Professional Documents
Culture Documents
يمدح ال تعالى نفسه الكريمة المقدسة ،على خلقه السماوات والرض ،وما اشتملتا عليه من
المخلوقات ،لن ذلك دليل على كمال قدرته ،وسعة ملكه ،وعموم رحمته ،وبديع حكمته ،وإحاطة
علمه.
وفي ذكره أنه جعل الملئكة رسل ،ولم يستثن منهم أحدا ،دليل على كمال طاعتهم لربهم
وانقيادهم لمره ،كما قال تعالى { :لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }
ولما كانت الملئكة مدبرات بإذن اللّه ،ما جعلهم اللّه موكلين فيه ،ذكر قوتهم على ذلك وسرعة
سيرهم ،بأن جعلهم { أُولِي أَجْ ِنحَةٍ } تطير بها ،فتسرع بتنفيذ ما أمرت به { .مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }
أي :منهم من له جناحان وثلثة وأربعة ،بحسب ما اقتضته حكمته.
{ يَزِيدُ فِي الْخَ ْلقِ مَا يَشَاءُ } أي :يزيد بعض مخلوقاته على بعض ،في صفة خلقها ،وفي القوة،
وفي الحسن ،وفي زيادة العضاء المعهودة ،وفي حسن الصوات ،ولذة النغمات.
شيْءٍ َقدِيرٌ } فقدرته تعالى تأتي على ما يشاؤه ،ول يستعصي عليها شيء ،ومن
{ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ذلك ،زيادة مخلوقاته بعضها على بعض.
سكَ َلهَا
حمَةٍ فَلَا ُممْ ِ
ثم ذكر انفراده تعالى بالتدبير والعطاء والمنع فقال { :مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ
سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِدهِ } فهذا يوجب التعلق باللّه تعالى ،والفتقار
سكْ } من رحمته عنهم { فَلَا مُرْ ِ
َومَا ُي ْم ِ
إليه من جميع الوجوه ،وأن ل يدعى إل هو ،ول يخاف ويرجى ،إل هو { .وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي
حكِيمُ } الذي يضع الشياء مواضعها وينزلها منازلها.
قهر الشياء كلها { الْ َ
سمَاءِ
{ { } 4 - 3يَا أَ ّيهَا النّاسُ ا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ َهلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ
ك وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ
سلٌ مِنْ قَبِْل َ
وَالْأَ ْرضِ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ * وَإِنْ ُيكَذّبُوكَ َفقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ
الُْأمُورُ }
يأمر تعالى ،جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم ،وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ،وباللسان
ثناء ،وبالجوارح انقيادا ،فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره ،ثم نبههم على أصول النعم ،وهي الخلق
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ }
والرزق ،فقالَ { :هلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْ ُز ُقكُمْ مِنَ ال ّ
ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إل اللّه ،نتج من ذلك ،أن كان ذلك دليل على
ألوهيته وعبوديته ،ولهذا قال { :لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ } أي :تصرفون عن عبادة الخالق
الرازق لعبادة المخلوق المرزوق.
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلَا َتغُرّ ّنكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلَا َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ *
{ { } 7 - 5يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّ
سعِيرِ * الّذِينَ َكفَرُوا
ع ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ
خذُوهُ َ
إِنّ الشّ ْيطَانَ َلكُمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
عذَابٌ شَدِي ٌد وَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
َلهُمْ َ
ثم ذكر أن الناس انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها إلى قسمين ،وذكر جزاء كل منهما،
عذَابٌ شَدِيدٌ } في
فقال { :الّذِينَ َكفَرُوا } أي :جحدوا ما جاءت به الرسل ،ودلت عليه الكتب { َلهُمْ َ
نار جهنم ،شديد في ذاته ووصفه ،وأنهم خالدون فيها أبدا.
عمِلُوا } بمقتضى ذلك اليمان،
{ وَالّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم ،بما دعا اللّه إلى اليمان به { وَ َ
بجوارحهم ،العمال { الصّالِحَاتِ َلهُمْ َمغْفِ َرةٌ } لذنوبهم ،يزول بها عنهم الشر والمكروه { وََأجْرٌ
كَبِيرٌ } يحصل به المطلوب.
يقول تعالىَ { :أ َفمَنْ زُيّنَ لَهُ } عمله السيئ ،القبيح ،زينه له الشيطان ،وحسنه في عينه.
حسَنًا } أي :كمن هداه اللّه إلى الصراط المستقيم والدين القويم ،فهل يستوي هذا وهذا؟
{ فَرَآهُ َ
والثاني :عمل الحسن ،ورأى الحق حقا ،والباطل باطل ،ولكن الهداية والضلل بيد اللّه تعالى{ ،
سكَ عَلَ ْي ِهمْ } أي :على الضالين الذين زين
فَإِنّ اللّهَ ُيضِلّ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَ ْذ َهبْ َنفْ ُ
حسَرَاتٍ } فليس عليك إل البلغ ،وليس عليك
لهم سوء أعمالهم ،وصدهم الشيطان عن الحق { َ
من هداهم شيء ،وال [هو] الذي يجازيهم بأعمالهم { .إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َيصْ َنعُونَ }
سقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَ ّيتٍ فََأحْيَيْنَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا
سلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَ ُ
{ { } 9وَاللّهُ الّذِي أَرْ َ
كَذَِلكَ النّشُورُ }
فحييت البلد والعباد ،وارتزقت الحيوانات ،ورتعت في تلك الخيرات { ،كَذَِلكَ } الذي أحيا الرض
بعد موتها ،ينشر ال الموات من قبورهم ،بعدما مزقهم البلى ،فيسوق إليهم مطرا ،كما ساقه إلى
الرض الميتة ،فينزله عليهم فتحيا الجساد والرواح من القبور ،ويأتون للقيام بين يدي ال ليحكم
بينهم ،ويفصل بحكمه العدل.
وقيل :والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ،فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة،
فهي التي ترفع كلمه الطيب ،فإذا لم يكن له عمل صالح ،لم يرفع له قول إلى اللّه تعالى ،فهذه
العمال التي ترفع إلى اللّه تعالى ،ويرفع اللّه صاحبها ويعزه.
وأما السيئات فإنها بالعكس ،يريد صاحبها الرفعة بها ،ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه ،ول يزداد
عذَابٌ شَدِيدٌ }
إل إهانة ونزول ،ولهذا قال { :والعمل الصالح يرفعه وَالّذِينَ َي ْمكُرُونَ السّيّئَاتِ َلهُمْ َ
يهانون فيه غاية الهانةَ { .و َمكْرُ أُولَ ِئكَ ُهوَ يَبُورُ } أي :يهلك ويضمحل ،ول يفيدهم شيئا ،لنه
مكر بالباطل ،لجل الباطل.
يذكر تعالى خلقه الدمي ،وتنقله في هذه الطوار ،من تراب إلى نطفة وما بعدها.
جعََل ُكمْ أَ ْزوَاجًا } أي :لم يزل ينقلكم ،طورا بعد طور ،حتى أوصلكم إلى أن كنتم أزواجا،
{ ُثمّ َ
ذكرا يتزوج أنثى ،ويراد بالزواج ،الذرية والولد ،فهو وإن كان النكاح من السباب فيه ،فإنه
ح ِملُ مِنْ أُنْثَى وَلَا َتضَعُ إِلّا ِبعِ ْلمِهِ } وكذلك أطوار
مقترن بقضاء اللّه وقدره ،وعلمهَ { ،ومَا تَ ْ
الدمي ،كلها بعلمه وقضائه.
عمُ ِرهِ } أي :عمر الذي كان معمرا عمرا طويل { إِلّا }
{ َومَا ُي َعمّرُ مِنْ ُم َعمّرٍ وَلَا يُ ْن َقصُ مِنْ ُ
بعلمه تعالى ،أو ما ينقص من عمر النسان الذي هو بصدد أن يصل إليه ،لول ما سلكه من
أسباب قصر العمر ،كالزنا ،وعقوق الوالدين ،وقطيعة الرحام ،ونحو ذلك مما ذكر أنها من
أسباب قصر العمر.
والمعنى :أن طول العمر وقصره ،بسبب وبغير سبب كله بعلمه تعالى ،وقد أثبت ذلك { فِي
كِتَابٍ } حوى ما يجري على العبد ،في جميع أوقاته وأيام حياته.
{ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } أي :إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة ،وإحاطة كتابه فيها ،فهذه
ثلثة أدلة من أدلة البعث والنشور ،كلها عقلية ،نبه اللّه عليها في هذه اليات :إحياء الرض بعد
موتها ،وأن الذي أحياها سيحيي الموتى ،وتنقل الدمي في تلك الطوار.
فالذي أوجده ونقله ،طبقا بعد طبق ،وحال بعد حال ،حتى بلغ ما قدر له ،فهو على إعادته وإنشائه
النشأة الخرى أقدر ،وهو أهون عليه ،وإحاطة علمه بجميع أجزاء العالم ،العلوي والسفلي ،دقيقها
وجليلها ،الذي في القلوب ،والجنة التي في البطون ،وزيادة العمار ونقصها ،وإثبات ذلك كله في
كتاب .فالذي كان هذا [نعته] يسيرا عليه ،فإعادته للموات أيسر وأيسر .فتبارك من كثر خيره،
ونبه عباده على ما فيه صلحهم ،في معاشهم ومعادهم.
ج َومِنْ ُكلّ
{ َ { } 14 - 12ومَا يَسْ َتوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَ ْذبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُ ُه وَ َهذَا مِلْحٌ ُأجَا ٌ
حمًا طَرِيّا وَتَسْتَخْ ِرجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا وَتَرَى ا ْلفُلْكَ فِيهِ َموَاخِرَ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ
تَ ْأكُلُونَ لَ ْ
جلٍ
شمْسَ وَالْ َقمَرَ ُكلّ يَجْرِي لَِأ َ
سخّرَ ال ّ
ل وَ َ
شكُرُونَ * يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ
تَ ْ
طمِيرٍ * إِنْ تَدْعُو ُهمْ لَا
ك وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا َيمِْلكُونَ مِنْ قِ ْ
سمّى ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ لَهُ ا ْلمُ ْل ُ
مُ َ
س ِمعُوا مَا اسْتَجَابُوا َلكُمْ وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكْفُرُونَ بِشِ ْر ِككُ ْم وَلَا يُنَبّ ُئكَ مِ ْثلُ خَبِيرٍ }
س َمعُوا دُعَا َء ُك ْم وََلوْ َ
يَ ْ
هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته ،أنه جعل البحرين لمصالح العالم الرضي كلهم ،وأنه لم
يسوّ بينهما ،لن المصلحة تقتضي أن تكون النهار عذبة فراتا ،سائغا شرابها ،لينتفع بها
الشاربون والغارسون والزارعون ،وأن يكون البحر ملحا أجاجا ،لئل يفسد الهواء المحيط
بالرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولنه ساكن ل يجري ،فملوحته تمنعه من
التغير ،ولتكون حيواناته أحسن وألذ ،ولهذا قالَ { :ومِنْ ُكلٍ } من البحر الملح والعذب { تَ ْأكُلُونَ
حمًا طَرِيّا } وهو السمك المتيسر صيده في البحر { ،وَتَسْ َتخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْ َبسُو َنهَا } من لؤلؤ
لَ ْ
ومرجان وغيرهما ،مما يوجد في البحر ،فهذه مصالح عظيمة للعباد.
ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ،أن سخره اللّه تعالى يحمل الفلك من السفن والمراكب،
فتراها تمخر البحر وتشقه ،فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ،ومن محل إلى محل ،فتحمل السائرين
وأثقالهم وتجاراتهم ،فيحصل بذلك من فضل اللّه وإحسانه شيء كثير ،ولهذا قال { :وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ
شكُرُونَ }
َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ
ومن ذلك أيضا ،إيلجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل ،يدخل هذا على هذا ،وهذا على هذا،
كلما أتى أحدهما ذهب الخر ،ويزيد أحدهما وينقص الخر ،ويتساويان ،فيقوم بذلك ما يقوم من
مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم.
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر ،الضياء والنور ،والحركة والسكون ،وانتشار العباد
في طلب فضله ،وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف وغير ذلك مما هو من
حقَ الناس الضرر.
الضروريات ،التي لو فقدت لَلَ ِ
سمّى } أي :كل من الشمس والقمر ،يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن
جلٍ ُم َ
وقولهُ { :كلّ َيجْرِي لَِأ َ
يسيرا ،فإذا جاء الجل ،وقرب انقضاء الدنيا ،انقطع سيرهما ،وتعطل سلطانهما ،وخسف القمر،
وكورت الشمس ،وانتثرت النجوم.
فلما بين تعالى ما بيّن من هذه المخلوقات العظيمة ،وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه،
قال { :ذَِل ُكمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ } أي :الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ،هو الرب
المألوه المعبود ،الذي له الملك كله.
ومع هذا { إِنْ تَدْعُوهُمْ } ل يسمعوكم لنهم ما بين جماد وأموات وملئكة مشغولين بطاعة ربهم.
س ِمعُوا } على وجه الفرض والتقدير { مَا اسْ َتجَابُوا َلكُمْ } لنهم ل يملكون شيئا ،ول يرضى
{ وََلوْ َ
أكثرهم بعبادة من عبده ،ولهذا قال { :وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُونَ بِشِ ْر ِككُمْ } أي :يتبرأون منكم،
ويقولون { :سُ ْبحَا َنكَ أَ ْنتَ وَلِيّنَا مِنْ دُو ِنهِمْ }
{ وَلَا يُنَبّ ُئكَ مِ ْثلُ خَبِيرٍ } أي :ل أحد ينبئك ،أصدق من ال العليم الخبير ،فاجزم بأن هذا المر،
الذي نبأ به كأنه رَ ْأيُ عين ،فل تشك فيه ول تمتر .فتضمنت هذه اليات ،الدلة والبراهين
الساطعة ،الدالة على أنه تعالى المألوه المعبود ،الذي ل يستحق شيئا من العبادة سواه ،وأن عبادة
ما سواه باطلة متعلقة بباطل ،ل تفيد عابده شيئا.
يخاطب تعالى جميع الناس ،ويخبرهم بحالهم ووصفهم ،وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم ،فلول إيجاده إياهم ،لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والعضاء والجوارح ،التي لول إعداده إياهم [بها] ،لما استعدوا لي
عمل كان.
فقراء في إمدادهم بالقوات والرزاق والنعم الظاهرة والباطنة ،فلول فضله وإحسانه وتيسيره
المور ،لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء.
فقراء في صرف النقم عنهم ،ودفع المكاره ،وإزالة الكروب والشدائد .فلول دفعه عنهم ،وتفريجه
لكرباتهم ،وإزالته لعسرهم ،لستمرت عليهم المكاره والشدائد.
فقراء إليه ،في تألههم له ،وحبهم له ،وتعبدهم ،وإخلص العبادة له تعالى ،فلو لم يوفقهم لذلك،
لهلكوا ،وفسدت أرواحهم ،وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه ،في تعليمهم ما ل يعلمون ،وعملهم بما يصلحهم ،فلول تعليمه ،لم يتعلموا ،ولول
توفيقه ،لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه ،بكل معنى ،وبكل اعتبار ،سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا،
ولكن الموفق منهم ،الذي ل يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه ،ويتضرع له،
ويسأله أن ل يكله إلى نفسه طرفة عين ،وأن يعينه على جميع أموره ،ويستصحب هذا المعنى في
كل وقت ،فهذا أحرى بالعانة التامة من ربه وإلهه ،الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
حمِيدُ } أي :الذي له الغنى التام من جميع الوجوه ،فل يحتاج إلى ما يحتاج إليه
{ وَاللّهُ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ
خلقه ،ول يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق ،وذلك لكمال صفاته ،وكونها كلها ،صفات كمال،
ونعوت وجلل.
ومن غناه تعالى ،أن أغنى الخلق في الدنيا والخرة ،الحميد في ذاته ،وأسمائه ،لنها حسنى،
وأوصافه ،لكونها عليا ،وأفعاله لنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة ،وفي أوامره ونواهيه،
فهو الحميد على ما فيه ،وعلى ما منه ،وهو الحميد في غناه [الغني في حمده].
جدِيدٍ } يحتمل أن المراد :إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بغيركم من
{ إِنْ يَشَأْ يُ ْذهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ بِخَ ْلقٍ َ
الناس ،أطوع للّه منكم ،ويكون في هذا تهديد لهم بالهلك والبادة ،وأن مشيئته غير قاصرة عن
ذلك.
ويحتمل أن المراد بذلك ،إثبات البعث والنشور ،وأن مشيئة اللّه تعالى نافذة في كل شيء ،وفي
إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا ،ولكن لذلك الوقت أجل قدره اللّه ،ل يتقدم عنه ول يتأخر.
ويدل على المعنى الخير ،ما ذكره بعده في قوله { :وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى } أي :في يوم
القيامة كل أحد يجازى بعمله ،ول يحمل أحد ذنب أحد { .وَإِنْ تَ ْدعُ مُ ْثقَلَةٌ } أي :نفس مثقلة
شيْ ٌء وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
ح َملْ مِنْهُ َ
بالخطايا والذنوب ،تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها { لَا يُ ْ
} فإنه ل يحمل عن قريب ،فليست حال الخرة بمنزلة حال الدنيا ،يساعد الحميم حميمه ،والصديق
صديقه ،بل يوم القيامة ،يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ،ولو على والديه وأقاربه.
شوْنَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَ ْيبِ وََأقَامُوا الصّلَاةَ } أي :هؤلء الذين يقبلون النذارة وينتفعون
خَ{ إِ ّنمَا تُ ْنذِرُ الّذِينَ يَ ْ
بها ،أهل الخشية للّه بالغيب ،أي :الذين يخشونه في حال السر والعلنية ،والمشهد والمغيب ،وأهل
إقامة الصلة ،بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها ،لن الخشية للّه تستدعي من
العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب ،والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب ،والصلة
تدعو إلى الخير ،وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
{ َومَنْ تَ َزكّى فَإِ ّنمَا يَتَ َزكّى لِ َنفْسِهِ } أي :ومن زكى نفسه بالتنقّي من العيوب ،كالرياء والكبر،
والكذب والغش ،والمكر والخداع والنفاق ،ونحو ذلك من الخلق الرذيلة ،وتحلّى بالخلق
الجميلة ،من الصدق ،والخلص ،والتواضع ،ولين الجانب ،والنصح للعباد ،وسلمة الصدر من
الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الخلق ،فإن تزكيته يعود نفعها إليه ،ويصل مقصودها إليه،
ليس يضيع من عمله شيء.
{ وَإِلَى اللّهِ ا ْل َمصِيرُ } فيجازي الخلئق على ما أسلفوه ،ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ،ول
يغادر صغيرة ول كبيرة إل أحصاها.
ل وَلَا ا ْلحَرُورُ
ظّت وَلَا النّورُ * وَلَا ال ّ
عمَى وَالْ َبصِيرُ * وَلَا الظُّلمَا ُ
{ َ { } 24 - 19ومَا يَسْ َتوِي الْأَ ْ
سمِعٍ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ * إِنْ
سمِعُ مَنْ يَشَاءُ َومَا أَ ْنتَ ِبمُ ْ
* َومَا يَسْ َتوِي الْأَحْيَا ُء وَلَا الَْأ ْموَاتُ إِنّ اللّهَ ُي ْ
حقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ ُأمّةٍ إِلّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ }
أَ ْنتَ إِلّا نَذِيرٌ * إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْ َ
يخبر تعالى أنه ل يتساوى الضداد في حكمة اللّه ،وفيما أودعه في فطر عبادهَ { .ومَا يَسْ َتوِي
ل وَلَا ا ْلحَرُورُ َومَا َيسْ َتوِي الَْأحْيَاءُ
ظّت وَلَا النّو ُر وَلَا ال ّ
عمَى } فاقد البصر { وَالْ َبصِيرُ وَلَا الظُّلمَا ُ
الْأَ ْ
وَلَا الَْأ ْموَاتُ } فكما أنه من المتقرر عندكم ،الذي ل يقبل الشك ،أن هذه المذكورات ل تتساوى،
فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى.
فل يستوي المؤمن والكافر ،ول المهتدي والضال ،ول العالم والجاهل ،ول أصحاب الجنة
وأصحاب النار ،ول أحياء القلوب وأمواتها ،فبين هذه الشياء من التفاوت والفرق ما ل يعلمه إل
اللّه تعالى ،فإذا علمت المراتب ،وميزت الشياء ،وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من
ضده ،فليختر الحازم لنفسه ،ما هو أولى به وأحقها باليثار.
سمِعٍ مَنْ
سمِعُ مَنْ يَشَاءُ } سماع فهم وقبول ،لنه تعالى هو الهادي الموفق { َومَا أَ ْنتَ ِب ُم ْ
{ إِنّ اللّهَ ُي ْ
فِي ا ْلقُبُورِ } أي :أموات القلوب ،أو كما أن دعاءك ل يفيد سكان القبور شيئا ،كذلك ل يفيد
المعرض المعاند شيئا ،ولكن وظيفتك النذارة ،وإبلغ ما أرسلت به ،قبل منك أم ل.
ولهذا قال { :إِنْ أَ ْنتَ إِلّا نَذِيرٌ * إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِا ْلحَقّ } أي :مجرد إرسالنا إياك بالحق ،لن اللّه
تعالى بعثك على حين فترة من الرسل ،وطموس من السبل ،واندراس من العلم ،وضرورة عظيمة
إلى بعثك ،فبعثك اللّه رحمة للعالمين.
وكذلك ما بعثناك به من الدين القويم ،والصراط المستقيم ،حق ل باطل ،وكذلك ما أرسلناك به،
من هذا القرآن العظيم ،وما اشتمل عليه من الذكر الحكيم ،حق وصدق { .بَشِيرًا } لمن أطاعك،
بثواب اللّه العاجل والجل { ،وَنَذِيرًا } لمن عصاك ،بعقاب اللّه العاجل والجل ،ولست ببدع من
الرسل.
فما { مِنْ ُأمّةٍ } من المم الماضية والقرون الخالية { إِلّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } يقيم عليهم حجة اللّه
حيّ عَنْ بَيّنَةٍ }
{ لِ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَنْ بَيّنَ ٍة وَيَحْيَا مَنْ َ
أي :وإن يكذبك أيها الرسول ،هؤلء المشركون ،فلست أول رسول كذبَ { ،فقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ
قَبِْلهِمْ جَاءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } الدالت على الحق ،وعلى صدقهم فيما أخبروهم به { ،وَبالزّبُرِ }
أي :الكتب المكتوبة ،المجموع فيها كثير من الحكام { ،وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُنِيرِ } أي :المضيء في أخباره
الصادقة ،وأحكامه العادلة ،فلم يكن تكذيبهم إياهم ناشئا عن اشتباه ،أو قصور بما جاءتهم به
الرسل ،بل بسبب ظلمهم وعنادهم.
خ ْذتُ الّذِينَ َكفَرُوا } بأنواع العقوبات { َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ } عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم
{ ُثمّ أَ َ
التنكيل ،فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم ،فيصيبكم كما أصاب أولئك ،من العذاب الليم والخزي
الوخيم.
سمَاءِ مَاءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ ُمخْتَِلفًا أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ
{ { } 28 - 27أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
س وَال ّدوَابّ وَالْأَ ْنعَامِ ُمخْتَِلفٌ
حمْرٌ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ
الْجِبَالِ جُ َددٌ بِيضٌ وَ ُ
غفُورٌ }
أَ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
يذكر تعالى خلقه للشياء المتضادات ،التي أصلها واحد ،ومادتها واحدة ،وفيها من التفاوت
والفرق ما هو مشاهد معروف ،ليدل العباد على كمال قدرته وبديع حكمته.
فمن ذلك :أن اللّه تعالى أنزل من السماء ماء ،فأخرج به من الثمرات المختلفات ،والنباتات
المتنوعات ،ما هو مشاهد للناظرين ،والماء واحد ،والرض واحدة.
ومن ذلك :الجبال التي جعلها اللّه أوتادا للرض ،تجدها جبال مشتبكة ،بل جبل واحدا ،وفيها
ألوان متعددة ،فيها جدد بيض ،أي :طرائق بيض ،وفيها طرائق صفر وحمر ،وفيها غرابيب
سود ،أي :شديدة السواد جدا.
ومن ذلك :الناس والدواب ،والنعام ،فيها من اختلف اللوان والوصاف والصوات والهيئات،
ما هو مرئي بالبصار ،مشهود للنظار ،والكل من أصل واحد ومادة واحدة.
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى ،التي خصصت ما خصصت منها ،بلونه ،ووصفه،
وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك ،وحكمته ورحمته ،حيث كان ذلك الختلف ،وذلك التفاوت،
فيه من المصالح والمنافع ،ومعرفة الطرق ،ومعرفة الناس بعضهم بعضا ،ما هو معلوم.
وذلك أيضا ،دليل على سعة علم اللّه تعالى ،وأنه يبعث من في القبور ،ولكن الغافل ينظر في هذه
الشياء وغيرها نظر غفلة ل تحدث له التذكر ،وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى ،ويعلم بفكره
الصائب وجه الحكمة فيها.
ولهذا قال { :إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم ،كان أكثر له خشية،
وأوجبت له خشية اللّه ،النكفاف عن المعاصي ،والستعداد للقاء من يخشاه ،وهذا دليل على
ضيَ اللّهُ
فضيلة العلم ،فإنه داع إلى خشية اللّه ،وأهل خشيته هم أهل كرامته ،كما قال تعالىَ { :ر ِ
شيَ رَبّهُ }
عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ ذَِلكَ ِلمَنْ خَ ِ
{ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة ،ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات.
{ { } 30 - 29إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّ ِه وََأقَامُوا الصّلَا َة وَأَ ْنفَقُوا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَانِيَةً
شكُورٌ }
غفُورٌ َ
يَرْجُونَ ِتجَا َرةً لَنْ تَبُورَ * لِ ُي َوفّ َيهُمْ ُأجُورَهُ ْم وَيَزِيدَ ُهمْ مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ َ
{ إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ } أي :يتبعونه في أوامره فيمتثلونها ،وفي نواهيه فيتركونها ،وفي
أخباره ،فيصدقونها ويعتقدونها ،ول يقدمون عليه ما خالفه من القوال ،ويتلون أيضا ألفاظه،
بدراسته ،ومعانيه ،بتتبعها واستخراجها.
ثم خص من التلوة بعد ما عم ،الصلة التي هي عماد الدين ،ونور المسلمين ،وميزان اليمان،
وعلمة صدق السلم ،والنفقة على القارب والمساكين واليتامى وغيرهم ،من الزكاة والكفارات
والنذور والصدقات { .سِرّا وَعَلَانِيَةً } في جميع الوقات.
{ يَ ْرجُونَ } [بذلك] { تِجَا َرةً لَنْ تَبُورَ } أي :لن تكسد وتفسد ،بل تجارة ،هي أجل التجارات
وأعلها وأفضلها ،أل وهي رضا ربهم ،والفوز بجزيل ثوابه ،والنجاة من سخطه وعقابه ،وهذا
فيه أنهم يخلصون بأعمالهم ،وأنهم ل يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة شيئا.
وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال { :لِ ُي َوفّ َيهُمْ أُجُورَ ُهمْ } أي :أجور أعمالهم ،على حسب قلتها
شكُورٌ } غفر
غفُورٌ َ
وكثرتها ،وحسنها وعدمه { ،وَيَزِي َدهُمْ مِنْ َفضْلِهِ } زيادة عن أجورهم { .إِنّهُ َ
لهم السيئات ،وقبل منهم القليل من الحسنات.
حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ إِنّ اللّهَ ِبعِبَا ِدهِ
{ { } 35 - 31وَالّذِي َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ ُهوَ الْ َ
طفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا َفمِ ْنهُمْ ظَالِمٌ لِ َنفْسِ ِه َومِ ْنهُمْ ُمقْتَصِدٌ َومِنْهُمْ
لَخَبِيرٌ َبصِيرٌ * ثُمّ َأوْرَثْنَا ا ْلكِتَابَ الّذِينَ اصْ َ
ضلُ ا ْلكَبِيرُ * جَنّاتُ عَدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا ُيحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ
سَا ِبقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِِإذْنِ اللّهِ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َف ْ
شكُورٌ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَ ْذ َهبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا َل َغفُورٌ َ
سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * َوقَالُوا الْ َ
ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ
ذَ َه ٍ
ب وَلَا َيمَسّنَا فِيهَا ُلغُوبٌ }
* الّذِي أَحَلّنَا دَارَ ا ْل ُمقَامَةِ مِنْ َفضْلِهِ لَا َيمَسّنَا فِيهَا َنصَ ٌ
يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله { ُهوَ ا ْلحَقّ } من كثرة ما اشتمل عليه من الحق،
كأن الحق منحصر فيه ،فل يكن في قلوبكم حرج منه ،ول تتبرموا منه ،ول تستهينوا به ،فإذا كان
هو الحق ،لزم أن كل ما دل عليه من المسائل اللهية والغيبية وغيرها ،مطابق لما في الواقع ،فل
يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه.
{ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب والرسل ،لنها أخبرت به ،فلما وجد وظهر ،ظهر به صدقها.
فهي بشرت به وأخبرت ،وهو صدقها ،ولهذا ل يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة ،وهو كافر
بالقرآن أبدا ،لن كفره به ،ينقض إيمانه بها ،لن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن ،ولن
أخبارها مطابقة لخبار القرآن.
{ إِنّ اللّهَ ِبعِبَا ِدهِ لَخَبِيرٌ َبصِيرٌ } فيعطي كل أمة وكل شخص ،ما هو اللئق بحاله .ومن ذلك ،أن
الشرائع السابقة ل تليق إل بوقتها وزمانها ،ولهذا ،ما زال اللّه يرسل الرسل رسول بعد رسول،
حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ،فجاء بهذا الشرع ،الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم
القيامة ،ويتكفل بما هو الخير في كل وقت.
ولهذا ،لما كانت هذه المة أكمل المم عقول ،وأحسنهم أفكارا ،وأرقهم قلوبا ،وأزكاهم أنفسا،
اصطفاهم ال تعالى ،واصطفى لهم دين السلم ،وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ،ولهذا
طفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه المةَ { .فمِ ْنهُمْ ظَالِمٌ لِ َنفْسِهِ }
قال { :ثُمّ َأوْرَثْنَا ا ْلكِتَابَ الّذِينَ اصْ َ
بالمعاصي[ ،التي] هي دون الكفرَ { .ومِ ْنهُمْ ُمقْتَصِدٌ } مقتصر على ما يجب عليه ،تارك للمحرم{ .
َومِ ْنهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي :سارع فيها واجتهد ،فسبق غيره ،وهو المؤدي للفرائض ،المكثر من
النوافل ،التارك للمحرم والمكروه.
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى ،لوراثة هذا الكتاب ،وإن تفاوتت مراتبهم ،وتميزت أحوالهم ،فلكل منهم
قسط من وراثته ،حتى الظالم لنفسه ،فإن ما معه من أصل اليمان ،وعلوم اليمان ،وأعمال
اليمان ،من وراثة الكتاب ،لن المراد بوراثة الكتاب ،وراثة علمه وعمله ،ودراسة ألفاظه،
واستخراج معانيه.
وقوله { بِِإذْنِ اللّهِ } راجع إلى السابق إلى الخيرات ،لئل يغتر بعمله ،بل ما سبق إلى الخيرات إل
بتوفيق اللّه تعالى ومعونته ،فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه.
{ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفضْلُ ا ْلكَبِيرُ } أي :وراثة الكتاب الجليل ،لمن اصطفى تعالى من عباده ،هو الفضل
الكبير ،الذي جميع النعم بالنسبة إليه ،كالعدم ،فأجل النعم على الطلق ،وأكبر الفضل ،وراثة هذا
الكتاب.
عدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا } أي :جنات مشتملت على
ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال { :جَنّاتُ َ
الشجار ،والظل ،والظليل ،والحدائق الحسنة ،والنهار المتدفقة ،والقصور العالية ،والمنازل
المزخرفة ،في أبد ل يزول ،وعيش ل ينفد.
والعدن "القامة" فجنات عدن أي :جنات إقامة ،أضافها للقامة ،لن القامة والخلود وصفها
ووصف أهلها.
{ ُيحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ َذ َهبٍ } وهو الحلي الذي يجعل في اليدين ،على ما يحبون ،ويرون
أنه أحسن من غيره ،الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء.
حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ } وهذا يشمل كل
{ و } لما تم نعيمهم ،وكملت لذتهم { قَالُوا ا ْل َ
حزن ،فل حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم ،ول في طعامهم وشرابهم ،ول في لذاتهم
ول في أجسادهم ،ول في دوام لبثهم ،فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدا ،وهو في تزايد أبد الباد.
حلّنَا } أي :أنزلنا نزول حلول واستقرار ،ل نزول معبر واعتبار { .دَارَ ا ْل ُمقَامَةِ } أي:
{ الّذِي أَ َ
الدار التي تدوم فيها القامة ،والدار التي يرغب في المقام فيها ،لكثرة خيراتها ،وتوالي مسراتها،
وزوال كدوراتها ،وذلك الحلل { مِنْ َفضْلِهِ } علينا وكرمه ،ل بأعمالنا ،فلول فضله ،لما وصلنا
إلى ما وصلنا إليه.
صبٌ وَلَا َيمَسّنَا فِيهَا ُلغُوبٌ } أي :ل تعب في البدان ول في القلب والقوى ،ول
{ لَا َيمَسّنَا فِيهَا َن َ
في كثرة التمتع ،وهذا يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة ،ويهيئ لهم من أسباب
الراحة على الدوام ،ما يكونون بهذه الصفة ،بحيث ل يمسهم نصب ول لغوب ،ول هم ول حزن.
ويدل على أنهم ل ينامون في الجنة ،لن النوم فائدته زوال التعب ،وحصول الراحة به ،وأهل
الجنة بخلف ذلك ،ولنه موت أصغر ،وأهل الجنة ل يموتون ،جعلنا اللّه منهم ،بمنه وكرمه.
عذَا ِبهَا
خفّفُ عَ ْنهُمْ مِنْ َ
جهَنّمَ لَا ُيقْضَى عَلَ ْيهِمْ فَ َيمُوتُوا وَلَا ُي َ
{ { } 37 - 36وَالّذِينَ َكفَرُوا َلهُمْ نَارُ َ
كَذَِلكَ َنجْزِي ُكلّ َكفُورٍ * وَهُمْ َيصْطَ ِرخُونَ فِيهَا رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا َن ْع َملْ صَاِلحًا غَيْرَ الّذِي كُنّا َن ْع َملُ
َأوَلَمْ ُن َعمّ ْركُمْ مَا يَ َت َذكّرُ فِيهِ مَنْ تَ َذكّ َر َوجَا َءكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُوا َفمَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َنصِيرٍ }
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم ،ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال { :وَالّذِينَ َكفَرُوا } أي:
جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من اليات ،وأنكروا لقاء ربهم.
جهَنّمَ } يعذبون فيها أشد العذاب ،وأبلغ العقاب { .لَا ُي ْقضَى عَلَ ْيهِمْ } بالموت { فَ َيمُوتُوا }
{ َل ُهمْ نَارُ َ
خ ّففُ عَ ْن ُهمْ مِنْ عَذَا ِبهَا } فشدة العذاب وعظمه ،مستمر عليهم في جميع النات
فيستريحوا { ،وَلَا يُ َ
واللحظات.
لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين ،وذكر أعمال الفريقين ،أخبر تعالى عن سعة علمه تعالى،
واطلعه على غيب السماوات والرض ،التي غابت عن أبصار الخلق وعن علمهم ،وأنه عالم
بالسرائر ،وما تنطوي عليه الصدور من الخير والشر والزكاء وغيره ،فيعطي كل ما يستحقه،
وينزل كل أحد منزلته.
جعََلكُمْ خَلَا ِئفَ فِي الْأَ ْرضِ َفمَنْ َكفَرَ َفعَلَيْهِ ُكفْ ُرهُ وَلَا يَزِيدُ ا ْلكَافِرِينَ ُكفْرُهُمْ عِنْدَ
{ ُ { } 39هوَ الّذِي َ
رَ ّبهِمْ إِلّا َمقْتًا وَلَا يَزِيدُ ا ْلكَافِرِينَ كُفْرُ ُهمْ إِلّا خَسَارًا }
يخبر تعالى عن كمال حكمته ورحمته بعباده ،أنه قدر بقضائه السابق ،أن يجعل بعضهم يخلف
بعضا في الرض ،ويرسل لكل أمة من المم النذر ،فينظر كيف يعملون ،فمن كفر باللّه وبما
جاءت به رسله ،فإن كفره عليه ،وعليه إثمه وعقوبته ،ول يحمل عنه أحد ،ول يزداد الكافر بكفره
إل مقت ربه له وبغضه إياه ،وأي :عقوبة أعظم من مقت الرب الكريم؟!
{ وَلَا يَزِيدُ ا ْلكَافِرِينَ ُكفْرُهُمْ إِلّا خَسَارًا } أي :يخسرون أنفسهم وأهليهم وأعمالهم ومنازلهم في
الجنة ،فالكافر ل يزال في زيادة من الشقاء والخسران ،والخزي عند اللّه وعند خلقه والحرمان.
يقول تعالى مُعجّزًا للهة المشركين ،ومبينا نقصها ،وبطلن شركهم من جميع الوجوه.
{ ُقلْ } يا أيها الرسول لهم { :أَرَأَيْتُمْ } أي :أخبروني عن شركائكم { الذين تدعون من دون ال }
هل هم مستحقون للدعاء والعبادة ،فـ { أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا [مِنَ الْأَ ْرضِ } هل خلقوا بحرا أم خلقوا
جبال أو خلقوا] حيوانا ،أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الشياء ،هو اللّه تعالىَ ،أمْ
سمَاوَاتِ } في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون :ليس لهم شركة.
لشركائكم شِ ْركٌة { فِي ال ّ
فإذا لم يخلقوا شيئا ،ولم يشاركوا الخالق في خلقه ،فلم عبدتموهم ودعوتموهم مع إقراركم
بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي على صحة عبادتهم ،ودل على بطلنها.
ثم ذكر الدليل السمعي ،وأنه أيضا منتف ،فلهذا قالَ { :أمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا } يتكلم بما كانوا به
يشركون ،يأمرهم بالشرك وعبادة الوثانَ { .فهُمْ } في شركهم { عَلَى بَيّنَةٍ } من ذلك الكتاب الذي
نزل عليهم في صحة الشرك؟
ليس المر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن ،ول جاءهم نذير قبل رسول اللّه محمد
صلى اللّه عليه وسلم ،ولو قدر نزول كتاب إليهم ،وإرسال رسول إليهم ،وزعموا أنه أمرهم
بشركهم ،فإنا نجزم بكذبهم ،لن اللّه قالَ { :ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ إِلّا نُوحِي إِلَ ْيهِ أَنّهُ لَا
إِلَهَ ِإلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } فالرسل والكتب ،كلها متفقة على المر بإخلص الدين للّه تعالىَ { ،ومَا
ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْبُدُوا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ حُ َنفَاءَ }
فإن قيل :إذا كان الدليل العقلي ،والنقلي قد دل على بطلن الشرك ،فما الذي حمل المشركين على
الشرك ،وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟
يخبر تعالى عن كمال قدرته ،وتمام رحمته ،وسعة حلمه ومغفرته ،وأنه تعالى يمسك السماوات
والرض عن الزوال ،فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق ،ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما.
ولكنه تعالى ،قضى أن يكونا كما وجدا ،ليحصل للخلق القرار ،والنفع ،والعتبار ،وليعلموا من
عظيم سلطانه وقوة قدرته ،ما به تمتلئ قلوبهم له إجلل وتعظيما ،ومحبة وتكريما ،وليعلموا كمال
حلمه ومغفرته ،بإمهال المذنبين ،وعدم معالجته للعاصين ،مع أنه لو أمر السماء لحصبتهم ،ولو
غفُورًا }
أذن للرض لبتلعتهم ،ولكن وسعتهم مغفرته ،وحلمه ،وكرمه { إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا َ
أي وأقسم هؤلء ،الذين كذبوك يا رسول اللّه ،قسما اجتهدوا فيه باليمان الغليظة { .لَئِنْ جَا َءهُمْ
حدَى الُْأمَمِ } أي :أهدى من اليهود والنصارى [أهل الكتب] ،فلم يفوا بتلك
نَذِيرٌ لَ َيكُونُنّ أَ ْهدَى مِنْ إِ ْ
القسامات والعهود.
{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ نَذِيرٌ } لم يهتدوا ،ولم يصيروا أهدى من إحدى المم ،بل لم يدوموا على ضللهم
الذي كان ،بل { مَا زَا َدهُمْ } ذلك { إِلّا ُنفُورًا } وزيادة ضلل وبغي وعناد.
وليس إقسامهم المذكور ،لقصد حسن ،وطلب للحق ،وإل لوفقوا له ،ولكنه صادر عن استكبار في
الرض على الخلق ،وعلى الحق ،وبهرجة في كلمهم هذا ،يريدون به المكر والخداع ،وأنهم أهل
الحق ،الحريصون على طلبه ،فيغتر به المغترون ،ويمشي خلفهم المقتدون.
{ وَلَا َيحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّ ّيئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ ،ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { إِلّا
بِأَهْلِهِ } فمكرهم إنما يعود عليهم ،وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالت وتلك القسامات ،أنهم كذبة
في ذلك مزورون ،فاستبان خزيهم ،وظهرت فضيحتهم ،وتبين قصدهم السيئ ،فعاد مكرهم في
نحورهم ،ورد اللّه كيدهم في صدورهم.
فلم يبق لهم إل انتظار ما يحل بهم من العذاب ،الذي هو سنة اللّه في الولين ،التي ل تبدل ول
تغير ،أن كل من سار في الظلم والعناد والستكبار على العباد ،أن يحل به نقمته ،وتسلب عنه
نعمته ،فَلْيَتَرّقب هؤلء ،ما فعل بأولئك.
{ َ { } 45 - 44أوَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َوكَانُوا َأشَدّ
سمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَ ْرضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وََلوْ
شيْءٍ فِي ال ّ
مِ ْنهُمْ ُق ّوةً َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعْجِ َزهُ مِنْ َ
سمّى فَِإذَا جَاءَ
جلٍ مُ َ
ظهْرِهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّ ُرهُمْ إِلَى َأ َ
ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا مَا تَ َركَ عَلَى َ
أَجَُل ُهمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ َبصِيرًا }
يحض تعالى على السير في الرض ،في القلوب والبدان ،للعتبار ،ل لمجرد النظر والغفلة،
وأن ينظروا إلى عاقبة الذين من قبلهم ممن كذبوا الرسل ،وكانوا أكثر منهم أموال وأولدا وأشد
قوة ،وعمروا الرض أكثر مما عمرها هؤلء ،فلما جاءهم العذاب ،لم تنفعهم قوتهم ،ولم تغن
عنهم أموالهم ول أولدهم من اللّه شيئا ،ونفذت فيهم قدرة اللّه ومشيئته.
سمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَ ْرضِ } لكمال علمه وقدرته { إِنّهُ كَانَ
شيْءٍ فِي ال ّ
{ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعْجِ َزهُ مِنْ َ
عَلِيمًا قَدِيرًا }
خذُ اللّهُ
ثم ذكر تعالى كمال حلمه ،وشدة إمهاله وإنظاره أرباب الجرائم والذنوب ،فقال { :وََلوْ ُيؤَا ِ
ظهْرِهَا مِنْ دَابّةٍ } أي :لستوعبت العقوبة ،حتى
النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا } من الذنوب { مَا تَ َركَ عَلَى َ
الحيوانات غير المكلفة.
سمّى فَِإذَا جَاءَ َأجَُلهُمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ
جلٍ مُ َ
{ وََلكِنْ } يمهلهم تعالى ول يهملهم و { ُيؤَخّ ُرهُمْ إِلَى َأ َ
ِبعِبَا ِدهِ َبصِيرًا } فيجازيهم بحسب ما علمه منهم ،من خير وشر.
هذا قسم من اللّه تعالى بالقرآن الحكيم ،الذي وصفه الحكمة ،وهي وضع كل شيء موضعه،
وضع المر والنهي في الموضع اللئق بهما ،ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما اللئق
بهما ،فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة.
ومن حكمة هذا القرآن ،أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته ،فينبه العقول على المناسبات
والوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
{ إِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } هذا المقسم عليه ،وهو رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ،وإنك من جملة
المرسلين ،فلست ببدع من الرسل ،وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من الصول الدينية ،وأيضا
فمن تأمل أحوال المرسلين وأوصافهم ،وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم ،عرف أنك من خيار
المرسلين ،بما فيك من الصفات الكاملة ،والخلق الفاضلة.
ول يخفى ما بين المقسم به ،وهو القرآن الحكيم ،وبين المقسم عليه[ ،وهو] رسالة الرسول محمد
صلى اللّه عليه وسلم ،من التصال ،وأنه لو لم يكن لرسالته دليل ول شاهد إل هذا القرآن الحكيم،
لكفى به دليل وشاهدا على رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،بل القرآن العظيم أقوى الدلة
المتصلة المستمرة على رسالة الرسول ،فأدلة القرآن كلها أدلة لرسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،الدالة على رسالته ،وهو أنه { عَلَى
صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } معتدل ،موصل إلى اللّه وإلى دار كرامته ،وذلك الصراط المستقيم ،مشتمل على
أعمال ،وهي العمال الصالحة ،المصلحة للقلب والبدن ،والدنيا والخرة ،والخلق الفاضلة،
المزكية للنفس ،المطهرة للقلب ،المنمية للجر ،فهذا الصراط المستقيم ،الذي هو وصف الرسول
صلى اللّه عليه وسلم ،ووصف دينه الذي جاء به ،فتأمل جللة هذا القرآن الكريم ،كيف جمع بين
القسم بأشرف القسام ،على أجل مقسم عليه ،وخبر اللّه وحده كاف ،ولكنه تعالى أقام من الدلة
الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه ،من رسالة رسوله ما
نبهنا عليه ،وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه ،وهذا الصراط المستقيم { تَنْزِيلَ ا ْلعَزِيزِ الرّحِيمِ }
فهو الذي أنزل به كتابه ،وأنزله طريقا لعباده ،موصل لهم إليه ،فحماه بعزته عن التغيير والتبديل،
ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم ،حتى أوصلتهم إلى دار رحمته ،ولهذا ختم الية بهذين السمين
الكريمين :العزيز .الرحيم.
فلما أقسم تعالى على رسالته وأقام الدلة عليها ،ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها
فقال { :لِتُ ْنذِرَ َق ْومًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ َفهُمْ غَافِلُونَ } وهم العرب الميون ،الذين لم يزالوا خالين من
الكتب ،عادمين الرسل ،قد عمتهم الجهالة ،وغمرتهم الضللة ،وأضحكوا عليهم وعلى سفههم
عقول العالمين ،فأرسل اللّه إليهم رسول من أنفسهم ،يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ،وإن كانوا
من قبل لفي ضلل مبين ،فينذر العرب الميين ،ومن لحق بهم من كل أمي ،ويذكر أهل الكتب
بما عندهم من الكتب ،فنعمة اللّه به على العرب خصوصا ،وعلى غيرهم عموما .ولكن هؤلء
الذين بعثت فيهم لنذارهم بعدما أنذرتهم ،انقسموا قسمين :قسم رد لما جئت به ،ولم يقبل النذارة،
وهم الذين قال اللّه فيهم { َلقَدْ حَقّ ا ْلقَ ْولُ عَلَى َأكْثَرِهِمْ َف ُهمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ } أي :نفذ فيهم القضاء
والمشيئة ،أنهم ل يزالون في كفرهم وشركهم ،وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق
فرفضوه ،فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.
{ إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي ا ْل َموْتَى } أي :نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على العمال { ،وَ َنكْتُبُ مَا قَ ّدمُوا } من
الخير والشر ،وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم { ،وَآثَا َرهُمْ } وهي آثار الخير
وآثار الشر ،التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم ،وتلك العمال التي
نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ،فكل خير عمل به أحد من الناس ،بسبب علم العبد وتعليمه
ونصحه ،أو أمره بالمعروف ،أو نهيه عن المنكر ،أو علم أودعه عند المتعلمين ،أو في كتب ينتفع
بها في حياته وبعد موته ،أو عمل خيرا ،من صلة أو زكاة أو صدقة أو إحسان ،فاقتدى به غيره،
أو عمل مسجدا ،أو محل من المحال التي يرتفق بها الناس ،وما أشبه ذلك ،فإنها من آثاره التي
تكتب له ،وكذلك عمل الشر.
ولهذا { :من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،ومن سن سنة سيئة
فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع ،يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى
اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك ،ونزول درجة الداعي إلى الشر المام
فيه ،وأنه أسفل الخليقة ،وأشدهم جرما ،وأعظمهم إثما.
{ { } 30 - 13وَاضْ ِربْ َل ُهمْ مَثَلًا َأصْحَابَ ا ْلقَرْيَةِ ِإذْ جَاءَهَا ا ْلمُ ْرسَلُونَ } إلى آخر القصة.
أي :واضرب لهؤلء المكذبين برسالتك ،الرادين لدعوتك ،مثل يعتبرون به ،ويكون لهم موعظة
إن وفقوا للخير ،وذلك المثل :أصحاب القرية ،وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه ،وما جرى
عليهم من عقوبته ونكاله.
وتعيين تلك القرية ،لو كان فيه فائدة ،لعينها اللّه ،فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف
والتكلم بل علم ،ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والختلف الذي ل
يستقر له قرار ،ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح ،الوقوف مع الحقائق ،وترك التعرض لما ل
فائدة فيه ،وبذلك تزكو النفس ،ويزيد العلم ،من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر القوال التي ل
دليل عليها ،ول حجة عليها ول يحصل منها من الفائدة إل تشويش الذهن واعتياد المور
المشكوك فيها.
والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثل للمخاطبين { .إِذْ جَا َءهَا ا ْلمُرْسَلُونَ } من اللّه تعالى
يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ،وإخلص الدين له ،وينهونهم عن الشرك والمعاصي.
{ ِإذْ أَرْسَلْنَا إِلَ ْيهِمُ اثْنَيْنِ َف َكذّبُو ُهمَا َفعَزّزْنَا بِثَاِلثٍ } أي :قويناهما بثالث ،فصاروا ثلثة رسل ،اعتناء
من اللّه بهم ،وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهمَ { ،فقَالُوا } لهم { :إِنّا إِلَ ْيكُمْ مُرْسَلُونَ } فأجابوهم
بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل :فـ { قَالُوا مَا أَنْ ُتمْ إِلّا َبشَرٌ مِثْلُنَا } أي:
فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لممهم { :إِنْ نَحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ
َيمُنّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ }
شيْءٍ } أي :أنكروا عموم الرسالة ،ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم،
حمَنُ مِنْ َ
{ َومَا أَنْ َزلَ الرّ ْ
فقالوا { :إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا َتكْذِبُونَ }
فقالت هؤلء الرسل الثلثة { :رَبّنَا َيعَْلمُ إِنّا إِلَ ْي ُكمْ َلمُرْسَلُونَ } فلو كنا كاذبين ،لظهر اللّه خزينا،
ولبادرنا بالعقوبة.
{ َومَا عَلَيْنَا إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } أي :البلغ المبين الذي يحصل به توضيح المور المطلوب بيانها،
وما عدا هذا من آيات القتراح ،ومن سرعة العذاب ،فليس إلينا ،وإنما وظيفتنا -التي هي البلغ
المبين -قمنا بها ،وبيناها لكم ،فإن اهتديتم ،فهو حظكم وتوفيقكم ،وإن ضللتم ،فليس لنا من المر
شيء.
فقال أصحاب القرية لرسلهم { :إِنّا َتطَيّرْنَا ِبكُمْ } أي :لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إل
الشر ،وهذا من أعجب العجائب ،أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد،
وأجل كرامة يكرمهم بها ،وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة ،قد قدم بحالة شر ،زادت على الشر
الذي هم عليه ،واستشأموا بها ،ولكن الخذلن وعدم التوفيق ،يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به
عدوه.
{ َبلْ أَنْ ُتمْ َقوْمٌ مُسْ ِرفُونَ } متجاوزون للحد ،متجرهمون في قولكم ،فلم يزدهم [دعاؤهم] إل نفورا
واستكبارا.
سعَى } حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل
جلٌ يَ ْ
{ وَجَاءَ مِنْ َأ ْقصَى ا ْلمَدِينَةِ َر ُ
وآمن به ،وعلم ما رد به قومه عليهم فقال [لهم] { :يَا َقوْمِ اتّ ِبعُوا ا ْلمُرْسَلِينَ } فأمرهم باتباعهم
ونصحهم على ذلك ،وشهد لهم بالرسالة ،ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه ،فقال { :اتّ ِبعُوا مَنْ لَا
يَسْأَُلكُمْ أَجْرًا } أي :اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير ،وليس [يريد منكم أموالكم ول
أجرا على نصحه لكم وإرشاده إياكم ،فهذا موجب لتباع من هذا وصفه.
بقي] أن يقال :فلعله يدعو ول يأخذ أجرة ،ولكنه ليس على الحق ،فدفع هذا الحتراز بقوله { :وَ ُهمْ
ُمهْتَدُونَ } لنهم ل يدعون إل لما يشهد العقل الصحيح بحسنه ،ول ينهون إل بما يشهد العقل
الصحيح بقبحه.
فكأن قومه لم يقبلوا نصحه ،بل عادوا لئمين له على اتباع الرسل ،وإخلص الدين للّه وحده،
جعُونَ } أي :وما المانع لي من عبادة من هو
فقالَ { :ومَا ِليَ لَا أَعْ ُبدُ الّذِي َفطَرَنِي وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
المستحق للعبادة ،لنه الذي فطرني ،وخلقني ،ورزقني ،وإليه مآل جميع الخلق ،فيجازيهم
بأعمالهم ،فالذي بيده الخلق والرزق ،والحكم بين العباد ،في الدنيا والخرة ،هو الذي يستحق أن
يعبد ،ويثنى عليه ويمجد ،دون من ل يملك نفعا ول ضرا ،ول عطاء ول منعا ،ول حياة ول موتا
شفَاعَ ُتهُمْ } لنه
حمَنُ ِبضُرّ لَا ُتغْنِ عَنّي َ
خذُ مِنْ دُونِهِ آِلهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرّ ْ
ول نشورا ،ولهذا قال { :أَأَتّ ِ
ل أحد يشفع عند ال إل بإذنه ،فل تغني شفاعتهم عني شيئا ،وَلَا ُهمْ يُنْقذون من الضر الذي أراده
اللّه بي.
{ إِنّي ِإذًا } أي :إن عبدت آلهة هذا وصفها { َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فجمع في هذا الكلم ،بين
نصحهم ،والشهادة للرسل بالرسالة ،والهتداء والخبار بِتعيّن عبادة اللّه وحده ،وذكر الدلة
عليها ،وأن عبادة غيره باطلة ،وذكر البراهين عليها ،والخبار بضلل من عبدها ،والعلن
س َمعُونِ } فقتله قومه ،لما
بإيمانه جهرا ،مع خوفه الشديد من قتلهم ،فقال { :إِنّي آمَ ْنتُ بِرَ ّبكُمْ فَا ْ
سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.
خلِ الْجَنّةَ } فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده
فـ { قِيلَ } له في الحال { :ا ْد ُ
غفَرَ
وإخلصه ،وناصحا لقومه بعد وفاته ،كما نصح لهم في حياته { :يَا لَ ْيتَ َق ْومِي َيعَْلمُونَ ِبمَا َ
جعَلَنِي مِنَ ا ْل ُمكْ َرمِينَ } بأنواع
لِي رَبّي } أي :بأي :شيء غفر لي ،فأزال عني أنواع العقوبات { ،وَ َ
المثوبات والمسرات ،أي :لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم ،لم يقيموا على شركهم.
قال اللّه متوجعا للعباد { :يَا حَسْ َرةً عَلَى ا ْلعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ َرسُولٍ إِلّا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي:
ما أعظم شقاءهم ،وأطول عناءهم ،وأشد جهلهم ،حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة ،التي هي سبب
لكل شقاء وعذاب ونكال"
ل َلمّا
جعُونَ * وَِإنْ كُ ّ
ن َأ ّن ُهمْ إَِل ْي ِهمْ لَا َي ْر ِ
{ { } 32 - 31أََل ْم يَرَوْا َكمْ أَهَْل ْكنَا َقبَْل ُهمْ مِنَ ا ْل ُقرُو ِ
ن}
ضرُو َ
جمِيعٌ َل َد ْينَا ُمحْ َ
َ
يقول تعالى :ألم ير هؤلء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون المكذبة ،التي أهلكها ال تعالى
وأوقع بها عقابها ،وأن جميعهم قد باد وهلك ،فلم يرجع إلى الدنيا ،ولن يرجع إليها ،وسيعيد
اللّه الجميع خلقا جديدا ،ويبعثهم بعد موتهم ،ويحضرون بين يديه تعالى ،ليحكم بينهم بحكمه
عظِيمًا }
ن َل ُدنْ ُه َأجْرًا َ
ت مِ ْ
سنَةً ُيضَاعِ ْفهَا َويُؤْ ِ
حَن َتكُ َ
العدل الذي ل يظلم مثقال ذرة { وَإِ ْ
جعَ ْلنَا
حبّا َف ِمنْ ُه َي ْأكُلُونَ * َو َ
خ َرجْنَا ِم ْنهَا َ
ح َي ْينَاهَا وََأ ْ
{ { } 36 - 33وَآيَ ٌة َل ُهمُ ا ْلَأرْضُ ا ْل َم ْيتَ ُة َأ ْ
عمَِلتْ ُه َأ ْيدِيهِمْ َأفَلَا
ن َثمَرِهِ َومَا َ
ن ا ْل ُعيُونِ * ِل َي ْأكُلُوا مِ ْ
ج ْرنَا فِيهَا مِ َ
عنَابٍ َو َف ّ
ت مِنْ َنخِيلٍ وَأَ ْ
جنّا ٍ
فِيهَا َ
ن}
س ِهمْ َو ِممّا لَا َيعَْلمُو َ
ن َأنْ ُف ِ
ج كُّلهَا ِممّا ُت ْنبِتُ ا ْلَأرْضُ َومِ ْ
س ْبحَانَ اّلذِي خََلقَ ا ْلَأزْوَا َ
شكُرُونَ * ُ
َي ْ
أي { :وَآ َيةٌ َل ُهمُ } على البعث والنشور ،والقيام بين يدي اللّه تعالى للجزاء على العمال ،هذه {
حبّا َفمِنْهُ
جنَا ِم ْنهَا َ
خ َر ْ
ا ْلَأرْضُ ا ْل َم ْيتَ ُة } أنزل اللّه عليها المطر ،فأحياها بعد موتها { ،وََأ ْ
جعَ ْلنَا
ن } من جميع أصناف الزروع ،ومن جميع أصناف النبات ،التي تأكله أنعامهمَ { ،و َ
َي ْأكُلُو َ
جنّاتٍ } أي :بساتين ،فيها أشجار كثيرة ،وخصوصا
فِيهَا } أي :في تلك الرض الميتة { َ
جرْنَا فِيهَا } أي :في الرض { مِنَ
النخيل والعناب ،اللذان هما أشرف الشجارَ { ،و َف ّ
ن}
ا ْل ُعيُو ِ
ستَ َقرّ
شمْسُ َتجْرِي ِل ُم ْ
ن * وَال ّ
خ ِمنْ ُه ال ّنهَارَ َفِإذَا ُهمْ ُمظِْلمُو َ
{ { } 40 - 37وَآيَ ٌة َل ُهمُ الّليْلُ َنسْلَ ُ
شمْسُ
حتّى عَادَ كَا ْلعُ ْرجُونِ ا ْل َقدِيمِ * لَا ال ّ
َلهَا ذَِلكَ تَ ْقدِيرُ ا ْل َعزِيزِ ا ْلعَلِيمِ * وَالْ َق َمرَ َقدّ ْرنَا ُه َمنَازِلَ َ
ل فِي فََلكٍ َيسْ َبحُونَ }
ل سَابِقُ ال ّنهَارِ َوكُ ّ
ن ُتدْ ِركَ الْ َق َمرَ وَلَا الّليْ ُ
َي ْن َبغِي َلهَا أَ ْ
أي { :وَآ َيةٌ َل ُهمُ } على نفوذ مشيئة اللّه ،وكمال قدرته ،وإحيائه الموتى بعد موتهم { .الّليْلُ
َنسْلَخُ ِمنْ ُه ال ّنهَارَ } أي :نزيل الضياء العظيم الذي طبق الرض ،فنبدله بالظلمة ،ونحلها محله {
َفإِذَا ُه ْم ُمظْلِمُونَ } وكذلك نزيل هذه الظلمة ،التي عمتهم وشملتهم ،فتطلع الشمس ،فتضيء
ستَ َقرّ َلهَا } [أي:
جرِي ِل ُم ْ
شمْسُ َت ْ
القطار ،وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم ،ولهذا قال { :وَال ّ
دائما تجري لمستقر لها] قدره اللّه لها ،ل تتعداه ،ول تقصر عنه ،وليس لها تصرف في
نفسها ،ول استعصاء على قدرة اللّه تعالى { .ذَِلكَ تَ ْقدِيرُ ا ْل َعزِيزِ } الذي بعزته دبر هذه
المخلوقات العظيمة ،بأكمل تدبير ،وأحسن نظام { .ا ْلعَلِيمُ } الذي بعلمه ،جعلها مصالح لعباده،
ومنافع في دينهم ودنياهم.
{ َوكُلّ } من الشمس والقمر ،والليل والنهار ،قدره [اللّه] تقديرا ل يتعداه ،وكل له سلطان
ن ُتدْ ِركَ الْ َق َمرَ } أي :في
شمْسُ َي ْن َبغِي َلهَا أَ ْ
ووقت ،إذا وجد عدم الخر ،ولهذا قال { :لَا ال ّ
سلطانه الذي هو الليل ،فل يمكن أن توجد الشمس في الليل { ،وَلَا الّليْلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ } فيدخل
ن } أي:
س َبحُو َ
عليه قبل انقضاء سلطانهَ { ،وكُلّ } من الشمس والقمر والنجوم { فِي فََلكٍ َي ْ
يترددون على الدوام ،فكل هذا دليل ظاهر ،وبرهان باهر ،على عظمة الخالق ،وعظمة
أوصافه ،خصوصا وصف القدرة والحكمة والعلم في هذا الموضع.
أي :ودليل لهم وبرهان ،على أن اللّه وحده المعبود ،لنه المنعم بالنعم ،الصارف للنقم ،الذي
حمَ ْلنَا ُذ ّر ّي َتهُمْ } قال كثير من المفسرين :المراد بذلك :آباؤهم.
من جملة نعمه { َأنّا َ
فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ،ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد اللّه تعالى ،وذلك
أن من عرف جللة كتاب اللّه وبيانه التام من كل وجه ،للمور الحاضرة والماضية
والمستقبلة ،وأنه يذكر من كل معنى أعله وأكمل ما يكون من أحواله ،وكانت الفلك من آياته
تعالى ونعمه على عباده ،من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة ،ولم تزل موجودة في
كل زمان ،إلى زمان المواجهين بالقرآن.
فلما خاطبهم اللّه تعالى بالقرآن ،وذكر حالة الفلك ،وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك
في غير وقتهم ،وفي غير زمانهم ،حين يعلمهم [صنعة] الفلك [البحرية] الشراعية منها
والنارية ،والجوية السابحة في الجو ،كالطيور ونحوها[ ،والمراكب البرية] مما كانت الية
العظمى فيه لم توجد إل في الذرية ،نبّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال:
{ وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ اتّقُوا مَا َبيْنَ َأ ْيدِي ُكمْ َومَا خَ ْل َف ُكمْ } أي :من أحوال البرزخ والقيامة ،وما في الدنيا
ن } أعرضوا عن ذلك ،فلم يرفعوا به رأسا ،ولو جاءتهم كل آية،
حمُو َ
من العقوبات { َلعَّل ُكمْ ُت ْر َ
ع ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ } وفي إضافة اليات
ت َربّ ِهمْ إِلّا كَانُوا َ
ولهذا قالَ { :ومَا َت ْأتِيهِمْ ِمنْ آ َيةٍ ِمنْ آيَا ِ
إلى ربهم ،دليل على كمالها ووضوحها ،لنه ما أبين من آية من آيات اللّه ،ول أعظم بيانا.
وإن من جملة تربية اللّه لعباده ،أن أوصل إليهم اليات التي يستدلون بها على ما ينفعهم ،في
دينهم ودنياهم.
{ وَِإذَا قِيلَ َل ُهمْ َأنْفِقُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ } أي :من الرزق الذي منّ به اللّه عليكم ،ولو شاء لسلبكم
ن َلوْ َيشَاءُ
ن كَ َفرُوا لِّلذِينَ آ َمنُوا } معارضين للحق ،محتجين بالمشيئةَ { :أ ُنطْ ِعمُ مَ ْ
إياه { ،قَالَ اّلذِي َ
ن } حيث تأمروننا بذلك.
ط َعمَهُ ِإنْ َأ ْن ُتمْ } أيها المؤمنون { إِلّا فِي ضَلَالٍ ُمبِي ٍ
اللّ ُه َأ ْ
وهذا مما يدل على جهلهم العظيم ،أو تجاهلهم الوخيم ،فإن المشيئة ،ليست حجة لعاص أبدا،
فإنه وإن كان ما شاء اللّه كان ،وما لم يشأ لم يكن ،فإنه تعالى مكّن العباد ،وأعطاهم من القوة
ما يقدرون على فعل المر واجتناب النهي ،فإذا تركوا ما أمروا به ،كان ذلك اختيارا منهم ،ل
جبرا لهم ول قهرا.
ن } قال اللّه
ن ُك ْنتُمْ صَا ِدقِي َ
ع ُد إِ ْ
ن } على وجه التكذيب والستعجالَ { :متَى َهذَا ا ْلوَ ْ
{ َويَقُولُو َ
حدَ ًة } وهي نفخة الصور
ص ْيحَةً وَا ِ
ن إِلّا َ
ظرُو َ
تعالى :ل يستبعدوا ذلك ،فإنه [عن] قريب { مَا َي ْن ُ
خصّمُونَ } أي :وهم ل هون عنها ،لم تخطر على قلوبهم في
خذُ ُهمْ } أي :تصيبهم { وَ ُهمْ َي ِ
{ َت ْأ ُ
حال خصومتهم ،وتشاجرهم بينهم ،الذي ل يوجد في الغالب إل وقت الغفلة.
النفخة الولى ،هي نفخة الفزع والموت ،وهذه نفخة البعث والنشور ،فإذا نفخ في الصور،
خرجوا من الجداث والقبور ،ينسلون إلى ربهم ،أي :يسرعون للحضور بين يديه ،ل يتمكنون
من التأنّي والتأخر ،وفي تلك الحال ،يحزن المكذبون ،ويظهرون الحسرة والندم ،ويقولون:
ن َب َع َثنَا مِنْ َم ْر َقدِنَا } أي :من رقدتنا في القبور ،لنه ورد في بعض الحاديث ،أن
{ يَا َويَْلنَا مَ ْ
ص َدقَ
حمَنُ َو َ
ع َد الرّ ْ
لهل القبور رقدة قبيل النفخ في الصور ،فيجابون ،فيقال [لهمَ { ]:هذَا مَا وَ َ
ا ْل ُمرْسَلُونَ } أي :هذا الذي وعدكم اللّه به ،ووعدتكم به الرسل ،فظهر صدقهم رَ ْأيَ عين.
ول تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع ،لمجرد الخبر عن وعده ،وإنما ذلك للخبار بأنه
في ذلك اليوم العظيم ،سيرون من رحمته ما ل يخطر على الظنون ،ول حسب به الحاسبون،
حمَنِ } ونحو ذلك ،مما يذكر
ت لِل ّر ْ
شعَتِ ا ْلَأصْوَا ُ
خَحمَنِ } { َو َ
حقّ لِل ّر ْ
كقوله { :ا ْلمُ ْلكُ َي ْو َم ِئذٍ ا ْل َ
اسمه الرحمن ،في هذا.
ن إِلّا مَا
جزَوْ َ
ش ْيئًا } ل ينقص من حسناتها ،ول يزاد في سيئاتها { ،وَلَا ُت ْ
س َ
{ فَا ْليَ ْومَ لَا تُظَْلمُ نَفْ ٌ
ُك ْنتُمْ َت ْعمَلُونَ } من خير أو شر ،فمن وجد خيرا فليحمد اللّه على ذلك ،ومن وجد غير ذلك فل
يلومن إل نفسه.
[لما ذكر تعالى] أن كل أحد ل يجازى إل ما عمله ،ذكر جزاء الفريقين ،فبدأ بجزاء أهل
ن } أي :في شغل مفكه للنفس ،مُِلذّ لها ،من
شغُلٍ فَا ِكهُو َ
الجنة ،وأخبر أنهم في ذلك اليوم { فِي ُ
كل ما تهواه النفوس ،وتلذه العيون ،ويتمناه المتمنون.
{ َل ُهمْ فِيهَا فَاكِهَ ٌة } كثيرة ،من جميع أنواع الثمار اللذيذة ،من عنب وتين ورمان ،وغيرها،
ن } أي :يطلبون ،فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه.
{ وََل ُهمْ مَا َيدّعُو َ
فنرجو ربنا أن ل يحرمنا ذلك النعيم ،وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.
لما ذكر تعالى جزاء المتقين ،ذكر جزاء المجرمين { و } أنهم يقال لهم يوم القيامة { ا ْمتَازُوا
ن } أي :تميزوا عن المؤمنين ،وكونوا على حدة ،ليوبخهم ويقرعهم على
ج ِرمُو َ
ا ْليَ ْومَ َأ ّيهَا ا ْل ُم ْ
ع َهدْ إَِل ْي ُكمْ } أي :آمركم وأوصيكم،
رءوس الشهاد قبل أن يدخلهم النار ،فيقول لهم { :أََلمْ َأ ْ
ن } أي :ل تطيعوه؟ وهذا
شيْطَا َ
ن لَا َت ْع ُبدُوا ال ّ
على ألسنة رسلي[ ،وأقول لكم { ]:يَا َبنِي آ َدمَ أَ ْ
التوبيخ ،يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي ،لنها كلها طاعة للشيطان وعبادة
عدُ ّو ُمبِينٌ } فحذرتكم منه غاية التحذير ،وأنذرتكم عن طاعته ،وأخبرتكم بما
لهِ { ،إنّ ُه َل ُكمْ َ
ع ُبدُونِي } بامتثال أوامري وترك زواجريَ { ،هذَا } أي:
يدعوكم إليه { ،و } أمرتكم { أَنِ ا ْ
ستَقِيمٌ } فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ترجع
صرَاطٌ ُم ْ
عبادتي وطاعتي ،ومعصية الشيطان { ِ
إلى هذين المرين ،أي :فلم تحفظوا عهدي ،ولم تعملوا بوصيتي ،فواليتم عدوكم ،فـ { َأضَلّ
جبِلّا َكثِيرًا } أي :خلقا كثيرا.
ِم ْنكُمْ ِ
{ َأفََلمْ َتكُونُوا َتعْقِلُونَ } أي :فل كان لكم عقل يأمركم بموالة ربكم ووليكم الحق ،ويزجركم عن
اتخاذ أعدى العداء لكم وليا ،فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك ،فإذا أطعتم الشيطان،
وعاديتم الرحمن ،وكذبتم بلقائه ،ووردتم القيامة دار الجزاء ،وحق عليكم القول بالعذاب فـ
ن } وتكذبون بها ،فانظروا إليها عيانا ،فهناك تنزعج منهم
عدُو َ
ج َه ّنمُ اّلتِي ُك ْن ُتمْ تُو َ
{ َهذِ ِه َ
القلوب ،وتزوغ البصار ،ويحصل الفزع الكبر.
ن } أي:
ثم يكمل ذلك ،بأن يؤمر بهم إلى النار ،ويقال لهم { :اصْلَوْهَا ا ْليَ ْو َم ِبمَا ُك ْنتُ ْم َتكْ ُفرُو َ
ادخلوها على وجه تصلكم ،ويحيط بكم حرها ،ويبلغ منكم كل مبلغ ،بسبب كفركم بآيات اللّه،
وتكذيبكم لرسل اللّه.
س َتبَقُوا
ب أبصارهم ،كما طمسنا على نطقهم { .فَا ْ
ع ُي ِن ِهمْ } بأن ُنذْهِ َ
ط َمسْنَا عَلَى أَ ْ
{ وَلَ ْو َنشَاءُ َل َ
الصّرَاطَ } أي :فبادروا إليه ،لنه الطريق إلى الوصول إلى الجنةَ { ،فأَنّى ُي ْبصِرُونَ } وقد
طمست أبصارهم.
وفي ذلك الموطن ،ما َثمّ إل النار قد برزت ،وليس لحد نجاة إل بالعبور على الصراط ،وهذا
ل يستطيعه إل أهل اليمان ،الذين يمشون في نورهم ،وأما هؤلء ،فليس لهم عند اللّه عهد في
النجاة من النار؛ فإن شاء طمس أعينهم وأبقى حركتهم ،فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه
وبادروه ،وإن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم ول التأخر .المقصود :أنهم ل يعبرونه،
فل تحصل لهم النجاة.
ن}
{ َ { } 68و َمنْ ُن َع ّمرْهُ ُن َن ّكسْ ُه فِي ا ْلخَ ْلقِ َأفَلَا َيعْقِلُو َ
ن ُن َع ّمرْهُ } من بني آدم { ُن َن ّكسْهُ فِي ا ْلخَ ْلقِ } أي :يعود إلى الحالة التي ابتدأ
يقول تعالىَ { :ومَ ْ
ن } أن الدمي ناقص من كل وجه،
حالة الضعف ،ضعف العقل ،وضعف القوةَ { .أفَلَا َيعْقِلُو َ
فيتداركوا قوتهم وعقولهم ،فيستعملونها في طاعة ربهم.
ن * ِل ُي ْنذِرَ مَنْ
ش ْعرَ َومَا َي ْن َبغِي َلهُ ِإنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ َوقُرْآنٌ ُمبِي ٌ
{ َ { } 70 - 69ومَا عَّل ْمنَا ُه ال ّ
حقّ الْ َقوْلُ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
حيّا َو َي ِ
كَانَ َ
ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ،عما رماه به المشركون ،من أنه شاعر ،وأن
ش ْعرَ َومَا َي ْن َبغِي َل ُه } أن يكون شاعرا ،أي :هذا من
الذي جاء به شعر فقالَ { :ومَا عَّل ْمنَاهُ ال ّ
جنس المحال أن يكون شاعرا ،لنه رشيد مهتد ،والشعراء غاوون ،يتبعهم الغاوون ،ولن اللّه
تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله ،فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ،
ن } أي :ما هذا الذي جاء
وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي لهِ { ،إنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ َو ُقرْآنٌ ُمبِي ٌ
به إل ذكر يتذكر به أولو اللباب ،جميع المطالب الدينية ،فهو مشتمل عليها أتم اشتمال ،وهو
يذكر العقول ،ما ركز اللّه في فطرها من المر بكل حسن ،والنهي عن كل قبيح.
ن ُمبِينٍ } أي :مبين لما يطلب بيانه .ولهذا حذف المعمول ،ليدل على أنه مبين لجميع
{ َوقُرْآ ٍ
الحق ،بأدلته التفصيلية والجمالية ،والباطل وأدلة بطلنه ،أنزله اللّه كذلك على رسوله.
حيّا } أي :حي القلب واعيه ،فهو الذي يزكو على هذا القرآن ،وهو الذي
ن كَانَ َ
{ ِل ُي ْن ِذرَ مَ ْ
يزداد من العلم منه والعمل ،ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للرض الطيبة الزاكية.
ق الْقَوْلُ عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ } لنهم قامت عليهم به حجة اللّه ،وانقطع احتجاجهم ،فلم يبق لهم
{ َو َيحِ ّ
ن بها.
أدنى عذر وشبهة ُيدْلُو َ
يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من النعام وذللها ،وجعلهم مالكين لها ،مطاوعة لهم
في كل أمر يريدونه منها ،وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم وحمل أثقالهم ومحاملهم
وأمتعتهم من محل إلى محل ،ومن أكلهم منها ،وفيها دفء ،ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها
أثاثا ومتاعا إلى حين ،وفيها زينة وجمال ،وغير ذلك من المنافع المشاهدة منهاَ { ،أفَلَا
شكُرُونَ } اللّه تعالى الذي أنعم بهذه النعم ،ويخلصون له العبادة ول يتمتعون بها تمتعا خاليا
َي ْ
من العبرة والفكرة.
صرَهُمْ وَ ُهمْ َل ُهمْ
س َتطِيعُونَ َن ْ
ن * لَا َي ْ
صرُو َ
خذُوا ِمنْ دُونِ اللّهِ آِلهَ ًة َلعَّلهُمْ ُي ْن َ
{ { } 75 - 74وَا ّت َ
ن}
ضرُو َ
ج ْندٌ ُمحْ َ
ُ
هذا بيان لبطلن آلهة المشركين ،التي اتخذوها مع اللّه تعالى ،ورجوا نصرها وشفعها ،فإنها
صرَهُمْ } ول أنفسهم ينصرون ،فإذا كانوا ل يستطيعون
س َتطِيعُونَ َن ْ
في غاية العجز { لَا َي ْ
نصرهم ،فكيف ينصرونهم؟ والنصر له شرطان :الستطاعة [والقدرة] فإذا استطاع ،يبقى:
هل يريد نصرة من عبده أم ل؟ فَنَ ْفيُ الستطاعة ،ينفي المرين كليهما.
ن}
{ { } 76فَلَا َيحْ ُز ْنكَ قَوُْل ُهمْ ِإنّا َنعْلَمُ مَا ُيسِرّونَ َومَا ُيعِْلنُو َ
أي :فل يحزنك يا أيها الرسول ،قول المكذبين ،والمراد بالقول :ما دل عليه السياق ،كل قول
يقدحون فيه في الرسول ،أو فيما جاء به.
هذه اليات الكريمات ،فيها [ذكر] شبهة منكري البعث ،والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه
وأوضحه ،فقال تعالىَ { :أوََلمْ َيرَ ا ْلِإ ْنسَانُ } المنكر للبعث و الشاك فيه ،أمرا يفيده اليقين التام
ن ُنطْفَ ٍة } ثم تنقله في الطوار شيئا فشيئا ،حتى كبر وشب ،وتم
بوقوعه ،وهو ابتداء خلقه { مِ ْ
خصِيمٌ ُمبِينٌ } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة ،فلينظر التفاوت بين
عقله واستتبَ { ،فإِذَا ُهوَ َ
هاتين الحالتين ،وليعلم أن الذي أنشأه من العدم ،قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق ،من
باب أولى.
ب َلنَا َمثَلًا } ل ينبغي لحد أن يضربه ،وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق ،وأن
{ َوضَرَ َ
المر المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق .فسر هذا المثل [بقوله] { :قَالَ }
ي رَمِيمٌ } أي :هل أحد يحييها؟ استفهام إنكار ،أي :ل أحد
حيِي ا ْل ِعظَامَ وَ ِه َ
ن ُي ْ
ذلك النسان { مَ ْ
يحييها بعد ما بليت وتلشت.
هذا وجه الشبهة والمثل ،وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر ،وهذا
القول الذي صدر من هذا النسان غفلة منه ،ونسيان لبتداء خلقه ،فلو فطن لخلقه بعد أن لم
يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا ،لم يضرب هذا المثل.
هذا أيضا دليل ثان من صفات اللّه تعالى ،وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته في
جميع أحوالها ،في جميع الوقات ،ويعلم ما تنقص الرض من أجساد الموات وما يبقى،
ويعلم الغيب والشهادة ،فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم ،علم أنه أعظم وأجل من إحياء اللّه
الموتى من قبورهم.
ن } فإذا أخرج
خضَرِ نَارًا َفِإذَا َأ ْن ُتمْ ِمنْ ُه تُو ِقدُو َ
جرِ ا ْلَأ ْ
شَل َل ُكمْ مِنَ ال ّ
جعَ َ
ثم ذكر دليل ثالثا { اّلذِي َ
[النار] اليابسة من الشجر الخضر ،الذي هو في غاية الرطوبة ،مع تضادهما وشدة تخالفهما،
فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك.
ن}
جعُو َ
فإعادته إياهم بعد موتهم ،لينفذ فيهم حكم الجزاء ،من تمام ملكه ،ولهذا قال { :وَإَِل ْيهِ ُت ْر َ
من غير امتراء ول شك ،لتواتر البراهين القاطعة والدلة الساطعة على ذلك .فتبارك الذي
جعل في كلمه الهدى والشفاء والنور.
تم تفسير سورة يس ،فللّه [تعالى] الحمد كما ينبغي لجلله ،وله الثناء كما يليق بكماله ،وله
المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه ،وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.
هذا قسم منه تعالى بالملئكة الكرام ،في حال عبادتها وتدبيرها ما تدبره بإذن ربها ،على ألوهيته
صفّا } أي :صفوفا في خدمة ربهم ،وهم الملئكة.
ت َ
تعالى وربوبيته ،فقال { :وَالصّافّا ِ
فلما كانوا متألهين لربهم ،ومتعبدين في خدمته ،ول يعصونه طرفة عين ،أقسم بهم على ألوهيته
حدٌ } ليس له شريك في اللهية ،فأخلصوا له الحب والخوف والرجاء ،وسائر
فقال { :إِنّ إَِل َهكُمْ َلوَا ِ
أنواع العبادة.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا وَ َربّ ا ْلمَشَا ِرقِ } أي :هو الخالق لهذه المخلوقات ،والرازق
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
{ َربّ ال ّ
لها ،المدبر لها.،فكما أنه ل شريك له في ربوبيته إياها ،فكذلك ل شريك له في ألوهيته .،وكثيرا
ما يقرر تعالى توحيد اللهية بتوحيد الربوبية ،لنه دال عليه .وقد أقر به أيضا المشركون في
العبادة ،فيلزمهم بما أقروا به على ما أنكروه.
وخص اللّه المشارق بالذكر ،لدللتها على المغارب ،أو لنها مشارق النجوم التي سيذكرها ،فلهذا
س ّمعُونَ إِلَى ا ْلمَلَإِ
حفْظًا مِنْ ُكلّ شَ ْيطَانٍ مَارِدٍ لَا َي ّ
ب وَ ِ
سمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ ا ْل َكوَا ِك ِ
قال { :إِنّا زَيّنّا ال ّ
الْأَعْلَى }
إحداهما :كونها زينة للسماء ،إذ لولها ،لكانت السماء جرما مظلما ل ضوء فيها ،ولكن زينها فيها
لتستنير أرجاؤها ،وتحسن صورتها ،ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر ،ويحصل فيها من
المصالح ما يحصل.
والثانية :حراسة السماء عن كل شيطان مارد ،يصل بتمرده إلى استماع المل العلى ،وهم
الملئكة ،فإذا استمعت قذفتها بالشهب الثواقب { مِنْ ُكلّ جَا ِنبٍ } طردا لهم ،وإبعادا عن استماع ما
يقول المل العلى.
ولول أنه [تعالى] استثنى ،لكان ذلك دليل على أنهم ل يستمعون شيئا أصل ،ولكن قال { :إِلّا مَنْ
طفَةَ } أي :إل من تلقف من الشياطين المردة ،الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة
خ ْ
طفَ الْ َ
خَِ
شهَابٌ ثَا ِقبٌ } تارة يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه ،فينقطع خبر السماء ،وتارة يخبر
{ فَأَتْ َبعَهُ ِ
بها قبل أن يدركه الشهاب ،فيكذبون معها مائة كذبة يروجونها بسبب الكلمة التي سمعت من
السماء.
ولما بين هذه المخلوقات العظيمة قال { :فَاسْ َتفْتِهِمْ } أي :اسأل منكري خلقهم بعد موتهمَ { .أهُمْ
شدّ خَ ْلقًا } أي :إيجادهم بعد موتهم ،أشد خلقا وأشق؟ { .أَمْ مَنْ خََلقْنَا } من [هذه] المخلوقات؟ فل
أَ َ
بد أن يقروا أن خلق السماوات والرض أكبر من خلق الناس.
فيلزمهم إذا القرار بالبعث ،بل لو رجعوا إلى أنفسهم وفكروا فيها ،لعلموا أن ابتداء خلقهم من
طين لزب ،أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم ،ولهذا قال { :إِنّا خََلقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَا ِزبٍ }
حمَإٍ مَسْنُونٍ }
ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ
أي :قوي شديد كقوله تعالى { :وََلقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ مِ ْ
سخَرُونَ * وَإِذَا ُذكّرُوا لَا يَ ْذكُرُونَ * وَإِذَا رََأوْا آيَةً يَسْ َتسْخِرُونَ *
ت وَيَ ْ
{ َ { } 21 - 12بلْ عَجِ ْب َ
سحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ * ُقلْ
َوقَالُوا إِنْ هَذَا إِلّا ِ
ح َدةٌ فَإِذَا هُمْ يَ ْنظُرُونَ * َوقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا َيوْمُ الدّينِ *
َنعَ ْم وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِ ّنمَا ِهيَ َزجْ َر ٌة وَا ِ
هَذَا َيوْمُ ا ْل َفصْلِ الّذِي كُنْتُمْ بِهِ ُتكَذّبُونَ }
عجِ ْبتَ } يا أيها الرسول وأيها النسان ،من تكذيب من كذب بالبعث ،بعد أن أريتهم من
{ َبلْ َ
اليات العظيمة والدلة المستقيمة ،وهو حقيقة محل عجب واستغراب ،لنه مما ل يقبل النكار{ ،
سخَرُونَ } ممن جاء بالخبر عن البعث ،فلم يكفهم
و } أعجب من إنكارهم وأبلغ منه ،أنهم { يَ ْ
مجرد النكار ،حتى زادوا السخرية بالقول الحق.
{ و } من العجب أيضا أنهم { ِإذَا ُذكّرُوا } ما يعرفون في فطرهم وعقولهم ،وفطنوا له ،وألفت
نظرهم إليه { لَا يَ ْذكُرُونَ } ذلك ،فإن كان جهل ،فهو من أدل الدلئل على شدة بلدتهم العظيمة،
حيث ذكروا ما هو مستقر في الفطر ،معلوم بالعقل ،ل يقبل الشكال ،وإن كان تجاهل وعنادا،
فهو أعجب وأغرب.
ومن العجب [أيضا] أنهم إذا أقيمت عليهم الدلة ،وذكروا اليات التي يخضع لهل فحول الرجال
وألباب اللباء ،يسخرون منها ويعجبون.
ومن العجب أيضا ،قياسهم قدرة رب الرض والسماوات ،على قدرة الدمي الناقص من جميع
الوجوه ،فقالوا استبعادا وإنكارا { :أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ }
ولما كان هذا منتهى ما عندهم ،وغاية ما لديهم ،أمر اللّه رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على
ترهيبهم فقالُ { :قلْ َنعَمْ } ستبعثون ،أنتم وآباؤكم الولون { وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ } ذليلون صاغرون،
ل تمتنعون ،ول تستعصون على قدرة اللّه.
{ فَإِ ّنمَا ِهيَ َزجْ َر ٌة وَاحِ َدةٌ } ينفخ إسرافيل فيها في الصور { فَإِذَا هُمْ } مبعوثون من قبورهم
{ يَ ْنظَرُونَ } كما ابتدئ خلقهم ،بعثوا بجميع أجزائهم ،حفاة عراة غرل ،وفي تلك الحال ،يظهرون
الندم والخزي والخسار ،ويدعون بالويل والثبور.
{ َوقَالُوا يَا وَيْلَنَا َهذَا َيوْمُ الدّينِ } فقد أقروا بما كانوا في الدنيا به يستهزءون.
صلِ } بين العباد فيما بينهم وبين ربهم من الحقوق ،وفيما بينهم وبين
فيقال لهم { :هَذَا َيوْمُ ا ْل َف ْ
غيرهم من الخلق.
جهُ ْم َومَا كَانُوا َيعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللّهِ فَا ْهدُوهُمْ إِلَى
{ { } 26 - 22احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا وَأَ ْزوَا َ
صِرَاطِ ا ْلجَحِيمِ * َو ِقفُو ُهمْ إِ ّنهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا َلكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َي ْومَ مُسْتَسِْلمُونَ }
أي إذا أحضروا يوم القيامة ،وعاينوا ما به يكذبون ،ورأوا ما به يستسخرون ،يؤمر بهم إلى
النار ،التي بها كانوا يكذبون ،فيقال { :احْشُرُوا الّذِينَ ظََلمُوا } أنفسهم بالكفر والشرك والمعاصي {
جهُمْ } الذين من جنس عملهم ،كل يضم إلى من يجانسه في العمل.
وَأَ ْزوَا َ
{ َومَا كَانُوا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } من الصنام والنداد التي زعموها .،فاجمعوهم جميعا
جحِيمِ } أي :سوقوهم سوقا عنيفا إلى جهنم.
{ فَا ْهدُوهُمْ ِإلَى صِرَاطِ الْ َ
وبعد ما يتعين أمرهم إلى النار ،ويعرفون أنهم من أهل دار البوار ،يقالَ { :و ِقفُوهُمْ } قبل أن
توصلوهم إلى جهنم { إِ ّن ُهمْ مَسْئُولُونَ } عما كانوا يفترونه في الدنيا ،ليظهر على رءوس الشهاد
كذبهم وفضيحتهم.
فيقال لهم { :مَا َلكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ } أي :ما الذي جرى عليكم اليوم؟ وما الذي طرقكم ل ينصر
بعضكم بعضا ،ول يغيث بعضكم بعضا ،بعدما كنتم تزعمون في الدنيا ،أن آلهتكم ستدفع عنكم
العذاب ،وتغيثكم وتشفع لكم عند اللّه ،فكأنهم ل يجيبون هذا السؤال ،لنهم قد علهم الذل
والصغار ،واستسلموا لعذاب النار ،وخشعوا وخضعوا وأبلسوا ،فلم ينطقوا.
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِ ّنكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ * قَالُوا
{ { } 39 - 27وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
َبلْ لَمْ َتكُونُوا ُمؤْمِنِينَ * َومَا كَانَ لَنَا عَلَ ْي ُكمْ مِنْ سُ ْلطَانٍ َبلْ كُنْتُمْ َق ْومًا طَاغِينَ * َفحَقّ عَلَيْنَا َق ْولُ
غوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ * فَإِ ّن ُهمْ َي ْومَئِذٍ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ * إِنّا كَذَِلكَ َن ْف َعلُ
رَبّنَا إِنّا َلذَا ِئقُونَ * فَأَ ْ
بِا ْلمُجْ ِرمِينَ * إِ ّن ُهمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ َلهُمْ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ يَسْ َتكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتَا ِركُو آِلهَتِنَا لِشَاعِرٍ
ق َوصَدّقَ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُكمْ لَذَا ِئقُو ا ْلعَذَابِ الْأَلِيمِ * َومَا تُجْ َزوْنَ إِلّا مَا كُنْ ُتمْ
حّمَجْنُونٍ * َبلْ جَاءَ بِالْ َ
َت ْعمَلُونَ }
لما جمعوا هم وأزواجهم وآلهتهم ،وهدوا إلى صراط الجحيم ،ووقفوا ،فسئلوا ،فلم يجيبوا ،وأقبلوا
فيما بينهم ،يلوم بعضهم بعضا على إضللهم وضللهم.
فقال التباع للمتبوعين الرؤساء { :إِ ّن ُكمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ } أي :بالقوة والغلبة ،فتضلونا،
ولول أنتم لكنا مؤمنين.
{ قَالُوا } لهم { َبلْ لَمْ َتكُونُوا ُم ْؤمِنِينَ } أي :ما زلتم مشركين ،كما نحن مشركون ،فأي :شيء
فضلكم علينا؟ وأي :شيء يوجب لومنا؟
{ و } الحال أنه { مَا كَانَ لنا عليكم مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي :قهر لكم على اختيار الكفر { َبلْ كُنْتُمْ َقوْمًا
طَاغِينَ } متجاوزين للحد
{ َفحَقّ عَلَيْنَا } نحن وإياكم { إِنّا َلذَا ِئقُونَ } العذاب.،أي :حق علينا قدر ربنا وقضاؤه ،أنا وإياكم
سنذوق العذاب ،ونشترك في العقاب.
غوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ } أي :دعوناكم إلى طريقتنا التي نحن عليها ،وهي الغواية،
{ فـ } لذلك { أَ ْ
فاستجبتم لنا ،فل تلومونا ولوموا أنفسكم.
قال تعالى { :فَإِ ّنهُمْ َي ْومَئِذٍ } أي :يوم القيامة { فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ } وإن تفاوتت مقادير عذابهم
بحسب جرمهم.
كما اشتركوا في الدنيا على الكفر ،اشتركوا في الخرة بجزائه ،ولهذا قال { :إِنّا كَذَِلكَ َن ْفعَلُ
بِا ْلمُجْ ِرمِينَ }
ثم ذكر أن إجرامهم ،قد بلغ الغاية وجاوز النهاية فقال { :إِ ّن ُهمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ َلهُمْ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ }
فدعوا إليها ،وأمروا بترك إلهية ما سواه { يَسْ َتكْبِرُونَ } عنها وعلى من جاء بها.
{ وَ َيقُولُونَ } معارضة لها { أَئِنّا لَتَا ِركُوا آِلهَتِنَا } التي لم نزل نعبدها نحن وآباؤنا { لـ } قول
{ شَاعِرٍ مَجْنُونٍ } يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم .فلم يكفهم -قبحهم اللّه -العراض عنه،
ول مجرد تكذيبه ،حتى حكموا عليه بأظلم الحكام ،وجعلوه شاعرا مجنونا ،وهم يعلمون أنه ل
يعرف الشعر والشعراء ،ول وصفه وصفهم ،وأنه أعقل خلق اللّه ،وأعظمهم رأيا.
ولهذا قال تعالى ،ناقضا لقولهمَ { :بلْ جَاءَ } محمد { بِا ْلحَقّ } أي :مجيئه حق ،وما جاء به من
الشرع والكتاب حقَ { .وصَدّقَ ا ْلمُرْسَلِينَ } [أي :ومجيئه صدق المرسلين] فلول مجيئه وإرساله لم
يكن الرسل صادقين ،فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله ،لنهم أخبروا به وبشروا ،وأخذ اللّه عليهم
العهد والميثاق ،لئن جاءهم ،ليؤمنن به ولينصرنه ،وأخذوا ذلك على أممهم ،فلما جاء ظهر صدق
الرسل الذين قبله ،وتبين كذب من خالفهم. ،فلو قدر عدم مجيئه ،وهم قد أخبروا به ،لكان ذلك
قادحا في صدقهم.
وصدق أيضا المرسلين ،بأن جاء بما جاءوا به ،ودعا إلى ما دعوا إليه ،وآمن بهم ،وأخبر بصحة
رسالتهم ونبوتهم وشرعهم.
ولما كان قولهم السابق { :إِنّا لَذَا ِئقُونَ } قول صادرا منهم ،يحتمل أن يكون صدقا أو غيره ،أخبر
تعالى بالقول الفصل الذي ل يحتمل غير الصدق واليقين ،وهو الخبر الصادر منه تعالى ،فقال:
{ إِ ّن ُكمْ لَذَا ِئقُوا ا ْلعَذَابِ الْأَلِيمِ } أي :المؤلم الموجع.
{ َومَا تُجْ َزوْنَ } في إذاقة العذاب الليم { إِلّا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } فلم نظلمكم ،وإنما عدلنا فيكم؟
ولما كان هذا الخطاب لفظه عاما ،والمراد به المشركون ،استثنى تعالى المؤمنين فقال:
{ { } 49 - 40إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُخَْلصِينَ * أُولَ ِئكَ َلهُمْ رِ ْزقٌ َمعْلُومٌ * َفوَاكِ ُه وَ ُهمْ ُمكْ َرمُونَ * فِي
جَنّاتِ ال ّنعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُ َتقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ * بَ ْيضَاءَ َل ّذةٍ لِلشّارِبِينَ * لَا
ل وَلَا ُهمْ عَ ْنهَا يُنْ َزفُونَ * وَعِنْدَ ُهمْ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ عِينٌ * كَأَ ّنهُنّ بَ ْيضٌ َمكْنُونٌ }
غوْ ٌ
فِيهَا َ
يقول تعالى { :إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُخَْلصِينَ } فإنهم غير ذائقي العذاب الليم ،لنهم أخلصوا للّه
العمال ،فأخلصهم ،واختصهم برحمته ،وجاد عليهم بلطفه.
{ أُولَ ِئكَ َلهُمْ رِزْقٌ َمعْلُومٌ } أي :غير مجهول ،وإنما هو رزق عظيم جليل ،ل يجهل أمره ،ول يبلغ
كنهه.
فسره بقولهَ { :فوَاكِهُ } من جميع أنواع الفواكه التي تتفكه بها النفس ،للذتها في لونها وطعمها.
{ وَ ُهمْ ُمكْ َرمُونَ } ل مهانون محتقرون ،بل معظمون مجلون موقرون .قد أكرم بعضهم بعضا،
وأكرمتهم الملئكة الكرام ،وصاروا يدخلون عليهم من كل باب ،ويهنئونهم ببلوغ أهنأ
الثواب.،وأكرمهم أكرم الكرمين ،وجاد عليهم بأنواع الكرامات ،من نعيم القلوب والرواح
والبدان.
{ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ } أي :الجنات التي النعيم وصفها ،والسرور نعتها ،وذلك لما جمعته ،مما ل
عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر .،وسلمت من كل مخل بنعيمها ،من جميع
المكدرات والمنغصات.
ومن كرامتهم عند ربهم ،وإكرام بعضهم بعضا ،أنهم على { سُرُرٍ } وهي المجالس المرتفعة،
المزينة بأنواع الكسية الفاخرة ،المزخرفة المجملة ،فهم متكئون عليها ،على وجه الراحة
والطمأنينة ،والفرح.
{ مُ َتقَابِلِينَ } فيما بينهم قد صفت قلوبهم ،ومحبتهم فيما بينهم ،ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض،
فإن مقابلة وجوههم ،تدل على تقابل قلوبهم ،وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره ،أو يجعله إلى
جانبه ،بل من كمال السرور والدب ،ما دل عليه ذلك التقابل.
{ ُيطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ } أي :يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم بالشربة اللذيذة،
بالكاسات الجميلة المنظر ،المترعة من الرحيق المختوم بالمسك ،وهي كاسات الخمر.
وتلك الخمر ،تخالف خمر الدنيا من كل وجه ،فإنها في لونها { بَ ْيضَاءَ } من أحسن اللوان ،وفي
طعمها { َل ّذةٍ لِلشّارِبِينَ } يتلذذ شاربها بها وقت شربها وبعده ،وأنها سالمة من غول العقل وذهابه،
ونزفه ،ونزف مال صاحبها ،وليس فيها صداع ول كدر ،فلما ذكر طعامهم وشرابهم ومجالسهم،
وعموم النعيم وتفاصيله داخلة في قوله { :جَنّاتِ ال ّنعِيمِ }
لكن فصل هذه الشياء لتعلم فتشتاق النفوس إليها ،ذكر أزواجهم فقال { :وَعِنْدَ ُهمْ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ
عِينٌ } أي :وعند أهل دار النعيم ،في محلتهم القريبة ،حور حسان ،كاملت الوصاف ،قاصرات
الطرف ،إما أنها قصرت طرفها على زوجها ،لعفتها وعدم مجاوزته لغيره ،ولجمال زوجها
وكماله ،بحيث ل تطلب في الجنة سواه ،ول ترغب إل به ،وإما لنها قصرت طرف زوجها
عليها ،وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق ،الذي أوجب لزوجها ،أن يقصر طرفه عليها،
وقصر الطرف أيضا ،يدل على قصر النفس والمحبة عليها ،وكل المعنيين محتمل ،وكلهما
صحيح ،و [كل] هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة ،ومحبة بعضهم بعضا ،محبة ل
يطمح إلى غيره ،وشدة عفتهم كلهم ،وأنه ل حسد فيها ول تباغض ،ول تشاحن ،وذلك لنتفاء
أسبابه.
علَى َب ْعضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ * َيقُولُ
ضهُمْ َ
{ { } 61 - 50فََأقْ َبلَ َب ْع ُ
أَئِ ّنكَ َلمِنَ ا ْل ُمصَ ّدقِينَ * أَ ِئذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنّا َل َمدِينُونَ * قَالَ َهلْ أَنْتُمْ ُمطِّلعُونَ * فَاطّلَعَ
حضَرِينَ *
جحِيمِ * قَالَ تَاللّهِ إِنْ كِ ْدتَ لَتُ ْردِينِ * وََلوْلَا ِن ْعمَةُ رَبّي َلكُ ْنتُ مِنَ ا ْل ُم ْ
سوَاءِ الْ َ
فَرَآهُ فِي َ
َأ َفمَا نَحْنُ ِبمَيّتِينَ * إِلّا َموْتَتَنَا الْأُولَى َومَا نَحْنُ ِب ُمعَذّبِينَ * إِنّ َهذَا َل ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ * ِلمِ ْثلِ هَذَا
فَلْ َي ْع َملِ ا ْلعَامِلُونَ }
لما ذكر تعالى نعيمهم ،وتمام سرورهم ،بالمآكل والمشارب ،والزواج الحسان ،والمجالس
الحسنة ،ذكر تذاكرهم فيما بينهم ،ومطارحتهم للحاديث ،عن المور الماضية ،وأنهم ما زالوا في
المحادثة والتساؤل ،حتى أفضى ذلك بهم ،إلى أن قال قائل منهم { :إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ } في الدنيا،
ينكر البعث ،ويلومني على تصديقي به.
أي :يقول صاحب الجنة لخوانه :هذه قصتي ،وهذا خبري ،أنا وقريني ،ما زلت أنا مؤمنا
مصدقا ،وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث ،حتى متنا ،ثم بعثنا ،فوصلت أنا إلى ما ترون ،من
النعيم ،الذي أخبرتنا به الرسل ،وهو ل شك ،أنه قد وصل إلى العذاب.
فـ { َهلْ أَنْ ُتمْ مُطِّلعُونَ } لننظر إليه ،فنزداد غبطة وسرورا بما نحن فيه ،ويكون ذلك رَ ْأيَ عين؟
والظاهر من حال أهل الجنة ،وسرور بعضهم ببعض ،وموافقة بعضهم بعضا ،أنهم أجابوه لما
قال ،وذهبوا تبعا له ،للطلع على قرينه.
سوَاءِ ا ْلجَحِيمِ } أي :في وسط العذاب وغمراته ،والعذاب قد أحاط به.
{ فَاطّلَعَ } فرأى قرينه { فِي َ
فـ { قَالَ } له لئما على حاله ،وشاكرا للّه على نعمته أن نجاه من كيده { :تَاللّهِ إِنْ كِ ْدتَ
لَتُرْدِينِ } أي :تهلكني بسبب ما أدخلت عليّ من الشّبَه بزعمك.
علَى َب ْعضٍ يَتَسَاءَلُونَ } وحذف المعمول ،والمقام مقام لذة وسرور ،فدل
ضهُمْ َ
وقوله { :فََأقْ َبلَ َب ْع ُ
ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذون بالتحدث به ،والمسائل التي وقع فيها النزاع والشكال.
ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم ،والبحث عنه ،فوق اللذات الجارية في أحاديث
الدنيا ،فلهم من هذا النوع النصيب الوافر ،ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما
ل يمكن التعبير عنه.
فلما ذكر تعالى نعيم الجنة ،ووصفه بهذه الوصاف الجميلة ،مدحه ،وشوّق العاملين ،وحثّهم على
العمل فقال { :إِنّ هَذَا َل ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } الذي حصل لهم به كل خير ،وكل ما تهوى النفوس
وتشتهي ،واندفع عنهم به كل محذور ومكروه ،فهل فوز يطلب فوقه؟ أم هو غاية الغايات ،ونهاية
النهايات ،حيث حل عليهم رضا رب الرض والسماوات ،وفرحوا بقربه ،وتنعموا بمعرفته
واستروا برؤيته ،وطربوا لكلمه؟
{ ِلمِ ْثلِ َهذَا فَلْ َي ْع َملِ ا ْلعَامِلُونَ } فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس النفاس وأولى ما شمر إليه العارفون
الكياس ،والحسرة كل الحسرة ،أن يمضي على الحازم ،وقت من أوقاته ،وهو غير مشتغل
بالعمل ،الذي يقرب لهذه الدار ،فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟"
شجَ َرةٌ
جعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظّاِلمِينَ * إِ ّنهَا َ
{ َ { } 74 - 62أذَِلكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَ َرةُ ال ّزقّومِ * إِنّا َ
جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِ ّنهُمْ لَآكِلُونَ مِ ْنهَا َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ
صلِ الْ َ
تَخْرُجُ فِي َأ ْ
ج َعهُمْ لَإِلَى ا ْلجَحِيمِ * إِ ّنهُمْ َأ ْلفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالّينَ *
حمِيمٍ * ثُمّ إِنّ مَ ْر ِ
شوْبًا مِنْ َ
* ثُمّ إِنّ َلهُمْ عَلَ ْيهَا َل َ
ضلّ قَبَْل ُهمْ َأكْثَرُ الَْأوّلِينَ * وََلقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ
َفهُمْ عَلَى آثَا ِرهِمْ ُيهْرَعُونَ * وََلقَ ْد َ
كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ * إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْل ُمخَْلصِينَ }
{ َأذَِلكَ خَيْرٌ نُزُلًا } أي :ذلك النعيم الذي وصفناه لهل الجنة خير ،أم العذاب الذي يكون في
الجحيم من جميع أصناف العذاب؟ فأي الطعامين أولى؟ الذي وصف في الجنة { َأمْ } طعام أهل
جعَلْنَاهَا فِتْنَةً } أي عذابا ونكال { لِلظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر
النار؟ وهو { شَجَ َرةُ ال ّزقّومِ إِنّا َ
والمعاصي.
صلِ ا ْلجَحِيمِ } أي :وسطه فهذا مخرجها ،ومعدنها أشر المعادن وأسوؤها،
{ إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ َتخْرُجُ فِي َأ ْ
وشر المغرس ،يدل على شر الغراس وخسته ،ولهذا نبهنا اللّه على شرها بما ذكر أين تنبت به،
وبما ذكر من صفة ثمرتها.
وأنها كـ { رُءُوسُ الشّيَاطِينِ } فل تسأل بعد هذا عن طعمها ،وما تفعل في أجوافهم وبطونهم،
وليس لهم عنها مندوحة ول معدل
ولهذا قال { :فَإِ ّنهُمْ لَآكِلُونَ مِ ْنهَا َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ } فهذا طعام أهل النار ،فبئس الطعام
حمِيمٍ }
شوْبًا مِنْ َ
طعامهم ،ثم ذكر شرابهم فقال { :ثُمّ إِنّ َلهُمْ عَلَ ْيهَا } أي :على أثر هذا الطعام { َل َ
شوِي ا ْلوُجُوهَ بِئْسَ
أي :ماء حارا ،قد انتهى ،كما قال تعالى { :وَإِنْ َيسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
حمِيمًا َفقَطّعَ َأ ْمعَاءَهُمْ }
سقُوا مَاءً َ
ب وَسَا َءتْ مُرْ َت َفقًا } وكما قال تعالى { :وَ ُ
الشّرَا ُ
وكأنه قيل :ما الذي أوصلهم إلى هذه الدار؟ فقال { :إِ ّن ُهمْ أَ ْل َفوْا } أي :وجدوا { آبَاءَهُ ْم ضَالّينَ َف ُهمْ
عَلَى آثَارِ ِهمْ ُيهْرَعُونَ } أي :يسرعون في الضلل ،فلم يلتفتوا إلى ما دعتهم إليه الرسل ،ول إلى
ما حذرتهم عنه الكتب ،ول إلى أقوال الناصحين ،بل عارضوهم بأن قالوا { :إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى آثَا ِرهِمْ ُمقْتَدُونَ }
ضلّ قَبَْلهُمْ } أي :قبل هؤلء المخاطبين { َأكْثَرُ الَْأوّلِينَ } وقليل منهم آمن واهتدى.
{ وََلقَ ْد َ
{ فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْلمُنْذَرِينَ } كانت عاقبتهم الهلك ،والخزي ،والفضيحة ،فليحذر هؤلء
أن يستمروا على ضللهم ،فيصيبهم مثل ما أصابهم.
ولما كان المنذرون ليسوا كلهم ضالين ،بل منهم من آمن وأخلص الدين للّه ،استثناه اللّه من
خَلصِينَ } أي :الذين أخلصهم اللّه ،وخصهم برحمته لخلصهم،
الهلك فقال { :إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُ ْ
فإن عواقبهم صارت حميدة.
وقالَ { :ربّ ا ْنصُرْنِي عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْل ُمفْسِدِينَ } فاستجاب اللّه له ،ومدح تعالى نفسه فقال { :فَلَ ِن ْعمَ
ا ْلمُجِيبُونَ } لدعاء الداعين ،وسماع تبتلهم وتضرعهم ،أجابه إجابة طابق ما سأل ،نجاه وأهله من
الكرب العظيم ،وأغرق جميع الكافرين ،وأبقى نسله وذريته متسلسلين ،فجميع الناس من ذرية
نوح عليه السلم ،وجعل له ثناء حسنا مستمرا إلى وقت الخرين ،وذلك لنه محسن في عبادة
الخالق ،محسن إلى الخلق ،وهذه سنته تعالى في المحسنين ،أن ينشر لهم من الثناء على حسب
إحسانهم.
ودل قوله { :إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُمؤْمِنِينَ } أن اليمان أرفع منازل العباد وأنه مشتمل على جميع
شرائع الدين وأصوله وفروعه ،لن اللّه مدح به خواص خلقه.
{ { } 113 - 83وَإِنّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } إلى آخر القصة ،أي :وإن من شيعة نوح عليه
السلم ،ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة ،ودعوة الخلق إلى اللّه ،وإجابة الدعاء ،إبراهيم
الخليل عليه السلم.
{ ِإذْ جَاءَ رَبّهُ ِبقَلْبٍ سَلِيمٍ } من الشرك والشبه ،والشهوات المانعة من تصور الحق ،والعمل به،
وإذا كان قلب العبد سليما ،سلم من كل شر ،وحصل له كل خير ،ومن سلمته أنه سليم من غش
الخلق وحسدهم ،وغير ذلك من مساوئ الخلق ،ولهذا نصح الخلق في اللّه ،وبدأ بأبيه وقومه
فقالِ { :إذْ قَالَ لِأَبِي ِه َو َق ْومِهِ مَاذَا َتعْ ُبدُونَ } هذا استفهام بمعنى النكار ،وإلزام لهم بالحجة.
{ أَ ِئ ْفكًا آِل َهةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ } أي :أتعبدون [من دونه] آلهة كذبا ،ليست بآلهة ،ول تصلح للعبادة،
فما ظنكم برب العالمين ،أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب
على القامة على شركهم.
وما الذي ظننتم برب العالمين ،من النقص حتى جعلتم له أندادا وشركاء.
فأراد عليه السلم ،أن يكسر أصنامهم ،ويتمكن من ذلك ،فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم ،لما
ذهبوا إلى عيد من أعيادهم ،فخرج معهم.
{ فَرَاغَ إِلَى آِلهَ ِتهِمْ } أي :أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغةَ { ،فقَالَ } متهكما بها { َألَا
طقُونَ } أي :فكيف يليق أن تعبد ،وهي أنقص من الحيوانات ،التي تأكل أو
تَ ْأكُلُونَ مَا َلكُمْ لَا تَ ْن ِ
تكلم؟ فهذه جماد ل تأكل ول تكلم.
{ فَرَاغَ عَلَ ْيهِمْ ضَرْبًا بِالْ َيمِينِ } أي :جعل يضربها بقوته ونشاطه ،حتى جعلها جذاذا ،إل كبيرا لهم،
لعلهم إليه يرجعون.
{ فََأقْبَلُوا إِلَ ْيهِ يَ ِزفّونَ } أي :يسرعون ويهرعون ،أي :يريدون أن يوقعوا به ،بعدما بحثوا وقالوا{ :
مَنْ َف َعلَ هَذَا بِآِلهَتِنَا إِنّهُ َلمِنَ الظّاِلمِينَ }
س ِمعْنَا فَتًى َي ْذكُرُهُمْ ُيقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } يقول { :تَاللّهِ لََأكِيدَنّ َأصْنَا َمكُمْ َبعْدَ أَنْ ُتوَلّوا
وقيل لهم { َ
جعُوا إِلَى
طقُونَ فَ َر َ
مُدْبِرِينَ } فوبخوه ولموه ،فقالَ { :بلْ َفعَلَهُ كَبِيرُ ُهمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَن ِ
طقُونَ قَالَ َأفَ َتعْ ُبدُونَ
عِل ْمتَ مَا َهؤُلَاءِ يَن ِ
سهِمْ َلقَدْ َ
سهِمْ َفقَالُوا إِ ّنكُمْ أَنْتُمْ الظّاِلمُونَ ثُمّ ُنكِسُوا عَلَى رُءُو ِ
أَنفُ ِ
مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَن َف ُعكُمْ شَيْئًا وَلَا َيضُ ّركُمْ } الية.
و { قَالَ } هنا { :أَ َتعْ ُبدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي :تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فكيف تعبدونهم ،وأنتم
الذين صنعتموهم ،وتتركون الخلص للّه؟ الذي { خََل َقكُ ْم َومَا َت ْعمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا } أي:
جحِيمِ } جزاء على ما فعل ،من تكسير آلهتهم.
عاليا مرتفعا ،وأوقدوا فيها النار { فَأَ ْلقُوهُ فِي الْ َ
{ وَ } لما فعلوا فيه هذا الفعل ،وأقام عليهم الحجة ،وأعذر منهم { ،قال إِنّي ذَا ِهبٌ إِلَى رَبّي } أي:
مهاجر إليه ،قاصد إلى الرض المباركة أرض الشام { .سَ َيهْدِينِ } يدلني إلى ما فيه الخير لي ،من
أمر ديني ودنياي ،وقال في الية الخرى { :وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَأَدْعُو رَبّي
شقِيّا }
عَسَى أَلّا َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ
{ َربّ َهبْ لِي } ولدا يكون { مِنَ الصّالِحِينَ } وذلك عند ما أيس من قومه ،ولم ير فيهم خيرا،
دعا اللّه أن يهب له غلما صالحا ،ينفع اللّه به في حياته ،وبعد مماته ،فاستجاب اللّه له وقال:
{ فَ َبشّرْنَاهُ ِبغُلَامٍ حَلِيمٍ } وهذا إسماعيل عليه السلم بل شك ،فإنه ذكر بعده البشارة [بإسحاق ،ولن
ن وَرَاءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ } فدل على أن
ق َومِ ْ
سحَا َ
اللّه تعالى قال في بشراه بإسحاق { فَبَشّرْنَاهَا] بِإِ ْ
إسحاق غير الذبيح ،ووصف اللّه إسماعيل ،عليه السلم بالحلم ،وهو يتضمن الصبر ،وحسن
الخلق ،وسعة الصدر والعفو عمن جنى.
س ْعيَ } أي :أدرك أن يسعى معه ،وبلغ سنا يكون في الغالب ،أحب ما
{ فََلمّا بََلغَ } الغلم { َمعَهُ ال ّ
يكون لوالديه ،قد ذهبت مشقته ،وأقبلت منفعته ،فقال له إبراهيم عليه السلم { :إِنّي أَرَى فِي ا ْلمَنَامِ
حكَ } أي :قد رأيت في النوم والرؤيا ،أن اللّه يأمرني بذبحك ،ورؤيا النبياء وحي
أَنّي أَذْ َب ُ
{ فَا ْنظُرْ مَاذَا تَرَى } فإن أمر اللّه تعالى ،ل بد من تنفيذه { ،قَالَ } إسماعيل صابرا محتسبا،
جدُنِي إِنْ
مرضيا لربه ،وبارا بوالده { :يَا أَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا ُت ْؤمَرُ } أي[ :امض] لما أمرك اللّه { سَتَ ِ
شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ } أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر ،وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى،
لنه ل يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى.
{ فََلمّا َأسَْلمَا } أي :إبراهيم وابنه إسماعيل ،جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده ،امتثال لمر ربه ،وخوفا
من عقابه ،والبن قد وطّن نفسه على الصبر ،وهانت عليه في طاعة ربه ،ورضا والده { ،وَتَلّهُ
لِلْجَبِينِ } أي :تل إبراهيم إسماعيل على جبينه ،ليضجعه فيذبحه ،وقد انكب لوجهه ،لئل ينظر
وقت الذبح إلى وجهه.
{ وَنَادَيْنَاهُ } في تلك الحال المزعجة ،والمر المدهش { :أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَ ْد صَ ّد ْقتَ } أي :قد فعلت
ما أمرت به ،فإنك وطّنت نفسك على ذلك ،وفعلت كل سبب ،ولم يبق إل إمرار السكين على حلقه
{ إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ } في عبادتنا ،المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم.
{ إِنّ هَذَا } الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلم { َل ُهوَ الْبَلَاءُ ا ْلمُبِينُ } أي :الواضح ،الذي تبين به
صفاء إبراهيم ،وكمال محبته لربه وخلته ،فإن إسماعيل عليه السلم لما وهبه اللّه لبراهيم ،أحبه
حبا شديدا ،وهو خليل الرحمن ،والخلة أعلى أنواع المحبة ،وهو منصب ل يقبل المشاركة
ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب ،فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه
إسماعيل ،أراد تعالى أن يصفي وُدّه ويختبر خلته ،فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه ،فلما
قدّم حب اللّه ،وآثره على هواه ،وعزم على ذبحه ،وزال ما في القلب من المزاحم ،بقي الذبح ل
ن َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ عَظِيمٍ } أي :صار بدله ذبح من الغنم
فائدة فيه ،فلهذا قال { :إِنّ هَذَا َل ُهوَ الْ َبلَاءُ ا ْلمُبِي ُ
عظيم ،ذبحه إبراهيم ،فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لسماعيل ،ومن جهة أنه من جملة
العبادات الجليلة ،ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.
سلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي :وأبقينا عليه ثناء صادقا في الخرين ،كما
{ وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ َ
كان في الولين ،فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلم ،فإنه [فيه] محبوب معظم مثني عليه.
طفَى }
حمْدُ لِلّ ِه وَسَلَامٌ عَلَى عِبَا ِدهِ الّذِينَ اصْ َ
{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي :تحيته عليه كقولهُ { :قلِ ا ْل َ
{ إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه ،ومعاملة خلقه ،أن نفرج عنهم الشدائد ،ونجعل لهم
العاقبة ،والثناء الحسن.
{ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } بما أمر اللّه باليمان به ،الذين بلغ بهم اليمان إلى درجة اليقين ،كما
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ }
قال تعالىَ { :وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
{ وَبَشّرْنَاهُ بِِإسْحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّاِلحِينَ } هذه البشارة الثانية بإسحاق ،الذي من ورائه يعقوب ،فبشر
بوجوده وبقائه ،ووجود ذريته ،وكونه نبيا من الصالحين ،فهي بشارات متعددة.
{ وَبَا َركْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى ِإسْحَاقَ } أي :أنزلنا عليهما البركة ،التي هي النمو والزيادة في علمهما
وعملهما وذريتهما ،فنشر اللّه من ذريتهما ثلث أمم عظيمة :أمة العرب من ذرية إسماعيل ،وأمة
ن وَظَاِلمٌ لِ َنفْسِهِ مُبِينٌ } أي :منهم
بني إسرائيل ،وأمة الروم من ذرية إسحاقَ { .ومِنْ ذُرّيّ ِت ِهمَا ُمحْسِ ٌ
الصالح والطالح ،والعادل والظالم الذي تبين ظلمه ،بكفره وشركه ،ولعل هذا من باب دفع اليهام،
فإنه لما قال { :وَبَا َركْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } اقتضى ذلك البركة في ذريتهما ،وأن من تمام
البركة ،أن تكون الذرية كلهم محسنين ،فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا وظالما ،واللّه أعلم.
يذكر تعالى مِنّتهُ على عبديه ورسوليه ،موسى ،وهارون ابني عمران ،بالنبوة والرسالة ،والدعوة
إلى اللّه تعالى ،ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون ،ونصرهما عليه ،حتى أغرقه اللّه وهم
ينظرون ،وإنزال اللّه عليهما الكتاب المستبين ،وهو التوراة التي فيها الحكام والمواعظ وتفصيل
كل شيء ،وأن اللّه هداهما الصراط المستقيم ،بأن شرع لهما دينا ذا أحكام وشرائع مستقيمة
موصلة إلى اللّه ،ومَنّ عليهما بسلوكه.
علَى مُوسَى وَهَارُونَ } أي :أبقى عليهما ثناء حسنا ،وتحية في
{ وَتَ َركْنَا عَلَ ْي ِهمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ َ
حسِنِينَ إِ ّن ُهمَا مِنْ عِبَادِنَا
الخرين ،ومن باب أولى وأحرى في الولين { إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
{ { } 132 - 123وَإِنّ إِلْيَاسَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ * ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ أَلَا تَ ّتقُونَ * أَتَدْعُونَ َبعْلًا وَتَذَرُونَ
حضَرُونَ * إِلّا عِبَادَ اللّهِ
حسَنَ الْخَاِلقِينَ * اللّهَ رَ ّبكُمْ وَرَبّ آبَا ِئ ُكمُ الَْأوّلِينَ * َفكَذّبُوهُ فَإِ ّنهُمْ َل ُم ْ
أَ ْ
حسِنِينَ * إِنّهُ
ا ْلمُخَْلصِينَ * وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى ِإلْ يَاسِينَ * إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
يمدح تعالى عبده ورسوله ،إلياس عليه الصلة والسلم ،بالنبوة والرسالة ،والدعوة إلى اللّه ،وأنه
أمر قومه بالتقوى ،وعبادة اللّه وحده ،ونهاهم عن عبادتهم ،صنما لهم يقال له "بعل" وتركهم عبادة
اللّه ،الذي خلق الخلق ،وأحسن خلقهم ،ورباهم فأحسن تربيتهم ،وأدرّ عليهم النعم الظاهرة
والباطنة ،وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه ،إلى عبادة صنم ،ل يضر ،ول ينفع ،ول يخلق،
ول يرزق ،بل ل يأكل ول يتكلم؟" وهل هذا إل من أعظم الضلل والسفه والغي؟"
حضَرُونَ } أي يوم
{ " َفكَذّبُوهُ" } فيما دعاهم إليه ،فلم ينقادوا له ،قال اللّه متوعدا لهم { :فَإِ ّن ُهمْ َلمُ ْ
القيامة في العذاب ،ولم يذكر لهم عقوبة دنيوية.
{ ِإلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْل ُمخَْلصِينَ } أي :الذين أخلصهم اللّه ،ومنّ عليهم باتباع نبيهم ،فإنهم غير محضرين
في العذاب ،وإنما لهم من اللّه جزيل الثواب.
{ وَتَ َركْنَا عَلَيْهِ } أي :على إلياس { فِي الْآخِرِينَ } ثناء حسنا.
{ سَلَامٌ عَلَى ِإلْ يَاسِينَ } أي :تحية من اللّه ،ومن عباده عليه.
{ إِنّا كَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } فأثنى اللّه عليه كما أثنى على إخوانه
صلوات اللّه وسلمه عليهم أجمعين.
وهذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله ،لوط بالنبوة والرسالة ،ودعوته إلى اللّه قومه ،ونهيهم
عن الشرك ،وفعل الفاحشة.
فلما لم ينتهوا ،نجاه اللّه وأهله أجمعين ،فسروا ليل فنجوا.
{ ِإلّا عَجُوزًا فِي ا ْلغَابِرِينَ } أي :الباقين المعذبين ،وهي زوجة لوط لم تكن على دينه.
وهذا ثناء منه تعالى ،على عبده ورسوله ،يونس بن متى ،كما أثنى على إخوانه المرسلين ،بالنبوة
والرسالة ،والدعوة إلى اللّه ،وذكر تعالى عنه ،أنه عاقبه عقوبة دنيوية ،أنجاه منها بسبب إيمانه
وأعماله الصالحة ،فقالِ { :إذْ أَ َبقَ }
أي :من ربه مغاضبا له ،ظانا أنه ل يقدر عليه ،ويحبسه في بطن الحوت ،ولم يذكر اللّه ما
غاضب عليه ،ول ذنبه الذي ارتكبه ،لعدم فائدتنا بذكره ،وإنما فائدتنا بما ُذكّرنا عنه أنه أذنب،
وعاقبه اللّه مع كونه من الرسل الكرام ،وأنه نجاه بعد ذلك ،وأزال عنه الملم ،وقيض له ما هو
سبب صلحه.
فلما أبق لجأ { إِلَى ا ْلفُ ْلكِ ا ْلمَشْحُونِ } بالركاب والمتعة ،فلما ركب مع غيره ،والفلك شاحن ،ثقلت
السفينة ،فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركبان ،وكأنهم لم يجدوا لحد مزية في ذلك ،فاقترعوا على
أن من قرع وغلب ،ألقي في البحر عدل من أهل السفينة ،وإذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه.
{ فََلوْلَا أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْلمُسَبّحِينَ } أي :في وقته السابق بكثرة عبادته لربه ،وتسبيحه ،وتحميده ،وفي
بطن الحوت حيث قال { :لَا إَِلهَ إِلّا أَ ْنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }
{ َللَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } أي :لكانت مقبرته ،ولكن بسبب تسبيحه وعبادته للّه ،نجاه اللّه
تعالى ،وكذلك ينجي اللّه المؤمنين ،عند وقوعهم في الشدائد.
{ فَنَ َبذْنَاهُ بِا ْلعَرَاءِ } بأن قذفه الحوت من بطنه بالعراء ،وهي الرض الخالية العارية من كل أحد،
سقِيمٌ } أي :قد سقم ومرض ،بسبب حبسه في
بل ربما كانت عارية من الشجار والظلل { .وَ ُهوَ َ
بطن الحوت ،حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة.
شجَ َرةً مِنْ َيقْطِينٍ } تظله بظلها الظليل ،لنها بادرة باردة الظلل ،ول يسقط عليها
{ وَأَنْبَتْنَا عَلَ ْيهِ َ
ذباب ،وهذا من لطفه به ،وبره.
ثم لطف به لطفا آخر ،وامْتَنّ عليه مِنّة عظمى ،وهو أنه أرسله { إِلَى مِائَةِ أَ ْلفٍ } من الناس { َأوْ
يَزِيدُونَ } عنها ،والمعنى أنهم إن ما زادوا لم ينقصوا ،فدعاهم إلى اللّه تعالى.
{ َفمَ ّتعْنَا ُهمْ إِلَى حِينٍ } بأن صرف اللّه عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه ،قال تعالى { :فََلوْلَا كَا َنتْ
عذَابَ الْخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا
شفْنَا عَ ْنهُمْ َ
قَرْيَةٌ آمَ َنتْ فَ َن َف َعهَا إِيمَا ُنهَا ِإلّا َقوْمَ يُونُسَ َلمّا آمَنُوا كَ َ
َومَ ّتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
ت وََلهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خََلقْنَا ا ْلمَلَا ِئكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَا ِهدُونَ *
{ { } 157 - 149فَاسْ َتفْ ِتهِمْ أَلِرَ ّبكَ الْبَنَا ُ
طفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا َلكُمْ كَ ْيفَ
أَلَا إِ ّنهُمْ مِنْ ِإ ْف ِكهِمْ لَ َيقُولُونَ * وَلَدَ اللّ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ * َأصْ َ
ح ُكمُونَ * َأفَلَا َت َذكّرُونَ * َأمْ َلكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا ِبكِتَا ِبكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ }
تَ ْ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم { :فَاسْ َتفْ ِتهِمْ } أي :اسأل المشركين باللّه غيره ،الذين
عبدوا الملئكة ،وزعموا أنها بنات اللّه ،فجمعوا بين الشرك باللّه ،ووصفه بما ل يليق بجلله،
{ َألِرَ ّبكَ الْبَنَاتُ وََلهُمُ الْبَنُونَ } أي :هذه قسمة ضيزى ،وقول جائر ،من جهة جعلهم الولد للّه
تعالى ،ومن جهة جعلهم أردأ القسمين وأخسهما له وهو البنات التي ل يرضونهن لنفسهم ،كما
جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَا َن ُه وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ } ومن جهة جعلهم الملئكة
قال في الية الخرى { وَيَ ْ
بنات اللّه ،وحكمهم بذلك.
قال تعالى في بيان كذبهم { :أَمْ خََلقْنَا ا ْلمَلَا ِئكَةَ إِنَاثًا وَ ُهمْ شَاهِدُونَ } خلقهم؟ أي :ليس المر كذلك،
فإنهم ما شهدوا خلقهم ،فدل على أنهم قالوا هذا القول ،بل علم ،بل افتراء على اللّه ،ولهذا قال:
ن وَلَدَ اللّ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }
{ َألَا إِ ّنهُمْ مِنْ ِإ ْف ِكهِمْ } أي :كذبهم الواضح { لَ َيقُولُو َ
ح ُكمُونَ } هذا الحكم الجائر.
طفَى } أي :اختار { الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا َلكُمْ كَ ْيفَ تَ ْ
صَ{ َأ ْ
{ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ } وتميزون هذا القول الباطل الجائر ،فإنكم لو تذكرتم لم تقولوا هذا القول.
{ َأمْ َلكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } أي :حجة ظاهرة على قولكم ،من كتاب أو رسول.
وكل هذا غير واقع ،ولهذا قال { :فَأْتُوا ِبكِتَا ِبكُمْ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } فإن من يقول قول ل يقيم عليه
حجة شرعية ،فإنه كاذب متعمد ،أو قائل على اللّه بل علم.
حضَرُونَ * سُبْحَانَ
جعَلُوا بَيْنَ ُه وَبَيْنَ ا ْلجِنّةِ َنسَبًا وََلقَدْ عَِل َمتِ الْجِنّةُ إِ ّنهُمْ َل ُم ْ
{ { } 160 - 158وَ َ
صفُونَ * إِلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْلمُخَْلصِينَ }
عمّا َي ِ
اللّهِ َ
أي :جعل هؤلء المشركون باللّه بين اللّه وبين الجنة نسبا ،حيث زعموا أن الملئكة بنات اللّه،
وأن أمهاتهم سروات الجن ،والحال أن الجنة قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه[ ،ليجازيهم]
عبادا أذلء ،فلو كان بينهم وبينه نسب ،لم يكونوا كذلك.
{ سُبْحَانَ اللّهِ } الملك العظيم ،الكامل الحليم ،عما يصفه به المشركون من كل وصف أوجبه
كفرهم وشركهم.
{ ِإلّا عِبَادَ اللّهِ ا ْل ُمخَْلصِينَ } فإنه لم ينزه نفسه عما وصفوه به ،لنهم لم يصفوه إل بما يليق بجلله،
وبذلك كانوا مخلصين.
{ { } 163 - 161فَإِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ * مَا أَنْ ُتمْ عَلَيْهِ ِبفَاتِنِينَ * إِلّا مَنْ ُهوَ صَالِي ا ْلجَحِيمِ }
أي :إنكم أيها المشركون ومن عبدتموه مع اللّه ،ل تقدرون أن تفتنوا وتضلوا أحدا إل من قضى
اللّه أنه من أهل الجحيم ،فينفذ فيه القضاء اللهي ،والمقصود من هذا ،بيان عجزهم وعجز آلهتهم
عن إضلل أحد ،وبيان كمال قدرة اللّه تعالى ،أي :فل تطمعوا بإضلل عباد اللّه المخلصين
وحزبه المفلحين.
{ َ { } 166 - 164ومَا مِنّا إِلّا لَهُ َمقَامٌ َمعْلُومٌ * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافّونَ * وَإِنّا لَ َنحْنُ ا ْلمُسَبّحُونَ }
هذا [فيه] بيان براءة الملئكة عليهم السلم ،عما قاله فيهم المشركون ،وأنهم عباد اللّه ،ل يعصونه
طرفة عين ،فما منهم من أحد إل له مقام وتدبير قد أمره اللّه به ل يتعداه ول يتجاوزه ،وليس لهم
من المر شيء.
{ وَإِنّا لَ َنحْنُ الصّافّونَ } في طاعة اللّه وخدمته.
{ وَإِنّا لَ َنحْنُ ا ْلمُسَبّحُونَ } ل عما ل يليق به .فكيف -مع هذا -يصلحون أن يكونوا شركاء للّه؟!
تعالى ال.
{ { } 182 - 167وَإِنْ كَانُوا لَ َيقُولُونَ * َلوْ أَنّ عِنْدَنَا ِذكْرًا مِنَ الَْأوّلِينَ * َلكُنّا عِبَادَ اللّهِ
س ْوفَ َيعَْلمُونَ * وََلقَدْ سَ َبقَتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ
ا ْلمُخَْلصِينَ * َف َكفَرُوا بِهِ فَ َ
ا ْلمَ ْنصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ * فَ َتوَلّ عَ ْنهُمْ حَتّى حِينٍ } إلى آخر السورة.
يخبر تعالى أن هؤلء المشركين ،يظهرون التمني ،ويقولون :لو جاءنا من الذكر والكتب ،ما جاء
الولين ،لخلصنا للّه العبادة ،بل لكنا المخلصين على الحقيقة.
سوْفَ
وهم كَذَبَة في ذلك ،فقد جاءهم أفضل الكتب فكفروا به ،فعلم أنهم متمردون على الحق { َف َ
َيعَْلمُونَ } العذاب حين يقع بهم ،ول يحسبوا أيضا أنهم في الدنيا غالبون ،بل قد سبقت كلمة اللّه
التي ل مرد لها ول مخالف لها لعباده المرسلين وجنده المفلحين ،أنهم الغالبون لغيرهم،
المنصورون من ربهم ،نصرا عزيزا ،يتمكنون فيه من إقامة دينهم ،وهذه بشارة عظيمة لمن
اتصف بأنه من جند اللّه ،بأن كانت أحواله مستقيمة ،وقاتل من أمر بقتالهم ،أنه غالب منصور.
ثم أمر رسوله بالعراض عمن عاندوا ،ولم يقبلوا الحق ،وأنه ما بقي إل انتظار ما يحل بهم من
س ْوفَ يُ ْبصِرُونَ } من يحل به النكال ،فإنه سيحل بهم.
العذاب ،ولهذا قال { :وَأَ ْبصِرْ ُهمْ فَ َ
{ فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ } أي :نزل عليهم ،وقريبا منهم { َفسَا َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ } لنه صباح الشر
والعقوبة ،والستئصال.
ولما ذكر في هذه السورة ،كثيرا من أقوالهم الشنيعة ،التي وصفوه بها ،نزه نفسه عنها فقال:
{ سُبْحَانَ رَ ّبكَ } أي :تنزه وتعالى { َربّ ا ْلعِ ّزةِ } [أي ]:الذي عز فقهر كل شيء ،واعتز عن كل
سوء يصفونه به.
{ وَسَلَامٌ عَلَى ا ْلمُرْسَلِينَ } لسلمتهم من الذنوب والفات ،وسلمة ما وصفوا به فاطر الرض
والسماوات.
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } اللف واللم ،للستغراق ،فجميع أنواع الحمد ،من الصفات الكاملة
{ وَا ْل َ
العظيمة ،والفعال التي ربى بها العالمين ،وأدرّ عليهم فيها النعم ،وصرف عنهم بها النقم ،ودبرهم
تعالى في حركاتهم وسكونهم ،وفي جميع أحوالهم ،كلها للّه تعالى ،فهو المقدس عن النقص،
المحمود بكل كمال ،المحبوب المعظم ،ورسله سالمون مسلم عليهم ،ومن اتبعهم في ذلك له
السلمة في الدنيا والخرة[ .وأعداؤه لهم الهلك والعطب في الدنيا والخرة]
تم تفسير سورة الصافات في 6شوال سنة 1343هـ على يد جامعه:عبد الرحمن بن ناصر
السعدي وصلى اللّه على سيدنا محمد وسلم تسليما والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات .المجلد
السابع من تيسير الكريم المنان في تفسير آيات القرآن لجامعه :عبد الرحمن بن ناصر السعدي
غفر ال له ولوالديه وجميع المسلمين.
تفسير سورة ص
وهي مكية
حمَنِ الرّحِي ِم ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ * َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي عِ ّزةٍ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 11 - 1بِ ْ
شقَاقٍ * كَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَبِْلهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَا َدوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَ ُهمْ مُنْذِرٌ مِ ْنهُمْ
وَ ِ
طلَقَ ا ْلمَلَأُ
شيْءٌ عُجَابٌ * وَانْ َ
حدًا إِنّ هَذَا َل َ
ج َعلَ الْآِلهَةَ إَِلهًا وَا ِ
َوقَالَ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ * َأ َ
س ِمعْنَا ِبهَذَا فِي ا ْلمِلّةِ الْآخِ َرةِ إِنْ هَذَا
شيْءٌ يُرَادُ * مَا َ
مِ ْنهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آِلهَ ِتكُمْ إِنّ هَذَا لَ َ
عذَابِ * أَمْ
شكّ مِنْ ِذكْرِي َبلْ َلمّا َيذُوقُوا َ
إِلّا اخْتِلَاقٌ * َأؤُنْزِلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ مِنْ بَيْنِنَا َبلْ هُمْ فِي َ
ت وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا فَلْيَرْ َتقُوا
سمَاوَا ِ
حمَةِ رَ ّبكَ ا ْلعَزِيزِ ا ْلوَهّابِ * أَمْ َلهُمْ مُ ْلكُ ال ّ
عِنْدَ ُهمْ خَزَائِنُ رَ ْ
فِي الْأَسْبَابِ * جُ ْندٌ مَا هُنَاِلكَ َمهْزُومٌ مِنَ الَْأحْزَابِ }
هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن ،وحال المكذبين به معه ومع من جاء به ،فقال { :ص
وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ } أي :ذي القدر العظيم والشرف ،المُ َذكّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم،
بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله ،ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية ،ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء،
فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه.
وهنا ل يحتاج إلى ذكر المقسم عليه ،فإن حقيقة المر ،أن المقسم به وعليه شيء واحد ،وهو هذا
القرآن ،الموصوف بهذا الوصف الجليل ،فإذا كان القرآن بهذا الوصف ،علم ضرورة العباد إليه،
فوق كل ضرورة ،وكان الواجب عليهم تَلقّيه باليمان والتصديق ،والقبال على استخراج ما
يتذكر به منه.
شقَاقٍ } عزة
فهدى اللّه من هدى لهذا ،وأبى الكافرون به وبمن أنزله ،وصار معهم { عِ ّز ٍة وَ ِ
وامتناع عن اليمان به ،واستكبار وشقاق له ،أي :مشاقة ومخاصمة في رده وإبطاله ،وفي القدح
بمن جاء به.
فتوعدهم بإهلك القرون الماضية المكذبة بالرسل ،وأنهم حين جاءهم الهلك ،نادوا واستغاثوا في
صرف العذاب عنهم ولكن { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أى :وليس الوقت ،وقت خلص مما وقعوا فيه،
ول فرج لما أصابهم ،فَلْ َيحْذَرْ هؤلء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم ،فيصيبهم ما أصابهم.
عجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُ ْنذِرٌ مِ ْنهُمْ } أي :عجب هؤلء المكذبون في أمر ليس محل عجب ،أن
{ وَ َ
جاءهم منذر منهم ،ليتمكنوا من التلقي عنه ،وليعرفوه حق المعرفة ،ولنه من قومهم ،فل تأخذهم
النخوة القومية عن اتباعه ،فهذا مما يوجب الشكر عليهم ،وتمام النقياد له.
ولكنهم عكسوا القضية ،فتعجبوا تعجب إنكار َوقَالُوا من كفرهم وظلمهمَ { :هذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ }
{ وَا ْنطَلَقَ ا ْلمَلَأُ مِ ْنهُمْ } المقبول قولهم ،محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك { .أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آِلهَ ِتكُمْ } أى :استمروا عليها ،وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى
عبادتها ،ول يردكم عنها راد ،ول يصدنكم عن عبادتها ،صاد { .إِنّ هَذَا } الذي جاء به محمد،
شيْءٌ يُرَادُ } أي :يقصد ،أي :له قصد ونية غير صالحة في ذلك ،وهذه
من النهي عن عبادتها { َل َ
شبهة ل تروج إل على السفهاء ،فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق ،ل يرد قوله بالقدح في
نيته ،فنيته وعمله له ،وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده ،من الحجج والبراهين ،وهم قصدهم،
أن محمدا ،ما دعاكم إلى ما دعاكم ،إل ليرأس فيكم ،ويكون معظما عندكم ،متبوعا.
س ِمعْنَا ِبهَذَا } القول الذي قاله ،والدين الذي دعا إليه { فِي ا ْلمِلّةِ الْآخِ َرةِ } أي :في الوقت
{ مَا َ
الخير ،فل أدركنا عليه آباءنا ،ول آباؤنا أدركوا آباءهم عليه ،فامضوا على الذي مضى عليه
آباؤكم ،فإنه الحق ،وما هذا الذي دعا إليه محمد إل اختلق اختلقه ،وكذب افتراه ،وهذه أيضا
شبهة من جنس شبهتهم الولى ،حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول ،وهو أنه قول
مخالف لما عليه آباؤهم الضالون ،فأين في هذا ما يدل على بطلنه؟.
{ َأءُن ِزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي :ما الذي فضله علينا ،حتى ينزل الذكر عليه من دوننا،
ويخصه اللّه به؟ وهذه أيضا شبهة ،أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إل بهذا
الوصفَ ،يمُنّ اللّه عليهم برسالته ،ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه ،ولهذا ،لما كانت هذه القوال
الصادرة منهم ل يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول ،أخبر تعالى من أين صدرت ،وأنهم
شكّ مِنْ ِذكْرِي } ليس عندهم علم ول بينة.
{ فِي َ
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به ،وجاءهم الحق الواضح ،وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم،
قالوا ما قالوا من تلك القوال لدفع الحق ،ل عن بينة من أمرهم ،وإنما ذلك من باب الئتفاك
منهم.
ومن المعلوم ،أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد ،إن قوله غير مقبول ،ول قادح أدنى
قدح في الحق ،وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلمه ،ولهذا توعدهم بالعذاب فقالَ { :بلْ َلمّا
يَذُوقُوا عَذَابِ } أي :قالوا هذه القوال ،وتجرأوا عليها ،حيث كانوا ممتعين في الدنيا ،لم يصبهم
من عذاب اللّه شيء ،فلو ذاقوا عذابه ،لم يتجرأوا.
حمَةِ رَ ّبكَ ا ْلعَزِيزِ ا ْلوَهّابِ } فيعطون منها من شاءوا ،ويمنعون منها من
{ َأمْ عِنْ َدهُمْ خَزَائِنُ َر ْ
شاءوا ،حيث قالوا { :أَءُن ِزلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي :هذا فضله تعالى ورحمته ،وليس ذلك
بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون { .فَلْيَرْ َتقُوا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
{ َأمْ َلهُمْ مُ ْلكُ ال ّ
فِي الْأَسْبَابِ } الموصلة لهم إلى السماء ،فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه ،فكيف يتكلمون ،وهم
أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند ،والتعاون على نصر الباطل
وخذلن الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود ل يتم لهم ،بل سعيهم خائب ،وجندهم مهزوم ،ولهذا
قال { :جُ ْندٌ مَا هُنَاِلكَ َمهْزُومٌ مِنَ الَْأحْزَابِ }
ط وََأصْحَابُ
{ { } 15 - 12كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ َوفِرْعَوْنُ ذُو الَْأوْتَادِ * وَ َثمُودُ َوقَوْمُ لُو ٍ
ح َدةً
ح ًة وَا ِ
عقَابِ * َومَا يَنْظُرُ َهؤُلَاءِ إِلّا صَيْ َ
سلَ َفحَقّ ِ
الْأَ ْيكَةِ أُولَ ِئكَ الَْأحْزَابُ * إِنْ ُكلّ إِلّا كَ ّذبَ الرّ ُ
مَا َلهَا مِنْ َفوَاقٍ }
يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ما فعل بالمم من قبلهم ،الذين كانوا أعظم قوة منهم وتحزبا على
عوْنُ ذُو الَْأوْتَادِ } أى :الجنود العظيمة ،والقوة الهائلة.
ح وَعَاد } قوم هود { َوفِرْ َ
الباطلَ { ،قوْم نُو ٍ
{ وَ َثمُود } قوم صالحَ { ،و َقوْمُ لُوطٍ وََأصْحَابُ الْأَ ْيكَةِ } أي :الشجار والبساتين الملتفة ،وهم قوم
شعيب { ،أُولَ ِئكَ الَْأحْزَابُ } الذين اجتمعوا بقوتهم وعَدَدِهمْ وعُ َددِهمْ على رد الحق ،فلم تغن عنهم
شيئا.
فلينتظروا { صَيْحَةً وَاحِ َدةً مَا َلهَا مِنْ َفوَاقٍ } أي :من رجوع ورد ،تهلكهم وتستأصلهم إن أقاموا
على ما هم عليه.
شيّ
{ { } 20 - 17وَا ْذكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَ ْيدِ إِنّهُ َأوّابٌ * إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ َمعَهُ يُسَبّحْنَ بِا ْلعَ ِ
صلَ ا ْلخِطَابِ }
ح ْكمَ َة َو َف ْ
وَالْإِشْرَاقِ * وَالطّيْرَ َمحْشُو َرةً ُكلّ َلهُ َأوّابٌ * وَشَ َددْنَا مُ ْلكَ ُه وَآتَيْنَاهُ ا ْل ِ
لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه ،أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده ،ويتذكر
طلُوعِ
حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ ُ
ن وَسَبّحْ ِب َ
حال العابدين ،كما قال في الية الخرى { :فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُو َ
س َوقَ ْبلَ غُرُو ِبهَا }
شمْ ِ
ال ّ
ومن أعظم العابدين ،نبي اللّه داود عليه الصلة والسلم { ذَا الْأَيْدِ } أي :القوة العظيمة على
عبادة اللّه تعالى ،في بدنه وقلبه { .إِنّهُ َأوّابٌ } أي :رجّاع إلى اللّه في جميع المور بالنابة إليه،
بالحب والتأله ،والخوف والرجاء ،وكثرة التضرع والدعاء ،رجاع إليه عندما يقع منه بعض
الخلل ،بالقلع والتوبة النصوح.
شيّ
ومن شدة إنابته لربه وعبادته ،أن سخر اللّه الجبال معه ،تسبح معه بحمد ربها { بِا ْل َع ِ
وَالْإِشْرَاقِ } أول النهار وآخره.
{ و } سخر { الطّيْرَ َمحْشُو َرةً } معه مجموعة { ُكلّ } من الجبال والطير ،ل تعالى { َأوّابٌ }
امتثال لقوله تعالى { :يَا جِبَالُ َأوّبِي َمعَهُ وَالطّيْرَ } فهذه مِنّةُ اللّه عليه بالعبادة.
لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس ،وكان معروفا بذلك مقصودا ،ذكر
تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود ،وموعظة لخلل ارتكبه ،فتاب
اللّه عليه ،وغفر له ،وقيض له هذه القضية ،فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم { :وَ َهلْ أَتَاكَ
سوّرُوا } على داود { ا ْلمِحْرَابَ } أي :محل عبادته من غير إذن
خصْمِ } فإنه نبأ عجيب { إِذْ تَ َ
نَبَأُ ا ْل َ
ول استئذان ،ولم يدخلوا عليه مع باب ،فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة ،فزع منهم وخاف،
حكُمْ بَيْنَنَا بِا ْلحَقّ }
صمَانِ } فل تخف { َبغَى َب ْعضُنَا عَلَى َب ْعضٍ } بالظلم { فَا ْ
خ ْ
فقالوا له :نحن { َ
سوَاءِ الصّرَاطِ }
ط وَا ْهدِنَا إِلَى َ
شطِ ْ
أي :بالعدل ،ول تمل مع أحدنا { وَلَا تُ ْ
والمقصود من هذا ،أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف ،وإذا كان ذلك،
فسيقصان عليه نبأهما بالحق ،فلم يشمئز نبي اللّه داود من وعظهما له ،ولم يؤنبهما.
فقال أحدهما { :إِنّ َهذَا َأخِي } نص على الخوة في الدين أو النسب أو الصداقة ،لقتضائها عدم
سعُونَ َن ْعجَةً } أي :زوجة ،وذلك خير
س ٌع وَتِ ْ
البغي ،وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيرهَ { .لهُ تِ ْ
كثير ،يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه.
ج ٌة وَاحِ َدةٌ } فطمع فيها { َفقَالَ َأ ْكفِلْنِيهَا } أي :دعها لي ،وخلها في كفالتي { .وَعَزّنِي فِي
{ وَِليَ َنعْ َ
خطَابِ } أي :غلبني في القول ،فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد.
الْ ِ
فقال داود -لما سمع كلمه -ومن المعلوم من السياق السابق من كلمهما ،أن هذا هو الواقع،
فلهذا لم يحتج أن يتكلم الخر ،فل وجه للعتراض بقول القائل { :لم حكم داود ،قبل أن يسمع
جهِ } وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير
سؤَالِ َنعْجَ ِتكَ إِلَى ِنعَا ِ
كلم الخصم الخر } ؟ { َلقَدْ ظََل َمكَ بِ ُ
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ } لن الظلم من صفة النفوس.
منهم ،فقال { :وَإِنّ كَثِيرًا مِنَ الْخَُلطَاءِ لَيَ ْبغِي َب ْع ُ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ } فإن ما معهم من اليمان والعمل الصالح ،يمنعهم من الظلم.
{ ِإلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
شكُورُ } { وَظَنّ دَاوُدُ } حين حكم بينهما
{ َوقَلِيلٌ مَا ُهمْ } كما قال تعالى { َوقَلِيلٌ مِنْ عِبَا ِديَ ال ّ
{ أَ ّنمَا فَتَنّاهُ } أي :اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه { فَاسْ َت ْغفَرَ رَبّهُ } لما صدر منه { ،وَخَرّ
رَا ِكعًا } أي :ساجدا { وَأَنَابَ } للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.
{ َف َغفَرْنَا لَهُ ذَِلكَ } الذي صدر منه ،وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات ،فقال { :وَإِنّ لَهُ عِ ْندَنَا لَزُ ْلفَى }
أي :منزلة عالية ،وقربة مناَ { ،وحُسْنَ مَآبٍ } أي :مرجع.
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلم ،لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره ،فالتعرض له
من باب التكلف ،وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته ،وأنه ارتفع محله،
فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
سمَاءَ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا بَاطِلًا ذَِلكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ
{ َ { } 29 - 27ومَا خََلقْنَا ال ّ
ج َعلُ ا ْلمُ ّتقِينَ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا ْل ُمفْسِدِينَ فِي الْأَ ْرضِ أَمْ نَ ْ
ج َعلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
َكفَرُوا مِنَ النّارِ * أَمْ َن ْ
كَا ْلفُجّارِ * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لِيَدّبّرُوا آيَاتِ ِه وَلِيَتَ َذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }
يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات والرض ،وأنه لم يخلقهما باطل ،أي :عبثا ولعبا
من غير فائدة ول مصلحة.
{ ذَِلكَ ظَنّ الّذِينَ َكفَرُوا } بربهم ،حيث ظنوا ما ل يليق بجللهَ { .فوَ ْيلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ }
فإنها التي تأخذ الحق منهم ،وتبلغ منهم كل مبلغ.
وإنما خلق اللّه السماوات والرض بالحق وللحق ،فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته وسعة
سلطانه ،وأنه تعالى وحده المعبود ،دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات والرض ،وأن
البعث حق ،وسيفصل اللّه بين أهل الخير والشر.
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ } فيه خير كثير ،وعلم غزير ،فيه كل هدى من ضللة ،وشفاء من
داء ،ونور يستضاء به في الظلمات ،وكل حكم يحتاج إليه المكلفون ،وفيه من الدلة القطعية على
كل مطلوب ،ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه.
{ لِ َيدّبّرُوا آيَا ِتهِ } أي :هذه الحكمة من إنزاله ،ليتدبر الناس آياته ،فيستخرجوا علمها ويتأملوا
أسرارها وحكمها ،فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه ،وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة ،تدرك بركته
وخيره ،وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن ،وأنه من أفضل العمال ،وأن القراءة المشتملة
على التدبر أفضل من سرعة التلوة التي ل يحصل بها هذا المقصود.
{ وَلِيَ َت َذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي :أولو العقول الصحيحة ،يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب ،فدل
هذا على أنه بحسب لب النسان وعقله يحصل له التذكر والنتفاع بهذا الكتاب.
شيّ الصّافِنَاتُ
{ َ { } 40 - 30ووَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَ ْيمَانَ ِنعْمَ ا ْلعَ ْبدُ إِنّهُ َأوّابٌ * ِإذْ عُ ِرضَ عَلَيْهِ بِا ْلعَ ِ
طفِقَ
حبّ ا ْلخَيْرِ عَنْ ِذكْرِ رَبّي حَتّى َتوَا َرتْ بِا ْلحِجَابِ * رُدّوهَا عََليّ َف َ
الْجِيَادُ * َفقَالَ إِنّي َأحْبَ ْبتُ ُ
غفِرْ لِي
سدًا ثُمّ أَنَابَ * قَالَ َربّ ا ْ
ن وَأَ ْلقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَ َ
ق وَالْأَعْنَاقِ * وََلقَدْ فَتَنّا سُلَ ْيمَا َ
مَسْحًا بِالسّو ِ
وَ َهبْ لِي مُ ْلكًا لَا يَنْ َبغِي لَِأحَدٍ مِنْ َبعْدِي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ * فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ َتجْرِي بَِأمْ ِرهِ رُخَاءً
عطَاؤُنَا فَامْنُنْ
صفَادِ * هَذَا َ
غوّاصٍ * وَآخَرِينَ ُمقَرّنِينَ فِي الَْأ ْ
حَ ْيثُ َأصَابَ * وَالشّيَاطِينَ ُكلّ بَنّا ٍء وَ َ
حسْنَ مَآبٍ }
حسَابٍ * وَإِنّ لَهُ عِ ْندَنَا لَزُ ْلفَى وَ ُ
سكْ ِبغَيْرِ ِ
َأوْ َأمْ ِ
لما أثنى تعالى على داود ،وذكر ما جرى له ومنه ،أثنى على ابنه سليمان عليهما السلم فقال:
{ َووَهَبْنَا ِلدَاوُدَ سُلَ ْيمَانَ } أي :أنعمنا به عليه ،وأقررنا به عينه.
{ ِن ْعمَ ا ْلعَبْدُ } سليمان عليه السلم ،فإنه اتصف بما يوجب المدح ،وهو { إِنّهُ َأوّابٌ } أي :رجّاع
إلى اللّه في جميع أحواله ،بالتأله والنابة ،والمحبة والذكر والدعاء والتضرع ،والجتهاد في
مرضاة اللّه ،وتقديمها على كل شيء.
ولهذا ،لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي :التي من وصفها الصفون ،وهو رفع
إحدى قوائمها عند الوقوف ،وكان لها منظر رائق ،وجمال معجب ،خصوصا للمحتاج إليها
كالملوك ،فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب ،فألهته عن صلة المساء
وذكره.
فقال ندما على ما مضى منه ،وتقربا إلى اللّه بما ألهاه عن ذكره ،وتقديما لحب اللّه على حب
حبّ ا ْلخَيْرِ } وضمن { أحببت } معنى { آثرت } أي :آثرت حب الخير ،الذي
غيره { :إِنّي َأحْبَ ْبتُ ُ
هو المال عموما ،وفي هذا الموضع المراد الخيل { عَنْ ِذكْرِ رَبّي حَتّى َتوَا َرتْ بِا ْلحِجَابِ }
{ وََلقَدْ فَتَنّا سُلَ ْيمَانَ } أي :ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة
سدًا } أي :شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه،
البشرية { ،وَأَ ْلقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَ َ
ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان { ،ثُمّ أَنَابَ } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب.
ولهذا قال { :وَإِنّ َلهُ عِنْدَنَا لَزُ ْلفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي :هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع
الكرامات للّه.
فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السلم
فمنها :أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من قبله ،ليثبت فؤاده
وتطمئن نفسه ،ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإنابتهم ،ما يشوقه إلى منافستهم ،والتقرب
إلى اللّه الذي تقربوا له ،والصبر على أذى قومه ،ولهذا -في هذا الموضع -لما ذكر اللّه ما
ذكر من أذية قومه وكلمهم فيه وفيما جاء به ،أمره بالصبر ،وأن يذكر عبده داود فيتسلى به.
ومنها :أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته ،قوة القلب والبدن ،فإنه يحصل منها من آثار
الطاعة وحسنها وكثرتها ،ما ل يحصل مع الوهن وعدم القوة ،وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها،
وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس.
ومنها :أن الرجوع إلى اللّه في جميع المور ،من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه ،كما أثنى
اللّه على داود وسليمان بذلك ،فليقتد بهما المقتدون ،وليهتد بهداهم السالكون { أُولَ ِئكَ الّذِينَ َهدَى
اللّهُ فَ ِب ُهدَاهُمُ اقْتَ ِدهِ }
ومنها :ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السلم ،من حسن الصوت العظيم ،الذي جعل اللّه بسببه
الجبال الصم ،والطيور البهم ،يجاوبنه إذا رجّع صوته بالتسبيح ،ويسبحن معه بالعشي والشراق.
ومنها :أن من أكبر نعم اللّه على عبده ،أن يرزقه العلم النافع ،ويعرف الحكم والفصل بين الناس،
كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السلم.
ومنها :اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم وابتلئهم بما
به يزول عنهم المحذور ،ويعودون إلى أكمل من حالتهم الولى ،كما جرى لداود وسليمان عليهما
السلم.
ومنها :أن النبياء صلوات اللّه وسلمه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه تعالى،
لن مقصود الرسالة ل يحصل إل بذلك ،وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من
المعاصي ،ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه.
ومنها :أن داود عليه السلم[ ،كان] في أغلب أحواله ملزما محرابه لخدمة ربه ،ولهذا تسور
الخصمان عليه المحراب ،لنه كان إذا خل في محرابه ل يأتيه أحد ،فلم يجعل كل وقته للناس،
مع كثرة ما يرد عليه من الحكام ،بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه ،وتقر عينه بعبادته ،وتعينه
على الخلص في جميع أموره.
ومنها :أنه ينبغي استعمال الدب في الدخول على الحكام وغيرهم ،فإن الخصمين لما دخل على
داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود ،فزع منهم ،واشتد عليه ذلك ،ورآه غير لئق
بالحال.
ومنها :أنه ل يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما ل ينبغي.
ومنها :كمال حلم داود عليه السلم ،فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان ،وهو الملك،
ول انتهرهما ،ول وبخهما.
ومنها :جواز قول المظلوم لمن ظلمه "أنت ظلمتني" أو "يا ظالم" ونحو ذلك أو باغ علي لقولهما{ :
صمَانِ َبغَى َب ْعضُنَا عَلَى َب ْعضٍ }
خ ْ
َ
ومنها :أن الموعوظ والمنصوح ،ولو كان كبير القدر ،جليل العلم ،إذا نصحه أحد ،أو وعظه ،ل
يغضب ،ول يشمئز ،بل يبادره بالقبول والشكر ،فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب
ولم يثنه ذلك عن الحق ،بل حكم بالحق الصرف.
ومنها :أن المخالطة بين القارب والصحاب ،وكثرة التعلقات الدنيوية المالية ،موجبة للتعادي
بينهم ،وبغي بعضهم على بعض ،وأنه ل يرد عن ذلك إل استعمال تقوى اللّه ،والصبر على
المور ،باليمان والعمل الصالح ،وأن هذا من أقل شيء في الناس.
ومنها :أن الستغفار والعبادة ،خصوصا الصلة ،من مكفرات الذنوب ،فإن اللّه ،رتب مغفرة ذنب
داود على استغفاره وسجوده.
ومنها :إكرام اللّه لعبده داود وسليمان ،بالقرب منه ،وحسن الثواب ،وأن ل يظن أن ما جرى لهما
منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى ،وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين ،أنه إذا غفر لهم وأزال أثر
ذنوبهم ،أزال الثار المترتبة عليه كلها ،حتى ما يقع في قلوب الخلق ،فإنهم إذا علموا ببعض
ذنوبهم ،وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الولى ،فأزال اللّه تعالى هذه الثار ،وما ذاك بعزيز
على الكريم الغفار.
ومنها :أن الحكم بين الناس مرتبة دينية ،تولها رسل اللّه وخواص خلقه ،وأن وظيفة القائم بها
الحكم بالحق ومجانبة الهوى ،فالحكم بالحق يقتضي العلم بالمور الشرعية ،والعلم بصورة القضية
المحكوم بها ،وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي ،فالجاهل بأحد المرين ل يصلح للحكم ،ول يحل
له القدام عليه.
ومنها :أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى ،ويجعله منه على بال ،فإن النفوس ل تخلو منه ،بل
يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده ،وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض لحد
الخصمين.
ومنها :أن سليمان عليه السلم من فضائل داود ،ومن منن اللّه عليه حيث وهبه له ،وأن من أكبر
نعم اللّه على عبده ،أن يهب له ولدا صالحا ،فإن كان عالما ،كان نورا على نور.
ومنها :ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله { ِن ْعمَ ا ْلعَبْدُ إِنّهُ َأوّابٌ }
ومنها :كثرة خير اللّه وبره بعبيده ،أن يمن عليهم بصالح العمال ومكارم الخلق ،ثم يثني عليهم
بها ،وهو المتفضل الوهاب.
ومنها :أن كل ما أشغل العبد عن اللّه ،فإنه مشئوم مذموم ،فَلْ ُيفَا ِرقْه ولْيُقْ ِبلْ على ما هو أنفع له.
ومنها :القاعدة المشهورة "من ترك شيئا ل عوضه اللّه خيرا منه" فسليمان عليه السلم عقر الجياد
الصافنات المحبوبة للنفوس ،تقديما لمحبة اللّه ،فعوضه اللّه خيرا من ذلك ،بأن سخر له الريح
الرخاء اللينة ،التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد ،غدوها شهر ،ورواحها شهر ،وسخر له
الشياطين ،أهل القتدار على العمال التي ل يقدر عليها الدميون.
ومنها :أن تسخير الشياطين ل يكون لحد بعد سليمان عليه السلم.
