمًى أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ }‬
‫شفَا ٌء وَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫هُدًى وَ ِ‬

‫يخبر تعالى عن فضله وكرمه‪ ،‬حيث أنزل كتابا عربيًا‪ ،‬على الرسول العربي‪ ،‬بلسان قومه‪ ،‬ليبين‬
‫لهم‪ ،‬وهذا مما يوجب لهم زيادة الغتناء به‪ ،‬والتلقي له والتسليم‪ ،‬وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا‪ ،‬بلغة‬
‫غير العرب‪ ،‬لعترض‪ ،‬المكذبون وقالوا‪َ { :‬لوْلَا ُفصَّلتْ آيَاُتهُ } أي‪ :‬هل بينت آياته‪ ،‬ووضحت‬
‫ي وَعَرَ ِبيّ } أي‪ :‬كيف يكون محمد عربيًا‪ ،‬والكتاب أعجمي؟ هذا ل يكون فنفى‬
‫جمِ ّ‬
‫عَ‬‫وفسرت‪ { .‬أَأَ ْ‬
‫ال تعالى كل أمر‪ ،‬يكون فيه شبهة لهل الباطل‪ ،‬عن كتابه‪ ،‬ووصفه بكل وصف‪ ،‬يوجب لهم‬
‫النقياد‪ ،‬ولكن المؤمنون الموفقون‪ ،‬انتفعوا به‪ ،‬وارتفعوا‪ ،‬وغيرهم بالعكس من أحوالهم‪.‬‬

‫شفَاءٌ } أي‪ :‬يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم‪،‬‬


‫ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُوا ُهدًى وَ ِ‬
‫ويعلمهم من العلوم النافعة‪ ،‬ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من السقام البدنية‪ ،‬والسقام‬
‫القلبية‪ ،‬لنه يزجر عن مساوئ الخلق وأقبح العمال‪ ،‬ويحث على التوبة النصوح‪ ،‬التي تغسل‬
‫الذنوب وتشفي القلب‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرٌ } أي‪ :‬صمم عن استماعه وإعراض‪ { ،‬وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ‬
‫عمًى } أي‪ :‬ل يبصرون به رشدًا‪ ،‬ول يهتدون به‪ ،‬ول يزيدهم إل ضللً فإنهم إذا ردوا الحق‪،‬‬
‫َ‬
‫ازدادوا عمى إلى عماهم‪ ،‬وغيّا إلى غيّهم‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } أي‪ :‬ينادون إلى اليمان‪ ،‬ويدعون إليه‪ ،‬فل يستجيبون‪ ،‬بمنزلة‬
‫الذي ينادي‪ ،‬وهو في مكان بعيد‪ ،‬ل يسمع داعيًا ول يجيب مناديًا‪ .‬والمقصود‪ :‬أن الذين ل يؤمنون‬
‫بالقرآن‪ ،‬ل ينتفعون بهداه‪ ،‬ول يبصرون بنوره‪ ،‬ول يستفيدون منه خيرًا‪ ،‬لنهم سدوا على أنفسهم‬
‫أبواب الهدى‪ ،‬بإعراضهم وكفرهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 45-46‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِي ِه وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِ ّنهُمْ‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }‬
‫شكّ مِ ْنهُ مُرِيبٍ * مَنْ َ‬
‫َلفِي َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } كما آتيناك الكتاب‪ ،‬فصنع به الناس ما صنعوا معك‪،‬‬
‫اختلفوا فيه‪ :‬فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع‪ ،‬ومنهم من كذبه ولم ينتفع به‪ ،‬وإن اللّه تعالى‪ ،‬لول‬
‫ضيَ بَيْ َن ُهمْ }‬
‫حلمه وكلمته السابقة‪ ،‬بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ل يتقدم عليه ول يتأخر { َل ُق ِ‬
‫بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين‪ ،‬بإهلك الكافرين في الحال‪ ،‬لن سبب الهلك قد وجب‬
‫شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي‪ :‬قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم‪ ،‬فلذلك كذبوه‬
‫وحق‪ { .‬وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ‬
‫وجحدوه‪.‬‬

‫سهِ } نفعه وثوابه في الدنيا‬


‫ل صَالِحًا } وهو العمل الذي أمر اللّه به‪ ،‬ورسوله { فَلِ َنفْ ِ‬
‫ع ِم َ‬
‫{ مَنْ َ‬
‫والخرة { َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا } ضرره وعقابه‪ ،‬في الدنيا والخرة‪ ،‬وفي هذا‪ ،‬حثّ على فعل الخير‪،‬‬
‫وترك الشر‪ ،‬وانتفاع العاملين‪ ،‬بأعمالهم الحسنة‪ ،‬وضررهم بأعمالهم السيئة‪ ،‬وأنه ل تزر وازرة‬
‫وزر أخرى‪َ { .‬ومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ } فَيُحمّل أحدًا فوق سيئاتهم‪.‬‬

‫ن ُأ ْنثَى وَلَا‬
‫حمِلُ مِ ْ‬
‫ن َأ ْكمَا ِمهَا َومَا َت ْ‬
‫ت مِ ْ‬
‫ن َثمَرَا ٍ‬
‫خرُجُ مِ ْ‬
‫عةِ َومَا َت ْ‬
‫{ ‪ { } 47-48‬إَِليْ ِه ُيرَدّ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫ع ْن ُهمْ مَا كَانُوا‬
‫شهِيدٍ * َوضَلّ َ‬
‫ن شُ َركَائِي قَالُوا آ َذنّاكَ مَا ِمنّا ِمنْ َ‬
‫َتضَعُ إِلّا ِبعِ ْلمِهِ َويَ ْو َم ُينَادِي ِهمْ َأيْ َ‬
‫ص}‬
‫ن َقبْلُ َوظَنّوا مَا َل ُهمْ ِمنْ َمحِي ٍ‬
‫َيدْعُونَ مِ ْ‬
‫هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي ل يطلع عليه سواه فقال‪ { :‬إَِليْ ِه ُيرَدّ‬
‫عةِ } أي‪ :‬جميع الخلق ترد علمهم إلى ال تعالى‪ ،‬ويقرون بالعجز عنه‪ ،‬الرسل‪،‬‬
‫عِ ْلمُ السّا َ‬
‫والملئكة‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫ن َأ ْكمَامِهَا } أي‪ :‬وعائها الذي تخرج منه‪ ،‬وهذا شامل لثمرات جميع‬
‫ن َث َمرَاتٍ مِ ْ‬
‫خرُجُ مِ ْ‬
‫{ َومَا َت ْ‬
‫الشجار التي في البلدان والبراري‪ ،‬فل تخرج ثمرة شجرة من الشجار‪ ،‬إل وهو يعلمها علما‬
‫تفصيليًا‪.‬‬

‫ن ُأ ْنثَى } من بني آدم وغيرهم‪ ،‬من أنواع الحيوانات‪ ،‬إل بعلمه { وَلَا َتضَعُ }‬
‫حمِلُ مِ ْ‬
‫{ َومَا َت ْ‬
‫أنثى حملها { إِلّا ِبعِ ْلمِ ِه } فكيف سوّى المشركون به تعالى‪ ،‬من ل علم عنده ول سمع ول‬
‫بصر؟‪.‬‬

‫{ َويَ ْومَ ُينَادِيهِ ْم } أي‪ :‬المشركين به يوم القيامة توبيخًا وإظهارًا لكذبهم‪ ،‬فيقول لهم‪َ { :‬أ ْينَ‬
‫شُ َركَا ِئيَ } الذين زعمتم أنهم شركائي‪ ،‬فعبدتموهم‪ ،‬وجادلتم على ذلك‪ ،‬وعاديتم الرسل لجلهم؟‬
‫شهِيدٍ } أي‪ :‬أعلمناك يا‬
‫ن َ‬
‫{ قَالُوا } مقرين ببطلن إلهيتهم‪ ،‬وشركتهم مع ال‪ { :‬آ َذنّاكَ مَا ِمنّا مِ ْ‬
‫ربنا‪ ،‬واشهد علينا أنه ما منا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم‪ ،‬فكلنا الن قد رجعنا إلى‬
‫ع ْن ُهمْ مَا كَانُوا َيدْعُونَ } من دون ال‪ ،‬أي‪:‬‬
‫بطلن عبادتها‪ ،‬وتبرأنا منها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وضَلّ َ‬
‫ذهبت عقائدهم وأعمالهم‪ ،‬التي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير ال‪ ،‬وظنوا أنها تفيدهم‪،‬‬
‫وتدفع عنهم العذاب‪ ،‬وتشفع لهم عند ال‪ ،‬فخاب سعيهم‪ ،‬وانتقض ظنهم‪ ،‬ولم تغن عنهم‬
‫ن َمحِيصٍ } أي‪ :‬منقذ ينقذهم‪،‬‬
‫ظنّوا } أي‪ :‬أيقنوا في تلك الحال { مَا َل ُهمْ مِ ْ‬
‫شركاؤهم شيئًا { َو َ‬
‫ول مغيث‪ ،‬ول ملجأ‪ ،‬فهذه عاقبة من أشرك بال غيره‪ ،‬بينها ال لعباده‪ ،‬ليحذروا الشرك به‪.‬‬

‫ن َأ َذ ْقنَاهُ‬
‫س قَنُوطٌ * وََلئِ ْ‬
‫ن َمسّ ُه الشّرّ َف َيئُو ٌ‬
‫خيْرِ وَإِ ْ‬
‫ن دُعَا ِء ا ْل َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫سَأمُ ا ْلِإ ْنسَا ُ‬
‫{ ‪ { } 49-51‬لَا َي ْ‬
‫جعْتُ إِلَى َربّي ِإنّ‬
‫ن السّاعَ َة قَا ِئمَةً وََل ِئنْ ُر ِ‬
‫ن َهذَا لِي َومَا َأظُ ّ‬
‫ستْهُ َليَقُولَ ّ‬
‫ضرّاءَ َم ّ‬
‫ن َب ْعدِ َ‬
‫َرحْمَ ًة ِمنّا مِ ْ‬
‫عذَابٍ غَلِيظٍ * وَِإذَا َأ ْن َع ْمنَا عَلَى‬
‫عمِلُوا وََل ُنذِي َق ّنهُمْ ِمنْ َ‬
‫ن كَ َفرُوا ِبمَا َ‬
‫سنَى فَلَ ُن َن ّبئَنّ اّلذِي َ‬
‫حْ‬‫ع ْندَ ُه لَ ْل ُ‬
‫لِي ِ‬
‫عرِيضٍ }‬
‫شرّ فَذُو دُعَاءٍ َ‬
‫عرَضَ َو َنأَى ِبجَا ِنبِهِ وَِإذَا َمسّ ُه ال ّ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ا ْلِإ ْنسَا ِ‬

‫هذا إخبار عن طبيعة النسان‪ ،‬من حيث هو‪ ،‬وعدم صبره وجلده‪ ،‬ل على الخير ول على‬
‫خيْرِ‬
‫ن دُعَا ِء ا ْل َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫سَأمُ ا ْلِإ ْنسَا ُ‬
‫الشر‪ ،‬إل من نقله ال من هذه الحال إلى حال الكمال‪ ،‬فقال‪ { :‬لَا َي ْ‬
‫} أي‪ :‬ل يمل دائمًا‪ ،‬من دعاء ال‪ ،‬في الغنى والمال والولد‪ ،‬وغير ذلك من مطالب الدنيا‪ ،‬ول‬
‫يزال يعمل على ذلك‪ ،‬ول يقتنع بقليل‪ ،‬ول كثير منها‪ ،‬فلو حصل له من الدنيا‪ ،‬ما حصل‪ ،‬لم‬
‫يزل طالبًا للزيادة‪.‬‬

‫س َقنُوطٌ } أي‪ :‬ييأس‬


‫شرّ } أي‪ :‬المكروه‪ ،‬كالمرض‪ ،‬والفقر‪ ،‬وأنواع البليا { َفيَئُو ٌ‬
‫ن َمسّهُ ال ّ‬
‫{ وَإِ ْ‬
‫من رحمة ال تعالى‪ ،‬ويظن أن هذا البلء هو القاضي عليه بالهلك‪ ،‬ويتشوش من إتيان‬
‫السباب‪ ،‬على غير ما يحب ويطلب‪.‬‬

‫إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات‪ ،‬فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة والمحاب‪ ،‬شكروا ال‬
‫تعالى‪ ،‬وخافوا أن تكون نعم ال عليهم‪ ،‬استدراجًا وإمهالً‪ ،‬وإن أصابتهم مصيبة‪ ،‬في أنفسهم‬
‫وأموالهم‪ ،‬وأولدهم‪ ،‬صبروا‪ ،‬ورجوا فضل ربهم‪ ،‬فلم ييأسوا‪.‬‬

‫ن َأذَ ْقنَا ُه } أي‪ :‬النسان الذي يسأم من دعاء الخير‪ ،‬وإن مسه الشر فيئوس‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وََلئِ ْ‬
‫حمَ ًة ِمنّا } أي‪ :‬بعد ذلك الشر الذي أصابه‪ ،‬بأن عافاه ال من مرضه‪ ،‬أو أغناه من‬
‫قنوط { َر ْ‬
‫فقره‪ ،‬فإنه ل يشكر ال تعالى‪ ،‬بل يبغى‪ ،‬ويطغى‪ ،‬ويقول‪َ { :‬هذَا لِي } أي‪ :‬أتاني لني له أهل‪،‬‬
‫ن السّاعَ َة قَا ِئمَ ًة } وهذا إنكار منه للبعث‪ ،‬وكفر للنعمة والرحمة‪ ،‬التي‬
‫وأنا مستحق له { َومَا َأظُ ّ‬
‫سنَى } أي‪ :‬على تقدير إتيان الساعة‪،‬‬
‫حْ‬‫ع ْندَ ُه لَ ْل ُ‬
‫ن لِي ِ‬
‫ت إِلَى َربّي إِ ّ‬
‫ن ُرجِعْ ُ‬
‫أذاقها ال له‪ { .‬وََلئِ ْ‬
‫وأني سأرجع إلى ربي‪ ،‬إن لي عنده‪ ،‬للحسنى‪ ،‬فكما حصلت لي النعمة في الدنيا‪ ،‬فإنها‬
‫ستحصل ]لي[ في الخرة وهذا من أعظم الجراءة والقول على ال بل علم‪ ،‬فلهذا توعده بقوله‪:‬‬
‫عذَابٍ غَلِيظٍ } أي‪ :‬شديد جدًا‪.‬‬
‫عمِلُوا وََل ُنذِي َق ّن ُهمْ مِنْ َ‬
‫ن كَ َفرُوا ِبمَا َ‬
‫{ فََل ُن َن ّبئَنّ اّلذِي َ‬

‫عرَضَ } عن ربه وعن شكره‬


‫ن } بصحة‪ ،‬أو رزق‪ ،‬أو غيرهما { َأ ْ‬
‫{ وَِإذَا َأ ْن َع ْمنَا عَلَى ا ْلِإنْسَا ِ‬
‫شرّ } أي‪ :‬المرض‪ ،‬أو الفقر‪ ،‬أو‬
‫{ َو َنأَى } ترفع { ِبجَا ِنبِ ِه } عجبا وتكبرًا‪ { .‬وَِإنْ َمسّ ُه ال ّ‬
‫عرِيضٍ } أي‪ :‬كثير جدًا‪ ،‬لعدم صبره‪ ،‬فل صبر في الضراء‪ ،‬ول شكر‬
‫غيرهما { َفذُو دُعَاءٍ َ‬
‫ن عليه‪.‬‬
‫في الرخاء‪ ،‬إل من هداه ال وم ّ‬

‫ن ُهوَ فِي شِقَاقٍ َبعِيدٍ‬


‫ع ْن ِد اللّ ِه ُثمّ كَ َف ْرتُمْ ِبهِ َمنْ َأضَلّ ِممّ ْ‬
‫{ ‪ { } 52-54‬قُلْ َأرََأ ْيتُمْ ِإنْ كَانَ مِنْ ِ‬
‫حقّ َأوََلمْ َي ْكفِ ِبرَ ّبكَ َأنّهُ عَلَى كُلّ‬
‫حتّى َي َت َبيّنَ َل ُهمْ َأنّ ُه ا ْل َ‬
‫س ِهمْ َ‬
‫سنُرِي ِهمْ آيَا ِتنَا فِي الْآفَاقِ َوفِي َأنْ ُف ِ‬
‫* َ‬
‫شيْءٍ ُمحِيطٌ }‬
‫ن لِقَا ِء َربّ ِهمْ أَلَا ِإنّ ُه ِبكُلّ َ‬
‫شهِي ٌد * أَلَا ِإ ّن ُهمْ فِي ِمرْيَ ٍة مِ ْ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫َ‬

‫ن } هذا القرآن‬
‫أي { قُلْ } لهؤلء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران { َأرََأ ْيتُمْ ِإنْ كَا َ‬
‫ن هُ َو فِي شِقَاقٍ َبعِيدٍ }‬
‫ن َأضَلّ ِممّ ْ‬
‫ع ْندِ اللّ ِه } من غير شك ول ارتياب‪ُ { ،‬ثمّ كَ َف ْر ُتمْ بِ ِه مَ ْ‬
‫{ ِمنْ ِ‬
‫أي‪ :‬معاندة للّه ولرسوله‪ ،‬لنه تبين لكم الحق والصواب‪ ،‬ثم عدلتم عنه‪ ،‬ل إلى حق‪ ،‬بل إلى‬
‫باطل وجهل‪ ،‬فإذا تكونون أضل الناس وأظلمهم‪.‬‬

‫فإن قلتم‪ ،‬أو شككتم بصحته وحقيقته‪ ،‬فسيقيم اللّه لكم‪ ،‬ويريكم من آياته في الفاق كاليات التي‬
‫في السماء وفي الرض‪ ،‬وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة‪ ،‬الدالة للمستبصر على‬
‫الحق‪.‬‬

‫سهِمْ } مما اشتملت عليه أبدانهم‪ ،‬من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته‪ ،‬وباهر قدرته‪،‬‬
‫{ َوفِي َأنْ ُف ِ‬
‫حتّى َي َت َبيّنَ َل ُهمْ } من تلك‬
‫وفي حلول العقوبات والمثلت في المكذبين‪ ،‬ونصر المؤمنين‪َ { .‬‬
‫حقّ } وما اشتمل عليه حق‪.‬‬
‫اليات‪ ،‬بيانًا ل يقبل الشك { َأنّ ُه ا ْل َ‬

‫وقد فعل تعالى‪ ،‬فإنه أرى عباده من اليات‪ ،‬ما به تبين لهم أنه الحق‪ ،‬ولكن اللّه هو الموفق‬
‫لليمان من شاء‪ ،‬والخاذل لمن يشاء‪.‬‬

‫شهِيدٌ } أي‪ :‬أولم يكفهم على أن القرآن حق‪ ،‬ومن جاء به‬
‫ل شَيْ ٍء َ‬
‫ك َأنّهُ عَلَى كُ ّ‬
‫{ َأوََلمْ َي ْكفِ ِب َربّ َ‬
‫صادق‪ ،‬بشهادة اللّه تعالى‪ ،‬فإنه قد شهد له بالتصديق‪ ،‬وهو أصدق الشاهدين‪ ،‬وأيده‪ ،‬ونصره‬
‫نصرًا متضمنًا لشهادته القولية‪ ،‬عند من شك فيها‪.‬‬

‫ن لِقَاءِ َر ّب ِهمْ } أي‪ :‬في شك من البعث والقيامة‪ ،‬وليس عندهم دار سوى‬
‫{ أَلَا ِإ ّن ُهمْ فِي ِم ْريَ ٍة مِ ْ‬
‫شيْ ٍء ُمحِيطٌ } علما وقدرة‬
‫الدار الدنيا‪ ،‬فلذلك لم يعملوا للخرة‪ ،‬ولم يلتفتوا لها‪ { .‬أَلَا ِإنّهُ ِبكُلّ َ‬
‫وعزة‪.‬‬

‫تم تفسير سورة فصلت‬

‫‪-‬بمنه تعالى‪-‬‬

‫تفسير سورة الشورى‬


‫مكية‬

‫ك وَإِلَى الّذِينَ مِنْ قَبِْلكَ اللّهُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * عسق * كَذَِلكَ يُوحِي إِلَ ْي َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-9‬بِ ْ‬
‫سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ‬
‫ض وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ * َتكَادُ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫حكِيمُ * َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫ح ْمدِ رَ ّبهِ ْم وَيَسْ َت ْغفِرُونَ ِلمَنْ فِي الْأَ ْرضِ أَلَا إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ‬
‫مِنْ َف ْو ِقهِنّ وَا ْلمَلَا ِئكَةُ ُيسَبّحُونَ بِ َ‬
‫حفِيظٌ عَلَ ْيهِ ْم َومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِب َوكِيلٍ * َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَا‬
‫خذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللّهُ َ‬
‫الرّحِيمُ * وَالّذِينَ اتّ َ‬
‫جمْعِ لَا رَ ْيبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنّ ِة َوفَرِيقٌ‬
‫حوَْلهَا وَتُ ْنذِرَ َيوْمَ ا ْل َ‬
‫إِلَ ْيكَ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِتُنْذِرَ ُأمّ ا ْلقُرَى َومَنْ َ‬
‫حمَتِ ِه وَالظّاِلمُونَ مَا َل ُهمْ‬
‫خلُ مَنْ يَشَاءُ فِي َر ْ‬
‫جعََلهُمْ ُأمّةً وَاحِ َد ًة وََلكِنْ يُ ْد ِ‬
‫سعِيرِ * وََلوْ شَاءَ اللّهُ َل َ‬
‫فِي ال ّ‬
‫ي وَ ُهوَ يُحْيِى ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ‬
‫خذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ فَاللّهُ ُهوَ ا ْلوَلِ ّ‬
‫ن وَِليّ وَلَا َنصِيرٍ * َأمِ اتّ َ‬
‫مِ ْ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫َ‬

‫يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم‪ ،‬كما أوحى إلى من قبله من النبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬ففيه بيان فضله‪ ،‬بإنزال الكتب‪ ،‬وإرسال الرسل‪ ،‬سابقا ولحقا‪ ،‬وأن محمدا صلى ال‬
‫عليه وسلم ليس ببدع من الرسل‪ ،‬وأن طريقته طريقة من قبله‪ ،‬وأحواله تناسب أحوال من قبله من‬
‫المرسلين‪ .‬وما جاء به يشابه ما جاءوا به‪ ،‬لن الجميع حق وصدق‪ ،‬وهو تنزيل من اتصف‬
‫باللوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة‪ ،‬وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره‬
‫القدري والشرعي‪.‬‬

‫وأنه { ا ْلعَِليّ } بذاته وقدره وقهره‪ { .‬ا ْلعَظِيمِ } الذي من عظمته‬

‫سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْ َف ْو ِقهِنّ } على عظمها وكونها جمادا‪ { ،‬وَا ْلمَلَا ِئكَةِ } الكرام المقربون‬
‫{ َتكَادُ ال ّ‬
‫حمْدِ رَ ّبهِمْ } ويعظمونه عن‬
‫خاضعون لعظمته‪ ،‬مستكينون لعزته‪ ،‬مذعنون بربوبيته‪ُ { .‬يسَبّحُونَ ِب َ‬
‫كل نقص‪ ،‬ويصفونه بكل كمال‪ { ،‬وَيَسْ َت ْغفِرُونَ ِلمَنْ فِي الْأَ ْرضِ } عما يصدر منهم‪ ،‬مما ل يليق‬
‫بعظمة ربهم وكبريائه‪ ،‬مع أنه تعالى هو { ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } الذي لول مغفرته ورحمته‪ ،‬لعاجل‬
‫الخلق بالعقوبة المستأصلة‪.‬‬

‫وفي وصفه تعالى بهذه الوصاف‪ ،‬بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموما‪ ،‬وإلى محمد ‪-‬‬
‫صلى ال عليهم أجمعين‪ -‬خصوصا‪ ،‬إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم‪ ،‬فيه من الدلة والبراهين‪،‬‬
‫واليات الدالة على كمال الباري تعالى‪ ،‬ووصفه بهذه السماء العظيمة الموجبة لمتلء القلوب من‬
‫معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلله وإكرامه‪ ،‬وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له‬
‫تعالى‪ ،‬وأن من أكبر الظلم وأفحش القول‪ ،‬اتخاذ أنداد للّه من دونه‪ ،‬ليس بيدهم نفع ول ضرر‪ ،‬بل‬
‫هم مخلوقون مفتقرون إلى ال في جميع أحوالهم‪ ،‬ولهذا عقبه بقوله‪ { :‬وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ‬
‫َأوْلِيَاءَ }‬

‫يتولونهم بالعبادة والطاعة‪ ،‬كما يعبدون ال ويطيعونه‪ ،‬فإنما اتخذوا الباطل‪ ،‬وليسوا بأولياء على‬
‫علَ ْيهِمْ‬
‫حفِيظٌ عَلَ ْيهِمْ } يحفظ عليهم أعمالهم‪ ،‬فيجازيهم بخيرها وشرها‪َ { .‬ومَا أَ ْنتَ َ‬
‫الحقيقة‪ { .‬اللّهُ َ‬
‫ِب َوكِيلٍ } فتسأل عن أعمالهم‪ ،‬وإنما أنت مبلغ أديت وظيفتك‪.‬‬
‫ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس‪ ،‬حيث أنزل ال { قُرْآنًا عَرَبِيّا } بين اللفاظ والمعاني‬
‫حوَْلهَا } من قرى العرب‪ ،‬ثم يسري هذا النذار إلى‬
‫{ لِتُ ْنذِرَ ُأمّ ا ْلقُرَى } وهي مكة المكرمة { َومَنْ َ‬
‫جمْعِ } الذي يجمع ال به الولين والخرين‪ ،‬وتخبرهم أنه {‬
‫سائر الخلق‪ { .‬وَتُنْذِرَ } الناس { َيوْمَ ا ْل َ‬
‫لَا رَ ْيبَ فِيهِ } وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين { فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ } وهم الذين آمنوا بال‪ ،‬وصدقوا‬
‫سعِيرِ } وهم أصناف الكفرة المكذبين‪.‬‬
‫المرسلين‪َ { ،‬وفَرِيقٌ فِي ال ّ‬

‫{ و } مع هذا { َلوْ شَاءَ اللّهُ } لجعل الناس‪ ،‬أي‪ :‬جعل الناس { ُأمّ ًة وَاحِ َدةً } على الهدى‪ ،‬لنه‬
‫القادر الذي ل يمتنع عليه شيء‪ ،‬ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من شاء من خواص خلقه‪.‬‬

‫وأما الظالمون الذين ل يصلحون لصالح‪ ،‬فإنهم محرومون من الرحمة‪ ،‬فـ { مَا َلهُمْ } من دون‬
‫ن وَِليّ } يتولهم‪ ،‬فيحصل لهم المحبوب { وَلَا َنصِيرٍ } يدفع عنهم المكروه‪.‬‬
‫ال { مِ ْ‬

‫خذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ } يتولونهم بعبادتهم إياهم‪ ،‬فقد غلطوا أقبح غلط‪ .‬فال هو الولي‬
‫والذين { اتّ َ‬
‫الذي يتوله عبده بعبادته وطاعته‪ ،‬والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات‪ ،‬ويتولى عباده‬
‫عموما بتدبيره‪ ،‬ونفوذ القدر فيهم‪ ،‬ويتولى عباده المؤمنين خصوصا‪ ،‬بإخراجهم من الظلمات إلى‬
‫النور‪ ،‬وتربيتهم بلطفه‪ ،‬وإعانتهم في جميع أمورهم‪.‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ } أي‪ :‬هو المتصرف بالحياء والماتة‪ ،‬ونفوذ‬


‫{ وَ ُهوَ ُيحْيِي ا ْل َموْتَى وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫المشيئة والقدرة‪ ،‬فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ل شريك له‪.‬‬

‫ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *‬
‫ح ْكمُهُ إِلَى اللّهِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ َت َوكّ ْل ُ‬
‫شيْءٍ َف ُ‬
‫{ ‪َ { } 10-12‬ومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِنْ َ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا َومِنَ الْأَ ْنعَامِ أَ ْزوَاجًا َيذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ لَيْسَ َكمِثْلِهِ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َ‬
‫فَاطِرُ ال ّ‬
‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ إِنّهُ ِب ُكلّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ يَبْ ُ‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ * لَهُ َمقَالِيدُ ال ّ‬
‫شيْ ٌء وَ ُهوَ ال ّ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫َ‬

‫ح ْكمُهُ‬
‫شيْءٍ } من أصول دينكم وفروعه‪ ،‬مما لم تتفقوا عليه { َف ُ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬ومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِنْ َ‬
‫إِلَى اللّهِ } يرد إلى كتابه‪ ،‬وإلى سنة رسوله‪ ،‬فما حكما به فهو الحق‪ ،‬وما خالف ذلك فباطل‪.‬‬
‫{ ذَِلكُمُ اللّهُ رَبّي } أي‪ :‬فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر‪ ،‬فهو تعالى الحاكم بين عباده‬
‫بشرعه في جميع أمورهم‪.‬‬
‫ومفهوم الية الكريمة‪ ،‬أن اتفاق المة حجة قاطعة‪ ،‬لن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إل ما‬
‫اختلفنا فيه‪ ،‬فما اتفقنا عليه‪ ،‬يكفي اتفاق المة عليه‪ ،‬لنها معصومة عن الخطأ‪ ،‬ول بد أن يكون‬
‫اتفاقها موافقا لما في كتاب اللّه وسنة رسوله‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ } أي‪ :‬اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬واثقا به تعالى‬
‫في السعاف بذلك‪ { .‬وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي‪ :‬أتوجه بقلبي وبدني إليه‪ ،‬وإلى طاعته وعبادته‪.‬‬

‫وهذان الصلن‪ ،‬كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه‪ ،‬لنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد‪ ،‬ويفوته‬
‫الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما‪ ،‬كقوله تعالى‪ { :‬إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } وقوله‪ { :‬فَاعْ ُب ْد ُه وَ َتوَ ّكلْ‬
‫عَلَيْهِ }‬

‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته‪َ { .‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ فَاطِرِ ال ّ‬
‫} لتسكنوا إليها‪ ،‬وتنتشر منكم الذرية‪ ،‬ويحصل لكم من النفع ما يحصل‪.‬‬

‫{ َومِنَ الْأَ ْنعَامِ أَ ْزوَاجًا } أي‪ :‬ومن جميع أصنافها نوعين‪ ،‬ذكرا وأنثى‪ ،‬لتبقى وتنمو لمنافعكم‬
‫الكثيرة‪ ،‬ولهذا عداها باللم الدالة على التعليل‪ ،‬أي‪ :‬جعل ذلك لجلكم‪ ،‬ولجل النعمة عليكم‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ { :‬يذرؤكم فيه } أي‪ :‬يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم‪ ،‬بسبب أن جعل لكم من أنفسكم‪ ،‬وجعل‬
‫لكم من النعام أزواجا‪.‬‬

‫شيْءٌ } أي‪ :‬ليس يشبهه تعالى ول يماثله شيء من مخلوقاته‪ ،‬ل في ذاته‪ ،‬ول في‬
‫{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫أسمائه‪ ،‬ول في صفاته‪ ،‬ول في أفعاله‪ ،‬لن أسماءه كلها حسنى‪ ،‬وصفاته صفة كمال وعظمة‪،‬‬
‫وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك‪ ،‬فليس كمثله شيء‪ ،‬لنفراده وتوحده‬
‫سمِيعُ } لجميع الصوات‪ ،‬باختلف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪.‬‬
‫بالكمال من كل وجه‪ { .‬وَ ُهوَ ال ّ‬
‫{ الْ َبصِيرُ } يرى دبيب النملة السوداء‪ ،‬في الليلة الظلماء‪ ،‬على الصخرة الصماء‪ ،‬ويرى سريان‬
‫القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا‪ ،‬وسريان الماء في الغصان الدقيقة‪.‬‬

‫وهذه الية ونحوها‪ ،‬دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬من إثبات الصفات‪ ،‬ونفي مماثلة‬
‫شيْءٌ } وعلى المعطلة في قوله‪ { :‬وَ ُهوَ‬
‫المخلوقات‪ .‬وفيها رد على المشبهة في قوله‪ { :‬لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ }‬
‫ال ّ‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬له ملك السماوات والرض‪ ،‬وبيده مفاتيح الرحمة‬
‫وقوله‪ { :‬لَهُ َمقَالِيدُ ال ّ‬
‫والرزاق‪ ،‬والنعم الظاهرة والباطنة‪ .‬فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه‪ ،‬في جلب مصالحهم‪ ،‬ودفع‬
‫المضار عنهم‪ ،‬في كل الحوال‪ ،‬ليس بيد أحد من المر شيء‪.‬‬
‫واللّه تعالى هو المعطي المانع‪ ،‬الضار النافع‪ ،‬الذي ما بالعباد من نعمة إل منه‪ ،‬ول يدفع الشر إل‬
‫سلَ لَهُ مِنْ َب ْع ِدهِ }‬
‫سكْ فَلَا مُرْ ِ‬
‫سكَ َلهَا َومَا ُيمْ ِ‬
‫حمَةٍ فَلَا ُممْ ِ‬
‫هو‪ ،‬و { مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ‬

‫ولهذا قال هنا‪ { :‬يَ ْبسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَاءُ } أي‪ :‬يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء‪،‬‬
‫{ وَ َيقْدِرُ } أي‪ :‬يضيق على من يشاء‪ ،‬حتى يكون بقدر حاجته‪ ،‬ل يزيد عنها‪ ،‬وكل هذا تابع لعلمه‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم أحوال عباده‪ ،‬فيعطي كل ما يليق بحكمته‬
‫وحكمته‪ ،‬فلهذا قال‪ { :‬إِنّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫وتقتضيه مشيئته‪.‬‬

‫{ ‪ { } 13‬شَ َرعَ َلكُمْ مِنَ الدّينِ مَا َوصّى بِهِ نُوحًا وَالّذِي َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫ن وَلَا تَ َتفَ ّرقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ا ْلمُشْ ِركِينَ مَا َتدْعُوهُمْ إِلَ ْيهِ اللّهُ يَجْتَبِي‬
‫َومُوسَى وَعِيسَى أَنْ َأقِيمُوا الدّي َ‬
‫إِلَيْهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ }‬

‫هذه أكبر منة أنعم ال بها على عباده‪ ،‬أن شرع لهم من الدين خير الديان وأفضلها‪ ،‬وأزكاها‬
‫وأطهرها‪ ،‬دين السلم‪ ،‬الذي شرعه ال للمصطفين المختارين من عباده‪ ،‬بل شرعه ال لخيار‬
‫الخيار‪ ،‬وصفوة الصفوة‪ ،‬وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الية‪ ،‬أعلى الخلق‬
‫درجة‪ ،‬وأكملهم من كل وجه‪ ،‬فالدين الذي شرعه ال لهم‪ ،‬ل بد أن يكون مناسبا لحوالهم‪ ،‬موافقا‬
‫لكمالهم‪ ،‬بل إنما كملهم ال واصطفاهم‪ ،‬بسبب قيامهم به‪ ،‬فلول الدين السلمي‪ ،‬ما ارتفع أحد من‬
‫الخلق‪ ،‬فهو روح السعادة‪ ،‬وقطب رحى الكمال‪ ،‬وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم‪ ،‬ودعا إليه من‬
‫التوحيد والعمال والخلق والداب‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬أَنْ َأقِيمُوا الدّينَ } أي‪ :‬أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه‪ ،‬تقيمونه‬
‫بأنفسكم‪ ،‬وتجتهدون في إقامته على غيركم‪ ،‬وتعاونون على البر والتقوى ول تعاونون على الثم‬
‫والعدوان‪ { .‬وَلَا تَ َتفَ ّرقُوا فِيهِ } أي‪ :‬ليحصل منكم التفاق على أصول الدين وفروعه‪ ،‬واحرصوا‬
‫على أن ل تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا‪ ،‬وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على‬
‫أصل دينكم‪.‬‬

‫ومن أنواع الجتماع على الدين وعدم التفرق فيه‪ ،‬ما أمر به الشارع من الجتماعات العامة‪،‬‬
‫كاجتماع الحج والعياد‪ ،‬والجمع والصلوات الخمس والجهاد‪ ،‬وغير ذلك من العبادات التي ل تتم‬
‫ول تكمل إل بالجتماع لها وعدم التفرق‪.‬‬
‫{ كَبُرَ عَلَى ا ْل ُمشْ ِركِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي‪ :‬شق عليهم غاية المشقة‪ ،‬حيث دعوتهم إلى الخلص‬
‫شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ‬
‫ح َدهُ ا ْ‬
‫للّه وحده‪ ،‬كما قال عنهم‪ { :‬وَِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَ ْ‬
‫عجَابٌ }‬
‫شيْءٌ ُ‬
‫حدًا إِنّ َهذَا لَ َ‬
‫ج َعلَ الْآِل َهةَ إَِلهًا وَا ِ‬
‫الّذِينَ مِنْ دُونِهِ ِإذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقولهم‪ { :‬أَ َ‬

‫{ اللّهُ َيجْتَبِي ِإلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ } أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للجتباء لرسالته ووليته‬
‫ومنه أن اجتبى هذه المة وفضلها على سائر المم‪ ،‬واختار لها أفضل الديان وخيرها‪.‬‬

‫{ وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ } هذا السبب الذي من العبد‪ ،‬يتوصل به إلى هداية ال تعالى‪ ،‬وهو إنابته‬
‫لربه‪ ،‬وانجذاب دواعي قلبه إليه‪ ،‬وكونه قاصدا وجهه‪ ،‬فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب‬
‫ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَامِ }‬
‫الهداية‪ ،‬من أسباب التيسير لها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬

‫وفي هذه الية‪ ،‬أن ال { َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ } مع قوله‪ { :‬وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ } مع العلم‬
‫بأحوال الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وشدة إنابتهم‪ ،‬دليل على أن قولهم حجة‪ ،‬خصوصا الخلفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬رضي ال عنهم أجمعين‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 14-15‬ومَا َتفَرّقُوا إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيًا بَيْ َنهُ ْم وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ إِلَى‬
‫شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَِلذَِلكَ فَا ْدعُ‬
‫سمّى َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِهِمْ َلفِي َ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫أَ َ‬
‫ع ِدلَ بَيْ َنكُمُ اللّهُ‬
‫ب وَُأمِ ْرتُ لِأَ ْ‬
‫وَاسْ َتقِمْ َكمَا ُأمِ ْرتَ وَلَا تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ ُه ْم َو ُقلْ آمَ ْنتُ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنْ كِتَا ٍ‬
‫جمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫عمَاُلكُمْ لَا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ اللّهُ يَ ْ‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ لَنَا أَ ْ‬

‫لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم‪ ،‬ونهاهم عن التفرق‪ ،‬أخبرهم‬

‫أنكم ل تغتروا بما أنزل ال عليكم من الكتاب‪ ،‬فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل ال عليهم‬
‫الكتاب الموجب للجتماع‪ ،‬ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم‪ ،‬وذلك كله بغيا وعدوانا منهم‪ ،‬فإنهم‬
‫تباغضوا وتحاسدوا‪ ،‬وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة‪ ،‬فوقع الختلف‪ ،‬فاحذروا أيها المسلمون‬
‫أن تكونوا مثلهم‪.‬‬

‫{ وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ } أي‪ :‬بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ } ولكن‬
‫حكمته وحلمه‪ ،‬اقتضى تأخير ذلك عنهم‪ { .‬وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِهِمْ } أي‪ :‬الذين‬
‫شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي‪ :‬لفي اشتباه‬
‫ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { َلفِي َ‬
‫كثير يوقع في الختلف‪ ،‬حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا‪ ،‬فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا‪،‬‬
‫والجميع مشتركون في الختلف المذموم‪.‬‬
‫{ فَِلذَِلكَ فَا ْدعُ } أي‪ :‬فللدين القويم والصراط المستقيم‪ ،‬الذي أنزل ال به كتبه وأرسل رسله‪ ،‬فادع‬
‫إليه أمتك وحضهم عليه‪ ،‬وجاهد عليه‪ ،‬من لم يقبله‪ { ،‬وَاسْ َتقِمْ } بنفسك { َكمَا ُأمِ ْرتَ } أي‪ :‬استقامة‬
‫موافقة لمر ال‪ ،‬ل تفريط ول إفراط‪ ،‬بل امتثال لوامر ال واجتنابا لنواهيه‪ ،‬على وجه‬
‫الستمرار على ذلك‪ ،‬فأمره بتكميل نفسه بلزوم الستقامة‪ ،‬وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى ال عليه وسلم أمر لمته إذا لم يرد تخصيص له‪.‬‬

‫{ وَلَا تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ } أي‪ :‬أهواء المنحرفين عن الدين‪ ،‬من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على‬
‫بعض دينهم‪ ،‬أو بترك الدعوة إلى ال‪ ،‬أو بترك الستقامة‪ ،‬فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما‬
‫جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين‪ ،‬ولم يقل‪" :‬ول تتبع دينهم" لن حقيقة دينهم الذي شرعه ال‬
‫لهم‪ ،‬هو دين الرسل كلهم‪ ،‬ولكنهم لم يتبعوه‪ ،‬بل اتبعوا أهواءهم‪ ،‬واتخذوا دينهم لهوا ولعبا‪.‬‬

‫{ َو ُقلْ } لهم عند جدالهم ومناظرتهم‪ { :‬آمَ ْنتُ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي‪ :‬لتكن مناظرتك لهم‬
‫مبنية على هذا الصل العظيم‪ ،‬الدال على شرف السلم وجللته وهيمنته على سائر الديان‪ ،‬وأن‬
‫الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من السلم‪ ،‬وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن‬
‫ناظروا مناظرة مبنية على اليمان ببعض الكتب‪ ،‬أو ببعض الرسل دون غيره‪ ،‬فل يسلم لهم ذلك‪،‬‬
‫لن الكتاب الذي يدعون إليه‪ ،‬والرسول الذي ينتسبون إليه‪ ،‬من شرطه أن يكون مصدقا بهذا‬
‫القرآن وبمن جاء به‪ ،‬فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إل باليمان بموسى وعيسى والتوراة والنجيل‪،‬‬
‫التي أخبر بها وصدق بها‪ ،‬وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته‪.‬‬

‫وأما مجرد التوراة والنجيل‪ ،‬وموسى وعيسى‪ ،‬الذين لم يوصفوا لنا‪ ،‬ولم يوافقوا لكتابنا‪ ،‬فلم‬
‫يأمرنا باليمان بهم‪.‬‬

‫ع ِدلَ بَيْ َنكُمُ } أي‪ :‬في الحكم فيما اختلفتم فيه‪ ،‬فل تمنعني عداوتكم وبغضكم‪ ،‬يا‬
‫وقوله‪ { :‬وَُأمِ ْرتُ لِأَ ْ‬
‫أهل الكتاب من العدل بينكم‪ ،‬ومن العدل في الحكم‪ ،‬بين أهل القوال المختلفة‪ ،‬من أهل الكتاب‬
‫وغيرهم‪ ،‬أن يقبل ما معهم من الحق‪ ،‬ويرد ما معهم من الباطل‪ { ،‬اللّهُ رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ } أي‪ :‬هو رب‬
‫عمَاُلكُمْ } من خير وشر { لَا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ }‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫الجميع‪ ،‬لستم بأحق به منا‪ { .‬لَنَا أَ ْ‬
‫أي‪ :‬بعد ما تبينت الحقائق‪ ،‬واتضح الحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضلل‪ ،‬لم يبق للجدال‬
‫والمنازعة محل‪ ،‬لن المقصود من الجدال‪ ،‬إنما هو بيان الحق من الباطل‪ ،‬ليهتدي الراشد‪ ،‬ولتقوم‬
‫الحجة على الغاوي‪ ،‬وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب ل يجادلون‪ ،‬كيف وال يقول‪ { :‬وَلَا ُتجَادِلُوا‬
‫حسَنُ } وإنما المراد ما ذكرنا‪.‬‬
‫أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫جمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } يوم القيامة‪ ،‬فيجزي كل بعمله‪ ،‬ويتبين حينئذ الصادق من‬
‫{ اللّهُ َي ْ‬
‫الكاذب‪.‬‬

‫حضَةٌ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَعَلَ ْيهِمْ‬


‫حجّ ُتهُمْ دَا ِ‬
‫{ ‪ { } 16‬وَالّذِينَ يُحَاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا اسْتُجِيبَ َلهُ ُ‬
‫شدِيدٌ }‬
‫عذَابٌ َ‬
‫ضبٌ وََلهُمْ َ‬
‫غ َ‬
‫َ‬

‫وهذا تقرير لقوله‪ :‬ل حجة بيننا وبينكم‪ ،‬فأخبر هنا أن { الّذِينَ يُحَاجّونَ فِي اللّهِ } بالحجج الباطلة‪،‬‬
‫والشبه المتناقضة { مِنْ َبعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي‪ :‬من بعد ما استجاب للّه أولو اللباب والعقول‪،‬‬
‫لما بين لهم من اليات القاطعة‪ ،‬والبراهين الساطعة‪ ،‬فهؤلء المجادلون للحق من بعد ما تبين‬
‫حضَةٌ } أي‪ :‬باطلة مدفوعة { عِنْدَ رَ ّب ِهمْ } لنها مشتملة على رد الحق وكل ما خالف‬
‫{ حُجّ ُت ُهمْ دَا ِ‬
‫الحق‪ ،‬فهو باطل‪.‬‬

‫شدِيدٌ }‬
‫غضَبٌ } لعصيانهم وإعراضهم عن حجج اللّه وبيناته وتكذيبها‪ { .‬وََلهُمْ عَذَابٌ َ‬
‫{ وَعَلَ ْيهِمْ َ‬
‫هو أثر غضب اللّه عليهم‪ ،‬فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل‪.‬‬

‫جلُ‬
‫عةَ قَرِيبٌ * يَسْ َت ْع ِ‬
‫ن َومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّا َ‬
‫ق وَا ْلمِيزَا َ‬
‫{ ‪ { } 17-18‬اللّهُ الّذِي أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَ ّ‬
‫حقّ أَلَا إِنّ الّذِينَ ُيمَارُونَ فِي‬
‫شفِقُونَ مِ ْنهَا وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا الْ َ‬
‫ِبهَا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا وَالّذِينَ آمَنُوا مُ ْ‬
‫عةِ َلفِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ }‬
‫السّا َ‬

‫لما ذكر تعالى أن حججه واضحة بينة‪ ،‬بحيث استجاب لها كل من فيه خير‪ ،‬ذكر أصلها وقاعدتها‪،‬‬
‫ق وَا ْلمِيزَانَ } فالكتاب‬
‫حّ‬‫بل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد‪ ،‬فقال‪ { :‬اللّهُ الّذِي أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫هو هذا القرآن العظيم‪ ،‬نزل بالحق‪ ،‬واشتمل على الحق والصدق واليقين‪ ،‬وكله آيات بينات‪ ،‬وأدلة‬
‫واضحات‪ ،‬على جميع المطالب اللهية والعقائد الدينية‪ ،‬فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدلئل‪.‬‬

‫وأما الميزان‪ ،‬فهو العدل والعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح‪ ،‬فكل الدلئل العقلية‪ ،‬من‬
‫اليات الفاقية والنفسية‪ ،‬والعتبارات الشرعية‪ ،‬والمناسبات والعلل‪ ،‬والحكام والحكم‪ ،‬داخلة في‬
‫الميزان الذي أنزله ال تعالى ووضعه بين عباده‪ ،‬ليزنوا به ما اشتبه من المور‪ ،‬ويعرفوا به‬
‫صدق ما أخبر به وأخبرت رسله‪ ،‬مما خرج عن هذين المرين عن الكتاب والميزان مما قيل إنه‬
‫حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات‪ ،‬فإنه باطل متناقض‪ ،‬قد فسدت أصوله‪،‬‬
‫وانهدمت مبانيه وفروعه‪ ،‬يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها‪ ،‬وعرف التمييز بين راجح الدلة‬
‫من مرجوحها‪ ،‬والفرق بين الحجج والشبه‪ ،‬وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة‪ ،‬واللفاظ المموهة‪،‬‬
‫ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد‪ ،‬فإنه ليس من أهل هذا الشأن‪ ،‬ول من فرسان هذا الميدان‪،‬‬
‫فوفاقه وخلفه سيان‪.‬‬

‫ثم قال تعالى مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة المنكرين لها‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ‬
‫} أي‪ :‬ليس بمعلوم بعدها‪ ،‬ول متى تقوم‪ ،‬فهي في كل وقت متوقع وقوعها‪ ،‬مخوف وجبتها‪.‬‬

‫شفِقُونَ مِ ْنهَا }‬
‫جلُ ِبهَا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا } عنادا وتكذيبا‪ ،‬وتعجيزا لربهم‪ { .‬وَالّذِينَ آمَنُوا ُم ْ‬
‫{ َيسْ َتعْ ِ‬
‫أي‪ :‬خائفون‪ ،‬ليمانهم بها‪ ،‬وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالعمال‪ ،‬وخوفهم‪ ،‬لمعرفتهم‬
‫بربهم‪ ،‬أن ل تكون أعمالهم منجية لهم ول مسعدة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا ا ْلحَقّ } الذي ل‬
‫مرية فيه‪ ،‬ول شك يعتريه { أَلَا إِنّ الّذِينَ ُيمَارُونَ فِي السّاعَةِ } أي‪ :‬بعد ما امتروا فيها‪ ،‬ماروا‬
‫الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد‪ ،‬أي‪ :‬معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب‪ ،‬بل‬
‫في غاية البعد عن الحق‪ ،‬وأيّ بعد أبعد ممن كذب بالدار التي هي الدار على الحقيقة‪ ،‬وهي الدار‬
‫التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد‪ ،‬وهي دار الجزاء التي يظهر ال فيها عدله وفضله وإنما‬
‫هذه الدار بالنسبة إليها‪ ،‬كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها‪ ،‬وهي دار عبور وممر‪ ،‬ل‬
‫محل استقرار‪.‬‬

‫فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية‪ ،‬حيث رأوها وشاهدوها‪ ،‬وكذبوا بالدار الخرة‪ ،‬التي تواترت‬
‫بالخبار عنها الكتب اللهية‪ ،‬والرسل الكرام وأتباعهم‪ ،‬الذين هم أكمل الخلق عقول‪ ،‬وأغزرهم‬
‫علما‪ ،‬وأعظمهم فطنة وفهما‪.‬‬

‫{ ‪ { } 19-20‬اللّهُ لَطِيفٌ ِبعِبَا ِدهِ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ‬
‫الْآخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الْآخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ }‬

‫يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه‪ ،‬ويتعرضوا للطفه وكرمه‪ ،‬واللطف من أوصافه تعالى‬
‫معناه‪ :‬الذي يدرك الضمائر والسرائر‪ ،‬الذي يوصل عباده ‪-‬وخصوصا المؤمنين‪ -‬إلى ما فيه‬
‫الخير لهم من حيث ل يعلمون ول يحتسبون‪.‬‬

‫فمن لطفه بعبده المؤمن‪ ،‬أن هداه إلى الخير هداية ل تخطر بباله‪ ،‬بما يسر له من السباب الداعية‬
‫إلى ذلك‪ ،‬من فطرته على محبة الحق والنقياد له وإيزاعه تعالى لملئكته الكرام‪ ،‬أن يثبتوا عباده‬
‫المؤمنين‪ ،‬ويحثوهم على الخير‪ ،‬ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لتباعه‪.‬‬
‫ومن لطفه أن أمر المؤمنين‪ ،‬بالعبادات الجتماعية‪ ،‬التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم‪،‬‬
‫ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه‪ ،‬واقتداء بعضهم ببعض‪.‬‬

‫ومن لطفه‪ ،‬أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي‪ ،‬حتى إنه تعالى إذا علم أن‬
‫الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا‪ ،‬تقطع عبده عن طاعته‪ ،‬أو تحمله على‬
‫الغفلة عنه‪ ،‬أو على معصية صرفها عنه‪ ،‬وقدر عليه رزقه‪ ،‬ولهذا قال هنا‪ { :‬يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ }‬
‫بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ } الذي له القوة كلها‪ ،‬فل حول ول قوة لحد‬
‫من المخلوقين إل به‪ ،‬الذي دانت له جميع الشياء‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬أجرها وثوابها‪ ،‬فآمن بها وصدق‪ ،‬وسعى لها‬
‫سعيها { نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } بأن نضاعف عمله وجزاءه أضعافا كثيرة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ‬
‫شكُورًا } ومع ذلك‪ ،‬فنصيبه من‬
‫سعْ ُيهُمْ مَ ْ‬
‫سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ‬
‫سعَى َلهَا َ‬
‫أَرَادَ الْآخِ َر َة وَ َ‬
‫الدنيا ل بد أن يأتيه‪.‬‬

‫{ َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا } بأن‪ :‬كانت الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه‪ ،‬فلم يقدم لخرته‪،‬‬
‫ول رجا ثوابها‪ ،‬ولم يخش عقابها‪ُ { .‬نؤْتِهِ مِ ْنهَا } نصيبه الذي قسم له‪َ { ،‬ومَا لَهُ فِي الْآخِ َرةِ مِنْ‬
‫َنصِيبٍ } قد حرم الجنة ونعيمها‪ ،‬واستحق النار وجحيمها‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ فِيهَا وَهُمْ‬


‫وهذه الية‪ ،‬شبيهة بقوله تعالى‪ { :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُنوَفّ إِلَ ْيهِمْ أَ ْ‬
‫خسُونَ } إلى آخر اليات‪.‬‬
‫فِيهَا لَا يُبْ َ‬

‫{ ‪ { } 21-23‬أَمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ شَرَعُوا َلهُمْ مِنَ الدّينِ مَا َلمْ يَأْذَنْ ِبهِ اللّ ُه وََلوْلَا كَِلمَةُ ا ْل َفصْلِ َل ُقضِيَ‬
‫ش ِفقِينَ ِممّا َكسَبُوا وَ ُهوَ وَاقِعٌ ِب ِه ْم وَالّذِينَ آمَنُوا‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظّاِلمِينَ مُ ْ‬
‫بَيْ َنهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ َ‬
‫ضلُ ا ْلكَبِيرُ * ذَِلكَ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فِي َر ْوضَاتِ الْجَنّاتِ َلهُمْ مَا َيشَاءُونَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَ ْ‬
‫وَ َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ ُقلْ لَا أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرًا إِلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى‬
‫الّذِي يُ َبشّرُ اللّهُ عِبَا َدهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫شكُورٌ }‬
‫غفُورٌ َ‬
‫َومَنْ َيقْتَ ِرفْ حَسَ َنةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنّ اللّهَ َ‬

‫يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإياهم في الكفر وأعماله‪ ،‬من‬
‫شياطين النس‪ ،‬الدعاة إلى الكفر { شَرَعُوا َلهُمْ مِنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ } من الشرك والبدع‪،‬‬
‫وتحريم ما أحل ال‪ ،‬وتحليل ما حرم ال ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم‪.‬‬
‫مع أن الدين ل يكون إل ما شرعه ال تعالى‪ ،‬ليدين به العباد ويتقربوا به إليه‪ ،‬فالصل الحجر‬
‫على كل أحد أن يشرع شيئا ما جاء عن ال وعن رسوله‪ ،‬فكيف بهؤلء الفسقة المشتركين هم‬
‫وأباؤهم على الكفر‪.‬‬

‫ضيَ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬لول الجل المسمى الذي ضربه ال فاصل بين الطوائف‬
‫صلِ َلقُ ِ‬
‫{ وََلوْلَا كَِلمَةُ ا ْل َف ْ‬
‫المختلفة‪ ،‬وأنه سيؤخرهم إليه‪ ،‬لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإهلك المبطل‪،‬‬
‫لن المقتضي للهلك موجود‪ ،‬ولكن أمامهم العذاب الليم في الخرة‪ ،‬هؤلء وكل ظالم‪.‬‬

‫شفِقِينَ } أي‪ :‬خائفين وجلين { ِممّا‬


‫وفي ذلك اليوم { تَرَى الظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { ُم ْ‬
‫كَسَبُوا } أن يعاقبوا عليه‪.‬‬

‫ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه‪ ،‬وقد ل يقع‪ ،‬أخبر أنه { وَاقِعٌ ِبهِمْ } العقاب الذي‬
‫خافوه‪ ،‬لنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب‪ ،‬من غير معارض‪ ،‬من توبة ول غيرها‪ ،‬ووصلوا‬
‫موضعا فات فيه النظار والمهال‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } يشمل كل عمل‬


‫{ وَالّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بال وبكتبه ورسله وما جاءوا به‪ { ،‬وَ َ‬
‫صالح من أعمال القلوب‪ ،‬وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات‪ ،‬فهؤلء { فِي َر ْوضَاتِ‬
‫الْجَنّاتِ } أي‪ :‬الروضات المضافة إلى الجنات‪ ،‬والمضاف يكون بحسب المضاف إليه‪ ،‬فل تسأل‬
‫عن بهجة تلك الرياض المونقة‪ ،‬وما فيها من النهارالمتدفقة‪ ،‬والفياض المعشبة‪ ،‬والمناظر الحسنة‪،‬‬
‫والشجار المثمرة‪ ،‬والطيور المغردة‪ ،‬والصوات الشجية المطربة‪ ،‬والجتماع بكل حبيب‪ ،‬والخذ‬
‫من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب‪ ،‬رياض ل تزداد على طول المدى إل حسنا وبهاء‪ ،‬ول‬
‫يزداد أهلها إل اشتياقا إلى لذاتها وودادا‪َ { ،‬لهُمْ مَا َيشَاءُونَ } فيها‪ ،‬أي‪ :‬في الجنات‪ ،‬فمهما أرادوا‬
‫فهو حاصل‪ ،‬ومهما طلبوا حصل‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪{ .‬‬
‫ضلُ ا ْلكَبِيرُ } وهل فوز أكبر من الفوز برضا ال تعالى‪ ،‬والتنعم بقربه في دار كرامته؟‬
‫ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َف ْ‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } أي‪ :‬هذه البشارة العظيمة‪ ،‬التي هي‬


‫{ ذَِلكَ الّذِي يُ َبشّرُ اللّهُ عِبَا َدهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫أكبر البشائر على الطلق‪ ،‬بشر بها الرحيم الرحمن‪ ،‬على يد أفضل خلقه لهل اليمان والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬فهي أجل الغايات‪ ،‬والوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل‪.‬‬

‫{ ُقلْ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ } أي‪ :‬على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه‪ { .‬أَجْرًا } فلست‬
‫أريد أخذ أموالكم‪ ،‬ول التولي عليكم والترأس‪ ،‬ول غير ذلك من الغراض { إِلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى‬
‫}‬
‫يحتمل أن المراد‪ :‬ل أسألكم عليه أجرا إل أجرا واحدا هو لكم‪ ،‬وعائد نفعه إليكم‪ ،‬وهو أن تودوني‬
‫وتحبوني في القرابة‪ ،‬أي‪ :‬لجل القرابة‪ .‬ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة اليمان‪ ،‬فإن‬
‫مودة اليمان بالرسول‪ ،‬وتقديم محبته على جميع المحاب بعد محبة ال‪ ،‬فرض على كل مسلم‪،‬‬
‫وهؤلء طلب منهم زيادة على ذلك أن يحبوه لجل القرابة‪ ،‬لنه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قد باشر‬
‫بدعوته أقرب الناس إليه‪ ،‬حتى إنه قيل‪ :‬إنه ليس في بطون قريش أحد‪ ،‬إل ولرسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فيه قرابة‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد إل مودة ال تعالى الصادقة‪ ،‬وهي التي يصحبها التقرب إلى ال‪ ،‬والتوسل‬
‫بطاعته الدالة على صحتها وصدقها‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى } أي‪ :‬في التقرب إلى ال‪،‬‬
‫وعلى كل القولين‪ ،‬فهذا الستثناء دليل على أنه ل يسألهم عليه أجرا بالكلية‪ ،‬إل أن يكون شيئا‬
‫يعود نفعه إليهم‪ ،‬فهذا ليس من الجر في شيء‪ ،‬بل هو من الجر منه لهم صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫حمِيدِ } وقولهم‪" :‬ما لفلن ذنب عندك‪،‬‬
‫كقوله تعالى‪َ { :‬ومَا َن َقمُوا مِ ْنهُمْ إِلّا أَنْ ُي ْؤمِنُوا بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬
‫إل أنه محسن إليك"‬

‫{ َومَنْ َيقْتَ ِرفْ حَسَنَةً } من صلة‪ ،‬أو صوم‪ ،‬أو حج‪ ،‬أو إحسان إلى الخلق { نَ ِزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا }‬
‫بأن يشرح ال صدره‪ ،‬وييسر أمره‪ ،‬وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر‪ ،‬ويزداد بها عمل المؤمن‪،‬‬
‫ويرتفع عند ال وعند خلقه‪ ،‬ويحصل له الثواب العاجل والجل‪.‬‬

‫شكُورٌ } يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها‪ ،‬ويشكر على‬
‫غفُورٌ َ‬
‫{ إِنّ اللّهَ َ‬
‫العمل القليل بالجر الكثير‪ ،‬فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب‪ ،‬وبشكره يتقبل الحسنات‬
‫ويضاعفها أضعافا كثيرة‪.‬‬

‫حقّ‬
‫ل وَيُ ِ‬
‫طَ‬‫ك وَ َيمْحُ اللّهُ الْبَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 24‬أمْ َيقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَإِنْ َيشَأِ اللّهُ َيخْتِمْ عَلَى قَلْ ِب َ‬
‫حقّ ِبكَِلمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }‬
‫الْ َ‬

‫يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى ال عليه وسلم جرأة منهم وكذبا‪ { :‬افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا }‬
‫فرموك بأشنع المور وأقبحها‪ ،‬وهو الفتراء على ال بادعاء النبوة والنسبة إلى ال ما هو بريء‬
‫منه‪ ،‬وهم يعلمون صدقك وأمانتك‪ ،‬فكيف يتجرأون على هذا الكذب الصراح؟‬

‫بل تجرأوا بذلك على ال تعالى‪ ،‬فإنه قدح في ال‪ ،‬حيث مكنك من هذه الدعوة العظيمة‪ ،‬المتضمنة‬
‫‪-‬على موجب زعمهم‪ -‬أكبر الفساد في الرض‪ ،‬حيث مكنه ال من التصريح بالدعوة‪ ،‬ثم بنسبتها‬
‫إليه‪ ،‬ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات‪ ،‬والدلة القاهرات‪ ،‬والنصر المبين‪ ،‬والستيلء على من‬
‫خالفه‪ ،‬وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها‪ ،‬وهو أن يختم على قلب الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم فل يعي شيئا ول يدخل إليه خير‪ ،‬وإذا ختم على قلبه انحسم المر كله‬
‫وانقطع‪.‬‬

‫فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول‪ ،‬وأقوى شهادة من ال له على ما قال‪ ،‬ول يوجد‬
‫شهادة أعظم منها ول أكبر‪ ،‬ولهذا من حكمته ورحمته‪ ،‬وسنته الجارية‪ ،‬أنه يمحو الباطل ويزيله‪،‬‬
‫وإن كان له صولة في بعض الوقات‪ ،‬فإن عاقبته الضمحلل‪.‬‬

‫{ وَ ُيحِقّ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَاتِهِ } الكونية‪ ،‬التي ل تغير ول تبدل‪ ،‬ووعده الصادق‪ ،‬وكلماته الدينية التي‬
‫تحقق ما شرعه من الحق‪ ،‬وتثبته في القلوب‪ ،‬وتبصر أولي اللباب‪ ،‬حتى إن من جملة إحقاقه‬
‫تعالى الحق‪ ،‬أن ُيقَ ّيضَ له الباطل ليقاومه‪ ،‬فإذا قاومه‪ ،‬صال عليه الحق ببراهينه وبيناته‪ ،‬فظهر‬
‫من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع‪ ،‬ويتبين بطلنه لكل أحد‪ ،‬ويظهر الحق كل الظهور‬
‫لكل أحد‪.‬‬

‫{ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي‪ :‬بما فيها‪ ،‬وما اتصفت به من خير وشر‪ ،‬وما أكنته ولم تبده‪.‬‬

‫ت وَ َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ * وَيَسْ َتجِيبُ‬


‫{ ‪ { } 25-28‬وَ ُهوَ الّذِي َيقْ َبلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ وَ َيعْفُو عَنِ السّيّئَا ِ‬
‫سطَ اللّهُ‬
‫شدِيدٌ * وََلوْ بَ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ َفضْلِهِ وَا ْلكَافِرُونَ َلهُمْ عَذَابٌ َ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫الرّزْقَ ِلعِبَا ِدهِ لَ َب َغوْا فِي الْأَ ْرضِ وََلكِنْ يُنَ ّزلُ ِبقَدَرٍ مَا َيشَاءُ إِنّهُ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرٌ َبصِيرٌ * وَ ُهوَ الّذِي يُنَ ّزلُ‬
‫حمِيدُ }‬
‫حمَتَ ُه وَ ُهوَ ا ْلوَِليّ الْ َ‬
‫ا ْلغَ ْيثَ مِنْ َبعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ َر ْ‬

‫هذا بيان لكمال كرم ال تعالى وسعة جوده وتمام لطفه‪ ،‬بقبول التوبة الصادرة من عباده حين‬
‫يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها‪ ،‬ويعزمون على أن ل يعاودوها‪ ،‬إذا قصدوا بذلك وجه ربهم‪،‬‬
‫فإن ال يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلك‪ ،‬ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية‪.‬‬

‫{ وَ َي ْعفُو عَنِ السّيّئَاتِ } ويمحوها‪ ،‬ويمحو أثرها من العيوب‪ ،‬وما اقتضته من العقوبات‪ ،‬ويعود‬
‫التائب عنده كريما‪ ،‬كأنه ما عمل سوءا قط‪ ،‬ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه‪.‬‬

‫ولما كانت التوبة من العمال العظيمة‪ ،‬التي قد تكون كاملة بسبب تمام الخلص والصدق فيها‪،‬‬
‫وقد تكون ناقصة عند نقصهما‪ ،‬وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الغراض‬
‫الدنيوية‪ ،‬وكان محل ذلك القلب الذي ل يعلمه إل ال‪ ،‬ختم هذه الية بقوله‪ { :‬وَ َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ }‬
‫فال تعالى‪ ،‬دعا جميع العباد إلى النابة إليه والتوبة من التقصير‪ ،‬فانقسموا ‪-‬بحسب الستجابة له‪-‬‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ }‬
‫إلى قسمين‪ :‬مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْ َتجِيبُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬

‫أي‪ :‬يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته‪ ،‬لن ما معهم من اليمان والعمل‬
‫الصالح يحملهم على ذلك‪ ،‬فإذا استجابوا له‪ ،‬شكر ال لهم‪ ،‬وهو الغفور الشكور‪.‬‬

‫وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل‪ ،‬وزادهم مضاعفة في الجر زيادة عن ما تستحقه‬
‫أعمالهم من الثواب والفوز العظيم‪.‬‬

‫وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله‪ ،‬فـ { َل ُهمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬ثم ذكر أن من لطفه بعباده‪ ،‬أنه ل يوسع عليهم الدنيا سعة‪ ،‬تضر بأديانهم فقال‪:‬‬
‫سطَ اللّهُ الرّزْقَ ِلعِبَا ِدهِ لَ َب َغوْا فِي الْأَ ْرضِ }‬
‫{ وََلوْ بَ َ‬

‫أي‪ :‬لغفلوا عن طاعة ال‪ ،‬وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا‪ ،‬فأوجبت لهم الكباب على ما تشتهيه‬
‫نفوسهم‪ ،‬ولو كان معصية وظلما‪.‬‬

‫{ وََلكِنْ يُنَ ّزلُ ِبقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنّهُ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرٌ َبصِيرٌ } كما في‬
‫بعض الثار أن ال تعالى يقول‪" :‬إن من عبادي من ل يصلح إيمانه إل الغنى‪ ،‬ولو أفقرته لفسده‬
‫ذلك‪ ،‬وإن من عبادي من ل يصلح إيمانه إل الفقر‪ ،‬ولو أغنيته لفسده ذلك‪ ،‬وإن من عبادي من ل‬
‫يصلح إيمانه إل الصحة‪ ،‬ولو أمرضته لفسده ذلك‪ ،‬وإن من عبادي من ل يصلح إيمانه إل‬
‫المرض ولو عافيته لفسده ذلك‪ ،‬إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم‪ ،‬إني خبير بصير "‬

‫{ وَ ُهوَ الّذِي يُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ } أي‪ :‬المطر الغزير الذي به يغيث البلد والعباد‪ { ،‬مِنْ َبعْدِ مَا قَ َنطُوا }‬
‫وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه ل يأتيهم‪ ،‬وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمال‪ ،‬فينزل ال الغيث‬
‫حمَتَهُ } من إخراج القوات للدميين وبهائمهم‪ ،‬فيقع عندهم موقعا عظيما‪،‬‬
‫{ وَيَنْشُرُ } به { َر ْ‬
‫ويستبشرون بذلك ويفرحون‪ { .‬وَ ُهوَ ا ْلوَِليّ } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير‪ ،‬ويتولى القيام‬
‫حمِيدُ } في وليته وتدبيره‪ ،‬الحميد على ما له من الكمال‪ ،‬وما أوصله‬
‫بمصالح دينهم ودنياهم‪ { .‬ا ْل َ‬
‫إلى خلقه من أنواع الفضال‪.‬‬

‫ج ْم ِعهِمْ ِإذَا يَشَاءُ‬


‫ض َومَا َبثّ فِي ِهمَا مِنْ دَابّ ٍة وَ ُهوَ عَلَى َ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خلْقُ ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 29‬ومِنْ آيَا ِتهِ َ‬
‫قَدِيرٌ }‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أي‪ :‬ومن أدلة قدرته العظيمة‪ ،‬وأنه سيحيي الموتى بعد موتهم‪ { ،‬خَ ْلقُ } هذه { ال ّ‬
‫} على عظمهما وسعتهما‪ ،‬الدال على قدرته وسعة سلطانه‪ ،‬وما فيهما من التقان والحكام دال‬
‫على حكمته وما فيهما من المنافع والمصالح دال على رحمته‪ ،‬وذلك يدل على أنه المستحق‬
‫لنواع العبادة كلها‪ ،‬وأن إلهية ما سواه باطلة‪.‬‬

‫{ َومَا َبثّ فِي ِهمَا } أي‪ :‬نشر في السماوات والرض من أصناف الدواب التي جعلها اللّه مصالح‬
‫ج ْم ِعهِمْ } أي‪ :‬جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة { ِإذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ }‬
‫ومنافع لعباده‪ { .‬وَ ُهوَ عَلَى َ‬
‫فقدرته ومشيئته صالحان لذلك‪ ،‬ويتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق‪ ،‬وقد علم أنه قد‬
‫تواترت أخبار المرسلين وكتبهم بوقوعه‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 30-31‬ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي ُك ْم وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ‬
‫ي وَلَا َنصِيرٍ }‬
‫فِي الْأَ ْرضِ َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِ ّ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولدهم وفيما يحبون ويكون‬
‫عزيزا عليهم‪ ،‬إل بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات‪ ،‬وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر‪ ،‬فإن اللّه ل يظلم‬
‫ظهْرِهَا مِنْ دَابّةٍ }‬
‫العباد‪ ،‬ولكن أنفسهم يظلمون { وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا مَا تَ َركَ عَلَى َ‬
‫وليس إهمال منه تعالى تأخير العقوبات ول عجزا‪.‬‬

‫{ َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬معجزين قدرة اللّه عليكم‪ ،‬بل أنتم عاجزون في الرض‪،‬‬
‫ليس عندكم امتناع عما ينفذه اللّه فيكم‪َ { .‬ومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ } يتولكم‪ ،‬فيحصل لكم‬
‫المنافع { وَلَا َنصِيرٍ } يدفع عنكم المضار‪.‬‬

‫سكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَى‬


‫جوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُ ْ‬
‫{ ‪َ { } 32-35‬ومِنْ آيَاتِهِ الْ َ‬
‫شكُورٍ * َأوْ يُو ِب ْقهُنّ ِبمَا َكسَبُوا وَ َي ْعفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَ َيعْلَمَ الّذِينَ‬
‫ظهْ ِرهِ إِنّ فِي َذِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُكلّ صَبّارٍ َ‬
‫َ‬
‫يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا َلهُمْ مِنْ َمحِيصٍ }‬

‫جوَار فِي الْبَحْرِ } من السفن‪ ،‬والمراكب النارية‬


‫أي‪ :‬ومن أدلة رحمته وعنايته بعباده { الْ َ‬
‫والشراعية‪ ،‬التي من عظمها { كَالْأَعْلَامِ } وهي الجبال الكبار‪ ،‬التي سخر لها البحر العجاج‪،‬‬
‫وحفظها من التطام المواج‪ ،‬وجعلها تحملكم وتحمل أمتعتكم الكثيرة إلى البلدان والقطار البعيدة‪،‬‬
‫وسخر لها من السباب ما كان معونة على ذلك‪.‬‬
‫سكِنِ الرّيحَ } التي جعلها ال سببا لمشيها‪ { ،‬فَيَظْلَلْنَ }‬
‫ثم نبه على هذه السباب بقوله‪ { :‬إِنْ يَشَأْ يُ ْ‬
‫أي‪ :‬الجوار { َروَاكِدَ } على ظهر البحر‪ ،‬ل تتقدم ول تتأخر‪ ،‬ول ينتقض هذا بالمراكب النارية‪،‬‬
‫فإن من شرط مشيها وجود الريح‪.‬‬

‫وإن شاء ال تعالى أوبق الجوار بما كسب أهلها‪ ،‬أي‪ :‬أغرقها في البحر وأتلفها‪ ،‬ولكنه يحلم ويعفو‬
‫عن كثير‪.‬‬

‫شكُورٍ } أي‪ :‬كثير الصبر على ما تكرهه نفسه ويشق عليها‪،‬‬


‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل ُكلّ صَبّارٍ َ‬
‫فيكرهها عليه‪ ،‬من مشقة طاعة‪ ،‬أو ردع داع إلى معصية‪ ،‬أو ردع نفسه عند المصائب عن‬
‫شكُورٍ } في الرخاء وعند النعم‪ ،‬يعترف بنعمة ربه ويخضع له‪ ،‬ويصرفها في‬
‫التسخط‪َ { ،‬‬
‫مرضاته‪ ،‬فهذا الذي ينتفع بآيات ال‪.‬‬

‫وأما الذي ل صبر عنده‪ ،‬ول شكر له على نعم ال‪ ،‬فإنه معرض أو معاند ل ينتفع باليات‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَ َيعْلَمَ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا } ليبطلوها بباطلهم‪ { .‬مَا َلهُمْ مِنْ َمحِيصٍ } أي‪ :‬ل‬
‫ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة‪.‬‬

‫شيْءٍ َفمَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا عِ ْندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى لِلّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى‬
‫{ ‪َ { } 36-39‬فمَا أُوتِيتُمْ مِنْ َ‬
‫غضِبُوا ُهمْ َي ْغفِرُونَ * وَالّذِينَ‬
‫ش وَإِذَا مَا َ‬
‫رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ * وَالّذِينَ َيجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْ ِم وَا ْل َفوَاحِ َ‬
‫اسْ َتجَابُوا لِرَ ّبهِ ْم وََأقَامُوا الصّلَاةَ وََأمْرُهُمْ شُورَى بَيْ َنهُ ْم َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ * وَالّذِينَ ِإذَا َأصَا َبهُمُ‬
‫الْ َب ْغيُ هُمْ يَنْ َتصِرُونَ }‬

‫هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الخرة‪ ،‬وذكر العمال الموصلة إليها فقال‪َ { :‬فمَا أُوتِيتُمْ مِنْ‬
‫شيْءٍ } من ملك ورياسة‪ ،‬وأموال وبنين‪ ،‬وصحة وعافية بدنية‪َ { .‬فمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } لذة منغصة‬
‫َ‬
‫منقطعة‪َ { .‬ومَا عِنْدَ اللّهِ } من الثواب الجزيل‪ ،‬والجر الجليل‪ ،‬والنعيم المقيم { خَيْرٌ } من لذات‬
‫الدنيا‪ ،‬خيرية ل نسبة بينهما { وَأَ ْبقَى } لنه نعيم ل منغص فيه ول كدر‪ ،‬ول انتقال‪.‬‬

‫ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال‪ِ { :‬للّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } أي‪ :‬جمعوا بين اليمان‬
‫الصحيح‪ ،‬المستلزم لعمال اليمان الظاهرة والباطنة‪ ،‬وبين التوكل الذي هو اللة لكل عمل‪ ،‬فكل‬
‫عمل ل يصحبه التوكل فغير تام‪ ،‬وهو العتماد بالقلب على ال في جلب ما يحبه العبد‪ ،‬ودفع ما‬
‫يكرهه مع الثقة به تعالى‪.‬‬
‫حشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش ‪-‬مع أن جميعهما كبائر‪-‬‬
‫{ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِ ْث ِم وَا ْلفَوَا ِ‬
‫أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها‪ ،‬كالزنا ونحوه‪ ،‬والكبائر ما ليس كذلك‪،‬‬
‫هذا عند القتران‪ ،‬وأما مع إفراد كل منهما عن الخر فإن الخر يدخل فيه‪.‬‬

‫غضِبُوا هُمْ َي ْغفِرُونَ } أي‪ :‬قد تخلقوا بمكارم الخلق ومحاسن الشيم‪ ،‬فصار الحلم لهم‬
‫{ وَِإذَا مَا َ‬
‫سجية‪ ،‬وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله‪ ،‬كظموا ذلك الغضب فلم‬
‫ينفذوه‪ ،‬بل غفروه‪ ،‬ولم يقابلوا المسيء إل بالحسان والعفو والصفح‪.‬‬

‫فترتب على هذا العفو والصفح‪ ،‬من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير‪ ،‬كما‬
‫حمِي ٌم َومَا يَُلقّاهَا إِلّا الّذِينَ‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫قال تعالى‪ { :‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫حظّ عَظِيمٍ }‬
‫صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو َ‬

‫{ وَالّذِينَ اسْ َتجَابُوا لِرَ ّبهِمْ } أي‪ :‬انقادوا لطاعته‪ ،‬ول ّبوْا دعوته‪ ،‬وصار قصدهم رضوانه‪ ،‬وغايتهم‬
‫الفوز بقربه‪.‬‬

‫ومن الستجابة للّه‪ ،‬إقامة الصلة وإيتاء الزكاة‪ ،‬فلذلك عطفهما على ذلك‪ ،‬من باب عطف العام‬
‫على الخاص‪ ،‬الدال على شرفه وفضله فقال‪ { :‬وََأقَامُوا الصّلَاةَ } أي‪ :‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬فرضها‬
‫ونفلها‪َ { .‬و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ } من النفقات الواجبة‪ ،‬كالزكاة والنفقة على القارب ونحوهم‪،‬‬
‫والمستحبة‪ ،‬كالصدقات على عموم الخلق‪.‬‬

‫{ وََأمْرُ ُهمْ } الديني والدنيوي { شُورَى بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬ل يستبد أحد منهم برأيه في أمر من المور‬
‫المشتركة بينهم‪ ،‬وهذا ل يكون إل فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال‬
‫عقولهم‪ ،‬أنهم إذا أرادوا أمرا من المور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها‪ ،‬اجتمعوا لها‬
‫وتشاوروا وبحثوا فيها‪ ،‬حتى إذا تبينت لهم المصلحة‪ ،‬انتهزوها وبادروها‪ ،‬وذلك كالرأي في الغزو‬
‫والجهاد‪ ،‬وتولية الموظفين لمارة أو قضاء‪ ،‬أو غيره‪ ،‬وكالبحث في المسائل الدينية عموما‪ ،‬فإنها‬
‫من المور المشتركة‪ ،‬والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه ال‪ ،‬وهو داخل في هذه الية‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ إِذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ } أي‪ :‬وصل إليهم من أعدائهم { ُهمْ يَنْ َتصِرُونَ } لقوتهم وعزتهم‪ ،‬ولم‬
‫يكونوا أذلء عاجزين عن النتصار‪.‬‬

‫فوصفهم باليمان‪ ،‬وعلى ال‪ ،‬واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر‪ ،‬والنقياد التام‪،‬‬
‫والستجابة لربهم‪ ،‬وإقامة الصلة‪ ،‬والنفاق في وجوه الحسان‪ ،‬والمشاورة في أمورهم‪ ،‬والقوة‬
‫والنتصار على أعدائهم‪ ،‬فهذه خصال الكمال قد جمعوها‪ ،‬ويلزم من قيامها فيهم‪ ،‬فعل ما هو‬
‫دونها‪ ،‬وانتفاء ضدها‪.‬‬

‫حبّ الظّاِلمِينَ *‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لَا ُي ِ‬
‫{ ‪ { } 40-43‬وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثُْلهَا َفمَنْ َ‬
‫س وَيَ ْبغُونَ‬
‫علَ ْيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ َيظِْلمُونَ النّا َ‬
‫وََلمَنِ انْ َتصَرَ َب ْعدَ ظُ ْل ِمهِ فَأُولَ ِئكَ مَا َ‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْزمِ الُْأمُورِ }‬
‫ن صَبَ َر وَ َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ * وََلمَ ْ‬
‫حقّ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬

‫ذكر ال في هذه الية‪ ،‬مراتب العقوبات‪ ،‬وأنها على ثلث مراتب‪ :‬عدل وفضل وظلم‪.‬‬

‫فمرتبة العدل‪ ،‬جزاء السيئة بسيئة مثلها‪ ،‬ل زيادة ول نقص‪ ،‬فالنفس بالنفس‪ ،‬وكل جارحة‬
‫بالجارحة المماثلة لها‪ ،‬والمال يضمن بمثله‪.‬‬

‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ }‬


‫ومرتبة الفضل‪ :‬العفو والصلح عن المسيء‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫يجزيه أجرا عظيما‪ ،‬وثوابا كثيرا‪ ،‬وشرط ال في العفو الصلح فيه‪ ،‬ليدل ذلك على أنه إذا كان‬
‫الجاني ل يليق العفو عنه‪ ،‬وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته‪ ،‬فإنه في هذه الحال ل يكون‬
‫مأمورا به‪.‬‬

‫وفي جعل أجر العافي على ال ما يهيج على العفو‪ ،‬وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله ال‬
‫به‪ ،‬فكما يحب أن يعفو ال عنه‪ ،‬فَلْ َي ْعفُ عنهم‪ ،‬وكما يحب أن يسامحه ال‪ ،‬فليسامحهم‪ ،‬فإن الجزاء‬
‫من جنس العمل‪.‬‬

‫حبّ الظّاِلمِينَ } الذين يجنون على غيرهم ابتداء‪ ،‬أو‬


‫وأما مرتبة الظلم فقد ذكرها بقوله‪ { :‬إِنّهُ لَا يُ ِ‬
‫يقابلون الجاني بأكثر من جنايته‪ ،‬فالزيادة ظلم‪.‬‬

‫{ وََلمَنِ انْ َتصَرَ َبعْدَ ظُ ْلمِهِ } أي‪ :‬انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه { فَأُولَ ِئكَ مَا عَلَ ْيهِمْ مِنْ‬
‫سَبِيلٍ } أي‪ :‬ل حرج عليهم في ذلك‪.‬‬

‫ودل قوله‪ { :‬وَالّذِينَ إِذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ } وقوله‪ { :‬وََلمَنِ انْ َتصَرَ َبعْدَ ظُ ْلمِهِ } أنه ل بد من إصابة‬
‫البغي والظلم ووقوعه‪.‬‬

‫وأما إرادة البغي على الغير‪ ،‬وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء‪ ،‬فهذا ل يجازى بمثله‪ ،‬وإنما‬
‫يؤدب تأديبا يردعه عن قول أو فعل صدر منه‪.‬‬
‫س وَيَ ْبغُونَ فِي‬
‫{ إِ ّنمَا السّبِيلُ } أي‪ :‬إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية { عَلَى الّذِينَ َيظِْلمُونَ النّا َ‬
‫حقّ } وهذا شامل للظلم والبغي على الناس‪ ،‬في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪.‬‬
‫الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫{ أُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي‪ :‬موجع للقلوب والبدان‪ ،‬بحسب ظلمهم وبغيهم‪.‬‬

‫غفَرَ } لهم‪ ،‬بأن سمح لهم عما يصدر منهم‪ { ،‬إِنّ‬


‫ن صَبَرَ } على ما يناله من أذى الخلق { وَ َ‬
‫{ وََلمَ ْ‬
‫ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْزمِ الُْأمُورِ } أي‪ :‬لمن المور التي حث ال عليها وأكدها‪ ،‬وأخبر أنه ل يلقاها إل أهل‬
‫الصبر والحظوظ العظيمة‪ ،‬ومن المور التي ل يوفق لها إل أولو العزائم والهمم‪ ،‬وذوو اللباب‬
‫والبصائر‪.‬‬

‫فإن ترك النتصار للنفس بالقول أو الفعل‪ ،‬من أشق شيء عليها‪ ،‬والصبر على الذى‪ ،‬والصفح‬
‫عنه‪ ،‬ومغفرته‪ ،‬ومقابلته بالحسان‪ ،‬أشق وأشق‪ ،‬ولكنه يسير على من يسره ال عليه‪ ،‬وجاهد نفسه‬
‫على التصاف به‪ ،‬واستعان ال على ذلك‪ ،‬ثم إذا ذاق العبد حلوته‪ ،‬ووجد آثاره‪ ،‬تلقاه برحب‬
‫الصدر‪ ،‬وسعة الخلق‪ ،‬والتلذذ فيه‪.‬‬

‫ن وَِليّ مِنْ َبعْ ِد ِه وَتَرَى الظّاِلمِينَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ َيقُولُونَ‬


‫{ ‪َ { } 44-46‬ومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِ ْ‬
‫ي َوقَالَ‬
‫خفِ ّ‬
‫شعِينَ مِنَ ال ّذلّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَ ْرفٍ َ‬
‫علَ ْيهَا خَا ِ‬
‫َهلْ إِلَى مَرَدّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَا ُهمْ ُيعْ َرضُونَ َ‬
‫سهُ ْم وَأَهْلِيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَلَا إِنّ الظّاِلمِينَ فِي عَذَابٍ ُمقِيمٍ‬
‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫الّذِينَ آمَنُوا إِنّ ا ْلخَاسِرِينَ الّذِينَ َ‬
‫* َومَا كَانَ َلهُمْ مِنْ َأوْلِيَاءَ يَ ْنصُرُو َنهُمْ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ سَبِيلٍ }‬

‫ن وَِليّ‬
‫يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والضلل‪ ،‬وأنه { مَنْ ُيضِْللِ اللّهُ } بسبب ظلمه { َفمَا لَهُ مِ ْ‬
‫مِنْ َبعْ ِدهِ } يتولى أمره ويهديه‪.‬‬

‫{ وَتَرَى الظّاِلمِينَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ } مرأى ومنظرا فظيعا‪ ،‬صعبا شنيعا‪ ،‬يظهرون الندم العظيم‪،‬‬
‫والحزن على ما سلف منهم‪ ،‬و { َيقُولُونَ َهلْ إِلَى مَرَدّ مِنْ سَبِيلٍ } أي‪ :‬هل لنا طريق أو حيلة إلى‬
‫رجوعنا إلى الدنيا‪ ،‬لنعمل غير الذي كنا نعمل‪ ،‬وهذا طلب للمر المحال الذي ل يمكن‪.‬‬

‫شعِينَ مِنَ ال ّذلّ } أي‪ :‬ترى أجسامهم خاشعة للذل‬


‫{ وَتَرَا ُهمْ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا } أي‪ :‬على النار { خَا ِ‬
‫خ ِفيّ } أي‪ :‬ينظرون إلى النار مسارقة وشزرا‪ ،‬من هيبتها‬
‫الذي في قلوبهم‪ { ،‬يَ ْنظُرُونَ مِنْ طَ ْرفٍ َ‬
‫وخوفها‪.‬‬

‫{ َوقَالَ الّذِينَ آمَنُوا } حيث ظهرت عواقب الخلق‪ ،‬وتبين أهل الصدق من غيرهم‪ { :‬إِنّ ا ْلخَاسِرِينَ‬
‫س ُه ْم وَأَهْلِيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب‪،‬‬
‫} على الحقيقة { الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫وحصلوا على أليم العقاب وفرق بينهم وبين أهليهم‪ ،‬فلم يجتمعوا بهم‪ ،‬آخر ما عليهم‪ { .‬أَلَا إِنّ‬
‫الظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِي عَذَابٍ ُمقِيمٍ } أي‪ :‬في سوائه ووسطه‪ ،‬منغمرين ل‬
‫يخرجون منه أبدا‪ ،‬ول يفتر عنهم وهم فيه مبلسون‪.‬‬

‫{ َومَا كَانَ َلهُمْ مِنْ َأوْلِيَاءَ يَ ْنصُرُو َنهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ } كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم‪ ،‬ففي‬
‫القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت‪ ،‬وأنه حين جاءهم عذاب ال لم يدفع‬
‫عنهم‪َ { .‬ومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ سَبِيلٍ } تحصل به هدايته‪ ،‬فهؤلء ضلوا حين زعموا في‬
‫شركائهم النفع ودفع الضر‪ ،‬فتبين حينئذ ضللهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 47-48‬اسْ َتجِيبُوا لِرَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا َل ُكمْ مِنْ مَلْجَإٍ َي ْومَئِ ٍذ َومَا‬
‫حفِيظًا إِنْ عَلَ ْيكَ إِلّا الْبَلَاغُ وَإِنّا ِإذَا َأ َذقْنَا الْإِنْسَانَ‬
‫َلكُمْ مِنْ َنكِيرٍ * فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫حمَةً فَرِحَ ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الْإِنْسَانَ َكفُورٌ }‬
‫مِنّا رَ ْ‬

‫يأمر تعالى عباده بالستجابة له‪ ،‬بامتثال ما أمر به‪ ،‬واجتناب ما نهى عنه‪ ،‬وبالمبادرة بذلك وعدم‬
‫التسويف‪ ،‬مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْم القيامة الذي إذا جاء ل يمكن رده واستدراك الفائت‪ ،‬وليس للعبد‬
‫في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه‪ ،‬فيفوت ربه‪ ،‬ويهرب منه‪.‬‬

‫طعْتُمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا‬


‫بل قد أحاطت الملئكة بالخليقة من خلفهم‪ ،‬ونودوا { يَا َمعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْ َت َ‬
‫سلْطَانٍ } وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ فَا ْنفُذُوا لَا تَ ْنفُذُونَ إِلّا بِ ُ‬
‫مِنْ َأقْطَارِ ال ّ‬
‫اقترفه وأجرمه‪ ،‬بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه‪.‬‬

‫وهذه الية ونحوها‪ ،‬فيها ذم المل‪ ،‬والمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد‪ ،‬فإن‬
‫للتأخير آفات‪.‬‬

‫حفِيظًا } تحفظ أعمالهم‬


‫{ فَإِنْ أَعْ َرضُوا } عما جئتهم به بعد البيان التام { َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫وتسأل عنها‪ { ،‬إِنْ عَلَ ْيكَ إِلّا الْبَلَاغُ } فإذا أديت ما عليك‪ ،‬فقد وجب أجرك على اللّه‪ ،‬سواء‬
‫استجابوا أم أعرضوا‪ ،‬وحسابهم على اللّه الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها‪ ،‬وظاهرها‬
‫وباطنها‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى حالة النسان‪ ،‬وأنه إذا أذاقه ال رحمة‪ ،‬من صحة بدن‪ ،‬ورزق رغد‪ ،‬وجاه ونحوه {‬
‫فَرِحَ ِبهَا } أي‪ :‬فرح فرحا مقصورا عليها‪ ،‬ل يتعداها‪ ،‬ويلزم من ذلك طمأنينته بها‪ ،‬وإعراضه عن‬
‫المنعم‪.‬‬
‫{ وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ } أي‪ :‬مرض أو فقر‪ ،‬أو نحوهما { ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِي ِهمْ فَإِنّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } أي‪:‬‬
‫طبيعته كفران النعمة السابقة‪ ،‬والتسخط لما أصابه من السيئة‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َيخْلُقُ مَا َيشَاءُ َي َهبُ ِلمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَ َي َهبُ ِلمَنْ َيشَاءُ‬
‫{ ‪ { } 49-50‬لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫عقِيمًا إِنّهُ عَلِيمٌ َقدِيرٌ }‬
‫ج َعلُ مَنْ يَشَاءُ َ‬
‫جهُمْ ُذكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَ ْ‬
‫ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ‬

‫هذه الية فيها الخبار عن سعة ملكه تعالى‪ ،‬ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء‪ ،‬والتدبير‬
‫لجميع المور‪ ،‬حتى إن تدبيره تعالى‪ ،‬من عمومه‪ ،‬أنه يتناول المخلوقة عن السباب التي يباشرها‬
‫العباد‪ ،‬فإن النكاح من السباب لولدة الولد‪ ،‬فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الولد ما يشاء‪.‬‬

‫فمن الخلق من يهب له إناثا‪ ،‬ومنهم من يهب له ذكورا‪ ،‬ومنهم من يزوجه‪ ،‬أي‪ :‬يجمع له ذكورا‬
‫وإناثا‪ ،‬ومنهم من يجعله عقيما ل يولد له‪.‬‬

‫{ إِنّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } على كل شيء‪ ،‬فيتصرف بعلمه وإتقانه الشياء‪ ،‬وبقدرته في‬
‫مخلوقاته‪.‬‬

‫حيَ‬
‫سلَ رَسُولًا فَيُو ِ‬
‫ن وَرَاءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 51-53‬ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإلّا وَحْيًا َأوْ مِ ْ‬
‫ب وَلَا‬
‫حكِيمٌ * َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا مَا كُ ْنتَ تَدْرِي مَا ا ْلكِتَا ُ‬
‫بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَِليّ َ‬
‫جعَلْنَاهُ نُورًا َنهْدِي ِبهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * صِرَاطِ‬
‫ن وََلكِنْ َ‬
‫الْإِيمَا ُ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ أَلَا إِلَى اللّهِ َتصِيرُ الُْأمُورُ }‬
‫اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ‬

‫لما قال المكذبون لرسل ال‪ ،‬الكافرون بال‪َ { :‬لوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } من كبرهم وتجبرهم‪،‬‬
‫رد ال عليهم بهذه الية الكريمة‪ ،‬وأن تكليمه تعالى ل يكون إل لخواص خلقه‪ ،‬للنبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬وصفوته من العالمين‪ ،‬وأنه يكون على أحد هذه الوجه‪.‬‬

‫إما أَنْ ُيكَّلمَهُ اللّ ُه وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول‪ ،‬من غير إرسال ملك‪ ،‬ول مخاطبة منه‬
‫شفاها‪.‬‬

‫حجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران‪ ،‬كليم الرحمن‪.‬‬


‫ن وَرَاءِ ِ‬
‫{ َأوْ } يكلمه منه شفاها‪ ،‬لكن { مِ ْ‬

‫سلَ رَسُولًا } كجبريل أو غيره من الملئكة‪.‬‬


‫{ َأوْ } يكلمه ال بواسطة الرسول الملكي‪ ،‬فـ { يُ ْر ِ‬
‫حيَ بِِإذْنِهِ } أي‪ :‬بإذن ربه‪ ،‬ل بمجرد هواه‪ { ،‬إِنّهُ } تعالى علي الذات‪ ،‬علي الوصاف‪،‬‬
‫{ فَيُو ِ‬
‫عظيمها‪ ،‬علي الفعال‪ ،‬قد قهر كل شيء‪ ،‬ودانت له المخلوقات‪ .‬حكيم في وضعه كل شيء في‬
‫موضعه‪ ،‬من المخلوقات والشرائع‪.‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } وهو هذا القرآن الكريم‪،‬‬
‫سماه روحا‪ ،‬لن الروح يحيا به الجسد‪ ،‬والقرآن تحيا به القلوب والرواح‪ ،‬وتحيا به مصالح الدنيا‬
‫والدين‪ ،‬لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير‪.‬‬

‫وهو محض منة ال على رسوله وعباده المؤمنين‪ ،‬من غير سبب منهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مَا كُ ْنتَ‬
‫تَدْرِي } أي‪ :‬قبل نزوله عليك { مَا ا ْلكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } أي‪ :‬ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة‪،‬‬
‫ول إيمان وعمل بالشرائع اللهية‪ ،‬بل كنت أميا ل تخط ول تقرأ‪ ،‬فجاءك هذا الكتاب الذي‬
‫جعَلْنَاهُ نُورًا َنهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع‪ ،‬والهواء‬
‫{ َ‬
‫المردية‪ ،‬ويعرفون به الحقائق‪ ،‬ويهتدون به إلى الصراط المستقيم‪.‬‬

‫{ وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي‪ :‬تبينه لهم وتوضحه‪ ،‬وتنيره وترغبهم فيه‪ ،‬وتنهاهم عن‬
‫سمَاوَاتِ َومَا‬
‫ضده‪ ،‬وترهبهم منه‪ ،‬ثم فسر الصراط المستقيم فقال‪ { :‬صِرَاطِ اللّهِ الّذِي َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ }‬

‫أي‪ :‬الصراط الذي نصبه ال لعباده‪ ،‬وأخبرهم أنه موصل إليه وإلى دار كرامته‪ { ،‬أَلَا إِلَى اللّهِ‬
‫َتصِيرُ الُْأمُورُ } أي‪ :‬ترجع جميع أمور الخير والشر‪ ،‬فيجازي كُلّا بحسب عمله‪ ،‬إن خيرا فخير‪،‬‬
‫وإن شرا فشر‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الشورى‪ ،‬والحمد للّه أول وآخرا‪ ،‬وظاهرا وباطنا‪ ،‬على تيسيره وتسهيله‪.‬‬

‫تفسير سورة الزخرف‬


‫مكية‬

‫جعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * إِنّا َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-5‬بِ ْ‬
‫صفْحًا أَنْ كُنْتُمْ َق ْومًا مُسْ ِرفِينَ }‬
‫حكِيمٌ * َأفَ َنضْ ِربُ عَ ْن ُكمُ ال ّذكْ َر َ‬
‫* وَإِنّهُ فِي أُمّ ا ْلكِتَابِ َلدَيْنَا َلعَِليّ َ‬

‫هذا قسم بالقرآن على القرآن‪ ،‬فأقسم بالكتاب المبين وأطلق‪ ،‬ولم يذكر المتعلق‪ ،‬ليدل على أنه مبين‬
‫لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والخرة‪.‬‬
‫جعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا } هذا المقسم عليه‪ ،‬أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها‪ ،‬وهذا من‬
‫{ إِنّا َ‬
‫بيانه‪ .‬وذكر الحكمة في ذلك فقال‪َ { :‬لعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الذهان‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪:‬‬
‫{ وَإِنّهُ } أي‪ :‬هذا الكتاب { َلدَيْنَا } في المل العلى في أعلى الرتب وأفضلها { َلعَِليّ َ‬
‫لعلي في قدره وشرفه ومحله‪ ،‬حكيم فيما يشتمل عليه من الوامر والنواهي والخبار‪ ،‬فليس فيه‬
‫حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن ل يترك عباده همل‪ ،‬ل يرسل إليهم رسول‪ ،‬ول‬
‫ينزل عليهم كتابا‪ ،‬ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال‪:‬‬

‫صفْحًا } أي‪ :‬أفنعرض عنكم‪ ،‬ونترك إنزال الذكر إليكم‪ ،‬ونضرب عنكم‬
‫{ َأفَ َنضْ ِربُ عَ ْنكُمُ ال ّذكْ َر َ‬
‫صفحا‪ ،‬لجل إعراضكم‪ ،‬وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب‪ ،‬ونوضح لكم فيه كل شيء‪،‬‬
‫فإن آمنتم به واهتديتم‪ ،‬فهو من توفيقكم‪ ،‬وإل قامت عليكم الحجة‪ ،‬وكنتم على بينة من أمركم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 6-8‬وكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَ ِبيّ فِي الَْأوّلِينَ * َومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ * فَأَهَْلكْنَا‬
‫طشًا َو َمضَى مَ َثلُ الَْأوّلِينَ }‬
‫شدّ مِ ْنهُمْ بَ ْ‬
‫أَ َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬إن هذه سنتنا في الخلق‪ ،‬أن ل نتركهم همل‪ ،‬فكم { أَرْسَلْنَا مِنْ نَ ِبيّ فِي الَْأوّلِينَ }‬
‫يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ل شريك له‪ ،‬ولم يزل التكذيب موجودا في المم‪.‬‬

‫{ َومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } جحدا لما جاء به‪ ،‬وتكبرا على الحق‪.‬‬

‫طشًا } أي‪ :‬قوة وأفعال وآثارا في الرض‪َ { ،‬و َمضَى مَ َثلُ الَْأوّلِينَ }‬
‫{ فََأهَْلكْنَا أَشَدّ } من هؤلء { بَ ْ‬
‫أي‪ :‬مضت أمثالهم وأخبارهم‪ ،‬وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والنكار‪.‬‬

‫ج َعلَ‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ خََلقَهُنّ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ * الّذِي َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 9-14‬وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََلقَ ال ّ‬
‫سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْنشَرْنَا بِهِ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ فِيهَا سُبُلًا َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ * وَالّذِي نَ ّزلَ مِنَ ال ّ‬
‫َلكُمُ الْأَ ْرضَ َمهْدًا وَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلفُ ْلكِ وَالْأَ ْنعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ *‬
‫بَلْ َدةً مَيْتًا َكذَِلكَ تُخْ َرجُونَ * وَالّذِي خََلقَ الْأَ ْزوَاجَ كُّلهَا وَ َ‬
‫ظهُو ِرهِ ثُمّ َت ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ إِذَا اسْ َتوَيْتُمْ عَلَ ْي ِه وَ َتقُولُوا سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا َومَا‬
‫لِتَسْ َتوُوا عَلَى ُ‬
‫كُنّا لَهُ ُمقْرِنِينَ * وَإِنّا إِلَى رَبّنَا َلمُ ْنقَلِبُونَ }‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ } ال وحده ل‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫يخبر تعالى عن المشركين‪ ،‬أنك لو { سَأَلْ َت ُهمْ مَنْ خََلقَ ال ّ‬
‫شريك له‪ ،‬العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات‪ ،‬العليم بظواهر المور وبواطنها‪ ،‬وأوائلها‬
‫وأواخرها‪ ،‬فإذا كانوا مقرين بذلك‪ ،‬فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون‬
‫به من ل يخلق ول يرزق‪ ،‬ول يميت ول يحيي؟!‬

‫ثم ذكر أيضا من الدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره‪ ،‬بما خلقه لعباده من الرض التي مهدها‬
‫وجعلها قرارا للعباد‪ ،‬يتمكنون فيها من كل ما يريدون‪.‬‬

‫ج َعلَ َل ُكمْ فِيهَا سُبُلًا } أي‪ :‬جعل منافذ بين سلسل الجبال المتصلة‪ ،‬تنفذون منها إلى ما وراءها‬
‫{ َو َ‬
‫من القطار‪َ { .‬لعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ } في السير في الطرق ول تضيعون‪ ،‬ولعلكم تهتدون أيضا في‬
‫العتبار بذلك والدكار فيه‪.‬‬

‫سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ } ل يزيد ول ينقص‪ ،‬ويكون أيضا بمقدار الحاجة‪ ،‬ل ينقص‬
‫{ وَالّذِي نَ ّزلَ مِنَ ال ّ‬
‫بحيث ل يكون فيه نفع‪ ،‬ول يزيد بحيث يضر العباد والبلد‪ ،‬بل أغاث به العباد‪ ،‬وأنقذ به البلد‬
‫من الشدة‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَأَنْشَرْنَا ِبهِ بَلْ َدةً مَيْتًا } أي‪ :‬أحييناها بعد موتها‪َ { ،‬كذَِلكَ تُخْ َرجُونَ } أي‪:‬‬
‫فكما أحيا الرض الميتة الهامدة بالماء‪ ،‬كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ‪ ،‬ليجازيكم‬
‫بأعمالكم‪.‬‬

‫{ وَالّذِي خََلقَ الْأَ ْزوَاجَ كُّلهَا } أي‪ :‬الصناف جميعها‪ ،‬مما تنبت الرض ومن أنفسهم ومما ل‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ مِنَ ا ْلفُ ْلكِ } أي‪ :‬السفن‬
‫يعلمون‪ ،‬من ليل ونهار‪ ،‬وحر وبرد‪ ،‬وذكر وأنثى‪ ،‬وغير ذلك‪َ { .‬و َ‬
‫ظهُو ِرهِ }‬
‫البحرية‪ ،‬الشراعية والنارية‪ ،‬مَا تَ ْركَبُونَ { و } من { النعام ما تركبون لِ َتسْ َتوُوا عَلَى ُ‬

‫وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور النعام‪ ،‬أي‪ :‬لتستقروا عليها‪ُ { ،‬ثمّ تَ ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّب ُكمْ إِذَا‬
‫اسْ َتوَيْتُمْ عَلَ ْيهِ } بالعتراف بالنعمة لمن سخرها‪ ،‬والثناء عليه تعالى بذلك‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َتقُولُوا‬
‫سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ } أي‪ :‬لول تسخيره لنا ما سخر من الفلك‪ ،‬والنعام‪،‬‬
‫ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه‪ ،‬ولكن من لطفه وكرمه تعالى‪ ،‬سخرها وذللها ويسر أسبابها‪.‬‬

‫والمقصود من هذا‪ ،‬بيان أن الرب الموصوف بما ذكره‪ ،‬من إفاضة النعم على العباد‪ ،‬هو الذي‬
‫يستحق أن يعبد‪ ،‬ويصلى له ويسجد‪.‬‬

‫جعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَا ِدهِ جُ ْزءًا إِنّ الْإِ ْنسَانَ َل َكفُورٌ مُبِينٌ * َأمِ اتّخَذَ ِممّا َيخْلُقُ بَنَاتٍ‬
‫{ ‪ { } 15-25‬وَ َ‬
‫سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ * َأ َومَنْ‬
‫جهُهُ ُم ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫حمَنِ مَثَلًا َ‬
‫وََأصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَ ُدهُمْ ِبمَا ضَ َربَ لِلرّ ْ‬
‫شهِدُوا‬
‫حمَنِ إِنَاثًا َأ َ‬
‫جعَلُوا ا ْلمَلَا ِئكَةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ الرّ ْ‬
‫خصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَ َ‬
‫يُنَشّأُ فِي ا ْلحِلْيَ ِة وَ ُهوَ فِي الْ ِ‬
‫حمَنُ مَا عَ َبدْنَاهُمْ مَا َلهُمْ بِ َذِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ‬
‫شهَادَ ُتهُ ْم وَيُسْأَلُونَ * َوقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ‬
‫خَ ْل َقهُمْ سَ ُتكْ َتبُ َ‬
‫سكُونَ * َبلْ قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ‬
‫إِلّا َيخْ ُرصُونَ * َأمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبِْلهِ َفهُمْ بِهِ مُسْ َتمْ ِ‬
‫وَإِنّا عَلَى آثَارِ ِهمْ ُمهْتَدُونَ * َوكَذَِلكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا إِنّا‬
‫جدْتُمْ عَلَ ْيهِ آبَا َءكُمْ‬
‫وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ وَإِنّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ َأوََلوْ جِئْ ُت ُكمْ بِأَهْدَى ِممّا وَ َ‬
‫قَالُوا إِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ }‬

‫يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين‪ ،‬الذين جعلوا للّه تعالى ولدا‪ ،‬وهو الواحد الحد‪ ،‬الفرد‬
‫الصمد‪ ،‬الذي لم يتخذ صاحبة ول ولدا‪ ،‬ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬وإن ذلك باطل من عدة أوجه‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن الخلق كلهم عباده‪ ،‬والعبودية تنافي الولدة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الولد جزء من والده‪ ،‬واللّه تعالى بائن من خلقه‪ ،‬مباين لهم في صفاته ونعوت جلله‪،‬‬
‫والولد جزء من الوالد‪ ،‬فمحال أن يكون للّه تعالى ولد‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنهم يزعمون أن الملئكة بنات اللّه‪ ،‬ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين‪ ،‬فكيف يكون‬
‫ل البنات‪ ،‬ويصطفيهم بالبنين‪ ،‬ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه‪ ،‬تعالى اللّه عن ذلك‬
‫علوا كبيرا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الصنف الذي نسبوه للّه‪ ،‬وهو البنات‪ ،‬أدون الصنفين‪ ،‬وأكرههما لهم‪ ،‬حتى إنهم من‬
‫سوَدّا } من كراهته وشدة‬
‫جهُهُ مُ ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫حمَنِ مَثَلًا َ‬
‫حدُهُمْ ِبمَا ضَ َربَ لِلرّ ْ‬
‫كراهتهم لذلك { ِإذَا بُشّرَ أَ َ‬
‫بغضه‪ ،‬فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟‬

‫ومنها‪ :‬أن النثى ناقصة في وصفها‪ ،‬وفي منطقها وبيانها‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬أ َومَنْ يُنَشّأُ فِي‬
‫خصَامِ } أي‪ :‬عند‬
‫الْحِلْ َيةِ } أي‪ :‬يجمل فيها‪ ،‬لنقص جماله‪ ،‬فيجمل بأمر خارج عنه؟ { وَ ُهوَ فِي الْ ِ‬
‫الخصام الموجب لظهار ما عند الشخص من الكلم‪ { ،‬غَيْرُ مُبِينٍ } أي‪ :‬غير مبين لحجته‪ ،‬ول‬
‫مفصح عما احتوى عليه ضميره‪ ،‬فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟‬

‫جعَلُوا ا ْلمَلَا ِئكَةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ ال إِنَاثًا‪ ،‬فتجرأوا على الملئكة‪ ،‬العباد المقربين‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أنهم َ‬
‫ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل‪ ،‬إلى مرتبة المشاركة للّه‪ ،‬في شيء من خواصه‪ ،‬ثم نزلوا بهم‬
‫عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة النوثية‪ ،‬فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه وعاند رسله‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لملئكته‪ ،‬فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند‬
‫كل أحد‪ ،‬أنه ليس لهم به علم؟! ولكن ل بد أن يسألوا عن هذه الشهادة‪ ،‬وستكتب عليهم‪ ،‬ويعاقبون‬
‫عليها‪.‬‬
‫حمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملئكة بالمشيئة‪ ،‬وهي‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ‬
‫حجة لم يزل المشركون يطرقونها‪ ،‬وهي حجة باطلة في نفسها‪ ،‬عقل وشرعا‪ .‬فكل عاقل ل يقبل‬
‫الحتجاج بالقدر‪ ،‬ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه‪.‬‬

‫وأما شرعا‪ ،‬فإن اللّه تعالى أبطل الحتجاج به‪ ،‬ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله‪،‬‬
‫فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد‪ ،‬فلم يبق لحد عليه حجة أصل‪ ،‬ولهذا قال هنا‪ { :‬مَا َلهُمْ‬
‫بِذَِلكَ مِنْ عِ ْلمٍ إِنْ ُهمْ إِلّا َيخْ ُرصُونَ } أي‪ :‬يتخرصون تخرصا ل دليل عليه‪ ،‬ويتخبطون خبط‬
‫عشواء‪.‬‬

‫سكُونَ } يخبرهم بصحة أفعالهم‪ ،‬وصدق أقوالهم؟‬


‫ثم قال‪َ { :‬أمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبِْلهِ َفهُمْ بِهِ مُسْ َتمْ ِ‬
‫ليس المر كذلك‪ ،‬فإن اللّه أرسل محمدا نذيرا إليهم‪ ،‬وهم لم يأتهم نذير غيره‪ ،‬أي‪ :‬فل عقل ول‬
‫نقل‪ ،‬وإذا انتفى المران‪ ،‬فل َثمّ إل الباطل‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬لهم شبهة من أوهى الشّبَه‪ ،‬وهي تقليد آبائهم الضالين‪ ،‬الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم‬
‫دعوة الرسل‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬بلْ قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ } أي‪ :‬على دين وملة { وَإِنّا‬
‫عَلَى آثَارِ ِهمْ ُمهْتَدُونَ } أي‪ :‬فل نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ مَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ َنذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا } أي‪ :‬منعموها‪ ،‬وملها الذين‬
‫جدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى‬
‫أطغتهم الدنيا‪ ،‬وغرتهم الموال‪ ،‬واستكبروا على الحق‪ { .‬إِنّا وَ َ‬
‫آثَارِ ِهمْ ُمقْتَدُونَ } أي‪ :‬فهؤلء ليسوا ببدع منهم‪ ،‬وليسوا بأول من قال هذه المقالة‪.‬‬

‫وهذا الحتجاج من هؤلء المشركين الضالين‪ ،‬بتقليدهم لبائهم الضالين‪ ،‬ليس المقصود به اتباع‬
‫الحق والهدى‪ ،‬وإنما هو تعصب محض‪ ،‬يراد به نصرة ما معهم من الباطل‪.‬‬

‫جدْتُمْ عَلَ ْيهِ‬


‫ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة‪َ { :‬أوََلوْ جِئْ ُتكُمْ بَِأهْدَى ِممّا وَ َ‬
‫سلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } فعلم بهذا‪ ،‬أنهم ما‬
‫آبَا َء ُكمْ } أي‪ :‬فهل تتبعوني لجل الهدى؟ { قَالُوا إِنّا ِبمَا أُرْ ِ‬
‫أرادوا اتباع الحق والهدى‪ ،‬وإنما قصدهم اتباع الباطل والهوى‪.‬‬

‫{ فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ } بتكذيبهم الحق‪ ،‬وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة‪ { .‬فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ‬
‫ا ْل ُمكَذّبِينَ } فليحذر هؤلء أن يستمروا على تكذيبهم‪ ،‬فيصيبهم ما أصابهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 26-32‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ َوقَ ْومِهِ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْ ُبدُونَ * إِلّا الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ‬
‫جعُونَ * َبلْ مَ ّتعْتُ َهؤُلَاءِ وَآبَاءَ ُهمْ حَتّى جَاءَ ُهمُ‬
‫عقِبِهِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫جعََلهَا كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ‬
‫سَ َيهْدِينِ * وَ َ‬
‫ق وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وََلمّا جَا َءهُمُ ا ْلحَقّ قَالُوا هَذَا سِحْ ٌر وَإِنّا ِبهِ كَافِرُونَ * َوقَالُوا َلوْلَا نُ ّزلَ َهذَا‬
‫حّ‬‫الْ َ‬
‫سمْنَا بَيْ َن ُهمْ َمعِيشَ َتهُمْ فِي‬
‫حمَةَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * َأهُمْ َيقْ ِ‬
‫ا ْلقُرْآنُ عَلَى رَ ُ‬
‫حمَةُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ِممّا‬
‫ضهُمْ َب ْعضًا سُخْرِيّا وَ َر ْ‬
‫خذَ َب ْع ُ‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لِيَتّ ِ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫ج َمعُونَ }‬
‫يَ ْ‬

‫يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السلم‪ ،‬الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون‪ ،‬وكلهم‬
‫يزعم أنه على طريقته‪ ،‬فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ َوقَ ْومِهِ‬
‫} الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم‪:‬‬

‫{ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْبُدُونَ } أي‪ :‬مبغض له‪ ،‬مجتنب معاد لهله‪ { ،‬إِلّا الّذِي فَطَرَنِي } فإني أتوله‪،‬‬
‫وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به‪ ،‬فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي‪ ،‬فـ‬
‫{ سَ َيهْدِينِ } لما يصلح ديني وآخرتي‪.‬‬

‫جعََلهَا } أي‪ :‬هذه الخصلة الحميدة‪ ،‬التي هي أم الخصال وأساسها‪ ،‬وهي إخلص العبادة للّه‬
‫{ َو َ‬
‫وحده‪ ،‬والتبرّي من عبادة ما سواه‪.‬‬

‫جعُونَ } لشهرتها عنه‪ ،‬وتوصيته لذريته‪،‬‬


‫عقِبِهِ } أي‪ :‬ذريته { َلعَّلهُمْ } إليها { يَ ْر ِ‬
‫{ كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ‬
‫غبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫وتوصية بعض بنيه ‪-‬كإسحاق ويعقوب‪ -‬لبعض‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ يَرْ َ‬
‫سهُ } إلى آخر اليات‪.‬‬
‫سفِهَ َنفْ َ‬
‫إِلّا مَنْ َ‬

‫فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلم حتى دخلهم الترف والطغيان‪.‬‬

‫فقال تعالى‪َ { :‬بلْ مَ ّت ْعتُ َهؤُلَا ِء وَآبَاءَ ُهمْ } بأنواع الشهوات‪ ،‬حتى صارت هي غايتهم ونهاية‬
‫مقصودهم‪ ،‬فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم‪ ،‬حتى صارت صفات راسخة‪ ،‬وعقائد متأصلة‪ { .‬حَتّى‬
‫حقّ } الذي ل شك فيه ول مرية ول اشتباه‪ { .‬وَرَسُولٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬بين الرسالة‪ ،‬قامت‬
‫جَاءَهُمُ الْ َ‬
‫أدلة رسالته قياما باهرا‪ ،‬بأخلقه ومعجزاته‪ ،‬وبما جاء به‪ ،‬وبما صدق به المرسلين‪ ،‬وبنفس دعوته‬
‫صلى اللّه عليه وسلم‪.‬‬

‫حقّ } الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له‪ { .‬قَالُوا هَذَا‬
‫{ وََلمّا جَاءَ ُهمُ الْ َ‬
‫سحْ ٌر وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ } وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة‪ ،‬فإنهم لم يكتفوا بمجرد العراض عنه‪،‬‬
‫ِ‬
‫بل ول جحده‪ ،‬فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحا شنيعا‪ ،‬وجعلوه بمنزلة السحر الباطل‪ ،‬الذي ل يأتي‬
‫به إل أخبث الخلق وأعظمهم افتراء‪ ،‬والذي حملهم على ذلك‪ ،‬طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم‪.‬‬
‫جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ‬
‫{ َوقَالُوا } مقترحين على اللّه بعقولهم الفاسدة‪َ { :‬لوْلَا نُ ّزلَ َهذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَى َر ُ‬
‫عَظِيمٍ } أي‪ :‬معظم عندهم‪ ،‬مبجل من أهل مكة‪ ،‬أو أهل الطائف‪ ،‬كالوليد بن المغيرة ونحوه‪ ،‬ممن‬
‫هو عندهم عظيم‪.‬‬

‫حمَةَ رَ ّبكَ } أي‪ :‬أهم الخزان لرحمة اللّه‪ ،‬وبيدهم‬


‫سمُونَ َر ْ‬
‫قال اللّه ردا لقتراحهم‪ { :‬أَ ُهمْ َيقْ ِ‬
‫تدبيرها‪ ،‬فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون‪ ،‬ويمنعونها ممن يشاءون؟‬

‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ } أي‪ :‬في الحياة‬


‫سمْنَا بَيْ َن ُهمْ َمعِيشَ َتهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫{ َنحْنُ قَ َ‬
‫ج َمعُونَ من الدنيا‪.‬‬
‫حمَةَ رَ ّبكَ خَيْرٌ ِممّا َي ْ‬
‫الدنيا‪ ،‬والحال أن رَ ْ‬

‫فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى‪ ،‬وهو الذي يقسمها بين عباده‪ ،‬فيبسط‬
‫الرزق على من يشاء‪ ،‬ويضيقه على من يشاء‪ ،‬بحسب حكمته‪ ،‬فرحمته الدينية‪ ،‬التي أعلها النبوة‬
‫والرسالة‪ ،‬أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى‪ ،‬فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته‪.‬‬

‫فعلم أن اقتراحهم ساقط لغ‪ ،‬وأن التدبير للمور كلها‪ ،‬دينيها ودنيويها‪ ،‬بيد اللّه وحده‪ .‬هذا إقناع‬
‫لهم‪ ،‬من جهة غلطهم في القتراح‪ ،‬الذي ليس في أيديهم منه شيء‪ ،‬إن هو إل ظلم منهم ورد‬
‫للحق‪.‬‬

‫جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال‪،‬‬


‫وقولهم‪َ { :‬لوْلَا نُ ّزلَ هَذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَى رَ ُ‬
‫والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل‪ ،‬وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه‪ ،‬لعلموا أن محمد بن‬
‫عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬هو أعظم الرجال قدرا‪ ،‬وأعلهم فخرا‪ ،‬وأكملهم‬
‫عقل‪ ،‬وأغزرهم علما‪ ،‬وأجلهم رأيا وعزما وحزما‪ ،‬وأ كملهم خلقا‪ ،‬وأوسعهم رحمة‪ ،‬وأشدهم‬
‫شفقة‪ ،‬وأهداهم وأتقاهم‪.‬‬

‫وهو قطب دائرة الكمال‪ ،‬وإليه المنتهى في أوصاف الرجال‪ ،‬أل وهو رجل العالم على الطلق‪،‬‬
‫يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه‪ ،‬فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله؟!‪،‬‬
‫ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما‪ ،‬أو شجرا‪ ،‬أو‬
‫حجرا‪ ،‬ل يضر ول ينفع‪ ،‬ول يعطي ول يمنع‪ ،‬وهو كل على موله‪ ،‬يحتاج لمن يقوم بمصالحه‪،‬‬
‫فهل هذا إل من فعل السفهاء والمجانين؟‬

‫فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه‬
‫وسلم؟ ولكن الذين كفروا ل يعقلون‪.‬‬
‫وفي هذه الية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا‬
‫{ لِيَتّخِذَ َب ْعضُهُمْ َب ْعضًا سُخْرِيّا } أي‪ :‬ليسخر بعضهم بعضا‪ ،‬في العمال والحرف والصنائع‪.‬‬

‫فلو تساوى الناس في الغنى‪ ،‬ولم يحتج بعضهم إلى بعض‪ ،‬لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم‪.‬‬

‫وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الية الخرى‪ُ { :‬قلْ‬
‫ج َمعُونَ }‬
‫حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ خَيْرٌ ِممّا يَ ْ‬
‫ضلِ اللّهِ وَبِرَ ْ‬
‫ِبفَ ْ‬

‫س ُقفًا مِنْ َفضّةٍ‬


‫حمَنِ لِبُيُو ِتهِمْ ُ‬
‫جعَلْنَا ِلمَنْ َي ْكفُرُ بِالرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 33-35‬وََلوْلَا أَنْ َيكُونَ النّاسُ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً َل َ‬
‫ظهَرُونَ *وَلِبُيُو ِتهِمْ أَ ْبوَابًا وَسُرُرًا عَلَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ * وَ ُزخْ ُرفًا وَإِنْ ُكلّ ذَِلكَ َلمّا مَتَاعُ‬
‫َو َمعَارِجَ عَلَ ْيهَا َي ْ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْآخِ َرةُ عِنْدَ رَ ّبكَ لِ ْلمُ ّتقِينَ }‬

‫يخبر تعالى بأن الدنيا ل تسوى عنده شيئا‪ ،‬وأنه لول لطفه ورحمته بعباده‪ ،‬التي ل يقدم عليها‬
‫س ُقفًا مِنْ َفضّ ٍة َو َمعَارِجَ }‬
‫شيئا‪ ،‬لوسّع الدنيا على الذين كفروا توسيعا عظيما‪ ،‬ولجعل { لِبُيُو ِتهِمْ ُ‬
‫ظهَرُونَ } على سطوحهم‪.‬‬
‫أي‪ :‬درجا من فضة { عَلَ ْيهَا َي ْ‬

‫علَ ْيهَا يَ ّتكِئُونَ } من فضة‪ ،‬ولجعل لهم { زخرفا }‬


‫{ وَلِبُيُو ِتهِمْ أَ ْبوَابًا وَسُرُرًا َ‬

‫أي‪ :‬لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف‪ ،‬وأعطاهم ما يشتهون‪ ،‬ولكن منعه من ذلك رحمته‬
‫بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا‪ ،‬ففي هذا دليل على‬
‫أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم‪ ،‬وأن الدنيا ل تزن عند اللّه جناح‬
‫بعوضة‪ ،‬وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا‪ ،‬منغصة‪ ،‬مكدرة‪ ،‬فانية‪ ،‬وأن الخرة عند اللّه‬
‫تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬لن نعيمها تام كامل من كل وجه‪ ،‬وفي‬
‫الجنة ما تشتهيه النفس وتلذ العين‪ ،‬وهم فيها خالدون‪ ،‬فما أشد الفرق بين الدارين"‪.‬‬

‫حمَنِ ُنقَ ّيضْ َلهُ شَ ْيطَانًا َف ُهوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ‬
‫{ ‪َ { } 36-39‬ومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ * حَتّى ِإذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ ُب ْعدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ‬
‫ل وَيَ ْ‬
‫عَنِ السّبِي ِ‬
‫ا ْلقَرِينُ * وَلَنْ يَ ْنفَ َعكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن عقوبته البليغة‪ ،‬لمن أعرض عن ذكره‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَنْ َيعْشُ } أي‪ :‬يعرض ويصد‬
‫حمَنِ } الذي هو القرآن العظيم‪ ،‬الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده‪ ،‬فمن‬
‫{ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫قبلها‪ ،‬فقد قبل خير المواهب‪ ،‬وفاز بأعظم المطالب والرغائب‪ ،‬ومن أعرض عنها وردها‪ ،‬فقد‬
‫خاب وخسر خسارة ل يسعد بعدها أبدا‪ ،‬وقيّض له الرحمن شيطانا مريدا‪ ،‬يقارنه ويصاحبه‪،‬‬
‫ويعده ويمنيه‪ ،‬ويؤزه إلى المعاصي أزا‪،‬‬

‫{ وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِيلِ } أي‪ :‬الصراط المستقيم‪ ،‬والدين القويم‪ { .‬وَ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ }‬
‫بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له‪ ،‬وإعراضهم عن الحق‪ ،‬فاجتمع هذا وهذا‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فهل لهذا من عذر‪ ،‬من حيث إنه ظن أنه مهتد‪ ،‬وليس كذلك؟‬

‫قيل‪ :‬ل عذر لهذا وأمثاله‪ ،‬الذين مصدر جهلهم العراض عن ذكر اللّه‪ ،‬مع تمكنهم على الهتداء‪،‬‬
‫فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه‪ ،‬ورغبوا في الباطل‪ ،‬فالذنب ذنبهم‪ ،‬والجرم جرمهم‪.‬‬

‫فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر اللّه في الدنيا‪ ،‬مع قرينه‪ ،‬وهو الضلل والغيّ‪ ،‬وانقلب الحقائق‪.‬‬

‫وأما حاله‪ ،‬إذا جاء ربه في الخرة‪ ،‬فهو شر الحوال‪ ،‬وهو‪ :‬إظهار الندم والتحسر‪ ،‬والحزن الذي‬
‫ل يجبر مصابه‪ ،‬والتبرّي من قرينه‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬حَتّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ‬
‫ُبعْدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ ا ْلقَرِينُ }‬

‫كما في قوله تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ َي َعضّ الظّالِمُ عَلَى َيدَيْهِ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا يَا‬
‫خذُولًا }‬
‫خذْ فُلَانًا خَلِيلًا َلقَدْ َأضَلّنِي عَنِ ال ّذكْرِ َب ْعدَ إِذْ جَاءَنِي َوكَانَ الشّ ْيطَانُ لِلْإِنْسَانِ َ‬
‫وَيْلَتَى لَيْتَنِي َلمْ أَتّ ِ‬

‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَنْ يَ ْن َفعَكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ } أي‪ :‬ول ينفعكم يوم القيامة‬
‫اشتراككم في العذاب‪ ،‬أنتم وقرناؤكم وأخلؤكم‪ ،‬وذلك لنكم اشتركتم في الظلم‪ ،‬فاشتركتم في‬
‫عقابه وعذابه‪.‬‬

‫ولن ينفعكم أيضا‪ ،‬روح التسلي في المصيبة‪ ،‬فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا‪ ،‬واشترك فيها‬
‫المعاقبون‪ ،‬هان عليهم بعض الهون‪ ،‬وتسلّى بعضهم ببعض‪ ،‬وأما مصيبة الخرة‪ ،‬فإنها جمعت كل‬
‫عقاب‪ ،‬ما فيه أدنى راحة‪ ،‬حتى ول هذه الراحة‪ .‬نسألك يا ربنا العافية‪ ،‬وأن تريحنا برحمتك‪.‬‬

‫سمِعُ الصّمّ َأوْ َتهْدِي ا ْل ُع ْميَ َومَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَِإمّا نَذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا‬
‫{ ‪َ { } 40-45‬أفَأَ ْنتَ تُ ْ‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ إِ ّنكَ‬
‫سكْ بِالّذِي أُو ِ‬
‫مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ * َأوْ نُرِيَ ّنكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْيهِمْ ُمقْتَدِرُونَ * فَاسْ َتمْ ِ‬
‫س ْوفَ ُتسْأَلُونَ * وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ‬
‫ك وَ َ‬
‫ك وَِل َق ْومِ َ‬
‫عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ َل َ‬
‫حمَنِ آِل َهةً ُيعْبَدُونَ }‬
‫جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ‬
‫رُسُلِنَا َأ َ‬
‫يقول تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مسليا له عن امتناع المكذبين عن الستجابة له‪ ،‬وأنهم ل‬
‫سمِعُ الصّمّ } أي‪ :‬الذين ل يسمعون { َأوْ‬
‫خير فيهم‪ ،‬ول فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدى‪َ { :‬أفَأَ ْنتَ ُت ْ‬
‫َتهْدِي ا ْل ُع ْميَ } الذين ل يبصرون‪،‬‬

‫أو تهدي { مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي‪ :‬بَيّنٌ واضح‪ ،‬لعلمه بضلله‪ ،‬ورضاه به‪.‬‬

‫فكما أن الصم ل يسمع الصوات‪ ،‬والعمى ل يبصر‪ ،‬والضال ضلل مبينا ل يهتدي‪ ،‬فهؤلء قد‬
‫فسدت فطرهم وعقولهم‪ ،‬بإعراضهم عن الذكر‪ ،‬واستحدثوا عقائد فاسدة‪ ،‬وصفات خبيثة‪ ،‬تمنعهم‬
‫وتحول بينهم وبين الهدى‪ ،‬وتوجب لهم الزدياد من الردى‪ ،‬فهؤلء لم يبق إل عذابهم ونكالهم‪ ،‬إما‬
‫في الدنيا‪ ،‬أو في الخرة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬

‫{ فَِإمّا َنذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ } أي‪ :‬فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب‪ ،‬فاعلم‬
‫بخبرنا الصادق أنا منهم منتقمون‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ ُمقْتَدِرُونَ } ولكن ذلك متوقف على اقتضاء‬


‫{ َأوْ نُرِيَ ّنكَ الّذِي وَعَدْنَا ُهمْ } من العذاب { فَإِنّا َ‬
‫الحكمة لتعجيله أو تأخيره‪ ،‬فهذه حالك وحال هؤلء المكذبين‪.‬‬

‫حيَ إِلَ ْيكَ } فعل واتصافا‪ ،‬بما يأمر بالتصاف به ودعوة إليه‪،‬‬
‫سكْ بِالّذِي أُو ِ‬
‫وأما أنت { فَاسْ َتمْ ِ‬
‫وحرصا على تنفيذه في نفسك وفي غيرك‪ { .‬إِ ّنكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } موصل إلى ال وإلى دار‬
‫كرامته‪ ،‬وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق‪،‬‬
‫تكون بانيا على أصل أصيل‪ ،‬إذا بنى غيرك على الشكوك والوهام‪ ،‬والظلم والجور‪.‬‬

‫ك وَِلقَ ْو ِمكَ } أي‪ :‬فخر لكم‪ ،‬ومنقبة جليلة‪ ،‬ونعمة ل يقادر‬


‫{ وَإِنّهُ } أي‪ :‬هذا القرآن الكريم { َل ِذكْرٌ َل َ‬
‫قدرها‪ ،‬ول يعرف وصفها‪ ،‬ويذكركم أيضا ما فيه الخير الدنيوي والخروي‪ ،‬ويحثكم عليه‪،‬‬
‫س ْوفَ ُتسْأَلُونَ } عنه‪ ،‬هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم‪ ،‬أم لم تقوموا‬
‫ويذكركم الشر ويرهبكم عنه‪ { ،‬وَ َ‬
‫به فيكون حجة عليكم‪ ،‬وكفرا منكم بهذه النعمة؟‬

‫حمَنِ آِلهَةً ُيعْبَدُونَ } حتى يكون‬


‫جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ‬
‫{ وَاسَْألْ مَنْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ َ‬
‫للمشركين نوع حجة‪ ،‬يتبعون فيها أحدا من الرسل‪ ،‬فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم‪ ،‬لم‬
‫تجد أحدا منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع ال مع أن كل الرسل‪ ،‬من أولهم إلى آخرهم‪ ،‬يدعون‬
‫إلى عبادة ال وحده ل شريك له‪ .‬قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللّهَ‬
‫وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ } وكل رسول بعثه ال‪ ،‬يقول لقومه‪ :‬اعبدوا ال ما لكم من إله غيره‪ ،‬فدل هذا‬
‫أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم‪ ،‬ل من عقل صحيح‪ ،‬ول نقل عن الرسل‪.‬‬
‫ن َومَلَئِهِ } إلى آخر القصة‪.‬‬
‫عوْ َ‬
‫{ ‪ { } 46-56‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْ َ‬

‫حمَنِ آِلهَةً ُيعْ َبدُونَ } بين‬


‫جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ‬
‫لما قال تعالى‪ { :‬وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ ُرسُلِنَا َأ َ‬
‫تعالى حال موسى ودعوته‪ ،‬التي هي أشهر ما يكون من دعوات الرسل‪ ،‬ولن اللّه تعالى أكثر من‬
‫ذكرها في كتابه‪ ،‬فذكر حاله مع فرعون‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا } التي دلت دللة‬
‫قاطعة على صحة ما جاء به‪ ،‬كالعصا‪ ،‬والحية‪ ،‬وإرسال الجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬إلى آخر اليات‪.‬‬

‫ن َومَلَئِهِ َفقَالَ إِنّي َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فدعاهم إلى القرار بربهم‪ ،‬ونهاهم عن عبادة‬
‫عوْ َ‬
‫{ ِإلَى فِرْ َ‬
‫ما سواه‪.‬‬

‫حكُونَ } أي‪ :‬ردوها وأنكروها‪ ،‬واستهزأوا بها‪ ،‬ظلما وعلوا‪،‬‬


‫{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِآيَاتِنَا ِإذَا ُهمْ مِ ْنهَا َيضْ َ‬
‫فلم يكن لقصور باليات‪ ،‬وعدم وضوح فيها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا نُرِيهِمْ مِنْ آ َيةٍ إِلّا ِهيَ َأكْبَرُ مِنْ‬
‫أُخْ ِتهَا }‬

‫أي‪ :‬الية المتأخرة أعظم من السابقة‪ { ،‬وََأخَذْنَا ُهمْ بِا ْلعَذَابِ } كالجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪،‬‬
‫جعُونَ } إلى السلم‪ ،‬ويذعنون له‪ ،‬ليزول شركهم وشرهم‪.‬‬
‫آيات مفصلت‪َ { .‬لعَّل ُهمْ يَرْ ِ‬

‫{ َوقَالُوا } عندما نزل عليهم العذاب‪ { :‬يَا أَ ّيهَا السّاحِرُ } يعنون موسى عليه السلم‪ ،‬وهذا‪ ،‬إما من‬
‫باب التهكم به‪ ،‬وإما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحا‪ ،‬فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون‬
‫عهِدَ عِ ْن َدكَ‬
‫به من يزعمون أنهم علماؤهم‪ ،‬وهم السحرة‪ ،‬فقالوا‪ { :‬يَا أَ ّيهَا السّاحِرُ ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ‬
‫} أي‪ :‬بما خصك اللّه به‪ ،‬وفضلك به‪ ،‬من الفضائل والمناقب‪ ،‬أن يكشف عنا العذاب { إِنّنَا‬
‫َل ُمهْتَدُونَ } إن كشف اللّه عنا ذلك‪.‬‬

‫شفْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِذَا هُمْ يَ ْنكُثُونَ } أي‪ :‬لم يفوا بما قالوا‪ ،‬بل غدروا‪ ،‬واستمروا على‬
‫{ فََلمّا َك َ‬
‫ضفَا ِدعَ وَالدّمَ آيَاتٍ‬
‫كفرهم‪ .‬وهذا كقوله تعالى‪ { :‬فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمُ الطّوفَانَ وَا ْلجَرَا َد وَا ْل ُق ّملَ وَال ّ‬
‫ن وََلمّا َوقَعَ عَلَ ْيهِمُ الرّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا‬
‫ُمفَصّلَاتٍ فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا مُجْ ِرمِي َ‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمُ الرّجْزَ‬
‫ك وَلَنُرْسِلَنّ َم َعكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فََلمّا كَ َ‬
‫ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ لَ ُن ْؤمِنَنّ َل َ‬
‫عهِدَ عِ ْن َدكَ لَئِنْ كَ َ‬
‫َ‬
‫جلٍ ُهمْ بَاِلغُوهُ إِذَا هُمْ يَ ْنكُثُونَ }‬
‫إِلَى أَ َ‬

‫عوْنُ فِي َق ْومِهِ قَالَ } مستعليا بباطله‪ ،‬قد غره ملكه‪ ،‬وأطغاه ماله وجنوده‪ { :‬يَا َقوْمِ‬
‫{ وَنَادَى فِرْ َ‬
‫أَلَيْسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْرَ } أي‪ :‬ألست المالك لذلك‪ ،‬المتصرف فيه‪ { ،‬وَ َه ِذهِ الْأَ ْنهَارُ تَجْرِي مِنْ َتحْتِي }‬
‫أي‪ :‬النهار المنسحبة من النيل‪ ،‬في وسط القصور والبساتين‪َ { .‬أفَلَا تُ ْبصِرُونَ } هذا الملك الطويل‬
‫العريض‪ ،‬وهذا من جهله البليغ‪ ،‬حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته‪ ،‬ولم يفخر بأوصاف حميدة‪ ،‬ول‬
‫أفعال سديدة‪.‬‬

‫{ َأمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ َهذَا الّذِي ُهوَ َمهِينٌ } يعني ‪-‬قبحه اللّه‪ -‬بالمهين‪ ،‬موسى بن عمران‪ ،‬كليم‬
‫الرحمن‪ ،‬الوجيه عند اللّه‪ ،‬أي‪ :‬أنا العزيز‪ ،‬وهو الذليل المهان المحتقر‪ ،‬فأينا خير؟ { و } مع هذا‬
‫فـ { ل َيكَادُ يُبِينُ } عما في ضميره بالكلم‪ ،‬لنه ليس بفصيح اللسان‪ ،‬وهذا ليس من العيوب في‬
‫شيء‪ ،‬إذا كان يبين ما في قلبه‪ ،‬ولو كان ثقيل عليه الكلم‪.‬‬

‫سوِ َرةٌ مِنْ ذَ َهبٍ } أي‪ :‬فهل كان موسى بهذه الحالة‪ ،‬أن يكون‬
‫ثم قال فرعون‪ { :‬فََلوْلَا أُ ْل ِقيَ عَلَيْهِ َأ ْ‬
‫مزينا مجمل بالحلي والساور؟ { َأوْ جَاءَ َمعَهُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ُمقْتَرِنِينَ } يعاونونه على دعوته‪ ،‬ويؤيدونه‬
‫على قوله‪.‬‬

‫خفّ َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي‪ :‬استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه‪ ،‬التي ل تسمن ول‬
‫{ فَاسْتَ َ‬
‫تغني من جوع‪ ،‬ول حقيقة تحتها‪ ،‬وليست دليل على حق ول على باطل‪ ،‬ول تروج إل على‬
‫ضعفاء العقول‪.‬‬

‫فأي دليل يدل على أن فرعون محق‪ ،‬لكون ملك مصر له‪ ،‬وأنهاره تجري من تحته؟‬

‫وأي دليل يدل على بطلن ما جاء به موسى لقلة أتباعه‪ ،‬وثقل لسانه‪ ،‬وعدم تحلية ال له‪ ،‬ولكنه‬
‫سقِينَ } فبسبب‬
‫لقي مل ل معقول عندهم‪ ،‬فمهما قال اتبعوه‪ ،‬من حق وباطل‪ { .‬إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ‬
‫فسقهم‪ ،‬قيض لهم فرعون‪ ،‬يزين لهم الشرك والشر‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُمْ سََلفًا َومَثَلًا‬


‫ج َمعِينَ َف َ‬
‫سفُونَا } أي‪ :‬أغضبونا بأفعالهم { انْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ أَ ْ‬
‫{ فََلمّا آ َ‬
‫لِلْآخِرِينَ } ليعتبر بهم المعتبرون‪ ،‬ويتعظ بأحوالهم المتعظون‪.‬‬

‫صدّونَ * َوقَالُوا أَآِلهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ ُهوَ مَا‬


‫{ ‪ { } 57-65‬وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْ َيمَ مَثَلًا إِذَا َق ْومُكَ مِنْهُ َي ِ‬
‫جعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫صمُونَ * إِنْ ُهوَ إِلّا عَ ْبدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَيْ ِه َو َ‬
‫خ ِ‬
‫جدَلًا َبلْ هُمْ َقوْمٌ َ‬
‫ضَرَبُوهُ َلكَ إِلّا َ‬
‫جعَلْنَا مِ ْنكُمْ مَلَا ِئكَةً فِي الْأَ ْرضِ َيخُْلفُونَ * وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلَا َتمْتَرُنّ ِبهَا وَاتّ ِبعُونِ هَذَا‬
‫* وََلوْ َنشَاءُ َل َ‬
‫ع ُدوّ مُبِينٌ * وََلمّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ قَالَ َقدْ‬
‫صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ * وَلَا َيصُدّ ّنكُمُ الشّيْطَانُ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫ح ْكمَ ِة وَلِأُبَيّنَ َل ُكمْ َب ْعضَ الّذِي َتخْتَِلفُونَ فِيهِ فَا ّتقُوا اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ ُهوَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ‬
‫جِئْ ُتكُمْ بِالْ ِ‬
‫عذَابِ َيوْمٍ أَلِيمٍ }‬
‫فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ * فَاخْتََلفَ الَْأحْزَابُ مِنْ بَيْ ِن ِهمْ َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ ظََلمُوا مِنْ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْ َيمَ مَثَلًا } أي‪ :‬نهي عن عبادته‪ ،‬وجعلت عبادته بمنزلة عبادة‬
‫الصنام والنداد‪ِ { .‬إذَا َق ْو ُمكَ } المكذبون لك { مِنْهُ } أي‪ :‬من أجل هذا المثل المضروب‪،‬‬
‫صدّونَ } أي‪ :‬يستلجون في خصومتهم لك‪ ،‬ويصيحون‪ ،‬ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم‪،‬‬
‫{ َي ِ‬
‫وأفلجوا‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا أَآِلهَتُنَا خَيْرٌ َأمْ ُهوَ } يعني‪ :‬عيسى‪ ،‬حيث نهي عن عبادة الجميع‪ ،‬وشورك بينهم بالوعيد‬
‫جهَنّمَ أَنْتُمْ َلهَا‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫على من عبدهم‪ ،‬ونزل أيضا قوله تعالى‪ { :‬إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫وَارِدُونَ }‬

‫ووجه حجتهم الظالمة‪ ،‬أنهم قالوا‪ :‬قد تقرر عندنا وعندك يا محمد‪ ،‬أن عيسى من عباد ال‬
‫المقربين‪ ،‬الذين لهم العاقبة الحسنة‪ ،‬فلم سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلول أن‬
‫حجتك باطلة لم تتناقض‪.‬‬

‫جهَنّمَ أَنْتُمْ َلهَا وَا ِردُونَ } وهذا اللفظ بزعمهم‪،‬‬


‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫ولم قلت‪ { :‬إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫يعم الصنام‪ ،‬وعيسى‪ ،‬فهل هذا إل تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطلنها‪ ،‬هذا أنهى ما‬
‫يقررون به هذه الشبهة [الذي] فرحوا بها واستبشروا‪ ،‬وجعلوا يصدون ويتباشرون‪.‬‬

‫وهي ‪-‬وللّه الحمد‪ -‬من أضعف الشبه وأبطلها‪ ،‬فإن تسوية ال بين النهي عن عبادة المسيح‪ ،‬وبين‬
‫النهي عن عبادة الصنام‪ ،‬لن العبادة حق للّه تعالى‪ ،‬ل يستحقها أحد من الخلق‪ ،‬ل الملئكة‬
‫المقربون‪ ،‬ول النبياء المرسلون‪ ،‬ول من سواهم من الخلق‪ ،‬فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة‬
‫عيسى وغيره؟‬

‫وليس تفضيل عيسى عليه السلم‪ ،‬وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا‬
‫الموضع‪ ،‬وإنما هو كما قال تعالى‪ { :‬إِنْ ُهوَ إِلّا عَبْدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَيْهِ }‬

‫جعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يعرفون به قدرة ال تعالى على‬


‫بالنبوة والحكمة والعلم والعمل‪َ { ،‬و َ‬
‫إيجاده من دون أب‪.‬‬

‫جهَنّمَ أَنْ ُتمْ َلهَا وَارِدُونَ } فالجواب عنها‬


‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫وأما قوله تعالى‪ { :‬إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫من ثلثة أوجه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن قوله‪ { :‬إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } أن { ما } اسم لما ل يعقل‪ ،‬ل يدخل فيه‬
‫المسيح ونحوه‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن الخطاب للمشركين‪ ،‬الذين بمكة وما حولها‪ ،‬وهم إنما يعبدون أصناما وأوثانا ول‬
‫يعبدون المسيح‪.‬‬
‫حسْنَى أُولَ ِئكَ عَ ْنهَا مُ ْبعَدُونَ } فل شك‬
‫الثالث‪ :‬أن ال قال بعد هذه الية‪ { :‬إِنّ الّذِينَ سَ َبقَتْ َلهُمْ مِنّا الْ ُ‬
‫أن عيسى وغيره من النبياء والولياء‪ ،‬داخلون في هذه الية‪.‬‬

‫جعَلْنَا مِ ْن ُكمْ مَلَا ِئكَةً فِي الْأَ ْرضِ يَخُْلفُونَ } أي‪ :‬لجعلنا بدلكم ملئكة‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬وََلوْ نَشَاءُ لَ َ‬
‫يخلفونكم في الرض‪ ،‬ويكونون في الرض حتى نرسل إليهم ملئكة من جنسهم‪ ،‬وأما أنتم يا‬
‫معشر البشر‪ ،‬فل تطيقون أن ترسل إليكم الملئكة‪ ،‬فمن رحمة ال بكم‪ ،‬أن أرسل إليكم رسل من‬
‫جنسكم‪ ،‬تتمكنون من الخذ عنهم‪.‬‬

‫{ وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ } أي‪ :‬وإن عيسى عليه السلم‪ ،‬لدليل على الساعة‪ ،‬وأن القادر على إيجاده من‬
‫أم بل أب‪ ،‬قادر على بعث الموتى من قبورهم‪ ،‬أو وإن عيسى عليه السلم‪ ،‬سينزل في آخر‬
‫الزمان‪ ،‬ويكون نزوله علمة من علمات الساعة { فَلَا َتمْتَرُنّ ِبهَا } أي‪ :‬ل تشكن في قيام الساعة‪،‬‬
‫فإن الشك فيها كفر‪ { .‬وَاتّ ِبعُونِ } بامتثال ما أمرتكم‪ ،‬واجتناب ما نهيتكم‪َ { ،‬هذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ }‬
‫موصل إلى ال عز وجل‪،‬‬

‫{ وَلَا َيصُدّ ّن ُكمُ الشّ ْيطَانُ } عما أمركم ال به‪ ،‬فإن الشيطان { َل ُكمْ عَ ُدوّ } حريص على إغوائكم‪،‬‬
‫باذل جهده في ذلك‪.‬‬

‫{ وََلمّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به‪ ،‬من إحياء الموتى‪،‬‬
‫ح ْكمَةِ }‬
‫وإبراء الكمه والبرص‪ ،‬ونحو ذلك من اليات‪ { .‬قَالَ } لبني إسرائيل‪َ { :‬قدْ جِئْ ُت ُكمْ بِالْ ِ‬
‫النبوة والعلم‪ ،‬بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي‪ { .‬وَلِأُبَيّنَ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي تَخْتَِلفُونَ فِيهِ } أي‪ :‬أبين‬
‫لكم صوابه وجوابه‪ ،‬فيزول عنكم بذلك اللبس‪ ،‬فجاء عليه السلم مكمل ومتمما لشريعة موسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬ولحكام التوراة‪ .‬وأتى ببعض التسهيلت الموجبة للنقياد له‪ ،‬وقبول ما جاءهم به‪{ .‬‬
‫فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ } أي‪ :‬اعبدوا ال وحده ل شريك له‪ ،‬وامتثلوا أمره‪ ،‬واجتنبوا نهيه‪ ،‬وآمنوا بي‬
‫وصدقوني وأطيعون‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ ُهوَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ } ففيه القرار بتوحيد الربوبية‪ ،‬بأن ال هو‬
‫المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬والقرار بتوحيد العبودية‪ ،‬بالمر بعبادة ال‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬وإخبار عيسى عليه السلم أنه عبد من عباد ال‪ ،‬ليس كما قال فيه النصارى‪:‬‬
‫"إنه ابن ال أو ثالث ثلثة" والخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم‪ ،‬موصل إلى ال وإلى جنته‪.‬‬

‫فلما جاءهم عيسى عليه السلم بهذا { اخْ َتَلفَ الَْأحْزَابُ } المتحزبون على التكذيب { مِنْ بَيْ ِن ِهمْ } كل‬
‫قال بعيسى عليه السلم مقالة باطلة‪ ،‬ورد ما جاء به‪ ،‬إل من هدى ال من المؤمنين‪ ،‬الذين شهدوا‬
‫له بالرسالة‪ ،‬وصدقوا بكل ما جاء به‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه عبد ال ورسوله‪.‬‬
‫{ َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ ظََلمُوا من عذاب يوم أليم } أي‪ :‬ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك‬
‫اليوم"‪.‬‬

‫ضهُمْ‬
‫شعُرُونَ * الْأَخِلّاءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫{ ‪َ { } 66-73‬هلْ يَنْظُرُونَ إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً وَهُمْ لَا َي ْ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْ َم وَلَا أَنْتُمْ َتحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا‬
‫لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ إِلّا ا ْلمُ ّتقِينَ * يَا عِبَادِ لَا َ‬
‫ج ُكمْ تُحْبَرُونَ * ُيطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبصِحَافٍ مِنْ َذ َهبٍ وََأكْوَابٍ‬
‫َوكَانُوا مُسِْلمِينَ * ا ْدخُلُوا الْجَنّةَ أَنْتُ ْم وَأَ ْزوَا ُ‬
‫س وَتَلَذّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ * وَتِ ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْ ُتمْ‬
‫َوفِيهَا مَا َتشْ َتهِيهِ الْأَ ْنفُ ُ‬
‫َت ْعمَلُونَ * َلكُمْ فِيهَا فَا ِكهَةٌ كَثِي َرةٌ مِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ }‬

‫شعُرُونَ } أي‪:‬‬
‫عةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْ َت ًة وَهُمْ لَا َي ْ‬
‫يقول تعالى‪ :‬ما ينتظر المكذبون‪ ،‬وهل يتوقعون { ِإلّا السّا َ‬
‫فإذا جاءت‪ ،‬فل تسأل عن أحوال من كذب بها‪ ،‬واستهزأ بمن جاء بها‪.‬‬

‫ضهُمْ‬
‫وإن الخلء يومئذ‪ ،‬أي‪ :‬يوم القيامة‪ ،‬المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية اللّه‪َ { ،‬ب ْع ُ‬
‫لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ } لن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير اللّه‪ ،‬فانقلبت يوم القيامة عداوة‪ { .‬إِلّا ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫للشرك والمعاصي‪ ،‬فإن محبتهم تدوم وتتصل‪ ،‬بدوام من كانت المحبة لجله‪ ،‬ثم ذكر ثواب‬
‫المتقين‪ ،‬وأن اللّه تعالى يناديهم يوم القيامة بما يسر قلوبهم‪ ،‬ويذهب عنهم كل آفة وشر‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ُكمُ الْ َيوْ َم وَلَا أَنْ ُتمْ تَحْزَنُونَ }‬
‫{ يَا عِبَادِ لَا َ‬

‫أي‪ :‬ل خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من المور‪ ،‬ول حزن يصيبكم فيما مضى منها‪ ،‬وإذا انتفى‬
‫المكروه من كل وجه‪ ،‬ثبت المحبوب المطلوب‪.‬‬

‫{ الّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وكانوا مسلمين } أي‪ :‬وصفهم اليمان بآيات اللّه‪ ،‬وذلك ليشمل التصديق بها‪،‬‬
‫سِلمِينَ } للّه منقادين له‬
‫وما ل يتم التصديق إل به‪ ،‬من العلم بمعناها والعمل بمقتضاها‪َ { .‬وكَانُوا مُ ْ‬
‫في جميع أحوالهم‪ ،‬فجمعوا بين التصاف بعمل الظاهر والباطن‪.‬‬

‫جكُمْ } أي‪ :‬من كان على مثل عملكم‪ ،‬من كل‬


‫{ ادْخُلُوا الْجَنّةَ } التي هي دار القرار { أَنْ ُت ْم وَأَ ْزوَا ُ‬
‫مقارن لكم‪ ،‬من زوجة‪ ،‬وولد‪ ،‬وصاحب‪ ،‬وغيرهم‪ { .‬تُحْبَرُونَ } أي‪ :‬تنعمون وتكرمون‪ ،‬ويأتيكم‬
‫من فضل ربكم من الخيرات والسرور والفراح واللذات‪ ،‬ما ل تعبر اللسن عن وصفه‪.‬‬

‫{ ُيطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبصِحَافٍ مِنْ ذَ َهبٍ وََأكْوَابٍ } أي‪ :‬تدور عليهم خدامهم‪ ،‬من الولدان المخلدين‬
‫بطعامهم‪ ،‬بأحسن الواني وأفخرها‪ ،‬وهي صحاف الذهب وشرابهم‪ ،‬بألطف الواني‪ ،‬وهي‬
‫الكواب التي ل عرى لها‪ ،‬وهي من أصفى الواني‪ ،‬من فضة أعظم من صفاء القوارير‪.‬‬
‫{ َوفِيهَا } أي‪ :‬الجنة { مَا تَشْ َتهِيهِ الْأَ ْنفُسُ وَتَلَذّ الْأَعْيُنُ } وهذا لفظ جامع‪ ،‬يأتي على كل نعيم وفرح‪،‬‬
‫وقرة عين‪ ،‬وسرور قلب‪ ،‬فكل ما اشتهته النفوس‪ ،‬من مطاعم‪ ،‬ومشارب‪ ،‬وملبس‪ ،‬ومناكح‪ ،‬ولذته‬
‫العيون‪ ،‬من مناظر حسنة‪ ،‬وأشجار محدقة‪ ،‬ونعم مونقة‪ ،‬ومبان مزخرفة‪ ،‬فإنه حاصل فيها‪ ،‬معد‬
‫لهلها‪ ،‬على أكمل الوجوه وأفضلها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ل ُهمْ فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وََلهُمْ مَا يَدّعُونَ } { وَأَنْ ُتمْ‬
‫فِيهَا خَاِلدُونَ } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة‪ ،‬وهو الخلد الدائم فيها‪ ،‬الذي يتضمن دوام نعيمها‬
‫وزيادته‪ ،‬وعدم انقطاعه‪.‬‬

‫{ وَتِ ْلكَ ا ْلجَنّةُ } الموصوفة بأكمل الصفات‪ ،‬هي { الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } أي‪ :‬أورثكم‬
‫اللّه إياها بأعمالكم‪ ،‬وجعلها من فضله جزاء لها‪ ،‬وأودع فيها من رحمته ما أودع‪.‬‬

‫[ { َلكُمْ فِيهَا فَا ِكهَةٌ كَثِي َرةٌ } كما في الية الخرى‪ { :‬فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َز ْوجَانِ } { مِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ }‬
‫أي‪ :‬مما تتخيرون من تلك الفواكه الشهية‪ ،‬والثمار اللذيذة تأكلون] ولما ذكر نعيم الجنة‪ ،‬عقبه بذكر‬
‫عذاب جهنم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫جهَنّمَ خَاِلدُونَ * لَا ُيفَتّرُ عَ ْن ُه ْم وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * َومَا‬


‫عذَابِ َ‬
‫{ ‪ { } 74-78‬إِنّ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ فِي َ‬
‫ظََلمْنَا ُه ْم وََلكِنْ كَانُوا هُمُ الظّاِلمِينَ * وَنَا َدوْا يَا مَاِلكُ لِ َي ْقضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ قَالَ إِ ّنكُم مَاكِثُونَْ * َلقَدْ‬
‫ق وََلكِنّ َأكْثَ َركُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ }‬
‫حّ‬‫جِئْنَاكُمْ بِالْ َ‬

‫جهَنّمَ } أي‪ :‬منغمرون فيه‪ ،‬محيط‬


‫{ إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } الذين أجرموا بكفرهم وتكذيبهم { فِي عَذَابِ َ‬
‫بهم العذاب من كل جانب‪ { ،‬خَاِلدُونَ } فيه‪ ،‬ل يخرجون منه أبدا‬

‫و { لَا ُيفَتّرُ عَ ْنهُمْ } العذاب ساعة‪ ،‬بإزالته‪ ،‬ول بتهوين عذابه‪ { ،‬وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي‪ :‬آيسون‬
‫من كل خير‪ ،‬غير راجين للفرج‪ ،‬وذلك أنهم ينادون ربهم فيقولون‪ { :‬رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا‬
‫خسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ } وهذا العذاب العظيم‪ ،‬بما قدمت أيديهم‪ ،‬وبما ظلموا به‬
‫فَإِنّا ظَاِلمُونَ قَالَ ا ْ‬
‫أنفسهم‪.‬واللّه لم يظلمهم ولم يعاقبهم بل ذنب ول جرم‪.‬‬

‫{ وَنَا َدوْا } وهم في النار‪ ،‬لعلهم يحصل لهم استراحة‪ { ،‬يَا مَاِلكُ لِ َيقْضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ } أي‪ :‬ليمتنا‬
‫فنستريح‪ ،‬فإننا في غم شديد‪ ،‬وعذاب غليظ‪ ،‬ل صبر لنا عليه ول جلد‪ .‬فـ { قَالَ } لهم مالك‬
‫خازن النار ‪-‬حين طلبوا منه أن يدعو اللّه لهم أن يقضي عليهم‪ { :-‬إِ ّن ُكمْ مَاكِثُونَ } أي‪ :‬مقيمون‬
‫فيها‪ ،‬ل تخرجون عنها أبدا‪ ،‬فلم يحصل لهم ما قصدوه‪ ،‬بل أجابهم بنقيض قصدهم‪ ،‬وزادهم غما‬
‫إلى غمهم‪.‬‬
‫حقّ } الذي يوجب عليكم أن تتبعوه فلو تبعتموه‪ ،‬لفزتم‬
‫ثم وبخهم بما فعلوا فقال‪َ { :‬لقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْ َ‬
‫وسعدتم‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَ َركُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ } فلذلك شقيتم شقاوة ل سعادة بعدها‪.‬‬

‫سلُنَا‬
‫جوَاهُمْ بَلَى وَرُ ُ‬
‫س َمعُ سِرّ ُه ْم وَنَ ْ‬
‫حسَبُونَ أَنّا لَا نَ ْ‬
‫{ ‪ { } 79-80‬أَمْ أَبْ َرمُوا َأمْرًا فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ * َأمْ يَ ْ‬
‫لَدَ ْيهِمْ َيكْتُبُونَ }‬

‫يقول تعالى‪ :‬أم أبرم المكذبون بالحق المعاندون له { َأمْرًا } أي‪ :‬كادوا كيدا‪ ،‬ومكروا للحق ولمن‬
‫جاء بالحق‪ ،‬ليدحضوه‪ ،‬بما موهوا من الباطل المزخرف المزوق‪ { ،‬فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ } أي‪ :‬محكمون‬
‫أمرا‪ ،‬ومدبرون تدبيرا يعلو تدبيرهم‪ ،‬وينقضه ويبطله‪ ،‬وهو ما قيضه اللّه من السباب والدلة‬
‫طلِ فَ َي ْد َمغُهُ }‬
‫حقّ عَلَى الْبَا ِ‬
‫لحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬بلْ َنقْ ِذفُ بِالْ َ‬

‫سمَعُ سِرّهُمْ } الذي لم يتكلموا به‪ ،‬بل هو سر في قلوبهم {‬


‫{ َأمْ َيحْسَبُونَ } بجهلهم وظلمهم { أَنّا لَا نَ ْ‬
‫جوَاهُمْ } أي‪ :‬كلمهم الخفي الذي يتناجون به‪ ،‬أي‪ :‬فلذلك أقدموا على المعاصي‪ ،‬وظنوا أنها ل‬
‫وَنَ ْ‬
‫تبعة لها ول مجازاة على ما خفي منها‪.‬‬

‫فرد اللّه عليهم بقوله‪ { :‬بَلَى } أي‪ :‬إنا نعلم سرهم ونجواهم‪ { ،‬وَرُسُلُنَا } الملئكة الكرام‪ { ،‬لَدَ ْي ِهمْ‬
‫َيكْتُبُونَ } كل ما عملوه‪ ،‬وسيحفظ ذلك عليهم‪ ،‬حتى يردوا القيامة‪ ،‬فيجدوا ما عملوا حاضرا‪ ،‬ول‬
‫يظلم ربك أحدا‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ َربّ‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫حمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ * سُبْحَانَ َربّ ال ّ‬
‫{ ‪ُ { } 81-83‬قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ‬
‫عدُونَ }‬
‫صفُونَ * َفذَرْهُمْ َيخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُو َ‬
‫عمّا َي ِ‬
‫ا ْلعَرْشِ َ‬

‫أي‪ :‬قل يا أيها الرسول الكريم‪ ،‬للذين جعلوا للّه ولدا‪ ،‬وهو الواحد الحد الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم‬
‫حمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } لذلك‬
‫يتخذ صاحبة ول ولدا‪ ،‬ولم يكن له كفوا أحد‪ُ { .‬قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ‬
‫الولد‪ ،‬لنه جزء من والده‪ ،‬وأنا أول الخلق انقيادا للمور المحبوبة للّه‪ ،‬ولكني أول المنكرين لذلك‪،‬‬
‫وأشدهم له نفيا‪ ،‬فعلم بذلك بطلنه‪ ،‬فهذا احتجاج عظيم عند من عرف أحوال الرسل‪ ،‬وأنه إذا علم‬
‫أنهم أكمل الخلق‪ ،‬وأن كل خير فهم أول الناس سبقا إليه وتكميل له‪ ،‬وكل شر فهم أول الناس تركا‬
‫له وإنكارا له وبعدا منه‪ ،‬فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق‪ ،‬لكان محمد بن عبد اللّه‪،‬‬
‫أفضل الرسل أول من عبده‪ ،‬ولم يسبقه إليه المشركون‪.‬‬
‫ويحتمل أن معنى الية‪ :‬لو كان للرحمن ولد‪ ،‬فأنا أول العابدين للّه‪ ،‬ومن عبادتي للّه‪ ،‬إثبات ما‬
‫أثبته‪ ،‬ونفي ما نفاه‪ ،‬فهذا من العبادة القولية العتقادية‪ ،‬ويلزم من هذا‪ ،‬لو كان حقا‪ ،‬لكنت أول‬
‫مثبت له‪ ،‬فعلم بذلك بطلن دعوى المشركين وفسادها‪ ،‬عقل ونقل‪.‬‬

‫صفُونَ } من الشريك والظهير‪ ،‬والعوين‪،‬‬


‫عمّا َي ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ سُبْحَانَ َربّ ال ّ‬
‫والولد‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما نسبه إليه المشركون‪.‬‬

‫{ َفذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا } أي‪ :‬يخوضوا بالباطل‪ ،‬ويلعبوا بالمحال‪ ،‬فعلومهم ضارة غير نافعة‪،‬‬
‫وهي الخوض والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق وما جاءت به الرسل‪ ،‬وأعمالهم لعب‬
‫وسفاهة‪ ،‬ل تزكي النفوس‪ ،‬ول تثمر المعارف‪.‬‬

‫ولهذا توعدهم بما أمامهم من يوم القيامة فقال‪ { :‬حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ } فسيعلمون فيه‬
‫ماذا حصلوا‪ ،‬وما حصلوا عليه من الشقاء الدائم‪ ،‬والعذاب المستمر‪.‬‬

‫حكِيمُ ا ْلعَلِيمُ * وَتَبَا َركَ الّذِي َلهُ‬


‫سمَاءِ إِلَ ٌه َوفِي الْأَ ْرضِ إِلَ ٌه وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 84-89‬وَ ُهوَ الّذِي فِي ال ّ‬
‫جعُونَ * وَلَا َيمِْلكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا وَعِنْ َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّى ُي ْؤفَكُونَ *‬
‫حّ‬‫ش ِهدَ بِالْ َ‬
‫شفَاعَةَ إِلّا مَنْ َ‬
‫دُونِهِ ال ّ‬
‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ }‬
‫َوقِيلِهِ يَا َربّ إِنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ لَا ُي ْؤمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَ ْنهُ ْم َو ُقلْ سَلَامٌ فَ َ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه وحده المألوه المعبود في السماوات والرض فأهل السماوات كلهم‪ ،‬والمؤمنون‬
‫من أهل الرض‪ ،‬يعبدونه‪ ،‬ويعظمونه‪ ،‬ويخضعون لجلله‪ ،‬ويفتقرون لكماله‪.‬‬

‫ح ْم ِدهِ } { وَلِلّهِ َيسْجُدُ مَنْ‬


‫شيْءٍ إِلّا ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫ن وَإِنْ مِنْ َ‬
‫ض َومَنْ فِيهِ ّ‬
‫سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَالْأَ ْر ُ‬
‫{ ُتسَبّحُ لَهُ ال ّ‬
‫طوْعًا َوكَرْهًا }‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َ‬
‫فِي ال ّ‬

‫فهو تعالى المألوه المعبود‪ ،‬الذي يألهه الخلئق كلهم‪ ،‬طائعين مختارين‪ ،‬وكارهين‪ .‬وهذه كقوله‬
‫تعالى‪ { :‬وهو اللّه في السماوات وفي الرض } أي‪ :‬ألوهيته ومحبته فيهما‪ .‬وأما هو فهو فوق‬
‫حكِيمُ } الذي أحكم ما خلقه‪ ،‬وأتقن‬
‫عرشه‪ ،‬بائن من خلقه‪ ،‬متوحد بجلله‪ ،‬متمجد بكماله‪ { ،‬وَ ُهوَ الْ َ‬
‫ما شرعه‪ ،‬فما خلق شيئا إل لحكمة‪ ،‬ول شرع شيئا إل لحكمة‪ ،‬وحكمه القدري والشرعي‬
‫والجزائي مشتمل على الحكمة‪ { .‬ا ْلعَلِيمُ } بكل شيء‪ ،‬يعلم السر وأخفى‪ ،‬ول يعزب عنه مثقال ذرة‬
‫في العالم العلوي والسفلي‪ ،‬ول أصغر منها ول أكبر‪.‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم‪ ،‬وكثر خيره‪،‬‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ وَتَبَا َركَ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫واتسعت صفاته‪ ،‬وعظم ملكه‪ .‬ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والرض وما بينهما‪ ،‬وسعة علمه‪،‬‬
‫وأنه بكل شيء عليم‪ ،‬حتى إنه تعالى‪ ،‬انفرد بعلم كثير من الغيوب‪ ،‬التي لم يطلع عليها أحد من‬
‫الخلق‪ ،‬ل نبي مرسل‪ ،‬ول ملك مقرب‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَعِنْ َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ } قدم الظرف‪ ،‬ليفيد‬
‫الحصر‪ ،‬أي‪ :‬ل يعلم متى تجيء الساعة إل هو‪ ،‬ومن تمام ملكه وسعته‪ ،‬أنه مالك الدنيا والخرة‪،‬‬
‫جعُونَ } أي‪ :‬في الخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل‪ ،‬ومن تمام ملكه‪ ،‬أنه ل‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫يملك أحد من خلقه من المر شيئا‪ ،‬ول يقدم على الشفاعة عنده أحد إل بإذنه‪.‬‬

‫شفَاعَةَ } أي‪ :‬كل من دعي من دون اللّه‪ ،‬من النبياء والملئكة‬


‫{ وَلَا َيمِْلكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ال ّ‬
‫وغيرهم‪ ،‬ل يملكون الشفاعة‪ ،‬ول يشفعون إل بإذن اللّه‪ ،‬ول يشفعون إل لمن ارتضى‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫حقّ } أي‪ :‬نطق بلسانه‪ ،‬مقرا بقلبه‪ ،‬عالما بما شهد به‪ ،‬ويشترط أن تكون شهادته‬
‫شهِدَ بِالْ َ‬
‫{ ِإلّا مَنْ َ‬
‫بالحق‪ ،‬وهو الشهادة للّه تعالى بالوحدانية‪ ،‬ولرسله بالنبوة والرسالة‪ ،‬وصحة ما جاءوا به‪ ،‬من‬
‫أصول الدين وفروعه‪ ،‬وحقائقه وشرائعه‪ ،‬فهؤلء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين‪ ،‬وهؤلء‬
‫الناجون من عذاب اللّه‪ ،‬الحائزون لثوابه‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خَلَقهم لَ َيقُولُنّ اللّهُ } أي‪ :‬ولئن سألت المشركين عن توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬ومن هو الخالق‪ ،‬لقروا أنه اللّه وحده ل شريك له‪.‬‬

‫{ فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ } أي‪ :‬فكيف يصرفون عن عبادة اللّه والخلص له وحده؟!‬

‫فإقرارهم بتوحيد الربوبية‪ ،‬يلزمهم به القرار بتوحيد اللوهية‪ ،‬وهو من أكبر الدلة على بطلن‬
‫الشرك‪.‬‬

‫عةِ } أي‪:‬‬
‫{ َوقِيلِهِ يَا َربّ إِنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ لَا ُي ْؤمِنُونَ } هذا معطوف على قوله‪ { :‬وَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ‬
‫وعنده علم قيله‪ ،‬أي‪ :‬الرسول صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬شاكيا لربه تكذيب قومه‪ ،‬متحزنا على ذلك‪،‬‬
‫متحسرا على عدم إيمانهم‪ ،‬فاللّه تعالى عالم بهذه الحال‪ ،‬قادر على معاجلتهم بالعقوبة‪ ،‬ولكنه تعالى‬
‫صفَحْ عَ ْنهُمْ َوقُلْ سَلَامٌ }‬
‫حليم‪ ،‬يمهل العباد ويستأني بهم‪ ،‬لعلهم يتوبون ويرجعون‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَا ْ‬
‫أي‪ :‬اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية‪ ،‬واعف عنهم‪ ،‬ول يبدر منك لهم إل السلم‬
‫الذي يقابل به أولو اللباب والبصائر الجاهلين‪ ،‬كما قال تعالى عن عباده الصالحين‪{ :‬وإذا‬
‫خاطبهم الجاهلون } أي‪ :‬خطابا بمقتضى جهلهم { قالوا سلما } فامتثل صلى اللّه عليه وسلم‪ ،‬لمر‬
‫ربه‪ ،‬وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الذى‪ ،‬بالعفو والصفح‪ ،‬ولم يقابلهم عليه إل‬
‫بالحسان إليهم والخطاب الجميل‪.‬‬
‫فصلوات اللّه وسلمه على من خصه اللّه بالخلق العظيم‪ ،‬الذي فضل به أهل الرض والسماء‪،‬‬
‫وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء‪.‬‬

‫غبّ ذنوبهم‪ ،‬وعاقبة جرمهم‪.‬‬


‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ} أي‪ِ :‬‬
‫وقوله‪{ :‬فَ َ‬

‫تم تفسير سورة الزخرف‬

‫تفسير سورة الدخان‬


‫مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ إِنّا كُنّا‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-16‬بِ ْ‬
‫حمَةً مِنْ رَ ّبكَ إِنّهُ ُهوَ‬
‫حكِيمٍ * َأمْرًا مِنْ عِ ْندِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * رَ ْ‬
‫مُنْذِرِينَ * فِيهَا ُيفْرَقُ ُكلّ َأمْرٍ َ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * َربّ ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ *‬
‫شكّ يَ ْلعَبُونَ * فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ‬
‫رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَا ِئكُمُ الَْأوّلِينَ * َبلْ هُمْ فِي َ‬
‫شفْ عَنّا ا ْلعَذَابَ إِنّا ُم ْؤمِنُونَ * أَنّى َل ُهمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَا َءهُمْ‬
‫َيغْشَى النّاسَ َهذَا عَذَابٌ َألِيمٌ * رَبّنَا ا ْك ِ‬
‫شفُوا ا ْلعَذَابِ قَلِيلًا إِ ّنكُمْ عَائِدُونَ * َيوْمَ‬
‫رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمّ َتوَّلوْا عَنْ ُه َوقَالُوا ُمعَلّمٌ َمجْنُونٌ * إِنّا كَا ِ‬
‫طشَةَ ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َت ِقمُونَ }‬
‫نَبْطِشُ الْبَ ْ‬

‫هذا قسم بالقرآن على القرآن‪ ،‬فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ‬
‫مُبَا َركَةٍ } أي‪ :‬كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر‪ ،‬فأنزل أفضل‬
‫الكلم بأفضل الليالي واليام على أفضل النام‪ ،‬بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة‬
‫وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير‬
‫الدنيوي والخير الخروي ولهذا قال‪ { :‬إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيهَا } أي‪ :‬في تلك الليل الفاضلة التي نزل‬
‫حكِيمٍ } أي‪ :‬يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم ال به‪،‬‬
‫فيها القرآن { ُيفْرَقُ ُكلّ َأمْرٍ َ‬
‫وهذه الكتابة والفرقان‪ ،‬الذي يكون في ليلة القدر أحد الكتابات التي تكتب وتميز فتطابق الكتاب‬
‫الول الذي كتب ال به مقادير الخلئق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم‪ ،‬ثم إن ال تعالى قد‬
‫وكل ملئكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه‪ ،‬ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل‬
‫به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله‪ ،‬ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في‬
‫السنة‪ ،‬وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإتقان حفظه واعتنائه تعالى بخلقه‪.‬‬

