Professional Documents
Culture Documents
www.waleman.com
العرى الوثيقة
شرح كشف الحقيقة لمن جهل الطريقة
[*]بيانات المخطوطة
[*]مقدمة
[*]المقام الول
[*]المقام الثاني
[*]المقام الثالث
[*]المقام الرابع
[*]المقام الخامس
[*]المقام السادس
[*]المقام السابع
[*]بيانات المخطوطة
بيانات المخطوطة
هذا الكتاب المسمى العرى الوثيقة شرح كشف الحقيقة لمن جهل الطريقة
بيده.
[ مقدمة]
شرَحَ ال صدره ،و أَعلى مقامه و ذكره ،و أبان له الطريقة ،سيدنا المصطفى مِن و الصلة و السلم على َمنْ َ
العناصر الطيبة ،ونبينا المجتبى من الرومات ()1العريقة ،محمد صفوة الولين و الخرين ،وعلى آله ال ُغرّ
الميامين ،و أصحابه المخلصين ،و أتباعهم إلى يوم الدّين .
أما بعد -:فإنّ كشف الحقيقة التي نظمها المام العلمة نور الدين عبدال بن حميد السالمي ،خاتمة السلف
الصالحين التي َردّ بها على القادحِ في مذهبِ المسلمين ،و أوضح بها سبيل المؤمنين ،و َنصَبَ بها معالم
صرْحٍ على عرشها الرفيع ،مُ َوضّحاً به فقد دعتني اله ّمةُ لتعليق شرحٍ على نظمها البديع ،وساقتني الرغبة لبناء َ
معالم المذهب ،رغم أعدائه المعاندين ،و كاشفاً به حُجَبَ الضللت والهواء عن الصراط المستقيم ،و الحق
صصَة ،كُلّ مقامٍ يجد فيه المطالع بُغْ َيةً طالما اشتاق إليها و تمناها ]1[،و
خ َ
المبين ،جاعلً ذلك في مقامات ُم َ
حمَيّاها ( ، )2مبنيةً على قواعد آيات الكتاب العزيز في أصول مَ ْبنَاها عضَال النفوس بارتشاف ُ رأى فيه ما ُيشْفِي ُ
،و مؤيدة بنصوص من الحديث ،أشبه بسلسل البريز ( )3في تسلسل معناها .
==================================================
( – )1الرومات جمع الرومة و هي الصل ( لسان العرب ) 92 / 1 ،مادة أرم .
س ْو َرتِها ( مختار الصحاح ) 66 /مادة ( ح م ي) .
( )2أي أول َ
( )3البريز :الذهب الخالص ( لسان العرب ) 61 / 2مادة (ب ر ز ) .
اعلمْ َأنّ هذه القصيدة الرجزية جاءت دَعامةً كبيرةً للمذهب ،و مصباحاً منيراً في ُأفُقِ السلم ،و ِإنّ صدّ عنها
الجهول و تَنَكّب ،قلّ َأنْ يوجد مثلها في بابها ،و لم يكن في سالف اليام من أَ ْترَابِها ،فهي -و الحقيقة ِ -منْ
غرّ جهول لم يدر ذلك العليم لم تُستغربْ ،فقد أبانت أصول المذهب العتقادية ،و العلمية ،و الدبية ؛ رغم ُكلّ ِ
أين يذهب ،و أوضحت مشاكل الخلف بين السلف ،و بَيّنَت مناهج المتمذهبين في السلم بقواعدَ ل تقبل
طرُقَ
العتساف ،و أعادت معالمَ الدّين في السلم معلومة الصّوَى ( ، )1و نصبت للسّارين في سبيل الحق ُ
الهدى ،فهي -و الحقُ الذي ل ِمرْيةَ فيه -دليلُ الحائرين ،و عمدةُ المسترشدين ،و معتمد الدعاة إلى سبيل
المؤمنين ،أوضحت مسالك المذهب أيّما إيضاح ،و أفصحت عن مبادئه الكريمة غاية الفصاح ،و أقامت صروح
أهل الحق في أرجاء العدل شامخة الركان لمنْ ألقى إليها السمع و هو شهيدٌ ،كائناً َمنْ كان .
جامعةٌ لصول الدين ،و لوازم العتقاد ،شاملةٌ لسياسة المسلمين في مصالح العباد ،معربةٌ عن ُأصُول السلم
عامة ،و الباضيين خاصة بمعالم الرشاد ،كادت َأنْ [ ]2تحتوي على مهام الفقه في الدين ،بعباراتها وإشاراتها
و ل ريب ،فقد صدعَ فيها بالحقّ في سبيل السير إلى ال ،و قد أشار على أحوالِ الملوك الظلمة في السلم ،و
حقّ من المُبْطل ،و اهتدى إلى الرّشد كل َمنْ كان له يجهل ،و أعربَ عنْ أهل الحقّ في هذا النام ،فبَانَ بذلك المُ ِ
جةُ لمن بعدهم ،و عليهم يدور ِمحْ َورُ َمنْ رامَ
ذَ َكرَ أحوالَ الصحابة ،و ما دَارَ بينهم من خلفٍ ،فإنّهم هم الحُ ّ
حسْبَ ظاهر ما أوجب ال فيهم و لهم ،و ذَ َكرَ العصاة من ع ْدلً و إنصافاً َ ،صرّحَ بالحكم فيهم َسلوك طريقهم ،و َ
أهل المّلةِ السلمية و ضررهم ،و فساد أعمالهم ،و أوضح الحكم فيهم ،و ِإنْ كانوا من أهل السعادة عند ال ،
فللدّنيا أحكامٌ ل ُبدّ للمُ َكلّف من القول بها ،و العتماد على أصولها.
وأشاد بذكر الفتراق ،و ما ترتب عليه من حقٍ و باطلٍ من المؤمنين و غيرهم ،و ذكر مكارم أهل المذهب
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
تصريحاً و تلويحاً ،و أَنّهم هم الفِرقة الناجية عندَ ال ،و استدل على ذلك بأدلةٍ عقليةٍ و نقليةٍ ،و منها النوار
شفَش ِرقُهَا ال عزّ و جلّ على قُبُورِ الصحاب ،يراها الناس َرأْيَ العين بل التباسٍ و ل ارتيابٍ ،كما َك َ التي ُي ْ
جبُ فيغَيْهَبَ ( )2الجهل المغطّي على المذاهب الخرى ،و ما لها من أصول ،و ما عليها من فصول ،و ما يَ ِ
حق المتسمّين بالسلم على العموم ،و ما هنالك من خصوصٍ في منطوقٍ و مفهومٍ ،و معاملة المسلمين في
عدَتِهم في حكم ربّ العالمين ،و ما يُكَّلفُ بهالحقوق العامة المشتركة ،ومن تَجِبُ ُمرَاعَاتهم في الدّين ،أو ُمبَا َ
سهِ ( ، )3و ما يكتفي به المسلمون من أهل كُلّ واحدٍ في [ ]3خاصة نفسه ،و يفترض عليه حتى يوافى حلول َر ْم ِ
القبلة على الجمال ،و ما يتعلق بالتبشير الخطير ،و أصول العتقاد التي اتفقّ عليها أهل المذاهب ،و ما اختلفوا
فيه منها ،ببيانٍ واضحٍ ،و برهانٍ َن ّيرٍ زكيّ ،غير مُتعصّب لغير الحقّ ،ول تابع لغير أهل الصدق ،شأن العلماء
العاملين ،الذين جعلهم ال حجته على عباده ،وعمدته في بلده ؛ فإنّ أهل الحقّ قليلون في كل زمان ،و
الثابتين على الصراط المستقيم ،والطريق السويّ ،أقلّ منهم بغير نكران .
طرَاز ( )4الذي ذكرناه ،بعثه ال ليقوم بتأييد الدّين رغم أعدائه ،فكان سيفاًو كان هذا العالم الجليل من ال ّ
شرِقاً في غياهب الجهل ،رغم كل جاهلٍ معاندٍ .صارماً بأعناق المفاسد ،و بدراً ُم ْ
===========================================
صوّى و منارا كمنار الطريق )) ( مختار الصحاح ) 157 /مادة ( ص
ص ّوةٌ ،و في الحديث (( إن للسلم ُ
صوَى :العلم من الحجارة ،الواحدة ُ ( )1ال ّ
و ى ) ،و المقصود معلومة المعالم .
( )2ال َغ ْيهَب :الظلمة ،و الجمع غياهب ( مختار الصحاح )202/مادة ( غ هـ ب ) .
( )3الرّمْسُ :تراب القبر ،و هو في الصل مصدر رَ َمسَ ( مختار الصحاح ) 108/مادة (ر م س ) ،و المعنى موته .
( )4الطّراز :الهيئة ،قال حسان بن ثابت :
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم النوف من الطّراز الول
أي من النمط الول ( مختار الصحاح )164 /مادة ( ط ر ز ) .
فأرهف حدّ القلم القاطع لعناق ُأسْطُورَات المُتَ َفيْهِقِين ،كاشفاً عن سوءاتهم المستورة بأهواء الدّعاء ،و واضعاً
للمسلمين أركاناً يأوي إليها كل متحيز للحقّ في ميادين المهتدين .
()2
شرُها .
فقام ينكرها ليقوم [ ]4لها من يَ ْن ُ
و إذا َأفَلَ نجم حقّ من هذا ا ُلفُقِ السلمي الصحيح أطلع ال أَنْجُماً تضيء عالم الكون بأجلى المصابيح .
عمْدة الحقّ الصّادق أصلً و فرعاً ؛ لذلك
فالباضية زينة السلم ؛ لذلك يعاديهم فيه حاسدهم من النام ،و هم ُ
صرّحَ به في الكتاب العزيز المقدس
يناويهم عليه كائدوهم ،و قد قرن ال النبياء بشياطين الجن و النس كما َ
الصحيح ( )3لحكمة ل تخفى على ذي العقل الرجيح .
================================
( )1ال َهيْشُ :الفساد و التحرك و الكثار من الكلم ( القاموس المحيط )788 /مادة ( هـ ي ش ) .
( )2البيت لبي تمام من قصيدة مطلعها :
عنّت لنا بيــن اللّوى َفزَودِ خدُود َ سوَالف و َُأرْأَيتَ َأيّ َ
عقُودَِأ ْترَابُ غَافلة اللّيالي أّلفّـت عقد الهَوى في يَارق و ُ
انظر شر ح ديوان أبي تمام للتبريزي ( . )213 /1
غرُورًا َوَلوْ شَاء َر ّبكَ مَا فَ َعلُو ُه َف َذرْهُمْ
خرُفَ ا ْل َق ْولِ ُ
ضهُمْ ِإلَى بَ ْعضٍ ُز ْ
جنّ يُوحِي بَ ْع ُ
شيَاطِينَ الِنسِ وَا ْل ِ
ع ُدوّا َ
( )3في قوله تعالى (( :وَ َكذَ ِلكَ جَ َع ْلنَا لِ ُكلّ ِنبِيّ َ
وَمَا َي ْفتَرُونَ )) النعام.112:
المقام الول
[ :الشرح ]
لقد استهل المام -رحمه ال -هذه القصيدة الرّجزية بالمناقشة ،و الرّد على القادح في الدّين الطّاعن في
مذهب[ ]5المسلمين ،خلف عادته في استهلل سائر مؤلفاته ،و خلف عادة المؤلفين مطلقا ،كما استهل ال -
عز و جل -سورة التّوبة بعدم البسملة -التي هي آية الرحمة -مُ ْعلِناً في أولها براءته -عز و جل -و براءة
شرِكِينَ
رسوله -عليه الصّلة والسّلم -من المشركين إذ قالَ " :برَاءةٌ ّمنَ الّ َو َرسُو ِلهِ إِلَى اّلذِينَ عَاهَدتّم ّمنَ ا ْل ُم ْ
" ( )1الية .
غضَباً ل ،و جهاداً لعداء الدّين،الطّاعنين في مذهب المسلمين ،و هم و كذلك استهلل هذه القصيدة ،إذ كان َ
كثيرون ؛ لنّ أنصار الحقّ قليلون ،و ال ُمحِبُون لهم القلّون .فانظر إلى أنصار النّبيين -عليهم الصّلة والسّلم -
صرَة الظالمين ، سرَة ،و التّبابعة ،و القَيَا ِ تجدهم القلّين ،و انظر إلى أنصار الجَبَا ِبرَة من الفراعنة ،و الكَا ِ
تجدهم ملء السّهل و الجبل ،و ل كذلك أنصار الحقّ .فلذلك قال المام -رحمه ال – " :يَا أَيّهَا القَادِحُ فِينَا
َأ ْقصِرِ" ...الخ لقد أغضبت أيها القادح إله الخلق تعالى ،إذ َقدَحْتَ في الحقّ ،فإنّ القدح في أهل الحقّ َقدْحٌ في
شقّ ا َلْ ْرضُ ط ْرنَ مِ ْنهُ وَتَن َ
سمَاوَاتُ يَتَ َف ّ
الحقّ ،والقدح في الحقّ كفراً إجماعاً ،لقد قلت " :شَيْئًا ِإدّا ( )89تَكَادُ ال ّ
خرّ الْجِبَالُ َهدّا" ( ، )2حيث طعنت في دين ال ،الذي ارتضاه لعباده ،و أوحاه إلى خاتمة أوليائه ،وصَفْوَة وَتَ ِ
أنبيائه .
و القادح هو الطّاعن في الدّين ،مأخوذ من َقدَحَ النار إذا أَ ْورَاهَا ،فإنّ القدح يوري نار الحقد و يوقدها ،و يُثِي ُر
العاطفة و ُيقْ ِع ُدهَا .و قد نعى ال عز و جل على الطّاعنين في الدّين طعنهم ،و هددهم قائلً " :وَطَ َعنُواْ فِي دِينِ ُكمْ
فَقَا ِتلُواْ أَ ِئ ّمةَ الْكُ ْفرِ " ( ، )3فسمّاهم كافرين ،و ل شكّ أنّ الطّاعن في الدّين رادّ على ال ،أو على رسوله ،أو
عليهما معاً [ ،]6فهو كافرٌ ،مشركٌ ،ضالٌ ،مارقٌ من الدين ،كما َي ْمرِقُ السهم من الرمية .
و لمّا خاطبه بقوله " :يَا أَيّهَا القَادِحُ " في البيت الول ،و أراد به جنس القادحين ،قرّر عليه هنا أنك إذا كنت ل
حكَ ،أو لم تعلم في َمنْ قدحت ،فقد قدحت في مذهب أهل الحقّ ،و القدح في مذهب أهل الحقّ تدري ما َقدْرَ َقدْ ِ
كم قالنا في المقدمة َ ،قدْحٌ في الحقّ ،و القدح في الحقّ كفر قطعاً ،و ل شكّ أنّ ال -عز وعلى -يغضب لهل
الحقّ ؛ فالقادح فيهم مُ َعرّض نفسه لعقاب ل ينتهي ،و عذاب ل ينقضي ،إن لم يَ ُتبْ ،و التوب يمحو ال به
الذنب ،و يُقِيلُ به العثرات.
و قد جاء الوعيد الشّديد من ال العزيز المجيد لمن طعن في الدّين ،أو قدح في مذهب المسلمين -نعوذ بال من
الشّقاوة والضّلل بعد الهدى . -
و حكم الطّاعن في الدّين إن كان متأولً ،فهو كافرُ نعمة ،و فاسقٌ ،و ضالٌ ،و منافقٌ ،و يطلق عليه الكفر بذلك
تبع للحديث عنه -صلى ال عليه و سلم -في أحوال متعددة ،وهو هالك عند المسلمين ،و هو في البراءة
عندهم لرتكابه الموبقات .
و كذلك طعنه في دين عبدال بن أباض ،أو دين عبدال بن وهب الراسبي ،أو دين طالب الحق .
خصّ جماعة ،أو فرداً "و سواء استغرق كل َفرْدٍ من أفراد المسلمين في لفظه أو نيته ،أو أراد الحقيقة ،أو َ
مأخوذاً عنه ،أو مُقْ َتدَى به ،و سواء استغرق كل فرد من أفراد المسائل الدينية في لفظه أو نيته ،أو أراد
خصّ جماعة ،أو فرداً ،أو جملة . الحقيقة ،أو َ
=========================================
( )1التوبة . 1:
( )2مريم .90-89 :
( )3التوبة . 12:
( )4القطب محمد بن يوسف أطفيش ( 1821م ـ 1914م ) شهر بالقطب ،أشهر عالم إباضي بالمغرب السلمي في العصور الحديثة ،من شيوخه
أخيه الكبر إبراهيم بن يوسف و سعيد بن يوسف ونتين ،و من أشهر تلميذه :أبو اليقظان و إبراهيم أطفيش ،له أكثر من ثلثة مائة مؤلف منها شرح
النيل و هميان الزاد و تيسير التفسير ( .معجم أعلم الباضية بالمغرب . ) 837 /4 ،
( )5صاحب النيل ،عبد العزيز بن إبراهيم الثميني ( 1130هـ 1223 -هـ ) الملقب بضياء الدين من أشهر مشائخه أبو زكريا و يحيى بن صالح
الفضلي ،و من أشهر تلميذه إبراهيم بن بيحمان ،و له عدة مؤلفات منها النيل و التاج على المنهاج و غيرها ( .معجم الباضية ., ) 533 / 3 ،
( )6هو الشيخ عامر بن علي بن عامر الشماخي ( ت 792هـ ) أبو ساكن ،أحد أكبر مشائخ الباضية في جبل نفوسة بليبيا ،قال البدر في السيرة " :
إذا أطلق الشيخ في عرف زماننا فهو المعني _ أي الشيخ عامر _ " ،أخذ العلم عن الشيخ أبي موسى عيسى الطرميسي و الشيخ أبي عزيز بن إبراهيم
بن أبي يحيى ،تخرج على يده نوابغ العلماء منهم ولده موسى ,و أبو زكريا يحيى بن زكريا و أبو الفضل أبو القاسم البرادي و غيرهم ،وله عدة
مؤلفات منها كتاب اليضاح في أربعة مجلدات مطبوع و شهير و غيرها من الكتب .معجم أعلم الباضية ( . )502 /3
طعْناً ،و ل براء ةً إل إن تبرأ من فاعله ،أو قائله ،أو َمصَوّبه ، و أمّا تخطئة ما هو مذهب ل دِيَانة فل يكون َ
فإِنّه يبرأ منه " ( )1والمعنى ِإنّ ما كان من المور الدّينية ،و المراد بها ما ثَ َبتَ بالدّليل القطعي من الكتاب ،أو
السنة ،أو الجماع ،فل تقبل تخطئة مخطئه ؛ لنّ ذلك قام له دليل قاطع ،فل َيصِحّ فيه القول بالتخطئة ،أو
الطعن فيه ،أو الطعن في القائل به ،و نحو ذلك .
و ذلك كالقول بالرؤية ،و بوجوب خروج العصاة من النّار ،و وجوب رعاية الصّلحية و الصلحيّة ،و كأخذ
الصفات بحسب ظاهرها ،من نحو العين ،و اليد ،و السّاق ،مما يدل بحكم العقل على القدح في الذات العلية ،
المستلزم نقص اللوهية ،و ضعفها ،و عجزها .
و كالنـزول من السماء العليا إلى السماء الدنيا آخر الليل ،لما في هذا الحوال كُلّها من القصور ،و التّقصير ،
الذي يتعالى ال عنه علواً كبيراً .
صحّ الخذ به مما عدا ذلك ،و هو كثير جداً ل يكاد يحصر من المور الخلفية بخلف ما كان مذهباً ،و هو ما َي ِ
التي يجوز فيها الخلف ،كزيادة التكبير على الربع في صلة الجنازة ،و كالتسليم بواحدة في [ ]8الخروج من
الصلة ،و كجواز الحرام في الصلة بسائر الذكار من غير " ال أكبر" ،و كالصّلة في الوقات التي صح
المنع من الصلة فيها بنص غير قطعي ،و المثال لهذا المقام كثيرة .
فال ّردُ لهذه و نحوها ،و القول بعدم صحتها مُحْتمل ل ُي ْفضِي إلى القدح بها ،أو الطّعن على المسلمين فهذا الذي
يسمى مذهباً ل ديناً عند الفقهاء .
قال القطب -رحمه ال و رضي عنه " : -و الطّعن في المسلمين عند ال أي َمنْ هو عند ال مسلم هكذا كلهم ،
أو بعضهم ،أو يُعَيّن جماعة مسلمين عند ال ،أو فرداً ُمسْلِماً عند ال تعالى ،مثل َأنْ يُعَ ّينَ أصحاب الكهف ،أو
ش ْركٌ .
مؤمن آل فرعون ،فهو طعنٌ و ِ
و كذا إن طعن في دين السلم " ( ، )2أي لن دين السلم ثبت بالدليل القطعي أَنّه هو الحقّ كما َنصّ عليه " :
سلَمُ " (. )3
ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ
ج َمعَ " .قال " :و يَحِلّ قتل طاعن في كل من الحالتين " (
قال " :و الطّ ْعنُ في أهل الدعوة نفاق ،سواء َأ ْف َردَ أم َ
، )4أي في حالة طعنه في َمنْ ثبت بالدليل القطعي إيمانه ،كأصحاب الكهف ،و مؤمن آل فرعون ،و أضرابهم ،
شكُ في
و حالة الطعن في أهل الدعوة ؛ لنّه طعن في الحقّ بغير شكٍ ؛ لنه لو كان فيه احتمال لكان شكاً ،و ال ّ
سعُ الشك في الحقّ أبداً.
دعوة المسلمين كفرٌ أيضاً ،لنهم على الحقّ فل َي َ
حقّ حيّ أم ميت من أهل الدعوة ممّن ُيقْ َتدَى به ،أو يؤخذ عنه ،أو ُي ْنسَبُ إليه الدّين ،وو سواء كان الطعن في مُ ِ
سواء في هذا الجماعة أو الفرد.
حرُمُ الطّ ْعنُ [ ]9فيه إجماعاً ،ولو كان ُمقْلِداً غير مجتهدٍ ،إذ كان مع ذلك مأخوذاً عنه مُقْ َتدَى
ف ِإنّ الحقّ واحدٌ َي ْ
به ،لحفظه العلم مع صيانة و ورع ،أي و لو لم يبلغ درجة الجتهاد ،فإنّ الحقّ في نفسه ل يتغير عن كونه
" مثل أن يقال لست يا فلن على شيء ،أو أنت ضال ،فهذا طعن في المسلم ،وهو طعن في الدّين ؛ لنّه طَ َعنَ
خصّ جماعة غير فيه من حيث دينه ،و إن قال :دينك باطل ،أو نحو هذا ،فهذا طعن في الدّين ،و أمّا إن َ
مقتدى بهم ،أو فرداً غير مقتدى به ،فليس طاعناً في الدّين بالطعن فيهم ،و لكن يبرأُ منه ِإنْ كانوا متولين ،إل
إن ذكر َأنّ دينهم بَاطِلٌ ،فذلك طعن في الدّين ،إذا علمنا أنهم دانوا دِيَانة المسلمين و لو جهلوا بعضها ،و ينافق
بالطعن بالمقتدى به غير المنصوص عليه ،و يشرك بالمنصوص عليه أنه مسلم ".
قال " :و يباح دم الطّاعن مطلقاً ،و ِإنْ كان طعنه بتخطئة للدّين ،أوأن تخطئته بلسانه ،أو تجوير للدّين _ أي
نسبته للجور _ أو تجوير أصحابه في قولهم به ،أو فعلهم به ،أو اعتقادهم إيّاه ،و َرمْيٍ بِكُ ْفرٍ لصحاب الدّين ،
أو للدّين ،أو براءة منهم ،أو من الدّين ،و ذَمّ ٍ ،و إن لفعالهم من حيث أنها موافقة للدّين ،أو صادرة ممّن
هو على الدّين .
صدَرَت أو مكروهاً ،فل طعن في ذلك على الدّين ،و كذلك يكون الطعن بفعلٍ يوجب تنقيصاً ،
و َأمّا إن ذمّ معصية َ
مثل أن يعيب بتحريك رأسه أو يده أو إخراج لسانه .
أو يقصد المُقْ َتدَى به في الدّين بالقتل ،أو يَتَوّعد ،أو شُو ِهدَ منه ،أو أقرّ به ،أو ُبيّن عليه ،أو شُ ِهرَ عنه ،ما
لم يتب قبل أن يُ ْق َدرَ عليه .
و قيل ل ُيعْجَلَ عليه _ أي الموافق بالقتل _ إن قال ذلك الذي يكون طعناً غضباً منه ل اعتقاداً راسخاً ،ل َعلّه
يزول عنه الغضب ،و يعتذر ،و يتوب ؛ لتقدمه في الدّين كما يستتاب المرتد ثلثاً .
و ِإنْ طَ َعنَ بل غضب لم يُؤْخر " ( ، )5أي يكون ذلك منه إهانة للدّين ،و َهتْكاً لحرمته ،و احتملوا له في حالة
الغضب ،أن تكون نزعةً شيطانيةً حملته على ذلك ؛ لنّ النسان في حالة الغضب يتغير شعوره ،و تقع منه
سفُ لها .
أشياءَ يَ ْندَمُ على وقوعها ،و يَأ َ
قال القطب " :و كذلك تصويب المخالف ما عليه ثابتاً من ديانةٍ ،و وليةِ قاد ِتهِ أي قادة ذلك المخالف ،و كذلك
إذا صَوّب ما نحن عليه ،و صَوّب ما عليه المخالف فذلك تخليط منه .
و هل هو طعن منه في أهل الوفاق و في دينهم ؟ ،لنّ تصويب ديانته تخطئة لديانتنا ،و وليته لقادته تخطئة
صرَ التصويب _ أي جعله محصوراً في مخصوصين ؛ فذلك تخطئة لمن عداهم _ ،و َأمّا ح َ
لقادتنا ،ل سيما إن َ
إن صَوّبَ ذلك و صَوّبنا ،فإن كان بمرة ل يفيده تصويبنا شيئاً ،فهو طاعنٌ ،مثل َأنْ يقول :نحن و أنتم كلنا
على صواب ،أو قال :ديانتنا و ديانتكم كلتاهما صواب ؛ لنّ َمنْ جمع طاعة و معصية في فعلٍ واحدٍ ،يعاقب و
جسَ طا ِهرُه .
ج َمعَ طاهراً و َنجِساً ،ن ّ
ل يثاب ،ك َمنْ َ
قلتُ :عدم الولية هنا ؛ لكونه صَوّبَ الباطل الذي هو عليه ،فإنّ َمنْ صَوّبَ الباطل كمن أ ْبطَل الصواب " أَل لِّ
الدّينُ ا ْلخَا ِلصُ " (. )1
و قيل ِإنّ قوله ذلك ل يُحْ َكمُ عليه فيه بأنّه طعن ،و لو تضمن الطعن ،أي لن الطعن فيه غير صريح بل محتمل .
و في الحتمال ل يصح الحكم بالطعن ،وجهان عند المسلمين ،و اختاره صاحب النيل ،أي اختار عدمَ الحكم
بالطعن هنا ؛ لنّ ذلك اللفظ الذي نَطَقَ به تلفظاً بمَا عنده من اعتقادٍ ،و قد جرى ذلك بين علماء المسلمين ،و لم
يعدوه طعناً ،و كَمْ رجلٍ صَوّبَ دينه من المخالفين ،أو أئمته بحضرة أئمتنا و علمائنا ،و لم يحكموا عليه بأن
ذلك طعن قولن ،ل سيما إذا لم يُو ِردْهُ مَ ْو ِردَ الطّ ْعنِ ،أما إذا أَ ْو َر َدهُ مَ ْو ِردَ الطّ ْعنِ ،فهو طعن عندي .
قال القطب -رحمه ال " : -اختلفوا في لزم المذهب مذهب هو أم ل ؟ قولن " أي عليهما تفرّع القول بطعن و
عدمه " قال " لكن ما نحن فيه ديانة ل مذهب ،و ذلك َأنّ التصويب لدينِ الخِلفِ تخطئة لدين ال ِوفَاقِ" ،قال " :
ط ْعنٌ .
و أما تصويب الموافق لدين المخالف ف َ
صدَ لخصلة مما دان به أهل الدعوة ،و خالفوا فيه غيرهم ،كقدم السماءِ ،و الصفات ،أي قالوا :و من َق َ
أسماء ال عز و جل ،و صفاته تعالى ،و نفي زيادتهما على الذات ،و نفي الرؤية له -سبحانه و تعالى -في
الخرة ،و نفي حدوث الكلم ،أي كلم ال الذي هو بمعنى نفي الخرس ،أمّا كلمه بمعنى القرآن ،و سائر كتبه
فمخلوق حادث ،و[أمّا] ( )2إثبات الخلود في النار لصحاب الكبائر مِن الموحدين في هذه المة و غيرها ،و
خلْقِ الفعال كغيرها ،و إثبات الكسب للعبد باختياره نفياً للجبر ،و نفياً َلنْ يكون خالقاً لفعله [ ، ]12و إثبات َ
إثبات المر ل ،ونحو ذلك ،كالتشريع ،واليحاء ،والقضاء ،و القدر ل تعالى ،و خَطّ َأهَا ،أي قال أنها خطأ ،
خطّأَ ما أجمعت عليه المة ،كالصلة ،و الحج ،و الزكاة ،حَلّ قتله. أو َ
و ل يعتبر في الجماع الروافض ،و َمنْ يُ ْن ِكرُ سورة يوسف أنّها من القرآن" (. )3
قال القطب " :و يجوز أن يقتل في حال الكتمان ،كما يجوز أن يقتل في حال الظهور ،و في النكال النظر إلى
الحاكم ،إن رأى عدد الضرب المقرر في الثار ،أو رأى أكثر من ذلك أو أقلّ ،و بالحبس أيضاً ،و النهي و
التغير واجبان في كل أحوال السلم ظهوراً و كتماناً ؛ لنّ فيهما إظهار الحق ،و هو واجب .
و ربما تاب و لو بعد القدرة عليه ،و التّوْبُ ينفعه مع ال عز و جل ،و يقتل مع التوبة ،و لو تاب نصوحاً ؛
طُلهُ التّوبة ،و إن تاب قبل المقدرة عليه فل يقتل ،رعاية لقيد القدرة عليه في النص حدّ ل تُبْ ِ حدّا ،و ال َ
لنّه يُ ْقتَلُ َ
،حيث يقول " مِن قَبْلِ أَن تَ ْق ِدرُواْ عََليْهِمْ " (. )4
أي لنّ الطاعن في الدين محارب له ،و َمنْ حارب دين المسلمين [ ]13كان أولى بالقتل ِمنْ كُلّ أحد ،و أمّا مانع
ح ْر َمةُ الدّين ،و
الحق أياً كان ،مكابر للدين ،و مغالب له ،عاتٍ عليه ،فهو حقيق بالقتل أيضاً ،و إلّ انتهكت ُ
حمَاهُ بين المسلمين .
اسْتُبِيحَ ِ
ضرّ على المسلمين من عدوهم ،حيث يُظْ ِهرُ عوراتهم لينال عدوهم منهم ،
و الدّال على عورات المسلمين صار َأ َ
حرَمِ الحقّ ،و معارضة له ،والحقّ يجب تأييده و نصره ،و إرغام
و ذلك معاداة للدين ،و إعانة على استباحة ُ
الناس عليه رضوا أم كرهوا .
و سواء كانت دللته باللسان ،أو بالكتابة ،أو بإرسال الرسل إلى العدو ليخبروهم عن عوراتهم ،كأن يقول :إنّ
عدَدهم ،أو
عدّتهم ،أو َ
الطريق إليه من كذا و كذا ،أو أنهم مضطرون إلى كذا و كذا ،أو قَلّ معاشهم ،أو َ
غفلتهم وقت كذا و نحو ذلك ؛ فهذا كله يبيح قتل الدّال عليهم .
ضرّ على السلم منفهذا و أمثاله من جملة المحاربين ل و رسوله ،و من الساعين في الرض فساداً ،و هم َأ َ
اليهود و النصارى ،فإن أعدى عدوك الذي يطلع على ما أنت عليه فيبدى ذلك لمن يعاديك ،كأنه يعطيه سلحاً
ليقتلك .
و رجوع الطاعن في الدين إذا رجع إلى مذهب المسلمين ،و كان طع ُنهُ بما يبيح قتله ،ورجوعه بل قصد توبةٍ
من طعنه ،ففي قبول توبته و رجوعه وجهان .
كما إذا ذهل عن التوبة ،أو أدخلها في عموم الرجوع إلينا ،و لم يسمها ،فقيل هو رجوع منه ،و توبة شرعية
في نظر المسلمين ،بل في رأي بعض المسلمين ،وقيل ل يعد بذلك تائباً ،و ل راجعاً ،و ل داخلً في دين
صرّحَ قائلً إنّي تبت من طعني في الدين [ ]14أو في دين المسلمين ،أو في دينكم كذلك؛ لن المسلمين حتى ُي َ
ديننا هو الحق ،ثم يعلن بأنّ دينكم هو الحق و الصواب ،و بذلك يكون راجعاً ،و تائباً مقبولً عند المسلمين .
قال " :و ِإنْ لم يتب من طعنه في ديننا ،فل َي ْمنَ ُعهُ الرجوع إلينا من القتل" ( )9؛ لنّه قادح بفادحٍ ،و كافر في
ححَ القطب الول فيُ َعدّ رجوعاً مقبولً . صّالدين ،و َ
قال " :و ل يكون بتخطئة دينه رجوعاً إلينا ،و ل إلى ديننا ( )10؛ لنّه خطّأَ ما هو خطأ في نفس المر ،و لم
يصَوّبْ ما هو في نفس المر صواب .
قال " :و مصوّبُ الطاعن حك ُمهُ ح ْك ُمهْ ،أي حكمهما واحد إذ اتحدا في تصوّيب الباطل كمصوّب الحق ،فهو
مُحِقّ في تصويبه فيتحد حكمهما بغير شك ،و كذلك أيضاً مُخطّئُ المخطّئ للمصوّبِ الطاعنَ ،و المرَ بالطعن ،و
خطّئ مصوّب المر بالطعنِ ،و المبيح أيضاً كذلك ،و كذلك من خطّأ المُخطّئ مصوّب المر به ،و مُخطّئ َمنْ َ
للمبيح ،كمصوّب المبيح كلهم طاعنون ،و دمهم حلل" (. )11
قال " :ول يعد طعناً ِمنْ مخالفٍ دعا لغيره لمذهبه " أي دعا الغيرَ إلى مذهبه " و كذلك تجويره لنا يباح لنا منه
========================================
( )1الزمر .3 :
( )2هكذا وردت في الصل ،و عند مراجعة النص من شرح النيل ،تبين أنها مقحمة ،و لعلها سبق قلم من المؤلف .
( )3شرح النيل (. )609_608 /17
( )4المائدة . 34 :
( )5شرح النيل ( . )614 / 17
( )6عمروس بن فتح المساكني النفوسي ( ت 283هـ ) أبو حفص ،عاصر المام أبا اليقظان محمد بن أفلح ،تولى القضاء بجبل نفوسة في ولية أبي
منصور أواخر أيام الدولة الرستمية ،له عدة مؤلفات منها الدينونة الصافية و رسالة في الرد على الناكثة و أحمد بن الحسين .معجم الباضية ( /3
. )671
( )7إلياس بن منصور النفوسي ( حي في 261هـ _ 281هـ ) أبو منصور ،من مشائخ جبل نفوسة ،عينه المام الرستمي أبو اليقظان على ولية
نفوسة ،و كان قائدا فذا ،لم يهزم له جيش طول حياته .معجم الباضية ( . )124 / 1
( )8انظر طبقات المشائخ ( ، )321 / 2و السير للشماخي ( . )193 /1
( )9شرح النيل ( . ) 614 /17
( )11( )10المصدر السابق ( . ) 614 /17
و كذلك التعييب للمذهب ،كقول القائل للمرداس بن حدير ( - )1رضي ال عنه " : -فرسك حروري " فأجابه
على ذلك بقوله " :وددت []15و ال لو أوطأته بطنك في سبيل ال " (. )3()2
فإن قول القائل ":فرسك حروري " ،تعييب منه عليه بأنّه من أهل حروراء ،و لو كان ل عيب في أهل حروراء
،و لكنه ساق ذلك الكلم مساق التعيير لهل حروراء -رحمهم ال -فإنهم قتلوا على الحق ،و لذلك استحل
حمْلِ
السيد المرداس دمه ِ ،إذْ َت َمنّى قتله في سبيل ال ،و سمى قتله جهاداً في سبيل ال ،و كنّى عن قتله بِ َ
فرسه على المشي على بطنه ،فإنّ مشي الفرس على بطن إنسان يَ ْقتُلُه ،و كان أبو بلل -رحمه ال -على
ذروتي العلم و الزهد ،بحيث يضرب به المثل ،و كذلك أخوه عروة ( ، )4و آلهما ،و جيلهما -رحمهم ال و
رضي عنهم . -
و كذلك مدحهم لئمتهم بما يعد تنقيصاً لئمتنا و مذهبنا ،إذا ساقه مساق ذلك ،أو يقول لستم على شيء ،أو لم
صرّح ،أو تبرأت م ّمنْ ل يبرأ من الوهبية ،أو تبرأ ممّن تبرأ من المخالفين ،أو ِمنْ فلن ،الذي هو قدوة في
ُي َ
دين المسلمين ،فكل هذه الحوال عن المسلمين ضللٌ ،و فسادٌ ،و إفسادٌ .
َأمّا إذا تكلم بطعن قاصداً به التقية لنفسه فل يقتل بذلك ،و كذا ِإنْ فعله تقية لِما ِلهِ حيث يَ ْتَلفُ ِبتَ َلفِ ماله ،أو ما
صحّ ذلك بالنص في القرآن الكريم قوله " إِلّ أَن َتتّقُواْ ِمنْهُمْ تُقَاةً " ( )6فيتقي النسان لكل ما يؤدي إلى قلتُ َ :
تلف نفسه ،و لو بأخذ زاده ،و لباسه ،و مركوبه و نحو ذلك ،إذا كان يؤدي أخذ ذلك إلى تلف نفسه " و ليس
على نفسه بأمين من ل يتقي عنها ضرب سوطين " ( )7كما في الصحيح ،فيقول إنّي ألعن ،أو أقدح ،أو أطعن
ط َم ِئنّ بِالِيمَانِ
،أو طعنت في كذا و كذا ،لقصد التقية ،و هو في نفسه على منهج اليمان " إِلّ َمنْ أُ ْك ِرهَ َوقَ ْل ُبهُ مُ ْ
" ( )8فهذا من يسر الدين الذي منّ ال به على عباده المخلصين .