ومنها :أن سليمان عليه السلم ،كان ملكا نبيا ،يفعل ما أراد ،ولكنه ل يريد إل العدل ،بخلف
النبي العبد ،فإنه تكون إرادته تابعة لمر اللّه ،فل يفعل ول يترك إل بالمر ،كحال نبينا محمد
صلى اللّه عليه وسلم ،وهذه الحال أكمل.
أي { :وَا ْذكُرْ } في هذا الكتاب ذي الذكر { عَ ْبدَنَا أَيّوبَ } بأحسن الذكر ،وأثن عليه بأحسن الثناء،
حين أصابه الضر ،فصبر على ضره ،فلم يشتك لغير ربه ،ول لجأ إل إليه.
صبٍ
فـ { نَادَى رَبّهُ } داعيا ،وإليه ل إلى غيره شاكيا ،فقال :رب { أَنّي مَسّ ِنيَ الشّيْطَانُ بِ ُن ْ
وَعَذَابٍ } أي :بأمر مشق متعب معذب ،وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح ،ثم تقيح بعد
ذلك واشتد به المر ،وكذلك هلك أهله وماله.
فقيل له { :ا ْر ُكضْ بِرِجِْلكَ } أي :اضرب الرض بها ،لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب،
فيذهب عنك الضر والذى ،ففعل ذلك ،فذهب عنه الضر ،وشفاه اللّه تعالى.
{ َووَهَبْنَا َلهُ أَهْلَهُ } قيل :إن اللّه تعالى أحياهم له { َومِثَْلهُمْ َم َعهُمْ } في الدنيا ،وأغناه اللّه ،وأعطاه
حمَةً مِنّا } بعبدنا أيوب ،حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجل وآجل.
مال عظيما { َر ْ
{ وَ ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي :وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا ،فيعلموا أن من صبر
على الضر ،أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجل وآجل ،ويستجيب دعاءه إذا دعاه.
قال المفسرون :وكان في مرضه وضره ،قد غضب على زوجته في بعض المور ،فحلف :لئن
شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة ،فلما شفاه اللّه ،وكانت امرأته صالحة محسنة إليه ،رحمها اللّه
ورحمه ،فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ،فيبر في يمينه.
{ إِنّا وَجَدْنَاهُ } أي :أيوب { صَابِرًا } أي :ابتليناه بالضر العظيم ،فصبر لوجه اللّه تعالىِ { .نعْمَ
ا ْلعَبْدُ } الذي كمل مراتب العبودية ،في حال السراء والضراء ،والشدة والرخاء.
{ إِنّهُ َأوّابٌ } أي :كثير الرجوع إلى اللّه ،في مطالبه الدينية والدنيوية ،كثير الذكر لربه والدعاء،
والمحبة والتأله.
يقول تعالى { :وَا ْذكُرْ عِبَادَنَا } الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا { ،إِبْرَاهِيمَ } الخليل { و } ابنه
ق وَ } ابن ابنه { َي ْعقُوبَ أُولِي الْأَ ْيدِي } أي :القوة على عبادة اللّه تعالى { وَالْأَ ْبصَارَ } أي:
{ ِإسْحَا َ
البصيرة في دين اللّه .فوصفهم بالعلم النافع ،والعمل الصالح الكثير.
صةٍ } عظيمة ،وخصيصة جسيمة ،وهيِ { :ذكْرَى الدّارِ } جعلنا ذكرى الدار
{ إِنّا أَخَْلصْنَا ُهمْ بِخَاِل َ
الخرة في قلوبهم ،والعمل لها صفوة وقتهم ،والخلص والمراقبة للّه وصفهم الدائم ،وجعلناهم
ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر ،ويعتبر بهم المعتبر ،ويذكرون بأحسن الذكر.
طفَيْنَ } الذين اصطفاهم اللّه من صفوة خلقه { ،الَْأخْيَارِ } الذين لهم كل
{ وَإِ ّنهُمْ عِنْدَنَا َلمِنَ ا ْل ُمصْ َ
خلق كريم ،وعمل مستقيم.
أي :واذكر هؤلء النبياء بأحسن الذكر ،وأثن عليهم أحسن الثناء ،فإن كل منهم من الخيار الذين
اختارهم اللّه من الخلق ،واختار لهم أكمل الحوال ،من العمال ،والخلق ،والصفات الحميدة،
والخصال السديدة.
{ هَذَا } أي :ذكر هؤلء النبياء الصفوة وذكر أوصافهم { ،ذكر } في هذا القرآن ذي الذكر،
يتذكر بأحوالهم المتذكرون ،ويشتاق إلى القتداء بأوصافهم الحميدة المقتدون ،ويعرف ما منّ اللّه
عليهم به من الوصاف الزكية ،وما نشر لهم من الثناء بين البرية.
فهذا نوع من أنواع الذكر ،وهو ذكر أهل الخير ،ومن أنواع الذكر ،ذ ْزقُنَا مَا لَهُ مِنْ َنفَادٍ }
حسْنَ
أي { :وَإِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ } ربهم ،بامتثال الوامر واجتناب النواهي ،من كل مؤمن ومؤمنة { ،لَ ُ
مَآبٍ } أي :لمآبا حسنا ،ومرجعا مستحسنا.
ثم فسره وفصله فقال { :جَنّاتِ عَدْنٍ } أي :جنات إقامة ،ل يبغي صاحبها بدل منها ،من كمالها
وتمام نعيمها ،وليسوا بخارجين منها ول بمخرجين.
حةً َلهُمُ الْأَ ْبوَابُ } أي :مفتحة لجلهم أبواب منازلها ومساكنها ،ل يحتاجون أن يفتحوها هم ،
{ ُمفَتّ َ
بل هم مخدومون ،وهذا دليل أيضا على المان التام ،وأنه ليس في جنات عدن ،ما يوجب أن
تغلق لجله أبوابها.
{ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا } على الرائك المزينات ،والمجالس المزخرفاتَ { .يدْعُونَ فِيهَا } أي :يأمرون
خدامهم ،أن يأتوا { ِبفَا ِكهَةٍ كَثِي َر ٍة وَشَرَابٍ } من كل ما تشتهيه نفوسهم ،وتلذه أعينهم ،وهذا يدل
على كمال النعيم ،وكمال الراحة والطمأنينة ،وتمام اللذة.
{ وَعِنْ َدهُمْ } من أزواجهم ،الحور العين { قَاصِرَاتُ } طرفهن على أزواجهن ،وطرف أزواجهن
عليهن ،لجمالهم كلهم ،ومحبة كل منهما للخر ،وعدم طموحه لغيره ،وأنه ل يبغي بصاحبه بدل،
ول عنه عوضا { .أَتْرَابٌ } أي :على سن واحد ،أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه.
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ } أيها المتقون { لِ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ } جزاء على أعمالكم الصالحة.
{ إِنّ هَذَا لَرِ ْزقُنَا } الذي أوردناه على أهل دار النعيم { مَا لَهُ مِنْ َنفَادٍ } أي :انقطاع ،بل هو دائم
مستقر في جميع الوقات ،متزايد في جميع النات.
وليس هذا بعظيم على الرب الكريم ،الرءوف الرحيم ،البر الجواد ،الواسع الغني ،الحميد اللطيف
الرحمن ،الملك الديان ،الجليل الجميل المنان ،ذي الفضل الباهر ،والكرم المتواتر ،الذي ل تحصى
نعمه ،ول يحاط ببعض بره.
حمِيمٌ
جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ * َهذَا فَلْ َيذُوقُوهُ َ
{ َ { } 64 - 55هذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * َ
شكْلِهِ أَ ْزوَاجٌ * َهذَا َفوْجٌ ُمقْتَحِمٌ َم َعكُمْ لَا مَرْحَبًا ِبهِمْ إِ ّنهُ ْم صَالُوا النّارِ * قَالُوا
وَغَسّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ َ
ضعْفًا
َبلْ أَنْتُمْ لَا مَ ْرحَبًا ِبكُمْ أَنْ ُتمْ قَ ّدمْ ُتمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ * قَالُوا رَبّنَا مَنْ َقدّمَ لَنَا هَذَا فَزِ ْدهُ عَذَابًا ِ
غتْ عَ ْنهُمُ
خذْنَاهُمْ سِخْرِيّا أَمْ زَا َ
فِي النّارِ * َوقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنّا َنعُدّ ُهمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَأَتّ َ
صمُ أَ ْهلِ النّارِ }
حقّ تَخَا ُ
الْأَ ْبصَارُ * إِنّ ذَِلكَ لَ َ
{ هَذَا } الجزاء للمتقين ما وصفناه { وَإِنّ لِلطّاغِينَ } أي :المتجاوزين للحد في الكفر والمعاصي
{ َلشَرّ مَآبٍ } أي :لشر مرجع ومنقلب.
جهَنّمَ } التي جمع فيها كل عذاب ،واشتد حرها ،وانتهى قرها { َيصَْلوْ َنهَا } أي:
ثم فصله فقالَ { :
يعذبون فيها عذابا يحيط بهم من كل وجه ،لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل.
شكِْلهِ } أي :من نوعه { أَ ْزوَاجٌ } أي :عدة أصناف من أصناف العذاب ،يعذبون بها
{ وَآخَرُ مِنْ َ
ويخزون بها.
حمٌ َم َعكُمْ }
وعند تواردهم على النار يشتم بعضهم بعضا ،ويقول بعضهم لبعضَ { :هذَا َفوْجٌ مُقْتَ ِ
النار { لَا مَرْحَبًا ِبهِمْ إِ ّنهُ ْم صَالُوا النّارِ }
{ قَالُوا } أي :الفوج المقبل المقتحمَ { :بلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا ِبكُمْ أَنْتُمْ َق ّدمْ ُتمُوهُ } أي :العذاب { لَنَا }
بدعوتكم لنا ،وفتنتكم وإضللكم وتسببكم { .فَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } قرار الجميع ،قرار السوء والشر.
ض ْعفًا فِي النّارِ } وقال في
عذَابًا ِ
ثم دعوا على المغوين لهم ،فـ { قَالُوا رَبّنَا مَنْ قَدّمَ لَنَا َهذَا فَزِ ْدهُ َ
ض ْعفٌ وََلكِنْ لَا َتعَْلمُونَ }
ل ِ
الية الخرى { :قَالَ ِل ُك ّ
{ َوقَالُوا } وهم في النار { مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنّا َنعُدّ ُهمْ مِنَ الْأَشْرَارِ } أي :كنا نزعم أنهم من
الشرار ،المستحقين لعذاب النار ،وهم المؤمنون ،تفقدهم أهل النار -قبحهم اللّه -هل يرونهم
في النار؟
غتْ عَ ْنهُمْ الْأَ ْبصَارُ } أي :عدم رؤيتنا لهم دائر بين أمرين :إما أننا
{ أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّا َأمْ زَا َ
غالطون في عدنا إياهم من الشرار ،بل هم من الخيار ،وإنما كلمنا لهم من باب السخرية
والستهزاء بهم ،وهذا هو الواقع ،كما قال تعالى لهل النار { :إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي َيقُولُونَ
س ْوكُمْ ِذكْرِي َوكُنْتُمْ
حمِينَ *فَاتّخَذْ ُتمُوهُمْ سِخْرِيّا حَتّى أَنْ َ
حمْنَا وَأَ ْنتَ خَيْرُ الرّا ِ
غفِرْ لَنَا وَارْ َ
رَبّنَا آمَنّا فَا ْ
حكُونَ }
مِ ْنهُمْ َتضْ َ
والمر الثاني :أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب ،وإل فهم معنا معذبون
ولكن تجاوزتهم أبصارنا ،فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم ،فتكون العقائد التي اعتقدوها في الدنيا،
وكثرة ما حكموا لهل اليمان بالنار ،تمكنت من قلوبهم ،وصارت صبغة لها ،فدخلوا النار وهم
بهذه الحالة ،فقالوا ما قالوا.
ويحتمل أن كلمهم هذا كلم تمويه ،كما موهوا في الدنيا ،موهوا حتى في النار ،ولهذا يقول أهل
خ ْوفٌ عَلَ ْيكُ ْم وَلَا
حمَةٍ ادْخُلُوا ا ْلجَنّةَ لَا َ
سمْتُمْ لَا يَنَاُل ُهمُ اللّهُ بِ َر ْ
العراف لهل النار { :أَ َهؤُلَاءِ الّذِينَ َأ ْق َ
أَنْتُمْ َتحْزَنُونَ }
قال تعالى مؤكدا ما أخبر به ،وهو أصدق القائلين { :إِنّ ذَِلكَ } الذي ذكرت لكم { َلحَقّ } ما فيه
شك ول مرية { َتخَاصُمُ َأ ْهلِ النّارِ }
{ ُقلْ } يا أيها الرسول لهؤلء المكذبين ،إن طلبوا منك ما ليس لك ول بيدك { :إِ ّنمَا أَنَا مُنْذِرٌ } هذا
نهاية ما عندي ،وأما المر فلله تعالى ،ولكني آمركم ،وأنهاكم ،وأحثكم على الخير وأزجركم عن
ضلّ َفعَلَ ْيهَا { َومَا مِنْ إِلَهٍ إِلّا اللّهُ } أي :ما أحد يؤله ويعبد بحق إل
ن َ
الشر َفمَنِ اهْتَدَى فَلِ َنفْسِ ِه َومَ ْ
حدُ ا ْل َقهّارُ } هذا تقرير للوهيته ،بهذا البرهان القاطع ،وهو وحدته تعالى ،وقهره لكل
اللّه { ا ْلوَا ِ
شيء ،فإن القهر ملزم للوحدة ،فل يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا.
فالذي يقهر جميع الشياء هو الواحد الذي ل نظير له ،وهو الذي يستحق أن يعبد وحده ،كما كان
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا } أي:
قاهرا وحده ،وقرر ذلك أيضا بتوحيد الربوبية فقالَ { :ربّ ال ّ
خالقهما ،ومربيهما ،ومدبرها بجميع أنواع التدابير { .ا ْلعَزِيزُ } الذي له القوة ،التي بها خلق
المخلوقات العظيمة { .ا ْل َغفّارُ } لجميع الذنوب ،صغيرها ،وكبيرها ،لمن تاب إليه وأقلع منها.
فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد ،دون من ل يخلق ول يرزق ،ول يضر ول ينفع ،ول يملك من
المر شيئا ،وليس له قوة القتدار ،ول بيده مغفرة الذنوب والوزار.
{ ُقلْ } لهم ،مخوفا ومحذرا ،ومنهضا لهم ومنذراُ { :هوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي :ما أنبأتكم به من البعث
والنشور والجزاء على العمال ،خبر عظيم ينبغي الهتمام الشديد بشأنه ،ول ينبغي إغفاله.
ولكن { أَنْتُمْ عَنْهُ ُمعْ ِرضُونَ } كأنه ليس أمامكم حساب ول عقاب ول ثواب ،فإن شككتم في قولي،
وامتريتم في خبري ،فإني أخبركم بأخبار ل علم لي بها ول درستها في كتاب ،فإخباري بها على
وجهها ،من غير زيادة ول نقص ،أكبر شاهد لصدقي ،وأدل دليل على حق ما جئتكم به ،ولهذا
صمُونَ } لول تعليم اللّه إياي،
قال { :مَا كَانَ ِليَ مِنْ عِلْمٍ بِا ْلمَلَإِ الْأَعْلَى } أي :الملئكة { إِذْ يَخْ َت ِ
وإيحاؤه إلي ،ولهذا قال { :إِنْ يُوحَى إَِليّ إِلّا أَ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي :ظاهر النذارة ،جليها ،فل
نذير أبلغ من نذارته صلى اللّه عليه وسلم.
ثم ذكر اختصام المل العلى فقال { :إِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَلَا ِئ َكةِ } على وجه الخبار { إِنّي خَاِلقٌ بَشَرًا
مِنْ طِينٍ } أي :مادته من طين.
فسجدوا كلهم أجمعون إل إبليس لم يسجد { اسْ َتكْبَرَ } عن أمر ربه ،واستكبر على آدم { َوكَانَ مِنَ
ا ْلكَافِرِينَ } في علم اللّه تعالى.
{ قَالَ } إبليس معارضا لربه ومناقضا { :أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وبزعمه
أن عنصر النار خير من عنصر الطين ،وهذا من القياس الفاسد ،فإن عنصر النار مادة الشر
والفساد ،والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإخراج أنواع الشجار
والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها ،والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها ،والطين قائم بنفسه ،فهذا
قياس شيخ القوم ،الذي عارض به المر الشفاهي من اللّه ،قد تبين غاية بطلنه وفساده ،فما بالك
بأقيسة التلميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها أعظم بطلنا وفسادا من هذا القياس.
فـ { قَالَ } اللّه له { :فَاخْرُجْ مِ ْنهَا } أي :من السماء والمحل الكريم { .فَإِ ّنكَ َرجِيمٌ } أي :مبعد
مدحور.
{ وَإِنّ عَلَ ْيكَ َلعْنَتِي } أي :طردي وإبعادي { ِإلَى َيوْمِ الدّينِ } أي :دائما أبدا.
{ قَالَ َربّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ } لشدة عداوته لدم وذريته ،ليتمكن من إغواء من قدر اللّه
أن يغويه.
فـ(قال) اللّه مجيبا لدعوته ،حيث اقتضت حكمته ذلك { :فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُ ْنظَرِينَ إِلَى َيوْمِ ا ْل َو ْقتِ
ا ْل َمعْلُومِ } حين تستكمل الذرية ،يتم المتحان.
فلما علم أنه منظر ،بادى ربه ،من خبثه ،بشدة العداوة لربه ولدم وذريته ،فقال { :فَ ِبعِزّ ِتكَ
ج َمعِينَ } يحتمل أن الباء للقسم ،وأنه أقسم بعزة اللّه ليغوينهم كلهم أجمعين.
غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ
لَأُ ْ
{ ِإلّا عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ } علم أن ال سيحفظهم من كيده .ويحتمل أن الباء للستعانة ،وأنه لما
علم أنه عاجز من كل وجه ،وأنه ل يضل أحدا إل بمشيئة اللّه تعالى ،فاستعان بعزة اللّه على
إغواء ذرية آدم هذا ،وهو عدو اللّه حقا.
ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون ،المقرون لك بكل نعمة ،ذرية من شرفته وكرمته ،فنستعين
بعزتك العظيمة ،وقدرتك ،ورحمتك الواسعة لكل مخلوق ،ورحمتك التي أوصلت إلينا بها ،ما
أوصلت من النعم الدينية والدنيوية ،وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم ،أن تعيننا على محاربته
وعداوته ،والسلمة من شره وشركه ،ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا ،ونؤمن بوعدك الذي
قلت لنا { :وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فقد دعوناك كما أمرتنا ،فاستجب لنا كما وعدتنا.
{ إنك ل تخلف الميعاد }
{ ُقلْ مَا َأسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ } أي :على دعائي إياكم { مِنْ َأجْ ٍر َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُ َتكِّلفِينَ } أدعي أمرا ليس
لي ،وأقفو ما ليس لي به علم ،ل أتبع إل ما يوحى إليّ.
{ إِنْ ُهوَ } أي :هذا الوحي والقرآن { إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به كل ما ينفعهم ،من مصالح
دينهم ودنياهم ،فيكون شرفا ورفعة للعاملين به ،وإقامة حجة على المعاندين.
فهذه السورة العظيمة ،مشتملة على الذكر الحكيم ،والنبأ العظيم ،وإقامة الحجج والبراهين ،على
من كذب بالقرآن وعارضه ،وكذب من جاء به ،والخبار عن عباد اللّه المخلصين ،وجزاء
المتقين والطاغين .فلهذا أقسم في أولها بأنه ذو الذكر ،ووصفه في آخرها بأنه ذكر للعالمين.
وأكثر التذكير بها فيما بين ذلك ،كقوله { :واذكر عبدنا } { -واذكر عبادنا } { -رحمة من عندنا
وذكرى } { هذا ذكر }
اللّهم علمنا منه ما جهلنا ،وذكرنا منه ما نسينا ،نسيان غفلة ونسيان ترك.
{ وَلَ َتعَْلمُنّ نَبََأهُ } أي :خبره { َبعْدَ حِينٍ } وذلك حين يقع عليهم العذاب وتتقطع عنهم السباب.
يخبر تعالى عن عظمة القرآن ،وجللة من تكلم به ونزل منه ،وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم،
أي :الذي وصفه اللوهية للخلق ،وذلك لعظمته وكماله ،والعزة التي قهر بها كل مخلوق ،وذل له
كل شيء ،والحكمة في خلقه وأمره.
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه ،والكلم وصف للمتكلم ،والوصف يتبع الموصوف ،فكما أن اللّه
تعالى هو الكامل من كل وجه ،الذي ل مثيل له ،فكذلك كلمه كامل من كل وجه ل مثيل له ،فهذا
وحده كاف في وصف القرآن ،دال على مرتبته.
ولكنه -مع هذا -زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه ،وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ،الذي هو
أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب ،وبما نزل به ،وهو الحق ،فنزل بالحق الذي ل مرية فيه،
لخراج الخلق من الظلمات إلى النور ،ونزل مشتمل على الحق في أخباره الصادقة ،وأحكامه
العادلة ،فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق ،من جميع المطالب العلمية ،وما بعد الحق إل
الضلل.
ولما كان نازل من الحق ،مشتمل على الحق لهداية الخلق ،على أشرف الخلق ،عظمت فيه
خِلصًا لَهُ
النعمة ،وجلّت ،ووجب القيام بشكرها ،وذلك بإخلص الدين للّه ،فلهذا قال { :فَاعْبُدِ اللّهَ مُ ْ
الدّينَ } أي :أخلص للّه تعالى جميع دينك ،من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة :السلم
واليمان والحسان ،بأن تفرد اللّه وحده بها ،وتقصد به وجهه ،ل غير ذلك من المقاصد.
{ َألَا لِلّهِ الدّينُ ا ْلخَاِلصُ } هذا تقرير للمر بالخلص ،وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله ،وله
التفضل على عباده من جميع الوجوه ،فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب ،فهو
الدين الذي ارتضاه لنفسه ،وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به ،لنه متضمن للتأله للّه في حبه
وخوفه ورجائه ،وللنابة إليه في عبوديته ،والنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها ،دون الشرك به في شيء من العبادة .فإن اللّه بريء
منه ،وليس للّه فيه شيء ،فهو أغنى الشركاء عن الشرك ،وهو مفسد للقلوب والرواح والدنيا
والخرة ،مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء ،فلذلك لما أمر بالتوحيد والخلص ،نهى عن الشرك به،
وأخبر بذم من أشرك به فقال { :وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ } أي :يتولونهم بعبادتهم ودعائهم،
[معتذرين] عن أنفسهم وقائلين { :مَا َنعْ ُبدُهُمْ إِلّا لِ ُيقَرّبُونَا إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى } أي :لترفع حوائجنا للّه،
وتشفع لنا عنده ،وإل ،فنحن نعلم أنها ،ل تخلق ،ول ترزق ،ول تملك من المر شيئا.
أي :فهؤلء ،قد تركوا ما أمر اللّه به من الخلص ،وتجرأوا على أعظم المحرمات ،وهو
الشرك ،وقاسوا الذي ليس كمثله شيء ،الملك العظيم ،بالملوك ،وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم
السقيم ،أن الملوك كما أنه ل يوصل إليهم إل بوجهاء ،وشفعاء ،ووزراء يرفعون إليهم حوائج
رعاياهم ،ويستعطفونهم عليهم ،ويمهدون لهم المر في ذلك ،أن اللّه تعالى كذلك.
وهذا القياس من أفسد القيسة ،وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق ،مع ثبوت الفرق
العظيم ،عقل ونقل وفطرة ،فإن الملوك ،إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم ،لنهم ل
يعلمون أحوالهم .فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم ،وربما ل يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة،
فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ،ويخافون منهم،
فيقضون حوائج من توسطوا لهم ،مراعاة لهم ،ومداراة لخواطرهم ،وهم أيضا فقراء ،قد يمنعون
لما يخشون من الفقر.
وأما الرب تعالى ،فهو الذي أحاط علمه بظواهر المور وبواطنها ،الذي ل يحتاج من يخبره
بأحوال رعيته وعباده ،وهو تعالى أرحم الراحمين ،وأجود الجودين ،ل يحتاج إلى أحد من خلقه
يجعله راحما لعباده ،بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم ،وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى
السباب التي ينالون بها رحمته ،وهو يريد من مصالحهم ما ل يريدونه لنفسهم ،وهو الغني،
الذي له الغنى التام المطلق ،الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه،
فأعطى كل منهم ما سأل وتمنى ،لم ينقصوا من غناه شيئا ،ولم ينقصوا مما عنده ،إل كما ينقص
البحر إذا غمس فيه المخيط.
وجميع الشفعاء يخافونه ،فل يشفع منهم أحد إل بإذنه ،وله الشفاعة كلها.
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به ،وسفههم العظيم ،وشدة جراءتهم عليه.
ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك ل يغفره اللّه تعالى ،لنه يتضمن القدح في اللّه تعالى ،ولهذا
ح ُكمُ
قال حاكما بين الفريقين ،المخلصين والمشركين ،وفي ضمنه التهديد للمشركين { :-إِنّ اللّهَ يَ ْ
بَيْ َنهُمْ فِيمَا ُهمْ فِيهِ َيخْتَِلفُونَ }
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم ،ومن يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه
الجنة ،ومأواه النار { .إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي } أي :ل يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم { مَنْ ُهوَ
كَا ِذبٌ َكفّارٌ } أي :وصفه الكذب أو الكفر ،بحيث تأتيه المواعظ واليات ،ول يزول عنه ما اتصف
به ،ويريه اللّه اليات ،فيجحدها ويكفر بها ويكذب ،فهذا أنّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب،
وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه ،فهو ل يؤمن؟"
طفَى ِممّا
صَأيَ { :لوْ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَتّخِ َذ وَلَدًا } كما زعم ذلك من زعمه ،من سفهاء الخلق { .لَا ْ
يَخُْلقُ مَا يَشَاءُ } أي :لصطفى بعض مخلوقاته التي يشاء اصطفاءه ،واختصه لنفسه ،وجعله
بمنزلة الولد ،ولم يكن حاجة إلى اتخاذ الصاحبة.
{ ُهوَ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْل َقهّارُ } أي :الواحد في ذاته ،وفي أسمائه ،وفي صفاته ،وفي أفعاله ،فل شبيه له
في شيء من ذلك ،ول مماثل ،فلو كان له ولد ،لقتضى أن يكون شبيها له في وحدته ،لنه
بعضه ،وجزء منه.
القهار لجميع العالم العلوي والسفلي ،فلو كان له ولد لم يكن مقهورا ،ولكان له إدلل على أبيه
ومناسبة منه.
ووحدته تعالى وقهره متلزمان ،فالواحد ل يكون إل قهارا ،والقهار ل يكون إل واحدا ،وذلك
ينفي الشركة له من كل وجه.
حقّ ُي َكوّرُ اللّ ْيلَ عَلَى ال ّنهَا ِر وَ ُيكَوّرُ ال ّنهَارَ عَلَى اللّ ْيلِ
ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ
سمَاوَا ِ
{ { } 7 - 5خََلقَ ال ّ
س وَاحِ َدةٍ ثُمّ
خَلقَكُمْ مِنْ َنفْ ٍ
سمّى أَلَا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َغفّارُ * َ
جلٍ مُ َ
س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي لِأَ َ
شمْ َ
وَسَخّرَ ال ّ
جهَا وَأَنْ َزلَ َلكُمْ مِنَ الْأَ ْنعَامِ َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ يَخُْل ُقكُمْ فِي ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ خَ ْلقًا مِنْ َبعْدِ خَلْقٍ
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
َ
فِي ظُُلمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ لَهُ ا ْلمُ ْلكُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ * إِنْ َت ْكفُرُوا فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ
شكُرُوا يَ ْرضَهُ َلكُ ْم وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى ثُمّ إِلَى رَ ّبكُمْ
عَ ْنكُ ْم وَلَا يَ ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْل ُكفْرَ وَإِنْ تَ ْ
ج ُعكُمْ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
مَرْ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } أي :بالحكمة والمصلحة ،وليأمر العباد وينهاهم،
يخبر تعالى أنه { خَلَقَ ال ّ
ويثيبهم ويعاقبهم.
{ ُي َكوّرُ اللّ ْيلَ عَلَى ال ّنهَا ِر وَ ُي َكوّرُ ال ّنهَارَ عَلَى اللّ ْيلِ } أي :يدخل كل منهما على الخر ،ويحله
محله ،فل يجتمع هذا وهذا ،بل إذا أتى أحدهما انعزل الخر عن سلطانه.
س وَا ْلقَمَرَ } بتسخير منظم ،وسير مقننُ { .كلّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي }
شمْ َ
سخّرَ ال ّ
{ وَ َ
سمّى } وهو انقضاء هذه الدار وخرابها ،فيخرب اللّه آلتها
جلٍ مُ َ
متأثرا عن تسخيره تعالى { لِأَ َ
وشمسها وقمرها ،وينشئ الخلق نشأة جديدة ليستقروا في دار القرار ،الجنة أو النار.
{ َألَا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي ل يغالب ،القاهر لكل شيء ،الذي ل يستعصي عليه شيء ،الذي من عزته
ببأوجد هذه المخلوقات العظيمة ،وسخرها تجري بأمره { .ا ْل َغفّارُ } لذنوب عباده التوابين
ع ِملَ صَاِلحًا ثُمّ اهْتَدَى } الغفار لمن
ن وَ َ
ب وَآمَ َ
المؤمنين ،كما قال تعالى { :وَإِنّي َل َغفّارٌ ِلمَنْ تَا َ
أشرك به بعد ما رأى من آياته العظيمة ،ثم تاب وأناب.
ج َعلَ
ح َدةٍ } على كثرتكم وانتشاركم ،في أنحاء الرضُ { ،ثمّ َ
س وَا ِ
ومن عزته أن { خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ
جهَا } وذلك ليسكن إليها وتسكن إليه ،وتتم بذلك النعمة { .وَأَنْ َزلَ َلكُمْ مِنَ الْأَ ْنعَامِ } أي:
مِ ْنهَا َزوْ َ
خلقها بقدر نازل منه ،رحمة بكمَ { .ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ } وهي التي ذكرها في سورة النعام { ثمانية
أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } { ومن البل اثنين ومن البقر اثنين }
وخصها بالذكر ،مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها ،لكثرة نفعها ،وعموم مصالحها،
ولشرفها ،ولختصاصها بأشياء ل يصلح غيرها ،كالضحية والهدي ،والعقيقة ،ووجوب الزكاة
فيها ،واختصاصها بالدية.
ولما ذكر خلق أبينا وأمنا ،ذكر ابتداء خلقنا ،فقالَ { :يخُْل ُقكُمْ فِي بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ خَ ْلقًا مِنْ َب ْعدِ خَ ْلقٍ }
أي :طورا بعد طور ،وأنتم في حال ل يد مخلوق تمسكم ،ول عين تنظر إليكم ،وهو قد رباكم في
ذلك المكان الضيق { فِي ظُُلمَاتٍ ثَلَاثٍ } ظلمة البطن ،ثم ظلمة الرحم ،ثم ظلمة المشيمة { ،ذَِل ُكمْ }
الذي خلق السماوات والرض ،وسخر الشمس والقمر ،وخلقكم وخلق لكم النعام والنعم { اللّهُ
رَ ّبكُمْ } أي :المألوه المعبود ،الذي رباكم ودبركم ،فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته ل شريك له
في ذلك ،فهو الواحد في ألوهيته ،ل شريك له ،ولهذا قال { :لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُتصْ َرفُونَ } بعد هذا
البيان ببيان استحقاقه تعالى للخلص وحده إلى عبادة الوثان ،التي ل تدبر شيئا ،وليس لها من
المر شيء.
{ إِنْ َتكْفُرُوا فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ عَ ْن ُكمْ } ل يضره كفركم ،كما ل ينتفع بطاعتكم ،ولكن أمره ونهيه لكم
محض فضله وإحسانه عليكم.
{ وَلَا يَ ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْل ُكفْرَ } لكمال إحسانه بهم ،وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة ل يسعدون بعدها،
ولنه خلقهم لعبادته ،فهي الغاية التي خلق لها الخلق ،فل يرضى أن يدعوا ما خلقهم لجله.
شكُرُوا } للّه تعالى بتوحيده ،وإخلص الدين له { يَ ْرضَهُ َلكُمْ } لرحمته بكم ،ومحبته
{ وَإِنْ َت ْ
للحسان عليكم ،ولفعلكم ما خلقكم لجله.
وكما أنه ل يتضرر بشرككم ول ينتفع بأعمالكم وتوحيدكم ،كذلك كل أحد منكم له عمله ،من خير
ج ُعكُمْ } في يوم القيامة { فَيُنَبّ ُئ ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ
وشر { وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَى } { ثُمّ إِلَى رَ ّب ُكمْ مَرْ ِ
َت ْعمَلُونَ } إخبارا أحاط به علمه ،وجرى عليه قلمه ،وكتبته عليكم الحفظة الكرام ،وشهدت به
عليكم الجوارح ،فيجازي كل منكم ما يستحقه.
{ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي :بنفس الصدور ،وما فيها من وصف برّ أو فجور ،والمقصود من
هذا ،الخبار بالجزاء بالعدل التام.
يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبره ،وقلة شكر عبده ،وأنه حين يمسه الضر ،من مرض
أو فقر ،أو وقوع في كربة َبحْرٍ أو غيره ،أنه يعلم أنه ل ينجيه في هذه الحال إل اللّه ،فيدعوه
متضرعا منيبا ،ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك.
ضلّ عَنْ سَبِيِلهِ } أي :ليضل بنفسه ،ويضل غيره ،لن الضلل فرع عن
ج َعلَ لِلّهِ أَنْدَادًا لِ ُي ِ
{ َو َ
الضلل ،فأتى بالملزوم ليدل على اللزم.
{ ُقلْ } لهذا العاتي ،الذي بدل نعمة اللّه كفراَ { :تمَتّعْ ِب ُكفْ ِركَ قَلِيلًا إِ ّنكَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ } فل
يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار.
{ َأفَرَأَ ْيتَ إِنْ مَ ّتعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمّ جَاءَ ُهمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَ ْن ُهمْ مَا كَانُوا ُيمَ ّتعُونَ }
هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره ،وبين العالم والجاهل ،وأن هذا من المور التي تقرر في
العقول تباينها ،وعلم علما يقينا تفاوتها ،فليس المعرض عن طاعة ربه ،المتبع لهواه ،كمن هو
قانت أي :مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلة ،وأفضل الوقات وهو أوقات الليل ،فوصفه
بكثرة العمل وأفضله ،ثم وصفه بالخوف والرجاء ،وذكر أن متعلق الخوف عذاب الخرة ،على ما
سلف من الذنوب ،وأن متعلق الرجاء ،رحمة اللّه ،فوصفه بالعمل الظاهر والباطن.
{ ُقلْ َهلْ َيسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُونَ } ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي ،وما له في ذلك من
السرار والحكم { وَالّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ } شيئا من ذلك؟ ل يستوي هؤلء ول هؤلء ،كما ل يستوي
الليل والنهار ،والضياء والظلم ،والماء والنار.
{ إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ } إذا ذكروا { أُولُو الْأَلْبَابِ } أي :أهل العقول الزكية الذكية ،فهم الذين يؤثرون
العلى على الدنى ،فيؤثرون العلم على الجهل ،وطاعة اللّه على مخالفته ،لن لهم عقول ترشدهم
للنظر في العواقب ،بخلف من ل لب له ول عقل ،فإنه يتخذ إلهه هواه.
{ ُ { } 10قلْ يَا عِبَادِي الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا رَ ّبكُمْ لِلّذِينَ َأحْسَنُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَ ْرضُ اللّهِ
حسَابٍ }
سعَةٌ إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ
وَا ِ
أي :قل مناديا لشرف الخلق ،وهم المؤمنون ،آمرا لهم بأفضل الوامر ،وهي التقوى ،ذاكرا لهم
السبب الموجب للتقوى ،وهو ربوبية اللّه لهم وإنعامه عليهم ،المقتضي ذلك منهم أن يتقوه ،ومن
ذلك ما مَنّ اللّه عليهم به من اليمان فإنه موجب للتقوى ،كما تقول :أيها الكريم تصدق ،وأيها
الشجاع قاتل.
حسَنَة }
وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقالِ { :للّذِينَ َأحْسَنُوا فِي هَ ِذهِ الدّنْيَا } بعبادة ربهم { َ
ع ِملَ صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى
ورزق واسع ،ونفس مطمئنة ،وقلب منشرح ،كما قال تعالى { :مَنْ َ
وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً }
سعَةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض ،فهاجروا إلى غيرها ،تعبدون فيها ربكم،
{ وَأَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ
وتتمكنون من إقامة دينكم.
حسَنُوا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َنةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع ،وهو
ولما قال { :لِلّذِينَ أَ ْ
أن النص عام ،أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة ،فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها
س َعةٌ } وهنا بشارة نص عليها
ويمتهن ،ل يحصل له ذلك ،دفع هذا الظن بقوله { :وَأَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ
النبي صلى اللّه عليه وسلم ،بقوله ( ل تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ل يضرهم من
خذلهم ول من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) تشير إليه هذه الية ،وترمي إليه من
قريب ،وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة ،فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى
غيرها ،وهذا عام في كل زمان ومكان ،فل بد أن يكون لكل مهاجر ،ملجأ من المسلمين يلجأ إليه،
وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه.
{ ُ { } 16 - 11قلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخِْلصًا َلهُ الدّينَ * وَُأمِرْتُ لِأَنْ َأكُونَ َأ ّولَ ا ْلمُسِْلمِينَ
عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ * ُقلِ اللّهَ أَعْبُدُ ُمخِْلصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا
عصَ ْيتُ رَبّي َ
* ُقلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
سهُ ْم وَأَهْلِي ِهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَلَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ُقلْ إِنّ ا ْلخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ
خ ّوفُ اللّهُ ِبهِ عِبَا َدهُ يَا عِبَادِ فَا ّتقُونِ }
ا ْلمُبِينُ * َلهُمْ مِنْ َف ْوقِهِمْ ظَُللٌ مِنَ النّا ِر َومِنْ تَحْ ِت ِهمْ ظَُللٌ ذَِلكَ يُ َ
أي { ُقلْ } يا أيها الرسول للناس { :إني أمرت أن أعبد ال مخلصا له الدين } في قوله في أول
السورة { :فَاعْ ُبدِ اللّهَ مُخِْلصًا لَهُ الدّينَ }
{ وَُأمِ ْرتُ لِأَنْ َأكُونَ َأ ّولَ ا ْلمُسِْلمِينَ } لني الداعي الهادي للخلق إلى ربهم ،فيقتضي أني أول من
ائتمر بما آمر به ،وأول من أسلم ،وهذا المر ل بد من إيقاعه من محمد صلى ال عليه وسلم،
وممن زعم أنه من أتباعه ،فل بد من السلم في العمال الظاهرة ،والخلص للّه في العمال
الظاهرة والباطنة.
عظِيمٍ }
عصَيْتُ رَبّي } في ما أمرني به من الخلص والسلم { .عَذَابَ َيوْمٍ َ
{ ُقلْ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ
يخلد فيه من أشرك ،ويعاقب فيه من عصى.
{ ُقلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخِْلصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْ ُتمْ مِنْ دُونِهِ } كما قال تعالىُ { :قلْ يَا أَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ*
لَا أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَا ِبدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَا ِبدٌ مَا عَبَدْ ُتمْ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*
َلكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }
س ُهمْ } حيث حرموها الثواب ،واستحقت بسببهم
{ ُقلْ إِنّ الْخَاسِرِينَ } حقيقة هم { الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ
وخيم العقاب { وَأَهْلِي ِهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } أي :فرق بينهم وبينهم ،واشتد عليهم الحزن ،وعظم
الخسرانَ { .ألَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ } الذي ليس مثله خسران ،وهو خسران مستمر ،ل ربح
بعده ،بل ول سلمة.
ثم ذكر شدة ما يحصل لهم من الشقاء فقالَ { :ل ُهمْ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مِنَ النّارِ } أي :قطع عذاب
كالسحاب العظيم { َومِنْ تَحْ ِتهِمْ ظَُللٌ }
خ ّوفُ
{ ذَِلكَ } الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار ،سوط يسوق ال به عباده إلى رحمتهُ { ،ي َ
اللّهُ ِبهِ عِبَا َدهُ يَا عِبَادِ فَا ّتقُونِ } أي :جعل ما أعده لهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى
التقوى ،وزاجر عما يوجب العذاب .فسبحان من رحم عباده في كل شيء ،وسهل لهم الطرق
الموصلة إليه ،وحثهم على سلوكها ،ورغبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس ،وتطمئن له القلوب،
وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير ،وذكر لهم السباب الزاجرة عن تركه.
{ { } 18 - 17وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أَنْ َيعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ َلهُمُ الْبُشْرَى فَبَشّرْ عِبَادِ *
الّذِينَ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْل َق ْولَ فَيَتّ ِبعُونَ َأحْسَنَهُ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َهدَاهُمُ اللّ ُه وَأُولَ ِئكَ ُهمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }
لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم ،فقال { :وَالّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أَنْ َيعْبُدُوهَا }
والمراد بالطاغوت في هذا الموضع ،عبادة غير اللّه ،فاجتنبوها في عبادتها .وهذا من أحسن
الحتراز من الحكيم العليم ،لن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها.
{ وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ } بعبادته وإخلص الدين له ،فانصرفت دواعيهم من عبادة الصنام إلى عبادة
الملك العلم ،ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعاتَ { ،لهُمُ الْبُشْرَى } التي ل يقادر
قدرها ،ول يعلم وصفها ،إل من أكرمهم بها ،وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن،
والرؤيا الصالحة ،والعناية الربانية من اللّه ،التي يرون في خللها ،أنه مريد لكرامهم في الدنيا
والخرة ،ولهم البشرى في الخرة عند الموت ،وفي القبر ،وفي القيامة ،وخاتمة البشرى ما
يبشرهم به الرب الكريم ،من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة.
ولما أخبر أن لهم البشرى ،أمره اللّه ببشارتهم ،وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال:
{ فَ َبشّرْ عِبَادِ الّذِينَ يَسْ َت ِمعُونَ ا ْل َقوْلَ }
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي
اجتنابه ،فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه ،وأحسنه على الطلق كلم اللّه وكلم
حدِيثِ كِتَابًا مُ َتشَا ِبهًا } الية.
رسوله ،كما قال في هذه السورة { :اللّهُ نَ ّزلَ أَحْسَنَ الْ َ
وفي هذه الية نكتة ،وهي :أنه لما أخبر عن هؤلء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون
أحسنه ،كأنه قيل :هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي اللباب ،وحتى
نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي اللباب؟
ومن لبهم وحزمهم ،أنهم عرفوا الحسن من غيره ،وآثروا ما ينبغي إيثاره ،على ما سواه ،وهذا
علمة العقل ،بل ل علمة للعقل سوى ذلك ،فإن الذي ل يميز بين القوال ،حسنها ،وقبيحها ،ليس
من أهل العقول الصحيحة ،أو الذى يميز ،لكن غلبت شهوته عقله ،فبقي عقله تابعا لشهوته فلم
يؤثر الحسن ،كان ناقص العقل.
حقّ عَلَيْهِ كَِلمَةُ ا ْلعَذَابِ َأفَأَ ْنتَ تُ ْنقِذُ مَنْ فِي النّارِ * َلكِنِ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ
{ َ { } 20 - 19أ َفمَنْ َ
خِلفُ اللّهُ ا ْلمِيعَادَ }
َلهُمْ غُ َرفٌ مِنْ َف ْو ِقهَا غُ َرفٌ مَبْنِيّةٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَعْدَ اللّهِ لَا يُ ْ
أي :أفمن وجبت عليه كلمة العذاب باستمراره على غيه وعناده وكفره ،فإنه ل حيلة لك في
هدايته ،ول تقدر تنقذ من في النار ل محالة.
لكن الغنى كل الغنى ،والفوز كل الفوز ،للمتقين الذين أعد لهم من الكرامة وأنواع النعيم ،ما ل
يقادر قدره.
{ َل ُهمْ غُ َرفٌ } أي :منازل عالية مزخرفة ،من حسنها وبهائها وصفائها ،أنه يرى ظاهرها من
باطنها وباطنها من ظاهرها ،ومن علوها وارتفاعها[ ،أنها] ترى كما يرى الكوكب الغابر في
الفق الشرقي أو الغربي ،ولهذا قال { :مِنْ َف ْو ِقهَا غُ َرفٌ } أي :بعضها فوق بعض "مَبْنِيّةٌ" بذهب
وفضة ،وملطها المسك الذفر.
{ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } المتدفقة ،المسقية للبساتين الزاهرة والشجار الطاهرة ،فتغل بأنواع
الثمار اللذيذة ،والفاكهة النضيجة.
{ وَعْدَ اللّهِ لَا يُخِْلفُ اللّهُ ا ْلمِيعَادَ } وقد وعد المتقين هذا الثواب ،فل بد من الوفاء به ،فليوفوا
بخصال التقوى ،ليوفيهم أجورهم.
سمَاءِ مَاءً َفسََلكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَ ْرضِ ُثمّ يُخْرِجُ ِبهِ زَرْعًا مُخْ َتِلفًا
{ َ { } 21ألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
حطَامًا إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
جعَلُهُ ُ
أَ ْلوَانُهُ ُثمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُمصْفَرّا ُثمّ يَ ْ
يذكر تعالى أولي اللباب ،ما أنزله من السماء من الماء ،وأنه سلكه ينابيع في الرض ،أي:
أودعه فيها ينبوعا ،يستخرج بسهولة ويسر { ،ثُمّ ُيخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَِلفًا أَ ْلوَانُهُ } من بر وذرة،
صفَرّا ثُمّ
وشعير وأرز ،وغير ذلكُ { .ثمّ َيهِيجُ } عند استكماله ،أو عند حدوث آفة فيه { فَتَرَاهُ ُم ْ
حطَامًا } متكسرا { إِنّ فِي ذَِلكَ َل ِذكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } يذكرون بها عناية ربهم ورحمته
جعَلُهُ ُ
يَ ْ
بعباده ،حيث يسر لهم هذا الماء ،وخزنه بخزائن الرض تبعا لمصالحهم.
ويذكرون به كمال قدرته ،وأنه يحيي الموتى ،كما أحيا الرض بعد موتها ،ويذكرون به أن الفاعل
لذلك هو المستحق للعبادة.
اللّهم اجعلنا من أولي اللباب ،الذين نوهت بذكرهم ،وهديتهم بما أعطيتهم من العقول ،وأريتهم من
أسرار كتابك وبديع آياتك ما لم يصل إليه غيرهم ،إنك أنت الوهاب.
{ َ { } 22أ َفمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْ َرهُ لِلْإِسْلَامِ َف ُهوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ َفوَ ْيلٌ لِ ْلقَاسِ َيةِ قُلُو ُبهُمْ مِنْ ِذكْرِ اللّهِ
أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
أي :أفيستوي من شرح اللّه صدره للسلم ،فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها ،منشرحا قرير
علَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ } كمن ليس كذلك،
العين ،على بصيرة من أمره ،وهو المراد بقولهَ { :ف ُهوَ َ
بدليل قولهَ { :فوَ ْيلٌ لِ ْلقَاسِ َيةِ قُلُو ُبهُمْ مِنْ ِذكْرِ اللّهِ } أي :ل تلين لكتابه ،ول تتذكر آياته ،ول تطمئن
بذكره ،بل هي معرضة عن ربها ،ملتفتة إلى غيره ،فهؤلء لهم الويل الشديد ،والشر الكبير.
{ أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلل أعظم من ضلل من أعرض عن وليه؟ ومن كل السعادة
في القبال عليه ،وقسا قلبه عن ذكره ،وأقبل على كل ما يضره؟"
{ مَثَا ِنيَ } أي :تثنى فيه القصص والحكام ،والوعد والوعيد ،وصفات أهل الخير ،وصفات أهل
الشر ،وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته ،وهذا من جللته ،وحسنه ،فإنه تعالى ،لما علم احتياج الخلق
إلى معانيه المزكية للقلوب ،المكملة للخلق ،وأن تلك المعاني للقلوب ،بمنزلة الماء لسقي
الشجار ،فكما أن الشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت ،بل ربما تلفت ،وكلما تكرر سقيها
حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة ،فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلم اللّه تعالى
عليه ،وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن ،لم يقع منه موقعا ،ولم تحصل
النتيجة منه ،ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم ،اقتداء بما هو تفسير له ،فل تجد فيه
الحوالة على موضع من المواضع ،بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى ،غير مراع لما مضى
مما يشبهه ،وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة ،وهكذا ينبغي للقارئ
للقرآن ،المتدبر لمعانيه ،أن ل يدع التدبر في جميع المواضع منه ،فإنه يحصل له بسبب ذلك خير
كثير ،ونفع غزير.
ولما كان القرآن العظيم بهذه الجللة والعظمة ،أثّر في قلوب أولي اللباب المهتدين ،فلهذا قال
شوْنَ رَ ّب ُهمْ } لما فيه من التخويف والترهيب المزعجُ { ،ثمّ تَلِينُ
شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْ َ
تعالىَ { :تقْ َ
جُلُو ُدهُ ْم َوقُلُو ُبهُمْ إِلَى ِذكْرِ اللّهِ } أي :عند ذكر الرجاء والترغيب ،فهو تارة يرغبهم لعمل الخير،
وتارة يرهبهم من عمل الشر.
{ ذَِلكَ } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { هُدَى اللّهِ } أي :هداية منه لعباده ،وهو من جملة
فضله وإحسانه عليهمَ { ،يهْدِي بِهِ } أي :بسبب ذلك { مَنْ َيشَاءُ } من عباده .ويحتمل أن المراد
بقوله { :ذَِلكَ } أي :القرآن الذي وصفناه لكم.
{ هُدَى اللّهِ } الذي ل طريق يوصل إلى اللّه إل منه { َي ْهدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } ممن حسن
ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَامِ }
قصده ،كما قال تعالى { َي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ
{ َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَادٍ } لنه ل طريق يوصل إليه إل توفيقه والتوفيق للقبال على
كتابه ،فإذا لم يحصل هذا ،فل سبيل إلى الهدى ،وما هو إل الضلل المبين والشقاء.
جهِهِ سُوءَ ا ْل َعذَابِ َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة َوقِيلَ لِلظّاِلمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْسِبُونَ
{ َ { } 26 - 24أ َفمَنْ يَ ّتقِي ِبوَ ْ
شعُرُونَ * فَأَذَا َق ُهمُ اللّهُ الْخِ ْزيَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا
* كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ فَأَتَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ
وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ }
أي :أفيستوي هذا الذي هداه اللّه ،ووفقه لسلوك الطريق الموصلة لدار كرامته ،كمن كان في
الضلل واستمر على عناده حتى قدم القيامة ،فجاءه العذاب العظيم فجعل يتقي بوجهه الذي هو
أشرف العضاء ،وأدنى شيء من العذاب يؤثر فيه ،فهو يتقي فيه سوء العذاب لنه قد غلت يداه
ورجلهَ { ،وقِيلَ لِلظّاِلمِينَ } أنفسهم ،بالكفر والمعاصي ،توبيخا وتقريعا { :ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َتكْسِبُونَ
}
شعُرُونَ }
{ َك ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } من المم كما كذب هؤلء { ،فَأَتَاهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ
جاءهم في غفلة أول نهار ،أو هم قائلون.
{ فََأذَا َقهُمُ اللّهُ } بذلك العذاب { ا ْلخِ ْزيَ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } فافتضحوا عند اللّه وعند خلقه { وََلعَذَابُ
الْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } فليحذر هؤلء من المقام على التكذيب ،فيصيبهم ما أصاب أولئك
من التعذيب.
{ { } 31 - 27وََلقَ ْد ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيّا
جلٍ َهلْ
عوَجٍ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ * ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا َرجُلًا فِيهِ شُ َركَاءُ مُتَشَا ِكسُونَ وَ َرجُلًا سََلمًا لِ َر ُ
غَيْرَ ذِي ِ
ت وَإِ ّنهُمْ مَيّتُونَ * ثُمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عِ ْندَ
حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ * إِ ّنكَ مَ ّي ٌ
يَسْ َتوِيَانِ مَثَلًا ا ْل َ
صمُونَ }
رَ ّبكُمْ َتخْ َت ِ
يخبر تعالى أنه ضرب في القرآن من جميع المثال ،أمثال أهل الخير وأمثال أهل الشر ،وأمثال
التوحيد والشرك ،وكل مثل يقرب حقائق الشياء ،والحكمة في ذلك { َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ } عندما
نوضح لهم الحق فيعلمون ويعملون.
عوَجٍ } أي :جعلناه قرآنا عربيا ،واضح اللفاظ ،سهل المعاني ،خصوصا
{ قُرآنًا عَرَبِيّا غَيْرَ ذِي ِ
عوَجٍ } أي :ليس فيه خلل ول نقص بوجه من الوجوه ،ل في ألفاظه ول
على العرب { .غَيْرَ ذِي ِ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَى عَ ْب ِدهِ
في معانيه ،وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته كما قال تعالى { :الْ َ
عوَجَا قَ ّيمًا }
ج َعلْ لَهُ ِ
ا ْلكِتَابَ وَلَمْ يَ ْ
{ َلعَّل ُهمْ يَ ّتقُونَ } ال تعالى ،حيث سهلنا عليهم طرق التقوى العلمية والعملية ،بهذا القرآن العربي
المستقيم ،الذي ضرب اللّه فيه من كل مثل.
ثم ضرب مثل للشرك والتوحيد فقال { :ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا رَجُلًا } أي :عبدا { فِيهِ شُ َركَاءُ مُ َتشَاكِسُونَ
} فهم كثيرون ،وليسوا متفقين على أمر من المور وحالة من الحالت حتى تمكن راحته ،بل هم
متشاكسون متنازعون فيه ،كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد الخر غيره ،فما تظن حال هذا الرجل
مع هؤلء الشركاء المتشاكسين؟
جلٍ } أي :خالصا له ،قد عرف مقصود سيده ،وحصلت له الراحة التامةَ { .هلْ
{ وَ َرجُلًا سََلمًا لِ َر ُ
يَسْ َتوِيَانِ } أي :هذان الرجلن { مَثَلًا } ؟ ل يستويان.
كذلك المشرك ،فيه شركاء متشاكسون ،يدعو هذا ،ثم يدعو هذا ،فتراه ل يستقر له قرار ،ول
يطمئن قلبه في موضع ،والموحد مخلص لربه ،قد خلصه اللّه من الشركة لغيره ،فهو في أتم
ح ْمدُ لِلّهِ } على تبيين الحق من الباطل ،وإرشاد
راحة وأكمل طمأنينة ،فـ { َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلًا الْ َ
الجهالَ { .بلْ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ }
جهَنّمَ مَ ْثوًى
{ َ { } 35 - 32فمَنْ أَظَْلمُ ِممّنْ كَ َذبَ عَلَى اللّهِ َوكَ ّذبَ بِالصّدْقِ ِإذْ جَا َءهُ أَلَيْسَ فِي َ
ق َوصَدّقَ بِهِ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلمُ ّتقُونَ * َل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ ذَِلكَ
لِ ْلكَافِرِينَ * وَالّذِي جَاءَ بِالصّ ْد ِ
عمِلُوا وَ َيجْزِ َيهُمْ َأجْرَهُمْ بَِأحْسَنِ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
سوَأَ الّذِي َ
حسِنِينَ * لِ ُي َكفّرَ اللّهُ عَ ْن ُهمْ أَ ْ
جَزَاءُ ا ْلمُ ْ
يقول تعالى ،محذرا ومخيرا :أنه ل أظلم وأشد ظلما { ِممّنْ كَ َذبَ عَلَى اللّهِ } إما بنسبته إلى ما ل
يليق بجلله ،أو بادعاء النبوة ،أو الخبار بأن اللّه تعالى قال كذا ،أو أخبر بكذا ،أو حكم بكذا وهو
كاذب ،فهذا داخل في قوله تعالى { :وَأَنْ َتقُولُوا عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ } إن كان جاهل ،وإل فهو
أشنع وأشنع.
{ َوكَ ّذبَ بِالصّ ْدقِ ِإذْ جَا َءهُ } أي :ما أظلم ممن جاءه الحق المؤيد بالبينات فكذبه ،فتكذيبه ظلم
عظيم منه ،لنه رد الحق بعد ما تبين له ،فإن كان جامعا بين الكذب على اللّه والتكذيب بالحق،
كان ظلما على ظلم.
جهَنّمَ مَ ْثوًى لِ ْلكَافِرِينَ } يحصل بها الشتفاء منهم ،وأخذ حق اللّه من كل ظالم وكافر{ .
{ َألَيْسَ فِي َ
إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }
ولما ذكر الكاذب المكذب وجنايته وعقوبته ،ذكر الصادق المصدق وثوابه ،فقال { :وَالّذِي جَاءَ
بِالصّدْقِ } في قوله وعمله ،فدخل في ذلك النبياء ومن قام مقامهم ،ممن صدق فيما قاله عن خبر
اللّه وأحكامه ،وفيما فعله من خصال الصدق.
{ َوصَدّقَ بِهِ } أي :بالصدق لنه قد يجيء النسان بالصدق ،ولكن قد ل يصدق به ،بسبب
استكباره ،أو احتقاره لمن قاله وأتى به ،فل بد في المدح من الصدق والتصديق ،فصدقه يدل على
علمه وعدله ،وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره.
{ أُولَ ِئكَ } أي :الذين وفقوا للجمع بين المرين { ُهمُ ا ْلمُ ّتقُونَ } فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى
الصدق بالحق والتصديق به.
{ َل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ } من الثواب ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب
بشر .فكل ما تعلقت به إرادتهم ومشيئتهم ،من أصناف اللذات والمشتهيات ،فإنه حاصل لهم ،معد
مهيأ { ،ذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلمُحْسِنِينَ } الذين يعبدون اللّه كأنهم يرونه ،فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم
{ ا ْلمُحْسِنِينَ } إلى عباد اللّه.
والقسم الخير قسم المباحات وما ل يتعلق به ثواب ول عقاب ،والسوأ ،المعاصي كلها ،والحسن
عمِلُوا }
سوَأَ الّذِي َ
الطاعات كلها ،فبهذا التفصيل ،يتبين معنى الية ،وأن قوله { :لِ ُي َكفّرَ اللّهُ عَ ْنهُمْ أَ ْ
حسَنِ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
أي :ذنوبهم الصغار ،بسبب إحسانهم وتقواهم { ،وَيَجْزِ َيهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ
أي :بحسناتهم كلها { إِنّ اللّهَ لَا يَظِْلمُ مِ ْثقَالَ ذَ ّر ٍة وَإِنْ َتكُ حَسَ َنةً ُيضَاعِ ْفهَا وَ ُيؤْتِ مِنْ َلدُنْهُ َأجْرًا
عَظِيمًا }
خ ّوفُو َنكَ بِالّذِينَ مِنْ دُونِ ِه َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
{ { } 37 - 36أَلَيْسَ اللّهُ ِبكَافٍ عَبْ َد ُه وَيُ َ
ضلّ أَلَيْسَ اللّهُ ِبعَزِيزٍ ذِي انْ ِتقَامٍ }
* َومَنْ َيهْدِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ ُم ِ
{ َألَيْسَ اللّهُ ِبكَافٍ عَ ْب َدهُ } أي :أليس من كرمه وجوده ،وعنايته بعبده ،الذي قام بعبوديته ،وامتثل
أمره واجتنب نهيه ،خصوصا أكمل الخلق عبودية لربه ،وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ،فإن
اللّه تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه ،ويدفع عنه من ناوأه بسوء.
خ ّوفُو َنكَ بِالّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الصنام والنداد أن تنالك بسوء ،وهذا من غيهم وضللهم.
{ وَ ُي َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلْ َأفَرَأَيْ ُتمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ
{ { } 38وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خَلَقَ ال ّ
حمَتِهِ ُقلْ حَسْ ِبيَ
سكَاتُ َر ْ
حمَةٍ َهلْ هُنّ ُممْ ِ
ت ضُ ّرهِ َأوْ أَرَادَنِي بِ َر ْ
شفَا ُ
إِنْ أَرَادَ ِنيَ اللّهُ ِبضُرّ َهلْ هُنّ كَا ِ
علَيْهِ يَ َت َو ّكلُ ا ْلمُ َتوَكّلُونَ }
اللّهُ َ
أي :ولئن سألت هؤلء الضلل الذين يخوفونك بالذين من دونه ،وأقمت عليهم دليل من أنفسهم،
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } لم يثبتوا للهتهم من خلقها شيئا { .لَ َيقُولُنّ اللّهُ } الذي
فقلت { :مَنْ خَلَقَ ال ّ
خلقها .وحدهُ { .قلْ } لهم مقررا عجز آلهتهم ،بعد ما تبينت قدرة اللّهَ { :أفَرَأَيْ ُتمْ } أي :أخبروني {
مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ أَرَادَ ِنيَ اللّهُ ِبضُرّ } أيّ ضر كان.
حمَةٍ }
شفَاتُ ضُ ّرهِ } بإزالته بالكلية ،أو بتخفيفه من حال إلى حال؟َ { .أوْ أَرَادَنِي بِ َر ْ
{ َهلْ هُنّ كَا ِ
حمَتِهِ } ومانعاتها عني؟.سيقولون:
سكَاتُ رَ ْ
ي بها منفعة في ديني أو دنيايَ { .هلْ هُنّ ُممْ ِ
يوصل إل ّ
ل يكشفون الضر ول يمسكون الرحمة.
قل لهم بعد ما تبين الدليل القاطع على أنه وحده المعبود ،وأنه الخالق للمخلوقات ،النافع الضار
وحده ،وأن غيره عاجز من كل وجه.عن الخلق والنفع والضر ،مستجلبا كفايته ،مستدفعا مكرهم
وكيدهمُ { :قلْ حَسْ ِبيَ اللّهُ عَلَيْهِ يَ َت َوكّلُ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ } أي :عليه يعتمد المعتمدون في جلب مصالحهم
ودفع مضارهم.،فالذي بيده -وحده -الكفاية هو حسبي ،سيكفيني كل ما أهمني وما ل أهتم به.
عذَابٌ
سوْفَ َتعَْلمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ َ
عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ َف َ
{ ُ { } 40 - 39قلْ يَا َقوْمِ ا ْ
عذَابٌ مُقِيمٌ }
حلّ عَلَيْهِ َ
يُخْزِي ِه وَيَ ِ
يخبر تعالى أنه أنزل على رسوله الكتاب المشتمل على الحق ،في أخباره وأوامره ونواهيه ،الذي
هو مادة الهداية ،وبلغ لمن أراد الوصول إلى اللّه وإلى دار كرامته ،وأنه قامت به الحجة على
العالمين.
{ َفمَنِ اهْتَدَى } بنوره واتبع أوامره فإن نفع ذلك يعود إلى نفسه { َومَنْ ضَلّ } بعدما تبين له
ضلّ عَلَ ْيهَا } ل يضر اللّه شيئاَ { .ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِب َوكِيلٍ } تحفظ عليهم أعمالهم
الهدى { فَإِ ّنمَا َي ِ
وتحاسبهم عليها ،وتجبرهم على ما تشاء ،وإنما أنت مبلغ تؤدي إليهم ما أمرت به.
يخبر تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد ،في حال يقظتهم ونومهم ،وفي حال حياتهم وموتهم،
فقال { :اللّهُ يَ َت َوفّى الْأَ ْنفُسَ حِينَ َموْ ِتهَا } وهذه الوفاة الكبرى ،وفاة الموت.
وإخباره أنه يتوفى النفس وإضافة الفعل إلى نفسه ،ل ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ
وأعوانه ،كما قال تعالىُ { :قلْ يَ َت َوفّاكُمْ مََلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِب ُكمْ } { حَتّى ِإذَا جَاءَ أَ َ
َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَ ُهمْ لَا ُيفَرّطُونَ } لنه تعالى يضيف الشياء إلى نفسه ،باعتبار أنه الخالق المدبر،
ويضيفها إلى أسبابها ،باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من المور سببا.
وقوله { :وَالّتِي لَمْ َت ُمتْ فِي مَنَا ِمهَا } وهذه الموتة الصغرى ،أي :ويمسك النفس التي لم تمت في
سكُ } من هاتين النفسين النفس { الّتِي َقضَى عَلَ ْيهَا ا ْل َم ْوتَ } وهي نفس من كان
منامها { ،فَ ُيمْ ِ
مات ،أو قضي أن يموت في منامه.
وفي هذه الية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه ،مخالف جوهره جوهر البدن ،وأنها
مخلوقة مدبرة ،يتصرف اللّه فيها في الوفاة والمساك والرسال ،وأن أرواح الحياء والموات
تتلقى في البرزخ ،فتجتمع ،فتتحادث ،فيرسل اللّه أرواح الحياء ،ويمسك أرواح الموات.
ش َفعَاءَ ُقلْ َأوََلوْ كَانُوا لَا َيمِْلكُونَ شَيْئًا وَلَا َي ْعقِلُونَ * ُقلْ
خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ ُ
{ { } 44 - 43أَمِ اتّ َ
جعُونَ }
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُثمّ إِلَيْهِ تُرْ َ
جمِيعًا َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
شفَاعَةُ َ
لِلّهِ ال ّ
ينكر تعالى ،على من اتخذ من دونه شفعاء يتعلق بهم ويسألهم ويعبدهمُ { .قلْ } لهم -مبينا
جهلهم ،وأنها ل تستحق شيئا من العبادةَ { :-أوََلوْ كَانُوا } أي :من اتخذتم من الشفعاء { لَا َيمِْلكُونَ
شَيْئًا } أي :ل مثقال ذرة في السماوات ول في الرض ،ول أصغر من ذلك ول أكبر ،بل وليس
لهم عقل ،يستحقون أن يمدحوا به ،لنها جمادات من أحجار وأشجار وصور وأموات.،فهل يقال:
إن لمن اتخذها عقل؟ أم هو من أضل الناس وأجهلهم وأعظمهم ظلما؟.
جمِيعًا } لن المر كله للّه.وكل شفيع فهو يخافه ،ول يقدر أن يشفع
شفَاعَةُ َ
{ ُقلْ } لهم { :لِلّهِ ال ّ
عنده أحد إل بإذنه ،فإذا أراد رحمة عبده ،أذن للشفيع الكريم عنده أن يشفع ،رحمة بالثنين .ثم
ت وَالْأَ ْرضِ } أي :جميع ما فيهما من الذوات
سمَاوَا ِ
قرر أن الشفاعة كلها له بقوله { َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
والفعال والصفات .فالواجب أن تطلب الشفاعة ممن يملكها ،وتخلص له العبادة { .ثُمّ إِلَيْهِ
جعُونَ } فيجازي المخلص له بالثواب الجزيل ،ومن أشرك به بالعذاب الوبيل.
تُرْ َ
شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ
{ { } 46 - 45وَإِذَا ُذكِرَ اللّ ُه َوحْ َدهُ ا ْ
حكُمُ بَيْنَ
شهَا َدةِ أَ ْنتَ َت ْ
ب وَال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ عَاِلمَ ا ْلغَ ْي ِ
دُونِهِ ِإذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ * ُقلِ الّلهُمّ فَاطِرَ ال ّ
عِبَا ِدكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْ َتِلفُونَ }
يذكر تعالى حالة المشركين ،وما الذي اقتضاه شركهم أنهم { إِذَا ُذكِرَ اللّهُ } توحيدا له ،وأمر
بإخلص الدين له ،وترك ما يعبد من دونه ،أنهم يشمئزون وينفرون ،ويكرهون ذلك أشد الكراهة.
{ وَِإذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الصنام والنداد ،ودعا الداعي إلى عبادتها ومدحهاِ { ،إذَا ُهمْ
يَسْتَبْشِرُونَ } بذلك ،فرحا بذكر معبوداتهم ،ولكون الشرك موافقا لهوائهم ،وهذه الحال أشر
الحالت وأشنعها ،ولكن موعدهم يوم الجزاء .فهناك يؤخذ الحق منهم ،وينظر :هل تنفعهم آلهتهم
التي كانوا يدعون من دون اللّه شيئا؟.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي :خالقهما ومدبرهما { .عَاِلمَ ا ْلغَ ْيبِ } الذي
ولهذا قال { ُقلِ الّل ُهمّ فَاطِرَ ال ّ
شهَا َدةِ } الذي نشاهده.
غاب عن أبصارنا وعلمنا { وَال ّ
حكُمُ بَيْنَ عِبَا ِدكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ } وإن من أعظم الختلف اختلف الموحدين
{ أَ ْنتَ َت ْ
المخلصين القائلين :إن ما هم عليه هو الحق ،وإن لهم الحسنى في الخرة دون غيرهم،
والمشركين الذين اتخذوا من دونك النداد والوثان ،وسووا فيك من ل يسوى شيئا ،وتنقصوك
غاية التنقص ،واستبشروا عند ذكر آلهتهم ،واشمأزوا عند ذكرك ،وزعموا مع هذا أنهم على الحق
وغيرهم على الباطل ،وأن لهم الحسنى.
ط َعتْ
صمُوا فِي رَ ّبهِمْ فَالّذِينَ َكفَرُوا قُ ّ
صمَانِ اخْ َت َ
خ ْ
وقد أخبرنا بالفصل بينهم بعدها بقولهَ { :هذَانِ َ
صهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُو ِنهِ ْم وَا ْلجُلُو ُد وََلهُمْ َمقَامِعُ
حمِيمُ ُي ْ
س ِهمُ الْ َ
صبّ مِنْ َفوْقِ رُءُو ِ
َلهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ُي َ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا
خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
حدِيدٍ } إلى أن قال { :إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
مِنْ َ
س ُهمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ
الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِنْ ذَ َه ٍ
لما ذكر تعالى أنه الحاكم بين عباده ،وذكر مقالة المشركين وشناعتها ،كأن النفوس تشوقت إلى ما
يفعل اللّه بهم يوم القيامة ،فأخبر أن لهم { سُوءَ ا ْلعَذَابِ } أي :أشده وأفظعه ،كما قالوا أشد الكفر
وأشنعه ،وأنهم على -الفرض والتقدير -لو كان لهم ما في الرض جميعا ،من ذهبها وفضتها
ولؤلؤها وحيواناتها وأشجارها وزروعها وجميع أوانيها وأثاثها ومثله معه ،ثم بذلوه يوم القيامة
ليفتدوا به من العذاب وينجوا منه ،ما قبل منهم ،ول أغنى عنهم من عذاب اللّه شيئاَ { ،يوْمَ لَا يَ ْنفَعُ
مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلّا مَنْ أَتَى اللّهَ ِبقَ ْلبٍ سَلِيمٍ }
{ وَبَدَا َلهُمْ مِنَ اللّهِ مَا لَمْ َيكُونُوا َيحْتَسِبُونَ } أي :يظنون من السخط العظيم ،والمقت الكبير ،وقد
كانوا يحكمون لنفسهم بغير ذلك.
{ وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا َكسَبُوا } أي :المور التي تسوؤهم ،بسبب صنيعهم وكسبهمَ { .وحَاقَ ِبهِمْ مَا
كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } من الوعيد والعذاب الذي نزل بهم ،وما حل عليهم العقاب.
يخبر تعالى عن حالة النسان وطبيعته ،أنه حين يمسه ضر ،من مرض أو شدة أو كرب { .دَعَانَا
خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا } فكشفنا ضره وأزلنا مشقته ،عاد بربه
} ملحا في تفريج ما نزل به { ثُمّ إِذَا َ
علَى عِ ْلمٍ } أي :علم من اللّه ،أني له أهل ،وأني
كافرا ،ولمعروفه منكرا .و { قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ َ
مستحق له ،لني كريم عليه ،أو على علم مني بطرق تحصيله.
قال تعالىَ { :بلْ ِهيَ فِتْنَةٌ } يبتلي اللّه به عباده ،لينظر من يشكره ممن يكفره { .وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا
َيعَْلمُونَ } فلذلك يعدون الفتنة منحة ،ويشتبه عليهم الخير المحض ،بما قد يكون سببا للخير أو
للشر.
قال تعالىَ { :قدْ قَاَلهَا الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } أي :قولهم { إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } فما زالت متوارثة عند
المكذبين ،ل يقرون بنعمة ربهم ،ول يرون له حقا.،فلم يزل دأبهم حتى أهلكوا ،ولم يغن { عَ ْنهُمْ
مَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ } حين جاءهم العذاب.
{ فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا } والسيئات في هذا الموضع :العقوبات ،لنها تسوء النسان وتحزنه.
{ وَالّذِينَ ظََلمُوا من هؤلء سَ ُيصِي ُبهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُوا } فليسوا خيرا من أولئك ،ولم يكتب لهم
براءة في الزبر.
ولما ذكر أنهم اغتروا بالمال ،وزعموا -بجهلهم -أنه يدل على حسن حال صاحبه ،أخبرهم
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَاءُ } من عباده ،سواء كان صالحا
تعالى ،أن رزقه ،ل يدل على ذلك ،وأنه { يَبْ ُ
أو طالحا { وَ َيقْدِرُ } الرزق ،أي :يضيقه على من يشاء ،صالحا أو طالحا ،فرزقه مشترك بين
البرية.،واليمان والعمل الصالح يخص به خير البرية { .إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } أي:
بسط الرزق وقبضه ،لعلمهم أن مرجع ذلك ،عائد إلى الحكمة والرحمة ،وأنه أعلم بحال عبيده،
فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم ،لنه لو بسطه لبغوا في الرض ،فيكون تعالى مراعيا في ذلك
صلح دينهم الذي هو مادة سعادتهم وفلحهم ،واللّه أعلم.
يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه ،ويحثهم على النابة قبل أن ل يمكنهم ذلك فقالُ { :قلْ }
يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه ،مخبرا للعباد عن ربهم { :يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ
سهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ،والسعي في مساخط علم
أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
الغيوب.
حمَةِ اللّهِ } أي :ل تيأسوا منها ،فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ،وتقولوا قد كثرت
{ لَا َتقْنَطُوا مِنْ رَ ْ
ذنوبنا وتراكمت عيوبنا ،فليس لها طريق يزيلها ول سبيل يصرفها ،فتبقون بسبب ذلك مصرين
على العصيان ،متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ،ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه
وجوده ،واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك ،والقتل ،والزنا ،والربا ،والظلم ،وغير ذلك
من الذنوب الكبار والصغار { .إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } أي :وصفه المغفرة والرحمة ،وصفان
لزمان ذاتيان ،ل تنفك ذاته عنهما ،ولم تزل آثارهما سارية في الوجود ،مالئة للموجود.،تسح يداه
من الخيرات آناء الليل والنهار ،ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار ،والعطاء
أحب إليه من المنع ،والرحمة سبقت الغضب وغلبته. ،ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن
لم يأت بها العبد ،فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ،أعظمها وأجلها ،بل ل سبب لها
غيره ،النابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح ،والدعاء والتضرع والتأله والتعبد .،فهلم إلى هذا
السبب الجل ،والطريق العظم.
ولهذا أمر تعالى بالنابة إليه ،والمبادرة إليها فقال { :وَأَنِيبُوا إِلَى رَ ّبكُمْ } بقلوبكم { وَأَسِْلمُوا لَهُ }
بجوارحكم ،إذا أفردت النابة ،دخلت فيها أعمال الجوارح ،وإذا جمع بينهما ،كما في هذا
الموضع ،كان المعنى ما ذكرنا.
وفي قوله { إِلَى رَ ّبكُ ْم وَأَسِْلمُوا َلهُ } دليل على الخلص ،وأنه من دون إخلص ،ل تفيد العمال
الظاهرة والباطنة شيئا { .مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ ا ْلعَذَابُ } مجيئا ل يدفع { ُثمّ لَا تُ ْنصَرُونَ } فكأنه قيل:
ما هي النابة والسلم؟ وما جزئياتها وأعمالها؟
فأجاب تعالى بقوله { :وَاتّ ِبعُوا َأحْسَنَ مَا أُنْ ِزلَ ِإلَ ْيكُمْ مِنْ رَ ّبكُمْ } مما أمركم من العمال الباطنة،
كمحبة اللّه ،وخشيته ،وخوفه ،ورجائه ،والنصح لعباده ،ومحبة الخير لهم ،وترك ما يضاد ذلك.
ومن العمال الظاهرة ،كالصلة ،والزكاة والصيام ،والحج ،والصدقة ،وأنواع الحسان ،ونحو
ذلك ،مما أمر اللّه به ،وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ،فالمتبع لوامر ربه في هذه المور
شعُرُونَ } وكل هذا حثّ
ونحوها هو المنيب المسلم { .،مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْتِ َي ُكمُ ا ْلعَذَابُ َبغْتَ ًة وَأَنْ ُتمْ لَا تَ ْ
على المبادرة وانتهاز الفرصة.
ثم حذرهم { أَن } يستمروا على غفلتهم ،حتى يأتيهم يوم يندمون فيه ،ول تنفع الندامة.و { َتقُولَ
طتُ فِي جَ ْنبِ اللّهِ } أي :في جانب حقه { .وَإِنْ كُنْت } في الدنيا { َلمِنَ
حسْرَتَى عَلَى مَا فَرّ ْ
َنفْسٌ يَا َ
السّاخِرِينَ } في إتيان الجزاء ،حتى رأيته عيانا.
{ َأوْ َتقُولَ َلوْ أَنّ اللّهَ َهدَانِي َلكُ ْنتُ مِنَ ا ْلمُتّقِينَ } و"لو" في هذا الموضع للتمني.،أي :ليت أن اللّه
هداني فأكون متقيا له ،فأسلم من العقاب وأستحق الثواب ،وليست "لو" هنا شرطية ،لنها لو كانت
شرطية ،لكانوا محتجين بالقضاء والقدر على ضللهم ،وهو حجة باطلة ،ويوم القيامة تضمحل كل
حجة باطلة.
{ َأوْ َتقُولَ حِينَ تَرَى ا ْلعَذَابَ } وتجزم بوروده { َلوْ أَنّ لِي كَ ّرةً } أي :رجعة إلى الدنيا لكنت { مِنَ
حسِنِينَ } قال تعالى :إن ذلك غير ممكن ول مفيد ،وإن هذه أماني باطلة ل حقيقة لها ،إذ ل
ا ْلمُ ْ
يتجدد للعبد َلوْ رُدّ ،بيان بعد البيان الول.
{ بَلَى َقدْ جَاءَ ْتكَ آيَاتِي } الدالة دللة ل يمترى فيها .على الحق { َف َكذّ ْبتَ ِبهَا وَاسْ َتكْبَ ْرتَ } عن
اتباعها { َوكُ ْنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ } فسؤال الرد إلى الدنيا ،نوع عبث { ،وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَ ْنهُ
وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }
جهَنّمَ مَ ْثوًى
سوَ ّدةٌ أَلَيْسَ فِي َ
{ { } 61 - 60وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّ ِه وُجُو ُه ُهمْ مُ ْ
سهُمُ السّو ُء وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ }
لِ ْلمُ َتكَبّرِينَ * وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ ا ّت َقوْا ِب َمفَازَتِهِمْ لَا َيمَ ّ
يخبر تعالى عن خزي الذين كذبوا عليه ،وأن وجوههم يوم القيامة مسودة كأنها الليل البهيم،
يعرفهم بذلك أهل الموقف ،فالحق أبلج واضح كأنه الصبح.،فكما سوّدوا وجه الحق بالكذب ،سود
اللّه وجوههم ،جزاء من جنس عملهم.
والكذب على اللّه يشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد والصاحبة ،والخبار عنه بما ل يليق
بجلله ،أو ادعاء النبوة ،أو القول في شرعه بما لم يقله ،والخبار بأنه قاله وشرعه.
ولما ذكر حالة المتكبرين ،ذكر حالة المتقين ،فقال { :وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ ا ّت َقوْا ِب َمفَازَتِهِمْ } أي:
بنجاتهم ،وذلك لن معهم آلة النجاة ،وهي تقوى اللّه تعالى ،التي هي العدة عند كل هول وشدة.
سهُمُ السّوءُ } أي :العذاب الذي يسوؤهم { وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ } فنفى عنهم مباشرة العذاب
{ لَا َيمَ ّ
وخوفه ،وهذا غاية المان.
فلهم المن التام ،يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السلم ،فحينئذ يأمنون من كل سوء ومكروه،
شكُورٌ }
حمْدُ لِلّهِ الّذِي َأذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ إِنّ رَبّنَا َل َغفُورٌ َ
وتجري عليهم نضرة النعيم ،ويقولون { ا ْل َ
وليس كلم اللّه من الشياء المخلوقة ،لن الكلم صفة المتكلم ،واللّه تعالى بأسمائه وصفاته أول
ليس قبله شيء ،فأخذ أهل العتزال من هذه الية ونحوها أنه مخلوق ،من أعظم الجهل ،فإنه
تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته ،ولم يحدث له صفة من صفاته ،ولم يكن معطل عنها بوقت من
الوقات ،والشاهد من هذا ،أن اللّه تعالى أخبر عن نفسه الكريمة أنه خالق لجميع العالم العلوي
والسفلي ،وأنه على كل شيء وكيل ،والوكالة التامة ل بد فيها من علم الوكيل ،بما كان وكيل
عليه ،وإحاطته بتفاصيله ،ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه ،ليتمكن من التصرف فيه ،ومن
حفظ لما هو وكيل عليه ،ومن حكمة ،ومعرفة بوجوه التصرفات ،ليصرفها ويدبرها على ما هو
الليق ،فل تتم الوكالة إل بذلك كله ،فما نقص من ذلك ،فهو نقص فيها.
ومن المعلوم المتقرر ،أن اللّه تعالى منزه عن كل نقص في صفة من صفاته.،فإخباره بأنه على
كل شيء وكيل ،يدل على إحاطة علمه بجميع الشياء ،وكمال قدرته على تدبيرها ،وكمال تدبيره،
وكمال حكمته التي يضع بها الشياء مواضعها.
حمَةٍ
ت وَالْأَ ْرضِ } أي :مفاتيحها ،علما وتدبيرا ،فـ { مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ
سمَاوَا ِ
{ َلهُ َمقَالِيدُ ال ّ
حكِيمُ } فلما بين من عظمته ما
سلَ لَهُ مِنْ َبعْ ِد ِه وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
سكْ فَلَا مُرْ ِ
سكَ َلهَا َومَا ُيمْ ِ
فَلَا ُممْ ِ
يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجلل وإكراما ،ذكر حال من عكس القضية فلم يقدره حق قدره،
فقال { :وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ } الدالة على الحق اليقين والصراط المستقيم { .أُولَ ِئكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ } خسروا ما به تصلح القلوب من التأله والخلص للّه .،وما به تصلح اللسن من
إشغالها بذكر اللّه ،وما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه.،وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب
والبدان ،وخسروا جنات النعيم ،وتعوضوا عنها بالعذاب الليم.
{ ُقلْ } يا أيها الرسول لهؤلء الجاهلين ،الذين دعوك إلى عبادة غير اللّهَ { :أ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ْأمُرُونّي
أَعْبُدُ أَ ّيهَا الْجَاهِلُونَ } أي :هذا المر صدر من جهلكم ،وإل فلو كان لكم علم بأن اللّه تعالى الكامل
من جميع الوجوه ،مسدي جميع النعم ،هو المستحق للعبادة ،دون من كان ناقصا من كل وجه ،ل
ينفع ول يضر ،لم تأمروني بذلك.
ك وَإِلَى الّذِينَ
حيَ إِلَ ْي َ
وذلك لن الشرك باللّه محبط للعمال ،مفسد للحوال ،ولهذا قال { :وََلقَدْ أُو ِ
عمَُلكَ } هذا مفرد مضاف ،يعم كل
مِنْ قَبِْلكَ } من جميع النبياء { .لَئِنْ َأشْ َر ْكتَ لَ َيحْبَطَنّ َ
عمل.،ففي نبوة جميع النبياء ،أن الشرك محبط لجميع العمال ،كما قال تعالى في سورة النعام
-لما عدد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم { :ذَِلكَ هُدَى اللّهِ َيهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وََلوْ
أَشْ َركُوا لَحَ ِبطَ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
{ وَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دينك وآخرتك ،فبالشرك تحبط العمال ،ويستحق العقاب والنكال.
ثم قالَ { :بلِ اللّهَ فَاعْبُدْ } لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك ،وأخبر عن شناعته ،أمره
بالخلص فقالَ { :بلِ اللّهَ فَاعْبُدْ } أي :أخلص له العبادة وحده ل شريك لهَ { ،وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ
} للّه على توفيق اللّه تعالى.،فكما أنه تعالى يشكر على النعم الدنيوية ،كصحة الجسم وعافيته،
وحصول الرزق وغير ذلك.،كذلك يشكر ويثنى عليه بالنعم الدينية ،كالتوفيق للخلص ،والتقوى،
بل نعم الدين ،هي النعم على الحقيقة ،وفي تدبر أنها من اللّه تعالى والشكر للّه عليها ،سلمة من
آفة العجب التي تعرض لكثير من العاملين ،بسبب جهلهم ،وإل ،فلو عرف العبد حقيقة الحال ،لم
يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر.
طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ
جمِيعًا قَ ْبضَتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَالسّماوَاتُ مَ ْ
{ َ { } 67ومَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ وَالْأَ ْرضُ َ
عمّا ُيشْ ِركُونَ }
سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ
يقول تعالى :وما قدر هؤلء المشركون ربهم حق قدره ،ول عظموه حق تعظيمه ،بل فعلوا ما
يناقض ذلك ،من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله ،فأوصافه ناقصة من كل وجه،
وأفعاله ليس عنده نفع ول ضر ،ول عطاء ول منع ،ول يملك من المر شيئا.
فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم ،الذي من عظمته الباهرة ،وقدرته القاهرة ،أن
جميع الرض يوم القيامة قبضة للرحمن ،وأن السماوات -على سعتها وعظمها -مطويات
بيمينه ،فل عظمه حق عظمته من سوّى به غيره ،ول أظلم منه.
لما خوفهم تعالى من عظمته ،خوفهم بأحوال يوم القيامة ،ورغّبهم ورهّبهم فقال { :وَ ُنفِخَ فِي
الصّورِ } وهو قرن عظيم ،ل يعلم عظمته إل خالقه ،ومن أطلعه اللّه على علمه من خلقه .،فينفخ
فيه إسرافيل عليه السلم .،أحد الملئكة المقربين ،وأحد حملة عرش الرحمن.
{ ُثمّ ُنفِخَ فِيهِ } النفخة الثانية نفخة البعث { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون } أي :قد قاموا من قبورهم لبعثهم
وحسابهم ،قد تمت منهم الخلقة الجسدية والرواح ،وشخصت أبصارهم { يَنْظُرُونَ } ماذا يفعل اللّه
بهم.
{ وَأَشْ َر َقتِ الْأَ ْرضُ بِنُورِ رَ ّبهَا } علم من هذا ،أن النوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضحمل،
وهو كذلك ،فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور ،والقمر يخسف ،والنجوم تندثر ،ويكون الناس في
ظلمة ،فتشرق عند ذلك الرض بنور ربها ،عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم ،وذلك اليوم يجعل
اللّه للخلق قوة ،وينشئهم نشأة َي ْق َووْنَ على أن ل يحرقهم نوره ،ويتمكنون أيضا من رؤيته ،وإل،
فنوره تعالى عظيم ،لو كشفه ،لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
{ َو ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ } أي :كتاب العمال وديوانه ،وضع ونشر ،ليقرأ ما فيه من الحسنات والسيئات،
ش ِفقِينَ ِممّا فِي ِه وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا ِلهَذَا ا ْلكِتَابِ
كما قال تعالىَ { :و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ
حدًا } ويقال
عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ أَ َ
حصَاهَا َووَجَدُوا مَا َ
صغِي َر ًة وَلَا كَبِي َرةً إِلّا َأ ْ
لَا ُيغَادِ ُر َ
حسِيبًا }
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ َ
للعامل من تمام العدل والنصاف { :اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ
شهَدَاءِ } من
{ َوجِيءَ بِالنّبِيّينَ } ليسألوا عن التبليغ ،وعن أممهم ،ويشهدوا عليهم { .س وَال ّ
حقّ } أي :العدل التام والقسط العظيم ،لنه
ضيَ بَيْ َن ُهمْ بِالْ َ
الملئكة ،والعضاء والرضَ { .و ُق ِ
حساب صادر ممن ل يظلم مثقال ذرة ،ومن هو محيط بكل شيء ،وكتابه الذي هو اللوح
المحفوظ ،محيط بكل ما عملوه ،والحفظة الكرام ،والذين ل يعصون ربهم ،قد كتبت عليهم ما
عملوه ،وأعدل الشهداء قد شهدوا على ذلك الحكم ،فحكم بذلك من يعلم مقادير العمال ومقادير
استحقاقها للثواب والعقاب.
فيحصل حكم يقر به الخلق ،ويعترفون للّه بالحمد والعدل ،ويعرفون به من عظمته وعلمه وحكمته
ت وَ ُهوَ
عمَِل ْ
ورحمته ما لم يخطر بقلوبهم ،ول تعبر عنه ألسنتهم ،ولهذا قالَ { :و ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ
أَعْلَمُ ِبمَا َي ْفعَلُونَ }
لما ذكر تعالى حكمه بين عباده ،الذين جمعهم في خلقه ورزقه وتدبيره ،واجتماعهم في الدنيا،
واجتماعهم في موقف القيامة ،فرقهم تعالى عند جزائهم ،كما افترقوا في الدنيا باليمان والكفر،
جهَنّمَ } أي :سوقا عنيفا ،يضربون بالسياط
والتقوى والفجور ،فقال { :وَسِيقَ الّذِينَ َكفَرُوا إِلَى َ
الموجعة ،من الزبانية الغلظ الشداد ،إلى شر محبس وأفظع موضع ،وهي جهنم التي قد جمعت
كل عذاب ،وحضرها كل شقاء ،وزال عنها كل سرور ،كما قال تعالىَ { :يوْمَ ُيدَعّونَ ِإلَى نَارِ
جهَنّمَ دَعّا } أي :يدفعون إليها دفعا ،وذلك لمتناعهم من دخولها.
َ
ويساقون إليها { ُزمَرًا } أي :فرقا متفرقة ،كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها ،وتشاكل
سعيها ،يلعن بعضهم بعضا ،ويبرأ بعضهم من بعض { .حَتّى ِإذَا جَاءُوهَا } أي :وصلوا إلى
حتْ } لهم أي :لجلهم { أَ ْبوَا ُبهَا } لقدومهم وقِرًى لنزولهم.
ساحتها { فُتِ َ
{ َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا } مهنئين لهم بالشقاء البدي ،والعذاب السرمدي ،وموبخين لهم على العمال
سلٌ مِ ْنكُمْ } أي :من جنسكم تعرفونهم وتعرفون
التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع { :أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ رُ ُ
صدقهم ،وتتمكنون من التلقي عنهم؟ { .يَتْلُونَ عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِ رَ ّبكُمْ } التي أرسلهم اللّه بها ،الدالة على
الحق اليقين بأوضح البراهين.
{ وَيُنْذِرُو َنكُمْ ِلقَاءَ َي ْومِكُمْ هَذَا } أي :وهذا يوجب عليكم اتباعهم والحذر من عذاب هذا اليوم،
باستعمال تقواه ،وقد كانت حالكم بخلف هذه الحال؟
{ قَالُوا } مقرين بذنبهم ،وأن حجة اللّه قامت عليهم { :بَلَى } قد جاءتنا رسل ربنا بآياته وبيناته،
حقّتْ كَِلمَةُ ا ْل َعذَابِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } أي:
وبينوا لنا غاية التبيين ،وحذرونا من هذا اليوم { .وََلكِنْ َ
بسبب كفرهم وجبت عليهم كلمة العذاب ،التي هي لكل من كفر بآيات اللّه ،وجحد ما جاءت به
المرسلون ،فاعترفوا بذنبهم وقيام الحجة عليهم.
ثم قال عن أهل الجنة { :وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْا رَ ّبهُمْ } بتوحيده والعمل بطاعته ،سوق إكرام وإعزاز،
يحشرون وفدا على النجائبِ { .إلَى ا ْلجَنّةِ ُزمَرًا } فرحين مستبشرين ،كل زمرة مع الزمرة ،التي
تناسب عملها وتشاكله { .حَتّى ِإذَا جَاءُوهَا } أي :وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل النيقة،
حتْ } لهم { أَ ْبوَا ُبهَا } فتح إكرام ،لكرام
وهبّ عليهم ريحها ونسيمها ،وآن خلودها ونعيمهاَ { .وفُتِ َ
الخلق ،ليكرموا فيهاَ { .وقَالَ َل ُهمْ خَزَنَ ُتهَا } تهنئة لهم وترحيبا { :سَلَامٌ عَلَ ْي ُكمْ } أي :سلم من كل
آفة وشر حال.عليكم { طِبْ ُتمْ } أي :طابت قلوبكم بمعرفة اللّه ومحبته وخشيته ،وألسنتكم بذكره،
وجوارحكم بطاعته { .فـ } بسبب طيبكم { ا ْدخُلُوهَا خَالِدِينَ } لنها الدار الطيبة ،ول يليق بها إل
الطيبون.
وأما الجنة ،فإنها الدار العالية الغالية ،التي ل يوصل إليها ول ينالها كل أحد ،إل من أتى بالوسائل
الموصلة إليها ،ومع ذلك ،فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه ،فلم تفتح لهم بمجرد ما
وصلوا إليها ،بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ،حتى يشفع ،فيشفعه اللّه تعالى.
وفي اليات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق ،وأن لكل منهما خزنة ،وهما
الداران الخالصتان ،اللتان ل يدخل فيهما إل من استحقهما ،بخلف سائر المكنة والدور.
{ َوقَالُوا } عند دخولهم فيها واستقرارهم ،حامدين ربهم على ما أولهم ومنّ عليهم وهداهم:
حمْدُ لِلّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َدهُ } أي :وعدنا الجنة على ألسنة رسله ،إن آمنا وصلحنا ،فوفّى لنا بما
{ الْ َ
وعدنا ،وأنجز لنا ما منّانا { .وََأوْرَثَنَا الْأَ ْرضَ } أي :أرض الجنة { نَتَ َبوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَ ْيثُ َنشَاءُ }
أي :ننزل منها أي مكان شئنا ،ونتناول منها أي نعيم أردنا ،ليس ممنوعا عنا شيء نريده { .فَ ِن ْعمَ
أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ } الذين اجتهدوا بطاعة ربهم ،في زمن قليل منقطع ،فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا
مستمرا.
وهذه الدار التي تستحق المدح على الحقيقة ،التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه.،ورضيها الجواد
الكريم لهم نزل ،وبنى أعلها وأحسنها ،وغرسها بيده ،وحشاها من رحمته وكرامته ما ببعضه
يفرح الحزين ،ويزول الكدر ،ويتم الصفاء.
حمَنِ الرّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ ا ْلكِتَابِ مِنَ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ * غَافِرِ الذّ ْنبِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 3 - 1بِ ْ
طوْلِ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ ِإلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }
شدِيدِ ا ْل ِعقَابِ ذِي ال ّ
َوقَابِلِ ال ّت ْوبِ َ
يخبر تعالى عن كتابه العظيم وبأنه صادر ومنزل من ال ،المألوه المعبود ،لكماله وانفراده بأفعاله،
{ ا ْلعَزِيزِ } الذي قهر بعزته كل مخلوق { ا ْلعَلِيمِ } بكل شيء.
{ غَافِرِ الذّ ْنبِ } للمذنبين { َوقَا ِبلِ ال ّت ْوبِ } من التائبين { ،شَدِيدِ ا ْل ِعقَابِ } على من تجرأ على
ط ْولِ } أي :التفضل والحسان الشامل.
الذنوب ولم يتب منها { ،ذِي ال ّ
فلما قرر ما قرر من كماله وكان ذلك موجبًا لن يكون وحده ،المألوه الذي تخلص له العمال
قال { :لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ إِلَ ْيهِ ا ْل َمصِيرُ }
ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من ال الموصوف بهذه الوصاف أن هذه الوصاف مستلزمة
لجميع ما يشتمل عليه القرآن ،من المعاني.
فإن القرآن :إما إخبار عن أسماء ال ،وصفاته ،وأفعاله ،وهذه أسماء ،وأوصاف ،وأفعال.
وإما إخبار عن نعمه العظيمة ،وآلئه الجسيمة ،وما يوصل إلى ذلك ،من الوامر ،فذلك يدل عليه
ط ْولِ }
قوله { :ذِي ال ّ
وإما إخبار عن نقمه الشديدة ،وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي ،فذلك يدل عليه قوله { :شَدِيدِ
ا ْل ِعقَابِ }
ب َوقَا ِبلِ
وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والنابة ،والستغفار ،فذلك يدل عليه قوله { :غَافِرِ الذّ ْن ِ
ال ّت ْوبِ شَدِيدِ ا ْل ِعقَابِ }
وإما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود ،وإقامة الدلة العقلية والنقلية على ذلك ،والحث عليه،
والنهي عن عبادة ما سوى ال ،وإقامة الدلة العقلية والنقلية على فسادها والترهيب منها ،فذلك
يدل عليه قوله تعالى { :لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ }
وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل ،وثواب المحسنين ،وعقاب العاصين ،فهذا يدل عليه قوله{ :
إِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }
{ { } 6 - 4مَا يُجَا ِدلُ فِي آيَاتِ اللّهِ إِلّا الّذِينَ َكفَرُوا فَلَا َيغْرُ ْركَ َتقَلّ ُبهُمْ فِي الْ ِبلَادِ * َكذّ َبتْ قَبَْل ُهمْ
حضُوا بِهِ ا ْلحَقّ
طلِ لِيُ ْد ِ
ح وَالْأَحْزَابُ مِنْ َبعْدِ ِه ْم وَ َه ّمتْ ُكلّ ُأمّةٍ بِرَسُوِلهِمْ لِيَ ْأخُذُو ُه وَجَادَلُوا بِالْبَا ِ
َقوْمُ نُو ٍ
صحَابُ النّارِ }
ح ّقتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا أَ ّنهُمْ َأ ْ
عقَابِ * َوكَذَِلكَ َ
خذْ ُتهُمْ َفكَ ْيفَ كَانَ ِ
فَأَ َ
يخبر تبارك وتعالى أنه ما يجادل في آياته إل الذين كفروا والمراد بالمجادلة هنا ،المجادلة لرد
آيات ال ومقابلتها بالباطل ،فهذا من صنيع الكفار ،وأما المؤمنون فيخضعون ل تعالى الذي يلقي
الحق ليدحض به الباطل ،ول ينبغي للنسان أن يغتر بحالة النسان الدنيوية ،ويظن أن إعطاء ال
إياه في الدنيا دليل على محبته له وأنه على الحق ولهذا قال { :فَلَا َيغْرُ ْركَ َتقَلّ ُبهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي:
ترددهم فيها بأنواع التجارات والمكاسب ،بل الواجب على العبد ،أن يعتبر الناس بالحق ،وينظر
إلى الحقائق الشرعية ويزن بها الناس ،ول يزن الحق بالناس ،كما عليه من ل علم ول عقل له.
ثم هدد من جادل بآيات ال ليبطلها ،كما فعل من قبله من المم من قوم نوح وعاد والحزاب من
بعدهم ،الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه ،وعلى الباطل لينصروه { ،و } أنه بلغت بهم
الحال ،وآل بهم التحزب إلى أنه { َه ّمتْ ُكلّ ُأمّةٍ } من المم { بِرَسُوِلهِمْ لِيَ ْأخُذُوهُ } أي :يقتلوه.
وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي ل شك فيه ول
اشتباه ،هموا بقتلهم ،فهل بعد هذا البغي والضلل والشقاء إل العذاب العظيم الذي ل يخرجون
منه؟ ولهذا قال في عقوبتهم الدنيوية والخروية { :فََأخَذْ ُتهُمْ } أي :بسبب تكذيبهم وتحزبهم { َفكَ ْيفَ
عقَابِ } كان أشد العقاب وأفظعه ،ما هو إل صيحة أو حاصب ينزل عليهم أو يأمر الرض
كَانَ ِ
أن تأخذهم ،أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون.
علَى الّذِينَ َكفَرُوا } أي :كما حقت على أولئك ،حقت عليهم كلمة
ح ّقتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ َ
{ َوكَذَِلكَ َ
الضلل التي نشأت عنها كلمة العذاب ،ولهذا قال { :أَ ّن ُهمْ َأصْحَابُ النّارِ }
يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين ،وما قيض لسباب سعادتهم من السباب
الخارجة عن قدرهم ،من استغفار الملئكة المقربين لهم ،ودعائهم لهم بما فيه صلح دينهم
وآخرتهم ،وفي ضمن ذلك الخبار عن شرف حملة العرش ومن حوله ،وقربهم من ربهم ،وكثرة
حمِلُونَ ا ْلعَرْشَ } أي:
عبادتهم ونصحهم لعباد ال ،لعلمهم أن ال يحب ذلك منهم فقال { :الّذِينَ يَ ْ
عرش الرحمن ،الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها ،وأقربها من ال تعالى،
الذي وسع الرض والسماوات والكرسي ،وهؤلء الملئكة ،قد وكلهم ال تعالى بحمل عرشه
العظيم ،فل شك أنهم من أكبر الملئكة وأعظمهم وأقواهم ،واختيار ال لهم لحمل عرشه،
وتقديمهم في الذكر ،وقربهم منه ،يدل على أنهم أفضل أجناس الملئكة عليهم السلم ،قال تعالى:
ح ِملُ عَرْشَ رَ ّبكَ َف ْوقَهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِيَةٌ }
{ وَ َي ْ
{ وَيَسْ َت ْغفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا } وهذا من جملة فوائد اليمان وفضائله الكثيرة جدًا ،أن الملئكة الذين
ل ذنوب عليهم يستغفرون لهل اليمان ،فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم.
ثم ولما كانت المغفرة لها لوازم ل تتم إل بها -غير ما يتبادر إلى كثير من الذهان ،أن سؤالها
وطلبها غايته مجرد مغفرة الذنوب -ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة ،بذكر ما ل تتم إل به،
حمَ ًة وَعِ ْلمًا } فعلمك قد أحاط بكل شيء ،ل يخفى عليك خافية،
شيْءٍ َر ْ
س ْعتَ ُكلّ َ
فقال { :رَبّنَا وَ ِ
ول يعزب عن علمك مثقال ذرة في الرض ول في السماء ،ول أصغر من ذلك ول أكبر،
ورحمتك وسعت كل شيء ،فالكون علويه وسفليه قد امتل برحمة ال تعالى ووسعتهم ،ووصل إلى
ما وصل إليه خلقه.
غفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا } من الشرك والمعاصي { وَاتّ َبعُوا سَبِيَلكَ } باتباع رسلك ،بتوحيدك وطاعتك.
{ فَا ْ
جحِيمِ } أي :قهم العذاب نفسه ،وقهم أسباب العذاب.
عذَابَ الْ َ
{ َو ِقهِمْ َ
{ َو ِقهِمُ السّيّئَاتِ } أي :العمال السيئة وجزاءها ،لنها تسوء صاحبهاَ { .ومَنْ َتقِ السّيّئَاتِ َي ْومَئِذٍ }
حمْتَهُ } لن رحمتك لم تزل مستمرة على العباد ،ل يمنعها إل ذنوب العباد
أي :يوم القيامة { َفقَدْ َر ِ
وسيئاتهم ،فمن وقيته السيئات وفقته للحسنات وجزائها الحسن { .وَذَِلكَ } أي :زوال المحذور
بوقاية السيئات ،وحصول المحبوب بحصول الرحمةُ { ،هوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } الذي ل فوز مثله ،ول
يتنافس المتنافسون بأحسن منه.
وقد تضمن هذا الدعاء من الملئكة كمال معرفتهم بربهم ،والتوسل إلى ال بأسمائه الحسنى ،التي
يحب من عباده التوسل بها إليه ،والدعاء بما يناسب ما دعوا ال فيه ،فلما كان دعاؤهم بحصول
الرحمة ،وإزالة أثر ما اقتضته النفوس البشرية التي علم ال نقصها واقتضاءها لما اقتضته من
المعاصي ،ونحو ذلك من المبادئ والسباب التي قد أحاط ال بها علمًا توسلوا بالرحيم العليم.
وتضمن كمال أدبهم مع ال تعالى بإقرارهم بربوبيته لهم الربوبية العامة والخاصة ،وأنه ليس لهم
من المر شيء وإنما دعاؤهم لربهم صدر من فقير بالذات من جميع الوجوه ،ل يُدْلِي على ربه
بحالة من الحوال ،إن هو إل فضل ال وكرمه وإحسانه.
وتضمن موافقتهم لربهم تمام الموافقة ،بمحبة ما يحبه من العمال التي هي العبادات التي قاموا
بها ،واجتهدوا اجتهاد المحبين ،ومن العمال الذين هم المؤمنون الذين يحبهم ال تعالى من بين
خلقه ،فسائر الخلق المكلفين يبغضهم ال إل المؤمنين منهم ،فمن محبة الملئكة لهم دعوا ال،
واجتهدوا في صلح أحوالهم ،لن الدعاء للشخص من أدل الدلئل على محبته ،لنه ل يدعو إل
لمن يحبه.
وتضمن ما شرحه ال وفصله من دعائهم بعد قوله { :وَيَسْ َت ْغفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا } التنبيه اللطيف
على كيفية تدبر كتابه ،وأن ل يكون المتدبر مقتصرًا على مجرد معنى اللفظ بمفرده ،بل ينبغي له
أن يتدبر معنى اللفظ ،فإذا فهمه فهمًا صحيحًا على وجهه ،نظر بعقله إلى ذلك المر والطرق
الموصلة إليه وما ل يتم إل به وما يتوقف عليه ،وجزم بأن ال أراده ،كما يجزم أنه أراد المعنى
الخاص ،الدال عليه اللفظ.
والثاني :علمه بأن ال بكل شيء عليم ،وأن ال أمر عباده بالتدبر والتفكر في كتابه.
وقد علم تعالى ما يلزم من تلك المعاني .وهو المخبر بأن كتابه هدى ونور وتبيان لكل شيء ،وأنه
أفصح الكلم وأجله إيضاحًا ،فبذلك يحصل للعبد من العلم العظيم والخير الكثير ،بحسب ما وفقه
ال له وقد كان في تفسيرنا هذا ،كثير من هذا من به ال علينا.
وقد يخفى في بعض اليات مأخذه على غير المتأمل صحيح الفكرة ،ونسأله تعالى أن يفتح علينا
من خزائن رحمته ما يكون سببًا لصلح أحوالنا وأحوال المسلمين ،فليس لنا إل التعلق بكرمه،
والتوسل بإحسانه ،الذي ل نزال نتقلب فيه في كل النات ،وفي جميع اللحظات ،ونسأله من
فضله ،أن يقينا شر أنفسنا المانع والمعوق لوصول رحمته ،إنه الكريم الوهاب ،الذي تفضل
بالسباب ومسبباتها.
وتضمن ذلك ،أن المقارن من زوج وولد وصاحب ،يسعد بقرينه ،ويكون اتصاله به سببًا لخير
يحصل له ،خارج عن عمله وسبب عمله كما كانت الملئكة تدعو للمؤمنين ولمن صلح من آبائهم
ن صَلَحَ } فحينئذ يكون
وأزواجهم وذرياتهم ،وقد يقال :إنه ل بد من وجود صلحهم لقولهَ { :ومَ ْ
ذلك من نتيجة عملهم وال أعلم.
يخبر تعالى عن الفضيحة والخزي الذي يصيب الكافرين ،وسؤالهم الرجعة ،والخروج من النار،
وامتناع ذلك عليهم وتوبيخهم ،فقال { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها ،من الكفر
بال ،أو بكتبه ،أو برسله ،أو باليوم الخر ،حين يدخلون النار ،ويقرون أنهم مستحقونها ،لما فعلوه
من الذنوب والوزار ،فيمقتون أنفسهم لذلك أشد المقت ،ويغضبون عليها غاية الغضب ،فينادون
عوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَ َت ْكفُرُونَ } أي :حين دعتكم
عند ذلك ،ويقال لهمَ { :ل َمقْتُ اللّهِ } أي :إياكم { ِإذْ تُدْ َ
الرسل وأتباعهم إلى اليمان ،وأقاموا لكم من البينات ما تبين به الحق ،فكفرتم وزهدتم في اليمان
سكُمْ
الذي خلقكم ال له ،وخرجتم من رحمته الواسعة ،فمقتكم وأبغضكم ،فهذا { َأكْبَرُ مِنْ َمقْ ِتكُمْ أَ ْنفُ َ
} أي :فلم يزل هذا المقت مستمرًا عليكم ،والسخط من الكريم حَالّا بكم ،حتى آلت بكم الحال إلى
ما آلت ،فاليوم حلّ عليكم غضب ال وعقابه حين نال المؤمنون رضوان ال وثوابه.
فتمنوا الرجوع و { قَالُوا رَبّنَا َأمَتّنَا اثْنَتَيْنِ } يريدون الموتة الولى وما بين النفختين على ما قيل
أو العدم المحض قبل إيجادهم ،ثم أماتهم بعدما أوجدهم { ،وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } الحياة الدنيا والحياة
الخرى { ،فَاعْتَ َرفْنَا ِبذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي :تحسروا وقالوا ذلك ،فلم يفد ولم
ح َدهُ } أي :إذا
عيَ اللّ ُه وَ ْ
ينجع ،ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة ،فقيل لهم { :ذَِل ُكمْ بِأَنّهُ ِإذَا دُ ِ
دعي لتوحيده ،وإخلص العمل له ،ونهي عن الشرك به { َكفَرْتُمْ } به واشمأزت لذلك قلوبكم
ونفرتم غاية النفور.
{ وَإِنْ ُيشْ َركْ بِهِ ُت ْؤمِنُوا } أي :هذا الذي أنزلكم هذ المنزل وبوأكم هذا المقيل والمحل ،أنكم
تكفرون باليمان ،وتؤمنون بالكفر ،ترضون بما هو شر وفساد في الدنيا والخرة ،وتكرهون ما
هو خير وصلح في الدنيا والخرة.
تؤثرون سبب الشقاوة والذل والغضب وتزهدون بما هو سبب الفوز والفلح والظفر { وَإِنْ يَ َروْا
شدِ لَا يَتّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَ َروْا سَبِيلَ ا ْل َغيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلًا }
سَبِيلَ الرّ ْ
حكْمُ لِلّهِ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرِ } العلي :الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه ،علو الذات ،وعلو
{ فَا ْل ُ
القدر ،وعلو القهر ومن علو قدره ،كمال عدله تعالى ،وأنه يضع الشياء مواضعها ،ول يساوي
بين المتقين والفجار.
{ ا ْلكَبِيرُ } الذي له الكبرياء والعظمة والمجد ،في أسمائه وصفاته وأفعاله المتنزه عن كل آفة
وعيب ونقص ،فإذا كان الحكم له تعالى ،وقد حكم عليكم بالخلود الدائم ،فحكمه ل يغير ول يبدل.
يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده ،بتبيين الحق من الباطل ،بما يُرِي عباده من آياته النفسية
والفاقية والقرآنية ،الدالة على كل مطلوب مقصود ،الموضحة للهدى من الضلل ،بحيث ل يبقى
عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق ،وهذا من أكبر نعمه على عباده ،حيث
لم يُ ْبقِ الحق مشتبهًا ول الصواب ملتبسًا ،بل نوّع الدللت ووضح اليات ،ليهلك من هلك عن
بينة ،ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر ،كانت الدلئل عليها أكثر وأيسر،
فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل ،بل أكبرها ،كثرت الدلة عليها العقلية
والنقلية وتنوعت ،وضرب ال لها المثال وأكثر لها من الستدلل ،ولهذا ذكرها في هذا الموضع،
ونبه على جملة من أدلتها فقال { :فَادْعُوا اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ }
ولما ذكر أنه يُرِي عباده آياته ،نبه على آية عظيمة فقال { :وينزل لكم من السماء رزقا } أي:
مطرًا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم ،وذلك يدل على أن النعم كلها منه ،فمنه نعم الدين،
وهي المسائل الدينية والدلة عليها ،وما يتبع ذلك من العمل بها .والنعم الدنيوية كلها ،كالنعم
الناشئة عن الغيث ،الذي تحيا به البلد والعباد .وهذا يدل دللة قاطعة أنه وحده هو المعبود ،الذي
يتعين إخلص الدين له ،كما أنه -وحده -المنعم.
{ َومَا يَتَ َذكّرُ } باليات حين يذكر بها { إِلّا مَنْ يُنِيبُ } إلى ال تعالى ،بالقبال على محبته وخشيته
وطاعته والتضرع إليه ،فهذا الذي ينتفع باليات ،وتصير رحمة في حقه ،ويزداد بها بصيرة.
ولما كانت اليات تثمر التذكر ،والتذكر يوجب الخلص للّه ،رتب المر على ذلك بالفاء الدالة
على السببية فقال { :فَادْعُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ } وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة،
والخلص معناه :تخليص القصد للّه تعالى في جميع العبادات الواجبه والمستحبة ،حقوق ال
وحقوق عباده .أي :أخلصوا للّه تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
{ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } لذلك ،فل تبالوا بهم ،ول يثنكم ذلك عن دينكم ،ول تأخذكم بال لومة لئم،
ح َدهُ
فإن الكافرين يكرهون الخلص ل وحده غاية الكراهة ،كما قال تعالى { :وَِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَ ْ
شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ الّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا ُهمْ يَسْتَ ْبشِرُونَ }
اْ
ثم ذكر من جلله وكماله ما يقتضي إخلص العبادة له فقالَ { :رفِيعُ الدّرَجَاتِ ذُو ا ْلعَرْشِ } أي:
العلي العلى ،الذي استوى على العرش واختص به ،وارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته،
وارتفع به قدره ،وجلت أوصافه ،وتعالت ذاته ،أن يتقرب إليه إل بالعمل الزكي الطاهر المطهر،
وهو الخلص ،الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه ،ثم ذكر نعمته على
عباده بالرسالة والوحي ،فقال { :يُ ْلقِي الرّوحَ } أي :الوحي الذي للرواح والقلوب بمنزلة الرواح
للجساد ،فكما أن الجسد بدون الروح ل يحيا ول يعيش ،فالروح والقلب بدون روح الوحي ل
يصلح ول يفلح ،فهو تعالى { يُ ْلقِي الرّوحَ مِنْ َأمْ ِرهِ } الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم.
{ عَلَى مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } وهم الرسل الذين فضلهم ال واختصهم ال لوحيه ودعوة عباده.
والفائدة في إرسال الرسل ،هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم ،وإزالة الشقاوة
عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم ،ولهذا قال { :لِيُنْذِرَ } من ألقى ال إليه الوحي { َيوْمَ التّلَاقِ } أي:
يخوف العباد بذلك ،ويحثهم على الستعداد له بالسباب المنجية مما يكون فيه.
وسماه { يوم التلق } لنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض ،والعاملون
وأعمالهم وجزاؤهم.
{ َيوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي :ظاهرون على الرض ،قد اجتمعوا في صعيد واحد ل عوج ول أمت
فيه ،يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.
{ الْ َيوْمَ تُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ } في الدنيا ،من خير وشر ،قليل وكثير { .لَا ظُ ْلمَ الْ َيوْمَ } على
حسَابِ } أي :ل تستبطئوا ذلك
أحد ،بزيادة في سيئاته ،أو نقص من حسناته { .إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ
اليوم فإنه آت ،وكل آت قريب .وهو أيضا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة ،لحاطة علمه
وكمال قدرته.
حمِي ٍم وَلَا
ظمِينَ مَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َ
{ { } 20 - 18وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ الْآ ِز َفةِ إِذِ ا ْلقُلُوبُ لَدَى ا ْلحَنَاجِرِ كَا ِ
خفِي الصّدُورُ * وَاللّهُ َي ْقضِي بِا ْلحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
ن َومَا تُ ْ
شفِيعٍ يُطَاعُ * َيعَْلمُ خَائِ َنةَ الْأَعْيُ ِ
َ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }
شيْءٍ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّ
لَا َي ْقضُونَ بِ َ
يقول تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ الْآ ِز َفةِ } أي :يوم القيامة التي قد
أزفت وقربت ،وآن الوصول إلى أهوالها وقلقلها وزلزلهاِ { ،إذِ ا ْلقُلُوبُ َلدَى الْحَنَاجِرِ } أي :قد
ارتفعت وبقيت أفئدتهم هواء ،ووصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر ،شاخصة
ظمِينَ } ل يتكلمون إل من أذن له الرحمن وقال صوابا وكاظمين على ما في
أبصارهم { .كَا ِ
قلوبهم من الروع الشديد والمزعجات الهائلة.
{ َيعَْلمُ خَائِ َنةَ الْأَعْيُنِ } وهو النظر الذي يخفيه العبد من جليسه ومقارنه ،وهو نظر المسارقة،
خفِي الصّدُورُ } مما لم يبينه العبد لغيره ،فال تعالى يعلم ذلك الخفي ،فغيره من المور
{ َومَا ُت ْ
الظاهرة من باب أولى وأحرى.
حقّ } لن قوله حق ،وحكمه الشرعي حق ،وحكمه الجزائي حق وهو المحيط
{ وَاللّهُ َي ْقضِي بِالْ َ
علمًا وكتابة وحفظا بجميع الشياء ،وهو المنزه عن الظلم والنقص وسائر العيوب ،وهو الذي
يقضي قضاءه القدري ،الذي إذا شاء شيئًا كان وما لم يشأ لم يكن ،وهو الذي يقضي بين عباده
المؤمنين والكافرين في الدنيا ،ويفصل بينهم بفتح ينصر به أولياءه وأحبابه.
شيْءٍ } لعجزهم
{ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } وهذا شامل لكل ما عبد من دون ال { لَا َي ْقضُونَ ِب َ
سمِيعُ } لجميع الصوات ،باختلف اللغات،
وعدم إرادتهم للخير واستطاعتهم لفعله { .إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّ
على تفنن الحاجات { .الْ َبصِيرُ } بما كان وما يكون ،وما نبصر وما ل نبصر ،وما يعلم العباد
وما ل يعلمون.
قال في أول هاتين اليتين { وَأَ ْنذِرْهُمْ َيوْمَ الْآ ِزفَةِ } ثم وصفها بهذه الوصاف المقتضية للستعداد
لذلك اليوم العظيم ،لشتمالها على الترغيب والترهيب.
{ َ { } 22 - 21أوَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا
ن وَاقٍ * ذَِلكَ
هُمْ أَشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً وَآثَارًا فِي الْأَ ْرضِ فَأَخَ َذهُمُ اللّهُ بِذُنُو ِبهِ ْم َومَا كَانَ َلهُمْ مِنَ اللّهِ مِ ْ
بِأَ ّنهُمْ كَا َنتْ تَأْتِيهِمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َف َكفَرُوا فََأخَذَ ُهمُ اللّهُ إِنّهُ َق ِويّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }
يقول تعالىَ { :أوَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ } أي :بقلوبهم وأبدانهم سير نظر واعتبار ،وتفكر في
الثار { ،فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبِْلهِمْ } من المكذبين ،فسيجدونها شر العواقب،
عاقبة الهلك والدمار والخزي والفضيحة ،وقد كانوا أشد قوة من هؤلء في ا ْلعَدَد وا ْلعُدَد وكبر
الجسام { .و } أشد { آثارا في الرض } من البناء والغرس ،وقوة الثار تدل على قوة المؤثر
خذَهُمُ اللّهُ } بعقوبته بذنوبهم حين أصروا واستمروا عليها.
فيها وعلى تمنعه بها { .فَأَ َ
{ إِنّهُ َق ِويّ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } فلم تغن قوتهم عند قوة اللّه شيئًا ،بل من أعظم المم قوة ،قوم عاد الذين
شدّ مِنّا ُق ّوةً } أرسل اللّه إليهم ريحا أضعفت قواهم ،ودمرتهم كل تدمير.
قالوا { :مَنْ أَ َ
ثم ذكر نموذجا من أحوال المكذبين بالرسل وهو فرعون وجنوده فقال:
{ { } 46 - 23وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } إلى آخر القصة.
أي { :وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا } إلى جنس هؤلء المكذبين { مُوسَى } ابن عمران { ،بِآيَاتِنَا } العظيمة ،الدالة
دللة قطعية ،على حقية ما أرسل به ،وبطلن ما عليه من أرسل إليهم من الشرك وما يتبعه.
{ وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ } أي :حجة بينة ،تتسلط على القلوب فتذعن لها ،كالحية والعصا ونحوهما من
اليات البينات ،التي أيد ال بها موسى ،ومكنه مما دعا إليه من الحق.
عوْنَ وَهَامَانَ } وزيره { َوقَارُونَ } الذي كان من قوم موسى ،فبغى عليهم
والمبعوث إليهم { فِرْ َ
بماله ،وكلهم ردوا عليه أشد الرد { َفقَالُوا سَاحِرٌ كَذّابٌ }
{ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِا ْلحَقّ مِنْ عِ ْندِنَا } وأيده ال بالمعجزات الباهرة ،الموجبة لتمام الذعان ،لم يقابلوها
بذلك ،ولم يكفهم مجرد الترك والعراض ،بل ول إنكارها ومعارضتها بباطلهم ،بل وصلت بهم
الحال الشنيعة إلى أن { قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الّذِينَ آمَنُوا َمعَ ُه وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُ ْم َومَا كَيْدُ ا ْلكَافِرِينَ }
حيث كادوا هذه المكيدة ،وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم ،لم يقووا ،وبقوا في رقهم وتحت
عبوديتهم.
فما كيدهم إل في ضلل ،حيث لم يتم لهم ما قصدوا ،بل أصابهم ضد ما قصدوا ،أهلكهم ال
وأبادهم عن آخرهم.
وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب ال تعالى :إذا كان السياق في قصة معينة أو على
شيء معين ،وأراد ال أن يحكم على ذلك المعين بحكم ،ل يختص به ذكر الحكم ،وعلقه على
الوصف العام ليكون أعم ،وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلم لجلها ،وليندفع اليهام
باختصاص الحكم بذلك المعين.
فلهذا لم يقل { وما كيدهم إل في ضلل } بل قالَ { :ومَا كَيْدُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ }
عوْنُ } متكبرًا متجبرًا مغررًا لقومه السفهاء { :ذَرُونِي َأقْ ُتلْ مُوسَى وَلْيَ ْدعُ رَبّهُ } أي:
{ وقَالَ فِرْ َ
زعم -قبحه ال -أنه لول مراعاة خواطر قومه لقتله ،وأنه ل يمنعه من دعاء ربه ،ثم ذكر الحامل
له على إرادة قتله ،وأنه نصح لقومه ،وإزالة للشر في الرض فقال { :إِنّي أَخَافُ أَنْ يُ َب ّدلَ دِي َنكُمْ }
ظهِرَ فِي الْأَ ْرضِ ا ْلفَسَادَ } وهذا من أعجب ما يكون ،أن يكون شر الخلق
الذي أنتم عليه { َأوْ أَنْ ُي ْ
ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي ل يدخل إل عقل من قال ال
سقِينَ }
خفّ َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
فيهم { :فَاسْتَ َ
{ َوقَالَ مُوسَى } حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه ،واستعان فيها بقوته
واقتداره ،مستعينًا بربه { :إِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ } أي :امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع
المور { مِنْ ُكلّ مُ َتكَبّرٍ لَا ُي ْؤمِنُ بِ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ } أي :يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على
الشر والفساد ،يدخل فيه فرعون وغيره ،كما تقدم قريبًا في القاعدة ،فمنعه ال تعالى بلطفه من كل
متكبر ل يؤمن بيوم الحساب ،وقيض له من السباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه.
ومن جملة السباب ،هذا الرجل المؤمن ،الذي من آل فرعون ،من بيت المملكة ،ل بد أن يكون له
كلمة مسموعة ،وخصوصًا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه ،فإنهم يراعونه في الغالب ما ل
يراعونه لو خالفهم في الظاهر ،كما منع ال رسوله محمدًا صلى ال عليه وسلم بعمه أبي طالب
من قريش ،حيث كان أبو طالب كبيرًا عندهم ،موافقًا لهم على دينهم ،ولو كان مسلمًا لم يحصل
منه ذلك المنع.
فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم ،مقبحًا فعل قومه ،وشناعة ما عزموا عليه:
{ أَ َتقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ َيقُولَ رَ ّبيَ اللّهُ } أي :كيف تستحلون قتله ،وهذا ذنبه وجرمه ،أنه يقول ربي
ال ،ولم يكن أيضا قولً مجردًا عن البينات ،ولهذا قالَ { :وقَدْ جَا َءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِنْ رَ ّبكُمْ } لن
بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير ،أي :فهذا ل يوجب قتله.
فهل أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق ،وقابلتم البرهان ببرهان يرده ،ثم بعد ذلك نظرتم :هل
يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم ل؟ فأما وقد ظهرت حجته ،واستعلى برهانه ،فبينكم وبين حل
قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي.
ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل ،بأي حالة قدرت ،فقال { :وَإِنْ َيكُ كَاذِبًا َفعَلَيْهِ كَذِبُ ُه وَإِنْ َيكُ
صَا ِدقًا ُيصِ ْبكُمْ َب ْعضُ الّذِي َي ِع ُدكُمْ }
أي :موسى بين أمرين ،إما كاذب في دعواه أو صادق فيها ،فإن كان كاذبًا فكذبه عليه ،وضرره
مختص به ،وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه ،وإن كان صادقًا وقد
جاءكم بالبينات ،وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم ال عذابًا في الدنيا وعذابًا في الخرة ،فإنه ل
بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ،وهو عذاب الدنيا.
وهذا من حسن عقله ،ولطف دفعه عن موسى ،حيث أتى بهذا الجواب الذي ل تشويش فيه عليهم،
وجعل المر دائرًا بين تينك الحالتين ،وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم.
ثم انتقل رضي ال عنه وأرضاه وغفر له ورحمه -إلى أمر أعلى من ذلك ،وبيان قرب موسى
من الحق فقال { :إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ ُهوَ ُمسْ ِرفٌ } أي :متجاوز الحد بترك الحق والقبال على
الباطل { .كَذّابٌ } بنسبته ما أسرف فيه إلى ال ،فهذا ل يهديه ال إلى طريق الصواب ،ل في
مدلوله ول في دليله ،ول يوفق للصراط المستقيم ،أي :وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق،
وما هداه ال إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية ،فالذي اهتدى هذا الهدى ل يمكن
أن يكون مسرفًا ول كاذبًا ،وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه.
ثم حذر قومه ونصحهم ،وخوفهم عذاب الخرة ،ونهاهم عن الغترار بالملك الظاهر ،فقال { :يَا
َقوْمِ َلكُمُ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ } أي :في الدنيا { ظَاهِرِينَ فِي الْأَ ْرضِ } على رعيتكم ،تنفذون فيهم ما شئتم
من التدبير ،فهبكم حصل لكم ذلك وتم ،ولن يتمَ { ،فمَنْ يَ ْنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللّهِ } أي :عذابه { إِنْ
جَاءَنَا } ؟ وهذا من حسن دعوته ،حيث جعل المر مشتركًا بينه وبينهم بقولهَ { :فمَنْ يَ ْنصُرُنَا }
وقوله { :إِنْ جَاءَنَا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه ،ويرضى لهم ما يرضى لنفسه.
عوْنُ } معارضًا له في ذلك ،ومغررًا لقومه أن يتبعوا موسى { :مَا أُرِيكُمْ ِإلّا مَا أَرَى
فـ { قَالَ فِرْ َ
َومَا َأهْدِيكُمْ إِلّا سَبِيلَ الرّشَادِ } وصدق في قوله { :مَا أُرِي ُكمْ إِلّا مَا أَرَى } ولكن ما الذي رأى؟
رأى أن يستخف قومه فيتابعوه ،ليقيم بهم رياسته ،ولم ير الحق معه ،بل رأى الحق مع موسى،
وجحد به مستيقنًا له.
وكذب في قولهَ { :ومَا أَهْدِي ُكمْ إِلّا سَبِيلَ الرّشَادِ } فإن هذا قلب للحق ،فلو أمرهم باتباعه اتباعًا
مجردًا على كفره وضلله ،لكان الشر أهون ،ولكنه أمرهم باتباعه ،وزعم أن في اتباعه اتباع
الحق وفي اتباع الحق ،اتباع الضلل.
{ َوقَالَ الّذِي آمَنَ } مكررًا دعوة قومه غير آيس من هدايتهم ،كما هي حالة الدعاة إلى ال تعالى،
ل يزالون يدعون إلى ربهم ،ول يردهم عن ذلك راد ،ول يثنيهم عتو من دعوه عن تكرار الدعوة
فقال لهم { :يَا َقوْمِ إِنّي َأخَافُ عَلَ ْي ُكمْ مِ ْثلَ َيوْمِ الْأَحْزَابِ } يعني المم المكذبين ،الذين تحزبوا على
أنبيائهم ،واجتمعوا على معارضتهم ،ثم بينهم فقال { :مِ ْثلَ َد ْأبِ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِنْ
َبعْدِ ِهمْ } أي :مثل عادتهم في الكفر والتكذيب وعادة ال فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل
الخرةَ { ،ومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُ ْلمًا لِ ْلعِبَادِ } فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه ،ول جرم أسلفوه.
ولما خوفهم العقوبات الدنيوية ،خوفهم العقوبات الخروية ،فقال { :وَيَا َقوْمِ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َيوْمِ
حقّا } إلى
جدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ
التّنَادِ } أي :يوم القيامة ،حين ينادي أهل الجنة أهل النار { :أَنْ قَ ْد وَ َ
آخر اليات.
{ وَنَادَى َأصْحَابُ النّارِ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ أَنْ َأفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ قَالُوا إِنّ اللّهَ
حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
وحين ينادي أهل النار مالكًا { ليقض علينا ربك } فيقول { :إِ ّن ُكمْ مَاكِثُونَ } وحين ينادون ربهم:
{ رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ } فيجيبهم { :اخْسؤُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ } وحين يقال
عوْهُمْ فَلَمْ يَسْ َتجِيبُوا َلهُمْ }
للمشركين { :ادْعُوا شُ َركَا َء ُكمْ فَدَ َ
فخوفهم رضي ال عنه هذا اليوم المهول ،وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك ،ولهذا قال:
{ َيوْمَ ُتوَلّونَ مُدْبِرِين } أي :قد ذهب بكم إلى النار { مَا َل ُكمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ } ل من أنفسكم قوة
تدفعون بها عذاب ال ،ول ينصركم من دونه من أحد { َيوْمَ تُبْلَى السّرَائِرُ َفمَا لَهُ مِنْ ُق ّو ٍة وَلَا
نَاصِرٍ }
{ َومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ هَادٍ } لن الهدى بيد ال تعالى ،فإذا منع عبده الهدى لعلمه أنه غير
لئق به ،لخبثه ،فل سبيل إلى هدايته.
سفُ } بن يعقوب عليهما السلم { مِنْ قَ ْبلُ } إتيان موسى بالبينات الدالة على
{ وََلقَدْ جَا َءكُمْ يُو ُ
شكّ ِممّا جَا َءكُمْ بِهِ } في حياته
صدقه ،وأمركم بعبادة ربكم وحده ل شريك لهَ { ،فمَا زِلْتُمْ فِي َ
{ حَتّى إِذَا هََلكَ } ازداد شككم وشرككم ،و { قُلْ ُتمْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ مِنْ َبعْ ِدهِ رَسُولًا } أي :هذا ظنكم
الباطل ،وحسبانكم الذي ل يليق بال تعالى ،فإنه تعالى ل يترك خلقه سدى ،ل يأمرهم وينهاهم،
ضلّ اللّهُ مَنْ
ويرسل إليهم رسله ،وظن أن ال ل يرسل رسول ظن ضلل ،ولهذا قال { :كَذَِلكَ ُي ِ
ُهوَ مُسْ ِرفٌ مُرْتَابٌ } وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ظلمًا وعلوا ،فهم
المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضلل ،وهم الكذبة ،حيث نسبوا ذلك إلى ال،
وكذبوا رسوله.
فالذي وصفه السرف والكذب ،ل ينفك عنهما ،ل يهديه ال ،ول يوفقه للخير ،لنه رد الحق بعد
أن وصل إليه وعرفه ،فجزاؤه أن يعاقبه ال ،بأن يمنعه الهدى ،كما قال تعالى { :فََلمّا زَاغُوا أَزَاغَ
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }
اللّهُ قُلُو َبهُمْ } { وَ ُنقَلّبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ
{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }
ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال { :الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ } التي بينت الحق من
الباطل ،وصارت -من ظهورها -بمنزلة الشمس للبصر ،فهم يجادلون فيها على وضوحها،
ليدفعوها ويبطلوها { ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ } أي :بغير حجة وبرهان ،وهذا وصف لزم لكل من
جادل في آيات ال ،فإنه من المحال أن يجادل بسلطان ،لن الحق ل يعارضه معارض ،فل يمكن
أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصل { ،كَبُرَ } ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل { َمقْتًا
عِنْدَ اللّ ِه وَعِنْدَ الّذِينَ آمَنُوا } فال أشد بغضًا لصاحبه ،لنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق
بالباطل ونسبته إليه ،وهذه أمور يشتد بغض ال لها ولمن اتصف بها ،وكذلك عباده المؤمنون
يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم ،وهؤلء خواص خلق ال تعالى ،فمقتهم دليل على
شناعة من مقتوه { ،كَذَِلكَ } أي :كما طبع على قلوب آل فرعون{ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى ُكلّ قَ ْلبِ مُ َتكَبّرٍ
جَبّارٍ } متكبر في نفسه على الحق برده وعلى الخلق باحتقارهم ،جبار بكثرة ظلمه وعدوانه.
عوْنُ } معارضًا لموسى ومكذبًا له في دعوته إلى القرار برب العالمين ،الذي على
{ َوقَالَ فِرْ َ
العرش استوى ،وعلى الخلق اعتلى { :يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا } أي :بناء عظيمًا مرتفعًا،
والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإني لظنه كاذبًا } في دعواه أن لنا ربًا ،وأنه فوق
السماوات.
ولكنه يريد أن يحتاط فرعون ،ويختبر المر بنفسه ،قال ال تعالى في بيان الذي حمله على هذا
عمَِلهِ } فزين له العمل السيئ ،فلم يزل الشيطان يزينه ،وهو
القولَ { :وكَذَِلكَ زُيّنَ ِلفِرْعَوْنَ سُوءُ َ
يدعو إليه ويحسنه ،حتى رآه حسنًا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين ،وهو من أعظم المفسدين{ ،
عوْنَ } الذي أراد أن يكيد به
َوصُدّ عَنِ السّبِيلِ } الحق ،بسبب الباطل الذي زين لهَ { .ومَا كَيْدُ فِرْ َ
الحق ،ويوهم به الناس أنه محق ،وأن موسى مبطل { إِلّا فِي تَبَابٍ } أي :خسار وبوار ،ل يفيده
إل الشقاء في الدنيا والخرة.
{ َوقَالَ الّذِي آمَنَ } معيدًا نصيحته لقومه { :يَا َقوْمِ اتّ ِبعُونِ أَهْ ِدكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ } ل كما يقول لكم
فرعون ،فإنه ل يهديكم إل طريق الغي والفساد.
{ يَا َقوْمِ إِ ّنمَا هَ ِذهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ } يتمتع بها ويتنعم قليلً ،ثم تنقطع وتضمحل ،فل تغرنكم
وتخدعنكم عما خلقتم له { وَإِنّ الْآخِ َرةَ ِهيَ دَارُ ا ْلقَرَارِ } التي هي محل القامة ،ومنزل السكون
والستقرار ،فينبغي لكم أن تؤثروها ،وتعملوا لها عمل يسعدكم فيها.
ع ِملَ سَيّ َئةً } من شرك أو فسوق أو عصيان { فَلَا يُجْزَى إِلّا مِثَْلهَا } أي :ل يجازى إل بما
{ مَنْ َ
يسوؤه ويحزنه لن جزاء السيئة السوء.
ل صَالِحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى } من أعمال القلوب والجوارح ،وأقوال اللسان { فَأُولَ ِئكَ
ع ِم َ
{ َومَنْ َ
يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْ َزقُونَ فِيهَا ِبغَيْرِ حِسَابٍ } أي :يعطون أجرهم بل حد ول عد ،بل يعطيهم ال ما
ل تبلغه أعمالهم.
{ وَيَا َقوْمِ مَا لِي َأدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ } بما قلت لكم { وَتَدْعُونَنِي ِإلَى النّارِ } بترك اتباع نبي ال
موسى عليه السلم.
ثم فسر ذلك فقال { :تَدْعُونَنِي لَِأ ْكفُرَ بِاللّ ِه وَأُشْ ِركَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ } أنه يستحق أن يعبد من
دون ال ،والقول على ال بل علم من أكبر الذنوب وأقبحها { ،وَأَنَا َأدْعُوكُمْ إِلَى ا ْلعَزِيزِ } الذي له
القوة كلها ،وغيره ليس بيده من المر شيء { .ا ْلغَفّارُ } الذي يسرف العباد على أنفسهم
ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه ،كفر عنهم السيئات والذنوب ،ودفع موجباتها
من العقوبات الدنيوية والخروية.
{ وَأَنّ مَ َردّنَا إِلَى اللّهِ } تعالى فسيجازي كل عامل بعمله { .وَأَنّ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ هُمْ َأصْحَابُ النّارِ }
وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بالتجرؤ على ربهم بمعاصيه والكفر به ،دون غيرهم.
{ َفسَتَ ْذكُرُونَ مَا َأقُولُ َل ُكمْ } من هذه النصيحة ،وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب،
وتحرمون جزيل الثواب.
{ وَُأ َف ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ } أي :ألجأ إليه وأعتصم ،وألقي أموري كلها لديه ،وأتوكل عليه في
مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم { .إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ } يعلم أحوالهم
وما يستحقون ،يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم ،ويعلم أحوالكم فل تتصرفون إل
بإرادته ومشيئته ،فإن سلطكم علي ّ،فبحكمة منه تعالى ،وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك.
{ َف َوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَرُوا } أي :وقى ال القويّ الرحيم ،ذلك الرجل المؤمن الموفق ،عقوبات
ما مكر فرعون وآله له ،من إرادة إهلكه وإتلفه ،لنه بادأهم بما يكرهون ،وأظهر لهم الموافقة
التامة لموسى عليه السلم ،ودعاهم إلى ما دعاهم إليه موسى ،وهذا أمر ل يحتملونه وهم الذين
لهم القدرة إذ ذاك ،وقد أغضبهم واشتد حنقهم عليه ،فأرادوا به كيدًا فحفظه ال من كيدهم ومكرهم
عوْنَ سُوءُ ا ْلعَذَابِ } أغرقهم ال تعالى في
وانقلب كيدهم ومكرهم ،على أنفسهم { ،وَحَاقَ بِآلِ فِرْ َ
صبيحة واحدة عن آخرهم.
شدّ
عوْنَ أَ َ
عةُ أَ ْدخِلُوا آلَ فِرْ َ
وفي البرزخ { النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا غُ ُدوّا وَعَشِيّا وَ َيوْمَ َتقُومُ السّا َ
ا ْلعَذَابِ} فهذه العقوبات الشنيعة ،التي تحل بالمكذبين لرسل ال ،المعاندين لمره.
ض َعفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنْتُمْ
{ { } 50 - 47وَإِذْ يَ َتحَاجّونَ فِي النّارِ فَ َيقُولُ ال ّ
ح َكمَ بَيْنَ ا ْلعِبَادِ * َوقَالَ
ُمغْنُونَ عَنّا َنصِيبًا مِنَ النّارِ * قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا ُكلّ فِيهَا إِنّ اللّهَ َقدْ َ
خفّفْ عَنّا َي ْومًا مِنَ ا ْلعَذَابِ * قَالُوا َأوَ َلمْ َتكُ تَأْتِيكُمْ ُرسُُلكُمْ
جهَنّمَ ادْعُوا رَ ّبكُمْ ُي َ
الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ َ
بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ }
يخبر تعالى عن تخاصم أهل النار ،وعتاب بعضهم بعضًا واستغاثتهم بخزنة النار ،وعدم الفائدة
في ذلك فقال { :وَِإذْ يَتَحَاجّونَ فِي النّارِ } يحتج التابعون بإغواء المتبوعين ،ويتبرأ المتبوعون من
ض َعفَاءُ } أي :التباع للقادة { لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } على الحق ،ودعوهم إلى ما
التابعين { ،فَ َيقُولُ ال ّ
استكبروا لجله { .إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا } أنتم أغويتمونا وأضللتمونا وزينتم لنا الشرك والشرَ { ،ف َهلْ
أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا َنصِيبًا مِنَ النّارِ } أي :ولو قليلً.
{ قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا } مبينين لعجزهم ونفوذ الحكم اللهي في الجميع { :إِنّا ُكلّ فِيهَا إِنّ اللّهَ قَدْ
حكَمَ بَيْنَ ا ْلعِبَادِ } وجعل لكل قسطه من من العذاب ،فل يزاد في ذلك ول ينقص منه ،ول يغير ما
َ
حكم به الحكيم.
فـ { قَالُوا } لهم موبخين ومبينين أن شفاعتهم ل تنفعهم ،ودعاءهم ل يفيدهم شيئًاَ { :أوَ لَمْ َتكُ
سُلكُمْ بِالْبَيّنَاتِ } التي تبينتم بها الحق والصراط المستقيم ،وما يقرب من ال وما يبعد منه؟
تَأْتِيكُمْ رُ ُ
{ قَالُوا بَلَى } قد جاءونا بالبينات ،وقامت علينا حجة ال البالغة فظلمنا وعاندنا الحق بعد ما تبين.
{ قَالُوا } أي :الخزنة لهل النار ،متبرئين من الدعاء لهم والشفاعة { :فَادْعُوا } أنتم ولكن هذا
الدعاء هل يغني شيئا أم ل؟
قال تعالىَ { :ومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ } أي :باطل لغ ،لن الكفر محبط لجميع العمال
صادّ لجابة الدعاء.
لما ذكر عقوبة آل فرعون في الدنيا ،والبرزخ ،ويوم القيامة ،وذكر حالة أهل النار الفظيعة ،الذين
سلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } أي :بالحجة
نابذوا رسله وحاربوهم ،قال { :إِنّا لَنَ ْنصُرُ رُ ُ
والبرهان والنصر ،في الخرة بالحكم لهم ولتباعهم بالثواب ،ولمن حاربهم بشدة العقاب.
{ َيوْمَ لَا يَ ْنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْذِرَ ُتهُمْ } حين يعتذرون { وََلهُمُ الّلعْنَةُ وََلهُمْ سُوءُ الدّارِ } أي :الدار السيئة
التي تسوء نازليها.
{ { } 55 - 53وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلهُدَى وََأوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ * ُهدًى وَ ِذكْرَى لِأُولِي
شيّ وَالْإِ ْبكَارِ }
حمْدِ رَ ّبكَ بِا ْل َع ِ
ك وَسَبّحْ ِب َ
ق وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِب َ
ن وَعْدَ اللّهِ حَ ّ
الْأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِ ّ
لما ذكر ما جرى لموسى وفرعون ،وما آل إليه أمر فرعون وجنوده ،ثم ذكر الحكم العام الشامل
له ولهل النار ،ذكر أنه أعطى موسى { ا ْلهُدَى } أي :اليات ،والعلم الذي يهتدي به المهتدون.
{ وََأوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْلكِتَابَ } أي :جعلناه متوارثًا بينهم ،من قرن إلى آخر ،وهو التوراة ،وذلك
الكتاب مشتمل على الهدى الذي هو :العلم بالحكام الشرعية وغيرها ،وعلى التذكر للخير
بالترغيب فيه ،وعن الشر بالترهيب عنه ،وليس ذلك لكل أحد ،وإنما هو { لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ } من السباب التي تحث على الصبر على طاعة ال وعن ما يكره ال.
فقوله { :إِ ّ
{ وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِبكَ } المانع لك من تحصيل فوزك وسعادتك ،فأمره بالصبر الذي فيه يحصل
شيّ
المحبوب ،وبالستغفار الذي فيه دفع المحذور ،وبالتسبيح بحمد ال تعالى خصوصًا { بِا ْل َع ِ
وَالْإِ ْبكَارِ } اللذين هما أفضل الوقات ،وفيهما من الوراد والوظائف الواجبة والمستحبة ما فيهما،
لن في ذلك عونًا على جميع المور.
{ { } 56إِنّ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ ِبغَيْرِ سُ ْلطَانٍ أَتَا ُهمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلّا كِبْرٌ مَا هُمْ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }
بِبَاِلغِيهِ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
يخبر تعالى أن من جادل في آياته ليبطلها بالباطل ،بغير بينة من أمره ول حجة ،إن هذا صادر
من كبر في صدورهم على الحق وعلى من جاء به ،يريدون الستعلء عليه بما معهم من الباطل،
فهذا قصدهم ومرادهم.
ولكن هذا ل يتم لهم وليسوا ببالغيه ،فهذا نص صريح ،وبشارة ،بأن كل من جادل الحق أنه
مغلوب ،وكل من تكبر عليه فهو في نهايته ذليل.
{ فَاسْ َتعِذْ } أي :اعتصم والجأ { بِاللّهِ } ولم يذكر ما يستعيذ ،إرادة للعموم .أي :استعذ بال من
الكبر الذي يوجب التكبر على الحق ،واستعذ بال من شياطين النس والجن ،واستعذ بال من
جميع الشرور.
سمِيعُ } لجميع الصوات على اختلفها { ،الْ َبصِيرُ } بجميع المرئيات ،بأي محل
{ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
وموضع وزمان كانت.
يخبر تعالى بما تقرر في العقول ،أن خلق السماوات والرض -على عظمهما وسعتهما -أعظم
وأكبر ،من خلق الناس ،فإن الناس بالنسبة إلى خلق السماوات والرض من أصغر ما يكون فالذي
خلق الجرام العظيمة وأتقنها ،قادر على إعادة الناس بعد موتهم من باب أولى وأحرى .وهذا أحد
ل ل يقبل
الدلة العقلية الدالة على البعث ،دللة قاطعة ،بمجرد نظر العاقل إليها ،يستدل بها استدل ً
الشك والشبهة بوقوع ما أخبرت به الرسل من البعث.
وليس كل أحد يجعل فكره لذلك ،ويقبل بتدبره ،ولهذا قال { :وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } ولذلك
ل يعتبرون بذلك ،ول يجعلونه منهم على بال.
{ إِنّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا } قد أخبرت بها الرسل الذين هم أصدق الخلق ونطقت بها الكتب
السماوية ،التي جميع أخبارها أعلى مراتب الصدق ،وقامت عليها الشواهد المرئية ،واليات
الفقية { .وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا ُي ْؤمِنُونَ } مع هذه المور ،التي توجب كمال التصديق ،والذعان.
جهَنّمَ
جبْ َلكُمْ إِنّ الّذِينَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَ ْدخُلُونَ َ
{ َ { } 60وقَالَ رَ ّبكُمُ ادْعُونِي َأسْتَ ِ
دَاخِرِينَ }
هذا من لطفه بعباده ،ونعمته العظيمة ،حيث دعاهم إلى ما فيه صلح دينهم ودنياهم ،وأمرهم
بدعائه ،دعاء العبادة ،ودعاء المسألة ،ووعدهم أن يستجيب لهم ،وتوعد من استكبر عنها فقال:
جهَنّمَ دَاخِرِينَ } أي :ذليلين حقيرين ،يجتمع عليهم
{ إِنّ الّذِينَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَ ْدخُلُونَ َ
العذاب والهانة ،جزاء على استكبارهم.
سكُنُوا فِيهِ وَال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا إِنّ اللّهَ َلذُو َفضْلٍ عَلَى
ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْيلَ لِتَ ْ
{ { } 65 - 61اللّهُ الّذِي َ
شيْءٍ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ *
شكُرُونَ * ذَِل ُكمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ خَالِقُ ُكلّ َ
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا يَ ْ
النّا ِ
سمَاءَ بِنَاءً
ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ قَرَارًا وَال ّ
جحَدُونَ * اللّهُ الّذِي َ
كَذَِلكَ ُي ْؤ َفكُ الّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ
صوَ َركُ ْم وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * ُهوَ
ن ُ
َوصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
حيّ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ فَادْعُوهُ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ ا ْل َ
الْ َ
تدبر هذه اليات الكريمات ،الدالة على سعة رحمة ال تعالى وجزيل فضله ،ووجوب شكره،
وكمال قدرته ،وعظيم سلطانه ،وسعة ملكه ،وعموم خلقه لجميع الشياء ،وكمال حياته ،واتصافه
بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة ،وما فعله من الفعال الحسنة ،وتمام ربوبيته،
وانفراده فيها ،وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي الوقات وحاضرها،
ومستقبلها بيد ال تعالى ،ليس لحد من المر شىء ،ول من القدرة شيء ،فينتج من ذلك ،أنه
تعالى المألوه المعبود وحده ،الذي ل يستحق أحد من العبودية شيئًا ،كما لم يستحق من الربوبية
شيئًا ،وينتج من ذلك ،امتلء القلوب بمعرفة ال تعالى ومحبته وخوفه ورجائه ،وهذان المران
-وهما معرفته وعبادته -هما اللذان خلق ال الخلق لجلهما ،وهما الغاية المقصودة منه تعالى
لعباده ،وهما الموصلن إلى كل خير وفلح وصلح ،وسعادة دنيوية وأخروية ،وهما اللذان هما
أشرف عطايا الكريم لعباده ،وهما أشرف اللذات على الطلق ،وهما اللذان إن فاتا ،فات كل
خير ،وحضر كل شر.
فنسأله تعالى أن يمل قلوبنا بمعرفته ومحبته ،وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة ،خالصة
لوجهه ،تابعة لمره ،إنه ل يتعاظمه سؤال ،ول يحفيه نوال.
{ و } جعل تعالى { ال ّنهَارَ مُ ْبصِرًا } منيرًا بالشمس المستمرة في الفلك ،فتقومون من فرشكم إلى
أشغالكم الدينية والدنيوية ،هذا لذكره وقراءته ،وهذا لصلته ،وهذا لطلبه العلم ودراسته ،وهذا
لبيعه وشرائه ،وهذا لبنائه أو حدادته ،أو نحوها من الصناعات ،وهذا لسفره برًا وبحرًا ،وهذا
لفلحته ،وهذا لتصليح حيواناته.
ضلٍ } أي :عظيم ،كما يدل عليه التنكير { عَلَى النّاسِ } حيث أنعم عليهم بهذه النعم
{ إِنّ اللّهَ َلذُو َف ْ
وغيرها ،وصرف عنهم النقم ،وهذا يوجب عليهم ،تمام شكره وذكره { ،وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا
شكُورُ } الذين يقرون بنعمة ربهم،
شكُرُونَ } بسبب جهلهم وظلمهمَ { .وقَلِيلٌ مِنْ عِبَا ِديَ ال ّ
يَ ْ
ويخضعون للّه ،ويحبونه ،ويصرفونها في طاعة مولهم ورضاه.
{ ذَِلكُمُ } الذي فعل ما فعل { اللّهُ رَ ّبكُمْ } أي :المنفرد باللهية ،والمنفرد بالربوبية ،لن انفراده
بهذه النعم ،من ربوبيته ،وإيجابها للشكر ،من ألوهيته { ،لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } تقرير أنه المستحق للعبادة
شيْءٍ } تقرير لربوبيته.
وحده ،ل شريك له { ،خَالِقُ ُكلّ َ
ثم صرح بالمر بعبادته فقال { :فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ } أي :كيف تصرفون عن عبادته ،وحده ل شريك
له ،بعد ما أبان لكم الدليل ،وأنار لكم السبيل؟"
ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ قَرَارًا } أي :قارة ساكنة ،مهيأة لكل مصالحكم ،تتمكنون من حرثها
{ اللّهُ الّذِي َ
وغرسها ،والبناء عليها ،والسفر ،والقامة فيها.
سمَاءَ بِنَاءً } سقفًا للرض ،التي أنتم فيها ،قد جعل ال فيها ما تنتفعون به من النوار
{ وَال ّ
صوَ َركُمْ } فليس في
ن ُ
حسَ َ
صوّ َركُمْ فَأَ ْ
والعلمات ،التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحرَ { ،و َ
حسَنِ َتقْوِيمٍ }
جنس الحيوانات ،أحسن صورة من بني آدم ،كما قال تعالىَ { :لقَدْ خََلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي أَ ْ
وإذا أردت أن تعرف حسن الدمي وكمال حكمة ال تعالى فيه ،فانظر إليه ،عضوًا عضوًا ،هل
تجد عضوًا من أعضائه ،يليق به ،ويصلح أن يكون في غير محله؟ وانظر أيضًا ،إلى الميل الذي
في القلوب ،بعضهم لبعض ،هل تجد ذلك في غير الدمين؟ وانظر إلى ما خصه ال به من العقل
واليمان ،والمحبة والمعرفة ،التي هي أحسن الخلق المناسبة لجمل الصور.
{ وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } وهذا شامل لكل طيب ،من مأكل ،ومشرب ،ومنكح ،وملبس ،ومنظر،
ومسمع ،وغير ذلك ،من الطيبات التي يسرها ال لعباده ،ويسر لهم أسبابها ،ومنعهم من الخبائث،
التي تضادها ،وتضر أبدانهم ،وقلوبهم ،وأديانهم { ،ذَِلكُمُ } الذي دبر المور ،وأنعم عليكم بهذه
النعم { اللّهُ رَ ّبكُمْ } { فَتَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :تعاظم ،وكثر خيره وإحسانه ،المربي جميع
العالمين بنعمه.
حيّ } الذي له الحياة الكاملة التامة ،المستلزمة لما تستلزمه من صفاته الذاتية ،التي ل تتم
{ ُهوَ الْ َ
حياته إل بها ،كالسمع ،والبصر ،والقدرة ،والعلم ،والكلم ،وغير ذلك ،من صفات كماله ،ونعوت
جلله.
{ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } أي :ل معبود بحق ،إل وجهه الكريم { .فَادْعُوهُ } وهذا شامل لدعاء العبادة،
ودعاء المسألة { مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ } أي :اقصدوا بكل عبادة ودعاء وعمل ،وجه ال تعالى ،فإن
الخلص ،هو المأمور به كما قال تعالىَ { :ومَا ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْ ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ حُ َنفَاءَ }
حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :جميع المحامد والمدائح والثناء ،بالقول كنطق الخلق بذكره،
{ الْ َ
والفعل ،كعبادتهم له ،كل ذلك للّه تعالى وحده ل شريك له ،لكماله في أوصافه وأفعاله ،وتمام
نعمه.
{ ُ { } 68 - 66قلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َلمّا جَاءَ ِنيَ الْبَيّنَاتُ مِنْ رَبّي
جكُمْ
طفَةٍ ثُمّ مِنْ عََلقَةٍ ُثمّ ُيخْرِ ُ
وَُأمِرْتُ أَنْ ُأسْلِمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ ُن ْ
سمّى وََلعَّلكُمْ
طفْلًا ثُمّ لِتَبُْلغُوا أَشُ ّد ُكمْ ثُمّ لِ َتكُونُوا شُيُوخًا َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى مِنْ قَ ْبلُ وَلِتَبُْلغُوا َأجَلًا مُ َ
ِ
َت ْعقِلُونَ * ُهوَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ فَِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ }
لما ذكر المر بإخلص العبادة للّه وحده ،وذكر الدلة على ذلك والبينات ،صرح بالنهي عن
عبادة ما سواه فقالُ { :قلْ } يا أيها النبي { إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } من
الوثان والصنام ،وكل ما عبد من دون ال.
ولست على شك من أمري ،بل على يقين وبصيرة ،ولهذا قالَ { :لمّا جَاءَ ِنيَ الْبَيّنَاتُ مِنْ رَبّي
وَُأمِرْتُ أَنْ ُأسْلِمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } بقلبي ولساني ،وجوارحي ،بحيث تكون منقادة لطاعته ،مستسلمة
لمره ،وهذا أعظم مأمور به ،على الطلق ،كما أن النهي عن عبادة ما سواه ،أعظم مَ ْن ِهيّ عنه،
على الطلق.
ثم قرر هذا التوحيد ،بأنه الخالق لكم والمطور لخلقتكم ،فكما خلقكم وحده ،فاعبدوه وحده فقال:
طفَةٍ } وهذا
{ ُهوَ الّذِي خََلقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلقه لصلكم وأبيكم آدم عليه السلم { .ثُمّ مِنْ ُن ْ
ابتداء خلق سائر النوع النساني ،ما دام في بطن أمه ،فنبه بالبتداء ،على بقية الطوار ،من
طفْلًا } ثم هكذا تنتقلون في الخلقة اللهية
جكُمْ ِ
العلقة ،فالمضغة ،فالعظام ،فنفخ الروحُ { ،ثمّ يُخْ ِر ُ
حتى تبلغوا أشدكم من قوة العقل والبدن ،وجميع قواه الظاهرة والباطنة.
{ ُثمّ لِ َتكُونُوا شُيُوخًا َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى مِنْ قَ ْبلُ } بلوغ الشد { وَلِتَبُْلغُوا } بهذه الطوار المقدرة
سمّى } تنتهي عنده أعماركم { .وََلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } أحوالكم ،فتعلمون أن المطور لكم في هذه
{ َأجَلًا مُ َ
الطوار كامل القتدار ،وأنه الذي ل تنبغي العبادة إل له ،وأنكم ناقصون من كل وجه.
{ ُهوَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي هو المنفرد بالحياء والماتة ،فل تموت نفس بسبب أو بغير سبب،
عمُ ِرهِ إِلّا فِي كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ }
إل بإذنهَ { .ومَا ُي َعمّرُ مِنْ ُم َعمّ ٍر وَلَا يُ ْن َقصُ مِنْ ُ
{ فَِإذَا َقضَى َأمْرًا } جليلً أو حقيرًا { فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ } ل رد في ذلك ،ول مثنوية ،ول
تمنع.
{ { } 76 - 69أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ أَنّى ُيصْ َرفُونَ * الّذِينَ كَذّبُوا بِا ْلكِتَابِ
حمِيمِ ُثمّ
سحَبُونَ * فِي ا ْل َ
سلُ يُ ْ
س ْوفَ َيعَْلمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَالسّلَا ِ
وَ ِبمَا أَ ْرسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَ َ
سجَرُونَ * ثُمّ قِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْ ِركُونَ * مِنْ دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلّوا عَنّا َبلْ لَمْ َنكُنْ
فِي النّارِ يُ ْ
ق وَ ِبمَا
نَدْعُو مِنْ قَ ْبلُ شَيْئًا كَ َذِلكَ ُيضِلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ * ذَِلكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َتفْرَحُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَ ّ
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ }
خلُوا أَ ْبوَابَ َ
كُنْتُمْ َتمْرَحُونَ * ادْ ُ
{ َألَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ } الواضحة البينة متعجبًا من حالهم الشنيعة { .أَنّى
ُيصْ َرفُونَ } أي :كيف ينعدلون عنها؟ وإلى أي شيء يذهبون بعد البيان التام؟ هل يجدون آيات
بينات تعارض آيات ال؟ ل وال .أم يجدون شبهًا توافق أهواءهم ،ويصولون بها لجل باطلهم؟
فبئس ما استبدلوا واختاروا لنفسهم ،بتكذيبهم بالكتاب ،الذي جاءهم من ال ،وبما أرسل ال به
رسله ،الذين هم خير الخلق وأصدقهم ،وأعظمهم عقولً ،فهؤلء ل جزاء لهم سوى النار الحامية،
س ْوفَ َيعَْلمُونَ }
ولهذا توعدهم ال بعذابها فقال { :فَ َ
سلُ } التي يقرنون بها ،هم
{ ِإذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَا ِقهِمْ } التي ل يستطيعون معها حركة { .وَالسّلَا ِ
وشياطينهم { ُيسْحَبُونَ في الحميم }
أي :الماء الذي اشتد غليانه وحره { .ثُمّ فِي النّارِ ُيسْجَرُونَ } يوقد عليهم اللهب العظيم ،فيصلون
بها ،ثم يوبخون على شركهم وكذبهم.
ويقال { َل ُهمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْ ِركُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } هل نفعوكم ،أو دفعوا عنكم بعض العذاب؟.
{ قَالُوا ضَلّوا عَنّا } أي :غابوا ولم يحضروا ،ولو حضروا ،لم ينفعوا ،ثم إنهم أنكروا فقالواَ { :بلْ
لَمْ َنكُنْ َندْعُو مِنْ قَ ْبلُ شَيْئًا } يحتمل أن مرادهم بذلك ،النكار ،وظنوا أنه ينفعهم ويفيدهم ،ويحتمل
-وهو الظهر -أن مرادهم بذلك ،القرار على بطلن إلهية ما كانوا يعبدون ،وأنه ليس للّه شريك
في الحقيقة ،وإنما هم ضالون مخطئون ،بعبادة معدوم اللهية ،ويدل على هذا قوله تعالى { :كَذَِلكَ
ضلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ } أي :كذلك الضلل الذي كانوا عليه في الدنيا ،الضلل الواضح لكل أحد،
ُي ِ
حتى إنهم بأنفسهم ،يقرون ببطلنه يوم القيامة ،ويتبين لهم معنى قوله تعالىَ { :ومَا يَتّبِعُ الّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُ َركَاءَ إِنْ يَتّ ِبعُونَ إِلّا الظّنّ } ويدل عليه قوله تعالى { :وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُونَ
ضلّ ِممّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لَا يَسْ َتجِيبُ لَهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ } اليات.
بِشِ ْر ِككُمْ } { َومَنْ َأ َ
ويقال لهل النار { ذَِلكُمْ } العذاب ،الذي نوع عليكم { ِبمَا كُنْتُمْ َتفْرَحُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ
وَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َتمْرَحُونَ } أي :تفرحون بالباطل الذي أنتم عليه ،وبالعلوم التي خالفتم بها علوم الرسل
وتمرحون على عباد ال ،بغيًا وعدوانًا ،وظلمًا ،وعصيانًا ،كما قال تعالى في آخر هذه السورة:
{ فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَ ِرحُوا ِبمَا عِنْدَ ُهمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ }
حبّ ا ْلفَرِحِينَ }
وكما قال قوم قارون له { :لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ
ضلِ
وهذا هو الفرح المذموم الموجب للعقاب ،بخلف الفرح الممدوح الذي قال ال فيهُ { :قلْ ِب َف ْ
حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا } وهو الفرح بالعلم النافع ،والعمل الصالح.