‫{ َأمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي‪ :‬هذا المر الحكيم أمر صادر من عندنا‪.‬‬
‫حمَةً‬
‫{ إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } للرسل ومنزلين للكتب والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره‪َ { ،‬ر ْ‬
‫مِنْ رَ ّبكَ } أي‪ :‬إن إرسال الرسل وإنزال الكتب التي أفضلها القرآن رحمة من رب العباد بالعباد‪،‬‬
‫فما رحم ال عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل‪ ،‬وكل خير ينالونه في الدنيا والخرة‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } أي‪ :‬يسمع جميع الصوات ويعلم جميع المور‬
‫فإنه من أجل ذلك وسببه‪ { ،‬إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫الظاهرة والباطنة وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه فرحمهم بذلك ومن عليهم فله‬
‫تعالى الحمد والمنة والحسان‪.‬‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } أي‪ :‬خالق ذلك ومدبره والمتصرف فيه بما شاء‪ { .‬إِنْ كُنْتُمْ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َربّ ال ّ‬
‫مُوقِنِينَ } أي‪ :‬عالمين بذلك علما مفيدا لليقين فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق ولهذا‬
‫قال‪ { :‬لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } أي‪ :‬ل معبود إل وجهه‪ُ { ،‬يحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي‪ :‬هو المتصرف وحده‬
‫بالحياء والماتة وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر‪ { ،‬رَ ّبكُمْ‬
‫وَ َربّ آبَا ِئكُمُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬رب الولين والخرين مربيهم بالنعم الدافع عنهم النقم‪.‬‬

‫فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام ويدفع الشك أخبر أن الكافرين مع هذا‬
‫شكّ يَ ْلعَبُونَ } أي‪ :‬منغمرون في الشكوك والشبهات غافلون عما خلقوا له قد اشتغلوا‬
‫البيان { فِي َ‬
‫باللعب الباطل‪ ،‬الذي ل يجدي عليهم إل الضرر‪.‬‬

‫سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ َيغْشَى‬


‫{ فَارْ َت ِقبْ } أي‪ :‬انتظر فيهم العذاب فإنه قد قرب وآن أوانه‪َ { ،‬يوْمَ تَأْتِي ال ّ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫النّاسَ } أي‪ :‬يعمهم ذلك الدخان ويقال لهم‪ { :‬هَذَا َ‬

‫واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين تقرب‬
‫النار من المجرمين في يوم القيامة وأن ال توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم‬
‫ذلك اليوم‪.‬‬

‫ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك‬
‫اليوم وعذابه وتسلية الرسول والمؤمنين بالنتظار بمن آذاهم‪.‬‬

‫ويؤيده أيضا أنه قال في هذه الية‪ { :‬أَنّى َلهُمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَاءَهُمْ َرسُولٌ مُبِينٌ } وهذا يقال يوم‬
‫القيامة للكفار حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا فيقال‪ :‬قد ذهب وقت الرجوع‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن المراد بذلك ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من اليمان واستكبروا على الحق فدعا‬
‫عليهم النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ { :‬اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف } فأرسل ال‬
‫عليهم الجوع العظيم حتى أكلوا الميتات والعظام وصاروا يرون الذي بين السماء والرض كهيئة‬
‫الدخان وليس به‪ ،‬وذلك من شدة الجوع‪.‬‬

‫سمَاءُ بِ ُدخَانٍ } أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم وما يشاهدون‬


‫فيكون ‪-‬على هذا‪ -‬قوله‪َ { :‬يوْمَ تَأْتِي ال ّ‬
‫وليس بدخان حقيقة‪.‬‬

‫ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول ال صلى ال عليه وسلم وسألوه أن يدعو ال لهم أن‬
‫شفُوا ا ْل َعذَابِ قَلِيلًا إِ ّنكُمْ‬
‫يكشفه ال عنهم فدعا ربه فكشفه ال عنهم‪ ،‬وعلى هذا فيكون قوله‪ { :‬إِنّا كَا ِ‬
‫عَائِدُونَ } إخبار بأن ال سيصرفه عنكم وتوعد لهم أن يعودوا إلى الستكبار والتكذيب وإخبار‬
‫بوقوعه فوقع وأن ال سيعاقبهم بالبطشة الكبرى‪ ،‬قالوا‪ :‬وهي وقعة بدر وفي هذا القول نظر‬
‫ظاهر‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن المراد بذلك أن ذلك من أشراط الساعة وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس‬
‫الناس ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان‪ ،‬والقول هو الول‪ ،‬وفي الية احتمال أن المراد‬
‫شفْ عَنّا‬
‫سمَاءُ بِ ُدخَانٍ مُبِينٍ * َيغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبّنَا اكْ ِ‬
‫بقوله‪ { :‬فَارْ َتقِبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ‬
‫ا ْلعَذَابَ إِنّا ُم ْؤمِنُونَ * أَنّى َلهُمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَا َءهُمْ َرسُولٌ مُبِينٌ * ُثمّ َتوَّلوْا عَ ْن ُه َوقَالُوا ُمعَلّمٌ مَجْنُونٌ‬
‫} أن هذا كله يكون يوم القيامة‪.‬‬

‫شةَ ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َت ِقمُونَ‬


‫شفُوا ا ْلعَذَابِ قَلِيلًا إِ ّن ُكمْ عَائِدُونَ * َيوْمَ نَ ْبطِشُ الْ َبطْ َ‬
‫وأن قوله تعالى‪ { :‬إِنّا كَا ِ‬
‫} أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم‪ .‬وإذا نزلت هذه اليات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما‬
‫يمنع من ذلك‪.‬‬

‫بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة وهذا الذي يظهر عندي ويترجح وال أعلم‪.‬‬

‫عوْنَ }إلى آخر القصة‬


‫{ ‪ { } 17-33‬وََلقَدْ فَتَنّا قَبَْلهُمْ َقوْمَ فِرْ َ‬

‫إلى آخر القصة لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم ذكر أن لهم‬
‫سلفا من المكذبين‪ ،‬فذكر قصتهم مع موسى وما أحل ال بهم ليرتدع هؤلء المكذبون عن ما هم‬
‫عوْنَ } أي‪ :‬ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن‬
‫عليه فقال‪ { :‬وََلقَدْ فَتَنّا قَبَْلهُمْ َقوْمَ فِرْ َ‬
‫عمران إليهم الرسول الكريم الذي فيه من الكرم ومكارم الخلق ما ليس في غيره‪.‬‬
‫{ أَنْ أَدّوا إَِليّ عِبَادَ اللّهِ } أي‪ :‬قال لفرعون وملئه‪ :‬أدوا إلي عباد ال‪ ،‬يعني بهم‪ :‬بني إسرائيل أي‪:‬‬
‫أرسلوهم وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في‬
‫زمانهم‪.‬‬

‫وأنتم قد ظلمتموهم واستعبدتموهم بغير حق فأرسلوهم ليعبدوا ربهم‪ { ،‬إِنّي َلكُمْ َرسُولٌ َأمِينٌ } أي‪:‬‬
‫رسول من رب العالمين أمين على ما أرسلني به ل أكتمكم منه شيئا ول أزيد فيه ول أنقص وهذا‬
‫يوجب تمام النقياد له‪.‬‬

‫{ وَأَنْ لَا َتعْلُوا عَلَى اللّهِ } بالستكبار عن عبادته والعلو على عباد ال‪ { ،‬إِنّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ }‬
‫أي‪ :‬بحجة بينة ظاهرة وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات والدلة القاهرات‪ ،‬فكذبوه وهموا‬
‫جمُونِ } أي‪ :‬تقتلوني أشر القتلت‬
‫بقتله فلجأ بال من شرهم فقال‪ { :‬وَإِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ أَنْ تَ ْر ُ‬
‫بالرجم بالحجارة‪.‬‬

‫{ وَإِنْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي‪ :‬لكم ثلث مراتب‪ :‬اليمان بي وهو مقصودي منكم فإن لم‬
‫تحصل منكم هذه المرتبة فاعتزلوني ل علي ول لي‪ ،‬فاكفوني شركم‪ .‬فلم تحصل منهم المرتبة‬
‫الولى ول الثانية بل لم يزالو متمردين عاتين على ال محاربين لنبيه موسى عليه السلم غير‬
‫ممكنين له من قومه بني إسرائيل‪َ { .‬فدَعَا رَبّهُ أَنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ ُمجْ ِرمُونَ } أي‪ :‬قد أجرموا جرما‬
‫يوجب تعجيل العقوبة‪.‬‬

‫فأخبر عليه السلم بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال‪ ،‬كما قال عن نفسه عليه‬
‫السلم { َربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } فأمره ال أن يسري بعباده ليل وأخبره أن‬
‫فرعون وقومه سيتبعونه‪ { .‬وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ َر ْهوًا } أي‪ :‬بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني‬
‫إسرائيل كما أمره ال ثم تبعهم فرعون فأمر ال موسى أن يضرب البحر فضربه فصار اثنى‬
‫عشر طريقا وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة فسلكه موسى وقومه‪.‬‬

‫فلما خرجوا منه أمره ال أن يتركه رهوا أي‪ :‬بحاله ليسلكه فرعون وجنوده { إِ ّن ُهمْ جُ ْندٌ ُمغْ َرقُونَ }‬
‫فلما تكامل قوم موسى خارجين منه وقوم فرعون داخلين فيه أمره ال تعالى أن يلتطم عليهم‬
‫فغرقوا عن آخرهم وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا وأورثه ال بني إسرائيل الذين كانوا‬
‫ت وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ َومَقَامٍ كَرِيمٍ * وَ َن ْعمَةٍ كَانُوا‬
‫مستعبدين لهم ولهذا قال‪َ { :‬كمْ تَ َركُوا مِنْ جَنّا ٍ‬
‫ك وََأوْرَثْنَاهَا } أي‪ :‬هذة النعمة المذكورة { َق ْومًا آخَرِينَ } وفي الية الخرى‪:‬‬
‫فِيهَا فَا ِكهِينَ * كَذَِل َ‬
‫ك وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ }‬
‫{ َكذَِل َ‬
‫سمَا ُء وَالْأَ ْرضُ } أي‪ :‬لما أتلفهم ال وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والرض أي‪:‬‬
‫{ َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم‪ ،‬بل كل استبشر بهلكهم وتلفهم حتى السماء والرض لنهم‬
‫ما خلفوا من آثارهم إل ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين‪.‬‬

‫{ َومَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } أي‪ :‬ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال‪ .‬ثم امتن تعالى على بني‬
‫عوْنَ } إذ‬
‫إسرائيل فقال‪ { :‬وََلقَدْ نَجّيْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مِنَ ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ } الذي كانوا فيه { مِنْ فِرْ َ‬
‫يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم‪ { .‬إِنّهُ كَانَ عَالِيًا } أي‪ :‬مستكبرا في الرض بغير الحق { مِنَ‬
‫ا ْلمُسْ ِرفِينَ } المتجاوزين لحدود ال المتجرئين على محارمه‪.‬‬

‫{ وََلقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ } أي‪ :‬اصطفيناهم وانتقيناهم { عَلَى عِ ْلمٍ } منا بهم وباستحقاقهم لذلك الفضل {‬
‫عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى ال بأمة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم ففضلوا العالمين كلهم وجعلهم ال خير أمة أخرجت للناس وامتن عليهم بما لم يمتن به على‬
‫غيرهم‪.‬‬

‫{ وَآتَيْنَاهُمْ } أي‪ :‬بني إسرائيل { مِنَ الْآيَاتِ } الباهرة والمعجزات الظاهرة‪ { .‬مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ }‬
‫أي‪ :‬إحسان كثير ظاهر منا عليهم وحجة عليهم على صحة ما جاءهم به نبيهم موسى عليه‬
‫السلم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 34-37‬إِنّ َهؤُلَاءِ لَ َيقُولُونَ * إِ نْ ِهيَ ِإلّا َموْتَتُنَا الْأُولَى َومَا نَحْنُ ِبمُ ْنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا‬
‫إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * أَ ُهمْ خَيْرٌ َأمْ َقوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ أَهَْلكْنَاهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُوا مُجْ ِرمِينَ }‬

‫يخبر تعالى { إِنّ َهؤُلَاءِ } المكذبين يقولون مستبعدين للبعث والنشور‪ { :‬إِنْ ِهيَ إِلّا َموْتَتُنَا الْأُولَى‬
‫َومَا َنحْنُ ِبمُنْشَرِينَ } أي‪ :‬ما هي إل الحياة الدنيا فل بعث ول نشور ول جنة ول نار‪ .‬ثم قالوا‬
‫‪-‬متجرئين على ربهم معجزين له‪ { :-‬فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ} وهذا من اقتراح الجهلة‬
‫المعاندين في مكان سحيق‪ ،‬فأي ملزمة بين صدق الرسول صلى ال عليه وسلم وأنه متوقف على‬
‫التيان بآبائهم؟ فإن اليات قد قامت على صدق ما جاءهم به وتواترت تواترا عظيما من كل‬
‫وجه‪.‬‬

‫قال تعالى‪َ { :‬أهُمْ خَيْرٌ } أي‪ :‬هؤلء المخاطبون { أَمْ َقوْمُ تُبّ ٍع وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ أَهَْلكْنَا ُهمْ إِ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫مُجْ ِرمِينَ } فإنهم ليسوا خيرا منهم وقد اشتركوا في الجرام فليتوقعوا من الهلك ما أصاب‬
‫إخوانهم المجرمين‪.‬‬
‫ق وََلكِنّ‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا لَاعِبِينَ * مَا خََلقْنَا ُهمَا إِلّا بِا ْلحَ ّ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 38-42‬ومَا خََلقْنَا ال ّ‬
‫َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ *‬

‫ج َمعِينَ * َيوْمَ لَا ُيغْنِي َموْلًى عَنْ َموْلًى شَيْئًا وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ * إِلّا مَنْ‬
‫صلِ مِيقَا ُتهُمْ َأ ْ‬
‫إِنّ َيوْمَ ا ْل َف ْ‬
‫حمَ اللّهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }‬
‫رَ ِ‬

‫يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام حكمته وأنه ما خلق السماوات والرض لعبا ول لهوا أو سدى‬
‫من غير فائدة وأنه ما خلقهما إل بالحق أي‪ :‬نفس خلقهما بالحق وخلقهما مشتمل على الحق‪ ،‬وأنه‬
‫أوجدهما ليعبدوه وحده ل شريك له وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم‪ { .‬وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا‬
‫َيعَْلمُونَ } فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والرض‪.‬‬

‫{ إِنّ َيوْمَ ا ْل َفصْلِ } وهو يوم القيامة الذي يفصل ال به بين الولين والخرين وبين كل مختلفين‬
‫ج َمعِينَ }‬
‫{ مِيقَا ُتهُمْ } أي‪ :‬الخلئق { َأ ْ‬

‫كلهم سيجمعهم ال فيه ويحضرهم ويحضر أعمالهم ويكون الجزاء عليها ول ينفع مولى عن مولى‬
‫شيئا ل قريب عن قريبه ول صديق عن صديقه‪ { ،‬وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ } أي‪ :‬يمنعون من عذاب ال‬
‫عز وجل لن أحدا من الخلق ل يملك من المر شيئا‪.‬‬

‫حمَ اللّهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة ال تعالى التي تسبب‬
‫{ ِإلّا مَنْ رَ ِ‬
‫إليها وسعى لها سعيها في الدنيا‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫حمِيمِ *‬
‫طعَامُ الْأَثِيمِ * كَا ْل ُم ْهلِ َيغْلِي فِي الْ ُبطُونِ * َكغَ ْليِ ا ْل َ‬
‫شجَ َرةَ ال ّزقّومِ * َ‬
‫{ ‪ { } 43-50‬إِنّ َ‬
‫حمِيمِ * ذُقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ‬
‫سهِ مِنْ عَذَابِ ا ْل َ‬
‫جحِيمِ * ثُ ّم صُبّوا َفوْقَ رَأْ ِ‬
‫سوَاءِ الْ َ‬
‫خذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى َ‬
‫ُ‬
‫ا ْلكَرِيمُ * إِنّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ َتمْتَرُونَ }‬

‫لما ذكر يوم القيامة وأنه يفصل بين عباده فيه ذكر افتراقهم إلى فريقين‪ :‬فريق في الجنة‪ ،‬وفريق‬
‫شجَ َرةَ ال ّزقّومِ } شر الشجار‬
‫في السعير وهم‪ :‬الثمون بعمل الكفر والمعاصي وأن طعامهم { َ‬
‫وأفظعها وأن طعمها { كَا ْل ُم ْهلِ } أي‪ :‬كالصديد المنتن خبيث الريح والطعم شديد الحرارة يغلي في‬
‫حمِيمِ } ويقال للمعذب‪ { :‬ذُقْ } هذا العذاب الليم والعقاب الوخيم { إِ ّنكَ أَ ْنتَ‬
‫بطونهم { َكغَ ْليِ الْ َ‬
‫ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ } أي‪ :‬بزعمك أنك عزيز ستمتنع من عذاب ال وأنك كريم على ال ل يصيبك‬
‫بعذاب‪ ،‬فاليوم تبين لك أنك أنت الذليل المهان الخسيس‪ { .‬إِنّ هَذَا } العذاب العظيم { مَا كُنْ ُتمْ بِهِ‬
‫َتمْتَرُونَ } أي‪ :‬تشكون فالن صار عندكم حق اليقين‪.‬‬
‫{ ‪ { } 51-59‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي َمقَامٍ َأمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْ َبسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ‬
‫ك وَ َزوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ * َيدْعُونَ فِيهَا ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ا ْل َموْتَ‬
‫مُ َتقَابِلِينَ * َكذَِل َ‬
‫إِلّا ا ْل َموْتَةَ الْأُولَى َو َوقَاهُمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ * َفضْلًا مِنْ رَ ّبكَ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ * فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ‬
‫بِلِسَا ِنكَ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ * فَارْ َتقِبْ إِ ّنهُمْ مُرْتَقِبُونَ }‬

‫هذا جزاء المتقين ل الذين اتقوا سخطه وعذابه بتركهم المعاصي وفعلهم الطاعات‪ ،‬فلما انتفى‬
‫السخط عنهم والعذاب ثبت لهم الرضا من ال والثواب العظيم في ظل ظليل من كثرة الشجار‬
‫والفواكه وعيون سارحة تجري من تحتهم النهار يفجرونها تفجيرا في جنات النعيم‪.‬‬

‫فأضاف الجنات إلى النعيم لن كل ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور‪ ،‬كامل من كل وجه ما فيه‬
‫منغص ول مكدر بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫ولباسهم من الحرير الخضر من السندس والستبرق أي‪ :‬غليظ الحرير ورقيقه مما تشتهيه‬
‫أنفسهم‪ { .‬مُ َتقَابِلِينَ } في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة والطمأنينة والمحبة والعشرة الحسنة‬
‫والداب المستحسنة‪.‬‬

‫{ َكذَِلكَ } النعيم التام والسرور الكامل { وَ َزوّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عين } أي‪ :‬نساء جميلت من جمالهن‬
‫وحسنهن أنه يحار الطرف في حسنهن وينبهر العقل بجمالهن وينخلب اللب لكمالهن { عَيْنٍ } أي‪:‬‬
‫ضخام العين حسانها‪.‬‬

‫{ َيدْعُونَ فِيهَا } أي‪ :‬الجنة { ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ } مما له اسم في الدنيا ومما ل يوجد له اسم ول نظير في‬
‫الدنيا‪ ،‬فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها أحضر لهم في الحال من غير تعب ول كلفة‪،‬‬
‫{ آمِنِينَ } من انقطاع ذلك وآمنين من مضرته وآمنين من كل مكدر‪ ،‬وآمنين من الخروج منها‬
‫والموت ولهذا قال‪ { :‬لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ا ْل َموْتَ إِلّا ا ْل َموْتَةَ الْأُولَى } أي‪ :‬ليس فيها موت بالكلية‪ ،‬ولو‬
‫كان فيها موت يستثنى لم يستثن الموتة الولى التي هي الموتة في الدنيا فتم لهم كل محبوب‬
‫مطلوب‪َ { ،‬و َوقَاهُمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ َفضْلًا مِنْ رَ ّبكَ } أي‪ :‬حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم من‬
‫فضل ال عليهم وكرمه فإنه تعالى هو الذي وفقهم للعمال الصالحة التي بها نالوا خير الخرة‬
‫وأعطاهم أيضا ما لم تبلغه أعمالهم‪ { ،‬ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ } وأي فوز أعظم من نيل رضوان‬
‫ال وجنته والسلمة من عذابه وسخطه؟‬
‫{ فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ } أي‪ :‬القرآن { بِلِسَا ِنكَ } أي‪ :‬سهلناه بلسانك الذي هو أفصح اللسنة على الطلق‬
‫وأجلها فتيسر به لفظه وتيسر معناه‪َ { .‬لعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } ما فيه نفعهم فيفعلونه وما فيه ضررهم‬
‫فيتركونه‪.‬‬

‫{ فَارْ َت ِقبْ } أي‪ :‬انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر } إِ ّن ُهمْ مُرْ َتقِبُونَ ما يحل بهم من العذاب‬
‫وفرق بين الرتقابين‪ :‬رسول ال وأتباعه يرتقبون الخير في الدينا والخرة‪ ،‬وضدهم يرتقبون‬
‫الشر في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الدخان‪ ،‬ول الحمد والمنة‬

‫تفسير سورة الجاثية‬


‫مكية‬

‫حكِيمِ * إِنّ فِي‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-11‬بِ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَآيَاتٍ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ * َوفِي خَ ْل ِقكُ ْم َومَا يَ ُبثّ مِنْ دَابّةٍ آيَاتٌ ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ‬
‫ال ّ‬
‫سمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ‬
‫ل وَال ّنهَارِ َومَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنَ ال ّ‬
‫اللّ ْي ِ‬
‫حدِيثٍ َب ْعدَ اللّهِ وَآيَاتِهِ ُي ْؤمِنُونَ * وَ ْيلٌ‬
‫حقّ فَبَِأيّ َ‬
‫علَ ْيكَ بِالْ َ‬
‫آيَاتٌ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ * تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا َ‬
‫س َم ْعهَا فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ *‬
‫سمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ُثمّ ُيصِرّ مُسْ َتكْبِرًا كَأَنْ َلمْ يَ ْ‬
‫ِل ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ * َي ْ‬
‫جهَنّ ُم وَلَا ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مَا‬
‫ن وَرَا ِئهِمْ َ‬
‫خذَهَا هُ ُزوًا أُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ * مِ ْ‬
‫وَإِذَا عَِلمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتّ َ‬
‫كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَا َء وََلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * َهذَا ُهدًى وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ‬
‫رَ ّبهِمْ َلهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }‬

‫يخبر تعالى خبرا يتضمن المر بتعظيم القرآن والعتناء به وأنه { تَنْزِيلُ } { مِنَ اللّهِ } المألوه‬
‫المعبود لما اتصف به من صفات الكمال وانفرد به من النعم الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة‪.‬‬

‫ثم أيد ذلك بما ذكره من اليات الفقية والنفسية من خلق السماوات والرض وما بث فيهما من‬
‫الدواب وما أودع فيهما من المنافع وما أنزل ال من الماء الذي يحيي به ال البلد والعباد‪.‬‬

‫فهذه كلها آيات بينات وأدلة واضحات على صدق هذا القرآن العظيم وصحة ما اشتمل عليه من‬
‫الحكم والحكام‪ ،‬ودالت أيضا على ما ل تعالى من الكمال وعلى البعث والنشور‪.‬‬
‫ثم قسم تعالى الناس بالنسبة إلى النتفاع بآياته وعدمه إلى قسمين‪:‬‬

‫قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون بال وملئكته وكتبه ورسله‬
‫واليوم الخر إيمانا تاما وصل بهم إلى درجة اليقين‪ ،‬فزكى منهم العقول وازدادت به معارفهم‬
‫وألبابهم وعلومهم‪.‬‬

‫وقسم يسمع آيات ال سماعا تقوم به الحجة عليه ثم يعرض عنها ويستكبر‪ ،‬كأنه ما سمعها لنها لم‬
‫تزك قلبه ول طهرته بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه‪.‬‬

‫وأنه إذا علم من آيات ال شيئا اتخذها هزوا فتوعده ال تعالى بالويل فقال‪:‬‬

‫{ وَ ْيلٌ ِل ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ } أي‪ :‬كذاب في مقاله أثيم في فعاله‪.‬‬

‫جهَنّمُ } تكفي في عقوبتهم البليغة‪.‬‬


‫ن وَرَا ِئهِمْ َ‬
‫وأخبر أن له عذابا أليما وأن { مِ ْ‬

‫وأنه { ل ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مَا كَسَبُوا } من الموال { وَلَا مَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ } يستنصرون‬
‫بهم فخذلوهم أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا‪.‬‬

‫فلما بين آياته القرآنية والعيانية وأن الناس فيها على قسمين أخبر أن القرآن المشتمل على هذه‬
‫المطالب العالية أنه هدى فقال‪َ { :‬هذَا هُدًى } وهذا وصف عام لجميع القرآن فإنه يهدي إلى معرفة‬
‫ال تعالى بصفاته المقدسة وأفعاله الحميدة‪ ،‬ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه‪ ،‬وأوصافهم‪،‬‬
‫ويهدي إلى العمال الصالحة ويدعو إليها ويبين العمال السيئة وينهى عنها‪ ،‬ويهدي إلى بيان‬
‫الجزاء على العمال ويبين الجزاء الدنيوي والخروي‪ ،‬فالمهتدون اهتدوا به فأفلحوا وسعدوا‪،‬‬
‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ } الواضحة القاطعة التي يكفر بها إل من اشتد ظلمه وتضاعف‬
‫عذَابٌ مِنْ رِجْزٍ َألِيمٌ }‬
‫طغيانه‪َ { ،‬لهُمْ َ‬

‫{ ‪ { } 12-13‬اللّهُ الّذِي سَخّرَ َل ُكمُ الْبَحْرَ لِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ فِيهِ بَِأمْ ِر ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ‬
‫جمِيعًا مِ ْنهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫شكُرُونَ * وَسَخّرَ َلكُمْ مَا فِي ال ّ‬
‫تَ ْ‬
‫يَ َت َفكّرُونَ }‬

‫يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره‪،‬‬
‫شكُرُونَ } ال تعالى فإنكم إذا‬
‫{ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب‪ { ،‬وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫شكرتموه زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيل‪.‬‬
‫جمِيعًا مِنْهُ } أي‪ :‬من فضله وإحسانه‪ ،‬وهذا شامل‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سخّرَ َلكُمْ مَا فِي ال ّ‬
‫{ وَ َ‬
‫لجرام السماوات والرض ولما أودع ال فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات‬
‫وأنواع الحيوانات وأصناف الشجار والثمرات وأجناس المعادن وغير ذلك مما هو معد لمصالح‬
‫بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته‪ ،‬فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته‬
‫وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ولهذا قال‪ { :‬إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ } وجملة‬
‫ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة ال وكمال قدرته‪ ،‬وما فيها من الحكام‬
‫والتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه‪ ،‬وما فيها من السعة والعظمة‬
‫والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه‪ ،‬وما فيها من التخصيصات والشياء المتضادات دليل على‬
‫أنه الفعال لما يريد‪ ،‬وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته‪،‬‬
‫وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره‪ ،‬وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي ل‬
‫تنبغي العبادة والذل والمحبة إل له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به‪ ،‬فهذه أدلة عقلية واضحة ل‬
‫تقبل ريبا ول شكا‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 14-15‬قلْ لِلّذِينَ آمَنُوا َيغْفِرُوا لِلّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْ ِزيَ َق ْومًا ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ *‬
‫جعُونَ }‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ثُمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُرْ َ‬
‫مَنْ َ‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به‪ ،‬الذين ل يرجون أيام ال‬
‫أي‪ :‬ل يرجون ثوابه ول يخافون وقائعه في العاصين فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا‬
‫يكسبون‪ .‬فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم‪ ،‬ثوابا جزيل‪.‬‬

‫وهم إن استمروا على تكذيبهم فل يحل بكم ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي ولهذا قال‪:‬‬
‫جعُونَ }‬
‫ل صَالِحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُ ْر َ‬
‫ع ِم َ‬
‫{ مَنْ َ‬

‫حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ وَرَ َزقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ َو َفضّلْنَا ُهمْ‬


‫{ ‪ { } 16-17‬وََلقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُ‬
‫عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ * وَآتَيْنَا ُهمْ بَيّنَاتٍ مِنَ الَْأمْرِ َفمَا اخْتََلفُوا إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيًا بَيْ َنهُمْ إِنّ رَ ّبكَ‬
‫َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ }‬

‫أي‪ :‬ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس‪ ،‬وآتيناهم { الكتاب } أي‪:‬‬
‫التوراة والنجيل { والحكم } بين الناس { والنبوة } التي امتازوا بها وصارت النبوة في ذرية‬
‫إبراهيم عليه السلم‪ ،‬أكثرهم من بني إسرائيل‪ { ،‬وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } من المآكل والمشارب‬
‫والملبس وإنزال المن والسلوى عليهم { َو َفضّلْنَاهُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬على الخلق بهذه النعم‬
‫ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه المة فإنهم خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫والسياق يدل على أن المراد غير هذه المة فإن ال يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل‬
‫وميزهم عن غيرهم‪ ،‬وأيضا فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة‬
‫وغيرها من النعوت قد حصلت كلها لهذه المة‪ ،‬وزادت عليهم هذه المة فضائل كثيرة فهذه‬
‫الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها‪ ،‬فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة‪ ،‬ومحمد‬
‫صلى ال عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين‪.‬‬

‫{ وَآتَيْنَاهُمْ } أي‪ :‬آتينا بني إسرائيل { بَيّنَاتٍ } أي‪ :‬دللت تبين الحق من الباطل { مِنَ الَْأمْرِ }‬
‫القدري الذي أوصله ال إليهم‪.‬‬

‫وتلك اليات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلم‪ ،‬فهذه النعم التي أنعم ال بها‬
‫على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه وأن يجتمعوا على الحق الذي‬
‫بينه ال لهم‪ ،‬ولكن انعكس المر فعاملوها بعكس ما يجب‪.‬‬

‫وافترقوا فيما أمروا بالجتماع به ولهذا قال‪َ { :‬فمَا اخْتََلفُوا ِإلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ } أي‪:‬‬
‫الموجب لعدم الختلف‪ ،‬وإنما حملهم على الختلف البغي من بعضهم على بعض والظلم‪.‬‬

‫{ إِنّ رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } فيميز المحق من المبطل والذي حمله‬
‫على الختلف الهوى أو غيره‪.‬‬

‫جعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الَْأمْرِ فَاتّ ِب ْعهَا وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ * إِ ّنهُمْ‬
‫{ ‪ { } 18-19‬ثُمّ َ‬
‫ض وَاللّ ُه وَِليّ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْع ٍ‬
‫لَنْ ُيغْنُوا عَ ْنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَإِنّ الظّاِلمِينَ َب ْع ُ‬

‫أي‪ :‬ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي‬
‫{ فَاتّ ِب ْعهَا } فإن في اتباعها السعادة البدية والصلح والفلح‪ { ،‬وَلَا تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ }‬
‫أي‪ :‬الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ول ماشية خلفه‪ ،‬وهم كل من خالف شريعة الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين ل يعلمون‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُهمْ لَنْ ُيغْنُوا عَ ْنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } أي‪ :‬ل ينفعونك عند ال فيحصلوا لك الخير ويدفعوا عنك‬
‫الشر إن اتبعتهم على أهوائهم‪ ،‬ول تصلح أن توافقهم وتواليهم فإنك وإياهم متباينون‪ ،‬وبعضهم ولي‬
‫لبعض { واللّ ُه وَِليّ ا ْلمُ ّتقِينَ } يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته‪.‬‬
‫حمَةٌ ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ }‬
‫س وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫{ ‪ { } 20‬هَذَا َبصَائِرُ لِلنّا ِ‬

‫أي‪ { :‬هَذَا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { َبصَائِرَ لِلنّاسِ } أي‪ :‬يحصل به التبصرة في جميع‬
‫المور للناس فيحصل به النتفاع للمؤمنين‪ ،‬والهدى والرحمة‪.‬‬

‫{ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه ويحصل به الخير‬
‫والسرور والسعادة في الدنيا والخرة وهي الرحمة‪ .‬فتزكو به نفوسهم وتزداد به عقولهم ويزيد به‬
‫إيمانهم ويقينهم‪ ،‬وتقوم به الحجة على من أصر وعاند‪.‬‬

‫سوَاءً‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ‬
‫جعََلهُمْ كَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫سبَ الّذِينَ اجْتَ َرحُوا السّيّئَاتِ أَنْ َن ْ‬
‫{ ‪َ { } 21‬أمْ حَ ِ‬
‫ح ُكمُونَ }‬
‫مَحْيَا ُه ْم َو َممَا ُتهُمْ سَاءَ مَا َي ْ‬

‫أي‪ :‬أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصرون في حقوق ربهم‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم‪ ،‬واجتنبوا مساخطه ولم‬


‫جعََلهُمْ كَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫{ أَنْ نَ ْ‬
‫سوَاءً } في الدنيا والخرة؟ ساء‬
‫يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم؟ أي‪ :‬أحسبوا أن يكونوا { َ‬
‫ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به‪ ،‬فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين‬
‫ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة‪ ،‬ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل‪ ،‬بل‬
‫الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلح والسعادة والثواب في‬
‫العاجل والجل كل على قدر إحسانه‪ ،‬وأن المسيئين لهم الغضب والهانة والعذاب والشقاء في‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ت وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ }‬


‫ق وَلِتُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َب ْ‬
‫حّ‬‫ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 22‬وخَلَقَ اللّهُ ال ّ‬

‫أي‪ :‬خلق ال السماوات والرض بالحكمة وليعبد وحده ل شريك له‪ ،‬ثم يجازي بعد ذلك من‬
‫أمرهم بعبادته وأنعم عليم بالنعم الظاهرة والباطنة هل شكروا ال تعالى وقاموا بالمأمور؟ أم كفروا‬
‫فاستحقوا جزاء الكفور؟‬

‫ج َعلَ‬
‫س ْمعِ ِه َوقَلْبِ ِه وَ َ‬
‫خذَ إَِلهَهُ َهوَاهُ وََأضَلّهُ اللّهُ عَلَى عِ ْل ٍم وَخَتَمَ عَلَى َ‬
‫{ ‪َ { } 23-26‬أفَرَأَ ْيتَ مَنِ اتّ َ‬
‫غشَا َوةً َفمَنْ َي ْهدِيهِ مِنْ َبعْدِ اللّهِ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ * َوقَالُوا مَا ِهيَ ِإلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ‬
‫عَلَى َبصَ ِرهِ ِ‬
‫علَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ‬
‫وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا إِلّا الدّهْ ُر َومَا َلهُمْ ِبذَِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ ِإلّا يَظُنّونَ * وَإِذَا تُتْلَى َ‬
‫ج َم ُعكُمْ إِلَى‬
‫حجّ َتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يَ ْ‬
‫مَا كَانَ ُ‬
‫َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِي ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ }‬

‫خذَ إَِلهَهُ َهوَاهُ } فما هويه سلكه سواء كان يرضي‬


‫يقول تعالى‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ } الرجل الضال الذي { اتّ َ‬
‫ال أو يسخطه‪ { .‬وََأضَلّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ } من ال تعالى أنه ل تليق به الهداية ول يزكو عليها‪.‬‬
‫غشَا َوةً }‬
‫ج َعلَ عَلَى َبصَ ِرهِ ِ‬
‫س ْمعِهِ } فل يسمع ما ينفعه‪َ { ،‬وقَلْبِهِ } فل يعي الخير { وَ َ‬
‫{ َوخَتَمَ عَلَى َ‬
‫تمنعه من نظر الحق‪َ { ،‬فمَنْ َي ْهدِيهِ مِنْ َبعْدِ اللّهِ } أي‪ :‬ل أحد يهديه وقد سد ال عليه أبواب الهداية‬
‫وفتح له أبواب الغواية‪ ،‬وما ظلمه ال ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة ال عليه { َأفَلَا‬
‫تَ َذكّرُونَ } ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا } أي‪ :‬منكرو البعث { مَا ِهيَ ِإلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا ِإلّا الدّهْرُ } أي‪ :‬إن‬
‫هي إل عادات وجري على رسوم الليل والنهار يموت أناس ويحيا أناس وما مات فليس براجع‬
‫إلى ال ول مجازى بعمله‪.‬‬

‫وقولهم هذا صادر عن غير علم { إِنْ هُمْ إِلّا يَظُنّونَ } فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين من‬
‫غير دليل دلهم على ذلك ول برهان‪.‬‬

‫إن هي إل ظنون واستبعادات خالية عن الحقيقة ولهذا قال تعالى‪ { :‬وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَا‬
‫حجّ َتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وهذا جراءة منهم على ال‪ ،‬حيث اقترحوا‬
‫كَانَ ُ‬
‫هذا القتراح وزعموا أن صدق رسل ال متوقف على التيان بآبائهم‪ ،‬وأنهم لو جاءوهم بكل آية‬
‫لم يؤمنوا إل إن تبعتهم الرسل على ما قالوا‪ ،‬وهم كذبة فيما قالوا وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل‬
‫ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِي ِه وََلكِنّ‬
‫ل بيان الحق‪ ،‬قال تعالى‪ُ { :‬قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يَ ْ‬
‫َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } وإل فلو وصل العلم باليوم الخر إلى قلوبهم‪ ،‬لعملوا له أعمال وتهيئوا له‪.‬‬

‫ض وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َي ْومَئِذٍ يَخْسَرُ ا ْلمُبْطِلُونَ * وَتَرَى‬


‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 27-37‬وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫طقُ عَلَ ْيكُمْ‬
‫ُكلّ ُأمّةٍ جَاثِ َيةً ُكلّ ُأمّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُ ْدخُِلهُمْ رَ ّبهُمْ فِي‬
‫حقّ إِنّا كُنّا َنسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫بِالْ َ‬
‫حمَتِهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ * وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا َأفَلَمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْي ُكمْ فَاسْ َتكْبَرْتُمْ َوكُنْتُمْ َق ْومًا‬
‫رَ ْ‬
‫ق وَالسّاعَةُ لَا رَ ْيبَ فِيهَا قُلْ ُتمْ مَا نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِنْ نَظُنّ ِإلّا‬
‫حّ‬‫مُجْ ِرمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫عمِلُوا وَحَاقَ ِب ِهمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ * َوقِيلَ‬
‫ظَنّا َومَا َنحْنُ ِبمُسْتَ ْيقِنِينَ * وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ‬
‫الْ َيوْمَ نَنْسَا ُكمْ َكمَا نَسِيتُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا َومَأْوَاكُمُ النّارُ َومَا َل ُكمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَِل ُكمْ بِأَ ّنكُمُ اتّخَذْ ُتمْ‬
‫حمْدُ َربّ‬
‫آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَغَرّ ْتكُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْ َي ْومَ لَا يُخْ َرجُونَ مِ ْنهَا وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ * فَلِلّهِ ا ْل َ‬
‫حكِيمُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫سمَاوَاتِ وَرَبّ الْأَ ْرضِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَلَهُ ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫}‬

‫يخبر تعالى عن سعة ملكه وانفراده بالتصرف والتدبير في جميع الوقات وأنه { يوم َتقُومُ السّاعَةُ‬
‫} ويجمع الخلئق لموقف القيامة يحصل الخسار على المبطلين الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به‬
‫الحق‪ ،‬وكانت أعمالهم باطلة لنها متعلقه بالباطل فبطلت في يوم القيامة‪ ،‬اليوم الذي تستبين به‬
‫الحقائق‪ ،‬واضمحلت عنهم وفاتهم الثواب وحصلوا على أليم العقاب‪.‬‬

‫ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد‬

‫فقال‪ { :‬وَتَرَى } أيها الرائي لذلك اليوم { ُكلّ ُأمّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم‬
‫الملك الرحمن‪.‬‬

‫{ ُكلّ ُأمّةٍ ُتدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا } أي‪ :‬إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند ال‪ ،‬وهل قاموا بها‬
‫فيحصل لهم الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة‬
‫موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك‪ ،‬وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت‬
‫به‪ ،‬هذا أحد الحتمالت في الية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫المراد بقوله‪ُ { :‬كلّ ُأمّةٍ ُتدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا } أي‪ :‬إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر‬
‫ل صَالِحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا }‬
‫ع ِم َ‬
‫وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى‪ { :‬مَنْ َ‬

‫علَ ْيكُمْ بِا ْلحَقّ }‬


‫ويحتمل أن المعنيين كليهما مراد من الية ويدل على هذا قوله‪ { :‬هَذَا كِتَابُنَا يَ ْنطِقُ َ‬
‫أي‪ :‬هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم‪ ،‬يفصل بينكم بالحق الذي هو العدل‪ { ،‬إِنّا كُنّا نَسْتَ ْنسِخُ مَا كُنْتُمْ‬
‫َت ْعمَلُونَ } فهذا كتاب العمال‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } إيمانا صحيحا‬


‫ولهذا فصل ما يفعل ال بالفريقين فقال‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حمَتِهِ } التي‬
‫وصدقوا إيمانهم بالعمال الصالحة من واجبات ومستحبات { فَيُ ْدخُِلهُمْ رَ ّبهُمْ فِي َر ْ‬
‫محلها الجنة وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم‪ { ،‬ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ } أي‪ :‬المفاز والنجاة‬
‫والربح والفلح الواضح البين الذي إذا حصل للعبد حصل له كل خير واندفع عنه كل شر‪.‬‬

‫{ وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا } بال فيقال لهم توبيخا وتقريعا‪َ { :‬أفََلمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } وقد دلتكم على‬
‫ما فيه صلحكم ونهتكم عما فيه ضرركم وهي أكبر نعمة وصلت إليكم لو وفقتم لها‪ ،‬ولكن‬
‫استكبرتم عنها وأعرضتم وكفرتم بها فجنيتم أكبر جناية وأجرمتم أشد الجرم فاليوم تجزون ما كنتم‬
‫تعملون‪.‬‬
‫ق وَالسّاعَةُ لَا رَ ْيبَ فِيهَا قُلْتُمْ } منكرين لذلك‪ { :‬مَا‬
‫حّ‬‫ن وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫ويوبخون أيضا بقوله‪ { :‬وَِإذَا قِيلَ إِ ّ‬
‫نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِنْ َنظُنّ إِلّا ظَنّا َومَا نَحْنُ ِب ُمسْتَ ْيقِنِينَ }‬

‫فهذه حالهم في الدنيا وحال البعث النكار له ورد قول من جاء به قال تعالى‪ { :‬وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا‬
‫عمِلُوا } أي‪ :‬وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم‪ { ،‬وَحَاقَ ِبهِمْ } أي‪ :‬نزل { مَا كَانُوا بِهِ‬
‫َ‬
‫يَسْ َتهْزِئُونَ } أي‪ :‬نزل بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به وبوقوعه وبمن جاء به‪.‬‬

‫{ َوقِيلَ الْ َيوْمَ نَ ْنسَاكُمْ } أي‪ :‬نترككم في العذاب { َكمَا نَسِيتُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا } فإن الجزاء من جنس‬
‫العمل { َومَ ْأوَاكُمُ النّارُ } أي‪ :‬هي مقركم ومصيركم‪َ { ،‬ومَا َلكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ينصرونكم من‬
‫عذاب ال ويدفعون عنكم عقابه‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } الذي حصل لكم من العذاب { بـ } سبب { أنكم اتّخَذْ ُتمْ آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } مع أنها موجبة‬
‫للجد والجتهاد وتلقيها بالسرور والستبشار والفرح‪.‬‬

‫{ وَغَرّ ْتكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بزخارفها ولذاتها وشهواتها فاطمأننتم إليها‪ ،‬وعملتم لها وتركتم العمل‬
‫للدار الباقية‪.‬‬

‫{ فَالْ َيوْمَ لَا يُخْ َرجُونَ مِ ْنهَا وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ } أي‪ :‬ول يمهلون ول يردون إلى الدنيا ليعملوا‬
‫صالحا‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَرَبّ الْأَ ْرضِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬


‫حمْدُ } كما ينبغي لجلله وعظيم سلطانه { َربّ ال ّ‬
‫{ فَلِلّهِ ا ْل َ‬
‫أي‪ :‬له الحمد على ربوبيته لسائر الخلئق حيث خلقهم ورباهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬له الجلل والعظمة والمجد‪.‬‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫{ وَلَهُ ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي ال ّ‬

‫فالحمد فيه الثناء على ال بصفات الكمال ومحبته تعالى وإكرامه‪ ،‬والكبرياء فيها عظمته وجلله‬
‫والعبادة مبنية على ركنين‪ ،‬محبة ال والذل له‪ ،‬وهما ناشئان عن العلم بمحامد ال وجلله‬
‫وكبريائه‪.‬‬

‫حكِيمُ } الذي يضع الشياء مواضعها‪ ،‬فل يشرع ما يشرعه‬


‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } القاهر لكل شيء‪ { ،‬الْ َ‬
‫إل لحكمة ومصلحة ول يخلق ما يخلقه إل لفائدة ومنفعة‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الجاثية‪ ،‬ول الحمد والنعمة والفضل‬


‫تفسير سورة الحقاف‬
‫مكية‬

‫حكِيمِ * مَا خََلقْنَا‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫عمّا أُنْذِرُوا ُمعْ ِرضُونَ }‬
‫سمّى وَالّذِينَ َكفَرُوا َ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫ق وََأ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِا ْلحَ ّ‬
‫ال ّ‬

‫هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له‪ ،‬وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الهتداء بنوره‬
‫والقبال على تدبر آياته واستخراج كنوزه‪.‬‬

‫ولما بين إنزال كتابه المتضمن للمر والنهي ذكر خلقه السماوات والرض فجمع بين الخلق‬
‫ت َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ‬
‫سمَاوَا ٍ‬
‫ق وَالَْأمْرُ } كما قال تعالى‪ { :‬اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ‬
‫والمر { َألَا لَهُ ا ْلخَ ْل ُ‬
‫يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ } وكما قال تعالى‪ { :‬يُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ بِالرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ‬
‫حقّ } فال تعالى هو الذي خلق‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أَنْ أَنْذِرُوا أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا أَنَا فَا ّتقُونِ خََلقَ ال ّ‬
‫المكلفين وخلق مساكنهم وسخر لهم ما في السماوات وما في الرض ثم أرسل إليهم رسله وأنزل‬
‫عليهم كتبه وأمرهم ونهاهم وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال ل دار إقامة ل يرحل‬
‫عنها أهلها‪ ،‬وأنهم سينتقلون منها إلى دار القامة والقرار وموطن الخلود والدوام‪ ،‬وإنما أعمالهم‬
‫التي عملوها في هذه الدار سيجدون ثوابها في تلك الدار كامل موفرا‪.‬‬

‫وأقام تعالى الدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ليكون أدعى‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا‬
‫لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب‪ ،‬ولهذا قال هنا‪ { :‬مَا خََلقْنَا ال ّ‬
‫حقّ } أي‪ :‬ل عبثا ول سدى بل ليعرف العباد عظمة خالقهما ويستدلوا على كماله‬
‫بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ‬
‫ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء وأن خلقهما‬
‫سمّى }‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫وبقاءهما مقدر إلى { أَ َ‬

‫فلما أخبر بذلك ‪-‬وهو أصدق القائلين وأقام الدليل وأنار السبيل أخبر ‪-‬مع ذلك‪ -‬أن طائفة من‬
‫عمّا أُنْذِرُوا‬
‫الخلق قد أبوا إل إعراضا عن الحق‪ ،‬وصدوفا عن دعوة الرسل فقال‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُوا َ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ } وأما الذين آمنوا فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم‪ ،‬وتلقوها بالقبول والتسليم‬
‫وقابلوها بالنقياد والتعظيم ففازوا بكل خير‪ ،‬واندفع عنهم كل شر‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 4-6‬قلْ أَرَأَيْتُمْ مَا َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا مِنَ الْأَ ْرضِ أَمْ َل ُهمْ شِ ْركٌ فِي‬
‫ضلّ ِممّنْ َيدْعُو‬
‫سمَاوَاتِ اِئْتُونِي ِبكِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا َأوْ أَثَا َرةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * َومَنْ َأ َ‬
‫ال ّ‬
‫مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لَا يَسْ َتجِيبُ لَهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَ ُهمْ عَنْ دُعَا ِئ ِهمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا‬
‫عدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }‬
‫َلهُمْ أَ ْ‬

‫أي‪ُ { :‬قلْ } لهؤلء الذين أشركوا بال أوثانا وأندادا ل تملك نفعا ول ضرا ول موتا ول حياة ول‬
‫نشورا‪ ،‬قل لهم ‪-‬مبينا عجز أوثانهم وأنها ل تستحق شيئا من العبادة‪ { :-‬أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا مِنَ‬
‫سمَاوَاتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والرض شيئا؟ هل خلقوا‬
‫الْأَ ْرضِ أَمْ َلهُمْ شِ ْركٌ فِي ال ّ‬
‫جبال؟ هل أجروا أنهارا؟ هل نشروا حيوانا؟ هل أنبتوا أشجارا؟ هل كان منهم معاونة على خلق‬
‫شيء من ذلك؟‬

‫ل شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضل عن غيرهم‪ ،‬فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من‬
‫سوى ال فعبادته باطلة‪.‬‬

‫ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال‪ { :‬اِئْتُونِي ِبكِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا } الكتاب يدعو إلى الشرك { َأوْ أَثَا َرةٍ‬
‫مِنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك‪ .‬من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل‬
‫بدليل يدل على ذلك‪ ،‬بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك‬
‫به‪ ،‬وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ َرسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللّهَ‬
‫وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ } وكل رسول قال لقومه‪ { :‬اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } فعلم أن جدال‬
‫المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ول دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة‬
‫وآراء كاسدة وعقول فاسدة‪ .‬يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر‬
‫في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الخرة؟‬

‫ضلّ ِممّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ َلهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ } أي‪:‬‬
‫ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َأ َ‬
‫مدة مقامه في الدنيا ل ينتفع به بمثقال ذرة { وَ ُهمْ عَنْ دُعَا ِئ ِهمْ غَافِلُونَ } ل يسمعون منهم دعاء ول‬
‫يجيبون لهم نداء هذا حالهم في الدنيا‪ ،‬ويوم القيامة يكفرون بشركهم‪.‬‬

‫{ وَِإذَا حُشرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَاءً } يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض { َوكَانُوا‬
‫ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }‬

‫سحْرٌ مُبِينٌ * أَمْ‬


‫حقّ َلمّا جَاءَ ُهمْ َهذَا ِ‬
‫{ ‪ { } 7-10‬وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِلْ َ‬
‫شهِيدًا‬
‫علَمُ ِبمَا ُتفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ َ‬
‫َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا َتمِْلكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئًا ُهوَ أَ ْ‬
‫سلِ َومَا َأدْرِي مَا ُيفْ َعلُ بِي وَلَا ِب ُكمْ إِنْ‬
‫بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ * ُقلْ مَا كُ ْنتُ ِبدْعًا مِنَ الرّ ُ‬
‫شهِدَ‬
‫أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ َومَا أَنَا إِلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِ ْندِ اللّ ِه َو َكفَرْتُمْ بِهِ وَ َ‬
‫ن وَاسْ َتكْبَرْتُمْ إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }‬
‫شَا ِهدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَ َ‬
‫أي‪ :‬وإذا تتلى على المكذبين { آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ } بحيث تكون على وجه ل يمترى بها ول يشك في‬
‫حقّ‬
‫وقوعها وحقها لم تفدهم خيرا بل قامت عليهم بذلك الحجة‪ ،‬ويقولون من إفكهم وافترائهم { ِللْ َ‬
‫َلمّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي‪ :‬ظاهر ل شك فيه وهذا من باب قلب الحقائق الذي ل يروج إل‬
‫على ضعفاء العقول‪ ،‬وإل فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم وبين السحر من‬
‫المنافاة والمخالفة أعظم مما بين السماء والرض‪ ،‬وكيف يقاس الحق ‪-‬الذي عل وارتفع ارتفاعا‬
‫على الفلك وفاق بضوئه ونوره نور الشمس وقامت الدلة الفقية والنفسية عليه‪ ،‬وأقرت به‬
‫وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة‪ -‬بالباطل الذي هو السحر الذي ل يصدر إل من ضال‬
‫ظالم خبيث النفس خبيث العمل؟! فهو مناسب له وموافق لحاله وهل هذا إل من البهرجة؟‬

‫{ َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي‪ :‬افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه فليس هو من عند ال‪.‬‬

‫{ ُقلْ } لهم‪ { :‬إِنِ افْتَرَيْتُهُ } فال علي قادر وبما تفيضون فيه عالم‪ ،‬فكيف لم يعاقبني على افترائي‬
‫الذي زعمتم؟‬

‫شهِيدًا بَيْنِي‬
‫فهل { َتمِْلكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئًا } إن أرادني ال بضر أو أرادني برحمة { َكفَى ِبهِ َ‬
‫وَبَيْ َنكُمْ } فلو كنت متقول عليه لخذ مني باليمين ولعاقبني عقابا يراه كل أحد لن هذا أعظم أنواع‬
‫الفتراء لو كنت متقول‪ ،‬ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته فقال‪:‬‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } أي‪ :‬فتوبوا إليه وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم فيوفقكم‬
‫للخير ويثيبكم جزيل الجر‪.‬‬

‫سلِ } أي‪ :‬لست بأول رسول جاءكم حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا‬
‫{ ُقلْ مَا كُ ْنتُ بِدْعًا مِنَ الرّ ُ‬
‫دعوتي فقد تقدم من الرسل والنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم فلي شيء تنكرون رسالتي؟‬
‫{ َومَا َأدْرِي مَا ُيفْ َعلُ بِي وَلَا ِب ُكمْ } أي‪ :‬لست إل بشرا ليس بيدي من المر شيء وال تعالى هو‬
‫المتصرف بي وبكم الحاكم علي وعليكم‪ ،‬ولست التي بالشيء من عندي‪َ { ،‬ومَا أَنَا إِلّا َنذِيرٌ مُبِينٌ‬
‫} فإن قبلتم رسالتي وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والخرة‪ ،‬وإن رددتم ذلك علي‬
‫فحسابكم على ال وقد أنذرتكم ومن أنذر فقد أعذر‪.‬‬

‫شهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ‬


‫{ ُقلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِ ْندِ اللّ ِه َو َكفَرْتُمْ بِهِ وَ َ‬
‫وَاسْ َتكْبَرْتُمْ } أي‪ :‬أخبروني لو كان هذا القرآن من عند ال وشهد على صحته الموفقون من أهل‬
‫الكتاب الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق فآمنوا به واهتدوا فتطابقت أنباء النبياء‬
‫وأتباعهم النبلء واستكبرتم أيها الجهلء الغبياء فهل هذا إل أعظم الظلم وأشد الكفر؟ { إِنّ اللّهَ لَا‬
‫َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } ومن الظلم الستكبار عن الحق بعد التمكن منه‪.‬‬
‫{ ‪َ { } 11-12‬وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا َلوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَ َبقُونَا إِلَيْ ِه وَإِذْ لَمْ َيهْتَدُوا ِبهِ‬
‫حمَ ًة وَهَذَا كِتَابٌ ُمصَدّقٌ لِسَانًا عَرَبِيّا‬
‫فَسَ َيقُولُونَ َهذَا ِإ ْفكٌ قَدِيمٌ * َومِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ِإمَامًا وَ َر ْ‬
‫لِيُنْذِرَ الّذِينَ ظََلمُوا وَبُشْرَى لِ ْلمُحْسِنِينَ }‬

‫أي‪ :‬قال الكفار بالحق معاندين له ورادين لدعوته‪َ { :‬لوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَ َبقُونَا إِلَ ْيهِ } أي‪ :‬ما سبقنا‬
‫إليه المؤمنون أي‪ :‬لكنا أول مبادر به وسابق إليه وهذا من البهرجة في مكان‪ ،‬فأي دليل يدل على‬
‫أن علمة الحق سبق المكذبين به للمؤمنين؟ هل هم أزكى نفوسا؟ أم أكمل عقول؟ أم الهدى‬
‫بأيديهم؟ ولكن هذا الكلم الذي صدر منهم يعزون به أنفسهم بمنزلة من لم يقدر على الشيء ثم‬
‫طفق يذمه ولهذا قال‪ { :‬وَِإذْ لَمْ َيهْ َتدُوا بِهِ فَسَ َيقُولُونَ هَذَا ِإ ْفكٌ َقدِيمٌ } أي‪ :‬هذا السبب الذي دعاهم‬
‫إليه أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن وفاتهم أعظم المواهب وأجل الرغائب قدحوا فيه بأنه كذب وهو‬
‫الحق الذي ل شك فيه ول امتراء يعتريه‪.‬‬

‫الذي قد وافق الكتب السماوية خصوصا أكملها وأفضلها بعد القرآن وهي التوراة التي أنزلها ال‬
‫حمَةً } أي‪ :‬يقتدي بها بنو إسرائيل ويهتدون بها فيحصل لهم خير الدنيا‬
‫على موسى { ِإمَامًا وَرَ ْ‬
‫والخرة‪ { .‬وَهَذَا } القرآن { كِتَابٌ ُمصَدّقٌ } للكتب السابقة شهد بصدقها وصدّقها بموافقته لها‬
‫وجعله ال { لِسَانًا عَرَبِيّا } ليسهل تناوله ويتيسر تذكره‪ { ،‬لِيُ ْنذِرَ الّذِينَ ظََلمُوا } أنفسهم بالكفر‬
‫والفسوق والعصيان إن استمروا على ظلمهم بالعذاب الوبيل ويبشر المحسنين في عبادة الخالق‬
‫وفي نفع المخلوقين بالثواب الجزيل في الدنيا والخرة ويذكر العمال التي ينذر عنها والعمال‬
‫التي يبشر بها‪.‬‬

‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ * أُولَ ِئكَ‬


‫{ ‪ { } 13-14‬إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا فَلَا َ‬
‫َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫أي‪ :‬إن الذين أقروا بربهم وشهدوا له بالوحدانية والتزموا طاعته‬

‫علَ ْيهِمْ } من كل شر أمامهم‪ { ،‬وَلَا هُمْ‬


‫خ ْوفٌ َ‬
‫وداموا على ذلك‪ ،‬و { اسْ َتقَامُوا } مدة حياتهم { فَلَا َ‬
‫يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا وراءهم‪.‬‬

‫صحَابُ الْجَنّةِ } أي‪ :‬أهلها الملزمون لها الذين ل يبغون عنها حول ول يريدون بها‬
‫{ أُولَ ِئكَ َأ ْ‬
‫بدل‪ { ،‬خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } من اليمان بال المقتضى للعمال الصالحة التي‬
‫استقاموا عليها‪.‬‬

‫حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ‬
‫ضعَتْهُ كُرْهًا وَ َ‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْهًا َو َو َ‬
‫{ ‪َ { } 15-16‬ووَصّيْنَا الْإِ ْنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا َ‬
‫شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ‬
‫شهْرًا حَتّى ِإذَا بَلَغَ أَشُ ّد ُه وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَنَةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ‬
‫ثَلَاثُونَ َ‬
‫ل صَالِحًا تَ ْرضَا ُه وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ ِإلَ ْيكَ وَإِنّي مِنَ‬
‫ع َم َ‬
‫ي وَأَنْ أَ ْ‬
‫ي وَعَلَى وَالِ َد ّ‬
‫عََل ّ‬
‫عدَ‬
‫عمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ فِي َأصْحَابِ ا ْلجَنّ ِة وَ ْ‬
‫حسَنَ مَا َ‬
‫ا ْلمُسِْلمِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَ ّبلُ عَ ْنهُمْ أَ ْ‬
‫الصّ ْدقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }‬

‫هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى الولد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم‬
‫بالقول اللطيف والكلم اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الحسان‪.‬‬

‫ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته الم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت‬
‫حملها ثم مشقة ولدتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة‪ ،‬وليست المذكورات مدة‬
‫يسيرة ساعة أو ساعتين‪،‬‬

‫شهْرًا } للحمل تسعة أشهر ونحوها والباقي للرضاع هذا هو‬


‫وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلَاثُونَ َ‬
‫الغالب‪.‬‬

‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أن أقل مدة الحمل ستة‬


‫ضعْنَ َأوْلَا َدهُنّ َ‬
‫ويستدل بهذه الية مع قوله‪ { :‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫أشهر لن مدة الرضاع ‪-‬وهي سنتان‪ -‬إذا سقطت منها السنتان بقي ستة أشهر مدة للحمل‪ { ،‬حَتّى‬
‫ش ّدهُ } أي‪ :‬نهاية قوته وشبابه وكمال عقله‪ { ،‬وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَ َنةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي } أي‪:‬‬
‫إِذَا َبلَغَ أَ ُ‬
‫ي وَعَلَى وَالِ َديّ } أي‪ :‬نعم الدين ونعم الدنيا‪،‬‬
‫شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََل ّ‬
‫ألهمني ووفقني { أَنْ أَ ْ‬
‫وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالعتراف والعجز عن الشكر‬
‫والجتهاد في الثناء بها على ال‪ ،‬والنعم على الوالدين نعم على أولدهم وذريتهم لنهم ل بد أن‬
‫ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها‪ ،‬خصوصا نعم الدين فإن صلح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم‬
‫السباب لصلح أولدهم‪.‬‬

‫ل صَالِحًا تَ ْرضَاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده‪ ،‬فهذا العمل الذي‬
‫ع َم َ‬
‫{ وَأَنْ أَ ْ‬
‫يرضاه ال ويقبله ويثيب عليه‪ { .‬وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي } لما دعا لنفسه بالصلح دعا لذريته أن‬
‫يصلح ال أحوالهم‪ ،‬وذكر أن صلحهم يعود نفعه على والديهم لقوله‪ { :‬وََأصْلِحْ لِي }‬

‫{ إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْيكَ } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { وَإِنّي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }‬

‫عمِلُوا } وهو الطاعات لنهم‬


‫{ أُولَ ِئكَ } الذين ذكرت أوصافهم { الّذِينَ نَ َتقَبّلُ عَ ْنهُمْ َأحْسَنَ مَا َ‬
‫يعملون أيضا غيرها‪ { .‬وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ } فِي جملة { َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ } فحصل لهم الخير‬
‫والمحبوب وزال عنهم الشر والمكروه‪.‬‬
‫{ وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } أي‪ :‬هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد صادق من أصدق‬
‫القائلين الذي ل يخلف الميعاد‪.‬‬

‫{ ‪ { } 17-19‬وَالّذِي قَالَ ِلوَالِدَ ْيهِ ُأفّ َل ُكمَا أَ َتعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ َوقَدْ خََلتِ ا ْلقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ ُهمَا‬
‫ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَ َيقُولُ مَا هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ حَقّ‬
‫يَسْ َتغِيثَانِ اللّ َه وَيَْلكَ آمِنْ إِ ّ‬
‫ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا‬
‫عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ فِي ُأمَمٍ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْل ِهمْ مِنَ ا ْلجِ ّ‬
‫عمَاَل ُه ْم وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ }‬
‫عمِلُوا وَلِيُ َوفّ َيهُمْ أَ ْ‬
‫َ‬

‫لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ذكر حالة العاق وأنها شر الحالت فقال‪ { :‬وَالّذِي قَالَ‬
‫ِلوَالِدَيْهِ } إذ دعواه إلى اليمان بال واليوم الخر وخوفاه الجزاء‪.‬‬

‫وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته البدية وفلحه‬
‫السرمدي فقابلهما بأقبح مقابلة فقال‪ُ { :‬أفّ َل ُكمَا } أي‪ :‬تبا لكما ولما جئتما به‪.‬‬

‫ثم ذكر وجه استبعاده وإنكاره لذلك فقال‪ { :‬أَ َتعِدَانِنِي أَنْ ُأخْرَجَ } من قبري إلى يوم القيامة { َوقَدْ‬
‫خََلتِ ا ْلقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } على التكذيب وسلفوا على الكفر وهم الئمة المقتدى بهم لكل كفور‬
‫وجهول ومعاند؟ { وَ ُهمَا } أي‪ :‬والداه { يَسْ َتغِيثَانِ اللّهَ } عليه ويقولن له‪ { :‬وَيَْلكَ آمِنْ } أي‪:‬‬
‫يبذلن غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشد السعي حتى إنهما ‪-‬من حرصهما عليه‪ -‬أنهما‬
‫يستغيثان ال له استغاثة الغريق ويسألنه سؤال الشريق ويعذلن ولدهما ويتوجعان له ويبينان له‬
‫حقّ } ثم يقيمان عليه من الدلة ما أمكنهما‪ ،‬وولدهما ل يزداد إل‬
‫الحق فيقولن‪ { :‬إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ‬
‫عتوا ونفورا واستكبارا عن الحق وقدحا فيه‪ { ،‬فَ َيقُولُ مَا هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬إل منقول‬
‫من كتب المتقدمين ليس من عند ال ول أوحاه ال إلى رسوله‪ ،‬وكل أحد يعلم أن محمدا صلى ال‬
‫عليه وسلم أمي ل يكتب ول يقرأ ول تعلم من أحد‪ ،‬فمن أين يتعلمه؟ وأنى للخلق أن يأتوا بمثل‬
‫هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ } بهذه الحالة الذميمة { حَقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ } أي‪ :‬حقت عليهم كلمة العذاب { فِي }‬
‫ن وَالْإِنْسِ } على الكفر والتكذيب فسيدخل هؤلء في غمارهم‬
‫جملة { ُأ َممٍ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ‬
‫وسيغرقون في تيارهم‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُهمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } والخسران فوات رأس مال النسان‪ ،‬وإذا فقد رأس ماله فالرباح من باب‬
‫أولى وأحرى‪ ،‬فهم قد فاتهم اليمان ولم يحصلوا على شيء من النعيم ول سلموا من عذاب‬
‫الجحيم‪.‬‬
‫عمِلُوا } أي‪ :‬كل على حسب مرتبته من الخير‬
‫{ وَِل ُكلّ } من أهل الخير وأهل الشر { دَرَجَاتٌ ِممّا َ‬
‫عمَاَلهُ ْم وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ‬
‫والشر ومنازلهم في الدار الخرة على قدر أعمالهم ولهذا قال‪ { :‬وَلِ ُي َوفّ َيهُمْ أَ ْ‬
‫} بأن ل يزاد في سيئاتهم ول ينقص من حسناتهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 20‬وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ َأذْهَبْتُمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا‬
‫سقُونَ }‬
‫ق وَ ِبمَا كُنْتُمْ َتفْ ُ‬
‫حّ‬‫عذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْ ُتمْ تَسْ َتكْبِرُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫فَالْ َيوْمَ تُجْ َزوْنَ َ‬

‫يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون فيقال لهم‪َ { :‬أذْهَبْ ُتمْ‬
‫طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا } حيث اطمأننتم إلى الدنيا‪ ،‬واغتررتم بلذاتها ورضيتم بشهواتها وألهتكم‬
‫طيباتها عن السعي لخرتكم وتمتعتم تمتع النعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم‪ { ،‬فَالْ َيوْمَ‬
‫تُجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ } أي‪ :‬العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على ال غير‬
‫الحق‪ ،‬أي‪ :‬تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى ال وإلى حكمه وأنتم كذبة في ذلك‪ { ،‬وَ ِبمَا‬
‫سقُونَ } أي‪ :‬تتكبرون عن طاعته‪ ،‬فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على‬
‫كُنْتُمْ َتفْ ُ‬
‫ال بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق والستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة‪.‬‬

‫حقَافِ } إلى آخر القصة‬


‫{ ‪ { } 21-26‬وَا ْذكُرْ َأخَا عَادٍ ِإذْ أَ ْنذَرَ َق ْومَهُ بِالْأَ ْ‬

‫أي‪ { :‬وَا ْذكُرْ } بالثناء الجميل { أَخَا عَادٍ } وهو هود عليه السلم‪ ،‬حيث كان من الرسل الكرام‬
‫الذين فضلهم ال تعالى بالدعوة إلى دينه وإرشاد الخلق إليه‪.‬‬

‫حقَافِ } أي‪ :‬في منازلهم المعروفة بالحقاف وهي‪ :‬الرمال الكثيرة‬


‫{ ِإذْ أَ ْنذَرَ َق ْومَهُ } وهم عاد { بِالْأَ ْ‬
‫في أرض اليمن‪.‬‬

‫{ َوقَدْ خََلتِ النّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ } فلم يكن بدعا منهم ول مخالفا لهم‪ ،‬قائل لهم‪ { :‬أَلّا‬
‫عظِيمٍ }‬
‫َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ َ‬

‫فأمرهم بعبادة ال الجامعة لكل قول سديد وعمل حميد‪ ،‬ونهاهم عن الشرك والتنديد وخوفهم ‪-‬إن‬
‫لم يطيعوه‪ -‬العذاب الشديد فلم تفد فيهم تلك الدعوة‪.‬‬

‫{ قَالُوا َأجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا عَنْ آِلهَتِنَا } أي‪ :‬ليس لك من القصد ول معك من الحق إل أنك حسدتنا على‬
‫آلهتنا فأردت أن تصرفنا عنها‪.‬‬

‫{ فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } وهذا غاية الجهل والعناد‪.‬‬
‫{ قَالَ إِ ّنمَا ا ْلعِ ْلمُ عِنْدَ اللّهِ } فهو الذي بيده أزمة المور ومقاليدها وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء‪.‬‬
‫جهَلُونَ } فلذلك‬
‫{ وَأُبَّل ُغكُمْ مَا أُرْسِ ْلتُ بِهِ } أي‪ :‬ليس علي إل البلغ المبين‪ { ،‬وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ‬
‫صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة‪ ،‬فأرسل ال عليهم العذاب العظيم وهو الريح التي‬
‫دمرتهم وأهلكتهم‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فََلمّا رََأ ْوهُ } أي‪ :‬العذاب { عَا ِرضًا مُسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِت ِهمْ } أي‪ :‬معترضا كالسحاب قد أقبل‬
‫على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها‪.‬‬

‫{ قَالُوا } مستبشرين‪َ { :‬هذَا عَا ِرضٌ ُممْطِرُنَا } أي‪ :‬هذا السحاب سيمطرنا‪.‬‬

‫قال تعالى‪َ { :‬بلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْ ُتمْ بِهِ } أي‪ :‬هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم‪ { :‬فَأْتِنَا ِبمَا‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } { رِيحٌ فِيهَا َ‬

‫شيْءٍ } تمر عليه من شدتها ونحسها‪.‬‬


‫{ ُت َدمّرُ ُكلّ َ‬

‫فسلطها ال عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل‬
‫خاوية } [ { بَِأمْرِ رَ ّبهَا } أي‪ :‬بإذنه ومشيئته]‪ { .‬فََأصْ َبحُوا لَا يُرَى إِلّا مَسَاكِ ُنهُمْ } قد تلفت مواشيهم‬
‫وأموالهم وأنفسهم‪ { .‬كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم‪.‬‬

‫هذا مع أن ال تعالى قد أدر عليهم النعم العظيمة فلم يشكروه ول ذكروه ولهذا قال‪ { :‬وََلقَدْ َمكّنّا ُهمْ‬
‫فِيمَا إِنْ َمكّنّاكُمْ فِيهِ } أي‪ :‬مكناهم في الرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها‬

‫وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر‪ ،‬ويتعظ فيه المهتدي‪ ،‬أي‪ :‬ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا‬
‫هؤلء المخاطبون أي‪ :‬فل تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب ال‬
‫شيئا‪ ،‬بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم ول أولدهم ول جنودهم من ال شيئا‪.‬‬

‫س ْمعًا وَأَ ْبصَارًا وََأفْئِ َدةً } أي‪ :‬ل قصور في أسماعهم ول أبصارهم ول أذهانهم حتى‬
‫جعَلْنَا َلهُمْ َ‬
‫{ َو َ‬
‫يقال إنهم تركوا الحق جهل منهم وعدم تمكن من العلم به ول خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد‬
‫شيْءٍ } ل قليل ول كثير‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫س ْم ُعهُ ْم وَلَا أَ ْبصَارُهُمْ وَلَا َأفْئِدَ ُتهُمْ مِنْ َ‬
‫ال‪َ { .‬فمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ َ‬
‫جحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة‪.‬‬
‫أنهم { يَ ْ‬

‫{ َوحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي‪ :‬نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه ويستهزئون‬
‫بالرسل الذين حذروهم منه‪.‬‬
‫جعُونَ * فََلوْلَا َنصَرَهُمُ‬
‫حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى َوصَ ّرفْنَا الْآيَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 27-28‬وََلقَدْ أَهَْلكْنَا مَا َ‬
‫ل ضَلّوا عَ ْنهُ ْم وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُ ْم َومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }‬
‫الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً َب ْ‬

‫يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهلك المم المكذبين الذين هم حول ديارهم‪ ،‬بل كثير منهم‬
‫في جزيرة العرب كعاد وثمود ونحوهم وأن ال تعالى صرف لهم اليات أي‪ :‬نوعها من كل وجه‪،‬‬
‫جعُونَ } عماهم عليه من الكفر والتكذيب‪.‬‬
‫{ َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ‬

‫فلما لم يؤمنوا أخذهم ال أخذ عزيز مقتدر ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء‬
‫خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً } أي‪ :‬يتقربون إليهم‬
‫ولهذا قال هنا‪ { :‬فََلوْلَا َنصَرَ ُهمُ الّذِينَ اتّ َ‬
‫ويتألهونهم لرجاء نفعهم‪.‬‬

‫ل ضَلّوا عَ ْنهُمْ } فلم يجيبوهم ول دفعوا عنهم‪ { ،‬وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُ ْم َومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } من الكذب‬
‫{ َب ْ‬
‫الذي يمنون به أنفسهم حيث يزعمون أنهم على الحق وأن أعمالهم ستنفعهم فضلت وبطلت‪.‬‬

‫حضَرُوهُ قَالُوا أَ ْنصِتُوا فََلمّا‬


‫{ ‪ { } 29-32‬وَإِ ْذ صَ َرفْنَا إِلَ ْيكَ َنفَرًا مِنَ ا ْلجِنّ يَسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآنَ فََلمّا َ‬
‫س ِمعْنَا كِتَابًا أُنْ ِزلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ‬
‫ي وَّلوْا إِلَى َق ْومِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا َق ْومَنَا إِنّا َ‬
‫ُقضِ َ‬
‫عيَ اللّهِ وَآمِنُوا ِبهِ َي ْغفِرْ َل ُكمْ مِنْ‬
‫ق وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْ َتقِيمٍ * يَا َق ْومَنَا َأجِيبُوا دَا ِ‬
‫حّ‬‫يَدَيْهِ َيهْدِي إِلَى الْ َ‬
‫ض وَلَيْسَ لَهُ مِنْ‬
‫عيَ اللّهِ فَلَيْسَ ِب ُمعْجِزٍ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫جبْ دَا ِ‬
‫ذُنُو ِبكُ ْم وَيُجِ ْر ُكمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * َومَنْ لَا يُ ِ‬
‫دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }‬

‫كان ال تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان ل بد‬
‫من إبلغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة‪.‬‬

‫فالنس يمكنه عليه الصلة والسلم دعوتهم وإنذارهم‪ ،‬وأما الجن فصرفهم ال إليه بقدرته وأرسل‬
‫حضَرُوهُ قَالُوا أَ ْنصِتُوا } أي‪ :‬وصى بعضهم بعضا‬
‫إليه { َنفَرًا مِنَ الْجِنّ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآنَ فََلمّا َ‬
‫بذلك‪ { ،‬فََلمّا ُقضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَّلوْا إِلَى َق ْو ِمهِمْ مُ ْنذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة‬
‫لحجة ال عليهم وقيضهم ال معونة لرسوله صلى ال عليه وسلم في نشر دعوته في الجن‪.‬‬

‫س ِمعْنَا كِتَابًا أُنْ ِزلَ مِنْ َب ْعدِ مُوسَى } لن كتاب موسى أصل للنجيل وعمدة لبني‬
‫{ قَالُوا يَا َق ْومَنَا إِنّا َ‬
‫إسرائيل في أحكام الشرع‪ ،‬وإنما النجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الحكام‪.‬‬

‫{ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ َيهْدِي } هذا الكتاب الذي سمعناه { ِإلَى ا ْلحَقّ } وهو الصواب في كل‬
‫مطلوب وخبر { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْ َتقِيمٍ } موصل إلى ال وإلى جنته من العلم بال وبأحكامه الدينية‬
‫وأحكام الجزاء‪.‬‬
‫عيَ اللّهِ‬
‫فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته دعوهم إلى اليمان به‪ ،‬فقالوا‪ { :‬يَا َق ْومَنَا أَجِيبُوا دَا ِ‬
‫} أي‪ :‬الذي ل يدعو إل إلى ربه ل يدعوكم إلى غرض من أغراضه ول هوى وإنما يدعوكم إلى‬
‫عذَابٍ‬
‫ربكم ليثيبكم ويزيل عنكم كل شر ومكروه‪ ،‬ولهذا قالوا‪َ { :‬ي ْغفِرْ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَيُجِ ْركُمْ مِنْ َ‬
‫أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الليم فما ثم بعد ذلك إل النعيم فهذا جزاء من أجاب داعي ال‪.‬‬

‫عيَ اللّهِ فَلَيْسَ ِب ُمعْجِزٍ فِي الْأَ ْرضِ } فإن ال على كل شيء قدير فل يفوته هارب‬
‫جبْ دَا ِ‬
‫{ َومَنْ لَا ُي ِ‬
‫ول يغالبه مغالب‪ { .‬وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلل أبلغ من ضلل‬
‫من نادته الرسل ووصلت إليه النذر باليات البينات‪ ،‬والحجج المتواترات فأعرض واستكبر؟"‬

‫ض وَلَمْ َيعْيَ ِبخَ ْل ِقهِنّ ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ ُيحْ ِييَ‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫{ ‪َ { } 33‬أوََلمْ يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫ا ْل َموْتَى بَلَى إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫هذا استدلل منه تعالى على العادة بعد الموت بما هو أبلغ منها‪ ،‬وهو أنه الذي خلق السماوات‬
‫والرض على عظمهما وسعتهما وإتقان خلقهما من دون أن يكترث بذلك ولم يعي بخلقهن فكيف‬
‫تعجزه إعادتكم بعد موتكم وهو على كل شيء قدير؟"‬

‫{ ‪ { } 34-35‬وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ أَلَيْسَ َهذَا بِا ْلحَقّ قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُوا‬
‫جلْ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ‬
‫ل وَلَا تَسْ َت ْع ِ‬
‫سِ‬‫ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْكفُرُونَ * فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ‬
‫سقُونَ }‬
‫يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَاعَةً مِنْ َنهَارٍ بَلَاغٌ َف َهلْ ُيهَْلكُ إِلّا ا ْل َقوْمُ ا ْلفَا ِ‬

‫يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار التي كانوا يكذبون بها وأنهم يوبخون‬
‫ويقال لهم‪ { :‬أَلَيْسَ هَذَا بِا ْلحَقّ } فقد حضرتموه وشاهدتموه عيانا؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا } فاعترفوا‬
‫بذنبهم وتبين كذبهم { قَالَ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْكفُرُونَ } أي‪ :‬عذابا لزما دائما كما كان كفركم‬
‫صفة لزمة‪.‬‬

‫ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن ل يزال داعيا لهم إلى ال وأن‬
‫يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم‬
‫صبرهم‪ ،‬وتم يقينهم‪ ،‬فهم أحق الخلق بالسوة بهم والقفو لثارهم والهتداء بمنارهم‪.‬‬

‫فامتثل صلى ال عليه وسلم لمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن‬
‫قوس واحدة‪ ،‬وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى ال وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة‪،‬‬
‫وهو صلى ال عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر ال مقيما على جهاد أعداء ال صابرا على ما يناله‬
‫من الذى‪ ،‬حتى مكن ال له في الرض وأظهر دينه على سائر الديان وأمته على المم‪ ،‬فصلى‬
‫ال عليه وسلم تسليما‪.‬‬

‫جلْ َل ُهمْ } أي‪ :‬لهؤلء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم‬
‫وقوله‪ { :‬وَلَا تَسْ َتعْ ِ‬
‫فل يستخفنك بجهلهم ول يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو ال عليهم بذلك فإن كل ما‬
‫هو آت قريب‪ ،‬و { كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ َلمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { ِإلّا سَاعَةً مِنْ َنهَارٍ } فل‬
‫يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل‪.‬‬

‫{ بَلَاغٌ } أي‪ :‬هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل‪.‬‬

‫أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلغ لكم‪ ،‬وزاد إلى الدار الخرة‪ ،‬ونعم الزاد‬
‫والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الليم‪ ،‬فهو أفضل زاد يتزوده الخلئق وأجل‬
‫نعمة أنعم ال بها عليهم‪.‬‬

‫سقُونَ } أي‪ :‬الذين ل خير فيهم وقد خرجوا عن طاعة ربهم‬


‫{ َف َهلْ ُيهَْلكُ } بالعقوبات { إِلّا ا ْل َقوْمُ ا ْلفَا ِ‬
‫ولم يقبلوا الحق الذي جاءتهم به الرسل‪.‬‬

‫وأعذر ال لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل‬

‫ال العصمة‪.‬‬

‫آخر تفسير سورة الحقاف‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‬

‫تفسير سورة القتال‬


‫وهي مدنية‬

‫عمَاَلهُمْ * وَالّذِينَ‬
‫ضلّ أَ ْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َأ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ َكفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِمْ‬
‫حمّ ٍد وَ ُهوَ الْ َ‬
‫ت وَآمَنُوا ِبمَا نُ ّزلَ عَلَى ُم َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬
‫آمَنُوا وَ َ‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ كَذَِلكَ‬
‫ل وَأَنّ الّذِينَ آمَنُوا اتّ َبعُوا الْ َ‬
‫طَ‬‫وََأصْلَحَ بَاَلهُمْ * ذَِلكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُوا اتّ َبعُوا الْبَا ِ‬
‫َيضْ ِربُ اللّهُ لِلنّاسِ َأمْثَاَلهُمْ }‬
‫هذه اليات مشتملت على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين‪ ،‬والسبب في ذلك‪ ،‬ودعوة الخلق‬
‫إلى العتبار بذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } وهؤلء رؤساء الكفر‪ ،‬وأئمة‬
‫الضلل‪ ،‬الذين جمعوا بين الكفر بال وآياته‪ ،‬والصد لنفسهم وغيرهم عن سبيل ال‪ ،‬التي هي‬
‫اليمان بما دعت إليه الرسل واتباعه‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ } أي‪ :‬أبطلها وأشقاهم بسببها‪ ،‬وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها‬
‫ضلّ } ال { أَ ْ‬
‫فهؤلء { َأ َ‬
‫ليكيدوا بها الحق وأولياء ال‪ ،‬أن ال جعل كيدهم في نحورهم‪ ،‬فلم يدركوا مما قصدوا شيئا‪،‬‬
‫وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها‪ ،‬أن ال سيحبطها عليهم‪ ،‬والسبب في ذلك أنهم اتبعوا‬
‫الباطل‪ ،‬وهو كل غاية ل يراد بها وجه ال من عبادة الصنام والوثان‪ ،‬والعمال التي في نصر‬
‫الباطل لما كانت باطلة‪ ،‬كانت العمال لجلها باطلة‪.‬‬

‫وأما { وَالّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل ال على رسله عموما‪ ،‬وعلى محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق ال‪ ،‬وحقوق العباد الواجبة‬
‫خصوصا‪ { ،‬وَ َ‬
‫والمستحبة‪.‬‬

‫{ َكفّرَ } ال { عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِمْ } صغارها وكبارها‪ ،‬وإذا كفرت سيئاتهم‪ ،‬نجوا من عذاب الدنيا‬
‫والخرة‪ { .‬وََأصْلَحَ بَاَلهُمْ } أي‪ :‬أصلح دينهم ودنياهم‪ ،‬وقلوبهم وأعمالهم‪ ،‬وأصلح ثوابهم‪ ،‬بتنميته‬
‫حقّ } الذي هو الصدق واليقين‪،‬‬
‫وتزكيته‪ ،‬وأصلح جميع أحوالهم‪ ،‬والسبب في ذلك أنهم‪ { :‬اتبعوا الْ َ‬
‫وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم‪ ،‬الصادر { مِنْ رَ ّب ِهمْ } الذي رباهم بنعمته‪ ،‬ودبرهم بلطفه‬
‫فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه‪ ،‬فصلحت أمورهم‪ ،‬فلما كانت الغاية المقصودة لهم‪ ،‬متعلقة بالحق‬
‫المنسوب إلى ال الباقي الحق المبين‪ ،‬كانت الوسيلة صالحة باقية‪ ،‬باقيا ثوابها‪.‬‬

‫{ َكذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ لِلنّاسِ َأمْثَاَلهُمْ } حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر‪ ،‬وذكر لكل منهم‬
‫صفة يعرفون بها ويتميزون { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة }‬

‫شدّوا ا ْلوَثَاقَ فَِإمّا مَنّا َبعْدُ‬


‫{ ‪ { } 4-6‬فَإِذا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُوا َفضَرْبَ ال ّرقَابِ حَتّى ِإذَا أَ ْثخَنْ ُتمُوهُمْ فَ ُ‬
‫ضكُمْ بِ َب ْعضٍ‬
‫ك وََلوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانْ َتصَرَ مِ ْنهُ ْم وََلكِنْ لِيَبُْلوَ َب ْع َ‬
‫وَِإمّا ِفدَاءً حَتّى َتضَعَ الْحَ ْربُ َأوْزَارَهَا ذَِل َ‬
‫عمَاَل ُهمْ * سَ َي ْهدِيهِ ْم وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ * وَيُ ْدخُِلهُمُ الْجَنّةَ عَ ّر َفهَا َلهُمْ‬
‫ضلّ أَ ْ‬
‫وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ ُي ِ‬
‫}‬

‫يقول تعالى ‪-‬مرشدا عباده إلى ما فيه صلحهم‪ ،‬ونصرهم على أعدائهم‪ { :-‬فَإِذا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُوا‬
‫} في الحرب والقتال‪ ،‬فاصدقوهم القتال‪ ،‬واضربوا منهم العناق‪ ،‬حَتّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم‬
‫وتبطلوا شرتهم‪ ،‬فإذا فعلتم ذلك‪ ،‬ورأيتم السر أولى وأصلح‪َ { ،‬فشُدّوا ا ْلوَثَاقَ } أي‪ :‬الرباط‪ ،‬وهذا‬
‫احتياط لسرهم لئل يهربوا‪ ،‬فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم‪ ،‬فإذا‬
‫كانوا تحت أسركم‪ ،‬فأنتم بالخيار بين المن عليهم‪ ،‬وإطلقهم بل مال ول فداء‪ ،‬وإما أن تفدوهم بأن‬
‫ل تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم‪ ،‬أو يشتريهم أصحابهم بمال‪ ،‬أو بأسير مسلم عندهم‪.‬‬

‫وهذا المر مستمر { حَتّى َتضَعَ ا ْلحَ ْربُ َأوْزَارَهَا } أي‪ :‬حتى ل يبقى حرب‪ ،‬وتبقون في المسألة‬
‫والمهادنة‪ ،‬فإن لكل مقام مقال‪ ،‬ولكل حال حكما‪ ،‬فالحال المتقدمة‪ ،‬إنما هي إذا كان قتال وحرب‪.‬‬

‫فإذا كان في بعض الوقات‪ ،‬ل حرب فيه لسبب من السباب‪ ،‬فل قتل ول أسر‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } الحكم المذكور في ابتلء المؤمنين بالكافرين‪ ،‬ومداولة اليام بينهم‪ ،‬وانتصار بعضهم على‬
‫بعض { وََلوْ َيشَاءُ اللّهُ لَانْ َتصَرَ مِ ْنهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير‪ ،‬وقادر على أن ل ينتصر‬
‫الكفار في موضع واحد أبدا‪ ،‬حتى يبيد المسلمون خضراءهم‪.‬‬

‫ضكُمْ بِ َب ْعضٍ } ليقوم سوق الجهاد‪ ،‬ويتبين بذلك أحوال العباد‪ ،‬الصادق من الكاذب‪،‬‬
‫{ وََلكِنْ لِيَبُْلوَ َب ْع َ‬
‫وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة‪ ،‬ل إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة‪ ،‬فإنه إيمان‬
‫ضعيف جدا‪ ،‬ل يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبليا‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } لهم ثواب جزيل‪ ،‬وأجر جميل‪ ،‬وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم‪،‬‬
‫لتكون كلمة ال هي العليا‪.‬‬

‫فهؤلء لن يضل ال أعمالهم‪ ،‬أي‪ :‬لن يحبطها ويبطلها‪ ،‬بل يتقبلها وينميها لهم‪ ،‬ويظهر من أعمالهم‬
‫نتائجها‪ ،‬في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{ سَ َيهْدِيهِمْ } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة‪ { ،‬وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ } أي‪ :‬حالهم وأمورهم‪،‬‬
‫وثوابهم يكون صالحا كامل ل نكد فيه‪ ،‬ول تنغيص بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫{ وَيُ ْدخُِلهُمُ الْجَنّةَ عَ ّر َفهَا َلهُمْ } أي‪ :‬عرفها أول‪ ،‬بأن شوقهم إليها‪ ،‬ونعتها لهم‪ ،‬وذكر لهم العمال‬
‫الموصلة إليها‪ ،‬التي من جملتها القتل في سبيله‪ ،‬ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه‪ ،‬ثم إذا‬
‫دخلوا الجنة‪ ،‬عرفهم منازلهم‪ ،‬وما احتوت عليه من النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 7-9‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأ ْقدَا َمكُمْ * وَالّذِينَ َكفَرُوا فَ َتعْسًا َل ُهمْ‬
‫عمَاَل ُهمْ }‬
‫عمَاَلهُمْ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ فََأحْبَطَ أَ ْ‬
‫وََأضَلّ أَ ْ‬
‫هذا أمر منه تعالى للمؤمنين‪ ،‬أن ينصروا ال بالقيام بدينه‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬وجهاد أعدائه‪ ،‬والقصد‬
‫بذلك وجه ال‪ ،‬فإنهم إذا فعلوا ذلك‪ ،‬نصرهم ال وثبت أقدامهم‪ ،‬أي‪ :‬يربط على قلوبهم بالصبر‬
‫والطمأنينة والثبات‪ ،‬ويصبر أجسامهم على ذلك‪ ،‬ويعينهم على أعدائهم‪ ،‬فهذا وعد من كريم صادق‬
‫الوعد‪ ،‬أن الذي ينصره بالقوال والفعال سينصره موله‪ ،‬وييسر له أسباب النصر‪ ،‬من الثبات‬
‫وغيره‪.‬‬

‫وأما الذين كفروا بربهم‪ ،‬ونصروا الباطل‪ ،‬فإنهم في تعس‪ ،‬أي‪ :‬انتكاس من أمرهم وخذلن‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ } أي‪ :‬أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق‪ ،‬فرجع كيدهم في نحورهم‪ ،‬وبطلت‬
‫ضلّ أَ ْ‬
‫{ وََأ َ‬
‫أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه ال‪.‬‬

‫ذلك الضلل والتعس للذين كفروا‪ ،‬بسبب أنهم { كَرِهُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ } من القرآن الذي أنزله ال‪،‬‬
‫عمَاَلهُمْ }‬
‫صلحا للعباد‪ ،‬وفلحا لهم‪ ،‬فلم يقبلوه‪ ،‬بل أبغضوه وكرهوه‪ { ،‬فََأحْبَطَ أَ ْ‬

‫{ ‪َ { } 10-11‬أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َدمّرَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ‬
‫وَلِ ْلكَافِرِينَ َأمْثَاُلهَا * ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ َموْلَى الّذِينَ آمَنُوا وَأَنّ ا ْلكَافِرِينَ لَا َموْلَى َلهُمْ }‬

‫أي‪ :‬أفل يسير هؤلء المكذبون بالرسول صلى ال عليه وسلم‪ { ،‬فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ‬
‫مِنْ قَبِْلهِمْ } فإنهم ل يجدون عاقبتهم إل شر العواقب‪ ،‬فإنهم ل يلتفتون يمنة ول يسرة إل وجدوا ما‬
‫حولهم‪ ،‬قد بادوا وهلكوا‪ ،‬واستأصلهم التكذيب والكفر‪ ،‬فخمدوا‪ ،‬ودمر ال عليهم أموالهم وديارهم‪،‬‬
‫بل دمر أعمالهم ومكرهم‪ ،‬وللكافرين في كل زمان ومكان‪ ،‬أمثال هذه العواقب الوخيمة‪،‬‬
‫والعقوبات الذميمة‪.‬‬

‫وأما المؤمنون‪ ،‬فإن ال تعالى ينجيهم من العذاب‪ ،‬ويجزل لهم كثير الثواب‪.‬‬

‫{ ذلك بأن ال مولى الذين آمنوا } فتولهم برحمته‪ ،‬فأخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬وتولى‬
‫جزاءهم ونصرهم‪ { ،‬وَأَنّ ا ْلكَافِرِينَ } بال تعالى‪ ،‬حيث قطعوا عنهم ولية ال‪ ،‬وسدوا على أنفسهم‬
‫رحمته { لَا َموْلَى َلهُمْ } يهديهم إلى سبل السلم‪ ،‬ول ينجيهم من عذاب ال وعقابه‪ ،‬بل أولياؤهم‬
‫الطاغوت‪ ،‬يخرجونهم من النور إلى الظلمات‪ ،‬أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَالّذِينَ‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫{ ‪ { } 12‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬
‫َكفَرُوا يَ َتمَ ّتعُونَ وَيَ ْأكُلُونَ َكمَا تَ ْأ ُكلُ الْأَ ْنعَا ُم وَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُمْ }‬
‫لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين‪ ،‬ذكر ما يفعل بهم في الخرة‪ ،‬من دخول الجنات‪ ،‬التي تجري‬
‫من تحتها النهار‪ ،‬التي تسقي تلك البساتين الزاهرة‪ ،‬والشجار الناظرة المثمرة‪ ،‬لكل زوج بهيج‪،‬‬
‫وكل فاكهة لذيذة‪.‬‬

‫ولما ذكر أن الكافرين ل مولى لهم‪ ،‬ذكر أنهم ُوكِلُوا إلى أنفسهم‪ ،‬فلم يتصفوا بصفات المروءة‪ ،‬ول‬
‫الصفات النسانية‪ ،‬بل نزلوا عنها دركات‪ ،‬وصاروا كالنعام‪ ،‬التي ل عقل لها ول فضل‪ ،‬بل جل‬
‫همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها‪ ،‬فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها‪ ،‬غير‬
‫متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة‪ ،‬ولهذا كانت النار مثوى لهم‪ ،‬أي‪ :‬منزل معدا‪ ،‬ل يخرجون‬
‫منها‪ ،‬ول يفتر عنهم من عذابها‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 13‬وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ِهيَ أَشَدّ ُق ّوةً مِنْ قَرْيَ ِتكَ الّتِي َأخْرَجَ ْتكَ أَهَْلكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ َل ُهمْ }‬

‫أي‪ :‬وكم من قرية من قرى المكذبين‪ ،‬هي أشد قوة من قريتك‪ ،‬في الموال والولد والعوان‪،‬‬
‫والبنية واللت‪.‬‬

‫{ أهلكناهم } حين كذبوا رسلنا‪ ،‬ولم تفد فيهم المواعظ‪ ،‬فل نجد لهم ناصرا‪ ،‬ولم تغن عنهم قوتهم‬
‫من عذاب ال شيئا‪.‬‬

‫فكيف حال هؤلء الضعفاء‪ ،‬أهل قريتك‪ ،‬إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك‪ ،‬وعادوك‪ ،‬وأنت أفضل‬
‫المرسلين‪ ،‬وخير الولين والخرين؟!‬

‫أليسوا بأحق من غيرهم بالهلك والعقوبة‪ ،‬لول أن ال تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل‬
‫كافر وجاحد؟‬

‫عمَِل ِه وَاتّ َبعُوا َأ ْهوَاءَهُمْ }‬


‫{ ‪َ { } 14‬أ َفمَنْ كَانَ عَلَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّهِ َكمَنْ زُيّنَ َلهُ سُوءُ َ‬

‫أي‪ :‬ل يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه‪ ،‬علما وعمل‪ ،‬قد علم الحق واتبعه‪ ،‬ورجا ما‬
‫وعده ال لهل الحق‪ ،‬كمن هو أعمى القلب‪ ،‬قد رفض الحق وأضله‪ ،‬واتبع هواه بغير هدى من‬
‫ال‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يرى أن ما هو عليه من الحق‪ ،‬فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت‬
‫بين الطائفتين‪ ،‬أهل الحق وأهل الغي!‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ َلمْ يَ َتغَيّرْ‬
‫{ ‪ { } 15‬مَ َثلُ ا ْلجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُتّقُونَ فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِ ٍ‬
‫سلٍ ُمصَفّى وََلهُمْ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َو َم ْغفِ َرةٌ‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ عَ َ‬
‫خمْرٍ لَ ّذةٍ لِلشّارِبِي َ‬
‫ط ْعمُ ُه وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ‬
‫َ‬
‫حمِيمًا َفقَطّعَ َأ ْمعَاءَهُمْ }‬
‫سقُوا مَاءً َ‬
‫مِنْ رَ ّبهِمْ َكمَنْ ُهوَ خَالِدٌ فِي النّا ِر وَ ُ‬

‫أي‪ :‬مثل الجنة التي أعدها ال لعباده‪ ،‬الذين اتقوا سخطه‪ ،‬واتبعوا رضوانه‪ ،‬أي‪ :‬نعتها وصفتها‬
‫الجميلة‪.‬‬

‫{ فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي‪ :‬غير متغير‪ ،‬ل بوخم ول بريح منتنة‪ ،‬ول بمرارة‪ ،‬ول‬
‫بكدورة‪ ،‬بل هو أعذب المياه وأصفاها‪ ،‬وأطيبها ريحا‪ ،‬وألذها شربا‪.‬‬

‫خمْرٍ َل ّذةٍ لِلشّارِبِينَ } أي‪:‬‬


‫ط ْعمُهُ } بحموضة ول غيرها‪ { ،‬وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ‬
‫{ وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ َلمْ يَ َتغَيّرْ َ‬
‫يلتذ به شاربه لذة عظيمة‪ ،‬ل كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس‪ ،‬ويغول العقل‪.‬‬

‫صفّى } من شمعه‪ ،‬وسائر أوساخه‪.‬‬


‫سلٍ ُم َ‬
‫{ وَأَ ْنهَارٌ مِنْ عَ َ‬

‫{ وََلهُمْ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } من نخيل‪ ،‬وعنب‪ ،‬وتفاح‪ ،‬ورمان‪ ،‬وأترج‪ ،‬وتين‪ ،‬وغير ذلك مما ل‬
‫نظير له في الدنيا‪ ،‬فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم‪.‬‬

‫ثم قال‪َ { :‬و َم ْغفِ َرةٌ مِنْ رَ ّب ِهمْ } يزول بها عنهم المرهوب‪ ،‬فأي هؤلء خير أم من هو خالد في النار‬
‫حمِيمًا } أي‪ :‬حارا جدا‪َ { ،‬فقَطّعَ‬
‫سقُوا } فيها { مَاءً َ‬
‫التي اشتد حرها‪ ،‬وتضاعف عذابها‪ { ،‬وَ ُ‬
‫َأ ْمعَاءَهُمْ }‬

‫فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين‪ ،‬والعاملين والعملين‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 16-17‬ومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َتمِعُ ِإلَ ْيكَ حَتّى إِذَا خَ َرجُوا مِنْ عِ ْن ِدكَ قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مَاذَا قَالَ‬
‫آ ِنفًا أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ * وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا زَا َدهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ْقوَاهُمْ‬
‫}‬

‫يقول تعالى‪ :‬ومن المنافقين { مَنْ يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ } ما تقول استماعا‪ ،‬ل عن قبول وانقياد‪ ،‬بل معرضة‬
‫قلوبهم عنه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬حَتّى ِإذَا خَ َرجُوا مِنْ عِنْ ِدكَ قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ } مستفهمين عما قلت‪،‬‬
‫وما سمعوا‪ ،‬مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آ ِنفًا } أي‪ :‬قريبا‪ ،‬وهذا في غاية الذم لهم‪ ،‬فإنهم‬
‫لو كانوا حريصين على الخير للقوا إليه أسماعهم‪ ،‬ووعته قلوبهم‪ ،‬وانقادت له جوارحهم‪ ،‬ولكنهم‬
‫بعكس هذه الحال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَ َبعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } أي‪ :‬ختم عليها‪ ،‬وسد أبواب‬
‫الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم‪ ،‬التي ل يهوون فيها إل الباطل‪.‬‬

‫ثم بين حال المهتدين‪ ،‬فقال‪ { :‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا } باليمان والنقياد‪ ،‬واتباع ما يرضي ال { زَا َدهُمْ‬
‫هُدًى } شكرا منه تعالى لهم على ذلك‪ { ،‬وَآتَاهُمْ َت ْقوَاهُمْ } أي‪ :‬وفقهم للخير‪ ،‬وحفظهم من الشر‪،‬‬
‫فذكر للمهتدين جزاءين‪ :‬العلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬

‫طهَا فَأَنّى َل ُهمْ إِذَا جَاءَ ْت ُهمْ ِذكْرَا ُهمْ }‬


‫{ ‪َ { } 18‬ف َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً َفقَدْ جَاءَ أَشْرَا ُ‬

‫أي‪ :‬فهل ينظر هؤلء المكذبون أو ينتظرون { إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ َبغْتَةً } أي‪ :‬فجأة‪ ،‬وهم ل‬
‫طهَا } أي‪ :‬علماتها الدالة على قربها‪.‬‬
‫يشعرون { َفقَدْ جَاءَ َأشْرَا ُ‬

‫{ فَأَنّى َلهُمْ إِذَا جَاءَ ْتهُمْ ِذكْرَا ُهمْ } أي‪ :‬من أين لهم‪ ،‬إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا‬
‫ويستعتبوا؟ قد فات ذلك‪ ،‬وذهب وقت التذكر‪ ،‬فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر‪ ،‬وجاءهم النذير‪.‬‬

‫ففي هذا الحث على الستعداد قبل مفاجأة الموت‪ ،‬فإن موت النسان قيام ساعته‪.‬‬

‫ت وَاللّهُ َيعَْلمُ مُ َتقَلّ َبكُ ْم َومَثْوَاكُمْ‬


‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫{ ‪ { } 19‬فَاعَْلمْ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ وَاسْ َتغْفِرْ ِلذَنْ ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤمِنِي َ‬
‫}‬

‫العلم ل بد فيه من إقرار القلب ومعرفته‪ ،‬بمعنى ما طلب منه علمه‪ ،‬وتمامه أن يعمل بمقتضاه‪.‬‬

‫وهذا العلم الذي أمر ال به ‪-‬وهو العلم بتوحيد ال‪ -‬فرض عين على كل إنسان‪ ،‬ل يسقط عن‬
‫أحد‪ ،‬كائنا من كان‪ ،‬بل كل مضطر إلى ذلك‪ .‬والطريق إلى العلم بأنه ل إله إل هو أمور‪ :‬أحدها‬
‫بل أعظمها‪ :‬تدبر أسمائه وصفاته‪ ،‬وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجللته فإنها توجب بذل‬
‫الجهد في التأله له‪ ،‬والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلل وجمال‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير‪ ،‬فيعلم بذلك أنه المنفرد باللوهية‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬الدينية والدنيوية‪ ،‬فإن ذلك يوجب تعلق القلب به‬
‫ومحبته‪ ،‬والتأله له وحده ل شريك له‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ما نراه ونسمعه من الثواب لوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة‪ ،‬ومن‬
‫عقوبته لعدائه المشركين به‪ ،‬فإن هذا داع إلى العلم‪ ،‬بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬معرفة أوصاف الوثان والنداد التي عبدت مع ال‪ ،‬واتخذت آلهة‪ ،‬وأنها ناقصة من‬
‫جميع الوجوه‪ ،‬فقيرة بالذات‪ ،‬ل تملك لنفسها ول لعابديها نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول‬
‫نشورا‪ ،‬ول ينصرون من عبدهم‪ ،‬ول ينفعونهم بمثقال ذرة‪ ،‬من جلب خير أو دفع شر‪ ،‬فإن العلم‬
‫بذلك يوجب العلم بأنه ل إله إل هو وبطلن إلهية ما سواه‪.‬‬

‫السادس‪ :‬اتفاق كتب ال على ذلك‪ ،‬وتواطؤها عليه‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن خواص الخلق‪ ،‬الذين هم أكمل الخليقة أخلقا وعقول‪ ،‬ورأيا وصوابا‪ ،‬وعلما ‪-‬وهم‬
‫الرسل والنبياء والعلماء الربانيون‪ -‬قد شهدوا ل بذلك‪.‬‬

‫الثامن‪ :‬ما أقامه ال من الدلة الفقية والنفسية‪ ،‬التي تدل على التوحيد أعظم دللة‪ ،‬وتنادي عليه‬
‫بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته‪ ،‬وبديع حكمته‪ ،‬وغرائب خلقه‪.‬‬

‫فهذه الطرق التي أكثر ال من دعوة الخلق بها إلى أنه ل إله إل ال‪ ،‬وأبداها في كتابه وأعادها‬
‫عند تأمل العبد في بعضها‪ ،‬ل بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك‪ ،‬فكيف إذا اجتمعت وتواطأت‬
‫واتفقت‪ ،‬وقامت أدلة التوحيد من كل جانب‪ ،‬فهناك يرسخ اليمان والعلم بذلك في قلب العبد‪ ،‬بحيث‬
‫يكون كالجبال الرواسي‪ ،‬ل تزلزله الشبه والخيالت‪ ،‬ول يزداد ‪-‬على تكرر الباطل والشبه‪ -‬إل‬
‫نموا وكمال‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬وإن نظرت إلى الدليل العظيم‪ ،‬والمر الكبير ‪-‬وهو تدبر هذا القرآن العظيم‪ ،‬والتأمل في‬
‫آياته‪ -‬فإنه الباب العظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما ل يحصل في‬
‫غيره‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِبكَ } أي‪ :‬اطلب من ال المغفرة لذنبك‪ ،‬بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة‬
‫والدعاء بالمغفرة‪ ،‬والحسنات الماحية‪ ،‬وترك الذنوب والعفو عن الجرائم‪.‬‬

‫{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين وَا ْل ُم ْؤمِنَات } فإنهم ‪-‬بسبب إيمانهم‪ -‬كان لهم حق على كل مسلم‬
‫ومسلمة‪.‬‬

‫ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم‪ ،‬وإذا كان مأمورا بالستغفار لهم المتضمن‬
‫لزالة الذنوب وعقوباتها عنهم‪ ،‬فإن من لوازم ذلك النصح لهم‪ ،‬وأن يحب لهم من الخير ما يحب‬
‫لنفسه‪ ،‬ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه‪ ،‬ويأمرهم بما فيه الخير لهم‪ ،‬وينهاهم عما فيه ضررهم‪،‬‬
‫ويعفو عن مساويهم ومعايبهم‪ ،‬ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم‪ ،‬ويزول ما بينهم‬
‫من الحقاد المفضية للمعاداة والشقاق‪ ،‬الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ َيعْلَمُ مُ َتقَلّ َبكُمْ } أي‪ :‬تصرفاتكم وحركاتكم‪ ،‬وذهابكم ومجيئكم‪َ { ،‬ومَ ْثوَاكُمْ } الذي به‬
‫تستقرون‪ ،‬فهو يعلمكم في الحركات والسكنات‪ ،‬فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه‪.‬‬

‫ح َكمَةٌ وَ ُذكِرَ فِيهَا ا ْلقِتَالُ‬


‫{ ‪ { } 20-23‬وَ َيقُولُ الّذِينَ آمَنُوا َلوْلَا نُزَّلتْ سُو َرةٌ فَِإذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ مُ ْ‬
‫شيّ عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َموْتِ فََأوْلَى َلهُمْ * طَاعَةٌ‬
‫رَأَ ْيتَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ يَنْظُرُونَ إِلَ ْيكَ َنظَرَ ا ْل َمغْ ِ‬
‫َوقَ ْولٌ َمعْرُوفٌ فَإِذَا عَ َزمَ الَْأمْرُ فََل ْو صَ َدقُوا اللّهَ َلكَانَ خَيْرًا َلهُمْ * َف َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِنْ َتوَلّيْتُمْ أَنْ ُتفْسِدُوا‬
‫عمَى أَ ْبصَارَهُمْ }‬
‫صمّهُ ْم وَأَ ْ‬
‫طعُوا أَرْحَا َم ُكمْ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ َلعَ َنهُمُ اللّهُ فََأ َ‬
‫فِي الْأَ ْرضِ وَ ُتقَ ّ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬وَ َيقُولُ الّذِينَ آمَنُوا } استعجال ومبادرة للوامر الشاقة‪َ { :‬لوْلَا نُزَّلتْ سُو َرةٌ } أي‪:‬‬
‫فيها المر بالقتال‪.‬‬

‫ح َكمَةٌ } أي‪ :‬ملزم العمل بها‪ { ،‬وَ ُذكِرَ فِيهَا ا ْلقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على‬
‫{ فَِإذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ مُ ْ‬
‫النفوس‪ ،‬لم يثبت ضعفاء اليمان على امتثال هذه الوامر‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬رَأَ ْيتَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ‬
‫شيّ عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َم ْوتِ } من كراهتهم لذلك‪ ،‬وشدته عليهم‪.‬‬
‫مَ َرضٌ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ نَظَرَ ا ْل َمغْ ِ‬

‫وهذا كقوله تعالى‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ َل ُهمْ ُكفّوا أَيْدِ َي ُك ْم وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ فََلمّا كُ ِتبَ‬
‫شوْنَ النّاسَ َكخَشْيَةِ اللّهِ َأوْ َأشَدّ خَشْيَةً }‬
‫عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ َيخْ َ‬

‫ع ٌة َو َقوْلٌ َمعْرُوفٌ } أي‪ :‬فأولى لهم‬


‫ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الليق بحالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فََأوْلَى َل ُهمْ طَا َ‬
‫أن يمتثلوا المر الحاضر المحتم عليهم‪ ،‬ويجمعوا عليه هممهم‪ ،‬ول يطلبوا أن يشرع لهم ما هو‬
‫شاق عليهم‪ ،‬وليفرحوا بعافية ال تعالى وعفوه‪.‬‬

‫{ فَِإذَا عَزَمَ الَْأمْرُ } أي‪ :‬جاءهم المر جد‪ ،‬وأمر محتم‪ ،‬ففي هذه الحال لو صدقوا ال بالستعانة‬
‫به‪ ،‬وبذل الجهد في امتثاله { َلكَانَ خَيْرًا َلهُمْ } من حالهم الولى‪ ،‬وذلك من وجوه‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن العبد ناقص من كل وجه‪ ،‬ل قدرة له إل إن أعانه ال‪ ،‬فل يطلب زيادة على ما هو قائم‬
‫بصدده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل‪ ،‬ضعف عن العمل‪ ،‬بوظيفة وقته‪ ،‬وبوظيفة المستقبل‪ ،‬أما‬
‫الحال‪ ،‬فلن الهمة انتقلت عنه إلى غيره‪ ،‬والعمل تبع للهمة‪ ،‬وأما المستقبل‪ ،‬فإنه ل يجيء حتى‬
‫تفتر الهمة عن نشاطها فل يعان عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن العبد المؤمل للمال المستقبلة‪ ،‬مع كسله عن عمل الوقت الحاضر‪ ،‬شبيه بالمتألي الذي‬
‫يجزم بقدرته‪ ،‬على ما يستقبل من أموره‪ ،‬فأحرى به أن يخذل ول يقوم بما هم به ووطن نفسه‬
‫عليه‪ ،‬فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر‪ ،‬ويؤدي وظيفته‬
‫بحسب قدرته‪ ،‬ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة‪ ،‬مستعينا بربه‬
‫في ذلك‪ ،‬فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه‪ ،‬وأنه ل يتولى إلى خير‪ ،‬بل إلى شر‪ ،‬فقال‪َ { :‬ف َهلْ‬
‫طعُوا أَرْحَا َمكُمْ } أي‪ :‬فهما أمران‪ ،‬إما التزام لطاعة‬
‫ض وَ ُتقَ ّ‬
‫سدُوا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫عَسَيْتُمْ إِنْ َتوَلّيْتُمْ أَنْ ُتفْ ِ‬
‫ال‪ ،‬وامتثال لوامره‪ ،‬فثم الخير والرشد والفلح‪ ،‬وإما إعراض عن ذلك‪ ،‬وتولٍ عن طاعة ال‪،‬‬
‫فما ثم إل الفساد في الرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الرحام‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ } أفسدوا في الرض‪ ،‬وقطعوا أرحامهم { َلعَ َن ُهمُ اللّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته‪،‬‬
‫وقربوا من سخط ال‪.‬‬

‫عمَى أَ ْبصَارَهُمْ } أي‪ :‬جعلهم ل يسمعون ما ينفعهم ول يبصرونه‪ ،‬فلهم آذان‪ ،‬ولكن‬
‫ص ّمهُ ْم وَأَ ْ‬
‫{ فََأ َ‬
‫ل تسمع سماع إذعان وقبول‪ ،‬وإنما تسمع سماعا تقوم به حجة ال عليها‪ ،‬ولهم أعين‪ ،‬ولكن ل‬
‫يبصرون بها العبر واليات‪ ،‬ول يلتفتون بها إلى البراهين والبينات‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 24‬أفَلَا يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ َأمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا }‬

‫أي‪ :‬فهل يتدبر هؤلء المعرضون لكتاب ال‪ ،‬ويتأملونه حق التأمل‪ ،‬فإنهم لو تدبروه‪ ،‬لدلهم على‬
‫كل خير‪ ،‬ولحذرهم من كل شر‪ ،‬ولمل قلوبهم من اليمان‪ ،‬وأفئدتهم من اليقان‪ ،‬ولوصلهم إلى‬
‫المطالب العالية‪ ،‬والمواهب الغالية‪ ،‬ولبين لهم الطريق الموصلة إلى ال‪ ،‬وإلى جنته ومكملتها‬
‫ومفسداتها‪ ،‬والطريق الموصلة إلى العذاب‪ ،‬وبأي شيء تحذر‪ ،‬ولعرفهم بربهم‪ ،‬وأسمائه وصفاته‬
‫وإحسانه‪ ،‬ولشوقهم إلى الثواب الجزيل‪ ،‬ورهبهم من العقاب الوبيل‪.‬‬

‫{ َأمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا } أي‪ :‬قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت‪ ،‬فل يدخلها خير أبدا؟ هذا هو‬
‫الواقع‪.‬‬
‫س ّولَ َلهُ ْم وََأمْلَى‬
‫{ ‪ { } 25-28‬إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلَى َأدْبَارِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْلهُدَى الشّ ْيطَانُ َ‬
‫َلهُمْ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نَ ّزلَ اللّهُ سَنُطِي ُعكُمْ فِي َب ْعضِ الَْأمْ ِر وَاللّهُ َيعْلَمُ ِإسْرَارَهُمْ *‬
‫خطَ اللّ َه َوكَرِهُوا‬
‫ن وُجُو َههُ ْم وََأدْبَارَهُمْ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اتّ َبعُوا مَا َأسْ َ‬
‫َفكَ ْيفَ ِإذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُو َ‬
‫عمَاَلهُمْ }‬
‫ضوَانَهُ فَأَحْ َبطَ أَ ْ‬
‫ِر ْ‬

‫يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى واليمان على أعقابهم إلى الضلل والكفران‪ ،‬ذلك ل‬
‫عن دليل دلهم ول برهان‪ ،‬وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم‪ ،‬وإملء منه لهم‪:‬‬
‫{ َي ِعدُهُ ْم وَ ُيمَنّيهِ ْم َومَا َيعِ ُدهُمُ الشّيْطَانُ إِلّا غُرُورًا }‬

‫وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى‪ ،‬فزهدوا فيه ورفضوه‪ ،‬و { قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نَ ّزلَ اللّهُ } من‬
‫المبارزين العداوة ل ولرسوله { سَ ُنطِي ُعكُمْ فِي َب ْعضِ الَْأمْرِ } أي‪ :‬الذي يوافق أهواءهم‪ ،‬فلذلك‬
‫عاقبهم ال بالضلل‪ ،‬والقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء البدي‪ ،‬والعذاب السرمدي‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ َيعْلَمُ ِإسْرَارَهُمْ } فلذلك فضحهم‪ ،‬وبينها لعباده المؤمنين‪ ،‬لئل يغتروا بها‪.‬‬

‫{ َفكَ ْيفَ } ترى حالهم الشنيعة‪ ،‬ورؤيتهم الفظيعة { إِذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَة } الموكلون بقبض أرواحهم‪،‬‬
‫ن وُجُو َههُ ْم وََأدْبَارَهُمْ } بالمقامع الشديدة؟!‪.‬‬
‫{ َيضْرِبُو َ‬

‫سخَطَ اللّهَ } من كل كفر‬


‫{ ذَِلكَ } العذاب الذي استحقوه ونالوه { بـ } سبب { أنهم اتّ َبعُوا مَا أَ ْ‬
‫وفسوق وعصيان‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ } أي‪:‬‬
‫ضوَانَهُ } فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه‪ ،‬ول يدنيهم منه‪ { ،‬فَأَحْ َبطَ أَ ْ‬
‫{ َوكَرِهُوا ِر ْ‬
‫أبطلها وأذهبها‪ ،‬وهذا بخلف من اتبع ما يرضي ال وكره سخطه‪ ،‬فإنه سيكفر عنه سيئاته‪،‬‬
‫ويضاعف أجره وثوابه‪.‬‬

‫ضغَا َنهُمْ * وََلوْ َنشَاءُ‬


‫سبَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللّهُ َأ ْ‬
‫{ ‪ { } 29-31‬أَمْ حَ ِ‬
‫عمَاَلكُمْ * وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ حَتّى َنعَْلمَ‬
‫ل وَاللّهُ َيعْلَمُ أَ ْ‬
‫لَأَرَيْنَا َكهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُمْ ِبسِيمَاهُ ْم وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي لَحْنِ ا ْلقَ ْو ِ‬
‫ن وَنَبُْلوَ أَخْبَا َركُمْ }‬
‫ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِ ْنكُ ْم وَالصّابِرِي َ‬

‫سبَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } من شبهة أو شهوة‪ ،‬بحيث تخرج القلب عن‬
‫يقول تعالى‪ { :‬أَمْ حَ ِ‬
‫حال صحته واعتداله‪ ،‬أن ال ل يخرج ما في قلوبهم من الضغان والعداوة للسلم وأهله؟ هذا‬
‫ظن ل يليق بحكمة ال‪ ،‬فإنه ل بد أن يميز الصادق من الكاذب‪ ،‬وذلك بالبتلء بالمحن‪ ،‬التي من‬
‫ثبت عليها‪ ،‬ودام إيمانه فيها‪ ،‬فهو المؤمن حقيقة‪ ،‬ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها‪ ،‬وحين‬
‫أتاه المتحان‪ ،‬جزع وضعف إيمانه‪ ،‬وخرج ما في قلبه من الضغن‪ ،‬وتبين نفاقه‪ ،‬هذا مقتضى‬
‫الحكمة اللهية‪ ،‬مع أنه تعالى قال‪ { :‬وََلوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَا َكهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُمْ ِبسِيمَاهُمْ }‬

‫أي‪ :‬بعلماتهم التي هي كالوسم في وجوههم‪ { .‬وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي لَحْنِ ا ْل َق ْولِ } أي‪ :‬ل بد أن يظهر ما‬
‫في قلوبهم‪ ،‬ويتبين بفلتات ألسنتهم‪ ،‬فإن اللسن مغارف القلوب‪ ،‬يظهر منها ما في القلوب من‬
‫عمَاَل ُكمْ } فيجازيكم عليها‪.‬‬
‫الخير والشر { وَاللّهُ َيعْلَمُ أَ ْ‬

‫ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده‪ ،‬وهو الجهاد في سبيل ال‪ ،‬فقال‪ { :‬وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ } أي‪ :‬نختبر‬
‫إيمانكم وصبركم‪ { ،‬حَتّى َنعْلَمَ ا ْل ُمجَاهِدِينَ مِ ْن ُك ْم وَالصّابِرِينَ وَنَبُْلوَ َأخْبَا َركُمْ } فمن امتثل أمر ال‬
‫وجاهد في سبيل ال لنصر دينه وإعلء كلمته فهو المؤمن حقا‪ ،‬ومن تكاسل عن ذلك‪ ،‬كان ذلك‬
‫نقصا في إيمانه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 32‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَشَاقّوا الرّسُولَ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْلهُدَى لَنْ‬
‫عمَاَلهُمْ }‬
‫َيضُرّوا اللّهَ شَيْئًا وَسَيُحْ ِبطُ أَ ْ‬

‫هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها‪ ،‬من الكفر بال‪ ،‬وصد الخلق عن سبيل ال الذي نصبه‬
‫موصل إليه‪.‬‬

‫{ وَشَاقّوا الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْل ُهدَى } أي‪ :‬عاندوه وخالفوه عن عمد وعناد‪ ،‬ل عن جهل‬
‫وغي وضلل‪ ،‬فإنهم { لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئًا } فل ينقص به ملكه‪.‬‬

‫عمَاَلهُمْ } أي‪ :‬مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل‪ ،‬بأن ل تثمر لهم إل الخيبة‬
‫{ وَسَ ُيحْبِطُ أَ ْ‬
‫والخسران‪ ،‬وأعمالهم التي يرجون بها الثواب‪ ،‬ل تقبل لعدم وجود شرطها‪.‬‬

‫عمَاَلكُمْ }‬
‫{ ‪ { } 33‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَ ْ‬

‫يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم‪ ،‬وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وهو‪ :‬طاعته‬
‫وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه‪ ،‬والطاعة هي امتثال المر‪ ،‬واجتناب النهي على الوجه‬
‫المأمور به بالخلص وتمام المتابعة‪.‬‬
‫عمَاَل ُكمْ } يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها‪ ،‬بما يفسدها‪ ،‬من من بها‬
‫وقوله‪ { :‬وَلَا تُبْطِلُوا أَ ْ‬
‫وإعجاب‪ ،‬وفخر وسمعة‪ ،‬ومن عمل بالمعاصي التي تضمحل معها العمال‪ ،‬ويحبط أجرها‪،‬‬
‫ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها‪ ،‬أو التيان بمفسد من مفسداتها‪.‬‬

‫فمبطلت الصلة والصيام والحج ونحوها‪ ،‬كلها داخلة في هذا‪ ،‬ومنهي عنها‪ ،‬ويستدل الفقهاء بهذه‬
‫الية على تحريم قطع الفرض‪ ،‬وكراهة قطع النفل‪ ،‬من غير موجب لذلك‪ ،‬وإذا كان ال قد نهى‬
‫عن إبطال العمال‪ ،‬فهو أمر بإصلحها‪ ،‬وإكمالها وإتمامها‪ ،‬والتيان بها‪ ،‬على الوجه الذي تصلح‬
‫به علما وعمل‪.‬‬

‫{ ‪ { } 34-35‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ * فَلَا‬
‫عمَاَلكُمْ }‬
‫ن وَاللّهُ َم َعكُ ْم وَلَنْ يَتِ َر ُكمْ أَ ْ‬
‫َتهِنُوا وَ َتدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعَْلوْ َ‬

‫طتْ‬
‫ت وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَبِ َ‬
‫هذه الية والتي في البقرة قوله‪َ { :‬ومَنْ يَرْتَ ِددْ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَ َي ُم ْ‬
‫عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } مقيدتان‪ ،‬لكل نص مطلق‪ ،‬فيه إحباط العمل بالكفر‪ ،‬فإنه مقيد بالموت‬
‫أَ ْ‬
‫عليه‪ ،‬فقال هنا‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر { َوصَدّوا } الخلق {‬
‫عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } بتزهيدهم إياهم بالحق‪ ،‬ودعوتهم إلى الباطل‪ ،‬وتزيينه‪ { ،‬ثُمّ مَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ } لم‬
‫يتوبوا منه‪ { ،‬فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُهمْ } ل بشفاعة ول بغيرها‪ ،‬لنه قد تحتم عليهم العقاب‪ ،‬وفاتهم‬
‫الثواب‪ ،‬ووجب عليهم الخلود في النار‪ ،‬وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار‪.‬‬

‫ومفهوم الية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم‪ ،‬فإن ال يغفر لهم ويرحمهم‪ ،‬ويدخلهم‬
‫الجنة‪ ،‬ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله‪ ،‬والقدام على معاصيه‪ ،‬فسبحان‬
‫من فتح لعباده أبواب الرحمة‪ ،‬ولم يغلقها عن أحد‪ ،‬ما دام حيا متمكنا من التوبة‪.‬‬

‫وسبحان الحليم‪ ،‬الذي ل يعاجل العاصين بالعقوبة‪ ،‬بل يعافيهم‪ ،‬ويرزقهم‪ ،‬كأنهم ما عصوه مع‬
‫قدرته عليهم‪.‬‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬فَلَا َتهِنُوا } أي‪ :‬ل تضعفوا عن قتال عدوكم‪ ،‬ويستولي عليكم الخوف‪ ،‬بل اصبروا‬
‫واثبتوا‪ ،‬ووطنوا أنفسكم على القتال والجلد‪ ،‬طلبا لمرضاة ربكم‪ ،‬ونصحا للسلم‪ ،‬وإغضابا‬
‫للشيطان‪.‬‬

‫ول تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم‪ ،‬طلبا للراحة‪ { ،‬و } الحال أنكم { أنتم‬
‫عمَاُلكُم }‬
‫ن وَاللّهُ َم َعكُ ْم وَلَنْ يَتِ َركُمْ } أي‪ :‬ينقصكم { أَ ْ‬
‫الْأَعَْلوْ َ‬
‫فهذه المور الثلثة‪ ،‬كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم العلين‪ ،‬أي‪ :‬قد توفرت لهم‬
‫أسباب النصر‪ ،‬ووعدوا من ال بالوعد الصادق‪ ،‬فإن النسان‪ ،‬ل يهن إل إذا كان أذل من غيره‬
‫وأضعف عددا‪ ،‬وعددا‪ ،‬وقوة داخلية وخارجية‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ال معهم‪ ،‬فإنهم مؤمنون‪ ،‬وال مع المؤمنين‪ ،‬بالعون‪ ،‬والنصر‪ ،‬والتأييد‪ ،‬وذلك موجب‬
‫لقوة قلوبهم‪ ،‬وإقدامهم على عدوهم‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن ال ل ينقصهم من أعمالهم شيئا‪ ،‬بل سيوفيهم أجورهم‪ ،‬ويزيدهم من فضله‪ ،‬خصوصا‬
‫عبادة الجهاد‪ ،‬فإن النفقة تضاعف فيه‪ ،‬إلى سبع مائة ضعف‪ ،‬إلى أضعاف كثيرة‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَطَئُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّارَ‬
‫ب وَلَا مَ ْ‬
‫ص ٌ‬
‫ظمٌَأ وَلَا َن َ‬
‫{ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ لَا ُيصِي ُبهُمْ َ‬
‫ن وَلَا يُ ْنفِقُونَ َنفَقَةً‬
‫حسِنِي َ‬
‫ل صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ‬
‫ع َم ٌ‬
‫وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَ ُدوّ نَيْلًا إِلّا كُ ِتبَ َلهُمْ بِهِ َ‬
‫ن وَادِيًا إِلّا كُ ِتبَ َلهُمْ لِيَجْزِ َيهُمُ اللّهُ َأحْسَنَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫طعُو َ‬
‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َر ًة وَلَا َيقْ َ‬
‫َ‬

‫فإذا عرف النسان أن ال تعالى ل يضيع عمله وجهاده‪ ،‬أوجب له ذلك النشاط‪ ،‬وبذل الجهد فيما‬
‫يترتب عليه الجر والثواب‪ ،‬فكيف إذا اجتمعت هذه المور الثلثة فإن ذلك يوجب النشاط التام‪،‬‬
‫فهذا من ترغيب ال لعباده‪ ،‬وتنشيطهم‪ ،‬وتقوية أنفسهم على ما فيه صلحهم وفلحهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 36-38‬إِ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْهوٌ وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَ ّتقُوا ُيؤْ ِتكُمْ ُأجُو َركُ ْم وَلَا يَسْأَ ْلكُمْ َأ ْموَاَلكُمْ *‬
‫عوْنَ لِتُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِ ْنكُمْ‬
‫ضغَا َنكُمْ * هَا أَنْتُمْ َهؤُلَاءِ ُتدْ َ‬
‫حفِكُمْ تَ ْبخَلُوا وَيُخْرِجْ َأ ْ‬
‫إِنْ يَسْأَ ْل ُكمُوهَا فَ ُي ْ‬
‫ي وَأَنْتُمُ ا ْل ُفقَرَا ُء وَإِنْ تَ َتوَّلوْا يَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ‬
‫س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ‬
‫خلُ عَنْ َنفْ ِ‬
‫خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ‬
‫ل َومَنْ يَبْ َ‬
‫خُ‬‫مَنْ يَبْ َ‬
‫ثُمّ لَا َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ }‬

‫هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها‪ ،‬بأنها لعب ولهو‪ ،‬لعب في‬
‫البدان ولهو في القلوب‪ ،‬فل يزال العبد لهيا في ماله‪ ،‬وأولده‪ ،‬وزينته‪ ،‬ولذاته من النساء‪،‬‬
‫والمآكل والمشارب‪ ،‬والمساكن والمجالس‪ ،‬والمناظر والرياسات‪ ،‬لعبا في كل عمل ل فائدة فيه‪،‬‬
‫بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي‪ ،‬حتى تستكمل دنياه‪ ،‬ويحضره أجله‪ ،‬فإذا هذه المور‬
‫قد ولت وفارقت‪ ،‬ولم يحصل العبد منها على طائل‪ ،‬بل قد تبين له خسرانه وحرمانه‪ ،‬وحضر‬
‫عذابه‪ ،‬فهذا موجب للعاقل الزهد فيها‪ ،‬وعدم الرغبة فيها‪ ،‬والهتمام بشأنها‪ ،‬وإنما الذي ينبغي أن‬
‫يهتم به ما ذكره بقوله‪ { :‬وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَتّقُوا } بأن تؤمنوا بال‪ ،‬وملئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫الخر‪ ،‬وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم اليمان ومقتضياته‪ ،‬وهي العمل بمرضاته على الدوام‪،‬‬
‫مع ترك معاصيه‪ ،‬فهذا الذي ينفع العبد‪ ،‬وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه‪ ،‬وتبذل الهمم والعمال‬
‫في طلبه‪ ،‬وهو مقصود ال من عباده رحمة بهم ولطفا‪ ،‬ليثيبهم الثواب الجزيل‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِنْ‬
‫ُت ْؤمِنُوا وَتَ ّتقُوا ُيؤْ ِتكُمْ ُأجُو َركُ ْم وَلَا يَسْأَ ْل ُكمْ َأ ْموَاَلكُمْ } أي‪ :‬ل يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم‪،‬‬
‫ويعنتكم من أخذ أموالكم‪ ،‬وبقائكم بل مال‪ ،‬أو ينقصكم نقصا يضركم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنْ يَسَْأ ْل ُكمُوهَا‬
‫ضغَا َنكُمْ }‬
‫ح ِفكُمْ تَ ْبخَلُوا وَيُخْرِجْ َأ ْ‬
‫فَيُ ْ‬

‫أي‪ :‬ما في قلوبكم من الضغن‪ ،‬إذا طلب منكم ما تكرهون بذله‪.‬‬

‫عوْنَ‬
‫والدليل على أن ال لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها‪ ،‬أنكم تمتنعون منها‪ ،‬أنكم { تُدْ َ‬
‫لِتُ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } على هذا الوجه‪ ،‬الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫خلُ } أي‪ :‬فكيف لو سألكم‪ ،‬وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟‬
‫{ َفمِ ْنكُمْ مَنْ يَبْ َ‬
‫أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك‪.‬‬

‫خلُ عَنْ َنفْسِهِ } لنه حرم نفسه ثواب ال تعالى‪ ،‬وفاته خير كثير‪،‬‬
‫خلْ فَإِ ّنمَا يَ ْب َ‬
‫ثم قال‪َ { :‬ومَنْ يَ ْب َ‬
‫ولن يضر ال بترك النفاق شيئا‪.‬‬

‫ي وَأَنْتُمُ ا ْلفُقَرَاءُ } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم‪ ،‬لجميع أموركم‪.‬‬


‫فإن ال هو { ا ْلغَنِ ّ‬

‫{ وَإِنْ تَ َتوَّلوْا } عن اليمان بال‪ ،‬وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَ ْب ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ ُثمّ لَا َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ‬
‫} في التولي‪ ،‬بل يطيعون ال ورسوله‪ ،‬ويحبون ال ورسوله‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا‬
‫س ْوفَ يَأْتِي اللّهُ ِبقَوْمٍ يُحِ ّبهُ ْم وَ ُيحِبّونَهُ }‬
‫مَنْ يَرْتَدّ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَ َ‬

‫تم تفسير سورة القتال‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة الفتح‬


‫وهي مدنية‬

‫ك َومَا‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَ ْتحًا مُبِينًا * لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫ك صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا * وَيَ ْنصُ َركَ اللّهُ َنصْرًا عَزِيزًا }‬
‫ك وَ َيهْدِ َي َ‬
‫تَأَخّ َر وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ‬

‫هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية‪ ،‬حين صد المشركون رسول ال صلى ال عليه وسلم لما‬
‫جاء معتمرا في قصة طويلة‪ ،‬صار آخر أمرها أن صالحهم رسول ال صلى ال عليه وسلم على‬
‫وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين‪ ،‬وعلى أن يعتمر من العام المقبل‪ ،‬وعلى أن من أراد أن‬
‫يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل‪ ،‬ومن أحب أن يدخل في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وعقده فعل‪.‬‬

‫وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا‪ ،‬اتسعت دائرة الدعوة لدين ال عز وجل‪ ،‬وصار كل‬
‫مؤمن بأي محل كان من تلك القطار‪ ،‬يتمكن من ذلك‪ ،‬وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة‬
‫السلم‪ ،‬فدخل الناس في تلك المدة في دين ال أفواجا‪ ،‬فلذلك سماه ال فتحا‪ ،‬ووصفه بأنه فتح‬
‫مبين أي‪ :‬ظاهر جلي‪ ،‬وذلك لن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين ال‪ ،‬وانتصار‬
‫المسلمين‪ ،‬وهذا حصل بذلك الفتح‪ ،‬ورتب ال على هذا الفتح عدة أمور‪ ،‬فقال‪ { :‬لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا‬
‫َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِبكَ َومَا تََأخّرَ }‬

‫وذلك ‪-‬وال أعلم‪ -‬بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة‪ ،‬والدخول في الدين بكثرة‪ ،‬وبما‬
‫تحمل صلى ال عليه وسلم من تلك الشروط التي ل يصبر عليها إل أولو العزم من المرسلين‪،‬‬
‫وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن غفر ال له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪.‬‬

‫ك صِرَاطًا‬
‫{ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ } بإعزاز دينك‪ ،‬ونصرك على أعدائك‪ ،‬واتساع كلمتك‪ { ،‬وَ َيهْدِ َي َ‬
‫مُسْ َتقِيمًا } تنال به السعادة البدية‪ ،‬والفلح السرمدي‪.‬‬

‫{ وَيَ ْنصُ َركَ اللّهُ َنصْرًا عَزِيزًا } أي‪ :‬قويا ل يتضعضع فيه السلم‪ ،‬بل يحصل النتصار التام‪،‬‬
‫وقمع الكافرين‪ ،‬وذلهم ونقصهم‪ ،‬مع توفر قوى المسلمين ونموهم‪ ،‬ونمو أموالهم‪.‬‬

‫ثم ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين فقال‪:‬‬

‫سكِينَةَ فِي قُلُوبِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ لِيَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِن ِه ْم وَلِلّهِ جُنُودُ‬
‫{ ‪ُ { } 4-6‬هوَ الّذِي أَنْ َزلَ ال ّ‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا‬
‫خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫حكِيمًا * لِ ُيدْ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ‬
‫ال ّ‬
‫الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَ ُيكَفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِ ْم َوكَانَ ذَِلكَ عِ ْندَ اللّهِ َفوْزًا عَظِيمًا * وَ ُيعَ ّذبَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ‬
‫غضِبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ‬
‫سوْ ِء وَ َ‬
‫سوْءِ عَلَ ْيهِمْ دَائِ َرةُ ال ّ‬
‫وَا ْلمُنَافِقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِينَ وَا ْلمُشْ ِركَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ ال ّ‬
‫جهَنّ َم وَسَا َءتْ َمصِيرًا }‬
‫وََلعَ َنهُ ْم وَأَعَدّ َلهُمْ َ‬

‫يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم‪ ،‬وهي السكون والطمأنينة‪ ،‬والثبات‬
‫عند نزول المحن المقلقة‪ ،‬والمور الصعبة‪ ،‬التي تشوش القلوب‪ ،‬وتزعج اللباب‪ ،‬وتضعف‬
‫النفوس‪ ،‬فمن نعمة ال على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه‪ ،‬وينزل عليه السكينة‪،‬‬
‫ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة‪ ،‬فيستعد بذلك لقامة أمر ال في هذه الحال‪ ،‬فيزداد‬
‫بذلك إيمانه‪ ،‬ويتم إيقانه‪ ،‬فالصحابة رضي ال عنهم لما جرى ما جرى بين رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم والمشركين‪ ،‬من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم‪ ،‬وحط من أقدارهم‪،‬‬
‫وتلك ل تكاد تصبر عليها النفوس‪ ،‬فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها‪ ،‬ازدادوا بذلك إيمانا مع‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬جميعها في ملكه‪ ،‬وتحت تدبيره وقهره‪،‬‬
‫إيمانهم‪ .‬وقوله‪ { :‬وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ‬
‫فل يظن المشركون أن ال ل ينصر دينه ونبيه‪ ،‬ولكنه تعالى عليم حكيم‪ ،‬فتقتضي حكمته المداولة‬
‫بين الناس في اليام‪ ،‬وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر‪.‬‬

‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ُي َكفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِهمْ }‬
‫خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫{ لِ ُيدْ ِ‬
‫فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين‪ ،‬أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات‪ ،‬ويزيل عنهم‬
‫المحذور بتكفير السيئات‪َ { .‬وكَانَ ذَِلكَ } الجزاء المذكور للمؤمنين { عِ ْندَ اللّهِ َفوْزًا عَظِيمًا } فهذا‬
‫ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين‪.‬‬

‫وأما المنافقون والمنافقات‪ ،‬والمشركون والمشركات‪ ،‬فإن ال يعذبهم بذلك‪ ،‬ويريهم ما يسوءهم؛‬
‫حيث كان مقصودهم خذلن المؤمنين‪ ،‬وظنوا بال الظن السوء‪ ،‬أنه ل ينصر دينه‪ ،‬ول يعلي‬
‫كلمته‪ ،‬وأن أهل الباطل‪ ،‬ستكون لهم الدائرة على أهل الحق‪ ،‬فأدار ال عليهم ظنهم‪ ،‬وكانت دائرة‬
‫غضِبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } بما اقترفوه من المحادة ل ولرسوله‪ { ،‬وََلعَ َنهُمْ }‬
‫السوء عليهم في الدنيا‪ { ،‬وَ َ‬
‫جهَنّمَ وَسَا َءتْ َمصِيرًا }‬
‫أي‪ :‬أبعدهم وأقصاهم عن رحمته { وَأَعَدّ َل ُهمْ َ‬

‫حكِيمًا }‬
‫ض َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫{ ‪ { } 7‬وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ‬

‫كرر الخبار بأن له ملك السماوات والرض وما فيهما من الجنود‪ ،‬ليعلم العباد أنه تعالى هو‬
‫المعز المذل‪ ،‬وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنّ جُ ْندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا } أي‪ :‬قويا غالبا‪ ،‬قاهرا لكل شيء‪ ،‬ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه‬
‫وتدبيره‪ ،‬يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 8-9‬إِنّا أَ ْرسَلْنَاكَ شَا ِهدًا َومُبَشّرًا وَنَذِيرًا * لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِ ِه وَ ُتعَزّرُو ُه وَ ُت َوقّرُوهُ‬
‫وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا }‬

‫أي‪ { :‬إِنّا أَرْسَلْنَاكَ } أيها الرسول الكريم { شَا ِهدًا } لمتك بما فعلوه من خير وشر‪ ،‬وشاهدا على‬
‫المقالت والمسائل‪ ،‬حقها وباطلها‪ ،‬وشاهدا ل تعالى بالوحدانية والنفراد بالكمال من كل وجه‪،‬‬
‫{ َومُبَشّرًا } من أطاعك وأطاع ال بالثواب الدنيوي والديني والخروي‪ ،‬ومنذرا من عصى ال‬
‫بالعقاب العاجل والجل‪ ،‬ومن تمام البشارة والنذارة‪ ،‬بيان العمال والخلق التي يبشر بها وينذر‪،‬‬
‫فهو المبين للخير والشر‪ ،‬والسعادة والشقاوة‪ ،‬والحق من الباطل‪ ،‬ولهذا رتب على ذلك قوله‪:‬‬
‫{ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ }‬

‫أي‪ :‬بسبب دعوة الرسول لكم‪ ،‬وتعليمه لكم ما ينفعكم‪ ،‬أرسلناه لتقوموا باليمان بال ورسوله‪،‬‬
‫المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع المور‪.‬‬

‫{ وَ ُتعَزّرُوهُ وَتُ َوقّرُوهُ } أي‪ :‬تعزروا الرسول صلى ال عليه وسلم وتوقروه أي‪ :‬تعظموه وتجلوه‪،‬‬
‫وتقوموا بحقوقه‪ ،‬كما كانت له المنة العظيمة برقابكم‪ { ،‬وَتُسَبّحُوهُ } أي‪ :‬تسبحوا ل { ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا‬
‫} أول النهار وآخره‪ ،‬فذكر ال في هذه الية الحق المشترك بين ال وبين رسوله‪ ،‬وهو اليمان‬
‫بهما‪ ،‬والمختص بالرسول‪ ،‬وهو التعزير والتوقير‪ ،‬والمختص بال‪ ،‬وهو التسبيح له والتقديس‬
‫بصلة أو غيرها‪.‬‬

‫{ ‪ { } 10‬إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَا ِيعُونَ اللّهَ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ َفمَنْ َن َكثَ فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى َنفْسِهِ‬
‫عظِيمًا }‬
‫َومَنْ َأ ْوفَى ِبمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَ ُيؤْتِيهِ َأجْرًا َ‬

‫هذه المبايعة التي أشار ال إليها هي { بيعة الرضوان } التي بايع الصحابة رضي ال عنهم فيها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬على أن ل يفروا عنه‪ ،‬فهي عقد خاص‪ ،‬من لوازمه أن ل يفروا‪،‬‬
‫ولو لم يبق منهم إل القليل‪ ،‬ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها‪ ،‬فأخبر تعالى‪ :‬أن الذين بايعوك‬
‫حقيقة المر أنهم { يُبَا ِيعُونَ اللّهَ } ويعقدون العقد معه‪ ،‬حتى إنه من شدة تأكده أنه قال‪َ { :‬يدُ اللّهِ‬
‫َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ } أي‪ :‬كأنهم بايعوا ال وصافحوه بتلك المبايعة‪ ،‬وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية‪،‬‬
‫وحملهم على الوفاء بها‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬فمَنْ َن َكثَ } فلم يف بما عاهد ال عليه { فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى‬
‫َنفْسِهِ } أي‪ :‬لن وبال ذلك راجع إليه‪ ،‬وعقوبته واصلة له‪َ { ،‬ومَنْ َأ ْوفَى ِبمَا عَاهَدَ عَلَ ْيهُ اللّهَ } أي‪:‬‬
‫عظِيمًا } ل يعلم عظمه وقدره إل الذي آتاه إياه‪.‬‬
‫أتى به كامل موفرا‪ { ،‬فَسَ ُيؤْتِيهِ َأجْرًا َ‬

‫شغَلَتْنَا َأ ْموَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْ َت ْغفِرْ لَنَا َيقُولُونَ‬


‫{ ‪ { } 11-13‬سَ َيقُولُ َلكَ ا ْل ُمخَّلفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ َ‬
‫بِأَلْسِنَ ِتهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُو ِبهِمْ ُقلْ َفمَنْ َيمِْلكُ َل ُكمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ ِبكُ ْم ضَرّا َأوْ أَرَادَ ِبكُمْ َنفْعًا َبلْ‬
‫ل وَا ْل ُمؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيّنَ ذَِلكَ‬
‫كَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرًا * َبلْ ظَنَنْ ُتمْ أَنْ لَنْ يَ ْنقَِلبَ الرّسُو ُ‬
‫سوْءِ َوكُنْتُمْ َق ْومًا بُورًا * َومَنْ لَمْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ فَإِنّا أَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ‬
‫فِي قُلُو ِبكُ ْم َوظَنَنْتُمْ ظَنّ ال ّ‬
‫سعِيرًا }‬
‫َ‬
‫يذم تعالى المتخلفين عن رسوله‪ ،‬في الجهاد في سبيله‪ ،‬من العراب الذين ضعف إيمانهم‪ ،‬وكان‬
‫في قلوبهم مرض‪ ،‬وسوء ظن بال تعالى‪ ،‬وأنهم سيعتذرون بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن‬
‫الخروج في الجهاد‪ ،‬وأنهم طلبوا من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يستغفر لهم‪ ،‬قال ال‬
‫تعالى‪َ { :‬يقُولُونَ بِأَلْسِنَ ِت ِهمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُو ِبهِمْ } فإن طلبهم الستغفار من رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يدل على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب‪ ،‬وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة واستغفار‪،‬‬
‫فلو كان هذا الذي في قلوبهم‪ ،‬لكان استغفار الرسول نافعا لهم‪ ،‬لنهم قد تابوا وأنابوا‪ ،‬ولكن الذي‬
‫في قلوبهم‪ ،‬أنهم إنما تخلفوا لنهم ظنوا بال ظن السوء‪.‬‬

‫فظنوا { أَنْ لَنْ يَ ْنقَِلبَ الرّسُولُ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ إِلَى َأهْلِيهِمْ أَ َبدًا } أي‪ :‬إنهم سيقتلون ويستأصلون‪ ،‬ولم‬
‫يزل هذا الظن يزين في قلوبهم‪ ،‬ويطمئنون إليه‪ ،‬حتى استحكم‪ ،‬وسبب ذلك أمران‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أنهم كانوا { َق ْومًا بُورًا } أي‪ :‬هلكى‪ ،‬ل خير فيهم‪ ،‬فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في‬
‫قلوبهم‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد ال‪ ،‬ونصر دينه‪ ،‬وإعلء كلمته‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَنْ َلمْ ُي ْؤمِنْ‬
‫سعِيرًا }‬
‫بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ } أي‪ :‬فإنه كافر مستحق للعقاب‪ { ،‬فَإِنّا أَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ‬

‫غفُورًا َرحِيمًا‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫{ ‪ { } 14‬وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫}‬

‫أي‪ :‬هو تعالى المنفرد بملك السماوات والرض‪ ،‬يتصرف فيهما بما يشاء من الحكام القدرية‪،‬‬
‫والحكام الشرعية‪ ،‬والحكام الجزائية‪ ،‬ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الحكام الشرعية‪،‬‬
‫فقال‪َ { :‬ي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَاءُ } وهو من قام بما أمره ال به { وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاءُ } ممن تهاون بأمر ال‪،‬‬
‫غفُورًا َرحِيمًا } أي‪ :‬وصفه اللزم الذي ل ينفك عنه المغفرة والرحمة‪ ،‬فل يزال في‬
‫{ َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫جميع الوقات يغفر للمذنبين‪ ،‬ويتجاوز عن الخطائين‪ ،‬ويتقبل توبة التائبين‪ ،‬وينزل خيره المدرار‪،‬‬
‫آناء الليل والنهار‪.‬‬

‫{ ‪ { } 15‬سَ َيقُولُ ا ْلمُخَّلفُونَ إِذَا ا ْنطََلقْتُمْ إِلَى َمغَانِمَ لِتَ ْأخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّ ِب ْعكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُ َبدّلُوا كَلَامَ‬
‫سدُونَنَا َبلْ كَانُوا لَا َي ْف َقهُونَ إِلّا قَلِيلًا }‬
‫اللّهِ ُقلْ لَنْ تَتّ ِبعُونَا كَذَِل ُكمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ فَسَ َيقُولُونَ َبلْ َتحْ ُ‬
‫لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم‪ ،‬ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وأصحابه إذا انطلقوا إلى غنائم ل قتال فيها ليأخذوها‪ ،‬طلبوا منهم الصحبة والمشاركة‪ ،‬ويقولون‪:‬‬
‫{ ذَرُونَا نَتّ ِب ْعكُمْ يُرِيدُونَ } بذلك { أَنْ يُ َبدّلُوا كَلَامَ اللّهِ } حيث حكم بعقوبتهم‪ ،‬واختصاص الصحابة‬
‫المؤمنين بتلك الغنائم‪ ،‬شرعا وقدرا‪ُ { .‬قلْ } لهم { لَنْ تَتّ ِبعُونَا كَذَِلكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ } إنكم‬
‫محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم‪ ،‬وبما تركتم القتال أول مرة‪.‬‬

‫{ َفسَ َيقُولُونَ } مجيبين لهذا الكلم‪ ،‬الذي منعوا به عن الخروج‪َ { :‬بلْ َتحْسُدُونَنَا } على الغنائم‪ ،‬هذا‬
‫منتهى علمهم في هذا الموضع‪ ،‬ولو فهموا رشدهم‪ ،‬لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم‪ ،‬وأن‬
‫المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬بلْ كَانُوا لَا َيفْ َقهُونَ ِإلّا قَلِيلًا }‬

‫عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ُتقَاتِلُونَهُمْ َأوْ ُيسِْلمُونَ‬


‫{ ‪ُ { } 16-17‬قلْ لِ ْلمُخَّلفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَ ُتدْ َ‬
‫حسَنًا وَإِنْ تَ َتوَّلوْا َكمَا َتوَلّيْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ ُيعَذّ ْب ُكمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَيْسَ عَلَى‬
‫فَإِنْ تُطِيعُوا ُيؤْ ِتكُمُ اللّهُ أَجْرًا َ‬
‫طعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ‬
‫ج َومَنْ يُ ِ‬
‫ج وَلَا عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَ ٌ‬
‫ج وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَ ٌ‬
‫عمَى حَرَ ٌ‬
‫الْأَ ْ‬
‫تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر َومَنْ يَ َتوَلّ ُيعَذّ ْبهُ عَذَابًا أَلِيمًا }‬

‫لما ذكر تعالى أن المخلفين من العراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله‪ ،‬ويعتذرون بغير عذر‪،‬‬
‫وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ول قتال‪ ،‬بل لمجرد الغنيمة‪ ،‬قال تعالى ممتحنا لهم‪:‬‬
‫شدِيدٍ } أي‪ :‬سيدعوكم الرسول ومن ناب‬
‫عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ َ‬
‫{ ُقلْ لِ ْل ُمخَّلفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْ َ‬
‫منابه من الخلفاء الراشدين والئمة‪ ،‬وهؤلء القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم‪.‬‬
‫{ ُتقَاتِلُو َنهُمْ َأوْ يُسِْلمُونَ } أي‪ :‬إما هذا وإما هذا‪ ،‬وهذا هو المر الواقع‪ ،‬فإنهم في حال قتالهم‬
‫ومقاتلتهم لولئك القوام‪ ،‬إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم‪ ،‬فإنهم في تلك الحال ل يقبلون أن يبذلوا‬
‫الجزية‪ ،‬بل إما أن يدخلوا في السلم‪ ،‬وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه‪ ،‬فلما أثخنهم المسلمون‪،‬‬
‫وضعفوا وذلوا‪ ،‬ذهب بأسهم‪ ،‬فصاروا إما أن يسلموا‪ ،‬وإما أن يبذلوا الجزية‪ { ،‬فَإِنْ ُتطِيعُوا }‬
‫الداعي لكم إلى قتال هؤلء { ُيؤْ ِتكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا } وهو الجر الذي رتبه ال ورسوله على‬
‫الجهاد في سبيل ال‪ { ،‬وَإِنْ تَ َتوَّلوْا َكمَا َتوَلّيْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ } عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله‪،‬‬
‫{ ُي َعذّ ْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ودلت هذه الية على فضيلة الخلفاء الراشدين‪ ،‬الداعين لجهاد أهل البأس من‬
‫الناس‪ ،‬وأنه تجب طاعتهم في ذلك‪.‬‬

‫ج وَلَا‬
‫عمَى حَرَ ٌ‬
‫ثم ذكر العذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد‪ ،‬فقال‪ { :‬لَ ْيسَ عَلَى الْأَ ْ‬
‫علَى ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ } أي‪ :‬في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع‪.‬‬
‫عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا َ‬
‫{ َومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ } في امتثال أمرهما‪ ،‬واجتناب نهيهما { يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا‬
‫الْأَ ْنهَارُ } فيها ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪َ { ،‬ومَنْ يَ َتوَلّ } عن طاعة ال ورسوله { ُيعَذّبْهُ عَذَابًا‬
‫أَلِيمًا } فالسعادة كلها في طاعة ال‪ ،‬والشقاوة في معصيته ومخالفته‪.‬‬

‫حتَ الشّجَ َرةِ َفعَلِمَ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ فَأَنْ َزلَ‬
‫ضيَ اللّهُ عَنِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ِإذْ يُبَا ِيعُو َنكَ َت ْ‬
‫{ ‪َ { } 18-21‬لقَدْ َر ِ‬
‫حكِيمًا * وَعَ َدكُمُ اللّهُ‬
‫خذُو َنهَا َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ‬
‫سكِينَةَ عَلَ ْيهِ ْم وَأَثَا َبهُمْ فَ ْتحًا قَرِيبًا * َو َمغَانِمَ كَثِي َرةً يَأْ ُ‬
‫ال ّ‬
‫جلَ َلكُمْ َه ِذ ِه َوكَفّ أَ ْي ِديَ النّاسِ عَ ْنكُ ْم وَلِ َتكُونَ آ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َيهْدِ َي ُكمْ‬
‫خذُو َنهَا َف َع ّ‬
‫َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَأْ ُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرًا }‬
‫صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا * وَأُخْرَى َلمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا قَدْ َأحَاطَ اللّهُ ِبهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫يخبر تعالى بفضله ورحمته‪ ،‬برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى ال عليه وسلم تلك‬
‫المبايعة التي بيضت وجوههم‪ ،‬واكتسبوا بها سعادة الدنيا والخرة‪ ،‬وكان سبب هذه البيعة ‪-‬التي‬
‫يقال لها "بيعة الرضوان" لرضا ال عن المؤمنين فيها‪ ،‬ويقال لها "بيعة أهل الشجرة" ‪ -‬أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم لما دار الكلم بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه‪ ،‬وأنه لم‬
‫يجئ لقتال أحد‪ ،‬وإنما جاء زائرا هذا البيت‪ ،‬معظما له‪ ،‬فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫عثمان بن عفان لمكة في ذلك‪ ،‬فجاء خبر غير صادق‪ ،‬أن عثمان قتله المشركون‪ ،‬فجمع رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم من معه من المؤمنين‪ ،‬وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة‪ ،‬فبايعوه تحت‬
‫شجرة على قتال المشركين‪ ،‬وأن ل يفروا حتى يموتوا‪ ،‬فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في‬
‫تلك الحال‪ ،‬التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات‪َ { ،‬فعَلِمَ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ } من اليمان‪،‬‬
‫سكِينَةَ عَلَ ْيهِمْ } شكرا لهم على ما في قلوبهم‪ ،‬زادهم هدى‪ ،‬وعلم ما في قلوبهم من‬
‫{ فَأَنْ َزلَ ال ّ‬
‫الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله‪ ،‬فأنزل عليهم السكينة تثبتهم‪،‬‬
‫وتطمئن بها قلوبهم‪ { ،‬وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وهو‪ :‬فتح خيبر‪ ،‬لم يحضره سوى أهل الحديبية‪،‬‬
‫فاختصوا بخيبر وغنائمها‪ ،‬جزاءا لهم‪ ،‬وشكرا على ما فعلوه من طاعة ال تعالى والقيام‬
‫بمرضاته‪.‬‬

‫حكِيمًا } أي‪ :‬له العزة والقدرة‪ ،‬التي قهر بها الشياء‪،‬‬


‫{ َو َمغَانِمَ كَثِي َرةً يَ ْأخُذُو َنهَا َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ‬
‫فلو شاء لنتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين‪ ،‬ولكنه حكيم‪ ،‬يبتلي بعضهم‬
‫ببعض‪ ،‬ويمتحن المؤمن بالكافر‪.‬‬

‫خذُو َنهَا } وهذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمين إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫{ وَعَ َد ُكمُ اللّهُ َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَأْ ُ‬
‫جلَ َلكُمْ َه ِذهِ } أي‪ :‬غنيمة خيبر أي‪ :‬فل تحسبوها وحدها‪ ،‬بل ثم شيء كثير من الغنائم‬
‫{ َف َع ّ‬
‫سيتبعها‪ { ،‬و } احمدوا ال إذ { كف أَيْدِي النّاسِ } القادرين على قتالكم‪ ،‬الحريصين عليه { عَ ْنكُمْ }‬
‫فهي نعمة‪ ،‬وتخفيف عنكم‪.‬‬

‫{ وَلِ َتكُونَ } هذه الغنيمة { آ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } يستدلون بها على خبر ال الصادق‪ ،‬ووعده الحق‪،‬‬
‫وثوابه للمؤمنين‪ ،‬وأن الذي قدرها سيقدر غيرها‪ { ،‬وَ َيهْدِ َيكُمْ } بما يقيض لكم من السباب‬
‫{ صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا } من العلم واليمان والعمل‪.‬‬

‫{ وَُأخْرَى } أي‪ :‬وعدكم أيضا غنيمة أخرى { َلمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا } وقت هذا الخطاب‪ { ،‬قَدْ َأحَاطَ اللّهُ‬
‫ِبهَا } أي‪ :‬هو قادر عليها‪ ،‬وتحت تدبيره وملكه‪ ،‬وقد وعدكموها‪ ،‬فل بد من وقوع ما وعد به‪،‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرًا }‬
‫لكمال اقتدار ال تعالى‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫ن وَلِيّا وَلَا َنصِيرًا * سُنّةَ اللّهِ الّتِي‬


‫{ ‪ { } 22-23‬وََلوْ قَاتََل ُكمُ الّذِينَ كَفَرُوا َلوَّلوُا الْأَدْبَارَ ُثمّ لَا َيجِدُو َ‬
‫قَدْ خََلتْ مِنْ قَ ْبلُ وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلًا }‬

‫هذه بشارة من ال لعباده المؤمنين‪ ،‬بنصرهم على أعدائهم الكافرين‪ ،‬وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم‬
‫جدُونَ وَلِيّا } يتولى أمرهم‪ { ،‬وَلَا َنصِيرًا } ينصرهم ويعينهم على قتالكم‪ ،‬بل‬
‫{ َلوَّلوُا الَْأدْبَارَ ثُمّ لَا يَ ِ‬
‫هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة ال في المم السابقة‪ ،‬أن جند ال هم الغالبون‪ { ،‬وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ‬
‫اللّهِ تَ ْبدِيلًا }‬

‫ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِمْ‬


‫{ ‪ { } 24-25‬وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَ ْنكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ عَ ْنهُمْ بِ َبطْنِ َمكّةَ مِنْ َبعْدِ أَنْ أَ ْ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفًا أَنْ‬
‫َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرًا * ُهمُ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫يَبْلُغَ َمحِلّ ُه وََلوْلَا رِجَالٌ ُم ْؤمِنُونَ وَنِسَاءٌ ُم ْؤمِنَاتٌ لَمْ َتعَْلمُوهُمْ أَنْ َتطَئُوهُمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ‬
‫حمَتِهِ مَنْ َيشَاءُ َلوْ تَزَيّلُوا َل َعذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }‬
‫خلَ اللّهُ فِي رَ ْ‬
‫عِلْمٍ لِ ُيدْ ِ‬

‫يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية‪ ،‬من شر الكفار ومن قتالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ }‬
‫ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِمْ } أي‪ :‬من بعد ما قدرتم‬
‫أي‪ :‬أهل مكة { عَ ْن ُك ْم وَأَيْدِ َيكُمْ عَ ْن ُهمْ بِبَطْنِ َمكّةَ مِنْ َبعْدِ أَنْ َأ ْ‬
‫عليهم‪ ،‬وصاروا تحت وليتكم بل عقد ول عهد‪ ،‬وهم نحو ثمانين رجل‪ ،‬انحدروا على المسلمين‬
‫ليصيبوا منهم غرة‪ ،‬فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم‪ ،‬فتركوهم ولم يقتلوهم‪ ،‬رحمة من ال‬
‫بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم‪َ { ،‬وكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرًا } فيجازي كل عامل بعمله‪ ،‬ويدبركم أيها‬
‫المؤمنون بتدبيره الحسن‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى المور المهيجة على قتال المشركين‪ ،‬وهي كفرهم بال ورسوله‪ ،‬وصدهم رسول ال‬
‫ومن معه من المؤمنين‪ ،‬أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة‪ ،‬وهم الذين‬
‫أيضا صدوا { الهدي َم ْعكُوفًا } أي‪ :‬محبوسا { أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ } وهو محل ذبحه وهو مكة‪ ،‬فمنعوه‬
‫من الوصول إليه ظلما وعدوانا‪ ،‬وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم‪ ،‬ولكن ثم مانع وهو‪:‬‬
‫وجود رجال ونساء من أهل اليمان بين أظهر المشركين‪ ،‬وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن‬
‫أن ل ينالهم أذى‪ ،‬فلول هؤلء الرجال المؤمنون‪ ،‬والنساء المؤمنات‪ ،‬الذين ل يعلمهم المسلمون أن‬
‫تطأوهم‪ ،‬أي‪ :‬خشية أن تطأوهم { فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ } والمعرة‪ :‬ما يدخل تحت قتالهم‪،‬‬
‫من نيلهم بالذى والمكروه‪ ،‬وفائدة أخروية‪ ،‬وهو‪ :‬أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم‬
‫باليمان بعد الكفر‪ ،‬وبالهدى بعد الضلل‪ ،‬فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب‪.‬‬

‫{ َلوْ تَزَيّلُوا } أي‪ :‬لو زالوا من بين أظهرهم { َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } بأن نبيح لكم‬
‫قتالهم‪ ،‬ونأذن فيه‪ ،‬وننصركم عليهم‪.‬‬

‫علَى َرسُولِهِ‬
‫سكِينَتَهُ َ‬
‫حمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ‬
‫حمِيّةَ َ‬
‫ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل َ‬
‫{ ‪ِ { } 26‬إذْ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمًا }‬
‫ن وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى َوكَانُوا َأحَقّ ِبهَا وَأَهَْلهَا َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬

‫حمِيّةَ ا ْلجَاهِلِيّةِ } حيث أنفوا من كتابة { بسم‬


‫حمِيّةَ َ‬
‫ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ الْ َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬إِذْ َ‬
‫ال الرحمن الرحيم } وأنفوا من دخول رسول ال صلى ال عليه وسلم والمؤمنين إليهم في تلك‬
‫السنة‪ ،‬لئل يقول الناس‪ { :‬دخلوا مكة قاهرين لقريش } وهذه المور ونحوها من أمور الجاهلية‪،‬‬
‫سكِينَتَهُ عَلَى‬
‫لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت من كثير من المعاصي‪ { ،‬فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ‬
‫رَسُولِ ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به‪ ،‬بل صبروا‬
‫لحكم ال‪ ،‬والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات ال ولو كانت ما كانت‪ ،‬ولم يبالوا بقول‬
‫القائلين‪ ،‬ول لوم اللئمين‪.‬‬

‫{ وَأَلْ َز َمهُمْ كَِل َمةَ ال ّت ْقوَى } وهي { ل إله إل ال } وحقوقها‪ ،‬ألزمهم القيام بها‪ ،‬فالتزموها وقاموا‬
‫حقّ ِبهَا } من غيرهم { و } كانوا { أهلها } الذين استأهلوها لما يعلم ال عندهم وفي‬
‫بها‪َ { ،‬وكَانُوا أَ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمًا }‬
‫قلوبهم من الخير‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ‬

‫سجِدَ ا ْلحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ‬


‫خلُنّ ا ْلمَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 27-28‬لقَ ْد صَ َدقَ اللّهُ رَسُولَهُ ال ّرؤْيَا بِا ْلحَقّ لَتَدْ ُ‬
‫ج َعلَ مِنْ دُونِ َذِلكَ فَتْحًا قَرِيبًا * ُهوَ‬
‫سكُمْ َومُ َقصّرِينَ لَا تَخَافُونَ َفعَلِمَ مَا َلمْ َتعَْلمُوا فَ َ‬
‫مُحَّلقِينَ رُءُو َ‬
‫شهِيدًا }‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ َوكَفَى بِاللّهِ َ‬
‫حقّ لِ ُي ْ‬
‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْلهُدَى َودِينِ الْ َ‬
‫الّذِي أَ ْر َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬لقَ ْد صَ َدقَ اللّهُ رَسُولَهُ ال ّرؤْيَا بِا ْلحَقّ } وذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى‬
‫في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه‪ ،‬أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت‪ ،‬فلما جرى يوم الحديبية‬
‫ما جرى‪ ،‬ورجعوا من غير دخول لمكة‪ ،‬كثر في ذلك الكلم منهم‪ ،‬حتى إنهم قالوا ذلك لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال‪ " :‬أخبرتكم أنه العام؟" قالوا‪:‬‬
‫حقّ } أي‪ :‬ل‬
‫ل‪ ،‬قال‪" :‬فإنكم ستأتونه وتطوفون به" قال ال هنا‪َ { :‬لقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُوَلهُ ال ّرؤْيَا بِالْ َ‬
‫سجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ‬
‫بد من وقوعها وصدقها‪ ،‬ول يقدح في ذلك تأخر تأويلها‪ { ،‬لَتَ ْدخُلُنّ ا ْلمَ ْ‬
‫سكُ ْم َومُ َقصّرِينَ } أي‪ :‬في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام‪،‬‬
‫حّلقِينَ ُرءُو َ‬
‫آمِنِينَ مُ َ‬
‫وأدائكم للنسك‪ ،‬وتكميله بالحلق والتقصير‪ ،‬وعدم الخوف‪َ { ،‬فعَِلمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ‬
‫ج َعلَ مِنْ دُونِ ذَِلكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }‬
‫َتعَْلمُوا َف َ‬

‫ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين‪ ،‬وخفيت عليهم حكمتها‪ ،‬فبين تعالى‬
‫حكمتها ومنفعتها‪ ،‬وهكذا سائر أحكامه الشرعية‪ ،‬فإنها كلها‪ ،‬هدى ورحمة‪.‬‬

‫سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَى } الذي هو العلم النافع‪ ،‬الذي يهدي من‬
‫أخبر بحكم عام‪ ،‬فقال‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫الضللة‪ ،‬ويبين طرق الخير والشر‪.‬‬

‫حقّ } أي‪ :‬الدين الموصوف بالحق‪ ،‬وهو العدل والحسان والرحمة‪.‬‬


‫{ وَدِينِ الْ َ‬

‫وهو كل عمل صالح مزك للقلوب‪ ،‬مطهر للنفوس‪ ،‬مرب للخلق‪ ،‬معل للقدار‪.‬‬

‫ظهِ َرهُ } بما بعثه ال به { عَلَى الدّينِ كُلّهِ } بالحجة والبرهان‪ ،‬ويكون داعيا لخضاعهم بالسيف‬
‫{ لِ ُي ْ‬
‫والسنان‪.‬‬

‫حمَاءُ بَيْ َنهُمْ تَرَاهُمْ ُر ّكعًا سُجّدًا يَبْ َتغُونَ‬


‫حمّدٌ رَسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّاءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫{ ‪ُ { } 29‬م َ‬
‫ضوَانًا سِيمَا ُهمْ فِي ُوجُو ِههِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة َومَثَُلهُمْ فِي‬
‫َفضْلًا مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫جبُ الزّرّاعَ لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْل ُكفّارَ‬
‫الْإِنْجِيلِ كَزَ ْرعٍ أَخْرَجَ شَطَْأهُ فَآزَ َرهُ فَاسْ َتغْلَظَ فَاسْ َتوَى عَلَى سُوقِهِ ُي ْع ِ‬
‫عظِيمًا }‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ مِ ْن ُهمْ َمغْفِ َر ًة وَأَجْرًا َ‬
‫وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬

‫يخبر تعالى عن رسوله صلى ال عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والنصار‪ ،‬أنهم بأكمل‬
‫الصفات‪ ،‬وأجل الحوال‪ ،‬وأنهم { َأشِدّاءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ } أي‪ :‬جادون ومجتهدون في عداوتهم‪،‬‬
‫وساعون في ذلك بغاية جهدهم‪ ،‬فلم يروا منهم إل الغلظة والشدة‪ ،‬فلذلك ذل أعداؤهم لهم‪،‬‬
‫حمَاءُ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬متحابون متراحمون متعاطفون‪ ،‬كالجسد‬
‫وانكسروا‪ ،‬وقهرهم المسلمون‪ُ { ،‬ر َ‬
‫الواحد‪ ،‬يحب أحدهم لخيه ما يحب لنفسه‪ ،‬هذه معاملتهم مع الخلق‪ ،‬وأما معاملتهم مع الخالق فإنك‬
‫سجّدًا } أي‪ :‬وصفهم كثرة الصلة‪ ،‬التي أجل أركانها الركوع والسجود‪.‬‬
‫{ تَرَاهُمْ ُر ّكعًا ُ‬

‫ضوَانًا } أي‪ :‬هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم‪،‬‬


‫{ يَبْ َتغُونَ } بتلك العبادة { َفضْلًا مِنَ اللّهِ وَرِ ْ‬
‫والوصول إلى ثوابه‪.‬‬

‫{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } أي‪ :‬قد أثرت العبادة ‪-‬من كثرتها وحسنها‪ -‬في‬
‫وجوههم‪ ،‬حتى استنارت‪ ،‬لما استنارت بالصلة بواطنهم‪ ،‬استنارت [بالجلل] ظواهرهم‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } المذكور { مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَاةِ } أي‪ :‬هذا وصفهم الذي وصفهم ال به‪ ،‬مذكور بالتوراة‬
‫هكذا‪.‬‬

‫وأما مثلهم في النجيل‪ ،‬فإنهم موصوفون بوصف آخر‪ ،‬وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَ ْرعٍ أَخْرَجَ‬
‫شطَْأهُ فَآزَ َرهُ } أي‪ :‬أخرج فراخه‪ ،‬فوازرته فراخه في الشباب والستواء‪.‬‬
‫َ‬

‫جبُ الزّرّاعَ }‬
‫{ فَاسْ َتغْلَظَ } ذلك الزرع أي‪ :‬قوي وغلظ { فَاسْ َتوَى عَلَى سُوقِهِ } جمع ساق‪ُ { ،‬يعْ ِ‬
‫من كماله واستوائه‪ ،‬وحسنه واعتداله‪ ،‬كذلك الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬هم كالزرع في نفعهم‬
‫للخلق واحتياج الناس إليهم‪ ،‬فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه‪ ،‬وكون‬
‫الصغير والمتأخر إسلمه‪ ،‬قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه‪ ،‬من إقامة دين‬
‫ال والدعوة إليه‪ ،‬كالزرع الذي أخرج شطأه‪ ،‬فآزره فاستغلظ‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْلكُفّارَ }‬
‫حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم‪ ،‬وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال‪ ،‬ومعامع‬
‫القتال‪.‬‬

‫عظِيمًا } فالصحابة رضي ال عنهم‪،‬‬


‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ مِ ْنهُمْ َم ْغفِ َرةً وَأَجْرًا َ‬
‫{ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح‪ ،‬قد جمع ال لهم بين المغفرة‪ ،‬التي من لوازمها وقاية‬
‫شرور الدنيا والخرة‪ ،‬والجر العظيم في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫ولنسق قصة الحديبية بطولها‪ ،‬كما ساقها المام شمس الدين ابن القيم في { الهدي النبوي } فإن‬
‫فيها إعانة على فهم هذه السورة‪ ،‬وتكلم على معانيها وأسرارها‪ ،‬قال ‪-‬رحمه ال تعالى‪-:‬‬

‫فصل في قصة الحديبية‬

‫قال نافع‪ :‬كانت سنة ست في ذي القعدة‪ ،‬وهذا هو الصحيح‪ ،‬وهو قول الزهري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وموسى‬
‫بن عقبة‪ ،‬ومحمد بن إسحاق وغيرهم‪.‬‬
‫وقال هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ :‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان‪،‬‬
‫وكانت في شوال‪ ،‬وهذا وهم‪ ،‬وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان‪ .‬قال أبو السود عن عروة‪ :‬إنها‬
‫كانت في ذي القعدة على الصواب‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن أنس‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم اعتمر أربع عمر‪ ،‬كلهن في ذي القعدة‪،‬‬
‫فذكر منهن عمرة الحديبية‪ ،‬وكان معه ألف وخمسمائة‪ ،‬هكذا في الصحيحين عن جابر‪ ،‬وعنه‬
‫فيهما‪ :‬كانوا ألفا وأربعمائة‪ ،‬وفيهما‪ ،‬عن عبد ال بن أبي أوفى‪ :‬كنا ألفا وثلثمائة‪ ،‬قال قتادة‪ :‬قلت‬
‫لسعيد بن المسيب‪ :‬كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال‪ :‬خمس عشرة مائة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فإن جابر بن عبد ال قال‪ :‬كانوا أربع عشرة مائة‪ ،‬قال‪ :‬يرحمه ال وهم‪ ،‬وهو حدثني أنهم‬
‫كانوا خمس عشرة مائة‪ ،‬قلت‪ :‬وقد صح عن جابر القولن‪ ،‬وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية‬
‫سبعين بدنة‪ ،‬البدنة عن سبعة‪ ،‬فقيل له‪ :‬كم كنتم؟ قال‪ :‬ألفا وأربعمائة‪ ،‬بخيلنا ورجلنا‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫فارسهم وراجلهم‪.‬‬

‫والقلب إلى هذا أميل‪ ،‬وهو قول البراء بن عازب‪ ،‬ومعقل بن يسار‪ ،‬وسلمة بن الكوع‪ ،‬في أصح‬
‫الروايتين‪ ،‬وقول المسيب بن حزن‪ ،‬قال شعبة‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن سعيد بن المسيب‪ ،‬عن أبيه‪ :‬كنا مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة‪ ،‬وغلط غلطا بينا من قال‪ :‬كانوا‬
‫سبعمائة‪ ،‬وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة‪ ،‬والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة‪،‬‬
‫وهذا ل يدل على ما قاله هذا القائل‪ ،‬فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة‪ ،‬فلو‬
‫كانت السبعون عن جميعهم‪ ،‬لكانوا أربعمائة وتسعين رجل‪ ،‬وقد قال بتمام الحديث بعينه‪ ،‬أنهم‬
‫كانوا ألفا وأربعمائة‪.‬‬