ظنّت ،أو قال فعلته ،أي فعلت الطعن بها أي بالتقية _ و المعنى لجلها _ " و تسوغ التقية إن عُلمت منه ،أو ُ
ولو حيث ل تجوز له ،كخوفٍ على ماله ،أو على غيره أي على نفس الغير من الناس ،و يُ ْب َرأُ منه بذلك؛ َلنّ
المسلمين ل َيرَ ْونَ التقية في الموال ؛ َلنّ المال يُتّقَى ِبهِ ل ُيتّقَى َلهُ" (. )9
صحّ عن المسلمين قولهم ":في المال ل في الحال ،و في الحال ل في الدين " ؛ َلنّ المال أهَ ْونُ من الحال ، فقد َ
و الحال َأهَ ْونُ من الدّين ،إل َمنْ كان مطمئناً باليمان ،ويشير إلى ذلك قول القائل-:
()10
فإن إصابة النفس في نظر كرام الرجال أهون من نقص في أعراضهم ،أو عقولهم .
و الطعن في الدين أمره كبير ،فإِنّه طعن في الحق ،و طعن في الحق طعن في رب السماوات والرض ؛ فإِنّه هو
الحق ،و طعن فيه يجمع الكفر كله ،و العياذ بال من ذلك .
قال صاحب النيل -رحمه ال تعالى " : -و ِإنْ َكتَبَ بيده ما هو طعن بلسانه ففي كونه طعن قولن " ( )11؛ َلنّ
الكتابة دون النطق بالمكتوب ،و دون تحريك اللسان به ؛ ذلك َلنّ اللسان هو طريق الكفر و اليمان ،و لذلك
ساغ الختلف في الكتابة ]17[ ،ككاتب طلق زوجته ،و لم يقرأه ،ولم يجرِ به لسانه ،و لم تسمعه أذنه .
" فإذا كتب ذلك " أي ما يكون طعناً أي فعل فعلً ،ثم تكلم به بلسانه ففي كونه طعناً قولن " ( ... )12إلى أن
قال " :و ِإنْ كتب الخرس الطعن قُ ِتلَ به ؛لنّ ذلك طَ ْعنٌ منه ،وكذا ِإنْ أَشار به ،أو صَوّبه ،و َكذَا ِإنْ أعطى
صدّقَ على أُجَرة لطاعن ،أو أعتق عبداً على طعن الطاعن ،أو أعتق عبده الطاعن لطعنه فرحاً به ،أو َت َ
المساكين فرحاً بطعن الطاعن ،أو عفا عن قاتل وليه على ذلك " (. )13
قال -رحمه ال " : -و كذا ِإنْ طَ َعنَ وليه فعفا عنه لَجْلِ طعنه ،أو طعن صاحب القاتل ،أو وليه ،أو ولده فعفا
عنه لَجْلِ الطعن ،و سواء في العفو عفا عن القتل و الدّيَة ،أو عفا عن القتل على َأنْ يأخذ الدّيَة " (. )14
قال " :و كذا إن فعل أمراً جميلً للطاعن على طعنه _ كمدحه _ و إعانته في أمر مهم ،أو فَعَلَ معروف له على
طكَ كذا و كذا ،أو أفعل لك كذا و كذا ،ففي ذلك قولن ،قيل يقتلن به ،و قيل يقتل عِطعنه ،أو قال له اطعن ُأ ْ
عدَ به للطاعن ،أو لم يكن طعن ،و قيل ل إلّ ِإنْ وقع الطعن ،
الطاعن فقط ،فعلى الول يقتل ولو لم يفعل ما َو َ
قال :و يحكم على مطلق الطاعن بالطعن ،قال ويقتل أيضاً بترجمان واحد _ أي فيما ل يعرف إل بترجمان _ إن
شُو ِهدَ منه موجب الطعن كان قولً أو فعلً ،هو في نفس المر طعن ،لكن ل يعلمون أنّه طعن إل بترجمان ،
و اعلم أنّه يقتل بأمينين ،أو أمين واحد و أمينتين ،ومُ ِنعَ الواحد مطلقاً ،و كذلك كل الحكام " ( )15؛ ل ّ
ن
الحجة ل تقوم بالواحد خصوصاً فيما يتعلق بالحقوق المالية ،والجنايات ؛ لنّ الحرج فيها أكبر ،و النفوس
عليها أشدّ .
قال " :و ل يكون الرجوع من ِوفَاقٍ لِخِلفٍ طعناً ،ولكن ينكل الراجع على رجوعه فقط ،إل ِإنْ كان مع الرجوع
تخطئة ديننا ،أو المسلمين ،أو الطعن بوجه ما ،و ِإنْ صَوّب دين المخالفين مع ذلك فقولن ،و كذا تعليم ديانة
المخالفين لطالبها ليعمل بها ،سواء كان الطالب مخالفاً أو موافقاً ،و كذلك الداعي إليها ل يحكم عليهما بالطعن
و القتل ،و لكن يُ ْب َرأُ منهما ،وينكلن ،سواء كان المُ َعلّمُ هو الراجع لدين المخالفين ،أو غيره ،و لو كان الكلم
في الراجع .
===================================
( )1المرداس بن حدير بن عامر الربعي الحنظلي التميمي (ت 61هـ ) ،أبو بلل من عظماء الشراة ،شهد صفين مع علي ،و أنكر التحكيم ،و شهد
النهروان ،قتل غيلة سنة 61هـ .العلم للزركلي ( . ) 202 / 7
( )2طبقات المشائخ ( ، ) 225 / 2السير للشماخي ( . ) 65 / 1
( )3شرح النيل ( . ) 615 / 17
( )4عروة بن حدير التميمي ( ت 58هـ ) من رجال النهروان ،و سيفه أول ما سل من سيوف أباة التحكيم ،قتله عبيد ال بن زياد في زمان معاوية بن
أبي سفيان .العلم ( . ) 226 / 4
( )5شرح النيل ( . ) 636 / 17
( )6آل عمران . 28 :
( )7انظر بمعناه الجامع الصحيح للمام الربيع الجزء الثالث منه ،ص ، 301رقم . 765
( )8النحل . 106 :
( )9شرح النيل ( . ) 636 / 17
( )10قائل البيت المتنبي من قصيدة مطلعها :
ليالي بَ ْعدَ الظاعنين شكول طوال و ليل العاشقين طويلُ
ن لي البدر الذي ل أُري ُدهُ و ُيخْفين بدراً ما إليه سبيلُ
ُي ِب ّ
( شرح ديوان المتنبي لبعد الرحمن البرقوقي ( . ) 230 /3
( )12()11شرح النيل ( . ) 637 / 17
( )15( )14( )13المصدر السابق ( . ) 638 _ 637 / 17
أمّا تعليم ما هو فرع ليعمل به ،و الدعاء إليه ،فل يوجب البراءة بل الهجران ،بل يهاجر أيضاً على مطالعتها ،
و ليس كذلك إل إن خِيفَ منه تنقيص مذهبنا في الفروع أيضاً ،أو ن ّقصَ فروعنا فيهاجر " (. )1
و كُلّ هذه الشياء يراها العلماء صيانة للمذهب و للدين ،وهي من الجهاد المشروع على القادر ؛ فإنّ رسول ال
-صلى ال عليه وآله و سلم -كان يعتنى في النضال عن الحقّ كل شيء بما يناسبه ،أل تراه يأمر شعراء
السلم يجيبون شعراء الجاهلية على ما يقولون ،و ل يتركهم و ما قالوا ؛ لئل يحيك قولهم في قلب الضعيف ،
مع أن الشعراء ل نسبة لهم في الحكام الشرعية ،و ل السياسية ،لكن ربما جاءوا في شعرهم بكلمٍ ظا ِهرُهُ
فكان حسان بن ثابت ( ، )2و عبدال بن رواحة ( ، )3و أمثالهم َي ُردّون على شعراء الجاهلية[ ]19أقوالهم بأمر
رسول ال -صلى ال عليه و آله وسلم -فكيف ب َمنْ يطعن في دين المسلمين ،و يمدح أهل الباطل ُم ْعرِضاً بذلك
سبّهم ،و شتمهم على المنابر ،ثم ب َمنْ ينشر للطعن في أهل الحق ،ثم كيف ب َمنْ يصرّح بلعن المسلمين ،و َ
عنهم في العالم غير الحق في المجلت و الجرائد ،ثم كيف بمن يصارحهم بالعداء قولً ،و فعلً ،و يسَفّه
أحلمهم ،و يقدح في أئمتهم ،و علمائهم ،كأبي بلل -رحمه ال -و أضرابه ،و أبي الشعثاء و أمثاله ،و أبي
عبيدة و أتباعه ،و الربيع بن الحبيب و إخوانه ،و سائر علماء المسلمين ،و أئمتهم في الدين ،و يُلبّس على
المسلمين في منشوراته بين العوالم .
أليس من الواجب القيام عليه ،و الوقوف في وجهه ،و الرّدّ عليه ،و َأنْ يُكَالَ له الصّاع بالصّاع ،و يهدم بناؤه
من أصله ؟؟ .
و هل يسع السكوت عن هؤلء ؟؟ ،ل أظنّ أحداً يقول يسع السكوت ،إلّ أن تكون تقية فتلك أحوال لها أحكامها ،
و قد خُلِقَ المسلمون لفداء دين ال عز وجل بأموالهم ،و أرواحهم ِ " :إنّ الّ اشْ َترَى ِمنَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَن ُفسَهُمْ
ج ّنةَ" ( )4الية في أمثالها .
َوَأمْوَالَهُم بِ َأنّ لَ ُهمُ ال َ
و لو لم يكن إل الهانة لكفى ،فكيف به وفيه خزي الدنيا و الدّين ،أذل ال من أذلّ الدّين ،و أ ّيدَ ال الحق في كل
حين ،و إذا لم يقم المسلمون لحفظ دينهم العالي على كل دين ،داسته أقدام المتمردين ،و شوهته أقلم
العابثين ،و تلك على أهل الحق عند ال من أعظم الجرائم ،و َمنْ يا تُرى المسئول عن ذلك إل المسلمون !!!
فلذالك قام المام السالمي -رحمه ال َ -ي ُردّ على كل متنطع على الدين ،مُغّتر صاحبه بما لديه من علم ،يحسبه
خلْوٌ عاطلٌ ،مرتكبٌ للباطل ،متمردٌ على أهل ال ،و بقية أهل الحق [ الغاية التي ينتهي إليها أهل الحق ،و هو ِ
]20في هذا العهد العاجل ،نسأل ال -عز و جل -الذي عَ ّودَنا إجابته أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجه الكريم ،
ش ّرةِ ( )5أهل البغي والمعاندين ،قامعاً لعداء الحق في كل حين ،مقبولً عند أهل اليمان من كاسراً ل ِ
المسلمين ،و قد عَِلمَ ما قصدنا به ،و هو حسبنا ونعم الوكيل ،و كفى بعلمه تعالى ،و ال على لسان كل ناطق
.
و قد أخذنا هذه القوال في الطاعن كما ذكرها في النيل و شرحه ،في الجزء العاشر منه (َ ، )6منْ أرادها
فليراجعها يجد ُبغْيَته ،و قد أطال المامان صاحب النيل و شارحه ،بحيث لم يتركا من لوازم المقام شيء إل
ذكراه ،و حسبنا ما نقلناه عنهما ليضاح أحكام هؤلء العابثين ،الذين يقدحون في أعراض المسلمين بغير الحق
و ل يبالون ،و يطعنون في مناهج المؤمنين و ل يخافون ،كأنّهم لم يعلموا َأنّ عرض المسلم حمى -و ظنّي ل
يعلمون . -
أمّا المسلم الذي يعلم َأنّ ما يلفظ من قول لديه رقيب عتيد ،و َأنّ ال يعلم ما يلج في السماوات و الرض ،ل
عرَضَ عنها ،و
عِلمَها أ ْ
يرضى أن يهجم بلسانه طعناً ،و قدحاً في دين قوم -على القل -ل يعلم حجتهم ،و ِإنْ َ
شتَمَ ،ل يخاف ال ،و ل يراعي المروة ،و ل يعتمد إل على ط َعنَ ،و َقدَحَ ،و َ
سبّ ،و َ
اعتمد ما يهوى ،و َ
هواه .
ش َرعَ ال عقوبتهم ،و َأ َمرَ بقتالهم ،و أوجب على المسلمين القيام عليهم في كل ُأمّة من فأمثال هؤلء هم الذين َ
حسِنِينَ" (
سبُلَنَا َوِإنّ الَّ َل َمعَ ا ْل ُم ْ
أُمم العالم ،و في أي بلدٍ من بلد ال عز و عل " :وَاّلذِينَ جَا َهدُوا فِينَا لَنَ ْهدِيَنّهُمْ ُ
)7فتراه جعلهم محسنين ،و أخبر أنّه تعالى معهم حينما يقومون جهاداً في حق ال عز وعل ،ل يرجون له
س ّددُ خطاهم ما شكّ [ ]21أن ال ناصرهم ،ومؤيدهم ،و ُم َ ثمناً إل من ال ،و ل يقومون إل نصرة لدينه ،و ل َ
كانوا على الحق فإنه معهم ،خلف السفهاء العائثين في الرض فساداً ،و في الدين عناداً ،و لهل الحق
أضداداً ،يقدحون في أهل الحق بألسنتهم ال َبذِيّة ،و يطعنون في أهل الصدق بنواياهم الخبيثةَ " :نسُواْ الّ
فكان هذا القيام جهاداً لهم ،و قياماً بحقوق الدين ،و فرضاً مشروعاً على عباده المؤمنين بقوله -عزّ وعل " :-
خصّ أحداً بعينه ،
علَيْ ُكمْ " ( )9مع َأنّا ل نعتدي على أحد ،و ل ن ُ
ع َتدُواْ عَلَ ْيهِ ِب ِمثْلِ مَا اعْ َتدَى َ
علَيْ ُكمْ فَا ْ
َف َمنِ اعْ َتدَى َ
ن أراد ال هدايته
بل نقول القيام على أهل الفساد واجب ،و الرد على أهل الباطل كذلك ،و فتح أبواب الحق ل َم ْ
جهاد ،وعلى القل رد قول أهل الباطل عليهم لم يكن جوراً ،و ل بغياً ،و ل تعرّضاً لما ل يعني ،بل تعرّض لما
يعني ،وجزاء سيئة سيئة مثلُها ،و إن كانت الثانية غير سيئة .
و السكوت عن الطعن في الحق من أكبر الكبائر ،ل يقال إذا لم يقبل فأولى السكوت ،بل نقول يجب القيام ،و لو
لم يقبل ،إذ من المعلوم َأنّ ال ُمبْطِلَ ل يقبل إل الباطل ،و الضّال ل يرضى إل الضلل ،و لهذا قال رسول ال -
صلى ال عليه و آله و سلم ِ " : -إذَا ظَ َهرَت ال ِب َدعُ فَعَلَى العَالمِ َأنْ يُظْ ِهرَ عِ ْل َمهُ ،و إنْ لم يَفْعَلْ فَعَلَيهِ لَعْ َنةُ الِ و
عدْلً " ( ، )10و أراد تعالى من المسلمين الجهاد في الدين صرْفاً و ل َ جمَعِينَ ،ل يَ ْقبَل ُ ال منه َ
الملئكة والنّاس أَ ْ
،و أي جهاد أعظم من الذّبّ عن الدين .
و أراد – صلى ال عليه و سلم -بقوله " فليظهر علمه " أي يقول الحق في وجه أهل الباطل ،و ل يخفى أنّ
كلمة حق يقتل عليها صاحبها عند ال أفضل الجهاد بالجماع ،فالسكوت عن أهل الباطل يطغيهم ،و يجرئهم
طعَنُواْ فِي دِينِ ُكمْ
ع ْه ِدهِمْ وَ َ
على أهل الحق [ ، ]22قال ال في محكم كتابه العزيز " َوإِن نّكَثُواْ أَ ْيمَانَهُم مّن بَ ْعدِ َ
فَقَا ِتلُواْ أَ ِئ ّمةَ الْكُ ْفرِ ِإنّهُمْ لَ أَ ْيمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ " ( )11فلم يتركنا عز و جل نسمع [منهم] ( )12القدح
منهم ،و الطعن ،و نسكت عنهم .
=======================================
( )1المصدر السابق ( . ) 639 _ 638 / 17
( )2حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي النصاري ( ت 54هـ ) أبو الوليد ،صحابي ،شاعر النبي صلى ال عليه و سلم ،و أحد المخضرمين رحمه
ال ورضي عنه .العلم ( . ) 175 / 2
( )3عبدال بن رواحة بن ثعلبة النصاري ( ت 8هـ ) أبو محمد ،صحابي ،يعد من المراء و الشعراء الراجزين ،شهد بدرا و أحدا و الخندق و
الحديبية ،استشهد في وقعة مؤتة رحمه ال ورضي عنه .العلم ( . ) 86 / 4
( )4التوبة . 111:
شرّة الشباب :حرصه و نشاطه ( مختار الصحاح )141 /مادة ( ش ر ر ) . شرّة :الحرص و النشاط ،يقال ِ( )5ال ِ
( )6اعتمد المؤلف على الطبعة التي طبعها أبو إسحاق إبراهيم أطفيش ،و التي صدرت في عشرة مجلدات .
( )7العنكبوت . 69 :
( )8التوبة . 67:
( )9البقرة . 194 :
( )10ذكره بنحوه صاحب كنز العمال في ( / 1رقم ) 903بلفظ (( إذا ظهرت البدع و لعن آخر هذه المة أولها فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم
العلم يومئذ ككاتم ما أنزل ال على محمد )) و قال رواه ابن عساكر عن معاذ .و رواه جابر بن زيد مرسل في زيادات الجامع ،الجامع الصحيح ص
، 365رقم . 943
( )11التوبة . 12 :
( )12كذا في الصل ،و هي زائدة ل معنى لها .
و لو رأى ال – عز و جل -ذلك أولى بنا ،لرشدنا إليه ،بل َأ َمرَنا بقتالهم ،و القيام في وجوههم ،فإنّ السكوت
عنهم -و الحال هذا -فذلك رضى ِمنّا بما يقولون ،أو إهانة لدين ال -عز وعل -بما يزَ ّورُون ،ولكنّ ال َكلّفنا
قتالهم ،و ذلك أشدّ ما يخشاه المسلم ،و على القل إن سكوتنا عنهم يعد جبناً ِمنّا ،و ذلك ل يحل ،و لكنّ أمر
ال فوق كل أمر ،و أعل كل شيء ،و قد كلفنا ال المشاق ،و ابتلنا بكل شاق اختباراً منه لنا ،و هو بنا أخبر
.
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
ح ْرمَة الدين بالطعن فيه ،و القدح في و قولهم إنّ من السياسة السكوت عنهم ،نقول ل سياسة هنا ؛ فإنّ هَ ْتكَ ُ
جرَ بلده ،و وطنه ،و يعادي إخوانه ،و بني جلدته ،في أهله من أعظم الذنوب ،و قد أمر ال نبيه أن يُهَا ِ
رضى ربه عز و جل ،و ألزم التبليغ حلواً أو مراً َ " :وإِن لّمْ تَ ْفعَلْ َفمَا َبلّغْتَ ِرسَالَ َتهُ " ( )1و العيش في الدنيا ،
و النظر في الخرى ؛ فإنها المرجع للمانة ،و المقام ال َبدِيّ الذي ل يتغير ،فبئس بعيشٍ ينقضى قريباً ،وتطول
أزمته مع ال ،نسأل ال غفرانه و توفيقه لمرضاته .
ع ِهدَ إليهم أنّه لينصرنهم ما كانوا على نصر دينه ،و ولمّا استهان المسلمون بدينهم أصيبوا ،و كان ال قد َ
بخذلنهم له ،و عدم القيام بحقوقه ،استحال الحال ،و ت َبدّل الوضع ،و داس هامةَ الحقّ أهلُ الباطل .
و كان المسلمون الواحد منهم ير ( )2هبه الجيل الكبير ،و َمنْ َي ْرضَى غير الحقّ َي ْرضَى بباطل ،و ذلك أمر
ترتضيه السافل ]23[ ،فقد كان السلف يتألمون لكلمة يسمعونها ،و لخطة يفهمونها ،يقومون لها ،و يقعدون
من أجلها ،مضى الناس إذ لم يبق إل النَسانِس ،فكل َمنْ سمع القدح في الحق و أهله َ ،تعَيّن عليه الكفاح عنه ،و
خ ْيفَ عليه عند ال سوء العاقبة -نعوذ بال من ذلك . - ال ّردَ له ،و إل ِ
و قد ذكر القطب -رضي ال عنه -في " الهميان " تحقيق المقام ،و بَ ّينَ فيه كُلّ ِلزَامٍ ،و جاء في الحديث
النبوي المنصوص المتكرر في رد كل باطل يصادفه المسلمون جماعات و أفراداً .
فإنّ السلم يعتبر كل فرد من أفراد رجاله جندياً يناضل عنه حد طاقته قبل أن يجتمع بجماعته ؛ فإنّ رجال
السلم جنود ال ،خلقهم لعزاز الدين ،و إكرام مثواه ،فإذا لم يفعلوا فالويل لهم .
و ل يقال إنّ النّضال ل باللسان بل بالسنان ،لنّا نقول إن اللسان هي أول دائرة رَحَى الحرب ،و هي ُقطْبُ َمدَا ِر
الجهاد ،و إنّ الحرب أولها كلم ،و إنّ النار أولها الشرار ،و هي بالعودين تذكى ،ف َمنْ أفاد الكلم فيه ل يصح
حمَام ،على هذا عاش
أن يحمل عليه بالحسام ،و َمنْ لم يفد فيه الكلم ،فقد استدعى لنفسه ملقاة ال ِ
المسلمون ،و يعيشون إن شاءوا أن يعيشوا مسلمين .
و قد علمت أنّ رسول ال -صلى ال عليه و سلم -يأمر بمعارضة شاعر يقول بيتاً من الشعر ،فيقوم له
بالمرصاد َمنْ يرد عليه ،و يعارضه عليه ،و يدافعه عمّا قال ،و لم يسكت عنه ،و ل أمر بالسكوت ؛ لنّ حجة
السكوت حجة العاجز ،و تلك حجة واهية .
و كان عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -ل يرفع ِدرّ َتهُ عمّن أََلمّ بشيء من أيسر الشياء يرى أنّه ينافي الدين ،
حذَراً من
أو يباين مقاصد [ ]24المسلمين ،أو يعترض على سبيلهم ،بل كان يأمر بالوامر الصّا ِر َمةِ في المة َ
صرِ بن حَجّاج ( )3مثالً ،و كم لها من أخوات . ح َمدُ عقباه ،و تكفي قضية َن ْ
َأنْ يقع أمرٌ ل تُ ْ
و كذلك سائر الئمّة بعده -رحمهم ال و رضي عنهم -يناضلون عن الدين ،فالمام السالمي -رحمه ال -جاهد
جدّ في إحياء معالمه ،و اجتهد فيه بقلبه ،و لسانه ،و يده ،بل بكل شعوره ،و طاقته ،و ما َلدَيّه من قوة ،و َ
حسِنِينَ " ( ، )4و
سبُلَنَا َوِإنّ الَّ َل َمعَ ا ْل ُم ْ
في إيضاح مراسمه ،حتى وفقه ال " :وَاّلذِينَ جَا َهدُوا فِينَا لَنَ ْهدِيَنّهُمْ ُ
كذلك المام القطب -رحمه ال . -
فهذان العالمان الرضيان المرضيان جددا من معالم الدين ما اندرس ،و شادا من قواعده ما تبعثر و انتكس ،و
على َمنْ يأتي بعدهما أن يسير في المة سَ ْيرَهما ،و قد أخذ ال -عز وجل -العهد على العلماء في القيام بواجب
صرِت درجاتهم عنده ،و إذا لم يفعلوا فعل ال بهم ما توعدهم به ،و ال صرُوا قصّر ال بهم ،و ق َ
الدين ،فإذا َق ّ
جعُ و المئابُ .
صادق الوعد ،صادق القول و الفعل ،نافذ المر يفعل ما يشاء ،و يحكم ما يريد ،و إليه ال َمرْ ِ
و قد مشى الئمّة في السلم على هذا النّظَام ،و هَ َلكَ عليه أولئك التقياء الكرام ،كأبي بلل ،و أبي حمزة ()5
،و عبدال بن يحيى الكندي ( ، )6و أبي الشعثاء جابر بن زيد ،و أضرابهم ،و ناهيك بالجلندى بن مسعود ،و
أعوانه ،لم يرتضوا في الدين المداهنة ،و ل في الحق ال ْنفُس الخائنة ،فهم [ ]25المسلمون الذين يحيا بهم
الدين ،و يتركز على عزومهم فوق رؤوس المجرمين .
أمّا وقوع الطعن و انتشاره ،و رجال الدّين كل في مغارة قابع مُهِين ،أو راكن ُمسْتَهِين ،فذالك حرام في الدين .
=============================
( )1المائدة . 67 :
( )2النسانس قيل هم يأجوج و مأجوج ،و قيل هم قوم من بني آدم ،أو خلق على صورة الناس و خالفوهم في أشياء و ليسوا منهم ( القاموس المحيط
، ) 744 /و المعنى المراد هو الخير حسب ما يظهر .
حجّاج بن عِلط السلمي ثم البهزي ،شاعر من أهل المدينة ،كان جميل ،و قصته كما ترويها كتب الدب :قالت إحدى نساء المدينة :(َ )3نصْر بن َ
يا ليت شعري عن نفسي ،أزاهقة مني ،و لم أقض ما فيها من الحاج
هل كم سبيل إلى خمر فأشربهـا أم من سبيل إلى نصر بن حجـاج
و سمع البيتين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب _ رضي ال عنه _ فقال :ل أرى رجل في المدينة تهتف به العواتق في خدورهن ! ،و طلبه ،فجاء ،
فأمر به فحلق شعر رأسه ،فزاد جمال على جماله ،فأمر به أمير المؤمنين فنفي إلى البصرة ،حوطة و حذرا .العلم ( . ) 22 /8
( )4العنكبوت . 69 :
( )5المختار بن عوف بن عبدال السليمي الزدي العماني الشاري ( ت 130هـ ) أبو حمزة من أعلم تابعي التابعين ،أخذ العلم عن أبي عبيدة مسلم بن
أبي كريمة ،كان من أكبر قواد طالب الحق عبدال بن يحيى الكندي عندما قام ضد المويين .له عدة خطب مشهورة .معجم الباضية ( . )856 / 4
( )6عبدال بن يحيى بن عمر الكندي ( ت 130هـ ) أبو يحيى ،الشهير بطالب الحق ،إمام الشراة ،أحد أقطاب المذهب الباضي في عهود تأسيسه قام
بثورة باليمن سنة 129هـ ضد المويين ،فاستولى على اليمن و مكة و المدينة و نشر فيها العدل لمدة و لكن الدولة الموية قضت على ثورته و عليه
سنة 130هـ .معجم الباضية ( .) 588 / 3
شكّ ،و ل يخالجنا ريب في أن مذهبنا هو الحق ،و ِإنّ ديننا هو الصدق ،و ل في أيّ نقطة من و اعلم أنّنا ل َن ُ
نقاطه ،و ل نقول هذا تقليداً بل تقييداً .
شكّ في َأنّ مذهب الباضية لم يتأسّس على القواعد الصحيحة ،أو َأنّ فيه من الباطل شيئاً لم يكن عن و َمنْ َ
ضلّلً بعيداً ،و زَاغَ عن الحقّ ،فلم يذهب َم ْذهَباً رشيداً .
الشارع ،فقد ضَلّ َ
جرَة الصّحابة ،و على عواتقهم َي ْمشُون ،ف َمنْ ذهب مذهباً مُبَاين ًا
غصَان شَ َ
بل اعلم قَطْعاً َأنّ الباضية هم َأ ْ
لمذهبهم فقد وجبت منه البراءة قطعاً ؛ لنّه اختار الباطل على الحقّ ،و الفساد على الرّشاد ،فلم ير في حياته و
مماته السداد .
فقول الطاعن إنّ دينكم غير حق ،أو أنّكم لستم على حق بلسانه ،و ِإنْ كان ذلك منه كذباً ،و افتراءً في
خ ِرهِم إلّ
علَى َمنَا ِ
الحقيقة ،إل َأنّ ال ل يؤاخذ العباد إل بما يقولون ،كما في الحديث " :وَ هَْل ُيكَبّ النّاسُ َ
حصَا ِئدُ أَ ْلسِنَتِهم " ( " ، )1مَا َيلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلّ َلدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ " ( )2و أول الذّنُوب القوال ،و بعدها الفعال .
َ
خ ْيرِية ،ف ِإنّ الناس ل يَ ْنجُون مع ال إل بالنّطق بكلمة الخلص ،و هي قول " ل إله إل و كذلك في المور ال َ
خرُجُ العبد من الكُ ْفرِ إلى اليمان ،و بضدها يهلك في ال ،محمد رسول ال -صلى ال عليه و سلم – "و بذلك َي ْ
ضحَ النجدين ،و بَيّن السبيل لذي [ ]26عينين ،و نظر المسلمين ،أي يحكمون بهلكه يوم القيامة ؛ لنّ ال أَ ْو َ
أَوْجَد قُوّة الكسب ،و مكّن من الختيار في التصرفات في هذه الحياة الدنيا .
و الطّاعن في الدّين لم يسلم منه العباد المتدينون ،و ل الدين ،و ل مالك يوم الدين ،فإنّه بطعنه في الدين
طاعن في رب العالمين ،و أيّ ذنب يعادل ذنب هذا الغافل عن تحقيق الحقائق التي كان منها ،و التي ُك ّونَ لها ،
سبحان الذي بسط حلمه على علمه ،و وسّع رحمته على خلقه .
عرَاضِ المسلمين ،فكيف بها في الدين ،قال ال عزّ و جلّ َ " :ل و قد تواترت الدلة على تحريم الطعن في َأ ْ
حمَ أَخِيهِ مَ ْيتًا فَ َك ِرهْ ُتمُوهُ " ( ، )5هذا إذا كان الطّ ْعنُ في العراض ،
حدُكُمْ أَن َيأْكُلَ لَ ْ
يَ ْغتَب بّ ْعضُكُم بَ ْعضًا أَيُحِبّ أَ َ
سأَلُ
فكيف به إذا كان في الدين ،أي ُردّ الجاهل على ربه دينه ،و ينتقده في عمله التكليفي ،و هو يقول " :ل ُي ْ
عمّا يَفْ َعلُ َوهُمْ ُيسَْألُونَ " ( ، )6و قد كَّلفَ ال عباده ابتلءً و اختباراً ،و ليكون ثوابه و عقابه على عمل َ
يعملونه ،و أمر يفعلونه ،ف ِإنّ ال ل يَعْ َبثُ في مخلوقاته ،و ل لَعِبَ في مصنوعاته ،سبحانه من قادر [ ، ]27ما
أعظم شأنه ،و أقوى سلطانه .
===========================================
( )1أخرجه الترمذي في ( -41كتاب الفتن -8باب ما جاء في حرمة الصلة ) ( ) 12 -11 /5رقم ، 2616و قال :هذا حديث حسن صحيح ،و
أخرجه ابن ماجه في ( -36كتاب الفتن -12باب كف اللسان في الفتنة ) ص ، 572 -571و أخرجه أحمد بن حنبل رقم ، )167 / 16 ( 21915و
رقم ، ) 183 / 16 ( 21962و رقم . ) 185 / 16 ( 21967
( )2ق . 18 :
( )3الزمر . 7 :
( )4أخرجه البخاري في ( -2كتاب اليمان -4باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده ) ( ) 23 /1رقم ، 10و أخرجه مسلم في ( -1كتاب
اليمان -14باب بيان تفاضل السلم ) ( )65 / 1رقم ، 65و أخرجه النسائي في ( - 47كتاب اليمان -80باب صفة المؤمن ) ( )105 /8رقم
، 4995و أخرجه أبو داود في ( -15كتاب الجهاد -2باب في الهجرة هل انقطعت ؟ )
=
ص 359رقم ، 2481و أخرجه الدارمي في ( -20كتاب الرقاق -4باب حفظ اللسان ) ( ) 238 /2رقم ، 2712و أخرجه أحمد بن حنبل رقم
)6/42 ( 6487و رقم .) 78 /6 ( 6515
( )5الحجرات . 12 :
( )6النبياء . 23 :
و قد ثبت في آثار المسلمين َأنّ الطعن في الكفر ،و الفسق ،و الضلل من الجهاد في الدين ،و أنّ حماية الدّين
من ألسن العابثين َفرْضٌ على المسلمين ،و أَ ْوجَبُ الواجبات ال ّردُ للطعن إنْ لم يكن بسهام فبالقلم ،و إيضاح
الحجج ،و تبيين المقاصد ،و كشف الغايات ،و القصد لرضى ال عز و جل .
و قد أطال القطب -رحمه ال -القول في أحكام الطاعن في الدين ،و في دين المسلمين ،بعدما تكلّم على
الطاعن في الرّسل ؛ لنّهم الصل الثاني للدّين ،و في أصحابهم على العموم و الخصوص ،و في الطعن في
أتباعهم ،و في ما يلزم فيه القيام على الطاعن بالبراءة ،و القتل ،أو الضرب تعزيراً أو تأديباً ،و في ما يتعلق
بهذه الحوال من جميع النواحي الشرعية ،حتى يكون الدين كله ل .
و الطعن في الدين يثير الضّ ْغنُ ( )1بين المتدينين ،كل على قدر اعتقاده قوة و ضعفاً " وَلَن َت ْرضَى عَنكَ الْيَهُودُ
سلَمُ " (، ]28[ )3 وَلَ ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ مِلّتَهُمْ قُلْ ِإنّ ُهدَى الّ هُوَ الْ ُهدَى " ( )2و " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ
فالطاعن في الدين الذي هو عند ال السلم ،أعظمُ جريمة ،و أكبرُ مصيبة ،و أشدّ المعاصي عند ال -عزّ و
جلّ -و هل أَوْجَب ال الجهاد إلّ لعلء كلمة المسلمين ،و تأييد الحق و الدين ،رغم أعدائه الظالمين ،و
بالخص جهاد البغاة في السلم ،و أهل التوحيد من النام ،الذين ل يفقهون من أمر الدين إل ما يهواه الهوى
من ال ُمضِلّين ،و الناس أعداء ما جهلوا ،و الحقّ يَ ْع ِر ُفهُ أهله .
و لهل المذهب في حقوق الدين أقوال يتناقلها الخلف عن السلف ،و يدرسها الجيل بعد الجيل ،ل يرضون
غيرها بديلً ،و ل يبغون سوى الحق سبيلً ،على ذلك نشأوا ،و عليه يَحْيَون ،و عليه يموتون .
و للمام الحضرمي ( - )4رحمه ال -في شِ ْعرِيَا ِتهِ المتينة ،و آثاره الواضحة تحقيقات بديعة ،و أَنْظَارٌ رفيعة ،
جمَاحُ أهل الهوى المعاندين ،و َي َردّ َن ْعرَة المُتَهورين
و المام أبي سعيد الكدمي ( - )5رحمه ال تعالى -ما َيكْ َبحُ ِ
طغَتْ أنفسهم بما تهوى ،و الذين أعجبتهم ط َرسَة المُتَهوسِين ( ، )6الذين تحكّم عليهم الهوى ،و َ ،و غَ ْ
كثرتهم ،فظنوا أنّها دليل على الحق ،و السواد العظم ل يهتدي للحق منه إل أفراد ،و أفذاذ ،أمّا غالبية الناس
غ َمرَات الجهل الساذج ،و فإلى الجهل تصير ،و ناهيك بأيام النبيين فإنها ُمظْ ِل َمةٌ بالسّوَادِ العظم ،الخائض في َ
أهل الحقّ فيها قليلون ،كما بيّنا ذلك في أمكنة متعددة .
حبّهم له ،
و ل ريب فإن محمداً -صلى ال عليه و سلم و آله -عاش مدة مُهَاناً بين َأ ْقرَبِ النّاس إليه ،و أَ َ
مراغمة للدين الذي جاء به من عند ال -عز و جل -و إهانة للحق الذي يدعوهم [ ]29إليه ،فكان بعد ذلك َأنْ
طعَ العناق ،و َوطِئَ على هاماتهم وطئةً شدّة و العُ ْنفِ ،فسلّ عليهم الصّارم البتار ،و قَ َ
كلّفه ال مجابهتهم بال ّ
أحسّوا ثقلها ،فاتّقوه بالخضوع ،و دفعوا سطوته بالنقياد ،فكان بعد ذالك السيد الفيصل ،يقولون له أخ كريم و
ابن أخ كريم ،مََلكْتَ فأسْجِح ( ، )7و بلغت فأصْلِح ،و سعدت فَأَربِْح .
فالدين ل تحميه إل شدّة أهله عليه ،و ل تصونه إل عزائم المسلمين ،رغم كل خبيث لعين .
فلهذا يرى أصحابنا قتل القادح في الدين ،و الطاعن في مذهب المسلمين ،و َمنْ ل يرعى حق ال في دينه ،و
ح ْرمَ ِتهِ ،فهو هالك مع ال ،خارج عن الحقّ ،بل
ح ْرمَة الشّرع ،فإنّه داع إلى هدمه ،و ُمسْتَهِين ِل ُ
ل يحفظ ُ
خارج عليه ،و ال ولي المتقين .
()8
========================================
( )1الضّ ْغنُ :الحقد ( مختار الصحاح . ) 160 /
( )2البقرة . 120 :
( )3آل عمران . 19 :
فأهل العلم هم المسئولون عن الحقائق ،و هم القوّامون بها ،و الذين يَغَارُون عليها ،و يبذلون في تأييدها
سرِينَ
خ َرةِ ِمنَ ا ْلخَا ِ
سلَمِ دِينًا فَلَن يُ ْقبَلَ مِ ْنهُ َوهُوَ فِي ال ِنَفِيسَ حياتهم ،و عَز ِيزَ رغباتهم َ " :ومَن يَبْ َتغِ غَ ْيرَ ا ِل ْ
" ( ، )1و السلم شرع شرائع لصيانة الدين ،و أمر بأوامر تُؤيّد منهج المؤمنين ،و الدّين الخالص ل ل لغيره
سلَم" ( ، )3و هل الدّين إل الذي شرعه ال لرسوله ،و " :أَل لِّ الدّينُ الْخَا ِلصُ " (ِ" ، )2إنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ
أوحاه إليه ،ليبلغ عباده أوامره و نَوَاهِيه .