اللّ ِه وَبِ َر ْ
جهَنّمَ } كل بطبقة من طبقاتها ،على قدر عمله { .خَالِدِينَ فِيهَا } ل يخرجون منها
{ ادْخُلُوا أَ ْبوَابَ َ
أبدًا { فَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ } مثوى يخزون فيه ،ويهانون ،ويحبسون ،ويعذبون ،ويترددون بين
حرها وزمهريرها.
جعُونَ }
عدَ اللّهِ حَقّ فَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُرْ َ
ن وَ ْ
{ { } 77فَاصْبِرْ إِ ّ
أي { فَاصْبِرْ } يا أيها الرسول ،على دعوة قومك ،وما ينالك منهم ،من أذى ،واستعن على صبرك
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ } سينصر دينه ،و ُيعْلِي كلمته ،وينصر رسله في الدنيا والخرة،
بإيمانك { إِ ّ
واستعن على ذلك أيضًا ،بتوقع العقوبة بأعدائك في الدنيا والخرة ،ولهذا قال { :فَِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ
جعُونَ } فنجازيهم بأعمالهم،
الّذِي َن ِعدُهُمْ } في الدنيا فذاك { َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ } قبل عقوبتهم { فَإِلَيْنَا يُرْ َ
عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ } ثم سلّاه وصبّره ،بذكر إخوانه المرسلين فقال:
{ وَلَا َتحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلًا َ
ك َومَا
ك َومِ ْنهُمْ مَنْ َلمْ َن ْقصُصْ عَلَ ْي َ
صصْنَا عَلَ ْي َ
{ { } 78وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبِْلكَ مِ ْن ُهمْ مَنْ َق َ
ق وَخَسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلمُبْطِلُونَ }
حّضيَ بِالْ َ
كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَاءَ َأمْرُ اللّهِ ُق ِ
أي { :وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ رُسُلًا } كثيرين إلى قومهم ،يدعونهم ويصبرون على أذاهم { .مِ ْنهُمْ
صصْ عَلَ ْيكَ } وكل الرسل مدبرون ،ليس بيدهم
صصْنَا عَلَ ْيكَ } خبرهم { َومِ ْنهُمْ مَنْ لَمْ َن ْق ُ
مَنْ َق َ
شيء من المر.
وما كان لحد منهم { أَنْ يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ } من اليات السمعية والعقلية { ِإلّا بِإِذْنِ اللّهِ } أي :بمشيئته
وأمره ،فاقتراح المقترحين على الرسل التيان باليات ،ظلم منهم ،وتعنت ،وتكذيب ،بعد أن أيدهم
اللّه باليات الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به { .فَِإذَا جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } بالفصل بين الرسل
ضىَ } بينهم { بِا ْلحَقّ } الذي يقع الموقع ،ويوافق الصواب بإنجاء الرسل
وأعدائهم ،والفتحُ { .ق ِ
وأتباعهم ،وإهلك المكذبين ،ولهذا قالَ { :وخَسِرَ هُنَاِلكَ } أي :وقت القضاء المذكور { ا ْلمُبْطِلُونَ }
الذين وصفهم الباطل ،وما جاءوا به من العلم والعمل ،باطل ،وغايتهم المقصودة لهم ،باطلة،
حذَر هؤلء المخاطبون ،أن يستمروا على باطلهم ،فيخسروا ،كما خسر أولئك ،فإن هؤلء ل
فَلْيَ ْ
خير منهم ،ول لهم براءة في الكتب بالنجاة.
ج َعلَ َل ُكمُ الْأَ ْنعَامَ لِتَ ْركَبُوا مِ ْنهَا َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ * وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
{ { } 81 - 79اللّهُ الّذِي َ
حمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فََأيّ آيَاتِ اللّهِ
جةً فِي صُدُو ِركُ ْم وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَا َ
تُ ْنكِرُونَ }
يمتن تعالى على عباده ،بما جعل لهم من النعام ،التي بها ،جملة من النعام:
{ وَلِتَبُْلغُوا عَلَ ْيهَا حَاجَةً فِي صُدُو ِركُمْ } من الوصول إلى الوطان البعيدة ،وحصول السرور بها،
حمَلُونَ } أي :على الرواحل البرية ،والفلك البحرية،
والفرح عند أهلها { .وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
يحملكم ال الذي سخرها ،وهيأ لها ما هيأ ،من السباب ،التي ل تتم إل بها.
{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الدالة على وحدانيته ،وأسمائه ،وصفاته ،وهذا من أكبر نعمه ،حيث أشهد عباده،
آياته النفسية ،وآياته الفقية ،ونعمه الباهرة ،وعدّدَها عليهم ،ليعرفوه ،ويشكروه ،ويذكروه.
{ فََأيّ آيَاتِ اللّهِ تُ ْنكِرُونَ } أي :أي آية من آياته ل تعترفون بها؟ فإنكم ،قد تقرر عندكم ،أن جميع
اليات والنعم ،منه تعالى ،فلم يبق للنكار محل ،ول للعراض عنها موضع ،بل أوجبت لذوي
اللباب ،بذل الجهد ،واستفراغ الوسع ،للجتهاد في طاعته ،والتبتل في خدمته ،والنقطاع إليه.
{ َ { } 85 - 82أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأكْثَرَ
مِ ْنهُ ْم وَأَشَدّ ُق ّوةً وَآثَارًا فِي الْأَ ْرضِ َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ * فََلمّا جَاءَ ْت ُهمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ
فَرِحُوا ِبمَا عِنْ َدهُمْ مِنَ ا ْلعِ ْل ِم وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ * فََلمّا رََأوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّهِ
وَحْ َد ُه َو َكفَرْنَا ِبمَا كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ * فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا سُنّةَ اللّهِ الّتِي قَدْ خََلتْ فِي
خسِرَ هُنَاِلكَ ا ْلكَافِرُونَ }
عِبَا ِد ِه وَ َ
يحث تعالى ،المكذبين لرسولهم ،على السير في الرض ،بأبدانهم ،وقلوبهم :وسؤال العالمين.
{ فَيَ ْنظُرُوا } نظر فكر واستدلل ،ل نظر غفلة وإهمال.
{ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } من المم السالفة ،كعاد ،وثمود وغيرهم ،ممن كانوا أعظم
منهم قوة وأكثر أموالً وأشد آثارًا في الرض من البنية الحصينة ،والغراس النيقة ،والزروع
الكثيرة { َفمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } حين جاءهم أمر ال ،فلم تغن عنهم قوتهم ،ول افتدوا
بأموالهم ،ول تحصنوا بحصونهم.
ثم ذكر جرمهم الكبير فقال { :فََلمّا جَاءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } من الكتب اللهية ،والخوارق
العظيمة ،والعلم النافع المبين ،للهدي من الضلل ،والحق من الباطل { فَ ِرحُوا ِبمَا عِنْدَ ُهمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ
} المناقض لدين الرسل.
ومن المعلوم ،أن فرحهم به ،يدل على شدة رضاهم به ،وتمسكهم ،ومعاداة الحق ،الذي جاءت به
الرسل ،وجعل باطلهم حقًا ،وهذا عام لجميع العلوم ،التي نوقض بها ،ما جاءت به الرسل ،ومن
أحقها بالدخول في هذا ،علوم الفلسفة ،والمنطق اليوناني ،الذي رُدّت به كثير من آيات القرآن،
ونقصت قدره في القلوب ،وجعلت أدلته اليقينية القاطعة ،أدلة لفظية ،ل تفيد شيئًا من اليقين ،ويقدم
عليها عقول أهل السفه والباطل ،وهذا من أعظم اللحاد في آيات ال ،والمعارضة لها،
والمناقضة ،فال المستعان.
{ َوحَاقَ ِبهِمْ } أي :نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } من العذاب.
{ فََلمّا رََأوْا بَ ْأسَنَا } أي :عذابنا ،أقروا حيث ل ينفعهم القرار { قَالُوا آمَنّا بِاللّ ِه وَحْ َدهُ َوكَفَرْنَا ِبمَا
كُنّا بِهِ مُشْ ِركِينَ } من الصنام والوثان ،وتبرأنا من كل ما خالف الرسل ،من علم أو عمل.
{ فََلمْ َيكُ يَ ْن َف ُعهُمْ إِيمَا ُنهُمْ َلمّا رََأوْا بَأْسَنَا } أي :في تلك الحال ،وهذه { سُنّةَ اللّهِ } وعادته { الّتِي َقدْ
خََلتْ فِي عِبَا ِدهِ } أن المكذبين حين ينزل بهم بأس ال وعقابه إذا آمنوا ،كان إيمانهم غير صحيح،
ول منجيًا لهم من العذاب ،وذلك لنه إيمان ضرورة ،قد اضطروا إليه ،وإيمان مشاهدة ،وإنما
اليمان النافع الذي ينجي صاحبه ،هو اليمان الختياري ،الذي يكون إيمانًا بالغيب ،وذلك قبل
وجود قرائن العذاب.
{ َوخَسِرَ هُنَاِلكَ } أي :وقت الهلك ،وإذاقة البأس { ا ْلكَافِرُونَ } دينهم ودنياهم وأخراهم ،ول
يكفي مجرد الخسارة ،في تلك الدار ،بل ل بد من خسران يشقي في العذاب الشديد ،والخلود فيه،
دائما أبدًا.
تم تفسير سورة المؤمن بحمد ال ولطفه ومعونته ،ل بحولنا وقوتنا ،فله الشكر والثناء
سورة فصلت
مكية
ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان فقالُ { :فصَّلتْ آيَاُتهُ } أي :فصل كل شيء من أنواعه على
حدته ،وهذا يستلزم البيان التام ،والتفريق بين كل شيء ،وتمييز الحقائق { .قُرْآنًا عَرَبِيّا } أي:
باللغة الفصحى أكمل اللغات ،فصلت آياته وجعل عربيًاِ { .ل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } أي :لجل أن يتبين لهم
معناه ،كما تبين لفظه ،ويتضح لهم الهدى من الضلل ،وا ْل َغيّ من الرشاد.
سقِ الكلم
عمًى فهؤلء لم يُ َ
وأما الجاهلون ،الذين ل يزيدهم الهدى إل ضللً ،ول البيان إل َ
علَ ْيهِمْ أَأَ ْنذَرْ َتهُمْ أَمْ لَمْ تُ ْنذِرْهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ }
سوَاءٌ َ
لجلهمَ { ،
{ َبشِيرًا وَنَذِيرًا } أي :بشيرًا بالثواب العاجل والجل ،ونذيرًا بالعقاب العاجل والجل ،وذكر
تفصيلهما ،وذكر السباب والوصاف التي تحصل بها البشارة والنذارة ،وهذه الوصاف للكتاب،
مما يوجب أن يُتَلقّى بالقبول ،والذعان ،واليمان ،والعمل به ،ولكن أعرض أكثر الخلق عنه
س َمعُونَ } له سماع قبول وإجابة ،وإن كانوا قد سمعوه سماعًا،
إعراض المستكبرينَ { ،ف ُهمْ لَا يَ ْ
تقوم عليهم به الحجة الشرعية.
{ َوقَالُوا } أي :هؤلء المعرضون عنه ،مبينين عدم انتفاعهم به ،بسد البواب الموصلة إليه:
{ قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ } أي :أغطية مغشاة { ِممّا َتدْعُونَا إِلَيْ ِه َوفِي آذَانِنَا َوقْرٌ } أي :صمم فل نسمع لك
حجَابٌ } فل نراك.
{ َومِنْ بَيْنِنَا وَبَيْ ِنكَ ِ
القصد من ذلك ،أنهم أظهروا العراض عنه ،من كل وجه ،وأظهروا بغضه ،والرضا بما هم
ع َملْ إِنّنَا عَامِلُونَ } أي :كما رضيت بالعمل بدينك ،فإننا راضون كل
عليه ،ولهذا قالوا { :فَا ْ
الرضا ،بالعمل في ديننا ،وهذا من أعظم الخذلن ،حيث رضوا بالضلل عن الهدى ،واستبدلوا
الكفر باليمان ،وباعوا الخرة بالدنيا.
{ ُقلْ } لهم يا أيها النبي { :إِ ّنمَا أَنَا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ } أي :هذه صفتي ووظيفتي ،أني بشر
مثلكم ،ليس بيدي من المر شيء ،ول عندي ما تستعجلون به ،وإنما فضلني اللّه عليكم ،وميّزني،
ي وأمرني باتباعه ،ودعوتكم إليه.
وخصّني ،بالوحي الذي أوحاه إل ّ
{ فَاسْ َتقِيمُوا إِلَيْهِ } أي .اسلكوا الصراط الموصل إلى اللّه تعالى ،بتصديق الخبر الذي أخبر به،
واتباع المر ،واجتناب النهي ،هذه حقيقة الستقامة ،ثم الدوام على ذلك ،وفي قوله { :إِلَيْهِ } تنبيه
على الخلص ،وأن العامل ينبغي له أن يجعل مقصوده وغايته ،التي يعمل لجلها ،الوصول إلى
اللّه ،وإلى دار كرامته ،فبذلك يكون عمله خالصًا صالحًا نافعًا ،وبفواته ،يكون عمله باطلً.
ولما كان العبد- ،ولو حرص على الستقامة -ل بد أن يحصل منه خلل بتقصير بمأمور ،أو
ارتكاب منهي ،أمره بدواء ذلك بالستغفار المتضمن للتوبة فقال { :وَاسْ َت ْغفِرُوهُ } ثم توّعد من ترك
الستقامة فقالَ { :ووَ ْيلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ الذين ل يؤتون الزكاة } أي :الذين عبدوا من دونه من ل يملك
نفعًا ول ضرًا ،ول موتًا ،ول حياة ،ول نشورًا ودنسوا أنفسهم ،فلم يزكوها بتوحيد ربهم
والخلص له ،ولم يصلوا ول زكوا ،فل إخلص للخالق بالتوحيد والصلة ،ول نفع للخلق
بالزكاة وغيرها { .وَ ُهمْ بِالْآخِ َرةِ هم كَافِرُونَ } أى :ل يؤمنون بالبعث ،ول بالجنة والنار ،فلذلك لما
زال الخوف من قلوبهم ،أقدموا على ما أقدموا عليه ،مما يضرهم في الخرة.
ولما ذكر الكافرين ،ذكر المؤمنين ،ووصفهم وجزاءهم ،فقال { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا } بهذا الكتاب ،وما
اشتمل عليه مما دعا إليه من اليمان ،وصدقوا إيمانهم بالعمال الصالحة الجامعة للخلص،
والمتابعةَ { .ل ُهمْ أَجْرٌ } أي :عظيم { غَيْرُ َممْنُونٍ } أي :غير مقطوع ول نافد ،بل هو مستمر مدى
الوقات ،متزايد على الساعات ،مشتمل على جميع اللذات والمشتهيات.
ينكر تعالى ويعجّب ،من كفر الكافرين به ،الذين جعلوا معه أندادا يشركونهم معه ،ويبذلون لهم ما
يشاؤون من عباداتهم ،ويسوونهم بالرب العظيم ،الملك الكريم ،الذي خلق الرض الكثيفة العظيمة،
في يومين ،ثم دحاها في يومين ،بأن جعل فيها رواسي من فوقها ،ترسيها عن الزوال والتزلزل
وعدم الستقرار.
سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ } فَ َتمّ خلق السماوات والرض في ستة أيام ،أولها يوم الحد،
{ َف َقضَاهُنّ سَ ْبعَ َ
وآخرها يوم الجمعة ،مع أن قدرة اللّه ومشيئته صالحة لخلق الجميع في لحظة واحدة ،ولكن مع
أنه قدير ،فهو حكيم رفيق ،فمن حكمته ورفقه ،أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة.
واعلم أن ظاهر هذه الية ،مع قوله تعالى في النازعات ،لما ذكر خلق السماوات قال { :وَالْأَ ْرضَ
َبعْدَ ذَِلكَ َدحَاهَا } يظهر منهما التعارض ،مع أن كتاب اللّه ،ل تعارض فيه ول اختلف.
والجواب عن ذلك ،ما قاله كثير من السلف ،أن خلق الرض وصورتها متقدم على خلق
السماوات كما هنا ،ودحي الرض بأن { َأخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا َومَرْعَاهَا وَا ْلجِبَالَ أَرْسَاهَا } متأخر عن
خلق السماوات كما في سورة النازعات ،ولهذا قال فيها { :وَالْأَ ْرضَ َبعْدَ َذِلكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِ ْنهَا }
إلى آخره ولم يقل" :والرض بعد ذلك خلقها"
سمَاءٍ َأمْرَهَا } أي :المر والتدبير اللئق بها ،الذي اقتضته حكمة أحكم
وقوله { :وََأوْحَى فِي ُكلّ َ
الحاكمين.
سمَاءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ } هي :النجوم ،يستنار ،بها ،ويهتدى ،وتكون زينة وجمالً للسماء
{ وَزَيّنّا ال ّ
ظاهرًا ،وجمالً لها ،باطنًا ،بجعلها رجومًا للشياطين ،لئل يسترق السمع فيها { .ذَِلكَ } المذكور،
من الرض وما فيها ،والسماء وما فيها { َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ } الذي عزته ،قهر بها الشياء ودبرها،
وخلق بها المخلوقات { .ا ْلعَلِيمِ } الذي أحاط علمه بالمخلوقات ،الغائب والشاهد.
فَتَ ْركُ المشركين الخلص لهذا الرب العظيم الواحد القهار ،الذي انقادت المخلوقات لمره ونفذ
فيها قدره ،من أعجب الشياء ،واتخاذهم له أندادًا يسوونهم به ،وهم ناقصون في أوصافهم
وأفعالهم ،أعجب ،وأعجب ،ول دواء لهؤلء ،إن استمر إعراضهم ،إل العقوبات الدنيوية
والخروية ،فلهذا خوفهم بقوله:
سلُ
عقَةِ عَادٍ وَ َثمُودَ * إِذْ جَاءَ ْتهُمُ الرّ ُ
عقَةً مِ ْثلَ صَا ِ
{ { } 14 - 13فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفقُلْ أَنْذَرْ ُت ُك ْم صَا ِ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِي ِه ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ أَلّا َتعْ ُبدُوا إِلّا اللّهَ قَالُوا َلوْ شَاءَ رَبّنَا لَأَنْ َزلَ مَلَا ِئكَةً فَإِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ
كَافِرُونَ }
أي :فإن أعرض هؤلء المكذبون بعد ما بين لهم من أوصاف القرآن الحميدة ،ومن صفات الله
عقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ }
ل صَا ِ
العظيم { َف ُقلْ أَنْذَرْ ُتكُمْ صَاعِقَةً } أي :عذابًا يستأصلكم ويجتاحكم { ،مِ ْث َ
القبيلتين المعروفتين ،حيث اجتاحهم العذاب ،وحل عليهم ،وبيل العقاب ،وذلك بظلمهم وكفرهم.
سلُ مِنْ بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ } أي :يتبع بعضهم بعضا متوالين ،ودعوتهم
حيث { جَاءَ ْتهُمُ الرّ ُ
جميعا واحدة { .أَنْ لَا َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ } أي :يأمرونهم بالخلص للّه ،وينهونهم عن الشرك ،فردوا
رسالتهم وكذبوهم { ،قَالُوا َلوْ شَاءَ رَبّنَا لَأَنْ َزلَ مَلَا ِئكَةً } أي :وأما أنتم فبشر مثلنا { فَإِنّا ِبمَا أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كَافِرُونَ } وهذه الشبهة لم تزل متوارثة بين المكذبين ،من المم وهي من أوهى الشّبَهِ ،فإنه
ليس من شرط الرسال ،أن يكون المرسل مََلكًا ،وإنما شرط الرسالة ،أن يأتي الرسول بما يدل
على صدقه ،فَلْ َيقْدَحُوا ،إن استطاعوا بصدقهم ،بقادح عقلي أو شرعي ،ولن يستطيعوا إلى ذلك
سبيل.
هذا تفصيل لقصة هاتين المتين ،عاد ،وثمود { .فََأمّا عَادٌ } فكانوا -مع كفرهم باللّه ،وجحدهم
بآيات اللّه ،وكفرهم برسله -مستكبرين في الرض ،قاهرين لمن حولهم من العباد ،ظالمين لهم،
قد أعجبتهم قوتهمَ { .وقَالُوا مَنْ أَشَدّ مِنّا ُق ّوةً } قال تعالى ردًا عليهم ،بما يعرفه كل أحدَ { :أوَلَمْ
شدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً } فلول خلقه إياهم ،لم يوجدوا فلو نظروا إلى هذه
يَ َروْا أَنّ اللّهَ الّذِي خََل َقهُمْ ُهوَ أَ َ
الحال نظرًا صحيحًا ،لم يغتروا بقوتهم ،فعاقبهم اللّه عقوبة ،تناسب قوتهم ،التي اغتروا بها.
{ فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا } أي :ريحًا عظيمة ،من قوتها وشدتها ،لها صوت مزعج،
حسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى
ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ ُ
كالرعد القاصف .فسخرها اللّه عليهم { سَبْعَ لَيَا ٍ
خلٍ خَاوِيَةٍ } { نحسات } فدمرتهم وأهلكتهم ،فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم .وقال
عجَازُ نَ ْ
كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
هنا { :لِ ُنذِي َقهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } الذي اختزوا به وافتضحوا بين الخليقة { .وََلعَذَابُ
الْآخِ َرةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُ ْنصَرُونَ } أي :ل يمنعون من عذاب اللّه ،ول ينفعون أنفسهم.
عقَةُ ا ْل َعذَابِ ا ْلهُونِ
{ { } 18 - 17وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْتَحَبّوا ا ْل َعمَى عَلَى ا ْلهُدَى فََأخَذَ ْتهُ ْم صَا ِ
ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ }
وأما ثمود وهم القبيلة المعروفة الذين سكنوا الحجر وحواليه ،الذين أرسل اللّه إليهم صالحًا عليه
السلم ،يدعوهم إلى توحيد ربهم ،وينهاهم عن الشرك وآتاهم اللّه الناقة ،آية عظيمة ،لها شرب
ولهم شرب يوم معلوم ،يشربون لبنها يومًا ويشربون من الماء يومًا ،وليسوا ينفقون عليها ،بل
تأكل من أرض اللّه ،ولهذا قال هنا { :وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ } أي :هداية بيان ،وإنما نص عليهم،
وإن كان جميع المم المهلكة ،قد قامت عليهم الحجة ،وحصل لهم البيان ،لن آية ثمود ،آية
باهرة ،قد رآها صغيرهم وكبيرهم ،وذكرهم وأنثاهم ،وكانت آية مبصرة ،فلهذا خصهم بزيادة
البيان والهدى.
ولكنهم -من ظلمهم وشرهم -استحبوا العمى -الذي هو الكفر والضلل -على الهدى -الذي هو:
العلم واليمان { -فََأخَذَ ْتهُمْ صَاعِقَةُ ا ْلعَذَابِ ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُوا َيكْسِبُونَ } ل ظلمًا من اللّه لهم.
{ وَ َنجّيْنَا الّذِينَ آمَنُوا َوكَانُوا يَ ّتقُونَ } أي نجى اللّه صالحًا عليه السلم ومن اتبعه من المؤمنين
المتقين للشرك ،والمعاصي.
شهِدَ
حشَرُ أَعْدَاءُ اللّهِ إِلَى النّارِ َفهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّى ِإذَا مَا جَاءُوهَا َ
{ { } 24 - 19وَ َيوْمَ يُ ْ
طقَنَا
شهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْ َ
س ْم ُعهُمْ وَأَ ْبصَارُهُ ْم وَجُلُو ُدهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * َوقَالُوا ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ َ
عَلَ ْيهِمْ َ
شهَدَ عَلَ ْيكُمْ
جعُونَ * َومَا كُنْ ُتمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ َي ْ
شيْ ٍء وَ ُهوَ خََل َقكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
اللّهُ الّذِي أَ ْنطَقَ ُكلّ َ
س ْم ُعكُ ْم وَلَا أَ ْبصَا ُركُ ْم وَلَا جُلُو ُدكُ ْم وََلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنّ اللّهَ لَا َيعَْلمُ كَثِيرًا ِممّا َت ْعمَلُونَ * وَذَِلكُمْ ظَّنكُمُ الّذِي
َ
ظَنَنْ ُتمْ بِرَ ّبكُمْ أَ ْردَاكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ * فَإِنْ َيصْبِرُوا فَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُ ْم وَإِنْ يَسْ َتعْتِبُوا َفمَا ُهمْ
مِنَ ا ْل ُمعْتَبِينَ }
يخبر تعالى عن أعدائه ،الذين بارزوه بالكفر به وبآياته ،وتكذيب رسله ومعاداتهم ومحاربتهم،
وحالهم الشنيعة حين يحشرون ،أي :يجمعون { .إِلَى النّارِ َفهُمْ يُوزَعُونَ } [أي] :يرد أولهم على
آخرهم ،ويتبع آخرهم أولهم ،ويساقون إليها سوقا عنيفًا ،ل يستطيعون امتناعًا ،ول ينصرون
أنفسهم ،ول هم ينصرون.
{ حَتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } أي :حتى إذا وردوا على النار ،وأرادوا النكار ،أو أنكروا ما عملوه من
س ْم ُعهُ ْم وَأَ ْبصَارُهُ ْم َوجُلُودُهُمْ } عموم بعد خصوصِ { [ .بمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ
شهِدَ عَلَ ْيهِمْ َ
المعاصيَ { ،
} ] أي :شهد عليهم كل عضو من أعضائهم ،فكل عضو يقول :أنا فعلت كذا وكذا ،يوم كذا وكذا.
وخص هذه العضاء الثلثة ،لن أكثر الذنوب ،إنما تقع بها ،أو بسببها.
فإذا شهدت عليهم عاتبوهاَ { ،وقَالُوا لِجُلُودِ ِهمْ } هذا دليل عل أن الشهادة تقع من كل عضو كما
شيْءٍ } فليس في
طقَ ُكلّ َ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنْ َ
ش ِهدْتُمْ عَلَيْنَا } ونحن ندافع عنكن؟ { قَالُوا أَ ْن َ
ذكرناِ { :لمَ َ
إمكاننا ،المتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي ل يستعصي عن مشيئته أحد.
{ وَ ُهوَ خََل َقكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } فكما خلقكم بذواتكم ،وأجسامكم ،خلق أيضا صفاتكم ،ومن ذلك ،النطاق.
جعُونَ } في الخرة ،فيجزيكم بما عملتم ،ويحتمل أن المراد بذلك ،الستدلل على البعث
{ وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
بالخلق الول ،كما هو طريقة القرآن.
س ْم ُعكُمْ وَلَا أَ ْبصَا ُركُ ْم وَلَا جُلُو ُد ُكمْ } أي :وما كنتم تختفون عن
شهَدَ عَلَ ْيكُمْ َ
{ َومَا كُنْتُمْ َتسْتَتِرُونَ أَنْ يَ ْ
شهادة أعضائكم عليكم ،ول تحاذرون من ذلك { .وََلكِنْ ظَنَنْتُمْ } بإقدامكم على المعاصي { أَنّ اللّهَ
لَا َيعْلَمُ كَثِيرًا ِممّا َت ْعمَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر ،وهذا الظن ،صار سبب هلكهم وشقائهم
ولهذا قال { :وَ َذِلكُمْ ظَّن ُكمُ الّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَ ّبكُمْ } الظن السيئ ،حيث ظننتم به ،ما ل يليق بجلله.
{ أَ ْردَاكُمْ } أي :أهلككم { فََأصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } لنفسهم وأهليهم وأديانهم بسبب العمال التي
أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم ،فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء ،ووجب عليكم الخلود الدائم ،في
العذاب ،الذي ل يفتر عنهم ساعة:
{ فَإِنْ َيصْبِرُوا فَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُمْ } فل جََل َد عليها ،ول صبر ،وكل حالة قُدّر إمكان الصبر عليها،
فالنار ل يمكن الصبر عليها ،وكيف الصبر على نار ،قد اشتد حرها ،وزادت على نار الدنيا،
بسبعين ضعفًا ،وعظم غليان حميمها ،وزاد نتن صديدها ،وتضاعف برد زمهريرها وعظمت
سلسلها وأغللها ،وكبرت مقامعها ،وغلظ خُزّانها ،وزال ما في قلوبهم من رحمتهم ،وختام ذلك
خسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ }
سخط الجبار ،وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثون { :ا ْ
{ وَإِنْ َيسْ َتعْتِبُوا } أي :يطلبوا أن يزال عنهم العتب ،ويرجعوا إلى الدنيا ،ليستأنفوا العملَ { .فمَا هُمْ
مِنَ ا ْل ُمعْتَبِينَ } لنه ذهب وقته ،وعمروا ،ما يعمر فيه من تذكر وجاءهم النذير وانقطعت حجتهم،
مع أن استعتابهم ،كذب منهم { وََلوْ ُردّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }
{ َ { } 25وقَ ّيضْنَا َلهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيّنُوا َلهُمْ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم َوحَقّ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلُ فِي ُأمَمٍ قَدْ
ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ }
خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ الْجِ ّ
أي :وقضينا لهؤلء الظالمين الجاحدين للحق { قُرَنَاءَ } من الشياطين ،كما قال تعالى { :أَلَمْ تَرَ أَنّا
أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّ ُهمْ أَزّا } أي تزعجهم إلى المعاصي وتحثهم عليها ،بسبب ما
زينوا { َل ُهمْ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ } فالدنيا زخرفوها بأعينهم ،ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها
المحرمة حتى افتتنوا ،فأقدموا على معاصي اللّه ،وسلكوا ما شاءوا من محاربة اللّه ورسله
والخرة َبعّدُوها عليهم وأنسوهم ذكرها ،وربما أوقعوا عليهم الشّبه ،بعدم وقوعها ،فترحّل خوفها
من قلوبهم ،فقادوهم إلى الكفر ،والبدع ،والمعاصي.
وهذا التسليط والتقييض من اللّه للمكذبين الشياطين ،بسبب إعراضهم عن ذكر اللّه وآياته،
حمَنِ ُنقَ ّيضْ لَهُ شَيْطَانًا َف ُهوَ لَهُ قَرِينٌ
وجحودهم الحق كما قال تعالىَ { :ومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
ل وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ }
وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِي ِ
{ َوحَقّ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلُ } أي :وجب عليهم ،ونزل القضاء والقدر بعذابهم { فِي } جملة { ُأ َممٍ قَدْ خََلتْ
ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } لديانهم وآخرتهم ،ومن خسر ،فل بد أن يذل
مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
ويشقى ويعذب.
س َمعُوا
يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن ،وتواصيهم بذلك ،فقالَ { :وقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لَا تَ ْ
ِلهَذَا ا ْلقُرْآنِ } أي :أعرضوا عنه بأسماعكم ،وإياكم أن تلتفتوا ،أو تصغوا إليه ول إلى من جاء به،
فإن اتفق أنكم سمعتموه ،أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه ،فـ { ا ْل َغوْا فِيهِ } أي :تكلموا بالكلم الذي
ل فائدة فيه ،بل فيه المضرة ،ول تمكنوا -مع قدرتكم -أحدًا يملك عليكم الكلم به ،وتلوة ألفاظه
ومعانيه ،هذا لسان حالهم ،ولسان مقالهم ،في العراض عن هذا القرآنَ { ،لعَّلكُمْ } إن فعلتم ذلك {
َتغْلِبُونَ } ]وهذه[ شهادة من العداء ،وأوضح الحق ،ما شهدت به العداء ،فإنهم لم يحكموا
بغلبتهم لمن جاء بالحق إل في حال العراض عنه والتواصي بذلك ،ومفهوم كلمهم ،أنهم إن لم
يلغوا فيه ،بل استمعوا إليه ،وألقوا أذهانهم ،أنهم ل يغلبون ،فإن الحق ،غالب غير مغلوب ،يعرف
هذا ،أصحاب الحق وأعداؤه.
ولما كان هذا ظلمًا منهم وعنادًا ،لم يبق فيهم مطمع للهداية ،فلم يبق إل عذابهم ونكالهم ،ولهذا
سوَأَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ } وهو الكفر
قال { :فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ َكفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَ ّن ُهمْ أَ ْ
والمعاصي ،فإنها أسوأ ما كانوا يعملون ،لكونهم يعملون المعاصي وغيرها ،فالجزاء بالعقوبة ،إنما
هو على عمل الشرك { وَلَا َيظْلِمُ رَ ّبكَ أَحَدًا }
{ ذَِلكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ } الذين حاربوه ،وحاربوا أولياءه ،بالكفر والتكذيب ،والمجادلة والمجالدة{ .
النّارُ َلهُمْ فِيهَا دَارُ ا ْلخُلْدِ } أي :الخلود الدائم ،الذي ل يفتر عنهم العذاب ساعة ،ول هم ينصرون،
حدُونَ } فإنها آيات واضحة ،وأدلة قاطعة مفيدة لليقين ،فأعظم
وذلك { جَزَاءً ِبمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا َيجْ َ
الظلم وأكبر العناد ،جحدها ،والكفر بها.
{ َوقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا } أي :التباع منهم ،بدليل ما بعده ،على وجه الحنق ،على من أضلهم { :رَبّنَا
أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّانَا مِنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ } أي :الصنفين اللذين ،قادانا إلى الضلل والعذاب ،من
شياطين الجن ،وشياطين النس ،الدعاة إلى جهنم.
{ { } 32 - 30إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَلَا ِئ َكةُ أَلّا َتخَافُوا وَلَا َتحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * َنحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا مَا
غفُورٍ َرحِيمٍ }
سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُ ُزلًا مِنْ َ
تَشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
يخبر تعالى عن أوليائه ،وفي ضمن ذلك ،تنشيطهم ،والحث على القتداء بهم ،فقال { :إِنّ الّذِينَ
قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْ َتقَامُوا } أي :اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية ال تعالى ،واستسلموا لمره ،ثم
استقاموا على الصراط المستقيم ،علمًا وعملً ،فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الخرة.
{ تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ } الكرام ،أي :يتكرر نزولهم عليهم ،مبشرين لهم عند الحتضار { .أَلّا
تَخَافُوا } على ما يستقبل من أمركم { ،وَلَا تَحْزَنُوا } على ما مضى ،فنفوا عنهم المكروه الماضي
والمستقبل { ،وَأَبْشِرُوا بِا ْلجَنّةِ الّتِي كُنْ ُتمْ تُوعَدُونَ } فإنها قد وجبت لكم وثبتت ،وكان وعد ال
مفعولً ،ويقولون لهم أيضا -مثبتين لهم ،ومبشرينَ { :نحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ
} يحثونهم في الدنيا على الخير ،ويزينونه لهم ،ويرهبونهم عن الشر ،ويقبحونه في قلوبهم،
ويدعون ال لهم ،ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف ،وخصوصًا عند الموت وشدته ،والقبر
وظلمته ،وفي القيامة وأهوالها ،وعلى الصراط ،وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم ،ويدخلون عليهم
عقْبَى الدّارِ } ويقولون لهم أيضا { :وََلكُمْ فِيهَا } أي :في
من كل باب { سَلَامٌ عَلَ ْيكُمْ ِبمَا صَبَرْ ُتمْ فَ ِنعْمَ ُ
سكُمْ } قد أعد وهيئ { .وََلكُمْ فِيهَا مَا َتدّعُونَ } أي :تطلبون من كل ما تتعلق
الجنة { مَا َتشْ َتهِي أَ ْنفُ ُ
به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر
على قلب بشر.
غفُورٍ } غفر
غفُورٍ رَحِيمٍ } أي :هذا الثواب الجزيل ،والنعيم المقيم ،نُ ُزلٌ وضيافة { مِنْ َ
{ نُزُلًا مِنْ َ
لكم السيئات { ،رَحِيمٌ } حيث وفقكم لفعل الحسنات ،ثم قبلها منكم .فبمغفرته أزال عنكم المحذور،
وبرحمته ،أنالكم المطلوب.
سِلمِينَ }
ع ِملَ صَاِلحًا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُ ْ
{ َ { } 33ومَنْ َأحْسَنُ َقوْلًا ِممّنْ دَعَا ِإلَى اللّ ِه وَ َ
هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي :ل أحد أحسن قول .أي :كلمًا وطريقة ،وحالة { ِممّنْ دَعَا
إِلَى اللّهِ } بتعليم الجاهلين ،ووعظ الغافلين والمعرضين ،ومجادلة المبطلين ،بالمر بعبادة ال،
بجميع أنواعها،والحث عليها ،وتحسينها مهما أمكن ،والزجر عما نهى ال عنه ،وتقبيحه بكل
طريق يوجب تركه ،خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين السلم وتحسينه ،ومجادلة أعدائه
بالتي هي أحسن ،والنهي عما يضاده من الكفر والشرك ،والمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر.
ومن الدعوة إلى ال ،تحبيبه إلى عباده ،بذكر تفاصيل نعمه ،وسعة جوده ،وكمال رحمته ،وذكر
أوصاف كماله ،ونعوت جلله.
ومن الدعوة إلى ال ،الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب ال وسنة رسوله ،والحث على
ذلك ،بكل طريق موصل إليه ،ومن ذلك ،الحث على مكارم الخلق ،والحسان إلى عموم الخلق،
ومقابلة المسيء بالحسان ،والمر بصلة الرحام ،وبر الوالدين.
ومن ذلك ،الوعظ لعموم الناس ،في أوقات المواسم ،والعوارض ،والمصائب ،بما يناسب ذلك
الحال ،إلى غير ذلك ،مما ل تنحصر أفراده ،مما تشمله الدعوة إلى الخير كله ،والترهيب من
جميع الشر.
ل صَالِحًا } أي :مع دعوته الخلق إلى ال ،بادر هو بنفسه ،إلى امتثال أمر
ع ِم َ
ثم قال تعالى { :وَ َ
ال ،بالعمل الصالح ،الذي يُ ْرضِي ربهَ { .وقَالَ إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ } أي :المنقادين لمره ،السالكين
في طريقه ،وهذه المرتبة ،تمامها للصديقين ،الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم،
وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل ،كما أن من أشر الناس ،قولً ،من كان من دعاة الضالين
السالكين لسبله.
وبين هاتين المرتبتين المتباينتين ،اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين ،ونزلت الخرى ،إلى
عمِلُوا َومَا
أسفل سافلين ،مراتب ،ل يعلمها إل ال ،وكلها معمورة بالخلق { وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا َ
عمّا َي ْعمَلُونَ }
رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
عدَا َوةٌ
ك وَبَيْنَهُ َ
حسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
حسَنَ ُة وَلَا السّيّئَةُ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
{ { } 35 - 34وَلَا تَسْ َتوِي الْ َ
عظِيمٍ }
ن صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ َ
حمِيمٌ * َومَا يَُلقّاهَا إِلّا الّذِي َ
كَأَنّ ُه وَِليّ َ
حسَنَ ُة وَلَا السّيّئَةُ } أي :ل يستوي فعل الحسنات والطاعات لجل رضا
يقول تعالى { :وَلَا تَسْ َتوِي الْ َ
ال تعالى ،ول فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ول ترضيه ،ول يستوي الحسان إلى الخلق،
حسَانُ }
ول الساءة إليهم ،ل في ذاتها ،ول في وصفها ،ول في جزائها { َهلْ جَزَاءُ الِْإحْسَانِ إِلّا الْإِ ْ
ثم أمر بإحسان خاص ،له موقع كبير ،وهو الحسان إلى من أساء إليك ،فقال { :ا ْد َفعْ بِالّتِي ِهيَ
حسَنُ } أي :فإذا أساء إليك مسيء من الخلق ،خصوصًا من له حق كبير عليك ،كالقارب،
أَ ْ
والصحاب ،ونحوهم ،إساءة بالقول أو بالفعل ،فقابله بالحسان إليه ،فإن قطعك فَصلْهُ ،وإن
ظلمك ،فاعف عنه ،وإن تكلم فيك ،غائبًا أو حاضرًا ،فل تقابله ،بل اعف عنه ،وعامله بالقول
اللين .وإن هجرك ،وترك خطابك ،فَط ّيبْ له الكلم ،وابذل له السلم ،فإذا قابلت الساءة
بالحسان ،حصل فائدة عظيمة.
فإذا صبر النسان نفسه ،وامتثل أمر ربه ،وعرف جزيل الثواب ،وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس
عمله ،ل يفيده شيئًا ،ول يزيد العداوة إل شدة ،وأن إحسانه إليه ،ليس بواضع قدره ،بل من
تواضع للّه رفعه ،هان عليه المر ،وفعل ذلك ،متلذذًا مستحليًا له.
حظّ عَظِيمٍ } لكونها من خصال خواص الخلق ،التي ينال بها العبد الرفعة في
{ َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو َ
الدنيا والخرة ،التي هي من أكبر خصال مكارم الخلق.
لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من النس ،وهو مقابلة إساءته بالحسان ،ذكر ما يدفع به العدو
الجني ،وهو الستعاذة بال ،والحتماء من شره فقال:
{ وَِإمّا يَنْزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ } أي :أي وقت من الوقات ،أحسست بشيء من نزغات
الشيطان ،أي :من وساوسه وتزيينه للشر ،وتكسيله عن الخير ،وإصابة ببعض الذنوب ،وإطاعة
له ببعض ما يأمر به { فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ } أي :اسأله ،مفتقرًا إليه ،أن يعيذك ويعصمك منه { ،إِنّهُ ُهوَ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } فإنه يسمع قولك وتضرعك ،ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته.
ال ّ
ثم ذكر تعالى أن { مِنْ آيَاتِهِ } الدالة على كمال قدرته ،ونفوذ مشيئته ،وسعة سلطانه ،ورحمته
بعباده ،وأنه ال وحده ل شريك له { اللّ ْيلُ وَال ّنهَارُ } هذا بمنفعة ضيائه ،وتصرف العباد فيه ،وهذا
س وَا ْلقَمَرُ } اللذان ل تستقيم معايش العباد ،ول أبدانهم،
شمْ ُ
بمنفعه ظلمه ،وسكون الخلق فيه { .وَال ّ
ول أبدان حيواناتهم ،إل بهما ،وبهما من المصالح ما ل يحصى عدده.
{ فَإِنِ اسْ َتكْبَرُوا } عن عبادة ال تعالى ،ولم ينقادوا لها ،فإنهم لن يضروا ال شيئًا ،وال غني
عنهم ،وله عباد مكرمون ،ل يعصون ال ما أمرهم ،ويفعلون ما يؤمرون ،ولهذا قال { :فَالّذِينَ
ل وَال ّنهَا ِر وَهُمْ لَا يَسَْأمُونَ } أي :ل يملون
عِنْدَ رَ ّبكَ } يعني :الملئكة المقربين { يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللّ ْي ِ
من عبادته ،لقوتهم ،وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك.
{ َومِنْ آيَا ِتهِ } الدالة على كمال قدرته ،وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية { ،أَ ّنكَ تَرَى الْأَ ْرضَ
شعَةً } أي :ل نبات فيها { فَِإذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ } أي :المطر { اهْتَ ّزتْ } أي :تحركت بالنبات
خَا ِ
{ وَرَ َبتْ } ثم :أنبتت من كل زوج بهيج ،فيحيي به العباد والبلد.
{ إِنّ الّذِي َأحْيَاهَا } بعد موتها وهمودهاَ { ،ل ُمحْيِي ا ْل َموْتَى } من قبورهم إلى يوم بعثهم ،ونشورهم
شيْءٍ قَدِيرٌ } فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الرض بعد موتها ،ل تعجز عن إحياء
{ إِنّهُ عَلَى ُكلّ َ
الموتى.
خفَوْنَ عَلَيْنَا َأ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي النّارِ خَيْرٌ َأمْ مَنْ يَأْتِي
حدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا َي ْ
{ { } 40-42إِنّ الّذِينَ يُلْ ِ
عمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ َلمّا جَاءَ ُه ْم وَإِنّهُ
آمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ ا ْ
حمِيدٍ }
حكِيمٍ َ
طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَلَا مِنْ خَ ْلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ َ
َلكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَا ِ
اللحاد في آيات ال :الميل بها عن الصواب ،بأي وجه كان :إما بإنكارها وجحودها ،وتكذيب من
جاء بها ،وإما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي ،وإثبات معان لها ،ما أرادها ال منها.
فتوعّد تعالى من ألحد فيها بأنه ل يخفى عليه ،بل هو مطلع على ظاهره وباطنه ،وسيجازيه على
إلحاده بما كان يعمل ،ولهذا قالَ { :أ َفمَنْ يُ ْلقَى فِي النّارِ } مثل الملحد بآيات ال { خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي
آمِنًا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } من عذاب ال مستحقًا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير.
{ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم ،كقوله تعالىَ { :و ُقلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ
ن َومَنْ شَاءَ فَلْ َيكْفُرْ }
َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِ ْ
ثم قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا بِال ّذكْرِ } أي :يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع
مصالحهم الدينية والدنيوية والخروية ،المُعلي لقدر من اتبعهَ { ،لمّا جَا َءهُمْ } نعمة من ربهم على
يد أفضل الخلق وأكملهم { .و } الحال { إِنّهُ َلكِتَابٌ } جامع لوصاف الكمال { عَزِيزٌ } أي :منيع
طلُ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه وَلَا مِنْ خَ ْلفِهِ } أي:
من كل من أراده بتحريف أو سوء ،ولهذا قال { :لَا يَأْتِيهِ الْبَا ِ
ل يقربه شيطان من شياطين النس والجن ،ل بسرقة ،ول بإدخال ما ليس منه به ،ول بزيادة ول
نقص ،فهو محفوظ في تنزيله ،محفوظة ألفاظه ومعانيه ،قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى:
{ إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }
حمِيدٌ } على ما له
حكِيمٍ } في خلقه وأمره ،يضع كل شيء موضعه ،وينزله منازلهَ { .
{ تَنْزِيلٌ مِنْ َ
من صفات الكمال ،ونعوت الجلل ،وعلى ما له من العدل والفضال ،فلهذا كان كتابه ،مشتملً
على تمام الحكمة ،وعلى تحصيل المصالح والمنافع ،ودفع المفاسد والمضار ،التي يحمد عليها.
عقَابٍ أَلِيمٍ }
سلِ مِنْ قَبِْلكَ إِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ وَذُو ِ
{ { } 43مَا ُيقَالُ َلكَ إِلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرّ ُ
سلِ
أي { :مَا ُيقَالُ َلكَ } أيها الرسول من القوال الصادرة ،ممن كذبك وعاندك { ِإلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرّ ُ
مِنْ قَبِْلكَ } أي :من جنسها ،بل ربما إنهم تكلموا بكلم واحد ،كتعجب جميع المم المكذبة للرسل،
من دعوتهم إلى الخلص للّه وعبادته وحده ل شريك له ،وردهم هذا بكل طريق يقدرون عليه،
وقولهم { :مَا أَنْتُمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا }
واقتراحهم على رسلهم اليات ،التي ل يلزمهم التيان بها ،ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب ،لما
تشابهت قلوبهم في الكفر ،تشابهت أقوالهم ،وصبر الرسل عليهم السلم على أذاهم وتكذيبهم،
فاصبر كما صبر من قبلك.
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ،حيث أنزل كتابا عربيًا ،على الرسول العربي ،بلسان قومه ،ليبين
لهم ،وهذا مما يوجب لهم زيادة الغتناء به ،والتلقي له والتسليم ،وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا ،بلغة
غير العرب ،لعترض ،المكذبون وقالواَ { :لوْلَا ُفصَّلتْ آيَاُتهُ } أي :هل بينت آياته ،ووضحت
ي وَعَرَ ِبيّ } أي :كيف يكون محمد عربيًا ،والكتاب أعجمي؟ هذا ل يكون فنفى
جمِ ّ
عَوفسرت { .أَأَ ْ
ال تعالى كل أمر ،يكون فيه شبهة لهل الباطل ،عن كتابه ،ووصفه بكل وصف ،يوجب لهم
النقياد ،ولكن المؤمنون الموفقون ،انتفعوا به ،وارتفعوا ،وغيرهم بالعكس من أحوالهم.
{ وَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرٌ } أي :صمم عن استماعه وإعراض { ،وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ
عمًى } أي :ل يبصرون به رشدًا ،ول يهتدون به ،ول يزيدهم إل ضللً فإنهم إذا ردوا الحق،
َ
ازدادوا عمى إلى عماهم ،وغيّا إلى غيّهم.
{ أُولَ ِئكَ يُنَا َدوْنَ مِنْ َمكَانٍ َبعِيدٍ } أي :ينادون إلى اليمان ،ويدعون إليه ،فل يستجيبون ،بمنزلة
الذي ينادي ،وهو في مكان بعيد ،ل يسمع داعيًا ول يجيب مناديًا .والمقصود :أن الذين ل يؤمنون
بالقرآن ،ل ينتفعون بهداه ،ول يبصرون بنوره ،ول يستفيدون منه خيرًا ،لنهم سدوا على أنفسهم
أبواب الهدى ،بإعراضهم وكفرهم.
{ { } 45-46وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِي ِه وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِ ّنهُمْ
ع ِملَ صَاِلحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ }
شكّ مِ ْنهُ مُرِيبٍ * مَنْ َ
َلفِي َ
يقول تعالى { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } كما آتيناك الكتاب ،فصنع به الناس ما صنعوا معك،
اختلفوا فيه :فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع ،ومنهم من كذبه ولم ينتفع به ،وإن اللّه تعالى ،لول
ضيَ بَيْ َن ُهمْ }
حلمه وكلمته السابقة ،بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ل يتقدم عليه ول يتأخر { َل ُق ِ
بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين ،بإهلك الكافرين في الحال ،لن سبب الهلك قد وجب
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي :قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم ،فلذلك كذبوه
وحق { .وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ
وجحدوه.
ن ُأ ْنثَى وَلَا
حمِلُ مِ ْ
ن َأ ْكمَا ِمهَا َومَا َت ْ
ت مِ ْ
ن َثمَرَا ٍ
خرُجُ مِ ْ
عةِ َومَا َت ْ
{ { } 47-48إَِليْ ِه ُيرَدّ عِ ْلمُ السّا َ
ع ْن ُهمْ مَا كَانُوا
شهِيدٍ * َوضَلّ َ
ن شُ َركَائِي قَالُوا آ َذنّاكَ مَا ِمنّا ِمنْ َ
َتضَعُ إِلّا ِبعِ ْلمِهِ َويَ ْو َم ُينَادِي ِهمْ َأيْ َ
ص}
ن َقبْلُ َوظَنّوا مَا َل ُهمْ ِمنْ َمحِي ٍ
َيدْعُونَ مِ ْ
هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي ل يطلع عليه سواه فقال { :إَِليْ ِه ُيرَدّ
عةِ } أي :جميع الخلق ترد علمهم إلى ال تعالى ،ويقرون بالعجز عنه ،الرسل،
عِ ْلمُ السّا َ
والملئكة ،وغيرهم.
ن َأ ْكمَامِهَا } أي :وعائها الذي تخرج منه ،وهذا شامل لثمرات جميع
ن َث َمرَاتٍ مِ ْ
خرُجُ مِ ْ
{ َومَا َت ْ
الشجار التي في البلدان والبراري ،فل تخرج ثمرة شجرة من الشجار ،إل وهو يعلمها علما
تفصيليًا.
ن ُأ ْنثَى } من بني آدم وغيرهم ،من أنواع الحيوانات ،إل بعلمه { وَلَا َتضَعُ }
حمِلُ مِ ْ
{ َومَا َت ْ
أنثى حملها { إِلّا ِبعِ ْلمِ ِه } فكيف سوّى المشركون به تعالى ،من ل علم عنده ول سمع ول
بصر؟.
{ َويَ ْومَ ُينَادِيهِ ْم } أي :المشركين به يوم القيامة توبيخًا وإظهارًا لكذبهم ،فيقول لهمَ { :أ ْينَ
شُ َركَا ِئيَ } الذين زعمتم أنهم شركائي ،فعبدتموهم ،وجادلتم على ذلك ،وعاديتم الرسل لجلهم؟
شهِيدٍ } أي :أعلمناك يا
ن َ
{ قَالُوا } مقرين ببطلن إلهيتهم ،وشركتهم مع ال { :آ َذنّاكَ مَا ِمنّا مِ ْ
ربنا ،واشهد علينا أنه ما منا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم ،فكلنا الن قد رجعنا إلى
ع ْن ُهمْ مَا كَانُوا َيدْعُونَ } من دون ال ،أي:
بطلن عبادتها ،وتبرأنا منها ،ولهذا قالَ { :وضَلّ َ
ذهبت عقائدهم وأعمالهم ،التي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير ال ،وظنوا أنها تفيدهم،
وتدفع عنهم العذاب ،وتشفع لهم عند ال ،فخاب سعيهم ،وانتقض ظنهم ،ولم تغن عنهم
ن َمحِيصٍ } أي :منقذ ينقذهم،
ظنّوا } أي :أيقنوا في تلك الحال { مَا َل ُهمْ مِ ْ
شركاؤهم شيئًا { َو َ
ول مغيث ،ول ملجأ ،فهذه عاقبة من أشرك بال غيره ،بينها ال لعباده ،ليحذروا الشرك به.
ن َأ َذ ْقنَاهُ
س قَنُوطٌ * وََلئِ ْ
ن َمسّ ُه الشّرّ َف َيئُو ٌ
خيْرِ وَإِ ْ
ن دُعَا ِء ا ْل َ
ن مِ ْ
سَأمُ ا ْلِإ ْنسَا ُ
{ { } 49-51لَا َي ْ
جعْتُ إِلَى َربّي ِإنّ
ن السّاعَ َة قَا ِئمَةً وََل ِئنْ ُر ِ
ن َهذَا لِي َومَا َأظُ ّ
ستْهُ َليَقُولَ ّ
ضرّاءَ َم ّ
ن َب ْعدِ َ
َرحْمَ ًة ِمنّا مِ ْ
عذَابٍ غَلِيظٍ * وَِإذَا َأ ْن َع ْمنَا عَلَى
عمِلُوا وََل ُنذِي َق ّنهُمْ ِمنْ َ
ن كَ َفرُوا ِبمَا َ
سنَى فَلَ ُن َن ّبئَنّ اّلذِي َ
حْع ْندَ ُه لَ ْل ُ
لِي ِ
عرِيضٍ }
شرّ فَذُو دُعَاءٍ َ
عرَضَ َو َنأَى ِبجَا ِنبِهِ وَِإذَا َمسّ ُه ال ّ
ن أَ ْ
ا ْلِإ ْنسَا ِ
هذا إخبار عن طبيعة النسان ،من حيث هو ،وعدم صبره وجلده ،ل على الخير ول على
خيْرِ
ن دُعَا ِء ا ْل َ
ن مِ ْ
سَأمُ ا ْلِإ ْنسَا ُ
الشر ،إل من نقله ال من هذه الحال إلى حال الكمال ،فقال { :لَا َي ْ
} أي :ل يمل دائمًا ،من دعاء ال ،في الغنى والمال والولد ،وغير ذلك من مطالب الدنيا ،ول
يزال يعمل على ذلك ،ول يقتنع بقليل ،ول كثير منها ،فلو حصل له من الدنيا ،ما حصل ،لم
يزل طالبًا للزيادة.
إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ،فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة والمحاب ،شكروا ال
تعالى ،وخافوا أن تكون نعم ال عليهم ،استدراجًا وإمهالً ،وإن أصابتهم مصيبة ،في أنفسهم
وأموالهم ،وأولدهم ،صبروا ،ورجوا فضل ربهم ،فلم ييأسوا.
ن َأذَ ْقنَا ُه } أي :النسان الذي يسأم من دعاء الخير ،وإن مسه الشر فيئوس
ثم قال تعالى { :وََلئِ ْ
حمَ ًة ِمنّا } أي :بعد ذلك الشر الذي أصابه ،بأن عافاه ال من مرضه ،أو أغناه من
قنوط { َر ْ
فقره ،فإنه ل يشكر ال تعالى ،بل يبغى ،ويطغى ،ويقولَ { :هذَا لِي } أي :أتاني لني له أهل،
ن السّاعَ َة قَا ِئمَ ًة } وهذا إنكار منه للبعث ،وكفر للنعمة والرحمة ،التي
وأنا مستحق له { َومَا َأظُ ّ
سنَى } أي :على تقدير إتيان الساعة،
حْع ْندَ ُه لَ ْل ُ
ن لِي ِ
ت إِلَى َربّي إِ ّ
ن ُرجِعْ ُ
أذاقها ال له { .وََلئِ ْ
وأني سأرجع إلى ربي ،إن لي عنده ،للحسنى ،فكما حصلت لي النعمة في الدنيا ،فإنها
ستحصل ]لي[ في الخرة وهذا من أعظم الجراءة والقول على ال بل علم ،فلهذا توعده بقوله:
عذَابٍ غَلِيظٍ } أي :شديد جدًا.
عمِلُوا وََل ُنذِي َق ّن ُهمْ مِنْ َ
ن كَ َفرُوا ِبمَا َ
{ فََل ُن َن ّبئَنّ اّلذِي َ
ن } هذا القرآن
أي { قُلْ } لهؤلء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران { َأرََأ ْيتُمْ ِإنْ كَا َ
ن هُ َو فِي شِقَاقٍ َبعِيدٍ }
ن َأضَلّ ِممّ ْ
ع ْندِ اللّ ِه } من غير شك ول ارتيابُ { ،ثمّ كَ َف ْر ُتمْ بِ ِه مَ ْ
{ ِمنْ ِ
أي :معاندة للّه ولرسوله ،لنه تبين لكم الحق والصواب ،ثم عدلتم عنه ،ل إلى حق ،بل إلى
باطل وجهل ،فإذا تكونون أضل الناس وأظلمهم.
فإن قلتم ،أو شككتم بصحته وحقيقته ،فسيقيم اللّه لكم ،ويريكم من آياته في الفاق كاليات التي
في السماء وفي الرض ،وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة ،الدالة للمستبصر على
الحق.
سهِمْ } مما اشتملت عليه أبدانهم ،من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته ،وباهر قدرته،
{ َوفِي َأنْ ُف ِ
حتّى َي َت َبيّنَ َل ُهمْ } من تلك
وفي حلول العقوبات والمثلت في المكذبين ،ونصر المؤمنينَ { .
حقّ } وما اشتمل عليه حق.
اليات ،بيانًا ل يقبل الشك { َأنّ ُه ا ْل َ
وقد فعل تعالى ،فإنه أرى عباده من اليات ،ما به تبين لهم أنه الحق ،ولكن اللّه هو الموفق
لليمان من شاء ،والخاذل لمن يشاء.
شهِيدٌ } أي :أولم يكفهم على أن القرآن حق ،ومن جاء به
ل شَيْ ٍء َ
ك َأنّهُ عَلَى كُ ّ
{ َأوََلمْ َي ْكفِ ِب َربّ َ
صادق ،بشهادة اللّه تعالى ،فإنه قد شهد له بالتصديق ،وهو أصدق الشاهدين ،وأيده ،ونصره
نصرًا متضمنًا لشهادته القولية ،عند من شك فيها.
ن لِقَاءِ َر ّب ِهمْ } أي :في شك من البعث والقيامة ،وليس عندهم دار سوى
{ أَلَا ِإ ّن ُهمْ فِي ِم ْريَ ٍة مِ ْ
شيْ ٍء ُمحِيطٌ } علما وقدرة
الدار الدنيا ،فلذلك لم يعملوا للخرة ،ولم يلتفتوا لها { .أَلَا ِإنّهُ ِبكُلّ َ
وعزة.
-بمنه تعالى-
يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم ،كما أوحى إلى من قبله من النبياء
والمرسلين ،ففيه بيان فضله ،بإنزال الكتب ،وإرسال الرسل ،سابقا ولحقا ،وأن محمدا صلى ال
عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ،وأن طريقته طريقة من قبله ،وأحواله تناسب أحوال من قبله من
المرسلين .وما جاء به يشابه ما جاءوا به ،لن الجميع حق وصدق ،وهو تنزيل من اتصف
باللوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة ،وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره
القدري والشرعي.
سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْ َف ْو ِقهِنّ } على عظمها وكونها جمادا { ،وَا ْلمَلَا ِئكَةِ } الكرام المقربون
{ َتكَادُ ال ّ
حمْدِ رَ ّبهِمْ } ويعظمونه عن
خاضعون لعظمته ،مستكينون لعزته ،مذعنون بربوبيتهُ { .يسَبّحُونَ ِب َ
كل نقص ،ويصفونه بكل كمال { ،وَيَسْ َت ْغفِرُونَ ِلمَنْ فِي الْأَ ْرضِ } عما يصدر منهم ،مما ل يليق
بعظمة ربهم وكبريائه ،مع أنه تعالى هو { ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } الذي لول مغفرته ورحمته ،لعاجل
الخلق بالعقوبة المستأصلة.
وفي وصفه تعالى بهذه الوصاف ،بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموما ،وإلى محمد -
صلى ال عليهم أجمعين -خصوصا ،إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم ،فيه من الدلة والبراهين،
واليات الدالة على كمال الباري تعالى ،ووصفه بهذه السماء العظيمة الموجبة لمتلء القلوب من
معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلله وإكرامه ،وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له
تعالى ،وأن من أكبر الظلم وأفحش القول ،اتخاذ أنداد للّه من دونه ،ليس بيدهم نفع ول ضرر ،بل
هم مخلوقون مفتقرون إلى ال في جميع أحوالهم ،ولهذا عقبه بقوله { :وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
َأوْلِيَاءَ }
يتولونهم بالعبادة والطاعة ،كما يعبدون ال ويطيعونه ،فإنما اتخذوا الباطل ،وليسوا بأولياء على
علَ ْيهِمْ
حفِيظٌ عَلَ ْيهِمْ } يحفظ عليهم أعمالهم ،فيجازيهم بخيرها وشرهاَ { .ومَا أَ ْنتَ َ
الحقيقة { .اللّهُ َ
ِب َوكِيلٍ } فتسأل عن أعمالهم ،وإنما أنت مبلغ أديت وظيفتك.
ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس ،حيث أنزل ال { قُرْآنًا عَرَبِيّا } بين اللفاظ والمعاني
حوَْلهَا } من قرى العرب ،ثم يسري هذا النذار إلى
{ لِتُ ْنذِرَ ُأمّ ا ْلقُرَى } وهي مكة المكرمة { َومَنْ َ
جمْعِ } الذي يجمع ال به الولين والخرين ،وتخبرهم أنه {
سائر الخلق { .وَتُنْذِرَ } الناس { َيوْمَ ا ْل َ
لَا رَ ْيبَ فِيهِ } وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين { فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ } وهم الذين آمنوا بال ،وصدقوا
سعِيرِ } وهم أصناف الكفرة المكذبين.
المرسلينَ { ،وفَرِيقٌ فِي ال ّ
{ و } مع هذا { َلوْ شَاءَ اللّهُ } لجعل الناس ،أي :جعل الناس { ُأمّ ًة وَاحِ َدةً } على الهدى ،لنه
القادر الذي ل يمتنع عليه شيء ،ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من شاء من خواص خلقه.
وأما الظالمون الذين ل يصلحون لصالح ،فإنهم محرومون من الرحمة ،فـ { مَا َلهُمْ } من دون
ن وَِليّ } يتولهم ،فيحصل لهم المحبوب { وَلَا َنصِيرٍ } يدفع عنهم المكروه.
ال { مِ ْ
خذُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ } يتولونهم بعبادتهم إياهم ،فقد غلطوا أقبح غلط .فال هو الولي
والذين { اتّ َ
الذي يتوله عبده بعبادته وطاعته ،والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات ،ويتولى عباده
عموما بتدبيره ،ونفوذ القدر فيهم ،ويتولى عباده المؤمنين خصوصا ،بإخراجهم من الظلمات إلى
النور ،وتربيتهم بلطفه ،وإعانتهم في جميع أمورهم.
ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *
ح ْكمُهُ إِلَى اللّهِ ذَِلكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ َت َوكّ ْل ُ
شيْءٍ َف ُ
{ َ { } 10-12ومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِنْ َ
سكُمْ أَ ْزوَاجًا َومِنَ الْأَ ْنعَامِ أَ ْزوَاجًا َيذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ لَيْسَ َكمِثْلِهِ
ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َ
فَاطِرُ ال ّ
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ َيقْدِرُ إِنّهُ ِب ُكلّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ يَبْ ُ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ * لَهُ َمقَالِيدُ ال ّ
شيْ ٌء وَ ُهوَ ال ّ
َ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
َ
ح ْكمُهُ
شيْءٍ } من أصول دينكم وفروعه ،مما لم تتفقوا عليه { َف ُ
يقول تعالىَ { :ومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِنْ َ
إِلَى اللّهِ } يرد إلى كتابه ،وإلى سنة رسوله ،فما حكما به فهو الحق ،وما خالف ذلك فباطل.
{ ذَِلكُمُ اللّهُ رَبّي } أي :فكما أنه تعالى الرب الخالق الرازق المدبر ،فهو تعالى الحاكم بين عباده
بشرعه في جميع أمورهم.
ومفهوم الية الكريمة ،أن اتفاق المة حجة قاطعة ،لن اللّه تعالى لم يأمرنا أن نرد إليه إل ما
اختلفنا فيه ،فما اتفقنا عليه ،يكفي اتفاق المة عليه ،لنها معصومة عن الخطأ ،ول بد أن يكون
اتفاقها موافقا لما في كتاب اللّه وسنة رسوله.
وقوله { :عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ } أي :اعتمدت بقلبي عليه في جلب المنافع ودفع المضار ،واثقا به تعالى
في السعاف بذلك { .وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي :أتوجه بقلبي وبدني إليه ،وإلى طاعته وعبادته.
وهذان الصلن ،كثيرا ما يذكرهما اللّه في كتابه ،لنهما يحصل بمجموعهما كمال العبد ،ويفوته
الكمال بفوتهما أو فوت أحدهما ،كقوله تعالى { :إِيّاكَ َنعْ ُب ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ } وقوله { :فَاعْ ُب ْد ُه وَ َتوَ ّكلْ
عَلَيْهِ }
سكُمْ أَ ْزوَاجًا
ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
ت وَالْأَ ْرضِ } أي :خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمتهَ { .
سمَاوَا ِ
{ فَاطِرِ ال ّ
} لتسكنوا إليها ،وتنتشر منكم الذرية ،ويحصل لكم من النفع ما يحصل.
{ َومِنَ الْأَ ْنعَامِ أَ ْزوَاجًا } أي :ومن جميع أصنافها نوعين ،ذكرا وأنثى ،لتبقى وتنمو لمنافعكم
الكثيرة ،ولهذا عداها باللم الدالة على التعليل ،أي :جعل ذلك لجلكم ،ولجل النعمة عليكم ،ولهذا
قال { :يذرؤكم فيه } أي :يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم ،بسبب أن جعل لكم من أنفسكم ،وجعل
لكم من النعام أزواجا.
شيْءٌ } أي :ليس يشبهه تعالى ول يماثله شيء من مخلوقاته ،ل في ذاته ،ول في
{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
أسمائه ،ول في صفاته ،ول في أفعاله ،لن أسماءه كلها حسنى ،وصفاته صفة كمال وعظمة،
وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك ،فليس كمثله شيء ،لنفراده وتوحده
سمِيعُ } لجميع الصوات ،باختلف اللغات ،على تفنن الحاجات.
بالكمال من كل وجه { .وَ ُهوَ ال ّ
{ الْ َبصِيرُ } يرى دبيب النملة السوداء ،في الليلة الظلماء ،على الصخرة الصماء ،ويرى سريان
القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا ،وسريان الماء في الغصان الدقيقة.
وهذه الية ونحوها ،دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ،من إثبات الصفات ،ونفي مماثلة
شيْءٌ } وعلى المعطلة في قوله { :وَ ُهوَ
المخلوقات .وفيها رد على المشبهة في قوله { :لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }
ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي :له ملك السماوات والرض ،وبيده مفاتيح الرحمة
وقوله { :لَهُ َمقَالِيدُ ال ّ
والرزاق ،والنعم الظاهرة والباطنة .فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه ،في جلب مصالحهم ،ودفع
المضار عنهم ،في كل الحوال ،ليس بيد أحد من المر شيء.
واللّه تعالى هو المعطي المانع ،الضار النافع ،الذي ما بالعباد من نعمة إل منه ،ول يدفع الشر إل
سلَ لَهُ مِنْ َب ْع ِدهِ }
سكْ فَلَا مُرْ ِ
سكَ َلهَا َومَا ُيمْ ِ
حمَةٍ فَلَا ُممْ ِ
هو ،و { مَا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَ ْ
ولهذا قال هنا { :يَ ْبسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَاءُ } أي :يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء،
{ وَ َيقْدِرُ } أي :يضيق على من يشاء ،حتى يكون بقدر حاجته ،ل يزيد عنها ،وكل هذا تابع لعلمه
شيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم أحوال عباده ،فيعطي كل ما يليق بحكمته
وحكمته ،فلهذا قال { :إِنّهُ ِب ُكلّ َ
وتقتضيه مشيئته.
{ { } 13شَ َرعَ َلكُمْ مِنَ الدّينِ مَا َوصّى بِهِ نُوحًا وَالّذِي َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
ن وَلَا تَ َتفَ ّرقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ا ْلمُشْ ِركِينَ مَا َتدْعُوهُمْ إِلَ ْيهِ اللّهُ يَجْتَبِي
َومُوسَى وَعِيسَى أَنْ َأقِيمُوا الدّي َ
إِلَيْهِ مَنْ َيشَا ُء وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ }
هذه أكبر منة أنعم ال بها على عباده ،أن شرع لهم من الدين خير الديان وأفضلها ،وأزكاها
وأطهرها ،دين السلم ،الذي شرعه ال للمصطفين المختارين من عباده ،بل شرعه ال لخيار
الخيار ،وصفوة الصفوة ،وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الية ،أعلى الخلق
درجة ،وأكملهم من كل وجه ،فالدين الذي شرعه ال لهم ،ل بد أن يكون مناسبا لحوالهم ،موافقا
لكمالهم ،بل إنما كملهم ال واصطفاهم ،بسبب قيامهم به ،فلول الدين السلمي ،ما ارتفع أحد من
الخلق ،فهو روح السعادة ،وقطب رحى الكمال ،وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم ،ودعا إليه من
التوحيد والعمال والخلق والداب.
ولهذا قال { :أَنْ َأقِيمُوا الدّينَ } أي :أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه ،تقيمونه
بأنفسكم ،وتجتهدون في إقامته على غيركم ،وتعاونون على البر والتقوى ول تعاونون على الثم
والعدوان { .وَلَا تَ َتفَ ّرقُوا فِيهِ } أي :ليحصل منكم التفاق على أصول الدين وفروعه ،واحرصوا
على أن ل تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا ،وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على
أصل دينكم.
ومن أنواع الجتماع على الدين وعدم التفرق فيه ،ما أمر به الشارع من الجتماعات العامة،
كاجتماع الحج والعياد ،والجمع والصلوات الخمس والجهاد ،وغير ذلك من العبادات التي ل تتم
ول تكمل إل بالجتماع لها وعدم التفرق.
{ كَبُرَ عَلَى ا ْل ُمشْ ِركِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي :شق عليهم غاية المشقة ،حيث دعوتهم إلى الخلص
شمَأَ ّزتْ قُلُوبُ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآخِ َر ِة وَإِذَا ُذكِرَ
ح َدهُ ا ْ
للّه وحده ،كما قال عنهم { :وَِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَ ْ
عجَابٌ }
شيْءٌ ُ
حدًا إِنّ َهذَا لَ َ
ج َعلَ الْآِل َهةَ إَِلهًا وَا ِ
الّذِينَ مِنْ دُونِهِ ِإذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقولهم { :أَ َ
{ اللّهُ َيجْتَبِي ِإلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ } أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للجتباء لرسالته ووليته
ومنه أن اجتبى هذه المة وفضلها على سائر المم ،واختار لها أفضل الديان وخيرها.
{ وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ } هذا السبب الذي من العبد ،يتوصل به إلى هداية ال تعالى ،وهو إنابته
لربه ،وانجذاب دواعي قلبه إليه ،وكونه قاصدا وجهه ،فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب
ضوَانَهُ سُ ُبلَ السّلَامِ }
الهداية ،من أسباب التيسير لها ،كما قال تعالىَ { :ي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ
وفي هذه الية ،أن ال { َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ يُنِيبُ } مع قوله { :وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ } مع العلم
بأحوال الصحابة رضي ال عنهم ،وشدة إنابتهم ،دليل على أن قولهم حجة ،خصوصا الخلفاء
الراشدين ،رضي ال عنهم أجمعين.
{ َ { } 14-15ومَا َتفَرّقُوا إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءهُمُ ا ْلعِ ْلمُ َبغْيًا بَيْ َنهُ ْم وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ إِلَى
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَِلذَِلكَ فَا ْدعُ
سمّى َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِهِمْ َلفِي َ
جلٍ مُ َ
أَ َ
ع ِدلَ بَيْ َنكُمُ اللّهُ
ب وَُأمِ ْرتُ لِأَ ْ
وَاسْ َتقِمْ َكمَا ُأمِ ْرتَ وَلَا تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ ُه ْم َو ُقلْ آمَ ْنتُ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنْ كِتَا ٍ
جمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ }
عمَاُلكُمْ لَا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ اللّهُ يَ ْ
عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ
رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ لَنَا أَ ْ
لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ،ونهاهم عن التفرق ،أخبرهم
أنكم ل تغتروا بما أنزل ال عليكم من الكتاب ،فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل ال عليهم
الكتاب الموجب للجتماع ،ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم ،وذلك كله بغيا وعدوانا منهم ،فإنهم
تباغضوا وتحاسدوا ،وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ،فوقع الختلف ،فاحذروا أيها المسلمون
أن تكونوا مثلهم.
{ وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِنْ رَ ّبكَ } أي :بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ } ولكن
حكمته وحلمه ،اقتضى تأخير ذلك عنهم { .وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ َبعْدِهِمْ } أي :الذين
شكّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي :لفي اشتباه
ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { َلفِي َ
كثير يوقع في الختلف ،حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا ،فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا،
والجميع مشتركون في الختلف المذموم.
{ فَِلذَِلكَ فَا ْدعُ } أي :فللدين القويم والصراط المستقيم ،الذي أنزل ال به كتبه وأرسل رسله ،فادع
إليه أمتك وحضهم عليه ،وجاهد عليه ،من لم يقبله { ،وَاسْ َتقِمْ } بنفسك { َكمَا ُأمِ ْرتَ } أي :استقامة
موافقة لمر ال ،ل تفريط ول إفراط ،بل امتثال لوامر ال واجتنابا لنواهيه ،على وجه
الستمرار على ذلك ،فأمره بتكميل نفسه بلزوم الستقامة ،وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك.
ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى ال عليه وسلم أمر لمته إذا لم يرد تخصيص له.
{ وَلَا تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ ُهمْ } أي :أهواء المنحرفين عن الدين ،من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على
بعض دينهم ،أو بترك الدعوة إلى ال ،أو بترك الستقامة ،فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما
جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ،ولم يقل" :ول تتبع دينهم" لن حقيقة دينهم الذي شرعه ال
لهم ،هو دين الرسل كلهم ،ولكنهم لم يتبعوه ،بل اتبعوا أهواءهم ،واتخذوا دينهم لهوا ولعبا.
{ َو ُقلْ } لهم عند جدالهم ومناظرتهم { :آمَ ْنتُ ِبمَا أَنْ َزلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي :لتكن مناظرتك لهم
مبنية على هذا الصل العظيم ،الدال على شرف السلم وجللته وهيمنته على سائر الديان ،وأن
الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من السلم ،وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن
ناظروا مناظرة مبنية على اليمان ببعض الكتب ،أو ببعض الرسل دون غيره ،فل يسلم لهم ذلك،
لن الكتاب الذي يدعون إليه ،والرسول الذي ينتسبون إليه ،من شرطه أن يكون مصدقا بهذا
القرآن وبمن جاء به ،فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إل باليمان بموسى وعيسى والتوراة والنجيل،
التي أخبر بها وصدق بها ،وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته.
وأما مجرد التوراة والنجيل ،وموسى وعيسى ،الذين لم يوصفوا لنا ،ولم يوافقوا لكتابنا ،فلم
يأمرنا باليمان بهم.
ع ِدلَ بَيْ َنكُمُ } أي :في الحكم فيما اختلفتم فيه ،فل تمنعني عداوتكم وبغضكم ،يا
وقوله { :وَُأمِ ْرتُ لِأَ ْ
أهل الكتاب من العدل بينكم ،ومن العدل في الحكم ،بين أهل القوال المختلفة ،من أهل الكتاب
وغيرهم ،أن يقبل ما معهم من الحق ،ويرد ما معهم من الباطل { ،اللّهُ رَبّنَا وَرَ ّبكُمْ } أي :هو رب
عمَاُلكُمْ } من خير وشر { لَا حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ }
عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ
الجميع ،لستم بأحق به منا { .لَنَا أَ ْ
أي :بعد ما تبينت الحقائق ،واتضح الحق من الباطل ،والهدى من الضلل ،لم يبق للجدال
والمنازعة محل ،لن المقصود من الجدال ،إنما هو بيان الحق من الباطل ،ليهتدي الراشد ،ولتقوم
الحجة على الغاوي ،وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب ل يجادلون ،كيف وال يقول { :وَلَا ُتجَادِلُوا
حسَنُ } وإنما المراد ما ذكرنا.
أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
جمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } يوم القيامة ،فيجزي كل بعمله ،ويتبين حينئذ الصادق من
{ اللّهُ َي ْ
الكاذب.
وهذا تقرير لقوله :ل حجة بيننا وبينكم ،فأخبر هنا أن { الّذِينَ يُحَاجّونَ فِي اللّهِ } بالحجج الباطلة،
والشبه المتناقضة { مِنْ َبعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } أي :من بعد ما استجاب للّه أولو اللباب والعقول،
لما بين لهم من اليات القاطعة ،والبراهين الساطعة ،فهؤلء المجادلون للحق من بعد ما تبين
حضَةٌ } أي :باطلة مدفوعة { عِنْدَ رَ ّب ِهمْ } لنها مشتملة على رد الحق وكل ما خالف
{ حُجّ ُت ُهمْ دَا ِ
الحق ،فهو باطل.
شدِيدٌ }
غضَبٌ } لعصيانهم وإعراضهم عن حجج اللّه وبيناته وتكذيبها { .وََلهُمْ عَذَابٌ َ
{ وَعَلَ ْيهِمْ َ
هو أثر غضب اللّه عليهم ،فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل.
جلُ
عةَ قَرِيبٌ * يَسْ َت ْع ِ
ن َومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّا َ
ق وَا ْلمِيزَا َ
{ { } 17-18اللّهُ الّذِي أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَ ّ
حقّ أَلَا إِنّ الّذِينَ ُيمَارُونَ فِي
شفِقُونَ مِ ْنهَا وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا الْ َ
ِبهَا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا وَالّذِينَ آمَنُوا مُ ْ
عةِ َلفِي ضَلَالٍ َبعِيدٍ }
السّا َ
لما ذكر تعالى أن حججه واضحة بينة ،بحيث استجاب لها كل من فيه خير ،ذكر أصلها وقاعدتها،
ق وَا ْلمِيزَانَ } فالكتاب
حّبل جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد ،فقال { :اللّهُ الّذِي أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
هو هذا القرآن العظيم ،نزل بالحق ،واشتمل على الحق والصدق واليقين ،وكله آيات بينات ،وأدلة
واضحات ،على جميع المطالب اللهية والعقائد الدينية ،فجاء بأحسن المسائل وأوضح الدلئل.
وأما الميزان ،فهو العدل والعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح ،فكل الدلئل العقلية ،من
اليات الفاقية والنفسية ،والعتبارات الشرعية ،والمناسبات والعلل ،والحكام والحكم ،داخلة في
الميزان الذي أنزله ال تعالى ووضعه بين عباده ،ليزنوا به ما اشتبه من المور ،ويعرفوا به
صدق ما أخبر به وأخبرت رسله ،مما خرج عن هذين المرين عن الكتاب والميزان مما قيل إنه
حجة أو برهان أو دليل أو نحو ذلك من العبارات ،فإنه باطل متناقض ،قد فسدت أصوله،
وانهدمت مبانيه وفروعه ،يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها ،وعرف التمييز بين راجح الدلة
من مرجوحها ،والفرق بين الحجج والشبه ،وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة ،واللفاظ المموهة،
ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد ،فإنه ليس من أهل هذا الشأن ،ول من فرسان هذا الميدان،
فوفاقه وخلفه سيان.
ثم قال تعالى مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة المنكرين لها ،فقالَ { :ومَا يُدْرِيكَ َل َعلّ السّاعَةَ قَرِيبٌ
} أي :ليس بمعلوم بعدها ،ول متى تقوم ،فهي في كل وقت متوقع وقوعها ،مخوف وجبتها.
شفِقُونَ مِ ْنهَا }
جلُ ِبهَا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ ِبهَا } عنادا وتكذيبا ،وتعجيزا لربهم { .وَالّذِينَ آمَنُوا ُم ْ
{ َيسْ َتعْ ِ
أي :خائفون ،ليمانهم بها ،وعلمهم بما تشتمل عليه من الجزاء بالعمال ،وخوفهم ،لمعرفتهم
بربهم ،أن ل تكون أعمالهم منجية لهم ول مسعدة ،ولهذا قال { :وَ َيعَْلمُونَ أَ ّنهَا ا ْلحَقّ } الذي ل
مرية فيه ،ول شك يعتريه { أَلَا إِنّ الّذِينَ ُيمَارُونَ فِي السّاعَةِ } أي :بعد ما امتروا فيها ،ماروا
الرسل وأتباعهم بإثباتها فهم في شقاق بعيد ،أي :معاندة ومخاصمة غير قريبة من الصواب ،بل
في غاية البعد عن الحق ،وأيّ بعد أبعد ممن كذب بالدار التي هي الدار على الحقيقة ،وهي الدار
التي خلقت للبقاء الدائم والخلود السرمد ،وهي دار الجزاء التي يظهر ال فيها عدله وفضله وإنما
هذه الدار بالنسبة إليها ،كراكب قال في ظل شجرة ثم رحل وتركها ،وهي دار عبور وممر ،ل
محل استقرار.
فصدقوا بالدار المضمحلة الفانية ،حيث رأوها وشاهدوها ،وكذبوا بالدار الخرة ،التي تواترت
بالخبار عنها الكتب اللهية ،والرسل الكرام وأتباعهم ،الذين هم أكمل الخلق عقول ،وأغزرهم
علما ،وأعظمهم فطنة وفهما.
{ { } 19-20اللّهُ لَطِيفٌ ِبعِبَا ِدهِ يَرْ ُزقُ مَنْ يَشَا ُء وَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ
الْآخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الْآخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ }
يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه ،ويتعرضوا للطفه وكرمه ،واللطف من أوصافه تعالى
معناه :الذي يدرك الضمائر والسرائر ،الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين -إلى ما فيه
الخير لهم من حيث ل يعلمون ول يحتسبون.
فمن لطفه بعبده المؤمن ،أن هداه إلى الخير هداية ل تخطر بباله ،بما يسر له من السباب الداعية
إلى ذلك ،من فطرته على محبة الحق والنقياد له وإيزاعه تعالى لملئكته الكرام ،أن يثبتوا عباده
المؤمنين ،ويحثوهم على الخير ،ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لتباعه.
ومن لطفه أن أمر المؤمنين ،بالعبادات الجتماعية ،التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم،
ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه ،واقتداء بعضهم ببعض.
ومن لطفه ،أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي ،حتى إنه تعالى إذا علم أن
الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا ،تقطع عبده عن طاعته ،أو تحمله على
الغفلة عنه ،أو على معصية صرفها عنه ،وقدر عليه رزقه ،ولهذا قال هنا { :يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ }
بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ } الذي له القوة كلها ،فل حول ول قوة لحد
من المخلوقين إل به ،الذي دانت له جميع الشياء.
ثم قال تعالى { :مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الْآخِ َرةِ } أي :أجرها وثوابها ،فآمن بها وصدق ،وسعى لها
سعيها { نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } بأن نضاعف عمله وجزاءه أضعافا كثيرة ،كما قال تعالىَ { :ومَنْ
شكُورًا } ومع ذلك ،فنصيبه من
سعْ ُيهُمْ مَ ْ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
سعَى َلهَا َ
أَرَادَ الْآخِ َر َة وَ َ
الدنيا ل بد أن يأتيه.
{ َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا } بأن :كانت الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه ،فلم يقدم لخرته،
ول رجا ثوابها ،ولم يخش عقابهاُ { .نؤْتِهِ مِ ْنهَا } نصيبه الذي قسم لهَ { ،ومَا لَهُ فِي الْآخِ َرةِ مِنْ
َنصِيبٍ } قد حرم الجنة ونعيمها ،واستحق النار وجحيمها.
{ { } 21-23أَمْ َلهُمْ شُ َركَاءُ شَرَعُوا َلهُمْ مِنَ الدّينِ مَا َلمْ يَأْذَنْ ِبهِ اللّ ُه وََلوْلَا كَِلمَةُ ا ْل َفصْلِ َل ُقضِيَ
ش ِفقِينَ ِممّا َكسَبُوا وَ ُهوَ وَاقِعٌ ِب ِه ْم وَالّذِينَ آمَنُوا
عذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظّاِلمِينَ مُ ْ
بَيْ َنهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ َ
ضلُ ا ْلكَبِيرُ * ذَِلكَ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فِي َر ْوضَاتِ الْجَنّاتِ َلهُمْ مَا َيشَاءُونَ عِنْدَ رَ ّبهِمْ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَ ْ
وَ َ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ ُقلْ لَا أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرًا إِلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى
الّذِي يُ َبشّرُ اللّهُ عِبَا َدهُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
شكُورٌ }
غفُورٌ َ
َومَنْ َيقْتَ ِرفْ حَسَ َنةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنّ اللّهَ َ
يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإياهم في الكفر وأعماله ،من
شياطين النس ،الدعاة إلى الكفر { شَرَعُوا َلهُمْ مِنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ } من الشرك والبدع،
وتحريم ما أحل ال ،وتحليل ما حرم ال ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم.
مع أن الدين ل يكون إل ما شرعه ال تعالى ،ليدين به العباد ويتقربوا به إليه ،فالصل الحجر
على كل أحد أن يشرع شيئا ما جاء عن ال وعن رسوله ،فكيف بهؤلء الفسقة المشتركين هم
وأباؤهم على الكفر.
ضيَ بَيْ َنهُمْ } أي :لول الجل المسمى الذي ضربه ال فاصل بين الطوائف
صلِ َلقُ ِ
{ وََلوْلَا كَِلمَةُ ا ْل َف ْ
المختلفة ،وأنه سيؤخرهم إليه ،لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإهلك المبطل،
لن المقتضي للهلك موجود ،ولكن أمامهم العذاب الليم في الخرة ،هؤلء وكل ظالم.
ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه ،وقد ل يقع ،أخبر أنه { وَاقِعٌ ِبهِمْ } العقاب الذي
خافوه ،لنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب ،من غير معارض ،من توبة ول غيرها ،ووصلوا
موضعا فات فيه النظار والمهال.
{ ُقلْ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ } أي :على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه { .أَجْرًا } فلست
أريد أخذ أموالكم ،ول التولي عليكم والترأس ،ول غير ذلك من الغراض { إِلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى
}
يحتمل أن المراد :ل أسألكم عليه أجرا إل أجرا واحدا هو لكم ،وعائد نفعه إليكم ،وهو أن تودوني
وتحبوني في القرابة ،أي :لجل القرابة .ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة اليمان ،فإن
مودة اليمان بالرسول ،وتقديم محبته على جميع المحاب بعد محبة ال ،فرض على كل مسلم،
وهؤلء طلب منهم زيادة على ذلك أن يحبوه لجل القرابة ،لنه صلى ال عليه وسلم ،قد باشر
بدعوته أقرب الناس إليه ،حتى إنه قيل :إنه ليس في بطون قريش أحد ،إل ولرسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فيه قرابة.
ويحتمل أن المراد إل مودة ال تعالى الصادقة ،وهي التي يصحبها التقرب إلى ال ،والتوسل
بطاعته الدالة على صحتها وصدقها ،ولهذا قالِ { :إلّا ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَى } أي :في التقرب إلى ال،
وعلى كل القولين ،فهذا الستثناء دليل على أنه ل يسألهم عليه أجرا بالكلية ،إل أن يكون شيئا
يعود نفعه إليهم ،فهذا ليس من الجر في شيء ،بل هو من الجر منه لهم صلى ال عليه وسلم،
حمِيدِ } وقولهم" :ما لفلن ذنب عندك،
كقوله تعالىَ { :ومَا َن َقمُوا مِ ْنهُمْ إِلّا أَنْ ُي ْؤمِنُوا بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ
إل أنه محسن إليك"
{ َومَنْ َيقْتَ ِرفْ حَسَنَةً } من صلة ،أو صوم ،أو حج ،أو إحسان إلى الخلق { نَ ِزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا }
بأن يشرح ال صدره ،وييسر أمره ،وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر ،ويزداد بها عمل المؤمن،
ويرتفع عند ال وعند خلقه ،ويحصل له الثواب العاجل والجل.
شكُورٌ } يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها ،ويشكر على
غفُورٌ َ
{ إِنّ اللّهَ َ
العمل القليل بالجر الكثير ،فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب ،وبشكره يتقبل الحسنات
ويضاعفها أضعافا كثيرة.
حقّ
ل وَيُ ِ
طَك وَ َيمْحُ اللّهُ الْبَا ِ
{ َ { } 24أمْ َيقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا فَإِنْ َيشَأِ اللّهُ َيخْتِمْ عَلَى قَلْ ِب َ
حقّ ِبكَِلمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
الْ َ
يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى ال عليه وسلم جرأة منهم وكذبا { :افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا }
فرموك بأشنع المور وأقبحها ،وهو الفتراء على ال بادعاء النبوة والنسبة إلى ال ما هو بريء
منه ،وهم يعلمون صدقك وأمانتك ،فكيف يتجرأون على هذا الكذب الصراح؟
بل تجرأوا بذلك على ال تعالى ،فإنه قدح في ال ،حيث مكنك من هذه الدعوة العظيمة ،المتضمنة
-على موجب زعمهم -أكبر الفساد في الرض ،حيث مكنه ال من التصريح بالدعوة ،ثم بنسبتها
إليه ،ثم يؤيده بالمعجزات الظاهرات ،والدلة القاهرات ،والنصر المبين ،والستيلء على من
خالفه ،وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها ،وهو أن يختم على قلب الرسول
صلى ال عليه وسلم فل يعي شيئا ول يدخل إليه خير ،وإذا ختم على قلبه انحسم المر كله
وانقطع.
فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول ،وأقوى شهادة من ال له على ما قال ،ول يوجد
شهادة أعظم منها ول أكبر ،ولهذا من حكمته ورحمته ،وسنته الجارية ،أنه يمحو الباطل ويزيله،
وإن كان له صولة في بعض الوقات ،فإن عاقبته الضمحلل.
{ وَ ُيحِقّ ا ْلحَقّ ِبكَِلمَاتِهِ } الكونية ،التي ل تغير ول تبدل ،ووعده الصادق ،وكلماته الدينية التي
تحقق ما شرعه من الحق ،وتثبته في القلوب ،وتبصر أولي اللباب ،حتى إن من جملة إحقاقه
تعالى الحق ،أن ُيقَ ّيضَ له الباطل ليقاومه ،فإذا قاومه ،صال عليه الحق ببراهينه وبيناته ،فظهر
من نوره وهداه ما به يضمحل الباطل وينقمع ،ويتبين بطلنه لكل أحد ،ويظهر الحق كل الظهور
لكل أحد.
{ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } أي :بما فيها ،وما اتصفت به من خير وشر ،وما أكنته ولم تبده.
هذا بيان لكمال كرم ال تعالى وسعة جوده وتمام لطفه ،بقبول التوبة الصادرة من عباده حين
يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها ،ويعزمون على أن ل يعاودوها ،إذا قصدوا بذلك وجه ربهم،
فإن ال يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلك ،ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
{ وَ َي ْعفُو عَنِ السّيّئَاتِ } ويمحوها ،ويمحو أثرها من العيوب ،وما اقتضته من العقوبات ،ويعود
التائب عنده كريما ،كأنه ما عمل سوءا قط ،ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه.
ولما كانت التوبة من العمال العظيمة ،التي قد تكون كاملة بسبب تمام الخلص والصدق فيها،
وقد تكون ناقصة عند نقصهما ،وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الغراض
الدنيوية ،وكان محل ذلك القلب الذي ل يعلمه إل ال ،ختم هذه الية بقوله { :وَ َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ }
فال تعالى ،دعا جميع العباد إلى النابة إليه والتوبة من التقصير ،فانقسموا -بحسب الستجابة له-
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ }
إلى قسمين :مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْ َتجِيبُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
أي :يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته ،لن ما معهم من اليمان والعمل
الصالح يحملهم على ذلك ،فإذا استجابوا له ،شكر ال لهم ،وهو الغفور الشكور.
وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل ،وزادهم مضاعفة في الجر زيادة عن ما تستحقه
أعمالهم من الثواب والفوز العظيم.
وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله ،فـ { َل ُهمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في
الدنيا والخرة ،ثم ذكر أن من لطفه بعباده ،أنه ل يوسع عليهم الدنيا سعة ،تضر بأديانهم فقال:
سطَ اللّهُ الرّزْقَ ِلعِبَا ِدهِ لَ َب َغوْا فِي الْأَ ْرضِ }
{ وََلوْ بَ َ
أي :لغفلوا عن طاعة ال ،وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ،فأوجبت لهم الكباب على ما تشتهيه
نفوسهم ،ولو كان معصية وظلما.
{ وََلكِنْ يُنَ ّزلُ ِبقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته { إِنّهُ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرٌ َبصِيرٌ } كما في
بعض الثار أن ال تعالى يقول" :إن من عبادي من ل يصلح إيمانه إل الغنى ،ولو أفقرته لفسده
ذلك ،وإن من عبادي من ل يصلح إيمانه إل الفقر ،ولو أغنيته لفسده ذلك ،وإن من عبادي من ل
يصلح إيمانه إل الصحة ،ولو أمرضته لفسده ذلك ،وإن من عبادي من ل يصلح إيمانه إل
المرض ولو عافيته لفسده ذلك ،إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ،إني خبير بصير "
{ وَ ُهوَ الّذِي يُنَ ّزلُ ا ْلغَ ْيثَ } أي :المطر الغزير الذي به يغيث البلد والعباد { ،مِنْ َبعْدِ مَا قَ َنطُوا }
وانقطع عنهم مدة ظنوا أنه ل يأتيهم ،وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمال ،فينزل ال الغيث
حمَتَهُ } من إخراج القوات للدميين وبهائمهم ،فيقع عندهم موقعا عظيما،
{ وَيَنْشُرُ } به { َر ْ
ويستبشرون بذلك ويفرحون { .وَ ُهوَ ا ْلوَِليّ } الذي يتولى عباده بأنواع التدبير ،ويتولى القيام
حمِيدُ } في وليته وتدبيره ،الحميد على ما له من الكمال ،وما أوصله
بمصالح دينهم ودنياهم { .ا ْل َ
إلى خلقه من أنواع الفضال.
{ َومَا َبثّ فِي ِهمَا } أي :نشر في السماوات والرض من أصناف الدواب التي جعلها اللّه مصالح
ج ْم ِعهِمْ } أي :جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة { ِإذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ }
ومنافع لعباده { .وَ ُهوَ عَلَى َ
فقدرته ومشيئته صالحان لذلك ،ويتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق ،وقد علم أنه قد
تواترت أخبار المرسلين وكتبهم بوقوعه.
{ َ { } 30-31ومَا َأصَا َبكُمْ مِنْ ُمصِيبَةٍ فَ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي ُك ْم وَ َيعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ
ي وَلَا َنصِيرٍ }
فِي الْأَ ْرضِ َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِ ّ
يخبر تعالى ،أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولدهم وفيما يحبون ويكون
عزيزا عليهم ،إل بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات ،وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر ،فإن اللّه ل يظلم
ظهْرِهَا مِنْ دَابّةٍ }
العباد ،ولكن أنفسهم يظلمون { وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا مَا تَ َركَ عَلَى َ
وليس إهمال منه تعالى تأخير العقوبات ول عجزا.
{ َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْرضِ } أي :معجزين قدرة اللّه عليكم ،بل أنتم عاجزون في الرض،
ليس عندكم امتناع عما ينفذه اللّه فيكمَ { .ومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيّ } يتولكم ،فيحصل لكم
المنافع { وَلَا َنصِيرٍ } يدفع عنكم المضار.
وإن شاء ال تعالى أوبق الجوار بما كسب أهلها ،أي :أغرقها في البحر وأتلفها ،ولكنه يحلم ويعفو
عن كثير.
وأما الذي ل صبر عنده ،ول شكر له على نعم ال ،فإنه معرض أو معاند ل ينتفع باليات.
ثم قال تعالى { :وَ َيعْلَمَ الّذِينَ ُيجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا } ليبطلوها بباطلهم { .مَا َلهُمْ مِنْ َمحِيصٍ } أي :ل
ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة.
شيْءٍ َفمَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا عِ ْندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى لِلّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
{ َ { } 36-39فمَا أُوتِيتُمْ مِنْ َ
غضِبُوا ُهمْ َي ْغفِرُونَ * وَالّذِينَ
ش وَإِذَا مَا َ
رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ * وَالّذِينَ َيجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْ ِم وَا ْل َفوَاحِ َ
اسْ َتجَابُوا لِرَ ّبهِ ْم وََأقَامُوا الصّلَاةَ وََأمْرُهُمْ شُورَى بَيْ َنهُ ْم َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ * وَالّذِينَ ِإذَا َأصَا َبهُمُ
الْ َب ْغيُ هُمْ يَنْ َتصِرُونَ }
هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الخرة ،وذكر العمال الموصلة إليها فقالَ { :فمَا أُوتِيتُمْ مِنْ
شيْءٍ } من ملك ورياسة ،وأموال وبنين ،وصحة وعافية بدنيةَ { .فمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } لذة منغصة
َ
منقطعةَ { .ومَا عِنْدَ اللّهِ } من الثواب الجزيل ،والجر الجليل ،والنعيم المقيم { خَيْرٌ } من لذات
الدنيا ،خيرية ل نسبة بينهما { وَأَ ْبقَى } لنه نعيم ل منغص فيه ول كدر ،ول انتقال.
ثم ذكر لمن هذا الثواب فقالِ { :للّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } أي :جمعوا بين اليمان
الصحيح ،المستلزم لعمال اليمان الظاهرة والباطنة ،وبين التوكل الذي هو اللة لكل عمل ،فكل
عمل ل يصحبه التوكل فغير تام ،وهو العتماد بالقلب على ال في جلب ما يحبه العبد ،ودفع ما
يكرهه مع الثقة به تعالى.
حشَ } والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما كبائر-
{ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِ ْث ِم وَا ْلفَوَا ِ
أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ،كالزنا ونحوه ،والكبائر ما ليس كذلك،
هذا عند القتران ،وأما مع إفراد كل منهما عن الخر فإن الخر يدخل فيه.
غضِبُوا هُمْ َي ْغفِرُونَ } أي :قد تخلقوا بمكارم الخلق ومحاسن الشيم ،فصار الحلم لهم
{ وَِإذَا مَا َ
سجية ،وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله ،كظموا ذلك الغضب فلم
ينفذوه ،بل غفروه ،ولم يقابلوا المسيء إل بالحسان والعفو والصفح.
فترتب على هذا العفو والصفح ،من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير ،كما
حمِي ٌم َومَا يَُلقّاهَا إِلّا الّذِينَ
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
قال تعالى { :ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
حظّ عَظِيمٍ }
صَبَرُوا َومَا يَُلقّاهَا إِلّا ذُو َ
{ وَالّذِينَ اسْ َتجَابُوا لِرَ ّبهِمْ } أي :انقادوا لطاعته ،ول ّبوْا دعوته ،وصار قصدهم رضوانه ،وغايتهم
الفوز بقربه.
ومن الستجابة للّه ،إقامة الصلة وإيتاء الزكاة ،فلذلك عطفهما على ذلك ،من باب عطف العام
على الخاص ،الدال على شرفه وفضله فقال { :وََأقَامُوا الصّلَاةَ } أي :ظاهرها وباطنها ،فرضها
ونفلهاَ { .و ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُ ْنفِقُونَ } من النفقات الواجبة ،كالزكاة والنفقة على القارب ونحوهم،
والمستحبة ،كالصدقات على عموم الخلق.
{ وََأمْرُ ُهمْ } الديني والدنيوي { شُورَى بَيْ َنهُمْ } أي :ل يستبد أحد منهم برأيه في أمر من المور
المشتركة بينهم ،وهذا ل يكون إل فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال
عقولهم ،أنهم إذا أرادوا أمرا من المور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ،اجتمعوا لها
وتشاوروا وبحثوا فيها ،حتى إذا تبينت لهم المصلحة ،انتهزوها وبادروها ،وذلك كالرأي في الغزو
والجهاد ،وتولية الموظفين لمارة أو قضاء ،أو غيره ،وكالبحث في المسائل الدينية عموما ،فإنها
من المور المشتركة ،والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه ال ،وهو داخل في هذه الية.
{ وَالّذِينَ إِذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ } أي :وصل إليهم من أعدائهم { ُهمْ يَنْ َتصِرُونَ } لقوتهم وعزتهم ،ولم
يكونوا أذلء عاجزين عن النتصار.
فوصفهم باليمان ،وعلى ال ،واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر ،والنقياد التام،
والستجابة لربهم ،وإقامة الصلة ،والنفاق في وجوه الحسان ،والمشاورة في أمورهم ،والقوة
والنتصار على أعدائهم ،فهذه خصال الكمال قد جمعوها ،ويلزم من قيامها فيهم ،فعل ما هو
دونها ،وانتفاء ضدها.
حبّ الظّاِلمِينَ *
عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لَا ُي ِ
{ { } 40-43وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثُْلهَا َفمَنْ َ
س وَيَ ْبغُونَ
علَ ْيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِ ّنمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ َيظِْلمُونَ النّا َ
وََلمَنِ انْ َتصَرَ َب ْعدَ ظُ ْل ِمهِ فَأُولَ ِئكَ مَا َ
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْزمِ الُْأمُورِ }
ن صَبَ َر وَ َ
عذَابٌ أَلِيمٌ * وََلمَ ْ
حقّ أُولَ ِئكَ َلهُمْ َ
فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
ذكر ال في هذه الية ،مراتب العقوبات ،وأنها على ثلث مراتب :عدل وفضل وظلم.
فمرتبة العدل ،جزاء السيئة بسيئة مثلها ،ل زيادة ول نقص ،فالنفس بالنفس ،وكل جارحة
بالجارحة المماثلة لها ،والمال يضمن بمثله.
وفي جعل أجر العافي على ال ما يهيج على العفو ،وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله ال
به ،فكما يحب أن يعفو ال عنه ،فَلْ َي ْعفُ عنهم ،وكما يحب أن يسامحه ال ،فليسامحهم ،فإن الجزاء
من جنس العمل.
{ وََلمَنِ انْ َتصَرَ َبعْدَ ظُ ْلمِهِ } أي :انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه { فَأُولَ ِئكَ مَا عَلَ ْيهِمْ مِنْ
سَبِيلٍ } أي :ل حرج عليهم في ذلك.
ودل قوله { :وَالّذِينَ إِذَا َأصَا َبهُمُ الْ َب ْغيُ } وقوله { :وََلمَنِ انْ َتصَرَ َبعْدَ ظُ ْلمِهِ } أنه ل بد من إصابة
البغي والظلم ووقوعه.
وأما إرادة البغي على الغير ،وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ،فهذا ل يجازى بمثله ،وإنما
يؤدب تأديبا يردعه عن قول أو فعل صدر منه.
س وَيَ ْبغُونَ فِي
{ إِ ّنمَا السّبِيلُ } أي :إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية { عَلَى الّذِينَ َيظِْلمُونَ النّا َ
حقّ } وهذا شامل للظلم والبغي على الناس ،في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
{ أُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي :موجع للقلوب والبدان ،بحسب ظلمهم وبغيهم.
فإن ترك النتصار للنفس بالقول أو الفعل ،من أشق شيء عليها ،والصبر على الذى ،والصفح
عنه ،ومغفرته ،ومقابلته بالحسان ،أشق وأشق ،ولكنه يسير على من يسره ال عليه ،وجاهد نفسه
على التصاف به ،واستعان ال على ذلك ،ثم إذا ذاق العبد حلوته ،ووجد آثاره ،تلقاه برحب
الصدر ،وسعة الخلق ،والتلذذ فيه.
ن وَِليّ
يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والضلل ،وأنه { مَنْ ُيضِْللِ اللّهُ } بسبب ظلمه { َفمَا لَهُ مِ ْ
مِنْ َبعْ ِدهِ } يتولى أمره ويهديه.
{ وَتَرَى الظّاِلمِينَ َلمّا رََأوُا ا ْلعَذَابَ } مرأى ومنظرا فظيعا ،صعبا شنيعا ،يظهرون الندم العظيم،
والحزن على ما سلف منهم ،و { َيقُولُونَ َهلْ إِلَى مَرَدّ مِنْ سَبِيلٍ } أي :هل لنا طريق أو حيلة إلى
رجوعنا إلى الدنيا ،لنعمل غير الذي كنا نعمل ،وهذا طلب للمر المحال الذي ل يمكن.
{ َوقَالَ الّذِينَ آمَنُوا } حيث ظهرت عواقب الخلق ،وتبين أهل الصدق من غيرهم { :إِنّ ا ْلخَاسِرِينَ
س ُه ْم وَأَهْلِيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ } حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب،
} على الحقيقة { الّذِينَ خَسِرُوا أَ ْنفُ َ
وحصلوا على أليم العقاب وفرق بينهم وبين أهليهم ،فلم يجتمعوا بهم ،آخر ما عليهم { .أَلَا إِنّ
الظّاِلمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فِي عَذَابٍ ُمقِيمٍ } أي :في سوائه ووسطه ،منغمرين ل
يخرجون منه أبدا ،ول يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
{ َومَا كَانَ َلهُمْ مِنْ َأوْلِيَاءَ يَ ْنصُرُو َنهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ } كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم ،ففي
القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت ،وأنه حين جاءهم عذاب ال لم يدفع
عنهمَ { .ومَنْ ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِنْ سَبِيلٍ } تحصل به هدايته ،فهؤلء ضلوا حين زعموا في
شركائهم النفع ودفع الضر ،فتبين حينئذ ضللهم.
{ { } 47-48اسْ َتجِيبُوا لِرَ ّبكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا مَ َردّ لَهُ مِنَ اللّهِ مَا َل ُكمْ مِنْ مَلْجَإٍ َي ْومَئِ ٍذ َومَا
حفِيظًا إِنْ عَلَ ْيكَ إِلّا الْبَلَاغُ وَإِنّا ِإذَا َأ َذقْنَا الْإِنْسَانَ
َلكُمْ مِنْ َنكِيرٍ * فَإِنْ أَعْ َرضُوا َفمَا أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ
حمَةً فَرِحَ ِبهَا وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنّ الْإِنْسَانَ َكفُورٌ }
مِنّا رَ ْ
يأمر تعالى عباده بالستجابة له ،بامتثال ما أمر به ،واجتناب ما نهى عنه ،وبالمبادرة بذلك وعدم
التسويف ،مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْم القيامة الذي إذا جاء ل يمكن رده واستدراك الفائت ،وليس للعبد
في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه ،فيفوت ربه ،ويهرب منه.
وهذه الية ونحوها ،فيها ذم المل ،والمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد ،فإن
للتأخير آفات.
ثم ذكر تعالى حالة النسان ،وأنه إذا أذاقه ال رحمة ،من صحة بدن ،ورزق رغد ،وجاه ونحوه {
فَرِحَ ِبهَا } أي :فرح فرحا مقصورا عليها ،ل يتعداها ،ويلزم من ذلك طمأنينته بها ،وإعراضه عن
المنعم.
{ وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ } أي :مرض أو فقر ،أو نحوهما { ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِي ِهمْ فَإِنّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } أي:
طبيعته كفران النعمة السابقة ،والتسخط لما أصابه من السيئة.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َيخْلُقُ مَا َيشَاءُ َي َهبُ ِلمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَ َي َهبُ ِلمَنْ َيشَاءُ
{ { } 49-50لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيمًا إِنّهُ عَلِيمٌ َقدِيرٌ }
ج َعلُ مَنْ يَشَاءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَ ْ
ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
هذه الية فيها الخبار عن سعة ملكه تعالى ،ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء ،والتدبير
لجميع المور ،حتى إن تدبيره تعالى ،من عمومه ،أنه يتناول المخلوقة عن السباب التي يباشرها
العباد ،فإن النكاح من السباب لولدة الولد ،فاللّه تعالى هو الذي يعطيهم من الولد ما يشاء.
فمن الخلق من يهب له إناثا ،ومنهم من يهب له ذكورا ،ومنهم من يزوجه ،أي :يجمع له ذكورا
وإناثا ،ومنهم من يجعله عقيما ل يولد له.
{ إِنّهُ عَلِيمٌ } بكل شيء { قَدِيرٌ } على كل شيء ،فيتصرف بعلمه وإتقانه الشياء ،وبقدرته في
مخلوقاته.
حيَ
سلَ رَسُولًا فَيُو ِ
ن وَرَاءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
{ َ { } 51-53ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإلّا وَحْيًا َأوْ مِ ْ
ب وَلَا
حكِيمٌ * َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا مَا كُ ْنتَ تَدْرِي مَا ا ْلكِتَا ُ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَِليّ َ
جعَلْنَاهُ نُورًا َنهْدِي ِبهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * صِرَاطِ
ن وََلكِنْ َ
الْإِيمَا ُ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ أَلَا إِلَى اللّهِ َتصِيرُ الُْأمُورُ }
اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ
لما قال المكذبون لرسل ال ،الكافرون بالَ { :لوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } من كبرهم وتجبرهم،
رد ال عليهم بهذه الية الكريمة ،وأن تكليمه تعالى ل يكون إل لخواص خلقه ،للنبياء
والمرسلين ،وصفوته من العالمين ،وأنه يكون على أحد هذه الوجه.
إما أَنْ ُيكَّلمَهُ اللّ ُه وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ،من غير إرسال ملك ،ول مخاطبة منه
شفاها.
{ َوكَذَِلكَ } حين أوحينا إلى الرسل قبلك { َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا } وهو هذا القرآن الكريم،
سماه روحا ،لن الروح يحيا به الجسد ،والقرآن تحيا به القلوب والرواح ،وتحيا به مصالح الدنيا
والدين ،لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
وهو محض منة ال على رسوله وعباده المؤمنين ،من غير سبب منهم ،ولهذا قال { :مَا كُ ْنتَ
تَدْرِي } أي :قبل نزوله عليك { مَا ا ْلكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } أي :ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة،
ول إيمان وعمل بالشرائع اللهية ،بل كنت أميا ل تخط ول تقرأ ،فجاءك هذا الكتاب الذي
جعَلْنَاهُ نُورًا َنهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع ،والهواء
{ َ
المردية ،ويعرفون به الحقائق ،ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
{ وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } أي :تبينه لهم وتوضحه ،وتنيره وترغبهم فيه ،وتنهاهم عن
سمَاوَاتِ َومَا
ضده ،وترهبهم منه ،ثم فسر الصراط المستقيم فقال { :صِرَاطِ اللّهِ الّذِي َلهُ مَا فِي ال ّ
فِي الْأَ ْرضِ }
أي :الصراط الذي نصبه ال لعباده ،وأخبرهم أنه موصل إليه وإلى دار كرامته { ،أَلَا إِلَى اللّهِ
َتصِيرُ الُْأمُورُ } أي :ترجع جميع أمور الخير والشر ،فيجازي كُلّا بحسب عمله ،إن خيرا فخير،
وإن شرا فشر.
تم تفسير سورة الشورى ،والحمد للّه أول وآخرا ،وظاهرا وباطنا ،على تيسيره وتسهيله.
هذا قسم بالقرآن على القرآن ،فأقسم بالكتاب المبين وأطلق ،ولم يذكر المتعلق ،ليدل على أنه مبين
لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والخرة.
جعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا } هذا المقسم عليه ،أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها ،وهذا من
{ إِنّا َ
بيانه .وذكر الحكمة في ذلك فقالَ { :لعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الذهان.
حكِيمٌ } أي:
{ وَإِنّهُ } أي :هذا الكتاب { َلدَيْنَا } في المل العلى في أعلى الرتب وأفضلها { َلعَِليّ َ
لعلي في قدره وشرفه ومحله ،حكيم فيما يشتمل عليه من الوامر والنواهي والخبار ،فليس فيه
حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان.
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن ل يترك عباده همل ،ل يرسل إليهم رسول ،ول
ينزل عليهم كتابا ،ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال:
صفْحًا } أي :أفنعرض عنكم ،ونترك إنزال الذكر إليكم ،ونضرب عنكم
{ َأفَ َنضْ ِربُ عَ ْنكُمُ ال ّذكْ َر َ
صفحا ،لجل إعراضكم ،وعدم انقيادكم له؟ بل ننزل عليكم الكتاب ،ونوضح لكم فيه كل شيء،
فإن آمنتم به واهتديتم ،فهو من توفيقكم ،وإل قامت عليكم الحجة ،وكنتم على بينة من أمركم.
{ َ { } 6-8وكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَ ِبيّ فِي الَْأوّلِينَ * َومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ * فَأَهَْلكْنَا
طشًا َو َمضَى مَ َثلُ الَْأوّلِينَ }
شدّ مِ ْنهُمْ بَ ْ
أَ َ
يقول تعالى :إن هذه سنتنا في الخلق ،أن ل نتركهم همل ،فكم { أَرْسَلْنَا مِنْ نَ ِبيّ فِي الَْأوّلِينَ }
يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ل شريك له ،ولم يزل التكذيب موجودا في المم.
{ َومَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } جحدا لما جاء به ،وتكبرا على الحق.
طشًا } أي :قوة وأفعال وآثارا في الرضَ { ،و َمضَى مَ َثلُ الَْأوّلِينَ }
{ فََأهَْلكْنَا أَشَدّ } من هؤلء { بَ ْ
أي :مضت أمثالهم وأخبارهم ،وبينا لكم منها ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب والنكار.
ج َعلَ
ت وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ خََلقَهُنّ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ * الّذِي َ
سمَاوَا ِ
{ { } 9-14وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََلقَ ال ّ
سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْنشَرْنَا بِهِ
ج َعلَ َلكُمْ فِيهَا سُبُلًا َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ * وَالّذِي نَ ّزلَ مِنَ ال ّ
َلكُمُ الْأَ ْرضَ َمهْدًا وَ َ
ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلفُ ْلكِ وَالْأَ ْنعَامِ مَا تَ ْركَبُونَ *
بَلْ َدةً مَيْتًا َكذَِلكَ تُخْ َرجُونَ * وَالّذِي خََلقَ الْأَ ْزوَاجَ كُّلهَا وَ َ
ظهُو ِرهِ ثُمّ َت ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّبكُمْ إِذَا اسْ َتوَيْتُمْ عَلَ ْي ِه وَ َتقُولُوا سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا َومَا
لِتَسْ َتوُوا عَلَى ُ
كُنّا لَهُ ُمقْرِنِينَ * وَإِنّا إِلَى رَبّنَا َلمُ ْنقَلِبُونَ }
ت وَالْأَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ } ال وحده ل
سمَاوَا ِ
يخبر تعالى عن المشركين ،أنك لو { سَأَلْ َت ُهمْ مَنْ خََلقَ ال ّ
شريك له ،العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات ،العليم بظواهر المور وبواطنها ،وأوائلها
وأواخرها ،فإذا كانوا مقرين بذلك ،فكيف يجعلون له الولد والصاحبة والشريك؟! وكيف يشركون
به من ل يخلق ول يرزق ،ول يميت ول يحيي؟!
ثم ذكر أيضا من الدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره ،بما خلقه لعباده من الرض التي مهدها
وجعلها قرارا للعباد ،يتمكنون فيها من كل ما يريدون.
ج َعلَ َل ُكمْ فِيهَا سُبُلًا } أي :جعل منافذ بين سلسل الجبال المتصلة ،تنفذون منها إلى ما وراءها
{ َو َ
من القطارَ { .لعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ } في السير في الطرق ول تضيعون ،ولعلكم تهتدون أيضا في
العتبار بذلك والدكار فيه.
سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ } ل يزيد ول ينقص ،ويكون أيضا بمقدار الحاجة ،ل ينقص
{ وَالّذِي نَ ّزلَ مِنَ ال ّ
بحيث ل يكون فيه نفع ،ول يزيد بحيث يضر العباد والبلد ،بل أغاث به العباد ،وأنقذ به البلد
من الشدة ،ولهذا قال { :فَأَنْشَرْنَا ِبهِ بَلْ َدةً مَيْتًا } أي :أحييناها بعد موتهاَ { ،كذَِلكَ تُخْ َرجُونَ } أي:
فكما أحيا الرض الميتة الهامدة بالماء ،كذلك يحييكم بعد ما تستكملون في البرزخ ،ليجازيكم
بأعمالكم.
{ وَالّذِي خََلقَ الْأَ ْزوَاجَ كُّلهَا } أي :الصناف جميعها ،مما تنبت الرض ومن أنفسهم ومما ل
ج َعلَ َل ُكمْ مِنَ ا ْلفُ ْلكِ } أي :السفن
يعلمون ،من ليل ونهار ،وحر وبرد ،وذكر وأنثى ،وغير ذلكَ { .و َ
ظهُو ِرهِ }
البحرية ،الشراعية والنارية ،مَا تَ ْركَبُونَ { و } من { النعام ما تركبون لِ َتسْ َتوُوا عَلَى ُ
وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور النعام ،أي :لتستقروا عليهاُ { ،ثمّ تَ ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ رَ ّب ُكمْ إِذَا
اسْ َتوَيْتُمْ عَلَ ْيهِ } بالعتراف بالنعمة لمن سخرها ،والثناء عليه تعالى بذلك ،ولهذا قال { :وَ َتقُولُوا
سُ ْبحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا َومَا كُنّا َلهُ ُمقْرِنِينَ } أي :لول تسخيره لنا ما سخر من الفلك ،والنعام،
ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه ،ولكن من لطفه وكرمه تعالى ،سخرها وذللها ويسر أسبابها.
والمقصود من هذا ،بيان أن الرب الموصوف بما ذكره ،من إفاضة النعم على العباد ،هو الذي
يستحق أن يعبد ،ويصلى له ويسجد.
جعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَا ِدهِ جُ ْزءًا إِنّ الْإِ ْنسَانَ َل َكفُورٌ مُبِينٌ * َأمِ اتّخَذَ ِممّا َيخْلُقُ بَنَاتٍ
{ { } 15-25وَ َ
سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ * َأ َومَنْ
جهُهُ ُم ْ
ل وَ ْ
ظّحمَنِ مَثَلًا َ
وََأصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَ ُدهُمْ ِبمَا ضَ َربَ لِلرّ ْ
شهِدُوا
حمَنِ إِنَاثًا َأ َ
جعَلُوا ا ْلمَلَا ِئكَةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ الرّ ْ
خصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَ َ
يُنَشّأُ فِي ا ْلحِلْيَ ِة وَ ُهوَ فِي الْ ِ
حمَنُ مَا عَ َبدْنَاهُمْ مَا َلهُمْ بِ َذِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
شهَادَ ُتهُ ْم وَيُسْأَلُونَ * َوقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ
خَ ْل َقهُمْ سَ ُتكْ َتبُ َ
سكُونَ * َبلْ قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ
إِلّا َيخْ ُرصُونَ * َأمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبِْلهِ َفهُمْ بِهِ مُسْ َتمْ ِ
وَإِنّا عَلَى آثَارِ ِهمْ ُمهْتَدُونَ * َوكَذَِلكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا إِنّا
جدْتُمْ عَلَ ْيهِ آبَا َءكُمْ
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ وَإِنّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ َأوََلوْ جِئْ ُت ُكمْ بِأَهْدَى ِممّا وَ َ
قَالُوا إِنّا ِبمَا أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ }
يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين ،الذين جعلوا للّه تعالى ولدا ،وهو الواحد الحد ،الفرد
الصمد ،الذي لم يتخذ صاحبة ول ولدا ،ولم يكن له كفوا أحد ،وإن ذلك باطل من عدة أوجه:
ومنها :أن الولد جزء من والده ،واللّه تعالى بائن من خلقه ،مباين لهم في صفاته ونعوت جلله،
والولد جزء من الوالد ،فمحال أن يكون للّه تعالى ولد.
ومنها :أنهم يزعمون أن الملئكة بنات اللّه ،ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين ،فكيف يكون
ل البنات ،ويصطفيهم بالبنين ،ويفضلهم بها؟! فإذا يكونون أفضل من اللّه ،تعالى اللّه عن ذلك
علوا كبيرا.
ومنها :أن الصنف الذي نسبوه للّه ،وهو البنات ،أدون الصنفين ،وأكرههما لهم ،حتى إنهم من
سوَدّا } من كراهته وشدة
جهُهُ مُ ْ
ل وَ ْ
ظّحمَنِ مَثَلًا َ
حدُهُمْ ِبمَا ضَ َربَ لِلرّ ْ
كراهتهم لذلك { ِإذَا بُشّرَ أَ َ
بغضه ،فكيف يجعلون للّه ما يكرهون؟
ومنها :أن النثى ناقصة في وصفها ،وفي منطقها وبيانها ،ولهذا قال تعالىَ { :أ َومَنْ يُنَشّأُ فِي
خصَامِ } أي :عند
الْحِلْ َيةِ } أي :يجمل فيها ،لنقص جماله ،فيجمل بأمر خارج عنه؟ { وَ ُهوَ فِي الْ ِ
الخصام الموجب لظهار ما عند الشخص من الكلم { ،غَيْرُ مُبِينٍ } أي :غير مبين لحجته ،ول
مفصح عما احتوى عليه ضميره ،فكيف ينسبونهن للّه تعالى؟
جعَلُوا ا ْلمَلَا ِئكَةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ ال إِنَاثًا ،فتجرأوا على الملئكة ،العباد المقربين،
ومنها :أنهم َ
ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل ،إلى مرتبة المشاركة للّه ،في شيء من خواصه ،ثم نزلوا بهم
عن مرتبة الذكورية إلى مرتبة النوثية ،فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه وعاند رسله.
ومنها :أن اللّه رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق اللّه لملئكته ،فكيف يتكلمون بأمر من المعلوم عند
كل أحد ،أنه ليس لهم به علم؟! ولكن ل بد أن يسألوا عن هذه الشهادة ،وستكتب عليهم ،ويعاقبون
عليها.
حمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملئكة بالمشيئة ،وهي
وقوله تعالىَ { :وقَالُوا َلوْ شَاءَ الرّ ْ
حجة لم يزل المشركون يطرقونها ،وهي حجة باطلة في نفسها ،عقل وشرعا .فكل عاقل ل يقبل
الحتجاج بالقدر ،ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.
وأما شرعا ،فإن اللّه تعالى أبطل الحتجاج به ،ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله،
فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد ،فلم يبق لحد عليه حجة أصل ،ولهذا قال هنا { :مَا َلهُمْ
بِذَِلكَ مِنْ عِ ْلمٍ إِنْ ُهمْ إِلّا َيخْ ُرصُونَ } أي :يتخرصون تخرصا ل دليل عليه ،ويتخبطون خبط
عشواء.
نعم ،لهم شبهة من أوهى الشّبَه ،وهي تقليد آبائهم الضالين ،الذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم
دعوة الرسل ،ولهذا قال هناَ { :بلْ قَالُوا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّةٍ } أي :على دين وملة { وَإِنّا
عَلَى آثَارِ ِهمْ ُمهْتَدُونَ } أي :فل نتبع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم.
{ َوكَذَِلكَ مَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ َنذِيرٍ إِلّا قَالَ مُتْ َرفُوهَا } أي :منعموها ،وملها الذين
جدْنَا آبَاءَنَا عَلَى ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَى
أطغتهم الدنيا ،وغرتهم الموال ،واستكبروا على الحق { .إِنّا وَ َ
آثَارِ ِهمْ ُمقْتَدُونَ } أي :فهؤلء ليسوا ببدع منهم ،وليسوا بأول من قال هذه المقالة.
وهذا الحتجاج من هؤلء المشركين الضالين ،بتقليدهم لبائهم الضالين ،ليس المقصود به اتباع
الحق والهدى ،وإنما هو تعصب محض ،يراد به نصرة ما معهم من الباطل.
{ فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ } بتكذيبهم الحق ،وردهم إياه بهذه الشبهة الباطلة { .فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ
ا ْل ُمكَذّبِينَ } فليحذر هؤلء أن يستمروا على تكذيبهم ،فيصيبهم ما أصابهم.
{ { } 26-32وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ َوقَ ْومِهِ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْ ُبدُونَ * إِلّا الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ
جعُونَ * َبلْ مَ ّتعْتُ َهؤُلَاءِ وَآبَاءَ ُهمْ حَتّى جَاءَ ُهمُ
عقِبِهِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
جعََلهَا كَِلمَةً بَاقِيَةً فِي َ
سَ َيهْدِينِ * وَ َ
ق وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وََلمّا جَا َءهُمُ ا ْلحَقّ قَالُوا هَذَا سِحْ ٌر وَإِنّا ِبهِ كَافِرُونَ * َوقَالُوا َلوْلَا نُ ّزلَ َهذَا
حّالْ َ
سمْنَا بَيْ َن ُهمْ َمعِيشَ َتهُمْ فِي
حمَةَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ رَ ْ
جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * َأهُمْ َيقْ ِ
ا ْلقُرْآنُ عَلَى رَ ُ
حمَةُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ِممّا
ضهُمْ َب ْعضًا سُخْرِيّا وَ َر ْ
خذَ َب ْع ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لِيَتّ ِ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
ج َمعُونَ }
يَ ْ
يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السلم ،الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون ،وكلهم
يزعم أنه على طريقته ،فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال { :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ َوقَ ْومِهِ
} الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم:
{ إِنّنِي بَرَاءٌ ِممّا َتعْبُدُونَ } أي :مبغض له ،مجتنب معاد لهله { ،إِلّا الّذِي فَطَرَنِي } فإني أتوله،
وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به ،فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي ،فـ
{ سَ َيهْدِينِ } لما يصلح ديني وآخرتي.
جعََلهَا } أي :هذه الخصلة الحميدة ،التي هي أم الخصال وأساسها ،وهي إخلص العبادة للّه
{ َو َ
وحده ،والتبرّي من عبادة ما سواه.
فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلم حتى دخلهم الترف والطغيان.
فقال تعالىَ { :بلْ مَ ّت ْعتُ َهؤُلَا ِء وَآبَاءَ ُهمْ } بأنواع الشهوات ،حتى صارت هي غايتهم ونهاية
مقصودهم ،فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم ،حتى صارت صفات راسخة ،وعقائد متأصلة { .حَتّى
حقّ } الذي ل شك فيه ول مرية ول اشتباه { .وَرَسُولٌ مُبِينٌ } أي :بين الرسالة ،قامت
جَاءَهُمُ الْ َ
أدلة رسالته قياما باهرا ،بأخلقه ومعجزاته ،وبما جاء به ،وبما صدق به المرسلين ،وبنفس دعوته
صلى اللّه عليه وسلم.
حقّ } الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول أن يقبله وينقاد له { .قَالُوا هَذَا
{ وََلمّا جَاءَ ُهمُ الْ َ
سحْ ٌر وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ } وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة ،فإنهم لم يكتفوا بمجرد العراض عنه،
ِ
بل ول جحده ،فلم يرضوا حتى قدحوا به قدحا شنيعا ،وجعلوه بمنزلة السحر الباطل ،الذي ل يأتي
به إل أخبث الخلق وأعظمهم افتراء ،والذي حملهم على ذلك ،طغيانهم بما متعهم اللّه به وآباءهم.
جلٍ مِنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
{ َوقَالُوا } مقترحين على اللّه بعقولهم الفاسدةَ { :لوْلَا نُ ّزلَ َهذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَى َر ُ
عَظِيمٍ } أي :معظم عندهم ،مبجل من أهل مكة ،أو أهل الطائف ،كالوليد بن المغيرة ونحوه ،ممن
هو عندهم عظيم.
فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى ،وهو الذي يقسمها بين عباده ،فيبسط
الرزق على من يشاء ،ويضيقه على من يشاء ،بحسب حكمته ،فرحمته الدينية ،التي أعلها النبوة
والرسالة ،أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى ،فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
فعلم أن اقتراحهم ساقط لغ ،وأن التدبير للمور كلها ،دينيها ودنيويها ،بيد اللّه وحده .هذا إقناع
لهم ،من جهة غلطهم في القتراح ،الذي ليس في أيديهم منه شيء ،إن هو إل ظلم منهم ورد
للحق.
وهو قطب دائرة الكمال ،وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ،أل وهو رجل العالم على الطلق،
يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ،فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله؟!،
ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما ،أو شجرا ،أو
حجرا ،ل يضر ول ينفع ،ول يعطي ول يمنع ،وهو كل على موله ،يحتاج لمن يقوم بمصالحه،
فهل هذا إل من فعل السفهاء والمجانين؟
فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه
وسلم؟ ولكن الذين كفروا ل يعقلون.
وفي هذه الية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا
{ لِيَتّخِذَ َب ْعضُهُمْ َب ْعضًا سُخْرِيّا } أي :ليسخر بعضهم بعضا ،في العمال والحرف والصنائع.
فلو تساوى الناس في الغنى ،ولم يحتج بعضهم إلى بعض ،لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم.
وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الية الخرىُ { :قلْ
ج َمعُونَ }
حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُوا ُهوَ خَيْرٌ ِممّا يَ ْ
ضلِ اللّهِ وَبِرَ ْ
ِبفَ ْ
يخبر تعالى بأن الدنيا ل تسوى عنده شيئا ،وأنه لول لطفه ورحمته بعباده ،التي ل يقدم عليها
س ُقفًا مِنْ َفضّ ٍة َو َمعَارِجَ }
شيئا ،لوسّع الدنيا على الذين كفروا توسيعا عظيما ،ولجعل { لِبُيُو ِتهِمْ ُ
ظهَرُونَ } على سطوحهم.
أي :درجا من فضة { عَلَ ْيهَا َي ْ
أي :لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف ،وأعطاهم ما يشتهون ،ولكن منعه من ذلك رحمته
بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا ،ففي هذا دليل على
أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم ،وأن الدنيا ل تزن عند اللّه جناح
بعوضة ،وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ،منغصة ،مكدرة ،فانية ،وأن الخرة عند اللّه
تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ،لن نعيمها تام كامل من كل وجه ،وفي
الجنة ما تشتهيه النفس وتلذ العين ،وهم فيها خالدون ،فما أشد الفرق بين الدارين".
حمَنِ ُنقَ ّيضْ َلهُ شَ ْيطَانًا َف ُهوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ
{ َ { } 36-39ومَنْ َيعْشُ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ * حَتّى ِإذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ ُب ْعدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ
ل وَيَ ْ
عَنِ السّبِي ِ
ا ْلقَرِينُ * وَلَنْ يَ ْنفَ َعكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ }
يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ،لمن أعرض عن ذكره ،فقالَ { :ومَنْ َيعْشُ } أي :يعرض ويصد
حمَنِ } الذي هو القرآن العظيم ،الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده ،فمن
{ عَنْ ِذكْرِ الرّ ْ
قبلها ،فقد قبل خير المواهب ،وفاز بأعظم المطالب والرغائب ،ومن أعرض عنها وردها ،فقد
خاب وخسر خسارة ل يسعد بعدها أبدا ،وقيّض له الرحمن شيطانا مريدا ،يقارنه ويصاحبه،
ويعده ويمنيه ،ويؤزه إلى المعاصي أزا،
{ وَإِ ّنهُمْ لَ َيصُدّو َنهُمْ عَنِ السّبِيلِ } أي :الصراط المستقيم ،والدين القويم { .وَ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُمهْتَدُونَ }
بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له ،وإعراضهم عن الحق ،فاجتمع هذا وهذا.
فإن قيل :فهل لهذا من عذر ،من حيث إنه ظن أنه مهتد ،وليس كذلك؟
قيل :ل عذر لهذا وأمثاله ،الذين مصدر جهلهم العراض عن ذكر اللّه ،مع تمكنهم على الهتداء،
فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه ،ورغبوا في الباطل ،فالذنب ذنبهم ،والجرم جرمهم.
فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر اللّه في الدنيا ،مع قرينه ،وهو الضلل والغيّ ،وانقلب الحقائق.
وأما حاله ،إذا جاء ربه في الخرة ،فهو شر الحوال ،وهو :إظهار الندم والتحسر ،والحزن الذي
ل يجبر مصابه ،والتبرّي من قرينه ،ولهذا قال تعالى { :حَتّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَ ْيتَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ
ُبعْدَ ا ْلمَشْ ِرقَيْنِ فَبِئْسَ ا ْلقَرِينُ }
كما في قوله تعالى { :وَ َيوْمَ َي َعضّ الظّالِمُ عَلَى َيدَيْهِ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا يَا
خذُولًا }
خذْ فُلَانًا خَلِيلًا َلقَدْ َأضَلّنِي عَنِ ال ّذكْرِ َب ْعدَ إِذْ جَاءَنِي َوكَانَ الشّ ْيطَانُ لِلْإِنْسَانِ َ
وَيْلَتَى لَيْتَنِي َلمْ أَتّ ِ
وقوله تعالى { :وَلَنْ يَ ْن َفعَكُمُ الْ َيوْمَ إِذْ ظََلمْتُمْ أَ ّنكُمْ فِي ا ْلعَذَابِ مُشْتَ ِركُونَ } أي :ول ينفعكم يوم القيامة
اشتراككم في العذاب ،أنتم وقرناؤكم وأخلؤكم ،وذلك لنكم اشتركتم في الظلم ،فاشتركتم في
عقابه وعذابه.
ولن ينفعكم أيضا ،روح التسلي في المصيبة ،فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا ،واشترك فيها
المعاقبون ،هان عليهم بعض الهون ،وتسلّى بعضهم ببعض ،وأما مصيبة الخرة ،فإنها جمعت كل
عقاب ،ما فيه أدنى راحة ،حتى ول هذه الراحة .نسألك يا ربنا العافية ،وأن تريحنا برحمتك.
سمِعُ الصّمّ َأوْ َتهْدِي ا ْل ُع ْميَ َومَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَِإمّا نَذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا
{ َ { } 40-45أفَأَ ْنتَ تُ ْ
حيَ إِلَ ْيكَ إِ ّنكَ
سكْ بِالّذِي أُو ِ
مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ * َأوْ نُرِيَ ّنكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْيهِمْ ُمقْتَدِرُونَ * فَاسْ َتمْ ِ
س ْوفَ ُتسْأَلُونَ * وَاسَْألْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ
ك وَ َ
ك وَِل َق ْومِ َ
عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ * وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ َل َ
حمَنِ آِل َهةً ُيعْبَدُونَ }
جعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّ ْ
رُسُلِنَا َأ َ
يقول تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم ،مسليا له عن امتناع المكذبين عن الستجابة له ،وأنهم ل
سمِعُ الصّمّ } أي :الذين ل يسمعون { َأوْ
خير فيهم ،ول فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدىَ { :أفَأَ ْنتَ ُت ْ
َتهْدِي ا ْل ُع ْميَ } الذين ل يبصرون،
أو تهدي { مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي :بَيّنٌ واضح ،لعلمه بضلله ،ورضاه به.
فكما أن الصم ل يسمع الصوات ،والعمى ل يبصر ،والضال ضلل مبينا ل يهتدي ،فهؤلء قد
فسدت فطرهم وعقولهم ،بإعراضهم عن الذكر ،واستحدثوا عقائد فاسدة ،وصفات خبيثة ،تمنعهم
وتحول بينهم وبين الهدى ،وتوجب لهم الزدياد من الردى ،فهؤلء لم يبق إل عذابهم ونكالهم ،إما
في الدنيا ،أو في الخرة ،ولهذا قال تعالى:
{ فَِإمّا َنذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُمْ مُنْ َت ِقمُونَ } أي :فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب ،فاعلم
بخبرنا الصادق أنا منهم منتقمون.
حيَ إِلَ ْيكَ } فعل واتصافا ،بما يأمر بالتصاف به ودعوة إليه،
سكْ بِالّذِي أُو ِ
وأما أنت { فَاسْ َتمْ ِ
وحرصا على تنفيذه في نفسك وفي غيرك { .إِ ّنكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ } موصل إلى ال وإلى دار
كرامته ،وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق،
تكون بانيا على أصل أصيل ،إذا بنى غيرك على الشكوك والوهام ،والظلم والجور.
ن َومَلَئِهِ َفقَالَ إِنّي َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فدعاهم إلى القرار بربهم ،ونهاهم عن عبادة
عوْ َ
{ ِإلَى فِرْ َ
ما سواه.
أي :الية المتأخرة أعظم من السابقة { ،وََأخَذْنَا ُهمْ بِا ْلعَذَابِ } كالجراد ،والقمل ،والضفادع ،والدم،
جعُونَ } إلى السلم ،ويذعنون له ،ليزول شركهم وشرهم.
آيات مفصلتَ { .لعَّل ُهمْ يَرْ ِ
{ َوقَالُوا } عندما نزل عليهم العذاب { :يَا أَ ّيهَا السّاحِرُ } يعنون موسى عليه السلم ،وهذا ،إما من
باب التهكم به ،وإما أن يكون هذا الخطاب عندهم مدحا ،فتضرعوا إليه بأن خاطبوه بما يخاطبون
عهِدَ عِ ْن َدكَ
به من يزعمون أنهم علماؤهم ،وهم السحرة ،فقالوا { :يَا أَ ّيهَا السّاحِرُ ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ
} أي :بما خصك اللّه به ،وفضلك به ،من الفضائل والمناقب ،أن يكشف عنا العذاب { إِنّنَا
َل ُمهْتَدُونَ } إن كشف اللّه عنا ذلك.
شفْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِذَا هُمْ يَ ْنكُثُونَ } أي :لم يفوا بما قالوا ،بل غدروا ،واستمروا على
{ فََلمّا َك َ
ضفَا ِدعَ وَالدّمَ آيَاتٍ
كفرهم .وهذا كقوله تعالى { :فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمُ الطّوفَانَ وَا ْلجَرَا َد وَا ْل ُق ّملَ وَال ّ
ن وََلمّا َوقَعَ عَلَ ْيهِمُ الرّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا
ُمفَصّلَاتٍ فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا مُجْ ِرمِي َ
شفْنَا عَ ْنهُمُ الرّجْزَ
ك وَلَنُرْسِلَنّ َم َعكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فََلمّا كَ َ
ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ لَ ُن ْؤمِنَنّ َل َ
عهِدَ عِ ْن َدكَ لَئِنْ كَ َ
َ
جلٍ ُهمْ بَاِلغُوهُ إِذَا هُمْ يَ ْنكُثُونَ }
إِلَى أَ َ
عوْنُ فِي َق ْومِهِ قَالَ } مستعليا بباطله ،قد غره ملكه ،وأطغاه ماله وجنوده { :يَا َقوْمِ
{ وَنَادَى فِرْ َ
أَلَيْسَ لِي مُ ْلكُ ِمصْرَ } أي :ألست المالك لذلك ،المتصرف فيه { ،وَ َه ِذهِ الْأَ ْنهَارُ تَجْرِي مِنْ َتحْتِي }
أي :النهار المنسحبة من النيل ،في وسط القصور والبساتينَ { .أفَلَا تُ ْبصِرُونَ } هذا الملك الطويل
العريض ،وهذا من جهله البليغ ،حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته ،ولم يفخر بأوصاف حميدة ،ول
أفعال سديدة.
{ َأمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ َهذَا الّذِي ُهوَ َمهِينٌ } يعني -قبحه اللّه -بالمهين ،موسى بن عمران ،كليم
الرحمن ،الوجيه عند اللّه ،أي :أنا العزيز ،وهو الذليل المهان المحتقر ،فأينا خير؟ { و } مع هذا
فـ { ل َيكَادُ يُبِينُ } عما في ضميره بالكلم ،لنه ليس بفصيح اللسان ،وهذا ليس من العيوب في
شيء ،إذا كان يبين ما في قلبه ،ولو كان ثقيل عليه الكلم.
سوِ َرةٌ مِنْ ذَ َهبٍ } أي :فهل كان موسى بهذه الحالة ،أن يكون
ثم قال فرعون { :فََلوْلَا أُ ْل ِقيَ عَلَيْهِ َأ ْ
مزينا مجمل بالحلي والساور؟ { َأوْ جَاءَ َمعَهُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ُمقْتَرِنِينَ } يعاونونه على دعوته ،ويؤيدونه
على قوله.
خفّ َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي :استخف عقولهم بما أبدى لهم من هذه الشبه ،التي ل تسمن ول
{ فَاسْتَ َ
تغني من جوع ،ول حقيقة تحتها ،وليست دليل على حق ول على باطل ،ول تروج إل على
ضعفاء العقول.
فأي دليل يدل على أن فرعون محق ،لكون ملك مصر له ،وأنهاره تجري من تحته؟
وأي دليل يدل على بطلن ما جاء به موسى لقلة أتباعه ،وثقل لسانه ،وعدم تحلية ال له ،ولكنه
سقِينَ } فبسبب
لقي مل ل معقول عندهم ،فمهما قال اتبعوه ،من حق وباطل { .إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا فَا ِ
فسقهم ،قيض لهم فرعون ،يزين لهم الشرك والشر.
يقول تعالى { :وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْ َيمَ مَثَلًا } أي :نهي عن عبادته ،وجعلت عبادته بمنزلة عبادة
الصنام والندادِ { .إذَا َق ْو ُمكَ } المكذبون لك { مِنْهُ } أي :من أجل هذا المثل المضروب،
صدّونَ } أي :يستلجون في خصومتهم لك ،ويصيحون ،ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم،
{ َي ِ
وأفلجوا.
{ َوقَالُوا أَآِلهَتُنَا خَيْرٌ َأمْ ُهوَ } يعني :عيسى ،حيث نهي عن عبادة الجميع ،وشورك بينهم بالوعيد
جهَنّمَ أَنْتُمْ َلهَا
صبُ َ
ح َ
على من عبدهم ،ونزل أيضا قوله تعالى { :إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
وَارِدُونَ }
ووجه حجتهم الظالمة ،أنهم قالوا :قد تقرر عندنا وعندك يا محمد ،أن عيسى من عباد ال
المقربين ،الذين لهم العاقبة الحسنة ،فلم سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلول أن
حجتك باطلة لم تتناقض.
وهي -وللّه الحمد -من أضعف الشبه وأبطلها ،فإن تسوية ال بين النهي عن عبادة المسيح ،وبين
النهي عن عبادة الصنام ،لن العبادة حق للّه تعالى ،ل يستحقها أحد من الخلق ،ل الملئكة
المقربون ،ول النبياء المرسلون ،ول من سواهم من الخلق ،فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة
عيسى وغيره؟
وليس تفضيل عيسى عليه السلم ،وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا
الموضع ،وإنما هو كما قال تعالى { :إِنْ ُهوَ إِلّا عَبْدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَيْهِ }
أحدها :أن قوله { :إِ ّنكُ ْم َومَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } أن { ما } اسم لما ل يعقل ،ل يدخل فيه
المسيح ونحوه.
الثاني :أن الخطاب للمشركين ،الذين بمكة وما حولها ،وهم إنما يعبدون أصناما وأوثانا ول
يعبدون المسيح.
حسْنَى أُولَ ِئكَ عَ ْنهَا مُ ْبعَدُونَ } فل شك
الثالث :أن ال قال بعد هذه الية { :إِنّ الّذِينَ سَ َبقَتْ َلهُمْ مِنّا الْ ُ
أن عيسى وغيره من النبياء والولياء ،داخلون في هذه الية.
جعَلْنَا مِ ْن ُكمْ مَلَا ِئكَةً فِي الْأَ ْرضِ يَخُْلفُونَ } أي :لجعلنا بدلكم ملئكة
ثم قال تعالى { :وََلوْ نَشَاءُ لَ َ
يخلفونكم في الرض ،ويكونون في الرض حتى نرسل إليهم ملئكة من جنسهم ،وأما أنتم يا
معشر البشر ،فل تطيقون أن ترسل إليكم الملئكة ،فمن رحمة ال بكم ،أن أرسل إليكم رسل من
جنسكم ،تتمكنون من الخذ عنهم.
{ وَإِنّهُ َلعِلْمٌ لِلسّاعَةِ } أي :وإن عيسى عليه السلم ،لدليل على الساعة ،وأن القادر على إيجاده من
أم بل أب ،قادر على بعث الموتى من قبورهم ،أو وإن عيسى عليه السلم ،سينزل في آخر
الزمان ،ويكون نزوله علمة من علمات الساعة { فَلَا َتمْتَرُنّ ِبهَا } أي :ل تشكن في قيام الساعة،
فإن الشك فيها كفر { .وَاتّ ِبعُونِ } بامتثال ما أمرتكم ،واجتناب ما نهيتكمَ { ،هذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ }
موصل إلى ال عز وجل،
{ وَلَا َيصُدّ ّن ُكمُ الشّ ْيطَانُ } عما أمركم ال به ،فإن الشيطان { َل ُكمْ عَ ُدوّ } حريص على إغوائكم،
باذل جهده في ذلك.
{ وََلمّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به ،من إحياء الموتى،
ح ْكمَةِ }
وإبراء الكمه والبرص ،ونحو ذلك من اليات { .قَالَ } لبني إسرائيلَ { :قدْ جِئْ ُت ُكمْ بِالْ ِ
النبوة والعلم ،بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي { .وَلِأُبَيّنَ َلكُمْ َب ْعضَ الّذِي تَخْتَِلفُونَ فِيهِ } أي :أبين
لكم صوابه وجوابه ،فيزول عنكم بذلك اللبس ،فجاء عليه السلم مكمل ومتمما لشريعة موسى
عليه السلم ،ولحكام التوراة .وأتى ببعض التسهيلت الموجبة للنقياد له ،وقبول ما جاءهم به{ .
فَا ّتقُوا اللّ َه وَأَطِيعُونِ } أي :اعبدوا ال وحده ل شريك له ،وامتثلوا أمره ،واجتنبوا نهيه ،وآمنوا بي
وصدقوني وأطيعون.
{ إِنّ اللّهَ ُهوَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ } ففيه القرار بتوحيد الربوبية ،بأن ال هو
المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة ،والقرار بتوحيد العبودية ،بالمر بعبادة ال
وحده ل شريك له ،وإخبار عيسى عليه السلم أنه عبد من عباد ال ،ليس كما قال فيه النصارى:
"إنه ابن ال أو ثالث ثلثة" والخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم ،موصل إلى ال وإلى جنته.
فلما جاءهم عيسى عليه السلم بهذا { اخْ َتَلفَ الَْأحْزَابُ } المتحزبون على التكذيب { مِنْ بَيْ ِن ِهمْ } كل
قال بعيسى عليه السلم مقالة باطلة ،ورد ما جاء به ،إل من هدى ال من المؤمنين ،الذين شهدوا
له بالرسالة ،وصدقوا بكل ما جاء به ،وقالوا :إنه عبد ال ورسوله.
{ َفوَ ْيلٌ لِلّذِينَ ظََلمُوا من عذاب يوم أليم } أي :ما أشد حزن الظالمين وما أعظم خسارهم في ذلك
اليوم".
ضهُمْ
شعُرُونَ * الْأَخِلّاءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
{ َ { } 66-73هلْ يَنْظُرُونَ إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْتَةً وَهُمْ لَا َي ْ
خ ْوفٌ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْ َم وَلَا أَنْتُمْ َتحْزَنُونَ * الّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا
لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ إِلّا ا ْلمُ ّتقِينَ * يَا عِبَادِ لَا َ
ج ُكمْ تُحْبَرُونَ * ُيطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبصِحَافٍ مِنْ َذ َهبٍ وََأكْوَابٍ
َوكَانُوا مُسِْلمِينَ * ا ْدخُلُوا الْجَنّةَ أَنْتُ ْم وَأَ ْزوَا ُ
س وَتَلَذّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ * وَتِ ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْ ُتمْ
َوفِيهَا مَا َتشْ َتهِيهِ الْأَ ْنفُ ُ
َت ْعمَلُونَ * َلكُمْ فِيهَا فَا ِكهَةٌ كَثِي َرةٌ مِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ }
شعُرُونَ } أي:
عةَ أَنْ تَأْتِ َيهُمْ َبغْ َت ًة وَهُمْ لَا َي ْ
يقول تعالى :ما ينتظر المكذبون ،وهل يتوقعون { ِإلّا السّا َ
فإذا جاءت ،فل تسأل عن أحوال من كذب بها ،واستهزأ بمن جاء بها.
ضهُمْ
وإن الخلء يومئذ ،أي :يوم القيامة ،المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية اللّهَ { ،ب ْع ُ
لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ } لن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير اللّه ،فانقلبت يوم القيامة عداوة { .إِلّا ا ْلمُ ّتقِينَ }
للشرك والمعاصي ،فإن محبتهم تدوم وتتصل ،بدوام من كانت المحبة لجله ،ثم ذكر ثواب
المتقين ،وأن اللّه تعالى يناديهم يوم القيامة بما يسر قلوبهم ،ويذهب عنهم كل آفة وشر ،فيقول:
خ ْوفٌ عَلَ ْي ُكمُ الْ َيوْ َم وَلَا أَنْ ُتمْ تَحْزَنُونَ }
{ يَا عِبَادِ لَا َ
أي :ل خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من المور ،ول حزن يصيبكم فيما مضى منها ،وإذا انتفى
المكروه من كل وجه ،ثبت المحبوب المطلوب.
{ الّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وكانوا مسلمين } أي :وصفهم اليمان بآيات اللّه ،وذلك ليشمل التصديق بها،
سِلمِينَ } للّه منقادين له
وما ل يتم التصديق إل به ،من العلم بمعناها والعمل بمقتضاهاَ { .وكَانُوا مُ ْ
في جميع أحوالهم ،فجمعوا بين التصاف بعمل الظاهر والباطن.
{ ُيطَافُ عَلَ ْيهِمْ ِبصِحَافٍ مِنْ ذَ َهبٍ وََأكْوَابٍ } أي :تدور عليهم خدامهم ،من الولدان المخلدين
بطعامهم ،بأحسن الواني وأفخرها ،وهي صحاف الذهب وشرابهم ،بألطف الواني ،وهي
الكواب التي ل عرى لها ،وهي من أصفى الواني ،من فضة أعظم من صفاء القوارير.
{ َوفِيهَا } أي :الجنة { مَا تَشْ َتهِيهِ الْأَ ْنفُسُ وَتَلَذّ الْأَعْيُنُ } وهذا لفظ جامع ،يأتي على كل نعيم وفرح،
وقرة عين ،وسرور قلب ،فكل ما اشتهته النفوس ،من مطاعم ،ومشارب ،وملبس ،ومناكح ،ولذته
العيون ،من مناظر حسنة ،وأشجار محدقة ،ونعم مونقة ،ومبان مزخرفة ،فإنه حاصل فيها ،معد
لهلها ،على أكمل الوجوه وأفضلها ،كما قال تعالىَ { :ل ُهمْ فِيهَا فَا ِكهَ ٌة وََلهُمْ مَا يَدّعُونَ } { وَأَنْ ُتمْ
فِيهَا خَاِلدُونَ } وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة ،وهو الخلد الدائم فيها ،الذي يتضمن دوام نعيمها
وزيادته ،وعدم انقطاعه.
{ وَتِ ْلكَ ا ْلجَنّةُ } الموصوفة بأكمل الصفات ،هي { الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ } أي :أورثكم
اللّه إياها بأعمالكم ،وجعلها من فضله جزاء لها ،وأودع فيها من رحمته ما أودع.
[ { َلكُمْ فِيهَا فَا ِكهَةٌ كَثِي َرةٌ } كما في الية الخرى { :فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ َز ْوجَانِ } { مِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ }
أي :مما تتخيرون من تلك الفواكه الشهية ،والثمار اللذيذة تأكلون] ولما ذكر نعيم الجنة ،عقبه بذكر
عذاب جهنم ،فقال:
و { لَا ُيفَتّرُ عَ ْنهُمْ } العذاب ساعة ،بإزالته ،ول بتهوين عذابه { ،وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي :آيسون
من كل خير ،غير راجين للفرج ،وذلك أنهم ينادون ربهم فيقولون { :رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا
خسَئُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ } وهذا العذاب العظيم ،بما قدمت أيديهم ،وبما ظلموا به
فَإِنّا ظَاِلمُونَ قَالَ ا ْ
أنفسهم.واللّه لم يظلمهم ولم يعاقبهم بل ذنب ول جرم.
{ وَنَا َدوْا } وهم في النار ،لعلهم يحصل لهم استراحة { ،يَا مَاِلكُ لِ َيقْضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ } أي :ليمتنا
فنستريح ،فإننا في غم شديد ،وعذاب غليظ ،ل صبر لنا عليه ول جلد .فـ { قَالَ } لهم مالك
خازن النار -حين طلبوا منه أن يدعو اللّه لهم أن يقضي عليهم { :-إِ ّن ُكمْ مَاكِثُونَ } أي :مقيمون
فيها ،ل تخرجون عنها أبدا ،فلم يحصل لهم ما قصدوه ،بل أجابهم بنقيض قصدهم ،وزادهم غما
إلى غمهم.
حقّ } الذي يوجب عليكم أن تتبعوه فلو تبعتموه ،لفزتم
ثم وبخهم بما فعلوا فقالَ { :لقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْ َ
وسعدتم { ،وََلكِنّ َأكْثَ َركُمْ لِ ْلحَقّ كَارِهُونَ } فلذلك شقيتم شقاوة ل سعادة بعدها.
سلُنَا
جوَاهُمْ بَلَى وَرُ ُ
س َمعُ سِرّ ُه ْم وَنَ ْ
حسَبُونَ أَنّا لَا نَ ْ
{ { } 79-80أَمْ أَبْ َرمُوا َأمْرًا فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ * َأمْ يَ ْ
لَدَ ْيهِمْ َيكْتُبُونَ }
يقول تعالى :أم أبرم المكذبون بالحق المعاندون له { َأمْرًا } أي :كادوا كيدا ،ومكروا للحق ولمن
جاء بالحق ،ليدحضوه ،بما موهوا من الباطل المزخرف المزوق { ،فَإِنّا مُبْ ِرمُونَ } أي :محكمون
أمرا ،ومدبرون تدبيرا يعلو تدبيرهم ،وينقضه ويبطله ،وهو ما قيضه اللّه من السباب والدلة
طلِ فَ َي ْد َمغُهُ }
حقّ عَلَى الْبَا ِ
لحقاق الحق وإبطال الباطل ،كما قال تعالىَ { :بلْ َنقْ ِذفُ بِالْ َ
فرد اللّه عليهم بقوله { :بَلَى } أي :إنا نعلم سرهم ونجواهم { ،وَرُسُلُنَا } الملئكة الكرام { ،لَدَ ْي ِهمْ
َيكْتُبُونَ } كل ما عملوه ،وسيحفظ ذلك عليهم ،حتى يردوا القيامة ،فيجدوا ما عملوا حاضرا ،ول
يظلم ربك أحدا.
أي :قل يا أيها الرسول الكريم ،للذين جعلوا للّه ولدا ،وهو الواحد الحد الفرد الصمد ،الذي لم
حمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا َأ ّولُ ا ْلعَابِدِينَ } لذلك
يتخذ صاحبة ول ولدا ،ولم يكن له كفوا أحدُ { .قلْ إِنْ كَانَ لِلرّ ْ
الولد ،لنه جزء من والده ،وأنا أول الخلق انقيادا للمور المحبوبة للّه ،ولكني أول المنكرين لذلك،
وأشدهم له نفيا ،فعلم بذلك بطلنه ،فهذا احتجاج عظيم عند من عرف أحوال الرسل ،وأنه إذا علم
أنهم أكمل الخلق ،وأن كل خير فهم أول الناس سبقا إليه وتكميل له ،وكل شر فهم أول الناس تركا
له وإنكارا له وبعدا منه ،فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق ،لكان محمد بن عبد اللّه،
أفضل الرسل أول من عبده ،ولم يسبقه إليه المشركون.
ويحتمل أن معنى الية :لو كان للرحمن ولد ،فأنا أول العابدين للّه ،ومن عبادتي للّه ،إثبات ما
أثبته ،ونفي ما نفاه ،فهذا من العبادة القولية العتقادية ،ويلزم من هذا ،لو كان حقا ،لكنت أول
مثبت له ،فعلم بذلك بطلن دعوى المشركين وفسادها ،عقل ونقل.
{ َفذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا } أي :يخوضوا بالباطل ،ويلعبوا بالمحال ،فعلومهم ضارة غير نافعة،
وهي الخوض والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق وما جاءت به الرسل ،وأعمالهم لعب
وسفاهة ،ل تزكي النفوس ،ول تثمر المعارف.
ولهذا توعدهم بما أمامهم من يوم القيامة فقال { :حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ } فسيعلمون فيه
ماذا حصلوا ،وما حصلوا عليه من الشقاء الدائم ،والعذاب المستمر.
يخبر تعالى ،أنه وحده المألوه المعبود في السماوات والرض فأهل السماوات كلهم ،والمؤمنون
من أهل الرض ،يعبدونه ،ويعظمونه ،ويخضعون لجلله ،ويفتقرون لكماله.
فهو تعالى المألوه المعبود ،الذي يألهه الخلئق كلهم ،طائعين مختارين ،وكارهين .وهذه كقوله
تعالى { :وهو اللّه في السماوات وفي الرض } أي :ألوهيته ومحبته فيهما .وأما هو فهو فوق
حكِيمُ } الذي أحكم ما خلقه ،وأتقن
عرشه ،بائن من خلقه ،متوحد بجلله ،متمجد بكماله { ،وَ ُهوَ الْ َ
ما شرعه ،فما خلق شيئا إل لحكمة ،ول شرع شيئا إل لحكمة ،وحكمه القدري والشرعي
والجزائي مشتمل على الحكمة { .ا ْلعَلِيمُ } بكل شيء ،يعلم السر وأخفى ،ول يعزب عنه مثقال ذرة
في العالم العلوي والسفلي ،ول أصغر منها ول أكبر.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم ،وكثر خيره،
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
{ وَتَبَا َركَ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
واتسعت صفاته ،وعظم ملكه .ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والرض وما بينهما ،وسعة علمه،
وأنه بكل شيء عليم ،حتى إنه تعالى ،انفرد بعلم كثير من الغيوب ،التي لم يطلع عليها أحد من
الخلق ،ل نبي مرسل ،ول ملك مقرب ،ولهذا قال { :وَعِنْ َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ } قدم الظرف ،ليفيد
الحصر ،أي :ل يعلم متى تجيء الساعة إل هو ،ومن تمام ملكه وسعته ،أنه مالك الدنيا والخرة،
جعُونَ } أي :في الخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل ،ومن تمام ملكه ،أنه ل
ولهذا قال { :وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
يملك أحد من خلقه من المر شيئا ،ول يقدم على الشفاعة عنده أحد إل بإذنه.
ثم قال تعالى { :وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خَلَقهم لَ َيقُولُنّ اللّهُ } أي :ولئن سألت المشركين عن توحيد
الربوبية ،ومن هو الخالق ،لقروا أنه اللّه وحده ل شريك له.
فإقرارهم بتوحيد الربوبية ،يلزمهم به القرار بتوحيد اللوهية ،وهو من أكبر الدلة على بطلن
الشرك.
عةِ } أي:
{ َوقِيلِهِ يَا َربّ إِنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ لَا ُي ْؤمِنُونَ } هذا معطوف على قوله { :وَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ السّا َ
وعنده علم قيله ،أي :الرسول صلى اللّه عليه وسلم ،شاكيا لربه تكذيب قومه ،متحزنا على ذلك،
متحسرا على عدم إيمانهم ،فاللّه تعالى عالم بهذه الحال ،قادر على معاجلتهم بالعقوبة ،ولكنه تعالى
صفَحْ عَ ْنهُمْ َوقُلْ سَلَامٌ }
حليم ،يمهل العباد ويستأني بهم ،لعلهم يتوبون ويرجعون ،ولهذا قال { :فَا ْ
أي :اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية ،واعف عنهم ،ول يبدر منك لهم إل السلم
الذي يقابل به أولو اللباب والبصائر الجاهلين ،كما قال تعالى عن عباده الصالحين{ :وإذا
خاطبهم الجاهلون } أي :خطابا بمقتضى جهلهم { قالوا سلما } فامتثل صلى اللّه عليه وسلم ،لمر
ربه ،وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الذى ،بالعفو والصفح ،ولم يقابلهم عليه إل
بالحسان إليهم والخطاب الجميل.
فصلوات اللّه وسلمه على من خصه اللّه بالخلق العظيم ،الذي فضل به أهل الرض والسماء،
وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء.
حمَنِ الرّحِيمِ حم * وَا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ إِنّا كُنّا
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-16بِ ْ
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ إِنّهُ ُهوَ
حكِيمٍ * َأمْرًا مِنْ عِ ْندِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * رَ ْ
مُنْذِرِينَ * فِيهَا ُيفْرَقُ ُكلّ َأمْرٍ َ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ * َربّ ال ّ
ال ّ
سمَاءُ ِبدُخَانٍ مُبِينٍ *
شكّ يَ ْلعَبُونَ * فَارْ َت ِقبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَا ِئكُمُ الَْأوّلِينَ * َبلْ هُمْ فِي َ
شفْ عَنّا ا ْلعَذَابَ إِنّا ُم ْؤمِنُونَ * أَنّى َل ُهمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَا َءهُمْ
َيغْشَى النّاسَ َهذَا عَذَابٌ َألِيمٌ * رَبّنَا ا ْك ِ
شفُوا ا ْلعَذَابِ قَلِيلًا إِ ّنكُمْ عَائِدُونَ * َيوْمَ
رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمّ َتوَّلوْا عَنْ ُه َوقَالُوا ُمعَلّمٌ َمجْنُونٌ * إِنّا كَا ِ
طشَةَ ا ْلكُبْرَى إِنّا مُنْ َت ِقمُونَ }
نَبْطِشُ الْبَ ْ
هذا قسم بالقرآن على القرآن ،فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله { فِي لَيْلَةٍ
مُبَا َركَةٍ } أي :كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ،فأنزل أفضل
الكلم بأفضل الليالي واليام على أفضل النام ،بلغة العرب الكرام لينذر به قوما عمتهم الجهالة
وغلبت عليهم الشقاوة فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير
الدنيوي والخير الخروي ولهذا قال { :إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيهَا } أي :في تلك الليل الفاضلة التي نزل
حكِيمٍ } أي :يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم ال به،
فيها القرآن { ُيفْرَقُ ُكلّ َأمْرٍ َ
وهذه الكتابة والفرقان ،الذي يكون في ليلة القدر أحد الكتابات التي تكتب وتميز فتطابق الكتاب
الول الذي كتب ال به مقادير الخلئق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم ،ثم إن ال تعالى قد
وكل ملئكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه ،ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل
به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله ،ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في
السنة ،وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإتقان حفظه واعتنائه تعالى بخلقه.