‫فصل‬

‫فلما كانوا بذي الحليفة‪ ،‬قلد رسول ال صلى ال عليه وسلم الهدي وأشعره‪ ،‬وأحرم بالعمرة‪ ،‬وبعث‬
‫عينا له بين يديه من خزاعة‪ ،‬يخبره عن قريش‪ ،‬حتى إذا كانوا قريبا من عسفان‪ ،‬أتاه عينه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إني قد تركت كعب بن لؤي‪ ،‬قد جمعوا لك الحابيش‪ ،‬وجمعوا لك جموعا‪ ،‬وهم مقاتلوك وصادوك‬
‫عن البيت‪.‬‬

‫واستشار النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه‪ :‬أترون أن نميل إلى ذراري هؤلء الذين أعانوهم‬
‫فنصيبهم‪ ،‬فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين‪ ،‬وإن نجوا تكن عنقا قطعها ال‪ ،‬أم ترون أن نؤم‬
‫البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر‪ :‬ال ورسوله أعلم‪ ،‬إنما جئنا معتمرين‪ ،‬ولم نجئ لقتال‬
‫أحد‪ ،‬ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬فروحوا إذا"‬
‫فراحوا‪ ،‬حتى إذا كانوا ببعض الطريق‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬إن خالد بن الوليد بالغميم‬
‫في خيل لقريش‪ ،‬فخذوا ذات اليمين" ‪ ،‬فوال ما شعر بهم خالد‪ ،‬حتى إذا هو بغبرة الجيش‪ ،‬فانطلق‬
‫يركض نذيرا لقريش‪.‬‬

‫وسار النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها‪ ،‬بركت راحلته‪ ،‬فقال‬
‫الناس‪ :‬حل حل‪ ،‬فألحت‪ ،‬فقالوا‪ :‬خلت القصواء‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬ما خلت‬
‫القصواء‪ ،‬وما ذاك لها بخلق‪ ،‬ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال‪" :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ل يسألوني‬
‫خطة يعظمون فيها حرمات ال إل أعطيتموها" ثم زجرها‪ ،‬فوثبت به‪ ،‬فعدل حتى نزل بأقصى‬
‫الحديبية‪ ،‬على ثمد قليل الماء‪ ،‬إنما يتبرضه الناس تبرضا‪ ،‬فلم يلبث الناس أن نزحوه‪ ،‬فشكوا إلى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم العطش‪.‬‬

‫فانتزع سهما من كنانته‪ ،‬ثم أمرهم أن يجعلوها فيه‪ ،‬قال‪ :‬فوال ما زال يجيش لهم بالري حتى‬
‫صدروا عنها‪ ،‬وفزعت قريش لنزوله عليهم‪ ،‬فأحب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبعث إليهم‬
‫رجل من أصحابه‪ ،‬فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ليس بمكة أحد من‬
‫بني كعب يغضب لي‪ ،‬إن أوذيت‪ ،‬فأرسل عثمان بن عفان‪ ،‬فإن عشيرته بها‪ ،‬وإنه مبلغ ما أردت‪.‬‬

‫فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عثمان بن عفان‪ ،‬فأرسله إلى قريش‪ ،‬وقال‪" :‬أخبرهم أنا لم‬
‫نأت لقتال‪ ،‬إنما جئنا عمارا‪ ،‬وادعهم إلى السلم"‬

‫وأمره أن يأتي رجال بمكة مؤمنين‪ ،‬ونساء مؤمنات‪ ،‬فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح‪ ،‬ويخبرهم أن‬
‫ال عز وجل مظهر دينه بمكة‪ ،‬حتى ل يستخفى فيها باليمان‪ ،‬فانطلق عثمان‪ ،‬فمر على قريش‬
‫ببلدح‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين تريد؟ فقال‪ :‬بعثني رسول ال صلى ال عليه وسلم أدعوكم إلى ال وإلى‬
‫السلم‪ ،‬ونخبركم أنا لم نأت لقتال‪ ،‬وإنما جئنا عمارا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد سمعنا ما تقول‪ ،‬فانفذ لحاجتك‪.‬‬

‫وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص‪ ،‬فرحب به‪ ،‬وأسرج فرسه‪ ،‬فحمل عثمان على الفرس‪ ،‬فأجاره‪،‬‬
‫وأردفه أبان حتى جاء مكة‪ ،‬وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان‪ :‬خلص عثمان قبلنا إلى البيت‬
‫وطاف به‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون" فقالوا‪:‬‬
‫وما يمنعه يا رسول ال وقد خلص؟ قال‪" :‬ذاك ظني به‪ ،‬أن ل يطوف بالكعبة حتى نطوف معه"‬
‫واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح‪ ،‬فرمى رجل من أحد الفريقين رجل من الفريق‬
‫الخر‪ ،‬وكانت معركة‪ ،‬وتراموا بالنبل والحجارة‪ ،‬وصاح الفريقان كلهما‪ ،‬وارتهن كل واحد من‬
‫الفريقين بمن فيهم‪ ،‬وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم أن عثمان قد قتل‪ ،‬فدعا إلى البيعة‪.‬‬

‫فثار المسلمون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو تحت الشجرة‪ ،‬فبايعوه على أن ل يفروا‪،‬‬
‫فأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم بيد نفسه‪ ،‬وقال‪" :‬هذه عن عثمان" ولما تمت البيعة‪ ،‬رجع‬
‫عثمان‪ ،‬فقال له المسلمون‪ :‬اشتفيت يا أبا عبد ال من الطواف بالبيت‪ ،‬فقال‪ :‬بئسما ظننتم بي‪،‬‬
‫والذي نفسي بيده‪ ،‬لو مكثت بها سنة‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مقيم بالحديبية‪ ،‬ما طفت‬
‫بها حتى يطوف بها رسول ال صلى ال عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت‪،‬‬
‫فقال المسلمون‪ :‬رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كان أعلمنا بال‪ ،‬وأحسننا ظنا‪.‬‬

‫وكان عمر أخذ بيد رسول ال صلى ال عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة‪ ،‬فبايعه المسلمون كلهم إل‬
‫الجد ابن قيس‪ ،‬وكان معقل بن يسار‪ ،‬أخذ بغصنها يرفعه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وكان أول من بايعه‪ ،‬أبو سنان السدي‪ ،‬وبايعه سلمة بن الكوع ثلث مرات‪ ،‬في أول الناس‪،‬‬
‫وأوسطهم‪ ،‬وآخرهم‪.‬‬

‫فبينما هم كذلك‪ ،‬إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي‪ ،‬في نفر من خزاعة‪ ،‬وكانوا عيبة نصح لرسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من أهل تهامة‪ ،‬فقال‪ :‬إني تركت كعب بن لؤي‪ ،‬وعامر بن لؤي‪ ،‬نزلوا‬
‫أعداد مياه الحديبية‪ ،‬معهم العوذ المطافيل‪ ،‬وهم مقاتلوك‪ ،‬وصادوك عن البيت‪.‬‬

‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنا لم نجئ لقتال أحد‪ ،‬ولكن جئنا معتمرين‪ ،‬وإن قريشا قد‬
‫نهكتهم الحرب وأضرت بهم‪ ،‬فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس‪ ،‬وإن شاءوا أن يدخلوا‬
‫فيما دخل فيه الناس فعلوا‪ ،‬وإل فقد جموا‪ ،‬وإن أبوا إل القتال‪ ،‬فوالذي نفسي بيده‪ ،‬لقاتلنهم على‬
‫أمري هذا حتى تنفرد سالفتي‪ ،‬أو لينفذن ال أمره" قال بديل‪ :‬سأبلغهم ما تقول‪.‬‬

‫فانطلق حتى أتى قريشا‪ ،‬فقال‪ :‬إني قد جئتكم من عند هذا الرجل‪ ،‬وسمعته يقول قول‪ ،‬فإن شئتم‬
‫عرضته عليكم‪ ،‬فقال سفهاؤهم‪ :‬ل حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء‪ ،‬وقال ذوو الرأي‪ :‬منهم‪ :‬هات‬
‫ما سمعته‪ ،‬قال‪ :‬سمعته يقول كذا وكذا‪ ،‬فقال عروة بن مسعود الثقفي‪ :‬إن هذا قد عرض عليكم‬
‫خطة رشد‪ ،‬فاقبلوها‪ ،‬ودعوني آته‪ ،‬فقالوا‪ :‬ائته‪ ،‬فأتاه‪ ،‬فجعل يكلمه‪ ،‬فقال له النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم نحوا من قوله لبديل‪ ،‬فقال له عروة عند ذلك‪ :‬أي‪ :‬محمد‪ ،‬أرأيت لو استأصلت قومك‪ ،‬هل‬
‫سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الخرى‪ ،‬فوال إني لرى وجوها‪ ،‬وأرى‬
‫أوباشا من الناس‪ ،‬خليقا أن يفروا ويدعوك‪ ،‬فقال له أبو بكر‪ :‬امصص بظر اللت‪ ،‬أنحن نفر عنه‬
‫وندعه؟ قال‪ :‬من ذا؟ قال‪ :‬أبو بكر‪ ،‬قال‪ :‬أما والذي نفسي بيده‪ ،‬لول يد كانت لك عندي لم أجزك‬
‫بها‪ ،‬لجبتك‪.‬‬

‫وجعل يكلم النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكلما كلمه أخذ بلحيته‪ ،‬والمغيرة بن شعبة على رأس‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومعه السيف‪ ،‬وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ضرب يده بنعل السيف‪ ،‬وقال‪ :‬أخر يدك عن لحية رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فرفع عروة رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬من ذا؟ قال‪ :‬المغيرة بن شعبة‪ ،‬فقال‪ :‬أي‪ :‬غدر‪ ،‬أولست أسعى‬
‫في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية‪ ،‬فقتلهم وأخذ أموالهم‪ ،‬ثم جاء فأسلم‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬أما السلم فأقبل‪ ،‬وأما المال فلست منه في شيء"‬

‫ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فوال إن تنخم النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم نخامة‪ ،‬إل وقعت في كف رجل منهم‪ ،‬فدلك بها جلده ووجهه‪.‬‬

‫وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره‪ ،‬وإذا توضأ‪ ،‬كادوا يقتتلون على وضوئه‪ ،‬وإذا تكلم‪ ،‬خفضوا‬
‫أصواتهم عنده‪ ،‬وما يحدون إليه النظر‪ ،‬تعظيما له‪.‬‬

‫فرجع عروة إلى أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬أي قوم‪ ،‬وال لقد وفدت على الملوك‪ ،‬على كسرى‪ ،‬وقيصر‪،‬‬
‫والنجاشي‪ ،‬وال ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه‪ ،‬ما يعظم أصحاب محمد محمدا‪ ،‬وال ما تنخم‬
‫نخامة إل وقعت في كف رجل منهم‪ ،‬فدلك بها وجهه وجلده‪ ،‬وإذا أمرهم ابتدروا أمره‪ ،‬وإذا توضأ‬
‫كادوا يقتتلون على وضوئه‪ ،‬وإذا تكلم‪ ،‬خفضوا أصواتهم عنده‪ ،‬وما يحدون إليه النظر تعظيما له‪،‬‬
‫وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها‪.‬‬

‫فقال رجل من بني كنانة‪ :‬دعوني آته‪ ،‬فقالوا‪ :‬ائته‪.‬‬

‫فلما أشرف على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬هذا فلن‪ ،‬وهو‬
‫من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثوها فاستقبله القوم يلبون‪ ،‬فلما رأى ذلك‪ ،‬قال‪ :‬سبحان ال‪،‬‬
‫ل ينبغي لهؤلء أن يصدوا عن البيت‪.‬‬

‫فرجع إلى أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬رأيت البدن قد قلدت وأشعرت‪ ،‬وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام‬
‫مكرز بن حفص‪ ،‬وقال‪ :‬دعوني آته‪ ،‬فقالوا‪ :‬ائته‪ ،‬فلما أشرف عليهم‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪" :‬هذا مكرز بن حفص‪ ،‬وهو رجل فاجر" فجعل يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبينا‬
‫هو يكلمه‪ ،‬إذ جاء سهيل بن عمرو‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬قد سهل لكم من أمركم"‬
‫فقال‪ :‬هات‪ ،‬اكتب بيننا وبينك كتابا‪ ،‬فدعا الكاتب‪ ،‬فقال‪" :‬اكتب‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم" فقال‬
‫سهيل‪ :‬أما الرحمن‪ ،‬فوال ما ندري ما هو‪ ،‬ولكن اكتب‪" :‬باسمك اللهم" كما كنت تكتب‪ ،‬فقال‬
‫المسلمون‪ :‬وال ل نكتبها إل بسم ال الرحمن الرحيم‪.‬‬

‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬اكتب باسمك اللهم"‬

‫ثم قال‪" :‬اكتب‪ :‬هذا ما قاضى عليه محمد رسول ال " فقال سهيل‪ :‬فوال لو نعلم أنك رسول ال‪،‬‬
‫ما صددناك عن البيت ول قاتلناك‪ ،‬ولكن اكتب‪ :‬محمد بن عبد ال‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪" :‬إني رسول ال وإن كذبتموني‪ ،‬اكتب‪ :‬محمد بن عبد ال " فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل‪ :‬وال ل تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة‪،‬‬
‫ولكن لك من العام المقبل‪ ،‬فكتب‪.‬‬

‫فقال سهيل‪ :‬على أن ل يأتيك منا رجل‪ ،‬وإن كان على دينك‪ ،‬إل رددته علينا‪.‬‬

‫فقال المسلمون‪ :‬سبحان ال‪ ،‬كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟‬

‫فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده‪ ،‬قد خرج من أسفل مكة‪ ،‬حتى رمى‬
‫بنفسه بين أظهر المسلمين‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه‪ ،‬أن ترده‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنا لم نقض الكتاب بعد" فقال‪ :‬فوال إذا ل أصالحك على شيء أبدا‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬فأجزه لي" فقال‪ :‬ما أنا بمجيزه‪ ،‬فقال‪" :‬بلى فافعل" قال‪ :‬ما أنا بفاعل‪،‬‬
‫قال مكرز‪ :‬قد أجزناه‪.‬‬

‫فقال أبو جندل‪ :‬يا معشر المسلمين‪ ،‬أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما‪ ،‬أل ترون ما لقيت؟ وكان‬
‫قد عذب في ال عذابا شديدا‪.‬‬

‫قال عمر بن الخطاب‪ :‬وال ما شككت منذ أسلمت إل يومئذ‪ ،‬فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول ال ألست نبي ال؟ قال‪" :‬بلى" قلت‪ :‬ألسنا على الحق‪ ،‬وعدونا على الباطل؟ قال‪:‬‬
‫"بلى" فقلت‪ :‬علم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم ال بيننا وبين أعدائنا؟ فقال‪" :‬إني‬
‫رسول ال‪ ،‬وهو ناصري‪ ،‬ولست أعصيه" قلت‪ :‬أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟‬
‫قال‪" :‬بلى‪ ،‬أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪" :‬فإنك آتيه ومطوف به"‬

‫قال‪ :‬فأتيت أبا بكر‪ ،‬فقلت له كما قلت لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورد عليه أبو بكر كما رد‬
‫عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم سواء‪ ،‬وزاد‪ :‬فاستمسك بغرزه حتى تموت‪ ،‬فوال إنه لعلى‬
‫الحق‪ ،‬قال عمر‪ :‬فعملت لذلك أعمال‪.‬‬

‫فلما فرغ من قضية الكتاب‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬قوموا وانحروا‪ ،‬ثم احلقوا"‬
‫فوال ما قام منهم رجل حتى قال ثلث مرات‪ ،‬فلما لم يقم منهم أحد‪ ،‬قام فدخل على أم سلمة‪،‬‬
‫فذكر لها ما لقي من الناس‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول ال أتحب ذلك؟ اخرج‪ ،‬ثم ل تكلم أحدا كلمة حتى‬
‫تنحر بدنك‪ ،‬وتدعو حالقك فيحلق لك‪ ،‬فقام فخرج‪ ،‬فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك‪ ،‬نحر بدنه‪،‬‬
‫ودعا حالقه فحلقه‪ ،‬فلما رأى الناس ذلك‪ ،‬قاموا فنحروا‪ ،‬وجعل بعضهم يحلق بعضا‪ ،‬حتى كاد‬
‫بعضهم يقتل بعضا غما‪ ،‬ثم جاءت نسوة مؤمنات‪ ،‬فأنزل ال عز وجل‪ِ { :‬إذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتُ‬
‫ُمهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك‪ ،‬فتزوج‬
‫إحداهما معاوية‪ ،‬والخرى صفوان بن أمية‪ ،‬ثم رجع إلى المدينة‪.‬‬

‫وفي مرجعه أنزل ال عليه‪ { :‬إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلى آخرها‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أفتح هو يا رسول‬
‫ال؟ فقال‪" :‬نعم" فقال الصحابة‪ :‬هنيئا لك يا رسول ال‪ ،‬فما لنا؟‬

‫سكِي َنةَ فِي قُلُوبِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬


‫فأنزل ال عز وجل‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَنْ َزلَ ال ّ‬

‫الية‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫وهذا آخر تفسير سورة الفتح ول الحمد والمنة‬

‫[وصلى ال على نبينا محمد وعلى آله وصحبه‪ ،‬نقلته من خط المفسر رحمه ال وعفا عنه‪ ،‬وكان‬
‫الفراغ من كتابته في ‪ 13‬ذي الحجة ‪ 1345‬وصلى ال على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين‪.‬‬

‫بقلم الفقير إلى ربه سليمان بن حمد العبد ال البسام‪ .‬غفر ال له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين‪.‬‬
‫وصلى ال على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد ل‬
‫الذي بنعمته تتم الصالحات]‬

‫المجلد الثامن من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان من به ال على عبده وابن عبده‬
‫وابن أمته عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال بن سعدي‪.‬‬

‫تفسير سورة الحجرات‬


‫وهي مدنية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُتقَ ّدمُوا بَيْنَ يَ َديِ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ّتقُوا اللّهَ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫جهَرُوا لَهُ‬
‫ي وَلَا تَ ْ‬
‫ص ْوتِ النّ ِب ّ‬
‫ق َ‬
‫صوَا َتكُمْ َفوْ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ ْر َفعُوا َأ ْ‬
‫إِنّ اللّهَ َ‬
‫صوَا َتهُمْ عِنْدَ‬
‫شعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ َي ُغضّونَ َأ ْ‬
‫عمَاُل ُك ْم وَأَنْتُمْ لَا َت ْ‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ أَنْ َتحْبَطَ أَ ْ‬
‫جهْرِ َب ْع ِ‬
‫بِا ْلقَ ْولِ كَ َ‬
‫رَسُولِ اللّهِ أُولَ ِئكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ لِل ّت ْقوَى َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ عَظِيمٌ }‬

‫هذا متضمن للدب‪ ،‬مع ال تعالى‪ ،‬ومع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والتعظيم له ‪ ،‬واحترامه‪،‬‬
‫وإكرامه‪ ،‬فأمر [ال] عباده المؤمنين‪ ،‬بما يقتضيه اليمان‪ ،‬بال وبرسوله‪ ،‬من امتثال أوامر ال‪،‬‬
‫واجتناب نواهيه‪ ،‬وأن يكونوا ماشين‪ ،‬خلف أوامر ال‪ ،‬متبعين لسنة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬في جميع أمورهم‪ ،‬و [أن] ل يتقدموا بين يدي ال ورسوله‪ ،‬ول يقولوا‪ ،‬حتى يقول‪ ،‬ول‬
‫يأمروا‪ ،‬حتى يأمر‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬حقيقة الدب الواجب‪ ،‬مع ال ورسوله‪ ،‬وهو عنوان سعادة العبد‬
‫وفلحه‪ ،‬وبفواته‪ ،‬تفوته السعادة البدية‪ ،‬والنعيم السرمدي‪ ،‬وفي هذا‪ ،‬النهي [الشديد] عن تقديم قول‬
‫غير الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬على قوله‪ ،‬فإنه متى استبانت سنة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وجب اتباعها‪ ،‬وتقديمها على غيرها‪ ،‬كائنا ما كان‬

‫ثم أمر ال بتقواه عمومًا‪ ،‬وهي كما قال طلق بن حبيب‪ :‬أن تعمل بطاعة ال‪ ،‬على نور من ال‪،‬‬
‫ترجو ثواب ال‪ ،‬وأن تترك معصية ال‪ ،‬على نور من ال‪ ،‬تخشى عقاب ال‪.‬‬

‫سمِيعٌ } أي‪ :‬لجميع الصوات في جميع الوقات‪ ،‬في خفي المواضع والجهات‪{ ،‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن‪ ،‬والسوابق واللواحق‪ ،‬والواجبات والمستحيلت والممكنات‬

‫وفي ذكر السمين الكريمين ‪-‬بعد النهي عن التقدم بين يدي ال ورسوله‪ ،‬والمر بتقواه‪ -‬حث‬
‫على امتثال تلك الوامر الحسنة‪ ،‬والداب المستحسنة‪ ،‬وترهيب عن عدم المتثال‬

‫جهَرُوا لَهُ بِا ْلقَ ْولِ }‬


‫ي وَلَا تَ ْ‬
‫صوْتِ النّ ِب ّ‬
‫ق َ‬
‫ثم قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ ْر َفعُوا َأصْوَا َتكُمْ َف ْو َ‬
‫وهذا أدب مع رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في خطابه‪ ،‬أي‪ :‬ل يرفع المخاطب له‪ ،‬صوته‬
‫معه‪ ،‬فوق صوته‪ ،‬ول يجهر له بالقول‪ ،‬بل يغض الصوت‪ ،‬ويخاطبه بأدب ولين‪ ،‬وتعظيم وتكريم‪،‬‬
‫وإجلل وإعظام‪ ،‬ول يكون الرسول كأحدهم‪ ،‬بل يميزوه في خطابهم‪ ،‬كما تميز عن غيره‪ ،‬في‬
‫وجوب حقه على المة‪ ،‬ووجوب اليمان به‪ ،‬والحب الذي ل يتم اليمان إل به‪ ،‬فإن في عدم القيام‬
‫بذلك‪ ،‬محذورًا‪ ،‬وخشية أن يحبط عمل العبد وهو ل يشعر‪ ،‬كما أن الدب معه‪ ،‬من أسباب‬
‫[حصول الثواب و] قبول العمال‪.‬‬

‫ثم مدح من غض صوته عند رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بأن ال امتحن قلوبهم للتقوى‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ابتلها واختبرها‪ ،‬فظهرت نتيجة ذلك‪ ،‬بأن صلحت قلوبهم للتقوى‪ ،‬ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم‪،‬‬
‫المتضمنة لزوال الشر والمكروه‪ ،‬والجر العظيم‪ ،‬الذي ل يعلم وصفه إل ال تعالى‪ ،‬وفي الجر‬
‫العظيم وجود المحبوب وفي هذا‪ ،‬دليل على أن ال يمتحن القلوب‪ ،‬بالمر والنهي والمحن‪ ،‬فمن‬
‫لزم أمر ال‪ ،‬واتبع رضاه‪ ،‬وسارع إلى ذلك‪ ،‬وقدمه على هواه‪ ،‬تمحض وتمحص للتقوى‪ ،‬وصار‬
‫قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك‪ ،‬علم أنه ل يصلح للتقوى‪.‬‬
‫ن وَرَاءِ ا ْلحُجُرَاتِ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َي ْعقِلُونَ * وََلوْ أَ ّن ُه ْم صَبَرُوا حَتّى‬
‫{ ‪ { } 4-5‬إِنّ الّذِينَ يُنَادُو َنكَ مِ ْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫تَخْرُجَ ِإلَ ْيهِمْ َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وَاللّهُ َ‬

‫نزلت هذه اليات الكريمة‪ ،‬في أناس من العراب‪ ،‬الذين وصفهم ال تعالى بالجفاء‪ ،‬وأنهم أجدر‬
‫أن ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله‪ ،‬قدموا وافدين على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فوجدوه في بيته وحجرات نسائه‪ ،‬فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج‪ ،‬بل نادوه‪ :‬يا محمد يا محمد‪،‬‬
‫[أي‪ :‬اخرج إلينا]‪ ،‬فذمهم ال بعدم العقل‪ ،‬حيث لم يعقلوا عن ال الدب مع رسوله واحترامه‪ ،‬كما‬
‫أن من العقل وعلمته استعمال الدب‪.‬‬

‫فأدب العبد‪ ،‬عنوان عقله‪ ،‬وأن ال مريد به الخير‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وََلوْ أَ ّنهُ ْم صَبَرُوا حَتّى َتخْرُجَ إِلَ ْيهِمْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } أي‪ :‬غفور لما صدر عن عباده من الذنوب‪ ،‬والخلل بالداب‪،‬‬
‫َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫رحيم بهم‪ ،‬حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلت‪.‬‬

‫جهَالَةٍ فَ ُتصْبِحُوا عَلَى مَا‬


‫سقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ ُتصِيبُوا َق ْومًا بِ َ‬
‫{ ‪ { } 6‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَا َءكُمْ فَا ِ‬
‫َفعَلْتُمْ نَا ِدمِينَ }‬

‫وهذا أيضًا‪ ،‬من الداب التي على أولي اللباب‪ ،‬التأدب بها واستعمالها‪ ،‬وهو أنه إذا أخبرهم فاسق‬
‫بخبر أن يتثبتوا في خبره‪ ،‬ول يأخذوه مجردًا‪ ،‬فإن في ذلك خطرًا كبيرًا‪ ،‬ووقوعًا في الثم‪ ،‬فإن‬
‫خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل‪ ،‬حكم بموجب ذلك ومقتضاه‪ ،‬فحصل من تلف النفوس‬
‫والموال‪ ،‬بغير حق‪ ،‬بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة‪ ،‬بل الواجب عند خبر الفاسق‪ ،‬التثبت‬
‫والتبين‪ ،‬فإن دلت الدلئل والقرائن على صدقه‪ ،‬عمل به وصدق‪ ،‬وإن دلت على كذبه‪ ،‬كذب‪ ،‬ولم‬
‫يعمل به‪ ،‬ففيه دليل‪ ،‬على أن خبر الصادق مقبول‪ ،‬وخبر الكاذب‪ ،‬مردود‪ ،‬وخبر الفاسق متوقف‬
‫فيه كما ذكرنا‪ ،‬ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج‪ ،‬المعروفين بالصدق‪ ،‬ولو‬
‫كانوا فساقًا‪.‬‬

‫{ ‪ { } 7-8‬وَاعَْلمُوا أَنّ فِيكُمْ َرسُولَ اللّهِ َلوْ يُطِي ُعكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الَْأمْرِ َلعَنِتّ ْم وََلكِنّ اللّهَ حَ ّببَ إِلَ ْيكُمُ‬
‫شدُونَ * َفضْلًا مِنَ‬
‫ن وَزَيّنَهُ فِي قُلُو ِبكُ ْم َوكَ ّرهَ ِإلَ ْيكُمُ ا ْل ُكفْرَ وَالْفُسُوقَ وَا ْل ِعصْيَانَ أُولَ ِئكَ ُهمُ الرّا ِ‬
‫الْإِيمَا َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫اللّ ِه وَ ِن ْعمَ ًة وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫أي‪ :‬ليكن لديكم معلومًا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بين أظهركم‪ ،‬وهو الرسول الكريم‪،‬‬
‫البار‪ ،‬الراشد‪ ،‬الذي يريد بكم الخير وينصح لكم‪ ،‬وتريدون لنفسكم من الشر والمضرة‪ ،‬ما ل‬
‫يوافقكم الرسول عليه‪ ،‬ولو يطيعكم في كثير من المر لشق عليكم وأعنتكم‪ ،‬ولكن الرسول‬
‫يرشدكم‪ ،‬وال تعالى يحبب إليكم اليمان‪ ،‬ويزينه في قلوبكم‪ ،‬بما أودع ال في قلوبكم من محبة‬
‫الحق وإيثاره‪ ،‬وبما ينصب على الحق من الشواهد‪ ،‬والدلة الدالة على صحته‪ ،‬وقبول القلوب‬
‫والفطر له‪ ،‬وبما يفعله تعالى بكم‪ ،‬من توفيقه للنابة إليه‪ ،‬ويكره إليكم الكفر والفسوق‪ ،‬أي‪ :‬الذنوب‬
‫الكبار‪ ،‬والعصيان‪ :‬هي ما دون ذلك من الذنوب بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر‪ ،‬وعدم‬
‫إرادة فعله‪ ،‬وبما نصبه من الدلة والشواهد على فساده‪ ،‬وعدم قبول الفطر له‪ ،‬وبما يجعله ال من‬
‫الكراهة في القلوب له‬

‫{ أُولَ ِئكَ } أي‪ :‬الذين زين ال اليمان في قلوبهم‪ ،‬وحببه إليهم‪ ،‬وكره إليهم الكفر والفسوق‬
‫شدُونَ } أي‪ :‬الذين صلحت علومهم وأعمالهم‪ ،‬واستقاموا على الدين القويم‪،‬‬
‫والعصيان { هُمُ الرّا ِ‬
‫والصراط المستقيم‪.‬‬

‫وضدهم الغاوون‪ ،‬الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬وكره إليهم اليمان‪ ،‬والذنب ذنبهم‪،‬‬
‫فإنهم لما فسقوا طبع ال على قلوبهم‪ ،‬ولما { زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } ولما لم يؤمنوا بالحق لما‬
‫جاءهم أول مرة‪ ،‬قلب ال أفئدتهم‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬فضْلًا مِنَ اللّ ِه وَ ِن ْعمَةً } أي‪ :‬ذلك الخير الذي حصل لهم‪ ،‬هو بفضل ال عليهم وإحسانه‪،‬‬
‫ل بحولهم وقوتهم‪.‬‬

‫حكِيمٌ } أي‪ :‬عليم بمن يشكر النعمة‪ ،‬فيوفقه لها‪ ،‬ممن ل يشكرها‪ ،‬ول تليق به‪ ،‬فيضع‬
‫{ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫فضله‪ ،‬حيث تقتضيه حكمته‪.‬‬

‫حدَا ُهمَا عَلَى الْأُخْرَى‬


‫{ ‪ { } 9-10‬وَإِنْ طَا ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فََأصْلِحُوا بَيْ َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إِ ْ‬
‫حبّ‬
‫َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأمْرِ اللّهِ فَإِنْ فَا َءتْ فََأصِْلحُوا بَيْ َن ُهمَا بِا ْل َع ْدلِ وََأقْسِطُوا إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫حمُونَ }‬
‫خوَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬
‫خ َوةٌ فََأصْلِحُوا بَيْنَ أَ َ‬
‫ا ْل ُمقْسِطِينَ * إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ إِ ْ‬

‫هذا متضمن لنهي المؤمنين‪[ ،‬عن] أن يبغي بعضهم على بعض‪ ،‬ويقاتل بعضهم بعضًا‪ ،‬وأنه إذا‬
‫اقتتلت طائفتان من المؤمنين‪ ،‬فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلفوا هذا الشر الكبير‪،‬‬
‫بالصلح بينهم‪ ،‬والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح‪ ،‬ويسلكوا الطريق الموصلة إلى‬
‫ذلك‪ ،‬فإن صلحتا‪ ،‬فبها ونعمت‪ ،‬وإن { َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا عَلَى الُْأخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ‬
‫إِلَى َأمْرِ اللّهِ } أي‪ :‬ترجع إلى ما حد ال ورسوله‪ ،‬من فعل الخير وترك الشر‪ ،‬الذي من أعظمه‪،‬‬
‫القتتال‪[ ،‬وقوله] { فَإِنْ فَا َءتْ فََأصْلِحُوا بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ } هذا أمر بالصلح‪ ،‬وبالعدل في الصلح‪ ،‬فإن‬
‫الصلح‪ ،‬قد يوجد‪ ،‬ولكن ل يكون بالعدل‪ ،‬بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين‪ ،‬فهذا ليس هو‬
‫الصلح المأمور به‪ ،‬فيجب أن ل يراعى أحدهما‪ ،‬لقرابة‪ ،‬أو وطن‪ ،‬أو غير ذلك من المقاصد‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ } أي‪ :‬العادلين في حكمهم‬
‫والغراض‪ ،‬التي توجب العدول عن العدل‪ { ،‬إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫بين الناس وفي جميع الوليات‪ ،‬التي تولوها‪ ،‬حتى إنه‪ ،‬قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله‪،‬‬
‫وعياله‪ ،‬في أدائه حقوقهم‪ ،‬وفي الحديث الصحيح‪" :‬المقسطون عند ال‪ ،‬على منابر من نور الذين‬
‫يعدلون في حكمهم وأهليهم‪ ،‬وما ولوا"‬

‫خ َوةٌ } هذا عقد‪ ،‬عقده ال بين المؤمنين‪ ،‬أنه إذا وجد من أي شخص كان‪ ،‬في‬
‫{ إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ إِ ْ‬
‫مشرق الرض ومغربها‪ ،‬اليمان بال‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬فإنه أخ للمؤمنين‪،‬‬
‫أخوة توجب أن يحب له المؤمنون‪ ،‬ما يحبون لنفسهم‪ ،‬ويكرهون له‪ ،‬ما يكرهون لنفسهم‪ ،‬ولهذا‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم آمرًا بحقوق الخوة اليمانية‪" :‬ل تحاسدوا‪ ،‬ول تناجشوا‪ ،‬ول‬
‫تباغضوا‪ ،‬ول يبع أحدكم على بيع بعض‪ ،‬وكونوا عباد ال إخوانًا المؤمن أخو المؤمن‪ ،‬ل يظلمه‪،‬‬
‫ول يخذله‪ ،‬ول يحقره"‬

‫وقال صلى ال عليه وسلم "المؤمن للمؤمن‪ ،‬كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك صلى ال عليه‬
‫وسلم بين أصابعه‪.‬‬

‫ولقد أمر ال ورسوله‪ ،‬بالقيام بحقوق المؤمنين‪ ،‬بعضهم لبعض‪ ،‬وبما به يحصل التآلف والتوادد‪،‬‬
‫والتواصل بينهم‪ ،‬كل هذا‪ ،‬تأييد لحقوق بعضهم على بعض‪ ،‬فمن ذلك‪ ،‬إذا وقع القتتال بينهم‪،‬‬
‫الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [وتدابرها]‪ ،‬فليصلح المؤمنون بين إخوانهم‪ ،‬وليسعوا فيما به‬
‫يزول شنآنهم‪.‬‬

‫ثم أمر بالتقوى عمومًا‪ ،‬ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى ال‪ ،‬الرحمة [ فقال‪َ { :‬لعَّلكُمْ‬
‫حمُونَ } وإذا حصلت الرحمة‪ ،‬حصل خير الدنيا والخرة‪ ،‬ودل ذلك‪ ،‬على أن عدم القيام بحقوق‬
‫تُرْ َ‬
‫المؤمنين‪ ،‬من أعظم حواجب الرحمة‪.‬‬

‫وفي هاتين اليتين من الفوائد‪ ،‬غير ما تقدم‪ :‬أن القتتال بين المؤمنين مناف للخوة اليمانية‪،‬‬
‫ولهذا‪ ،‬كان من أكبر الكبائر‪ ،‬وأن اليمان‪ ،‬والخوة اليمانية‪ ،‬ل تزول مع وجود القتال كغيره من‬
‫الذنوب الكبار‪ ،‬التي دون الشرك‪ ،‬وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬وعلى وجوب‬
‫الصلح‪ ،‬بين المؤمنين بالعدل‪ ،‬وعلى وجوب قتال البغاة‪ ،‬حتى يرجعوا إلى أمر ال‪ ،‬وعلى أنهم‬
‫لو رجعوا‪ ،‬لغير أمر ال‪ ،‬بأن رجعوا على وجه ل يجوز القرار عليه والتزامه‪ ،‬أنه ل يجوز‬
‫ذلك‪ ،‬وأن أموالهم معصومة‪ ،‬لن ال أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة‪ ،‬دون‬
‫أموالهم‪.‬‬

‫عسَى أَنْ َيكُونُوا خَيْرًا مِ ْنهُ ْم وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ‬


‫سخَرْ قَومٌ مِنْ َقوْمٍ َ‬
‫{ ‪ { } 11‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا يَ ْ‬
‫س ُك ْم وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَ ْلقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ ا ْلفُسُوقُ َبعْدَ الْإِيمَانِ‬
‫ن وَلَا تَ ْلمِزُوا أَ ْنفُ َ‬
‫عَسَى أَنْ َيكُنّ خَيْرًا مِ ْنهُ ّ‬
‫َومَنْ َلمْ يَ ُتبْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }‬

‫وهذا أيضًا‪ ،‬من حقوق المؤمنين‪ ،‬بعضهم على بعض‪ ،‬أن { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ َقوْمٍ } بكل كلم‪،‬‬
‫وقول‪ ،‬وفعل دال على تحقير الخ المسلم‪ ،‬فإن ذلك حرام‪ ،‬ل يجوز‪ ،‬وهو دال على إعجاب‬
‫الساخر بنفسه‪ ،‬وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر‪ ،‬كما هو الغالب والواقع‪ ،‬فإن‬
‫السخرية‪ ،‬ل تقع إل من قلب ممتلئ من مساوئ الخلق‪ ،‬متحل بكل خلق ذميم‪ ،‬ولهذا قال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم "بحسب امرئ من الشر‪ ،‬أن يحقر أخاه المسلم"‬

‫سكُمْ } أي‪ :‬ل يعب بعضكم على بعض‪ ،‬واللمز‪ :‬بالقول‪ ،‬والهمز‪ :‬بالفعل‪،‬‬
‫ثم قال‪ { :‬وَلَا تَ ْلمِزُوا أَ ْنفُ َ‬
‫وكلهما منهي عنه حرام‪ ،‬متوعد عليه بالنار‪.‬‬

‫كما قال تعالى‪ { :‬وَ ْيلٌ ِل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ُلمَ َزةٍ } الية‪ ،‬وسمي الخ المؤمن نفسًا لخيه‪ ،‬لن المؤمنين‬
‫ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد‪ ،‬ولنه إذا همز غيره‪ ،‬أوجب للغير أن يهمزه‪ ،‬فيكون‬
‫هو المتسبب لذلك‪.‬‬

‫{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَ ْلقَابِ } أي‪ :‬ل يعير أحدكم أخاه‪ ،‬ويلقبه بلقب ذم يكره أن يطلق عليه وهذا هو‬
‫التنابز‪ ،‬وأما اللقاب غير المذمومة‪ ،‬فل تدخل في هذا‪.‬‬

‫سمُ ا ْلفُسُوقُ َبعْدَ الْإِيمَانِ } أي‪ :‬بئسما تبدلتم عن اليمان والعمل بشرائعه‪ ،‬وما تقتضيه‪،‬‬
‫{ بِئْسَ الِا ْ‬
‫بالعراض عن أوامره ونواهيه‪ ،‬باسم الفسوق والعصيان‪ ،‬الذي هو التنابز باللقاب‪.‬‬

‫{ َومَنْ لَمْ يَ ُتبْ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } فهذا [هو] الواجب على العبد‪ ،‬أن يتوب إلى ال تعالى‪،‬‬
‫ويخرج من حق أخيه المسلم‪ ،‬باستحلله‪ ،‬والستغفار‪ ،‬والمدح له مقابلة [على] ذمه‪.‬‬

‫{ َومَنْ لَمْ يَ ُتبْ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } فالناس قسمان‪ :‬ظالم لنفسه غير تائب‪ ،‬وتائب مفلح‪ ،‬ول ثم‬
‫قسم ثالث غيرهما‪.‬‬
‫{ ‪ { } 12‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظّنّ إِنّ َب ْعضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسّسُوا وَلَا َيغْ َتبْ‬
‫ح ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ َلحْمَ َأخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُو ُه وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َتوّابٌ رَحِيمٌ }‬
‫حبّ أَ َ‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا أَيُ ِ‬
‫َب ْع ُ‬

‫نهى ال تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين‪ ،‬فـ { إِنّ َب ْعضَ الظّنّ إِثْمٌ } وذلك‪ ،‬كالظن‬
‫الخالي من الحقيقة والقرينة‪ ،‬وكظن السوء‪ ،‬الذي يقترن به كثير من القوال‪ ،‬والفعال المحرمة‪،‬‬
‫فإن بقاء ظن السوء بالقلب‪ ،‬ل يقتصر صاحبه على مجرد ذلك‪ ،‬بل ل يزال به‪ ،‬حتى يقول ما ل‬
‫ينبغي‪ ،‬ويفعل ما ل ينبغي‪ ،‬وفي ذلك أيضًا‪ ،‬إساءة الظن بالمسلم‪ ،‬وبغضه‪ ،‬وعداوته المأمور‬
‫بخلف ذلك منه‪.‬‬

‫{ وَلَا َتجَسّسُوا } أي‪ :‬ل تفتشوا عن عورات المسلمين‪ ،‬ول تتبعوها‪ ،‬واتركوا المسلم على حاله‪،‬‬
‫واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت‪ ،‬ظهر منها ما ل ينبغي‪.‬‬

‫ضكُمْ َب ْعضًا } والغيبة‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ { :‬ذكرك أخاك بما يكره‬
‫{ وَلَا َيغْ َتبْ َب ْع ُ‬
‫ولو كان فيه }‬

‫ح ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ َلحْمَ َأخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُوهُ } شبه أكل‬
‫حبّ أَ َ‬
‫ثم ذكر مثلً منفرًا عن الغيبة‪ ،‬فقال‪ { :‬أَ ُي ِ‬
‫لحمه ميتًا‪ ،‬المكروه للنفوس [غاية الكراهة]‪ ،‬باغتيابه‪ ،‬فكما أنكم تكرهون أكل لحمه‪ ،‬وخصوصًا‬
‫إذا كان ميتًا‪ ،‬فاقد الروح‪ ،‬فكذلك‪[ ،‬فلتكرهوا] غيبته‪ ،‬وأكل لحمه حيًا‪.‬‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َتوّابٌ رَحِيمٌ } والتواب‪ ،‬الذي يأذن بتوبة عبده‪ ،‬فيوفقه لها‪ ،‬ثم يتوب عليه‪،‬‬
‫بقبول توبته‪ ،‬رحيم بعباده‪ ،‬حيث دعاهم إلى ما ينفعهم‪ ،‬وقبل منهم التوبة‪ ،‬وفي هذه الية‪ ،‬دليل‬
‫على التحذير الشديد من الغيبة‪ ،‬وأن الغيبة من الكبائر‪ ،‬لن ال شبهها بأكل لحم الميت‪ ،‬وذلك من‬
‫الكبائر‪.‬‬

‫شعُوبًا َوقَبَا ِئلَ لِ َتعَا َرفُوا إِنّ َأكْ َر َمكُمْ‬


‫جعَلْنَاكُمْ ُ‬
‫{ ‪ { } 13‬يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُمْ مِنْ َذكَ ٍر وَأُنْثَى وَ َ‬
‫عِنْدَ اللّهِ أَ ْتقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }‬

‫يخبر تعالى أنه خلق بني آدم‪ ،‬من أصل واحد‪ ،‬وجنس واحد‪ ،‬وكلهم من ذكر وأنثى‪ ،‬ويرجعون‬
‫جميعهم إلى آدم وحواء‪ ،‬ولكن ال [تعالى] بث منهما رجالً كثيرا ونساء‪ ،‬وفرقهم‪ ،‬وجعلهم شعوبًا‬
‫وقبائل أي‪ :‬قبائل صغارًا وكبارًا‪ ،‬وذلك لجل أن يتعارفوا‪ ،‬فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه‪،‬‬
‫لم يحصل بذلك‪ ،‬التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون‪ ،‬والتوارث‪ ،‬والقيام بحقوق‬
‫القارب‪ ،‬ولكن ال جعلهم شعوبًا وقبائل‪ ،‬لجل أن تحصل هذه المور وغيرها‪ ،‬مما يتوقف على‬
‫التعارف‪ ،‬ولحوق النساب‪ ،‬ولكن الكرم بالتقوى‪ ،‬فأكرمهم عند ال‪ ،‬أتقاهم‪ ،‬وهو أكثرهم طاعة‬
‫وانكفافًا عن المعاصي‪ ،‬ل أكثرهم قرابة وقومًا‪ ،‬ول أشرفهم نسبًا‪ ،‬ولكن ال تعالى عليم خبير‪ ،‬يعلم‬
‫من يقوم منهم بتقوى ال‪ ،‬ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬ممن يقوم بذلك‪ ،‬ظاهرًا ل باطنًا‪ ،‬فيجازي كل‪ ،‬بما‬
‫يستحق‪.‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن معرفة النساب‪ ،‬مطلوبة مشروعة‪ ،‬لن ال جعلهم شعوبًا وقبائل‪،‬‬
‫لجل ذلك‪.‬‬

‫خلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ‬


‫{ ‪ { } 14-18‬قَاَلتِ الْأَعْرَابُ آمَنّا ُقلْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا وََلكِنْ قُولُوا أَسَْلمْنَا وََلمّا يَ ْد ُ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ‬
‫عمَاِلكُمْ شَيْئًا إِنّ اللّهَ َ‬
‫وَإِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِ ْتكُمْ مِنْ أَ ْ‬
‫سهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ ُهمُ الصّا ِدقُونَ *‬
‫آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ َلمْ يَرْتَابُوا وَجَا َهدُوا بَِأ ْموَاِلهِ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫شيْءٍ عَلِيم * َيمُنّونَ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫ُقلْ أَ ُتعَّلمُونَ اللّهَ بِدِي ِن ُك ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫سَلمُوا ُقلْ لَا َتمُنّوا عََليّ إِسْلَا َمكُمْ َبلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْي ُكمْ أَنْ َهدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ *‬
‫عَلَ ْيكَ أَنْ أَ ْ‬
‫ض وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ }‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ غَ ْيبَ ال ّ‬

‫يخبر تعالى عن مقالة العراب‪ ،‬الذين دخلوا في السلم في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫دخولً من غير بصيرة‪ ،‬ول قيام بما يجب ويقتضيه اليمان‪ ،‬أنهم ادعوا مع هذا وقالوا‪ :‬آمنا أي‪:‬‬
‫إيمانًا كاملً‪ ،‬مستوفيًا لجميع أموره هذا موجب هذا الكلم‪ ،‬فأمر ال رسوله‪ ،‬أن يرد عليهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ ُقلْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا } أي‪ :‬ل تدعوا لنفسكم مقام اليمان‪ ،‬ظاهرًا‪ ،‬وباطنًا‪ ،‬كاملً‪.‬‬

‫{ وََلكِنْ قُولُوا أَسَْلمْنَا } أي‪ :‬دخلنا في السلم‪ ،‬واقتصروا على ذلك‪.‬‬

‫خلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } وإنما آمنتم خوفًا‪ ،‬أو رجاء‪ ،‬أو نحو‬
‫{ و } السبب في ذلك‪ ،‬أنه { َلمّا َيدْ ُ‬
‫ذلك‪ ،‬مما هو السبب في إيمانكم‪ ،‬فلذلك لم تدخل بشاشة اليمان في قلوبكم‪ ،‬وفي قوله‪ { :‬وََلمّا‬
‫خلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } أي‪ :‬وقت هذا الكلم‪ ،‬الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد‬
‫يَ ْد ُ‬
‫ذلك‪ ،‬فإن كثيرًا منهم‪ ،‬من ال عليهم باليمان الحقيقي‪ ،‬والجهاد في سبيل ال‪ { ،‬وَإِنْ ُتطِيعُوا اللّهَ‬
‫عمَاِلكُمْ شَيْئًا } أي‪ :‬ل ينقصكم منها‪ ،‬مثقال ذرة‪،‬‬
‫وَرَسُولَهُ } بفعل خير‪ ،‬أو ترك شر { لَا يَلِ ْتكُمْ مِنْ أَ ْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ } أي‪:‬‬
‫بل يوفيكم إياها‪ ،‬أكمل ما تكون ل تفقدون منها‪ ،‬صغيرًا‪ ،‬ول كبيرًا‪ { ،‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫غفور لمن تاب إليه وأناب‪ ،‬رحيم به‪ ،‬حيث قبل توبته‪.‬‬

‫{ إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ } أي‪ :‬على الحقيقة { الّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ ثُمّ َلمْ يَرتَابُوا وَجَا َهدُوا بِأ ْموَاِلهِمْ‬
‫سهُم في سبيل ال } أي‪ :‬من جمعوا بين اليمان والجهاد في سبيله‪ ،‬فإن من جاهد الكفار‪ ،‬دل‬
‫وَأنْفُ ِ‬
‫ذلك‪ ،‬على اليمان التام في القلب‪ ،‬لن من جاهد غيره على السلم‪ ،‬والقيام بشرائعه‪ ،‬فجهاده‬
‫لنفسه على ذلك‪ ،‬من باب أولى وأحرى؛ ولن من لم يقو على الجهاد‪ ،‬فإن ذلك‪ ،‬دليل على ضعف‬
‫إيمانه‪ ،‬وشرط تعالى في اليمان عدم الريب‪ ،‬وهو الشك‪ ،‬لن اليمان النافع هو الجزم اليقيني‪ ،‬بما‬
‫أمر ال باليمان به‪ ،‬الذي ل يعتريه شك‪ ،‬بوجه من الوجوه‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬أُولَ ِئكَ هُمُ الصّا ِدقُونَ } أي‪ :‬الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة‪ ،‬فإن الصدق‪ ،‬دعوى‬
‫كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان‪ ،‬وأعظم ذلك‪ ،‬دعوى اليمان‪ ،‬الذي‬
‫هو مدار السعادة‪ ،‬والفوز البدي‪ ،‬والفلح السرمدي‪ ،‬فمن ادعاه‪ ،‬وقام بواجباته‪ ،‬ولوازمه‪ ،‬فهو‬
‫الصادق المؤمن حقًا‪ ،‬ومن لم يكن كذلك‪ ،‬علم أنه ليس بصادق في دعواه‪ ،‬وليس لدعواه فائدة‪ ،‬فإن‬
‫اليمان في القلب ل يطلع عليه إل ال تعالى‪.‬‬

‫فإثباته ونفيه‪ ،‬من باب تعليم ال بما في القلب‪ ،‬وهذا سوء أدب‪ ،‬وظن بال‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬قلْ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا شامل‬
‫ض وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫أَ ُتعَّلمُونَ اللّهَ ِبدِي ِنكُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫للشياء كلها‪ ،‬التي من جملتها‪ ،‬ما في القلوب من اليمان والكفران‪ ،‬والبر والفجور‪ ،‬فإنه تعالى‪،‬‬
‫يعلم ذلك كله‪ ،‬ويجازي عليه‪ ،‬إن خيرًا فخير‪ ،‬وإن شرًا فشر‪.‬‬

‫هذه حالة من أحوال من ادعى لنفسه اليمان‪ ،‬وليس به‪ ،‬فإنه إما أن يكون ذلك تعليمًا ل‪ ،‬وقد علم‬
‫أنه عالم بكل شيء‪ ،‬وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلم‪ ،‬المنة على رسوله‪ ،‬وأنهم قد بذلوا له‬
‫[وتبرعوا] بما ليس من مصالحهم‪ ،‬بل هو من حظوظه الدنيوية‪ ،‬وهذا تجمل بما ل يجمل‪ ،‬وفخر‬
‫بما ل ينبغي لهم أن يفتخروا على رسوله به فإن المنة ل تعالى عليهم‪ ،‬فكما أنه تعالى يمن‬
‫عليهم‪ ،‬بالخلق والرزق‪ ،‬والنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬فمنته عليهم بهدايتهم إلى السلم‪ ،‬ومنته عليهم‬
‫باليمان‪ ،‬أعظم من كل شيء‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬يمُنّونَ عَلَ ْيكَ أَنْ َأسَْلمُوا ُقلْ لَا َتمُنّوا عََليّ‬
‫إِسْلَا َمكُمْ َبلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْيكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } ‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬المور الخفية فيهما‪ ،‬التي تخفى على الخلق‪ ،‬كالذي‬
‫{ إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ غَ ْيبَ ال ّ‬
‫في لجج البحار‪ ،‬ومهامه القفار‪ ،‬وما جنه الليل أو واراه النهار‪ ،‬يعلم قطرات المطار‪ ،‬وحبات‬
‫الرمال‪ ،‬ومكنونات الصدور‪ ،‬وخبايا المور‪.‬‬

‫{ وما تسقط من ورقة إل يعلمها ول حبة في ظلمات الرض ول رطب ول يابس إل في كتاب‬
‫مبين }‬

‫{ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } يحصي عليكم أعمالكم‪ ،‬ويوفيكم إياها‪ ،‬ويجازيكم عليها بما تقتضيه‬
‫رحمته الواسعة‪ ،‬وحكمته البالغة‪.‬‬
‫تم تفسير سورة الحجرات‬

‫بعون ال ومنه وجوده وكرمه‪،‬‬

‫فلك اللهم من الحمد أكمله وأتمه‪،‬‬

‫ومن الجود أفضله وأعمه‬

‫تفسير سورة ق‬
‫وهي مكية‬

‫عجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِ ْنهُمْ َفقَالَ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْل َمجِيدِ * َبلْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-4‬بِ ْ‬
‫عِلمْنَا مَا تَ ْنقُصُ الْأَ ْرضُ‬
‫شيْءٌ عَجِيبٌ * أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا ذَِلكَ َرجْعٌ َبعِيدٌ * قَدْ َ‬
‫ا ْلكَافِرُونَ هَذَا َ‬
‫حفِيظٌ }‬
‫مِ ْنهُ ْم وَعِنْدَنَا كِتَابٌ َ‬

‫يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي‪ :‬وسيع المعاني عظيمها‪ ،‬كثير الوجوه كثير البركات‪ ،‬جزيل‬
‫المبرات‪ .‬والمجد‪ :‬سعة الوصاف وعظمتها‪ ،‬وأحق كلم يوصف بهذا‪ ،‬هذا القرآن‪ ،‬الذي قد‬
‫احتوى على علوم الولين والخرين‪ ،‬الذي حوى من الفصاحة أكملها‪ ،‬ومن اللفاظ أجزلها‪ ،‬ومن‬
‫المعاني أعمها وأحسنها‪ ،‬وهذا موجب لكمال اتباعه‪ ،‬و [سرعة] النقياد له‪ ،‬وشكر ال على المنة‬
‫به‪.‬‬

‫عجِبُوا } أي‪ :‬المكذبون للرسول‬


‫ولكن أكثر الناس‪ ،‬ل يقدر نعم ال قدرها‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬بلْ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ { ،‬أَنْ جَا َءهُمْ مُنْذِرٌ منهم } أي‪ :‬ينذرهم ما يضرهم‪ ،‬ويأمرهم بما ينفعهم‪ ،‬وهو‬
‫من جنسهم‪ ،‬يمكنهم التلقي عنه‪ ،‬ومعرفة أحواله وصدقه‪.‬‬

‫فتعجبوا من أمر‪ ،‬ل ينبغي لهم التعجب منه‪ ،‬بل يتعجب من عقل من تعجب منه‪.‬‬

‫{ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ } الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم‪ ،‬ل نقص بذكائهم وآرائهم‬

‫شيْءٌ عَجِيبٌ } أي‪ :‬مستغرب‪ ،‬وهم في هذا الستغراب بين أمرين‪:‬‬


‫{ هَذَا َ‬

‫إما صادقون في [استغرابهم و] تعجبهم‪ ،‬فهذا يدل على غاية جهلهم‪ ،‬وضعف عقولهم‪ ،‬بمنزلة‬
‫المجنون‪ ،‬الذي يستغرب كلم العاقل‪ ،‬وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان‪،‬‬
‫وبمنزلة البخيل‪ ،‬الذي يستغرب سخاء أهل السخاء‪ ،‬فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله ؟‬
‫وهل تعجبه‪ ،‬إل دليل على زيادة وظلمه وجهله؟ وإما أن يكونوا متعجبين‪ ،‬على وجه يعلمون‬
‫خطأهم فيه‪ ،‬فهذا من أعظم الظلم وأشنعه‪.‬‬

‫جعٌ َبعِيدٌ } فقاسوا قدرة من هو على كل‬


‫ثم ذكر وجه تعجبهم فقال‪ { :‬أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا ذَِلكَ رَ ْ‬
‫شيء قدير‪ ،‬الكامل من كل وجه‪ ،‬بقدرة العبد الفقير العاجز من جميع الوجوه‪ ،‬وقاسوا الجاهل‪،‬‬
‫الذي ل علم له‪ ،‬بمن هو بكل شيء عليم‪ ،‬الذي يعلم ما تنقص الرض من أجسادهم مدة مقامهم‬
‫في برزخهم‪ ،‬وقد أحصى في كتابه الذي هو عنده محفوظ عن التغيير والتبديل‪ ،‬كل ما يجري‬
‫عليهم في حياتهم‪ ،‬ومماتهم‪ ،‬وهذا الستدلل‪ ،‬بكمال علمه‪ ،‬وسعته التي ل يحيط بها إل هو‪ ،‬على‬
‫قدرته على إحياء الموتى‪.‬‬

‫حقّ َلمّا جَاءَهُمْ َفهُمْ فِي َأمْرٍ مَرِيجٍ }‬


‫{ ‪َ { } 5‬بلْ َكذّبُوا بِالْ َ‬

‫أي‪َ { :‬بلْ } كلمهم الذي صدر منهم‪ ،‬إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق‬
‫{ َلمّا جَاءَ ُهمْ َفهُمْ فِي َأمْرٍ مَرِيجٍ } أي‪ :‬مختلط مشتبه‪ ،‬ل يثبتون على شيء‪ ،‬ول يستقر لهم قرار‪،‬‬
‫فتارة يقولون عنك‪ :‬إنك ساحر‪ ،‬وتارة مجنون‪ ،‬وتارة شاعر‪ ،‬وكذلك جعلوا القرآن عضين‪ ،‬كل‬
‫قال فيه‪ ،‬ما اقتضاه رأيه الفاسد‪ ،‬وهكذا‪ ،‬كل من كذب بالحق‪ ،‬فإنه في أمر مختلط‪ ،‬ل يدرى له‬
‫وجهة ول قرار‪[ ،‬فترى أموره متناقضة مؤتفكة] كما أن من اتبع الحق وصدق به‪ ،‬قد استقام‬
‫أمره‪ ،‬واعتدل سبيله‪ ،‬وصدق فعله قيله‪.‬‬

‫سمَاءِ َف ْو َقهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا َومَا َلهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَ ْرضَ‬
‫{ ‪َ { } 6-11‬أفََلمْ يَنْظُرُوا إِلَى ال ّ‬
‫ي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ * تَ ْبصِ َرةً وَ ِذكْرَى ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ *‬
‫سَ‬‫مَدَدْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ‬
‫سقَاتٍ َلهَا طَلْعٌ َنضِيدٌ *‬
‫خلَ بَا ِ‬
‫حصِيدِ * وَالنّ ْ‬
‫حبّ الْ َ‬
‫سمَاءِ مَاءً مُبَا َركًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَ َ‬
‫وَنَزّلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫رِ ْزقًا لِ ْلعِبَا ِد وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ا ْلخُرُوجُ }‬

‫لما ذكر تعالى حالة المكذبين‪ ،‬وما ذمهم به‪ ،‬دعاهم إلى النظر في آياته الفقية‪ ،‬كي يعتبروا‪،‬‬
‫سمَاءِ َف ْو َقهُمْ } أي‪ :‬ل يحتاج ذلك‬
‫ويستدلوا بها‪ ،‬على ما جعلت أدلة عليه فقال‪َ { :‬أفََلمْ يَنْظُرُوا ِإلَى ال ّ‬
‫النظر إلى كلفة وشد رحل‪ ،‬بل هو في غاية السهولة‪ ،‬فينظرون { كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا } قبة مستوية‬
‫الرجاء‪ ،‬ثابتة البناء‪ ،‬مزينة بالنجوم الخنس‪ ،‬والجوار الكنس‪ ،‬التي ضربت من الفق إلى الفق‬
‫في غاية الحسن والملحة‪ ،‬ل ترى فيها عيبًا‪ ،‬ول فروجًا‪ ،‬ول خللًا‪ ،‬ول إخللً‪.‬‬

‫قد جعلها ال سقفًا لهل الرض‪ ،‬وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع‪.‬‬
‫{ و } إلى { الرض كيف َمدَدْنَاهَا } ووسعناها‪ ،‬حتى أمكن كل حيوان السكون فيها والستقرار‬
‫والستعداد لجميع مصالحه‪ ،‬وأرساها بالجبال‪ ،‬لتستقر من التزلزل‪ ،‬والتموج‪ { ،‬وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ‬
‫َزوْجٍ َبهِيجٍ } أي‪ :‬من كل صنف من أصناف النبات‪ ،‬التي تسر ناظرها‪ ،‬وتعجب مبصرها‪ ،‬وتقر‬
‫عين رامقها‪ ،‬لكل بني آدم‪ ،‬وأكل بهائمهم ومنافعهم‪ ،‬وخص من تلك المنافع بالذكر‪ ،‬الجنات‬
‫المشتملة على الفواكه اللذيذة‪ ،‬من العنب والرمان والترج والتفاح‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من أصناف‬
‫الفواكه‪ ،‬ومن النخيل الباسقات‪ ،‬أي‪ :‬الطوال‪ ،‬التي يطول نفعها‪ ،‬وترتفع إلى السماء‪ ،‬حتى تبلغ‬
‫مبلغًا‪ ،‬ل يبلغه كثير من الشجار‪ ،‬فتخرج من الطلع النضيد‪ ،‬في قنوانها‪ ،‬ما هو رزق للعباد‪ ،‬قوتًا‬
‫وأدمًا وفاكهة‪ ،‬يأكلون منه ويدخرون‪ ،‬هم ومواشيهم وكذلك ما يخرج ال بالمطر‪ ،‬وما هو أثره من‬
‫النهار‪ ،‬التي على وجه الرض‪ ،‬والتي تحتها من حب الحصيد‪ ،‬أي‪ :‬من الزرع المحصود‪ ،‬من‬
‫بر وشعير‪ ،‬وذرة‪ ،‬وأرز‪ ،‬ودخن وغيره‪.‬‬

‫فإن في النظر في هذه الشياء { تَ ْبصِ َرةً } يتبصر بها‪ ،‬من عمى الجهل‪ { ،‬وَ ِذكْرَى } يتذكر بها‪ ،‬ما‬
‫ينفع في الدين والدنيا‪ ،‬ويتذكر بها ما أخبر ال به‪ ،‬وأخبرت به رسله‪ ،‬وليس ذلك لكل أحد‪ ،‬بل‬
‫{ ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } إلى ال أي‪ :‬مقبل عليه بالحب والخوف والرجاء‪ ،‬وإجابة داعيه‪ ،‬وأما المكذب‬
‫والمعرض‪ ،‬فما تغني اليات والنذر عن قوم ل يؤمنون‪.‬‬

‫وحاصل هذا‪ ،‬أن ما فيها من الخلق الباهر‪ ،‬والشدة والقوة‪ ،‬دليل على كمال قدرة ال تعالى‪ ،‬وما‬
‫فيها من الحسن والتقان‪ ،‬وبديع الصنعة‪ ،‬وبديع الخلقة دليل على أن ال أحكم الحاكمين‪ ،‬وأنه‬
‫بكل شيء عليم‪ ،‬وما فيها من المنافع والمصالح للعباد‪ ،‬دليل على رحمة ال‪ ،‬التي وسعت كل‬
‫شيء‪ ،‬وجوده‪ ،‬الذي عم كل حي‪ ،‬وما فيها من عظم الخلقة‪ ،‬وبديع النظام‪ ،‬دليل على أن ال‬
‫تعالى‪ ،‬هو الواحد الحد‪ ،‬الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم يتخذ صاحبة ول ولدًا‪ ،‬ولم يكن له كفوًا أحد‪ ،‬وأنه‬
‫الذي ل تنبغي العبادة‪ ،‬والذل [والحب] إل له تعالى‪.‬‬

‫وما فيها من إحياء الرض بعد موتها‪ ،‬دليل على إحياء ال الموتى‪ ،‬ليجازيهم بأعمالهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ا ْلخُرُوجُ }‬

‫ولما ذكرهم بهذه اليات السماوية والرضية‪ ،‬خوفهم أخذات المم‪ ،‬وأل يستمروا على ما هم عليه‬
‫من التكذيب‪ ،‬فيصيبهم ما أصاب إخوانهم من المكذبين‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫خوَانُ لُوطٍ *‬
‫عوْنُ وَِإ ْ‬
‫س وَ َثمُودُ * وَعَا ٌد َوفِرْ َ‬
‫{ ‪ { } 12-15‬كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُوحٍ وََأصْحَابُ الرّ ّ‬
‫خلْقِ الَْأ ّولِ َبلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ‬
‫ق وَعِيدِ * َأ َفعَيِينَا بِالْ َ‬
‫سلَ َفحَ ّ‬
‫وََأصْحَابُ الْأَ ْيكَ ِة َو َقوْمُ تُبّعٍ ُكلّ كَ ّذبَ الرّ ُ‬
‫جدِيدٍ }‬
‫خَ ْلقٍ َ‬
‫أي‪ :‬كذب الذين من قبلهم من المم‪ ،‬رسلهم الكرام‪ ،‬وأنبياءهم العظام‪ ،‬كـ "نوح" كذبه قومه‪،‬‬
‫[وثمود كذبوا صالحًا] وعاد‪ ،‬كذبوا "هودًا " وإخوان لوط كذبوا "لوطًا " وأصحاب اليكة كذبوا‬
‫"شعيبًا " وقوم تبع‪ ،‬وتبع كل ملك ملك اليمن في الزمان السابق قبل السلم فقوم تبع كذبوا‬
‫الرسول‪ ،‬الذي أرسله ال إليهم‪ ،‬ولم يخبرنا ال من هو ذلك الرسول‪ ،‬وأي تبع من التبابعة‪ ،‬لنه‬
‫‪-‬وال أعلم‪ -‬كان مشهورًا عند العرب لكونهم من العرب العرباء‪ ،‬الذين ل تخفى ماجرياتهم على‬
‫العرب خصوصًا مثل هذه الحادثة العظيمة‪.‬‬

‫فهؤلء كلهم كذبوا الرسل‪ ،‬الذين أرسلهم ال إليهم‪ ،‬فحق عليهم وعيد ال وعقوبته‪ ،‬ولستم أيها‬
‫المكذبون لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬خيرًا منهم‪ ،‬ول رسلهم أكرم على ال من رسولكم‪،‬‬
‫فاحذروا جرمهم‪ ،‬لئل يصيبكم ما أصابهم‪.‬‬

‫ثم استدل تعالى بالخلق الول ‪-‬وهو المنشأ الول ‪ -‬على الخلق الخر‪ ،‬وهو النشأة الخرة‪.‬‬

‫فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم‪ ،‬كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى [الرفات] والرمم‪،‬‬
‫فقال‪َ { :‬أ َفعَيِينَا } أي‪ :‬أفعجزنا وضعفت قدرتنا { بِالْخَ ْلقِ الَْأ ّولِ } ؟ ليس المر كذلك‪ ،‬فلم نعجز‬
‫ونعي عن ذلك‪ ،‬وليسوا في شك من ذلك‪ ،‬وإنما هم في لبس من خلق جديد هذا الذي شكوا فيه‪،‬‬
‫والتبس عليهم أمره‪ ،‬مع أنه ل محل للبس فيه‪ ،‬لن العادة‪ ،‬أهون من البتداء كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ وَ ُهوَ َأ ْهوَنُ عَلَيْهِ }‬

‫س ُه وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ مِنْ حَ ْبلِ ا ْلوَرِيدِ *‬


‫سوِسُ بِهِ َنفْ ُ‬
‫ن وَ َنعْلَمُ مَا ُتوَ ْ‬
‫{ ‪ { } 16-18‬وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِ ْنسَا َ‬
‫شمَالِ َقعِيدٌ * مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َقوْلٍ إِلّا َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }‬
‫ن وَعَنِ ال ّ‬
‫إِذْ يَتََلقّى ا ْلمُتََلقّيَانِ عَنِ الْ َيمِي ِ‬

‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه المتفرد بخلق جنس النسان‪ ،‬ذكورهم وإناثهم‪ ،‬وأنه يعلم أحواله‪ ،‬وما يسره‪،‬‬
‫ويوسوس في صدره وأنه أقرب إليه من حبل الوريد‪ ،‬الذي هو أقرب شيء إلى النسان‪،‬‬
‫وهوالعرق المكتنف لثغرة النحر‪ ،‬وهذا مما يدعو النسان إلى مراقبة خالقه‪ ،‬المطلع على ضميره‬
‫وباطنه‪ ،‬القريب منه في جميع أحواله‪ ،‬فيستحي منه أن يراه‪ ،‬حيث نهاه‪ ،‬أو يفقده‪ ،‬حيث أمره‪،‬‬
‫وكذلك ينبغي له أن يجعل الملئكة الكرام الكاتبين منه على بال‪ ،‬فيجلهم ويوقرهم‪ ،‬ويحذر أن يفعل‬
‫أو يقول ما يكتب عنه‪ ،‬مما ل يرضي رب العالمين‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إذْ يَتََلقّى ا ْلمُتََلقّيَانِ } أي‪ :‬يتلقيان‬
‫شمَالِ } يكتب‬
‫عن العبد أعماله كلها‪ ،‬واحد { عَنِ الْ َيمِينِ } يكتب الحسنات { و } الخر { عن ال ّ‬
‫السيئات‪ ،‬وكل منهما { َقعِيدٌ } بذلك متهيئ لعمله الذي أعد له‪ ،‬ملزم له‬
‫{ مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َقوْلٍ } خير أو شر { إِلّا َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ } أي‪ :‬مراقب له‪ ،‬حاضر لحاله‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ { :‬وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ }‬

‫سكْ َرةُ ا ْل َموْتِ بِا ْلحَقّ ذَِلكَ مَا كُ ْنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ ذَِلكَ َيوْمُ‬
‫{ ‪ { } 19-22‬وَجَا َءتْ َ‬
‫شفْنَا عَ ْنكَ غِطَا َءكَ‬
‫غفْلَةٍ مِنْ َهذَا َفكَ َ‬
‫شهِيدٌ * َلقَدْ كُ ْنتَ فِي َ‬
‫ق وَ َ‬
‫ا ْلوَعِيدِ * وَجَا َءتْ ُكلّ َنفْسٍ َم َعهَا سَا ِئ ٌ‬
‫حدِيدٌ }‬
‫فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ َ‬

‫حقّ } الذي ل مرد له ول مناص‪،‬‬


‫سكْ َرةُ ا ْل َم ْوتِ بِالْ َ‬
‫أي { وَجَا َءتْ } هذا الغافل المكذب بآيات ال { َ‬
‫{ ذَِلكَ مَا كُ ْنتَ مِ ْنهُ تَحِيدُ } أي‪ :‬تتأخر وتنكص عنه‪.‬‬

‫{ وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َذِلكَ َيوْمُ ا ْلوَعِيدِ } أي‪ :‬اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم ال به من العقاب‪،‬‬
‫والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب‪.‬‬

‫شهِيدٌ }‬
‫{ وَجَا َءتْ ُكلّ َنفْسٍ َم َعهَا سَا ِئقٌ } يسوقها إلى موقف القيامة‪ ،‬فل يمكنها أن تتأخر عنه‪ { ،‬وَ َ‬
‫يشهد عليها بأعمالها‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬وهذا يدل على اعتناء ال بالعباد‪ ،‬وحفظه لعمالهم‪،‬‬
‫ومجازاته لهم بالعدل‪ ،‬فهذا المر‪ ،‬مما يجب أن يجعله العبد منه على بال‪ ،‬ولكن أكثر الناس‬
‫غفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي‪ :‬يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا‬
‫غافلون‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬لقَدْ كُ ْنتَ فِي َ‬
‫الكلم‪ ،‬توبيخًا‪ ،‬ولومًا وتعنيفًا أي‪ :‬لقد كنت مكذبًا بهذا‪ ،‬تاركًا للعمل له فالن { كشفنا عَ ْنكَ غِطَا َءكَ‬
‫حدِيدٌ } ينظر ما يزعجه‬
‫} الذي غطى قلبك‪ ،‬فكثر نومك‪ ،‬واستمر إعراضك‪ { ،‬فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ َ‬
‫ويروعه‪ ،‬من أنواع العذاب والنكال‪.‬‬

‫أو هذا خطاب من ال للعبد‪ ،‬فإنه في الدنيا‪ ،‬في غفلة عما خلق له‪ ،‬ولكنه يوم القيامة‪ ،‬ينتبه‬
‫ويزول عنه وسنه‪ ،‬ولكنه في وقت ل يمكنه أن يتدارك الفارط‪ ،‬ول يستدرك الفائت‪ ،‬وهذا كله‬
‫تخويف من ال للعباد‪ ،‬وترهيب‪ ،‬بذكر ما يكون على المكذبين‪ ،‬في ذلك اليوم العظيم‪.‬‬

‫جهَنّمَ ُكلّ َكفّارٍ عَنِيدٍ * مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ ُمعْتَدٍ‬


‫{ ‪َ { } 23-29‬وقَالَ قَرِيُنهُ َهذَا مَا لَ َديّ عَتِيدٌ * أَ ْلقِيَا فِي َ‬
‫طغَيْتُ ُه وََلكِنْ‬
‫ج َعلَ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ فَأَ ْلقِيَاهُ فِي ا ْلعَذَابِ الشّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبّنَا مَا َأ ْ‬
‫مُرِيبٍ * الّذِي َ‬
‫ي َومَا أَنَا‬
‫ي َوقَدْ َق ّد ْمتُ إِلَ ْي ُكمْ بِا ْلوَعِيدِ * مَا يُ َب ّدلُ ا ْلقَ ْولُ لَ َد ّ‬
‫صمُوا لَ َد ّ‬
‫كَانَ فِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْ َت ِ‬
‫بِظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬وقَالَ قَرِينُهُ } أي‪ :‬قرين هذا المكذب المعرض‪ ،‬من الملئكة‪ ،‬الذين وكلهم ال على‬
‫حفظه‪ ،‬وحفظ أعماله‪ ،‬فيحضره يوم القيامة ويحضر أعماله ويقول‪ { :‬هَذَا مَا لَ َديّ عَتِيدٌ } أي‪ :‬قد‬
‫أحضرت ما جعلت عليه‪ ،‬من حفظه‪ ،‬وحفظ عمله‪ ،‬فيجازى بعمله‪.‬‬

‫جهَنّمَ ُكلّ َكفّارٍ عَنِيدٍ } أي‪ :‬كثير الكفر والعناد ليات ال‪،‬‬
‫ويقال لمن استحق النار‪ { :‬أَ ْلقِيَا فِي َ‬
‫المكثر من المعاصي‪ ،‬المجترئ على المحارم والمآثم‪.‬‬

‫{ مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ } أي‪ :‬يمنع الخير الذي عنده الذي أعظمه‪ ،‬اليمان بال [وملئكته] وتبه‪ ،‬ورسله‬
‫مناع‪ ،‬لنفع ماله وبدنه‪ُ { ،‬معْتَدٍ } على عباد ال‪ ،‬وعلى حدوده { مُرِيبٍ } أي‪ :‬شاك في وعد ال‬
‫ووعيده‪ ،‬فل إيمان ول إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان‪ ،‬والشك والريب‪ ،‬والشح‪ ،‬واتخاذ‬
‫ج َعلَ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ } أي‪ :‬عبد معه غيره‪ ،‬ممن ل‬
‫اللهة من دون الرحمن‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬الّذِي َ‬
‫يملك لنفسه نفعًا‪ ،‬ول ضرًا‪ ،‬ول موتًا ول حياة‪ ،‬ول نشورًا‪ { ،‬فَأَ ْلقِيَاهُ } أيها الملكان القرينان { فِي‬
‫ا ْلعَذَابِ الشّدِيدِ } الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها‪.‬‬

‫طغَيْتُهُ } لني لم يكن لي عليه‬


‫{ قَالَ قَرِينُهُ } الشيطان‪ ،‬متبرئًا منه‪ ،‬حاملً عليه إثمه‪ { :‬رَبّنَا مَا أَ ْ‬
‫سلطان‪ ،‬ول حجة ول برهان‪ ،‬ولكن كان في الضلل البعيد‪ ،‬فهو الذي ضل وأبعد عن الحق‬
‫ضيَ الَْأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَ َدكُ ْم وَعْدَ ا ْلحَقّ‬
‫باختياره‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪َ { :‬وقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ‬
‫َووَعَدْ ُتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُمْ وما كان لي عليكم من سلطان إل أن دعوتكم فاستجبتم لي فل تلوموني ولوموا‬
‫أنفسكم } الية‬

‫صمُوا لَ َديّ } أي‪ :‬ل فائدة في اختصامكم عندي‪ { ،‬و }‬


‫قال ال تعالى مجيبًا لختصامهم‪ { :‬لَا تَخْ َت ِ‬
‫الحال أني قد { َق ّد ْمتُ إِلَ ْي ُكمْ بِا ْلوَعِيدِ } أي‪ :‬جاءتكم رسلي باليات البينات‪ ،‬والحجج الواضحات‪،‬‬
‫والبراهين الساطعات‪ ،‬فقامت عليكم حجتي‪ ،‬وانقطعت حجتكم‪ ،‬وقدمتم علي بما أسلفتم من العمال‬
‫التي وجب جزاؤها‪.‬‬

‫{ مَا يُ َب ّدلُ ا ْلقَ ْولُ لَ َديّ } أي‪ :‬ل يمكن أن يخلف ما قاله ال وأخبر به‪ ،‬لنه ل أصدق من ال قيلً‪،‬‬
‫ول أصدق حديثًا‪.‬‬

‫{ َومَا أَنَا ِبظَلّامٍ ِل ْلعَبِيدِ } بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر‪ ،‬فل يزاد في سيئاتهم‪ ،‬ول ينقص من‬
‫حسناتهم‪.‬‬

‫ت وَ َتقُولُ َهلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِ َفتِ الْجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ‬
‫جهَنّمَ َهلِ امْتَلَ ْأ ِ‬
‫{ ‪َ { } 30-35‬يوْمَ َنقُولُ ِل َ‬
‫حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ َوجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا‬
‫شيَ الرّ ْ‬
‫حفِيظٍ * مَنْ خَ ِ‬
‫َبعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ َ‬
‫بِسَلَامٍ ذَِلكَ َيوْمُ الْخُلُودِ * َلهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }‬

‫جهَنّمَ َهلِ امْتَلَ ْأتِ } وذلك من كثرة ما ألقي فيها‪ { ،‬وَتَقُولُ‬


‫يقول تعالى‪ ،‬مخوفًا لعباده‪َ { :‬يوْمَ َنقُولُ لِ َ‬
‫َهلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي‪ :‬ل تزال تطلب الزيادة‪ ،‬من المجرمين العاصين‪ ،‬غضبًا لربها‪ ،‬وغيظًا على‬
‫الكافرين‪.‬‬

‫ج َمعِينَ } حتى يضع رب‬


‫جهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَ ْ‬
‫وقد وعدها ال ملها‪ ،‬كما قال تعالى { لََأمْلَأَنّ َ‬
‫العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه‪ ،‬فينزوي بعضها على بعض‪ ،‬وتقول‪ :‬قط قط‪ ،‬قد‬
‫اكتفيت وامتلت‪.‬‬

‫{ وَأُزِْل َفتِ الْجَنّةُ } أي‪ :‬قربت بحيث تشاهد وينظر ما فيها‪ ،‬من النعيم المقيم‪ ،‬والحبرة والسرور‪،‬‬
‫وإنما أزلفت وقربت‪ ،‬لجل المتقين لربهم‪ ،‬التاركين للشرك‪ ،‬صغيره وكبيره ‪ ،‬الممتثلين لوامر‬
‫حفِيظٍ } أي‪ :‬هذه‬
‫ربهم‪ ،‬المنقادين له‪ ،‬ويقال لهم على وجه التهنئة‪ { :‬هَذَا مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ َ‬
‫الجنة وما فيها‪ ،‬مما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬هي التي وعد ال كل أواب أي‪ :‬رجاع إلى ال‪،‬‬
‫في جميع الوقات‪ ،‬بذكره وحبه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬ودعائه‪ ،‬وخوفه‪ ،‬ورجائه‪.‬‬

‫حفِيظٍ } أي‪ :‬يحافظ على ما أمر ال به‪ ،‬بامتثاله على وجه الخلص والكمال له‪ ،‬على أكمل‬
‫{ َ‬
‫الوجوه‪ ،‬حفيظ لحدوده‪.‬‬

‫حمَنَ } أي‪ :‬خافه على وجه المعرفة بربه‪ ،‬والرجاء لرحمته ولزم على خشية ال‬
‫شيَ الرّ ْ‬
‫{ مَنْ خَ ِ‬
‫في حال غيبه أي‪ :‬مغيبه عن أعين الناس‪ ،‬وهذه هي الخشية الحقيقية‪ ،‬وأما خشيته في حال نظر‬
‫الناس وحضورهم‪ ،‬فقد تكون رياء وسمعة‪ ،‬فل تدل على الخشية‪ ،‬وإنما الخشية النافعة‪ ،‬خشية ال‬
‫في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية ال بالغيب كالمراد باليمان بالغيب وأن هذا مقابل‬
‫للشهادة حيث يكون اليمان والخشية ضروريًا ل اختياريًا حيث يعاين العذاب وتأتي آيات ال وهذا‬
‫هو الظاهر‬

‫{ وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ } أي‪ :‬وصفه النابة إلى موله‪ ،‬وانجذاب دواعيه إلى مراضيه‪ ،‬ويقال لهؤلء‬
‫التقياء البرار‪ { :‬ا ْدخُلُوهَا بِسَلَامٍ } أي‪ :‬دخولًا مقرونًا بالسلمة من الفات والشرور‪ ،‬مأمونًا فيه‬
‫جميع مكاره المور‪ ،‬فل انقطاع لنعيمهم‪ ،‬ول كدر ول تنغيص‪ { ،‬ذَِلكَ َيوْمُ الْخُلُودِ } الذي ل زوال‬
‫له ول موت‪ ،‬ول شيء من المكدرات‪.‬‬
‫{ َل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } أي‪ :‬كل ما تعلقت به مشيئتهم‪ ،‬فهو حاصل فيها ولهم فوق ذلك { مَزِيدٌ }‬
‫أي‪ :‬ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر‪ ،‬وأعظم ذلك‪ ،‬وأجله‪ ،‬وأفضله‪ ،‬النظر إلى وجه ال الكريم‪ ،‬والتمتع بسماع كلمه‪ ،‬والتنعم‬
‫بقربه‪ ،‬نسأل ال تعالى أن يجعلنا منهم‪.‬‬

‫شدّ مِ ْنهُمْ َبطْشًا فَ َنقّبُوا فِي الْبِلَادِ َهلْ مِنْ مَحِيصٍ *‬


‫{ ‪َ { } 36-37‬وكَمْ أَ ْهَلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ ُهمْ أَ َ‬
‫شهِيدٌ }‬
‫سمْ َع وَ ُهوَ َ‬
‫إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَى ِلمَنْ كَانَ لَهُ قَ ْلبٌ َأوْ أَ ْلقَى ال ّ‬

‫يقول تعالى ‪-‬مخوفًا للمشركين المكذبين للرسول‪َ { -:‬وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مِنْ قَرْنٍ } أي‪ :‬أمما كثيرة‬
‫هم أشد من هؤلء بطشًا أي‪ :‬قوة وآثارًا في الرض‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فَ َنقّبُوا فِي الْ ِبلَادِ } أي‪ :‬بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة‪ ،‬وغرسوا الشجار‪،‬‬
‫وأجروا النهار‪ ،‬وزرعوا‪ ،‬وعمروا‪ ،‬ودمروا‪ ،‬فلما كذبوا رسل ال‪ ،‬وجحدوا آيات ال‪ ،‬أخذهم ال‬
‫بالعقاب الليم‪ ،‬والعذاب الشديد‪ ،‬فـ { َهلْ مِنْ َمحِيصٍ } أي‪ :‬ل مفر لهم من عذاب ال‪ ،‬حين نزل‬
‫بهم‪ ،‬ول منقذ‪ ،‬فلم تغن عنهم قوتهم‪ ،‬ول أموالهم‪ ،‬ول أولدهم‪.‬‬

‫{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَ ِذكْرَى ِلمَنْ كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ } أي‪ :‬قلب عظيم حي‪ ،‬ذكي‪ ،‬زكي‪ ،‬فهذا إذا ورد عليه‬
‫شيء من آيات ال‪ ،‬تذكر بها‪ ،‬وانتفع‪ ،‬فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات ال‪ ،‬واستمعها‪،‬‬
‫شهِيدٌ } أي‪ :‬حاضر‪ ،‬فهذا له أيضا ذكرى وموعظة‪ ،‬وشفاء وهدى‪.‬‬
‫استماعًا يسترشد به‪ ،‬وقلبه { َ‬

‫وأما المعرض‪ ،‬الذي لم يلق سمعه إلى اليات‪ ،‬فهذا ل تفيده شيئًا‪ ،‬لنه ل قبول عنده‪ ،‬ول تقتضي‬
‫حكمة ال هداية من هذا وصفه ونعته‪.‬‬

‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ *‬
‫ت وَالْأَ ْر َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 38-40‬وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ‬
‫س َوقَ ْبلَ ا ْلغُرُوبِ * َومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْهُ‬
‫شمْ ِ‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ ال ّ‬
‫فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ وَسَبّحْ بِ َ‬
‫وَأَدْبَارَ السّجُودِ }‬

‫وهذا إخبار منه تعالى عن قدرته العظيمة‪ ،‬ومشيئته النافذة‪ ،‬التي أوجد بها أعظم المخلوقات‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد‪ ،‬وآخرها يوم الجمعة‪ ،‬من غير‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫{ ال ّ‬
‫تعب‪ ،‬ول نصب‪ ،‬ول لغوب‪ ،‬ول إعياء‪ ،‬فالذي أوجدها ‪-‬على كبرها وعظمتها‪ -‬قادر على إحياء‬
‫الموتى‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ } من الذم لك والتكذيب بما جئت به‪ ،‬واشتغل عنهم واله بطاعة ربك‬
‫وتسبيحه‪ ،‬أول النهار وآخره‪ ،‬وفي أوقات الليل‪ ،‬وأدبار الصلوات‪ .‬فإن ذكر ال تعالى‪ ،‬مسل‬
‫للنفس‪ ،‬مؤنس لها‪ ،‬مهون للصبر‪.‬‬

‫س َمعُونَ الصّ ْيحَةَ بِا ْلحَقّ ذَِلكَ‬


‫{ ‪ { } 41-45‬وَاسْ َتمِعْ َيوْمَ يُنَادِي ا ْلمُنَادِي مِنْ َمكَانٍ قَرِيبٍ * َيوْمَ َي ْ‬
‫شقّقُ الْأَ ْرضُ عَ ْنهُمْ سِرَاعًا َذِلكَ حَشْرٌ‬
‫ت وَإِلَيْنَا ا ْل َمصِيرُ * َيوْمَ َت َ‬
‫َيوْمُ ا ْلخُرُوجِ * إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ ُنمِي ُ‬
‫ن َومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ فَ َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ َيخَافُ وَعِيدِ }‬
‫عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا َيقُولُو َ‬

‫أي‪ { :‬وَاسْ َتمِعْ } بقلبك نداء المنادي وهو إسرافيل عليه السلم‪ ،‬حين ينفخ في الصور { مِنْ َمكَانٍ‬
‫قَرِيبٍ } من الخلق‬

‫س َمعُونَ الصّيْحَةَ } أي‪ :‬كل الخلئق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة { بالحق }‬
‫{ َيوْمَ يَ ْ‬
‫الذي ل شك فيه ول امتراء‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ َيوْمُ ا ْلخُرُوجِ } من القبور‪ ،‬الذي انفرد به القادر على كل شيء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي‬
‫شقّقُ الْأَ ْرضُ عَ ْنهُمْ } أي‪ :‬عن الموات‬
‫ت وَإِلَيْنَا ا ْل َمصِيرُ َيوْمَ َت َ‬
‫وَ ُنمِي ُ‬

‫حشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي‪:‬‬


‫{ سِرَاعًا } أي‪ :‬يسرعون لجابة الداعي لهم‪ ،‬إلى موقف القيامة‪ { ،‬ذَِلكَ َ‬
‫هين على ال يسير ل تعب فيه ول كلفة‪.‬‬

‫{ َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا َيقُولُونَ } لك‪ ،‬مما يحزنك‪ ،‬من الذى‪ ،‬وإذا كنا أعلم بذلك‪ ،‬فقد علمت كيف‬
‫اعتناؤنا بك‪ ،‬وتيسيرنا لمورك‪ ،‬ونصرنا لك على أعدائك‪ ،‬فليفرح قلبك‪ ،‬ولتطمئن نفسك‪ ،‬ولتعلم‬
‫أننا أرحم بك وأرأف‪ ،‬من نفسك‪ ،‬فلم يبق لك إل انتظار وعد ال‪ ،‬والتأسي بأولي العزم‪ ،‬من رسل‬
‫ال‪َ { ،‬ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ } أي‪ :‬مسلط عليهم { إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ ْنذِ ٌر وَِلكُلّ َقوْمٍ هَادٍ } ولهذا قال‪:‬‬
‫ف وَعِيدِ } والتذكير‪[ ،‬هو] تذكير ما تقرر في العقول والفطر‪ ،‬من محبة‬
‫{ َف َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ يَخَا ُ‬
‫الخير وإيثاره‪ ،‬وفعله‪ ،‬ومن بغض الشر ومجانبته‪ ،‬وإنما يتذكر بالتذكير‪ ،‬من يخاف وعيد ال‪ ،‬وأما‬
‫من لم يخف الوعيد‪ ،‬ولم يؤمن به‪ ،‬فهذا فائدة تذكيره‪ ،‬إقامة الحجة عليه‪ ،‬لئل يقول‪ { :‬ما جاءنا من‬
‫بشير ول نذير }‬

‫آخر تفسير سورة (ق) والحمد ل أولً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا‬

‫تفسير سورة الذاريات‬


‫مكية‬
‫سرًا *‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ وَالذّا ِريَاتِ َذرْوًا * فَا ْلحَامِلَاتِ ِو ْقرًا * فَا ْلجَا ِريَاتِ ُي ْ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 1-6‬ب ْ‬
‫ن لَوَاقِعٌ }‬
‫ن الدّي َ‬
‫عدُونَ َلصَادِقٌ * وَإِ ّ‬
‫سمَاتِ َأ ْمرًا * ِإ ّنمَا تُو َ‬
‫فَالْمُ َق ّ‬

‫هذا قسم من ال الصادق في قيله‪ ،‬بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل ال فيها من المصالح‬
‫والمنافع‪ ،‬ما جعل على أن وعده صدق‪ ،‬وأن الدين الذي هو يوم الجزاء والمحاسبة على‬
‫العمال‪ ،‬لواقع ل محالة‪ ،‬ما له من دافع‪ ،‬فإذا أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه‪ ،‬وأقام‬
‫الدلة والبراهين عليه‪ ،‬فلم يكذب به المكذبون‪ ،‬ويعرض عن العمل له العاملون‪.‬‬

‫والمراد بالذاريات‪ :‬هي الرياح التي تذروا‪ ،‬في هبوبها { َذرْوًا } بلينها‪ ،‬ولطفها‪ ،‬ولطفها‬
‫وقوتها‪ ،‬وإزعاجها‪.‬‬

‫{ فَا ْلحَامِلَاتِ ِو ْقرًا } السحاب‪ ،‬تحمل الماء الكثير‪ ،‬الذي ينفع ال به البلد والعباد‪.‬‬

‫سرًا } النجوم‪ ،‬التي تجري على وجه اليسر والسهولة‪ ،‬فتتزين بها السماوات‪،‬‬
‫{ فا ْلجَا ِريَاتِ ُي ْ‬
‫ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر‪ ،‬وينتفع بالعتبار بها‪.‬‬

‫ت َأ ْمرًا } الملئكة التي تقسم المر وتدبره بإذن ال‪ ،‬فكل منهم‪ ،‬قد جعله ال على‬
‫سمَا ِ‬
‫{ فا ْلمُ َق ّ‬
‫تدبير أمر من أمور الدنيا وأمور الخرة‪ ،‬ل يتعدى ما قدر له وما حد ورسم‪ ،‬ول ينقص منه‪.‬‬

‫ن ُأ ِفكَ }‬
‫عنْ ُه مَ ْ‬
‫ختَلِفٍ * ُي ْؤفَكُ َ‬
‫ل ُم ْ‬
‫ك * ِإ ّنكُمْ َلفِي قَوْ ٍ‬
‫ح ُب ِ‬
‫سمَاءِ ذَاتِ ا ْل ُ‬
‫{ ‪ { } 7-9‬وَال ّ‬

‫أي‪ :‬والسماء ذات الطرائق الحسنة‪ ،‬التي تشبه حبك الرمال‪ ،‬ومياه الغدران‪ ،‬حين يحركها‬
‫النسيم‪.‬‬

‫ختَِلفٍ } منكم‪ ،‬من يقول‬


‫{ ِإ ّن ُكمْ } أيها المكذبون لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ { ،‬لَفِي قَوْلٍ ُم ْ‬
‫ساحر‪ ،‬ومنكم من يقول كاهن‪ ،‬ومنكم من يقول‪ :‬مجنون‪ ،‬إلى غير ذلك من القوال المختلفة‪،‬‬
‫الدالة على حيرتهم وشكهم‪ ،‬وأن ما هم عليه باطل‪.‬‬

‫ك } أي‪ :‬يصرف عنه من صرف عن اليمان‪ ،‬وانصرف قلبه عن أدلة ال‬


‫ن ُأفِ َ‬
‫عنْ ُه مَ ْ‬
‫{ ُي ْؤفَكُ َ‬
‫اليقينية وبراهينه‪ ،‬واختلف قولهم‪ ،‬دليل على فساده وبطلنه‪ ،‬كما أن الحق الذي جاء به محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬متفق [يصدق بعضه بعضًا]‪ ،‬ل تناقض فيه‪ ،‬ول اختلف‪ ،‬وذلك‪ ،‬دليل‬
‫ختِلَافًا َكثِيرًا }‬
‫جدُوا فِيهِ ا ْ‬
‫غ ْيرِ اللّ ِه لَ َو َ‬
‫ع ْندِ َ‬
‫ن مِنْ ِ‬
‫على صحته‪ ،‬وأنه من عند ال { وََلوْ كَا َ‬
‫ن َأيّانَ َي ْومُ الدّينِ * َي ْومَ‬
‫سأَلُو َ‬
‫ن * َي ْ‬
‫غ ْمرَ ٍة سَاهُو َ‬
‫ن ُهمْ فِي َ‬
‫خرّاصُونَ * اّلذِي َ‬
‫{ ‪ُ { } 10-14‬قتِلَ ا ْل َ‬
‫ن * ذُوقُوا فِ ْت َن َت ُكمْ َهذَا اّلذِي ُك ْن ُتمْ بِ ِه َتسْ َت ْعجِلُونَ }‬
‫ُهمْ عَلَى النّارِ ُي ْف َتنُو َ‬

‫خرّاصُونَ } أي‪ :‬قاتل ال الذين كذبوا على ال‪ ،‬وجحدوا آياته‪ ،‬وخاضوا‬
‫يقول تعالى‪ُ { :‬قتِلَ ا ْل َ‬
‫بالباطل‪ ،‬ليدحضوا به الحق‪ ،‬الذين يقولون على ال ما ل يعلمون‪.‬‬

‫ن}‬
‫غ ْمرَ ٍة } أي‪ :‬في لجة من الكفر‪ ،‬والجهل‪ ،‬والضلل‪ { ،‬سَاهُو َ‬
‫ن ُهمْ فِي َ‬
‫{ اّلذِي َ‬

‫ن } على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي‪ :‬متى يبعثون‪ ،‬مستبعدين لذلك‪ ،‬فل تسأل‬
‫سأَلُو َ‬
‫{ َي ْ‬
‫عن حالهم وسوء مآلهم‬

‫ن } أي‪ :‬يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر‪،‬‬


‫{ َي ْومَ ُهمْ عَلَى النّا ِر يُ ْف َتنُو َ‬
‫ويقال [لهم ]‪ { :‬ذُوقُوا ِف ْت َنتَ ُكمْ } أي‪ :‬العذاب والنار‪ ،‬الذي هو أثر ما افتتنوا به‪ ،‬من البتلء‬
‫الذي صيرهم إلى الكفر‪ ،‬والضلل‪َ { ،‬هذَا } العذاب‪ ،‬الذي وصلتم إليه‪[ ،‬هو] { اّلذِي ُك ْن ُتمْ بِهِ‬
‫ستَ ْعجِلُونَ } فالن‪ ،‬تمتعوا بأنواع العقاب والنكال والسلسل والغلل‪ ،‬والسخط والوبال‪.‬‬
‫َت ْ‬

‫خذِينَ مَا آتَا ُهمْ َربّ ُهمْ ِإ ّن ُهمْ كَانُوا َقبْلَ ذَِلكَ‬
‫ن*آِ‬
‫عيُو ٍ‬
‫جنّاتٍ وَ ُ‬
‫ن فِي َ‬
‫ن ا ْل ُمتّقِي َ‬
‫{ ‪ { } 15-19‬إِ ّ‬
‫حقّ‬
‫س َتغْ ِفرُونَ * َوفِي َأمْوَاِل ِهمْ َ‬
‫ن الّليْلِ مَا َي ْهجَعُونَ * َوبِا ْلَأسْحَارِ ُهمْ َي ْ‬
‫ن * كَانُوا قَلِيلًا مِ َ‬
‫حسِنِي َ‬
‫ُم ْ‬
‫حرُومِ }‬
‫لِلسّائِلِ وَا ْل َم ْ‬

‫ن ا ْل ُمتّقِينَ }‬
‫يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم‪ ،‬التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء‪ { :‬إِ ّ‬
‫جنّاتِ } مشتملت على جميع‬
‫أي‪ :‬الذين كانت التقوى شعارهم‪ ،‬وطاعة ال دثارهم‪ { ،‬فِي َ‬
‫[أصناف] الشجار‪ ،‬والفواكه‪ ،‬التي يوجد لها نظير في الدنيا‪ ،‬والتي ل يوجد لها نظير‪ ،‬مما لم‬
‫ن } سارحة‪،‬‬
‫عيُو ٍ‬
‫تنظر العيون إلى مثله‪ ،‬ولم تسمع الذان‪ ،‬ولم يخطر على قلوب العباد { َو ُ‬
‫تشرب منها تلك البساتين‪ ،‬ويشرب بها عباد ال‪ ،‬يفجرونها تفجيرًا‪.‬‬

‫ن مَا آتَا ُهمْ َر ّب ُهمْ } يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولهم جميع مناهم‪ ،‬من‬
‫خذِي َ‬
‫{آِ‬
‫جميع أصناف النعيم‪ ،‬فأخذوا ذلك‪ ،‬راضين به‪ ،‬قد قرت به أعينهم‪ ،‬وفرحت به نفوسهم‪ ،‬ولم‬
‫يطلبوا منه بدلً‪ ،‬ول يبغون عنه حولً‪ ،‬وكل قد ناله من النعيم‪ ،‬ما ل يطلب عليه المزيد‪،‬‬
‫ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا‪ ،‬وأنهم آخذون ما آتاهم ال‪ ،‬من الوامر والنواهي‪،‬‬
‫أي‪ :‬قد تلقوها بالرحب‪ ،‬وانشراح الصدر‪ ،‬منقادين لما أمر ال به‪ ،‬بالمتثال على أكمل الوجوه‪،‬‬
‫ولما نهى عنه‪ ،‬بالنزجار عنه ل‪ ،‬على أكمل وجه‪ ،‬فإن الذي أعطاهم ال من الوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬هو أفضل العطايا‪ ،‬التي حقها‪ ،‬أن تتلقى بالشكر [ل] عليها‪ ،‬والنقياد‪.‬‬

‫والمعنى الول‪ ،‬ألصق بسياق الكلم‪ ،‬لنه ذكر وصفهم في الدنيا‪ ،‬وأعمالهم بقوله‪ِ { :‬إ ّن ُهمْ كَانُوا‬
‫ن } وهذا شامل لحسانهم بعبادة ربهم‪،‬‬
‫حسِنِي َ‬
‫َقبْلَ ذَِلكَ } الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم { ُم ْ‬
‫بأن يعبدوه كأنهم يرونه‪ ،‬فإن لم يكونوا يرونه‪ ،‬فإنه يراهم‪ ،‬وللحسان إلى عباد ال ببذل النفع‬
‫والحسان‪ ،‬من مال‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو جاه أو نصيحة‪ ،‬أو أمر بمعروف‪ ،‬أو نهي عن منكر‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك من وجوه الحسان وطرق الخيرات‪.‬‬

‫حتى إنه يدخل في ذلك‪ ،‬الحسان بالقول‪ ،‬والكلم اللين‪ ،‬والحسان إلى المماليك‪ ،‬والبهائم‬
‫المملوكة‪ ،‬وغير المملوكة من أفضل أنواع الحسان في عبادة الخالق‪ ،‬صلة الليل‪ ،‬الدالة على‬
‫ل مَا‬
‫الخلص‪ ،‬وتواطؤ القلب واللسان‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬كَانُوا } أي‪ :‬المحسنون { قَلِيلًا ِمنَ الّليْ ِ‬
‫ن } أي‪ :‬كان هجوعهم أي‪ :‬نومهم بالليل‪ ،‬قليلً‪ ،‬وأما أكثر الليل‪ ،‬فإنهم قانتون لربهم‪ ،‬ما‬
‫جعُو َ‬
‫َي ْه َ‬
‫بين صلة‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وذكر‪ ،‬ودعاء‪ ،‬وتضرع‪.‬‬

‫ن } ال تعالى‪ ،‬فمدوا صلتهم إلى السحر‪ ،‬ثم‬


‫س َتغْ ِفرُو َ‬
‫سحَارِ } التي هي قبيل الفجر { ُهمْ َي ْ‬
‫{ َوبِا ْلأَ ْ‬
‫جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل‪ ،‬يستغفرون ال تعالى‪ ،‬استغفار المذنب لذنبه‪ ،‬وللستغفار‬
‫بالسحار‪ ،‬فضيلة وخصيصة‪ ،‬ليست لغيره‪ ،‬كما قال تعالى في وصف أهل اليمان والطاعة‪{ :‬‬
‫سحَارِ }‬
‫س َتغْ ِفرِينَ بِا ْلَأ ْ‬
‫وَا ْل ُم ْ‬

‫حقّ } واجب ومستحب { لِلسّائِلِ وَا ْل َمحْرُو ِم } أي‪ :‬للمحتاجين الذين يطلبون من‬
‫{ َوفِي َأ ْموَاِل ِهمْ َ‬
‫الناس‪ ،‬والذين ل يطلبون منهم‬

‫سمَاءِ ِرزْ ُق ُكمْ‬


‫صرُونَ * َوفِي ال ّ‬
‫سكُمْ َأفَلَا ُت ْب ِ‬
‫ت لِ ْلمُو ِقنِينَ * َوفِي َأنْ ُف ِ‬
‫{ ‪َ { } 20-23‬وفِي ا ْلَأرْضِ آيَا ٌ‬
‫حقّ ِمثْلَ مَا َأ ّن ُكمْ َت ْنطِقُونَ }‬
‫ض ِإنّ ُه َل َ‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْ ِ‬
‫ب ال ّ‬
‫عدُونَ * فَ َورَ ّ‬
‫َومَا تُو َ‬

‫ن}‬
‫ض آيَاتٌ لِ ْلمُوقِنِي َ‬
‫يقول تعالى ‪-‬داعيًا عباده إلى التفكر والعتبار‪َ { :-‬وفِي ا ْلَأرْ ِ‬

‫وذلك شامل لنفس الرض‪ ،‬وما فيها‪ ،‬من جبال وبحار‪ ،‬وأنهار‪ ،‬وأشجار‪ ،‬ونبات تدل المتفكر‬
‫فيها‪ ،‬المتأمل لمعانيها‪ ،‬على عظمة خالقها‪ ،‬وسعة سلطانه‪ ،‬وعميم إحسانه‪ ،‬وإحاطة علمه‪،‬‬
‫بالظواهر والبواطن‪ .‬وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن ال‬
‫وحده الحد الفرد الصمد‪ ،‬وأنه لم يخلق الخلق سدى‪.‬‬

‫سمَا ِء رِ ْز ُقكُمْ } أي مادة رزقكم‪ ،‬من المطار‪ ،‬وصنوف القدار‪ ،‬الرزق الديني‬
‫وقوله‪َ { :‬وفِي ال ّ‬
‫ن } من الجزاء في الدنيا والخرة‪ ،‬فإنه ينزل من عند ال‪ ،‬كسائر‬
‫عدُو َ‬
‫والدنيوي‪َ { ،‬ومَا تُو َ‬
‫القدار‪.‬‬

‫فلما بين اليات ونبه عليها تنبيهًا‪ ،‬ينتبه به الذكي اللبيب‪ ،‬أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه‬
‫حقّ‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ ِإنّ ُه َل َ‬
‫حق‪ ،‬وشبه ذلك‪ ،‬بأظهر الشياء [لنا] وهو النطق‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ َورَبّ ال ّ‬
‫ِمثْلَ مَا َأ ّن ُكمْ َت ْنطِقُونَ } فكما ل تشكون في نطقكم‪ ،‬فكذلك ل ينبغي الشك في البعث بعد الموت‬

‫ن * ِإذْ َدخَلُوا عََليْ ِه فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ‬


‫ضيْفِ ِإ ْبرَاهِيمَ ا ْل ُمكْ َرمِي َ‬
‫ث َ‬
‫حدِي ُ‬
‫ك َ‬
‫{ ‪ { } 24-37‬هَلْ َأتَا َ‬
‫ن * فَقَ ّربَ ُه إَِل ْي ِهمْ قَالَ أَلَا َت ْأكُلُونَ * َفأَ ْوجَسَ‬
‫سمِي ٍ‬
‫سَلَامٌ قَ ْو ٌم ُم ْنكَرُونَ * َفرَاغَ إِلَى أَهِْلهِ َفجَاءَ ِب ِعجْلٍ َ‬
‫ج َههَا َوقَالَتْ‬
‫صكّتْ َو ْ‬
‫صرّةٍ َف َ‬
‫خفْ َو َبشّرُوهُ ِبغُلَامٍ عَلِي ٍم * فََأ ْقبَلَتِ ا ْمرََأتُهُ فِي َ‬
‫ِم ْنهُمْ خِي َفةً قَالُوا لَا َت َ‬
‫حكِيمُ ا ْلعَلِيمُ *‬
‫عجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا َكذَِلكَ قَالَ َر ّبكِ ِإنّ ُه هُ َو ا ْل َ‬
‫َ‬
‫حجَارَةً ِمنْ‬
‫ج ِرمِينَ * ِل ُن ْرسِلَ عََل ْي ِهمْ ِ‬
‫ط ُب ُكمْ َأ ّيهَا ا ْل ُمرْسَلُونَ * قَالُوا ِإنّا ُأ ْرسِ ْلنَا إِلَى قَ ْومٍ ُم ْ‬
‫خ ْ‬
‫[قَالَ َفمَا َ‬
‫ج ْدنَا فِيهَا‬
‫ن ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ * َفمَا َو َ‬
‫ن كَانَ فِيهَا مِ َ‬
‫جنَا مَ ْ‬
‫ن * َفَأخْ َر ْ‬
‫س ِرفِي َ‬
‫ع ْن َد َربّكَ لِ ْل ُم ْ‬
‫طِينٍ * ُمسَ ّومَةً ِ‬
‫ب ا ْلأَلِيمَ] }‬
‫ن َيخَافُونَ ا ْل َعذَا َ‬
‫ت مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ * َو َت َر ْكنَا فِيهَا آ َيةً لِّلذِي َ‬
‫غ ْيرَ َبيْ ٍ‬
‫َ‬

‫ض ْيفِ ِإ ْبرَاهِيمَ ا ْل ُم ْك َرمِينَ } ونبأهم الغريب‬


‫حدِيثُ َ‬
‫يقول تعالى‪ { :‬هَلْ َأتَاكَ } أي‪ :‬أما جاءك { َ‬
‫العجيب‪ ،‬وهم‪ :‬الملئكة‪ ،‬الذين أرسلهم ال‪ ،‬لهلك قوم لوط‪ ،‬وأمرهم بالمرور على إبراهيم‪،‬‬
‫فجاؤوه في صورة أضياف‪.‬‬

‫ن } أي‪ :‬أنتم‬
‫{ ِإ ْذ َدخَلُوا عََليْ ِه فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ } مجيبًا لهم { سَلَامٌ } أي‪ :‬عليكم { قَ ْومٌ ُم ْن َكرُو َ‬
‫قوم منكرون‪ ،‬فأحب أن تعرفوني بأنفسكم‪ ،‬ولم يعرفهم إل بعد ذلك‪.‬‬

‫سمِينٍ فَ َق ّربَهُ‬
‫ولهذا راغ إلى أهله أي‪ :‬ذهب سريعًا في خفية‪ ،‬ليحضر لهم قراهم‪َ { ،‬فجَا َء ِب ِعجْلٍ َ‬
‫إَِل ْي ِهمْ } وعرض عليهم الكل‪ ،‬فـ { قَالَ أَلَا َت ْأكُلُونَ َفأَ ْوجَسَ ِم ْن ُهمْ خِي َفةً } حين رأى أيديهم ل‬
‫شرُو ُه ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ } وهو‪ :‬إسحاق عليه‬
‫خفْ } وأخبروه بما جاؤوا له { َو َب ّ‬
‫تصل إليه‪ { ،‬قَالُوا لَا َت َ‬
‫السلم‪.‬‬
‫صكّتْ‬
‫صرّةٍ } أي‪ :‬صيحة { َف َ‬
‫فلما سمعت المرأة البشارة { أقبلت } فرحة مستبشرة { فِي َ‬
‫ج َههَا } وهذا من جنس ما يجري من لنساء عند السرور [ونحوه] من القوال والفعال‬
‫َو ْ‬
‫عجُوزٌ عَقِيمٌ } أي‪ :‬أنى لي الولد‪ ،‬وأنا عجوز‪ ،‬قد بلغت من‬
‫المخالفة للطبيعة والعادة‪َ { ،‬وقَالَتْ َ‬
‫السن‪ ،‬ما ل تلد معه النساء‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فأنا عقيم‪ ،‬غير صالح رحمي للولدة أصلً‪ ،‬فثم‬
‫مانعان‪ ،‬كل منهما مانع من الولد‪ ،‬وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها‪ { :‬وَ َهذَا َبعْلِي‬
‫ب}‬
‫عجِي ٌ‬
‫شيْءٌ َ‬
‫ش ْيخًا ِإنّ َهذَا َل َ‬
‫َ‬

‫ل َربّكِ } أي‪ :‬ال الذي قدر ذلك وأمضاه‪ ،‬فل عجب في قدرة ال تعالى { ِإنّهُ‬
‫{ قَالُوا َكذَِلكِ قَا َ‬
‫حكِي ُم ا ْلعَلِيمُ } أي‪ :‬الذي يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وقد وسع كل شيء علمًا فسلموا لحكمه‪،‬‬
‫هُ َو ا ْل َ‬
‫واشكروه على نعمته‪.‬‬

‫ن } اليات‪ ،‬أي‪ :‬ما شأنكم وما‬


‫ط ُبكُمْ َأ ّيهَا ا ْل ُم ْرسَلُو َ‬
‫خ ْ‬
‫قال لهم إبراهيم عليه السلم‪َ { :‬فمَا َ‬
‫تريدون؟ لنه استشعر أنهم رسل‪ ،‬أرسلهم ال لبعض الشئون المهمة‪.‬‬

‫ن } وهم قوم لوط‪ ،‬قد أجرموا ‪ ،‬أشركوا بال‪ ،‬وكذبوا‬


‫جرِمِي َ‬
‫{ قَالُوا ِإنّا ُأ ْرسِلْنَا إِلَى قَ ْومٍ ُم ْ‬
‫رسولهم‪ ،‬وأتوا الفاحشة الشنعاء التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين‪.‬‬

‫سرِفِينَ } أي‪ :‬معلمة‪ ،‬على كل حجر منها‬


‫ع ْندَ َر ّبكَ لِ ْل ُم ْ‬
‫ن ُمسَ ّومَةً ِ‬
‫حجَارَةً ِمنْ طِي ٍ‬
‫{ ِل ُن ْرسِلَ عََل ْي ِهمْ ِ‬
‫سمة صاحبه لنهم أسرفوا‪ ،‬وتجاوزوا الحد‪ ،‬فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط‪ ،‬لعل ال‬
‫ن َهذَا ِإنّ ُه َقدْ جَاءَ َأ ْمرُ َر ّبكَ وَِإ ّنهُ ْم آتِيهِمْ‬
‫عرِضْ عَ ْ‬
‫يدفع عنهم العذاب‪ ،‬فقال ال‪ { :‬يَا ِإ ْبرَاهِيمُ َأ ْ‬
‫غ ْيرُ َم ْردُودٍ }‬
‫عذَابٌ َ‬
‫َ‬

‫غ ْيرَ َبيْتٍ ِمنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ } وهم بيت لوط‬


‫ج ْدنَا فِيهَا َ‬
‫ن َفمَا َو َ‬
‫ن ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫ن فِيهَا مِ َ‬
‫ن كَا َ‬
‫جنَا مَ ْ‬
‫{ َفَأخْ َر ْ‬
‫عليه السلم‪ ،‬إل امرأته‪ ،‬فإنها من المهلكين‪.‬‬

‫ن ا ْل َعذَابَ ا ْلأَلِيمَ } يعتبرون بها ويعلمون‪ ،‬أن ال شديد العقاب‪،‬‬


‫{ َو َترَ ْكنَا فِيهَا آيَ ًة لِّلذِينَ َيخَافُو َ‬
‫وأن رسله صادقون‪ ،‬مصدقون‪.‬‬

‫فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والحكام‬

‫منها‪ :‬أن من الحكمة‪ ،‬قص ال على عباده نبأ الخيار والفجار‪ ،‬ليعتبروا بحالهم وأين وصلت‬
‫بهم الحوال‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬فضل إبراهيم الخليل‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ ،‬حيث ابتدأ ال قصته‪ ،‬بما يدل على‬
‫الهتمام بشأنها‪ ،‬والعتناء بها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬مشروعية الضيافة‪ ،‬وأنها من سنن إبراهيم الخليل‪ ،‬الذي أمر ال هذا النبي وأمته‪ ،‬أن‬
‫يتبعوا ملته‪ ،‬وساقها ال في هذا الموضع‪ ،‬على وجه المدح له والثناء‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الضيف يكرم بأنواع الكرام‪ ،‬بالقول‪ ،‬والفعل‪ ،‬لن ال وصف أضياف إبراهيم‪،‬‬
‫بأنهم مكرمون‪ ،‬أي‪ :‬أكرمهم إبراهيم‪ ،‬ووصف ال ما صنع بهم من الضيافة‪ ،‬قولً وفعلً‪،‬‬
‫ومكرمون أيضًا عند ال تعالى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن إبراهيم عليه السلم‪ ،‬قد كان بيته‪ ،‬مأوى للطارقين والضياف‪ ،‬لنهم دخلوا عليه‬
‫من غير استئذان‪ ،‬وإنما سلكوا طريق الدب‪ ،‬في البتداء السلم فرد عليهم إبراهيم سلمًا‪،‬‬
‫أكمل من سلمهم وأتم‪ ،‬لنه أتى به جملة اسمية‪ ،‬دالة على الثبوت والستمرار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬مشروعية تعرف من جاء إلى النسان‪ ،‬أو صار له فيه نوع اتصال‪ ،‬لن في ذلك‪،‬‬
‫فوائد كثيرة‪.‬‬

‫ن } ولم يقل‪ { :‬أنكرتكم } [وبين‬


‫ومنها‪ :‬أدب إبراهيم ولطفه في الكلم‪ ،‬حيث قال‪ { :‬قَ ْومٌ ُم ْن َكرُو َ‬
‫اللفظين من الفرق‪ ،‬ما ل يخفى]‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬المبادرة إلى الضيافة والسراع بها‪ ،‬لن خير البر عاجله [ولهذا بادر إبراهيم بإحضار‬
‫قرى أضيافه]‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الذبيحة الحاضرة‪ ،‬التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت له‪ ،‬ليس فيها‬
‫أقل إهانة‪ ،‬بل ذلك من الكرام‪ ،‬كما فعل إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وأخبر ال أن ضيفه مكرمون‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما من ال به على خليله إبراهيم‪ ،‬من الكرم الكثير‪ ،‬وكون ذلك حاضرًا عنده وفي بيته‬
‫معدًا‪ ،‬ل يحتاج إلى أن يأتي به من السوق‪ ،‬أو الجيران‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن إبراهيم‪ ،‬هو الذي خدم أضيافه‪ ،‬وهو خليل الرحمن‪ ،‬وكبير من ضيف الضيفان‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه قربه إليهم في المكان الذي هم فيه‪ ،‬ولم يجعله في موضع‪ ،‬ويقول لهم‪ { :‬تفضلوا‪،‬‬
‫أو ائتوا إليه } لن هذا أيسر عليهم وأحسن‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬حسن ملطفة الضيف في الكلم اللين‪ ،‬خصوصًا‪ ،‬عند تقديم الطعام إليه‪ ،‬فإن إبراهيم‬
‫عرض عليهم عرضًا لطيفًا‪ ،‬وقال‪ { :‬أَلَا َت ْأكُلُونَ } ولم يقل‪ { :‬كلوا } ونحوه من اللفاظ‪ ،‬التي‬
‫غيرها أولى منها‪ ،‬بل أتى بأداة العرض‪ ،‬فقال‪ { :‬أَلَا َت ْأكُلُونَ } فينبغي للمقتدي به أن يستعمل‬
‫من اللفاظ الحسنة‪ ،‬ما هو المناسب واللئق بالحال‪ ،‬كقوله لضيافه‪ { :‬أل تأكلون } أو‪" :‬أل‬
‫تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن من خاف من النسان لسبب من السباب‪ ،‬فإن عليه أن يزيل عنه الخوف‪ ،‬ويذكر‬
‫له ما يؤمن روعه‪ ،‬ويسكن جأشه‪ ،‬كما قالت الملئكة لبراهيم [لما خافهم]‪ { :‬لَا َتخَفْ }‬
‫وأخبروه بتلك البشارة السارة‪ ،‬بعد الخوف منهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬شدة فرح سارة‪ ،‬امرأة إبراهيم‪ ،‬حتى جرى منها ما جرى‪ ،‬من صك وجهها‪ ،‬وصرتها‬
‫غير المعهودة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما أكرم ال به إبراهيم وزوجته سارة‪ ،‬من البشارة‪ ،‬بغلم عليم‪.‬‬

‫حرٌ َأوْ‬
‫ل سَا ِ‬
‫ن * َفتَوَلّى ِب ُركْنِ ِه َوقَا َ‬
‫‪َ { } 38-40‬وفِي مُوسَى ِإذْ َأ ْرسَ ْلنَاهُ إِلَى ِفرْعَ ْونَ ِبسُ ْلطَانٍ ُمبِي ٍ‬
‫جنُودَ ُه َف َنبَ ْذنَا ُهمْ فِي ا ْل َيمّ وَ ُهوَ مُلِيمٌ }‬
‫خ ْذنَاهُ َو ُ‬
‫ن * َفأَ َ‬
‫جنُو ٌ‬
‫َم ْ‬

‫أي‪َ { :‬وفِي مُوسَى } وما أرسله ال به إلى فرعون وملئه‪ ،‬باليات البينات‪ ،‬والمعجزات‬
‫الظاهرات‪ ،‬آية للذين يخافون العذاب الليم‪ ،‬فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين‪ ،‬فتولى‬
‫فرعون { ِب ُر ْكنِهِ } أي‪ :‬أعرض بجانبه عن الحق‪ ،‬ولم يلتفت إليه‪ ،‬وقدح فيه أعظم القدح فقالوا‪:‬‬
‫ن } أي‪ :‬إن موسى‪ ،‬ل يخلو‪ ،‬إما أن يكون أتى به شعبذة ليس من الحق في‬
‫جنُو ٌ‬
‫حرٌ أَ ْو َم ْ‬
‫{ سَا ِ‬
‫شيء‪ ،‬وإما أن يكون مجنونًا‪ ،‬ل يؤخذ بما صدر منه‪ ،‬لعدم عقله‪.‬‬

‫حدُوا ِبهَا‬
‫جَ‬‫هذا‪ ،‬وقد علموا‪ ،‬خصوصًا فرعون‪ ،‬أن موسى صادق‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ت مَا َأ ْنزَلَ َهؤُلَاءِ إِلّا رَبّ‬
‫سهُ ْم [ظُلْمًا وَعُُلوّا] } وقال موسى لفرعون‪ { :‬لَ َقدْ عَِلمْ َ‬
‫س َتيْ َق َن ْتهَا َأنْ ُف ُ‬
‫وَا ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ [ َبصَائِرَ } الية]‪،‬‬
‫ال ّ‬

‫جنُودَهُ َف َن َب ْذنَا ُهمْ فِي ا ْل َيمّ وَهُ َو مُلِي ٌم } أي‪ :‬مذنب طاغ‪ ،‬عات على ال‪ ،‬فأخذه عزيز‬
‫خذْنَاهُ َو ُ‬
‫{ َفَأ َ‬
‫مقتدر‪.‬‬
‫جعََلتْهُ‬
‫شيْءٍ َأتَتْ عََل ْيهِ إِلّا َ‬
‫{ ‪َ { } 41-42‬وفِي عَا ٍد ِإذْ َأ ْرسَ ْلنَا عََل ْي ِهمُ الرّيحَ ا ْلعَقِيمَ * مَا َتذَرُ ِمنْ َ‬
‫كَال ّرمِيمِ }‬

‫ح ا ْلعَقِيمَ } أي‪ :‬التي ل‬


‫أي { وفي عَادٍ } القبيلة المعروفة آية عظيمة { ِإ ْذ َأرْسَ ْلنَا عََل ْي ِهمُ الرّي َ‬
‫خير فيها‪ ،‬حين كذبوا نبيهم هودا عليه السلم‪.‬‬

‫جعََلتْهُ كَال ّرمِيمِ } أي‪ :‬كالرميم البالية‪ ،‬فالذي أهلكهم على قوتهم‬
‫شيْءٍ َأتَتْ عََل ْيهِ إِلّا َ‬
‫ن َ‬
‫{ مَا َت َذرُ مِ ْ‬
‫وبطشهم‪ ،‬دليل على [كمال] قوته واقتداره‪ ،‬الذي ل يعجزه شيء‪ ،‬المنتقم ممن عصاه‪.‬‬

‫خذَ ْت ُهمُ‬
‫ن َأ ْمرِ َربّ ِهمْ َفَأ َ‬
‫ن * َف َعتَوْا عَ ْ‬
‫حتّى حِي ٍ‬
‫{ ‪َ { } 43-45‬وفِي َثمُو َد ِإذْ قِيلَ َل ُهمْ َت َم ّتعُوا َ‬
‫صرِينَ }‬
‫ن ِقيَامٍ َومَا كَانُوا ُم ْنتَ ِ‬
‫ستَطَاعُوا مِ ْ‬
‫ن * َفمَا ا ْ‬
‫ظرُو َ‬
‫الصّاعِقَةُ وَ ُه ْم َينْ ُ‬

‫أي { َوفِي َثمُودَ } [آية عظيمة]‪ ،‬حين أرسل ال إليهم صالحًا عليه السلم‪ ،‬فكذبوه وعاندوه‪،‬‬
‫وبعث ال له الناقة‪ ،‬آية مبصرة‪ ،‬فلم يزدهم ذلك إل عتوًا ونفورًا‪.‬‬

‫خ َذ ْتهُمُ الصّاعِ َقةُ } أي‪ :‬الصيحة العظيمة‬


‫ن َأ ْمرِ َر ّبهِمْ َفَأ َ‬
‫حتّى حِينٍ َف َعتَوْا عَ ْ‬
‫فقيل { َل ُهمْ َت َم ّتعُوا َ‬
‫ن } إلى عقوبتهم بأعينهم‪.‬‬
‫ظرُو َ‬
‫المهلكة { وَ ُهمْ َي ْن ُ‬

‫ن } لنفسهم‪.‬‬
‫صرِي َ‬
‫س َتطَاعُوا ِمنْ ِقيَامٍ } ينجون به من العذاب‪َ { ،‬ومَا كَانُوا ُم ْنتَ ِ‬
‫{ َفمَا ا ْ‬

‫ح مِنْ َقبْلُ ِإ ّن ُهمْ كَانُوا قَ ْومًا فَاسِقِينَ }‬


‫{ ‪َ { } 46‬وقَ ْو َم نُو ٍ‬

‫أي‪ :‬وكذلك ما فعل ال بقوم نوح‪ ،‬حين كذبوا نوحًا عليه السلم وفسقوا عن أمر ال‪ ،‬فأرسل‬
‫ال عليهم السماء والرض بالماء المنهمر‪ ،‬فأغرقهم ال تعالى [عن آخرهم]‪ ،‬ولم يبق من‬
‫الكافرين ديارًا‪ ،‬وهذه عادة ال وسنته‪ ،‬فيمن عصاه‪.‬‬

‫شنَاهَا فَ ِن ْعمَ ا ْلمَا ِهدُونَ * َو ِمنْ‬


‫ض فَ َر ْ‬
‫سعُونَ * وَا ْلَأرْ َ‬
‫سمَاءَ َب َن ْينَاهَا ِبَأ ْيدٍ وَِإنّا َلمُو ِ‬
‫{ ‪ { } 47-51‬وَال ّ‬
‫جعَلُوا‬
‫ن * فَ ِفرّوا إِلَى اللّ ِه ِإنّي َل ُكمْ ِمنْ ُه َنذِيرٌ ُمبِينٌ * وَلَا َت ْ‬
‫جيْنِ َلعَّل ُكمْ َت َذ ّكرُو َ‬
‫شيْءٍ خَلَ ْقنَا زَ ْو َ‬
‫كُلّ َ‬
‫ن}‬
‫خ َر ِإنّي َل ُكمْ ِمنْ ُه َنذِيرٌ ُمبِي ٌ‬
‫مَعَ اللّهِ إَِلهًا آ َ‬
‫سمَاءَ َب َن ْينَاهَا } أي‪ :‬خلقناها وأتقناها‪ ،‬وجعلناها سقفًا‬
‫يقول تعالى مبينًا لقدرته العظيمة‪ { :‬وَال ّ‬
‫للرض وما عليها‪.‬‬

‫سعُونَ } لرجائها وأنحائها‪ ،‬وإنا لموسعون [أيضا]‬


‫{ ِبَأ ْيدٍ } أي‪ :‬بقوة وقدرة عظيمة { وَِإنّا َلمُو ِ‬
‫على عبادنا‪ ،‬بالرزق الذي ما ترك ال دابة في مهامه القفار‪ ،‬ولجج البحار‪ ،‬وأقطار العالم‬
‫العلوي والسفلي‪ ،‬إل وأوصل إليها من الرزق‪ ،‬ما يكفيها‪ ،‬وساق إليها من الحسان ما يغنيها‪.‬‬

‫فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات‪ ،‬وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات‪.‬‬

‫شنَاهَا } أي‪ :‬جعلناها فراشًا للخلق‪ ،‬يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم‪،‬‬


‫{ وَا ْلَأرْضَ َفرَ ْ‬
‫من مساكن‪ ،‬وغراس‪ ،‬وزرع‪ ،‬وحرث وجلوس‪ ،‬وسلوك للطرق الموصلة إلى مقاصدهم‬
‫ومآربهم‪ ،‬ولما كان الفراش‪ ،‬قد يكون صالحًا للنتفاع من كل وجه‪ ،‬وقد يكون من وجه دون‬
‫وجه‪ ،‬أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد‪ ،‬على أكمل الوجوه وأحسنها‪ ،‬وأثنى على نفسه بذلك‬
‫ن } الذي مهد لعباده ما اقتضته [حكمته] ورحمته وإحسانه‪.‬‬
‫فقال‪َ { :‬فنِ ْعمَ ا ْلمَا ِهدُو َ‬

‫جيْنِ } [أي‪ :‬صنفين]‪ ،‬ذكر وأنثى‪ ،‬من كل نوع من أنواع الحيوانات‪،‬‬


‫شيْءٍ خَلَ ْقنَا زَ ْو َ‬
‫ن كُلّ َ‬
‫{ َومِ ْ‬
‫ن } [لنعم ال التي أنعم بها عليكم] في تقدير ذلك‪ ،‬وحكمته حيث جعل ما هو‬
‫{ َلعَّل ُكمْ َت َذ ّكرُو َ‬
‫السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها‪ ،‬لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها‪ ،‬فيحصل من ذلك ما‬
‫يحصل من المنافع‪.‬‬

‫فلما دعا العباد النظر إلى لياته الموجبة لخشيته والنابة إليه‪ ،‬أمر بما هو المقصود من ذلك‪،‬‬
‫وهو الفرار إليه أي‪ :‬الفرار مما يكرهه ال ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬إلى ما يحبه‪ ،‬ظاهرًا وباطنًا‪ ،‬فرار‬
‫من الجهل إلى العلم‪ ،‬ومن الكفر إلى اليمان‪ ،‬ومن المعصية إلى الطاعة‪ ،‬و من الغفلة إلى ذكر‬
‫ال فمن استكمل هذه المور‪ ،‬فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب‪ ،‬وحصل له‪ ،‬نهاية‬
‫المراد والمطلوب‪.‬‬

‫وسمى ال الرجوع إليه‪ ،‬فرارَا‪ ،‬لن في الرجوع لغيره‪ ،‬أنواع المخاوف والمكاره‪ ،‬وفي‬
‫الرجوع إليه‪ ،‬أنواع المحاب والمن‪[ ،‬والسرور] والسعادة والفوز‪ ،‬فيفر العبد من قضائه‬
‫وقدره‪ ،‬إلى قضائه وقدره‪ ،‬وكل من خفت منه فررت منه إلى ال تعالى‪ ،‬فإنه بحسب الخوف‬
‫ن } أي‪ :‬منذر لكم من عذاب ال‪ ،‬ومخوف بين‬
‫منه‪ ،‬يكون الفرار إليه‪ِ { ،‬إنّي َل ُكمْ ِمنْ ُه َنذِيرٌ ُمبِي ٌ‬
‫النذارة‪.‬‬
‫خرَ} هذا من الفرار إلى ال‪ ،‬بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد‬
‫جعَلُوا مَعَ اللّهِ إَِلهًا آ َ‬
‫{ وَلَا َت ْ‬
‫من اتخاذ آلهة غير ال‪ ،‬من الوثان‪ ،‬والنداد والقبور‪ ،‬وغيرها‪ ،‬مما عبد من دون ال‪،‬‬
‫ويخلص العبد لربه العبادة والخوف‪ ،‬والرجاء والدعاء‪ ،‬والنابة‪.‬‬

‫ن * َأتَوَاصَوْا‬
‫جنُو ٌ‬
‫ن َرسُولٍ إِلّا قَالُوا سَاحِ ٌر أَ ْو َم ْ‬
‫ن قَبِْل ِهمْ مِ ْ‬
‫ن مِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 52-53‬كذَِلكَ مَا َأتَى اّلذِي َ‬
‫ن}‬
‫بِ ِه بَلْ ُهمْ قَ ْو ٌم طَاغُو َ‬

‫يقول ال مسليًا لرسوله صلى ال عليه وسلم عن تكذيب المشركين بال‪ ،‬المكذبين له‪ ،‬القائلين‬
‫فيه من القوال الشنيعة‪ ،‬ما هو منزه عنه‪ ،‬وأن هذه القوال‪ ،‬ما زالت دأبًا وعادة للمجرمين‬
‫المكذبين للرسل فما أرسل ال من رسول‪ ،‬إل رماه قومه بالسحر أو الجنون‪.‬‬

‫يقول ال تعالى‪ :‬هذه القوال التي صدرت منهم ‪-‬الولين والخرين‪ -‬هل هي أقوال تواصوا‬
‫بها‪ ،‬ولقن بعضهم بعضًا بها؟‬

‫فل يستغرب ‪-‬بسبب ذلك‪ -‬اتفاقهم عليها‪َ { :‬أمْ ُه ْم قَ ْومٌ طَاغُونَ } تشابهت قلوبهم وأعمالهم‬
‫بالكفر والطغيان‪ ،‬فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ن قَبِْل ِهمْ ِمثْلَ قَوِْل ِهمْ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ن لَوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأ ْو َت ْأتِينَا آ َيةٌ َكذَِلكَ قَالَ اّلذِي َ‬
‫{ َوقَالَ اّلذِينَ لَا َيعَْلمُو َ‬
‫َتشَا َبهَتْ قُلُو ُب ُهمْ } وكذلك المؤمنون‪ ،‬لما تشابهت قلوبهم بالذعان للحق وطلبه‪ ،‬والسعي فيه‪،‬‬
‫بادروا إلى اليمان برسلهم وتعظيمهم‪ ،‬وتوقيرهم‪ ،‬وخطابهم بالخطاب اللئق بهم‪.‬‬

‫ن}‬
‫ن ال ّذ ْكرَى َتنْفَ ُع ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫ت ِبمَلُومٍ * َو َذ ّكرْ فَإِ ّ‬
‫ع ْن ُهمْ فَمَا َأنْ َ‬
‫{ ‪َ { } 54-55‬فتَوَلّ َ‬

‫ع ْنهُ ْم } أي‪ :‬ل تبال بهم‬


‫يقول تعالى آمرًا رسوله بالعراض عن المعرضين المكذبين‪َ { :‬فتَوَلّ َ‬
‫ول تؤاخذهم‪ ،‬وأقبل على شأنك‪.‬‬

‫فليس عليك لوم في ذنبهم‪ ،‬وإنما عليك البلغ‪ ،‬وقد أديت ما حملت‪ ،‬وبلغت ما أرسلت به‪.‬‬

‫ن } والتذكير نوعان‪ :‬تذكير بما لم يعرف تفصيله‪ ،‬مما عرف‬


‫ن ال ّذكْرَى َتنْفَ ُع ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫{ َو َذكّرْ َفإِ ّ‬
‫مجمله بالفطر والعقول فإن ال فطر العقول على محبة الخير وإيثاره‪ ،‬وكراهة الشر والزهد‬
‫فيه‪ ،‬وشرعه موافق لذلك‪ ،‬فكل أمر ونهي من الشرع‪ ،‬فإنه من التذكير‪ ،‬وتمام التذكير‪ ،‬أن‬
‫يذكر ما في المأمور به ‪ ،‬من الخير والحسن والمصالح‪ ،‬وما في المنهي عنه‪ ،‬من المضار‪.‬‬
‫والنوع الثاني من التذكير‪ :‬تذكير بما هو معلوم للمؤمنين‪ ،‬ولكن انسحبت عليه الغفلة‬
‫والذهول‪ ،‬فيذكرون بذلك‪ ،‬ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم‪ ،‬وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه‪ ،‬من‬
‫ذلك‪ ،‬وليحدث لهم نشاطًا وهمة‪ ،‬توجب لهم النتفاع والرتفاع‪.‬‬

‫وأخبر ال أن الذكرى تنفع المؤمنين‪ ،‬لن ما معهم من اليمان والخشية والنابة‪ ،‬واتباع‬
‫رضوان ال‪ ،‬يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى‪ ،‬وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى‪:‬‬
‫جنّ ُبهَا ا ْلَأشْقَى }‬
‫ن َيخْشَى َو َي َت َ‬
‫سيَ ّذ ّكرُ مَ ْ‬
‫{ َف َذكّرْ ِإنْ َن َفعَتِ ال ّذ ْكرَى َ‬

‫وأما من ليس له معه إيمان ول استعداد لقبول التذكير‪ ،‬فهذا ل ينفع تذكيره‪ ،‬بمنزلة الرض‬
‫السبخة‪ ،‬التي ل يفيدها المطر شيئًا‪ ،‬وهؤلء الصنف‪ ،‬لو جاءتهم كل آية‪ ،‬لم يؤمنوا حتى يروا‬
‫العذاب الليم‪.‬‬

‫ن رِ ْزقٍ َومَا ُأرِي ُد أَنْ‬


‫جنّ وَا ْلِإنْسَ إِلّا ِل َي ْع ُبدُونِ * مَا ُأرِيدُ ِم ْن ُهمْ مِ ْ‬
‫{ ‪َ { } 56-58‬ومَا خَلَقْتُ ا ْل ِ‬
‫ن}‬
‫ُيطْ ِعمُونِ * ِإنّ اللّهَ ُهوَ ال ّرزّاقُ ذُو الْقُوّةِ ا ْل َمتِي ُ‬

‫هذه الغاية‪ ،‬التي خلق ال الجن والنس لها‪ ،‬وبعث جميع الرسل يدعون إليها‪ ،‬وهي عبادته‪،‬‬
‫المتضمنة لمعرفته ومحبته‪ ،‬والنابة إليه والقبال عليه‪ ،‬والعراض عما سواه‪ ،‬وذلك يتضمن‬
‫معرفة ال تعالى‪ ،‬فإن تمام العبادة‪ ،‬متوقف على المعرفة بال‪ ،‬بل كلما ازداد العبد معرفة لربه‪،‬‬
‫كانت عبادته أكمل‪ ،‬فهذا الذي خلق ال المكلفين لجله‪ ،‬فما خلقهم لحاجة منه إليهم‪.‬‬

‫فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه‪ ،‬تعالى ال الغني المغني عن الحاجة إلى أحد‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬وإنما جميع الخلق‪ ،‬فقراء إليه‪ ،‬في جميع حوائجهم ومطالبهم‪ ،‬الضرورية‬
‫وغيرها‪ ،‬ولهذا قال‪ِ { :‬إنّ اللّهَ ُهوَ ال ّرزّاقُ } أي‪ :‬كثير الرزق‪ ،‬الذي ما من دابة في الرض‬
‫ن } أي‪ :‬الذي‬
‫ول في السماء إل على ال رزقها‪ ،‬ويعلم مستقرها ومستودعها‪ { ،‬ذُو الْقُوّةِ ا ْل َمتِي ُ‬
‫له القوة والقدرة كلها‪ ،‬الذي أوجد بها الجرام العظيمة‪ ،‬السفلية والعلوية‪ ،‬وبها تصرف في‬
‫الظواهر والبواطن‪ ،‬ونفذت مشيئته في جميع البريات‪ ،‬فما شاء ال كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪،‬‬
‫ول يعجزه هارب‪ ،‬ول يخرج عن سلطانه أحد‪ ،‬ومن قوته‪ ،‬أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم‪،‬‬
‫ومن قدرته وقوته‪ ،‬أنه يبعث الموات بعد ما مزقهم البلى‪ ،‬وعصفت بترابهم الرياح‪ ،‬وابتلعتهم‬
‫الطيور والسباع‪ ،‬وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار‪ ،‬ولجج البحار‪ ،‬فل يفوته منهم أحد‪ ،‬ويعلم‬
‫ما تنقص الرض منهم‪ ،‬فسبحان القوي المتين‪.‬‬
‫ل لِّلذِينَ كَ َفرُوا‬
‫ستَ ْعجِلُونِ * فَ َويْ ٌ‬
‫صحَا ِب ِهمْ فَلَا َي ْ‬
‫ب َأ ْ‬
‫ن ظََلمُوا َذنُوبًا ِمثْلَ َذنُو ِ‬
‫{ ‪َ { } 59-60‬فإِنّ لِّلذِي َ‬
‫ن}‬
‫عدُو َ‬
‫ن يَ ْو ِم ِهمُ اّلذِي يُو َ‬
‫مِ ْ‬

‫أي‪ :‬وإن للذين ظلموا وكذبوا محمدًا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من العذاب والنكال { َذنُوبًا } أي‪:‬‬
‫نصيبًا وقسطًا‪ ،‬مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب‪.‬‬

‫ن } بالعذاب‪ ،‬فإن سنة ال في المم واحدة‪ ،‬فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير‬
‫س َت ْعجِلُو ِ‬
‫{ فَلَا َي ْ‬
‫توبة وإنابة‪ ،‬فإنه ل بد أن يقع عليه العذاب‪ ،‬ولو تأخر عنه مدة‪ ،‬ولهذا توعدهم ال بيوم‬
‫ن } وهو يوم القيامة‪ ،‬الذي قد وعدوا‬
‫عدُو َ‬
‫ن كَ َفرُوا مِنْ َي ْو ِم ِهمُ اّلذِي يُو َ‬
‫القيامة‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ َويْلٌ لِّلذِي َ‬
‫فيه بأنواع العذاب والنكال والسلسل والغلل‪ ،‬فل مغيث لهم‪ ،‬ول منقذ من عذاب ال تعالى‬
‫[نعوذ بال منه]‪.‬‬

‫تفسير سورة الطور‬


‫مكية‬

‫سطُورٍ * فِي رَقّ مَنْشُورٍ * وَالْبَ ْيتِ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ وَالطّورِ * َوكِتَابٍ مَ ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-16‬بِ ْ‬
‫سجُورِ * إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ َلوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * َيوْمَ‬
‫سقْفِ ا ْلمَ ْرفُوعِ * وَالْ َبحْرِ ا ْلمَ ْ‬
‫ا ْل َم ْعمُورِ * وَال ّ‬
‫خ ْوضٍ يَ ْلعَبُونَ‬
‫سمَاءُ َموْرًا * وَتَسِيرُ ا ْلجِبَالُ سَيْرًا * َفوَيْلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * الّذِينَ هُمْ فِي َ‬
‫َتمُورُ ال ّ‬
‫سحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْ ُتمْ لَا‬
‫جهَنّمَ دَعّا * َه ِذهِ النّارُ الّتِي كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ * َأفَ ِ‬
‫* َيوْمَ ُيدَعّونَ ِإلَى نَارِ َ‬
‫علَ ْيكُمْ إِ ّنمَا ُتجْ َزوْنَ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫سوَاءٌ َ‬
‫تُ ْبصِرُونَ * اصَْلوْهَا فَاصْبِرُوا َأوْ لَا َتصْبِرُوا َ‬

‫يقسم تعالى بهذه المور العظيمة‪ ،‬المشتملة على الحكم الجليلة‪ ،‬على البعث والجزاء للمتقين‬
‫والمكذبين‪ ،‬فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم ال عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬وأوحى إليه ما أوحى من الحكام‪ ،‬وفي ذلك من المنة عليه وعلى أمته‪ ،‬ما هو من آيات‬
‫ال العظيمة‪،‬‬

‫ونعمه التي ل يقدر العباد لها على عد ول ثمن‪.‬‬

‫{ َوكِتَابٍ مَسْطُورٍ } يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ‪ ،‬الذي كتب ال به كل شيء‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫المراد به القرآن الكريم‪ ،‬الذي هو أفضل كتاب أنزله ال محتويا على نبأ الولين والخرين‪،‬‬
‫وعلوم السابقين واللحقين‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬فِي َرقّ } أي‪ :‬ورق { مَنْشُورٍ } أي‪ :‬مكتوب مسطر‪ ،‬ظاهر غير خفي‪ ،‬ل تخفى حاله‬
‫على كل عاقل بصير‪.‬‬

‫{ وَالْبَ ْيتِ ا ْل َم ْعمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة‪ ،‬المعمور مدى الوقات بالملئكة‬
‫الكرام‪ ،‬الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ‪ ،‬ل يعودون إليه إلى يوم‬
‫القيامة وقيل‪ :‬إن البيت المعمور هو بيت ال الحرام‪ ،‬والمعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل‬
‫وقت‪ ،‬وبالوفود إليه بالحج والعمرة‪.‬‬

‫كما أقسم ال به في قوله‪ { :‬وَ َهذَا الْبََلدِ الَْأمِينِ } وحقيق ببيت أفضل بيوت الرض‪ ،‬الذي قصده‬
‫بالحج والعمرة‪ ،‬أحد أركان السلم‪ ،‬ومبانيه العظام‪ ،‬التي ل يتم إل بها‪ ،‬وهو الذي بناه إبراهيم‬
‫وإسماعيل‪ ،‬وجعله ال مثابة للناس وأمنا‪ ،‬أن يقسم ال به‪ ،‬ويبين من عظمته ما هو اللئق به‬
‫وبحرمته‪.‬‬

‫س ْقفِ ا ْلمَ ْرفُوعِ } أي‪ :‬السماء‪ ،‬التي جعلها ال سقفا للمخلوقات‪ ،‬وبناء للرض‪ ،‬تستمد منها‬
‫{ وَال ّ‬
‫أنوارها‪ ،‬ويقتدى بعلماتها ومنارها‪ ،‬وينزل ال منها المطر والرحمة وأنواع الرزق‪.‬‬

‫سجُورِ } أي‪ :‬المملوء ماء‪ ،‬قد سجره ال‪ ،‬ومنعه من أن يفيض على وجه الرض‪ ،‬مع‬
‫{ وَالْ َبحْرِ ا ْلمَ ْ‬
‫أن مقتضى الطبيعة‪ ،‬أن يغمر وجه الرض‪ ،‬ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان‬
‫والفيضان‪ ،‬ليعيش من على وجه الرض‪ ،‬من أنواع الحيوان وقيل‪ :‬إن المراد بالمسجور‪ ،‬الموقد‬
‫الذي يوقد [نارا] يوم القيامة‪ ،‬فيصير نارا تلظى‪ ،‬ممتلئا على عظمته وسعته من أصناف العذاب‪.‬‬

‫هذه الشياء التي أقسم ال بها‪ ،‬مما يدل على أنها من آيات ال وأدلة توحيده‪ ،‬وبراهين قدرته‪،‬‬
‫وبعثه الموات‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ َلوَاقِعٌ } أي‪ :‬ل بد أن يقع‪ ،‬ول يخلف ال وعده وقيله‪.‬‬

‫{ مَا َلهُ مِنْ دَا ِفعٍ } يدفعه‪ ،‬ول مانع يمنعه‪ ،‬لن قدرة ال تعالى ل يغالبها‬

‫مغالب‪ ،‬ول يفوتها هارب‪ ،‬ثم ذكر وصف ذلك اليوم‪ ،‬الذي يقع فيه العذاب‪ ،‬فقال‪َ { :‬يوْمَ َتمُورُ‬
‫سمَاءُ َموْرًا } أي‪ :‬تدور السماء وتضطرب‪ ،‬وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون‪،‬‬
‫ال ّ‬

‫{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي‪ :‬تزول عن أماكنها‪ ،‬وتسير كسير السحاب‪ ،‬وتتلون كالعهن المنفوش‪،‬‬
‫وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء‪ ،‬وذلك كله لعظم هول يوم القيامة‪ ،‬وفظاعة ما فيه من‬
‫المور المزعجة‪ ،‬والزلزل المقلقة‪ ،‬التي أزعجت هذه الجرام العظيمة‪ ،‬فكيف بالدمي‬
‫الضعيف!؟‬
‫{ َفوَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } والويل‪ :‬كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف‪.‬‬

‫خ ْوضٍ يَ ْلعَبُونَ } أي‪:‬‬


‫ثم ذكر وصف المكذبين الذين استحقوا به الويل‪ ،‬فقال‪ { :‬الّذِينَ ُهمْ فِي َ‬
‫خوض في الباطل ولعب به‪ .‬فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة للتكذيب بالحق‪،‬‬
‫والتصديق بالباطل‪ ،‬وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه واللعب‪ ،‬بخلف ما عليه أهل التصديق‬
‫واليمان من العلوم النافعة‪ ،‬والعمال الصالحة‪.‬‬

‫جهَنّمَ دَعّا } أي‪ :‬يوم يدفعون إليها دفعا‪ ،‬ويساقون إليها سوقا عنيفا‪ ،‬ويجرون‬
‫{ َيوْمَ يُدَعّونَ إِلَى نَارِ َ‬
‫على وجوههم‪ ،‬ويقال لهم توبيخا ولوما‪ { :‬هَ ِذهِ النّارُ الّتِي كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ } فاليوم ذوقوا عذاب‬
‫الخلد الذي ل يبلغ قدره‪ ،‬ول يوصف أمره‪.‬‬

‫{ َأ َفسِحْرٌ هَذَا َأمْ أَنْتُمْ لَا تُ ْبصِرُونَ } يحتمل أن الشارة إلى النار والعذاب‪ ،‬كما يدل عليه سياق الية‬
‫أي‪ :‬لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع‪ { :‬أهذا سحر ل حقيقة له‪ ،‬فقد رأيتموه‪ ،‬أم‬
‫أنتم في الدنيا ل تبصرون } أي‪ :‬ل بصيرة لكم ول علم عندكم‪ ،‬بل كنتم جاهلين بهذا المر‪ ،‬لم تقم‬
‫عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء المرين‪:‬‬

‫أما كونه سحرا‪ ،‬فقد ظهر لهم أنه أحق الحق‪ ،‬وأصدق الصدق‪ ،‬المخالف للسحر من جميع‬
‫الوجوه‪ ،‬وأما كونهم ل يبصرون‪ ،‬فإن المر بخلف ذلك‪ ،‬بل حجة ال قد قامت عليهم‪ ،‬ودعتهم‬
‫الرسل إلى اليمان بذلك‪ ،‬وأقامت من الدلة والبراهين على ذلك‪ ،‬ما يجعله من أعظم المور‬
‫المبرهنة الواضحة الجلية‪.‬‬

‫ويحتمل أن الشارة [بقوله‪َ { :‬أ َفسِحْرٌ هَذَا َأمْ أَنْتُمْ لَا تُ ْبصِرُونَ } ] إلى ما جاء به الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم من الحق المبين‪ ،‬والصراط المستقيم أي‪ :‬هذا الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫سحر أم عدم بصيرة بكم‪ ،‬حتى اشتبه عليكم المر‪ ،‬وحقيقة المر أنه أوضح من كل شيء وأحق‬
‫الحق‪ ،‬وأن حجة ال قامت عليهم‬

‫{ اصَْلوْهَا } أي‪ :‬ادخلوا النار على وجه تحيط بكم‪ ،‬وتستوعب جميع أبدانكم وتطلع على أفئدتكم‪.‬‬

‫سوَاءٌ عَلَ ْي ُكمْ } أي‪ :‬ل يفيدكم الصبر على النار شيئا‪ ،‬ول يتأسى بعضكم‬
‫{ فَاصْبِرُوا َأوْ لَا َتصْبِرُوا َ‬
‫ببعض‪ ،‬ول يخفف عنكم العذاب‪ ،‬وليست من المور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها‬
‫وزالت شدتها‪.‬‬

‫وإنما فعل بهم ذلك‪ ،‬بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم‪[ ،‬ولهذا قال] { إِ ّنمَا تُجْ َزوْنَ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬
‫جحِيمِ‬
‫عذَابَ الْ َ‬
‫ت وَ َنعِيمٍ * فَا ِكهِينَ ِبمَا آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ وَ َوقَا ُهمْ رَ ّبهُمْ َ‬
‫{ ‪ { } 17-20‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ‬
‫صفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ }‬
‫* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * مُ ّتكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ َم ْ‬

‫لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين‪ ،‬ذكر نعيم المتقين‪ ،‬ليجمع بين الترغيب والترهيب‪ ،‬فتكون القلوب‬
‫بين الخوف والرجاء‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } لربهم‪ ،‬الذين اتقوا سخطه وعذابه‪ ،‬بفعل أسبابه من‬
‫امتثال الوامر واجتناب النواهي‪.‬‬

‫{ فِي جَنّاتِ } أي‪ :‬بساتين‪ ،‬قد اكتست رياضها من الشجار الملتفة‪ ،‬والنهار المتدفقة‪ ،‬والقصور‬
‫المحدقة‪ ،‬والمنازل المزخرفة‪ { ،‬وَ َنعِيمٍ } [وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن‪،‬‬

‫{ فَا ِكهِينَ ِبمَا آتَاهُمْ رَ ّب ُهمْ } أي‪ :‬معجبين به‪ ،‬متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم ال‬
‫من النعيم الذي ل يمكن وصفه‪ ،‬ول تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‪ ،‬ووقاهم عذاب الجحيم‪،‬‬
‫فرزقهم المحبوب‪ ،‬ونجاهم من المرهوب‪ ،‬لما فعلوا ما أحبه ال‪ ،‬وجانبوا ما يسخطه ويأباه‪.‬‬

‫{ كُلُوا وَاشْرَبُوا } أي‪ :‬مما تشتهيه أنفسكم‪ ،‬من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة‪ { ،‬هَنِيئًا } أي‪:‬‬
‫متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور‪ِ { .‬بمَا كُنْ ُتمْ‬
‫َت ْعمَلُونَ } أي‪ :‬نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة‪ ،‬وأقوالكم المستحسنة‪.‬‬

‫صفُوفَةٍ } التكاء‪ :‬هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والستقرار‪،‬‬


‫{ مُ ّتكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ َم ْ‬
‫والسرر‪ :‬هي الرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية‪.‬‬

‫ووصف ال السرر بأنها مصفوفة‪ ،‬ليدل ذلك على كثرتها‪ ،‬وحسن تنظيمها‪ ،‬واجتماع أهلها‬
‫وسرورهم‪ ،‬بحسن معاشرتهم‪ ،‬ولطف كلم بعضهم لبعض فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح‬
‫والبدن ما ل يخطر بالبال‪ ،‬ول يدور في الخيال‪ ،‬من المآكل والمشارب [اللذيذة]‪ ،‬والمجالس‬
‫الحسنة النيقة‪ ،‬لم يبق إل التمتع بالنساء اللتي ل يتم سرور بدونهن فذكر ال أن لهم من‬
‫الزواج أكمل النساء أوصافا وخلقا وأخلقا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ َزوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ } وهن النساء‬
‫اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها‪ ،‬ومن الخلق الفاضلة‪ ،‬ما يوجب أن‬
‫يحيرن بحسنهن الناظرين‪ ،‬ويسلبن عقول العالمين‪ ،‬وتكاد الفئدة أن تطيش شوقا إليهن‪ ،‬ورغبة‬
‫في وصالهن‪ ،‬والعين‪ :‬حسان العين مليحاتها‪ ،‬التي صفا بياضها وسوادها‪.‬‬

‫عمَِلهِمْ مِنْ‬
‫حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ َ‬
‫{ ‪ { } 21-28‬وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ‬
‫حمٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا‬
‫سبَ رَهِينٌ * وََأمْ َددْنَاهُمْ ِبفَا ِكهَ ٍة وَلَ ْ‬
‫شيْءٍ ُكلّ امْ ِرئٍ ِبمَا كَ َ‬
‫َ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ‬
‫َل ْغوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَ ْيهِمْ غِ ْلمَانٌ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ * وََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫سمُومِ * إِنّا كُنّا مِنْ‬
‫عذَابَ ال ّ‬
‫شفِقِينَ * َفمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َو َوقَانَا َ‬
‫يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنّا كُنّا قَ ْبلُ فِي أَهْلِنَا مُ ْ‬
‫قَ ْبلُ َندْعُوهُ إِنّهُ ُهوَ الْبَرّ الرّحِيمُ }‬

‫وهذا من تمام نعيم أهل الجنة‪ ،‬أن ألحق ال [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي‪ :‬الذين لحقوهم‬
‫باليمان الصادر من آبائهم‪ ،‬فصارت الذرية تبعا لهم باليمان‪ ،‬ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم‬
‫بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم‪ ،‬فهؤلء المذكورون‪ ،‬يلحقهم ال بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم‬
‫يبلغوها‪ ،‬جزاء لبائهم‪ ،‬وزيادة في ثوابهم‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ل ينقص ال الباء من أعمالهم شيئا‪ ،‬ولما‬
‫كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك‪ ،‬يلحق ال بهم أبناءهم وذريتهم‪ ،‬أخبر أنه ليس حكم‬
‫الدارين حكما واحدا‪ ،‬فإن النار دار العدل‪ ،‬ومن عدله تعالى أن ل يعذب أحدا إل بذنب‪ ،‬ولهذا‬
‫سبَ َرهِينٌ } أي‪ :‬مرتهن بعمله‪ ،‬فل تزر وازرة وزر أخرى‪ ،‬ول يحمل‬
‫قال‪ُ { :‬كلّ امْ ِرئٍ ِبمَا َك َ‬
‫على أحد ذنب أحد‪ .‬هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وََأمْدَدْنَا ُهمْ } أي‪ :‬أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم‪ِ { ،‬بفَاكِهَةٍ } من‬
‫العنب والرمان والتفاح‪ ،‬وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون‪ { ،‬وََلحْمٍ ِممّا‬
‫يَشْ َتهُونَ } من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم‪ ،‬من لحم الطير وغيرها‪.‬‬

‫{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } أي‪ :‬تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم‪ ،‬ويتعاطونها فيما بينهم‪ ،‬وتطوف‬
‫عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس { لَا َل ْغوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ } أي‪ :‬ليس في الجنة كلم‬
‫لغو‪ ،‬وهو الذي ل فائدة فيه ول تأثيم‪ ،‬وهو الذي فيه إثم ومعصية‪ ،‬وإذا انتفى المران‪ ،‬ثبت المر‬
‫الثالث‪ ،‬وهو أن كلمهم فيها سلم طيب طاهر‪ ،‬مسر للنفوس‪ ،‬مفرح للقلوب‪ ،‬يتعاشرون أحسن‬
‫عشرة‪ ،‬ويتنادمون أطيب المنادمة‪ ،‬ول يسمعون من ربهم‪ ،‬إل ما يقر أعينهم‪ ،‬ويدل على رضاه‬
‫عنهم [ومحبته لهم]‪.‬‬

‫{ وَيَطُوفُ عَلَ ْيهِمْ غِ ْلمَانٌ َلهُمْ } أي‪ :‬خدم شباب { كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ } من حسنهم وبهائهم‪ ،‬يدورون‬
‫عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته‪ ،‬وكمال راحتهم‪.‬‬

‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ يَ َتسَاءَلُونَ } عن أمور الدنيا وأحوالها‪ { .‬قَالُوا } في [ذكر] بيان الذي‬
‫{ وََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫شفِقِينَ‬
‫أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور‪ { :‬إِنّا كُنّا قَ ْبلُ } أي‪ :‬في دار الدنيا { فِي أَهْلِنَا مُ ْ‬
‫} أي‪ :‬خائفين وجلين‪ ،‬فتركنا من خوفه الذنوب‪ ،‬وأصلحنا لذلك العيوب‪.‬‬

‫سمُومِ } أي‪ :‬العذاب الحار الشديد حره‪.‬‬


‫{ َفمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا } بالهداية والتوفيق‪َ { ،‬و َوقَانَا عَذَابَ ال ّ‬
‫{ إِنّا كُنّا مِنْ قَ ْبلُ َندْعُوهُ } أن يقينا عذاب السموم‪ ،‬ويوصلنا إلى النعيم‪ ،‬وهذا شامل لدعاء العبادة‬
‫ودعاء المسألة أي‪ :‬لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الوقات‪ { ،‬إِنّهُ ُهوَ الْبَرّ‬
‫الرّحِيمُ } فمن بره بنا ورحمته إيانا‪ ،‬أنالنا رضاه والجنة‪ ،‬ووقانا سخطه والنار‪.‬‬

‫{ ‪ { } 29-43‬فَ َذكّرْ َفمَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَ ّبصُ بِهِ رَ ْيبَ‬
‫ا ْلمَنُونِ * ُقلْ تَرَ ّبصُوا فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ * أَمْ تَ ْأمُرُهُمْ َأحْلَا ُمهُمْ ِبهَذَا أَمْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ *‬
‫شيْءٍ‬
‫خِلقُوا مِنْ غَيْرِ َ‬
‫حدِيثٍ مِثِْلهِ إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ * َأمْ ُ‬
‫أَمْ َيقُولُونَ َت َقوّلَهُ َبلْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِ َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِ ْندَهُمْ خَزَائِنُ رَ ّبكَ َأمْ هُمُ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أَمْ هُمُ ا ْلخَاِلقُونَ * أَمْ خََلقُوا ال ّ‬
‫ا ْلمُسَ ْيطِرُونَ * أَمْ َل ُهمْ سُلّمٌ يَسْ َت ِمعُونَ فِيهِ فَلْيَ ْأتِ مُسْ َت ِم ُعهُمْ بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ * َأمْ لَهُ الْبَنَاتُ وََلكُمُ الْبَنُونَ‬
‫* أَمْ تَسْأَُلهُمْ َأجْرًا َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ * َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ * َأمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالّذِينَ‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ }‬
‫َكفَرُوا ُهمُ ا ْل َمكِيدُونَ * َأمْ َلهُمْ إَِلهٌ غَيْرُ اللّهِ سُ ْبحَانَ اللّهِ َ‬

‫يأمر تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم أن يذكر الناس‪ ،‬مسلمهم وكافرهم‪ ،‬لتقوم حجة ال على‬
‫الظالمين‪ ،‬ويهتدي بتذكيره الموفقون‪ ،‬وأنه ل يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي‬
‫يصدون بها الناس عن اتباعه‪ ،‬مع علمهم أنه أبعد الناس عنها‪ ،‬ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به‬
‫فقال‪َ { :‬فمَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ } أي‪ :‬منه ولطفه‪ِ { ،‬بكَاهِنٍ } أي‪ :‬له رئي من الجن‪ ،‬يأتيه بأخبار‬
‫بعض الغيوب‪ ،‬التي يضم إليها مائة كذبة‪ { ،‬وَلَا مَجْنُونٍ } فاقد للعقل‪ ،‬بل أنت أكمل الناس عقل‪،‬‬
‫وأبعدهم عن الشياطين‪ ،‬وأعظمهم صدقا‪ ،‬وأجلهم وأكملهم‪،‬‬

‫وتارة { َيقُولُونَ } فيه‪ :‬إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر‪ ،‬والذي جاء به شعر‪،‬‬

‫شعْ َر َومَا يَنْ َبغِي َلهُ }‬


‫عّلمْنَاهُ ال ّ‬
‫وال يقول‪َ { :‬ومَا َ‬

‫{ نَتَرَ ّبصُ ِبهِ رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ } أي‪ :‬ننتظر به الموت فسيبطل أمره‪[ ،‬ونستريح منه]‪.‬‬

‫{ ُقلْ } لهم جوابا لهذا الكلم السخيف‪ { :‬تَرَ ّبصُوا } أي‪ :‬انتظروا بي الموت‪،‬‬

‫{ فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ } نتربص بكم‪ ،‬أن يصيبكم ال بعذاب من عنده‪ ،‬أو بأيدينا‪،‬‬

‫{ َأمْ تَ ْأمُرُهُمْ أَحْلَا ُمهُمْ ِبهَذَا َأمْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ } أي‪ :‬أهذا التكذيب لك‪ ،‬والقوال التي قالوها؟ هل‬
‫صدرت عن عقولهم وأحلمهم؟ فبئس العقول والحلم‪ ،‬التي أثرت ما أثرت‪ ،‬وصدر منها ما‬
‫صدر‬
‫فإن عقول جعلت أكمل الخلق عقل مجنونا‪ ،‬وأصدق الصدق وأحق الحق كذبا وباطل‪ ،‬لهي‬
‫العقول التي ينزه المجانين عنها‪ ،‬أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع‪ ،‬فالطغيان‬
‫ليس له حد يقف عليه‪ ،‬فل يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه‪.‬‬

‫{ َأمْ َيقُولُونَ َت َقوّلَهُ } أي‪ :‬تقول محمد القرآن‪ ،‬وقاله من تلقاء نفسه؟ { َبلْ لَا ُي ْؤمِنُونَ } فلو آمنوا‪ ،‬لم‬
‫يقولوا ما قالوا‪.‬‬

‫{ فَلْيَأْتُوا ِبحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ } أنه تقوله‪ ،‬فإنكم العرب الفصحاء‪ ،‬والفحول البلغاء‪ ،‬وقد‬
‫تحداكم أن تأتوا بمثله‪ ،‬فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه‪ ،‬وأنكم لو اجتمعتم‪ ،‬أنتم والنس‬
‫والجن‪ ،‬لم تقدروا على معارضته والتيان بمثله‪ ،‬فحينئذ أنتم بين أمرين‪ :‬إما مؤمنون به‪ ،‬مهتدون‬
‫بهديه‪ ،‬وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل‪.‬‬

‫شيْءٍ أَمْ ُهمُ ا ْلخَاِلقُونَ } وهذا استدلل عليهم‪ ،‬بأمر ل يمكنهم فيه إل التسليم‬
‫خِلقُوا مِنْ غَيْرِ َ‬
‫{ َأمْ ُ‬
‫للحق‪ ،‬أو الخروج عن موجب العقل والدين‪ ،‬وبيان ذلك‪ :‬أنهم منكرون لتوحيد ال‪ ،‬مكذبون‬
‫لرسوله‪ ،‬وذلك مستلزم لنكار أن ال خلقهم‪.‬‬

‫وقد تقرر في العقل مع الشرع‪ ،‬أن المر ل يخلو من أحد ثلثة أمور‪:‬‬

‫إما أنهم خلقوا من غير شيء أي‪ :‬ل خالق خلقهم‪ ،‬بل وجدوا من غير إيجاد ول موجد‪ ،‬وهذا عين‬
‫المحال‪.‬‬

‫أم هم الخالقون لنفسهم‪ ،‬وهذا أيضا محال‪ ،‬فإنه ل يتصور أن يوجدوا أنفسهم‬

‫فإذا بطل [هذان] المران‪ ،‬وبان استحالتهما‪ ،‬تعين [القسم الثالث] أن ال الذي خلقهم‪ ،‬وإذا تعين‬
‫ذلك‪ ،‬علم أن ال تعالى هو المعبود وحده‪ ،‬الذي ل تنبغي العبادة ول تصلح إل له تعالى‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي‪ :‬ما خلقوا‬
‫وقوله‪ { :‬أَمْ خََلقُوا ال ّ‬
‫السماوات والرض‪ ،‬فيكونوا شركاء ل‪ ،‬وهذا أمر واضح جدا‪ .‬ولكن المكذبين { لَا يُوقِنُونَ } أي‪:‬‬
‫ليس عندهم علم تام‪ ،‬ويقين يوجب لهم النتفاع بالدلة الشرعية والعقلية‪.‬‬

‫{ َأمْ عِنْ َدهُمْ خَزَائِنُ رَ ّبكَ أَمْ هُمُ ا ْلمُسَيْطِرُونَ } أي‪ :‬أعند هؤلء المكذبين خزائن رحمة ربك‪،‬‬
‫فيعطون من يشاءون ويمنعون من يريدون؟ أي‪ :‬فلذلك حجروا على ال أن يعطي النبوة عبده‬
‫ورسوله محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكأنهم الوكلء المفوضون على خزائن رحمة ال‪ ،‬وهم‬
‫أحقر وأذل من ذلك‪ ،‬فليس في أيديهم لنفسهم نفع ول ضر‪ ،‬ول موت ول حياة ول نشور‪.‬‬
‫سمْنَا بَيْ َن ُهمْ َمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا }‬
‫حمَةَ رَ ّبكَ نَحْنُ قَ َ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫{ َأهُمْ َيقْ ِ‬

‫{ َأمْ ُهمُ ا ْلمُسَ ْيطِرُونَ } أي‪ :‬المتسلطون على خلق ال وملكه‪ ،‬بالقهر والغلبة؟‬

‫ليس المر كذلك‪ ،‬بل هم العاجزون الفقراء‬

‫{ َأمْ َلهُمْ سُلّمٌ َيسْ َت ِمعُونَ فِيهِ } أي‪ :‬ألهم اطلع على الغيب‪ ،‬واستماع له بين المل العلى‪ ،‬فيخبرون‬
‫عن أمور ل يعلمها غيرهم؟‬

‫{ فَلْيَ ْأتِ مُسْ َت ِم ُعهُمْ } المدعي لذلك { ِبسُلْطَانٍ مُبِينٍ } وأنى له ذلك؟‬

‫وال تعالى عالم الغيب والشهادة‪ ،‬فل يظهر على غيبه [أحدا] إل من ارتضى من رسول يخبره‬
‫بما أراد من علمه‪.‬‬

‫وإذا كان محمد صلى ال عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم‪ ،‬وهو المخبر بما أخبر به‪،‬‬
‫من توحيد ال‪ ،‬ووعده‪ ،‬ووعيده‪ ،‬وغير ذلك من أخباره الصادقة‪ ،‬والمكذبون هم أهل الجهل‬
‫والضلل والغي والعناد‪ ،‬فأي المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصا والرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم قد أقام من الدلة والبراهين على ما أخبر به‪ ،‬ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل‬
‫الصدق‪ ،‬وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة‪ ،‬فضل عن إقامة حجة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ } كما زعمتم { وََلكُمُ الْبَنُونَ } فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد‪،‬‬
‫واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟‬

‫{ َأمْ تَسْأَُل ُهمْ } يا أيها الرسول { َأجْرًا } على تبليغ الرسالة‪َ { ،‬فهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ } ليس المر‬
‫كذلك‪ ،‬بل أنت الحريص على تعليمهم‪ ،‬تبرعا من غير شيء‪ ،‬بل تبذل لهم الموال الجزيلة‪ ،‬على‬
‫قبول رسالتك‪ ،‬والستجابة [لمرك‬

‫و] دعوتك‪ ،‬وتعطي المؤلفة قلوبهم [ليتمكن العلم واليمان من قلوبهم]‪.‬‬

‫{ َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب‪ ،‬فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع‬
‫عليه رسول ال‪ ،‬فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم المة المية‪ ،‬الجهال‬
‫الضالون‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره‪ ،‬وأنبأه ال من‬
‫علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحدا من الخلق‪ ،‬وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على‬
‫فساد قولهم‪ ،‬وتصوير بطلنه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من العتراض‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬أَمْ يُرِيدُونَ } بقدحهم فيك وفيما جئتهم به { كَيْدًا } يبطلون به دينك‪ ،‬ويفسدون به أمرك؟‬

‫{ فَالّذِينَ َكفَرُوا ُهمُ ا ْل َمكِيدُونَ } أي‪ :‬كيدهم في نحورهم‪ ،‬ومضرته عائدة إليهم‪ ،‬وقد فعل ال ذلك‬
‫‪-‬ول الحمد‪ -‬فلم يبق الكفار من مقدورهم من المكر شيئا إل فعلوه‪ ،‬فنصر ال نبيه ودينه عليهم‬
‫وخذلهم وانتصر منهم‪.‬‬

‫{ َأمْ َلهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ } أي‪ :‬ألهم إله يدعى ويرجى نفعه‪ ،‬ويخاف من ضره‪ ،‬غير ال تعالى؟‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ } فليس له شريك في الملك‪ ،‬ول شريك في الوحدانية والعبادة‪ ،‬وهذا‬
‫{ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬
‫هو المقصود من الكلم الذي سيق لجله‪ ،‬وهو بطلن عبادة ما سوى ال وبيان فسادها بتلك الدلة‬
‫القاطعة‪ ،‬وأن ما عليه المشركون هو الباطل‪ ،‬وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ويخلص‬
‫له دعاء العبادة ودعاء المسألة‪ ،‬هو ال المألوه المعبود‪ ،‬كامل السماء والصفات‪ ،‬كثير النعوت‬
‫الحسنة‪ ،‬والفعال الجميلة‪ ،‬ذو الجلل والكرام‪ ،‬والعز الذي ل يرام‪ ،‬الواحد الحد‪ ،‬الفرد الصمد‪،‬‬
‫الكبير الحميد المجيد‪.‬‬

‫سمَاءِ سَاقِطًا َيقُولُوا سَحَابٌ مَ ْركُومٌ * َفذَرْهُمْ حَتّى يُلَاقُوا‬


‫سفًا مِنَ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 44-46‬وَإِنْ يَ َروْا كِ ْ‬
‫صعَقُونَ * َيوْمَ لَا ُيغْنِي عَ ْنهُمْ كَيْ ُدهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ }‬
‫َي ْو َمهُمُ الّذِي فِيهِ ُي ْ‬

‫يقول تعالى في [ذكر] بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح‪ ،‬قد عتوا [عن الحق] وعسوا‬
‫سفًا مِنَ‬
‫على الباطل‪ ،‬وأنه لو قام على الحق كل دليل لما اتبعوه‪ ،‬ولخالفوه وعاندوه‪ { ،‬وَإِنْ يَ َروْا كِ ْ‬
‫سمَاءِ سَاقِطًا } أي‪ :‬لو سقط عليهم من السماء من اليات الباهرة كسف أي‪ :‬قطع كبار من‬
‫ال ّ‬
‫سحَابٌ مَ ْركُومٌ } أي‪ :‬هذا سحاب متراكم على العادة أي‪ :‬فل يبالون بما رأوا من‬
‫العذاب { َيقُولُوا َ‬
‫اليات ول يعتبرون بها‪ ،‬وهؤلء ل دواء لهم إل العذاب والنكال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَذَرْ ُهمْ حَتّى يُلَاقُوا‬
‫صعَقُونَ }‬
‫َي ْو َمهُمُ الّذِي فِيهِ ُي ْ‬

‫وهو يوم القيامة الذي يصيبهم [فيه] من العذاب والنكال‪ ،‬ما ل يقادر قدره‪ ،‬ول يوصف أمره‪.‬‬

‫{ َيوْمَ لَا ُيغْنِي عَ ْن ُهمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئًا } أي‪ :‬ل قليل ول كثيرا‪ ،‬وإن كان في الدنيا قد يوجد منهم كيد‬
‫يعيشون به زمنا قليل‪ ،‬فيوم القيامة يضمحل كيدهم‪ ،‬وتبطل مساعيهم‪ ،‬ول ينتصرون من عذاب ال‬
‫{ وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ }‬
‫حكْمِ رَ ّبكَ‬
‫ك وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ * وَاصْبِرْ لِ ُ‬
‫{ ‪ { } 47-49‬وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُوا عَذَابًا دُونَ ذَِل َ‬
‫ح ْمدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ * َومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْ ُه وَِإدْبَارَ النّجُومِ }‬
‫فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِ َ‬

‫لما ذكر [ال] عذاب الظالمين في القيامة‪ ،‬أخبر أن لهم عذابا دون عذاب يوم القيامة وذلك شامل‬
‫لعذاب الدنيا‪ ،‬بالقتل والسبي والخراج من الديار‪ ،‬ولعذاب البرزخ والقبر‪ { ،‬وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا‬
‫َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب‪ ،‬وشدة العقاب‪.‬‬

‫ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلن أقوال المكذبين‪ ،‬أمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن‬
‫ل يعبأ بهم شيئا‪ ،‬وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والستقامة عليه‪ ،‬ووعده ال‬
‫بالكفاية بقوله‪ { :‬فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا } أي‪ :‬بمرأى منا وحفظ‪ ،‬واعتناء بأمرك‪ ،‬وأمره أن يستعين على‬
‫حمْدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ } أي‪ :‬من الليل‪.‬‬
‫الصبر بالذكر والعبادة‪ ،‬فقال‪ { :‬وَسَبّحْ ِب َ‬

‫ح ُه وَإِدْبَارَ‬
‫ففيه المر بقيام الليل‪ ،‬أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس‪ ،‬بدليل قوله‪َ { :‬ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّ ْ‬
‫النّجُومِ} أي‪ :‬آخر الليل‪ ،‬ويدخل فيه صلة الفجر‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫تم تفسير سورة والطور والحمد ل‬