فالقادح في الدّين مناقضٌ لوامر رَبّ العالمين ،مُعَا ِرضٌ لواجبات اليمان ،ومُ َتعَلقٌ بأ ْمرَاسِ ( )4العصيان ،فل
يؤوى ،و ل يوالى ،و ل يُنَاصر حتى يتوب إلى ال من ذنبه ،و يؤب إليه من فحشه .
حمَا ُة
و الباضية هم جمال السلم ،و إذا خل منهم فعليه العَفَاء ( ، )5و على الدنيا كذلك ؛ لنّ الباضية هم ُ
حمَاة الباطل بالفعال ،و الكلم غير الحقّ ؛ لنّ الباضية ل ينهجون حسَام ،و غيرهم [ُ ]30 الحقّ بالقلم و ال ُ
منهج عثمان في إيثار القارب ،و ل يبدلون مناهج الحكام بغيرها ،و إن شَطّ بهم الدّهر ،و ل َيرَ ْونَ جعل
السيرة على غير سيرة النبي -عليه الصلة والسلم -و سيرة صاحبيه أبي بكر ،وعمر بن الخطّاب -رضي ال
عنهما ، -و ل يُخَا ِدعُون المسلمين ،و ل ُيمَا ِكرُون في الدّين ،و ل يغتالون ،و ل يغدرون ،و ل يرون بعد حكم
محمد -صلى ال عليه و سلم -حكماً .
==================================
)1آل عمران . 85 :
( )2الزمر . 3 :
( )3آل عمران . 19 :
( )4أمراس جمع َمرَس ،هو جمع َمرَسة و هو الحبل ( القاموس المحيط ) 741 ،مادة ( م ر س ) .
( )5ال َعفَا ُء بالفتح والمد التُراب قال صفوان بن مُحرز إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفا وشربت عليه ما ًء فعلى الدنيا ال َعفَاء ( مختار الصحاح )186 /مادة
ض ّدهُ ،مما ذكره عنه شكيب أرسلن ( ، )2و نقله عنه الكثير ممن يكتبون عن
و قد علمت ما وجّهه أعداء (ِ )1
الباضية ،كصاحب ضحى السلم ،و مؤلف معالم الجزيرة ( ، )3و غيرهم ،و قد مر عليك في مقالنا هنا .
و جاء أيضاً من نوعه في مجلة " ال ُمسْ ِلمُونَ " التي يصدرها المركز السلمي برئاسة سعيد رمضان ( )4جاء
حرّمون على المرأة الخروج من البيت ُمطْلَقاً ،و
سرَاويل ،و إنّهم ُي َ
فيها ِ " :إنّ الباضية يُوجبون الصّلة دون َ
أنّهم يمنعون غيرهم من بناء المساجد ،أو يشترطون عليهم أن تكون مساجدهم دون َمنَائر ،و أنّهم كانت بينهم
و بين أهل المذاهب الخرى عداوة " .
شرْطاً لزماًو الحقّ َأنّ الباضية لم يصدر منهم ذلك كله ،و المنائر وِإنْ كانت ل حاجة عليها ،و لم [ ]32تكن َ
في بناء المساجد ،و ل دليل عليها من كتابٍ ،أو سنةٍ ،و إنما هو استحسان من بعض النّاس ،و قد أصبحت
سنَ ذلك ؛ لنّها ليست محل صلة ،و ح َ
ستَ ْ
الن وهي تستغرق مالً طائلً في بناءها بغير فائدة ما ،بل لم تكن ُت ْ
لها قيمة كبيرة َتضِيعُ في بناءها دراهمٌ طائلةٌ ،و أيّ فائدة فيها ،و أيّ دليل دلّ على بناءها ،و الحاديث النبوية
خرَفة
ش ُرفَات " ( )5فالمنائر من نوع الشرفات ،و الزّ ْجمّا ،و ل تَجْ َعلُوا لَهَا ُ
جدَ ُ
ناطقة بصراحة " :ا ْبنُوا ال َمسَا ِ
المنهية عنها .
و إن قيل تُبْنَى للذان ،قلنا لم يتوقف الذان على بناءها ،و ل قال بذلك أحدٌ من أهل العلم ُمطْلَقاً من أي المذاهب
كان .
و لعل َمنْ أجاز بناءها كان ذلك عنده من باب الستحسان ،و ذلك غير َمخْفِيّ َأصُْلهُ ،ف ِإنّ مَا يستحسنه زيدٌ ل
يلزم منه استحسان عمرو له ،و ربما قيل بمنع المنائر نظراً إلى ضياع المال الذي يُنفَقُ عليها .
و إذا كانت المساجد لها أوقاف خاصة لعمارتها ،فهل المنائر من عمارتها ؟ ،حتى قيل إذا كان للمساجد أوقاف ،
و زِيدَ في ِبنَاء المساجد ،ل تبنى تلك الزيادة من الوقاف المخصوصة بها قبل ذلك التوسيع .
سرَاويل ،هذا مما ل يقول به عاقل ،بل لو قيل بجوازها لكان صحيحاً ؛ فإنها و َمنْ الذي أوجب الصلة بغير َ
جائز بدونها حتى لواجِدها ،لنّ الشارع أجاز الصلة بثوب واحد " :أَوَ ُكلُكُمْ َي ْمِلكُ ثَ ْوبَينِ " ( )6فإذا كان ل يملك
إل ثوباً واحداً ف َمنْ ذا الذي يقول ببطلن الصلة لهذا .
و قولهم :أَنّهم يُحرّمون على المرأة الخروج من البيت مطلقاً ؛ فهذا إن كانوا قالوا به [ ]32فغير خارج عن
الحقّ ،بل هو عين الحقّ ،فإنّما ضرب ال الحجاب على النساء لصيانتهن ،و قد وردت الحاديث الدالة على
صِيَانة النساء ،و تعليمهن المَ ْغزَل ،و أن ل يسكنّ ال ُغ َرفَ ( ، )7و ل يكثرن اللباس ،فإنّهن إن أكثرن أحببن
الخروج المنهي عنه ،و الخروج للنساء بغير ضرورة ل ينبغي ،و ل يبيحه الشرع ،و ل يرضى به ،فإن
خروجهنّ داعٍ إلى الفتنة ،و ضَعْف عُقُول النساء معروف ،و ال يقول في كتابه العزيز َ " :و َق ْرنَ فِي ُبيُو ِت ُكنّ
جنَ تَ َبرّجَ الْجَاهِِل ّيةِ الُْولَى " (. )8
وَلَ تَ َبرّ ْ
و قولهم " :كانت بينهم و بين غيرهم من المذاهب عداوة " ،ل رُوحَ لهذا الكلم ،ف ِإنّ العداوة تكون بين الناس
لسباب منها :ما ي ُبثّه العداء كهؤلء !! ،و منها ما يقوم عن مخالفة الحقّ و مكابرته ،و منها ما يكون من
تأييد الباطل ،كمناصرة الجبابرة ،و الظلمة على المسلمين ،و إعانتهم لل ُبغَاةِ على أهل العدل ،و أسباب أخرى
تثير ال َعدَاء .
و لم تختص الباضية بذلك أيضاً دون غيرهم ،ف ِإنّ الختلف َقضَتْ به حكمة ذي الجلل و الكرام " :وَلَ َيزَالُونَ
خلَقَهُمْ" ( ، )9و لو كان ذلك للباضية خاصة من دون غيرهم من بقيّة مُخْ َتلِفِينَ {ِ}118إلّ مَن رّحِمَ رَ ّبكَ وَ ِلذَ ِلكَ َ
النّاس ،لكان أيضاً من مَحَامدهم ،حيث قاموا بما أوجب ال -عز و جل -من مفارقة أهل الباطل ،و مباعدة [
]33أهل الفساد في الرض ،و أول خلف و عداء وقع بين بني آدم ،هو الخلف الذي َو َقعَ بين قابيل و أخيه ،
و هم أبناء آدم على الصحيح وهكذا .
و تلك المجلة الموسومة بـ"المسلمون " تقول " :الباضية كسائر فرق المسلمين ،أو كسائر فرق الخوارج
يذهبون إلى التكفير كل من رضي بالتحكيم" .
فيا سبحان ال من أين جاء إلى هؤلء الناس َأنّ الباضية من الخوارج؟؟!
صدُ التمثيل بهم ،فأي نسبة بين الباضية و الخوارج الضّالة؟؟ ،إنا ل و إنا إليه راجعون .و إن كان ال َق ْ
و إذا كانوا يُكَ ّفرُون كُلّ من َرضِيَ بالتحكيم ،فما بال بعضهم يقول " هم الذين أصّروا على التحكيم " .
انظروا معشر الناس هذا التناقض في الكلم عن الباضية !! .
=====================================
( )1كذا في الصل ،و الصحيح " أعدائه " .
( )2شكيب بن حمود بن حسن أرسلن ( 1286هـ 1366 -هـ = 1869م 1946 -م ) أديب ،كاتب ،شاعر ،مؤرخ ،سياسي ،ينعت بأمير البيان
من أعضاء المجمع العلمي العربي ،ولد في لبنان و توفي في بيروت له مؤلفات كثيرة منها الحلل السندسية في الرحلة الندلسية ،و حاضر العالم
السلمي .العلم ( ، ) 174 /3معجم المؤلفين ( . ) 818 /1
( )3سعيد بن عوض باوزير الحضرمي ،من حضرموت ،كاتب معاصر ،مؤرخ ،معظم كتاباته تدور حول حضرموت ،لم أجد له ترجمة في المعاجم
المخصصة لهذا الشأن ،و لذلك أكتفي بذكر بعض كتبه مع بيان مكان النشر :
-1الفكر و الثقافة في التأريخ الحضرمي ،دار الطباعة الحديثة 1381هـ 1961 -م .
-2صفحات من التأريخ الحضرمي ،القاهرة ،المطبعة السلفية 1378هـ .
-3معالم تاريخ الجزيرة العربية ،القاهرة ،دار الكتاب العربي .
-4حضرموت :طواها التأريخ و نشرها مرة بعد مرة ،مجلة العربي ،العدد 1965 ، 76م (.بيليوجرافيا مختارة و تفسيرية عن اليمن ،ص . ) 30
( )4سعيد رمضان لم أجد له ترجمة حتى الن .
( )5أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في ( -3كتاب الصلوات -85في زينة المساجد و ما جاء فيها ) ( ) 274 / 1رقم 3153و ، 3154و أخرجه أبو
نعيم في الحلية ( ) 12 /3و أخرجه البيهقي ( في كتاب الصلة -536باب في كيفية بناء المساجد ) ( . )616 /2
( )6أخرجه الربيع بن حبيب في ( كتاب الصلة -45باب في الثياب و الصلة فيها) رقم 266ص ، 111و أخرجه البخاري في ( -8كتاب الصلة -4
باب الصلة في الثوب الواحد ملتحفا به ) ( )103 /1رقم ، 358و أخرجه مسلم في ( -4كتاب الصلة -52باب الصلة في ثوب واحد ) () 367 /1
رقم 275و ، 276و أخرجه أبو داود في ( -2كتاب الصلة -77باب جماع أثواب ما يصلى فيه ) رقم 625و 629ص ، 101و أخرجه ابن ماجه
في ( -5كتاب إقامة الصلة _ 69باب الصلة في الثوب الواحد ) رقم 1047ص ، 146و أخرجه مالك في المؤطا في ( كتاب الجماعة ، 30و
أخرجه أحمد بن حنبل رقم ) 7 /7 ( 7149و رقم . )87 /7 ( 7250
( )7ورد في تعليم النساء المغزل و عدم إسكانهن الغرف عدة أحاديث منها ما أخرجه الحاكم في المستدرك ( -27كتاب التفسير -24تفسير سورة
النور ) ( ) 430 /2رقم ، 3494و ما أخرجه البيهقي في شعب اليمان في ( - 60باب حقوق الولد و الهلين ) ( )401 /6رقم ، 8664و ما
أخرجه الطبراني في المعجم الوسط ( )87 / 6رقم . 5713
( )8الحزاب . 33 :
فيستفاد من كلم هؤلء الغامزين للباضية ،أنّهم لم َي ْرضَوا بالتحكيم ،فما بال الذين يقولون " إنّ الباضية هم
الذين حملوا علي بن أبي طالب على التحكيم"؟؟!.
أما ترى الهواء ال ُمضِلّة تُعَادي المة ال ُمحِ ّقةِ قصداً لخماد الحقّ ،و إظهار الباطل بالهواء الفاسدة !! .
و هل يكفي ذلك شهادة للباضية أنّهم لم يرضوا بالتحكيم ،و ِفرَارُهم عن المام علي ،و انحيازهم عنه بالنّهروان
،و ذلك أشهر من نار على علم !! .
و مع أنّه ل إباضية إذ ذاك ،بل الصحابة الكرمون أهل الحقّ ،الذين جعلهم ال حجة على عباده ،فأين هم و
أين الباضية ؟؟! كما سوف تقف على ذالك إن شاء ال .
و ما بال هؤلء الناس يطبقون على ُأنَاسٍ لم يكونوا بَ ْعدُ في العالم ؟؟! ويفصلون جانباً من صحابة رسول ال -
صلى ال عليه و سلم -و يجعلونهم غرضاً يرمونهم بسهام الطعن و القدح ،و ل يبالون !! .
أما يتقون ال فيهم ؟! أما يراعون رسول ال -صلى ال عليه و سلم -في خيرة أصحابه و صفوة أخصائه الذين
هربوا [ ]34من الباطل ،و أخذوا جانباً عنه ،فارين بدينهم ،غير مَاسّين بعرض أحد من عباد ال ؟؟! ،و ما
بال هؤلء الناس َيسْ ِترُون الشمس بأظفارهم !! ،أليس هذا من المُخْجِلِ ؟! ،و المفضح في الدين؟!! .
فأمّا من ناحية الدّين فالباضية أَبْ َعدُ من الخوارج بمسافات ؛ لنّ الخوارج -الذين يغمزون بهم الباضية -
يُشرّكون أهل القِبْلَة من ُمخَالفيهم على العموم ،و الباضية ل يقولون بذالك ،فإنّه يتفرع عليه استحلل دماء
الناس و أموالهم ،و لم يعرف للباضية هذا في حال من الحال أبداً ،و كذلك أيضاً سبي الذراري .
حاشا الباضية أن يقولوا باستحلل أموال من قال " :ل إله إل ال محمد رسول ال " ،أو باستحلل دماءهم ،
أو سبي ذراريهم ،اللهم إل في حال البغي منهم ،كما قال ال عز و جل " :فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ
الِّ " ( ، )1وأمّا الموال فهي حرام بإجماع أهل الحقّ .
ويجري عمل الباضية في أهل القبلة على مُقْ َتضَى قول رسول ال -صلى ال عليه و سلم ُ " : -أ ِمرْتُ َأنَّ ُأقَاتِ َل
صمُوا ِمنّي ِدمَائَهُم ع َ
حمّداً َرسُولُ الِ -صَلّى عليه وسلم -ف ِإذَا قَالُوهَا فَ َقدْ َ
النّاسَ حَتّى يَقُولُوا ل إِلَه إلّ ال و َأنّ ُم َ
حسَابُهُم عَلَى الِ " ( )2فكل من نَطَقَ بالشهادتين فهو مسلم له ما للمسلمين و عليه ما حقّهَا و ِو َأمْوَالَهُم إلّ بِ َ
ع ّدةَ دول عليهم ،إل إن ارتدوا -و العياذ بال -فللرّدة أحكام عند المسلمين ،و قد قامت للباضية في هذا الكون ِ
و حكومات ،و وقعت بينها و بين غيرها من الدول حروب وملحم ،فهل علمتم أن دولة من دول الباضية
استحلت َأمْوَالَ الناس من أهل القبلة ،أو دمائهم بغير حق ؟ ،بل وحتى الغدر و الخداع في الحرب ،مع َأنّ
عةٌ [ ]35بشهادة رسول ال -صلى ال عليه و سلم . )3( - خ ْد َ
الحرب ُ
َأمّا الباغي على المسلمين فواجب المسلمين قتاله ،حتى يفيء إلى أمر ال ،عملً بنص القرآن ،إذ قال ال عز
خرَى فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى َأمْرِ الِّ " ( )4الية ،و هكذا عمل
حدَا ُهمَا عَلَى الُْ ْ
وجل " :فَإِن بَغَتْ إِ ْ
المام الول بعمان الجلندى بن مسعود ( - )5رحمه ال -لما قضى على شيبان الخارجي ( )6فقبض على
سيفه ،و خاتمه ،و جعلهما أمانة لِ َورَثته .
خزَ ْيمَة ( )7الذي خرج لقتاله ،و وجده مقتولً بسيوف العمانيين ،قال له المام و لما طلبهما منه خَازِمُ بن ُ
الجلندى " :لست أنت الوارث لشيبان ،و هذا مال يرجع للوارث " ،فقال خازم " :أنا كنت طالب قتله ،و أنت
كفيتنا إياه ،فسلّم لي الخاتم و السيف حتى أرجع إلى الخليفة و أخبره بذلك ،بل و أعلن له أنك َتمْتَثِلَ أمره " ،
فأجابه :بل يرضي له دينه ذلك ،أي أن يعترف له بطاعة سلطان بغداد ،و أفاده بأنّه إذا جاء الوارث يسلم إليه
ذلك ،لنّه ماله ،و أموال أهل القبلة لهم ل يحلها الحرب .
غرّة فطمع ح َمتْ لهذا المام المرضي -رحمه ال ، -و لعل خَازِماً رأى بالمسلمين له ِ
و كأنّها فتنة أخرى زَ َ
فيهم ،و أظهر للمام غضباً على عدم تسليم السيف ،و الخاتم ،و الخطبة لسلطان العراق .
شعْوَاء ( )8على المام ومن معه ،و كأنّهم في قِلّة إذ ذاك ،و لم يظنوا َأنّ الرجل يطلب منهم غير و إذ ذاك شَنّها َ
سرّه ذلك منهم ،فيرجع عنهم شاكراً لهم ،و إذا به يشُنّها شَ ْعوَاء
ذلك ،بل ظنوا أنه لمّا وجد خصمه مقتولً َ
حامية بغير موجب ،بل َبغْياً ،و عدواناً بغير حقّ ٍ ،و ل أدنى شيء يعرف في دين المسلمين سوى ذلك .
=========================
( )1الحجرات . 9 :
( )2أخرجه الربيع بن حبيب في ( كتاب الجهاد -17باب جامع الغزو في سبيل ال ) ص 188رقم ، 464و أخرجه البخاري في ( -2كتاب اليمان
-17باب فإن تابوا و أقاموا الصلة ) ( ) 1/26رقم ، 25و أخرجه مسلم في ( -1كتاب اليمان -8باب المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل ال
) 51 /1 ( ) ...رقم ، 32و أخرجه الترمذي في ( - 41كتاب اليمان -1باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ) ( )3 /5رقم
، 2606و أخرجه أبو داود في ( -15كتاب الجهاد -95باب على ما يقاتل المشركين) رقم 2640ص ، 381و أخرجه ابن ماجه في ( -36كتاب
الفتن -1باب الكف عمن قال ل إله إل ال ) رقم 3927ص ، 563و أخرجه الدارمي في ( -17كتاب السير -10باب في القتال على قول النبي صلى
ال عليه و سلم أمرت أن أقاتل ) 2/178()...رقم ، 2446و أخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة ( ) 75 / 2رقم ، 1866و أخرجه البيهقي في السنن
الكبرى ( ) 5 / 2رقم ، 2199و أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( ) 160 /11رقم 11487و في المعجم الوسط ( ) 384 /1رقم ، 945و
أخرجه ابن حبان في ( -5كتاب اليمان -4باب فرض اليمان ) ( ) 400 /1رقم ، 174و أخرجه الطحاوي في شرح معاني الثار ( ، ) 216 /3و
أخرجه الروياني في مسنده ( )432 /3و أخرجه أبي يعلى الموصلي ( ، ) 50 /1و أخرجه عبد الرزاق في المصنف ( . )44 /4
( )3أخرجه البخاري في ( -51كتاب الجهاد -157باب الحرب خدعة ) ( ) 257 /2رقم ، 3030و أخرجه مسلم في ( -32كتاب الجهاد و السير -5
باب جواز الخداع في الحرب ) ( )1361 /3رقم 1738و ، 1740و أخرجه الترمذي في سننه في ( -24كتاب الجهاد -5باب ما جاء في الرخصة
في الكذب و الخديعة في الحرب ) ( ) 193 / 4رقم ، 1675و أخرجه أبو داود في ( - 15كتاب الجهاد -92باب المكر في الحرب ) ص 380رقم
2636و ، 2637و أخرجه ابن ماجه في ( -24كتاب الجهاد -28باب الخدعة في الحرب ) ص 409رقم 2833و ، 2834و أخرجه أحمد بن
حنبل في ( ) 470 /1رقم 696و . 697
( )4الحجرات . 9 :
( )5الجلندى بن مسعود بن جيفر الزدي ( ت 134هـ ) أول إمام نصّب في عمان ،و هو إباضي قاتل شيبان الخارجي ،و قتله خازم بن خزيمة .
العلم (. )133 / 2
( )6شيبان بن عبد العزيز اليشكري ( ت 134هـ ) من أمراء الخوارج و قادتهم و شجعانهم ،ومن قادة الصفرية ،قام بثورة ضد مروان بن محمد و
قتل في عمان .العلم ( . ) 180 / 3
( )7خازم بن خزيمة بن عبدال بن حنظلة النهشلي ( مات في حدود 136هـ 158 -هـ) أبو هزيمة ،صاحب شرطة بني العباس ،و قتل العنـزية ،و
ولي عمان ،و مات ببغداد ،فعزّي عنه أبو جعفر .المعارف ص ، 417و جمهرة أنساب العرب ص . 230
( )8غارة شعواءُ أي فاشية متفرقة ( مختار الصحاح ) 143 /مادة ( ش ع ا ) .
ع ْمدَة مذهبهم ،أبي الشّعَثاء جَابِر بن زيد -رحمه ال -و قد َوثّ َقهُ الكُلّ ،و
و انظر في فتاوى إمام الباضية ،و ُ
اعتمد عليه أهل العلم ،و قَلّ أن يخلو مُؤّلفٌ من مُؤلَفَات المسلمين على اختلف مذاهبهم ،و تباين منازعهم ،
إل و جابر بن زيد جمال ذلك المؤلف ،و لم يعرف في فتاوى المام المذكور ،و ل في منقولته شيء عن هذا
الذي يقال ،و هو تلميذ ابن عباس -رضى ال عنهما -و كان تابعياً كبيراً ،ولد سنة 22للهجرة ،و توفي سنة
96منها ،و قيل سنة ، 103و الشهير الول .
وقد كان مُعَاصراً للخلف الذي وقع بين علي بن أبي طالب ،و أصحابه من الصحابة الذين تحيزوا عنه
بالنّهروان ،فحمله قومه الطغاة كالشْعَث بن قَيْس الكندي ،عميل معاوية ،و دسيسته على علي بن أبي طالب ،
و كان جابر بن زيد يرى بطلن التحكيم ،كما رآه علي بن أبي طالب ،لكن كان الرأي الفعّال ما يراه الجيش ل ما
يراه المام ،فإنه سار إلى النهروان ليتفق مع إخوانه ،و ترتبت القضية على ذلك بعد مراسلت ،و مخابرات
من صلحاء المسلمين ،كما ذكرناها في التاريخ .
و كان الشعث و أعوانه يرون َأنّ الذين اجتمعوا بالنّ ْهرَوَان هم الخطر على معاوية إن كانوا مع على بن أبي
طالب ،أو [ ]37كانوا وحدهم فهم أعداء معاوية -الذي شَقّ عصا المسلمين ،ورام فتنتهم ليتسلط على المر -
ستِراً بالعمل
فحمل علياً المسير إلى القوم ،بأي صفه تكون ،و هو يعمل الحِي َلةَ ُ ،متَظَاهراً ب ُنصْرَة علي ،و مُ َت َ
لمعاوية ،لنّ أهل الدنيا يعرفون أصحابهم من غيرهم ،كما كان عمرو بن العاص .
و لمّا وصلت بَوَا ِدرُ الجيش إلى النهروان َأشْعَلُوها ناراً حمراء ،فلم [يدرِ]( )2علي بن أبي طالب إل و الجيش في
ع ِملََت ،و لعله لما سئل عن السبب قيل له أن القوم
قتال ،و الرؤوس تتهاوى كا ُل َكرِ( ، )3وهي المكيدة التي ُ
علّقُوا عليهم الغدر و ل يبالون ،كما نسبوا إليهم قتل الرجل و زوجته ،و أضافوا إليهم ابتدأوا بالحرب ،و ربما َ
شنائع لِ َي َت َذ ّرعُوا بها على قتلهم .
وماذا يقول علي إذ ذاك ؟ ،و رَحَى الحرب َتدُور ،فلم يملك من المر شيء؛ َلنّ أهل الغراض قالوا الن نشعلها
ناراً ل يقدر على إطفائها علي ول غيره ،فإذا احترق النهروانيون بلهبها ،استراح معاوية و صحبه من علي و
آل علي ،فكان المر كذلك .
و ماذا يقول علي و المر حسب الظاهر في صالحه ،فلو قال إنّا لم نجءِ لهذا ،و إنّما جئنا للمفاوضة ،لقيل له
ِإنّ القوم غادرون بنا و بك ،و ابتدأونا بالقتال ،فلم نرَ إل مقابلتهم بذلك ،و كما أخبرناك أنهم قطعوا الطريق ،
و فعلوا تلك الفعال الشنيعة التي أبلغناك إياها ،و الغرض الحقيقي معروف .
و بذالك انهارت إمامة على بن أبي طالب ،حيث لم يجد مناصراً على معاوية ،و ل وجد ذلك النشاط الذي وجده
في القيام على أهل النهروان .
فانظر أيها العاقل لو فرضنا َأنّ الذي [ُ ]38نسِبَ إلى النهروانيين صحيح ،فأين ذلك من فعل معاوية في
جرّار ،و وقع ما وقع حتى إذا أحسّ بالغَلَ َبةِ ،لجأ إلى
المسلمين ؟؟! ،إذ جاء لقتالهم في صفين بذلك الجيش ال َ
و إنما الجور و الظلم و البغي من النهروانيين !! ،إذ قتلوا امرأة و زوجها على فرض الصّحة ،و حاشا القوم
أن يكونوا فعلوا شيئاً من ذلك ،إذ ذلك من أفعال السّباع ،ل من أفعال الذين أَ َكلَتْ الرض جباههم ،و جنوبهم ،
عند الركوع ،و السجود .
انظر أيها العاقل كيف يفعل أهل الدنيا بأهل الدين لجل دُنْيَاهم !!.
خ َدعُ بالكاذيب فيظنّ الصدق ،و عندما يقع في
أما علي بن أبي طالب في نفسي أُ ْك ِر ُمهُ عن ذلك ،و إنّما الرجل يُ ْ
المر يحتار ،و لعله يكله إلى المبتلى به،و يتذرع بذلك .
فإنّه منذ بداء أمره على هذا السلوب ،يرى المر له ،و إذا به في غير شيء ،و كان مُ ْغرَماً بالخلفة ،فابتلي
بها فلم تستقم له ،و عَاصَت( )4عليه ،و لم يستقر قرار ،فل فتوح و ل قرار للمسلمين من أول يوم .
ُ()6
=============================
( )1انظر للمزيد تحفة العيان ( ) 95 / 1و عمان عبر التاريخ ( . ) 250 / 1
( )2غير واضحة في الصل ،و لعلها هكذا .
( )3الُكر :جمع أُ ْك َرةٌ÷ ،و هي الكرة التي يلعب بها ،و هي لغة من لغات العرب .لسان العرب ( ) 125 / 1مادة ( أ ك ر ) .
( )4عَاصَت :أي اشتدت عليه ،يقال اعتصت النواة أي اشتدت ،و تعصّى المر إذا اشتد ( القاموس المحيط ،ص )1692مادة (ع ي ص ) .
( )5الكامل في اللغة و الدب ( . ) 114 / 2
( )6البيت للمتنبي من قصيدة مطلعها :
عرَضا نظرتُ و خلتُ أني أسلمُ
لهوى النفوس سريرة ل تعلــم َ
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى لخوك ثمّ أرقّ منك و أرحـمُ
( شرح ديوان المتنبي لبعد الرحمن البرقوني ( ) . )254 /4
ظةَ ال ُك ْفرِ على العاصي[ ]39كما أطلقها القرآن ؛ فإن المراد به
فقد أطلق رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لَفْ َ
كُ ْفرِ النعمة ،ككفر شارب الخمر ،و الزاني ،و السارق ،و نحو ذلك .
فيقال له كافر ،و فاسق ،و ضال ،و عاصٍ ،و هالك ،و هكذا ،و ذلك أنّ المسلم المعترف بالسلم ،إذا
خرُجَ عن حكم السلم ،فيحل شرِكاً ،حتى يَ ْ
ارتكب مَنَاهي السلم ،لم يكن مسلماً بالمعنى الصحيح ،و لم يكن ُم ْ
ماله و دمه ،لما عرفت من معنى الحديث المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ...الحديث ،فهو مسلم
لعترافه بالسلم ،فاسق لخروجه على أوامره المحرمة به ،و ثبت كفره بالقرآن ،قال ال -عز و جل " : -
حجّ ا ْلبَيْتِ َمنِ
َومَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أَنزَلَ الّ فَأُ ْولَـ ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ " ( )1و قال -عزّ و عل " : -وَلِّ عَلَى النّاسِ ِ
سمّي صاحب الكبيرة كافراً ،فهل عنِ ا ْلعَا َلمِينَ " ( )2فترى القرآن ُي َ
اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلً َومَن كَ َفرَ فَ ِإنّ ال غَنِيّ َ
تراه مشركاً حلل الدم و المال ؟ ،فإنّما كانت جريمته عدم الحكم بما أنزل ال في الية الولى ،و في الثانية
تهاون بأ ْمرِ الحج ،و كلهما من كبائر الذنوب .
ولما أعيى هذا الحال على قومنا معرفة المراد به َ ،تكَلّفُوا فيه التأويلت التي ل تتناسب بالمقام .
و المراد [ ]40بكفر النعمة عند الصحاب هو كونه نال الهدى من ال فصار مسلماً ،و المسلم ل يعصى المنعم
عليه بذلك الفضل العظيم الذي َمنّ ال به عليه " :لَ َيزْنِي الزّانِي حِينَ َيزْنِي و هُوَ مُؤ ِمنٌ " ( )6بل يسلب عنه
اليمان باقتراف الزّنا ،و المراد بالفاسق الخارج عن خُطّة الدّين ؛ فإن الفسق في اللغة الخروج ( ، )7و ل
يعنون بالكافر المشرك ،و لكنّ قومنا يخالفونا لمّا لم يفهموا معنى الكفر ،و سمعوا الباضية يقولون به ،قالوا
إنّ الباضية يجعلون أهل القبلة مشركين ،و يكون بذلك استحللهم الدماء و الموال ؛ لنّ المشرك ذلك الحكم
فيه وارد في الكتاب و السنة .
و لذلك أيضا أطلقوا عليهم اسم الخوارج ،لنّ الخوارج مذهبهم حِلّية أموال أهل القبلة و دماءهم ،لنّهم
مشركون معهم تَ ْفرِيعاً على معنى الكفر الذي فهموه ،فنشروا عن الباضية ذلك و لم يقولوه ،و ل فعلوه ،بل
علقوه عليهم زوراً ،و بُهْتَاناً .
===============================
( )1المائدة . 44 :
( )2آل عمران . 97 :
( )3أخرجه البخاري في ( -3كتاب العلم - 43باب النصات للعلماء ) ( ) 50 /1رقم ، 121و أخرجه مسلم في ( -1كتاب اليمان -29باب بيان
معنى قول النبي :لترجعوا ) 82 - 81 /1 ( )...رقم 118و ، 120و أخرجه الترمذي في ( -34كتاب الفتن -28باب ما جاء ل ترجعوا بعدي كفارا
) ( )486 /5رقم ، 2193و أخرجه النسائي في ( -37كتاب تحريم الدم -29باب تحريم القتل ) ( ) 126 / 7رقم 4125و ، 4126و أخرجه أبو
داود في ( - 39كتاب السنة -15باب الدليل على زيادة اليمان و نقصانه ) ص 662رقم ، 4686و أخرجه ابن ماجه في ( -36كتاب الفتن -5باب
ل ترجعوا بعدي كفارا ) ص 566رقم 3942و ، 3943و أخرجه الدارمي في ( -5كتاب المناسك -76باب في حرمة المسلم ) ( )59 /2رقم 1921
،و أخرجه أحمد في مسنده رقم ) 495 /2 ( 2036و أخرجه ابن حبان رقم . )314 /13 ( 5975
( )4أخرجه الترمذي في ( -1أبواب الطهارة -102ما جاء في كراهية إتيان الحائض ) ( ) 242 /1رقم ، 135و أخرجه أبو داود في ( -1كتاب
الطب -21باب في الكهانة ) ص 554رقم ، 3904و أخرجه ابن ماجه في ( -1كتاب الطهارة -122باب النهي عن إتيان الحائض ص 90رقم
، 639و أخرجه الدارمي في ( كتاب الطهارة -144باب من أتى امراته في دبرها ) ( ) 178 /1رقم ، 1136و أخرجه أحمد بن حنبل رقم 9502
ف ِإنّ الباضية أبعد من ذلك ،فإن المام سعيد بن عبدال بن محمد بن محبوب ( – )1رحمه ال و رحم آباءه
سفَ بن وجية ( )3في نزوى لمّا اصطلمها ( )4المامالكرام – اهتمّ ب ّرزّة ( )2بابٍ فُ ِقدَت في معسكر السلطان يُو ِ
الرحيلي فتتبعها حتى جيء بها إليه فردها على صاحبها (.)5
و مصداق ذلك هذا القرآن ينطق صراحةً بقاعدة الباضية في معنى الكفر الذي يقول به الباضية ،أل تسمعه في
عنِ
حجّ الْبَ ْيتِ َمنِ اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلً َومَن كَ َفرَ فَ ِإنّ ال غَنِيّ َ
علَى النّاسِ ِ
الية التي مرت عليك يقول " :وَلِّ َ
الْعَا َلمِينَ "( )6فسمى تارك الحج تهاوناً كافراً ،و كذلك قوله عن من قائل " :لِيَ ْبلُوَنِي َأأَشْ ُكرُ أَمْ أَكْ ُفرُ َومَن شَ َكرَ
غنِيّ َكرِيمٌ " (َ " )7ومَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أَنزَلَ الّ" ....اليات ( ، )8أتراه يا سهِ َومَن كَ َفرَ فَ ِإنّ رَبّي َ
ش ُكرُ لِ َن ْف ِ
فَإِ ّنمَا َي ْ
سرّ في الفهم عند أهل أخي [ ]41يريد الشّرك و يحكم عليهم به -تعالى ال عن ذلك -فافهم عن ال ،فإنّ ال ّ
العلم .
شرِكاً و في السنة من هذا القبيل كما قلنا شيء كثير و منه َ " :منْ أَتَى ال ّنسَاءَ في َأدْبَا ِر َهنّ فَ َقدْ كَ َفرَ " ()9أتراه ُم ْ
خشْ َيةَ النّارِ َف َقدْ كَ َفرَ " ( )10فإن قلت كما نقول نحن مع قوله -صلى ال علية وسلم – َ " :منْ َت َركَ قَتْلَ الحَ ّيةِ َ
حرْ َثكُمْ أَنّى شِ ْئتُمْ
حرْثٌ لّ ُكمْ فَ ْأتُواْ َ
فقد عرفت أن الكفر هنا المراد به كفر النعمة ؛ لنّ ال قال في النساء " ِنسَآؤُكُمْ َ
جعُوا َب ْعدِي كُفُاراً "( )11و ذلك كلم الرسول في إتيانهن في الدبار ،و كذلك قتل الحية ،و حديث " :لَ َترْ ِ
صحّ ،و لو صح لكان أهل الجمل ،و ضرِبُ بَ ْعضُكُم ِرقَابَ بَ ْعضٍ " ( )12أتراهم مشركين؟؟ ،ل و ربك هذا ل َي ِ َي ْ
صفين كفاراً مشركين ،و لم يقل بذلك عاقل فيما علمنا .
و كذلك جاء أيضا " :ال ّرشْ َوةُ في الحُ ْكمِ ُك ْفرٌ " ( )13و عنه – صلى ال عليه و سلم – " ال ُم ّدعِي مَا لَ ْيسَ َلهُ و
المُنْ ِكرُ ِلمَا عَلَيهِ كَافِرَانِ " ( " ، )14و لَ ْيسَ بَ ْينَ العَ ْبدِ و الكُ ْفرِ إلّ َترْ ُكهُ الصّلةَ " ( )15هذا قليل من كثير و هو
س ْمعَ َوهُوَ شَهِيدٌ " (.)16
كافٍ لبيان الحجة و إيضاح المحجة ِ " :لمَن كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ أَوْ أَ ْلقَى ال ّ
فترى الرسول – صلى ال عليه و سلم – أطلق الكفر على مرتكبي هذه الجرائم ،و ل يعني به الشرك ،و قد قال
بقولنا هذا كثير من أهل العلم حين لم يجدوا مناصاً عن مقتضى الدلئل المشار إليها ،و لم يقدروا على الحكم
بتشريك لهل القبلة ،و لو قالوا به لنتقضت أصولهم الهامة ،و تلشت قواعدهم العامة ،و فسدت عقائدهم ،و
ضلوا ضللً بعيدا (. )17
()18
=======================================
( )1المام سعيد بن عبدال بن محمد بن محبوب الرحيلي (ت 328هـ ) أحد أئمة الباضية في عمان ،بويع على أثر فتن كثيرة في عمان ،و استقر له
المر حوالي سنة 320هـ ،و كان فقيها عالما بالدين ،حسنت سيرته و اطمأن الناس في أيامة و استشهد في أحدى الوقائع .تحفة العيان ( ) 275 /1
و الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان ص . 61
( )2ال ّرزّةُ :الحديدة التي يدخل فيها القفل ( مختار الصحاح )101 /مادة (ر ز ز ) .