{ َأمْرًا مِنْ عِنْدِنَا } أي :هذا المر الحكيم أمر صادر من عندنا.
حمَةً
{ إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } للرسل ومنزلين للكتب والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقدارهَ { ،ر ْ
مِنْ رَ ّبكَ } أي :إن إرسال الرسل وإنزال الكتب التي أفضلها القرآن رحمة من رب العباد بالعباد،
فما رحم ال عباده برحمة أجل من هدايتهم بالكتب والرسل ،وكل خير ينالونه في الدنيا والخرة
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ } أي :يسمع جميع الصوات ويعلم جميع المور
فإنه من أجل ذلك وسببه { ،إِنّهُ ُهوَ ال ّ
الظاهرة والباطنة وقد علم تعالى ضرورة العباد إلى رسله وكتبه فرحمهم بذلك ومن عليهم فله
تعالى الحمد والمنة والحسان.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } أي :خالق ذلك ومدبره والمتصرف فيه بما شاء { .إِنْ كُنْتُمْ
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
{ َربّ ال ّ
مُوقِنِينَ } أي :عالمين بذلك علما مفيدا لليقين فاعلموا أن الرب للمخلوقات هو إلهها الحق ولهذا
قال { :لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } أي :ل معبود إل وجههُ { ،يحْيِي وَ ُيمِيتُ } أي :هو المتصرف وحده
بالحياء والماتة وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر { ،رَ ّبكُمْ
وَ َربّ آبَا ِئكُمُ الَْأوّلِينَ } أي :رب الولين والخرين مربيهم بالنعم الدافع عنهم النقم.
فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته بما يوجب العلم التام ويدفع الشك أخبر أن الكافرين مع هذا
شكّ يَ ْلعَبُونَ } أي :منغمرون في الشكوك والشبهات غافلون عما خلقوا له قد اشتغلوا
البيان { فِي َ
باللعب الباطل ،الذي ل يجدي عليهم إل الضرر.
واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان ،فقيل :إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم حين تقرب
النار من المجرمين في يوم القيامة وأن ال توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم
ذلك اليوم.
ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم وترهيبهم بذلك
اليوم وعذابه وتسلية الرسول والمؤمنين بالنتظار بمن آذاهم.
ويؤيده أيضا أنه قال في هذه الية { :أَنّى َلهُمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَاءَهُمْ َرسُولٌ مُبِينٌ } وهذا يقال يوم
القيامة للكفار حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا فيقال :قد ذهب وقت الرجوع.
وقيل :إن المراد بذلك ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من اليمان واستكبروا على الحق فدعا
عليهم النبي صلى ال عليه وسلم فقال { :اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف } فأرسل ال
عليهم الجوع العظيم حتى أكلوا الميتات والعظام وصاروا يرون الذي بين السماء والرض كهيئة
الدخان وليس به ،وذلك من شدة الجوع.
ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول ال صلى ال عليه وسلم وسألوه أن يدعو ال لهم أن
شفُوا ا ْل َعذَابِ قَلِيلًا إِ ّنكُمْ
يكشفه ال عنهم فدعا ربه فكشفه ال عنهم ،وعلى هذا فيكون قوله { :إِنّا كَا ِ
عَائِدُونَ } إخبار بأن ال سيصرفه عنكم وتوعد لهم أن يعودوا إلى الستكبار والتكذيب وإخبار
بوقوعه فوقع وأن ال سيعاقبهم بالبطشة الكبرى ،قالوا :وهي وقعة بدر وفي هذا القول نظر
ظاهر.
وقيل :إن المراد بذلك أن ذلك من أشراط الساعة وأنه يكون في آخر الزمان دخان يأخذ بأنفاس
الناس ويصيب المؤمنين منهم كهيئة الدخان ،والقول هو الول ،وفي الية احتمال أن المراد
شفْ عَنّا
سمَاءُ بِ ُدخَانٍ مُبِينٍ * َيغْشَى النّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبّنَا اكْ ِ
بقوله { :فَارْ َتقِبْ َيوْمَ تَأْتِي ال ّ
ا ْلعَذَابَ إِنّا ُم ْؤمِنُونَ * أَنّى َلهُمُ ال ّذكْرَى َوقَدْ جَا َءهُمْ َرسُولٌ مُبِينٌ * ُثمّ َتوَّلوْا عَ ْن ُه َوقَالُوا ُمعَلّمٌ مَجْنُونٌ
} أن هذا كله يكون يوم القيامة.
بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة وهذا الذي يظهر عندي ويترجح وال أعلم.
إلى آخر القصة لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم ذكر أن لهم
سلفا من المكذبين ،فذكر قصتهم مع موسى وما أحل ال بهم ليرتدع هؤلء المكذبون عن ما هم
عوْنَ } أي :ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا موسى بن
عليه فقال { :وََلقَدْ فَتَنّا قَبَْلهُمْ َقوْمَ فِرْ َ
عمران إليهم الرسول الكريم الذي فيه من الكرم ومكارم الخلق ما ليس في غيره.
{ أَنْ أَدّوا إَِليّ عِبَادَ اللّهِ } أي :قال لفرعون وملئه :أدوا إلي عباد ال ،يعني بهم :بني إسرائيل أي:
أرسلوهم وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في
زمانهم.
وأنتم قد ظلمتموهم واستعبدتموهم بغير حق فأرسلوهم ليعبدوا ربهم { ،إِنّي َلكُمْ َرسُولٌ َأمِينٌ } أي:
رسول من رب العالمين أمين على ما أرسلني به ل أكتمكم منه شيئا ول أزيد فيه ول أنقص وهذا
يوجب تمام النقياد له.
{ وَأَنْ لَا َتعْلُوا عَلَى اللّهِ } بالستكبار عن عبادته والعلو على عباد ال { ،إِنّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ }
أي :بحجة بينة ظاهرة وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات والدلة القاهرات ،فكذبوه وهموا
جمُونِ } أي :تقتلوني أشر القتلت
بقتله فلجأ بال من شرهم فقال { :وَإِنّي عُ ْذتُ بِرَبّي وَرَ ّبكُمْ أَنْ تَ ْر ُ
بالرجم بالحجارة.
{ وَإِنْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي :لكم ثلث مراتب :اليمان بي وهو مقصودي منكم فإن لم
تحصل منكم هذه المرتبة فاعتزلوني ل علي ول لي ،فاكفوني شركم .فلم تحصل منهم المرتبة
الولى ول الثانية بل لم يزالو متمردين عاتين على ال محاربين لنبيه موسى عليه السلم غير
ممكنين له من قومه بني إسرائيلَ { .فدَعَا رَبّهُ أَنّ َهؤُلَاءِ َقوْمٌ ُمجْ ِرمُونَ } أي :قد أجرموا جرما
يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السلم بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال ،كما قال عن نفسه عليه
السلم { َربّ إِنّي ِلمَا أَنْزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ } فأمره ال أن يسري بعباده ليل وأخبره أن
فرعون وقومه سيتبعونه { .وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ َر ْهوًا } أي :بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني
إسرائيل كما أمره ال ثم تبعهم فرعون فأمر ال موسى أن يضرب البحر فضربه فصار اثنى
عشر طريقا وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة فسلكه موسى وقومه.
فلما خرجوا منه أمره ال أن يتركه رهوا أي :بحاله ليسلكه فرعون وجنوده { إِ ّن ُهمْ جُ ْندٌ ُمغْ َرقُونَ }
فلما تكامل قوم موسى خارجين منه وقوم فرعون داخلين فيه أمره ال تعالى أن يلتطم عليهم
فغرقوا عن آخرهم وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا وأورثه ال بني إسرائيل الذين كانوا
ت وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ َومَقَامٍ كَرِيمٍ * وَ َن ْعمَةٍ كَانُوا
مستعبدين لهم ولهذا قالَ { :كمْ تَ َركُوا مِنْ جَنّا ٍ
ك وََأوْرَثْنَاهَا } أي :هذة النعمة المذكورة { َق ْومًا آخَرِينَ } وفي الية الخرى:
فِيهَا فَا ِكهِينَ * كَذَِل َ
ك وََأوْرَثْنَاهَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ }
{ َكذَِل َ
سمَا ُء وَالْأَ ْرضُ } أي :لما أتلفهم ال وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والرض أي:
{ َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم ،بل كل استبشر بهلكهم وتلفهم حتى السماء والرض لنهم
ما خلفوا من آثارهم إل ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين.
{ َومَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } أي :ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال .ثم امتن تعالى على بني
عوْنَ } إذ
إسرائيل فقال { :وََلقَدْ نَجّيْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مِنَ ا ْلعَذَابِ ا ْل ُمهِينِ } الذي كانوا فيه { مِنْ فِرْ َ
يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم { .إِنّهُ كَانَ عَالِيًا } أي :مستكبرا في الرض بغير الحق { مِنَ
ا ْلمُسْ ِرفِينَ } المتجاوزين لحدود ال المتجرئين على محارمه.
{ وََلقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ } أي :اصطفيناهم وانتقيناهم { عَلَى عِ ْلمٍ } منا بهم وباستحقاقهم لذلك الفضل {
عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي :عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى ال بأمة محمد صلى ال عليه
وسلم ففضلوا العالمين كلهم وجعلهم ال خير أمة أخرجت للناس وامتن عليهم بما لم يمتن به على
غيرهم.
{ وَآتَيْنَاهُمْ } أي :بني إسرائيل { مِنَ الْآيَاتِ } الباهرة والمعجزات الظاهرة { .مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ }
أي :إحسان كثير ظاهر منا عليهم وحجة عليهم على صحة ما جاءهم به نبيهم موسى عليه
السلم.
{ { } 34-37إِنّ َهؤُلَاءِ لَ َيقُولُونَ * إِ نْ ِهيَ ِإلّا َموْتَتُنَا الْأُولَى َومَا نَحْنُ ِبمُ ْنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا
إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * أَ ُهمْ خَيْرٌ َأمْ َقوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ أَهَْلكْنَاهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُوا مُجْ ِرمِينَ }
يخبر تعالى { إِنّ َهؤُلَاءِ } المكذبين يقولون مستبعدين للبعث والنشور { :إِنْ ِهيَ إِلّا َموْتَتُنَا الْأُولَى
َومَا َنحْنُ ِبمُنْشَرِينَ } أي :ما هي إل الحياة الدنيا فل بعث ول نشور ول جنة ول نار .ثم قالوا
-متجرئين على ربهم معجزين له { :-فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ} وهذا من اقتراح الجهلة
المعاندين في مكان سحيق ،فأي ملزمة بين صدق الرسول صلى ال عليه وسلم وأنه متوقف على
التيان بآبائهم؟ فإن اليات قد قامت على صدق ما جاءهم به وتواترت تواترا عظيما من كل
وجه.
قال تعالىَ { :أهُمْ خَيْرٌ } أي :هؤلء المخاطبون { أَمْ َقوْمُ تُبّ ٍع وَالّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ أَهَْلكْنَا ُهمْ إِ ّنهُمْ كَانُوا
مُجْ ِرمِينَ } فإنهم ليسوا خيرا منهم وقد اشتركوا في الجرام فليتوقعوا من الهلك ما أصاب
إخوانهم المجرمين.
ق وََلكِنّ
ت وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا لَاعِبِينَ * مَا خََلقْنَا ُهمَا إِلّا بِا ْلحَ ّ
سمَاوَا ِ
{ َ { } 38-42ومَا خََلقْنَا ال ّ
َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ *
ج َمعِينَ * َيوْمَ لَا ُيغْنِي َموْلًى عَنْ َموْلًى شَيْئًا وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ * إِلّا مَنْ
صلِ مِيقَا ُتهُمْ َأ ْ
إِنّ َيوْمَ ا ْل َف ْ
حمَ اللّهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }
رَ ِ
يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام حكمته وأنه ما خلق السماوات والرض لعبا ول لهوا أو سدى
من غير فائدة وأنه ما خلقهما إل بالحق أي :نفس خلقهما بالحق وخلقهما مشتمل على الحق ،وأنه
أوجدهما ليعبدوه وحده ل شريك له وليأمر العباد وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم { .وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا
َيعَْلمُونَ } فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والرض.
{ إِنّ َيوْمَ ا ْل َفصْلِ } وهو يوم القيامة الذي يفصل ال به بين الولين والخرين وبين كل مختلفين
ج َمعِينَ }
{ مِيقَا ُتهُمْ } أي :الخلئق { َأ ْ
كلهم سيجمعهم ال فيه ويحضرهم ويحضر أعمالهم ويكون الجزاء عليها ول ينفع مولى عن مولى
شيئا ل قريب عن قريبه ول صديق عن صديقه { ،وَلَا هُمْ يُ ْنصَرُونَ } أي :يمنعون من عذاب ال
عز وجل لن أحدا من الخلق ل يملك من المر شيئا.
حمَ اللّهُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ } فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة ال تعالى التي تسبب
{ ِإلّا مَنْ رَ ِ
إليها وسعى لها سعيها في الدنيا .ثم قال تعالى:
حمِيمِ *
طعَامُ الْأَثِيمِ * كَا ْل ُم ْهلِ َيغْلِي فِي الْ ُبطُونِ * َكغَ ْليِ ا ْل َ
شجَ َرةَ ال ّزقّومِ * َ
{ { } 43-50إِنّ َ
حمِيمِ * ذُقْ إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ
سهِ مِنْ عَذَابِ ا ْل َ
جحِيمِ * ثُ ّم صُبّوا َفوْقَ رَأْ ِ
سوَاءِ الْ َ
خذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى َ
ُ
ا ْلكَرِيمُ * إِنّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ َتمْتَرُونَ }
لما ذكر يوم القيامة وأنه يفصل بين عباده فيه ذكر افتراقهم إلى فريقين :فريق في الجنة ،وفريق
شجَ َرةَ ال ّزقّومِ } شر الشجار
في السعير وهم :الثمون بعمل الكفر والمعاصي وأن طعامهم { َ
وأفظعها وأن طعمها { كَا ْل ُم ْهلِ } أي :كالصديد المنتن خبيث الريح والطعم شديد الحرارة يغلي في
حمِيمِ } ويقال للمعذب { :ذُقْ } هذا العذاب الليم والعقاب الوخيم { إِ ّنكَ أَ ْنتَ
بطونهم { َكغَ ْليِ الْ َ
ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ } أي :بزعمك أنك عزيز ستمتنع من عذاب ال وأنك كريم على ال ل يصيبك
بعذاب ،فاليوم تبين لك أنك أنت الذليل المهان الخسيس { .إِنّ هَذَا } العذاب العظيم { مَا كُنْ ُتمْ بِهِ
َتمْتَرُونَ } أي :تشكون فالن صار عندكم حق اليقين.
{ { } 51-59إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي َمقَامٍ َأمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْ َبسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ
ك وَ َزوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ * َيدْعُونَ فِيهَا ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ا ْل َموْتَ
مُ َتقَابِلِينَ * َكذَِل َ
إِلّا ا ْل َموْتَةَ الْأُولَى َو َوقَاهُمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ * َفضْلًا مِنْ رَ ّبكَ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ * فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ
بِلِسَا ِنكَ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ * فَارْ َتقِبْ إِ ّنهُمْ مُرْتَقِبُونَ }
هذا جزاء المتقين ل الذين اتقوا سخطه وعذابه بتركهم المعاصي وفعلهم الطاعات ،فلما انتفى
السخط عنهم والعذاب ثبت لهم الرضا من ال والثواب العظيم في ظل ظليل من كثرة الشجار
والفواكه وعيون سارحة تجري من تحتهم النهار يفجرونها تفجيرا في جنات النعيم.
فأضاف الجنات إلى النعيم لن كل ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور ،كامل من كل وجه ما فيه
منغص ول مكدر بوجه من الوجوه.
ولباسهم من الحرير الخضر من السندس والستبرق أي :غليظ الحرير ورقيقه مما تشتهيه
أنفسهم { .مُ َتقَابِلِينَ } في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة والطمأنينة والمحبة والعشرة الحسنة
والداب المستحسنة.
{ َكذَِلكَ } النعيم التام والسرور الكامل { وَ َزوّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عين } أي :نساء جميلت من جمالهن
وحسنهن أنه يحار الطرف في حسنهن وينبهر العقل بجمالهن وينخلب اللب لكمالهن { عَيْنٍ } أي:
ضخام العين حسانها.
{ َيدْعُونَ فِيهَا } أي :الجنة { ِب ُكلّ فَا ِكهَةٍ } مما له اسم في الدنيا ومما ل يوجد له اسم ول نظير في
الدنيا ،فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها أحضر لهم في الحال من غير تعب ول كلفة،
{ آمِنِينَ } من انقطاع ذلك وآمنين من مضرته وآمنين من كل مكدر ،وآمنين من الخروج منها
والموت ولهذا قال { :لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ا ْل َموْتَ إِلّا ا ْل َموْتَةَ الْأُولَى } أي :ليس فيها موت بالكلية ،ولو
كان فيها موت يستثنى لم يستثن الموتة الولى التي هي الموتة في الدنيا فتم لهم كل محبوب
مطلوبَ { ،و َوقَاهُمْ عَذَابَ ا ْلجَحِيمِ َفضْلًا مِنْ رَ ّبكَ } أي :حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم من
فضل ال عليهم وكرمه فإنه تعالى هو الذي وفقهم للعمال الصالحة التي بها نالوا خير الخرة
وأعطاهم أيضا ما لم تبلغه أعمالهم { ،ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ } وأي فوز أعظم من نيل رضوان
ال وجنته والسلمة من عذابه وسخطه؟
{ فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ } أي :القرآن { بِلِسَا ِنكَ } أي :سهلناه بلسانك الذي هو أفصح اللسنة على الطلق
وأجلها فتيسر به لفظه وتيسر معناهَ { .لعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } ما فيه نفعهم فيفعلونه وما فيه ضررهم
فيتركونه.
{ فَارْ َت ِقبْ } أي :انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر } إِ ّن ُهمْ مُرْ َتقِبُونَ ما يحل بهم من العذاب
وفرق بين الرتقابين :رسول ال وأتباعه يرتقبون الخير في الدينا والخرة ،وضدهم يرتقبون
الشر في الدنيا والخرة.
يخبر تعالى خبرا يتضمن المر بتعظيم القرآن والعتناء به وأنه { تَنْزِيلُ } { مِنَ اللّهِ } المألوه
المعبود لما اتصف به من صفات الكمال وانفرد به من النعم الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة.
ثم أيد ذلك بما ذكره من اليات الفقية والنفسية من خلق السماوات والرض وما بث فيهما من
الدواب وما أودع فيهما من المنافع وما أنزل ال من الماء الذي يحيي به ال البلد والعباد.
فهذه كلها آيات بينات وأدلة واضحات على صدق هذا القرآن العظيم وصحة ما اشتمل عليه من
الحكم والحكام ،ودالت أيضا على ما ل تعالى من الكمال وعلى البعث والنشور.
ثم قسم تعالى الناس بالنسبة إلى النتفاع بآياته وعدمه إلى قسمين:
قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون بال وملئكته وكتبه ورسله
واليوم الخر إيمانا تاما وصل بهم إلى درجة اليقين ،فزكى منهم العقول وازدادت به معارفهم
وألبابهم وعلومهم.
وقسم يسمع آيات ال سماعا تقوم به الحجة عليه ثم يعرض عنها ويستكبر ،كأنه ما سمعها لنها لم
تزك قلبه ول طهرته بل بسبب استكباره عنها ازداد طغيانه.
وأنه إذا علم من آيات ال شيئا اتخذها هزوا فتوعده ال تعالى بالويل فقال:
وأنه { ل ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مَا كَسَبُوا } من الموال { وَلَا مَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ } يستنصرون
بهم فخذلوهم أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا.
فلما بين آياته القرآنية والعيانية وأن الناس فيها على قسمين أخبر أن القرآن المشتمل على هذه
المطالب العالية أنه هدى فقالَ { :هذَا هُدًى } وهذا وصف عام لجميع القرآن فإنه يهدي إلى معرفة
ال تعالى بصفاته المقدسة وأفعاله الحميدة ،ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائه وأعدائه ،وأوصافهم،
ويهدي إلى العمال الصالحة ويدعو إليها ويبين العمال السيئة وينهى عنها ،ويهدي إلى بيان
الجزاء على العمال ويبين الجزاء الدنيوي والخروي ،فالمهتدون اهتدوا به فأفلحوا وسعدوا،
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ } الواضحة القاطعة التي يكفر بها إل من اشتد ظلمه وتضاعف
عذَابٌ مِنْ رِجْزٍ َألِيمٌ }
طغيانهَ { ،لهُمْ َ
{ { } 12-13اللّهُ الّذِي سَخّرَ َل ُكمُ الْبَحْرَ لِتَجْ ِريَ ا ْلفُ ْلكُ فِيهِ بَِأمْ ِر ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ
جمِيعًا مِ ْنهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ َ
شكُرُونَ * وَسَخّرَ َلكُمْ مَا فِي ال ّ
تَ ْ
يَ َت َفكّرُونَ }
يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره،
شكُرُونَ } ال تعالى فإنكم إذا
{ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب { ،وََلعَّلكُمْ تَ ْ
شكرتموه زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيل.
جمِيعًا مِنْهُ } أي :من فضله وإحسانه ،وهذا شامل
ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ َ
سمَاوَا ِ
سخّرَ َلكُمْ مَا فِي ال ّ
{ وَ َ
لجرام السماوات والرض ولما أودع ال فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات
وأنواع الحيوانات وأصناف الشجار والثمرات وأجناس المعادن وغير ذلك مما هو معد لمصالح
بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته ،فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته
وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ولهذا قال { :إِنّ فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ } وجملة
ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة ال وكمال قدرته ،وما فيها من الحكام
والتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه ،وما فيها من السعة والعظمة
والكثرة دال على سعة ملكه وسلطانه ،وما فيها من التخصيصات والشياء المتضادات دليل على
أنه الفعال لما يريد ،وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته،
وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره ،وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي ل
تنبغي العبادة والذل والمحبة إل له وأن رسله صادقون فيما جاءوا به ،فهذه أدلة عقلية واضحة ل
تقبل ريبا ول شكا.
{ ُ { } 14-15قلْ لِلّذِينَ آمَنُوا َيغْفِرُوا لِلّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْ ِزيَ َق ْومًا ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ *
جعُونَ }
ع ِملَ صَاِلحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ثُمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُرْ َ
مَنْ َ
يأمر تعالى عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به ،الذين ل يرجون أيام ال
أي :ل يرجون ثوابه ول يخافون وقائعه في العاصين فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا
يكسبون .فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم ،ثوابا جزيل.
وهم إن استمروا على تكذيبهم فل يحل بكم ما حل بهم من العذاب الشديد والخزي ولهذا قال:
جعُونَ }
ل صَالِحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ تُ ْر َ
ع ِم َ
{ مَنْ َ
أي :ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس ،وآتيناهم { الكتاب } أي:
التوراة والنجيل { والحكم } بين الناس { والنبوة } التي امتازوا بها وصارت النبوة في ذرية
إبراهيم عليه السلم ،أكثرهم من بني إسرائيل { ،وَرَ َزقْنَا ُهمْ مِنَ الطّيّبَاتِ } من المآكل والمشارب
والملبس وإنزال المن والسلوى عليهم { َو َفضّلْنَاهُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ } أي :على الخلق بهذه النعم
ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه المة فإنهم خير أمة أخرجت للناس.
والسياق يدل على أن المراد غير هذه المة فإن ال يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل
وميزهم عن غيرهم ،وأيضا فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة
وغيرها من النعوت قد حصلت كلها لهذه المة ،وزادت عليهم هذه المة فضائل كثيرة فهذه
الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها ،فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة ،ومحمد
صلى ال عليه وسلم مصدق لجميع المرسلين.
{ وَآتَيْنَاهُمْ } أي :آتينا بني إسرائيل { بَيّنَاتٍ } أي :دللت تبين الحق من الباطل { مِنَ الَْأمْرِ }
القدري الذي أوصله ال إليهم.
وتلك اليات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه السلم ،فهذه النعم التي أنعم ال بها
على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه وأن يجتمعوا على الحق الذي
بينه ال لهم ،ولكن انعكس المر فعاملوها بعكس ما يجب.
وافترقوا فيما أمروا بالجتماع به ولهذا قالَ { :فمَا اخْتََلفُوا ِإلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ } أي:
الموجب لعدم الختلف ،وإنما حملهم على الختلف البغي من بعضهم على بعض والظلم.
{ إِنّ رَ ّبكَ َيقْضِي بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ } فيميز المحق من المبطل والذي حمله
على الختلف الهوى أو غيره.
جعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الَْأمْرِ فَاتّ ِب ْعهَا وَلَا تَتّبِعْ أَ ْهوَاءَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ * إِ ّنهُمْ
{ { } 18-19ثُمّ َ
ض وَاللّ ُه وَِليّ ا ْلمُ ّتقِينَ }
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْع ٍ
لَنْ ُيغْنُوا عَ ْنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَإِنّ الظّاِلمِينَ َب ْع ُ
أي :ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي
{ فَاتّ ِب ْعهَا } فإن في اتباعها السعادة البدية والصلح والفلح { ،وَلَا تَتّ ِبعْ أَ ْهوَاءَ الّذِينَ لَا َيعَْلمُونَ }
أي :الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ول ماشية خلفه ،وهم كل من خالف شريعة الرسول
صلى ال عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين ل يعلمون.
{ إِ ّن ُهمْ لَنْ ُيغْنُوا عَ ْنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } أي :ل ينفعونك عند ال فيحصلوا لك الخير ويدفعوا عنك
الشر إن اتبعتهم على أهوائهم ،ول تصلح أن توافقهم وتواليهم فإنك وإياهم متباينون ،وبعضهم ولي
لبعض { واللّ ُه وَِليّ ا ْلمُ ّتقِينَ } يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته.
حمَةٌ ِلقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
س وَهُدًى وَرَ ْ
{ { } 20هَذَا َبصَائِرُ لِلنّا ِ
أي { :هَذَا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { َبصَائِرَ لِلنّاسِ } أي :يحصل به التبصرة في جميع
المور للناس فيحصل به النتفاع للمؤمنين ،والهدى والرحمة.
{ ِل َقوْمٍ يُوقِنُونَ } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه ويحصل به الخير
والسرور والسعادة في الدنيا والخرة وهي الرحمة .فتزكو به نفوسهم وتزداد به عقولهم ويزيد به
إيمانهم ويقينهم ،وتقوم به الحجة على من أصر وعاند.
سوَاءً
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ
جعََلهُمْ كَالّذِينَ آمَنُوا وَ َ
سبَ الّذِينَ اجْتَ َرحُوا السّيّئَاتِ أَنْ َن ْ
{ َ { } 21أمْ حَ ِ
ح ُكمُونَ }
مَحْيَا ُه ْم َو َممَا ُتهُمْ سَاءَ مَا َي ْ
أي :خلق ال السماوات والرض بالحكمة وليعبد وحده ل شريك له ،ثم يجازي بعد ذلك من
أمرهم بعبادته وأنعم عليم بالنعم الظاهرة والباطنة هل شكروا ال تعالى وقاموا بالمأمور؟ أم كفروا
فاستحقوا جزاء الكفور؟
ج َعلَ
س ْمعِ ِه َوقَلْبِ ِه وَ َ
خذَ إَِلهَهُ َهوَاهُ وََأضَلّهُ اللّهُ عَلَى عِ ْل ٍم وَخَتَمَ عَلَى َ
{ َ { } 23-26أفَرَأَ ْيتَ مَنِ اتّ َ
غشَا َوةً َفمَنْ َي ْهدِيهِ مِنْ َبعْدِ اللّهِ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ * َوقَالُوا مَا ِهيَ ِإلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ
عَلَى َبصَ ِرهِ ِ
علَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ
وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا إِلّا الدّهْ ُر َومَا َلهُمْ ِبذَِلكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ ِإلّا يَظُنّونَ * وَإِذَا تُتْلَى َ
ج َم ُعكُمْ إِلَى
حجّ َتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ * ُقلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يَ ْ
مَا كَانَ ُ
َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِي ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ }
{ َوقَالُوا } أي :منكرو البعث { مَا ِهيَ ِإلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَا ِإلّا الدّهْرُ } أي :إن
هي إل عادات وجري على رسوم الليل والنهار يموت أناس ويحيا أناس وما مات فليس براجع
إلى ال ول مجازى بعمله.
وقولهم هذا صادر عن غير علم { إِنْ هُمْ إِلّا يَظُنّونَ } فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين من
غير دليل دلهم على ذلك ول برهان.
إن هي إل ظنون واستبعادات خالية عن الحقيقة ولهذا قال تعالى { :وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَا
حجّ َتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وهذا جراءة منهم على ال ،حيث اقترحوا
كَانَ ُ
هذا القتراح وزعموا أن صدق رسل ال متوقف على التيان بآبائهم ،وأنهم لو جاءوهم بكل آية
لم يؤمنوا إل إن تبعتهم الرسل على ما قالوا ،وهم كذبة فيما قالوا وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل
ج َم ُعكُمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَا رَ ْيبَ فِي ِه وََلكِنّ
ل بيان الحق ،قال تعالىُ { :قلِ اللّهُ ُيحْيِيكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يَ ْ
َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ } وإل فلو وصل العلم باليوم الخر إلى قلوبهم ،لعملوا له أعمال وتهيئوا له.
يخبر تعالى عن سعة ملكه وانفراده بالتصرف والتدبير في جميع الوقات وأنه { يوم َتقُومُ السّاعَةُ
} ويجمع الخلئق لموقف القيامة يحصل الخسار على المبطلين الذين أتوا بالباطل ليدحضوا به
الحق ،وكانت أعمالهم باطلة لنها متعلقه بالباطل فبطلت في يوم القيامة ،اليوم الذي تستبين به
الحقائق ،واضمحلت عنهم وفاتهم الثواب وحصلوا على أليم العقاب.
ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد
فقال { :وَتَرَى } أيها الرائي لذلك اليوم { ُكلّ ُأمّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم
الملك الرحمن.
{ ُكلّ ُأمّةٍ ُتدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا } أي :إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند ال ،وهل قاموا بها
فيحصل لهم الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة
موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك ،وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت
به ،هذا أحد الحتمالت في الية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه ،ويحتمل أن
المراد بقولهُ { :كلّ ُأمّةٍ ُتدْعَى إِلَى كِتَا ِبهَا } أي :إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر
ل صَالِحًا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَاءَ َفعَلَ ْيهَا }
ع ِم َ
وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى { :مَنْ َ
{ وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا } بال فيقال لهم توبيخا وتقريعاَ { :أفََلمْ َتكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ } وقد دلتكم على
ما فيه صلحكم ونهتكم عما فيه ضرركم وهي أكبر نعمة وصلت إليكم لو وفقتم لها ،ولكن
استكبرتم عنها وأعرضتم وكفرتم بها فجنيتم أكبر جناية وأجرمتم أشد الجرم فاليوم تجزون ما كنتم
تعملون.
ق وَالسّاعَةُ لَا رَ ْيبَ فِيهَا قُلْتُمْ } منكرين لذلك { :مَا
حّن وَعْدَ اللّهِ َ
ويوبخون أيضا بقوله { :وَِإذَا قِيلَ إِ ّ
نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِنْ َنظُنّ إِلّا ظَنّا َومَا نَحْنُ ِب ُمسْتَ ْيقِنِينَ }
فهذه حالهم في الدنيا وحال البعث النكار له ورد قول من جاء به قال تعالى { :وَبَدَا َلهُمْ سَيّئَاتُ مَا
عمِلُوا } أي :وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم { ،وَحَاقَ ِبهِمْ } أي :نزل { مَا كَانُوا بِهِ
َ
يَسْ َتهْزِئُونَ } أي :نزل بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به وبوقوعه وبمن جاء به.
{ َوقِيلَ الْ َيوْمَ نَ ْنسَاكُمْ } أي :نترككم في العذاب { َكمَا نَسِيتُمْ ِلقَاءَ َي ْو ِمكُمْ هَذَا } فإن الجزاء من جنس
العمل { َومَ ْأوَاكُمُ النّارُ } أي :هي مقركم ومصيركمَ { ،ومَا َلكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ينصرونكم من
عذاب ال ويدفعون عنكم عقابه.
{ ذَِلكُمْ } الذي حصل لكم من العذاب { بـ } سبب { أنكم اتّخَذْ ُتمْ آيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا } مع أنها موجبة
للجد والجتهاد وتلقيها بالسرور والستبشار والفرح.
{ وَغَرّ ْتكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } بزخارفها ولذاتها وشهواتها فاطمأننتم إليها ،وعملتم لها وتركتم العمل
للدار الباقية.
{ فَالْ َيوْمَ لَا يُخْ َرجُونَ مِ ْنهَا وَلَا هُمْ ُيسْ َتعْتَبُونَ } أي :ول يمهلون ول يردون إلى الدنيا ليعملوا
صالحا.
فالحمد فيه الثناء على ال بصفات الكمال ومحبته تعالى وإكرامه ،والكبرياء فيها عظمته وجلله
والعبادة مبنية على ركنين ،محبة ال والذل له ،وهما ناشئان عن العلم بمحامد ال وجلله
وكبريائه.
هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له ،وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الهتداء بنوره
والقبال على تدبر آياته واستخراج كنوزه.
ولما بين إنزال كتابه المتضمن للمر والنهي ذكر خلقه السماوات والرض فجمع بين الخلق
ت َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ
سمَاوَا ٍ
ق وَالَْأمْرُ } كما قال تعالى { :اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
والمر { َألَا لَهُ ا ْلخَ ْل ُ
يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ } وكما قال تعالى { :يُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ بِالرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ
حقّ } فال تعالى هو الذي خلق
ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ
سمَاوَا ِ
أَنْ أَنْذِرُوا أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا أَنَا فَا ّتقُونِ خََلقَ ال ّ
المكلفين وخلق مساكنهم وسخر لهم ما في السماوات وما في الرض ثم أرسل إليهم رسله وأنزل
عليهم كتبه وأمرهم ونهاهم وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال ل دار إقامة ل يرحل
عنها أهلها ،وأنهم سينتقلون منها إلى دار القامة والقرار وموطن الخلود والدوام ،وإنما أعمالهم
التي عملوها في هذه الدار سيجدون ثوابها في تلك الدار كامل موفرا.
وأقام تعالى الدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ليكون أدعى
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا
لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب ،ولهذا قال هنا { :مَا خََلقْنَا ال ّ
حقّ } أي :ل عبثا ول سدى بل ليعرف العباد عظمة خالقهما ويستدلوا على كماله
بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ
ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء وأن خلقهما
سمّى }
جلٍ مُ َ
وبقاءهما مقدر إلى { أَ َ
فلما أخبر بذلك -وهو أصدق القائلين وأقام الدليل وأنار السبيل أخبر -مع ذلك -أن طائفة من
عمّا أُنْذِرُوا
الخلق قد أبوا إل إعراضا عن الحق ،وصدوفا عن دعوة الرسل فقال { :وَالّذِينَ َكفَرُوا َ
ُمعْ ِرضُونَ } وأما الذين آمنوا فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم ،وتلقوها بالقبول والتسليم
وقابلوها بالنقياد والتعظيم ففازوا بكل خير ،واندفع عنهم كل شر.
{ ُ { } 4-6قلْ أَرَأَيْتُمْ مَا َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا مِنَ الْأَ ْرضِ أَمْ َل ُهمْ شِ ْركٌ فِي
ضلّ ِممّنْ َيدْعُو
سمَاوَاتِ اِئْتُونِي ِبكِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا َأوْ أَثَا َرةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ * َومَنْ َأ َ
ال ّ
مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لَا يَسْ َتجِيبُ لَهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَ ُهمْ عَنْ دُعَا ِئ ِهمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُوا
عدَا ًء َوكَانُوا ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }
َلهُمْ أَ ْ
أيُ { :قلْ } لهؤلء الذين أشركوا بال أوثانا وأندادا ل تملك نفعا ول ضرا ول موتا ول حياة ول
نشورا ،قل لهم -مبينا عجز أوثانهم وأنها ل تستحق شيئا من العبادة { :-أَرُونِي مَاذَا خََلقُوا مِنَ
سمَاوَاتِ } هل خلقوا من أجرام السماوات والرض شيئا؟ هل خلقوا
الْأَ ْرضِ أَمْ َلهُمْ شِ ْركٌ فِي ال ّ
جبال؟ هل أجروا أنهارا؟ هل نشروا حيوانا؟ هل أنبتوا أشجارا؟ هل كان منهم معاونة على خلق
شيء من ذلك؟
ل شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضل عن غيرهم ،فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من
سوى ال فعبادته باطلة.
ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال { :اِئْتُونِي ِبكِتَابٍ مِنْ قَ ْبلِ هَذَا } الكتاب يدعو إلى الشرك { َأوْ أَثَا َرةٍ
مِنْ عِلْمٍ } موروث عن الرسل يأمر بذلك .من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل
بدليل يدل على ذلك ،بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك
به ،وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى { :وََلقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ َرسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ } وكل رسول قال لقومه { :اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ } فعلم أن جدال
المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ول دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة
وآراء كاسدة وعقول فاسدة .يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر
في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الخرة؟
ضلّ ِممّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ َلهُ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ } أي:
ولهذا قال تعالىَ { :ومَنْ َأ َ
مدة مقامه في الدنيا ل ينتفع به بمثقال ذرة { وَ ُهمْ عَنْ دُعَا ِئ ِهمْ غَافِلُونَ } ل يسمعون منهم دعاء ول
يجيبون لهم نداء هذا حالهم في الدنيا ،ويوم القيامة يكفرون بشركهم.
{ وَِإذَا حُشرَ النّاسُ كَانُوا َلهُمْ أَعْدَاءً } يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض { َوكَانُوا
ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }
{ َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي :افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه فليس هو من عند ال.
{ ُقلْ } لهم { :إِنِ افْتَرَيْتُهُ } فال علي قادر وبما تفيضون فيه عالم ،فكيف لم يعاقبني على افترائي
الذي زعمتم؟
شهِيدًا بَيْنِي
فهل { َتمِْلكُونَ لِي مِنَ اللّهِ شَيْئًا } إن أرادني ال بضر أو أرادني برحمة { َكفَى ِبهِ َ
وَبَيْ َنكُمْ } فلو كنت متقول عليه لخذ مني باليمين ولعاقبني عقابا يراه كل أحد لن هذا أعظم أنواع
الفتراء لو كنت متقول ،ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته فقال:
{ وَ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } أي :فتوبوا إليه وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم فيوفقكم
للخير ويثيبكم جزيل الجر.
سلِ } أي :لست بأول رسول جاءكم حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا
{ ُقلْ مَا كُ ْنتُ بِدْعًا مِنَ الرّ ُ
دعوتي فقد تقدم من الرسل والنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم فلي شيء تنكرون رسالتي؟
{ َومَا َأدْرِي مَا ُيفْ َعلُ بِي وَلَا ِب ُكمْ } أي :لست إل بشرا ليس بيدي من المر شيء وال تعالى هو
المتصرف بي وبكم الحاكم علي وعليكم ،ولست التي بالشيء من عنديَ { ،ومَا أَنَا إِلّا َنذِيرٌ مُبِينٌ
} فإن قبلتم رسالتي وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والخرة ،وإن رددتم ذلك علي
فحسابكم على ال وقد أنذرتكم ومن أنذر فقد أعذر.
أي :قال الكفار بالحق معاندين له ورادين لدعوتهَ { :لوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَ َبقُونَا إِلَ ْيهِ } أي :ما سبقنا
إليه المؤمنون أي :لكنا أول مبادر به وسابق إليه وهذا من البهرجة في مكان ،فأي دليل يدل على
أن علمة الحق سبق المكذبين به للمؤمنين؟ هل هم أزكى نفوسا؟ أم أكمل عقول؟ أم الهدى
بأيديهم؟ ولكن هذا الكلم الذي صدر منهم يعزون به أنفسهم بمنزلة من لم يقدر على الشيء ثم
طفق يذمه ولهذا قال { :وَِإذْ لَمْ َيهْ َتدُوا بِهِ فَسَ َيقُولُونَ هَذَا ِإ ْفكٌ َقدِيمٌ } أي :هذا السبب الذي دعاهم
إليه أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن وفاتهم أعظم المواهب وأجل الرغائب قدحوا فيه بأنه كذب وهو
الحق الذي ل شك فيه ول امتراء يعتريه.
الذي قد وافق الكتب السماوية خصوصا أكملها وأفضلها بعد القرآن وهي التوراة التي أنزلها ال
حمَةً } أي :يقتدي بها بنو إسرائيل ويهتدون بها فيحصل لهم خير الدنيا
على موسى { ِإمَامًا وَرَ ْ
والخرة { .وَهَذَا } القرآن { كِتَابٌ ُمصَدّقٌ } للكتب السابقة شهد بصدقها وصدّقها بموافقته لها
وجعله ال { لِسَانًا عَرَبِيّا } ليسهل تناوله ويتيسر تذكره { ،لِيُ ْنذِرَ الّذِينَ ظََلمُوا } أنفسهم بالكفر
والفسوق والعصيان إن استمروا على ظلمهم بالعذاب الوبيل ويبشر المحسنين في عبادة الخالق
وفي نفع المخلوقين بالثواب الجزيل في الدنيا والخرة ويذكر العمال التي ينذر عنها والعمال
التي يبشر بها.
صحَابُ الْجَنّةِ } أي :أهلها الملزمون لها الذين ل يبغون عنها حول ول يريدون بها
{ أُولَ ِئكَ َأ ْ
بدل { ،خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } من اليمان بال المقتضى للعمال الصالحة التي
استقاموا عليها.
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ
ضعَتْهُ كُرْهًا وَ َ
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْهًا َو َو َ
{ َ { } 15-16ووَصّيْنَا الْإِ ْنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا َ
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ
شهْرًا حَتّى ِإذَا بَلَغَ أَشُ ّد ُه وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَنَةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ
ثَلَاثُونَ َ
ل صَالِحًا تَ ْرضَا ُه وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ ِإلَ ْيكَ وَإِنّي مِنَ
ع َم َ
ي وَأَنْ أَ ْ
ي وَعَلَى وَالِ َد ّ
عََل ّ
عدَ
عمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيّئَا ِتهِمْ فِي َأصْحَابِ ا ْلجَنّ ِة وَ ْ
حسَنَ مَا َ
ا ْلمُسِْلمِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَ ّبلُ عَ ْنهُمْ أَ ْ
الصّ ْدقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى الولد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم
بالقول اللطيف والكلم اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الحسان.
ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته الم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت
حملها ثم مشقة ولدتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة ،وليست المذكورات مدة
يسيرة ساعة أو ساعتين،
ل صَالِحًا تَ ْرضَاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده ،فهذا العمل الذي
ع َم َ
{ وَأَنْ أَ ْ
يرضاه ال ويقبله ويثيب عليه { .وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي } لما دعا لنفسه بالصلح دعا لذريته أن
يصلح ال أحوالهم ،وذكر أن صلحهم يعود نفعه على والديهم لقوله { :وََأصْلِحْ لِي }
{ إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْيكَ } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { وَإِنّي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }
{ { } 17-19وَالّذِي قَالَ ِلوَالِدَ ْيهِ ُأفّ َل ُكمَا أَ َتعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ َوقَدْ خََلتِ ا ْلقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ ُهمَا
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَ َيقُولُ مَا هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ * أُولَ ِئكَ الّذِينَ حَقّ
يَسْ َتغِيثَانِ اللّ َه وَيَْلكَ آمِنْ إِ ّ
ن وَالْإِنْسِ إِ ّنهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَِل ُكلّ دَ َرجَاتٌ ِممّا
عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ فِي ُأمَمٍ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْل ِهمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
عمَاَل ُه ْم وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ }
عمِلُوا وَلِيُ َوفّ َيهُمْ أَ ْ
َ
لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ذكر حالة العاق وأنها شر الحالت فقال { :وَالّذِي قَالَ
ِلوَالِدَيْهِ } إذ دعواه إلى اليمان بال واليوم الخر وخوفاه الجزاء.
وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته البدية وفلحه
السرمدي فقابلهما بأقبح مقابلة فقالُ { :أفّ َل ُكمَا } أي :تبا لكما ولما جئتما به.
ثم ذكر وجه استبعاده وإنكاره لذلك فقال { :أَ َتعِدَانِنِي أَنْ ُأخْرَجَ } من قبري إلى يوم القيامة { َوقَدْ
خََلتِ ا ْلقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } على التكذيب وسلفوا على الكفر وهم الئمة المقتدى بهم لكل كفور
وجهول ومعاند؟ { وَ ُهمَا } أي :والداه { يَسْ َتغِيثَانِ اللّهَ } عليه ويقولن له { :وَيَْلكَ آمِنْ } أي:
يبذلن غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشد السعي حتى إنهما -من حرصهما عليه -أنهما
يستغيثان ال له استغاثة الغريق ويسألنه سؤال الشريق ويعذلن ولدهما ويتوجعان له ويبينان له
حقّ } ثم يقيمان عليه من الدلة ما أمكنهما ،وولدهما ل يزداد إل
الحق فيقولن { :إِنّ وَعْدَ اللّهِ َ
عتوا ونفورا واستكبارا عن الحق وقدحا فيه { ،فَ َيقُولُ مَا هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي :إل منقول
من كتب المتقدمين ليس من عند ال ول أوحاه ال إلى رسوله ،وكل أحد يعلم أن محمدا صلى ال
عليه وسلم أمي ل يكتب ول يقرأ ول تعلم من أحد ،فمن أين يتعلمه؟ وأنى للخلق أن يأتوا بمثل
هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟.
{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ } بهذه الحالة الذميمة { حَقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولُ } أي :حقت عليهم كلمة العذاب { فِي }
ن وَالْإِنْسِ } على الكفر والتكذيب فسيدخل هؤلء في غمارهم
جملة { ُأ َممٍ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهِمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
وسيغرقون في تيارهم.
{ إِ ّن ُهمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } والخسران فوات رأس مال النسان ،وإذا فقد رأس ماله فالرباح من باب
أولى وأحرى ،فهم قد فاتهم اليمان ولم يحصلوا على شيء من النعيم ول سلموا من عذاب
الجحيم.
عمِلُوا } أي :كل على حسب مرتبته من الخير
{ وَِل ُكلّ } من أهل الخير وأهل الشر { دَرَجَاتٌ ِممّا َ
عمَاَلهُ ْم وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ
والشر ومنازلهم في الدار الخرة على قدر أعمالهم ولهذا قال { :وَلِ ُي َوفّ َيهُمْ أَ ْ
} بأن ل يزاد في سيئاتهم ول ينقص من حسناتهم.
{ { } 20وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ َأذْهَبْتُمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا
سقُونَ }
ق وَ ِبمَا كُنْتُمْ َتفْ ُ
حّعذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْ ُتمْ تَسْ َتكْبِرُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
فَالْ َيوْمَ تُجْ َزوْنَ َ
يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون فيقال لهمَ { :أذْهَبْ ُتمْ
طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا } حيث اطمأننتم إلى الدنيا ،واغتررتم بلذاتها ورضيتم بشهواتها وألهتكم
طيباتها عن السعي لخرتكم وتمتعتم تمتع النعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم { ،فَالْ َيوْمَ
تُجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ } أي :العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على ال غير
الحق ،أي :تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى ال وإلى حكمه وأنتم كذبة في ذلك { ،وَ ِبمَا
سقُونَ } أي :تتكبرون عن طاعته ،فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على
كُنْتُمْ َتفْ ُ
ال بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق والستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة.
أي { :وَا ْذكُرْ } بالثناء الجميل { أَخَا عَادٍ } وهو هود عليه السلم ،حيث كان من الرسل الكرام
الذين فضلهم ال تعالى بالدعوة إلى دينه وإرشاد الخلق إليه.
{ َوقَدْ خََلتِ النّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ } فلم يكن بدعا منهم ول مخالفا لهم ،قائل لهم { :أَلّا
عظِيمٍ }
َتعْبُدُوا إِلّا اللّهَ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ َ
فأمرهم بعبادة ال الجامعة لكل قول سديد وعمل حميد ،ونهاهم عن الشرك والتنديد وخوفهم -إن
لم يطيعوه -العذاب الشديد فلم تفد فيهم تلك الدعوة.
{ قَالُوا َأجِئْتَنَا لِتَ ْأ ِفكَنَا عَنْ آِلهَتِنَا } أي :ليس لك من القصد ول معك من الحق إل أنك حسدتنا على
آلهتنا فأردت أن تصرفنا عنها.
{ فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } وهذا غاية الجهل والعناد.
{ قَالَ إِ ّنمَا ا ْلعِ ْلمُ عِنْدَ اللّهِ } فهو الذي بيده أزمة المور ومقاليدها وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء.
جهَلُونَ } فلذلك
{ وَأُبَّل ُغكُمْ مَا أُرْسِ ْلتُ بِهِ } أي :ليس علي إل البلغ المبين { ،وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا تَ ْ
صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة ،فأرسل ال عليهم العذاب العظيم وهو الريح التي
دمرتهم وأهلكتهم.
ولهذا قال { :فََلمّا رََأ ْوهُ } أي :العذاب { عَا ِرضًا مُسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِت ِهمْ } أي :معترضا كالسحاب قد أقبل
على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها.
{ قَالُوا } مستبشرينَ { :هذَا عَا ِرضٌ ُممْطِرُنَا } أي :هذا السحاب سيمطرنا.
قال تعالىَ { :بلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْ ُتمْ بِهِ } أي :هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم { :فَأْتِنَا ِبمَا
عذَابٌ أَلِيمٌ }
َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } { رِيحٌ فِيهَا َ
فسلطها ال عليهم { سبع ليالي وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل
خاوية } [ { بَِأمْرِ رَ ّبهَا } أي :بإذنه ومشيئته] { .فََأصْ َبحُوا لَا يُرَى إِلّا مَسَاكِ ُنهُمْ } قد تلفت مواشيهم
وأموالهم وأنفسهم { .كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل َقوْمَ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } بسبب جرمهم وظلمهم.
هذا مع أن ال تعالى قد أدر عليهم النعم العظيمة فلم يشكروه ول ذكروه ولهذا قال { :وََلقَدْ َمكّنّا ُهمْ
فِيمَا إِنْ َمكّنّاكُمْ فِيهِ } أي :مكناهم في الرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها
وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر ،ويتعظ فيه المهتدي ،أي :ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا
هؤلء المخاطبون أي :فل تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب ال
شيئا ،بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم ول أولدهم ول جنودهم من ال شيئا.
س ْمعًا وَأَ ْبصَارًا وََأفْئِ َدةً } أي :ل قصور في أسماعهم ول أبصارهم ول أذهانهم حتى
جعَلْنَا َلهُمْ َ
{ َو َ
يقال إنهم تركوا الحق جهل منهم وعدم تمكن من العلم به ول خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد
شيْءٍ } ل قليل ول كثير ،وذلك بسبب
س ْم ُعهُ ْم وَلَا أَ ْبصَارُهُمْ وَلَا َأفْئِدَ ُتهُمْ مِنْ َ
الَ { .فمَا أَغْنَى عَ ْنهُمْ َ
جحَدُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة.
أنهم { يَ ْ
{ َوحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } أي :نزل بهم العذاب الذي يكذبون بوقوعه ويستهزئون
بالرسل الذين حذروهم منه.
جعُونَ * فََلوْلَا َنصَرَهُمُ
حوَْلكُمْ مِنَ ا ْلقُرَى َوصَ ّرفْنَا الْآيَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ
{ { } 27-28وََلقَدْ أَهَْلكْنَا مَا َ
ل ضَلّوا عَ ْنهُ ْم وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُ ْم َومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ }
الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً َب ْ
يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهلك المم المكذبين الذين هم حول ديارهم ،بل كثير منهم
في جزيرة العرب كعاد وثمود ونحوهم وأن ال تعالى صرف لهم اليات أي :نوعها من كل وجه،
جعُونَ } عماهم عليه من الكفر والتكذيب.
{ َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ
فلما لم يؤمنوا أخذهم ال أخذ عزيز مقتدر ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء
خذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ قُرْبَانًا آِلهَةً } أي :يتقربون إليهم
ولهذا قال هنا { :فََلوْلَا َنصَرَ ُهمُ الّذِينَ اتّ َ
ويتألهونهم لرجاء نفعهم.
ل ضَلّوا عَ ْنهُمْ } فلم يجيبوهم ول دفعوا عنهم { ،وَذَِلكَ ِإ ْف ُكهُ ْم َومَا كَانُوا َيفْتَرُونَ } من الكذب
{ َب ْ
الذي يمنون به أنفسهم حيث يزعمون أنهم على الحق وأن أعمالهم ستنفعهم فضلت وبطلت.
كان ال تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان ل بد
من إبلغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.
فالنس يمكنه عليه الصلة والسلم دعوتهم وإنذارهم ،وأما الجن فصرفهم ال إليه بقدرته وأرسل
حضَرُوهُ قَالُوا أَ ْنصِتُوا } أي :وصى بعضهم بعضا
إليه { َنفَرًا مِنَ الْجِنّ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآنَ فََلمّا َ
بذلك { ،فََلمّا ُقضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَّلوْا إِلَى َق ْو ِمهِمْ مُ ْنذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة
لحجة ال عليهم وقيضهم ال معونة لرسوله صلى ال عليه وسلم في نشر دعوته في الجن.
س ِمعْنَا كِتَابًا أُنْ ِزلَ مِنْ َب ْعدِ مُوسَى } لن كتاب موسى أصل للنجيل وعمدة لبني
{ قَالُوا يَا َق ْومَنَا إِنّا َ
إسرائيل في أحكام الشرع ،وإنما النجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الحكام.
{ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ َيهْدِي } هذا الكتاب الذي سمعناه { ِإلَى ا ْلحَقّ } وهو الصواب في كل
مطلوب وخبر { وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْ َتقِيمٍ } موصل إلى ال وإلى جنته من العلم بال وبأحكامه الدينية
وأحكام الجزاء.
عيَ اللّهِ
فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته دعوهم إلى اليمان به ،فقالوا { :يَا َق ْومَنَا أَجِيبُوا دَا ِ
} أي :الذي ل يدعو إل إلى ربه ل يدعوكم إلى غرض من أغراضه ول هوى وإنما يدعوكم إلى
عذَابٍ
ربكم ليثيبكم ويزيل عنكم كل شر ومكروه ،ولهذا قالواَ { :ي ْغفِرْ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُ ْم وَيُجِ ْركُمْ مِنْ َ
أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الليم فما ثم بعد ذلك إل النعيم فهذا جزاء من أجاب داعي ال.
عيَ اللّهِ فَلَيْسَ ِب ُمعْجِزٍ فِي الْأَ ْرضِ } فإن ال على كل شيء قدير فل يفوته هارب
جبْ دَا ِ
{ َومَنْ لَا ُي ِ
ول يغالبه مغالب { .وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَ ِئكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلل أبلغ من ضلل
من نادته الرسل ووصلت إليه النذر باليات البينات ،والحجج المتواترات فأعرض واستكبر؟"
هذا استدلل منه تعالى على العادة بعد الموت بما هو أبلغ منها ،وهو أنه الذي خلق السماوات
والرض على عظمهما وسعتهما وإتقان خلقهما من دون أن يكترث بذلك ولم يعي بخلقهن فكيف
تعجزه إعادتكم بعد موتكم وهو على كل شيء قدير؟"
{ { } 34-35وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ أَلَيْسَ َهذَا بِا ْلحَقّ قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُوا
جلْ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ
ل وَلَا تَسْ َت ْع ِ
سِا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْكفُرُونَ * فَاصْبِرْ َكمَا صَبَرَ أُولُو ا ْلعَزْمِ مِنَ الرّ ُ
سقُونَ }
يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَاعَةً مِنْ َنهَارٍ بَلَاغٌ َف َهلْ ُيهَْلكُ إِلّا ا ْل َقوْمُ ا ْلفَا ِ
يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار التي كانوا يكذبون بها وأنهم يوبخون
ويقال لهم { :أَلَيْسَ هَذَا بِا ْلحَقّ } فقد حضرتموه وشاهدتموه عيانا؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا } فاعترفوا
بذنبهم وتبين كذبهم { قَالَ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْكفُرُونَ } أي :عذابا لزما دائما كما كان كفركم
صفة لزمة.
ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن ل يزال داعيا لهم إلى ال وأن
يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم
صبرهم ،وتم يقينهم ،فهم أحق الخلق بالسوة بهم والقفو لثارهم والهتداء بمنارهم.
فامتثل صلى ال عليه وسلم لمر ربه فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله حتى رماه المعادون له عن
قوس واحدة ،وقاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى ال وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة،
وهو صلى ال عليه وسلم لم يزل صادعا بأمر ال مقيما على جهاد أعداء ال صابرا على ما يناله
من الذى ،حتى مكن ال له في الرض وأظهر دينه على سائر الديان وأمته على المم ،فصلى
ال عليه وسلم تسليما.
جلْ َل ُهمْ } أي :لهؤلء المكذبين المستعجلين للعذاب فإن هذا من جهلهم وحمقهم
وقوله { :وَلَا تَسْ َتعْ ِ
فل يستخفنك بجهلهم ول يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو ال عليهم بذلك فإن كل ما
هو آت قريب ،و { كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْنَ مَا يُوعَدُونَ َلمْ يَلْبَثُوا } في الدنيا { ِإلّا سَاعَةً مِنْ َنهَارٍ } فل
يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل.
{ بَلَاغٌ } أي :هذه الدنيا متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ودفع وقت حاضر قليل.
أو هذا القرآن العظيم الذي بينا لكم فيه البيان التام بلغ لكم ،وزاد إلى الدار الخرة ،ونعم الزاد
والبلغة زاد يوصل إلى دار النعيم ويعصم من العذاب الليم ،فهو أفضل زاد يتزوده الخلئق وأجل
نعمة أنعم ال بها عليهم.
وأعذر ال لهم وأنذرهم فبعد ذلك إذ يستمرون على تكذيبهم وكفرهم نسأل
ال العصمة.
عمَاَلهُمْ * وَالّذِينَ
ضلّ أَ ْ
حمَنِ الرّحِيمِ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ َأ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-3بِ ْ
حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ َكفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِمْ
حمّ ٍد وَ ُهوَ الْ َ
ت وَآمَنُوا ِبمَا نُ ّزلَ عَلَى ُم َ
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
آمَنُوا وَ َ
حقّ مِنْ رَ ّبهِمْ كَذَِلكَ
ل وَأَنّ الّذِينَ آمَنُوا اتّ َبعُوا الْ َ
طَوََأصْلَحَ بَاَلهُمْ * ذَِلكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُوا اتّ َبعُوا الْبَا ِ
َيضْ ِربُ اللّهُ لِلنّاسِ َأمْثَاَلهُمْ }
هذه اليات مشتملت على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين ،والسبب في ذلك ،ودعوة الخلق
إلى العتبار بذلك ،فقال { :الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } وهؤلء رؤساء الكفر ،وأئمة
الضلل ،الذين جمعوا بين الكفر بال وآياته ،والصد لنفسهم وغيرهم عن سبيل ال ،التي هي
اليمان بما دعت إليه الرسل واتباعه.
عمَاَلهُمْ } أي :أبطلها وأشقاهم بسببها ،وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها
ضلّ } ال { أَ ْ
فهؤلء { َأ َ
ليكيدوا بها الحق وأولياء ال ،أن ال جعل كيدهم في نحورهم ،فلم يدركوا مما قصدوا شيئا،
وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها ،أن ال سيحبطها عليهم ،والسبب في ذلك أنهم اتبعوا
الباطل ،وهو كل غاية ل يراد بها وجه ال من عبادة الصنام والوثان ،والعمال التي في نصر
الباطل لما كانت باطلة ،كانت العمال لجلها باطلة.
وأما { وَالّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل ال على رسله عموما ،وعلى محمد صلى ال عليه وسلم
عمِلُوا الصّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق ال ،وحقوق العباد الواجبة
خصوصا { ،وَ َ
والمستحبة.
{ َكفّرَ } ال { عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِمْ } صغارها وكبارها ،وإذا كفرت سيئاتهم ،نجوا من عذاب الدنيا
والخرة { .وََأصْلَحَ بَاَلهُمْ } أي :أصلح دينهم ودنياهم ،وقلوبهم وأعمالهم ،وأصلح ثوابهم ،بتنميته
حقّ } الذي هو الصدق واليقين،
وتزكيته ،وأصلح جميع أحوالهم ،والسبب في ذلك أنهم { :اتبعوا الْ َ
وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم ،الصادر { مِنْ رَ ّب ِهمْ } الذي رباهم بنعمته ،ودبرهم بلطفه
فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه ،فصلحت أمورهم ،فلما كانت الغاية المقصودة لهم ،متعلقة بالحق
المنسوب إلى ال الباقي الحق المبين ،كانت الوسيلة صالحة باقية ،باقيا ثوابها.
{ َكذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ لِلنّاسِ َأمْثَاَلهُمْ } حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر ،وذكر لكل منهم
صفة يعرفون بها ويتميزون { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة }
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلحهم ،ونصرهم على أعدائهم { :-فَإِذا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُوا
} في الحرب والقتال ،فاصدقوهم القتال ،واضربوا منهم العناق ،حَتّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم
وتبطلوا شرتهم ،فإذا فعلتم ذلك ،ورأيتم السر أولى وأصلحَ { ،فشُدّوا ا ْلوَثَاقَ } أي :الرباط ،وهذا
احتياط لسرهم لئل يهربوا ،فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم ،فإذا
كانوا تحت أسركم ،فأنتم بالخيار بين المن عليهم ،وإطلقهم بل مال ول فداء ،وإما أن تفدوهم بأن
ل تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم ،أو يشتريهم أصحابهم بمال ،أو بأسير مسلم عندهم.
وهذا المر مستمر { حَتّى َتضَعَ ا ْلحَ ْربُ َأوْزَارَهَا } أي :حتى ل يبقى حرب ،وتبقون في المسألة
والمهادنة ،فإن لكل مقام مقال ،ولكل حال حكما ،فالحال المتقدمة ،إنما هي إذا كان قتال وحرب.
فإذا كان في بعض الوقات ،ل حرب فيه لسبب من السباب ،فل قتل ول أسر.
{ ذَِلكَ } الحكم المذكور في ابتلء المؤمنين بالكافرين ،ومداولة اليام بينهم ،وانتصار بعضهم على
بعض { وََلوْ َيشَاءُ اللّهُ لَانْ َتصَرَ مِ ْنهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير ،وقادر على أن ل ينتصر
الكفار في موضع واحد أبدا ،حتى يبيد المسلمون خضراءهم.
ضكُمْ بِ َب ْعضٍ } ليقوم سوق الجهاد ،ويتبين بذلك أحوال العباد ،الصادق من الكاذب،
{ وََلكِنْ لِيَبُْلوَ َب ْع َ
وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة ،ل إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة ،فإنه إيمان
ضعيف جدا ،ل يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبليا.
{ وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } لهم ثواب جزيل ،وأجر جميل ،وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم،
لتكون كلمة ال هي العليا.
فهؤلء لن يضل ال أعمالهم ،أي :لن يحبطها ويبطلها ،بل يتقبلها وينميها لهم ،ويظهر من أعمالهم
نتائجها ،في الدنيا والخرة.
{ سَ َيهْدِيهِمْ } إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة { ،وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ } أي :حالهم وأمورهم،
وثوابهم يكون صالحا كامل ل نكد فيه ،ول تنغيص بوجه من الوجوه.
{ وَيُ ْدخُِلهُمُ الْجَنّةَ عَ ّر َفهَا َلهُمْ } أي :عرفها أول ،بأن شوقهم إليها ،ونعتها لهم ،وذكر لهم العمال
الموصلة إليها ،التي من جملتها القتل في سبيله ،ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه ،ثم إذا
دخلوا الجنة ،عرفهم منازلهم ،وما احتوت عليه من النعيم المقيم ،والعيش السليم.
{ { } 7-9يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَ ْنصُرُوا اللّهَ يَ ْنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأ ْقدَا َمكُمْ * وَالّذِينَ َكفَرُوا فَ َتعْسًا َل ُهمْ
عمَاَل ُهمْ }
عمَاَلهُمْ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ فََأحْبَطَ أَ ْ
وََأضَلّ أَ ْ
هذا أمر منه تعالى للمؤمنين ،أن ينصروا ال بالقيام بدينه ،والدعوة إليه ،وجهاد أعدائه ،والقصد
بذلك وجه ال ،فإنهم إذا فعلوا ذلك ،نصرهم ال وثبت أقدامهم ،أي :يربط على قلوبهم بالصبر
والطمأنينة والثبات ،ويصبر أجسامهم على ذلك ،ويعينهم على أعدائهم ،فهذا وعد من كريم صادق
الوعد ،أن الذي ينصره بالقوال والفعال سينصره موله ،وييسر له أسباب النصر ،من الثبات
وغيره.
وأما الذين كفروا بربهم ،ونصروا الباطل ،فإنهم في تعس ،أي :انتكاس من أمرهم وخذلن.
عمَاَلهُمْ } أي :أبطل أعمالهم التي يكيدون بها الحق ،فرجع كيدهم في نحورهم ،وبطلت
ضلّ أَ ْ
{ وََأ َ
أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجه ال.
ذلك الضلل والتعس للذين كفروا ،بسبب أنهم { كَرِهُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ } من القرآن الذي أنزله ال،
عمَاَلهُمْ }
صلحا للعباد ،وفلحا لهم ،فلم يقبلوه ،بل أبغضوه وكرهوه { ،فََأحْبَطَ أَ ْ
{ َ { } 10-11أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َدمّرَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ
وَلِ ْلكَافِرِينَ َأمْثَاُلهَا * ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ َموْلَى الّذِينَ آمَنُوا وَأَنّ ا ْلكَافِرِينَ لَا َموْلَى َلهُمْ }
أي :أفل يسير هؤلء المكذبون بالرسول صلى ال عليه وسلم { ،فَيَنْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ
مِنْ قَبِْلهِمْ } فإنهم ل يجدون عاقبتهم إل شر العواقب ،فإنهم ل يلتفتون يمنة ول يسرة إل وجدوا ما
حولهم ،قد بادوا وهلكوا ،واستأصلهم التكذيب والكفر ،فخمدوا ،ودمر ال عليهم أموالهم وديارهم،
بل دمر أعمالهم ومكرهم ،وللكافرين في كل زمان ومكان ،أمثال هذه العواقب الوخيمة،
والعقوبات الذميمة.
وأما المؤمنون ،فإن ال تعالى ينجيهم من العذاب ،ويجزل لهم كثير الثواب.
{ ذلك بأن ال مولى الذين آمنوا } فتولهم برحمته ،فأخرجهم من الظلمات إلى النور ،وتولى
جزاءهم ونصرهم { ،وَأَنّ ا ْلكَافِرِينَ } بال تعالى ،حيث قطعوا عنهم ولية ال ،وسدوا على أنفسهم
رحمته { لَا َموْلَى َلهُمْ } يهديهم إلى سبل السلم ،ول ينجيهم من عذاب ال وعقابه ،بل أولياؤهم
الطاغوت ،يخرجونهم من النور إلى الظلمات ،أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر وَالّذِينَ
خلُ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
{ { } 12إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
َكفَرُوا يَ َتمَ ّتعُونَ وَيَ ْأكُلُونَ َكمَا تَ ْأ ُكلُ الْأَ ْنعَا ُم وَالنّارُ مَ ْثوًى َلهُمْ }
لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين ،ذكر ما يفعل بهم في الخرة ،من دخول الجنات ،التي تجري
من تحتها النهار ،التي تسقي تلك البساتين الزاهرة ،والشجار الناظرة المثمرة ،لكل زوج بهيج،
وكل فاكهة لذيذة.
ولما ذكر أن الكافرين ل مولى لهم ،ذكر أنهم ُوكِلُوا إلى أنفسهم ،فلم يتصفوا بصفات المروءة ،ول
الصفات النسانية ،بل نزلوا عنها دركات ،وصاروا كالنعام ،التي ل عقل لها ول فضل ،بل جل
همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها ،فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة دائرة حولها ،غير
متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة ،ولهذا كانت النار مثوى لهم ،أي :منزل معدا ،ل يخرجون
منها ،ول يفتر عنهم من عذابها.
{ َ { } 13وكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ِهيَ أَشَدّ ُق ّوةً مِنْ قَرْيَ ِتكَ الّتِي َأخْرَجَ ْتكَ أَهَْلكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ َل ُهمْ }
أي :وكم من قرية من قرى المكذبين ،هي أشد قوة من قريتك ،في الموال والولد والعوان،
والبنية واللت.
{ أهلكناهم } حين كذبوا رسلنا ،ولم تفد فيهم المواعظ ،فل نجد لهم ناصرا ،ولم تغن عنهم قوتهم
من عذاب ال شيئا.
فكيف حال هؤلء الضعفاء ،أهل قريتك ،إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك ،وعادوك ،وأنت أفضل
المرسلين ،وخير الولين والخرين؟!
أليسوا بأحق من غيرهم بالهلك والعقوبة ،لول أن ال تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل
كافر وجاحد؟
أي :ل يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه ،علما وعمل ،قد علم الحق واتبعه ،ورجا ما
وعده ال لهل الحق ،كمن هو أعمى القلب ،قد رفض الحق وأضله ،واتبع هواه بغير هدى من
ال ،ومع ذلك ،يرى أن ما هو عليه من الحق ،فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت
بين الطائفتين ،أهل الحق وأهل الغي!
ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ َلمْ يَ َتغَيّرْ
{ { } 15مَ َثلُ ا ْلجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُتّقُونَ فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِ ٍ
سلٍ ُمصَفّى وََلهُمْ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َو َم ْغفِ َرةٌ
ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ عَ َ
خمْرٍ لَ ّذةٍ لِلشّارِبِي َ
ط ْعمُ ُه وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ
َ
حمِيمًا َفقَطّعَ َأ ْمعَاءَهُمْ }
سقُوا مَاءً َ
مِنْ رَ ّبهِمْ َكمَنْ ُهوَ خَالِدٌ فِي النّا ِر وَ ُ
أي :مثل الجنة التي أعدها ال لعباده ،الذين اتقوا سخطه ،واتبعوا رضوانه ،أي :نعتها وصفتها
الجميلة.
{ فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي :غير متغير ،ل بوخم ول بريح منتنة ،ول بمرارة ،ول
بكدورة ،بل هو أعذب المياه وأصفاها ،وأطيبها ريحا ،وألذها شربا.
{ وََلهُمْ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } من نخيل ،وعنب ،وتفاح ،ورمان ،وأترج ،وتين ،وغير ذلك مما ل
نظير له في الدنيا ،فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم.
ثم قالَ { :و َم ْغفِ َرةٌ مِنْ رَ ّب ِهمْ } يزول بها عنهم المرهوب ،فأي هؤلء خير أم من هو خالد في النار
حمِيمًا } أي :حارا جداَ { ،فقَطّعَ
سقُوا } فيها { مَاءً َ
التي اشتد حرها ،وتضاعف عذابها { ،وَ ُ
َأ ْمعَاءَهُمْ }
{ َ { } 16-17ومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َتمِعُ ِإلَ ْيكَ حَتّى إِذَا خَ َرجُوا مِنْ عِ ْن ِدكَ قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ مَاذَا قَالَ
آ ِنفًا أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ * وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا زَا َدهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ْقوَاهُمْ
}
يقول تعالى :ومن المنافقين { مَنْ يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ } ما تقول استماعا ،ل عن قبول وانقياد ،بل معرضة
قلوبهم عنه ،ولهذا قال { :حَتّى ِإذَا خَ َرجُوا مِنْ عِنْ ِدكَ قَالُوا لِلّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ } مستفهمين عما قلت،
وما سمعوا ،مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آ ِنفًا } أي :قريبا ،وهذا في غاية الذم لهم ،فإنهم
لو كانوا حريصين على الخير للقوا إليه أسماعهم ،ووعته قلوبهم ،وانقادت له جوارحهم ،ولكنهم
بعكس هذه الحال ،ولهذا قال { :أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَ َبعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } أي :ختم عليها ،وسد أبواب
الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم ،التي ل يهوون فيها إل الباطل.
ثم بين حال المهتدين ،فقال { :وَالّذِينَ اهْتَ َدوْا } باليمان والنقياد ،واتباع ما يرضي ال { زَا َدهُمْ
هُدًى } شكرا منه تعالى لهم على ذلك { ،وَآتَاهُمْ َت ْقوَاهُمْ } أي :وفقهم للخير ،وحفظهم من الشر،
فذكر للمهتدين جزاءين :العلم النافع ،والعمل الصالح.
أي :فهل ينظر هؤلء المكذبون أو ينتظرون { إِلّا السّاعَةَ أَنْ تَأْتِ َي ُهمْ َبغْتَةً } أي :فجأة ،وهم ل
طهَا } أي :علماتها الدالة على قربها.
يشعرون { َفقَدْ جَاءَ َأشْرَا ُ
{ فَأَنّى َلهُمْ إِذَا جَاءَ ْتهُمْ ِذكْرَا ُهمْ } أي :من أين لهم ،إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا
ويستعتبوا؟ قد فات ذلك ،وذهب وقت التذكر ،فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر ،وجاءهم النذير.
ففي هذا الحث على الستعداد قبل مفاجأة الموت ،فإن موت النسان قيام ساعته.
العلم ل بد فيه من إقرار القلب ومعرفته ،بمعنى ما طلب منه علمه ،وتمامه أن يعمل بمقتضاه.
وهذا العلم الذي أمر ال به -وهو العلم بتوحيد ال -فرض عين على كل إنسان ،ل يسقط عن
أحد ،كائنا من كان ،بل كل مضطر إلى ذلك .والطريق إلى العلم بأنه ل إله إل هو أمور :أحدها
بل أعظمها :تدبر أسمائه وصفاته ،وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجللته فإنها توجب بذل
الجهد في التأله له ،والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلل وجمال.
الثاني :العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير ،فيعلم بذلك أنه المنفرد باللوهية.
الثالث :العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة ،الدينية والدنيوية ،فإن ذلك يوجب تعلق القلب به
ومحبته ،والتأله له وحده ل شريك له.
الرابع :ما نراه ونسمعه من الثواب لوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ،ومن
عقوبته لعدائه المشركين به ،فإن هذا داع إلى العلم ،بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس :معرفة أوصاف الوثان والنداد التي عبدت مع ال ،واتخذت آلهة ،وأنها ناقصة من
جميع الوجوه ،فقيرة بالذات ،ل تملك لنفسها ول لعابديها نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول
نشورا ،ول ينصرون من عبدهم ،ول ينفعونهم بمثقال ذرة ،من جلب خير أو دفع شر ،فإن العلم
بذلك يوجب العلم بأنه ل إله إل هو وبطلن إلهية ما سواه.
السابع :أن خواص الخلق ،الذين هم أكمل الخليقة أخلقا وعقول ،ورأيا وصوابا ،وعلما -وهم
الرسل والنبياء والعلماء الربانيون -قد شهدوا ل بذلك.
الثامن :ما أقامه ال من الدلة الفقية والنفسية ،التي تدل على التوحيد أعظم دللة ،وتنادي عليه
بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته ،وبديع حكمته ،وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر ال من دعوة الخلق بها إلى أنه ل إله إل ال ،وأبداها في كتابه وأعادها
عند تأمل العبد في بعضها ،ل بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك ،فكيف إذا اجتمعت وتواطأت
واتفقت ،وقامت أدلة التوحيد من كل جانب ،فهناك يرسخ اليمان والعلم بذلك في قلب العبد ،بحيث
يكون كالجبال الرواسي ،ل تزلزله الشبه والخيالت ،ول يزداد -على تكرر الباطل والشبه -إل
نموا وكمال.
هذا ،وإن نظرت إلى الدليل العظيم ،والمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن العظيم ،والتأمل في
آياته -فإنه الباب العظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما ل يحصل في
غيره.
وقوله { :وَاسْ َت ْغفِرْ لِذَنْ ِبكَ } أي :اطلب من ال المغفرة لذنبك ،بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة
والدعاء بالمغفرة ،والحسنات الماحية ،وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.
{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين وَا ْل ُم ْؤمِنَات } فإنهم -بسبب إيمانهم -كان لهم حق على كل مسلم
ومسلمة.
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم ،وإذا كان مأمورا بالستغفار لهم المتضمن
لزالة الذنوب وعقوباتها عنهم ،فإن من لوازم ذلك النصح لهم ،وأن يحب لهم من الخير ما يحب
لنفسه ،ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه ،ويأمرهم بما فيه الخير لهم ،وينهاهم عما فيه ضررهم،
ويعفو عن مساويهم ومعايبهم ،ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ،ويزول ما بينهم
من الحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ،الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم.
{ وَاللّهُ َيعْلَمُ مُ َتقَلّ َبكُمْ } أي :تصرفاتكم وحركاتكم ،وذهابكم ومجيئكمَ { ،ومَ ْثوَاكُمْ } الذي به
تستقرون ،فهو يعلمكم في الحركات والسكنات ،فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
يقول تعالى { :وَ َيقُولُ الّذِينَ آمَنُوا } استعجال ومبادرة للوامر الشاقةَ { :لوْلَا نُزَّلتْ سُو َرةٌ } أي:
فيها المر بالقتال.
ح َكمَةٌ } أي :ملزم العمل بها { ،وَ ُذكِرَ فِيهَا ا ْلقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على
{ فَِإذَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ مُ ْ
النفوس ،لم يثبت ضعفاء اليمان على امتثال هذه الوامر ،ولهذا قال { :رَأَ ْيتَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ
شيّ عَلَيْهِ مِنَ ا ْل َم ْوتِ } من كراهتهم لذلك ،وشدته عليهم.
مَ َرضٌ يَ ْنظُرُونَ إِلَ ْيكَ نَظَرَ ا ْل َمغْ ِ
وهذا كقوله تعالى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ َل ُهمْ ُكفّوا أَيْدِ َي ُك ْم وََأقِيمُوا الصّلَا َة وَآتُوا ال ّزكَاةَ فََلمّا كُ ِتبَ
شوْنَ النّاسَ َكخَشْيَةِ اللّهِ َأوْ َأشَدّ خَشْيَةً }
عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنهُمْ َيخْ َ
{ فَِإذَا عَزَمَ الَْأمْرُ } أي :جاءهم المر جد ،وأمر محتم ،ففي هذه الحال لو صدقوا ال بالستعانة
به ،وبذل الجهد في امتثاله { َلكَانَ خَيْرًا َلهُمْ } من حالهم الولى ،وذلك من وجوه:
منها :أن العبد ناقص من كل وجه ،ل قدرة له إل إن أعانه ال ،فل يطلب زيادة على ما هو قائم
بصدده.
ومنها :أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ،ضعف عن العمل ،بوظيفة وقته ،وبوظيفة المستقبل ،أما
الحال ،فلن الهمة انتقلت عنه إلى غيره ،والعمل تبع للهمة ،وأما المستقبل ،فإنه ل يجيء حتى
تفتر الهمة عن نشاطها فل يعان عليه.
ومنها :أن العبد المؤمل للمال المستقبلة ،مع كسله عن عمل الوقت الحاضر ،شبيه بالمتألي الذي
يجزم بقدرته ،على ما يستقبل من أموره ،فأحرى به أن يخذل ول يقوم بما هم به ووطن نفسه
عليه ،فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر ،ويؤدي وظيفته
بحسب قدرته ،ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة ،مستعينا بربه
في ذلك ،فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.
ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه ،وأنه ل يتولى إلى خير ،بل إلى شر ،فقالَ { :ف َهلْ
طعُوا أَرْحَا َمكُمْ } أي :فهما أمران ،إما التزام لطاعة
ض وَ ُتقَ ّ
سدُوا فِي الْأَ ْر ِ
عَسَيْتُمْ إِنْ َتوَلّيْتُمْ أَنْ ُتفْ ِ
ال ،وامتثال لوامره ،فثم الخير والرشد والفلح ،وإما إعراض عن ذلك ،وتولٍ عن طاعة ال،
فما ثم إل الفساد في الرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الرحام.
{ أُولَ ِئكَ الّذِينَ } أفسدوا في الرض ،وقطعوا أرحامهم { َلعَ َن ُهمُ اللّهُ } بأن أبعدهم عن رحمته،
وقربوا من سخط ال.
عمَى أَ ْبصَارَهُمْ } أي :جعلهم ل يسمعون ما ينفعهم ول يبصرونه ،فلهم آذان ،ولكن
ص ّمهُ ْم وَأَ ْ
{ فََأ َ
ل تسمع سماع إذعان وقبول ،وإنما تسمع سماعا تقوم به حجة ال عليها ،ولهم أعين ،ولكن ل
يبصرون بها العبر واليات ،ول يلتفتون بها إلى البراهين والبينات.
أي :فهل يتدبر هؤلء المعرضون لكتاب ال ،ويتأملونه حق التأمل ،فإنهم لو تدبروه ،لدلهم على
كل خير ،ولحذرهم من كل شر ،ولمل قلوبهم من اليمان ،وأفئدتهم من اليقان ،ولوصلهم إلى
المطالب العالية ،والمواهب الغالية ،ولبين لهم الطريق الموصلة إلى ال ،وإلى جنته ومكملتها
ومفسداتها ،والطريق الموصلة إلى العذاب ،وبأي شيء تحذر ،ولعرفهم بربهم ،وأسمائه وصفاته
وإحسانه ،ولشوقهم إلى الثواب الجزيل ،ورهبهم من العقاب الوبيل.
{ َأمْ عَلَى قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَا } أي :قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت ،فل يدخلها خير أبدا؟ هذا هو
الواقع.
س ّولَ َلهُ ْم وََأمْلَى
{ { } 25-28إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلَى َأدْبَارِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْلهُدَى الشّ ْيطَانُ َ
َلهُمْ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نَ ّزلَ اللّهُ سَنُطِي ُعكُمْ فِي َب ْعضِ الَْأمْ ِر وَاللّهُ َيعْلَمُ ِإسْرَارَهُمْ *
خطَ اللّ َه َوكَرِهُوا
ن وُجُو َههُ ْم وََأدْبَارَهُمْ * ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اتّ َبعُوا مَا َأسْ َ
َفكَ ْيفَ ِإذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َيضْرِبُو َ
عمَاَلهُمْ }
ضوَانَهُ فَأَحْ َبطَ أَ ْ
ِر ْ
يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى واليمان على أعقابهم إلى الضلل والكفران ،ذلك ل
عن دليل دلهم ول برهان ،وإنما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ،وإملء منه لهم:
{ َي ِعدُهُ ْم وَ ُيمَنّيهِ ْم َومَا َيعِ ُدهُمُ الشّيْطَانُ إِلّا غُرُورًا }
وذلك أنهم قد تبين لهم الهدى ،فزهدوا فيه ورفضوه ،و { قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نَ ّزلَ اللّهُ } من
المبارزين العداوة ل ولرسوله { سَ ُنطِي ُعكُمْ فِي َب ْعضِ الَْأمْرِ } أي :الذي يوافق أهواءهم ،فلذلك
عاقبهم ال بالضلل ،والقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء البدي ،والعذاب السرمدي.
{ وَاللّهُ َيعْلَمُ ِإسْرَارَهُمْ } فلذلك فضحهم ،وبينها لعباده المؤمنين ،لئل يغتروا بها.
{ َفكَ ْيفَ } ترى حالهم الشنيعة ،ورؤيتهم الفظيعة { إِذَا َت َوفّ ْتهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَة } الموكلون بقبض أرواحهم،
ن وُجُو َههُ ْم وََأدْبَارَهُمْ } بالمقامع الشديدة؟!.
{ َيضْرِبُو َ
عمَاَلهُمْ } أي:
ضوَانَهُ } فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه ،ول يدنيهم منه { ،فَأَحْ َبطَ أَ ْ
{ َوكَرِهُوا ِر ْ
أبطلها وأذهبها ،وهذا بخلف من اتبع ما يرضي ال وكره سخطه ،فإنه سيكفر عنه سيئاته،
ويضاعف أجره وثوابه.
سبَ الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َرضٌ } من شبهة أو شهوة ،بحيث تخرج القلب عن
يقول تعالى { :أَمْ حَ ِ
حال صحته واعتداله ،أن ال ل يخرج ما في قلوبهم من الضغان والعداوة للسلم وأهله؟ هذا
ظن ل يليق بحكمة ال ،فإنه ل بد أن يميز الصادق من الكاذب ،وذلك بالبتلء بالمحن ،التي من
ثبت عليها ،ودام إيمانه فيها ،فهو المؤمن حقيقة ،ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها ،وحين
أتاه المتحان ،جزع وضعف إيمانه ،وخرج ما في قلبه من الضغن ،وتبين نفاقه ،هذا مقتضى
الحكمة اللهية ،مع أنه تعالى قال { :وََلوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَا َكهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُمْ ِبسِيمَاهُمْ }
أي :بعلماتهم التي هي كالوسم في وجوههم { .وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي لَحْنِ ا ْل َق ْولِ } أي :ل بد أن يظهر ما
في قلوبهم ،ويتبين بفلتات ألسنتهم ،فإن اللسن مغارف القلوب ،يظهر منها ما في القلوب من
عمَاَل ُكمْ } فيجازيكم عليها.
الخير والشر { وَاللّهُ َيعْلَمُ أَ ْ
ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده ،وهو الجهاد في سبيل ال ،فقال { :وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ } أي :نختبر
إيمانكم وصبركم { ،حَتّى َنعْلَمَ ا ْل ُمجَاهِدِينَ مِ ْن ُك ْم وَالصّابِرِينَ وَنَبُْلوَ َأخْبَا َركُمْ } فمن امتثل أمر ال
وجاهد في سبيل ال لنصر دينه وإعلء كلمته فهو المؤمن حقا ،ومن تكاسل عن ذلك ،كان ذلك
نقصا في إيمانه.
{ { } 32إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَشَاقّوا الرّسُولَ مِنْ َب ْعدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْلهُدَى لَنْ
عمَاَلهُمْ }
َيضُرّوا اللّهَ شَيْئًا وَسَيُحْ ِبطُ أَ ْ
هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها ،من الكفر بال ،وصد الخلق عن سبيل ال الذي نصبه
موصل إليه.
{ وَشَاقّوا الرّسُولَ مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمُ ا ْل ُهدَى } أي :عاندوه وخالفوه عن عمد وعناد ،ل عن جهل
وغي وضلل ،فإنهم { لَنْ َيضُرّوا اللّهَ شَيْئًا } فل ينقص به ملكه.
عمَاَلهُمْ } أي :مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل ،بأن ل تثمر لهم إل الخيبة
{ وَسَ ُيحْبِطُ أَ ْ
والخسران ،وأعمالهم التي يرجون بها الثواب ،ل تقبل لعدم وجود شرطها.
عمَاَلكُمْ }
{ { } 33يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَ ْ
يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم أمورهم ،وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية ،وهو :طاعته
وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه ،والطاعة هي امتثال المر ،واجتناب النهي على الوجه
المأمور به بالخلص وتمام المتابعة.
عمَاَل ُكمْ } يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها ،بما يفسدها ،من من بها
وقوله { :وَلَا تُبْطِلُوا أَ ْ
وإعجاب ،وفخر وسمعة ،ومن عمل بالمعاصي التي تضمحل معها العمال ،ويحبط أجرها،
ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها ،أو التيان بمفسد من مفسداتها.
فمبطلت الصلة والصيام والحج ونحوها ،كلها داخلة في هذا ،ومنهي عنها ،ويستدل الفقهاء بهذه
الية على تحريم قطع الفرض ،وكراهة قطع النفل ،من غير موجب لذلك ،وإذا كان ال قد نهى
عن إبطال العمال ،فهو أمر بإصلحها ،وإكمالها وإتمامها ،والتيان بها ،على الوجه الذي تصلح
به علما وعمل.
{ { } 34-35إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َلهُمْ * فَلَا
عمَاَلكُمْ }
ن وَاللّهُ َم َعكُ ْم وَلَنْ يَتِ َر ُكمْ أَ ْ
َتهِنُوا وَ َتدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعَْلوْ َ
طتْ
ت وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَبِ َ
هذه الية والتي في البقرة قولهَ { :ومَنْ يَرْتَ ِددْ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَ َي ُم ْ
عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِ َرةِ } مقيدتان ،لكل نص مطلق ،فيه إحباط العمل بالكفر ،فإنه مقيد بالموت
أَ ْ
عليه ،فقال هنا { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا } بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر { َوصَدّوا } الخلق {
عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } بتزهيدهم إياهم بالحق ،ودعوتهم إلى الباطل ،وتزيينه { ،ثُمّ مَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ } لم
يتوبوا منه { ،فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُهمْ } ل بشفاعة ول بغيرها ،لنه قد تحتم عليهم العقاب ،وفاتهم
الثواب ،ووجب عليهم الخلود في النار ،وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار.
ومفهوم الية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم ،فإن ال يغفر لهم ويرحمهم ،ويدخلهم
الجنة ،ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله ،والقدام على معاصيه ،فسبحان
من فتح لعباده أبواب الرحمة ،ولم يغلقها عن أحد ،ما دام حيا متمكنا من التوبة.
وسبحان الحليم ،الذي ل يعاجل العاصين بالعقوبة ،بل يعافيهم ،ويرزقهم ،كأنهم ما عصوه مع
قدرته عليهم.
ثم قال تعالى { :فَلَا َتهِنُوا } أي :ل تضعفوا عن قتال عدوكم ،ويستولي عليكم الخوف ،بل اصبروا
واثبتوا ،ووطنوا أنفسكم على القتال والجلد ،طلبا لمرضاة ربكم ،ونصحا للسلم ،وإغضابا
للشيطان.
ول تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم ،طلبا للراحة { ،و } الحال أنكم { أنتم
عمَاُلكُم }
ن وَاللّهُ َم َعكُ ْم وَلَنْ يَتِ َركُمْ } أي :ينقصكم { أَ ْ
الْأَعَْلوْ َ
فهذه المور الثلثة ،كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم العلين ،أي :قد توفرت لهم
أسباب النصر ،ووعدوا من ال بالوعد الصادق ،فإن النسان ،ل يهن إل إذا كان أذل من غيره
وأضعف عددا ،وعددا ،وقوة داخلية وخارجية.
الثاني :أن ال معهم ،فإنهم مؤمنون ،وال مع المؤمنين ،بالعون ،والنصر ،والتأييد ،وذلك موجب
لقوة قلوبهم ،وإقدامهم على عدوهم.
الثالث :أن ال ل ينقصهم من أعمالهم شيئا ،بل سيوفيهم أجورهم ،ويزيدهم من فضله ،خصوصا
عبادة الجهاد ،فإن النفقة تضاعف فيه ،إلى سبع مائة ضعف ،إلى أضعاف كثيرة ،وقال تعالى:
خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَطَئُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّارَ
ب وَلَا مَ ْ
ص ٌ
ظمٌَأ وَلَا َن َ
{ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ لَا ُيصِي ُبهُمْ َ
ن وَلَا يُ ْنفِقُونَ َنفَقَةً
حسِنِي َ
ل صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ
ع َم ٌ
وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَ ُدوّ نَيْلًا إِلّا كُ ِتبَ َلهُمْ بِهِ َ
ن وَادِيًا إِلّا كُ ِتبَ َلهُمْ لِيَجْزِ َيهُمُ اللّهُ َأحْسَنَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
طعُو َ
صغِي َرةً وَلَا كَبِي َر ًة وَلَا َيقْ َ
َ
فإذا عرف النسان أن ال تعالى ل يضيع عمله وجهاده ،أوجب له ذلك النشاط ،وبذل الجهد فيما
يترتب عليه الجر والثواب ،فكيف إذا اجتمعت هذه المور الثلثة فإن ذلك يوجب النشاط التام،
فهذا من ترغيب ال لعباده ،وتنشيطهم ،وتقوية أنفسهم على ما فيه صلحهم وفلحهم.
{ { } 36-38إِ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْهوٌ وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَ ّتقُوا ُيؤْ ِتكُمْ ُأجُو َركُ ْم وَلَا يَسْأَ ْلكُمْ َأ ْموَاَلكُمْ *
عوْنَ لِتُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِ ْنكُمْ
ضغَا َنكُمْ * هَا أَنْتُمْ َهؤُلَاءِ ُتدْ َ
حفِكُمْ تَ ْبخَلُوا وَيُخْرِجْ َأ ْ
إِنْ يَسْأَ ْل ُكمُوهَا فَ ُي ْ
ي وَأَنْتُمُ ا ْل ُفقَرَا ُء وَإِنْ تَ َتوَّلوْا يَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ
س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
خلُ عَنْ َنفْ ِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ
ل َومَنْ يَبْ َ
خُمَنْ يَبْ َ
ثُمّ لَا َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ }
هذا تزهيد منه لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها ،بأنها لعب ولهو ،لعب في
البدان ولهو في القلوب ،فل يزال العبد لهيا في ماله ،وأولده ،وزينته ،ولذاته من النساء،
والمآكل والمشارب ،والمساكن والمجالس ،والمناظر والرياسات ،لعبا في كل عمل ل فائدة فيه،
بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي ،حتى تستكمل دنياه ،ويحضره أجله ،فإذا هذه المور
قد ولت وفارقت ،ولم يحصل العبد منها على طائل ،بل قد تبين له خسرانه وحرمانه ،وحضر
عذابه ،فهذا موجب للعاقل الزهد فيها ،وعدم الرغبة فيها ،والهتمام بشأنها ،وإنما الذي ينبغي أن
يهتم به ما ذكره بقوله { :وَإِنْ ُت ْؤمِنُوا وَتَتّقُوا } بأن تؤمنوا بال ،وملئكته وكتبه ورسله واليوم
الخر ،وتقوموا بتقواه التي هي من لوازم اليمان ومقتضياته ،وهي العمل بمرضاته على الدوام،
مع ترك معاصيه ،فهذا الذي ينفع العبد ،وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه ،وتبذل الهمم والعمال
في طلبه ،وهو مقصود ال من عباده رحمة بهم ولطفا ،ليثيبهم الثواب الجزيل ،ولهذا قال { :وَإِنْ
ُت ْؤمِنُوا وَتَ ّتقُوا ُيؤْ ِتكُمْ ُأجُو َركُ ْم وَلَا يَسْأَ ْل ُكمْ َأ ْموَاَلكُمْ } أي :ل يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم،
ويعنتكم من أخذ أموالكم ،وبقائكم بل مال ،أو ينقصكم نقصا يضركم ،ولهذا قال { :إِنْ يَسَْأ ْل ُكمُوهَا
ضغَا َنكُمْ }
ح ِفكُمْ تَ ْبخَلُوا وَيُخْرِجْ َأ ْ
فَيُ ْ
عوْنَ
والدليل على أن ال لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها ،أنكم تمتنعون منها ،أنكم { تُدْ َ
لِتُ ْنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } على هذا الوجه ،الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية.
خلُ } أي :فكيف لو سألكم ،وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟
{ َفمِ ْنكُمْ مَنْ يَبْ َ
أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك.
خلُ عَنْ َنفْسِهِ } لنه حرم نفسه ثواب ال تعالى ،وفاته خير كثير،
خلْ فَإِ ّنمَا يَ ْب َ
ثم قالَ { :ومَنْ يَ ْب َ
ولن يضر ال بترك النفاق شيئا.
{ وَإِنْ تَ َتوَّلوْا } عن اليمان بال ،وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَ ْب ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُمْ ُثمّ لَا َيكُونُوا َأمْثَاَلكُمْ
} في التولي ،بل يطيعون ال ورسوله ،ويحبون ال ورسوله ،كما قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا
س ْوفَ يَأْتِي اللّهُ ِبقَوْمٍ يُحِ ّبهُ ْم وَ ُيحِبّونَهُ }
مَنْ يَرْتَدّ مِ ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَ َ
ك َومَا
حمَنِ الرّحِيمِ إِنّا فَتَحْنَا َلكَ فَ ْتحًا مُبِينًا * لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِب َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-3بِ ْ
ك صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا * وَيَ ْنصُ َركَ اللّهُ َنصْرًا عَزِيزًا }
ك وَ َيهْدِ َي َ
تَأَخّ َر وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ
هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ،حين صد المشركون رسول ال صلى ال عليه وسلم لما
جاء معتمرا في قصة طويلة ،صار آخر أمرها أن صالحهم رسول ال صلى ال عليه وسلم على
وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ،وعلى أن يعتمر من العام المقبل ،وعلى أن من أراد أن
يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ،ومن أحب أن يدخل في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم
وعقده فعل.
وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا ،اتسعت دائرة الدعوة لدين ال عز وجل ،وصار كل
مؤمن بأي محل كان من تلك القطار ،يتمكن من ذلك ،وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة
السلم ،فدخل الناس في تلك المدة في دين ال أفواجا ،فلذلك سماه ال فتحا ،ووصفه بأنه فتح
مبين أي :ظاهر جلي ،وذلك لن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين ال ،وانتصار
المسلمين ،وهذا حصل بذلك الفتح ،ورتب ال على هذا الفتح عدة أمور ،فقال { :لِ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا
َتقَدّمَ مِنْ ذَنْ ِبكَ َومَا تََأخّرَ }
وذلك -وال أعلم -بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة ،والدخول في الدين بكثرة ،وبما
تحمل صلى ال عليه وسلم من تلك الشروط التي ل يصبر عليها إل أولو العزم من المرسلين،
وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى ال عليه وسلم ،أن غفر ال له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ك صِرَاطًا
{ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ } بإعزاز دينك ،ونصرك على أعدائك ،واتساع كلمتك { ،وَ َيهْدِ َي َ
مُسْ َتقِيمًا } تنال به السعادة البدية ،والفلح السرمدي.
{ وَيَ ْنصُ َركَ اللّهُ َنصْرًا عَزِيزًا } أي :قويا ل يتضعضع فيه السلم ،بل يحصل النتصار التام،
وقمع الكافرين ،وذلهم ونقصهم ،مع توفر قوى المسلمين ونموهم ،ونمو أموالهم.
سكِينَةَ فِي قُلُوبِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ لِيَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِن ِه ْم وَلِلّهِ جُنُودُ
{ ُ { } 4-6هوَ الّذِي أَنْ َزلَ ال ّ
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
حكِيمًا * لِ ُيدْ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوكَانَ اللّهُ عَلِيمًا َ
ال ّ
الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَ ُيكَفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِ ْم َوكَانَ ذَِلكَ عِ ْندَ اللّهِ َفوْزًا عَظِيمًا * وَ ُيعَ ّذبَ ا ْلمُنَا ِفقِينَ
غضِبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ
سوْ ِء وَ َ
سوْءِ عَلَ ْيهِمْ دَائِ َرةُ ال ّ
وَا ْلمُنَافِقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِينَ وَا ْلمُشْ ِركَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ ال ّ
جهَنّ َم وَسَا َءتْ َمصِيرًا }
وََلعَ َنهُ ْم وَأَعَدّ َلهُمْ َ
يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم ،وهي السكون والطمأنينة ،والثبات
عند نزول المحن المقلقة ،والمور الصعبة ،التي تشوش القلوب ،وتزعج اللباب ،وتضعف
النفوس ،فمن نعمة ال على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه ،وينزل عليه السكينة،
ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة ،فيستعد بذلك لقامة أمر ال في هذه الحال ،فيزداد
بذلك إيمانه ،ويتم إيقانه ،فالصحابة رضي ال عنهم لما جرى ما جرى بين رسول ال صلى ال
عليه وسلم والمشركين ،من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم ،وحط من أقدارهم،
وتلك ل تكاد تصبر عليها النفوس ،فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها ،ازدادوا بذلك إيمانا مع
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي :جميعها في ملكه ،وتحت تدبيره وقهره،
إيمانهم .وقوله { :وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ
فل يظن المشركون أن ال ل ينصر دينه ونبيه ،ولكنه تعالى عليم حكيم ،فتقتضي حكمته المداولة
بين الناس في اليام ،وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ُي َكفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِهمْ }
خلَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
{ لِ ُيدْ ِ
فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين ،أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات ،ويزيل عنهم
المحذور بتكفير السيئاتَ { .وكَانَ ذَِلكَ } الجزاء المذكور للمؤمنين { عِ ْندَ اللّهِ َفوْزًا عَظِيمًا } فهذا
ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.
وأما المنافقون والمنافقات ،والمشركون والمشركات ،فإن ال يعذبهم بذلك ،ويريهم ما يسوءهم؛
حيث كان مقصودهم خذلن المؤمنين ،وظنوا بال الظن السوء ،أنه ل ينصر دينه ،ول يعلي
كلمته ،وأن أهل الباطل ،ستكون لهم الدائرة على أهل الحق ،فأدار ال عليهم ظنهم ،وكانت دائرة
غضِبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } بما اقترفوه من المحادة ل ولرسوله { ،وََلعَ َنهُمْ }
السوء عليهم في الدنيا { ،وَ َ
جهَنّمَ وَسَا َءتْ َمصِيرًا }
أي :أبعدهم وأقصاهم عن رحمته { وَأَعَدّ َل ُهمْ َ
حكِيمًا }
ض َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
{ { } 7وَلِلّهِ جُنُودُ ال ّ
كرر الخبار بأن له ملك السماوات والرض وما فيهما من الجنود ،ليعلم العباد أنه تعالى هو
المعز المذل ،وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه ،كما قال تعالى { :وَإِنّ جُ ْندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }
{ َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا } أي :قويا غالبا ،قاهرا لكل شيء ،ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه
وتدبيره ،يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.
{ { } 8-9إِنّا أَ ْرسَلْنَاكَ شَا ِهدًا َومُبَشّرًا وَنَذِيرًا * لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِ ِه وَ ُتعَزّرُو ُه وَ ُت َوقّرُوهُ
وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا }
أي { :إِنّا أَرْسَلْنَاكَ } أيها الرسول الكريم { شَا ِهدًا } لمتك بما فعلوه من خير وشر ،وشاهدا على
المقالت والمسائل ،حقها وباطلها ،وشاهدا ل تعالى بالوحدانية والنفراد بالكمال من كل وجه،
{ َومُبَشّرًا } من أطاعك وأطاع ال بالثواب الدنيوي والديني والخروي ،ومنذرا من عصى ال
بالعقاب العاجل والجل ،ومن تمام البشارة والنذارة ،بيان العمال والخلق التي يبشر بها وينذر،
فهو المبين للخير والشر ،والسعادة والشقاوة ،والحق من الباطل ،ولهذا رتب على ذلك قوله:
{ لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ }
أي :بسبب دعوة الرسول لكم ،وتعليمه لكم ما ينفعكم ،أرسلناه لتقوموا باليمان بال ورسوله،
المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع المور.
{ وَ ُتعَزّرُوهُ وَتُ َوقّرُوهُ } أي :تعزروا الرسول صلى ال عليه وسلم وتوقروه أي :تعظموه وتجلوه،
وتقوموا بحقوقه ،كما كانت له المنة العظيمة برقابكم { ،وَتُسَبّحُوهُ } أي :تسبحوا ل { ُبكْ َر ًة وََأصِيلًا
} أول النهار وآخره ،فذكر ال في هذه الية الحق المشترك بين ال وبين رسوله ،وهو اليمان
بهما ،والمختص بالرسول ،وهو التعزير والتوقير ،والمختص بال ،وهو التسبيح له والتقديس
بصلة أو غيرها.
{ { } 10إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَا ِيعُونَ اللّهَ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ َفمَنْ َن َكثَ فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى َنفْسِهِ
عظِيمًا }
َومَنْ َأ ْوفَى ِبمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَ ُيؤْتِيهِ َأجْرًا َ
هذه المبايعة التي أشار ال إليها هي { بيعة الرضوان } التي بايع الصحابة رضي ال عنهم فيها
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،على أن ل يفروا عنه ،فهي عقد خاص ،من لوازمه أن ل يفروا،
ولو لم يبق منهم إل القليل ،ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها ،فأخبر تعالى :أن الذين بايعوك
حقيقة المر أنهم { يُبَا ِيعُونَ اللّهَ } ويعقدون العقد معه ،حتى إنه من شدة تأكده أنه قالَ { :يدُ اللّهِ
َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ } أي :كأنهم بايعوا ال وصافحوه بتلك المبايعة ،وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية،
وحملهم على الوفاء بها ،ولهذا قالَ { :فمَنْ َن َكثَ } فلم يف بما عاهد ال عليه { فَإِ ّنمَا يَ ْن ُكثُ عَلَى
َنفْسِهِ } أي :لن وبال ذلك راجع إليه ،وعقوبته واصلة لهَ { ،ومَنْ َأ ْوفَى ِبمَا عَاهَدَ عَلَ ْيهُ اللّهَ } أي:
عظِيمًا } ل يعلم عظمه وقدره إل الذي آتاه إياه.
أتى به كامل موفرا { ،فَسَ ُيؤْتِيهِ َأجْرًا َ
فظنوا { أَنْ لَنْ يَ ْنقَِلبَ الرّسُولُ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ إِلَى َأهْلِيهِمْ أَ َبدًا } أي :إنهم سيقتلون ويستأصلون ،ولم
يزل هذا الظن يزين في قلوبهم ،ويطمئنون إليه ،حتى استحكم ،وسبب ذلك أمران:
أحدها :أنهم كانوا { َق ْومًا بُورًا } أي :هلكى ،ل خير فيهم ،فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في
قلوبهم.
الثاني :ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد ال ،ونصر دينه ،وإعلء كلمته ،ولهذا قالَ { :ومَنْ َلمْ ُي ْؤمِنْ
سعِيرًا }
بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ } أي :فإنه كافر مستحق للعقاب { ،فَإِنّا أَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ َ
غفُورًا َرحِيمًا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَا ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ َيشَا ُء َوكَانَ اللّهُ َ
{ { } 14وَلِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
}
أي :هو تعالى المنفرد بملك السماوات والرض ،يتصرف فيهما بما يشاء من الحكام القدرية،
والحكام الشرعية ،والحكام الجزائية ،ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الحكام الشرعية،
فقالَ { :ي ْغفِرُ ِلمَنْ يَشَاءُ } وهو من قام بما أمره ال به { وَ ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاءُ } ممن تهاون بأمر ال،
غفُورًا َرحِيمًا } أي :وصفه اللزم الذي ل ينفك عنه المغفرة والرحمة ،فل يزال في
{ َوكَانَ اللّهُ َ
جميع الوقات يغفر للمذنبين ،ويتجاوز عن الخطائين ،ويتقبل توبة التائبين ،وينزل خيره المدرار،
آناء الليل والنهار.
{ { } 15سَ َيقُولُ ا ْلمُخَّلفُونَ إِذَا ا ْنطََلقْتُمْ إِلَى َمغَانِمَ لِتَ ْأخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّ ِب ْعكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُ َبدّلُوا كَلَامَ
سدُونَنَا َبلْ كَانُوا لَا َي ْف َقهُونَ إِلّا قَلِيلًا }
اللّهِ ُقلْ لَنْ تَتّ ِبعُونَا كَذَِل ُكمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ فَسَ َيقُولُونَ َبلْ َتحْ ُ
لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم ،ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
وأصحابه إذا انطلقوا إلى غنائم ل قتال فيها ليأخذوها ،طلبوا منهم الصحبة والمشاركة ،ويقولون:
{ ذَرُونَا نَتّ ِب ْعكُمْ يُرِيدُونَ } بذلك { أَنْ يُ َبدّلُوا كَلَامَ اللّهِ } حيث حكم بعقوبتهم ،واختصاص الصحابة
المؤمنين بتلك الغنائم ،شرعا وقدراُ { .قلْ } لهم { لَنْ تَتّ ِبعُونَا كَذَِلكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَ ْبلُ } إنكم
محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم ،وبما تركتم القتال أول مرة.
{ َفسَ َيقُولُونَ } مجيبين لهذا الكلم ،الذي منعوا به عن الخروجَ { :بلْ َتحْسُدُونَنَا } على الغنائم ،هذا
منتهى علمهم في هذا الموضع ،ولو فهموا رشدهم ،لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم ،وأن
المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية ،ولهذا قالَ { :بلْ كَانُوا لَا َيفْ َقهُونَ ِإلّا قَلِيلًا }
لما ذكر تعالى أن المخلفين من العراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله ،ويعتذرون بغير عذر،
وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ول قتال ،بل لمجرد الغنيمة ،قال تعالى ممتحنا لهم:
شدِيدٍ } أي :سيدعوكم الرسول ومن ناب
عوْنَ إِلَى َقوْمٍ أُولِي بَأْسٍ َ
{ ُقلْ لِ ْل ُمخَّلفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْ َ
منابه من الخلفاء الراشدين والئمة ،وهؤلء القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم.
{ ُتقَاتِلُو َنهُمْ َأوْ يُسِْلمُونَ } أي :إما هذا وإما هذا ،وهذا هو المر الواقع ،فإنهم في حال قتالهم
ومقاتلتهم لولئك القوام ،إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم ،فإنهم في تلك الحال ل يقبلون أن يبذلوا
الجزية ،بل إما أن يدخلوا في السلم ،وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه ،فلما أثخنهم المسلمون،
وضعفوا وذلوا ،ذهب بأسهم ،فصاروا إما أن يسلموا ،وإما أن يبذلوا الجزية { ،فَإِنْ ُتطِيعُوا }
الداعي لكم إلى قتال هؤلء { ُيؤْ ِتكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا } وهو الجر الذي رتبه ال ورسوله على
الجهاد في سبيل ال { ،وَإِنْ تَ َتوَّلوْا َكمَا َتوَلّيْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ } عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله،
{ ُي َعذّ ْبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } ودلت هذه الية على فضيلة الخلفاء الراشدين ،الداعين لجهاد أهل البأس من
الناس ،وأنه تجب طاعتهم في ذلك.
ج وَلَا
عمَى حَرَ ٌ
ثم ذكر العذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد ،فقال { :لَ ْيسَ عَلَى الْأَ ْ
علَى ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ } أي :في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع.
عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا َ
{ َومَنْ ُيطِعِ اللّ َه وَرَسُولَهُ } في امتثال أمرهما ،واجتناب نهيهما { يُ ْدخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا
الْأَ ْنهَارُ } فيها ما تشتهيه النفس ،وتلذ العينَ { ،ومَنْ يَ َتوَلّ } عن طاعة ال ورسوله { ُيعَذّبْهُ عَذَابًا
أَلِيمًا } فالسعادة كلها في طاعة ال ،والشقاوة في معصيته ومخالفته.
حتَ الشّجَ َرةِ َفعَلِمَ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ فَأَنْ َزلَ
ضيَ اللّهُ عَنِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ِإذْ يُبَا ِيعُو َنكَ َت ْ
{ َ { } 18-21لقَدْ َر ِ
حكِيمًا * وَعَ َدكُمُ اللّهُ
خذُو َنهَا َوكَانَ اللّهُ عَزِيزًا َ
سكِينَةَ عَلَ ْيهِ ْم وَأَثَا َبهُمْ فَ ْتحًا قَرِيبًا * َو َمغَانِمَ كَثِي َرةً يَأْ ُ
ال ّ
جلَ َلكُمْ َه ِذ ِه َوكَفّ أَ ْي ِديَ النّاسِ عَ ْنكُ ْم وَلِ َتكُونَ آ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَ َيهْدِ َي ُكمْ
خذُو َنهَا َف َع ّ
َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَأْ ُ
شيْءٍ قَدِيرًا }
صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا * وَأُخْرَى َلمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا قَدْ َأحَاطَ اللّهُ ِبهَا َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ
يخبر تعالى بفضله ورحمته ،برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى ال عليه وسلم تلك
المبايعة التي بيضت وجوههم ،واكتسبوا بها سعادة الدنيا والخرة ،وكان سبب هذه البيعة -التي
يقال لها "بيعة الرضوان" لرضا ال عن المؤمنين فيها ،ويقال لها "بيعة أهل الشجرة" -أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم لما دار الكلم بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه ،وأنه لم
يجئ لقتال أحد ،وإنما جاء زائرا هذا البيت ،معظما له ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسلم
عثمان بن عفان لمكة في ذلك ،فجاء خبر غير صادق ،أن عثمان قتله المشركون ،فجمع رسول
ال صلى ال عليه وسلم من معه من المؤمنين ،وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة ،فبايعوه تحت
شجرة على قتال المشركين ،وأن ل يفروا حتى يموتوا ،فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في
تلك الحال ،التي هي من أكبر الطاعات وأجل القرباتَ { ،فعَلِمَ مَا فِي قُلُو ِبهِمْ } من اليمان،
سكِينَةَ عَلَ ْيهِمْ } شكرا لهم على ما في قلوبهم ،زادهم هدى ،وعلم ما في قلوبهم من
{ فَأَنْ َزلَ ال ّ
الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله ،فأنزل عليهم السكينة تثبتهم،
وتطمئن بها قلوبهم { ،وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وهو :فتح خيبر ،لم يحضره سوى أهل الحديبية،
فاختصوا بخيبر وغنائمها ،جزاءا لهم ،وشكرا على ما فعلوه من طاعة ال تعالى والقيام
بمرضاته.
خذُو َنهَا } وهذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمين إلى يوم القيامة،
{ وَعَ َد ُكمُ اللّهُ َمغَانِمَ كَثِي َرةً تَأْ ُ
جلَ َلكُمْ َه ِذهِ } أي :غنيمة خيبر أي :فل تحسبوها وحدها ،بل ثم شيء كثير من الغنائم
{ َف َع ّ
سيتبعها { ،و } احمدوا ال إذ { كف أَيْدِي النّاسِ } القادرين على قتالكم ،الحريصين عليه { عَ ْنكُمْ }
فهي نعمة ،وتخفيف عنكم.
{ وَلِ َتكُونَ } هذه الغنيمة { آ َيةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } يستدلون بها على خبر ال الصادق ،ووعده الحق،
وثوابه للمؤمنين ،وأن الذي قدرها سيقدر غيرها { ،وَ َيهْدِ َيكُمْ } بما يقيض لكم من السباب
{ صِرَاطًا مُسْ َتقِيمًا } من العلم واليمان والعمل.
{ وَُأخْرَى } أي :وعدكم أيضا غنيمة أخرى { َلمْ َتقْدِرُوا عَلَ ْيهَا } وقت هذا الخطاب { ،قَدْ َأحَاطَ اللّهُ
ِبهَا } أي :هو قادر عليها ،وتحت تدبيره وملكه ،وقد وعدكموها ،فل بد من وقوع ما وعد به،
شيْءٍ َقدِيرًا }
لكمال اقتدار ال تعالى ،ولهذا قالَ { :وكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ
هذه بشارة من ال لعباده المؤمنين ،بنصرهم على أعدائهم الكافرين ،وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم
جدُونَ وَلِيّا } يتولى أمرهم { ،وَلَا َنصِيرًا } ينصرهم ويعينهم على قتالكم ،بل
{ َلوَّلوُا الَْأدْبَارَ ثُمّ لَا يَ ِ
هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة ال في المم السابقة ،أن جند ال هم الغالبون { ،وَلَنْ َتجِدَ ِلسُنّةِ
اللّهِ تَ ْبدِيلًا }
يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية ،من شر الكفار ومن قتالهم ،فقال { :وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ }
ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِمْ } أي :من بعد ما قدرتم
أي :أهل مكة { عَ ْن ُك ْم وَأَيْدِ َيكُمْ عَ ْن ُهمْ بِبَطْنِ َمكّةَ مِنْ َبعْدِ أَنْ َأ ْ
عليهم ،وصاروا تحت وليتكم بل عقد ول عهد ،وهم نحو ثمانين رجل ،انحدروا على المسلمين
ليصيبوا منهم غرة ،فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم ،فتركوهم ولم يقتلوهم ،رحمة من ال
بالمؤمنين إذ لم يقتلوهمَ { ،وكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرًا } فيجازي كل عامل بعمله ،ويدبركم أيها
المؤمنون بتدبيره الحسن.
ثم ذكر تعالى المور المهيجة على قتال المشركين ،وهي كفرهم بال ورسوله ،وصدهم رسول ال
ومن معه من المؤمنين ،أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة ،وهم الذين
أيضا صدوا { الهدي َم ْعكُوفًا } أي :محبوسا { أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ } وهو محل ذبحه وهو مكة ،فمنعوه
من الوصول إليه ظلما وعدوانا ،وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم ،ولكن ثم مانع وهو:
وجود رجال ونساء من أهل اليمان بين أظهر المشركين ،وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن
أن ل ينالهم أذى ،فلول هؤلء الرجال المؤمنون ،والنساء المؤمنات ،الذين ل يعلمهم المسلمون أن
تطأوهم ،أي :خشية أن تطأوهم { فَ ُتصِي َبكُمْ مِ ْنهُمْ َمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ } والمعرة :ما يدخل تحت قتالهم،
من نيلهم بالذى والمكروه ،وفائدة أخروية ،وهو :أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم
باليمان بعد الكفر ،وبالهدى بعد الضلل ،فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب.
{ َلوْ تَزَيّلُوا } أي :لو زالوا من بين أظهرهم { َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } بأن نبيح لكم
قتالهم ،ونأذن فيه ،وننصركم عليهم.
علَى َرسُولِهِ
سكِينَتَهُ َ
حمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ
حمِيّةَ َ
ج َعلَ الّذِينَ َكفَرُوا فِي قُلُو ِبهِمُ ا ْل َ
{ ِ { } 26إذْ َ
شيْءٍ عَلِيمًا }
ن وَأَلْ َز َمهُمْ كَِلمَةَ ال ّت ْقوَى َوكَانُوا َأحَقّ ِبهَا وَأَهَْلهَا َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
{ وَأَلْ َز َمهُمْ كَِل َمةَ ال ّت ْقوَى } وهي { ل إله إل ال } وحقوقها ،ألزمهم القيام بها ،فالتزموها وقاموا
حقّ ِبهَا } من غيرهم { و } كانوا { أهلها } الذين استأهلوها لما يعلم ال عندهم وفي
بهاَ { ،وكَانُوا أَ َ
شيْءٍ عَلِيمًا }
قلوبهم من الخير ،ولهذا قالَ { :وكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ،وخفيت عليهم حكمتها ،فبين تعالى
حكمتها ومنفعتها ،وهكذا سائر أحكامه الشرعية ،فإنها كلها ،هدى ورحمة.
سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَى } الذي هو العلم النافع ،الذي يهدي من
أخبر بحكم عام ،فقالُ { :هوَ الّذِي أَرْ َ
الضللة ،ويبين طرق الخير والشر.
وهو كل عمل صالح مزك للقلوب ،مطهر للنفوس ،مرب للخلق ،معل للقدار.
ظهِ َرهُ } بما بعثه ال به { عَلَى الدّينِ كُلّهِ } بالحجة والبرهان ،ويكون داعيا لخضاعهم بالسيف
{ لِ ُي ْ
والسنان.
يخبر تعالى عن رسوله صلى ال عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والنصار ،أنهم بأكمل
الصفات ،وأجل الحوال ،وأنهم { َأشِدّاءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ } أي :جادون ومجتهدون في عداوتهم،
وساعون في ذلك بغاية جهدهم ،فلم يروا منهم إل الغلظة والشدة ،فلذلك ذل أعداؤهم لهم،
حمَاءُ بَيْ َنهُمْ } أي :متحابون متراحمون متعاطفون ،كالجسد
وانكسروا ،وقهرهم المسلمونُ { ،ر َ
الواحد ،يحب أحدهم لخيه ما يحب لنفسه ،هذه معاملتهم مع الخلق ،وأما معاملتهم مع الخالق فإنك
سجّدًا } أي :وصفهم كثرة الصلة ،التي أجل أركانها الركوع والسجود.
{ تَرَاهُمْ ُر ّكعًا ُ
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } أي :قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها -في
وجوههم ،حتى استنارت ،لما استنارت بالصلة بواطنهم ،استنارت [بالجلل] ظواهرهم.
{ ذَِلكَ } المذكور { مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَاةِ } أي :هذا وصفهم الذي وصفهم ال به ،مذكور بالتوراة
هكذا.
وأما مثلهم في النجيل ،فإنهم موصوفون بوصف آخر ،وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَ ْرعٍ أَخْرَجَ
شطَْأهُ فَآزَ َرهُ } أي :أخرج فراخه ،فوازرته فراخه في الشباب والستواء.
َ
جبُ الزّرّاعَ }
{ فَاسْ َتغْلَظَ } ذلك الزرع أي :قوي وغلظ { فَاسْ َتوَى عَلَى سُوقِهِ } جمع ساقُ { ،يعْ ِ
من كماله واستوائه ،وحسنه واعتداله ،كذلك الصحابة رضي ال عنهم ،هم كالزرع في نفعهم
للخلق واحتياج الناس إليهم ،فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه ،وكون
الصغير والمتأخر إسلمه ،قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه ،من إقامة دين
ال والدعوة إليه ،كالزرع الذي أخرج شطأه ،فآزره فاستغلظ ،ولهذا قال { :لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْلكُفّارَ }
حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم ،وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال ،ومعامع
القتال.
ولنسق قصة الحديبية بطولها ،كما ساقها المام شمس الدين ابن القيم في { الهدي النبوي } فإن
فيها إعانة على فهم هذه السورة ،وتكلم على معانيها وأسرارها ،قال -رحمه ال تعالى-:
قال نافع :كانت سنة ست في ذي القعدة ،وهذا هو الصحيح ،وهو قول الزهري ،وقتادة ،وموسى
بن عقبة ،ومحمد بن إسحاق وغيرهم.
وقال هشام بن عروة ،عن أبيه :خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان،
وكانت في شوال ،وهذا وهم ،وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان .قال أبو السود عن عروة :إنها
كانت في ذي القعدة على الصواب.
وفي الصحيحين عن أنس ،أن النبي صلى ال عليه وسلم اعتمر أربع عمر ،كلهن في ذي القعدة،
فذكر منهن عمرة الحديبية ،وكان معه ألف وخمسمائة ،هكذا في الصحيحين عن جابر ،وعنه
فيهما :كانوا ألفا وأربعمائة ،وفيهما ،عن عبد ال بن أبي أوفى :كنا ألفا وثلثمائة ،قال قتادة :قلت
لسعيد بن المسيب :كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال :خمس عشرة مائة ،قال:
قلت :فإن جابر بن عبد ال قال :كانوا أربع عشرة مائة ،قال :يرحمه ال وهم ،وهو حدثني أنهم
كانوا خمس عشرة مائة ،قلت :وقد صح عن جابر القولن ،وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية
سبعين بدنة ،البدنة عن سبعة ،فقيل له :كم كنتم؟ قال :ألفا وأربعمائة ،بخيلنا ورجلنا ،يعني:
فارسهم وراجلهم.
والقلب إلى هذا أميل ،وهو قول البراء بن عازب ،ومعقل بن يسار ،وسلمة بن الكوع ،في أصح
الروايتين ،وقول المسيب بن حزن ،قال شعبة ،عن قتادة ،عن سعيد بن المسيب ،عن أبيه :كنا مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ،وغلط غلطا بينا من قال :كانوا
سبعمائة ،وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة ،والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة،
وهذا ل يدل على ما قاله هذا القائل ،فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة ،فلو
كانت السبعون عن جميعهم ،لكانوا أربعمائة وتسعين رجل ،وقد قال بتمام الحديث بعينه ،أنهم
كانوا ألفا وأربعمائة.
فصل
فلما كانوا بذي الحليفة ،قلد رسول ال صلى ال عليه وسلم الهدي وأشعره ،وأحرم بالعمرة ،وبعث
عينا له بين يديه من خزاعة ،يخبره عن قريش ،حتى إذا كانوا قريبا من عسفان ،أتاه عينه ،فقال:
إني قد تركت كعب بن لؤي ،قد جمعوا لك الحابيش ،وجمعوا لك جموعا ،وهم مقاتلوك وصادوك
عن البيت.
واستشار النبي صلى ال عليه وسلم أصحابه :أترون أن نميل إلى ذراري هؤلء الذين أعانوهم
فنصيبهم ،فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ،وإن نجوا تكن عنقا قطعها ال ،أم ترون أن نؤم
البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر :ال ورسوله أعلم ،إنما جئنا معتمرين ،ولم نجئ لقتال
أحد ،ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم" :فروحوا إذا"
فراحوا ،حتى إذا كانوا ببعض الطريق ،قال النبي صلى ال عليه وسلم" :إن خالد بن الوليد بالغميم
في خيل لقريش ،فخذوا ذات اليمين" ،فوال ما شعر بهم خالد ،حتى إذا هو بغبرة الجيش ،فانطلق
يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي صلى ال عليه وسلم ،حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ،بركت راحلته ،فقال
الناس :حل حل ،فألحت ،فقالوا :خلت القصواء ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم" :ما خلت
القصواء ،وما ذاك لها بخلق ،ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال" :والذي نفسي بيده ،ل يسألوني
خطة يعظمون فيها حرمات ال إل أعطيتموها" ثم زجرها ،فوثبت به ،فعدل حتى نزل بأقصى
الحديبية ،على ثمد قليل الماء ،إنما يتبرضه الناس تبرضا ،فلم يلبث الناس أن نزحوه ،فشكوا إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم العطش.
فانتزع سهما من كنانته ،ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ،قال :فوال ما زال يجيش لهم بالري حتى
صدروا عنها ،وفزعت قريش لنزوله عليهم ،فأحب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يبعث إليهم
رجل من أصحابه ،فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ،فقال :يا رسول ال ،ليس بمكة أحد من
بني كعب يغضب لي ،إن أوذيت ،فأرسل عثمان بن عفان ،فإن عشيرته بها ،وإنه مبلغ ما أردت.
فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم عثمان بن عفان ،فأرسله إلى قريش ،وقال" :أخبرهم أنا لم
نأت لقتال ،إنما جئنا عمارا ،وادعهم إلى السلم"
وأمره أن يأتي رجال بمكة مؤمنين ،ونساء مؤمنات ،فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ،ويخبرهم أن
ال عز وجل مظهر دينه بمكة ،حتى ل يستخفى فيها باليمان ،فانطلق عثمان ،فمر على قريش
ببلدح ،فقالوا :أين تريد؟ فقال :بعثني رسول ال صلى ال عليه وسلم أدعوكم إلى ال وإلى
السلم ،ونخبركم أنا لم نأت لقتال ،وإنما جئنا عمارا ،قالوا :قد سمعنا ما تقول ،فانفذ لحاجتك.
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ،فرحب به ،وأسرج فرسه ،فحمل عثمان على الفرس ،فأجاره،
وأردفه أبان حتى جاء مكة ،وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان :خلص عثمان قبلنا إلى البيت
وطاف به ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون" فقالوا:
وما يمنعه يا رسول ال وقد خلص؟ قال" :ذاك ظني به ،أن ل يطوف بالكعبة حتى نطوف معه"
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ،فرمى رجل من أحد الفريقين رجل من الفريق
الخر ،وكانت معركة ،وتراموا بالنبل والحجارة ،وصاح الفريقان كلهما ،وارتهن كل واحد من
الفريقين بمن فيهم ،وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم أن عثمان قد قتل ،فدعا إلى البيعة.
فثار المسلمون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو تحت الشجرة ،فبايعوه على أن ل يفروا،
فأخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم بيد نفسه ،وقال" :هذه عن عثمان" ولما تمت البيعة ،رجع
عثمان ،فقال له المسلمون :اشتفيت يا أبا عبد ال من الطواف بالبيت ،فقال :بئسما ظننتم بي،
والذي نفسي بيده ،لو مكثت بها سنة ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم ،مقيم بالحديبية ،ما طفت
بها حتى يطوف بها رسول ال صلى ال عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت،
فقال المسلمون :رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كان أعلمنا بال ،وأحسننا ظنا.
وكان عمر أخذ بيد رسول ال صلى ال عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ،فبايعه المسلمون كلهم إل
الجد ابن قيس ،وكان معقل بن يسار ،أخذ بغصنها يرفعه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وكان أول من بايعه ،أبو سنان السدي ،وبايعه سلمة بن الكوع ثلث مرات ،في أول الناس،
وأوسطهم ،وآخرهم.
فبينما هم كذلك ،إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ،في نفر من خزاعة ،وكانوا عيبة نصح لرسول
ال صلى ال عليه وسلم ،من أهل تهامة ،فقال :إني تركت كعب بن لؤي ،وعامر بن لؤي ،نزلوا
أعداد مياه الحديبية ،معهم العوذ المطافيل ،وهم مقاتلوك ،وصادوك عن البيت.
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :إنا لم نجئ لقتال أحد ،ولكن جئنا معتمرين ،وإن قريشا قد
نهكتهم الحرب وأضرت بهم ،فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس ،وإن شاءوا أن يدخلوا
فيما دخل فيه الناس فعلوا ،وإل فقد جموا ،وإن أبوا إل القتال ،فوالذي نفسي بيده ،لقاتلنهم على
أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ،أو لينفذن ال أمره" قال بديل :سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا ،فقال :إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ،وسمعته يقول قول ،فإن شئتم
عرضته عليكم ،فقال سفهاؤهم :ل حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ،وقال ذوو الرأي :منهم :هات
ما سمعته ،قال :سمعته يقول كذا وكذا ،فقال عروة بن مسعود الثقفي :إن هذا قد عرض عليكم
خطة رشد ،فاقبلوها ،ودعوني آته ،فقالوا :ائته ،فأتاه ،فجعل يكلمه ،فقال له النبي صلى ال عليه
وسلم نحوا من قوله لبديل ،فقال له عروة عند ذلك :أي :محمد ،أرأيت لو استأصلت قومك ،هل
سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الخرى ،فوال إني لرى وجوها ،وأرى
أوباشا من الناس ،خليقا أن يفروا ويدعوك ،فقال له أبو بكر :امصص بظر اللت ،أنحن نفر عنه
وندعه؟ قال :من ذا؟ قال :أبو بكر ،قال :أما والذي نفسي بيده ،لول يد كانت لك عندي لم أجزك
بها ،لجبتك.
وجعل يكلم النبي صلى ال عليه وسلم ،وكلما كلمه أخذ بلحيته ،والمغيرة بن شعبة على رأس
النبي صلى ال عليه وسلم ،ومعه السيف ،وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى
ال عليه وسلم ،ضرب يده بنعل السيف ،وقال :أخر يدك عن لحية رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فرفع عروة رأسه ،وقال :من ذا؟ قال :المغيرة بن شعبة ،فقال :أي :غدر ،أولست أسعى
في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية ،فقتلهم وأخذ أموالهم ،ثم جاء فأسلم ،فقال
النبي صلى ال عليه وسلم" :أما السلم فأقبل ،وأما المال فلست منه في شيء"
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فوال إن تنخم النبي صلى ال
عليه وسلم نخامة ،إل وقعت في كف رجل منهم ،فدلك بها جلده ووجهه.
وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ،وإذا توضأ ،كادوا يقتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم ،خفضوا
أصواتهم عنده ،وما يحدون إليه النظر ،تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه ،فقال :أي قوم ،وال لقد وفدت على الملوك ،على كسرى ،وقيصر،
والنجاشي ،وال ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ،ما يعظم أصحاب محمد محمدا ،وال ما تنخم
نخامة إل وقعت في كف رجل منهم ،فدلك بها وجهه وجلده ،وإذا أمرهم ابتدروا أمره ،وإذا توضأ
كادوا يقتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم ،خفضوا أصواتهم عنده ،وما يحدون إليه النظر تعظيما له،
وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فلما أشرف على النبي صلى ال عليه وسلم ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :هذا فلن ،وهو
من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ،فلما رأى ذلك ،قال :سبحان ال،
ل ينبغي لهؤلء أن يصدوا عن البيت.
فرجع إلى أصحابه ،فقال :رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ،وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام
مكرز بن حفص ،وقال :دعوني آته ،فقالوا :ائته ،فلما أشرف عليهم ،قال النبي صلى ال عليه
وسلم" :هذا مكرز بن حفص ،وهو رجل فاجر" فجعل يكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فبينا
هو يكلمه ،إذ جاء سهيل بن عمرو ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم" :قد سهل لكم من أمركم"
فقال :هات ،اكتب بيننا وبينك كتابا ،فدعا الكاتب ،فقال" :اكتب :بسم ال الرحمن الرحيم" فقال
سهيل :أما الرحمن ،فوال ما ندري ما هو ،ولكن اكتب" :باسمك اللهم" كما كنت تكتب ،فقال
المسلمون :وال ل نكتبها إل بسم ال الرحمن الرحيم.
ثم قال" :اكتب :هذا ما قاضى عليه محمد رسول ال " فقال سهيل :فوال لو نعلم أنك رسول ال،
ما صددناك عن البيت ول قاتلناك ،ولكن اكتب :محمد بن عبد ال ،فقال النبي صلى ال عليه
وسلم" :إني رسول ال وإن كذبتموني ،اكتب :محمد بن عبد ال " فقال النبي صلى ال عليه وسلم:
"على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل :وال ل تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة،
ولكن لك من العام المقبل ،فكتب.
فقال سهيل :على أن ل يأتيك منا رجل ،وإن كان على دينك ،إل رددته علينا.
فقال المسلمون :سبحان ال ،كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده ،قد خرج من أسفل مكة ،حتى رمى
بنفسه بين أظهر المسلمين ،فقال سهيل :هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ،أن ترده ،فقال النبي
صلى ال عليه وسلم" :إنا لم نقض الكتاب بعد" فقال :فوال إذا ل أصالحك على شيء أبدا ،فقال
النبي صلى ال عليه وسلم" :فأجزه لي" فقال :ما أنا بمجيزه ،فقال" :بلى فافعل" قال :ما أنا بفاعل،
قال مكرز :قد أجزناه.
فقال أبو جندل :يا معشر المسلمين ،أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ،أل ترون ما لقيت؟ وكان
قد عذب في ال عذابا شديدا.
قال عمر بن الخطاب :وال ما شككت منذ أسلمت إل يومئذ ،فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم،
فقلت :يا رسول ال ألست نبي ال؟ قال" :بلى" قلت :ألسنا على الحق ،وعدونا على الباطل؟ قال:
"بلى" فقلت :علم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم ال بيننا وبين أعدائنا؟ فقال" :إني
رسول ال ،وهو ناصري ،ولست أعصيه" قلت :أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال" :بلى ،أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت :ل ،قال" :فإنك آتيه ومطوف به"
قال :فأتيت أبا بكر ،فقلت له كما قلت لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،ورد عليه أبو بكر كما رد
عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم سواء ،وزاد :فاستمسك بغرزه حتى تموت ،فوال إنه لعلى
الحق ،قال عمر :فعملت لذلك أعمال.
فلما فرغ من قضية الكتاب ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :قوموا وانحروا ،ثم احلقوا"
فوال ما قام منهم رجل حتى قال ثلث مرات ،فلما لم يقم منهم أحد ،قام فدخل على أم سلمة،
فذكر لها ما لقي من الناس ،فقالت :يا رسول ال أتحب ذلك؟ اخرج ،ثم ل تكلم أحدا كلمة حتى
تنحر بدنك ،وتدعو حالقك فيحلق لك ،فقام فخرج ،فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ،نحر بدنه،
ودعا حالقه فحلقه ،فلما رأى الناس ذلك ،قاموا فنحروا ،وجعل بعضهم يحلق بعضا ،حتى كاد
بعضهم يقتل بعضا غما ،ثم جاءت نسوة مؤمنات ،فأنزل ال عز وجلِ { :إذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُمؤْمِنَاتُ
ُمهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ،فتزوج
إحداهما معاوية ،والخرى صفوان بن أمية ،ثم رجع إلى المدينة.
وفي مرجعه أنزل ال عليه { :إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلى آخرها ،فقال عمر :أفتح هو يا رسول
ال؟ فقال" :نعم" فقال الصحابة :هنيئا لك يا رسول ال ،فما لنا؟
الية .انتهى.
[وصلى ال على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،نقلته من خط المفسر رحمه ال وعفا عنه ،وكان
الفراغ من كتابته في 13ذي الحجة 1345وصلى ال على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين.
بقلم الفقير إلى ربه سليمان بن حمد العبد ال البسام .غفر ال له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
وصلى ال على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد ل
الذي بنعمته تتم الصالحات]
المجلد الثامن من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان من به ال على عبده وابن عبده
وابن أمته عبد الرحمن بن ناصر بن عبد ال بن سعدي.
حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُتقَ ّدمُوا بَيْنَ يَ َديِ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَا ّتقُوا اللّهَ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-3بِ ْ
جهَرُوا لَهُ
ي وَلَا تَ ْ
ص ْوتِ النّ ِب ّ
ق َ
صوَا َتكُمْ َفوْ َ
سمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ ْر َفعُوا َأ ْ
إِنّ اللّهَ َ
صوَا َتهُمْ عِنْدَ
شعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ َي ُغضّونَ َأ ْ
عمَاُل ُك ْم وَأَنْتُمْ لَا َت ْ
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ أَنْ َتحْبَطَ أَ ْ
جهْرِ َب ْع ِ
بِا ْلقَ ْولِ كَ َ
رَسُولِ اللّهِ أُولَ ِئكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ لِل ّت ْقوَى َلهُمْ َم ْغفِ َرةٌ وََأجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا متضمن للدب ،مع ال تعالى ،ومع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والتعظيم له ،واحترامه،
وإكرامه ،فأمر [ال] عباده المؤمنين ،بما يقتضيه اليمان ،بال وبرسوله ،من امتثال أوامر ال،
واجتناب نواهيه ،وأن يكونوا ماشين ،خلف أوامر ال ،متبعين لسنة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،في جميع أمورهم ،و [أن] ل يتقدموا بين يدي ال ورسوله ،ول يقولوا ،حتى يقول ،ول
يأمروا ،حتى يأمر ،فإن هذا ،حقيقة الدب الواجب ،مع ال ورسوله ،وهو عنوان سعادة العبد
وفلحه ،وبفواته ،تفوته السعادة البدية ،والنعيم السرمدي ،وفي هذا ،النهي [الشديد] عن تقديم قول
غير الرسول صلى ال عليه وسلم ،على قوله ،فإنه متى استبانت سنة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وجب اتباعها ،وتقديمها على غيرها ،كائنا ما كان
ثم أمر ال بتقواه عمومًا ،وهي كما قال طلق بن حبيب :أن تعمل بطاعة ال ،على نور من ال،
ترجو ثواب ال ،وأن تترك معصية ال ،على نور من ال ،تخشى عقاب ال.
سمِيعٌ } أي :لجميع الصوات في جميع الوقات ،في خفي المواضع والجهات{ ،
وقوله { :إِنّ اللّهَ َ
عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن ،والسوابق واللواحق ،والواجبات والمستحيلت والممكنات
وفي ذكر السمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي ال ورسوله ،والمر بتقواه -حث
على امتثال تلك الوامر الحسنة ،والداب المستحسنة ،وترهيب عن عدم المتثال
ثم مدح من غض صوته عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بأن ال امتحن قلوبهم للتقوى ،أي:
ابتلها واختبرها ،فظهرت نتيجة ذلك ،بأن صلحت قلوبهم للتقوى ،ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم،
المتضمنة لزوال الشر والمكروه ،والجر العظيم ،الذي ل يعلم وصفه إل ال تعالى ،وفي الجر
العظيم وجود المحبوب وفي هذا ،دليل على أن ال يمتحن القلوب ،بالمر والنهي والمحن ،فمن
لزم أمر ال ،واتبع رضاه ،وسارع إلى ذلك ،وقدمه على هواه ،تمحض وتمحص للتقوى ،وصار
قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك ،علم أنه ل يصلح للتقوى.
ن وَرَاءِ ا ْلحُجُرَاتِ َأكْثَرُ ُهمْ لَا َي ْعقِلُونَ * وََلوْ أَ ّن ُه ْم صَبَرُوا حَتّى
{ { } 4-5إِنّ الّذِينَ يُنَادُو َنكَ مِ ْ
غفُورٌ َرحِيمٌ }
تَخْرُجَ ِإلَ ْيهِمْ َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وَاللّهُ َ
نزلت هذه اليات الكريمة ،في أناس من العراب ،الذين وصفهم ال تعالى بالجفاء ،وأنهم أجدر
أن ل يعلموا حدود ما أنزل ال على رسوله ،قدموا وافدين على رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فوجدوه في بيته وحجرات نسائه ،فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج ،بل نادوه :يا محمد يا محمد،
[أي :اخرج إلينا] ،فذمهم ال بعدم العقل ،حيث لم يعقلوا عن ال الدب مع رسوله واحترامه ،كما
أن من العقل وعلمته استعمال الدب.
فأدب العبد ،عنوان عقله ،وأن ال مريد به الخير ،ولهذا قال { :وََلوْ أَ ّنهُ ْم صَبَرُوا حَتّى َتخْرُجَ إِلَ ْيهِمْ
غفُورٌ رَحِيمٌ } أي :غفور لما صدر عن عباده من الذنوب ،والخلل بالداب،
َلكَانَ خَيْرًا َلهُ ْم وَاللّهُ َ
رحيم بهم ،حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلت.
وهذا أيضًا ،من الداب التي على أولي اللباب ،التأدب بها واستعمالها ،وهو أنه إذا أخبرهم فاسق
بخبر أن يتثبتوا في خبره ،ول يأخذوه مجردًا ،فإن في ذلك خطرًا كبيرًا ،ووقوعًا في الثم ،فإن
خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل ،حكم بموجب ذلك ومقتضاه ،فحصل من تلف النفوس
والموال ،بغير حق ،بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة ،بل الواجب عند خبر الفاسق ،التثبت
والتبين ،فإن دلت الدلئل والقرائن على صدقه ،عمل به وصدق ،وإن دلت على كذبه ،كذب ،ولم
يعمل به ،ففيه دليل ،على أن خبر الصادق مقبول ،وخبر الكاذب ،مردود ،وخبر الفاسق متوقف
فيه كما ذكرنا ،ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج ،المعروفين بالصدق ،ولو
كانوا فساقًا.
{ { } 7-8وَاعَْلمُوا أَنّ فِيكُمْ َرسُولَ اللّهِ َلوْ يُطِي ُعكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الَْأمْرِ َلعَنِتّ ْم وََلكِنّ اللّهَ حَ ّببَ إِلَ ْيكُمُ
شدُونَ * َفضْلًا مِنَ
ن وَزَيّنَهُ فِي قُلُو ِبكُ ْم َوكَ ّرهَ ِإلَ ْيكُمُ ا ْل ُكفْرَ وَالْفُسُوقَ وَا ْل ِعصْيَانَ أُولَ ِئكَ ُهمُ الرّا ِ
الْإِيمَا َ
حكِيمٌ }
اللّ ِه وَ ِن ْعمَ ًة وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
أي :ليكن لديكم معلومًا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بين أظهركم ،وهو الرسول الكريم،
البار ،الراشد ،الذي يريد بكم الخير وينصح لكم ،وتريدون لنفسكم من الشر والمضرة ،ما ل
يوافقكم الرسول عليه ،ولو يطيعكم في كثير من المر لشق عليكم وأعنتكم ،ولكن الرسول
يرشدكم ،وال تعالى يحبب إليكم اليمان ،ويزينه في قلوبكم ،بما أودع ال في قلوبكم من محبة
الحق وإيثاره ،وبما ينصب على الحق من الشواهد ،والدلة الدالة على صحته ،وقبول القلوب
والفطر له ،وبما يفعله تعالى بكم ،من توفيقه للنابة إليه ،ويكره إليكم الكفر والفسوق ،أي :الذنوب
الكبار ،والعصيان :هي ما دون ذلك من الذنوب بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر ،وعدم
إرادة فعله ،وبما نصبه من الدلة والشواهد على فساده ،وعدم قبول الفطر له ،وبما يجعله ال من
الكراهة في القلوب له
{ أُولَ ِئكَ } أي :الذين زين ال اليمان في قلوبهم ،وحببه إليهم ،وكره إليهم الكفر والفسوق
شدُونَ } أي :الذين صلحت علومهم وأعمالهم ،واستقاموا على الدين القويم،
والعصيان { هُمُ الرّا ِ
والصراط المستقيم.
وضدهم الغاوون ،الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان ،وكره إليهم اليمان ،والذنب ذنبهم،
فإنهم لما فسقوا طبع ال على قلوبهم ،ولما { زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } ولما لم يؤمنوا بالحق لما
جاءهم أول مرة ،قلب ال أفئدتهم.
وقولهَ { :فضْلًا مِنَ اللّ ِه وَ ِن ْعمَةً } أي :ذلك الخير الذي حصل لهم ،هو بفضل ال عليهم وإحسانه،
ل بحولهم وقوتهم.
حكِيمٌ } أي :عليم بمن يشكر النعمة ،فيوفقه لها ،ممن ل يشكرها ،ول تليق به ،فيضع
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
فضله ،حيث تقتضيه حكمته.
هذا متضمن لنهي المؤمنين[ ،عن] أن يبغي بعضهم على بعض ،ويقاتل بعضهم بعضًا ،وأنه إذا
اقتتلت طائفتان من المؤمنين ،فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلفوا هذا الشر الكبير،
بالصلح بينهم ،والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح ،ويسلكوا الطريق الموصلة إلى
ذلك ،فإن صلحتا ،فبها ونعمت ،وإن { َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا عَلَى الُْأخْرَى َفقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى َتفِيءَ
إِلَى َأمْرِ اللّهِ } أي :ترجع إلى ما حد ال ورسوله ،من فعل الخير وترك الشر ،الذي من أعظمه،
القتتال[ ،وقوله] { فَإِنْ فَا َءتْ فََأصْلِحُوا بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ } هذا أمر بالصلح ،وبالعدل في الصلح ،فإن
الصلح ،قد يوجد ،ولكن ل يكون بالعدل ،بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين ،فهذا ليس هو
الصلح المأمور به ،فيجب أن ل يراعى أحدهما ،لقرابة ،أو وطن ،أو غير ذلك من المقاصد
حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ } أي :العادلين في حكمهم
والغراض ،التي توجب العدول عن العدل { ،إِنّ اللّهَ يُ ِ
بين الناس وفي جميع الوليات ،التي تولوها ،حتى إنه ،قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله،
وعياله ،في أدائه حقوقهم ،وفي الحديث الصحيح" :المقسطون عند ال ،على منابر من نور الذين
يعدلون في حكمهم وأهليهم ،وما ولوا"
خ َوةٌ } هذا عقد ،عقده ال بين المؤمنين ،أنه إذا وجد من أي شخص كان ،في
{ إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ إِ ْ
مشرق الرض ومغربها ،اليمان بال ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر ،فإنه أخ للمؤمنين،
أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ،ما يحبون لنفسهم ،ويكرهون له ،ما يكرهون لنفسهم ،ولهذا
قال النبي صلى ال عليه وسلم آمرًا بحقوق الخوة اليمانية" :ل تحاسدوا ،ول تناجشوا ،ول
تباغضوا ،ول يبع أحدكم على بيع بعض ،وكونوا عباد ال إخوانًا المؤمن أخو المؤمن ،ل يظلمه،
ول يخذله ،ول يحقره"
وقال صلى ال عليه وسلم "المؤمن للمؤمن ،كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك صلى ال عليه
وسلم بين أصابعه.
ولقد أمر ال ورسوله ،بالقيام بحقوق المؤمنين ،بعضهم لبعض ،وبما به يحصل التآلف والتوادد،
والتواصل بينهم ،كل هذا ،تأييد لحقوق بعضهم على بعض ،فمن ذلك ،إذا وقع القتتال بينهم،
الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [وتدابرها] ،فليصلح المؤمنون بين إخوانهم ،وليسعوا فيما به
يزول شنآنهم.
ثم أمر بالتقوى عمومًا ،ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى ال ،الرحمة [ فقالَ { :لعَّلكُمْ
حمُونَ } وإذا حصلت الرحمة ،حصل خير الدنيا والخرة ،ودل ذلك ،على أن عدم القيام بحقوق
تُرْ َ
المؤمنين ،من أعظم حواجب الرحمة.
وفي هاتين اليتين من الفوائد ،غير ما تقدم :أن القتتال بين المؤمنين مناف للخوة اليمانية،
ولهذا ،كان من أكبر الكبائر ،وأن اليمان ،والخوة اليمانية ،ل تزول مع وجود القتال كغيره من
الذنوب الكبار ،التي دون الشرك ،وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة ،وعلى وجوب
الصلح ،بين المؤمنين بالعدل ،وعلى وجوب قتال البغاة ،حتى يرجعوا إلى أمر ال ،وعلى أنهم
لو رجعوا ،لغير أمر ال ،بأن رجعوا على وجه ل يجوز القرار عليه والتزامه ،أنه ل يجوز
ذلك ،وأن أموالهم معصومة ،لن ال أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة ،دون
أموالهم.
وهذا أيضًا ،من حقوق المؤمنين ،بعضهم على بعض ،أن { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ َقوْمٍ } بكل كلم،
وقول ،وفعل دال على تحقير الخ المسلم ،فإن ذلك حرام ،ل يجوز ،وهو دال على إعجاب
الساخر بنفسه ،وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر ،كما هو الغالب والواقع ،فإن
السخرية ،ل تقع إل من قلب ممتلئ من مساوئ الخلق ،متحل بكل خلق ذميم ،ولهذا قال النبي
صلى ال عليه وسلم "بحسب امرئ من الشر ،أن يحقر أخاه المسلم"
سكُمْ } أي :ل يعب بعضكم على بعض ،واللمز :بالقول ،والهمز :بالفعل،
ثم قال { :وَلَا تَ ْلمِزُوا أَ ْنفُ َ
وكلهما منهي عنه حرام ،متوعد عليه بالنار.
كما قال تعالى { :وَ ْيلٌ ِل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ُلمَ َزةٍ } الية ،وسمي الخ المؤمن نفسًا لخيه ،لن المؤمنين
ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد ،ولنه إذا همز غيره ،أوجب للغير أن يهمزه ،فيكون
هو المتسبب لذلك.
{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَ ْلقَابِ } أي :ل يعير أحدكم أخاه ،ويلقبه بلقب ذم يكره أن يطلق عليه وهذا هو
التنابز ،وأما اللقاب غير المذمومة ،فل تدخل في هذا.
سمُ ا ْلفُسُوقُ َبعْدَ الْإِيمَانِ } أي :بئسما تبدلتم عن اليمان والعمل بشرائعه ،وما تقتضيه،
{ بِئْسَ الِا ْ
بالعراض عن أوامره ونواهيه ،باسم الفسوق والعصيان ،الذي هو التنابز باللقاب.
{ َومَنْ لَمْ يَ ُتبْ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } فهذا [هو] الواجب على العبد ،أن يتوب إلى ال تعالى،
ويخرج من حق أخيه المسلم ،باستحلله ،والستغفار ،والمدح له مقابلة [على] ذمه.
{ َومَنْ لَمْ يَ ُتبْ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ } فالناس قسمان :ظالم لنفسه غير تائب ،وتائب مفلح ،ول ثم
قسم ثالث غيرهما.
{ { } 12يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظّنّ إِنّ َب ْعضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسّسُوا وَلَا َيغْ َتبْ
ح ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ َلحْمَ َأخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُو ُه وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َتوّابٌ رَحِيمٌ }
حبّ أَ َ
ضكُمْ َب ْعضًا أَيُ ِ
َب ْع ُ
نهى ال تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين ،فـ { إِنّ َب ْعضَ الظّنّ إِثْمٌ } وذلك ،كالظن
الخالي من الحقيقة والقرينة ،وكظن السوء ،الذي يقترن به كثير من القوال ،والفعال المحرمة،
فإن بقاء ظن السوء بالقلب ،ل يقتصر صاحبه على مجرد ذلك ،بل ل يزال به ،حتى يقول ما ل
ينبغي ،ويفعل ما ل ينبغي ،وفي ذلك أيضًا ،إساءة الظن بالمسلم ،وبغضه ،وعداوته المأمور
بخلف ذلك منه.
{ وَلَا َتجَسّسُوا } أي :ل تفتشوا عن عورات المسلمين ،ول تتبعوها ،واتركوا المسلم على حاله،
واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت ،ظهر منها ما ل ينبغي.
ضكُمْ َب ْعضًا } والغيبة ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم { :ذكرك أخاك بما يكره
{ وَلَا َيغْ َتبْ َب ْع ُ
ولو كان فيه }
ح ُدكُمْ أَنْ يَ ْأ ُكلَ َلحْمَ َأخِيهِ مَيْتًا َفكَرِهْ ُتمُوهُ } شبه أكل
حبّ أَ َ
ثم ذكر مثلً منفرًا عن الغيبة ،فقال { :أَ ُي ِ
لحمه ميتًا ،المكروه للنفوس [غاية الكراهة] ،باغتيابه ،فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ،وخصوصًا
إذا كان ميتًا ،فاقد الروح ،فكذلك[ ،فلتكرهوا] غيبته ،وأكل لحمه حيًا.
{ وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َتوّابٌ رَحِيمٌ } والتواب ،الذي يأذن بتوبة عبده ،فيوفقه لها ،ثم يتوب عليه،
بقبول توبته ،رحيم بعباده ،حيث دعاهم إلى ما ينفعهم ،وقبل منهم التوبة ،وفي هذه الية ،دليل
على التحذير الشديد من الغيبة ،وأن الغيبة من الكبائر ،لن ال شبهها بأكل لحم الميت ،وذلك من
الكبائر.
يخبر تعالى أنه خلق بني آدم ،من أصل واحد ،وجنس واحد ،وكلهم من ذكر وأنثى ،ويرجعون
جميعهم إلى آدم وحواء ،ولكن ال [تعالى] بث منهما رجالً كثيرا ونساء ،وفرقهم ،وجعلهم شعوبًا
وقبائل أي :قبائل صغارًا وكبارًا ،وذلك لجل أن يتعارفوا ،فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه،
لم يحصل بذلك ،التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون ،والتوارث ،والقيام بحقوق
القارب ،ولكن ال جعلهم شعوبًا وقبائل ،لجل أن تحصل هذه المور وغيرها ،مما يتوقف على
التعارف ،ولحوق النساب ،ولكن الكرم بالتقوى ،فأكرمهم عند ال ،أتقاهم ،وهو أكثرهم طاعة
وانكفافًا عن المعاصي ،ل أكثرهم قرابة وقومًا ،ول أشرفهم نسبًا ،ولكن ال تعالى عليم خبير ،يعلم
من يقوم منهم بتقوى ال ،ظاهرًا وباطنًا ،ممن يقوم بذلك ،ظاهرًا ل باطنًا ،فيجازي كل ،بما
يستحق.
وفي هذه الية دليل على أن معرفة النساب ،مطلوبة مشروعة ،لن ال جعلهم شعوبًا وقبائل،
لجل ذلك.
يخبر تعالى عن مقالة العراب ،الذين دخلوا في السلم في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم،
دخولً من غير بصيرة ،ول قيام بما يجب ويقتضيه اليمان ،أنهم ادعوا مع هذا وقالوا :آمنا أي:
إيمانًا كاملً ،مستوفيًا لجميع أموره هذا موجب هذا الكلم ،فأمر ال رسوله ،أن يرد عليهم ،فقال:
{ ُقلْ َلمْ ُت ْؤمِنُوا } أي :ل تدعوا لنفسكم مقام اليمان ،ظاهرًا ،وباطنًا ،كاملً.
خلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } وإنما آمنتم خوفًا ،أو رجاء ،أو نحو
{ و } السبب في ذلك ،أنه { َلمّا َيدْ ُ
ذلك ،مما هو السبب في إيمانكم ،فلذلك لم تدخل بشاشة اليمان في قلوبكم ،وفي قوله { :وََلمّا
خلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ } أي :وقت هذا الكلم ،الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد
يَ ْد ُ
ذلك ،فإن كثيرًا منهم ،من ال عليهم باليمان الحقيقي ،والجهاد في سبيل ال { ،وَإِنْ ُتطِيعُوا اللّهَ
عمَاِلكُمْ شَيْئًا } أي :ل ينقصكم منها ،مثقال ذرة،
وَرَسُولَهُ } بفعل خير ،أو ترك شر { لَا يَلِ ْتكُمْ مِنْ أَ ْ
غفُورٌ َرحِيمٌ } أي:
بل يوفيكم إياها ،أكمل ما تكون ل تفقدون منها ،صغيرًا ،ول كبيرًا { ،إِنّ اللّهَ َ
غفور لمن تاب إليه وأناب ،رحيم به ،حيث قبل توبته.
{ إِ ّنمَا ا ْل ُمؤْمِنُونَ } أي :على الحقيقة { الّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ ثُمّ َلمْ يَرتَابُوا وَجَا َهدُوا بِأ ْموَاِلهِمْ
سهُم في سبيل ال } أي :من جمعوا بين اليمان والجهاد في سبيله ،فإن من جاهد الكفار ،دل
وَأنْفُ ِ
ذلك ،على اليمان التام في القلب ،لن من جاهد غيره على السلم ،والقيام بشرائعه ،فجهاده
لنفسه على ذلك ،من باب أولى وأحرى؛ ولن من لم يقو على الجهاد ،فإن ذلك ،دليل على ضعف
إيمانه ،وشرط تعالى في اليمان عدم الريب ،وهو الشك ،لن اليمان النافع هو الجزم اليقيني ،بما
أمر ال باليمان به ،الذي ل يعتريه شك ،بوجه من الوجوه.
وقوله { :أُولَ ِئكَ هُمُ الصّا ِدقُونَ } أي :الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة ،فإن الصدق ،دعوى
كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان ،وأعظم ذلك ،دعوى اليمان ،الذي
هو مدار السعادة ،والفوز البدي ،والفلح السرمدي ،فمن ادعاه ،وقام بواجباته ،ولوازمه ،فهو
الصادق المؤمن حقًا ،ومن لم يكن كذلك ،علم أنه ليس بصادق في دعواه ،وليس لدعواه فائدة ،فإن
اليمان في القلب ل يطلع عليه إل ال تعالى.
فإثباته ونفيه ،من باب تعليم ال بما في القلب ،وهذا سوء أدب ،وظن بال ،ولهذا قالُ { :قلْ
شيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا شامل
ض وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ
أَ ُتعَّلمُونَ اللّهَ ِبدِي ِنكُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ
للشياء كلها ،التي من جملتها ،ما في القلوب من اليمان والكفران ،والبر والفجور ،فإنه تعالى،
يعلم ذلك كله ،ويجازي عليه ،إن خيرًا فخير ،وإن شرًا فشر.
هذه حالة من أحوال من ادعى لنفسه اليمان ،وليس به ،فإنه إما أن يكون ذلك تعليمًا ل ،وقد علم
أنه عالم بكل شيء ،وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلم ،المنة على رسوله ،وأنهم قد بذلوا له
[وتبرعوا] بما ليس من مصالحهم ،بل هو من حظوظه الدنيوية ،وهذا تجمل بما ل يجمل ،وفخر
بما ل ينبغي لهم أن يفتخروا على رسوله به فإن المنة ل تعالى عليهم ،فكما أنه تعالى يمن
عليهم ،بالخلق والرزق ،والنعم الظاهرة والباطنة ،فمنته عليهم بهدايتهم إلى السلم ،ومنته عليهم
باليمان ،أعظم من كل شيء ،ولهذا قال تعالىَ { :يمُنّونَ عَلَ ْيكَ أَنْ َأسَْلمُوا ُقلْ لَا َتمُنّوا عََليّ
إِسْلَا َمكُمْ َبلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْيكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } .
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي :المور الخفية فيهما ،التي تخفى على الخلق ،كالذي
{ إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ غَ ْيبَ ال ّ
في لجج البحار ،ومهامه القفار ،وما جنه الليل أو واراه النهار ،يعلم قطرات المطار ،وحبات
الرمال ،ومكنونات الصدور ،وخبايا المور.
{ وما تسقط من ورقة إل يعلمها ول حبة في ظلمات الرض ول رطب ول يابس إل في كتاب
مبين }
{ وَاللّهُ َبصِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } يحصي عليكم أعمالكم ،ويوفيكم إياها ،ويجازيكم عليها بما تقتضيه
رحمته الواسعة ،وحكمته البالغة.
تم تفسير سورة الحجرات
تفسير سورة ق
وهي مكية
يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي :وسيع المعاني عظيمها ،كثير الوجوه كثير البركات ،جزيل
المبرات .والمجد :سعة الوصاف وعظمتها ،وأحق كلم يوصف بهذا ،هذا القرآن ،الذي قد
احتوى على علوم الولين والخرين ،الذي حوى من الفصاحة أكملها ،ومن اللفاظ أجزلها ،ومن
المعاني أعمها وأحسنها ،وهذا موجب لكمال اتباعه ،و [سرعة] النقياد له ،وشكر ال على المنة
به.
فتعجبوا من أمر ،ل ينبغي لهم التعجب منه ،بل يتعجب من عقل من تعجب منه.
{ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ } الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم ،ل نقص بذكائهم وآرائهم
إما صادقون في [استغرابهم و] تعجبهم ،فهذا يدل على غاية جهلهم ،وضعف عقولهم ،بمنزلة
المجنون ،الذي يستغرب كلم العاقل ،وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان،
وبمنزلة البخيل ،الذي يستغرب سخاء أهل السخاء ،فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله ؟
وهل تعجبه ،إل دليل على زيادة وظلمه وجهله؟ وإما أن يكونوا متعجبين ،على وجه يعلمون
خطأهم فيه ،فهذا من أعظم الظلم وأشنعه.