‫تفسير سورة النجم‬


‫[وهي] مكية‬

‫غوَى * َومَا‬
‫ل صَاحِ ُبكُ ْم َومَا َ‬
‫ضّ‬‫حمَنِ الرّحِي ِم وَالنّجْمِ ِإذَا َهوَى * مَا َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-18‬بِ ْ‬
‫شدِيدُ ا ْل ُقوَى * ذُو مِ ّرةٍ فَاسْ َتوَى * وَ ُهوَ بِالُْأفُقِ‬
‫حيٌ يُوحَى * عَّلمَهُ َ‬
‫طقُ عَنِ ا ْل َهوَى * إِنْ ُهوَ إِلّا وَ ْ‬
‫يَنْ ِ‬
‫الْأَعْلَى * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى * َفكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ َأدْنَى * فََأ ْوحَى إِلَى عَ ْب ِدهِ مَا َأوْحَى * مَا كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ‬
‫مَا رَأَى * َأفَ ُتمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وََلقَدْ رَآهُ نَزَْلةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى * عِنْدَهَا جَنّةُ‬
‫طغَى * َلقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى‬
‫ا ْلمَ ْأوَى * إِذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى * مَا زَاغَ الْ َبصَ ُر َومَا َ‬
‫}‬

‫يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي‪ :‬سقوطه في الفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار‪،‬‬
‫لن في ذلك من آيات ال العظيمة‪ ،‬ما أوجب أن أقسم به‪ ،‬والصحيح أن النجم‪ ،‬اسم جنس شامل‬
‫للنجوم كلها‪ ،‬وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم من الوحي‬
‫اللهي‪ ،‬لن في ذلك مناسبة عجيبة‪ ،‬فإن ال تعالى جعل النجوم زينة للسماء‪ ،‬فكذلك الوحي وآثاره‬
‫زينة للرض‪ ،‬فلول العلم الموروث عن النبياء‪ ،‬لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم‪.‬‬

‫والمقسم عليه‪ ،‬تنزيه الرسول صلى ال عليه وسلم عن الضلل في علمه‪ ،‬والغي في قصده‪ ،‬ويلزم‬
‫من ذلك أن يكون مهتديا في علمه‪ ،‬هاديا‪ ،‬حسن القصد‪ ،‬ناصحا للمة بعكس ما عليه أهل‬
‫الضلل من فساد العلم‪ ،‬وفساد القصد‬

‫وقال { صَاحِ ُبكُمْ } لينبههم على ما يعرفونه منه‪ ،‬من الصدق والهداية‪ ،‬وأنه ل يخفى عليهم أمره‪{ ،‬‬
‫َومَا يَ ْنطِقُ عَنِ ا ْل َهوَى } أي‪ :‬ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه‬

‫حيٌ يُوحَى } أي‪ :‬ل يتبع إل ما أوحى ال إليه من الهدى والتقوى‪ ،‬في نفسه وفي‬
‫{ إِنْ ُهوَ إِلّا وَ ْ‬
‫غيره‪.‬‬

‫ودل هذا على أن السنة وحي من ال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَأَنْ َزلَ اللّهُ‬
‫ح ْكمَةَ } وأنه معصوم فيما يخبر به عن ال تعالى وعن شرعه‪ ،‬لن كلمه ل‬
‫عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ‬
‫يصدر عن هوى‪ ،‬وإنما يصدر عن وحي يوحى‪.‬‬

‫ثم ذكر المعلم للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو جبريل [عليه السلم]‪ ،‬أفضل الملئكة [الكرام]‬
‫شدِيدُ ا ْل ُقوَى] } أي‪ :‬نزل بالوحي على الرسول صلى ال عليه‬
‫وأقواهم وأكملهم‪ ،‬فقال‪ { :‬عَّل َمهُ [ َ‬
‫وسلم جبريل عليه السلم‪ { ،‬شديد القوى } أي‪ :‬شديد القوة الظاهرة والباطنة‪ ،‬قوي على تنفيذ ما‬
‫أمره ال بتنفيذه‪ ،‬قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومنعه من اختلس‬
‫الشياطين له‪ ،‬أو إدخالهم فيه ما ليس منه‪ ،‬وهذا من حفظ ال لوحيه‪ ،‬أن أرسله مع هذا الرسول‬
‫القوي المين‪.‬‬

‫{ ذُو مِ ّرةٍ } أي‪ :‬قوة‪ ،‬وخلق حسن‪ ،‬وجمال ظاهر وباطن‪.‬‬

‫{ فَاسْ َتوَى } جبريل عليه السلم { وَ ُهوَ بِالُْأ ُفقِ الْأَعْلَى } أي‪ :‬أفق السماء الذي هو أعلى من‬
‫الرض‪ ،‬فهو من الرواح العلوية‪ ،‬التي ل تنالها الشياطين ول يتمكنون من الوصول إليها‪.‬‬

‫{ ُثمّ دَنَا } جبريل من النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ليصال الوحي إليه‪ { .‬فَ َتدَلّى } عليه من الفق‬
‫العلى { َفكَانَ } في قربه منه { قَابَ َقوْسَيْنِ } أي‪ :‬قدر قوسين‪ ،‬والقوس معروف‪َ { ،‬أوْ َأدْنَى }‬
‫أي‪ :‬أقرب من القوسين‪ ،‬وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى ال عليه وسلم بالرسالة‪،‬‬
‫وأنه ل واسطة بينه وبين جبريل عليه السلم‪.‬‬
‫{ فََأوْحَى } ال بواسطة جبريل عليه السلم { إِلَى عَ ْب ِدهِ } محمد صلى ال عليه وسلم { مَا َأوْحَى }‬
‫أي‪ :‬الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم‪ ،‬والنبأ المستقيم‪.‬‬

‫{ مَا َك َذبَ ا ْلفُؤَادُ مَا رَأَى } أي‪ :‬اتفق فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي‬
‫أوحاه ال إليه‪ ،‬وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره‪ ،‬وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه ال‬
‫إليه‪ ،‬وأنه تلقاه منه تلقيا ل شك فيه ول شبهة ول ريب‪ ،‬فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره‪ ،‬ولم يشك‬
‫بذلك‪ .‬ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى ال عليه وسلم ليلة أسري به‪ ،‬من آيات ال العظيمة‪،‬‬
‫وأنه تيقنه حقا بقلبه ورؤيته‪ ،‬هذا [هو] الصحيح في تأويل الية الكريمة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن المراد بذلك‬
‫رؤية الرسول صلى ال عليه وسلم لربه ليلة السراء‪ ،‬وتكليمه إياه‪ ،‬وهذا اختيار كثير من العلماء‬
‫رحمهم ال‪ ،‬فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى ال عليه وسلم لربه في الدنيا‪ ،‬ولكن الصحيح القول‬
‫الول‪ ،‬وأن المراد به جبريل عليه السلم‪ ،‬كما يدل عليه السياق‪ ،‬وأن محمدا صلى ال عليه وسلم‬
‫رأى جبريل في صورته الصلية [التي هو عليها] مرتين‪ ،‬مرة في الفق العلى‪ ،‬تحت السماء‬
‫الدنيا كما تقدم‪ ،‬والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ { :‬وََلقَدْ رَآهُ نَزْلَةً ُأخْرَى } أي‪ :‬رأى محمد جبريل مرة أخرى‪ ،‬نازل إليه‪.‬‬

‫سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى } وهي شجرة عظيمة جدا‪ ،‬فوق السماء السابعة‪ ،‬سميت سدرة المنتهى‪ ،‬لنه‬
‫{ عِ ْندَ ِ‬
‫ينتهي إليها ما يعرج من الرض‪ ،‬وينزل إليها ما ينزل من ال‪ ،‬من الوحي وغيره‪ ،‬أو لنتهاء علم‬
‫الخلق إليها أي‪ :‬لكونها فوق السماوات والرض‪ ،‬فهي المنتهى في علوها أو لغير ذلك‪ ،‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬

‫فرأى محمد صلى ال عليه وسلم جبريل في ذلك المكان‪ ،‬الذي هو محل الرواح العلوية الزاكية‬
‫الجميلة‪ ،‬التي ل يقربها شيطان ول غيره من الرواح الخبيثة‪.‬‬

‫عند تلك الشجرة { جَنّةُ ا ْلمَ ْأوَى } أي‪ :‬الجنة الجامعة لكل نعيم‪ ،‬بحيث كانت محل تنتهي إليه‬
‫الماني‪ ،‬وترغب فيه الرادات‪ ،‬وتأوي إليها الرغبات‪ ،‬وهذا دليل على أن الجنة في أعلى‬
‫الماكن‪ ،‬وفوق السماء السابعة‪.‬‬

‫{ ِإذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى } أي‪ :‬يغشاها من أمر ال‪ ،‬شيء عظيم ل يعلم وصفه إل ال عز‬
‫وجل‪.‬‬

‫طغَى } أي‪ :‬وما‬


‫طغَى } أي‪ :‬ما زاغ يمنة ول يسرة عن مقصوده { َومَا َ‬
‫{ مَا زَاغَ الْ َبصَ ُر َومَا َ‬
‫تجاوز البصر‪ ،‬وهذا كمال الدب منه صلوات ال وسلمه عليه‪ ،‬أن قام مقاما أقامه ال فيه‪ ،‬ولم‬
‫يقصر عنه ول تجاوزه ول حاد عنه‪،‬‬
‫وهذا أكمل ما يكون من الدب العظيم‪ ،‬الذي فاق فيه الولين والخرين‪ ،‬فإن الخلل يكون بأحد‬
‫هذه المور‪ :‬إما أن ل يقوم العبد بما أمر به‪ ،‬أو يقوم به على وجه التفريط‪ ،‬أو على وجه‬
‫الفراط‪ ،‬أو على وجه الحيدة يمينا وشمال‪ ،‬وهذه المور كلها منتفية عنه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫{ َلقَدْ َرأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى } من الجنة والنار‪ ،‬وغير ذلك من المور التي رآها صلى ال‬
‫عليه وسلم ليلة أسري به‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 19-25‬أفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَا ْلعُزّى * َومَنَاةَ الثّالِ َثةَ الْأُخْرَى * أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَهُ الْأُنْثَى * تِ ْلكَ ِإذًا‬
‫سلْطَانٍ إِنْ يَتّ ِبعُونَ‬
‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُ ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ ُ‬
‫سمَاءٌ َ‬
‫سمَ ٌة ضِيزَى * إِنْ ِهيَ إِلّا أَ ْ‬
‫قِ ْ‬
‫س وََلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَ ّبهِمُ ا ْلهُدَى * أَمْ لِلْإِ ْنسَانِ مَا َتمَنّى * فَلِلّهِ الْآخِ َرةُ‬
‫ن َومَا َت ْهوَى الْأَ ْنفُ ُ‬
‫إِلّا الظّ ّ‬
‫وَالْأُولَى }‬

‫لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من الهدى ودين الحق‪ ،‬والمر بعبادة ال‬
‫وتوحيده‪ ،‬ذكر بطلن ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء‪ ،‬ول‬
‫تنفع ول تضر‪ ،‬وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى‪ ،‬سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال‬
‫الضلل‪ ،‬ابتدعوا لها من السماء الباطلة التي ل تستحقها‪ ،‬فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من‬
‫الضلل‪ ،‬فاللهة التي بهذه الحال‪ ،‬ل تستحق مثقال ذرة من العبادة‪ ،‬وهذه النداد التي سموها بهذه‬
‫السماء‪ ،‬زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها‪ ،‬فسموا "اللت" من "الله" المستحق‬
‫للعبادة‪ ،‬و"العزى" من "العزيز" و "مناة" من "المنان" إلحادا في أسماء ال وتجريا على الشرك به‪،‬‬
‫وهذه أسماء متجردة عن المعاني‪ ،‬فكل من له أدنى مسكة من عقل‪ ،‬يعلم بطلن هذه الوصاف‬
‫فيها‪.‬‬

‫{ أََل ُكمُ ال ّذكَ ُر وََلهُ الْأُنْثَى } أي‪ :‬أتجعلون ل البنات بزعمكم‪ ،‬ولكم البنون؟‪.‬‬

‫س َم ٌة ضِيزَى } أي‪ :‬ظالمة جائرة‪[ ،‬وأي ظلم أعظم من قسمة] تقتضي تفضيل العبد‬
‫{ تِ ْلكَ ِإذًا قِ ْ‬
‫المخلوق على الخالق؟ [تعالى عن قولهم علوا كبيرا]‪.‬‬

‫سمّيْ ُتمُوهَا أَنْ ُت ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي‪ :‬من حجة‬
‫سمَاءٌ َ‬
‫وقوله‪ { :‬إِنْ ِهيَ إِلّا َأ ْ‬
‫وبرهان على صحة مذهبكم‪ ،‬وكل أمر ما أنزل ال به من سلطان‪ ،‬فهو باطل فاسد‪ ،‬ل يتخذ دينا‪،‬‬
‫وهم ‪-‬في أنفسهم‪ -‬ليسوا بمتبعين لبرهان‪ ،‬يتيقنون به ما ذهبوا إليه‪ ،‬وإنما دلهم على قولهم‪ ،‬الظن‬
‫الفاسد‪ ،‬والجهل الكاسد‪ ،‬وما تهواه أنفسهم من الشرك‪ ،‬والبدع الموافقة لهويتهم‪ ،‬والحال أنه ل‬
‫موجب لهم يقتضي اتباعهم الظن‪ ،‬من فقد العلم والهدى‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وََلقَدْ جَاءَ ُهمْ مِنْ رَ ّبهِمُ‬
‫ا ْلهُدَى } أي‪ :‬الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة‪ ،‬وجميع المطالب التي يحتاج إليها العباد‪ ،‬فكلها‬
‫قد بينها ال أكمل بيان وأوضحه‪ ،‬وأدله على المقصود‪ ،‬وأقام عليه من الدلة والبراهين‪ ،‬ما يوجب‬
‫لهم ولغيرهم اتباعه‪ ،‬فلم يبق لحد عذر ول حجة من بعد البيان والبرهان‪ ،‬وإذا كان ما هم عليه‪،‬‬
‫غايته اتباع الظن‪ ،‬ونهايته الشقاء البدي والعذاب السرمدي‪ ،‬فالبقاء على هذه الحال‪ ،‬من أسفه‬
‫السفه‪ ،‬وأظلم الظلم‪ ،‬ومع ذلك يتمنون الماني‪ ،‬ويغترون بأنفسهم‪.‬‬

‫ولهذا أنكر تعالى على من زعم أنه يحصل له ما تمنى وهو كاذب في ذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا‬
‫َتمَنّى فَلِلّهِ الْآخِ َرةُ وَالْأُولَى } فيعطي منهما من يشاء‪ ،‬ويمنع من يشاء‪ ،‬فليس المر تابعا لمانيهم‪،‬‬
‫ول موافقا لهوائهم‪.‬‬

‫شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا إِلّا مِنْ َبعْدِ أَنْ يَ ْأذَنَ اللّهُ ِلمَنْ يَشَاءُ‬
‫سمَاوَاتِ لَا ُتغْنِي َ‬
‫{ ‪َ { } 26‬وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ‬
‫وَيَ ْرضَى }‬

‫يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الملئكة وغيرهم‪ ،‬وزعم أنها تنفعه وتشفع له عند ال‬
‫سمَاوَاتِ } من الملئكة المقربين‪ ،‬وكرام الملئكة‪ { ،‬لَا ُتغْنِي‬
‫يوم القيامة‪َ { :‬وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ‬
‫شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا } أي‪ :‬ل تفيد من دعاها وتعلق بها ورجاها‪ { ،‬إِلّا مِنْ َبعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ ِلمَنْ َيشَاءُ‬
‫َ‬
‫وَيَ ْرضَى } أي‪ :‬ل بد من اجتماع الشرطين‪ :‬إذنه تعالى في الشفاعة‪ ،‬ورضاه عن المشفوع له‪.‬‬
‫ومن المعلوم المتقرر‪ ،‬أنه ل يقبل من العمل إل ما كان خالصا لوجه ال‪ ،‬موافقا فيه صاحبه‬
‫الشريعة‪ ،‬فالمشركون إذا ل نصيب لهم من شفاعة الشافعين‪ ،‬وقد سدوا على أنفسهم رحمة أرحم‬
‫الراحمين‪.‬‬

‫سمِيَةَ الْأُنْثَى * َومَا َل ُهمْ بِهِ مِنْ عِ ْلمٍ‬


‫سمّونَ ا ْلمَلَا ِئكَةَ تَ ْ‬
‫{ ‪ { } 27-30‬إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َرةِ لَ ُي َ‬
‫حقّ شَيْئًا * فَأَعْ ِرضْ عَنْ مَنْ َتوَلّى عَنْ ِذكْرِنَا وََلمْ يُرِدْ‬
‫ن وَإِنّ الظّنّ لَا ُيغْنِي مِنَ الْ َ‬
‫إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّ ّ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيِل ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَنِ‬
‫ن َ‬
‫علَمُ ِبمَ ْ‬
‫إِلّا ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا * ذَِلكَ مَبَْل ُغهُمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَ ْ‬
‫اهْتَدَى }‬

‫يعني أن المشركين بال المكذبين لرسله‪ ،‬الذين ل يؤمنون بالخرة‪ ،‬وبسبب عدم إيمانهم بالخرة‬
‫تجرأوا على ما تجرأوا عليه‪ ،‬من القوال‪ ،‬والفعال المحادة ل ولرسوله‪ ،‬من قولهم‪ { :‬الملئكة‬
‫بنات ال } فلم ينزهوا ربهم عن الولدة‪ ،‬ولم يكرموا الملئكة ويجلوهم عن تسميتهم إياهم إناثا‪،‬‬
‫والحال أنه ليس لهم بذلك علم‪ ،‬ل عن ال‪ ،‬ول عن رسوله‪ ،‬ول دلت على ذلك الفطر والعقول‪ ،‬بل‬
‫العلم كله دال على نقيض قولهم‪ ،‬وأن ال منزه عن الولد والصاحبة‪ ،‬لنه الواحد الحد‪ ،‬الفرد‬
‫الصمد‪ ،‬الذي لم يلد ولم يولد‪ ،‬ولم يكن له كفوا أحد‪ ،‬وأن الملئكة كرام مقربون إلى ال‪ ،‬قائمون‬
‫بخدمته { لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } والمشركون إنما يتبعون في ذلك القول‬
‫القبيح‪ ،‬وهو الظن الذي ل يغني من الحق شيئا‪ ،‬فإن الحق ل بد فيه من اليقين المستفاد من الدلة‬
‫القاطعة والبراهين الساطعة‪.‬‬

‫ولما كان هذا دأب هؤلء المذكورين أنهم ل غرض لهم في اتباع الحق‪ ،‬وإنما غرضهم‬
‫ومقصودهم‪ ،‬ما تهواه نفوسهم‪ ،‬أمر ال رسوله بالعراض عمن تولى عن ذكره‪ ،‬الذي هو الذكر‬
‫الحكيم‪ ،‬والقرآن العظيم‪ ،‬والنبأ الكريم‪ ،‬فأعرض عن العلوم النافعة‪ ،‬ولم يرد إل الحياة الدنيا‪ ،‬فهذا‬
‫منتهى إرادته‪ ،‬ومن المعلوم أن العبد ل يعمل إل للشيء الذي يريده‪،‬‬

‫فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها‪ ،‬كيف حصلت حصلوها‪ ،‬وبأي‪ :‬طريق سنحت‬
‫ابتدروها‪ { ،‬ذَِلكَ مَبَْل ُغهُمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ } أي‪ :‬هذا منتهى علمهم وغايته‪ ،‬وأما المؤمنون بالخرة‪،‬‬
‫المصدقون بها‪ ،‬أولو اللباب والعقول‪،‬‬

‫فهمتهم وإرادتهم للدار الخرة‪ ،‬وعلومهم أفضل العلوم وأجلها‪ ،‬وهو العلم المأخوذ من كتاب ال‬
‫وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وال تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه‪ ،‬ممن ل يستحق‬
‫ضلّ‬
‫ن َ‬
‫ذلك فيكله إلى نفسه‪ ،‬ويخذله‪ ،‬فيضل عن سبيل ال‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَ ْ‬
‫عَنْ سَبِيِل ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَنِ اهْتَدَى } فيضع فضله حيث يعلم المحل اللئق به‪.‬‬

‫عمِلُوا وَيَجْ ِزيَ‬


‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ أَسَاءُوا ِبمَا َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 31-32‬وَلِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ك وَاسِعُ ا ْل َمغْفِ َرةِ ُهوَ‬
‫الّذِينَ أَحْسَنُوا بِا ْلحُسْنَى * الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِ ْث ِم وَا ْلفَوَاحِشَ إِلّا الّل َممَ إِنّ رَ ّب َ‬
‫سكُمْ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَنِ‬
‫أَعْلَمُ ِب ُكمْ إِذْ أَنْشََأكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ وَِإذْ أَنْتُمْ أَجِنّةٌ فِي ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ فَلَا تُ َزكّوا أَ ْنفُ َ‬
‫ا ّتقَى }‬

‫يخبر تعالى أنه مالك الملك‪ ،‬المتفرد بملك الدنيا والخرة‪ ،‬وأن جميع من في السماوات والرض‬
‫ملك ل‪ ،‬يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم‪ ،‬في عبيده ومماليكه‪ ،‬ينفذ فيهم قدره‪ ،‬ويجري عليهم‬
‫شرعه‪ ،‬ويأمرهم وينهاهم‪ ،‬ويجزيهم على ما أمرهم به ونهاهم [عنه]‪ ،‬فيثيب المطيع‪ ،‬ويعاقب‬
‫العاصي‪ ،‬ليجزي الذين أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر‬
‫بالعقوبة البليغة‬

‫{ وَيَجْ ِزيَ الّذِينَ َأحْسَنُوا } في عبادة ال تعالى‪ ،‬وأحسنوا إلى خلق ال‪ ،‬بأنواع المنافع { بِا ْلحُسْنَى }‬
‫أي‪ :‬بالحالة الحسنة في الدنيا والخرة‪ ،‬وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم‪ ،‬والفوز بنعيم الجنة‬
‫ثم ذكر وصفهم فقال‪ { :‬الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْ َفوَاحِشَ } أي‪ :‬يفعلون ما أمرهم ال به من‬
‫الواجبات‪ ،‬التي يكون تركها من كبائر الذنوب‪ ،‬ويتركون المحرمات الكبار‪ ،‬كالزنا‪ ،‬وشرب‬
‫الخمر‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬والقتل‪ ،‬ونحو ذلك من الذنوب العظيمة‪ { ،‬إِلّا الّل َممَ } وهي الذنوب الصغار‪،‬‬
‫التي ل يصر صاحبها عليها‪ ،‬أو التي يلم بها العبد‪ ،‬المرة بعد المرة‪ ،‬على وجه الندرة والقلة‪ ،‬فهذه‬
‫ليس مجرد القدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين‪ ،‬فإن هذه مع التيان بالواجبات‬
‫ك وَاسِعُ‬
‫وترك المحرمات‪ ،‬تدخل تحت مغفرة ال التي وسعت كل شيء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ رَ ّب َ‬
‫ا ْل َم ْغفِرَةِ } فلول مغفرته لهلكت البلد والعباد‪ ،‬ولول عفوه وحلمه لسقطت السماء على الرض‪،‬‬
‫ولما ترك على ظهرها من دابة‪ .‬ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬الصلوات الخمس‪،‬‬
‫والجمعة إلى الجمعة‪ ،‬ورمضان إلى رمضان‪ ،‬مكفرات لما بينهن‪ ،‬ما اجتنبت الكبائر" [وقوله‪]:‬‬
‫ض وَإِذْ أَنْتُمْ َأجِنّةٌ فِي بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ } أي‪ :‬هو تعالى أعلم‬
‫علَمُ ِبكُمْ إِذْ أَ ْنشََأكُمْ مِنَ الْأَ ْر ِ‬
‫{ ُهوَ أَ ْ‬
‫بأحوالكم كلها‪ ،‬وما جبلكم عليه‪ ،‬من الضعف والخور‪ ،‬عن كثير مما أمركم ال به‪ ،‬ومن كثرة‬
‫الدواعي إلى بعض المحرمات‪ ،‬وكثرة الجواذب إليها‪ ،‬وعدم الموانع القوية‪ ،‬والضعف موجود‬
‫مشاهد منكم حين أنشاكم ال من الرض‪ ،‬وإذ كنتم في بطون أمهاتكم‪ ،‬ولم يزل موجودا فيكم‪،‬‬
‫وإن كان ال تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به‪ ،‬ولكن الضعف لم يزل‪ ،‬فلعلمه تعالى‬
‫بأحوالكم هذه‪ ،‬ناسبت الحكمة اللهية والجود الرباني‪ ،‬أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه‪،‬‬
‫ويغمركم بإحسانه‪ ،‬ويزيل عنكم الجرائم والمآثم‪ ،‬خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في‬
‫جميع الوقات‪ ،‬وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر النات‪ ،‬وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند‬
‫موله‪ ،‬ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة‪ ،‬فإن ال تعالى أكرم الكرمين وأرحم الراحمين أرحم بعباده‬
‫من الوالدة بولدها‪ ،‬فل بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون ال له في جميع‬
‫سكُمْ } أي‪ :‬تخبرون الناس بطهارتها على وجه‬
‫أحواله مجيبا‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬فَلَا تُ َزكّوا أَ ْنفُ َ‬
‫التمدح‬

‫علَمُ ِبمَنِ ا ّتقَى } [فإن التقوى‪ ،‬محلها القلب‪ ،‬وال هو المطلع عليه‪ ،‬المجازي على ما فيه من‬
‫{ ُهوَ أَ ْ‬
‫بر وتقوى‪ ،‬وأما الناس‪ ،‬فل يغنون عنكم من ال شيئا]‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 33-62‬أفَرَأَ ْيتَ الّذِي َتوَلّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وََأكْدَى * أَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى * أَمْ َلمْ‬
‫حفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى * أَلّا تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ‬
‫يُنَبّأْ ِبمَا فِي صُ ُ‬
‫سوْفَ يُرَى * ُثمّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الَْأ ْوفَى * وَأَنّ ِإلَى رَ ّبكَ ا ْلمُنْ َتهَى‬
‫سعْيَهُ َ‬
‫سعَى * وَأَنّ َ‬
‫لِلْإِنْسَانِ ِإلّا مَا َ‬
‫طفَةٍ‬
‫ت وَأَحْيَا *وَأَنّهُ خََلقَ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى * مِنْ نُ ْ‬
‫حكَ وَأَ ْبكَى * وَأَنّهُ ُهوَ َأمَا َ‬
‫ضَ‬‫* وَأَنّهُ ُهوَ َأ ْ‬
‫إِذَا ُتمْنَى * وَأَنّ عَلَ ْيهِ النّشَْأةَ الُْأخْرَى }‬
‫إلى آخر السورة يقول تعالى‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ } قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده‪ ،‬فتولى عن ذلك‬
‫وأعرض عنه؟‬

‫فإن سمحت نفسه ببعض الشيء‪ ،‬القليل‪ ،‬فإنه ل يستمر عليه‪ ،‬بل يبخل ويكدى ويمنع‪.‬‬

‫فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة بل طبعه التولي عن الطاعة‪ ،‬وعدم الثبوت على فعل‬
‫المعروف‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فهو يزكي نفسه‪ ،‬وينزلها غير منزلتها التي أنزلها ال بها‪.‬‬

‫{ أَعِ ْن َدهُ عِلْمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى } الغيب ويخبر به‪ ،‬أم هو متقول على ال‪ ،‬متجرئ على الجمع بين‬
‫الساءة والتزكية كما هو الواقع‪ ،‬لنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب‪ ،‬وأنه لو قدر أنه ادعى‬
‫ذلك فالخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي المعصوم‪ ،‬تدل على نقيض قوله‪ ،‬وذلك‬
‫دليل على بطلنه‪.‬‬

‫حفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى } أي‪ :‬قام بجميع ما ابتله‬


‫صُ‬‫{ َأمْ لَمْ يُنَبّأْ } هذا المدعي { ِبمَا فِي ُ‬
‫ال به‪ ،‬وأمره به من الشرائع وأصول الدين وفروعه‪ ،‬وفي تلك الصحف أحكام كثيرة من أهمها‬
‫سعَى } أي‪ :‬كل عامل له‬
‫ما ذكره ال بقوله‪ { :‬أَلّا تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ ِللْإِنْسَانِ إِلّا مَا َ‬
‫عمله الحسن والسيئ‪ ،‬فليس له من عمل غيره وسعيهم شيء‪ ،‬ول يتحمل أحد عن أحد ذنبا‬

‫س ْوفَ يُرَى } في الخرة فيميز حسنه من سيئه‪ { ،‬ثُمّ ُيجْزَاهُ ا ْلجَزَاءَ الَْأ ْوفَى } أي‪:‬‬
‫سعْيَهُ َ‬
‫{ وَأَنّ َ‬
‫المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى‪ ،‬والسيئ الخالص بالسوأى‪ ،‬والمشوب بحسبه‪،‬‬
‫جزاء تقر بعدله وإحسانه الخليقة كلها‪ ،‬وتحمد ال عليه‪ ،‬حتى إن أهل النار ليدخلون النار‪ ،‬وإن‬
‫قلوبهم مملوءة من حمد ربهم‪ ،‬والقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم‪ ،‬وأنهم الذين أوصلوا‬
‫سعَى } من يرى‬
‫أنفسهم وأوردوها شر الموارد‪ ،‬وقد استدل بقوله تعالى‪ { :‬وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلّا مَا َ‬
‫سعَى }‬
‫أن القرب ل يفيد إهداؤها للحياء ول للموات قالوا لن ال قال‪ { :‬وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَا َ‬
‫فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك‪ ،‬وفي هذا الستدلل نظر‪ ،‬فإن الية إنما تدل على أنه ليس‬
‫للنسان إل ما سعى بنفسه‪ ،‬وهذا حق ل خلف فيه‪ ،‬وليس فيها ما يدل على أنه ل ينتفع بسعي‬
‫غيره‪ ،‬إذا أهداه ذلك الغير له‪ ،‬كما أنه ليس للنسان من المال إل ما هو في ملكه وتحت يده‪ ،‬ول‬
‫يلزم من ذلك‪ ،‬أن ل يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَأَنّ إِلَى رَ ّبكَ ا ْلمُنْ َتهَى } أي‪ :‬إليه تنتهي المور‪ ،‬وإليه تصير الشياء والخلئق بالبعث‬
‫والنشور‪ ،‬وإلى ال المنتهى في كل حال‪ ،‬فإليه ينتهي العلم والحكم‪ ،‬والرحمة وسائر الكمالت‪.‬‬
‫ك وَأَ ْبكَى } أي‪ :‬هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء‪ ،‬وهو الخير والشر‪،‬‬
‫حَ‬‫{ وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ‬
‫والفرح والسرور والهم [والحزن]‪ ،‬وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك‪،‬‬

‫{ وَأَنّهُ ُهوَ َأمَاتَ وََأحْيَا } أي‪ :‬هو المنفرد باليجاد والعدام‪ ،‬والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم‪،‬‬
‫سيعيدهم بعد موتهم‪ ،‬ويجازيهم بتلك العمال التي عملوها في دار الدنيا‪.‬‬

‫{ وَأَنّهُ خََلقَ ال ّزوْجَيْنِ } فسر الزوجين بقوله‪ { :‬ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى } وهذا اسم جنس شامل لجميع‬
‫طفَةٍ إِذَا ُتمْنَى } وهذا من أعظم الدلة على‬
‫الحيوانات‪ ،‬ناطقها وبهيمها‪ ،‬فهو المنفرد بخلقها‪ { ،‬مِنْ ُن ْ‬
‫كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة‪ ،‬حيث أوجد تلك الحيوانات‪ ،‬صغيرها وكبيرها من نطفة‬
‫ضعيفة من ماء مهين‪ ،‬ثم نماها وكملها‪ ،‬حتى بلغت ما بلغت‪ ،‬ثم صار الدمي منها إما إلى أرفع‬
‫المقامات في أعلى عليين‪ ،‬وإما إلى أدنى الحالت في أسفل سافلين‪.‬‬

‫ولهذا استدل بالبداءة على العادة‪ ،‬فقال‪ { :‬وَأَنّ عَلَ ْيهِ النّشَْأةَ الْأُخْرَى } فيعيد العباد من الجداث‪،‬‬
‫ويجمعهم ليوم الميقات‪ ،‬ويجازيهم على الحسنات والسيئات‪.‬‬

‫{ وَأَنّهُ ُهوَ أَغْنَى وََأقْنَى } أي‪ :‬أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب‪ ،‬من‬
‫الحرف وغيرها‪ ،‬وأقنى أي‪ :‬أفاد عباده من الموال بجميع أنواعها‪ ،‬ما يصيرون به مقتنين لها‪،‬‬
‫ومالكين لكثير من العيان‪ ،‬وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى وهذا يوجب‬
‫للعباد أن يشكروه‪ ،‬ويعبدوه وحده ل شريك له‬

‫شعْرَى } وهي النجم المعروف بالشعرى العبور‪ ،‬المسماة بالمرزم‪ ،‬وخصها ال‬
‫{ وَأَنّهُ ُهوَ َربّ ال ّ‬
‫بالذكر‪ ،‬وإن كان رب كل شيء‪ ،‬لن هذا النجم مما عبد في الجاهلية‪ ،‬فأخبر تعالى أن جنس ما‬
‫يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق‪،‬‬

‫فكيف تتخذ إلها مع ال‬

‫{ وَأَنّهُ أَهَْلكَ عَادًا الْأُولَى } وهم قوم هود عليه السلم‪ ،‬حين كذبوا هودا‪ ،‬فأهلكهم ال بريح‬
‫صرصر عاتية‬

‫{ وَ َثمُودَ } قوم صالح عليه السلم‪ ،‬أرسله ال إلى ثمود فكذبوه‪ ،‬فبعث ال إليهم الناقة آية‪،‬‬
‫فعقروها وكذبوه‪ ،‬فأهلكهم ال تعالى‪َ { ،‬فمَا أَ ْبقَى } منهم أحدا‪ ،‬بل أهلكهم ال عن آخرهم‬

‫طغَى } من هؤلء المم‪ ،‬فأهلكهم ال وأغرقهم في اليم‬


‫{ َو َقوْمَ نُوحٍ مِنْ قَ ْبلُ إِ ّنهُمْ كَانُوا ُهمْ أَظَْل َم وَأَ ْ‬
‫{ وَا ْل ُمؤْ َتفِكَةَ } وهم قوم لوط عليه السلم { َأ ْهوَى } أي‪ :‬أصابهم ال بعذاب ما عذب به أحدا من‬
‫العالمين‪ ،‬قلب أسفل ديارهم أعلها‪ ،‬وأمطر عليهم حجارة من سجيل‪.‬‬

‫ولهذا قال‪َ { :‬فغَشّاهَا مَا غَشّى } أي‪ :‬غشيها من العذاب الليم الوخيم ما غشى أي‪ :‬شيء عظيم ل‬
‫يمكن وصفه‪.‬‬

‫{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّبكَ تَ َتمَارَى } أي‪ :‬فبأي‪ :‬نعم ال وفضله تشك أيها النسان؟ فإن نعم ال ظاهرة ل‬
‫تقبل الشك بوجه من الوجوه‪ ،‬فما بالعباد من نعمة إل منه تعالى‪ ،‬ول يدفع النقم إل هو‪.‬‬

‫{ هَذَا َنذِيرٌ مِنَ النّذُرِ الْأُولَى } أي‪ :‬هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد ال‪ ،‬ليس ببدع من‬
‫الرسل‪ ،‬بل قد تقدمه من الرسل السابقين‪ ،‬ودعوا إلى ما دعا إليه‪ ،‬فلي شيء تنكر رسالته؟ وبأي‬
‫حجة تبطل دعوته؟‬

‫أليست أخلقه [أعل] أخلق الرسل الكرام‪ ،‬أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ ألم‬
‫يأت بالقرآن الكريم الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد؟ ألم‬
‫يهلك ال من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد‬
‫المرسلين‪ ،‬وإمام المتقين‪ ،‬وقائد الغر المحجلين؟‬

‫شفَةٌ }‬
‫{ أَ ِز َفتِ الْآ ِز َفةُ } أي‪ :‬قربت القيامة‪ ،‬ودنا وقتها‪ ،‬وبانت علماتها‪ { .‬لَ ْيسَ َلهَا مِنْ دُونِ اللّهِ كَا ِ‬
‫أي‪ :‬إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به‪.‬‬

‫ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬المكذبين لما جاء به من القرآن‬
‫حدِيثِ َتعْجَبُونَ } ؟ أي‪ :‬أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلم وأفضله‬
‫الكريم‪ ،‬فقال‪َ { :‬أ َفمِنْ هَذَا الْ َ‬
‫وأشرفه تتعجبون منه‪ ،‬وتجعلونه من المور المخالفة للعادة الخارقة للمور [والحقائق] المعروفة؟‬
‫هذا من جهلهم وضللهم وعنادهم‪ ،‬وإل فهو الحديث الذي إذا حدث صدق‪ ،‬وإذا قال قول فهو‬
‫القول الفصل الذي ليس بالهزل‪ ،‬وهو القرآن العظيم‪ ،‬الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا‬
‫متصدعا من خشية ال‪ ،‬الذي يزيد ذوي الحلم رأيا وعقل‪ ،‬وتسديدا وثباتا‪ ،‬وإيمانا ويقينا والذي‬
‫ينبغي العجب من عقل من تعجب منه‪ ،‬وسفهه وضلله‪.‬‬

‫ن وَلَا تَ ْبكُونَ } أي‪ :‬تستعملون الضحك والستهزاء به‪ ،‬مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه‬
‫حكُو َ‬
‫{ وَ َتضْ َ‬
‫النفوس‪ ،‬وتلين له القلوب‪ ،‬وتبكي له العيون‪،‬‬

‫سماعا لمره ونهيه‪ ،‬وإصغاء لوعده ووعيده‪ ،‬والتفاتا لخباره الحسنة الصادقة‬
‫{ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } أي‪ :‬غافلون عنه‪ ،‬لهون عن تدبره‪ ،‬وهذا من قلة عقولكم وأديانكم فلو عبدتم‬
‫ال وطلبتم رضاه في جميع الحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو اللباب‪ ،‬ولهذا قال‬
‫جدُوا لِلّ ِه وَاعْ ُبدُوا } المر بالسجود ل خصوصا‪ ،‬ليدل ذلك على فضله وأنه سر‬
‫تعالى‪ { :‬فَاسْ ُ‬
‫العبادة ولبها‪ ،‬فإن لبها الخشوع ل والخضوع له‪ ،‬والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد فإنه‬
‫يخضع قلبه وبدنه‪ ،‬ويجعل أشرف أعضائه على الرض المهينة موضع وطء القدام‪ .‬ثم أمر‬
‫بالعبادة عموما‪ ،‬الشاملة لجميع ما يحبه ال ويرضاه من العمال والقوال الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫تم تفسير سورة النجم‪ ،‬والحمد ل الذي ل نحصي ثناء عليه‪ ،‬بل هو كما أثنى على نفسه‪ ،‬وفوق ما‬
‫يثني عليه عباده‪ ،‬وصلى ال على محمد وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬

‫تفسير سورة اقتربت‬


‫مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ اقْتَرَ َبتِ السّاعَ ُة وَا ْنشَقّ ا ْل َقمَرُ * وَإِنْ يَ َروْا آ َيةً ُيعْ ِرضُوا‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-5‬بِ ْ‬
‫وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْ َتمِرّ * َوكَذّبُوا وَاتّ َبعُوا َأ ْهوَاءَهُ ْم َو ُكلّ َأمْرٍ مُسْ َتقِرّ * وََلقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ‬
‫ح ْكمَةٌ بَاِلغَةٌ َفمَا ُتغْنِ النّذُرُ }‬
‫مُزْدَجَرٌ * ِ‬

‫يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها‪ ،‬وحان وقت مجيئها‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فهؤلء‬
‫المكذبون لم يزالوا مكذبين بها‪ ،‬غير مستعدين لنزولها‪ ،‬ويريهم ال من اليات العظيمة الدالة على‬
‫وقوعها ما يؤمن على مثله البشر‪ ،‬فمن أعظم اليات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على‬
‫[صحة ما جاء به و] صدقه‪ ،‬أشار صلى ال عليه وسلم إلى القمر بإذن ال تعالى‪ ،‬فانشق فلقتين‪،‬‬
‫فلقة على جبل أبي قبيس‪ ،‬وفلقة على جبل قعيقعان‪ ،‬والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الية‬
‫الكبرى الكائنة في العالم العلوي‪ ،‬التي ل يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل‪.‬‬

‫فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله‪ ،‬بل ولم يسمعوا أنه جرى لحد من المرسلين قبله نظيره‪ ،‬فانبهروا‬
‫لذلك‪ ،‬ولم يدخل اليمان في قلوبهم‪ ،‬ولم يرد ال بهم خيرا‪ ،‬ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫سحرنا محمد‪ ،‬ولكن علمة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر‪ ،‬فإنه وإن قدر على‬
‫سحركم‪ ،‬ل يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم‪ ،‬فسألوا كل من قدم‪ ،‬فأخبرهم بوقوع ذلك‪،‬‬
‫سحْرٌ مُسْ َتمِرّ } سحرنا محمد وسحر غيرنا‪ ،‬وهذا من البهت‪ ،‬الذي ل يروج إل على‬
‫فقالوا‪ِ { :‬‬
‫أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل‪ ،‬وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الية وحدها‪ ،‬بل كل آية‬
‫تأتيهم‪ ،‬فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل والرد لها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَإِنْ يَ َروْا آيَةً ُيعْ ِرضُوا } ولم يعد‬
‫الضمير على انشقاق القمر فلم يقل‪ :‬وإن يروها بل قال‪ { :‬وَإِنْ يَ َروْا آيَةً ُيعْ ِرضُوا } وليس قصدهم‬
‫اتباع الحق والهدى‪ ،‬وإنما قصدهم اتباع الهوى‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وكَذّبُوا وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ } كقوله‬
‫تعالى‪ { :‬فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا َلكَ فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ } فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى‪،‬‬
‫لمنوا قطعا‪ ،‬واتبعوا محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لنه أراهم ال على يديه من البينات والبراهين‬
‫والحجج القواطع‪ ،‬ما دل على جميع المطالب اللهية‪ ،‬والمقاصد الشرعية‪َ { ،‬و ُكلّ َأمْرٍ مُسْ َتقِرّ }‬
‫أي‪ :‬إلى الن‪ ،‬لم يبلغ المر غايته ومنتهاه‪ ،‬وسيصير المر إلى آخره‪ ،‬فالمصدق يتقلب في جنات‬
‫النعيم‪ ،‬ومغفرة ال ورضوانه‪ ،‬والمكذب يتقلب في سخط ال وعذابه‪ ،‬خالدا مخلدا أبدا‪.‬‬

‫وقال تعالى ‪-‬مبينا أنهم ليس لهم قصد صحيح‪ ،‬ول اتباع للهدى‪ { :-‬وََلقَدْ جَا َءهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ } أي‪:‬‬
‫الخبار السابقة واللحقة والمعجزات الظاهرة { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي‪ :‬زاجر يزجرهم عن غيهم‬
‫ح ْكمَةٌ } منه تعالى { بَاِلغَةٌ } أي‪ :‬لتقوم حجته على المخالفين ول يبقى لحد‬
‫وضللهم‪ ،‬وذلك { ِ‬
‫على ال حجة بعد الرسل‪َ { ،‬فمَا ُتغْنِ النّذُرُ } كقوله تعالى‪ { :‬وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َي ٍة ل يؤمنوا حَتّى‬
‫يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ }‬

‫شعًا أَ ْبصَارُهُمْ يَخْ ُرجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ‬


‫شيْءٍ ُنكُرٍ * خُ ّ‬
‫{ ‪ { } 6-8‬فَ َت َولّ عَ ْنهُمْ َيوْمَ يَدْعُو الدّاعِي إِلَى َ‬
‫طعِينَ إِلَى الدّاعِي َيقُولُ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا َيوْمٌ عَسِرٌ }‬
‫كَأَ ّنهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * ُمهْ ِ‬

‫يقول تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬قد بان أن المكذبين ل حيلة في هداهم‪ ،‬فلم يبق إل‬
‫العراض عنهم والتولي عنهم‪[ ،‬فقال‪ { ]:‬فَ َت َولّ عَ ْنهُمْ } وانتظر بهم يوما عظيما وهول جسيما‪،‬‬
‫شيْءٍ ُنكُرٍ } أي‪ :‬إلى أمر فظيع تنكره‬
‫وذلك حين { يدعو الداع } إسرافيل عليه السلم { إِلَى َ‬
‫الخليقة‪ ،‬فلم تر منظرا أفظع ول أوجع منه‪ ،‬فينفخ إسرافيل نفخة‪ ،‬يخرج بها الموات من قبورهم‬
‫لموقف القيامة‬

‫شعًا أَ ْبصَارُ ُهمْ } أي‪ :‬من الهول والفزع الذي وصل إلى قلوبهم‪ ،‬فخضعت وذلت‪ ،‬وخشعت‬
‫{ خُ ّ‬
‫لذلك أبصارهم‪.‬‬

‫{ َيخْرُجُونَ مِنَ الَْأجْدَاثِ } وهي القبور‪ { ،‬كَأَ ّنهُمْ } من كثرتهم‪ ،‬وروجان بعضهم ببعض { جَرَادٌ‬
‫طعِينَ إِلَى الدّاعِ } أي‪ :‬مسرعين لجابة النداء‬
‫مُنْتَشِرٌ } أي‪ :‬مبثوث في الرض‪ ،‬متكاثر جدا‪ُ { ،‬مهْ ِ‬
‫الداعي وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة‪ ،‬فيلبون دعوته‪،‬‬
‫ويسرعون إلى إجابته‪َ { ،‬يقُولُ ا ْلكَافِرُونَ } الذين قد حضر عذابهم‪ { :‬هَذَا َيوْمٌ عَسِرٌ } كما قال‬
‫تعالى { على الكافرين غير يسير } [مفهوم ذلك أنه يسير سهل على المؤمنين]‬
‫ن وَازْ ُدجِرَ * فَدَعَا رَبّهُ أَنّي َمغْلُوبٌ‬
‫{ ‪ { } 9-17‬كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُوحٍ َفكَذّبُوا عَبْدَنَا َوقَالُوا مَجْنُو ٌ‬
‫سمَاءِ ِبمَاءٍ مُ ْن َهمِرٍ * َو َفجّرْنَا الْأَ ْرضَ عُيُونًا فَالْ َتقَى ا ْلمَاءُ عَلَى َأمْرٍ َقدْ قُدِرَ‬
‫فَانْ َتصِرْ * َففَتَحْنَا أَ ْبوَابَ ال ّ‬
‫ح وَ ُدسُرٍ * َتجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً ِلمَنْ كَانَ ُكفِرَ * وَلَقَدْ تَ َركْنَاهَا آيَةً َفهَلْ‬
‫حمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ‬
‫* وَ َ‬
‫مِنْ مُ ّدكِرٍ * َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }‬

‫لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله‪ ،‬وأن اليات ل تنفع فيهم‪ ،‬ول تجدي عليهم شيئا‪،‬‬
‫أنذرهم وخوفهم بعقوبات المم الماضية المكذبة للرسل‪ ،‬وكيف أهلكهم ال وأحل بهم عقابه‪.‬‬

‫فذكر قوم نوح‪ ،‬أول رسول بعثه ال إلى قوم يعبدون الصنام‪ ،‬فدعاهم إلى توحيد ال وعبادته‬
‫سوَاعًا وَلَا‬
‫ن وَدّا وَلَا ُ‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا‪ { :‬لَا تَذَرُنّ آِلهَ َتكُ ْم وَلَا َتذَرُ ّ‬
‫ق وَنَسْرًا }‬
‫ث وَ َيعُو َ‬
‫َيغُو َ‬

‫ولم يزل نوح يدعوهم إلى ال ليل ونهارا‪ ،‬وسرا وجهارا‪ ،‬فلم يزدهم ذلك إل عنادا وطغيانا‪،‬‬
‫وقدحا في نبيهم‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬فكَذّبُوا عَ ْبدَنَا َوقَالُوا مَجْنُونٌ } لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم‬
‫من الشرك والضلل هو الذي يدل عليه العقل‪ ،‬وأن ما جاء به نوح عليه الصلة والسلم جهل‬
‫وضلل‪ ،‬ل يصدر إل من المجانين‪ ،‬وكذبوا في ذلك‪ ،‬وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقل‪ ،‬فإن ما‬
‫جاء به هو الحق الثابت‪ ،‬الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة‪ ،‬إلى الهدى والنور والرشد‪ ،‬وما هم‬
‫عليه جهل وضلل مبين‪[ ،‬وقوله‪ { ]:‬وَازْ ُدجِرَ } أي‪ :‬زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى ال‬
‫تعالى‪ ،‬فلم يكفهم ‪-‬قبحهم ال‪ -‬عدم اليمان به‪ ،‬ول تكذيبهم إياه‪ ،‬حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما‬
‫قدروا عليه‪ ،‬وهكذا جميع أعداء الرسل‪ ،‬هذه حالهم مع أنبيائهم‪.‬‬

‫فعند ذلك دعا نوح ربه [فقال‪ { ]:‬أَنّي َمغْلُوبٌ } ل قدرة لي على النتصار منهم‪ ،‬لنه لم يؤمن من‬
‫قومه إل القليل النادر‪ ،‬ول قدرة لهم على مقاومة قومهم‪ { ،‬فَانْ َتصِرْ } اللهم لي منهم‪ ،‬وقال في‬
‫الية الخرى‪َ { :‬ربّ لَا َتذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } اليات‬

‫سمَاءِ ِبمَاءٍ مُ ْن َهمِرٍ } أي‪:‬‬


‫فأجاب ال سؤاله‪ ،‬وانتصر له من قومه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ففَتَحْنَا أَ ْبوَابَ ال ّ‬
‫كثير جدا متتابع‬

‫{ َوفَجّرْنَا الْأَ ْرضَ عُيُونًا } فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة‪ ،‬وتفجرت‬
‫الرض كلها‪ ،‬حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه‪ ،‬فضل عن كونه منبعا للماء‪ ،‬لنه‬
‫موضع النار‪.‬‬
‫{ فَالْ َتقَى ا ْلمَاءُ } أي‪ :‬ماء السماء والرض { عَلَى َأمْرٍ } من ال له بذلك‪َ { ،‬قدْ قُدِرَ } أي‪ :‬قد كتبه‬
‫ال في الزل وقضاه‪ ،‬عقوبة لهؤلء الظالمين الطاغين‬

‫ح وَدُسُرٍ } أي‪ :‬ونجينا عبدنا نوحا على السفينة ذات اللواح والدسر أي‪:‬‬
‫علَى ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ‬
‫حمَلْنَاهُ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫المسامير [التي] قد سمرت [بها] ألواحها وشد بها أسرها‬

‫{ َتجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي‪ :‬تجري بنوح ومن آمن معه‪ ،‬ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من‬
‫ال‪ ،‬وحفظ [منه] لها عن الغرق [ونظر]‪ ،‬وكلئه منه تعالى‪ ،‬وهو نعم الحافظ الوكيل‪ { ،‬جَزَاءً ِلمَنْ‬
‫كَانَ ُكفِرَ } أي‪ :‬فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام‪ ،‬جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا‬
‫به فصبر على دعوتهم‪ ،‬واستمر على أمر ال‪ ،‬فلم يرده عنه راد‪ ،‬ول صده عنه صاد‪ ،‬كما قال‬
‫ك وَعَلَى ُأمَمٍ ِممّنْ َم َعكَ }‬
‫[تعالى] عنه في الية الخرى‪ { :‬قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنّا وَبَ َركَاتٍ عَلَ ْي َ‬
‫الية‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد‪ :‬أنا أهلكنا قوم نوح‪ ،‬وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي‪ ،‬جزاء لهم على‬
‫كفرهم وعنادهم‪ ،‬وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف‬

‫{ وََلقَدْ تَ َركْنَاهَا آيَةً َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } أي‪ :‬ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون‪،‬‬
‫على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه ال بعقاب عام شديد‪ ،‬أو أن الضمير يعود إلى السفينة‬
‫وجنسها‪ ،‬وأن أصل صنعتها تعليم‬

‫من ال لعبده نوح عليه السلم‪ ،‬ثم أبقى ال تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدل ذلك على‬
‫رحمته بخلقه وعنايته‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬وبديع صنعته‪َ { ،‬ف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } ؟ أي‪ :‬فهل من متذكر‬
‫لليات‪ ،‬ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها‪ ،‬فإنها في غاية البيان واليسر؟‬

‫{ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي‪ :‬فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب ال الليم وإنذاره الذي ل يبقي‬
‫لحد عليه حجة‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } أي‪ :‬ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم‪ ،‬ألفاظه‬
‫للحفظ والداء‪ ،‬ومعانيه للفهم والعلم‪ ،‬لنه أحسن الكلم لفظا‪ ،‬وأصدقه معنى‪ ،‬وأبينه تفسيرا‪ ،‬فكل‬
‫من أقبل عليه يسر ال عليه مطلوبه غاية التيسير‪ ،‬وسهله عليه‪ ،‬والذكر شامل لكل ما يتذكر به‬
‫العاملون من الحلل والحرام‪ ،‬وأحكام المر والنهي‪ ،‬وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر‪ ،‬والعقائد‬
‫النافعة والخبار الصادقة‪ ،‬ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا‪ ،‬أسهل العلوم‪ ،‬وأجلها على‬
‫الطلق‪ ،‬وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه‪ ،‬قال بعض السلف عند هذه الية‪ :‬هل‬
‫من طالب علم فيعان [عليه]؟ ولهذا يدعو ال عباده إلى القبال عليه والتذكر بقوله‪َ { :‬ف َهلْ مِنْ‬
‫مُ ّدكِرٍ }‬

‫عذَابِي وَ ُنذُرِ * إِنّا أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا فِي َيوْمِ‬
‫{ ‪ { } 18-22‬كَذّ َبتْ عَادٌ َفكَ ْيفَ كَانَ َ‬
‫عذَابِي وَنُذُرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا‬
‫خلٍ مُ ْن َقعِرٍ * َفكَ ْيفَ كَانَ َ‬
‫عجَازُ َن ْ‬
‫نَحْسٍ مُسْ َتمِرّ * تَنْ ِزعُ النّاسَ كَأَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َفهَلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }‬

‫{ وعاد } هي القبيلة المعروفة باليمن‪ ،‬أرسل ال إليهم هودا عليه السلم يدعوهم إلى توحيد ال‬
‫وعبادته‪ ،‬فكذبوه‪ ،‬فأرسل ال عليهم { رِيحًا صَ ْرصَرًا } أي‪ :‬شديدة جدا‪ { ،‬فِي َيوْمِ َنحْسٍ } أي‪:‬‬
‫شديد العذاب والشقاء عليهم‪ { ،‬مُسْ َتمِرّ } عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما‪.‬‬

‫{ تَنْ ِزعُ النّاسَ } من شدتها‪ ،‬فترفعهم إلى جو السماء‪ ،‬ثم تدفعهم بالرض فتهلكهم‪ ،‬فيصبحون‬
‫خلٍ مُنْ َقعِرٍ } أي‪ :‬كأن جثثهم بعد هلكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته‬
‫{ كَأَ ّنهُمْ أَعْجَازُ َن ْ‬
‫الريح فسقط على الرض‪ ،‬فما أهون الخلق على ال إذا عصوا أمره‬

‫{ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان [وال] العذاب الليم‪ ،‬والنذارة التي ما أبقت لحد عليه حجة‪،‬‬
‫{ وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم‪ ،‬حيث دعاهم‬
‫إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم‪.‬‬

‫سعُرٍ *‬
‫حدًا نَتّ ِبعُهُ إِنّا إِذًا َلفِي ضَلَالٍ وَ ُ‬
‫{ ‪ { } 23-32‬كَذّ َبتْ َثمُودُ بِالنّذُرِ * َفقَالُوا أَبَشَرًا مِنّا وَا ِ‬
‫َأؤُ ْلقِيَ ال ّذكْرُ عَلَ ْيهِ مِنْ بَيْنِنَا َبلْ ُهوَ كَذّابٌ َأشِرٌ * سَ َيعَْلمُونَ غَدًا مَنِ ا ْلكَذّابُ الْأَشِرُ * إِنّا مُرْسِلُو‬
‫سمَةٌ بَيْ َنهُمْ ُكلّ شِ ْربٍ مُحْ َتضَرٌ * فَنَا َدوْا‬
‫النّاقَةِ فِتْ َنةً َلهُمْ فَارْ َتقِ ْبهُ ْم وَاصْطَبِرْ *وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ‬
‫عذَابِي وَنُذُرِ * إِنّا أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ صَيْحَ ًة وَاحِ َدةً َفكَانُوا َكهَشِيمِ‬
‫صَاحِ َبهُمْ فَ َتعَاطَى َف َعقَرَ * َفكَ ْيفَ كَانَ َ‬
‫ا ْلمُحْ َتظِرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }‬

‫أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر‪ ،‬نبيهم‬

‫صالحا عليه السلم‪ ،‬حين دعاهم إلى عبادة ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأنذرهم العقاب إن هم خالفوه‬

‫فكذبوه واستكبروا عليه‪ ،‬وقالوا ‪-‬كبرا وتيها‪ { :-‬أَبَشَرًا مِنّا وَاحِدًا نَتّ ِب ُعهُ } أي‪ :‬كيف نتبع بشرا‪ ،‬ل‬
‫ملكا منا‪ ،‬ل من غيرنا‪ ،‬ممن هو أكبر عند الناس منا‪ ،‬ومع ذلك فهو شخص واحد { إِنّا إِذًا } أي‪:‬‬
‫سعُرٍ } أي‪ :‬إنا لضالون أشقياء‪ ،‬وهذا الكلم من ضللهم‬
‫إن اتبعناه وهو بهذه الحال { َلفِي ضَلَالٍ وَ ُ‬
‫وشقائهم‪ ،‬فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسول من البشر‪ ،‬ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر‬
‫والصور‪.‬‬

‫{ َأؤُ ْل ِقيَ ال ّذكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا } أي‪ :‬كيف يخصه ال من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه‬
‫من بيننا؟ وهذا اعتراض من المكذبين على ال‪ ،‬لم يزالوا يدلون به‪ ،‬ويصولون ويجولون ويردون‬
‫به دعوة الرسل‪ ،‬وقد أجاب ال عن هذه الشبهة بقول الرسل لممهم‪ { :‬قالت رسلهم إن نحن إل‬
‫بشر مثلكم ولكن ال يمن على من يشاء من عباده } فالرسل من ال عليهم بصفات وأخلق‬
‫وكمالت‪ ،‬بها صلحوا لرسالت ربهم والختصاص بوحيه‪،‬‬

‫ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر‪ ،‬فلو كانوا من الملئكة لم يمكن البشر‪ ،‬أن يتلقوا عنهم‪،‬‬
‫ولو جعلهم من الملئكة لعاجل ال المكذبين لهم بالعقاب العاجل‪.‬‬

‫والمقصود بهذا الكلم الصادر من ثمود لنبيهم صالح‪ ،‬تكذيبه‪ ،‬ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم‬
‫الجائر‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬بلْ ُهوَ كَذّابٌ َأشِرٌ } أي‪ :‬كثير الكذب والشر‪،‬‬

‫فقبحهم ال ما أسفه أحلمهم وأظلمهم‪ ،‬وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع‪ ،‬ل‬
‫جرم عاقبهم ال حين اشتد طغيانهم‬

‫فأرسل ال الناقة التي هي من أكبر النعم عليهم‪ ،‬آية من آيات ال‪ ،‬ونعمة يحتلبون من ضرعها ما‬
‫يكفيهم أجمعين‪ { ،‬فِتْ َنةً َلهُمْ } أي‪ :‬اختبارا منه لهم وامتحانا { فَارْ َتقِ ْبهُ ْم وَاصْطَبِرْ } أي‪ :‬اصبر على‬
‫دعوتك إياهم‪ ،‬وارتقب ما يحل بهم‪ ،‬أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟‬

‫س َمةٌ بَيْ َنهُمْ } أي‪ :‬وأخبرهم أن الماء أي‪ :‬موردهم الذي يستعذبونه‪ ،‬قسمة بينهم‬
‫{ وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ‬
‫وبين الناقة‪ ،‬لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر معلوم‪ُ { ،‬كلّ شِ ْربٍ مُحْ َتضَرٌ } أي‪ :‬يحضره من‬
‫كان قسمته‪ ،‬ويحظر على من ليس بقسمة له‪.‬‬

‫{ فَنَا َدوْا صَاحِ َبهُمْ } الذي باشر عقرها‪ ،‬الذي هو أشقى القبيلة { فَ َتعَاطَى } أي‪ :‬انقاد لما أمروه به‬
‫من عقرها { َف َعقَرَ }‬

‫{ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان أشد عذاب‪ ،‬أرسل ال عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم‪،‬‬
‫ونجى ال صالحا ومن آمن معه { وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }‬

‫سحَرٍ *‬
‫علَ ْيهِمْ حَاصِبًا ِإلّا آلَ لُوطٍ َنجّيْنَا ُهمْ بِ َ‬
‫{ ‪ { } 33-40‬كَذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ بِالنّذُرِ * إِنّا أَرْسَلْنَا َ‬
‫طشَتَنَا فَ َتمَا َروْا بِالنّذُرِ * وََلقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ‬
‫شكَرَ * وََلقَدْ أَنْذَرَ ُهمْ بَ ْ‬
‫ِن ْعمَةً مِنْ عِنْدِنَا َكذَِلكَ نَجْزِي مَنْ َ‬
‫ح ُهمْ ُبكْ َرةً عَذَابٌ مُسْ َتقِرّ * فَذُوقُوا عَذَابِي‬
‫طمَسْنَا أَعْيُ َن ُهمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وََلقَ ْد صَبّ َ‬
‫ضَيْفِهِ َف َ‬
‫وَنُذُرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }‬

‫أي‪َ { :‬كذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ } لوطا عليه السلم‪ ،‬حين دعاهم إلى عبادة ال وحده ل شريك له‪ ،‬ونهاهم‬
‫عن الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين‪،‬‬

‫فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم‪ ،‬حتى إن الملئكة الذين جاءوه بصورة أضياف حين سمع‬
‫بهم قوم لوط‪ ،‬جاؤوهم مسرعين‪ ،‬يريدون إيقاع الفاحشة فيهم‪ ،‬لعنهم ال وقبحهم‪ ،‬وراودوه عنهم‪،‬‬

‫فأمر ال جبريل عليه السلم‪ ،‬فطمس أعينهم بجناحه‪ ،‬وأنذرهم نبيهم بطشة ال وعقوبته { فَ َتمَا َروْا‬
‫ح ُهمْ ُبكْ َرةً عَذَابٌ مُسْ َتقِرّ } قلب ال عليهم ديارهم‪ ،‬وجعل أسفلها أعلها‪،‬‬
‫بِالنّذُرِ } { وََلقَ ْد صَبّ َ‬
‫وتتبعهم بحجارة من سجيل منضود‪ ،‬مسومة عند ربك للمسرفين‪ ،‬ونجى ال لوطا وأهله من‬
‫الكرب العظيم‪ ،‬جزاء لهم على شكرهم لربهم‪ ،‬وعبادته وحده ل شريك له‪.‬‬

‫خذَ عَزِيزٍ ُمقْتَدِرٍ *‬


‫خذْنَا ُهمْ أَ ْ‬
‫عوْنَ النّذُرُ * كَذّبُوا بِآيَاتِنَا كُّلهَا فَأَ َ‬
‫{ ‪ { } 41-55‬وََلقَدْ جَاءَ آلَ فِرْ َ‬
‫جمْعُ‬
‫جمِيعٌ مُنْ َتصِرٌ * سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬
‫َأ ُكفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَ ِئكُمْ أَمْ َلكُمْ بَرَا َءةٌ فِي الزّبُرِ * َأمْ َيقُولُونَ َنحْنُ َ‬
‫سعُرٍ * َيوْمَ‬
‫عةُ َموْعِدُهُ ْم وَالسّاعَةُ َأدْهَى وََأمَرّ * إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ فِي ضَلَالٍ وَ ُ‬
‫وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ * َبلِ السّا َ‬
‫شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ * َومَا َأمْرُنَا إِلّا‬
‫سقَرَ * إِنّا ُكلّ َ‬
‫سحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى وُجُو ِه ِهمْ ذُوقُوا مَسّ َ‬
‫يُ ْ‬
‫شيْءٍ َفعَلُوهُ فِي الزّبُرِ * َو ُكلّ‬
‫عكُمْ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ * َوكُلّ َ‬
‫وَاحِ َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ * وَلَقَدْ َأهَْلكْنَا أَشْيَا َ‬
‫ت وَ َنهَرٍ * فِي مَ ْقعَ ِد صِ ْدقٍ عِ ْندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ }‬
‫صغِيرٍ َوكَبِيرٍ مُسْ َتطَرٌ * إِنّ ا ْلمُتّقِينَ فِي جَنّا ٍ‬
‫َ‬

‫عوْنَ } أي‪ :‬فرعون وقومه { النّذُرُ } فأرسل ال إليهم موسى الكليم‪ ،‬وأيده‬
‫أي‪ { :‬وََلقَدْ جَاءَ آلَ فِرْ َ‬
‫باليات الباهرات‪ ،‬والمعجزات القاهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحدا غيرهم فكذبوا‬
‫بآيات ال كلها‪ ،‬فأخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬فأغرقهم في اليم هو وجنوده والمراد من ذكر هذه‬
‫القصص تحذير [الناس و] المكذبين لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أ ُكفّا ُركُمْ خَيْرٌ مِنْ‬
‫أُولَ ِئكُمْ } أي‪ :‬هؤلء الذين كذبوا أفضل الرسل‪ ،‬خير من أولئك المكذبين‪ ،‬الذين ذكر ال هلكهم‬
‫وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم‪ ،‬أمكن أن ينجوا من العذاب‪ ،‬ولم يصبهم ما أصاب أولئك‬
‫الشرار‪ ،‬وليس المر كذلك‪ ،‬فإنهم إن لم يكونوا شرا منهم‪ ،‬فليسوا بخير منهم‪ { ،‬أَمْ َلكُمْ بَرَا َءةٌ فِي‬
‫الزّبُرِ } أي‪ :‬أم أعطاكم ال عهدا وميثاقا في الكتب التي أنزلها على النبياء‪ ،‬فتعتقدون حينئذ أنكم‬
‫الناجون بإخبار ال ووعده؟ وهذا غير واقع‪ ،‬بل غير ممكن عقل وشرعا‪ ،‬أن تكتب براءتهم في‬
‫الكتب اللهية المتضمنة للعدل والحكمة‪ ،‬فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلء المعاندين المكذبين‪،‬‬
‫لفضل الرسل وأكرمهم على ال‪ ،‬فلم يبق إل أن يكون بهم قوة ينتصرون بها‪،‬‬

‫جمِيعٌ مُنْ َتصِرٌ } قال تعالى مبينا لضعفهم‪ ،‬وأنهم مهزومون‪:‬‬


‫فأخبر تعالى أنهم يقولون‪ { :‬نَحْنُ َ‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ } فوقع كما أخبر‪ ،‬هزم ال جمعهم الكبر يوم بدر‪ ،‬وقتل من‬
‫{ سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬
‫صناديدهم وكبرائهم ما ذلوا به ونصر ال دينه ونبيه وحزبه المؤمنين‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم‪ ،‬ومن أصيب في الدنيا منهم‪ ،‬ومن متع بلذاته‪ ،‬ولهذا‬
‫عةُ أَ ْدهَى‬
‫قال‪َ { :‬بلِ السّاعَةُ َموْعِدُهُمْ } الذي يحازون به‪ ،‬ويؤخذ منهم الحق بالقسط‪ { ،‬وَالسّا َ‬
‫وََأمَرّ } أي‪ :‬أعظم وأشق‪ ،‬وأكبر من كل ما يتوهم‪ ،‬أو يدور بالبال‬

‫{ إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي‪ :‬الذين أكثروا من فعل الجرائم‪ ،‬وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره‪،‬‬
‫سعُرٍ } أي‪ :‬هم ضالون في الدنيا‪ ،‬ضلل عن العلم‪ ،‬وضلل عن‬
‫ل وَ ُ‬
‫من المعاصي { فِي ضَلَا ٍ‬
‫العمل‪ ،‬الذي ينجيهم من العذاب‪ ،‬ويوم القيامة في العذاب الليم‪ ،‬والنار التي تتسعر بهم‪ ،‬وتشتعل‬
‫في أجسامهم‪ ،‬حتى تبلغ أفئدتهم‪.‬‬

‫{ َيوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى وُجُو ِههِمْ } التي هي أشرف ما بهم من العضاء‪ ،‬وألمها أشد من ألم‬
‫غيرها‪ ،‬فيهانون بذلك ويخزون‪ ،‬ويقال لهم‪:‬‬

‫سقَرَ } أي‪ :‬ذوقوا ألم النار وأسفها وغيظها ولهبها‪.‬‬


‫{ ذُوقُوا مَسّ َ‬

‫شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ } وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية‪ ،‬أن ال تعالى وحده‬
‫{ إِنّا ُكلّ َ‬
‫خلقها ل خالق لها سواه‪ ،‬ول مشارك له في خلقها‬

‫وخلقها بقضاء سبق به علمه‪ ،‬وجرى به قلمه‪ ،‬بوقتها ومقدارها‪ ،‬وجميع ما اشتملت عليه من‬
‫ح َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ } فإذا أراد شيئا‬
‫الوصاف‪ ،‬وذلك على ال يسير‪ ،‬فلهذا قال‪َ { :‬ومَا َأمْرُنَا إِلّا وَا ِ‬
‫قال له كن فيكون كما أراد‪ ،‬كلمح البصر‪ ،‬من غير ممانعة ول صعوبة‪.‬‬

‫عكُمْ } من المم السابقين الذين عملوا كما عملتم‪ ،‬وكذبوا كما كذبتم { َف َهلْ مِنْ‬
‫{ وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا أَشْيَا َ‬
‫مُ ّدكِرٍ } أي‪ :‬متذكر يعلم أن سنة ال في الولين والخرين واحدة‪ ،‬وأن حكمته كما اقتضت إهلك‬
‫أولئك الشرار‪ ،‬فإن هؤلء مثلهم‪ ،‬ول فرق بين الفريقين‪.‬‬

‫شيْءٍ َفعَلُوهُ فِي الزّبُرِ } أي‪ :‬كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب‬
‫{ َو ُكلّ َ‬
‫صغِي ٍر َوكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } أي‪ :‬مسطر مكتوب‪،‬‬
‫ل َ‬
‫عليهم في الكتب القدرية { َوكُ ّ‬

‫وهذا حقيقة القضاء والقدر‪ ،‬وأن جميع الشياء كلها‪ ،‬قد علمها ال تعالى‪ ،‬وسطرها عنده في اللوح‬
‫المحفوظ‪ ،‬فما شاء ال كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فما أصاب النسان لم يكن ليخطئه‪ ،‬وما أخطأه لم‬
‫يكن ليصيبه‪.‬‬

‫{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } ل‪ ،‬بفعل أوامره وترك نواهيه‪ ،‬الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر‪.‬‬

‫ت وَ َنهَرٍ } أي‪ :‬في جنات النعيم‪ ،‬التي فيها ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر‬
‫{ فِي جَنّا ٍ‬
‫على قلب بشر‪ ،‬من الشجار اليانعة‪ ،‬والنهار الجارية‪ ،‬والقصور الرفيعة‪ ،‬والمنازل النيقة‪،‬‬
‫والمآكل والمشارب اللذيذة‪ ،‬والحور الحسان‪ ،‬والروضات البهية في الجنان‪ ،‬ورضوان الملك‬
‫الديان‪ ،‬والفوز بقربه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فِي َم ْقعَ ِد صِ ْدقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } فل تسأل بعد هذا عما‬
‫يعطيهم ربهم من كرامته وجوده‪ ،‬ويمدهم به من إحسانه ومنته‪ ،‬جعلنا ال منهم‪ ،‬ول حرمنا خير‬
‫ما عنده بشر ما عندنا‪.‬‬

‫تم تفسير سورة اقتربت‪ ،‬ول الحمد والشكر‬

‫تفسير سورة الرحمن‬


‫[وهي] مكية‬

‫علّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََلقَ الْإِنْسَانَ * عَّلمَهُ الْبَيَانَ *‬


‫حمَنُ * َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ الرّ ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-13‬بِ ْ‬
‫ط َغوْا‬
‫سمَاءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * أَلّا تَ ْ‬
‫جدَانِ * وَال ّ‬
‫ج ُم وَالشّجَرُ يَسْ ُ‬
‫حسْبَانٍ * وَالنّ ْ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ بِ ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫ال ّ‬
‫خسِرُوا ا ْلمِيزَانَ * وَالْأَ ْرضَ َوضَ َعهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَا ِكهَةٌ‬
‫ط وَلَا تُ ْ‬
‫سِ‬‫فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُوا ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِ ْ‬
‫ف وَالرّيْحَانُ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫ص ِ‬
‫حبّ ذُو ا ْل َع ْ‬
‫خلُ ذَاتُ الَْأ ْكمَامِ * وَالْ َ‬
‫وَالنّ ْ‬

‫حمَنُ" الدال على سعة رحمته‪ ،‬وعموم إحسانه‪،‬‬


‫هذه السورة الكريمة الجليلة‪ ،‬افتتحها باسمه "الرّ ْ‬
‫وجزيل بره‪ ،‬وواسع فضله‪ ،‬ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله ال إلى عباده من‬
‫النعم الدينية والدنيوية [والخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه‪ ،‬ينبه الثقلين لشكره‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } ]‪.‬‬

‫فذكر أنه { عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ } أي‪ :‬علم عباده ألفاظه ومعانيه‪ ،‬ويسرها على عباده‪ ،‬وهذا أعظم منة‬
‫ورحمة رحم بها عباده‪ ،‬حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ‪ ،‬وأحسن تفسير‪ ،‬مشتمل على‬
‫كل خير‪ ،‬زاجر عن كل شر‪.‬‬
‫{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ } في أحسن تقويم‪ ،‬كامل العضاء‪ ،‬مستوفي الجزاء‪ ،‬محكم البناء‪ ،‬قد أتقن البديع‬
‫تعالى البديع خلقه أي إتقان‪ ،‬وميزه على سائر الحيوانات‪.‬‬

‫بأن { عَّل َمهُ الْبَيَانَ } أي‪ :‬التبيين عما في ضميره‪ ،‬وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي‪،‬‬
‫فالبيان الذي ميز ال به الدمي على غيره من أجل نعمه‪ ،‬وأكبرها عليه‪.‬‬

‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ } أي‪ :‬خلق ال الشمس والقمر‪ ،‬وسخرهما يجريان بحساب مقنن‪ ،‬وتقدير‬
‫شمْ ُ‬
‫{ ال ّ‬
‫مقدر‪ ،‬رحمة بالعباد‪ ،‬وعناية بهم‪ ،‬وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم‪ ،‬وليعرف العباد عدد السنين‬
‫والحساب‪.‬‬

‫سجُدَانِ } أي‪ :‬نجوم السماء‪ ،‬وأشجار الرض‪ ،‬تعرف ربها وتسجد له‪ ،‬وتطيع‬
‫{ وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ يَ ْ‬
‫وتخشع وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم‪.‬‬

‫سمَاءَ َر َف َعهَا } سقفها للمخلوقات الرضية‪ ،‬ووضع ال الميزان أي‪ :‬العدل بين العباد‪ ،‬في‬
‫{ وَال ّ‬
‫القوال والفعال‪ ،‬وليس المراد به الميزان المعروف وحده‪ ،‬بل هو كما ذكرنا‪ ،‬يدخل فيه الميزان‬
‫المعروف‪ ،‬والمكيال الذي تكال به الشياء والمقادير‪ ،‬والمساحات التي تضبط بها المجهولت‪،‬‬
‫ط َغوْا فِي‬
‫والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات‪ ،‬ويقام بها العدل بينهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬أَلّا تَ ْ‬
‫ا ْلمِيزَانِ } أي‪ :‬أنزل ال الميزان‪ ،‬لئل تتجاوزوا الحد في الميزان‪ ،‬فإن المر لو كان يرجع إلى‬
‫عقولكم وآرائكم‪ ،‬لحصل من الخلل ما ال به عليم‪ ،‬ولفسدت السماوات والرض‪.‬‬

‫{ وََأقِيمُوا ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْطِ } أي‪ :‬اجعلوه قائما بالعدل‪ ،‬الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم‪ { ،‬وَلَا‬
‫خسِرُوا ا ْلمِيزَانَ } أي‪ :‬ل تنقصوه وتعملوا بضده‪ ،‬وهو الجور والظلم والطغيان‪.‬‬
‫تُ ْ‬

‫ض َعهَا } ال على ما كانت عليه من الكثافة والستقرار واختلف [أوصافها و]‬


‫ض َو َ‬
‫{ وَالْأَ ْر َ‬
‫أحوالها { لِلْأَنَامِ } أي‪ :‬للخلق‪ ،‬لكي يستقروا عليها‪ ،‬وتكون لهم مهادا وفراشا يبنون بها‪ ،‬ويحرثون‬
‫ويغرسون ويحفرون ويسلكون سبلها فجاجا‪ ،‬وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها‪ ،‬مما تدعو إليه‬
‫حاجتهم‪ ،‬بل ضرورتهم‪.‬‬

‫ثم ذكر ما فيها من القوات الضرورية‪ ،‬فقال‪ { :‬فِيهَا فَا ِكهَةٌ } وهي جميع الشجار التي تثمر‬
‫خلُ ذَاتُ‬
‫الثمرات التي يتفكه بها العباد‪ ،‬من العنب والتين والرمان والتفاح‪ ،‬وغير ذلك‪ { ،‬وَالنّ ْ‬
‫الَْأ ْكمَامِ } أي‪ :‬ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم‪ ،‬فتكون قوتا‬
‫يؤكل ويدخر‪ ،‬يتزود منه المقيم والمسافر‪ ،‬وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه‪.‬‬
‫صفِ } أي‪ :‬ذو الساق الذي يداس‪ ،‬فينتفع بتبنه للنعام وغيرها‪ ،‬ويدخل في ذلك‬
‫حبّ ذُو ا ْل َع ْ‬
‫{ وَا ْل َ‬
‫حب البر والشعير والذرة [والرز] والدخن‪ ،‬وغير ذلك‪ { ،‬وَالرّ ْيحَانُ } يحتمل أن المراد بذلك‬
‫جميع الرزاق التي يأكلها الدميون‪ ،‬فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص‪ ،‬ويكون ال قد‬
‫امتن على عباده بالقوت والرزق‪ ،‬عموما وخصوصا‪ ،‬ويحتمل أن المراد بالريحان‪ ،‬الريحان‬
‫المعروف‪ ،‬وأن ال امتن على عباده بما يسره في الرض من أنواع الروائح الطيبة‪ ،‬والمشام‬
‫الفاخرة‪ ،‬التي تسر الرواح‪ ،‬وتنشرح لها النفوس‪.‬‬

‫ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالبصار والبصائر‪ ،‬وكان الخطاب للثقلين‪ ،‬النس‬
‫والجن‪ ،‬قررهم تعالى بنعمه‪ ،‬فقال‪ { :‬فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } أي‪ :‬فبأي نعم ال الدينية والدنيوية‬
‫تكذبان؟‬

‫وما أحسن جواب الجن حين تل عليهم النبي صلى ال عليه وسلم هذه السورة‪ ،‬فما مر بقوله‪:‬‬
‫{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } إل قالوا ول بشيء من آلئك ربنا نكذب‪ ،‬فلك الحمد‪ ،‬فهذا الذي‬
‫ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم ال وآلؤه‪ ،‬أن يقر بها ويشكر‪ ،‬ويحمد ال عليها‪.‬‬

‫ن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ * وَخَلَقَ الْجَانّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ‬
‫{ ‪ { } 14-16‬خَلَقَ الْإِ ْنسَانَ مِ ْ‬
‫رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫وهذا من نعمه تعالى على عباده‪ ،‬حيث أراهم [من] آثار قدرته وبديع صنعته‪ ،‬أن { خََلقَ } أبا‬
‫ن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ } أي‪ :‬من طين مبلول‪ ،‬قد أحكم بله وأتقن‪،‬‬
‫النس وهو آدم عليه السلم { مِ ْ‬
‫حتى جف‪ ،‬فصار له صلصلة وصوت يشبه صوت الفخار الذي طبخ على النار ‪.‬‬

‫خلَقَ ا ْلجَانّ } أي‪ :‬أبا الجن‪ ،‬وهو إبليس اللعين { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } أي‪ :‬من لهب النار‬
‫{ وَ َ‬
‫الصافي‪ ،‬أو الذي قد خالطه الدخان‪ ،‬وهذا يدل على شرف عنصر الدمي المخلوق من الطين‬
‫والتراب‪ ،‬الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع‪ ،‬بخلف عنصر الجان وهو النار‪ ،‬التي هي محل‬
‫الخفة والطيش والشر والفساد‪.‬‬

‫ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك وكان ذلك منة منه [تعالى] على عباده قال‪ { :‬فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا‬
‫ُتكَذّبَانِ }‬

‫ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬


‫{ ‪َ { } 17-18‬ربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ‬
‫أي‪ :‬هو تعالى رب كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر‪ ،‬والكواكب النيرة‪ ،‬وكل ما غربت عليه‪،‬‬
‫[وكل ما كانا فيه] فهي تحت تدبيره وربوبيته‪ ،‬وثناهما هنا لرادة العموم مشرقي الشمس شتاء‬
‫وصيفا‪ ،‬ومغربها كذلك‬

‫{ ‪ { } 19-21‬مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَخٌ لَا يَ ْبغِيَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫المراد بالبحرين‪ :‬البحر العذب‪ ،‬والبحر المالح‪ ،‬فهما يلتقيان كلهما‪ ،‬فيصب العذب في البحر‬
‫المالح‪ ،‬ويختلطان ويمتزجان‪ ،‬ولكن ال تعالى جعل بينهما برزخا من الرض‪ ،‬حتى ل يبغي‬
‫أحدهما على الخر‪ ،‬ويحصل النفع بكل منهما‪ ،‬فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم‪،‬‬
‫والملح به يطيب الهواء ويتولد الحوت والسمك‪ ،‬واللؤلؤ والمرجان‪ ،‬ويكون مستقرا مسخرا للسفن‬
‫والمراكب‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫جوَارِي ا ْلمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬


‫{ ‪ { } 24-25‬وَلَهُ ا ْل َ‬

‫أي‪ :‬وسخر تعالى لعباده السفن الجواري‪ ،‬التي تمخر البحر وتشقه بإذن ال‪ ،‬التي ينشئها الدميون‪،‬‬
‫فتكون من كبرها وعظمها كالعلم‪ ،‬وهي الجبال العظيمة‪ ،‬فيركبها الناس‪ ،‬ويحملون عليها‬
‫أمتعتهم وأنواع تجاراتهم‪ ،‬وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم‪ ،‬وقد حفظها حافظ‬
‫السماوات والرض‪ ،‬وهذه من نعم ال الجليلة‪ ،‬فلذلك قال‪ { :‬فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫{ ‪ُ { } 26-28‬كلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ * وَيَ ْبقَى وَجْهُ رَ ّبكَ ذُو ا ْلجَلَالِ وَالِْإكْرَامِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا‬
‫ُتكَذّبَانِ }‬

‫أي‪ :‬كل من على الرض‪ ،‬من إنس وجن‪ ،‬ودواب‪ ،‬وسائر المخلوقات‪ ،‬يفنى ويموت ويبيد ويبقى‬
‫ل وَالِْإكْرَامِ } أي‪ :‬ذو العظمة والكبرياء والمجد‪ ،‬الذي يعظم ويبجل‬
‫الحي الذي ل يموت { ذُو الْجَلَا ِ‬
‫ويجل لجله‪ ،‬والكرام الذي هو سعة الفضل والجود‪ ،‬والداعي لن يكرم أولياءه وخواص خلقه‬
‫بأنواع الكرام‪ ،‬الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه‪[ ،‬ويعظمونه] ويحبونه‪ ،‬وينيبون إليه ويعبدونه‪،‬‬
‫{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ }‬
‫{ ‪ { } 29-30‬يَسْأَُلهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫أي‪ :‬هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته‪ ،‬وهو واسع الجود والكرم‪ ،‬فكل الخلق مفتقرون إليه‪،‬‬
‫يسألونه جميع حوائجهم‪ ،‬بحالهم ومقالهم‪ ،‬ول يستغنون عنه طرفة عين ول أقل من ذلك‪ ،‬وهو‬
‫تعالى { ُكلّ َي ْومٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ } يغني فقيرا‪ ،‬ويجبر كسيرا‪ ،‬ويعطي قوما‪ ،‬ويمنع آخرين‪ ،‬ويميت‬
‫ويحيي‪ ،‬ويرفع ويخفض‪ ،‬ل يشغله شأن عن شأن‪ ،‬ول تغلطه المسائل‪ ،‬ول يبرمه إلحاح الملحين‪،‬‬
‫ول طول مسألة السائلين‪ ،‬فسبحان الكريم الوهاب‪ ،‬الذي عمت مواهبه أهل الرض والسماوات‪،‬‬
‫وعم لطفه جميع الخلق في كل النات واللحظات‪ ،‬وتعالى الذي ل يمنعه من العطاء معصية‬
‫العاصين‪ ،‬ول استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه‪ ،‬وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو‬
‫في شأن‪ ،‬هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الزل وقضاها‪ ،‬ل يزال تعالى يمضيها وينفذها في‬
‫أوقاتها التي اقتضته حكمته‪ ،‬وهي أحكامه الدينية التي هي المر والنهي‪ ،‬والقدرية التي يجريها‬
‫على عباده مدة مقامهم في هذه الدار‪ ،‬حتى إذا تمت [هذه] الخليقة وأفناهم ال تعالى وأراد تعالى‬
‫أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء‪ ،‬ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه‪ ،‬ما به يعرفونه ويوحدونه‪،‬‬
‫نقل المكلفين من دار البتلء والمتحان إلى دار الحيوان‪.‬‬

‫وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الحكام‪ ،‬التي جاء وقتها‪ ،‬وهو المراد بقوله‪:‬‬

‫{ ‪ { } 31-32‬سَ َنفْ ُرغُ َلكُمْ أَ ّيهَا ال ّثقَلَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫{ سَ َنفْرُغُ لكم أيها الثقلن فبأي آلء ربكما تكذبان } أي‪ :‬سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي‬
‫عملتموها في دار الدنيا‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ فَا ْنفُذُوا لَا‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫طعْتُمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأقْطَارِ ال ّ‬
‫ن وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَ َ‬
‫{ ‪ { } 33‬يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ‬
‫تَ ْنفُذُونَ إِلّا بِسُ ْلطَانٍ }‬

‫أي‪ :‬إذا جمعهم ال في موقف القيامة‪ ،‬أخبرهم بعجزهم وضعفهم‪ ،‬وكمال سلطانه‪ ،‬ونفوذ مشيئته‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫طعْ ُتمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأقْطَارِ ال ّ‬
‫ن وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَ َ‬
‫وقدرته‪ ،‬فقال معجزا لهم‪ { :‬يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬تجدون منفذا مسلكا تخرجون به عن ملك ال وسلطانه‪ { ،‬فَا ْنفُذُوا لَا تَ ْنفُذُونَ إِلّا‬
‫بِسُ ْلطَانٍ } أي‪ :‬ل تخرجون عنه إل بقوة وتسلط منكم‪ ،‬وكمال قدرة‪ ،‬وأنى لهم ذلك‪ ،‬وهم ل‬
‫يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا؟! ففي ذلك الموقف ل يتكلم أحد إل‬
‫بإذنه‪ ،‬ول تسمع إل همسا‪ ،‬وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك‪ ،‬والرؤساء والمرءوسون‪،‬‬
‫والغنياء والفقراء‪.‬‬

‫شوَاظٌ مِنْ نَا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْ َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫{ ‪ { } 35-36‬يُرْ َ‬
‫علَ ْي ُكمَا شواظ من نار [ونحاس فل‬
‫سلُ َ‬
‫ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم فقال‪ { :‬يُ ْر َ‬
‫تنصران فبأي آلء ربكما تكذبان } أي‪ :‬يرسل عليكما] لهب صاف من النار‪.‬‬

‫{ ونحاس } وهو اللهب‪ ،‬الذي قد خالطه الدخان‪ ،‬والمعنى أن هذين المرين الفظيعين يرسلن‬
‫عليكما يا معشر الجن والنس‪ ،‬ويحيطان بكما فل تنتصران‪ ،‬ل بناصر من أنفسكم‪ ،‬ول بأحد‬
‫ينصركم من دون ال‪.‬‬

‫ولما كان تخويفه لعباده نعمة منه عليهم‪ ،‬وسوطا يسوقهم به إلى أعلى المطالب وأشرف المواهب‪،‬‬
‫امتن عليهم فقال‪ { :‬فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫سمَاءُ َفكَا َنتْ وَرْ َدةً كَالدّهَانِ }‬


‫شقّتِ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 37‬فَإِذَا ا ْن َ‬

‫سمَاءُ } [أي] يوم القيامة من شدة الهوال‪ ،‬وكثرة البلبال‪ ،‬وترادف الوجال‪،‬‬
‫ش ّقتِ ال ّ‬
‫{ فَِإذَا انْ َ‬
‫فانخسفت شمسها وقمرها‪ ،‬وانتثرت نجومها‪َ { ،‬فكَا َنتْ } من شدة الخوف والنزعاج { وَرْ َدةً‬
‫كَالدّهَانِ } أي‪ :‬كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه { فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ فَ َي ْومَئِذٍ لَا يُسَْألُ‬
‫س وَلَا جَانّ } أي‪ :‬سؤال استعلم بما وقع‪ ،‬لنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي‬
‫عَنْ ذَنْ ِبهِ إِنْ ٌ‬
‫والمستقبل‪ ،‬ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم‪ ،‬وقد جعل لهل الخير والشر يوم القيامة‬
‫سوَدّ وُجُوهٌ }‬
‫علمات يعرفون بها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ تَبْ َيضّ ُوجُوهٌ وَتَ ْ‬

‫خذُ بِال ّنوَاصِي وَالَْأقْدَامِ }‬


‫{ ‪ُ { } 41‬يعْرَفُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ ِبسِيمَاهُمْ فَ ُيؤْ َ‬

‫وقال هنا‪ُ { :‬يعْ َرفُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَ ُيؤْخَذُ بِال ّنوَاصِي وَالَْأقْدَامِ } أي‪ :‬فيؤخذ بنواصي المجرمين‬
‫وأقدامهم‪ ،‬فيلقون في النار ويسحبون فيها‪ ،‬وإنما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقرير بما وقع منهم‪،‬‬
‫وهو أعلم به منهم‪ ،‬ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة‪ ،‬وحكمته الجليلة‪.‬‬

‫حمِيمٍ آنٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ‬


‫جهَنّمُ الّتِي ُيكَ ّذبُ ِبهَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ * َيطُوفُونَ بَيْ َنهَا وَبَيْنَ َ‬
‫{ ‪َ { } 43-45‬ه ِذهِ َ‬
‫رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬

‫جهَنّمُ الّتِي ُيكَ ّذبُ ِبهَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ }‬


‫أي‪ :‬يقال للمكذبين بالوعد والوعيد حين تسعر الجحيم‪ { :‬هَ ِذهِ َ‬
‫فليهنهم تكذيبهم بها‪ ،‬وليذوقوا من عذابها ونكالها وسعيرها وأغللها‪ ،‬ما هو جزاء لتكذيبهم‬

‫حمِيمٍ آنٍ } أي‪ :‬ماء حار جدا قد انتهى‬


‫{ َيطُوفُونَ بَيْ َنهَا } أي‪ :‬بين أطباق الجحيم ولهبها { وَبَيْنَ َ‬
‫حره‪ ،‬وزمهرير قد اشتد برده وقره‪ { ،‬فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين‪،‬‬
‫ذكر جزاء المتقين الخائفين فقال‪:‬‬
‫{ ‪ { } 46-65‬وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * َذوَاتَا َأفْنَانٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ‬
‫رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِي ِهمَا عَيْنَانِ َتجْرِيَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َزوْجَانِ *‬
‫فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ * مُ ّتكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِ ُنهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ‬
‫طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْل ُه ْم وَلَا جَانّ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ‬
‫رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ َلمْ يَ ْ‬
‫حسَانُ * فَبَِأيّ‬
‫* كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُوتُ وَا ْلمَرْجَانُ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * َهلْ جَزَاءُ الِْإحْسَانِ إِلّا الْإِ ْ‬
‫آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * َومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ * مُدْهَامّتَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا‬
‫ُتكَذّبَانِ } إلى آخر السورة‪.‬‬

‫أي‪ :‬وللذي خاف ربه وقيامه عليه‪ ،‬فترك ما نهى عنه‪ ،‬وفعل ما أمره به‪ ،‬له جنتان من ذهب‬
‫آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما‪ ،‬إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات‪ ،‬والخرى على‬
‫فعل الطاعات‪.‬‬

‫ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما { َذوَاتَا َأفْنَانٍ } [أي‪ :‬فيهما من ألوان النعيم المتنوعة نعيم الظاهر‬
‫والباطن ما ل عين رأت ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر] أن فيهما الشجار الكثيرة‬
‫الزاهرة ذوات الغصون الناعمة‪ ،‬التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة‪ ،‬أو ذواتا أنواع وأصناف‬
‫من جميع أصناف النعيم وأنواعه جمع فن‪ ،‬أي‪ :‬صنف‪.‬‬

‫وفي تلك الجنتين { عَيْنَانِ َتجْرِيَانِ } يفجرونها على ما يريدون ويشتهون‪.‬‬

‫{ فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ } من جميع أصناف الفواكه { َزوْجَانِ } أي‪ :‬صنفان‪ ،‬كل صنف له لذة‬
‫ولون‪ ،‬ليس للنوع الخر‪.‬‬

‫{ مُ ّتكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ َبطَائِ ُنهَا مِنْ إِسْتَبْ َرقٍ } هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها‪ ،‬وأنهم‬
‫متكئون عليها‪[ ،‬أي‪ ]:‬جلوس تمكن واستقرار [وراحة]‪ ،‬كجلوس من الملوك على السرة‪ ،‬وتلك‬
‫الفرش‪ ،‬ل يعلم وصفها وحسنها إل ال عز وجل‪ ،‬حتى إن بطائنها التي تلي الرض منها‪ ،‬من‬
‫إستبرق‪ ،‬وهو أحسن الحرير وأفخره‪ ،‬فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟! { وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ‬
‫دَانٍ } الجنى هو الثمر المستوي أي‪ :‬وثمر هاتين الجنتين قريب التناول‪ ،‬يناله القائم والقاعد‬
‫والمضطجع‪.‬‬

‫{ فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ } أي‪ :‬قد قصرن طرفهن على أزواجهن‪ ،‬من حسنهم وجمالهم‪ ،‬وكمال‬
‫محبتهن لهم‪ ،‬وقصرن أيضا طرف أزواجهن عليهن‪ ،‬من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن‪ { ،‬لَمْ‬
‫طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْل ُه ْم وَلَا جَانّ } أي‪ :‬لم ينلهن قبلهم أحد من النس والجن‪ ،‬بل هن أبكار عرب‪،‬‬
‫يَ ْ‬
‫متحببات إلى أزواجهن‪ ،‬بحسن التبعل والتغنج والملحة والدلل‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ت وَا ْلمَرْجَانُ } وذلك لصفائهن وجمال منظرهن وبهائهن‪.‬‬
‫{ كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُو ُ‬

‫{ َهلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلّا الِْإحْسَانُ } أي‪ :‬هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده‪ ،‬إل أن‬
‫يحسن إليه بالثواب الجزيل‪ ،‬والفوز الكبير‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم‪ ،‬فهاتان الجنتان العاليتان‬
‫للمقربين‪.‬‬

‫{ َومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ } من فضة بنيانهما وآنيتهما وحليتهما وما فيهما لصحاب اليمين‪.‬‬

‫وتلك الجنتان { مُدْهَامّتَانِ } أي‪ :‬سوداوان من شدة الخضرة التي هي أثر الري‪.‬‬

‫{ ‪ { } 66‬فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ }‬

‫أي‪ :‬فوارتان‪.‬‬

‫{ فِي ِهمَا فَا ِكهَةٌ } من جميع أصناف الفواكه‪ ،‬وأخصها النخل والرمان‪ ،‬اللذان فيهما من المنافع ما‬
‫فيهما‪.‬‬

‫حسَانٌ } أي‪ :‬خيرات الخلق حسان الوجه‪ ،‬فجمعن بين‬


‫{ فِيهِنّ } أي‪ :‬في الجنات كلها { خَيْرَاتٌ ِ‬
‫جمال الظاهر والباطن‪ ،‬وحسن الخلق والخلق‪.‬‬

‫{ حُورٌ مَ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ } أي‪ :‬محبوسات في خيام اللؤلؤ‪ ،‬قد تهيأن وأعددن أنفسهن‬
‫لزواجهن‪ ،‬ول ينفي ذلك خروجهن في البساتين ورياض الجنة‪ ،‬كما جرت العادة لبنات الملوك‬
‫ونحوهن [المخدرات] الخفرات‪.‬‬

‫خضْرٍ } أي‪:‬‬
‫طمِ ْثهُنّ إِ ْنسٌ قَبَْلهُ ْم وَلَا جَانّ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ‬
‫{ َلمْ يَ ْ‬
‫أصحاب هاتين الجنتين‪ ،‬متكأهم على الرفرف الخضر‪ ،‬وهي الفرش التي فوق المجالس العالية‪،‬‬
‫التي قد زادت على مجالسهم‪ ،‬فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم‪ ،‬لزيادة البهاء وحسن المنظر‪،‬‬
‫{ وَعَ ْبقَ ِريّ حِسَانٍ } العبقري‪ :‬نسبة لكل منسوج نسجا حسنا فاخرا‪ ،‬ولهذا وصفها بالحسن الشامل‪،‬‬
‫لحسن الصنعة وحسن المنظر‪ ،‬ونعومة الملمس‪ ،‬وهاتان الجنتان دون الجنتين الوليين‪ ،‬كما نص‬
‫ال على ذلك بقوله‪َ { :‬ومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ } وكما وصف الوليين بعدة أوصاف لم يصف بها‬
‫الخريين‪ ،‬فقال في الوليين‪ { :‬فِي ِهمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وفي الخريين‪ { :‬عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ } ومن‬
‫المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة‪.‬‬
‫وقال في الوليين‪َ { :‬ذوَاتَا َأفْنَانٍ } ولم يقل ذلك في الخريين‪ .‬وقال في الوليين‪ { :‬فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ‬
‫ل وَ ُرمّانٌ } وقد علم ما بين الوصفين من‬
‫خٌ‬‫فَا ِكهَةٍ َزوْجَانِ } وفي الخريين { فِي ِهمَا فَا ِكهَ ٌة وَنَ ْ‬
‫التفاوت‪.‬‬

‫ق وَجَنَى ا ْلجَنّتَيْنِ دَانٍ } ولم يقل ذلك في‬


‫وقال في الوليين‪ { :‬مُ ّتكِئِينَ عَلَى فُ ُرشٍ بَطَائِ ُنهَا مِنْ ِإسْتَبْرَ ٍ‬
‫حسَانٍ }‬
‫خضْرٍ وَعَبْقَ ِريّ ِ‬
‫الخيرتين‪ ،‬بل قال‪ { :‬مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ‬

‫وقال في الوليين‪ ،‬في وصف نسائهم وأزواجهم‪ { :‬فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ لم يطمثهن إنس قبلهم‬
‫ول جان } وقال في الخريين‪ { :‬حور مَ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ } وقد علم التفاوت بين ذلك‪.‬‬

‫وقال في الوليين { َهلْ جَزَاءُ الِْإحْسَانِ إِلّا الْإِحْسَانُ } فدل ذلك أن الوليين جزاء المحسنين‪ ،‬ولم‬
‫يقل ذلك في الخريين‪.‬‬

‫ومجرد تقديم الوليين على الخريين‪ ،‬يدل على فضلهما‪.‬‬

‫فبهذه الوجه يعرف فضل الوليين على الخريين‪ ،‬وأنهما معدتان للمقربين من النبياء‪،‬‬
‫والصديقين‪ ،‬وخواص عباد ال الصالحين‪ ،‬وأن الخريين معدتان لعموم المؤمنين‪ ،‬وفي كل من‬
‫الجنات [المذكورات] ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬وفيهن ما‬
‫تشتهيه النفس وتلذ العين‪ ،‬وأهلها في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى‪ ،‬حتى إن‬
‫كل منهم ل يرى أحدا أحسن حال منه‪ ،‬ول أعلى من نعيمه [الذي هو فيه]‪.‬‬

‫ل وَالِْإكْرَامِ } أي‪ :‬تعاظم وكثر‬


‫سمُ رَ ّبكَ ذِي ا ْلجَلَا ِ‬
‫ولما ذكر سعة فضله وإحسانه‪ ،‬قال‪ { :‬تَبَا َركَ ا ْ‬
‫خيره‪ ،‬الذي له الجلل الباهر‪ ،‬والمجد الكامل‪ ،‬والكرام لوليائه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الرحمن‪ ،‬ول الحمد والشكر والثناء الحسن‪.‬‬

‫تفسير سورة الواقعة‬


‫[وهي] مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا َو َق َعتِ ا ْلوَا ِقعَةُ * لَيْسَ ِل َو ْقعَ ِتهَا كَاذِبَةٌ * خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ *‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-12‬بِ ْ‬
‫ستِ الْجِبَالُ بَسّا * َفكَا َنتْ هَبَاءً مُنْبَثّا * َوكُنْتُمْ أَ ْزوَاجًا ثَلَاثَةً * فََأصْحَابُ‬
‫جتِ الْأَ ْرضُ رَجّا * وَبُ ّ‬
‫إِذَا ُر ّ‬
‫صحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ * وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ *‬
‫ا ْلمَ ْيمَنَةِ مَا َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ * وََأصْحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ مَا َأ ْ‬
‫أُولَ ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ * فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ }‬
‫يخبر تعالى بحال الواقعة التي ل بد من وقوعها‪ ،‬وهي القيامة التي { لَ ْيسَ ِل َو ْقعَ ِتهَا كَاذِ َبةٌ } أي‪ :‬ل‬
‫شك فيها‪ ،‬لنها قد تظاهرت عليها الدلة العقلية والسمعية‪ ،‬ودلت عليها حكمته تعالى‪.‬‬

‫{ خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ } أي‪ :‬خافضة لناس في أسفل سافلين‪ ،‬رافعة لناس في أعلى عليين‪ ،‬أو خفضت‬
‫بصوتها فأسمعت القريب‪ ،‬ورفعت فأسمعت البعيد‪.‬‬

‫جتِ الْأَ ْرضُ َرجّا } أي‪ :‬حركت واضطربت‪.‬‬


‫{ ِإذَا ُر ّ‬

‫ستِ ا ْلجِبَالُ بَسّا } أي‪ :‬فتتت‪.‬‬


‫{ وَبُ ّ‬

‫{ َفكَا َنتْ هَبَاءً مُنْبَثّا } فأصبحت الرض ليس عليها جبل ول معلم‪ ،‬قاعا صفصفا‪ ،‬ل ترى فيها‬
‫عوجا ول أمتا‪.‬‬

‫{ َوكُنْتُمْ } أيها الخلق { أَ ْزوَاجًا ثَلَا َثةً } أي‪ :‬انقسمتم ثلث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة‪.‬‬

‫ثم فصل أحوال الزواج الثلثة‪ ،‬فقال‪ { :‬فََأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ مَا َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ } تعظيم لشأنهم‪،‬‬
‫وتفخيم لحوالهم‪.‬‬

‫{ وََأصْحَابُ ا ْلمَش َئ َمةِ } أي‪ :‬الشمال‪ { ،‬مَا َأصْحَابُ ا ْلمَش َئمَة } تهويل لحالهم‪.‬‬

‫{ وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ أُولَ ِئكَ ا ْلمُقَرّبُونَ } أي‪ :‬السابقون في الدنيا إلى الخيرات‪ ،‬هم السابقون في‬
‫الخرة لدخول الجنات‪.‬‬

‫أولئك الذين هذا وصفهم‪ ،‬المقربون عند ال‪ ،‬في جنات النعيم‪ ،‬في أعلى عليين‪ ،‬في المنازل‬
‫العاليات‪ ،‬التي ل منزلة فوقها‪.‬‬

‫وهؤلء المذكورون { ثُلّةٌ مِنَ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه المة وغيرهم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 14‬وقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ }‬

‫وهذا يدل على فضل صدر هذه المة في الجملة على متأخريها‪ ،‬لكون المقربين من الولين أكثر‬
‫من المتأخرين‪.‬‬

‫والمقربون هم خواص الخلق‪ { ،‬عَلَى سُرُرٍ َم ْوضُونَةٍ } أي‪ :‬مرمولة بالذهب والفضة‪ ،‬واللؤلؤ‪،‬‬
‫والجوهر‪ ،‬وغير ذلك من [الحلي] الزينة‪ ،‬التي ل يعلمها إل ال تعالى‪.‬‬
‫{ مُ ّتكِئِينَ عَلَ ْيهَا } أي‪ :‬على تلك السرر‪ ،‬جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار‪ { .‬مُ َتقَابِلِينَ }‬
‫وجه كل منهم إلى وجه صاحبه‪ ،‬من صفاء قلوبهم‪ ،‬وحسن أدبهم‪ ،‬وتقابل قلوبهم‪.‬‬

‫علَ ْيهِ ْم وِلْدَانٌ ُمخَلّدُونَ }‬


‫{ ‪ { } 17‬يَطُوفُ َ‬

‫أي‪ :‬يدور على أهل الجنة لخدمة وقضاء حوائجهم‪ ،‬ولدان صغار السنان‪ ،‬في غاية الحسن‬
‫والبهاء‪ { ،‬كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ } أي‪ :‬مستور‪ ،‬ل يناله ما يغيره‪ ،‬مخلوقون للبقاء والخلد‪ ،‬ل يهرمون‬
‫ول يتغيرون‪ ،‬ول يزيدون على أسنانهم‪.‬‬

‫ويدورون عليهم بآنية شرابهم { بَِأ ْكوَابٍ } وهي التي ل عرى لها‪ { ،‬وَأَبَارِيقَ } الواني التي لها‬
‫عرى‪َ { ،‬وكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ } أي‪ :‬من خمر لذيذ المشرب‪ ،‬ل آفة فيها‪.‬‬

‫{ لَا ُيصَدّعُونَ عَ ْنهَا } أي‪ :‬ل تصدعهم رءوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها‪.‬‬

‫ول هم عنها ينزفون‪ ،‬أي‪ :‬ل تنزف عقولهم‪ ،‬ول تذهب أحلمهم منها‪ ،‬كما يكون لخمر الدنيا‪.‬‬

‫والحاصل‪ :‬أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا‪ ،‬ل يوجد في الجنة‬
‫ط ْعمُهُ وَأَ ْنهَارٌ مِنْ‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ َلمْ يَ َتغَيّرْ َ‬
‫فيه آفة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِ ٍ‬
‫صفّى } وذكر هنا خمر الجنة‪ ،‬ونفى عنها كل آفة توجد في‬
‫سلٍ ُم َ‬
‫عَ‬‫ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ‬
‫خمْرٍ َل ّذةٍ لِلشّارِبِي َ‬
‫َ‬
‫الدنيا‪.‬‬

‫{ َوفَا ِكهَةٍ ِممّا يَتَخَيّرُونَ } أي‪ :‬مهما تخيروا‪ ،‬وراق في أعينهم‪ ،‬واشتهته نفوسهم‪ ،‬من أنواع الفواكه‬
‫الشهية‪ ،‬والجنى اللذيذ‪ ،‬حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه‪.‬‬

‫{ وََلحْمِ طَيْرٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ } أي‪ :‬من كل صنف من الطيور يشتهونه‪ ،‬ومن أي جنس من لحمه‬
‫أرادوا‪ ،‬وإن شاءوا مشويا‪ ،‬أو طبيخا‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬

‫{ وَحُورٌ عِينٌ كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } أي‪ :‬ولهم حور عين‪ ،‬والحوراء‪ :‬التي في عينها كحل‬
‫وملحة‪ ،‬وحسن وبهاء‪ ،‬والعين‪ :‬حسان العين وضخامها وحسن العين في النثى‪ ،‬من أعظم‬
‫الدلة على حسنها وجمالها‪.‬‬

‫{ كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } أي‪ :‬كأنهن اللؤلؤ البيض الرطب الصافي البهي‪ ،‬المستور عن العين‬
‫والريح والشمس‪ ،‬الذي يكون لونه من أحسن اللوان‪ ،‬الذي ل عيب فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬فكذلك‬
‫الحور العين‪ ،‬ل عيب فيهن [بوجه]‪ ،‬بل هن كاملت الوصاف‪ ،‬جميلت النعوت‪.‬‬
‫فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إل ما يسر الخاطر ويروق الناظر‪.‬‬

‫وذلك النعيم المعد لهم { جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فكما حسنت منهم العمال‪ ،‬أحسن ال لهم‬
‫الجزاء‪ ،‬ووفر لهم الفوز والنعيم‪.‬‬

‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا وَلَا تَأْثِيمًا } أي‪ :‬ل يسمعون في جنات النعيم كلما يلغى‪ ،‬ول يكون فيه‬
‫{ لَا يَ ْ‬
‫فائدة‪ ،‬ول كلما يؤثم صاحبه‪.‬‬

‫{ إِلّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } أي‪ :‬إل كلما طيبا‪ ،‬وذلك لنها دار الطيبين‪ ،‬ول يكون فيها إل كل طيب‪،‬‬
‫وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم‪ ،‬وأنه أطيب كلم‪ ،‬وأسره للنفوس‬
‫وأسلمه من كل لغو وإثم‪ ،‬نسأل ال من فضله‪.‬‬

‫{ ‪ } 27‬ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين فقال‪:‬‬


‫صحَابُ الْ َيمِينِ } أي‪ :‬شأنهم عظيم‪ ،‬وحالهم جسيم‪.‬‬
‫{ وََأصْحَابُ الْ َيمِينِ مَا َأ ْ‬

‫خضُودٍ } أي‪ :‬مقطوع ما فيه من الشوك والغصان [الرديئة] المضرة‪ ،‬مجعول مكان‬
‫سدْرٍ مَ ْ‬
‫{ فِي ِ‬
‫ذلك الثمر الطيب‪ ،‬وللسدر من الخواص‪ ،‬الظل الظليل‪ ،‬وراحة الجسم فيه‪.‬‬

‫طلْحٍ مَ ْنضُودٍ } والطلح معروف‪ ،‬وهو شجر [كبار] يكون بالبادية‪ ،‬تنضد أغصانه من الثمر‬
‫{ وَ َ‬
‫اللذيذ الشهي‪.‬‬

‫سكُوبٍ } أي‪ :‬كثير من العيون والنهار السارحة‪ ،‬والمياه المتدفقة‪.‬‬


‫{ َومَاءٍ مَ ْ‬

‫{ َوفَا ِكهَةٍ كَثِي َرةٍ لَا َمقْطُوعَ ٍة وَلَا َممْنُوعَةٍ } أي‪ :‬ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من‬
‫الوقات‪ ،‬وتكون ممتنعة [أي‪ :‬متعسرة] على مبتغيها‪ ،‬بل هي على الدوام موجودة‪ ،‬وجناها قريب‬
‫يتناوله العبد على أي حال يكون‪.‬‬

‫{ َوفُرُشٍ مَ ْرفُوعَةٍ } أي‪ :‬مرفوعة فوق السرة ارتفاعا عظيما‪ ،‬وتلك الفرش من الحرير والذهب‬
‫واللؤلؤ وما ل يعلمه إل ال‪.‬‬

‫{ إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِ ْنشَاءً } أي‪ :‬إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا‪ ،‬نشأة‬
‫كاملة ل تقبل الفناء‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارًا } صغارهن وكبارهن‪.‬‬


‫{ َف َ‬
‫وعموم ذلك‪ ،‬يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا‪ ،‬وأن هذا الوصف ‪-‬وهو البكارة‪ -‬ملزم لهن‬
‫في جميع الحوال‪ ،‬كما أن كونهن { عُرُبًا أَتْرَابًا } ملزم لهن في كل حال‪ ،‬والعروب‪ :‬هي المرأة‬
‫المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها‪ ،‬وحسن هيئتها ودللها وجمالها [ومحبتها]‪ ،‬فهي التي إن تكلمت‬
‫سبت العقول‪ ،‬وود السامع أن كلمها ل ينقضي‪ ،‬خصوصا عند غنائهن بتلك الصوات الرخيمة‬
‫والنغمات المطربة‪ ،‬وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملت قلب بعلها فرحا وسرورا‪ ،‬وإن‬
‫برزت من محل إلى آخر‪ ،‬امتل ذلك الموضع منها ريحا طيبا ونورا‪ ،‬ويدخل في ذلك الغنجة عند‬
‫الجماع‪.‬‬

‫والتراب اللتي على سن واحدة‪ ،‬ثلث وثلثين سنة‪ ،‬التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب‪،‬‬
‫فنساؤهم عرب أتراب‪ ،‬متفقات مؤتلفات‪ ،‬راضيات مرضيات‪ ،‬ل يحزن ول يحزن‪ ،‬بل هن أفراح‬
‫النفوس‪ ،‬وقرة العيون‪ ،‬وجلء البصار‪.‬‬

‫صحَابِ الْ َيمِينِ } أي‪ :‬معدات لهم مهيئات‪.‬‬


‫{ لَِأ ْ‬

‫ن وَثُلّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ } أي‪ :‬هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الولين‪،‬‬
‫{ ثُلّةٌ مِنَ الَْأوّلِي َ‬
‫وعدد كثير من الخرين‪.‬‬

‫حمُومٍ * لَا‬
‫ظلّ مِنْ َي ْ‬
‫حمِيمٍ * َو ِ‬
‫سمُومٍ وَ َ‬
‫شمَالِ * فِي َ‬
‫شمَالِ مَا َأصْحَابُ ال ّ‬
‫{ ‪ { } 41-48‬وََأصْحَابُ ال ّ‬
‫بَارِ ٍد وَلَا كَرِيمٍ * إِ ّنهُمْ كَانُوا قَ ْبلَ ذَِلكَ مُتْ َرفِينَ * َوكَانُوا ُيصِرّونَ عَلَى ا ْلحِ ْنثِ ا ْلعَظِيمِ * َوكَانُوا‬
‫عظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ }‬
‫َيقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِ‬

‫المراد بأصحاب الشمال [هم‪ ]:‬أصحاب النار‪ ،‬والعمال المشئومة‪.‬‬

‫سمُومٍ } أي‪ :‬ريح حارة من حر‬


‫فذكر [ال] لهم من العقاب‪ ،‬ما هم حقيقون به‪ ،‬فأخبر أنهم { فِي َ‬
‫حمِيمٍ } أي‪ :‬ماء حار يقطع أمعاءهم‪.‬‬
‫نار جهنم‪ ،‬يأخذ بأنفاسهم‪ ،‬وتقلقهم أشد القلق‪ { ،‬وَ َ‬

‫حمُومٍ } أي‪ :‬لهب نار‪ ،‬يختلط بدخان‪.‬‬


‫ظلّ مِنْ َي ْ‬
‫{ وَ ِ‬

‫{ لَا بَارِ ٍد وَلَا كَرِيمٍ } أي‪ :‬ل برد فيه ول كرم‪ ،‬والمقصود أن هناك الهم والغم‪ ،‬والحزن والشر‪،‬‬
‫الذي ل خير فيه‪ ،‬لن نفي الضد إثبات لضده‪.‬‬
‫ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء فقال‪ { :‬إِ ّنهُمْ كَانُوا قَ ْبلَ ذَِلكَ مُتْ َرفِينَ } أي‪ :‬قد ألهتهم‬
‫دنياهم‪ ،‬وعملوا لها‪ ،‬وتنعموا وتمتعوا بها‪ ،‬فألهاهم المل عن إحسان العمل‪ ،‬فهذا هو الترف الذي‬
‫ذمهم ال عليه‪.‬‬

‫{ َوكَانُوا ُيصِرّونَ عَلَى ا ْلحِ ْنثِ ا ْلعَظِيمِ } أي‪ :‬وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ول يتوبون منها‪ ،‬ول‬
‫يندمون عليها‪ ،‬بل يصرون على ما يسخط مولهم‪ ،‬فقدموا عليه بأوزار كثيرة [غير مغفورة]‪.‬‬

‫عظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ‬


‫وكانوا ينكرون البعث‪ ،‬فيقولون استبعادا لوقوعه‪ { :‬أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِ‬
‫َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ } أي‪ :‬كيف نبعث بعد موتنا وقد بلينا‪ ،‬فكنا ترابا وعظاما؟ [هذا من المحال] { أَئِنّا‬
‫َلمَ ْبعُوثُونَ َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ } قال تعالى جوابا لهم وردا عليهم ‪:‬‬

‫{ ُقلْ إِنّ الَْأوّلِينَ والخرين لمجموعون إلى ميقات َيوْمٍ َمعْلُومٍ } أي‪ :‬قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم‪،‬‬
‫الجميع سيبعثهم ال ويجمعهم لميقات يوم معلوم‪ ،‬قدره ال لعباده‪ ،‬حين تنقضي الخليقة‪ ،‬ويريد ال‬
‫تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف‪.‬‬

‫{ ُثمّ إِ ّنكُمْ أَ ّيهَا الضّالّونَ } عن طريق الهدى‪ ،‬التابعون لطريق الردى‪ { ،‬ا ْل ُمكَذّبُونَ } بالرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد‪.‬‬

‫شجَرٍ مِنْ َزقّومٍ } وهو أقبح الشجار وأخسها‪ ،‬وأنتنها ريحا‪ ،‬وأبشعها منظرا‪.‬‬
‫{ لَآكِلُونَ مِنْ َ‬

‫{ َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ } والذي أوجب لهم أكلها ‪-‬مع ما هي عليه من الشناعة‪ -‬الجوع المفرط‪،‬‬
‫الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم‪ .‬هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع‪ ،‬وهو الذي ل‬
‫يسمن ول يغني من جوع‪.‬‬

‫وأما شرابهم‪ ،‬فهو بئس الشراب‪ ،‬وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي‬
‫في البطون شرب البل الهيم أي‪ :‬العطاش‪ ،‬التي قد اشتد عطشها‪ ،‬أو [أن الهيم] داء يصيب البل‪،‬‬
‫ل تروى معه من شراب الماء‪.‬‬

‫{ هَذَا } الطعام والشراب { نُزُُلهُمْ } أي‪ :‬ضيافتهم { َيوْمَ الدّينِ } وهي الضيافة التي قدموها‬
‫لنفسهم‪ ،‬وآثروها على ضيافة ال لوليائه‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُزُلًا خَاِلدِينَ فِيهَا لَا‬
‫قال تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫حوَلًا }‬
‫يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ‬
‫ثم ذكر الدليل العقلي على البعث‪ ،‬فقال‪ { :‬نَحْنُ خََلقْنَاكُمْ فََلوْلَا ُتصَ ّدقُونَ } أي‪ :‬نحن الذين أوجدناكم‬
‫بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا‪ ،‬من غير عجز ول تعب‪ ،‬أفليس القادر على ذلك بقادر على أن‬
‫يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير‪ ،‬ولهذا وبخهم على عدم تصديقهم بالبعث‪ ،‬وهم‬
‫يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 58-62‬أفَرَأَيْ ُتمْ مَا ُتمْنُونَ * أَأَنْتُمْ َتخُْلقُونَهُ أَمْ َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َن ُكمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا‬
‫علَى أَنْ نُبَ ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنْشِ َئكُمْ فِي مَا لَا َتعَْلمُونَ * وََلقَدْ عَِلمْتُمُ النّشَْأةَ الْأُولَى فََلوْلَا‬
‫نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ * َ‬
‫تَ َذكّرُونَ }‬

‫أي‪ :‬أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون‪ ،‬فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم ال‬
‫تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة وآلتها من الذكر والنثى‪ ،‬وهدى كل منهما لما هنالك‪،‬‬
‫وحبب بين الزوجين‪ ،‬وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب للتناسل‪.‬‬

‫ولهذا أحالهم ال تعالى على الستدلل بالنشأة الولى على النشأة الخرى‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلقَدْ عَِلمْتُمُ‬
‫النّشَْأةَ الْأُولَى فََلوْلَا تَ َذكّرُونَ } أن القادر على ابتداء خلقكم‪ ،‬قادر على إعادتكم‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُ حُطَامًا‬
‫{ ‪َ { } 63-67‬أفَرَأَيْ ُتمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْ ُتمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ * َلوْ نَشَاءُ لَ َ‬
‫فَظَلْ ُتمْ َت َفكّهُونَ * إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ * َبلْ نَحْنُ َمحْرُومُونَ }‬

‫وهذا امتنان منه على عباده‪ ،‬يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والنابة إليه‪ ،‬حيث أنعم عليهم بما‬
‫يسره لهم من الحرث للزروع والثمار‪ ،‬فتخرج من ذلك من القوات والرزاق والفواكه‪ ،‬ما هو‬
‫من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم‪ ،‬التي ل يقدرون أن يحصوها‪ ،‬فضل عن شكرها‪ ،‬وأداء‬
‫حقها‪ ،‬فقررهم بمنته‪ ،‬فقال‪ { :‬أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ } أي‪ :‬أأنتم أخرجتموه نباتا من‬
‫الرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حبا حصيدا وثمرا‬
‫نضيجا؟ أم ال الذي انفرد بذلك وحده‪ ،‬وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الرض‬
‫وتشقوها وتلقوا فيها البذر‪ ،‬ثم بعد ذلك ل علم عندكم بما يكون بعد ذلك‪ ،‬ول قدرة لكم على أكثر‬
‫من ذلك ومع ذلك‪ ،‬فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للخطار لول حفظ ال وإبقاؤه لكم بلغة‬
‫ومتاعا إلى حين‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُ } أي‪ :‬الزرع المحروث وما فيه من الثمار { حُطَامًا } أي‪ :‬فتاتا متحطما‪،‬‬
‫فقال‪َ { :‬لوْ َنشَاءُ َل َ‬
‫ل نفع فيه ول رزق‪َ { ،‬فظَلْتُمْ } أي‪ :‬فصرتم بسبب جعله حطاما‪ ،‬بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات‬
‫الكثيرة { َت َف ّكهُونَ } أي‪ :‬تندمون وتحسرون على ما أصابكم‪ ،‬ويزول بذلك فرحكم وسروركم‬
‫وتفكهكم‪ ،‬فتقولون‪ { :‬إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ } أي‪ :‬إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا‪.‬‬

‫ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم‪ ،‬وبأي سبب دهيتم‪ ،‬فتقولون‪َ { :‬بلْ َنحْنُ مَحْرُومُونَ } فاحمدوا ال‬
‫تعالى حيث زرعه ال لكم‪ ،‬ثم أبقاه وكمله لكم‪ ،‬ولم يرسل عليه من الفات ما به تحرمون نفعه‬
‫وخيره‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 68-70‬أفَرَأَيْ ُتمُ ا ْلمَاءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْ ُتمْ أَنْزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنْزِلُونَ * َلوْ‬
‫شكُرُونَ }‬
‫جعَلْنَاهُ ُأجَاجًا فََلوْلَا َت ْ‬
‫نَشَاءُ َ‬

‫لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام‪ ،‬ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون‪،‬‬
‫وأنهم لول أن ال يسره وسهله‪ ،‬لما كان لكم سبيل إليه‪ ،‬وأنه الذي أنزله من المزن‪ ،‬وهو السحاب‬
‫والمطر‪ ،‬ينزله ال تعالى فيكون منه النهار الجارية على وجه الرض وفي بطنها‪ ،‬ويكون منه‬
‫الغدران المتدفقة‪ ،‬ومن نعمته أن جعله عذبا فراتا تسيغه النفوس‪ ،‬ولو شاء لجعله ملحا أجاجا‬
‫شكُرُونَ } ال تعالى على ما أنعم به عليكم‪.‬‬
‫مكروها للنفوس‪ .‬ل ينتفع به { فََلوْلَا تَ ْ‬

‫جعَلْنَاهَا‬
‫{ ‪َ { } 71-74‬أفَرَأَيْ ُتمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَ ْنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَا َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنْشِئُونَ * نَحْنُ َ‬
‫تَ ْذكِ َر ًة َومَتَاعًا لِ ْل ُمقْوِينَ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }‬

‫وهذه نعمة تدخل في الضروريات التي ل غنى للخلق عنها‪ ،‬فإن الناس محتاجون إليها في كثير‬
‫من أمورهم وحوائجهم‪ ،‬فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في الشجار‪ ،‬وأن الخلق ل يقدرون أن‬
‫ينشئوا شجرها‪ ،‬وإنما ال تعالى الذي أنشأها من الشجر الخضر‪ ،‬فإذا هي نار توقد بقدر حاجة‬
‫العباد‪ ،‬فإذا فرغوا من حاجتهم‪ ،‬أطفأوها وأخمدوها‪.‬‬

‫جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َرةً } للعباد بنعمة ربهم‪ ،‬وتذكرة بنار جهنم التي أعدها ال للعاصين‪ ،‬وجعلها‬
‫{ َنحْنُ َ‬
‫سوطا يسوق به عباده إلى دار النعيم‪َ { ،‬ومَتَاعًا لِ ْلمُ ْقوِينَ } أي‪[ :‬المنتفعين أو] المسافرين وخص‬
‫ال المسافرين لن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره‪ ،‬ولعل السبب في ذلك‪ ،‬لن الدنيا كلها دار‬
‫سفر‪ ،‬والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه‪ ،‬فهذه النار‪ ،‬جعلها ال متاعا للمسافرين في هذه‬
‫الدار‪ ،‬وتذكرة لهم بدار القرار‪ ،‬فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته‪،‬‬
‫أمر بتسبيحه وتحميده فقال‪َ { :‬فسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ } أي‪ :‬نزه ربك العظيم‪ ،‬كامل السماء‬
‫والصفات‪ ،‬كثير الحسان والخيرات‪ ،‬واحمده بقلبك ولسانك‪ ،‬وجوارحك‪ ،‬لنه أهل لذلك‪ ،‬وهو‬
‫المستحق لن يشكر فل يكفر‪ ،‬ويذكر فل ينسى‪ ،‬ويطاع فل يعصى‪.‬‬

‫عظِيمٌ * إِنّهُ َلقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي‬


‫سمٌ َلوْ َتعَْلمُونَ َ‬
‫{ ‪ { } 75-87‬فَلَا ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَ َ‬
‫طهّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َأفَ ِبهَذَا ا ْلحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ *‬
‫كِتَابٍ َمكْنُونٍ * لَا َيمَسّهُ إِلّا ا ْل ُم َ‬
‫جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ أَ ّنكُمْ ُت َكذّبُونَ * فََلوْلَا إِذَا بََل َغتِ ا ْلحُ ْلقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَ ْنظُرُونَ * وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَيْهِ‬
‫وَتَ ْ‬
‫جعُونَهَا إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ }‬
‫مِ ْنكُ ْم وََلكِنْ لَا تُ ْبصِرُونَ * فََلوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ َمدِينِينَ * تَ ْر ِ‬

‫أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي‪ :‬مساقطها في مغاربها‪ ،‬وما يحدث ال في تلك الوقات‪ ،‬من‬
‫الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده‪.‬‬

‫عظِيمٌ } وإنما كان القسم عظيما‪ ،‬لن في‬


‫ثم عظم هذا المقسم به‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّهُ َلقَسَمٌ َلوْ َتعَْلمُونَ َ‬
‫النجوم وجريانها‪ ،‬وسقوطها عند مغاربها‪ ،‬آيات وعبرا ل يمكن حصرها‪.‬‬

‫وأما المقسم عليه‪ ،‬فهو إثبات القرآن‪ ،‬وأنه حق ل ريب فيه‪ ،‬ول شك يعتريه‪ ،‬وأنه كريم أي‪ :‬كثير‬
‫الخير‪ ،‬غزير العلم‪ ،‬فكل خير وعلم‪ ،‬فإنما يستفاد من كتاب ال ويستنبط منه‪.‬‬

‫{ فِي كِتَابٍ َمكْنُونٍ } أي‪ :‬مستور عن أعين الخلق‪ ،‬وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ أي‪:‬‬
‫إن هذا القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ‪ ،‬معظم عند ال وعند ملئكته في المل العلى‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون‪ ،‬هو الكتاب الذي بأيدي الملئكة الذين ينزلهم ال بوحيه‬
‫وتنزيله وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين‪ ،‬ل قدرة لهم على تغييره‪ ،‬ول الزيادة‬
‫والنقص منه واستراقه‪.‬‬

‫طهّرُونَ } أي‪ :‬ل يمس القرآن إل الملئكة الكرام‪ ،‬الذين طهرهم ال تعالى من‬
‫{ لَا َيمَسّهُ إِلّا ا ْلمُ َ‬
‫الفات‪ ،‬والذنوب والعيوب‪ ،‬وإذا كان ل يمسه إل المطهرون‪ ،‬وأن أهل الخبث والشياطين‪ ،‬ل‬
‫استطاعة لهم‪ ،‬ول يدان إلى مسه‪ ،‬دلت الية بتنبيهها على أنه ل يجوز أن يمس القرآن إل‬
‫طاهر‪ ،‬كما ورد بذلك الحديث‪ ،‬ولهذا قيل أن الية خبر بمعنى النهي أي‪ :‬ل يمس القرآن إل‬
‫طاهر‪.‬‬

‫{ تَنْزِيلٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة هو تنزيل رب‬
‫العالمين‪ ،‬الذي يربي عباده بنعمه الدينية والدنيوية‪ ،‬ومن أجل تربية ربى بها عباده‪ ،‬إنزاله هذا‬
‫القرآن‪ ،‬الذي قد اشتمل على مصالح الدارين‪ ،‬ورحم ال به العباد رحمة ل يقدرون لها شكورا‪.‬‬
‫حدِيثِ‬
‫ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ويدعوا إليه ويصدعوا به‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬أفَ ِب َهذَا الْ َ‬
‫أَنْتُمْ ُمدْهِنُونَ } أي‪ :‬أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم أنتم تدهنون أي‪ :‬تختفون وتدلسون خوفا‬
‫من الخلق وعارهم وألسنتهم؟ هذا ل ينبغي ول يليق‪ ،‬إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي ل يثق‬
‫صاحبه منه‪.‬‬

‫وأما القرآن الكريم‪ ،‬فهو الحق الذي ل يغالب به مغالب إل غلب‪ ،‬ول يصول به صائل إل كان‬
‫العالي على غيره‪ ،‬وهو الذي ل يداهن به ول يختفى‪ ،‬بل يصدع به ويعلن‪.‬‬

‫جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ أَ ّنكُمْ ُتكَذّبُونَ } أي‪ :‬تجعلون مقابلة منة ال عليكم بالرزق التكذيب‬
‫وقوله‪ { :‬وَتَ ْ‬
‫والكفر لنعمة ال‪ ،‬فتقولون‪ :‬مطرنا بنوء كذا وكذا‪ ،‬وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها‪ ،‬فهل‬
‫شكرتم ال تعالى على إحسانه‪ ،‬إذ أنزله ال إليكم ليزيدكم من فضله‪ ،‬فإن التكذيب والكفر داع لرفع‬
‫النعم وحلول النقم‪.‬‬

‫ن وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَ ْيهِ مِ ْنكُ ْم وََلكِنْ لَا تُ ْبصِرُونَ } أي‪ :‬فهل‬
‫{ فََلوْلَا ِإذَا بََل َغتِ الْحُ ْلقُو َم وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُو َ‬
‫إذا بلغت الروح الحلقوم‪ ،‬وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة‪ ،‬والحال أنا نحن أقرب إليه‬
‫منكم‪ ،‬بعلمنا وملئكتنا‪ ،‬ولكن ل تبصرون‪.‬‬

‫{ فََلوْلَا إِنْ كُنْ ُتمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي‪ :‬فهل إذا كنتم تزعمون‪ ،‬أنكم غير مبعوثين ول محاسبين‬
‫ومجازين‪.‬‬

‫ترجعون الروح إلى بدنها { إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى‬
‫موضعها‪ ،‬فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاءكم به محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإما أن تعاندوا‬
‫وتعلم حالكم وسوء مآلكم‪.‬‬

‫ن وَجَنّةُ َنعِيمٍ * وََأمّا إِنْ كَانَ مِنْ‬


‫ح وَرَيْحَا ٌ‬
‫{ ‪ { } 88-96‬فََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * فَ َروْ ٌ‬
‫صحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّالّينَ * فَنُ ُزلٌ مِنْ‬
‫سلَامٌ َلكَ مِنْ َأ ْ‬
‫َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * فَ َ‬
‫سمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }‬
‫جحِيمٍ * إِنّ هَذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ بِا ْ‬
‫حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ َ‬
‫َ‬

‫ذكر ال تعالى أحوال الطوائف الثلث‪ :‬المقربين‪ ،‬وأصحاب اليمين‪ ،‬والمكذبين الضالين‪ ،‬في أول‬
‫السورة في دار القرار‪.‬‬

‫ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الحتضار والموت‪ ،‬فقال‪ { :‬فََأمّا إِنْ كَانَ } الميت { مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ }‬
‫وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات‪ ،‬وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات‪.‬‬
‫{ فـ } لهم { َروْحٌ } أي‪ :‬راحة وطمأنينة‪ ،‬وسرور وبهجة‪ ،‬ونعيم القلب والروح‪ { ،‬وَرَيْحَانٌ }‬
‫وهو اسم جامع لكل لذة بدنية‪ ،‬من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما‪ ،‬وقيل‪ :‬الريحان هو الطيب‬
‫المعروف‪ ،‬فيكون تعبيرا بنوع الشيء عن جنسه العام‬

‫{ وَجَنّةُ َنعِيمٍ } جامعة للمرين كليهما‪ ،‬فيها ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر‪ ،‬فيبشر المقربون عند الحتضار بهذه البشارة‪ ،‬التي تكاد تطير منها الرواح من الفرح‬
‫والسرور‪.‬‬

‫كما قال تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ أن لّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا‬
‫وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ َنحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا مَا تَشْ َتهِي‬
‫غفُورٍ رَحِيمٍ }‬
‫سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا َتدّعُونَ نُزُلًا مِنْ َ‬
‫أَ ْنفُ ُ‬

‫وقد أول قوله تبارك تعالى‪َ { :‬ل ُهمُ الْبُشْرَى فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ } أن هذه البشارة‬
‫المذكورة‪ ،‬هي البشرى في الحياة الدنيا‪.‬‬

‫صحَابِ الْ َيمِينِ } وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات‪ ،‬و [إن]‬
‫[وقوله‪ { ]:‬وََأمّا إِنْ كَانَ مِنْ َأ ْ‬
‫حصل منهم التقصير في بعض الحقوق التي ل تخل بتوحيدهم وإيمانهم‪ { ،‬فـ } يقال لحدهم‪:‬‬
‫صحَابِ الْ َيمِينِ } أي‪ :‬سلم حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين أي‪ :‬يسلمون‬
‫{ سَلَامٌ َلكَ مِنْ َأ ْ‬
‫عليه ويحيونه عند وصوله إليهم ولقائهم له‪ ،‬أو يقال له‪ :‬سلم لك من الفات والبليات والعذاب‪،‬‬
‫لنك من أصحاب اليمين‪ ،‬الذين سلموا من الذنوب الموبقات‪.‬‬

‫{ وََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُم َكذّبِينَ الضّالّينَ } أي‪ :‬الذين كذبوا بالحق وضلوا عن الهدى‪.‬‬

‫جحِيمٍ } أي‪ :‬ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم التي تحيط‬
‫حمِي ٍم وَ َتصْلِيَةُ َ‬
‫{ فَنُ ُزلٌ مِنْ َ‬
‫شوِي‬
‫بهم‪ ،‬وتصل إلى أفئدتهم‪ ،‬وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ { ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ‬
‫ا ْلوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَا َءتْ مُرْ َتفَقًا }‬

‫{ إِنّ هَذَا } الذي ذكره ال تعالى‪ ،‬من جزاء العباد بأعمالهم‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬وتفاصيل ذلك { َل ُهوَ‬
‫حقّ الْ َيقِينِ } أي‪ :‬الذي ل شك فيه ول مرية‪ ،‬بل هو الحق الثابت الذي ل بد من وقوعه‪ ،‬وقد أشهد‬
‫َ‬
‫ال عباده الدلة القواطع على ذلك‪ ،‬حتى صار عند أولي اللباب كأنهم ذائقون له مشاهدون له‬
‫فحمدوا ال تعالى على ما خصهم به من هذه النعمة العظيمة‪ ،‬والمنحة الجسيمة‪.‬‬

‫ولهذا قال تعالى‪ { :‬فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ } فسبحان ربنا العظيم‪ ،‬وتعالى وتنزه عما يقول‬
‫الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‪.‬‬
‫والحمد ل رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه‪.‬‬

‫[تم تفسير سورة الواقعة]‪.‬‬

‫تفسير سورة الحديد‬


‫[وهي] مدنية‬

‫حكِيمُ * َلهُ‬
‫ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-6‬بِ ْ‬
‫ل وَالْآخِ ُر وَالظّاهِرُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * ُهوَ الَْأ ّو ُ‬
‫ت وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِي ُ‬
‫مُ ْلكُ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ * ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫ن وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫وَالْبَاطِ ُ‬
‫سمَا ِء َومَا َيعْرُجُ فِيهَا وَ ُهوَ َم َعكُمْ‬
‫ا ْلعَرْشِ َيعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ َومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا َومَا يَنْ ِزلُ مِنَ ال ّ‬
‫جعُ الُْأمُورُ * يُولِجُ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أَيْنَ مَا كُنْتُ ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ل وَ ُهوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }‬
‫اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ‬

‫يخبر تعالى عن عظمته وجلله وسعة سلطانه‪ ،‬أن جميع ما في السماوات والرض من الحيوانات‬
‫الناطقة والصامتة وغيرها‪[ ،‬والجوامد] تسبح بحمد ربها‪ ،‬وتنزهه عما ل يليق بجلله‪ ،‬وأنها قانتة‬
‫حكِيمُ } فهذا فيه بيان‬
‫لربها‪ ،‬منقادة لعزته‪ ،‬قد ظهرت فيها آثار حكمته‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها‪ ،‬في جميع أحوالها‪ ،‬وعموم عزته وقهره للشياء‬
‫كلها‪ ،‬وعموم حكمته في خلقه وأمره‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي‪ :‬هو الخالق لذلك‪،‬‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫ثم أخبر عن عموم ملكه‪ ،‬فقال‪َ { :‬لهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫الرازق المدبر لها بقدرته { وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬

‫{ ُهوَ الَْأوّلُ } الذي ليس قبله شيء‪ { ،‬وَالْآخِرُ } الذي ليس بعده شيء { وَالظّاهِرُ } الذي ليس فوقه‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } قد أحاط علمه بالظواهر‬
‫شيء‪ { ،‬وَالْبَاطِنُ } الذي ليس دونه شيء‪ { .‬وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫والبواطن‪ ،‬والسرائر والخفايا‪ ،‬والمور المتقدمة والمتأخرة‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمّ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خلَقَ ال ّ‬
‫{ ُهوَ الّذِي َ‬
‫اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } استواء يليق بجلله‪ ،‬فوق جميع خلقه‪َ { ،‬يعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ } من حب‬
‫وحيوان ومطر‪ ،‬وغير ذلك‪َ { .‬ومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك‪َ { ،‬ومَا يَنْ ِزلُ‬
‫سمَاءِ } من الملئكة والقدار والرزاق‪.‬‬
‫مِنَ ال ّ‬
‫{ َومَا َيعْرُجُ فِيهَا } من الملئكة والرواح‪ ،‬والدعية والعمال‪ ،‬وغير ذلك‪ { .‬وَ ُهوَ َم َعكُمْ أَيْنَ مَا‬
‫سهُ ْم وَلَا أَدْنَى مِنْ‬
‫خ ْمسَةٍ إِلّا ُهوَ سَا ِد ُ‬
‫جوَى ثَلَاثَةٍ إِلّا ُهوَ رَا ِب ُعهُ ْم وَلَا َ‬
‫كُنْتُمْ } كقوله‪ { :‬مَا َيكُونُ مِنْ َن ْ‬
‫ك وَلَا َأكْثَرَ إِلّا ُهوَ َم َعهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }‬
‫ذَِل َ‬

‫وهذه المعية‪ ،‬معية العلم والطلع‪ ،‬ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالعمال بقوله‪ { :‬وَاللّهُ ِبمَا‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي‪ :‬هو تعالى بصير بما يصدر منكم من العمال‪ ،‬وما صدرت عنه تلك‬
‫العمال‪ ،‬من بر وفجور‪ ،‬فمجازيكم عليها‪ ،‬وحافظها عليكم‪.‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ } ملكا وخلقا وعبيدا‪ ،‬يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َلهُ ملك ال ّ‬
‫والشرعية‪ ،‬الجارية على الحكمة الربانية‪ { ،‬وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ } من العمال والعمال‪،‬‬
‫فيعرض عليه العباد‪ ،‬فيميز الخبيث من الطيب‪ ،‬ويجازي المحسن بإحسانه‪ ،‬والمسيء بإساءته‪.‬‬

‫{ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ } أي‪ :‬يدخل الليل على النهار‪ ،‬فيغشيهم الليل‬
‫بظلمه‪ ،‬فيسكنون ويهدأون‪ ،‬ثم يدخل النهار على الليل‪ ،‬فيزول ما على الرض من الظلم‪،‬‬
‫ويضيء الكون‪ ،‬فيتحرك العباد‪ ،‬ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم‪ ،‬ول يزال ال يكور الليل على‬
‫النهار‪ ،‬والنهار على الليل‪ ،‬ويداول بينهما‪ ،‬في الزيادة والنقص‪ ،‬والطول والقصر‪ ،‬حتى تقوم بذلك‬
‫الفصول‪ ،‬وتستقيم الزمنة‪ ،‬ويحصل من المصالح ما يحصل بذلك‪ ،‬فتبارك ال رب العالمين‪،‬‬
‫وتعالى الكريم الجواد‪ ،‬الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة‪ { ،‬وَ ُهوَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ }‬
‫أي‪ :‬بما يكون في صدور العالمين‪ ،‬فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك‪ ،‬ويخذل من يعلم أنه ل يصلح‬
‫لهدايته‬

‫جعََلكُمْ ُمسْتَخَْلفِينَ فِيهِ فَالّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَأَ ْن َفقُوا َلهُمْ‬


‫{ ‪ { } 7-11‬آمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَأَ ْنفِقُوا ِممّا َ‬
‫أَجْرٌ كَبِيرٌ * َومَا َل ُكمْ لَا ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِ ُت ْؤمِنُوا بِرَ ّبكُ ْم َوقَدْ َأخَذَ مِيثَا َقكُمْ إِنْ كُنْتُمْ‬
‫ج ُكمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَإِنّ اللّهَ ِبكُمْ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ * ُهوَ الّذِي يُنَ ّزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لِ ُيخْرِ َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ لَا يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * َومَا َلكُمْ أَلّا تُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ‬
‫ظمُ دَ َرجَةً مِنَ الّذِينَ أَ ْن َفقُوا مِنْ َبعْدُ َوقَاتَلُوا َوكُلّا وَعَدَ اللّهُ‬
‫مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْحِ َوقَاتَلَ أُولَ ِئكَ أَعْ َ‬
‫حسْنَى وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا فَ ُيضَاعِفَهُ َل ُه وَلَهُ َأجْرٌ كَرِيمٌ‬
‫الْ ُ‬
‫}‬

‫يأمر تعالى عباده باليمان به وبرسوله وبما جاء به‪ ،‬وبالنفقة في سبيله‪ ،‬من الموال التي جعلها‬
‫ال في أيديهم واستخلفهم عليها‪ ،‬لينظر كيف يعملون‪ ،‬ثم لما أمرهم بذلك‪ ،‬رغبهم وحثهم عليه بذكر‬
‫ما رتب عليه من الثواب‪ ،‬فقال‪ { :‬فَالّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَأَ ْن َفقُوا } أي‪ :‬جمعوا بين اليمان بال‬
‫ورسوله‪ ،‬والنفقة في سبيله‪ ،‬لهم أجر كبير‪ ،‬أعظمه [وأجله] رضا ربهم‪ ،‬والفوز بدار كرامته‪ ،‬وما‬
‫فيها من النعيم المقيم‪ ،‬الذي أعده ال للمؤمنين والمجاهدين‪ ،‬ثم ذكر [السبب] الداعي لهم إلى‬
‫اليمان‪ ،‬وعدم المانع منه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫{ َومَا َلكُمْ لَا ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالرّسُولُ َيدْعُوكُمْ لِ ُت ْؤمِنُوا بِرَ ّب ُك ْم َوقَدْ َأخَذَ مِيثَا َقكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } أي‪:‬‬
‫وما الذي يمنعكم من اليمان‪ ،‬والحال أن الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم أفضل الرسل وأكرم‬
‫داع دعا إلى ال يدعوكم‪ ،‬فهذا مما يوجب المبادرة إلى إجابة دعوته‪ ،‬والتلبية والجابة للحق الذي‬
‫جاء به‪ ،‬وقد أخذ عليكم العهد والميثاق باليمان إن كنتم مؤمنين‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬من لطفه وعنايته بكم‪،‬‬
‫أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم‪ ،‬بل أيده بالمعجزات‪ ،‬ودلكم على صدق‬
‫ما جاء به باليات البينات‪ ،‬فلهذا قال‪ُ { :‬هوَ الّذِي يُنَ ّزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } أي‪ :‬ظاهرات تدل‬
‫جكُمْ } بإرسال الرسول إليكم‪ ،‬وما‬
‫أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين‪ { ،‬لِيُخْ ِر َ‬
‫أنزله ال على يده من الكتاب والحكمة‪.‬‬

‫{ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ } أي‪ :‬من ظلمات الجهل والكفر‪ ،‬إلى نور العلم واليمان‪ ،‬وهذا من‬
‫رحمته بكم ورأفته‪ ،‬حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها { وَإِنّ اللّهَ ِبكُمْ لَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ }‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَرْض }‬
‫{ ‪َ { } 10‬ومَا َل ُكمْ أَلّا تُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ‬

‫أي‪ :‬وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل ال‪ ،‬وهي طرق الخير كلها‪ ،‬ويوجب لكم أن تبخلوا‪ { ،‬و‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } فجميع الموال ستنتقل من أيديكم‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫} الحال أنه ليس لكم شيء‪ ،‬بل { ل مِيرَاثُ ال ّ‬
‫أو تنقلون عنها‪ ،‬ثم يعود الملك إلى مالكه تبارك وتعالى‪ ،‬فاغتنموا النفاق ما دامت الموال في‬
‫أيديكم‪ ،‬وانتهزوا الفرصة‪ ،‬ثم ذكر تعالى تفاضل العمال بحسب الحوال والحكمة اللهية‪ ،‬فقال‪{ :‬‬
‫جةً مِنَ الّذِينَ أَ ْنفَقُوا مِنْ َبعْ ُد َوقَاتَلُوا }‬
‫عظَمُ دَرَ َ‬
‫ح َوقَا َتلَ أُولَ ِئكَ أَ ْ‬
‫لَا يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْ ِ‬
‫المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية‪ ،‬حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم‬
‫الفتوحات التي حصل بها نشر السلم‪ ،‬واختلط المسلمين بالكافرين‪ ،‬والدعوة إلى الدين من غير‬
‫معارض‪ ،‬فدخل الناس من ذلك الوقت في دين ال أفواجا‪ ،‬واعتز السلم عزا عظيما‪ ،‬وكان‬
‫المسلمون قبل هذا الفتح ل يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها‪ ،‬كالمدينة‬
‫وتوابعها‪ ،‬وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف‪ ،‬فلذلك كان من‬
‫أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل‪ ،‬أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إل بعد ذلك‪،‬‬
‫كما هو مقتضى الحكمة‪ ،‬ولذلك كان السابقون وفضلء الصحابة‪ ،‬غالبهم أسلم قبل الفتح‪ ،‬ولما كان‬
‫التفضيل بين المور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول‪ ،‬احترز تعالى من هذا بقوله‪َ { :‬وكُلّا‬
‫حسْنَى } أي‪ :‬الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده‪ ،‬كلهم وعده ال الجنة‪،‬‬
‫وَعَدَ اللّهُ الْ ُ‬
‫وهذا يدل على فضل الصحابة [كلهم]‪ ،‬رضي ال عنهم‪ ،‬حيث شهد ال لهم باليمان‪ ،‬ووعدهم‬
‫الجنة‪ { ،‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل منكم على ما يعلمه من عمله‪ ،‬ثم حث على النفقة‬
‫في سبيله‪ ،‬لن الجهاد متوقف على النفقة فيه‪ ،‬وبذل الموال في التجهز له‪ ،‬فقال‪ { :‬مَنْ ذَا الّذِي‬
‫حسَنًا } وهي النفقة [الطيبة] التي تكون خالصة لوجه ال‪ ،‬موافقة لمرضاة ال‪،‬‬
‫ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫من مال حلل طيب‪ ،‬طيبة به نفسه‪ ،‬وهذا من كرم ال تعالى [حيث] سماه قرضا‪ ،‬والمال ماله‪،‬‬
‫والعبد عبده‪ ،‬ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة‪ ،‬وهو الكريم الوهاب‪ ،‬وتلك المضاعفة محلها‬
‫وموضعها يوم القيامة‪ ،‬يوم كل يتبين فقره‪ ،‬ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن‪ ،‬ولذلك قال‪:‬‬

‫سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ ُبشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ يَ ْ‬
‫{ ‪َ { } 12-15‬يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ‬
‫جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ * َيوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا َفضُرِبَ بَيْ َنهُمْ ِبسُورٍ لَهُ‬
‫لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ‬
‫حمَ ُة وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَِلهِ ا ْلعَذَابُ * يُنَادُو َنهُمْ أََلمْ َنكُنْ َم َعكُمْ قَالُوا بَلَى وََلكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ‬
‫بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ‬
‫سكُ ْم وَتَرَ ّبصْتُ ْم وَارْتَبْتُ ْم وَغَرّ ْتكُمُ الَْأمَا ِنيّ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّ ِه وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ * فَالْ َيوْمَ لَا‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫ُيؤْخَذُ مِ ْن ُكمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مَ ْأوَاكُمُ النّارُ ِهيَ َموْلَاكُ ْم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬
‫ن وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ‬
‫يقول تعالى ‪-‬مبينا لفضل اليمان واغتباط أهله به يوم القيامة‪َ { :-‬يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ } أي‪ :‬إذا كان يوم القيامة‪ ،‬وكورت الشمس‪ ،‬وخسف القمر‪،‬‬
‫يَ ْ‬
‫وصار الناس في الظلمة‪ ،‬ونصب الصراط على متن جهنم‪ ،‬فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات‪،‬‬
‫يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم‪ ،‬فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف الهائل الصعب‪ ،‬كل‬
‫على قدر إيمانه‪ ،‬ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة‪ ،‬فيقال‪ُ { :‬بشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا‬
‫الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ } فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم‪ ،‬وألذها لنفوسهم‪،‬‬
‫حيث حصل لهم كل مطلوب [محبوب]‪ ،‬ونجوا من كل شر ومرهوب‪ ،‬فإذا رأى المنافقون نور‬
‫المؤمنين يمشون به وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين‪ ،‬قالوا للمؤمنين‪ { :‬انْظُرُونَا‬
‫َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ } أي‪ :‬أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به‪ ،‬لننجو من العذاب‪ ،‬فـ { قِيلَ } لهم‪:‬‬
‫جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا } أي‪ :‬إن كان ذلك ممكنا‪ ،‬والحال أن ذلك غير ممكن‪ ،‬بل هو من‬
‫{ ا ْر ِ‬
‫المحالت‪َ { ،‬فضُ ِربَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي‪ :‬حائط منيع‪ ،‬وحصن حصين‪ { ،‬لَهُ‬
‫حمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين { وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَِلهِ ا ْلعَذَابُ } وهو الذي يلي‬
‫بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ‬
‫المنافقين‪ ،‬فينادي المنافقون المؤمنين‪ ،‬فيقولون لهم تضرعا وترحما‪ { :‬أََلمْ َنكُنْ َم َعكُمْ } في الدنيا‬
‫نقول‪ { :‬ل إله إل ال } ونصلي ونصوم ونجاهد‪ ،‬ونعمل مثل عملكم؟ { قَالُوا بَلَى } كنتم معنا في‬
‫الدنيا‪ ،‬وعملتم [في الظاهر] مثل عملنا‪ ،‬ولكن أعمالكم أعمال المنافقين‪ ،‬من غير إيمان ول نية‬
‫سكُمْ وَتَرَ ّبصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } أي‪ :‬شككتم في خبر ال الذي ل يقبل‬
‫[صادقة] صالحة‪ ،‬بل { فَتَنْتُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫شكا‪ { ،‬وَغَرّ ْتكُمُ الَْأمَانِيّ } الباطلة‪ ،‬حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين‪ ،‬وأنتم غير موقنين‪،‬‬
‫{ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } أي‪ :‬حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة‪.‬‬

‫{ وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ } وهو الشيطان‪ ،‬الذي زين لكم الكفر والريب‪ ،‬فاطمأننتم به‪ ،‬ووثقتم بوعده‪،‬‬
‫وصدقتم خبره‪.‬‬

‫{ فَالْ َيوْمَ لَا ُيؤْخَذُ مِ ْنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا } فلو افتديتم بمثل الرض ذهبا ومثله معه‪ ،‬لما‬
‫تقبل منكم‪ { ،‬مَ ْأوَاكُمُ النّارُ } أي‪ :‬مستقركم‪ِ { ،‬هيَ َموْلَاكُمْ } التي تتولكم وتضمكم إليها‪ { ،‬وَبِئْسَ‬
‫ا ْل َمصِيرُ } النار‪.‬‬

‫خفّتْ َموَازِينُهُ فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ َومَا َأدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }‬
‫[قال تعالى‪ { ]:‬وََأمّا مَنْ َ‬

‫{ ‪ { } 16-17‬أََلمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نَ َزلَ مِنَ ا ْلحَقّ وَلَا َيكُونُوا‬
‫سقُونَ * اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ َفطَالَ عَلَ ْيهِمُ الَْأ َمدُ َفقَ َ‬
‫يُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا قَدْ بَيّنّا َلكُمُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ َتعْقِلُونَ }‬

‫لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الخرة‪ ،‬كان ذلك مما يدعو‬
‫القلوب إلى الخشوع لربها‪ ،‬والستكانة لعظمته‪ ،‬فعاتب ال المؤمنين [على عدم ذلك]‪ ،‬فقال‪ { :‬أَلَمْ‬
‫يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ ِل ِذكْرِ اللّهِ َومَا نَ َزلَ مِنَ ا ْلحَقّ }‬

‫أي‪ :‬ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر ال‪ ،‬الذي هو القرآن‪ ،‬وتنقاد لوامره‬
‫وزواجره‪ ،‬وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم؟ وهذا فيه الحث على‬
‫الجتهاد على خشوع القلب ل تعالى‪ ،‬ولما أنزله من الكتاب والحكمة‪ ،‬وأن يتذكر المؤمنون‬
‫المواعظ اللهية والحكام الشرعية كل وقت‪ ،‬ويحاسبوا أنفسهم على ذلك‪ { ،‬وَلَا َيكُونُوا كَالّذِينَ‬
‫أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ فَطَالَ عَلَ ْي ِهمُ الَْأمَدُ } أي‪ :‬ول يكونوا كالذين أنزل ال عليهم الكتاب الموجب‬
‫لخشوع القلب والنقياد التام‪ ،‬ثم لم يدوموا عليه‪ ،‬ول ثبتوا‪ ،‬بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم‬
‫سقُونَ } فالقلوب تحتاج في‬
‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫الغفلة‪ ،‬فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم‪َ { ،‬فقَ َ‬
‫كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل له ال‪ ،‬وتناطق بالحكمة‪ ،‬ول ينبغي الغفلة عن ذلك‪ ،‬فإن ذلك‬
‫سبب لقسوة القلب وجمود العين‪.‬‬

‫{ اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُيحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا َقدْ بَيّنّا َلكُمُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } فإن اليات تدل العقول‬
‫على العلم بالمطالب اللهية‪ ،‬والذي أحيا الرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموات بعد‬
‫موتهم‪ ،‬فيجازيهم بأعمالهم‪ ،‬والذي أحيا الرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب‬
‫الميتة بما أنزله من الحق على رسوله‪ ،‬وهذه الية تدل على أنه ل عقل لمن لم يهتد بآيات ال‬
‫و[لم] ينقد لشرائع ال‪.‬‬

‫عفُ َلهُ ْم وََلهُمْ َأجْرٌ‬


‫ت وََأقْ َرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا ُيضَا َ‬
‫{ ‪ { } 18-19‬إِنّ ا ْل ُمصّ ّدقِينَ وَا ْلمُصّ ّدقَا ِ‬
‫ش َهدَاءُ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ َل ُهمْ أَجْ ُرهُ ْم وَنُورُهُمْ‬
‫كَرِيمٌ *وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُِلهِ أُولَ ِئكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَال ّ‬
‫جحِيمِ }‬
‫صحَابُ الْ َ‬
‫وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأ ْ‬

‫ن وَا ْل ُمصّ ّدقَاتِ } بالتشديد أي‪ :‬الذين أكثروا من الصدقات الشرعية‪ ،‬والنفقات‬
‫{ إِنّ ا ْل ُمصّ ّدقِي َ‬
‫المرضية‪ { ،‬وََأقْ َرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا } بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ما يكون‬
‫عفُ َل ُهمُ } الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬إلى أضعاف‬
‫مدخرا لهم عند ربهم‪ُ { ،‬يضَا َ‬
‫كثيرة‪ { ،‬وََلهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعده ال لهم في الجنة‪ ،‬مما ل تعلمه النفوس‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } واليمان عند أهل السنة‪ :‬هو ما دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬هو قول‬
‫القلب واللسان‪ ،‬وعمل القلب واللسان والجوارح‪ ،‬فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة‪،‬‬
‫فالذين جمعوا بين هذه المور هم الصديقون أي‪ :‬الذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين‪ ،‬ودون‬
‫مرتبة النبياء‪.‬‬

‫ش َهدَاءُ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ َل ُهمْ أَجْ ُرهُ ْم وَنُورُهُمْ } كما ورد في الحديث الصحيح‪ { :‬إن في‬
‫[وقوله‪ { ]:‬وَال ّ‬
‫الجنة مائة درجة‪ ،‬ما بين الدرجتين كما بين السماء والرض‪ ،‬أعدها ال للمجاهدين في سبيله }‬
‫وهذا يقتضي شدة علوهم ورفعتهم‪ ،‬وقربهم ال تعالى‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ } فهذه اليات جمعت أصناف الخلق‪،‬‬
‫المتصدقين‪ ،‬والصديقين‪ ،‬والشهداء‪ ،‬وأصحاب الجحيم‪ ،‬فالمتصدقون الذين كان جل عملهم الحسان‬
‫إلى الخلق‪ ،‬وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم‪ ،‬خصوصا بالنفع بالمال في سبيل ال‪.‬‬

‫والصديقون هم الذين كملوا مراتب اليمان والعمل الصالح‪ ،‬والعلم النافع‪ ،‬واليقين الصادق‪،‬‬
‫والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل ال [لعلء كلمة ال‪ ،‬وبذلوا أنفسهم وأموالهم] فقتلوا‪ ،‬وأصحاب‬
‫الجحيم هم الكفار الذين كذبوا بآيات ال‪.‬‬
‫وبقي قسم ذكرهم ال في سورة فاطر‪ ،‬وهم المقتصدون الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات‪،‬‬
‫إل أنهم حصل منهم تقصير ببعض حقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬فهؤلء مآلهم الجنة‪ ،‬وإن حصل لهم‬
‫عقوبة ببعض ما فعلوا‪.‬‬

‫ل وَالَْأوْلَادِ‬
‫{ ‪ { } 20-21‬اعَْلمُوا أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْه ٌو وَزِينَ ٌة وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُ ْم وَ َتكَاثُرٌ فِي الَْأ ْموَا ِ‬
‫حطَامًا َوفِي الْآخِ َرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ‬
‫صفَرّا ثُمّ َيكُونُ ُ‬
‫جبَ ا ْلكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُم ْ‬
‫عَ‬‫َكمَ َثلِ غَ ْيثٍ أَ ْ‬
‫ن َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ * سَا ِبقُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ‬
‫ضوَا ٌ‬
‫َو َمغْفِ َرةٌ مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ أُعِ ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَِلكَ َفضْلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‬
‫ضهَا َكعَ ْرضِ ال ّ‬
‫عَ ْر ُ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ }‬
‫وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ‬

‫يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه‪ ،‬ويبين غايتها وغاية أهلها‪ ،‬بأنها لعب ولهو‪ ،‬تلعب بها‬
‫البدان‪ ،‬وتلهو بها القلوب‪ ،‬وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا‪ ،‬فإنك تجدهم قد‬
‫قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب‪ ،‬والغفلة عن ذكر ال وعما أمامهم من الوعد والوعيد‪،‬‬
‫وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا‪ ،‬بخلف أهل اليقظة وعمال الخرة‪ ،‬فإن قلوبهم معمورة بذكر‬
‫ال‪ ،‬ومعرفته ومحبته‪ ،‬وقد أشغلوا أوقاتهم بالعمال التي تقربهم إلى ال‪ ،‬من النفع القاصر‬
‫والمتعدي‪.‬‬

‫[وقوله‪ { ]:‬وَزِينَةً } أي‪ :‬تزين في اللباس والطعام والشراب‪ ،‬والمراكب والدور والقصور والجاه‪.‬‬
‫[وغير ذلك] { وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُمْ } أي‪ :‬كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الخر‪ ،‬وأن يكون هو الغالب‬
‫في أمورها‪ ،‬والذي له الشهرة في أحوالها‪ { ،‬وَ َتكَاثُرٌ فِي الَْأ ْموَالِ وَالَْأوْلَادِ } أي‪ :‬كل يريد أن يكون‬
‫هو الكاثر لغيره في المال والولد‪ ،‬وهذا مصداقه‪ ،‬وقوعه من محبي الدنيا والمطمئنين إليها‪.‬‬

‫بخلف من عرف الدنيا وحقيقتها‪ ،‬فجعلها معبرا ولم يجعلها مستقرا‪ ،‬فنافس فيما يقربه إلى ال‪،‬‬
‫واتخذ الوسائل التي توصله إلى ال وإذا رأى من يكاثره وينافسه بالموال والولد‪ ،‬نافسه‬
‫بالعمال الصالحة‪.‬‬

‫ثم ضرب للدنيا مثل بغيث نزل على الرض‪ ،‬فاختلط به نبات الرض مما يأكل الناس والنعام‪،‬‬
‫حتى إذا أخذت الرض زخرفها‪ ،‬وأعجب نباته الكفار‪ ،‬الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا‬
‫جاءها من أمر ال [ما أتلفها] فهاجت ويبست‪ ،‬فعادت على حالها الولى‪ ،‬كأنه لم ينبت فيها‬
‫خضراء‪ ،‬ول رؤي لها مرأى أنيق‪ ،‬كذلك الدنيا‪ ،‬بينما هي زاهية لصاحبها زاهرة‪ ،‬مهما أراد من‬
‫مطالبها حصل‪ ،‬ومهما توجه لمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة‪ ،‬إذ أصابها القدر بما أذهبها من‬
‫يده‪ ،‬وأزال تسلطه عليها‪ ،‬أو ذهب به عنها‪ ،‬فرحل منها صفر اليدين‪ ،‬لم يتزود منها سوى الكفن‪،‬‬
‫فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه‪.‬‬

‫وأما العمل للخرة فهو الذي ينفع‪ ،‬ويدخر لصاحبه‪ ،‬ويصحب العبد على البد‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪{ :‬‬
‫ضوَانٌ } أي‪ :‬حال الخرة‪ ،‬ما يخلو من هذين‬
‫شدِي ٌد َو َم ْغفِ َرةٌ مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫َوفِي الْآخِ َرةِ عَذَابٌ َ‬
‫المرين‪ :‬إما العذاب الشديد في نار جهنم‪ ،‬وأغللها وسلسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته‬
‫ومنتهى مطلبه‪ ،‬فتجرأ على معاصي ال‪ ،‬وكذب بآيات ال‪ ،‬وكفر بأنعم ال‪.‬‬

‫وإما مغفرة من ال للسيئات‪ ،‬وإزالة للعقوبات‪ ،‬ورضوان من ال‪ ،‬يحل من أحله به دار الرضوان‬
‫لمن عرف الدنيا‪ ،‬وسعى للخرة سعيها‪.‬‬

‫فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا‪ ،‬والرغبة في الخرة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬ومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا‬
‫مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ } أي‪ :‬إل متاع يتمتع به وينتفع به‪ ،‬ويستدفع به الحاجات‪ ،‬ل يغتر به ويطمئن إليه‬
‫إل أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بال الغرور‪.‬‬

‫ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة ال ورضوانه وجنته‪ ،‬وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة‪ ،‬من التوبة‬
‫النصوح‪ ،‬والستغفار النافع‪ ،‬والبعد عن الذنوب ومظانها‪ ،‬والمسابقة إلى رضوان ال بالعمل‬
‫الصالح‪ ،‬والحرص على ما يرضي ال على الدوام‪ ،‬من الحسان في عبادة الخالق‪ ،‬والحسان إلى‬
‫ضهَا َكعَ ْرضِ‬
‫الخلق بجميع وجوه النفع‪ ،‬ولهذا ذكر ال العمال الموجبة لذلك‪ ،‬فقال‪ { :‬وَجَنّةٍ عَ ْر ُ‬
‫ع ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُِلهِ } واليمان بال ورسله يدخل فيه أصول الدين‬
‫سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ أُ ِ‬
‫ال ّ‬
‫ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ َيشَاءُ } أي‪ :‬هذا الذي بيناه لكم‪ ،‬وذكرنا لكم فيه الطرق‬
‫وفروعها‪ { ،‬ذَِلكَ َف ْ‬
‫الموصلة إلى الجنة‪ ،‬والطرق الموصلة إلى النار‪ ،‬وأن فضل ال بالثواب الجزيل والجر العظيم‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ } الذي ل يحصي ثناء عليه‪ ،‬بل هو‬
‫من أعظم منته على عباده وفضله‪ { .‬وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫كما أثنى على نفسه‪ ،‬وفوق ما يثني عليه عباده‬

‫سكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ نَبْرَأَهَا‬


‫{ ‪ { } 22-24‬مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫حبّ ُكلّ‬
‫سوْا عَلَى مَا فَا َتكُ ْم وَلَا َتفْرَحُوا ِبمَا آتَا ُك ْم وَاللّهُ لَا ُي ِ‬
‫علَى اللّهِ يَسِيرٌ * ِل َكيْ لَا تَأْ َ‬
‫إِنّ ذَِلكَ َ‬
‫حمِيدُ }‬
‫ل َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ‬
‫خِ‬‫مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الّذِينَ يَ ْبخَلُونَ وَيَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْ ُب ْ‬

‫سكُمْ }‬
‫ض وَلَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫يقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره‪ { :‬مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬فكلها قد كتبت في اللوح‬
‫المحفوظ‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬وهذا أمر عظيم ل تحيط به العقول‪ ،‬بل تذهل عنده أفئدة أولي‬
‫اللباب‪ ،‬ولكنه على ال يسير‪ ،‬وأخبر ال عباده بذلك لجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم‪ ،‬ويبنوا‬
‫عليها ما أصابهم من الخير والشر‪ ،‬فل يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم‪ ،‬مما طمحت له أنفسهم‬
‫وتشوفوا إليه‪ ،‬لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ‪ ،‬ل بد من نفوذه ووقوعه‪ ،‬فل سبيل إلى‬
‫دفعه‪ ،‬ول يفرحوا بما آتاهم ال فرح بطر وأشر‪ ،‬لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم‪ ،‬وإنما‬
‫حبّ ُكلّ‬
‫أدركوه بفضل ال ومنه‪ ،‬فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ لَا يُ ِ‬
‫مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي‪ :‬متكبر فظ غليظ‪ ،‬معجب بنفسه‪ ،‬فخور بنعم ال‪ ،‬ينسبها إلى نفسه‪ ،‬وتطغيه‬
‫خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِ ْلمٍ بل هي فتنة }‬
‫وتلهيه‪ ،‬كما قال تبارك وتعالى‪ُ { :‬ثمّ إِذَا َ‬

‫خلِ } أي‪ :‬يجمعون بين المرين الذميمين‪ ،‬اللذين كل منهما‬


‫{ الّذِينَ يَ ْبخَلُونَ وَيَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْ ُب ْ‬
‫كاف في الشر البخل‪ :‬وهو منع الحقوق الواجبة‪ ،‬ويأمرون الناس بذلك‪ ،‬فلم يكفهم بخلهم‪ ،‬حتى‬
‫أمروا الناس بذلك‪ ،‬وحثوهم على هذا الخلق الذميم‪ ،‬بقولهم وفعلهم‪ ،‬وهذا من إعراضهم عن طاعة‬
‫ربهم وتوليهم عنها‪َ { ،‬ومَنْ يَ َت َولّ } عن طاعة ال فل يضر إل نفسه‪ ،‬ولن يضر ال شيئا‪ { ،‬فَإِنّ‬
‫حمِيدُ } الذي غناه من لوازم ذاته‪ ،‬الذي له ملك السماوات والرض‪ ،‬وهو الذي‬
‫اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ ا ْل َ‬
‫أغنى عباده وأقناهم‪ ،‬الحميد الذي له كل اسم حسن‪ ،‬ووصف كامل‪ ،‬وفعل جميل‪ ،‬يستحق أن يحمد‬
‫عليه ويثنى ويعظم‪.‬‬

‫{ ‪َ { } 25-27‬لقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ‬
‫س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ إِنّ اللّهَ َق ِويّ‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫وَأَنْزَلْنَا الْ َ‬
‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا النّ ُب ّوةَ وَا ْلكِتَابَ َفمِ ْنهُمْ ُمهْتَدٍ َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ‬
‫عَزِيزٌ * وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَ َ‬
‫جعَلْنَا فِي قُلُوبِ‬
‫ل وَ َ‬
‫سقُونَ * ُثمّ َقفّيْنَا عَلَى آثَارِ ِهمْ بِرُسُلِنَا َو َقفّيْنَا ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَ َم وَآتَيْنَاهُ الْإِ ْنجِي َ‬
‫فَا ِ‬
‫عوْهَا‬
‫ضوَانِ اللّهِ َفمَا رَ َ‬
‫حمَ ًة وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَ ْي ِهمْ إِلّا ابْ ِتغَاءَ ِر ْ‬
‫الّذِينَ اتّ َبعُوهُ رَ ْأفَةً وَرَ ْ‬
‫سقُونَ }‬
‫حقّ رِعَايَ ِتهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنهُمْ َأجْرَهُمْ َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫َ‬

‫يقول تعالى‪َ { :‬لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ } وهي الدلة والشواهد والعلمات الدالة على صدق ما‬
‫جاءوا به وحقيته‪.‬‬

‫{ وَأَنْزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها ال لهداية الخلق‬
‫وإرشادهم‪ ،‬إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم‪ { ،‬وَا ْلمِيزَانَ } وهو العدل في القوال والفعال‪ ،‬والدين‬
‫الذي جاءت به الرسل‪ ،‬كله عدل وقسط في الوامر والنواهي وفي معاملت الخلق‪ ،‬وفي الجنايات‬
‫والقصاص والحدود [والمواريث وغير ذلك]‪ ،‬وذلك { لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ } قياما بدين ال‪،‬‬
‫وتحصيل لمصالحهم التي ل يمكن حصرها وعدها‪ ،‬وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة‬
‫حدِيدَ‬
‫الشرع‪ ،‬وهو القيام بالقسط‪ ،‬وإن اختلفت أنواع العدل‪ ،‬بحسب الزمنة والحوال‪ { ،‬وَأَنْزَلْنَا الْ َ‬
‫فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلت الحرب‪ ،‬كالسلح والدروع وغير ذلك‪.‬‬
‫{ َومَنَافِعُ لِلنّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف‪ ،‬والواني وآلت الحرث‪،‬‬
‫حتى إنه قل أن يوجد شيء إل وهو يحتاج إلى الحديد‪.‬‬

‫{ وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ } أي‪ :‬ليقيم تعالى سوق المتحان بما أنزله من الكتاب‬
‫والحديد‪ ،‬فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب‪ ،‬التي ينفع فيها اليمان قبل الشهادة‪ ،‬التي‬
‫ل فائدة بوجود اليمان فيها‪ ،‬لنه حينئذ يكون ضروريا‪.‬‬

‫{ إِنّ اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ } أي‪ :‬ل يعجزه شيء‪ ،‬ول يفوته هارب‪ ،‬ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد‬
‫الذي منه اللت القوية‪ ،‬ومن قوته وعزته أنه قادر على النتصار من أعدائه‪ ،‬ولكنه يبتلي أولياءه‬
‫بأعدائه‪ ،‬ليعلم من ينصره بالغيب‪ ،‬وقرن تعالى في هذا الموضع بين الكتاب والحديد‪ ،‬لن بهذين‬
‫المرين ينصر ال دينه‪ ،‬ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن‬
‫ال‪ ،‬وكلهما قيامه بالعدل والقسط‪ ،‬الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله‪ ،‬وكمال شريعته‬
‫التي شرعها على ألسنة رسله‪.‬‬

‫ولما ذكر نبوة النبياء عموما‪ ،‬ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا وإبراهيم اللذين جعل ال‬
‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا النّ ُب ّوةَ‬
‫النبوة والكتاب في ذريتهما‪ ،‬فقال‪ { :‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِي َم وَ َ‬
‫وَا ْلكِتَابَ } أي‪ :‬النبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلم‪ ،‬وكذلك‬
‫الكتب كلها نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين‪َ { ،‬فمِ ْنهُمْ } أي‪ :‬ممن أرسلنا إليهم الرسل‬
‫{ ُمهْتَدٍ } بدعوتهم‪ ،‬منقاد لمرهم‪ ،‬مسترشد بهداهم‪.‬‬

‫سقُونَ } أي‪ :‬خارجون عن [طاعة ال و] طاعة الرسل والنبياء كما قال تعالى‪{ :‬‬
‫{ َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫صتَ ِب ُمؤْمِنِينَ }‬
‫س وََلوْ حَ َر ْ‬
‫َومَا َأكْثَرُ النّا ِ‬