( )3يوسف بن وجيه ( ت قبل 345هـ ) شهر بصاحب عمان ،توجه إلى عمان سنة 331هـ ،و ملك البّلة ،و قارب أن يملك البصرة مرتين ،و لكنه
انهزم في كليهما :الولى سنة 331هـ ،و الثانية 341هـ ،ثار عليه غلمه نافع ،و ملك البلد بعده .الكامل في التاريخ [ طبعة صادر و دار بيروت ] (
. )565 ، 496 ، 417 ، 400 ،399 / 8
( )4اصطلم :اقتلع ،لسان العرب ( )275 /8مادة ( ص ل م ) .
( )5تحفة العيان ( . ) 276 / 1
( )6آل عمران . 97 :
( )7النمل . 40 :
( )8اليات هي :
ل َفُأوْلَـ ِئكَ هُمُ الْكَا ِفرُونَ " المائدة 44 :
" وَمَن لّمْ َيحْكُم بِمَا أَن َزلَ ا ّ
ل َفُأوْلَـ ِئكَ هُمُ الظّالِمُونَ " المائدة 45 : " وَمَن لّمْ َيحْكُم بِمَا أن َزلَ ا ّ
سقُونَ " المائدة 47 :
ل َفُأوْلَـ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
" وَمَن لّمْ َيحْكُم بِمَا أَن َزلَ ا ّ
( )9انظر الجامع الصحيح الجزء الثالث ص 290رقم 748حيث روي مرسل ،و أخرجه بمعناه أصحاب السنن ،فانظر حديث (( من أتى حائضا أو
امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد )) ،و قد سبق تخريجه .
( )10أخرجه أبو يعقوب الوارجلني في زيادات الجامع الصحيح مرسل ص 289رقم . 744
( )11البقرة . 223 :
( )12سبق تخريجه ،ص . 58
( )13أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( )226 /9رقم 9098و 9099و 9100و . 9101
( )14أخرجه الربيع بن حبيب ( كتاب الحكام – 35باب الحكام ) رقم الحديث ، 591ص . 234
( )15أخرجه الربيع بن حبيب في ( كتاب الصلة -48باب جامع الصلة ) رقم 303ص ، 125و أخرجه مسلم في ( -1كتاب اليمان -35باب بيان
إطلق اسم الكفر على من ترك الصلة ) ( ) 88 /1رقم ، 134و أخرجه الترمذي في ( -41كتاب الصلة -9باب ما جاء في ترك الصلة ) ( / 5
) 13رقم 2618و ، 2619و أخرجه النسائي في ( -5كتاب الصلة -8باب الحكم في تارك الصلة ) ( )231 /1رقم ، 463و أخرجه أبو داود في
( -39كتاب السنة -14باب في رد الرجاء) رقم 4678ص ، 661و أخرجه ابن ماجه في ( -5كتاب القامة -77باب ما جاء فيمن ترك الصلة رقم
1080ص ، 151و أخرجه الدارمي في ( -2كتاب الصلة -29باب في تارك الصلة ) ( )197 /1رقم ،1233أخرجه أحمد بن حنبل في المسند رقم
. )472 / 16 ( 22833
( )16ق . 37 :
( )17انظر السيف الحاد ص 50
( )18قائل البيت أبو العتاهية من قصيدة مطلعها:
أما وال إنّ الظّلم لومُ و لكنّ المسيئ هو الظلومُ
(ديوان أبي العتاهية . ) 353 /
[ ]42فما معنى إيهام الناس في المجلت و الجرائد أنّ الباضية يحكمون بالكفر على الناس ،و ي َنوّهون بذلك
بالتشريك المبيح للدم ،و المال ،و السبي للمسلم ،و نحو ذلك ؟؟.
فإنّ الباضية يأملون لهل المعاصي الرجوع إلى ال بالتوبة ،و التّ َنصُل من الذنوب ،و بذلك يعفو ال عنهم و
يثيبهم ،فيكونون مع إخوانهم في الجنة بفضل ال تعالى و رحمته ،و قد علمت أنّ باب الجنة مفتوح للعصاة
بالتوبة ،ممنوح لمن طلبه من أهل الجرائم و الثام .
و على كل حال فإنّ الباضية يقدمون الكتاب على السنة و غيرها ،إل إذا لم يجدوا ذلك فيه رجعوا إلى السنة
النبوية الصحيحة فحكموا بما تقتضيه ،فإذا لم يجدوا في السنة ذلك حكموا بما أجمع عليه المسلمون ،و إل
اجتهدوا حيث يتعذر وجود النص من الكل ،و ذلك غاية المستطاع ،و ال ولي التوفيق .
[ الشرح ]
اعلم أنّ اسم الباضية أو الباضيين عند أهل المذهب ،علمٌ على هذا السواد العظم ،و الجيل الكرم المتشرع
بالشريعة السلمية ،الثابت على القواعد الدينية ،القائم بالواجبات اللهية ،الحافظ [ ]43للحقوق الشرعية ،
عدّة أفاق من دنيا المسلمين ،المنتشر في العراق العربي قديماً ،الراسخ القدام بعمان شعباً عظيماً ،
المالئ ِ
القاطن من المغرب صقعاً كريماً ،الناشر أعلمه بحضرموت حتى نهاية القرن السابع للهجرة إماماً ،و أميراً ،و
زعيماً ،الذي له بعمان خمسة و ثمانون َملِكاً و إماماً ،و له في المغرب ،و صنعاء اليمن ،و حضرموت قريباً
من ذلك .
فاسم الباضية عََلمٌ على هذه المم في هذه الصقاع ،يعلمه كل أحد من المسلمين و غيرهم ،و هذه التسمية
جاءتنا من مخالفينا ،فَ َقبِلْناَها غير مُتَ َب ّرمِين منها.
و ذلك حين عَِلمَ ِمنّا مخالفونا تأييد عبدال بن إباض في أقواله للملوك المويين ،وقد شُ ِهرَنا بذلك منذ أمير
المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه ال ، -و قضية وفدنا إليه معلومة ،و ما قالوه من القوال مفهومة لدى
سمّونهم أمير المؤمنين ،أضافونا إليه أهل التاريخ ،و لمّا رأوا منا موافقة عبدال بن إباض في إنكاره على َمنْ ُي َ
فتراهم إذا ذكروا الحوادث المذهبية ،و جاء منها على منهج هذا الفريق قالوا ذلك للباضية ،أو هو قول
الباضية ،أو قال بذلك الباضية ،فشاعت تلك التسمية شيوع هذه المة .
و هذا أمرٌ شائع عند العرب َ ،منْ رأوه يؤيّد قوماً ،أو نهج منهج قومٍ ،أضافوه إليه [ ]44خيراً كان أو شراً ،
مدحاً كان أو قدحاً ،و هكذا فشاع ذلك في العالم السلمي ،فكانت الباضية جمال الدين في العالم ،و زينة
السلم بين العوالم ،إذ أقامت الباضية الئمة لنصرة الدين ،و حماية الشريعة ،و صيانة الملّة ،في هذه
ال ّرقْعَة الوسيعة .
شمَاخِي ( – )2رحمه ال – " في القولو كان ابن إباض – رحمه ال – في جبهة الطليعة الحرة ،قال الشيخ ال ّ
المتين في الرد على المخالفين " " :و أمّا تسمية مذهبنا بالباضية فلكون عبدال بن إباض – رضي ال عنه –
كان المجاهد علناً ،المناضل في سبيل تحقيق الحقائق ،و تصحيح قضايا العقول في ما أحدثه أهل المقالت ،و
البدع من الزور ،و الفتراء في شريعة ربنا ،و كان شديداً في ال تعالى ،و له مناظرات مع أهل التّنطس ()3
و التفلسف ،كانت الحجة الدامغة التي يَخْ َنسُ ( )4أمامها كل َثرْثَار ".قال " :وله كلم مع عبد الملك بن مروان
يَ ْهضِمُ نفس كل جائر جَبّار ،فغلب على المسلمين أصحابهِ الذين يقولون بقوله الباضية " ،قال " :و تسمى
المذهب باسمه على هذا المعنى )5( ".
و قوله " :لحلفاء الحق " بالحاء المهملة جمع حليف ،بمعنى مُحَالف للحقّ ،و المراد به الملزم له كملزمة
خلَفَاء الحق جمع خليفة ،و المراد به أئمّة المسلمين ،
الحليف الحليفة أي محالفة ،أو هو بالخاء المعجمة ،و ُ
فهم الذين يصدق عليهم اسم خلفاء الحق ،لثباتهم عليه ،فالخلفاء بمعنى الئمة ،سواء كانوا المسمّين بالمامة
العظمى ،أو هو أعم من ذلك ،و هو المراد به على الشاهر الصحيح ،ل كل من يشمله اسم الباضية ،فإنّ في
الباضية كغيرهم من المم ظلمة ،و جبابرة ،ونحوهم .
=============================
( )1هذا الكتاب من مطبوعات وزارة التراث و الثقافة بسلطنة عمان ،بتحقيق سيدة إسماعيل كاشف سنة 1979م .
( )2قاسم بن سعيد بن قاسم الشماخي العامري ( ت 1334 :هـ 1916 /م ) كان من أبرز من أنجبتهم يفرن بجبل نفوسة ،نزل بمصر ،و أنشأ مجلة
النبراس ،و له عدة مؤلفات منها الحكمة في شرح رأس الحكمة ،و سرد الحجة على أهل الفصلة ،و غيرها .معجم أعلم الباضية ( . ) 721 /4
( )3التنطس :المبالغة في التطهر ،و كل من أدق النظر في المور و استقصى علمها فهو متنطس ( .مختار الصحاح ) 277 /مادة ( ن ط س ) .
( )4خنس تأخر ،و أخنسه غيره أي خلفه و مضى عنه ( مختار الصحاح ) 80 /مادة( خنس ) .
( )5القول المتين ص . 103
قال في "ضحى السلم "( )1في الجزء الثالث صفحة 336بعد أنْ ذكر الخوارج ،وكان يعد الباضية منهم تبع ًا
لغيره [ ]45قال " :من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج َم ْذهَبٌ مفلسف ،و ل فقه واسع منظم ،و ل نحو ذلك ،
إل ما كان من الباضية أتباع عبدال بن إباض الخارجيّ الذي مات في عهد عبد الملك بن مروان " ،قلت :و
صفه بذلك تَنْفِيراً للناس من الحقّ ،و لكنّه رغم أعدائه شاهر ظاهر ،قال " :فإنّ هذه الفرقة عاشت ،و انتشرت
في شمالي إفريقية ،و في عمان ،و حضرموت ،و زنجبار ،و استمرت إلى يومنا هذا ،فكان من الطبيعي أن
يكون لهم أصول اعتقادية ،و تعاليم فقهية "(. )2
و كذلك جاء في" الملل و النحل " للشهرستاني( )3قال " :الباضية أتباع عبدال بن إباض ،الذي خرج أيام
مروان بن محمد ،ف َوجّه إليه عبدال بن عطية ،فقاتله بَ ِتبَالَه( ، )4و قيل إنّ عبدال بن يحيى الباضي كان رفيقاً
له في جميع أحواله ،و أقواله ،و قال إنّ المخالفين من أهل القبلة كُفّار غير مشركين ،و مناكحتهم جائزة ،و
موارثتهم حلل ،و غنيمة أموالهم من السلح و ال ُكرَاع عند الحرب حلل "(. )5
قلت :لم يقل بذلك فيما علمنا أحد من الباضية ،فهو تلفيق ،و خطأ ،يراد منه معنى سيئاً في الباضية قال ":
و ما سِوَاهُ حرام ،و حرام سبيهم ،و قتلهم في السر غيلة ،إل بعد نصب القتال ،و إقامة الحجة " قلت :و هذا
هو الحق الذي جاء به الكتاب العزيز ،و السنة النبوية على صاحبها أكمل الصلة ،و أوفى السلم .
أمّا غنيمة أموال أهل القبلة فحرام في الحرب و السلم ،و إنما أجاز بعض المسلمين الستعانة بها في حربهم
نظراً منه فقط ،و بعد الحرب إذا خيف منهم التقوي بها إذا ُردّتْ إليهم ،أجازوا إتلفها حتى ل يتقووا بها ،كما
حرْقَ مزارعهم ؛ حتى ل تكون قوة لهم على بغيهم ، طعَ نخيلهم ،و َسرَ قلعهم ،و قَ ْ
أجازوا َهدْمَ حصونهم ،و َك ْ
خفِيّ ،و أصوله من الكتاب واضحة ( ، )6و كيف يخص الباضية بالستحلل السلح ،و و ذلك أمر غير مَ ْ
الكراع – حاشا [ ]46الباضية . -
قال صاحب "الملل و النحل " " :و قالوا – أي الباضية – دار مخالفيهم من أهل السلم دار توحيد" ،قال ":و
أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم "(. )7
قلت :ذلك احترام للسلم على العموم ،ف ِإنّ رسول ال – صلى ال عليه و سلم – كان يقبل الشهادة ممن قال ل
إله إل ال ،محمد رسول ال ،و أقام الصلة ،و آتى الزكاة ،و استقبل القبلة ،و أقام شعائر الحج ،قلت :و
هذا شأن الباضية مع أهل التوحيد .
و قال " :أيضا قالوا – أي الباضية – في مرتكبي الكبائر موحدون ل مؤمنون"( ، )8قلت :ذلك لنّ المؤمن ل
يرتكب الكبائر ،و ل يَقْ َت ِرفُ سيئات الذّنوب ،لحديث " :لَ َيزْنِي الزّانِي حِينَ َيزْنِي و هُوَ مُؤ ِمنٌ )9( "...الحديث
عرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُ ْؤ ِمنُوا وََلكِن قُولُوا َأسْ َلمْنَا وَ َلمّا
،فنفى عنه اليمان ،و يدل عليه قوله – عز و جل – " قَاَلتِ ا َلْ ْ
َيدْخُلِ الِْيمَانُ فِي ُقلُوبِ ُكمْ "( )10فظهر الفرق بين المؤمن و المسلم ،كما عمل بذلك الباضية فكل مؤمن مسلم ،
و ما كل مسلم مؤمن.
=============================
( )1هو أحمد أمين بن الشيخ إبراهيم الطباخ ( 1295هـ 1373 -هـ 1878 /م – 1954م ) عالم بالدب ،غزير الطلع على التاريخ ،من كبار
الكتاب ،مولده و وفاته بالقاهرة ،له عدة مؤلفات منها ضحى السلم و فجر السلم و ظهر السلم و النقد الدبي و غيرها .العلم ( . ) 101 / 1
( )2ضحى السلم ( . ) 336 /3
( )3محمد بن عبد الكريم بن أحمد ( 479هـ 548 -هـ ) أبو الفتح الشهرستاني ،من فلسفة السلم ،كان إماما في علم الكلم و أديان المم و مذاهب
الفلسفة ،له عدة مؤلفات منها :الملل و النحل و نهاية القدام في علم الكلم و مصارعات الفلسفة و غيرها .العلم ( . ) 336 / 3
( )4تبالة :بلدة بأرض تهامة في الطريق إلى صنعاء .معجم البلدان ( . ) 428 / 1
( )5الملل و النحل ص . 134
( )6صاحب هذا الرأي هو الشيخ العلمة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي ،حيث أجاز إتلف أموال البغاة من أهل القبلة ،و لكن اعترض عليه الشيخ
جمعة بن خصيف ،قائل له " :من أين ينساغ إتلف أموال المحاربين من أهل القبلة ،و هدم حصونهم ،و في الجماع أن غنيمة أموالهم حرام ،و في
النظر أن تخريبها ،أو تملكها عليهم سيان في إخراجها من ملكهم ،فينبغي تسوية الحكم فيها في الوجهين ،إن جاز هذا جاز ذاك ،و= = إن منع ذا منع
ذاك ،و قد تساوى هذا الحكم في أموال المشركين ،فإن كان مستند الباحة في تخريب أموال أهل الحرب من بغاة أهل القبلة ،فعل النبي صلى ال عليه
و سلم بنخل يهود بني النضير ،فإن أولئك مشركين حلل غنيمة أموالهم ،فما بال أموال أهل القبلة ،لم تحل غنيمتها ،و قد حل تخريبها ،اكشف لنا
في ذلك من وجه افتراق الحكم لزلت كشافا للمعضلت ؟ .
فأجاب الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي – رحمه ال – و هذا نص جوابه " :و أين فهمك يا إنسان ،و من أين يصح في النظر أن تخريبها و غنيمتها
سيان ،و هما أصلن مختلفان أبدا ل يجتمعان ،قال ال تعالى " :فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال " ،و أجمعت المة المحقة من الصحابة و
من بعدهم على أن البغاة تعقر خيلهم و ركابهم ،و تقطع أسلحتهم ،و بكسّر ،و تؤخذ عنهم ،فهذا إتلف للمال .
و ل تقل إن ال تعالى إنما أمر بقتالهم في أجسادهم خاصة ،و ما هذا – لو قيل به – إل نوع برسام ،و إذا عرفت ذلك فقد ظهر أن إتلف مال يستعين به
البغاة على الحرب جائز ،و ليس هو من باب الغنيمة ،و ل يشبهه ،و بذلك تعرف أن البغاة إذا التجأوا بالحصون و لم يفيئوا إلى أمر ال ،أن هدمها
عرَاض ،و هي قبل الفعل بها يحصل الفعل " ،قال عرَضٌ من ال ْ
قال ":و حكى الكّعْبِي( )1عنهم أنّ الستطاعة َ
خلَقَكُمْ َومَا َت ْعمَلُونَ "( )2أي و عملكم في " :و أفعال العباد مخلوقة ل تعالى" ،قلت :نعم ؛ لنّ ال يقول َ " :
آيات ،و أحاديث تدل على ذلك ،فهي على كل حال مخلوقة ل عز و جل إحداثاً و إبداعاً .
سبَة للعبد "( ، )3قلت :نعم ؛ لنّ ال يقول في كتابه العزيز قال " :لَهَا مَا َكسَبَتْ َوعَلَيْهَا مَا ا ْك َتسَبَتْ"(
" و مُكْ َت َ
.. )4الية في أمثالها .
قال " :و ل يسمون إمامهم أمير المؤمنين "( ، )5قلت :هذا غلطٌ و غمزٌ ،بل يسمون إمامهم أمير المؤمنين ،
و إمام المسلمين ،و ل ُمشَاحّة في الصطلح على التسميات فإنها ألقاب .
ولعلهم يحترمون بذلك َقدْرَ أمير المؤمنين ،فإنّه كان للخلفاء الرّاشدين ،أو لعلهم تركوا ذلك لمّا سمعوا الناس
يقولون بأمير المؤمنين للفسقة ،و الظّلمة من الملوك العتاة ،و الجورة الطغاة [ ، ]47إلى ما حكى عنهم من
الخلل التي تدل على نزاهتهم ،و احترازهم من التسمي بما ل يليق بهم ،و لكل مقام مقال .
قال القطب – رضي ال عنه – في َردّه على العقبي الجزائري " :الباضية أصحاب عبدال بن إباض المري " ،
قال " :نحن أهل الحق َتحْقِيقاً ل تَ ْقرِيباً فقط ،و لسنا نستكمل بغيرنا ،بل غيرنا يستكمل بنا ،و إنّ كلم الدرعي
،و ابن حازم ،و ابن خلدون ،و ابن حجر ،كلم خير فينا ،ل كلم سوء ،بل جرت عادة العلماء بأن يقولوا
فلن ،أو هذا الكلم ،أو هذا العتقاد ،أو نحو ذلك ،أقرب إلى الحقّ ،أو أشبهه ،أو أمثل ،و يريدوا أنّه وافق
الحق "(.)6
و كان عبدال بن إباض بطلً باسلً صنديداً من صناديد العرب ،مِ ْقدَاماً ل يهاب الجبابرة ،و ل يرهب الظّلمة ،و
شرّهم ،أو يعتقدون لهم من الطّاعة
ل يحابيهم خلف غيره من بقية العلماء الذين يحابون المفسدين ،و يتقون َ
ما ليس لهم .
كان عبدال بن إباض ُمدَافِعاً عن الحقّ ،مناضلً لهل السوء ،مُعْ َترِضاً للباطل عن النتشار ،و الشاعة له في
صرُ في
بلد المسلمين ،محامياً عن أهل الحق ،مناصراً لهم ،سيفاً ماضياً ،ل ينثنى عن َردّ الباطل ،و ل يَ ْق ُ
مناصرة الحقّ حد استطاعته .
كان مدافعاً عن المسلمين إذ كان جمهورهم في العراق إذ ذاك ،كجابر بن زيد ،و الربيع بن حبيب ،و الخليل بن
أحمد ،و َمنْ هم من أضرابهم من أهل العلم ،كأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة( ، )7و ضمام بن السائب( ، )8و
كلهم أئمة علم ،و حملة شريعة السلم .
كان عبدال المذكور قامعاً لعداء الدين ،كان مؤمناً بال تقياً ،صَلْباً في الدّين ،براً نقياً ،صالحاً مصلحاً ،كان
علَيْنَا
جمْنَاكَ َومَا أَنتَ َ
طكَ َلرَ َ
ذا منعة في قومه ،و قوة من [ ]48عشيرته ،ذا بأس شديد في ال " :وَلَ ْولَ َرهْ ُ
جمُك خوفاً من رهطك ،و بذلك أنت لدينا عزيز ،و فينا قوي . بِ َعزِيز " ( )9لكنّا ل َنرْ ُ
عزّ الحنف بن قيس ( ،)10و أكبره معاوية ،إذ كان إذا سلّ سيفه سَلّ و ل يخفى حال تميم في العراق ،و لذلك َ
معه مائة ألف سيف ،هذه حالة عبدال بن إباض القومية ،و تلك حالته الشخصية و القبلية ،و حالته الدينية
شهيرة بالستقامة بين رجال الملة ،و أعلم الدين ،بلغت به بحيث نال الزّعامة المذهبية .
و قد شهد لعبدال بن إباض كثير من رجال العلم ،و زعماء السلم بالحق ،و كان في أيام عبدالملك بن مروان
.
قال في " فجر السلم " في الجزء الول صفحة ": 260الباضية نسبة إلى رئيسهم عبدال بن إباض
التميمي ،و ل َيزَال أتباعه في المغرب ،و غيره إلى اليوم " ،قال " :و هم لم ُيغَالُوا في الحكم " ( ، )11أي ل
غلو لديهم و ل في دينهم ،فإنّ ال ُمنْبَتّ ل أرضاً قطع و ل ظهراً أبقى ،إلى أن قال " :و قد ظهر عبدال ابن
إباض في النصف الثاني من القرن الول للهجرة " ،قال " :و عاش أتباعه في أكثر أحولهم مسالمين للخليفة
"( ، )12أي لم يشقوا عصى الطّاعة ما لم يكن لهم سلطان قوي على أهل الباطل ،و ل تلعب لديهم بالهواء ،
صدٌ خَا ِلصٌ ل ،و ل يميلون نحو كلّ ناعق .و ل ُيحَ َكّمُون العواطف المختصة ،ما لم يكن لهم َق ْ
طةٌ [ ]49عاليةً ،و دولةٌ و كان عبدالملك ظهر في أول النصف الثاني من القرن الول ،و كان مَلِكاً كبيراً ،له سُل َ
خشَ عبدال بن ع ْثرَةٍ لكثير من أغراض عبدالملك المذكور ،و لم َي ْ جرَ َ
قاهرةٌ ،فكان مع ذلك عبدال بن إباض حَ َ
إباض صولة عبدالملك بن مروان ،و هو السلطان ال ُمسَلّطُ ،و الملك القاهر ،إذ كان كل مقاصد عبدال بن إباض
ل ،و في ال ،فكانت له بذلك شُ ْه َرةٌ ،أضفت عليه ِلبَاسَ زعامة دينية َ ،تبِ َعهُ عليها أهل الحقّ فأضيفوا إليه ،و
ع ِرفُوا به ،فكان سورهم المنيع من جانب السلطان ،و ردءهم المكين ،و رئيس القوم لزعامته القبلية. ُ
=====================================
( )1عبدال بن أحمد بن محمود الكعبي ( 173هـ 319 -هـ ) من بني كعب ،أبو القاسم ،أحد أئمة المعتزلة ،كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية ،له
آراء و مقالت في الكلم انفرد بها ،و له عدة كتب منها تأييد مقالة أبي الهذيل ،و مقالت السلميين و غيرها .العلم ( . )66 /4
( )2الصافات . 96 :
( )3الملل و النحل ص . 134
( )4البقرة . 286 :
( )5المصدر السابق ص . 134
( )6إن لم تعرف الباضية يا عقبى يا جزائري ،ص . 51
( )7مسلم بن أبي كريمة التميمي ( ت 145هـ ) أبو عبيدة ،يعتبر المؤسس الثاني للباضية بعد جابر بن زيد ،و قد روى عن كثير من الصحابة ،
ومن هنا تعلم أنّ هذه المة التي أصبحت مشمولة باسمه ،و معروفة بمذهبه ،لم تتلمذ له ،ولم تُ َقّل ْدهُ في شيء
في تعاليمه ؛ لنّ عندها الرجال تُعرف بالحقّ ،ل الحقّ بالرجال .
ص ُدرُ عن أهل
فلم يكن عبدال بن إباض إمام مذهب خاص أخذ به أتباعه ،و قَّلدُوهُ فيه ،بل كان هو خاصة َي ْ
العلم منهم ،كجابر بن زيد ،و أبي عبيدة ،و إخوانهم ،فلم يكن هو من الشيوخ المؤسسين للمذاهب .
و ل كانت هذه المة على كثرتها تُ َقِلدُ شيخاً خاصاً في أقواله و أفعاله ،فتجعله المصدر لها ،و تعتمد عليه
كمرجعٍ خاصٍ لها ،و لو كانت كذلك لكان أبو الشعثاء العالم المجمع على علميته ،و ثقته ،و عدالته أحقّ بذلك
.
وقد شَ ِهدَ له كُلّ من عاصره من أهل الصّدر الول من هذه المة ،و ناهيك بشهادة ابن عباس – رضي ال عنهما
ح ّقهِ الكاذيب ؛ لترويج
– له كما تداول ذلك أهل العلم ،ما كان محتاجاً لن تُخَْلقُ له الحاديث ،أو تُخْ َتلَقُ في َ
علميته ،أو تقوم سلطة قهرية تجبر الناس على أقواله ،و على الخذ عنه .
ضدّ إخوانه ،فكم عاش و إياهم في السّجُون الجائرة القائمة بالتنكيل بهم [
ضدّه ،و ِ
بل لم َتزَلْ السّلطة القاهرة ِ
، ]50حتى عاشوا في مَغَارات الرض ،يضعون سلسلة على باب الغار ،الذي يدرسون فيه الثار النبوية ،فإذا
جاءهم أحد من الشرط ،أو الجواسيس تتحرك تلك السلسلة ،فيتركون ما هم فيه ،و يأخذون في عمل ال ِقفَاف ،
و إذا قيل لهم ِ :لمَا وجودكم هنا ؟ ،أجابوا :كافين أنفسنا حتى ل نسمع ،أو نرى شيئاً ل يليق .
ص ْدرِ السلم ،و المر جديد ،و العهد به قريب ،فالحمد ل الذي َمنّ علينا و هكذا كانوا رحمهم ال ،وهم في َ
بالسلمة من كل ذلك ،و له المِنّة كما هدانا للحق بإذنه " َومَا ُكنّا لِنَهْ َتدِيَ لَوْل َأنْ َهدَانَا الّ " (. )1
فنحن على هذا من أول العهد نعرف بالباضية معرفة تمييز ،و نحن أهل الستقامة ،و أهل الحق في السلم
تحقيقاً على قواعد الكتاب العزيز .
و أكبر علمائنا في الصدر الول المام أبو الشعثاء – رحمه ال – الذي لم َيخْلُ منه مؤلفٌ من مؤلفات أهل العلم
القدماء ،كالبخاري ،ومسلم ،و أبي داود ،و الترمذي ،و النسائي ،و غيرهم (. )2
جصّاصِ ( وما من مؤلف لهؤلء إل و اسم جابر بن زيد يلمع فيه ،و كذلك أهل التفسير لكتاب ال عز و جل ،كال َ
، )3و غيرهم من قدماء المفسرين ،إل أننّا كما قلنا ل نتحيز ِل َم ْذهَبٍ خاصٍ ،ونترك ما سواه ،بل َم ْذهَبُنَا مذهب
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
رسول ال – صلى ال عليه و آله و سلم – ومذهب ابن عباس ،و أبي هريرة ،و أبي سعيد الخدري ،و عائشة
أم المؤمنين ،و عبدال بن عمر ابن الخطاب ،و عبدال بن عمرو بن العاص ،و مذهب الخلفاء الراشدين .
فإنّ كان لهؤلء مذهب خاص فهو مذهبنا ،و إل فمذهبنا القرآن و السنة ،حللهما حللنا ،و حرامهما حرامنا ،
ل نَ ْبغِي بهما بديلً ،و ل ننهج عنهما سبيلً ،و ل نُقَّلدُ غيرهما إذا لزم التقليد ،هما اللذان أوصانا نبينا – عليه
الصلة والسلم – باتباعهما على كل حال ]51[.
قال شيخنا ابن جميّل – رحمه ال – ( )4في ميميته ،و هو يصف أهل المذهب – رحمهم ال –
مَا قَّلدُوا ا ْبنَ إِبَاض دِينَهُم أَبداً َكمَا َت َم ّذهَب بالتّقليدِ َأقْوَامُ ()5
قال العلمة البرادي ( )6في جواهره " :الباضية إمامهم عبدال بن إباض ،و ُنسِبُوا إلى أبيه ؛ لنّه أعرف من
عبدال ،و أشهر منه )7( ".
قال المام – رحمه ال – ( )8في حاشيته على العقبي " :و تسميتنا بالباضية للتمييز ل للتشريع ،و هو اسم
للمحقين من أمة محمد – صلى ال عليه و سلم – " ( )9أي أنّ اسم الباضية عََلمٌ على أهل الحقّ ،و مذهب
الباضية ل يزال عليه ،و الحمد ل بأدلة عقلية و نقلية .
علِيّ يَحْيَى مَ َعمّر ( [ )10في ] "نشأة المذهب الباضي " " :إذا َأ َردْنَا أن نؤرخ للمذاهب السلمية
قال العلمة َ
بنسبتها للمسلمين المعلمين الوائل ،الذين كان لهم التأثير الروحيّ ،و الثقافي الكبر على الناس ،فإنّ المذهب
الباضي يكون من أولها نشوءاً .
فقد كان ُمعَّل ُمهُ الكبر جابر بن زيد ،من كبار التابعين الذين نشروا الثقافة السلمية في القرن الول الهجري ،
وقد عاش هذا المام العظيم ما بين سنتي واحد و عشرين إلى ست و تسعين " ( ، )11و المعنى أنّه اصطحب
ذلك القرن من أوله حتى منتهاه ،فأّلفَ ،و علّمَ ،و ث ّقفَ ،و تكلّمَ ،و ق ّررَ الدعائم ،و وطئ الصول ،و م ّهدَ
ع َرفَها الناس ،
القواعد ،و جمع العلوم الدينية ،و الثقافية السلمية ،حتى قرّ َقرَارَها ،و تمهّدت أصولها ،و َ
فأخذوا منها بقبس هداها ،و استناروا بنور ضياها .
===================================
( )1العراف . 43 :
( )2انظر رواية الحديث عند الباضية ،لصالح بن أحمد البوسعيدي ،رسالة ماجستير ،ص . 192 -183
( )3أحمد بن علي الرازي ( 305هـ 370 -هـ ) أبو بكر الجصاص ،من أهل الري ،سكن بغداد و مات فيها ،انتهت إليه رئاسة الحنفية ،له عدة كتب
منها أحكام القرآن ،و أصول الفقه .العلم ( . ) 171 /1
( )4خلفان بن جميّل السيابي ( 1308هـ 1889 -م 1392 /هـ 1972 -م ) أبو يحيى ،من شيوخه نور الدين السالمي ،و أبو عبيدة حمد بن عبيد
السليمي ،كان من العلماء الذين لعبوا دورا قياديا في التاريخ العماني الحديث ،له عدة مؤلفات منها سلك الدرر الحاوي غرر الثر ،و جلء العمى مع
شرحها ،و فصول الصول ،و غيرها .مقدمة فصل الخطاب ص 5و مقدمة جلء العمى ص هـ -ل .
( )5لم استطع عزوه إلى مصدره .
( )6أبو الفضل أبو القاسم بن إبراهيم البرادي ( حي في 810هـ ) و لد بجبل دمر في الجنوب التنوسي ،من شيوخه يعيش بن موسى الجربي ،و الشيخ
أبي ساكن عامر بن علي الشماخي ،أصبح شيخا و عالما فقيها ،له عدة مؤلفات منها البحث الصادق و الستكشاف عن حقائق أسرار معاني كتاب العدل
و النصاف ،و الجواهر المنتقاة في إتمام ما أخل به كتاب الطبقات ،و غيرها .معجم أعلم الباضية ( . ) 708 / 4
( )7الجواهر المنتقاة ص . 156
( )8عندما يطلق المؤلف لفظة المام دون تقييد فإنه يقصد المام السالمي .
( )9الرد على العقبي ص ، 14حاشية رقم . 1
( )10علي يحيى معمر ( 1337هـ 1919 /م – 1400هـ 1980 /م ) ولد بمدينة نالوت بليبيا من أساتذته عيسى بن يحيى الباروني و رمضان بن
يحيى اللينى الجربي و إبراهيم بيوض ،و له عدة مؤلفات منها الباضية بين الفرق السلمية و الباضية في موكب التاريخ و غيرها .معجم أعلم
الباضية ( . ) 619 / 3
( )11الباضية في موكب التاريخ ،الحلقة الولى ( . ) 59 / 1
و اعلم أنّ أغلب المشاكل التي اختلفت فيها المة ،نشأت في الثلثين الخيرين من القرن الول ،قال " :و قد
صرَ الشّ ْه َرسْتانيّ هذه[ ]52في أربعة أصول كبار ،كما يقول ( : )1هي الصفات اللهية ،و ثم ال َق َدرُ ،ثم ال َعدْلُ
ح َ
َ
،ثم الوعد و الوعيد ،ثم السمع ،و العقل ،و الرسالة ،و المانة .
شرَحَ المسائل التي تندرج تحت قسم كل منها ،و الذي يعنينا من ذلك في هذا الفصل أن نشير إلى ما
قال " :ثم َ
أثير منها في القرن الول ،و اتخذ الباضية فيه مذهبهم مستندين إلى البراهين القاطعة ،و اليات المحكمات من
كتاب ال عز و جل ....
مما أثير في ذلك القرن مشاكل القدر ،و الصفات ،و الوعد و الوعيد ،كما أنّ قضية الخلفة قد استنفذت جهداً
كبيراً من رجال العلم ،و الحكم في ذلك العصر .
و قد َد َرسَ الباضية ،و في مقدمتهم المام الكبر جابر بن زيد – رحمه ال – الزدي العماني ،هذه المشاكل
-كما ذكرت -و دَ َرسَها غيرهم من علماء السلم ،و انتهوا فيها إلى الرأي العام ،و المذهب الذي اقتنعوا
بصحته و صوابه ،مما يوافق كتاب ال ،و سنة نبيه صلى ال عليه و سلم .
اتخذ الباضية الصل الول لمذهبهم فيما يتعلق برؤية الباري -سبحانه و تعالى – لتنـزيهه عز و جل عن
مشابهة الخلق ،استناداً إلى اليات المحكمات من كتاب ال ،و ما َو َردَ من القرآن الكريم في ذلك أي مما يُوهِمُ
التشبيه ،فإنّه يجب اليمان به أنه من عند ال ،و تأول اليات الموهمة للتشبيه بما يقتضيه المعنى من السياق ،
كتأويل الستواء بالستيلء ،و اليد بالقدرة ،و ما إلى ذلك ...
قال " :و في قضية القدر رأى الباضية منذ ذلك الحين أن اليمان ل يَ ِتمّ حتى يُؤ ِمنَ النسان بالقدر خيره وشره
أنه من ال " :وَالُّ خََلقَكُمْ َومَا تَ ْع َملُونَ " ( " ، )2أَلَ َلهُ الْخَ ْلقُ وَا َل ْمرُ " ( " ]53[ )3هَلْ ِمنْ خَالِقٍ غَ ْيرُ الِّ
" ( " )4ال خالق كل شيء " ،و للعبد حَقّ الكتساب و الختيار .
و هكذا استقر رأي الباضية في أكثر مسائل الخلف على الصول المستمدة من الكتاب و السنة " (. )5
فإنّ القرآن الكريم و السنة النبوية هم الصل المَكِين للعتقاديات مُطْلَقاً ،إل أنّ الحديث النبوي الشريف ل يمكن
التعويل عليه لما اعتراه من التغير ،و ما طرأ عليه من الوضع ،و َدسّ النّقْلِ ؛ لترويج ال ُم ّدعَيات إل ما شاء ال
.
أما القرآن فهو باقٍ ،خالدٌ خلود الجبال ،صحيح ل يمكن إدخال شيء عليه مما يخالفه ،نعم ما ثبت من السنة
سرُ ُمشْ ِكُلهُ ،و مُبْ َه ُمهُ
الصحيح ،و قامت الحجة على صحته ،فهو على كُلّ حال نصير القرآن و ظهيره ،و به يُ َف ّ
جمَُلهُ .
،و مُ ْ
و قد وضع رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لذلك قاعدة مكينة ل تزال معروفه عند أهل العلم ،و هي
العرض للمروي عنه -صلى ال عليه و سلم -على نصوص الكتاب الكريم ،فما وافقه فهو عنه – صلى ال عليه
و سلم – ،و ما خالفه فليس عنه (. )6
و ما زال الصحابة -و هم حملة الشريعة الغرّاء َ -يرْجِعُون إلى بعضهم بعضاً في طلب الحجة إذا َأشْكَلَت عليهم
المشاكل ،وما زال ذلك الحال بينهم ،و بقية من صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – على ذلك و هم
" وقد رجع المام الكبر جابر بن زيد إلى الصحابة في كثير من هذه المسائل ،رجع بها إلى آراء الصحابة ،
كعبدال بن عباس ،و عائشة أم المؤمنين .