أيَ { :بلْ } كلمهم الذي صدر منهم ،إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق
{ َلمّا جَاءَ ُهمْ َفهُمْ فِي َأمْرٍ مَرِيجٍ } أي :مختلط مشتبه ،ل يثبتون على شيء ،ول يستقر لهم قرار،
فتارة يقولون عنك :إنك ساحر ،وتارة مجنون ،وتارة شاعر ،وكذلك جعلوا القرآن عضين ،كل
قال فيه ،ما اقتضاه رأيه الفاسد ،وهكذا ،كل من كذب بالحق ،فإنه في أمر مختلط ،ل يدرى له
وجهة ول قرار[ ،فترى أموره متناقضة مؤتفكة] كما أن من اتبع الحق وصدق به ،قد استقام
أمره ،واعتدل سبيله ،وصدق فعله قيله.
سمَاءِ َف ْو َقهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا َومَا َلهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَ ْرضَ
{ َ { } 6-11أفََلمْ يَنْظُرُوا إِلَى ال ّ
ي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ * تَ ْبصِ َرةً وَ ِذكْرَى ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ *
سَمَدَدْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ
سقَاتٍ َلهَا طَلْعٌ َنضِيدٌ *
خلَ بَا ِ
حصِيدِ * وَالنّ ْ
حبّ الْ َ
سمَاءِ مَاءً مُبَا َركًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَ َ
وَنَزّلْنَا مِنَ ال ّ
رِ ْزقًا لِ ْلعِبَا ِد وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ا ْلخُرُوجُ }
لما ذكر تعالى حالة المكذبين ،وما ذمهم به ،دعاهم إلى النظر في آياته الفقية ،كي يعتبروا،
سمَاءِ َف ْو َقهُمْ } أي :ل يحتاج ذلك
ويستدلوا بها ،على ما جعلت أدلة عليه فقالَ { :أفََلمْ يَنْظُرُوا ِإلَى ال ّ
النظر إلى كلفة وشد رحل ،بل هو في غاية السهولة ،فينظرون { كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا } قبة مستوية
الرجاء ،ثابتة البناء ،مزينة بالنجوم الخنس ،والجوار الكنس ،التي ضربت من الفق إلى الفق
في غاية الحسن والملحة ،ل ترى فيها عيبًا ،ول فروجًا ،ول خللًا ،ول إخللً.
قد جعلها ال سقفًا لهل الرض ،وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.
{ و } إلى { الرض كيف َمدَدْنَاهَا } ووسعناها ،حتى أمكن كل حيوان السكون فيها والستقرار
والستعداد لجميع مصالحه ،وأرساها بالجبال ،لتستقر من التزلزل ،والتموج { ،وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ ُكلّ
َزوْجٍ َبهِيجٍ } أي :من كل صنف من أصناف النبات ،التي تسر ناظرها ،وتعجب مبصرها ،وتقر
عين رامقها ،لكل بني آدم ،وأكل بهائمهم ومنافعهم ،وخص من تلك المنافع بالذكر ،الجنات
المشتملة على الفواكه اللذيذة ،من العنب والرمان والترج والتفاح ،وغير ذلك ،من أصناف
الفواكه ،ومن النخيل الباسقات ،أي :الطوال ،التي يطول نفعها ،وترتفع إلى السماء ،حتى تبلغ
مبلغًا ،ل يبلغه كثير من الشجار ،فتخرج من الطلع النضيد ،في قنوانها ،ما هو رزق للعباد ،قوتًا
وأدمًا وفاكهة ،يأكلون منه ويدخرون ،هم ومواشيهم وكذلك ما يخرج ال بالمطر ،وما هو أثره من
النهار ،التي على وجه الرض ،والتي تحتها من حب الحصيد ،أي :من الزرع المحصود ،من
بر وشعير ،وذرة ،وأرز ،ودخن وغيره.
فإن في النظر في هذه الشياء { تَ ْبصِ َرةً } يتبصر بها ،من عمى الجهل { ،وَ ِذكْرَى } يتذكر بها ،ما
ينفع في الدين والدنيا ،ويتذكر بها ما أخبر ال به ،وأخبرت به رسله ،وليس ذلك لكل أحد ،بل
{ ِل ُكلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } إلى ال أي :مقبل عليه بالحب والخوف والرجاء ،وإجابة داعيه ،وأما المكذب
والمعرض ،فما تغني اليات والنذر عن قوم ل يؤمنون.
وحاصل هذا ،أن ما فيها من الخلق الباهر ،والشدة والقوة ،دليل على كمال قدرة ال تعالى ،وما
فيها من الحسن والتقان ،وبديع الصنعة ،وبديع الخلقة دليل على أن ال أحكم الحاكمين ،وأنه
بكل شيء عليم ،وما فيها من المنافع والمصالح للعباد ،دليل على رحمة ال ،التي وسعت كل
شيء ،وجوده ،الذي عم كل حي ،وما فيها من عظم الخلقة ،وبديع النظام ،دليل على أن ال
تعالى ،هو الواحد الحد ،الفرد الصمد ،الذي لم يتخذ صاحبة ول ولدًا ،ولم يكن له كفوًا أحد ،وأنه
الذي ل تنبغي العبادة ،والذل [والحب] إل له تعالى.
وما فيها من إحياء الرض بعد موتها ،دليل على إحياء ال الموتى ،ليجازيهم بأعمالهم ،ولهذا قال:
{ وََأحْيَيْنَا بِهِ بَ ْل َدةً مَيْتًا كَذَِلكَ ا ْلخُرُوجُ }
ولما ذكرهم بهذه اليات السماوية والرضية ،خوفهم أخذات المم ،وأل يستمروا على ما هم عليه
من التكذيب ،فيصيبهم ما أصاب إخوانهم من المكذبين ،فقال:
خوَانُ لُوطٍ *
عوْنُ وَِإ ْ
س وَ َثمُودُ * وَعَا ٌد َوفِرْ َ
{ { } 12-15كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُوحٍ وََأصْحَابُ الرّ ّ
خلْقِ الَْأ ّولِ َبلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ
ق وَعِيدِ * َأ َفعَيِينَا بِالْ َ
سلَ َفحَ ّ
وََأصْحَابُ الْأَ ْيكَ ِة َو َقوْمُ تُبّعٍ ُكلّ كَ ّذبَ الرّ ُ
جدِيدٍ }
خَ ْلقٍ َ
أي :كذب الذين من قبلهم من المم ،رسلهم الكرام ،وأنبياءهم العظام ،كـ "نوح" كذبه قومه،
[وثمود كذبوا صالحًا] وعاد ،كذبوا "هودًا " وإخوان لوط كذبوا "لوطًا " وأصحاب اليكة كذبوا
"شعيبًا " وقوم تبع ،وتبع كل ملك ملك اليمن في الزمان السابق قبل السلم فقوم تبع كذبوا
الرسول ،الذي أرسله ال إليهم ،ولم يخبرنا ال من هو ذلك الرسول ،وأي تبع من التبابعة ،لنه
-وال أعلم -كان مشهورًا عند العرب لكونهم من العرب العرباء ،الذين ل تخفى ماجرياتهم على
العرب خصوصًا مثل هذه الحادثة العظيمة.
فهؤلء كلهم كذبوا الرسل ،الذين أرسلهم ال إليهم ،فحق عليهم وعيد ال وعقوبته ،ولستم أيها
المكذبون لمحمد صلى ال عليه وسلم ،خيرًا منهم ،ول رسلهم أكرم على ال من رسولكم،
فاحذروا جرمهم ،لئل يصيبكم ما أصابهم.
ثم استدل تعالى بالخلق الول -وهو المنشأ الول -على الخلق الخر ،وهو النشأة الخرة.
فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم ،كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى [الرفات] والرمم،
فقالَ { :أ َفعَيِينَا } أي :أفعجزنا وضعفت قدرتنا { بِالْخَ ْلقِ الَْأ ّولِ } ؟ ليس المر كذلك ،فلم نعجز
ونعي عن ذلك ،وليسوا في شك من ذلك ،وإنما هم في لبس من خلق جديد هذا الذي شكوا فيه،
والتبس عليهم أمره ،مع أنه ل محل للبس فيه ،لن العادة ،أهون من البتداء كما قال تعالى:
{ وَ ُهوَ الّذِي يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ وَ ُهوَ َأ ْهوَنُ عَلَيْهِ }
يخبر تعالى ،أنه المتفرد بخلق جنس النسان ،ذكورهم وإناثهم ،وأنه يعلم أحواله ،وما يسره،
ويوسوس في صدره وأنه أقرب إليه من حبل الوريد ،الذي هو أقرب شيء إلى النسان،
وهوالعرق المكتنف لثغرة النحر ،وهذا مما يدعو النسان إلى مراقبة خالقه ،المطلع على ضميره
وباطنه ،القريب منه في جميع أحواله ،فيستحي منه أن يراه ،حيث نهاه ،أو يفقده ،حيث أمره،
وكذلك ينبغي له أن يجعل الملئكة الكرام الكاتبين منه على بال ،فيجلهم ويوقرهم ،ويحذر أن يفعل
أو يقول ما يكتب عنه ،مما ل يرضي رب العالمين ،ولهذا قالِ { :إذْ يَتََلقّى ا ْلمُتََلقّيَانِ } أي :يتلقيان
شمَالِ } يكتب
عن العبد أعماله كلها ،واحد { عَنِ الْ َيمِينِ } يكتب الحسنات { و } الخر { عن ال ّ
السيئات ،وكل منهما { َقعِيدٌ } بذلك متهيئ لعمله الذي أعد له ،ملزم له
{ مَا يَ ْلفِظُ مِنْ َقوْلٍ } خير أو شر { إِلّا َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ } أي :مراقب له ،حاضر لحاله ،كما قال
تعالى { :وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ }
سكْ َرةُ ا ْل َموْتِ بِا ْلحَقّ ذَِلكَ مَا كُ ْنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ ذَِلكَ َيوْمُ
{ { } 19-22وَجَا َءتْ َ
شفْنَا عَ ْنكَ غِطَا َءكَ
غفْلَةٍ مِنْ َهذَا َفكَ َ
شهِيدٌ * َلقَدْ كُ ْنتَ فِي َ
ق وَ َ
ا ْلوَعِيدِ * وَجَا َءتْ ُكلّ َنفْسٍ َم َعهَا سَا ِئ ٌ
حدِيدٌ }
فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ َ
{ وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َذِلكَ َيوْمُ ا ْلوَعِيدِ } أي :اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم ال به من العقاب،
والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب.
شهِيدٌ }
{ وَجَا َءتْ ُكلّ َنفْسٍ َم َعهَا سَا ِئقٌ } يسوقها إلى موقف القيامة ،فل يمكنها أن تتأخر عنه { ،وَ َ
يشهد عليها بأعمالها ،خيرها وشرها ،وهذا يدل على اعتناء ال بالعباد ،وحفظه لعمالهم،
ومجازاته لهم بالعدل ،فهذا المر ،مما يجب أن يجعله العبد منه على بال ،ولكن أكثر الناس
غفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي :يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا
غافلون ،ولهذا قالَ { :لقَدْ كُ ْنتَ فِي َ
الكلم ،توبيخًا ،ولومًا وتعنيفًا أي :لقد كنت مكذبًا بهذا ،تاركًا للعمل له فالن { كشفنا عَ ْنكَ غِطَا َءكَ
حدِيدٌ } ينظر ما يزعجه
} الذي غطى قلبك ،فكثر نومك ،واستمر إعراضك { ،فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ َ
ويروعه ،من أنواع العذاب والنكال.
أو هذا خطاب من ال للعبد ،فإنه في الدنيا ،في غفلة عما خلق له ،ولكنه يوم القيامة ،ينتبه
ويزول عنه وسنه ،ولكنه في وقت ل يمكنه أن يتدارك الفارط ،ول يستدرك الفائت ،وهذا كله
تخويف من ال للعباد ،وترهيب ،بذكر ما يكون على المكذبين ،في ذلك اليوم العظيم.
جهَنّمَ ُكلّ َكفّارٍ عَنِيدٍ } أي :كثير الكفر والعناد ليات ال،
ويقال لمن استحق النار { :أَ ْلقِيَا فِي َ
المكثر من المعاصي ،المجترئ على المحارم والمآثم.
{ مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ } أي :يمنع الخير الذي عنده الذي أعظمه ،اليمان بال [وملئكته] وتبه ،ورسله
مناع ،لنفع ماله وبدنهُ { ،معْتَدٍ } على عباد ال ،وعلى حدوده { مُرِيبٍ } أي :شاك في وعد ال
ووعيده ،فل إيمان ول إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان ،والشك والريب ،والشح ،واتخاذ
ج َعلَ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آخَرَ } أي :عبد معه غيره ،ممن ل
اللهة من دون الرحمن ،ولهذا قال { :الّذِي َ
يملك لنفسه نفعًا ،ول ضرًا ،ول موتًا ول حياة ،ول نشورًا { ،فَأَ ْلقِيَاهُ } أيها الملكان القرينان { فِي
ا ْلعَذَابِ الشّدِيدِ } الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها.
{ مَا يُ َب ّدلُ ا ْلقَ ْولُ لَ َديّ } أي :ل يمكن أن يخلف ما قاله ال وأخبر به ،لنه ل أصدق من ال قيلً،
ول أصدق حديثًا.
{ َومَا أَنَا ِبظَلّامٍ ِل ْلعَبِيدِ } بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر ،فل يزاد في سيئاتهم ،ول ينقص من
حسناتهم.
ت وَ َتقُولُ َهلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِ َفتِ الْجَنّةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ غَيْرَ
جهَنّمَ َهلِ امْتَلَ ْأ ِ
{ َ { } 30-35يوْمَ َنقُولُ ِل َ
حمَنَ بِا ْلغَ ْيبِ َوجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا
شيَ الرّ ْ
حفِيظٍ * مَنْ خَ ِ
َبعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ َ
بِسَلَامٍ ذَِلكَ َيوْمُ الْخُلُودِ * َلهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
{ وَأُزِْل َفتِ الْجَنّةُ } أي :قربت بحيث تشاهد وينظر ما فيها ،من النعيم المقيم ،والحبرة والسرور،
وإنما أزلفت وقربت ،لجل المتقين لربهم ،التاركين للشرك ،صغيره وكبيره ،الممتثلين لوامر
حفِيظٍ } أي :هذه
ربهم ،المنقادين له ،ويقال لهم على وجه التهنئة { :هَذَا مَا تُوعَدُونَ ِل ُكلّ َأوّابٍ َ
الجنة وما فيها ،مما تشتهيه النفس ،وتلذ العين ،هي التي وعد ال كل أواب أي :رجاع إلى ال،
في جميع الوقات ،بذكره وحبه ،والستعانة به ،ودعائه ،وخوفه ،ورجائه.
حفِيظٍ } أي :يحافظ على ما أمر ال به ،بامتثاله على وجه الخلص والكمال له ،على أكمل
{ َ
الوجوه ،حفيظ لحدوده.
حمَنَ } أي :خافه على وجه المعرفة بربه ،والرجاء لرحمته ولزم على خشية ال
شيَ الرّ ْ
{ مَنْ خَ ِ
في حال غيبه أي :مغيبه عن أعين الناس ،وهذه هي الخشية الحقيقية ،وأما خشيته في حال نظر
الناس وحضورهم ،فقد تكون رياء وسمعة ،فل تدل على الخشية ،وإنما الخشية النافعة ،خشية ال
في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية ال بالغيب كالمراد باليمان بالغيب وأن هذا مقابل
للشهادة حيث يكون اليمان والخشية ضروريًا ل اختياريًا حيث يعاين العذاب وتأتي آيات ال وهذا
هو الظاهر
{ وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ } أي :وصفه النابة إلى موله ،وانجذاب دواعيه إلى مراضيه ،ويقال لهؤلء
التقياء البرار { :ا ْدخُلُوهَا بِسَلَامٍ } أي :دخولًا مقرونًا بالسلمة من الفات والشرور ،مأمونًا فيه
جميع مكاره المور ،فل انقطاع لنعيمهم ،ول كدر ول تنغيص { ،ذَِلكَ َيوْمُ الْخُلُودِ } الذي ل زوال
له ول موت ،ول شيء من المكدرات.
{ َل ُهمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } أي :كل ما تعلقت به مشيئتهم ،فهو حاصل فيها ولهم فوق ذلك { مَزِيدٌ }
أي :ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب
بشر ،وأعظم ذلك ،وأجله ،وأفضله ،النظر إلى وجه ال الكريم ،والتمتع بسماع كلمه ،والتنعم
بقربه ،نسأل ال تعالى أن يجعلنا منهم.
يقول تعالى -مخوفًا للمشركين المكذبين للرسولَ { -:وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مِنْ قَرْنٍ } أي :أمما كثيرة
هم أشد من هؤلء بطشًا أي :قوة وآثارًا في الرض.
ولهذا قال { :فَ َنقّبُوا فِي الْ ِبلَادِ } أي :بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة ،وغرسوا الشجار،
وأجروا النهار ،وزرعوا ،وعمروا ،ودمروا ،فلما كذبوا رسل ال ،وجحدوا آيات ال ،أخذهم ال
بالعقاب الليم ،والعذاب الشديد ،فـ { َهلْ مِنْ َمحِيصٍ } أي :ل مفر لهم من عذاب ال ،حين نزل
بهم ،ول منقذ ،فلم تغن عنهم قوتهم ،ول أموالهم ،ول أولدهم.
{ إِنّ فِي ذَِلكَ لَ ِذكْرَى ِلمَنْ كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ } أي :قلب عظيم حي ،ذكي ،زكي ،فهذا إذا ورد عليه
شيء من آيات ال ،تذكر بها ،وانتفع ،فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات ال ،واستمعها،
شهِيدٌ } أي :حاضر ،فهذا له أيضا ذكرى وموعظة ،وشفاء وهدى.
استماعًا يسترشد به ،وقلبه { َ
وأما المعرض ،الذي لم يلق سمعه إلى اليات ،فهذا ل تفيده شيئًا ،لنه ل قبول عنده ،ول تقتضي
حكمة ال هداية من هذا وصفه ونعته.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َومَا مَسّنَا مِنْ ُلغُوبٍ *
ت وَالْأَ ْر َ
سمَاوَا ِ
{ { } 38-40وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ
س َوقَ ْبلَ ا ْلغُرُوبِ * َومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْهُ
شمْ ِ
حمْدِ رَ ّبكَ قَ ْبلَ طُلُوعِ ال ّ
فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ وَسَبّحْ بِ َ
وَأَدْبَارَ السّجُودِ }
وهذا إخبار منه تعالى عن قدرته العظيمة ،ومشيئته النافذة ،التي أوجد بها أعظم المخلوقات
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد ،وآخرها يوم الجمعة ،من غير
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
{ ال ّ
تعب ،ول نصب ،ول لغوب ،ول إعياء ،فالذي أوجدها -على كبرها وعظمتها -قادر على إحياء
الموتى ،من باب أولى وأحرى.
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا َيقُولُونَ } من الذم لك والتكذيب بما جئت به ،واشتغل عنهم واله بطاعة ربك
وتسبيحه ،أول النهار وآخره ،وفي أوقات الليل ،وأدبار الصلوات .فإن ذكر ال تعالى ،مسل
للنفس ،مؤنس لها ،مهون للصبر.
أي { :وَاسْ َتمِعْ } بقلبك نداء المنادي وهو إسرافيل عليه السلم ،حين ينفخ في الصور { مِنْ َمكَانٍ
قَرِيبٍ } من الخلق
س َمعُونَ الصّيْحَةَ } أي :كل الخلئق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة { بالحق }
{ َيوْمَ يَ ْ
الذي ل شك فيه ول امتراء.
{ ذَِلكَ َيوْمُ ا ْلخُرُوجِ } من القبور ،الذي انفرد به القادر على كل شيء ،ولهذا قال { :إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي
شقّقُ الْأَ ْرضُ عَ ْنهُمْ } أي :عن الموات
ت وَإِلَيْنَا ا ْل َمصِيرُ َيوْمَ َت َ
وَ ُنمِي ُ
{ َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَا َيقُولُونَ } لك ،مما يحزنك ،من الذى ،وإذا كنا أعلم بذلك ،فقد علمت كيف
اعتناؤنا بك ،وتيسيرنا لمورك ،ونصرنا لك على أعدائك ،فليفرح قلبك ،ولتطمئن نفسك ،ولتعلم
أننا أرحم بك وأرأف ،من نفسك ،فلم يبق لك إل انتظار وعد ال ،والتأسي بأولي العزم ،من رسل
الَ { ،ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ } أي :مسلط عليهم { إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ ْنذِ ٌر وَِلكُلّ َقوْمٍ هَادٍ } ولهذا قال:
ف وَعِيدِ } والتذكير[ ،هو] تذكير ما تقرر في العقول والفطر ،من محبة
{ َف َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ يَخَا ُ
الخير وإيثاره ،وفعله ،ومن بغض الشر ومجانبته ،وإنما يتذكر بالتذكير ،من يخاف وعيد ال ،وأما
من لم يخف الوعيد ،ولم يؤمن به ،فهذا فائدة تذكيره ،إقامة الحجة عليه ،لئل يقول { :ما جاءنا من
بشير ول نذير }
هذا قسم من ال الصادق في قيله ،بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل ال فيها من المصالح
والمنافع ،ما جعل على أن وعده صدق ،وأن الدين الذي هو يوم الجزاء والمحاسبة على
العمال ،لواقع ل محالة ،ما له من دافع ،فإذا أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه ،وأقام
الدلة والبراهين عليه ،فلم يكذب به المكذبون ،ويعرض عن العمل له العاملون.
والمراد بالذاريات :هي الرياح التي تذروا ،في هبوبها { َذرْوًا } بلينها ،ولطفها ،ولطفها
وقوتها ،وإزعاجها.
{ فَا ْلحَامِلَاتِ ِو ْقرًا } السحاب ،تحمل الماء الكثير ،الذي ينفع ال به البلد والعباد.
سرًا } النجوم ،التي تجري على وجه اليسر والسهولة ،فتتزين بها السماوات،
{ فا ْلجَا ِريَاتِ ُي ْ
ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر ،وينتفع بالعتبار بها.
ت َأ ْمرًا } الملئكة التي تقسم المر وتدبره بإذن ال ،فكل منهم ،قد جعله ال على
سمَا ِ
{ فا ْلمُ َق ّ
تدبير أمر من أمور الدنيا وأمور الخرة ،ل يتعدى ما قدر له وما حد ورسم ،ول ينقص منه.
ن ُأ ِفكَ }
عنْ ُه مَ ْ
ختَلِفٍ * ُي ْؤفَكُ َ
ل ُم ْ
ك * ِإ ّنكُمْ َلفِي قَوْ ٍ
ح ُب ِ
سمَاءِ ذَاتِ ا ْل ُ
{ { } 7-9وَال ّ
أي :والسماء ذات الطرائق الحسنة ،التي تشبه حبك الرمال ،ومياه الغدران ،حين يحركها
النسيم.
خرّاصُونَ } أي :قاتل ال الذين كذبوا على ال ،وجحدوا آياته ،وخاضوا
يقول تعالىُ { :قتِلَ ا ْل َ
بالباطل ،ليدحضوا به الحق ،الذين يقولون على ال ما ل يعلمون.
ن}
غ ْمرَ ٍة } أي :في لجة من الكفر ،والجهل ،والضلل { ،سَاهُو َ
ن ُهمْ فِي َ
{ اّلذِي َ
ن } على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي :متى يبعثون ،مستبعدين لذلك ،فل تسأل
سأَلُو َ
{ َي ْ
عن حالهم وسوء مآلهم
خذِينَ مَا آتَا ُهمْ َربّ ُهمْ ِإ ّن ُهمْ كَانُوا َقبْلَ ذَِلكَ
ن*آِ
عيُو ٍ
جنّاتٍ وَ ُ
ن فِي َ
ن ا ْل ُمتّقِي َ
{ { } 15-19إِ ّ
حقّ
س َتغْ ِفرُونَ * َوفِي َأمْوَاِل ِهمْ َ
ن الّليْلِ مَا َي ْهجَعُونَ * َوبِا ْلَأسْحَارِ ُهمْ َي ْ
ن * كَانُوا قَلِيلًا مِ َ
حسِنِي َ
ُم ْ
حرُومِ }
لِلسّائِلِ وَا ْل َم ْ
ن ا ْل ُمتّقِينَ }
يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم ،التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء { :إِ ّ
جنّاتِ } مشتملت على جميع
أي :الذين كانت التقوى شعارهم ،وطاعة ال دثارهم { ،فِي َ
[أصناف] الشجار ،والفواكه ،التي يوجد لها نظير في الدنيا ،والتي ل يوجد لها نظير ،مما لم
ن } سارحة،
عيُو ٍ
تنظر العيون إلى مثله ،ولم تسمع الذان ،ولم يخطر على قلوب العباد { َو ُ
تشرب منها تلك البساتين ،ويشرب بها عباد ال ،يفجرونها تفجيرًا.
ن مَا آتَا ُهمْ َر ّب ُهمْ } يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولهم جميع مناهم ،من
خذِي َ
{آِ
جميع أصناف النعيم ،فأخذوا ذلك ،راضين به ،قد قرت به أعينهم ،وفرحت به نفوسهم ،ولم
يطلبوا منه بدلً ،ول يبغون عنه حولً ،وكل قد ناله من النعيم ،ما ل يطلب عليه المزيد،
ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا ،وأنهم آخذون ما آتاهم ال ،من الوامر والنواهي،
أي :قد تلقوها بالرحب ،وانشراح الصدر ،منقادين لما أمر ال به ،بالمتثال على أكمل الوجوه،
ولما نهى عنه ،بالنزجار عنه ل ،على أكمل وجه ،فإن الذي أعطاهم ال من الوامر
والنواهي ،هو أفضل العطايا ،التي حقها ،أن تتلقى بالشكر [ل] عليها ،والنقياد.
والمعنى الول ،ألصق بسياق الكلم ،لنه ذكر وصفهم في الدنيا ،وأعمالهم بقولهِ { :إ ّن ُهمْ كَانُوا
ن } وهذا شامل لحسانهم بعبادة ربهم،
حسِنِي َ
َقبْلَ ذَِلكَ } الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم { ُم ْ
بأن يعبدوه كأنهم يرونه ،فإن لم يكونوا يرونه ،فإنه يراهم ،وللحسان إلى عباد ال ببذل النفع
والحسان ،من مال ،أو علم ،أو جاه أو نصيحة ،أو أمر بمعروف ،أو نهي عن منكر ،أو غير
ذلك من وجوه الحسان وطرق الخيرات.
حتى إنه يدخل في ذلك ،الحسان بالقول ،والكلم اللين ،والحسان إلى المماليك ،والبهائم
المملوكة ،وغير المملوكة من أفضل أنواع الحسان في عبادة الخالق ،صلة الليل ،الدالة على
ل مَا
الخلص ،وتواطؤ القلب واللسان ،ولهذا قال { :كَانُوا } أي :المحسنون { قَلِيلًا ِمنَ الّليْ ِ
ن } أي :كان هجوعهم أي :نومهم بالليل ،قليلً ،وأما أكثر الليل ،فإنهم قانتون لربهم ،ما
جعُو َ
َي ْه َ
بين صلة ،وقراءة ،وذكر ،ودعاء ،وتضرع.
حقّ } واجب ومستحب { لِلسّائِلِ وَا ْل َمحْرُو ِم } أي :للمحتاجين الذين يطلبون من
{ َوفِي َأ ْموَاِل ِهمْ َ
الناس ،والذين ل يطلبون منهم
ن}
ض آيَاتٌ لِ ْلمُوقِنِي َ
يقول تعالى -داعيًا عباده إلى التفكر والعتبارَ { :-وفِي ا ْلَأرْ ِ
وذلك شامل لنفس الرض ،وما فيها ،من جبال وبحار ،وأنهار ،وأشجار ،ونبات تدل المتفكر
فيها ،المتأمل لمعانيها ،على عظمة خالقها ،وسعة سلطانه ،وعميم إحسانه ،وإحاطة علمه،
بالظواهر والبواطن .وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن ال
وحده الحد الفرد الصمد ،وأنه لم يخلق الخلق سدى.
سمَا ِء رِ ْز ُقكُمْ } أي مادة رزقكم ،من المطار ،وصنوف القدار ،الرزق الديني
وقولهَ { :وفِي ال ّ
ن } من الجزاء في الدنيا والخرة ،فإنه ينزل من عند ال ،كسائر
عدُو َ
والدنيويَ { ،ومَا تُو َ
القدار.
فلما بين اليات ونبه عليها تنبيهًا ،ينتبه به الذكي اللبيب ،أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه
حقّ
سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ ِإنّ ُه َل َ
حق ،وشبه ذلك ،بأظهر الشياء [لنا] وهو النطق ،فقال { :فَ َورَبّ ال ّ
ِمثْلَ مَا َأ ّن ُكمْ َت ْنطِقُونَ } فكما ل تشكون في نطقكم ،فكذلك ل ينبغي الشك في البعث بعد الموت
ن } أي :أنتم
{ ِإ ْذ َدخَلُوا عََليْ ِه فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ } مجيبًا لهم { سَلَامٌ } أي :عليكم { قَ ْومٌ ُم ْن َكرُو َ
قوم منكرون ،فأحب أن تعرفوني بأنفسكم ،ولم يعرفهم إل بعد ذلك.
سمِينٍ فَ َق ّربَهُ
ولهذا راغ إلى أهله أي :ذهب سريعًا في خفية ،ليحضر لهم قراهمَ { ،فجَا َء ِب ِعجْلٍ َ
إَِل ْي ِهمْ } وعرض عليهم الكل ،فـ { قَالَ أَلَا َت ْأكُلُونَ َفأَ ْوجَسَ ِم ْن ُهمْ خِي َفةً } حين رأى أيديهم ل
شرُو ُه ِبغُلَامٍ عَلِيمٍ } وهو :إسحاق عليه
خفْ } وأخبروه بما جاؤوا له { َو َب ّ
تصل إليه { ،قَالُوا لَا َت َ
السلم.
صكّتْ
صرّةٍ } أي :صيحة { َف َ
فلما سمعت المرأة البشارة { أقبلت } فرحة مستبشرة { فِي َ
ج َههَا } وهذا من جنس ما يجري من لنساء عند السرور [ونحوه] من القوال والفعال
َو ْ
عجُوزٌ عَقِيمٌ } أي :أنى لي الولد ،وأنا عجوز ،قد بلغت من
المخالفة للطبيعة والعادةَ { ،وقَالَتْ َ
السن ،ما ل تلد معه النساء ،ومع ذلك ،فأنا عقيم ،غير صالح رحمي للولدة أصلً ،فثم
مانعان ،كل منهما مانع من الولد ،وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها { :وَ َهذَا َبعْلِي
ب}
عجِي ٌ
شيْءٌ َ
ش ْيخًا ِإنّ َهذَا َل َ
َ
ل َربّكِ } أي :ال الذي قدر ذلك وأمضاه ،فل عجب في قدرة ال تعالى { ِإنّهُ
{ قَالُوا َكذَِلكِ قَا َ
حكِي ُم ا ْلعَلِيمُ } أي :الذي يضع الشياء مواضعها ،وقد وسع كل شيء علمًا فسلموا لحكمه،
هُ َو ا ْل َ
واشكروه على نعمته.
منها :أن من الحكمة ،قص ال على عباده نبأ الخيار والفجار ،ليعتبروا بحالهم وأين وصلت
بهم الحوال.
ومنها :فضل إبراهيم الخليل ،عليه الصلة والسلم ،حيث ابتدأ ال قصته ،بما يدل على
الهتمام بشأنها ،والعتناء بها.
ومنها :مشروعية الضيافة ،وأنها من سنن إبراهيم الخليل ،الذي أمر ال هذا النبي وأمته ،أن
يتبعوا ملته ،وساقها ال في هذا الموضع ،على وجه المدح له والثناء.
ومنها :أن الضيف يكرم بأنواع الكرام ،بالقول ،والفعل ،لن ال وصف أضياف إبراهيم،
بأنهم مكرمون ،أي :أكرمهم إبراهيم ،ووصف ال ما صنع بهم من الضيافة ،قولً وفعلً،
ومكرمون أيضًا عند ال تعالى.
ومنها :أن إبراهيم عليه السلم ،قد كان بيته ،مأوى للطارقين والضياف ،لنهم دخلوا عليه
من غير استئذان ،وإنما سلكوا طريق الدب ،في البتداء السلم فرد عليهم إبراهيم سلمًا،
أكمل من سلمهم وأتم ،لنه أتى به جملة اسمية ،دالة على الثبوت والستمرار.
ومنها :مشروعية تعرف من جاء إلى النسان ،أو صار له فيه نوع اتصال ،لن في ذلك،
فوائد كثيرة.
ومنها :المبادرة إلى الضيافة والسراع بها ،لن خير البر عاجله [ولهذا بادر إبراهيم بإحضار
قرى أضيافه].
ومنها :أن الذبيحة الحاضرة ،التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر إذا جعلت له ،ليس فيها
أقل إهانة ،بل ذلك من الكرام ،كما فعل إبراهيم عليه السلم ،وأخبر ال أن ضيفه مكرمون.
ومنها :ما من ال به على خليله إبراهيم ،من الكرم الكثير ،وكون ذلك حاضرًا عنده وفي بيته
معدًا ،ل يحتاج إلى أن يأتي به من السوق ،أو الجيران ،أو غير ذلك.
ومنها :أن إبراهيم ،هو الذي خدم أضيافه ،وهو خليل الرحمن ،وكبير من ضيف الضيفان.
ومنها :أنه قربه إليهم في المكان الذي هم فيه ،ولم يجعله في موضع ،ويقول لهم { :تفضلوا،
أو ائتوا إليه } لن هذا أيسر عليهم وأحسن.
ومنها :حسن ملطفة الضيف في الكلم اللين ،خصوصًا ،عند تقديم الطعام إليه ،فإن إبراهيم
عرض عليهم عرضًا لطيفًا ،وقال { :أَلَا َت ْأكُلُونَ } ولم يقل { :كلوا } ونحوه من اللفاظ ،التي
غيرها أولى منها ،بل أتى بأداة العرض ،فقال { :أَلَا َت ْأكُلُونَ } فينبغي للمقتدي به أن يستعمل
من اللفاظ الحسنة ،ما هو المناسب واللئق بالحال ،كقوله لضيافه { :أل تأكلون } أو" :أل
تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه.
ومنها :أن من خاف من النسان لسبب من السباب ،فإن عليه أن يزيل عنه الخوف ،ويذكر
له ما يؤمن روعه ،ويسكن جأشه ،كما قالت الملئكة لبراهيم [لما خافهم] { :لَا َتخَفْ }
وأخبروه بتلك البشارة السارة ،بعد الخوف منهم.
ومنها :شدة فرح سارة ،امرأة إبراهيم ،حتى جرى منها ما جرى ،من صك وجهها ،وصرتها
غير المعهودة.
ومنها :ما أكرم ال به إبراهيم وزوجته سارة ،من البشارة ،بغلم عليم.
حرٌ َأوْ
ل سَا ِ
ن * َفتَوَلّى ِب ُركْنِ ِه َوقَا َ
َ { } 38-40وفِي مُوسَى ِإذْ َأ ْرسَ ْلنَاهُ إِلَى ِفرْعَ ْونَ ِبسُ ْلطَانٍ ُمبِي ٍ
جنُودَ ُه َف َنبَ ْذنَا ُهمْ فِي ا ْل َيمّ وَ ُهوَ مُلِيمٌ }
خ ْذنَاهُ َو ُ
ن * َفأَ َ
جنُو ٌ
َم ْ
أيَ { :وفِي مُوسَى } وما أرسله ال به إلى فرعون وملئه ،باليات البينات ،والمعجزات
الظاهرات ،آية للذين يخافون العذاب الليم ،فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين ،فتولى
فرعون { ِب ُر ْكنِهِ } أي :أعرض بجانبه عن الحق ،ولم يلتفت إليه ،وقدح فيه أعظم القدح فقالوا:
ن } أي :إن موسى ،ل يخلو ،إما أن يكون أتى به شعبذة ليس من الحق في
جنُو ٌ
حرٌ أَ ْو َم ْ
{ سَا ِ
شيء ،وإما أن يكون مجنونًا ،ل يؤخذ بما صدر منه ،لعدم عقله.
حدُوا ِبهَا
جَهذا ،وقد علموا ،خصوصًا فرعون ،أن موسى صادق ،كما قال تعالىَ { :و َ
ت مَا َأ ْنزَلَ َهؤُلَاءِ إِلّا رَبّ
سهُ ْم [ظُلْمًا وَعُُلوّا] } وقال موسى لفرعون { :لَ َقدْ عَِلمْ َ
س َتيْ َق َن ْتهَا َأنْ ُف ُ
وَا ْ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ [ َبصَائِرَ } الية]،
ال ّ
جنُودَهُ َف َن َب ْذنَا ُهمْ فِي ا ْل َيمّ وَهُ َو مُلِي ٌم } أي :مذنب طاغ ،عات على ال ،فأخذه عزيز
خذْنَاهُ َو ُ
{ َفَأ َ
مقتدر.
جعََلتْهُ
شيْءٍ َأتَتْ عََل ْيهِ إِلّا َ
{ َ { } 41-42وفِي عَا ٍد ِإذْ َأ ْرسَ ْلنَا عََل ْي ِهمُ الرّيحَ ا ْلعَقِيمَ * مَا َتذَرُ ِمنْ َ
كَال ّرمِيمِ }
جعََلتْهُ كَال ّرمِيمِ } أي :كالرميم البالية ،فالذي أهلكهم على قوتهم
شيْءٍ َأتَتْ عََل ْيهِ إِلّا َ
ن َ
{ مَا َت َذرُ مِ ْ
وبطشهم ،دليل على [كمال] قوته واقتداره ،الذي ل يعجزه شيء ،المنتقم ممن عصاه.
خذَ ْت ُهمُ
ن َأ ْمرِ َربّ ِهمْ َفَأ َ
ن * َف َعتَوْا عَ ْ
حتّى حِي ٍ
{ َ { } 43-45وفِي َثمُو َد ِإذْ قِيلَ َل ُهمْ َت َم ّتعُوا َ
صرِينَ }
ن ِقيَامٍ َومَا كَانُوا ُم ْنتَ ِ
ستَطَاعُوا مِ ْ
ن * َفمَا ا ْ
ظرُو َ
الصّاعِقَةُ وَ ُه ْم َينْ ُ
أي { َوفِي َثمُودَ } [آية عظيمة] ،حين أرسل ال إليهم صالحًا عليه السلم ،فكذبوه وعاندوه،
وبعث ال له الناقة ،آية مبصرة ،فلم يزدهم ذلك إل عتوًا ونفورًا.
ن } لنفسهم.
صرِي َ
س َتطَاعُوا ِمنْ ِقيَامٍ } ينجون به من العذابَ { ،ومَا كَانُوا ُم ْنتَ ِ
{ َفمَا ا ْ
أي :وكذلك ما فعل ال بقوم نوح ،حين كذبوا نوحًا عليه السلم وفسقوا عن أمر ال ،فأرسل
ال عليهم السماء والرض بالماء المنهمر ،فأغرقهم ال تعالى [عن آخرهم] ،ولم يبق من
الكافرين ديارًا ،وهذه عادة ال وسنته ،فيمن عصاه.
فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات ،وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات.
فلما دعا العباد النظر إلى لياته الموجبة لخشيته والنابة إليه ،أمر بما هو المقصود من ذلك،
وهو الفرار إليه أي :الفرار مما يكرهه ال ظاهرًا وباطنًا ،إلى ما يحبه ،ظاهرًا وباطنًا ،فرار
من الجهل إلى العلم ،ومن الكفر إلى اليمان ،ومن المعصية إلى الطاعة ،و من الغفلة إلى ذكر
ال فمن استكمل هذه المور ،فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب ،وحصل له ،نهاية
المراد والمطلوب.
وسمى ال الرجوع إليه ،فرارَا ،لن في الرجوع لغيره ،أنواع المخاوف والمكاره ،وفي
الرجوع إليه ،أنواع المحاب والمن[ ،والسرور] والسعادة والفوز ،فيفر العبد من قضائه
وقدره ،إلى قضائه وقدره ،وكل من خفت منه فررت منه إلى ال تعالى ،فإنه بحسب الخوف
ن } أي :منذر لكم من عذاب ال ،ومخوف بين
منه ،يكون الفرار إليهِ { ،إنّي َل ُكمْ ِمنْ ُه َنذِيرٌ ُمبِي ٌ
النذارة.
خرَ} هذا من الفرار إلى ال ،بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد
جعَلُوا مَعَ اللّهِ إَِلهًا آ َ
{ وَلَا َت ْ
من اتخاذ آلهة غير ال ،من الوثان ،والنداد والقبور ،وغيرها ،مما عبد من دون ال،
ويخلص العبد لربه العبادة والخوف ،والرجاء والدعاء ،والنابة.
ن * َأتَوَاصَوْا
جنُو ٌ
ن َرسُولٍ إِلّا قَالُوا سَاحِ ٌر أَ ْو َم ْ
ن قَبِْل ِهمْ مِ ْ
ن مِ ْ
{ َ { } 52-53كذَِلكَ مَا َأتَى اّلذِي َ
ن}
بِ ِه بَلْ ُهمْ قَ ْو ٌم طَاغُو َ
يقول ال مسليًا لرسوله صلى ال عليه وسلم عن تكذيب المشركين بال ،المكذبين له ،القائلين
فيه من القوال الشنيعة ،ما هو منزه عنه ،وأن هذه القوال ،ما زالت دأبًا وعادة للمجرمين
المكذبين للرسل فما أرسل ال من رسول ،إل رماه قومه بالسحر أو الجنون.
يقول ال تعالى :هذه القوال التي صدرت منهم -الولين والخرين -هل هي أقوال تواصوا
بها ،ولقن بعضهم بعضًا بها؟
فل يستغرب -بسبب ذلك -اتفاقهم عليهاَ { :أمْ ُه ْم قَ ْومٌ طَاغُونَ } تشابهت قلوبهم وأعمالهم
بالكفر والطغيان ،فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع ،كما قال تعالى:
ن قَبِْل ِهمْ ِمثْلَ قَوِْل ِهمْ
ن مِ ْ
ن لَوْلَا ُيكَّلمُنَا اللّهُ َأ ْو َت ْأتِينَا آ َيةٌ َكذَِلكَ قَالَ اّلذِي َ
{ َوقَالَ اّلذِينَ لَا َيعَْلمُو َ
َتشَا َبهَتْ قُلُو ُب ُهمْ } وكذلك المؤمنون ،لما تشابهت قلوبهم بالذعان للحق وطلبه ،والسعي فيه،
بادروا إلى اليمان برسلهم وتعظيمهم ،وتوقيرهم ،وخطابهم بالخطاب اللئق بهم.
ن}
ن ال ّذ ْكرَى َتنْفَ ُع ا ْلمُ ْؤ ِمنِي َ
ت ِبمَلُومٍ * َو َذ ّكرْ فَإِ ّ
ع ْن ُهمْ فَمَا َأنْ َ
{ َ { } 54-55فتَوَلّ َ
فليس عليك لوم في ذنبهم ،وإنما عليك البلغ ،وقد أديت ما حملت ،وبلغت ما أرسلت به.
وأخبر ال أن الذكرى تنفع المؤمنين ،لن ما معهم من اليمان والخشية والنابة ،واتباع
رضوان ال ،يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى ،وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى:
جنّ ُبهَا ا ْلَأشْقَى }
ن َيخْشَى َو َي َت َ
سيَ ّذ ّكرُ مَ ْ
{ َف َذكّرْ ِإنْ َن َفعَتِ ال ّذ ْكرَى َ
وأما من ليس له معه إيمان ول استعداد لقبول التذكير ،فهذا ل ينفع تذكيره ،بمنزلة الرض
السبخة ،التي ل يفيدها المطر شيئًا ،وهؤلء الصنف ،لو جاءتهم كل آية ،لم يؤمنوا حتى يروا
العذاب الليم.
هذه الغاية ،التي خلق ال الجن والنس لها ،وبعث جميع الرسل يدعون إليها ،وهي عبادته،
المتضمنة لمعرفته ومحبته ،والنابة إليه والقبال عليه ،والعراض عما سواه ،وذلك يتضمن
معرفة ال تعالى ،فإن تمام العبادة ،متوقف على المعرفة بال ،بل كلما ازداد العبد معرفة لربه،
كانت عبادته أكمل ،فهذا الذي خلق ال المكلفين لجله ،فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه ،تعالى ال الغني المغني عن الحاجة إلى أحد
بوجه من الوجوه ،وإنما جميع الخلق ،فقراء إليه ،في جميع حوائجهم ومطالبهم ،الضرورية
وغيرها ،ولهذا قالِ { :إنّ اللّهَ ُهوَ ال ّرزّاقُ } أي :كثير الرزق ،الذي ما من دابة في الرض
ن } أي :الذي
ول في السماء إل على ال رزقها ،ويعلم مستقرها ومستودعها { ،ذُو الْقُوّةِ ا ْل َمتِي ُ
له القوة والقدرة كلها ،الذي أوجد بها الجرام العظيمة ،السفلية والعلوية ،وبها تصرف في
الظواهر والبواطن ،ونفذت مشيئته في جميع البريات ،فما شاء ال كان ،وما لم يشأ لم يكن،
ول يعجزه هارب ،ول يخرج عن سلطانه أحد ،ومن قوته ،أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم،
ومن قدرته وقوته ،أنه يبعث الموات بعد ما مزقهم البلى ،وعصفت بترابهم الرياح ،وابتلعتهم
الطيور والسباع ،وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار ،ولجج البحار ،فل يفوته منهم أحد ،ويعلم
ما تنقص الرض منهم ،فسبحان القوي المتين.
ل لِّلذِينَ كَ َفرُوا
ستَ ْعجِلُونِ * فَ َويْ ٌ
صحَا ِب ِهمْ فَلَا َي ْ
ب َأ ْ
ن ظََلمُوا َذنُوبًا ِمثْلَ َذنُو ِ
{ َ { } 59-60فإِنّ لِّلذِي َ
ن}
عدُو َ
ن يَ ْو ِم ِهمُ اّلذِي يُو َ
مِ ْ
أي :وإن للذين ظلموا وكذبوا محمدًا صلى ال عليه وسلم ،من العذاب والنكال { َذنُوبًا } أي:
نصيبًا وقسطًا ،مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب.
ن } بالعذاب ،فإن سنة ال في المم واحدة ،فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير
س َت ْعجِلُو ِ
{ فَلَا َي ْ
توبة وإنابة ،فإنه ل بد أن يقع عليه العذاب ،ولو تأخر عنه مدة ،ولهذا توعدهم ال بيوم
ن } وهو يوم القيامة ،الذي قد وعدوا
عدُو َ
ن كَ َفرُوا مِنْ َي ْو ِم ِهمُ اّلذِي يُو َ
القيامة ،فقال { :فَ َويْلٌ لِّلذِي َ
فيه بأنواع العذاب والنكال والسلسل والغلل ،فل مغيث لهم ،ول منقذ من عذاب ال تعالى
[نعوذ بال منه].
يقسم تعالى بهذه المور العظيمة ،المشتملة على الحكم الجليلة ،على البعث والجزاء للمتقين
والمكذبين ،فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم ال عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلة
والسلم ،وأوحى إليه ما أوحى من الحكام ،وفي ذلك من المنة عليه وعلى أمته ،ما هو من آيات
ال العظيمة،
{ َوكِتَابٍ مَسْطُورٍ } يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ ،الذي كتب ال به كل شيء ،ويحتمل أن
المراد به القرآن الكريم ،الذي هو أفضل كتاب أنزله ال محتويا على نبأ الولين والخرين،
وعلوم السابقين واللحقين.
وقوله { :فِي َرقّ } أي :ورق { مَنْشُورٍ } أي :مكتوب مسطر ،ظاهر غير خفي ،ل تخفى حاله
على كل عاقل بصير.
{ وَالْبَ ْيتِ ا ْل َم ْعمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة ،المعمور مدى الوقات بالملئكة
الكرام ،الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ،ل يعودون إليه إلى يوم
القيامة وقيل :إن البيت المعمور هو بيت ال الحرام ،والمعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل
وقت ،وبالوفود إليه بالحج والعمرة.
كما أقسم ال به في قوله { :وَ َهذَا الْبََلدِ الَْأمِينِ } وحقيق ببيت أفضل بيوت الرض ،الذي قصده
بالحج والعمرة ،أحد أركان السلم ،ومبانيه العظام ،التي ل يتم إل بها ،وهو الذي بناه إبراهيم
وإسماعيل ،وجعله ال مثابة للناس وأمنا ،أن يقسم ال به ،ويبين من عظمته ما هو اللئق به
وبحرمته.
س ْقفِ ا ْلمَ ْرفُوعِ } أي :السماء ،التي جعلها ال سقفا للمخلوقات ،وبناء للرض ،تستمد منها
{ وَال ّ
أنوارها ،ويقتدى بعلماتها ومنارها ،وينزل ال منها المطر والرحمة وأنواع الرزق.
سجُورِ } أي :المملوء ماء ،قد سجره ال ،ومنعه من أن يفيض على وجه الرض ،مع
{ وَالْ َبحْرِ ا ْلمَ ْ
أن مقتضى الطبيعة ،أن يغمر وجه الرض ،ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان
والفيضان ،ليعيش من على وجه الرض ،من أنواع الحيوان وقيل :إن المراد بالمسجور ،الموقد
الذي يوقد [نارا] يوم القيامة ،فيصير نارا تلظى ،ممتلئا على عظمته وسعته من أصناف العذاب.
هذه الشياء التي أقسم ال بها ،مما يدل على أنها من آيات ال وأدلة توحيده ،وبراهين قدرته،
وبعثه الموات ،ولهذا قال { :إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ َلوَاقِعٌ } أي :ل بد أن يقع ،ول يخلف ال وعده وقيله.
{ مَا َلهُ مِنْ دَا ِفعٍ } يدفعه ،ول مانع يمنعه ،لن قدرة ال تعالى ل يغالبها
مغالب ،ول يفوتها هارب ،ثم ذكر وصف ذلك اليوم ،الذي يقع فيه العذاب ،فقالَ { :يوْمَ َتمُورُ
سمَاءُ َموْرًا } أي :تدور السماء وتضطرب ،وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون،
ال ّ
{ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي :تزول عن أماكنها ،وتسير كسير السحاب ،وتتلون كالعهن المنفوش،
وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء ،وذلك كله لعظم هول يوم القيامة ،وفظاعة ما فيه من
المور المزعجة ،والزلزل المقلقة ،التي أزعجت هذه الجرام العظيمة ،فكيف بالدمي
الضعيف!؟
{ َفوَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } والويل :كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف.
جهَنّمَ دَعّا } أي :يوم يدفعون إليها دفعا ،ويساقون إليها سوقا عنيفا ،ويجرون
{ َيوْمَ يُدَعّونَ إِلَى نَارِ َ
على وجوههم ،ويقال لهم توبيخا ولوما { :هَ ِذهِ النّارُ الّتِي كُنْتُمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ } فاليوم ذوقوا عذاب
الخلد الذي ل يبلغ قدره ،ول يوصف أمره.
{ َأ َفسِحْرٌ هَذَا َأمْ أَنْتُمْ لَا تُ ْبصِرُونَ } يحتمل أن الشارة إلى النار والعذاب ،كما يدل عليه سياق الية
أي :لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع { :أهذا سحر ل حقيقة له ،فقد رأيتموه ،أم
أنتم في الدنيا ل تبصرون } أي :ل بصيرة لكم ول علم عندكم ،بل كنتم جاهلين بهذا المر ،لم تقم
عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء المرين:
أما كونه سحرا ،فقد ظهر لهم أنه أحق الحق ،وأصدق الصدق ،المخالف للسحر من جميع
الوجوه ،وأما كونهم ل يبصرون ،فإن المر بخلف ذلك ،بل حجة ال قد قامت عليهم ،ودعتهم
الرسل إلى اليمان بذلك ،وأقامت من الدلة والبراهين على ذلك ،ما يجعله من أعظم المور
المبرهنة الواضحة الجلية.
ويحتمل أن الشارة [بقولهَ { :أ َفسِحْرٌ هَذَا َأمْ أَنْتُمْ لَا تُ ْبصِرُونَ } ] إلى ما جاء به الرسول صلى ال
عليه وسلم من الحق المبين ،والصراط المستقيم أي :هذا الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم
سحر أم عدم بصيرة بكم ،حتى اشتبه عليكم المر ،وحقيقة المر أنه أوضح من كل شيء وأحق
الحق ،وأن حجة ال قامت عليهم
{ اصَْلوْهَا } أي :ادخلوا النار على وجه تحيط بكم ،وتستوعب جميع أبدانكم وتطلع على أفئدتكم.
سوَاءٌ عَلَ ْي ُكمْ } أي :ل يفيدكم الصبر على النار شيئا ،ول يتأسى بعضكم
{ فَاصْبِرُوا َأوْ لَا َتصْبِرُوا َ
ببعض ،ول يخفف عنكم العذاب ،وليست من المور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها
وزالت شدتها.
وإنما فعل بهم ذلك ،بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم[ ،ولهذا قال] { إِ ّنمَا تُجْ َزوْنَ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }
جحِيمِ
عذَابَ الْ َ
ت وَ َنعِيمٍ * فَا ِكهِينَ ِبمَا آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ وَ َوقَا ُهمْ رَ ّبهُمْ َ
{ { } 17-20إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
صفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ }
* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ * مُ ّتكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ َم ْ
لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين ،ذكر نعيم المتقين ،ليجمع بين الترغيب والترهيب ،فتكون القلوب
بين الخوف والرجاء ،فقال { :إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } لربهم ،الذين اتقوا سخطه وعذابه ،بفعل أسبابه من
امتثال الوامر واجتناب النواهي.
{ فِي جَنّاتِ } أي :بساتين ،قد اكتست رياضها من الشجار الملتفة ،والنهار المتدفقة ،والقصور
المحدقة ،والمنازل المزخرفة { ،وَ َنعِيمٍ } [وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن،
{ فَا ِكهِينَ ِبمَا آتَاهُمْ رَ ّب ُهمْ } أي :معجبين به ،متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم ال
من النعيم الذي ل يمكن وصفه ،ول تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ،ووقاهم عذاب الجحيم،
فرزقهم المحبوب ،ونجاهم من المرهوب ،لما فعلوا ما أحبه ال ،وجانبوا ما يسخطه ويأباه.
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا } أي :مما تشتهيه أنفسكم ،من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة { ،هَنِيئًا } أي:
متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبورِ { .بمَا كُنْ ُتمْ
َت ْعمَلُونَ } أي :نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة ،وأقوالكم المستحسنة.
ووصف ال السرر بأنها مصفوفة ،ليدل ذلك على كثرتها ،وحسن تنظيمها ،واجتماع أهلها
وسرورهم ،بحسن معاشرتهم ،ولطف كلم بعضهم لبعض فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح
والبدن ما ل يخطر بالبال ،ول يدور في الخيال ،من المآكل والمشارب [اللذيذة] ،والمجالس
الحسنة النيقة ،لم يبق إل التمتع بالنساء اللتي ل يتم سرور بدونهن فذكر ال أن لهم من
الزواج أكمل النساء أوصافا وخلقا وأخلقا ،ولهذا قال { :وَ َزوّجْنَاهُمْ ِبحُورٍ عِينٍ } وهن النساء
اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها ،ومن الخلق الفاضلة ،ما يوجب أن
يحيرن بحسنهن الناظرين ،ويسلبن عقول العالمين ،وتكاد الفئدة أن تطيش شوقا إليهن ،ورغبة
في وصالهن ،والعين :حسان العين مليحاتها ،التي صفا بياضها وسوادها.
عمَِلهِمْ مِنْ
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَا أَلَتْنَا ُهمْ مِنْ َ
{ { } 21-28وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْ َ
حمٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا
سبَ رَهِينٌ * وََأمْ َددْنَاهُمْ ِبفَا ِكهَ ٍة وَلَ ْ
شيْءٍ ُكلّ امْ ِرئٍ ِبمَا كَ َ
َ
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ
َل ْغوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَ ْيهِمْ غِ ْلمَانٌ َل ُهمْ كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ * وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
سمُومِ * إِنّا كُنّا مِنْ
عذَابَ ال ّ
شفِقِينَ * َفمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َو َوقَانَا َ
يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنّا كُنّا قَ ْبلُ فِي أَهْلِنَا مُ ْ
قَ ْبلُ َندْعُوهُ إِنّهُ ُهوَ الْبَرّ الرّحِيمُ }
وهذا من تمام نعيم أهل الجنة ،أن ألحق ال [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي :الذين لحقوهم
باليمان الصادر من آبائهم ،فصارت الذرية تبعا لهم باليمان ،ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم
بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم ،فهؤلء المذكورون ،يلحقهم ال بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم
يبلغوها ،جزاء لبائهم ،وزيادة في ثوابهم ،ومع ذلك ،ل ينقص ال الباء من أعمالهم شيئا ،ولما
كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك ،يلحق ال بهم أبناءهم وذريتهم ،أخبر أنه ليس حكم
الدارين حكما واحدا ،فإن النار دار العدل ،ومن عدله تعالى أن ل يعذب أحدا إل بذنب ،ولهذا
سبَ َرهِينٌ } أي :مرتهن بعمله ،فل تزر وازرة وزر أخرى ،ول يحمل
قالُ { :كلّ امْ ِرئٍ ِبمَا َك َ
على أحد ذنب أحد .هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور.
وقوله { :وََأمْدَدْنَا ُهمْ } أي :أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميمِ { ،بفَاكِهَةٍ } من
العنب والرمان والتفاح ،وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون { ،وََلحْمٍ ِممّا
يَشْ َتهُونَ } من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم ،من لحم الطير وغيرها.
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } أي :تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم ،ويتعاطونها فيما بينهم ،وتطوف
عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس { لَا َل ْغوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ } أي :ليس في الجنة كلم
لغو ،وهو الذي ل فائدة فيه ول تأثيم ،وهو الذي فيه إثم ومعصية ،وإذا انتفى المران ،ثبت المر
الثالث ،وهو أن كلمهم فيها سلم طيب طاهر ،مسر للنفوس ،مفرح للقلوب ،يتعاشرون أحسن
عشرة ،ويتنادمون أطيب المنادمة ،ول يسمعون من ربهم ،إل ما يقر أعينهم ،ويدل على رضاه
عنهم [ومحبته لهم].
{ وَيَطُوفُ عَلَ ْيهِمْ غِ ْلمَانٌ َلهُمْ } أي :خدم شباب { كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ } من حسنهم وبهائهم ،يدورون
عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته ،وكمال راحتهم.
ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ يَ َتسَاءَلُونَ } عن أمور الدنيا وأحوالها { .قَالُوا } في [ذكر] بيان الذي
{ وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
شفِقِينَ
أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور { :إِنّا كُنّا قَ ْبلُ } أي :في دار الدنيا { فِي أَهْلِنَا مُ ْ
} أي :خائفين وجلين ،فتركنا من خوفه الذنوب ،وأصلحنا لذلك العيوب.
{ { } 29-43فَ َذكّرْ َفمَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ َيقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَ ّبصُ بِهِ رَ ْيبَ
ا ْلمَنُونِ * ُقلْ تَرَ ّبصُوا فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ * أَمْ تَ ْأمُرُهُمْ َأحْلَا ُمهُمْ ِبهَذَا أَمْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ *
شيْءٍ
خِلقُوا مِنْ غَيْرِ َ
حدِيثٍ مِثِْلهِ إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ * َأمْ ُ
أَمْ َيقُولُونَ َت َقوّلَهُ َبلْ لَا ُي ْؤمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِ َ
ت وَالْأَ ْرضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِ ْندَهُمْ خَزَائِنُ رَ ّبكَ َأمْ هُمُ
سمَاوَا ِ
أَمْ هُمُ ا ْلخَاِلقُونَ * أَمْ خََلقُوا ال ّ
ا ْلمُسَ ْيطِرُونَ * أَمْ َل ُهمْ سُلّمٌ يَسْ َت ِمعُونَ فِيهِ فَلْيَ ْأتِ مُسْ َت ِم ُعهُمْ بِسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ * َأمْ لَهُ الْبَنَاتُ وََلكُمُ الْبَنُونَ
* أَمْ تَسْأَُلهُمْ َأجْرًا َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ * َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ * َأمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالّذِينَ
عمّا يُشْ ِركُونَ }
َكفَرُوا ُهمُ ا ْل َمكِيدُونَ * َأمْ َلهُمْ إَِلهٌ غَيْرُ اللّهِ سُ ْبحَانَ اللّهِ َ
يأمر تعالى رسوله صلى ال عليه وسلم أن يذكر الناس ،مسلمهم وكافرهم ،لتقوم حجة ال على
الظالمين ،ويهتدي بتذكيره الموفقون ،وأنه ل يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي
يصدون بها الناس عن اتباعه ،مع علمهم أنه أبعد الناس عنها ،ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به
فقالَ { :فمَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ } أي :منه ولطفهِ { ،بكَاهِنٍ } أي :له رئي من الجن ،يأتيه بأخبار
بعض الغيوب ،التي يضم إليها مائة كذبة { ،وَلَا مَجْنُونٍ } فاقد للعقل ،بل أنت أكمل الناس عقل،
وأبعدهم عن الشياطين ،وأعظمهم صدقا ،وأجلهم وأكملهم،
وتارة { َيقُولُونَ } فيه :إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر ،والذي جاء به شعر،
{ نَتَرَ ّبصُ ِبهِ رَ ْيبَ ا ْلمَنُونِ } أي :ننتظر به الموت فسيبطل أمره[ ،ونستريح منه].
{ ُقلْ } لهم جوابا لهذا الكلم السخيف { :تَرَ ّبصُوا } أي :انتظروا بي الموت،
{ فَإِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُتَرَ ّبصِينَ } نتربص بكم ،أن يصيبكم ال بعذاب من عنده ،أو بأيدينا،
{ َأمْ تَ ْأمُرُهُمْ أَحْلَا ُمهُمْ ِبهَذَا َأمْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ } أي :أهذا التكذيب لك ،والقوال التي قالوها؟ هل
صدرت عن عقولهم وأحلمهم؟ فبئس العقول والحلم ،التي أثرت ما أثرت ،وصدر منها ما
صدر
فإن عقول جعلت أكمل الخلق عقل مجنونا ،وأصدق الصدق وأحق الحق كذبا وباطل ،لهي
العقول التي ينزه المجانين عنها ،أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع ،فالطغيان
ليس له حد يقف عليه ،فل يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه.
{ َأمْ َيقُولُونَ َت َقوّلَهُ } أي :تقول محمد القرآن ،وقاله من تلقاء نفسه؟ { َبلْ لَا ُي ْؤمِنُونَ } فلو آمنوا ،لم
يقولوا ما قالوا.
{ فَلْيَأْتُوا ِبحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَا ِدقِينَ } أنه تقوله ،فإنكم العرب الفصحاء ،والفحول البلغاء ،وقد
تحداكم أن تأتوا بمثله ،فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه ،وأنكم لو اجتمعتم ،أنتم والنس
والجن ،لم تقدروا على معارضته والتيان بمثله ،فحينئذ أنتم بين أمرين :إما مؤمنون به ،مهتدون
بهديه ،وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.
شيْءٍ أَمْ ُهمُ ا ْلخَاِلقُونَ } وهذا استدلل عليهم ،بأمر ل يمكنهم فيه إل التسليم
خِلقُوا مِنْ غَيْرِ َ
{ َأمْ ُ
للحق ،أو الخروج عن موجب العقل والدين ،وبيان ذلك :أنهم منكرون لتوحيد ال ،مكذبون
لرسوله ،وذلك مستلزم لنكار أن ال خلقهم.
وقد تقرر في العقل مع الشرع ،أن المر ل يخلو من أحد ثلثة أمور:
إما أنهم خلقوا من غير شيء أي :ل خالق خلقهم ،بل وجدوا من غير إيجاد ول موجد ،وهذا عين
المحال.
أم هم الخالقون لنفسهم ،وهذا أيضا محال ،فإنه ل يتصور أن يوجدوا أنفسهم
فإذا بطل [هذان] المران ،وبان استحالتهما ،تعين [القسم الثالث] أن ال الذي خلقهم ،وإذا تعين
ذلك ،علم أن ال تعالى هو المعبود وحده ،الذي ل تنبغي العبادة ول تصلح إل له تعالى.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ } وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي :ما خلقوا
وقوله { :أَمْ خََلقُوا ال ّ
السماوات والرض ،فيكونوا شركاء ل ،وهذا أمر واضح جدا .ولكن المكذبين { لَا يُوقِنُونَ } أي:
ليس عندهم علم تام ،ويقين يوجب لهم النتفاع بالدلة الشرعية والعقلية.
{ َأمْ عِنْ َدهُمْ خَزَائِنُ رَ ّبكَ أَمْ هُمُ ا ْلمُسَيْطِرُونَ } أي :أعند هؤلء المكذبين خزائن رحمة ربك،
فيعطون من يشاءون ويمنعون من يريدون؟ أي :فلذلك حجروا على ال أن يعطي النبوة عبده
ورسوله محمدا صلى ال عليه وسلم ،وكأنهم الوكلء المفوضون على خزائن رحمة ال ،وهم
أحقر وأذل من ذلك ،فليس في أيديهم لنفسهم نفع ول ضر ،ول موت ول حياة ول نشور.
سمْنَا بَيْ َن ُهمْ َمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا }
حمَةَ رَ ّبكَ نَحْنُ قَ َ
سمُونَ رَ ْ
{ َأهُمْ َيقْ ِ
{ َأمْ ُهمُ ا ْلمُسَ ْيطِرُونَ } أي :المتسلطون على خلق ال وملكه ،بالقهر والغلبة؟
{ َأمْ َلهُمْ سُلّمٌ َيسْ َت ِمعُونَ فِيهِ } أي :ألهم اطلع على الغيب ،واستماع له بين المل العلى ،فيخبرون
عن أمور ل يعلمها غيرهم؟
{ فَلْيَ ْأتِ مُسْ َت ِم ُعهُمْ } المدعي لذلك { ِبسُلْطَانٍ مُبِينٍ } وأنى له ذلك؟
وال تعالى عالم الغيب والشهادة ،فل يظهر على غيبه [أحدا] إل من ارتضى من رسول يخبره
بما أراد من علمه.
وإذا كان محمد صلى ال عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم ،وهو المخبر بما أخبر به،
من توحيد ال ،ووعده ،ووعيده ،وغير ذلك من أخباره الصادقة ،والمكذبون هم أهل الجهل
والضلل والغي والعناد ،فأي المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصا والرسول صلى ال عليه
وسلم قد أقام من الدلة والبراهين على ما أخبر به ،ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل
الصدق ،وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة ،فضل عن إقامة حجة.
وقوله { :أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ } كما زعمتم { وََلكُمُ الْبَنُونَ } فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد،
واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟
{ َأمْ تَسْأَُل ُهمْ } يا أيها الرسول { َأجْرًا } على تبليغ الرسالةَ { ،فهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ } ليس المر
كذلك ،بل أنت الحريص على تعليمهم ،تبرعا من غير شيء ،بل تبذل لهم الموال الجزيلة ،على
قبول رسالتك ،والستجابة [لمرك
{ َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب ،فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع
عليه رسول ال ،فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم المة المية ،الجهال
الضالون ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره ،وأنبأه ال من
علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحدا من الخلق ،وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على
فساد قولهم ،وتصوير بطلنه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من العتراض.
وقوله { :أَمْ يُرِيدُونَ } بقدحهم فيك وفيما جئتهم به { كَيْدًا } يبطلون به دينك ،ويفسدون به أمرك؟
{ فَالّذِينَ َكفَرُوا ُهمُ ا ْل َمكِيدُونَ } أي :كيدهم في نحورهم ،ومضرته عائدة إليهم ،وقد فعل ال ذلك
-ول الحمد -فلم يبق الكفار من مقدورهم من المكر شيئا إل فعلوه ،فنصر ال نبيه ودينه عليهم
وخذلهم وانتصر منهم.
{ َأمْ َلهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ } أي :ألهم إله يدعى ويرجى نفعه ،ويخاف من ضره ،غير ال تعالى؟
عمّا يُشْ ِركُونَ } فليس له شريك في الملك ،ول شريك في الوحدانية والعبادة ،وهذا
{ سُبْحَانَ اللّهِ َ
هو المقصود من الكلم الذي سيق لجله ،وهو بطلن عبادة ما سوى ال وبيان فسادها بتلك الدلة
القاطعة ،وأن ما عليه المشركون هو الباطل ،وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ويخلص
له دعاء العبادة ودعاء المسألة ،هو ال المألوه المعبود ،كامل السماء والصفات ،كثير النعوت
الحسنة ،والفعال الجميلة ،ذو الجلل والكرام ،والعز الذي ل يرام ،الواحد الحد ،الفرد الصمد،
الكبير الحميد المجيد.
يقول تعالى في [ذكر] بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح ،قد عتوا [عن الحق] وعسوا
سفًا مِنَ
على الباطل ،وأنه لو قام على الحق كل دليل لما اتبعوه ،ولخالفوه وعاندوه { ،وَإِنْ يَ َروْا كِ ْ
سمَاءِ سَاقِطًا } أي :لو سقط عليهم من السماء من اليات الباهرة كسف أي :قطع كبار من
ال ّ
سحَابٌ مَ ْركُومٌ } أي :هذا سحاب متراكم على العادة أي :فل يبالون بما رأوا من
العذاب { َيقُولُوا َ
اليات ول يعتبرون بها ،وهؤلء ل دواء لهم إل العذاب والنكال ،ولهذا قال { :فَذَرْ ُهمْ حَتّى يُلَاقُوا
صعَقُونَ }
َي ْو َمهُمُ الّذِي فِيهِ ُي ْ
وهو يوم القيامة الذي يصيبهم [فيه] من العذاب والنكال ،ما ل يقادر قدره ،ول يوصف أمره.
{ َيوْمَ لَا ُيغْنِي عَ ْن ُهمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئًا } أي :ل قليل ول كثيرا ،وإن كان في الدنيا قد يوجد منهم كيد
يعيشون به زمنا قليل ،فيوم القيامة يضمحل كيدهم ،وتبطل مساعيهم ،ول ينتصرون من عذاب ال
{ وَلَا ُهمْ يُ ْنصَرُونَ }
حكْمِ رَ ّبكَ
ك وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ * وَاصْبِرْ لِ ُ
{ { } 47-49وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُوا عَذَابًا دُونَ ذَِل َ
ح ْمدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ * َومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّحْ ُه وَِإدْبَارَ النّجُومِ }
فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِ َ
لما ذكر [ال] عذاب الظالمين في القيامة ،أخبر أن لهم عذابا دون عذاب يوم القيامة وذلك شامل
لعذاب الدنيا ،بالقتل والسبي والخراج من الديار ،ولعذاب البرزخ والقبر { ،وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا
َيعَْلمُونَ } أي :فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب ،وشدة العقاب.
ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلن أقوال المكذبين ،أمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن
ل يعبأ بهم شيئا ،وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والستقامة عليه ،ووعده ال
بالكفاية بقوله { :فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا } أي :بمرأى منا وحفظ ،واعتناء بأمرك ،وأمره أن يستعين على
حمْدِ رَ ّبكَ حِينَ َتقُومُ } أي :من الليل.
الصبر بالذكر والعبادة ،فقال { :وَسَبّحْ ِب َ
ح ُه وَإِدْبَارَ
ففيه المر بقيام الليل ،أو حين تقوم إلى الصلوات الخمس ،بدليل قولهَ { :ومِنَ اللّ ْيلِ فَسَبّ ْ
النّجُومِ} أي :آخر الليل ،ويدخل فيه صلة الفجر ،وال أعلم.
غوَى * َومَا
ل صَاحِ ُبكُ ْم َومَا َ
ضّحمَنِ الرّحِي ِم وَالنّجْمِ ِإذَا َهوَى * مَا َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-18بِ ْ
شدِيدُ ا ْل ُقوَى * ذُو مِ ّرةٍ فَاسْ َتوَى * وَ ُهوَ بِالُْأفُقِ
حيٌ يُوحَى * عَّلمَهُ َ
طقُ عَنِ ا ْل َهوَى * إِنْ ُهوَ إِلّا وَ ْ
يَنْ ِ
الْأَعْلَى * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى * َفكَانَ قَابَ َقوْسَيْنِ َأوْ َأدْنَى * فََأ ْوحَى إِلَى عَ ْب ِدهِ مَا َأوْحَى * مَا كَ َذبَ ا ْل ُفؤَادُ
مَا رَأَى * َأفَ ُتمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وََلقَدْ رَآهُ نَزَْلةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى * عِنْدَهَا جَنّةُ
طغَى * َلقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى
ا ْلمَ ْأوَى * إِذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى * مَا زَاغَ الْ َبصَ ُر َومَا َ
}
يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي :سقوطه في الفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار،
لن في ذلك من آيات ال العظيمة ،ما أوجب أن أقسم به ،والصحيح أن النجم ،اسم جنس شامل
للنجوم كلها ،وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم من الوحي
اللهي ،لن في ذلك مناسبة عجيبة ،فإن ال تعالى جعل النجوم زينة للسماء ،فكذلك الوحي وآثاره
زينة للرض ،فلول العلم الموروث عن النبياء ،لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم.
والمقسم عليه ،تنزيه الرسول صلى ال عليه وسلم عن الضلل في علمه ،والغي في قصده ،ويلزم
من ذلك أن يكون مهتديا في علمه ،هاديا ،حسن القصد ،ناصحا للمة بعكس ما عليه أهل
الضلل من فساد العلم ،وفساد القصد
وقال { صَاحِ ُبكُمْ } لينبههم على ما يعرفونه منه ،من الصدق والهداية ،وأنه ل يخفى عليهم أمره{ ،
َومَا يَ ْنطِقُ عَنِ ا ْل َهوَى } أي :ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه
حيٌ يُوحَى } أي :ل يتبع إل ما أوحى ال إليه من الهدى والتقوى ،في نفسه وفي
{ إِنْ ُهوَ إِلّا وَ ْ
غيره.
ودل هذا على أن السنة وحي من ال لرسوله صلى ال عليه وسلم ،كما قال تعالى { :وَأَنْ َزلَ اللّهُ
ح ْكمَةَ } وأنه معصوم فيما يخبر به عن ال تعالى وعن شرعه ،لن كلمه ل
عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ وَالْ ِ
يصدر عن هوى ،وإنما يصدر عن وحي يوحى.
ثم ذكر المعلم للرسول صلى ال عليه وسلم ،وهو جبريل [عليه السلم] ،أفضل الملئكة [الكرام]
شدِيدُ ا ْل ُقوَى] } أي :نزل بالوحي على الرسول صلى ال عليه
وأقواهم وأكملهم ،فقال { :عَّل َمهُ [ َ
وسلم جبريل عليه السلم { ،شديد القوى } أي :شديد القوة الظاهرة والباطنة ،قوي على تنفيذ ما
أمره ال بتنفيذه ،قوي على إيصال الوحي إلى الرسول صلى ال عليه وسلم ،ومنعه من اختلس
الشياطين له ،أو إدخالهم فيه ما ليس منه ،وهذا من حفظ ال لوحيه ،أن أرسله مع هذا الرسول
القوي المين.
{ فَاسْ َتوَى } جبريل عليه السلم { وَ ُهوَ بِالُْأ ُفقِ الْأَعْلَى } أي :أفق السماء الذي هو أعلى من
الرض ،فهو من الرواح العلوية ،التي ل تنالها الشياطين ول يتمكنون من الوصول إليها.
{ ُثمّ دَنَا } جبريل من النبي صلى ال عليه وسلم ،ليصال الوحي إليه { .فَ َتدَلّى } عليه من الفق
العلى { َفكَانَ } في قربه منه { قَابَ َقوْسَيْنِ } أي :قدر قوسين ،والقوس معروفَ { ،أوْ َأدْنَى }
أي :أقرب من القوسين ،وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى ال عليه وسلم بالرسالة،
وأنه ل واسطة بينه وبين جبريل عليه السلم.
{ فََأوْحَى } ال بواسطة جبريل عليه السلم { إِلَى عَ ْب ِدهِ } محمد صلى ال عليه وسلم { مَا َأوْحَى }
أي :الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم ،والنبأ المستقيم.
{ مَا َك َذبَ ا ْلفُؤَادُ مَا رَأَى } أي :اتفق فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي
أوحاه ال إليه ،وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره ،وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه ال
إليه ،وأنه تلقاه منه تلقيا ل شك فيه ول شبهة ول ريب ،فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره ،ولم يشك
بذلك .ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى ال عليه وسلم ليلة أسري به ،من آيات ال العظيمة،
وأنه تيقنه حقا بقلبه ورؤيته ،هذا [هو] الصحيح في تأويل الية الكريمة ،وقيل :إن المراد بذلك
رؤية الرسول صلى ال عليه وسلم لربه ليلة السراء ،وتكليمه إياه ،وهذا اختيار كثير من العلماء
رحمهم ال ،فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى ال عليه وسلم لربه في الدنيا ،ولكن الصحيح القول
الول ،وأن المراد به جبريل عليه السلم ،كما يدل عليه السياق ،وأن محمدا صلى ال عليه وسلم
رأى جبريل في صورته الصلية [التي هو عليها] مرتين ،مرة في الفق العلى ،تحت السماء
الدنيا كما تقدم ،والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسري برسول ال صلى ال عليه وسلم،
ولهذا قال { :وََلقَدْ رَآهُ نَزْلَةً ُأخْرَى } أي :رأى محمد جبريل مرة أخرى ،نازل إليه.
سدْ َرةِ ا ْلمُنْ َتهَى } وهي شجرة عظيمة جدا ،فوق السماء السابعة ،سميت سدرة المنتهى ،لنه
{ عِ ْندَ ِ
ينتهي إليها ما يعرج من الرض ،وينزل إليها ما ينزل من ال ،من الوحي وغيره ،أو لنتهاء علم
الخلق إليها أي :لكونها فوق السماوات والرض ،فهي المنتهى في علوها أو لغير ذلك ،وال
أعلم.
فرأى محمد صلى ال عليه وسلم جبريل في ذلك المكان ،الذي هو محل الرواح العلوية الزاكية
الجميلة ،التي ل يقربها شيطان ول غيره من الرواح الخبيثة.
عند تلك الشجرة { جَنّةُ ا ْلمَ ْأوَى } أي :الجنة الجامعة لكل نعيم ،بحيث كانت محل تنتهي إليه
الماني ،وترغب فيه الرادات ،وتأوي إليها الرغبات ،وهذا دليل على أن الجنة في أعلى
الماكن ،وفوق السماء السابعة.
{ ِإذْ َيغْشَى السّدْ َرةَ مَا َيغْشَى } أي :يغشاها من أمر ال ،شيء عظيم ل يعلم وصفه إل ال عز
وجل.
{ َلقَدْ َرأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَى } من الجنة والنار ،وغير ذلك من المور التي رآها صلى ال
عليه وسلم ليلة أسري به.
{ َ { } 19-25أفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَا ْلعُزّى * َومَنَاةَ الثّالِ َثةَ الْأُخْرَى * أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَهُ الْأُنْثَى * تِ ْلكَ ِإذًا
سلْطَانٍ إِنْ يَتّ ِبعُونَ
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُ ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ ُ
سمَاءٌ َ
سمَ ٌة ضِيزَى * إِنْ ِهيَ إِلّا أَ ْ
قِ ْ
س وََلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَ ّبهِمُ ا ْلهُدَى * أَمْ لِلْإِ ْنسَانِ مَا َتمَنّى * فَلِلّهِ الْآخِ َرةُ
ن َومَا َت ْهوَى الْأَ ْنفُ ُ
إِلّا الظّ ّ
وَالْأُولَى }
لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من الهدى ودين الحق ،والمر بعبادة ال
وتوحيده ،ذكر بطلن ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء ،ول
تنفع ول تضر ،وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى ،سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال
الضلل ،ابتدعوا لها من السماء الباطلة التي ل تستحقها ،فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من
الضلل ،فاللهة التي بهذه الحال ،ل تستحق مثقال ذرة من العبادة ،وهذه النداد التي سموها بهذه
السماء ،زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها ،فسموا "اللت" من "الله" المستحق
للعبادة ،و"العزى" من "العزيز" و "مناة" من "المنان" إلحادا في أسماء ال وتجريا على الشرك به،
وهذه أسماء متجردة عن المعاني ،فكل من له أدنى مسكة من عقل ،يعلم بطلن هذه الوصاف
فيها.
{ أََل ُكمُ ال ّذكَ ُر وََلهُ الْأُنْثَى } أي :أتجعلون ل البنات بزعمكم ،ولكم البنون؟.
س َم ٌة ضِيزَى } أي :ظالمة جائرة[ ،وأي ظلم أعظم من قسمة] تقتضي تفضيل العبد
{ تِ ْلكَ ِإذًا قِ ْ
المخلوق على الخالق؟ [تعالى عن قولهم علوا كبيرا].
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْ ُت ْم وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ سُ ْلطَانٍ } أي :من حجة
سمَاءٌ َ
وقوله { :إِنْ ِهيَ إِلّا َأ ْ
وبرهان على صحة مذهبكم ،وكل أمر ما أنزل ال به من سلطان ،فهو باطل فاسد ،ل يتخذ دينا،
وهم -في أنفسهم -ليسوا بمتبعين لبرهان ،يتيقنون به ما ذهبوا إليه ،وإنما دلهم على قولهم ،الظن
الفاسد ،والجهل الكاسد ،وما تهواه أنفسهم من الشرك ،والبدع الموافقة لهويتهم ،والحال أنه ل
موجب لهم يقتضي اتباعهم الظن ،من فقد العلم والهدى ،ولهذا قال تعالى { :وََلقَدْ جَاءَ ُهمْ مِنْ رَ ّبهِمُ
ا ْلهُدَى } أي :الذي يرشدهم في باب التوحيد والنبوة ،وجميع المطالب التي يحتاج إليها العباد ،فكلها
قد بينها ال أكمل بيان وأوضحه ،وأدله على المقصود ،وأقام عليه من الدلة والبراهين ،ما يوجب
لهم ولغيرهم اتباعه ،فلم يبق لحد عذر ول حجة من بعد البيان والبرهان ،وإذا كان ما هم عليه،
غايته اتباع الظن ،ونهايته الشقاء البدي والعذاب السرمدي ،فالبقاء على هذه الحال ،من أسفه
السفه ،وأظلم الظلم ،ومع ذلك يتمنون الماني ،ويغترون بأنفسهم.
ولهذا أنكر تعالى على من زعم أنه يحصل له ما تمنى وهو كاذب في ذلك ،فقال { :أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا
َتمَنّى فَلِلّهِ الْآخِ َرةُ وَالْأُولَى } فيعطي منهما من يشاء ،ويمنع من يشاء ،فليس المر تابعا لمانيهم،
ول موافقا لهوائهم.
شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا إِلّا مِنْ َبعْدِ أَنْ يَ ْأذَنَ اللّهُ ِلمَنْ يَشَاءُ
سمَاوَاتِ لَا ُتغْنِي َ
{ َ { } 26وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ
وَيَ ْرضَى }
يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الملئكة وغيرهم ،وزعم أنها تنفعه وتشفع له عند ال
سمَاوَاتِ } من الملئكة المقربين ،وكرام الملئكة { ،لَا ُتغْنِي
يوم القيامةَ { :وكَمْ مِنْ مََلكٍ فِي ال ّ
شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا } أي :ل تفيد من دعاها وتعلق بها ورجاها { ،إِلّا مِنْ َبعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّهُ ِلمَنْ َيشَاءُ
َ
وَيَ ْرضَى } أي :ل بد من اجتماع الشرطين :إذنه تعالى في الشفاعة ،ورضاه عن المشفوع له.
ومن المعلوم المتقرر ،أنه ل يقبل من العمل إل ما كان خالصا لوجه ال ،موافقا فيه صاحبه
الشريعة ،فالمشركون إذا ل نصيب لهم من شفاعة الشافعين ،وقد سدوا على أنفسهم رحمة أرحم
الراحمين.
يعني أن المشركين بال المكذبين لرسله ،الذين ل يؤمنون بالخرة ،وبسبب عدم إيمانهم بالخرة
تجرأوا على ما تجرأوا عليه ،من القوال ،والفعال المحادة ل ولرسوله ،من قولهم { :الملئكة
بنات ال } فلم ينزهوا ربهم عن الولدة ،ولم يكرموا الملئكة ويجلوهم عن تسميتهم إياهم إناثا،
والحال أنه ليس لهم بذلك علم ،ل عن ال ،ول عن رسوله ،ول دلت على ذلك الفطر والعقول ،بل
العلم كله دال على نقيض قولهم ،وأن ال منزه عن الولد والصاحبة ،لنه الواحد الحد ،الفرد
الصمد ،الذي لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفوا أحد ،وأن الملئكة كرام مقربون إلى ال ،قائمون
بخدمته { لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } والمشركون إنما يتبعون في ذلك القول
القبيح ،وهو الظن الذي ل يغني من الحق شيئا ،فإن الحق ل بد فيه من اليقين المستفاد من الدلة
القاطعة والبراهين الساطعة.
ولما كان هذا دأب هؤلء المذكورين أنهم ل غرض لهم في اتباع الحق ،وإنما غرضهم
ومقصودهم ،ما تهواه نفوسهم ،أمر ال رسوله بالعراض عمن تولى عن ذكره ،الذي هو الذكر
الحكيم ،والقرآن العظيم ،والنبأ الكريم ،فأعرض عن العلوم النافعة ،ولم يرد إل الحياة الدنيا ،فهذا
منتهى إرادته ،ومن المعلوم أن العبد ل يعمل إل للشيء الذي يريده،
فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها ،كيف حصلت حصلوها ،وبأي :طريق سنحت
ابتدروها { ،ذَِلكَ مَبَْل ُغهُمْ مِنَ ا ْلعِلْمِ } أي :هذا منتهى علمهم وغايته ،وأما المؤمنون بالخرة،
المصدقون بها ،أولو اللباب والعقول،
فهمتهم وإرادتهم للدار الخرة ،وعلومهم أفضل العلوم وأجلها ،وهو العلم المأخوذ من كتاب ال
وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ،وال تعالى أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ،ممن ل يستحق
ضلّ
ن َ
ذلك فيكله إلى نفسه ،ويخذله ،فيضل عن سبيل ال ،ولهذا قال تعالى { :إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَ ْ
عَنْ سَبِيِل ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَنِ اهْتَدَى } فيضع فضله حيث يعلم المحل اللئق به.
يخبر تعالى أنه مالك الملك ،المتفرد بملك الدنيا والخرة ،وأن جميع من في السماوات والرض
ملك ل ،يتصرف فيهم تصرف الملك العظيم ،في عبيده ومماليكه ،ينفذ فيهم قدره ،ويجري عليهم
شرعه ،ويأمرهم وينهاهم ،ويجزيهم على ما أمرهم به ونهاهم [عنه] ،فيثيب المطيع ،ويعاقب
العاصي ،ليجزي الذين أساؤوا العمل السيئات من الكفر فما دونه بما عملوا من أعمال الشر
بالعقوبة البليغة
{ وَيَجْ ِزيَ الّذِينَ َأحْسَنُوا } في عبادة ال تعالى ،وأحسنوا إلى خلق ال ،بأنواع المنافع { بِا ْلحُسْنَى }
أي :بالحالة الحسنة في الدنيا والخرة ،وأكبر ذلك وأجله رضا ربهم ،والفوز بنعيم الجنة
ثم ذكر وصفهم فقال { :الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْ َفوَاحِشَ } أي :يفعلون ما أمرهم ال به من
الواجبات ،التي يكون تركها من كبائر الذنوب ،ويتركون المحرمات الكبار ،كالزنا ،وشرب
الخمر ،وأكل الربا ،والقتل ،ونحو ذلك من الذنوب العظيمة { ،إِلّا الّل َممَ } وهي الذنوب الصغار،
التي ل يصر صاحبها عليها ،أو التي يلم بها العبد ،المرة بعد المرة ،على وجه الندرة والقلة ،فهذه
ليس مجرد القدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ،فإن هذه مع التيان بالواجبات
ك وَاسِعُ
وترك المحرمات ،تدخل تحت مغفرة ال التي وسعت كل شيء ،ولهذا قال { :إِنّ رَ ّب َ
ا ْل َم ْغفِرَةِ } فلول مغفرته لهلكت البلد والعباد ،ولول عفوه وحلمه لسقطت السماء على الرض،
ولما ترك على ظهرها من دابة .ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم" :الصلوات الخمس،
والجمعة إلى الجمعة ،ورمضان إلى رمضان ،مكفرات لما بينهن ،ما اجتنبت الكبائر" [وقوله]:
ض وَإِذْ أَنْتُمْ َأجِنّةٌ فِي بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ } أي :هو تعالى أعلم
علَمُ ِبكُمْ إِذْ أَ ْنشََأكُمْ مِنَ الْأَ ْر ِ
{ ُهوَ أَ ْ
بأحوالكم كلها ،وما جبلكم عليه ،من الضعف والخور ،عن كثير مما أمركم ال به ،ومن كثرة
الدواعي إلى بعض المحرمات ،وكثرة الجواذب إليها ،وعدم الموانع القوية ،والضعف موجود
مشاهد منكم حين أنشاكم ال من الرض ،وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ،ولم يزل موجودا فيكم،
وإن كان ال تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ،ولكن الضعف لم يزل ،فلعلمه تعالى
بأحوالكم هذه ،ناسبت الحكمة اللهية والجود الرباني ،أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه،
ويغمركم بإحسانه ،ويزيل عنكم الجرائم والمآثم ،خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في
جميع الوقات ،وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر النات ،وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند
موله ،ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة ،فإن ال تعالى أكرم الكرمين وأرحم الراحمين أرحم بعباده
من الوالدة بولدها ،فل بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون ال له في جميع
سكُمْ } أي :تخبرون الناس بطهارتها على وجه
أحواله مجيبا ،ولهذا قال تعالى { :فَلَا تُ َزكّوا أَ ْنفُ َ
التمدح
علَمُ ِبمَنِ ا ّتقَى } [فإن التقوى ،محلها القلب ،وال هو المطلع عليه ،المجازي على ما فيه من
{ ُهوَ أَ ْ
بر وتقوى ،وأما الناس ،فل يغنون عنكم من ال شيئا].
{ َ { } 33-62أفَرَأَ ْيتَ الّذِي َتوَلّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وََأكْدَى * أَعِنْ َدهُ عِ ْلمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى * أَمْ َلمْ
حفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّى * أَلّا تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ
يُنَبّأْ ِبمَا فِي صُ ُ
سوْفَ يُرَى * ُثمّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الَْأ ْوفَى * وَأَنّ ِإلَى رَ ّبكَ ا ْلمُنْ َتهَى
سعْيَهُ َ
سعَى * وَأَنّ َ
لِلْإِنْسَانِ ِإلّا مَا َ
طفَةٍ
ت وَأَحْيَا *وَأَنّهُ خََلقَ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى * مِنْ نُ ْ
حكَ وَأَ ْبكَى * وَأَنّهُ ُهوَ َأمَا َ
ضَ* وَأَنّهُ ُهوَ َأ ْ
إِذَا ُتمْنَى * وَأَنّ عَلَ ْيهِ النّشَْأةَ الُْأخْرَى }
إلى آخر السورة يقول تعالىَ { :أفَرَأَ ْيتَ } قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده ،فتولى عن ذلك
وأعرض عنه؟
فإن سمحت نفسه ببعض الشيء ،القليل ،فإنه ل يستمر عليه ،بل يبخل ويكدى ويمنع.
فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة بل طبعه التولي عن الطاعة ،وعدم الثبوت على فعل
المعروف ،ومع هذا ،فهو يزكي نفسه ،وينزلها غير منزلتها التي أنزلها ال بها.
{ أَعِ ْن َدهُ عِلْمُ ا ْلغَ ْيبِ َف ُهوَ يَرَى } الغيب ويخبر به ،أم هو متقول على ال ،متجرئ على الجمع بين
الساءة والتزكية كما هو الواقع ،لنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب ،وأنه لو قدر أنه ادعى
ذلك فالخبارات القاطعة عن علم الغيب التي على يد النبي المعصوم ،تدل على نقيض قوله ،وذلك
دليل على بطلنه.
س ْوفَ يُرَى } في الخرة فيميز حسنه من سيئه { ،ثُمّ ُيجْزَاهُ ا ْلجَزَاءَ الَْأ ْوفَى } أي:
سعْيَهُ َ
{ وَأَنّ َ
المستكمل لجميع العمل الحسن الخالص بالحسنى ،والسيئ الخالص بالسوأى ،والمشوب بحسبه،
جزاء تقر بعدله وإحسانه الخليقة كلها ،وتحمد ال عليه ،حتى إن أهل النار ليدخلون النار ،وإن
قلوبهم مملوءة من حمد ربهم ،والقرار له بكمال الحكمة ومقت أنفسهم ،وأنهم الذين أوصلوا
سعَى } من يرى
أنفسهم وأوردوها شر الموارد ،وقد استدل بقوله تعالى { :وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلّا مَا َ
سعَى }
أن القرب ل يفيد إهداؤها للحياء ول للموات قالوا لن ال قال { :وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مَا َ
فوصول سعي غيره إليه مناف لذلك ،وفي هذا الستدلل نظر ،فإن الية إنما تدل على أنه ليس
للنسان إل ما سعى بنفسه ،وهذا حق ل خلف فيه ،وليس فيها ما يدل على أنه ل ينتفع بسعي
غيره ،إذا أهداه ذلك الغير له ،كما أنه ليس للنسان من المال إل ما هو في ملكه وتحت يده ،ول
يلزم من ذلك ،أن ل يملك ما وهبه له الغير من ماله الذي يملكه.
وقوله { :وَأَنّ إِلَى رَ ّبكَ ا ْلمُنْ َتهَى } أي :إليه تنتهي المور ،وإليه تصير الشياء والخلئق بالبعث
والنشور ،وإلى ال المنتهى في كل حال ،فإليه ينتهي العلم والحكم ،والرحمة وسائر الكمالت.
ك وَأَ ْبكَى } أي :هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء ،وهو الخير والشر،
حَ{ وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ
والفرح والسرور والهم [والحزن] ،وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك،
{ وَأَنّهُ ُهوَ َأمَاتَ وََأحْيَا } أي :هو المنفرد باليجاد والعدام ،والذي أوجد الخلق وأمرهم ونهاهم،
سيعيدهم بعد موتهم ،ويجازيهم بتلك العمال التي عملوها في دار الدنيا.
{ وَأَنّهُ خََلقَ ال ّزوْجَيْنِ } فسر الزوجين بقوله { :ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى } وهذا اسم جنس شامل لجميع
طفَةٍ إِذَا ُتمْنَى } وهذا من أعظم الدلة على
الحيوانات ،ناطقها وبهيمها ،فهو المنفرد بخلقها { ،مِنْ ُن ْ
كمال قدرته وانفراده بالعزة العظيمة ،حيث أوجد تلك الحيوانات ،صغيرها وكبيرها من نطفة
ضعيفة من ماء مهين ،ثم نماها وكملها ،حتى بلغت ما بلغت ،ثم صار الدمي منها إما إلى أرفع
المقامات في أعلى عليين ،وإما إلى أدنى الحالت في أسفل سافلين.
ولهذا استدل بالبداءة على العادة ،فقال { :وَأَنّ عَلَ ْيهِ النّشَْأةَ الْأُخْرَى } فيعيد العباد من الجداث،
ويجمعهم ليوم الميقات ،ويجازيهم على الحسنات والسيئات.
{ وَأَنّهُ ُهوَ أَغْنَى وََأقْنَى } أي :أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب ،من
الحرف وغيرها ،وأقنى أي :أفاد عباده من الموال بجميع أنواعها ،ما يصيرون به مقتنين لها،
ومالكين لكثير من العيان ،وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى وهذا يوجب
للعباد أن يشكروه ،ويعبدوه وحده ل شريك له
شعْرَى } وهي النجم المعروف بالشعرى العبور ،المسماة بالمرزم ،وخصها ال
{ وَأَنّهُ ُهوَ َربّ ال ّ
بالذكر ،وإن كان رب كل شيء ،لن هذا النجم مما عبد في الجاهلية ،فأخبر تعالى أن جنس ما
يعبده المشركون مربوب مدبر مخلوق،
{ وَأَنّهُ أَهَْلكَ عَادًا الْأُولَى } وهم قوم هود عليه السلم ،حين كذبوا هودا ،فأهلكهم ال بريح
صرصر عاتية
{ وَ َثمُودَ } قوم صالح عليه السلم ،أرسله ال إلى ثمود فكذبوه ،فبعث ال إليهم الناقة آية،
فعقروها وكذبوه ،فأهلكهم ال تعالىَ { ،فمَا أَ ْبقَى } منهم أحدا ،بل أهلكهم ال عن آخرهم
ولهذا قالَ { :فغَشّاهَا مَا غَشّى } أي :غشيها من العذاب الليم الوخيم ما غشى أي :شيء عظيم ل
يمكن وصفه.
{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّبكَ تَ َتمَارَى } أي :فبأي :نعم ال وفضله تشك أيها النسان؟ فإن نعم ال ظاهرة ل
تقبل الشك بوجه من الوجوه ،فما بالعباد من نعمة إل منه تعالى ،ول يدفع النقم إل هو.
{ هَذَا َنذِيرٌ مِنَ النّذُرِ الْأُولَى } أي :هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد ال ،ليس ببدع من
الرسل ،بل قد تقدمه من الرسل السابقين ،ودعوا إلى ما دعا إليه ،فلي شيء تنكر رسالته؟ وبأي
حجة تبطل دعوته؟
أليست أخلقه [أعل] أخلق الرسل الكرام ،أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ ألم
يأت بالقرآن الكريم الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ،تنزيل من حكيم حميد؟ ألم
يهلك ال من كذب من قبله من الرسل الكرام؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد
المرسلين ،وإمام المتقين ،وقائد الغر المحجلين؟
شفَةٌ }
{ أَ ِز َفتِ الْآ ِز َفةُ } أي :قربت القيامة ،ودنا وقتها ،وبانت علماتها { .لَ ْيسَ َلهَا مِنْ دُونِ اللّهِ كَا ِ
أي :إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.
ثم توعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى ال عليه وسلم ،المكذبين لما جاء به من القرآن
حدِيثِ َتعْجَبُونَ } ؟ أي :أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلم وأفضله
الكريم ،فقالَ { :أ َفمِنْ هَذَا الْ َ
وأشرفه تتعجبون منه ،وتجعلونه من المور المخالفة للعادة الخارقة للمور [والحقائق] المعروفة؟
هذا من جهلهم وضللهم وعنادهم ،وإل فهو الحديث الذي إذا حدث صدق ،وإذا قال قول فهو
القول الفصل الذي ليس بالهزل ،وهو القرآن العظيم ،الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا
متصدعا من خشية ال ،الذي يزيد ذوي الحلم رأيا وعقل ،وتسديدا وثباتا ،وإيمانا ويقينا والذي
ينبغي العجب من عقل من تعجب منه ،وسفهه وضلله.
ن وَلَا تَ ْبكُونَ } أي :تستعملون الضحك والستهزاء به ،مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه
حكُو َ
{ وَ َتضْ َ
النفوس ،وتلين له القلوب ،وتبكي له العيون،
سماعا لمره ونهيه ،وإصغاء لوعده ووعيده ،والتفاتا لخباره الحسنة الصادقة
{ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ } أي :غافلون عنه ،لهون عن تدبره ،وهذا من قلة عقولكم وأديانكم فلو عبدتم
ال وطلبتم رضاه في جميع الحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو اللباب ،ولهذا قال
جدُوا لِلّ ِه وَاعْ ُبدُوا } المر بالسجود ل خصوصا ،ليدل ذلك على فضله وأنه سر
تعالى { :فَاسْ ُ
العبادة ولبها ،فإن لبها الخشوع ل والخضوع له ،والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد فإنه
يخضع قلبه وبدنه ،ويجعل أشرف أعضائه على الرض المهينة موضع وطء القدام .ثم أمر
بالعبادة عموما ،الشاملة لجميع ما يحبه ال ويرضاه من العمال والقوال الظاهرة والباطنة.
تم تفسير سورة النجم ،والحمد ل الذي ل نحصي ثناء عليه ،بل هو كما أثنى على نفسه ،وفوق ما
يثني عليه عباده ،وصلى ال على محمد وسلم تسليما كثيرا.
حمَنِ الرّحِيمِ اقْتَرَ َبتِ السّاعَ ُة وَا ْنشَقّ ا ْل َقمَرُ * وَإِنْ يَ َروْا آ َيةً ُيعْ ِرضُوا
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-5بِ ْ
وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْ َتمِرّ * َوكَذّبُوا وَاتّ َبعُوا َأ ْهوَاءَهُ ْم َو ُكلّ َأمْرٍ مُسْ َتقِرّ * وََلقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ
ح ْكمَةٌ بَاِلغَةٌ َفمَا ُتغْنِ النّذُرُ }
مُزْدَجَرٌ * ِ
يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها ،وحان وقت مجيئها ،ومع ذلك ،فهؤلء
المكذبون لم يزالوا مكذبين بها ،غير مستعدين لنزولها ،ويريهم ال من اليات العظيمة الدالة على
وقوعها ما يؤمن على مثله البشر ،فمن أعظم اليات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد
ال صلى ال عليه وسلم ،أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على
[صحة ما جاء به و] صدقه ،أشار صلى ال عليه وسلم إلى القمر بإذن ال تعالى ،فانشق فلقتين،
فلقة على جبل أبي قبيس ،وفلقة على جبل قعيقعان ،والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الية
الكبرى الكائنة في العالم العلوي ،التي ل يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل.
فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله ،بل ولم يسمعوا أنه جرى لحد من المرسلين قبله نظيره ،فانبهروا
لذلك ،ولم يدخل اليمان في قلوبهم ،ولم يرد ال بهم خيرا ،ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم ،وقالوا:
سحرنا محمد ،ولكن علمة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر ،فإنه وإن قدر على
سحركم ،ل يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم ،فسألوا كل من قدم ،فأخبرهم بوقوع ذلك،
سحْرٌ مُسْ َتمِرّ } سحرنا محمد وسحر غيرنا ،وهذا من البهت ،الذي ل يروج إل على
فقالواِ { :
أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل ،وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الية وحدها ،بل كل آية
تأتيهم ،فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل والرد لها ،ولهذا قال { :وَإِنْ يَ َروْا آيَةً ُيعْ ِرضُوا } ولم يعد
الضمير على انشقاق القمر فلم يقل :وإن يروها بل قال { :وَإِنْ يَ َروْا آيَةً ُيعْ ِرضُوا } وليس قصدهم
اتباع الحق والهدى ،وإنما قصدهم اتباع الهوى ،ولهذا قالَ { :وكَذّبُوا وَاتّ َبعُوا أَ ْهوَاءَ ُهمْ } كقوله
تعالى { :فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا َلكَ فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَ ُهمْ } فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى،
لمنوا قطعا ،واتبعوا محمدا صلى ال عليه وسلم ،لنه أراهم ال على يديه من البينات والبراهين
والحجج القواطع ،ما دل على جميع المطالب اللهية ،والمقاصد الشرعيةَ { ،و ُكلّ َأمْرٍ مُسْ َتقِرّ }
أي :إلى الن ،لم يبلغ المر غايته ومنتهاه ،وسيصير المر إلى آخره ،فالمصدق يتقلب في جنات
النعيم ،ومغفرة ال ورضوانه ،والمكذب يتقلب في سخط ال وعذابه ،خالدا مخلدا أبدا.
وقال تعالى -مبينا أنهم ليس لهم قصد صحيح ،ول اتباع للهدى { :-وََلقَدْ جَا َءهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ } أي:
الخبار السابقة واللحقة والمعجزات الظاهرة { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي :زاجر يزجرهم عن غيهم
ح ْكمَةٌ } منه تعالى { بَاِلغَةٌ } أي :لتقوم حجته على المخالفين ول يبقى لحد
وضللهم ،وذلك { ِ
على ال حجة بعد الرسلَ { ،فمَا ُتغْنِ النّذُرُ } كقوله تعالى { :وََلوْ جَاءَ ْتهُمْ ُكلّ آ َي ٍة ل يؤمنوا حَتّى
يَ َروُا ا ْلعَذَابَ الْأَلِيمَ }
يقول تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم :قد بان أن المكذبين ل حيلة في هداهم ،فلم يبق إل
العراض عنهم والتولي عنهم[ ،فقال { ]:فَ َت َولّ عَ ْنهُمْ } وانتظر بهم يوما عظيما وهول جسيما،
شيْءٍ ُنكُرٍ } أي :إلى أمر فظيع تنكره
وذلك حين { يدعو الداع } إسرافيل عليه السلم { إِلَى َ
الخليقة ،فلم تر منظرا أفظع ول أوجع منه ،فينفخ إسرافيل نفخة ،يخرج بها الموات من قبورهم
لموقف القيامة
شعًا أَ ْبصَارُ ُهمْ } أي :من الهول والفزع الذي وصل إلى قلوبهم ،فخضعت وذلت ،وخشعت
{ خُ ّ
لذلك أبصارهم.
{ َيخْرُجُونَ مِنَ الَْأجْدَاثِ } وهي القبور { ،كَأَ ّنهُمْ } من كثرتهم ،وروجان بعضهم ببعض { جَرَادٌ
طعِينَ إِلَى الدّاعِ } أي :مسرعين لجابة النداء
مُنْتَشِرٌ } أي :مبثوث في الرض ،متكاثر جداُ { ،مهْ ِ
الداعي وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة ،فيلبون دعوته،
ويسرعون إلى إجابتهَ { ،يقُولُ ا ْلكَافِرُونَ } الذين قد حضر عذابهم { :هَذَا َيوْمٌ عَسِرٌ } كما قال
تعالى { على الكافرين غير يسير } [مفهوم ذلك أنه يسير سهل على المؤمنين]
ن وَازْ ُدجِرَ * فَدَعَا رَبّهُ أَنّي َمغْلُوبٌ
{ { } 9-17كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُوحٍ َفكَذّبُوا عَبْدَنَا َوقَالُوا مَجْنُو ٌ
سمَاءِ ِبمَاءٍ مُ ْن َهمِرٍ * َو َفجّرْنَا الْأَ ْرضَ عُيُونًا فَالْ َتقَى ا ْلمَاءُ عَلَى َأمْرٍ َقدْ قُدِرَ
فَانْ َتصِرْ * َففَتَحْنَا أَ ْبوَابَ ال ّ
ح وَ ُدسُرٍ * َتجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً ِلمَنْ كَانَ ُكفِرَ * وَلَقَدْ تَ َركْنَاهَا آيَةً َفهَلْ
حمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ
* وَ َ
مِنْ مُ ّدكِرٍ * َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }
لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله ،وأن اليات ل تنفع فيهم ،ول تجدي عليهم شيئا،
أنذرهم وخوفهم بعقوبات المم الماضية المكذبة للرسل ،وكيف أهلكهم ال وأحل بهم عقابه.
فذكر قوم نوح ،أول رسول بعثه ال إلى قوم يعبدون الصنام ،فدعاهم إلى توحيد ال وعبادته
سوَاعًا وَلَا
ن وَدّا وَلَا ُ
وحده ل شريك له ،فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا { :لَا تَذَرُنّ آِلهَ َتكُ ْم وَلَا َتذَرُ ّ
ق وَنَسْرًا }
ث وَ َيعُو َ
َيغُو َ
ولم يزل نوح يدعوهم إلى ال ليل ونهارا ،وسرا وجهارا ،فلم يزدهم ذلك إل عنادا وطغيانا،
وقدحا في نبيهم ،ولهذا قال هناَ { :فكَذّبُوا عَ ْبدَنَا َوقَالُوا مَجْنُونٌ } لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم
من الشرك والضلل هو الذي يدل عليه العقل ،وأن ما جاء به نوح عليه الصلة والسلم جهل
وضلل ،ل يصدر إل من المجانين ،وكذبوا في ذلك ،وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقل ،فإن ما
جاء به هو الحق الثابت ،الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة ،إلى الهدى والنور والرشد ،وما هم
عليه جهل وضلل مبين[ ،وقوله { ]:وَازْ ُدجِرَ } أي :زجره قومه وعنفوه عندما دعاهم إلى ال
تعالى ،فلم يكفهم -قبحهم ال -عدم اليمان به ،ول تكذيبهم إياه ،حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما
قدروا عليه ،وهكذا جميع أعداء الرسل ،هذه حالهم مع أنبيائهم.
فعند ذلك دعا نوح ربه [فقال { ]:أَنّي َمغْلُوبٌ } ل قدرة لي على النتصار منهم ،لنه لم يؤمن من
قومه إل القليل النادر ،ول قدرة لهم على مقاومة قومهم { ،فَانْ َتصِرْ } اللهم لي منهم ،وقال في
الية الخرىَ { :ربّ لَا َتذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } اليات
{ َوفَجّرْنَا الْأَ ْرضَ عُيُونًا } فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة ،وتفجرت
الرض كلها ،حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه ،فضل عن كونه منبعا للماء ،لنه
موضع النار.
{ فَالْ َتقَى ا ْلمَاءُ } أي :ماء السماء والرض { عَلَى َأمْرٍ } من ال له بذلكَ { ،قدْ قُدِرَ } أي :قد كتبه
ال في الزل وقضاه ،عقوبة لهؤلء الظالمين الطاغين
ح وَدُسُرٍ } أي :ونجينا عبدنا نوحا على السفينة ذات اللواح والدسر أي:
علَى ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ
حمَلْنَاهُ َ
{ وَ َ
المسامير [التي] قد سمرت [بها] ألواحها وشد بها أسرها
{ َتجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي :تجري بنوح ومن آمن معه ،ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من
ال ،وحفظ [منه] لها عن الغرق [ونظر] ،وكلئه منه تعالى ،وهو نعم الحافظ الوكيل { ،جَزَاءً ِلمَنْ
كَانَ ُكفِرَ } أي :فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام ،جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا
به فصبر على دعوتهم ،واستمر على أمر ال ،فلم يرده عنه راد ،ول صده عنه صاد ،كما قال
ك وَعَلَى ُأمَمٍ ِممّنْ َم َعكَ }
[تعالى] عنه في الية الخرى { :قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنّا وَبَ َركَاتٍ عَلَ ْي َ
الية.
ويحتمل أن المراد :أنا أهلكنا قوم نوح ،وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي ،جزاء لهم على
كفرهم وعنادهم ،وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف
{ وََلقَدْ تَ َركْنَاهَا آيَةً َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } أي :ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون،
على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه ال بعقاب عام شديد ،أو أن الضمير يعود إلى السفينة
وجنسها ،وأن أصل صنعتها تعليم
من ال لعبده نوح عليه السلم ،ثم أبقى ال تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدل ذلك على
رحمته بخلقه وعنايته ،وكمال قدرته ،وبديع صنعتهَ { ،ف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } ؟ أي :فهل من متذكر
لليات ،ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها ،فإنها في غاية البيان واليسر؟
{ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي :فكيف رأيت أيها المخاطب عذاب ال الليم وإنذاره الذي ل يبقي
لحد عليه حجة.
{ وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } أي :ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ،ألفاظه
للحفظ والداء ،ومعانيه للفهم والعلم ،لنه أحسن الكلم لفظا ،وأصدقه معنى ،وأبينه تفسيرا ،فكل
من أقبل عليه يسر ال عليه مطلوبه غاية التيسير ،وسهله عليه ،والذكر شامل لكل ما يتذكر به
العاملون من الحلل والحرام ،وأحكام المر والنهي ،وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر ،والعقائد
النافعة والخبار الصادقة ،ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا ،أسهل العلوم ،وأجلها على
الطلق ،وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه ،قال بعض السلف عند هذه الية :هل
من طالب علم فيعان [عليه]؟ ولهذا يدعو ال عباده إلى القبال عليه والتذكر بقولهَ { :ف َهلْ مِنْ
مُ ّدكِرٍ }
عذَابِي وَ ُنذُرِ * إِنّا أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ رِيحًا صَ ْرصَرًا فِي َيوْمِ
{ { } 18-22كَذّ َبتْ عَادٌ َفكَ ْيفَ كَانَ َ
عذَابِي وَنُذُرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا
خلٍ مُ ْن َقعِرٍ * َفكَ ْيفَ كَانَ َ
عجَازُ َن ْ
نَحْسٍ مُسْ َتمِرّ * تَنْ ِزعُ النّاسَ كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َفهَلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }
{ وعاد } هي القبيلة المعروفة باليمن ،أرسل ال إليهم هودا عليه السلم يدعوهم إلى توحيد ال
وعبادته ،فكذبوه ،فأرسل ال عليهم { رِيحًا صَ ْرصَرًا } أي :شديدة جدا { ،فِي َيوْمِ َنحْسٍ } أي:
شديد العذاب والشقاء عليهم { ،مُسْ َتمِرّ } عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
{ تَنْ ِزعُ النّاسَ } من شدتها ،فترفعهم إلى جو السماء ،ثم تدفعهم بالرض فتهلكهم ،فيصبحون
خلٍ مُنْ َقعِرٍ } أي :كأن جثثهم بعد هلكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته
{ كَأَ ّنهُمْ أَعْجَازُ َن ْ
الريح فسقط على الرض ،فما أهون الخلق على ال إذا عصوا أمره
{ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان [وال] العذاب الليم ،والنذارة التي ما أبقت لحد عليه حجة،
{ وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ } كرر تعالى ذلك رحمة بعباده وعناية بهم ،حيث دعاهم
إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم.
سعُرٍ *
حدًا نَتّ ِبعُهُ إِنّا إِذًا َلفِي ضَلَالٍ وَ ُ
{ { } 23-32كَذّ َبتْ َثمُودُ بِالنّذُرِ * َفقَالُوا أَبَشَرًا مِنّا وَا ِ
َأؤُ ْلقِيَ ال ّذكْرُ عَلَ ْيهِ مِنْ بَيْنِنَا َبلْ ُهوَ كَذّابٌ َأشِرٌ * سَ َيعَْلمُونَ غَدًا مَنِ ا ْلكَذّابُ الْأَشِرُ * إِنّا مُرْسِلُو
سمَةٌ بَيْ َنهُمْ ُكلّ شِ ْربٍ مُحْ َتضَرٌ * فَنَا َدوْا
النّاقَةِ فِتْ َنةً َلهُمْ فَارْ َتقِ ْبهُ ْم وَاصْطَبِرْ *وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ
عذَابِي وَنُذُرِ * إِنّا أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ صَيْحَ ًة وَاحِ َدةً َفكَانُوا َكهَشِيمِ
صَاحِ َبهُمْ فَ َتعَاطَى َف َعقَرَ * َفكَ ْيفَ كَانَ َ
ا ْلمُحْ َتظِرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }
أي كذبت ثمود وهم القبيلة المعروفة المشهورة في أرض الحجر ،نبيهم
صالحا عليه السلم ،حين دعاهم إلى عبادة ال وحده ل شريك له ،وأنذرهم العقاب إن هم خالفوه
فكذبوه واستكبروا عليه ،وقالوا -كبرا وتيها { :-أَبَشَرًا مِنّا وَاحِدًا نَتّ ِب ُعهُ } أي :كيف نتبع بشرا ،ل
ملكا منا ،ل من غيرنا ،ممن هو أكبر عند الناس منا ،ومع ذلك فهو شخص واحد { إِنّا إِذًا } أي:
سعُرٍ } أي :إنا لضالون أشقياء ،وهذا الكلم من ضللهم
إن اتبعناه وهو بهذه الحال { َلفِي ضَلَالٍ وَ ُ
وشقائهم ،فإنهم أنفوا أن يتبعوا رسول من البشر ،ولم يأنفوا أن يكونوا عابدين للشجر والحجر
والصور.
{ َأؤُ ْل ِقيَ ال ّذكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا } أي :كيف يخصه ال من بيننا وينزل عليه الذكر؟ فأي مزية خصه
من بيننا؟ وهذا اعتراض من المكذبين على ال ،لم يزالوا يدلون به ،ويصولون ويجولون ويردون
به دعوة الرسل ،وقد أجاب ال عن هذه الشبهة بقول الرسل لممهم { :قالت رسلهم إن نحن إل
بشر مثلكم ولكن ال يمن على من يشاء من عباده } فالرسل من ال عليهم بصفات وأخلق
وكمالت ،بها صلحوا لرسالت ربهم والختصاص بوحيه،
ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر ،فلو كانوا من الملئكة لم يمكن البشر ،أن يتلقوا عنهم،
ولو جعلهم من الملئكة لعاجل ال المكذبين لهم بالعقاب العاجل.
والمقصود بهذا الكلم الصادر من ثمود لنبيهم صالح ،تكذيبه ،ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم
الجائر ،فقالواَ { :بلْ ُهوَ كَذّابٌ َأشِرٌ } أي :كثير الكذب والشر،
فقبحهم ال ما أسفه أحلمهم وأظلمهم ،وأشدهم مقابلة للصادقين الناصحين بالخطاب الشنيع ،ل
جرم عاقبهم ال حين اشتد طغيانهم
فأرسل ال الناقة التي هي من أكبر النعم عليهم ،آية من آيات ال ،ونعمة يحتلبون من ضرعها ما
يكفيهم أجمعين { ،فِتْ َنةً َلهُمْ } أي :اختبارا منه لهم وامتحانا { فَارْ َتقِ ْبهُ ْم وَاصْطَبِرْ } أي :اصبر على
دعوتك إياهم ،وارتقب ما يحل بهم ،أو ارتقب هل يؤمنون أو يكفرون؟
س َمةٌ بَيْ َنهُمْ } أي :وأخبرهم أن الماء أي :موردهم الذي يستعذبونه ،قسمة بينهم
{ وَنَبّ ْئهُمْ أَنّ ا ْلمَاءَ قِ ْ
وبين الناقة ،لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر معلومُ { ،كلّ شِ ْربٍ مُحْ َتضَرٌ } أي :يحضره من
كان قسمته ،ويحظر على من ليس بقسمة له.
{ فَنَا َدوْا صَاحِ َبهُمْ } الذي باشر عقرها ،الذي هو أشقى القبيلة { فَ َتعَاطَى } أي :انقاد لما أمروه به
من عقرها { َف َعقَرَ }
{ َفكَ ْيفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } كان أشد عذاب ،أرسل ال عليهم صيحة ورجفة أهلكتهم عن آخرهم،
ونجى ال صالحا ومن آمن معه { وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }
سحَرٍ *
علَ ْيهِمْ حَاصِبًا ِإلّا آلَ لُوطٍ َنجّيْنَا ُهمْ بِ َ
{ { } 33-40كَذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ بِالنّذُرِ * إِنّا أَرْسَلْنَا َ
طشَتَنَا فَ َتمَا َروْا بِالنّذُرِ * وََلقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ
شكَرَ * وََلقَدْ أَنْذَرَ ُهمْ بَ ْ
ِن ْعمَةً مِنْ عِنْدِنَا َكذَِلكَ نَجْزِي مَنْ َ
ح ُهمْ ُبكْ َرةً عَذَابٌ مُسْ َتقِرّ * فَذُوقُوا عَذَابِي
طمَسْنَا أَعْيُ َن ُهمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وََلقَ ْد صَبّ َ
ضَيْفِهِ َف َ
وَنُذُرِ * وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِنْ مُ ّدكِرٍ }
أيَ { :كذّ َبتْ َقوْمُ لُوطٍ } لوطا عليه السلم ،حين دعاهم إلى عبادة ال وحده ل شريك له ،ونهاهم
عن الشرك والفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين،
فكذبوه واستمروا على شركهم وقبائحهم ،حتى إن الملئكة الذين جاءوه بصورة أضياف حين سمع
بهم قوم لوط ،جاؤوهم مسرعين ،يريدون إيقاع الفاحشة فيهم ،لعنهم ال وقبحهم ،وراودوه عنهم،
فأمر ال جبريل عليه السلم ،فطمس أعينهم بجناحه ،وأنذرهم نبيهم بطشة ال وعقوبته { فَ َتمَا َروْا
ح ُهمْ ُبكْ َرةً عَذَابٌ مُسْ َتقِرّ } قلب ال عليهم ديارهم ،وجعل أسفلها أعلها،
بِالنّذُرِ } { وََلقَ ْد صَبّ َ
وتتبعهم بحجارة من سجيل منضود ،مسومة عند ربك للمسرفين ،ونجى ال لوطا وأهله من
الكرب العظيم ،جزاء لهم على شكرهم لربهم ،وعبادته وحده ل شريك له.
عوْنَ } أي :فرعون وقومه { النّذُرُ } فأرسل ال إليهم موسى الكليم ،وأيده
أي { :وََلقَدْ جَاءَ آلَ فِرْ َ
باليات الباهرات ،والمعجزات القاهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحدا غيرهم فكذبوا
بآيات ال كلها ،فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ،فأغرقهم في اليم هو وجنوده والمراد من ذكر هذه
القصص تحذير [الناس و] المكذبين لمحمد صلى ال عليه وسلم ،ولهذا قالَ { :أ ُكفّا ُركُمْ خَيْرٌ مِنْ
أُولَ ِئكُمْ } أي :هؤلء الذين كذبوا أفضل الرسل ،خير من أولئك المكذبين ،الذين ذكر ال هلكهم
وما جرى عليهم؟ فإن كانوا خيرا منهم ،أمكن أن ينجوا من العذاب ،ولم يصبهم ما أصاب أولئك
الشرار ،وليس المر كذلك ،فإنهم إن لم يكونوا شرا منهم ،فليسوا بخير منهم { ،أَمْ َلكُمْ بَرَا َءةٌ فِي
الزّبُرِ } أي :أم أعطاكم ال عهدا وميثاقا في الكتب التي أنزلها على النبياء ،فتعتقدون حينئذ أنكم
الناجون بإخبار ال ووعده؟ وهذا غير واقع ،بل غير ممكن عقل وشرعا ،أن تكتب براءتهم في
الكتب اللهية المتضمنة للعدل والحكمة ،فليس من الحكمة نجاة أمثال هؤلء المعاندين المكذبين،
لفضل الرسل وأكرمهم على ال ،فلم يبق إل أن يكون بهم قوة ينتصرون بها،
ومع ذلك ،فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم ،ومن أصيب في الدنيا منهم ،ومن متع بلذاته ،ولهذا
عةُ أَ ْدهَى
قالَ { :بلِ السّاعَةُ َموْعِدُهُمْ } الذي يحازون به ،ويؤخذ منهم الحق بالقسط { ،وَالسّا َ
وََأمَرّ } أي :أعظم وأشق ،وأكبر من كل ما يتوهم ،أو يدور بالبال
{ إِنّ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } أي :الذين أكثروا من فعل الجرائم ،وهي الذنوب العظيمة من الشرك وغيره،
سعُرٍ } أي :هم ضالون في الدنيا ،ضلل عن العلم ،وضلل عن
ل وَ ُ
من المعاصي { فِي ضَلَا ٍ
العمل ،الذي ينجيهم من العذاب ،ويوم القيامة في العذاب الليم ،والنار التي تتسعر بهم ،وتشتعل
في أجسامهم ،حتى تبلغ أفئدتهم.
{ َيوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَى وُجُو ِههِمْ } التي هي أشرف ما بهم من العضاء ،وألمها أشد من ألم
غيرها ،فيهانون بذلك ويخزون ،ويقال لهم:
شيْءٍ خََلقْنَاهُ ِبقَدَرٍ } وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية ،أن ال تعالى وحده
{ إِنّا ُكلّ َ
خلقها ل خالق لها سواه ،ول مشارك له في خلقها
وخلقها بقضاء سبق به علمه ،وجرى به قلمه ،بوقتها ومقدارها ،وجميع ما اشتملت عليه من
ح َدةٌ كََلمْحٍ بِالْ َبصَرِ } فإذا أراد شيئا
الوصاف ،وذلك على ال يسير ،فلهذا قالَ { :ومَا َأمْرُنَا إِلّا وَا ِ
قال له كن فيكون كما أراد ،كلمح البصر ،من غير ممانعة ول صعوبة.
عكُمْ } من المم السابقين الذين عملوا كما عملتم ،وكذبوا كما كذبتم { َف َهلْ مِنْ
{ وََلقَدْ أَ ْهَلكْنَا أَشْيَا َ
مُ ّدكِرٍ } أي :متذكر يعلم أن سنة ال في الولين والخرين واحدة ،وأن حكمته كما اقتضت إهلك
أولئك الشرار ،فإن هؤلء مثلهم ،ول فرق بين الفريقين.
شيْءٍ َفعَلُوهُ فِي الزّبُرِ } أي :كل ما فعلوه من خير وشر مكتوب
{ َو ُكلّ َ
صغِي ٍر َوكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } أي :مسطر مكتوب،
ل َ
عليهم في الكتب القدرية { َوكُ ّ
وهذا حقيقة القضاء والقدر ،وأن جميع الشياء كلها ،قد علمها ال تعالى ،وسطرها عنده في اللوح
المحفوظ ،فما شاء ال كان ،وما لم يشأ لم يكن ،فما أصاب النسان لم يكن ليخطئه ،وما أخطأه لم
يكن ليصيبه.
{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } ل ،بفعل أوامره وترك نواهيه ،الذين اتقوا الشرك والكبائر والصغائر.
ت وَ َنهَرٍ } أي :في جنات النعيم ،التي فيها ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر
{ فِي جَنّا ٍ
على قلب بشر ،من الشجار اليانعة ،والنهار الجارية ،والقصور الرفيعة ،والمنازل النيقة،
والمآكل والمشارب اللذيذة ،والحور الحسان ،والروضات البهية في الجنان ،ورضوان الملك
الديان ،والفوز بقربه ،ولهذا قال { :فِي َم ْقعَ ِد صِ ْدقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } فل تسأل بعد هذا عما
يعطيهم ربهم من كرامته وجوده ،ويمدهم به من إحسانه ومنته ،جعلنا ال منهم ،ول حرمنا خير
ما عنده بشر ما عندنا.
فذكر أنه { عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ } أي :علم عباده ألفاظه ومعانيه ،ويسرها على عباده ،وهذا أعظم منة
ورحمة رحم بها عباده ،حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ ،وأحسن تفسير ،مشتمل على
كل خير ،زاجر عن كل شر.
{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ } في أحسن تقويم ،كامل العضاء ،مستوفي الجزاء ،محكم البناء ،قد أتقن البديع
تعالى البديع خلقه أي إتقان ،وميزه على سائر الحيوانات.
بأن { عَّل َمهُ الْبَيَانَ } أي :التبيين عما في ضميره ،وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي،
فالبيان الذي ميز ال به الدمي على غيره من أجل نعمه ،وأكبرها عليه.
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ } أي :خلق ال الشمس والقمر ،وسخرهما يجريان بحساب مقنن ،وتقدير
شمْ ُ
{ ال ّ
مقدر ،رحمة بالعباد ،وعناية بهم ،وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم ،وليعرف العباد عدد السنين
والحساب.
سجُدَانِ } أي :نجوم السماء ،وأشجار الرض ،تعرف ربها وتسجد له ،وتطيع
{ وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ يَ ْ
وتخشع وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم.
سمَاءَ َر َف َعهَا } سقفها للمخلوقات الرضية ،ووضع ال الميزان أي :العدل بين العباد ،في
{ وَال ّ
القوال والفعال ،وليس المراد به الميزان المعروف وحده ،بل هو كما ذكرنا ،يدخل فيه الميزان
المعروف ،والمكيال الذي تكال به الشياء والمقادير ،والمساحات التي تضبط بها المجهولت،
ط َغوْا فِي
والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات ،ويقام بها العدل بينهم ،ولهذا قال { :أَلّا تَ ْ
ا ْلمِيزَانِ } أي :أنزل ال الميزان ،لئل تتجاوزوا الحد في الميزان ،فإن المر لو كان يرجع إلى
عقولكم وآرائكم ،لحصل من الخلل ما ال به عليم ،ولفسدت السماوات والرض.
{ وََأقِيمُوا ا ْلوَزْنَ بِا ْلقِسْطِ } أي :اجعلوه قائما بالعدل ،الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم { ،وَلَا
خسِرُوا ا ْلمِيزَانَ } أي :ل تنقصوه وتعملوا بضده ،وهو الجور والظلم والطغيان.
تُ ْ
ثم ذكر ما فيها من القوات الضرورية ،فقال { :فِيهَا فَا ِكهَةٌ } وهي جميع الشجار التي تثمر
خلُ ذَاتُ
الثمرات التي يتفكه بها العباد ،من العنب والتين والرمان والتفاح ،وغير ذلك { ،وَالنّ ْ
الَْأ ْكمَامِ } أي :ذات الوعاء الذي ينفلق عن القنوان التي تخرج شيئا فشيئا حتى تتم ،فتكون قوتا
يؤكل ويدخر ،يتزود منه المقيم والمسافر ،وفاكهة لذيذة من أحسن الفواكه.
صفِ } أي :ذو الساق الذي يداس ،فينتفع بتبنه للنعام وغيرها ،ويدخل في ذلك
حبّ ذُو ا ْل َع ْ
{ وَا ْل َ
حب البر والشعير والذرة [والرز] والدخن ،وغير ذلك { ،وَالرّ ْيحَانُ } يحتمل أن المراد بذلك
جميع الرزاق التي يأكلها الدميون ،فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص ،ويكون ال قد
امتن على عباده بالقوت والرزق ،عموما وخصوصا ،ويحتمل أن المراد بالريحان ،الريحان
المعروف ،وأن ال امتن على عباده بما يسره في الرض من أنواع الروائح الطيبة ،والمشام
الفاخرة ،التي تسر الرواح ،وتنشرح لها النفوس.
ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالبصار والبصائر ،وكان الخطاب للثقلين ،النس
والجن ،قررهم تعالى بنعمه ،فقال { :فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } أي :فبأي نعم ال الدينية والدنيوية
تكذبان؟
وما أحسن جواب الجن حين تل عليهم النبي صلى ال عليه وسلم هذه السورة ،فما مر بقوله:
{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ } إل قالوا ول بشيء من آلئك ربنا نكذب ،فلك الحمد ،فهذا الذي
ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم ال وآلؤه ،أن يقر بها ويشكر ،ويحمد ال عليها.
ن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ * وَخَلَقَ الْجَانّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ
{ { } 14-16خَلَقَ الْإِ ْنسَانَ مِ ْ
رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
وهذا من نعمه تعالى على عباده ،حيث أراهم [من] آثار قدرته وبديع صنعته ،أن { خََلقَ } أبا
ن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ } أي :من طين مبلول ،قد أحكم بله وأتقن،
النس وهو آدم عليه السلم { مِ ْ
حتى جف ،فصار له صلصلة وصوت يشبه صوت الفخار الذي طبخ على النار .
خلَقَ ا ْلجَانّ } أي :أبا الجن ،وهو إبليس اللعين { مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } أي :من لهب النار
{ وَ َ
الصافي ،أو الذي قد خالطه الدخان ،وهذا يدل على شرف عنصر الدمي المخلوق من الطين
والتراب ،الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع ،بخلف عنصر الجان وهو النار ،التي هي محل
الخفة والطيش والشر والفساد.
ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك وكان ذلك منة منه [تعالى] على عباده قال { :فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا
ُتكَذّبَانِ }
{ { } 19-21مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَخٌ لَا يَ ْبغِيَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
المراد بالبحرين :البحر العذب ،والبحر المالح ،فهما يلتقيان كلهما ،فيصب العذب في البحر
المالح ،ويختلطان ويمتزجان ،ولكن ال تعالى جعل بينهما برزخا من الرض ،حتى ل يبغي
أحدهما على الخر ،ويحصل النفع بكل منهما ،فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم،
والملح به يطيب الهواء ويتولد الحوت والسمك ،واللؤلؤ والمرجان ،ويكون مستقرا مسخرا للسفن
والمراكب ،ولهذا قال:
أي :وسخر تعالى لعباده السفن الجواري ،التي تمخر البحر وتشقه بإذن ال ،التي ينشئها الدميون،
فتكون من كبرها وعظمها كالعلم ،وهي الجبال العظيمة ،فيركبها الناس ،ويحملون عليها
أمتعتهم وأنواع تجاراتهم ،وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم ،وقد حفظها حافظ
السماوات والرض ،وهذه من نعم ال الجليلة ،فلذلك قال { :فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
{ ُ { } 26-28كلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ * وَيَ ْبقَى وَجْهُ رَ ّبكَ ذُو ا ْلجَلَالِ وَالِْإكْرَامِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا
ُتكَذّبَانِ }
أي :كل من على الرض ،من إنس وجن ،ودواب ،وسائر المخلوقات ،يفنى ويموت ويبيد ويبقى
ل وَالِْإكْرَامِ } أي :ذو العظمة والكبرياء والمجد ،الذي يعظم ويبجل
الحي الذي ل يموت { ذُو الْجَلَا ِ
ويجل لجله ،والكرام الذي هو سعة الفضل والجود ،والداعي لن يكرم أولياءه وخواص خلقه
بأنواع الكرام ،الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه[ ،ويعظمونه] ويحبونه ،وينيبون إليه ويعبدونه،
{ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُكلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ }
{ { } 29-30يَسْأَُلهُ مَنْ فِي ال ّ
أي :هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ،وهو واسع الجود والكرم ،فكل الخلق مفتقرون إليه،
يسألونه جميع حوائجهم ،بحالهم ومقالهم ،ول يستغنون عنه طرفة عين ول أقل من ذلك ،وهو
تعالى { ُكلّ َي ْومٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ } يغني فقيرا ،ويجبر كسيرا ،ويعطي قوما ،ويمنع آخرين ،ويميت
ويحيي ،ويرفع ويخفض ،ل يشغله شأن عن شأن ،ول تغلطه المسائل ،ول يبرمه إلحاح الملحين،
ول طول مسألة السائلين ،فسبحان الكريم الوهاب ،الذي عمت مواهبه أهل الرض والسماوات،
وعم لطفه جميع الخلق في كل النات واللحظات ،وتعالى الذي ل يمنعه من العطاء معصية
العاصين ،ول استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه ،وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو
في شأن ،هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الزل وقضاها ،ل يزال تعالى يمضيها وينفذها في
أوقاتها التي اقتضته حكمته ،وهي أحكامه الدينية التي هي المر والنهي ،والقدرية التي يجريها
على عباده مدة مقامهم في هذه الدار ،حتى إذا تمت [هذه] الخليقة وأفناهم ال تعالى وأراد تعالى
أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء ،ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه ،ما به يعرفونه ويوحدونه،
نقل المكلفين من دار البتلء والمتحان إلى دار الحيوان.
وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الحكام ،التي جاء وقتها ،وهو المراد بقوله:
{ { } 31-32سَ َنفْ ُرغُ َلكُمْ أَ ّيهَا ال ّثقَلَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
{ سَ َنفْرُغُ لكم أيها الثقلن فبأي آلء ربكما تكذبان } أي :سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي
عملتموها في دار الدنيا.
أي :إذا جمعهم ال في موقف القيامة ،أخبرهم بعجزهم وضعفهم ،وكمال سلطانه ،ونفوذ مشيئته
سمَاوَاتِ
طعْ ُتمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأقْطَارِ ال ّ
ن وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَ َ
وقدرته ،فقال معجزا لهم { :يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
وَالْأَ ْرضِ } أي :تجدون منفذا مسلكا تخرجون به عن ملك ال وسلطانه { ،فَا ْنفُذُوا لَا تَ ْنفُذُونَ إِلّا
بِسُ ْلطَانٍ } أي :ل تخرجون عنه إل بقوة وتسلط منكم ،وكمال قدرة ،وأنى لهم ذلك ،وهم ل
يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول نشورا؟! ففي ذلك الموقف ل يتكلم أحد إل
بإذنه ،ول تسمع إل همسا ،وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك ،والرؤساء والمرءوسون،
والغنياء والفقراء.
شوَاظٌ مِنْ نَا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْ َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
{ { } 35-36يُرْ َ
علَ ْي ُكمَا شواظ من نار [ونحاس فل
سلُ َ
ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم فقال { :يُ ْر َ
تنصران فبأي آلء ربكما تكذبان } أي :يرسل عليكما] لهب صاف من النار.
{ ونحاس } وهو اللهب ،الذي قد خالطه الدخان ،والمعنى أن هذين المرين الفظيعين يرسلن
عليكما يا معشر الجن والنس ،ويحيطان بكما فل تنتصران ،ل بناصر من أنفسكم ،ول بأحد
ينصركم من دون ال.
ولما كان تخويفه لعباده نعمة منه عليهم ،وسوطا يسوقهم به إلى أعلى المطالب وأشرف المواهب،
امتن عليهم فقال { :فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
سمَاءُ } [أي] يوم القيامة من شدة الهوال ،وكثرة البلبال ،وترادف الوجال،
ش ّقتِ ال ّ
{ فَِإذَا انْ َ
فانخسفت شمسها وقمرها ،وانتثرت نجومهاَ { ،فكَا َنتْ } من شدة الخوف والنزعاج { وَرْ َدةً
كَالدّهَانِ } أي :كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه { فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ فَ َي ْومَئِذٍ لَا يُسَْألُ
س وَلَا جَانّ } أي :سؤال استعلم بما وقع ،لنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي
عَنْ ذَنْ ِبهِ إِنْ ٌ
والمستقبل ،ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم ،وقد جعل لهل الخير والشر يوم القيامة
سوَدّ وُجُوهٌ }
علمات يعرفون بها ،كما قال تعالىَ { :يوْمَ تَبْ َيضّ ُوجُوهٌ وَتَ ْ
وقال هناُ { :يعْ َرفُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَ ُيؤْخَذُ بِال ّنوَاصِي وَالَْأقْدَامِ } أي :فيؤخذ بنواصي المجرمين
وأقدامهم ،فيلقون في النار ويسحبون فيها ،وإنما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقرير بما وقع منهم،
وهو أعلم به منهم ،ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة ،وحكمته الجليلة.
أي :وللذي خاف ربه وقيامه عليه ،فترك ما نهى عنه ،وفعل ما أمره به ،له جنتان من ذهب
آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما ،إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات ،والخرى على
فعل الطاعات.
ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما { َذوَاتَا َأفْنَانٍ } [أي :فيهما من ألوان النعيم المتنوعة نعيم الظاهر
والباطن ما ل عين رأت ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر] أن فيهما الشجار الكثيرة
الزاهرة ذوات الغصون الناعمة ،التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة ،أو ذواتا أنواع وأصناف
من جميع أصناف النعيم وأنواعه جمع فن ،أي :صنف.
{ فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ فَا ِكهَةٍ } من جميع أصناف الفواكه { َزوْجَانِ } أي :صنفان ،كل صنف له لذة
ولون ،ليس للنوع الخر.
{ مُ ّتكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ َبطَائِ ُنهَا مِنْ إِسْتَبْ َرقٍ } هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها ،وأنهم
متكئون عليها[ ،أي ]:جلوس تمكن واستقرار [وراحة] ،كجلوس من الملوك على السرة ،وتلك
الفرش ،ل يعلم وصفها وحسنها إل ال عز وجل ،حتى إن بطائنها التي تلي الرض منها ،من
إستبرق ،وهو أحسن الحرير وأفخره ،فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟! { وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ
دَانٍ } الجنى هو الثمر المستوي أي :وثمر هاتين الجنتين قريب التناول ،يناله القائم والقاعد
والمضطجع.
{ فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ } أي :قد قصرن طرفهن على أزواجهن ،من حسنهم وجمالهم ،وكمال
محبتهن لهم ،وقصرن أيضا طرف أزواجهن عليهن ،من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن { ،لَمْ
طمِ ْثهُنّ إِنْسٌ قَبَْل ُه ْم وَلَا جَانّ } أي :لم ينلهن قبلهم أحد من النس والجن ،بل هن أبكار عرب،
يَ ْ
متحببات إلى أزواجهن ،بحسن التبعل والتغنج والملحة والدلل ،ولهذا قال:
ت وَا ْلمَرْجَانُ } وذلك لصفائهن وجمال منظرهن وبهائهن.
{ كَأَ ّنهُنّ الْيَاقُو ُ
{ َهلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلّا الِْإحْسَانُ } أي :هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده ،إل أن
يحسن إليه بالثواب الجزيل ،والفوز الكبير ،والنعيم المقيم ،والعيش السليم ،فهاتان الجنتان العاليتان
للمقربين.
{ َومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ } من فضة بنيانهما وآنيتهما وحليتهما وما فيهما لصحاب اليمين.
وتلك الجنتان { مُدْهَامّتَانِ } أي :سوداوان من شدة الخضرة التي هي أثر الري.
أي :فوارتان.
{ فِي ِهمَا فَا ِكهَةٌ } من جميع أصناف الفواكه ،وأخصها النخل والرمان ،اللذان فيهما من المنافع ما
فيهما.
{ حُورٌ مَ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ } أي :محبوسات في خيام اللؤلؤ ،قد تهيأن وأعددن أنفسهن
لزواجهن ،ول ينفي ذلك خروجهن في البساتين ورياض الجنة ،كما جرت العادة لبنات الملوك
ونحوهن [المخدرات] الخفرات.
خضْرٍ } أي:
طمِ ْثهُنّ إِ ْنسٌ قَبَْلهُ ْم وَلَا جَانّ فَبَِأيّ آلَاءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ مُ ّتكِئِينَ عَلَى َرفْ َرفٍ ُ
{ َلمْ يَ ْ
أصحاب هاتين الجنتين ،متكأهم على الرفرف الخضر ،وهي الفرش التي فوق المجالس العالية،
التي قد زادت على مجالسهم ،فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم ،لزيادة البهاء وحسن المنظر،
{ وَعَ ْبقَ ِريّ حِسَانٍ } العبقري :نسبة لكل منسوج نسجا حسنا فاخرا ،ولهذا وصفها بالحسن الشامل،
لحسن الصنعة وحسن المنظر ،ونعومة الملمس ،وهاتان الجنتان دون الجنتين الوليين ،كما نص
ال على ذلك بقولهَ { :ومِنْ دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ } وكما وصف الوليين بعدة أوصاف لم يصف بها
الخريين ،فقال في الوليين { :فِي ِهمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وفي الخريين { :عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ } ومن
المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة.
وقال في الوليينَ { :ذوَاتَا َأفْنَانٍ } ولم يقل ذلك في الخريين .وقال في الوليين { :فِي ِهمَا مِنْ ُكلّ
ل وَ ُرمّانٌ } وقد علم ما بين الوصفين من
خٌفَا ِكهَةٍ َزوْجَانِ } وفي الخريين { فِي ِهمَا فَا ِكهَ ٌة وَنَ ْ
التفاوت.
وقال في الوليين ،في وصف نسائهم وأزواجهم { :فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ لم يطمثهن إنس قبلهم
ول جان } وقال في الخريين { :حور مَ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ } وقد علم التفاوت بين ذلك.
وقال في الوليين { َهلْ جَزَاءُ الِْإحْسَانِ إِلّا الْإِحْسَانُ } فدل ذلك أن الوليين جزاء المحسنين ،ولم
يقل ذلك في الخريين.
فبهذه الوجه يعرف فضل الوليين على الخريين ،وأنهما معدتان للمقربين من النبياء،
والصديقين ،وخواص عباد ال الصالحين ،وأن الخريين معدتان لعموم المؤمنين ،وفي كل من
الجنات [المذكورات] ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر ،وفيهن ما
تشتهيه النفس وتلذ العين ،وأهلها في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى ،حتى إن
كل منهم ل يرى أحدا أحسن حال منه ،ول أعلى من نعيمه [الذي هو فيه].
حمَنِ الرّحِيمِ إِذَا َو َق َعتِ ا ْلوَا ِقعَةُ * لَيْسَ ِل َو ْقعَ ِتهَا كَاذِبَةٌ * خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ *
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-12بِ ْ
ستِ الْجِبَالُ بَسّا * َفكَا َنتْ هَبَاءً مُنْبَثّا * َوكُنْتُمْ أَ ْزوَاجًا ثَلَاثَةً * فََأصْحَابُ
جتِ الْأَ ْرضُ رَجّا * وَبُ ّ
إِذَا ُر ّ
صحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ * وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ *
ا ْلمَ ْيمَنَةِ مَا َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ * وََأصْحَابُ ا ْلمَشَْأمَةِ مَا َأ ْ
أُولَ ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ * فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ }
يخبر تعالى بحال الواقعة التي ل بد من وقوعها ،وهي القيامة التي { لَ ْيسَ ِل َو ْقعَ ِتهَا كَاذِ َبةٌ } أي :ل
شك فيها ،لنها قد تظاهرت عليها الدلة العقلية والسمعية ،ودلت عليها حكمته تعالى.
{ خَا ِفضَةٌ رَا ِفعَةٌ } أي :خافضة لناس في أسفل سافلين ،رافعة لناس في أعلى عليين ،أو خفضت
بصوتها فأسمعت القريب ،ورفعت فأسمعت البعيد.
{ َفكَا َنتْ هَبَاءً مُنْبَثّا } فأصبحت الرض ليس عليها جبل ول معلم ،قاعا صفصفا ،ل ترى فيها
عوجا ول أمتا.
{ َوكُنْتُمْ } أيها الخلق { أَ ْزوَاجًا ثَلَا َثةً } أي :انقسمتم ثلث فرق بحسب أعمالكم الحسنة والسيئة.
ثم فصل أحوال الزواج الثلثة ،فقال { :فََأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ مَا َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ } تعظيم لشأنهم،
وتفخيم لحوالهم.
{ وََأصْحَابُ ا ْلمَش َئ َمةِ } أي :الشمال { ،مَا َأصْحَابُ ا ْلمَش َئمَة } تهويل لحالهم.
{ وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ أُولَ ِئكَ ا ْلمُقَرّبُونَ } أي :السابقون في الدنيا إلى الخيرات ،هم السابقون في
الخرة لدخول الجنات.
أولئك الذين هذا وصفهم ،المقربون عند ال ،في جنات النعيم ،في أعلى عليين ،في المنازل
العاليات ،التي ل منزلة فوقها.
وهؤلء المذكورون { ثُلّةٌ مِنَ الَْأوّلِينَ } أي :جماعة كثيرون من المتقدمين من هذه المة وغيرهم.
وهذا يدل على فضل صدر هذه المة في الجملة على متأخريها ،لكون المقربين من الولين أكثر
من المتأخرين.
والمقربون هم خواص الخلق { ،عَلَى سُرُرٍ َم ْوضُونَةٍ } أي :مرمولة بالذهب والفضة ،واللؤلؤ،
والجوهر ،وغير ذلك من [الحلي] الزينة ،التي ل يعلمها إل ال تعالى.
{ مُ ّتكِئِينَ عَلَ ْيهَا } أي :على تلك السرر ،جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار { .مُ َتقَابِلِينَ }
وجه كل منهم إلى وجه صاحبه ،من صفاء قلوبهم ،وحسن أدبهم ،وتقابل قلوبهم.
أي :يدور على أهل الجنة لخدمة وقضاء حوائجهم ،ولدان صغار السنان ،في غاية الحسن
والبهاء { ،كَأَ ّنهُمْ ُلؤُْلؤٌ َمكْنُونٌ } أي :مستور ،ل يناله ما يغيره ،مخلوقون للبقاء والخلد ،ل يهرمون
ول يتغيرون ،ول يزيدون على أسنانهم.
ويدورون عليهم بآنية شرابهم { بَِأ ْكوَابٍ } وهي التي ل عرى لها { ،وَأَبَارِيقَ } الواني التي لها
عرىَ { ،وكَأْسٍ مِنْ َمعِينٍ } أي :من خمر لذيذ المشرب ،ل آفة فيها.
{ لَا ُيصَدّعُونَ عَ ْنهَا } أي :ل تصدعهم رءوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها.
ول هم عنها ينزفون ،أي :ل تنزف عقولهم ،ول تذهب أحلمهم منها ،كما يكون لخمر الدنيا.
والحاصل :أن جميع ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا ،ل يوجد في الجنة
ط ْعمُهُ وَأَ ْنهَارٌ مِنْ
ن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ لَبَنٍ َلمْ يَ َتغَيّرْ َ
فيه آفة ،كما قال تعالى { :فِيهَا أَ ْنهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِ ٍ
صفّى } وذكر هنا خمر الجنة ،ونفى عنها كل آفة توجد في
سلٍ ُم َ
عَن وَأَ ْنهَارٌ مِنْ َ
خمْرٍ َل ّذةٍ لِلشّارِبِي َ
َ
الدنيا.
{ َوفَا ِكهَةٍ ِممّا يَتَخَيّرُونَ } أي :مهما تخيروا ،وراق في أعينهم ،واشتهته نفوسهم ،من أنواع الفواكه
الشهية ،والجنى اللذيذ ،حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.
{ وََلحْمِ طَيْرٍ ِممّا يَشْ َتهُونَ } أي :من كل صنف من الطيور يشتهونه ،ومن أي جنس من لحمه
أرادوا ،وإن شاءوا مشويا ،أو طبيخا ،أو غير ذلك.
{ وَحُورٌ عِينٌ كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } أي :ولهم حور عين ،والحوراء :التي في عينها كحل
وملحة ،وحسن وبهاء ،والعين :حسان العين وضخامها وحسن العين في النثى ،من أعظم
الدلة على حسنها وجمالها.
{ كََأمْثَالِ الّلؤُْلؤِ ا ْل َمكْنُونِ } أي :كأنهن اللؤلؤ البيض الرطب الصافي البهي ،المستور عن العين
والريح والشمس ،الذي يكون لونه من أحسن اللوان ،الذي ل عيب فيه بوجه من الوجوه ،فكذلك
الحور العين ،ل عيب فيهن [بوجه] ،بل هن كاملت الوصاف ،جميلت النعوت.
فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إل ما يسر الخاطر ويروق الناظر.
وذلك النعيم المعد لهم { جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ } فكما حسنت منهم العمال ،أحسن ال لهم
الجزاء ،ووفر لهم الفوز والنعيم.
س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا وَلَا تَأْثِيمًا } أي :ل يسمعون في جنات النعيم كلما يلغى ،ول يكون فيه
{ لَا يَ ْ
فائدة ،ول كلما يؤثم صاحبه.
{ إِلّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } أي :إل كلما طيبا ،وذلك لنها دار الطيبين ،ول يكون فيها إل كل طيب،
وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم ،وأنه أطيب كلم ،وأسره للنفوس
وأسلمه من كل لغو وإثم ،نسأل ال من فضله.
خضُودٍ } أي :مقطوع ما فيه من الشوك والغصان [الرديئة] المضرة ،مجعول مكان
سدْرٍ مَ ْ
{ فِي ِ
ذلك الثمر الطيب ،وللسدر من الخواص ،الظل الظليل ،وراحة الجسم فيه.
طلْحٍ مَ ْنضُودٍ } والطلح معروف ،وهو شجر [كبار] يكون بالبادية ،تنضد أغصانه من الثمر
{ وَ َ
اللذيذ الشهي.
{ َوفَا ِكهَةٍ كَثِي َرةٍ لَا َمقْطُوعَ ٍة وَلَا َممْنُوعَةٍ } أي :ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من
الوقات ،وتكون ممتنعة [أي :متعسرة] على مبتغيها ،بل هي على الدوام موجودة ،وجناها قريب
يتناوله العبد على أي حال يكون.
{ َوفُرُشٍ مَ ْرفُوعَةٍ } أي :مرفوعة فوق السرة ارتفاعا عظيما ،وتلك الفرش من الحرير والذهب
واللؤلؤ وما ل يعلمه إل ال.
{ إِنّا أَنْشَأْنَاهُنّ إِ ْنشَاءً } أي :إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا ،نشأة
كاملة ل تقبل الفناء.
والتراب اللتي على سن واحدة ،ثلث وثلثين سنة ،التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب،
فنساؤهم عرب أتراب ،متفقات مؤتلفات ،راضيات مرضيات ،ل يحزن ول يحزن ،بل هن أفراح
النفوس ،وقرة العيون ،وجلء البصار.
ن وَثُلّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ } أي :هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الولين،
{ ثُلّةٌ مِنَ الَْأوّلِي َ
وعدد كثير من الخرين.
حمُومٍ * لَا
ظلّ مِنْ َي ْ
حمِيمٍ * َو ِ
سمُومٍ وَ َ
شمَالِ * فِي َ
شمَالِ مَا َأصْحَابُ ال ّ
{ { } 41-48وََأصْحَابُ ال ّ
بَارِ ٍد وَلَا كَرِيمٍ * إِ ّنهُمْ كَانُوا قَ ْبلَ ذَِلكَ مُتْ َرفِينَ * َوكَانُوا ُيصِرّونَ عَلَى ا ْلحِ ْنثِ ا ْلعَظِيمِ * َوكَانُوا
عظَامًا أَئِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَآبَاؤُنَا الَْأوّلُونَ }
َيقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابًا وَ ِ
{ لَا بَارِ ٍد وَلَا كَرِيمٍ } أي :ل برد فيه ول كرم ،والمقصود أن هناك الهم والغم ،والحزن والشر،
الذي ل خير فيه ،لن نفي الضد إثبات لضده.
ثم ذكر أعمالهم التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء فقال { :إِ ّنهُمْ كَانُوا قَ ْبلَ ذَِلكَ مُتْ َرفِينَ } أي :قد ألهتهم
دنياهم ،وعملوا لها ،وتنعموا وتمتعوا بها ،فألهاهم المل عن إحسان العمل ،فهذا هو الترف الذي
ذمهم ال عليه.
{ َوكَانُوا ُيصِرّونَ عَلَى ا ْلحِ ْنثِ ا ْلعَظِيمِ } أي :وكانوا يفعلون الذنوب الكبار ول يتوبون منها ،ول
يندمون عليها ،بل يصرون على ما يسخط مولهم ،فقدموا عليه بأوزار كثيرة [غير مغفورة].
{ ُقلْ إِنّ الَْأوّلِينَ والخرين لمجموعون إلى ميقات َيوْمٍ َمعْلُومٍ } أي :قل إن متقدم الخلق ومتأخرهم،
الجميع سيبعثهم ال ويجمعهم لميقات يوم معلوم ،قدره ال لعباده ،حين تنقضي الخليقة ،ويريد ال
تعالى جزاءهم على أعمالهم التي عملوها في دار التكليف.
{ ُثمّ إِ ّنكُمْ أَ ّيهَا الضّالّونَ } عن طريق الهدى ،التابعون لطريق الردى { ،ا ْل ُمكَذّبُونَ } بالرسول صلى
ال عليه وسلم وما جاء به من الحق والوعد والوعيد.
شجَرٍ مِنْ َزقّومٍ } وهو أقبح الشجار وأخسها ،وأنتنها ريحا ،وأبشعها منظرا.
{ لَآكِلُونَ مِنْ َ
{ َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ } والذي أوجب لهم أكلها -مع ما هي عليه من الشناعة -الجوع المفرط،
الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم .هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع ،وهو الذي ل
يسمن ول يغني من جوع.
وأما شرابهم ،فهو بئس الشراب ،وهو أنهم يشربون على هذا الطعام من الماء الحميم الذي يغلي
في البطون شرب البل الهيم أي :العطاش ،التي قد اشتد عطشها ،أو [أن الهيم] داء يصيب البل،
ل تروى معه من شراب الماء.
{ هَذَا } الطعام والشراب { نُزُُلهُمْ } أي :ضيافتهم { َيوْمَ الدّينِ } وهي الضيافة التي قدموها
لنفسهم ،وآثروها على ضيافة ال لوليائه.
عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُزُلًا خَاِلدِينَ فِيهَا لَا
قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
حوَلًا }
يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ
ثم ذكر الدليل العقلي على البعث ،فقال { :نَحْنُ خََلقْنَاكُمْ فََلوْلَا ُتصَ ّدقُونَ } أي :نحن الذين أوجدناكم
بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ،من غير عجز ول تعب ،أفليس القادر على ذلك بقادر على أن
يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير ،ولهذا وبخهم على عدم تصديقهم بالبعث ،وهم
يشاهدون ما هو أعظم منه وأبلغ.
{ َ { } 58-62أفَرَأَيْ ُتمْ مَا ُتمْنُونَ * أَأَنْتُمْ َتخُْلقُونَهُ أَمْ َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َن ُكمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا
علَى أَنْ نُبَ ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنْشِ َئكُمْ فِي مَا لَا َتعَْلمُونَ * وََلقَدْ عَِلمْتُمُ النّشَْأةَ الْأُولَى فََلوْلَا
نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ * َ
تَ َذكّرُونَ }
أي :أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون ،فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم ال
تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة وآلتها من الذكر والنثى ،وهدى كل منهما لما هنالك،
وحبب بين الزوجين ،وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب للتناسل.
ولهذا أحالهم ال تعالى على الستدلل بالنشأة الولى على النشأة الخرى ،فقال { :وََلقَدْ عَِلمْتُمُ
النّشَْأةَ الْأُولَى فََلوْلَا تَ َذكّرُونَ } أن القادر على ابتداء خلقكم ،قادر على إعادتكم.
جعَلْنَاهُ حُطَامًا
{ َ { } 63-67أفَرَأَيْ ُتمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْ ُتمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ * َلوْ نَشَاءُ لَ َ
فَظَلْ ُتمْ َت َفكّهُونَ * إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ * َبلْ نَحْنُ َمحْرُومُونَ }
وهذا امتنان منه على عباده ،يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والنابة إليه ،حيث أنعم عليهم بما
يسره لهم من الحرث للزروع والثمار ،فتخرج من ذلك من القوات والرزاق والفواكه ،ما هو
من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم ،التي ل يقدرون أن يحصوها ،فضل عن شكرها ،وأداء
حقها ،فقررهم بمنته ،فقال { :أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ } أي :أأنتم أخرجتموه نباتا من
الرض؟ أم أنتم الذين نميتموه؟ أم أنتم الذين أخرجتم سنبله وثمره حتى صار حبا حصيدا وثمرا
نضيجا؟ أم ال الذي انفرد بذلك وحده ،وأنعم به عليكم؟ وأنتم غاية ما تفعلون أن تحرثوا الرض
وتشقوها وتلقوا فيها البذر ،ثم بعد ذلك ل علم عندكم بما يكون بعد ذلك ،ول قدرة لكم على أكثر
من ذلك ومع ذلك ،فنبههم على أن ذلك الحرث معرض للخطار لول حفظ ال وإبقاؤه لكم بلغة
ومتاعا إلى حين.
جعَلْنَاهُ } أي :الزرع المحروث وما فيه من الثمار { حُطَامًا } أي :فتاتا متحطما،
فقالَ { :لوْ َنشَاءُ َل َ
ل نفع فيه ول رزقَ { ،فظَلْتُمْ } أي :فصرتم بسبب جعله حطاما ،بعد أن تعبتم فيه وأنفقتم النفقات
الكثيرة { َت َف ّكهُونَ } أي :تندمون وتحسرون على ما أصابكم ،ويزول بذلك فرحكم وسروركم
وتفكهكم ،فتقولون { :إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ } أي :إنا قد نقصنا وأصابتنا مصيبة اجتاحتنا.
ثم تعرفون بعد ذلك من أين أتيتم ،وبأي سبب دهيتم ،فتقولونَ { :بلْ َنحْنُ مَحْرُومُونَ } فاحمدوا ال
تعالى حيث زرعه ال لكم ،ثم أبقاه وكمله لكم ،ولم يرسل عليه من الفات ما به تحرمون نفعه
وخيره.
{ َ { } 68-70أفَرَأَيْ ُتمُ ا ْلمَاءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْ ُتمْ أَنْزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنْزِلُونَ * َلوْ
شكُرُونَ }
جعَلْنَاهُ ُأجَاجًا فََلوْلَا َت ْ
نَشَاءُ َ
لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام ،ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون،
وأنهم لول أن ال يسره وسهله ،لما كان لكم سبيل إليه ،وأنه الذي أنزله من المزن ،وهو السحاب
والمطر ،ينزله ال تعالى فيكون منه النهار الجارية على وجه الرض وفي بطنها ،ويكون منه
الغدران المتدفقة ،ومن نعمته أن جعله عذبا فراتا تسيغه النفوس ،ولو شاء لجعله ملحا أجاجا
شكُرُونَ } ال تعالى على ما أنعم به عليكم.
مكروها للنفوس .ل ينتفع به { فََلوْلَا تَ ْ
جعَلْنَاهَا
{ َ { } 71-74أفَرَأَيْ ُتمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَ ْنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَا َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنْشِئُونَ * نَحْنُ َ
تَ ْذكِ َر ًة َومَتَاعًا لِ ْل ُمقْوِينَ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }
وهذه نعمة تدخل في الضروريات التي ل غنى للخلق عنها ،فإن الناس محتاجون إليها في كثير
من أمورهم وحوائجهم ،فقررهم تعالى بالنار التي أوجدها في الشجار ،وأن الخلق ل يقدرون أن
ينشئوا شجرها ،وإنما ال تعالى الذي أنشأها من الشجر الخضر ،فإذا هي نار توقد بقدر حاجة
العباد ،فإذا فرغوا من حاجتهم ،أطفأوها وأخمدوها.
جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َرةً } للعباد بنعمة ربهم ،وتذكرة بنار جهنم التي أعدها ال للعاصين ،وجعلها
{ َنحْنُ َ
سوطا يسوق به عباده إلى دار النعيمَ { ،ومَتَاعًا لِ ْلمُ ْقوِينَ } أي[ :المنتفعين أو] المسافرين وخص
ال المسافرين لن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره ،ولعل السبب في ذلك ،لن الدنيا كلها دار
سفر ،والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه ،فهذه النار ،جعلها ال متاعا للمسافرين في هذه
الدار ،وتذكرة لهم بدار القرار ،فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته،
أمر بتسبيحه وتحميده فقالَ { :فسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ } أي :نزه ربك العظيم ،كامل السماء
والصفات ،كثير الحسان والخيرات ،واحمده بقلبك ولسانك ،وجوارحك ،لنه أهل لذلك ،وهو
المستحق لن يشكر فل يكفر ،ويذكر فل ينسى ،ويطاع فل يعصى.
أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي :مساقطها في مغاربها ،وما يحدث ال في تلك الوقات ،من
الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده.
وأما المقسم عليه ،فهو إثبات القرآن ،وأنه حق ل ريب فيه ،ول شك يعتريه ،وأنه كريم أي :كثير
الخير ،غزير العلم ،فكل خير وعلم ،فإنما يستفاد من كتاب ال ويستنبط منه.