‫{ ُثمّ َقفّيْنَا } أي‪ :‬أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ بِ ُرسُلِنَا َو َقفّيْنَا ِبعِيسَى ابْنِ مَرْ َيمَ } خص ال عيسى عليه‬
‫السلم؛ لن السياق مع النصارى‪ ،‬الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلم‪ { ،‬وَآتَيْنَاهُ الْإِ ْنجِيلَ }‬
‫حمَةً } كما قال تعالى‪:‬‬
‫جعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّ َبعُوهُ رَ ْأفَ ًة وَرَ ْ‬
‫الذي هو من كتب ال الفاضلة‪ { ،‬وَ َ‬
‫جدَنّ َأقْرَ َبهُمْ َموَ ّدةً لِلّذِينَ آمَنُوا‬
‫{ لَ َتجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَا َوةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْ َيهُو َد وَالّذِينَ أَشْ َركُوا وَلَتَ ِ‬
‫ن وَرُهْبَانًا وَأَ ّنهُمْ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ } اليات‪.‬‬
‫الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى ذَِلكَ بِأَنّ مِ ْنهُمْ ِقسّيسِي َ‬

‫ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا‪ ،‬حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلم‪.‬‬

‫{ وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا } والرهبانية‪ :‬العبادة‪ ،‬فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة‪ ،‬ووظفوها على‬
‫أنفسهم‪ ،‬والتزموا لوازم ما كتبها ال عليهم ول فرضها‪ ،‬بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم‪،‬‬
‫حقّ رِعَايَ ِتهَا } أي‪ :‬ما قاموا بها ول أدوا‬
‫عوْهَا َ‬
‫قصدهم بذلك رضا ال تعالى‪ ،‬ومع ذلك { َفمَا رَ َ‬
‫حقوقها‪ ،‬فقصروا من وجهين‪ :‬من جهة ابتداعهم‪ ،‬ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم‪.‬‬
‫فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم‪.‬‬

‫ومنهم من هو مستقيم على أمر ال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنهُمْ أَجْرَ ُهمْ } أي‪ :‬الذين آمنوا‬
‫بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مع إيمانهم بعيسى‪ ،‬كل أعطاه ال على حسب إيمانه { َوكَثِيرٌ مِ ْن ُهمْ‬
‫سقُونَ }‬
‫فَا ِ‬

‫ج َعلْ َل ُكمْ‬
‫حمَتِ ِه وَ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 28-29‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِ َرسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ‬
‫شيْءٍ مِنْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلّا َيعْلَمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَلّا َيقْدِرُونَ عَلَى َ‬
‫نُورًا َتمْشُونَ بِ ِه وَ َي ْغفِرْ َل ُك ْم وَاللّهُ َ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ }‬
‫ضلِ اللّ ِه وَأَنّ ا ْل َفضْلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬
‫َف ْ‬

‫وهذا الخطاب‪ ،‬يحتمل أنه [خطاب] لهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلم‪،‬‬
‫يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم‪ ،‬بأن يتقوا ال فيتركوا معاصيه‪ ،‬ويؤمنوا برسوله محمد صلى‬
‫حمَتِهِ } أي‪ :‬نصيبين من الجر‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ال { ِكفْلَيْنِ مِنْ َر ْ‬
‫نصيب على إيمانهم بالنبياء القدمين‪ ،‬ونصيب على إيمانهم بمحمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ويحتمل أن يكون المر عاما يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬وهذا الظاهر‪ ،‬وأن ال أمرهم‬
‫باليمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين‪ ،‬ظاهره وباطنه‪ ،‬أصوله وفروعه‪ ،‬وأنهم إن امتثلوا‬
‫حمَ ِتهِ } ل يعلم وصفهما وقدرهما إل ال تعالى أجر‬
‫هذا المر العظيم‪ ،‬أعطاهم ال { ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ‬
‫على اليمان‪ ،‬وأجر على التقوى‪ ،‬أو أجر على امتثال الوامر‪ ،‬وأجر على اجتناب النواهي‪ ،‬أو أن‬
‫التثنية المراد بها تكرار اليتاء مرة بعد أخرى‪.‬‬

‫ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ } أي‪ :‬يعطيكم علما وهدى ونورا تمشون به في ظلمات الجهل‪،‬‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫ويغفر لكم السيئات‪.‬‬

‫ضلِ ا ْل َعظِيمِ } فل يستكثر هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم‪ ،‬الذي عم فضله‬
‫{ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬
‫أهل السماوات والرض‪ ،‬فل يخلو مخلوق من فضله طرفة عين ول أقل من ذلك‪.‬‬

‫ضلِ اللّهِ } أي‪ :‬بينا لكم فضلنا وإحساننا‬


‫شيْءٍ مِنْ َف ْ‬
‫[وقوله] { لِئَلّا َيعْلَمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَلّا َيقْدِرُونَ عَلَى َ‬
‫لمن آمن إيمانا عاما‪ ،‬واتقى ال‪ ،‬وآمن برسوله‪ ،‬لجل أن أهل الكتاب يكون لديهم علم بأنهم ل‬
‫يقدرون على شيء من فضل ال أي‪ :‬ل يحجرون على ال بحسب أهوائهم وعقولهم الفاسدة‪،‬‬
‫خلَ ا ْلجَنّةَ إِلّا مَنْ كَانَ هُودًا َأوْ َنصَارَى } ويتمنون على ال الماني الفاسدة‪،‬‬
‫فيقولون‪ { :‬لَنْ يَدْ ُ‬
‫فأخبر ال تعالى أن المؤمنين برسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬المتقين ل‪ ،‬لهم كفلن من‬
‫ضلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ‬
‫رحمته‪ ،‬ونور‪ ،‬ومغفرة‪ ،‬رغما على أنوف أهل الكتاب‪ ،‬وليعلموا { أن ا ْل َف ْ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ } [الذي ل يقادر‬
‫يَشَاءُ } ممن اقتضت حكمته تعالى أن يؤتيه من فضله‪ { ،‬وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫قدره]‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحديد‪ ،‬ول الحمد والمنة‪ ،‬والحمد ل‪.‬‬

‫تفسير سورة قد سمع‬


‫وهي مدنية‬

‫جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّهِ‬


‫سمِعَ اللّهُ َق ْولَ الّتِي تُجَا ِدُلكَ فِي َزوْ ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ َقدْ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-4‬بِ ْ‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ * الّذِينَ ُيظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئ ِهمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ‬
‫س َمعُ تَحَاوُ َر ُكمَا إِنّ اللّهَ َ‬
‫وَاللّهُ يَ ْ‬
‫غفُورٌ * وَالّذِينَ‬
‫ُأ ّمهَا ُتهُمْ إِلّا اللّائِي وَلَدْ َن ُه ْم وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ مُ ْنكَرًا مِنَ ا ْل َق ْولِ وَزُورًا وَإِنّ اللّهَ َلعَ ُفوّ َ‬
‫يُظَاهِرُونَ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا فَ َتحْرِيرُ َرقَبَةٍ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا ذَِلكُمْ تُوعَظُونَ بِ ِه وَاللّهُ‬
‫طعَامُ‬
‫شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َفمَنْ لَمْ يَسْ َتطِعْ فَِإ ْ‬
‫جدْ َفصِيَامُ َ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ * َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫سكِينًا ذَِلكَ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّ ِه وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }‬
‫سِتّينَ مِ ْ‬

‫نزلت هذه اليات الكريمات في رجل من النصار اشتكته زوجته [إلى ال‪ ،‬وجادلته] إلى رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم لما حرمها على نفسه‪ ،‬بعد الصحبة الطويلة‪ ،‬والولد‪ ،‬وكان هو رجل‬
‫شيخا كبيرا‪ ،‬فشكت حالها وحاله إلى ال وإلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وكررت ذلك‪،‬‬
‫وأبدت فيه وأعادت‪.‬‬

‫سمَعُ تَحَاوُ َر ُكمَا }‬


‫جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَ ْ‬
‫سمِعَ اللّهُ َق ْولَ الّتِي ُتجَادُِلكَ فِي َزوْ ِ‬
‫فقال تعالى‪َ { :‬قدْ َ‬
‫سمِيعٌ } لجميع الصوات‪ ،‬في جميع الوقات‪ ،‬على تفنن‬
‫أي‪ :‬تخاطبكما فيما بينكما‪ { ،‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫الحاجات‪.‬‬

‫{ َبصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء‪ ،‬على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء‪ ،‬وهذا إخبار عن‬
‫كمال سمعه وبصره‪ ،‬وإحاطتهما بالمور الدقيقة والجليلة‪ ،‬وفي ضمن ذلك الشارة بأن ال [تعالى]‬
‫سيزيل شكواها‪ ،‬ويرفع بلواها‪ ،‬ولهذا ذكر حكمها‪ ،‬وحكم غيرها على وجه العموم‪ ،‬فقال‪ { :‬الّذِينَ‬
‫يُظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ إِلّا اللّائِي وَلَدْ َنهُمْ }‬
‫المظاهرة من الزوجة‪ :‬أن يقول الرجل لزوجته‪" :‬أنت علي كظهر أمي" أو غيرها من محارمه‪ ،‬أو‬
‫"أنت علي حرام" وكان المعتاد عندهم في هذا لفظ "الظهر" ولهذا سماه ال "ظهارا" فقال‪ { :‬الّذِينَ‬
‫يُظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ } أي‪ :‬كيف يتكلمون بهذا الكلم الذي يعلم أنه ل حقيقة‬
‫له‪ ،‬فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللتي ولدنهم؟ ولهذا عظم ال أمره وقبحه‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ‬
‫ل وَزُورًا } أي‪ :‬قول شنيعا‪ { ،‬وزورا } أي‪ :‬كذبا‪.‬‬
‫مُ ْنكَرًا مِنَ ا ْلقَ ْو ِ‬

‫غفُورٌ } عمن صدر منه بعض المخالفات‪ ،‬فتداركها بالتوبة النصوح‪.‬‬


‫{ وَإِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ‬

‫{ وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا } اختلف العلماء في معنى العود‪ ،‬فقيل‪ :‬معناه‬
‫العزم على جماع من ظاهر منها‪ ،‬وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة‪ ،‬ويدل على‬
‫هذا‪ ،‬أن ال تعالى ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس‪ ،‬وذلك إنما يكون بمجرد العزم‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫معناه حقيقة الوطء‪ ،‬ويدل على ذلك أن ال قال‪ { :‬ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا } والذي قالوا إنما هو‬
‫الوطء‪.‬‬

‫وعلى كل من القولين { فـ } إذا وجد العود‪ ،‬صار كفارة هذا التحريم { تحرير َرقَبَةٍ } ُم ْؤمِنَ ٍة كما‬
‫قيدت في آية أخرى ذكر أو أنثى‪ ،‬بشرط أن تكون سالمة من العيوب المضرة بالعمل‪.‬‬

‫{ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا } أي‪ :‬يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة‪.‬‬

‫{ ذَِلكُمْ } الحكم الذي ذكرناه لكم‪ { ،‬تُوعَظُونَ بِهِ } أي‪ :‬يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به‪،‬‬
‫لن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب‪ ،‬فالذي يريد أن يظاهر‪ ،‬إذا ذكر أنه يجب‬
‫عليه عتق رقبة كف نفسه عنه‪ { ،‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله‪.‬‬

‫شهْرَيْنِ مُتَتَا ِبعَيْنِ‬


‫جدْ } رقبة يعتقها‪ ،‬بأن لم يجدها أو [لم] يجد ثمنها { فـ } عليه { صيام َ‬
‫{ َفمَنْ َلمْ يَ ِ‬
‫سكِينًا } إما بأن يطعمهم من قوت بلده‬
‫طعَامُ سِتّينَ مِ ْ‬
‫طعْ } الصيام { فَِإ ْ‬
‫مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا َفمَنْ لَمْ يَسْتَ ِ‬
‫ما يكفيهم‪ ،‬كما هو قول كثير من المفسرين‪ ،‬وإما بأن يطعم كل مسكين ُمدّ بُ ّر أو نصف صاع من‬
‫غيره مما يجزي في الفطرة‪ ،‬كما هو قول طائفة أخرى‪.‬‬

‫ذلك الحكم الذي بيناه لكم‪ ،‬ووضحناه لكم { لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُوِلهِ } وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره‬
‫من الحكام‪ ،‬والعمل به‪ ،‬فإن التزام أحكام ال‪ ،‬والعمل بها من اليمان‪[ ،‬بل هي المقصودة] ومما‬
‫يزيد به اليمان ويكمل وينمو‪.‬‬

‫{ وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ } التي تمنع من الوقوع فيها‪ ،‬فيجب أن ل تتعدى ول يقصر عنها‪.‬‬
‫{ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ َألِيمٌ } وفي هذه اليات‪ ،‬عدة أحكام‪:‬‬

‫منها‪ :‬لطف ال بعباده واعتناؤه بهم‪ ،‬حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة‪ ،‬وأزالها ورفع عنها‬
‫البلوى‪ ،‬بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الظهار مختص بتحريم الزوجة‪ ،‬لن ال قال { مِنْ ِنسَا ِئهِمْ } فلو حرم أمته‪ ،‬لم يكن‬
‫[ذلك] ظهارا‪ ،‬بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب‪ ،‬تجب فيه كفارة اليمين فقط‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها‪ ،‬لنها ل تدخل في نسائه وقت الظهار‪ ،‬كما‬
‫ل يصح طلقها‪ ،‬سواء نجز ذلك أو علقه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الظهار محرم‪ ،‬لن ال سماه منكرا [من القول] وزورا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬تنبيه ال على وجه الحكم وحكمته‪ ،‬لن ال تعالى قال‪ { :‬مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ }‬

‫ومنها‪ :‬أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها باسم محارمه‪ ،‬كقوله { يا أمي } { يا أختي }‬
‫ونحوه‪ ،‬لن ذلك يشبه المحرم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر‪ ،‬على اختلف القولين السابقين‪ ،‬ل بمجرد‬
‫الظهار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه يجزئ في كفارة الرقبة‪ ،‬الصغير والكبير‪ ،‬والذكر والنثى‪ ،‬لطلق الية في ذلك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه يجب إخراجها إن كانت عتقا أو صياما قبل المسيس‪ ،‬كما قيده ال‪ .‬بخلف كفارة‬
‫الطعام‪ ،‬فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس‪ ،‬أن ذلك أدعى لخراجها‪ ،‬فإنه إذا اشتاق‬
‫إلى الجماع‪ ،‬وعلم أنه ل يمكن من ذلك إل بعد الكفارة‪ ،‬بادر لخراجها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ل بد من إطعام ستين مسكينا‪ ،‬فلو جمع طعام ستين مسكينا‪ ،‬ودفعها لواحد أو أكثر من‬
‫سكِينًا }‬
‫طعَامُ سِتّينَ مِ ْ‬
‫ذلك‪ ،‬دون الستين لم يجز ذلك‪ ،‬لن ال قال‪ { :‬فَإِ ْ‬

‫{ ‪ { } 5‬إِنّ الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ كُبِتُوا َكمَا كُ ِبتَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َوقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيّنَاتٍ‬
‫عذَابٌ ُمهِينٌ }‬
‫وَلِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫محادة ال ورسوله‪ :‬مخالفتهما ومعصيتهما خصوصا في المور الفظيعة‪ ،‬كمحادة ال ورسوله‬
‫بالكفر‪ ،‬ومعاداة أولياء ال‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬كُبِتُوا َكمَا كُ ِبتَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } أي‪ :‬أذلوا وأهينوا كما فعل بمن قبلهم‪ ،‬جزاء وفاقا‪.‬‬

‫وليس لهم حجة على ال‪ ،‬فإن ال قد قامت حجته البالغة على الخلق‪ ،‬وقد أنزل من اليات البينات‬
‫والبراهين ما يبين الحقائق ويوضح المقاصد‪ ،‬فمن اتبعها وعمل عليها‪ ،‬فهو من المهتدين الفائزين‪،‬‬
‫{ وَلِ ْلكَافِرِينَ } بها { عَذَابٌ ُمهِينٌ } أي‪ :‬يهينهم ويذلهم‪ ،‬كما تكبروا عن آيات ال‪ ،‬أهانهم ال‬
‫وأذلهم‪:‬‬

‫شهِيدٌ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫عمِلُوا أَ ْ‬
‫جمِيعًا فَيُنَبّ ُئ ُهمْ ِبمَا َ‬
‫{ ‪َ { } 6-7‬يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ‬
‫جوَى ثَلَا َثةٍ إِلّا ُهوَ رَا ِب ُعهُ ْم وَلَا‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ مَا َيكُونُ مِنْ نَ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫* أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫عمِلُوا َيوْمَ‬
‫ك وَلَا َأكْثَرَ إِلّا ُهوَ َم َعهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمّ يُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫س ُه ْم وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَِل َ‬
‫سةٍ إِلّا ُهوَ سَادِ ُ‬
‫خمْ َ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ }‬
‫ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬

‫يقول ال تعالى‪ { :‬يوم يبعثهم ال } جميعا { فيقومون من أجداثهم سريعا } فيجازيهم بأعمالهم‬
‫عمِلُوا } من خير وشر‪ ،‬لنه علم ذلك‪ ،‬وكتبه في اللوح المحفوظ‪ ،‬وأمر الملئكة‬
‫{ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ‬
‫الكرام الحفظة بكتابته‪ ،‬هذا { و } العاملون قد نسوا ما عملوه‪ ،‬وال أحصى ذلك‪.‬‬

‫شهِيدٌ } على بالظواهر والسرائر‪ ،‬والخبايا والخفايا‪.‬‬


‫شيْءٍ َ‬
‫{ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والرض من دقيق وجليل‪.‬‬

‫ك وَلَا‬
‫سهُ ْم وَلَا َأدْنَى مِنْ ذَِل َ‬
‫خمْسَةٍ إِلّا ُهوَ سَادِ ُ‬
‫جوَى ثَلَا َثةٍ إِلّا ُهوَ رَا ِب ُعهُ ْم وَلَا َ‬
‫وأنه { مَا َيكُونُ مِنْ نَ ْ‬
‫َأكْثَرَ إِلّا ُهوَ َم َعهُمْ أَيْ َنمَا كَانُوا } والمراد بهذه المعية معية العلم والحاطة بما تناجوا به وأسروه‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ } ثم قال تعالى‪:‬‬
‫فيما بينهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬

‫جوْنَ بِالْإِثْ ِم وَا ْلعُ ْدوَانِ‬


‫جوَى ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا ُنهُوا عَنْهُ وَيَتَنَا َ‬
‫{ ‪ { } 8-9‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ ُنهُوا عَنِ النّ ْ‬
‫سهِمْ َلوْلَا ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا‬
‫َو َمعْصِيَةِ الرّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَ ّي ْوكَ ِبمَا َلمْ ُيحَ ّيكَ بِهِ اللّ ُه وَيَقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫جوْا بِالْإِ ْثمِ‬
‫جهَنّمُ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْ ُتمْ فَلَا تَتَنَا َ‬
‫حسْ ُبهُمْ َ‬
‫َنقُولُ َ‬
‫حشَرُونَ }‬
‫جوْا بِالْبِرّ وَالتّ ْقوَى وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫ن َو َمعْصِيَةِ الرّسُولِ وَتَنَا َ‬
‫وَا ْلعُ ْدوَا ِ‬
‫النجوى هي‪ :‬التناجي بين اثنين فأكثر‪ ،‬وقد تكون في الخير‪ ،‬وتكون في الشر‪.‬‬

‫فأمر ال تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر‪ ،‬وهو اسم جامع لكل خير وطاعة‪ ،‬وقيام بحق ل‬
‫ولعباده والتقوى‪ ،‬وهي [هنا]‪ :‬اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم‪ ،‬فالمؤمن يمتثل هذا المر‬
‫اللهي‪ ،‬فل تجده مناجيا ومتحدثا إل بما يقربه من ال‪ ،‬ويباعده من سخطه‪ ،‬والفاجر يتهاون بأمر‬
‫ال‪ ،‬ويناجي بالثم والعدوان ومعصية الرسول‪ ،‬كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫قال تعالى { وَإِذَا جَاءُوكَ حَ ّي ْوكَ ِبمَا لَمْ يُحَ ّيكَ بِهِ اللّهُ } أي‪ :‬يسيئون الدب معك في تحيتهم لك‪،‬‬
‫سهِمْ } أي‪ :‬يسرون في أنفسهم ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم‪ ،‬وهو قولهم‪:‬‬
‫{ وَ َيقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫{ َلوْلَا ُي َعذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك‪ ،‬ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة‬
‫جهَنّمُ‬
‫حسْ ُبهُمْ َ‬
‫عليهم‪ ،‬أن ما يقولون غير محذور‪ ،‬قال تعالى في بيان أنه يمهل ول يهمل‪َ { :‬‬
‫َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [عليهم]‪ ،‬تحيط بهم‪،‬‬
‫ويعذبون بها { فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } وهؤلء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون اليمان‪،‬‬
‫ويخاطبون الرسول صلى ال عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا وهم‬
‫كذبة في ذلك‪ ،‬وإما أناس من أهل الكتاب‪ ،‬الذين إذا سلموا على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫"السام عليك يا محمد" يعنون بذلك الموت‪.‬‬

‫جوَى مِنَ الشّ ْيطَانِ لِ َيحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ ِبضَارّهِمْ شَيْئًا إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ وَعَلَى‬
‫{ ‪ { } 10‬إِ ّنمَا النّ ْ‬
‫اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }‬

‫جوَى } أي‪ :‬تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين‪ ،‬بالمكر والخديعة‪ ،‬وطلب‬


‫يقول تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا النّ ْ‬
‫السوء من الشيطان‪ ،‬الذي كيده ضعيف ومكره غير مفيد‪.‬‬

‫{ لِيَحزن الّذِينَ آمَنُوا } هذا غاية هذا المكر ومقصوده‪ { ،‬وَلَيْسَ ِبضَارّ ِهمْ شَيْئًا إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ } فإن‬
‫ال تعالى وعد المؤمنين بالكفاية والنصر على العداء‪ ،‬وقال تعالى‪ { :‬وَلَا يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّ ّيئُ إِلّا‬
‫بِأَهْلِهِ } فأعداء ال ورسوله والمؤمنين‪ ،‬مهما تناجوا ومكروا‪ ،‬فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم‪،‬‬
‫ول يضر المؤمنين إل شيء قدره ال وقضاه‪ { ،‬وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬ليعتمدوا‬
‫عليه ويثقوا بوعده‪ ،‬فإن من توكل على ال كفاه‪ ،‬وتولى أمر دينه ودنياه‬
‫{ ‪ { } 11‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ َل ُكمْ َتفَسّحُوا فِي ا ْلمَجَالِسِ فَافْسَحُوا َيفْسَحِ اللّهُ َلكُ ْم وَِإذَا قِيلَ‬
‫ت وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }‬
‫انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَ ْرفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ دَرَجَا ٍ‬

‫هذا تأديب من ال لعباده المؤمنين‪ ،‬إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم‪ ،‬واحتاج‬
‫بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس‪ ،‬فإن من الدب أن يفسحوا له تحصيل‬
‫لهذا المقصود‪.‬‬

‫وليس ذلك بضار للجالس شيئا‪ ،‬فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو‪ ،‬والجزاء من‬
‫جنس العمل‪ ،‬فإن من فسح فسح ال له‪ ،‬ومن وسع لخيه‪ ،‬وسع ال عليه‪.‬‬

‫{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } أي‪ :‬ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تعرض‪ { ،‬فَانْشُزُوا } أي‪ :‬فبادروا‬
‫للقيام لتحصيل تلك المصلحة‪ ،‬فإن القيام بمثل هذه المور من العلم واليمان‪ ،‬وال تعالى يرفع أهل‬
‫العلم واليمان درجات بحسب ما خصهم ال به‪ ،‬من العلم واليمان‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر‪.‬‬

‫وفي هذه الية فضيلة العلم‪ ،‬وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل بمقتضاه‪.‬‬

‫جوَاكُ ْم صَ َدقَةً ذَِلكَ خَيْرٌ َلكُمْ‬


‫{ ‪ { } 12-13‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا نَاجَيْ ُتمُ الرّسُولَ َفقَ ّدمُوا بَيْنَ يَ َديْ َن ْ‬
‫جوَاكُ ْم صَ َدقَاتٍ فَإِذْ لَمْ‬
‫ش َفقْتُمْ أَنْ ُتقَ ّدمُوا بَيْنَ َي َديْ نَ ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَ ْ‬
‫جدُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫طهَرُ فَإِنْ َلمْ تَ ِ‬
‫وَأَ ْ‬
‫َت ْفعَلُوا وَتَابَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمْ فََأقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ وَأَطِيعُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ }‬

‫يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة‪ ،‬أمام مناجاة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم تأديبا لهم وتعليما‪،‬‬
‫وتعظيما للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن هذا التعظيم‪ ،‬خير للمؤمنين وأطهر أي‪ :‬بذلك يكثر‬
‫خيركم وأجركم‪ ،‬وتحصل لكم الطهارة من الدناس‪ ،‬التي من جملتها ترك احترام الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم والدب معه بكثرة المناجاة التي ل ثمرة تحتها‪ ،‬فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي‬
‫مناجاته صار هذا ميزانا لمن كان حريصا على الخير والعلم‪ ،‬فل يبالي بالصدقة‪ ،‬ومن لم يكن له‬
‫حرص ول رغبة في الخير‪ ،‬وإنما مقصوده مجرد كثرة الكلم‪ ،‬فينكف بذلك عن الذي يشق على‬
‫الرسول‪ ،‬هذا في الواجد للصدقة‪ ،‬وأما الذي ل يجد الصدقة‪ ،‬فإن ال لم يضيق عليه المر‪ ،‬بل عفا‬
‫عنه وسامحه‪ ،‬وأباح له المناجاة‪ ،‬بدون تقديم صدقة ل يقدر عليها‪.‬‬

‫ثم لما رأى تبارك وتعالى شفقة المؤمنين‪ ،‬ومشقة الصدقات عليهم عند كل مناجاة‪ ،‬سهل المر‬
‫عليهم‪ ،‬ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة‪ ،‬وبقي التعظيم للرسول والحترام بحاله لم‬
‫ينسخ‪ ،‬لن هذا الحكم من باب المشروع لغيره‪ ،‬ليس مقصودا لنفسه‪ ،‬وإنما المقصود هو الدب مع‬
‫الرسول والكرام له‪ ،‬وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها‪ ،‬فقال‪ { :‬فَإِذْ‬
‫لَمْ َت ْفعَلُوا } أي‪ :‬لم يهن عليكم تقديم الصدقة‪ ،‬ول يكفي هذا‪ ،‬فإنه ليس من شرط المر أن يكون‬
‫هينا على العبد‪ ،‬ولهذا قيده بقوله‪ { :‬وَتَابَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } أي‪ :‬عفا لكم عن ذلك‪ { ،‬فََأقِيمُوا الصّلَاةَ }‬
‫بأركانها وشروطها‪ ،‬وجميع حدودها ولوازمها‪ { ،‬وَآتُوا ال ّزكَاةَ } المفروضة [في أموالكم] إلى‬
‫مستحقيها‪.‬‬

‫وهاتان العبادتان هما أم العبادات البدنية والمالية‪ ،‬فمن قام بهما على الوجه الشرعي‪ ،‬فقد قام‬
‫بحقوق ال وحقوق عباده‪[ ،‬ولهذا قال بعده‪ { ]:‬وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا أشمل ما يكون من‬
‫الوامر‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك طاعة ال [وطاعة] رسوله‪ ،‬بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما‪ ،‬وتصديق ما‬
‫أخبرا به‪ ،‬والوقوف عند حدود ال‬

‫والعبرة في ذلك على الخلص والحسان‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } فيعلم تعالى‬
‫أعمالهم‪ ،‬وعلى أي‪ :‬وجه صدرت‪ ،‬فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم‪.‬‬

‫ضبَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مَا هُمْ مِ ْنكُ ْم وَلَا مِ ْنهُ ْم وَيَحِْلفُونَ عَلَى‬
‫غ ِ‬
‫{ ‪ { } 14-19‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ‬
‫شدِيدًا إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * اتّخَذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً‬
‫عذَابًا َ‬
‫عدّ اللّهُ َلهُمْ َ‬
‫ب وَهُمْ َيعَْلمُونَ * أَ َ‬
‫ا ْلكَ ِذ ِ‬
‫عذَابٌ ُمهِينٌ * لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْن ُهمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَ ِئكَ‬
‫َفصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فََلهُمْ َ‬
‫حسَبُونَ أَ ّنهُمْ‬
‫جمِيعًا فَيَحِْلفُونَ َلهُ َكمَا يَحِْلفُونَ َلكُ ْم وَيَ ْ‬
‫َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ * َيوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ‬
‫حوَذَ عَلَ ْي ِهمُ الشّ ْيطَانُ فَأَنْسَا ُهمْ ِذكْرَ اللّهِ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ الشّيْطَانِ‬
‫شيْءٍ أَلَا إِ ّن ُهمْ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ * اسْ َت ْ‬
‫عَلَى َ‬
‫أَلَا إِنّ حِ ْزبَ الشّ ْيطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }‬

‫يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين‪ ،‬من اليهود والنصارى وغيرهم ممن‬
‫غضب ال عليهم‪ ،‬ونالوا من لعنة ال أوفى نصيب‪ ،‬وأنهم ليسوا من المؤمنين ول من الكافرين‪{ ،‬‬
‫مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَِلكَ لَا إِلَى َهؤُلَا ِء وَلَا إِلَى َهؤُلَاءِ }‬

‫فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لن باطنهم مع الكفار‪ ،‬ول مع الكفار ظاهرا وباطنا‪ ،‬لن ظاهرهم‬
‫مع المؤمنين‪ ،‬وهذا وصفهم الذي نعتهم ال به‪ ،‬والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب‪،‬‬
‫فيحلفون أنهم مؤمنون‪ ،‬وهم يعلمون أنهم ليسوا مؤمنين‪.‬‬
‫فجزاء هؤلء الخونة الفجرة الكذبة‪ ،‬أن ال أعد لهم عذابا شديدا‪ ،‬ل يقادر قدره‪ ،‬ول يعلم وصفه‪،‬‬
‫إنهم ساء ما كانوا يعملون‪ ،‬حيث عملوا بما يسخط ال ويوجب عليهم العقوبة واللعنة‪.‬‬

‫{ اتّخَذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً } أي‪ :‬ترسا ووقاية‪ ،‬يتقون بها من لوم ال ورسوله والمؤمنين‪ ،‬فبسبب ذلك‬
‫صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل ال‪ ،‬وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى جنات النعيم‪.‬‬
‫ومن صد عنه فليس إل الصراط الموصل إلى الجحيم‪ { ،‬فََل ُهمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } حيث استكبروا عن‬
‫اليمان بال والنقياد لياته‪ ،‬أهانهم بالعذاب السرمدي‪ ،‬الذي ل يفتر عنهم ساعة ول هم ينظرون‪.‬‬

‫{ لَنْ ُتغْنِيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } فل تدفع عنهم شيئا من العذاب‪ ،‬ول تحصل‬
‫لهم قسطا من الثواب‪ { ،‬أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ } الملزمون لها‪ ،‬الذين ل يخرجون عنها‪ ،‬و { هُمْ‬
‫فِيهَا خَاِلدُونَ } ومن عاش على شيء مات عليه‪.‬‬

‫فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين‪ ،‬ويحلفون لهم أنهم مؤمنون‪ ،‬فإذا كان يوم‬
‫القيامة وبعثهم ال جميعا‪ ،‬حلفوا ل كما حلفوا للمؤمنين‪ ،‬ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء‪،‬‬
‫لن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة‪ ،‬لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا‪ ،‬حتى غرتهم وظنوا‬
‫أنهم على شيء يعتد به‪ ،‬ويعلق عليه الثواب‪ ،‬وهم كاذبون في ذلك‪ ،‬ومن المعلوم أن الكذب ل‬
‫يروج على عالم الغيب والشهادة‪.‬‬

‫وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم‪ ،‬وزين لهم أعمالهم‪ ،‬وأنساهم‬
‫ذكر ال‪ ،‬وهو العدو المبين‪ ،‬الذي ل يريد بهم إل الشر‪ { ،‬إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب‬
‫السعير }‬

‫{ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ الشّيْطَانِ أَلَا إِنّ حِ ْزبَ الشّ ْيطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسروا دينهم ودنياهم‬
‫وأنفسهم وأهليهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 20-21‬إِنّ الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَ ِئكَ فِي الَْأذَلّينَ * كَ َتبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ‬
‫اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ }‬

‫هذا وعد ووعيد‪ ،‬وعيد لمن حاد ال ورسوله بالكفر والمعاصي‪ ،‬أنه مخذول مذلول‪ ،‬ل عاقبة له‬
‫حميدة‪ ،‬ول راية له منصورة‪.‬‬
‫ووعد لمن آمن به‪ ،‬وبرسله‪ ،‬واتبع ما جاء به المرسلون‪ ،‬فصار من حزب ال المفلحين‪ ،‬أن لهم‬
‫الفتح والنصر والغلبة في الدنيا والخرة‪ ،‬وهذا وعد ل يخلف ول يغير‪ ،‬فإنه من الصادق القوي‬
‫العزيز الذي ل يعجزه شيء يريده‪.‬‬

‫جدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ‬
‫{ ‪ { } 22‬لَا تَ ِ‬
‫عشِيرَ َتهُمْ أُولَ ِئكَ كَ َتبَ فِي قُلُو ِبهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِ ْن ُه وَيُدْخُِل ُهمْ جَنّاتٍ‬
‫خوَا َنهُمْ َأوْ َ‬
‫َأوْ أَبْنَاءَ ُهمْ َأوْ إِ ْ‬
‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ وَ َرضُوا عَنْهُ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ َألَا إِنّ حِ ْزبَ‬
‫تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َر ِ‬
‫اللّهِ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }‬

‫يقول تعالى‪ { :‬لَا َتجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُوَلهُ } أي‪ :‬ل‬
‫يجتمع هذا وهذا‪ ،‬فل يكون العبد مؤمنا بال واليوم الخر حقيقة‪ ،‬إل كان عامل على مقتضى‬
‫اليمان ولوازمه‪ ،‬من محبة من قام باليمان وموالته‪ ،‬وبغض من لم يقم به ومعاداته‪ ،‬ولو كان‬
‫أقرب الناس إليه‪.‬‬

‫وهذا هو اليمان على الحقيقة‪ ،‬الذي وجدت ثمرته والمقصود منه‪ ،‬وأهل هذا الوصف هم الذين‬
‫كتب ال في قلوبهم اليمان أي‪ :‬رسمه وثبته وغرسه غرسا‪ ،‬ل يتزلزل‪ ،‬ول تؤثر فيه الشبه‬
‫والشكوك‪.‬‬

‫وهم الذين قواهم ال بروح منه أي‪ :‬بوحيه‪ ،‬ومعونته‪ ،‬ومدده اللهي وإحسانه الرباني‪.‬‬

‫وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار‪ ،‬ولهم جنات النعيم في دار القرار‪ ،‬التي فيها من كل ما‬
‫تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وتختار‪ ،‬ولهم أكبر النعيم وأفضله‪ ،‬وهو أن ال يحل عليهم رضوانه‬
‫فل يسخط عليهم أبدا‪ ،‬ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات‪ ،‬ووافر المثوبات‪،‬‬
‫وجزيل الهبات‪ ،‬ورفيع الدرجات بحيث ل يرون فوق ما أعطاهم مولهم غاية‪ ،‬ول فوقه نهاية‬

‫وأما من يزعم أنه يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬وهو مع ذلك مواد لعداء ال‪ ،‬محب لمن ترك‬
‫اليمان وراء ظهره‪ ،‬فإن هذا إيمان زعمي ل حقيقة له‪ ،‬فإن كل أمر ل بد له من برهان يصدقه‪،‬‬
‫فمجرد الدعوى‪ ،‬ل تفيد شيئا ول يصدق صاحبها‪.‬‬

‫تم تفسير قد سمع ال‪ ،‬بحمد ال وعونه وتسديده‪.‬‬

‫والحمد ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ال على محمد وسلم تسليما‬


‫تفسير سورة الحشر‬
‫[وهي] مدنية‬

‫حكِيمُ‬
‫ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-7‬بِ ْ‬
‫* ُهوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَِأوّلِ ا ْلحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْ ُرجُوا‬
‫عبَ‬
‫حصُو ُنهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ َلمْ يَحْ َتسِبُوا َوقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ‬
‫وَظَنّوا أَ ّنهُمْ مَا ِنعَ ُتهُمْ ُ‬
‫يُخْرِبُونَ بُيُو َتهُمْ بِأَ ْيدِيهِ ْم وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَ ْبصَارِ }‬

‫إلى آخر القصة‪.‬‬


‫هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة‪ ،‬وقت‬
‫بعثة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما بعث النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهاجر إلى المدينة‪ ،‬كفروا‬
‫به في جملة من كفر من اليهود‪ ،‬فلما هاجر النبي صلى ال عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر‬
‫طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة‪ ،‬فلما كان بعد [وقعة] بدر بستة أشهر أو نحوها‪ ،‬خرج‬
‫إليهم النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكلمهم أن يعينوه في دية الكلبيين الذين قتلهم عمرو بن أمية‬
‫الضمري‪ ،‬فقالوا‪ :‬نفعل يا أبا القاسم‪ ،‬اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك‪ ،‬فخل بعضهم ببعض‪،‬‬
‫وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم‪ ،‬فتآمروا بقتله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬أيكم يأخذ‬
‫هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش‪ :‬أنا‪ ،‬فقال لهم‬
‫سلم بن مشكم‪ :‬ل تفعلوا‪ ،‬فوال ليخبرن بما هممتم به‪ ،‬وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه‪ ،‬وجاء‬
‫الوحي على الفور إليه من ربه‪ ،‬بما هموا به‪ ،‬فنهض مسرعا‪ ،‬فتوجه إلى المدينة‪ ،‬ولحقه أصحابه‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬نهضت ولم نشعر بك‪ ،‬فأخبرهم بما همت يهود به‪.‬‬

‫وبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أن اخرجوا من المدينة ول تساكنوني بها‪ ،‬وقد‬
‫أجلتكم عشرا‪ ،‬فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه"‬

‫فأقاموا أياما يتجهزون‪ ،‬وأرسل إليهم المنافق عبد ال بن أبي [بن سلول]‪" :‬أن ل تخرجوا من‬
‫دياركم‪ ،‬فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم‪ ،‬فيموتون دونكم‪ ،‬وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من‬
‫غطفان"‪.‬‬

‫وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له‪ ،‬وبعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬إنا‬
‫ل نخرج من ديارنا‪ ،‬فاصنع ما بدا لك‪.‬‬

‫فكبر رسول ال صلى عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬ونهضوا إليهم‪ ،‬وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء‪.‬‬
‫فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة‪ ،‬واعتزلتهم قريظة‪ ،‬وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من‬
‫غطفان‪ ،‬فحاصرهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقطع نخلهم وحرق‪ .‬فأرسلوا إليه‪ :‬نحن‬
‫نخرج من المدينة‪ ،‬فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم‪ ،‬وذراريهم‪ ،‬وأن لهم ما حملت إبلهم إل‬
‫السلح‪ ،‬وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الموال والسلح‪.‬‬

‫وكانت بنو النضير‪ ،‬خالصة لرسول ال صلى ال عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين‪ ،‬ولم‬
‫يخمسها‪ ،‬لن ال أفاءها عليه‪ ،‬ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ول ركاب‪ ،‬وأجلهم إلى خيبر‬
‫وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم‪ ،‬واستولى على أرضهم وديارهم‪ ،‬وقبض السلح‪ ،‬فوجد من السلح‬
‫خمسين درعا‪ ،‬وخمسين بيضة‪ ،‬وثلثمائة وأربعين سيفا‪ ،‬هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل‬
‫السير‪.‬‬

‫فافتتح تعالى هذه السورة بالخبار أن جميع من في السماوات والرض تسبح بحمد ربها‪ ،‬وتنزهه‬
‫عما ل يليق بجلله‪ ،‬وتعبده وتخضع لجلله لنه العزيز الذي قد قهر كل شيء‪ ،‬فل يمتنع عليه‬
‫شيء‪ ،‬ول يستعصي عليه مستعصي الحكيم في خلقه وأمره‪ ،‬فل يخلق شيئا عبثا‪ ،‬ول يشرع ما‬
‫ل مصلحة فيه‪ ،‬ول يفعل إل ما هو مقتضى حكمته‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ ،‬نصر ال لرسوله صلى ال عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني‬
‫النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها‪.‬‬

‫وكان إخراجهم منها أول حشر وجلء كتبه ال عليهم على يد رسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فجلوا إلى خيبر‪ ،‬ودلت الية الكريمة أن لهم حشرا وجلء غير هذا‪ ،‬فقد وقع حين أجلهم النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم من خيبر‪ ،‬ثم عمر رضي ال عنه‪[ ،‬أخرج بقيتهم منها]‪.‬‬

‫{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ َيخْرُجُوا } من ديارهم‪ ،‬لحصانتها‪ ،‬ومنعتها‪ ،‬وعزهم فيها‪.‬‬

‫حصُو ُنهُمْ مِنَ اللّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم‪ ،‬وحسبوا أنهم ل ينالون بها‪ ،‬ول‬
‫{ وَظَنّوا أَ ّن ُهمْ مَا ِنعَ ُتهُمْ ُ‬
‫يقدر عليها أحد‪ ،‬وقدر ال تعالى وراء ذلك كله‪ ،‬ل تغني عنه الحصون والقلع‪ ،‬ول تجدي فيهم‬
‫القوة والدفاع‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬فَأَتَا ُهمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ َلمْ يَحْ َتسِبُوا } أي‪ :‬من المر والباب‪ ،‬الذي لم يخطر ببالهم أن‬
‫عبَ } وهو الخوف الشديد‪ ،‬الذي هو جند ال‬
‫يؤتوا منه‪ ،‬وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ‬
‫الكبر‪ ،‬الذي ل ينفع معه عدد ول عدة‪ ،‬ول قوة ول شدة‪ ،‬فالمر الذي يحتسبونه ويظنون أن‬
‫الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها‪ ،‬واطمأنت نفوسهم إليها‪ ،‬ومن وثق‬
‫بغير ال فهو مخذول‪ ،‬ومن ركن إلى غير ال فهو عليه وبال فأتاهم أمر سماوي نزل على‬
‫قلوبهم‪ ،‬التي هي محل الثبات والصبر‪ ،‬أو الخور والضعف‪ ،‬فأزال ال قوتها وشدتها‪ ،‬وأورثها‬
‫ضعفا وخورا وجبنا‪ ،‬ل حيلة لهم ول منعة معه فصار ذلك عونا عليهم‪ ،‬ولهذا قال‪ُ { :‬يخْرِبُونَ‬
‫بُيُو َتهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬على أن لهم ما‬
‫حملت البل‪.‬‬

‫فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم‪ ،‬التي استحسنوها‪ ،‬وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب‬
‫ديارهم وهدم حصونهم‪ ،‬فهم الذين جنوا على أنفسهم‪ ،‬وصاروا من أكبر عون عليها‪ { ،‬فَاعْتَبِرُوا‬
‫يَا أُولِي الْأَ ْبصَارِ } أي‪ :‬البصائر النافذة‪ ،‬والعقول الكاملة‪ ،‬فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع ال‬
‫تعالى في المعاندين للحق‪ ،‬المتبعين لهوائهم‪ ،‬الذين لم تنفعهم عزتهم‪ ،‬ول منعتهم قوتهم‪ ،‬ول‬
‫حصنتهم حصونهم‪ ،‬حين جاءهم أمر ال‪ ،‬ووصل إليهم النكال بذنوبهم‪ ،‬والعبرة بعموم اللفظ ل‬
‫بخصوص السبب‪ ،‬فإن هذه الية تدل على المر بالعتبار‪ ،‬وهو اعتبار النظير بنظيره‪ ،‬وقياس‬
‫الشيء على مثله‪ ،‬والتفكر فيما تضمنته الحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة‪،‬‬
‫وبذلك يزداد العقل‪ ،‬وتتنور البصيرة ويزداد اليمان‪ ،‬ويحصل الفهم الحقيقي‪ ،‬ثم أخبر تعالى أن‬
‫هؤلء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة‪ ،‬وأن ال خفف عنهم‪.‬‬

‫فلول أنه كتب عليهم الجلء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي ل يبدل ول يغير‪ ،‬لكان‬
‫لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها‪ ،‬ولكنهم ‪ -‬وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي ‪ -‬فإن لهم في‬
‫الخرة عذاب النار‪ ،‬الذي ل يمكن أن يعلم شدته إل ال تعالى‪ ،‬فل يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد‬
‫انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية‪ ،‬فما أعد ال لهم من العذاب في الخرة أعظم وأطم‪.‬‬

‫وذلك لنهم { شَاقّوا اللّ َه وَرَسُولَهُ } وعادوهما وحاربوهما‪ ،‬وسعوا في معصيتهما‪.‬‬

‫شدِيدُ ا ْلعِقَابِ }‬
‫وهذه عادته وسنته فيمن شاقه { َومَنْ ُيشَاقّ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫ولما لم بنو النضير رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين في قطع النخيل والشجار‪،‬‬
‫وزعموا أن ذلك من الفساد‪ ،‬وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين‪ ،‬أخبر تعالى أن قطع النخيل إن‬
‫سقِينَ } حيث سلطكم على‬
‫قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه‪ ،‬إنه بإذنه تعالى‪ ،‬وأمره { وَلِ ُيخْ ِزيَ ا ْلفَا ِ‬
‫قطع نخلهم‪ ،‬وتحريقها‪ ،‬ليكون ذلك نكال لهم‪ ،‬وخزيا في الدنيا‪ ،‬وذل يعرف به عجزهم التام‪ ،‬الذي‬
‫ما قدروا على استنقاذ نخلهم‪ ،‬الذي هو مادة قوتهم‪ .‬واللينة‪ :‬اسم يشمل سائر النخيل على أصح‬
‫الحتمالت وأولها‪ ،‬فهذه حال بني النضير‪ ،‬وكيف عاقبهم ال في الدنيا‪.‬‬
‫ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِ ْنهُمْ } أي‪ :‬من أهل‬
‫هذه القرية‪ ،‬وهم بنو النضير‪.‬‬

‫جفْتُمْ } أي‪ :‬ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم‪ { ،‬عَلَيْهِ مِنْ خَ ْيلٍ‬


‫{ فـ } إنكم يا معشر المسلمين { ما َأوْ َ‬
‫وَلَا ِركَابٍ } أي‪ :‬لم تتعبوا بتحصيلها‪ ،‬ل بأنفسكم ول بمواشيكم‪ ،‬بل قذف ال في قلوبهم الرعب‪،‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ }‬
‫فأتتكم صفوا عفوا‪ ،‬ولهذا‪ .‬قال‪ { :‬وََلكِنّ اللّهَ ُيسَلّطُ ُرسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫من تمام قدرته أنه ل يمتنع منه ممتنع‪ ،‬ول يتعزز من دونه قوي‪ .‬وتعريف الفيء في اصطلح‬
‫الفقهاء‪ :‬هو ما أخذ من مال الكفار بحق‪ ،‬من غير قتال‪ ،‬كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من‬
‫المسلمين‪ ،‬وسمي فيئا‪ ،‬لنه رجع من الكفار الذين هم غير مستحقين له‪ ،‬إلى المسلمين الذين لهم‬
‫الحق الوفر فيه‪.‬‬

‫وحكمه العام‪ ،‬كما ذكره ال في قوله { مَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى َرسُولِهِ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَى } عموما‪ ،‬سواء‬
‫أفاء ال في وقت رسوله أو بعده‪ ،‬لمن يتولى من بعده أمته‬

‫{ فَلِلّ ِه وَلِلرّسُولِ وَلِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ } وهذه الية نظير الية التي في‬
‫ل وَلِذِي ا ْلقُرْبَى‬
‫خمُسَ ُه وَلِلرّسُو ِ‬
‫شيْءٍ فَأَنّ ِللّهِ ُ‬
‫سورة النفال‪ ،‬في قوله‪ { :‬وَاعَْلمُوا أَ ّنمَا غَ ِنمْ ُتمْ مِنْ َ‬
‫ن وَابْنِ السّبِيلِ }‬
‫وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬

‫فهذا الفيء يقسم خمسة أقسام‪:‬‬

‫خمس ل ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [العامة]‪ ،‬وخمس لذوي القربى‪ ،‬وهم‪ :‬بنو هاشم‬
‫وبنو المطلب‪ ،‬حيث كانوا يسوى [فيه] بين‪ ،‬ذكورهم وإناثهم‪ ،‬وإنما دخل بنو المطلب في خمس‬
‫الخمس‪ ،‬مع بني هاشم‪ ،‬ولم يدخل بقية بني عبد مناف‪ ،‬لنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم‬
‫الشعب‪ ،‬حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم فنصروا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫بخلف غيرهم‪ ،‬ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في بني عبد المطلب‪" :‬إنهم لم يفارقوني في‬
‫جاهلية ول إسلم"‬

‫وخمس لفقراء اليتامى‪ ،‬وهم‪ :‬من ل أب له ولم يبلغ‪ ،‬وخمس للمساكين‪ ،‬وسهم لبناء السبيل‪ ،‬وهم‬
‫الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم‪.‬‬

‫وإنما قدر ال هذا التقدير‪ ،‬وحصر الفيء في هؤلء المعينين لـ { َكيْ لَا َيكُونَ دُولَةً } أي‪ :‬مدوالة‬
‫واختصاصا { بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِ ْنكُمْ } فإنه لو لم يقدره‪ ،‬لتداولته الغنياء القوياء‪ ،‬ولما حصل لغيرهم‬
‫من العاجزين منه شيء‪ ،‬وفي ذلك من الفساد‪ ،‬ما ل يعلمه إل ال‪ ،‬كما أن في اتباع أمر ال‬
‫وشرعه من المصالح ما ل يدخل تحت الحصر‪ ،‬ولذلك أمر ال بالقاعدة الكلية والصل العام‪،‬‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } وهذا شامل لصول الدين وفروعه‪،‬‬
‫فقال‪َ { :‬ومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫ظاهره وباطنه‪ ،‬وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الخذ به واتباعه‪ ،‬ول تحل مخالفته‪،‬‬
‫وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص ال تعالى‪ ،‬ل رخصة لحد ول عذر له في تركه‪ ،‬ول‬
‫يجوز تقديم قول أحد على قوله‪ ،‬ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والرواح [والدنيا والخرة]‪،‬‬
‫وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم‪ ،‬وبإضاعتها الشقاء البدي والعذاب السرمدي‪ ،‬فقال‪ { :‬وَا ّتقُوا‬
‫اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } على من ترك التقوى‪ ،‬وآثر اتباع الهوى‪.‬‬

‫(‪ )8‬ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الموال أموال الفيء لمن قدرها له‪،‬‬
‫وأنهم حقيقون بالعانة‪ ،‬مستحقون لن تجعل لهم‪ ،‬وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات‬
‫والمألوفات‪ ،‬من الديار والوطان والحباب والخلن والموال‪ ،‬رغبة في ال ونصرة لدين ال‪،‬‬
‫ومحبة لرسول ال‪ ،‬فهؤلء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم‪ ،‬وصدقوا إيمانهم بأعمالهم‬
‫الصالحة والعبادات الشاقة‪ ،‬بخلف من ادعى اليمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما‬
‫من العبادات‪ ،‬وبين أنصار وهم الوس والخزرج الذين آمنوا بال ورسوله طوعا ومحبة واختيارا‪،‬‬
‫وآووا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومنعوه من الحمر والسود‪ ،‬وتبوأوا دار الهجرة واليمان‬
‫حتى صارت موئل ومرجعا يرجع إليه المؤمنون‪ ،‬ويلجأ إليه المهاجرون‪ ،‬ويسكن بحماه المسلمون‬
‫إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر‪ ،‬فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى النصار‪ ،‬حتى‬
‫انتشر السلم وقوي‪ ،‬وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا‪ ،‬وينمو قليل قليل‪ ،‬حتى فتحوا القلوب بالعلم‬
‫واليمان والقرآن‪ ،‬والبلدان بالسيف والسنان‪.‬‬

‫الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { ُيحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَ ْيهِمْ } وهذا لمحبتهم ل ولرسوله‪ ،‬أحبوا‬
‫أحبابه‪ ،‬وأحبوا من نصر دينه‪.‬‬

‫جةً ِممّا أُوتُوا } أي‪ :‬ل يحسدون المهاجرين على ما آتاهم ال من‬
‫{ وَلَا َيجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَا َ‬
‫فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها‪ ،‬وهذا يدل على سلمة صدورهم‪ ،‬وانتفاء‬
‫الغل والحقد والحسد عنها‪.‬‬

‫ويدل ذلك على أن المهاجرين‪ ،‬أفضل من النصار‪ ،‬لن ال قدمهم بالذكر‪ ،‬وأخبر أن النصار ل‬
‫يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا‪ ،‬فدل على أن ال تعالى آتاهم ما لم يؤت النصار ول‬
‫غيرهم‪ ،‬ولنهم جمعوا بين النصرة والهجرة‪.‬‬

‫خصَاصَةٌ } أي‪ :‬ومن أوصاف النصار التي فاقوا‬


‫سهِ ْم وََلوْ كَانَ ِبهِمْ َ‬
‫وقوله‪ { :‬وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫بها غيرهم‪ ،‬وتميزوا بها على من سواهم‪ ،‬اليثار‪ ،‬وهو أكمل أنواع الجود‪ ،‬وهو اليثار بمحاب‬
‫النفس من الموال وغيرها‪ ،‬وبذلها للغير مع الحاجة إليها‪ ،‬بل مع الضرورة والخصاصة‪ ،‬وهذا ل‬
‫يكون إل من خلق زكي‪ ،‬ومحبة ل تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها‪ ،‬ومن ذلك قصة‬
‫النصاري الذي نزلت الية بسببه‪ ،‬حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولده وباتوا جياعا‪،‬‬
‫واليثار عكس الثرة‪ ،‬فاليثار محمود‪ ،‬والثرة مذمومة‪ ،‬لنها من خصال البخل والشح‪ ،‬ومن‬
‫رزق اليثار فقد وقي شح نفسه { َومَنْ يُوقَ شُحّ َنفْسِهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس‪،‬‬
‫يشمل وقايتها الشح‪ ،‬في جميع ما أمر به‪ ،‬فإنه إذا وقي العبد شح نفسه‪ ،‬سمحت نفسه بأوامر ال‬
‫ورسوله‪ ،‬ففعلها طائعا منقادا‪ ،‬منشرحا بها صدره‪ ،‬وسمحت نفسه بترك ما نهى ال عنه‪ ،‬وإن كان‬
‫محبوبا للنفس‪ ،‬تدعو إليه‪ ،‬وتطلع إليه‪ ،‬وسمحت نفسه ببذل الموال في سبيل ال وابتغاء مرضاته‪،‬‬
‫وبذلك يحصل الفلح والفوز‪ ،‬بخلف من لم يوق شح نفسه‪ ،‬بل ابتلي بالشح بالخير‪ ،‬الذي هو‬
‫أصل الشر ومادته‪ ،‬فهذان الصنفان‪ ،‬الفاضلن الزكيان هم الصحابة الكرام والئمة العلم‪ ،‬الذين‬
‫حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم‪ ،‬وأدركوا به من قبلهم‪ ،‬فصاروا‬
‫أعيان المؤمنين‪ ،‬وسادات المسلمين‪ ،‬وقادات المتقين‬

‫وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم‪ ،‬ويأتم بهداهم‪ ،‬ولهذا ذكر ال من اللحقين‪ ،‬من هو‬
‫مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال‪ { :‬وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َبعْدِ ِهمْ } أي‪ :‬من بعد المهاجرين والنصار‬
‫خوَانِنَا الّذِينَ سَ َبقُونَا‬
‫غفِرْ لَنَا وَلِإِ ْ‬
‫{ َيقُولُونَ } على وجه النصح لنفسهم ولسائر المؤمنين‪ { :‬رَبّنَا ا ْ‬
‫بِالْإِيمَانِ }‬

‫وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين‪ ،‬السابقين من الصحابة‪ ،‬ومن قبلهم ومن بعدهم‪ ،‬وهذا من‬
‫فضائل اليمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض‪ ،‬ويدعو بعضهم لبعض‪ ،‬بسبب المشاركة في‬
‫اليمان المقتضي لعقد الخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض‪ ،‬وأن يحب‬
‫بعضهم بعضا‪.‬‬

‫ولهذا ذكر ال في الدعاء نفي الغل عن القلب‪ ،‬الشامل لقليل الغل وكثيره الذي إذا انتفى ثبت‬
‫ضده‪ ،‬وهو المحبة بين المؤمنين والموالة والنصح‪ ،‬ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين‪.‬‬

‫فوصف ال من بعد الصحابة باليمان‪ ،‬لن قولهم‪ { :‬سَ َبقُونَا بِالْإِيمَانِ } دليل على المشاركة في‬
‫اليمان وأنهم تابعون للصحابة في عقائد اليمان وأصوله‪ ،‬وهم أهل السنة والجماعة‪ ،‬الذين ل‬
‫يصدق هذا الوصف التام إل عليهم‪ ،‬ووصفهم بالقرار بالذنوب والستغفار منها‪ ،‬واستغفار‬
‫بعضهم لبعض‪ ،‬واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لخوانهم المؤمنين‪ ،‬لن دعاءهم بذلك‬
‫مستلزم لما ذكرنا‪ ،‬ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا‪ ،‬وأن يحب أحدهم لخيه ما يحب لنفسه وأن‬
‫ينصح له حاضرا وغائبا‪ ،‬حيا وميتا‪ ،‬ودلت الية الكريمة [على] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين‬
‫بعضهم لبعض‪ ،‬ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين‪ ،‬دالين على كمال رحمة ال وشدة رأفته‬
‫وإحسانه بهم‪ ،‬الذي من جملته‪ ،‬بل من أجله‪ ،‬توفيقهم للقيام بحقوق ال وحقوق عباده‪.‬‬

‫فهؤلء الصناف الثلثة هم أصناف هذه المة‪ ،‬وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى‬
‫مصالح السلم‪.‬‬

‫وهؤلء أهله الذين هم أهله‪ ،‬جعلنا ال منهم‪ ،‬بمنه وكرمه‪.‬‬

‫ثم تعجب تعالى من حال المنافقين‪ ،‬الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب‪ ،‬في نصرتهم‪ ،‬وموالتهم‬
‫حدًا أَبَدًا } أي‪ :‬ل‬
‫على المؤمنين‪ ،‬وأنهم يقولون لهم‪ { :‬لَئِنْ أُخْ ِرجْتُمْ لَ َنخْرُجَنّ َم َعكُمْ وَلَا ُنطِيعُ فِي ُكمْ أَ َ‬
‫شهَدُ إِ ّن ُهمْ َلكَاذِبُونَ }‬
‫نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا‪ { ،‬وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَ ْنصُرَ ّنكُ ْم وَاللّهُ يَ ْ‬
‫في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم‪.‬‬

‫ول يستكثر هذا عليهم‪ ،‬فإن الكذب وصفهم‪ ،‬والغرور والخداع‪ ،‬مقارنهم‪ ،‬والنفاق والجبن يصحبهم‪،‬‬
‫ولهذا كذبهم [ال] بقوله‪ ،‬الذي وجد مخبره كما أخبر ال به‪ ،‬ووقع طبق ما قال‪ ،‬فقال‪ { :‬لَئِنْ‬
‫أُخْ ِرجُوا } من ديارهم جلء ونفيا { لَا َيخْرُجُونَ َم َعهُمْ } لمحبتهم للوطان‪ ،‬وعدم صبرهم على‬
‫القتال‪ ،‬وعدم وفائهم بوعدهم‬

‫{ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَ ْنصُرُو َنهُمْ } بل يستولي عليهم الجبن‪ ،‬ويملكهم الفشل‪ ،‬ويخذلون إخوانهم‪ ،‬أحوج‬
‫ما كانوا إليهم‪.‬‬

‫{ وَلَئِنْ َنصَرُوهُمْ } على الفرض والتقدير { لَ ُيوَلّنّ الْأَدْبَارَ ثُمّ لَا يُ ْنصَرُونَ } أي‪ :‬ليحصل منهم‬
‫الدبار عن القتال والنصرة‪ ،‬ول يحصل لهم نصر من ال‪.‬‬

‫والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم ‪ -‬أيها المؤمنون ‪َ { -‬أشَدّ َرهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ } فخافوا‬
‫منكم أعظم مما يخافون ال‪ ،‬وقدموا مخافة المخلوق الذي ل يملك لنفسه ول لغيره نفعا ول ضرا‪،‬‬
‫على مخافة الخالق‪ ،‬الذي بيده الضر والنفع‪ ،‬والعطاء والمنع‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ } مراتب المور‪ ،‬ول يعرفون حقائق الشياء‪ ،‬ول يتصورون العواقب‪،‬‬
‫وإنما الفقه كل الفقه‪ ،‬أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها‪ ،‬وغيرها تبعا لها‪.‬‬

‫جدُرٍ }‬
‫ن وَرَاءِ ُ‬
‫حصّنَةٍ َأوْ مِ ْ‬
‫جمِيعًا } أي‪ :‬في حال الجتماع { إِلّا فِي قُرًى ُم َ‬
‫{ ‪ { } 14‬لَا ُيقَاتِلُونَكُمْ َ‬
‫أي‪ :‬ل يثبتون لقتالكم ول يعزمون عليه‪ ،‬إل إذا كانوا متحصنين في القرى‪ ،‬أو من وراء الجدر‬
‫والسوار‪.‬‬

‫فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع‪ ،‬اعتمادا [على] حصونهم وجدرهم‪ ،‬ل شجاعة بأنفسهم‪،‬‬
‫سهُمْ بَيْ َنهُمْ شَدِيدٌ } أي‪ :‬بأسهم فيما بينهم شديد‪ ،‬ل آفة في أبدانهم ول في‬
‫وهذا من أعظم الذم‪ { ،‬بَ ْأ ُ‬
‫جمِيعًا } حين‬
‫قوتهم‪ ،‬وإنما الفة في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬تحْسَ ُبهُمْ َ‬
‫تراهم مجتمعين ومتظاهرين‪.‬‬

‫{ و } لكن { قلوبهم شَتّى } أي‪ :‬متباغضة متفرقة متشتتة‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر { بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيعْقِلُونَ } أي‪ :‬ل عقل عندهم‪ ،‬ول لب‪،‬‬
‫فإنهم لو كانت لهم عقول‪ ،‬لثروا الفاضل على المفضول‪ ،‬ولما رضوا لنفسهم بأبخس الخطتين‪،‬‬
‫ولكانت كلمتهم مجتمعة‪ ،‬وقلوبهم مؤتلفة‪ ،‬فبذلك يتناصرون ويتعاضدون‪ ،‬ويتعاونون على‬
‫مصالحهم ومنافعهم الدينية والدنيوية‪.‬‬

‫مثل هؤلء المخذولين من أهل الكتاب‪ ،‬الذين انتصر ال لرسوله منهم‪ ،‬وأذاقهم الخزي في الحياة‬
‫الدنيا‪.‬‬

‫وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة { َكمَ َثلِ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ قَرِيبًا } وهم كفار قريش الذين زين لهم‬
‫س وَإِنّي جَارٌ َلكُمْ فََلمّا تَرَا َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ‬
‫الشيطان أعمالهم‪ ،‬وقال‪ { :‬لَا غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّا ِ‬
‫عقِبَيْهِ [ َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَ َروْنَ] } الية‪.‬‬
‫عَلَى َ‬

‫فغرتهم أنفسهم‪ ،‬وغرهم من غرهم‪ ،‬الذين لم ينفعوهم‪ ،‬ولم يدفعوا عنهم العذاب‪ ،‬حتى أتوا "بدرا"‬
‫بفخرهم وخيلئهم‪ ،‬ظانين أنهم مدركون برسول ال والمؤمنين أمانيهم‪.‬‬

‫فنصر ال رسوله والمؤمنين عليهم‪ ،‬فقتلوا كبارهم وصناديدهم‪ ،‬وأسروا من أسروا منهم‪ ،‬وفر من‬
‫فر‪ ،‬وذاقوا بذلك وبال أمرهم وعاقبة شركهم وبغيهم‪ ،‬هذا في الدنيا‪ { ،‬وََلهُمْ } في الخرة عذاب‬
‫النار‪.‬‬

‫ومثل هؤلء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب { َكمَ َثلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ }‬
‫أي‪ :‬زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه‪ ،‬فلما اغتر به وكفر‪ ،‬وحصل له الشقاء‪ ،‬لم ينفعه الشيطان‪،‬‬
‫الذي توله ودعاه إلى ما دعاه إليه‪ ،‬بل تبرأ منه و { قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك‪ ،‬ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير‪.‬‬
‫{ َفكَانَ عَاقِبَ َت ُهمَا } أي‪ :‬الداعي الذي هو الشيطان‪ ،‬والمدعو الذي هو النسان حين أطاعه { أَ ّن ُهمَا‬
‫سعِيرِ } { وَذَِلكَ‬
‫فِي النّارِ خَاِلدَيْنِ فِيهَا } كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ‬
‫جَزَاءُ الظّاِلمِينَ } الذين اشتركوا في الظلم والكفر‪ ،‬وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته‪ ،‬وهذا دأب‬
‫الشيطان مع كل أوليائه‪ ،‬فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور‪ ،‬حتى إذا وقعوا في الشباك‪،‬‬
‫وحاقت بهم أسباب الهلك‪ ،‬تبرأ منهم وتخلى عنهم‪.‬‬

‫واللوم كل اللوم على من أطاعه‪ ،‬فإن ال قد حذر منه وأنذر‪ ،‬وأخبر بمقاصده وغايته ونهايته‪،‬‬
‫فالمقدم على طاعته‪ ،‬عاص على بصيرة ل عذر له‪.‬‬

‫{ ‪ { } 18-21‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَلْتَ ْنظُرْ َنفْسٌ مَا قَ ّد َمتْ ِلغَ ٍد وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ‬
‫س ُهمْ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَاسِقُونَ * لَا يَسْ َتوِي‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ * وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ َنسُوا اللّهَ فَأَ ْنسَاهُمْ أَ ْنفُ َ‬
‫علَى جَ َبلٍ لَرَأَيْتَهُ‬
‫صحَابُ الْجَنّةِ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ * َلوْ أَنْزَلْنَا هَذَا ا ْلقُرْآنَ َ‬
‫َأصْحَابُ النّا ِر وََأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأ ْ‬
‫خشْيَةِ اللّ ِه وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }‬
‫شعًا مُ َتصَدّعًا مِنْ َ‬
‫خَا ِ‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه اليمان ويقتضيه من لزوم تقواه‪ ،‬سرا وعلنية‪ ،‬في جميع‬
‫الحوال‪ ،‬وأن يراعوا ما أمرهم ال به من أوامره وشرائعه وحدوده‪ ،‬وينظروا ما لهم وما عليهم‪،‬‬
‫وماذا حصلوا عليه من العمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة‪ ،‬فإنهم إذا جعلوا الخرة‬
‫نصب أعينهم وقبلة قلوبهم‪ ،‬واهتموا بالمقام بها‪ ،‬اجتهدوا في كثرة العمال الموصلة إليها‪،‬‬
‫وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم‪ ،‬وإذا علموا أيضا‪،‬‬
‫أن ال خبير بما يعملون‪ ،‬ل تخفى عليه أعمالهم‪ ،‬ول تضيع لديه ول يهملها‪ ،‬أوجب لهم الجد‬
‫والجتهاد‪.‬‬

‫وهذه الية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه‪ ،‬وأنه ينبغي له أن يتفقدها‪ ،‬فإن رأى زلل تداركه‬
‫بالقلع عنه‪ ،‬والتوبة النصوح‪ ،‬والعراض عن السباب الموصلة إليه‪ ،‬وإن رأى نفسه مقصرا‬
‫في أمر من أوامر ال‪ ،‬بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه‪ ،‬وإتقانه‪ ،‬ويقايس بين منن ال‬
‫عليه وإحسانه وبين تقصيره‪ ،‬فإن ذلك يوجب له الحياء بل محالة‪.‬‬

‫والحرمان كل الحرمان‪ ،‬أن يغفل العبد عن هذا المر‪ ،‬ويشابه قوما نسوا ال وغفلوا عن ذكره‬
‫والقيام بحقه‪ ،‬وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها‪ ،‬فلم ينجحوا‪ ،‬ولم يحصلوا على طائل‪ ،‬بل‬
‫أنساهم ال مصالح أنفسهم‪ ،‬وأغفلهم عن منافعها وفوائدها‪ ،‬فصار أمرهم فرطا‪ ،‬فرجعوا بخسارة‬
‫الدارين‪ ،‬وغبنوا غبنا‪ ،‬ل يمكنهم تداركه‪ ،‬ول يجبر كسره‪ ،‬لنهم هم الفاسقون‪ ،‬الذين خرجوا عن‬
‫طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه‪ ،‬فهل يستوي من حافظ على تقوى ال ونظر لما قدم لغده‪،‬‬
‫فاستحق جنات النعيم‪ ،‬والعيش السليم ‪ -‬مع الذين أنعم ال عليهم من النبيين والصديقين والشهداء‬
‫والصالحين ‪ -‬ومن غفل عن ذكر ال‪ ،‬ونسي حقوقه‪ ،‬فشقي في الدنيا‪ ،‬واستحق العذاب في‬
‫الخرة‪ ،‬فالولون هم الفائزون‪ ،‬والخرون هم الخاسرون‪.‬‬

‫ولما بين تعالى لعباده ما بين‪ ،‬وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز‪ ،‬كان هذا موجبا لن يبادروا إلى‬
‫ما دعاهم إليه وحثهم عليه‪ ،‬ولو كانوا في القسوة وصلبة القلوب كالجبال الرواسي‪ ،‬فإن هذا‬
‫القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية ال أي‪ :‬لكمال تأثيره في القلوب‪ ،‬فإن‬
‫مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الطلق‪ ،‬وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح‬
‫المقرونة بها‪ ،‬وهي من أسهل شيء على النفوس‪ ،‬وأيسرها على البدان‪ ،‬خالية من التكلف ل‬
‫تناقض فيها ول اختلف‪ ،‬ول صعوبة فيها ول اعتساف‪ ،‬تصلح لكل زمان ومكان‪ ،‬وتليق لكل‬
‫أحد‪.‬‬

‫ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس المثال‪ ،‬ويوضح لعباده في كتابه الحلل والحرام‪ ،‬لجل أن‬
‫يتفكروا في آياته ويتدبروها‪ ،‬فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم‪ ،‬ويبين له طرق الخير والشر‪،‬‬
‫ويحثه على مكارم الخلق‪ ،‬ومحاسن الشيم‪ ،‬ويزجره عن مساوئ الخلق‪ ،‬فل أنفع للعبد من‬
‫التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه‪.‬‬

‫حمَنُ الرّحِيمُ * ُهوَ اللّهُ‬


‫شهَا َدةِ ُهوَ الرّ ْ‬
‫{ ‪ُ { } 22-24‬هوَ اللّهُ الّذِي لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫عمّا‬
‫الّذِي لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ا ْلمَِلكُ ا ْلقُدّوسُ السّلَامُ ا ْل ُم ْؤمِنُ ا ْل ُمهَ ْيمِنُ ا ْلعَزِيزُ الْجَبّارُ ا ْلمُ َتكَبّرُ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سمَاءُ ا ْلحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي ال ّ‬
‫صوّرُ لَهُ الْأَ ْ‬
‫يُشْ ِركُونَ * ُهوَ اللّهُ الْخَاِلقُ الْبَا ِرئُ ا ْل ُم َ‬
‫حكِيمُ }‬
‫وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬

‫هذه اليات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء ال الحسنى وأوصافه العلى‪ ،‬عظيمة الشأن‪،‬‬
‫وبديعة البرهان‪ ،‬فأخبر أنه ال المألوه المعبود‪ ،‬الذي ل إله إل هو‪ ،‬وذلك لكماله العظيم‪ ،‬وإحسانه‬
‫الشامل‪ ،‬وتدبيره العام‪ ،‬وكل إله سواه فإنه باطل ل يستحق من العبادة مثقال ذرة‪ ،‬لنه فقير‬
‫عاجز ناقص‪ ،‬ل يملك لنفسه ول لغيره شيئا‪ ،‬ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل‪ ،‬لما غاب عن‬
‫الخلق وما يشاهدونه‪ ،‬وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ووصلت إلى كل حي‪.‬‬

‫ثم كرر [ذكر] عموم إلهيته وانفراده بها‪ ،‬وأنه المالك لجميع الممالك‪ ،‬فالعالم العلوي والسفلي‬
‫وأهله‪ ،‬الجميع‪ ،‬مماليك ل‪ ،‬فقراء مدبرون‪.‬‬

‫{ ا ْلقُدّوسُ السّلَامُ } أي‪ :‬المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص‪ ،‬المعظم الممجد‪ ،‬لن القدوس يدل‬
‫على التنزيه عن كل نقص‪ ،‬والتعظيم ل في أوصافه وجلله‪.‬‬
‫{ ا ْل ُم ْؤمِنُ } أي‪ :‬المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به‪ ،‬باليات البينات‪ ،‬والبراهين القاطعات‪،‬‬
‫والحجج الواضحات‪.‬‬

‫{ ا ْلعَزِيزُ } الذي ل يغالب ول يمانع‪ ،‬بل قد قهر كل شيء‪ ،‬وخضع له كل شيء‪ { ،‬ا ْلجَبّارُ } الذي‬
‫قهر جميع العباد‪ ،‬وأذعن له سائر الخلق‪ ،‬الذي يجبر الكسير‪ ،‬ويغني الفقير‪ { ،‬ا ْلمُ َتكَبّرُ } الذي له‬
‫الكبرياء والعظمة‪ ،‬المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور‪.‬‬

‫عمّا يُشْ ِركُونَ } وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به وعانده‪.‬‬


‫{ سُبْحَانَ اللّهِ َ‬

‫صوّرُ } للمصورات‪ ،‬وهذه‬


‫{ ُهوَ اللّهُ ا ْلخَالِقُ } لجميع المخلوقات { الْبَا ِرئُ } للمبروءات { ا ْل ُم َ‬
‫السماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير‪ ،‬وأن ذلك كله قد انفرد ال به‪ ،‬لم يشاركه فيه مشارك‪.‬‬

‫حسْنَى } أي‪ :‬له السماء الكثيرة جدا‪ ،‬التي ل يحصيها ول يعلمها أحد إل ال هو‪،‬‬
‫سمَاءُ الْ ُ‬
‫{ َلهُ الْأَ ْ‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فكلها حسنى أي‪ :‬صفات كمال‪ ،‬بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها‪ ،‬ل نقص في‬
‫شيء منها بوجه من الوجوه‪ ،‬ومن حسنها أن ال يحبها‪ ،‬ويحب من يحبها‪ ،‬ويحب من عباده أن‬
‫يدعوه ويسألوه بها‪.‬‬

‫ومن كماله‪ ،‬وأن له السماء الحسنى‪ ،‬والصفات العليا‪ ،‬أن جميع من في السماوات والرض‬
‫مفتقرون إليه على الدوام‪ ،‬يسبحون بحمده‪ ،‬ويسألونه حوائجهم‪ ،‬فيعطيهم من فضله وكرمه ما‬
‫حكِيمُ } الذي ل يريد شيئا إل ويكون‪ ،‬ول يكون شيئا إل‬
‫تقتضيه رحمته وحكمته‪ { ،‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫لحكمة ومصلحة‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحشر‪،‬‬

‫فلله الحمد على ذلك‪،‬‬

‫والمنة والحسان‪.‬‬

‫تفسير سورة الممتحنة‬


‫[وهي] مدنية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ ُت ْلقُونَ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-9‬بِ ْ‬
‫إِلَ ْيهِمْ بِا ْل َموَ ّد ِة َوقَدْ كَفَرُوا ِبمَا جَا َءكُمْ مِنَ ا ْلحَقّ ُيخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَنْ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ رَ ّبكُمْ إِنْ‬
‫خفَيْتُ ْم َومَا‬
‫جهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِي تُسِرّونَ إِلَ ْي ِهمْ بِا ْل َموَ ّد ِة وَأَنَا أَعْلَمُ ِبمَا أَ ْ‬
‫كُنْتُمْ خَرَجْ ُتمْ ِ‬
‫سطُوا إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ‬
‫عدَا ًء وَيَبْ ُ‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ * إِنْ يَ ْث َقفُوكُمْ َيكُونُوا َلكُمْ أَ ْ‬
‫ضلّ َ‬
‫أَعْلَنْتُ ْم َومَنْ َي ْفعَلْهُ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ‬
‫صلُ بَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ‬
‫وَأَلْسِنَ َتهُمْ بِالسّو ِء َووَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ * لَنْ تَ ْن َف َعكُمْ أَرْحَا ُمكُمْ وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْف ِ‬
‫س َوةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِي َم وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا ِل َق ْو ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * َقدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ‬
‫مِ ْنكُ ْم َو ِممّا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا ِبكُ ْم وَ َبدَا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا حَتّى ُت ْؤمِنُوا‬
‫علَ ْيكَ َت َوكّلْنَا‬
‫شيْءٍ رَبّنَا َ‬
‫ك َومَا َأمِْلكُ َلكَ مِنَ اللّهِ مِنْ َ‬
‫بِاللّ ِه َوحْ َدهُ إِلّا َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لََأسْ َت ْغفِرَنّ َل َ‬
‫غفِرْ لَنَا رَبّنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ‬
‫جعَلْنَا فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا وَا ْ‬
‫وَإِلَ ْيكَ أَنَبْنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ * رَبّنَا لَا َت ْ‬
‫حسَنَةٌ ِلمَنْ كَانَ يَ ْرجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الْآخِ َر َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ‬
‫س َوةٌ َ‬
‫حكِيمُ *َلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي ِهمْ أُ ْ‬
‫الْ َ‬
‫غفُورٌ‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْ ُتمْ مِ ْنهُمْ َموَ ّد ًة وَاللّهُ قَدِي ٌر وَاللّهُ َ‬
‫حمِيدُ * عَسَى اللّهُ أَنْ يَ ْ‬
‫ا ْلغَ ِنيّ الْ َ‬
‫ن وَلَمْ ُيخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ أَنْ تَبَرّو ُهمْ‬
‫رَحِيمٌ * لَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ َلمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫ن وَأَخْرَجُوكُمْ‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ * إِ ّنمَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫سطُوا إِلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫وَتُقْ ِ‬
‫جكُمْ أَنْ َتوَلّوْ ُه ْم َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }‬
‫مِنْ دِيَا ِركُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَا ِ‬

‫ذكر كثير من المفسرين‪[ ،‬رحمهم ال]‪ ،‬أن سبب نزول هذه اليات الكريمات في قصة حاطب بن‬
‫أبي بلتعة‪ ،‬حين غزا النبي صلى ال عليه وسلم غزوة الفتح‪ ،‬فكتب حاطب إلى قريش يخبرهم‬
‫بمسير رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬ليتخذ بذلك يدا عندهم ل [شكا و] نفاقا‪ ،‬وأرسله مع‬
‫امرأة‪ ،‬فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم بشأنه‪ ،‬فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب‪.‬‬

‫وعاتب حاطبا‪ ،‬فاعتذر رضي ال عنه بعذر قبله النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذه اليات فيها‬
‫النهي الشديد عن موالة الكفار من المشركين وغيرهم‪ ،‬وإلقاء المودة إليهم‪ ،‬وأن ذلك مناف‬
‫لليمان‪ ،‬ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلة والسلم‪ ،‬ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر‬
‫كل الحذر من العدو‪ ،‬الذي ل يبقي من مجهوده في العداوة شيئا‪ ،‬وينتهز الفرصة في إيصال‬
‫الضرر إلى عدوه‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم‪ ،‬من ولية من قام‬
‫باليمان‪ ،‬ومعاداة من عاداه‪ ،‬فإنه عدو ل‪ ،‬وعدو للمؤمنين‪.‬‬

‫فل تتخذوا عدو ال { وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ تُ ْلقُونَ إِلَ ْي ِهمْ بِا ْل َموَ ّدةِ } أي‪ :‬تسارعون في مودتهم وفي السعي‬
‫بأسبابها‪ ،‬فإن المودة إذا حصلت‪ ،‬تبعتها النصرة والموالة‪ ،‬فخرج العبد من اليمان‪ ،‬وصار من‬
‫جملة أهل الكفران‪ ،‬وانفصل عن أهل اليمان‪.‬‬

‫وهذا المتخذ للكافر وليا‪ ،‬عادم المروءة أيضا‪ ،‬فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي ل يريد له إل‬
‫الشر‪ ،‬ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير‪ ،‬ويأمره به‪ ،‬ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضا‬
‫إلى معاداة الكفار‪ ،‬أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق‪ ،‬ول أعظم من هذه المخالفة‬
‫والمشاقة‪ ،‬فإنهم قد كفروا بأصل دينكم‪ ،‬وزعموا أنكم ضلل على غير هدى‪.‬‬

‫والحال أنهم كفروا بالحق الذي ل شك فيه ول مرية‪ ،‬ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو‬
‫حجة تدل على صحة قوله‪ ،‬بل مجرد العلم بالحق يدل على بطلن قول من رده وفساده‪.‬‬

‫ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْ ِرجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم‪ ،‬ويشردونكم من‬
‫أوطانكم‪ ،‬ول ذنب لكم في ذلك عندهم‪ ،‬إل أنكم تؤمنون بال ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم‬
‫القيام بعبوديته‪ ،‬لنه رباهم‪ ،‬وأنعم عليهم‪ ،‬بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬وهو ال تعالى‪.‬‬

‫فلما أعرضوا عن هذا المر‪ ،‬الذي هو أوجب الواجبات‪ ،‬وقمتم به‪ ،‬عادوكم‪ ،‬وأخرجوكم ‪ -‬من‬
‫أجله ‪ -‬من دياركم‪ ،‬فأي دين‪ ،‬وأي مروءة وعقل‪ ،‬يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم‬
‫في كل زمان أو مكان؟" ول يمنعهم منه إل خوف‪ ،‬أو مانع قوي‪.‬‬

‫جهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِي } أي‪ :‬إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد‬
‫{ إِنْ كُنْتُمْ خَ َرجْتُمْ ِ‬
‫في سبيل ال‪ ،‬لعلء كلمة ال‪ ،‬وابتغاء مرضاة ال فاعملوا بمقتضى هذا‪ ،‬من موالة أولياء ال‬
‫ومعاداة أعدائه‪ ،‬فإن هذا هو الجهاد في سبيله وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم‬
‫ويبتغون به رضاه‪.‬‬

‫خفَيْتُ ْم َومَا أَعْلَنْ ُتمْ } أي‪ :‬كيف تسرون المودة للكافرين‬


‫{ ُتسِرّونَ إِلَ ْيهِمْ بِا ْل َموَ ّد ِة وَأَنَا أَعَْلمُ ِبمَا أَ ْ‬
‫وتخفونها‪ ،‬مع علمكم أن ال عالم بما تخفون وما تعلنون؟!‪ ،‬فهو وإن خفي على المؤمنين‪ ،‬فل‬
‫يخفى على ال تعالى‪ ،‬وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر‪َ { ،‬ومَنْ َي ْفعَلْهُ مِ ْنكُمْ } أي‪:‬‬
‫سوَاءَ السّبِيلِ } لنه سلك مسلكا مخالفا للشرع‬
‫ضلّ َ‬
‫موالة الكافرين بعد ما حذركم ال منها { َفقَ ْد َ‬
‫وللعقل والمروءة النسانية‪.‬‬

‫ثم بين تعالى شدة عداوتهم‪ ،‬تهييجا للمؤمنين على عداوتهم‪ { ،‬إِنْ يَ ْثقَفُوكُمْ } أي‪ :‬يجدوكم‪ ،‬وتسنح‬
‫سطُوا إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ } بالقتل والضرب‪،‬‬
‫عدَاءً } ظاهرين { وَيَبْ ُ‬
‫لهم الفرصة في أذاكم‪َ { ،‬يكُونُوا َلكُمْ أَ ْ‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬

‫{ وَأَلْسِنَ َت ُهمْ بِالسّوءِ } أي‪ :‬بالقول الذي يسوء‪ ،‬من شتم وغيره‪َ { ،‬ووَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ } فإن هذا غاية‬
‫ما يريدون منكم‪.‬‬

‫فإن احتججتم وقلتم‪ :‬نوالي الكفار لجل القرابة والموال‪ ،‬فلن تغني عنكم أموالكم ول أولدكم من‬
‫ال شيئا‪ { .‬وال بما تعملون بصير } فلذلك حذركم من موالة الكافرين الذين تضركم موالتهم‪.‬‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ } أي‪ :‬قدوة صالحة وائتمام ينفعكم‪ { ،‬فِي إِبْرَاهِيمَ‬
‫قد كان لكم يا معشر المؤمنين { ُأ ْ‬
‫وَالّذِينَ َمعَهُ } من المؤمنين‪ ،‬لنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا‪ِ { ،‬إذْ قَالُوا ِل َقوْ ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ‬
‫مِ ْنكُ ْم َو ِممّا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } أي‪ :‬إذ تبرأ إبراهيم عليه السلم ومن معه من المؤمنين‪ ،‬من‬
‫قومهم المشركين ومما يعبدون من دون ال‪.‬‬

‫ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬كفَرْنَا ِبكُ ْم وَبَدَا } أي‪ :‬ظهر وبان { بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ‬
‫ا ْلعَدَا َو ُة وَالْ َب ْغضَاءُ } أي‪ :‬البغض بالقلوب‪ ،‬وزوال مودتها‪ ،‬والعداوة بالبدان‪ ،‬وليس لتلك العداوة‬
‫والبغضاء وقت ول حد‪ ،‬بل ذلك { أَ َبدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ‬
‫وَحْ َدهُ } أي‪ :‬فإذا آمنتم بال وحده‪ ،‬زالت العداوة والبغضاء‪ ،‬وانقلبت مودة وولية‪ ،‬فلكم أيها‬
‫المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام باليمان والتوحيد‪ ،‬والقيام بلوازم ذلك‬
‫ومقتضياته‪ ،‬وفي كل شيء تعبدوا به ل وحده‪ { ،‬إِلّا } في خصلة واحدة وهي { َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ‬
‫لِأَبِيهِ } آزر المشرك‪ ،‬الكافر‪ ،‬المعاند‪ ،‬حين دعاه إلى اليمان والتوحيد‪ ،‬فامتنع‪ ،‬فقال إبراهيم ‪:‬‬
‫شيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن ل‬
‫{ لََأسْ َت ْغفِرَنّ َلكَ و } الحال أني ل { َأمِْلكُ َلكَ مِنَ اللّهِ مِنْ َ‬
‫أكون بدعاء ربي شقيا‪ ،‬فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك‪ ،‬فليس‬
‫لكم أن تدعوا للمشركين‪ ،‬وتقولوا‪ :‬إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم‪ ،‬فإن ال ذكر عذر إبراهيم في‬
‫ذلك بقوله‪َ { :‬ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّا عَنْ َموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ لِلّهِ‬
‫تَبَرّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لواه حليم }‬

‫ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه‪ ،‬حين دعوا ال وتوكلوا عليه وأنابوا إليه‪ ،‬واعترفوا بالعجز‬
‫والتقصير‪ ،‬فقالوا‪ { :‬رَبّنَا عَلَ ْيكَ َت َوكّلْنَا } أي‪ :‬اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا‪،‬‬
‫ووثقنا بك يا ربنا في ذلك‪.‬‬

‫{ وَإِلَ ْيكَ أَنَبْنَا } أي‪ :‬رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك‪ ،‬فنحن في ذلك ساعون‪،‬‬
‫وبفعل الخيرات مجتهدون‪ ،‬ونعلم أنا إليك نصير‪ ،‬فسنستعد للقدوم عليك‪ ،‬ونعمل ما يقربنا الزلفى‬
‫إليك‬

‫جعَلْنَا فِتْ َنةً لِلّذِينَ َكفَرُوا } أي‪ :‬ل تسلطهم علينا بذنوبنا‪ ،‬فيفتنونا‪ ،‬ويمنعونا مما يقدرون‬
‫{ رَبّنَا لَا تَ ْ‬
‫عليه من أمور اليمان‪ ،‬ويفتنون أيضا بأنفسهم‪ ،‬فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة‪ ،‬ظنوا أنهم على الحق‬
‫غفِرْ لَنَا } ما اقترفنا من الذنوب والسيئات‪ ،‬وما‬
‫وأنا على الباطل‪ ،‬فازدادوا كفرا وطغيانا‪ { ،‬وَا ْ‬
‫حكِيمُ } الذي يضع‬
‫قصرنا به من المأمورات‪ { ،‬رَبّنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ } القاهر لكل شيء‪ { ،‬الْ َ‬
‫الشياء مواضعها‪ ،‬فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا‪ ،‬واغفر لنا ذنوبنا‪ ،‬وأصلح عيوبنا‪.‬‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ } وليس كل أحد تسهل‬
‫ثم كرر الحث [لهم] على القتداء بهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِيهِمْ ُأ ْ‬
‫عليه هذه السوة‪ ،‬وإنما تسهل على من { كَانَ يَرْجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الْآخِرَ } فإن اليمان واحتساب‬
‫الجر والثواب‪ ،‬يسهل على العبد كل عسير‪ ،‬ويقلل لديه كل كثير‪ ،‬ويوجب له الكثار من القتداء‬
‫بعباد ال الصالحين‪ ،‬والنبياء والمرسلين‪ ،‬فإنه يرى نفسه مفتقرا ومضطرا إلى ذلك غاية‬
‫الضطرار‪.‬‬

‫{ َومَنْ يَ َت َولّ } عن طاعة ال والتأسي برسل ال‪ ،‬فلن يضر إل نفسه‪ ،‬ول يضر ال شيئا‪ { ،‬فَإِنّ‬
‫اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ } الذي له الغنى التام [المطلق] من جميع الوجوه‪ ،‬فل يحتاج إلى أحد من خلقه‬
‫حمِيدُ } في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬فإنه محمود على ذلك كله‪.‬‬
‫[بوجه]‪ { ،‬ا ْل َ‬

‫ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر بها المؤمنين للمشركين‪ ،‬ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا‬
‫على شركهم وكفرهم‪ ،‬وأنهم إن انتقلوا إلى اليمان‪ ،‬فإن الحكم يدور مع علته‪ ،‬فإن المودة‬
‫ج َعلَ‬
‫اليمانية ترجع‪ ،‬فل تيأسوا أيها المؤمنون‪ ،‬من رجوعهم إلى اليمان‪ ،‬فـ { عَسَى اللّهُ أَنْ يَ ْ‬
‫بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْ ُتمْ مِ ْنهُمْ َموَ ّدةً } سببها رجوعهم إلى اليمان‪ { ،‬وَاللّهُ قَدِيرٌ } على كل شيء‪،‬‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ } ل يتعاظمه ذنب أن‬
‫ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال‪ { ،‬وَاللّهُ َ‬
‫سهِمْ لَا َتقْنَطُوا مِنْ‬
‫يغفره‪ ،‬ول يكبر عليه عيب أن يستره‪ُ { ،‬قلْ يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫جمِيعًا إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } وفي هذه الية إشارة وبشارة إلى‬
‫حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ‬
‫رَ ْ‬
‫إسلم بعض المشركين‪ ،‬الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين‪ ،‬وقد وقع ذلك‪ ،‬ول الحمد والمنة‪.‬‬

‫ولما نزلت هذه اليات الكريمات‪ ،‬المهيجة على عداوة الكافرين‪ ،‬وقعت من المؤمنين كل موقع‪،‬‬
‫وقاموا بها أتم القيام‪ ،‬وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين‪ ،‬وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى‬
‫ال عنه‪.‬‬

‫ن وَلَمْ‬
‫فأخبرهم ال أن ذلك ل يدخل في المحرم فقال‪ { :‬لَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ‬
‫سطِينَ } أي‪ :‬ل ينهاكم ال عن‬
‫حبّ ا ْل ُمقْ ِ‬
‫يُخْ ِرجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ أَنْ تَبَرّوهُ ْم وَ ُتقْسِطُوا إِلَ ْي ِهمْ إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫البر والصلة‪ ،‬والمكافأة بالمعروف‪ ،‬والقسط للمشركين‪ ،‬من أقاربكم وغيرهم‪ ،‬حيث كانوا بحال لم‬
‫ينتصبوا لقتالكم في الدين والخراج من دياركم‪ ،‬فليس عليكم جناح أن تصلوهم‪ ،‬فإن صلتهم في‬
‫هذه الحالة‪ ،‬ل محذور فيها ول مفسدة كما قال تعالى عن البوين المشركين إذا كان ولدهما‬
‫ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا‬
‫مسلما‪ { :‬وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا ُت ِ‬
‫َمعْرُوفًا }‬

‫[وقوله‪ { ]:‬إِ ّنمَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ } أي‪ :‬لجل دينكم‪ ،‬عداوة لدين ال ولمن‬
‫جكُمْ } نهاكم ال { أَنْ‬
‫قام به‪ { ،‬وََأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُ ْم وَظَاهَرُوا } أي‪ :‬عاونوا غيرهم { عَلَى إِخْرَا ِ‬
‫َتوَّلوْهُمْ } بالمودة والنصرة‪ ،‬بالقول والفعل‪ ،‬وأما بركم وإحسانكم‪ ،‬الذي ليس بتول للمشركين‪ ،‬فلم‬
‫ينهكم ال عنه‪ ،‬بل ذلك داخل في عموم المر بالحسان إلى القارب وغيرهم من الدميين‪،‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬

‫{ َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ } وذلك الظلم يكون بحسب التولي‪ ،‬فإن كان توليا تاما‪ ،‬صار‬
‫ذلك كفرا مخرجا عن دائرة السلم‪ ،‬وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ‪ ،‬وما هو دون ذلك‪.‬‬

‫{ ‪ { } 10-11‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ ُمهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَا ِنهِنّ‬
‫ن وَآتُوهُمْ مَا‬
‫حلّ َلهُ ْم وَلَا هُمْ َيحِلّونَ َلهُ ّ‬
‫جعُوهُنّ ِإلَى ا ْل ُكفّارِ لَا هُنّ ِ‬
‫فَإِنْ عَِلمْ ُتمُوهُنّ ُمؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْ ِ‬
‫سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِ ِر وَاسْأَلُوا مَا‬
‫ن وَلَا ُتمْ ِ‬
‫أَ ْنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ أَنْ تَ ْنكِحُوهُنّ إِذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُ ّ‬
‫جكُمْ‬
‫شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫حكِيمٌ * وَإِنْ فَا َت ُكمْ َ‬
‫حكُمُ بَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫حكْمُ اللّهِ َي ْ‬
‫أَ ْنفَقْتُ ْم وَلْيَسَْألُوا مَا أَ ْنفَقُوا ذَِلكُمْ ُ‬
‫جهُمْ مِ ْثلَ مَا أَ ْن َفقُوا وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ }‬
‫إِلَى ا ْل ُكفّارِ َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ أَ ْزوَا ُ‬

‫لما كان صلح الحديبية‪ ،‬صالح النبي صلى ال عليه وسلم المشركين‪ ،‬على أن من جاء منهم إلى‬
‫المسلمين مسلما‪ ،‬أنه يرد إلى المشركين‪ ،‬وكان هذا لفظا عاما‪[ ،‬مطلقا] يدخل في عمومه النساء‬
‫والرجال‪ ،‬فأما الرجال فإن ال لم ينه رسوله عن ردهم‪ ،‬إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما‬
‫للصلح الذي هو من أكبر المصالح‪ ،‬وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة‪ ،‬أمر ال‬
‫المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات‪ ،‬وشكوا في صدق إيمانهن‪ ،‬أن يمتحنوهن ويختبروهن‪،‬‬
‫بما يظهر به صدقهن‪ ،‬من أيمان مغلظة وغيرها‪ ،‬فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل‬
‫رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية‪.‬‬

‫فإن كن بهذا الوصف‪ ،‬تعين ردهن وفاء بالشرط‪ ،‬من غير حصول مفسدة‪ ،‬وإن امتحنوهن‪ ،‬فوجدن‬
‫حلّ َلهُ ْم وَلَا‬
‫صادقات‪ ،‬أو علموا ذلك منهن من غير امتحان‪ ،‬فل يرجعوهن إلى الكفار‪ { ،‬لَا هُنّ ِ‬
‫هُمْ يَحِلّونَ َلهُنّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع‪ ،‬وراعى أيضا الوفاء بالشرط‪ ،‬بأن‬
‫يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن‪ ،‬ول جناح حينئذ على‬
‫المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك‪ ،‬ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من‬
‫المهر والنفقة‪ ،‬وكما أن المسلمة ل تحل للكافر‪ ،‬فكذلك الكافرة ل تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت‬
‫سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } وإذا نهى عن‬
‫على كفرها‪ ،‬غير أهل الكتاب‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وَلَا ُتمْ ِ‬
‫المساك بعصمتها فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى‪ { ،‬وَاسْأَلُوا مَا أَ ْنفَقْتُمْ } أيها المؤمنون‪ ،‬حين‬
‫ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار‪ ،‬فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من‬
‫نسائهم‪ ،‬استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم إلى الكفار‪ ،‬وفي هذا دليل على‬
‫أن خروج البضع من الزوج متقوم‪ ،‬فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل‪ ،‬برضاع أو غيره‪ ،‬كان عليه‬
‫حكْمُ اللّهِ } أي‪ :‬ذلكم الحكم الذي ذكره ال وبينه لكم يحكم به بينكم {‬
‫ضمان المهر‪ ،‬وقوله‪ { :‬ذَِل ُكمْ ُ‬
‫حكِيمٌ } فيعلم تعالى‪ ،‬ما يصلح لكم من الحكام‪ ،‬ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة‬
‫وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬

‫جكُمْ إِلَى ا ْل ُكفّارِ } بأن ذهبن مرتدات { َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ‬
‫شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫وقوله‪ { :‬وَإِنْ فَا َتكُمْ َ‬
‫جهُمْ مِ ْثلَ مَا أَ ْن َفقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى‬
‫أَ ْزوَا ُ‬
‫المسلمين‪ ،‬فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه‪ ،‬لزم أن يعطيه فعلى المسلمون‬
‫من الغنيمة بدل ما أنفق‬

‫{ وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ } فإيمانكم بال‪ ،‬يقتضي منكم أن تكونوا ملزمين للتقوى على‬
‫الدوام‪.‬‬

‫علَى أَنْ لَا يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلَا َيسْ ِرقْنَ وَلَا‬
‫{ ‪ { } 12‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا جَا َءكَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ َ‬
‫ن وَلَا َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ‬
‫ن وَأَرْجُِلهِ ّ‬
‫ن وَلَا يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِ ّ‬
‫ن وَلَا َيقْتُلْنَ َأوْلَادَهُ ّ‬
‫يَزْنِي َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫فَبَا ِي ْعهُنّ وَاسْ َتغْفِرْ َلهُنّ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬

‫هذه الشروط المذكورة في هذه الية‪ ،‬تسمى "مبايعة النساء" اللتي [كن] يبايعن على إقامة‬
‫الواجبات المشتركة‪ ،‬التي تجب على الذكور والنساء في جميع الوقات‪.‬‬

‫وأما الرجال‪ ،‬فيتفاوت ما يلزمهم بحسب أحوالهم ومراتبهم وما يتعين عليهم‪ ،‬فكان النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم يمتثل ما أمره ال به‪ ،‬فكان إذا جاءته النساء يبايعنه‪ ،‬والتزمن بهذه الشروط بايعهن‪،‬‬
‫وجبر قلوبهن‪ ،‬واستغفر لهن ال‪ ،‬فيما يحصل منهن من التقصير وأدخلهن في جملة المؤمنين بأن‬
‫{ لَا يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا } بأن يفردن ال [وحده] بالعبادة‪.‬‬

‫{ وَلَا يَزْنِينَ } كما كان ذلك موجودا كثيرا في البغايا وذوات الخدان‪ { ،‬وَلَا َيقْتُلْنَ َأوْلَادَهُنّ } كما‬
‫يجري لنساء الجاهلية الجهلء‪.‬‬

‫ن وَأَرْجُِلهِنّ } والبهتان‪ :‬الفتراء على الغير أي‪ :‬ل يفترين بكل‬


‫{ وَلَا يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِ ّ‬
‫حالة‪ ،‬سواء تعلقت بهن وأزواجهن أو سواء تعلق ذلك بغيرهم‪ { ،‬وَلَا َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ } أي‪:‬‬
‫ل يعصينك في كل أمر تأمرهن به‪ ،‬لن أمرك ل يكون إل بمعروف‪ ،‬ومن ذلك طاعتهن [لك] في‬
‫النهي عن النياحة‪ ،‬وشق الثياب‪ ،‬وخمش الوجوه‪ ،‬والدعاء بدعاء الجاهلية‪.‬‬

‫{ فَبَا ِي ْعهُنّ } إذا التزمن بجميع ما ذكر‪.‬‬


‫غفُورٌ } أي‪ :‬كثير المغفرة‬
‫{ وَاسْ َت ْغفِرْ َلهُنّ اللّهَ } عن تقصيرهن‪ ،‬وتطييبا لخواطرهن‪ { ،‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫للعاصين‪ ،‬والحسان إلى المذنبين التائبين‪َ { ،‬رحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬وعم إحسانه‬
‫البرايا‪.‬‬

‫ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِ َرةِ َكمَا يَ ِئسَ ا ْل ُكفّارُ‬
‫غ ِ‬
‫{ ‪ { } 13‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ‬
‫مِنْ َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ }‬

‫أي‪ :‬يا أيها المؤمنون‪ ،‬إن كنتم مؤمنين بربكم‪ ،‬ومتبعين لرضاه ومجانبين لسخطه‪ { ،‬لَا تَ َتوَّلوْا َق ْومًا‬
‫ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } وإنما غضب عليهم لكفرهم‪ ،‬وهذا شامل لجميع أصناف الكفار‪ { .‬قَدْ يَ ِئسُوا مِنَ‬
‫غ ِ‬
‫َ‬
‫الْآخِ َرةِ } أي‪ :‬قد حرموا من خير الخرة‪ ،‬فليس لهم منها نصيب‪ ،‬فاحذروا أن تولوهم فتوافقوهم‬
‫على شرهم وكفرهم فتحرموا خير الخرة كما حرموا‪.‬‬

‫[وقوله] { َكمَا يَئِسَ ا ْل ُكفّارُ مِنْ َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ } حين أفضوا إلى الدار الخرة‪ ،‬ووقفوا على حقيقة‬
‫المر وعلموا علم اليقين أنهم ل نصيب لهم منها‪ .‬ويحتمل أن المعنى‪ :‬قد يئسوا من الخرة أي‪:‬‬
‫قد أنكروها وكفروا بها‪ ،‬فل يستغرب حينئذ منهم القدام على مساخط ال وموجبات عذابه وإياسهم‬
‫من الخرة‪ ،‬كما يئس الكفار المنكرون للبعث في الدنيا من رجوع أصحاب القبور إلى ال تعالى‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الممتحنة‪،‬‬

‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة الصف‬


‫[وهي] مدنية‬

‫حكِيمُ‬
‫ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫* يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا لَا َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتًا عِنْدَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا لَا َت ْفعَلُونَ }‬

‫وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره‪ ،‬وذل جميع الخلق له تبارك وتعالى‪ ،‬وأن جميع من في السماوات‬
‫والرض يسبحون بحمد ال ويعبدونه ويسألونه حوائجهم‪ { ،‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر الشياء‬
‫حكِيمُ } في خلقه وأمره‪.‬‬
‫بعزته وسلطانه‪ { ،‬الْ َ‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا لَا َت ْفعَلُونَ } أي‪ :‬لم تقولون الخير وتحثون عليه‪ ،‬وربما تمدحتم‬
‫به وأنتم ل تفعلونه‪ ،‬وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه‪ ،‬وأنتم متلوثون به ومتصفون به‪.‬‬

‫فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند ال أن يقول العبد ما ل يفعل؟‬
‫ولهذا ينبغي للمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة‪ ،‬وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس‬
‫سكُ ْم وَأَنْ ُتمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } وقال‬
‫سوْنَ أَ ْنفُ َ‬
‫منه‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ‬
‫شعيب عليه الصلة والسلم لقومه‪ { :‬وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } ‪.‬‬

‫حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ }‬
‫{ ‪ { } 4‬إِنّ اللّهَ يُ ِ‬

‫هذا حث من ال لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي [لهم] أن‬
‫يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا‪ ،‬من غير خلل يقع في الصفوف‪ ،‬وتكون صفوفهم على‬
‫نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا‪،‬‬
‫ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا حضر القتال‪ ،‬صف أصحابه‪ ،‬ورتبهم في مواقفهم‪ ،‬بحيث‬
‫ل يحصل اتكال بعضهم على بعض‪ ،‬بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها‪،‬‬
‫وبهذه الطريقة تتم العمال ويحصل الكمال‪.‬‬

‫{ ‪ { } 5‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ِلمَ ُتؤْذُونَنِي َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ فََلمّا زَاغُوا‬
‫سقِينَ }‬
‫أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُ ْم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلفَا ِ‬

‫[أي‪ { ]:‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِهِ } موبخا لهم على صنيعهم‪ ،‬ومقرعا لهم على أذيته‪ ،‬وهم يعلمون أنه‬
‫رسول ال‪ِ { :‬لمَ ُتؤْذُونَنِي } بالقوال والفعال { َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ } ‪.‬‬

‫والرسول من حقه الكرام والعظام‪ ،‬والنقياد بأوامره‪ ،‬والبتدار لحكمه‪.‬‬

‫وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان ال‪ ،‬ففي غاية الوقاحة‬
‫والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم‪ ،‬الذي قد علموه وتركوه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فََلمّا زَاغُوا } أي‪:‬‬
‫انصرفوا عن الحق بقصدهم { أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لنفسهم‬
‫ورضوه لها‪ ،‬ولم يوفقهم ال للهدى‪ ،‬لنهم ل يليق بهم الخير‪ ،‬ول يصلحون إل للشر‪ { ،‬وَاللّهُ لَا‬
‫سقِينَ } أي‪ :‬الذين لم يزل الفسق وصفا لهم‪ ،‬ل لهم قصد في الهدى‪ ،‬وهذه الية‬
‫َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬
‫الكريمة تفيد أن إضلل ال لعباده‪ ،‬ليس ظلما منه‪ ،‬ول حجة لهم عليه‪ ،‬وإنما ذلك بسبب منهم‪،‬‬
‫فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه‪ ،‬فيجازيهم بعد ذلك بالضلل والزيغ‬
‫الذي ل حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [عقوبة لهم وعدل منه بهم] كما قال تعالى‪ { :‬وَ ُنقَّلبُ‬
‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } ‪.‬‬
‫َأفْئِدَ َتهُمْ وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ‬

‫{ ‪ { } 6-9‬وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْ َيمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َي َديّ‬
‫سحْرٌ مُبِينٌ *‬
‫حمَدُ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا َهذَا ِ‬
‫سمُهُ َأ ْ‬
‫مِنَ ال ّتوْرَا ِة َومُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِي ا ْ‬
‫ب وَ ُهوَ يُدْعَى إِلَى الِْإسْلَا ِم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ *‬
‫علَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ‬
‫سلَ رَسُولَهُ‬
‫طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُ ِتمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ * ُهوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫يُرِيدُونَ لِ ُي ْ‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }‬
‫بِا ْلهُدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِيُ ْ‬

‫يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين‪ ،‬الذين دعاهم عيسى ابن مريم‪ ،‬وقال لهم‪ { :‬يَا‬
‫بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ } أي‪ :‬أرسلني ال لدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر‪،‬‬
‫[وأيدني بالبراهين الظاهرة]‪ ،‬ومما يدل على صدقي‪ ،‬كوني‪ُ { ،‬مصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َي َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ }‬
‫أي‪ :‬جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية‪ ،‬ولو كنت مدعيا للنبوة‪ ،‬لجئت بغير‬
‫ما جاءت به المرسلون‪ ،‬ومصدقا لما بين يدي من التوارة أيضا‪ ،‬أنها أخبرت بي وبشرت‪ ،‬فجئت‬
‫وبعثت مصداقا لها { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } وهو‪ :‬محمد بن عبد ال بن عبد‬
‫المطلب النبي الهاشمي‪.‬‬

‫فعيسى عليه الصلة والسلم‪ ،‬كالنبياء يصدق بالنبي السابق‪ ،‬ويبشر بالنبي اللحق‪ ،‬بخلف‬
‫الكذابين‪ ،‬فإنهم يناقضون النبياء أشد مناقضة‪ ،‬ويخالفونهم في الوصاف والخلق‪ ،‬والمر‬
‫والنهي { فََلمّا جَاءَهُمْ } محمد صلى ال عليه وسلم الذي بشر به عيسى { بِالْبَيّنَاتِ } أي‪ :‬الدلة‬
‫الواضحة‪ ،‬الدالة على أنه هو‪ ،‬وأنه رسول ال [حقا]‪.‬‬

‫سحْرٌ مُبِينٌ } وهذا من أعجب العجائب‪ ،‬الرسول الذي‬


‫{ قَالُوا } معاندين للحق مكذبين له { هَذَا ِ‬
‫[قد] وضحت رسالته‪ ،‬وصارت أبين من شمس النهار‪ ،‬يجعل ساحرا بينا سحره‪ ،‬فهل في الخذلن‬
‫أعظم من هذا؟ وهل في الفتراء أعظم من هذا الفتراء‪ ،‬الذي نفى عنه ما كان معلوما من‬
‫رسالته‪ ،‬وأثبت له ما كان أبعد الناس منه؟‬

‫{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ } بهذا وغيره‪ ،‬والحال أنه ل عذر له‪ ،‬وقد انقطعت‬
‫حجته‪ ،‬لنه { يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ } ويبين له ببراهينه وبيناته‪ { ،‬وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }‬
‫الذين ل يزالون على ظلمهم مستقيمين‪ ،‬ل تردهم عنه موعظة‪ ،‬ول يزجرهم بيان ول برهان‪،‬‬
‫خصوصا هؤلء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه‪ ،‬ولينصروا الباطل‪ ،‬ولهذا قال ال عنهم‪:‬‬
‫طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِمْ } أي‪ :‬بما يصدر منهم من المقالت الفاسدة‪ ،‬التي يردون بها‬
‫{ يُرِيدُونَ لِيُ ْ‬
‫الحق‪ ،‬وهي ل حقيقة لها‪ ،‬بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل‪ { ،‬وَاللّهُ مُتِمّ نُو ِر ِه وََلوْ‬
‫كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } أي‪ :‬قد تكفل ال بنصر دينه‪ ،‬وإتمام الحق الذي أرسل به رسله‪ ،‬وإشاعة نوره‬
‫على سائر القطار‪ ،‬ولو كره الكافرون‪ ،‬وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون به إلى إطفاء‬
‫نور ال فإنهم مغلوبون‪.‬‬

‫وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها‪ ،‬فل على مرادهم حصلوا‪ ،‬ول سلمت عقولهم‬
‫من النقص والقدح فيها‪.‬‬

‫سلَ‬
‫ثم ذكر سبب الظهور والنتصار للدين السلمي‪ ،‬الحسي والمعنوي‪ ،‬فقال‪ُ { :‬هوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ } أي‪ :‬بالعلم النافع والعمل الصالح‪.‬‬

‫بالعلم الذي يهدي إلى ال وإلى دار كرامته‪ ،‬ويهدي لحسن العمال والخلق‪ ،‬ويهدي إلى‬
‫مصالح الدنيا والخرة‪.‬‬

‫حقّ } أي‪ :‬الدين الذي يدان به‪ ،‬ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق‪ ،‬ل نقص فيه‪،‬‬
‫{ وَدِينِ الْ َ‬
‫ول خلل يعتريه‪ ،‬بل أوامره غذاء القلوب والرواح‪ ،‬وراحة البدان‪ ،‬وترك نواهيه سلمة من‬
‫الشر والفساد فما بعث به النبي صلى ال عليه وسلم من الهدى ودين الحق‪ ،‬أكبر دليل وبرهان‬
‫على صدقه‪ ،‬وهو برهان باق ما بقي الدهر‪ ،‬كلما ازداد العاقل تفكرا‪ ،‬ازداد به فرحا وتبصرا‪.‬‬

‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ } أي‪ :‬ليعليه على سائر الديان‪ ،‬بالحجة والبرهان‪ ،‬ويظهر أهله القائمين‬
‫{ لِ ُي ْ‬
‫به بالسيف والسنان‪ ،‬فأما نفس الدين‪ ،‬فهذا الوصف ملزم له في كل وقت‪ ،‬فل يمكن أن يغالبه‬
‫مغالب‪ ،‬أو يخاصمه مخاصم إل فلجه وبلسه‪ ،‬وصار له الظهور والقهر‪ ،‬وأما المنتسبون إليه‪،‬‬
‫فإنهم إذا قاموا به‪ ،‬واستناروا بنوره‪ ،‬واهتدوا بهديه‪ ،‬في مصالح دينهم ودنياهم‪ ،‬فكذلك ل يقوم لهم‬
‫أحد‪ ،‬ول بد أن يظهروا على أهل الديان‪ ،‬وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد النتساب إليه‪ ،‬لم‬
‫ينفعهم ذلك‪ ،‬وصار إهمالهم له سبب تسليط العداء عليهم‪ ،‬ويعرف هذا‪ ،‬من استقرأ الحوال‬
‫ونظر في أول المسلمين وآخرهم‬

‫{ ‪ { } 10-14‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َهلْ َأدُّلكُمْ عَلَى ِتجَا َرةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ‬
‫سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * َي ْغفِرْ َل ُكمْ‬
‫وَرَسُولِ ِه وَتُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫ذُنُو َبكُ ْم وَيُ ْدخِ ْلكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ *‬
‫وَأُخْرَى تُحِبّو َنهَا َنصْرٌ مِنَ اللّ ِه َوفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَ ْنصَارَ اللّهِ‬
‫حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ فَآمَنَتْ‬
‫حوَارِيّينَ مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ‬
‫َكمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِ ْل َ‬
‫ل َو َكفَرَتْ طَا ِئفَةٌ فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَ ُدوّ ِهمْ فََأصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }‬
‫طَا ِئفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫هذه وصية ودللة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين‪ ،‬لعظم تجارة‪ ،‬وأجل مطلوب‪،‬‬
‫وأعلى مرغوب‪ ،‬يحصل بها النجاة من العذاب الليم‪ ،‬والفوز بالنعيم المقيم‪.‬‬

‫وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر‪ ،‬ويسمو إليه كل لبيب‪ ،‬فكأنه‬
‫قيل‪ :‬ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال { ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ } ‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن اليمان التام هو التصديق الجازم بما أمر ال بالتصديق به‪ ،‬المستلزم لعمال‬
‫الجوارح‪ ،‬ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل ال فلهذا قال‪ { :‬وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫سكُمْ } بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم‪ ،‬لمصادمة أعداء السلم‪ ،‬والقصد نصر دين ال‬
‫بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫وإعلء كلمته‪ ،‬وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب‪ ،‬فإن ذلك‪ ،‬ولو كان كريها للنفوس‬
‫شاقا عليها‪ ،‬فإنه { خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } فإن فيه الخير الدنيوي‪ ،‬من النصر على العداء‪،‬‬
‫والعز المنافي للذل والرزق الواسع‪ ،‬وسعة الصدر وانشراحه‪.‬‬

‫وفي الخرة الفوز بثواب ال والنجاة من عقابه‪ ،‬ولهذا ذكر الجزاء في الخرة‪ ،‬فقال‪َ { :‬ي ْغفِرْ َلكُمْ‬
‫ذُنُو َبكُمْ } وهذا شامل للصغائر والكبائر‪ ،‬فإن اليمان بال والجهاد في سبيله‪ ،‬مكفر للذنوب‪ ،‬ولو‬
‫كانت كبائر‪.‬‬

‫{ وَيُ ْدخِ ْلكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } أي‪ :‬من تحت مساكنها [وقصورها] وغرفها‬
‫وأشجارها‪ ،‬أنهار من ماء غير آسن‪ ،‬وأنهار من لبن لم يتغير طعمه‪ ،‬وأنهار من خمر لذة‬
‫عدْنٍ }‬
‫للشاربين‪ ،‬وأنهار من عسل مصفى‪ ،‬ولهم فيها من كل الثمرات‪َ { ،‬ومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ َ‬
‫أي‪ :‬جمعت كل طيب‪ ،‬من علو وارتفاع‪ ،‬وحسن بناء وزخرفة‪ ،‬حتى إن أهل الغرف من أهل‬
‫عليين‪ ،‬يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الفق الشرقي أو الغربي‪ ،‬وحتى إن‬
‫بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [وبعضه من] لبن فضة‪ ،‬وخيامها من اللؤلؤ والمرجان‪ ،‬وبعض‬
‫المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن اللوان‪ ،‬حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من‬
‫باطنها‪ ،‬وباطنها من ظاهرها‪ ،‬وفيها من الطيب والحسن ما ل يأتي عليه وصف الواصفين‪ ،‬ول‬
‫خطر على قلب أحد من العالمين‪ ،‬ل يمكن أن يدركوه حتى يروه‪ ،‬ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم‬
‫به‪ ،‬ففي تلك الحالة‪ ،‬لول أن ال خلق أهل الجنة‪ ،‬وأنشأهم نشأة كاملة ل تقبل العدم‪ ،‬لوشك أن‬
‫يموتوا من الفرح‪ ،‬فسبحان من ل يحصي أحد من خلقه ثناء عليه‪ ،‬بل هو كما أثنى على نفسه‬
‫وفوق ما يثني عليه عباده وتبارك الجليل الجميل‪ ،‬الذي أنشأ دار النعيم‪ ،‬وجعل فيها من الجلل‬
‫والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم‪.‬‬
‫وتعالى من له الحكمة التامة‪ ،‬التي من جملتها‪ ،‬أنه ال لو أرى الخلئق الجنة حين خلقها ونظروا‬
‫إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد‪ ،‬ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة‪ ،‬المشوب‬
‫نعيمها بألمها‪ ،‬وسرورها بترحها‪.‬‬

‫وسميت الجنة جنة عدن‪ ،‬لن أهلها مقيمون فيها‪ ،‬ل يخرجون منها أبدا‪ ،‬ول يبغون عنها حول‪،‬‬
‫ذلك الثواب الجزيل‪ ،‬والجر الجميل‪ ،‬الفوز العظيم‪ ،‬الذي ل فوز مثله‪ ،‬فهذا الثواب الخروي‪.‬‬

‫وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة‪ ،‬فذكره بقوله‪ { :‬وَأُخْرَى ُتحِبّو َنهَا } أي‪ :‬ويحصل لكم خصلة‬
‫أخرى تحبونها وهي‪َ { :‬نصْرٌ مِنَ اللّهِ } [لكم] على العداء‪ ،‬يحصل به العز والفرح‪َ { ،‬وفَتْحٌ‬
‫قَرِيبٌ } تتسع به دائرة السلم‪ ،‬ويحصل به الرزق الواسع‪ ،‬فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين‪ ،‬وأما‬
‫المؤمنون من غير أهل الجهاد‪[ ،‬إذا قام غيرهم بالجهاد] فلم يؤيسهم ال تعالى من فضله وإحسانه‪،‬‬
‫بل قال‪ { :‬وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي‪ :‬بالثواب العاجل والجل‪ ،‬كل على حسب إيمانه‪ ،‬وإن كانوا ل‬
‫يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل ال‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن في الجنة مائة‬
‫درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والرض‪ ،‬أعدها ال للمجاهدين في سبيله "‬

‫ثم قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَ ْنصَارَ اللّهِ } [أي‪ ]:‬بالقوال والفعال‪ ،‬وذلك بالقيام بدين‬
‫ال‪ ،‬والحرص على إقامته على الغير‪ ،‬وجهاد من عانده ونابذه‪ ،‬بالبدان والموال‪ ،‬ومن نصر‬
‫الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق‪ ،‬بدحض حجته‪ ،‬وإقامة الحجة عليه‪ ،‬والتحذير منه‪.‬‬

‫ومن نصر دين ال‪ ،‬تعلم كتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬والحث على ذلك‪[ ،‬والمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر]‪.‬‬

‫ثم هيج ال المؤمنين بالقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله‪َ { :‬كمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ‬
‫حوَارِيّينَ مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ } أي‪ :‬قال لهم عارضا ومنهضا من يعاونني ويقوم معي في‬
‫لِلْ َ‬
‫نصرتي لدين ال‪ ،‬ويدخل مدخلي‪ ،‬ويخرج مخرجي؟‬

‫فابتدر الحواريون‪ ،‬فقالوا‪َ { :‬نحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ } فمضى عيسى عليه السلم على أمر ال ونصر‬
‫دينه‪ ،‬هو ومن معه من الحواريين‪ { ،‬فَآمَ َنتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى‬
‫والحواريين‪َ { ،‬و َكفَرَتْ طَا ِئفَةٌ } منهم‪ ،‬فلم ينقادوا لدعوتهم‪ ،‬فجاهد المؤمنون الكافرين‪ { ،‬فَأَيّدْنَا‬
‫ع ُدوّهِمْ } أي‪ :‬قويناهم ونصرناهم عليهم‪.‬‬
‫الّذِينَ آمَنُوا عَلَى َ‬

‫{ فََأصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [لهم]‪ ،‬فأنتم يا أمة محمد‪ ،‬كونوا أنصار ال ودعاة دينه‪،‬‬
‫ينصركم ال كما نصر من قبلكم‪ ،‬ويظهركم على عدوكم‪.‬‬
‫تمت ول الحمد‬

‫تفسير سورة الجمعة‬


‫[وهي] مدنية‬

‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ ا ْلمَِلكِ ا ْلقُدّوسِ ا ْلعَزِيزِ‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫{ ‪ { } 1‬بِسْمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫حكِيمِ }‬
‫الْ َ‬

‫أي‪ :‬يسبح ل‪ ،‬وينقاد لمره‪ ،‬ويتألهه‪ ،‬ويعبده‪ ،‬جميع ما في السماوات والرض‪ ،‬لنه الكامل الملك‪،‬‬
‫الذي له ملك العالم العلوي والسفلي‪ ،‬فالجميع مماليكه‪ ،‬وتحت تدبيره‪ { ،‬ا ْلقُدّوسُ } المعظم‪ ،‬المنزه‬
‫حكِيمُ } في خلقه وأمره‪.‬‬
‫عن كل آفة ونقص‪ { ،‬ا ْلعَزِيزُ } القاهر للشياء كلها‪ { ،‬الْ َ‬

‫فهذه الوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة ال وحده ل شريك له‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 2-4‬هوَ الّذِي َب َعثَ فِي الُْأمّيّينَ َرسُولًا مِ ْن ُهمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِ ِه وَيُ َزكّيهِ ْم وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَابَ‬
‫حكِيمُ *‬
‫حقُوا ِبهِ ْم وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫ح ْكمَ َة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَلْ َ‬
‫وَالْ ِ‬
‫ضلِ ا ْلعَظِيمِ }‬
‫ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ‬
‫ذَِلكَ َف ْ‬

‫المراد بالميين‪ :‬الذين ل كتاب عندهم‪ ،‬ول أثر رسالة من العرب وغيرهم‪ ،‬ممن ليسوا من أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬فامتن ال تعالى عليهم‪ ،‬منة عظيمة‪ ،‬أعظم من منته على غيرهم‪ ،‬لنهم عادمون للعلم‬
‫والخير‪ ،‬وكانوا في ضلل مبين‪ ،‬يتعبدون للشجار والصنام والحجار‪ ،‬ويتخلقون بأخلق السباع‬
‫الضارية‪ ،‬يأكل قويهم ضعيفهم‪ ،‬وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم النبياء‪ ،‬فبعث ال فيهم رسولً‬
‫منهم‪ ،‬يعرفون نسبه‪ ،‬وأوصافه الجميلة وصدقه‪ ،‬وأنزل عليه كتابه { يَتْلُو عَلَ ْي ِهمْ آيَاتِهِ } القاطعة‬
‫الموجبة لليمان واليقين‪ { ،‬وَيُ َزكّيهِمْ } بأن يحثهم على الخلق الفاضلة‪ ،‬ويفصلها لهم‪ ،‬ويزجرهم‬
‫ح ْكمَةَ } أي‪ :‬علم القرآن وعلم السنة‪ ،‬المشتمل ذلك‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫عن الخلق الرذيلة‪ { ،‬وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫علوم الولين والخرين‪ ،‬فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق‪ ،‬بل كانوا أئمة أهل العلم‬
‫والدين‪ ،‬وأكمل الخلق أخلقًا‪ ،‬وأحسنهم هديًا وسمتًا‪ ،‬اهتدوا بأنفسهم‪ ،‬وهدوا غيرهم‪ ،‬فصاروا أئمة‬
‫المهتدين‪ ،‬وهداة المؤمنين‪ ،‬فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أكمل نعمة‪ ،‬وأجل‬
‫حقُوا ِبهِمْ } أي‪ :‬وامتن على آخرين من غيرهم أي‪ :‬من غير‬
‫منحة‪ ،‬وقوله { وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَلْ َ‬
‫الميين‪ ،‬ممن يأتي بعدهم‪ ،‬ومن أهل الكتاب‪ ،‬لما يلحقوا بهم‪ ،‬أي‪ :‬فيمن باشر دعوة الرسول‪،‬‬
‫ويحتمل أنهم لما يلحقوا بهم في الفضل‪ ،‬ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان‪ ،‬وعلى كل‪،‬‬
‫فكل المعنيين صحيح‪ ،‬فإن الذين بعث ال فيهم رسوله وشاهدوه وباشروا دعوته‪ ،‬حصل لهم من‬
‫الخصائص والفضائل ما ل يمكن أحدًا أن يلحقهم فيها‪ ،‬وهذا من عزته وحكمته‪ ،‬حيث لم يترك‬
‫عباده هملً ول سدى‪ ،‬بل ابتعث فيهم الرسل‪ ،‬وأمرهم ونهاهم‪ ،‬وذلك من فضل ال العظيم‪ ،‬الذي‬
‫يؤتيه من يشاء من عباده‪ ،‬وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من‬
‫النعم الدنيوية‪ ،‬فل أعظم من نعمة الدين التي هي مادة الفوز‪ ،‬والسعادة البدية‪.‬‬

‫سفَارًا بِئْسَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ‬


‫ح ِملُ أَ ْ‬
‫حمَارِ يَ ْ‬
‫حمِلُوهَا َكمَثَلِ ا ْل ِ‬
‫حمّلُوا ال ّتوْرَاةَ ثُمّ َلمْ َي ْ‬
‫{ ‪ { } 5-8‬مَ َثلُ الّذِينَ ُ‬
‫عمْتُمْ أَ ّنكُمْ َأوْلِيَاءُ‬
‫الّذِينَ َكذّبُوا بِآيَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ * ُقلْ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ هَادُوا إِنْ زَ َ‬
‫لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * وَلَا يَ َتمَ ّنوْنَهُ أَ َبدًا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَ ْيدِيهِ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ‬
‫شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ‬
‫بِالظّاِلمِينَ * ُقلْ إِنّ ا ْل َموْتَ الّذِي َتفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمّ تُرَدّونَ إِلَى عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى منته على هذه المة‪ ،‬الذين ابتعث فيهم النبي المي‪ ،‬وما خصهم ال به من المزايا‬
‫والمناقب‪ ،‬التي ل يلحقهم فيها أحد وهم المة المية الذين فاقوا الولين والخرين‪ ،‬حتى أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والحبار المتقدمون‪ ،‬ذكر أن الذين حملهم ال‬
‫التوراة من اليهود وكذا النصارى‪ ،‬وأمرهم أن يتعلموها‪ ،‬ويعملوا بما فيها ‪ ،‬وانهم لم يحملوها ولم‬
‫يقوموا بما حملوا به‪ ،‬أنهم ل فضيلة لهم‪ ،‬وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا‬
‫من كتب العلم‪ ،‬فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره؟ وهل يلحق به فضيلة‬
‫بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء اليهود الذين لم يعملوا بما في التوراة‪،‬‬
‫الذي من أجله وأعظمه المر باتباع محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والبشارة به‪ ،‬واليمان بما جاء به‬
‫من القرآن‪ ،‬فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إل الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه؟ فهذا‬
‫المثل مطابق لحوالهم‪.‬‬

‫بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات ال الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي‪ :‬ل يرشدهم إلى مصالحهم‪ ،‬ما دام الظلم لهم وصفًا‪ ،‬والعناد‬
‫لهم نعتًا ومن ظلم اليهود وعنادهم‪ ،‬أنهم يعلمون أنهم على باطل‪ ،‬ويزعمون أنهم على حق‪ ،‬وأنهم‬
‫أولياء ال من دون الناس‪.‬‬

‫ولهذا أمر ال رسوله‪ ،‬أن يقول لهم‪ :‬إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم على الحق‪ ،‬وأولياء ال‪:‬‬
‫{ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ } وهذا أمر خفيف‪ ،‬فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي‬
‫جعله ال دليلً على صدقهم إن تمنوه‪ ،‬وكذبهم إن لم يتمنوه ولما لم يقع منهم مع العلن لهم‬
‫بذلك‪ ،‬علم أنهم عالمون ببطلن ما هم عليه وفساده‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَا يَ َتمَ ّنوْنَهُ أَبَدًا ِبمَا َق ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ‬
‫} أي من الذنوب والمعاصي‪ ،‬التي يستوحشون من الموت من أجلها‪ { ،‬وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } فل‬
‫يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء‪ ،‬هذا وإن كانوا ل يتمنون الموت بما قدمت أيديهم‪ ،‬و‬
‫يفرون منه [غاية الفرار]‪ ،‬فإن ذلك ل ينجيهم‪ ،‬بل ل بد أن يلقيهم الموت الذي قد حتمه ال على‬
‫العباد وكتبه عليهم‪.‬‬

‫ثم بعد الموت واستكمال الجال‪ ،‬يرد الخلق كلهم يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة‪ ،‬فينبئهم بما‬
‫كانوا يعملون‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬قليل وكثير‪.‬‬

‫س َعوْا إِلَى ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُوا الْبَ ْيعَ‬


‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫{ ‪ { } 9-11‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا نُو ِديَ لِلصّلَاةِ مِنْ َيوْمِ الْ ُ‬
‫ضلِ اللّهِ‬
‫ض وَابْ َتغُوا مِنْ َف ْ‬
‫ذَِلكُمْ خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّلَاةُ فَانْ َتشِرُوا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ * وَإِذَا رََأوْا ِتجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا إِلَ ْيهَا وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا ُقلْ مَا‬
‫عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ الّل ْهوِ َومِنَ التّجَا َر ِة وَاللّهُ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ }‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلة الجمعة والمبادرة إليها‪ ،‬من حين ينادى لها والسعي‬
‫إليها‪ ،‬والمراد بالسعي هنا‪ :‬المبادرة إليها والهتمام لها‪ ،‬وجعلها أهم الشغال‪ ،‬ل العدو الذي قد‬
‫نهي عنه عند المضي إلى الصلة‪ ،‬وقوله‪ { :‬وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي‪ :‬اتركوا البيع‪ ،‬إذا نودي للصلة‪،‬‬
‫وامضوا إليها‪.‬‬

‫فإن { ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ } من اشتغالكم بالبيع‪ ،‬وتفويتكم الصلة الفريضة‪ ،‬التي هي من آكد الفروض‪.‬‬

‫{ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أن ما عند ال خير وأبقى‪ ،‬وأن من آثر الدنيا على الدين‪ ،‬فقد خسر الخسارة‬
‫الحقيقية‪ ،‬من حيث ظن أنه يربح‪ ،‬وهذا المر بترك البيع مؤقت مدة الصلة‪.‬‬

‫{ فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّلَاةُ فَانْ َتشِرُوا فِي الْأَ ْرضِ } لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الشتغال في‬
‫التجارة‪ ،‬مظنة الغفلة عن ذكر ال‪ ،‬أمر ال بالكثار من ذكره‪ ،‬فقال‪ { :‬وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا } أي‬
‫في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم‪َ { ،‬لعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } فإن الكثار من ذكر ال أكبر أسباب‬
‫الفلح‪.‬‬

‫{ وَإِذَا رََأوْا تِجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا إِلَ ْيهَا } أي‪ :‬خرجوا من المسجد‪ ،‬حرصًا على ذلك اللهو‪ ،‬و‬
‫[تلك] التجارة‪ ،‬وتركوا الخير‪ { ،‬وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا } تخطب الناس‪ ،‬وذلك [في] يوم جمعة‪ ،‬بينما النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم يخطب الناس‪ ،‬إذ قدم المدينة‪ ،‬عير تحمل تجارة‪ ،‬فلما سمع الناس بها‪ ،‬وهم‬
‫في المسجد‪ ،‬انفضوا من المسجد‪ ،‬وتركوا النبي صلى ال عليه وسلم يخطب استعجالًا لما ل ينبغي‬
‫أن يستعجل له‪ ،‬وترك أدب‪ُ { ،‬قلْ مَا عِنْدَ اللّهِ } من الجر والثواب‪ ،‬لمن لزم الخير وصبر نفسه‬
‫على عبادة ال‪.‬‬

‫{ خَيْرٌ مِنَ الّل ْه ِو َومِنَ التّجَا َرةِ } التي‪ ،‬وإن حصل منها بعض المقاصد‪ ،‬فإن ذلك قليل منغص‪،‬‬
‫مفوت لخير الخرة‪ ،‬وليس الصبر على طاعة ال مفوتًا للرزق‪ ،‬فإن ال خير الرازقين‪ ،‬فمن اتقى‬
‫ال رزقه من حيث ل يحتسب‪.‬‬

‫وفي هذه اليات فوائد عديدة‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين‪ ،‬يجب عليهم السعي لها‪ ،‬والمبادرة والهتمام‬
‫بشأنها‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن الخطبتين يوم الجمعة‪ ،‬فريضتان يجب حضورهما‪ ،‬لنه فسر الذكر هنا بالخطبتين‪،‬‬
‫فأمر ال بالمضي إليه والسعي له‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬مشروعية النداء ليوم الجمعة‪ ،‬والمر به‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬النهى عن البيع والشراء‪ ،‬بعد نداء الجمعة‪ ،‬وتحريم ذلك‪ ،‬وما ذاك إل لنه يفوت الواجب‬
‫ويشغل عنه‪ ،‬فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الصل‪ ،‬إذا كان ينشأ عنه تفويت‬
‫واجب‪ ،‬فإنه ل يجوز في تلك الحال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬المر بحضور الخطبتين يوم الجمعة‪ ،‬وذم من لم يحضرهما‪ ،‬ومن لزم ذلك النصات‬
‫لهما‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة ال‪ ،‬وقت دواعي النفس لحضور اللهو [والتجارات]‬
‫والشهوات‪ ،‬أن يذكرها بما عند ال من الخيرات‪ ،‬وما لمؤثر رضاه على هواه‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الجمعة‪ ،‬ول الحمد والثناء‬

‫تفسير سورة المنافقين‬


‫مدنية‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا َن ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-6‬بِ ْ‬
‫خذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً َفصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِ ّنهُمْ سَاءَ مَا‬
‫شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ * اتّ َ‬
‫لَرَسُولُ ُه وَاللّهُ يَ ْ‬
‫كَانُوا َي ْعمَلُونَ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَا َي ْف َقهُونَ * وَإِذَا رَأَيْ َتهُمْ ُت ْعجِ ُبكَ‬
‫حةٍ عَلَ ْيهِمْ هُمُ ا ْل َع ُدوّ فَاحْذَ ْرهُمْ‬
‫حسَبُونَ ُكلّ صَيْ َ‬
‫شبٌ مُسَنّ َدةٌ يَ ْ‬
‫سمَعْ ِلقَوِْلهِمْ كَأَ ّنهُمْ خُ ُ‬
‫جسَا ُمهُ ْم وَإِنْ َيقُولُوا تَ ْ‬
‫أَ ْ‬
‫س ُه ْم وَرَأَيْ َتهُمْ‬
‫قَاتََلهُمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ *وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا َيسْ َت ْغفِرْ َل ُكمْ رَسُولُ اللّهِ َل ّووْا رُءُو َ‬
‫سوَاءٌ عَلَ ْيهِمْ أََأسْ َت ْغفَرْتَ َلهُمْ أَمْ َلمْ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ لَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ إِنّ اللّهَ‬
‫ن وَهُمْ مُسْ َتكْبِرُونَ * َ‬
‫َيصُدّو َ‬
‫سقِينَ }‬
‫لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬

‫لما قدم النبي صلى ال عليه وسلم المدينة‪ ،‬وكثر المسلمون في المدينة واعتز السلم بها ‪ ،‬صار‬
‫أناس من أهلها من الوس والخزرج‪ ،‬يظهرون اليمان ويبطنون الكفر‪ ،‬ليبقى جاههم‪ ،‬وتحقن‬
‫دماؤهم‪ ،‬وتسلم أموالهم‪ ،‬فذكر ال من أوصافهم ما به يعرفون‪ ،‬لكي يحذر العباد منهم‪ ،‬ويكونوا‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ‬
‫منهم على بصيرة‪ ،‬فقال‪ِ { :‬إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا } على وجه الكذب‪ { :‬نَ ْ‬
‫اللّهِ } وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق‪ ،‬مع أنه ل حاجة لشهادتهم في تأييد‬
‫شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ } في قولهم ودعواهم‪ ،‬وأن‬
‫رسوله‪ ،‬فإن { اللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ‬
‫ذلك ليس بحقيقة منهم‪.‬‬

‫{ اتّخَذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً } أي‪ :‬ترسًا يتترسون بها من نسبتهم إلى النفاق‪.‬‬

‫فصدوا عن سبيله بأنفسهم‪ ،‬وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم‪ { ،‬إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }‬
‫حيث أظهروا اليمان وأبطنوا الكفر‪ ،‬وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } الذي زين لهم النفاق { بـ } سبب أنهم ل يثبتون على اليمان‪.‬‬

‫بل { آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } بحيث ل يدخلها الخير أبدًا‪َ { ،‬فهُمْ لَا َيفْ َقهُونَ } ما ينفعهم‪،‬‬
‫ول يعون ما يعود بمصالحهم‪.‬‬

‫سمَعْ ِلقَوِْلهِمْ } أي‪ :‬من حسن‬


‫{ وَإِذَا رَأَيْ َتهُمْ ُت ْعجِ ُبكَ أَجْسَا ُم ُهمْ } من روائها ونضارتها‪ { ،‬وَإِنْ َيقُولُوا تَ ْ‬
‫منطقهم تستلذ لستماعه‪ ،‬فأجسامهم وأقوالهم معجبة‪ ،‬ولكن ليس وراء ذلك من الخلق الفاضلة‬
‫شبٌ مُسَنّ َدةٌ } ل منفعة فيها‪ ،‬ول ينال منها إل الضرر‬
‫والهدى الصالح شيء‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬كَأَ ّنهُمْ خُ ُ‬
‫حةٍ عَلَ ْيهِمْ } وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم‪ ،‬والريب الذي في‬
‫ل صَيْ َ‬
‫حسَبُونَ ُك ّ‬
‫المحض‪ { ،‬يَ ْ‬
‫قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم‪.‬‬
‫فهؤلء { هُمُ ا ْلعَ ُدوّ } على الحقيقة‪ ،‬لن العدو البارز المتميز‪ ،‬أهون من العدو الذي ل يشعر به‪،‬‬
‫حذَرْهُمْ قَاتََل ُهمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ } أي‪:‬‬
‫وهو مخادع ماكر‪ ،‬يزعم أنه ولي‪ ،‬وهو العدو المبين‪ { ،‬فَا ْ‬
‫كيف يصرفون عن الدين السلمي بعد ما تبينت أدلته‪ ،‬واتضحت معالمه‪ ،‬إلى الكفر الذي ل‬
‫يفيدهم إل الخسار والشقاء‪.‬‬

‫{ وَإِذَا قِيلَ } لهؤلء المنافقين { َتعَاَلوْا يَسْ َت ْغفِرْ َلكُمْ رَسُولُ اللّهِ } عما صدر منكم‪ ،‬لتحسن أحوالكم‪،‬‬
‫سهُمْ } امتناعًا من طلب الدعاء من‬
‫وتقبل أعمالكم‪ ،‬امتنعوا من ذلك أشد المتناع‪ ،‬و { َل ّووْا ُرءُو َ‬
‫صدّونَ } عن الحق بغضًا له { وَ ُهمْ مُسْ َتكْبِرُونَ } عن اتباعه بغيًا وعنادًا‪،‬‬
‫الرسول‪ { ،‬وَرَأَيْ َتهُمْ َي ُ‬
‫فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول‪ ،‬وهذا من لطف ال وكرامته لرسوله‪،‬‬
‫حيث لم يأتوا إليه‪ ،‬فيستغفر لهم‪ ،‬فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر ال لهم‪ ،‬وذلك‬
‫لنهم قوم فاسقون‪ ،‬خارجون عن طاعة ال‪ ،‬مؤثرون للكفر على اليمان‪ ،‬فلذلك ل ينفع فيهم‬
‫استغفار الرسول‪ ،‬لو استغفر لهم كما قال تعالى‪ { :‬اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأوْ لَا َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ‬
‫سقِينَ } ‪.‬‬
‫سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُهمْ } { إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬

‫{ ‪ُ { } 7-8‬همُ الّذِينَ َيقُولُونَ لَا تُ ْنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ َرسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْن َفضّوا وَلِلّهِ خَزَائِنُ‬
‫جعْنَا إِلَى ا ْلمَدِينَةِ لَيُخْ ِرجَنّ الْأَعَزّ مِ ْنهَا‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وََلكِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ لَا َيفْ َقهُونَ * َيقُولُونَ لَئِنْ َر َ‬
‫ال ّ‬
‫ل وَلِلّهِ ا ْلعِ ّزةُ وَلِرَسُولِ ِه وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وََلكِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ لَا َيعَْلمُونَ }‬
‫الْأَ َذ ّ‬

‫وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والمسلمين‪ ،‬لما رأوا اجتماع أصحابه‬
‫وائتلفهم‪ ،‬ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قالوا بزعمهم الفاسد‪:‬‬

‫علَى مَنْ عِ ْندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْنفَضّوا } فإنهم ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬لول أموال المنافقين‬
‫{ لَا تُ ْنفِقُوا َ‬
‫ونفقاتهم عليهم‪ ،‬لما اجتمعوا في نصرة دين ال‪ ،‬وهذا من أعجب العجب‪ ،‬أن يدعى هؤلء‬
‫المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلن الدين‪ ،‬وأذية المسلمين‪ ،‬مثل هذه الدعوى‪ ،‬التي ل‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫تروج إل على من ل علم له بحقائق المور ولهذا قال ال ردًا لقولهم‪ { :‬وَلِلّهِ خَزَائِنُ ال ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ } فيؤتي الرزق من يشاء‪ ،‬ويمنعه من يشاء‪ ،‬وييسر السباب لمن يشاء‪ ،‬ويعسرها على‬
‫من يشاء‪ { ،‬وََلكِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ لَا َي ْف َقهُونَ } فلذلك قالوا تلك المقالة‪ ،‬التي مضمونها أن خزائن الرزق‬
‫في أيديهم‪ ،‬وتحت مشيئتهم‪.‬‬
‫جعْنَا إِلَى ا ْلمَدِي َنةِ لَ ُيخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِ ْنهَا الْأَ َذلّ } وذلك في غزوة المريسيع‪ ،‬حين صار‬
‫{ َيقُولُونَ لَئِنْ رَ َ‬
‫بين بعض المهاجرين والنصار‪ ،‬بعض كلم كدر الخواطر‪ ،‬ظهر حينئذ نفاق المنافقين‪ ،‬وأظهروا‬
‫ما في نفوسهم ‪.‬‬

‫وقال كبيرهم‪ ،‬عبد ال بن أبي بن سلول‪ :‬ما مثلنا ومثل هؤلء ‪-‬يعني المهاجرين‪ -‬إل كما قال‬
‫القائل‪ " :‬غذ كلبك يأكلك "‬

‫وقال‪ :‬لئن رجعنا إلى المدينة { لَ ُيخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِ ْنهَا الْأَ َذلّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين‬
‫العزون‪ ،‬وأن رسول ال ومن معه هم الذلون‪ ،‬والمر بعكس ما قال هذا المنافق‪ ،‬فلهذا قال‬
‫[تعالى‪ { ]:‬وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِ ِه وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } فهم العزاء‪ ،‬والمنافقون وإخوانهم من الكفار [هم]‬
‫الذلء‪ { .‬وََلكِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ لَا َيعَْلمُونَ } ذلك زعموا أنهم العزاء‪ ،‬اغترارًا بما هم عليه من الباطل‪،‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬

‫{ ‪ { } 9-11‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُت ْل ِهكُمْ َأ ْموَاُلكُ ْم وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ‬
‫هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْ ِفقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َأحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ فَ َيقُولَ َربّ َلوْلَا َأخّرْتَنِي‬
‫جُلهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا‬
‫جلٍ قَرِيبٍ فََأصّدّقَ وََأكُنْ مِنَ الصّاِلحِينَ * وَلَنْ ُيؤَخّرَ اللّهُ َنفْسًا ِإذَا جَاءَ أَ َ‬
‫إِلَى أَ َ‬
‫َت ْعمَلُونَ }‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بالكثار من ذكره‪ ،‬فإن في ذلك الربح والفلح‪ ،‬والخيرات الكثيرة‪،‬‬
‫وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولدهم عن ذكره‪ ،‬فإن محبة المال والولد مجبولة عليها أكثر‬
‫النفوس‪ ،‬فتقدمها على محبة ال‪ ،‬وفي ذلك الخسارة العظيمة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ }‬
‫أي‪ :‬يلهه ماله وولده‪ ،‬عن ذكر ال { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ } للسعادة البدية‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬لنهم‬
‫آثروا ما يفنى على ما يبقى‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َأ ْموَاُلكُمْ وَأَوْلَا ُد ُكمْ فِتْنَ ٌة وَاللّهُ عِنْ َدهُ َأجْرٌ عَظِيمٌ } ‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬وَأَ ْنفِقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ } يدخل في هذا‪ ،‬النفقات الواجبة‪ ،‬من الزكاة والكفارات ونفقة‬
‫الزوجات‪ ،‬والمماليك‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬والنفقات المستحبة‪ ،‬كبذل المال في جميع المصالح‪ ،‬وقال‪ِ { :‬ممّا‬
‫رَ َزقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى‪ ،‬لم يكلف العباد من النفقة‪ ،‬ما يعنتهم ويشق عليهم‪ ،‬بل أمرهم‬
‫بإخراج جزء مما رزقهم ال الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه‪.‬‬

‫فليشكروا الذي أعطاهم‪ ،‬بمواساة إخوانهم المحتاجين‪ ،‬وليبادروا بذلك‪ ،‬الموت الذي إذا جاء‪ ،‬لم‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ فَ َيقُولَ }‬
‫يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ أَ َ‬
‫متحسرًا على ما فرط في وقت المكان‪ ،‬سائلً الرجعة التي هي محال‪َ { :‬ربّ َلوْلَا َأخّرْتَنِي إِلَى‬
‫جلٍ قَرِيبٍ } أي‪ :‬لتدارك ما فرطت فيه‪ { ،‬فََأصّدّقَ } من مالي‪ ،‬ما به أنجو من العذاب‪ ،‬وأستحق‬
‫أَ َ‬
‫به جزيل الثواب‪ { ،‬وََأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها‪ ،‬واجتناب المنهيات‪ ،‬ويدخل في‬
‫هذا‪ ،‬الحج وغيره‪ ،‬وهذا السؤال والتمني‪ ،‬قد فات وقته‪ ،‬ول يمكن تداركه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلَنْ ُيؤَخّرَ‬
‫اللّهُ َنفْسًا إِذَا جَاءَ َأجَُلهَا } المحتوم لها { وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } من خير وشر‪ ،‬فيجازيكم على ما‬
‫علمه منكم‪ ،‬من النيات والعمال‪.‬‬

‫تم تفسير سورة المنافقين‪،‬‬

‫ول الحمد‬

‫تفسير سورة التغابن‬


‫[وهي مكية]‬

‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ وََلهُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-4‬بِ ْ‬
‫ن وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ * ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ َفمِ ْنكُمْ كَافِ ٌر َومِ ْنكُمْ ُم ْؤمِ ٌ‬
‫ح ْم ُد وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫الْ َ‬
‫صوَ َركُ ْم وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ * َيعْلَمُ مَا فِي‬
‫ن ُ‬
‫صوّرَكُمْ فََأحْسَ َ‬
‫ق َو َ‬
‫حّ‬‫ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َبصِيرٌ * خََلقَ ال ّ‬
‫ن وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ }‬
‫ن َومَا ُتعْلِنُو َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَ َيعْلَمُ مَا تُسِرّو َ‬
‫ال ّ‬

‫هذه اليات [الكريمات]‪ ،‬مشتملت على جملة كثيرة واسعة‪ ،‬من أوصاف الباري العظيمة‪ ،‬فذكر‬
‫كمال ألوهيته تعالى‪ ،‬وسعة غناه‪ ،‬وافتقار جميع الخلئق إليه‪ ،‬وتسبيح من في السماوات والرض‬
‫بحمد ربها‪ ،‬وأن الملك كله ل‪ ،‬فل يخرج مخلوق عن ملكه‪ ،‬والحمد كله له‪ ،‬حمد على ما له من‬
‫صفات الكمال‪ ،‬وحمد على ما أوجده من الشياء‪ ،‬وحمد على ما شرعه من الحكام‪ ،‬وأسداه من‬
‫النعم‪.‬‬

‫وقدرته شاملة‪ ،‬ل يخرج عنها موجود‪ ،‬فل يعجزه شيء يريده‪.‬‬

‫وذكر أنه خلق العباد‪ ،‬وجعل منهم المؤمن والكافر‪ ،‬فإيمانهم وكفرهم كله‪ ،‬بقضاء ال وقدره‪ ،‬وهو‬
‫الذي شاء ذلك منهم‪ ،‬بأن جعل لهم قدرة وإرادة‪ ،‬بها يتمكنون من كل ما يريدون من المر‬
‫والنهي‪ { ،‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } ‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ‬
‫فلما ذكر خلق النسان المكلف المأمور المنهي‪ ،‬ذكر خلق باقي المخلوقات‪ ،‬فقال‪ { :‬خَلْقِ ال ّ‬
‫حقّ } أي‪ :‬بالحكمة‪ ،‬والغاية‬
‫وَالْأَ ْرضِ } أي‪ :‬أجرامهما‪[ ،‬وجميع] ما فيهما‪ ،‬فأحسن خلقهما‪ { ،‬بِالْ َ‬
‫صوَ َركُمْ } كما قال تعالى‪َ { :‬لقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي َأحْسَنِ‬
‫ن ُ‬
‫المقصودة له تعالي‪َ { ،‬وصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ‬
‫َتقْوِيمٍ } فالنسان أحسن المخلوقات صورة‪ ،‬وأبهاها منظرًا‪ { .‬وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } أي‪ :‬المرجع يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فيجازيكم على إيمانكم وكفركم‪ ،‬ويسألكم عن النعم والنعيم‪ ،‬الذي أولكموه هل قمتم‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي‪:‬‬
‫بشكره‪ ،‬أم لم تقوموا بشكره؟ ثم ذكر عموم علمه‪ ،‬فقال‪َ { :‬يعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫علِيمٌ ِبذَاتِ‬
‫ن وَاللّهُ َ‬
‫من السرائر والظواهر‪ ،‬والغيب والشهادة‪ { .‬وَ َيعْلَمُ مَا ُتسِرّونَ َومَا ُتعْلِنُو َ‬
‫الصّدُورِ } أي‪ :‬بما فيها من السرار الطيبة‪ ،‬والخبايا الخبيثة‪ ،‬والنيات الصالحة‪ ،‬والمقاصد‬
‫الفاسدة‪ ،‬فإذا كان عليمًا بذات الصدور‪ ،‬تعين على العاقل البصير‪ ،‬أن يحرص ويجتهد في حفظ‬
‫باطنه‪ ،‬من الخلق الرذيلة‪ ،‬واتصافه بالخلق الجميلة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 5-6‬أََلمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ فَذَاقُوا وَبَالَ َأمْرِهِمْ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * َذِلكَ بِأَنّهُ كَا َنتْ‬
‫حمِيدٌ }‬
‫سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفقَالُوا أَ َبشَرٌ َيهْدُونَنَا َف َكفَرُوا وَ َتوَّلوْا وَاسْ َتغْنَى اللّ ُه وَاللّهُ غَ ِنيّ َ‬
‫تَأْتِيهِمْ رُ ُ‬

‫لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة‪ ،‬ما به يعرف ويعبد‪ ،‬ويبذل الجهد في مرضاته‪،‬‬
‫وتجتنب مساخطه‪ ،‬أخبر بما فعل بالمم السابقين‪ ،‬والقرون الماضين‪ ،‬الذين لم تزل أنباؤهم يتحدث‬
‫بها المتأخرون‪ ،‬ويخبر بها الصادقون‪ ،‬وأنهم حين جاءتهم الرسل بالحق‪ ،‬كذبوهم وعاندوهم‪،‬‬
‫فأذاقهم ال وبال أمرهم في الدنيا‪ ،‬وأخزاهم فيها‪ { ،‬وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في [الدار] الخرة‪ ،‬ولهذا‬
‫ذكر السبب في هذه العقوبة فقال‪ { :‬ذَِلكَ } النكال والوبال‪ ،‬الذي أحللناه بهم { بِأَنّهُ كَا َنتْ تَأْتِيهِمْ‬
‫رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي‪ :‬باليات الواضحات‪ ،‬الدالة على الحق والباطل‪ ،‬فاشمأزوا‪ ،‬واستكبروا على‬
‫رسلهم‪ { ،‬فقالوا أَ َبشَرٌ َيهْدُونَنَا } أي‪ :‬فليس لهم فضل علينا‪ ،‬ولي‪ :‬شيء خصهم ال دوننا‪ ،‬كما قال‬
‫في الية الخرى‪ { :‬قَاَلتْ َلهُمْ رُسُُلهُمْ إِنْ نَحْنُ ِإلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ‬
‫عِبَا ِدهِ } فهم حجروا فضل ال ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلً للخلق‪ ،‬واستكبروا عن النقياد‬
‫لهم‪ ،‬فابتلوا بعبادة الحجار والشجار ونحوها { َف َكفَرُوا } بال { وَ َتوَّلوْا } عن طاعه ال‪،‬‬
‫حمِيدٌ } أي‪ :‬هو‬
‫{ وَاسْ َتغْنَى اللّهُ } عنهم‪ ،‬فل يبالي بهم‪ ،‬ول يضره ضللهم شيئًا‪ { ،‬وَاللّهُ غَ ِنيّ َ‬
‫الغني‪ ،‬الذي له الغنى التام المطلق‪ ،‬من جميع الوجوه‪ ،‬الحميد في أقواله وأفعاله وأوصافه‪.‬‬

‫عمِلْتُ ْم َوذَِلكَ عَلَى اللّهِ‬


‫{ ‪ { } 7‬زَعَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ لَنْ يُ ْبعَثُوا ُقلْ بَلَى وَرَبّي لَتُ ْبعَثُنّ ُثمّ لَتُنَ ّبؤُنّ ِبمَا َ‬
‫يَسِيرٌ }‬

‫يخبر تعالى عن عناد الكافرين‪ ،‬وزعمهم الباطل‪ ،‬وتكذيبهم بالبعث بغير علم ول هدى ول كتاب‬
‫منير‪ ،‬فأمر أشرف خلقه‪ ،‬أن يقسم بربه على بعثهم‪ ،‬وجزائهم بأعمالهم الخبيثة‪ ،‬وتكذيبهم بالحق‪{ ،‬‬
‫وَذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } فإنه وإن كان عسيرًا بل متعذرًا بالنسبة إلى الخلق‪ ،‬فإن قواهم كلهم‪ ،‬لو‬
‫اجتمعت على إحياء ميت [واحد]‪ ،‬ما قدروا على ذلك‪.‬‬
‫صعِقَ‬
‫وأما ال تعالى‪ ،‬فإنه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َف َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ ثُمّ ُنفِخَ فِيهِ ُأخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } ‪.‬‬
‫مَنْ فِي ال ّ‬

‫{ ‪ { } 8‬فَآمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَالنّورِ الّذِي أَنْ َزلْنَا وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }‬

‫لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث‪ ،‬وأن ذلك [منهم] موجب كفرهم بال وآياته‪ ،‬أمر بما يعصم‬
‫من الهلكة والشقاء‪ ،‬وهو اليمان بال ورسوله وكتابه وسماه ال نورًا‪ ،‬فإن النور ضد الظلمة‪،‬‬
‫وما في الكتاب الذي أنزله ال من الحكام والشرائع والخبار‪ ،‬أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل‬
‫المدلهمة‪ ،‬ويمشى بها في حندس الليل البهيم‪ ،‬وما سوى الهتداء بكتاب ال‪ ،‬فهي علوم ضررها‬
‫أكثر من نفعها‪ ،‬وشرها أكثر من خيرها‪ ،‬بل ل خير فيها ول نفع‪ ،‬إل ما وافق ما جاءت به‬
‫الرسل‪ ،‬واليمان بال ورسوله وكتابه‪ ،‬يقتضي الجزم التام‪ ،‬واليقين الصادق بها‪ ،‬والعمل بمقتضى‬
‫ذلك التصديق‪ ،‬من امتثال الوامر‪ ،‬واجتناب المناهي { وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازيكم‬
‫بأعمالكم الصالحة والسيئة‪.‬‬

‫ن َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَ َي ْع َملْ صَاِلحًا ُي َكفّرْ عَ ْنهُ‬


‫جمْعِ ذَِلكَ َيوْمُ ال ّتغَابُ ِ‬
‫ج َم ُعكُمْ لِ َيوْمِ ا ْل َ‬
‫{ ‪َ { } 9-10‬يوْمَ َي ْ‬
‫سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِ ْلهُ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا َذِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ * وَالّذِينَ َكفَرُوا‬
‫َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬

‫يعني‪ :‬اذكروا يوم الجمع الذي يجمع ال به الولين والخرين‪ ،‬ويقفهم موقفًا هائلً عظيمًا‪ ،‬وينبئهم‬
‫بما عملوا‪ ،‬فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلئق‪ ،‬ويرفع أقوام إلى أعلى عليين‪ ،‬في الغرف‬
‫العاليات‪ ،‬والمنازل المرتفعات‪ ،‬المشتملة على جميع اللذات والشهوات‪ ،‬ويخفض أقوام إلى أسفل‬
‫سافلين‪ ،‬محل الهم والغم‪ ،‬والحزن‪ ،‬والعذاب الشديد‪ ،‬وذلك نتيجة ما قدموه لنفسهم‪ ،‬وأسلفوه أيام‬
‫حياتهم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬ذَِلكَ َيوْمُ ال ّتغَابُنِ } ‪.‬‬

‫أي‪ :‬يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلئق‪ ،‬ويغبن المؤمنون الفاسقين‪ ،‬ويعرف المجرمون أنهم‬
‫على غير شيء‪ ،‬وأنهم هم الخاسرون‪ ،‬فكأنه قيل‪ :‬بأي شيء يحصل الفلح والشقاء والنعيم‬
‫والعذاب؟‬

‫فذكر تعالى أسباب ذلك بقوله‪َ { :‬ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ } [أي‪ ]:‬إيمانًا تامًا‪ ،‬شاملً لجميع ما أمر ال‬
‫باليمان به‪ { ،‬وَ َي ْع َملْ صَاِلحًا } من الفرائض والنوافل‪ ،‬من أداء حقوق ال وحقوق عباده‪ { .‬يُ ْدخِلْهُ‬
‫جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } فيها ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وتختاره الرواح‪ ،‬وتحن‬
‫إليه القلوب‪ ،‬ويكون نهاية كل مرغوب‪ { ،‬خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } ‪.‬‬
‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا } أي‪ :‬كفروا [بها] من غير مستند شرعي ول عقلي‪ ،‬بل جاءتهم‬
‫الدلة والبينات‪ ،‬فكذبوا بها‪ ،‬وعاندوا ما دلت عليه‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ خَاِلدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } لنها جمعت كل بؤس وشدة‪ ،‬وشقاء وعذاب‪.‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ‬
‫{ ‪ { } 11-13‬مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّ ِه َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َي ْهدِ قَلْبَ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫* وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَإِ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ * اللّهُ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ‬
‫وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }‬

‫يقول تعالى‪ { :‬مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ } هذا عام لجميع المصائب‪ ،‬في النفس‪ ،‬والمال‪،‬‬
‫والولد‪ ،‬والحباب‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬فجميع ما أصاب العباد‪ ،‬فبقضاء ال وقدره‪ ،‬قد سبق بذلك علم ال‬
‫[تعالى]‪ ،‬وجرى به قلمه‪ ،‬ونفذت به مشيئته‪ ،‬واقتضته حكمته‪ ،‬والشأن كل الشأن‪ ،‬هل يقوم العبد‬
‫بالوظيفة التي عليه في هذا المقام‪ ،‬أم ل يقوم بها؟ فإن قام بها‪ ،‬فله الثواب الجزيل‪ ،‬والجر‬
‫الجميل‪ ،‬في الدنيا والخرة‪ ،‬فإذا آمن أنها من عند ال‪ ،‬فرضي بذلك‪ ،‬وسلم لمره‪ ،‬هدى ال قلبه‪،‬‬
‫فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب‪ ،‬كما يجري لمن لم يهد ال قلبه‪ ،‬بل يرزقه الثبات عند‬
‫ورودها والقيام بموجب الصبر‪ ،‬فيحصل له بذلك ثواب عاجل‪ ،‬مع ما يدخر ال له يوم الجزاء‬
‫حسَابٍ } وعلم من هذا أن من لم‬
‫من الثواب كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ أَجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫يؤمن بال عند ورود المصائب‪ ،‬بأن لم يلحظ قضاء ال وقدره‪ ،‬بل وقف مع مجرد السباب‪ ،‬أنه‬
‫يخذل‪ ،‬ويكله ال إلى نفسه‪ ،‬وإذا وكل العبد إلى نفسه‪ ،‬فالنفس ليس عندها إل الجزع والهلع الذي‬
‫هو عقوبة عاجلة على العبد‪ ،‬قبل عقوبة الخرة‪ ،‬على ما فرط في واجب الصبر‪ .‬هذا ما يتعلق‬
‫بقوله‪َ { :‬ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َيهْدِ قَلْ َبهُ } في مقام المصائب الخاص‪ ،‬وأما ما يتعلق بها من حيث العموم‬
‫اللفظي‪ ،‬فإن ال أخبر أن كل من آمن أي‪ :‬اليمان المأمور به‪ ،‬من اليمان بال وملئكته وكتبه‬
‫ورسله واليوم الخر والقدر خيره وشره‪ ،‬وصدق إيمانه بما يقتضيه اليمان من القيام بلوازمه‬
‫وواجباته‪ ،‬أن هذا السبب الذي قام به العبد أكبر سبب لهداية ال له في أحواله وأقواله‪ ،‬وأفعاله‬
‫وفي علمه وعمله‪.‬‬

‫وهذا أفضل جزاء يعطيه ال لهل اليمان‪ ،‬كما قال تعالى في الخبار‪ :‬أن المؤمنين يثبتهم ال‬
‫في الحياة الدنيا وفي الخرة‪.‬‬
‫وأصل الثبات‪ :‬ثبات القلب وصبره‪ ،‬ويقينه عند ورود كل فتنة‪ ،‬فقال‪ { :‬يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا‬
‫بِا ْلقَ ْولِ الثّا ِبتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ } فأهل اليمان أهدى الناس قلوبًا‪ ،‬وأثبتهم عند‬
‫المزعجات والمقلقات‪ ،‬وذلك لما معهم من اليمان‪.‬‬

‫[وقوله‪ { ]:‬وََأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ } أي‪ :‬في امتثال أمرهما‪ ،‬واجتناب نهيهما‪ ،‬فإن طاعة‬
‫ال وطاعة رسوله‪ ،‬مدار السعادة‪ ،‬وعنوان الفلح‪ { ،‬فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ } [أي] عن طاعة ال وطاعة‬
‫رسوله‪ { ،‬فَإِ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } أي‪ :‬يبلغكم ما أرسل به إليكم‪ ،‬بلغًا يبين لكم ويتضح‬
‫وتقوم عليكم به الحجة‪ ،‬وليس بيده من هدايتكم‪ ،‬ول من حسابكم من شيء‪ ،‬وإنما يحاسبكم على‬
‫القيام بطاعة ال وطاعة رسوله‪ ،‬أو عدم ذلك‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪.‬‬

‫{ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } أي‪ :‬هو المستحق للعبادة واللوهية‪ ،‬فكل معبود سواه فباطل‪ { ،‬وَعَلَى اللّهِ‬
‫فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬فيلعتمدوا عليه في كل أمر نابهم‪ ،‬وفيما يريدون القيام به‪ ،‬فإنه ل يتيسر‬
‫أمر من المور إل بال‪ ،‬ول سبيل إلى ذلك إل بالعتماد على ال‪ ،‬ول يتم العتماد على ال‪،‬‬
‫حتى يحسن العبد ظنه بربه‪ ،‬ويثق به في كفايته المر الذي اعتمد عليه به‪ ،‬وبحسب إيمان العبد‬
‫يكون توكله‪ ،‬فكلما قوي اليمان قوي التوكل‬

‫جكُ ْم وََأوْلَا ِدكُمْ عَ ُدوّا َلكُمْ فَاحْذَرُو ُه ْم وَإِنْ َتعْفُوا‬


‫{ ‪ { } 14-15‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫عظِيمٌ }‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * إِ ّنمَا َأ ْموَاُلكُمْ وََأوْلَا ُدكُمْ فِتْنَ ٌة وَاللّهُ عِنْ َدهُ َأجْرٌ َ‬
‫وَ َتصْفَحُوا وَ َت ْغفِرُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫هذا تحذير من ال للمؤمنين‪ ،‬من الغترار بالزواج والولد‪ ،‬فإن بعضهم عدو لكم‪ ،‬والعدو هو‬
‫الذي يريد لك الشر‪ ،‬ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه والنفس مجبولة على محبة الزواج‬
‫والولد‪ ،‬فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة النقياد لمطالب الزواج والولد‪ ،‬ولو‬
‫كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره‪ ،‬وتقديم مرضاته بما عنده من‬
‫الجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية‪ ،‬وأن يؤثروا الخرة على الدنيا‬
‫الفانية المنقضية‪ ،‬ولما كان النهي عن طاعة الزواج والولد‪ ،‬فيما هو ضرر على العبد‪،‬‬
‫والتحذير من ذلك‪ ،‬قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم‪ ،‬أمر تعالى بالحذر منهم‪ ،‬والصفح عنهم والعفو‪،‬‬
‫صفَحُوا وَ َتغْفِرُوا فَإِنّ اللّهَ‬
‫فإن في ذلك‪ ،‬من المصالح ما ل يمكن حصره‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنْ َت ْعفُوا وَ َت ْ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ } لن الجزاء من جنس العمل‪.‬‬
‫َ‬

‫فمن عفا عفا ال عنه‪ ،‬ومن صفح صفح ال عنه‪ ،‬ومن غفر غفر ال له‪ ،‬ومن عامل ال فيما‬
‫يحب‪ ،‬وعامل عباده كما يحبون وينفعهم‪ ،‬نال محبة ال ومحبة عباده‪ ،‬واستوثق له أمره‪.‬‬
‫سهِ‬
‫سكُ ْم َومَنْ يُوقَ شُحّ َنفْ ِ‬
‫س َمعُوا وَأَطِيعُوا وَأَ ْنفِقُوا خَيْرًا لِأَ ْنفُ ِ‬
‫طعْتُ ْم وَا ْ‬
‫{ ‪ { } 16-18‬فَا ّتقُوا اللّهَ مَا اسْتَ َ‬
‫شكُورٌ حَلِيمٌ *‬
‫عفْهُ َلكُمْ وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * إِنْ ُتقْرِضُوا اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا ُيضَا ِ‬
‫حكِيمُ }‬
‫شهَا َدةِ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬

‫يأمر تعالى بتقواه‪ ،‬التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬ويقيد ذلك بالستطاعة والقدرة‪.‬‬

‫فهذه الية‪ ،‬تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد‪ ،‬أنه يسقط عنه‪ ،‬وأنه إذا قدر على بعض‬
‫المأمور‪ ،‬وعجز عن بعضه‪ ،‬فإنه يأتي بما يقدر عليه‪ ،‬ويسقط عنه ما يعجز عنه‪ ،‬كما قال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "‪.‬‬

‫س َمعُوا }‬
‫ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع‪ ،‬ما ل يدخل تحت الحصر‪ ،‬وقوله‪ { :‬وَا ْ‬
‫أي‪ :‬اسمعوا ما يعظكم ال به‪ ،‬وما يشرعه لكم من الحكام‪ ،‬واعلموا ذلك وانقادوا له { وََأطِيعُوا }‬
‫ال ورسوله في جميع أموركم‪ { ،‬وَأَ ْنفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة‪ ،‬يكن ذلك‬
‫الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والخرة‪ ،‬فإن الخير كله في امتثال أوامر ال تعالى وقبول‬
‫نصائحه‪ ،‬والنقياد لشرعه‪ ،‬والشر كله‪ ،‬في مخالفة ذلك‪.‬‬

‫ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس‪ ،‬من النفقة المأمور بها‪ ،‬وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس‪،‬‬
‫فإنها تشح بالمال‪ ،‬وتحب وجوده‪ ،‬وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة‪.‬‬

‫فمن وقاه ال شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالنفاق النافع لها { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } لنهم‬
‫أدركوا المطلوب‪ ،‬ونجوا من المرهوب‪ ،‬بل لعل ذلك‪ ،‬شامل لكل ما أمر به العبد‪ ،‬ونهي عنه‪ ،‬فإنه‬
‫إن كانت نفسه شحيحة‪ .‬ل تنقاد لما أمرت به‪ ،‬ول تخرج ما قبلها‪ ،‬لم يفلح‪ ،‬بل خسر الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وإن كانت نفسه نفسًا سمحة‪ ،‬مطمئنة‪ ،‬منشرحة لشرع ال‪ ،‬طالبة لمرضاة‪ ،‬فإنها ليس‬
‫بينها وبين فعل ما كلفت به إل العلم به‪ ،‬ووصول معرفته إليها‪ ،‬والبصيرة بأنه مرض ل تعالى‪،‬‬
‫وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز‪.‬‬

‫حسَنًا } وهو كل نفقة كانت من الحلل‪،‬‬


‫ثم رغب تعالى في النفقة فقال‪ { :‬إِنْ ُتقْ ِرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫عفْهُ َلكُمْ } النفقة‪،‬‬
‫إذا قصد بها العبد وجه ال تعالى وطلب مرضاته‪ ،‬ووضعها في موضعها { ُيضَا ِ‬
‫بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬إلى أضعاف كثيرة‪.‬‬

‫{ و } مع المضاعفة أيضًا { يغفر َلكُمُ } بسبب النفاق والصدقة ذنوبكم‪ ،‬فإن الذنوب يكفرها ال‬
‫بالصدقات والحسنات‪ { :‬إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ يُ ْذهِبْنَ السّيّئَاتِ } ‪.‬‬
‫خذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا‬
‫شكُورٌ حَلِيمٌ } ل يعاجل من عصاه‪ ،‬بل يمهله ول يهمله‪ { ،‬وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫سمّى } وال تعالى شكور يقبل من عباده‬
‫جلٍ ُم َ‬
‫ظهْرِهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّرُ ُهمْ إِلَى َأ َ‬
‫مَا تَ َركَ عَلَى َ‬
‫اليسير من العمل‪ ،‬ويجازيهم عليه الكثير من الجر‪ ،‬ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق‬
‫والثقال‪ ،‬وناء بالتكاليف الثقال‪ ،‬ومن ترك شيئًا ل‪ ،‬عوضه ال خيرًا منه‪.‬‬

‫شهَا َدةِ } أي‪ :‬ما غاب عن العباد من الجنود التي ل يعلمها إل هو‪ ،‬وما يشاهدونه‬
‫ب وَال ّ‬
‫{ عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫حكِيمُ } في خلقه‬
‫من المخلوقات‪ { ،‬ا ْلعَزِيزُ } الذي ل يغالب ول يمانع‪ ،‬الذي قهر كل الشياء‪ { ،‬الْ َ‬
‫وأمره‪ ،‬الذي يضع الشياء مواضعها‪.‬‬

‫تم تفسير سورة التغابن [ول الحمد]‪.‬‬

‫تفسير سورة الطلق‬


‫[وهي مدنية]‬

‫حصُوا ا ْلعِ ّدةَ‬


‫ن وَأَ ْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ َفطَّلقُوهُنّ ِل ِعدّ ِتهِ ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-3‬بِ ْ‬
‫حدُودُ اللّهِ‬
‫شةٍ مُبَيّنَ ٍة وَتِ ْلكَ ُ‬
‫ن وَلَا يَخْ ُرجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِ َ‬
‫وَاتّقُوا اللّهَ رَ ّبكُمْ لَا ُتخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُو ِتهِ ّ‬
‫حدُودَ اللّهِ َفقَدْ ظََلمَ َنفْسَهُ لَا َتدْرِي َل َعلّ اللّهَ ُيحْ ِدثُ َبعْدَ ذَِلكَ َأمْرًا * فَِإذَا بََلغْنَ َأجََلهُنّ‬
‫َومَنْ يَ َت َعدّ ُ‬
‫شهَا َدةَ لِلّهِ ذَِلكُمْ‬
‫شهِدُوا َذ َويْ عَ ْدلٍ مِ ْنكُمْ وََأقِيمُوا ال ّ‬
‫ف وَأَ ْ‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ فَا ِرقُوهُنّ ِب َمعْرُو ٍ‬
‫فََأمْ ِ‬
‫ج َعلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ لَا‬
‫يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِ ِر َومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ‬
‫شيْءٍ قَدْرًا }‬
‫ج َعلَ اللّهُ ِل ُكلّ َ‬
‫سبُ َومَنْ يَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ َف ُهوَ حَسْ ُبهُ إِنّ اللّهَ بَالِغُ َأمْ ِرهِ َقدْ َ‬
‫يَحْ َت ِ‬

‫يقول تعالى مخاطبًا لنبيه صلى ال عليه وسلم وللمؤمنين‪:‬‬

‫{ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ } أي‪ :‬أردتم طلقهن { فـ } التمسوا لطلقهن المر المشروع‪ ،‬ول‬
‫تبادروا بالطلق من حين يوجد سببه‪ ،‬من غير مراعاة لمر ال‪.‬‬