حمّداً َرأَى
كما وقع في مسألة رؤية الباري ليلة السراء حتى قالت عائشة – رضي ال عنها َ " : -منْ َزعَمَ َأنّ ُم َ
علَى الِ ال ِفرْيَة" (. )7
عظَمَ َ
رَ ّبهُ فَقَد َأ ْ
قال " :ومن هذا الفصل يتبين للقارئ الكريم [ ]54أنّ المذهب الباضي اقتبس ُأصُوله القويمة ،التي بنى عليها
عقائده ،و أعماله في خير القرون ،حينما كانت بقية من الصحابة -رضوان ال عليهم -ينشرون الثقافة
بعلمهم )8( ،أي قبل أن يكون للمذاهب الخرى وجود على هذا الكون .و قد عُلِمَ ذلك من التاريخ الصحيح الذي
يعترف به الكُلّ بل ريب .
و كان جابر بن زيد عالماً عظيماً بين أجلة العلماء ،فكان شيخه ابن عباس – رضي ال عنهما – ُيجِّلهُ ،و
يعرف له أشياء طال ما أحال إليه أمثالها ،و لول فضيلة الصحبة لكان جابر بن زيد في الجبهة العلمية أول من
يحمل ال َعلَمَ الفقهي بين ُنبَغَاء المة ،و لذلك روى عنه أكثر أهل المذاهب ،و وثقه جميعهم ،و اعتمدوا في
نقلهم على ثقته و أمانته .
" فكان جابر إذا َأشْكَلَ عليه شيء من أمر الدّين ،رجع إلى أساتذته الجلء ،و أخصهم العبادلة الثلثة ،فبينوا
عرَبُوا له عن
له المنفذ ،و أوضحوا له الحقّ ،لسيما البحر ،و من قصد البحر استقل السواقي طبعاً ،و َأ ْ
مهمته من مصدرها الصحيح فل يبقى لديه رَ ْيبٌ أو شكٌ .
فإذا تلقى أبو الشعثاء شيئاً عن أولئك العلم مما يتعلق بالحكام الشريعة ،و لم يظهر له فهم أسراره ،و روح
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
ضهُ على ترجمان القرآن ابن عباس ،أو على الحميراء أم المؤمنين التي قال فيها رسول ال – صلى ع َر َ
معانيه َ ،
صفَ دِينَكُم " ( ، )1و إلّ جاء إلى أنس بن مالك خادم رسول[ ]55ال –
خذُوا عَ ْنهَا ِن ْ
ال عليه و سلم و آله – " ُ
صلى ال عليه و سلم – ،و عبدال بن عمر أو غيرهم – – ممن أُوتي الحكمة ،و َفصْلَ الخطاب ،و أجازه -
صلى ال عليه و سلم -لرشاد المة و تعليمها ،و لم يخرج به إل و هو صحيح واضح نير" (. )2
قال " :و بعد استقرار آراء الباضية بأزمنة مختلفة تطول أو تقصر ،بدأت تتكون المذاهب الخرى ،و تنتشر
في بعض جهات العالم السلمي ،فتكونت المعتزلة ،ثم تكوّن غيرها من المذاهب التي يَعْ َتنِقُهَا أكثر المسلمين
اليوم ،و بهذا العتبار يكون المذهب الباضية أول المذاهب المعتدلة الصحيحة [ نشوءاً] ،و أول مذهب ثَ َبتَ
على الصول الثابتة ناشئاً ،و أقربها إلى عصر النبوة ،إذ أئمته كما عرفتهم كبار التابعين ،و أكبر العلماء
المُ َتضَلّعين بقواعد الشريعة ،و أسبق المذاهب مأخذاً إلى عصر النبوة كما عرفت ،و أقربها من رجال الصحابة
– رضوان ال عليهم – و ألصقها بخير القرون تأريخاً ،كما قال – صلى ال عليه و سلم – " خَ ْيرُ ال ُقرُونِ َقرْنِي
...الحديث " ( ، )3و أفهمها لروح السلم ،و أسرار التشريع ،و هدي محمد – عليه الصلة والسلم – و
أصحابة – – معنى" (. )4
قال " :عندما كان كبار العلماء من التابعين َيعْ ِقدُون مجالس العلم ،يفسرون كتاب ال ،و يروون للناس ما
حَ ِفظُوا عن رسول ال – صلى ال عليه و سلم – من قولٍ وعملٍ ،و يُفْتُون للناس فيما يَ ْع ِرضُ لهم من مشاكل ،
كانت قضية الخلفة قد أخذت حَظّها من النقاش ،و استقر فيها الناس على آراء معنية حسب أدلتهم التي يقتنعون
بها ،و أصولهم التي يستندون إليها ،و كان جابر بن زيد – رحمه ال – أحد هؤلء العلماء اتخذ البصرة مقراً
له ينشر فيها العلم ،و يوالي التدريس ،و التأليف ،و الفتاء[ ، ]56و يهتم بشؤون المسلمين " (. )5
قلت :و كانت البصرة مقر العلماء العلم من أهل عمان ،حتى كادت أن تكون البصرة إذ ذاك عمانية محضة ،
إذ ظهر فيها هذا العالم الجليل الذي أجمعت المة عليه عدالة ،و ثقة ،و نزاهة ،و كذلك الربيع بن حبيب بن
عمرو الزدي الفراهيدي ( )6ذلك العليم الكامل راوي المسند ،و كذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي الزدي ( )7من
أهل َودَام من الباطنة من عمان ،و المراد بالباطنة الساحل الشمالي من عمان .
ثم المُهَلّب بن أبي صُ ْفرَة أمير البصرة ( ، )8و منقذها من مخالب السباع ،ومخرجها من بين النياب ،كما
عرف ذلك التاريخ ،و صحار بن عباس العبدي ( )9من عبد القيس من عمان ،وهو على الشهير صحابي ،
مرضي علّمة ،تقي بصري عماني ،روى عن رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ثلثة أحاديث ،وهو من
شيوخ أبي عبيدة – رحمهما ال ورضي عنهما ، -و هو أول من ألّف في الدب .
===================================
( )1قال صاحب كشف الخفا و مزيل اللتباس بما اشتهر من الحاديث على ألسنة الناس ( : ) 449 /1
" -1198خذوا شطر دينكم عن الحميراء " قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث ابن الحاجب من إملئه :ل أعرف له إسناد ،و ل رأيته في شيء
من كتب الحديث إل في النهاية لبن الثير ذكره في مادة ح م ر ،و لم يذكر من خرجه ،و رأيته في الفردوس بغير لفظه ،و ذكره عن أنس بغير إسناد
بلفظ " خذوا دينكم من بيت الحميراء " ،و ذكر ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي و الذهبي عنه ،فلم يعرفاه ،و قال السيوطي في الدرر لم أقف
عليه ،و قال الحافظ عماد الدين في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب :هو حديث غريب جدا بل هو منكر ،سألت عنه شيخنا المزي فلم يعرفه ،و قال
لم أقف له على سند إلى الن ،و قال شيخنا الذهبي هو من الحاديث الواهية التي ل يعرف لها إسناد " اهـ .
( )2الباضية في موكب التاريخ ( . ) 61 /1
( )3أخرجه الربيع بن حبيب بمعناه في -9باب في المة أمة محمد صلى ال عليه و سلم رقم ، 38ص ، 53و أخرجه البخاري في ( -52كتاب
الشهادات -9باب ل يشهد على شهادة جور إذا شهد ) ( )155 /2رقم ، 2651و أخرجه مسلم في ( -44كتاب فضائل الصحابة -52باب فضل
الصحابة ) ( )1962 /4رقم ، 2533و أخرجه الترمذي في ( -34كتاب الفتن -45باب ما جاء في القرن الثالث ) ( )500 /4رقم ، 2221و أخرجه
أبو داود في ( -39كتاب السنة -27باب في فضل أصحاب النبي صلى ال عليه و سلم ) ص 658رقم ، 4657و أخرجه ابن ماجه في ( -13كتاب
الحكام -27باب كراهية الشهادة عمن لم يستشهد ) ص 338رقم ، 2362و أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ) 503 /3 ( 3594ورقم 4130
( . ) 153 /4
( )4الباضية في موكب التاريخ ( . )61 / 1
( )5المصدر السابق ( . ) 63 /1
ص ْعةُ بن صَوْحَان ( )1الخطيب المشهور ،و أخوه أيضا ،و كلهما عماني ،و ُمرّة بن التّليد ( ، )2و
و صَ ْع َ
المهلب بن أبي صفرة هو الذي شاع اسمه في البصرة ،بل في العراق كله ،فيقال " :بصرة المهلب " ،و هذا
يعرفه كل أهل التاريخ ،و هو أزدي عماني من الباطنة .
و لو لم تخرج الباطنة إل أبا حمزة الشاري المختار بن عوف ،قائد المام طالب الحق عبدال بن يحيى الكندي
في اليمن لكفى .
غصّت البصرة بالعيان من أهل عمان ،و امتلت برجال العلم الجلء ،الذين لهم الشرف الخالد على ولقد َ
صفحات التأريخ ،و حسبك ابن دريد ( )3من مثال للعلم ،و الدب ،و اللغة ،فهو إمامٌ متضّلعٌ بفنون العلم ،و
لن ننسى المُ َبرّد ( )4صاحب [ ]57الكامل ،و هو عماني ،و لسنا الن بصدد ذكر أهل عمان و أعيانهم ،إنما
ذلك إلى التأريخ العماني ،و هو المسئول عن هذه القضايا ،و هو الكفيل بها ،و إنما نحن الن في ذكر الباضية
وعلمائهم .
قال على يحيى معمر " :وكانت قضية الخلفة من القضايا الهامّة التي يقدرها السلم قدرها ،وكانت شاغلة لهل
العلم ،وكان جابر بن زيد ممن َمرّت عليه ،و َد َرسَها َدرْساً ُمسْ َتفِيضاً عميقاً ،و انتهى فيها إلى رأي ثابت
صحيح ،مبني على روح العدالة في السلم ،و مستمد من القرآن الكريم ،و مستند على سيرة السلف الصالح
من أصحاب النبي – صلى ال عليه و آله وسلم – .
كان يرى أنّ الخلفة أهم مرافق الدولة ،و أعظم مظهر للمة ،و أقوى سلطة تشرف على تنفيذ أوامر ال ،و
تطبيق أحكام الكتاب و السنة ،الذين هما المصدر الصحيح لحكام ال عز و جل ،و هي بهذا المظهر ،و على
هذا النحو ل يمكن أن تخضع لنظام و رأي أبداً ،و ل أن ترتبط بجنس ،أو قبيلة ،أو أسرة ما ،أو لون أيضاً
" ( ، )5لنّ الخلفة المقصود منها بالذات ،وضع الحقّ في مواضعه ،و إعادة أوامر الشريعة حيث أمر بها
الشرع .
" و إنما يشترط فيها الكفاءة المطلقة " ( )6؛ لنّ ال عز و جل أشار إلى المقصود فيها بالذات بقوله ِ " :إنّ
أَ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ َأتْقَا ُكمْ " ( )7و المطلوب هذان الشيئان ،بل هما دعامتاها ،و هما :الكرم بجميع معانيه ،و
التقوى وهي الصل الذي ل تصح بدونه خلفة ما أبداً ،فإذا لم يكن هذان الصلن ثابتين فيها فعليها ال َعفَاء ،لم
تغن ال ُقرَ ْيشِية وحدها ،و ربما أغنى عنها التقوى .
و ل يخفى على كل ذي عقل أن التقوى رُوحُ [ ]58اليمان ،فإذا لم تكن تقوى فل إيمان إجماعاً ،و إذا حصلت
صحّتِهَا ،و
الكفاءة المطلقة ديناً و خلقاً ،و عملً ،و عقلً ،فقد حصلت الخصال المطلوبة فيها ،المشترطة ِل َ
قامت حجتها على المسئولين عنها ،الذين تلزمهم عند حصولها ،فإذا كانت في فريق من الناس فقد حصلت ؛
شمّية ،أو ال َعرَبِية إل من وسائل الترجيح ،و هي كمالية فقط عندنا ،فإنّ المفاضلة أو
و ما ال ُقرَ ْيشِية ،أو الهَا ِ
الولوية أشياء اختيارية عند حصول الكمال ،أما ما سوى ذلك فل حساب له في نظر الشرع ،الذي جاء لدرء
المفاسد ،و جلب المصالح في المة .
و من حيث أنّا بصدد بيان معنى الباضية ،و التعريف بهم بين فرق السلم ،و ذكر أصل تسميتهم إباضية ،و
ذكر ابن إباض الذي أضيف الباضية إليه ،و نسبوا عليه نسبة تمييزية ،و ما إلى ذلك مما هو من نوعه ،ثم
استطردنا في ذكر ما أشار به على يحيى معمر من أصول الباضية ،و ما قام به إمامهم الكبر أبو الشعثاء ،و
ض َدهُ أولئك العلماء العلم الذين كانت لهم ال ّزمَالة المذهبية .
ع ّ
َ
و القصد من ذلك تحقيق معنى الباضية ،و إيضاح المعنى الصحيح من هذه السمة الكريمة لهذه المة العظيمة
عند ال عز و جل ،فل يظن ظَانّ أنّا خرجنا عن قانون التأليف ،الذي وضعناه شرحاً كاشفاً للحقيقة المطلوبة.
و على هذا فالباضية ِف ْر َقةٌ من فرق السلم التي عرفت في حديث الفتراق ،الذي رواه أئمة الحديث ،فالباضية
هم الفرقة المحقة ،و هي الصادقة في القوال و الفعال ؛ لنّها ما زَايَلَت حكم ال عز و جل قيد شعرة ،و ل
مالت بها الهواء إلى السّبل التي أشار إليها القرآن ( ، )8و بينها رسول ال – صلى ال عليه و سلم ]59[. -
======================
( )1صعصعة بن صوحان بن حجر العبدي ( ت 56هـ ) من سادات عبد القيس ،كان خطيبا بليغا عاقل ،له شعر ،شهد صفين مع علي ،و له مع
معاوية مواقف .العلم ( . ) 205 /3
( )2مرة بن فهم التليد ،من خطباء عمان ،و هو الخطيب الذي أوفده المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي .التبيان و التبين ( / 1
. ) 358
( )3محمد بن الحسن بن دريد الزدي ( 223هـ 321 -هـ ) أبو بكر ،من أئمة اللغة و الدب ،من أزد عمان ،له عدة مؤلفات منها الجمهرة في اللغة و
المقصورة و غيرها .العلم ( . ) 80/ 6
( )4محمد بن يزيد بن عبد الكبر الزدي ( 210هـ 286 -هـ) أبو العباس ،المعروف بالمبرد ،إمام العربية ببغداد في زمنه ،و أحد أئمة الدب و
الخبار ،مولده البصرة و وفاته ببغداد ،من كتبه الكامل و المقتضب و إعراب القرآن .العلم ( . )144 /7
( )5الباضية في موكب التاريخ ( )63 /1الحلقة الولى .
( )6المصدر السابق .
( )7الحجرات . 13 :
( )8في قوله تعالى " :و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و ل تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " النعام . 153 :
[ الشرح ]
أي َأنّ أصل المذهب عبدال بن إباض كما عرفته مما تقدم من مقالنا ،أو يعود الضمير على المام ابن إباض –
رحمه ال – ،أي أنّ أصل كون عبدال بن إباض أصلً للمذهب ؛ لنّه صار له ُمحَامياً من أعداءه الذين يرومون
ضدّ أهلـه. كيده ،و كان هذا البطل التميمي مدافعاً لعداء الحقّ ،الذين لهم نوايا سيئة ِ
فكان عبدال بن إباض أكبر مُنَاضل بالحجة الصحيحة ،لكنّها عند ذلك الطاغية غير مقبولة إل أنّه يستطيع إهانة
هؤلء العلم و الفطاحلة الكرام ،و أمّا عبدال بن إباض كان في أمة ل تضيعه ،و في عشيرة ل تسلمه ،و ما
زال عبدال بن إباض حجر عثرة للسلطان الموي ،خصوصاً في المور الدينية .
و هنا قام دور التطور في المة ،و التمذهب في الملة ؛ ليبرز معنى حديث رسول ال – صلى ال عليه و سلم –
فكان المام أبو الشعثاء ،و أبو عبيدة ،و أبو عمرو ،و العلمة صحار بن العباس ،و ضمام بن السائب ،ومن
انضم إليهم من رجالت العلم و العمل ،و عبدال بن إباض الركن [ ]60الكبر لهؤلء ،و عليه أطلق عليهم اسم
الباضية ،لكون عبدال صار لهم بمنزلة الزعيم ،ل أنه عالمهم الذي يرجعون إليه في مهماتهم ،و يصدرون
عن فتاويه فيما يغشيهم من أمر دينهم،كبقية رجال العلم الذين صاروا لتباعهم َمرْجِعاً ،و لخوانهم مصدراً
علمياً ،قلدوهم عليه ،و اعتمدوا أقوالهم فيه ،كأبي حنيفة ،و الشافعي ،و مالك ،و ابن حنبل ،و من في
معناهم من رجال العلم الذين اشتهروا في أيامهم ،و ارتسموا طرقاً لقوامهم ،و قرروا لهم قواعد دينهم ،
فأخذوا بها ،وتركوا ما سواها ،إذ اعتقدوا فيهم اعتقادات ،لو علمها أولئك ما رضوا بها ،و أصرّ كل فريق
منهم على قول عالمهم ،و رفضوا ما عداه ،و تنافسوا إلى ذلك إلى حدٍ بعيدٍ ،حتى صاروا أضداداً لبعضهم بعضاً
في ذلك .
فكان الخذ بقول أبي حنيفة ل يرى ما عداه ،و ل يرضى به بديلً مهما كان ،و بذلك صار لهؤلء مذاهب خاصة
اختصها مقلدوهم فيها ،و أصبحوا يعرفون بها ،كما حكى التاريخ ذلك عنهم ،فكانوا بذلك أربعة مذاهب ،كل
مذهب منها له أهميته ،و قواعده ،و حججه ،و مؤسساته في المة ،و َت َعصّبَ كُلّ فريقٍ لشيخه و أستاذه .
فكانوا إذا جاء القول عن أحد هؤلء الربعة ،قام له أتباعه مؤيدين و مقدسين ،حتى غَلَوا فيما بينهم ،و مضى
على ذلك عهد غير يسير ،حتى توسّطَ من جاء من بعد ذلك من رجال العلم ،الذين يحاولون القتراب من بعضهم
بعضاً ،فأخذوا ببعض أقوال أحد الشيوخ الذين يمكن التسامح معه في شيء ما و مضى]61[.
فقالوا هذا مذهب أبي حنيفة في الشيء الفلني ،و ذلك مذهب فلن و فلن ،فكانت سنة ال في عباده نافذة ل
رَادّ لها ،تصديقاً له – صلى ال عليه و سلم – فيما أعرب عنه من الفتراق في المة ،وكان ذلك من أعلم
نبوته -صلى ال عليه و سلم ،-إذ أخبر عن هذا الحال .
و ربما نشط مذهب على بقية المذاهب ،إذا قام له سلطان يحمل الناس عليه ،و ربما تأخر في بعض الحيان ،و
ربما اتفقت بعض المذاهب على قولٍ في شيءٍ خاصٍ فأخذ به أتباعهم معاً ،و بذلك يصير له شيوع محسوس في
العالم السلمي ،و قد أخبر التاريخ عما قلنا في أجيال عديدة .
و بذلك صار لكل إمام مذهب ،ثم جاء من أغل فيهم ،فَ َقدّمَ ما قالوه على ما في كتاب ال وسنة رسوله -عليه
الصلة والسلم ،-و رأوا أن ما جاء عن شيخهم فوق ما جاء في كتاب ال عز و جل ؛ لنّ ما جاء في كتاب ال
ربما كان فيه إشكالٌ ،كإجمالٍ ،و تخصيصٍ ،و متشابه أيضاً ،أمّا ما جاء عن الشيخ المام فليس فيه إشكالٌ ،
و ل إبهامٌ .
و الجريمة في مثل هذا على التّابع ل على المتبوع ،فإنّ بعضهم أعلن تصريحاً أنّه إذا وافق ما أقول قواعد الحقّ
عرْضَ الحائط ،و سئل أحدهم فيقول هذا رأي ،و إذا جاء نهر ال بطل نهري ،و يؤخذ به ،و إل يضرب به َ
و أشياء أخرى ألمّت في المقام يخالف أصول الحكام ،ل سيما فيما يتعلق بالحلل في العتقاد ،و بالحرام في
المعاملت ،و ربما [ ]62أخطأ المجتهد ،و أصرّ على ما رأى ،أو اعتقد متبعه أنّه الحقّ ،و ما سواه باطل و
إلى هذا كله يشير المام – رحمه ال . -
أمّا الذين أطلق عليهم إباضية فإنهم لم يُقَّلدُوا شيخاً خاصاً فيتبعونه في أقوله ،و أعماله ،فإنّ عبدال بن إباض
كما تحدثنا عنه ،أنّه لم يكن من العلماء الذين أسسوا مذاهب ،و كانت لهم حملة أخذت بمذاهبهم .
إنّ هذه العصابة التي تعرف بالباضية لم تتقيد ،و لن تتقيد بمذهبٍ خاصٍ أبداً ،و إنما تأخذ الحقّ أينما تجده ،
سواءٌ وجدته في أقوال جابر بن زيد ،أو أبي عبيدة ،أو الربيع ،إذا لم تجد النص القرآني ،أو النص النبوي
الصحيح ،من حيث تطمئن بالنقل ،و ل تشك في الناقل ،و إنْ وجدته في قول أبي حنيفة ،أو الشافعي ،أو
غيره من رجال العلم ،الذين أثبت الواقع لهم اسم العلم ،كما سوف تراه إن شاء ال محرراً في هذه الصحائف
الحرة الواضحة النيرة ،عند الكلم على هذا المقام.
والحقّ مقبولٌ ممن جاء به بغيضاً كان أو حبيباً ،و الباطل مردودٌ ممن جاء به كذلك ،فإنّ ال لم يأمرنا أن نأخذ
عن شيخ خاص و نترك ما سواه ،و لو كان كذلك لخذنا بأقوال صحابة رسول ال -صلى ال عليه وآله وسلم –
كابن عباس ،و ابن عمر ،و أمثالهم ،أو بأقوال الخلفاء الربعة ،فإنهم أهل لن يأخذ بأقوالهم .
لكنّا ل نقول بذلك ؛ لنّا ل نُقَلّد غير كتاب ال عز و جل ،أو ما صح من سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله
وسلم – بنقل العدول الذين ل نشك في عدالتهم ،و ل ننكر شيئاً من أقوالهم .
فنأخذ العلم تقييداً ل تقليداً ؛ لنّ ال فترض ذلك علينا ،و انظر ِ " :بمَاذَا َتحْكُمُ يَا مُعَاذ ؟ فقال ِ :بمَا في كِتَا ِ
ب
ج ْدهُ ؟ ،فقال :أَجْتَ ِهدُ رَأَي " (
ج ْدهُ ؟ ،فقال ِ :بمَا في سُ ّنةِ َرسُولِ الِ ،فقال ِ ]63[ :إنْ لَمْ تَ ِ
الِ ،فقال ِ :إنْ لَمْ تَ ِ
، )2و لم يأمره بالتقليد لدليل خاص ،أو قول خاص .
و هكذا نقول فإن الكتاب و السنة ،هما اللذان تركهما لنا رسول ال – صلى ال عليه و سلم – بعده ،و لن نضل
ما أخذانا بهما ،فإن لم نجد ذلك فيهما ،نزلنا إلى الجتهاد ،و ما خالف كتاب ال ل نقبله و ل نرضاه .
=================================
(َ )1يرْسِفُ و يجوز َيرْسُفُ :مشى مَشْي المقيد ( القاموس المحيط ) 813 /مادة رسف .
( )2أخرجه الترمذي في ( -13كتاب الحكام -3باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ) ( ) 616 / 3رقم ، 1227و أخرجه أبو داود في ( -23كتاب
القضية -11باب اجتهاد الرأي في القضاء ) رقم 3592ص ، 516و أخرجه الدارمي في ( المقدمة -20باب الفتيا و ما فيه من الشدة ) ( )44 /1
رقم ، 168و أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ، ) 164 /16 ( 21906و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( )544 /4رقم 22978و 22979
.
مما يدلك على مقام عبدال بن إباض في المة ،و علو منزلته فيها ،ما شاع له من الذّكر بين رجالت العلم ،و
أعلم الهدى صيتاً ،أهّله لن يكون زعيم أمة ل َتمُتّ إليه بصلة نسبة ( ، )1ول بتلمذة علمية ،حتى صار إماماً
في المغاربة النّائيين ،و المشارقة المُتَ َف ّرقِين ،الذين انتشروا من خراسان ،إلى مصر ،إلى عمان ،و إلى
حضرموت و اليمن .
ذلك لنّ الرّجل كان يقول الحقّ ،ويدعو إليه ،و َي ُردّ الباطل ،و يُنَ ّفرُ منه ،في عهد اشتد فيه جور المراء
سياسياً ،بحيث يريدون أن يتناسى العهد النبوي الصحيح ،عهد الحرية الدينية ،عهد العلم و العمل ،عهد الدين
الصحيح ،الذي ل يرضى تفكك القوى السلمية ،و ل يرتضى العمال الموية ،التي بدلت الدين بالهوى ،و
أقصت بجورها أهل التقى ،فكانت شراً جاثماً على صدور الصدر الول ،و ما تغلغل من البغي يجعل الباطل ديناً ،
و منه لعن علي بن أبي طالب في الجمعات التي هي مجامع الدين ،و بغير حياء ،و َمنْ ل يفعل على أقل الشياء
ينتقص ،و يحتقر ،و يجعل ممن تقتحمه العقول ،و تنكص عنه العيون ،ويجعل في عداد [ ]64من ل قدر له و
ل احترام .
و قد ضاق الحال بأهل الفضل في السلم ،مع أن العهد بالنبوة قريب ،والعهد بالخلفة الراشدة أقرب ،فكان أهل
العلم ،و أهل الفضل تقطع ظهورهم ،و يقضون اليام و الليالي في السجون ظلماً و عدواناً .
طكَ
طرَازِ عبدال بن إباض عمل يقتضيه " :لَوْلَ َرهْ ُ و لم يبق احترام لحد من هذا النوع ،إل لمن كان من ِ
جمْنَاكَ " ( ، )2فكان الرهط إذ ذاك سوراً منيعاً ،انظر في حبس أبي الشعثاء ،و إخوانه حتى بلغ به الحال إلى َلرَ َ
أنهم يقطعون الشعور التي تطول ،و أظفارهم ،بأضراسهم قهراً و أسراً لعدم الرهط المحذور ،و لم يكن من ذلك
شيء على عبدال بن إباض ،و أضرابه من أمثال الحنف الذي إذا سَلّ سيفه سَلّ معه مائة ألف سيف ،ل
يسألونه لماذا سل سيفه !.
أما أبو عبيدة الضرير ،و أبو الشعثاء العور ،و أضرابهم فذالك حالهم ،و الحمد ل حتى كان عبدال ردئاً
لهؤلء ،يصدقهم إذا قالوا ،ويؤيدهم إذا أفتوا .
كان عبدال بن إباض -رحمه ال و رحم أباه وتولهم ال – كانوا أبطال علم ،و رجال عمل ،إل أنّ السلطة في
يد المويين إذ ذاك ثم انتقلت إلى الهاشميين ،و كلهم عتاة طغاة ،أعمدة ملك لم يعرف فيهم للدين أحد ،إل عمر
بن عبد العزيز – رحمه ال – في بني أمية ،و العباس بن عبد المطلب ،و ابنه البحر في بني هاشم ،ومن بقي
منهم أعماهم حب الرئاسة ،و اعتقدوها ميراثاً ،فكانوا في تكالب عليها طيلة أيامهم .
أفبمثل هؤلء يقوم الدين ؟!! ،و بمثل هؤلء تنعم الدنيا ؟!! ،سبحان من عمّ حلمه خلقه ،و هو يرى أحوال
العباد ،و ما ترمي إليه نياتهم .
كان من أمر عبدال بن إباض و صلبته في الحق ،أنّه لما أحدث المسرف [ ]65مسلم ( )3عامل يزيد بن
معاوية( ، )4( )2ما أحدث بمدينة الرسول – صلى ال عليه و سلم – و قصد بعد ذلك مكة المكرمة ليعمل فيها
صدّهِ عن هواه ،و للحيلولة بينه و بين
ما عمله في أختها ،و شاع خبره خرج عبدال بن إباض – رحمه ال ِ -ل َ
ما يهواه .
ولم يجسر أحد أن يتظاهر بذلك غير عبدال بن إباض خوفاً من بطش هؤلء البغاة المتمردين على عباد ال و
على الدين ،و جمع عبدال بن إباض من أطاعه شاهراً أمره ،غير مبال بأحد ،متوجهاً لحماية مكة منه ،و لما
أمنت رجع إلى وطنه بالبصرة ،و القضية مشهورة ،إل أننا نحن ل أهمية للتأريخ لدينا ،فلذلك تضيع الحقائق
عندنا ،و يفوتنا علمها لذلك .
وهذه البادرة تعبر عن شأنٍ رفيعٍ لعبدال بن إباض و أعوانه ،و ما زال علماء الباضية أنصار للحقّ ،أعداء
للباطل ،يخافهم أهل السفه ،و يكرههم أهل الفساد ،فإنهم ما يزالوا على شدة في الدين .
انظر وفادتهم على عمر بن عبد العزيز و نقاشهم معه ،و ما قابلوه به حتى وعدهم بإحياء كل يوم سنة ،و
إماتة كل يوم بدعة ،فلم يكفهم ذلك منه ؛ لكونه أمير عامة ،و هو يريد يعمل في المور بالسياسة ،فقالوا ل
يرضينا ذلك منك ،فإن المام العدل ل تسعه التقية ،و المعنى أنت هو الن ،فطلب منهم ليعلن ذلك غداً على
المنبر عند اجتماع الناس ،فقالوا له من لك أن تعيش إلى الغد ؟ ،و إذ ذاك عضدهم ابنه قائلً :صدق القوم ،
فقال عمر بن عبد العزيز :الحمد ال الذي أخرج مني مثل هذا أو نحو هذا ،ثم مات الولد المذكور فتوله
الباضية ،و القضية مشهورة أيضا إن لم يغطّ عليها الحسد ،و هو داء دفين ،نعوذ بال منه [.]66
==============================
( )1أي ل تمت إليه بقرابة و ل نسب .
( )2هود . 91 :
( )3مسلم بن عقبة بن رباح المري ( ت 63هـ ) أبو عقبة ،قائد من الدهاة القساة في العصر الموي ،أدرك النبي صلى ال عليه و سلم ،و شهد
صفين مع معاوية ،و وله يزيد بن معاوية قيادة الجيش الذي أرسله للنتقام منن أهل المدينة فغزاها و أسرف فيها قتل و نهبا و استباحها ثلثة أيام ،
ثم توجه إلى مكة ليحارب ابن الزبير فمات في الطريق .العلم ( . )222 /7
( )4يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الموي ( 25هـ 64 -هـ) ثاني ملوك بالدولة الموية ،و ولي الخلفة بعد وفاة أبيه سنة 60هـ و في أيامه قتل
الحسين بن علي و وقعت وقعة الحرة الذي أمر قائده بأن يستبيح المدينة ثلثة أيام و أن يبايع أهلها على أنهم خول و عبيد ليزيد و كان نزوعا إلى اللهو
و الفسق .العلم ( . ) 198 /8
اعلم أنّ المام ابن إباض – رحمه ال – كما قدمنا عنه ،أنّه كان سيفاً ماضياً لقطع العراقيل التي تحول بين
الحقّ و أهله ،و هماماً مِ ْقدَاماً لقطع شأفة الفساد الذي يواجهه ،و عزيمته شديدة في العتماد على ال وحده
قبل كل شيء .
وفي المنعة من عشيرته بني تميم ،و هم حجر خشن ل تلين قسوته بيسير المور ،و ل يهون على قومه ،و هم
حصنه الحصين ،و ردءه المكين ،و قوم الرجل جُنّ َتهُ ،و بهم يتقى الشر إذا أقبل عليه ،و ما زال هذا الحال
معروفاً في البشر .
انظر إلى ما وقع بين النبي – صلى ال عليه و سلم – و النصار في بيعة العقبة " :و َأنّ َت ْمنَعُونِي ِممّا َت ْمنَعُون
حرِيمَكُمْ و أَوْلدَكُمْ " ( ، )1مع أنّه نبي ال عز و جل يقدر على منعه من كل أحد في الكون ،لكن سنة ال - مِ ْنهُ َ
عزّ و عل -في الكون لها أسباب مقيدة ،فكذلك هذا هنا .َ
ولول شرف أبي طالب و منزلته في قومه ،لهلك محمد – صلى ال عليه و سلم – بين أَنْيُب قومه العتاة ،لكن
لمّا وقف أبو طالب لهم وقفة السد الباسل ،لم يقدروا على أي عمل فيه مما حاولوه في شخصه ،أما الدّيانة فلم
يكن أبو طالب مسلم فيقوم لدفاع قومه عن إسلمه ،و قد قال " :أعلم أن دين محمد حق إل أني أفضل أن أموت
على دين الشياخ حتى ل يقولوا أنّ أبا طالب صبا إلى دين ابن أخيه آخر عمره " (. )2
و ل شك أنّ الحقّ يحتاج إلى أنصار ،و ليس كرهط الرجل له أنصار طبعاً ،و الحقّ إذا توله مؤمن قوي كعبدال
و بذلك الحال أظهر عبدال بن إباض الحق ،و قامت له هيبة ،حتى في قلب الملك عبد الملك بن مروان ،حتى
عاد يستعطفه ،و يلين له ،و يحاول ضمه إليه ،كما سوف تراه في محله إن شاء ال .
و في " الملل و النحل" للشهرستاني قال " :عبدال بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد ،فوجه إليه
مروان بن محمد المذكور لقتاله عبدال بن عطية فقاتله بتباله ،وكان عبدال بن يحيى الكندي إمام اليمن من
أعضاد عبدال بن إباض في هذه الحر ب ،و في أقواله ،و أفعاله " (. )3
و إن عبدال بن إباض هو الرئيس عليه مع أنّ عبدال بن يحيى كان من بيت زعامة ،إل أنّ أمر الدّين أكبر من
أمر الدنيا ،و ال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
شكّ فيه ،و كيف ل ،و الكتاب و السنة هما دعامتاه ،
لقد شهد لعبدال بن إباض أعداؤه أنه على الحقّ الذي ل َ
و ما كان كذلك فلن يضيع ،و إن تألب عليه أعداءه .
و ل شك أنّ السلم و اليمان بمعناهما لم يبقيا في مذهب ما على أصولهما الصحيحة إل في مذهب الباضية ،
لنّ الباضية ل يزالون يصارعون الزّعامات التي تكون مخالفة للحق و مناوية للعدل ،فإن الملوك أتباع
شهواتهم غالباً .
ض ّد أعداءهم الذين ل يقولون بقولهم ،و ل يميلون ميلهم ،و هل أفسد الدين إل الملوك ،و
بل و ربما كانوا ِ
أحبار السوء و رهبانها ؟!.
ذلك أنّ الذين يُ َق ّدسُون الملوك ،و ل يرون الخروج عليهم ،هم أفسدوا الدّين ،و مزقوا شمله ،بخلف علماء [
]68الباضية الذين يقومون لصراع الملوك بقصد حملهم على المنهج الشرعي ،الذي أوجب ال المسير عليه ،
فيرتكبون الخطار بنصب الئمة ،فيقاتلونهم حتى يردوهم إلى الحقّ ،و هذا تاريخهم شاهد بذلك بجميع بلد
الباضية .
كان عبدال بن إباض قوياً في دين ال ،ذا عزيمة ثابتة ل تأخذه في الحق لومة لئم ،و ل يبالي بملك تُخاف
سطوته ،أو تهاب قوته ،و ل يرى غير الحق شيئاً ،و ل يتزعزع عنه قيد شعرة ،منتقداً لعمال الملوك ،مأنباً
راداً عليهم .
و لما خرج مسلم عامل يزيد لذلل أهل مدينة الرسول – صلى ال عليه و سلم – و فعل فيها المنكرات القاسية
حيث استباحها ثلثة أيام ،وهي حرم رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و لم يبال بها ،ثم همّ بالمسير إلى
مكة ،ليفعل فيها مثل ذلك ،قال عبدال بن إباض " :ل يحل السكوت على هذا الحال " فخرج إلى لقياه بمن معه
من أصحابه و قومه ،ولكن قضى ال على ذلك الطاغية ،فمات في الطريق ،و لم يصل إلى مكة فسلمها ال ،و
بعد استقرار المن ،و زوال المحذور رجع عبدال بن إباض إلى البصرة (. )4
هذا فعل عبدال بن إباض و نواياه في حرم ال عز و جل ،وتلك أعمال أولئك الطغاة ،وقومنا يقولون ل يجوز
الخروج عليهم ،بل عليكم الصبر!! ،فعلى القل أين المر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟؟! ،و هو كما ثبت
إجماعاً بأنه باليد أولً ،و هل اليد إل العصا ثم السيف !!!.
سدُون في الدّين ،و يبدلون حكم ال بحكم القوانين ،و هذا هو الكفر
و كيف ل يجوز الخروج عليهم ،و هم يُ ْف ِ
=============================
( )1أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ، ) 453 /11 ( 14393و أخرجه الحاكم في المستدرك في ( -28كتاب تواريخ المتقدمين من النبياء – من
كتاب الهجرة الولى إلى الحبشة ) رقم ) 681 /2 ( 4251و قال الحاكم :صحيح السناد ووافقه الذهبي ،و أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في
(كتاب قتال أهل البغي -3باب كيفية البيعة ) رقم ) 251 /8 ( 16556و أخرجه ابن حبان في ( -61كتاب إخباره صلى ال عليه و سلم عن مناقب
الصحابة ) رقم ، )473 /15 ( 7011و أخرجه الطبري في التاريخ ( ) 5/562و أخرجه ابن هشام في السيرة (. ) 442 /1
( )2أورده بمعناه مسلم في ( -1كتاب اليمان -9باب الدليل على صحة إسلم من حضره الموت ) رقم )1/55( 25و الترمذي في ( -48كتاب تفسير
القرآن – 29باب من سورة القصص ) رقم ، )341 /5 ( 3188و ابن حبان ( ) 167 /14رقم 6270و أحمد في مسنده رقم ) 259 /9 ( 9576و
أبو عوانة ( ) 25 /1رقم 24و أبو يعلى ( ) 39 /11رقم 6178و البيهقي في شعب اليمان ( ) 106 / 1رقم . 91
( )3الملل و النحل ص . 134
( )4انظر نشأة الحركة الباضية ،ص . 77
[ الشرح ]
شمْسِ بن عبد مَنَاف ،تولى الخلفة بعد موت أبيه حكَمِ بن أبي العَاص بن أُميّة بن عَ ْبدِ َ عبد الملك بن َمرْوَان بن ال َ
في سنة خمسة و ستين للهجرة ،و كان من ُنسّاك بني أمية ،و كان يلقب حمامة المسجد لملزمته ،و يلقب
جرِ لِ ُبخْ ِلهِ ؛ فإنّه كان بخيلً إلى آخر درجات
حَشحِ ال َأيضا بأبي الذّباب [ لنجره إذ كان أنجر] ( ، )1و يُلَقّب ِب َر ْ
البخل .