{ فِي كِتَابٍ َمكْنُونٍ } أي :مستور عن أعين الخلق ،وهذا الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ أي:
إن هذا القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ ،معظم عند ال وعند ملئكته في المل العلى.
ويحتمل أن المراد بالكتاب المكنون ،هو الكتاب الذي بأيدي الملئكة الذين ينزلهم ال بوحيه
وتنزيله وأن المراد بذلك أنه مستور عن الشياطين ،ل قدرة لهم على تغييره ،ول الزيادة
والنقص منه واستراقه.
طهّرُونَ } أي :ل يمس القرآن إل الملئكة الكرام ،الذين طهرهم ال تعالى من
{ لَا َيمَسّهُ إِلّا ا ْلمُ َ
الفات ،والذنوب والعيوب ،وإذا كان ل يمسه إل المطهرون ،وأن أهل الخبث والشياطين ،ل
استطاعة لهم ،ول يدان إلى مسه ،دلت الية بتنبيهها على أنه ل يجوز أن يمس القرآن إل
طاهر ،كما ورد بذلك الحديث ،ولهذا قيل أن الية خبر بمعنى النهي أي :ل يمس القرآن إل
طاهر.
{ تَنْزِيلٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :إن هذا القرآن الموصوف بتلك الصفات الجليلة هو تنزيل رب
العالمين ،الذي يربي عباده بنعمه الدينية والدنيوية ،ومن أجل تربية ربى بها عباده ،إنزاله هذا
القرآن ،الذي قد اشتمل على مصالح الدارين ،ورحم ال به العباد رحمة ل يقدرون لها شكورا.
حدِيثِ
ومما يجب عليهم أن يقوموا به ويعلنوه ويدعوا إليه ويصدعوا به ،ولهذا قالَ { :أفَ ِب َهذَا الْ َ
أَنْتُمْ ُمدْهِنُونَ } أي :أفبهذا الكتاب العظيم والذكر الحكيم أنتم تدهنون أي :تختفون وتدلسون خوفا
من الخلق وعارهم وألسنتهم؟ هذا ل ينبغي ول يليق ،إنما يليق أن يداهن بالحديث الذي ل يثق
صاحبه منه.
وأما القرآن الكريم ،فهو الحق الذي ل يغالب به مغالب إل غلب ،ول يصول به صائل إل كان
العالي على غيره ،وهو الذي ل يداهن به ول يختفى ،بل يصدع به ويعلن.
جعَلُونَ رِ ْز َقكُمْ أَ ّنكُمْ ُتكَذّبُونَ } أي :تجعلون مقابلة منة ال عليكم بالرزق التكذيب
وقوله { :وَتَ ْ
والكفر لنعمة ال ،فتقولون :مطرنا بنوء كذا وكذا ،وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها ،فهل
شكرتم ال تعالى على إحسانه ،إذ أنزله ال إليكم ليزيدكم من فضله ،فإن التكذيب والكفر داع لرفع
النعم وحلول النقم.
ن وَنَحْنُ َأقْ َربُ إِلَ ْيهِ مِ ْنكُ ْم وََلكِنْ لَا تُ ْبصِرُونَ } أي :فهل
{ فََلوْلَا ِإذَا بََل َغتِ الْحُ ْلقُو َم وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُو َ
إذا بلغت الروح الحلقوم ،وأنتم تنظرون المحتضر في هذه الحالة ،والحال أنا نحن أقرب إليه
منكم ،بعلمنا وملئكتنا ،ولكن ل تبصرون.
{ فََلوْلَا إِنْ كُنْ ُتمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي :فهل إذا كنتم تزعمون ،أنكم غير مبعوثين ول محاسبين
ومجازين.
ترجعون الروح إلى بدنها { إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ } وأنتم تقرون أنكم عاجزون عن ردها إلى
موضعها ،فحينئذ إما أن تقروا بالحق الذي جاءكم به محمد صلى ال عليه وسلم ،وإما أن تعاندوا
وتعلم حالكم وسوء مآلكم.
ذكر ال تعالى أحوال الطوائف الثلث :المقربين ،وأصحاب اليمين ،والمكذبين الضالين ،في أول
السورة في دار القرار.
ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الحتضار والموت ،فقال { :فََأمّا إِنْ كَانَ } الميت { مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ }
وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات ،وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات.
{ فـ } لهم { َروْحٌ } أي :راحة وطمأنينة ،وسرور وبهجة ،ونعيم القلب والروح { ،وَرَيْحَانٌ }
وهو اسم جامع لكل لذة بدنية ،من أنواع المآكل والمشارب وغيرهما ،وقيل :الريحان هو الطيب
المعروف ،فيكون تعبيرا بنوع الشيء عن جنسه العام
{ وَجَنّةُ َنعِيمٍ } جامعة للمرين كليهما ،فيها ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب
بشر ،فيبشر المقربون عند الحتضار بهذه البشارة ،التي تكاد تطير منها الرواح من الفرح
والسرور.
كما قال تعالى { :إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُوا تَتَنَ ّزلُ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ أن لّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ َنحْنُ َأوْلِيَا ُؤكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َر ِة وََلكُمْ فِيهَا مَا تَشْ َتهِي
غفُورٍ رَحِيمٍ }
سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا َتدّعُونَ نُزُلًا مِنْ َ
أَ ْنفُ ُ
وقد أول قوله تبارك تعالىَ { :ل ُهمُ الْبُشْرَى فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ } أن هذه البشارة
المذكورة ،هي البشرى في الحياة الدنيا.
صحَابِ الْ َيمِينِ } وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات ،و [إن]
[وقوله { ]:وََأمّا إِنْ كَانَ مِنْ َأ ْ
حصل منهم التقصير في بعض الحقوق التي ل تخل بتوحيدهم وإيمانهم { ،فـ } يقال لحدهم:
صحَابِ الْ َيمِينِ } أي :سلم حاصل لك من إخوانك أصحاب اليمين أي :يسلمون
{ سَلَامٌ َلكَ مِنْ َأ ْ
عليه ويحيونه عند وصوله إليهم ولقائهم له ،أو يقال له :سلم لك من الفات والبليات والعذاب،
لنك من أصحاب اليمين ،الذين سلموا من الذنوب الموبقات.
{ وََأمّا إِنْ كَانَ مِنَ ا ْل ُم َكذّبِينَ الضّالّينَ } أي :الذين كذبوا بالحق وضلوا عن الهدى.
جحِيمٍ } أي :ضيافتهم يوم قدومهم على ربهم تصلية الجحيم التي تحيط
حمِي ٍم وَ َتصْلِيَةُ َ
{ فَنُ ُزلٌ مِنْ َ
شوِي
بهم ،وتصل إلى أفئدتهم ،وإذا استغاثوا من شدة العطش والظمأ { ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
ا ْلوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَا َءتْ مُرْ َتفَقًا }
{ إِنّ هَذَا } الذي ذكره ال تعالى ،من جزاء العباد بأعمالهم ،خيرها وشرها ،وتفاصيل ذلك { َل ُهوَ
حقّ الْ َيقِينِ } أي :الذي ل شك فيه ول مرية ،بل هو الحق الثابت الذي ل بد من وقوعه ،وقد أشهد
َ
ال عباده الدلة القواطع على ذلك ،حتى صار عند أولي اللباب كأنهم ذائقون له مشاهدون له
فحمدوا ال تعالى على ما خصهم به من هذه النعمة العظيمة ،والمنحة الجسيمة.
ولهذا قال تعالى { :فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ } فسبحان ربنا العظيم ،وتعالى وتنزه عما يقول
الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
والحمد ل رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
حكِيمُ * َلهُ
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-6بِ ْ
ل وَالْآخِ ُر وَالظّاهِرُ
شيْءٍ قَدِيرٌ * ُهوَ الَْأ ّو ُ
ت وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ ُيحْيِي وَ ُيمِي ُ
مُ ْلكُ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى
شيْءٍ عَلِيمٌ * ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
ن وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
وَالْبَاطِ ُ
سمَا ِء َومَا َيعْرُجُ فِيهَا وَ ُهوَ َم َعكُمْ
ا ْلعَرْشِ َيعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ َومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا َومَا يَنْ ِزلُ مِنَ ال ّ
جعُ الُْأمُورُ * يُولِجُ
ت وَالْأَ ْرضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ
سمَاوَا ِ
أَيْنَ مَا كُنْتُ ْم وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
ل وَ ُهوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }
اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ
يخبر تعالى عن عظمته وجلله وسعة سلطانه ،أن جميع ما في السماوات والرض من الحيوانات
الناطقة والصامتة وغيرها[ ،والجوامد] تسبح بحمد ربها ،وتنزهه عما ل يليق بجلله ،وأنها قانتة
حكِيمُ } فهذا فيه بيان
لربها ،منقادة لعزته ،قد ظهرت فيها آثار حكمته ،ولهذا قال { :وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
عموم افتقار المخلوقات العلوية والسفلية لربها ،في جميع أحوالها ،وعموم عزته وقهره للشياء
كلها ،وعموم حكمته في خلقه وأمره.
{ ُهوَ الَْأوّلُ } الذي ليس قبله شيء { ،وَالْآخِرُ } الذي ليس بعده شيء { وَالظّاهِرُ } الذي ليس فوقه
شيْءٍ عَلِيمٌ } قد أحاط علمه بالظواهر
شيء { ،وَالْبَاطِنُ } الذي ليس دونه شيء { .وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
والبواطن ،والسرائر والخفايا ،والمور المتقدمة والمتأخرة.
ت وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ } أولها يوم الحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمّ
سمَاوَا ِ
خلَقَ ال ّ
{ ُهوَ الّذِي َ
اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْشِ } استواء يليق بجلله ،فوق جميع خلقهَ { ،يعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَ ْرضِ } من حب
وحيوان ومطر ،وغير ذلكَ { .ومَا َيخْرُجُ مِ ْنهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلكَ { ،ومَا يَنْ ِزلُ
سمَاءِ } من الملئكة والقدار والرزاق.
مِنَ ال ّ
{ َومَا َيعْرُجُ فِيهَا } من الملئكة والرواح ،والدعية والعمال ،وغير ذلك { .وَ ُهوَ َم َعكُمْ أَيْنَ مَا
سهُ ْم وَلَا أَدْنَى مِنْ
خ ْمسَةٍ إِلّا ُهوَ سَا ِد ُ
جوَى ثَلَاثَةٍ إِلّا ُهوَ رَا ِب ُعهُ ْم وَلَا َ
كُنْتُمْ } كقوله { :مَا َيكُونُ مِنْ َن ْ
ك وَلَا َأكْثَرَ إِلّا ُهوَ َم َعهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
ذَِل َ
وهذه المعية ،معية العلم والطلع ،ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالعمال بقوله { :وَاللّهُ ِبمَا
َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } أي :هو تعالى بصير بما يصدر منكم من العمال ،وما صدرت عنه تلك
العمال ،من بر وفجور ،فمجازيكم عليها ،وحافظها عليكم.
ت وَالْأَ ْرضِ } ملكا وخلقا وعبيدا ،يتصرف فيهم بما شاءه من أوامره القدرية
سمَاوَا ِ
{ َلهُ ملك ال ّ
والشرعية ،الجارية على الحكمة الربانية { ،وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الُْأمُورُ } من العمال والعمال،
فيعرض عليه العباد ،فيميز الخبيث من الطيب ،ويجازي المحسن بإحسانه ،والمسيء بإساءته.
{ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ } أي :يدخل الليل على النهار ،فيغشيهم الليل
بظلمه ،فيسكنون ويهدأون ،ثم يدخل النهار على الليل ،فيزول ما على الرض من الظلم،
ويضيء الكون ،فيتحرك العباد ،ويقومون إلى مصالحهم ومعايشهم ،ول يزال ال يكور الليل على
النهار ،والنهار على الليل ،ويداول بينهما ،في الزيادة والنقص ،والطول والقصر ،حتى تقوم بذلك
الفصول ،وتستقيم الزمنة ،ويحصل من المصالح ما يحصل بذلك ،فتبارك ال رب العالمين،
وتعالى الكريم الجواد ،الذي أنعم على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة { ،وَ ُهوَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ }
أي :بما يكون في صدور العالمين ،فيوفق من يعلم أنه أهل لذلك ،ويخذل من يعلم أنه ل يصلح
لهدايته
يأمر تعالى عباده باليمان به وبرسوله وبما جاء به ،وبالنفقة في سبيله ،من الموال التي جعلها
ال في أيديهم واستخلفهم عليها ،لينظر كيف يعملون ،ثم لما أمرهم بذلك ،رغبهم وحثهم عليه بذكر
ما رتب عليه من الثواب ،فقال { :فَالّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَأَ ْن َفقُوا } أي :جمعوا بين اليمان بال
ورسوله ،والنفقة في سبيله ،لهم أجر كبير ،أعظمه [وأجله] رضا ربهم ،والفوز بدار كرامته ،وما
فيها من النعيم المقيم ،الذي أعده ال للمؤمنين والمجاهدين ،ثم ذكر [السبب] الداعي لهم إلى
اليمان ،وعدم المانع منه ،فقال:
{ َومَا َلكُمْ لَا ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالرّسُولُ َيدْعُوكُمْ لِ ُت ْؤمِنُوا بِرَ ّب ُك ْم َوقَدْ َأخَذَ مِيثَا َقكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } أي:
وما الذي يمنعكم من اليمان ،والحال أن الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم أفضل الرسل وأكرم
داع دعا إلى ال يدعوكم ،فهذا مما يوجب المبادرة إلى إجابة دعوته ،والتلبية والجابة للحق الذي
جاء به ،وقد أخذ عليكم العهد والميثاق باليمان إن كنتم مؤمنين ،ومع ذلك ،من لطفه وعنايته بكم،
أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم ،بل أيده بالمعجزات ،ودلكم على صدق
ما جاء به باليات البينات ،فلهذا قالُ { :هوَ الّذِي يُنَ ّزلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ } أي :ظاهرات تدل
جكُمْ } بإرسال الرسول إليكم ،وما
أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين { ،لِيُخْ ِر َ
أنزله ال على يده من الكتاب والحكمة.
{ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ } أي :من ظلمات الجهل والكفر ،إلى نور العلم واليمان ،وهذا من
رحمته بكم ورأفته ،حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها { وَإِنّ اللّهَ ِبكُمْ لَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ }
سمَاوَاتِ وَالْأَرْض }
{ َ { } 10ومَا َل ُكمْ أَلّا تُ ْن ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ ال ّ
أي :وما الذي يمنعكم من النفقة في سبيل ال ،وهي طرق الخير كلها ،ويوجب لكم أن تبخلوا { ،و
ت وَالْأَ ْرضِ } فجميع الموال ستنتقل من أيديكم
سمَاوَا ِ
} الحال أنه ليس لكم شيء ،بل { ل مِيرَاثُ ال ّ
أو تنقلون عنها ،ثم يعود الملك إلى مالكه تبارك وتعالى ،فاغتنموا النفاق ما دامت الموال في
أيديكم ،وانتهزوا الفرصة ،ثم ذكر تعالى تفاضل العمال بحسب الحوال والحكمة اللهية ،فقال{ :
جةً مِنَ الّذِينَ أَ ْنفَقُوا مِنْ َبعْ ُد َوقَاتَلُوا }
عظَمُ دَرَ َ
ح َوقَا َتلَ أُولَ ِئكَ أَ ْ
لَا يَسْ َتوِي مِ ْنكُمْ مَنْ أَ ْنفَقَ مِنْ قَ ْبلِ ا ْلفَتْ ِ
المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية ،حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم
الفتوحات التي حصل بها نشر السلم ،واختلط المسلمين بالكافرين ،والدعوة إلى الدين من غير
معارض ،فدخل الناس من ذلك الوقت في دين ال أفواجا ،واعتز السلم عزا عظيما ،وكان
المسلمون قبل هذا الفتح ل يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها ،كالمدينة
وتوابعها ،وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف ،فلذلك كان من
أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل ،أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إل بعد ذلك،
كما هو مقتضى الحكمة ،ولذلك كان السابقون وفضلء الصحابة ،غالبهم أسلم قبل الفتح ،ولما كان
التفضيل بين المور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول ،احترز تعالى من هذا بقولهَ { :وكُلّا
حسْنَى } أي :الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده ،كلهم وعده ال الجنة،
وَعَدَ اللّهُ الْ ُ
وهذا يدل على فضل الصحابة [كلهم] ،رضي ال عنهم ،حيث شهد ال لهم باليمان ،ووعدهم
الجنة { ،وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل منكم على ما يعلمه من عمله ،ثم حث على النفقة
في سبيله ،لن الجهاد متوقف على النفقة فيه ،وبذل الموال في التجهز له ،فقال { :مَنْ ذَا الّذِي
حسَنًا } وهي النفقة [الطيبة] التي تكون خالصة لوجه ال ،موافقة لمرضاة ال،
ُيقْرِضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ
من مال حلل طيب ،طيبة به نفسه ،وهذا من كرم ال تعالى [حيث] سماه قرضا ،والمال ماله،
والعبد عبده ،ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة ،وهو الكريم الوهاب ،وتلك المضاعفة محلها
وموضعها يوم القيامة ،يوم كل يتبين فقره ،ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن ،ولذلك قال:
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ ُبشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ يَ ْ
{ َ { } 12-15يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
ن وَا ْلمُنَا ِفقَاتُ
جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ * َيوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَا ِفقُو َ
جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا َفضُرِبَ بَيْ َنهُمْ ِبسُورٍ لَهُ
لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ
حمَ ُة وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَِلهِ ا ْلعَذَابُ * يُنَادُو َنهُمْ أََلمْ َنكُنْ َم َعكُمْ قَالُوا بَلَى وََلكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ
بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ
سكُ ْم وَتَرَ ّبصْتُ ْم وَارْتَبْتُ ْم وَغَرّ ْتكُمُ الَْأمَا ِنيّ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّ ِه وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ * فَالْ َيوْمَ لَا
أَ ْنفُ َ
ُيؤْخَذُ مِ ْن ُكمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا مَ ْأوَاكُمُ النّارُ ِهيَ َموْلَاكُ ْم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
ن وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ
يقول تعالى -مبينا لفضل اليمان واغتباط أهله به يوم القيامةَ { :-يوْمَ تَرَى ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
سعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِمْ } أي :إذا كان يوم القيامة ،وكورت الشمس ،وخسف القمر،
يَ ْ
وصار الناس في الظلمة ،ونصب الصراط على متن جهنم ،فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات،
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ،فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف الهائل الصعب ،كل
على قدر إيمانه ،ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة ،فيقالُ { :بشْرَاكُمُ الْ َيوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا
الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ } فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم ،وألذها لنفوسهم،
حيث حصل لهم كل مطلوب [محبوب] ،ونجوا من كل شر ومرهوب ،فإذا رأى المنافقون نور
المؤمنين يمشون به وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين ،قالوا للمؤمنين { :انْظُرُونَا
َنقْتَبِسْ مِنْ نُو ِركُمْ } أي :أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به ،لننجو من العذاب ،فـ { قِيلَ } لهم:
جعُوا وَرَا َءكُمْ فَالْ َتمِسُوا نُورًا } أي :إن كان ذلك ممكنا ،والحال أن ذلك غير ممكن ،بل هو من
{ ا ْر ِ
المحالتَ { ،فضُ ِربَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي :حائط منيع ،وحصن حصين { ،لَهُ
حمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين { وَظَاهِ ُرهُ مِنْ قِبَِلهِ ا ْلعَذَابُ } وهو الذي يلي
بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ
المنافقين ،فينادي المنافقون المؤمنين ،فيقولون لهم تضرعا وترحما { :أََلمْ َنكُنْ َم َعكُمْ } في الدنيا
نقول { :ل إله إل ال } ونصلي ونصوم ونجاهد ،ونعمل مثل عملكم؟ { قَالُوا بَلَى } كنتم معنا في
الدنيا ،وعملتم [في الظاهر] مثل عملنا ،ولكن أعمالكم أعمال المنافقين ،من غير إيمان ول نية
سكُمْ وَتَرَ ّبصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } أي :شككتم في خبر ال الذي ل يقبل
[صادقة] صالحة ،بل { فَتَنْتُمْ أَ ْنفُ َ
شكا { ،وَغَرّ ْتكُمُ الَْأمَانِيّ } الباطلة ،حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين ،وأنتم غير موقنين،
{ حَتّى جَاءَ َأمْرُ اللّهِ } أي :حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة.
{ وَغَ ّركُمْ بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ } وهو الشيطان ،الذي زين لكم الكفر والريب ،فاطمأننتم به ،ووثقتم بوعده،
وصدقتم خبره.
{ فَالْ َيوْمَ لَا ُيؤْخَذُ مِ ْنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الّذِينَ َكفَرُوا } فلو افتديتم بمثل الرض ذهبا ومثله معه ،لما
تقبل منكم { ،مَ ْأوَاكُمُ النّارُ } أي :مستقركمِ { ،هيَ َموْلَاكُمْ } التي تتولكم وتضمكم إليها { ،وَبِئْسَ
ا ْل َمصِيرُ } النار.
خفّتْ َموَازِينُهُ فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ َومَا َأدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }
[قال تعالى { ]:وََأمّا مَنْ َ
{ { } 16-17أََلمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ لِ ِذكْرِ اللّ ِه َومَا نَ َزلَ مِنَ ا ْلحَقّ وَلَا َيكُونُوا
سقُونَ * اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ
ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
كَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ َفطَالَ عَلَ ْيهِمُ الَْأ َمدُ َفقَ َ
يُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا قَدْ بَيّنّا َلكُمُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ َتعْقِلُونَ }
لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الخرة ،كان ذلك مما يدعو
القلوب إلى الخشوع لربها ،والستكانة لعظمته ،فعاتب ال المؤمنين [على عدم ذلك] ،فقال { :أَلَمْ
يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أَنْ َتخْشَعَ قُلُو ُبهُمْ ِل ِذكْرِ اللّهِ َومَا نَ َزلَ مِنَ ا ْلحَقّ }
أي :ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر ال ،الذي هو القرآن ،وتنقاد لوامره
وزواجره ،وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم؟ وهذا فيه الحث على
الجتهاد على خشوع القلب ل تعالى ،ولما أنزله من الكتاب والحكمة ،وأن يتذكر المؤمنون
المواعظ اللهية والحكام الشرعية كل وقت ،ويحاسبوا أنفسهم على ذلك { ،وَلَا َيكُونُوا كَالّذِينَ
أُوتُوا ا ْلكِتَابَ مِنْ قَ ْبلُ فَطَالَ عَلَ ْي ِهمُ الَْأمَدُ } أي :ول يكونوا كالذين أنزل ال عليهم الكتاب الموجب
لخشوع القلب والنقياد التام ،ثم لم يدوموا عليه ،ول ثبتوا ،بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم
سقُونَ } فالقلوب تحتاج في
ستْ قُلُو ُبهُ ْم َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
الغفلة ،فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهمَ { ،فقَ َ
كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل له ال ،وتناطق بالحكمة ،ول ينبغي الغفلة عن ذلك ،فإن ذلك
سبب لقسوة القلب وجمود العين.
{ اعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُيحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا َقدْ بَيّنّا َلكُمُ الْآيَاتِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } فإن اليات تدل العقول
على العلم بالمطالب اللهية ،والذي أحيا الرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموات بعد
موتهم ،فيجازيهم بأعمالهم ،والذي أحيا الرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب
الميتة بما أنزله من الحق على رسوله ،وهذه الية تدل على أنه ل عقل لمن لم يهتد بآيات ال
و[لم] ينقد لشرائع ال.
ن وَا ْل ُمصّ ّدقَاتِ } بالتشديد أي :الذين أكثروا من الصدقات الشرعية ،والنفقات
{ إِنّ ا ْل ُمصّ ّدقِي َ
المرضية { ،وََأقْ َرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا } بأن قدموا من أموالهم في طرق الخيرات ما يكون
عفُ َل ُهمُ } الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،إلى أضعاف
مدخرا لهم عند ربهمُ { ،يضَا َ
كثيرة { ،وََلهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعده ال لهم في الجنة ،مما ل تعلمه النفوس.
{ وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } واليمان عند أهل السنة :هو ما دل عليه الكتاب والسنة ،هو قول
القلب واللسان ،وعمل القلب واللسان والجوارح ،فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة،
فالذين جمعوا بين هذه المور هم الصديقون أي :الذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين ،ودون
مرتبة النبياء.
ش َهدَاءُ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ َل ُهمْ أَجْ ُرهُ ْم وَنُورُهُمْ } كما ورد في الحديث الصحيح { :إن في
[وقوله { ]:وَال ّ
الجنة مائة درجة ،ما بين الدرجتين كما بين السماء والرض ،أعدها ال للمجاهدين في سبيله }
وهذا يقتضي شدة علوهم ورفعتهم ،وقربهم ال تعالى.
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ } فهذه اليات جمعت أصناف الخلق،
المتصدقين ،والصديقين ،والشهداء ،وأصحاب الجحيم ،فالمتصدقون الذين كان جل عملهم الحسان
إلى الخلق ،وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم ،خصوصا بالنفع بالمال في سبيل ال.
والصديقون هم الذين كملوا مراتب اليمان والعمل الصالح ،والعلم النافع ،واليقين الصادق،
والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل ال [لعلء كلمة ال ،وبذلوا أنفسهم وأموالهم] فقتلوا ،وأصحاب
الجحيم هم الكفار الذين كذبوا بآيات ال.
وبقي قسم ذكرهم ال في سورة فاطر ،وهم المقتصدون الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات،
إل أنهم حصل منهم تقصير ببعض حقوق ال وحقوق عباده ،فهؤلء مآلهم الجنة ،وإن حصل لهم
عقوبة ببعض ما فعلوا.
ل وَالَْأوْلَادِ
{ { } 20-21اعَْلمُوا أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْه ٌو وَزِينَ ٌة وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُ ْم وَ َتكَاثُرٌ فِي الَْأ ْموَا ِ
حطَامًا َوفِي الْآخِ َرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
صفَرّا ثُمّ َيكُونُ ُ
جبَ ا ْلكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُم ْ
عََكمَ َثلِ غَ ْيثٍ أَ ْ
ن َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ * سَا ِبقُوا إِلَى َم ْغفِ َرةٍ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ
ضوَا ٌ
َو َمغْفِ َرةٌ مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ أُعِ ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَِلكَ َفضْلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
ضهَا َكعَ ْرضِ ال ّ
عَ ْر ُ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ }
وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ
يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه ،ويبين غايتها وغاية أهلها ،بأنها لعب ولهو ،تلعب بها
البدان ،وتلهو بها القلوب ،وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا ،فإنك تجدهم قد
قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب ،والغفلة عن ذكر ال وعما أمامهم من الوعد والوعيد،
وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ،بخلف أهل اليقظة وعمال الخرة ،فإن قلوبهم معمورة بذكر
ال ،ومعرفته ومحبته ،وقد أشغلوا أوقاتهم بالعمال التي تقربهم إلى ال ،من النفع القاصر
والمتعدي.
[وقوله { ]:وَزِينَةً } أي :تزين في اللباس والطعام والشراب ،والمراكب والدور والقصور والجاه.
[وغير ذلك] { وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُمْ } أي :كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الخر ،وأن يكون هو الغالب
في أمورها ،والذي له الشهرة في أحوالها { ،وَ َتكَاثُرٌ فِي الَْأ ْموَالِ وَالَْأوْلَادِ } أي :كل يريد أن يكون
هو الكاثر لغيره في المال والولد ،وهذا مصداقه ،وقوعه من محبي الدنيا والمطمئنين إليها.
بخلف من عرف الدنيا وحقيقتها ،فجعلها معبرا ولم يجعلها مستقرا ،فنافس فيما يقربه إلى ال،
واتخذ الوسائل التي توصله إلى ال وإذا رأى من يكاثره وينافسه بالموال والولد ،نافسه
بالعمال الصالحة.
ثم ضرب للدنيا مثل بغيث نزل على الرض ،فاختلط به نبات الرض مما يأكل الناس والنعام،
حتى إذا أخذت الرض زخرفها ،وأعجب نباته الكفار ،الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا
جاءها من أمر ال [ما أتلفها] فهاجت ويبست ،فعادت على حالها الولى ،كأنه لم ينبت فيها
خضراء ،ول رؤي لها مرأى أنيق ،كذلك الدنيا ،بينما هي زاهية لصاحبها زاهرة ،مهما أراد من
مطالبها حصل ،ومهما توجه لمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة ،إذ أصابها القدر بما أذهبها من
يده ،وأزال تسلطه عليها ،أو ذهب به عنها ،فرحل منها صفر اليدين ،لم يتزود منها سوى الكفن،
فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه.
وأما العمل للخرة فهو الذي ينفع ،ويدخر لصاحبه ،ويصحب العبد على البد ،ولهذا قال تعالى{ :
ضوَانٌ } أي :حال الخرة ،ما يخلو من هذين
شدِي ٌد َو َم ْغفِ َرةٌ مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
َوفِي الْآخِ َرةِ عَذَابٌ َ
المرين :إما العذاب الشديد في نار جهنم ،وأغللها وسلسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته
ومنتهى مطلبه ،فتجرأ على معاصي ال ،وكذب بآيات ال ،وكفر بأنعم ال.
وإما مغفرة من ال للسيئات ،وإزالة للعقوبات ،ورضوان من ال ،يحل من أحله به دار الرضوان
لمن عرف الدنيا ،وسعى للخرة سعيها.
فهذا كله مما يدعو إلى الزهد في الدنيا ،والرغبة في الخرة ،ولهذا قالَ { :ومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا
مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ } أي :إل متاع يتمتع به وينتفع به ،ويستدفع به الحاجات ،ل يغتر به ويطمئن إليه
إل أهل العقول الضعيفة الذين يغرهم بال الغرور.
ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة ال ورضوانه وجنته ،وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ،من التوبة
النصوح ،والستغفار النافع ،والبعد عن الذنوب ومظانها ،والمسابقة إلى رضوان ال بالعمل
الصالح ،والحرص على ما يرضي ال على الدوام ،من الحسان في عبادة الخالق ،والحسان إلى
ضهَا َكعَ ْرضِ
الخلق بجميع وجوه النفع ،ولهذا ذكر ال العمال الموجبة لذلك ،فقال { :وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
ع ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللّ ِه وَرُسُِلهِ } واليمان بال ورسله يدخل فيه أصول الدين
سمَاءِ وَالْأَ ْرضِ أُ ِ
ال ّ
ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ َيشَاءُ } أي :هذا الذي بيناه لكم ،وذكرنا لكم فيه الطرق
وفروعها { ،ذَِلكَ َف ْ
الموصلة إلى الجنة ،والطرق الموصلة إلى النار ،وأن فضل ال بالثواب الجزيل والجر العظيم
ضلِ ا ْلعَظِيمِ } الذي ل يحصي ثناء عليه ،بل هو
من أعظم منته على عباده وفضله { .وَاللّهُ ذُو ا ْلفَ ْ
كما أثنى على نفسه ،وفوق ما يثني عليه عباده
سكُمْ }
ض وَلَا فِي أَ ْنفُ ِ
يقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ فِي الْأَ ْر ِ
وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق ،من خير وشر ،فكلها قد كتبت في اللوح
المحفوظ ،صغيرها وكبيرها ،وهذا أمر عظيم ل تحيط به العقول ،بل تذهل عنده أفئدة أولي
اللباب ،ولكنه على ال يسير ،وأخبر ال عباده بذلك لجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ،ويبنوا
عليها ما أصابهم من الخير والشر ،فل يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ،مما طمحت له أنفسهم
وتشوفوا إليه ،لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ،ل بد من نفوذه ووقوعه ،فل سبيل إلى
دفعه ،ول يفرحوا بما آتاهم ال فرح بطر وأشر ،لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ،وإنما
حبّ ُكلّ
أدركوه بفضل ال ومنه ،فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم ،ولهذا قال { :وَاللّهُ لَا يُ ِ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي :متكبر فظ غليظ ،معجب بنفسه ،فخور بنعم ال ،ينسبها إلى نفسه ،وتطغيه
خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مِنّا قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِ ْلمٍ بل هي فتنة }
وتلهيه ،كما قال تبارك وتعالىُ { :ثمّ إِذَا َ
{ َ { } 25-27لقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ
س وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ إِنّ اللّهَ َق ِويّ
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ
وَأَنْزَلْنَا الْ َ
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا النّ ُب ّوةَ وَا ْلكِتَابَ َفمِ ْنهُمْ ُمهْتَدٍ َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ
عَزِيزٌ * وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَ َ
جعَلْنَا فِي قُلُوبِ
ل وَ َ
سقُونَ * ُثمّ َقفّيْنَا عَلَى آثَارِ ِهمْ بِرُسُلِنَا َو َقفّيْنَا ِبعِيسَى ابْنِ مَرْيَ َم وَآتَيْنَاهُ الْإِ ْنجِي َ
فَا ِ
عوْهَا
ضوَانِ اللّهِ َفمَا رَ َ
حمَ ًة وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَ ْي ِهمْ إِلّا ابْ ِتغَاءَ ِر ْ
الّذِينَ اتّ َبعُوهُ رَ ْأفَةً وَرَ ْ
سقُونَ }
حقّ رِعَايَ ِتهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنهُمْ َأجْرَهُمْ َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
َ
يقول تعالىَ { :لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ } وهي الدلة والشواهد والعلمات الدالة على صدق ما
جاءوا به وحقيته.
{ وَأَنْزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها ال لهداية الخلق
وإرشادهم ،إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم { ،وَا ْلمِيزَانَ } وهو العدل في القوال والفعال ،والدين
الذي جاءت به الرسل ،كله عدل وقسط في الوامر والنواهي وفي معاملت الخلق ،وفي الجنايات
والقصاص والحدود [والمواريث وغير ذلك] ،وذلك { لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ } قياما بدين ال،
وتحصيل لمصالحهم التي ل يمكن حصرها وعدها ،وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة
حدِيدَ
الشرع ،وهو القيام بالقسط ،وإن اختلفت أنواع العدل ،بحسب الزمنة والحوال { ،وَأَنْزَلْنَا الْ َ
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلت الحرب ،كالسلح والدروع وغير ذلك.
{ َومَنَافِعُ لِلنّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف ،والواني وآلت الحرث،
حتى إنه قل أن يوجد شيء إل وهو يحتاج إلى الحديد.
{ وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ } أي :ليقيم تعالى سوق المتحان بما أنزله من الكتاب
والحديد ،فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب ،التي ينفع فيها اليمان قبل الشهادة ،التي
ل فائدة بوجود اليمان فيها ،لنه حينئذ يكون ضروريا.
{ إِنّ اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ } أي :ل يعجزه شيء ،ول يفوته هارب ،ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد
الذي منه اللت القوية ،ومن قوته وعزته أنه قادر على النتصار من أعدائه ،ولكنه يبتلي أولياءه
بأعدائه ،ليعلم من ينصره بالغيب ،وقرن تعالى في هذا الموضع بين الكتاب والحديد ،لن بهذين
المرين ينصر ال دينه ،ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن
ال ،وكلهما قيامه بالعدل والقسط ،الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله ،وكمال شريعته
التي شرعها على ألسنة رسله.
ولما ذكر نبوة النبياء عموما ،ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا وإبراهيم اللذين جعل ال
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِت ِهمَا النّ ُب ّوةَ
النبوة والكتاب في ذريتهما ،فقال { :وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِي َم وَ َ
وَا ْلكِتَابَ } أي :النبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلم ،وكذلك
الكتب كلها نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمينَ { ،فمِ ْنهُمْ } أي :ممن أرسلنا إليهم الرسل
{ ُمهْتَدٍ } بدعوتهم ،منقاد لمرهم ،مسترشد بهداهم.
سقُونَ } أي :خارجون عن [طاعة ال و] طاعة الرسل والنبياء كما قال تعالى{ :
{ َوكَثِيرٌ مِ ْنهُمْ فَا ِ
صتَ ِب ُمؤْمِنِينَ }
س وََلوْ حَ َر ْ
َومَا َأكْثَرُ النّا ِ
{ ُثمّ َقفّيْنَا } أي :أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ بِ ُرسُلِنَا َو َقفّيْنَا ِبعِيسَى ابْنِ مَرْ َيمَ } خص ال عيسى عليه
السلم؛ لن السياق مع النصارى ،الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلم { ،وَآتَيْنَاهُ الْإِ ْنجِيلَ }
حمَةً } كما قال تعالى:
جعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّ َبعُوهُ رَ ْأفَ ًة وَرَ ْ
الذي هو من كتب ال الفاضلة { ،وَ َ
جدَنّ َأقْرَ َبهُمْ َموَ ّدةً لِلّذِينَ آمَنُوا
{ لَ َتجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَا َوةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْ َيهُو َد وَالّذِينَ أَشْ َركُوا وَلَتَ ِ
ن وَرُهْبَانًا وَأَ ّنهُمْ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ } اليات.
الّذِينَ قَالُوا إِنّا َنصَارَى ذَِلكَ بِأَنّ مِ ْنهُمْ ِقسّيسِي َ
ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا ،حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلم.
{ وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا } والرهبانية :العبادة ،فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة ،ووظفوها على
أنفسهم ،والتزموا لوازم ما كتبها ال عليهم ول فرضها ،بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم،
حقّ رِعَايَ ِتهَا } أي :ما قاموا بها ول أدوا
عوْهَا َ
قصدهم بذلك رضا ال تعالى ،ومع ذلك { َفمَا رَ َ
حقوقها ،فقصروا من وجهين :من جهة ابتداعهم ،ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم.
فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم.
ومنهم من هو مستقيم على أمر ال ،ولهذا قال { :فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنهُمْ أَجْرَ ُهمْ } أي :الذين آمنوا
بمحمد صلى ال عليه وسلم ،مع إيمانهم بعيسى ،كل أعطاه ال على حسب إيمانه { َوكَثِيرٌ مِ ْن ُهمْ
سقُونَ }
فَا ِ
ج َعلْ َل ُكمْ
حمَتِ ِه وَ َي ْ
{ { } 28-29يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَآمِنُوا بِ َرسُولِهِ ُيؤْ ِتكُمْ ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ
شيْءٍ مِنْ
غفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلّا َيعْلَمَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ أَلّا َيقْدِرُونَ عَلَى َ
نُورًا َتمْشُونَ بِ ِه وَ َي ْغفِرْ َل ُك ْم وَاللّهُ َ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ }
ضلِ اللّ ِه وَأَنّ ا ْل َفضْلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
َف ْ
وهذا الخطاب ،يحتمل أنه [خطاب] لهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلم،
يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم ،بأن يتقوا ال فيتركوا معاصيه ،ويؤمنوا برسوله محمد صلى
حمَتِهِ } أي :نصيبين من الجر
ال عليه وسلم ،وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ال { ِكفْلَيْنِ مِنْ َر ْ
نصيب على إيمانهم بالنبياء القدمين ،ونصيب على إيمانهم بمحمد صلى ال عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون المر عاما يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم ،وهذا الظاهر ،وأن ال أمرهم
باليمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين ،ظاهره وباطنه ،أصوله وفروعه ،وأنهم إن امتثلوا
حمَ ِتهِ } ل يعلم وصفهما وقدرهما إل ال تعالى أجر
هذا المر العظيم ،أعطاهم ال { ِكفْلَيْنِ مِنْ رَ ْ
على اليمان ،وأجر على التقوى ،أو أجر على امتثال الوامر ،وأجر على اجتناب النواهي ،أو أن
التثنية المراد بها تكرار اليتاء مرة بعد أخرى.
ج َعلْ َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِهِ } أي :يعطيكم علما وهدى ونورا تمشون به في ظلمات الجهل،
{ وَيَ ْ
ويغفر لكم السيئات.
ضلِ ا ْل َعظِيمِ } فل يستكثر هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم ،الذي عم فضله
{ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
أهل السماوات والرض ،فل يخلو مخلوق من فضله طرفة عين ول أقل من ذلك.
نزلت هذه اليات الكريمات في رجل من النصار اشتكته زوجته [إلى ال ،وجادلته] إلى رسول
ال صلى ال عليه وسلم لما حرمها على نفسه ،بعد الصحبة الطويلة ،والولد ،وكان هو رجل
شيخا كبيرا ،فشكت حالها وحاله إلى ال وإلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وكررت ذلك،
وأبدت فيه وأعادت.
{ َبصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء ،على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ،وهذا إخبار عن
كمال سمعه وبصره ،وإحاطتهما بالمور الدقيقة والجليلة ،وفي ضمن ذلك الشارة بأن ال [تعالى]
سيزيل شكواها ،ويرفع بلواها ،ولهذا ذكر حكمها ،وحكم غيرها على وجه العموم ،فقال { :الّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ إِلّا اللّائِي وَلَدْ َنهُمْ }
المظاهرة من الزوجة :أن يقول الرجل لزوجته" :أنت علي كظهر أمي" أو غيرها من محارمه ،أو
"أنت علي حرام" وكان المعتاد عندهم في هذا لفظ "الظهر" ولهذا سماه ال "ظهارا" فقال { :الّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِ ْنكُمْ مِنْ نِسَا ِئهِمْ مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ } أي :كيف يتكلمون بهذا الكلم الذي يعلم أنه ل حقيقة
له ،فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللتي ولدنهم؟ ولهذا عظم ال أمره وقبحه ،فقال { :وَإِ ّنهُمْ لَ َيقُولُونَ
ل وَزُورًا } أي :قول شنيعا { ،وزورا } أي :كذبا.
مُ ْنكَرًا مِنَ ا ْلقَ ْو ِ
{ وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ ِنسَا ِئهِمْ ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا } اختلف العلماء في معنى العود ،فقيل :معناه
العزم على جماع من ظاهر منها ،وأنه بمجرد عزمه تجب عليه الكفارة المذكورة ،ويدل على
هذا ،أن ال تعالى ذكر في الكفارة أنها تكون قبل المسيس ،وذلك إنما يكون بمجرد العزم ،وقيل:
معناه حقيقة الوطء ،ويدل على ذلك أن ال قال { :ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا } والذي قالوا إنما هو
الوطء.
وعلى كل من القولين { فـ } إذا وجد العود ،صار كفارة هذا التحريم { تحرير َرقَبَةٍ } ُم ْؤمِنَ ٍة كما
قيدت في آية أخرى ذكر أو أنثى ،بشرط أن تكون سالمة من العيوب المضرة بالعمل.
{ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَ َتمَاسّا } أي :يلزم الزوج أن يترك وطء زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر برقبة.
{ ذَِلكُمْ } الحكم الذي ذكرناه لكم { ،تُوعَظُونَ بِهِ } أي :يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به،
لن معنى الوعظ ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب ،فالذي يريد أن يظاهر ،إذا ذكر أنه يجب
عليه عتق رقبة كف نفسه عنه { ،وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله.
ذلك الحكم الذي بيناه لكم ،ووضحناه لكم { لِ ُت ْؤمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُوِلهِ } وذلك بالتزام هذا الحكم وغيره
من الحكام ،والعمل به ،فإن التزام أحكام ال ،والعمل بها من اليمان[ ،بل هي المقصودة] ومما
يزيد به اليمان ويكمل وينمو.
{ وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ } التي تمنع من الوقوع فيها ،فيجب أن ل تتعدى ول يقصر عنها.
{ وَلِ ْلكَافِرِينَ عَذَابٌ َألِيمٌ } وفي هذه اليات ،عدة أحكام:
منها :لطف ال بعباده واعتناؤه بهم ،حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة ،وأزالها ورفع عنها
البلوى ،بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية.
ومنها :أن الظهار مختص بتحريم الزوجة ،لن ال قال { مِنْ ِنسَا ِئهِمْ } فلو حرم أمته ،لم يكن
[ذلك] ظهارا ،بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب ،تجب فيه كفارة اليمين فقط.
ومنها :أنه ل يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها ،لنها ل تدخل في نسائه وقت الظهار ،كما
ل يصح طلقها ،سواء نجز ذلك أو علقه.
ومنها :أن الظهار محرم ،لن ال سماه منكرا [من القول] وزورا.
ومنها :تنبيه ال على وجه الحكم وحكمته ،لن ال تعالى قال { :مَا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ }
ومنها :أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها باسم محارمه ،كقوله { يا أمي } { يا أختي }
ونحوه ،لن ذلك يشبه المحرم.
ومنها :أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر ،على اختلف القولين السابقين ،ل بمجرد
الظهار.
ومنها :أنه يجزئ في كفارة الرقبة ،الصغير والكبير ،والذكر والنثى ،لطلق الية في ذلك.
ومنها :أنه يجب إخراجها إن كانت عتقا أو صياما قبل المسيس ،كما قيده ال .بخلف كفارة
الطعام ،فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها.
ومنها :أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس ،أن ذلك أدعى لخراجها ،فإنه إذا اشتاق
إلى الجماع ،وعلم أنه ل يمكن من ذلك إل بعد الكفارة ،بادر لخراجها.
ومنها :أنه ل بد من إطعام ستين مسكينا ،فلو جمع طعام ستين مسكينا ،ودفعها لواحد أو أكثر من
سكِينًا }
طعَامُ سِتّينَ مِ ْ
ذلك ،دون الستين لم يجز ذلك ،لن ال قال { :فَإِ ْ
{ { } 5إِنّ الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ كُبِتُوا َكمَا كُ ِبتَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َوقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيّنَاتٍ
عذَابٌ ُمهِينٌ }
وَلِ ْلكَافِرِينَ َ
محادة ال ورسوله :مخالفتهما ومعصيتهما خصوصا في المور الفظيعة ،كمحادة ال ورسوله
بالكفر ،ومعاداة أولياء ال.
وقوله { :كُبِتُوا َكمَا كُ ِبتَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ } أي :أذلوا وأهينوا كما فعل بمن قبلهم ،جزاء وفاقا.
وليس لهم حجة على ال ،فإن ال قد قامت حجته البالغة على الخلق ،وقد أنزل من اليات البينات
والبراهين ما يبين الحقائق ويوضح المقاصد ،فمن اتبعها وعمل عليها ،فهو من المهتدين الفائزين،
{ وَلِ ْلكَافِرِينَ } بها { عَذَابٌ ُمهِينٌ } أي :يهينهم ويذلهم ،كما تكبروا عن آيات ال ،أهانهم ال
وأذلهم:
شهِيدٌ
شيْءٍ َ
حصَاهُ اللّ ُه وَنَسُوهُ وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
عمِلُوا أَ ْ
جمِيعًا فَيُنَبّ ُئ ُهمْ ِبمَا َ
{ َ { } 6-7يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
جوَى ثَلَا َثةٍ إِلّا ُهوَ رَا ِب ُعهُ ْم وَلَا
ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ مَا َيكُونُ مِنْ نَ ْ
سمَاوَا ِ
* أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
عمِلُوا َيوْمَ
ك وَلَا َأكْثَرَ إِلّا ُهوَ َم َعهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمّ يُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
س ُه ْم وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَِل َ
سةٍ إِلّا ُهوَ سَادِ ُ
خمْ َ
َ
شيْءٍ عَلِيمٌ }
ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
يقول ال تعالى { :يوم يبعثهم ال } جميعا { فيقومون من أجداثهم سريعا } فيجازيهم بأعمالهم
عمِلُوا } من خير وشر ،لنه علم ذلك ،وكتبه في اللوح المحفوظ ،وأمر الملئكة
{ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا َ
الكرام الحفظة بكتابته ،هذا { و } العاملون قد نسوا ما عملوه ،وال أحصى ذلك.
ولهذا أخبر عن سعة علمه وإحاطته بما في السماوات والرض من دقيق وجليل.
ك وَلَا
سهُ ْم وَلَا َأدْنَى مِنْ ذَِل َ
خمْسَةٍ إِلّا ُهوَ سَادِ ُ
جوَى ثَلَا َثةٍ إِلّا ُهوَ رَا ِب ُعهُ ْم وَلَا َ
وأنه { مَا َيكُونُ مِنْ نَ ْ
َأكْثَرَ إِلّا ُهوَ َم َعهُمْ أَيْ َنمَا كَانُوا } والمراد بهذه المعية معية العلم والحاطة بما تناجوا به وأسروه
شيْءٍ عَلِيمٌ } ثم قال تعالى:
فيما بينهم ،ولهذا قال { :إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
فأمر ال تعالى المؤمنين أن يتناجوا بالبر ،وهو اسم جامع لكل خير وطاعة ،وقيام بحق ل
ولعباده والتقوى ،وهي [هنا] :اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم ،فالمؤمن يمتثل هذا المر
اللهي ،فل تجده مناجيا ومتحدثا إل بما يقربه من ال ،ويباعده من سخطه ،والفاجر يتهاون بأمر
ال ،ويناجي بالثم والعدوان ومعصية الرسول ،كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول
صلى ال عليه وسلم.
قال تعالى { وَإِذَا جَاءُوكَ حَ ّي ْوكَ ِبمَا لَمْ يُحَ ّيكَ بِهِ اللّهُ } أي :يسيئون الدب معك في تحيتهم لك،
سهِمْ } أي :يسرون في أنفسهم ما ذكره عالم الغيب والشهادة عنهم ،وهو قولهم:
{ وَ َيقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِ
{ َلوْلَا ُي َعذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ } ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ،ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة
جهَنّمُ
حسْ ُبهُمْ َ
عليهم ،أن ما يقولون غير محذور ،قال تعالى في بيان أنه يمهل ول يهملَ { :
َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } أي :تكفيهم جهنم التي جمعت كل شقاء وعذاب [عليهم] ،تحيط بهم،
ويعذبون بها { فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } وهؤلء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون اليمان،
ويخاطبون الرسول صلى ال عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا وهم
كذبة في ذلك ،وإما أناس من أهل الكتاب ،الذين إذا سلموا على النبي صلى ال عليه وسلم ،قالوا:
"السام عليك يا محمد" يعنون بذلك الموت.
جوَى مِنَ الشّ ْيطَانِ لِ َيحْزُنَ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ ِبضَارّهِمْ شَيْئًا إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ وَعَلَى
{ { } 10إِ ّنمَا النّ ْ
اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }
{ لِيَحزن الّذِينَ آمَنُوا } هذا غاية هذا المكر ومقصوده { ،وَلَيْسَ ِبضَارّ ِهمْ شَيْئًا إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ } فإن
ال تعالى وعد المؤمنين بالكفاية والنصر على العداء ،وقال تعالى { :وَلَا يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّ ّيئُ إِلّا
بِأَهْلِهِ } فأعداء ال ورسوله والمؤمنين ،مهما تناجوا ومكروا ،فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم،
ول يضر المؤمنين إل شيء قدره ال وقضاه { ،وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي :ليعتمدوا
عليه ويثقوا بوعده ،فإن من توكل على ال كفاه ،وتولى أمر دينه ودنياه
{ { } 11يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ َل ُكمْ َتفَسّحُوا فِي ا ْلمَجَالِسِ فَافْسَحُوا َيفْسَحِ اللّهُ َلكُ ْم وَِإذَا قِيلَ
ت وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }
انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَ ْرفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ دَرَجَا ٍ
هذا تأديب من ال لعباده المؤمنين ،إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم ،واحتاج
بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس ،فإن من الدب أن يفسحوا له تحصيل
لهذا المقصود.
وليس ذلك بضار للجالس شيئا ،فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه هو ،والجزاء من
جنس العمل ،فإن من فسح فسح ال له ،ومن وسع لخيه ،وسع ال عليه.
{ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا } أي :ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تعرض { ،فَانْشُزُوا } أي :فبادروا
للقيام لتحصيل تلك المصلحة ،فإن القيام بمثل هذه المور من العلم واليمان ،وال تعالى يرفع أهل
العلم واليمان درجات بحسب ما خصهم ال به ،من العلم واليمان.
{ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كل عامل بعمله ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر.
وفي هذه الية فضيلة العلم ،وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه والعمل بمقتضاه.
يأمر تعالى المؤمنين بالصدقة ،أمام مناجاة رسوله محمد صلى ال عليه وسلم تأديبا لهم وتعليما،
وتعظيما للرسول صلى ال عليه وسلم ،فإن هذا التعظيم ،خير للمؤمنين وأطهر أي :بذلك يكثر
خيركم وأجركم ،وتحصل لكم الطهارة من الدناس ،التي من جملتها ترك احترام الرسول صلى
ال عليه وسلم والدب معه بكثرة المناجاة التي ل ثمرة تحتها ،فإنه إذا أمر بالصدقة بين يدي
مناجاته صار هذا ميزانا لمن كان حريصا على الخير والعلم ،فل يبالي بالصدقة ،ومن لم يكن له
حرص ول رغبة في الخير ،وإنما مقصوده مجرد كثرة الكلم ،فينكف بذلك عن الذي يشق على
الرسول ،هذا في الواجد للصدقة ،وأما الذي ل يجد الصدقة ،فإن ال لم يضيق عليه المر ،بل عفا
عنه وسامحه ،وأباح له المناجاة ،بدون تقديم صدقة ل يقدر عليها.
ثم لما رأى تبارك وتعالى شفقة المؤمنين ،ومشقة الصدقات عليهم عند كل مناجاة ،سهل المر
عليهم ،ولم يؤاخذهم بترك الصدقة بين يدي المناجاة ،وبقي التعظيم للرسول والحترام بحاله لم
ينسخ ،لن هذا الحكم من باب المشروع لغيره ،ليس مقصودا لنفسه ،وإنما المقصود هو الدب مع
الرسول والكرام له ،وأمرهم تعالى أن يقوموا بالمأمورات الكبار المقصودة بنفسها ،فقال { :فَإِذْ
لَمْ َت ْفعَلُوا } أي :لم يهن عليكم تقديم الصدقة ،ول يكفي هذا ،فإنه ليس من شرط المر أن يكون
هينا على العبد ،ولهذا قيده بقوله { :وَتَابَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ } أي :عفا لكم عن ذلك { ،فََأقِيمُوا الصّلَاةَ }
بأركانها وشروطها ،وجميع حدودها ولوازمها { ،وَآتُوا ال ّزكَاةَ } المفروضة [في أموالكم] إلى
مستحقيها.
وهاتان العبادتان هما أم العبادات البدنية والمالية ،فمن قام بهما على الوجه الشرعي ،فقد قام
بحقوق ال وحقوق عباده[ ،ولهذا قال بعده { ]:وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا أشمل ما يكون من
الوامر.
ويدخل في ذلك طاعة ال [وطاعة] رسوله ،بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما ،وتصديق ما
أخبرا به ،والوقوف عند حدود ال
والعبرة في ذلك على الخلص والحسان ،ولهذا قال { :وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } فيعلم تعالى
أعمالهم ،وعلى أي :وجه صدرت ،فيجازيهم على حسب علمه بما في صدورهم.
ضبَ اللّهُ عَلَ ْي ِهمْ مَا هُمْ مِ ْنكُ ْم وَلَا مِ ْنهُ ْم وَيَحِْلفُونَ عَلَى
غ ِ
{ { } 14-19أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
شدِيدًا إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ * اتّخَذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً
عذَابًا َ
عدّ اللّهُ َلهُمْ َ
ب وَهُمْ َيعَْلمُونَ * أَ َ
ا ْلكَ ِذ ِ
عذَابٌ ُمهِينٌ * لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْن ُهمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَ ِئكَ
َفصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فََلهُمْ َ
حسَبُونَ أَ ّنهُمْ
جمِيعًا فَيَحِْلفُونَ َلهُ َكمَا يَحِْلفُونَ َلكُ ْم وَيَ ْ
َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ * َيوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
حوَذَ عَلَ ْي ِهمُ الشّ ْيطَانُ فَأَنْسَا ُهمْ ِذكْرَ اللّهِ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ الشّيْطَانِ
شيْءٍ أَلَا إِ ّن ُهمْ هُمُ ا ْلكَاذِبُونَ * اسْ َت ْ
عَلَى َ
أَلَا إِنّ حِ ْزبَ الشّ ْيطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين ،من اليهود والنصارى وغيرهم ممن
غضب ال عليهم ،ونالوا من لعنة ال أوفى نصيب ،وأنهم ليسوا من المؤمنين ول من الكافرين{ ،
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَِلكَ لَا إِلَى َهؤُلَا ِء وَلَا إِلَى َهؤُلَاءِ }
فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لن باطنهم مع الكفار ،ول مع الكفار ظاهرا وباطنا ،لن ظاهرهم
مع المؤمنين ،وهذا وصفهم الذي نعتهم ال به ،والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب،
فيحلفون أنهم مؤمنون ،وهم يعلمون أنهم ليسوا مؤمنين.
فجزاء هؤلء الخونة الفجرة الكذبة ،أن ال أعد لهم عذابا شديدا ،ل يقادر قدره ،ول يعلم وصفه،
إنهم ساء ما كانوا يعملون ،حيث عملوا بما يسخط ال ويوجب عليهم العقوبة واللعنة.
{ اتّخَذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً } أي :ترسا ووقاية ،يتقون بها من لوم ال ورسوله والمؤمنين ،فبسبب ذلك
صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل ال ،وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى جنات النعيم.
ومن صد عنه فليس إل الصراط الموصل إلى الجحيم { ،فََل ُهمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ } حيث استكبروا عن
اليمان بال والنقياد لياته ،أهانهم بالعذاب السرمدي ،الذي ل يفتر عنهم ساعة ول هم ينظرون.
{ لَنْ ُتغْنِيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُ ُهمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } فل تدفع عنهم شيئا من العذاب ،ول تحصل
لهم قسطا من الثواب { ،أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ } الملزمون لها ،الذين ل يخرجون عنها ،و { هُمْ
فِيهَا خَاِلدُونَ } ومن عاش على شيء مات عليه.
فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين ،ويحلفون لهم أنهم مؤمنون ،فإذا كان يوم
القيامة وبعثهم ال جميعا ،حلفوا ل كما حلفوا للمؤمنين ،ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء،
لن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة ،لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا ،حتى غرتهم وظنوا
أنهم على شيء يعتد به ،ويعلق عليه الثواب ،وهم كاذبون في ذلك ،ومن المعلوم أن الكذب ل
يروج على عالم الغيب والشهادة.
وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم ،وزين لهم أعمالهم ،وأنساهم
ذكر ال ،وهو العدو المبين ،الذي ل يريد بهم إل الشر { ،إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير }
{ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ الشّيْطَانِ أَلَا إِنّ حِ ْزبَ الشّ ْيطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسروا دينهم ودنياهم
وأنفسهم وأهليهم.
{ { } 20-21إِنّ الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَ ِئكَ فِي الَْأذَلّينَ * كَ َتبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنّ أَنَا وَرُسُلِي إِنّ
اللّهَ َق ِويّ عَزِيزٌ }
هذا وعد ووعيد ،وعيد لمن حاد ال ورسوله بالكفر والمعاصي ،أنه مخذول مذلول ،ل عاقبة له
حميدة ،ول راية له منصورة.
ووعد لمن آمن به ،وبرسله ،واتبع ما جاء به المرسلون ،فصار من حزب ال المفلحين ،أن لهم
الفتح والنصر والغلبة في الدنيا والخرة ،وهذا وعد ل يخلف ول يغير ،فإنه من الصادق القوي
العزيز الذي ل يعجزه شيء يريده.
جدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
{ { } 22لَا تَ ِ
عشِيرَ َتهُمْ أُولَ ِئكَ كَ َتبَ فِي قُلُو ِبهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِ ْن ُه وَيُدْخُِل ُهمْ جَنّاتٍ
خوَا َنهُمْ َأوْ َ
َأوْ أَبْنَاءَ ُهمْ َأوْ إِ ْ
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُمْ وَ َرضُوا عَنْهُ أُولَ ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ َألَا إِنّ حِ ْزبَ
تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َر ِ
اللّهِ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }
يقول تعالى { :لَا َتجِدُ َق ْومًا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ ُيوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّ َه وَرَسُوَلهُ } أي :ل
يجتمع هذا وهذا ،فل يكون العبد مؤمنا بال واليوم الخر حقيقة ،إل كان عامل على مقتضى
اليمان ولوازمه ،من محبة من قام باليمان وموالته ،وبغض من لم يقم به ومعاداته ،ولو كان
أقرب الناس إليه.
وهذا هو اليمان على الحقيقة ،الذي وجدت ثمرته والمقصود منه ،وأهل هذا الوصف هم الذين
كتب ال في قلوبهم اليمان أي :رسمه وثبته وغرسه غرسا ،ل يتزلزل ،ول تؤثر فيه الشبه
والشكوك.
وهم الذين قواهم ال بروح منه أي :بوحيه ،ومعونته ،ومدده اللهي وإحسانه الرباني.
وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار ،ولهم جنات النعيم في دار القرار ،التي فيها من كل ما
تشتهيه النفس ،وتلذ العين ،وتختار ،ولهم أكبر النعيم وأفضله ،وهو أن ال يحل عليهم رضوانه
فل يسخط عليهم أبدا ،ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ،ووافر المثوبات،
وجزيل الهبات ،ورفيع الدرجات بحيث ل يرون فوق ما أعطاهم مولهم غاية ،ول فوقه نهاية
وأما من يزعم أنه يؤمن بال واليوم الخر ،وهو مع ذلك مواد لعداء ال ،محب لمن ترك
اليمان وراء ظهره ،فإن هذا إيمان زعمي ل حقيقة له ،فإن كل أمر ل بد له من برهان يصدقه،
فمجرد الدعوى ،ل تفيد شيئا ول يصدق صاحبها.
حكِيمُ
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ
حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-7بِ ْ
* ُهوَ الّذِي أَخْرَجَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لَِأوّلِ ا ْلحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْ ُرجُوا
عبَ
حصُو ُنهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ َلمْ يَحْ َتسِبُوا َوقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ
وَظَنّوا أَ ّنهُمْ مَا ِنعَ ُتهُمْ ُ
يُخْرِبُونَ بُيُو َتهُمْ بِأَ ْيدِيهِ ْم وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَ ْبصَارِ }
وبعث إليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم" :أن اخرجوا من المدينة ول تساكنوني بها ،وقد
أجلتكم عشرا ،فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه"
فأقاموا أياما يتجهزون ،وأرسل إليهم المنافق عبد ال بن أبي [بن سلول]" :أن ل تخرجوا من
دياركم ،فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ،فيموتون دونكم ،وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من
غطفان".
وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له ،وبعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :إنا
ل نخرج من ديارنا ،فاصنع ما بدا لك.
فكبر رسول ال صلى عليه وسلم وأصحابه ،ونهضوا إليهم ،وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء.
فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة ،واعتزلتهم قريظة ،وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من
غطفان ،فحاصرهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقطع نخلهم وحرق .فأرسلوا إليه :نحن
نخرج من المدينة ،فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم ،وذراريهم ،وأن لهم ما حملت إبلهم إل
السلح ،وقبض رسول ال صلى ال عليه وسلم ،الموال والسلح.
وكانت بنو النضير ،خالصة لرسول ال صلى ال عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ،ولم
يخمسها ،لن ال أفاءها عليه ،ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ول ركاب ،وأجلهم إلى خيبر
وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم ،واستولى على أرضهم وديارهم ،وقبض السلح ،فوجد من السلح
خمسين درعا ،وخمسين بيضة ،وثلثمائة وأربعين سيفا ،هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل
السير.
فافتتح تعالى هذه السورة بالخبار أن جميع من في السماوات والرض تسبح بحمد ربها ،وتنزهه
عما ل يليق بجلله ،وتعبده وتخضع لجلله لنه العزيز الذي قد قهر كل شيء ،فل يمتنع عليه
شيء ،ول يستعصي عليه مستعصي الحكيم في خلقه وأمره ،فل يخلق شيئا عبثا ،ول يشرع ما
ل مصلحة فيه ،ول يفعل إل ما هو مقتضى حكمته.
ومن ذلك ،نصر ال لرسوله صلى ال عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني
النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها.
وكان إخراجهم منها أول حشر وجلء كتبه ال عليهم على يد رسوله محمد صلى ال عليه وسلم،
فجلوا إلى خيبر ،ودلت الية الكريمة أن لهم حشرا وجلء غير هذا ،فقد وقع حين أجلهم النبي
صلى ال عليه وسلم من خيبر ،ثم عمر رضي ال عنه[ ،أخرج بقيتهم منها].
{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ َيخْرُجُوا } من ديارهم ،لحصانتها ،ومنعتها ،وعزهم فيها.
حصُو ُنهُمْ مِنَ اللّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم ،وحسبوا أنهم ل ينالون بها ،ول
{ وَظَنّوا أَ ّن ُهمْ مَا ِنعَ ُتهُمْ ُ
يقدر عليها أحد ،وقدر ال تعالى وراء ذلك كله ،ل تغني عنه الحصون والقلع ،ول تجدي فيهم
القوة والدفاع.
ولهذا قال { :فَأَتَا ُهمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ َلمْ يَحْ َتسِبُوا } أي :من المر والباب ،الذي لم يخطر ببالهم أن
عبَ } وهو الخوف الشديد ،الذي هو جند ال
يؤتوا منه ،وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ
الكبر ،الذي ل ينفع معه عدد ول عدة ،ول قوة ول شدة ،فالمر الذي يحتسبونه ويظنون أن
الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها ،واطمأنت نفوسهم إليها ،ومن وثق
بغير ال فهو مخذول ،ومن ركن إلى غير ال فهو عليه وبال فأتاهم أمر سماوي نزل على
قلوبهم ،التي هي محل الثبات والصبر ،أو الخور والضعف ،فأزال ال قوتها وشدتها ،وأورثها
ضعفا وخورا وجبنا ،ل حيلة لهم ول منعة معه فصار ذلك عونا عليهم ،ولهذا قالُ { :يخْرِبُونَ
بُيُو َتهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى ال عليه وسلم ،على أن لهم ما
حملت البل.
فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ،التي استحسنوها ،وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب
ديارهم وهدم حصونهم ،فهم الذين جنوا على أنفسهم ،وصاروا من أكبر عون عليها { ،فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الْأَ ْبصَارِ } أي :البصائر النافذة ،والعقول الكاملة ،فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع ال
تعالى في المعاندين للحق ،المتبعين لهوائهم ،الذين لم تنفعهم عزتهم ،ول منعتهم قوتهم ،ول
حصنتهم حصونهم ،حين جاءهم أمر ال ،ووصل إليهم النكال بذنوبهم ،والعبرة بعموم اللفظ ل
بخصوص السبب ،فإن هذه الية تدل على المر بالعتبار ،وهو اعتبار النظير بنظيره ،وقياس
الشيء على مثله ،والتفكر فيما تضمنته الحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة،
وبذلك يزداد العقل ،وتتنور البصيرة ويزداد اليمان ،ويحصل الفهم الحقيقي ،ثم أخبر تعالى أن
هؤلء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ،وأن ال خفف عنهم.
فلول أنه كتب عليهم الجلء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي ل يبدل ول يغير ،لكان
لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها ،ولكنهم -وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي -فإن لهم في
الخرة عذاب النار ،الذي ل يمكن أن يعلم شدته إل ال تعالى ،فل يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد
انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية ،فما أعد ال لهم من العذاب في الخرة أعظم وأطم.
شدِيدُ ا ْلعِقَابِ }
وهذه عادته وسنته فيمن شاقه { َومَنْ ُيشَاقّ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ َ
ولما لم بنو النضير رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين في قطع النخيل والشجار،
وزعموا أن ذلك من الفساد ،وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين ،أخبر تعالى أن قطع النخيل إن
سقِينَ } حيث سلطكم على
قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه ،إنه بإذنه تعالى ،وأمره { وَلِ ُيخْ ِزيَ ا ْلفَا ِ
قطع نخلهم ،وتحريقها ،ليكون ذلك نكال لهم ،وخزيا في الدنيا ،وذل يعرف به عجزهم التام ،الذي
ما قدروا على استنقاذ نخلهم ،الذي هو مادة قوتهم .واللينة :اسم يشمل سائر النخيل على أصح
الحتمالت وأولها ،فهذه حال بني النضير ،وكيف عاقبهم ال في الدنيا.
ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم ،فقالَ { :ومَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِ ْنهُمْ } أي :من أهل
هذه القرية ،وهم بنو النضير.
وحكمه العام ،كما ذكره ال في قوله { مَا َأفَاءَ اللّهُ عَلَى َرسُولِهِ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَى } عموما ،سواء
أفاء ال في وقت رسوله أو بعده ،لمن يتولى من بعده أمته
{ فَلِلّ ِه وَلِلرّسُولِ وَلِذِي ا ْلقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ } وهذه الية نظير الية التي في
ل وَلِذِي ا ْلقُرْبَى
خمُسَ ُه وَلِلرّسُو ِ
شيْءٍ فَأَنّ ِللّهِ ُ
سورة النفال ،في قوله { :وَاعَْلمُوا أَ ّنمَا غَ ِنمْ ُتمْ مِنْ َ
ن وَابْنِ السّبِيلِ }
وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ
خمس ل ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [العامة] ،وخمس لذوي القربى ،وهم :بنو هاشم
وبنو المطلب ،حيث كانوا يسوى [فيه] بين ،ذكورهم وإناثهم ،وإنما دخل بنو المطلب في خمس
الخمس ،مع بني هاشم ،ولم يدخل بقية بني عبد مناف ،لنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم
الشعب ،حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم فنصروا رسول ال صلى ال عليه وسلم،
بخلف غيرهم ،ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم ،في بني عبد المطلب" :إنهم لم يفارقوني في
جاهلية ول إسلم"
وخمس لفقراء اليتامى ،وهم :من ل أب له ولم يبلغ ،وخمس للمساكين ،وسهم لبناء السبيل ،وهم
الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم.
وإنما قدر ال هذا التقدير ،وحصر الفيء في هؤلء المعينين لـ { َكيْ لَا َيكُونَ دُولَةً } أي :مدوالة
واختصاصا { بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِ ْنكُمْ } فإنه لو لم يقدره ،لتداولته الغنياء القوياء ،ولما حصل لغيرهم
من العاجزين منه شيء ،وفي ذلك من الفساد ،ما ل يعلمه إل ال ،كما أن في اتباع أمر ال
وشرعه من المصالح ما ل يدخل تحت الحصر ،ولذلك أمر ال بالقاعدة الكلية والصل العام،
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } وهذا شامل لصول الدين وفروعه،
فقالَ { :ومَا آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
ظاهره وباطنه ،وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الخذ به واتباعه ،ول تحل مخالفته،
وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص ال تعالى ،ل رخصة لحد ول عذر له في تركه ،ول
يجوز تقديم قول أحد على قوله ،ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والرواح [والدنيا والخرة]،
وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم ،وبإضاعتها الشقاء البدي والعذاب السرمدي ،فقال { :وَا ّتقُوا
اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } على من ترك التقوى ،وآثر اتباع الهوى.
( )8ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الموال أموال الفيء لمن قدرها له،
وأنهم حقيقون بالعانة ،مستحقون لن تجعل لهم ،وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات
والمألوفات ،من الديار والوطان والحباب والخلن والموال ،رغبة في ال ونصرة لدين ال،
ومحبة لرسول ال ،فهؤلء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم ،وصدقوا إيمانهم بأعمالهم
الصالحة والعبادات الشاقة ،بخلف من ادعى اليمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما
من العبادات ،وبين أنصار وهم الوس والخزرج الذين آمنوا بال ورسوله طوعا ومحبة واختيارا،
وآووا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومنعوه من الحمر والسود ،وتبوأوا دار الهجرة واليمان
حتى صارت موئل ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ،ويلجأ إليه المهاجرون ،ويسكن بحماه المسلمون
إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ،فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى النصار ،حتى
انتشر السلم وقوي ،وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ،وينمو قليل قليل ،حتى فتحوا القلوب بالعلم
واليمان والقرآن ،والبلدان بالسيف والسنان.
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { ُيحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَ ْيهِمْ } وهذا لمحبتهم ل ولرسوله ،أحبوا
أحبابه ،وأحبوا من نصر دينه.
جةً ِممّا أُوتُوا } أي :ل يحسدون المهاجرين على ما آتاهم ال من
{ وَلَا َيجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَا َ
فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ،وهذا يدل على سلمة صدورهم ،وانتفاء
الغل والحقد والحسد عنها.
ويدل ذلك على أن المهاجرين ،أفضل من النصار ،لن ال قدمهم بالذكر ،وأخبر أن النصار ل
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ،فدل على أن ال تعالى آتاهم ما لم يؤت النصار ول
غيرهم ،ولنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ،ويأتم بهداهم ،ولهذا ذكر ال من اللحقين ،من هو
مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال { :وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ َبعْدِ ِهمْ } أي :من بعد المهاجرين والنصار
خوَانِنَا الّذِينَ سَ َبقُونَا
غفِرْ لَنَا وَلِإِ ْ
{ َيقُولُونَ } على وجه النصح لنفسهم ولسائر المؤمنين { :رَبّنَا ا ْ
بِالْإِيمَانِ }
وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ،السابقين من الصحابة ،ومن قبلهم ومن بعدهم ،وهذا من
فضائل اليمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ،ويدعو بعضهم لبعض ،بسبب المشاركة في
اليمان المقتضي لعقد الخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ،وأن يحب
بعضهم بعضا.
ولهذا ذكر ال في الدعاء نفي الغل عن القلب ،الشامل لقليل الغل وكثيره الذي إذا انتفى ثبت
ضده ،وهو المحبة بين المؤمنين والموالة والنصح ،ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.
فوصف ال من بعد الصحابة باليمان ،لن قولهم { :سَ َبقُونَا بِالْإِيمَانِ } دليل على المشاركة في
اليمان وأنهم تابعون للصحابة في عقائد اليمان وأصوله ،وهم أهل السنة والجماعة ،الذين ل
يصدق هذا الوصف التام إل عليهم ،ووصفهم بالقرار بالذنوب والستغفار منها ،واستغفار
بعضهم لبعض ،واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لخوانهم المؤمنين ،لن دعاءهم بذلك
مستلزم لما ذكرنا ،ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا ،وأن يحب أحدهم لخيه ما يحب لنفسه وأن
ينصح له حاضرا وغائبا ،حيا وميتا ،ودلت الية الكريمة [على] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين
بعضهم لبعض ،ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ،دالين على كمال رحمة ال وشدة رأفته
وإحسانه بهم ،الذي من جملته ،بل من أجله ،توفيقهم للقيام بحقوق ال وحقوق عباده.
فهؤلء الصناف الثلثة هم أصناف هذه المة ،وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى
مصالح السلم.
ثم تعجب تعالى من حال المنافقين ،الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب ،في نصرتهم ،وموالتهم
حدًا أَبَدًا } أي :ل
على المؤمنين ،وأنهم يقولون لهم { :لَئِنْ أُخْ ِرجْتُمْ لَ َنخْرُجَنّ َم َعكُمْ وَلَا ُنطِيعُ فِي ُكمْ أَ َ
شهَدُ إِ ّن ُهمْ َلكَاذِبُونَ }
نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا { ،وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَ ْنصُرَ ّنكُ ْم وَاللّهُ يَ ْ
في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم.
ول يستكثر هذا عليهم ،فإن الكذب وصفهم ،والغرور والخداع ،مقارنهم ،والنفاق والجبن يصحبهم،
ولهذا كذبهم [ال] بقوله ،الذي وجد مخبره كما أخبر ال به ،ووقع طبق ما قال ،فقال { :لَئِنْ
أُخْ ِرجُوا } من ديارهم جلء ونفيا { لَا َيخْرُجُونَ َم َعهُمْ } لمحبتهم للوطان ،وعدم صبرهم على
القتال ،وعدم وفائهم بوعدهم
{ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَ ْنصُرُو َنهُمْ } بل يستولي عليهم الجبن ،ويملكهم الفشل ،ويخذلون إخوانهم ،أحوج
ما كانوا إليهم.
{ وَلَئِنْ َنصَرُوهُمْ } على الفرض والتقدير { لَ ُيوَلّنّ الْأَدْبَارَ ثُمّ لَا يُ ْنصَرُونَ } أي :ليحصل منهم
الدبار عن القتال والنصرة ،ول يحصل لهم نصر من ال.
والسبب الذي أوجب لهم ذلك أنكم -أيها المؤمنون َ { -أشَدّ َرهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ } فخافوا
منكم أعظم مما يخافون ال ،وقدموا مخافة المخلوق الذي ل يملك لنفسه ول لغيره نفعا ول ضرا،
على مخافة الخالق ،الذي بيده الضر والنفع ،والعطاء والمنع.
{ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ } مراتب المور ،ول يعرفون حقائق الشياء ،ول يتصورون العواقب،
وإنما الفقه كل الفقه ،أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها ،وغيرها تبعا لها.
جدُرٍ }
ن وَرَاءِ ُ
حصّنَةٍ َأوْ مِ ْ
جمِيعًا } أي :في حال الجتماع { إِلّا فِي قُرًى ُم َ
{ { } 14لَا ُيقَاتِلُونَكُمْ َ
أي :ل يثبتون لقتالكم ول يعزمون عليه ،إل إذا كانوا متحصنين في القرى ،أو من وراء الجدر
والسوار.
فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع ،اعتمادا [على] حصونهم وجدرهم ،ل شجاعة بأنفسهم،
سهُمْ بَيْ َنهُمْ شَدِيدٌ } أي :بأسهم فيما بينهم شديد ،ل آفة في أبدانهم ول في
وهذا من أعظم الذم { ،بَ ْأ ُ
جمِيعًا } حين
قوتهم ،وإنما الفة في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم ،ولهذا قالَ { :تحْسَ ُبهُمْ َ
تراهم مجتمعين ومتظاهرين.
{ ذَِلكَ } الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر { بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيعْقِلُونَ } أي :ل عقل عندهم ،ول لب،
فإنهم لو كانت لهم عقول ،لثروا الفاضل على المفضول ،ولما رضوا لنفسهم بأبخس الخطتين،
ولكانت كلمتهم مجتمعة ،وقلوبهم مؤتلفة ،فبذلك يتناصرون ويتعاضدون ،ويتعاونون على
مصالحهم ومنافعهم الدينية والدنيوية.
مثل هؤلء المخذولين من أهل الكتاب ،الذين انتصر ال لرسوله منهم ،وأذاقهم الخزي في الحياة
الدنيا.
وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة { َكمَ َثلِ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ قَرِيبًا } وهم كفار قريش الذين زين لهم
س وَإِنّي جَارٌ َلكُمْ فََلمّا تَرَا َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ
الشيطان أعمالهم ،وقال { :لَا غَاِلبَ َلكُمُ الْ َيوْمَ مِنَ النّا ِ
عقِبَيْهِ [ َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكُمْ إِنّي أَرَى مَا لَا تَ َروْنَ] } الية.
عَلَى َ
فغرتهم أنفسهم ،وغرهم من غرهم ،الذين لم ينفعوهم ،ولم يدفعوا عنهم العذاب ،حتى أتوا "بدرا"
بفخرهم وخيلئهم ،ظانين أنهم مدركون برسول ال والمؤمنين أمانيهم.
فنصر ال رسوله والمؤمنين عليهم ،فقتلوا كبارهم وصناديدهم ،وأسروا من أسروا منهم ،وفر من
فر ،وذاقوا بذلك وبال أمرهم وعاقبة شركهم وبغيهم ،هذا في الدنيا { ،وََلهُمْ } في الخرة عذاب
النار.
ومثل هؤلء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب { َكمَ َثلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ }
أي :زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه ،فلما اغتر به وكفر ،وحصل له الشقاء ،لم ينفعه الشيطان،
الذي توله ودعاه إلى ما دعاه إليه ،بل تبرأ منه و { قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِ ْنكَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ َربّ
ا ْلعَاَلمِينَ } أي :ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك ،ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير.
{ َفكَانَ عَاقِبَ َت ُهمَا } أي :الداعي الذي هو الشيطان ،والمدعو الذي هو النسان حين أطاعه { أَ ّن ُهمَا
سعِيرِ } { وَذَِلكَ
فِي النّارِ خَاِلدَيْنِ فِيهَا } كما قال تعالى { :إِ ّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِ َيكُونُوا مِنْ َأصْحَابِ ال ّ
جَزَاءُ الظّاِلمِينَ } الذين اشتركوا في الظلم والكفر ،وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته ،وهذا دأب
الشيطان مع كل أوليائه ،فإنه يدعوهم ويدليهم إلى ما يضرهم بغرور ،حتى إذا وقعوا في الشباك،
وحاقت بهم أسباب الهلك ،تبرأ منهم وتخلى عنهم.
واللوم كل اللوم على من أطاعه ،فإن ال قد حذر منه وأنذر ،وأخبر بمقاصده وغايته ونهايته،
فالمقدم على طاعته ،عاص على بصيرة ل عذر له.
{ { } 18-21يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَلْتَ ْنظُرْ َنفْسٌ مَا قَ ّد َمتْ ِلغَ ٍد وَا ّتقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ
س ُهمْ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَاسِقُونَ * لَا يَسْ َتوِي
ِبمَا َت ْعمَلُونَ * وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ َنسُوا اللّهَ فَأَ ْنسَاهُمْ أَ ْنفُ َ
علَى جَ َبلٍ لَرَأَيْتَهُ
صحَابُ الْجَنّةِ هُمُ ا ْلفَائِزُونَ * َلوْ أَنْزَلْنَا هَذَا ا ْلقُرْآنَ َ
َأصْحَابُ النّا ِر وََأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأ ْ
خشْيَةِ اللّ ِه وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }
شعًا مُ َتصَدّعًا مِنْ َ
خَا ِ
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه اليمان ويقتضيه من لزوم تقواه ،سرا وعلنية ،في جميع
الحوال ،وأن يراعوا ما أمرهم ال به من أوامره وشرائعه وحدوده ،وينظروا ما لهم وما عليهم،
وماذا حصلوا عليه من العمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة ،فإنهم إذا جعلوا الخرة
نصب أعينهم وقبلة قلوبهم ،واهتموا بالمقام بها ،اجتهدوا في كثرة العمال الموصلة إليها،
وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم ،وإذا علموا أيضا،
أن ال خبير بما يعملون ،ل تخفى عليه أعمالهم ،ول تضيع لديه ول يهملها ،أوجب لهم الجد
والجتهاد.
وهذه الية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه ،وأنه ينبغي له أن يتفقدها ،فإن رأى زلل تداركه
بالقلع عنه ،والتوبة النصوح ،والعراض عن السباب الموصلة إليه ،وإن رأى نفسه مقصرا
في أمر من أوامر ال ،بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه ،وإتقانه ،ويقايس بين منن ال
عليه وإحسانه وبين تقصيره ،فإن ذلك يوجب له الحياء بل محالة.
والحرمان كل الحرمان ،أن يغفل العبد عن هذا المر ،ويشابه قوما نسوا ال وغفلوا عن ذكره
والقيام بحقه ،وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها ،فلم ينجحوا ،ولم يحصلوا على طائل ،بل
أنساهم ال مصالح أنفسهم ،وأغفلهم عن منافعها وفوائدها ،فصار أمرهم فرطا ،فرجعوا بخسارة
الدارين ،وغبنوا غبنا ،ل يمكنهم تداركه ،ول يجبر كسره ،لنهم هم الفاسقون ،الذين خرجوا عن
طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه ،فهل يستوي من حافظ على تقوى ال ونظر لما قدم لغده،
فاستحق جنات النعيم ،والعيش السليم -مع الذين أنعم ال عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين -ومن غفل عن ذكر ال ،ونسي حقوقه ،فشقي في الدنيا ،واستحق العذاب في
الخرة ،فالولون هم الفائزون ،والخرون هم الخاسرون.
ولما بين تعالى لعباده ما بين ،وأمرهم ونهاهم في كتابه العزيز ،كان هذا موجبا لن يبادروا إلى
ما دعاهم إليه وحثهم عليه ،ولو كانوا في القسوة وصلبة القلوب كالجبال الرواسي ،فإن هذا
القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية ال أي :لكمال تأثيره في القلوب ،فإن
مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الطلق ،وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح
المقرونة بها ،وهي من أسهل شيء على النفوس ،وأيسرها على البدان ،خالية من التكلف ل
تناقض فيها ول اختلف ،ول صعوبة فيها ول اعتساف ،تصلح لكل زمان ومكان ،وتليق لكل
أحد.
ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس المثال ،ويوضح لعباده في كتابه الحلل والحرام ،لجل أن
يتفكروا في آياته ويتدبروها ،فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم ،ويبين له طرق الخير والشر،
ويحثه على مكارم الخلق ،ومحاسن الشيم ،ويزجره عن مساوئ الخلق ،فل أنفع للعبد من
التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه.
هذه اليات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء ال الحسنى وأوصافه العلى ،عظيمة الشأن،
وبديعة البرهان ،فأخبر أنه ال المألوه المعبود ،الذي ل إله إل هو ،وذلك لكماله العظيم ،وإحسانه
الشامل ،وتدبيره العام ،وكل إله سواه فإنه باطل ل يستحق من العبادة مثقال ذرة ،لنه فقير
عاجز ناقص ،ل يملك لنفسه ول لغيره شيئا ،ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل ،لما غاب عن
الخلق وما يشاهدونه ،وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ووصلت إلى كل حي.
ثم كرر [ذكر] عموم إلهيته وانفراده بها ،وأنه المالك لجميع الممالك ،فالعالم العلوي والسفلي
وأهله ،الجميع ،مماليك ل ،فقراء مدبرون.
{ ا ْلقُدّوسُ السّلَامُ } أي :المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص ،المعظم الممجد ،لن القدوس يدل
على التنزيه عن كل نقص ،والتعظيم ل في أوصافه وجلله.
{ ا ْل ُم ْؤمِنُ } أي :المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به ،باليات البينات ،والبراهين القاطعات،
والحجج الواضحات.
{ ا ْلعَزِيزُ } الذي ل يغالب ول يمانع ،بل قد قهر كل شيء ،وخضع له كل شيء { ،ا ْلجَبّارُ } الذي
قهر جميع العباد ،وأذعن له سائر الخلق ،الذي يجبر الكسير ،ويغني الفقير { ،ا ْلمُ َتكَبّرُ } الذي له
الكبرياء والعظمة ،المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور.
حسْنَى } أي :له السماء الكثيرة جدا ،التي ل يحصيها ول يعلمها أحد إل ال هو،
سمَاءُ الْ ُ
{ َلهُ الْأَ ْ
ومع ذلك ،فكلها حسنى أي :صفات كمال ،بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها ،ل نقص في
شيء منها بوجه من الوجوه ،ومن حسنها أن ال يحبها ،ويحب من يحبها ،ويحب من عباده أن
يدعوه ويسألوه بها.
ومن كماله ،وأن له السماء الحسنى ،والصفات العليا ،أن جميع من في السماوات والرض
مفتقرون إليه على الدوام ،يسبحون بحمده ،ويسألونه حوائجهم ،فيعطيهم من فضله وكرمه ما
حكِيمُ } الذي ل يريد شيئا إل ويكون ،ول يكون شيئا إل
تقتضيه رحمته وحكمته { ،وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
لحكمة ومصلحة.
والمنة والحسان.
حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا عَ ُدوّي وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ ُت ْلقُونَ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-9بِ ْ
إِلَ ْيهِمْ بِا ْل َموَ ّد ِة َوقَدْ كَفَرُوا ِبمَا جَا َءكُمْ مِنَ ا ْلحَقّ ُيخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَنْ ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ رَ ّبكُمْ إِنْ
خفَيْتُ ْم َومَا
جهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِي تُسِرّونَ إِلَ ْي ِهمْ بِا ْل َموَ ّد ِة وَأَنَا أَعْلَمُ ِبمَا أَ ْ
كُنْتُمْ خَرَجْ ُتمْ ِ
سطُوا إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ
عدَا ًء وَيَبْ ُ
سوَاءَ السّبِيلِ * إِنْ يَ ْث َقفُوكُمْ َيكُونُوا َلكُمْ أَ ْ
ضلّ َ
أَعْلَنْتُ ْم َومَنْ َي ْفعَلْهُ مِ ْنكُمْ َفقَ ْد َ
صلُ بَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ
وَأَلْسِنَ َتهُمْ بِالسّو ِء َووَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ * لَنْ تَ ْن َف َعكُمْ أَرْحَا ُمكُمْ وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْف ِ
س َوةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِي َم وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا ِل َق ْو ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ
ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ * َقدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
مِ ْنكُ ْم َو ِممّا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا ِبكُ ْم وَ َبدَا بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا حَتّى ُت ْؤمِنُوا
علَ ْيكَ َت َوكّلْنَا
شيْءٍ رَبّنَا َ
ك َومَا َأمِْلكُ َلكَ مِنَ اللّهِ مِنْ َ
بِاللّ ِه َوحْ َدهُ إِلّا َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لََأسْ َت ْغفِرَنّ َل َ
غفِرْ لَنَا رَبّنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ
جعَلْنَا فِتْنَةً لِلّذِينَ َكفَرُوا وَا ْ
وَإِلَ ْيكَ أَنَبْنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ * رَبّنَا لَا َت ْ
حسَنَةٌ ِلمَنْ كَانَ يَ ْرجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الْآخِ َر َومَنْ يَ َت َولّ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ
س َوةٌ َ
حكِيمُ *َلقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي ِهمْ أُ ْ
الْ َ
غفُورٌ
ج َعلَ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْ ُتمْ مِ ْنهُمْ َموَ ّد ًة وَاللّهُ قَدِي ٌر وَاللّهُ َ
حمِيدُ * عَسَى اللّهُ أَنْ يَ ْ
ا ْلغَ ِنيّ الْ َ
ن وَلَمْ ُيخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ أَنْ تَبَرّو ُهمْ
رَحِيمٌ * لَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ َلمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ
ن وَأَخْرَجُوكُمْ
حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ * إِ ّنمَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّي ِ
سطُوا إِلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
وَتُقْ ِ
جكُمْ أَنْ َتوَلّوْ ُه ْم َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ }
مِنْ دِيَا ِركُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَا ِ
ذكر كثير من المفسرين[ ،رحمهم ال] ،أن سبب نزول هذه اليات الكريمات في قصة حاطب بن
أبي بلتعة ،حين غزا النبي صلى ال عليه وسلم غزوة الفتح ،فكتب حاطب إلى قريش يخبرهم
بمسير رسول ال صلى ال عليه وسلم إليهم ،ليتخذ بذلك يدا عندهم ل [شكا و] نفاقا ،وأرسله مع
امرأة ،فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم بشأنه ،فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب.
وعاتب حاطبا ،فاعتذر رضي ال عنه بعذر قبله النبي صلى ال عليه وسلم ،وهذه اليات فيها
النهي الشديد عن موالة الكفار من المشركين وغيرهم ،وإلقاء المودة إليهم ،وأن ذلك مناف
لليمان ،ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلة والسلم ،ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر
كل الحذر من العدو ،الذي ل يبقي من مجهوده في العداوة شيئا ،وينتهز الفرصة في إيصال
الضرر إلى عدوه ،فقال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم ،من ولية من قام
باليمان ،ومعاداة من عاداه ،فإنه عدو ل ،وعدو للمؤمنين.
فل تتخذوا عدو ال { وَعَ ُد ّوكُمْ َأوْلِيَاءَ تُ ْلقُونَ إِلَ ْي ِهمْ بِا ْل َموَ ّدةِ } أي :تسارعون في مودتهم وفي السعي
بأسبابها ،فإن المودة إذا حصلت ،تبعتها النصرة والموالة ،فخرج العبد من اليمان ،وصار من
جملة أهل الكفران ،وانفصل عن أهل اليمان.
وهذا المتخذ للكافر وليا ،عادم المروءة أيضا ،فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي ل يريد له إل
الشر ،ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير ،ويأمره به ،ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضا
إلى معاداة الكفار ،أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ،ول أعظم من هذه المخالفة
والمشاقة ،فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ،وزعموا أنكم ضلل على غير هدى.
والحال أنهم كفروا بالحق الذي ل شك فيه ول مرية ،ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو
حجة تدل على صحة قوله ،بل مجرد العلم بالحق يدل على بطلن قول من رده وفساده.
ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْ ِرجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم ،ويشردونكم من
أوطانكم ،ول ذنب لكم في ذلك عندهم ،إل أنكم تؤمنون بال ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم
القيام بعبوديته ،لنه رباهم ،وأنعم عليهم ،بالنعم الظاهرة والباطنة ،وهو ال تعالى.
فلما أعرضوا عن هذا المر ،الذي هو أوجب الواجبات ،وقمتم به ،عادوكم ،وأخرجوكم -من
أجله -من دياركم ،فأي دين ،وأي مروءة وعقل ،يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم
في كل زمان أو مكان؟" ول يمنعهم منه إل خوف ،أو مانع قوي.
جهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاتِي } أي :إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد
{ إِنْ كُنْتُمْ خَ َرجْتُمْ ِ
في سبيل ال ،لعلء كلمة ال ،وابتغاء مرضاة ال فاعملوا بمقتضى هذا ،من موالة أولياء ال
ومعاداة أعدائه ،فإن هذا هو الجهاد في سبيله وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم
ويبتغون به رضاه.
ثم بين تعالى شدة عداوتهم ،تهييجا للمؤمنين على عداوتهم { ،إِنْ يَ ْثقَفُوكُمْ } أي :يجدوكم ،وتسنح
سطُوا إِلَ ْيكُمْ أَ ْيدِ َيهُمْ } بالقتل والضرب،
عدَاءً } ظاهرين { وَيَبْ ُ
لهم الفرصة في أذاكمَ { ،يكُونُوا َلكُمْ أَ ْ
ونحو ذلك.
{ وَأَلْسِنَ َت ُهمْ بِالسّوءِ } أي :بالقول الذي يسوء ،من شتم وغيرهَ { ،ووَدّوا َلوْ َت ْكفُرُونَ } فإن هذا غاية
ما يريدون منكم.
فإن احتججتم وقلتم :نوالي الكفار لجل القرابة والموال ،فلن تغني عنكم أموالكم ول أولدكم من
ال شيئا { .وال بما تعملون بصير } فلذلك حذركم من موالة الكافرين الذين تضركم موالتهم.
س َوةٌ حَسَ َنةٌ } أي :قدوة صالحة وائتمام ينفعكم { ،فِي إِبْرَاهِيمَ
قد كان لكم يا معشر المؤمنين { ُأ ْ
وَالّذِينَ َمعَهُ } من المؤمنين ،لنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفاِ { ،إذْ قَالُوا ِل َقوْ ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ
مِ ْنكُ ْم َو ِممّا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } أي :إذ تبرأ إبراهيم عليه السلم ومن معه من المؤمنين ،من
قومهم المشركين ومما يعبدون من دون ال.
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ،فقالواَ { :كفَرْنَا ِبكُ ْم وَبَدَا } أي :ظهر وبان { بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمُ
ا ْلعَدَا َو ُة وَالْ َب ْغضَاءُ } أي :البغض بالقلوب ،وزوال مودتها ،والعداوة بالبدان ،وليس لتلك العداوة
والبغضاء وقت ول حد ،بل ذلك { أَ َبدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِاللّهِ
وَحْ َدهُ } أي :فإذا آمنتم بال وحده ،زالت العداوة والبغضاء ،وانقلبت مودة وولية ،فلكم أيها
المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام باليمان والتوحيد ،والقيام بلوازم ذلك
ومقتضياته ،وفي كل شيء تعبدوا به ل وحده { ،إِلّا } في خصلة واحدة وهي { َق ْولَ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ } آزر المشرك ،الكافر ،المعاند ،حين دعاه إلى اليمان والتوحيد ،فامتنع ،فقال إبراهيم :
شيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن ل
{ لََأسْ َت ْغفِرَنّ َلكَ و } الحال أني ل { َأمِْلكُ َلكَ مِنَ اللّهِ مِنْ َ
أكون بدعاء ربي شقيا ،فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك ،فليس
لكم أن تدعوا للمشركين ،وتقولوا :إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ،فإن ال ذكر عذر إبراهيم في
ذلك بقولهَ { :ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلّا عَنْ َموْعِ َد ٍة وَعَدَهَا إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ لِلّهِ
تَبَرّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لواه حليم }
ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ،حين دعوا ال وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ،واعترفوا بالعجز
والتقصير ،فقالوا { :رَبّنَا عَلَ ْيكَ َت َوكّلْنَا } أي :اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا،
ووثقنا بك يا ربنا في ذلك.
{ وَإِلَ ْيكَ أَنَبْنَا } أي :رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك ،فنحن في ذلك ساعون،
وبفعل الخيرات مجتهدون ،ونعلم أنا إليك نصير ،فسنستعد للقدوم عليك ،ونعمل ما يقربنا الزلفى
إليك
جعَلْنَا فِتْ َنةً لِلّذِينَ َكفَرُوا } أي :ل تسلطهم علينا بذنوبنا ،فيفتنونا ،ويمنعونا مما يقدرون
{ رَبّنَا لَا تَ ْ
عليه من أمور اليمان ،ويفتنون أيضا بأنفسهم ،فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة ،ظنوا أنهم على الحق
غفِرْ لَنَا } ما اقترفنا من الذنوب والسيئات ،وما
وأنا على الباطل ،فازدادوا كفرا وطغيانا { ،وَا ْ
حكِيمُ } الذي يضع
قصرنا به من المأمورات { ،رَبّنَا إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلعَزِيزُ } القاهر لكل شيء { ،الْ َ
الشياء مواضعها ،فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا ،واغفر لنا ذنوبنا ،وأصلح عيوبنا.
س َوةٌ حَسَ َنةٌ } وليس كل أحد تسهل
ثم كرر الحث [لهم] على القتداء بهم ،فقالَ { :لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِيهِمْ ُأ ْ
عليه هذه السوة ،وإنما تسهل على من { كَانَ يَرْجُو اللّ َه وَالْ َيوْمَ الْآخِرَ } فإن اليمان واحتساب
الجر والثواب ،يسهل على العبد كل عسير ،ويقلل لديه كل كثير ،ويوجب له الكثار من القتداء
بعباد ال الصالحين ،والنبياء والمرسلين ،فإنه يرى نفسه مفتقرا ومضطرا إلى ذلك غاية
الضطرار.
{ َومَنْ يَ َت َولّ } عن طاعة ال والتأسي برسل ال ،فلن يضر إل نفسه ،ول يضر ال شيئا { ،فَإِنّ
اللّهَ ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ } الذي له الغنى التام [المطلق] من جميع الوجوه ،فل يحتاج إلى أحد من خلقه
حمِيدُ } في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ،فإنه محمود على ذلك كله.
[بوجه] { ،ا ْل َ
ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر بها المؤمنين للمشركين ،ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا
على شركهم وكفرهم ،وأنهم إن انتقلوا إلى اليمان ،فإن الحكم يدور مع علته ،فإن المودة
ج َعلَ
اليمانية ترجع ،فل تيأسوا أيها المؤمنون ،من رجوعهم إلى اليمان ،فـ { عَسَى اللّهُ أَنْ يَ ْ
بَيْ َنكُ ْم وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْ ُتمْ مِ ْنهُمْ َموَ ّدةً } سببها رجوعهم إلى اليمان { ،وَاللّهُ قَدِيرٌ } على كل شيء،
غفُورٌ رَحِيمٌ } ل يتعاظمه ذنب أن
ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال { ،وَاللّهُ َ
سهِمْ لَا َتقْنَطُوا مِنْ
يغفره ،ول يكبر عليه عيب أن يسترهُ { ،قلْ يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
جمِيعًا إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ } وفي هذه الية إشارة وبشارة إلى
حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
رَ ْ
إسلم بعض المشركين ،الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين ،وقد وقع ذلك ،ول الحمد والمنة.
ولما نزلت هذه اليات الكريمات ،المهيجة على عداوة الكافرين ،وقعت من المؤمنين كل موقع،
وقاموا بها أتم القيام ،وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين ،وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى
ال عنه.
ن وَلَمْ
فأخبرهم ال أن ذلك ل يدخل في المحرم فقال { :لَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ
سطِينَ } أي :ل ينهاكم ال عن
حبّ ا ْل ُمقْ ِ
يُخْ ِرجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُمْ أَنْ تَبَرّوهُ ْم وَ ُتقْسِطُوا إِلَ ْي ِهمْ إِنّ اللّهَ يُ ِ
البر والصلة ،والمكافأة بالمعروف ،والقسط للمشركين ،من أقاربكم وغيرهم ،حيث كانوا بحال لم
ينتصبوا لقتالكم في الدين والخراج من دياركم ،فليس عليكم جناح أن تصلوهم ،فإن صلتهم في
هذه الحالة ،ل محذور فيها ول مفسدة كما قال تعالى عن البوين المشركين إذا كان ولدهما
ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا
مسلما { :وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا ُت ِ
َمعْرُوفًا }
[وقوله { ]:إِ ّنمَا يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ } أي :لجل دينكم ،عداوة لدين ال ولمن
جكُمْ } نهاكم ال { أَنْ
قام به { ،وََأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَا ِركُ ْم وَظَاهَرُوا } أي :عاونوا غيرهم { عَلَى إِخْرَا ِ
َتوَّلوْهُمْ } بالمودة والنصرة ،بالقول والفعل ،وأما بركم وإحسانكم ،الذي ليس بتول للمشركين ،فلم
ينهكم ال عنه ،بل ذلك داخل في عموم المر بالحسان إلى القارب وغيرهم من الدميين،
وغيرهم.
{ َومَنْ يَ َتوَّلهُمْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ } وذلك الظلم يكون بحسب التولي ،فإن كان توليا تاما ،صار
ذلك كفرا مخرجا عن دائرة السلم ،وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ ،وما هو دون ذلك.
{ { } 10-11يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِإذَا جَا َءكُمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ ُمهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَا ِنهِنّ
ن وَآتُوهُمْ مَا
حلّ َلهُ ْم وَلَا هُمْ َيحِلّونَ َلهُ ّ
جعُوهُنّ ِإلَى ا ْل ُكفّارِ لَا هُنّ ِ
فَإِنْ عَِلمْ ُتمُوهُنّ ُمؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْ ِ
سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِ ِر وَاسْأَلُوا مَا
ن وَلَا ُتمْ ِ
أَ ْنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ أَنْ تَ ْنكِحُوهُنّ إِذَا آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُ ّ
جكُمْ
شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ
حكِيمٌ * وَإِنْ فَا َت ُكمْ َ
حكُمُ بَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
حكْمُ اللّهِ َي ْ
أَ ْنفَقْتُ ْم وَلْيَسَْألُوا مَا أَ ْنفَقُوا ذَِلكُمْ ُ
جهُمْ مِ ْثلَ مَا أَ ْن َفقُوا وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ }
إِلَى ا ْل ُكفّارِ َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ أَ ْزوَا ُ
لما كان صلح الحديبية ،صالح النبي صلى ال عليه وسلم المشركين ،على أن من جاء منهم إلى
المسلمين مسلما ،أنه يرد إلى المشركين ،وكان هذا لفظا عاما[ ،مطلقا] يدخل في عمومه النساء
والرجال ،فأما الرجال فإن ال لم ينه رسوله عن ردهم ،إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما
للصلح الذي هو من أكبر المصالح ،وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة ،أمر ال
المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات ،وشكوا في صدق إيمانهن ،أن يمتحنوهن ويختبروهن،
بما يظهر به صدقهن ،من أيمان مغلظة وغيرها ،فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل
رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية.
فإن كن بهذا الوصف ،تعين ردهن وفاء بالشرط ،من غير حصول مفسدة ،وإن امتحنوهن ،فوجدن
حلّ َلهُ ْم وَلَا
صادقات ،أو علموا ذلك منهن من غير امتحان ،فل يرجعوهن إلى الكفار { ،لَا هُنّ ِ
هُمْ يَحِلّونَ َلهُنّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع ،وراعى أيضا الوفاء بالشرط ،بأن
يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن ،ول جناح حينئذ على
المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك ،ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من
المهر والنفقة ،وكما أن المسلمة ل تحل للكافر ،فكذلك الكافرة ل تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت
سكُوا ِب ِعصَمِ ا ْل َكوَافِرِ } وإذا نهى عن
على كفرها ،غير أهل الكتاب ،ولهذا قال تعالى { :وَلَا ُتمْ ِ
المساك بعصمتها فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى { ،وَاسْأَلُوا مَا أَ ْنفَقْتُمْ } أيها المؤمنون ،حين
ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار ،فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من
نسائهم ،استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم إلى الكفار ،وفي هذا دليل على
أن خروج البضع من الزوج متقوم ،فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل ،برضاع أو غيره ،كان عليه
حكْمُ اللّهِ } أي :ذلكم الحكم الذي ذكره ال وبينه لكم يحكم به بينكم {
ضمان المهر ،وقوله { :ذَِل ُكمْ ُ
حكِيمٌ } فيعلم تعالى ،ما يصلح لكم من الحكام ،ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة
وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
جكُمْ إِلَى ا ْل ُكفّارِ } بأن ذهبن مرتدات { َفعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَ َبتْ
شيْءٌ مِنْ أَ ْزوَا ِ
وقوله { :وَإِنْ فَا َتكُمْ َ
جهُمْ مِ ْثلَ مَا أَ ْن َفقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى
أَ ْزوَا ُ
المسلمين ،فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه ،لزم أن يعطيه فعلى المسلمون
من الغنيمة بدل ما أنفق
{ وَا ّتقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ ِبهِ ُم ْؤمِنُونَ } فإيمانكم بال ،يقتضي منكم أن تكونوا ملزمين للتقوى على
الدوام.
علَى أَنْ لَا يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلَا َيسْ ِرقْنَ وَلَا
{ { } 12يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا جَا َءكَ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ يُبَا ِيعْ َنكَ َ
ن وَلَا َي ْعصِي َنكَ فِي َمعْرُوفٍ
ن وَأَرْجُِلهِ ّ
ن وَلَا يَأْتِينَ بِ ُبهْتَانٍ َيفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِ ّ
ن وَلَا َيقْتُلْنَ َأوْلَادَهُ ّ
يَزْنِي َ
غفُورٌ َرحِيمٌ }
فَبَا ِي ْعهُنّ وَاسْ َتغْفِرْ َلهُنّ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
هذه الشروط المذكورة في هذه الية ،تسمى "مبايعة النساء" اللتي [كن] يبايعن على إقامة
الواجبات المشتركة ،التي تجب على الذكور والنساء في جميع الوقات.
وأما الرجال ،فيتفاوت ما يلزمهم بحسب أحوالهم ومراتبهم وما يتعين عليهم ،فكان النبي صلى ال
عليه وسلم يمتثل ما أمره ال به ،فكان إذا جاءته النساء يبايعنه ،والتزمن بهذه الشروط بايعهن،
وجبر قلوبهن ،واستغفر لهن ال ،فيما يحصل منهن من التقصير وأدخلهن في جملة المؤمنين بأن
{ لَا يُشْ ِركْنَ بِاللّهِ شَيْئًا } بأن يفردن ال [وحده] بالعبادة.
{ وَلَا يَزْنِينَ } كما كان ذلك موجودا كثيرا في البغايا وذوات الخدان { ،وَلَا َيقْتُلْنَ َأوْلَادَهُنّ } كما
يجري لنساء الجاهلية الجهلء.
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِ َرةِ َكمَا يَ ِئسَ ا ْل ُكفّارُ
غ ِ
{ { } 13يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَ َتوَّلوْا َق ْومًا َ
مِنْ َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ }
أي :يا أيها المؤمنون ،إن كنتم مؤمنين بربكم ،ومتبعين لرضاه ومجانبين لسخطه { ،لَا تَ َتوَّلوْا َق ْومًا
ضبَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ } وإنما غضب عليهم لكفرهم ،وهذا شامل لجميع أصناف الكفار { .قَدْ يَ ِئسُوا مِنَ
غ ِ
َ
الْآخِ َرةِ } أي :قد حرموا من خير الخرة ،فليس لهم منها نصيب ،فاحذروا أن تولوهم فتوافقوهم
على شرهم وكفرهم فتحرموا خير الخرة كما حرموا.
[وقوله] { َكمَا يَئِسَ ا ْل ُكفّارُ مِنْ َأصْحَابِ ا ْلقُبُورِ } حين أفضوا إلى الدار الخرة ،ووقفوا على حقيقة
المر وعلموا علم اليقين أنهم ل نصيب لهم منها .ويحتمل أن المعنى :قد يئسوا من الخرة أي:
قد أنكروها وكفروا بها ،فل يستغرب حينئذ منهم القدام على مساخط ال وموجبات عذابه وإياسهم
من الخرة ،كما يئس الكفار المنكرون للبعث في الدنيا من رجوع أصحاب القبور إلى ال تعالى.
والحمد ل رب العالمين.
حكِيمُ
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ
حمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-3بِ ْ
* يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ِلمَ َتقُولُونَ مَا لَا َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتًا عِنْدَ اللّهِ أَنْ َتقُولُوا مَا لَا َت ْفعَلُونَ }
وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره ،وذل جميع الخلق له تبارك وتعالى ،وأن جميع من في السماوات
والرض يسبحون بحمد ال ويعبدونه ويسألونه حوائجهم { ،وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي قهر الشياء
حكِيمُ } في خلقه وأمره.
بعزته وسلطانه { ،الْ َ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ َتقُولُونَ مَا لَا َت ْفعَلُونَ } أي :لم تقولون الخير وتحثون عليه ،وربما تمدحتم
به وأنتم ل تفعلونه ،وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه ،وأنتم متلوثون به ومتصفون به.
فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند ال أن يقول العبد ما ل يفعل؟
ولهذا ينبغي للمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة ،وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس
سكُ ْم وَأَنْ ُتمْ تَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ } وقال
سوْنَ أَ ْنفُ َ
منه ،قال تعالى { :أَتَ ْأمُرُونَ النّاسَ بِالْبِ ّر وَتَنْ َ
شعيب عليه الصلة والسلم لقومه { :وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } .
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَ ّنهُمْ بُنْيَانٌ مَ ْرصُوصٌ }
{ { } 4إِنّ اللّهَ يُ ِ
هذا حث من ال لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي [لهم] أن
يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا ،من غير خلل يقع في الصفوف ،وتكون صفوفهم على
نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا،
ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا حضر القتال ،صف أصحابه ،ورتبهم في مواقفهم ،بحيث
ل يحصل اتكال بعضهم على بعض ،بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها،
وبهذه الطريقة تتم العمال ويحصل الكمال.
{ { } 5وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ يَا َقوْمِ ِلمَ ُتؤْذُونَنِي َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ فََلمّا زَاغُوا
سقِينَ }
أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُ ْم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلفَا ِ
[أي { ]:وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِهِ } موبخا لهم على صنيعهم ،ومقرعا لهم على أذيته ،وهم يعلمون أنه
رسول الِ { :لمَ ُتؤْذُونَنِي } بالقوال والفعال { َوقَدْ َتعَْلمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ } .
وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان ال ،ففي غاية الوقاحة
والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم ،الذي قد علموه وتركوه ،ولهذا قال { :فََلمّا زَاغُوا } أي:
انصرفوا عن الحق بقصدهم { أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ } عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لنفسهم
ورضوه لها ،ولم يوفقهم ال للهدى ،لنهم ل يليق بهم الخير ،ول يصلحون إل للشر { ،وَاللّهُ لَا
سقِينَ } أي :الذين لم يزل الفسق وصفا لهم ،ل لهم قصد في الهدى ،وهذه الية
َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
الكريمة تفيد أن إضلل ال لعباده ،ليس ظلما منه ،ول حجة لهم عليه ،وإنما ذلك بسبب منهم،
فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ،فيجازيهم بعد ذلك بالضلل والزيغ
الذي ل حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [عقوبة لهم وعدل منه بهم] كما قال تعالى { :وَ ُنقَّلبُ
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } .
َأفْئِدَ َتهُمْ وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُوا بِهِ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَنَذَرُ ُهمْ فِي ُ
{ { } 6-9وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْ َيمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َي َديّ
سحْرٌ مُبِينٌ *
حمَدُ فََلمّا جَاءَ ُهمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا َهذَا ِ
سمُهُ َأ ْ
مِنَ ال ّتوْرَا ِة َومُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ َب ْعدِي ا ْ
ب وَ ُهوَ يُدْعَى إِلَى الِْإسْلَا ِم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ *
علَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ
سلَ رَسُولَهُ
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُ ِتمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ * ُهوَ الّذِي أَرْ َ
يُرِيدُونَ لِ ُي ْ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }
بِا ْلهُدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ لِيُ ْ
يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين ،الذين دعاهم عيسى ابن مريم ،وقال لهم { :يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْي ُكمْ } أي :أرسلني ال لدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر،
[وأيدني بالبراهين الظاهرة] ،ومما يدل على صدقي ،كونيُ { ،مصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ َي َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ }
أي :جئت بما جاء به موسى من التوراة والشرائع السماوية ،ولو كنت مدعيا للنبوة ،لجئت بغير
ما جاءت به المرسلون ،ومصدقا لما بين يدي من التوارة أيضا ،أنها أخبرت بي وبشرت ،فجئت
وبعثت مصداقا لها { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } وهو :محمد بن عبد ال بن عبد
المطلب النبي الهاشمي.
فعيسى عليه الصلة والسلم ،كالنبياء يصدق بالنبي السابق ،ويبشر بالنبي اللحق ،بخلف
الكذابين ،فإنهم يناقضون النبياء أشد مناقضة ،ويخالفونهم في الوصاف والخلق ،والمر
والنهي { فََلمّا جَاءَهُمْ } محمد صلى ال عليه وسلم الذي بشر به عيسى { بِالْبَيّنَاتِ } أي :الدلة
الواضحة ،الدالة على أنه هو ،وأنه رسول ال [حقا].
{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ } بهذا وغيره ،والحال أنه ل عذر له ،وقد انقطعت
حجته ،لنه { يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ } ويبين له ببراهينه وبيناته { ،وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }
الذين ل يزالون على ظلمهم مستقيمين ،ل تردهم عنه موعظة ،ول يزجرهم بيان ول برهان،
خصوصا هؤلء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه ،ولينصروا الباطل ،ولهذا قال ال عنهم:
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِمْ } أي :بما يصدر منهم من المقالت الفاسدة ،التي يردون بها
{ يُرِيدُونَ لِيُ ْ
الحق ،وهي ل حقيقة لها ،بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل { ،وَاللّهُ مُتِمّ نُو ِر ِه وََلوْ
كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ } أي :قد تكفل ال بنصر دينه ،وإتمام الحق الذي أرسل به رسله ،وإشاعة نوره
على سائر القطار ،ولو كره الكافرون ،وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون به إلى إطفاء
نور ال فإنهم مغلوبون.
وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها ،فل على مرادهم حصلوا ،ول سلمت عقولهم
من النقص والقدح فيها.
سلَ
ثم ذكر سبب الظهور والنتصار للدين السلمي ،الحسي والمعنوي ،فقالُ { :هوَ الّذِي أَرْ َ
رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ ا ْلحَقّ } أي :بالعلم النافع والعمل الصالح.
بالعلم الذي يهدي إلى ال وإلى دار كرامته ،ويهدي لحسن العمال والخلق ،ويهدي إلى
مصالح الدنيا والخرة.
حقّ } أي :الدين الذي يدان به ،ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق ،ل نقص فيه،
{ وَدِينِ الْ َ
ول خلل يعتريه ،بل أوامره غذاء القلوب والرواح ،وراحة البدان ،وترك نواهيه سلمة من
الشر والفساد فما بعث به النبي صلى ال عليه وسلم من الهدى ودين الحق ،أكبر دليل وبرهان
على صدقه ،وهو برهان باق ما بقي الدهر ،كلما ازداد العاقل تفكرا ،ازداد به فرحا وتبصرا.
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ } أي :ليعليه على سائر الديان ،بالحجة والبرهان ،ويظهر أهله القائمين
{ لِ ُي ْ
به بالسيف والسنان ،فأما نفس الدين ،فهذا الوصف ملزم له في كل وقت ،فل يمكن أن يغالبه
مغالب ،أو يخاصمه مخاصم إل فلجه وبلسه ،وصار له الظهور والقهر ،وأما المنتسبون إليه،
فإنهم إذا قاموا به ،واستناروا بنوره ،واهتدوا بهديه ،في مصالح دينهم ودنياهم ،فكذلك ل يقوم لهم
أحد ،ول بد أن يظهروا على أهل الديان ،وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد النتساب إليه ،لم
ينفعهم ذلك ،وصار إهمالهم له سبب تسليط العداء عليهم ،ويعرف هذا ،من استقرأ الحوال
ونظر في أول المسلمين وآخرهم
{ { } 10-14يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا َهلْ َأدُّلكُمْ عَلَى ِتجَا َرةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ
سكُمْ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ * َي ْغفِرْ َل ُكمْ
وَرَسُولِ ِه وَتُجَا ِهدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ
ذُنُو َبكُ ْم وَيُ ْدخِ ْلكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ *
وَأُخْرَى تُحِبّو َنهَا َنصْرٌ مِنَ اللّ ِه َوفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ * يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَ ْنصَارَ اللّهِ
حوَارِيّونَ َنحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ فَآمَنَتْ
حوَارِيّينَ مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ ا ْل َ
َكمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِ ْل َ
ل َو َكفَرَتْ طَا ِئفَةٌ فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَ ُدوّ ِهمْ فََأصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }
طَا ِئفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِي َ
هذه وصية ودللة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين ،لعظم تجارة ،وأجل مطلوب،
وأعلى مرغوب ،يحصل بها النجاة من العذاب الليم ،والفوز بالنعيم المقيم.
وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر ،ويسمو إليه كل لبيب ،فكأنه
قيل :ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال { ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ } .
ومن المعلوم أن اليمان التام هو التصديق الجازم بما أمر ال بالتصديق به ،المستلزم لعمال
الجوارح ،ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل ال فلهذا قال { :وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
سكُمْ } بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم ،لمصادمة أعداء السلم ،والقصد نصر دين ال
بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ
وإعلء كلمته ،وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب ،فإن ذلك ،ولو كان كريها للنفوس
شاقا عليها ،فإنه { خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } فإن فيه الخير الدنيوي ،من النصر على العداء،
والعز المنافي للذل والرزق الواسع ،وسعة الصدر وانشراحه.
وفي الخرة الفوز بثواب ال والنجاة من عقابه ،ولهذا ذكر الجزاء في الخرة ،فقالَ { :ي ْغفِرْ َلكُمْ
ذُنُو َبكُمْ } وهذا شامل للصغائر والكبائر ،فإن اليمان بال والجهاد في سبيله ،مكفر للذنوب ،ولو
كانت كبائر.
{ وَيُ ْدخِ ْلكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } أي :من تحت مساكنها [وقصورها] وغرفها
وأشجارها ،أنهار من ماء غير آسن ،وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ،وأنهار من خمر لذة
عدْنٍ }
للشاربين ،وأنهار من عسل مصفى ،ولهم فيها من كل الثمراتَ { ،ومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ َ
أي :جمعت كل طيب ،من علو وارتفاع ،وحسن بناء وزخرفة ،حتى إن أهل الغرف من أهل
عليين ،يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الفق الشرقي أو الغربي ،وحتى إن
بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [وبعضه من] لبن فضة ،وخيامها من اللؤلؤ والمرجان ،وبعض
المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن اللوان ،حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من
باطنها ،وباطنها من ظاهرها ،وفيها من الطيب والحسن ما ل يأتي عليه وصف الواصفين ،ول
خطر على قلب أحد من العالمين ،ل يمكن أن يدركوه حتى يروه ،ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم
به ،ففي تلك الحالة ،لول أن ال خلق أهل الجنة ،وأنشأهم نشأة كاملة ل تقبل العدم ،لوشك أن
يموتوا من الفرح ،فسبحان من ل يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ،بل هو كما أثنى على نفسه
وفوق ما يثني عليه عباده وتبارك الجليل الجميل ،الذي أنشأ دار النعيم ،وجعل فيها من الجلل
والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم.
وتعالى من له الحكمة التامة ،التي من جملتها ،أنه ال لو أرى الخلئق الجنة حين خلقها ونظروا
إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد ،ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة ،المشوب
نعيمها بألمها ،وسرورها بترحها.
وسميت الجنة جنة عدن ،لن أهلها مقيمون فيها ،ل يخرجون منها أبدا ،ول يبغون عنها حول،
ذلك الثواب الجزيل ،والجر الجميل ،الفوز العظيم ،الذي ل فوز مثله ،فهذا الثواب الخروي.
وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة ،فذكره بقوله { :وَأُخْرَى ُتحِبّو َنهَا } أي :ويحصل لكم خصلة
أخرى تحبونها وهيَ { :نصْرٌ مِنَ اللّهِ } [لكم] على العداء ،يحصل به العز والفرحَ { ،وفَتْحٌ
قَرِيبٌ } تتسع به دائرة السلم ،ويحصل به الرزق الواسع ،فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين ،وأما
المؤمنون من غير أهل الجهاد[ ،إذا قام غيرهم بالجهاد] فلم يؤيسهم ال تعالى من فضله وإحسانه،
بل قال { :وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } أي :بالثواب العاجل والجل ،كل على حسب إيمانه ،وإن كانوا ل
يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل ال ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :إن في الجنة مائة
درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والرض ،أعدها ال للمجاهدين في سبيله "
ثم قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَ ْنصَارَ اللّهِ } [أي ]:بالقوال والفعال ،وذلك بالقيام بدين
ال ،والحرص على إقامته على الغير ،وجهاد من عانده ونابذه ،بالبدان والموال ،ومن نصر
الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق ،بدحض حجته ،وإقامة الحجة عليه ،والتحذير منه.
ومن نصر دين ال ،تعلم كتاب ال وسنة رسوله ،والحث على ذلك[ ،والمر بالمعروف والنهي
عن المنكر].
ثم هيج ال المؤمنين بالقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقولهَ { :كمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
حوَارِيّينَ مَنْ أَ ْنصَارِي إِلَى اللّهِ } أي :قال لهم عارضا ومنهضا من يعاونني ويقوم معي في
لِلْ َ
نصرتي لدين ال ،ويدخل مدخلي ،ويخرج مخرجي؟
فابتدر الحواريون ،فقالواَ { :نحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ } فمضى عيسى عليه السلم على أمر ال ونصر
دينه ،هو ومن معه من الحواريين { ،فَآمَ َنتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى
والحواريينَ { ،و َكفَرَتْ طَا ِئفَةٌ } منهم ،فلم ينقادوا لدعوتهم ،فجاهد المؤمنون الكافرين { ،فَأَيّدْنَا
ع ُدوّهِمْ } أي :قويناهم ونصرناهم عليهم.
الّذِينَ آمَنُوا عَلَى َ
{ فََأصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [لهم] ،فأنتم يا أمة محمد ،كونوا أنصار ال ودعاة دينه،
ينصركم ال كما نصر من قبلكم ،ويظهركم على عدوكم.
تمت ول الحمد
أي :يسبح ل ،وينقاد لمره ،ويتألهه ،ويعبده ،جميع ما في السماوات والرض ،لنه الكامل الملك،
الذي له ملك العالم العلوي والسفلي ،فالجميع مماليكه ،وتحت تدبيره { ،ا ْلقُدّوسُ } المعظم ،المنزه
حكِيمُ } في خلقه وأمره.
عن كل آفة ونقص { ،ا ْلعَزِيزُ } القاهر للشياء كلها { ،الْ َ
فهذه الوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة ال وحده ل شريك له.
{ ُ { } 2-4هوَ الّذِي َب َعثَ فِي الُْأمّيّينَ َرسُولًا مِ ْن ُهمْ يَتْلُو عَلَ ْيهِمْ آيَاتِ ِه وَيُ َزكّيهِ ْم وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَابَ
حكِيمُ *
حقُوا ِبهِ ْم وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ح ْكمَ َة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَ ْبلُ َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَلْ َ
وَالْ ِ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ }
ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
ذَِلكَ َف ْ
المراد بالميين :الذين ل كتاب عندهم ،ول أثر رسالة من العرب وغيرهم ،ممن ليسوا من أهل
الكتاب ،فامتن ال تعالى عليهم ،منة عظيمة ،أعظم من منته على غيرهم ،لنهم عادمون للعلم
والخير ،وكانوا في ضلل مبين ،يتعبدون للشجار والصنام والحجار ،ويتخلقون بأخلق السباع
الضارية ،يأكل قويهم ضعيفهم ،وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم النبياء ،فبعث ال فيهم رسولً
منهم ،يعرفون نسبه ،وأوصافه الجميلة وصدقه ،وأنزل عليه كتابه { يَتْلُو عَلَ ْي ِهمْ آيَاتِهِ } القاطعة
الموجبة لليمان واليقين { ،وَيُ َزكّيهِمْ } بأن يحثهم على الخلق الفاضلة ،ويفصلها لهم ،ويزجرهم
ح ْكمَةَ } أي :علم القرآن وعلم السنة ،المشتمل ذلك
ب وَالْ ِ
عن الخلق الرذيلة { ،وَ ُيعَّل ُمهُمُ ا ْلكِتَا َ
علوم الولين والخرين ،فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق ،بل كانوا أئمة أهل العلم
والدين ،وأكمل الخلق أخلقًا ،وأحسنهم هديًا وسمتًا ،اهتدوا بأنفسهم ،وهدوا غيرهم ،فصاروا أئمة
المهتدين ،وهداة المؤمنين ،فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى ال عليه وسلم ،أكمل نعمة ،وأجل
حقُوا ِبهِمْ } أي :وامتن على آخرين من غيرهم أي :من غير
منحة ،وقوله { وَآخَرِينَ مِ ْنهُمْ َلمّا يَلْ َ
الميين ،ممن يأتي بعدهم ،ومن أهل الكتاب ،لما يلحقوا بهم ،أي :فيمن باشر دعوة الرسول،
ويحتمل أنهم لما يلحقوا بهم في الفضل ،ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان ،وعلى كل،
فكل المعنيين صحيح ،فإن الذين بعث ال فيهم رسوله وشاهدوه وباشروا دعوته ،حصل لهم من
الخصائص والفضائل ما ل يمكن أحدًا أن يلحقهم فيها ،وهذا من عزته وحكمته ،حيث لم يترك
عباده هملً ول سدى ،بل ابتعث فيهم الرسل ،وأمرهم ونهاهم ،وذلك من فضل ال العظيم ،الذي
يؤتيه من يشاء من عباده ،وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق ،وغير ذلك ،من
النعم الدنيوية ،فل أعظم من نعمة الدين التي هي مادة الفوز ،والسعادة البدية.
لما ذكر تعالى منته على هذه المة ،الذين ابتعث فيهم النبي المي ،وما خصهم ال به من المزايا
والمناقب ،التي ل يلحقهم فيها أحد وهم المة المية الذين فاقوا الولين والخرين ،حتى أهل
الكتاب ،الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والحبار المتقدمون ،ذكر أن الذين حملهم ال
التوراة من اليهود وكذا النصارى ،وأمرهم أن يتعلموها ،ويعملوا بما فيها ،وانهم لم يحملوها ولم
يقوموا بما حملوا به ،أنهم ل فضيلة لهم ،وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا
من كتب العلم ،فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره؟ وهل يلحق به فضيلة
بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء اليهود الذين لم يعملوا بما في التوراة،
الذي من أجله وأعظمه المر باتباع محمد صلى ال عليه وسلم ،والبشارة به ،واليمان بما جاء به
من القرآن ،فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إل الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه؟ فهذا
المثل مطابق لحوالهم.
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات ال الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به.
{ وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ } أي :ل يرشدهم إلى مصالحهم ،ما دام الظلم لهم وصفًا ،والعناد
لهم نعتًا ومن ظلم اليهود وعنادهم ،أنهم يعلمون أنهم على باطل ،ويزعمون أنهم على حق ،وأنهم
أولياء ال من دون الناس.
ولهذا أمر ال رسوله ،أن يقول لهم :إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم على الحق ،وأولياء ال:
{ فَ َتمَ ّنوُا ا ْل َم ْوتَ } وهذا أمر خفيف ،فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي
جعله ال دليلً على صدقهم إن تمنوه ،وكذبهم إن لم يتمنوه ولما لم يقع منهم مع العلن لهم
بذلك ،علم أنهم عالمون ببطلن ما هم عليه وفساده ،ولهذا قال { :وَلَا يَ َتمَ ّنوْنَهُ أَبَدًا ِبمَا َق ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ
} أي من الذنوب والمعاصي ،التي يستوحشون من الموت من أجلها { ،وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ } فل
يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء ،هذا وإن كانوا ل يتمنون الموت بما قدمت أيديهم ،و
يفرون منه [غاية الفرار] ،فإن ذلك ل ينجيهم ،بل ل بد أن يلقيهم الموت الذي قد حتمه ال على
العباد وكتبه عليهم.
ثم بعد الموت واستكمال الجال ،يرد الخلق كلهم يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة ،فينبئهم بما
كانوا يعملون ،من خير وشر ،قليل وكثير.
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلة الجمعة والمبادرة إليها ،من حين ينادى لها والسعي
إليها ،والمراد بالسعي هنا :المبادرة إليها والهتمام لها ،وجعلها أهم الشغال ،ل العدو الذي قد
نهي عنه عند المضي إلى الصلة ،وقوله { :وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي :اتركوا البيع ،إذا نودي للصلة،
وامضوا إليها.
فإن { ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ } من اشتغالكم بالبيع ،وتفويتكم الصلة الفريضة ،التي هي من آكد الفروض.
{ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } أن ما عند ال خير وأبقى ،وأن من آثر الدنيا على الدين ،فقد خسر الخسارة
الحقيقية ،من حيث ظن أنه يربح ،وهذا المر بترك البيع مؤقت مدة الصلة.
{ فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّلَاةُ فَانْ َتشِرُوا فِي الْأَ ْرضِ } لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الشتغال في
التجارة ،مظنة الغفلة عن ذكر ال ،أمر ال بالكثار من ذكره ،فقال { :وَا ْذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا } أي
في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكمَ { ،لعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } فإن الكثار من ذكر ال أكبر أسباب
الفلح.
{ وَإِذَا رََأوْا تِجَا َرةً َأوْ َل ْهوًا ا ْن َفضّوا إِلَ ْيهَا } أي :خرجوا من المسجد ،حرصًا على ذلك اللهو ،و
[تلك] التجارة ،وتركوا الخير { ،وَتَ َركُوكَ قَا ِئمًا } تخطب الناس ،وذلك [في] يوم جمعة ،بينما النبي
صلى ال عليه وسلم يخطب الناس ،إذ قدم المدينة ،عير تحمل تجارة ،فلما سمع الناس بها ،وهم
في المسجد ،انفضوا من المسجد ،وتركوا النبي صلى ال عليه وسلم يخطب استعجالًا لما ل ينبغي
أن يستعجل له ،وترك أدبُ { ،قلْ مَا عِنْدَ اللّهِ } من الجر والثواب ،لمن لزم الخير وصبر نفسه
على عبادة ال.
{ خَيْرٌ مِنَ الّل ْه ِو َومِنَ التّجَا َرةِ } التي ،وإن حصل منها بعض المقاصد ،فإن ذلك قليل منغص،
مفوت لخير الخرة ،وليس الصبر على طاعة ال مفوتًا للرزق ،فإن ال خير الرازقين ،فمن اتقى
ال رزقه من حيث ل يحتسب.
منها :أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين ،يجب عليهم السعي لها ،والمبادرة والهتمام
بشأنها.
ومنها :أن الخطبتين يوم الجمعة ،فريضتان يجب حضورهما ،لنه فسر الذكر هنا بالخطبتين،
فأمر ال بالمضي إليه والسعي له.
ومنها :النهى عن البيع والشراء ،بعد نداء الجمعة ،وتحريم ذلك ،وما ذاك إل لنه يفوت الواجب
ويشغل عنه ،فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الصل ،إذا كان ينشأ عنه تفويت
واجب ،فإنه ل يجوز في تلك الحال.
ومنها :المر بحضور الخطبتين يوم الجمعة ،وذم من لم يحضرهما ،ومن لزم ذلك النصات
لهما.
ومنها :أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة ال ،وقت دواعي النفس لحضور اللهو [والتجارات]
والشهوات ،أن يذكرها بما عند ال من الخيرات ،وما لمؤثر رضاه على هواه.
لما قدم النبي صلى ال عليه وسلم المدينة ،وكثر المسلمون في المدينة واعتز السلم بها ،صار
أناس من أهلها من الوس والخزرج ،يظهرون اليمان ويبطنون الكفر ،ليبقى جاههم ،وتحقن
دماؤهم ،وتسلم أموالهم ،فذكر ال من أوصافهم ما به يعرفون ،لكي يحذر العباد منهم ،ويكونوا
شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ
منهم على بصيرة ،فقالِ { :إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُوا } على وجه الكذب { :نَ ْ
اللّهِ } وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق ،مع أنه ل حاجة لشهادتهم في تأييد
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ } في قولهم ودعواهم ،وأن
رسوله ،فإن { اللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ
ذلك ليس بحقيقة منهم.
{ اتّخَذُوا أَ ْيمَا َنهُمْ جُنّةً } أي :ترسًا يتترسون بها من نسبتهم إلى النفاق.
فصدوا عن سبيله بأنفسهم ،وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم { ،إِ ّن ُهمْ سَاءَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ }
حيث أظهروا اليمان وأبطنوا الكفر ،وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم.
{ ذَِلكَ } الذي زين لهم النفاق { بـ } سبب أنهم ل يثبتون على اليمان.
بل { آمَنُوا ُثمّ َكفَرُوا َفطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ } بحيث ل يدخلها الخير أبدًاَ { ،فهُمْ لَا َيفْ َقهُونَ } ما ينفعهم،
ول يعون ما يعود بمصالحهم.
{ وَإِذَا قِيلَ } لهؤلء المنافقين { َتعَاَلوْا يَسْ َت ْغفِرْ َلكُمْ رَسُولُ اللّهِ } عما صدر منكم ،لتحسن أحوالكم،
سهُمْ } امتناعًا من طلب الدعاء من
وتقبل أعمالكم ،امتنعوا من ذلك أشد المتناع ،و { َل ّووْا ُرءُو َ
صدّونَ } عن الحق بغضًا له { وَ ُهمْ مُسْ َتكْبِرُونَ } عن اتباعه بغيًا وعنادًا،
الرسول { ،وَرَأَيْ َتهُمْ َي ُ
فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول ،وهذا من لطف ال وكرامته لرسوله،
حيث لم يأتوا إليه ،فيستغفر لهم ،فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر ال لهم ،وذلك
لنهم قوم فاسقون ،خارجون عن طاعة ال ،مؤثرون للكفر على اليمان ،فلذلك ل ينفع فيهم
استغفار الرسول ،لو استغفر لهم كما قال تعالى { :اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأوْ لَا َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ
سقِينَ } .
سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَنْ َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُهمْ } { إِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
{ ُ { } 7-8همُ الّذِينَ َيقُولُونَ لَا تُ ْنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ َرسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْن َفضّوا وَلِلّهِ خَزَائِنُ
جعْنَا إِلَى ا ْلمَدِينَةِ لَيُخْ ِرجَنّ الْأَعَزّ مِ ْنهَا
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وََلكِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ لَا َيفْ َقهُونَ * َيقُولُونَ لَئِنْ َر َ
ال ّ
ل وَلِلّهِ ا ْلعِ ّزةُ وَلِرَسُولِ ِه وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وََلكِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ لَا َيعَْلمُونَ }
الْأَ َذ ّ
وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى ال عليه وسلم ،والمسلمين ،لما رأوا اجتماع أصحابه
وائتلفهم ،ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى ال عليه وسلم ،قالوا بزعمهم الفاسد:
علَى مَنْ عِ ْندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَ ْنفَضّوا } فإنهم -بزعمهم -لول أموال المنافقين
{ لَا تُ ْنفِقُوا َ
ونفقاتهم عليهم ،لما اجتمعوا في نصرة دين ال ،وهذا من أعجب العجب ،أن يدعى هؤلء
المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلن الدين ،وأذية المسلمين ،مثل هذه الدعوى ،التي ل
سمَاوَاتِ
تروج إل على من ل علم له بحقائق المور ولهذا قال ال ردًا لقولهم { :وَلِلّهِ خَزَائِنُ ال ّ
وَالْأَ ْرضِ } فيؤتي الرزق من يشاء ،ويمنعه من يشاء ،وييسر السباب لمن يشاء ،ويعسرها على
من يشاء { ،وََلكِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ لَا َي ْف َقهُونَ } فلذلك قالوا تلك المقالة ،التي مضمونها أن خزائن الرزق
في أيديهم ،وتحت مشيئتهم.
جعْنَا إِلَى ا ْلمَدِي َنةِ لَ ُيخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِ ْنهَا الْأَ َذلّ } وذلك في غزوة المريسيع ،حين صار
{ َيقُولُونَ لَئِنْ رَ َ
بين بعض المهاجرين والنصار ،بعض كلم كدر الخواطر ،ظهر حينئذ نفاق المنافقين ،وأظهروا
ما في نفوسهم .
وقال كبيرهم ،عبد ال بن أبي بن سلول :ما مثلنا ومثل هؤلء -يعني المهاجرين -إل كما قال
القائل " :غذ كلبك يأكلك "
وقال :لئن رجعنا إلى المدينة { لَ ُيخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِ ْنهَا الْأَ َذلّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين
العزون ،وأن رسول ال ومن معه هم الذلون ،والمر بعكس ما قال هذا المنافق ،فلهذا قال
[تعالى { ]:وَلِلّهِ ا ْلعِ ّز ُة وَلِرَسُولِ ِه وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } فهم العزاء ،والمنافقون وإخوانهم من الكفار [هم]
الذلء { .وََلكِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ لَا َيعَْلمُونَ } ذلك زعموا أنهم العزاء ،اغترارًا بما هم عليه من الباطل،
ثم قال تعالى:
{ { } 9-11يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُت ْل ِهكُمْ َأ ْموَاُلكُ ْم وَلَا َأوْلَا ُدكُمْ عَنْ ِذكْرِ اللّ ِه َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْ ِفقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َأحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ فَ َيقُولَ َربّ َلوْلَا َأخّرْتَنِي
جُلهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا
جلٍ قَرِيبٍ فََأصّدّقَ وََأكُنْ مِنَ الصّاِلحِينَ * وَلَنْ ُيؤَخّرَ اللّهُ َنفْسًا ِإذَا جَاءَ أَ َ
إِلَى أَ َ
َت ْعمَلُونَ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالكثار من ذكره ،فإن في ذلك الربح والفلح ،والخيرات الكثيرة،
وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولدهم عن ذكره ،فإن محبة المال والولد مجبولة عليها أكثر
النفوس ،فتقدمها على محبة ال ،وفي ذلك الخسارة العظيمة ،ولهذا قال تعالىَ { :ومَنْ َي ْفعَلْ ذَِلكَ }
أي :يلهه ماله وولده ،عن ذكر ال { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ } للسعادة البدية ،والنعيم المقيم ،لنهم
آثروا ما يفنى على ما يبقى ،قال تعالى { :إِ ّنمَا َأ ْموَاُلكُمْ وَأَوْلَا ُد ُكمْ فِتْنَ ٌة وَاللّهُ عِنْ َدهُ َأجْرٌ عَظِيمٌ } .
وقوله { :وَأَ ْنفِقُوا مِنْ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ } يدخل في هذا ،النفقات الواجبة ،من الزكاة والكفارات ونفقة
الزوجات ،والمماليك ،ونحو ذلك ،والنفقات المستحبة ،كبذل المال في جميع المصالح ،وقالِ { :ممّا
رَ َزقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى ،لم يكلف العباد من النفقة ،ما يعنتهم ويشق عليهم ،بل أمرهم
بإخراج جزء مما رزقهم ال الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه.
فليشكروا الذي أعطاهم ،بمواساة إخوانهم المحتاجين ،وليبادروا بذلك ،الموت الذي إذا جاء ،لم
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ فَ َيقُولَ }
يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ،ولهذا قال { :مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ أَ َ
متحسرًا على ما فرط في وقت المكان ،سائلً الرجعة التي هي محالَ { :ربّ َلوْلَا َأخّرْتَنِي إِلَى
جلٍ قَرِيبٍ } أي :لتدارك ما فرطت فيه { ،فََأصّدّقَ } من مالي ،ما به أنجو من العذاب ،وأستحق
أَ َ
به جزيل الثواب { ،وََأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها ،واجتناب المنهيات ،ويدخل في
هذا ،الحج وغيره ،وهذا السؤال والتمني ،قد فات وقته ،ول يمكن تداركه ،ولهذا قال { :وَلَنْ ُيؤَخّرَ
اللّهُ َنفْسًا إِذَا جَاءَ َأجَُلهَا } المحتوم لها { وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } من خير وشر ،فيجازيكم على ما
علمه منكم ،من النيات والعمال.
ول الحمد
هذه اليات [الكريمات] ،مشتملت على جملة كثيرة واسعة ،من أوصاف الباري العظيمة ،فذكر
كمال ألوهيته تعالى ،وسعة غناه ،وافتقار جميع الخلئق إليه ،وتسبيح من في السماوات والرض
بحمد ربها ،وأن الملك كله ل ،فل يخرج مخلوق عن ملكه ،والحمد كله له ،حمد على ما له من
صفات الكمال ،وحمد على ما أوجده من الشياء ،وحمد على ما شرعه من الحكام ،وأسداه من
النعم.
وقدرته شاملة ،ل يخرج عنها موجود ،فل يعجزه شيء يريده.
وذكر أنه خلق العباد ،وجعل منهم المؤمن والكافر ،فإيمانهم وكفرهم كله ،بقضاء ال وقدره ،وهو
الذي شاء ذلك منهم ،بأن جعل لهم قدرة وإرادة ،بها يتمكنون من كل ما يريدون من المر
والنهي { ،وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } .
سمَاوَاتِ
فلما ذكر خلق النسان المكلف المأمور المنهي ،ذكر خلق باقي المخلوقات ،فقال { :خَلْقِ ال ّ
حقّ } أي :بالحكمة ،والغاية
وَالْأَ ْرضِ } أي :أجرامهما[ ،وجميع] ما فيهما ،فأحسن خلقهما { ،بِالْ َ
صوَ َركُمْ } كما قال تعالىَ { :لقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي َأحْسَنِ
ن ُ
المقصودة له تعاليَ { ،وصَوّ َركُمْ فََأحْسَ َ
َتقْوِيمٍ } فالنسان أحسن المخلوقات صورة ،وأبهاها منظرًا { .وَإِلَيْهِ ا ْل َمصِيرُ } أي :المرجع يوم
القيامة ،فيجازيكم على إيمانكم وكفركم ،ويسألكم عن النعم والنعيم ،الذي أولكموه هل قمتم
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } أي:
بشكره ،أم لم تقوموا بشكره؟ ثم ذكر عموم علمه ،فقالَ { :يعَْلمُ مَا فِي ال ّ
علِيمٌ ِبذَاتِ
ن وَاللّهُ َ
من السرائر والظواهر ،والغيب والشهادة { .وَ َيعْلَمُ مَا ُتسِرّونَ َومَا ُتعْلِنُو َ
الصّدُورِ } أي :بما فيها من السرار الطيبة ،والخبايا الخبيثة ،والنيات الصالحة ،والمقاصد
الفاسدة ،فإذا كان عليمًا بذات الصدور ،تعين على العاقل البصير ،أن يحرص ويجتهد في حفظ
باطنه ،من الخلق الرذيلة ،واتصافه بالخلق الجميلة.
{ { } 5-6أََلمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ فَذَاقُوا وَبَالَ َأمْرِهِمْ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * َذِلكَ بِأَنّهُ كَا َنتْ
حمِيدٌ }
سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفقَالُوا أَ َبشَرٌ َيهْدُونَنَا َف َكفَرُوا وَ َتوَّلوْا وَاسْ َتغْنَى اللّ ُه وَاللّهُ غَ ِنيّ َ
تَأْتِيهِمْ رُ ُ
لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة ،ما به يعرف ويعبد ،ويبذل الجهد في مرضاته،
وتجتنب مساخطه ،أخبر بما فعل بالمم السابقين ،والقرون الماضين ،الذين لم تزل أنباؤهم يتحدث
بها المتأخرون ،ويخبر بها الصادقون ،وأنهم حين جاءتهم الرسل بالحق ،كذبوهم وعاندوهم،
فأذاقهم ال وبال أمرهم في الدنيا ،وأخزاهم فيها { ،وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في [الدار] الخرة ،ولهذا
ذكر السبب في هذه العقوبة فقال { :ذَِلكَ } النكال والوبال ،الذي أحللناه بهم { بِأَنّهُ كَا َنتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ } أي :باليات الواضحات ،الدالة على الحق والباطل ،فاشمأزوا ،واستكبروا على
رسلهم { ،فقالوا أَ َبشَرٌ َيهْدُونَنَا } أي :فليس لهم فضل علينا ،ولي :شيء خصهم ال دوننا ،كما قال
في الية الخرى { :قَاَلتْ َلهُمْ رُسُُلهُمْ إِنْ نَحْنُ ِإلّا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَا ِدهِ } فهم حجروا فضل ال ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلً للخلق ،واستكبروا عن النقياد
لهم ،فابتلوا بعبادة الحجار والشجار ونحوها { َف َكفَرُوا } بال { وَ َتوَّلوْا } عن طاعه ال،
حمِيدٌ } أي :هو
{ وَاسْ َتغْنَى اللّهُ } عنهم ،فل يبالي بهم ،ول يضره ضللهم شيئًا { ،وَاللّهُ غَ ِنيّ َ
الغني ،الذي له الغنى التام المطلق ،من جميع الوجوه ،الحميد في أقواله وأفعاله وأوصافه.
يخبر تعالى عن عناد الكافرين ،وزعمهم الباطل ،وتكذيبهم بالبعث بغير علم ول هدى ول كتاب
منير ،فأمر أشرف خلقه ،أن يقسم بربه على بعثهم ،وجزائهم بأعمالهم الخبيثة ،وتكذيبهم بالحق{ ،
وَذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ } فإنه وإن كان عسيرًا بل متعذرًا بالنسبة إلى الخلق ،فإن قواهم كلهم ،لو
اجتمعت على إحياء ميت [واحد] ،ما قدروا على ذلك.
صعِقَ
وأما ال تعالى ،فإنه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون ،قال تعالى { :وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َف َ
سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ إِلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ ثُمّ ُنفِخَ فِيهِ ُأخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } .
مَنْ فِي ال ّ
{ { } 8فَآمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَالنّورِ الّذِي أَنْ َزلْنَا وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }
لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث ،وأن ذلك [منهم] موجب كفرهم بال وآياته ،أمر بما يعصم
من الهلكة والشقاء ،وهو اليمان بال ورسوله وكتابه وسماه ال نورًا ،فإن النور ضد الظلمة،
وما في الكتاب الذي أنزله ال من الحكام والشرائع والخبار ،أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل
المدلهمة ،ويمشى بها في حندس الليل البهيم ،وما سوى الهتداء بكتاب ال ،فهي علوم ضررها
أكثر من نفعها ،وشرها أكثر من خيرها ،بل ل خير فيها ول نفع ،إل ما وافق ما جاءت به
الرسل ،واليمان بال ورسوله وكتابه ،يقتضي الجزم التام ،واليقين الصادق بها ،والعمل بمقتضى
ذلك التصديق ،من امتثال الوامر ،واجتناب المناهي { وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازيكم
بأعمالكم الصالحة والسيئة.
يعني :اذكروا يوم الجمع الذي يجمع ال به الولين والخرين ،ويقفهم موقفًا هائلً عظيمًا ،وينبئهم
بما عملوا ،فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلئق ،ويرفع أقوام إلى أعلى عليين ،في الغرف
العاليات ،والمنازل المرتفعات ،المشتملة على جميع اللذات والشهوات ،ويخفض أقوام إلى أسفل
سافلين ،محل الهم والغم ،والحزن ،والعذاب الشديد ،وذلك نتيجة ما قدموه لنفسهم ،وأسلفوه أيام
حياتهم ،ولهذا قال { :ذَِلكَ َيوْمُ ال ّتغَابُنِ } .
أي :يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلئق ،ويغبن المؤمنون الفاسقين ،ويعرف المجرمون أنهم
على غير شيء ،وأنهم هم الخاسرون ،فكأنه قيل :بأي شيء يحصل الفلح والشقاء والنعيم
والعذاب؟
فذكر تعالى أسباب ذلك بقولهَ { :ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ } [أي ]:إيمانًا تامًا ،شاملً لجميع ما أمر ال
باليمان به { ،وَ َي ْع َملْ صَاِلحًا } من الفرائض والنوافل ،من أداء حقوق ال وحقوق عباده { .يُ ْدخِلْهُ
جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } فيها ما تشتهيه النفس ،وتلذ العين ،وتختاره الرواح ،وتحن
إليه القلوب ،ويكون نهاية كل مرغوب { ،خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ } .
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا } أي :كفروا [بها] من غير مستند شرعي ول عقلي ،بل جاءتهم
الدلة والبينات ،فكذبوا بها ،وعاندوا ما دلت عليه.
{ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ خَاِلدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } لنها جمعت كل بؤس وشدة ،وشقاء وعذاب.
شيْءٍ عَلِيمٌ
{ { } 11-13مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ إِلّا بِِإذْنِ اللّ ِه َومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َي ْهدِ قَلْبَ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
* وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ فَإِ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ * اللّهُ لَا ِإلَهَ إِلّا ُهوَ
وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }
يقول تعالى { :مَا َأصَابَ مِنْ ُمصِيبَةٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ } هذا عام لجميع المصائب ،في النفس ،والمال،
والولد ،والحباب ،ونحوهم ،فجميع ما أصاب العباد ،فبقضاء ال وقدره ،قد سبق بذلك علم ال
[تعالى] ،وجرى به قلمه ،ونفذت به مشيئته ،واقتضته حكمته ،والشأن كل الشأن ،هل يقوم العبد
بالوظيفة التي عليه في هذا المقام ،أم ل يقوم بها؟ فإن قام بها ،فله الثواب الجزيل ،والجر
الجميل ،في الدنيا والخرة ،فإذا آمن أنها من عند ال ،فرضي بذلك ،وسلم لمره ،هدى ال قلبه،
فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب ،كما يجري لمن لم يهد ال قلبه ،بل يرزقه الثبات عند
ورودها والقيام بموجب الصبر ،فيحصل له بذلك ثواب عاجل ،مع ما يدخر ال له يوم الجزاء
حسَابٍ } وعلم من هذا أن من لم
من الثواب كما قال تعالى { :إِ ّنمَا ُي َوفّى الصّابِرُونَ أَجْرَ ُهمْ ِبغَيْرِ ِ
يؤمن بال عند ورود المصائب ،بأن لم يلحظ قضاء ال وقدره ،بل وقف مع مجرد السباب ،أنه
يخذل ،ويكله ال إلى نفسه ،وإذا وكل العبد إلى نفسه ،فالنفس ليس عندها إل الجزع والهلع الذي
هو عقوبة عاجلة على العبد ،قبل عقوبة الخرة ،على ما فرط في واجب الصبر .هذا ما يتعلق
بقولهَ { :ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َيهْدِ قَلْ َبهُ } في مقام المصائب الخاص ،وأما ما يتعلق بها من حيث العموم
اللفظي ،فإن ال أخبر أن كل من آمن أي :اليمان المأمور به ،من اليمان بال وملئكته وكتبه
ورسله واليوم الخر والقدر خيره وشره ،وصدق إيمانه بما يقتضيه اليمان من القيام بلوازمه
وواجباته ،أن هذا السبب الذي قام به العبد أكبر سبب لهداية ال له في أحواله وأقواله ،وأفعاله
وفي علمه وعمله.
وهذا أفضل جزاء يعطيه ال لهل اليمان ،كما قال تعالى في الخبار :أن المؤمنين يثبتهم ال
في الحياة الدنيا وفي الخرة.
وأصل الثبات :ثبات القلب وصبره ،ويقينه عند ورود كل فتنة ،فقال { :يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا
بِا ْلقَ ْولِ الثّا ِبتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الْآخِ َرةِ } فأهل اليمان أهدى الناس قلوبًا ،وأثبتهم عند
المزعجات والمقلقات ،وذلك لما معهم من اليمان.
[وقوله { ]:وََأطِيعُوا اللّ َه وَأَطِيعُوا الرّسُولَ } أي :في امتثال أمرهما ،واجتناب نهيهما ،فإن طاعة
ال وطاعة رسوله ،مدار السعادة ،وعنوان الفلح { ،فَإِنْ َتوَلّيْتُمْ } [أي] عن طاعة ال وطاعة
رسوله { ،فَإِ ّنمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ } أي :يبلغكم ما أرسل به إليكم ،بلغًا يبين لكم ويتضح
وتقوم عليكم به الحجة ،وليس بيده من هدايتكم ،ول من حسابكم من شيء ،وإنما يحاسبكم على
القيام بطاعة ال وطاعة رسوله ،أو عدم ذلك ،عالم الغيب والشهادة.
{ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ } أي :هو المستحق للعبادة واللوهية ،فكل معبود سواه فباطل { ،وَعَلَى اللّهِ
فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } أي :فيلعتمدوا عليه في كل أمر نابهم ،وفيما يريدون القيام به ،فإنه ل يتيسر
أمر من المور إل بال ،ول سبيل إلى ذلك إل بالعتماد على ال ،ول يتم العتماد على ال،
حتى يحسن العبد ظنه بربه ،ويثق به في كفايته المر الذي اعتمد عليه به ،وبحسب إيمان العبد
يكون توكله ،فكلما قوي اليمان قوي التوكل
هذا تحذير من ال للمؤمنين ،من الغترار بالزواج والولد ،فإن بعضهم عدو لكم ،والعدو هو
الذي يريد لك الشر ،ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه والنفس مجبولة على محبة الزواج
والولد ،فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة النقياد لمطالب الزواج والولد ،ولو
كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره ،وتقديم مرضاته بما عنده من
الجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ،وأن يؤثروا الخرة على الدنيا
الفانية المنقضية ،ولما كان النهي عن طاعة الزواج والولد ،فيما هو ضرر على العبد،
والتحذير من ذلك ،قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ،أمر تعالى بالحذر منهم ،والصفح عنهم والعفو،
صفَحُوا وَ َتغْفِرُوا فَإِنّ اللّهَ
فإن في ذلك ،من المصالح ما ل يمكن حصره ،فقال { :وَإِنْ َت ْعفُوا وَ َت ْ
غفُورٌ َرحِيمٌ } لن الجزاء من جنس العمل.
َ
فمن عفا عفا ال عنه ،ومن صفح صفح ال عنه ،ومن غفر غفر ال له ،ومن عامل ال فيما
يحب ،وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ،نال محبة ال ومحبة عباده ،واستوثق له أمره.
سهِ
سكُ ْم َومَنْ يُوقَ شُحّ َنفْ ِ
س َمعُوا وَأَطِيعُوا وَأَ ْنفِقُوا خَيْرًا لِأَ ْنفُ ِ
طعْتُ ْم وَا ْ
{ { } 16-18فَا ّتقُوا اللّهَ مَا اسْتَ َ
شكُورٌ حَلِيمٌ *
عفْهُ َلكُمْ وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ * إِنْ ُتقْرِضُوا اللّهَ قَ ْرضًا حَسَنًا ُيضَا ِ
حكِيمُ }
شهَا َدةِ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
يأمر تعالى بتقواه ،التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ،ويقيد ذلك بالستطاعة والقدرة.
فهذه الية ،تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد ،أنه يسقط عنه ،وأنه إذا قدر على بعض
المأمور ،وعجز عن بعضه ،فإنه يأتي بما يقدر عليه ،ويسقط عنه ما يعجز عنه ،كما قال النبي
صلى ال عليه وسلم " :إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
س َمعُوا }
ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع ،ما ل يدخل تحت الحصر ،وقوله { :وَا ْ
أي :اسمعوا ما يعظكم ال به ،وما يشرعه لكم من الحكام ،واعلموا ذلك وانقادوا له { وََأطِيعُوا }
ال ورسوله في جميع أموركم { ،وَأَ ْنفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة ،يكن ذلك
الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والخرة ،فإن الخير كله في امتثال أوامر ال تعالى وقبول
نصائحه ،والنقياد لشرعه ،والشر كله ،في مخالفة ذلك.
ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس ،من النفقة المأمور بها ،وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس،
فإنها تشح بالمال ،وتحب وجوده ،وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة.
فمن وقاه ال شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالنفاق النافع لها { فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ } لنهم
أدركوا المطلوب ،ونجوا من المرهوب ،بل لعل ذلك ،شامل لكل ما أمر به العبد ،ونهي عنه ،فإنه
إن كانت نفسه شحيحة .ل تنقاد لما أمرت به ،ول تخرج ما قبلها ،لم يفلح ،بل خسر الدنيا
والخرة ،وإن كانت نفسه نفسًا سمحة ،مطمئنة ،منشرحة لشرع ال ،طالبة لمرضاة ،فإنها ليس
بينها وبين فعل ما كلفت به إل العلم به ،ووصول معرفته إليها ،والبصيرة بأنه مرض ل تعالى،
وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز.
{ و } مع المضاعفة أيضًا { يغفر َلكُمُ } بسبب النفاق والصدقة ذنوبكم ،فإن الذنوب يكفرها ال
بالصدقات والحسنات { :إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ يُ ْذهِبْنَ السّيّئَاتِ } .
خذُ اللّهُ النّاسَ ِبمَا كَسَبُوا
شكُورٌ حَلِيمٌ } ل يعاجل من عصاه ،بل يمهله ول يهمله { ،وََلوْ ُيؤَا ِ
{ وَاللّهُ َ
سمّى } وال تعالى شكور يقبل من عباده
جلٍ ُم َ
ظهْرِهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّرُ ُهمْ إِلَى َأ َ
مَا تَ َركَ عَلَى َ
اليسير من العمل ،ويجازيهم عليه الكثير من الجر ،ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق
والثقال ،وناء بالتكاليف الثقال ،ومن ترك شيئًا ل ،عوضه ال خيرًا منه.
شهَا َدةِ } أي :ما غاب عن العباد من الجنود التي ل يعلمها إل هو ،وما يشاهدونه
ب وَال ّ
{ عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
حكِيمُ } في خلقه
من المخلوقات { ،ا ْلعَزِيزُ } الذي ل يغالب ول يمانع ،الذي قهر كل الشياء { ،الْ َ
وأمره ،الذي يضع الشياء مواضعها.
{ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ إِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ } أي :أردتم طلقهن { فـ } التمسوا لطلقهن المر المشروع ،ول
تبادروا بالطلق من حين يوجد سببه ،من غير مراعاة لمر ال.
بل { طَّلقُوهُنّ ِلعِدّ ِتهِنّ } أي :لجل عدتهن ،بأن يطلقها زوجها وهي طاهر ،في طهر لم يجامعها
فيه ،فهذا الطلق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة ،بخلف ما لو طلقها وهي حائض ،فإنها
ل تحتسب تلك الحيضة ،التي وقع فيها الطلق ،وتطول عليها العدة بسبب ذلك ،وكذلك لو طلقها
في طهر وطئ فيه ،فإنه ل يؤمن حملها ،فل يتبين و [ل] يتضح بأي عدة تعتد ،وأمر تعالى
بإحصاء العدة ،أي :ضبطها بالحيض إن كانت تحيض ،أو بالشهر إن لم تكن تحيض ،وليست
حاملً ،فإن في إحصائها أداء لحق ال ،وحق الزوج المطلق ،وحق من سيتزوجها بعد[ ،وحقها في
النفقة ونحوها] فإذا ضبطت عدتها ،علمت حالها على بصيرة ،وعلم ما يترتب عليها من الحقوق،
وما لها منها ،وهذا المر بإحصاء العدة ،يتوجه [للزوج] وللمرأة ،إن كانت مكلفة ،وإل فلوليها،
وقوله { :وَا ّتقُوا اللّهَ رَ ّبكُمْ } أي :في جميع أموركم ،وخافوه في حق الزوجات المطلقات ،فـ { لَا
تُخْ ِرجُوهُنّ مِنْ بُيُو ِتهِنّ } مدة العدة ،بل يلزمن بيوتهن الذي طلقها زوجها وهي فيها.
{ وَلَا َيخْرُجْنَ } أي :ل يجوز لهن الخروج منها ،أما النهي عن إخراجها ،فلن المسكن ،يجب
على الزوج للزوجة ،لتكمل فيه عدتها التي هي حق من حقوقه.
وأما النهي عن خروجها ،فلما في خروجها ،من إضاعة حق الزوج وعدم صونه.
شةٍ مُبَيّنَةٍ } أي :بأمر قبيح واضح ،موجب لخراجها ،بحيث يدخل على أهل
{ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ ِبفَاحِ َ
البيت الضرر من عدم إخراجها ،كالذى بالقوال والفعال الفاحشة ،ففي هذه الحال يجوز لهم
إخراجها ،لنها هي التي تسببت لخراج نفسها ،والسكان فيه جبر لخاطرها ،ورفق بها ،فهي
التي أدخلت الضرر على نفسها ،وهذا في المعتدة الرجعية ،وأما البائن ،فليس لها سكنى واجبة،
لن السكن تبع للنفقة ،والنفقة تجب للرجعية دون البائن { ،وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ } [أي ]:التي حددها
لعباده وشرعها لهم ،وأمرهم بلزومها ،والوقوف معهاَ { ،ومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ } بأن لم يقف معها،
سهُ } أي :بخسها حظها ،وأضاع نصيبه من اتباع حدود
بل تجاوزها ،أو قصر عنهاَ { ،فقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ
ال التي هي الصلح في الدنيا والخرة { .لَا تَدْرِي َل َعلّ اللّهَ ُيحْ ِدثُ َبعْدَ ذَِلكَ َأمْرًا } أي :شرع ال
العدة ،وحدد الطلق بها ،لحكم عظيمة :فمنها :أنه لعل ال يحدث في قلب المطلق الرحمة
والمودة ،فيراجع من طلقها ،ويستأنف عشرتها ،فيتمكن من ذلك مدة العدة ،أولعله يطلقها لسبب
منها ،فيزول ذلك السبب في مدة العدة ،فيراجعها لنتفاء سبب الطلق.
وقوله { :فَإِذَا بََلغْنَ أَجََلهُنّ } أي :إذا قاربن انقضاء العدة ،لنهن لو خرجن من العدة ،لم يكن
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } أي :على وجه المعاشرة [الحسنة]،
الزوج مخيرًا بين المساك والفراق { .فََأمْ ِ
والصحبة الجميلة ،ل على وجه الضرار ،وإرادة الشر والحبس ،فإن إمساكها على هذا الوجه ،ل
يجوزَ { ،أوْ فَا ِرقُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } أي :فراقًا ل محذور فيه ،من غير تشاتم ول تخاصم ،ول قهر
لها على أخذ شيء من مالها.