‫بل { طَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ } أي‪ :‬لجل عدتهن‪ ،‬بأن يطلقها زوجها وهي طاهر‪ ،‬في طهر لم يجامعها‬
‫فيه‪ ،‬فهذا الطلق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة‪ ،‬بخلف ما لو طلقها وهي حائض‪ ،‬فإنها‬
‫ل تحتسب تلك الحيضة‪ ،‬التي وقع فيها الطلق‪ ،‬وتطول عليها العدة بسبب ذلك‪ ،‬وكذلك لو طلقها‬
‫في طهر وطئ فيه‪ ،‬فإنه ل يؤمن حملها‪ ،‬فل يتبين و [ل] يتضح بأي عدة تعتد‪ ،‬وأمر تعالى‬
‫بإحصاء العدة‪ ،‬أي‪ :‬ضبطها بالحيض إن كانت تحيض‪ ،‬أو بالشهر إن لم تكن تحيض‪ ،‬وليست‬
‫حاملً‪ ،‬فإن في إحصائها أداء لحق ال‪ ،‬وحق الزوج المطلق‪ ،‬وحق من سيتزوجها بعد‪[ ،‬وحقها في‬
‫النفقة ونحوها] فإذا ضبطت عدتها‪ ،‬علمت حالها على بصيرة‪ ،‬وعلم ما يترتب عليها من الحقوق‪،‬‬
‫وما لها منها‪ ،‬وهذا المر بإحصاء العدة‪ ،‬يتوجه [للزوج] وللمرأة‪ ،‬إن كانت مكلفة‪ ،‬وإل فلوليها‪،‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَا ّتقُوا اللّهَ رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬في جميع أموركم‪ ،‬وخافوه في حق الزوجات المطلقات‪ ،‬فـ { لَا‬
‫تُخْ ِرجُوهُنّ مِنْ بُيُو ِتهِنّ } مدة العدة‪ ،‬بل يلزمن بيوتهن الذي طلقها زوجها وهي فيها‪.‬‬

‫{ وَلَا َيخْرُجْنَ } أي‪ :‬ل يجوز لهن الخروج منها‪ ،‬أما النهي عن إخراجها‪ ،‬فلن المسكن‪ ،‬يجب‬
‫على الزوج للزوجة ‪ ،‬لتكمل فيه عدتها التي هي حق من حقوقه‪.‬‬

‫وأما النهي عن خروجها‪ ،‬فلما في خروجها‪ ،‬من إضاعة حق الزوج وعدم صونه‪.‬‬

‫ويستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت‪ ،‬والخراج إلى تمام العدة‪.‬‬

‫شةٍ مُبَيّنَةٍ } أي‪ :‬بأمر قبيح واضح‪ ،‬موجب لخراجها‪ ،‬بحيث يدخل على أهل‬
‫{ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِ َ‬
‫البيت الضرر من عدم إخراجها‪ ،‬كالذى بالقوال والفعال الفاحشة‪ ،‬ففي هذه الحال يجوز لهم‬
‫إخراجها‪ ،‬لنها هي التي تسببت لخراج نفسها‪ ،‬والسكان فيه جبر لخاطرها‪ ،‬ورفق بها‪ ،‬فهي‬
‫التي أدخلت الضرر على نفسها ‪ ،‬وهذا في المعتدة الرجعية‪ ،‬وأما البائن‪ ،‬فليس لها سكنى واجبة‪،‬‬
‫لن السكن تبع للنفقة‪ ،‬والنفقة تجب للرجعية دون البائن‪ { ،‬وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ } [أي‪ ]:‬التي حددها‬
‫لعباده وشرعها لهم‪ ،‬وأمرهم بلزومها‪ ،‬والوقوف معها‪َ { ،‬ومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ } بأن لم يقف معها‪،‬‬
‫سهُ } أي‪ :‬بخسها حظها‪ ،‬وأضاع نصيبه من اتباع حدود‬
‫بل تجاوزها‪ ،‬أو قصر عنها‪َ { ،‬فقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ‬
‫ال التي هي الصلح في الدنيا والخرة‪ { .‬لَا تَدْرِي َل َعلّ اللّهَ ُيحْ ِدثُ َبعْدَ ذَِلكَ َأمْرًا } أي‪ :‬شرع ال‬
‫العدة‪ ،‬وحدد الطلق بها‪ ،‬لحكم عظيمة‪ :‬فمنها‪ :‬أنه لعل ال يحدث في قلب المطلق الرحمة‬
‫والمودة‪ ،‬فيراجع من طلقها‪ ،‬ويستأنف عشرتها‪ ،‬فيتمكن من ذلك مدة العدة‪ ،‬أولعله يطلقها لسبب‬
‫منها‪ ،‬فيزول ذلك السبب في مدة العدة‪ ،‬فيراجعها لنتفاء سبب الطلق‪.‬‬

‫ومن الحكم‪ :‬أنها مدة التربص‪ ،‬يعلم براءة رحمها من زوجها‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬فَإِذَا بََلغْنَ أَجََلهُنّ } أي‪ :‬إذا قاربن انقضاء العدة‪ ،‬لنهن لو خرجن من العدة‪ ،‬لم يكن‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } أي‪ :‬على وجه المعاشرة [الحسنة]‪،‬‬
‫الزوج مخيرًا بين المساك والفراق‪ { .‬فََأمْ ِ‬
‫والصحبة الجميلة‪ ،‬ل على وجه الضرار‪ ،‬وإرادة الشر والحبس‪ ،‬فإن إمساكها على هذا الوجه‪ ،‬ل‬
‫يجوز‪َ { ،‬أوْ فَا ِرقُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } أي‪ :‬فراقًا ل محذور فيه‪ ،‬من غير تشاتم ول تخاصم‪ ،‬ول قهر‬
‫لها على أخذ شيء من مالها‪.‬‬
‫ش ِهدُوا } على طلقها ورجعتها { َذ َويْ عَ ْدلٍ مِ ْنكُمْ } أي‪ :‬رجلين مسلمين عدلين‪ ،‬لن في‬
‫{ وَأَ ْ‬
‫الشهاد المذكور‪ ،‬سدًا لباب المخاصمة‪ ،‬وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه‪.‬‬

‫شهَا َدةَ لِلّهِ } أي‪ :‬ائتوا بها على وجهها‪ ،‬من غير زيادة ول نقص‪،‬‬
‫{ وََأقِيمُوا } أيها الشهداء { ال ّ‬
‫واقصدوا بإقامتها وجه ال وحده ول تراعوا بها قريبًا لقرابته‪ ،‬ول صاحبًا لمحبته‪ { ،‬ذَِلكُمْ } الذي‬
‫ذكرنا لكم من الحكام والحدود { يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ } فإن من يؤمن بال‪،‬‬
‫واليوم الخر‪ ،‬يوجب له ذلك أن يتعظ بمواعظ ال‪ ،‬وأن يقدم لخرته من العمال الصالحة‪ ،‬ما‬
‫يتمكن منها‪ ،‬بخلف من ترحل اليمان عن قلبه‪ ،‬فإنه ل يبالي بما أقدم عليه من الشر‪ ،‬ول يعظم‬
‫مواعظ ال لعدم الموجب لذلك‪ ،‬ولما كان الطلق قد يوقع في الضيق والكرب والغم‪ ،‬أمر تعالى‬
‫بتقواه‪ ،‬وأن من اتقاه في الطلق وغيره فإن ال يجعل له فرجًا ومخرجًا‪.‬‬

‫فإذا أراد العبد الطلق‪ ،‬ففعله على الوجه الشرعي‪ ،‬بأن أوقعه طلقة واحدة‪ ،‬في غير حيض ول‬
‫طهر قد وطئ فيه فإنه ل يضيق عليه المر‪ ،‬بل جعل ال له فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة‬
‫النكاح إذا ندم على الطلق‪ ،‬والية‪ ،‬وإن كانت في سياق الطلق والرجعة‪ ،‬فإن العبرة بعموم‬
‫اللفظ‪ ،‬فكل من اتقى ال تعالى‪ ،‬ولزم مرضاة ال في جميع أحواله‪ ،‬فإن ال يثيبه في الدنيا‬
‫والخرة‪.‬‬

‫ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة‪ ،‬وكما أن من اتقى ال جعل له‬
‫فرجًا ومخرجًا‪ ،‬فمن لم يتق ال‪ ،‬وقع في الشدائد والصار والغلل‪ ،‬التي ل يقدر على التخلص‬
‫منها والخروج من تبعتها‪ ،‬واعتبر ذلك بالطلق‪ ،‬فإن العبد إذا لم يتق ال فيه‪ ،‬بل أوقعه على‬
‫الوجه المحرم‪ ،‬كالثلث ونحوها‪ ،‬فإنه ل بد أن يندم ندامة ل يتمكن من استدراكها والخروج‬
‫منها‪.‬‬

‫سبُ } أي‪ :‬يسوق ال الرزق للمتقي‪ ،‬من وجه ل يحتسبه ول‬


‫وقوله { وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَحْ َت ِ‬
‫يشعر به‪.‬‬

‫{ َومَنْ يَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ } أي‪ :‬في أمر دينه ودنياه‪ ،‬بأن يعتمد على ال في جلب ما ينفعه ودفع ما‬
‫يضره‪ ،‬ويثق به في تسهيل ذلك { َف ُهوَ حَسْ ُبهُ } أي‪ :‬كافيه المر الذي توكل عليه به‪ ،‬وإذا كان‬
‫المر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم‪ ،‬فهو أقرب إلى العبد من كل شيء‪ ،‬ولكن ربما أن‬
‫الحكمة اللهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ بَاِلغُ َأمْ ِرهِ } أي‪:‬‬
‫شيْءٍ َقدْرًا } أي‪ :‬وقتًا ومقدارًا‪ ،‬ل يتعداه‬
‫ج َعلَ اللّهُ ِل ُكلّ َ‬
‫ل بد من نفوذ قضائه وقدره‪ ،‬ولكنه { قَدْ َ‬
‫ول يقصر عنه‪.‬‬
‫حضْنَ‬
‫شهُ ٍر وَاللّائِي َلمْ يَ ِ‬
‫{ ‪ { } 4-5‬وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْل َمحِيضِ مِنْ نِسَا ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ َفعِدّ ُتهُنّ َثلَاثَةُ أَ ْ‬
‫ج َعلْ لَهُ مِنْ َأمْ ِرهِ ُيسْرًا * َذِلكَ َأمْرُ اللّهِ‬
‫حمَْلهُنّ َومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ‬
‫ضعْنَ َ‬
‫حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ‬
‫وَأُولَاتُ الَْأ ْ‬
‫أَنْزَلَهُ ِإلَ ْيكُ ْم َومَنْ يَتّقِ اللّهَ ُي َكفّرْ عَنْهُ سَيّئَا ِت ِه وَ ُيعْظِمْ لَهُ َأجْرًا }‬

‫لما ذكر تعالى أن الطلق المأمور به يكون لعدة النساء‪ ،‬ذكر تعالى العدة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫{ وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْلمَحِيضِ مِنْ نِسَا ِئكُمْ } بأن كن يحضن‪ ،‬ثم ارتفع حيضهن‪ ،‬لكبر أو غيره‪ ،‬ولم‬
‫يرج رجوعه‪ ،‬فإن عدتها ثلثة أشهر‪ ،‬جعل لكل شهر‪ ،‬مقابلة حيضة‪.‬‬

‫حضْنَ } أي‪ :‬الصغار‪ ،‬اللئي لم يأتهن الحيض بعد‪ ،‬و البالغات اللتي لم يأتهن‬
‫{ وَاللّائِي لَمْ يَ ِ‬
‫حيض بالكلية‪ ،‬فإنهن كاليسات‪ ،‬عدتهن ثلثة أشهر‪ ،‬وأما اللئي يحضن‪ ،‬فذكر ال عدتهن في‬
‫حمَالِ أَجَُلهُنّ } أي‪:‬‬
‫سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [وقوله‪ { ]:‬وَأُولَاتُ الَْأ ْ‬
‫طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫قوله‪ { :‬وَا ْلمُ َ‬
‫حمَْلهُنّ } أي‪ :‬جميع ما في بطونهن‪ ،‬من واحد‪ ،‬ومتعدد‪ ،‬ول عبرة حينئذ‪،‬‬
‫ضعْنَ َ‬
‫عدتهن { أَنْ َي َ‬
‫ج َعلْ لَهُ مِنْ َأمْ ِرهِ يُسْرًا } أي‪ :‬من اتقى ال تعالى‪ ،‬يسر له‬
‫بالشهر ول غيرها‪َ { ،‬ومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ‬
‫المور‪ ،‬وسهل عليه كل عسير‪.‬‬

‫{ ذَِلكَ } [أي‪ ]:‬الحكم الذي بينه ال لكم { َأمْرُ اللّهِ أَنْزََلهُ إِلَ ْيكُمْ } لتمشوا عليه‪[ ،‬وتأتموا] وتقوموا به‬
‫وتعظموه‪.‬‬

‫ظمْ لَهُ َأجْرًا } أي‪ :‬يندفع عنه المحذور‪ ،‬ويحصل له‬


‫{ َومَنْ يَتّقِ اللّهَ ُي َكفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِ ِه وَ ُيعْ ِ‬
‫المطلوب‪.‬‬

‫ن وَإِنْ كُنّ أُولَاتِ‬


‫علَ ْيهِ ّ‬
‫ن ُوجْ ِدكُ ْم وَلَا ُتضَارّوهُنّ لِ ُتضَ ّيقُوا َ‬
‫سكَنْتُمْ مِ ْ‬
‫سكِنُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َ‬
‫{ ‪ { } 6-7‬أَ ْ‬
‫ن وَأْ َتمِرُوا بَيْ َنكُمْ ِب َمعْرُوفٍ‬
‫ضعْنَ َلكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُ ّ‬
‫حمَْلهُنّ فَإِنْ أَ ْر َ‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ح ْملٍ فَأَ ْنفِقُوا عَلَ ْيهِنّ حَتّى َي َ‬
‫َ‬
‫سعَتِ ِه َومَنْ قُدِرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ‬
‫سعَةٍ مِنْ َ‬
‫وَإِنْ َتعَاسَرْتُمْ َفسَتُ ْرضِعُ لَهُ ُأخْرَى * لِيُ ْنفِقْ ذُو َ‬
‫ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ عُسْرٍ ُيسْرًا }‬
‫اللّهُ لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا مَا آتَاهَا سَيَ ْ‬

‫تقدم أن ال نهى عن إخراج المطلقات عن البيوت وهنا أمر بإسكانهن وقدر السكان بالمعررف‪،‬‬
‫وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها‪ ،‬بحسب وجد الزوج وعسره‪ { ،‬وَلَا ُتضَارّوهُنّ لِ ُتضَيّقُوا عَلَ ْيهِنّ‬
‫} أي‪ :‬ل تضاروهن‪ ،‬عند سكناهن بالقول أو الفعل‪ ،‬لجل أن يمللن‪ ،‬فيخرجن من البيوت‪ ،‬قبل‬
‫تمام العدة‪ ،‬فتكونوا‪ ،‬أنتم المخرجين لهن‪ ،‬وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن‪ ،‬ونهاهن عن‬
‫الخروج‪ ،‬وأمر بسكناهن‪ ،‬على وجه ل يحصل به عليهن‪ ،‬ضرر ول مشقة‪ ،‬وذلك راجع إلى‬
‫حمَْلهُنّ } وذلك لجل‬
‫ضعْنَ َ‬
‫علَ ْيهِنّ حَتّى َي َ‬
‫ح ْملٍ فَأَ ْنفِقُوا َ‬
‫العرف‪ { ،‬وَإِنْ كُنّ } أي‪ :‬المطلقات { أُولَاتِ َ‬
‫الحمل الذي في بطنها‪ ،‬إن كانت بائنًا‪ ،‬ولها ولحملها إن كانت رجعية‪ ،‬ومنتهى النفقة حتى يضعن‬
‫ضعْنَ َل ُكمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ‬
‫حملهن فإذا وضعن حملهن‪ ،‬فإما أن يرضعن أولدهن أو ل‪ { ،‬فَإِنْ أَ ْر َ‬
‫} المسماة لهن‪ ،‬إن كان مسمى‪ ،‬وإل فأجر المثل‪ { ،‬وَأْ َتمِرُوا بَيْ َن ُكمْ ِب َمعْرُوفٍ } أي‪ :‬وليأمر كل‬
‫واحد من الزوجين ومن غيرهما‪ ،‬الخر بالمعروف‪ ،‬وهو كل ما فيه منفعة ومصلحة في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬فإن الغفلة عن الئتمار بالمعروف‪ ،‬يحصل فيه من الشر والضرر‪ ،‬ما ل يعلمه إل ال‪،‬‬
‫وفي الئتمار‪ ،‬تعاون على البر والتقوى‪ ،‬ومما يناسب هذا المقام‪ ،‬أن الزوجين عند الفراق وقت‬
‫العدة‪ ،‬خصوصًا إذا ولد لهما ولد في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر لجل النفقة عليها‬
‫وعلى الولد مع الفراق‪ ،‬الذي في الغالب ما يصدر إل عن بغض‪ ،‬ويتأثر منه البغض شيء كثير‬

‫فكل منهما يؤمر بالمعروف‪ ،‬والمعاشرة الحسنة‪ ،‬وعدم المشاقة والمخاصمة وينصح على ذلك‪.‬‬

‫{ وَإِنْ َتعَاسَرْ ُتمْ } بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها‪ ،‬فلترضع له أخرى غيرها { فَلَا جُنَاحَ‬
‫عَلَ ْيكُمْ ِإذَا سَّلمْ ُتمْ مَا آتَيْ ُتمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه‪ ،‬فإن لم يقبل إل‬
‫ثدي أمه‪ ،‬تعينت لرضاعه‪ ،‬ووجب عليها‪ ،‬وأجبرت إن امتنعت‪ ،‬وكان لها أجرة المثل إن لم يتفقا‬
‫على مسمى‪ ،‬وهذا مأخوذ من الية الكريمة من حيث المعنى‪ ،‬فإن الولد لما كان في بطن أمه مدة‬
‫الحمل‪ ،‬ليس له خروج منه عين تعالى على وليه النفقة‪ ،‬فلما ولد‪ ،‬وكان يمكن أن يتقوت من‬
‫أمه‪ ،‬ومن غيرها‪ ،‬أباح تعالى‪ ،‬المرين‪ ،‬فإذا‪ ،‬كان بحالة ل يمكن أن يتقوت إل من أمه‪ ،‬كان‬
‫بمنزلة الحمل‪ ،‬وتعينت أمه طريقًا لقوته‪ ،‬ثم قدر تعالى النفقة‪ ،‬بحسب حال الزوج فقال‪ { :‬لِيُ ْنفِقْ ذُو‬
‫سعَتِهِ }‬
‫سعَةٍ مِنْ َ‬
‫َ‬

‫أي‪ :‬لينفق الغني من غناه‪ ،‬فل ينفق نفقة الفقراء‪.‬‬

‫علَيْهِ رِ ْزقُهُ } أي‪ :‬ضيق عليه { فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّهُ } من الرزق‪.‬‬
‫{ َومَنْ قُدِرَ َ‬

‫{ لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا مَا آتَاهَا } وهذا مناسب للحكمة والرحمة اللهية حيث جعل كل بحسبه‪،‬‬
‫وخفف عن المعسر‪ ،‬وأنه ل يكلفه إل ما آتاه‪ ،‬فل يكلف ال نفسًا إل وسعها‪ ،‬في باب النفقة‬
‫ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ عُسْرٍ ُيسْرًا } وهذه بشارة للمعسرين‪ ،‬أن ال تعالى سيزيل عنهم‬
‫وغيرها‪ { .‬سَيَ ْ‬
‫الشدة‪ ،‬ويرفع عنهم المشقة‪ { ،‬فَإِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ يُسْرًا إِنّ َمعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا }‬

‫شدِيدًا وَعَذّبْنَاهَا عَذَابًا‬


‫حسَابًا َ‬
‫{ ‪َ { } 8-11‬وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَ َتتْ عَنْ َأمْرِ رَ ّبهَا وَرُسُِلهِ فَحَاسَبْنَاهَا ِ‬
‫ت وَبَالَ َأمْرِهَا َوكَانَ عَاقِبَةُ َأمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدّ اللّهُ َلهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَا ّتقُوا اللّهَ يَا أُولِي‬
‫ُنكْرًا * فَذَا َق ْ‬
‫الْأَلْبَابِ الّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْ َزلَ اللّهُ إِلَ ْيكُمْ ِذكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِ اللّهِ مُبَيّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الّذِينَ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَ َي ْع َملْ صَاِلحًا يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ‬
‫آمَنُوا وَ َ‬
‫تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ َأحْسَنَ اللّهُ لَهُ رِ ْزقًا }‬

‫يخبر تعالى عن إهلكه المم العاتية‪ ،‬والقرون المكذبة للرسل أن كثرتهم وقوتهم‪ ،‬لم تنفعهم شيئًا‪،‬‬
‫حين جاءهم الحساب الشديد‪ ،‬والعذاب الليم‪ ،‬وأن ال أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم‬
‫السيئة‪.‬‬

‫ومع عذاب الدنيا‪ ،‬فإن ال أعد لهم في الخرة عذابا شديدًا‪ { ،‬فَا ّتقُوا اللّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي‪ :‬يا‬
‫ذوي العقول‪ ،‬التي تفهم عن ال آياته وعبره‪ ،‬وأن الذي أهلك القرون الماضية‪ ،‬بتكذيبهم‪ ،‬أن من‬
‫بعدهم مثلهم‪ ،‬ل فرق بين الطائفتين‪.‬‬

‫ثم ذكر عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه‪ ،‬الذي أنزله على رسوله محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية‪ ،‬إلى نور العلم واليمان والطاعة‪ ،‬فمن‬
‫ل صَالِحًا } من الواجبات‬
‫الناس‪ ،‬من آمن به‪ ،‬ومنهم من لم يؤمن [به]‪َ { ،‬ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَ َي ْعمَ ْ‬
‫والمستحبات‪ُ { .‬يدْخِ ْلهُ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } فيها من النعيم المقيم‪ ،‬ما ل عين رأت ول‬
‫حسَنَ اللّهُ لَهُ رِ ْزقًا } [أي‪ ]:‬ومن لم‬
‫أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ { ،‬خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا قَدْ أَ ْ‬
‫يؤمن بال ورسوله‪ ،‬فأولئك أصحاب النار‪ ،‬هم فيها خالدون‪.‬‬

‫سمَاوَاتٍ َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَلَى‬
‫{ ‪ { } 12‬اللّهُ الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ‬
‫شيْءٍ عِ ْلمًا }‬
‫شيْءٍ قَدِي ٌر وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ ِب ُكلّ َ‬
‫ُكلّ َ‬

‫[ثم] أخبر [تعالى] أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والرضين السبع ومن فيهن‪ ،‬وما‬
‫بينهن‪ ،‬وأنزل المر‪ ،‬وهو الشرائع والحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم‪،‬‬
‫وكذلك الوامر الكونية والقدرية التي يدبر بها الخلق‪ ،‬كل ذلك لجل أن يعرفه العباد ويعلموا‬
‫إحاطة قدرته بالشياء كلها‪ ،‬وإحاطة علمه بجميع الشياء فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة وأسمائه‬
‫الحسنى وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه‪ ،‬فهذه الغاية المقصودة من الخلق والمر معرفة ال وعبادته‪،‬‬
‫فقام بذلك الموفقون من عباد ال الصالحين‪ ،‬وأعرض عن ذلك‪ ،‬الظالمون المعرضون‪.‬‬

‫[تم تفسيرها والحمد ل]‬


‫تفسير سورة التحريم‬
‫[وهي مدنية]‬

‫جكَ‬
‫حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ أَ ْزوَا ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَا أَ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 1-5‬بِ ْ‬
‫حكِيمُ * وَإِذْ َأسَرّ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ * قَدْ فَ َرضَ اللّهُ َلكُمْ َتحِلّةَ أَ ْيمَا ِن ُك ْم وَاللّهُ َموْلَاكُ ْم وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫علَيْهِ عَ ّرفَ َب ْعضَ ُه وَأَعْ َرضَ عَنْ َب ْعضٍ‬
‫ظهَ َرهُ اللّهُ َ‬
‫النّ ِبيّ إِلَى َب ْعضِ أَ ْزوَاجِهِ حَدِيثًا فََلمّا نَبَّأتْ بِهِ وَأَ ْ‬
‫ص َغتْ قُلُو ُب ُكمَا‬
‫فََلمّا نَبّأَهَا بِهِ قَاَلتْ مَنْ أَنْبََأكَ هَذَا قَالَ نَبّأَ ِنيَ ا ْلعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّهِ َفقَ ْد َ‬
‫ظهِيرٌ * عَسَى‬
‫ن وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َبعْدَ ذَِلكَ َ‬
‫ل َوصَالِحُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ َموْلَا ُه وَجِبْرِي ُ‬
‫رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ مُسِْلمَاتٍ ُم ْؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَا ِئحَاتٍ ثَيّبَاتٍ‬
‫وَأَ ْبكَارًا }‬

‫هذا عتاب من ال لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حين حرم على نفسه سريته "مارية" أو شرب‬
‫العسل‪ ،‬مراعاة لخاطر بعض زوجاته‪ ،‬في قصة معروفة‪ ،‬فأنزل ال [تعالى] هذه اليات { يَا أَ ّيهَا‬
‫حلّ اللّهُ َلكَ } من‬
‫النّ ِبيّ } أي‪ :‬يا أيها الذي أنعم ال عليه بالنبوة والوحي والرسالة { ِلمَ تُحَرّمُ مَا َأ َ‬
‫الطيبات‪ ،‬التي أنعم ال بها عليك وعلى أمتك‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ } هذا تصريح بأن ال قد غفر‬


‫ك وَاللّهُ َ‬
‫جَ‬‫{ تَبْ َت ِغيَ } بذلك التحريم { مَ ْرضَاةَ أَ ْزوَا ِ‬
‫لرسوله‪ ،‬ورفع عنه اللوم‪ ،‬ورحمه‪ ،‬وصار ذلك التحريم الصادر منه‪ ،‬سببًا لشرع حكم عام لجميع‬
‫المة‪ ،‬فقال تعالى حاكما حكما عاما في جميع اليمان‪:‬‬

‫{ َقدْ فَ َرضَ اللّهُ َل ُكمْ تَحِلّةَ أَ ْيمَا ِنكُمْ } أي‪ :‬قد شرع لكم‪ ،‬وقدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث‪ ،‬وما‬
‫حلّ‬
‫به الكفارة بعد الحنث‪ ،‬وذلك كما في قوله تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُتحَ ّرمُوا طَيّبَاتِ مَا أَ َ‬
‫ط ِعمُونَ أَهْلِي ُكمْ َأوْ‬
‫سطِ مَا تُ ْ‬
‫طعَامُ عَشَ َرةِ مَسَاكِينَ مِنْ َأوْ َ‬
‫اللّهُ َلكُ ْم وَلَا َتعْتَدُوا } إلى أن قال‪َ { :‬ف َكفّارَتُهُ إِ ْ‬
‫سوَ ُتهُمْ َأوْ تَحْرِيرُ َرقَبَةٍ َفمَنْ لَمْ يَجِدْ َفصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ ذَِلكَ كَفّا َرةُ أَ ْيمَا ِنكُمْ ِإذَا حََلفْتُمْ } ‪.‬‬
‫كِ ْ‬

‫فكل من حرم حللًا عليه‪ ،‬من طعام أو شراب أو سرية‪ ،‬أو حلف يمينًا بال‪ ،‬على فعل أو ترك‪ ،‬ثم‬
‫حنث أو أراد الحنث‪ ،‬فعليه هذه الكفارة المذكورة‪ ،‬وقوله‪ { :‬وَاللّهُ َموْلَاكُمْ } أي‪ :‬متولي أموركم‪،‬‬
‫ومربيكم أحسن تربية‪ ،‬في أمور دينكم ودنياكم‪ ،‬وما به يندفع عنكم الشر‪ ،‬فلذلك فرض لكم تحلة‬
‫حكِيمُ } الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم‪ ،‬وهو الحكيم‬
‫أيمانكم‪ ،‬لتبرأ ذممكم‪ { ،‬وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫في جميع ما خلقه وحكم به‪ ،‬فلذلك شرع لكم من الحكام‪ ،‬ما يعلم أنه موافق لمصالحكم‪ ،‬ومناسب‬
‫لحوالكم‪.‬‬
‫حدِيثًا } قال كثير من المفسرين‪ :‬هي حفصة أم‬
‫[وقوله‪ { ]:‬وَإِذْ أَسَرّ النّ ِبيّ إِلَى َب ْعضِ أَ ْزوَاجِهِ َ‬
‫المؤمنين رضي ال عنها‪ ،‬أسر لها النبي صلى ال عليه وسلم حديثًا‪ ،‬وأمر أن ل تخبر به أحدًا‪،‬‬
‫فحدثت به عائشة رضي ال عنهما‪ ،‬وأخبره ال بذلك الخبر الذي أذاعته‪ ،‬فعرفها صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ببعض ما قالت‪ ،‬وأعرض عن بعضه‪ ،‬كرمًا منه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحلمًا‪ ،‬فـ { قَاَلتِ }‬
‫له‪ { :‬مَنْ أَنْبََأكَ َهذَا } الخبر الذي لم يخرج منا؟ { قَالَ نَبّأَ ِنيَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلخَبِيرُ } الذي ل تخفى عليه‬
‫خافية‪ ،‬يعلم السر وأخفى‪.‬‬

‫ص َغتْ قُلُو ُب ُكمَا } الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى‬


‫[وقوله‪ { ]:‬إِنْ تَتُوبَا ِإلَى اللّهِ َفقَ ْد َ‬
‫ال عليه وسلم عائشة وحفصة رضي ال عنهما‪ ،‬كانتا سببًا لتحريم النبي صلى ال عليه وسلم على‬
‫نفسه ما يحبه‪ ،‬فعرض ال عليهما التوبة‪ ،‬وعاتبهما على ذلك‪ ،‬وأخبرهما أن قلوبهما قد صغت‬
‫أي‪ :‬مالت وانحرفت عما ينبغي لهن‪ ،‬من الورع والدب مع الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫واحترامه‪ ،‬وأن ل يشققن عليه‪ { ،‬وَإِنْ َتظَاهَرَا عَلَ ْيهِ } أي‪ :‬تعاونا على ما يشق عليه‪ ،‬ويستمر هذا‬
‫ظهِيرٌ } أي‪ :‬الجميع‬
‫ن وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َبعْدَ ذَِلكَ َ‬
‫المر منكن‪ { ،‬فَإِنّ اللّهَ ُهوَ َموْلَاهُ َوجِبْرِيلُ َوصَالِحُ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫أعوان للرسول‪ ،‬مظاهرون‪ ،‬ومن كان هؤلء أعوانه فهو المنصور‪ ،‬وغيره ممن يناوئه مخذول‬
‫وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين‪ ،‬حيث جعل الباري نفسه [الكريمة]‪ ،‬وخواص خلقه‪،‬‬
‫أعوانًا لهذا الرسول الكريم‪.‬‬

‫وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما ل يخفى‪ ،‬ثم خوفهما أيضا‪ ،‬بحالة تشق على النساء‬
‫عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُ ْبدِلَهُ‬
‫غاية المشقة‪ ،‬وهو الطلق‪ ،‬الذي هو أكبر شيء عليهن‪ ،‬فقال‪َ { :‬‬
‫أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } ‪.‬‬

‫عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُ ْبدِلَهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } أي‪ :‬فل ترفعن عليه‪ ،‬فإنه لو طلقكن‪ ،‬لم‬
‫{ َ‬
‫يضق عليه المر‪ ،‬ولم يكن مضطرًا إليكن‪ ،‬فإنه سيلقى ويبدله ال أزواجًا خيرًا منكن‪ ،‬دينا‬
‫وجمالًا‪ ،‬وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد‪ ،‬ول يلزم وجوده‪ ،‬فإنه ما طلقهن‪ ،‬ولو طلقهن‪ ،‬لكان‬
‫ما ذكره ال من هذه الزواج الفاضلت‪ ،‬الجامعات بين السلم‪ ،‬وهو القيام بالشرائع الظاهرة‪،‬‬
‫واليمان‪ ،‬وهو‪ :‬القيام بالشرائع الباطنة‪ ،‬من العقائد وأعمال القلوب‪.‬‬

‫القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها { تَائِبَاتٍ } عما يكرهه ال‪ ،‬فوصفهن بالقيام بما يحبه ال‪،‬‬
‫والتوبة عما يكرهه ال‪ { ،‬ثَيّبَاتٍ وَأَ ْبكَارًا } أي‪ :‬بعضهن ثيب‪ ،‬وبعضهن أبكار‪ ،‬ليتنوع صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فيما يحب‪ ،‬فلما سمعن ‪-‬رضي ال عنهن‪ -‬هذا التخويف والتأديب‪ ،‬بادرن إلى رضا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن‪ ،‬فصرن أفضل نساء المؤمنين‪،‬‬
‫وفي هذا دليل على أن ال ل يختار لرسوله صلى ال عليه وسلم إل أكمل الحوال وأعلى المور‪،‬‬
‫فلما اختار ال لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن‪.‬‬

‫غلَاظٌ‬
‫س وَا ْلحِجَا َرةُ عَلَ ْيهَا مَلَا ِئكَةٌ ِ‬
‫سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا َوقُو ُدهَا النّا ُ‬
‫{ ‪ { } 6‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ‬
‫شِدَادٌ لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }‬

‫أي‪ :‬يا من من ال عليهم باليمان‪ ،‬قوموا بلوازمه وشروطه‪.‬‬

‫سكُ ْم وَأَ ْهلِيكُمْ نَارًا } موصوفة بهذه الوصاف الفظيعة‪ ،‬ووقاية النفس بإلزامها أمر‬
‫فـ { قُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ال‪ ،‬والقيام بأمره امتثالًا‪ ،‬ونهيه اجتنابًا‪ ،‬والتوبة عما يسخط ال ويوجب العذاب‪ ،‬ووقاية الهل‬
‫[والولد]‪ ،‬بتأديبهم وتعليمهم‪ ،‬وإجبارهم على أمر ال‪ ،‬فل يسلم العبد إل إذا قام بما أمر ال به في‬
‫نفسه‪ ،‬وفيما يدخل تحت وليته من الزروجات والولد وغيرهم ممن هو تحت وليته وتصرفه‪.‬‬

‫ووصف ال النار بهذه الوصاف‪ ،‬ليزجر عباده عن التهاون بأمره فقال‪َ { :‬وقُودُهَا النّاسُ‬
‫جهَنّمَ أَنْتُمْ َلهَا وَارِدُونَ } ‪.‬‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫حجَا َرةُ } كما قال تعالى‪ { :‬إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫وَالْ ِ‬

‫{ عَلَ ْيهَا مَلَا ِئكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } أي‪ :‬غليظة أخلقهم‪ ،‬عظيم انتهارهم‪ ،‬يفزعون بأصواتهم ويخيفون‬
‫بمرآهم‪ ،‬ويهينون أصحاب النار بقوتهم‪ ،‬ويمتثلون فيهم أمر ال‪ ،‬الذي حتم عليهم العذاب وأوجب‬
‫عليهم شدة العقاب‪ { ،‬لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } وهذا فيه أيضًا مدح للملئكة‬
‫الكرام‪ ،‬وانقيادهم لمر ال‪ ،‬وطاعتهم له في كل ما أمرهم به‪.‬‬

‫{ ‪ { } 7‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ كَفَرُوا لَا َتعْتَذِرُوا الْ َيوْمَ إِ ّنمَا تُجْ َزوْنَ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }‬

‫أي‪ :‬يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ فيقال لهم‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َكفَرُوا لَا َتعْ َتذِرُوا الْ َيوْمَ }‬
‫[أي‪ ]:‬فإنه ذهب وقت العتذار‪ ،‬وزال نفعه‪ ،‬فلم يبق الن إل الجزاء على العمال‪ ،‬وأنتم لم‬
‫تقدموا إل الكفر بال‪ ،‬والتكذيب بآياته‪ ،‬ومحاربة رسله وأوليائه‪.‬‬

‫عسَى رَ ّب ُكمْ أَنْ ُي َكفّرَ عَ ْن ُكمْ سَيّئَا ِتكُمْ وَيُدْخَِل ُكمْ‬


‫{ ‪ { } 8‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ َتوْبَةً َنصُوحًا َ‬
‫سعَى بَيْنَ أَ ْيدِيهِمْ‬
‫ي وَالّذِينَ آمَنُوا َمعَهُ نُورُهُمْ يَ ْ‬
‫جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َيوْمَ لَا يُخْزِي اللّهُ النّ ِب ّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }‬
‫غفِرْ لَنَا إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ َيقُولُونَ رَبّنَا أَ ْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَا ْ‬

‫قد أمر ال بالتوبة النصوح في هذه الية‪ ،‬ووعد عليها بتكفير السيئات‪ ،‬ودخول الجنات‪ ،‬والفوز‬
‫والفلح‪ ،‬حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم‪ ،‬ويمشون بضيائه‪ ،‬ويتمتعون بروحه‬
‫وراحته‪ ،‬ويشفقون إذا طفئت النوار‪ ،‬التي ل تعطى المنافقين‪ ،‬ويسألون ال أن يتمم لهم نورهم‬
‫فيستجيب ال دعوتهم‪ ،‬ويوصلهم ما معهم من النور واليقين‪ ،‬إلى جنات النعيم‪ ،‬وجوار الرب‬
‫الكريم‪ ،‬وكل هذا من آثار التوبة النصوح‪.‬‬

‫والمراد بها‪ :‬التوبة العامة الشاملة للذنوب كلها‪ ،‬التي عقدها العبد ل‪ ،‬ل يريد بها إل وجهه‬
‫والقرب منه‪ ،‬ويستمر عليها في جميع أحواله‪.‬‬

‫جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }‬


‫علَ ْيهِ ْم َومَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫ن وَاغْلُظْ َ‬
‫{ ‪ { } 9‬يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ جَا ِهدِ ا ْل ُكفّا َر وَا ْلمُنَافِقِي َ‬

‫يأمر [ال] تعالى نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بجهاد الكفار والمنافقين‪ ،‬والغلظ عليهم في ذلك‪،‬‬
‫وهذا شامل لجهادهم‪ ،‬بإقامة الحجة [عليهم ودعوتهم] بالموعظة الحسنة ‪ ،‬وإبطال ما هم عليه من‬
‫أنواع الضلل‪ ،‬وجهادهم بالسلح والقتال لمن أبى أن يجيب دعوة ال وينقاد لحكمه‪ ،‬فإن هذا‬
‫يجاهد ويغلظ له‪ ،‬وأما المرتبة الولى‪ ،‬فتكون بالتي هي أحسن‪ ،‬فالكفار والمنافقون لهم عذاب في‬
‫الدنيا‪ ،‬بتسليط ال لرسوله وحزبه [عليهم و] على جهادهم وقتالهم‪ ،‬وعذاب النار في الخرة وبئس‬
‫المصير‪ ،‬الذي يصير إليها كل شقي خاسر‪.‬‬

‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ‬


‫{ ‪ { } 12 - 10‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ َكفَرُوا ِامْرََأةَ نُوحٍ وَامْرََأةَ لُوطٍ كَانَتَا تَ ْ‬
‫عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا فََلمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا َوقِيلَ ا ْدخُلَا النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ * َوضَ َربَ‬
‫عوْنَ‬
‫عوْنَ ِإذْ قَاَلتْ َربّ ابْنِ لِي عِنْ َدكَ بَيْتًا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِنْ فِرْ َ‬
‫اللّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ آمَنُوا ِامْرََأةَ فِرْ َ‬
‫جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِنْ‬
‫حصَ َنتْ فَرْ َ‬
‫عمْرَانَ الّتِي أَ ْ‬
‫عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ * َومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ‬
‫وَ َ‬
‫رُوحِنَا َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ }‬

‫هذان المثلن اللذان ضربهما ال للمؤمنين والكافرين‪ ،‬ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن وقربه‬
‫منه ل يفيده شيئًا‪ ،‬وأن اتصال المؤمن بالكافر ل يضره شيئًا مع قيامه بالواجب عليه‪.‬‬

‫فكأن في ذلك إشارة وتحذيرًا لزوجات النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬عن المعصية‪ ،‬وأن اتصالهن به‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل ينفعهن شيئًا مع الساءة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ‬


‫{ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا لِلّذِينَ َكفَرُوا ِامْرََأةَ نُوحٍ وَامْرََأةَ لُوطٍ كَانَتَا } أي‪ :‬المرأتان { َت ْ‬
‫عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ } وهما نوح‪ ،‬ولوط عليهما السلم‪.‬‬
‫{ َفخَانَتَا ُهمَا } في الدين‪ ،‬بأن كانتا على غير دين زوجيهما‪ ،‬وهذا هو المراد بالخيانة ل خيانة‬
‫النسب والفراش‪ ،‬فإنه ما بغت امرأة نبي قط‪ ،‬وما كان ال ليجعل امرأة أحد من أنبيائه بغيًا‪ { ،‬فََلمْ‬
‫ُيغْنِيَا } أي‪ :‬نوح ولوط { عَ ْن ُهمَا } أي‪ :‬عن امرأتيهما { مِنَ اللّهِ شَيْئًا َوقِيلَ } لهما { ادْخُلَا النّارَ مَعَ‬
‫الدّاخِلِينَ } ‪.‬‬

‫عوْنَ } وهي آسية بنت مزاحم رضي ال عنها { إِذْ قَاَلتْ‬


‫{ َوضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا ِللّذِينَ آمَنُوا ِامْرََأةَ فِرْ َ‬
‫عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } فوصفها‬
‫ن وَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫َربّ ابْنِ لِي عِنْ َدكَ بَيْتًا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِنْ فِرْ َ‬
‫ال باليمان والتضرع لربها‪ ،‬وسؤالها لربها أجل المطالب‪ ،‬وهو دخول الجنة‪ ،‬ومجاورة الرب‬
‫الكريم‪ ،‬وسؤالها أن ينجيها ال من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة‪ ،‬ومن فتنة كل ظالم‪ ،‬فاستجاب ال‬
‫لها‪ ،‬فعاشت في إيمان كامل‪ ،‬وثبات تام‪ ،‬ونجاة من الفتن‪ ،‬ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫{ كمل من الرجال كثير‪ ،‬ولم يكمل من النساء‪ ،‬إل مريم بنت عمران‪ ،‬وآسية بنت مزاحم‪ ،‬وخديجة‬
‫بنت خويلد‪ ،‬وفضل عائشة على النساء‪ ،‬كفضل الثريد على سائر الطعام } ‪.‬‬

‫جهَا } أي‪ :‬صانته وحفظته عن الفاحشة‪ ،‬لكمال‬


‫حصَ َنتْ فَ ْر َ‬
‫عمْرَانَ الّتِي َأ ْ‬
‫وقوله { َومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ‬
‫ديانتها‪ ،‬وعفتها‪ ،‬ونزاهتها‪.‬‬

‫{ فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } بأن نفخ جبريل [عليه السلم] في جيب درعها فوصلت نفخته إلى مريم‪،‬‬
‫فجاء منها عيسى ابن مريم [عليه السلم]‪ ،‬الرسول الكريم والسيد العظيم‪.‬‬

‫{ َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِهِ } وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة‪ ،‬فإن التصديق بكلمات ال‪،‬‬
‫يشمل كلماته الدينية والقدرية‪ ،‬والتصديق بكتبه‪ ،‬يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق‪ ،‬ول يكون‬
‫ذلك إل بالعلم والعمل‪[ ،‬ولهذا قال] { َوكَانَتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ } أي‪ :‬المطيعين ل‪ ،‬المداومين على‬
‫طاعته بخشية وخشوع‪ ،‬وهذا وصف لها بكمال العمل‪ ،‬فإنها رضي ال عنها صديقة‪ ،‬والصديقية‪:‬‬
‫هي كمال العلم والعمل‪.‬‬

‫تمت ول الحمد‬

‫تفسير سورة الملك‬


‫[وهي] مكية‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ * الّذِي‬


‫ك وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ تَبَا َركَ الّذِي بِ َي ِدهِ ا ْلمُ ْل ُ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 4 - 1‬بِ ْ‬
‫سمَاوَاتٍ طِبَاقًا‬
‫عمَلًا وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َغفُورُ * الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ‬
‫حسَنُ َ‬
‫خََلقَ ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَ ْ‬
‫حمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ فَا ْرجِعِ الْ َبصَرَ َهلْ تَرَى مِنْ ُفطُورٍ * ثُمّ ا ْرجِعِ الْ َبصَرَ كَرّتَيْنِ‬
‫مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرّ ْ‬
‫يَ ْنقَلِبْ إِلَ ْيكَ الْ َبصَرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ حَسِيرٌ }‬

‫{ تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ } أي‪ :‬تعاظم وتعالى‪ ،‬وكثر خيره‪ ،‬وعم إحسانه‪ ،‬من عظمته أن بيده ملك‬
‫العالم العلوي والسفلي‪ ،‬فهو الذي خلقه‪ ،‬ويتصرف فيه بما شاء‪ ،‬من الحكام القدرية‪ ،‬والحكام‬
‫الدينية‪ ،‬التابعة لحكمته‪ ،‬ومن عظمته‪ ،‬كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء‪ ،‬وبها أوجد ما‬
‫أوجد من المخلوقات العظيمة‪ ،‬كالسماوات والرض‪.‬‬

‫عمَلًا } أي‪:‬‬
‫وخلق الموت والحياة أي‪ :‬قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم؛ { لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَحْسَنُ َ‬
‫أخلصه وأصوبه‪ ،‬فإن ال خلق عباده‪ ،‬وأخرجهم لهذه الدار‪ ،‬وأخبرهم أنهم سينقلون منها‪ ،‬وأمرهم‬
‫ونهاهم‪ ،‬وابتلهم بالشهوات المعارضة لمره‪ ،‬فمن انقاد لمر ال وأحسن العمل‪ ،‬أحسن ال له‬
‫الجزاء في الدارين‪ ،‬ومن مال مع شهوات النفس‪ ،‬ونبذ أمر ال‪ ،‬فله شر الجزاء‪.‬‬

‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي له العزة كلها‪ ،‬التي قهر بها جميع الشياء‪ ،‬وانقادت له المخلوقات‪.‬‬

‫{ ا ْل َغفُورُ } عن المسيئين والمقصرين والمذنبين‪ ،‬خصوصًا إذا تابوا وأنابوا‪ ،‬فإنه يغفر ذنوبهم‪ ،‬ولو‬
‫بلغت عنان السماء‪ ،‬ويستر عيوبهم‪ ،‬ولو كانت ملء الدنيا‪.‬‬

‫سمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي‪ :‬كل واحدة فوق الخرى‪ ،‬ولسن طبقة واحدة‪ ،‬وخلقها في‬
‫{ الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ‬
‫حمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ } أي‪ :‬خلل ونقص‪.‬‬
‫غاية الحسن والتقان { مَا تَرَى فِي خَ ْلقِ الرّ ْ‬

‫وإذا انتفى النقص من كل وجه‪ ،‬صارت حسنة كاملة‪ ،‬متناسبة من كل وجه‪ ،‬في لونها وهيئتها‬
‫وارتفاعها‪ ،‬وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات‪ ،‬الثوابت منهن والسيارات‪.‬‬

‫ولما كان كمالها معلومًا‪ ،‬أمر [ال] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها‪ ،‬قال‪:‬‬

‫{ فَا ْرجِعِ الْ َبصَرَ } أي‪ :‬أعده إليها‪ ،‬ناظرًا معتبرًا { َهلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي‪ :‬نقص واختلل‪.‬‬

‫حسِيرٌ }‬
‫جعِ الْ َبصَرَ كَرّتَيْنِ } المراد بذلك‪ :‬كثرة التكرار { يَ ْنقَِلبْ إِلَ ْيكَ الْ َبصَرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ َ‬
‫{ ُثمّ ارْ ِ‬
‫أي‪ :‬عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا‪ ،‬ولو حرص غاية الحرص‪.‬‬

‫ثم صرح بذكر حسنها فقال‪:‬‬

‫ن وَأَعْتَدْنَا َلهُمْ عَذَابَ‬


‫جعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِي ِ‬
‫سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ َو َ‬
‫{ ‪ { } 10 - 5‬وََلقَدْ زَيّنّا ال ّ‬
‫شهِيقًا وَ ِهيَ‬
‫س ِمعُوا َلهَا َ‬
‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ * إِذَا أُ ْلقُوا فِيهَا َ‬
‫عذَابُ َ‬
‫سعِيرِ * وَلِلّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ َ‬
‫ال ّ‬
‫َتفُورُ * َتكَادُ َتمَيّزُ مِنَ ا ْلغَيْظِ كُّلمَا أُ ْل ِقيَ فِيهَا َفوْجٌ سَأََلهُمْ خَزَنَ ُتهَا أَلَمْ يَأْ ِت ُكمْ نَذِيرٌ * قَالُوا َبلَى َقدْ جَاءَنَا‬
‫سمَعُ َأوْ َن ْع ِقلُ‬
‫شيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ ِإلّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * َوقَالُوا َلوْ كُنّا نَ ْ‬
‫نَذِيرٌ َفكَذّبْنَا َوقُلْنَا مَا نَ ّزلَ اللّهُ مِنْ َ‬
‫سعِيرِ }‬
‫صحَابِ ال ّ‬
‫مَا كُنّا فِي َأ ْ‬

‫سمَاءَ الدّنْيَا } التي ترونها وتليكم‪ِ { ،‬ب َمصَابِيحَ } وهي‪ :‬النجوم‪ ،‬على اختلفها‬
‫أي‪ :‬ولقد جملنا { ال ّ‬
‫في النور والضياء‪ ،‬فإنه لول ما فيها من النجوم‪ ،‬لكانت سقفًا مظلمًا‪ ،‬ل حسن فيه ول جمال‪.‬‬

‫ولكن جعل ال هذه النجوم زينة للسماء‪[ ،‬وجمال]‪ ،‬ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر‬
‫والبحر‪ ،‬ول ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح‪ ،‬أن يكون كثير من النجوم فوق‬
‫السماوات السبع‪ ،‬فإن السماوات شفافة‪ ،‬وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا‪ ،‬وإن لم تكن الكواكب‬
‫جعَلْنَاهَا } أي‪ :‬المصابيح { رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء‪ ،‬فجعل‬
‫فيها‪ { ،‬وَ َ‬
‫ال هذه النجوم‪ ،‬حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الرض‪ ،‬فهذه الشهب التي ترمى من‬
‫سعِيرِ } لنهم تمردوا‬
‫النجوم‪ ،‬أعدها ال في الدنيا للشياطين‪ { ،‬وَأَعْتَدْنَا َلهُمْ } في الخرة { عَذَابِ ال ّ‬
‫على ال‪ ،‬وأضلوا عباده‪ ،‬ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم‪ ،‬قد أعد ال لهم عذاب السعير‪ ،‬فلهذا‬
‫جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } الذي يهان أهله غاية الهوان‪.‬‬
‫قال‪ { :‬وَلِلّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّب ِهمْ عَذَابُ َ‬

‫شهِيقًا } أي‪ :‬صوتًا عاليًا فظيعًا‪ { ،‬وَ ِهيَ‬


‫س ِمعُوا َلهَا َ‬
‫{ ِإذَا أُ ْلقُوا فِيهَا } على وجه الهانة والذل { َ‬
‫َتفُورُ } ‪.‬‬

‫{ َتكَادُ َتمَيّزُ مِنَ ا ْلغَيْظِ } أي‪ :‬تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا‪ ،‬وتتقطع من شدة غيظها‬
‫على الكفار‪ ،‬فما ظنك ما تفعل بهم‪ ،‬إذا حصلوا فيها؟" ثم ذكر توبيخ الخزنة لهلها فقال‪ { :‬كُّلمَا‬
‫أُ ْلقِيَ فِيهَا َفوْجٌ سَأََلهُمْ خَزَنَ ُتهَا أََلمْ يَأْ ِتكُمْ َنذِيرٌ } ؟ أي‪ :‬حالكم هذا واستحقاقكم النار‪ ،‬كأنكم لم تخبروا‬
‫عنها‪ ،‬ولم تحذركم النذر منها‪.‬‬

‫شيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } فجمعوا‬


‫{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ َفكَذّبْنَا َوقُلْنَا مَا نَ ّزلَ اللّهُ مِنْ َ‬
‫بين تكذيبهم الخاص‪ ،‬والتكذيب العام بكل ما أنزل ال ولم يكفهم ذلك‪ ،‬حتى أعلنوا بضلل الرسل‬
‫المنذرين وهم الهداة المهتدون‪ ،‬ولم يكتفوا بمجرد الضلل‪ ،‬بل جعلوا ضللهم‪ ،‬ضللًا كبيرًا‪ ،‬فأي‬
‫عناد وتكبر وظلم‪ ،‬يشبه هذا؟‬

‫سمَعُ َأوْ َن ْعقِلُ مَا كُنّا فِي َأصْحَابِ‬


‫{ َوقَالُوا } معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد‪َ { :‬لوْ كُنّا َن ْ‬
‫سعِيرِ } فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى‪ ،‬وهي السمع لما أنزل ال‪ ،‬وجاءت به الرسل‪ ،‬والعقل‬
‫ال ّ‬
‫الذي ينفع صاحبه‪ ،‬ويوقفه على حقائق الشياء‪ ،‬وإيثار الخير‪ ،‬والنزجار عن كل ما عاقبته‬
‫ذميمة‪ ،‬فل سمع [لهم] ول عقل‪ ،‬وهذا بخلف أهل اليقين والعرفان‪ ،‬وأرباب الصدق واليمان‪،‬‬
‫فإنهم أيدوا إيمانهم بالدلة السمعية‪ ،‬فسمعوا ما جاء من عند ال‪ ،‬وجاء به رسول ال‪ ،‬علمًا‬
‫ومعرفة وعملًا‪.‬‬

‫والدلة العقلية‪ :‬المعرفة للهدى من الضلل‪ ،‬والحسن من القبيح‪ ،‬والخير من الشر‪ ،‬وهم ‪-‬في‬
‫اليمان‪ -‬بحسب ما من ال عليهم به من القتداء بالمعقول والمنقول‪ ،‬فسبحان من يختص بفضله‬
‫من يشاء‪ ،‬ويمن على من يشاء من عباده‪ ،‬ويخذل من ل يصلح للخير‪.‬‬

‫حقًا‬
‫سْ‬‫قال تعالى عن هؤلء الداخلين للنار‪ ،‬المعترفين بظلمهم وعنادهم‪ { :‬فَاعْتَ َرفُوا بِذَنْ ِب ِهمْ فَ ُ‬
‫سعِيرِ } أي‪ :‬بعدًا لهم وخسارة وشقاء‪.‬‬
‫لَِأصْحَابِ ال ّ‬

‫فما أشقاهم وأرداهم‪ ،‬حيث فاتهم ثواب ال‪ ،‬وكانوا ملزمين للسعير‪ ،‬التي تستعر في أبدانهم‪،‬‬
‫وتطلع على أفئدتهم!‬

‫شوْنَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَ ْيبِ َل ُهمْ َم ْغفِرَ ٌة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }‬


‫{ ‪ { } 12‬إِنّ الّذِينَ يَخْ َ‬

‫شوْنَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَ ْيبِ }‬


‫لما ذكر حالة الشقياء الفجار‪ ،‬ذكر حالة السعداء البرار فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيخْ َ‬
‫أي‪ :‬في جميع أحوالهم‪ ،‬حتى في الحالة التي ل يطلع عليهم فيها إل ال‪ ،‬فل يقدمون على‬
‫معاصيه‪ ،‬ول يقصرون فيما أمر به { َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ } لذنوبهم‪ ،‬وإذا غفر ال ذنوبهم؛ وقاهم شرها‪،‬‬
‫ووقاهم عذاب الجحيم‪ ،‬ولهم أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة‪ ،‬من النعيم المقيم‪ ،‬والملك‬
‫الكبير‪ ،‬واللذات [المتواصلت]‪ ،‬والمشتهيات‪ ،‬والقصور [والمنازل] العاليات‪ ،‬والحور الحسان‪،‬‬
‫والخدم والولدان‪.‬‬

‫وأعظم من ذلك وأكبر‪ ،‬رضا الرحمن‪ ،‬الذي يحله ال على أهل الجنان‪.‬‬

‫ق وَ ُهوَ‬
‫علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ * أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََل َ‬
‫جهَرُوا ِبهِ إِنّهُ َ‬
‫{ ‪ { } 14 - 13‬وَأَسِرّوا َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ‬
‫اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }‬

‫جهَرُوا بِهِ } أي‪ :‬كلها‬


‫هذا إخبار من ال بسعة علمه‪ ،‬وشمول لطفه فقال‪ { :‬وَأَسِرّوا َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ‬
‫سواء لديه‪ ،‬ل يخفى عليه منها خافية‪ ،‬فـ { إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي‪ :‬بما فيها من النيات‪،‬‬
‫والرادات‪ ،‬فكيف بالقوال والفعال‪ ،‬التي تسمع وترى؟!‬

‫ثم قال ‪-‬مستدل بدليل عقلي على علمه‪ { :-‬أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََلقَ } فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه‪،‬‬
‫كيف ل يعلمه؟! { وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره‪ ،‬حتى أدرك السرائر والضمائر‪،‬‬
‫والخبايا [والخفايا والغيوب]‪ ،‬وهو الذي { يعلم السر وأخفى } ومن معاني اللطيف‪ ،‬أنه الذي يلطف‬
‫بعبده ووليه‪ ،‬فيسوق إليه البر والحسان من حيث ل يشعر‪ ،‬ويعصمه من الشر‪ ،‬من حيث ل‬
‫يحتسب‪ ،‬ويرقيه إلى أعلى المراتب‪ ،‬بأسباب ل تكون من [العبد] على بال‪ ،‬حتى إنه يذيقه المكاره‪،‬‬
‫ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة‪ ،‬والمقامات النبيلة‪.‬‬

‫ج َعلَ َل ُكمُ الْأَ ْرضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُوا مِنْ رِ ْزقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ }‬
‫{ ‪ُ { } 15‬هوَ الّذِي َ‬

‫أي‪ :‬هو الذي سخر لكم الرض وذللها‪ ،‬لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم‪ ،‬من غرس وبناء‬
‫وحرث‪ ،‬وطرق يتوصل بها إلى القطار النائية والبلدان الشاسعة‪ { ،‬فَامْشُوا فِي مَنَاكِ ِبهَا } أي‪:‬‬
‫لطلب الرزق والمكاسب‪.‬‬

‫{ َوكُلُوا مِنْ رِ ْزقِ ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ } أي‪ :‬بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها ال امتحانًا‪ ،‬وبلغة‬
‫يتبلغ بها إلى الدار الخرة‪ ،‬تبعثون بعد موتكم‪ ،‬وتحشرون إلى ال‪ ،‬ليجازيكم بأعمالكم الحسنة‬
‫والسيئة‪.‬‬

‫سفَ ِبكُمُ الْأَ ْرضَ فَِإذَا ِهيَ َتمُورُ * أَمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي‬
‫سمَاءِ أَنْ َيخْ ِ‬
‫{ ‪ { } 18 - 16‬أََأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ‬
‫سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا فَسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ َنذِيرِ * وََلقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َفكَ ْيفَ كَانَ‬
‫سمَاءِ أَنْ يُرْ ِ‬
‫ال ّ‬
‫َنكِيرِ }‬

‫هذا تهديد ووعيد‪ ،‬لمن استمر في طغيانه وتعديه‪ ،‬وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سمَاءِ } وهو ال تعالى‪ ،‬العالي على خلقه‪.‬‬
‫{ أََأمِنْ ُتمْ مَنْ فِي ال ّ‬

‫سفَ ِبكُمُ الْأَ ْرضَ فَإِذَا ِهيَ َتمُورُ } بكم وتضطرب‪ ،‬حتى تتلفكم وتهلككم‬
‫{ أَنْ يَخْ ِ‬

‫سلَ عَلَ ْي ُكمْ حَاصِبًا } أي‪ :‬عذابًا من السماء يحصبكم‪ ،‬وينتقم ال‬
‫سمَاءِ أَنْ يُ ْر ِ‬
‫{ َأمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ‬
‫منكم { َفسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ نَذِيرِ } أي‪ :‬كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب‪ ،‬فل تحسبوا أن أمنكم‬
‫من ال أن يعاقبكم بعقاب من الرض ومن السماء ينفعكم‪ ،‬فستجدون عاقبة أمركم‪ ،‬سواء طال‬
‫عليكم الزمان أو قصر‪ ،‬فإن من قبلكم‪ ،‬كذبوا كما كذبتم‪ ،‬فأهلكهم ال تعالى‪ ،‬فانظروا كيف إنكار‬
‫ال عليهم‪ ،‬عاجلهم بالعقوبة الدنيوية‪ ،‬قبل عقوبة الخرة‪ ،‬فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم‪.‬‬

‫شيْءٍ‬
‫حمَنُ إِنّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫س ُكهُنّ إِلّا الرّ ْ‬
‫ت وَ َيقْبِضْنَ مَا ُيمْ ِ‬
‫{ ‪َ { } 19‬أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْوقَهُمْ صَافّا ٍ‬
‫َبصِيرٌ }‬
‫وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها ال‪ ،‬وسخر لها الجو والهواء‪ ،‬تصف‬
‫فيه أجنحتها للطيران‪ ،‬وتقبضها للوقوع‪ ،‬فتظل سابحة في الجو‪ ،‬مترددة فيه بحسب إرادتها‬
‫وحاجتها‪.‬‬

‫حمَنُ } فإنه الذي سخر لهن الجو‪ ،‬وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة‬
‫س ُكهُنّ إِلّا الرّ ْ‬
‫{ مَا ُيمْ ِ‬
‫للطيران‪ ،‬فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها‪ ،‬دلته على قدرة الباري‪ ،‬وعنايته الربانية‪ ،‬وأنه‬
‫شيْءٍ َبصِيرٌ } فهو المدبر لعباده بما يليق‬
‫الواحد الحد‪ ،‬الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ { ،‬إِنّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫بهم‪ ،‬وتقتضيه حكمته‪.‬‬

‫حمَنِ إِنِ ا ْلكَافِرُونَ إِلّا فِي *‬


‫{ ‪َ { } 21 - 20‬أمْ مَنْ هَذَا الّذِي ُهوَ جُنْدٌ َل ُكمْ يَ ْنصُ ُركُمْ مِنْ دُونِ الرّ ْ‬
‫سكَ رِ ْزقَهُ َبلْ َلجّوا فِي عُ ُت ّو وَ ُنفُورٍ }‬
‫أَمْ مَنْ هَذَا الّذِي يَرْ ُز ُقكُمْ إِنْ َأمْ َ‬

‫يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره‪ ،‬المعرضين عن الحق‪َ { :‬أمّنْ هَذَا الّذِي ُهوَ جُ ْندٌ َلكُمْ يَ ْنصُ ُركُمْ‬
‫حمَنِ } أي‪ :‬ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا‪ ،‬فيدفعه عنكم؟ أي‪ :‬من الذي ينصركم‬
‫مِنْ دُونِ الرّ ْ‬
‫على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل‪ ،‬وغيره من الخلق‪ ،‬لو اجتمعوا‬
‫على نصر عبد‪ ،‬لم ينفعوه مثقال ذرة‪ ،‬على أي عدو كان‪ ،‬فاستمرار الكافرين على كفرهم‪ ،‬بعد أن‬
‫علموا أنه ل ينصرهم أحد من دون الرحمن‪ ،‬غرور وسفه‪.‬‬

‫سكَ رِ ْزقَهُ } أي‪ :‬الرزق كله من ال‪ ،‬فلو أمسك عنكم رزقه‪ ،‬فمن‬
‫{ َأمّنْ هَذَا الّذِي يَرْ ُز ُقكُمْ إِنْ َأمْ َ‬
‫الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق ل يقدرون على رزق أنفسهم‪ ،‬فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم‪ ،‬الذي‬
‫ل يصيب العباد نعمة إل منه‪ ،‬هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة‪ ،‬ولكن الكافرون { لَجّوا } أي‪:‬‬
‫استمروا { فِي عُ ُتوّ } أي‪ :‬قسوة وعدم لين للحق { وَ ُنفُورٍ } أي‪ :‬شرود عن الحق‪.‬‬

‫سوِيّا عَلَى صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }‬


‫جهِهِ أَهْدَى َأمْ مَنْ َيمْشِي َ‬
‫{ ‪َ { } 22‬أ َفمَنْ َيمْشِي ُمكِبّا عَلَى وَ ْ‬

‫أي‪ :‬أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلل‪ ،‬غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه‪ ،‬فصار الحق‬
‫عنده باطلًا‪ ،‬والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق‪ ،‬مؤثرًا له‪ ،‬عاملًا به‪ ،‬يمشي على الصراط‬
‫المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين‪ ،‬يعلم الفرق‬
‫بينهما‪ ،‬والمهتدي من الضال منهما‪ ،‬والحوال أكبر شاهد من القوال‪.‬‬
‫شكُرُونَ * ُقلْ‬
‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫{ ‪ُ { } 26 - 23‬قلْ ُهوَ الّذِي أَنْشََأكُ ْم وَ َ‬
‫ض وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ * وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ * ُقلْ إِ ّنمَا‬
‫ُهوَ الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫ا ْلعِلْمُ عِ ْندَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }‬

‫يقول تعالى ‪ -‬مبينًا أنه المعبود وحده‪ ،‬وداعيًا عباده إلى شكره‪ ،‬وإفراده بالعبادة‪ُ { :-‬قلْ ُهوَ الّذِي‬
‫أَنْشََأكُمْ } أي‪ :‬أوجدكم من العدم‪ ،‬من غير معاون له ول مظاهر‪ ،‬ولما أنشأكم‪ ،‬كمل لكم الوجود‬
‫بالسمع والبصار والفئدة‪ ،‬التي هي أنفع أعضاء البدن وأكمل القوى الجسمانية‪ ،‬ولكنه مع هذا‬
‫شكُرُونَ } ال‪ ،‬قليل منكم الشاكر‪ ،‬وقليل منكم الشكر‪.‬‬
‫النعام { قَلِيلًا مَا تَ ْ‬

‫{ ُقلْ ُهوَ الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي‪ :‬بثكم في أقطارها‪ ،‬وأسكنكم في أرجائها‪ ،‬وأمركم‪ ،‬ونهاكم‪،‬‬
‫وأسدى عليكم من النعم‪ ،‬ما به تنتفعون‪ ،‬ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة‪.‬‬

‫ولكن هذا الوعد بالجزاء‪ ،‬ينكره هؤلء المعاندون { وَ َيقُولُونَ } تكذيبًا‪:‬‬

‫{ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } جعلوا علمة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه‪ ،‬وهذا ظلم‬
‫وعناد فإنما العلم عند ال ل عند أحد من الخلق‪ ،‬ول ملزمة بين صدق هذا الخبر وبين الخبار‬
‫بوقته‪ ،‬فإن الصدق يعرف بأدلته‪ ،‬وقد أقام ال من الدلة والبراهين على صحته ما ل يبقى معه‬
‫أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬

‫ت وُجُوهُ الّذِينَ َكفَرُوا َوقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ ِبهِ تَدّعُونَ * ُقلْ‬
‫{ ‪ { } 30 - 27‬فََلمّا رََأ ْوهُ زُ ْلفَةً سِي َئ ْ‬
‫حمَنُ‬
‫حمَنَا َفمَنْ يُجِيرُ ا ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُقلْ ُهوَ الرّ ْ‬
‫أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهَْلكَ ِنيَ اللّ ُه َومَنْ َم ِعيَ َأوْ َر ِ‬
‫غوْرًا َفمَنْ‬
‫آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ َت َوكّلْنَا فَسَ َتعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَا ُؤكُمْ َ‬
‫يَأْتِيكُمْ ِبمَاءٍ َمعِينٍ }‬

‫يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا‪ ،‬فإذا كان يوم الجزاء‪ ،‬ورأوا‬
‫العذاب منهم { زُ ْلفَةً } أي‪ :‬قريبًا‪ ،‬ساءهم ذلك وأفظعهم‪ ،‬وقلقل أفئدتهم‪ ،‬فتغيرت لذلك وجوههم‪،‬‬
‫ووبخوا على تكذيبهم‪ ،‬وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون‪ ،‬فاليوم رأيتموه عيانًا‪ ،‬وانجلى لكم‬
‫المر‪ ،‬وتقطعت بكم السباب ولم يبق إل مباشرة العذاب‪.‬‬

‫ولما كان المكذبون للرسول صلى ال عليه وسلم‪[ ،‬الذين] يردون دعوته‪ ،‬ينتظرون هلكه‪،‬‬
‫ويتربصون به ريب المنون‪ ،‬أمره ال أن يقول لهم‪ :‬أنتم وإن حصلت لكم أمانيكم وأهلكني ال‬
‫ومن معي‪ ،‬فليس ذلك بنافع لكم شيئًا‪ ،‬لنكم كفرتم بآيات ال‪ ،‬واستحققتم العذاب‪ ،‬فمن يجيركم من‬
‫عذاب أليم قد تحتم وقوعه بكم؟ فإذًا‪ ،‬تعبكم وحرصكم على هلكي غير مفيدة‪ ،‬ول مجد لكم شيئًا‪.‬‬
‫ومن قولهم‪ ،‬إنهم على هدى‪ ،‬والرسول على ضلل‪ ،‬أعادوا في ذلك وأبدوا‪ ،‬وجادلوا عليه وقاتلوا‪،‬‬
‫فأمر ال نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه‪ ،‬ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم‪ ،‬وهو أن‬
‫يقولوا‪ { :‬آمَنّا بِ ِه وَعَلَيْهِ َت َوكّلْنَا } واليمان يشمل التصديق الباطن‪ ،‬والعمال الباطنة والظاهرة‪،‬‬
‫ولما كانت العمال‪ ،‬وجودها وكمالها‪ ،‬متوقفة على التوكل‪ ،‬خص ال التوكل من بين سائر‬
‫العمال‪ ،‬وإل فهو داخل في اليمان‪ ،‬ومن جملة لوازمه كما قال تعالى‪ { :‬وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُوا إِنْ‬
‫كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه‪ ،‬وهي الحال التي تتعين للفلح‪،‬‬
‫وتتوقف عليها السعادة‪ ،‬وحالة أعدائه بضدها‪ ،‬فل إيمان [لهم] ول توكل‪ ،‬علم بذلك من هو على‬
‫هدى‪ ،‬ومن هو في ضلل مبين‪.‬‬

‫ثم أخبر عن انفراده بالنعم‪ ،‬خصوصًا‪ ،‬بالماء الذي جعل ال منه كل شيء حي فقال‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ‬
‫غوْرًا } أي‪ :‬غائرًا { َفمَنْ يَأْتِيكُمْ ِبمَاءٍ َمعِينٍ } تشربون منه‪ ،‬وتسقون أنعامكم‬
‫إِنْ َأصْبَحَ مَا ُؤكُمْ َ‬
‫وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي‪ ،‬أي‪ :‬ل يقدر أحد على ذلك غير ال تعالى‪.‬‬

‫تمت ول الحمد‪.‬‬

‫تفسير سورة ن‬
‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا َيسْطُرُونَ * مَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ *‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 7 - 1‬بِ ْ‬
‫عظِيمٍ * َفسَتُ ْبصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيّيكُمُ ا ْلمَفْتُونُ *‬
‫وَإِنّ َلكَ لَأَجْرًا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلى خُُلقٍ َ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ }‬
‫ن َ‬
‫إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَ ْ‬

‫يقسم تعالى بالقلم‪ ،‬وهو اسم جنس شامل للقلم‪ ،‬التي تكتب بها [أنواع] العلوم‪ ،‬ويسطر بها‬
‫المنثور والمنظوم‪ ،‬وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلم‪ ،‬من آيات ال العظيمة‪ ،‬التي‬
‫تستحق أن يقسم ال بها‪ ،‬على براءة نبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مما نسبه إليه أعداؤه من‬
‫الجنون فنفى عنه الجنون بنعمة ربه عليه وإحسانه‪ ،‬حيث من عليه بالعقل الكامل‪ ،‬والرأي‬
‫الجزل‪ ،‬والكلم الفصل‪ ،‬الذي هو أحسن ما جرت به القلم‪ ،‬وسطره النام‪ ،‬وهذا هو السعادة في‬
‫الدنيا‪ ،‬ثم ذكر سعادته في الخرة‪ ،‬فقال‪ { :‬وَإِنّ َلكَ لَأَجْرًا } ‪.‬‬

‫أي‪ :‬لجرا عظيمًا‪ ،‬كما يفيده التنكير‪ { ،‬غير ممنون } أي‪[ :‬غير] مقطوع‪ ،‬بل هو دائم مستمر‪،‬‬
‫وذلك لما أسلفه النبي صلى ال عليه وسلم من العمال الصالحة‪ ،‬والخلق الكاملة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫عظِيمٍ } أي‪ :‬عاليًا به‪ ،‬مستعليًا بخلقك الذي من ال عليك به‪ ،‬وحاصل خلقه‬
‫{ وَإِ ّنكَ َلعَلى خُُلقٍ َ‬
‫العظيم‪ ،‬ما فسرته به أم المؤمنين‪[ ،‬عائشة ‪-‬رضي ال عنها‪ ]-‬لمن سألها عنه‪ ،‬فقالت‪" :‬كان خلقه‬
‫ف وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِينَ } { فَ ِبمَا‬
‫القرآن"‪ ،‬وذلك نحو قوله تعالى له‪ { :‬خُذِ ا ْلعَ ْف َو وَ ْأمُرْ بِا ْلعُرْ ِ‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِ ُيصُ‬
‫حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َل ُهمْ } [الية]‪َ { ،‬لقَدْ جَا َء ُكمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫رَ ْ‬
‫عَلَ ْيكُم بِال ْم ُؤمِنِينَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من اليات الدالت على اتصافه صلى ال عليه‬
‫وسلم بمكارم الخلق‪[ ،‬واليات] الحاثات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها وأجلها‪ ،‬وهو‬
‫في كل خصلة منها‪ ،‬في الذروة العليا‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم سهلًا لينا‪ ،‬قريبًا من الناس‪ ،‬مجيبًا‬
‫لدعوة من دعاه‪ ،‬قاضيًا لحاجة من استقضاه‪ ،‬جابرًا لقلب من سأله‪ ،‬ل يحرمه‪ ،‬ول يرده خائبًا‪،‬‬
‫وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه‪ ،‬وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور‪ ،‬وإن عزم على أمر‬
‫لم يستبد به دونهم‪ ،‬بل يشاورهم ويؤامرهم‪ ،‬وكان يقبل من محسنهم‪ ،‬ويعفو عن مسيئهم‪ ،‬ولم يكن‬
‫يعاشر جليسًا له إل أتم عشرة وأحسنها‪ ،‬فكان ل يعبس في وجهه‪ ،‬ول يغلظ عليه في مقاله‪ ،‬ول‬
‫يطوي عنه بشره‪ ،‬ول يمسك عليه فلتات لسانه‪ ،‬ول يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة‪ ،‬بل يحسن‬
‫إلي عشيره غاية الحسان‪ ،‬ويحتمله غاية الحتمال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فلما أنزله ال في أعلى المنازل من جميع الوجوه‪ ،‬وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون‬
‫قال‪ { :‬فَسَتُ ْبصِ ُر وَيُ ْبصِرُونَ بِأَيّيكُمُ ا ْل َمفْتُونُ } وقد تبين أنه أهدى الناس‪ ،‬وأكملهم لنفسه ولغيره‪،‬‬
‫وأن أعداءه أضل الناس‪[ ،‬وشر الناس] للناس‪ ،‬وأنهم هم الذين فتنوا عباد ال‪ ،‬وأضلوهم عن‬
‫سبيله‪ ،‬وكفى بعلم ال بذلك‪ ،‬فإنه هو المحاسب المجازي‪.‬‬

‫ضلّ عَنْ سَبِيِل ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ } وهذا فيه تهديد للضالين‪ ،‬ووعد للمهتدين‪،‬‬
‫ن َ‬
‫علَمُ ِبمَ ْ‬
‫و { ُهوَ أَ ْ‬
‫وبيان لحكمة ال‪ ،‬حيث كان يهدي من يصلح للهداية‪ ،‬دون غيره‪.‬‬

‫طعْ ُكلّ حَلّافٍ َمهِينٍ * َهمّازٍ‬


‫{ ‪ { } 16 - 8‬فَلَا ُتطِعِ ا ْل ُمكَذّبِينَ * وَدّوا َلوْ تُدْهِنُ فَ ُيدْهِنُونَ * وَلَا تُ ِ‬
‫مَشّاءٍ بِ َنمِيمٍ * مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ ُمعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُ ُتلّ َب ْعدَ ذَِلكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِ‬
‫سمُهُ عَلَى ا ْلخُرْطُومِ }‬
‫آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ * سَنَ ِ‬

‫يقول ال تعالى‪ ،‬لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ { :‬فَلَا ُتطِعِ ا ْل ُمكَذّبِينَ } الذين كذبوك وعاندوا الحق‪،‬‬
‫فإنهم ليسوا أهلًا لن يطاعوا‪ ،‬لنهم ل يأمرون إل بما يوافق أهواءهم‪ ،‬وهم ل يريدون إل الباطل‪،‬‬
‫فالمطيع لهم مقدم على ما يضره‪ ،‬وهذا عام في كل مكذب‪ ،‬وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب‪،‬‬
‫وإن كان السياق في شيء خاص‪ ،‬وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن‬
‫يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم‪ ،‬ويسكتوا عنه‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَدّوا } أي‪ :‬المشركون { َلوْ ُتدْهِنُ }‬
‫أي‪ :‬توافقهم على بعض ما هم عليه‪ ،‬إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلم فيه‪،‬‬
‫{ فَ ُيدْهِنُونَ } ولكن اصدع بأمر ال‪ ،‬وأظهر دين السلم‪ ،‬فإن تمام إظهاره‪ ،‬بنقض ما يضاده‪،‬‬
‫وعيب ما يناقضه‪.‬‬

‫{ وَلَا ُتطِعْ ُكلّ حَلّافٍ } أي‪ :‬كثير الحلف‪ ،‬فإنه ل يكون كذلك إل وهو كذاب‪ ،‬ول يكون كذابًا إل‬
‫وهو { ُمهِينٌ } أي‪ :‬خسيس النفس‪ ،‬ناقص الهمة‪ ،‬ليس له همة في الخير‪ ،‬بل إرادته في شهوات‬
‫نفسه الخسيسة‪.‬‬

‫{ َهمّازٍ } أي‪ :‬كثير العيب [للناس] والطعن فيهم بالغيبة والستهزاء‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫{ مَشّاءٍ بِ َنمِيمٍ } أي‪ :‬يمشي بين الناس بالنميمة‪ ،‬وهي‪ :‬نقل كلم بعض الناس لبعض‪ ،‬لقصد الفساد‬
‫بينهم‪ ،‬وإلقاء العداوة والبغضاء‪.‬‬

‫{ مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ } الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك‪،‬‬
‫{ ُمعْتَدٍ } على الخلق في ظلمهم‪ ،‬في الدماء والموال والعراض { أَثِيمٍ } أي‪ :‬كثير الثم‬
‫والذنوب المتعلقة في حق ال تعالى‬

‫{ عُ ُتلّ َبعْدَ ذَِلكَ } أي‪ :‬غليظ شرس الخلق قاس غير منقاد للحق { زَنِيمٍ } أي‪ :‬دعي‪ ،‬ليس له أصل‬
‫و [ل] مادة ينتج منها الخير‪ ،‬بل أخلقه أقبح الخلق‪ ،‬ول يرجى منه فلح‪ ،‬له زنمة أي‪ :‬علمة‬
‫في الشر‪ ،‬يعرف بها‪.‬‬

‫وحاصل هذا‪ ،‬أن ال تعالى نهى عن طاعة كل حلف كذاب‪ ،‬خسيس النفس‪ ،‬سيئ الخلق‪،‬‬
‫خصوصًا الخلق المتضمنة للعجاب بالنفس‪ ،‬والتكبر على الحق وعلى الخلق‪ ،‬والحتقار للناس‪،‬‬
‫كالغيبة والنميمة‪ ،‬والطعن فيهم‪ ،‬وكثرة المعاصي‪.‬‬

‫وهذه اليات ‪ -‬وإن كانت نزلت في بعض المشركين‪ ،‬كالوليد بن المغيرة أو غيره لقوله عنه‪:‬‬
‫ل وَبَنِينَ إِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا قَالَ َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬لجل كثرة ماله وولده‪،‬‬
‫{ أَنْ كَانَ ذَا مَا ٍ‬
‫طغى واستكبر عن الحق‪ ،‬ودفعه حين جاءه‪ ،‬وجعله من جملة أساطير الولين‪ ،‬التي يمكن صدقها‬
‫وكذبها‪ -‬فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف‪ ،‬لن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم‪ ،‬ويدخل‬
‫فيه أول المة وآخرهم‪ ،‬وربما نزل بعض اليات في سبب أو في شخص من الشخاص‪ ،‬لتتضح‬
‫به القاعدة العامة‪ ،‬ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة‪.‬‬

‫ثم توعد تعالى من جرى منه ما وصف ال‪ ،‬بأن ال سيسمه على خرطومه في العذاب‪ ،‬وليعذبه‬
‫عذابًا ظاهرًا‪ ،‬يكون عليه سمة وعلمة‪ ،‬في أشق الشياء عليه‪ ،‬وهو وجهه‪.‬‬
‫سمُوا لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * وَلَا‬
‫{ ‪ { } 33 - 17‬إِنّا بََلوْنَا ُهمْ َكمَا بََلوْنَا َأصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ َأقْ َ‬
‫يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّبكَ وَهُمْ نَا ِئمُونَ }‬

‫إلى آخر القصة يقول تعال‪ :‬إنا بلونا هؤلء المكذبين بالخير وأمهلناهم‪ ،‬وأمددناهم بما شئنا من‬
‫مال وولد‪ ،‬وطول عمر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما يوافق أهواءهم‪ ،‬ل لكرامتهم علينا‪ ،‬بل ربما يكون‬
‫استدراجًا لهم من حيث ل يشعرون فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة‪ ،‬الذين هم فيها‬
‫شركاء‪ ،‬حين زهت ثمارها أينعت أشجارها‪ ،‬وآن وقت صرامها‪ ،‬وجزموا أنها في أيديهم‪ ،‬وطوع‬
‫أمرهم‪[ ،‬وأنه] ليس ثم مانع يمنعهم منها‪ ،‬ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناء‪ ،‬أنهم سيصرمونها‬
‫أي‪ :‬يجذونها مصبحين‪ ،‬ولم يدروا أن ال بالمرصاد‪ ،‬وأن العذاب سيخلفهم عليها‪ ،‬ويبادرهم إليها‪.‬‬

‫علَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّبكَ } أي‪ :‬عذاب نزل عليها ليلًا { وَ ُهمْ نَا ِئمُونَ } فأبادها وأتلفها‬
‫{ َفطَافَ َ‬
‫حتْ كَالصّرِيمِ } أي‪ :‬كالليل المظلم‪ ،‬ذهبت الشجار والثمار‪ ،‬هذا وهم ل يشعرون بهذا‬
‫{ فََأصْبَ َ‬
‫علَى حَرْ ِثكُمْ إِنْ‬
‫غدُوا َ‬
‫الواقع الملم‪ ،‬ولهذا تنادوا فيما بينهم‪ ،‬لما أصبحوا يقول بعضهم لبعض‪ { :‬أَنِ ا ْ‬
‫كُنْتُ ْم صَا ِرمِينَ فَانْطََلقُوا } قاصدين له { وَهُمْ يَ َتخَافَتُونَ } فيما بينهم‪ ،‬ولكن بمنع حق ال‪ ،‬ويقولون‪:‬‬
‫سكِينٌ } أي‪ :‬بكروا قبل انتشار الناس‪ ،‬وتواصوا مع ذلك‪ ،‬بمنع الفقراء‬
‫خلَ ّنهَا الْ َيوْمَ عَلَ ْيكُمْ ِم ْ‬
‫{ لَا يَدْ ُ‬
‫والمساكين‪ ،‬ومن شدة حرصهم وبخلهم‪ ،‬أنهم يتخافتون بهذا الكلم مخافتة‪ ،‬خوفًا أن يسمعهم أحد‪،‬‬
‫فيخبر الفقراء‪.‬‬

‫{ وَغَ َدوْا } في هذه الحالة الشنيعة‪ ،‬والقسوة‪ ،‬وعدم الرحمة { عَلَى حَ ْردٍ قَادِرِينَ } أي‪ :‬على إمساك‬
‫ومنع لحق ال‪ ،‬جازمين بقدرتهم عليها‪.‬‬

‫{ فََلمّا رََأوْهَا } على الوصف الذي ذكر ال كالصريم { قَالُوا } من الحيرة والنزعاج‪ { .‬إِنّا‬
‫َلضَالّونَ } [أي‪ :‬تائهون] عنها‪ ،‬لعلها غيرها‪ ،‬فلما تحققوها‪ ،‬ورجعت إليهم عقولهم قالوا‪َ { :‬بلْ َنحْنُ‬
‫طهُمْ } أي‪ :‬أعدلهم‪ ،‬وأحسنهم طريقة‬
‫مَحْرُومُونَ } منها‪ ،‬فعرفوا حينئذ أنه عقوبة‪ ،‬فـ { قَالَ َأوْسَ ُ‬
‫{ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ َلوْلَا ُتسَبّحُونَ } أي‪ :‬تنزهون ال عما ل يليق به‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬ظنكم أن قدرتكم مستقلة‪،‬‬
‫فلول استثنيتم‪ ،‬فقلتم‪ { :‬إِنْ شَاءَ اللّهُ } وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئتة ال‪ ،‬لما جرى عليكم ما‬
‫جرى‪ ،‬فقالوا { سُبْحَانَ رَبّنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ } أي‪ :‬استدركوا بعد ذلك‪ ،‬ولكن بعد ما وقع العذاب‬
‫على جنتهم‪ ،‬الذي ل يرفع‪ ،‬ولكن لعل تسبيحهم هذا‪ ،‬وإقرارهم على أنفسهم بالظلم‪ ،‬ينفعهم في‬
‫تخفيف الثم ويكون توبة‪ ،‬ولهذا ندموا ندامة عظيمة‪.‬‬

‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ يَتَلَا َومُونَ } فيما أجروه وفعلوه‪،‬‬


‫{ فََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا طَاغِينَ } أي‪ :‬متجاوزين للحد في حق ال‪ ،‬وحق عباده‪.‬‬

‫عسَى رَبّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِ ْنهَا إِنّا إِلَى رَبّنَا رَاغِبُونَ } فهم رجوا ال أن يبدلهم خيرًا منها‪،‬‬
‫{ َ‬
‫ووعدوا أنهم سيرغبون إلى ال‪ ،‬ويلحون عليه في الدنيا‪ ،‬فإن كانوا كما قالوا‪ ،‬فالظاهر أن ال‬
‫أبدلهم في الدنيا خيرًا منها لن من دعا ال صادقًا‪ ،‬ورغب إليه ورجاه‪ ،‬أعطاه سؤله‪.‬‬

‫قال تعالى مبينا ما وقع‪َ { :‬كذَِلكَ ا ْلعَذَابُ } [أي‪ ]:‬الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب ال‬
‫العبد الشيء الذي طغى به وبغى‪ ،‬وآثر الحياة الدنيا‪ ،‬وأن يزيله عنه‪ ،‬أحوج ما يكون إليه‪.‬‬

‫{ وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ َأكْبَرُ } من عذاب الدنيا { َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } فإن من علم ذلك‪ ،‬أوجب له‬
‫النزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب‬

‫ج َعلُ ا ْل ُمسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ * مَا َلكُمْ‬


‫{ ‪ { } 41 - 34‬إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * َأفَ َن ْ‬
‫علَيْنَا بَاِلغَةٌ‬
‫ح ُكمُونَ * أَمْ َلكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنّ َلكُمْ فِيهِ َلمَا تَخَيّرُونَ * َأمْ َلكُمْ أَ ْيمَانٌ َ‬
‫كَ ْيفَ َت ْ‬
‫ح ُكمُونَ * سَ ْل ُهمْ أَ ّيهُمْ ِبذَِلكَ زَعِيمٌ * أَمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ فَلْيَأْتُوا ِبشُ َركَا ِئهِمْ إِنْ‬
‫إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ َلكُمْ َلمَا تَ ْ‬
‫كَانُوا صَا ِدقِينَ }‬

‫يخبر تعالى بما أعده للمتقين للكفر والمعاصي‪ ،‬من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم‬
‫الكرمين‪ ،‬وأن حكمته تعالى ل تقتضي أن يجعل المسلمين القانتين لربهم‪ ،‬المنقادين لوامره‪،‬‬
‫المتبعين لمراضيه كالمجرمين الذين أوضعوا في معاصيه‪ ،‬والكفر بآياته‪ ،‬ومعاندة رسله‪ ،‬ومحاربة‬
‫أوليائه‪ ،‬وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب‪ ،‬فإنه قد أساء الحكم‪ ،‬وأن حكمه حكم باطل‪ ،‬ورأيه‬
‫فاسد‪ ،‬وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك‪ ،‬فليس لهم مستند‪ ،‬ل كتاب فيه يدرسون [ويتلون] أنهم من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬وأن لهم ما طلبوا وتخيروا‪.‬‬

‫وليس لهم عند ال عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون‪ ،‬وليس لهم شركاء وأعوان‬
‫على إدراك ما طلبوا‪ ،‬فإن كان لهم شركاء وأعوان فليأتوا بهم إن كانوا صادقين‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫جميع ذلك منتف‪ ،‬فليس لهم كتاب‪ ،‬ول لهم عهد عند ال في النجاة‪ ،‬ول لهم شركاء يعينونهم‪ ،‬فعلم‬
‫أن دعواهم باطلة فاسدة‪ ،‬وقوله‪ { :‬سَ ْلهُمْ أَ ّيهُمْ ِبذَِلكَ زَعِيمٌ } أي‪ :‬أيهم الكفيل بهذه الدعوى الفاسدة‪،‬‬
‫فإنه ل يمكن التصدر بها‪ ،‬ول الزعامة فيها‪.‬‬
‫شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ‬
‫عوْنَ إِلَى السّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَا ِ‬
‫ق وَيُدْ َ‬
‫شفُ عَنْ سَا ٍ‬
‫{ ‪َ { } 43 - 42‬يوْمَ ُيكْ َ‬
‫عوْنَ إِلَى السّجُو ِد وَ ُهمْ سَاِلمُونَ }‬
‫تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّ ٌة َوقَدْ كَانُوا يُدْ َ‬

‫أي‪ :‬إذا كان يوم القيامة‪ ،‬وانكشف فيه من القلقل [والزلزل] والهوال ما ل يدخل تحت الوهم‪،‬‬
‫وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي ل يشبهها شيء‪،‬‬
‫ورأى الخلئق من جلل ال وعظمته ما ل يمكن التعبير عنه‪ ،‬فحينئذ يدعون إلى السجود ل‪،‬‬
‫فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون ل‪ ،‬طوعًا واختيارًا‪ ،‬ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فل‬
‫يقدرون على السجود‪ ،‬وتكون ظهورهم كصياصي البقر‪ ،‬ل يستطيعون النحناء‪ ،‬وهذا الجزاء ما‬
‫جنس عملهم‪ ،‬فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود ل وتوحيده وعبادته وهم سالمون‪ ،‬ل علة‬
‫فيهم‪ ،‬فيستكبرون عن ذلك ويأبون‪ ،‬فل تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم‪ ،‬فإن ال قد سخط‬
‫عليهم‪ ،‬وحقت عليهم كلمة العذاب‪ ،‬وتقطعت أسبابهم‪ ،‬ولم تنفعهم الندامة ول العتذار يوم القيامة‪،‬‬
‫ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي‪ ،‬و[يوجب] التدارك مدة المكان‪.‬‬

‫ولهذا قال تعالى‬


‫جهُمْ مِنْ حَ ْيثُ لَا َيعَْلمُونَ * وَُأمْلِي َلهُمْ‬
‫{ ‪ { } 52 - 44‬فَذَرْنِي َومَنْ ُيكَ ّذبُ ِبهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْ ِر ُ‬
‫إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ * َأمْ تَسْأَُل ُهمْ أَجْرًا َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ * أَمْ عِ ْندَهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َف ُهمْ َيكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ‬
‫حبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَ ُهوَ َمكْظُومٌ * َلوْلَا أَنْ َتدَا َركَهُ ِن ْعمَةٌ مِنْ رَبّهِ لَنُبِذَ‬
‫ك وَلَا َتكُنْ َكصَا ِ‬
‫ح ْكمِ رَ ّب َ‬
‫لِ ُ‬
‫جعَلَهُ مِنَ الصّاِلحِينَ * وَإِنْ َيكَادُ الّذِينَ َكفَرُوا لَيُزِْلقُو َنكَ‬
‫بِا ْلعَرَا ِء وَ ُهوَ مَ ْذمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ َف َ‬
‫س ِمعُوا ال ّذكْ َر وَ َيقُولُونَ إِنّهُ َل َمجْنُونٌ * َومَا ُهوَ ِإلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ }‬
‫بِأَ ْبصَارِهِمْ َلمّا َ‬

‫ج ُهمْ مِنْ‬
‫أي‪ :‬دعني والمكذبين بالقرآن العظيم فإن علي جزاءهم‪ ،‬ول تستعجل لهم‪ ،‬فـ { سَنَسْ َتدْرِ ُ‬
‫حَ ْيثُ لَا َيعَْلمُونَ } فنمدهم بالموال والولد‪ ،‬ونمدهم في الرزاق والعمال‪ ،‬ليغتروا ويستمروا‬
‫على ما يضرهم‪ ،‬فإن وهذا من كيد ال لهم‪ ،‬وكيد ال لعدائه‪ ،‬متين قوي‪ ،‬يبلغ من ضررهم‬
‫وعذابهم فوق كل مبلغ‬

‫{ َأمْ تَسْأَُل ُهمْ أَجْرًا َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ } أي‪ :‬ليس لنفورهم عنك‪ ،‬وعدم تصديقهم لما جئت به ‪،‬‬
‫سبب يوجب لهم ذلك‪ ،‬فإنك تعلمهم‪ ،‬وتدعوهم إلى ال‪ ،‬لمحض مصلحتهم‪ ،‬من غير أن تطلبهم من‬
‫أموالهم مغرمًا يثقل عليهم‪.‬‬

‫{ َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ } ما كان عندهم من الغيوب‪ ،‬وقد وجدوا فيها أنهم على حق‪ ،‬وأن‬
‫لهم الثواب عند ال‪ ،‬فهذا أمر ما كان‪ ،‬وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم‪.‬‬
‫فلم يبق إل الصبر لذاهم‪ ،‬والتحمل لما يصدر منهم‪ ،‬والستمرار على دعوتهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫حكْمِ رَ ّبكَ } أي‪ :‬لما حكم به شرعًا وقدرًا‪ ،‬فالحكم القدري‪ ،‬يصبر على المؤذي منه‪ ،‬ول‬
‫{ فَاصْبِرْ ِل ُ‬
‫يتلقى بالسخط والجزع‪ ،‬والحكم الشرعي‪ ،‬يقابل بالقبول والتسليم‪ ،‬والنقياد التام لمره‪.‬‬

‫حبِ الْحُوتِ } وهو يونس بن متى‪ ،‬عليه الصلة والسلم أي‪ :‬ول تشابهه‬
‫وقوله‪ { :‬وَلَا َتكُنْ َكصَا ِ‬
‫في الحال‪ ،‬التي أوصلته‪ ،‬وأوجبت له النحباس في بطن الحوت‪ ،‬وهو عدم صبره على قومه‬
‫الصبر المطلوب منه‪ ،‬وذهابه مغاضبًا لربه‪ ،‬حتى ركب في البحر‪ ،‬فاقترع أهل السفينة حين ثقلت‬
‫بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم‪ ،‬فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم [وقوله] { ِإذْ نَادَى‬
‫وَ ُهوَ َم ْكظُومٌ } أي‪ :‬وهو في بطنها قد كظمت عليه‪ ،‬أو نادى وهو مغتم مهتم بأن قال { لَا إِلَهَ إِلّا‬
‫أَ ْنتَ سُبْحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ } فاستجاب ال له‪ ،‬وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو‬
‫سقيم‪ ،‬وأنبت ال عليه شجرة من يقطين‪ ،‬ولهذا قال هنا‪َ { :‬لوْلَا أَنْ تَدَا َركَهُ ِن ْعمَةٌ مِنْ رَبّهِ لَنُ ِبذَ‬
‫بِا ْلعَرَاءِ } أي‪ :‬لطرح في العراء‪ ،‬وهي الرض الخالية { وَ ُهوَ مَ ْذمُومٌ } ولكن ال تغمده برحمته‬
‫فنبذ وهو ممدوح‪ ،‬وصارت حاله أحسن من حاله الولى‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ } أي‪ :‬اختاره‬
‫جعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ } أي‪ :‬الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم‬
‫واصطفاه ونقاه من كل كدر‪ { .،‬فَ َ‬
‫ونياتهم‪[ ،‬وأحوالهم] فامتثل نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أمر ربه‪ ،‬فصبر لحكم ربه صبرًا ل‬
‫يدركه فيه أحد من العالمين‪.‬‬

‫فجعل ال له العاقبة { والعاقبة للمتقين } ولم يدرك أعداؤه فيه إل ما يسوءهم‪ ،‬حتى إنهم حرصوا‬
‫على أن يزلقوه بأبصارهم أي‪ :‬يصيبوه بأعينهم‪ ،‬من حسدهم وغيظهم وحنقهم‪ ،‬هذا منتهى ما‬
‫قدروا عليه من الذى الفعلي‪ ،‬وال حافظه وناصره‪ ،‬وأما الذى القولي‪ ،‬فيقولون فيه أقوالًا‪،‬‬
‫بحسب ما توحي إليهم قلوبهم‪ ،‬فيقولون تارة "مجنون" وتارة "ساحر" وتارة "شاعر"‪.‬‬

‫قال تعالى { َومَا ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬وما هذا القرآن الكريم‪ ،‬والذكر الحكيم‪ ،‬إل ذكر‬
‫للعالمين‪ ،‬يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫تم تفسير سورة القلم‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة الحاقة‬


‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ الْحَاقّةُ * مَا ا ْلحَاقّةُ * َومَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ * كَذّ َبتْ َثمُودُ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخّرَهَا‬
‫وَعَادٌ بِا ْلقَارِعَةِ * فََأمّا َثمُودُ فَأُهِْلكُوا بِالطّاغِيَةِ * وََأمّا عَادٌ فَأُهِْلكُوا بِرِي ٍ‬
‫خلٍ خَاوِيَةٍ * َف َهلْ‬
‫ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَ ّنهُمْ أَعْجَازُ َن ْ‬
‫عَلَ ْيهِمْ سَبْعَ لَيَا ٍ‬
‫تَرَى َلهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ }‬

‫{ ا ْلحَاقّةُ } من أسماء يوم القيامة‪ ،‬لنها تحق وتنزل بالخلق‪ ،‬وتظهر فيها حقائق المور‪ ،‬ومخبآت‬
‫الصدور‪ ،‬فعظم تعالى شأنها وفخمه‪ ،‬بما كرره من قوله‪ { :‬ا ْلحَاقّةُ مَا الْحَاقّ ُة َومَا َأدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ }‬
‫فإن لها شأنا عظيما وهول جسيما‪[ ،‬ومن عظمتها أن ال أهلك المم المكذبة بها بالعذاب العاجل]‬

‫ثم ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها‪ ،‬وهو ما أحله من العقوبات البليغة‬
‫بالمم العاتية فقال‪ { :‬كَذّ َبتْ َثمُودُ } وهم القبيلة المشهورة سكان الحجر الذين أرسل ال إليهم‬
‫رسوله صالحا عليه السلم‪ ،‬ينهاهم عما هم عليه من الشرك‪ ،‬ويأمرهم بالتوحيد‪ ،‬فردوا دعوته‬
‫وكذبوه وكذبوا ما أخبرهم به من يوم القيامة‪ ،‬وهي القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها‪ ،‬وكذلك عاد‬
‫الولى سكان حضرموت حين بعث ال إليهم رسوله هودا عليه الصلة والسلم يدعوهم إلى عبادة‬
‫ال [وحده] فكذبوه وكذبوا بما أخبر به من البعث فأهلك ال الطائفتين بالهلك المعجل { فََأمّا‬
‫َثمُودُ فَأُهِْلكُوا بِالطّاغِ َيةِ } وهي الصيحة العظيم ة الفظيعة‪ ،‬التي انصدعت منها قلوبهم وزهقت لها‬
‫أرواحهم فأصبحوا موتى ل يرى إل مساكنهم وجثثهم‪.‬‬

‫ح صَ ْرصَرٍ } أي‪ :‬قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد‬
‫{ وََأمّا عَادٌ فَأُهِْلكُوا بِرِي ٍ‬
‫[القاصف] { عَاتِيَةٍ } [أي‪ ] :‬عتت على خزانها‪ ،‬على قول كثير من المفسرين‪ ،‬أو عتت على عاد‬
‫وزادت على الحد كما هو الصحيح‪.‬‬

‫ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا } أي‪ :‬نحسا وشرا فظيعا عليهم فدمرتهم وأهلكتهم‪،‬‬
‫{ سَخّرَهَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْبعَ لَيَا ٍ‬
‫خلٍ خَاوِيَةٍ } أي‪ :‬كأنهم جذوع‬
‫عجَازُ نَ ْ‬
‫{ فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى } أي‪ :‬هلكى موتى { كَأَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫النخل التي قد قطعت رءوسها الخاوية الساقط بعضها على بعض‪.‬‬

‫{ َف َهلْ تَرَى َلهُمْ مِنْ بَاقِ َيةٍ } وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر‪.‬‬

‫صوْا َرسُولَ رَ ّبهِمْ فَأَخَ َذهُمْ‬


‫عوْنُ َومَنْ قَبْلَهُ وَا ْلمُؤْ َت ِفكَاتُ بِا ْلخَاطِ َئةِ * َف َع َ‬
‫{ ‪ { } 12 - 9‬وَجَاءَ فِرْ َ‬
‫ن وَاعِيَةٌ }‬
‫جعََلهَا َلكُمْ َت ْذكِ َرةً وَ َتعِيَهَا ُأذُ ٌ‬
‫حمَلْنَاكُمْ فِي ا ْلجَارِيَةِ * لِ َن ْ‬
‫طغَى ا ْلمَاءُ َ‬
‫خ َذةً رَابِيَةً * إِنّا َلمّا َ‬
‫أَ ْ‬
‫أي‪ :‬وكذلك غير هاتين المتين الطاغيتين عاد وثمود جاء غيرهم من الطغاة العتاة كفرعون مصر‬
‫الذي أرسل ال إليه عبده ورسوله موسى [ابن عمران] عليه الصلة والسلم وأراه من اليات‬
‫البينات ما تيقنوا بها الحق ولكن جحدوا وكفروا ظلما وعلوا وجاء من قبله من المكذبين‪،‬‬
‫{ وَا ْل ُمؤْ َتفِكَاتِ } أي‪ :‬قرى قوم لوط الجميع جاءوا { بِا ْلخَاطِ َئةِ } أي‪ :‬بالفعلة الطاغية وهي الكفر‬
‫والتكذيب والظلم والمعاندة وما انضم إلى ذلك من أنواع الفواحش والفسوق‪.‬‬

‫صوْا رَسُولَ رَ ّبهِمْ } وهذا اسم جنس أي‪ :‬كل من هؤلء كذب الرسول الذي أرسله ال إليهم‪.‬‬
‫{ َف َع َ‬
‫فأخذ ال الجميع { َأخْ َذةً رَابِ َيةً } أي‪ :‬زائدة على الحد والمقدار الذي يحصل به هلكهم‪.‬‬

‫ومن جملة أولئك قوم نوح أغرقهم ال في اليم حين طغى [الماء على وجه] الرض وعل على‬
‫مواضعها الرفيعة‪.‬وامتن ال على الخلق الموجودين بعدهم أن ال حملهم { فِي ا ْلجَارِيَةِ } وهي‪:‬‬
‫السفينة في أصلب آبائهم وأمهاتهم الذين نجاهم ال‪.‬‬

‫فاحمدوا ال واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين واعتبروا بآياته الدالة على توحيده ولهذا‬
‫جعََلهَا } أي‪ :‬الجارية والمراد جنسها‪َ { ،‬لكُمْ َت ْذكِ َرةً } تذكركم أول سفينة صنعت وما‬
‫قال‪ { :‬لِنَ ْ‬
‫قصتها وكيف نجى ال عليها من آمن به واتبع رسوله وأهلك أهل الرض كلهم فإن جنس الشيء‬
‫مذكر بأصله‪.‬‬

‫ن وَاعِيَةٌ } أي‪ :‬تعقلها أولو اللباب ويعرفون المقصود منها ووجه الية بها‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَ َتعِ َيهَا ُأذُ ٌ‬

‫وهذا بخلف أهل العراض والغفلة وأهل البلدة وعدم الفطنة فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات ال‬
‫لعدم وعيهم عن ال‪ ،‬وفكرهم بآيات ال‬

‫ض وَالْجِبَالُ َف ُدكّتَا َدكّ ًة وَاحِ َدةً *‬


‫حمَِلتِ الْأَ ْر ُ‬
‫ح َدةٌ * وَ ُ‬
‫{ ‪ { } 18 - 13‬فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ َنفْخَ ٌة وَا ِ‬
‫ح ِملُ عَرْشَ‬
‫سمَاءُ َفهِيَ َي ْومَئِ ٍذ وَاهِيَةٌ * وَا ْلمََلكُ عَلَى أَ ْرجَا ِئهَا وَيَ ْ‬
‫ش ّقتِ ال ّ‬
‫فَ َي ْومَئِ ٍذ َو َقعَتِ ا ْلوَا ِقعَةُ * وَانْ َ‬
‫خفَى مِ ْنكُمْ خَافِ َيةٌ }‬
‫رَ ّبكَ َف ْو َقهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِيَةٌ * َي ْومَئِذٍ ُتعْ َرضُونَ لَا تَ ْ‬
‫لما ذكر ما فعله تعالى بالمكذبين لرسله وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا وأن ال نجى‬
‫الرسل وأتباعهم كان هذا مقدمة لذكر الجزاء الخروي وتوفية العمال كاملة يوم القيامة‪ .‬فذكر‬
‫المور الهائلة التي تقع أمام القيامة وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل { فِي الصّورِ } إذا تكاملت‬
‫الجساد نابتة‪َ { .‬نفْخَ ٌة وَاحِ َدةٌ } فتخرج الرواح فتدخل كل روح في جسدها فإذا الناس قيام لرب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫ض وَا ْلجِبَالُ َف ُدكّتَا َدكّةً وَاحِ َدةً } أي‪ :‬فتتت الجبال واضمحلت وخلطت بالرض‬
‫حمَِلتِ الْأَ ْر ُ‬
‫{ وَ ُ‬
‫ونسفت على الرض فكان الجميع قاعا صفصفا ل ترى فيها عوجا ول أمتا‪ .‬هذا ما يصنع‬
‫بالرض وما عليها‪.‬‬

‫وأما ما يصنع بالسماء‪ ،‬فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها‪ ،‬وتهي بعد تلك الصلبة‬
‫والقوة العظيمة‪ ،‬وما ذاك إل لمر عظيم أزعجها‪ ،‬وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها‪.‬‬

‫{ وَا ْلمََلكُ } أي‪ :‬الملئكة الكرام { عَلَى أَرْجَا ِئهَا } أي‪ :‬على جوانب السماء وأركانها‪ ،‬خاضعين‬
‫لربهم‪ ،‬مستكينين لعظمته‪.‬‬

‫ح ِملُ عَرْشَ رَ ّبكَ َف ْو َقهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِ َيةٌ } أملك في غاية القوة إذا أتى للفصل بين العباد‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله‪.‬‬

‫خفَى مِ ْنكُمْ خَافِيَةٌ } ل من أجسامكم وأجسادكم ول‬


‫ولهذا قال‪َ { :‬ي ْومَئِذٍ ُتعْ َرضُونَ } على ال { لَا َت ْ‬
‫من أعمالكم [وصفاتكم]‪ ،‬فإن ال تعالى عالم الغيب والشهادة‪.‬‬

‫ويحشر العباد حفاة عراة غرل‪ ،‬في أرض مستوية‪ ،‬يسمعهم الداعي‪ ،‬وينفذهم البصر‪ ،‬فحينئذ‬
‫يجازيهم بما عملوا‪ ،‬ولهذا ذكر كيفية الجزاء‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫{ ‪ { } 24 - 19‬فََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَا َبهُ بِ َيمِينِهِ فَ َيقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلَاقٍ‬
‫حسَابِيَهْ * َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا‬
‫ِ‬
‫أَسَْلفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخَالِ َيةِ }‬

‫وهؤلء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزا لهم وتنويها‬
‫بشأنهم ورفعا لمقدارهم‪ ،‬ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على‬
‫ما من ال عليه به من الكرامة‪ { :‬هَاؤُمُ اقْ َرءُوا كِتَابِيَهْ } أي‪ :‬دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر‬
‫بالجنات‪ ،‬وأنواع الكرامات‪ ،‬ومغفرة الذنوب‪ ،‬وستر العيوب‪.‬‬

‫والذي أوصلني إلى هذه الحال‪ ،‬ما من ال به علي من اليمان بالبعث والحساب‪ ،‬والستعداد له‬
‫حسَابِيَهْ } أي‪ :‬أيقنت فالظن ‪-‬هنا‪[ -‬بمعنى]‬
‫بالممكن من العمل‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلَاقٍ ِ‬
‫اليقين‪.‬‬
‫{ َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِ َيةٍ } أي‪ :‬جامعة لما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وقد رضوها ولم يختاروا‬
‫عليها غيرها‪.‬‬

‫{ فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ } المنازل والقصور عالية المحل‪.‬‬

‫{ ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ } أي‪ :‬ثمرها وجناها من أنواع الفواكه قريبة‪ ،‬سهلة التناول على أهلها‪ ،‬ينالها أهلها‬
‫قياما وقعودا ومتكئين‪.‬‬

‫ويقال لهم إكراما‪ { :‬كُلُوا وَاشْرَبُوا } أي‪ :‬من كل طعام لذيذ‪ ،‬وشراب شهي‪ { ،‬هَنِيئًا } أي‪ :‬تاما‬
‫كامل من غير مكدر ول منغص‪.‬‬

‫وذلك الجزاء حصل لكم { ِبمَا َأسَْلفْتُمْ فِي الْأَيّامِ ا ْلخَالِيَةِ } من العمال الصالحة ‪-‬وترك العمال‬
‫السيئة‪ -‬من صلة وصيام وصدقة وحج وإحسان إلى الخلق‪ ،‬وذكر ل وإنابة إليه‪.‬‬

‫فالعمال جعلها ال سببا لدخول الجنة ومادة لنعيمها وأصل لسعادتها‪.‬‬

‫شمَالِهِ فَ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي َلمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ َأدْرِ مَا حِسَابِيَهْ‬
‫{ ‪ { } 37 - 25‬وََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ ِ‬
‫خذُوهُ َفغُلّوهُ * ُثمّ ا ْلجَحِيمَ‬
‫* يَا لَيْ َتهَا كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيَهْ * َهَلكَ عَنّي سُلْطَانِ َيهْ * ُ‬
‫حضّ‬
‫عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِيمِ * وَلَا يَ ُ‬
‫سلَةٍ ذَرْ ُ‬
‫صَلّوهُ * ُثمّ فِي سِلْ ِ‬
‫غسْلِينٍ * لَا يَ ْأكُُلهُ إِلّا‬
‫طعَامٌ إِلّا مِنْ ِ‬
‫حمِيمٌ * وَلَا َ‬
‫سكِينِ * فَلَيْسَ َلهُ الْ َيوْمَ هَا هُنَا َ‬
‫طعَامِ ا ْلمِ ْ‬
‫عَلَى َ‬
‫الْخَاطِئُونَ }‬

‫هؤلء أهل الشقاء يعطون كتب أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزا لهم وخزيا وعارا وفضيحة‪ ،‬فيقول‬
‫أحدهم من الهم والغم والخزي { يَا لَيْتَنِي َلمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } لنه يبشر بدخول النار والخسارة‬
‫البدية‪.‬‬

‫{ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي‪ :‬ليتني كنت نسيا منسيا ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال‪:‬‬

‫{ يَا لَيْ َتهَا كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ } أي‪ ::‬يا ليت موتتي هي الموتة التي ل بعث بعدها‪.‬‬

‫ثم التفت إلى ماله وسلطانه‪ ،‬فإذا هو وبال عليه لم يقدم منه لخرته‪ ،‬ولم ينفعه في الفتداء من‬
‫عذاب ال فيقول‪ { :‬مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيَهْ } أي‪ :‬ما نفعني ل في الدنيا‪ ،‬لم أقدم منه شيئا‪ ،‬ول في‬
‫الخرة‪ ،‬قد ذهب وقت نفعه‪.‬‬
‫{ هََلكَ عَنّي سُلْطَانِ َيهْ } أي‪ :‬ذهب واضمحل فلم تنفع الجنود الكثيرة‪ ،‬ول العدد الخطيرة‪ ،‬ول الجاه‬
‫العريض‪ ،‬بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح‪ ،‬وفاتت بسببه المتاجر والرباح‪ ،‬وحضر بدله الهموم‬
‫خذُوهُ َفغُلّوهُ } أي‪ :‬اجعلوا‬
‫والغموم والتراح‪ ،‬فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلظ الشداد‪ُ { :‬‬
‫في عنقه غل يخنقه‪.‬‬

‫{ ُثمّ ا ْلجَحِيمَ صَلّوهُ } أي‪ :‬قلبوه على جمرها ولهبها‪.‬‬

‫عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا } من سلسل الجحيم في غاية الحرارة { فَاسُْلكُوهُ } أي‪:‬‬


‫{ ُثمّ فِي سِلْسَِلةٍ ذَرْ ُ‬
‫انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه‪ ،‬ويعلق فيها‪ ،‬فل يزال يعذب هذا العذاب الفظيع‪،‬‬
‫فبئس العذاب والعقاب‪ ،‬وواحسرة من له التوبيخ والعتاب‪.‬‬

‫فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل‪ { :‬إِنّهُ كَانَ لَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِيمِ } بأن كان كافرا بربه‬
‫معاندا لرسله رادا ما جاءوا به من الحق‪.‬‬

‫سكِينِ } أي‪ :‬ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين فل‬
‫طعَامِ ا ْلمِ ْ‬
‫حضّ عَلَى َ‬
‫{ وَلَا َي ُ‬
‫يطعمهم [من ماله] ول يحض غيره على إطعامهم‪ ،‬لعدم الوازع في قلبه‪ ،‬وذلك لن مدار السعادة‬
‫ومادتها أمران‪ :‬الخلص ل‪ ،‬الذي أصله اليمان بال‪ ،‬والحسان إلى الخلق بوجوه الحسان‪،‬‬
‫الذي من أعظمها‪ ،‬دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما يتقوتون به‪ ،‬وهؤلء ل إخلص ول‬
‫إحسان‪ ،‬فلذلك استحقوا ما استحقوا‪.‬‬

‫حمِيمٍ } أي‪ :‬قريب أو صديق يشفع له لينجو من عذاب‬


‫{ فَلَيْسَ لَهُ الْ َيوْمَ هَاهُنَا } أي‪ :‬يوم القيامة { َ‬
‫شفِيعٍ‬
‫حمِي ٍم وَلَا َ‬
‫شفَاعَةُ عِنْ َدهُ إِلّا ِلمَنْ أَذِنَ َلهُ } { مَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َ‬
‫ال أو يفوز بثواب ال‪ { :‬وَلَا تَ ْنفَعُ ال ّ‬
‫يُطَاعُ } ‪.‬‬

‫وليس له طعام إل من غسلين وهو صديد أهل النار‪ ،‬الذي هو في غاية الحرارة‪ ،‬ونتن الريح‪،‬‬
‫وقبح الطعم ومرارته ل يأكل هذا الطعام الذميم { إِلّا ا ْلخَاطِئُونَ } الذين أخطأوا الصراط المستقيم‬
‫وسلكوا سبل الجحيم فلذلك استحقوا العذاب الليم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 52 - 38‬فَلَا ُأ ْقسِمُ ِبمَا تُ ْبصِرُونَ * َومَا لَا تُ ْبصِرُونَ * إِنّهُ َل َق ْولُ َرسُولٍ كَرِيمٍ * َومَا ُهوَ‬
‫ِبقَ ْولِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا ُت ْؤمِنُونَ * وَلَا ِب َقوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا َت َذكّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَلَوْ‬
‫حدٍ عَنْهُ‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ * َفمَا مِ ْنكُمْ مِنْ أَ َ‬
‫َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ُثمّ َلقَ َ‬
‫حَاجِزِينَ * وَإِنّهُ لَ َت ْذكِ َرةٌ لِ ْلمُ ّتقِينَ * وَإِنّا لَ َنعْلَمُ أَنّ مِ ْنكُمْ ُمكَذّبِينَ * وَإِنّهُ َلحَسْ َرةٌ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ * وَإِنّهُ‬
‫حقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ }‬
‫لَ َ‬

‫أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الشياء وما ل يبصرونه‪ ،‬فدخل في ذلك كل الخلق بل‬
‫يدخل في ذلك نفسه المقدسة‪ ،‬على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم‪ ،‬وأن‬
‫الرسول الكريم بلغه عن ال تعالى‪.‬‬

‫ونزه ال رسوله عما رماه به أعداؤه‪ ،‬من أنه شاعر أو ساحر‪ ،‬وأن الذي حملهم على ذلك عدم‬
‫إيمانهم وتذكرهم‪ ،‬فلو آمنوا وتذكروا‪ ،‬لعلموا ما ينفعهم ويضرهم‪ ،‬ومن ذلك‪ ،‬أن ينظروا في حال‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويرمقوا أوصافه وأخلقه‪ ،‬لرأوا أمرا مثل الشمس يدلهم على أنه‬
‫رسول ال حقا‪ ،‬وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين‪ ،‬ل يليق أن يكون قول البشر بل هو كلم دال‬
‫على عظمة من تكلم به‪ ،‬وجللة أوصافه‪ ،‬وكمال تربيته لعباده‪ ،‬وعلوه فوق عباده‪ ،‬وأيضا‪ ،‬فإن‬
‫هذا ظن منهم بما ل يليق بال وحكمته فإنه لو تقول عليه وافترى { َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ } الكاذبة‪.‬‬

‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ } وهو عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه‬
‫{ لََأخَذْنَا مِ ْنهُ بِالْ َيمِينِ ثُمّ َلقَ َ‬
‫النسان‪ ،‬فلو قدر أن الرسول ‪-‬حاشا وكل‪ -‬تقول على ال لعاجله بالعقوبة‪ ،‬وأخذه أخذ عزيز‬
‫مقتدر‪ ،‬لنه حكيم‪ ،‬على كل شيء قدير‪ ،‬فحكمته تقتضي أن ل يمهل الكاذب عليه‪ ،‬الذي يزعم أن‬
‫ال أباح له دماء من خالفه وأموالهم‪ ،‬وأنه هو وأتباعه لهم النجاة‪ ،‬ومن خالفه فله الهلك‪.‬‬

‫فإذا كان ال قد أيد رسوله بالمعجزات‪ ،‬وبرهن على صدق ما جاء به باليات البينات‪ ،‬ونصره‬
‫على أعدائه‪ ،‬ومكنه من نواصيهم‪ ،‬فهو أكبر شهادة منه على رسالته‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬فمَا مِ ْنكُمْ مِنْ َأحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي‪ :‬لو أهلكه‪ ،‬ما امتنع هو بنفسه‪ ،‬ول قدر أحد أن‬
‫يمنعه من عذاب ال‪.‬‬

‫{ وَإِنّهُ } أي‪ :‬القرآن الكريم { لَ َت ْذكِ َرةٌ لِ ْلمُ ّتقِينَ } يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم‪ ،‬فيعرفونها‪،‬‬
‫ويعملون عليها‪ ،‬يذكرهم العقائد الدينية‪ ،‬والخلق المرضية‪ ،‬والحكام الشرعية‪ ،‬فيكونون من‬
‫العلماء الربانيين‪ ،‬والعباد العارفين‪ ،‬والئمة المهديين‪.‬‬

‫{ وَإِنّا لَ َنعَْلمُ أَنّ مِ ْنكُمْ ُمكَذّبِينَ } به‪ ،‬وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين‪ ،‬فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم‬
‫بالعقوبة البليغة‪.‬‬

‫{ وَإِنّهُ لَحَسْ َرةٌ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } فإنهم لما كفروا به‪ ،‬ورأوا ما وعدهم به‪ ،‬تحسروا إذ لم يهتدوا به‪،‬‬
‫ولم ينقادوا لمره‪ ،‬ففاتهم الثواب‪ ،‬وحصلوا على أشد العذاب‪ ،‬وتقطعت بهم السباب‪.‬‬
‫حقّ الْ َيقِينِ } أي‪ :‬أعلى مراتب العلم‪ ،‬فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت‪ ،‬الذي‬
‫{ وَإِنّهُ لَ َ‬
‫ل يتزلزل ول يزول‪.‬‬

‫واليقين مراتبه ثلثة‪ ،‬كل واحدة أعلى مما قبلها‪:‬‬

‫أولها‪ :‬علم اليقين‪ ،‬وهو العلم المستفاد من الخبر‪.‬‬

‫ثم عين اليقين‪ ،‬وهو العلم المدرك بحاسة البصر‪.‬‬

‫ثم حق اليقين‪ ،‬وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة‪.‬‬

‫وهذا القرآن الكريم‪ ،‬بهذا الوصف‪ ،‬فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية‪ ،‬وما فيه من‬
‫الحقائق والمعارف اليمانية‪ ،‬يحصل به لمن ذاقه حق اليقين‪.‬‬

‫{ َفسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ } أي‪ :‬نزهه عما ل يليق بجلله‪ ،‬وقدسه بذكر أوصاف جلله وجماله‬
‫وكماله‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الحاقة‪ ،‬والحمد ل أول وآخرا‪ ،‬وظاهرا وباطنا‪ ،‬على كماله وأفضاله وعدله‪.‬‬

‫تفسير سورة سأل سائل‬


‫وهي مكية‬

‫ب وَاقِعٍ * ِل ْلكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللّهِ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ سََألَ سَا ِئلٌ ِبعَذَا ٍ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 7 - 1‬بِ ْ‬
‫خ ْمسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا‬
‫ذِي ا ْل َمعَارِجِ * َتعْرُجُ ا ْلمَلَا ِئ َك ُة وَالرّوحُ ِإلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ‬
‫جمِيلًا * إِ ّنهُمْ يَ َروْنَهُ َبعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }‬
‫َ‬

‫يقول تعالى مبينا لجهل المعاندين‪ ،‬واستعجالهم لعذاب ال‪ ،‬استهزاء وتعنتا وتعجيزا‪:‬‬

‫{ سََألَ سَا ِئلٌ } أي‪ :‬دعا داع‪ ،‬واستفتح مستفتح { ِب َعذَابٍ وَاقِعٍ لِ ْلكَافِرينَ } لستحقاقهم له بكفرهم‬
‫وعنادهم { لَ ْيسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللّهِ } أي‪ :‬ليس لهذا العذاب الذي استعجل به من استعجل‪ ،‬من‬
‫متمردي المشركين‪ ،‬أحد يدفعه قبل نزوله‪ ،‬أو يرفعه بعد نزوله‪ ،‬وهذا حين دعا النضر بن الحارث‬
‫القرشي أو غيره من المشركين فقال‪ { :‬اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة‬
‫من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } إلى آخر اليات‪.‬‬
‫فالعذاب ل بد أن يقع عليهم من ال‪ ،‬فإما أن يعجل لهم في الدنيا‪ ،‬وإما أن يؤخر عنهم إلى الخرة‬
‫‪ ،‬فلو عرفوا ال تعالى‪ ،‬وعرفوا عظمته‪ ،‬وسعة سلطانه وكمال أسمائه وصفاته‪ ،‬لما استعجلوا‬
‫ولستسلموا وتأدبوا‪ ،‬ولهذا أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة فقال‪ { :‬ذِي ا ْل َمعَارِجِ‬
‫َتعْرُجُ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ } أي‪ :‬ذو العلو والجلل والعظمة‪ ،‬والتدبير لسائر الخلق‪ ،‬الذي تعرج‬
‫إليه الملئكة بما دبرها على تدبيره‪ ،‬وتعرج إليه الروح‪ ،‬وهذا اسم جنس يشمل الرواح كلها‪،‬‬
‫برها وفاجرها‪ ،‬وهذا عند الوفاة‪ ،‬فأما البرار فتعرج أرواحهم إلى ال‪ ،‬فيؤذن لها من سماء إلى‬
‫سماء‪ ،‬حتى تنتهي إلى السماء التي فيها ال عز وجل‪ ،‬فتحيي ربها وتسلم عليه‪ ،‬وتحظى بقربه‪،‬‬
‫وتبتهج بالدنو منه‪ ،‬ويحصل لها منه الثناء والكرام والبر والعظام‪.‬‬

‫وأما أرواح الفجار فتعرج‪ ،‬فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها‪ ،‬وأعيدت إلى الرض‪.‬‬

‫ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى ال فيها الملئكة والرواح وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من‬
‫السباب‪ ،‬وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة السير‪ ،‬مع أن تلك المسافة على السير المعتاد‬
‫مقدار خمسين ألف سنة‪ ،‬من ابتداء العروج إلى وصولها ما حد لها‪ ،‬وما تنتهي إليه من المل‬
‫العلى‪ ،‬فهذا الملك العظيم‪ ،‬والعالم الكبير‪ ،‬علويه وسفليه‪ ،‬جميعه قد تولى خلقه وتدبيره العلي‬
‫العلى‪ ،‬فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة‪ ،‬وعلم مستقرهم ومستودعهم‪ ،‬وأوصلهم من رحمته وبره‬
‫ورزقه ‪ ،‬ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم حكمه القدري‪ ،‬وحكمه الشرعي وحكمه الجزائي‪.‬‬

‫فبؤسا لقوام جهلوا عظمته‪ ،‬ولم يقدروه حق قدره‪ ،‬فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز‬
‫والمتحان‪ ،‬وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم‪ ،‬وآذوه فصبر عليهم وعافاهم ورزقهم‪.‬‬

‫هذا أحد الحتمالت في تفسير هذه الية [الكريمة] فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا‪ ،‬لن‬
‫السياق الول يدل على هذا‪.‬‬

‫ويحتمل أن هذا في يوم القيامة‪ ،‬وأن ال تبارك وتعالى يظهر لعباده في يوم القيامة من عظمته‬
‫وجلله وكبريائه‪ ،‬ما هو أكبر دليل على معرفته‪ ،‬مما يشاهدونه من عروج الملك والرواح‬
‫صاعدة ونازلة‪ ،‬بالتدابير اللهية‪ ،‬والشئون في الخليقة‬

‫في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته‪ ،‬لكن ال تعالى يخففه على المؤمن‪.‬‬

‫جمِيلًا } أي‪ :‬اصبر على دعوتك لقومك صبرا جميل‪ ،‬ل تضجر فيه ول‬
‫وقوله‪ { :‬فَاصْبِرْ صَبْرًا َ‬
‫ملل‪ ،‬بل استمر على أمر ال‪ ،‬وادع عباده إلى توحيده‪ ،‬ول يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم‪،‬‬
‫وعدم رغبتهم‪ ،‬فإن في الصبر على ذلك خيرا كثيرا‪.‬‬
‫{ إِ ّن ُهمْ يَ َروْنَهُ َبعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا } الضمير يعود إلى البعث الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب‬
‫أي‪ :‬إن حالهم حال المنكر له‪ ،‬أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة‪ ،‬حتى تباعد جميع ما أمامه من‬
‫البعث والنشور‪ ،‬وال يراه قريبا‪ ،‬لنه رفيق حليم ل يعجل‪ ،‬ويعلم أنه ل بد أن يكون‪ ،‬وكل ما هو‬
‫آت فهو قريب‪.‬‬

‫ثم ذكر أهوال ذلك اليوم وما يكون فيه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫حمِيمًا *‬
‫حمِيمٌ َ‬
‫سمَاءُ كَا ْل ُم ْهلِ * وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ * وَلَا يَسَْألُ َ‬
‫{ ‪َ { } 18 - 8‬يوْمَ َتكُونُ ال ّ‬
‫يُ َبصّرُونَهُمْ َيوَدّ ا ْلمُجْ ِرمُ َلوْ َيفْتَدِي مِنْ عَذَابِ َي ْومِئِذٍ بِبَنِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَأَخِيهِ * َو َفصِيلَتِهِ الّتِي ُت ْؤوِيهِ‬
‫شوَى * تَدْعُو مَنْ َأدْبَ َر وَ َتوَلّى *‬
‫جمِيعًا ثُمّ يُ ْنجِيهِ * كَلّا إِ ّنهَا لَظَى * نَزّاعَةً لِل ّ‬
‫* َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ‬
‫جمَعَ فََأوْعَى }‬
‫وَ َ‬
‫سمَاءُ كَا ْل ُم ْهلِ } وهو الرصاص‬
‫أي‪َ { :‬يوْمِ } القيامة‪ ،‬تقع فيه هذه المور العظيمة فـ { َتكُونُ ال ّ‬
‫المذاب من تشققها وبلوغ الهول منها كل مبلغ‪.‬‬

‫{ وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ } وهو الصوف المنفوش‪ ،‬ثم تكون بعد ذاك هباء منثورا فتضمحل‪ ،‬فإذا‬
‫كان هذا القلق والنزعاج لهذه الجرام الكبيرة الشديدة‪ ،‬فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل‬
‫ظهره بالذنوب والوزار؟‬

‫حمِيمًا‬
‫حمِيمٌ َ‬
‫أليس حقيقا أن ينخلع قلبه وينزعج لبه‪ ،‬ويذهل عن كل أحد؟ ولهذا قال‪ { :‬وَلَا َيسَْألُ َ‬
‫يُ َبصّرُونَهُمْ } أي‪ :‬يشاهد الحميم‪ ،‬وهو القريب حميمه‪ ،‬فل يبقى في قلبه متسع لسؤال حميمه عن‬
‫حاله‪ ،‬ول فيما يتعلق بعشرتهم ومودتهم‪ ،‬ول يهمه إل نفسه‪َ { ،‬يوَدّ ا ْلمُجْرِمُ } الذي حق عليه‬
‫العذاب { َلوْ َيفْتَدِي مِنْ عَذَابِ َي ْومِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَ ِتهِ } أي‪ :‬زوجته { وَأَخِيهِ َوفَصِيلَتِهِ } أي‪ :‬قرابته‬
‫{ الّتِي ُت ْؤوِيهِ } أي‪ :‬التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ويعين بعضها بعضا‪ ،‬ففي يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ل ينفع أحد أحدا‪ ،‬ول يشفع أحد إل بإذن ال‪.‬‬

‫بل لو يفتدي [المجرم المستحق للعذاب] بجميع ما في الرضِ ثم ينجيه لم ينفعه ذلك‪.‬‬

‫{ كلّا } أي‪ :‬ل حيلة ول مناص لهم‪ ،‬قد حقت عليهم كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم ل يؤمنون ‪،‬‬
‫وذهب نفع القارب والصدقاء‪.‬‬

‫شوَى } أي‪ :‬للعضاء الظاهرة والباطنة من شدة عذابها ‪.‬‬


‫{ إِ ّنهَا َلظَى نَزّاعَةً لِل ّ‬
‫{ َتدْعُوا } إليها { مَنْ أَدْبَ َر وَ َتوَلّى وجمع فأوعى } أي‪ :‬أدبر عن اتباع الحق وأعرض عنه‪ ،‬فليس‬
‫له فيه غرض‪ ،‬وجمع الموال بعضها فوق بعض وأوعاها‪ ،‬فلم ينفق منها‪ ،‬فإن النار تدعوهم إلى‬
‫نفسها‪ ،‬وتستعد لللتهاب بهم‪.‬‬

‫خلِقَ َهلُوعًا * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسّهُ ا ْلخَيْرُ مَنُوعًا * إِلّا‬
‫{ ‪ { } 35 - 19‬إِنّ الْإِ ْنسَانَ ُ‬
‫ل وَا ْلمَحْرُومِ *‬
‫علَى صَلَا ِتهِمْ دَا ِئمُونَ * وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ َمعْلُومٌ * لِلسّا ِئ ِ‬
‫ا ْل ُمصَلّينَ * الّذِينَ هُمْ َ‬
‫ش ِفقُونَ * إِنّ عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ‬
‫عذَابِ رَ ّبهِمْ مُ ْ‬
‫وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ * وَالّذِينَ هُمْ مِنْ َ‬
‫جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ‬
‫جهِمْ حَافِظُونَ * إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ‬
‫* وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ‬
‫عهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ‬
‫ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِمْ وَ َ‬
‫شهَادَا ِت ِهمْ قَا ِئمُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ * أُولَ ِئكَ فِي جَنّاتٍ ُمكْ َرمُونَ }‬
‫بِ َ‬

‫وهذا الوصف للنسان من حيث هو وصف طبيعته الصلية‪ ،‬أنه هلوع‪.‬‬

‫وفسر الهلوع بأنه‪ِ { :‬إذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا } فيجزع إن أصابه فقر أو مرض‪ ،‬أو ذهاب محبوب‬
‫له‪ ،‬من مال أو أهل أو ولد‪ ،‬ول يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى ال‪.‬‬

‫{ وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } فل ينفق مما آتاه ال‪ ،‬ول يشكر ال على نعمه وبره‪ ،‬فيجزع في‬
‫الضراء‪ ،‬ويمنع في السراء‪.‬‬

‫{ إِلّا ا ْل ُمصَلّينَ } الموصوفين بتلك الوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا ال‪ ،‬وأنفقوا مما خولهم‬
‫ال‪ ،‬وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا‪.‬‬

‫وقوله [في وصفهم] { الّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ دَا ِئمُونَ } أي‪ :‬مداومون عليها في أوقاتها بشروطها‬
‫ومكملتها‪.‬‬

‫وليسوا كمن ل يفعلها‪ ،‬أو يفعلها وقتا دون وقت‪ ،‬أو يفعلها على وجه ناقص‪.‬‬

‫حقّ َمعْلُومٌ } من زكاة وصدقة‬


‫{ وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ‬

‫{ لِلسّا ِئلِ } الذي يتعرض للسؤال { وَا ْلمَحْرُومِ } وهو المسكين الذي ل يسأل الناس فيعطوه‪ ،‬ول‬
‫يفطن له فيتصدق عليه‪.‬‬
‫{ وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ } أي‪ :‬يؤمنون بما أخبر ال به‪ ،‬وأخبرت به رسله‪ ،‬من الجزاء‬
‫والبعث‪ ،‬ويتيقنون ذلك فيستعدون للخرة‪ ،‬ويسعون لها سعيها‪ .‬والتصديق بيوم الدين يلزم منه‬
‫التصديق بالرسل‪ ،‬وبما جاءوا به من الكتب‪.‬‬

‫ش ِفقُونَ } أي‪ :‬خائفون وجلون‪ ،‬فيتركون لذلك كل ما يقربهم من‬


‫{ وَالّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَ ّبهِمْ مُ ْ‬
‫عذاب ال‪.‬‬

‫{ إِنّ عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ } أي‪ :‬هو العذاب الذي يخشى ويحذر‪.‬‬

‫ج ِهمْ حَا ِفظُونَ } فل يطأون بها وطأ محرما‪ ،‬من زنى أو لواط‪ ،‬أو وطء في دبر‪،‬‬
‫{ وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ‬
‫أو حيض‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها‪ ،‬ممن ل يجوز له ذلك‪ ،‬ويتركون‬
‫أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة‪.‬‬

‫جهِ ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } أي‪ :‬سرياتهم { فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } في وطئهن في‬
‫{ إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ‬
‫المحل الذي هو محل الحرث‪.‬‬

‫{ َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ } أي‪ :‬غير الزوجة وملك اليمين‪ { ،‬فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ } أي‪ :‬المتجاوزون‬
‫ما أحل ال إلى ما حرم ال‪ ،‬ودلت هذه الية على تحريم [نكاح] المتعة‪ ،‬لكونها غير زوجة‬
‫مقصودة‪ ،‬ول ملك يمين‪.‬‬

‫عهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي‪ :‬مراعون لها‪ ،‬حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء‬
‫{ وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ‬
‫بها‪ ،‬وهذا شامل لجميع المانات التي بين العبد وبين ربه‪ ،‬كالتكاليف السرية‪ ،‬التي ل يطلع عليها‬
‫إل ال‪ ،‬والمانات التي بين العبد وبين الخلق‪ ،‬في الموال والسرار‪ ،‬وكذلك العهد‪ ،‬شامل للعهد‬
‫الذي عاهد عليه ال‪ ،‬والعهد الذي عاهد عليه الخلق‪ ،‬فإن العهد يسأل عنه العبد‪ ،‬هل قام به ووفاه‪،‬‬
‫أم رفضه وخانه فلم يقم به؟‪.‬‬

‫شهَادَا ِتهِمْ قَا ِئمُونَ } أي‪ :‬ل يشهدون إل بما يعلمونه‪ ،‬من غير زيادة ول نقص ول‬
‫{ وَالّذِينَ هُمْ بِ َ‬
‫كتمان‪ ،‬ول يحابي فيها قريبا ول صديقا ونحوه‪ ،‬ويكون القصد بها وجه ال‪.‬‬

‫شهَدَاءَ لِلّ ِه وََلوْ عَلَى‬


‫شهَا َدةَ لِلّهِ } { يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا َقوّامِينَ بِا ْلقِسْطِ ُ‬
‫قال تعالى‪ { :‬وََأقِيمُوا ال ّ‬
‫سكُمْ َأوِ ا ْلوَالِدَيْنِ وَالَْأقْرَبِينَ } ‪.‬‬
‫أَ ْنفُ ِ‬

‫{ وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ } بمداومتها على أكمل وجوهها‪.‬‬
‫{ أُولَ ِئكَ } أي‪ :‬الموصوفون بتلك الصفات { فِي جَنّاتٍ ُمكْ َرمُونَ } أي‪ :‬قد أوصل ال لهم من‬
‫الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وهم فيها خالدون‪.‬‬

‫وحاصل هذا‪ ،‬أن ال وصف أهل السعادة والخير بهذه الوصاف الكاملة‪ ،‬والخلق الفاضلة‪ ،‬من‬
‫العبادات البدنية‪ ،‬كالصلة‪ ،‬والمداومة عليها‪ ،‬والعمال القلبية‪ ،‬كخشية ال الداعية لكل خير‪،‬‬
‫والعبادات المالية‪ ،‬والعقائد النافعة‪ ،‬والخلق الفاضلة‪ ،‬ومعاملة ال‪ ،‬ومعاملة خلقه‪ ،‬أحسن معاملة‬
‫من إنصافهم‪ ،‬وحفظ عهودهم وأسرارهم ‪ ،‬والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكره ال تعالى‪.‬‬

‫طمَعُ ُكلّ‬
‫شمَالِ عِزِينَ * أَيَ ْ‬
‫ن وَعَنِ ال ّ‬
‫طعِينَ * عَنِ الْ َيمِي ِ‬
‫{ ‪َ { } 39 - 36‬فمَالِ الّذِينَ َكفَرُوا قِبََلكَ ُمهْ ِ‬
‫خلَ جَنّةَ َنعِيمٍ * كَلّا إِنّا خََلقْنَا ُهمْ ِممّا َيعَْلمُونَ }‬
‫امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيدْ َ‬

‫طعِينَ } أي‪ :‬مسرعين‪.‬‬


‫يقول تعالى‪ ،‬مبينا اغترار الكافرين‪َ { :‬فمَالِ الّذِينَ كَفَرُوا قِبََلكَ ُمهْ ِ‬

‫شمَالِ عِزِينَ } أي‪ :‬قطعا متفرقة وجماعات متوزعة ‪ ،‬كل منهم بما لديه‬
‫{ عَنِ الْ َيمِينِ وَعَنِ ال ّ‬
‫فرح‪.‬‬

‫خلَ جَنّةَ َنعِيمٍ } بأي‪ :‬سبب أطمعهم‪ ،‬وهم لم يقدموا سوى الكفر‪،‬‬
‫طمَعُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيدْ َ‬
‫{ أَ َي ْ‬
‫والجحود برب العالمين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬كلّا } [أي‪ ]:‬ليس المر بأمانيهم ول إدراك ما يشتهون‬
‫بقوتهم‪.‬‬

‫{ إِنّا خََلقْنَاهُمْ ِممّا َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬من ماء دافق‪ ،‬يخرج من بين الصلب والترائب‪ ،‬فهم ضعفاء‪ ،‬ل‬
‫يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا‪.‬‬

‫ق وَا ْل َمغَا ِربِ إِنّا َلقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ خَيْرًا مِ ْنهُ ْم َومَا‬
‫{ ‪ { } 44 - 40‬فَلَا ُأ ْقسِمُ بِ َربّ ا ْلمَشَا ِر ِ‬
‫نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ * َفذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * َيوْمَ يَخْ ُرجُونَ مِنَ‬
‫شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ ذَِلكَ الْ َيوْمُ الّذِي كَانُوا‬
‫صبٍ يُو ِفضُونَ * خَا ِ‬
‫جدَاثِ سِرَاعًا كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ‬
‫الْأَ ْ‬
‫يُوعَدُونَ }‬

‫هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب‪ ،‬للشمس والقمر والكواكب‪ ،‬لما فيها من اليات الباهرات‬
‫على البعث‪ ،‬وقدرته على تبديل أمثالهم‪ ،‬وهم بأعيانهم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَنُنْشِ َئكُمْ فِيمَا لَا َتعَْلمُونَ }‬
‫‪.‬‬
‫{ َومَا نَحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ } أي‪ :‬ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده‪ .‬فإذا تقرر البعث‬
‫والجزاء‪ ،‬واستمروا على تكذيبهم‪ ،‬وعدم انقيادهم ليات ال‪.‬‬

‫{ َفذَرْهُمْ َيخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا } أي‪ :‬يخوضوا بالقوال الباطلة‪ ،‬والعقائد الفاسدة‪ ،‬ويلعبوا بدينهم‪،‬‬
‫عدُونَ } فإن ال قد أعد لهم فيه من النكال‬
‫ويأكلوا ويشربوا‪ ،‬ويتمتعوا { حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُو َ‬
‫والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم‪.‬‬

‫ثم ذكر حال الخلق حين يلقون يومهم الذي يوعدون‪ ،‬فقال‪َ { :‬يوْمَ َيخْرُجُونَ مِنَ الَْأجْدَاثِ } أي‪:‬‬
‫صبٍ يُوفِضُونَ } أي‪:‬‬
‫القبور‪ { ،‬سِرَاعًا } مجيبين لدعوة الداعي‪ ،‬مهطعين إليها { كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ‬
‫[كأنهم إلى علم] يؤمون ويسرعون أي‪ :‬فل يتمكنون من الستعصاء للداعي‪ ،‬واللتواء لنداء‬
‫المنادي‪ ،‬بل يأتون أذلء مقهورين للقيام بين يدي رب العالمين‪.‬‬

‫شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ } وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم‪ ،‬واستولى على أفئدتهم‪،‬‬
‫{ خَا ِ‬
‫فخشعت منهم البصار‪ ،‬وسكنت منهم الحركات‪ ،‬وانقطعت الصوات‪.‬‬

‫فهذه الحال والمآل‪ ،‬هو يومهم { الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } ول بد من الوفاء بوعد ال [تمت والحمد‬
‫ل]‪.‬‬

‫تفسير سورة نوح‬


‫عليه السلم وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ إِنّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ أَنْ أَنْذِرْ َق ْومَكَ }‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 28 - 1‬بِ ْ‬

‫إلى آخر السورة لم يذكر ال في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه‪ ،‬وتكرار‬
‫دعوته إلى التوحيد‪ ،‬ونهيه عن الشرك‪ ،‬فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه‪ ،‬رحمة بهم‪ ،‬وإنذارا لهم‬
‫من عذاب ال الليم‪ ،‬خوفا من استمرارهم على كفرهم‪ ،‬فيهلكهم ال هلكا أبديا‪ ،‬ويعذبهم عذابا‬
‫سرمديا‪ ،‬فامتثل نوح عليه السلم لذلك‪ ،‬وابتدر لمر ال‪ ،‬فقال‪ { :‬يَا َقوْمِ إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي‪:‬‬
‫واضح النذارة بينها‪ ،‬وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه‪ ،‬وبأي‪ :‬شيء تحصل النجاة‪ ،‬بين‬
‫جميع ذلك بيانا شافيا‪ ،‬فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به فقال‪ { :‬أَنِ اعْ ُبدُوا اللّ َه وَا ّتقُوهُ } وذلك‬
‫بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة‪ ،‬والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله‪ ،‬فإنهم إذا اتقوا ال غفر‬
‫جلٍ‬
‫ذنوبهم‪ ،‬وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب‪ ،‬والفوز بالثواب‪ { ،‬وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى َأ َ‬
‫سمّى } أي‪ :‬يمتعكم في هذه الدار‪ ،‬ويدفع عنكم الهلك إلى أجل مسمى أي‪ :‬مقدر [البقاء في‬
‫مُ َ‬
‫الدنيا] بقضاء ال وقدره [إلى وقت محدود]‪ ،‬وليس المتاع أبدا‪ ،‬فإن الموت ل بد منه‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬‬
‫جلَ اللّهِ ِإذَا جَاءَ لَا ُيؤَخّرُ َلوْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ } لما كفرتم بال‪ ،‬وعاندتم الحق‪ ،‬فلم يجيبوا لدعوته‪،‬‬
‫إِنّ َأ َ‬
‫ع ْوتُ َق ْومِي لَيْلًا وَ َنهَارًا فََلمْ يَزِدْ ُهمْ دُعَائِي إِلّا‬
‫ول انقادوا لمره‪ ،‬فقال شاكيا لربه‪َ { :‬ربّ إِنّي دَ َ‬
‫فِرَارًا } أي‪ :‬نفورا عن الحق وإعراضا‪ ،‬فلم يبق لذلك فائدة‪ ،‬لن فائدة الدعوة أن يحصل جميع‬
‫المقصود أو بعضه‪.‬‬

‫عوْ ُتهُمْ لِ َت ْغفِرَ َلهُمْ } أي‪ :‬لجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض‬
‫{ وَإِنّي كُّلمَا دَ َ‬
‫جعَلُوا َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِن ِهمْ }‬
‫مصلحتهم‪ ،‬ولكنهم أبوا إل تماديا على باطلهم‪ ،‬ونفورا عن الحق‪َ { ،‬‬
‫شوْا ثِيَا َب ُهمْ } أي تغطوا بها غطاء يغشاهم‬
‫حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلم‪ { ،‬وَاسْ َت ْغ َ‬
‫بعدا عن الحق وبغضا له‪ { ،‬وََأصَرّوا } على كفرهم وشرهم { وَاسْ َتكْبَرُوا } على الحق‬
‫{ اسْ ِتكْبَارًا } فشرهم ازداد‪ ،‬وخيرهم بعد‪.‬‬

‫جهَارًا } أي‪ :‬بمسمع منهم كلهم‪.‬‬


‫عوْ ُتهُمْ ِ‬
‫{ ُثمّ إِنّي دَ َ‬

‫{ ُثمّ إِنّي أَعْلَ ْنتُ َلهُ ْم وَأَسْرَ ْرتُ َلهُمْ إِسْرَارًا } كل هذا حرص ونصح‪ ،‬وإتيانهم بكل باب يظن أن‬
‫يحصل منه المقصود ‪َ {،‬فقُلْتُ اسْ َتغْفِرُوا رَ ّبكُمْ } أي‪ :‬اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب‪ ،‬واستغفروا‬
‫ال منها‪.‬‬

‫غفّارًا } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر‪ ،‬فرغبهم بمغفرة الذنوب‪ ،‬وما يترتب عليها من‬
‫{ إِنّهُ كَانَ َ‬
‫حصول الثواب‪ ،‬واندفاع العقاب‪.‬‬

‫سمَاءَ عَلَ ْي ُكمْ مِدْرَارًا } أي‪ :‬مطرا متتابعا‪،‬‬


‫سلِ ال ّ‬
‫ورغبهم أيضا‪ ،‬بخير الدنيا العاجل‪ ،‬فقال‪ { :‬يُ ْر ِ‬
‫يروي الشعاب والوهاد‪ ،‬ويحيي البلد والعباد‪.‬‬

‫{ وَ ُيمْ ِد ْدكُمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ } أي‪ :‬يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولدكم‪،‬‬
‫ج َعلْ َلكُمْ أَ ْنهَارًا } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها‪.‬‬
‫ت وَيَ ْ‬
‫ج َعلْ َلكُمْ جَنّا ٍ‬
‫{ وَيَ ْ‬

‫{ مَا َل ُكمْ لَا تَ ْرجُونَ ِللّ ِه َوقَارًا } أي‪ :‬ل تخافون ل عظمة‪ ،‬وليس ل عندكم قدر‪.‬‬

‫طوَارًا } أي‪ :‬خلقا [من] بعد خلق‪ ،‬في بطن الم‪ ،‬ثم في الرضاع‪ ،‬ثم في سن‬
‫{ َوقَدْ خََل َقكُمْ َأ ْ‬
‫الطفولية‪ ،‬ثم التمييز‪ ،‬ثم الشباب‪ ،‬إلى آخر ما وصل إليه الخلق ‪ ،‬فالذي انفرد بالخلق والتدبير‬
‫البديع‪ ،‬متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد‪ ،‬وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على القرار بالمعاد‪،‬‬
‫وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم‪.‬‬
‫واستدل أيضا عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس‪ ،‬فقال‪ { :‬أََلمْ تَ َروْا كَ ْيفَ خََلقَ‬
‫سمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي‪ :‬كل سماء فوق الخرى‪.‬‬
‫اللّهُ سَبْعَ َ‬

‫شمْسَ سِرَاجًا } ‪.‬‬


‫ج َعلَ ال ّ‬
‫ج َعلَ ا ْل َقمَرَ فِيهِنّ نُورًا } لهل الرض { وَ َ‬
‫{ وَ َ‬

‫ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الشياء‪ ،‬وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة‬
‫إحسانه‪ ،‬فالعظيم الرحيم‪ ،‬يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى‪.‬‬

‫{ وَاللّهُ أَنْبَ َتكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ نَبَاتًا } حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه‪.‬‬

‫جكُمْ ِإخْرَاجًا } للبعث والنشور‪ ،‬فهو الذي يملك الحياة‬


‫{ ُثمّ ُيعِي ُدكُمْ فِيهَا } عند الموت { وَيُخْ ِر ُ‬
‫والموت والنشور‪.‬‬

‫ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ ِبسَاطًا } أي‪ :‬مبسوطة مهيأة للنتفاع بها‪.‬‬
‫{ وَاللّهُ َ‬

‫{ لِ َتسُْلكُوا مِ ْنهَا سُبُلًا فِجَاجًا } فلول أنه بسطها‪ ،‬لما أمكن ذلك‪ ،‬بل ول أمكنهم حرثها وغرسها‬
‫وزرعها‪ ،‬والبناء‪ ،‬والسكون على ظهرها‪.‬‬

‫{ قَالَ نُوحٌ } شاكيا لربه‪ :‬إن هذا الكلم والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ول أفاد‪.‬‬

‫صوْنِي } فيما أمرتهم به { وَاتّ َبعُوا مَنْ َلمْ يَزِ ْدهُ مَاُل ُه َووَلَ ُدهُ إِلّا خَسَارًا } أي‪ :‬عصوا‬
‫ع َ‬
‫{ إِ ّن ُهمْ َ‬
‫الرسول الناصح الدال على الخير‪ ،‬واتبعوا المل والشراف الذين لم تزدهم أموالهم ول أولدهم إل‬
‫خسارا أي‪ :‬هلكا وتفويتا للرباح فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟!‬

‫{ َو َمكَرُوا َمكْرًا كُبّارًا } أي‪ :‬مكرا كبيرا بليغا في معاندة الحق‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا } لهم داعين إلى الشرك مزينين له‪ { :‬لَا تَذَرُنّ آِلهَ َتكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم‬
‫ن وَدّا‬
‫عليه من الشرك‪ ،‬وأن ل يدعوا ما عليه آباؤهم القدمون‪ ،‬ثم عينوا آلهتهم فقالوا‪ { :‬وَلَا تَذَرُ ّ‬
‫ق وَنَسْرًا } وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم‬
‫ث وَ َيعُو َ‬
‫سوَاعًا وَلَا َيغُو َ‬
‫وَلَا ُ‬
‫أن يصوروا صورهم لينشطوا ‪-‬بزعمهم‪ -‬على الطاعة إذا رأوها‪ ،‬ثم طال المد‪ ،‬وجاء غير‬
‫أولئك فقال لهم الشيطان‪ :‬إن أسلفكم يعبدونهم‪ ،‬ويتوسلون بهم‪ ،‬وبهم يسقون المطر‪ ،‬فعبدوهم‪،‬‬
‫ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن ل يدعوا عبادة هذه اللهة ‪.‬‬

‫{ َوقَدْ َأضَلّوا كَثِيرًا } أي‪ :‬وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من الخلق‪ { ،‬وَلَا تَزِدِ‬
‫الظّاِلمِينَ إِلّا ضَلَالًا } أي‪ :‬لو كان ضللهم عند دعوتي إياهم بحق‪ ،‬لكان مصلحة‪ ،‬ولكن ل يزيدون‬
‫بدعوة الرؤساء إل ضلل أي‪ :‬فلم يبق محل لنجاحهم ول لصلحهم‪ ،‬ولهذا ذكر ال عذابهم‬
‫وعقوبتهم الدنيوية والخروية‪ ،‬فقال‪ِ { :‬ممّا خَطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُوا } في اليم الذي أحاط بهم { فَُأدْخِلُوا‬
‫نَارًا } فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق‪ ،‬وهذا كله بسبب خطيئاتهم‪ ،‬التي أتاهم‬
‫نبيهم نوح ينذرهم عنها‪ ،‬ويخبرهم بشؤمها ومغبتها‪ ،‬فرفضوا ما قال‪ ،‬حتى حل بهم النكال‪ { ،‬فَلَمْ‬
‫جدُوا َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ ْنصَارًا } ينصرونهم حين نزل بهم المر المر‪ ،‬ول أحد يقدر يعارض‬
‫يَ ِ‬
‫القضاء والقدر‪.‬‬

‫{ َوقَالَ نُوحٌ َربّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } يدور على وجه الرض‪ ،‬وذكر السبب‬
‫في ذلك فقال‪ { :‬إِ ّنكَ إِنْ َتذَرْهُمْ ُيضِلّوا عِبَا َدكَ وَلَا َيلِدُوا إِلّا فَاجِرًا َكفّارًا } أي‪ :‬بقاؤهم مفسدة‬
‫محضة‪ ،‬لهم ولغيرهم‪ ،‬وإنما قال نوح ‪-‬عليه السلم‪ -‬ذلك‪ ،‬لنه مع كثرة مخالطته إياهم‪،‬‬
‫ومزاولته لخلقهم‪ ،‬علم بذلك نتيجة أعمالهم‪ ،‬ل جرم أن ال استجاب دعوته ‪ ،‬فأغرقهم أجمعين‬
‫ونجى نوحا ومن معه من المؤمنين‪.‬‬

‫خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنًا } خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم‪ ،‬ثم‬
‫ي وَِلمَنْ دَ َ‬
‫غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ‬
‫{ َربّ ا ْ‬
‫ت وَلَا تَزِدِ الظّاِلمِينَ ِإلّا تَبَارًا } أي‪ :‬خسارا ودمارا‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫عمم الدعاء‪ ،‬فقال‪ { :‬وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫وهلكا‪.‬‬

‫تم تفسير سورة نوح عليه السلم [والحمد ل]‬

‫تفسير سورة قل أوحي إلي‬


‫[وهي] مكية‬

‫س ِمعْنَا‬
‫حيَ ِإَليّ أَنّهُ اسْ َتمَعَ َنفَرٌ مِنَ ا ْلجِنّ َفقَالُوا إِنّا َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ ُقلْ أُو ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 2 - 1‬بِ ْ‬
‫عجَبًا * َيهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا ِب ِه وَلَنْ نُشْ ِركَ بِرَبّنَا َأحَدًا }‬
‫قُرْآنًا َ‬

‫حيَ إَِليّ أَنّهُ اسْ َتمَعَ َنفَرٌ مِنَ الْجِنّ } صرفهم ال [إلى رسوله]‬
‫أي‪ُ { :‬قلْ } يا أيها الرسول للناس { أُو ِ‬
‫لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [وتتم عليهم النعمة] ويكونوا نذرا لقومهم‪ .‬وأمر ال رسوله أن‬
‫يقص نبأهم على الناس‪ ،‬وذلك أنهم لما حضروه‪ ،‬قالوا‪ :‬أنصتوا‪ ،‬فلما أنصتوا فهموا معانيه‪،‬‬
‫س ِمعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي‪ :‬من العجائب الغالية‪ ،‬والمطالب‬
‫ووصلت حقائقه إلى قلوبهم‪َ { ،‬فقَالُوا إِنّا َ‬
‫العالية‪.‬‬
‫شدِ } والرشد‪ :‬اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم‪،‬‬
‫{ ‪َ { } 2‬يهْدِي إِلَى الرّ ْ‬
‫{ فَآمَنّا ِب ِه وَلَنْ نُشْ ِركَ بِرَبّنَا َأحَدًا } فجمعوا بين اليمان الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير‪ ،‬وبين‬
‫التقوى‪[ ،‬المتضمنة لترك الشر] وجعلوا السبب الداعي لهم إلى اليمان وتوابعه‪ ،‬ما علموه من‬
‫إرشادات القرآن‪ ،‬وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب المضار‪ ،‬فإن ذلك آية عظيمة‪،‬‬
‫وحجة قاطعة‪ ،‬لمن استنار به‪ ،‬واهتدى بهديه‪ ،‬وهذا اليمان النافع‪ ،‬المثمر لكل خير‪ ،‬المبني على‬
‫هداية القرآن‪ ،‬بخلف إيمان العوائد‪ ،‬والمربى واللف ونحو ذلك‪ ،‬فإنه إيمان تقليد تحت خطر‬
‫الشبهات والعوارض الكثيرة‪،‬‬

‫خ َذ صَاحِ َب ًة وَلَا وَلَدًا } فعلموا‬


‫{ وَأَنّهُ َتعَالَى جَدّ رَبّنَا } أي‪ :‬تعالت عظمته وتقدست أسماؤه‪ { ،‬مَا اتّ َ‬
‫من جد ال وعظمته‪ ،‬ما دلهم على بطلن من يزعم أن له صاحبة أو ولدا‪ ،‬لن له العظمة‬
‫والكمال في كل صفة كمال‪ ،‬واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك‪ ،‬لنه يضاد كمال الغنى‪.‬‬

‫شطَطًا } أي‪ :‬قول جائرا عن الصواب‪ ،‬متعديا للحد‪ ،‬وما حمله‬


‫سفِيهُنَا عَلَى اللّهِ َ‬
‫{ وَأَنّهُ كَانَ َيقُولُ َ‬
‫على ذلك إل سفهه وضعف عقله‪ ،‬وإل فلو كان رزينا مطمئنا لعرف كيف يقول‪.‬‬

‫س وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِبًا }‬


‫{ ‪ { } 5‬وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ َتقُولَ الْإِنْ ُ‬

‫أي‪ :‬كنا مغترين قبل ذلك‪ ،‬وغرنا القادة والرؤساء من الجن والنس‪ ،‬فأحسنا بهم الظن‪ ،‬وظنناهم‬
‫ل يتجرأون على الكذب على ال‪ ،‬فلذلك كنا قبل هذا على طريقهم‪ ،‬فاليوم إذ بان لنا الحق‪ ،‬رجعنا‬
‫إليه ‪ ،‬وانقدنا له‪ ،‬ولم نبال بقول أحد من الناس يعارض الهدى‪.‬‬

‫{ ‪ { } 6‬وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ َيعُوذُونَ بِ ِرجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ َر َهقًا }‬

‫أي‪ :‬كان النس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والفزاع ‪ ،‬فزاد النس الجن رهقا‬
‫أي‪ :‬طغيانا وتكبرا لما رأوا النس يعبدونهم‪ ،‬ويستعيذون بهم‪ ،‬ويحتمل أن الضمير في زادوهم‬
‫يرجع إلى الجن ضمير الواو أي‪ :‬زاد الجن النس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم‬
‫ليلجئوهم إلى الستعاذة بهم‪ ،‬فكان النسي إذا نزل بواد مخوف‪ ،‬قال‪ " :‬أعوذ بسيد هذا الوادي من‬
‫سفهاء قومه "‪.‬‬
‫حدًا } أي‪ :‬فلما أنكروا البعث أقدموا على الشرك‬
‫{ وَأَ ّنهُمْ ظَنّوا َكمَا ظَنَنْ ُتمْ أَنْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ أَ َ‬
‫والطغيان‪.‬‬

‫شدِيدًا } عن الوصول إلى‬


‫جدْنَاهَا مُلِ َئتْ حَ َرسًا َ‬
‫سمَاءَ } أي‪ :‬أتيناها واختبرناها‪َ { ،‬فوَ َ‬
‫{ وَأَنّا َلمَسْنَا ال ّ‬
‫شهُبًا } يرمى بها من استرق السمع‪ ،‬وهذا بخلف عادتنا الولى‪ ،‬فإنا‬
‫أرجائها [والدنو منها]‪ { ،‬وَ ُ‬
‫كنا نتمكن من الوصول إلى خبر السماء‪.‬‬

‫جدْ لَهُ‬
‫سمْع } فنتلقف من أخبار السماء ما شاء ال‪َ { .‬فمَنْ يَسْ َتمِعِ الْآنَ يَ ِ‬
‫{ وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ‬
‫شهَابًا َرصَدًا } أي‪ :‬مرصدا له‪ ،‬معدا لتلفه وإحراقه‪ ،‬أي‪ :‬وهذا له شأن عظيم‪ ،‬ونبأ جسيم‪،‬‬
‫ِ‬
‫وجزموا أن ال تعالى أراد أن يحدث في الرض حادثا كبيرا‪ ،‬من خير أو شر‪ ،‬فلهذا قالوا‪ { :‬وَأَنّا‬
‫لَا نَدْرِي َأشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي الْأَ ْرضِ َأمْ أَرَادَ ِبهِمْ رَ ّبهُمْ رَشَدًا } أي‪ :‬ل بد من هذا أو هذا‪ ،‬لنهم رأوا‬
‫المر تغير عليهم تغيرا أنكروه‪ ،‬فعرفوا بفطنتهم أن هذا المر يريده ال‪ ،‬ويحدثه في الرض‪،‬‬
‫وفي هذا بيان لدبهم‪ ،‬إذ أضافوا الخير إلى ال تعالى‪ ،‬والشر حذفوا فاعله تأدبا مع ال‪.‬‬

‫{ وَأَنّا مِنّا الصّاِلحُونَ َومِنّا دُونَ ذَِلكَ } أي‪ :‬فساق وفجار وكفار‪ { ،‬كُنّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي‪ :‬فرقا‬
‫متنوعة‪ ،‬وأهواء متفرقة‪ ،‬كل حزب بما لديهم فرحون‪.‬‬

‫ض وَلَنْ ُن ْعجِ َزهُ هَرَبًا } أي‪ :‬وأنا في وقتنا الن تبين لنا كمال‬
‫{ وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللّهَ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫قدرة ال وكمال عجزنا‪ ،‬وأن نواصينا بيد ال فلن نعجزه في الرض ولن نعجزه إن هربنا وسعينا‬
‫بأسباب الفرار والخروج عن قدرته‪ ،‬ل ملجأ منه إل إليه‪.‬‬

‫س ِمعْنَا ا ْلهُدَى } وهو القرآن الكريم‪ ،‬الهادي إلى الصراط المستقيم‪ ،‬وعرفنا هدايته‬
‫{ وَأَنّا َلمّا َ‬
‫وإرشاده‪ ،‬أثر في قلوبنا فـ { آمَنّا بِهِ } ‪.‬‬

‫خسًا وَلَا رَ َهقًا }‬


‫ثم ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا‪َ { :‬فمَنْ ُي ْؤمِنْ بِرَبّهِ } إيمانا صادقا { فَلَا َيخَافُ بَ ْ‬
‫أي‪ :‬ل نقصا ول طغيانا ول أذى يلحقه ‪ ،‬وإذا سلم من الشر حصل له الخير‪ ،‬فاليمان سبب داع‬
‫إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر‪.‬‬

‫{ وَأَنّا مِنّا ا ْل ُمسِْلمُونَ َومِنّا ا ْلقَاسِطُونَ } أي‪ :‬الجائرون العادلون عن الصراط المستقيم‪.‬‬

‫{ َفمَنْ َأسْلَمَ فَأُولَ ِئكَ تَحَ ّروْا َرشَدًا } أي‪ ::‬أصابوا طريق الرشد‪ ،‬الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها‪،‬‬
‫جهَنّمَ حَطَبًا } وذلك جزاء على أعمالهم‪ ،‬ل ظلم من ال لهم‪ ،‬فإنهم { َلوِ‬
‫سطُونَ َفكَانُوا ِل َ‬
‫{ وََأمّا ا ْلقَا ِ‬
‫سقَيْنَاهُمْ مَاءً غَ َدقًا } أي‪ :‬هنيئا مريئا‪ ،‬ولم يمنعهم ذلك إل‬
‫اسْ َتقَامُوا عَلَى الطّرِيقَةِ } المثلى { لَأَ ْ‬
‫ظلمهم وعدوانهم‪.‬‬
‫{ لِ َنفْتِ َنهُمْ فِيهِ } أي‪ :‬لنختبرهم فيه ونمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب‪.‬‬

‫صعَدًا } أي‪ :‬من أعرض عن ذكر ال‪ ،‬الذي هو كتابه‪،‬‬


‫{ َومَنْ ُيعْ ِرضْ عَنْ ِذكْرِ رَبّهِ يَسُْلكْهُ عَذَابًا َ‬
‫فلم يتبعه وينقد له‪ ،‬بل غفل عنه ولهى‪ ،‬يسلكه عذابا صعدا أي‪ :‬شديدا بليغا‪.‬‬

‫جدَ لِلّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ َأحَدًا } أي‪ :‬ل دعاء عبادة‪ ،‬ول دعاء مسألة‪ ،‬فإن المساجد التي‬
‫وَأَنّ ا ْلمَسَا ِ‬
‫هي أعظم محال العبادة مبنية على الخلص ل‪ ،‬والخضوع لعظمته‪ ،‬والستكانة لعزته‪ { ،‬وَأَنّهُ‬
‫َلمّا قَامَ عَ ْبدُ اللّهِ يَدْعُوهُ } أي‪ :‬يسأله ويتعبد له ويقرأ القرآن كَاد الجن من تكاثرهم عليه أن يكونوا‬
‫عليه لبدا‪ ،‬أي‪ :‬متلبدين متراكمين حرصا على سماع ما جاء به من الهدى‪.‬‬

‫{ ُقلْ } لهم يا أيها الرسول‪ ،‬مبينا حقيقة ما تدعو إليه‪ { :‬إِ ّنمَا َأدْعُو رَبّي وَلَا ُأشْ ِركُ بِهِ َأحَدًا } أي‪:‬‬
‫أوحده وحده ل شريك له‪ ،‬وأخلع ما دونه من النداد والوثان‪ ،‬وكل ما يتخذه المشركون من دونه‪.‬‬

‫{ ُقلْ إِنّي لَا َأمِْلكُ َلكُمْ ضَرّا وَلَا رَشَدًا } فإني عبد ليس لي من المر ول من التصرف شيء‪.‬‬

‫{ ‪ُ { } 22‬قلْ إِنّي لَنْ ُيجِيرَنِي مِنَ اللّهِ َأحَدٌ }‬

‫أي‪ :‬ل أحد أستجير به ينقذني من عذاب ال‪ ،‬وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق‪ ،‬ل يملك‬
‫ضرا ول رشدا‪ ،‬ول يمنع نفسه من ال [شيئا] إن أراده بسوء‪ ،‬فغيره من الخلق من باب أولى‬
‫وأحرى‪.‬‬

‫حدًا } أي‪ :‬ملجأ ومنتصرا‪.‬‬


‫{ وَلَنْ َأجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَ َ‬
‫{ إِلّا بَلَاغًا مِنَ اللّهِ وَرِسَالَاتِهِ } أي‪ :‬ليس لي مزية على الناس‪ ،‬إل أن ال خصني بإبلغ رسالته‬
‫جهَنّمَ‬
‫ودعوة الخلق إلى ال‪ ،‬وبهذا تقوم الحجة على الناس‪َ { .‬ومَنْ َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُوَلهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ َ‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا } وهذا المراد به المعصية الكفرية‪ ،‬كما قيدتها النصوص الخر المحكمة‪.‬‬

‫وأما مجرد المعصية‪ ،‬فإنه ل يوجب الخلود في النار‪ ،‬كما دلت على ذلك آيات القرآن‪ ،‬والحاديث‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأجمع عليه سلف المة وأئمة هذه المة‪.‬‬

‫{ حَتّى إِذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ } أي‪ :‬شاهدوه عيانا‪ ،‬وجزموا أنه واقع بهم‪َ { ،‬فسَ َيعَْلمُونَ } في ذلك‬
‫عدَدًا } حين ل ينصرهم غيرهم ول أنفسهم‬
‫ض َعفُ نَاصِرًا وََأ َقلّ َ‬
‫الوقت حقيقة المعرفة { مَنْ َأ ْ‬
‫ينتصرون‪ ،‬وإذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة‪ُ { .‬قلْ } لهم إن سألوك [فقالوا] { متى هذا‬
‫ج َعلُ لَهُ رَبّي َأمَدًا } أي‪ :‬غاية طويلة‪ ،‬فعلم ذلك عند‬
‫الوعد } ؟ { إِنْ أَدْرِي َأقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ َي ْ‬
‫ال‪.‬‬
‫حدًا } من الخلق‪ ،‬بل انفرد بعلم الضمائر والسرار والغيب‪،‬‬
‫علَى غَيْ ِبهِ أَ َ‬
‫ظهِرُ َ‬
‫{ عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَا يُ ْ‬
‫{ إِلّا مَنِ ارْ َتضَى مِنْ َرسُولٍ } أي‪ :‬فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به‪ ،‬وذلك لن الرسل‬
‫ليسوا كغيرهم‪ ،‬فإن ال أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق‪ ،‬وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على‬
‫حقيقته‪ ،‬من غير أن تتخبطهم الشياطين‪ ،‬ول يزيدوا فيه أو ينقصوا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَإِنّهُ يَسُْلكُ مِنْ‬
‫بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدًا } أي‪ :‬يحفظونه بأمر ال؛ { لِ َيعَْلمَ } بذلك { أَنْ قَدْ أَبَْلغُوا رِسَالَاتِ رَ ّبهِمْ }‬
‫حصَى‬
‫بما جعله لهم من السباب‪ { ،‬وََأحَاطَ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ } أي‪ :‬بما عندهم‪ ،‬وما أسروه وأعلنوه‪ { ،‬وَأَ ْ‬
‫شيْءٍ عَ َددًا } وفي هذه السورة فوائد كثيرة‪ :‬منها‪ :‬وجود الجن‪ ،‬وأنهم مكلفون مأمورون‬
‫ُكلّ َ‬
‫مكلفون منهيون‪ ،‬مجازون بأعمالهم‪ ،‬كما هو صريح في هذه السورة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رسول إلى الجن‪ ،‬كما هو رسول إلى النس ‪ ،‬فإن ال‬
‫صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق‪ ،‬وأن الذي ساقهم إلى اليمان هو ما تحققوه من هداية القرآن‪،‬‬
‫وحسن أدبهم في خطابهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬اعتناء ال برسوله‪ ،‬وحفظه لما جاء به‪ ،‬فحين ابتدأت بشائر نبوته‪ ،‬والسماء محروسة‬
‫بالنجوم‪ ،‬والشياطين قد هربت عن أماكنها‪ ،‬وأزعجت عن مراصدها‪ ،‬وأن ال رحم به الرض‬
‫وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر‪ ،‬وأراد بهم ربهم رشدا‪ ،‬فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته‬
‫في الرض‪ ،‬ما تبتهج به القلوب‪ ،‬وتفرح به أولو اللباب‪ ،‬وتظهر به شعائر السلم‪ ،‬وينقمع به‬
‫أهل الوثان والصنام‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬شدة حرص الجن لستماع الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتراكمهم عليه‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن هذه السورة قد اشتملت على المر بالتوحيد والنهي عن الشرك‪ ،‬وبينت حالة الخلق‪،‬‬
‫وأن كل أحد منهم ل يستحق من العبادة مثقال ذرة‪ ،‬لن الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذا‬
‫كان ل يملك لحد نفعا ول ضرا‪ ،‬بل ول يملك لنفسه‪ ،‬علم أن الخلق كلهم كذلك‪ ،‬فمن الخطأ‬
‫والغلط اتخاذ من هذا وصفه إلها [آخر] مع ال‪ .‬ومنها‪ :‬أن علوم الغيوب قد انفرد ال بعلمها‪ ،‬فل‬
‫يعلمها أحد من الخلق‪ ،‬إل من ارتضاه ال وخصه بعلم شيء منها‪ .‬تم تفسير سورة قل أوحي‬
‫إلي‪ ،‬ول الحمد‬

‫تفسير سورة المزمل‬


‫[وهي] مكية‬
‫صفَهُ َأوِ ا ْن ُقصْ مِنْهُ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ * قُمِ اللّ ْيلَ إِلّا قَلِيلًا * ِن ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫قَلِيلًا * َأوْ زِدْ عَلَيْ ِه وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َقوْلًا َثقِيلًا * إِنّ نَاشِئَةَ اللّ ْيلِ ِهيَ َأشَدّ‬
‫ك وَتَبَ ّتلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * َربّ‬
‫طوِيلًا * وَا ْذكُرِ اسْمَ رَ ّب َ‬
‫وَطْئًا وََأ ْقوَمُ قِيلًا * إِنّ َلكَ فِي اَل ّنهَارِ سَبْحًا َ‬
‫جمِيلًا *‬
‫ن وَاهْجُ ْرهُمْ َهجْرًا َ‬
‫ق وَا ْل َمغْرِبِ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ فَاتّخِ ْذ ُه َوكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُو َ‬
‫ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ أُولِي ال ّن ْعمَةِ َومَهّ ْلهُمْ قَلِيلًا }‬