و لما جاءته الخلفة كان قاعداً يتلو القرآن قال الدميري ( " : )2كان عبدالملك قبل الخلفة متعبداً ،ناسكاً ،
عالماً ،فقيهاً ،واسع العلم ،حازماً ل يكل أمره إلى غيره ،محب للفخر ،مقداماً على سفك الدماء ،و كذلك كان
عماله " (. )3
قلت :لقد صحّ عن رسول ال – صلى ال عليه وسلم – " أنّ دِينّ ال ّرعِيةِ ِمنْ دِينِ مُلُوكِهَا " ( )4فإذا كان الملك
يحب شيئاً أحبه أهل طاعته إل من شاء ال و هم القليل ،أما السواد العظم فهم على دين الملوك .
" كان عماله الحجاج بالعراق ،و المهلب بن أبي صفرة في خراسان ،و هاشم بن إسماعيل و ولده عبدال
بمصر ،و موسى بن نصير بالمغرب ،و محمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن ،و محمد بن مروان أخوه
بالجزيرة " ،قال " :و كل من هؤلء ظلوم غشوم جبار قاله ابن خلكان )5( ".
و كان عبدالملك كما قلنا جاءته الخلفة ،و هو يقرأ القرآن فرماه من يده ،وقال " :هذا ُفرَاقُ بيني و بينك " ،
سمِهَا .
و كان [ ]70ظلوماً عاتياً ،عظيماً في ملوك العرب ،إذ تغلغلت هنا الملكية فيه بكل َمرَا ِ
و لكن الرجل من أبطال العرب ،لم يشعر ملك الروم إل و المر انتهى في صالح عبد الملك بن مروان ،فشل ملك
الروم حين رأى في العالم السلمي كله انتشار النقود التي ضربها عبد الملك بن مروان ،و حمله قومه على
تنفيذ تهديداته لعبد الملك بن مروان فأجابهم بفوات المكان .
و كان أول من سمي بعبد الملك في السلم ،و أول من ضرب الدنانير و الدراهم في السلم ،و نقش في أحد
جوانبها " ل إله إل ال " ،و بالجانب الخر " محمد رسول ال " ،و نشرها في بلد السلم ،و توعّد من يقبل
غيرها من سكك النصارى و اليهود أو غيرهم ،فلم يشعر الملك الرومي إل و هي ملء بلد السلم.
سرَوية
و كانت قبلها الدنانير ال َبغّلِية ؛ لنّ رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب – رضي ال عنه – ،و كانت ِك ْ
وضعت عليها صورة كرسي كسرى ،و تحت الكرسي نوش خور :أي كُلْ هنيئاً (. )6
و كانت له أخبار طويلة عريضة لسنا بصددها الن ،بل أخذنا ،أو نأخذ ما يدل على عظمة ملك عبدالملك ،الذي
ط َرسَ ِتهِ ،و لم يكن ابن إباض بالرجل الذي يهاب ذلك في حقّ الدّين ،الذي فرضه
غْما زال له السلطان القاهر مع َ
ال على عباده [ ]71بل كان ابن إباض راداً على عبدالملك ،معارضاً له في ما يخالف الحق ،ناصحاً له بقلمه ،
الذي هو أشبه بالصارم المصقول .
قال الدميري " :والذي لقب عبدالملك بحمامة المسجد عبدال بن عمر بن الخطاب ،و جاءته الخلفة و هو يقرأ
في المصحف فطبقه ،و قال سلم عليك هذا فراق بيني و بينك ،و كان يشير ابن عمر في الفقه إلى عبد الملك ،
و توفي في شوال سنة ستة و ثمانين ،و له من العمر ثلث وستون سنة ،و قيل ستون فقط فهي عمر رسول
ال – صلى ال عليه و سلم – على الخلف فيها أيضاً ،و كان قاتل عبدال بن الزبير فقضى عليه .
صرُ
ح ْفرَتي َت ْع ُ
ضهِ " :يا وليد ل ألفينَّك إذا وضعتني في ُ
و كان من جبره و ظلمه قال لبنه الوليد ،لمّا َثقُلَ في َم َر ِ
شمّر ،و البس جلد النّمر ،وادع الناس إلى البيعة ،فمن قال برأسه كذا -أي ل عينك كالمة الوَلْهَا ،بل اتّزر ،و َ
-فَقُلْ بالسيف كذا -أي اضرب عنقه ، " -هذه وصية ذلك الطاغية التي تسجلها له الملئكة أول دخوله في
الخرة ،و آخر خروجه من الدنيا " ( ، )7و ال المستعان .
إنّ المقصود من ذكر هذه النبذة الوجيزة من تاريخ عبدالملك بن مروانِ ،لنُ َب ْرهِن بذلك على منزلة عبدال بن
إباض أيام هذا السلطان ،فيتبين كما قيل " :وبضدها تتبين الشياء " ،فمن عرف حالة عبدالملك بن مروان ،
علم منها مقام عبدال بن إباض ،إذ يناقش عبدالملك في أمور عديدة ،و َي ُردّ عليه أقواله ،و ينتقد عليه تلك
العمال كما سوف نذكر للقاري نبذة منها .
========================================
( )1هكذا وقعت في الصل و هو تصحيف ،و تصحيحه من كتاب حياة الحيوان الكبرى الذي ينقل منه الشيخ [ :لبخره إذ كان أبخر ] .
( )2محمد بن موسى بن عيسى الدميري ( 742هـ 808 -هـ ) أبو البقاء ،باحث ،أديب من فقهاء الشافعية من مصر من أهل دميرة ،له عدة مؤلفات
منها :حياة الحيوان الكبرى ،و الديباجة شرح كتاب ابن ماجه و غيرها .العلم ( . )118 /7
( )3حياة الحيوان الكبرى (، )1/92و اعلم أن الشيخ نقل ترجمة عبد الملك بن مروان من هذا الكتاب و لم يشر إلى ذلك ،و لكن بالمقارنة نجده ينقل
ببعض التصرف من صفحة (. ) 93 – 90 / 1
( )4قال العجلوني في كشف الخفاء ( " -2790 : ) 413 / 2الناس على دين مليكهم أو ملوكهم " قال السخاوي في المقاصد :ل أعرفه حديثا ،و لكن
يتأيد بما رواه الطبراني في الكبير و الوسط عن أبي أمامة " ل تسبوا الئمة ،و ادعوا لهم بالصلح فإن صلحهم لكم صلح " و بما رواه البيهقي عن
كعب الحبار قال :إن لكل زمان ملكا يبعثه ال على نحو قلوب أهله ،فإذا أراد صلحهم بعث عليهم مصلحا ،و إذا أراد هلكتهم بعث فيهم مترفيهم "
كتب عبد الملك بن مروان كتاباً لعبدال بن إباض ،و أرسله إليه بيد سنان بن عاصم ،أحد رجاله ،طلب فيه من
عبدال بن إباض أن يكشف له حقيقة ما عنده ،و كان ذكر له عثمان ،و ما هو عليه ،و عرّض له فيه []72
لمر المة و ما هي فيه ،و إنّها بحيث يهتم بها و بشأنها الزعماء ,و إنّ لعثمان قدم سبق ،و يد فضل في
السلم ،و ذكر عثمان عهد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و خلته معه ،و ذكر معاوية و ما هو عليه
من السلطة و النتصار على خصومه ،و أنّ ال قام معه ،و عجّل نصره ،و بلج حجته ،و أظهره على عدوه
ع ِمهِ ،و القصد أن يستكين ابن إباض كما
حذّر ابن إباض من الغلو في الدّين ِب َز ْ
في الطلب بدم عثمان ،و كان ُي َ
استكان غيره ،و يقف عند المر الذي يراه عبدالملك ،و عرّض له بالخوارج و أنّهم يغلون في الدّين ،و مراده
أن ل يشتد عبدال بن إباض عليه ،و على أعماله و عماله .
و كان عبد الملك يروم اختداع عبدال بن إباض حيث يتظاهر له بمظهر الطاعة ،و هي في الحقيقة من خدائع
الملوك للعلماء الذين يراعون فيهم الحياة الدينية ،و لذلك قام عبدالملك يلبس لعبدال بن إباض لباس الضراعة
لقصده السياسي فيما هو بصدده ،و يستعمل الدهاء في وجه ابن إباض ،لعله يَ ُغ ّرهُ بذلك حيث قال له في كتابه
المشار إليه كلما معناه " أرجو نصحك ،و أقبل كلمك ،و أعمل بنظرك ،و ل تألو جهداً في نصحي ،و ذكره
بال على ذلك " ،وهو خداع و نفاق ،حيث أشار إليه بقوله عز و جل ِ " :إنّ اّلذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزَلْنَا ِمنَ ا ْلبَيّنَاتِ
خذَ الّ مِيثَاقَ اّلذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُ َبيّنُ ّنهُ لِلنّاسِ َولَ
وَالْ ُهدَى " ( ... )1و الية الثانية ،و هي قوله َ " :وِإذَ أَ َ
تَ ْك ُتمُو َنهُ " ( ، )2و طلب من عبدال بن إباض إعادة كتابه إليه حتى ل يبقى في يد عبدال بن إباض فيراه الناس
فيقولون فيه أشياء يفهمون ( ، )3و من دهائه كان عرض لعبدال بن إباض بما [ ]73لديه من دنياه ،ظناً منه
النقياد لها ،و الميل إليها ،و الغترار ِبرَيَاشِهَا و زينتها ،و كان – رحمه ال و رضي عنه – بعيداً من ذلك .
و سرعان ما أجابه عبدال بن إباض على كتابه ذلك جواباً شافياً وافياً ،فقال كما قال العلمة البرادي حاكياً له (
: )4
" بسم ال الرحمن الرحيم من عبدال بن إباض إلى عبدالملك بن مروان ،أما بعد :سلم عليك ،فإنّي أحمد ال
إليك ،الذي ل إله إلّ هو ،و أوصيك بتقوى ال ،فإنّ العاقبة للتقوى ،و ال َم َردّ إلى ال ،و اعلم أنّه إنّما يَ َتقَبّلُ
ال من المتقين .
و قد جاءني كتابك مع رسولك سِنَان بن عَاصِم ،و أنّك كتبت إليّ أن أكتب لك -أي تطلب مني أن أكتب لك بكتاب
-فكتبته إليك فمنه ما تعرف ،و منه ما تُنْ ِكرُ ،و لكن الذي تنكره ليس عند ال بمنكر .
و أمّا ما ذكرت من عثمان ،و ما عرّضت به من شأن المة ،فإنّ ال ليس ينكر عليه أحد شهادته في كتابه الذي
أنزله على نبيه محمد – صلى ال عليه و آله وسلم – أن " مَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أنزَلَ الّ فَأُ ْولَـ ِئكَ هُمُ الظّا ِلمُونَ " ()5
و "الفاسقون " ( )6و " الكافرون " ( - )7و كان أراد بذلك التعريض به ،أي أنّك أنت من هؤلء -قال " ثمّ إنّي
حقّ ،و سأنزع لك على ذلك البينة من كتاب ال ،و لم أكن أذكر لك من شأن عثمان شيئاً إل -و ال -تعلم أنّه َ
سأخبرك خبر عثمان الذي طعنا عليه فيه ،و أُبيّن شأنه و أمره .
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
لقد كان عثمان كما ذكرت من قدمه في السلم ،و لكنّ ال لم يجز العباد من الفتنة ،و ذلك أنّ ال بعث محمد –
صلى ال عليه و سلم – و أنزل عليه الكتاب و بيّن له فيه كل أمر ،و فصّل فيه كُلّ حكم ،ليحكم بين الناس فيما
[]74اختلفوا فيه ،و جعله هدى و رحمة لقوم يؤمنون ،فأحلّ فيه حللً ،و حرم فيه حراماً ،و حكم أحكاماً ،و
حدُودَ الّ َفأُوْلَـ ِئكَ هُم الظّا ِلمُونَ " ( )8ثم حدُودُ الّ َفلَ تَعْ َتدُوهَا َومَن يَتَ َعدّ ُ
فرض فرائضاً و حدوداً ،و قال " :تِ ْلكَ ُ
أمر نبيه بإتباع كتابه ،و قال " :وَاتّ ِبعْ مَا يُوحَى إِلَ ْيكَ مِن رّ ّبكَ " ( )9و قال " :فَ ِإذَا َق َرأْنَاهُ فَاتّ ِبعْ قُرْآ َنهُ " ()10
فعمل محمد – صلى ال عليه و سلم – بأمر ربه ،و معه عثمان ،و من شاء ال من أصحابه ،ل يرونه يتعدى
حداً ،و ل ُي َبدّل حكماً ،و ل يستحلّ حراماً ،و يُحرّم حللً ،و ل يُبدّل فريضة ،و كان رسول ال – صلى ال
عظِيمٍ " (. )11 عذَابَ يَ ْومٍ َ
عصَ ْيتُ رَبّي َ عليه و سلم – يقول " :قُلْ إِنّيَ أَخَافُ ِإنْ َ
فعمّر رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ما شاء ال أن ُي َعمّر ،تابعاً ِلمَا جاء به من عند ال ،و بلّغ لما
ائتمنه ال عليه ،معلماً للمؤمنين ،مبصراً لهم ،حتى توفاه ال – صلى ال عليه و سلم . -ثم أورث ال عز و
جل المؤمنين الذي جاء به محمد – صلى ال عليه و سلم – ،و هو كتابه الذي يهتدى به من اهتدى بإتباعه ،و
ل يضل من ضلّ إل بتركه .
ثمّ قام من بعده عمر فكان قوياً على المر ،شديداً على أهل النفاق ،يهتدى بمن كان قبله من المؤمنين ،و يعمل
بكتاب ال ،و ابتله ال بفتوحٍ من الدنيا ،بما لم يبتل به صاحبيه ،و فارق الدنيا و الدّين ظاهر ،و كلمة
السلم جامعة ،و شهادة المؤمنين له قائمة بالوفاء ،و المؤمنون شهداء ال في الرض ،قال ال عز و جل "
علَيْ ُكمْ شَهِيدًا" (. )12
علَى النّاسِ َويَكُونَ [ ]75ال ّرسُولُ َ
وَ َكذَ ِلكَ جَ َعلْنَاكُمْ ُأ ّمةً َوسَطًا لّتَكُونُواْ شُ َهدَاء َ
ثمّ استشار المسلمين فتركها فيهم ،فولّوا عثمان ،و فعل بما شاء ال بما يعرف السلم ،حتى بسطت له
الدنيا ،و فُ ِتحَ له من خزائن الرض ،و أحدث أموراً لم يعمل بها صاحباه قبله ،و عهد الناس يومئذ قريب
منهم ،فلمّا رأى المؤمنون ما أحدث أتوه ،و كَّلمُوه ،و ذكّروه بكتاب ال و سنة رسول ال ،و سنة من كان
قبله ،و شقّ عليه أن ذكّروه بآيات ال ،و أخذ بالجبرية ،و ضرب من شاء منهم ،و سجن ،و نفاهم في
أطراف الرض من أجل أن ذكّروه بكتاب ال و سنة نبيه – صلى ال عليه و سلم – ،و آثار من كان قبله من
ع َرضَ عَنْهَا َو َنسِيَ مَا َق ّدمَتْ َيدَاهُ " (َ " ، )13و َمنْ أَظَْلمُ ِممّن ذُ ّكرَ
ظلَمُ ِممّن ذُ ّكرَ بِآيَاتِ رَ ّبهِ فَ َأ ْ
المؤمنين " َو َمنْ أَ ْ
ج ِرمِينَ مُن َت ِقمُونَ " (. )14 عنْهَا إِنّا ِمنَ ا ْلمُ ْ
عرَضَ َ بِآيَاتِ رَ ّبهِ ثُمّ َأ ْ
و أنا أُ َب ّينُ لك يا عبد الملك بن مروان ما أنكر المسلمون على عثمان و فارقوه عليه ،عسى أن تكون غاف ً
ل
فأذكّرك ،أو جاهلً فأُعرّفك ،فل يحملنك هوى عثمان يا عبد الملك أن تكذّب بآيات ال ،فإنّه ل يُغني عنك من
ال شيئاً .
فال ال يا عبد الملك قبل التّنَاوش من مكان بعيد ،و قبل أن تكون ِلزَاماً ،و إنّه كان ِممّا طعن عليه المسلمون و
س ُمهُ َوسَعَى فِي
جدَ الّ أَن ُيذْ َكرَ فِيهَا ا ْ
فارقوه و فارقناه عليه ،قال ال عز و جل " َو َمنْ أَظَْلمُ ِممّن مّ َنعَ َمسَا ِ
عظِيمٌ " ( )15و عذَابٌ َخ َرةِ َ خزْيٌ َولَهُمْ فِي ال ِخرَابِهَا أُوْلَـ ِئكَ مَا كَانَ لَ ُهمْ أَن َيدْخُلُوهَا إِلّ خَآئِفِينَ ل ُهمْ فِي الدّنْيَا ِ
َ
كان عثمان أول من منع مساجد ال أن يُ َقصّ فيها كتاب ال .
و ممّا نقمنا عليه أنّه أمّر أخاه الوليد بن عُ ْقبَة ( )12على الناس ،فكان يلعب بالسّحر ،و يصلي بالناس سكران ،
فاسق في دين ال ،و إنمّا أمّره من أجل قرابته .
و ممّا نقمنا عليه جعل المال دُو َلةً بين الغنياء ،و قد قال ال عز و جل " :كَيْ لَ َيكُونَ دُو َلةً َب ْينَ ا َلْغْ ِنيَاء مِنكُمْ
" ( )13فبدّل فيه كلم ال و اتبع هواه .
و ممّا نقمنا عليه أنّه منع مواضع القطر ،و حماها لنفسه و لهله ،ومنع الرزق الذي أنزله ال لعباده متاعاً [
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
للً
حَحرَامًا وَ َ
]77لهم و لنعامهم ،و قد قال ال عز و جل " :قُلْ أَ َرأَيْتُم مّا أَنزَلَ الّ لَكُم مّن رّزْقٍ فَجَعَ ْلتُم مّ ْنهُ َ
قُلْ آلّ َأ ِذنَ لَ ُكمْ أَمْ عَلَى الّ َتفْ َترُونَ" (. )14
و الذي أحدث عثمان منعه فرائض كان فرضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي ال عنه – و أنقص أهل
بدر أعطياتهم ألف ألف ،و كنـز الذهب و الفضة ،و لم ينفقهما في سبيل ال ،و قد قال ال عز وجل " :وَاّلذِينَ
حمَى عََليْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ
ش ْرهُم بِ َعذَابٍ َألِيمٍ ( )34يَوْمَ يُ ْ
ضةَ وَلَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الّ فَ َب ّ
يَ ْك ِنزُونَ ال ّذهَبَ وَا ْل ِف ّ
جبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُو ُرهُمْ هَـذَا مَا كَ َنزْتُمْ لَن ُفسِكُمْ " ( )17الية. فَتُكْوَى بِهَا ِ
و ممّا نقمنا عليه كان َيضُمّ كل ضالة إلى إبله ،و ل يردّها ،و ل يعرفه ،و كان يأخذها من البل و الغنم إذا
وجدها عند أحد ،و إن كانوا قد أسلموا عليها ،و كان لهم في حكم ال ما أسلموا عليه ،و قد قال ال عز و جل :
طلِ
سدِينَ " ( ، )18و قال " :لَ تَ ْأكُلُواْ َأمْوَالَ ُكمْ بَيْ َنكُمْ بِا ْلبَا ِ
خسُوا النّاسَ َأشْيَاءهُمْ وَلَ تَ ْعثَوْا فِي ا َلْ ْرضِ مُ ْف ِ
" َولَ َتبْ َ
إِلّ أَن تَكُونَ تِجَا َرةً عَن َترَاضٍ مّنكُمْ " (. )19
و ممّا نقمنا عليه أنّه أخذ خمس ال لنفسه ،و أعطى منه أقاربه ،و كان ذلك تبديلً لحكم ال ،و فرض ال
سهُ وَلِل ّرسُولِ َوِلذِي الْ ُقرْبَى وَالْ َيتَامَى وَا ْل َمسَاكِينِ وَا ْبنِ السّبِيلِ " [ [ ]78إلى قوله ] " وَالّ
خ ُم َ
الخمس " :لِّ ُ
يءٍ َقدِيرٌ " (. )20 عَلَى كُلّ شَ ْ
و ممّا نقمنا عليه منع أهل البحرين و أهل عمان أنْ يبيعوا شيئاً من طعامهم حتى يباع [طعام ]المارة ،و ذلك
حرّمَ الرّبَا " ()21
تحريم ِلمَا أَحلّ ال َ " :وأَحَلّ الّ ا ْلبَ ْيعَ َو َ
===========================
جهَنيّ ( ت 36هـ ) أمره عليّ يوم الجمل بحمل مصحف ،فطاف به على القوم يدعوهم إلى الطاعة ،فقتل .تاريخ السلم و ( )1مسلم بن عبدال ال ُ
وفيات المشاهير و العلم ( عهد الخلفاء و الراشدين ) ،ص ، 535و المغازي للواقدي ص . 750
( )2لم أجد له ترجمة رغم البحث الشديد .
ج ْندُب بن كعب
( )3حدث تحريف و تصحيف في السم ،و عند مقارنة السماء بما ذكر ف تاريخ الطبري و الكامل لبن الثير ،نجد السم الصحيح هو ُ
بن عبدال بن جَزء بن عامر الزدي الغامدي ( ت 51هـ ) أبو عبد ال ،يلقب بجندب الخير ،صحابي جليل ،ذكره ابن حجر في الصابة من القسم الول
،و هو قاتل الساحر على الصحيح ،و سبب قتله الساحر أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما كان أميرا على الكوفة حضر عنده ساحر ،فكان بلعب بين
يدي الوليد ،يريه أنه يقتل رجل ثم يحييه ،فأخذ سيفا من صقيل و اشتمل عليه ،و جاء إلى الساحر فضربه ضربة فقتله ،ثم قال :أحي نفسك ،ثم قرأ
" :أفتأتون السحر و أنتم تبصرون " [ النبياء ]3 :فحبسه الوليد ،فلما رأى السجان صلته خلى سبيله ،فأخذ الوليد السجان فقتله ،ثم انطلق جندب
إلى أرض الروم فلم يزل يقاتل بها المشركين حتى مات .الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ، )2/106و أسد الغابة ( ) 362-361 /1و تاريخ
الطبري [ طبعة دار المعارف ] ( ، ) 326 / 4و الكامل في التاريخ [ طبعة دار صادر ] ( . )144 /3
جنْدُب بن زُهير بن الحارث بن كثير الزدي الغامدي ( ت 37هـ ) صحابي ،سكن الكوفة ،قيل هو قاتل الساحر ،و الصحيح غيره ،ذكره ابن حجر (ُ ) 4
في القسم الول من الصابة ،قتل بصفين و كان مع علي ،و هو ممن سيّره عثمان من الكوفة إلى الشام .الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( /7
) 103و أسد الغابة ( ) 359 /1و تاريخ السلم [ سيرة الخلفاء الراشدين ] ص . 560
( )5عمر بن زُرارة بن قيس بن عمرو النخعي ،قال ابن حجر في الصابة صحبته محتمله ،و هو ممن سيّره عثمان بن عفان من أهل الكوفة إلى الشام
،و هو أول من خلع عثمان .الصابة [طبعة الكليات الزهرية ] ( ) 107 /7و أسد الغابة ( . ) 720 /3
ججْر بن الحارث العبدي ( ت 63هـ ) أبو سليمان و يقال أبو عائشة ،أخو صعصعة و سحبان ن ( )6السم محرف و الصواب َزيْد بن صوحان بن ُ
اختلف في صحبته ،و ذكره ابن حجر في القسم الثالث من الصابة ،كان فاضل ديّنا خيّرا سيدا في قومه هو و إخوته ،شهد مع علي الجمل و قتل فيها .
الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( )88 /4و أسد الغابة ( ) 193 / 2و تاريخ السلم قسم الخلفاء الراشدين ص . 508
حرّف ،و السم الصحيح السود بن يزيد بن قيس النخعي ( ت 75هـ ) أبو عمرو ،و يقال ابو عبد ( )7لم أجد له ترجمة بهذا السم ،و ربما السم ُ
الرحمن ،تابعي كبير ،أدرك النبي و لم يره ،صاحب ابن مسعود ،و هو من فقهاء الكوفة و أعيانهم .الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ) 172 /1
و أسد الغابة ( . ) 107 / 1
( )8يزيد بن قيس بن تمام بم حاجب الهمداني الرحبي ،له إدراك ،و كان رئيسا كبيرا في قومه ،كان مع علي في حروبه ،و وله شركته ،ثم وله بعد
ذلك أصبهان و الري و همذان .الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( . ) 386 / 10
و من عمل عثمان أنّه يحكم بغير ما أنزل ال ،و قد خالف سبيل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و سبيل
سبِيلِ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ نُ َوّلهِ مَا
صاحبيه ،و قال ال تعالى َ " :ومَن ُيشَاقِقِ الرّسُولَ مِن َب ْعدِ مَا َتبَ ّينَ َلهُ الْ ُهدَى وَيَتّ ِبعْ غَ ْيرَ َ
تَوَلّى َو ُنصْ ِلهِ جَهَنّمَ َوسَاءتْ َمصِيرًا " ( ، )1و قال َ " :ومَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أنزَلَ الّ فَأُ ْولَـ ِئكَ هُمُ الظّا ِلمُونَ " (، )2
و " الْكَا ِفرُونَ " ،و " ا ْلفَاسِقُونَ " ،و قال " :أَلَ لَ ْع َنةُ الّ عَلَى الظّا ِلمِينَ " ( ، )3وقال َ " :ومَن يَ ْل َعنِ الّ فَلَن
ظَلمُواْ فَ َت َمسّ ُكمُ النّارُ " ( ، )5و قال َ " :كذَ ِلكَ حَقّتْ َكِلمَتُ جدَ َلهُ َنصِيرًا " ( ، )4وقال " :وَلَ َترْكَنُواْ إِلَى اّلذِينَ َ
تَ ِ
رَ ّبكَ عَلَى اّلذِينَ َفسَقُواْ أَنّ ُهمْ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ " ( ، )6و كلّ هذه اليات تشهد على عثمان ،و إنّما شهدنا عليه بما
شهدت به عليه هذه اليات " :لّـ ِكنِ الّ َيشْ َهدُ ِبمَا أَنزَلَ إِلَ ْيكَ أَنزَ َلهُ بِعِ ْل ِمهِ وَا ْلمَلئِ َكةُ َيشْ َهدُونَ َوكَفَى بِالّ شَهِيدًا "
(. )7
فلمّا رأى المسلمون الذي أتى به عثمان من معصية ال ،و المؤمنون شُ َهدَاء ال في أرضه ،ناظرون في أعمال
عمَلَ ُكمْ َو َرسُوُلهُ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ " ( )8وترك خصومة عمَلُواْ َفسَ َيرَى الّ َ الناس ،و قال ال عز و جل َ " :وقُلِ ا ْ
سبَ النّاسُ ح ِ[الخصمين] في الحقّ و الباطل ،و وقع ما وعد ال من الفتن ،و قد قال ال عز و جل " :الم ( )1أَ َ
ص َدقُوا وَلَ َيعْ َل َمنّ الْكَاذِبِينَ
أَن ُي ْترَكُوا أَن َيقُولُوا آ َمنّا َوهُمْ لَ ُيفْتَنُونَ (َ )2ولَ َقدْ فَ َتنّا اّلذِينَ مِن قَبْلِ ِهمْ فََليَعْ َل َمنّ الُّ اّلذِينَ َ
(. )9( ")3
علَمَ المسلمون أنّ طاعة عثمان على ذلك طاعة إبليس ،فساروا إلى عثمان في أطراف الرض ،و اجتمعوا و َ
إليه في ملءٍ من المهاجرين والنصار ،و عامة أزواج النبي – عليه الصلة والسلم ، -فأتوه فذكّروه بال ،و
أخبروه بالذي أتى من معاصى ال ،فزعم أنّه يعرف الذي يقولون ،و أنّه يتوب إلى ال عز و جل منه ،و يراجع
الحقّ ،و قَبِلُوا منه الذي أتاهم به من العتراف بالذّ ْنبِ ]79[،و التّوبة إلى ال عزّ و جلّ ،و مراجعة الحقّ ،و
كان حقّاً على أهل السلم إذا التقوا بالحقّ أن يَقْ َبلُوه ،و يجامعوه ما استقام على الحقّ ،فلمّا تفرّقوا عنه ،نكث
الذي عاهدهم عليه ،و عاد إلى أعظم من الذي تاب منه ،فكتب إلى عماله في أدبارهم أن تقطع أيديهم و أرجلهم
و ذكرت كونه مع رسول ال – صلى ال عليه و سلم -و خُلّته معه ،فقد كان علي ابن أبي طالب أقرب قرابة
إلى رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و أعظم خلة ،و أقدم هجرة ،و أسبق إسلماً ،و أنت تشهد له
بذالك ،و أنا بعد ذلك .
عزّ نفسك ،و ل تسند دينك إلى الرجال ،فإنّهم يستدرجون من حيث ل يعلمون فل يغرّنّك يا عبد الملك بن مروان ِ
،فإنّ أملك العمال خواتمها ،و كتاب ال جديد أبداً ل ينطق إل بالحقّ ،أجارنا ال بإتباعه أن نبغي أو نضلّ ،
فاعتصم بال يا عبد الملك بن مروان يهدك إلى صراط مستقيم ،قال ال عز و جل [َ " :]80ومَن يَعْ َتصِم بِالّ فَ َقدْ
ستَقِيمٍ " ( ، )14و كتاب ال هو حبل ال المتين الذي أمر المؤمنين أن يعتصموا به فقال" : صرَاطٍ ّم ْ
ُهدِيَ إِلَى ِ
جمِيعًا وَلَ تَ َف ّرقُواْ " ( ، )15فأنشدك ال أن َتدَبّر معاني القرآن فتكون مهتدياً به ،مخاصماً صمُواْ ِبحَبْلِ الّ َ
وَاعْ َت ِ
به ،قال ال عز و جل َ " :أ َفلَ يَ َت َد ّبرُونَ الْ ُقرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأقْفَالُهَا " (. )16
================================
( )1النساء .115 :
( )2المائدة .45:
( )3هود .18 :
( )4النساء .52:
( )5هود113 :
( )6يونس .33 :
( )7النساء .166 :
( )8التوبة .105 :
( )9العنكبوت .3-1 :
( )10التوبة .12 :
( )11محمد . 25:
( )12المائدة .50 :
( )13الجاثية . 6 :
( )14آل عمران .101 :
( )15آل عمران. 103 :
( )16محمد . 24 :
و أما قولك في معاوية أنّ ال قام معه ،وعجّل نصره ،و بَ َلجَ حجته ،و أظهره على عدوه بطلب لدم عثمان ،
فإن كنت تعتبر الدّين من قبل الدولة و الغلبة في الدنيا ،فإنّا ل نعتبره من قبل ذلك ،فقد ظهر المسلمون على
الكافرين لينظر كيف يعملون ،و ظهر المشركون على المؤمنين ليبلي المؤمنين و يملي للكافرين و قال " َوتِ ْلكَ
فل تعتبر الدّين من قبل الدولة ،فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ،و قد أعطى ال فرعون مُلْكاً و ظهر في
الرض ،و أعطى الذي حاج إبراهيم في ربه ملكاً .
ثمّ إنّ معاوية إنمّا اشترى المارة من الحسن بن علي ،ولم يفِ له بما اشترطه عليه ،و عاهد ال العظيم ليوفين
له ،و قد قال ال عز و جل َ " :ولَ تَن ُقضُواْ ا َل ْيمَانَ بَ ْعدَ تَوْكِي ِدهَا " (. )6
فل تسأل عن معاوية و عن صناعته غيري -أي أنا أعرف به من [ ]81غيري -لنّي قد أدركته ،و رأيت عمله
و سيرته ،و ل أعلم أحداً من الناس أترك للقسمة التي قسمها ال ،و ل لحكم حكمه ال ،و ل أسفك لدم حرّمه
ال منه ،فلو لم ُيصِبْ من البليا إل دم ابن سمية لكان فيه ما يكفره ،ثمّ استخلف ابنه يزيد ،فاسقاً لعيناً كافراً
شارباً للخمر فيكفيه من الشر ،فل يخفى عمل معاوية و يزيد على كل عاقل .
فاتّق ال يا عبدالملك ،و ل تخادع نفسك في معاوية ،فقد أدركنا أهل بيتكم يطعنون في معاوية ويزيد ،و يعيبون
عليهما كثيراً مما يصنعون ،فمن يتولى عثمان ومن معه فإنّي أشهد ال وملئكته أنّي بريء منهم ،أعداء لهم
بأيدينا و ألسنتنا و قلوبنا ،نعيش على ذلك ،و نموت عليه إذا متنا ،و نُبْ َعثُ عليه إذا بعثنا ،و نحاسب لذلك
عند ال .
و كتبتَ إليّ تحذرني الغلو في الدين ،أعوذ بال من الغلو ،و سأبين لك ما الغلو في الدّين إذا جهلته ،فالغلو في
الدّين أن يقال على ال غير الحقّ ،و ُي ْعمَلُ بغير كتاب ال الذي بيّن ،و سنة نبيه التي سنّ ،وقال ال " :يَا َأهْلَ
حقّ " ( ، )7وقال " :يَا َأهْلَ الْ ِكتَابِ لَ تَ ْغلُواْ فِي دِينِ ُكمْ غَ ْيرَ
الْكِتَابِ لَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَ تَقُولُواْ عَلَى الّ إِلّ الْ َ
الْحَقّ " (. )8
كما غل عثمان و الئمة بعده ،و أنت بَ ْعدُ على سبيلهم و طاعتهم ،تجامعهم على معصية ال [ و تتبعهم ،و قد
اتبعوا أهواءهم و تبعتهم أنت عليها ،وقال ال عز و جل " َولَ َتتّبِعُواْ َأهْوَاء] ( )9قَوْمٍ َقدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ َوَأضَلّواْ
كَثِيرًا َوضَلّواْ عَن سَوَاء السّبِيلِ " ( )10فهؤلء هم أهل الغلو في الدين ،فليس من غضب ل حين عُصي ،و
رضي بحكم ال ،و دعي إلى كتاب ال ،و إلى سنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ،و سنة المؤمنين
بعده بغالٍ في الدّين .
و كتبت إليّ تُ َعرّض بالخوارج ،و تزعم أنّهم يغلون في الدّين ،و يتبعون غير سبيل المؤمنين ،و يُفَارِقُون []82
أهل السلم -و أراد بذلك الغمز من المسلمين ،و الطّعن فيهم ،فألجمه ابن إباض – رحمه ال – بما أبداه له
قائل له في صراحة من القول -و أنا أُبيّن لك سبيلهم ،هم أصحاب عثمان الذين أنكروا عليه ما أحدث من
بدعة ،و فارقوه حين ترك حكم ال ،و هم أصحاب الزبير و طلحة حين نكثا ،و أصحاب معاوية حين بغى ،و
أصحاب علي حين بدّل حكم ال ،و حكّم عبدال بن قيس و عمرو بن العاص ،فهم فارقوا هؤلء كلهم ،و أبوا
أن يفرقوا بحكم البشر دون حكم ال ،فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة و أشدّ مفارقة .
كانوا يتولون في دينهم و سنة نبيهم محمد – صلى ال عليه و سلم – و أبي بكر و عمر – رضي ال عنهما – و
يدعون إلى سبيلهم ،و يرضون على ذلك ،كانوا يخرجون ،و إليه يدعون ،و عليه يفارقون ،و قد علم من
هذا خبر الخوارج ،شهد ال و ملئكته أنّا لمن عاداهم أعداءنا ،و لمن والهم أولياؤنا بألسنتنا ،و أيدينا ،و
قلوبنا -أي نحن معهم لكونهم على الحقّ ،و لو أراد عبدال بن إباض )11( ....لكان و جدها عند عبد الملك
المذكور -و لكنا نعيش على ذلك ما عشنا ،و نموت عليه إذا متنا ،و نبعث عليه عند ربنا .
==========================
( )1آل عمران . 141-140 :
( )2يعنى معركة الجمل ،التي دارت بين علي بن أبي طالب و طلحة و الزبير .
( )3المختار بن أبي عبيدة بن مسعود الثقفي (ت 68هـ) أبو إسحاق ،من زعماء الثائرين على بني أمية ،و أحد الشجعان الفذاذ ،لما قتل الحسين سنة
61هـ ،انحرف المختار عن عبيد ال بن زياد ،فقبض عليه ابن زياد و جلده و حبسه ،و نفاه بشفاعة ابن عمر إلى الطائف ،و لما مات يزيد بن
معاوية سنة 64هـ ،قام عبدال بن الزبير في المدينة بطلب الخلفة ،ذهب إليه المختار ،و عاهده ،و شهد معه بداية حرب الحصين بن نمير ،استأذنه
في التوجه إلى الكوفة ليدعو الناس إلى طاعته ،فوثق به و أرسله ،و لكان كان أكبر همه منذ دخل الكوفة أن يقتل من قاتلوا الحسين و قتلوه ،فدعا إلى
إمامة محمد بن الحنفية ،فبايعه زهاء سبعة عشر ألف رجل سرا فخرج بهم ،و سيطر على الكوفة و الموصل و قتل من قتل الحسين ،و عمل مصعب
بن الزبير ،و هو أمير البصرة بالنيابة عن أخيه عبد اللهو قاتل المختار حتى قتله و قتل من كان معه .العلم ( . )192 / 7
( 4تحريف و أصله " ابن زياد " و هو عبيد ال بن زياد بن أبيه ( 28هـ 67 -هـ ) والٍ ،فاتح ،من الشجعان ،جبار ،خطيب ،ولد بالبصرة ،عينه
معاوية أميرا على البصرة سنة 55هـ ،و أقره يزيد عليها ،قتله ابن الشتر قائد المختار الثقفي .العلم ( . ) 193 /4
( 5في أثناء حكم يزيد بن معاوية و على يد قائده مسلم بن عقبة المري .