ش ِهدُوا } على طلقها ورجعتها { َذ َويْ عَ ْدلٍ مِ ْنكُمْ } أي :رجلين مسلمين عدلين ،لن في
{ وَأَ ْ
الشهاد المذكور ،سدًا لباب المخاصمة ،وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه.
شهَا َدةَ لِلّهِ } أي :ائتوا بها على وجهها ،من غير زيادة ول نقص،
{ وََأقِيمُوا } أيها الشهداء { ال ّ
واقصدوا بإقامتها وجه ال وحده ول تراعوا بها قريبًا لقرابته ،ول صاحبًا لمحبته { ،ذَِلكُمْ } الذي
ذكرنا لكم من الحكام والحدود { يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ } فإن من يؤمن بال،
واليوم الخر ،يوجب له ذلك أن يتعظ بمواعظ ال ،وأن يقدم لخرته من العمال الصالحة ،ما
يتمكن منها ،بخلف من ترحل اليمان عن قلبه ،فإنه ل يبالي بما أقدم عليه من الشر ،ول يعظم
مواعظ ال لعدم الموجب لذلك ،ولما كان الطلق قد يوقع في الضيق والكرب والغم ،أمر تعالى
بتقواه ،وأن من اتقاه في الطلق وغيره فإن ال يجعل له فرجًا ومخرجًا.
فإذا أراد العبد الطلق ،ففعله على الوجه الشرعي ،بأن أوقعه طلقة واحدة ،في غير حيض ول
طهر قد وطئ فيه فإنه ل يضيق عليه المر ،بل جعل ال له فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة
النكاح إذا ندم على الطلق ،والية ،وإن كانت في سياق الطلق والرجعة ،فإن العبرة بعموم
اللفظ ،فكل من اتقى ال تعالى ،ولزم مرضاة ال في جميع أحواله ،فإن ال يثيبه في الدنيا
والخرة.
ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة ،وكما أن من اتقى ال جعل له
فرجًا ومخرجًا ،فمن لم يتق ال ،وقع في الشدائد والصار والغلل ،التي ل يقدر على التخلص
منها والخروج من تبعتها ،واعتبر ذلك بالطلق ،فإن العبد إذا لم يتق ال فيه ،بل أوقعه على
الوجه المحرم ،كالثلث ونحوها ،فإنه ل بد أن يندم ندامة ل يتمكن من استدراكها والخروج
منها.
{ َومَنْ يَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ } أي :في أمر دينه ودنياه ،بأن يعتمد على ال في جلب ما ينفعه ودفع ما
يضره ،ويثق به في تسهيل ذلك { َف ُهوَ حَسْ ُبهُ } أي :كافيه المر الذي توكل عليه به ،وإذا كان
المر في كفالة الغني القوي [العزيز] الرحيم ،فهو أقرب إلى العبد من كل شيء ،ولكن ربما أن
الحكمة اللهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى { :إِنّ اللّهَ بَاِلغُ َأمْ ِرهِ } أي:
شيْءٍ َقدْرًا } أي :وقتًا ومقدارًا ،ل يتعداه
ج َعلَ اللّهُ ِل ُكلّ َ
ل بد من نفوذ قضائه وقدره ،ولكنه { قَدْ َ
ول يقصر عنه.
حضْنَ
شهُ ٍر وَاللّائِي َلمْ يَ ِ
{ { } 4-5وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْل َمحِيضِ مِنْ نِسَا ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ َفعِدّ ُتهُنّ َثلَاثَةُ أَ ْ
ج َعلْ لَهُ مِنْ َأمْ ِرهِ ُيسْرًا * َذِلكَ َأمْرُ اللّهِ
حمَْلهُنّ َومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَنْ َي َ
وَأُولَاتُ الَْأ ْ
أَنْزَلَهُ ِإلَ ْيكُ ْم َومَنْ يَتّقِ اللّهَ ُي َكفّرْ عَنْهُ سَيّئَا ِت ِه وَ ُيعْظِمْ لَهُ َأجْرًا }
لما ذكر تعالى أن الطلق المأمور به يكون لعدة النساء ،ذكر تعالى العدة ،فقال:
{ وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْلمَحِيضِ مِنْ نِسَا ِئكُمْ } بأن كن يحضن ،ثم ارتفع حيضهن ،لكبر أو غيره ،ولم
يرج رجوعه ،فإن عدتها ثلثة أشهر ،جعل لكل شهر ،مقابلة حيضة.
حضْنَ } أي :الصغار ،اللئي لم يأتهن الحيض بعد ،و البالغات اللتي لم يأتهن
{ وَاللّائِي لَمْ يَ ِ
حيض بالكلية ،فإنهن كاليسات ،عدتهن ثلثة أشهر ،وأما اللئي يحضن ،فذكر ال عدتهن في
حمَالِ أَجَُلهُنّ } أي:
سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [وقوله { ]:وَأُولَاتُ الَْأ ْ
طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
قوله { :وَا ْلمُ َ
حمَْلهُنّ } أي :جميع ما في بطونهن ،من واحد ،ومتعدد ،ول عبرة حينئذ،
ضعْنَ َ
عدتهن { أَنْ َي َ
ج َعلْ لَهُ مِنْ َأمْ ِرهِ يُسْرًا } أي :من اتقى ال تعالى ،يسر له
بالشهر ول غيرهاَ { ،ومَنْ يَتّقِ اللّهَ يَ ْ
المور ،وسهل عليه كل عسير.
{ ذَِلكَ } [أي ]:الحكم الذي بينه ال لكم { َأمْرُ اللّهِ أَنْزََلهُ إِلَ ْيكُمْ } لتمشوا عليه[ ،وتأتموا] وتقوموا به
وتعظموه.
تقدم أن ال نهى عن إخراج المطلقات عن البيوت وهنا أمر بإسكانهن وقدر السكان بالمعررف،
وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها ،بحسب وجد الزوج وعسره { ،وَلَا ُتضَارّوهُنّ لِ ُتضَيّقُوا عَلَ ْيهِنّ
} أي :ل تضاروهن ،عند سكناهن بالقول أو الفعل ،لجل أن يمللن ،فيخرجن من البيوت ،قبل
تمام العدة ،فتكونوا ،أنتم المخرجين لهن ،وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن ،ونهاهن عن
الخروج ،وأمر بسكناهن ،على وجه ل يحصل به عليهن ،ضرر ول مشقة ،وذلك راجع إلى
حمَْلهُنّ } وذلك لجل
ضعْنَ َ
علَ ْيهِنّ حَتّى َي َ
ح ْملٍ فَأَ ْنفِقُوا َ
العرف { ،وَإِنْ كُنّ } أي :المطلقات { أُولَاتِ َ
الحمل الذي في بطنها ،إن كانت بائنًا ،ولها ولحملها إن كانت رجعية ،ومنتهى النفقة حتى يضعن
ضعْنَ َل ُكمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ
حملهن فإذا وضعن حملهن ،فإما أن يرضعن أولدهن أو ل { ،فَإِنْ أَ ْر َ
} المسماة لهن ،إن كان مسمى ،وإل فأجر المثل { ،وَأْ َتمِرُوا بَيْ َن ُكمْ ِب َمعْرُوفٍ } أي :وليأمر كل
واحد من الزوجين ومن غيرهما ،الخر بالمعروف ،وهو كل ما فيه منفعة ومصلحة في الدنيا
والخرة ،فإن الغفلة عن الئتمار بالمعروف ،يحصل فيه من الشر والضرر ،ما ل يعلمه إل ال،
وفي الئتمار ،تعاون على البر والتقوى ،ومما يناسب هذا المقام ،أن الزوجين عند الفراق وقت
العدة ،خصوصًا إذا ولد لهما ولد في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر لجل النفقة عليها
وعلى الولد مع الفراق ،الذي في الغالب ما يصدر إل عن بغض ،ويتأثر منه البغض شيء كثير
فكل منهما يؤمر بالمعروف ،والمعاشرة الحسنة ،وعدم المشاقة والمخاصمة وينصح على ذلك.
{ وَإِنْ َتعَاسَرْ ُتمْ } بأن لم يتفقوا على إرضاعها لولدها ،فلترضع له أخرى غيرها { فَلَا جُنَاحَ
عَلَ ْيكُمْ ِإذَا سَّلمْ ُتمْ مَا آتَيْ ُتمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه ،فإن لم يقبل إل
ثدي أمه ،تعينت لرضاعه ،ووجب عليها ،وأجبرت إن امتنعت ،وكان لها أجرة المثل إن لم يتفقا
على مسمى ،وهذا مأخوذ من الية الكريمة من حيث المعنى ،فإن الولد لما كان في بطن أمه مدة
الحمل ،ليس له خروج منه عين تعالى على وليه النفقة ،فلما ولد ،وكان يمكن أن يتقوت من
أمه ،ومن غيرها ،أباح تعالى ،المرين ،فإذا ،كان بحالة ل يمكن أن يتقوت إل من أمه ،كان
بمنزلة الحمل ،وتعينت أمه طريقًا لقوته ،ثم قدر تعالى النفقة ،بحسب حال الزوج فقال { :لِيُ ْنفِقْ ذُو
سعَتِهِ }
سعَةٍ مِنْ َ
َ
علَيْهِ رِ ْزقُهُ } أي :ضيق عليه { فَلْيُ ْنفِقْ ِممّا آتَاهُ اللّهُ } من الرزق.
{ َومَنْ قُدِرَ َ
{ لَا ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسًا إِلّا مَا آتَاهَا } وهذا مناسب للحكمة والرحمة اللهية حيث جعل كل بحسبه،
وخفف عن المعسر ،وأنه ل يكلفه إل ما آتاه ،فل يكلف ال نفسًا إل وسعها ،في باب النفقة
ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ عُسْرٍ ُيسْرًا } وهذه بشارة للمعسرين ،أن ال تعالى سيزيل عنهم
وغيرها { .سَيَ ْ
الشدة ،ويرفع عنهم المشقة { ،فَإِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ يُسْرًا إِنّ َمعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا }
يخبر تعالى عن إهلكه المم العاتية ،والقرون المكذبة للرسل أن كثرتهم وقوتهم ،لم تنفعهم شيئًا،
حين جاءهم الحساب الشديد ،والعذاب الليم ،وأن ال أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم
السيئة.
ومع عذاب الدنيا ،فإن ال أعد لهم في الخرة عذابا شديدًا { ،فَا ّتقُوا اللّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي :يا
ذوي العقول ،التي تفهم عن ال آياته وعبره ،وأن الذي أهلك القرون الماضية ،بتكذيبهم ،أن من
بعدهم مثلهم ،ل فرق بين الطائفتين.
ثم ذكر عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه ،الذي أنزله على رسوله محمد صلى ال عليه
وسلم ،ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية ،إلى نور العلم واليمان والطاعة ،فمن
ل صَالِحًا } من الواجبات
الناس ،من آمن به ،ومنهم من لم يؤمن [به]َ { ،ومَنْ ُي ْؤمِنْ بِاللّ ِه وَ َي ْعمَ ْ
والمستحباتُ { .يدْخِ ْلهُ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ } فيها من النعيم المقيم ،ما ل عين رأت ول
حسَنَ اللّهُ لَهُ رِ ْزقًا } [أي ]:ومن لم
أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر { ،خَالِدِينَ فِيهَا أَ َبدًا قَدْ أَ ْ
يؤمن بال ورسوله ،فأولئك أصحاب النار ،هم فيها خالدون.
سمَاوَاتٍ َومِنَ الْأَ ْرضِ مِثَْلهُنّ يَتَنَ ّزلُ الَْأمْرُ بَيْ َنهُنّ لِ َتعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَلَى
{ { } 12اللّهُ الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ
شيْءٍ عِ ْلمًا }
شيْءٍ قَدِي ٌر وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ ِب ُكلّ َ
ُكلّ َ
[ثم] أخبر [تعالى] أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والرضين السبع ومن فيهن ،وما
بينهن ،وأنزل المر ،وهو الشرائع والحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم،
وكذلك الوامر الكونية والقدرية التي يدبر بها الخلق ،كل ذلك لجل أن يعرفه العباد ويعلموا
إحاطة قدرته بالشياء كلها ،وإحاطة علمه بجميع الشياء فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة وأسمائه
الحسنى وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه ،فهذه الغاية المقصودة من الخلق والمر معرفة ال وعبادته،
فقام بذلك الموفقون من عباد ال الصالحين ،وأعرض عن ذلك ،الظالمون المعرضون.
جكَ
حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ أَ ْزوَا ِ
حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَا أَ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 1-5بِ ْ
حكِيمُ * وَإِذْ َأسَرّ
غفُورٌ َرحِيمٌ * قَدْ فَ َرضَ اللّهُ َلكُمْ َتحِلّةَ أَ ْيمَا ِن ُك ْم وَاللّهُ َموْلَاكُ ْم وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
وَاللّهُ َ
علَيْهِ عَ ّرفَ َب ْعضَ ُه وَأَعْ َرضَ عَنْ َب ْعضٍ
ظهَ َرهُ اللّهُ َ
النّ ِبيّ إِلَى َب ْعضِ أَ ْزوَاجِهِ حَدِيثًا فََلمّا نَبَّأتْ بِهِ وَأَ ْ
ص َغتْ قُلُو ُب ُكمَا
فََلمّا نَبّأَهَا بِهِ قَاَلتْ مَنْ أَنْبََأكَ هَذَا قَالَ نَبّأَ ِنيَ ا ْلعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّهِ َفقَ ْد َ
ظهِيرٌ * عَسَى
ن وَا ْلمَلَا ِئكَةُ َبعْدَ ذَِلكَ َ
ل َوصَالِحُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ ُهوَ َموْلَا ُه وَجِبْرِي ُ
رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُبْدَِلهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ مُسِْلمَاتٍ ُم ْؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَا ِئحَاتٍ ثَيّبَاتٍ
وَأَ ْبكَارًا }
هذا عتاب من ال لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم ،حين حرم على نفسه سريته "مارية" أو شرب
العسل ،مراعاة لخاطر بعض زوجاته ،في قصة معروفة ،فأنزل ال [تعالى] هذه اليات { يَا أَ ّيهَا
حلّ اللّهُ َلكَ } من
النّ ِبيّ } أي :يا أيها الذي أنعم ال عليه بالنبوة والوحي والرسالة { ِلمَ تُحَرّمُ مَا َأ َ
الطيبات ،التي أنعم ال بها عليك وعلى أمتك.
{ َقدْ فَ َرضَ اللّهُ َل ُكمْ تَحِلّةَ أَ ْيمَا ِنكُمْ } أي :قد شرع لكم ،وقدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث ،وما
حلّ
به الكفارة بعد الحنث ،وذلك كما في قوله تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا ُتحَ ّرمُوا طَيّبَاتِ مَا أَ َ
ط ِعمُونَ أَهْلِي ُكمْ َأوْ
سطِ مَا تُ ْ
طعَامُ عَشَ َرةِ مَسَاكِينَ مِنْ َأوْ َ
اللّهُ َلكُ ْم وَلَا َتعْتَدُوا } إلى أن قالَ { :ف َكفّارَتُهُ إِ ْ
سوَ ُتهُمْ َأوْ تَحْرِيرُ َرقَبَةٍ َفمَنْ لَمْ يَجِدْ َفصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ ذَِلكَ كَفّا َرةُ أَ ْيمَا ِنكُمْ ِإذَا حََلفْتُمْ } .
كِ ْ
فكل من حرم حللًا عليه ،من طعام أو شراب أو سرية ،أو حلف يمينًا بال ،على فعل أو ترك ،ثم
حنث أو أراد الحنث ،فعليه هذه الكفارة المذكورة ،وقوله { :وَاللّهُ َموْلَاكُمْ } أي :متولي أموركم،
ومربيكم أحسن تربية ،في أمور دينكم ودنياكم ،وما به يندفع عنكم الشر ،فلذلك فرض لكم تحلة
حكِيمُ } الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم ،وهو الحكيم
أيمانكم ،لتبرأ ذممكم { ،وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
في جميع ما خلقه وحكم به ،فلذلك شرع لكم من الحكام ،ما يعلم أنه موافق لمصالحكم ،ومناسب
لحوالكم.
حدِيثًا } قال كثير من المفسرين :هي حفصة أم
[وقوله { ]:وَإِذْ أَسَرّ النّ ِبيّ إِلَى َب ْعضِ أَ ْزوَاجِهِ َ
المؤمنين رضي ال عنها ،أسر لها النبي صلى ال عليه وسلم حديثًا ،وأمر أن ل تخبر به أحدًا،
فحدثت به عائشة رضي ال عنهما ،وأخبره ال بذلك الخبر الذي أذاعته ،فعرفها صلى ال عليه
وسلم ،ببعض ما قالت ،وأعرض عن بعضه ،كرمًا منه صلى ال عليه وسلم ،وحلمًا ،فـ { قَاَلتِ }
له { :مَنْ أَنْبََأكَ َهذَا } الخبر الذي لم يخرج منا؟ { قَالَ نَبّأَ ِنيَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلخَبِيرُ } الذي ل تخفى عليه
خافية ،يعلم السر وأخفى.
وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما ل يخفى ،ثم خوفهما أيضا ،بحالة تشق على النساء
عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُ ْبدِلَهُ
غاية المشقة ،وهو الطلق ،الذي هو أكبر شيء عليهن ،فقالَ { :
أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } .
عسَى رَبّهُ إِنْ طَّل َقكُنّ أَنْ يُ ْبدِلَهُ أَ ْزوَاجًا خَيْرًا مِ ْنكُنّ } أي :فل ترفعن عليه ،فإنه لو طلقكن ،لم
{ َ
يضق عليه المر ،ولم يكن مضطرًا إليكن ،فإنه سيلقى ويبدله ال أزواجًا خيرًا منكن ،دينا
وجمالًا ،وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد ،ول يلزم وجوده ،فإنه ما طلقهن ،ولو طلقهن ،لكان
ما ذكره ال من هذه الزواج الفاضلت ،الجامعات بين السلم ،وهو القيام بالشرائع الظاهرة،
واليمان ،وهو :القيام بالشرائع الباطنة ،من العقائد وأعمال القلوب.
القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها { تَائِبَاتٍ } عما يكرهه ال ،فوصفهن بالقيام بما يحبه ال،
والتوبة عما يكرهه ال { ،ثَيّبَاتٍ وَأَ ْبكَارًا } أي :بعضهن ثيب ،وبعضهن أبكار ،ليتنوع صلى ال
عليه وسلم ،فيما يحب ،فلما سمعن -رضي ال عنهن -هذا التخويف والتأديب ،بادرن إلى رضا
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن ،فصرن أفضل نساء المؤمنين،
وفي هذا دليل على أن ال ل يختار لرسوله صلى ال عليه وسلم إل أكمل الحوال وأعلى المور،
فلما اختار ال لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن.
غلَاظٌ
س وَا ْلحِجَا َرةُ عَلَ ْيهَا مَلَا ِئكَةٌ ِ
سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارًا َوقُو ُدهَا النّا ُ
{ { } 6يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَ ْنفُ َ
شِدَادٌ لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }
سكُ ْم وَأَ ْهلِيكُمْ نَارًا } موصوفة بهذه الوصاف الفظيعة ،ووقاية النفس بإلزامها أمر
فـ { قُوا أَ ْنفُ َ
ال ،والقيام بأمره امتثالًا ،ونهيه اجتنابًا ،والتوبة عما يسخط ال ويوجب العذاب ،ووقاية الهل
[والولد] ،بتأديبهم وتعليمهم ،وإجبارهم على أمر ال ،فل يسلم العبد إل إذا قام بما أمر ال به في
نفسه ،وفيما يدخل تحت وليته من الزروجات والولد وغيرهم ممن هو تحت وليته وتصرفه.
ووصف ال النار بهذه الوصاف ،ليزجر عباده عن التهاون بأمره فقالَ { :وقُودُهَا النّاسُ
جهَنّمَ أَنْتُمْ َلهَا وَارِدُونَ } .
صبُ َ
ح َ
حجَا َرةُ } كما قال تعالى { :إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
وَالْ ِ
{ عَلَ ْيهَا مَلَا ِئكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } أي :غليظة أخلقهم ،عظيم انتهارهم ،يفزعون بأصواتهم ويخيفون
بمرآهم ،ويهينون أصحاب النار بقوتهم ،ويمتثلون فيهم أمر ال ،الذي حتم عليهم العذاب وأوجب
عليهم شدة العقاب { ،لَا َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } وهذا فيه أيضًا مدح للملئكة
الكرام ،وانقيادهم لمر ال ،وطاعتهم له في كل ما أمرهم به.
{ { } 7يَا أَ ّيهَا الّذِينَ كَفَرُوا لَا َتعْتَذِرُوا الْ َيوْمَ إِ ّنمَا تُجْ َزوْنَ مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }
أي :يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ فيقال لهم { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َكفَرُوا لَا َتعْ َتذِرُوا الْ َيوْمَ }
[أي ]:فإنه ذهب وقت العتذار ،وزال نفعه ،فلم يبق الن إل الجزاء على العمال ،وأنتم لم
تقدموا إل الكفر بال ،والتكذيب بآياته ،ومحاربة رسله وأوليائه.
قد أمر ال بالتوبة النصوح في هذه الية ،ووعد عليها بتكفير السيئات ،ودخول الجنات ،والفوز
والفلح ،حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم ،ويمشون بضيائه ،ويتمتعون بروحه
وراحته ،ويشفقون إذا طفئت النوار ،التي ل تعطى المنافقين ،ويسألون ال أن يتمم لهم نورهم
فيستجيب ال دعوتهم ،ويوصلهم ما معهم من النور واليقين ،إلى جنات النعيم ،وجوار الرب
الكريم ،وكل هذا من آثار التوبة النصوح.
والمراد بها :التوبة العامة الشاملة للذنوب كلها ،التي عقدها العبد ل ،ل يريد بها إل وجهه
والقرب منه ،ويستمر عليها في جميع أحواله.
يأمر [ال] تعالى نبيه صلى ال عليه وسلم ،بجهاد الكفار والمنافقين ،والغلظ عليهم في ذلك،
وهذا شامل لجهادهم ،بإقامة الحجة [عليهم ودعوتهم] بالموعظة الحسنة ،وإبطال ما هم عليه من
أنواع الضلل ،وجهادهم بالسلح والقتال لمن أبى أن يجيب دعوة ال وينقاد لحكمه ،فإن هذا
يجاهد ويغلظ له ،وأما المرتبة الولى ،فتكون بالتي هي أحسن ،فالكفار والمنافقون لهم عذاب في
الدنيا ،بتسليط ال لرسوله وحزبه [عليهم و] على جهادهم وقتالهم ،وعذاب النار في الخرة وبئس
المصير ،الذي يصير إليها كل شقي خاسر.
هذان المثلن اللذان ضربهما ال للمؤمنين والكافرين ،ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن وقربه
منه ل يفيده شيئًا ،وأن اتصال المؤمن بالكافر ل يضره شيئًا مع قيامه بالواجب عليه.
فكأن في ذلك إشارة وتحذيرًا لزوجات النبي صلى ال عليه وسلم ،عن المعصية ،وأن اتصالهن به
صلى ال عليه وسلم ،ل ينفعهن شيئًا مع الساءة ،فقال:
{ فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } بأن نفخ جبريل [عليه السلم] في جيب درعها فوصلت نفخته إلى مريم،
فجاء منها عيسى ابن مريم [عليه السلم] ،الرسول الكريم والسيد العظيم.
{ َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِهِ } وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة ،فإن التصديق بكلمات ال،
يشمل كلماته الدينية والقدرية ،والتصديق بكتبه ،يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق ،ول يكون
ذلك إل بالعلم والعمل[ ،ولهذا قال] { َوكَانَتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ } أي :المطيعين ل ،المداومين على
طاعته بخشية وخشوع ،وهذا وصف لها بكمال العمل ،فإنها رضي ال عنها صديقة ،والصديقية:
هي كمال العلم والعمل.
تمت ول الحمد
{ تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ } أي :تعاظم وتعالى ،وكثر خيره ،وعم إحسانه ،من عظمته أن بيده ملك
العالم العلوي والسفلي ،فهو الذي خلقه ،ويتصرف فيه بما شاء ،من الحكام القدرية ،والحكام
الدينية ،التابعة لحكمته ،ومن عظمته ،كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء ،وبها أوجد ما
أوجد من المخلوقات العظيمة ،كالسماوات والرض.
عمَلًا } أي:
وخلق الموت والحياة أي :قدر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم؛ { لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَحْسَنُ َ
أخلصه وأصوبه ،فإن ال خلق عباده ،وأخرجهم لهذه الدار ،وأخبرهم أنهم سينقلون منها ،وأمرهم
ونهاهم ،وابتلهم بالشهوات المعارضة لمره ،فمن انقاد لمر ال وأحسن العمل ،أحسن ال له
الجزاء في الدارين ،ومن مال مع شهوات النفس ،ونبذ أمر ال ،فله شر الجزاء.
{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ } الذي له العزة كلها ،التي قهر بها جميع الشياء ،وانقادت له المخلوقات.
{ ا ْل َغفُورُ } عن المسيئين والمقصرين والمذنبين ،خصوصًا إذا تابوا وأنابوا ،فإنه يغفر ذنوبهم ،ولو
بلغت عنان السماء ،ويستر عيوبهم ،ولو كانت ملء الدنيا.
سمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي :كل واحدة فوق الخرى ،ولسن طبقة واحدة ،وخلقها في
{ الّذِي خََلقَ سَ ْبعَ َ
حمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ } أي :خلل ونقص.
غاية الحسن والتقان { مَا تَرَى فِي خَ ْلقِ الرّ ْ
وإذا انتفى النقص من كل وجه ،صارت حسنة كاملة ،متناسبة من كل وجه ،في لونها وهيئتها
وارتفاعها ،وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات ،الثوابت منهن والسيارات.
ولما كان كمالها معلومًا ،أمر [ال] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها ،قال:
{ فَا ْرجِعِ الْ َبصَرَ } أي :أعده إليها ،ناظرًا معتبرًا { َهلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي :نقص واختلل.
حسِيرٌ }
جعِ الْ َبصَرَ كَرّتَيْنِ } المراد بذلك :كثرة التكرار { يَ ْنقَِلبْ إِلَ ْيكَ الْ َبصَرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ َ
{ ُثمّ ارْ ِ
أي :عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا ،ولو حرص غاية الحرص.
سمَاءَ الدّنْيَا } التي ترونها وتليكمِ { ،ب َمصَابِيحَ } وهي :النجوم ،على اختلفها
أي :ولقد جملنا { ال ّ
في النور والضياء ،فإنه لول ما فيها من النجوم ،لكانت سقفًا مظلمًا ،ل حسن فيه ول جمال.
ولكن جعل ال هذه النجوم زينة للسماء[ ،وجمال] ،ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر
والبحر ،ول ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ،أن يكون كثير من النجوم فوق
السماوات السبع ،فإن السماوات شفافة ،وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ،وإن لم تكن الكواكب
جعَلْنَاهَا } أي :المصابيح { رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء ،فجعل
فيها { ،وَ َ
ال هذه النجوم ،حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الرض ،فهذه الشهب التي ترمى من
سعِيرِ } لنهم تمردوا
النجوم ،أعدها ال في الدنيا للشياطين { ،وَأَعْتَدْنَا َلهُمْ } في الخرة { عَذَابِ ال ّ
على ال ،وأضلوا عباده ،ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ،قد أعد ال لهم عذاب السعير ،فلهذا
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } الذي يهان أهله غاية الهوان.
قال { :وَلِلّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّب ِهمْ عَذَابُ َ
{ َتكَادُ َتمَيّزُ مِنَ ا ْلغَيْظِ } أي :تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا ،وتتقطع من شدة غيظها
على الكفار ،فما ظنك ما تفعل بهم ،إذا حصلوا فيها؟" ثم ذكر توبيخ الخزنة لهلها فقال { :كُّلمَا
أُ ْلقِيَ فِيهَا َفوْجٌ سَأََلهُمْ خَزَنَ ُتهَا أََلمْ يَأْ ِتكُمْ َنذِيرٌ } ؟ أي :حالكم هذا واستحقاقكم النار ،كأنكم لم تخبروا
عنها ،ولم تحذركم النذر منها.
والدلة العقلية :المعرفة للهدى من الضلل ،والحسن من القبيح ،والخير من الشر ،وهم -في
اليمان -بحسب ما من ال عليهم به من القتداء بالمعقول والمنقول ،فسبحان من يختص بفضله
من يشاء ،ويمن على من يشاء من عباده ،ويخذل من ل يصلح للخير.
حقًا
سْقال تعالى عن هؤلء الداخلين للنار ،المعترفين بظلمهم وعنادهم { :فَاعْتَ َرفُوا بِذَنْ ِب ِهمْ فَ ُ
سعِيرِ } أي :بعدًا لهم وخسارة وشقاء.
لَِأصْحَابِ ال ّ
فما أشقاهم وأرداهم ،حيث فاتهم ثواب ال ،وكانوا ملزمين للسعير ،التي تستعر في أبدانهم،
وتطلع على أفئدتهم!
وأعظم من ذلك وأكبر ،رضا الرحمن ،الذي يحله ال على أهل الجنان.
ق وَ ُهوَ
علِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ * أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََل َ
جهَرُوا ِبهِ إِنّهُ َ
{ { } 14 - 13وَأَسِرّوا َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ
اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }
ثم قال -مستدل بدليل عقلي على علمه { :-أَلَا َيعْلَمُ مَنْ خََلقَ } فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه،
كيف ل يعلمه؟! { وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره ،حتى أدرك السرائر والضمائر،
والخبايا [والخفايا والغيوب] ،وهو الذي { يعلم السر وأخفى } ومن معاني اللطيف ،أنه الذي يلطف
بعبده ووليه ،فيسوق إليه البر والحسان من حيث ل يشعر ،ويعصمه من الشر ،من حيث ل
يحتسب ،ويرقيه إلى أعلى المراتب ،بأسباب ل تكون من [العبد] على بال ،حتى إنه يذيقه المكاره،
ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة ،والمقامات النبيلة.
ج َعلَ َل ُكمُ الْأَ ْرضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُوا مِنْ رِ ْزقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ }
{ ُ { } 15هوَ الّذِي َ
أي :هو الذي سخر لكم الرض وذللها ،لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم ،من غرس وبناء
وحرث ،وطرق يتوصل بها إلى القطار النائية والبلدان الشاسعة { ،فَامْشُوا فِي مَنَاكِ ِبهَا } أي:
لطلب الرزق والمكاسب.
{ َوكُلُوا مِنْ رِ ْزقِ ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ } أي :بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها ال امتحانًا ،وبلغة
يتبلغ بها إلى الدار الخرة ،تبعثون بعد موتكم ،وتحشرون إلى ال ،ليجازيكم بأعمالكم الحسنة
والسيئة.
سفَ ِبكُمُ الْأَ ْرضَ فَِإذَا ِهيَ َتمُورُ * أَمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي
سمَاءِ أَنْ َيخْ ِ
{ { } 18 - 16أََأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبًا فَسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ َنذِيرِ * وََلقَدْ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ َفكَ ْيفَ كَانَ
سمَاءِ أَنْ يُرْ ِ
ال ّ
َنكِيرِ }
هذا تهديد ووعيد ،لمن استمر في طغيانه وتعديه ،وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة ،فقال:
سمَاءِ } وهو ال تعالى ،العالي على خلقه.
{ أََأمِنْ ُتمْ مَنْ فِي ال ّ
سفَ ِبكُمُ الْأَ ْرضَ فَإِذَا ِهيَ َتمُورُ } بكم وتضطرب ،حتى تتلفكم وتهلككم
{ أَنْ يَخْ ِ
سلَ عَلَ ْي ُكمْ حَاصِبًا } أي :عذابًا من السماء يحصبكم ،وينتقم ال
سمَاءِ أَنْ يُ ْر ِ
{ َأمْ َأمِنْتُمْ مَنْ فِي ال ّ
منكم { َفسَ َتعَْلمُونَ كَ ْيفَ نَذِيرِ } أي :كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب ،فل تحسبوا أن أمنكم
من ال أن يعاقبكم بعقاب من الرض ومن السماء ينفعكم ،فستجدون عاقبة أمركم ،سواء طال
عليكم الزمان أو قصر ،فإن من قبلكم ،كذبوا كما كذبتم ،فأهلكهم ال تعالى ،فانظروا كيف إنكار
ال عليهم ،عاجلهم بالعقوبة الدنيوية ،قبل عقوبة الخرة ،فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.
شيْءٍ
حمَنُ إِنّهُ ِب ُكلّ َ
س ُكهُنّ إِلّا الرّ ْ
ت وَ َيقْبِضْنَ مَا ُيمْ ِ
{ َ { } 19أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْوقَهُمْ صَافّا ٍ
َبصِيرٌ }
وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها ال ،وسخر لها الجو والهواء ،تصف
فيه أجنحتها للطيران ،وتقبضها للوقوع ،فتظل سابحة في الجو ،مترددة فيه بحسب إرادتها
وحاجتها.
حمَنُ } فإنه الذي سخر لهن الجو ،وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة
س ُكهُنّ إِلّا الرّ ْ
{ مَا ُيمْ ِ
للطيران ،فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها ،دلته على قدرة الباري ،وعنايته الربانية ،وأنه
شيْءٍ َبصِيرٌ } فهو المدبر لعباده بما يليق
الواحد الحد ،الذي ل تنبغي العبادة إل له { ،إِنّهُ ِب ُكلّ َ
بهم ،وتقتضيه حكمته.
يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره ،المعرضين عن الحقَ { :أمّنْ هَذَا الّذِي ُهوَ جُ ْندٌ َلكُمْ يَ ْنصُ ُركُمْ
حمَنِ } أي :ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا ،فيدفعه عنكم؟ أي :من الذي ينصركم
مِنْ دُونِ الرّ ْ
على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل ،وغيره من الخلق ،لو اجتمعوا
على نصر عبد ،لم ينفعوه مثقال ذرة ،على أي عدو كان ،فاستمرار الكافرين على كفرهم ،بعد أن
علموا أنه ل ينصرهم أحد من دون الرحمن ،غرور وسفه.
سكَ رِ ْزقَهُ } أي :الرزق كله من ال ،فلو أمسك عنكم رزقه ،فمن
{ َأمّنْ هَذَا الّذِي يَرْ ُز ُقكُمْ إِنْ َأمْ َ
الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق ل يقدرون على رزق أنفسهم ،فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم ،الذي
ل يصيب العباد نعمة إل منه ،هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ،ولكن الكافرون { لَجّوا } أي:
استمروا { فِي عُ ُتوّ } أي :قسوة وعدم لين للحق { وَ ُنفُورٍ } أي :شرود عن الحق.
أي :أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلل ،غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه ،فصار الحق
عنده باطلًا ،والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق ،مؤثرًا له ،عاملًا به ،يمشي على الصراط
المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين ،يعلم الفرق
بينهما ،والمهتدي من الضال منهما ،والحوال أكبر شاهد من القوال.
شكُرُونَ * ُقلْ
سمْ َع وَالْأَ ْبصَا َر وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ
ج َعلَ َلكُمُ ال ّ
{ ُ { } 26 - 23قلْ ُهوَ الّذِي أَنْشََأكُ ْم وَ َ
ض وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ * وَ َيقُولُونَ مَتَى هَذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَا ِدقِينَ * ُقلْ إِ ّنمَا
ُهوَ الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْر ِ
ا ْلعِلْمُ عِ ْندَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }
يقول تعالى -مبينًا أنه المعبود وحده ،وداعيًا عباده إلى شكره ،وإفراده بالعبادةُ { :-قلْ ُهوَ الّذِي
أَنْشََأكُمْ } أي :أوجدكم من العدم ،من غير معاون له ول مظاهر ،ولما أنشأكم ،كمل لكم الوجود
بالسمع والبصار والفئدة ،التي هي أنفع أعضاء البدن وأكمل القوى الجسمانية ،ولكنه مع هذا
شكُرُونَ } ال ،قليل منكم الشاكر ،وقليل منكم الشكر.
النعام { قَلِيلًا مَا تَ ْ
{ ُقلْ ُهوَ الّذِي ذَرََأكُمْ فِي الْأَ ْرضِ } أي :بثكم في أقطارها ،وأسكنكم في أرجائها ،وأمركم ،ونهاكم،
وأسدى عليكم من النعم ،ما به تنتفعون ،ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.
{ مَتَى َهذَا ا ْلوَعْدُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ } جعلوا علمة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه ،وهذا ظلم
وعناد فإنما العلم عند ال ل عند أحد من الخلق ،ول ملزمة بين صدق هذا الخبر وبين الخبار
بوقته ،فإن الصدق يعرف بأدلته ،وقد أقام ال من الدلة والبراهين على صحته ما ل يبقى معه
أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.
ت وُجُوهُ الّذِينَ َكفَرُوا َوقِيلَ هَذَا الّذِي كُنْتُمْ ِبهِ تَدّعُونَ * ُقلْ
{ { } 30 - 27فََلمّا رََأ ْوهُ زُ ْلفَةً سِي َئ ْ
حمَنُ
حمَنَا َفمَنْ يُجِيرُ ا ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُقلْ ُهوَ الرّ ْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهَْلكَ ِنيَ اللّ ُه َومَنْ َم ِعيَ َأوْ َر ِ
غوْرًا َفمَنْ
آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ َت َوكّلْنَا فَسَ َتعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَا ُؤكُمْ َ
يَأْتِيكُمْ ِبمَاءٍ َمعِينٍ }
يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا ،فإذا كان يوم الجزاء ،ورأوا
العذاب منهم { زُ ْلفَةً } أي :قريبًا ،ساءهم ذلك وأفظعهم ،وقلقل أفئدتهم ،فتغيرت لذلك وجوههم،
ووبخوا على تكذيبهم ،وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون ،فاليوم رأيتموه عيانًا ،وانجلى لكم
المر ،وتقطعت بكم السباب ولم يبق إل مباشرة العذاب.
ولما كان المكذبون للرسول صلى ال عليه وسلم[ ،الذين] يردون دعوته ،ينتظرون هلكه،
ويتربصون به ريب المنون ،أمره ال أن يقول لهم :أنتم وإن حصلت لكم أمانيكم وأهلكني ال
ومن معي ،فليس ذلك بنافع لكم شيئًا ،لنكم كفرتم بآيات ال ،واستحققتم العذاب ،فمن يجيركم من
عذاب أليم قد تحتم وقوعه بكم؟ فإذًا ،تعبكم وحرصكم على هلكي غير مفيدة ،ول مجد لكم شيئًا.
ومن قولهم ،إنهم على هدى ،والرسول على ضلل ،أعادوا في ذلك وأبدوا ،وجادلوا عليه وقاتلوا،
فأمر ال نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه ،ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم ،وهو أن
يقولوا { :آمَنّا بِ ِه وَعَلَيْهِ َت َوكّلْنَا } واليمان يشمل التصديق الباطن ،والعمال الباطنة والظاهرة،
ولما كانت العمال ،وجودها وكمالها ،متوقفة على التوكل ،خص ال التوكل من بين سائر
العمال ،وإل فهو داخل في اليمان ،ومن جملة لوازمه كما قال تعالى { :وَعَلَى اللّهِ فَ َت َوكّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ } فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه ،وهي الحال التي تتعين للفلح،
وتتوقف عليها السعادة ،وحالة أعدائه بضدها ،فل إيمان [لهم] ول توكل ،علم بذلك من هو على
هدى ،ومن هو في ضلل مبين.
ثم أخبر عن انفراده بالنعم ،خصوصًا ،بالماء الذي جعل ال منه كل شيء حي فقالُ { :قلْ أَرَأَيْ ُتمْ
غوْرًا } أي :غائرًا { َفمَنْ يَأْتِيكُمْ ِبمَاءٍ َمعِينٍ } تشربون منه ،وتسقون أنعامكم
إِنْ َأصْبَحَ مَا ُؤكُمْ َ
وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي ،أي :ل يقدر أحد على ذلك غير ال تعالى.
تمت ول الحمد.
تفسير سورة ن
وهي مكية
حمَنِ الرّحِيمِ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا َيسْطُرُونَ * مَا أَ ْنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ *
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 7 - 1بِ ْ
عظِيمٍ * َفسَتُ ْبصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيّيكُمُ ا ْلمَفْتُونُ *
وَإِنّ َلكَ لَأَجْرًا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلى خُُلقٍ َ
ضلّ عَنْ سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ }
ن َ
إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَ ْ
يقسم تعالى بالقلم ،وهو اسم جنس شامل للقلم ،التي تكتب بها [أنواع] العلوم ،ويسطر بها
المنثور والمنظوم ،وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلم ،من آيات ال العظيمة ،التي
تستحق أن يقسم ال بها ،على براءة نبيه محمد صلى ال عليه وسلم ،مما نسبه إليه أعداؤه من
الجنون فنفى عنه الجنون بنعمة ربه عليه وإحسانه ،حيث من عليه بالعقل الكامل ،والرأي
الجزل ،والكلم الفصل ،الذي هو أحسن ما جرت به القلم ،وسطره النام ،وهذا هو السعادة في
الدنيا ،ثم ذكر سعادته في الخرة ،فقال { :وَإِنّ َلكَ لَأَجْرًا } .
أي :لجرا عظيمًا ،كما يفيده التنكير { ،غير ممنون } أي[ :غير] مقطوع ،بل هو دائم مستمر،
وذلك لما أسلفه النبي صلى ال عليه وسلم من العمال الصالحة ،والخلق الكاملة ،ولهذا قال:
عظِيمٍ } أي :عاليًا به ،مستعليًا بخلقك الذي من ال عليك به ،وحاصل خلقه
{ وَإِ ّنكَ َلعَلى خُُلقٍ َ
العظيم ،ما فسرته به أم المؤمنين[ ،عائشة -رضي ال عنها ]-لمن سألها عنه ،فقالت" :كان خلقه
ف وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِينَ } { فَ ِبمَا
القرآن" ،وذلك نحو قوله تعالى له { :خُذِ ا ْلعَ ْف َو وَ ْأمُرْ بِا ْلعُرْ ِ
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِ ُيصُ
حمَةٍ مِنَ اللّهِ لِ ْنتَ َل ُهمْ } [الية]َ { ،لقَدْ جَا َء ُكمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ
رَ ْ
عَلَ ْيكُم بِال ْم ُؤمِنِينَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من اليات الدالت على اتصافه صلى ال عليه
وسلم بمكارم الخلق[ ،واليات] الحاثات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها وأجلها ،وهو
في كل خصلة منها ،في الذروة العليا ،فكان صلى ال عليه وسلم سهلًا لينا ،قريبًا من الناس ،مجيبًا
لدعوة من دعاه ،قاضيًا لحاجة من استقضاه ،جابرًا لقلب من سأله ،ل يحرمه ،ول يرده خائبًا،
وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ،وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ،وإن عزم على أمر
لم يستبد به دونهم ،بل يشاورهم ويؤامرهم ،وكان يقبل من محسنهم ،ويعفو عن مسيئهم ،ولم يكن
يعاشر جليسًا له إل أتم عشرة وأحسنها ،فكان ل يعبس في وجهه ،ول يغلظ عليه في مقاله ،ول
يطوي عنه بشره ،ول يمسك عليه فلتات لسانه ،ول يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ،بل يحسن
إلي عشيره غاية الحسان ،ويحتمله غاية الحتمال صلى ال عليه وسلم.
فلما أنزله ال في أعلى المنازل من جميع الوجوه ،وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون
قال { :فَسَتُ ْبصِ ُر وَيُ ْبصِرُونَ بِأَيّيكُمُ ا ْل َمفْتُونُ } وقد تبين أنه أهدى الناس ،وأكملهم لنفسه ولغيره،
وأن أعداءه أضل الناس[ ،وشر الناس] للناس ،وأنهم هم الذين فتنوا عباد ال ،وأضلوهم عن
سبيله ،وكفى بعلم ال بذلك ،فإنه هو المحاسب المجازي.
ضلّ عَنْ سَبِيِل ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ } وهذا فيه تهديد للضالين ،ووعد للمهتدين،
ن َ
علَمُ ِبمَ ْ
و { ُهوَ أَ ْ
وبيان لحكمة ال ،حيث كان يهدي من يصلح للهداية ،دون غيره.
يقول ال تعالى ،لنبيه صلى ال عليه وسلم { :فَلَا ُتطِعِ ا ْل ُمكَذّبِينَ } الذين كذبوك وعاندوا الحق،
فإنهم ليسوا أهلًا لن يطاعوا ،لنهم ل يأمرون إل بما يوافق أهواءهم ،وهم ل يريدون إل الباطل،
فالمطيع لهم مقدم على ما يضره ،وهذا عام في كل مكذب ،وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب،
وإن كان السياق في شيء خاص ،وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى ال عليه وسلم ،أن
يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم ،ويسكتوا عنه ،ولهذا قال { :وَدّوا } أي :المشركون { َلوْ ُتدْهِنُ }
أي :توافقهم على بعض ما هم عليه ،إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلم فيه،
{ فَ ُيدْهِنُونَ } ولكن اصدع بأمر ال ،وأظهر دين السلم ،فإن تمام إظهاره ،بنقض ما يضاده،
وعيب ما يناقضه.
{ وَلَا ُتطِعْ ُكلّ حَلّافٍ } أي :كثير الحلف ،فإنه ل يكون كذلك إل وهو كذاب ،ول يكون كذابًا إل
وهو { ُمهِينٌ } أي :خسيس النفس ،ناقص الهمة ،ليس له همة في الخير ،بل إرادته في شهوات
نفسه الخسيسة.
{ َهمّازٍ } أي :كثير العيب [للناس] والطعن فيهم بالغيبة والستهزاء ،وغير ذلك.
{ مَشّاءٍ بِ َنمِيمٍ } أي :يمشي بين الناس بالنميمة ،وهي :نقل كلم بعض الناس لبعض ،لقصد الفساد
بينهم ،وإلقاء العداوة والبغضاء.
{ مَنّاعٍ لِ ْلخَيْرِ } الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك،
{ ُمعْتَدٍ } على الخلق في ظلمهم ،في الدماء والموال والعراض { أَثِيمٍ } أي :كثير الثم
والذنوب المتعلقة في حق ال تعالى
{ عُ ُتلّ َبعْدَ ذَِلكَ } أي :غليظ شرس الخلق قاس غير منقاد للحق { زَنِيمٍ } أي :دعي ،ليس له أصل
و [ل] مادة ينتج منها الخير ،بل أخلقه أقبح الخلق ،ول يرجى منه فلح ،له زنمة أي :علمة
في الشر ،يعرف بها.
وحاصل هذا ،أن ال تعالى نهى عن طاعة كل حلف كذاب ،خسيس النفس ،سيئ الخلق،
خصوصًا الخلق المتضمنة للعجاب بالنفس ،والتكبر على الحق وعلى الخلق ،والحتقار للناس،
كالغيبة والنميمة ،والطعن فيهم ،وكثرة المعاصي.
وهذه اليات -وإن كانت نزلت في بعض المشركين ،كالوليد بن المغيرة أو غيره لقوله عنه:
ل وَبَنِينَ إِذَا تُ ْتلَى عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا قَالَ َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي :لجل كثرة ماله وولده،
{ أَنْ كَانَ ذَا مَا ٍ
طغى واستكبر عن الحق ،ودفعه حين جاءه ،وجعله من جملة أساطير الولين ،التي يمكن صدقها
وكذبها -فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف ،لن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم ،ويدخل
فيه أول المة وآخرهم ،وربما نزل بعض اليات في سبب أو في شخص من الشخاص ،لتتضح
به القاعدة العامة ،ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة.
ثم توعد تعالى من جرى منه ما وصف ال ،بأن ال سيسمه على خرطومه في العذاب ،وليعذبه
عذابًا ظاهرًا ،يكون عليه سمة وعلمة ،في أشق الشياء عليه ،وهو وجهه.
سمُوا لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * وَلَا
{ { } 33 - 17إِنّا بََلوْنَا ُهمْ َكمَا بََلوْنَا َأصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ َأقْ َ
يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّبكَ وَهُمْ نَا ِئمُونَ }
إلى آخر القصة يقول تعال :إنا بلونا هؤلء المكذبين بالخير وأمهلناهم ،وأمددناهم بما شئنا من
مال وولد ،وطول عمر ،ونحو ذلك ،مما يوافق أهواءهم ،ل لكرامتهم علينا ،بل ربما يكون
استدراجًا لهم من حيث ل يشعرون فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة ،الذين هم فيها
شركاء ،حين زهت ثمارها أينعت أشجارها ،وآن وقت صرامها ،وجزموا أنها في أيديهم ،وطوع
أمرهم[ ،وأنه] ليس ثم مانع يمنعهم منها ،ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناء ،أنهم سيصرمونها
أي :يجذونها مصبحين ،ولم يدروا أن ال بالمرصاد ،وأن العذاب سيخلفهم عليها ،ويبادرهم إليها.
علَ ْيهَا طَا ِئفٌ مِنْ رَ ّبكَ } أي :عذاب نزل عليها ليلًا { وَ ُهمْ نَا ِئمُونَ } فأبادها وأتلفها
{ َفطَافَ َ
حتْ كَالصّرِيمِ } أي :كالليل المظلم ،ذهبت الشجار والثمار ،هذا وهم ل يشعرون بهذا
{ فََأصْبَ َ
علَى حَرْ ِثكُمْ إِنْ
غدُوا َ
الواقع الملم ،ولهذا تنادوا فيما بينهم ،لما أصبحوا يقول بعضهم لبعض { :أَنِ ا ْ
كُنْتُ ْم صَا ِرمِينَ فَانْطََلقُوا } قاصدين له { وَهُمْ يَ َتخَافَتُونَ } فيما بينهم ،ولكن بمنع حق ال ،ويقولون:
سكِينٌ } أي :بكروا قبل انتشار الناس ،وتواصوا مع ذلك ،بمنع الفقراء
خلَ ّنهَا الْ َيوْمَ عَلَ ْيكُمْ ِم ْ
{ لَا يَدْ ُ
والمساكين ،ومن شدة حرصهم وبخلهم ،أنهم يتخافتون بهذا الكلم مخافتة ،خوفًا أن يسمعهم أحد،
فيخبر الفقراء.
{ وَغَ َدوْا } في هذه الحالة الشنيعة ،والقسوة ،وعدم الرحمة { عَلَى حَ ْردٍ قَادِرِينَ } أي :على إمساك
ومنع لحق ال ،جازمين بقدرتهم عليها.
{ فََلمّا رََأوْهَا } على الوصف الذي ذكر ال كالصريم { قَالُوا } من الحيرة والنزعاج { .إِنّا
َلضَالّونَ } [أي :تائهون] عنها ،لعلها غيرها ،فلما تحققوها ،ورجعت إليهم عقولهم قالواَ { :بلْ َنحْنُ
طهُمْ } أي :أعدلهم ،وأحسنهم طريقة
مَحْرُومُونَ } منها ،فعرفوا حينئذ أنه عقوبة ،فـ { قَالَ َأوْسَ ُ
{ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ َلوْلَا ُتسَبّحُونَ } أي :تنزهون ال عما ل يليق به ،ومن ذلك ،ظنكم أن قدرتكم مستقلة،
فلول استثنيتم ،فقلتم { :إِنْ شَاءَ اللّهُ } وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئتة ال ،لما جرى عليكم ما
جرى ،فقالوا { سُبْحَانَ رَبّنَا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ } أي :استدركوا بعد ذلك ،ولكن بعد ما وقع العذاب
على جنتهم ،الذي ل يرفع ،ولكن لعل تسبيحهم هذا ،وإقرارهم على أنفسهم بالظلم ،ينفعهم في
تخفيف الثم ويكون توبة ،ولهذا ندموا ندامة عظيمة.
عسَى رَبّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِ ْنهَا إِنّا إِلَى رَبّنَا رَاغِبُونَ } فهم رجوا ال أن يبدلهم خيرًا منها،
{ َ
ووعدوا أنهم سيرغبون إلى ال ،ويلحون عليه في الدنيا ،فإن كانوا كما قالوا ،فالظاهر أن ال
أبدلهم في الدنيا خيرًا منها لن من دعا ال صادقًا ،ورغب إليه ورجاه ،أعطاه سؤله.
قال تعالى مبينا ما وقعَ { :كذَِلكَ ا ْلعَذَابُ } [أي ]:الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب ال
العبد الشيء الذي طغى به وبغى ،وآثر الحياة الدنيا ،وأن يزيله عنه ،أحوج ما يكون إليه.
{ وََلعَذَابُ الْآخِ َرةِ َأكْبَرُ } من عذاب الدنيا { َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ } فإن من علم ذلك ،أوجب له
النزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب
يخبر تعالى بما أعده للمتقين للكفر والمعاصي ،من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم
الكرمين ،وأن حكمته تعالى ل تقتضي أن يجعل المسلمين القانتين لربهم ،المنقادين لوامره،
المتبعين لمراضيه كالمجرمين الذين أوضعوا في معاصيه ،والكفر بآياته ،ومعاندة رسله ،ومحاربة
أوليائه ،وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب ،فإنه قد أساء الحكم ،وأن حكمه حكم باطل ،ورأيه
فاسد ،وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك ،فليس لهم مستند ،ل كتاب فيه يدرسون [ويتلون] أنهم من
أهل الجنة ،وأن لهم ما طلبوا وتخيروا.
وليس لهم عند ال عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون ،وليس لهم شركاء وأعوان
على إدراك ما طلبوا ،فإن كان لهم شركاء وأعوان فليأتوا بهم إن كانوا صادقين ،ومن المعلوم أن
جميع ذلك منتف ،فليس لهم كتاب ،ول لهم عهد عند ال في النجاة ،ول لهم شركاء يعينونهم ،فعلم
أن دعواهم باطلة فاسدة ،وقوله { :سَ ْلهُمْ أَ ّيهُمْ ِبذَِلكَ زَعِيمٌ } أي :أيهم الكفيل بهذه الدعوى الفاسدة،
فإنه ل يمكن التصدر بها ،ول الزعامة فيها.
شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ
عوْنَ إِلَى السّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَا ِ
ق وَيُدْ َ
شفُ عَنْ سَا ٍ
{ َ { } 43 - 42يوْمَ ُيكْ َ
عوْنَ إِلَى السّجُو ِد وَ ُهمْ سَاِلمُونَ }
تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّ ٌة َوقَدْ كَانُوا يُدْ َ
أي :إذا كان يوم القيامة ،وانكشف فيه من القلقل [والزلزل] والهوال ما ل يدخل تحت الوهم،
وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي ل يشبهها شيء،
ورأى الخلئق من جلل ال وعظمته ما ل يمكن التعبير عنه ،فحينئذ يدعون إلى السجود ل،
فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون ل ،طوعًا واختيارًا ،ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فل
يقدرون على السجود ،وتكون ظهورهم كصياصي البقر ،ل يستطيعون النحناء ،وهذا الجزاء ما
جنس عملهم ،فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود ل وتوحيده وعبادته وهم سالمون ،ل علة
فيهم ،فيستكبرون عن ذلك ويأبون ،فل تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم ،فإن ال قد سخط
عليهم ،وحقت عليهم كلمة العذاب ،وتقطعت أسبابهم ،ولم تنفعهم الندامة ول العتذار يوم القيامة،
ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي ،و[يوجب] التدارك مدة المكان.
ج ُهمْ مِنْ
أي :دعني والمكذبين بالقرآن العظيم فإن علي جزاءهم ،ول تستعجل لهم ،فـ { سَنَسْ َتدْرِ ُ
حَ ْيثُ لَا َيعَْلمُونَ } فنمدهم بالموال والولد ،ونمدهم في الرزاق والعمال ،ليغتروا ويستمروا
على ما يضرهم ،فإن وهذا من كيد ال لهم ،وكيد ال لعدائه ،متين قوي ،يبلغ من ضررهم
وعذابهم فوق كل مبلغ
{ َأمْ تَسْأَُل ُهمْ أَجْرًا َفهُمْ مِنْ َمغْرَمٍ مُ ْثقَلُونَ } أي :ليس لنفورهم عنك ،وعدم تصديقهم لما جئت به ،
سبب يوجب لهم ذلك ،فإنك تعلمهم ،وتدعوهم إلى ال ،لمحض مصلحتهم ،من غير أن تطلبهم من
أموالهم مغرمًا يثقل عليهم.
{ َأمْ عِنْ َدهُمُ ا ْلغَ ْيبُ َفهُمْ َيكْتُبُونَ } ما كان عندهم من الغيوب ،وقد وجدوا فيها أنهم على حق ،وأن
لهم الثواب عند ال ،فهذا أمر ما كان ،وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم.
فلم يبق إل الصبر لذاهم ،والتحمل لما يصدر منهم ،والستمرار على دعوتهم ،ولهذا قال:
حكْمِ رَ ّبكَ } أي :لما حكم به شرعًا وقدرًا ،فالحكم القدري ،يصبر على المؤذي منه ،ول
{ فَاصْبِرْ ِل ُ
يتلقى بالسخط والجزع ،والحكم الشرعي ،يقابل بالقبول والتسليم ،والنقياد التام لمره.
حبِ الْحُوتِ } وهو يونس بن متى ،عليه الصلة والسلم أي :ول تشابهه
وقوله { :وَلَا َتكُنْ َكصَا ِ
في الحال ،التي أوصلته ،وأوجبت له النحباس في بطن الحوت ،وهو عدم صبره على قومه
الصبر المطلوب منه ،وذهابه مغاضبًا لربه ،حتى ركب في البحر ،فاقترع أهل السفينة حين ثقلت
بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم ،فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم [وقوله] { ِإذْ نَادَى
وَ ُهوَ َم ْكظُومٌ } أي :وهو في بطنها قد كظمت عليه ،أو نادى وهو مغتم مهتم بأن قال { لَا إِلَهَ إِلّا
أَ ْنتَ سُبْحَا َنكَ إِنّي كُ ْنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ } فاستجاب ال له ،وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو
سقيم ،وأنبت ال عليه شجرة من يقطين ،ولهذا قال هناَ { :لوْلَا أَنْ تَدَا َركَهُ ِن ْعمَةٌ مِنْ رَبّهِ لَنُ ِبذَ
بِا ْلعَرَاءِ } أي :لطرح في العراء ،وهي الرض الخالية { وَ ُهوَ مَ ْذمُومٌ } ولكن ال تغمده برحمته
فنبذ وهو ممدوح ،وصارت حاله أحسن من حاله الولى ،ولهذا قال { :فَاجْتَبَاهُ رَبّهُ } أي :اختاره
جعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ } أي :الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم
واصطفاه ونقاه من كل كدر { .،فَ َ
ونياتهم[ ،وأحوالهم] فامتثل نبينا محمد صلى ال عليه وسلم ،أمر ربه ،فصبر لحكم ربه صبرًا ل
يدركه فيه أحد من العالمين.
فجعل ال له العاقبة { والعاقبة للمتقين } ولم يدرك أعداؤه فيه إل ما يسوءهم ،حتى إنهم حرصوا
على أن يزلقوه بأبصارهم أي :يصيبوه بأعينهم ،من حسدهم وغيظهم وحنقهم ،هذا منتهى ما
قدروا عليه من الذى الفعلي ،وال حافظه وناصره ،وأما الذى القولي ،فيقولون فيه أقوالًا،
بحسب ما توحي إليهم قلوبهم ،فيقولون تارة "مجنون" وتارة "ساحر" وتارة "شاعر".
قال تعالى { َومَا ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } أي :وما هذا القرآن الكريم ،والذكر الحكيم ،إل ذكر
للعالمين ،يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم.
حمَنِ الرّحِيمِ الْحَاقّةُ * مَا ا ْلحَاقّةُ * َومَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ * كَذّ َبتْ َثمُودُ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 8 - 1بِ ْ
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخّرَهَا
وَعَادٌ بِا ْلقَارِعَةِ * فََأمّا َثمُودُ فَأُهِْلكُوا بِالطّاغِيَةِ * وََأمّا عَادٌ فَأُهِْلكُوا بِرِي ٍ
خلٍ خَاوِيَةٍ * َف َهلْ
ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَ ّنهُمْ أَعْجَازُ َن ْ
عَلَ ْيهِمْ سَبْعَ لَيَا ٍ
تَرَى َلهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ }
{ ا ْلحَاقّةُ } من أسماء يوم القيامة ،لنها تحق وتنزل بالخلق ،وتظهر فيها حقائق المور ،ومخبآت
الصدور ،فعظم تعالى شأنها وفخمه ،بما كرره من قوله { :ا ْلحَاقّةُ مَا الْحَاقّ ُة َومَا َأدْرَاكَ مَا الْحَاقّةُ }
فإن لها شأنا عظيما وهول جسيما[ ،ومن عظمتها أن ال أهلك المم المكذبة بها بالعذاب العاجل]
ثم ذكر نموذجا من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها ،وهو ما أحله من العقوبات البليغة
بالمم العاتية فقال { :كَذّ َبتْ َثمُودُ } وهم القبيلة المشهورة سكان الحجر الذين أرسل ال إليهم
رسوله صالحا عليه السلم ،ينهاهم عما هم عليه من الشرك ،ويأمرهم بالتوحيد ،فردوا دعوته
وكذبوه وكذبوا ما أخبرهم به من يوم القيامة ،وهي القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها ،وكذلك عاد
الولى سكان حضرموت حين بعث ال إليهم رسوله هودا عليه الصلة والسلم يدعوهم إلى عبادة
ال [وحده] فكذبوه وكذبوا بما أخبر به من البعث فأهلك ال الطائفتين بالهلك المعجل { فََأمّا
َثمُودُ فَأُهِْلكُوا بِالطّاغِ َيةِ } وهي الصيحة العظيم ة الفظيعة ،التي انصدعت منها قلوبهم وزهقت لها
أرواحهم فأصبحوا موتى ل يرى إل مساكنهم وجثثهم.
ح صَ ْرصَرٍ } أي :قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد
{ وََأمّا عَادٌ فَأُهِْلكُوا بِرِي ٍ
[القاصف] { عَاتِيَةٍ } [أي ] :عتت على خزانها ،على قول كثير من المفسرين ،أو عتت على عاد
وزادت على الحد كما هو الصحيح.
ل وَ َثمَانِيَةَ أَيّامٍ حُسُومًا } أي :نحسا وشرا فظيعا عليهم فدمرتهم وأهلكتهم،
{ سَخّرَهَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْبعَ لَيَا ٍ
خلٍ خَاوِيَةٍ } أي :كأنهم جذوع
عجَازُ نَ ْ
{ فَتَرَى ا ْل َقوْمَ فِيهَا صَرْعَى } أي :هلكى موتى { كَأَ ّنهُمْ أَ ْ
النخل التي قد قطعت رءوسها الخاوية الساقط بعضها على بعض.
{ َف َهلْ تَرَى َلهُمْ مِنْ بَاقِ َيةٍ } وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.
صوْا رَسُولَ رَ ّبهِمْ } وهذا اسم جنس أي :كل من هؤلء كذب الرسول الذي أرسله ال إليهم.
{ َف َع َ
فأخذ ال الجميع { َأخْ َذةً رَابِ َيةً } أي :زائدة على الحد والمقدار الذي يحصل به هلكهم.
ومن جملة أولئك قوم نوح أغرقهم ال في اليم حين طغى [الماء على وجه] الرض وعل على
مواضعها الرفيعة.وامتن ال على الخلق الموجودين بعدهم أن ال حملهم { فِي ا ْلجَارِيَةِ } وهي:
السفينة في أصلب آبائهم وأمهاتهم الذين نجاهم ال.
فاحمدوا ال واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين واعتبروا بآياته الدالة على توحيده ولهذا
جعََلهَا } أي :الجارية والمراد جنسهاَ { ،لكُمْ َت ْذكِ َرةً } تذكركم أول سفينة صنعت وما
قال { :لِنَ ْ
قصتها وكيف نجى ال عليها من آمن به واتبع رسوله وأهلك أهل الرض كلهم فإن جنس الشيء
مذكر بأصله.
ن وَاعِيَةٌ } أي :تعقلها أولو اللباب ويعرفون المقصود منها ووجه الية بها.
وقوله { :وَ َتعِ َيهَا ُأذُ ٌ
وهذا بخلف أهل العراض والغفلة وأهل البلدة وعدم الفطنة فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات ال
لعدم وعيهم عن ال ،وفكرهم بآيات ال
وأما ما يصنع بالسماء ،فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها ،وتهي بعد تلك الصلبة
والقوة العظيمة ،وما ذاك إل لمر عظيم أزعجها ،وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها.
{ وَا ْلمََلكُ } أي :الملئكة الكرام { عَلَى أَرْجَا ِئهَا } أي :على جوانب السماء وأركانها ،خاضعين
لربهم ،مستكينين لعظمته.
ح ِملُ عَرْشَ رَ ّبكَ َف ْو َقهُمْ َي ْومَئِذٍ َثمَانِ َيةٌ } أملك في غاية القوة إذا أتى للفصل بين العباد
{ وَيَ ْ
والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله.
ويحشر العباد حفاة عراة غرل ،في أرض مستوية ،يسمعهم الداعي ،وينفذهم البصر ،فحينئذ
يجازيهم بما عملوا ،ولهذا ذكر كيفية الجزاء ،فقال:
{ { } 24 - 19فََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَا َبهُ بِ َيمِينِهِ فَ َيقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلَاقٍ
حسَابِيَهْ * َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ِبمَا
ِ
أَسَْلفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخَالِ َيةِ }
وهؤلء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزا لهم وتنويها
بشأنهم ورفعا لمقدارهم ،ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على
ما من ال عليه به من الكرامة { :هَاؤُمُ اقْ َرءُوا كِتَابِيَهْ } أي :دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر
بالجنات ،وأنواع الكرامات ،ومغفرة الذنوب ،وستر العيوب.
والذي أوصلني إلى هذه الحال ،ما من ال به علي من اليمان بالبعث والحساب ،والستعداد له
حسَابِيَهْ } أي :أيقنت فالظن -هنا[ -بمعنى]
بالممكن من العمل ،ولهذا قال { :إِنّي ظَنَ ْنتُ أَنّي مُلَاقٍ ِ
اليقين.
{ َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِ َيةٍ } أي :جامعة لما تشتهيه النفس ،وتلذ العين ،وقد رضوها ولم يختاروا
عليها غيرها.
{ ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ } أي :ثمرها وجناها من أنواع الفواكه قريبة ،سهلة التناول على أهلها ،ينالها أهلها
قياما وقعودا ومتكئين.
ويقال لهم إكراما { :كُلُوا وَاشْرَبُوا } أي :من كل طعام لذيذ ،وشراب شهي { ،هَنِيئًا } أي :تاما
كامل من غير مكدر ول منغص.
وذلك الجزاء حصل لكم { ِبمَا َأسَْلفْتُمْ فِي الْأَيّامِ ا ْلخَالِيَةِ } من العمال الصالحة -وترك العمال
السيئة -من صلة وصيام وصدقة وحج وإحسان إلى الخلق ،وذكر ل وإنابة إليه.
شمَالِهِ فَ َيقُولُ يَا لَيْتَنِي َلمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ َأدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
{ { } 37 - 25وََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ ِ
خذُوهُ َفغُلّوهُ * ُثمّ ا ْلجَحِيمَ
* يَا لَيْ َتهَا كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيَهْ * َهَلكَ عَنّي سُلْطَانِ َيهْ * ُ
حضّ
عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِيمِ * وَلَا يَ ُ
سلَةٍ ذَرْ ُ
صَلّوهُ * ُثمّ فِي سِلْ ِ
غسْلِينٍ * لَا يَ ْأكُُلهُ إِلّا
طعَامٌ إِلّا مِنْ ِ
حمِيمٌ * وَلَا َ
سكِينِ * فَلَيْسَ َلهُ الْ َيوْمَ هَا هُنَا َ
طعَامِ ا ْلمِ ْ
عَلَى َ
الْخَاطِئُونَ }
هؤلء أهل الشقاء يعطون كتب أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزا لهم وخزيا وعارا وفضيحة ،فيقول
أحدهم من الهم والغم والخزي { يَا لَيْتَنِي َلمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } لنه يبشر بدخول النار والخسارة
البدية.
{ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي :ليتني كنت نسيا منسيا ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال:
{ يَا لَيْ َتهَا كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ } أي ::يا ليت موتتي هي الموتة التي ل بعث بعدها.
ثم التفت إلى ماله وسلطانه ،فإذا هو وبال عليه لم يقدم منه لخرته ،ولم ينفعه في الفتداء من
عذاب ال فيقول { :مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيَهْ } أي :ما نفعني ل في الدنيا ،لم أقدم منه شيئا ،ول في
الخرة ،قد ذهب وقت نفعه.
{ هََلكَ عَنّي سُلْطَانِ َيهْ } أي :ذهب واضمحل فلم تنفع الجنود الكثيرة ،ول العدد الخطيرة ،ول الجاه
العريض ،بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح ،وفاتت بسببه المتاجر والرباح ،وحضر بدله الهموم
خذُوهُ َفغُلّوهُ } أي :اجعلوا
والغموم والتراح ،فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلظ الشدادُ { :
في عنقه غل يخنقه.
فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل { :إِنّهُ كَانَ لَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ ا ْلعَظِيمِ } بأن كان كافرا بربه
معاندا لرسله رادا ما جاءوا به من الحق.
سكِينِ } أي :ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين فل
طعَامِ ا ْلمِ ْ
حضّ عَلَى َ
{ وَلَا َي ُ
يطعمهم [من ماله] ول يحض غيره على إطعامهم ،لعدم الوازع في قلبه ،وذلك لن مدار السعادة
ومادتها أمران :الخلص ل ،الذي أصله اليمان بال ،والحسان إلى الخلق بوجوه الحسان،
الذي من أعظمها ،دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما يتقوتون به ،وهؤلء ل إخلص ول
إحسان ،فلذلك استحقوا ما استحقوا.
وليس له طعام إل من غسلين وهو صديد أهل النار ،الذي هو في غاية الحرارة ،ونتن الريح،
وقبح الطعم ومرارته ل يأكل هذا الطعام الذميم { إِلّا ا ْلخَاطِئُونَ } الذين أخطأوا الصراط المستقيم
وسلكوا سبل الجحيم فلذلك استحقوا العذاب الليم.
{ { } 52 - 38فَلَا ُأ ْقسِمُ ِبمَا تُ ْبصِرُونَ * َومَا لَا تُ ْبصِرُونَ * إِنّهُ َل َق ْولُ َرسُولٍ كَرِيمٍ * َومَا ُهوَ
ِبقَ ْولِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا ُت ْؤمِنُونَ * وَلَا ِب َقوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا َت َذكّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَلَوْ
حدٍ عَنْهُ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ * َفمَا مِ ْنكُمْ مِنْ أَ َ
َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ُثمّ َلقَ َ
حَاجِزِينَ * وَإِنّهُ لَ َت ْذكِ َرةٌ لِ ْلمُ ّتقِينَ * وَإِنّا لَ َنعْلَمُ أَنّ مِ ْنكُمْ ُمكَذّبِينَ * وَإِنّهُ َلحَسْ َرةٌ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ * وَإِنّهُ
حقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْل َعظِيمِ }
لَ َ
أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الشياء وما ل يبصرونه ،فدخل في ذلك كل الخلق بل
يدخل في ذلك نفسه المقدسة ،على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم ،وأن
الرسول الكريم بلغه عن ال تعالى.
ونزه ال رسوله عما رماه به أعداؤه ،من أنه شاعر أو ساحر ،وأن الذي حملهم على ذلك عدم
إيمانهم وتذكرهم ،فلو آمنوا وتذكروا ،لعلموا ما ينفعهم ويضرهم ،ومن ذلك ،أن ينظروا في حال
محمد صلى ال عليه وسلم ،ويرمقوا أوصافه وأخلقه ،لرأوا أمرا مثل الشمس يدلهم على أنه
رسول ال حقا ،وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين ،ل يليق أن يكون قول البشر بل هو كلم دال
على عظمة من تكلم به ،وجللة أوصافه ،وكمال تربيته لعباده ،وعلوه فوق عباده ،وأيضا ،فإن
هذا ظن منهم بما ل يليق بال وحكمته فإنه لو تقول عليه وافترى { َب ْعضَ الَْأقَاوِيلِ } الكاذبة.
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ } وهو عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه
{ لََأخَذْنَا مِ ْنهُ بِالْ َيمِينِ ثُمّ َلقَ َ
النسان ،فلو قدر أن الرسول -حاشا وكل -تقول على ال لعاجله بالعقوبة ،وأخذه أخذ عزيز
مقتدر ،لنه حكيم ،على كل شيء قدير ،فحكمته تقتضي أن ل يمهل الكاذب عليه ،الذي يزعم أن
ال أباح له دماء من خالفه وأموالهم ،وأنه هو وأتباعه لهم النجاة ،ومن خالفه فله الهلك.
فإذا كان ال قد أيد رسوله بالمعجزات ،وبرهن على صدق ما جاء به باليات البينات ،ونصره
على أعدائه ،ومكنه من نواصيهم ،فهو أكبر شهادة منه على رسالته.
وقولهَ { :فمَا مِ ْنكُمْ مِنْ َأحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي :لو أهلكه ،ما امتنع هو بنفسه ،ول قدر أحد أن
يمنعه من عذاب ال.
{ وَإِنّهُ } أي :القرآن الكريم { لَ َت ْذكِ َرةٌ لِ ْلمُ ّتقِينَ } يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم ،فيعرفونها،
ويعملون عليها ،يذكرهم العقائد الدينية ،والخلق المرضية ،والحكام الشرعية ،فيكونون من
العلماء الربانيين ،والعباد العارفين ،والئمة المهديين.
{ وَإِنّا لَ َنعَْلمُ أَنّ مِ ْنكُمْ ُمكَذّبِينَ } به ،وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين ،فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم
بالعقوبة البليغة.
{ وَإِنّهُ لَحَسْ َرةٌ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } فإنهم لما كفروا به ،ورأوا ما وعدهم به ،تحسروا إذ لم يهتدوا به،
ولم ينقادوا لمره ،ففاتهم الثواب ،وحصلوا على أشد العذاب ،وتقطعت بهم السباب.
حقّ الْ َيقِينِ } أي :أعلى مراتب العلم ،فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت ،الذي
{ وَإِنّهُ لَ َ
ل يتزلزل ول يزول.
وهذا القرآن الكريم ،بهذا الوصف ،فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية ،وما فيه من
الحقائق والمعارف اليمانية ،يحصل به لمن ذاقه حق اليقين.
{ َفسَبّحْ بِاسْمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ } أي :نزهه عما ل يليق بجلله ،وقدسه بذكر أوصاف جلله وجماله
وكماله.
تم تفسير سورة الحاقة ،والحمد ل أول وآخرا ،وظاهرا وباطنا ،على كماله وأفضاله وعدله.
يقول تعالى مبينا لجهل المعاندين ،واستعجالهم لعذاب ال ،استهزاء وتعنتا وتعجيزا:
{ سََألَ سَا ِئلٌ } أي :دعا داع ،واستفتح مستفتح { ِب َعذَابٍ وَاقِعٍ لِ ْلكَافِرينَ } لستحقاقهم له بكفرهم
وعنادهم { لَ ْيسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللّهِ } أي :ليس لهذا العذاب الذي استعجل به من استعجل ،من
متمردي المشركين ،أحد يدفعه قبل نزوله ،أو يرفعه بعد نزوله ،وهذا حين دعا النضر بن الحارث
القرشي أو غيره من المشركين فقال { :اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } إلى آخر اليات.
فالعذاب ل بد أن يقع عليهم من ال ،فإما أن يعجل لهم في الدنيا ،وإما أن يؤخر عنهم إلى الخرة
،فلو عرفوا ال تعالى ،وعرفوا عظمته ،وسعة سلطانه وكمال أسمائه وصفاته ،لما استعجلوا
ولستسلموا وتأدبوا ،ولهذا أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة فقال { :ذِي ا ْل َمعَارِجِ
َتعْرُجُ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ } أي :ذو العلو والجلل والعظمة ،والتدبير لسائر الخلق ،الذي تعرج
إليه الملئكة بما دبرها على تدبيره ،وتعرج إليه الروح ،وهذا اسم جنس يشمل الرواح كلها،
برها وفاجرها ،وهذا عند الوفاة ،فأما البرار فتعرج أرواحهم إلى ال ،فيؤذن لها من سماء إلى
سماء ،حتى تنتهي إلى السماء التي فيها ال عز وجل ،فتحيي ربها وتسلم عليه ،وتحظى بقربه،
وتبتهج بالدنو منه ،ويحصل لها منه الثناء والكرام والبر والعظام.
وأما أرواح الفجار فتعرج ،فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها ،وأعيدت إلى الرض.
ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى ال فيها الملئكة والرواح وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من
السباب ،وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة السير ،مع أن تلك المسافة على السير المعتاد
مقدار خمسين ألف سنة ،من ابتداء العروج إلى وصولها ما حد لها ،وما تنتهي إليه من المل
العلى ،فهذا الملك العظيم ،والعالم الكبير ،علويه وسفليه ،جميعه قد تولى خلقه وتدبيره العلي
العلى ،فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة ،وعلم مستقرهم ومستودعهم ،وأوصلهم من رحمته وبره
ورزقه ،ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم حكمه القدري ،وحكمه الشرعي وحكمه الجزائي.
فبؤسا لقوام جهلوا عظمته ،ولم يقدروه حق قدره ،فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز
والمتحان ،وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم ،وآذوه فصبر عليهم وعافاهم ورزقهم.
هذا أحد الحتمالت في تفسير هذه الية [الكريمة] فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا ،لن
السياق الول يدل على هذا.
ويحتمل أن هذا في يوم القيامة ،وأن ال تبارك وتعالى يظهر لعباده في يوم القيامة من عظمته
وجلله وكبريائه ،ما هو أكبر دليل على معرفته ،مما يشاهدونه من عروج الملك والرواح
صاعدة ونازلة ،بالتدابير اللهية ،والشئون في الخليقة
في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته ،لكن ال تعالى يخففه على المؤمن.
جمِيلًا } أي :اصبر على دعوتك لقومك صبرا جميل ،ل تضجر فيه ول
وقوله { :فَاصْبِرْ صَبْرًا َ
ملل ،بل استمر على أمر ال ،وادع عباده إلى توحيده ،ول يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم،
وعدم رغبتهم ،فإن في الصبر على ذلك خيرا كثيرا.
{ إِ ّن ُهمْ يَ َروْنَهُ َبعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا } الضمير يعود إلى البعث الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب
أي :إن حالهم حال المنكر له ،أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة ،حتى تباعد جميع ما أمامه من
البعث والنشور ،وال يراه قريبا ،لنه رفيق حليم ل يعجل ،ويعلم أنه ل بد أن يكون ،وكل ما هو
آت فهو قريب.
حمِيمًا *
حمِيمٌ َ
سمَاءُ كَا ْل ُم ْهلِ * وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ * وَلَا يَسَْألُ َ
{ َ { } 18 - 8يوْمَ َتكُونُ ال ّ
يُ َبصّرُونَهُمْ َيوَدّ ا ْلمُجْ ِرمُ َلوْ َيفْتَدِي مِنْ عَذَابِ َي ْومِئِذٍ بِبَنِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَأَخِيهِ * َو َفصِيلَتِهِ الّتِي ُت ْؤوِيهِ
شوَى * تَدْعُو مَنْ َأدْبَ َر وَ َتوَلّى *
جمِيعًا ثُمّ يُ ْنجِيهِ * كَلّا إِ ّنهَا لَظَى * نَزّاعَةً لِل ّ
* َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ
جمَعَ فََأوْعَى }
وَ َ
سمَاءُ كَا ْل ُم ْهلِ } وهو الرصاص
أيَ { :يوْمِ } القيامة ،تقع فيه هذه المور العظيمة فـ { َتكُونُ ال ّ
المذاب من تشققها وبلوغ الهول منها كل مبلغ.
{ وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ } وهو الصوف المنفوش ،ثم تكون بعد ذاك هباء منثورا فتضمحل ،فإذا
كان هذا القلق والنزعاج لهذه الجرام الكبيرة الشديدة ،فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل
ظهره بالذنوب والوزار؟
حمِيمًا
حمِيمٌ َ
أليس حقيقا أن ينخلع قلبه وينزعج لبه ،ويذهل عن كل أحد؟ ولهذا قال { :وَلَا َيسَْألُ َ
يُ َبصّرُونَهُمْ } أي :يشاهد الحميم ،وهو القريب حميمه ،فل يبقى في قلبه متسع لسؤال حميمه عن
حاله ،ول فيما يتعلق بعشرتهم ومودتهم ،ول يهمه إل نفسهَ { ،يوَدّ ا ْلمُجْرِمُ } الذي حق عليه
العذاب { َلوْ َيفْتَدِي مِنْ عَذَابِ َي ْومِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَ ِتهِ } أي :زوجته { وَأَخِيهِ َوفَصِيلَتِهِ } أي :قرابته
{ الّتِي ُت ْؤوِيهِ } أي :التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ويعين بعضها بعضا ،ففي يوم
القيامة ،ل ينفع أحد أحدا ،ول يشفع أحد إل بإذن ال.
بل لو يفتدي [المجرم المستحق للعذاب] بجميع ما في الرضِ ثم ينجيه لم ينفعه ذلك.
{ كلّا } أي :ل حيلة ول مناص لهم ،قد حقت عليهم كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم ل يؤمنون ،
وذهب نفع القارب والصدقاء.
خلِقَ َهلُوعًا * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسّهُ ا ْلخَيْرُ مَنُوعًا * إِلّا
{ { } 35 - 19إِنّ الْإِ ْنسَانَ ُ
ل وَا ْلمَحْرُومِ *
علَى صَلَا ِتهِمْ دَا ِئمُونَ * وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ َمعْلُومٌ * لِلسّا ِئ ِ
ا ْل ُمصَلّينَ * الّذِينَ هُمْ َ
ش ِفقُونَ * إِنّ عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ
عذَابِ رَ ّبهِمْ مُ ْ
وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ * وَالّذِينَ هُمْ مِنْ َ
جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ
جهِمْ حَافِظُونَ * إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ
* وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
عهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ
ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِمْ وَ َ
شهَادَا ِت ِهمْ قَا ِئمُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ * أُولَ ِئكَ فِي جَنّاتٍ ُمكْ َرمُونَ }
بِ َ
وفسر الهلوع بأنهِ { :إذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا } فيجزع إن أصابه فقر أو مرض ،أو ذهاب محبوب
له ،من مال أو أهل أو ولد ،ول يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى ال.
{ وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } فل ينفق مما آتاه ال ،ول يشكر ال على نعمه وبره ،فيجزع في
الضراء ،ويمنع في السراء.
{ إِلّا ا ْل ُمصَلّينَ } الموصوفين بتلك الوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا ال ،وأنفقوا مما خولهم
ال ،وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا.
وقوله [في وصفهم] { الّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ دَا ِئمُونَ } أي :مداومون عليها في أوقاتها بشروطها
ومكملتها.
وليسوا كمن ل يفعلها ،أو يفعلها وقتا دون وقت ،أو يفعلها على وجه ناقص.
{ لِلسّا ِئلِ } الذي يتعرض للسؤال { وَا ْلمَحْرُومِ } وهو المسكين الذي ل يسأل الناس فيعطوه ،ول
يفطن له فيتصدق عليه.
{ وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ } أي :يؤمنون بما أخبر ال به ،وأخبرت به رسله ،من الجزاء
والبعث ،ويتيقنون ذلك فيستعدون للخرة ،ويسعون لها سعيها .والتصديق بيوم الدين يلزم منه
التصديق بالرسل ،وبما جاءوا به من الكتب.
{ إِنّ عَذَابَ رَ ّبهِمْ غَيْرُ مَ ْأمُونٍ } أي :هو العذاب الذي يخشى ويحذر.
ج ِهمْ حَا ِفظُونَ } فل يطأون بها وطأ محرما ،من زنى أو لواط ،أو وطء في دبر،
{ وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
أو حيض ،ونحو ذلك ،ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها ،ممن ل يجوز له ذلك ،ويتركون
أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة.
جهِ ْم أوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ } أي :سرياتهم { فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } في وطئهن في
{ إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ
المحل الذي هو محل الحرث.
{ َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ } أي :غير الزوجة وملك اليمين { ،فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ } أي :المتجاوزون
ما أحل ال إلى ما حرم ال ،ودلت هذه الية على تحريم [نكاح] المتعة ،لكونها غير زوجة
مقصودة ،ول ملك يمين.
عهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي :مراعون لها ،حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء
{ وَالّذِينَ هُمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ
بها ،وهذا شامل لجميع المانات التي بين العبد وبين ربه ،كالتكاليف السرية ،التي ل يطلع عليها
إل ال ،والمانات التي بين العبد وبين الخلق ،في الموال والسرار ،وكذلك العهد ،شامل للعهد
الذي عاهد عليه ال ،والعهد الذي عاهد عليه الخلق ،فإن العهد يسأل عنه العبد ،هل قام به ووفاه،
أم رفضه وخانه فلم يقم به؟.
شهَادَا ِتهِمْ قَا ِئمُونَ } أي :ل يشهدون إل بما يعلمونه ،من غير زيادة ول نقص ول
{ وَالّذِينَ هُمْ بِ َ
كتمان ،ول يحابي فيها قريبا ول صديقا ونحوه ،ويكون القصد بها وجه ال.
{ وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ } بمداومتها على أكمل وجوهها.
{ أُولَ ِئكَ } أي :الموصوفون بتلك الصفات { فِي جَنّاتٍ ُمكْ َرمُونَ } أي :قد أوصل ال لهم من
الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه النفس ،وتلذ العين ،وهم فيها خالدون.
وحاصل هذا ،أن ال وصف أهل السعادة والخير بهذه الوصاف الكاملة ،والخلق الفاضلة ،من
العبادات البدنية ،كالصلة ،والمداومة عليها ،والعمال القلبية ،كخشية ال الداعية لكل خير،
والعبادات المالية ،والعقائد النافعة ،والخلق الفاضلة ،ومعاملة ال ،ومعاملة خلقه ،أحسن معاملة
من إنصافهم ،وحفظ عهودهم وأسرارهم ،والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكره ال تعالى.
طمَعُ ُكلّ
شمَالِ عِزِينَ * أَيَ ْ
ن وَعَنِ ال ّ
طعِينَ * عَنِ الْ َيمِي ِ
{ َ { } 39 - 36فمَالِ الّذِينَ َكفَرُوا قِبََلكَ ُمهْ ِ
خلَ جَنّةَ َنعِيمٍ * كَلّا إِنّا خََلقْنَا ُهمْ ِممّا َيعَْلمُونَ }
امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيدْ َ
شمَالِ عِزِينَ } أي :قطعا متفرقة وجماعات متوزعة ،كل منهم بما لديه
{ عَنِ الْ َيمِينِ وَعَنِ ال ّ
فرح.
خلَ جَنّةَ َنعِيمٍ } بأي :سبب أطمعهم ،وهم لم يقدموا سوى الكفر،
طمَعُ ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ أَنْ ُيدْ َ
{ أَ َي ْ
والجحود برب العالمين ،ولهذا قال { :كلّا } [أي ]:ليس المر بأمانيهم ول إدراك ما يشتهون
بقوتهم.
{ إِنّا خََلقْنَاهُمْ ِممّا َيعَْلمُونَ } أي :من ماء دافق ،يخرج من بين الصلب والترائب ،فهم ضعفاء ،ل
يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول نشورا.
ق وَا ْل َمغَا ِربِ إِنّا َلقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَ ّدلَ خَيْرًا مِ ْنهُ ْم َومَا
{ { } 44 - 40فَلَا ُأ ْقسِمُ بِ َربّ ا ْلمَشَا ِر ِ
نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ * َفذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * َيوْمَ يَخْ ُرجُونَ مِنَ
شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ ذَِلكَ الْ َيوْمُ الّذِي كَانُوا
صبٍ يُو ِفضُونَ * خَا ِ
جدَاثِ سِرَاعًا كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ
الْأَ ْ
يُوعَدُونَ }
هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب ،للشمس والقمر والكواكب ،لما فيها من اليات الباهرات
على البعث ،وقدرته على تبديل أمثالهم ،وهم بأعيانهم ،كما قال تعالى { :وَنُنْشِ َئكُمْ فِيمَا لَا َتعَْلمُونَ }
.
{ َومَا نَحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ } أي :ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده .فإذا تقرر البعث
والجزاء ،واستمروا على تكذيبهم ،وعدم انقيادهم ليات ال.
{ َفذَرْهُمْ َيخُوضُوا وَيَ ْلعَبُوا } أي :يخوضوا بالقوال الباطلة ،والعقائد الفاسدة ،ويلعبوا بدينهم،
عدُونَ } فإن ال قد أعد لهم فيه من النكال
ويأكلوا ويشربوا ،ويتمتعوا { حَتّى يُلَاقُوا َي ْو َمهُمُ الّذِي يُو َ
والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم.
ثم ذكر حال الخلق حين يلقون يومهم الذي يوعدون ،فقالَ { :يوْمَ َيخْرُجُونَ مِنَ الَْأجْدَاثِ } أي:
صبٍ يُوفِضُونَ } أي:
القبور { ،سِرَاعًا } مجيبين لدعوة الداعي ،مهطعين إليها { كَأَ ّنهُمْ إِلَى ُن ُ
[كأنهم إلى علم] يؤمون ويسرعون أي :فل يتمكنون من الستعصاء للداعي ،واللتواء لنداء
المنادي ،بل يأتون أذلء مقهورين للقيام بين يدي رب العالمين.
شعَةً أَ ْبصَارُهُمْ تَرْ َه ُقهُمْ ذِلّةٌ } وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم ،واستولى على أفئدتهم،
{ خَا ِ
فخشعت منهم البصار ،وسكنت منهم الحركات ،وانقطعت الصوات.
فهذه الحال والمآل ،هو يومهم { الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } ول بد من الوفاء بوعد ال [تمت والحمد
ل].
حمَنِ الرّحِيمِ إِنّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ أَنْ أَنْذِرْ َق ْومَكَ }
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 28 - 1بِ ْ
إلى آخر السورة لم يذكر ال في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه ،وتكرار
دعوته إلى التوحيد ،ونهيه عن الشرك ،فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه ،رحمة بهم ،وإنذارا لهم
من عذاب ال الليم ،خوفا من استمرارهم على كفرهم ،فيهلكهم ال هلكا أبديا ،ويعذبهم عذابا
سرمديا ،فامتثل نوح عليه السلم لذلك ،وابتدر لمر ال ،فقال { :يَا َقوْمِ إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي:
واضح النذارة بينها ،وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه ،وبأي :شيء تحصل النجاة ،بين
جميع ذلك بيانا شافيا ،فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به فقال { :أَنِ اعْ ُبدُوا اللّ َه وَا ّتقُوهُ } وذلك
بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة ،والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله ،فإنهم إذا اتقوا ال غفر
جلٍ
ذنوبهم ،وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب ،والفوز بالثواب { ،وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى َأ َ
سمّى } أي :يمتعكم في هذه الدار ،ويدفع عنكم الهلك إلى أجل مسمى أي :مقدر [البقاء في
مُ َ
الدنيا] بقضاء ال وقدره [إلى وقت محدود] ،وليس المتاع أبدا ،فإن الموت ل بد منه ،ولهذا قال{ :
جلَ اللّهِ ِإذَا جَاءَ لَا ُيؤَخّرُ َلوْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ } لما كفرتم بال ،وعاندتم الحق ،فلم يجيبوا لدعوته،
إِنّ َأ َ
ع ْوتُ َق ْومِي لَيْلًا وَ َنهَارًا فََلمْ يَزِدْ ُهمْ دُعَائِي إِلّا
ول انقادوا لمره ،فقال شاكيا لربهَ { :ربّ إِنّي دَ َ
فِرَارًا } أي :نفورا عن الحق وإعراضا ،فلم يبق لذلك فائدة ،لن فائدة الدعوة أن يحصل جميع
المقصود أو بعضه.
عوْ ُتهُمْ لِ َت ْغفِرَ َلهُمْ } أي :لجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض
{ وَإِنّي كُّلمَا دَ َ
جعَلُوا َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِن ِهمْ }
مصلحتهم ،ولكنهم أبوا إل تماديا على باطلهم ،ونفورا عن الحقَ { ،
شوْا ثِيَا َب ُهمْ } أي تغطوا بها غطاء يغشاهم
حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلم { ،وَاسْ َت ْغ َ
بعدا عن الحق وبغضا له { ،وََأصَرّوا } على كفرهم وشرهم { وَاسْ َتكْبَرُوا } على الحق
{ اسْ ِتكْبَارًا } فشرهم ازداد ،وخيرهم بعد.
{ ُثمّ إِنّي أَعْلَ ْنتُ َلهُ ْم وَأَسْرَ ْرتُ َلهُمْ إِسْرَارًا } كل هذا حرص ونصح ،وإتيانهم بكل باب يظن أن
يحصل منه المقصود َ {،فقُلْتُ اسْ َتغْفِرُوا رَ ّبكُمْ } أي :اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب ،واستغفروا
ال منها.
غفّارًا } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر ،فرغبهم بمغفرة الذنوب ،وما يترتب عليها من
{ إِنّهُ كَانَ َ
حصول الثواب ،واندفاع العقاب.
{ وَ ُيمْ ِد ْدكُمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ } أي :يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولدكم،
ج َعلْ َلكُمْ أَ ْنهَارًا } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
ت وَيَ ْ
ج َعلْ َلكُمْ جَنّا ٍ
{ وَيَ ْ
{ مَا َل ُكمْ لَا تَ ْرجُونَ ِللّ ِه َوقَارًا } أي :ل تخافون ل عظمة ،وليس ل عندكم قدر.
طوَارًا } أي :خلقا [من] بعد خلق ،في بطن الم ،ثم في الرضاع ،ثم في سن
{ َوقَدْ خََل َقكُمْ َأ ْ
الطفولية ،ثم التمييز ،ثم الشباب ،إلى آخر ما وصل إليه الخلق ،فالذي انفرد بالخلق والتدبير
البديع ،متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد ،وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على القرار بالمعاد،
وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم.
واستدل أيضا عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس ،فقال { :أََلمْ تَ َروْا كَ ْيفَ خََلقَ
سمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي :كل سماء فوق الخرى.
اللّهُ سَبْعَ َ
ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الشياء ،وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة
إحسانه ،فالعظيم الرحيم ،يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى.
{ وَاللّهُ أَنْبَ َتكُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ نَبَاتًا } حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه.
ج َعلَ َلكُمُ الْأَ ْرضَ ِبسَاطًا } أي :مبسوطة مهيأة للنتفاع بها.
{ وَاللّهُ َ
{ لِ َتسُْلكُوا مِ ْنهَا سُبُلًا فِجَاجًا } فلول أنه بسطها ،لما أمكن ذلك ،بل ول أمكنهم حرثها وغرسها
وزرعها ،والبناء ،والسكون على ظهرها.
{ قَالَ نُوحٌ } شاكيا لربه :إن هذا الكلم والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ول أفاد.
صوْنِي } فيما أمرتهم به { وَاتّ َبعُوا مَنْ َلمْ يَزِ ْدهُ مَاُل ُه َووَلَ ُدهُ إِلّا خَسَارًا } أي :عصوا
ع َ
{ إِ ّن ُهمْ َ
الرسول الناصح الدال على الخير ،واتبعوا المل والشراف الذين لم تزدهم أموالهم ول أولدهم إل
خسارا أي :هلكا وتفويتا للرباح فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟!
{ َوقَالُوا } لهم داعين إلى الشرك مزينين له { :لَا تَذَرُنّ آِلهَ َتكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم
ن وَدّا
عليه من الشرك ،وأن ل يدعوا ما عليه آباؤهم القدمون ،ثم عينوا آلهتهم فقالوا { :وَلَا تَذَرُ ّ
ق وَنَسْرًا } وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم
ث وَ َيعُو َ
سوَاعًا وَلَا َيغُو َ
وَلَا ُ
أن يصوروا صورهم لينشطوا -بزعمهم -على الطاعة إذا رأوها ،ثم طال المد ،وجاء غير
أولئك فقال لهم الشيطان :إن أسلفكم يعبدونهم ،ويتوسلون بهم ،وبهم يسقون المطر ،فعبدوهم،
ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن ل يدعوا عبادة هذه اللهة .
{ َوقَدْ َأضَلّوا كَثِيرًا } أي :وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من الخلق { ،وَلَا تَزِدِ
الظّاِلمِينَ إِلّا ضَلَالًا } أي :لو كان ضللهم عند دعوتي إياهم بحق ،لكان مصلحة ،ولكن ل يزيدون
بدعوة الرؤساء إل ضلل أي :فلم يبق محل لنجاحهم ول لصلحهم ،ولهذا ذكر ال عذابهم
وعقوبتهم الدنيوية والخروية ،فقالِ { :ممّا خَطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُوا } في اليم الذي أحاط بهم { فَُأدْخِلُوا
نَارًا } فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق ،وهذا كله بسبب خطيئاتهم ،التي أتاهم
نبيهم نوح ينذرهم عنها ،ويخبرهم بشؤمها ومغبتها ،فرفضوا ما قال ،حتى حل بهم النكال { ،فَلَمْ
جدُوا َلهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ ْنصَارًا } ينصرونهم حين نزل بهم المر المر ،ول أحد يقدر يعارض
يَ ِ
القضاء والقدر.
{ َوقَالَ نُوحٌ َربّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارًا } يدور على وجه الرض ،وذكر السبب
في ذلك فقال { :إِ ّنكَ إِنْ َتذَرْهُمْ ُيضِلّوا عِبَا َدكَ وَلَا َيلِدُوا إِلّا فَاجِرًا َكفّارًا } أي :بقاؤهم مفسدة
محضة ،لهم ولغيرهم ،وإنما قال نوح -عليه السلم -ذلك ،لنه مع كثرة مخالطته إياهم،
ومزاولته لخلقهم ،علم بذلك نتيجة أعمالهم ،ل جرم أن ال استجاب دعوته ،فأغرقهم أجمعين
ونجى نوحا ومن معه من المؤمنين.
خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنًا } خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم ،ثم
ي وَِلمَنْ دَ َ
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
{ َربّ ا ْ
ت وَلَا تَزِدِ الظّاِلمِينَ ِإلّا تَبَارًا } أي :خسارا ودمارا
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ
عمم الدعاء ،فقال { :وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ
وهلكا.
س ِمعْنَا
حيَ ِإَليّ أَنّهُ اسْ َتمَعَ َنفَرٌ مِنَ ا ْلجِنّ َفقَالُوا إِنّا َ
حمَنِ الرّحِيمِ ُقلْ أُو ِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 2 - 1بِ ْ
عجَبًا * َيهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا ِب ِه وَلَنْ نُشْ ِركَ بِرَبّنَا َأحَدًا }
قُرْآنًا َ
حيَ إَِليّ أَنّهُ اسْ َتمَعَ َنفَرٌ مِنَ الْجِنّ } صرفهم ال [إلى رسوله]
أيُ { :قلْ } يا أيها الرسول للناس { أُو ِ
لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [وتتم عليهم النعمة] ويكونوا نذرا لقومهم .وأمر ال رسوله أن
يقص نبأهم على الناس ،وذلك أنهم لما حضروه ،قالوا :أنصتوا ،فلما أنصتوا فهموا معانيه،
س ِمعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي :من العجائب الغالية ،والمطالب
ووصلت حقائقه إلى قلوبهمَ { ،فقَالُوا إِنّا َ
العالية.
شدِ } والرشد :اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم،
{ َ { } 2يهْدِي إِلَى الرّ ْ
{ فَآمَنّا ِب ِه وَلَنْ نُشْ ِركَ بِرَبّنَا َأحَدًا } فجمعوا بين اليمان الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير ،وبين
التقوى[ ،المتضمنة لترك الشر] وجعلوا السبب الداعي لهم إلى اليمان وتوابعه ،ما علموه من
إرشادات القرآن ،وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب المضار ،فإن ذلك آية عظيمة،
وحجة قاطعة ،لمن استنار به ،واهتدى بهديه ،وهذا اليمان النافع ،المثمر لكل خير ،المبني على
هداية القرآن ،بخلف إيمان العوائد ،والمربى واللف ونحو ذلك ،فإنه إيمان تقليد تحت خطر
الشبهات والعوارض الكثيرة،
أي :كنا مغترين قبل ذلك ،وغرنا القادة والرؤساء من الجن والنس ،فأحسنا بهم الظن ،وظنناهم
ل يتجرأون على الكذب على ال ،فلذلك كنا قبل هذا على طريقهم ،فاليوم إذ بان لنا الحق ،رجعنا
إليه ،وانقدنا له ،ولم نبال بقول أحد من الناس يعارض الهدى.
{ { } 6وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ َيعُوذُونَ بِ ِرجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ َر َهقًا }
أي :كان النس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والفزاع ،فزاد النس الجن رهقا
أي :طغيانا وتكبرا لما رأوا النس يعبدونهم ،ويستعيذون بهم ،ويحتمل أن الضمير في زادوهم
يرجع إلى الجن ضمير الواو أي :زاد الجن النس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم
ليلجئوهم إلى الستعاذة بهم ،فكان النسي إذا نزل بواد مخوف ،قال " :أعوذ بسيد هذا الوادي من
سفهاء قومه ".
حدًا } أي :فلما أنكروا البعث أقدموا على الشرك
{ وَأَ ّنهُمْ ظَنّوا َكمَا ظَنَنْ ُتمْ أَنْ لَنْ يَ ْب َعثَ اللّهُ أَ َ
والطغيان.
جدْ لَهُ
سمْع } فنتلقف من أخبار السماء ما شاء الَ { .فمَنْ يَسْ َتمِعِ الْآنَ يَ ِ
{ وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ
شهَابًا َرصَدًا } أي :مرصدا له ،معدا لتلفه وإحراقه ،أي :وهذا له شأن عظيم ،ونبأ جسيم،
ِ
وجزموا أن ال تعالى أراد أن يحدث في الرض حادثا كبيرا ،من خير أو شر ،فلهذا قالوا { :وَأَنّا
لَا نَدْرِي َأشَرّ أُرِيدَ ِبمَنْ فِي الْأَ ْرضِ َأمْ أَرَادَ ِبهِمْ رَ ّبهُمْ رَشَدًا } أي :ل بد من هذا أو هذا ،لنهم رأوا
المر تغير عليهم تغيرا أنكروه ،فعرفوا بفطنتهم أن هذا المر يريده ال ،ويحدثه في الرض،
وفي هذا بيان لدبهم ،إذ أضافوا الخير إلى ال تعالى ،والشر حذفوا فاعله تأدبا مع ال.
{ وَأَنّا مِنّا الصّاِلحُونَ َومِنّا دُونَ ذَِلكَ } أي :فساق وفجار وكفار { ،كُنّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي :فرقا
متنوعة ،وأهواء متفرقة ،كل حزب بما لديهم فرحون.
ض وَلَنْ ُن ْعجِ َزهُ هَرَبًا } أي :وأنا في وقتنا الن تبين لنا كمال
{ وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللّهَ فِي الْأَ ْر ِ
قدرة ال وكمال عجزنا ،وأن نواصينا بيد ال فلن نعجزه في الرض ولن نعجزه إن هربنا وسعينا
بأسباب الفرار والخروج عن قدرته ،ل ملجأ منه إل إليه.
س ِمعْنَا ا ْلهُدَى } وهو القرآن الكريم ،الهادي إلى الصراط المستقيم ،وعرفنا هدايته
{ وَأَنّا َلمّا َ
وإرشاده ،أثر في قلوبنا فـ { آمَنّا بِهِ } .
{ وَأَنّا مِنّا ا ْل ُمسِْلمُونَ َومِنّا ا ْلقَاسِطُونَ } أي :الجائرون العادلون عن الصراط المستقيم.
{ َفمَنْ َأسْلَمَ فَأُولَ ِئكَ تَحَ ّروْا َرشَدًا } أي ::أصابوا طريق الرشد ،الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها،
جهَنّمَ حَطَبًا } وذلك جزاء على أعمالهم ،ل ظلم من ال لهم ،فإنهم { َلوِ
سطُونَ َفكَانُوا ِل َ
{ وََأمّا ا ْلقَا ِ
سقَيْنَاهُمْ مَاءً غَ َدقًا } أي :هنيئا مريئا ،ولم يمنعهم ذلك إل
اسْ َتقَامُوا عَلَى الطّرِيقَةِ } المثلى { لَأَ ْ
ظلمهم وعدوانهم.
{ لِ َنفْتِ َنهُمْ فِيهِ } أي :لنختبرهم فيه ونمتحنهم ليظهر الصادق من الكاذب.
جدَ لِلّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ َأحَدًا } أي :ل دعاء عبادة ،ول دعاء مسألة ،فإن المساجد التي
وَأَنّ ا ْلمَسَا ِ
هي أعظم محال العبادة مبنية على الخلص ل ،والخضوع لعظمته ،والستكانة لعزته { ،وَأَنّهُ
َلمّا قَامَ عَ ْبدُ اللّهِ يَدْعُوهُ } أي :يسأله ويتعبد له ويقرأ القرآن كَاد الجن من تكاثرهم عليه أن يكونوا
عليه لبدا ،أي :متلبدين متراكمين حرصا على سماع ما جاء به من الهدى.
{ ُقلْ } لهم يا أيها الرسول ،مبينا حقيقة ما تدعو إليه { :إِ ّنمَا َأدْعُو رَبّي وَلَا ُأشْ ِركُ بِهِ َأحَدًا } أي:
أوحده وحده ل شريك له ،وأخلع ما دونه من النداد والوثان ،وكل ما يتخذه المشركون من دونه.
{ ُقلْ إِنّي لَا َأمِْلكُ َلكُمْ ضَرّا وَلَا رَشَدًا } فإني عبد ليس لي من المر ول من التصرف شيء.
أي :ل أحد أستجير به ينقذني من عذاب ال ،وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق ،ل يملك
ضرا ول رشدا ،ول يمنع نفسه من ال [شيئا] إن أراده بسوء ،فغيره من الخلق من باب أولى
وأحرى.
وأما مجرد المعصية ،فإنه ل يوجب الخلود في النار ،كما دلت على ذلك آيات القرآن ،والحاديث
عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وأجمع عليه سلف المة وأئمة هذه المة.
{ حَتّى إِذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ } أي :شاهدوه عيانا ،وجزموا أنه واقع بهمَ { ،فسَ َيعَْلمُونَ } في ذلك
عدَدًا } حين ل ينصرهم غيرهم ول أنفسهم
ض َعفُ نَاصِرًا وََأ َقلّ َ
الوقت حقيقة المعرفة { مَنْ َأ ْ
ينتصرون ،وإذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرةُ { .قلْ } لهم إن سألوك [فقالوا] { متى هذا
ج َعلُ لَهُ رَبّي َأمَدًا } أي :غاية طويلة ،فعلم ذلك عند
الوعد } ؟ { إِنْ أَدْرِي َأقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ َي ْ
ال.
حدًا } من الخلق ،بل انفرد بعلم الضمائر والسرار والغيب،
علَى غَيْ ِبهِ أَ َ
ظهِرُ َ
{ عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَا يُ ْ
{ إِلّا مَنِ ارْ َتضَى مِنْ َرسُولٍ } أي :فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به ،وذلك لن الرسل
ليسوا كغيرهم ،فإن ال أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق ،وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على
حقيقته ،من غير أن تتخبطهم الشياطين ،ول يزيدوا فيه أو ينقصوا ،ولهذا قال { :فَإِنّهُ يَسُْلكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدًا } أي :يحفظونه بأمر ال؛ { لِ َيعَْلمَ } بذلك { أَنْ قَدْ أَبَْلغُوا رِسَالَاتِ رَ ّبهِمْ }
حصَى
بما جعله لهم من السباب { ،وََأحَاطَ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ } أي :بما عندهم ،وما أسروه وأعلنوه { ،وَأَ ْ
شيْءٍ عَ َددًا } وفي هذه السورة فوائد كثيرة :منها :وجود الجن ،وأنهم مكلفون مأمورون
ُكلّ َ
مكلفون منهيون ،مجازون بأعمالهم ،كما هو صريح في هذه السورة.
ومنها :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رسول إلى الجن ،كما هو رسول إلى النس ،فإن ال
صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم.
ومنها :ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق ،وأن الذي ساقهم إلى اليمان هو ما تحققوه من هداية القرآن،
وحسن أدبهم في خطابهم.
ومنها :اعتناء ال برسوله ،وحفظه لما جاء به ،فحين ابتدأت بشائر نبوته ،والسماء محروسة
بالنجوم ،والشياطين قد هربت عن أماكنها ،وأزعجت عن مراصدها ،وأن ال رحم به الرض
وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر ،وأراد بهم ربهم رشدا ،فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته
في الرض ،ما تبتهج به القلوب ،وتفرح به أولو اللباب ،وتظهر به شعائر السلم ،وينقمع به
أهل الوثان والصنام.
ومنها :شدة حرص الجن لستماع الرسول صلى ال عليه وسلم ،وتراكمهم عليه.
ومنها :أن هذه السورة قد اشتملت على المر بالتوحيد والنهي عن الشرك ،وبينت حالة الخلق،
وأن كل أحد منهم ل يستحق من العبادة مثقال ذرة ،لن الرسول محمدا صلى ال عليه وسلم ،إذا
كان ل يملك لحد نفعا ول ضرا ،بل ول يملك لنفسه ،علم أن الخلق كلهم كذلك ،فمن الخطأ
والغلط اتخاذ من هذا وصفه إلها [آخر] مع ال .ومنها :أن علوم الغيوب قد انفرد ال بعلمها ،فل
يعلمها أحد من الخلق ،إل من ارتضاه ال وخصه بعلم شيء منها .تم تفسير سورة قل أوحي
إلي ،ول الحمد
المزمل :المتغطي بثيابه كالمدثر ،وهذا الوصف حصل من رسول ال صلى ال عليه وسلم حين
أكرمه ال برسالته ،وابتدأه بإنزال [وحيه بإرسال] جبريل إليه ،فرأى أمرا لم ير مثله ،ول يقدر
على الثبات له إل المرسلون ،فاعتراه في ابتداء ذلك انزعاج حين رأى جبريل عليه السلم ،فأتى
إلى أهله ،فقال " :زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه ،ثم جاءه جبريل فقال " :اقرأ " فقال " :ما
أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد ،وهو يعالجه على القراءة ،فقرأ صلى ال عليه وسلم ،ثم
ألقى ال عليه الثبات ،وتابع عليه الوحي ،حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين.
فسبحان ال ،ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ،ولهذا خاطبه ال بهذا الوصف الذي وجد
منه في أول أمره.
فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به ،ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه ،ثم أمره بالصدع بأمره،
وإعلن دعوتهم إلى ال ،فأمره هنا بأشرف العبادات ،وهي الصلة ،وبآكد الوقات وأفضلها ،وهو
قيام الليل.
ومن رحمته تعالى ،أنه لم يأمره بقيام الليل كله ،بل قالُ { :قمِ اللّ ْيلَ إِلّا قَلِيلًا } .
صفَهُ َأوِ ا ْنقُصْ مِنْهُ } أي :من النصف { قَلِيلًا } بأن يكون الثلث ونحوه.
ثم قدر ذلك فقالِ { :ن ْ
{ َأوْ ِزدْ عَلَيْهِ } أي :على النصف ،فيكون الثلثين ونحوها { .وَرَ ّتلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيلًا } فإن ترتيل
القرآن به يحصل التدبر والتفكر ،وتحريك القلوب به ،والتعبد بآياته ،والتهيؤ والستعداد التام له،
فإنه قال { :إِنّا سَنُ ْلقِي عَلَ ْيكَ َقوْلًا َثقِيلًا } أي :نوحي إليك هذا القرآن الثقيل ،أي :العظيمة معانيه،
الجليلة أوصافه ،وما كان بهذا الوصف ،حقيق أن يتهيأ له ،ويرتل ،ويتفكر فيما يشتمل عليه.
ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل ،فقال { :إِنّ نَاشِ َئةَ اللّ ْيلِ } أي :الصلة فيه بعد النوم { ِهيَ َأشَدّ
وَطْئًا وََأ ْقوَمُ قِيلًا } أي :أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن ،يتواطأ على القرآن القلب واللسان،
وتقل الشواغل ،ويفهم ما يقول ،ويستقيم له أمره ،وهذا بخلف النهار ،فإنه ل يحصل به هذا
طوِيلًا } أي :ترددا على حوائجك ومعاشك،
المقصود ،ولهذا قال { :إِنّ َلكَ فِي اَل ّنهَارِ سَ ْبحًا َ
يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام.
{ وَا ْذكُرِ اسْمَ رَ ّبكَ } شامل لنواع الذكر كلها { وَتَبَ ّتلْ إِلَ ْيهِ تَبْتِيلًا } أي :انقطع إلى ال تعالى ،فإن
النقطاع إلى ال والنابة إليه ،هو النفصال بالقلب عن الخلئق ،والتصاف بمحبة ال ،وكل ما
يقرب إليه ،ويدني من رضاه.
ق وَا ْل َمغْ ِربِ } وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب [كلها] ،فهو تعالى رب
{ َربّ ا ْلمَشْ ِر ِ
المشارق والمغارب ،وما يكون فيها من النوار ،وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي،
فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره.
{ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ } أي :ل معبود إل وجهه العلى ،الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم،
خ ْذ ُه َوكِيلًا } أي :حافظا ومدبرا لمورك كلها.
والجلل والتكريم ،ولهذا قال { :فَاتّ ِ
فلما أمره ال بالصلة خصوصا ،وبالذكر عموما ،وذلك يحصل للعبد ملكة قوية في تحمل الثقال،
وفعل الثقيل من العمال ،أمره بالصبر على ما يقول فيه المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء
به ،وأن يمضي على أمر ال ،ل يصده عنه صاد ،ول يرده راد ،وأن يهجرهم هجرا جميل ،وهو
الهجر حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي ل أذية فيه ،فيقابلهم بالهجر والعراض عنهم وعن
أقوالهم التي تؤذيه ،وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن.
{ وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ } أي :اتركني وإياهم ،فسأنتقم منهم ،وإن أمهلتهم فل أهملهم ،وقوله { :أُولِي
ال ّن ْعمَةِ } أي :أصحاب النعمة والغنى ،الذين طغوا حين وسع ال عليهم من رزقه ،وأمدهم من
طغَى أَنْ رَآهُ اسْ َتغْنَى } .
فضله كما قال تعالى { :كَلّا إِنّ الْإِ ْنسَانَ لَيَ ْ
يقول تعالى :احمدوا ربكم على إرسال هذا النبي المي العربي البشير النذير ،الشاهد على المة
بأعمالهم ،واشكروه وقوموا بهذه النعمة الجليلة ،وإياكم أن تكفروها ،فتعصوا رسولكم ،فتكونوا
كفرعون حين أرسل ال إليه موسى بن عمران ،فدعاه إلى ال ،وأمره بالتوحيد ،فلم يصدقه ،بل
عصاه ،فأخذه ال أخذا وبيل أي :شديدا بليغا.
ع ُدهُ
ن وَ ْ
سمَاءُ مُ ْنفَطِرٌ بِهِ كَا َ
ج َعلُ ا ْلوِلْدَانَ شِيبًا * ال ّ
{ َ { } 18 - 17فكَ ْيفَ تَ ّتقُونَ إِنْ َكفَرْتُمْ َي ْومًا يَ ْ
َمفْعُولًا }
أي :فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة ،اليوم المهيل أمره ،العظيم قدره ،الذي
ن وَعْ ُدهُ
يشيب الولدان ،وتذوب له الجمادات العظام ،فتتفطر به السماء وتنتثر به نجومها { كَا َ
َمفْعُولًا } أي :ل بد من وقوعه ،ول حائل دونه.
[أي ]:إن هذه الموعظة التي نبأ ال بها من أحوال يوم القيامة وأهواله ،تذكرة يتذكر بها
المتقون ،وينزجر بها المؤمنونَ { ،فمَنْ شَاءَ اتّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا } أي :طريقا موصل إليه ،وذلك
باتباع شرعه ،فإنه قد أبانه كل البيان ،وأوضحه غاية اليضاح ،وفي هذا دليل على أن ال تعالى
أقدر العباد على أفعالهم ،ومكنهم منها ،ل كما يقوله الجبرية :إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم ،فإن
هذا خلف النقل والعقل.
ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس ،أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل
ل وَال ّنهَارَ } أي :يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى.
فقال { :وَاللّهُ ُيقَدّرُ اللّ ْي َ
حصُوهُ } أي[ :لن] تعرفوا مقداره من غير زيادة ول نقص ،لكون ذلك يستدعي
{ عَِلمَ أَنْ لَنْ ُت ْ
انتباها وعناء زائدا أي :فخفف عنكم ،وأمركم بما تيسر عليكم ،سواء زاد على المقدر أو نقص{ ،
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنَ ا ْلقُرْآنِ } أي :مما تعرفون ومما ل يشق عليكم ،ولهذا كان المصلي بالليل
مأمورا بالصلة ما دام نشيطا ،فإذا فتر أو كسل أو نعس ،فليسترح ،ليأتي الصلة بطمأنينة
وراحة.
ثم ذكر بعض السباب المناسبة للتخفيف ،فقال { :عَلِمَ أَنْ سَ َيكُونُ مِ ْنكُمْ مَ ْرضَى } يشق عليهم
صلة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،فليصل المريض المتسهل عليه ،ول يكون أيضا مأمورا
بالصلة قائما عند مشقة ذلك ،بل لو شقت عليه الصلة النافلة ،فله تركها [وله أجر ما كان يعمل
ضلِ اللّهِ } أي :وعلم أن منكم مسافرين
صحيحا] { .وَآخَرُونَ َيضْرِبُونَ فِي الْأَ ْرضِ يَبْ َتغُونَ مِنْ َف ْ
يسافرون للتجارة ،ليستغنوا عن الخلق ،ويتكففوا عن الناس أي :فالمسافر ،حاله تناسب التخفيف،
ولهذا خفف عنه في صلة الفرض ،فأبيح له جمع الصلتين في وقت واحد ،وقصر الصلة
الرباعية.
وكذلك { آخَرُونَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين ،تخفيفا
للصحيح المقيم ،يراعي فيه نشاطه ،من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت ،بل يتحرى الصلة
الفاضلة ،وهي ثلث الليل بعد نصفه الول.
وتخفيفا للمريض أو المسافر ،سواء كان سفره للتجارة ،أو لعبادة ،من قتال أو جهاد ،أو حج ،أو
عمرة ،ونحو ذلك ،فإنه أيضا يراعي ما ل يكلفه ،فلله الحمد والثناء ،الذي ما جعل على المة
في الدين من حرج ،بل سهل شرعه ،وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم.
ثم أمر العباد بعبادتين ،هما أم العبادات وعمادها :إقامة الصلة ،التي ل يستقيم الدين إل بها،
وإيتاء الزكاة التي هي برهان اليمان ،وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين ،ولهذا قال:
حسَنًا } أي :خالصا
{ وََأقِيمُوا الصّلَاةَ } بأركانها ،وشروطها ،ومكملتها { ،وََأقْ ِرضُوا اللّهَ قَ ْرضًا َ
لوجه ال ،من نية صادقة ،وتثبيت من النفس ،ومال طيب ،ويدخل في هذا ،الصدقة الواجبة ؟
جدُوهُ عِ ْندَ اللّهِ
سكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَ ِ
والمستحبة ،ثم حث على عموم الخير وأفعاله فقالَ { :ومَا ُتقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ
ُهوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ َأجْرًا } الحسنة بعشر أمثالها ،إلى سبعمائة ضعف ،إلى أضعاف كثيرة.
وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار ،يقابله أضعاف أضعاف الدنيا ،وما عليها في دار
النعيم المقيم ،من اللذات والشهوات ،وأن الخير والبر في هذه الدنيا ،مادة الخير والبر في دار
القرار ،وبذره وأصله وأساسه ،فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلت ،وواحسرتاه على أزمان
تقضت بغير العمال الصالحات ،وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها ،ولم ينجع فيها
تشويق من هو أرحم بها منها ،فلك اللهم الحمد ،وإليك المشتكى ،وبك المستغاث ،ول حول ول
قوة إل بك.
غفُورٌ رَحِيمٌ } وفي المر بالستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة
{ وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
والخير ،فائدة كبيرة ،وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به ،إما أن ل يفعله أصل أو
يفعله على وجه ناقص ،فأمر بترقيع ذلك بالستغفار ،فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار ،فمتى لم
يتغمده ال برحمته ومغفرته ،فإنه هالك.
طهّرْ *
حمَنِ الرّحِيمِ يَا أَ ّيهَا ا ْلمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَ ّبكَ َفكَبّرْ * وَثِيَا َبكَ َف َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 7 - 1بِ ْ
وَالرّجْزَ فَا ْهجُرْ * وَلَا َتمْنُنْ تَسْ َتكْثِرُ * وَلِرَ ّبكَ فَاصْبِرْ }
تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ،وأن ال أمر رسوله صلى ال عليه وسلم ،بالجتهاد في
عبادة ال القاصرة والمتعدية ،فتقدم هناك المر له بالعبادات الفاضلة القاصرة ،والصبر على أذى
قومه ،وأمره هنا بإعلن الدعوة ،والصدع بالنذار ،فقال { :قُمِ } [أي] بجد ونشاط { فَأَنْذِرْ }
الناس بالقوال والفعال ،التي يحصل بها المقصود ،وبيان حال المنذر عنه ،ليكون ذلك أدعى
لتركه { ،وَرَ ّبكَ َفكَبّرْ } أي :عظمه بالتوحيد ،واجعل قصدك في إنذارك وجه ال ،وأن يعظمه
العباد ويقوموا بعبادته.
طهّرْ } يحتمل أن المراد بثيابه ،أعماله كلها ،وبتطهيرها تخليصها والنصح بها،
{ وَثِيَا َبكَ فَ َ
وإيقاعها على أكمل الوجوه ،وتنقيتها عن المبطلت والمفسدات ،والمنقصات من شر ورياء،
[ونفاق] ،وعجب ،وتكبر ،وغفلة ،وغير ذلك ،مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته.
ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة ،فإن ذلك من تمام التطهير للعمال خصوصا في
الصلة ،التي قال كثير من العلماء :إن إزالة النجاسة عنها شرط من شروط الصلة.
ويحتمل أن المراد بثيابه ،الثياب المعروفة ،وأنه مأمور بتطهيرها عن [جميع] النجاسات ،في
جميع الوقات ،خصوصا في الدخول في الصلوات ،وإذا كان مأمورا بتطهير الظاهر ،فإن طهارة
الظاهر من تمام طهارة الباطن.
{ وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ } يحتمل أن المراد بالرجز الصنام والوثان ،التي عبدت مع ال ،فأمره بتركها،
والبراءة منها ومما نسب إليها من قول أو عمل .ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها
وأقواله ،فيكون أمرا له بترك الذنوب ،صغيرها وكبيرها ،ظاهرها وباطنها ،فيدخل في ذلك
الشرك وما دونه.
{ وَلَا َتمْنُنْ َتسْ َتكْثِرُ } أي :ل تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية ،فتتكثر
بتلك المنة ،وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة ،بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك ،وانس
[عندهم] إحسانك ،ول تطلب أجره إل من ال تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد
سواء.
وقد قيل :إن معنى هذا ،ل تعط أحدا شيئا ،وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه ،فيكون هذا
خاصا بالنبي صلى ال عليه وسلم.
{ وَلِرَ ّبكَ فَاصْبِرْ } أي :احتسب بصبرك ،واقصد به وجه ال تعالى ،فامتثل رسول ال صلى ال
عليه وسلم لمر ربه ،وبادر إليه ،فأنذر الناس ،وأوضح لهم باليات البينات جميع المطالب
اللهية ،وعظم ال تعالى ،ودعا الخلق إلى تعظيمه ،وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء،
وهجر كل ما يبعد عن ال من الصنام وأهلها ،والشر وأهله ،وله المنة على الناس -بعد منة
ال -من غير أن يطلب منهم على ذلك جزاء ول شكورا ،وصبر ل أكمل صبر ،فصبر على
طاعة ال ،وعن معاصي ال ،وعلى أقدار ال المؤلمة ،حتى فاق أولي العزم من المرسلين،
صلوات ال وسلمه عليه وعليهم أجمعين.
علَى ا ْلكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }
{ { } 10 - 8فَإِذَا ُنقِرَ فِي النّاقُورِ * فَذَِلكَ َي ْومَئِذٍ َيوْمٌ عَسِيرٌ * َ
أي :فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور ،وجمع الخلق للبعث والنشور.
{ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ غَيْرُ َيسِيرٍ } لنهم قد أيسوا من كل خير ،وأيقنوا بالهلك والبوار .ومفهوم ذلك
أنه على المؤمنين يسير ،كما قال تعالىَ { :يقُولُ ا ْلكَافِرُونَ هَذَا َي ْومٌ عَسِرٌ } .
هذه اليات ،نزلت في الوليد بن المغيرة ،معاند الحق ،والمبارز ل ولرسوله بالمحاربة والمشاقة،
فذمه ال ذما لم يذمه غيره ،وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه ،أن له الخزي في الدنيا،
ت وَحِيدًا } أي :خلقته منفردا ،بل مال ول أهل،
ولعذاب الخرة أخزى ،فقال { :ذَرْنِي َومَنْ خََلقْ ُ
جعَ ْلتُ لَهُ مَالًا َممْدُودًا } أي :كثيرا { و } جعلت له { بنين }
ول غيره ،فلم أزل أنميه وأربيه { ،وَ َ
شهُودًا } أي :دائما حاضرين عنده[ ،على الدوام] يتمتع بهم ،ويقضي بهم حوائجه،
أي :ذكورا { ُ
ويستنصر بهم.
{ َو َمهّ ْدتُ لَهُ َت ْمهِيدًا } أي :مكنته من الدنيا وأسبابها ،حتى انقادت له مطالبه ،وحصل على ما
طمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي :يطمع أن ينال نعيم الخرة
يشتهي ويريدُ { ،ثمّ } مع هذه النعم والمدادات { َي ْ
كما نال نعيم الدنيا.
{ كَلّا } أي :ليس المر كما طمع ،بل هو بخلف مقصوده ومطلوبه ،وذلك لنه { كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا
} أي :معاندا ،عرفها ثم أنكرها ،ودعته إلى الحق فلم ينقد لها ولم يكفه أنه أعرض وتولى عنها،
بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها ،ولهذا قال عنه:
{ إِنّهُ َفكّرَ } [أي ]:في نفسه { َوقَدّرَ } ما فكر فيه ،ليقول قول يبطل به القرآن.
{ َفقُ ِتلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُ ِتلَ كَ ْيفَ قَدّرَ } لنه قدر أمرا ليس في طوره ،وتسور على ما ل يناله هو و
س وَبَسَرَ } في وجهه ،وظاهره نفرة عن الحق وبغضا
[ل] أمثاله { ،ثُمّ َنظَرَ } ما يقول { ،ثُمّ عَ َب َ
له { ،ثُمّ َأدْبَرَ } أي :تولى { وَاسْ َتكْبَرَ } نتيجة سعيه الفكري والعملي والقولي أن قال:
سحْرٌ ُيؤْثَرُ إِنْ َهذَا إِلّا َق ْولُ الْبَشَرِ } أي :ما هذا كلم ال ،بل كلم البشر ،وليس أيضا
{ إِنْ هَذَا إِلّا ِ
كلم البشر الخيار ،بل كلم الفجار منهم والشرار ،من كل كاذب سحار.
كيف يدور في الذهان ،أو يتصوره ضمير كل إنسان ،أن يكون أعلى الكلم وأعظمه ،كلم الرب
العظيم ،الماجد الكريم ،يشبه كلم المخلوقين الفقراء الناقصين؟!
أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد ،على وصفه كلم المبدئ المعيد .
سقَرُ لَا تُ ْبقِي وَلَا تَذَرُ } أي :ل تبقي من الشدة ،ول على المعذب
سقَ َر َومَا أَدْرَاكَ مَا َ
{ سَُأصْلِيهِ َ
شيئا إل وبلغته.
{ َلوّاحَةٌ لِلْ َبشَرِ } أي :تلوحهم [وتصليهم] في عذابها ،وتقلقهم بشدة حرها وقرها.
سعَةَ عَشَرَ } من الملئكة ،خزنة لها ،غلظ شداد ،ل يعصون ال ما أمرهم ،ويفعلون ما
{ عَلَ ْيهَا ِت ْ
يؤمرون.
ضلّ اللّهُ مَنْ يَشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فمن هداه ال ،جعل ما أنزله ال على رسوله رحمة
{ َكذَِلكَ ُي ِ
في حقه ،وزيادة في إيمانه ودينه ،ومن أضله ،جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه
وحيرة ،وظلمة في حقه ،والواجب أن يتلقى ما أخبر ال به ورسوله بالتسليم ،فإنه ل يعلم جنود
ربك من الملئكة وغيرهم { إلّا ُهوَ } فإذا كنتم جاهلين بجنوده ،وأخبركم بها العليم الخبير ،فعليكم
أن تصدقوا خبره ،من غير شك ول ارتيابَ { ،ومَا ِهيَ إِلّا ِذكْرَى لِلْ َبشَرِ } أي :وما هذه الموعظة
والتذكار مقصودا به العبث واللعب ،وإنما المقصود به أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه،
وما يضرهم فيتركونه.
{ كَلّا } هنا بمعنى :حقا ،أو بمعنى { أل } الستفتاحية ،فأقسم تعالى بالقمر ،وبالليل وقت إدباره،
والنهار وقت إسفاره ،لشتمال المذكورات على آيات ال العظيمة ،الدالة على كمال قدرة ال
وحكمته ،وسعة سطانه ،وعموم رحمته ،وإحاطة علمه ،والمقسم عليه قوله { :إِ ّنهَا } أي النار
{ لَِإحْدَى ا ْلكُبَرِ } أي :لحدى العظائم الطامة والمور الهامة ،فإذا أعلمناكم بها ،وكنتم على بصيرة
من أمرها ،فمن شاء منكم أن يتقدم ،فيعمل بما يقربه من ربه ،ويدنيه من رضاه ،ويزلفه من دار
كرامته ،أو يتأخر [عما خلق له و] عما يحبه ال [ويرضاه] ،فيعمل بالمعاصي ،ويتقرب إلى نار
ن َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ } الية.
حقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِ ْ
جهنم ،كما قال تعالىَ { :و ُقلِ الْ َ
{ ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َبتْ } من أعمال السوء وأفعال الشر { َرهِينَةٌ } بها موثقة بسعيها ،قد ألزم
عنقها ،وغل في رقبتها ،واستوجبت به العذاب { ،إِلّا َأصْحَابَ الْ َيمِينِ } فإنهم لم يرتهنوا ،بل أطلقوا
وفرحوا { فِي جَنّاتٍ يَ َتسَاءَلُونَ عَنِ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ }
أي :في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم ،وتمت لهم الراحة والطمأنينة ،حتى أقبلوا
يتساءلون ،فأفضت بهم المحادثة ،أن سألوا عن المجرمين ،أي :حال وصلوا إليها ،وهل وجدوا ما
وعدهم ال تعالى؟ فقال بعضهم لبعض " :هل أنتم مطلعون عليهم " فاطلعوا عليهم في وسط
سقَرَ } أي :أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي :ذنب
الجحيم يعذبون ،فقالوا لهم { :مَا سََل َككُمْ فِي َ
سكِينَ } فل إخلص للمعبود[ ،ول
طعِمُ ا ْلمِ ْ
استحققتموها؟ فـ { قَالُوا لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ وََلمْ َنكُ نُ ْ
إحسان] ول نفع للخلق المحتاجين.
{ َوكُنّا نَخُوضُ مَعَ ا ْلخَا ِئضِينَ } أي :نخوض بالباطل ،ونجادل به الحقَ { ،وكُنّا ُنكَ ّذبُ بِ َيوْمِ الدّينِ }
هذا آثار الخوض بالباطل[ ،وهو] التكذيب بالحق ،ومن أحق الحق ،يوم الدين ،الذي هو محل
الجزاء على العمال ،وظهور ملك ال وحكمه العدل لسائر الخلق.
فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد { حَتّى أَتَانَا الْ َيقِينُ } أي :الموت ،فلما ماتوا على الكفر تعذرت
شفَاعَةُ الشّا ِفعِينَ } لنهم ل
حينئذ عليهم الحيل ،وانسد في وجوههم باب الملَ { ،فمَا تَ ْن َف ُعهُمْ َ
يشفعون إل لمن ارتضى ،وهؤلء ل يرضى ال أعمالهم .فلما بين ال مآل المخالفين ،ورهب
مما يفعل بهم ،عطف على الموجودين بالعتاب واللوم ،فقالَ { :فمَا َلهُمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُمعْ ِرضِينَ }
حمُرٌ مُسْتَ ْنفِ َرةٌ } أي :كأنهم حمر
أي :صادين غافلين عنها { .كَأَ ّنهُمْ } في نفرتهم الشديدة منها { ُ
سوَ َرةٍ } أي :من صائد ورام يريدها،
وحش نفرت فنفر بعضها بعضا ،فزاد عدوها { ،فَ ّرتْ مِنْ قَ ْ
أو من أسد ونحوه ،وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق ،ومع هذا العراض وهذا
النفور ،يدعون الدعاوى الكبار.
{ كَلّا إِنّهُ تَ ْذكِ َرةٌ } الضمير إما أن يعود على هذه السورة ،أو على ما اشتملت عليه [من] هذه
الموعظةَ { ،فمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ } لنه قد بين له السبيل ،ووضح له الدليل.
{ َومَا يَ ْذكُرُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } فإن مشيئته نافذة عامة ،ل يخرج عنها حادث قليل ول كثير،
ففيها رد على القدرية ،الذين ل يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة ال ،والجبرية الذين يزعمون أنه
ليس للعبد مشيئة ،ول فعل حقيقة ،وإنما هو مجبور على أفعاله ،فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة
وفعل ،وجعل ذلك تابعا لمشيئتهُ { ،هوَ أَ ْهلُ ال ّت ْقوَى وَأَ ْهلُ ا ْل َم ْغفِ َرةِ } أي :هو أهل أن يتقى ويعبد،
لنه الله الذي ل تنبغي العبادة إل له ،وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه .تم تفسير سورة
المدثر ول الحمد
سبُ
سمُ بِال ّنفْسِ الّلوّامَةِ * أَيَحْ َ
سمُ بِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ * وَلَا ُأقْ ِ
حمَنِ الرّحِيمِ لَا ُأقْ ِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 6 - 1بِ ْ
س ّويَ بَنَانَهُ * َبلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِ َيفْجُرَ َأمَامَهُ *
عظَامَهُ * َبلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُ َ
جمَعَ ِ
الْإِنْسَانُ َألّنْ نَ ْ
يَسَْألُ أَيّانَ َيوْمُ ا ْلقِيَامَةِ }
ليست { ل } [ها] هنا نافية[ ،ول زائدة] وإنما أتي بها للستفتاح والهتمام بما بعدها ،ولكثرة
التيان بها مع اليمين ،ل يستغرب الستفتاح بها ،وإن لم تكن في الصل موضوعة للستفتاح.
فالمقسم به في هذا الموضع ،هو المقسم عليه ،وهو البعث بعد الموت ،وقيام الناس من قبورهم ،ثم
وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.
{ وَلَا ُأ ْقسِمُ بِال ّنفْسِ الّلوّامَةِ } وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة ،سميت { لوامة } لكثرة ترددها
وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها ،ولنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت ،بل
نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه ،من تفريط أو تقصير في حق من
الحقوق ،أو غفلة ،فجمع بين القسام بالجزاء ،وعلى الجزاء ،وبين مستحق الجزاء.
جمَعَ
سبُ الْإِ ْنسَانُ أن لّنْ َن ْ
ثم أخبر مع هذا ،أن بعض المعاندين يكذب بيوم القيامة ،فقال { :أَ َيحْ َ
عِظَامَهُ } بعد الموت ،كما قال في الية الخرى { :قَالَ مَنْ يُحْيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ } ؟ فاستبعد
من جهله وعدوانه قدرة ال على خلق عظامه التي هي عماد البدن ،فرد عليه بقوله { :بَلَى قَادِرِينَ
س ّويَ بَنَانَهُ } أي :أطراف أصابعه وعظامه ،المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن،
عَلَى أَنْ نُ َ
لنها إذا وجدت النامل والبنان ،فقد تمت خلقة الجسد ،وليس إنكاره لقدرة ال تعالى قصورا
بالدليل الدال على ذلك ،وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب بما أمامه من البعث.
والفجور :الكذب مع التعمد.
أي :إذا كانت القيامة برقت البصار من الهول العظيم ،وشخصت فل تطرف كما قال تعالى:
س ِهمْ لَا يَرْتَدّ إِلَ ْيهِمْ طَ ْر ُفهُ ْم وََأفْئِدَ ُتهُمْ
طعِينَ ُمقْ ِنعِي رُءُو ِ
خصُ فِيهِ الْأَ ْبصَارُ ُمهْ ِ
شَ{ إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َي ْومٍ تَ ْ
َهوَاءٌ }
{ َيقُولُ الْإِ ْنسَانُ } حين يرى تلك القلقل المزعجات { :أَيْنَ ا ْل َمفَرّ } أي :أين الخلص والفكاك مما
طرقنا وأصابنا ?
{ كَلّا لَا وَزَرَ } أي :ل ملجأ لحد دون ال { ،إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ } لسائر العباد فليس في
إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع ،بل ل بد من إيقافه ليجزى بعمله ،ولهذا قال:
{ يُنَبّأُ الْإِنْسَانُ َي ْومَئِذٍ ِبمَا َقدّ َم وَأَخّرَ } أي :بجميع عمله الحسن والسيء ،في أول وقته وآخره ،وينبأ
بخبر ل ينكره.
{ َبلِ الْإِ ْنسَانُ عَلَى َنفْسِهِ َبصِي َرةٌ } أي :شاهد ومحاسب { ،وََلوْ أَ ْلقَى َمعَاذِي َرهُ } فإنها معاذير ل
سكَ الْ َي ْومَ عَلَ ْيكَ
تقبل ،ول تقابل ما يقرر به العبد ،فيقر به ،كما قال تعالى { :اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ
حسِيبًا } .
َ
فالعبد وإن أنكر ،أو اعتذر عما عمله ،فإنكاره واعتذاره ل يفيدانه شيئا ،لنه يشهد عليه سمعه
وبصره ،وجميع جوارحه بما كان يعمل ،ولن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه { :فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ
الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُ ْم وَلَا ُهمْ يُسْ َتعْتَبُونَ }
ج ْمعَ ُه َوقُرْآنَهُ * فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ
جلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا َ
{ { } 19 - 16لَا ُتحَ ّركْ بِهِ ِلسَا َنكَ لِ َتعْ َ
* ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }
كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي ،وشرع في تلوته عليه ،بادره النبي
صلى ال عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ ،وتله مع تلوة جبريل إياه ،فنهاه ال عن هذا،
ك وَحْ ُيهُ }
جلْ بِا ْلقُرْآنِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ ُي ْقضَى إِلَ ْي َ
وقال { :وَلَا َتعْ َ
{ فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ } أي :إذا كمل جبريل قراءة ما أوحى ال إليك ،فحينئذ اتبع ما قرأه
وأقرأه.
{ ُثمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَا َنهُ } أي :بيان معانيه ،فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه ،وهذا أعلى ما يكون،
فامتثل صلى ال عليه وسلم لدب ربه ،فكان إذا تل عليه جبريل القرآن بعد هذا ،أنصت له ،فإذا
فرغ قرأه.
وفي هذه الية أدب لخذ العلم ،أن ل يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع
فيها ،فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه ،وكذلك إذا كان في أول الكلم ما يوجب الرد أو
الستحسان ،أن ل يبادر برده أو قبوله ،حتى يفرغ من ذلك الكلم ،ليتبين ما فيه من حق أو
باطل ،وليفهمه فهما يتمكن به من الكلم عليه ،وفيها :أن النبي صلى ال عليه وسلم كما بين للمة
ألفاظ الوحي ،فإنه قد بين لهم معانيه.
{ { } 25 - 20كَلّا َبلْ تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِ َرةَ * ُوجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ * ِإلَى رَ ّبهَا
نَاظِ َرةٌ * َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ * تَظُنّ أَنْ ُيفْ َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ }
أي :هذا الذي أوجب لكم الغفلة والعراض عن وعظ ال وتذكيره أنكم { تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَةَ }
وتسعون فيما يحصلها ،وفي لذاتها وشهواتها ،وتؤثرونها على الخرة ،فتذرون العمل لها ،لن
الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة ،والنسان مولع بحب العاجل ،والخرة متأخر ما فيها من النعيم
المقيم ،فلذلك غفلتم عنها وتركتموها ،كأنكم لم تخلقوا لها ،وكأن هذه الدار هي دار القرار ،التي
تبذل فيها نفائس العمار ،ويسعى لها آناء الليل والنهار ،وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة ،وحصل من
الخسار ما حصل .فلو آثرتم الخرة على الدنيا ،ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لنجحتم،
وربحتم ربحا ل خسار معه ،وفزتم فوزا ل شقاء يصحبه.
ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الخرة ،ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها ،فقال في جزاء المؤثرين للخرة
على الدنيا { :وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَاضِ َرةٌ } أي :حسنة بهية ،لها رونق ونور ،مما هم فيه من نعيم
القلوب ،وبهجة النفوس ،ولذة الرواح { ،إِلَى رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ } أي :تنظر إلى ربها على حسب
مراتبهم :منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا ،ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة ،فيتمتعون
بالنظر إلى وجهه الكريم ،وجماله الباهر ،الذي ليس كمثله شيء ،فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من
النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما ل يمكن التعبير عنه ،ونضرت وجوههم فازدادوا جمال
إلى جمالهم ،فنسأل ال الكريم أن يجعلنا معهم.
وقال في المؤثرين العاجلة على الجلةَ { :ووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ } أي :معبسة ومكدرة ،خاشعة
ذليلةَ { .تظُنّ أَنْ ُي ْف َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ } أي :عقوبة شديدة ،وعذاب أليم ،فلذلك تغيرت وجوههم
وعبست.
{ { } 40 - 26كَلّا ِإذَا بََل َغتِ التّرَا ِقيَ * َوقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ * وَالْتَ ّفتِ السّاقُ
ق وَلَا صَلّى * وََلكِنْ كَ ّذبَ وَتَوَلّى * ثُمّ ذَ َهبَ إِلَى أَهِْلهِ
بِالسّاقِ * إِلَى رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمَسَاقُ * فَلَا صَدّ َ
طفَةً
سبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْ َركَ سُدًى * أَلَمْ َيكُ ُن ْ
يَ َتمَطّى * َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى * ُثمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى * أَ َيحْ َ
ج َعلَ مِنْهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى * أَلَ ْيسَ ذَِلكَ
سوّى * فَ َ
مِنْ مَ ِنيّ ُيمْنَى * ثُمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ
ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى }
يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق ،وأنه إذا بلغت روحه التراقي ،وهي العظام
المكتنفة لثغرة النحر ،فحينئذ يشتد الكرب ،ويطلب كل وسيلة وسبب ،يظن أن يحصل به الشفاء
والراحة ،ولهذا قالَ { :وقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي :من يرقيه من الرقية لنهم انقطعت آمالهم من
السباب العادية ،فلم يبق إل السباب اللهية .ولكن القضاء والقدر ،إذا حتم وجاء فل مرد له{ ،
وَظَنّ أَنّهُ ا ْلفِرَاقُ } للدنيا { .وَالْ َتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ } أي :اجتمعت الشدائد والتفت ،وعظم المر
وصعب الكرب ،وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه ،فتساق إلى ال تعالى،
حتى يجازيها بأعمالها ،ويقررها بفعالها.
فهذا الزجر[ ،الذي ذكره ال] يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها ،ويزجرها عما فيه هلكها .ولكن
المعاند الذي ل تنفع فيه اليات ،ل يزال مستمرا على بغيه وكفره وعناده.
صدّقَ } أي :ل آمن بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر والقدر خيره وشره { وَلَا
{ فَلَا َ
صَلّى وََلكِنْ كَ ّذبَ } بالحق في مقابلة التصديق { ،وَ َتوَلّى } عن المر والنهي ،هذا وهو مطمئن
قلبه ،غير خائف من ربه ،بل يذهب { إِلَى أَهْلِهِ يَ َتمَطّى } أي :ليس على باله شيء ،توعده بقوله:
{ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى ُثمّ َأوْلَى َلكَ فََأوْلَى } وهذه كلمات وعيد ،كررها لتكرير وعيده ،ثم ذكر النسان
سدًى } أي :معطل ،ل يؤمر ول ينهى ،ول
سبُ الْإِ ْنسَانُ أَنْ يُتْ َركَ ُ
بخلقه الول ،فقال { :أَ َيحْ َ
يثاب ول يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن بال بغير ما يليق بحكمته.
طفَةً مِنْ مَنِيّ ُيمْنَى ثُمّ كَانَ } بعد المني { عََلقَةً } أي :دماَ { ،فخَلَقَ } ال منها الحيوان
{ أََلمْ َيكُ ُن ْ
ج َعلَ مِ ْنهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى َألَيْسَ ذَِلكَ } الذي خلق النسان
وسواه أي :أتقنه وأحكمهَ { ،ف َ
[وطوره إلى] هذه الطوار المختلفة { ِبقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْ ِييَ ا ْل َموْتَى } بلى إنه على كل شيء قدير.
تم تفسير سورة القيامة ،ول الحمد والمنة ،وذلك في 16صفر سنة 1344
المجلد التاسع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى ال :عبد الرحمن بن
ناصر بن عبد ال السعدي غفر ال له ولوالديه وللمسلمين آمين.
حمَنِ الرّحِيمِ َهلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَمْ َيكُنْ شَيْئًا مَ ْذكُورًا
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 3 - 1بِ ْ
سمِيعًا َبصِيرًا * إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ ِإمّا شَاكِرًا
جعَلْنَاهُ َ
طفَةٍ َأمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَ َ
* إِنّا خََلقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ ُن ْ
وَِإمّا َكفُورًا }
ذكر ال في هذه السورة الكريمة أول حالة النسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها.
فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده ،وهو معدوم بل ليس مذكورا.
طفَةٍ َأمْشَاجٍ }
ثم لما أراد ال تعالى خلقه ،خلق [أباه] آدم من طين ،ثم جعل نسله متسلسل { مِنْ ُن ْ
أي :ماء مهين مستقذر { نَبْتَلِيهِ } بذلك لنعلم هل يرى حاله الولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره
نفسه؟
فأنشأه ال ،وخلق له القوى الباطنة والظاهرة ،كالسمع والبصر ،وسائر العضاء ،فأتمها له
وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
ثم أرسل إليه الرسل ،وأنزل عليه الكتب ،وهداه الطريق الموصلة إلى ال ،ورغبه فيها ،وأخبره
بما له عند الوصول إلى ال.
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلك ،ورهبه منها ،وأخبره بما له إذا سلكها ،وابتله بذلك،
فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة ال عليه ،قائم بما حمله ال من حقوقه ،وإلى كفور لنعمة ال عليه،
أنعم ال عليه بالنعم الدينية والدنيوية ،فردها ،وكفر بربه ،وسلك الطريق الموصلة إلى الهلك.
إلى آخر الثواب أي :إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بال ،وكذب رسله ،وتجرأ على المعاصي
عهَا سَ ْبعُونَ ذِرَاعًا فَاسُْلكُوهُ }.
سلَ } في نار جهنم ،كما قال تعالى { :ثُمّ فِي سِ ْلسِلَةٍ ذَرْ ُ
{ سَلَا ِ
وأما { الْأَبْرَارِ } وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة ال ومعرفته ،والخلق الجميلة ،فبرت
جوارحهم ،واستعملوها بأعمال البر أخبر أنهم { يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ } أي :شراب لذيذ من خمر
قد مزج بكافور أي :خلط به ليبرده ويكسر حدته ،وهذا الكافور [في غاية اللذة] قد سلم من كل
مكدر ومنغص ،موجود في كافور الدنيا ،فإن الفة الموجودة في السماء التي ذكر ال أنها في
الجنة وهي في الدنيا تعدم في الخرة .
{ عَيْنًا َيشْ َربُ ِبهَا عِبَادُ اللّهِ } أي :ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به ،ل يخافون نفاده ،بل له مادة
ل تنقطع ،وهي عين دائمة الفيضان والجريان ،يفجرها عباد ال تفجيرا ،أنى شاءوا ،وكيف
أرادوا ،فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات ،أو إلى الرياض الناضرات ،أو بين جوانب
القصور والمساكن المزخرفات ،أو إلى أي :جهة يرونها من الجهات المونقات.
وقد ذكر جملة من أعمالهم في أول هذه السورة ،فقال { :يُوفُونَ بِالنّذْرِ } أي :بما ألزموا به
أنفسهم ل من النذور والمعاهدات ،وإذا كانوا يوفون بالنذر ،وهو لم يجب عليهم ،إل بإيجابهم
على أنفسهم ،كان فعلهم وقيامهم بالفروض الصلية ،من باب أولى وأحرى { ،وَيَخَافُونَ َي ْومًا كَانَ
شَ ّرهُ مُسْ َتطِيرًا } أي :منتشرا فاشيا ،فخافوا أن ينالهم شره ،فتركوا كل سبب موجب لذلك،
طعَامَ عَلَى حُبّهِ } أي :وهم في حال يحبون فيها المال والطعام ،لكنهم قدموا محبة
ط ِعمُونَ ال ّ
{ وَيُ ْ
سكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } .
ال على محبة نفوسهم ،ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم { مِ ْ
{ إِنّا نَخَافُ مِنْ رَبّنَا َي ْومًا عَبُوسًا } أي :شديد الجهمة والشر { َق ْمطَرِيرًا } أي :ضنكا ضيقا،
{ َف َوقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَِلكَ الْ َيوْمِ } فل يحزنهم الفزع الكبر ،وتتلقاهم الملئكة [هذا يومكم الذي كنتم
توعدون].
{ وََلقّاهُمْ } أي :أكرمهم وأعطاهم { َنضْ َرةً } في وجوههم { وَسُرُورًا } في قلوبهم ،فجمع لهم بين
نعيم الظاهر والباطن { وَجَزَاهُمْ ِبمَا صَبَرُوا } على طاعة ال ،فعملوا ما أمكنهم منها ،وعن
معاصي ال ،فتركوها ،وعلى أقدار ال المؤلمة ،فلم يتسخطوها { ،جَنّةً } جامعة لكل نعيم ،سالمة
سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولعل ال إنما خص
من كل مكدر ومنغص { ،وَحَرِيرًا } كما قال [تعالى { ]:وَلِبَا ُ
الحرير ،لنه لباسهم الظاهر ،الدال على حال صاحبه.
{ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ } التكاء :التمكن من الجلوس ،في حال الرفاهية والطمأنينة [الراحة]،
شمْسًا } يضرهم
والرائك هي السرر التي عليها اللباس المزين { ،لَا يَ َروْنَ فِيهَا } أي :في الجنة { َ
حرها { وَلَا َز ْمهَرِيرًا } أي :بردا شديدا ،بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل ،ل حر ول برد ،بحيث
تلتذ به الجساد ،ول تتألم من حر ول برد.
{ وَدَانِ َيةً عَلَ ْيهِمْ ظِلَاُلهَا وَذُلَّلتْ ُقطُو ُفهَا َتذْلِيلًا } أي :قربت ثمراتها من مريدها تقريبا ينالها ،وهو
قائم ،أو قاعد ،أو مضطجع.
ويطاف على أهل الجنة أي :يدور [عليهم] الخدم والولدان { بِآنِ َيةٍ مِنْ ِفضّ ٍة وََأ ْكوَابٍ كَا َنتْ
َقوَارِيرَا } { َقوَارِيرَ مِنْ ِفضّةٍ } أي :مادتها من فضة[ ،وهي] على صفاء القوارير ،وهذا من
أعجب الشياء ،أن تكون الفضة الكثيفة من صفاء جوهرها وطيب معدنها على صفاء القوارير.
{ َقدّرُوهَا َتقْدِيرًا } أي :قدروا الواني المذكورة على قدر ريهم ،ل تزيد ول تنقص ،لنها لو
زادت نقصت لذتها ،ولو نقصت لم تف بريهم .ويحتمل أن المراد :قدرها أهل الجنة بنفوسهم
بمقدار يوافق لذاتهم ،فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم.
جهَا }
س َقوْنَ فِيهَا } أي :في الجنة من كأس ،وهو الناء المملوء من خمر ورحيق { ،كَانَ مِزَا ُ
{ وَيُ ْ
أي :خلطها { زَ ْنجَبِيلًا } ليطيب طعمه وريحه.
{ وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ } أي :خلقوا من الجنة للبقاء ،ل يتغيرون ول يكبرون ،وهم في غاية الحسن،
حسِبْ َتهُمْ } من حسنهم { ُلؤُْلؤًا مَنْثُورًا } وهذا من تمام لذة
{ ِإذَا رَأَيْ َتهُمْ } منتشرين في خدمتهم { َ
أهل الجنة ،أن يكون خدامهم الولدان المخلدون ،الذين تسر رؤيتهم ،ويدخلون على مساكنهم ،آمنين
من تبعتهم ،ويأتونهم بما يدعون وتطلبه نفوسهم { ،وَإِذَا رَأَ ْيتَ َثمّ } أي :هناك في الجنة ،ورمقت
ما هم فيه من النعيم { رَأَ ْيتَ َنعِيمًا َومُلْكًا كَبِيرًا } فتجد الواحد منهم ،عنده من القصور والمساكن
والغرف المزينة المزخرفة ،ما ل يدركه الوصف ،ولديه من البساتين الزاهرة ،والثمار الدانية،
والفواكه اللذيذة ،والنهار الجارية ،والرياض المعجبة ،والطيور المطربة [المشجية] ما يأخذ
بالقلوب ،ويفرح النفوس.
وعنده من الزوجات .اللتي هن في غاية الحسن والحسان ،الجامعات لجمال الظاهر والباطن،
الخيرات الحسان ،ما يمل القلب سرورا ،ولذة وحبورا ،وحوله من الولدان المخلدين ،والخدم
المؤبدين ،ما به تحصل الراحة والطمأنينة ،وتتم لذة العيش ،وتكمل الغبطة.
ثم علوة ذلك وأعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم ،وسماع خطابه ،ولذة قربه ،والبتهاج برضاه،
والخلود الدائم ،وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين ،فسبحان الملك المالك ،الحق المبين،
الذي ل تنفد خزائنه ،ول يقل خيره ،فكما ل نهاية لوصافه فل نهاية لبره وإحسانه.
خضْرٌ } أي :قد جللتهم ثياب السندس والستبرق الخضران ،اللذان هما
{ عَالِ َي ُهمْ ثِيَابُ سُنْ ُدسٍ ُ
أجل أنواع الحرير ،فالسندس :ما غلظ من الديباج والستبرق :ما رق منه { .وَحُلّوا أَسَاوِرَ مِنْ
ِفضّةٍ } أي :حلوا في أيديهم أساور الفضة ،ذكورهم وإناثهم ،وهذا وعد وعدهم ال ،وكان وعده
مفعول ،لنه ل أصدق منه قيل ول حديثا.
طهُورًا } أي :ل كدر فيه بوجه من الوجوه ،مطهرا لما في بطونهم
سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ شَرَابًا َ
وقوله { :وَ َ
من كل أذى وقذى.
{ إِنّ هَذَا } الجزاء الجزيل والعطاء الجميل { كَانَ َل ُكمْ جَزَاءً } على ما أسلفتموه من العمال،
شكُورًا } أي :القليل منه ،يجعل ال لكم به من النعيم المقيم ما ل يمكن حصره.
سعْ ُيكُمْ مَ ْ
{ َوكَانَ َ
وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة { إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ تَنْزِيلًا } فيه الوعد والوعيد وبيان كل
ما يحتاجه العباد ،وفيه المر بالقيام بأوامره وشرائعه أتم القيام ،والسعي في تنفيذها ،والصبر على
حكْمِ رَ ّبكَ وَلَا تُطِعْ مِ ْن ُهمْ آ ِثمًا َأوْ َكفُورًا } أي :اصبر لحكمه القدري،
ذلك .ولهذا قال { :فَاصْبِرْ لِ ُ
فل تسخطه ،ولحكمه الديني ،فامض عليه ،ول يعوقك عنه عائق { .وَلَا تُطِعْ } من المعاندين،
الذين يريدون أن يصدوك { آ ِثمًا } أي :فاعل إثما ومعصية ول { َكفُورًا } فإن طاعة الكفار
والفجار والفساق ،ل بد أن تكون في المعاصي ،فل يأمرون إل بما تهواه أنفسهم .ولما كان
الصبر يساعده القيام بعبادة ال ،والكثار من ذكره أمره ال بذلك فقال { :وَا ْذكُرِ اسْمَ رَ ّبكَ ُبكْ َرةً
وََأصِيلًا } أي :أول النهار وآخره ،فدخل في ذلك ،الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل،
والذكر ،والتسبيح ،والتهليل ،والتكبير في هذه الوقات.
سجُدْ َلهُ } أي :أكثر [له] من السجود ،ول يكون ذلك إل بالكثار من الصلة .
{ َومِنَ اللّ ْيلِ فَا ْ
طوِيلًا } وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله { :يَا أَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ ُقمِ اللّ ْيلَ إِلّا قَلِيلًا } الية
{ وَسَبّحْهُ لَيْلًا َ
[وقوله] { إِنّ َهؤُلَاءِ } أي :المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم اليات ،ورغبوا ورهبوا،
ومع ذلك ،لم يفد فيهم ذلك شيئا ،بل ل يزالون يؤثرون { ،ا ْلعَاجَِلةَ } ويطمئنون إليها { ،وَيَذَرُونَ }
أي :يتركون العمل ويهملون { وَرَاءَ ُهمْ } أي :أمامهم { َي ْومًا َثقِيلًا } وهو يوم القيامة ،الذي مقداره
عسِرٌ } فكأنهم ما خلقوا إل
خمسون ألف سنة مما تعدون ،وقال تعالىَ { :يقُولُ ا ْلكَافِرُونَ َهذَا َيوْمٌ َ
للدنيا والقامة فيها.
خَلقْنَاهُمْ } أي:
{ } 28ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي ،وهو دليل البتداء ،فقالَ { :نحْنُ َ
أوجدناهم من العدم { ،وَشَ َددْنَا أَسْرَ ُهمْ } أي :أحكمنا خلقتهم بالعصاب ،والعروق ،والوتار،
والقوى الظاهرة والباطنة ،حتى تم الجسم واستكمل ،وتمكن من كل ما يريده ،فالذي أوجدهم على
هذه الحالة ،قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم ،والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الطوار،
ل يليق به أن يتركهم سدى ،ل يؤمرون ،ول ينهون ،ول يثابون ،ول يعاقبون ،ولهذا قالَ { :بدّلْنَا
َأمْثَاَلهُمْ تَ ْبدِيلًا } أي :أنشأناكم للبعث نشأة أخرى ،وأعدناكم بأعيانكم ،وهم بأنفسهم أمثالهم { .إِنّ
هَ ِذهِ َت ْذكِ َرةٌ } أي :يتذكر بها المؤمن ،فينتفع بما فيها من التخويف والترغيبَ { .فمَنْ شَاءَ اتّخَذَ إِلَى
رَبّهِ سَبِيلًا } أي :طريقا موصل إليه ،فال يبين الحق والهدى ،ثم يخير الناس بين الهتداء بها أو
النفور عنها ،مع قيام الحجة عليهم َ { ،ومَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } فإن مشيئة ال نافذة { ،إِنّ
خلُ مَنْ يَشَاءُ فِي
حكِيمًا } فله الحكمة في هداية المهتدي ،وإضلل الضالُ { .يدْ ِ
علِيمًا َ
اللّهَ كَانَ َ
حمَتِهِ } فيختصه بعنايته ،ويوفقه لسباب السعادة ويهديه لطرقها { .وَالظّاِلمِينَ } الذين اختاروا
رَ ْ
الشقاء على الهدى { أَعَدّ َلهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [بظلمهم وعدوانهم] .تم تفسير سورة النسان -ول
الحمد والمنة
أقسم تعالى على البعث والجزاء بالعمال ،بالمرسلت عرفا ،وهي الملئكة التي يرسلها ال
تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم ،وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله.
و { عُ ْرفًا } حال من المرسلت أي :أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة ،ل بالنكر والعبث.
صفًا } وهي [أيضا] الملئكة التي يرسلها ال تعالى وصفها بالمبادرة لمره،
ع ْ
صفَاتِ َ
{ فَا ْلعَا ِ
وسرعة تنفيذ أوامره ،كالريح العاصف ،أو :أن العاصفات ،الرياح الشديدة ،التي يسرع هبوبها.
{ وَالنّاشِرَاتِ َنشْرًا } يحتمل أنها الملئكة ،تنشر ما دبرت على نشره ،أو أنها السحاب التي
ينشر بها ال الرض ،فيحييها بعد موتها.
{ فَا ْلمُ ْلقِيَاتِ ِذكْرًا } هي الملئكه تلقي أشرف الوامر ،وهو الذكر الذي يرحم ال به عباده،
ويذكرهم فيه منافعهم ومصالحهم ،تلقيه إلى الرسل.
عذْرًا َأوْ نُذْرًا } أي :إعذارا وإنذارا للناس ،تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف وتقطع معذرتهم
{ ُ
،فل يكون لهم حجة على ال.
{ إِ ّنمَا تُوعَدُونَ } من البعث والجزاء على العمال { َلوَاقِعٌ } أي :متحتم وقوعه ،من غير شك ول
ارتياب.
فإذا وقع حصل من التغير للعالم والهوال الشديدة ما يزعج القلوب ،وتشتد له الكروب ،فتنطمس
النجوم أي :تتناثر وتزول عن أماكنها وتنسف الجبال ،فتكون كالهباء المنثور ،وتكون هي
والرض قاعا صفصفا ،ل ترى فيها عوجا ول أمتا ،وذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل،
وأجلت للحكم بينها وبين أممها ،ولهذا قال:
صلِ } [أي ]:بين الخلئق ،بعضهم لبعض ،وحساب كل منهم منفردا ،ثم
ثم أجاب بقوله { :لِ َيوْمِ ا ْل َف ْ
توعد المكذب بهذا اليوم فقال { :وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ ِل ْل ُمكَذّبِينَ } أي :يا حسرتهم ،وشدة عذابهم ،وسوء
منقلبهم ،أخبرهم ال ،وأقسم لهم ،فلم يصدقوه ،فاستحقوا العقوبة البليغة.