‫المزمل‪ :‬المتغطي بثيابه كالمدثر‪ ،‬وهذا الوصف حصل من رسول ال صلى ال عليه وسلم حين‬
‫أكرمه ال برسالته‪ ،‬وابتدأه بإنزال [وحيه بإرسال] جبريل إليه‪ ،‬فرأى أمرا لم ير مثله‪ ،‬ول يقدر‬
‫على الثبات له إل المرسلون‪ ،‬فاعتراه في ابتداء ذلك انزعاج حين رأى جبريل عليه السلم‪ ،‬فأتى‬
‫إلى أهله‪ ،‬فقال‪ " :‬زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه‪ ،‬ثم جاءه جبريل فقال‪ " :‬اقرأ " فقال‪ " :‬ما‬
‫أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد‪ ،‬وهو يعالجه على القراءة‪ ،‬فقرأ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم‬
‫ألقى ال عليه الثبات‪ ،‬وتابع عليه الوحي‪ ،‬حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين‪.‬‬

‫فسبحان ال‪ ،‬ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها‪ ،‬ولهذا خاطبه ال بهذا الوصف الذي وجد‬
‫منه في أول أمره‪.‬‬

‫فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به‪ ،‬ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه ‪ ،‬ثم أمره بالصدع بأمره‪،‬‬
‫وإعلن دعوتهم إلى ال‪ ،‬فأمره هنا بأشرف العبادات‪ ،‬وهي الصلة‪ ،‬وبآكد الوقات وأفضلها‪ ،‬وهو‬
‫قيام الليل‪.‬‬

‫ومن رحمته تعالى‪ ،‬أنه لم يأمره بقيام الليل كله‪ ،‬بل قال‪ُ { :‬قمِ اللّ ْيلَ إِلّا قَلِيلًا } ‪.‬‬

‫صفَهُ َأوِ ا ْنقُصْ مِنْهُ } أي‪ :‬من النصف { قَلِيلًا } بأن يكون الثلث ونحوه‪.‬‬
‫ثم قدر ذلك فقال‪ِ { :‬ن ْ‬

‫{ َأوْ ِزدْ عَلَيْهِ } أي‪ :‬على النصف‪ ،‬فيكون الثلثين ونحوها‪ { .‬وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فإن ترتيل‬
‫القرآن به يحصل التدبر والتفكر‪ ،‬وتحريك القلوب به‪ ،‬والتعبد بآياته‪ ،‬والتهيؤ والستعداد التام له‪،‬‬
‫فإنه قال‪ { :‬إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َقوْلًا َثقِيلًا } أي‪ :‬نوحي إليك هذا القرآن الثقيل‪ ،‬أي‪ :‬العظيمة معانيه‪،‬‬
‫الجليلة أوصافه‪ ،‬وما كان بهذا الوصف‪ ،‬حقيق أن يتهيأ له‪ ،‬ويرتل‪ ،‬ويتفكر فيما يشتمل عليه‪.‬‬

‫ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ نَاشِ َئةَ اللّ ْيلِ } أي‪ :‬الصلة فيه بعد النوم { ِهيَ َأشَدّ‬
‫وَطْئًا وََأ ْقوَمُ قِيلًا } أي‪ :‬أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن‪ ،‬يتواطأ على القرآن القلب واللسان‪،‬‬
‫وتقل الشواغل‪ ،‬ويفهم ما يقول‪ ،‬ويستقيم له أمره‪ ،‬وهذا بخلف النهار‪ ،‬فإنه ل يحصل به هذا‬
‫طوِيلًا } أي‪ :‬ترددا على حوائجك ومعاشك‪،‬‬
‫المقصود ‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّ َلكَ فِي اَل ّنهَارِ سَ ْبحًا َ‬
‫يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام‪.‬‬

‫{ وَا ْذكُرِ اسْمَ رَ ّبكَ } شامل لنواع الذكر كلها { وَتَبَ ّتلْ إِلَ ْيهِ تَبْتِيلًا } أي‪ :‬انقطع إلى ال تعالى‪ ،‬فإن‬
‫النقطاع إلى ال والنابة إليه‪ ،‬هو النفصال بالقلب عن الخلئق‪ ،‬والتصاف بمحبة ال‪ ،‬وكل ما‬
‫يقرب إليه‪ ،‬ويدني من رضاه‪.‬‬

‫ق وَا ْل َمغْ ِربِ } وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب [كلها]‪ ،‬فهو تعالى رب‬
‫{ َربّ ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫المشارق والمغارب‪ ،‬وما يكون فيها من النوار‪ ،‬وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي‪،‬‬
‫فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره‪.‬‬

‫{ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } أي‪ :‬ل معبود إل وجهه العلى‪ ،‬الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم‪،‬‬
‫خ ْذ ُه َوكِيلًا } أي‪ :‬حافظا ومدبرا لمورك كلها‪.‬‬
‫والجلل والتكريم‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَاتّ ِ‬

‫فلما أمره ال بالصلة خصوصا‪ ،‬وبالذكر عموما‪ ،‬وذلك يحصل للعبد ملكة قوية في تحمل الثقال‪،‬‬
‫وفعل الثقيل من العمال‪ ،‬أمره بالصبر على ما يقول فيه المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء‬
‫به‪ ،‬وأن يمضي على أمر ال‪ ،‬ل يصده عنه صاد‪ ،‬ول يرده راد‪ ،‬وأن يهجرهم هجرا جميل‪ ،‬وهو‬
‫الهجر حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي ل أذية فيه‪ ،‬فيقابلهم بالهجر والعراض عنهم وعن‬
‫أقوالهم التي تؤذيه‪ ،‬وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن‪.‬‬

‫{ وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ } أي‪ :‬اتركني وإياهم‪ ،‬فسأنتقم منهم‪ ،‬وإن أمهلتهم فل أهملهم‪ ،‬وقوله‪ { :‬أُولِي‬
‫ال ّن ْعمَةِ } أي‪ :‬أصحاب النعمة والغنى‪ ،‬الذين طغوا حين وسع ال عليهم من رزقه‪ ،‬وأمدهم من‬
‫طغَى أَنْ رَآهُ اسْ َتغْنَى } ‪.‬‬
‫فضله كما قال تعالى‪ { :‬كَلّا إِنّ الْإِ ْنسَانَ لَيَ ْ‬

‫ثم توعدهم بما عنده من العقاب‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫جفُ الْأَ ْرضُ‬


‫غصّ ٍة وَعَذَابًا أَلِيمًا * َيوْمَ تَرْ ُ‬
‫طعَامًا ذَا ُ‬
‫جحِيمًا * وَ َ‬
‫{ ‪ { } 14 - 12‬إِنّ َلدَيْنَا أَ ْنكَالًا وَ َ‬
‫ل َوكَا َنتِ ا ْلجِبَالُ كَثِيبًا َمهِيلًا }‬
‫وَالْجِبَا ُ‬
‫أي‪ :‬إن عندنا { أَ ْنكَالًا } أي‪ :‬عذابا شديدا‪ ،‬جعلناه تنكيل للذي ل يزال مستمرا على الذنوب‪.‬‬
‫غصّةٍ } وذلك لمرارته وبشاعته‪ ،‬وكراهة طعمه وريحه‬
‫طعَامًا ذَا ُ‬
‫جحِيمًا } أي‪ :‬نارا حامية { وَ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫ض وَالْجِبَالُ } من‬
‫جفُ الْأَ ْر ُ‬
‫الخبيث المنتن‪ { ،‬وَعَذَابًا أَلِيمًا } أي‪ :‬موجعا مفظعا‪ ،‬وذلك { َيوْمَ تَرْ ُ‬
‫الهول العظيم‪َ { ،‬وكَانَتِ ا ْلجِبَالُ } الراسيات الصم الصلب { كَثِيبًا َمهِيلًا } أي‪ :‬بمنزلة الرمل‬
‫المنهال المنتثر‪ ،‬ثم إنها تبس بعد ذلك‪ ،‬فتكون كالهباء المنثور‪.‬‬
‫عوْنَ رَسُولًا * َف َعصَى‬
‫{ ‪ { } 16 - 15‬إِنّا أَ ْرسَلْنَا إِلَ ْيكُمْ رَسُولًا شَا ِهدًا عَلَ ْيكُمْ َكمَا أَ ْرسَلْنَا إِلَى فِرْ َ‬
‫عوْنُ الرّسُولَ فََأخَذْنَاهُ َأخْذًا وَبِيلًا }‬
‫فِرْ َ‬

‫يقول تعالى‪ :‬احمدوا ربكم على إرسال هذا النبي المي العربي البشير النذير‪ ،‬الشاهد على المة‬
‫بأعمالهم‪ ،‬واشكروه وقوموا بهذه النعمة الجليلة‪ ،‬وإياكم أن تكفروها‪ ،‬فتعصوا رسولكم‪ ،‬فتكونوا‬
‫كفرعون حين أرسل ال إليه موسى بن عمران‪ ،‬فدعاه إلى ال‪ ،‬وأمره بالتوحيد‪ ،‬فلم يصدقه‪ ،‬بل‬
‫عصاه‪ ،‬فأخذه ال أخذا وبيل أي‪ :‬شديدا بليغا‪.‬‬

‫ع ُدهُ‬
‫ن وَ ْ‬
‫سمَاءُ مُ ْنفَطِرٌ بِهِ كَا َ‬
‫ج َعلُ ا ْلوِلْدَانَ شِيبًا * ال ّ‬
‫{ ‪َ { } 18 - 17‬فكَ ْيفَ تَ ّتقُونَ إِنْ َكفَرْتُمْ َي ْومًا يَ ْ‬
‫َمفْعُولًا }‬

‫أي‪ :‬فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة‪ ،‬اليوم المهيل أمره‪ ،‬العظيم قدره ‪ ،‬الذي‬
‫ن وَعْ ُدهُ‬
‫يشيب الولدان‪ ،‬وتذوب له الجمادات العظام‪ ،‬فتتفطر به السماء وتنتثر به نجومها { كَا َ‬
‫َمفْعُولًا } أي‪ :‬ل بد من وقوعه‪ ،‬ول حائل دونه‪.‬‬

‫خذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا }‬


‫{ ‪ { } 19‬إِنّ هَ ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ َفمَنْ شَاءَ اتّ َ‬

‫[أي‪ ]:‬إن هذه الموعظة التي نبأ ال بها من أحوال يوم القيامة وأهواله ‪ ،‬تذكرة يتذكر بها‬
‫المتقون‪ ،‬وينزجر بها المؤمنون‪َ { ،‬فمَنْ شَاءَ اتّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا } أي‪ :‬طريقا موصل إليه‪ ،‬وذلك‬
‫باتباع شرعه‪ ،‬فإنه قد أبانه كل البيان‪ ،‬وأوضحه غاية اليضاح‪ ،‬وفي هذا دليل على أن ال تعالى‬
‫أقدر العباد على أفعالهم‪ ،‬ومكنهم منها‪ ،‬ل كما يقوله الجبرية‪ :‬إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم‪ ،‬فإن‬
‫هذا خلف النقل والعقل‪.‬‬

‫صفَ ُه وَثُلُثَ ُه وَطَا ِئفَةٌ مِنَ الّذِينَ َم َعكَ وَاللّهُ‬


‫ل وَ ِن ْ‬
‫{ ‪ { } 20‬إِنّ رَ ّبكَ َيعْلَمُ أَ ّنكَ َتقُومُ َأدْنَى مِنْ ثُلُ َثيِ اللّ ْي ِ‬
‫حصُوهُ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَ َيسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَ َيكُونُ‬
‫ل وَال ّنهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُ ْ‬
‫ُيقَدّرُ اللّ ْي َ‬
‫ضلِ اللّ ِه وَآخَرُونَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫مِ ْنكُمْ مَ ْرضَى وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي الْأَ ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِنْ َف ْ‬
‫سكُمْ‬
‫فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَا َة وََأقْ ِرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا َومَا ُتقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫ظمَ َأجْرًا وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫مِنْ خَيْرٍ َتجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ ُهوَ خَيْرًا وَأَعْ َ‬
‫ذكر ال في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه‪ ،‬والصل أن أمته‬
‫أسوة له في الحكام‪ ،‬وذكر في هذا الموضع‪ ،‬أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين‪.‬‬

‫ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس‪ ،‬أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل‬
‫ل وَال ّنهَارَ } أي‪ :‬يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى‪.‬‬
‫فقال‪ { :‬وَاللّهُ ُيقَدّرُ اللّ ْي َ‬

‫حصُوهُ } أي‪[ :‬لن] تعرفوا مقداره من غير زيادة ول نقص‪ ،‬لكون ذلك يستدعي‬
‫{ عَِلمَ أَنْ لَنْ ُت ْ‬
‫انتباها وعناء زائدا أي‪ :‬فخفف عنكم‪ ،‬وأمركم بما تيسر عليكم‪ ،‬سواء زاد على المقدر أو نقص‪{ ،‬‬
‫فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ } أي‪ :‬مما تعرفون ومما ل يشق عليكم‪ ،‬ولهذا كان المصلي بالليل‬
‫مأمورا بالصلة ما دام نشيطا‪ ،‬فإذا فتر أو كسل أو نعس‪ ،‬فليسترح‪ ،‬ليأتي الصلة بطمأنينة‬
‫وراحة‪.‬‬

‫ثم ذكر بعض السباب المناسبة للتخفيف‪ ،‬فقال‪ { :‬عَلِمَ أَنْ سَ َيكُونُ مِ ْنكُمْ مَ ْرضَى } يشق عليهم‬
‫صلة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه‪ ،‬فليصل المريض المتسهل عليه ‪ ،‬ول يكون أيضا مأمورا‬
‫بالصلة قائما عند مشقة ذلك‪ ،‬بل لو شقت عليه الصلة النافلة‪ ،‬فله تركها [وله أجر ما كان يعمل‬
‫ضلِ اللّهِ } أي‪ :‬وعلم أن منكم مسافرين‬
‫صحيحا]‪ { .‬وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي الْأَ ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِنْ َف ْ‬
‫يسافرون للتجارة‪ ،‬ليستغنوا عن الخلق‪ ،‬ويتكففوا عن الناس أي‪ :‬فالمسافر‪ ،‬حاله تناسب التخفيف‪،‬‬
‫ولهذا خفف عنه في صلة الفرض‪ ،‬فأبيح له جمع الصلتين في وقت واحد‪ ،‬وقصر الصلة‬
‫الرباعية‪.‬‬

‫وكذلك { آخَرُونَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين‪ ،‬تخفيفا‬
‫للصحيح المقيم‪ ،‬يراعي فيه نشاطه‪ ،‬من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت‪ ،‬بل يتحرى الصلة‬
‫الفاضلة‪ ،‬وهي ثلث الليل بعد نصفه الول‪.‬‬

‫وتخفيفا للمريض أو المسافر‪ ،‬سواء كان سفره للتجارة‪ ،‬أو لعبادة‪ ،‬من قتال أو جهاد‪ ،‬أو حج‪ ،‬أو‬
‫عمرة‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬فإنه أيضا يراعي ما ل يكلفه‪ ،‬فلله الحمد والثناء‪ ،‬الذي ما جعل على المة‬
‫في الدين من حرج‪ ،‬بل سهل شرعه‪ ،‬وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم‪.‬‬

‫ثم أمر العباد بعبادتين‪ ،‬هما أم العبادات وعمادها‪ :‬إقامة الصلة‪ ،‬التي ل يستقيم الدين إل بها‪،‬‬
‫وإيتاء الزكاة التي هي برهان اليمان‪ ،‬وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫حسَنًا } أي‪ :‬خالصا‬
‫{ وََأقِيمُوا الصّلَاةَ } بأركانها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬ومكملتها‪ { ،‬وََأقْ ِرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫لوجه ال‪ ،‬من نية صادقة‪ ،‬وتثبيت من النفس‪ ،‬ومال طيب‪ ،‬ويدخل في هذا‪ ،‬الصدقة الواجبة ؟‬
‫جدُوهُ عِ ْندَ اللّهِ‬
‫سكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَ ِ‬
‫والمستحبة‪ ،‬ثم حث على عموم الخير وأفعاله فقال‪َ { :‬ومَا ُتقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ‬
‫ُهوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ َأجْرًا } الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬إلى أضعاف كثيرة‪.‬‬

‫وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار‪ ،‬يقابله أضعاف أضعاف الدنيا‪ ،‬وما عليها في دار‬
‫النعيم المقيم‪ ،‬من اللذات والشهوات‪ ،‬وأن الخير والبر في هذه الدنيا‪ ،‬مادة الخير والبر في دار‬
‫القرار‪ ،‬وبذره وأصله وأساسه‪ ،‬فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلت‪ ،‬وواحسرتاه على أزمان‬
‫تقضت بغير العمال الصالحات‪ ،‬وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها‪ ،‬ولم ينجع فيها‬
‫تشويق من هو أرحم بها منها ‪ ،‬فلك اللهم الحمد‪ ،‬وإليك المشتكى‪ ،‬وبك المستغاث‪ ،‬ول حول ول‬
‫قوة إل بك‪.‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ } وفي المر بالستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة‬
‫{ وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫والخير‪ ،‬فائدة كبيرة‪ ،‬وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به‪ ،‬إما أن ل يفعله أصل أو‬
‫يفعله على وجه ناقص‪ ،‬فأمر بترقيع ذلك بالستغفار‪ ،‬فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار‪ ،‬فمتى لم‬
‫يتغمده ال برحمته ومغفرته‪ ،‬فإنه هالك‪.‬‬

‫تم تفسير سورة المزمل‬

‫تفسير سورة المدثر‬


‫[وهي] مكية‬

‫طهّرْ *‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَ ّبكَ َفكَبّرْ * وَثِيَا َبكَ َف َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 7 - 1‬بِ ْ‬
‫وَالرّجْزَ فَا ْهجُرْ * وَلَا َتمْنُنْ تَسْ َتكْثِرُ * وَلِرَ ّبكَ فَاصْبِرْ }‬

‫تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد‪ ،‬وأن ال أمر رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بالجتهاد في‬
‫عبادة ال القاصرة والمتعدية‪ ،‬فتقدم هناك المر له بالعبادات الفاضلة القاصرة‪ ،‬والصبر على أذى‬
‫قومه‪ ،‬وأمره هنا بإعلن الدعوة ‪ ،‬والصدع بالنذار‪ ،‬فقال‪ { :‬قُمِ } [أي] بجد ونشاط { فَأَنْذِرْ }‬
‫الناس بالقوال والفعال‪ ،‬التي يحصل بها المقصود‪ ،‬وبيان حال المنذر عنه‪ ،‬ليكون ذلك أدعى‬
‫لتركه‪ { ،‬وَرَ ّبكَ َفكَبّرْ } أي‪ :‬عظمه بالتوحيد‪ ،‬واجعل قصدك في إنذارك وجه ال‪ ،‬وأن يعظمه‬
‫العباد ويقوموا بعبادته‪.‬‬
‫طهّرْ } يحتمل أن المراد بثيابه‪ ،‬أعماله كلها‪ ،‬وبتطهيرها تخليصها والنصح بها‪،‬‬
‫{ وَثِيَا َبكَ فَ َ‬
‫وإيقاعها على أكمل الوجوه‪ ،‬وتنقيتها عن المبطلت والمفسدات‪ ،‬والمنقصات من شر ورياء‪،‬‬
‫[ونفاق]‪ ،‬وعجب‪ ،‬وتكبر‪ ،‬وغفلة‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته‪.‬‬

‫ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة‪ ،‬فإن ذلك من تمام التطهير للعمال خصوصا في‬
‫الصلة‪ ،‬التي قال كثير من العلماء‪ :‬إن إزالة النجاسة عنها شرط من شروط الصلة‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد بثيابه‪ ،‬الثياب المعروفة‪ ،‬وأنه مأمور بتطهيرها عن [جميع] النجاسات‪ ،‬في‬
‫جميع الوقات‪ ،‬خصوصا في الدخول في الصلوات‪ ،‬وإذا كان مأمورا بتطهير الظاهر‪ ،‬فإن طهارة‬
‫الظاهر من تمام طهارة الباطن‪.‬‬

‫{ وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ } يحتمل أن المراد بالرجز الصنام والوثان‪ ،‬التي عبدت مع ال‪ ،‬فأمره بتركها‪،‬‬
‫والبراءة منها ومما نسب إليها من قول أو عمل‪ .‬ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها‬
‫وأقواله‪ ،‬فيكون أمرا له بترك الذنوب‪ ،‬صغيرها وكبيرها ‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬فيدخل في ذلك‬
‫الشرك وما دونه‪.‬‬

‫{ وَلَا َتمْنُنْ َتسْ َتكْثِرُ } أي‪ :‬ل تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية‪ ،‬فتتكثر‬
‫بتلك المنة‪ ،‬وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة‪ ،‬بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك‪ ،‬وانس‬
‫[عندهم] إحسانك‪ ،‬ول تطلب أجره إل من ال تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد‬
‫سواء‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن معنى هذا‪ ،‬ل تعط أحدا شيئا‪ ،‬وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه‪ ،‬فيكون هذا‬
‫خاصا بالنبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫{ وَلِرَ ّبكَ فَاصْبِرْ } أي‪ :‬احتسب بصبرك‪ ،‬واقصد به وجه ال تعالى‪ ،‬فامتثل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لمر ربه‪ ،‬وبادر إليه‪ ،‬فأنذر الناس‪ ،‬وأوضح لهم باليات البينات جميع المطالب‬
‫اللهية‪ ،‬وعظم ال تعالى‪ ،‬ودعا الخلق إلى تعظيمه‪ ،‬وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء‪،‬‬
‫وهجر كل ما يبعد عن ال من الصنام وأهلها‪ ،‬والشر وأهله‪ ،‬وله المنة على الناس ‪-‬بعد منة‬
‫ال‪ -‬من غير أن يطلب منهم على ذلك جزاء ول شكورا‪ ،‬وصبر ل أكمل صبر‪ ،‬فصبر على‬
‫طاعة ال‪ ،‬وعن معاصي ال‪ ،‬وعلى أقدار ال المؤلمة ‪ ،‬حتى فاق أولي العزم من المرسلين‪،‬‬
‫صلوات ال وسلمه عليه وعليهم أجمعين‪.‬‬
‫علَى ا ْلكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }‬
‫{ ‪ { } 10 - 8‬فَإِذَا ُنقِرَ فِي النّاقُورِ * فَذَِلكَ َي ْومَئِذٍ َيوْمٌ عَسِيرٌ * َ‬

‫أي‪ :‬فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور‪ ،‬وجمع الخلق للبعث والنشور‪.‬‬

‫{ َفذَِلكَ َي ْومَئِذٍ َيوْمٌ عَسِيرٌ } لكثرة أهواله وشدائده‪.‬‬

‫{ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ غَيْرُ َيسِيرٍ } لنهم قد أيسوا من كل خير‪ ،‬وأيقنوا بالهلك والبوار‪ .‬ومفهوم ذلك‬
‫أنه على المؤمنين يسير‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يقُولُ ا ْلكَافِرُونَ هَذَا َي ْومٌ عَسِرٌ } ‪.‬‬

‫شهُودًا * َو َمهّ ْدتُ‬


‫جعَ ْلتُ لَهُ مَالًا َممْدُودًا * وَبَنِينَ ُ‬
‫ت وَحِيدًا * وَ َ‬
‫{ ‪ { } 31 - 11‬ذَرْنِي َومَنْ خََل ْق ُ‬
‫صعُودًا * إِنّهُ َفكّ َر َوقَدّرَ *‬
‫طمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلّا إِنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُ ْر ِهقُهُ َ‬
‫لَهُ َت ْمهِيدًا * ثُمّ َي ْ‬
‫س وَبَسَرَ * ُثمّ َأدْبَ َر وَاسْ َتكْبَرَ * َفقَالَ إِنْ هَذَا‬
‫َفقُتِلَ كَ ْيفَ قَدّرَ * ُثمّ قُ ِتلَ كَيْفَ قَدّرَ * ثُمّ َنظَرَ * ُثمّ عَبَ َ‬
‫سقَرُ * لَا تُ ْبقِي وَلَا َتذَرُ *‬
‫سقَرَ * َومَا َأدْرَاكَ مَا َ‬
‫سحْرٌ ُيؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلّا َقوْلُ الْبَشَرِ * سَُأصْلِيهِ َ‬
‫إِلّا ِ‬
‫عدّ َتهُمْ إِلّا فِتْنَةً‬
‫جعَلْنَا ِ‬
‫جعَلْنَا َأصْحَابَ النّارِ إِلّا مَلَا ِئكَ ًة َومَا َ‬
‫سعَةَ عَشَرَ * َومَا َ‬
‫َلوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَ ْيهَا ِت ْ‬
‫ب وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ‬
‫لِلّذِينَ َكفَرُوا لِيَسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَا َ‬
‫ضلّ اللّهُ مَنْ‬
‫ض وَا ْلكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَلًا كَذَِلكَ ُي ِ‬
‫ن وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َر ٌ‬
‫وَا ْل ُمؤْمِنُو َ‬
‫يَشَاءُ وَ َيهْدِي مَنْ َيشَا ُء َومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ إِلّا ُهوَ َومَا ِهيَ إِلّا ِذكْرَى لِلْبَشَرِ }‬

‫هذه اليات‪ ،‬نزلت في الوليد بن المغيرة‪ ،‬معاند الحق‪ ،‬والمبارز ل ولرسوله بالمحاربة والمشاقة‪،‬‬
‫فذمه ال ذما لم يذمه غيره‪ ،‬وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه‪ ،‬أن له الخزي في الدنيا‪،‬‬
‫ت وَحِيدًا } أي‪ :‬خلقته منفردا‪ ،‬بل مال ول أهل‪،‬‬
‫ولعذاب الخرة أخزى‪ ،‬فقال‪ { :‬ذَرْنِي َومَنْ خََلقْ ُ‬
‫جعَ ْلتُ لَهُ مَالًا َممْدُودًا } أي‪ :‬كثيرا { و } جعلت له { بنين }‬
‫ول غيره‪ ،‬فلم أزل أنميه وأربيه ‪ { ،‬وَ َ‬
‫شهُودًا } أي‪ :‬دائما حاضرين عنده‪[ ،‬على الدوام] يتمتع بهم‪ ،‬ويقضي بهم حوائجه‪،‬‬
‫أي‪ :‬ذكورا { ُ‬
‫ويستنصر بهم‪.‬‬

‫{ َو َمهّ ْدتُ لَهُ َت ْمهِيدًا } أي‪ :‬مكنته من الدنيا وأسبابها‪ ،‬حتى انقادت له مطالبه‪ ،‬وحصل على ما‬
‫طمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي‪ :‬يطمع أن ينال نعيم الخرة‬
‫يشتهي ويريد‪ُ { ،‬ثمّ } مع هذه النعم والمدادات { َي ْ‬
‫كما نال نعيم الدنيا‪.‬‬
‫{ كَلّا } أي‪ :‬ليس المر كما طمع‪ ،‬بل هو بخلف مقصوده ومطلوبه‪ ،‬وذلك لنه { كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا‬
‫} أي‪ :‬معاندا‪ ،‬عرفها ثم أنكرها‪ ،‬ودعته إلى الحق فلم ينقد لها ولم يكفه أنه أعرض وتولى عنها‪،‬‬
‫بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها‪ ،‬ولهذا قال عنه‪:‬‬

‫{ إِنّهُ َفكّرَ } [أي‪ ]:‬في نفسه { َوقَدّرَ } ما فكر فيه‪ ،‬ليقول قول يبطل به القرآن‪.‬‬

‫{ َفقُ ِتلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُ ِتلَ كَ ْيفَ قَدّرَ } لنه قدر أمرا ليس في طوره‪ ،‬وتسور على ما ل يناله هو و‬
‫س وَبَسَرَ } في وجهه‪ ،‬وظاهره نفرة عن الحق وبغضا‬
‫[ل] أمثاله‪ { ،‬ثُمّ َنظَرَ } ما يقول‪ { ،‬ثُمّ عَ َب َ‬
‫له‪ { ،‬ثُمّ َأدْبَرَ } أي‪ :‬تولى { وَاسْ َتكْبَرَ } نتيجة سعيه الفكري والعملي والقولي أن قال‪:‬‬

‫سحْرٌ ُيؤْثَرُ إِنْ َهذَا إِلّا َق ْولُ الْبَشَرِ } أي‪ :‬ما هذا كلم ال‪ ،‬بل كلم البشر‪ ،‬وليس أيضا‬
‫{ إِنْ هَذَا إِلّا ِ‬
‫كلم البشر الخيار‪ ،‬بل كلم الفجار منهم والشرار‪ ،‬من كل كاذب سحار‪.‬‬

‫فتبا له‪ ،‬ما أبعده من الصواب‪ ،‬وأحراه بالخسارة والتباب!!‬

‫كيف يدور في الذهان‪ ،‬أو يتصوره ضمير كل إنسان‪ ،‬أن يكون أعلى الكلم وأعظمه‪ ،‬كلم الرب‬
‫العظيم‪ ،‬الماجد الكريم‪ ،‬يشبه كلم المخلوقين الفقراء الناقصين؟!‬

‫أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد‪ ،‬على وصفه كلم المبدئ المعيد ‪.‬‬

‫فما حقه إل العذاب الشديد والنكال‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬

‫سقَرُ لَا تُ ْبقِي وَلَا تَذَرُ } أي‪ :‬ل تبقي من الشدة‪ ،‬ول على المعذب‬
‫سقَ َر َومَا أَدْرَاكَ مَا َ‬
‫{ سَُأصْلِيهِ َ‬
‫شيئا إل وبلغته‪.‬‬

‫{ َلوّاحَةٌ لِلْ َبشَرِ } أي‪ :‬تلوحهم [وتصليهم] في عذابها‪ ،‬وتقلقهم بشدة حرها وقرها‪.‬‬

‫سعَةَ عَشَرَ } من الملئكة‪ ،‬خزنة لها‪ ،‬غلظ شداد‪ ،‬ل يعصون ال ما أمرهم‪ ،‬ويفعلون ما‬
‫{ عَلَ ْيهَا ِت ْ‬
‫يؤمرون‪.‬‬

‫جعَلْنَا عِدّ َت ُهمْ إِلّا فِتْنَةً لِلّذِينَ‬


‫جعَلْنَا َأصْحَابَ النّارِ إِلّا مَلَا ِئكَةً } وذلك لشدتهم وقوتهم‪َ { .‬ومَا َ‬
‫{ َومَا َ‬
‫َكفَرُوا } يحتمل أن المراد‪ :‬إل لعذابهم وعقابهم في الخرة‪ ،‬ولزيادة نكالهم فيها‪ ،‬والعذاب يسمى‬
‫فتنة‪[ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ ُهمْ عَلَى النّارِ ُيفْتَنُونَ } ] ويحتمل أن المراد‪ :‬أنا ما أخبرناكم بعدتهم‪،‬‬
‫إل لنعلم من يصدق ومن يكذب‪ ،‬ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله‪ { :‬لِ َيسْتَ ْيقِنَ الّذِينَ أُوتُوا‬
‫ا ْلكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } فإن أهل الكتاب‪ ،‬إذا وافق ما عندهم وطابقه‪ ،‬ازداد يقينهم‬
‫بالحق‪ ،‬والمؤمنون كلما أنزل ال آية‪ ،‬فآمنوا بها وصدقوا‪ ،‬ازداد إيمانهم‪ { ،‬وَلَا يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا‬
‫ا ْلكِتَابَ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ } أي‪ :‬ليزول عنهم الريب والشك‪ ،‬وهذه مقاصد جليلة‪ ،‬يعتني بها أولو اللباب‪،‬‬
‫وهي السعي في اليقين‪ ،‬وزيادة اليمان في كل وقت‪ ،‬وكل مسألة من مسائل الدين‪ ،‬ودفع الشكوك‬
‫والوهام التي تعرض في مقابلة الحق‪ ،‬فجعل ما أنزله ال على رسوله محصل لهذه الفوائد‬
‫الجليلة‪ ،‬ومميزا للكاذبين من الصادقين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬وَلِ َيقُولَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } أي‪ :‬شك‬
‫وشبهة ونفاق‪ { .‬وَا ْلكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ ِبهَذَا مَثَلًا } وهذا على وجه الحيرة والشك‪ ،‬والكفر منهم‬
‫بآيات ال‪ ،‬وهذا وذاك من هداية ال لمن يهديه‪ ،‬وإضلله لمن يضل ولهذا قال‪:‬‬

‫ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فمن هداه ال‪ ،‬جعل ما أنزله ال على رسوله رحمة‬
‫{ َكذَِلكَ ُي ِ‬
‫في حقه‪ ،‬وزيادة في إيمانه ودينه‪ ،‬ومن أضله‪ ،‬جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه‬
‫وحيرة‪ ،‬وظلمة في حقه‪ ،‬والواجب أن يتلقى ما أخبر ال به ورسوله بالتسليم‪ ،‬فإنه ل يعلم جنود‬
‫ربك من الملئكة وغيرهم { إلّا ُهوَ } فإذا كنتم جاهلين بجنوده‪ ،‬وأخبركم بها العليم الخبير‪ ،‬فعليكم‬
‫أن تصدقوا خبره‪ ،‬من غير شك ول ارتياب‪َ { ،‬ومَا ِهيَ إِلّا ِذكْرَى لِلْ َبشَرِ } أي‪ :‬وما هذه الموعظة‬
‫والتذكار مقصودا به العبث واللعب‪ ،‬وإنما المقصود به أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه‪،‬‬
‫وما يضرهم فيتركونه‪.‬‬

‫حدَى ا ْلكُبَرِ * نَذِيرًا‬


‫سفَرَ * إِ ّنهَا لَإِ ْ‬
‫{ ‪ { } 56 - 32‬كَلّا وَا ْل َقمَرِ * وَاللّ ْيلِ ِإذْ َأدْبَرَ * وَالصّبْحِ إِذَا َأ ْ‬
‫لِلْبَشَرِ * ِلمَنْ شَاءَ مِ ْن ُكمْ أَنْ يَ َتقَدّمَ َأوْ يَتََأخّرَ * ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ رَهِينَةٌ * إِلّا َأصْحَابَ الْ َيمِينِ *‬
‫سقَرَ * قَالُوا لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ * وَلَمْ َنكُ‬
‫فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ * مَا سََل َككُمْ فِي َ‬
‫سكِينَ * َوكُنّا نَخُوضُ مَعَ ا ْلخَا ِئضِينَ * َوكُنّا ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ * حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ * َفمَا‬
‫طعِمُ ا ْلمِ ْ‬
‫نُ ْ‬
‫حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ * فَ ّرتْ مِنْ‬
‫شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ * َفمَا َل ُهمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ * كَأَ ّنهُمْ ُ‬
‫تَ ْن َفعُهُمْ َ‬
‫حفًا مُنَشّ َرةً * كَلّا َبلْ لَا َيخَافُونَ الْآخِ َرةَ * كَلّا إِنّهُ‬
‫سوَ َرةٍ * َبلْ يُرِيدُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيؤْتَى صُ ُ‬
‫قَ ْ‬
‫تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ * َومَا َي ْذكُرُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ُهوَ أَ ْهلُ ال ّتقْوَى وَأَ ْهلُ ا ْل َم ْغفِ َرةِ }‬

‫{ كَلّا } هنا بمعنى‪ :‬حقا‪ ،‬أو بمعنى { أل } الستفتاحية‪ ،‬فأقسم تعالى بالقمر‪ ،‬وبالليل وقت إدباره‪،‬‬
‫والنهار وقت إسفاره‪ ،‬لشتمال المذكورات على آيات ال العظيمة‪ ،‬الدالة على كمال قدرة ال‬
‫وحكمته‪ ،‬وسعة سطانه‪ ،‬وعموم رحمته‪ ،‬وإحاطة علمه‪ ،‬والمقسم عليه قوله‪ { :‬إِ ّنهَا } أي النار‬
‫{ لَِإحْدَى ا ْلكُبَرِ } أي‪ :‬لحدى العظائم الطامة والمور الهامة‪ ،‬فإذا أعلمناكم بها‪ ،‬وكنتم على بصيرة‬
‫من أمرها‪ ،‬فمن شاء منكم أن يتقدم‪ ،‬فيعمل بما يقربه من ربه‪ ،‬ويدنيه من رضاه‪ ،‬ويزلفه من دار‬
‫كرامته‪ ،‬أو يتأخر [عما خلق له و] عما يحبه ال [ويرضاه]‪ ،‬فيعمل بالمعاصي‪ ،‬ويتقرب إلى نار‬
‫ن َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ } الية‪.‬‬
‫حقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِ ْ‬
‫جهنم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و ُقلِ الْ َ‬
‫{ ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ } من أعمال السوء وأفعال الشر { َرهِينَةٌ } بها موثقة بسعيها‪ ،‬قد ألزم‬
‫عنقها‪ ،‬وغل في رقبتها‪ ،‬واستوجبت به العذاب‪ { ،‬إِلّا َأصْحَابَ الْ َيمِينِ } فإنهم لم يرتهنوا‪ ،‬بل أطلقوا‬
‫وفرحوا { فِي جَنّاتٍ يَ َتسَاءَلُونَ عَنِ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ }‬

‫أي‪ :‬في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم‪ ،‬وتمت لهم الراحة والطمأنينة‪ ،‬حتى أقبلوا‬
‫يتساءلون‪ ،‬فأفضت بهم المحادثة‪ ،‬أن سألوا عن المجرمين‪ ،‬أي‪ :‬حال وصلوا إليها‪ ،‬وهل وجدوا ما‬
‫وعدهم ال تعالى؟ فقال بعضهم لبعض‪ " :‬هل أنتم مطلعون عليهم " فاطلعوا عليهم في وسط‬
‫سقَرَ } أي‪ :‬أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي‪ :‬ذنب‬
‫الجحيم يعذبون‪ ،‬فقالوا لهم‪ { :‬مَا سََل َككُمْ فِي َ‬
‫سكِينَ } فل إخلص للمعبود‪[ ،‬ول‬
‫طعِمُ ا ْلمِ ْ‬
‫استحققتموها؟ فـ { قَالُوا لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ وََلمْ َنكُ نُ ْ‬
‫إحسان] ول نفع للخلق المحتاجين‪.‬‬

‫{ َوكُنّا نَخُوضُ مَعَ ا ْلخَا ِئضِينَ } أي‪ :‬نخوض بالباطل‪ ،‬ونجادل به الحق‪َ { ،‬وكُنّا ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ }‬
‫هذا آثار الخوض بالباطل‪[ ،‬وهو] التكذيب بالحق‪ ،‬ومن أحق الحق‪ ،‬يوم الدين‪ ،‬الذي هو محل‬
‫الجزاء على العمال‪ ،‬وظهور ملك ال وحكمه العدل لسائر الخلق‪.‬‬

‫فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد { حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ } أي‪ :‬الموت‪ ،‬فلما ماتوا على الكفر تعذرت‬
‫شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ } لنهم ل‬
‫حينئذ عليهم الحيل‪ ،‬وانسد في وجوههم باب المل‪َ { ،‬فمَا تَ ْن َف ُعهُمْ َ‬
‫يشفعون إل لمن ارتضى‪ ،‬وهؤلء ل يرضى ال أعمالهم ‪ .‬فلما بين ال مآل المخالفين‪ ،‬ورهب‬
‫مما يفعل بهم‪ ،‬عطف على الموجودين بالعتاب واللوم‪ ،‬فقال‪َ { :‬فمَا َلهُمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ }‬
‫حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ } أي‪ :‬كأنهم حمر‬
‫أي‪ :‬صادين غافلين عنها‪ { .‬كَأَ ّنهُمْ } في نفرتهم الشديدة منها { ُ‬
‫سوَ َرةٍ } أي‪ :‬من صائد ورام يريدها‪،‬‬
‫وحش نفرت فنفر بعضها بعضا‪ ،‬فزاد عدوها‪ { ،‬فَ ّرتْ مِنْ قَ ْ‬
‫أو من أسد ونحوه‪ ،‬وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق‪ ،‬ومع هذا العراض وهذا‬
‫النفور‪ ،‬يدعون الدعاوى الكبار‪.‬‬

‫حفًا مُنَشّ َرةً } نازلة عليه من السماء‪ ،‬يزعم أنه ل ينقاد‬


‫صُ‬‫فـ { يُرِيدُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْن ُهمْ أَنْ ُيؤْتَى ُ‬
‫للحق إل بذلك‪ ،‬وقد كذبوا‪ ،‬فإنهم لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الليم‪ ،‬فإنهم‬
‫جاءتهم اليات البينات التي تبين الحق وتوضحه‪ ،‬فلو كان فيهم خير لمنوا‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬كَلّا } أن‬
‫نعطيهم ما طلبوا‪ ،‬وهم ما قصدوا بذلك إل التعجيز‪َ { ،‬بلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِ َرةَ } فلو كانوا يخافونها‬
‫لما جرى منهم ما جرى‪.‬‬

‫{ كَلّا إِنّهُ تَ ْذكِ َرةٌ } الضمير إما أن يعود على هذه السورة‪ ،‬أو على ما اشتملت عليه [من] هذه‬
‫الموعظة‪َ { ،‬فمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ } لنه قد بين له السبيل‪ ،‬ووضح له الدليل‪.‬‬
‫{ َومَا يَ ْذكُرُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } فإن مشيئته نافذة عامة‪ ،‬ل يخرج عنها حادث قليل ول كثير‪،‬‬
‫ففيها رد على القدرية‪ ،‬الذين ل يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة ال‪ ،‬والجبرية الذين يزعمون أنه‬
‫ليس للعبد مشيئة‪ ،‬ول فعل حقيقة‪ ،‬وإنما هو مجبور على أفعاله‪ ،‬فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة‬
‫وفعل‪ ،‬وجعل ذلك تابعا لمشيئته‪ُ { ،‬هوَ أَ ْهلُ ال ّت ْقوَى وَأَ ْهلُ ا ْل َم ْغفِ َرةِ } أي‪ :‬هو أهل أن يتقى ويعبد‪،‬‬
‫لنه الله الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه‪ .‬تم تفسير سورة‬
‫المدثر ول الحمد‬

‫تفسير سورة القيامة‬


‫[وهي] مكية‬

‫سبُ‬
‫سمُ بِال ّنفْسِ الّلوّامَةِ * أَيَحْ َ‬
‫سمُ بِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ * وَلَا ُأقْ ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ لَا ُأقْ ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 6 - 1‬بِ ْ‬
‫س ّويَ بَنَانَهُ * َبلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِ َيفْجُرَ َأمَامَهُ *‬
‫عظَامَهُ * َبلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُ َ‬
‫جمَعَ ِ‬
‫الْإِنْسَانُ َألّنْ نَ ْ‬
‫يَسَْألُ أَيّانَ َيوْمُ ا ْلقِيَامَةِ }‬

‫ليست { ل } [ها] هنا نافية‪[ ،‬ول زائدة] وإنما أتي بها للستفتاح والهتمام بما بعدها‪ ،‬ولكثرة‬
‫التيان بها مع اليمين‪ ،‬ل يستغرب الستفتاح بها‪ ،‬وإن لم تكن في الصل موضوعة للستفتاح‪.‬‬

‫فالمقسم به في هذا الموضع‪ ،‬هو المقسم عليه‪ ،‬وهو البعث بعد الموت‪ ،‬وقيام الناس من قبورهم‪ ،‬ثم‬
‫وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم‪.‬‬

‫{ وَلَا ُأ ْقسِمُ بِال ّنفْسِ الّلوّامَةِ } وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة‪ ،‬سميت { لوامة } لكثرة ترددها‬
‫وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها‪ ،‬ولنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت ‪ ،‬بل‬
‫نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه‪ ،‬من تفريط أو تقصير في حق من‬
‫الحقوق‪ ،‬أو غفلة‪ ،‬فجمع بين القسام بالجزاء‪ ،‬وعلى الجزاء‪ ،‬وبين مستحق الجزاء‪.‬‬

‫جمَعَ‬
‫سبُ الْإِ ْنسَانُ أن لّنْ َن ْ‬
‫ثم أخبر مع هذا‪ ،‬أن بعض المعاندين يكذب بيوم القيامة‪ ،‬فقال‪ { :‬أَ َيحْ َ‬
‫عِظَامَهُ } بعد الموت‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪ { :‬قَالَ مَنْ يُحْيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ } ؟ فاستبعد‬
‫من جهله وعدوانه قدرة ال على خلق عظامه التي هي عماد البدن‪ ،‬فرد عليه بقوله‪ { :‬بَلَى قَادِرِينَ‬
‫س ّويَ بَنَانَهُ } أي‪ :‬أطراف أصابعه وعظامه‪ ،‬المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن‪،‬‬
‫عَلَى أَنْ نُ َ‬
‫لنها إذا وجدت النامل والبنان‪ ،‬فقد تمت خلقة الجسد‪ ،‬وليس إنكاره لقدرة ال تعالى قصورا‬
‫بالدليل الدال على ذلك‪ ،‬وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب بما أمامه من البعث‪.‬‬
‫والفجور‪ :‬الكذب مع التعمد‪.‬‬

‫ثم ذكر أحوال القيامة فقال‪:‬‬

‫س وَا ْلقَمَرُ * َيقُولُ الْإِ ْنسَانُ َي ْومَئِذٍ‬


‫شمْ ُ‬
‫جمِعَ ال ّ‬
‫سفَ ا ْل َقمَرُ * وَ ُ‬
‫{ ‪ { } 15 - 7‬فَإِذَا بَرِقَ الْ َبصَرُ * وَخَ َ‬
‫أَيْنَ ا ْل َمفَرّ * كَلّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ * يُنَبّأُ الْإِنْسَانُ َي ْومَئِذٍ ِبمَا َقدّ َم وَأَخّرَ * َبلِ‬
‫الْإِنْسَانُ عَلَى َنفْسِهِ َبصِي َرةٌ * وَلَوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ }‬

‫أي‪ :‬إذا كانت القيامة برقت البصار من الهول العظيم‪ ،‬وشخصت فل تطرف كما قال تعالى‪:‬‬
‫س ِهمْ لَا يَرْتَدّ إِلَ ْيهِمْ طَ ْر ُفهُ ْم وََأفْئِدَ ُتهُمْ‬
‫طعِينَ ُمقْ ِنعِي رُءُو ِ‬
‫خصُ فِيهِ الْأَ ْبصَارُ ُمهْ ِ‬
‫شَ‬‫{ إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َي ْومٍ تَ ْ‬
‫َهوَاءٌ }‬

‫س وَا ْل َقمَرُ } وهما لم يجتمعا منذ خلقهما‬


‫شمْ ُ‬
‫جمِعَ ال ّ‬
‫سفَ ا ْل َقمَرُ } أي‪ :‬ذهب نوره وسلطانه‪ { ،‬وَ ُ‬
‫خَ‬‫{ وَ َ‬
‫ال تعالى‪ ،‬فيجمع ال بينهما يوم القيامة‪ ،‬ويخسف القمر‪ ،‬وتكور الشمس‪ ،‬ثم يقذفان في النار‪ ،‬ليرى‬
‫العباد أنهما عبدان مسخران‪ ،‬وليرى من عبدهما أنهم كانوا كاذبين‪.‬‬

‫{ َيقُولُ الْإِ ْنسَانُ } حين يرى تلك القلقل المزعجات‪ { :‬أَيْنَ ا ْل َمفَرّ } أي‪ :‬أين الخلص والفكاك مما‬
‫طرقنا وأصابنا ?‬

‫{ كَلّا لَا وَزَرَ } أي‪ :‬ل ملجأ لحد دون ال‪ { ،‬إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ } لسائر العباد فليس في‬
‫إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع‪ ،‬بل ل بد من إيقافه ليجزى بعمله‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ يُنَبّأُ الْإِنْسَانُ َي ْومَئِذٍ ِبمَا َقدّ َم وَأَخّرَ } أي‪ :‬بجميع عمله الحسن والسيء‪ ،‬في أول وقته وآخره‪ ،‬وينبأ‬
‫بخبر ل ينكره‪.‬‬

‫{ َبلِ الْإِ ْنسَانُ عَلَى َنفْسِهِ َبصِي َرةٌ } أي‪ :‬شاهد ومحاسب‪ { ،‬وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } فإنها معاذير ل‬
‫سكَ الْ َي ْومَ عَلَ ْيكَ‬
‫تقبل‪ ،‬ول تقابل ما يقرر به العبد ‪ ،‬فيقر به‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ‬
‫حسِيبًا } ‪.‬‬
‫َ‬

‫فالعبد وإن أنكر‪ ،‬أو اعتذر عما عمله‪ ،‬فإنكاره واعتذاره ل يفيدانه شيئا‪ ،‬لنه يشهد عليه سمعه‬
‫وبصره‪ ،‬وجميع جوارحه بما كان يعمل‪ ،‬ولن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه‪ { :‬فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُ ْم وَلَا ُهمْ يُسْ َتعْتَبُونَ }‬
‫ج ْمعَ ُه َوقُرْآنَهُ * فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ‬
‫جلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا َ‬
‫{ ‪ { } 19 - 16‬لَا ُتحَ ّركْ بِهِ ِلسَا َنكَ لِ َتعْ َ‬
‫* ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }‬

‫كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي‪ ،‬وشرع في تلوته عليه‪ ،‬بادره النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ‪ ،‬وتله مع تلوة جبريل إياه‪ ،‬فنهاه ال عن هذا‪،‬‬
‫ك وَحْ ُيهُ }‬
‫جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ ُي ْقضَى إِلَ ْي َ‬
‫وقال‪ { :‬وَلَا َتعْ َ‬

‫جلَ بِهِ } ثم ضمن له تعالى أنه ل بد أن يحفظه ويقرأه‪ ،‬ويجمعه‬


‫وقال هنا‪ { :‬لَا ُتحَ ّركْ بِهِ لِسَا َنكَ لِ َتعْ َ‬
‫ج ْمعَ ُه َوقُرْآ َنهُ } فالحرص الذي في خاطرك‪ ،‬إنما الداعي له حذر‬
‫ال في صدره‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ عَلَيْنَا َ‬
‫الفوات والنسيان‪ ،‬فإذا ضمنه ال لك فل موجب لذلك‪.‬‬

‫{ فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ } أي‪ :‬إذا كمل جبريل قراءة ما أوحى ال إليك‪ ،‬فحينئذ اتبع ما قرأه‬
‫وأقرأه‪.‬‬

‫{ ُثمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَا َنهُ } أي‪ :‬بيان معانيه‪ ،‬فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه‪ ،‬وهذا أعلى ما يكون‪،‬‬
‫فامتثل صلى ال عليه وسلم لدب ربه‪ ،‬فكان إذا تل عليه جبريل القرآن بعد هذا‪ ،‬أنصت له‪ ،‬فإذا‬
‫فرغ قرأه‪.‬‬

‫وفي هذه الية أدب لخذ العلم‪ ،‬أن ل يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع‬
‫فيها‪ ،‬فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه‪ ،‬وكذلك إذا كان في أول الكلم ما يوجب الرد أو‬
‫الستحسان‪ ،‬أن ل يبادر برده أو قبوله‪ ،‬حتى يفرغ من ذلك الكلم‪ ،‬ليتبين ما فيه من حق أو‬
‫باطل‪ ،‬وليفهمه فهما يتمكن به من الكلم عليه‪ ،‬وفيها‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كما بين للمة‬
‫ألفاظ الوحي‪ ،‬فإنه قد بين لهم معانيه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 25 - 20‬كَلّا َبلْ تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِ َرةَ * ُوجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ * ِإلَى رَ ّبهَا‬
‫نَاظِ َرةٌ * َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ * تَظُنّ أَنْ ُيفْ َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ }‬

‫أي‪ :‬هذا الذي أوجب لكم الغفلة والعراض عن وعظ ال وتذكيره أنكم { تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَةَ }‬
‫وتسعون فيما يحصلها‪ ،‬وفي لذاتها وشهواتها‪ ،‬وتؤثرونها على الخرة‪ ،‬فتذرون العمل لها‪ ،‬لن‬
‫الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة‪ ،‬والنسان مولع بحب العاجل‪ ،‬والخرة متأخر ما فيها من النعيم‬
‫المقيم‪ ،‬فلذلك غفلتم عنها وتركتموها‪ ،‬كأنكم لم تخلقوا لها‪ ،‬وكأن هذه الدار هي دار القرار‪ ،‬التي‬
‫تبذل فيها نفائس العمار‪ ،‬ويسعى لها آناء الليل والنهار‪ ،‬وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة‪ ،‬وحصل من‬
‫الخسار ما حصل‪ .‬فلو آثرتم الخرة على الدنيا‪ ،‬ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لنجحتم‪،‬‬
‫وربحتم ربحا ل خسار معه‪ ،‬وفزتم فوزا ل شقاء يصحبه‪.‬‬

‫ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الخرة‪ ،‬ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها‪ ،‬فقال في جزاء المؤثرين للخرة‬
‫على الدنيا‪ { :‬وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ } أي‪ :‬حسنة بهية‪ ،‬لها رونق ونور‪ ،‬مما هم فيه من نعيم‬
‫القلوب‪ ،‬وبهجة النفوس‪ ،‬ولذة الرواح‪ { ،‬إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ } أي‪ :‬تنظر إلى ربها على حسب‬
‫مراتبهم‪ :‬منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا‪ ،‬ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة‪ ،‬فيتمتعون‬
‫بالنظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬وجماله الباهر‪ ،‬الذي ليس كمثله شيء‪ ،‬فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من‬
‫النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما ل يمكن التعبير عنه‪ ،‬ونضرت وجوههم فازدادوا جمال‬
‫إلى جمالهم‪ ،‬فنسأل ال الكريم أن يجعلنا معهم‪.‬‬

‫وقال في المؤثرين العاجلة على الجلة‪َ { :‬ووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ } أي‪ :‬معبسة ومكدرة ‪ ،‬خاشعة‬
‫ذليلة‪َ { .‬تظُنّ أَنْ ُي ْف َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ } أي‪ :‬عقوبة شديدة‪ ،‬وعذاب أليم‪ ،‬فلذلك تغيرت وجوههم‬
‫وعبست‪.‬‬

‫{ ‪ { } 40 - 26‬كَلّا ِإذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيَ * َوقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ * وَالْتَ ّفتِ السّاقُ‬
‫ق وَلَا صَلّى * وََلكِنْ كَ ّذبَ وَتَوَلّى * ثُمّ ذَ َهبَ إِلَى أَهِْلهِ‬
‫بِالسّاقِ * إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمَسَاقُ * فَلَا صَدّ َ‬
‫طفَةً‬
‫سبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى * أَلَمْ َيكُ ُن ْ‬
‫يَ َتمَطّى * َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى * ُثمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى * أَ َيحْ َ‬
‫ج َعلَ مِنْهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى * أَلَ ْيسَ ذَِلكَ‬
‫سوّى * فَ َ‬
‫مِنْ مَ ِنيّ ُيمْنَى * ثُمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ‬
‫ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى }‬

‫يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق ‪ ،‬وأنه إذا بلغت روحه التراقي‪ ،‬وهي العظام‬
‫المكتنفة لثغرة النحر‪ ،‬فحينئذ يشتد الكرب‪ ،‬ويطلب كل وسيلة وسبب‪ ،‬يظن أن يحصل به الشفاء‬
‫والراحة‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬وقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي‪ :‬من يرقيه من الرقية لنهم انقطعت آمالهم من‬
‫السباب العادية‪ ،‬فلم يبق إل السباب اللهية ‪ .‬ولكن القضاء والقدر‪ ،‬إذا حتم وجاء فل مرد له‪{ ،‬‬
‫وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ } للدنيا‪ { .‬وَالْ َتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ } أي‪ :‬اجتمعت الشدائد والتفت‪ ،‬وعظم المر‬
‫وصعب الكرب‪ ،‬وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه‪ ،‬فتساق إلى ال تعالى‪،‬‬
‫حتى يجازيها بأعمالها‪ ،‬ويقررها بفعالها‪.‬‬

‫فهذا الزجر‪[ ،‬الذي ذكره ال] يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها‪ ،‬ويزجرها عما فيه هلكها‪ .‬ولكن‬
‫المعاند الذي ل تنفع فيه اليات‪ ،‬ل يزال مستمرا على بغيه وكفره وعناده‪.‬‬
‫صدّقَ } أي‪ :‬ل آمن بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر والقدر خيره وشره { وَلَا‬
‫{ فَلَا َ‬
‫صَلّى وََلكِنْ كَ ّذبَ } بالحق في مقابلة التصديق‪ { ،‬وَ َتوَلّى } عن المر والنهي‪ ،‬هذا وهو مطمئن‬
‫قلبه‪ ،‬غير خائف من ربه‪ ،‬بل يذهب { إِلَى أَهْلِهِ يَ َتمَطّى } أي‪ :‬ليس على باله شيء‪ ،‬توعده بقوله‪:‬‬
‫{ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى ُثمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } وهذه كلمات وعيد‪ ،‬كررها لتكرير وعيده‪ ،‬ثم ذكر النسان‬
‫سدًى } أي‪ :‬معطل ‪ ،‬ل يؤمر ول ينهى‪ ،‬ول‬
‫سبُ الْإِ ْنسَانُ أَنْ يُتْ َركَ ُ‬
‫بخلقه الول‪ ،‬فقال‪ { :‬أَ َيحْ َ‬
‫يثاب ول يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن بال بغير ما يليق بحكمته‪.‬‬

‫طفَةً مِنْ مَنِيّ ُيمْنَى ثُمّ كَانَ } بعد المني { عََلقَةً } أي‪ :‬دما‪َ { ،‬فخَلَقَ } ال منها الحيوان‬
‫{ أََلمْ َيكُ ُن ْ‬
‫ج َعلَ مِ ْنهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى َألَيْسَ ذَِلكَ } الذي خلق النسان‬
‫وسواه أي‪ :‬أتقنه وأحكمه‪َ { ،‬ف َ‬
‫[وطوره إلى] هذه الطوار المختلفة { ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } بلى إنه على كل شيء قدير‪.‬‬
‫تم تفسير سورة القيامة‪ ،‬ول الحمد والمنة‪ ،‬وذلك في ‪ 16‬صفر سنة ‪1344‬‬

‫المجلد التاسع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى ال‪ :‬عبد الرحمن بن‬
‫ناصر بن عبد ال السعدي غفر ال له ولوالديه وللمسلمين آمين‪.‬‬

‫تفسير سورة هل أتى على‬


‫النسان وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ َهلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَمْ َيكُنْ شَيْئًا مَ ْذكُورًا‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫سمِيعًا َبصِيرًا * إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ ِإمّا شَاكِرًا‬
‫جعَلْنَاهُ َ‬
‫طفَةٍ َأمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَ َ‬
‫* إِنّا خََلقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ ُن ْ‬
‫وَِإمّا َكفُورًا }‬

‫ذكر ال في هذه السورة الكريمة أول حالة النسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها‪.‬‬

‫فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده‪ ،‬وهو معدوم بل ليس مذكورا‪.‬‬

‫طفَةٍ َأمْشَاجٍ }‬
‫ثم لما أراد ال تعالى خلقه‪ ،‬خلق [أباه] آدم من طين‪ ،‬ثم جعل نسله متسلسل { مِنْ ُن ْ‬
‫أي‪ :‬ماء مهين مستقذر { نَبْتَلِيهِ } بذلك لنعلم هل يرى حاله الولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره‬
‫نفسه؟‬

‫فأنشأه ال‪ ،‬وخلق له القوى الباطنة والظاهرة‪ ،‬كالسمع والبصر‪ ،‬وسائر العضاء‪ ،‬فأتمها له‬
‫وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده‪.‬‬
‫ثم أرسل إليه الرسل‪ ،‬وأنزل عليه الكتب‪ ،‬وهداه الطريق الموصلة إلى ال ‪ ،‬ورغبه فيها‪ ،‬وأخبره‬
‫بما له عند الوصول إلى ال‪.‬‬

‫ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلك‪ ،‬ورهبه منها‪ ،‬وأخبره بما له إذا سلكها‪ ،‬وابتله بذلك‪،‬‬
‫فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة ال عليه‪ ،‬قائم بما حمله ال من حقوقه‪ ،‬وإلى كفور لنعمة ال عليه‪،‬‬
‫أنعم ال عليه بالنعم الدينية والدنيوية‪ ،‬فردها‪ ،‬وكفر بربه‪ ،‬وسلك الطريق الموصلة إلى الهلك‪.‬‬

‫ثم ذكر تعالى حال الفريقين عند الجزاء فقال‪:‬‬

‫سعِيرًا * إِنّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ‬


‫{ ‪ { } 22 - 4‬إِنّا أَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَ َ‬
‫جهَا كَافُورًا }‬
‫مِزَا ُ‬

‫إلى آخر الثواب أي‪ :‬إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بال‪ ،‬وكذب رسله‪ ،‬وتجرأ على المعاصي‬
‫عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ }‪.‬‬
‫سلَ } في نار جهنم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬ثُمّ فِي سِ ْلسِلَةٍ ذَرْ ُ‬
‫{ سَلَا ِ‬

‫{ وَأَغْلَالًا } تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها‪.‬‬

‫جتْ جُلُو ُدهُمْ َبدّلْنَاهُمْ‬


‫سعِيرًا } أي‪ :‬نارا تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم‪ { ،‬كُّلمَا َنضِ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫جُلُودًا غَيْرَهَا لِ َيذُوقُوا ا ْلعَذَابَ } وهذا العذاب دائم لهم أبدا‪ ،‬مخلدون فيه سرمدا‪.‬‬

‫وأما { الْأَبْرَارِ } وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة ال ومعرفته‪ ،‬والخلق الجميلة‪ ،‬فبرت‬
‫جوارحهم ‪ ،‬واستعملوها بأعمال البر أخبر أنهم { يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ } أي‪ :‬شراب لذيذ من خمر‬
‫قد مزج بكافور أي‪ :‬خلط به ليبرده ويكسر حدته‪ ،‬وهذا الكافور [في غاية اللذة] قد سلم من كل‬
‫مكدر ومنغص‪ ،‬موجود في كافور الدنيا‪ ،‬فإن الفة الموجودة في السماء التي ذكر ال أنها في‬
‫الجنة وهي في الدنيا تعدم في الخرة ‪.‬‬

‫طهّ َرةٌ } { َل ُهمْ دَارُ السّلَامِ عِنْدَ‬


‫خضُو ٍد وَطَلْحٍ مَ ْنضُودٍ } { وَأَ ْزوَاجٌ مُ َ‬
‫سدْرٍ مَ ْ‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬فِي ِ‬
‫رَ ّبهِمْ } { َوفِيهَا مَا تَشْ َتهِيهِ الْأَ ْنفُسُ وَتَلَذّ الْأَعْيُنُ }‪.‬‬

‫{ عَيْنًا َيشْ َربُ ِبهَا عِبَادُ اللّهِ } أي‪ :‬ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به‪ ،‬ل يخافون نفاده‪ ،‬بل له مادة‬
‫ل تنقطع‪ ،‬وهي عين دائمة الفيضان والجريان‪ ،‬يفجرها عباد ال تفجيرا‪ ،‬أنى شاءوا‪ ،‬وكيف‬
‫أرادوا‪ ،‬فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات‪ ،‬أو إلى الرياض الناضرات‪ ،‬أو بين جوانب‬
‫القصور والمساكن المزخرفات‪ ،‬أو إلى أي‪ :‬جهة يرونها من الجهات المونقات‪.‬‬
‫وقد ذكر جملة من أعمالهم في أول هذه السورة‪ ،‬فقال‪ { :‬يُوفُونَ بِالنّذْرِ } أي‪ :‬بما ألزموا به‬
‫أنفسهم ل من النذور والمعاهدات‪ ،‬وإذا كانوا يوفون بالنذر‪ ،‬وهو لم يجب عليهم‪ ،‬إل بإيجابهم‬
‫على أنفسهم‪ ،‬كان فعلهم وقيامهم بالفروض الصلية‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪ { ،‬وَيَخَافُونَ َي ْومًا كَانَ‬
‫شَ ّرهُ مُسْ َتطِيرًا } أي‪ :‬منتشرا فاشيا‪ ،‬فخافوا أن ينالهم شره‪ ،‬فتركوا كل سبب موجب لذلك‪،‬‬
‫طعَامَ عَلَى حُبّهِ } أي‪ :‬وهم في حال يحبون فيها المال والطعام‪ ،‬لكنهم قدموا محبة‬
‫ط ِعمُونَ ال ّ‬
‫{ وَيُ ْ‬
‫سكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ‪.‬‬
‫ال على محبة نفوسهم‪ ،‬ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم { مِ ْ‬

‫ط ِع ُمكُمْ ِلوَجْهِ اللّهِ لَا‬


‫ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم وجه ال تعالى‪ ،‬ويقولون بلسان الحال‪ { :‬إِ ّنمَا نُ ْ‬
‫شكُورًا } أي‪ :‬ل جزاء ماليا ول ثناء قوليا‪.‬‬
‫نُرِيدُ مِ ْنكُمْ جَزَاءً وَلَا ُ‬

‫{ إِنّا نَخَافُ مِنْ رَبّنَا َي ْومًا عَبُوسًا } أي‪ :‬شديد الجهمة والشر { َق ْمطَرِيرًا } أي‪ :‬ضنكا ضيقا‪،‬‬
‫{ َف َوقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَِلكَ الْ َيوْمِ } فل يحزنهم الفزع الكبر‪ ،‬وتتلقاهم الملئكة [هذا يومكم الذي كنتم‬
‫توعدون]‪.‬‬

‫{ وََلقّاهُمْ } أي‪ :‬أكرمهم وأعطاهم { َنضْ َرةً } في وجوههم { وَسُرُورًا } في قلوبهم‪ ،‬فجمع لهم بين‬
‫نعيم الظاهر والباطن { وَجَزَاهُمْ ِبمَا صَبَرُوا } على طاعة ال‪ ،‬فعملوا ما أمكنهم منها‪ ،‬وعن‬
‫معاصي ال‪ ،‬فتركوها‪ ،‬وعلى أقدار ال المؤلمة‪ ،‬فلم يتسخطوها‪ { ،‬جَنّةً } جامعة لكل نعيم‪ ،‬سالمة‬
‫سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولعل ال إنما خص‬
‫من كل مكدر ومنغص‪ { ،‬وَحَرِيرًا } كما قال [تعالى‪ { ]:‬وَلِبَا ُ‬
‫الحرير‪ ،‬لنه لباسهم الظاهر‪ ،‬الدال على حال صاحبه‪.‬‬

‫{ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ } التكاء‪ :‬التمكن من الجلوس‪ ،‬في حال الرفاهية والطمأنينة [الراحة]‪،‬‬
‫شمْسًا } يضرهم‬
‫والرائك هي السرر التي عليها اللباس المزين‪ { ،‬لَا يَ َروْنَ فِيهَا } أي‪ :‬في الجنة { َ‬
‫حرها { وَلَا َز ْمهَرِيرًا } أي‪ :‬بردا شديدا‪ ،‬بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل‪ ،‬ل حر ول برد‪ ،‬بحيث‬
‫تلتذ به الجساد‪ ،‬ول تتألم من حر ول برد‪.‬‬

‫{ وَدَانِ َيةً عَلَ ْيهِمْ ظِلَاُلهَا وَذُلَّلتْ ُقطُو ُفهَا َتذْلِيلًا } أي‪ :‬قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها‪ ،‬وهو‬
‫قائم‪ ،‬أو قاعد‪ ،‬أو مضطجع‪.‬‬

‫ويطاف على أهل الجنة أي‪ :‬يدور [عليهم] الخدم والولدان { بِآنِ َيةٍ مِنْ ِفضّ ٍة وََأ ْكوَابٍ كَا َنتْ‬
‫َقوَارِيرَا } { َقوَارِيرَ مِنْ ِفضّةٍ } أي‪ :‬مادتها من فضة‪[ ،‬وهي] على صفاء القوارير‪ ،‬وهذا من‬
‫أعجب الشياء‪ ،‬أن تكون الفضة الكثيفة من صفاء جوهرها وطيب معدنها على صفاء القوارير‪.‬‬
‫{ َقدّرُوهَا َتقْدِيرًا } أي‪ :‬قدروا الواني المذكورة على قدر ريهم‪ ،‬ل تزيد ول تنقص‪ ،‬لنها لو‬
‫زادت نقصت لذتها‪ ،‬ولو نقصت لم تف بريهم ‪ .‬ويحتمل أن المراد‪ :‬قدرها أهل الجنة بنفوسهم‬
‫بمقدار يوافق لذاتهم‪ ،‬فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم‪.‬‬

‫جهَا }‬
‫س َقوْنَ فِيهَا } أي‪ :‬في الجنة من كأس‪ ،‬وهو الناء المملوء من خمر ورحيق‪ { ،‬كَانَ مِزَا ُ‬
‫{ وَيُ ْ‬
‫أي‪ :‬خلطها { زَ ْنجَبِيلًا } ليطيب طعمه وريحه‪.‬‬

‫سمّى سَلْسَبِيلًا } سميت بذلك لسلستها ولذتها وحسنها‪.‬‬


‫{ عَيْنًا فِيهَا } أي‪ :‬في الجنة‪ُ { ،‬ت َ‬

‫{ وَيَطُوفُ } على أهل الجنة‪ ،‬في طعامهم وشرابهم وخدمتهم‪.‬‬

‫{ وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ } أي‪ :‬خلقوا من الجنة للبقاء‪ ،‬ل يتغيرون ول يكبرون‪ ،‬وهم في غاية الحسن‪،‬‬
‫حسِبْ َتهُمْ } من حسنهم { ُلؤُْلؤًا مَنْثُورًا } وهذا من تمام لذة‬
‫{ ِإذَا رَأَيْ َتهُمْ } منتشرين في خدمتهم { َ‬
‫أهل الجنة‪ ،‬أن يكون خدامهم الولدان المخلدون‪ ،‬الذين تسر رؤيتهم‪ ،‬ويدخلون على مساكنهم‪ ،‬آمنين‬
‫من تبعتهم‪ ،‬ويأتونهم بما يدعون وتطلبه نفوسهم‪ { ،‬وَإِذَا رَأَ ْيتَ َثمّ } أي‪ :‬هناك في الجنة‪ ،‬ورمقت‬
‫ما هم فيه من النعيم { رَأَ ْيتَ َنعِيمًا َومُلْكًا كَبِيرًا } فتجد الواحد منهم‪ ،‬عنده من القصور والمساكن‬
‫والغرف المزينة المزخرفة‪ ،‬ما ل يدركه الوصف‪ ،‬ولديه من البساتين الزاهرة‪ ،‬والثمار الدانية‪،‬‬
‫والفواكه اللذيذة‪ ،‬والنهار الجارية‪ ،‬والرياض المعجبة‪ ،‬والطيور المطربة [المشجية] ما يأخذ‬
‫بالقلوب‪ ،‬ويفرح النفوس‪.‬‬

‫وعنده من الزوجات‪ .‬اللتي هن في غاية الحسن والحسان‪ ،‬الجامعات لجمال الظاهر والباطن‪،‬‬
‫الخيرات الحسان‪ ،‬ما يمل القلب سرورا‪ ،‬ولذة وحبورا‪ ،‬وحوله من الولدان المخلدين‪ ،‬والخدم‬
‫المؤبدين‪ ،‬ما به تحصل الراحة والطمأنينة‪ ،‬وتتم لذة العيش‪ ،‬وتكمل الغبطة‪.‬‬

‫ثم علوة ذلك وأعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم‪ ،‬وسماع خطابه‪ ،‬ولذة قربه‪ ،‬والبتهاج برضاه‪،‬‬
‫والخلود الدائم‪ ،‬وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين‪ ،‬فسبحان الملك المالك‪ ،‬الحق المبين‪،‬‬
‫الذي ل تنفد خزائنه‪ ،‬ول يقل خيره‪ ،‬فكما ل نهاية لوصافه فل نهاية لبره وإحسانه‪.‬‬

‫خضْرٌ } أي‪ :‬قد جللتهم ثياب السندس والستبرق الخضران‪ ،‬اللذان هما‬
‫{ عَالِ َي ُهمْ ثِيَابُ سُنْ ُدسٍ ُ‬
‫أجل أنواع الحرير‪ ،‬فالسندس‪ :‬ما غلظ من الديباج والستبرق‪ :‬ما رق منه‪ { .‬وَحُلّوا أَسَاوِرَ مِنْ‬
‫ِفضّةٍ } أي‪ :‬حلوا في أيديهم أساور الفضة‪ ،‬ذكورهم وإناثهم‪ ،‬وهذا وعد وعدهم ال‪ ،‬وكان وعده‬
‫مفعول‪ ،‬لنه ل أصدق منه قيل ول حديثا‪.‬‬
‫طهُورًا } أي‪ :‬ل كدر فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬مطهرا لما في بطونهم‬
‫سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ شَرَابًا َ‬
‫وقوله‪ { :‬وَ َ‬
‫من كل أذى وقذى‪.‬‬

‫{ إِنّ هَذَا } الجزاء الجزيل والعطاء الجميل { كَانَ َل ُكمْ جَزَاءً } على ما أسلفتموه من العمال‪،‬‬
‫شكُورًا } أي‪ :‬القليل منه‪ ،‬يجعل ال لكم به من النعيم المقيم ما ل يمكن حصره‪.‬‬
‫سعْ ُيكُمْ مَ ْ‬
‫{ َوكَانَ َ‬

‫وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة { إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ تَنْزِيلًا } فيه الوعد والوعيد وبيان كل‬
‫ما يحتاجه العباد‪ ،‬وفيه المر بالقيام بأوامره وشرائعه أتم القيام‪ ،‬والسعي في تنفيذها‪ ،‬والصبر على‬
‫حكْمِ رَ ّبكَ وَلَا تُطِعْ مِ ْن ُهمْ آ ِثمًا َأوْ َكفُورًا } أي‪ :‬اصبر لحكمه القدري‪،‬‬
‫ذلك‪ .‬ولهذا قال‪ { :‬فَاصْبِرْ لِ ُ‬
‫فل تسخطه‪ ،‬ولحكمه الديني‪ ،‬فامض عليه‪ ،‬ول يعوقك عنه عائق‪ { .‬وَلَا تُطِعْ } من المعاندين‪،‬‬
‫الذين يريدون أن يصدوك { آ ِثمًا } أي‪ :‬فاعل إثما ومعصية ول { َكفُورًا } فإن طاعة الكفار‬
‫والفجار والفساق‪ ،‬ل بد أن تكون في المعاصي‪ ،‬فل يأمرون إل بما تهواه أنفسهم‪ .‬ولما كان‬
‫الصبر يساعده القيام بعبادة ال ‪ ،‬والكثار من ذكره أمره ال بذلك فقال‪ { :‬وَا ْذكُرِ اسْمَ رَ ّبكَ ُبكْ َرةً‬
‫وََأصِيلًا } أي‪ :‬أول النهار وآخره‪ ،‬فدخل في ذلك‪ ،‬الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل‪،‬‬
‫والذكر‪ ،‬والتسبيح‪ ،‬والتهليل‪ ،‬والتكبير في هذه الوقات‪.‬‬

‫سجُدْ َلهُ } أي‪ :‬أكثر [له] من السجود‪ ،‬ول يكون ذلك إل بالكثار من الصلة ‪.‬‬
‫{ َومِنَ اللّ ْيلِ فَا ْ‬
‫طوِيلًا } وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله‪ { :‬يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ ُقمِ اللّ ْيلَ إِلّا قَلِيلًا } الية‬
‫{ وَسَبّحْهُ لَيْلًا َ‬
‫[وقوله] { إِنّ َهؤُلَاءِ } أي‪ :‬المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم اليات‪ ،‬ورغبوا ورهبوا‪،‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬لم يفد فيهم ذلك شيئا‪ ،‬بل ل يزالون يؤثرون‪ { ،‬ا ْلعَاجَِلةَ } ويطمئنون إليها‪ { ،‬وَيَذَرُونَ }‬
‫أي‪ :‬يتركون العمل ويهملون { وَرَاءَ ُهمْ } أي‪ :‬أمامهم { َي ْومًا َثقِيلًا } وهو يوم القيامة‪ ،‬الذي مقداره‬
‫عسِرٌ } فكأنهم ما خلقوا إل‬
‫خمسون ألف سنة مما تعدون‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬يقُولُ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا َيوْمٌ َ‬
‫للدنيا والقامة فيها‪.‬‬

‫خَلقْنَاهُمْ } أي‪:‬‬
‫{ ‪ } 28‬ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي‪ ،‬وهو دليل البتداء‪ ،‬فقال‪َ { :‬نحْنُ َ‬
‫أوجدناهم من العدم‪ { ،‬وَشَ َددْنَا أَسْرَ ُهمْ } أي‪ :‬أحكمنا خلقتهم بالعصاب‪ ،‬والعروق‪ ،‬والوتار‪،‬‬
‫والقوى الظاهرة والباطنة‪ ،‬حتى تم الجسم واستكمل‪ ،‬وتمكن من كل ما يريده‪ ،‬فالذي أوجدهم على‬
‫هذه الحالة‪ ،‬قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم‪ ،‬والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الطوار‪،‬‬
‫ل يليق به أن يتركهم سدى‪ ،‬ل يؤمرون‪ ،‬ول ينهون‪ ،‬ول يثابون‪ ،‬ول يعاقبون‪ ،‬ولهذا قال‪َ { :‬بدّلْنَا‬
‫َأمْثَاَلهُمْ تَ ْبدِيلًا } أي‪ :‬أنشأناكم للبعث نشأة أخرى‪ ،‬وأعدناكم بأعيانكم‪ ،‬وهم بأنفسهم أمثالهم‪ { .‬إِنّ‬
‫هَ ِذهِ َت ْذكِ َرةٌ } أي‪ :‬يتذكر بها المؤمن‪ ،‬فينتفع بما فيها من التخويف والترغيب‪َ { .‬فمَنْ شَاءَ اتّخَذَ إِلَى‬
‫رَبّهِ سَبِيلًا } أي‪ :‬طريقا موصل إليه‪ ،‬فال يبين الحق والهدى‪ ،‬ثم يخير الناس بين الهتداء بها أو‬
‫النفور عنها‪ ،‬مع قيام الحجة عليهم ‪َ { ،‬ومَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } فإن مشيئة ال نافذة‪ { ،‬إِنّ‬
‫خلُ مَنْ يَشَاءُ فِي‬
‫حكِيمًا } فله الحكمة في هداية المهتدي‪ ،‬وإضلل الضال‪ُ { .‬يدْ ِ‬
‫علِيمًا َ‬
‫اللّهَ كَانَ َ‬
‫حمَتِهِ } فيختصه بعنايته‪ ،‬ويوفقه لسباب السعادة ويهديه لطرقها‪ { .‬وَالظّاِلمِينَ } الذين اختاروا‬
‫رَ ْ‬
‫الشقاء على الهدى { أَعَدّ َلهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [بظلمهم وعدوانهم]‪ .‬تم تفسير سورة النسان ‪ -‬ول‬
‫الحمد والمنة‬

‫تفسير سورة المرسلت‬


‫وهي مكية‬

‫عصْفًا وَالنّاشِرَاتِ َنشْرًا‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ وَا ْلمُرْسَلَاتِ عُ ْرفًا * فَا ْلعَاصِفَاتِ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 15 - 1‬بِ ْ‬
‫ستْ *‬
‫طمِ َ‬
‫فَا ْلفَا ِرقَاتِ فَ ْرقًا * فَا ْلمُ ْلقِيَاتِ ِذكْرًا * عُذْرًا َأوْ نُذْرًا * إِ ّنمَا تُوعَدُونَ َلوَاقِعٌ * فَإِذَا النّجُومُ ُ‬
‫صلِ *‬
‫سلُ ُأقّ َتتْ * لَِأيّ َيوْمٍ ُأجَّلتْ * لِ َيوْمِ ا ْل َف ْ‬
‫سفَتْ * وَإِذَا الرّ ُ‬
‫جتْ * وَِإذَا الْجِبَالُ ُن ِ‬
‫سمَاءُ فُرِ َ‬
‫وَإِذَا ال ّ‬
‫صلِ * وَيْلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬
‫َومَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ ا ْل َف ْ‬

‫أقسم تعالى على البعث والجزاء بالعمال ‪ ،‬بالمرسلت عرفا‪ ،‬وهي الملئكة التي يرسلها ال‬
‫تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم‪ ،‬وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله‪.‬‬

‫و { عُ ْرفًا } حال من المرسلت أي‪ :‬أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة‪ ،‬ل بالنكر والعبث‪.‬‬

‫صفًا } وهي [أيضا] الملئكة التي يرسلها ال تعالى وصفها بالمبادرة لمره‪،‬‬
‫ع ْ‬
‫صفَاتِ َ‬
‫{ فَا ْلعَا ِ‬
‫وسرعة تنفيذ أوامره‪ ،‬كالريح العاصف‪ ،‬أو‪ :‬أن العاصفات‪ ،‬الرياح الشديدة‪ ،‬التي يسرع هبوبها‪.‬‬

‫{ وَالنّاشِرَاتِ َنشْرًا } يحتمل أنها الملئكة ‪ ،‬تنشر ما دبرت على نشره‪ ،‬أو أنها السحاب التي‬
‫ينشر بها ال الرض‪ ،‬فيحييها بعد موتها‪.‬‬

‫{ فَا ْلمُ ْلقِيَاتِ ِذكْرًا } هي الملئكه تلقي أشرف الوامر‪ ،‬وهو الذكر الذي يرحم ال به عباده‪،‬‬
‫ويذكرهم فيه منافعهم ومصالحهم‪ ،‬تلقيه إلى الرسل‪.‬‬

‫عذْرًا َأوْ نُذْرًا } أي‪ :‬إعذارا وإنذارا للناس‪ ،‬تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف وتقطع معذرتهم‬
‫{ ُ‬
‫‪ ،‬فل يكون لهم حجة على ال‪.‬‬
‫{ إِ ّنمَا تُوعَدُونَ } من البعث والجزاء على العمال { َلوَاقِعٌ } أي‪ :‬متحتم وقوعه‪ ،‬من غير شك ول‬
‫ارتياب‪.‬‬

‫فإذا وقع حصل من التغير للعالم والهوال الشديدة ما يزعج القلوب‪ ،‬وتشتد له الكروب‪ ،‬فتنطمس‬
‫النجوم أي‪ :‬تتناثر وتزول عن أماكنها وتنسف الجبال‪ ،‬فتكون كالهباء المنثور‪ ،‬وتكون هي‬
‫والرض قاعا صفصفا‪ ،‬ل ترى فيها عوجا ول أمتا‪ ،‬وذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل‪،‬‬
‫وأجلت للحكم بينها وبين أممها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ لَِأيّ َيوْمٍ أُجَّلتْ } استفهام للتعظيم والتفخيم والتهويل‪.‬‬

‫صلِ } [أي‪ ]:‬بين الخلئق‪ ،‬بعضهم لبعض‪ ،‬وحساب كل منهم منفردا‪ ،‬ثم‬
‫ثم أجاب بقوله‪ { :‬لِ َيوْمِ ا ْل َف ْ‬
‫توعد المكذب بهذا اليوم فقال‪ { :‬وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ ِل ْل ُمكَذّبِينَ } أي‪ :‬يا حسرتهم‪ ،‬وشدة عذابهم‪ ،‬وسوء‬
‫منقلبهم‪ ،‬أخبرهم ال‪ ،‬وأقسم لهم‪ ،‬فلم يصدقوه‪ ،‬فاستحقوا العقوبة البليغة‪.‬‬

‫{ ‪ { } 19 - 16‬أََلمْ ُنهِْلكِ الَْأوّلِينَ * ثُمّ نُتْ ِب ُعهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَِلكَ َن ْف َعلُ بِا ْل ُمجْ ِرمِينَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ‬
‫لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬

‫أي‪ :‬أما أهلكنا المكذبين السابقين‪ ،‬ثم نتبعهم بإهلك من كذب من الخرين‪ ،‬وهذه سنته السابقة‬
‫واللحقة في كل مجرم ل بد من عذابه ‪ ،‬فلم ل تعتبرون بما ترون وتسمعون؟‬

‫{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } بعدما شاهدوا من اليات البينات‪ ،‬والعقوبات والمثلت‪.‬‬

‫جعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ َمكِينٍ * ِإلَى َقدَرٍ َمعْلُومٍ * َفقَدَرْنَا‬


‫{ ‪ { } 24- 20‬أَلَمْ َنخُْل ْقكُمْ مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ * َف َ‬
‫فَ ِنعْمَ ا ْلقَادِرُونَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬

‫أي‪ :‬أما خلقناكم أيها الدميون { مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ } أي‪ :‬في غاية الحقارة‪ ،‬خرج من بين الصلب‬
‫والترائب‪ ،‬حتى جعله ال { فِي قَرَارٍ َمكِينٍ } وهو الرحم‪ ،‬به يستقر وينمو‪.‬‬

‫{ إِلَى َقدَرٍ َمعْلُومٍ } ووقت مقدر‪.‬‬

‫{ َفقَدَرْنَا } أي‪ :‬قدرنا ودبرنا ذلك الجنين‪ ،‬في تلك الظلمات‪ ،‬ونقلناه من النطفة إلى العلقة‪ ،‬إلى‬
‫المضغة‪ ،‬إلى أن جعله ال جسدا‪ ،‬ثم نفخ فيه الروح‪ ،‬ومنهم من يموت قبل ذلك‪.‬‬

‫{ فَ ِنعْمَ ا ْلقَادِرُونَ } [يعني بذلك نفسه المقدسة] حيث كان قدرا تابعا للحكمة‪ ،‬موافق للحمد ‪.‬‬
‫{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } بعدما بين ال لهم اليات‪ ،‬وأراهم العبر والبينات‪.‬‬

‫سيَ شَامِخَاتٍ‬
‫جعَلْنَا فِيهَا َروَا ِ‬
‫ج َعلِ الْأَ ْرضَ ِكفَاتًا * أَحْيَاءً وََأمْوَاتًا * َو َ‬
‫{ ‪ { } 28 - 25‬أََلمْ نَ ْ‬
‫سقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬
‫وَأَ ْ‬

‫أي‪ :‬أما امتننا عليكم وأنعمنا‪ ،‬بتسخير الرض لمصالحكم‪ ،‬فجعلناها { ِكفَاتًا } لكم‪.‬‬

‫{ َأحْيَاءً } في الدور‪ { ،‬وََأ ْموَاتًا } في القبور‪ ،‬فكما أن الدور والقصور من نعم ال على عباده‬
‫ومنته‪ ،‬فكذلك القبور‪ ،‬رحمة في حقهم‪ ،‬وسترا لهم‪ ،‬عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها‪.‬‬

‫سيَ } أي‪ :‬جبال ترسي الرض‪ ،‬لئل تميد بأهلها‪ ،‬فثبتها ال بالجبال الراسيات‬
‫جعَلْنَا فِيهَا َروَا ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫سقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } أي‪ :‬عذبا زلل‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬أفَرَأَيْ ُتمُ‬
‫الشامخات أي‪ :‬الطوال العراض‪ { ،‬وَأَ ْ‬
‫شكُرُونَ‬
‫جعَلْنَاهُ ُأجَاجًا فََلوْلَا َت ْ‬
‫ا ْلمَاءَ الّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْ ُتمْ أَنْزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنْزِلُونَ َلوْ نَشَاءُ َ‬
‫}‬

‫{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } مع ما أراهم ال من النعم التي انفرد ال بها‪ ،‬واختصهم بها‪ ،‬فقابلوها‬
‫بالتكذيب‪.‬‬

‫ش َعبٍ * لَا ظَلِيلٍ‬


‫ظلّ ذِي ثَلَاثِ ُ‬
‫{ ‪ { } 34 - 29‬ا ْنطَِلقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ ِبهِ ُتكَذّبُونَ * ا ْنطَِلقُوا إِلَى ِ‬
‫صفْرٌ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ ِل ْل ُمكَذّبِينَ }‬
‫جمَالَ ٌة ُ‬
‫وَلَا ُيغْنِي مِنَ الّل َهبِ * إِ ّنهَا تَ ْرمِي بِشَرَرٍ كَا ْل َقصْرِ * كَأَنّهُ ِ‬

‫هذا من الويل الذي أعد [للمجرمين] للمكذبين‪ ،‬أن يقال لهم يوم القيامة‪ { :‬انْطَِلقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ ِبهِ‬
‫ش َعبٍ } أي‪ :‬إلى ظل نار جهنم‪ ،‬التي‬
‫ظلّ ذِي ثَلَاثِ ُ‬
‫ُتكَذّبُونَ } ثم فسر ذلك بقوله‪ { :‬ا ْنطَِلقُوا ِإلَى ِ‬
‫تتمايز في خلله ثلث شعب أي‪ :‬قطع من النار أي‪ :‬تتعاوره وتتناوبه وتجتمع به‪.‬‬

‫{ لَا ظَلِيلٍ } ذلك الظل أي‪ :‬ل راحة فيه ول طمأنينة‪ { ،‬وَلَا ُيغْنِي } من مكث فيه { مِنَ الّل َهبِ } بل‬
‫اللهب قد أحاط به‪ ،‬يمنة ويسرة ومن كل جانب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ل ُهمْ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مِنَ النّارِ‬
‫َومِنْ َتحْ ِتهِمْ ظَُللٌ }‬

‫{ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين }‬

‫ثم ذكر عظم شرر النار‪ ،‬الدال على عظمها وفظاعتها وسوء منظرها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫صفْرٌ } وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة‪،‬‬
‫جمَالَ ٌة ُ‬
‫{ إِ ّنهَا تَ ْرمِي بِشَرَرٍ كَا ْل َقصْرِ كَأَنّهُ ِ‬
‫وهذا يدل على أن النار مظلمة‪ ،‬لهبها وجمرها وشررها‪ ،‬وأنها سوداء‪ ،‬كريهة المرأى ‪ ،‬شديدة‬
‫الحرارة‪ ،‬نسأل ال العافية منها [من العمال المقربة منها]‪.‬‬

‫{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬

‫طقُونَ * وَلَا ُيؤْذَنُ َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * هَذَا َيوْمُ‬
‫{ ‪َ { } 40 - 35‬هذَا َيوْمُ لَا يَ ْن ِ‬
‫ج َمعْنَاكُمْ وَالَْأوّلِينَ * فَإِنْ كَانَ َلكُمْ كَيْدٌ َفكِيدُونِ * وَيْلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬
‫ا ْل َفصْلِ َ‬

‫أي‪ :‬هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين‪ ،‬ل ينطقون فيه من الخوف والوجل الشديد‪ { ،‬وَلَا ُيؤْذَنُ‬
‫َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ } أي‪ :‬ل تقبل معذرتهم‪ ،‬ولو اعتذروا‪ { :‬فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُمْ وَلَا هُمْ‬
‫يُسْ َتعْتَبُونَ }‬

‫ج َمعْنَاكُ ْم وَالَْأوّلِينَ } لنفصل بينكم‪ ،‬ونحكم بين الخلئق‪ { ،‬فَإِنْ كَانَ َل ُكمْ كَيْدٌ }‬
‫صلِ َ‬
‫{ هَذَا َيوْمُ ا ْلفَ ْ‬
‫تقدرون على الخروج من ملكي وتنجون به من عذابي‪َ { ،‬فكِيدُونِ } أي‪ :‬ليس لكم قدرة ول‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫طعْتُمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ‬
‫ن وَالْإِنْسِ إِنِ اسْ َت َ‬
‫سلطان‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَا َمعْشَرَ الْجِ ّ‬
‫وَالْأَ ْرضِ فَا ْنفُذُوا لَا تَ ْنفُذُونَ إِلّا بِسُلْطَانٍ }‬

‫ففي ذلك اليوم‪ ،‬تبطل حيل الظالمين‪ ،‬ويضمحل مكرهم وكيدهم‪ ،‬ويستسلمون لعذاب ال‪ ،‬ويبين لهم‬
‫كذبهم في تكذيبهم { وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬

‫ل وَعُيُونٍ * َوفَوَاكِهَ ِممّا َيشْ َتهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا‬


‫{ ‪ { } 45 - 41‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي ظِلَا ٍ‬
‫حسِنِينَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬
‫كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬

‫لما ذكر عقوبة المكذبين‪ ،‬ذكر ثواب المحسنين‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } [أي‪ ]:‬للتكذيب‪ ،‬المتصفين‬
‫بالتصديق في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم‪ ،‬ول يكونون كذلك إل بأدائهم الواجبات‪ ،‬وتركهم‬
‫المحرمات‪.‬‬

‫ظلَالٍ } من كثرة الشجار المتنوعة‪ ،‬الزاهية البهية‪ { .‬وَعُيُونٍ } جارية من السلسبيل‪،‬‬


‫{ فِي ِ‬
‫والرحيق وغيرهما‪َ { ،‬و َفوَاكِهَ ِممّا يَشْ َتهُونَ } أي‪ :‬من خيار الفواكه وطيبها‪ ،‬ويقال لهم‪ { :‬كُلُوا‬
‫وَاشْرَبُوا } من المآكل الشهية‪ ،‬والشربة اللذيذة { هَنِيئًا } أي‪ :‬من غير منغص ول مكدر‪ ،‬ول يتم‬
‫هناؤه حتى يسلم الطعام والشراب من كل آفة ونقص‪ ،‬وحتى يجزموا أنه غير منقطع ول زائل‪،‬‬
‫{ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } فأعمالكم هي السبب الموصل لكم إلى هذا النعيم المقيم‪ ،‬وهكذا كل من أحسن‬
‫ن وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }‬
‫حسِنِي َ‬
‫في عبادة ال وأحسن إلى عباد ال‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫ولو لم يكن لهم من هذا الويل إل فوات هذا النعيم‪ ،‬لكفى به حرمانا وخسرانا ‪.‬‬

‫{ ‪ { } 50 - 46‬كُلُوا وَ َتمَ ّتعُوا قَلِيلًا إِ ّن ُكمْ مُجْ ِرمُونَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ْر َكعُوا‬
‫حدِيثٍ َب ْع َدهُ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫لَا يَ ْر َكعُونَ * وَيْلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * فَبَِأيّ َ‬

‫هذا تهديد ووعيد للمكذبين‪ ،‬أنهم وإن أكلوا في الدنيا وشربوا وتمتعوا باللذات‪ ،‬وغفلوا عن‬
‫القربات‪ ،‬فإنهم مجرمون‪ ،‬يستحقون ما يستحقه المجرمون‪ ،‬فستنقطع عنهم اللذات‪ ،‬وتبقى عليهم‬
‫التبعات‪ ،‬ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلة التي هي أشرف العبادات‪ ،‬وقيل لهم‪ { :‬ا ْر َكعُوا }‬
‫امتنعوا من ذلك‪.‬‬

‫فأي إجرام فوق هذا؟ وأي تكذيب يزيد على هذا؟"‬

‫{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق‪ ،‬ويحرمون كل خير‪،‬‬
‫فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن الكريم‪ ،‬الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الطلق‪.‬‬

‫{ فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ } أبالباطل الذي هو كاسمه‪ ،‬ل يقوم عليه شبهة فضل عن الدليل؟ أم‬
‫بكلم كل مشرك كذاب أفاك مبين؟‪.‬‬

‫فليس بعد النور المبين إل دياجى الظلمات‪ ،‬ول بعد الصدق الذي قامت الدلة والبراهين على‬
‫صدقه إل الكذب الصراح والفك المبين ‪ ،‬الذي ل يليق إل بمن يناسبه‪.‬‬

‫فتبا لهم ما أعماهم! وويحا لهم ما أخسرهم وأشقاهم!‬

‫نسأل ال العفو والعافية [إنه جواد كريم‪ .‬تمت]‪.‬‬

‫تفسير سورة عم‬


‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ عَمّ يَ َتسَاءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ * الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَِلفُونَ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫* كَلّا سَ َيعَْلمُونَ * ثُمّ كَلّا سَ َيعَْلمُونَ }‬
‫أي‪ :‬عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات ال؟ ثم بين ما يتساءلون عنه فقال‪ { :‬عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ‬
‫الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَِلفُونَ } أي‪ :‬عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم‪ ،‬وانتشر فيه خلفهم على‬
‫وجه التكذيب والستبعاد‪ ،‬وهو النبأ الذي ل يقبل الشك ول يدخله الريب‪ ،‬ولكن المكذبون بلقاء‬
‫ربهم ل يؤمنون‪ ،‬ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الليم‪.‬‬

‫ولهذا قال‪ { :‬كَلّا سَ َيعَْلمُونَ ُثمّ كَلّا سَ َيعَْلمُونَ } أي‪ :‬سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به‬
‫يكذبون‪ ،‬حين يدعون إلى نار جهنم دعا‪ ،‬ويقال لهم‪ { :‬هَ ِذهِ النّارُ الّتِي كُنْ ُتمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ }‬

‫ثم بين تعالى النعم والدلة الدالة على صدق ما أخبرت به الرسل فقال‪:‬‬

‫جعَلْنَا َن ْو َمكُمْ‬
‫خَلقْنَاكُمْ أَ ْزوَاجًا * وَ َ‬
‫ج َعلِ الْأَ ْرضَ ِمهَادًا * وَالْجِبَالَ َأوْتَادًا * وَ َ‬
‫{ ‪ { } 16 - 6‬أََلمْ نَ ْ‬
‫جعَلْنَا سِرَاجًا‬
‫جعَلْنَا ال ّنهَارَ َمعَاشًا * وَبَنَيْنَا َف ْو َقكُمْ سَ ْبعًا شِدَادًا * وَ َ‬
‫جعَلْنَا اللّ ْيلَ لِبَاسًا * َو َ‬
‫سُبَاتًا * َو َ‬
‫وَهّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ ا ْل ُم ْعصِرَاتِ مَاءً َثجّاجًا * لِنُخْرِجَ ِبهِ حَبّا وَنَبَاتًا * وَجَنّاتٍ أَ ْلفَافًا }‬
‫أي‪ :‬أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة‪ ،‬فجعلنا لكم { الْأَ ْرضَ ِمهَادًا } أي‪ :‬ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم‪،‬‬
‫من الحروث والمساكن والسبل‪.‬‬

‫{ وَا ْلجِبَالَ َأوْتَادًا } تمسك الرض لئل تضطرب بكم وتميد‪.‬‬

‫خَلقْنَاكُمْ أَ ْزوَاجًا } أي‪ :‬ذكورا وإناثا من جنس واحد‪ ،‬ليسكن كل منهما إلى الخر‪ ،‬فتكون‬
‫{ وَ َ‬
‫المودة والرحمة‪ ،‬وتنشأ عنهما الذرية‪ ،‬وفي ضمن هذا المتنان‪ ،‬بلذة المنكح‪.‬‬

‫جعَلْنَا َن ْومَكُمْ سُبَاتًا } أي‪ :‬راحة لكم‪ ،‬وقطعا لشغالكم‪ ،‬التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم‪،‬‬
‫{ وَ َ‬
‫فجعل ال الليل والنوم يغشى الناس لتنقطع حركاتهم الضارة‪ ،‬وتحصل راحتهم النافعة‪.‬‬

‫{ وَبَنَيْنَا َف ْو َقكُمْ سَ ْبعًا شِدَادًا } أي‪ :‬سبع سموات‪ ،‬في غاية القوة‪ ،‬والصلبة والشدة‪ ،‬وقد أمسكها ال‬
‫جعَلْنَا‬
‫بقدرته‪ ،‬وجعلها سقفا للرض‪ ،‬فيها عدة منافع لهم‪ ،‬ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال‪ { :‬وَ َ‬
‫سِرَاجًا وَهّاجًا } نبه بالسراج على النعمة بنورها‪ ،‬الذي صار كالضرورة للخلق‪ ،‬وبالوهاج الذي‬
‫فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح‬

‫{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ ا ْل ُم ْعصِرَاتِ } أي‪ :‬السحاب { مَاءً َثجّاجًا } أي‪ :‬كثيرا جدا‪.‬‬

‫{ لِ ُنخْرِجَ بِهِ حَبّا } من بر وشعير وذرة وأرز‪ ،‬وغير ذلك مما يأكله الدميون‪.‬‬
‫{ وَنَبَاتًا } يشمل سائر النبات‪ ،‬الذي جعله ال قوتا لمواشيهم‪.‬‬

‫{ وَجَنّاتٍ أَ ْلفَافًا } أي‪ :‬بساتين ملتفة‪ ،‬فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة‪.‬‬

‫فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة ‪ ،‬التي ل يقدر قدرها‪ ،‬ول يحصى عددها‪ ،‬كيف [تكفرون به‬
‫و] تكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟! أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه‬
‫وتجحدونها؟"‬

‫حتِ‬
‫صلِ كَانَ مِيقَاتًا * َي ْومَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ َأ ْفوَاجًا * َوفُتِ َ‬
‫{ ‪ { } 30 - 17‬إِنّ َيوْمَ ا ْلفَ ْ‬
‫جهَنّمَ كَا َنتْ مِ ْرصَادًا * لِلطّاغِينَ مَآبًا *‬
‫سمَاءُ َفكَانَتْ أَ ْبوَابًا * وَسُيّ َرتِ ا ْلجِبَالُ َفكَا َنتْ سَرَابًا * إِنّ َ‬
‫ال ّ‬
‫حمِيمًا وَغَسّاقًا * جَزَاءً ِوفَاقًا * إِ ّنهُمْ كَانُوا‬
‫حقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَ ْردًا وَلَا شَرَابًا * إِلّا َ‬
‫لَابِثِينَ فِيهَا أَ ْ‬
‫حصَيْنَاهُ كِتَابًا * َفذُوقُوا فَلَنْ نَزِي َدكُمْ إِلّا عَذَابًا‬
‫شيْءٍ أَ ْ‬
‫لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا ِكذّابًا * َو ُكلّ َ‬
‫}‬

‫ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون‪ ،‬ويجحده المعاندون‪ ،‬أنه يوم‬
‫عظيم‪ ،‬وأن ال جعله { مِيقَاتًا } للخلق‪.‬‬

‫{ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ َأ ْفوَاجًا } ويجري فيه من الزعازع والقلقل ما يشيب له الوليد‪ ،‬وتنزعج‬
‫له القلوب‪ ،‬فتسير الجبال‪ ،‬حتى تكون كالهباء المبثوث‪ ،‬وتشقق السماء حتى تكون أبوابا‪ ،‬ويفصل‬
‫ال بين الخلئق بحمكه الذي ل يجور‪ ،‬وتوقد نار جهنم التي أرصدها ال وأعدها للطاغين‪،‬‬
‫وجعلها مثوى لهم ومآبا‪ ،‬وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة و { الحقب } على ما قاله كثير من‬
‫المفسرين‪ :‬ثمانون سنة‪.‬‬

‫وهم إذا وردوها { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَ ْردًا وَلَا شَرَابًا } أي‪ :‬ل ما يبرد جلودهم‪ ،‬ول ما يدفع ظمأهم‪.‬‬

‫حمِيمًا } أي‪ :‬ماء حارا‪ ،‬يشوي وجوههم‪ ،‬ويقطع أمعاءهم‪ { ،‬وَغَسّاقًا } وهو‪ :‬صديد أهل‬
‫{ إِلّا َ‬
‫النار‪ ،‬الذي هو في غاية النتن‪ ،‬وكراهة المذاق‪ ،‬وإنما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جزاء لهم‬
‫ووفاقا على ما عملوا من العمال الموصلة إليها‪ ،‬لم يظلمهم ال‪ ،‬ولكن ظلموا أنفسهم‪ ،‬ولهذا ذكر‬
‫أعمالهم‪ ،‬التي استحقوا بها هذا الجزاء‪ ،‬فقال‪ { :‬إِ ّن ُهمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا } أي‪ :‬ل يؤمنون‬
‫بالبعث‪ ،‬ول أن ال يجازي الخلق بالخير والشر‪ ،‬فلذلك أهملوا العمل للخرة‪.‬‬

‫{ َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا ِكذّابًا } أي‪ :‬كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا وجاءتهم البينات فعاندوها‪.‬‬
‫حصَيْنَاهُ كِتَابًا } أي‪ :‬كتبناه في اللوح المحفوظ‪ ،‬فل‬
‫شيْءٍ } من قليل وكثير‪ ،‬وخير وشر { أَ ْ‬
‫{ َو ُكلّ َ‬
‫يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها‪ ،‬ول يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء‪ ،‬أو‬
‫شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ‬
‫ينسى منها مثقال ذرة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُ ْ‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا‬
‫جدُوا مَا َ‬
‫حصَاهَا َووَ َ‬
‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً ِإلّا أَ ْ‬
‫يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ‬
‫حدًا }‬
‫يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ‬

‫عذَابًا } وكل وقت‬


‫{ َفذُوقُوا } أيها المكذبون هذا العذاب الليم والخزي الدائم { فَلَنْ نَزِي َد ُكمْ إِلّا َ‬
‫وحين يزداد عذابهم [وهذه الية أشد اليات في شدة عذاب أهل النار أجارنا ال منها]‪.‬‬

‫عبَ أَتْرَابًا * َوكَأْسًا ِدهَاقًا * لَا‬


‫ق وَأَعْنَابًا * َو َكوَا ِ‬
‫{ ‪ { } 36 - 31‬إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ َمفَازًا * حَدَائِ َ‬
‫حسَابًا }‬
‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا وَلَا كِذّابًا * جَزَاءً مِنْ رَ ّبكَ عَطَاءً ِ‬
‫يَ ْ‬

‫لما ذكر حال المجرمين ذكر مآل المتقين فقال‪ { :‬إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ َمفَازًا } أي‪ :‬الذين اتقوا سخط ربهم‪،‬‬
‫بالتمسك بطاعته‪ ،‬والنكفاف عما يكرهه فلهم مفاز ومنجي‪ ،‬وبعد عن النار‪ .‬وفي ذلك المفاز لهم‬
‫{ حَدَا ِئقَ } وهي البساتين الجامعة لصناف الشجار الزاهية‪ ،‬في الثمار التي تتفجر بين خللها‬
‫النهار‪ ،‬وخص العناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق‪.‬‬

‫عبَ } وهي‪ :‬النواهد اللتي لم تتكسر ثديهن من‬


‫ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس { َكوَا ِ‬
‫شبابهن‪ ،‬وقوتهن ونضارتهن ‪.‬‬

‫{ والَتْرَاب } اللتي على سن واحد متقارب‪ ،‬ومن عادة التراب أن يكن متآلفات متعاشرات‪،‬‬
‫وذلك السن الذي هن فيه ثلث وثلثون سنة‪ ،‬في أعدل سن الشباب ‪.‬‬

‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا } أي‪ :‬كلما ل‬


‫{ َوكَأْسًا دِهَاقًا } أي‪ :‬مملوءة من رحيق‪ ،‬لذة للشاربين‪ { ،‬لَا يَ ْ‬
‫فائدة فيه { وَلَا كِذّابًا } أي‪ :‬إثما‪.‬‬

‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا }‬


‫كما قال تعالى‪ { :‬لَا يَ ْ‬

‫حسَابًا‬
‫وإنما أعطاهم ال هذا الثواب الجزيل [من فضله وإحسانه]‪ { .‬جَزَاءً مِنْ رَ ّبكَ } لهم { عَطَاءً ِ‬
‫} أي‪ :‬بسبب أعمالهم التي وفقهم ال لها‪ ،‬وجعلها ثمنا لجنته ونعيمها ‪.‬‬

‫خطَابًا * َيوْمَ َيقُومُ‬


‫حمَنِ لَا َيمِْلكُونَ مِنْهُ ِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا الرّ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ ‪َ { } 40 - 37‬ربّ ال ّ‬
‫حقّ َفمَنْ شَاءَ‬
‫صوَابًا * ذَِلكَ الْ َيوْمُ الْ َ‬
‫ل َ‬
‫ن َوقَا َ‬
‫حمَ ُ‬
‫صفّا لَا يَ َتكَّلمُونَ إِلّا مَنْ َأذِنَ لَهُ الرّ ْ‬
‫ح وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة َ‬
‫الرّو ُ‬
‫خذَ إِلَى رَبّهِ مَآبًا * إِنّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا َيوْمَ يَنْظُرُ ا ْلمَ ْرءُ مَا قَ ّد َمتْ يَدَا ُه وَ َيقُولُ ا ْلكَافِرُ يَا لَيْتَنِي‬
‫اتّ َ‬
‫كُ ْنتُ تُرَابًا }‬

‫حمَنِ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ } الذي خلقها ودبرها { الرّ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أي‪ :‬الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم { َربّ ال ّ‬
‫} الذي رحمته وسعت كل شيء‪ ،‬فرباهم ورحمهم‪ ،‬ولطف بهم‪ ،‬حتى أدركوا ما أدركوا‪.‬‬

‫ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة‪ ،‬وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون ل يتكلمون و‬
‫خطَابًا } إل من أذن له الرحمن وقال صوابا‪ ،‬فل يتكلم أحد إل بهذين الشرطين‪:‬‬
‫{ لَا َيمِْلكُونَ مِنْهُ ِ‬
‫أن يأذن ال له في الكلم‪ ،‬وأن يكون ما تكلم به صوابا‪ ،‬لن { ذَِلكَ الْ َيوْمُ } هو { ا ْلحَقّ } الذي ل‬
‫يروج فيه الباطل‪ ،‬ول ينفع فيه الكذب‪ ،‬وفي ذلك اليوم { َيقُومُ الرّوحُ } وهو جبريل عليه السلم‪،‬‬
‫صفّا } خاضعين ل { لَا يَ َتكَّلمُونَ }‬
‫الذي هو أشرف الملئكة { وَا ْلمَلَا ِئكَةِ } [أيضا يقوم الجميع] { َ‬
‫إل بما أذن لهم ال به ‪.‬‬

‫خذَ إِلَى رَبّهِ مَآبًا } أي‪ :‬عمل‪ ،‬وقدم صدق‬


‫فلما رغب ورهب‪ ،‬وبشر وأنذر‪ ،‬قال‪َ { :‬فمَنْ شَاءَ اتّ َ‬
‫يرجع إليه يوم القيامة‪.‬‬

‫{ إِنّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } لنه قد أزف مقبل‪ ،‬وكل ما هو آت فهو قريب‪.‬‬

‫{ َيوْمَ يَنْظُرُ ا ْلمَ ْرءُ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ } أي‪ :‬هذا الذي يهمه ويفزع إليه‪ ،‬فلينظر في هذه الدنيا إليه ‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَلْتَنْظُرْ َنفْسٌ مَا قَ ّد َمتْ ِلغَدٍ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُونَ } اليات‪.‬‬

‫فإن وجد خيرا فليحمد ال‪ ،‬وإن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه‪ ،‬ولهذا كان الكفار يتمنون‬
‫الموت من شدة الحسرة والندم‪.‬‬

‫نسأل ال أن يعافينا من الكفر والشر كله‪ ،‬إنه جواد كريم‪.‬‬

‫تم تفسير سورة عم‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‬

‫تفسير سورة النازعات‬


‫وهي مكية‬

‫شطًا * وَالسّا ِبحَاتِ‬


‫حمَنِ الرّحِي ِم وَالنّازِعَاتِ غَ ْرقًا * وَالنّاشِطَاتِ نَ ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 14 - 1‬بِ ْ‬
‫جفَةُ * تَتْ َب ُعهَا الرّا ِدفَةُ * قُلُوبٌ َي ْومَئِذٍ‬
‫جفُ الرّا ِ‬
‫سَ ْبحًا * فَالسّا ِبقَاتِ سَ ْبقًا * فَا ْلمُدَبّرَاتِ َأمْرًا * َيوْمَ تَ ْر ُ‬
‫شعَةٌ * َيقُولُونَ أَئِنّا َلمَرْدُودُونَ فِي ا ْلحَافِ َرةِ * أَئِذَا كُنّا عِظَامًا َنخِ َرةً * قَالُوا‬
‫جفَةٌ * أَ ْبصَارُهَا خَا ِ‬
‫وَا ِ‬
‫ح َدةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسّاهِ َرةِ }‬
‫تِ ْلكَ إِذًا كَ ّرةٌ خَاسِ َرةٌ * فَإِ ّنمَا ِهيَ َزجْ َر ٌة وَا ِ‬

‫هذه القسامات بالملئكة الكرام‪ ،‬وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لمر ال‪ ،‬وإسراعهم في تنفيذ‬
‫أمره‪ ،‬يحتمل أن المقسم عليه‪ ،‬الجزاء والبعث‪ ،‬بدليل التيان بأحوال القيامة بعد ذلك‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫المقسم عليه والمقسم به متحدان‪ ،‬وأنه أقسم على الملئكة‪ ،‬لن اليمان بهم أحد أركان اليمان‬
‫الستة‪ ،‬ولن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتوله الملئكة عند الموت وقبله وبعده‪،‬‬
‫فقال‪ { :‬وَالنّازِعَاتِ غَ ْرقًا } وهم الملئكة التي تنزع الرواح بقوة‪ ،‬وتغرق في نزعها حتى تخرج‬
‫الروح‪ ،‬فتجازى بعملها‪.‬‬

‫شطًا } وهم الملئكة أيضا‪ ،‬تجتذب الرواح بقوة ونشاط‪ ،‬أو أن النزع يكون‬
‫{ وَالنّاشِطَاتِ نَ ْ‬
‫لرواح المؤمنين‪ ،‬والنشط لرواح الكفار‪.‬‬

‫{ وَالسّابِحَاتِ } أي‪ :‬المترددات في الهواء صعودا ونزول { سَبْحًا }‬

‫{ فَالسّا ِبقَاتِ } لغيرها { سَ ْبقًا } فتبادر لمر ال‪ ،‬وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل ال‬
‫حتى ل تسترقه ‪.‬‬

‫{ فَا ْل ُمدَبّرَاتِ َأمْرًا } الملئكة‪ ،‬الذين وكلهم ال أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي‪،‬‬
‫من المطار‪ ،‬والنبات‪ ،‬والشجار‪ ،‬والرياح‪ ،‬والبحار‪ ،‬والجنة‪ ،‬والحيوانات‪ ،‬والجنة‪ ،‬والنار [وغير‬
‫ذلك]‪.‬‬

‫جفَةُ } وهي قيام الساعة‪ { ،‬تَتْ َب ُعهَا الرّا ِد َفةُ } أي‪ :‬الرجفة الخرى التي تردفها‬
‫جفُ الرّا ِ‬
‫{ َيوْمَ تَرْ ُ‬
‫جفَةٌ } أي‪ :‬موجفة ومنزعجة من شدة ما ترى وتسمع‪.‬‬
‫وتأتي تلوها‪ { ،‬قُلُوبٌ َي ْومَئِ ٍذ وَا ِ‬

‫ش َعةٌ } أي‪ :‬ذليلة حقيرة‪ ،‬قد ملك قلوبهم الخوف‪ ،‬وأذهل أفئدتهم الفزع‪ ،‬وغلب عليهم‬
‫{ أَ ْبصَارُهَا خَا ِ‬
‫التأسف [واستولت عليهم] الحسرة‪.‬‬

‫يقولون أي‪ :‬الكفار في الدنيا‪ ،‬على وجه التكذيب‪ { :‬أَئِذَا كُنّا عِظَامًا َنخِ َرةً } أي‪ :‬بالية فتاتا‪.‬‬

‫{ قَالُوا تِ ْلكَ ِإذًا كَ ّرةٌ خَاسِ َرةٌ } أي‪ :‬استبعدوا أن يبعثهم ال ويعيدهم بعدما كانوا عظاما نخرة‪ ،‬جهل‬
‫[منهم] بقدرة ال‪ ،‬وتجرؤا عليه‪.‬‬

‫ح َدةٌ } ينفخ فيها في الصور‪.‬‬


‫قال ال في بيان سهولة هذا المر عليه‪ { :‬فَإِ ّنمَا ِهيَ َزجْ َر ٌة وَا ِ‬
‫فإذا الخلئق كلهم { بِالسّاهِ َرةِ } أي‪ :‬على وجه الرض‪ ،‬قيام ينظرون‪ ،‬فيجمعهم ال ويقضي بينهم‬
‫بحكمه العدل ويجازيهم‪.‬‬

‫طوًى * اذْ َهبْ إِلَى‬


‫{ ‪َ { } 26 - 15‬هلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِا ْلوَادِي ا ْل ُمقَدّسِ ُ‬
‫خشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ ا ْلكُبْرَى *‬
‫طغَى * َف ُقلْ َهلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى * وَأَهْدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ فَتَ ْ‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫فِرْ َ‬
‫خ َذهُ اللّهُ َنكَالَ الْآخِ َرةِ‬
‫سعَى * َفحَشَرَ فَنَادَى * َفقَالَ أَنَا رَ ّب ُكمُ الْأَعْلَى * فَأَ َ‬
‫عصَى * ثُمّ أَدْبَرَ َي ْ‬
‫ب وَ َ‬
‫َفكَ ّذ َ‬
‫خشَى }‬
‫وَالْأُولَى * إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً ِلمَنْ يَ ْ‬

‫يقول [ال] تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪َ { :‬هلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } وهذا الستفهام عن‬
‫أمر عظيم متحقق وقوعه‪.‬‬

‫طوًى } وهو المحل الذي كلمه ال فيه‪ ،‬وامتن‬


‫أي‪ :‬هل أتاك حديثه { إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِا ْلوَادِي ا ْل ُمقَدّسِ ُ‬
‫طغَى } أي‪ :‬فانهه‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫عليه بالرسالة‪ ،‬واختصه بالوحي والجتباء فقال له { اذْ َهبْ إِلَى فِرْ َ‬
‫عن طغيانه وشركه وعصيانه‪ ،‬بقول لين‪ ،‬وخطاب لطيف‪ ،‬لعله { يتذكر أو يخشى }‬

‫{ َف ُقلْ } له‪َ { :‬هلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى } أي‪ :‬هل لك في خصلة حميدة‪ ،‬ومحمدة جميلة‪ ،‬يتنافس فيها‬
‫أولو اللباب‪ ،‬وهي أن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان‪ ،‬إلى اليمان والعمل‬
‫الصالح؟‬

‫{ وَأَ ْهدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ } أي‪ :‬أدلك عليه‪ ،‬وأبين لك مواقع رضاه‪ ،‬من مواقع سخطه‪ { .‬فَ َتخْشَى } ال‬
‫إذا علمت الصراط المستقيم‪ ،‬فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى‪.‬‬

‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ‬


‫{ فَأَرَاهُ الْآيَةَ ا ْلكُبْرَى } أي‪ :‬جنس الية الكبرى‪ ،‬فل ينافي تعددها { فَأَ ْلقَى َ‬
‫ن وَنَزَعَ َي َدهُ فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَاءُ لِلنّاظِرِينَ }‬
‫مُبِي ٌ‬

‫سعَى } أي‪ :‬يجتهد في مبارزة الحق ومحاربته‪،‬‬


‫عصَى } المر‪ُ { ،‬ثمّ أَدْبَرَ يَ ْ‬
‫{ َف َك ّذبَ } بالحق { وَ َ‬
‫{ َفحَشَرَ } جنوده أي‪ :‬جمعهم { فَنَادَى َفقَالَ } لهم‪ { :‬أَنَا رَ ّبكُمُ الْأَعْلَى } فأذعنوا له وأقروا بباطله‬
‫خ َذهُ اللّهُ َنكَالَ الْآخِ َر ِة وَالْأُولَى } أي‪ :‬صارت عقوبته دليل وزاجرا‪ ،‬ومبينة‬
‫حين استخفهم‪ { ،‬فَأَ َ‬
‫خشَى } فإن من يخشى ال هو الذي ينتفع باليات‬
‫لعقوبة الدنيا والخرة‪ { ،‬إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً ِلمَنْ يَ ْ‬
‫والعبر‪ ،‬فإذا رأى عقوبة فرعون‪ ،‬عرف أن كل من تكبر وعصى‪ ،‬وبارز الملك العلى‪ ،‬عاقبه في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وأما من ترحلت خشية ال من قلبه‪ ،‬فلو جاءته كل آية لم يؤمن [بها]‪.‬‬
‫سوّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيَْلهَا وَأَخْرَجَ‬
‫س ْم َكهَا َف َ‬
‫سمَاءُ بَنَاهَا * َرفَعَ َ‬
‫{ ‪ { } 33 - 27‬أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ‬
‫ضُحَاهَا * وَالْأَ ْرضَ َب ْعدَ ذَِلكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِ ْنهَا مَا َءهَا َومَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَ ْرسَاهَا * مَتَاعًا َلكُمْ‬
‫وَلِأَ ْنعَامِكُمْ }‬

‫يقول تعالى مبينا دليل واضحا لمنكري البعث ومستبعدي إعادة ال للجساد‪َ { :‬أأَنْتُمْ } أيها البشر {‬
‫سمَاءُ } ذات الجرم العظيم‪ ،‬والخلق القوي‪ ،‬والرتفاع الباهر { بَنَاهَا } ال‪.‬‬
‫شدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ‬
‫أَ َ‬

‫سوّاهَا } بإحكام وإتقان يحير العقول‪ ،‬ويذهل اللباب‪{ ،‬‬


‫س ْم َكهَا } أي‪ :‬جرمها وصورتها‪َ { ،‬ف َ‬
‫{ َر َفعَ َ‬
‫وَأَغْطَشَ لَيَْلهَا } أي‪ :‬أظلمه‪ ،‬فعمت الظلمة [جميع] أرجاء السماء‪ ،‬فأظلم وجه الرض‪ { ،‬وَأَخْرَجَ‬
‫ضُحَاهَا } أي‪ :‬أظهر فيه النور العظيم‪ ،‬حين أتى بالشمس‪ ،‬فامتد الناس في مصالح دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫{ وَالْأَ ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ } أي‪ :‬بعد خلق السماء { َدحَاهَا } أي‪ :‬أودع فيها منافعها‪.‬‬

‫وفسر ذلك بقوله‪َ { :‬أخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا َومَرْعَاهَا وَا ْلجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي‪ :‬ثبتها في الرض‪ .‬فدحى‬
‫الرض بعد خلق السماء‪ ،‬كما هو نص هذه اليات [الكريمة]‪ .‬وأما خلق نفس الرض‪ ،‬فمتقدم‬
‫على خلق السماء كما قال تعالى‪ُ { :‬قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الْأَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ } إلى أن قال‪:‬‬
‫سمَاءِ وهي دخان فقال لها وللرض ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين }‬
‫{ ُثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ‬
‫فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من النوار والجرام‪ ،‬والرض الكثيفة الغبراء‪ ،‬وما فيها‬
‫من ضروريات الخلق ومنافعهم‪ ،‬ل بد أن يبعث الخلق المكلفين‪ ،‬فيجازيهم على أعمالهم‪ ،‬فمن‬
‫أحسن فله الحسنى ومن أساء فل يلومن إل نفسه‪ ،‬ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سعَى * وَبُرّ َزتِ ا ْلجَحِيمُ ِلمَنْ‬
‫{ ‪ { } 41 - 34‬فَإِذَا جَا َءتِ الطّامّةُ ا ْلكُبْرَى * َيوْمَ يَتَ َذكّرُ الْإِنْسَانُ مَا َ‬
‫طغَى * وَآثَرَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ ا ْلجَحِيمَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى * وََأمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ‬
‫يَرَى * فََأمّا مَنْ َ‬
‫وَ َنهَى ال ّنفْسَ عَنِ ا ْل َهوَى * فَإِنّ ا ْلجَنّةَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى }‬
‫أي‪ :‬إذا جاءت القيامة الكبرى‪ ،‬والشدة العظمى‪ ،‬التي يهون عندها كل شدة‪ ،‬فحينئذ يذهل الوالد عن‬
‫سعَى } في الدنيا‪ ،‬من‬
‫ولده‪ ،‬والصاحب عن صاحبه [وكل محب عن حبيبه]‪ .‬و { يَ َت َذكّرُ الْإِنْسَانُ مَا َ‬
‫خير وشر‪ ،‬فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته‪ ،‬ويغمه ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته‪.‬‬

‫ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا‪ ،‬وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا‬
‫سوى العمال‪.‬‬

‫{ وَبُرّ َزتِ ا ْلجَحِيمُ ِلمَنْ يَرَى } أي‪ :‬جعلت في البراز‪ ،‬ظاهرة لكل أحد‪ ،‬قد برزت لهلها‪،‬‬
‫واستعدت لخذهم‪ ،‬منتظرة لمر ربها‪.‬‬
‫طغَى } أي‪ :‬جاوز الحد‪ ،‬بأن تجرأ على المعاصي الكبار‪ ،‬ولم يقتصر على ما حده ال‪.‬‬
‫{ فََأمّا مَنْ َ‬

‫{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا } على الخرة فصار سعيه لها‪ ،‬ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها‪ ،‬ونسي‬
‫الخرة وترك العمل لها‪ { .‬فَإِنّ ا ْلجَحِيمَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى } [له] أي‪ :‬المقر والمسكن لمن هذه حاله‪،‬‬
‫{ وََأمّا مَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ } أي‪ :‬خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل‪ ،‬فأثر هذا الخوف في قلبه‬
‫فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة ال‪ ،‬وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول‪ ،‬وجاهد‬
‫الهوى والشهوة الصادين عن الخير‪ { ،‬فَإِنّ ا ْلجَنّةَ } [المشتملة على كل خير وسرور ونعيم] { ِهيَ‬
‫ا ْلمَ ْأوَى } لمن هذا وصفه‪.‬‬

‫{ ‪ { } 46 - 42‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُ ْرسَاهَا * فِيمَ أَ ْنتَ مِنْ ِذكْرَاهَا * إِلَى رَ ّبكَ مُنْ َتهَاهَا *‬
‫ضحَاهَا }‬
‫إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُنْذِرُ مَنْ َيخْشَاهَا * كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُوا ِإلّا عَشِيّةً َأوْ ُ‬

‫أي‪ :‬يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث { عَنِ السّاعَةِ } متى وقوعها و { أَيّانَ مُرْسَاهَا } فأجابهم‬
‫ال بقوله‪ { :‬فِيمَ أَ ْنتَ مِنْ ِذكْرَاهَا } أي‪ :‬ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس‬
‫تحت ذلك نتيجة‪ ،‬ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ول دنيوية‪ ،‬بل‬
‫المصلحة في خفائه عليهم‪ ،‬طوى علم ذلك عن جميع الخلق‪ ،‬واستأثر بعلمه فقال‪ { :‬إِلَى رَ ّبكَ‬
‫مُنْ َتهَاهَا } أي‪ :‬إليه ينتهي علمها‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا‬
‫ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ رَبّي لَا ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا إِلّا ُه َو ثقلت في السماوات والرض ل تأتيكم إل بغته‬
‫يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند ال ولكن أكثر الناس ل يعلمون } ‪ { .‬إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ ْنذِرُ‬
‫خشَاهَا } أي‪ :‬إنما نذارتك [نفعها] لمن يخشى مجيء الساعة‪ ،‬ويخاف الوقوف بين يديه‪ ،‬فهم‬
‫مَنْ يَ ْ‬
‫الذين ل يهمهم سوى الستعداد لها والعمل لجلها‪ .‬وأما من ل يؤمن بها‪ ،‬فل يبالي به ول بتعنته‪،‬‬
‫لنه تعنت مبني على العناد والتكذيب‪ ،‬وإذا وصل إلى هذه الحال‪ ،‬كان الجابة عنه عبثا‪ ،‬ينزه‬
‫الحكيم عنه [تمت] والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة عبس‬


‫وهي مكية‬

‫عمَى * َومَا يُدْرِيكَ َلعَلّهُ‬


‫س وَ َتوَلّى * أَنْ جَا َءهُ الْأَ ْ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ عَبَ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 10 - 1‬بِ ْ‬
‫يَ ّزكّى * َأوْ َي ّذكّرُ فَتَ ْن َفعَهُ ال ّذكْرَى * َأمّا مَنِ اسْ َتغْنَى * فَأَ ْنتَ َلهُ َتصَدّى * َومَا عَلَ ْيكَ أَلّا يَ ّزكّى *‬
‫سعَى * وَ ُهوَ َيخْشَى * فَأَ ْنتَ عَنْهُ تََلهّى }‬
‫وََأمّا مَنْ جَا َءكَ َي ْ‬
‫وسبب نزول هذه اليات الكريمات‪ ،‬أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى ال عليه‬
‫ويتعلم منه‪.‬‬

‫وجاءه رجل من الغنياء‪ ،‬وكان صلى ال عليه وسلم حريصا على هداية الخلق‪ ،‬فمال صلى ال‬
‫عليه وسلم [وأصغى] إلى الغني‪ ،‬وصد عن العمى الفقير‪ ،‬رجاء لهداية ذلك الغني‪ ،‬وطمعا في‬
‫تزكيته‪ ،‬فعاتبه ال بهذا العتاب اللطيف‪ ،‬فقال‪ { :‬عَبَسَ } [أي‪ ]:‬في وجهه { وَ َتوَلّى } في بدنه‪،‬‬
‫لجل مجيء العمى له‪ ،‬ثم ذكر الفائدة في القبال عليه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا يُدْرِيكَ َلعَلّهُ } أي‪ :‬العمى {‬
‫يَ ّزكّى } أي‪ :‬يتطهر عن الخلق الرذيلة‪ ،‬ويتصف بالخلق الجميلة؟‬

‫{ َأوْ َي ّذكّرُ فَتَ ْنفَعَهُ ال ّذكْرَى } أي‪ :‬يتذكر ما ينفعه‪ ،‬فيعمل بتلك الذكرى‪.‬‬

‫وهذه فائدة كبيرة‪ ،‬هي المقصودة من بعثة الرسل‪ ،‬ووعظ الوعاظ‪ ،‬وتذكير المذكرين‪ ،‬فإقبالك على‬
‫من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك ‪ ،‬هو الليق الواجب‪ ،‬وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني‬
‫الذي ل يسأل ول يستفتي لعدم رغبته في الخير‪ ،‬مع تركك من هو أهم منه‪ ،‬فإنه ل ينبغي لك‪،‬‬
‫فإنه ليس عليك أن ل يزكى‪ ،‬فلو لم يتزك‪ ،‬فلست بمحاسب على ما عمله من الشر‪.‬‬

‫فدل هذا على القاعدة المشهورة‪ ،‬أنه‪ " :‬ل يترك أمر معلوم لمر موهوم‪ ،‬ول مصلحة متحققة‬
‫لمصلحة متوهمة " وأنه ينبغي القبال على طالب العلم‪ ،‬المفتقر إليه‪ ،‬الحريص عليه أزيد من‬
‫غيره‪.‬‬

‫طهّ َرةٍ *‬
‫حفٍ ُمكَ ّرمَةٍ * مَ ْرفُوعَةٍ مُ َ‬
‫{ ‪ { } 32 - 11‬كَلّا إِ ّنهَا َت ْذكِ َرةٌ * َفمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ * فِي صُ ُ‬
‫طفَةٍ خََلقَهُ َفقَدّ َرهُ *‬
‫شيْءٍ خََلقَهُ * مِنْ ُن ْ‬
‫سفَ َرةٍ * كِرَامٍ بَرَ َرةٍ * قُ ِتلَ الْإِنْسَانُ مَا َأ ْكفَ َرهُ * مِنْ َأيّ َ‬
‫بِأَيْدِي َ‬
‫ثُمّ السّبِيلَ يَسّ َرهُ * ُثمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ُثمّ إِذَا شَاءَ أَنْشَ َرهُ * كَلّا َلمّا َي ْقضِ مَا َأمَ َرهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ‬
‫شقّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّا * وَعِنَبًا َو َقضْبًا *‬
‫ش َققْنَا الْأَ ْرضَ َ‬
‫طعَامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا ا ْلمَا َء صَبّا * ُثمّ َ‬
‫إِلَى َ‬
‫وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَا ِئقَ غُلْبًا * َوفَا ِكهَ ًة وَأَبّا * مَتَاعًا َل ُك ْم وَلِأَ ْنعَا ِمكُمْ }‬

‫يقول تعالى‪ { :‬كَلّا إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ } أي‪ :‬حقا إن هذه الموعظة تذكرة من ال‪ ،‬يذكر بها عباده‪ ،‬ويبين‬
‫لهم في كتابه ما يحتاجون إليه‪ ،‬ويبين الرشد من الغي‪ ،‬فإذا تبين ذلك { َفمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ } أي‪ :‬عمل‬
‫به‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬و ُقلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِنْ َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ }‬

‫حفٍ ُمكَ ّرمَةٍ مَ ْرفُوعَةٍ } القدر‬


‫ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها‪ ،‬فقال‪ { :‬فِي صُ ُ‬
‫طهّ َرةٌ } [من الفاق و] عن أن تنالها أيدي الشياطين أو يسترقوها‪ ،‬بل هي { بِأَيْدِي‬
‫والرتبة { مُ َ‬
‫سفَ َرةٍ } وهم الملئكة [الذين هم] السفراء بين ال وبين عباده‪ { ،‬كِرَامٍ } أي‪ :‬كثيري الخير‬
‫َ‬
‫والبركة‪ { ،‬بَرَ َرةٍ } قلوبهم وأعمالهم‪.‬‬

‫وذلك كله حفظ من ال لكتابه‪ ،‬أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملئكة الكرام القوياء التقياء‪،‬‬
‫ولم يجعل للشياطين عليه سبيل‪ ،‬وهذا مما يوجب اليمان به وتلقيه بالقبول‪ ،‬ولكن مع هذا أبى‬
‫النسان إل كفورا‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬قُ ِتلَ الْإِنْسَانُ مَا َأ ْكفَ َرهُ } لنعمة ال وما أشد معاندته للحق‬
‫بعدما تبين‪ ،‬وهو ما هو؟ هو من أضعف الشياء‪ ،‬خلقه ال من ماء مهين‪ ،‬ثم قدر خلقه‪ ،‬وسواه‬
‫بشرا سويا‪ ،‬وأتقن قواه الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫{ ُثمّ السّبِيلَ َيسّ َرهُ } أي‪ :‬يسر له السباب الدينية والدنيوية‪ ،‬وهداه السبيل‪[ ،‬وبينه] وامتحنه بالمر‬
‫والنهي‪ { ،‬ثُمّ َأمَا َتهُ فََأقْبَ َرهُ } أي‪ :‬أكرمه بالدفن‪ ،‬ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على‬
‫وجه الرض‪ُ { ،‬ثمّ إِذَا شَاءَ أَنْشَ َرهُ } أي‪ :‬بعثه بعد موته للجزاء‪ ،‬فال هو المنفرد بتدبير النسان‬
‫وتصريفه بهذه التصاريف‪ ،‬لم يشاركه فيه مشارك‪ ،‬وهو ‪-‬مع هذا‪ -‬ل يقوم بما أمره ال‪ ،‬ولم‬
‫يقض ما فرضه عليه‪ ،‬بل ل يزال مقصرا تحت الطلب‪.‬‬

‫ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه‪ ،‬وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات‬
‫طعَامِهِ أَنّا صَبَبْنَا ا ْلمَا َء صَبّا } أي‪ :‬أنزلنا المطر على‬
‫عديدة‪ ،‬ويسره له فقال‪ { :‬فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى َ‬
‫الرض بكثرة‪.‬‬

‫شقّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا } أصنافا مصنفة من أنواع الطعمة اللذيذة‪،‬‬


‫ش َققْنَا الْأَ ْرضَ } للنبات { َ‬
‫{ ُثمّ َ‬
‫والقوات الشهية { حبّا } وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلف أصنافها‪ { ،‬وَعِنَبًا َو َقضْبًا } وهو‬
‫خلًا } وخص هذه الربعة لكثرة فوائدها ومنافعها‪.‬‬
‫القت‪ { ،‬وَزَيْتُونًا وَنَ ْ‬

‫حدَائِقَ غُلْبًا } أي‪ :‬بساتين فيها الشجار الكثيرة الملتفة‪َ { ،‬وفَا ِكهَ ًة وَأَبّا } الفاكهة‪ :‬ما يتفكه فيه‬
‫{ وَ َ‬
‫النسان‪ ،‬من تين وعنب وخوخ ورمان‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫والب‪ :‬ما تأكله البهائم والنعام‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مَتَاعًا َلكُ ْم وَلِأَ ْنعَا ِمكُمْ } التي خلقها ال وسخرها لكم‪،‬‬
‫فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه‪ ،‬وبذل الجهد في النابة إليه‪ ،‬والقبال على‬
‫طاعته‪ ،‬والتصديق بأخباره‪.‬‬

‫{ ‪ { } 42 - 33‬فَإِذَا جَا َءتِ الصّاخّةُ * َيوْمَ َيفِرّ ا ْلمَ ْرءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَ ِت ِه وَبَنِيهِ‬
‫حكَةٌ ُمسْتَبْشِ َرةٌ * َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ‬
‫سفِ َرةٌ * ضَا ِ‬
‫* ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ * وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ مُ ْ‬
‫عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ * تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ * أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ }‬

‫أي‪ :‬إذا جاءت صيحة القيامة‪ ،‬التي تصخ لهولها السماع‪ ،‬وتنزعج لها الفئدة يومئذ‪ ،‬مما يرى‬
‫الناس من الهوال وشدة الحاجة لسالف العمال‪.‬‬

‫{ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ } من أعز الناس إليه‪ ،‬وأشفقهم لديه‪ { ،‬مِنْ َأخِي ِه وَُأمّ ِه وَأَبِي ِه َوصَاحِبَتِهِ } أي‪ :‬زوجته {‬
‫وَبَنِيهِ } وذلك لنه { ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ } أي‪ :‬قد شغلته نفسه‪ ،‬واهتم لفكاكها‪ ،‬ولم‬
‫يكن له التفات إلى غيرها‪ ،‬فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين‪ :‬سعداء وأشقياء‪ ،‬فأما السعداء‪،‬‬
‫سفِ َرةٌ } أي‪ :‬قد ظهر فيها السرور والبهجة‪ ،‬من ما عرفوا من نجاتهم‪،‬‬
‫فـوجوههم [يومئذ] { مُ ْ‬
‫حكَةٌ ُمسْتَبْشِ َر ٌة َووُجُوهٌ } الشقياء { َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ تَرْ َه ُقهَا } أي‪ :‬تغشاها‬
‫وفوزهم بالنعيم‪ { ،‬ضَا ِ‬
‫{ قَتَ َرةٌ } فهي سوداء مظلمة مدلهمة‪ ،‬قد أيست من كل خير‪ ،‬وعرفت شقاءها وهلكها‪.‬‬

‫{ أُولَ ِئكَ } الذين بهذا الوصف { هُمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ } أي‪ :‬الذين كفروا بنعمة ال وكذبوا بآيات ال‪،‬‬
‫وتجرأوا على محارمه‪.‬‬

‫نسأل ال العفو والعافية إنه جواد كريم [والحمد ل رب العالمين]‪.‬‬

‫تفسير سورة التكوير‬


‫[وهي] مكية‬

‫شمْسُ ُكوّ َرتْ * وَِإذَا النّجُومُ ا ْنكَدَ َرتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 14 - 1‬بِ ْ‬
‫سُيّ َرتْ * وَإِذَا ا ْلعِشَارُ عُطَّلتْ * وَإِذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ * وَإِذَا الّنفُوسُ‬
‫طتْ *‬
‫شَ‬‫سمَاءُ كُ ِ‬
‫حفُ نُشِ َرتْ * وَإِذَا ال ّ‬
‫جتْ * وَإِذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ * بَِأيّ ذَ ْنبٍ قُتَِلتْ * وَإِذَا الصّ ُ‬
‫ُزوّ َ‬
‫حضَ َرتْ }‬
‫سعّ َرتْ * وَإِذَا الْجَنّةُ أُزِْلفَتْ * عَِل َمتْ َنفْسٌ مَا أَ ْ‬
‫وَإِذَا ا ْلجَحِيمُ ُ‬

‫أي‪ :‬إذا حصلت هذه المور الهائلة‪ ،‬تميز الخلق‪ ،‬وعلم كل أحد ما قدمه لخرته‪ ،‬وما أحضره فيها‬
‫من خير وشر‪ ،‬وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي‪ :‬تجمع وتلف‪ ،‬ويخسف القمر‪ ،‬ويلقيان‬
‫في النار‪.‬‬

‫{ وَِإذَا النّجُومُ ا ْنكَدَ َرتْ } أي‪ :‬تغيرت‪ ،‬وتساقطت من أفلكها‪.‬‬


‫{ وَِإذَا الْجِبَالُ سُيّ َرتْ } أي‪ ::‬صارت كثيبا مهيل‪ ،‬ثم صارت كالعهن المنفوش‪ ،‬ثم تغيرت‬
‫وصارت هباء منبثا‪ ،‬وسيرت عن أماكنها‪ { ،‬وَإِذَا ا ْل ِعشَارُ عُطَّلتْ } أي‪ :‬عطل الناس حينئذ نفائس‬
‫أموالهم التي كانوا يهتمون لها ويراعونها في جميع الوقات‪ ،‬فجاءهم ما يذهلهم عنها‪ ،‬فنبه‬
‫بالعشار‪ ،‬وهي النوق التي تتبعها أولدها‪ ،‬وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم‪ ،‬على ما هو في‬
‫معناها من كل نفيس‪.‬‬

‫{ وَِإذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ } أي‪ :‬جمعت ليوم القيامة‪ ،‬ليقتص ال من بعضها لبعض‪ ،‬ويرى العباد‬
‫كمال عدله‪ ،‬حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها‪ :‬كوني ترابا‪.‬‬

‫{ وَِإذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ } أي‪ :‬أوقدت فصارت ‪-‬على عظمها‪ -‬نارا تتوقد‪.‬‬

‫جتْ } أي‪ :‬قرن كل صاحب عمل مع نظيره‪ ،‬فجمع البرار مع البرار‪،‬‬


‫{ وَِإذَا الّنفُوسُ ُزوّ َ‬
‫والفجار مع الفجار‪ ،‬وزوج المؤمنون بالحور العين‪ ،‬والكافرون بالشياطين‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪:‬‬
‫جهَنّمَ ُزمَرًا } { وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ إِلَى ا ْلجَنّةِ ُزمَرًا } { احْشُرُوا‬
‫{ وَسِيقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َ‬
‫جهُمْ } ‪.‬‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ‬

‫{ وَِإذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ } وهو الذي كانت الجاهلية الجهلء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من‬
‫غير سبب‪ ،‬إل خشية الفقر‪ ،‬فتسأل‪ { :‬بَِأيّ ذَ ْنبٍ قُتَِلتْ } ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب‪ ،‬ففي هذا‬
‫حفُ } المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر { ُنشِ َرتْ‬
‫توبيخ وتقريع لقاتليها ‪ { .‬وَِإذَا الصّ ُ‬
‫} وفرقت على أهلها‪ ،‬فآخذ كتابه بيمينه‪ ،‬وآخذ كتابه بشماله‪ ،‬أو من وراء ظهره‪.‬‬

‫طوِي‬
‫سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ } { َيوْمَ نَ ْ‬
‫شقّقُ ال ّ‬
‫طتْ } أي‪ :‬أزيلت‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ تَ َ‬
‫سمَاءُ كُشِ َ‬
‫{ وَِإذَا ال ّ‬
‫طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ }‬
‫جمِيعًا قَ ْبضَتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَالسّماوَاتُ َم ْ‬
‫جلّ لِ ْلكُ ُتبِ } { وَالْأَ ْرضُ َ‬
‫طيّ السّ ِ‬
‫سمَاءَ كَ َ‬
‫ال ّ‬
‫سعّ َرتْ } أي‪ :‬أوقد عليها فاستعرت‪ ،‬والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك‪ { ،‬وَِإذَا‬
‫جحِيمُ ُ‬
‫{ وَِإذَا الْ َ‬
‫الْجَنّةُ أُزِْل َفتْ } أي‪ :‬قربت للمتقين‪ { ،‬عَِل َمتْ َنفْسٌ } أي‪ :‬كل نفس‪ ،‬لتيانها في سياق الشرط‪.‬‬

‫حضَ َرتْ } أي‪ :‬ما حضر لديها من العمال [التي قدمتها] كما قال تعالى‪َ { :‬ووَجَدُوا مَا‬
‫{ مَا َأ ْ‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا } وهذه الوصاف التي وصف ال بها يوم القيامة‪ ،‬من الوصاف التي تنزعج لها‬
‫َ‬
‫القلوب‪ ،‬وتشتد من أجلها الكروب‪ ،‬وترتعد الفرائص وتعم المخاوف‪ ،‬وتحث أولي اللباب‬
‫للستعداد لذلك اليوم‪ ،‬وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم‪ ،‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬من أراد أن‬
‫شمْسُ ُكوّرَتْ }‬
‫ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين‪ ،‬فليتدبر سورة { ِإذَا ال ّ‬
‫سعَسَ * وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ‬
‫عْ‬‫جوَارِي ا ْلكُنّسِ * وَاللّ ْيلِ إِذَا َ‬
‫سمُ بِا ْلخُنّسِ * ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 29 - 15‬فَلَا ُأقْ ِ‬
‫* إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * ُمطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ * َومَا صَاحِ ُبكُمْ‬
‫ِبمَجْنُونٍ * وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأ ُفقِ ا ْلمُبِينِ * َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *‬
‫فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ َيسْ َتقِيمَ * َومَا َتشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ‬
‫اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫أقسم تعالى { بِالْخُنّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي‪ :‬تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة‬
‫المشرق‪ ،‬وهي النجوم السبعة السيارة‪ " :‬الشمس "‪ ،‬و " القمر "‪ ،‬و " الزهرة "‪ ،‬و " المشترى "‪ ،‬و‬
‫" المريخ "‪ ،‬و " زحل "‪ ،‬و " عطارد "‪ ،‬فهذه السبعة لها سيران‪ :‬سير إلى جهة المغرب مع باقي‬
‫الكواكب والفلك ‪ ،‬وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها‪.‬‬

‫فأقسم ال بها في حال خنوسها أي‪ :‬تأخرها‪ ،‬وفي حال جريانها‪ ،‬وفي حال كنوسها أي‪ :‬استتارها‬
‫بالنهار‪ ،‬ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها‪.‬‬

‫سعَسَ } أي‪ :‬أدبر وقيل‪ :‬أقبل‪ { ،‬وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ } أي‪ :‬بانت علئم الصبح‪،‬‬
‫{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا عَ ْ‬
‫وانشق النور شيئا فشيئا حتى يستكمل وتطلع الشمس‪ ،‬وهذه آيات عظام‪ ،‬أقسم ال بها على علو‬
‫سند القرآن وجللته‪ ،‬وحفظه من كل شيطان رجيم فقال‪ { :‬إِنّهُ َل َقوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو‪ :‬جبريل‬
‫عليه السلم‪ ،‬نزل به من ال تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنّهُ لَتَنْزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ‬
‫الَْأمِينُ عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } ووصفه ال بالكريم لكرم أخلقه‪ ،‬وكثره خصاله الحميدة‪،‬‬
‫فإنه أفضل الملئكة‪ ،‬وأعظمهم رتبة عند ربه‪ { ،‬ذِي ُق ّوةٍ } على ما أمره ال به‪ .‬ومن قوته أنه‬
‫قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم‪.‬‬

‫{ عِ ْندَ ذِي ا ْلعَرْشِ } أي‪ :‬جبريل مقرب عند ال‪ ،‬له منزلة رفيعة‪ ،‬وخصيصة من ال اختصه بها‪،‬‬
‫{ َمكِينٍ } أي‪ :‬له مكانة ومنزلة فوق منازل الملئكة كلهم‪.‬‬

‫{ ُمطَاعٍ َثمّ } أي‪ :‬جبريل مطاع في المل العلى‪ ،‬لديه من الملئكة المقربين جنود‪ ،‬نافذ فيهم‬
‫أمره‪ ،‬مطاع رأيه‪َ { ،‬أمِينٍ } أي‪ :‬ذو أمانة وقيام بما أمر به‪ ،‬ل يزيد ول ينقص‪ ،‬ول يتعدى ما حد‬
‫له‪ ،‬وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند ال تعالى‪ ،‬فإنه بعث به هذا الملك الكريم‪ ،‬الموصوف‬
‫بتلك الصفات الكاملة‪ .‬والعادة أن الملوك ل ترسل الكريم عليها إل في أهم المهمات‪ ،‬وأشرف‬
‫الرسائل‪.‬‬

‫ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن‪ ،‬ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه‬
‫القرآن‪ ،‬ودعا إليه الناس فقال‪َ { :‬ومَا صَاحِ ُبكُمْ } وهو محمد صلى ال عليه وسلم { ِبمَجْنُونٍ } كما‬
‫يقوله أعداؤه المكذبون برسالته‪ ،‬المتقولون عليه من القوال‪ ،‬التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء‬
‫به ما شاءوا وقدروا عليه‪ ،‬بل هو أكمل الناس عقل‪ ،‬وأجزلهم رأيا‪ ،‬وأصدقهم لهجة‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأفُقِ ا ْلمُبِينِ } أي‪ :‬رأى محمد صلى ال عليه وسلم جبريل عليه السلم بالفق البين‪،‬‬
‫الذي هو أعلى ما يلوح للبصر‪.‬‬

‫{ َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ } أي‪ :‬وما هو على ما أوحاه ال إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو‬
‫يكتم بعضه‪ ،‬بل هو صلى ال عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الرض‪ ،‬الذي بلغ رسالت ربه‬
‫البلغ المبين‪ ،‬فلم يشح بشيء منه‪ ،‬عن غني ول فقير‪ ،‬ول رئيس ول مرءوس‪ ،‬ول ذكر ول‬
‫أنثى‪ ،‬ول حضري ول بدوي‪ ،‬ولذلك بعثه ال في أمة أمية‪ ،‬جاهلة جهلء‪ ،‬فلم يمت صلى ال عليه‬
‫وسلم حتى كانوا علماء ربانيين‪ ،‬وأحبارا متفرسين‪ ،‬إليهم الغاية في العلوم‪ ،‬وإليهم المنتهى في‬
‫استخراج الدقائق والفهوم‪ ،‬وهم الساتذة‪ ،‬وغيرهم قصاراه أن يكون من تلميذهم‪.‬‬

‫{ َومَا ُهوَ ِب َقوْلِ شَ ْيطَانٍ َرجِيمٍ } لما ذكر جللة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين‪ ،‬اللذين‬
‫وصل إلى الناس على أيديهما‪ ،‬وأثنى ال عليهما بما أثنى‪ ،‬دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في‬
‫صدقه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي‪ :‬في غاية البعد عن ال وعن قربه‪ { ،‬فَأَيْنَ‬
‫تَذْهَبُونَ } أي‪ :‬كيف يخطر هذا ببالكم‪ ،‬وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في‬
‫أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب‪ ،‬الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إل‬
‫من انقلب الحقائق‪ { .‬إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ربهم‪ ،‬وما له من صفات الكمال‪ ،‬وما‬
‫ينزه عنه من النقائص والرذائل [والمثال]‪ ،‬ويتذكرون به الوامر والنواهي وحكمها‪ ،‬ويتذكرون‬
‫به الحكام القدرية والشرعية والجزائية‪ ،‬وبالجملة‪ ،‬يتذكرون به مصالح الدارين‪ ،‬وينالون بالعمل‬
‫به السعادتين‪.‬‬

‫{ ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ يَسْ َتقِيمَ } بعدما تبين الرشد من الغي‪ ،‬والهدى من الضلل‪َ { .‬ومَا تَشَاءُونَ إِلّا‬
‫أَنْ يَشَاءَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬فمشيئته نافذة‪ ،‬ل يمكن أن تعارض أو تمانع‪ .‬وفي هذه الية‬
‫وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة‪ ،‬والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [وال أعلم والحمد ل]‪.‬‬

‫تفسير سورة النفطار‬


‫[وهي] مكية‬

‫سمَاءُ ا ْنفَطَ َرتْ * وَإِذَا ا ْل َكوَاكِبُ انْتَثَ َرتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫فُجّ َرتْ * وَإِذَا ا ْلقُبُورُ ُبعْثِ َرتْ * عَِل َمتْ َنفْسٌ مَا َق ّد َمتْ وََأخّ َرتْ }‬
‫أي‪ :‬إذا انشقت السماء وانفطرت‪ ،‬وانتثرت نجومها‪ ،‬وزال جمالها‪ ،‬وفجرت البحار فصارت بحرا‬
‫واحدا‪ ،‬وبعثرت القبور بأن أخرجت ما فيها من الموات‪ ،‬وحشروا للموقف بين يدي ال للجزاء‬
‫على العمال‪ .‬فحينئذ ينكشف الغطاء‪ ،‬ويزول ما كان خفيا‪ ،‬وتعلم كل نفس ما معها من الرباح‬
‫والخسران‪ ،‬هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة‪ ،‬وميزانه قد خف‪ ،‬والمظالم قد‬
‫تداعت إليه‪ ،‬والسيئات قد حضرت لديه‪ ،‬وأيقن بالشقاء البدي والعذاب السرمدي ‪.‬‬

‫و [هنالك] يفوز المتقون المقدمون لصالح العمال بالفوز العظيم‪ ،‬والنعيم المقيم والسلمة من‬
‫عذاب الجحيم‪.‬‬

‫سوّاكَ َفعَدََلكَ * فِي َأيّ‬


‫{ ‪ { } 12 - 6‬يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ مَا غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ * الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫صُو َرةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ * كَلّا َبلْ ُتكَذّبُونَ بِالدّينِ * وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * َيعَْلمُونَ‬
‫مَا َت ْفعَلُونَ }‬

‫يقول تعالى معاتبا للنسان المقصر في حق ربه‪ ،‬المتجرئ على مساخطه ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ مَا‬
‫غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ } أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟‬

‫سوّاكَ } في أحسن تقويم؟ { َف َعدََلكَ } وركبك تركيبا قويما معتدل‪ ،‬في‬


‫أليس هو { الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫أحسن الشكال‪ ،‬وأجمل الهيئات‪ ،‬فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم‪ ،‬أو تجحد إحسان المحسن؟‬

‫إن هذا إل من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك‪ ،‬فاحمد ال أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو‬
‫ي صُورَةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ }‬
‫حمار‪ ،‬أو نحوهما من الحيوانات؛ فلهذا قال تعالى‪ { :‬فِي َأ ّ‬

‫[وقوله‪ { ]:‬كَلّا َبلْ ُت َكذّبُونَ بِالدّينِ } أي‪ :‬مع هذا الوعظ والتذكير‪ ،‬ل تزالون مستمرين على التكذيب‬
‫بالجزاء‪.‬‬

‫وأنتم ل بد أن تحاسبوا على ما عملتم‪ ،‬وقد أقام ال عليكم ملئكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم‬
‫ويعلمون أفعالكم‪ ،‬ودخل في هذا أفعال القلوب‪ ،‬وأفعال الجوارح‪ ،‬فاللئق بكم أن تكرموهم‬
‫وتجلوهم وتحترموهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 19 - 13‬إِنّ الْأَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ * َيصَْلوْ َنهَا َيوْمَ الدّينِ * َومَا ُهمْ‬
‫عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ * َومَا أَدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ * ُثمّ مَا أَدْرَاكَ مَا َي ْومُ الدّينِ * َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ‬
‫شَيْئًا وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ }‬
‫المراد بالبرار‪ ،‬القائمون بحقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬الملزمون للبر‪ ،‬في أعمال القلوب وأعمال‬
‫الجوارح‪ ،‬فهؤلء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن‪ ،‬في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و‬
‫[في] دار القرار‪.‬‬

‫{ وَإِنّ ا ْلفُجّارَ } الذين قصروا في حقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم {‬
‫َلفِي جَحِيمٍ } أي‪ :‬عذاب أليم‪ ،‬في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار‪.‬‬

‫{ َيصَْلوْ َنهَا } ويعذبون [بها] أشد العذاب { َيوْمِ الدّينِ } أي‪ :‬يوم الجزاء على العمال‪.‬‬

‫{ َومَا ُهمْ عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ } أي‪ :‬بل هم ملزمون لها‪ ،‬ل يخرجون منها‪.‬‬

‫{ َومَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ ثُمّ مَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ } ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير‬
‫الذهان‪.‬‬

‫{ َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ شَيْئًا } ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية‪ ،‬فكل مشتغل بنفسه ل‬
‫يطلب الفكاك لغيرها‪ { .‬وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ } فهو الذي يفصل بين العباد‪ ،‬ويأخذ للمظلوم حقه من‬
‫ظالمه [وال أعلم]‬

‫تفسير سورة التكوير‬


‫[وهي] مكية‬

‫شمْسُ ُكوّ َرتْ * وَِإذَا النّجُومُ ا ْنكَدَ َرتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 14 - 1‬بِ ْ‬
‫سُيّ َرتْ * وَإِذَا ا ْلعِشَارُ عُطَّلتْ * وَإِذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ * وَإِذَا الّنفُوسُ‬
‫طتْ *‬
‫شَ‬‫سمَاءُ كُ ِ‬
‫حفُ نُشِ َرتْ * وَإِذَا ال ّ‬
‫جتْ * وَإِذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ * بَِأيّ ذَ ْنبٍ قُتَِلتْ * وَإِذَا الصّ ُ‬
‫ُزوّ َ‬
‫حضَ َرتْ }‬
‫سعّ َرتْ * وَإِذَا الْجَنّةُ أُزِْلفَتْ * عَِل َمتْ َنفْسٌ مَا أَ ْ‬
‫وَإِذَا ا ْلجَحِيمُ ُ‬

‫أي‪ :‬إذا حصلت هذه المور الهائلة‪ ،‬تميز الخلق‪ ،‬وعلم كل أحد ما قدمه لخرته‪ ،‬وما أحضره فيها‬
‫من خير وشر‪ ،‬وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي‪ :‬تجمع وتلف‪ ،‬ويخسف القمر‪ ،‬ويلقيان‬
‫في النار‪.‬‬

‫{ وَِإذَا النّجُومُ ا ْنكَدَ َرتْ } أي‪ :‬تغيرت‪ ،‬وتساقطت من أفلكها‪.‬‬


‫{ وَِإذَا الْجِبَالُ سُيّ َرتْ } أي‪ ::‬صارت كثيبا مهيل‪ ،‬ثم صارت كالعهن المنفوش‪ ،‬ثم تغيرت‬
‫وصارت هباء منبثا‪ ،‬وسيرت عن أماكنها‪ { ،‬وَإِذَا ا ْل ِعشَارُ عُطَّلتْ } أي‪ :‬عطل الناس حينئذ نفائس‬
‫أموالهم التي كانوا يهتمون لها ويراعونها في جميع الوقات‪ ،‬فجاءهم ما يذهلهم عنها‪ ،‬فنبه‬
‫بالعشار‪ ،‬وهي النوق التي تتبعها أولدها‪ ،‬وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم‪ ،‬على ما هو في‬
‫معناها من كل نفيس‪.‬‬

‫{ وَِإذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ } أي‪ :‬جمعت ليوم القيامة‪ ،‬ليقتص ال من بعضها لبعض‪ ،‬ويرى العباد‬
‫كمال عدله‪ ،‬حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها‪ :‬كوني ترابا‪.‬‬

‫{ وَِإذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ } أي‪ :‬أوقدت فصارت ‪-‬على عظمها‪ -‬نارا تتوقد‪.‬‬

‫جتْ } أي‪ :‬قرن كل صاحب عمل مع نظيره‪ ،‬فجمع البرار مع البرار‪،‬‬


‫{ وَِإذَا الّنفُوسُ ُزوّ َ‬
‫والفجار مع الفجار‪ ،‬وزوج المؤمنون بالحور العين‪ ،‬والكافرون بالشياطين‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪:‬‬
‫جهَنّمَ ُزمَرًا } { وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ إِلَى ا ْلجَنّةِ ُزمَرًا } { احْشُرُوا‬
‫{ وَسِيقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َ‬
‫جهُمْ } ‪.‬‬
‫الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ‬

‫{ وَِإذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ } وهو الذي كانت الجاهلية الجهلء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من‬
‫غير سبب‪ ،‬إل خشية الفقر‪ ،‬فتسأل‪ { :‬بَِأيّ ذَ ْنبٍ قُتَِلتْ } ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب‪ ،‬ففي هذا‬
‫حفُ } المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر { ُنشِ َرتْ‬
‫توبيخ وتقريع لقاتليها ‪ { .‬وَِإذَا الصّ ُ‬
‫} وفرقت على أهلها‪ ،‬فآخذ كتابه بيمينه‪ ،‬وآخذ كتابه بشماله‪ ،‬أو من وراء ظهره‪.‬‬

‫طوِي‬
‫سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ } { َيوْمَ نَ ْ‬
‫شقّقُ ال ّ‬
‫طتْ } أي‪ :‬أزيلت‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ تَ َ‬
‫سمَاءُ كُشِ َ‬
‫{ وَِإذَا ال ّ‬
‫طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ }‬
‫جمِيعًا قَ ْبضَتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَالسّماوَاتُ َم ْ‬
‫جلّ لِ ْلكُ ُتبِ } { وَالْأَ ْرضُ َ‬
‫طيّ السّ ِ‬
‫سمَاءَ كَ َ‬
‫ال ّ‬
‫سعّ َرتْ } أي‪ :‬أوقد عليها فاستعرت‪ ،‬والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك‪ { ،‬وَِإذَا‬
‫جحِيمُ ُ‬
‫{ وَِإذَا الْ َ‬
‫الْجَنّةُ أُزِْل َفتْ } أي‪ :‬قربت للمتقين‪ { ،‬عَِل َمتْ َنفْسٌ } أي‪ :‬كل نفس‪ ،‬لتيانها في سياق الشرط‪.‬‬

‫حضَ َرتْ } أي‪ :‬ما حضر لديها من العمال [التي قدمتها] كما قال تعالى‪َ { :‬ووَجَدُوا مَا‬
‫{ مَا َأ ْ‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا } وهذه الوصاف التي وصف ال بها يوم القيامة‪ ،‬من الوصاف التي تنزعج لها‬
‫َ‬
‫القلوب‪ ،‬وتشتد من أجلها الكروب‪ ،‬وترتعد الفرائص وتعم المخاوف‪ ،‬وتحث أولي اللباب‬
‫للستعداد لذلك اليوم‪ ،‬وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم‪ ،‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬من أراد أن‬
‫شمْسُ ُكوّرَتْ }‬
‫ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين‪ ،‬فليتدبر سورة { ِإذَا ال ّ‬
‫سعَسَ * وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ‬
‫عْ‬‫جوَارِي ا ْلكُنّسِ * وَاللّ ْيلِ إِذَا َ‬
‫سمُ بِا ْلخُنّسِ * ا ْل َ‬
‫{ ‪ { } 29 - 15‬فَلَا ُأقْ ِ‬
‫* إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * ُمطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ * َومَا صَاحِ ُبكُمْ‬
‫ِبمَجْنُونٍ * وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأ ُفقِ ا ْلمُبِينِ * َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *‬
‫فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ َيسْ َتقِيمَ * َومَا َتشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ‬
‫اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫أقسم تعالى { بِالْخُنّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي‪ :‬تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة‬
‫المشرق‪ ،‬وهي النجوم السبعة السيارة‪ " :‬الشمس "‪ ،‬و " القمر "‪ ،‬و " الزهرة "‪ ،‬و " المشترى "‪ ،‬و‬
‫" المريخ "‪ ،‬و " زحل "‪ ،‬و " عطارد "‪ ،‬فهذه السبعة لها سيران‪ :‬سير إلى جهة المغرب مع باقي‬
‫الكواكب والفلك ‪ ،‬وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها‪.‬‬

‫فأقسم ال بها في حال خنوسها أي‪ :‬تأخرها‪ ،‬وفي حال جريانها‪ ،‬وفي حال كنوسها أي‪ :‬استتارها‬
‫بالنهار‪ ،‬ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها‪.‬‬

‫سعَسَ } أي‪ :‬أدبر وقيل‪ :‬أقبل‪ { ،‬وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ } أي‪ :‬بانت علئم الصبح‪،‬‬
‫{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا عَ ْ‬
‫وانشق النور شيئا فشيئا حتى يستكمل وتطلع الشمس‪ ،‬وهذه آيات عظام‪ ،‬أقسم ال بها على علو‬
‫سند القرآن وجللته‪ ،‬وحفظه من كل شيطان رجيم فقال‪ { :‬إِنّهُ َل َقوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو‪ :‬جبريل‬
‫عليه السلم‪ ،‬نزل به من ال تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَإِنّهُ لَتَنْزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ‬
‫الَْأمِينُ عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } ووصفه ال بالكريم لكرم أخلقه‪ ،‬وكثره خصاله الحميدة‪،‬‬
‫فإنه أفضل الملئكة‪ ،‬وأعظمهم رتبة عند ربه‪ { ،‬ذِي ُق ّوةٍ } على ما أمره ال به‪ .‬ومن قوته أنه‬
‫قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم‪.‬‬

‫{ عِ ْندَ ذِي ا ْلعَرْشِ } أي‪ :‬جبريل مقرب عند ال‪ ،‬له منزلة رفيعة‪ ،‬وخصيصة من ال اختصه بها‪،‬‬
‫{ َمكِينٍ } أي‪ :‬له مكانة ومنزلة فوق منازل الملئكة كلهم‪.‬‬

‫{ ُمطَاعٍ َثمّ } أي‪ :‬جبريل مطاع في المل العلى‪ ،‬لديه من الملئكة المقربين جنود‪ ،‬نافذ فيهم‬
‫أمره‪ ،‬مطاع رأيه‪َ { ،‬أمِينٍ } أي‪ :‬ذو أمانة وقيام بما أمر به‪ ،‬ل يزيد ول ينقص‪ ،‬ول يتعدى ما حد‬
‫له‪ ،‬وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند ال تعالى‪ ،‬فإنه بعث به هذا الملك الكريم‪ ،‬الموصوف‬
‫بتلك الصفات الكاملة‪ .‬والعادة أن الملوك ل ترسل الكريم عليها إل في أهم المهمات‪ ،‬وأشرف‬
‫الرسائل‪.‬‬

‫ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن‪ ،‬ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه‬
‫القرآن‪ ،‬ودعا إليه الناس فقال‪َ { :‬ومَا صَاحِ ُبكُمْ } وهو محمد صلى ال عليه وسلم { ِبمَجْنُونٍ } كما‬
‫يقوله أعداؤه المكذبون برسالته‪ ،‬المتقولون عليه من القوال‪ ،‬التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء‬
‫به ما شاءوا وقدروا عليه‪ ،‬بل هو أكمل الناس عقل‪ ،‬وأجزلهم رأيا‪ ،‬وأصدقهم لهجة‪.‬‬

‫{ وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأفُقِ ا ْلمُبِينِ } أي‪ :‬رأى محمد صلى ال عليه وسلم جبريل عليه السلم بالفق البين‪،‬‬
‫الذي هو أعلى ما يلوح للبصر‪.‬‬

‫{ َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ } أي‪ :‬وما هو على ما أوحاه ال إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو‬
‫يكتم بعضه‪ ،‬بل هو صلى ال عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الرض‪ ،‬الذي بلغ رسالت ربه‬
‫البلغ المبين‪ ،‬فلم يشح بشيء منه‪ ،‬عن غني ول فقير‪ ،‬ول رئيس ول مرءوس‪ ،‬ول ذكر ول‬
‫أنثى‪ ،‬ول حضري ول بدوي‪ ،‬ولذلك بعثه ال في أمة أمية‪ ،‬جاهلة جهلء‪ ،‬فلم يمت صلى ال عليه‬
‫وسلم حتى كانوا علماء ربانيين‪ ،‬وأحبارا متفرسين‪ ،‬إليهم الغاية في العلوم‪ ،‬وإليهم المنتهى في‬
‫استخراج الدقائق والفهوم‪ ،‬وهم الساتذة‪ ،‬وغيرهم قصاراه أن يكون من تلميذهم‪.‬‬

‫{ َومَا ُهوَ ِب َقوْلِ شَ ْيطَانٍ َرجِيمٍ } لما ذكر جللة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين‪ ،‬اللذين‬
‫وصل إلى الناس على أيديهما‪ ،‬وأثنى ال عليهما بما أثنى‪ ،‬دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في‬
‫صدقه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي‪ :‬في غاية البعد عن ال وعن قربه‪ { ،‬فَأَيْنَ‬
‫تَذْهَبُونَ } أي‪ :‬كيف يخطر هذا ببالكم‪ ،‬وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في‬
‫أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب‪ ،‬الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إل‬
‫من انقلب الحقائق‪ { .‬إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ربهم‪ ،‬وما له من صفات الكمال‪ ،‬وما‬
‫ينزه عنه من النقائص والرذائل [والمثال]‪ ،‬ويتذكرون به الوامر والنواهي وحكمها‪ ،‬ويتذكرون‬
‫به الحكام القدرية والشرعية والجزائية‪ ،‬وبالجملة‪ ،‬يتذكرون به مصالح الدارين‪ ،‬وينالون بالعمل‬
‫به السعادتين‪.‬‬

‫{ ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ يَسْ َتقِيمَ } بعدما تبين الرشد من الغي‪ ،‬والهدى من الضلل‪َ { .‬ومَا تَشَاءُونَ إِلّا‬
‫أَنْ يَشَاءَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي‪ :‬فمشيئته نافذة‪ ،‬ل يمكن أن تعارض أو تمانع‪ .‬وفي هذه الية‬
‫وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة‪ ،‬والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [وال أعلم والحمد ل]‪.‬‬

‫تفسير سورة النفطار‬


‫[وهي] مكية‬

‫سمَاءُ ا ْنفَطَ َرتْ * وَإِذَا ا ْل َكوَاكِبُ انْتَثَ َرتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫فُجّ َرتْ * وَإِذَا ا ْلقُبُورُ ُبعْثِ َرتْ * عَِل َمتْ َنفْسٌ مَا َق ّد َمتْ وََأخّ َرتْ }‬
‫أي‪ :‬إذا انشقت السماء وانفطرت‪ ،‬وانتثرت نجومها‪ ،‬وزال جمالها‪ ،‬وفجرت البحار فصارت بحرا‬
‫واحدا‪ ،‬وبعثرت القبور بأن أخرجت ما فيها من الموات‪ ،‬وحشروا للموقف بين يدي ال للجزاء‬
‫على العمال‪ .‬فحينئذ ينكشف الغطاء‪ ،‬ويزول ما كان خفيا‪ ،‬وتعلم كل نفس ما معها من الرباح‬
‫والخسران‪ ،‬هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة‪ ،‬وميزانه قد خف‪ ،‬والمظالم قد‬
‫تداعت إليه‪ ،‬والسيئات قد حضرت لديه‪ ،‬وأيقن بالشقاء البدي والعذاب السرمدي ‪.‬‬

‫و [هنالك] يفوز المتقون المقدمون لصالح العمال بالفوز العظيم‪ ،‬والنعيم المقيم والسلمة من‬
‫عذاب الجحيم‪.‬‬

‫سوّاكَ َفعَدََلكَ * فِي َأيّ‬


‫{ ‪ { } 12 - 6‬يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ مَا غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ * الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫صُو َرةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ * كَلّا َبلْ ُتكَذّبُونَ بِالدّينِ * وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * َيعَْلمُونَ‬
‫مَا َت ْفعَلُونَ }‬

‫يقول تعالى معاتبا للنسان المقصر في حق ربه‪ ،‬المتجرئ على مساخطه ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ مَا‬
‫غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ } أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟‬

‫سوّاكَ } في أحسن تقويم؟ { َف َعدََلكَ } وركبك تركيبا قويما معتدل‪ ،‬في‬


‫أليس هو { الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫أحسن الشكال‪ ،‬وأجمل الهيئات‪ ،‬فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم‪ ،‬أو تجحد إحسان المحسن؟‬

‫إن هذا إل من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك‪ ،‬فاحمد ال أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو‬
‫ي صُورَةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ }‬
‫حمار‪ ،‬أو نحوهما من الحيوانات؛ فلهذا قال تعالى‪ { :‬فِي َأ ّ‬

‫[وقوله‪ { ]:‬كَلّا َبلْ ُت َكذّبُونَ بِالدّينِ } أي‪ :‬مع هذا الوعظ والتذكير‪ ،‬ل تزالون مستمرين على التكذيب‬
‫بالجزاء‪.‬‬

‫وأنتم ل بد أن تحاسبوا على ما عملتم‪ ،‬وقد أقام ال عليكم ملئكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم‬
‫ويعلمون أفعالكم‪ ،‬ودخل في هذا أفعال القلوب‪ ،‬وأفعال الجوارح‪ ،‬فاللئق بكم أن تكرموهم‬
‫وتجلوهم وتحترموهم‪.‬‬

‫{ ‪ { } 19 - 13‬إِنّ الْأَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ * َيصَْلوْ َنهَا َيوْمَ الدّينِ * َومَا ُهمْ‬
‫عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ * َومَا أَدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ * ُثمّ مَا أَدْرَاكَ مَا َي ْومُ الدّينِ * َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ‬
‫شَيْئًا وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ }‬
‫المراد بالبرار‪ ،‬القائمون بحقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬الملزمون للبر‪ ،‬في أعمال القلوب وأعمال‬
‫الجوارح‪ ،‬فهؤلء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن‪ ،‬في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و‬
‫[في] دار القرار‪.‬‬

‫{ وَإِنّ ا ْلفُجّارَ } الذين قصروا في حقوق ال وحقوق عباده‪ ،‬الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم {‬
‫َلفِي جَحِيمٍ } أي‪ :‬عذاب أليم‪ ،‬في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار‪.‬‬

‫{ َيصَْلوْ َنهَا } ويعذبون [بها] أشد العذاب { َيوْمِ الدّينِ } أي‪ :‬يوم الجزاء على العمال‪.‬‬

‫{ َومَا ُهمْ عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ } أي‪ :‬بل هم ملزمون لها‪ ،‬ل يخرجون منها‪.‬‬

‫{ َومَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ ثُمّ مَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ } ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير‬
‫الذهان‪.‬‬

‫{ َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ شَيْئًا } ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية‪ ،‬فكل مشتغل بنفسه ل‬
‫يطلب الفكاك لغيرها‪ { .‬وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ } فهو الذي يفصل بين العباد‪ ،‬ويأخذ للمظلوم حقه من‬
‫ظالمه [وال أعلم]‬

‫تفسير سورة المطففين‬


‫وهي مكية‬

‫ط ّففِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النّاسِ يَسْ َت ْوفُونَ *‬


‫حمَنِ الرّحِي ِم وَ ْيلٌ لِ ْلمُ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 6 - 1‬بِ ْ‬
‫عظِيمٍ * َيوْمَ َيقُومُ النّاسُ‬
‫وَإِذَا كَالُوهُمْ َأوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنّ أُولَ ِئكَ أَ ّن ُهمْ مَ ْبعُوثُونَ * لِ َيوْمٍ َ‬
‫لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫طفّفِينَ }‬
‫{ وَ ْيلٌ } كلمة عذاب‪ ،‬ووعيد { ِل ْلمُ َ‬

‫وفسر ال المطففين بقوله { الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النّاسِ } أي‪ :‬أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم‬
‫قبلهم { يَسْ َت ْوفُونَ } يستوفونه كامل من غير نقص‪.‬‬

‫{ وَِإذَا كَالُوهُمْ َأ ْو وَزَنُوهُمْ } أي‪ :‬إذا أعطوا الناس حقهم‪ ،‬الذي للناس عليهم بكيل أو وزن‪،‬‬
‫{ ُيخْسِرُونَ } أي‪ :‬ينقصونهم ذلك‪ ،‬إما بمكيال وميزان ناقصين‪ ،‬أو بعدم ملء المكيال والميزان‪ ،‬أو‬
‫نحو ذلك‪ .‬فهذا سرقة [لموال] الناس ‪ ،‬وعدم إنصاف [لهم] منهم‪.‬‬
‫وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان‪ ،‬فالذي يأخذ أموالهم قهرًا أو‬
‫سرقة‪ ،‬أولى بهذا الوعيد من المطففين‪.‬‬