( 6النحل .91 :
( 7النساء . 171 :
( 8المائدة.77 :
( 9سقط من الصل ،فأتممناها من الجواهر المنتقاة .
(10المائدة . 77 :
( 11كذا بالصل ،و سياق الكلم يدل على سقط يوجد هنا .
إنّا ُبرَاء إلى ال من نافع بن الزرق ( )1و صنيعه و أتباعه ،و لقد كان حين خرج على السلم فيما ظهر لنا -
أي كانوا هو و أتباعه من جملة رجال المسلمين -و لكنّه أحدث ،و ارتدّ و كفر بعد إسلمه ،فنبرأ إلى ال منهم
.
و أنت كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك ،و أجتهد لك في النصيحة ،و ذكرتني بال و أفضل ما ذكّرتني به
خذَ
أن قلت " ِإنّ اّلذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزَلْنَا ِمنَ ا ْلبَيّنَاتِ وَالْ ُهدَى مِن بَ ْعدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ " ( )2الية " َوِإذَ أَ َ
الّ مِيثَاقَ اّلذِينَ أُوتُواْ [ ]83الْ ِكتَابَ لَ ُتبَيّ ُن ّنهُ لِلنّاسِ وَلَ تَ ْك ُتمُو َنهُ " ( )3فقد بينت لك و أخبرتك خبر الئمة ،و كان
حقاً علي أن أنصح لك ،فإنّ ال لم يتخذني عبداً لكفر به ،و ل مخادع الناس بشيء ليس في نفسي ،و أخالف
إلى ما أنها عنه .
أدعوكم إلى كتاب ال و سنة نبيه – صلى ال عليه و سلم – لتحل الحلل و تحرم الحرام ،و ل تظلموا الناس
شيئاً ،و أن يكون كتب ال حكماً بيني و بينكم فيما اختلفنا فيه ،و أن نتولّى من تولى ال ،و أن نبرئ ممن تبرأ
ال منه ،و أن نطيع من أمر ال بطاعته ،و نعصى من أمر ال بعصيانه في كتابه .فهذا الذي أدركنا عليه نبينا
– صلى ال عليه و سلم و آله ، -و إنّ هذه المة لم تسفك دما إل حين ترك كتاب ال و سنة رسوله ونبيه ،و
علَ ْيهِ تَوَكّلْتُ َوِإلَ ْيهِ أُنِيبُ " ( )4و
ح ْك ُمهُ إِلَى الِّ ذَِلكُمُ الُّ رَبّي َ
يءٍ فَ ُ
قد قال ال عز و جل " َومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِن شَ ْ
القرآن هو السبيل الواضح الذي هدى ال به من كان قبلنا محمداً و أصحابه الخليفتين الصّالحين ،و ل يضلّ من
سبِي ِلهِ
صرَاطِي ُمسْ َتقِيمًا فَاتّبِعُوهُ َولَ َتتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَ َفرّقَ بِكُمْ عَن َ
تبعه ،و ل يهتدي من تركه ،و قال " َوَأنّ هَـذَا ِ
فاحذر أن تتفرق بك السبل و تتبع هواك ،فإنّ الناس إنما يتبعون في الدنيا و الخرة إمامين :إمام هدى و إمام
ضلل ،فإمام الهدى الذي يتبع كتاب ال و يقسم بقسمة ال ،و يحكم بحكم ال ،و هو الذي قال ال عز و جل
فيه " وَجَ َعلْنَا ُهمْ أَ ِئ ّمةً يَ ْهدُونَ بِ َأ ْمرِنَا " ( )6و هؤلء هم الئمة الذين أمر ال بطاعتهم و نهى عن معصيتهم .
و أمّا أئمة الضلل فهم الذين يحكمون بغير ما أنزل ال ،و يقسمون بغير قسمة ال ،و يتبعون أهوائهم بغير
سنة من ال ،فهؤلء هم الذين قال ال عز و جل فيهم " وَجَ َعلْنَا ُهمْ أَ ِئ ّمةً َي ْدعُونَ إِلَى [ ]84النّارِ وَيَوْمَ الْ ِقيَا َمةِ لَ
طعْ َمنْ َأغْفَلْنَا قَ ْل َبهُ
جهَادًا َكبِيرً " ( )8وقال " َولَ ُت ِ طعِ الْكَا ِفرِينَ وَجَا ِه ْدهُم ِبهِ ِ صرُونَ " ( )7و فيهم قال " َفلَ تُ ِ يُن َ
ضلَلُ " (. )11 حقّ " (َ " ، )10فمَاذَا بَ ْعدَ ا ْلحَقّ إِلّ ال ّ علَيْكُم بِالْ َ
طقُ َ
عَن ذِ ْكرِنَا وَاتّ َبعَ هَوَاهُ " (َ " )9هذَا ِكتَا ُبنَا يَن ِ
و قد كتبت إليّ بمرجوع كتابك فأنشدك ال لما قرأته و أنت مشغول حتى تتفرّغ له ،و تتدبر معانيه ،و تنظر فيه
بعين البصيرة ،و اكتب إليّ جواب كتابي هذا إن استطعت ،و انزع إليّ الشواهد من كتاب ال و البينة منه ،
فاصدق بذلك قولك ،و ل تعرّض لي بالدنيا فإنّه ل رغبة لي في فيها ،و ليست من حاجتي ،و لكن لتكن
نصيحتك لي في الدّين و لما بعد الموت ،فإن ذلك أفضل النصيحة .
و ال قدير أن يجمع بيننا و بينك على الطّاعة ،فإنّه ل خير فيمن لم يكن على طاعة ال ،و بال التوفيق و فيه
الرضا ،و السلم عليك "
إلى هنا انتهى كتاب عبدال بن إباض – رحمه ال و رضي عنه – لعبد الملك بن مروان ،و فيه من الرشد ،و
النصح ،و الهدى ،و النهي عن مجانبة الحق ،و البعد منه ،و المقاربة للباطل ،و المتابعة له ،فإن متابعة
الباطل توجب الباطل و الردى ،و ل يخفى ذلك على أحد .
=====================================
( )1نافع بن الزرق بن قيس الحنفي البكري الحروري ( ت 65هـ ) أبو راشد ،رأس الزارقة ،و إليه نسبتهم ،كان أمير قومه و فقيههم ،صحب أول
أمره عبد ال بن عباس ،و له أسئلة ،كان من أنصار الثورة على عثمان ،ن و اعتزل قضية التحكيم ،و خرج نافع يعترض الناس بعد رجوعه من
نصرة ابن الزبير ،و كان جبارا فتاكا ،قاتله المهلب بن أبي صفرة و لقي الهوال في حربه ،و قتل يوم " دولب " على مقربة من الهواز .العلم (
. )352 /7
( )2البقرة .159 :
( )3آل عمران .187 :
( )4الشورى.10 :
( )5النعام . 153 :
( )6النبياء . 73 :
( )7القصص . 41 :
( )8الفرقان . 52 :
( )9الكهف . 28 :
( )10الجاثية . 29 :
( )11يونس . 32 :
و هذا كان دأب العلماء الذين جعلهم ال حجة في الدين ،و عمدة في المسلمين ،ل ينظروا إلّ إلى رضى ال عز
و جل ،و إن أُهلكوا و مزقوا إرباً إرباً ،ل يبالون بذلك في سبيل ال عز وعل .
سلَمِ
و عن الشيخ الفقيه الفاضل سالم بن حمد بن سليمان ( )1قال " :قال ال عز و جل " َومَن يَ ْب َتغِ غَ ْيرَ ا ِل ْ
سلَمُ" ( ، )3و قال سبحانه و تعالى " َأ َفمَن كَانَ دِينًا فَلَن يُ ْقبَلَ مِ ْنهُ " ( )2و قال جل و عل " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ
مُ ْؤمِنًا َكمَن كَانَ فَاسِقًا لّ َيسْتَوُونَ " ( ، )4و السلم واليمان معناهما واحد ،و إن اختلفا لغة ،فالختلف
لفظي".
قلت :ل على الطلق بل يختلفان في مواضع جاء بها القرآن واضحةً نيرةً .
قال " -:و هما اللذان بعث ال [ بهما ] الرسل ،وأنزل بهما الكتاب ،و أقام بهما السماوات و الرض ،و بهما
وَعدَ الجنة ،و بهما تَوعّد النّار ،و لجلهما خلق الخلق ،و خلق لهم الرض ،وخلق الجنّة و النّار ،وعليهما
مات رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله ، -و من استقام من أصحابه – رضوان ال عليهم ، )5( -و
عليهما سلك من صلح من الئمة و الصالحين من بعدهم إلى قيام الساعة ل تبديل لكلمات ال و ل إطفاء لنوره ،
طفِؤُوا نُورَ الِّ بِ َأفْوَاهِهِمْ وَالُّ ُمتِمّ نُو ِرهِ وَلَوْ َك ِرهَ الْكَافِرُونَ " ( )6تلك هي
و لو حاول من حاول " ُيرِيدُونَ لِيُ ْ
معارف ابن إباض في الفقه ،و في الهتداء إلى ال عز و جل ،و في الثبات في الزمات على الحق ،و في
إتباع ما شرع ال لعباده ،و ما افترض عليهم من الواجبات ،وفي نصح الملوك ،وتبيين الحق ،و إلزامهم
الحجة التي أوجب ال عز و جل إلزامها العباد ،غير مداهن ،و ل مُداجٍ ،و ل متزلف – حاشاه ، -و تلك أقواله
لعبد الملك بن مروان ،و تصريحاته له عما هو عليه ،دالة واضحة صريحة ،و كان نطاق الملوك إذ ذاك
ضيقاً ،و كان أمرهم على المة شديداً ،و بالخص على أهل العلم ؛ فإنّهم ل يزالون في السلسل و الغلل و
القيود ،و لم يرع ذلك عبدال بن إباض – رحمه ال – وما آل جُهداً في مناقشة عبد الملك بن [[ ]86مروان ]،
وإظهار سيرته و تأنيبه بما فيه و عليه .
و ذلك هو الواجب على كل مسلم يرى نفسه مسئولً أمام ال عز و جل ،كما قال ال " -:لَتُ َبيّنُ ّنهُ لِلنّاسِ َولَ
تَ ْك ُتمُو َنهُ " (. )7
و لم يخف عبدال بن إباض عبدالملك وسلطانه و ل حاباه و ل توقاه ،و يدلك على صحة ذلك أنّه كان ل يخاطبه
إل باسمه ،و ل يزيده على عبدالملك ،و يقدم اسمه عليه في كتبه عملً بالسنة ،و إتباع نهج أهل الحقّ من
الصحابة و التابعين ،و تعززاً بالعلم ،و اعتماداً على الحق ....
ولما كان عبدال بن إباض بهذه الحال كانت له شُهرة بين رجال العلم ،و قام له صيت شاع في العالم السلمي
أيده عليه رجال العلم ،وصوّبوه إل الذين ل يرون إل طاعة الملوك جاروا أم عدلوا ،و هؤلء هم الذين قام ()8
الملوك على هامات الناس حيث أوجبوا طاعتهم ،و لم يروا خلفهم في شيء ،وتأولوا فيهم الدلة ،و ليست لهم
،و رَضوا بهم حكاماً على عباد ال جاروا فيهم أم عدلوا ،و لم يرد القرآن و السنة النبوية إل برد كل باطل من
أي كان صغيراً أم كبيراً ،ملكاً كان أو مملوكا ،ل فرق في ذلك .
أما " :إن عدلوا فاحمدوا ال ،و إن جاروا فصبروا " ( )9و نحو هذه الحاديث ،فهذا عند العجز عن القيام
عليهم ،فيجب أولً النّصح لهم فإن رجعوا إلى الحق فبها و نعمت ،و إل وجب عزلهم عن المر و تولية
المحق ،و على هذا قاتل المسلمون عثمان بن عفان الخليفة الثالث الذي ثبتت إمامته بإجماع ،لما جار ناصحوه
أولً ،ثم قاموا عليه وقتلوه ،وكلهم قاتله إل حاشيته و خدمه و خاصته من أهل المطامع ،و كان هذا قانوناً
ذلك لنّ الحق ضد الظالم ،فإذا كان متسلطاً على الحق فكيف يقوم الحق ؟ ،و الحال تكون المور متناقضة يرد
بعضها بعضاً ،فهذا من الفساد الذي تؤيده العقول ،و تشهد ببطله النقول ،فالمسلمون يؤيدون من بني أمية
عمر بن عبد العزيز لكونه كان على الحق ،و أمّا من عداه فل ،ذلك أصحّ دليل الباضية ،و يشهد بصحة
مذهبهم ،و يُعرب عن حسن أعملهم في الدين . ...
و كان عبدال بن إباض من هذا النوع ،و لذلك صارت له شهرة في العالم ،فأيّده المسلمون عليها في أنحاء
العالم ،و بذلك أضيفوا إليه فقيل لهذا الجنس من المة إباضية ،و شاع فيهم ،و لم يتبرموا منه خلف
المتمذهبين تقليداً لشيخ ،أو لمام من أئمة العلم فيما قال ،و اعتماداً عليه ،وتقديماً له حتى على النصوص
الشرعية ،فيقولون مذهب إمامنا ل نرى أن تقتحمه إلى غيره ،و هذا فاسد باطل بل على كل مسلم أن يقدم
النص الشرعي على كل حال ،إل إن لم يجده وجب أن يجتهد ،و معنى يجتهد :أي يبذل ما لديه من الجهد ،و
الوسع والطاقة في التماس ما يكون من جنس ما هو أمسُ بالشَبَه و الصفة ،ويأخذ ما يدل عليه بطريق
الستنباط ،ل يقلد عالماً مثله ،و يركن إلى قوله من غير أن يعرفه حقاً أم باطلً ،ويعتمد عليه ،أما إذا كان من
الذين ل يهتدون إلى هذا ،وأرد أن يعمل ،أو المراد أن يقول ،جاز له أن يأخذ قول أحد العلماء الذين يظنّ أنهم
أعلم بالحوال ،و أقرب منها مثالً ،و أولها وجهاً ،و أبينها صورة ،طلباً للحق و إتباعـاً له]88[.
===============================
( )1سالم بن حمد بن سليمان بن حميد الحارثي المضيربي ،أبو عبدال ،عماني ،معاصر ولد سنة ( 1352هـ 1933 -م ) بالمضيرب من شرقية
عمان ،تتلمذ على الشيخ ناصر بن حميد الراشدي ،و الشيخ ناصر بن سعيد النعماني ،و الشيخ خلفان بن جميل السيابي ،أدرك المام محمد بن
عبدال الخليلي و الشيخ عيسى بن صالح الحارثي ،قام بطبع فتاوى المام الخليلي ،وفتاوى المير عيسى بن صالح الحارثي ،و فتاوى صالح بن علي
الحارثي ،و فتاوى العلمة عبدال بن حميد السالمي ،وقام بتحقيق كتاب منهج الطالبين و بلغ الراغبين في واحد عشرين جزء ،وغيره من كتب
التراث ،وله من الكتب العقود الفضية في أصول الباضية ،و المسالك النقية ،و النخلة .
(مقدمة العقود الفضية )3/و لم استطع الحصول على المصدر الذي نقل منه المؤلف هذا الكلم .
( )2آل عمران . 85 :
( )3آل عمران . 19 :
( )4السجدة . 18 :
( )5كرر المؤلف هنا الترضية سهوا
( )6الصف . 8 :
( )7آل عمران . 187 :
( )8كذا في الصل ،و هو غير واضح المعنى ،ولعل الصحيح " أقاموا " .
( )9لم أجده بهذا اللفظ ،و لكن صاحب كنز العمال ذكر طائفة كبيرة من الحاديث بهذا المعنى ،تحت عنوان " إطاعة المير و الترهيب عن البغي و
مخالفته " ،فمن أراد أن يطلع عليها فليرجع إليها في الجز السادس من ص 49إلى ص 67و هي معزوة إلى مخرجيها .
( )10فصلت . 42 :
( )11البقرة . 124 :
المقام الثالث
[ الشرح ]
كنّا وضعنا لهذا المقام عنواناً هو " اعرف الرجال بالحق ل الحق بالرجال" ذلك لنّ الباضية عرفت بالحق في
جميع أدوار حياتها الدينية ،و ل تعتمد على غيره ،و ل ترى غيره شيئاً أبداً مهما كان ،و أياً كان حلواً كان أو
مُراً ،و كما قلنا سابقاً أنّ المام عبد ال بن إباض لم يكن من العلماء الذي تحيزوا بمذاهبهم ،وتميزوا بطرقهم ،
و دعوا الناس لن يقلدوهم في أقوالهم ،و أفعالهم ،و اختياراتهم الخاصة .
فإذا فتشت آثار المسلمين ،و قرأت كتبهم مطلقاً من مشارقة ،أو مغاربة ،أو أياً كانوا لم تجد فيها قولً واحداً
لعبدال بن إباض و ل لبيه أيضاً ،في أي شأن من شؤون الدين بل والدنيا أيضا ،و في أي نوع من أنواع الفقه
أو غيره ،إل ما كان منه من نقاشٍ أو ردٍ على سلطان وقته عبد الملك بن مروان ،فقد رد عليه أشياء ينكرها
الشرع ،و على كل حال كان عبد الملك ملكاً كبيراً إذ يتسمى باسم الخليفة ،و هي التسمية للخلفاء الراشدين ،
ولديه كل ما كان من السلطات السلمية ،و تحت يده إذ ذاك كل القوة والشدة [ ]89و البأس ؛ فكانت له
سطوات على الناس َفعّالة ل تنكر ،و كان إنكارُ المنكر واجباً ،و لكن من ذا الذي يقدر أن يقوم بذلك الواجب
فينكر على عبدالملك ؟؟ ،و أين هو الذي يستطيع أن يرفع عقيرته أمام ذلك السلطان ؟؟ ،و من أعوانه الحجاج
بن يوسف ذلك الطاغية الظالم العاتي و أمثاله .
و كان عبد ال بن إباض لعزّته ،و بعزيمته الصارمة ،و بمنعته من قومه صار يجترأ على المذكور في نقاشه ،
و دار بينه و إياه مقال طويل و عريض ،أبان فيه عبدال بن إباض الحجج الصريحة التي يعرفها عبدالملك ؛
لنّه كان علمة فقيهاً كما جاء في ترجمته ،و يعلم حق العلم أنّ عبدال بن إباض ل يحابي و ل يداهن ،و هو
عزيز الجانب في دينه و دنياه ،فله في هذا المقام ما شهر به في العالم العربي في عهده ،و لذلك لم يشع ذكره
بعدُ لنّه بموته مات ذكره ،إذ لم يكن له تلمذته ،يؤثرون أقوله و أفعاله ،بل هو نفسه يصدر عن آراء المام
أبي الشعثاء – رحمه ال ، -وعليه يعتمد ،و إنما شاع اسمه أيام عبدالملك لما قام به إذ ذاك من نضال ،و
حوار فنسب إليه من كان على طريقته من المسلمين .
سمُها في الكتب بل كان عبداللذلك يقول المام الناظم – رحمه ال : -من ذاك ل تلقى له في المذهب مسألة َن ْر ُ
بن إباض زعيماً دينياً وإماماً بمعنى الزعامة الصحيحة ،فإنّها هي التي يصح أن يقال فيها خلفة راشدة ،و إن
صغرت هيئتها ،فإنّ أهل الحق قليلون بالنسبة إلى أهل الباطل ،و عبدالملك من أشد ملوك بني أمية ،فقام له هذا
البطل السلمي الذي ربته الشريعة السلمية السمحاء ،و غذته الطريقة الحقة في السلم ]90[،و كانت
العرب بطبيعة الحال ل تقر على الضيم ،و ل ترضى بغير العدالة كما قال قائلهم (: )1
على هذا عاش الباضية ،و يعيشون حماة للحق ،رماة للباطل ،دعاة للعدل ،هداة إلى الرشد ،ليس أتباع من
شرعوا لهم شرعة خصيصة فيتبعونهم عليها تبعة عمى ،و لو كان الباضيون يقلدون الرجال ،أو يتمذهبون
بمذاهب أفراد خصيصين ،لتمذهبوا بمذهب أبي بكر الصديق الخليفة الول ،و المام المجتمع على إمامته ،و إل
فبمذهب عمر بن الخطاب الفاروق الشديد في دين ال عز وعل ،و إل فبمذهب ابن عباس الحبر البحر الذي[
]91أمته الدعوة السلمية دعوة الرسول بالمدد الرباني ،و الفيض الروحاني ،و الوهب الروحاني ،و شملته
العناية اللهية ،أو بمذاهب أمثاله من إخوانه المؤمنين من الصحابة الهادين المهتدين الراشدين المرشدين .
و إل فبمذهب المام العالم العلمة الوحيد أبي الشعثاء جابر بن زيد ،الذي أجمعت المة على عدالته وثقته ،و
روت عنه العلماء على اختلف طبقاتهم كالبخاري ،ومسلم ،و غيرهما في الحديث ،و كأئمة التفسير أمثال
الجصاص ،و ابن العربي ( ، )3و غيرهم من سائر العلماء أهل المذاهب في كل عصر من لدن التابعين إلى اليوم
،و هو أقدم من حمل العلم عن الصحابة ،و أجلّ من نقل الفقه عن أمة الجابة ،و أول من دون الثار و حفظ
أحاديث النبي المختار ،و قلّ أن تجد مؤلفا مهماً في السلم إل وجدت أبا الشعثاء في قلب ذلك المؤلف ؛ لنّه
نزل من قلب كل مؤلف ،فترى المة تعول على نقله ،و تعتمد على صحة عقله ؛ فهو الخلف الصالح لذلك
السلف الطيب المصلح ،كما قلنا في رسالتنا " إزالة الوعثاء عن أتباع أبي الشعثاء " (. )4
فالباضية ل يحترمون الرجال مع الباطل ،و ل يهضمون أهل الحق مهما كانوا ومن كانوا .
و علماء الباضية يعتمدون على كتاب ال عز و جل في دينهم ،و أحكامهم ،و معاملتهم ،و على سنة رسول
ال – صلى ال عليه وآله وسلم – فإنها شرح وبيان للكتاب ،و يُعولون على ال وحده ل على الناس ،و ل
يهضمون جانب أحد من الناس مع الحق ]92[،و الحق مُقدم معهم على غيره (. )5
و علماء الباضية يعتمدون على ال ل على الناس قلوا أم كثروا ،انظر بعقلك الصحيح في حياة مالك بن أنس
إمام المالكية ،هل ترى له انتقاداً على ملك ،أو سلطان ،أو أمير مع كونهم بغاة عتاة يتبعون الهوى ،و يوالون
من ضلّ أو غوى؟؟!.
و كذلك حال الشافعي هل ترى له نقاشا لدى سلطة مهما كان ؟؟! ،و كذلك أبي حنيفة ،و ابن حنبل ؟؟! ،و إن قيل
:احتمل حالهم التقية ،قلنا :إنّ فتاويهم بطاعة الملوك جاروا أم عدلوا تمنع ذلك الحتمال .
وانظر في أحوال الباضية ،و استقرأ تآليفهم تجدهم على أئمتهم الفضلء المجاد ،الذين تضيء وجوههم
وهذا دأبهم منذ ذلك العهد حتى عهدنا ،فإن المام الرضي المرضي ذي الشخصية البارزة ،و النفس الفاضلة ،
صفْراً ()8
ذي الصفات الحميدة ،و الخصال الكاملة ،و العزيمة العاملة ،عزان بن قيس بن عزان ( ، )7أخذ ُ
من حصن المصنعة ،فحمله إلى الرستاق من مراجل و أواني يغرف فيها الطعام لضيوف حسب عرف وعادة ذاك
العهد ،و لم يذكر ذلك لخوانه المسلمين و ما مقصده بذلك ،و كانت الرستاق وطن آل عزان بن قيس ،فقال
المسلمون و عمدتهم العلمة الرضي سعيد بن خلفان الخليلي ( )9كيف يحمل عزان هذه الواني من حصن
المصنعة لحصن الرستاق و الكل حصون المسلمين ،و المسلمون معه و ل يشاورهم ،و يقضي بذلك بدون
إطلعهم ؟.
فساءت الظنون و تحرجت عليه النفوس ،وتحدثوا فيما بينهم بذلك حتى أفضى الحال بهم أن اجتمعوا على المام
في مسقط ،قائلين له :كيف فعلت كذا وكذا ،و لم تشعر إخوانك ؟ ،فأجاب بما أثلج به صدورهم ،و أزاح به
الحرج من قلوبهم ،و ملها طمأنينة و ولء ،وسكن من تأثيرها ،فرضوا عنه ،و عيناه تذرفان ،و كان معهم
معدوداً من أولى العزم في أئمة المسلمين ،و كان بطلً من أبطال العدالة ،و شخصية صالحة للدين ،اطمأنوا به
قبل إمامته – رحمه ال . )10( -
فانظر في هاتين القضيتين مع هذين المامين الرضيين في الدين أحدهما في الولين و الثاني في الخرين ،و
مثّلهما في نفسك ،و اعتبر بهما حالة القوم مع أولئك الئمة الغرّ الميامين ،و حسبك بذلك .
==========================================
( )1البيت لبشار بن برد من قصيدة مطلعها :
جفا وده فازور أمل صاحبه و أزرى به أن ل يزال يعاتـبه
خليلي ل تسنكير لوعة الهوى ول سلوة المحزون شطت حبائبه
ديوان بشار بن برد ص 109
( )2البيت لعمرو بن كلثوم معلقته التي مطلعها :
أل هبي بصحنك فاصبحينا و ل تبقي خمور الندرينا
مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا
شرح المعلقات السبع للزوزني ص 200
( )3محمد بن عبدال بن محمد المعافري الشبيلي المالكي ( 468هـ 543 -هـ) أبو بكر ابن العربي ،قاض من حفاظ الحديث ،ولد في إشبيلة و رحل
إلى الشرق ،بلغ رتبة الجتهاد ،من كتبه العواصم من القواصم ،عارضة الحودي في شرح الترمذي ،أحكام القرآن و غيرها ،مات بقرب فاس و دفن
بها .العلم (.)6/230
( )4من مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة ،سلطنة عمان ،تحقيق و شرح الدكتورة سيدة اسماعيل كاشف سنة 1979م .
( )5فائدة :قال العلمة المام الشيخ سعيد بن مبروك القنوبي – حفظه ال تعالى – في أحد كتبه " :إن تضعيف أصحابنا – عليهم رضوان ال تعالى –
لبعض أحاديث الشيخين أو غيرهما ،و كذلك عدم احتجاجهم بالحاديث الحادية في مسائل العتقاد ،ل يعني – بوجه و ل بآخر – أنهم يرون ضعف
جميع ما في هذه الكتب ،أو أنهم ل يرون الحتجاج بما فيها ،كما توهم الحشوية المجسمة ،حيث ادعوا زورا و بهتانا أن الباضية ل يحتجون بأحاديث
الشيخين أو بما في كتب السنة ....إلخ هرائهم .
ومن نظر في شيء من كتب أصحابنا – رضوان ال تعالى عليهم – وجد ما فيها يكذب هذه الدعوى من أصلها ،و يجتثها من أساسها ،فإنهم –
رضوان ال تعالى عليهم – قد احتجوا منها بمئات بل آلف الحاديث ،كما ل يخفى ذلك على من له أدنى اطلع على شيء من هذه الكتب ،بل إنهم قد
نصوا على ذلك ،و إليك بعض ما قالوه في ذلك :
-حسبك أن تتبع المختارا و إن يقولوا خالف الثارا
-نقدم الحديث مهما جاءا على قياسنا ول مـراءا
-ول تناظر بكـتاب ال و ل كلم المصطفى الواه
و اعلم أنّ أمّة هذا شأنها مع أهل الخير[ ]94في الدين ،و أهل العدل من المسلمين ،إنّها لمة عظيمة الشأن
عند ال عز وعل ،و إذا فتشت هذا بين الملوك الخرين والعلماء من بقية المذاهب لن تجد منهم ما يسخن القلب
،أو يجرح النفس في أي ناحية من نواحي الدين ،و الحمد ل .
نسأل ال أل يخلي أرضه من هذه العصابة الطاهرة ،فإنّها هي الحجة التي يرتكز عليها السلم ،وتقوم عليها
دعائم الحكام ،و تثبت بها قواعد الحلل و الحرام .
و الباضية هم الرجال الذين ل ينظرون إلى الرياش الفاخر و اللذات الشهوانية ،و إنّما لذتهم إعادة أمور السلم
في سبيلها الصالح ،و إقامة الحكام على نهج الدليل الراجح ،و نشر دعوة الحق في العوالم ،و نصب الدلئل
للمة ،و إيضاح المعالم .
ل قرار للباضية ،و ل طيب ،ول لذة إل عند نشر راية العدل ،و إقامة علم الحق خفاقاً على الفاق ،و ل
سرور ،و ل راحة إل عند سل السيوف لقامة العدل و إنصاف المظلوم من الظالم .
فادرس تاريخ الباضية من أوله إلى أخره ،و اقرأ تاريخ المم الخرى ،تجد الباضية المثال الصالح ،و إقامة
أئمة الحق أكبر دليل ،و أقوم قيل عنهم ،و إن قوماً ل يرضون أن يقودهم إل المؤمن التقي و الطاهر النقي ،
لقوم كرام على ال ،إذا سألوه أعطاهم ،و إذا دعوه أجابهم ،و إذا استنصروه نصرهم ،فل تغتر أيها العاقل
ضلّوكَ " ( )1و أهل الحق طعْ أَكْ َثرَ مَن فِي ا َل ْرضِ ُي ِ
بكثرة السواد العظم ،فإن أكثر أهل الدنيا مفسدون " َوإِن ُت ِ
قليلون في كل جيل ،و غير الباضية إذا صلحوا في ناحية [ ]95فسدوا في نواح عديدة ،و إذا استقاموا في
واحدة تعوجوا في كثير ،فإن أزمة الخرة عندهم منتهية بقول " ل إله إل ال محمد رسول ال – صلى ال عليه
و سلم – " ،و الحساب والعقاب زائلن عنهم بشفاعة سيد المرسلين محمد – عليه الصلة والسلم ، -و أهل
الصرار من الفجار يخرجون من النار برحمة المليك الغفار ،فلذلك تراهم ل يهتمون بأمر آخرتهم ،ول يرهبون
عقاب ربهم ،فإن لديهم ثلث تفريجات ،و هي ما قدمنا فلم يبق لديهم ما يهم ،و إن زنى أحدهم ،و إن سرق
أما الباضية ل يقولون بذلك ،و ل بواحدة منهن ،فلذلك تراهم يحترزون ،و يحتاطون ،و يحافظون على
شرائط اليمان ؛ لنّه ل شفاعة عندهم لهل الكبائر ،ول تنفعهم ل إله إل ال إل بحقوقها المشروعة ،و لوازمها
المرفوعة ،ول يتأملون الخروج من النار إذا دخلوها ،و ل يعتقدون في ال بصفة التي ل تليق بجلله القدس و
كماله النفس .
فالدين عند الباضية عقيدة و أقوال وأفعال ،و ل بد من واحدة من هذه العمال ،و ل يغني عندهم بعضها عن
بعض بعد استقرار العمل ،و ثبوت المر بذلك ،فتجد التثبت عند الباضية في الصول و الفروع كما لزم ،و ل
يرون مفارقة نقطة من نقط الشريعة [ ]96حتى في حلق اللحية ،و قد شاع في العالم السلمي حتى صار من ل
يحلقها مزدرى ،و قد حلقها الكثير من علماء قومنا مع قولهم بتحريم حلقها ،فصاغ للجاهل الحلق ،و تجاسر
عليه عوام المة ،و لو لم يكن في إعفاء اللحى إل الئتساء برسول ال – صلى ال عليه و سلم – لكفى ،فإنّ
حسَ َنةٌ ّلمَن كَانَ َيرْجُو الَّ وَالْيَ ْومَ
ال عز و جل يقول لنا في صراحة و وضوح " لَ َقدْ كَانَ لَكُمْ فِي َرسُولِ الِّ ُأسْوَةٌ َ
خرَ " ( ، )2و مفهوم الية من ل يتأسى به -صلى ال عليه و سلم -ل يرجو ال و اليوم الخر ،و في المقام الْ ِ
مزلة كبيرة نسأل ال العفو منها إنه كريم .
و بسبب حلق هؤلء المتسمين بالعلم راجت تجارة الحلق ،و شاعت في العالم السلمي ،حتى صار من ل
يحلقها ل احترام له عند الجمهور ؛ لنّه مخالف لما عليه الناس ،و لم يروا أنّ ال جعل اللحية فارقاً بين الرجال
و النساء ،وقد علموا أيضا أنّ حلقها ينافي صفة الرجولة ،و يدعو إلى التشبه بالغواني ،و من تشبه بقوم فهو
منهم ،و قد حرّم الشرع تشبه الرجال بالنساء ،و تشبه النساء بالرجال بوعيد شديد ،مع أنّ الناس قد علموا أنّ
رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لم يمس منها شيئاً ،و ل الخلفاء الراشدون ،و ل الصحابة الكرمون ،
فبمن اقتدى هؤلء المتشبهون بالفرنج الذين ل يراعون الحقوق الدينية ،و ل يقفون عند حدودها .
و كذلك التدخين فإنّه من أخبث الخبائث ،و ل شك أنّه حرام [ ]97طبعاً و شرعاً ،فإنّ الطب يحكم بتحريمه ،
لنّه مخدرٌ مفترٌ ضارٌ مضرٌ مولد للمراض السامة في أشياء عديدة ،و قد أباحه كثير من أهل المراض القلبية
الفاسدة ،و جعلوه من التحف للضيف ،و من أعزّ ما يقدم له عند حضوره ،و قد شهدت النصوص الشرعية
بتحريمه قرآناً و سنة ،و أيّد العقل ذلك بما ظهر له في التدخين من مضار .
و قد جاء الشرع لدرء المفاسد و جلب المصالح ،و " ل ضرر ول ضرار في السلم " ،فهذا النص يبطل القول
حرّمُ عََليْهِمُ الْخَبَآ ِئثَ " ( ، )3و هذا من
بحلية التدخين ؛ لنّه يمنع الضرر ،و ينفي الضرار ،و في الكتاب " وَيُ َ
أخبث الخبائث السامة للجسام ،الخبيثة الريح ،الكريهة ال َعرْف ( ، )4المثيرة للمراض المتعددة .
و من هذا النوع جملة أشياء أصبحت شعاراً عاماً ل يرون غيره ،و منه تغني الذان في هذا الزمان الذي ضعف
فيه اليمان ،فإنه بدلً أن يكون أذاناً شرعياً بروعته السلمية يدوي في القلوب سامعيه ،أصبح أشبه بالغاني
الشعرية و الصوات الترنيمة ،و أصبح مؤذنوه يصرون عليه ،و ل يرون غيره ،و يجعلونه شعاراً لهم ،و ل
يرضى به عمر بن الخطاب – رحمه ال – ورائي الذان كعبدال بن زيد ( – )5رحمه ال – و لو سمعهم لوضع
الدرة على ظهورهم .
و منها أيضا بناء المنارات على ظهور المساجد بحيث يصبح بناءها يستفرغ كمية كبيرة من الموال ،و ليس
هي من لوازم المساجد ،و ل من خصال الصلة ،و ل من [ ]98شروط الذان في شيء ،بل هي إمّا أن تكون
من قبيل المباهاة ،و الزخرفة المنهي عنها ،أو من قبيل إضاعة المال ،و هم يرونها من لوازم المساجد
فيبنونها عالية في السماء .
و كذالك أيضاً التأمين في الصلة فإن كان أصله جائزا و في غير الصلة ،ثم ورد المنع عن كلم الدميين في
الصلة ،فما وجه ملزمته في الصلة إل اعتقاد وجوبه في الدين ؟ ،و عدم القبول للوارد الديني في منعه! و
ذلك من الفساد بمكان ،عدا ما ورد في المور العتقادية من المور التي يأبها الدين عقلً و نقلً ،و هي كثيرة
يطول بها الكلم ،نشير إليها ل على جهة الطعن في أصحابها ،و ل على قصد الحطّ من أهلها نعوذ بال .
بل على قصد تبين الحق لطالبيه ،و إيضاح الصحيح من السقيم لراغبيه ،و إن ظنّ بنا ظان غير ذلك فال حسبنا
و نعم الوكيل .
إنّ ال أخذ العهد و الميثاق على العلماء في تبين الحق و إيضاحه ،و نشره في الناس ،ولو شدت عليهم أمم
الجهل ،فإنّ الئتساء برسول ال – صلى ال عليه و سلم – حاكم علينا بالصبر و عدم التبرم ،و أن ل ننثني
عن القصد ،مهما كان فإنّ رسول ال -صلى ال عليه و سلم -و هو ذو المنصب الرفيع ،و الشرف المنيع [
]99و من المة الموقرة ،و من الرجال المحترمين قبل النبوة ،قذفوه بسيئ القوال ،و رموه بباطل الفعال ،
و أضافوا إليه أسوء الخصال ،و شتموا به بين النساء و الرجال ،فمالنا نتبرم إن عُودينا في ال أو خُوصمنا
فيه ،و تلك سنن الكون ،ومن جاء مخالفاً لمألوف الناس صاحوا عليه و ضجوا منه ،و طلبوا له كل سيء "
حَتّىَ َي ُردّوكُمْ عَن دِينِ ُكمْ ِإنِ اسْ َتطَاعُواْ " ( )6نحن ل نقدح في أعراض الناس بغير ما أنزل ال لكننا نُبين الحق
لطالبه ،و ندل على الخير لراغبه ،وننهى عن الباطل ،و نسخر براكبه ؛ لنّ رسول ال – صلى ال عليه و
سلم – قال لنا " أترعون عن ذكر الفاسق " ،و في رواية " الفاجر أن تذكروه فذكروه يعرفه الناس " ،و قال
– عليه الصلة والسلم – " أترعون عن ذكر الفاجر متى يعرف الناس اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس " (
)7كما في الجامع الصغير للسيوطي ( )8و غيره ،فهذه الدلة و أمثالها تحتم علينا تبين الحق ،و رد الباطل
بدليل الصحيح الواضح .