{ { } 19 - 16أََلمْ ُنهِْلكِ الَْأوّلِينَ * ثُمّ نُتْ ِب ُعهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَِلكَ َن ْف َعلُ بِا ْل ُمجْ ِرمِينَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ
لِ ْل ُمكَذّبِينَ }
أي :أما أهلكنا المكذبين السابقين ،ثم نتبعهم بإهلك من كذب من الخرين ،وهذه سنته السابقة
واللحقة في كل مجرم ل بد من عذابه ،فلم ل تعتبرون بما ترون وتسمعون؟
أي :أما خلقناكم أيها الدميون { مِنْ مَاءٍ َمهِينٍ } أي :في غاية الحقارة ،خرج من بين الصلب
والترائب ،حتى جعله ال { فِي قَرَارٍ َمكِينٍ } وهو الرحم ،به يستقر وينمو.
{ َفقَدَرْنَا } أي :قدرنا ودبرنا ذلك الجنين ،في تلك الظلمات ،ونقلناه من النطفة إلى العلقة ،إلى
المضغة ،إلى أن جعله ال جسدا ،ثم نفخ فيه الروح ،ومنهم من يموت قبل ذلك.
{ فَ ِنعْمَ ا ْلقَادِرُونَ } [يعني بذلك نفسه المقدسة] حيث كان قدرا تابعا للحكمة ،موافق للحمد .
{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } بعدما بين ال لهم اليات ،وأراهم العبر والبينات.
سيَ شَامِخَاتٍ
جعَلْنَا فِيهَا َروَا ِ
ج َعلِ الْأَ ْرضَ ِكفَاتًا * أَحْيَاءً وََأمْوَاتًا * َو َ
{ { } 28 - 25أََلمْ نَ ْ
سقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }
وَأَ ْ
أي :أما امتننا عليكم وأنعمنا ،بتسخير الرض لمصالحكم ،فجعلناها { ِكفَاتًا } لكم.
{ َأحْيَاءً } في الدور { ،وََأ ْموَاتًا } في القبور ،فكما أن الدور والقصور من نعم ال على عباده
ومنته ،فكذلك القبور ،رحمة في حقهم ،وسترا لهم ،عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها.
سيَ } أي :جبال ترسي الرض ،لئل تميد بأهلها ،فثبتها ال بالجبال الراسيات
جعَلْنَا فِيهَا َروَا ِ
{ وَ َ
سقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } أي :عذبا زلل ،قال تعالىَ { :أفَرَأَيْ ُتمُ
الشامخات أي :الطوال العراض { ،وَأَ ْ
شكُرُونَ
جعَلْنَاهُ ُأجَاجًا فََلوْلَا َت ْ
ا ْلمَاءَ الّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْ ُتمْ أَنْزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنْزِلُونَ َلوْ نَشَاءُ َ
}
{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } مع ما أراهم ال من النعم التي انفرد ال بها ،واختصهم بها ،فقابلوها
بالتكذيب.
هذا من الويل الذي أعد [للمجرمين] للمكذبين ،أن يقال لهم يوم القيامة { :انْطَِلقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ ِبهِ
ش َعبٍ } أي :إلى ظل نار جهنم ،التي
ظلّ ذِي ثَلَاثِ ُ
ُتكَذّبُونَ } ثم فسر ذلك بقوله { :ا ْنطَِلقُوا ِإلَى ِ
تتمايز في خلله ثلث شعب أي :قطع من النار أي :تتعاوره وتتناوبه وتجتمع به.
{ لَا ظَلِيلٍ } ذلك الظل أي :ل راحة فيه ول طمأنينة { ،وَلَا ُيغْنِي } من مكث فيه { مِنَ الّل َهبِ } بل
اللهب قد أحاط به ،يمنة ويسرة ومن كل جانب ،كما قال تعالىَ { :ل ُهمْ مِنْ َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مِنَ النّارِ
َومِنْ َتحْ ِتهِمْ ظَُللٌ }
ثم ذكر عظم شرر النار ،الدال على عظمها وفظاعتها وسوء منظرها ،فقال:
صفْرٌ } وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة،
جمَالَ ٌة ُ
{ إِ ّنهَا تَ ْرمِي بِشَرَرٍ كَا ْل َقصْرِ كَأَنّهُ ِ
وهذا يدل على أن النار مظلمة ،لهبها وجمرها وشررها ،وأنها سوداء ،كريهة المرأى ،شديدة
الحرارة ،نسأل ال العافية منها [من العمال المقربة منها].
طقُونَ * وَلَا ُيؤْذَنُ َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * هَذَا َيوْمُ
{ َ { } 40 - 35هذَا َيوْمُ لَا يَ ْن ِ
ج َمعْنَاكُمْ وَالَْأوّلِينَ * فَإِنْ كَانَ َلكُمْ كَيْدٌ َفكِيدُونِ * وَيْلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }
ا ْل َفصْلِ َ
أي :هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين ،ل ينطقون فيه من الخوف والوجل الشديد { ،وَلَا ُيؤْذَنُ
َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ } أي :ل تقبل معذرتهم ،ولو اعتذروا { :فَ َي ْومَئِذٍ لَا يَ ْنفَعُ الّذِينَ ظََلمُوا َمعْذِرَ ُتهُمْ وَلَا هُمْ
يُسْ َتعْتَبُونَ }
ج َمعْنَاكُ ْم وَالَْأوّلِينَ } لنفصل بينكم ،ونحكم بين الخلئق { ،فَإِنْ كَانَ َل ُكمْ كَيْدٌ }
صلِ َ
{ هَذَا َيوْمُ ا ْلفَ ْ
تقدرون على الخروج من ملكي وتنجون به من عذابيَ { ،فكِيدُونِ } أي :ليس لكم قدرة ول
سمَاوَاتِ
طعْتُمْ أَنْ تَ ْنفُذُوا مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ
ن وَالْإِنْسِ إِنِ اسْ َت َ
سلطان ،كما قال تعالى { :يَا َمعْشَرَ الْجِ ّ
وَالْأَ ْرضِ فَا ْنفُذُوا لَا تَ ْنفُذُونَ إِلّا بِسُلْطَانٍ }
ففي ذلك اليوم ،تبطل حيل الظالمين ،ويضمحل مكرهم وكيدهم ،ويستسلمون لعذاب ال ،ويبين لهم
كذبهم في تكذيبهم { وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ }
لما ذكر عقوبة المكذبين ،ذكر ثواب المحسنين ،فقال { :إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ } [أي ]:للتكذيب ،المتصفين
بالتصديق في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم ،ول يكونون كذلك إل بأدائهم الواجبات ،وتركهم
المحرمات.
{ { } 50 - 46كُلُوا وَ َتمَ ّتعُوا قَلِيلًا إِ ّن ُكمْ مُجْ ِرمُونَ * وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ْر َكعُوا
حدِيثٍ َب ْع َدهُ ُي ْؤمِنُونَ }
لَا يَ ْر َكعُونَ * وَيْلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ * فَبَِأيّ َ
هذا تهديد ووعيد للمكذبين ،أنهم وإن أكلوا في الدنيا وشربوا وتمتعوا باللذات ،وغفلوا عن
القربات ،فإنهم مجرمون ،يستحقون ما يستحقه المجرمون ،فستنقطع عنهم اللذات ،وتبقى عليهم
التبعات ،ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلة التي هي أشرف العبادات ،وقيل لهم { :ا ْر َكعُوا }
امتنعوا من ذلك.
{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق ،ويحرمون كل خير،
فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن الكريم ،الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الطلق.
{ فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ } أبالباطل الذي هو كاسمه ،ل يقوم عليه شبهة فضل عن الدليل؟ أم
بكلم كل مشرك كذاب أفاك مبين؟.
فليس بعد النور المبين إل دياجى الظلمات ،ول بعد الصدق الذي قامت الدلة والبراهين على
صدقه إل الكذب الصراح والفك المبين ،الذي ل يليق إل بمن يناسبه.
حمَنِ الرّحِيمِ عَمّ يَ َتسَاءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ * الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَِلفُونَ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 5 - 1بِ ْ
* كَلّا سَ َيعَْلمُونَ * ثُمّ كَلّا سَ َيعَْلمُونَ }
أي :عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات ال؟ ثم بين ما يتساءلون عنه فقال { :عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ
الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَِلفُونَ } أي :عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم ،وانتشر فيه خلفهم على
وجه التكذيب والستبعاد ،وهو النبأ الذي ل يقبل الشك ول يدخله الريب ،ولكن المكذبون بلقاء
ربهم ل يؤمنون ،ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الليم.
ولهذا قال { :كَلّا سَ َيعَْلمُونَ ُثمّ كَلّا سَ َيعَْلمُونَ } أي :سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به
يكذبون ،حين يدعون إلى نار جهنم دعا ،ويقال لهم { :هَ ِذهِ النّارُ الّتِي كُنْ ُتمْ ِبهَا ُتكَذّبُونَ }
ثم بين تعالى النعم والدلة الدالة على صدق ما أخبرت به الرسل فقال:
جعَلْنَا َن ْو َمكُمْ
خَلقْنَاكُمْ أَ ْزوَاجًا * وَ َ
ج َعلِ الْأَ ْرضَ ِمهَادًا * وَالْجِبَالَ َأوْتَادًا * وَ َ
{ { } 16 - 6أََلمْ نَ ْ
جعَلْنَا سِرَاجًا
جعَلْنَا ال ّنهَارَ َمعَاشًا * وَبَنَيْنَا َف ْو َقكُمْ سَ ْبعًا شِدَادًا * وَ َ
جعَلْنَا اللّ ْيلَ لِبَاسًا * َو َ
سُبَاتًا * َو َ
وَهّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ ا ْل ُم ْعصِرَاتِ مَاءً َثجّاجًا * لِنُخْرِجَ ِبهِ حَبّا وَنَبَاتًا * وَجَنّاتٍ أَ ْلفَافًا }
أي :أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة ،فجعلنا لكم { الْأَ ْرضَ ِمهَادًا } أي :ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم،
من الحروث والمساكن والسبل.
خَلقْنَاكُمْ أَ ْزوَاجًا } أي :ذكورا وإناثا من جنس واحد ،ليسكن كل منهما إلى الخر ،فتكون
{ وَ َ
المودة والرحمة ،وتنشأ عنهما الذرية ،وفي ضمن هذا المتنان ،بلذة المنكح.
جعَلْنَا َن ْومَكُمْ سُبَاتًا } أي :راحة لكم ،وقطعا لشغالكم ،التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم،
{ وَ َ
فجعل ال الليل والنوم يغشى الناس لتنقطع حركاتهم الضارة ،وتحصل راحتهم النافعة.
{ وَبَنَيْنَا َف ْو َقكُمْ سَ ْبعًا شِدَادًا } أي :سبع سموات ،في غاية القوة ،والصلبة والشدة ،وقد أمسكها ال
جعَلْنَا
بقدرته ،وجعلها سقفا للرض ،فيها عدة منافع لهم ،ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال { :وَ َ
سِرَاجًا وَهّاجًا } نبه بالسراج على النعمة بنورها ،الذي صار كالضرورة للخلق ،وبالوهاج الذي
فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ ا ْل ُم ْعصِرَاتِ } أي :السحاب { مَاءً َثجّاجًا } أي :كثيرا جدا.
{ لِ ُنخْرِجَ بِهِ حَبّا } من بر وشعير وذرة وأرز ،وغير ذلك مما يأكله الدميون.
{ وَنَبَاتًا } يشمل سائر النبات ،الذي جعله ال قوتا لمواشيهم.
{ وَجَنّاتٍ أَ ْلفَافًا } أي :بساتين ملتفة ،فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة.
فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة ،التي ل يقدر قدرها ،ول يحصى عددها ،كيف [تكفرون به
و] تكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟! أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه
وتجحدونها؟"
حتِ
صلِ كَانَ مِيقَاتًا * َي ْومَ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ َأ ْفوَاجًا * َوفُتِ َ
{ { } 30 - 17إِنّ َيوْمَ ا ْلفَ ْ
جهَنّمَ كَا َنتْ مِ ْرصَادًا * لِلطّاغِينَ مَآبًا *
سمَاءُ َفكَانَتْ أَ ْبوَابًا * وَسُيّ َرتِ ا ْلجِبَالُ َفكَا َنتْ سَرَابًا * إِنّ َ
ال ّ
حمِيمًا وَغَسّاقًا * جَزَاءً ِوفَاقًا * إِ ّنهُمْ كَانُوا
حقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَ ْردًا وَلَا شَرَابًا * إِلّا َ
لَابِثِينَ فِيهَا أَ ْ
حصَيْنَاهُ كِتَابًا * َفذُوقُوا فَلَنْ نَزِي َدكُمْ إِلّا عَذَابًا
شيْءٍ أَ ْ
لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا ِكذّابًا * َو ُكلّ َ
}
ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون ،ويجحده المعاندون ،أنه يوم
عظيم ،وأن ال جعله { مِيقَاتًا } للخلق.
{ يُ ْنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ َأ ْفوَاجًا } ويجري فيه من الزعازع والقلقل ما يشيب له الوليد ،وتنزعج
له القلوب ،فتسير الجبال ،حتى تكون كالهباء المبثوث ،وتشقق السماء حتى تكون أبوابا ،ويفصل
ال بين الخلئق بحمكه الذي ل يجور ،وتوقد نار جهنم التي أرصدها ال وأعدها للطاغين،
وجعلها مثوى لهم ومآبا ،وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة و { الحقب } على ما قاله كثير من
المفسرين :ثمانون سنة.
وهم إذا وردوها { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَ ْردًا وَلَا شَرَابًا } أي :ل ما يبرد جلودهم ،ول ما يدفع ظمأهم.
حمِيمًا } أي :ماء حارا ،يشوي وجوههم ،ويقطع أمعاءهم { ،وَغَسّاقًا } وهو :صديد أهل
{ إِلّا َ
النار ،الذي هو في غاية النتن ،وكراهة المذاق ،وإنما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جزاء لهم
ووفاقا على ما عملوا من العمال الموصلة إليها ،لم يظلمهم ال ،ولكن ظلموا أنفسهم ،ولهذا ذكر
أعمالهم ،التي استحقوا بها هذا الجزاء ،فقال { :إِ ّن ُهمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا } أي :ل يؤمنون
بالبعث ،ول أن ال يجازي الخلق بالخير والشر ،فلذلك أهملوا العمل للخرة.
{ َوكَذّبُوا بِآيَاتِنَا ِكذّابًا } أي :كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا وجاءتهم البينات فعاندوها.
حصَيْنَاهُ كِتَابًا } أي :كتبناه في اللوح المحفوظ ،فل
شيْءٍ } من قليل وكثير ،وخير وشر { أَ ْ
{ َو ُكلّ َ
يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها ،ول يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء ،أو
شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ
ينسى منها مثقال ذرة ،كما قال تعالىَ { :ووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُ ْ
عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا
جدُوا مَا َ
حصَاهَا َووَ َ
صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً ِإلّا أَ ْ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِ ُر َ
حدًا }
يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ
لما ذكر حال المجرمين ذكر مآل المتقين فقال { :إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ َمفَازًا } أي :الذين اتقوا سخط ربهم،
بالتمسك بطاعته ،والنكفاف عما يكرهه فلهم مفاز ومنجي ،وبعد عن النار .وفي ذلك المفاز لهم
{ حَدَا ِئقَ } وهي البساتين الجامعة لصناف الشجار الزاهية ،في الثمار التي تتفجر بين خللها
النهار ،وخص العناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق.
{ والَتْرَاب } اللتي على سن واحد متقارب ،ومن عادة التراب أن يكن متآلفات متعاشرات،
وذلك السن الذي هن فيه ثلث وثلثون سنة ،في أعدل سن الشباب .
حسَابًا
وإنما أعطاهم ال هذا الثواب الجزيل [من فضله وإحسانه] { .جَزَاءً مِنْ رَ ّبكَ } لهم { عَطَاءً ِ
} أي :بسبب أعمالهم التي وفقهم ال لها ،وجعلها ثمنا لجنته ونعيمها .
حمَنِ
ت وَالْأَ ْرضِ } الذي خلقها ودبرها { الرّ ْ
سمَاوَا ِ
أي :الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم { َربّ ال ّ
} الذي رحمته وسعت كل شيء ،فرباهم ورحمهم ،ولطف بهم ،حتى أدركوا ما أدركوا.
ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة ،وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون ل يتكلمون و
خطَابًا } إل من أذن له الرحمن وقال صوابا ،فل يتكلم أحد إل بهذين الشرطين:
{ لَا َيمِْلكُونَ مِنْهُ ِ
أن يأذن ال له في الكلم ،وأن يكون ما تكلم به صوابا ،لن { ذَِلكَ الْ َيوْمُ } هو { ا ْلحَقّ } الذي ل
يروج فيه الباطل ،ول ينفع فيه الكذب ،وفي ذلك اليوم { َيقُومُ الرّوحُ } وهو جبريل عليه السلم،
صفّا } خاضعين ل { لَا يَ َتكَّلمُونَ }
الذي هو أشرف الملئكة { وَا ْلمَلَا ِئكَةِ } [أيضا يقوم الجميع] { َ
إل بما أذن لهم ال به .
{ إِنّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } لنه قد أزف مقبل ،وكل ما هو آت فهو قريب.
{ َيوْمَ يَنْظُرُ ا ْلمَ ْرءُ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ } أي :هذا الذي يهمه ويفزع إليه ،فلينظر في هذه الدنيا إليه ،
كما قال تعالى { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَلْتَنْظُرْ َنفْسٌ مَا قَ ّد َمتْ ِلغَدٍ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ
ِبمَا َت ْعمَلُونَ } اليات.
فإن وجد خيرا فليحمد ال ،وإن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه ،ولهذا كان الكفار يتمنون
الموت من شدة الحسرة والندم.
هذه القسامات بالملئكة الكرام ،وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لمر ال ،وإسراعهم في تنفيذ
أمره ،يحتمل أن المقسم عليه ،الجزاء والبعث ،بدليل التيان بأحوال القيامة بعد ذلك ،ويحتمل أن
المقسم عليه والمقسم به متحدان ،وأنه أقسم على الملئكة ،لن اليمان بهم أحد أركان اليمان
الستة ،ولن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتوله الملئكة عند الموت وقبله وبعده،
فقال { :وَالنّازِعَاتِ غَ ْرقًا } وهم الملئكة التي تنزع الرواح بقوة ،وتغرق في نزعها حتى تخرج
الروح ،فتجازى بعملها.
شطًا } وهم الملئكة أيضا ،تجتذب الرواح بقوة ونشاط ،أو أن النزع يكون
{ وَالنّاشِطَاتِ نَ ْ
لرواح المؤمنين ،والنشط لرواح الكفار.
{ فَالسّا ِبقَاتِ } لغيرها { سَ ْبقًا } فتبادر لمر ال ،وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل ال
حتى ل تسترقه .
{ فَا ْل ُمدَبّرَاتِ َأمْرًا } الملئكة ،الذين وكلهم ال أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي،
من المطار ،والنبات ،والشجار ،والرياح ،والبحار ،والجنة ،والحيوانات ،والجنة ،والنار [وغير
ذلك].
جفَةُ } وهي قيام الساعة { ،تَتْ َب ُعهَا الرّا ِد َفةُ } أي :الرجفة الخرى التي تردفها
جفُ الرّا ِ
{ َيوْمَ تَرْ ُ
جفَةٌ } أي :موجفة ومنزعجة من شدة ما ترى وتسمع.
وتأتي تلوها { ،قُلُوبٌ َي ْومَئِ ٍذ وَا ِ
ش َعةٌ } أي :ذليلة حقيرة ،قد ملك قلوبهم الخوف ،وأذهل أفئدتهم الفزع ،وغلب عليهم
{ أَ ْبصَارُهَا خَا ِ
التأسف [واستولت عليهم] الحسرة.
يقولون أي :الكفار في الدنيا ،على وجه التكذيب { :أَئِذَا كُنّا عِظَامًا َنخِ َرةً } أي :بالية فتاتا.
{ قَالُوا تِ ْلكَ ِإذًا كَ ّرةٌ خَاسِ َرةٌ } أي :استبعدوا أن يبعثهم ال ويعيدهم بعدما كانوا عظاما نخرة ،جهل
[منهم] بقدرة ال ،وتجرؤا عليه.
يقول [ال] تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلمَ { :هلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } وهذا الستفهام عن
أمر عظيم متحقق وقوعه.
{ َف ُقلْ } لهَ { :هلْ َلكَ إِلَى أَنْ تَ َزكّى } أي :هل لك في خصلة حميدة ،ومحمدة جميلة ،يتنافس فيها
أولو اللباب ،وهي أن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان ،إلى اليمان والعمل
الصالح؟
{ وَأَ ْهدِ َيكَ إِلَى رَ ّبكَ } أي :أدلك عليه ،وأبين لك مواقع رضاه ،من مواقع سخطه { .فَ َتخْشَى } ال
إذا علمت الصراط المستقيم ،فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى.
يقول تعالى مبينا دليل واضحا لمنكري البعث ومستبعدي إعادة ال للجسادَ { :أأَنْتُمْ } أيها البشر {
سمَاءُ } ذات الجرم العظيم ،والخلق القوي ،والرتفاع الباهر { بَنَاهَا } ال.
شدّ خَ ْلقًا أَمِ ال ّ
أَ َ
{ وَالْأَ ْرضَ َبعْدَ ذَِلكَ } أي :بعد خلق السماء { َدحَاهَا } أي :أودع فيها منافعها.
وفسر ذلك بقولهَ { :أخْرَجَ مِ ْنهَا مَاءَهَا َومَرْعَاهَا وَا ْلجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي :ثبتها في الرض .فدحى
الرض بعد خلق السماء ،كما هو نص هذه اليات [الكريمة] .وأما خلق نفس الرض ،فمتقدم
على خلق السماء كما قال تعالىُ { :قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الْأَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ } إلى أن قال:
سمَاءِ وهي دخان فقال لها وللرض ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين }
{ ُثمّ اسْ َتوَى إِلَى ال ّ
فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من النوار والجرام ،والرض الكثيفة الغبراء ،وما فيها
من ضروريات الخلق ومنافعهم ،ل بد أن يبعث الخلق المكلفين ،فيجازيهم على أعمالهم ،فمن
أحسن فله الحسنى ومن أساء فل يلومن إل نفسه ،ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء ،فقال:
سعَى * وَبُرّ َزتِ ا ْلجَحِيمُ ِلمَنْ
{ { } 41 - 34فَإِذَا جَا َءتِ الطّامّةُ ا ْلكُبْرَى * َيوْمَ يَتَ َذكّرُ الْإِنْسَانُ مَا َ
طغَى * وَآثَرَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ ا ْلجَحِيمَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى * وََأمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ
يَرَى * فََأمّا مَنْ َ
وَ َنهَى ال ّنفْسَ عَنِ ا ْل َهوَى * فَإِنّ ا ْلجَنّةَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى }
أي :إذا جاءت القيامة الكبرى ،والشدة العظمى ،التي يهون عندها كل شدة ،فحينئذ يذهل الوالد عن
سعَى } في الدنيا ،من
ولده ،والصاحب عن صاحبه [وكل محب عن حبيبه] .و { يَ َت َذكّرُ الْإِنْسَانُ مَا َ
خير وشر ،فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته ،ويغمه ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته.
ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا ،وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا
سوى العمال.
{ وَبُرّ َزتِ ا ْلجَحِيمُ ِلمَنْ يَرَى } أي :جعلت في البراز ،ظاهرة لكل أحد ،قد برزت لهلها،
واستعدت لخذهم ،منتظرة لمر ربها.
طغَى } أي :جاوز الحد ،بأن تجرأ على المعاصي الكبار ،ولم يقتصر على ما حده ال.
{ فََأمّا مَنْ َ
{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا } على الخرة فصار سعيه لها ،ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها ،ونسي
الخرة وترك العمل لها { .فَإِنّ ا ْلجَحِيمَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى } [له] أي :المقر والمسكن لمن هذه حاله،
{ وََأمّا مَنْ خَافَ َمقَامَ رَبّهِ } أي :خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل ،فأثر هذا الخوف في قلبه
فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة ال ،وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول ،وجاهد
الهوى والشهوة الصادين عن الخير { ،فَإِنّ ا ْلجَنّةَ } [المشتملة على كل خير وسرور ونعيم] { ِهيَ
ا ْلمَ ْأوَى } لمن هذا وصفه.
{ { } 46 - 42يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُ ْرسَاهَا * فِيمَ أَ ْنتَ مِنْ ِذكْرَاهَا * إِلَى رَ ّبكَ مُنْ َتهَاهَا *
ضحَاهَا }
إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُنْذِرُ مَنْ َيخْشَاهَا * كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُوا ِإلّا عَشِيّةً َأوْ ُ
أي :يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث { عَنِ السّاعَةِ } متى وقوعها و { أَيّانَ مُرْسَاهَا } فأجابهم
ال بقوله { :فِيمَ أَ ْنتَ مِنْ ِذكْرَاهَا } أي :ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس
تحت ذلك نتيجة ،ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ول دنيوية ،بل
المصلحة في خفائه عليهم ،طوى علم ذلك عن جميع الخلق ،واستأثر بعلمه فقال { :إِلَى رَ ّبكَ
مُنْ َتهَاهَا } أي :إليه ينتهي علمها ،كما قال في الية الخرىَ { :يسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا
ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ رَبّي لَا ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا إِلّا ُه َو ثقلت في السماوات والرض ل تأتيكم إل بغته
يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند ال ولكن أكثر الناس ل يعلمون } { .إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ ْنذِرُ
خشَاهَا } أي :إنما نذارتك [نفعها] لمن يخشى مجيء الساعة ،ويخاف الوقوف بين يديه ،فهم
مَنْ يَ ْ
الذين ل يهمهم سوى الستعداد لها والعمل لجلها .وأما من ل يؤمن بها ،فل يبالي به ول بتعنته،
لنه تعنت مبني على العناد والتكذيب ،وإذا وصل إلى هذه الحال ،كان الجابة عنه عبثا ،ينزه
الحكيم عنه [تمت] والحمد ل رب العالمين.
وجاءه رجل من الغنياء ،وكان صلى ال عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ،فمال صلى ال
عليه وسلم [وأصغى] إلى الغني ،وصد عن العمى الفقير ،رجاء لهداية ذلك الغني ،وطمعا في
تزكيته ،فعاتبه ال بهذا العتاب اللطيف ،فقال { :عَبَسَ } [أي ]:في وجهه { وَ َتوَلّى } في بدنه،
لجل مجيء العمى له ،ثم ذكر الفائدة في القبال عليه ،فقالَ { :ومَا يُدْرِيكَ َلعَلّهُ } أي :العمى {
يَ ّزكّى } أي :يتطهر عن الخلق الرذيلة ،ويتصف بالخلق الجميلة؟
{ َأوْ َي ّذكّرُ فَتَ ْنفَعَهُ ال ّذكْرَى } أي :يتذكر ما ينفعه ،فيعمل بتلك الذكرى.
وهذه فائدة كبيرة ،هي المقصودة من بعثة الرسل ،ووعظ الوعاظ ،وتذكير المذكرين ،فإقبالك على
من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك ،هو الليق الواجب ،وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني
الذي ل يسأل ول يستفتي لعدم رغبته في الخير ،مع تركك من هو أهم منه ،فإنه ل ينبغي لك،
فإنه ليس عليك أن ل يزكى ،فلو لم يتزك ،فلست بمحاسب على ما عمله من الشر.
فدل هذا على القاعدة المشهورة ،أنه " :ل يترك أمر معلوم لمر موهوم ،ول مصلحة متحققة
لمصلحة متوهمة " وأنه ينبغي القبال على طالب العلم ،المفتقر إليه ،الحريص عليه أزيد من
غيره.
طهّ َرةٍ *
حفٍ ُمكَ ّرمَةٍ * مَ ْرفُوعَةٍ مُ َ
{ { } 32 - 11كَلّا إِ ّنهَا َت ْذكِ َرةٌ * َفمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ * فِي صُ ُ
طفَةٍ خََلقَهُ َفقَدّ َرهُ *
شيْءٍ خََلقَهُ * مِنْ ُن ْ
سفَ َرةٍ * كِرَامٍ بَرَ َرةٍ * قُ ِتلَ الْإِنْسَانُ مَا َأ ْكفَ َرهُ * مِنْ َأيّ َ
بِأَيْدِي َ
ثُمّ السّبِيلَ يَسّ َرهُ * ُثمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ُثمّ إِذَا شَاءَ أَنْشَ َرهُ * كَلّا َلمّا َي ْقضِ مَا َأمَ َرهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ
شقّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّا * وَعِنَبًا َو َقضْبًا *
ش َققْنَا الْأَ ْرضَ َ
طعَامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا ا ْلمَا َء صَبّا * ُثمّ َ
إِلَى َ
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَا ِئقَ غُلْبًا * َوفَا ِكهَ ًة وَأَبّا * مَتَاعًا َل ُك ْم وَلِأَ ْنعَا ِمكُمْ }
يقول تعالى { :كَلّا إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ } أي :حقا إن هذه الموعظة تذكرة من ال ،يذكر بها عباده ،ويبين
لهم في كتابه ما يحتاجون إليه ،ويبين الرشد من الغي ،فإذا تبين ذلك { َفمَنْ شَاءَ َذكَ َرهُ } أي :عمل
به ،كقوله تعالىَ { :و ُقلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّبكُمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِنْ َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ }
وذلك كله حفظ من ال لكتابه ،أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملئكة الكرام القوياء التقياء،
ولم يجعل للشياطين عليه سبيل ،وهذا مما يوجب اليمان به وتلقيه بالقبول ،ولكن مع هذا أبى
النسان إل كفورا ،ولهذا قال تعالى { :قُ ِتلَ الْإِنْسَانُ مَا َأ ْكفَ َرهُ } لنعمة ال وما أشد معاندته للحق
بعدما تبين ،وهو ما هو؟ هو من أضعف الشياء ،خلقه ال من ماء مهين ،ثم قدر خلقه ،وسواه
بشرا سويا ،وأتقن قواه الظاهرة والباطنة.
{ ُثمّ السّبِيلَ َيسّ َرهُ } أي :يسر له السباب الدينية والدنيوية ،وهداه السبيل[ ،وبينه] وامتحنه بالمر
والنهي { ،ثُمّ َأمَا َتهُ فََأقْبَ َرهُ } أي :أكرمه بالدفن ،ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على
وجه الرضُ { ،ثمّ إِذَا شَاءَ أَنْشَ َرهُ } أي :بعثه بعد موته للجزاء ،فال هو المنفرد بتدبير النسان
وتصريفه بهذه التصاريف ،لم يشاركه فيه مشارك ،وهو -مع هذا -ل يقوم بما أمره ال ،ولم
يقض ما فرضه عليه ،بل ل يزال مقصرا تحت الطلب.
ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه ،وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات
طعَامِهِ أَنّا صَبَبْنَا ا ْلمَا َء صَبّا } أي :أنزلنا المطر على
عديدة ،ويسره له فقال { :فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى َ
الرض بكثرة.
حدَائِقَ غُلْبًا } أي :بساتين فيها الشجار الكثيرة الملتفةَ { ،وفَا ِكهَ ًة وَأَبّا } الفاكهة :ما يتفكه فيه
{ وَ َ
النسان ،من تين وعنب وخوخ ورمان ،وغير ذلك.
والب :ما تأكله البهائم والنعام ،ولهذا قال { :مَتَاعًا َلكُ ْم وَلِأَ ْنعَا ِمكُمْ } التي خلقها ال وسخرها لكم،
فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه ،وبذل الجهد في النابة إليه ،والقبال على
طاعته ،والتصديق بأخباره.
{ { } 42 - 33فَإِذَا جَا َءتِ الصّاخّةُ * َيوْمَ َيفِرّ ا ْلمَ ْرءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَ ِت ِه وَبَنِيهِ
حكَةٌ ُمسْتَبْشِ َرةٌ * َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ
سفِ َرةٌ * ضَا ِ
* ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ * وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ مُ ْ
عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ * تَرْ َه ُقهَا قَتَ َرةٌ * أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ }
أي :إذا جاءت صيحة القيامة ،التي تصخ لهولها السماع ،وتنزعج لها الفئدة يومئذ ،مما يرى
الناس من الهوال وشدة الحاجة لسالف العمال.
{ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ } من أعز الناس إليه ،وأشفقهم لديه { ،مِنْ َأخِي ِه وَُأمّ ِه وَأَبِي ِه َوصَاحِبَتِهِ } أي :زوجته {
وَبَنِيهِ } وذلك لنه { ِل ُكلّ امْ ِرئٍ مِ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ } أي :قد شغلته نفسه ،واهتم لفكاكها ،ولم
يكن له التفات إلى غيرها ،فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين :سعداء وأشقياء ،فأما السعداء،
سفِ َرةٌ } أي :قد ظهر فيها السرور والبهجة ،من ما عرفوا من نجاتهم،
فـوجوههم [يومئذ] { مُ ْ
حكَةٌ ُمسْتَبْشِ َر ٌة َووُجُوهٌ } الشقياء { َي ْومَئِذٍ عَلَ ْيهَا غَبَ َرةٌ تَرْ َه ُقهَا } أي :تغشاها
وفوزهم بالنعيم { ،ضَا ِ
{ قَتَ َرةٌ } فهي سوداء مظلمة مدلهمة ،قد أيست من كل خير ،وعرفت شقاءها وهلكها.
{ أُولَ ِئكَ } الذين بهذا الوصف { هُمُ ا ْل َكفَ َرةُ ا ْلفَجَ َرةُ } أي :الذين كفروا بنعمة ال وكذبوا بآيات ال،
وتجرأوا على محارمه.
أي :إذا حصلت هذه المور الهائلة ،تميز الخلق ،وعلم كل أحد ما قدمه لخرته ،وما أحضره فيها
من خير وشر ،وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي :تجمع وتلف ،ويخسف القمر ،ويلقيان
في النار.
{ وَِإذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ } أي :جمعت ليوم القيامة ،ليقتص ال من بعضها لبعض ،ويرى العباد
كمال عدله ،حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها :كوني ترابا.
{ وَِإذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ } أي :أوقدت فصارت -على عظمها -نارا تتوقد.
{ وَِإذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ } وهو الذي كانت الجاهلية الجهلء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من
غير سبب ،إل خشية الفقر ،فتسأل { :بَِأيّ ذَ ْنبٍ قُتَِلتْ } ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب ،ففي هذا
حفُ } المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر { ُنشِ َرتْ
توبيخ وتقريع لقاتليها { .وَِإذَا الصّ ُ
} وفرقت على أهلها ،فآخذ كتابه بيمينه ،وآخذ كتابه بشماله ،أو من وراء ظهره.
طوِي
سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ } { َيوْمَ نَ ْ
شقّقُ ال ّ
طتْ } أي :أزيلت ،كما قال تعالىَ { :يوْمَ تَ َ
سمَاءُ كُشِ َ
{ وَِإذَا ال ّ
طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ }
جمِيعًا قَ ْبضَتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَالسّماوَاتُ َم ْ
جلّ لِ ْلكُ ُتبِ } { وَالْأَ ْرضُ َ
طيّ السّ ِ
سمَاءَ كَ َ
ال ّ
سعّ َرتْ } أي :أوقد عليها فاستعرت ،والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك { ،وَِإذَا
جحِيمُ ُ
{ وَِإذَا الْ َ
الْجَنّةُ أُزِْل َفتْ } أي :قربت للمتقين { ،عَِل َمتْ َنفْسٌ } أي :كل نفس ،لتيانها في سياق الشرط.
حضَ َرتْ } أي :ما حضر لديها من العمال [التي قدمتها] كما قال تعالىَ { :ووَجَدُوا مَا
{ مَا َأ ْ
عمِلُوا حَاضِرًا } وهذه الوصاف التي وصف ال بها يوم القيامة ،من الوصاف التي تنزعج لها
َ
القلوب ،وتشتد من أجلها الكروب ،وترتعد الفرائص وتعم المخاوف ،وتحث أولي اللباب
للستعداد لذلك اليوم ،وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم ،ولهذا قال بعض السلف :من أراد أن
شمْسُ ُكوّرَتْ }
ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين ،فليتدبر سورة { ِإذَا ال ّ
سعَسَ * وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ
عْجوَارِي ا ْلكُنّسِ * وَاللّ ْيلِ إِذَا َ
سمُ بِا ْلخُنّسِ * ا ْل َ
{ { } 29 - 15فَلَا ُأقْ ِ
* إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * ُمطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ * َومَا صَاحِ ُبكُمْ
ِبمَجْنُونٍ * وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأ ُفقِ ا ْلمُبِينِ * َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ َيسْ َتقِيمَ * َومَا َتشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ
اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
أقسم تعالى { بِالْخُنّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي :تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة
المشرق ،وهي النجوم السبعة السيارة " :الشمس " ،و " القمر " ،و " الزهرة " ،و " المشترى " ،و
" المريخ " ،و " زحل " ،و " عطارد " ،فهذه السبعة لها سيران :سير إلى جهة المغرب مع باقي
الكواكب والفلك ،وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها.
فأقسم ال بها في حال خنوسها أي :تأخرها ،وفي حال جريانها ،وفي حال كنوسها أي :استتارها
بالنهار ،ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها.
سعَسَ } أي :أدبر وقيل :أقبل { ،وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ } أي :بانت علئم الصبح،
{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا عَ ْ
وانشق النور شيئا فشيئا حتى يستكمل وتطلع الشمس ،وهذه آيات عظام ،أقسم ال بها على علو
سند القرآن وجللته ،وحفظه من كل شيطان رجيم فقال { :إِنّهُ َل َقوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو :جبريل
عليه السلم ،نزل به من ال تعالى ،كما قال تعالى { :وَإِنّهُ لَتَنْزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ
الَْأمِينُ عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } ووصفه ال بالكريم لكرم أخلقه ،وكثره خصاله الحميدة،
فإنه أفضل الملئكة ،وأعظمهم رتبة عند ربه { ،ذِي ُق ّوةٍ } على ما أمره ال به .ومن قوته أنه
قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم.
{ عِ ْندَ ذِي ا ْلعَرْشِ } أي :جبريل مقرب عند ال ،له منزلة رفيعة ،وخصيصة من ال اختصه بها،
{ َمكِينٍ } أي :له مكانة ومنزلة فوق منازل الملئكة كلهم.
{ ُمطَاعٍ َثمّ } أي :جبريل مطاع في المل العلى ،لديه من الملئكة المقربين جنود ،نافذ فيهم
أمره ،مطاع رأيهَ { ،أمِينٍ } أي :ذو أمانة وقيام بما أمر به ،ل يزيد ول ينقص ،ول يتعدى ما حد
له ،وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند ال تعالى ،فإنه بعث به هذا الملك الكريم ،الموصوف
بتلك الصفات الكاملة .والعادة أن الملوك ل ترسل الكريم عليها إل في أهم المهمات ،وأشرف
الرسائل.
ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ،ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه
القرآن ،ودعا إليه الناس فقالَ { :ومَا صَاحِ ُبكُمْ } وهو محمد صلى ال عليه وسلم { ِبمَجْنُونٍ } كما
يقوله أعداؤه المكذبون برسالته ،المتقولون عليه من القوال ،التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء
به ما شاءوا وقدروا عليه ،بل هو أكمل الناس عقل ،وأجزلهم رأيا ،وأصدقهم لهجة.
{ وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأفُقِ ا ْلمُبِينِ } أي :رأى محمد صلى ال عليه وسلم جبريل عليه السلم بالفق البين،
الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
{ َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ } أي :وما هو على ما أوحاه ال إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو
يكتم بعضه ،بل هو صلى ال عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الرض ،الذي بلغ رسالت ربه
البلغ المبين ،فلم يشح بشيء منه ،عن غني ول فقير ،ول رئيس ول مرءوس ،ول ذكر ول
أنثى ،ول حضري ول بدوي ،ولذلك بعثه ال في أمة أمية ،جاهلة جهلء ،فلم يمت صلى ال عليه
وسلم حتى كانوا علماء ربانيين ،وأحبارا متفرسين ،إليهم الغاية في العلوم ،وإليهم المنتهى في
استخراج الدقائق والفهوم ،وهم الساتذة ،وغيرهم قصاراه أن يكون من تلميذهم.
{ َومَا ُهوَ ِب َقوْلِ شَ ْيطَانٍ َرجِيمٍ } لما ذكر جللة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين ،اللذين
وصل إلى الناس على أيديهما ،وأثنى ال عليهما بما أثنى ،دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في
صدقه ،فقالَ { :ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي :في غاية البعد عن ال وعن قربه { ،فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ } أي :كيف يخطر هذا ببالكم ،وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في
أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب ،الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إل
من انقلب الحقائق { .إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ربهم ،وما له من صفات الكمال ،وما
ينزه عنه من النقائص والرذائل [والمثال] ،ويتذكرون به الوامر والنواهي وحكمها ،ويتذكرون
به الحكام القدرية والشرعية والجزائية ،وبالجملة ،يتذكرون به مصالح الدارين ،وينالون بالعمل
به السعادتين.
{ ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ يَسْ َتقِيمَ } بعدما تبين الرشد من الغي ،والهدى من الضللَ { .ومَا تَشَاءُونَ إِلّا
أَنْ يَشَاءَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :فمشيئته نافذة ،ل يمكن أن تعارض أو تمانع .وفي هذه الية
وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة ،والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [وال أعلم والحمد ل].
و [هنالك] يفوز المتقون المقدمون لصالح العمال بالفوز العظيم ،والنعيم المقيم والسلمة من
عذاب الجحيم.
يقول تعالى معاتبا للنسان المقصر في حق ربه ،المتجرئ على مساخطه { :يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ مَا
غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ } أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟
إن هذا إل من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك ،فاحمد ال أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو
ي صُورَةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ }
حمار ،أو نحوهما من الحيوانات؛ فلهذا قال تعالى { :فِي َأ ّ
[وقوله { ]:كَلّا َبلْ ُت َكذّبُونَ بِالدّينِ } أي :مع هذا الوعظ والتذكير ،ل تزالون مستمرين على التكذيب
بالجزاء.
وأنتم ل بد أن تحاسبوا على ما عملتم ،وقد أقام ال عليكم ملئكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم
ويعلمون أفعالكم ،ودخل في هذا أفعال القلوب ،وأفعال الجوارح ،فاللئق بكم أن تكرموهم
وتجلوهم وتحترموهم.
{ { } 19 - 13إِنّ الْأَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ * َيصَْلوْ َنهَا َيوْمَ الدّينِ * َومَا ُهمْ
عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ * َومَا أَدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ * ُثمّ مَا أَدْرَاكَ مَا َي ْومُ الدّينِ * َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ
شَيْئًا وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ }
المراد بالبرار ،القائمون بحقوق ال وحقوق عباده ،الملزمون للبر ،في أعمال القلوب وأعمال
الجوارح ،فهؤلء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن ،في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و
[في] دار القرار.
{ وَإِنّ ا ْلفُجّارَ } الذين قصروا في حقوق ال وحقوق عباده ،الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم {
َلفِي جَحِيمٍ } أي :عذاب أليم ،في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار.
{ َيصَْلوْ َنهَا } ويعذبون [بها] أشد العذاب { َيوْمِ الدّينِ } أي :يوم الجزاء على العمال.
{ َومَا ُهمْ عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ } أي :بل هم ملزمون لها ،ل يخرجون منها.
{ َومَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ ثُمّ مَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ } ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير
الذهان.
{ َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ شَيْئًا } ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية ،فكل مشتغل بنفسه ل
يطلب الفكاك لغيرها { .وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ } فهو الذي يفصل بين العباد ،ويأخذ للمظلوم حقه من
ظالمه [وال أعلم]
أي :إذا حصلت هذه المور الهائلة ،تميز الخلق ،وعلم كل أحد ما قدمه لخرته ،وما أحضره فيها
من خير وشر ،وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي :تجمع وتلف ،ويخسف القمر ،ويلقيان
في النار.
{ وَِإذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ } أي :جمعت ليوم القيامة ،ليقتص ال من بعضها لبعض ،ويرى العباد
كمال عدله ،حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها :كوني ترابا.
{ وَِإذَا الْبِحَارُ سُجّ َرتْ } أي :أوقدت فصارت -على عظمها -نارا تتوقد.
{ وَِإذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ } وهو الذي كانت الجاهلية الجهلء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من
غير سبب ،إل خشية الفقر ،فتسأل { :بَِأيّ ذَ ْنبٍ قُتَِلتْ } ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب ،ففي هذا
حفُ } المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر { ُنشِ َرتْ
توبيخ وتقريع لقاتليها { .وَِإذَا الصّ ُ
} وفرقت على أهلها ،فآخذ كتابه بيمينه ،وآخذ كتابه بشماله ،أو من وراء ظهره.
طوِي
سمَاءُ بِا ْل َغمَامِ } { َيوْمَ نَ ْ
شقّقُ ال ّ
طتْ } أي :أزيلت ،كما قال تعالىَ { :يوْمَ تَ َ
سمَاءُ كُشِ َ
{ وَِإذَا ال ّ
طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ }
جمِيعًا قَ ْبضَتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَالسّماوَاتُ َم ْ
جلّ لِ ْلكُ ُتبِ } { وَالْأَ ْرضُ َ
طيّ السّ ِ
سمَاءَ كَ َ
ال ّ
سعّ َرتْ } أي :أوقد عليها فاستعرت ،والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك { ،وَِإذَا
جحِيمُ ُ
{ وَِإذَا الْ َ
الْجَنّةُ أُزِْل َفتْ } أي :قربت للمتقين { ،عَِل َمتْ َنفْسٌ } أي :كل نفس ،لتيانها في سياق الشرط.
حضَ َرتْ } أي :ما حضر لديها من العمال [التي قدمتها] كما قال تعالىَ { :ووَجَدُوا مَا
{ مَا َأ ْ
عمِلُوا حَاضِرًا } وهذه الوصاف التي وصف ال بها يوم القيامة ،من الوصاف التي تنزعج لها
َ
القلوب ،وتشتد من أجلها الكروب ،وترتعد الفرائص وتعم المخاوف ،وتحث أولي اللباب
للستعداد لذلك اليوم ،وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم ،ولهذا قال بعض السلف :من أراد أن
شمْسُ ُكوّرَتْ }
ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين ،فليتدبر سورة { ِإذَا ال ّ
سعَسَ * وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ
عْجوَارِي ا ْلكُنّسِ * وَاللّ ْيلِ إِذَا َ
سمُ بِا ْلخُنّسِ * ا ْل َ
{ { } 29 - 15فَلَا ُأقْ ِ
* إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي ُق ّوةٍ عِنْدَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * ُمطَاعٍ َثمّ َأمِينٍ * َومَا صَاحِ ُبكُمْ
ِبمَجْنُونٍ * وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأ ُفقِ ا ْلمُبِينِ * َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ * ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ َيسْ َتقِيمَ * َومَا َتشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ
اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }
أقسم تعالى { بِالْخُنّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي :تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة
المشرق ،وهي النجوم السبعة السيارة " :الشمس " ،و " القمر " ،و " الزهرة " ،و " المشترى " ،و
" المريخ " ،و " زحل " ،و " عطارد " ،فهذه السبعة لها سيران :سير إلى جهة المغرب مع باقي
الكواكب والفلك ،وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها.
فأقسم ال بها في حال خنوسها أي :تأخرها ،وفي حال جريانها ،وفي حال كنوسها أي :استتارها
بالنهار ،ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها.
سعَسَ } أي :أدبر وقيل :أقبل { ،وَالصّبْحِ إِذَا تَ َنفّسَ } أي :بانت علئم الصبح،
{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا عَ ْ
وانشق النور شيئا فشيئا حتى يستكمل وتطلع الشمس ،وهذه آيات عظام ،أقسم ال بها على علو
سند القرآن وجللته ،وحفظه من كل شيطان رجيم فقال { :إِنّهُ َل َقوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو :جبريل
عليه السلم ،نزل به من ال تعالى ،كما قال تعالى { :وَإِنّهُ لَتَنْزِيلُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ
الَْأمِينُ عَلَى قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ } ووصفه ال بالكريم لكرم أخلقه ،وكثره خصاله الحميدة،
فإنه أفضل الملئكة ،وأعظمهم رتبة عند ربه { ،ذِي ُق ّوةٍ } على ما أمره ال به .ومن قوته أنه
قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم.
{ عِ ْندَ ذِي ا ْلعَرْشِ } أي :جبريل مقرب عند ال ،له منزلة رفيعة ،وخصيصة من ال اختصه بها،
{ َمكِينٍ } أي :له مكانة ومنزلة فوق منازل الملئكة كلهم.
{ ُمطَاعٍ َثمّ } أي :جبريل مطاع في المل العلى ،لديه من الملئكة المقربين جنود ،نافذ فيهم
أمره ،مطاع رأيهَ { ،أمِينٍ } أي :ذو أمانة وقيام بما أمر به ،ل يزيد ول ينقص ،ول يتعدى ما حد
له ،وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند ال تعالى ،فإنه بعث به هذا الملك الكريم ،الموصوف
بتلك الصفات الكاملة .والعادة أن الملوك ل ترسل الكريم عليها إل في أهم المهمات ،وأشرف
الرسائل.
ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ،ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه
القرآن ،ودعا إليه الناس فقالَ { :ومَا صَاحِ ُبكُمْ } وهو محمد صلى ال عليه وسلم { ِبمَجْنُونٍ } كما
يقوله أعداؤه المكذبون برسالته ،المتقولون عليه من القوال ،التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء
به ما شاءوا وقدروا عليه ،بل هو أكمل الناس عقل ،وأجزلهم رأيا ،وأصدقهم لهجة.
{ وََلقَدْ رَآهُ بِالُْأفُقِ ا ْلمُبِينِ } أي :رأى محمد صلى ال عليه وسلم جبريل عليه السلم بالفق البين،
الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
{ َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ } أي :وما هو على ما أوحاه ال إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو
يكتم بعضه ،بل هو صلى ال عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الرض ،الذي بلغ رسالت ربه
البلغ المبين ،فلم يشح بشيء منه ،عن غني ول فقير ،ول رئيس ول مرءوس ،ول ذكر ول
أنثى ،ول حضري ول بدوي ،ولذلك بعثه ال في أمة أمية ،جاهلة جهلء ،فلم يمت صلى ال عليه
وسلم حتى كانوا علماء ربانيين ،وأحبارا متفرسين ،إليهم الغاية في العلوم ،وإليهم المنتهى في
استخراج الدقائق والفهوم ،وهم الساتذة ،وغيرهم قصاراه أن يكون من تلميذهم.
{ َومَا ُهوَ ِب َقوْلِ شَ ْيطَانٍ َرجِيمٍ } لما ذكر جللة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين ،اللذين
وصل إلى الناس على أيديهما ،وأثنى ال عليهما بما أثنى ،دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في
صدقه ،فقالَ { :ومَا ُهوَ ِبقَ ْولِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي :في غاية البعد عن ال وعن قربه { ،فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ } أي :كيف يخطر هذا ببالكم ،وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في
أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب ،الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إل
من انقلب الحقائق { .إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ } يتذكرون به ربهم ،وما له من صفات الكمال ،وما
ينزه عنه من النقائص والرذائل [والمثال] ،ويتذكرون به الوامر والنواهي وحكمها ،ويتذكرون
به الحكام القدرية والشرعية والجزائية ،وبالجملة ،يتذكرون به مصالح الدارين ،وينالون بالعمل
به السعادتين.
{ ِلمَنْ شَاءَ مِ ْنكُمْ أَنْ يَسْ َتقِيمَ } بعدما تبين الرشد من الغي ،والهدى من الضللَ { .ومَا تَشَاءُونَ إِلّا
أَنْ يَشَاءَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي :فمشيئته نافذة ،ل يمكن أن تعارض أو تمانع .وفي هذه الية
وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة ،والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [وال أعلم والحمد ل].
و [هنالك] يفوز المتقون المقدمون لصالح العمال بالفوز العظيم ،والنعيم المقيم والسلمة من
عذاب الجحيم.
يقول تعالى معاتبا للنسان المقصر في حق ربه ،المتجرئ على مساخطه { :يَا أَ ّيهَا الْإِ ْنسَانُ مَا
غَ ّركَ بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ } أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟
إن هذا إل من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك ،فاحمد ال أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو
ي صُورَةٍ مَا شَاءَ َركّ َبكَ }
حمار ،أو نحوهما من الحيوانات؛ فلهذا قال تعالى { :فِي َأ ّ
[وقوله { ]:كَلّا َبلْ ُت َكذّبُونَ بِالدّينِ } أي :مع هذا الوعظ والتذكير ،ل تزالون مستمرين على التكذيب
بالجزاء.
وأنتم ل بد أن تحاسبوا على ما عملتم ،وقد أقام ال عليكم ملئكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم
ويعلمون أفعالكم ،ودخل في هذا أفعال القلوب ،وأفعال الجوارح ،فاللئق بكم أن تكرموهم
وتجلوهم وتحترموهم.
{ { } 19 - 13إِنّ الْأَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ * َيصَْلوْ َنهَا َيوْمَ الدّينِ * َومَا ُهمْ
عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ * َومَا أَدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ * ُثمّ مَا أَدْرَاكَ مَا َي ْومُ الدّينِ * َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ
شَيْئًا وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ }
المراد بالبرار ،القائمون بحقوق ال وحقوق عباده ،الملزمون للبر ،في أعمال القلوب وأعمال
الجوارح ،فهؤلء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن ،في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و
[في] دار القرار.
{ وَإِنّ ا ْلفُجّارَ } الذين قصروا في حقوق ال وحقوق عباده ،الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم {
َلفِي جَحِيمٍ } أي :عذاب أليم ،في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار.
{ َيصَْلوْ َنهَا } ويعذبون [بها] أشد العذاب { َيوْمِ الدّينِ } أي :يوم الجزاء على العمال.
{ َومَا ُهمْ عَ ْنهَا ِبغَائِبِينَ } أي :بل هم ملزمون لها ،ل يخرجون منها.
{ َومَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ ثُمّ مَا َأدْرَاكَ مَا َيوْمُ الدّينِ } ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير
الذهان.
{ َيوْمَ لَا َتمِْلكُ َنفْسٌ لِ َنفْسٍ شَيْئًا } ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية ،فكل مشتغل بنفسه ل
يطلب الفكاك لغيرها { .وَالَْأمْرُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ } فهو الذي يفصل بين العباد ،ويأخذ للمظلوم حقه من
ظالمه [وال أعلم]
طفّفِينَ }
{ وَ ْيلٌ } كلمة عذاب ،ووعيد { ِل ْلمُ َ
وفسر ال المطففين بقوله { الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النّاسِ } أي :أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم
قبلهم { يَسْ َت ْوفُونَ } يستوفونه كامل من غير نقص.
{ وَِإذَا كَالُوهُمْ َأ ْو وَزَنُوهُمْ } أي :إذا أعطوا الناس حقهم ،الذي للناس عليهم بكيل أو وزن،
{ ُيخْسِرُونَ } أي :ينقصونهم ذلك ،إما بمكيال وميزان ناقصين ،أو بعدم ملء المكيال والميزان ،أو
نحو ذلك .فهذا سرقة [لموال] الناس ،وعدم إنصاف [لهم] منهم.
وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان ،فالذي يأخذ أموالهم قهرًا أو
سرقة ،أولى بهذا الوعيد من المطففين.
ودلت الية الكريمة ،على أن النسان كما يأخذ من الناس الذي له ،يجب عليه أن يعطيهم كل ما
لهم من الموال والمعاملت ،بل يدخل في [عموم هذا] الحجج والمقالت ،فإنه كما أن المتناظرين
قد جرت العادة أن كل واحد [منهما] يحرص على ماله من الحجج ،فيجب عليه أيضًا أن يبين ما
لخصمه من الحجج [التي ل يعلمها] ،وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو ،وفي هذا
الموضع يعرف إنصاف النسان من تعصبه واعتسافه ،وتواضعه من كبره ،وعقله من سفهه،
نسأل ال التوفيق لكل خير.
ثم توعد تعالى المطففين ،وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه ،فقالَ { :ألَا يَظُنّ أُولَ ِئكَ
أَ ّنهُمْ مَ ْبعُوثُونَ لِ َي ْومٍ عَظِيمٍ َيوْمَ َيقُومُ النّاسُ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم
باليوم الخر ،وإل فلو آمنوا به ،وعرفوا أنهم يقومون بين يدى ال ،يحاسبهم على القليل والكثير،
لقلعوا عن ذلك وتابوا منه.
يقول تعالى { :كَلّا إِنّ كِتَابَ ا ْلفُجّارِ } [وهذا شامل لكل فاجر] من أنواع الكفرة والمنافقين،
سجّينٍ }
والفاسقين { َلفِي ِ
ثم فسر ذلك بقولهَ { :ومَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ كِتَابٌ مَ ْرقُومٌ } أي :كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة،
والسجين :المحل الضيق الضنك ،و { سجين } ضد { عليين } الذي هو محل كتاب البرار ،كما
سيأتي.
وقد قيل :إن { سجين } هو أسفل الرض السابعة ،مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم.
{ وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لِ ْل ُمكَذّبِينَ } ثم بين المكذبين بأنهم { الّذِينَ ُيكَذّبُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ } أي :يوم الجزاء ،يوم
يدين ال فيه الناس بأعمالهم.
{ َومَا ُيكَ ّذبُ بِهِ إِلّا ُكلّ ُمعْتَدٍ } على محارم ال ،متعد من الحلل إلى الحرام.
{ أَثِيمٍ } أي كثير الثم ،فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب ،ويحمله [عدوانه على التكذيب
ويوجب له] كبره رد الحق ،ولهذا { إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِ آيَاتُنَا } الدالة على الحق ،و[على] صدق ما
جاءت به رسله ،كذبها وعاندها ،و { قَالَ } هذه { َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ } أي :من ترهات المتقدمين،
وأخبار المم الغابرين ،ليس من عند ال تكبرا وعنادا.
وأما من أنصف ،وكان مقصوده الحق المبين ،فإنه ل يكذب بيوم الدين ،لن ال قد أقام عليه من
الدلة القاطعة ،والبراهين الساطعة ،ما يجعله حق اليقين ،وصار لقلوبهم مثل الشمس للبصار ،
بخلف من ران على قلبه كسبه ،وغطته معاصيه ،فإنه محجوب عن الحق ،ولهذا جوزي على
ذلك ،بأن حجب عن ال ،كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات ال { ،ثُمّ إِ ّن ُهمْ } مع هذه العقوبة
جحِيمِ } ثم يقال لهم توبيخا وتقريعًاَ :هذَا الّذِي كُنْ ُتمْ بِهِ ُت َكذّبُونَ } فذكر لهم ثلثة
البليغة { َلصَالُوا الْ َ
أنواع من العذاب :عذاب الجحيم ،وعذاب التوبيخ ،واللوم.
وعذاب الحجاب من رب العالمين ،المتضمن لسخطه وغضبه عليهم ،وهو أعظم عليهم من عذاب
النار ،ودل مفهوم الية ،على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة ،ويتلذذون بالنظر
إليه أعظم من سائر اللذات ،ويبتهجون بخطابه ،ويفرحون بقربه ،كما ذكر ال ذلك في عدة آيات
من القرآن ،وتواتر فيه النقل عن رسول ال.
وفي هذه اليات ،التحذير من الذنوب ،فإنها ترين على القلب وتغطيه شيئا فشيئا ،حتى ينطمس
نوره ،وتموت بصيرته ،فتنقلب عليه الحقائق ،فيرى الباطل حقًا ،والحق باطلًا ،وهذا من بعض
عقوبات الذنوب.
لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل المكنة وأضيقها ،ذكر أن كتاب البرار في أعلها وأوسعها،
شهَ ُدهُ ا ْل ُمقَرّبُونَ } من الملئكة الكرام ،وأرواح النبياء،
وأفسحها وأن كتابهم المرقوم { َي ْ
والصديقين والشهداء ،وينوه ال بذكرهم في المل العلى ،و { عليون } اسم لعلى الجنة ،فلما
ذكر كتابهم ،ذكر أنهم في نعيم ،وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن { ،عَلَى الْأَرَا ِئكِ } أي:
[على] السرر المزينة بالفرش الحسان.
{ يُ ْنظَرُونَ } إلى ما أعد ال لهم من النعيم ,وينظرون إلى وجه ربهم الكريمَ { ،تعْ ِرفُ } أيها
الناظر إليهم { فِي ُوجُو ِههِمْ َنضْ َرةَ ال ّنعِيمِ } أي :بهاء النعيم ونضارته ورونقه ،فإن توالي اللذة
والسرور يكسب الوجه نورًا وحسنًا وبهجة.
سكٌ } يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته ،أو يفسد
ذلك الشراب { خِتَامُهُ مِ ْ
طعمه ،وذلك الختام ،الذي ختم به ,مسك.
ويحتمل أن المراد أنه [الذي] يكون في آخر الناء ،الذي يشربون منه الرحيق حثالة ،وهي المسك
الذفر ،فهذا الكدر منه ،الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق ,يكون في الجنة بهذه المثابةَ { ،وفِي
ذَِلكَ } النعيم المقيم ،الذي ل يعلم حسنه ومقداره إل ال { ،فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ } أي :يتسابقوا في
المبادرة إليه بالعمال الموصلة إليه ،فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس النفاس ،وأحرى ما تزاحمت
للوصول إليه فحول الرجال.
{ } 28 - 27ومزاج هذا الشراب من تسنيم ،وهي عين { َيشْ َربُ ِبهَا ا ْلمُقَرّبُونَ } صرفا ،وهي
أعلى أشربة الجنة على الطلق ،فلذلك كانت خالصة للمقربين ،الذين هم أعلى الخلق منزلة،
وممزوجة لصحاب اليمين أي :مخلوطة بالرحيق وغيره من الشربة اللذيذة.
لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وجزاء المؤمنين و [ذكر] ما بينهما من التفاوت العظيم ،أخبر أن
المجرمين كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين ،ويستهزئون بهم ،ويضحكون منهم ،ويتغامزون بهم
عند مرورهم عليهم ،احتقارا لهم وازدراء ،ومع هذا تراهم مطمئنين ،ل يخطر الخوف على بالهم،
{ وَِإذَا ا ْنقَلَبُوا ِإلَى َأهِْلهِمُ } صباحًا أو مساء { ا ْنقَلَبُوا َف ِكهِينَ } أي :مسرورين مغتبطين ،وهذا من
أعظم ما يكون من الغترار ،أنهم جمعوا بين غاية الساءة والمن في الدنيا ،حتى كأنهم قد
جاءهم كتاب من ال وعهد ،أنهم من أهل السعادة ،وقد حكموا لنفسهم أنهم أهل الهدى ،وأن
المؤمنين ضالون ،افتراء على ال ،وتجرأوا على القول عليه بل علم.
علَ ْيهِمْ حَا ِفظِينَ } أي :وما أرسلوا وكلء على المؤمنين ملزمين بحفظ
سلُوا َ
قال تعالىَ { :ومَا أُرْ ِ
أعمالهم ،حتى يحرصوا على رميهم بالضلل ،وما هذا منهم إل تعنت وعناد وتلعب ،ليس له
مستند ول برهان ،ولهذا كان جزاؤهم في الخرة من جنس عملهم ،قال تعالى { :فَالْ َيوْمَ } أي :يوم
حكُونَ } حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون ،وقد ذهب
القيامة { ،الّذِينَ آمَنُوا مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ
عنهم ما كانوا يفترون ،والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة { عَلَى الْأَرَا ِئكِ } وهي السرر
المزينة { ،يُنْظَرُونَ } إلى ما أعد ال لهم من النعيم ،وينظرون إلى وجه ربهم الكريم.
{ َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُوا َي ْفعَلُونَ } أي :هل جوزوا من جنس عملهم؟
فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلل ،ضحك المؤمنون منهم في الخرة،
ورأوهم في العذاب والنكال ،الذي هو عقوبة الغي والضلل.
ش ّقتْ } أي:
سمَاءُ انْ َ
يقول تعالى مبينًا لما يكون في يوم القيامة من تغير الجرام العظامِ { :إذَا ال ّ
انفطرت وتمايز بعضها من بعض ،وانتثرت نجومها ،وخسف بشمسها وقمرها.
{ وََأذِ َنتْ لِرَ ّبهَا } أي :استمعت لمره ،وألقت سمعها ،وأصاخت لخطابه ،وحق لها ذلك ،فإنها
مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم ،ل يعصى أمره ،ول يخالف حكمه.
{ وَِإذَا الْأَ ْرضُ مُ ّدتْ } أي :رجفت وارتجت ،ونسفت عليها جبالها ،ودك ما عليها من بناء ومعلم،
فسويت ،ومدها ال تعالى مد الديم ،حتى صارت واسعة جدًا ،تسع أهل الموقف على كثرتهم،
فتصير قاعًا صفصفًا ل ترى فيها عوجًا ول أمتا.
{ وَأَ ْل َقتْ مَا فِيهَا } من الموات والكنوز.
{ وَ َتخَّلتْ } منهم ،فإنه ينفخ في الصور ،فتخرج الموات من الجداث إلى وجه الرض ،وتخرج
الرض كنوزها ،حتى تكون كالسطوان العظيم ،يشاهده الخلق ،ويتحسرون على ما هم فيه
حقّتْ يَا أَ ّيهَاالْإِ ْنسَانُ إِ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى رَ ّبكَ كَ ْدحًا َفمُلَاقِيهِ } أي :إنك ساع
يتنافسون { ،وََأذِ َنتْ لِرَ ّبهَا َو ُ
إلى ال ،وعامل بأوامره ونواهيه ،ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر ،ثم تلقي ال يوم القيامة،
فل تعدم منه جزاء بالفضل إن كنت سعيدًا ،أو بالعدل إن كنت شقيًا .
ولهذا ذكر تفضيل الجزاء ،فقال { :فََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ } وهم أهل السعادة.
حسَابًا يَسِيرًا } وهو العرض اليسير على ال ،فيقرره ال بذنوبه ،حتى إذا ظن
سبُ ِ
سوْفَ ُيحَا َ
{ َف َ
العبد أنه قد هلك ،قال ال [تعالى] له " :إني قد سترتها عليك في الدنيا ،فأنا أسترها لك اليوم ".
{ وَيَ ْنقَِلبُ إِلَى َأهْلِهِ } في الجنة { َمسْرُورًا } لنه نجا من العذاب وفاز بالثواب { ،وََأمّا مَنْ أُوتِيَ
ظهْ ِرهِ } أي :بشماله من خلفه.
كِتَابَ ُه وَرَاءَ َ
سوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا } من الخزي والفضيحة ،وما يجد في كتابه من العمال التي قدمها ولم يتب
{ َف َ
سعِيرًا } أي :تحيط به السعير من كل جانب ،ويقلب على عذابها ،وذلك لنه في
منها { ،وَ َيصْلَى َ
الدنيا { كَانَ فِي أَهْلِهِ َمسْرُورًا } ل يخطر البعث على باله ،وقد أساء ،ولم يظن أنه راجع إلى ربه
وموقوف بين يديه.
{ بَلَى إِنّ رَبّهُ كَانَ بِهِ َبصِيرًا } فل يحسن أن يتركه سدى ،ل يؤمر ول ينهى ،ول يثاب ول
يعاقب.
أقسم في هذا الموضع بآيات الليل ،فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس ،الذي هو مفتتح الليل.
ل َومَا وَسَقَ } أي :احتوى عليه من حيوانات وغيرها { ،وَا ْل َقمَرِ إِذَا اتّسَقَ } أي :امتل نورًا
{ وَاللّ ْي ِ
بإبداره ،وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع ،والمقسم عليه قوله { :لَتَ ْركَبُنّ } [أي ]:أيها الناس
{ طَ َبقًا عَنْ طَ َبقٍ } أي :أطوارا متعددة وأحوال متباينة ،من النطفة إلى العلقة ،إلى المضغة ،إلى
نفخ الروح ،ثم يكون وليدًا وطفلًا ،ثم مميزًا ،ثم يجري عليه قلم التكليف ،والمر والنهي ،ثم يموت
بعد ذلك ،ثم يبعث ويجازى بأعماله ،فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ،دالة على أن ال
وحده هو المعبود ،الموحد ،المدبر لعباده بحكمته ورحمته ،وأن العبد فقير عاجز ،تحت تدبير
العزيز الرحيم ،ومع هذا ،فكثير من الناس ل يؤمنون.
سجُدُونَ } أي :ل يخضعون للقرآن ،ول ينقادون لوامره ونواهيه{ ،
{ وَِإذَا قُ ِرئَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقُرْآنُ لَا يَ ْ
َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا ُيكَذّبُونَ } أي :يعاندون الحق بعدما تبين ،فل يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم
للقرآن ،فإن المكذب بالحق عنادًا ،ل حيلة فيه { ،وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُوعُونَ } أي :بما يعملونه وينوونه
سرًا ،فال يعلم سرهم وجهرهم ،وسيجازيهم بأعمالهم ،ولهذا قال { فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ } وسميت
البشارة بشارة ،لنها تؤثر في البشرة سرورًا أو غمًا.
ومن الناس فريق هداهم ال ،فآمنوا بال ،وقبلوا ما جاءتهم به الرسل ،فآمنوا وعملوا الصالحات.
فهؤلء لهم أجر غير ممنون أي :غير مقطوع بل هو أجر دائم مما ل عين رأت ،ول أذن
سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
{ وَالْ َيوْمِ ا ْل َموْعُودِ } وهو يوم القيامة ،الذي وعد ال الخلق أن يجمعهم فيه ،ويضم فيه أولهم
وآخرهم ،وقاصيهم ودانيهم ،الذي ل يمكن أن يتغير ،ول يخلف ال الميعاد.
شهُودٍ } وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي :مبصر ومبصر ،وحاضر
{ وَشَاهِ ٍد َومَ ْ
ومحضور ،وراء ومرئي.
والمقسم عليه ،ما تضمنه هذا القسم من آيات ال الباهرة ،وحكمه الظاهرة ،ورحمته الواسعة.
وكان أصحاب الخدود هؤلء قومًا كافرين ،ولديهم قوم مؤمنون ،فراودوهم للدخول في دينهم،
فامتنع المؤمنون من ذلك ،فشق الكافرون أخدودًا [في الرض] ،وقذفوا فيها النار ،وقعدوا حولها،
وفتنوا المؤمنين ،وعرضوهم عليها ،فمن استجاب لهم أطلقوه ،ومن استمر على اليمان قذفوه في
النار ،وهذا في غاية المحاربة ل ولحزبه المؤمنين ،ولهذا لعنهم ال وأهلكهم وتوعدهم فقال { :قُ ِتلَ
َأصْحَابُ الُْأخْدُودِ } ثم فسر الخدود بقوله { :النّارِ ذَاتِ ا ْل َوقُودِ إِذْ ُهمْ عَلَ ْيهَا ُقعُو ٌد وَهُمْ عَلَى مَا
شهُودٌ } وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب ،لنهم جمعوا بين
َي ْفعَلُونَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ ُ
الكفر بآيات ال ومعاندتها ،ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب ،الذي تنفطر منه القلوب،
وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها ،والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إل خصلة يمدحون عليها،
وبها سعادتهم ،وهي أنهم كانوا يؤمنون بال العزيز الحميد أي :الذي له العزة التي قهر بها كل
شيء ،وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله.
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ } خلقًا وعبيدًا ،يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه { ،وَاللّهُ
{ الّذِي لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
شهِيدٌ } علمًا وسمعًا وبصرًا ،أفل خاف هؤلء المتمردون على ال ،أن يبطش بهم
شيْءٍ َ
عَلَى ُكلّ َ
العزيز المقتدر ،أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك ل ،ليس لحد على أحد سلطة ،من دون إذن
المالك؟ أو خفي عليهم أن ال محيط بأعمالهم ،مجاز لهم على فعالهم ؟ كل إن الكافر في غرور،
والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل.
ثم وعدهم ،وأوعدهم ،وعرض عليهم التوبة ،فقال { :إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ ُثمّ لَمْ
عذَابُ الْحَرِيقِ } أي :العذاب الشديد المحرق.
جهَنّ َم وََلهُمْ َ
يَتُوبُوا فََل ُهمْ عَذَابُ َ
قال الحسن رحمه ال :انظروا إلى هذا الكرم والجود ،هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته ،وهو يدعوهم
إلى التوبة.
عمِلُوا
ولما ذكر عقوبة الظالمين ،ذكر ثواب المؤمنين ،فقال { :إِنّ الّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَ َ
الصّالِحَاتِ } بجوارحهم { َل ُهمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلكَبِيرُ } الذي حصل به
الفوز برضا ال ودار كرامته.
{ إِنّ بَطْشَ رَ ّبكَ َلشَدِيدٌ } أي :إن عقوبته لهل الجرائم والذنوب العظام [لقوية] شديدة ،وهو
خ َذهُ أَلِيمٌ
بالمرصاد للظالمين كما قال ال تعالىَ { :وكَذَِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ أَ ْ
شَدِيدٌ }
ئ وَ ُيعِيدُ } أي :هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته ،فل مشارك له في ذلك { ،وَ ُهوَ
{ إِنّهُ ُهوَ يُبْ ِد ُ
ا ْل َغفُورُ } الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب ،ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب.
{ ا ْل َودُودُ } الذي يحبه أحبابه محبة ل يشبهها شيء فكما أنه ل يشابهه شيء في صفات الجلل
والجمال ،والمعاني والفعال ،فمحبته في قلوب خواص خلقه ،التابعة لذلك ،ل يشبهها شيء من
أنواع المحاب ،ولهذا كانت محبته أصل العبودية ،وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها،
وإن لم يكن غيرها تبعًا لها ،كانت عذابًا على أهلها ،وهو تعالى الودود ،الواد لحبابه ،كما قال
تعالى { :يُحِ ّب ُه ْم وَيُحِبّونَهُ } والمودة هي المحبة الصافية ،وفي هذا سر لطيف ،حيث قرن
{ الودود } بالغفور ،ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى ال وأنابوا ،غفر لهم ذنوبهم
وأحبهم ،فل يقال :بل تغفر ذنوبهم ،ول يرجع إليهم الود ،كما قاله بعض الغالطين.
بل ال أفرح بتوبة عبده حين يتوب ،من رجل له راحلة ،عليها طعامه وشرابه وما يصلحه،
فأضلها في أرض فلة مهلكة ،فأيس منها ،فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت ،فبينما هو على
تلك الحال ،إذا راحلته على رأسه ،فأخذ بخطامها ،فال أعظم فرحًا بتوبة العبد من هذا براحلته،
وهذا أعظم فرح يقدر.
فلله الحمد والثناء ،وصفو الوداد ،ما أعظم بره ،وأكثر خيره ،وأغزر إحسانه ،وأوسع امتنانه"
{ ذُو ا ْلعَرْشِ ا ْلمَجِيدُ } أي :صاحب العرش العظيم ،الذي من عظمته ،أنه وسع السماوات والرض
والكرسي ،فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلة ،بالنسبة لسائر الرض ،وخص ال
العرش بالذكر ،لعظمته ،ولنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى ،وهذا على قراءة الجر ،يكون
{ المجيد } نعتا للعرش ،وأما على قراءة الرفع ،فإن المجيد نعت ل ،والمجد سعة الوصاف
وعظمتها.
{ َفعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ } أي :مهما أراد شيئًا فعله ،إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون ،وليس أحد فعالًا لما
يريد إل ال.
فإن المخلوقات ،ولو أرادت شيئًا ،فإنه ل بد لرادتها من معاون وممانع ،وال ل معاون لرادته،
ول ممانع له مما أراد.
عوْنَ
حدِيثُ الْجُنُودِ فِرْ َ
ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله ،فقالَ { :هلْ أَتَاكَ َ
وَ َثمُود } وكيف كذبوا المرسلين ،فجعلهم ال من المهلكين.
{ َبلِ الّذِينَ َكفَرُوا فِي َتكْذِيبٍ } أي :ل يزالون مستمرين على التكذيب والعناد ،ل تنفع فيهم
اليات ،ول تجدي لديهم العظات.
ن وَرَا ِئهِمْ مُحِيطٌ } أي :قد أحاط بهم علمًا وقدرة ،كقوله { :إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ } ففيه
{ وَاللّهُ مِ ْ
الوعيد الشديد للكافرين ،من عقوبة من هم في قبضته ،وتحت تدبيره.
{ َبلْ ُهوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } أي :وسيع المعاني عظيمها ،كثير الخير والعلم.
وهذا يدل على جللة القرآن وجزالته ،ورفعة قدره عند ال تعالى ،وال أعلم.
أي :المضيء ،الذي يثقب نوره ،فيخرق السماوات [فينفذ حتى يرى في الرض] ،والصحيح أنه
اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب.
وقد قيل :إنه " زحل " الذي يخرق السماوات السبع وينفذ فيها فيرى منها .وسمي طارقًا ،لنه
يطرق ليلًا.
والمقسم عليه قوله { :إِنْ ُكلّ َنفْسٍ َلمّا عَلَ ْيهَا حَا ِفظٌ } يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة،
وستجازى بعملها المحفوظ عليها.
{ فَلْيَ ْنظُرِ الْإِنْسَانُ مِمّ خُلِقَ } أي :فليتدبر خلقته ومبدأه ،فإنه مخلوق { مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } وهو :المني
الذي { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصّ ْلبِ وَالتّرَا ِئبِ } يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة ،وهي
ثدياها.
ويحتمل أن المراد المني الدافق ،وهو مني الرجل ،وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه
وترائبه ،ولعل هذا أولى ،فإنه إنما وصف ال به الماء الدافق ،والذي يحس [به] ويشاهد دفقه ،هو
مني الرجل ،وكذلك لفظ الترائب فإنها تستعمل في الرجل ،فإن الترائب للرجل ،بمنزلة الثديين
للنثى ،فلو أريدت النثى لقال " :من بين الصلب والثديين " ونحو ذلك ،وال أعلم.
فالذي أوجد النسان من ماء دافق ،يخرج من هذا الموضع الصعب ،قادر على رجعه في الخرة،
وإعادته للبعث ،والنشور [والجزاء] ،وقد قيل :إن معناه ،أن ال على رجع الماء المدفوق في
الصلب لقادر ،وهذا -وإن كان المعنى صحيحًا -فليس هو المراد من الية ،ولهذا قال بعده:
{ َيوْمَ تُبْلَى السّرَائِرُ } أي :تختبر سرائر الصدور ،ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على
سوَدّ وُجُوهٌ } ففي الدنيا ،تنكتم كثير من المور،
صفحات الوجوه قال تعالىَ { :يوْمَ تَبْ َيضّ ُوجُوهٌ وَتَ ْ
ول تظهر عيانًا للناس ،وأما في القيامة ،فيظهر بر البرار ،وفجور الفجار ،وتصير المور
علنية.
{ َفمَا َلهُ مِنْ ُق ّوةٍ } يدفع بها عن نفسه { وَلَا نَاصِرٍ } خارجي ينتصر به ،فهذا القسم على حالة
العاملين وقت عملهم وعند جزائهم.
{ َومَا ُهوَ بِا ْلهَ ْزلِ } أي :جد ليس بالهزل ،وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالت،
وتنفصل به الخصومات.
{ إِ ّن ُهمْ } أي :المكذبين للرسول صلى ال عليه وسلم ،وللقرآن { َيكِيدُونَ كَ ْيدًا } ليدفعوا بكيدهم
الحق ،ويؤيدوا الباطل.
{ وََأكِيدُ كَ ْيدًا } لظهار الحق ،ولو كره الكافرون ،ولدفع ما جاءوا به من الباطل ،ويعلم بهذا من
الغالب ،فإن الدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده.
{ َف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدًا } أي :قليلًا ،فسيعلمون عاقبة أمرهم ،حين ينزل بهم العقاب.
يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته ،والخضوع لجلله ،والستكانة لعظمته ،وأن يكون
تسبيحا ،يليق بعظمة ال تعالى ،بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن
العظيم ،وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها ،أي :أتقنها وأحسن خلقها { ،وَالّذِي
قَدّرَ } تقديرًا ،تتبعه جميع المقدرات { َفهَدَى } إلى ذلك جميع المخلوقات.
وهذه الهداية العامة ،التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته ،وتذكر فيها نعمه الدنيوية،
ولهذا قال فيها { :وَالّذِي أَخْرَجَ ا ْلمَرْعَى } أي :أنزل من السماء ماء فأنبت به أنواع النبات
والعشب الكثير ،فرتع فيها الناس والبهائم وكل حيوان ،ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب،
حوَى } أي :أسود أي :جعله هشيمًا رميمًا ،ويذكر فيها
جعَلَهُ غُثَاءً أَ ْ
ألوى نباته ،وصوح عشبهَ { ،ف َ
نعمه الدينية ،ولهذا امتن ال بأصلها ومنشئها ،وهو القرآن ،فقال { :سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَا تَنْسَى } أي:
سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب ،ونوعيه قلبك ،فل تنسى منه شيئًا ،وهذه بشارة كبيرة من ال
لعبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم ،أن ال سيعلمه علمًا ل ينساه.
خفَى }
جهْ َر َومَا يَ ْ
{ إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ } مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة { ،إِنّهُ َيعْلَمُ الْ َ
ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي :فلذلك يشرع ما أراد ،ويحكم بما يريد { ،وَنُيَسّ ُركَ
لِلْيُسْرَى } وهذه أيضًا بشارة كبيرة ،أن ال ييسر رسوله صلى ال عليه وسلم لليسرى في جميع
أموره ،ويجعل شرعه ودينه يسرا .
{ َف َذكّرْ } بشرع ال وآياته { إِنْ َن َف َعتِ ال ّذكْرَى } أي :ما دامت الذكرى مقبولة ،والموعظة
مسموعة ،سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه.
ومفهوم الية أنه إن لم تنفع الذكرى ،بأن كان التذكير يزيد في الشر ،أو ينقص من الخير ،لم تكن
الذكرى مأمورًا بها ،بل منهيًا عنها ،فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين :منتفعون وغير منتفعين.
فأما المنتفعون ،فقد ذكرهم بقوله { :سَ َي ّذكّرُ مَنْ يَخْشَى } ال تعالى ،فإن خشية ال تعالى ،وعلمه
بأن سيجازيه على أعماله ،توجب للعبد النكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات.
{ ُثمّ لَا َيمُوتُ فِيهَا وَلَا َيحْيَا } أي :يعذب عذابًا أليمًا ،من غير راحة ول استراحة ،حتى إنهم
خفّفُ عَ ْنهُمْ مِنْ
يتمنون الموت فل يحصل لهم ،كما قال تعالى { :لَا ُيقْضَى عَلَ ْيهِمْ فَ َيمُوتُوا وَلَا ُي َ
عَذَا ِبهَا } .
{ َقدْ َأفْلَحَ مَنْ تَ َزكّى } أي :قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم ومساوئ
سمَ رَبّهِ َفصَلّى } أي :اتصف بذكر ال ،وانصبغ به قلبه ،فأوجب له ذلك العمل
الخلق { ،وَ َذكَرَ ا ْ
بما يرضي ال ،خصوصًا الصلة ،التي هي ميزان اليمان ،فهذا معنى الية الكريمة ،وأما من
فسر قوله { تزكى } بمعني أخرج زكاة الفطر ،وذكر اسم ربه فصلى ،أنه صلة العيد ،فإنه وإن
كان داخلًا في اللفظ وبعض جزئياته ،فليس هو المعنى وحده.
{ َبلْ ُتؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا } أي :تقدمونها على الخرة ،وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل
على الخرة.
{ وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى } وللخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب ،وأبقى لكونها دار خلد
وبقاء وصفاء ،والدنيا دار فناء ،فالمؤمن العاقل ل يختار الردأ على الجود ،ول يبيع لذة ساعة،
بترحة البد ،فحب الدنيا وإيثارها على الخرة رأس كل خطيئة.
{ إِنّ هَذَا } المذكور لكم في هذه السورة المباركة ،من الوامر الحسنة ،والخبار المستحسنة { َلفِي
حفِ إِبْرَاهِيمَ َومُوسَى } اللذين هما أشرف المرسلين ،سوى النبي محمد صلى
حفِ الْأُولَى صُ ُ
الصّ ُ
ال وسلم عليه وسلم.
فهذه أوامر في كل شريعة ،لكونها عائدة إلى مصالح الدارين ،وهي مصالح في كل زمان ومكان.
ش َعةٌ * عَامِلَةٌ
حدِيثُ ا ْلغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ خَا ِ
حمَنِ الرّحِيمِ َهلْ أَتَاكَ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 16 - 1بِ ْ
ن وَلَا
سمِ ُ
ن ضَرِيعٍ * لَا يُ ْ
طعَامٌ إِلّا مِ ْ
سقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ َل ُهمْ َ
نَاصِبَةٌ * َتصْلَى نَارًا حَامِ َيةً * تُ ْ
سمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً *
سعْ ِيهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنّةٍ عَالِ َيةٍ * لَا َت ْ
ع َمةٌ * لِ َ
ُيغْنِي مِنْ جُوعٍ * ُوجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نَا ِ
صفُوفَةٌ * وَزَرَا ِبيّ
فِيهَا عَيْنٌ جَارِ َيةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَ ْرفُوعَةٌ * وََأ ْكوَابٌ َموْضُوعَةٌ * وَ َنمَارِقُ َم ْ
مَبْثُوثَةٌ }
يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الهوال الطامة ،وأنها تغشى الخلئق بشدائدها،
فيجازون بأعمالهم ،ويتميزون [إلى] فريقين :فريقًا في الجنة ،وفريقًا في السعير.
فأخبر عن وصف كل الفريقين ،فقال في [وصف] أهل النار { :وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ } أي :يوم القيامة
شعَة } من الذل ،والفضيحة والخزي.
{ خَا ِ
{ عَامَِلةٌ نَاصِبَةٌ } أي :تاعبة في العذاب ،تجر على وجوهها ،وتغشى وجوههم النار.
سعْ ِيهَا } الذي قدمته في الدنيا من العمال الصالحة ،والحسان إلى عباد ال { ،رَاضِيَةٍ } إذ
{ ِل َ
وجدت ثوابه مدخرًا مضاعفًا ،فحمدت عقباه ،وحصل لها كل ما تتمناه ،وذلك أنها { فِي جَنّةٍ }
جامعة لنواع النعيم كلها { ،عَالِ َيةٍ } في محلها ومنازلها ،فمحلها في أعلى عليين ،ومنازلها مساكن
عالية ،لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد ال لهم من الكرامة.
{ ُقطُو ُفهَا دَانِيَةٌ } أي :كثيرة الفواكه اللذيذة ،المثمرة بالثمار الحسنة ،السهلة التناول ،بحيث ينالونها
على أي :حال كانوا ،ل يحتاجون أن يصعدوا شجرة ،أو يستعصي عليهم منها ثمرة.
سمَعُ فِيهَا } أي :الجنة { لَاغِ َيةً } أي :كلمة لغو وباطل ،فضلًا عن الكلم المحرم ،بل كلمهم
{ لَا تَ ْ
كلم حسن [نافع] مشتمل على ذكر ال تعالى ،وذكر نعمه المتواترة عليهم ،و[على] الداب
المستحسنة بين المتعاشرين ،الذي يسر القلوب ،ويشرح الصدور.
{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } وهذا اسم جنس أي :فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف
شاءوا ،وأنى أرادوا.
{ فِيهَا سُرُرٌ مَ ْرفُوعَةٌ } و " السرر " جمع " سرير " وهي المجالس المرتفعة في ذاتها ،وبما عليها
من الفرش اللينة الوطيئة.
{ وََأ ْكوَابٌ َم ْوضُوعَةٌ } أي :أوان ممتلئة من أنواع الشربة اللذيذة ،قد وضعت بين أيديهم ،وأعدت
لهم ،وصارت تحت طلبهم واختيارهم ،يطوف بها عليهم الولدان المخلدون.
صفُوفَةٌ } أي :وسائد من الحرير والستبرق وغيرهما مما ل يعلمه إل ال ،قد صفت
{ وَ َنمَارِقُ َم ْ
للجلوس والتكاء عليها ،وقد أريحوا عن أن يضعوها ،و يصفوها بأنفسهم.
{ وَزَرَا ِبيّ مَبْثُوثَةٌ } والزرابي [هي ]:البسط الحسان ،مبثوثة أي :مملوءة بها مجالسهم من كل
جانب.
يقول تعالى حثًا للذين ل يصدقون الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولغيرهم من الناس ،أن يتفكروا
في مخلوقات ال الدالة على توحيدهَ { :أفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِ ِبلِ كَ ْيفَ خُِل َقتْ } أي[ :أل] ينظرون إلى
خلقها البديع ،وكيف سخرها ال للعباد ،وذللها لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها.
{ وَإِلَى ا ْلجِبَالِ كَ ْيفَ ُنصِ َبتْ } بهيئة باهرة ،حصل بها استقرار الرض وثباتها عن الضطراب،
وأودع فيها من المنافع [الجليلة] ما أودع.
حتْ } أي :مدت مدًا واسعًا ،وسهلت غاية التسهيل ،ليستقر الخلئق
طَ{ وَإِلَى الْأَ ْرضِ كَ ْيفَ سُ ِ
على ظهرها ،ويتمكنوا من حرثها وغراسها ،والبنيان فيها ،وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع
المقاصد فيها.
واعلم أن تسطيحها ل ينافي أنها كرة مستديرة ،قد أحاطت الفلك فيها من جميع جوانبها ،كما دل
على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة ،كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس ،خصوصًا
في هذه الزمنة ،التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم ال من السباب المقربة للبعيد،
فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدًا ،الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر.
وأما جسم الرض الذي هو في غاية الكبر والسعة ،فيكون كرويًا مسطحًا ،ول يتنافى المران،
كما يعرف ذلك أرباب الخبرة.
{ َف َذكّرْ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ َذكّرٌ } أي :ذكر الناس وعظهم ،وأنذرهم وبشرهم ،فإنك مبعوث لدعوة الخلق
إلى ال وتذكيرهم ،ولم تبعث مسيطرًا عليهم ،مسلطًا موكلًا بأعمالهم ،فإذا قمت بما عليك ،فل
عليك بعد ذلك لوم ،كقوله تعالىَ { :ومَا أَ ْنتَ عَلَ ْي ِهمْ بِجَبّارٍ فَ َذكّرْ بِا ْلقُرْآنِ مَنْ َيخَافُ وَعِيدِ } .
وقوله { :إِلّا مَنْ َتوَلّى َوكَفَرَ } أي :لكن من تولى عن الطاعة وكفر بال { فَ ُيعَذّبُهُ اللّهُ ا ْل َعذَابَ
الَْأكْبَرَ } أي :الشديد الدائم { ،إِنّ إِلَيْنَا إِيَا َب ُهمْ } أي :رجوع الخليقة وجمعهم في يوم القيامة.
{ ُثمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَا َبهُمْ } فنحاسبهم على ما عملوا من خير وشر.
الظاهر أن المقسم به ،هو المقسم عليه ،وذلك جائز مستعمل ،إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًا ،وهو
كذلك في هذا الموضع.
فأقسم تعالى بالفجر ،الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار ،لما في إدبار الليل وإقبال النهار ،من
اليات الدالة على كمال قدرة ال تعالى ،وأنه وحده المدبر لجميع المور ،الذي ل تنبغي العبادة
إل له ،ويقع في الفجر صلة فاضلة معظمة ،يحسن أن يقسم ال بها ،ولهذا أقسم بعده بالليالي
العشر ،وهي على الصحيح :ليالي عشر رمضان ،أو [عشر] ذي الحجة ،فإنها ليال مشتملة على
أيام فاضلة ،ويقع فيها من العبادات والقربات ما ل يقع في غيرها.
وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر ،التي هي خير من ألف شهر ،وفي نهارها ،صيام آخر
رمضان الذي هو ركن من أركان السلم.
وفي أيام عشر ذي الحجة ،الوقوف بعرفة ،الذي يغفر ال فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان،
فما رئي الشيطان أحقر ول أدحر منه في يوم عرفة ،لما يرى من تنزل الملك والرحمة من ال
لعباده ،ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة ،وهذه أشياء معظمة ،مستحقة لن يقسم ال بها.
{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا يَسْرِ } أي :وقت سريانه وإرخائه ظلمه على العباد ،فيسكنون ويستريحون
ويطمئنون ،رحمة منه تعالى وحكمة.
حجْرٍ } أي[ :لذي] عقل؟ نعم ،بعض ذلك يكفي ،لمن كان له
{ َهلْ فِي َذِلكَ } المذكور { َقسَمٌ ِلذِي ِ
قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
{ { } 14 - 6أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَادِ *
ط َغوْا فِي الْبِلَادِ * فََأكْثَرُوا فِيهَا
عوْنَ ذِي الَْأوْتَادِ * الّذِينَ َ
وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
عذَابٍ * إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }
سوْطَ َ
صبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ
ا ْلفَسَادَ * َف َ
يقول تعالى { :أَلَمْ تَرَ } بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه المم الطاغية ،وهي { إِ َرمَ } القبيلة
المعروفة في اليمن { ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ } أي :القوة الشديدة ،والعتو والتجبر.
{ الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا } أي :مثل عاد { فِي الْبِلَادِ } أي :في جميع البلدان [في القوة والشدة] ،كما
ح وَزَا َد ُكمْ فِي الْخَ ْلقِ
جعََلكُمْ خَُلفَاءَ مِنْ َبعْدِ َقوْمِ نُو ٍ
قال لهم نبيهم هود عليه السلم { :وَا ْذكُرُوا إِذْ َ
سطَةً فَا ْذكُرُوا آلَاءَ اللّهِ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } .
بَ ْ
{ وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُوا الصّخْرَ بِا ْلوَادِ } أي :وادي القرى ،نحتوا بقوتهم الصخور ،فاتخذوها مساكن،
عوْنَ ذِي الَْأوْتَاد } أي[ :ذي] الجنود الذين ثبتوا ملكه ،كما تثبت الوتاد ما يراد إمساكه بها،
{ َوفِرْ َ
ط َغوْا فِي الْبِلَادِ } هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم ،فإنهم طغوا في
{ الّذِينَ َ
بلد ال ،وآذوا عباد ال ،في دينهم ودنياهم ،ولهذا قال:
{ فََأكْثَرُوا فِيهَا ا ْلفَسَادَ } وهو العمل بالكفر وشعبه ،من جميع أجناس المعاصي ،وسعوا في محاربة
الرسل وصد الناس عن سبيل ال ،فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلكهم ،أرسل ال عليهم
من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب { ،إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ } لمن عصاه يمهله قليلًا ،ثم يأخذه أخذ
عزيز مقتدر.
{ { } 20 - 15فََأمّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْ َتلَاهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَ ُه وَ َن ّعمَهُ فَ َيقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّا إِذَا مَا
طعَامِ
علَى َ
ابْتَلَاهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْزقَهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِي * كَلّا بَل لَا ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا َتحَاضّونَ َ
جمّا }
سكِينِ * وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلًا َلمّا * وَتُحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ
ا ْلمِ ْ
يخبر تعالى عن طبيعة النسان من حيث هو ،وأنه جاهل ظالم ،ل علم له بالعواقب ،يظن الحالة
التي تقع فيه تستمر ول تزول ،ويظن أن إكرام ال في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده
وقربه منه ،وأنه إذا { قدر عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ } أي :ضيقه ،فصار يقدر قوته ل يفضل منه ،أن هذا إهانة
من ال له ،فرد ال عليه هذا الحسبان :بقوله { كَلّا } أي :ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم
علي ،ول كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي ،وإنما الغنى والفقر ،والسعة والضيق ،ابتلء
من ال ،وامتحان يمتحن به العباد ،ليرى من يقوم له بالشكر والصبر ،فيثيبه على ذلك الثواب
الجزيل ،ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل.
وأيضًا ،فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط ،من ضعف الهمة ،ولهذا لمهم ال على عدم
اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين ،فقال { :كَلّا بَل لَا ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ } الذي فقد أباه وكاسبه،
واحتاج إلى جبر خاطره والحسان إليه.
فأنتم ل تكرمونه بل تهينونه ،وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم ،وعدم الرغبة في الخير.
سكِين } أي :ل يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحاويج من
طعَامِ ا ْلمِ ْ
{ وَلَا َتحَاضّونَ عَلَى َ
المساكين والفقراء ،وذلك لجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب ،ولهذا قال:
{ وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ } أي :المال المخلف { َأكْلًا َلمّا } أي :ذريعًا ،ل تبقون على شيء منه.
جمّا } أي :كثيرًا شديدًا ،وهذا كقوله تعالىَ { :بلْ ُتؤْثِرُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا
{ وَتُحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ
وَالْآخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى } { كَلّا َبلْ تُحِبّونَ ا ْلعَاجِلَ َة وَتَذَرُونَ الْآخِ َرةَ } .
ويجيء ال تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام ،وتجيء الملئكة الكرام ،أهل
السماوات كلهم ،صفًا صفا أي :صفًا بعد صف ،كل سماء يجيء ملئكتها صفا ،يحيطون بمن
دونهم من الخلق ،وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار.
فإذا وقعت هذه المور فـ { َي ْومَئِذٍ يَ َت َذكّرُ الْإِنْسَانُ } ما قدمه من خير وشر.
{ وَأَنّى لَهُ ال ّذكْرَى } فقد فات أوانها ،وذهب زمانها ،يقول متحسرًا على ما فرط في جنب ال { :يَا
لَيْتَنِي قَ ّد ْمتُ لِحَيَاتِي } الدائمة الباقية ،عملًا صالحًا ،كما قال تعالىَ { :يقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَ ْذتُ مَعَ
الرّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } .
وفي الية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها ،وفي تتميم لذاتها ،هي
الحياة في دار القرار ،فإنها دار الخلد والبقاء.
حدٌ } فإنهم يقرنون بسلسل من نار ،ويسحبون على وجوههم في الحميم ،ثم في
{ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَ َ
النار يسجرون ،فهذا جزاء المجرمين ،وأما من اطمأن إلى ال وآمن به وصدق رسله ،فيقال له{ :
طمَئِنّةُ } إلى ذكر ال ،الساكنة [إلى] حبه ،التي قرت عينها بال.
يَا أَيّ ُتهَا ال ّنفْسُ ا ْلمُ ْ
جعِي إِلَى رَ ّبكِ } الذي رباك بنعمته ،وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه
{ ا ْر ِ
وأحبابه { رَاضِيَةً مَ ْرضِيّةً } أي :راضية عن ال ،وعن ما أكرمها به من الثواب ،وال قد رضي
عنها.
{ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَا ْدخُلِي جَنّتِي } وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة ،وتخاطب به حال
الموت [والحمد ل رب العالمين].
تفسير سورة ل أقسم
بهذا البلد مكية
يقسم تعالى { ِب َهذَا الْبَلَدِ } المين ،الذي هو مكة المكرمة ،أفضل البلدان على الطلق ،خصوصًا
وقت حلول الرسول صلى ال عليه وسلم فيهاَ { ،ووَالِ ٍد َومَا وَلَدَ } أي :آدم وذريته.
خَلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي كَبَدٍ } يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من
والمقسم عليه قولهَ { :لقَدْ َ
الشدائد في الدنيا ،وفي البرزخ ،ويوم يقوم الشهاد ،وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من
هذه الشدائد ،ويوجب له الفرح والسرور الدائم.
ويحتمل أن المعنى :لقد خلقنا النسان في أحسن تقويم ،وأقوم خلقة ،مقدر على التصرف
والعمال الشديدة ،ومع ذلك[ ،فإنه] لم يشكر ال على هذه النعمة [العظيمة] ،بل بطر بالعافية
وتجبر على خالقه ،فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له ،وأن سلطان تصرفه ل ينعزل،
حدٌ } ويطغى ويفتخر بما أنفق من الموال على
سبُ أَنْ لَنْ َيقْدِرَ عَلَ ْيهِ أَ َ
حَولهذا قال تعالى { :أَيَ ْ
شهوات نفسه .فـ { َيقُولُ َأهَْل ْكتُ مَالًا لُبَدًا } أي :كثيًرا ،بعضه فوق بعض.
وسمى ال تعالى النفاق في الشهوات والمعاصي إهلكًا ،لنه ل ينتفع المنفق بما أنفق ،ول يعود
عليه من إنفاقه إل الندم والخسار والتعب والقلة ،ل كمن أنفق في مرضاة ال في سبيل الخير ،فإن
هذا قد تاجر مع ال ،وربح أضعاف أضعاف ما أنفق.
فهذه المنن الجزيلة ،تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق ال ،ويشكر ال على نعمه ،وأن ل يستعين
بها على معاصيه ،ولكن هذا النسان لم يفعل ذلك.
{ فَلَا اقْ َتحَمَ ا ْل َعقَبَةَ } أي :لم يقتحمها ويعبر عليها ،لنه متبع لشهواته .
وهذه العقبة شديدة عليه ،ثم فسر [هذه] العقبة { َفكّ َرقَبَةٍ } أي :فكها من الرق ،بعتقها أو مساعدتها
على أداء كتابتها ،ومن باب أولى فكاك السير المسلم عند الكفار.
سغَبَةٍ } أي :مجاعة شديدة ،بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة.
طعَامٌ فِي َيوْمٍ ذِي مَ ْ
{ َأوْ ِإ ْ
{ يَتِيمًا ذَا َمقْرَبَةٍ } أي :جامعًا بين كونه يتيمًا ،فقيرًا ذا قرابة.
{ ُثمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا } أي :آمنوا بقلوبهم بما يجب اليمان به ،وعملوا الصالحات
صوْا بِالصّبْرِ } على طاعة ال وعن
بجوارحهم .من كل قول وفعل واجب أو مستحب { .وَ َتوَا َ
معصيته ،وعلى أقدار المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على النقياد لذلك ،والتيان به كاملًا
منشرحًا به الصدر ،مطمئنة به النفس.
حمَةِ } للخلق ،من إعطاء محتاجهم ،وتعليم جاهلهم ،والقيام بما يحتاجون إليه من
صوْا بِا ْلمَ ْر َ
{ وَ َتوَا َ
جميع الوجوه ،ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية ،وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ،ويكره
لهم ما يكره لنفسه ،أولئك الذين قاموا بهذه الوصاف ،الذين وفقهم ال لقتحام هذه العقبة { أُولَ ِئكَ
َأصْحَابُ ا ْلمَ ْيمَنَةِ } لنهم أدوا ما أمر ال به من حقوقه وحقوق عباده ،وتركوا ما نهوا عنه ،وهذا
عنوان السعادة وعلمتها.
{ وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآيَاتِنَا } بأن نبذوا هذه المور وراء ظهورهم ،فلم يصدقوا بال[ ،ول آمنوا به]،
ول عملوا صالحًا ،ول رحموا عباد ال { ،والذين كفروا بآياتنا همْ َأصْحَابُ ا ْلمَشْ َئمَة عَلَ ْيهِمْ نَارٌ
ُمؤْصَ َدةٌ } أي :مغلقة ،في عمد ممددة ،قد مدت من ورائها ،لئل تنفتح أبوابها ،حتى يكونوا في
ضيق وهم وشدة [والحمد ل].
أقسم تعالى بهذه اليات العظيمة ،على النفس المفلحة ،وغيرها من النفوس الفاجرة ،فقال:
{ وَال ّنهَارِ ِإذَا جَلّاهَا } أي :جلى ما على وجه الرض وأوضحه.
{ وَاللّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَاهَا } أي :يغشى وجه الرض ،فيكون ما عليها مظلمًا.
فتعاقب الظلمة والضياء ،والشمس والقمر ،على هذا العالم ،بانتظام وإتقان ،وقيام لمصالح العباد،
أكبر دليل على أن ال بكل شيء عليم ،وعلى كل شيء قدير ،وأنه المعبود وحده ،الذي كل معبود
سواه فباطل.
سمَا ِء َومَا بَنَاهَا } يحتمل أن " ما " موصولة ،فيكون القسام بالسماء وبانيها ،الذي هو ال
{ وَال ّ
تبارك وتعالى ،ويحتمل أنها مصدرية ،فيكون القسام بالسماء وبنيانها ،الذي هو غاية ما يقدر من
الحكام والتقان والحسان ،ونحو ذلك قوله { :وَالْأَ ْرضِ َومَا طَحَاهَا } أي :مدها ووسعها ،فتمكن
الخلق حينئذ من النتفاع بها ،بجميع وجوه النتفاع.
سوّاهَا } يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية ،كما يؤيد هذا العموم،
س َومَا َ
{ وَ َنفْ ٍ
ويحتمل أن المراد بالقسام بنفس النسان المكلف ،بدليل ما يأتي بعده.
وعلى كل ،فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقة بالقسام بها فإنها في غاية اللطف والخفة،
سريعة التنقل [والحركة] والتغير والتأثر والنفعالت النفسية ،من الهم ،والرادة ،والقصد،
والحب ،والبغض ،وهي التي لولها لكان البدن مجرد تمثال ل فائدة فيه ،وتسويتها على هذا
الوجه آية من آيات ال العظيمة.
وقوله { :قَدْ َأفْلَحَ مَنْ َزكّاهَا } أي :طهر نفسه من الذنوب ،ونقاها من العيوب ،ورقاها بطاعة ال،
وعلها بالعلم النافع والعمل الصالح.
{ َوقَدْ خَابَ مَنْ َدسّاهَا } أي :أخفى نفسه الكريمة ،التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها ،بالتدنس
بالرذائل ،والدنو من العيوب ،والقتراف للذنوب ،وترك ما يكملها وينميها ،واستعمال ما يشينها
ويدسيها.
ط ْغوَاهَا } أي :بسبب طغيانها وترفعها عن الحق ،وعتوها على رسل ال
{ َكذّ َبتْ َثمُودُ ِب َ
شقَاهَا } أي :أشقى القبيلة[ ،وهو] " قدار بن سالف " لعقرها حين اتفقوا على ذلك،
{ ِإذِ انْ َب َعثَ أَ ْ
وأمروه فأتمر لهم.
{ َف َعقَرُوهَا فَ َدمْ َدمَ عَلَ ْيهِمْ رَ ّب ُهمْ بِذَنْ ِبهِمْ } أي :دمر عليهم وعمهم بعقابه ،وأرسل عليهم الصيحة من
فوقهم ،والرجفة من تحتهم ،فأصبحوا جاثمين على ركبهم ،ل تجد منهم داعيًا ول مجيبا.
وكيف يخاف من هو قاهر ،ل يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق ،الحكيم في كل ما قضاه
وشرعه؟
تمت ول الحمد
تفسير سورة والليل
وهي مكية
خلَقَ ال ّذكَرَ
حمَنِ الرّحِيمِ وَاللّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَى * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّى * َومَا َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 21 - 1بِ ْ
سعْ َيكُمْ َلشَتّى * فََأمّا مَنْ أَعْطَى وَا ّتقَى * َوصَدّقَ بِالْحُسْنَى * َفسَنُيَسّ ُرهُ لِلْ ُيسْرَى *
وَالْأُنْثَى * إِنّ َ
ل وَاسْ َتغْنَى * َوكَ ّذبَ بِا ْلحُسْنَى * فَسَنُ َيسّ ُرهُ لِ ْلعُسْرَى * َومَا ُيغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَ َردّى *
خَوََأمّا مَنْ َب ِ
إِنّ عَلَيْنَا لَ ْل ُهدَى * وَإِنّ لَنَا لَلْآخِ َر َة وَالْأُولَى * فَأَ ْنذَرْ ُتكُمْ نَارًا تََلظّى *
ب وَ َتوَلّى * وَسَ ُيجَنّ ُبهَا الْأَ ْتقَى * الّذِي ُيؤْتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى * َومَا
شقَى * الّذِي كَ ّذ َ
لَا َيصْلَاهَا إِلّا الْأَ ْ
س ْوفَ يَ ْرضَى }
حدٍ عِنْ َدهُ مِنْ ِن ْعمَةٍ تُجْزَى * إِلّا ابْ ِتغَا َء وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى * وَلَ َ
لِأَ َ
هذا قسم من ال بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم ،فقال { :وَاللّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَى }
[أي :يعم] الخلق بظلمه ،فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه ،ويستريح العباد من الكد والتعب.
خلَقَ ال ّذكَ َر وَالْأُنْثَى } إن كانت " ما " موصولة ،كان إقسامًا بنفسه الكريمة الموصوفة ،بأنه
{ َومَا َ
خالق الذكور والناث ،وإن كانت مصدرية ،كان قسمًا بخلقه للذكر والنثى ،وكمال حكمته في
ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى ،ليبقى النوع ول يضمحل،
وقاد كل منهما إلى الخر بسلسلة الشهوة ،وجعل كلًا منهما مناسبًا للخر ،فتبارك ال أحسن
الخالقين.
سعْ َيكُمْ لَشَتّى } هذا [هو] المقسم عليه أي :إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا
وقوله { :إِنّ َ
كثيًرا ،وذلك بحسب تفاوت نفس العمال ومقدارها والنشاط فيها ،وبحسب الغاية المقصودة بتلك
العمال ،هل هو وجه ال العلى الباقي؟ فيبقى السعي له ببقائه ،وينتفع به صاحبه ،أم هي غاية
مضمحلة فانية ،فيبطل السعي ببطلنها ،ويضمحل باضمحللها؟
وهذا كل عمل يقصد به غير وجه ال تعالى ،بهذا الوصف ،ولهذا فصل ال تعالى العاملين،
ووصف أعمالهم ،فقال { :فََأمّا مَنْ أَعْطَى } [أي] ما أمر به من العبادات المالية ،كالزكوات،
والكفارات والنفقات ،والصدقات ،والنفاق في وجوه الخير ،والعبادات البدنية كالصلة ،والصوم
ونحوهما.
والمركبة منهما ،كالحج والعمرة [ونحوهما] { وَا ّتقَى } ما نهي عنه ،من المحرمات والمعاصي،
على اختلف أجناسها.
حسْنَى } أي :صدق بـ " ل إله إل ال " وما دلت عليه ،من جميع العقائد الدينية ،وما
{ َوصَدّقَ بِالْ ُ
ترتب عليها من الجزاء الخروي.
{ َفسَنُيَسّ ُرهُ لِلْيُسْرَى } أي :نسهل عليه أمره ،ونجعله ميسرا له كل خير ،ميسرًا له ترك كل شر،
لنه أتى بأسباب التيسير ،فيسر ال له ذلك.
خلَ } بما أمر به ،فترك النفاق الواجب والمستحب ،ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب
{ وََأمّا مَنْ َب ِ
ل { ،وَاسْ َتغْنَى } عن ال ،فترك عبوديته جانبًا ،ولم ير نفسه مفتقرة غاية الفتقار إلى ربها ،الذي
ل نجاة لها ول فوز ول فلح ،إل بأن يكون هو محبوبها ومعبودها ،الذي تقصده وتتوجه إليه.
{ َوكَ ّذبَ بِا ْلحُسْنَى } أي :بما أوجب ال على العباد التصديق به من العقائد الحسنة.
{ َفسَنُيَسّ ُرهُ لِ ْلعُسْرَى } أي :للحالة العسرة ،والخصال الذميمة ،بأن يكون ميسرًا للشر أينما كان،
ومقيضًا له أفعال المعاصي ،نسأل ال العافية.
{ َومَا ُيغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } الذي أطغاه واستغنى به ،وبخل به إذا هلك ومات ،فإنه ل يصحبه إل عمله
الصالح .
وأما ماله [الذي لم يخرج منه الواجب] فإنه يكون وبالًا عليه ،إذ لم يقدم منه لخرته شيئًا.
{ إِنّ عَلَيْنَا لَ ْلهُدَى } أي :إن الهدى المستقيم طريقه ،يوصل إلى ال ،ويدني من رضاه ،وأما
الضلل ،فطرق مسدودة عن ال ،ل توصل صاحبها إل للعذاب الشديد.
{ وَإِنّ لَنَا لَلْآخِ َر َة وَالْأُولَى } ملكًا وتصرفًا ،ليس له فيهما مشارك ،فليرغب الراغبون إليه في
الطلب ،ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين.
{ وَسَ ُيجَنّ ُبهَا الْأَ ْتقَى الّذِي ُيؤْتِي مَالَهُ يَتَ َزكّى } بأن يكون قصده به تزكية نفسه ،وتطهيرها من
الذنوب والعيوب ،قاصدًا به وجه ال تعالى ،فدل هذا على أنه إذا تضمن النفاق المستحب ترك
واجب ،كدين ونفقة ونحوهما ،فإنه غير مشروع ،بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء،
لنه ل يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب.
{ َومَا لَِأحَدٍ عِ ْن َدهُ مِنْ ِن ْعمَةٍ تُجْزَى } أي :ليس لحد من الخلق على هذا التقى نعمة تجزى إل وقد
كافأه بها ،وربما بقي له الفضل والمنة على الناس ،فتمحض عبدًا ل ،لنه رقيق إحسانه وحده،
وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها ،فإنه ل بد أن يترك للناس ،ويفعل لهم ما
ينقص [إخلصه].
وهذه الية ،وإن كانت متناولة لبي بكر الصديق رضي ال عنه ،بل قد قيل إنها نزلت في سببه،
فإنه -رضي ال عنه -ما لحد عنده من نعمة تجزى ،حتى ول رسول ال صلى ال عليه وسلم،
إل نعمة الرسول التي ل يمكن جزاؤها ،وهي [نعمة] الدعوة إلى دين السلم ،وتعليم الهدى ودين
الحق ،فإن ل ورسوله المنة على كل أحد ،منة ل يمكن لها جزاء ول مقابلة ،فإنها متناولة لكل
من اتصف بهذا الوصف الفاضل ،فلم يبق لحد عليه من الخلق نعمة تجزى ،فبقيت أعماله
خالصة لوجه ال تعالى.
ك َومَا قَلَى
عكَ رَ ّب َ
سجَى * مَا وَدّ َ
حمَنِ الرّحِيمِ وَالضّحَى * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 11 - 1بِ ْ
س ْوفَ ُي ْعطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَى * أََلمْ َيجِ ْدكَ يَتِيمًا فَآوَى * َووَجَ َدكَ
* وَلَلْآخِ َرةُ خَيْرٌ َلكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَ َ
ضَالّا َفهَدَى * َووَجَ َدكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فََأمّا الْيَتِيمَ فَلَا َت ْقهَرْ * وََأمّا السّا ِئلَ فَلَا تَ ْنهَرْ * وََأمّا بِ ِن ْعمَةِ
ح ّدثْ }
رَ ّبكَ فَ َ
أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى ،وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته ،على اعتناء ال
عكَ رَ ّبكَ } أي :ما تركك منذ اعتنى بك ،ول أهملك
برسوله صلى ال عليه وسلم فقال { :مَا وَدّ َ
منذ رباك ورعاك ،بل لم يزل يربيك أحسن تربية ،ويعليك درجة بعد درجة.
{ َومَا قَل } ك ال أي :ما أبغضك منذ أحبك ،فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده ،والنفي
المحض ل يكون مدحًا ،إل إذا تضمن ثبوت كمال ،فهذه حال الرسول صلى ال عليه وسلم
الماضية والحاضرة ،أكمل حال وأتمها ،محبة ال له واستمرارها ،وترقيته في درج الكمال،
ودوام اعتناء ال به.
وأما حاله المستقبلة ،فقال { :وَلَلْآخِ َرةُ خَيْرٌ َلكَ مِنَ الْأُولَى } أي :كل حالة متأخرة من أحوالك ،فإن
لها الفضل على الحالة السابقة.
فلم يزل صلى ال عليه وسلم يصعد في درج المعالي ويمكن له ال دينه ،وينصره على أعدائه،
ويسدد له أحواله ،حتى مات ،وقد وصل إلى حال ل يصل إليها الولون والخرون ،من الفضائل
والنعم ،وقرة العين ،وسرور القلب.
ثم بعد ذلك ،ل تسأل عن حاله في الخرة ،من تفاصيل الكرام ،وأنواع النعام ،ولهذا قال:
س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَى } وهذا أمر ل يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة
{ وَلَ َ
الشاملة.
{ أََلمْ َيجِ ْدكَ يَتِيمًا فَآوَى } أي :وجدك ل أم لك ،ول أب ،بل قد مات أبوه وأمه وهو ل يدبر نفسه،
فآواه ال ،وكفله جده عبد المطلب ،ثم لما مات جده كفله ال عمه أبا طالب ،حتى أيده بنصره
وبالمؤمنين.
ج َدكَ ضَالّا َفهَدَى } أي :وجدك ل تدري ما الكتاب ول اليمان ،فعلمك ما لم تكن تعلم،
{ َووَ َ
ووفقك لحسن العمال والخلق.
ج َدكَ عَائِلًا } أي :فقيرًا { فَأَغْنَى } بما فتح ال عليك من البلدان ،التي جبيت لك أموالها
{ َووَ َ
وخراجها.
فالذي أزال عنك هذه النقائص ،سيزيل عنك كل نقص ،والذي أوصلك إلى الغنى ،وآواك ونصرك
وهداك ،قابل نعمته بالشكران.
[ولهذا قال { ]:فََأمّا الْيَتِيمَ فَلَا َتقْهَرْ } أي :ل تسيء معاملة اليتيم ،ول يضق صدرك عليه ،ول
تنهره ،بل أكرمه ،وأعطه ما تيسر ،واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك.
{ وََأمّا السّا ِئلَ فَلَا تَ ْنهَرْ } أي :ل يصدر منك إلى السائل كلم يقتضي رده عن مطلوبه ،بنهر
وشراسة خلق ،بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف [وإحسان].
وهذا يدخل فيه السائل للمال ،والسائل للعلم ،ولهذا كان المعلم مأمورًا بحسن الخلق مع المتعلم،
ومباشرته بالكرام والتحنن عليه ،فإن في ذلك معونة له على مقصده ،وإكرامًا لمن كان يسعى في
نفع العباد والبلد.
وإل فحدث بنعم ال على الطلق ،فإن التحدث بنعمة ال ،داع لشكرها ،وموجب لتحبيب القلوب
إلى من أنعم بها ،فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن.
يقول تعالى -ممتنًا على رسوله { :-أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ } أي :نوسعه لشرائع الدين والدعوة
إلى ال ،والتصاف بمكارم الخلق ،والقبال على الخرة ،وتسهيل الخيرات فلم يكن ضيقًا
حرجًا ،ل يكاد ينقاد لخير ،ول تكاد تجده منبسطًا.
{ وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ } أي :أعلينا قدرك ،وجعلنا لك الثناء الحسن العالي ،الذي لم يصل إليه أحد
من الخلق ،فل يذكر ال إل ذكر معه رسوله صلى ال عليه وسلم ،كما في الدخول في السلم،
وفي الذان ،والقامة ،والخطب ،وغير ذلك من المور التي أعلى ال بها ذكر رسوله محمد
صلى ال عليه وسلم.
وله في قلوب أمته من المحبة والجلل والتعظيم ما ليس لحد غيره ،بعد ال تعالى ،فجزاه ال
عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.
وقوله { :فَإِنّ مَعَ ا ْلعُسْرِ يُسْرًا إِنّ َمعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرًا } بشارة عظيمة ،أنه كلما وجد عسر وصعوبة،
فإن اليسر يقارنه ويصاحبه ،حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر ،فأخرجه كما قال
عسْرٍ يُسْرًا } وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :وإن الفرج مع
ج َعلُ اللّهُ َبعْدَ ُ
تعالى { :سَ َي ْ
الكرب ،وإن مع العسر يسرا " .
وتعريف " العسر " في اليتين ،يدل على أنه واحد ،وتنكير " اليسر " يدل على تكراره ،فلن يغلب
عسر يسرين.
وفي تعريفه باللف واللم ،الدالة على الستغراق والعموم يدل على أن كل عسر -وإن بلغ من
الصعوبة ما بلغ -فإنه في آخره التيسير ملزم له.
وقد قيل :إن معنى قوله :فإذا فرغت من الصلة وأكملتها ،فانصب في الدعاء ،وإلى ربك فارغب
في سؤال مطالبك.
واستدل من قال بهذا القول ،على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات ،وال أعلم
بذلك تمت ول الحمد.
حمَنِ الرّحِيمِ وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ * َوطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الَْأمِينِ * َلقَدْ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 8 - 1بِ ْ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ فََل ُهمْ
س َفلَ سَافِلِينَ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
خََلقْنَا الْإِنْسَانَ فِي َأحْسَنِ َت ْقوِيمٍ * ُثمّ رَ َددْنَاهُ أَ ْ
ح َكمِ ا ْلحَا ِكمِينَ }
أَجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ * َفمَا ُيكَذّ ُبكَ َب ْعدُ بِالدّينِ * أَلَيْسَ اللّهُ بِأَ ْ
(التين) هو التين المعروف ،وكذلك { الزّيْتُونَ } أقسم بهاتين الشجرتين ،لكثرة منافع شجرهما
وثمرهما ،ولن سلطانهما في أرض الشام ،محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلم.
{ وَطُورِ سِينِينَ } أي :طور سيناء ،محل نبوة موسى صلى ال عليه وسلم.
{ وَ َهذَا الْبََلدِ الَْأمِينِ } وهي :مكة المكرمة ،محل نبوة محمد صلى ال عليه وسلم .فأقسم تعالى بهذه
المواضع المقدسة ،التي اختارها وابتعث منها أفضل النبوات وأشرفها.
خَلقْنَا الْإِ ْنسَانَ فِي أَحْسَنِ َتقْوِيمٍ } أي :تام الخلق ،متناسب العضاء،
والمقسم عليه قولهَ { :لقَدْ َ
منتصب القامة ،لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرًا أو باطنًا شيئًا ،ومع هذه النعم العظيمة ،التي ينبغي
منه القيام بشكرها ،فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم ،مشتغلون باللهو واللعب ،قد رضوا
لنفسهم بأسافل المور ،وسفساف الخلق ،فردهم ال في أسفل سافلين ،أي :أسفل النار ،موضع
العصاة المتمردين على ربهم ،إل من من ال عليه باليمان والعمل الصالح ،والخلق الفاضلة
العالية { ،فََلهُمْ } بذلك المنازل العالية ،و { َأجْرٌ غَيْرُ َممْنُونٍ } أي :غير مقطوع ،بل لذات
متوافرة ،وأفراح متواترة ،ونعم متكاثرة ،في أبد ل يزول ،ونعيم ل يحول ،أكلها دائم وظلها،
{ َفمَا ُيكَذّ ُبكَ َب ْعدُ بِالدّينِ } أي :أي :شيء يكذبك أيها النسان بيوم الجزاء على العمال ،وقد رأيت
من آيات ال الكثيرة ما به يحصل لك اليقين ،ومن نعمه ما يوجب عليك أن ل تكفر بشيء مما
حكَمِ الْحَا ِكمِينَ } فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى ل يؤمرون
أخبرك به { ،أَلَ ْيسَ اللّهُ بِأَ ْ
ول ينهون ،ول يثابون ول يعاقبون؟
أم الذي خلق النسان أطوارًا بعد أطوار ،وأوصل إليهم من النعم والخير والبر ما ل يحصونه،
ورباهم التربية الحسنة ،ل بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم وغايتهم ،التي إليها يقصدون،
ونحوها يؤمون .تمت ول الحمد.
هذه السورة أول السور القرآنية نزولًا على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة ،إذ كان ل يدري ما الكتاب ول اليمان ،فجاءه جبريل عليه
الصلة والسلم بالرسالة ،وأمره أن يقرأ ،فامتنع ،وقال { :ما أنا بقارئ } فلم يزل به حتى قرأ.
سمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ } عموم الخلق ،ثم خص النسان ،وذكر ابتداء خلقه {
فأنزل ال عليه { :اقْرَأْ بِا ْ
مِنْ عَلَقٍ } فالذي خلق النسان واعتنى بتدبيره ،ل بد أن يدبره بالمر والنهي ،وذلك بإرسال
الرسول إليهم ،وإنزال الكتب عليهم ،ولهذا ذكر بعد المر بالقراءة ،خلقه للنسان.
ثم قال { :اقْرَأْ وَرَ ّبكَ الَْأكْ َرمُ } أي :كثير الصفات واسعها ،كثير الكرم والحسان ،واسع الجود،
الذي من كرمه أن علم بالعلم .
و { عَلّمَ بِا ْلقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ َيعَْلمْ } فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ل يعلم شيئًا ،وجعل له
السمع والبصر والفؤاد ،ويسر له أسباب العلم.
فعلمه القرآن ،وعلمه الحكمة ،وعلمه بالقلم ،الذي به تحفظ به العلوم ،وتضبط الحقوق ،وتكون
رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم ،فلله الحمد والمنة ،الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي ل
يقدرون لها على جزاء ول شكور ،ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق ،ولكن النسان -لجهله
وظلمه -إذا رأى نفسه غنيًا ،طغى وبغى وتجبر عن الهدى ،ونسي أن إلى ربه الرجعى ،ولم
يخف الجزاء ،بل ربما وصلت به الحال أنه يترك الهدى بنفسه ،ويدعو [غيره] إلى تركه ،فينهى
عن الصلة التي هي أفضل أعمال اليمان .يقول ال لهذا المتمرد العاتي { :أَرَأَ ْيتَ } أيها الناهي
للعبد إذا صلى { إِنْ كَانَ } العبد المصلي { عَلَى ا ْلهُدَى } العلم بالحق والعمل بهَ { ،أوْ َأمْرٍ } غيره
{ بِال ّت ْقوَى } .
فهل يحسن أن ينهى ،من هذا وصفه؟ أليس نهيه ،من أعظم المحادة ل ،والمحاربة للحق؟ فإن
النهي ،ل يتوجه إل لمن هو في نفسه على غير الهدى ،أو كان يأمر غيره بخلف التقوى.
{ أَرَأَ ْيتَ إِنْ كَ ّذبَ } الناهي بالحق { وَ َتوَلّى } عن المر ،أما يخاف ال ويخشى عقابه؟
س َفعَنْ بِالنّاصِيَةِ }
ثم توعده إن استمر على حاله ،فقال { :كَلّا لَئِنْ َلمْ يَنْتَهِ } عما يقول ويفعل { لَ َن ْ
أي :لنأخذن بناصيته ،أخذًا عنيفًا ،وهي حقيقة بذلك ،فإنها { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِ َئةٍ } أي :كاذبة في
قولها ،خاطئة في فعلها.
{ فَلْ َي ْدعُ } هذا الذي حق عليه العقاب { نَادِ َيهُ } أي :أهل مجلسه وأصحابه ومن حوله ،ليعينوه
على ما نزله به { ،سَنَ ْدعُ الزّبَانِيَةَ } أي :خزنة جهنم ،لخذه وعقوبته ،فلينظر أي :الفريقين أقوى
وأقدر؟ فهذه حالة الناهي وما توعد به من العقوبة ،وأما حالة المنهي ،فأمره ال أن ل يصغى إلى
طعْهُ } [أي ]:فإنه ل يأمر إل بما فيه خسارة الدارين،
هذا الناهي ول ينقاد لنهيه فقال { :كَلّا لَا تُ ِ
سجُدْ } لربك { وَاقْتَ َربَ } منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات ،فإنها كلها
{ وَا ْ
تدني من رضاه وتقرب منه.
وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه ،وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول ال
صلى ال عليه وسلم عن الصلة ،وعبث به وآذاه .تمت ول الحمد.
تفسير سورة القدر
[وهي] مكية
حمَنِ الرّحِيمِ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ * َومَا َأدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ا ْلقَدْرِ * لَيَْلةُ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 5 - 1بِ ْ
شهْرٍ * تَنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ مِنْ ُكلّ َأمْرٍ * سَلَامٌ ِهيَ حَتّى
ا ْلقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَ ْلفِ َ
مَطْلَعِ ا ْلفَجْرِ }
يقول تعالى مبينًا لفضل القرآن وعلو قدره { :إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } كما قال تعالى { :إِنّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَا َركَةٍ } وذلك أن ال [تعالى] ،ابتدأ بإنزاله في رمضان [في] ليلة القدر ،ورحم
ال بها العباد رحمة عامة ،ل يقدر العباد لها شكرًا.
وسميت ليلة القدر ،لعظم قدرها وفضلها عند ال ،ولنه يقدر فيها ما يكون في العام من الجل
والرزاق والمقادير القدرية.
ثم فخم شأنها ،وعظم مقدارها فقالَ { :ومَا َأدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ا ْلقَدْرِ } أي :فإن شأنها جليل ،وخطرها
عظيم.
شهْرٍ } أي :تعادل من فضلها ألف شهر ،فالعمل الذي يقع فيها ،خير من
{ لَ ْيلَةُ ا ْلقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَ ْلفِ َ
العمل في ألف شهر [خالية منها] ،وهذا مما تتحير فيه اللباب ،وتندهش له العقول ،حيث من
تبارك وتعالى على هذه المة الضعيفة القوة والقوى ،بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف
شهر ،عمر رجل معمر عمرًا طويلًا ،نيفًا وثمانين سنة.
وقد تواترت الحاديث في فضلها ،وأنها في رمضان ،وفي العشر الواخر منه ،خصوصًا في
أوتاره ،وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة.
ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم ،يعتكف ،ويكثر من التعبد في العشر الواخر من رمضان،
رجاء ليلة القدر [وال أعلم].
تفسير سورة لم يكن
وهي مدنية
يقول تعالى { :لَمْ َيكُنِ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } أي[ :من] اليهود والنصارى { وَا ْلمُشْ ِركِينَ }
من سائر أصناف المم.
{ مُ ْن َفكّينَ } عن كفرهم وضللهم الذي هم عليه ،أي :ل يزالون في غيهم وضللهم ،ل يزيدهم
مرور السنين إل كفرًا.
{ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ الْبَيّ َنةُ } الواضحة ،والبرهان الساطع ،ثم فسر تلك البينة فقال { :رَسُولٌ مِنَ اللّهِ }
أي :أرسله ال ،يدعو الناس إلى الحق ،وأنزل عليه كتابًا يتلوه ،ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم،
طهّ َرةً } أي :محفوظة عن قربان
حفًا ُم َ
صُويخرجهم من الظلمات إلى النور ،ولهذا قال { :يَتْلُو ُ
الشياطين ،ل يمسها إل المطهرون ،لنها في أعلى ما يكون من الكلم.
ولهذا قال عنها { :فِيهَا } أي :في تلك الصحف { كُ ُتبٌ قَ ّيمَةٌ } أي :أخبار صادقة ،وأوامر عادلة
تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم ،فإذا جاءتهم هذه البينة ،فحينئذ يتبين طالب الحق ممن ليس
له مقصد في طلبه ،فيهلك من هلك عن بينة ،ويحيا من حي عن بينة.
وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له ،فليس ذلك ببدع من ضللهم وعنادهم ،فإنهم ما
تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا { ِإلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَةُ } التي توجب لهلها الجتماع
والتفاق ،ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم ،لم يزدهم الهدى إل ضللًا ،ول البصيرة إل عمى ،مع أن
الكتب كلها جاءت بأصل واحد ،ودين واحد فما أمروا في سائر الشرائع إل أن يعبدوا { اللّهَ
مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ } أي :قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه ال ،وطلب الزلفى لديه،
{ حُ َنفَاءَ } أي :معرضين [مائلين] عن سائر الديان المخالفة لدين التوحيد .وخص الصلة والزكاة
[بالذكر] مع أنهما داخلن في قوله { لِ َيعْ ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ } لفضلهما وشرفهما ،وكونهما العبادتين
اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين.
{ وَ َذِلكَ } أي التوحيد والخلص في الدين ،هو { دِينُ ا ْلقَيّمَةِ } أي :الدين المستقيم ،الموصل إلى
جنات النعيم ،وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم.
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ أُولَ ِئكَ ُهمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ } لنهم عبدوا ال وعرفوه ،وفازوا بنعيم
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
عدْنٍ } أي :جنات إقامة ،ل ظعن فيها ول رحيل ،ول
الدنيا والخرة { ،جَزَاؤُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ جَنّاتُ َ
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُوا عَ ْنهُ }
طلب لغاية فوقهاَ { ،تجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أَبَدًا َر ِ
فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه ،ورضوا عنه ،بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل
شيَ رَبّهُ } أي :لمن خاف ال ،فأحجم عن معاصيه ،وقام
خِالمثوبات { ذَِلكَ } الجزاء الحسن { ِلمَنْ َ
بواجباته
يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة ،وأن الرض تتزلزل وترجف وترتج ،حتى يسقط ما عليها من
بناء وعلم .
فتندك جبالها ،وتسوى تللها ،وتكون قاعًا صفصفًا ل عوج فيه ول أمت.
جتِ الْأَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا } أي :ما في بطنها ،من الموات والكنوز.
{ وََأخْرَ َ
{ َوقَالَ الْإِنْسَانُ } إذا رأى ما عراها من المر العظيم مستعظمًا لذلك { :مَا َلهَا } ؟ أي :أي شيء
عرض لها؟.
{ َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ } الرض { أَخْبَا َرهَا } أي :تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير
وشر ،فإن الرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم ،ذلك { بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَى
َلهَا } [أي] وأمرها أن تخبر بما عمل عليها ،فل تعصى لمره .
صدُرُ النّاسُ } من موقف القيامة ،حين يقضي ال بينهم { َأشْتَاتًا } أي :فرقًا متفاوتين.
{ َي ْومَئِذٍ َي ْ
عمَاَل ُهمْ } أي :ليريهم ال ما عملوا من الحسنات والسيئات ،ويريهم جزاءه موفرًا.
{ لِيُ َروْا أَ ْ
{ َفمَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرًا يَ َر ُه َومَنْ َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ } وهذا شامل عام للخير والشر
كله ،لنه إذا رأى مثقال الذرة ،التي هي أحقر الشياء[ ،وجوزي عليها] فما فوق ذلك من باب
عمَِلتْ مِنْ سُوءٍ
حضَرًا َومَا َ
عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مُ ْ
جدُ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ
أولى وأحرى ،كما قال تعالىَ { :يوْمَ تَ ِ
عمِلُوا حَاضِرًا }
جدُوا مَا َ
َتوَدّ َلوْ أَنّ بَيْ َنهَا وَبَيْنَهُ َأ َمدًا َبعِيدًا } { َووَ َ
وهذه الية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلًا ،والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا.
ت صُبْحًا
حمَنِ الرّحِي ِم وَا ْلعَادِيَاتِ ضَ ْبحًا * فَا ْلمُورِيَاتِ َقدْحًا * فَا ْل ُمغِيرَا ِ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 11 - 1بِ ْ
شهِيدٌ * وَإِنّهُ
ج ْمعًا * إِنّ الْإِنْسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ * وَإِنّهُ عَلَى ذَِلكَ َل َ
سطْنَ بِهِ َ
* فَأَثَرْنَ بِهِ َن ْقعًا * َفوَ َ
حصّلَ مَا فِي الصّدُورِ * إِنّ رَ ّب ُهمْ ِبهِمْ
شدِيدٌ * َأفَلَا َيعْلَمُ ِإذَا ُبعْثِرَ مَا فِي ا ْلقُبُورِ * َو ُ
حبّ ا ْلخَيْرِ لَ َ
لِ ُ
َي ْومَئِذٍ لَخَبِيرٌ }
أقسم ال تبارك وتعالى بالخيل ،لما فيها من آيات ال الباهرة ،ونعمه الظاهرة ،ما هو معلوم
للخلق.
وأقسم [تعالى] بها في الحال التي ل يشاركها [فيه] غيرها من أنواع الحيوانات ،فقال { :وَا ْلعَادِيَاتِ
ضَبْحًا } أي :العاديات عدوًا بليغًا قويًا ،يصدر عنه الضبح ،وهو صوت نفسها في صدرها ،عند
اشتداد العدو .
{ فَا ْلمُورِيَاتِ } بحوافرهن ما يطأن عليه من الحجار { َقدْحًا } أي :تقدح النار من صلبة
حوافرهن [وقوتهن] إذا عدون { ،فَا ْل ُمغِيرَاتِ } على العداء { صُ ْبحًا } وهذا أمر أغلبي ،أن الغارة
سطْنَ بِهِ } أي:
تكون صباحًا { ،فَأَثَرْنَ ِبهِ } أي :بعدوهن وغارتهن { َن ْقعًا } أي :غبارًاَ { ،فوَ َ
ج ْمعًا } أي :توسطن به جموع العداء ،الذين أغار عليهم.
براكبهن { َ
والمقسم عليه ،قوله { :إِنّ الْإِ ْنسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ } أي :لمنوع للخير الذي عليه لربه .
فطبيعة [النسان] وجبلته ،أن نفسه ل تسمح بما عليه من الحقوق ،فتؤديها كاملة موفرة ،بل
طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية ،إل من هداه ال وخرج عن هذا
شهِيدٌ } أي :إن النسان على ما
الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق { ،وَإِنّهُ عَلَى ذَِلكَ لَ َ
يعرف من نفسه من المنع والكند لشاهد بذلك ،ل يجحده ول ينكره ،لن ذلك أمر بين واضح.
ويحتمل أن الضمير عائد إلى ال تعالى أي :إن العبد لربه لكنود ،وال شهيد على ذلك ،ففيه
الوعيد ،والتهديد الشديد ،لمن هو لربه كنود ،بأن ال عليه شهيد.
وحبه لذلك ،هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه ،قدم شهوة نفسه على حق ربه ،وكل
هذا لنه قصر نظره على هذه الدار ،وغفل عن الخرة ،ولهذا قال حاثًا له على خوف يوم
الوعيد:
{ َأفَلَا َيعْلَمُ } أي :هل يعلم هذا المغتر { إِذَا ُبعْثِرَ مَا فِي ا ْلقُبُورِ } أي :أخرج ال الموات من
قبورهم ،لحشرهم ونشورهم.
حصّلَ مَا فِي الصّدُورِ } أي :ظهر وبان [ما فيها و] ما استتر في الصدور من كمائن الخير
{ َو ُ
والشر ،فصار السر علنية ،والباطن ظاهرًا ،وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم.
{ إِنّ رَ ّبهُمْ ِبهِمْ َي ْومَئِذٍ لَخَبِيرٌ } أي مطلع على أعمالهم الظاهرة والباطنة ،الخفية والجلية ،ومجازيهم
عليها .وخص خبره بذلك اليوم ،مع أنه خبير بهم في كل وقت ،لن المراد بذلك ،الجزاء
بالعمال الناشئ عن علم ال واطلعه.
تفسير سورة القارعة
[وهي] مكية
حمَنِ الرّحِيمِ ا ْلقَارِعَةُ * مَا ا ْلقَارِعَةُ * َومَا أَدْرَاكَ مَا ا ْلقَارِعَةُ * َيوْمَ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 11 - 1بِ ْ
َيكُونُ النّاسُ كَا ْلفَرَاشِ ا ْلمَبْثُوثِ * وَ َتكُونُ الْجِبَالُ كَا ْل ِعهْنِ ا ْلمَ ْنفُوشِ * فََأمّا مَنْ َثقُلَتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ
خ ّفتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ * َومَا َأدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ }
فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ
{ ا ْلقَارِعَةُ } من أسماء يوم القيامة ،سميت بذلك ،لنها تقرع الناس وتزعجهم بأهوالها ،ولهذا عظم
أمرها وفخمه بقوله { :ا ْلقَارِعَةُ مَا ا ْلقَارِعَ ُة َومَا أَدْرَاكَ مَا ا ْلقَارِعَةُ َيوْمَ َيكُونُ النّاسُ } من شدة الفزع
والهول { ،كَا ْلفَرَاشِ ا ْلمَبْثُوث } أي :كالجراد المنتشر ،الذي يموج بعضه في بعض ،والفراش :هي
الحيوانات التي تكون في الليل ،يموج بعضها ببعض ل تدري أين توجه ،فإذا أوقد لها نار تهافتت
إليها لضعف إدراكها ،فهذه حال الناس أهل العقول ،وأما الجبال الصم الصلب ،فتكون { كَا ْل ِعهْنِ
ا ْلمَ ْنفُوشِ } أي :كالصوف المنفوش ،الذي بقي ضعيفًا جدًا ،تطير به أدنى ريح ،قال تعالى:
{ وَتَرَى ا ْلجِبَالَ تَحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ } ثم بعد ذلك ،تكون هباء منثورًا ،فتضمحل
ول يبقى منها شيء يشاهد ،فحينئذ تنصب الموازين ،وينقسم الناس قسمين :سعداء وأشقياء { ،فََأمّا
مَنْ َثقُلَتْ َموَازِينُهُ } أي :رجحت حسناته على سيئاته { َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } في جنات النعيم.
{ فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ } أي :مأواه ومسكنه النار ،التي من أسمائها الهاوية ،تكون له بمنزلة الم الملزمة
كما قال تعالى { :إِنّ عَذَا َبهَا كَانَ غَرَامًا } .
وقيل :إن معنى ذلك ،فأم دماغه هاوية في النار ،أي :يلقى في النار على رأسه.
{ َومَا َأدْرَاكَ مَاهِيَهْ } وهذا تعظيم لمرها ،ثم فسرها بقوله هي { :نَارٌ حَامِيَةٌ } أي :شديدة
الحرارة ،قد زادت حرارتها على حرارة نار الدنيا سبعين ضعفًا .نستجير بال منها.
يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده ل شريك له ،ومعرفته،
والنابة إليه ،وتقديم محبته على كل شيءَ { :أ ْلهَاكُمُ } عن ذلك المذكور { ال ّتكَاثُرُ } ولم يذكر
المتكاثر به ،ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون ،ويفتخر به المفتخرون ،من التكاثر في
الموال ،والولد ،والنصار ،والجنود ،والخدم ،والجاه ،وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل
واحد للخر ،وليس المقصود به الخلص ل تعالى.
فاستمرت غفلتكم ولهوتكم [وتشاغلكم] { حَتّى زُرْ ُتمُ ا ْل َمقَابِرَ } فانكشف لكم حينئذ الغطاء ،ولكن بعد
ما تعذر عليكم استئنافه.
ودل قوله { :حَتّى زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ } أن البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية ،أن ال
سماهم زائرين ،ولم يسمهم مقيمين.
س ْوفَ
فدل ذلك على البعث والجزاء بالعمال في دار باقية غير فانية ،ولهذا توعدهم بقوله { :كَلّا َ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ كَلّا َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ } أي :لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى
َتعَْلمُونَ ُثمّ كَلّا َ
القلوب ،لما ألهاكم التكاثر ،ولبادرتم إلى العمال الصالحة.
{ ُثمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ } أي :رؤية بصرية ،كما قال تعالى { :وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّنهُمْ
ُموَا ِقعُوهَا وَلَمْ َيجِدُوا عَ ْنهَا َمصْ ِرفًا } .
{ ُثمّ لَتُسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا ،هل قمتم بشكره ،وأديتم حق ال فيه،
ولم تستعينوا به ،على معاصيه ،فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل.
أم اغتررتم به ،ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على معاصي ال فيعاقبكم على ذلك ،قال
تعالى { :وَ َيوْمَ ُيعْ َرضُ الّذِينَ َكفَرُوا عَلَى النّارِ أَذْهَبْ ُتمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا فَالْ َيوْمَ
تُجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ } الية.
تفسير سورة والعصر [وهي]
مكية
عمِلُوا
حمَنِ الرّحِي ِم وَا ْل َعصْرِ * إِنّ الْإِنْسَانَ َلفِي خُسْرٍ * إِلّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
سمِ اللّهِ الرّ ْ
{ { } 3 - 1بِ ْ
صوْا بِالصّبْرِ }
ق وَ َتوَا َ
ت وَ َتوَاصَوْا بِا ْلحَ ّ
الصّالِحَا ِ
أقسم تعالى بالعصر ،الذي هو الليل والنهار ،محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر،
والخاسر ضد الرابح.
قد يكون خسارًا مطلقًا ،كحال من خسر الدنيا والخرة ،وفاته النعيم ،واستحق الجحيم.
وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض ،ولهذا عمم ال الخسار لكل إنسان ،إل من اتصف
بأربع صفات:
اليمان بما أمر ال باليمان به ،ول يكون اليمان بدون العلم ،فهو فرع عنه ل يتم إل به.
والعمل الصالح ،وهذا شامل لفعال الخير كلها ،الظاهرة والباطنة ،المتعلقة بحق ال وحق عباده
،الواجبة والمستحبة.
والتواصي بالحق ،الذي هو اليمان والعمل الصالح ،أي :يوصي بعضهم بعضًا بذلك ،ويحثه
عليه ،ويرغبه فيه.
والتواصي بالصبر على طاعة ال ،وعن معصية ال ،وعلى أقدار ال المؤلمة.
فبالمرين الولين ،يكمل النسان نفسه ،وبالمرين الخيرين يكمل غيره ،وبتكميل المور
الربعة ،يكون النسان قد سلم من الخسار ،وفاز بالربح [العظيم].
{ وَ ْيلٌ } أي :وعيد ،ووبال ،وشدة عذاب { ِل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ُلمَ َزةٍ } الذي يهمز الناس بفعله ،ويلمزهم
بقوله ،فالهماز :الذي يعيب الناس ،ويطعن عليهم بالشارة والفعل ،واللماز :الذي يعيبهم بقوله.
ومن صفة هذا الهماز اللماز ،أنه ل هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به ،وليس له رغبة
سبُ } بجهله { أَنّ مَالَهُ َأخْلَ َدهُ } في
في إنفاقه في طرق الخيرات وصلة الرحام ،ونحو ذلكَ { ،يحْ َ
الدنيا ،فلذلك كان كده وسعيه كله في تنمية ماله ،الذي يظن أنه ينمي عمره ،ولم يدر أن البخل
يقصف العمار ،ويخرب الديار ،وأن البر يزيد في العمر.
ثم فسرها بقوله { :نَارُ اللّهِ ا ْلمُوقَ َدةُ } التي وقودها الناس والحجارة { الّتِي } من شدتها { َتطّلِعُ عَلَى
الَْأفْئِ َدةِ } أي :تنفذ من الجسام إلى القلوب.
علَ ْيهِمْ
ومع هذه الحرارة البليغة هم محبوسون فيها ،قد أيسوا من الخروج منها ،ولهذا قال { :إِ ّنهَا َ
عمَدٍ } من خلف البواب { ُممَدّ َدةٍ } لئل يخرجوا منها { كُّلمَا أَرَادُوا أَنْ
ُمؤْصَ َدةٌ } أي :مغلقة { فِي َ
يَخْ ُرجُوا مِ ْنهَا أُعِيدُوا فِيهَا } .
جعَلْ
صحَابِ ا ْلفِيلِ * أََلمْ َي ْ
حمَنِ ال ّرحِيمِ أََلمْ َترَ َك ْيفَ َفعَلَ َر ّبكَ ِبأَ ْ
سمِ اللّهِ ال ّر ْ
{ ِ { } 5 - 1ب ْ
جعََلهُمْ
سجّيلٍ * َف َ
حجَارَةٍ ِمنْ ِ
طيْرًا َأبَابِيلَ * َت ْرمِيهِمْ ِب ِ
َك ْيدَهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وََأ ْرسَلَ عََل ْي ِهمْ َ
ل}
صفٍ َم ْأكُو ٍ
َكعَ ْ
أي :أما رأيت من قدرة ال وعظيم شأنه ،ورحمته بعباده ،وأدلة توحيده ،وصدق رسوله محمد
صلى ال عليه وسلم ،ما فعله ال بأصحاب الفيل ،الذين كادوا بيته الحرام وأرادوا إخرابه،
فتجهزوا لجل ذلك ،واستصحبوا معهم الفيلة لهدمه ،وجاءوا بجمع ل قبل للعرب به ،من
الحبشة واليمن ،فلما انتهوا إلى قرب مكة ،ولم يكن بالعرب مدافعة ،وخرج أهل مكة من مكة
خوفًا على أنفسهم منهم ،أرسل ال عليهم طيرًا أبابيل أي :متفرقة ،تحمل حجارة محماة من
سجيل ،فرمتهم بها ،وتتبعت قاصيهم ودانيهم ،فخمدوا وهمدوا ،وصاروا كعصف مأكول،
وكفى ال شرهم ،ورد كيدهم في نحورهم[ ،وقصتهم معروفة مشهورة] وكانت تلك السنة التي
ولد فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فصارت من جملة إرهاصات دعوته ،ومقدمات
رسالته ،فلله الحمد والشكر.
ص ْيفِ *
شتَاءِ وَال ّ
ف قُ َريْشٍ * إِيلَا ِفهِمْ ِرحْلَ َة ال ّ
حمَنِ ال ّرحِيمِ ِلإِيلَا ِ
سمِ اللّهِ ال ّر ْ
{ ِ { } 4 - 1ب ْ
ن خَ ْوفٍ }
ن جُوعٍ وَآ َم َن ُهمْ مِ ْ
طعَ َم ُهمْ مِ ْ
ت * اّلذِي َأ ْ
فَ ْليَ ْع ُبدُوا رَبّ َهذَا ا ْل َبيْ ِ
قال كثير من المفسرين :إن الجار والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها أي :فعلنا ما فعلنا
بأصحاب الفيل لجل قريش وأمنهم ،واستقامة مصالحهم ،وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن،
والصيف للشام ،لجل التجارة والمكاسب.
فأهلك ال من أرادهم بسوء ،وعظم أمر الحرم وأهله في قلوب العرب ،حتى احترموهم ،ولم
ت}
يعترضوا لهم في أي :سفر أرادوا ،ولهذا أمرهم ال بالشكر ،فقال { :فَ ْليَ ْع ُبدُوا رَبّ َهذَا ا ْل َبيْ ِ
ن خَ ْوفٍ } فرغد الرزق
ن جُوعٍ وَآ َم َن ُهمْ مِ ْ
ط َعمَ ُهمْ مِ ْ
أي :ليوحدوه ويخلصوا له العبادة { ،اّلذِي َأ ْ
والمن من المخاوف ،من أكبر النعم الدنيوية ،الموجبة لشكر ال تعالى.
فلك اللهم الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة ،وخص ال بالربوبية البيت لفضله
وشرفه ،وإل فهو رب كل شيء..
ن } أي :بالبعث
ب بِالدّي ِ
يقول تعالى ذامًا لمن ترك حقوقه وحقوق عبادةَ { :أرََأيْتَ اّلذِي ُي َكذّ ُ
والجزاء ،فل يؤمن بما جاءت به الرسل.
{ َفذَِلكَ اّلذِي َي ُدعّ ا ْل َيتِيمَ } أي :يدفعه بعنف وشدة ،ول يرحمه لقساوة قلبه ،ولنه ل يرجو ثوابًا،
ول يخشى عقابًا.
ن ا ْلمَاعُونَ } أي :يمنعون إعطاء الشيء ،الذي ل يضر إعطاؤه على وجه العارية،
{ َو َي ْم َنعُو َ
أو الهبة ،كالناء ،والدلو ،والفأس ،ونحو ذلك ،مما جرت العادة ببذلها والسماحة به .
وفي هذه السورة ،الحث على إكرام اليتيم ،والمساكين ،والتحضيض على ذلك ،ومراعاة
الصلة ،والمحافظة عليها ،وعلى الخلص [فيها و] في جميع العمال.
والحث على [فعل المعروف و] بذل الموال الخفيفة ،كعارية الناء والدلو والكتاب ،ونحو
ذلك ،لن ال ذم من لم يفعل ذلك ،وال سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد ل رب
العالمين.
تفسير سورة الكوثر
وهي مكية
طوله شهر ،وعرضه شهر ،ماؤه أشد بياضًا من اللبن ،وأحلى من العسل ،آنيته كنجوم السماء
في كثرتها واستنارتها ،من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
ولن الصلة تتضمن الخضوع [في] القلب والجوارح ل ،وتنقلها في أنواع العبودية ،وفي
النحر تقرب إلى ال بأفضل ما عند العبد من النحائر ،وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على
محبته والشح به.
{ ِإنّ شَا ِن َئكَ } أي :مبغضك وذامك ومنتقصك { ُهوَ ا ْلَأ ْب َترُ } أي :المقطوع من كل خير،
مقطوع العمل ،مقطوع الذكر.
وأما محمد صلى ال عليه وسلم ،فهو الكامل حقًا ،الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق،
من رفع الذكر ،وكثرة النصار ،والتباع صلى ال عليه وسلم.
ن فِي
ت النّاسَ َي ْدخُلُو َ
حمَنِ ال ّرحِيمِ ِإذَا جَا َء َنصْرُ اللّهِ وَالْ َفتْحُ * َورََأيْ َ
سمِ اللّهِ ال ّر ْ
{ ِ { } 3 - 1ب ْ
ن تَوّابًا }
س َتغْفِرْ ُه ِإنّ ُه كَا َ
حمْدِ َر ّبكَ وَا ْ
ح ِب َ
سبّ ْ
دِينِ اللّهِ َأفْوَاجًا * فَ َ
في هذه السورة الكريمة ،بشارة وأمر لرسوله عند حصولها ،وإشارة وتنبيه على ما يترتب
على ذلك.
فالبشارة هي البشارة بنصر ال لرسوله ،وفتحه مكة ،ودخول الناس في دين ال أفواجًا ،بحيث
يكون كثير منهم من أهله وأنصاره ،بعد أن كانوا من أعدائه ،وقد وقع هذا المبشر به ،وأما
المر بعد حصول النصر والفتح ،فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك ،ويسبح بحمده
ويستغفره ،وأما الشارة ،فإن في ذلك إشارتين :إشارة لن يستمر النصر لهذا الدين ،ويزداد
عند حصول التسبيح بحمد ال واستغفاره من رسوله ،فإن هذا من الشكر ،وال يقولَ { :ل ِئنْ
شكَ ْر ُتمْ َلَأزِي َد ّن ُكمْ } وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه المة لم يزل نصر
َ
ال مستمرًا ،حتى وصل السلم إلى ما لم يصل إليه دين من الديان ،ودخل فيه ،ما لم يدخل
في غيره ،حتى حدث من المة من مخالفة أمر ال ما حدث ،فابتلهم ال بتفرق الكلمة،
وتشتت المر ،فحصل ما حصل.
[ومع هذا] فلهذه المة ،وهذا الدين ،من رحمة ال ولطفه ،ما ل يخطر بالبال ،أو يدور في
الخيال.
وأما الشارة الثانية ،فهي الشارة إلى أن أجل رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قرب ودنا،
ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم ال به.
وقد عهد أن المور الفاضلة تختم بالستغفار ،كالصلة والحج ،وغير ذلك.
فأمر ال لرسوله بالحمد والستغفار في هذه الحال ،إشارة إلى أن أجله قد انتهى ،فليستعد
ويتهيأ للقاء ربه ،ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات ال وسلمه عليه.
فكان صلى ال عليه وسلم يتأول القرآن ،ويقول ذلك في صلته ،يكثر أن يقول في ركوعه
وسجوده " :سبحانك اللهم وبحمدك ،اللهم اغفر لي ".
أبو لهب هو عم النبي صلى ال عليه وسلم ،وكان شديد العداوة [والذية] للنبي صلى ال عليه
وسلم ،فل فيه دين ،ول حمية للقرابة -قبحه ال -فذمه ال بهذا الذم العظيم ،الذي هو خزي
ب } أي :خسرت يداه ،وشقى { َوتَبّ } فلم يربح،
عليه إلى يوم القيامة فقالَ { :تبّتْ َيدَا َأبِي َلهَ ٍ
ع ْنهُ مَاُلهُ } الذي كان عنده وأطغاه ،ول ما كسبه فلم يرد عنه شيئًا من عذاب ال إذ
غنَى َ
{ مَا أَ ْ
حمّالَةَ
ت َلهَبٍ } أي :ستحيط به النار من كل جانب ،هو { وَا ْمرََأتُ ُه َ
س َيصْلَى نَارًا ذَا َ
نزل بهَ { ،
حطَبِ } .
ا ْل َ
وكانت أيضًا شديدة الذية لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،تتعاون هي وزوجها على الثم
والعدوان ،وتلقي الشر ،وتسعى غاية ما تقدر عليه في أذية الرسول صلى ال عليه وسلم،
ن َمسَدٍ }
وتجمع على ظهرها من الوزار بمنزلة من يجمع حطبًا ،قد أعد له في عنقه حبلًا { مِ ْ
أي :من ليف.
أو أنها تحمل في النار الحطب على زوجها ،متقلدة في عنقها حبلًا من مسد ،وعلى كل ،ففي
هذه السورة ،آية باهرة من آيات ال ،فإن ال أنزل هذه السورة ،وأبو لهب وامرأته لم يهلكا،
وأخبر أنهما سيعذبان في النار ول بد ،ومن لزم ذلك أنهما ل يسلمان ،فوقع كما أخبر عالم
الغيب والشهادة.
ص َمدُ } أي :المقصود في جميع الحوائج .فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه
{ اللّهُ ال ّ
غاية الفتقار ،يسألونه حوائجهم ،ويرغبون إليه في مهماتهم ،لنه الكامل في أوصافه ،العليم
الذي قد كمل في علمه ،الحليم الذي قد كمل في حلمه ،الرحيم الذي [كمل في رحمته الذي]
وسعت رحمته كل شيء ،وهكذا سائر أوصافه ،ومن كماله أنه { َلمْ يَِلدْ وََلمْ يُوَل ْد } لكمال غناه
حدٌ } ل في أسمائه ول في أوصافه ،ول في أفعاله ،تبارك وتعالى.
ن لَ ُه كُفُوًا َأ َ
{ وََلمْ َيكُ ْ
شرّ
ن شَ ّر مَا خََلقَ * َو ِمنْ َ
حمَنِ ال ّرحِيمِ قُلْ أَعُوذُ ِبرَبّ ا ْلفََلقِ * مِ ْ
سمِ اللّهِ ال ّر ْ
{ ِ { } 5 - 1ب ْ
حسَ َد }
شرّ حَاسِدٍ ِإذَا َ
ن َ
شرّ النّفّاثَاتِ فِي ا ْلعُ َقدِ * َومِ ْ
سقٍ ِإذَا َوقَبَ * َو ِمنْ َ
غَا ِ
أي { :قل } متعوذًا { أَعُوذُ } أي :ألجأ وألوذ ،وأعتصم { ِبرَبّ ا ْلفََلقِ } أي :فالق الحب والنوى،
وفالق الصباح.
شرّ مَا خََلقَ } وهذا يشمل جميع ما خلق ال ،من إنس ،وجن ،وحيوانات ،فيستعاذ
{ ِمنْ َ
سقٍ ِإذَا َوقَبَ } أي :من
شرّ غَا ِ
بخالقها ،من الشر الذي فيها ،ثم خص بعد ما عم ،فقالَ { :و ِمنْ َ
شر ما يكون في الليل ،حين يغشى الناس ،وتنتشر فيه كثير من الرواح الشريرة ،والحيوانات
المؤذية.
ن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي ا ْلعُ َقدِ } أي :ومن شر السواحر ،اللتي يستعن على سحرهن بالنفث في
{ َومِ ْ
العقد ،التي يعقدنها على السحر.
سدَ } والحاسد ،هو الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في
حَسدٍ ِإذَا َ
ن شَرّ حَا ِ
{ َومِ ْ
زوالها بما يقدر عليه من السباب ،فاحتيج إلى الستعاذة بال من شره ،وإبطال كيده ،ويدخل
في الحاسد العاين ،لنه ل تصدر العين إل من حاسد شرير الطبع ،خبيث النفس ،فهذه السورة،
تضمنت الستعاذة من جميع أنواع الشرور ،عمومًا وخصوصًا.
ودلت على أن السحر له حقيقة يخشى من ضرره ،ويستعاذ بال منه [ومن أهله].
س * مِنْ
س * مَِلكِ النّاسِ * إَِلهِ النّا ِ
حمَنِ ال ّرحِيمِ قُلْ أَعُوذُ ِبرَبّ النّا ِ
سمِ اللّهِ ال ّر ْ
{ ِ { } 6 - 1ب ْ
جنّةِ وَالنّاسِ }
ن ا ْل ِ
س فِي صُدُو ِر النّاسِ * مِ َ
خنّاسِ * اّلذِي يُ َوسْوِ ُ
س ا ْل َ
شَ ّر الْ َوسْوَا ِ
وهذه السورة مشتملة على الستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم ،من الشيطان الذي هو أصل
الشرور كلها ومادتها ،الذي من فتنته وشره ،أنه يوسوس في صدور الناس ،فيحسن [لهم]
الشر ،ويريهم إياه في صورة حسنة ،وينشط إرادتهم لفعله ،ويقبح لهم الخير ويثبطهم عنه،
ويريهم إياه في صورة غير صورته ،وهو دائمًا بهذه الحال يوسوس ويخنس أي :يتأخر إذا
ذكر العبد ربه واستعان على دفعه.
وأن الخلق كلهم ،داخلون تحت الربوبية والملك ،فكل دابة هو آخذ بناصيتها.
وبألوهيته التي خلقهم لجلها ،فل تتم لهم إل بدفع شر عدوهم ،الذي يريد أن يقتطعهم عنها
ويحول بينهم وبينها ،ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ،والوسواس كما
جنّةِ وَالنّاسِ } .
ن ا ْل ِ
يكون من الجن يكون من النس ،ولهذا قال { :مِ َ
ونسأله تعالى أن يتم نعمته ،وأن يعفو عنا ذنوبًا لنا حالت بيننا وبين كثير من بركاته ،وخطايا
وشهوات ذهبت بقلوبنا عن تدبر آياته.
ونرجوه ونأمل منه أن ل يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا ،فإنه ل ييأس من روح ال إل
القوم الكافرون ،ول يقنط من رحمته إل القوم الضالون.
وصلى ال وسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،صلة وسلمًا دائمين
متواصلين أبد الوقات ،والحمد ل الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم تفسير كتاب ال بعونه وحسن توفيقه ،على يد جامعه وكاتبه ،عبد الرحمن بن ناصر بن
عبد ال المعروف بابن سعدي ،غفر ال له ولوالديه وجميع المسلمين ،وذلك في غرة ربيع
الول من سنة أربع وأربعين وثلثمائة وألف من هجرة محمدً صلى ال عليه وسلم في ب:
ووقع النقل في شعبان 1345ربنا تقبل منا واعف إنك أنت الغفور الرحيم.