‫ودلت الية الكريمة‪ ،‬على أن النسان كما يأخذ من الناس الذي له‪ ،‬يجب عليه أن يعطيهم كل ما‬
‫لهم من الموال والمعاملت‪ ،‬بل يدخل في [عموم هذا] الحجج والمقالت‪ ،‬فإنه كما أن المتناظرين‬
‫قد جرت العادة أن كل واحد [منهما] يحرص على ماله من الحجج‪ ،‬فيجب عليه أيضًا أن يبين ما‬
‫لخصمه من الحجج [التي ل يعلمها]‪ ،‬وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو‪ ،‬وفي هذا‬
‫الموضع يعرف إنصاف النسان من تعصبه واعتسافه‪ ،‬وتواضعه من كبره‪ ،‬وعقله من سفهه‪،‬‬
‫نسأل ال التوفيق لكل خير‪.‬‬

‫ثم توعد تعالى المطففين‪ ،‬وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه‪ ،‬فقال‪َ { :‬ألَا يَظُنّ أُولَ ِئكَ‬
‫أَ ّنهُمْ مَ ْبعُوثُونَ لِ َي ْومٍ عَظِيمٍ َيوْمَ َيقُومُ النّاسُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم‬
‫باليوم الخر‪ ،‬وإل فلو آمنوا به‪ ،‬وعرفوا أنهم يقومون بين يدى ال‪ ،‬يحاسبهم على القليل والكثير‪،‬‬
‫لقلعوا عن ذلك وتابوا منه‪.‬‬

‫سجّينٌ * كِتَابٌ مَ ْرقُومٌ * وَ ْيلٌ‬


‫سجّينٍ * َومَا أَدْرَاكَ مَا ِ‬
‫{ ‪ { } 17 - 7‬كَلّا إِنّ كِتَابَ ا ْلفُجّارِ َلفِي ِ‬
‫َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * الّذِينَ ُيكَذّبُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ * َومَا ُيكَ ّذبُ بِهِ إِلّا ُكلّ ُمعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا‬
‫قَالَ أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ * كَلّا َبلْ رَانَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * كَلّا إِ ّنهُمْ عَنْ رَ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ‬
‫حجُوبُونَ * ُثمّ إِ ّنهُمْ َلصَالُو ا ْلجَحِيمِ * ثُمّ ُيقَالُ َهذَا الّذِي كُنْ ُتمْ بِهِ ُت َكذّبُونَ }‬
‫َلمَ ْ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬كَلّا إِنّ كِتَابَ ا ْلفُجّارِ } [وهذا شامل لكل فاجر] من أنواع الكفرة والمنافقين‪،‬‬
‫سجّينٍ }‬
‫والفاسقين { َلفِي ِ‬

‫ثم فسر ذلك بقوله‪َ { :‬ومَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ كِتَابٌ مَ ْرقُومٌ } أي‪ :‬كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة‪،‬‬
‫والسجين‪ :‬المحل الضيق الضنك‪ ،‬و { سجين } ضد { عليين } الذي هو محل كتاب البرار‪ ،‬كما‬
‫سيأتي‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن { سجين } هو أسفل الرض السابعة‪ ،‬مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم‪.‬‬

‫{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } ثم بين المكذبين بأنهم { الّذِينَ ُيكَذّبُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ } أي‪ :‬يوم الجزاء‪ ،‬يوم‬
‫يدين ال فيه الناس بأعمالهم‪.‬‬

‫{ َومَا ُيكَ ّذبُ بِهِ إِلّا ُكلّ ُمعْتَدٍ } على محارم ال‪ ،‬متعد من الحلل إلى الحرام‪.‬‬
‫{ أَثِيمٍ } أي كثير الثم‪ ،‬فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب‪ ،‬ويحمله [عدوانه على التكذيب‬
‫ويوجب له] كبره رد الحق‪ ،‬ولهذا { إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا } الدالة على الحق‪ ،‬و[على] صدق ما‬
‫جاءت به رسله‪ ،‬كذبها وعاندها‪ ،‬و { قَالَ } هذه { َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي‪ :‬من ترهات المتقدمين‪،‬‬
‫وأخبار المم الغابرين‪ ،‬ليس من عند ال تكبرا وعنادا‪.‬‬

‫وأما من أنصف‪ ،‬وكان مقصوده الحق المبين‪ ،‬فإنه ل يكذب بيوم الدين‪ ،‬لن ال قد أقام عليه من‬
‫الدلة القاطعة‪ ،‬والبراهين الساطعة‪ ،‬ما يجعله حق اليقين‪ ،‬وصار لقلوبهم مثل الشمس للبصار ‪،‬‬
‫بخلف من ران على قلبه كسبه‪ ،‬وغطته معاصيه‪ ،‬فإنه محجوب عن الحق‪ ،‬ولهذا جوزي على‬
‫ذلك‪ ،‬بأن حجب عن ال‪ ،‬كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات ال‪ { ،‬ثُمّ إِ ّن ُهمْ } مع هذه العقوبة‬
‫جحِيمِ } ثم يقال لهم توبيخا وتقريعًا‪َ :‬هذَا الّذِي كُنْ ُتمْ بِهِ ُت َكذّبُونَ } فذكر لهم ثلثة‬
‫البليغة { َلصَالُوا الْ َ‬
‫أنواع من العذاب‪ :‬عذاب الجحيم‪ ،‬وعذاب التوبيخ‪ ،‬واللوم‪.‬‬

‫وعذاب الحجاب من رب العالمين‪ ،‬المتضمن لسخطه وغضبه عليهم‪ ،‬وهو أعظم عليهم من عذاب‬
‫النار‪ ،‬ودل مفهوم الية‪ ،‬على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة‪ ،‬ويتلذذون بالنظر‬
‫إليه أعظم من سائر اللذات‪ ،‬ويبتهجون بخطابه‪ ،‬ويفرحون بقربه‪ ،‬كما ذكر ال ذلك في عدة آيات‬
‫من القرآن‪ ،‬وتواتر فيه النقل عن رسول ال‪.‬‬

‫وفي هذه اليات‪ ،‬التحذير من الذنوب‪ ،‬فإنها ترين على القلب وتغطيه شيئا فشيئا‪ ،‬حتى ينطمس‬
‫نوره‪ ،‬وتموت بصيرته‪ ،‬فتنقلب عليه الحقائق‪ ،‬فيرى الباطل حقًا‪ ،‬والحق باطلًا‪ ،‬وهذا من بعض‬
‫عقوبات الذنوب‪.‬‬

‫علّيّونَ * كِتَابٌ مَ ْرقُومٌ *‬


‫{ ‪ { } 27 - 18‬كَلّا إِنّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ َلفِي عِلّيّينَ * َومَا أَدْرَاكَ مَا ِ‬
‫علَى الْأَرَا ِئكِ يَنْظُرُونَ * َتعْ ِرفُ فِي وُجُو ِه ِهمْ َنضْ َرةَ‬
‫شهَ ُدهُ ا ْلمُقَرّبُونَ * إِنّ الْأَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * َ‬
‫يَ ْ‬
‫جهُ مِنْ‬
‫ك َوفِي ذَِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ * َومِزَا ُ‬
‫سٌ‬‫سقَوْنَ مِنْ َرحِيقٍ َمخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِ ْ‬
‫ال ّنعِيمِ * ُي ْ‬
‫تَسْنِيمٍ }‬

‫لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل المكنة وأضيقها‪ ،‬ذكر أن كتاب البرار في أعلها وأوسعها‪،‬‬
‫شهَ ُدهُ ا ْل ُمقَرّبُونَ } من الملئكة الكرام‪ ،‬وأرواح النبياء‪،‬‬
‫وأفسحها وأن كتابهم المرقوم { َي ْ‬
‫والصديقين والشهداء‪ ،‬وينوه ال بذكرهم في المل العلى‪ ،‬و { عليون } اسم لعلى الجنة‪ ،‬فلما‬
‫ذكر كتابهم‪ ،‬ذكر أنهم في نعيم‪ ،‬وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن‪ { ،‬عَلَى الْأَرَا ِئكِ } أي‪:‬‬
‫[على] السرر المزينة بالفرش الحسان‪.‬‬
‫{ يُ ْنظَرُونَ } إلى ما أعد ال لهم من النعيم‪ ,‬وينظرون إلى وجه ربهم الكريم‪َ { ،‬تعْ ِرفُ } أيها‬
‫الناظر إليهم { فِي ُوجُو ِههِمْ َنضْ َرةَ ال ّنعِيمِ } أي‪ :‬بهاء النعيم ونضارته ورونقه‪ ،‬فإن توالي اللذة‬
‫والسرور يكسب الوجه نورًا وحسنًا وبهجة‪.‬‬

‫سقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ } وهو من أطيب ما يكون من الشربة وألذها‪َ { ،‬مخْتُومٍ }‬


‫{ ُي ْ‬

‫سكٌ } يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته‪ ،‬أو يفسد‬
‫ذلك الشراب { خِتَامُهُ مِ ْ‬
‫طعمه‪ ،‬وذلك الختام‪ ،‬الذي ختم به‪ ,‬مسك‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد أنه [الذي] يكون في آخر الناء‪ ،‬الذي يشربون منه الرحيق حثالة‪ ،‬وهي المسك‬
‫الذفر‪ ،‬فهذا الكدر منه‪ ،‬الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق‪ ,‬يكون في الجنة بهذه المثابة‪َ { ،‬وفِي‬
‫ذَِلكَ } النعيم المقيم‪ ،‬الذي ل يعلم حسنه ومقداره إل ال‪ { ،‬فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ } أي‪ :‬يتسابقوا في‬
‫المبادرة إليه بالعمال الموصلة إليه‪ ،‬فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس النفاس‪ ،‬وأحرى ما تزاحمت‬
‫للوصول إليه فحول الرجال‪.‬‬

‫{ ‪ } 28 - 27‬ومزاج هذا الشراب من تسنيم‪ ،‬وهي عين { َيشْ َربُ ِبهَا ا ْلمُقَرّبُونَ } صرفا‪ ،‬وهي‬
‫أعلى أشربة الجنة على الطلق‪ ،‬فلذلك كانت خالصة للمقربين‪ ،‬الذين هم أعلى الخلق منزلة‪،‬‬
‫وممزوجة لصحاب اليمين أي‪ :‬مخلوطة بالرحيق وغيره من الشربة اللذيذة‪.‬‬

‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّوا ِب ِهمْ يَ َتغَامَزُونَ *‬


‫{ ‪ { } 36 - 29‬إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُوا كَانُوا مِنَ الّذِينَ آمَنُوا َيضْ َ‬
‫وَإِذَا ا ْنقَلَبُوا إِلَى أَهِْلهِمُ ا ْنقَلَبُوا َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْ ُهمْ قَالُوا إِنّ َهؤُلَاءِ َلضَالّونَ * َومَا أُ ْرسِلُوا عَلَ ْيهِمْ‬
‫حكُونَ * عَلَى الْأَرَا ِئكِ يَنْظُرُونَ * َهلْ ُثوّبَ ا ْل ُكفّارُ مَا‬
‫حَا ِفظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُوا مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ‬
‫كَانُوا َي ْفعَلُونَ }‬

‫لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وجزاء المؤمنين و [ذكر] ما بينهما من التفاوت العظيم‪ ،‬أخبر أن‬
‫المجرمين كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين‪ ،‬ويستهزئون بهم‪ ،‬ويضحكون منهم‪ ،‬ويتغامزون بهم‬
‫عند مرورهم عليهم‪ ،‬احتقارا لهم وازدراء‪ ،‬ومع هذا تراهم مطمئنين‪ ،‬ل يخطر الخوف على بالهم‪،‬‬
‫{ وَِإذَا ا ْنقَلَبُوا ِإلَى َأهِْلهِمُ } صباحًا أو مساء { ا ْنقَلَبُوا َف ِكهِينَ } أي‪ :‬مسرورين مغتبطين ‪ ،‬وهذا من‬
‫أعظم ما يكون من الغترار‪ ،‬أنهم جمعوا بين غاية الساءة والمن في الدنيا‪ ،‬حتى كأنهم قد‬
‫جاءهم كتاب من ال وعهد‪ ،‬أنهم من أهل السعادة‪ ،‬وقد حكموا لنفسهم أنهم أهل الهدى‪ ،‬وأن‬
‫المؤمنين ضالون‪ ،‬افتراء على ال‪ ،‬وتجرأوا على القول عليه بل علم‪.‬‬
‫علَ ْيهِمْ حَا ِفظِينَ } أي‪ :‬وما أرسلوا وكلء على المؤمنين ملزمين بحفظ‬
‫سلُوا َ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ومَا أُرْ ِ‬
‫أعمالهم‪ ،‬حتى يحرصوا على رميهم بالضلل‪ ،‬وما هذا منهم إل تعنت وعناد وتلعب‪ ،‬ليس له‬
‫مستند ول برهان‪ ،‬ولهذا كان جزاؤهم في الخرة من جنس عملهم‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فَالْ َيوْمَ } أي‪ :‬يوم‬
‫حكُونَ } حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون‪ ،‬وقد ذهب‬
‫القيامة‪ { ،‬الّذِينَ آمَنُوا مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ‬
‫عنهم ما كانوا يفترون‪ ،‬والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة { عَلَى الْأَرَا ِئكِ } وهي السرر‬
‫المزينة‪ { ،‬يُنْظَرُونَ } إلى ما أعد ال لهم من النعيم‪ ،‬وينظرون إلى وجه ربهم الكريم‪.‬‬

‫{ َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ } أي‪ :‬هل جوزوا من جنس عملهم؟‬

‫فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلل‪ ،‬ضحك المؤمنون منهم في الخرة‪،‬‬
‫ورأوهم في العذاب والنكال‪ ،‬الذي هو عقوبة الغي والضلل‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬ثوبوا ما كانوا يفعلون‪ ،‬عدلًا من ال وحكمة‪ ،‬وال عليم حكيم‪.‬‬

‫تفسير سورة النشقاق‬


‫وهي مكية‬

‫ح ّقتْ * وَإِذَا الْأَ ْرضُ‬


‫ش ّقتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ‬
‫سمَاءُ انْ َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا ال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 15 - 1‬بِ ْ‬
‫حقّتْ * يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ إِ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى رَ ّبكَ َكدْحًا‬
‫مُ ّدتْ * وَأَ ْلقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَّلتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا َو ُ‬
‫حسَابًا يَسِيرًا * وَيَ ْنقَِلبُ إِلَى أَهْلِهِ َمسْرُورًا‬
‫سبُ ِ‬
‫سوْفَ ُيحَا َ‬
‫َفمُلَاقِيهِ * فََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ * َف َ‬
‫سعِيرًا * إِنّهُ كَانَ فِي َأهْلِهِ‬
‫سوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَ َيصْلَى َ‬
‫ظهْ ِرهِ * َف َ‬
‫* وََأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَ ُه وَرَاءَ َ‬
‫مَسْرُورًا * إِنّهُ ظَنّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنّ رَبّهُ كَانَ بِهِ َبصِيرًا }‬

‫ش ّقتْ } أي‪:‬‬
‫سمَاءُ انْ َ‬
‫يقول تعالى مبينًا لما يكون في يوم القيامة من تغير الجرام العظام‪ِ { :‬إذَا ال ّ‬
‫انفطرت وتمايز بعضها من بعض‪ ،‬وانتثرت نجومها‪ ،‬وخسف بشمسها وقمرها‪.‬‬

‫{ وََأذِ َنتْ لِرَ ّبهَا } أي‪ :‬استمعت لمره‪ ،‬وألقت سمعها‪ ،‬وأصاخت لخطابه‪ ،‬وحق لها ذلك‪ ،‬فإنها‬
‫مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم‪ ،‬ل يعصى أمره‪ ،‬ول يخالف حكمه‪.‬‬

‫{ وَِإذَا الْأَ ْرضُ مُ ّدتْ } أي‪ :‬رجفت وارتجت‪ ،‬ونسفت عليها جبالها‪ ،‬ودك ما عليها من بناء ومعلم‪،‬‬
‫فسويت‪ ،‬ومدها ال تعالى مد الديم‪ ،‬حتى صارت واسعة جدًا‪ ،‬تسع أهل الموقف على كثرتهم‪،‬‬
‫فتصير قاعًا صفصفًا ل ترى فيها عوجًا ول أمتا‪.‬‬
‫{ وَأَ ْل َقتْ مَا فِيهَا } من الموات والكنوز‪.‬‬

‫{ وَ َتخَّلتْ } منهم‪ ،‬فإنه ينفخ في الصور‪ ،‬فتخرج الموات من الجداث إلى وجه الرض‪ ،‬وتخرج‬
‫الرض كنوزها‪ ،‬حتى تكون كالسطوان العظيم‪ ،‬يشاهده الخلق‪ ،‬ويتحسرون على ما هم فيه‬
‫حقّتْ يَا أَ ّيهَاالْإِ ْنسَانُ إِ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى رَ ّبكَ كَ ْدحًا َفمُلَاقِيهِ } أي‪ :‬إنك ساع‬
‫يتنافسون‪ { ،‬وََأذِ َنتْ لِرَ ّبهَا َو ُ‬
‫إلى ال‪ ،‬وعامل بأوامره ونواهيه‪ ،‬ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر‪ ،‬ثم تلقي ال يوم القيامة‪،‬‬
‫فل تعدم منه جزاء بالفضل إن كنت سعيدًا‪ ،‬أو بالعدل إن كنت شقيًا ‪.‬‬

‫ولهذا ذكر تفضيل الجزاء‪ ،‬فقال‪ { :‬فََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ } وهم أهل السعادة‪.‬‬

‫حسَابًا يَسِيرًا } وهو العرض اليسير على ال‪ ،‬فيقرره ال بذنوبه‪ ،‬حتى إذا ظن‬
‫سبُ ِ‬
‫سوْفَ ُيحَا َ‬
‫{ َف َ‬
‫العبد أنه قد هلك‪ ،‬قال ال [تعالى] له‪ " :‬إني قد سترتها عليك في الدنيا‪ ،‬فأنا أسترها لك اليوم "‪.‬‬

‫{ وَيَ ْنقَِلبُ إِلَى َأهْلِهِ } في الجنة { َمسْرُورًا } لنه نجا من العذاب وفاز بالثواب‪ { ،‬وََأمّا مَنْ أُوتِيَ‬
‫ظهْ ِرهِ } أي‪ :‬بشماله من خلفه‪.‬‬
‫كِتَابَ ُه وَرَاءَ َ‬

‫سوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا } من الخزي والفضيحة‪ ،‬وما يجد في كتابه من العمال التي قدمها ولم يتب‬
‫{ َف َ‬
‫سعِيرًا } أي‪ :‬تحيط به السعير من كل جانب‪ ،‬ويقلب على عذابها‪ ،‬وذلك لنه في‬
‫منها‪ { ،‬وَ َيصْلَى َ‬
‫الدنيا { كَانَ فِي أَهْلِهِ َمسْرُورًا } ل يخطر البعث على باله‪ ،‬وقد أساء‪ ،‬ولم يظن أنه راجع إلى ربه‬
‫وموقوف بين يديه‪.‬‬

‫{ بَلَى إِنّ رَبّهُ كَانَ بِهِ َبصِيرًا } فل يحسن أن يتركه سدى‪ ،‬ل يؤمر ول ينهى‪ ،‬ول يثاب ول‬
‫يعاقب‪.‬‬

‫سقَ * لَتَ ْركَبُنّ طَ َبقًا عَنْ‬


‫سقَ * وَا ْل َقمَرِ ِإذَا اتّ َ‬
‫شفَقِ * وَاللّ ْيلِ َومَا وَ َ‬
‫سمُ بِال ّ‬
‫{ ‪ { } 25 - 16‬فَلَا ُأقْ ِ‬
‫جدُونَ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا ُيكَذّبُونَ *‬
‫طَ َبقٍ * َفمَا َلهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * وَإِذَا قُ ِرئَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقُرْآنُ لَا يَسْ ُ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َلهُمْ َأجْرٌ غَيْرُ‬
‫وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا يُوعُونَ * فَبَشّرْهُمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َممْنُونٍ }‬

‫أقسم في هذا الموضع بآيات الليل‪ ،‬فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس‪ ،‬الذي هو مفتتح الليل‪.‬‬

‫ل َومَا وَسَقَ } أي‪ :‬احتوى عليه من حيوانات وغيرها‪ { ،‬وَا ْل َقمَرِ إِذَا اتّسَقَ } أي‪ :‬امتل نورًا‬
‫{ وَاللّ ْي ِ‬
‫بإبداره‪ ،‬وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع‪ ،‬والمقسم عليه قوله‪ { :‬لَتَ ْركَبُنّ } [أي‪ ]:‬أيها الناس‬
‫{ طَ َبقًا عَنْ طَ َبقٍ } أي‪ :‬أطوارا متعددة وأحوال متباينة‪ ،‬من النطفة إلى العلقة‪ ،‬إلى المضغة‪ ،‬إلى‬
‫نفخ الروح‪ ،‬ثم يكون وليدًا وطفلًا‪ ،‬ثم مميزًا‪ ،‬ثم يجري عليه قلم التكليف‪ ،‬والمر والنهي‪ ،‬ثم يموت‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ثم يبعث ويجازى بأعماله‪ ،‬فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد‪ ،‬دالة على أن ال‬
‫وحده هو المعبود‪ ،‬الموحد‪ ،‬المدبر لعباده بحكمته ورحمته‪ ،‬وأن العبد فقير عاجز‪ ،‬تحت تدبير‬
‫العزيز الرحيم‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فكثير من الناس ل يؤمنون‪.‬‬

‫سجُدُونَ } أي‪ :‬ل يخضعون للقرآن‪ ،‬ول ينقادون لوامره ونواهيه‪{ ،‬‬
‫{ وَِإذَا قُ ِرئَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقُرْآنُ لَا يَ ْ‬
‫َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا ُيكَذّبُونَ } أي‪ :‬يعاندون الحق بعدما تبين‪ ،‬فل يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم‬
‫للقرآن‪ ،‬فإن المكذب بالحق عنادًا‪ ،‬ل حيلة فيه‪ { ،‬وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُوعُونَ } أي‪ :‬بما يعملونه وينوونه‬
‫سرًا‪ ،‬فال يعلم سرهم وجهرهم‪ ،‬وسيجازيهم بأعمالهم‪ ،‬ولهذا قال { فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ } وسميت‬
‫البشارة بشارة‪ ،‬لنها تؤثر في البشرة سرورًا أو غمًا‪.‬‬

‫فهذه حال أكثر الناس‪ ،‬التكذيب بالقرآن‪ ،‬وعدم اليمان [به]‪.‬‬

‫ومن الناس فريق هداهم ال‪ ،‬فآمنوا بال‪ ،‬وقبلوا ما جاءتهم به الرسل‪ ،‬فآمنوا وعملوا الصالحات‪.‬‬

‫فهؤلء لهم أجر غير ممنون أي‪ :‬غير مقطوع بل هو أجر دائم مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫تم تفسير السورة ول الحمد‪.‬‬

‫تفسير سورة البروج‬


‫وهي مكية‬

‫سمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْ َيوْمِ ا ْل َموْعُودِ * وَشَاهِدٍ‬


‫حمَنِ الرّحِي ِم وَال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 22 - 1‬بِ ْ‬
‫خدُودِ * النّارِ ذَاتِ ا ْل َوقُودِ * ِإذْ هُمْ عَلَ ْيهَا ُقعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا َي ْفعَلُونَ‬
‫شهُودٍ * قُ ِتلَ َأصْحَابُ الْأُ ْ‬
‫َومَ ْ‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫حمِيدِ * الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شهُودٌ * َومَا َنقَمُوا مِ ْنهُمْ إِلّا أَنْ ُي ْؤمِنُوا بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُ‬
‫عذَابُ‬
‫شهِيدٌ * إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ُثمّ لَمْ يَتُوبُوا فََلهُمْ َ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫وَالْأَ ْرضِ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ‬
‫جهَنّمَ وََلهُمْ عَذَابُ ا ْلحَرِيقِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫َ‬
‫ئ وَ ُيعِيدُ * وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ ا ْلوَدُودُ * ذُو‬
‫ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلكَبِيرُ * إِنّ َبطْشَ رَ ّبكَ َلشَدِيدٌ * إِنّهُ ُهوَ يُ ْب ِد ُ‬
‫عوْنَ وَ َثمُودَ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي‬
‫حدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْ َ‬
‫ا ْلعَرْشِ ا ْل َمجِيدُ * َفعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ * َهلْ أَتَاكَ َ‬
‫حفُوظٍ }‬
‫ن وَرَا ِئهِمْ مُحِيطٌ * َبلْ ُهوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي َلوْحٍ مَ ْ‬
‫َتكْذِيبٍ * وَاللّهُ مِ ْ‬
‫سمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } أي‪[ :‬ذات] المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر‪ ،‬والكواكب‬
‫{ وَال ّ‬
‫المنتظمة في سيرها‪ ،‬على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة ال تعالى ورحمته‪ ،‬وسعة‬
‫علمه وحكمته‪.‬‬

‫{ وَالْ َيوْمِ ا ْل َموْعُودِ } وهو يوم القيامة‪ ،‬الذي وعد ال الخلق أن يجمعهم فيه‪ ،‬ويضم فيه أولهم‬
‫وآخرهم‪ ،‬وقاصيهم ودانيهم‪ ،‬الذي ل يمكن أن يتغير‪ ،‬ول يخلف ال الميعاد‪.‬‬

‫شهُودٍ } وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي‪ :‬مبصر ومبصر‪ ،‬وحاضر‬
‫{ وَشَاهِ ٍد َومَ ْ‬
‫ومحضور‪ ،‬وراء ومرئي‪.‬‬

‫والمقسم عليه‪ ،‬ما تضمنه هذا القسم من آيات ال الباهرة‪ ،‬وحكمه الظاهرة‪ ،‬ورحمته الواسعة‪.‬‬

‫خدُودِ } وهذا دعاء عليهم بالهلك‪.‬‬


‫وقيل‪ :‬إن المقسم عليه قوله { قُ ِتلَ َأصْحَابُ الْأُ ْ‬

‫و { الخدود } الحفر التي تحفر في الرض‪.‬‬

‫وكان أصحاب الخدود هؤلء قومًا كافرين‪ ،‬ولديهم قوم مؤمنون‪ ،‬فراودوهم للدخول في دينهم‪،‬‬
‫فامتنع المؤمنون من ذلك‪ ،‬فشق الكافرون أخدودًا [في الرض]‪ ،‬وقذفوا فيها النار‪ ،‬وقعدوا حولها‪،‬‬
‫وفتنوا المؤمنين‪ ،‬وعرضوهم عليها‪ ،‬فمن استجاب لهم أطلقوه‪ ،‬ومن استمر على اليمان قذفوه في‬
‫النار‪ ،‬وهذا في غاية المحاربة ل ولحزبه المؤمنين‪ ،‬ولهذا لعنهم ال وأهلكهم وتوعدهم فقال‪ { :‬قُ ِتلَ‬
‫َأصْحَابُ الُْأخْدُودِ } ثم فسر الخدود بقوله‪ { :‬النّارِ ذَاتِ ا ْل َوقُودِ إِذْ ُهمْ عَلَ ْيهَا ُقعُو ٌد وَهُمْ عَلَى مَا‬
‫شهُودٌ } وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب‪ ،‬لنهم جمعوا بين‬
‫َي ْفعَلُونَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُ‬
‫الكفر بآيات ال ومعاندتها‪ ،‬ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب‪ ،‬الذي تنفطر منه القلوب‪،‬‬
‫وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها‪ ،‬والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إل خصلة يمدحون عليها‪،‬‬
‫وبها سعادتهم‪ ،‬وهي أنهم كانوا يؤمنون بال العزيز الحميد أي‪ :‬الذي له العزة التي قهر بها كل‬
‫شيء‪ ،‬وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله‪.‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } خلقًا وعبيدًا‪ ،‬يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه ‪ { ،‬وَاللّهُ‬
‫{ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫شهِيدٌ } علمًا وسمعًا وبصرًا‪ ،‬أفل خاف هؤلء المتمردون على ال‪ ،‬أن يبطش بهم‬
‫شيْءٍ َ‬
‫عَلَى ُكلّ َ‬
‫العزيز المقتدر‪ ،‬أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك ل ‪ ،‬ليس لحد على أحد سلطة‪ ،‬من دون إذن‬
‫المالك؟ أو خفي عليهم أن ال محيط بأعمالهم‪ ،‬مجاز لهم على فعالهم ؟ كل إن الكافر في غرور‪،‬‬
‫والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل‪.‬‬
‫ثم وعدهم‪ ،‬وأوعدهم‪ ،‬وعرض عليهم التوبة‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ُثمّ لَمْ‬
‫عذَابُ الْحَرِيقِ } أي‪ :‬العذاب الشديد المحرق‪.‬‬
‫جهَنّ َم وََلهُمْ َ‬
‫يَتُوبُوا فََل ُهمْ عَذَابُ َ‬

‫قال الحسن رحمه ال‪ :‬انظروا إلى هذا الكرم والجود‪ ،‬هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته‪ ،‬وهو يدعوهم‬
‫إلى التوبة‪.‬‬

‫عمِلُوا‬
‫ولما ذكر عقوبة الظالمين‪ ،‬ذكر ثواب المؤمنين‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَ َ‬
‫الصّالِحَاتِ } بجوارحهم { َل ُهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلكَبِيرُ } الذي حصل به‬
‫الفوز برضا ال ودار كرامته‪.‬‬

‫{ إِنّ بَطْشَ رَ ّبكَ َلشَدِيدٌ } أي‪ :‬إن عقوبته لهل الجرائم والذنوب العظام [لقوية] شديدة‪ ،‬وهو‬
‫خ َذهُ أَلِيمٌ‬
‫بالمرصاد للظالمين كما قال ال تعالى‪َ { :‬وكَذَِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ أَ ْ‬
‫شَدِيدٌ }‬

‫ئ وَ ُيعِيدُ } أي‪ :‬هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته‪ ،‬فل مشارك له في ذلك ‪ { ،‬وَ ُهوَ‬
‫{ إِنّهُ ُهوَ يُبْ ِد ُ‬
‫ا ْل َغفُورُ } الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب‪ ،‬ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب‪.‬‬

‫{ ا ْل َودُودُ } الذي يحبه أحبابه محبة ل يشبهها شيء فكما أنه ل يشابهه شيء في صفات الجلل‬
‫والجمال‪ ،‬والمعاني والفعال‪ ،‬فمحبته في قلوب خواص خلقه‪ ،‬التابعة لذلك‪ ،‬ل يشبهها شيء من‬
‫أنواع المحاب‪ ،‬ولهذا كانت محبته أصل العبودية‪ ،‬وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها‪،‬‬
‫وإن لم يكن غيرها تبعًا لها‪ ،‬كانت عذابًا على أهلها‪ ،‬وهو تعالى الودود‪ ،‬الواد لحبابه‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ { :‬يُحِ ّب ُه ْم وَيُحِبّونَهُ } والمودة هي المحبة الصافية‪ ،‬وفي هذا سر لطيف‪ ،‬حيث قرن‬
‫{ الودود } بالغفور‪ ،‬ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى ال وأنابوا‪ ،‬غفر لهم ذنوبهم‬
‫وأحبهم‪ ،‬فل يقال‪ :‬بل تغفر ذنوبهم‪ ،‬ول يرجع إليهم الود‪ ،‬كما قاله بعض الغالطين‪.‬‬

‫بل ال أفرح بتوبة عبده حين يتوب‪ ،‬من رجل له راحلة‪ ،‬عليها طعامه وشرابه وما يصلحه‪،‬‬
‫فأضلها في أرض فلة مهلكة‪ ،‬فأيس منها‪ ،‬فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت‪ ،‬فبينما هو على‬
‫تلك الحال‪ ،‬إذا راحلته على رأسه‪ ،‬فأخذ بخطامها‪ ،‬فال أعظم فرحًا بتوبة العبد من هذا براحلته‪،‬‬
‫وهذا أعظم فرح يقدر‪.‬‬

‫فلله الحمد والثناء‪ ،‬وصفو الوداد‪ ،‬ما أعظم بره‪ ،‬وأكثر خيره‪ ،‬وأغزر إحسانه‪ ،‬وأوسع امتنانه"‬

‫{ ذُو ا ْلعَرْشِ ا ْلمَجِيدُ } أي‪ :‬صاحب العرش العظيم‪ ،‬الذي من عظمته‪ ،‬أنه وسع السماوات والرض‬
‫والكرسي‪ ،‬فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلة‪ ،‬بالنسبة لسائر الرض‪ ،‬وخص ال‬
‫العرش بالذكر‪ ،‬لعظمته‪ ،‬ولنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى‪ ،‬وهذا على قراءة الجر‪ ،‬يكون‬
‫{ المجيد } نعتا للعرش‪ ،‬وأما على قراءة الرفع‪ ،‬فإن المجيد نعت ل ‪ ،‬والمجد سعة الوصاف‬
‫وعظمتها‪.‬‬

‫{ َفعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ } أي‪ :‬مهما أراد شيئًا فعله‪ ،‬إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون‪ ،‬وليس أحد فعالًا لما‬
‫يريد إل ال‪.‬‬

‫فإن المخلوقات‪ ،‬ولو أرادت شيئًا‪ ،‬فإنه ل بد لرادتها من معاون وممانع‪ ،‬وال ل معاون لرادته‪،‬‬
‫ول ممانع له مما أراد‪.‬‬

‫عوْنَ‬
‫حدِيثُ الْجُنُودِ فِرْ َ‬
‫ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله‪ ،‬فقال‪َ { :‬هلْ أَتَاكَ َ‬
‫وَ َثمُود } وكيف كذبوا المرسلين‪ ،‬فجعلهم ال من المهلكين‪.‬‬

‫{ َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي َتكْذِيبٍ } أي‪ :‬ل يزالون مستمرين على التكذيب والعناد‪ ،‬ل تنفع فيهم‬
‫اليات‪ ،‬ول تجدي لديهم العظات‪.‬‬

‫ن وَرَا ِئهِمْ مُحِيطٌ } أي‪ :‬قد أحاط بهم علمًا وقدرة‪ ،‬كقوله‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ } ففيه‬
‫{ وَاللّهُ مِ ْ‬
‫الوعيد الشديد للكافرين‪ ،‬من عقوبة من هم في قبضته‪ ،‬وتحت تدبيره‪.‬‬

‫{ َبلْ ُهوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } أي‪ :‬وسيع المعاني عظيمها‪ ،‬كثير الخير والعلم‪.‬‬

‫حفُوظٍ } من التغيير والزيادة والنقص‪ ،‬ومحفوظ من الشياطين‪ ،‬وهو‪ :‬اللوح المحفوظ‬


‫{ فِي َلوْحٍ مَ ْ‬
‫الذي قد أثبت ال فيه كل شيء‪.‬‬

‫وهذا يدل على جللة القرآن وجزالته‪ ،‬ورفعة قدره عند ال تعالى‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫تم تفسير السورة‪.‬‬

‫تفسير سورة الطارق‬


‫وهي مكية‬

‫سمَا ِء وَالطّا ِرقِ * َومَا أَدْرَاكَ مَا الطّا ِرقُ * النّجْمُ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ وَال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 17 - 1‬بِ ْ‬
‫الثّا ِقبُ * إِنْ ُكلّ َنفْسٍ َلمّا عَلَ ْيهَا حَا ِفظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ ِممّ خُِلقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَا ِفقٍ * يَخْرُجُ‬
‫جعِهِ َلقَادِرٌ * َيوْمَ تُ ْبلَى السّرَائِرُ * َفمَا َلهُ مِنْ ُق ّوةٍ وَلَا نَاصِرٍ‬
‫ب وَالتّرَا ِئبِ * إِنّهُ عَلَى َر ْ‬
‫مِنْ بَيْنِ الصّ ْل ِ‬
‫صلٌ * َومَا ُهوَ بِا ْلهَ ْزلِ * إِ ّن ُهمْ‬
‫جعِ * وَالْأَ ْرضِ ذَاتِ الصّ ْدعِ * إِنّهُ َل َقوْلٌ َف ْ‬
‫سمَاءِ ذَاتِ الرّ ْ‬
‫* وَال ّ‬
‫َيكِيدُونَ كَيْدًا * وََأكِيدُ كَيْدًا * َف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدًا }‬

‫سمَا ِء وَالطّا ِرقِ }‬


‫يقول [ال] تعالى‪ { :‬وَال ّ‬

‫ثم فسر الطارق بقوله‪ { :‬النّجْمُ الثّا ِقبُ }‬

‫أي‪ :‬المضيء‪ ،‬الذي يثقب نوره‪ ،‬فيخرق السماوات [فينفذ حتى يرى في الرض]‪ ،‬والصحيح أنه‬
‫اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إنه " زحل " الذي يخرق السماوات السبع وينفذ فيها فيرى منها‪ .‬وسمي طارقًا‪ ،‬لنه‬
‫يطرق ليلًا‪.‬‬

‫والمقسم عليه قوله‪ { :‬إِنْ ُكلّ َنفْسٍ َلمّا عَلَ ْيهَا حَا ِفظٌ } يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة‪،‬‬
‫وستجازى بعملها المحفوظ عليها‪.‬‬

‫{ فَلْيَ ْنظُرِ الْإِنْسَانُ مِمّ خُلِقَ } أي‪ :‬فليتدبر خلقته ومبدأه‪ ،‬فإنه مخلوق { مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } وهو‪ :‬المني‬
‫الذي { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصّ ْلبِ وَالتّرَا ِئبِ } يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة‪ ،‬وهي‬
‫ثدياها‪.‬‬

‫ويحتمل أن المراد المني الدافق‪ ،‬وهو مني الرجل‪ ،‬وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه‬
‫وترائبه‪ ،‬ولعل هذا أولى‪ ،‬فإنه إنما وصف ال به الماء الدافق‪ ،‬والذي يحس [به] ويشاهد دفقه‪ ،‬هو‬
‫مني الرجل‪ ،‬وكذلك لفظ الترائب فإنها تستعمل في الرجل‪ ،‬فإن الترائب للرجل‪ ،‬بمنزلة الثديين‬
‫للنثى‪ ،‬فلو أريدت النثى لقال‪ " :‬من بين الصلب والثديين " ونحو ذلك‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫فالذي أوجد النسان من ماء دافق‪ ،‬يخرج من هذا الموضع الصعب‪ ،‬قادر على رجعه في الخرة‪،‬‬
‫وإعادته للبعث‪ ،‬والنشور [والجزاء] ‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن معناه‪ ،‬أن ال على رجع الماء المدفوق في‬
‫الصلب لقادر‪ ،‬وهذا ‪ -‬وإن كان المعنى صحيحًا ‪ -‬فليس هو المراد من الية‪ ،‬ولهذا قال بعده‪:‬‬
‫{ َيوْمَ تُبْلَى السّرَائِرُ } أي‪ :‬تختبر سرائر الصدور‪ ،‬ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على‬
‫سوَدّ وُجُوهٌ } ففي الدنيا‪ ،‬تنكتم كثير من المور‪،‬‬
‫صفحات الوجوه قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ تَبْ َيضّ ُوجُوهٌ وَتَ ْ‬
‫ول تظهر عيانًا للناس‪ ،‬وأما في القيامة‪ ،‬فيظهر بر البرار‪ ،‬وفجور الفجار‪ ،‬وتصير المور‬
‫علنية‪.‬‬
‫{ َفمَا َلهُ مِنْ ُق ّوةٍ } يدفع بها عن نفسه { وَلَا نَاصِرٍ } خارجي ينتصر به‪ ،‬فهذا القسم على حالة‬
‫العاملين وقت عملهم وعند جزائهم‪.‬‬

‫سمَاءِ ذَاتِ الرّجْ ِع وَالْأَ ْرضِ ذَاتِ الصّ ْدعِ } أي‪:‬‬


‫ثم أقسم قسمًا ثانيًا على صحة القرآن‪ ،‬فقال‪ { :‬وَال ّ‬
‫ترجع السماء بالمطر كل عام‪ ،‬وتنصدع الرض للنبات‪ ،‬فيعيش بذلك الدميون والبهائم‪ ،‬وترجع‬
‫السماء أيضًا بالقدار والشئون اللهية كل وقت‪ ،‬وتنصدع الرض عن الموات‪ { ،‬إِنّه } أي‪:‬‬
‫صلٌ } أي‪ :‬حق وصدق بين واضح‪.‬‬
‫القرآن { َل َق ْولٌ َف ْ‬

‫{ َومَا ُهوَ بِا ْلهَ ْزلِ } أي‪ :‬جد ليس بالهزل‪ ،‬وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالت‪،‬‬
‫وتنفصل به الخصومات‪.‬‬

‫{ إِ ّن ُهمْ } أي‪ :‬المكذبين للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وللقرآن { َيكِيدُونَ كَ ْيدًا } ليدفعوا بكيدهم‬
‫الحق‪ ،‬ويؤيدوا الباطل‪.‬‬

‫{ وََأكِيدُ كَ ْيدًا } لظهار الحق‪ ،‬ولو كره الكافرون‪ ،‬ولدفع ما جاءوا به من الباطل‪ ،‬ويعلم بهذا من‬
‫الغالب‪ ،‬فإن الدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده‪.‬‬

‫{ َف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدًا } أي‪ :‬قليلًا‪ ،‬فسيعلمون عاقبة أمرهم‪ ،‬حين ينزل بهم العقاب‪.‬‬

‫تم تفسير سورة الطارق‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة سبح‬


‫وهي مكية‬

‫سوّى * وَالّذِي َقدّرَ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ الْأَعْلَى * الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 19 - 1‬بِ ْ‬
‫حوَى * سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَا تَنْسَى * إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ إِنّهُ‬
‫جعََلهُ غُثَاءً َأ ْ‬
‫َفهَدَى * وَالّذِي َأخْرَجَ ا ْلمَرْعَى * فَ َ‬
‫خفَى * وَنُيَسّ ُركَ لِلْيُسْرَى * فَ َذكّرْ إِنْ َن َفعَتِ ال ّذكْرَى * سَيَ ّذكّرُ مَنْ َيخْشَى *‬
‫جهْ َر َومَا يَ ْ‬
‫َيعْلَمُ ا ْل َ‬
‫شقَى * الّذِي َيصْلَى النّارَ ا ْلكُبْرَى * ُثمّ لَا َيمُوتُ فِيهَا وَلَا َيحْيَا * َقدْ َأفْلَحَ مَنْ تَ َزكّى *‬
‫وَيَتَجَنّ ُبهَا الْأَ ْ‬
‫حفِ‬
‫سمَ رَبّهِ َفصَلّى * َبلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى * إِنّ هَذَا َلفِي الصّ ُ‬
‫وَ َذكَرَ ا ْ‬
‫حفِ إِبْرَاهِيمَ َومُوسَى }‬
‫الْأُولَى * صُ ُ‬

‫يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته‪ ،‬والخضوع لجلله‪ ،‬والستكانة لعظمته‪ ،‬وأن يكون‬
‫تسبيحا‪ ،‬يليق بعظمة ال تعالى‪ ،‬بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن‬
‫العظيم ‪ ،‬وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها‪ ،‬أي‪ :‬أتقنها وأحسن خلقها‪ { ،‬وَالّذِي‬
‫قَدّرَ } تقديرًا‪ ،‬تتبعه جميع المقدرات { َفهَدَى } إلى ذلك جميع المخلوقات‪.‬‬

‫وهذه الهداية العامة‪ ،‬التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته‪ ،‬وتذكر فيها نعمه الدنيوية‪،‬‬
‫ولهذا قال فيها‪ { :‬وَالّذِي أَخْرَجَ ا ْلمَرْعَى } أي‪ :‬أنزل من السماء ماء فأنبت به أنواع النبات‬
‫والعشب الكثير‪ ،‬فرتع فيها الناس والبهائم وكل حيوان ‪ ،‬ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب‪،‬‬
‫حوَى } أي‪ :‬أسود أي‪ :‬جعله هشيمًا رميمًا‪ ،‬ويذكر فيها‬
‫جعَلَهُ غُثَاءً أَ ْ‬
‫ألوى نباته‪ ،‬وصوح عشبه‪َ { ،‬ف َ‬
‫نعمه الدينية‪ ،‬ولهذا امتن ال بأصلها ومنشئها ‪ ،‬وهو القرآن‪ ،‬فقال‪ { :‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَا تَنْسَى } أي‪:‬‬
‫سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب‪ ،‬ونوعيه قلبك‪ ،‬فل تنسى منه شيئًا‪ ،‬وهذه بشارة كبيرة من ال‬
‫لعبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن ال سيعلمه علمًا ل ينساه‪.‬‬

‫خفَى }‬
‫جهْ َر َومَا يَ ْ‬
‫{ إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ } مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة‪ { ،‬إِنّهُ َيعْلَمُ الْ َ‬
‫ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي‪ :‬فلذلك يشرع ما أراد‪ ،‬ويحكم بما يريد ‪ { ،‬وَنُيَسّ ُركَ‬
‫لِلْيُسْرَى } وهذه أيضًا بشارة كبيرة ‪ ،‬أن ال ييسر رسوله صلى ال عليه وسلم لليسرى في جميع‬
‫أموره‪ ،‬ويجعل شرعه ودينه يسرا ‪.‬‬

‫{ َف َذكّرْ } بشرع ال وآياته { إِنْ َن َف َعتِ ال ّذكْرَى } أي‪ :‬ما دامت الذكرى مقبولة‪ ،‬والموعظة‬
‫مسموعة‪ ،‬سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه‪.‬‬

‫ومفهوم الية أنه إن لم تنفع الذكرى‪ ،‬بأن كان التذكير يزيد في الشر‪ ،‬أو ينقص من الخير‪ ،‬لم تكن‬
‫الذكرى مأمورًا بها‪ ،‬بل منهيًا عنها‪ ،‬فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين‪ :‬منتفعون وغير منتفعين‪.‬‬

‫فأما المنتفعون‪ ،‬فقد ذكرهم بقوله‪ { :‬سَ َي ّذكّرُ مَنْ يَخْشَى } ال تعالى‪ ،‬فإن خشية ال تعالى‪ ،‬وعلمه‬
‫بأن سيجازيه على أعماله ‪ ،‬توجب للعبد النكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات‪.‬‬

‫شقَى الّذِي َيصْلَى النّارَ ا ْلكُبْرَى } وهي النار‬


‫وأما غير المنتفعين‪ ،‬فذكرهم بقوله‪ { :‬وَيَتَجَنّ ُبهَا الْأَ ْ‬
‫الموقدة‪ ،‬التي تطلع على الفئدة‪.‬‬

‫{ ُثمّ لَا َيمُوتُ فِيهَا وَلَا َيحْيَا } أي‪ :‬يعذب عذابًا أليمًا‪ ،‬من غير راحة ول استراحة‪ ،‬حتى إنهم‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمْ مِنْ‬
‫يتمنون الموت فل يحصل لهم‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَا ُيقْضَى عَلَ ْيهِمْ فَ َيمُوتُوا وَلَا ُي َ‬
‫عَذَا ِبهَا } ‪.‬‬

‫{ َقدْ َأفْلَحَ مَنْ تَ َزكّى } أي‪ :‬قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم ومساوئ‬
‫سمَ رَبّهِ َفصَلّى } أي‪ :‬اتصف بذكر ال‪ ،‬وانصبغ به قلبه‪ ،‬فأوجب له ذلك العمل‬
‫الخلق‪ { ،‬وَ َذكَرَ ا ْ‬
‫بما يرضي ال‪ ،‬خصوصًا الصلة‪ ،‬التي هي ميزان اليمان‪ ،‬فهذا معنى الية الكريمة‪ ،‬وأما من‬
‫فسر قوله { تزكى } بمعني أخرج زكاة الفطر‪ ،‬وذكر اسم ربه فصلى‪ ،‬أنه صلة العيد‪ ،‬فإنه وإن‬
‫كان داخلًا في اللفظ وبعض جزئياته‪ ،‬فليس هو المعنى وحده‪.‬‬

‫{ َبلْ ُتؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا } أي‪ :‬تقدمونها على الخرة‪ ،‬وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل‬
‫على الخرة‪.‬‬

‫{ وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى } وللخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب‪ ،‬وأبقى لكونها دار خلد‬
‫وبقاء وصفاء‪ ،‬والدنيا دار فناء‪ ،‬فالمؤمن العاقل ل يختار الردأ على الجود‪ ،‬ول يبيع لذة ساعة‪،‬‬
‫بترحة البد‪ ،‬فحب الدنيا وإيثارها على الخرة رأس كل خطيئة‪.‬‬

‫{ إِنّ هَذَا } المذكور لكم في هذه السورة المباركة‪ ،‬من الوامر الحسنة‪ ،‬والخبار المستحسنة { َلفِي‬
‫حفِ إِبْرَاهِيمَ َومُوسَى } اللذين هما أشرف المرسلين‪ ،‬سوى النبي محمد صلى‬
‫حفِ الْأُولَى صُ ُ‬
‫الصّ ُ‬
‫ال وسلم عليه وسلم‪.‬‬

‫فهذه أوامر في كل شريعة‪ ،‬لكونها عائدة إلى مصالح الدارين‪ ،‬وهي مصالح في كل زمان ومكان‪.‬‬

‫تم تفسير سورة سبح‪ ،‬ول الحمد‬

‫تفسير سورة الغاشية‬


‫وهي مكية‬

‫ش َعةٌ * عَامِلَةٌ‬
‫حدِيثُ ا ْلغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ خَا ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ َهلْ أَتَاكَ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 16 - 1‬بِ ْ‬
‫ن وَلَا‬
‫سمِ ُ‬
‫ن ضَرِيعٍ * لَا يُ ْ‬
‫طعَامٌ إِلّا مِ ْ‬
‫سقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ َل ُهمْ َ‬
‫نَاصِبَةٌ * َتصْلَى نَارًا حَامِ َيةً * تُ ْ‬
‫سمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً *‬
‫سعْ ِيهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنّةٍ عَالِ َيةٍ * لَا َت ْ‬
‫ع َمةٌ * لِ َ‬
‫ُيغْنِي مِنْ جُوعٍ * ُوجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَا ِ‬
‫صفُوفَةٌ * وَزَرَا ِبيّ‬
‫فِيهَا عَيْنٌ جَارِ َيةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَ ْرفُوعَةٌ * وََأ ْكوَابٌ َموْضُوعَةٌ * وَ َنمَارِقُ َم ْ‬
‫مَبْثُوثَةٌ }‬
‫يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الهوال الطامة‪ ،‬وأنها تغشى الخلئق بشدائدها‪،‬‬
‫فيجازون بأعمالهم‪ ،‬ويتميزون [إلى] فريقين‪ :‬فريقًا في الجنة‪ ،‬وفريقًا في السعير‪.‬‬

‫فأخبر عن وصف كل الفريقين‪ ،‬فقال في [وصف] أهل النار‪ { :‬وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ } أي‪ :‬يوم القيامة‬
‫شعَة } من الذل‪ ،‬والفضيحة والخزي‪.‬‬
‫{ خَا ِ‬

‫{ عَامَِلةٌ نَاصِبَةٌ } أي‪ :‬تاعبة في العذاب‪ ،‬تجر على وجوهها‪ ،‬وتغشى وجوههم النار‪.‬‬

‫شعَةٌ عَامَِلةٌ نَاصِبَةٌ } في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل‬


‫ويحتمل أن المراد [بقوله‪ { ]:‬وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ خَا ِ‬
‫عبادات وعمل‪ ،‬ولكنه لما عدم شرطه وهو اليمان‪ ،‬صار يوم القيامة هباء منثورا‪ ،‬وهذا الحتمال‬
‫وإن كان صحيحًا من حيث المعنى‪ ،‬فل يدل عليه سياق الكلم‪ ،‬بل الصواب المقطوع به هو‬
‫الحتمال الول‪ ،‬لنه قيده بالظرف‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ ،‬ولن المقصود هنا بيان وصف أهل النار‬
‫عمومًا‪ ،‬وذلك الحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى أهلها ؛ ولن الكلم في بيان حال‬
‫الناس عند غشيان الغاشية‪ ،‬فليس فيه تعرض لحوالهم في الدنيا‪.‬‬

‫سقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ }‬


‫وقوله‪َ { :‬تصْلَى نَارًا حَامِيَةً } أي‪ :‬شديدًا حرها‪ ،‬تحيط بهم من كل مكان‪ { ،‬تُ ْ‬
‫شوِي ا ْل ُوجُوهَ } فهذا شرابهم‪.‬‬
‫أي‪ :‬حارة شديدة الحرارة { وَإِنْ يَسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ َي ْ‬

‫ن وَلَا ُيغْنِي مِنْ جُوعٍ } وذلك أن المقصود‬


‫سمِ ُ‬
‫ن ضَرِيعٍ لَا يُ ْ‬
‫طعَامٌ إِلّا مِ ْ‬
‫وأما طعامهم فـ { لَ ْيسَ َلهُمْ َ‬
‫من الطعام أحد أمرين‪ :‬إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه‪ ،‬وإما أن يسمن بدنه من الهزال‪،‬‬
‫وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين المرين‪ ،‬بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة نسأل‬
‫ال العافية‪.‬‬

‫عمَةٌ } أي‪ :‬قد جرت عليهم نضرة النعيم‪ ،‬فنضرت‬


‫وأما أهل الخير‪ ،‬فوجوههم يوم القيامة { نَا ِ‬
‫أبدانهم‪ ،‬واستنارت وجوههم‪ ،‬وسروا غاية السرور‪.‬‬

‫سعْ ِيهَا } الذي قدمته في الدنيا من العمال الصالحة‪ ،‬والحسان إلى عباد ال‪ { ،‬رَاضِيَةٍ } إذ‬
‫{ ِل َ‬
‫وجدت ثوابه مدخرًا مضاعفًا‪ ،‬فحمدت عقباه‪ ،‬وحصل لها كل ما تتمناه‪ ،‬وذلك أنها { فِي جَنّةٍ }‬
‫جامعة لنواع النعيم كلها‪ { ،‬عَالِ َيةٍ } في محلها ومنازلها‪ ،‬فمحلها في أعلى عليين‪ ،‬ومنازلها مساكن‬
‫عالية‪ ،‬لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد ال لهم من الكرامة‪.‬‬

‫{ ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ } أي‪ :‬كثيرة الفواكه اللذيذة‪ ،‬المثمرة بالثمار الحسنة‪ ،‬السهلة التناول‪ ،‬بحيث ينالونها‬
‫على أي‪ :‬حال كانوا‪ ،‬ل يحتاجون أن يصعدوا شجرة‪ ،‬أو يستعصي عليهم منها ثمرة‪.‬‬
‫سمَعُ فِيهَا } أي‪ :‬الجنة { لَاغِ َيةً } أي‪ :‬كلمة لغو وباطل‪ ،‬فضلًا عن الكلم المحرم‪ ،‬بل كلمهم‬
‫{ لَا تَ ْ‬
‫كلم حسن [نافع] مشتمل على ذكر ال تعالى‪ ،‬وذكر نعمه المتواترة عليهم‪ ،‬و[على] الداب‬
‫المستحسنة بين المتعاشرين‪ ،‬الذي يسر القلوب‪ ،‬ويشرح الصدور‪.‬‬

‫{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } وهذا اسم جنس أي‪ :‬فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف‬
‫شاءوا‪ ،‬وأنى أرادوا‪.‬‬

‫{ فِيهَا سُرُرٌ مَ ْرفُوعَةٌ } و " السرر " جمع " سرير " وهي المجالس المرتفعة في ذاتها‪ ،‬وبما عليها‬
‫من الفرش اللينة الوطيئة‪.‬‬

‫{ وََأ ْكوَابٌ َم ْوضُوعَةٌ } أي‪ :‬أوان ممتلئة من أنواع الشربة اللذيذة‪ ،‬قد وضعت بين أيديهم‪ ،‬وأعدت‬
‫لهم‪ ،‬وصارت تحت طلبهم واختيارهم‪ ،‬يطوف بها عليهم الولدان المخلدون‪.‬‬

‫صفُوفَةٌ } أي‪ :‬وسائد من الحرير والستبرق وغيرهما مما ل يعلمه إل ال‪ ،‬قد صفت‬
‫{ وَ َنمَارِقُ َم ْ‬
‫للجلوس والتكاء عليها‪ ،‬وقد أريحوا عن أن يضعوها‪ ،‬و يصفوها بأنفسهم‪.‬‬

‫{ وَزَرَا ِبيّ مَبْثُوثَةٌ } والزرابي [هي‪ ]:‬البسط الحسان‪ ،‬مبثوثة أي‪ :‬مملوءة بها مجالسهم من كل‬
‫جانب‪.‬‬

‫سمَاءِ كَ ْيفَ ُر ِف َعتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ‬


‫{ ‪َ { } 26 - 17‬أفَلَا يَ ْنظُرُونَ إِلَى الْإِ ِبلِ كَيْفَ خُِلقَتْ * وَإِلَى ال ّ‬
‫ستَ عَلَ ْيهِمْ ِبمُسَ ْيطِرٍ * إِلّا‬
‫حتْ * فَ َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ * َل ْ‬
‫طَ‬‫كَ ْيفَ ُنصِ َبتْ * وَإِلَى الْأَ ْرضِ كَ ْيفَ سُ ِ‬
‫حسَا َبهُمْ }‬
‫مَنْ َتوَلّى َو َكفَرَ * فَ ُيعَذّبُهُ اللّهُ ا ْلعَذَابَ الَْأكْبَرَ * إِنّ إِلَيْنَا إِيَا َب ُهمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا ِ‬

‫يقول تعالى حثًا للذين ل يصدقون الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولغيرهم من الناس‪ ،‬أن يتفكروا‬
‫في مخلوقات ال الدالة على توحيده‪َ { :‬أفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِ ِبلِ كَ ْيفَ خُِل َقتْ } أي‪[ :‬أل] ينظرون إلى‬
‫خلقها البديع‪ ،‬وكيف سخرها ال للعباد‪ ،‬وذللها لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها‪.‬‬

‫{ وَإِلَى ا ْلجِبَالِ كَ ْيفَ ُنصِ َبتْ } بهيئة باهرة‪ ،‬حصل بها استقرار الرض وثباتها عن الضطراب‪،‬‬
‫وأودع فيها من المنافع [الجليلة] ما أودع‪.‬‬

‫حتْ } أي‪ :‬مدت مدًا واسعًا‪ ،‬وسهلت غاية التسهيل‪ ،‬ليستقر الخلئق‬
‫طَ‬‫{ وَإِلَى الْأَ ْرضِ كَ ْيفَ سُ ِ‬
‫على ظهرها‪ ،‬ويتمكنوا من حرثها وغراسها‪ ،‬والبنيان فيها‪ ،‬وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع‬
‫المقاصد فيها‪.‬‬
‫واعلم أن تسطيحها ل ينافي أنها كرة مستديرة‪ ،‬قد أحاطت الفلك فيها من جميع جوانبها‪ ،‬كما دل‬
‫على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة‪ ،‬كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس‪ ،‬خصوصًا‬
‫في هذه الزمنة‪ ،‬التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم ال من السباب المقربة للبعيد‪،‬‬
‫فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدًا‪ ،‬الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر‪.‬‬

‫وأما جسم الرض الذي هو في غاية الكبر والسعة ‪ ،‬فيكون كرويًا مسطحًا‪ ،‬ول يتنافى المران‪،‬‬
‫كما يعرف ذلك أرباب الخبرة‪.‬‬

‫{ َف َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ } أي‪ :‬ذكر الناس وعظهم‪ ،‬وأنذرهم وبشرهم‪ ،‬فإنك مبعوث لدعوة الخلق‬
‫إلى ال وتذكيرهم‪ ،‬ولم تبعث مسيطرًا عليهم‪ ،‬مسلطًا موكلًا بأعمالهم‪ ،‬فإذا قمت بما عليك‪ ،‬فل‬
‫عليك بعد ذلك لوم‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْي ِهمْ بِجَبّارٍ فَ َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ َيخَافُ وَعِيدِ } ‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬إِلّا مَنْ َتوَلّى َوكَفَرَ } أي‪ :‬لكن من تولى عن الطاعة وكفر بال { فَ ُيعَذّبُهُ اللّهُ ا ْل َعذَابَ‬
‫الَْأكْبَرَ } أي‪ :‬الشديد الدائم‪ { ،‬إِنّ إِلَيْنَا إِيَا َب ُهمْ } أي‪ :‬رجوع الخليقة وجمعهم في يوم القيامة‪.‬‬

‫{ ُثمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَا َبهُمْ } فنحاسبهم على ما عملوا من خير وشر‪.‬‬

‫آخر تفسير سورة الغاشية‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‬

‫تفسير سورة الفجر‬


‫وهي مكية‬

‫شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ * وَاللّ ْيلِ إِذَا َيسْرِ‬


‫عشْرٍ * وَال ّ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫سمٌ لِذِي حِجْرٍ }‬
‫* َهلْ فِي ذَِلكَ قَ َ‬

‫الظاهر أن المقسم به‪ ،‬هو المقسم عليه‪ ،‬وذلك جائز مستعمل‪ ،‬إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًا‪ ،‬وهو‬
‫كذلك في هذا الموضع‪.‬‬

‫فأقسم تعالى بالفجر‪ ،‬الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار‪ ،‬لما في إدبار الليل وإقبال النهار‪ ،‬من‬
‫اليات الدالة على كمال قدرة ال تعالى‪ ،‬وأنه وحده المدبر لجميع المور‪ ،‬الذي ل تنبغي العبادة‬
‫إل له‪ ،‬ويقع في الفجر صلة فاضلة معظمة‪ ،‬يحسن أن يقسم ال بها‪ ،‬ولهذا أقسم بعده بالليالي‬
‫العشر‪ ،‬وهي على الصحيح‪ :‬ليالي عشر رمضان‪ ،‬أو [عشر] ذي الحجة‪ ،‬فإنها ليال مشتملة على‬
‫أيام فاضلة‪ ،‬ويقع فيها من العبادات والقربات ما ل يقع في غيرها‪.‬‬
‫وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر‪ ،‬التي هي خير من ألف شهر‪ ،‬وفي نهارها‪ ،‬صيام آخر‬
‫رمضان الذي هو ركن من أركان السلم‪.‬‬

‫وفي أيام عشر ذي الحجة‪ ،‬الوقوف بعرفة‪ ،‬الذي يغفر ال فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان‪،‬‬
‫فما رئي الشيطان أحقر ول أدحر منه في يوم عرفة‪ ،‬لما يرى من تنزل الملك والرحمة من ال‬
‫لعباده‪ ،‬ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة‪ ،‬وهذه أشياء معظمة‪ ،‬مستحقة لن يقسم ال بها‪.‬‬

‫{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا يَسْرِ } أي‪ :‬وقت سريانه وإرخائه ظلمه على العباد‪ ،‬فيسكنون ويستريحون‬
‫ويطمئنون‪ ،‬رحمة منه تعالى وحكمة‪.‬‬

‫حجْرٍ } أي‪[ :‬لذي] عقل؟ نعم‪ ،‬بعض ذلك يكفي‪ ،‬لمن كان له‬
‫{ َهلْ فِي َذِلكَ } المذكور { َقسَمٌ ِلذِي ِ‬
‫قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬

‫{ ‪ { } 14 - 6‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَادِ *‬
‫ط َغوْا فِي الْبِلَادِ * فََأكْثَرُوا فِيهَا‬
‫عوْنَ ذِي الَْأوْتَادِ * الّذِينَ َ‬
‫وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ‬
‫عذَابٍ * إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }‬
‫سوْطَ َ‬
‫صبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ‬
‫ا ْلفَسَادَ * َف َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬أَلَمْ تَرَ } بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه المم الطاغية‪ ،‬وهي { إِ َرمَ } القبيلة‬
‫المعروفة في اليمن { ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ } أي‪ :‬القوة الشديدة‪ ،‬والعتو والتجبر‪.‬‬

‫{ الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا } أي‪ :‬مثل عاد { فِي الْبِلَادِ } أي‪ :‬في جميع البلدان [في القوة والشدة]‪ ،‬كما‬
‫ح وَزَا َد ُكمْ فِي الْخَ ْلقِ‬
‫جعََلكُمْ خَُلفَاءَ مِنْ َبعْدِ َقوْمِ نُو ٍ‬
‫قال لهم نبيهم هود عليه السلم‪ { :‬وَا ْذكُرُوا إِذْ َ‬
‫سطَةً فَا ْذكُرُوا آلَاءَ اللّهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } ‪.‬‬
‫بَ ْ‬

‫{ وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِا ْلوَادِ } أي‪ :‬وادي القرى‪ ،‬نحتوا بقوتهم الصخور‪ ،‬فاتخذوها مساكن‪،‬‬
‫عوْنَ ذِي الَْأوْتَاد } أي‪[ :‬ذي] الجنود الذين ثبتوا ملكه‪ ،‬كما تثبت الوتاد ما يراد إمساكه بها‪،‬‬
‫{ َوفِرْ َ‬
‫ط َغوْا فِي الْبِلَادِ } هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم‪ ،‬فإنهم طغوا في‬
‫{ الّذِينَ َ‬
‫بلد ال‪ ،‬وآذوا عباد ال‪ ،‬في دينهم ودنياهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫{ فََأكْثَرُوا فِيهَا ا ْلفَسَادَ } وهو العمل بالكفر وشعبه‪ ،‬من جميع أجناس المعاصي‪ ،‬وسعوا في محاربة‬
‫الرسل وصد الناس عن سبيل ال‪ ،‬فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلكهم‪ ،‬أرسل ال عليهم‬
‫من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب‪ { ،‬إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ } لمن عصاه يمهله قليلًا‪ ،‬ثم يأخذه أخذ‬
‫عزيز مقتدر‪.‬‬
‫{ ‪ { } 20 - 15‬فََأمّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْ َتلَاهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَ ُه وَ َن ّعمَهُ فَ َيقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّا إِذَا مَا‬
‫طعَامِ‬
‫علَى َ‬
‫ابْتَلَاهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْزقَهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِي * كَلّا بَل لَا ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا َتحَاضّونَ َ‬
‫جمّا }‬
‫سكِينِ * وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلًا َلمّا * وَتُحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ‬
‫ا ْلمِ ْ‬

‫يخبر تعالى عن طبيعة النسان من حيث هو‪ ،‬وأنه جاهل ظالم‪ ،‬ل علم له بالعواقب‪ ،‬يظن الحالة‬
‫التي تقع فيه تستمر ول تزول‪ ،‬ويظن أن إكرام ال في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده‬
‫وقربه منه‪ ،‬وأنه إذا { قدر عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ } أي‪ :‬ضيقه‪ ،‬فصار يقدر قوته ل يفضل منه‪ ،‬أن هذا إهانة‬
‫من ال له‪ ،‬فرد ال عليه هذا الحسبان‪ :‬بقوله { كَلّا } أي‪ :‬ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم‬
‫علي‪ ،‬ول كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي‪ ،‬وإنما الغنى والفقر‪ ،‬والسعة والضيق‪ ،‬ابتلء‬
‫من ال‪ ،‬وامتحان يمتحن به العباد‪ ،‬ليرى من يقوم له بالشكر والصبر‪ ،‬فيثيبه على ذلك الثواب‬
‫الجزيل‪ ،‬ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط‪ ،‬من ضعف الهمة‪ ،‬ولهذا لمهم ال على عدم‬
‫اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين‪ ،‬فقال‪ { :‬كَلّا بَل لَا ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ } الذي فقد أباه وكاسبه‪،‬‬
‫واحتاج إلى جبر خاطره والحسان إليه‪.‬‬

‫فأنتم ل تكرمونه بل تهينونه‪ ،‬وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم‪ ،‬وعدم الرغبة في الخير‪.‬‬

‫سكِين } أي‪ :‬ل يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحاويج من‬
‫طعَامِ ا ْلمِ ْ‬
‫{ وَلَا َتحَاضّونَ عَلَى َ‬
‫المساكين والفقراء‪ ،‬وذلك لجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫{ وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ } أي‪ :‬المال المخلف { َأكْلًا َلمّا } أي‪ :‬ذريعًا‪ ،‬ل تبقون على شيء منه‪.‬‬

‫جمّا } أي‪ :‬كثيرًا شديدًا‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪َ { :‬بلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا‬
‫{ وَتُحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ‬
‫وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى } { كَلّا َبلْ تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَ َة وَتَذَرُونَ الْآخِ َرةَ } ‪.‬‬

‫صفّا * َوجِيءَ َي ْومَئِذٍ‬


‫صفّا َ‬
‫ك وَا ْلمََلكُ َ‬
‫{ ‪ { } 30 - 21‬كَلّا ِإذَا ُد ّكتِ الْأَ ْرضُ َدكّا َدكّا * وَجَاءَ رَ ّب َ‬
‫ن وَأَنّى َلهُ ال ّذكْرَى * َيقُولُ يَا لَيْتَنِي َق ّد ْمتُ لِحَيَاتِي * فَ َي ْومَئِذٍ لَا ُيعَ ّذبُ‬
‫جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ يَتَ َذكّرُ الْإِ ْنسَا ُ‬
‫بِ َ‬
‫جعِي إِلَى رَ ّبكِ رَاضِيَةً مَ ْرضِيّةً‬
‫طمَئِنّةُ * ا ْر ِ‬
‫ق وَثَاقَهُ َأحَدٌ * يَا أَيّ ُتهَا ال ّنفْسُ ا ْلمُ ْ‬
‫حدٌ * وَلَا يُوثِ ُ‬
‫عَذَا َبهُ أَ َ‬
‫خلِي جَنّتِي }‬
‫* فَا ْدخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْ ُ‬
‫{ كَلّا } أي‪ :‬ليس [كل] ما أحببتم من الموال‪ ،‬وتنافستم فيه من اللذات‪ ،‬بباق لكم‪ ،‬بل أمامكم يوم‬
‫عظيم‪ ،‬وهول جسيم‪ ،‬تدك فيه الرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعًا صفصفًا ل عوج فيه‬
‫ول أمت‪.‬‬

‫ويجيء ال تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام‪ ،‬وتجيء الملئكة الكرام‪ ،‬أهل‬
‫السماوات كلهم‪ ،‬صفًا صفا أي‪ :‬صفًا بعد صف‪ ،‬كل سماء يجيء ملئكتها صفا‪ ،‬يحيطون بمن‬
‫دونهم من الخلق‪ ،‬وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار‪.‬‬

‫جهَنّمَ } تقودها الملئكة بالسلسل‪.‬‬


‫{ وَجِيءَ َي ْومَئِذٍ بِ َ‬

‫فإذا وقعت هذه المور فـ { َي ْومَئِذٍ يَ َت َذكّرُ الْإِنْسَانُ } ما قدمه من خير وشر‪.‬‬

‫{ وَأَنّى لَهُ ال ّذكْرَى } فقد فات أوانها‪ ،‬وذهب زمانها‪ ،‬يقول متحسرًا على ما فرط في جنب ال‪ { :‬يَا‬
‫لَيْتَنِي قَ ّد ْمتُ لِحَيَاتِي } الدائمة الباقية‪ ،‬عملًا صالحًا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ‬
‫الرّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } ‪.‬‬

‫وفي الية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها ‪ ،‬وفي تتميم لذاتها‪ ،‬هي‬
‫الحياة في دار القرار‪ ،‬فإنها دار الخلد والبقاء‪.‬‬

‫حدٌ } لمن أهمل ذلك اليوم ونسي العمل له‪.‬‬


‫{ فَ َي ْومَئِذٍ لَا ُيعَ ّذبُ عَذَابَهُ أَ َ‬

‫حدٌ } فإنهم يقرنون بسلسل من نار‪ ،‬ويسحبون على وجوههم في الحميم‪ ،‬ثم في‬
‫{ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَ َ‬
‫النار يسجرون‪ ،‬فهذا جزاء المجرمين‪ ،‬وأما من اطمأن إلى ال وآمن به وصدق رسله‪ ،‬فيقال له‪{ :‬‬
‫طمَئِنّةُ } إلى ذكر ال‪ ،‬الساكنة [إلى] حبه‪ ،‬التي قرت عينها بال‪.‬‬
‫يَا أَيّ ُتهَا ال ّنفْسُ ا ْلمُ ْ‬

‫جعِي إِلَى رَ ّبكِ } الذي رباك بنعمته‪ ،‬وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه‬
‫{ ا ْر ِ‬
‫وأحبابه { رَاضِيَةً مَ ْرضِيّةً } أي‪ :‬راضية عن ال‪ ،‬وعن ما أكرمها به من الثواب‪ ،‬وال قد رضي‬
‫عنها‪.‬‬

‫{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَا ْدخُلِي جَنّتِي } وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة‪ ،‬وتخاطب به حال‬
‫الموت [والحمد ل رب العالمين]‪.‬‬
‫تفسير سورة ل أقسم‬
‫بهذا البلد مكية‬

‫حلّ ِبهَذَا الْبَلَدِ * َووَالِ ٍد َومَا وََلدَ‬


‫سمُ ِبهَذَا الْ َبلَدِ * وَأَ ْنتَ ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ لَا ُأقْ ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 20 - 1‬بِ ْ‬
‫سبُ أَنْ‬
‫سبُ أَنْ لَنْ َيقْدِرَ عَلَيْهِ َأحَدٌ * َيقُولُ أَهَْل ْكتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْ َ‬
‫* َلقَدْ خََلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَ َيحْ َ‬
‫حمَ ا ْل َعقَبَةَ * َومَا‬
‫شفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَ َ‬
‫ج َعلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَ َ‬
‫لَمْ يَ َرهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَ ْ‬
‫سكِينًا ذَا‬
‫سغَ َبةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * َأوْ ِم ْ‬
‫طعَامٌ فِي َيوْمٍ ذِي مَ ْ‬
‫أَدْرَاكَ مَا ا ْل َعقَبَةُ * َفكّ َرقَ َبةٍ * َأوْ إِ ْ‬
‫حمَةِ * أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ‬
‫صوْا بِا ْلمَرْ َ‬
‫صوْا بِالصّبْ ِر وَ َتوَا َ‬
‫مَتْرَبَةٍ * ُثمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا وَ َتوَا َ‬
‫* وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ َأصْحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ * عَلَ ْيهِمْ نَارٌ ُم ْؤصَ َدةٌ }‬

‫يقسم تعالى { ِب َهذَا الْبَلَدِ } المين‪ ،‬الذي هو مكة المكرمة‪ ،‬أفضل البلدان على الطلق‪ ،‬خصوصًا‬
‫وقت حلول الرسول صلى ال عليه وسلم فيها‪َ { ،‬ووَالِ ٍد َومَا وَلَدَ } أي‪ :‬آدم وذريته‪.‬‬

‫خَلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي كَبَدٍ } يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من‬
‫والمقسم عليه قوله‪َ { :‬لقَدْ َ‬
‫الشدائد في الدنيا‪ ،‬وفي البرزخ‪ ،‬ويوم يقوم الشهاد‪ ،‬وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من‬
‫هذه الشدائد‪ ،‬ويوجب له الفرح والسرور الدائم‪.‬‬

‫وإن لم يفعل‪ ،‬فإنه ل يزال يكابد العذاب الشديد أبد الباد‪.‬‬

‫ويحتمل أن المعنى‪ :‬لقد خلقنا النسان في أحسن تقويم‪ ،‬وأقوم خلقة‪ ،‬مقدر على التصرف‬
‫والعمال الشديدة‪ ،‬ومع ذلك‪[ ،‬فإنه] لم يشكر ال على هذه النعمة [العظيمة]‪ ،‬بل بطر بالعافية‬
‫وتجبر على خالقه‪ ،‬فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له‪ ،‬وأن سلطان تصرفه ل ينعزل‪،‬‬
‫حدٌ } ويطغى ويفتخر بما أنفق من الموال على‬
‫سبُ أَنْ لَنْ َيقْدِرَ عَلَ ْيهِ أَ َ‬
‫حَ‬‫ولهذا قال تعالى‪ { :‬أَيَ ْ‬
‫شهوات نفسه‪ .‬فـ { َيقُولُ َأهَْل ْكتُ مَالًا لُبَدًا } أي‪ :‬كثيًرا‪ ،‬بعضه فوق بعض‪.‬‬

‫وسمى ال تعالى النفاق في الشهوات والمعاصي إهلكًا‪ ،‬لنه ل ينتفع المنفق بما أنفق‪ ،‬ول يعود‬
‫عليه من إنفاقه إل الندم والخسار والتعب والقلة‪ ،‬ل كمن أنفق في مرضاة ال في سبيل الخير‪ ،‬فإن‬
‫هذا قد تاجر مع ال‪ ،‬وربح أضعاف أضعاف ما أنفق‪.‬‬

‫حدٌ } أي‪ :‬أيحسب‬


‫سبُ أَنْ لَمْ يَ َرهُ أَ َ‬
‫حَ‬‫قال ال متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات‪ { :‬أَيَ ْ‬
‫في فعله هذا‪ ،‬أن ال ل يراه ويحاسبه على الصغير والكبير؟‬
‫بل قد رآه ال‪ ،‬وحفظ عليه أعماله‪ ،‬ووكل به الكرام الكاتبين‪ ،‬لكل ما عمله من خير وشر‪.‬‬

‫شفَتَيْنِ } للجمال والبصر والنطق‪ ،‬وغير ذلك‬


‫ن وَلِسَانًا وَ َ‬
‫ج َعلْ َلهُ عَيْنَيْ ِ‬
‫ثم قرره بنعمه‪ ،‬فقال‪ { :‬أََلمْ َن ْ‬
‫من المنافع الضرورية فيها‪ ،‬فهذه نعم الدنيا‪ ،‬ثم قال في نعم الدين‪ { :‬وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْن } أي‪:‬‬
‫طريقي الخير والشر‪ ،‬بينا له الهدى من الضلل‪ ،‬والرشد من الغي‪.‬‬

‫فهذه المنن الجزيلة‪ ،‬تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق ال‪ ،‬ويشكر ال على نعمه‪ ،‬وأن ل يستعين‬
‫بها على معاصيه ‪ ،‬ولكن هذا النسان لم يفعل ذلك‪.‬‬

‫{ فَلَا اقْ َتحَمَ ا ْل َعقَبَةَ } أي‪ :‬لم يقتحمها ويعبر عليها‪ ،‬لنه متبع لشهواته ‪.‬‬

‫وهذه العقبة شديدة عليه‪ ،‬ثم فسر [هذه] العقبة { َفكّ َرقَبَةٍ } أي‪ :‬فكها من الرق‪ ،‬بعتقها أو مساعدتها‬
‫على أداء كتابتها‪ ،‬ومن باب أولى فكاك السير المسلم عند الكفار‪.‬‬

‫سغَبَةٍ } أي‪ :‬مجاعة شديدة‪ ،‬بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة‪.‬‬
‫طعَامٌ فِي َيوْمٍ ذِي مَ ْ‬
‫{ َأوْ ِإ ْ‬

‫{ يَتِيمًا ذَا َمقْرَبَةٍ } أي‪ :‬جامعًا بين كونه يتيمًا‪ ،‬فقيرًا ذا قرابة‪.‬‬

‫سكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أي‪ :‬قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة‪.‬‬


‫{ َأوْ مِ ْ‬

‫{ ُثمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا } أي‪ :‬آمنوا بقلوبهم بما يجب اليمان به‪ ،‬وعملوا الصالحات‬
‫صوْا بِالصّبْرِ } على طاعة ال وعن‬
‫بجوارحهم‪ .‬من كل قول وفعل واجب أو مستحب‪ { .‬وَ َتوَا َ‬
‫معصيته‪ ،‬وعلى أقدار المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على النقياد لذلك‪ ،‬والتيان به كاملًا‬
‫منشرحًا به الصدر‪ ،‬مطمئنة به النفس‪.‬‬

‫حمَةِ } للخلق‪ ،‬من إعطاء محتاجهم‪ ،‬وتعليم جاهلهم‪ ،‬والقيام بما يحتاجون إليه من‬
‫صوْا بِا ْلمَ ْر َ‬
‫{ وَ َتوَا َ‬
‫جميع الوجوه‪ ،‬ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية‪ ،‬وأن يحب لهم ما يحب لنفسه‪ ،‬ويكره‬
‫لهم ما يكره لنفسه‪ ،‬أولئك الذين قاموا بهذه الوصاف‪ ،‬الذين وفقهم ال لقتحام هذه العقبة { أُولَ ِئكَ‬
‫َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ } لنهم أدوا ما أمر ال به من حقوقه وحقوق عباده‪ ،‬وتركوا ما نهوا عنه‪ ،‬وهذا‬
‫عنوان السعادة وعلمتها‪.‬‬

‫{ وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا } بأن نبذوا هذه المور وراء ظهورهم‪ ،‬فلم يصدقوا بال‪[ ،‬ول آمنوا به]‪،‬‬
‫ول عملوا صالحًا‪ ،‬ول رحموا عباد ال‪ { ،‬والذين كفروا بآياتنا همْ َأصْحَابُ ا ْلمَشْ َئمَة عَلَ ْيهِمْ نَارٌ‬
‫ُمؤْصَ َدةٌ } أي‪ :‬مغلقة‪ ،‬في عمد ممددة‪ ،‬قد مدت من ورائها‪ ،‬لئل تنفتح أبوابها‪ ،‬حتى يكونوا في‬
‫ضيق وهم وشدة [والحمد ل]‪.‬‬

‫تفسير سورة والشمس‬


‫وضحاها وهي مكية‬

‫س َوضُحَاهَا * وَا ْل َقمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَال ّنهَارِ ِإذَا‬


‫شمْ ِ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ وَال ّ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 15 - 1‬بِ ْ‬
‫سوّاهَا *‬
‫سمَاءِ َومَا بَنَاهَا * وَالْأَ ْرضِ َومَا طَحَاهَا * وَ َنفْسٍ َومَا َ‬
‫جَلّاهَا * وَاللّ ْيلِ إِذَا َي ْغشَاهَا * وَال ّ‬
‫ط ْغوَاهَا * ِإذِ‬
‫فَأَ ْل َه َمهَا ُفجُورَهَا وَ َتقْوَاهَا * َقدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا * َوقَدْ خَابَ مَنْ َدسّاهَا * َكذّ َبتْ َثمُودُ بِ َ‬
‫سقْيَاهَا * َفكَذّبُوهُ َف َعقَرُوهَا فَ َدمْ َدمَ عَلَ ْيهِمْ رَ ّب ُهمْ بِذَنْ ِب ِهمْ‬
‫شقَاهَا * َفقَالَ َل ُهمْ رَسُولُ اللّهِ نَا َقةَ اللّ ِه وَ ُ‬
‫انْ َب َعثَ أَ ْ‬
‫عقْبَاهَا }‬
‫سوّاهَا * وَلَا َيخَافُ ُ‬
‫فَ َ‬

‫أقسم تعالى بهذه اليات العظيمة‪ ،‬على النفس المفلحة‪ ،‬وغيرها من النفوس الفاجرة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫شمْسِ َوضُحَاهَا } أي‪ :‬نورها‪ ،‬ونفعها الصادر منها‪.‬‬


‫{ وَال ّ‬

‫{ وَا ْل َقمَرِ إِذَا تَلَاهَا } أي‪ :‬تبعها في المنازل والنور‪.‬‬

‫{ وَال ّنهَارِ ِإذَا جَلّاهَا } أي‪ :‬جلى ما على وجه الرض وأوضحه‪.‬‬

‫{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَاهَا } أي‪ :‬يغشى وجه الرض‪ ،‬فيكون ما عليها مظلمًا‪.‬‬

‫فتعاقب الظلمة والضياء‪ ،‬والشمس والقمر‪ ،‬على هذا العالم‪ ،‬بانتظام وإتقان‪ ،‬وقيام لمصالح العباد‪،‬‬
‫أكبر دليل على أن ال بكل شيء عليم‪ ،‬وعلى كل شيء قدير‪ ،‬وأنه المعبود وحده‪ ،‬الذي كل معبود‬
‫سواه فباطل‪.‬‬

‫سمَا ِء َومَا بَنَاهَا } يحتمل أن " ما " موصولة‪ ،‬فيكون القسام بالسماء وبانيها‪ ،‬الذي هو ال‬
‫{ وَال ّ‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬ويحتمل أنها مصدرية‪ ،‬فيكون القسام بالسماء وبنيانها‪ ،‬الذي هو غاية ما يقدر من‬
‫الحكام والتقان والحسان‪ ،‬ونحو ذلك قوله‪ { :‬وَالْأَ ْرضِ َومَا طَحَاهَا } أي‪ :‬مدها ووسعها‪ ،‬فتمكن‬
‫الخلق حينئذ من النتفاع بها‪ ،‬بجميع وجوه النتفاع‪.‬‬

‫سوّاهَا } يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية‪ ،‬كما يؤيد هذا العموم‪،‬‬
‫س َومَا َ‬
‫{ وَ َنفْ ٍ‬
‫ويحتمل أن المراد بالقسام بنفس النسان المكلف‪ ،‬بدليل ما يأتي بعده‪.‬‬
‫وعلى كل‪ ،‬فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقة بالقسام بها فإنها في غاية اللطف والخفة‪،‬‬
‫سريعة التنقل [والحركة] والتغير والتأثر والنفعالت النفسية‪ ،‬من الهم‪ ،‬والرادة‪ ،‬والقصد‪،‬‬
‫والحب‪ ،‬والبغض‪ ،‬وهي التي لولها لكان البدن مجرد تمثال ل فائدة فيه‪ ،‬وتسويتها على هذا‬
‫الوجه آية من آيات ال العظيمة‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬قَدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا } أي‪ :‬طهر نفسه من الذنوب‪ ،‬ونقاها من العيوب‪ ،‬ورقاها بطاعة ال‪،‬‬
‫وعلها بالعلم النافع والعمل الصالح‪.‬‬

‫{ َوقَدْ خَابَ مَنْ َدسّاهَا } أي‪ :‬أخفى نفسه الكريمة‪ ،‬التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها‪ ،‬بالتدنس‬
‫بالرذائل‪ ،‬والدنو من العيوب‪ ،‬والقتراف للذنوب‪ ،‬وترك ما يكملها وينميها‪ ،‬واستعمال ما يشينها‬
‫ويدسيها‪.‬‬

‫ط ْغوَاهَا } أي‪ :‬بسبب طغيانها وترفعها عن الحق‪ ،‬وعتوها على رسل ال‬
‫{ َكذّ َبتْ َثمُودُ ِب َ‬

‫شقَاهَا } أي‪ :‬أشقى القبيلة‪[ ،‬وهو] " قدار بن سالف " لعقرها حين اتفقوا على ذلك‪،‬‬
‫{ ِإذِ انْ َب َعثَ أَ ْ‬
‫وأمروه فأتمر لهم‪.‬‬

‫سقْيَاهَا } أي‪ :‬احذروا عقر ناقة‬


‫{ َفقَالَ َلهُمْ رَسُولُ اللّهِ } صالح عليه السلم محذرًا‪ { :‬نَا َقةَ اللّ ِه وَ ُ‬
‫ال‪ ،‬التي جعلها لكم آية عظيمة‪ ،‬ول تقابلوا نعمة ال عليكم بسقي لبنها أن تعقروها‪ ،‬فكذبوا نبيهم‬
‫صالحًا‪.‬‬

‫{ َف َعقَرُوهَا فَ َدمْ َدمَ عَلَ ْيهِمْ رَ ّب ُهمْ بِذَنْ ِبهِمْ } أي‪ :‬دمر عليهم وعمهم بعقابه‪ ،‬وأرسل عليهم الصيحة من‬
‫فوقهم‪ ،‬والرجفة من تحتهم‪ ،‬فأصبحوا جاثمين على ركبهم‪ ،‬ل تجد منهم داعيًا ول مجيبا‪.‬‬

‫سوّاهَا } عليهم أي‪ :‬سوى بينهم بالعقوبة‬


‫{ َف َ‬

‫عقْبَاهَا } أي‪ :‬تبعتها‪.‬‬


‫{ وَلَا َيخَافُ ُ‬

‫وكيف يخاف من هو قاهر‪ ،‬ل يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق‪ ،‬الحكيم في كل ما قضاه‬
‫وشرعه؟‬

‫تمت ول الحمد‬
‫تفسير سورة والليل‬
‫وهي مكية‬

‫خلَقَ ال ّذكَرَ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ وَاللّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَى * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّى * َومَا َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 21 - 1‬بِ ْ‬
‫سعْ َيكُمْ َلشَتّى * فََأمّا مَنْ أَعْطَى وَا ّتقَى * َوصَدّقَ بِالْحُسْنَى * َفسَنُيَسّ ُرهُ لِلْ ُيسْرَى *‬
‫وَالْأُنْثَى * إِنّ َ‬
‫ل وَاسْ َتغْنَى * َوكَ ّذبَ بِا ْلحُسْنَى * فَسَنُ َيسّ ُرهُ لِ ْلعُسْرَى * َومَا ُيغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَ َردّى *‬
‫خَ‬‫وََأمّا مَنْ َب ِ‬
‫إِنّ عَلَيْنَا لَ ْل ُهدَى * وَإِنّ لَنَا لَلْآخِ َر َة وَالْأُولَى * فَأَ ْنذَرْ ُتكُمْ نَارًا تََلظّى *‬

‫ب وَ َتوَلّى * وَسَ ُيجَنّ ُبهَا الْأَ ْتقَى * الّذِي ُيؤْتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى * َومَا‬
‫شقَى * الّذِي كَ ّذ َ‬
‫لَا َيصْلَاهَا إِلّا الْأَ ْ‬
‫س ْوفَ يَ ْرضَى }‬
‫حدٍ عِنْ َدهُ مِنْ ِن ْعمَةٍ تُجْزَى * إِلّا ابْ ِتغَا َء وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى * وَلَ َ‬
‫لِأَ َ‬

‫هذا قسم من ال بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬وَاللّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَى }‬
‫[أي‪ :‬يعم] الخلق بظلمه‪ ،‬فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه‪ ،‬ويستريح العباد من الكد والتعب‪.‬‬

‫{ وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّى } للخلق‪ ،‬فاستضاءوا بنوره‪ ،‬وانتشروا في مصالحهم‪.‬‬

‫خلَقَ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى } إن كانت " ما " موصولة‪ ،‬كان إقسامًا بنفسه الكريمة الموصوفة‪ ،‬بأنه‬
‫{ َومَا َ‬
‫خالق الذكور والناث‪ ،‬وإن كانت مصدرية‪ ،‬كان قسمًا بخلقه للذكر والنثى‪ ،‬وكمال حكمته في‬
‫ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى‪ ،‬ليبقى النوع ول يضمحل‪،‬‬
‫وقاد كل منهما إلى الخر بسلسلة الشهوة‪ ،‬وجعل كلًا منهما مناسبًا للخر‪ ،‬فتبارك ال أحسن‬
‫الخالقين‪.‬‬

‫سعْ َيكُمْ لَشَتّى } هذا [هو] المقسم عليه أي‪ :‬إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّ َ‬
‫كثيًرا‪ ،‬وذلك بحسب تفاوت نفس العمال ومقدارها والنشاط فيها‪ ،‬وبحسب الغاية المقصودة بتلك‬
‫العمال‪ ،‬هل هو وجه ال العلى الباقي؟ فيبقى السعي له ببقائه‪ ،‬وينتفع به صاحبه‪ ،‬أم هي غاية‬
‫مضمحلة فانية‪ ،‬فيبطل السعي ببطلنها‪ ،‬ويضمحل باضمحللها؟‬
‫وهذا كل عمل يقصد به غير وجه ال تعالى‪ ،‬بهذا الوصف‪ ،‬ولهذا فصل ال تعالى العاملين‪،‬‬
‫ووصف أعمالهم‪ ،‬فقال‪ { :‬فََأمّا مَنْ أَعْطَى } [أي] ما أمر به من العبادات المالية‪ ،‬كالزكوات‪،‬‬
‫والكفارات والنفقات‪ ،‬والصدقات‪ ،‬والنفاق في وجوه الخير‪ ،‬والعبادات البدنية كالصلة‪ ،‬والصوم‬
‫ونحوهما‪.‬‬

‫والمركبة منهما‪ ،‬كالحج والعمرة [ونحوهما] { وَا ّتقَى } ما نهي عنه‪ ،‬من المحرمات والمعاصي‪،‬‬
‫على اختلف أجناسها‪.‬‬

‫حسْنَى } أي‪ :‬صدق بـ " ل إله إل ال " وما دلت عليه‪ ،‬من جميع العقائد الدينية‪ ،‬وما‬
‫{ َوصَدّقَ بِالْ ُ‬
‫ترتب عليها من الجزاء الخروي‪.‬‬

‫{ َفسَنُيَسّ ُرهُ لِلْيُسْرَى } أي‪ :‬نسهل عليه أمره‪ ،‬ونجعله ميسرا له كل خير‪ ،‬ميسرًا له ترك كل شر‪،‬‬
‫لنه أتى بأسباب التيسير‪ ،‬فيسر ال له ذلك‪.‬‬

‫خلَ } بما أمر به‪ ،‬فترك النفاق الواجب والمستحب‪ ،‬ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب‬
‫{ وََأمّا مَنْ َب ِ‬
‫ل‪ { ،‬وَاسْ َتغْنَى } عن ال‪ ،‬فترك عبوديته جانبًا‪ ،‬ولم ير نفسه مفتقرة غاية الفتقار إلى ربها‪ ،‬الذي‬
‫ل نجاة لها ول فوز ول فلح‪ ،‬إل بأن يكون هو محبوبها ومعبودها‪ ،‬الذي تقصده وتتوجه إليه‪.‬‬

‫{ َوكَ ّذبَ بِا ْلحُسْنَى } أي‪ :‬بما أوجب ال على العباد التصديق به من العقائد الحسنة‪.‬‬

‫{ َفسَنُيَسّ ُرهُ لِ ْلعُسْرَى } أي‪ :‬للحالة العسرة‪ ،‬والخصال الذميمة‪ ،‬بأن يكون ميسرًا للشر أينما كان‪،‬‬
‫ومقيضًا له أفعال المعاصي‪ ،‬نسأل ال العافية‪.‬‬

‫{ َومَا ُيغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } الذي أطغاه واستغنى به‪ ،‬وبخل به إذا هلك ومات‪ ،‬فإنه ل يصحبه إل عمله‬
‫الصالح ‪.‬‬

‫وأما ماله [الذي لم يخرج منه الواجب] فإنه يكون وبالًا عليه‪ ،‬إذ لم يقدم منه لخرته شيئًا‪.‬‬

‫{ إِنّ عَلَيْنَا لَ ْلهُدَى } أي‪ :‬إن الهدى المستقيم طريقه‪ ،‬يوصل إلى ال‪ ،‬ويدني من رضاه‪ ،‬وأما‬
‫الضلل‪ ،‬فطرق مسدودة عن ال‪ ،‬ل توصل صاحبها إل للعذاب الشديد‪.‬‬

‫{ وَإِنّ لَنَا لَلْآخِ َر َة وَالْأُولَى } ملكًا وتصرفًا‪ ،‬ليس له فيهما مشارك‪ ،‬فليرغب الراغبون إليه في‬
‫الطلب‪ ،‬ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين‪.‬‬

‫{ فَأَ ْنذَرْ ُتكُمْ نَارًا تََلظّى } أي‪ :‬تستعر وتتوقد‪.‬‬


‫شقَى الّذِي َك ّذبَ } بالخبر { وَ َتوَلّى } عن المر‪.‬‬
‫{ لَا َيصْلَاهَا إِلّا الَْأ ْ‬

‫{ وَسَ ُيجَنّ ُبهَا الْأَ ْتقَى الّذِي ُيؤْتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى } بأن يكون قصده به تزكية نفسه‪ ،‬وتطهيرها من‬
‫الذنوب والعيوب ‪ ،‬قاصدًا به وجه ال تعالى‪ ،‬فدل هذا على أنه إذا تضمن النفاق المستحب ترك‬
‫واجب‪ ،‬كدين ونفقة ونحوهما‪ ،‬فإنه غير مشروع‪ ،‬بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء‪،‬‬
‫لنه ل يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب‪.‬‬

‫{ َومَا لَِأحَدٍ عِ ْن َدهُ مِنْ ِن ْعمَةٍ تُجْزَى } أي‪ :‬ليس لحد من الخلق على هذا التقى نعمة تجزى إل وقد‬
‫كافأه بها‪ ،‬وربما بقي له الفضل والمنة على الناس‪ ،‬فتمحض عبدًا ل‪ ،‬لنه رقيق إحسانه وحده‪،‬‬
‫وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها‪ ،‬فإنه ل بد أن يترك للناس‪ ،‬ويفعل لهم ما‬
‫ينقص [إخلصه]‪.‬‬

‫وهذه الية‪ ،‬وإن كانت متناولة لبي بكر الصديق رضي ال عنه‪ ،‬بل قد قيل إنها نزلت في سببه‪،‬‬
‫فإنه ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬ما لحد عنده من نعمة تجزى‪ ،‬حتى ول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫إل نعمة الرسول التي ل يمكن جزاؤها‪ ،‬وهي [نعمة] الدعوة إلى دين السلم‪ ،‬وتعليم الهدى ودين‬
‫الحق‪ ،‬فإن ل ورسوله المنة على كل أحد‪ ،‬منة ل يمكن لها جزاء ول مقابلة‪ ،‬فإنها متناولة لكل‬
‫من اتصف بهذا الوصف الفاضل‪ ،‬فلم يبق لحد عليه من الخلق نعمة تجزى‪ ،‬فبقيت أعماله‬
‫خالصة لوجه ال تعالى‪.‬‬

‫س ْوفَ يَ ْرضَى } هذا التقى بما يعطيه ال من أنواع‬


‫جهِ رَبّهِ الْأَعْلَى وَلَ َ‬
‫ولهذا قال‪ { :‬إِلّا ابْ ِتغَا َء وَ ْ‬
‫الكرامات والمثوبات‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫تفسير سورة والضحى‬


‫وهي مكية‬

‫ك َومَا قَلَى‬
‫عكَ رَ ّب َ‬
‫سجَى * مَا وَدّ َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ وَالضّحَى * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫س ْوفَ ُي ْعطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَى * أََلمْ َيجِ ْدكَ يَتِيمًا فَآوَى * َووَجَ َدكَ‬
‫* وَلَلْآخِ َرةُ خَيْرٌ َلكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَ َ‬
‫ضَالّا َفهَدَى * َووَجَ َدكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فََأمّا الْيَتِيمَ فَلَا َت ْقهَرْ * وََأمّا السّا ِئلَ فَلَا تَ ْنهَرْ * وََأمّا بِ ِن ْعمَةِ‬
‫ح ّدثْ }‬
‫رَ ّبكَ فَ َ‬

‫أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى‪ ،‬وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته‪ ،‬على اعتناء ال‬
‫عكَ رَ ّبكَ } أي‪ :‬ما تركك منذ اعتنى بك‪ ،‬ول أهملك‬
‫برسوله صلى ال عليه وسلم فقال‪ { :‬مَا وَدّ َ‬
‫منذ رباك ورعاك‪ ،‬بل لم يزل يربيك أحسن تربية‪ ،‬ويعليك درجة بعد درجة‪.‬‬

‫{ َومَا قَل } ك ال أي‪ :‬ما أبغضك منذ أحبك‪ ،‬فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده‪ ،‬والنفي‬
‫المحض ل يكون مدحًا‪ ،‬إل إذا تضمن ثبوت كمال‪ ،‬فهذه حال الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫الماضية والحاضرة‪ ،‬أكمل حال وأتمها‪ ،‬محبة ال له واستمرارها‪ ،‬وترقيته في درج الكمال‪،‬‬
‫ودوام اعتناء ال به‪.‬‬

‫وأما حاله المستقبلة‪ ،‬فقال‪ { :‬وَلَلْآخِ َرةُ خَيْرٌ َلكَ مِنَ الْأُولَى } أي‪ :‬كل حالة متأخرة من أحوالك‪ ،‬فإن‬
‫لها الفضل على الحالة السابقة‪.‬‬

‫فلم يزل صلى ال عليه وسلم يصعد في درج المعالي ويمكن له ال دينه‪ ،‬وينصره على أعدائه‪،‬‬
‫ويسدد له أحواله‪ ،‬حتى مات‪ ،‬وقد وصل إلى حال ل يصل إليها الولون والخرون‪ ،‬من الفضائل‬
‫والنعم‪ ،‬وقرة العين‪ ،‬وسرور القلب‪.‬‬

‫ثم بعد ذلك‪ ،‬ل تسأل عن حاله في الخرة‪ ،‬من تفاصيل الكرام‪ ،‬وأنواع النعام‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَى } وهذا أمر ل يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة‬
‫{ وَلَ َ‬
‫الشاملة‪.‬‬

‫ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله [الخاصة] فقال‪:‬‬

‫{ أََلمْ َيجِ ْدكَ يَتِيمًا فَآوَى } أي‪ :‬وجدك ل أم لك‪ ،‬ول أب‪ ،‬بل قد مات أبوه وأمه وهو ل يدبر نفسه‪،‬‬
‫فآواه ال‪ ،‬وكفله جده عبد المطلب‪ ،‬ثم لما مات جده كفله ال عمه أبا طالب‪ ،‬حتى أيده بنصره‬
‫وبالمؤمنين‪.‬‬

‫ج َدكَ ضَالّا َفهَدَى } أي‪ :‬وجدك ل تدري ما الكتاب ول اليمان‪ ،‬فعلمك ما لم تكن تعلم‪،‬‬
‫{ َووَ َ‬
‫ووفقك لحسن العمال والخلق‪.‬‬
‫ج َدكَ عَائِلًا } أي‪ :‬فقيرًا { فَأَغْنَى } بما فتح ال عليك من البلدان‪ ،‬التي جبيت لك أموالها‬
‫{ َووَ َ‬
‫وخراجها‪.‬‬

‫فالذي أزال عنك هذه النقائص‪ ،‬سيزيل عنك كل نقص‪ ،‬والذي أوصلك إلى الغنى‪ ،‬وآواك ونصرك‬
‫وهداك‪ ،‬قابل نعمته بالشكران‪.‬‬

‫[ولهذا قال‪ { ]:‬فََأمّا الْيَتِيمَ فَلَا َتقْهَرْ } أي‪ :‬ل تسيء معاملة اليتيم‪ ،‬ول يضق صدرك عليه‪ ،‬ول‬
‫تنهره‪ ،‬بل أكرمه‪ ،‬وأعطه ما تيسر‪ ،‬واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك‪.‬‬

‫{ وََأمّا السّا ِئلَ فَلَا تَ ْنهَرْ } أي‪ :‬ل يصدر منك إلى السائل كلم يقتضي رده عن مطلوبه‪ ،‬بنهر‬
‫وشراسة خلق‪ ،‬بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف [وإحسان]‪.‬‬

‫وهذا يدخل فيه السائل للمال‪ ،‬والسائل للعلم‪ ،‬ولهذا كان المعلم مأمورًا بحسن الخلق مع المتعلم‪،‬‬
‫ومباشرته بالكرام والتحنن عليه‪ ،‬فإن في ذلك معونة له على مقصده‪ ،‬وإكرامًا لمن كان يسعى في‬
‫نفع العباد والبلد‪.‬‬

‫ح ّدثْ } أي‪ :‬أثن على ال بها‪،‬‬


‫{ وََأمّا بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ } [وهذا يشمل] النعم الدينية والدنيوية { فَ َ‬
‫وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة‪.‬‬

‫وإل فحدث بنعم ال على الطلق‪ ،‬فإن التحدث بنعمة ال‪ ،‬داع لشكرها‪ ،‬وموجب لتحبيب القلوب‬
‫إلى من أنعم بها‪ ،‬فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن‪.‬‬

‫تفسير سورة ألم نشرح [لك‬


‫صدرك] وهي مكية‬

‫ك وِزْ َركَ * الّذِي‬


‫ضعْنَا عَ ْن َ‬
‫ك صَدْ َركَ * َو َو َ‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫غتَ‬
‫ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ * فَإِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ يُسْرًا * إِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا * فَإِذَا فَرَ ْ‬
‫أَ ْن َقضَ َ‬
‫غبْ }‬
‫صبْ * وَإِلَى رَ ّبكَ فَارْ َ‬
‫فَا ْن َ‬

‫يقول تعالى ‪-‬ممتنًا على رسوله‪ { :-‬أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ } أي‪ :‬نوسعه لشرائع الدين والدعوة‬
‫إلى ال‪ ،‬والتصاف بمكارم الخلق‪ ،‬والقبال على الخرة‪ ،‬وتسهيل الخيرات فلم يكن ضيقًا‬
‫حرجًا‪ ،‬ل يكاد ينقاد لخير‪ ،‬ول تكاد تجده منبسطًا‪.‬‬

‫ظهْ َركَ } كما قال تعالى‪ { :‬لِ َي ْغفِرَ‬


‫ك وِزْ َركَ } أي‪ :‬ذنبك‪ { ،‬الّذِي أَ ْن َقضَ } أي‪ :‬أثقل { َ‬
‫ضعْنَا عَ ْن َ‬
‫{ َو َو َ‬
‫ك َومَا تََأخّرَ } ‪.‬‬
‫َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ‬

‫{ وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ } أي‪ :‬أعلينا قدرك‪ ،‬وجعلنا لك الثناء الحسن العالي‪ ،‬الذي لم يصل إليه أحد‬
‫من الخلق‪ ،‬فل يذكر ال إل ذكر معه رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما في الدخول في السلم‪،‬‬
‫وفي الذان‪ ،‬والقامة‪ ،‬والخطب‪ ،‬وغير ذلك من المور التي أعلى ال بها ذكر رسوله محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وله في قلوب أمته من المحبة والجلل والتعظيم ما ليس لحد غيره‪ ،‬بعد ال تعالى‪ ،‬فجزاه ال‬
‫عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته‪.‬‬

‫وقوله‪ { :‬فَإِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ يُسْرًا إِنّ َمعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا } بشارة عظيمة‪ ،‬أنه كلما وجد عسر وصعوبة‪،‬‬
‫فإن اليسر يقارنه ويصاحبه‪ ،‬حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر‪ ،‬فأخرجه كما قال‬
‫عسْرٍ يُسْرًا } وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬وإن الفرج مع‬
‫ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ ُ‬
‫تعالى‪ { :‬سَ َي ْ‬
‫الكرب‪ ،‬وإن مع العسر يسرا " ‪.‬‬

‫وتعريف " العسر " في اليتين‪ ،‬يدل على أنه واحد‪ ،‬وتنكير " اليسر " يدل على تكراره‪ ،‬فلن يغلب‬
‫عسر يسرين‪.‬‬

‫وفي تعريفه باللف واللم‪ ،‬الدالة على الستغراق والعموم يدل على أن كل عسر ‪-‬وإن بلغ من‬
‫الصعوبة ما بلغ‪ -‬فإنه في آخره التيسير ملزم له‪.‬‬

‫غتَ فَا ْنصَبْ‬


‫ثم أمر ال رسوله أصلًا‪ ،‬والمؤمنين تبعًا‪ ،‬بشكره والقيام بواجب نعمه‪ ،‬فقال‪ { :‬فَِإذَا فَرَ ْ‬
‫} أي‪ :‬إذا تفرغت من أشغالك‪ ،‬ولم يبق في قلبك ما يعوقه‪ ،‬فاجتهد في العبادة والدعاء‪.‬‬

‫غبْ } أي‪ :‬أعظم الرغبة في إجابة دعائك وقبول عباداتك ‪.‬‬


‫{ وَإِلَى رَ ّبكَ } وحده { فَارْ َ‬
‫ول تكن ممن إذا فرغوا وتفرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره‪ ،‬فتكون من الخاسرين‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن معنى قوله‪ :‬فإذا فرغت من الصلة وأكملتها‪ ،‬فانصب في الدعاء‪ ،‬وإلى ربك فارغب‬
‫في سؤال مطالبك‪.‬‬

‫واستدل من قال بهذا القول‪ ،‬على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات‪ ،‬وال أعلم‬
‫بذلك تمت ول الحمد‪.‬‬

‫تفسير سورة والتين‬


‫وهي مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ * َوطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الَْأمِينِ * َلقَدْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ فََل ُهمْ‬
‫س َفلَ سَافِلِينَ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫خََلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي َأحْسَنِ َت ْقوِيمٍ * ُثمّ رَ َددْنَاهُ أَ ْ‬
‫ح َكمِ ا ْلحَا ِكمِينَ }‬
‫أَجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ * َفمَا ُيكَذّ ُبكَ َب ْعدُ بِالدّينِ * أَلَيْسَ اللّهُ بِأَ ْ‬

‫(التين) هو التين المعروف‪ ،‬وكذلك { الزّيْتُونَ } أقسم بهاتين الشجرتين‪ ،‬لكثرة منافع شجرهما‬
‫وثمرهما‪ ،‬ولن سلطانهما في أرض الشام‪ ،‬محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلم‪.‬‬

‫{ وَطُورِ سِينِينَ } أي‪ :‬طور سيناء‪ ،‬محل نبوة موسى صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫{ وَ َهذَا الْبََلدِ الَْأمِينِ } وهي‪ :‬مكة المكرمة‪ ،‬محل نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬فأقسم تعالى بهذه‬
‫المواضع المقدسة‪ ،‬التي اختارها وابتعث منها أفضل النبوات وأشرفها‪.‬‬

‫خَلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي أَحْسَنِ َتقْوِيمٍ } أي‪ :‬تام الخلق‪ ،‬متناسب العضاء‪،‬‬
‫والمقسم عليه قوله‪َ { :‬لقَدْ َ‬
‫منتصب القامة‪ ،‬لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرًا أو باطنًا شيئًا‪ ،‬ومع هذه النعم العظيمة‪ ،‬التي ينبغي‬
‫منه القيام بشكرها‪ ،‬فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم‪ ،‬مشتغلون باللهو واللعب‪ ،‬قد رضوا‬
‫لنفسهم بأسافل المور‪ ،‬وسفساف الخلق‪ ،‬فردهم ال في أسفل سافلين‪ ،‬أي‪ :‬أسفل النار‪ ،‬موضع‬
‫العصاة المتمردين على ربهم‪ ،‬إل من من ال عليه باليمان والعمل الصالح‪ ،‬والخلق الفاضلة‬
‫العالية‪ { ،‬فََلهُمْ } بذلك المنازل العالية‪ ،‬و { َأجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ } أي‪ :‬غير مقطوع‪ ،‬بل لذات‬
‫متوافرة‪ ،‬وأفراح متواترة‪ ،‬ونعم متكاثرة‪ ،‬في أبد ل يزول‪ ،‬ونعيم ل يحول‪ ،‬أكلها دائم وظلها‪،‬‬
‫{ َفمَا ُيكَذّ ُبكَ َب ْعدُ بِالدّينِ } أي‪ :‬أي‪ :‬شيء يكذبك أيها النسان بيوم الجزاء على العمال‪ ،‬وقد رأيت‬
‫من آيات ال الكثيرة ما به يحصل لك اليقين‪ ،‬ومن نعمه ما يوجب عليك أن ل تكفر بشيء مما‬
‫حكَمِ الْحَا ِكمِينَ } فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى ل يؤمرون‬
‫أخبرك به‪ { ،‬أَلَ ْيسَ اللّهُ بِأَ ْ‬
‫ول ينهون‪ ،‬ول يثابون ول يعاقبون؟‬

‫أم الذي خلق النسان أطوارًا بعد أطوار‪ ،‬وأوصل إليهم من النعم والخير والبر ما ل يحصونه‪،‬‬
‫ورباهم التربية الحسنة‪ ،‬ل بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم وغايتهم‪ ،‬التي إليها يقصدون‪،‬‬
‫ونحوها يؤمون‪ .‬تمت ول الحمد‪.‬‬

‫تفسير سورة اقرأ‬


‫[وهي] مكية‬

‫سمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ * خََلقَ الْإِ ْنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ اقْرَأْ بِا ْ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 19 - 1‬بِ ْ‬
‫طغَى * أَنْ رَآهُ‬
‫اقْرَ ْأ وَرَ ّبكَ الَْأكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِا ْلقَلَمِ * عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا َلمْ َيعْلَمْ * كَلّا إِنّ الْإِ ْنسَانَ لَيَ ْ‬
‫جعَى * أَرَأَ ْيتَ الّذِي يَ ْنهَى * عَبْدًا إِذَا صَلّى * أَرَأَ ْيتَ إِنْ كَانَ عَلَى‬
‫اسْ َتغْنَى * إِنّ إِلَى رَ ّبكَ الرّ ْ‬
‫ب وَ َتوَلّى * َألَمْ َيعْلَمْ بِأَنّ اللّهَ يَرَى * كَلّا لَئِنْ َلمْ يَنْتَهِ‬
‫ا ْلهُدَى * َأوْ َأمَرَ بِال ّت ْقوَى * أَرَأَ ْيتَ إِنْ كَ ّذ َ‬
‫جدْ‬
‫طعْهُ وَاسْ ُ‬
‫س َفعًا بِالنّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَ ْدعُ نَادِ َيهُ * سَ َن ْدعُ الزّبَانِيَةَ * كَلّا لَا تُ ِ‬
‫لَنَ ْ‬
‫وَاقْتَ ِربْ }‬

‫هذه السورة أول السور القرآنية نزولًا على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة‪ ،‬إذ كان ل يدري ما الكتاب ول اليمان‪ ،‬فجاءه جبريل عليه‬
‫الصلة والسلم بالرسالة‪ ،‬وأمره أن يقرأ‪ ،‬فامتنع‪ ،‬وقال‪ { :‬ما أنا بقارئ } فلم يزل به حتى قرأ‪.‬‬
‫سمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ } عموم الخلق‪ ،‬ثم خص النسان‪ ،‬وذكر ابتداء خلقه {‬
‫فأنزل ال عليه‪ { :‬اقْرَأْ بِا ْ‬
‫مِنْ عَلَقٍ } فالذي خلق النسان واعتنى بتدبيره‪ ،‬ل بد أن يدبره بالمر والنهي‪ ،‬وذلك بإرسال‬
‫الرسول إليهم ‪ ،‬وإنزال الكتب عليهم‪ ،‬ولهذا ذكر بعد المر بالقراءة‪ ،‬خلقه للنسان‪.‬‬

‫ثم قال‪ { :‬اقْرَأْ وَرَ ّبكَ الَْأكْ َرمُ } أي‪ :‬كثير الصفات واسعها‪ ،‬كثير الكرم والحسان‪ ،‬واسع الجود‪،‬‬
‫الذي من كرمه أن علم بالعلم ‪.‬‬
‫و { عَلّمَ بِا ْلقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ َيعَْلمْ } فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ل يعلم شيئًا‪ ،‬وجعل له‬
‫السمع والبصر والفؤاد‪ ،‬ويسر له أسباب العلم‪.‬‬

‫فعلمه القرآن‪ ،‬وعلمه الحكمة‪ ،‬وعلمه بالقلم‪ ،‬الذي به تحفظ به العلوم‪ ،‬وتضبط الحقوق‪ ،‬وتكون‬
‫رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم‪ ،‬فلله الحمد والمنة‪ ،‬الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي ل‬
‫يقدرون لها على جزاء ول شكور‪ ،‬ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق‪ ،‬ولكن النسان ‪-‬لجهله‬
‫وظلمه‪ -‬إذا رأى نفسه غنيًا‪ ،‬طغى وبغى وتجبر عن الهدى‪ ،‬ونسي أن إلى ربه الرجعى‪ ،‬ولم‬
‫يخف الجزاء‪ ،‬بل ربما وصلت به الحال أنه يترك الهدى بنفسه‪ ،‬ويدعو [غيره] إلى تركه‪ ،‬فينهى‬
‫عن الصلة التي هي أفضل أعمال اليمان‪ .‬يقول ال لهذا المتمرد العاتي‪ { :‬أَرَأَ ْيتَ } أيها الناهي‬
‫للعبد إذا صلى { إِنْ كَانَ } العبد المصلي { عَلَى ا ْلهُدَى } العلم بالحق والعمل به‪َ { ،‬أوْ َأمْرٍ } غيره‬
‫{ بِال ّت ْقوَى } ‪.‬‬

‫فهل يحسن أن ينهى‪ ،‬من هذا وصفه؟ أليس نهيه‪ ،‬من أعظم المحادة ل‪ ،‬والمحاربة للحق؟ فإن‬
‫النهي‪ ،‬ل يتوجه إل لمن هو في نفسه على غير الهدى‪ ،‬أو كان يأمر غيره بخلف التقوى‪.‬‬

‫{ أَرَأَ ْيتَ إِنْ كَ ّذبَ } الناهي بالحق { وَ َتوَلّى } عن المر‪ ،‬أما يخاف ال ويخشى عقابه؟‬

‫{ أََلمْ َيعْلَمْ بِأَنّ اللّهَ يَرَى } ما يعمل ويفعل؟‪.‬‬

‫س َفعَنْ بِالنّاصِيَةِ }‬
‫ثم توعده إن استمر على حاله‪ ،‬فقال‪ { :‬كَلّا لَئِنْ َلمْ يَنْتَهِ } عما يقول ويفعل { لَ َن ْ‬
‫أي‪ :‬لنأخذن بناصيته‪ ،‬أخذًا عنيفًا‪ ،‬وهي حقيقة بذلك‪ ،‬فإنها { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِ َئةٍ } أي‪ :‬كاذبة في‬
‫قولها‪ ،‬خاطئة في فعلها‪.‬‬

‫{ فَلْ َي ْدعُ } هذا الذي حق عليه العقاب { نَادِ َيهُ } أي‪ :‬أهل مجلسه وأصحابه ومن حوله‪ ،‬ليعينوه‬
‫على ما نزله به‪ { ،‬سَنَ ْدعُ الزّبَانِيَةَ } أي‪ :‬خزنة جهنم‪ ،‬لخذه وعقوبته‪ ،‬فلينظر أي‪ :‬الفريقين أقوى‬
‫وأقدر؟ فهذه حالة الناهي وما توعد به من العقوبة‪ ،‬وأما حالة المنهي‪ ،‬فأمره ال أن ل يصغى إلى‬
‫طعْهُ } [أي‪ ]:‬فإنه ل يأمر إل بما فيه خسارة الدارين‪،‬‬
‫هذا الناهي ول ينقاد لنهيه فقال‪ { :‬كَلّا لَا تُ ِ‬
‫سجُدْ } لربك { وَاقْتَ َربَ } منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات‪ ،‬فإنها كلها‬
‫{ وَا ْ‬
‫تدني من رضاه وتقرب منه‪.‬‬

‫وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه‪ ،‬وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم عن الصلة‪ ،‬وعبث به وآذاه‪ .‬تمت ول الحمد‪.‬‬
‫تفسير سورة القدر‬
‫[وهي] مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ * َومَا َأدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ا ْلقَدْرِ * لَيَْلةُ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 5 - 1‬بِ ْ‬
‫شهْرٍ * تَنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ مِنْ ُكلّ َأمْرٍ * سَلَامٌ ِهيَ حَتّى‬
‫ا ْلقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَ ْلفِ َ‬
‫مَطْلَعِ ا ْلفَجْرِ }‬

‫يقول تعالى مبينًا لفضل القرآن وعلو قدره‪ { :‬إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } كما قال تعالى‪ { :‬إِنّا‬
‫أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ } وذلك أن ال [تعالى] ‪ ،‬ابتدأ بإنزاله في رمضان [في] ليلة القدر‪ ،‬ورحم‬
‫ال بها العباد رحمة عامة‪ ،‬ل يقدر العباد لها شكرًا‪.‬‬

‫وسميت ليلة القدر‪ ،‬لعظم قدرها وفضلها عند ال‪ ،‬ولنه يقدر فيها ما يكون في العام من الجل‬
‫والرزاق والمقادير القدرية‪.‬‬

‫ثم فخم شأنها‪ ،‬وعظم مقدارها فقال‪َ { :‬ومَا َأدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ا ْلقَدْرِ } أي‪ :‬فإن شأنها جليل‪ ،‬وخطرها‬
‫عظيم‪.‬‬

‫شهْرٍ } أي‪ :‬تعادل من فضلها ألف شهر‪ ،‬فالعمل الذي يقع فيها‪ ،‬خير من‬
‫{ لَ ْيلَةُ ا ْلقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَ ْلفِ َ‬
‫العمل في ألف شهر [خالية منها]‪ ،‬وهذا مما تتحير فيه اللباب‪ ،‬وتندهش له العقول‪ ،‬حيث من‬
‫تبارك وتعالى على هذه المة الضعيفة القوة والقوى‪ ،‬بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف‬
‫شهر‪ ،‬عمر رجل معمر عمرًا طويلًا‪ ،‬نيفًا وثمانين سنة‪.‬‬

‫سلَامٌ ِهيَ } أي‪ :‬سالمة من كل‬


‫{ تَنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا } أي‪ :‬يكثر نزولهم فيها { مِنْ ُكلّ َأمْر َ‬
‫آفة وشر‪ ،‬وذلك لكثرة خيرها‪ { ،‬حَتّى مَطْلَعِ ا ْلفَجْرِ } أي‪ :‬مبتداها من غروب الشمس ومنتهاها‬
‫طلوع الفجر ‪.‬‬

‫وقد تواترت الحاديث في فضلها‪ ،‬وأنها في رمضان‪ ،‬وفي العشر الواخر منه‪ ،‬خصوصًا في‬
‫أوتاره‪ ،‬وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة‪.‬‬

‫ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يعتكف‪ ،‬ويكثر من التعبد في العشر الواخر من رمضان‪،‬‬
‫رجاء ليلة القدر [وال أعلم]‪.‬‬
‫تفسير سورة لم يكن‬
‫وهي مدنية‬

‫ب وَا ْلمُشْ ِركِينَ مُ ْن َفكّينَ‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ لَمْ َيكُنِ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫طهّ َرةً * فِيهَا كُ ُتبٌ قَ ّيمَةٌ * َومَا َتفَرّقَ الّذِينَ أُوتُوا‬
‫حفًا مُ َ‬
‫حَتّى تَأْتِ َيهُمُ الْبَيّنَةُ * َرسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُ ُ‬
‫ا ْلكِتَابَ إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَةُ * َومَا ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْ ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ حُ َنفَا َء وَ ُيقِيمُوا‬
‫جهَنّمَ‬
‫الصّلَا َة وَ ُيؤْتُوا ال ّزكَا َة وَذَِلكَ دِينُ ا ْلقَ ّيمَةِ * إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ وَا ْلمُشْ ِركِينَ فِي نَارِ َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَ ِئكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ *‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا أُولَ ِئكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا‬
‫عدْنٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا َر ِ‬
‫جَزَاؤُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِهمْ جَنّاتُ َ‬
‫شيَ رَبّهُ }‬
‫خِ‬‫عَنْهُ ذَِلكَ ِلمَنْ َ‬

‫يقول تعالى‪ { :‬لَمْ َيكُنِ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } أي‪[ :‬من] اليهود والنصارى { وَا ْلمُشْ ِركِينَ }‬
‫من سائر أصناف المم‪.‬‬

‫{ مُ ْن َفكّينَ } عن كفرهم وضللهم الذي هم عليه‪ ،‬أي‪ :‬ل يزالون في غيهم وضللهم‪ ،‬ل يزيدهم‬
‫مرور السنين إل كفرًا‪.‬‬

‫{ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ الْبَيّ َنةُ } الواضحة‪ ،‬والبرهان الساطع‪ ،‬ثم فسر تلك البينة فقال‪ { :‬رَسُولٌ مِنَ اللّهِ }‬
‫أي‪ :‬أرسله ال‪ ،‬يدعو الناس إلى الحق‪ ،‬وأنزل عليه كتابًا يتلوه‪ ،‬ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم‪،‬‬
‫طهّ َرةً } أي‪ :‬محفوظة عن قربان‬
‫حفًا ُم َ‬
‫صُ‬‫ويخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬يَتْلُو ُ‬
‫الشياطين‪ ،‬ل يمسها إل المطهرون‪ ،‬لنها في أعلى ما يكون من الكلم‪.‬‬

‫ولهذا قال عنها‪ { :‬فِيهَا } أي‪ :‬في تلك الصحف { كُ ُتبٌ قَ ّيمَةٌ } أي‪ :‬أخبار صادقة‪ ،‬وأوامر عادلة‬
‫تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم‪ ،‬فإذا جاءتهم هذه البينة‪ ،‬فحينئذ يتبين طالب الحق ممن ليس‬
‫له مقصد في طلبه‪ ،‬فيهلك من هلك عن بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن بينة‪.‬‬

‫وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له‪ ،‬فليس ذلك ببدع من ضللهم وعنادهم‪ ،‬فإنهم ما‬
‫تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا { ِإلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَةُ } التي توجب لهلها الجتماع‬
‫والتفاق‪ ،‬ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم‪ ،‬لم يزدهم الهدى إل ضللًا‪ ،‬ول البصيرة إل عمى‪ ،‬مع أن‬
‫الكتب كلها جاءت بأصل واحد‪ ،‬ودين واحد فما أمروا في سائر الشرائع إل أن يعبدوا { اللّهَ‬
‫مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ } أي‪ :‬قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه ال‪ ،‬وطلب الزلفى لديه‪،‬‬
‫{ حُ َنفَاءَ } أي‪ :‬معرضين [مائلين] عن سائر الديان المخالفة لدين التوحيد‪ .‬وخص الصلة والزكاة‬
‫[بالذكر] مع أنهما داخلن في قوله { لِ َيعْ ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ } لفضلهما وشرفهما‪ ،‬وكونهما العبادتين‬
‫اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين‪.‬‬

‫{ وَ َذِلكَ } أي التوحيد والخلص في الدين‪ ،‬هو { دِينُ ا ْلقَيّمَةِ } أي‪ :‬الدين المستقيم‪ ،‬الموصل إلى‬
‫جنات النعيم‪ ،‬وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم‪.‬‬

‫ب وَا ْلمُشْ ِركِينَ‬


‫ثم ذكر جزاء الكافرين بعدما جاءتهم البينة‪ ،‬فقال‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَا ِ‬
‫جهَنّمَ } قد أحاط بهم عذابها‪ ،‬واشتد عليهم عقابها‪ { ،‬خَالِدِينَ فِيهَا } ل يفتر عنهم العذاب‪،‬‬
‫فِي نَارِ َ‬
‫وهم فيها مبلسون‪ { ،‬أُولَ ِئكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ } لنهم عرفوا الحق وتركوه‪ ،‬وخسروا الدنيا والخرة‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُولَ ِئكَ ُهمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ } لنهم عبدوا ال وعرفوه‪ ،‬وفازوا بنعيم‬
‫{ إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫عدْنٍ } أي‪ :‬جنات إقامة‪ ،‬ل ظعن فيها ول رحيل‪ ،‬ول‬
‫الدنيا والخرة‪ { ،‬جَزَاؤُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ جَنّاتُ َ‬
‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ }‬
‫طلب لغاية فوقها‪َ { ،‬تجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا َر ِ‬
‫فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه‪ ،‬ورضوا عنه‪ ،‬بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل‬
‫شيَ رَبّهُ } أي‪ :‬لمن خاف ال‪ ،‬فأحجم عن معاصيه‪ ،‬وقام‬
‫خِ‬‫المثوبات { ذَِلكَ } الجزاء الحسن { ِلمَنْ َ‬
‫بواجباته‬

‫[تمت بحمد ل]‬

‫تفسير سورة إذا زلزلت‬


‫وهي مدنية‬

‫جتِ الْأَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا *‬


‫حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا زُلْزَِلتِ الْأَ ْرضُ زِلْزَاَلهَا * وَأَخْرَ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫َوقَالَ الْإِ ْنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ أَخْبَا َرهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَى َلهَا * َي ْومَئِذٍ َيصْدُرُ النّاسُ َأشْتَاتًا‬
‫عمَاَلهُمْ * َفمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرًا يَ َرهُ * َومَنْ َي ْع َملْ مِثْقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }‬
‫لِيُ َروْا أَ ْ‬

‫يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة‪ ،‬وأن الرض تتزلزل وترجف وترتج‪ ،‬حتى يسقط ما عليها من‬
‫بناء وعلم ‪.‬‬

‫فتندك جبالها‪ ،‬وتسوى تللها‪ ،‬وتكون قاعًا صفصفًا ل عوج فيه ول أمت‪.‬‬
‫جتِ الْأَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا } أي‪ :‬ما في بطنها‪ ،‬من الموات والكنوز‪.‬‬
‫{ وََأخْرَ َ‬

‫{ َوقَالَ الْإِنْسَانُ } إذا رأى ما عراها من المر العظيم مستعظمًا لذلك‪ { :‬مَا َلهَا } ؟ أي‪ :‬أي شيء‬
‫عرض لها؟‪.‬‬

‫{ َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ } الرض { أَخْبَا َرهَا } أي‪ :‬تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير‬
‫وشر‪ ،‬فإن الرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم‪ ،‬ذلك { بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَى‬
‫َلهَا } [أي] وأمرها أن تخبر بما عمل عليها‪ ،‬فل تعصى لمره ‪.‬‬

‫صدُرُ النّاسُ } من موقف القيامة‪ ،‬حين يقضي ال بينهم { َأشْتَاتًا } أي‪ :‬فرقًا متفاوتين‪.‬‬
‫{ َي ْومَئِذٍ َي ْ‬
‫عمَاَل ُهمْ } أي‪ :‬ليريهم ال ما عملوا من الحسنات والسيئات‪ ،‬ويريهم جزاءه موفرًا‪.‬‬
‫{ لِيُ َروْا أَ ْ‬

‫{ َفمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرًا يَ َر ُه َومَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ } وهذا شامل عام للخير والشر‬
‫كله‪ ،‬لنه إذا رأى مثقال الذرة‪ ،‬التي هي أحقر الشياء‪[ ،‬وجوزي عليها] فما فوق ذلك من باب‬
‫عمَِلتْ مِنْ سُوءٍ‬
‫حضَرًا َومَا َ‬
‫عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مُ ْ‬
‫جدُ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫أولى وأحرى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬يوْمَ تَ ِ‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا }‬
‫جدُوا مَا َ‬
‫َتوَدّ َلوْ أَنّ بَيْ َنهَا وَبَيْنَهُ َأ َمدًا َبعِيدًا } { َووَ َ‬

‫وهذه الية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلًا‪ ،‬والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا‪.‬‬

‫تفسير سورة العاديات‬


‫وهي مكية‬

‫ت صُبْحًا‬
‫حمَنِ الرّحِي ِم وَا ْلعَادِيَاتِ ضَ ْبحًا * فَا ْلمُورِيَاتِ َقدْحًا * فَا ْل ُمغِيرَا ِ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫شهِيدٌ * وَإِنّهُ‬
‫ج ْمعًا * إِنّ الْإِنْسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ * وَإِنّهُ عَلَى ذَِلكَ َل َ‬
‫سطْنَ بِهِ َ‬
‫* فَأَثَرْنَ بِهِ َن ْقعًا * َفوَ َ‬
‫حصّلَ مَا فِي الصّدُورِ * إِنّ رَ ّب ُهمْ ِبهِمْ‬
‫شدِيدٌ * َأفَلَا َيعْلَمُ ِإذَا ُبعْثِرَ مَا فِي ا ْلقُبُورِ * َو ُ‬
‫حبّ ا ْلخَيْرِ لَ َ‬
‫لِ ُ‬
‫َي ْومَئِذٍ لَخَبِيرٌ }‬

‫أقسم ال تبارك وتعالى بالخيل‪ ،‬لما فيها من آيات ال الباهرة‪ ،‬ونعمه الظاهرة‪ ،‬ما هو معلوم‬
‫للخلق‪.‬‬

‫وأقسم [تعالى] بها في الحال التي ل يشاركها [فيه] غيرها من أنواع الحيوانات‪ ،‬فقال‪ { :‬وَا ْلعَادِيَاتِ‬
‫ضَبْحًا } أي‪ :‬العاديات عدوًا بليغًا قويًا‪ ،‬يصدر عنه الضبح‪ ،‬وهو صوت نفسها في صدرها‪ ،‬عند‬
‫اشتداد العدو ‪.‬‬
‫{ فَا ْلمُورِيَاتِ } بحوافرهن ما يطأن عليه من الحجار { َقدْحًا } أي‪ :‬تقدح النار من صلبة‬
‫حوافرهن [وقوتهن] إذا عدون‪ { ،‬فَا ْل ُمغِيرَاتِ } على العداء { صُ ْبحًا } وهذا أمر أغلبي‪ ،‬أن الغارة‬
‫سطْنَ بِهِ } أي‪:‬‬
‫تكون صباحًا‪ { ،‬فَأَثَرْنَ ِبهِ } أي‪ :‬بعدوهن وغارتهن { َن ْقعًا } أي‪ :‬غبارًا‪َ { ،‬فوَ َ‬
‫ج ْمعًا } أي‪ :‬توسطن به جموع العداء‪ ،‬الذين أغار عليهم‪.‬‬
‫براكبهن { َ‬

‫والمقسم عليه‪ ،‬قوله‪ { :‬إِنّ الْإِ ْنسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ } أي‪ :‬لمنوع للخير الذي عليه لربه ‪.‬‬

‫فطبيعة [النسان] وجبلته‪ ،‬أن نفسه ل تسمح بما عليه من الحقوق‪ ،‬فتؤديها كاملة موفرة‪ ،‬بل‬
‫طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية‪ ،‬إل من هداه ال وخرج عن هذا‬
‫شهِيدٌ } أي‪ :‬إن النسان على ما‬
‫الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق‪ { ،‬وَإِنّهُ عَلَى ذَِلكَ لَ َ‬
‫يعرف من نفسه من المنع والكند لشاهد بذلك‪ ،‬ل يجحده ول ينكره‪ ،‬لن ذلك أمر بين واضح‪.‬‬
‫ويحتمل أن الضمير عائد إلى ال تعالى أي‪ :‬إن العبد لربه لكنود‪ ،‬وال شهيد على ذلك‪ ،‬ففيه‬
‫الوعيد‪ ،‬والتهديد الشديد‪ ،‬لمن هو لربه كنود‪ ،‬بأن ال عليه شهيد‪.‬‬

‫حبّ ا ْلخَيْرِ } أي‪ :‬المال { َلشَدِيدُ } أي‪ :‬كثير الحب للمال‪.‬‬


‫{ وَإِنّهُ } أي‪ :‬النسان { لِ ُ‬

‫وحبه لذلك‪ ،‬هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه‪ ،‬قدم شهوة نفسه على حق ربه‪ ،‬وكل‬
‫هذا لنه قصر نظره على هذه الدار‪ ،‬وغفل عن الخرة‪ ،‬ولهذا قال حاثًا له على خوف يوم‬
‫الوعيد‪:‬‬

‫{ َأفَلَا َيعْلَمُ } أي‪ :‬هل يعلم هذا المغتر { إِذَا ُبعْثِرَ مَا فِي ا ْلقُبُورِ } أي‪ :‬أخرج ال الموات من‬
‫قبورهم‪ ،‬لحشرهم ونشورهم‪.‬‬

‫حصّلَ مَا فِي الصّدُورِ } أي‪ :‬ظهر وبان [ما فيها و] ما استتر في الصدور من كمائن الخير‬
‫{ َو ُ‬
‫والشر‪ ،‬فصار السر علنية‪ ،‬والباطن ظاهرًا‪ ،‬وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم‪.‬‬

‫{ إِنّ رَ ّبهُمْ ِبهِمْ َي ْومَئِذٍ لَخَبِيرٌ } أي مطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة‪ ،‬الخفية والجلية‪ ،‬ومجازيهم‬
‫عليها‪ .‬وخص خبره بذلك اليوم‪ ،‬مع أنه خبير بهم في كل وقت‪ ،‬لن المراد بذلك‪ ،‬الجزاء‬
‫بالعمال الناشئ عن علم ال واطلعه‪.‬‬
‫تفسير سورة القارعة‬
‫[وهي] مكية‬

‫حمَنِ الرّحِيمِ ا ْلقَارِعَةُ * مَا ا ْلقَارِعَةُ * َومَا أَدْرَاكَ مَا ا ْلقَارِعَةُ * َيوْمَ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 11 - 1‬بِ ْ‬
‫َيكُونُ النّاسُ كَا ْلفَرَاشِ ا ْلمَبْثُوثِ * وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ ا ْلمَ ْنفُوشِ * فََأمّا مَنْ َثقُلَتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ‬
‫خ ّفتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ * َومَا َأدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ }‬
‫فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ‬

‫{ ا ْلقَارِعَةُ } من أسماء يوم القيامة‪ ،‬سميت بذلك‪ ،‬لنها تقرع الناس وتزعجهم بأهوالها‪ ،‬ولهذا عظم‬
‫أمرها وفخمه بقوله‪ { :‬ا ْلقَارِعَةُ مَا ا ْلقَارِعَ ُة َومَا أَدْرَاكَ مَا ا ْلقَارِعَةُ َيوْمَ َيكُونُ النّاسُ } من شدة الفزع‬
‫والهول‪ { ،‬كَا ْلفَرَاشِ ا ْلمَبْثُوث } أي‪ :‬كالجراد المنتشر‪ ،‬الذي يموج بعضه في بعض‪ ،‬والفراش‪ :‬هي‬
‫الحيوانات التي تكون في الليل‪ ،‬يموج بعضها ببعض ل تدري أين توجه‪ ،‬فإذا أوقد لها نار تهافتت‬
‫إليها لضعف إدراكها‪ ،‬فهذه حال الناس أهل العقول‪ ،‬وأما الجبال الصم الصلب‪ ،‬فتكون { كَا ْل ِعهْنِ‬
‫ا ْلمَ ْنفُوشِ } أي‪ :‬كالصوف المنفوش‪ ،‬الذي بقي ضعيفًا جدًا‪ ،‬تطير به أدنى ريح‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ وَتَرَى ا ْلجِبَالَ تَحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ } ثم بعد ذلك‪ ،‬تكون هباء منثورًا‪ ،‬فتضمحل‬
‫ول يبقى منها شيء يشاهد‪ ،‬فحينئذ تنصب الموازين‪ ،‬وينقسم الناس قسمين‪ :‬سعداء وأشقياء‪ { ،‬فََأمّا‬
‫مَنْ َثقُلَتْ َموَازِينُهُ } أي‪ :‬رجحت حسناته على سيئاته { َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } في جنات النعيم‪.‬‬

‫خفّتْ َموَازِينُهُ } بأن لم تكن له حسنات تقاوم سيئاته‪.‬‬


‫{ وََأمّا مَنْ َ‬

‫{ فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ } أي‪ :‬مأواه ومسكنه النار‪ ،‬التي من أسمائها الهاوية‪ ،‬تكون له بمنزلة الم الملزمة‬
‫كما قال تعالى‪ { :‬إِنّ عَذَا َبهَا كَانَ غَرَامًا } ‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إن معنى ذلك‪ ،‬فأم دماغه هاوية في النار‪ ،‬أي‪ :‬يلقى في النار على رأسه‪.‬‬

‫{ َومَا َأدْرَاكَ مَاهِيَهْ } وهذا تعظيم لمرها‪ ،‬ثم فسرها بقوله هي‪ { :‬نَارٌ حَامِيَةٌ } أي‪ :‬شديدة‬
‫الحرارة‪ ،‬قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا سبعين ضعفًا‪ .‬نستجير بال منها‪.‬‬

‫تفسير سورة ألهاكم التكاثر‬


‫وهي مكية‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ *‬
‫حمَنِ الرّحِيمِ أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكَاثُرُ * حَتّى زُرْ ُتمُ ا ْل َمقَابِرَ * كَلّا َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 8 - 1‬بِ ْ‬
‫علْمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ ا ْلجَحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ * ُثمّ‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ * كَلّا َلوْ َتعَْلمُونَ ِ‬
‫ثُمّ كَلّا َ‬
‫لَتُسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }‬

‫يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬ومعرفته‪،‬‬
‫والنابة إليه‪ ،‬وتقديم محبته على كل شيء‪َ { :‬أ ْلهَاكُمُ } عن ذلك المذكور { ال ّتكَاثُرُ } ولم يذكر‬
‫المتكاثر به‪ ،‬ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون‪ ،‬ويفتخر به المفتخرون‪ ،‬من التكاثر في‬
‫الموال‪ ،‬والولد‪ ،‬والنصار‪ ،‬والجنود‪ ،‬والخدم‪ ،‬والجاه‪ ،‬وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل‬
‫واحد للخر‪ ،‬وليس المقصود به الخلص ل تعالى‪.‬‬

‫فاستمرت غفلتكم ولهوتكم [وتشاغلكم] { حَتّى زُرْ ُتمُ ا ْل َمقَابِرَ } فانكشف لكم حينئذ الغطاء‪ ،‬ولكن بعد‬
‫ما تعذر عليكم استئنافه‪.‬‬

‫ودل قوله‪ { :‬حَتّى زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ } أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية ‪ ،‬أن ال‬
‫سماهم زائرين‪ ،‬ولم يسمهم مقيمين‪.‬‬

‫س ْوفَ‬
‫فدل ذلك على البعث والجزاء بالعمال في دار باقية غير فانية‪ ،‬ولهذا توعدهم بقوله‪ { :‬كَلّا َ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ كَلّا َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ } أي‪ :‬لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى‬
‫َتعَْلمُونَ ُثمّ كَلّا َ‬
‫القلوب‪ ،‬لما ألهاكم التكاثر‪ ،‬ولبادرتم إلى العمال الصالحة‪.‬‬

‫جحِيمَ } أي‪ :‬لتردن القيامة‪ ،‬فلترون‬


‫ولكن عدم العلم الحقيقي‪ ،‬صيركم إلى ما ترون‪ { ،‬لَتَ َروُنّ الْ َ‬
‫الجحيم التي أعدها ال للكافرين‪.‬‬

‫{ ُثمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ } أي‪ :‬رؤية بصرية‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّنهُمْ‬
‫ُموَا ِقعُوهَا وَلَمْ َيجِدُوا عَ ْنهَا َمصْ ِرفًا } ‪.‬‬

‫{ ُثمّ لَتُسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا‪ ،‬هل قمتم بشكره‪ ،‬وأديتم حق ال فيه‪،‬‬
‫ولم تستعينوا به‪ ،‬على معاصيه‪ ،‬فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل‪.‬‬

‫أم اغتررتم به‪ ،‬ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على معاصي ال فيعاقبكم على ذلك‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ أَذْهَبْ ُتمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا فَالْ َيوْمَ‬
‫تُجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ } الية‪.‬‬
‫تفسير سورة والعصر [وهي]‬
‫مكية‬

‫عمِلُوا‬
‫حمَنِ الرّحِي ِم وَا ْل َعصْرِ * إِنّ الْإِنْسَانَ َلفِي خُسْرٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 3 - 1‬بِ ْ‬
‫صوْا بِالصّبْرِ }‬
‫ق وَ َتوَا َ‬
‫ت وَ َتوَاصَوْا بِا ْلحَ ّ‬
‫الصّالِحَا ِ‬

‫أقسم تعالى بالعصر‪ ،‬الذي هو الليل والنهار‪ ،‬محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر‪،‬‬
‫والخاسر ضد الرابح‪.‬‬

‫والخسار مراتب متعددة متفاوتة‪:‬‬

‫قد يكون خسارًا مطلقًا‪ ،‬كحال من خسر الدنيا والخرة‪ ،‬وفاته النعيم‪ ،‬واستحق الجحيم‪.‬‬

‫وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض‪ ،‬ولهذا عمم ال الخسار لكل إنسان‪ ،‬إل من اتصف‬
‫بأربع صفات‪:‬‬

‫اليمان بما أمر ال باليمان به‪ ،‬ول يكون اليمان بدون العلم‪ ،‬فهو فرع عنه ل يتم إل به‪.‬‬

‫والعمل الصالح‪ ،‬وهذا شامل لفعال الخير كلها‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ ،‬المتعلقة بحق ال وحق عباده‬
‫‪ ،‬الواجبة والمستحبة‪.‬‬

‫والتواصي بالحق‪ ،‬الذي هو اليمان والعمل الصالح‪ ،‬أي‪ :‬يوصي بعضهم بعضًا بذلك‪ ،‬ويحثه‬
‫عليه‪ ،‬ويرغبه فيه‪.‬‬

‫والتواصي بالصبر على طاعة ال‪ ،‬وعن معصية ال‪ ،‬وعلى أقدار ال المؤلمة‪.‬‬

‫فبالمرين الولين‪ ،‬يكمل النسان نفسه‪ ،‬وبالمرين الخيرين يكمل غيره‪ ،‬وبتكميل المور‬
‫الربعة‪ ،‬يكون النسان قد سلم من الخسار‪ ،‬وفاز بالربح [العظيم]‪.‬‬

‫تفسير سورة الهمزة‬


‫وهي مكية‬
‫سبُ أَنّ‬
‫عدّ َدهُ * َيحْ َ‬
‫جمَعَ مَالًا وَ َ‬
‫حمَنِ الرّحِي ِم وَ ْيلٌ ِل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ُلمَ َزةٍ * الّذِي َ‬
‫سمِ اللّهِ الرّ ْ‬
‫{ ‪ { } 9 - 1‬بِ ْ‬
‫طمَةُ * نَارُ اللّهِ ا ْلمُوقَ َدةُ * الّتِي تَطّلِعُ عَلَى‬
‫حَ‬‫طمَةِ * َومَا َأدْرَاكَ مَا الْ ُ‬
‫مَالَهُ َأخْلَ َدهُ * كَلّا لَيُنْبَذَنّ فِي ا ْلحُ َ‬
‫عمَدٍ ُممَدّ َدةٍ }‬
‫الَْأفْئِ َدةِ * إِ ّنهَا عَلَ ْيهِمْ ُم ْؤصَ َدةٌ * فِي َ‬

‫{ وَ ْيلٌ } أي‪ :‬وعيد‪ ،‬ووبال‪ ،‬وشدة عذاب { ِل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ُلمَ َزةٍ } الذي يهمز الناس بفعله‪ ،‬ويلمزهم‬
‫بقوله‪ ،‬فالهماز‪ :‬الذي يعيب الناس‪ ،‬ويطعن عليهم بالشارة والفعل‪ ،‬واللماز‪ :‬الذي يعيبهم بقوله‪.‬‬

‫ومن صفة هذا الهماز اللماز‪ ،‬أنه ل هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به‪ ،‬وليس له رغبة‬
‫سبُ } بجهله { أَنّ مَالَهُ َأخْلَ َدهُ } في‬
‫في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الرحام‪ ،‬ونحو ذلك‪َ { ،‬يحْ َ‬
‫الدنيا‪ ،‬فلذلك كان كده وسعيه كله في تنمية ماله‪ ،‬الذي يظن أنه ينمي عمره‪ ،‬ولم يدر أن البخل‬
‫يقصف العمار‪ ،‬ويخرب الديار‪ ،‬وأن البر يزيد في العمر‪.‬‬

‫طمَةُ } تعظيم لها‪ ،‬وتهويل لشأنها‪.‬‬


‫حَ‬‫طمَةِ َومَا َأدْرَاكَ مَا الْ ُ‬
‫{ كَلّا لَيُنْبَذَنّ } أي‪ :‬ليطرحن { فِي ا ْلحُ َ‬

‫ثم فسرها بقوله‪ { :‬نَارُ اللّهِ ا ْلمُوقَ َدةُ } التي وقودها الناس والحجارة { الّتِي } من شدتها { َتطّلِعُ عَلَى‬
‫الَْأفْئِ َدةِ } أي‪ :‬تنفذ من الجسام إلى القلوب‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ‬
‫ومع هذه الحرارة البليغة هم محبوسون فيها‪ ،‬قد أيسوا من الخروج منها‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬إِ ّنهَا َ‬
‫عمَدٍ } من خلف البواب { ُممَدّ َدةٍ } لئل يخرجوا منها { كُّلمَا أَرَادُوا أَنْ‬
‫ُمؤْصَ َدةٌ } أي‪ :‬مغلقة { فِي َ‬
‫يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا أُعِيدُوا فِيهَا } ‪.‬‬

‫[نعوذ بال من ذلك‪ ،‬ونسأله العفو والعافية]‪.‬‬

‫تفسير سورة الفيل‬


‫وهي مكية‬

‫جعَلْ‬
‫صحَابِ ا ْلفِيلِ * أََلمْ َي ْ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ أََلمْ َترَ َك ْيفَ َفعَلَ َر ّبكَ ِبأَ ْ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 5 - 1‬ب ْ‬
‫جعََلهُمْ‬
‫سجّيلٍ * َف َ‬
‫حجَارَةٍ ِمنْ ِ‬
‫طيْرًا َأبَابِيلَ * َت ْرمِيهِمْ ِب ِ‬
‫َك ْيدَهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وََأ ْرسَلَ عََل ْي ِهمْ َ‬
‫ل}‬
‫صفٍ َم ْأكُو ٍ‬
‫َكعَ ْ‬

‫أي‪ :‬أما رأيت من قدرة ال وعظيم شأنه‪ ،‬ورحمته بعباده‪ ،‬وأدلة توحيده‪ ،‬وصدق رسوله محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ما فعله ال بأصحاب الفيل‪ ،‬الذين كادوا بيته الحرام وأرادوا إخرابه‪،‬‬
‫فتجهزوا لجل ذلك‪ ،‬واستصحبوا معهم الفيلة لهدمه‪ ،‬وجاءوا بجمع ل قبل للعرب به‪ ،‬من‬
‫الحبشة واليمن‪ ،‬فلما انتهوا إلى قرب مكة‪ ،‬ولم يكن بالعرب مدافعة‪ ،‬وخرج أهل مكة من مكة‬
‫خوفًا على أنفسهم منهم‪ ،‬أرسل ال عليهم طيرًا أبابيل أي‪ :‬متفرقة‪ ،‬تحمل حجارة محماة من‬
‫سجيل‪ ،‬فرمتهم بها‪ ،‬وتتبعت قاصيهم ودانيهم‪ ،‬فخمدوا وهمدوا‪ ،‬وصاروا كعصف مأكول‪،‬‬
‫وكفى ال شرهم‪ ،‬ورد كيدهم في نحورهم‪[ ،‬وقصتهم معروفة مشهورة] وكانت تلك السنة التي‬
‫ولد فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فصارت من جملة إرهاصات دعوته‪ ،‬ومقدمات‬
‫رسالته‪ ،‬فلله الحمد والشكر‪.‬‬

‫تفسير سورة ليلف‬


‫قريش وهي مكية‬

‫ص ْيفِ *‬
‫شتَاءِ وَال ّ‬
‫ف قُ َريْشٍ * إِيلَا ِفهِمْ ِرحْلَ َة ال ّ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ ِلإِيلَا ِ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 4 - 1‬ب ْ‬
‫ن خَ ْوفٍ }‬
‫ن جُوعٍ وَآ َم َن ُهمْ مِ ْ‬
‫طعَ َم ُهمْ مِ ْ‬
‫ت * اّلذِي َأ ْ‬
‫فَ ْليَ ْع ُبدُوا رَبّ َهذَا ا ْل َبيْ ِ‬

‫قال كثير من المفسرين‪ :‬إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي‪ :‬فعلنا ما فعلنا‬
‫بأصحاب الفيل لجل قريش وأمنهم‪ ،‬واستقامة مصالحهم‪ ،‬وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن‪،‬‬
‫والصيف للشام‪ ،‬لجل التجارة والمكاسب‪.‬‬

‫فأهلك ال من أرادهم بسوء‪ ،‬وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب‪ ،‬حتى احترموهم‪ ،‬ولم‬
‫ت}‬
‫يعترضوا لهم في أي‪ :‬سفر أرادوا‪ ،‬ولهذا أمرهم ال بالشكر‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ ْليَ ْع ُبدُوا رَبّ َهذَا ا ْل َبيْ ِ‬
‫ن خَ ْوفٍ } فرغد الرزق‬
‫ن جُوعٍ وَآ َم َن ُهمْ مِ ْ‬
‫ط َعمَ ُهمْ مِ ْ‬
‫أي‪ :‬ليوحدوه ويخلصوا له العبادة‪ { ،‬اّلذِي َأ ْ‬
‫والمن من المخاوف‪ ،‬من أكبر النعم الدنيوية‪ ،‬الموجبة لشكر ال تعالى‪.‬‬

‫فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة‪ ،‬وخص ال بالربوبية البيت لفضله‬
‫وشرفه‪ ،‬وإل فهو رب كل شيء‪..‬‬

‫تفسير سورة الماعون‬


‫[وهي] مكية‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ َأرََأيْتَ اّلذِي ُي َكذّبُ بِالدّينِ * َفذَِلكَ اّلذِي َي ُدعّ ا ْل َيتِيمَ * وَلَا‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 7 - 1‬ب ْ‬
‫ن * اّلذِينَ ُهمْ‬
‫عنْ صَلَا ِت ِهمْ سَاهُو َ‬
‫ن ُهمْ َ‬
‫ن * فَ َويْلٌ لِ ْل ُمصَلّينَ * اّلذِي َ‬
‫سكِي ِ‬
‫طعَامِ ا ْل ِم ْ‬
‫َيحُضّ عَلَى َ‬
‫ن}‬
‫ُيرَاءُونَ * َو َي ْم َنعُونَ ا ْلمَاعُو َ‬

‫ن } أي‪ :‬بالبعث‬
‫ب بِالدّي ِ‬
‫يقول تعالى ذامًا لمن ترك حقوقه وحقوق عبادة‪َ { :‬أرََأيْتَ اّلذِي ُي َكذّ ُ‬
‫والجزاء‪ ،‬فل يؤمن بما جاءت به الرسل‪.‬‬

‫{ َفذَِلكَ اّلذِي َي ُدعّ ا ْل َيتِيمَ } أي‪ :‬يدفعه بعنف وشدة‪ ،‬ول يرحمه لقساوة قلبه‪ ،‬ولنه ل يرجو ثوابًا‪،‬‬
‫ول يخشى عقابًا‪.‬‬

‫سكِينِ } ومن باب أولى أنه بنفسه ل يطعم المسكين‪،‬‬


‫طعَامِ ا ْل ِم ْ‬
‫ض } غيره { عَلَى َ‬
‫{ وَلَا َيحُ ّ‬
‫ن } أي‪:‬‬
‫ن صَلَا ِت ِهمْ سَاهُو َ‬
‫ن } أي‪ :‬الملتزمون لقامة الصلة‪ ،‬ولكنهم { عَ ْ‬
‫ل لِ ْل ُمصَلّي َ‬
‫{ فَ َويْ ٌ‬
‫مضيعون لها‪ ،‬تاركون لوقتها‪ ،‬مفوتون لركانها وهذا لعدم اهتمامهم بأمر ال حيث ضيعوا‬
‫الصلة‪ ،‬التي هي أهم الطاعات وأفضل القربات‪ ،‬والسهو عن الصلة‪ ،‬هو الذي يستحق‬
‫صاحبه الذم واللوم وأما السهو في الصلة‪ ،‬فهذا يقع من كل أحد‪ ،‬حتى من النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫ن ُهمْ ُيرَاءُونَ } أي يعملون‬


‫ولهذا وصف ال هؤلء بالرياء والقسوة وعدم الرحمة‪ ،‬فقال‪ { :‬اّلذِي َ‬
‫العمال لجل رئاء الناس‪.‬‬

‫ن ا ْلمَاعُونَ } أي‪ :‬يمنعون إعطاء الشيء‪ ،‬الذي ل يضر إعطاؤه على وجه العارية‪،‬‬
‫{ َو َي ْم َنعُو َ‬
‫أو الهبة‪ ،‬كالناء‪ ،‬والدلو‪ ،‬والفأس‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما جرت العادة ببذلها والسماحة به ‪.‬‬

‫فهؤلء ‪-‬لشدة حرصهم‪ -‬يمنعون الماعون‪ ،‬فكيف بما هو أكثر منه‪.‬‬

‫وفي هذه السورة‪ ،‬الحث على إكرام اليتيم‪ ،‬والمساكين‪ ،‬والتحضيض على ذلك‪ ،‬ومراعاة‬
‫الصلة‪ ،‬والمحافظة عليها‪ ،‬وعلى الخلص [فيها و] في جميع العمال‪.‬‬

‫والحث على [فعل المعروف و] بذل الموال الخفيفة‪ ،‬كعارية الناء والدلو والكتاب‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬لن ال ذم من لم يفعل ذلك‪ ،‬وال سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد ل رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫تفسير سورة الكوثر‬
‫وهي مكية‬

‫حرْ * ِإنّ شَا ِن َئكَ‬


‫عطَ ْينَاكَ ا ْلكَ ْو َثرَ * َفصَلّ ِل َر ّبكَ وَا ْن َ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ ِإنّا َأ ْ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 3 - 1‬ب ْ‬
‫هُ َو ا ْلَأ ْبتَرُ }‬

‫ط ْينَاكَ ا ْل َك ْو َثرَ } أي‪ :‬الخير‬


‫عَ‬‫يقول ال تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم ممتنا عليه‪ِ { :‬إنّا أَ ْ‬
‫الكثير‪ ،‬والفضل الغزير‪ ،‬الذي من جملته‪ ،‬ما يعطيه ال لنبيه صلى ال عليه وسلم يوم القيامة‪،‬‬
‫من النهر الذي يقال له { الكوثر } ومن الحوض‬

‫طوله شهر‪ ،‬وعرضه شهر‪ ،‬ماؤه أشد بياضًا من اللبن‪ ،‬وأحلى من العسل‪ ،‬آنيته كنجوم السماء‬
‫في كثرتها واستنارتها‪ ،‬من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا‪.‬‬

‫حرْ } خص هاتين العبادتين بالذكر‪،‬‬


‫ولما ذكر منته عليه‪ ،‬أمره بشكرها فقال‪َ { :‬فصَلّ ِل َر ّبكَ وَا ْن َ‬
‫لنهما من أفضل العبادات وأجل القربات‪.‬‬

‫ولن الصلة تتضمن الخضوع [في] القلب والجوارح ل‪ ،‬وتنقلها في أنواع العبودية‪ ،‬وفي‬
‫النحر تقرب إلى ال بأفضل ما عند العبد من النحائر‪ ،‬وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على‬
‫محبته والشح به‪.‬‬

‫{ ِإنّ شَا ِن َئكَ } أي‪ :‬مبغضك وذامك ومنتقصك { ُهوَ ا ْلَأ ْب َترُ } أي‪ :‬المقطوع من كل خير‪،‬‬
‫مقطوع العمل‪ ،‬مقطوع الذكر‪.‬‬

‫وأما محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو الكامل حقًا‪ ،‬الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق‪،‬‬
‫من رفع الذكر‪ ،‬وكثرة النصار‪ ،‬والتباع صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫تفسير سورة الكافرون‬

‫ع ُب ُد مَا َت ْع ُبدُونَ * وَلَا َأ ْنتُمْ‬


‫ن * لَا أَ ْ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ قُلْ يَا َأ ّيهَا ا ْلكَا ِفرُو َ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 6 - 1‬ب ْ‬
‫ن}‬
‫ع ُبدُ * َل ُكمْ دِي ُنكُمْ وَِليَ دِي ِ‬
‫ن مَا َأ ْ‬
‫ع َب ْد ُتمْ * وَلَا َأ ْن ُتمْ عَا ِبدُو َ‬
‫ع ُبدُ * وَلَا َأنَا عَا ِبدٌ مَا َ‬
‫ن مَا َأ ْ‬
‫عَا ِبدُو َ‬
‫ع ُبدُ مَا َت ْعبُدُونَ } أي‪ :‬تبرأ مما كانوا يعبدون من دون‬
‫أي‪ :‬قل للكافرين معلنا ومصرحًا { لَا أَ ْ‬
‫ال‪ ،‬ظاهرًا وباطنًا‪.‬‬

‫ع ُبدُ } لعدم إخلصكم في عبادته ‪ ،‬فعبادتكم له المقترنة بالشرك ل‬


‫{ وَلَا َأ ْن ُتمْ عَابِدُونَ مَا أَ ْ‬
‫تسمى عبادة‪ ،‬ثم كرر ذلك ليدل الول على عدم وجود الفعل‪ ،‬والثاني على أن ذلك قد صار‬
‫وصفًا لزمًا‪.‬‬

‫ي دِينِ } كما قال تعالى‪:‬‬


‫ولهذا ميز بين الفريقين‪ ،‬وفصل بين الطائفتين‪ ،‬فقال‪َ { :‬ل ُكمْ دِي ُن ُكمْ وَِل َ‬
‫ن}‪.‬‬
‫عمَلُ وََأنَا بَرِيءٌ ِممّا َت ْعمَلُو َ‬
‫ن ِممّا أَ ْ‬
‫ل َي ْعمَلُ عَلَى شَاكِلَتِ ِه } { َأ ْن ُتمْ َبرِيئُو َ‬
‫{ قُلْ كُ ّ‬

‫تفسير سورة النصر‬


‫وهي مدنية‬

‫ن فِي‬
‫ت النّاسَ َي ْدخُلُو َ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ ِإذَا جَا َء َنصْرُ اللّهِ وَالْ َفتْحُ * َورََأيْ َ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 3 - 1‬ب ْ‬
‫ن تَوّابًا }‬
‫س َتغْفِرْ ُه ِإنّ ُه كَا َ‬
‫حمْدِ َر ّبكَ وَا ْ‬
‫ح ِب َ‬
‫سبّ ْ‬
‫دِينِ اللّهِ َأفْوَاجًا * فَ َ‬

‫في هذه السورة الكريمة‪ ،‬بشارة وأمر لرسوله عند حصولها‪ ،‬وإشارة وتنبيه على ما يترتب‬
‫على ذلك‪.‬‬

‫فالبشارة هي البشارة بنصر ال لرسوله‪ ،‬وفتحه مكة‪ ،‬ودخول الناس في دين ال أفواجًا‪ ،‬بحيث‬
‫يكون كثير منهم من أهله وأنصاره‪ ،‬بعد أن كانوا من أعدائه‪ ،‬وقد وقع هذا المبشر به‪ ،‬وأما‬
‫المر بعد حصول النصر والفتح‪ ،‬فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك‪ ،‬ويسبح بحمده‬
‫ويستغفره‪ ،‬وأما الشارة‪ ،‬فإن في ذلك إشارتين‪ :‬إشارة لن يستمر النصر لهذا الدين ‪ ،‬ويزداد‬
‫عند حصول التسبيح بحمد ال واستغفاره من رسوله‪ ،‬فإن هذا من الشكر‪ ،‬وال يقول‪َ { :‬ل ِئنْ‬
‫شكَ ْر ُتمْ َلَأزِي َد ّن ُكمْ } وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه المة لم يزل نصر‬
‫َ‬
‫ال مستمرًا‪ ،‬حتى وصل السلم إلى ما لم يصل إليه دين من الديان‪ ،‬ودخل فيه‪ ،‬ما لم يدخل‬
‫في غيره‪ ،‬حتى حدث من المة من مخالفة أمر ال ما حدث‪ ،‬فابتلهم ال بتفرق الكلمة‪،‬‬
‫وتشتت المر‪ ،‬فحصل ما حصل‪.‬‬

‫[ومع هذا] فلهذه المة‪ ،‬وهذا الدين‪ ،‬من رحمة ال ولطفه‪ ،‬ما ل يخطر بالبال‪ ،‬أو يدور في‬
‫الخيال‪.‬‬
‫وأما الشارة الثانية‪ ،‬فهي الشارة إلى أن أجل رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قرب ودنا‪،‬‬
‫ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم ال به‪.‬‬

‫وقد عهد أن المور الفاضلة تختم بالستغفار‪ ،‬كالصلة والحج‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫فأمر ال لرسوله بالحمد والستغفار في هذه الحال‪ ،‬إشارة إلى أن أجله قد انتهى‪ ،‬فليستعد‬
‫ويتهيأ للقاء ربه‪ ،‬ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬

‫فكان صلى ال عليه وسلم يتأول القرآن‪ ،‬ويقول ذلك في صلته‪ ،‬يكثر أن يقول في ركوعه‬
‫وسجوده‪ " :‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬اللهم اغفر لي "‪.‬‬

‫تفسير سورة تبت‬


‫[وهي] مكية‬

‫ع ْنهُ مَالُ ُه َومَا َكسَبَ‬


‫غنَى َ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ َتبّتْ َيدَا َأبِي َلهَبٍ َوتَبّ * مَا َأ ْ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 5 - 1‬ب ْ‬
‫سدٍ }‬
‫حبْلٌ ِمنْ َم َ‬
‫حطَبِ * فِي جِيدِهَا َ‬
‫حمّالَةَ ا ْل َ‬
‫سيَصْلَى نَارًا ذَاتَ َلهَبٍ * وَا ْمرََأتُ ُه َ‬
‫* َ‬

‫أبو لهب هو عم النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان شديد العداوة [والذية] للنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فل فيه دين‪ ،‬ول حمية للقرابة ‪-‬قبحه ال‪ -‬فذمه ال بهذا الذم العظيم‪ ،‬الذي هو خزي‬
‫ب } أي‪ :‬خسرت يداه‪ ،‬وشقى { َوتَبّ } فلم يربح‪،‬‬
‫عليه إلى يوم القيامة فقال‪َ { :‬تبّتْ َيدَا َأبِي َلهَ ٍ‬
‫ع ْنهُ مَاُلهُ } الذي كان عنده وأطغاه‪ ،‬ول ما كسبه فلم يرد عنه شيئًا من عذاب ال إذ‬
‫غنَى َ‬
‫{ مَا أَ ْ‬
‫حمّالَةَ‬
‫ت َلهَبٍ } أي‪ :‬ستحيط به النار من كل جانب‪ ،‬هو { وَا ْمرََأتُ ُه َ‬
‫س َيصْلَى نَارًا ذَا َ‬
‫نزل به‪َ { ،‬‬
‫حطَبِ } ‪.‬‬
‫ا ْل َ‬

‫وكانت أيضًا شديدة الذية لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬تتعاون هي وزوجها على الثم‬
‫والعدوان‪ ،‬وتلقي الشر‪ ،‬وتسعى غاية ما تقدر عليه في أذية الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ن َمسَدٍ }‬
‫وتجمع على ظهرها من الوزار بمنزلة من يجمع حطبًا‪ ،‬قد أعد له في عنقه حبلًا { مِ ْ‬
‫أي‪ :‬من ليف‪.‬‬

‫أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها‪ ،‬متقلدة في عنقها حبلًا من مسد‪ ،‬وعلى كل‪ ،‬ففي‬
‫هذه السورة‪ ،‬آية باهرة من آيات ال‪ ،‬فإن ال أنزل هذه السورة‪ ،‬وأبو لهب وامرأته لم يهلكا‪،‬‬
‫وأخبر أنهما سيعذبان في النار ول بد‪ ،‬ومن لزم ذلك أنهما ل يسلمان‪ ،‬فوقع كما أخبر عالم‬
‫الغيب والشهادة‪.‬‬

‫تفسير سورة الخلص‬


‫[وهي] مكية‬

‫ص َمدُ * َلمْ يَِلدْ وََلمْ يُوَلدْ * وََلمْ‬


‫حدٌ * اللّهُ ال ّ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ قُلْ ُهوَ اللّهُ َأ َ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 4 - 1‬ب ْ‬
‫حدٌ }‬
‫َيكُنْ َلهُ ُكفُوًا َأ َ‬

‫ح ٌد } أي‪ :‬قد انحصرت فيه‬


‫أي { قُلْ } قولًا جازمًا به‪ ،‬معتقدًا له‪ ،‬عارفًا بمعناه‪ُ { ،‬هوَ اللّهُ َأ َ‬
‫الحدية‪ ،‬فهو الحد المنفرد بالكمال‪ ،‬الذي له السماء الحسنى‪ ،‬والصفات الكاملة العليا‪،‬‬
‫والفعال المقدسة‪ ،‬الذي ل نظير له ول مثيل‪.‬‬

‫ص َمدُ } أي‪ :‬المقصود في جميع الحوائج‪ .‬فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه‬
‫{ اللّهُ ال ّ‬
‫غاية الفتقار‪ ،‬يسألونه حوائجهم‪ ،‬ويرغبون إليه في مهماتهم‪ ،‬لنه الكامل في أوصافه‪ ،‬العليم‬
‫الذي قد كمل في علمه‪ ،‬الحليم الذي قد كمل في حلمه‪ ،‬الرحيم الذي [كمل في رحمته الذي]‬
‫وسعت رحمته كل شيء‪ ،‬وهكذا سائر أوصافه‪ ،‬ومن كماله أنه { َلمْ يَِلدْ وََلمْ يُوَل ْد } لكمال غناه‬
‫حدٌ } ل في أسمائه ول في أوصافه‪ ،‬ول في أفعاله‪ ،‬تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ن لَ ُه كُفُوًا َأ َ‬
‫{ وََلمْ َيكُ ْ‬

‫فهذه السورة مشتملة على توحيد السماء والصفات‪.‬‬

‫تفسير سورة الفلق‬


‫[وهي] مكية‬

‫شرّ‬
‫ن شَ ّر مَا خََلقَ * َو ِمنْ َ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ قُلْ أَعُوذُ ِبرَبّ ا ْلفََلقِ * مِ ْ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 5 - 1‬ب ْ‬
‫حسَ َد }‬
‫شرّ حَاسِدٍ ِإذَا َ‬
‫ن َ‬
‫شرّ النّفّاثَاتِ فِي ا ْلعُ َقدِ * َومِ ْ‬
‫سقٍ ِإذَا َوقَبَ * َو ِمنْ َ‬
‫غَا ِ‬

‫أي‪ { :‬قل } متعوذًا { أَعُوذُ } أي‪ :‬ألجأ وألوذ‪ ،‬وأعتصم { ِبرَبّ ا ْلفََلقِ } أي‪ :‬فالق الحب والنوى‪،‬‬
‫وفالق الصباح‪.‬‬
‫شرّ مَا خََلقَ } وهذا يشمل جميع ما خلق ال‪ ،‬من إنس‪ ،‬وجن‪ ،‬وحيوانات‪ ،‬فيستعاذ‬
‫{ ِمنْ َ‬
‫سقٍ ِإذَا َوقَبَ } أي‪ :‬من‬
‫شرّ غَا ِ‬
‫بخالقها‪ ،‬من الشر الذي فيها‪ ،‬ثم خص بعد ما عم‪ ،‬فقال‪َ { :‬و ِمنْ َ‬
‫شر ما يكون في الليل‪ ،‬حين يغشى الناس‪ ،‬وتنتشر فيه كثير من الرواح الشريرة‪ ،‬والحيوانات‬
‫المؤذية‪.‬‬

‫ن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي ا ْلعُ َقدِ } أي‪ :‬ومن شر السواحر‪ ،‬اللتي يستعن على سحرهن بالنفث في‬
‫{ َومِ ْ‬
‫العقد‪ ،‬التي يعقدنها على السحر‪.‬‬

‫سدَ } والحاسد‪ ،‬هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في‬
‫حَ‬‫سدٍ ِإذَا َ‬
‫ن شَرّ حَا ِ‬
‫{ َومِ ْ‬
‫زوالها بما يقدر عليه من السباب‪ ،‬فاحتيج إلى الستعاذة بال من شره‪ ،‬وإبطال كيده‪ ،‬ويدخل‬
‫في الحاسد العاين‪ ،‬لنه ل تصدر العين إل من حاسد شرير الطبع‪ ،‬خبيث النفس‪ ،‬فهذه السورة‪،‬‬
‫تضمنت الستعاذة من جميع أنواع الشرور‪ ،‬عمومًا وخصوصًا‪.‬‬

‫ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره‪ ،‬ويستعاذ بال منه [ومن أهله]‪.‬‬

‫تفسير سورة الناس‬


‫وهي مدنية‬

‫س * مِنْ‬
‫س * مَِلكِ النّاسِ * إَِلهِ النّا ِ‬
‫حمَنِ ال ّرحِيمِ قُلْ أَعُوذُ ِبرَبّ النّا ِ‬
‫سمِ اللّهِ ال ّر ْ‬
‫{ ‪ِ { } 6 - 1‬ب ْ‬
‫جنّةِ وَالنّاسِ }‬
‫ن ا ْل ِ‬
‫س فِي صُدُو ِر النّاسِ * مِ َ‬
‫خنّاسِ * اّلذِي يُ َوسْوِ ُ‬
‫س ا ْل َ‬
‫شَ ّر الْ َوسْوَا ِ‬

‫وهذه السورة مشتملة على الستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم‪ ،‬من الشيطان الذي هو أصل‬
‫الشرور كلها ومادتها‪ ،‬الذي من فتنته وشره‪ ،‬أنه يوسوس في صدور الناس‪ ،‬فيحسن [لهم]‬
‫الشر‪ ،‬ويريهم إياه في صورة حسنة‪ ،‬وينشط إرادتهم لفعله‪ ،‬ويقبح لهم الخير ويثبطهم عنه‪،‬‬
‫ويريهم إياه في صورة غير صورته‪ ،‬وهو دائمًا بهذه الحال يوسوس ويخنس أي‪ :‬يتأخر إذا‬
‫ذكر العبد ربه واستعان على دفعه‪.‬‬

‫فينبغي له أن [يستعين و] يستعيذ ويعتصم بربوبية ال للناس كلهم‪.‬‬

‫وأن الخلق كلهم‪ ،‬داخلون تحت الربوبية والملك‪ ،‬فكل دابة هو آخذ بناصيتها‪.‬‬
‫وبألوهيته التي خلقهم لجلها‪ ،‬فل تتم لهم إل بدفع شر عدوهم‪ ،‬الذي يريد أن يقتطعهم عنها‬
‫ويحول بينهم وبينها‪ ،‬ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‪ ،‬والوسواس كما‬
‫جنّةِ وَالنّاسِ } ‪.‬‬
‫ن ا ْل ِ‬
‫يكون من الجن يكون من النس‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬مِ َ‬

‫والحمد ل رب العالمين أولًا وآخرًا‪ ،‬وظاهرًا وباطنًا‪.‬‬

‫ونسأله تعالى أن يتم نعمته‪ ،‬وأن يعفو عنا ذنوبًا لنا حالت بيننا وبين كثير من بركاته‪ ،‬وخطايا‬
‫وشهوات ذهبت بقلوبنا عن تدبر آياته‪.‬‬

‫ونرجوه ونأمل منه أن ل يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا‪ ،‬فإنه ل ييأس من روح ال إل‬
‫القوم الكافرون‪ ،‬ول يقنط من رحمته إل القوم الضالون‪.‬‬

‫وصلى ال وسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬صلة وسلمًا دائمين‬
‫متواصلين أبد الوقات‪ ،‬والحمد ل الذي بنعمته تتم الصالحات‪.‬‬

‫تم تفسير كتاب ال بعونه وحسن توفيقه‪ ،‬على يد جامعه وكاتبه‪ ،‬عبد الرحمن بن ناصر بن‬
‫عبد ال المعروف بابن سعدي‪ ،‬غفر ال له ولوالديه وجميع المسلمين‪ ،‬وذلك في غرة ربيع‬
‫الول من سنة أربع وأربعين وثلثمائة وألف من هجرة محمدً صلى ال عليه وسلم في ب‪:‬‬
‫ووقع النقل في شعبان ‪ 1345‬ربنا تقبل منا واعف إنك أنت الغفور الرحيم‪.‬‬

‫تم بحمد الله‬

‫لتنسونا من دعوه بظهر الغيب‬

You might also like