=========================================
( )1النعام .114 :
( )2الحزاب . 21 :
( )3العراف . 157 :
( )4العَرفُ -:الريح طيبة كانت أو منتنة ( مختار الصحاح )179/مادة عرف و المقصود هنا الريح .
( )5عبدال بن زيد بن عبدربه النصاري (ت 32هـ) أبو عبدال ،صحابي جليل ،شهد بيعة العقبة الثانية ،وبدر و أحدا و الخندقو المشاهد كلها مع
رسول ال – صلى ال عليه وسلم – و كانت معه راية بني الحارث بن الخزرج في غزوة الفتح ،رأى الذان في المنام فأتى رسول ال – صلى ال عليه
وسلم – و أخبره ( .الطبقات ابن سعد ، )3/536الصابة (. )3/132
( )6البقرة . 217 :
( )7أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( )19/418و المعجم الصغير ( )215-214 /1و عزاه ضاحي مجمع االزوائد إلى المعجم الوسط ،و أخرجه
البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الشهادات ،باب الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث ( ، )10/354و أخرجه الخطيب البغدادي في
تاريخ بغداد ( )1/382و ( )3/188و ( ، )362-7/361و أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( ، )12/217و أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر
الصول ( ، )2/257و أخرجه ابن أبي الدنيا في كاتب الغيبة و النميمة ص ، 88و أخرجه المحامل في المالي (/5رقم ، )15و أبو بكر الكلباذي في
مفتاح المعاني ( ، )21/1و الهروي في ذم الكلم ( )4/81/1و السهمي في تاريخه ص ، 75و عزاه السيوطي إلى الحاكم في ا لكنى و الشيرازي في
اللقاب ،و أخرجه ابن عدي في الكامل ( )2/173
( )8عبدالرحمن بن أ[ي بكر بن محمد الخضيري السيوطي (849هـ 911 -هـ ) جلل الدين ،إمام حافظ مؤرخ أديب ،له نحو 600مصنف ما بين
كتاب كبير و رسالة صغيرة ،اعتزل الناس عندما بلغ أربعين سنة و عكف على التأليف .العلم (.)3/301
و لو كنا نرى التقليد في الدين ،أو التمذهب بمذهب خاص لكان جابر بن زيد أحق بذلك ،فإنّه بحر في العلم ،و
نجم ثاقب في الفهم ،وعمدة في الزهد و الورع ،و غاية في الفقه ،وجبل في الشريعة ،أرسى من ثبير (، )1
و قد أجمعت المة على علميته الجليلة ،وشهدت [ ]100له بالخصال الجميلة ،و عُرف سبقه في المة قبل كل
الئمة ،فقد صحّ مع الموافق و المخالف أنّه ولد في خلفة عمر بن الخطاب – رضي ال عنه – ،و توفي على
رأس ستة و تسعين من القرن الهجرة ،فتراه عاش في أيام عثمان شيخاً واعياً ،و في أيام علي بن أبي طالب
بدراً مضيئاً ،كان من أخص تلمذة الحبر ابن عباس – رضي ال عنهما – و أعظم من حمل عنه ،و رأى قضايا
الجمل ،و صفين ،و النهروان ،و ما وقع على المسلمين في هذه المواقف الرهيبة كلها ،و سمع ما قيل و ما
يقال من أبناء ذلك الجيل .
و هذا العلمة عزّالدين التنوخي ( )2يقول فيه في مقدمة فتاوى المام الخليلي ( )3قال " :و كونهم -أي أهل
عمان -من أصدق العرب في مذهبهم أنهم يقتدون بإمامهم جابر بن زيد تلميذ عبدال بن عباس – رحمه ال –
الذي كان يقول لمن يأتيه من أهل البصرة مستفتيا " -:تسألوني و فيكم جابر بن زيد -أي استغرب ابن عباس –
رضي ال عنهما – استفتاء أهل البصرة لبن عباس مع كون جابر بن زيد فيها أي يكفيكم علمه و يسعكم فقه
قال -و روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس " لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد
لوسعهم علماً من كتاب ال " ( ، )4وهذه شهادة عظيمة لجابر بن زيد ،قال العلمة التنوخي " -:و في تاريخ
البخاري عن جابر بن زيد قال :لقيني ابن عمر فقال :جابر بن زيد من فقهاء أهل البصرة ( ، )5و قال ابن حبان
في الثقات كان فيها جابر بن زيد و كان من أعلم الناس بكتاب ال ( ، )6قال وفي كتاب الزهد لحمد بن حنبل لما
مات جابر بن زيد قال قتادة اليوم مات أعلم أهل العراق " قال " ومذهب الباضية مبني على مسند الربيع بن
حبيب ،و أحاديثه مروية عن أبي عبيدة عن جابر [ ]101بن زيد عن الصحابة إما عن عمر بن الخطاب ،أو
علي بن أبي طالب ،أو عائشة أم المؤمنين ،أو غيرهم من الثقات" ،قال " -:و في تاريخ أبي خيثمة ( )7كان
حسن البصري إذا غزى أفتى الناس جابر بن زيد " أي إذا خرج إلى الغزوة استندت الفتوى إلى أبي الشعثاء –
رضي ال عنه – " ،قال " -:و قال إياس بن معاوية ( : )8أدركت الناس و ما لهم مفت غير جابر بن زيد " ،
فانظر في هذا مع أن البصرة ذلك الوقت غاصة بالعلماء من الصحابة فضلً عن غيرهم و لكن تميز المام جابر
بالفتوى لما له من مقام في العلم يقدره الناس ،فإنّه ليس كل من له بعض المعلومات يصلح أن يكون مفتياً ؛ لنّ
حمَ ِتهِ مَن َيشَاء" (. )9
خ َتصّ ِبرَ ْ
منصب العلم ل يناسب كل إنسان وتلك من خصوصيات ال لعباده " يَ ْ
عزّ الدّين " :و كان العمانيون أحرى أن ينتسبوا في مذهبهم إلى جابر بن زيد من أن ينتسبوا إلى
قال العلمة ِ
عبدال بن إباض التميمي المري الذي عده الشماخي ( )10من التابعين " ()11
قلت :قد بيّنا أنّ الباضية عامة ل يرون النتساب إلى أي عالم ،و إنّ ذلك شيء ل يقتضيه الدين ،و ما ل
يقتضيه الدين فترى الباضية عنه بعيدين ،و ما انتسابهم إلى عبد ال بن إباض إل للتميز فقط ،و قد سماهم
بذلك مخالفوهم فرضوا به ،فالباضية ل يتقيدون بمذهب خاص أبداً ،و ل ينحازون إلى قول إمام خاص ،و
يتركون ما عداه ،و إن كان حقاً ( ، )12ويقاتلون عليه ،خلف ما عليه غيرهم من أهل المذاهب الخرى .
عزّ الدّين حاكياً عن العلمة الشماخي في عبدال بن إباض " :كان كثيراً ما يبدي النصائح لعبد الملك بن
قال ِ
مروان -أي لنّه كان معاصراً له ،وكان الحداث إذ ذاك في نشاط شوطها ،قال -و في حفظي -أي حفظ عز
الدين ( - )13أنه -أي عبدال بن إباض -يصدر في أمره عن جابر بن زيد – رحمه ال – " [ ]102قال " -:
فإذا كان ابن إباض يعمل في مذهبه بقول جابر ،فالعمانيون هم الجوابرة أو الجابريون " ( ، )14أي أنّ جابر بن
زيد هو المام المعتمد لهؤلء الرجال الغرّ الميامين صناديد الحق ،و أركان الدين ،و هو أحرى بالنتساب إليه
عزّ الدّين و هو من علماء المذاهب الربعة و في عصرنا هذا ،قال في مقدمة الجزء الثالث من شرح قال العلمة ِ
مسند الربيع بن الحبيب – رحمه ال – " جابر بن زيد الجَ ْوفِي الزدي و أصله من بلد َفرْق -أي بفتح الفاء و
سكون الراء المهملة بعدها قاف -من أعمال نزوى و كان من اليحمد رحل في طلب العلم ،و سكن البصرة
فنسب إليها ،و هو أبو الشعثاء توفي سنة ثلثة و تسعين للهجرة " ،قلت:قد سبق الخلف في وفاته ،قيل في
سنة ستة و تسعين ،وقيل في سنة و مائة كما في المروج ( )15للمسعودي " أصل المذهب الباضي في عمان
و المغرب " قال " و هو قريب من المذاهب أهل السنة لعتماده في عقائده و عباداته و معاملته على الكتاب و
السنة " .
قال " -:و صاحب ابن عباس " أي جابر بن زيد صحب ابن عباس ،قلت نعم الصاحب و نعم المصحوب ،و
يعرف المرء بالصاحب ،وكفى بذلك .
قال " -:فقد كان أشهر من صحبه و قرأ عليه " ،قال " -:و ذكر أبو طالب مكي ( )16في كتابه قوت القلوب
عن ابن عباس ((:اسألوا جابر بن زيد فلو سأله أهل المشرق و المغرب لوسعهم علمه)) " ،قلت هذه شهادة ابن
عباس لجابر بن زيد تلميذه ،و هذه معرفته به ،و ل يدل ابن عباس على جابر بن زيد هذه الدللة ،وينوه به
هذا التنويه الضخم إل لعلمه بحقيقة جابر[ ، ]103فالحمد ل الذي يمنح عباده ما شاء من فضل ،و ل مذهب
أحد أئمته أبو الشعثاء ،و الربيع بن حبيب ،و أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة -رحمهم ال و رضي عنهم – و
أمثالهم الذين قاموا بواجب الدين قبل غيرهم من علماء المسلمين ،و لهم السبق على الئمة الربعة بسنين ،و
ل يتبجح الباضية بأئمتهم ،و ل يفتخرون بغير الحق ،و ل يرون إل الرشاد عروة لهم ،وليس في كثرة
المعلومات مع عدم التحقيق خير أبداً ،إنّما الخير كل الخير في الصدق ،و الثبات على الحق ،و العتماد على
الحق ،و القيام بالعدل ،واصطحاب الرشاد .
===========================
( )1ثبير -:جبل بمكة ( مختار الصحاح . )35/
( )2عز الدين بن أمين شيخ السروجية الدمشقي ( 1307هـ 1387 -هـ 1889 /م – 1966م ) عالم بالدب ،من أعضاء المجمع العلمي العربي ،
مولده و وفاته بدمشق ،و انتخب نائب لرئيس المجمع بدمشق سنة 1964م ،حقق من نفائس التراث منها امنتقى من أخبار الصمعي ،و بحر العوام
في ما أصاب به العوام ،وغيرها .العلم (. )4/229
( )3محمد بن عبدال بن سعيد بن خلفان الخليلي الخروصي ( 1299هـ 1373 -هـ 1882 /م – 1954م ) أبو عبدال ،من أئمة الباضية ،انتخب
للمامة سنة 1338هـ 1920 -م واستمر إلى أن توفي في نزوى عاصمة عمان ،عن نيف وسبعين عاما ،كان عالما مجتهدا له آراء فقهية .العلم (
.)6/246
( )4التاريخ الكبير ()1/2/204
( )5المصدر السابق ( )12/204
( )6الثقات لبن حبان ( )4/102
( )7أحمد بن زهير ( أبي خيثمة ) بن حرب النسائي البغدادي (185هـ 279 -هـ) أبو بكر مؤرخ ،من حفاظ الحديث ،كان ثقة ،راوية للدب ،بصيرا
بأيام الناس ،من تصنيفه التاريخ الكبير ،أخبار الشعراء ،كتاب العراب .العلم ( )1/128معجم المؤلفين (.)1/142
( )8إياس بن معاوية بن خرة المزني ( 46هـ 122 -هـ ) أبو واثلة ،قاضي البصرة ،وأحد أعاجيب الدهر في الفطنة و الذكاء ،يضرب المثل بذكائه و
زكنه ،فيقال أذكى من إياس ،و أزكن من إياس ،و الزكن التفرس في الشيء بالظن الصائب .العلم ()2/33
( )9آل عمران. 74 :
( )10أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشماخي النفوسي ( ت 928هـ) أبو العباس ،يلقب بالبدر الشماخي ،عالم من بلدة يفرن بجبل نفوسة ،من
شيوخه أبوعفيف صالح بن نوح التندميري ،و أبو زكريا يحيى بن عامر ،اشتهر بالتأليف ،من مؤلفاته ،كتاب السير ،و إعراب القرآن الكريم ،شرح
عقيدة التوحيد ،و مختصر العدل و النصاف ،وشرحه ،وغيرها .معجم أعلم الباضية ( .)2/86
( )11كتاب السير ( )1/72
( )12لعل المقصود هنا " و يتركون ما عداه إن كان حقاً " فأضيفت الواو سهوًا فلينظر .
( )13في كتاب السير " و في حفظي أنه يصدر في أمره عن رأي جابر بن زيد " فالظاهر أنه حفظ أحمد بن سعيد الشماخي وليس عز الدين فلينظر .
( )14مقدمة كتاب الفتح الجليل من أجوبة المام أبي خليل ص ( و) 0
( )15مروج الذهب ( .)3/214
( )16محمد بن علي بن عطية الحارثي ( ت 386هـ ) أبو طالب المكي ،واعظ زاهد فقيه ،اتهم بالعتزال ،نشأ بمكة ،وسكن ببغداد ،و توفي بها ،له
كتاب قوت القلوب ،و علم القلوب ،و أربعون حديثا .العلم ()6/274
واعلم أنّ الباضية من جملة فرق السلم الثلث وسبعين فرقة ،التي ورد حديث الفتراق بها ،و لكنها فرقة
ثبتت على الحق ،و قرّت ( )1على جسر العدالة ،فعادتها المم الجائرة ،وحاربتها الطغاة الفاجرة .
فإنّ بني أمية انحرفوا عن النهج الحق كل النحراف ،و من سيئاتهم التي ل مثيل لها جعل الحجاج بن يوسف
أمير العراق ،والعراق ذلك العهد أكبر محاط رجال العلم ،و ملجأ الفقه ،و مغرس الفضائل ،حتى أنّ أهل العلم
ضربوا للعلم مثلً شاع بينهم ،فقالوا نشأ العلم في المدينة ،و فرّخ في العراق ،وطار إلى عمان .
كان جابر بن زيد و هو عماني نزيل البصرة ،وهي إحدى مدن العراق الكبرى ،فضرب مخيمه بها طالباً للعلم ،و
مطلوباً منه ،و كان العمانيون الذين لهم في خدمة العلم والسلم القلم العالية ،و هم روح حياة العلم إذ ذاك
في البصرة ،فكان جابر بن زيد إمام الفقه في جميع نواحيه ،و الربيع بن حبيب راوي المسند عمدة الحديث ،و
الخليل بن أحمد و ابن دريد أركان الدب بجميع معانيه]104[،و المهلب بن أبي صفرة حامل الزعامة في المة ،
فكانت إذ ذاك البصرة و هي الفيحاء مضرب المثل ،فهي بصرة المهلب إمارةً ،و هي بصرة أبي الشعثاء فقهاً ،
و هي بصرة الخليل بن أحمد و ابن دريد نبلً و أدباً .
و كان أبو عبيدة الضرير آية ذلك العصر ،فكان هؤلء مصدر الخير و الفضل والشرف ،ومضرب المثل العلى ،
و كانوا يعرفون بالباضية اسماً تمييزاً فقط ،بل كان هؤلء البطال المذكورون مرجع عبدال بن إباض في
شؤونه كلها ،و كانت شهرته لمنعته إذ قاوم كثيراً من بدع الملوك المويين ،و ناضل عن أهل الحق من
المسلمين ،و أيّد كل محقّ في الدين ،و كان لرهطه المنيع ،وشرفه الرفيع ،استحق الشهرة والصيت ،فقيل
لمن كان هذا منهجه إباضياً ،أي يقول بقول ابن إباض ،و ابن إباض يرد بدع بني أمية و ل يستسيغها كغيره .
فهذا هو الصل الصيل لهذه المة الباضية ،إذ ل مسألة واحده له في الدين يأخذ بها أحد من المسلمين إل ما
ذكروه من كتبه لعبد الملك بن مروان ،و هي مشحونة فقهاً ،و مبنية على دعائم النصح ،ومقررة لسس
العدالة ،و لم تكن حديثا يفترى.
و كان أصل هذه التسمية من قومنا ،إذ أضافونا إلى عبدال بن إباض حين اتحد المنزع و اتفق المقصد ،و ظهر
ابن إباض بمظهر الحق ،و وافقه أولئك العلماء المجاد ،فكان رأيه رأيهم ،و نظره نظرهم ،فقيل لهم بذلك
إباضية ،و شاع ذلك في القطر العراقي ،و ذلك في الصدر الول ،غرة العصور ،و صفوة العهد ،و دائرة العلم
السلمي ،و لم تزل تلك اليام جديدة زهراء ،لنّ جداول العلم تفيض عليها صافية النبع ضخمة الوقع]105[،
فكان علماء ذلك الوقت مرجع ما بعده من الوقات .
عزّ الدّين التنوخي في مقدمة أجوبة الشيخ عيسى بن صالح ( – )2رحمه ال – " :ومن علم أنّ قال العلمة ِ
علماء الباضية يرجعون في الحديث إلى مسند المام الربيع بن الحبيب الفراهيدي ،التي يروي أحاديثها أبو
عبيدة عن جابر بن زيد عن الصحابة ،و أكثر أحاديثه في الصحيحين و أمهات كتب الحديث مروية ،وذلك مما
يدل على صحتها ،و يؤيد صدق راويها " ،قال " و قد كان المام جابر بن زيد يعدّ من أكبر تلمذة حبر المة
ابن عباس " قال " و أخذ عن أجلة الصحابة و منهم سبعون بدرياً " ،قال " وقد سأل أحد البصريين ابن عباس
عن شيء قال تسألوني وفيكم جابر بن زيد " ،قال " وفي حديث سفيان عن ابن دينار عن عطاء أن ابن عباس
قال -:لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لوسعهم علماً عن كتاب ال عز و جل " (. )3
قال " و جاء في كتاب "الجرح والتعديل" لبن أبي حاتم الرازي عن ابن أبي خثيمة قال -:سمعت يحيى بن معين
قال " و الذي يُظهر كذب الكذابين يُظهر صدق الصادقين كأبي الشعثاء جابر بن زيد إمام الباضيين " ،قال" -:و
مما قلته في مقدمة الجزء الثالث من شرح الجامع الصحيح مسند الربيع بن حبيب الفراهيدي و من أعلم أهل [
]106السنة بالباضية ،و أعظم من كتب من علماء السنة المام ال ُم َبرّد صاحب الكامل في كتابه هذا قال قول
ابن إباض أقرب القاويل إلى السنة ( ، " )6قال " -:وقال المام ابن حزم أسوأ الخوارج حال الغلة ،و أقربهم
إلى قول الحق الباضية " ،قال " -:و يقول النور السالمي شارح المسند في مقدمة تحفة العيان و هو من
علماء عمان " ليس من رأينا بحمد ال الغلو في ديننا ،و ل ال َغشْمَ في أمرنا ،و ل تعدي على من فارقنا ،ال
ربنا ،و محمد نبينا ،والقرآن إمامنا ،و السنة طريقتنا ،و بيت ال الحرام قبلتنا ،و السلم ديننا " (. )7
عزّ الدّين " -:ل جرم إن كان َمنْ يقول هذا القول ،ويعترف هذا العتراف هو من المسلمين الناجين
قال العلمة ِ
،و كل من يتهم الباضية بالزيغ و الضلل فهو ممن فرقوا دينهم و كانوا شيعا ،و من الظالمين الجهال ،جمع
ال ما فرقوا ،و مزق شمل أعوان المستعمرين ،و ال محيط بالكافرين (. " )8
عزّ الدّين – رحمه ال و رضي عنه – النجاة للباضية بحسب ما علم من أمر دينهم ،و رد على من فقد أثبت ِ
يتهم الباضية بالزيغ و الضلل بأنّه من المفرقين دينهم ،و في ذلك من الرد ما ل يخفى ،و أنّه من الظالمين
الجهال إلى أن دعا على من فرق دين ال ،و في هذا من التصريح ما ل يخفى بأنّ مذهب الباضية هو المذهب
الحق ،و الحمد ل .
فإنّ ال تعهد بإظهار الحق على رغم أعدائه اللداء لتتم حجته على الناس ،و تكون مؤاخذتهم غدا بما كسبوا "
حدًا " (. )9
ظلِمُ رَ ّبكَ أَ َ
وَلَ يَ ْ
عزّ الدّين ،و صارح أعداء الباضية بأقواله ،و صال عليهم بأقلمه الماضية ،و كافح أهل الزيغ و قد صرّح ِ
عن الحق في عدة مقامات ،و إننا لنرجو له من ال المقام العلى على جهاده العظيم في البيئة التي هو فيها في
حسِنِينَ " ( )10و من كان ال[ ]107هذا العهد العصيب " وَاّلذِينَ جَا َهدُوا فِينَا لَ َن ْهدِيَنّهُمْ سُبَُلنَا َوِإنّ الَّ َل َمعَ ا ْلمُ ْ
معه فحسبه عزاً و شرفاً ،و إن أطبقت عليه الجبال فإنها تمر عليه بسلم .
عزّ الدّين عن المذهب الباضية بقلبه ولسانه – رحمه ال – ،فله اليد على رجاله و أهله ،و إن كان ولقد جاهد ِ
عزّ الدّين كشف الغطاء ،و برز بين رجال المة
الحق على كل مسلم أن يقوم به ،يناضل عن حقوقه ،و لكن ِ
رافعاً عقيرته ،مُزيحاً لثامه ،مرهفاً أقلمه ،ناشراً أعلمه ،ينادي بين المة بغير تلعثم ،و يقول بصراحة إن
الحق عند الباضية ،ومن كان على نهجهم فهو منهم و هم منه ،لصحة النصوص التي بنوا عليها مذهبهم
الصحيح ،و الحق أحقّ أن يتبع ،و ما بعد الحق إل الضلل .
=============================
( )1قَرت -:استقرت ( مختار الصحاح )221/مادة ق ر ر .
( )2عيسى بن صالح بن علي الحارثي ( 1290هـ 1365 -هـ 1871 /م – 1946م) من أمراء الباضية في عمان ،أخذ العلم من أبيه المجاهد ،و من
العلمة نور الدين السالمي ،عرف بالشجاعة في أيام والده ،واستقر في إمارة الشرقية سنة 1314هـ بعد مقتل أبيه .العلم ()5/104
( )3تقدم تخريجه .
( )4الجرح و التعديل (.)2/495
( )5يحيى بن معين بن عون المري بالولء ( 158هـ 233 -هـ ) أبو زكريا ،من أئمة الحديث و مؤرخي رجاله ،قال عنه الذهبي سيد الحفاظ ،وقال
ابن حجر :إمام الجرح و التعديل ،و قال أحمد بن حنبل :أعلمنا بالرجال ،له عدة مؤلفات منها :التاريخ و العلل ،ومعرفة الرجال ،و الكنى و
السماء .العلم ( )8/172
و العجب كل العجب ممن يرى الحق ،و ينبذه عنه مكاناً قصياً ،و يقول أنّه مسلم ،و أنّه من علماء المسلمين ،
و السلم يحتم على المسلم إتباع الحق ،والقول به ،و الركون إليه ،اللهم إل أن يكون من علماء السوء و
العياذ بال .
فإنّ علماء السوء كما يشير إليهم حديث رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله )1( -هم الذين ل يبالون ،
خشَى الَّ ِمنْ عِبَا ِدهِ
فالعلم في ألسنتهم و اليمان نأى عنهم ،و خشية ال عز و جل لم تنزل قلوبهم ،و " إِ ّنمَا يَ ْ
الْعُ َلمَاء " ( )2و يقوم بواجبات الدين التقياء ،و ل ريب فإنّ العلماء المخلصين ل ينظرون إلى الدنيا إل كنظر
المار المجد ،و كل اهتمامهم إلى ال ،فإن عناء الدنيا و إن جلّ منتهٍ عن قريب ،و كل نعيم فيها منقضٍ في
غفلة من العيش ،نسأل ال لنا و لهل الحق من كل أمة التوفيق لرضاه ،و العون على تقواه ،و الخروج من
هذه الشبكة بسلمة [ ]108من البلء ،و ال ولي كل شيء .
و ل ريب أنّ رجال الباضية رجال حق ،و لذلك يغشم الجهول على قواعدهم ،و يطعن الغبي في ديانتهم ،و
ينسب إليهم السوء من ل ينال شأوهم حسداً من عند أنفسهم ،و الحسد داء دفين .
فإن استقراء أحوال المم يعبر بلسان الحال عن منهاج الباضية بأنّه هو الحق ،و إذا خفت صوت الباضية ،
أقام لهم من يكون سبباً في نشر دعوتهم كما فعل العقبي الجزائري ( ، )3فأرسل ال عليه من أشعة الدين
الباضي قبس أشعله ذلك القطب العظيم فدمغ زواهقه ،و أسكت شَقَاشقه ،و نشر دعوة المسلمين في أفق
السلم ،فألجم الخصوم ،و أفحم أهل الهواء ،و أكبت دعاة الباطل كما علم ذلك كل أحد .
واعلم أنّ مذهب الباضية يتفق مع المذاهب الخرى في بعض النقاط ،و يفارقها في عدة مواقع خصوصاً حيث
يزيغ بها النظر عن جادة الحق ،فإنّ الباضية يوجبون قول ل إله إل ال محمد رسول ال – صلى ال عليه و
سلم – ،و إقامة الصلة بشروطها و وظائفها كما يصليها رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم -ل كما
يصليها غيره ،و إيتاء الزكاة كما شرعها ال في نصابها ،و حولها ،فيما يلزم فيه الحول ،وفي َدرَاكِها ،و
عشرها ،و نصف عشرها ،و ربع عشرها ،و حج بيت الحرام كما شرط رسول ال – صلى ال عليه و سلم –
من أول الحرام إلى آخر المناسك التي جاء بها الشرع ،فرضها ،أو ندبها ،أو رغب فيها .
و في جهاد الكفار من أهل الكتاب حتى الدخول في السلم ،أو أداء الجزية على صغارٍ كما ورد القرآن ( ، )4و
جهاد المشركين الذين ل كتاب لهم [ ]109عبدة الوثان ،و ل مناص لهم من سيوف المسلمين إل بالقرار
بالشهادتين أولً والتزام حقوقهما ثانياً على الوتيرة المشروعة .
و على تحريم أموال أهل القبلة من كانوا ،و كيف كانوا ،مع وجوب قتالهم إذا بغوا على المسلمين ،أو أفسدوا
في أرض ال بما ل يُحلّه ال ،أو قطعوا الطريق ،أو نهبوا الموال ،أو الخيرة للمام في قطاع الطرق قتلً ،و
صلباً ،و نفياً .
و على بناء المساجد في الدور والقرى ،و إعلن الذان ،و صلة الجماعة ،و الجمعة في المصر الممصر كما
قرر ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،و وافقه عليه صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – فكان
إجماعاً ،إذ ليس لهم أن يوافقوه على ما يخالف فيه الشرع .
و على وجوب المامة عند توفر الشروط ،و تعين الصلح على نظر العلماء ،الذين جعلهم ال حجة في الدين و
عمدة في المسلمين.
و على تحريم غنم أموال أهل القبلة ما داموا مُقرين بالسلم ،دائنين بصدقه ،غير منكرين لشيء مما جاء به
رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ،مع قطع حبل الوداد للطاعن في الدين ،الممالىء على المسلمين ،
الداس عليهم ،و المغري للعداء عليهم ،و المساعد لهم ،و المحرك لهم على قتال المسلمين ،أو على احتلل
بيضتهم ( ، )5و قتل إمامهم المجمع عليه من أهل الحق الذين هم الحجة .
و على عدم سبّ المسلمين ،و على عدم قتال المسلمين ما لم يقترفوا ما يشق عصى المسلمين ،و على أن
يضع المام بيت المال في مواضعه المشروعة له ،و على أن يقسم الفيء على المسلمين ،على قدر مراتبهم في
الدين ،و أن يقسم غنائم المشركين على [ ]110مقتضى قسم القرآن الكريم ،و على أن يساوي بين الخصوم ،
و أن يقيم الولة و القضاة للعمال كما أقامهم رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ، -و أن يكون ناظراً إلى
المة نظر الوالد على الولد ،على أن يكون في بيت مال المسلمين كواحد منهم ،ل يستأثر عنهم بفيء ،و ل
يختص عنهم بالحقوق العامة ،بل يكون الحكم العدل بينهم ،راداً للزائغ عن زيغه ،قاهراً للمبطل على باطله ،
حامياً للحوزة ،حاكماً بكتاب ال ،وسنة رسوله عليه الصلة و السلم ،و اجتماع المسلمين ،آخذاً بالرأي في
محله ،جامعاً للمسلمين تحت رايته ،مؤلفاً لهم ،رحيماً بهم ،شفوقاً عليهم ،يتألم لهم تألم الوالد الحنون على
الولد الضعيف ،داعياً إلى ال ،ناظراً إليه ،مشغولً برضاه ،محبباً له في قلوب عباده ،تالياً للقرآن في
خلواته ،محاسباً نفسه على الفتيل و النقير ،و عاملً بأقوال المسلمين ،تابعاً لثار أهل الدعوة ،شجاعاً
مقداماً ،ل يرى الذعر ،ول يعرفه ،إذا ارتفع إليه الصريخ كان ملجأ الخائف ،و فئة المرتاع ،يقسم مواريث
المسلمين على نهج القرآن العظيم ،و على سنة النبي الكريم ،كل همته إعلء كلمة ال ،و نصرة أهل الحق ،و
إغاثة الملهوف ،و نصرة المظلوم ،والسعي في راحة المة و أمنها ،و حياطة البلد من مكائد العداء ،يحمل
الناس على التعليم لدين ال ،و على الفقه قبل كل شيء ،و على العلوم النافعة ،آمراً بالمعروف ،ناهياً عن
المنكر على سنن كتاب ال ،وعلى مقتضى أوامر رسول ال – صلى ال عليه و سلم – منظماً للجيوش ،ضابطاً
للجنود ،مؤدباً لهل البطر و الطيش و النزق ،مشاوراً لهل العلم ،معتمداً على أهل الصلح ،ل يعظم
الجبابرة ]111[ ،ول يحترم أعوانهم ،ول ينظر إلى أُبّهتهم ،و ل إلى مالهم من الرياش ،فإنه زهرة ستذبل عن
قريب .
و اعلم أنّ مذهب الباضية ل يقبل ما يخالف الشرع كما قال بعض الشاعرة ( )6أو أهل الرجاء ( ، )7إ ّ
ن
اليمان هو التصديق بالقلب فقط ،و بعبارة أخرى إنّ اليمان هو معرفة ال بقلبه ،فإن آمن بقلبه فهو مؤمن
مسلم ،و إنْ أظهر اليهودية و النصرانية ،و إن لم ينطق بالشهادتين ،و ليس القرار باللسان و ل العمال من
صوم و صلة و زكاة و حج جزءاً من اليمان .
و حجتهم أنّ القرآن نزل بلغة العرب ،و اليمان في اللغة التصديق فقط ،و أما العمل بالجوارح فل يسمى في
اللغة تصديقاً فليس إيماناً ،قال و قد جاء في القرآن حكاية عن إخوة يوسف قولهم " َومَا أَنتَ ِبمُ ْؤ ِمنٍ لّنَا وَلَوْ ُكنّا
صَا ِدقِينَ " ( ، )8أي لست بمصدق لنا ولو قلنا لك الصدق .
وهذه القاعدة التي يضعها هؤلء تقضي على الدين من أساسه ،و ترد على العاملين عملهم ،وتأمر الناس بترك
فلعلهم عرفوا ال بقلوبهم فل يحل له قتالهم ،و ل أي أحد من الناس ما دام القائل المذكور ،و إن أظهر
اليهودية و النصرانية و عليه فل يحل قتال أي أحد من الناس ،فإنّه من الممكن أن يكون الذي يقاتَل -بفتح التاء
المثناة -من فوق مؤمناً فيكون مظلوما ،و يكون مقاتله ظالماً له ،فيلزم منه نسبة الظلم إلى النبيين ،و إلى أئمة
الدين ،و كيف ل و أبو بكر – رضي ال عنه – يقاتل [ ]112مانع الزكاة و رسول ال – صلى ال عليه و سلم
– يأمر بقتله إن منعها من إماماً يحل له أخذها .
=====================================
( )1يشير إلى الحديث الذي أخرجه ا لربيع بن حبيب عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك عن النبي – صلى ال عليه و سلم ": -و يل
لمن لم يعلم مرة ،و ويل لمن يعلم و لم يعمل مرتين " أخرجه الربيع في باب من طلب العلم لغير عز وجل و علماء السوء ،رقم 32ص . 34 – 33
( )2فاطر . 28 :
( )3لم أجد له ترجمة .
( )4يشير إلى قوله تعالى " :قاتلوا الذين ل يؤمنون بال و ل باليوم الخر و ل يحرمون ما حرم ال و رسوله و ل يدينون دين الحق من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " التوبة .29/
( )5بيضة كل شيء حوزته ،و بيضة القوم ساحتهم ( مختار الصحاح )29/مادة ب ي ض .
( )6فرقة كلمية إسلمية ،تنسب لبي الحسن الشعري ،الذي خرج على المعتزلة ،وقد اتخذت الشاعرة البراهين و الدلئل العقلية و الكلمية وسيلة
في محاججة خصومها المعتزلة و الفلسفة و غيرهم لثبات حقائق الدين ،من أبرز أئمتها القاضي أبو بكر الباقلني ،و أبو إسحاق الشيرازي ،و إمام
الحرمين أبو المعالي الجويني ،و أبو حامد الغزالي .للتوسع و المزيد ارجع المسوعة الميسرة في الديان و المذاهب والحزاب المعاصرة (. )1/83
( )7هي فرقة من الفرق السلمية المتقدمة في الزمن ،و من أهم أسسها أنه ل يضر مع اليمان معصية ،و أن طاعة المام الجائر واجبة فل ثورة و
ل خروج ،و يرجون النجاة لكل المؤمنين يوم ا لقيامة و إن ماتوا على المعصية ،و لذلك سموا بأهل الوعد على عكس المعتزلة الذين سموا بأهل الوعيد
.انظر البعد الحضاري للعقيدة الباضية ص .102
( )8يوسف . 17 :
( )9سبق تخريجه .
إنّ هذا الصل الذي وضعه المرجئة هدام للدين ،داعٍ إلى الكفر ،حاكماً بالظلم على النبياء و المرسلين ،و
موجب للبراءة من أئمة الدين ،لنّهم ل يحل لهم قتال أي أحد من الناس على العموم ،فأين تكون منه أوامر ال
عز و جل بقتال الكفار و قطاع الطرق ،و إبطال الحدود التي توجب القتل لمقترفها مهما كان ،و هذا ل نعلم
مسلماً يفهم معنى السلم يقول به .
وقد ينسب إلى جملة من أهل العلم من مخالفينا ،و سوف نسمعك من ذلك ما تستعرض على الذهن معناه ،على
ما جاء نصاً في مقالٍ من له به إطلع و اهتمام ،فانظره بالنظر الصحيح و العقل السليم .
قال في " ضحى السلم " في الجزء الثالث منه صحيفة 317قال ":من المرجئة من كان يرى أن اليمان
ركنان :تصديق بالقلب و إقرار باللسان " و عليه إذا صدق بقلبه ،و أقرّ بلسانه ؛ فهو مسلم ل يلزمه أن يعمل
أي شيء من العمال المفترضة ،فيكون افتراضها شيء زائداً عن المطلوب ،و عليه إذا لم يعمل فهو مؤمن
مسلم سعيد عند ال تجب له الولية ،و تحرم البراءة منه ،و هو كالول في هدم قواعد السلم ،لنّ السلم
شرع تكاليف شاقة ،و أوجب أموراً ثقيلة ،و عليه ففاعلها في عباد ال ،جارم عليهم ،جائر في حكمه بها
عليهم ،فيكون المسلم جائراً و هكذا ،قال " :فالتصديق بالقلب وحده ل يكفى ،و القرار باللسان وحده ل
يكفي ،بل ل بُد منهما معاً ليكون مؤمناً ،لنّ من صدق بقلبه ،و أعلن التكذيب بلسانه ل يسمى مؤمناً " ،قال "
قال " -:و كان خصومهم يرون أنّ لليمان أركاناً ثلثة :التصديق بالقلب ،و القرار باللسان ،وعمل الطاعات "
،قال " لنّ اليمان في اللغة و ِإنْ كان هو التصديق بالقلب إل أن الشارع كثيراً ما يغير المعاني اللغوية ،و يزيد
فيها و يقيدها،كالصلة كانت في اللغة الدعاء ،فستعملها الشارع في معناها الخاص بها ،و قد قال ال في القرآن
الكريم " َومَا كَانَ الّ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ " ( ، )1و سياق الية يدل على أن المراد باليمان هنا الصلة إلى بيت
سلَمُ " ()2 المقدس قبل أن تنسخ الصلة عليه و يوجبها إلى الكعبة ،وقال ال عز و جل " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ
لةَ َويُؤْتُوا الزّكَاةَ َوذَ ِلكَ دِينُ ا ْلقَ ّي َمةِ " ( ، )3و قال " َومَا ُأ ِمرُوا إِلّ لِيَ ْع ُبدُوا صَ ،و قال في موضعاً آخر " وَيُقِيمُوا ال ّ
حنَفَاء" ( ، )4فنص على أن عبادة ال دين ،وعلى أن الدين عند ال السلم ،و على أن خِلصِينَ َلهُ الدّينَ ُ الَّ مُ ْ
لمَكُم بَلِ الُّ َي ُمنّ عَلَ ْيكُمْ َأنْ
سَ السلم هو اليمان لقوله عز و جل " َيمُنّونَ عََل ْيكَ َأنْ َأسْ َلمُوا قُل لّ َت ُمنّوا عَلَيّ ِإ ْ
ح ّكمُوكَ فِيمَا َهدَا ُكمْ ِللِْيمَانِ إِن كُنتُمْ صَا ِدقِينَ" ( ، )5و دليل آخر هو أن ال قال " َفلَ َورَ ّبكَ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ حَتّىَ يُ َ
حرَجًا ّممّا َقضَيْتَ وَ ُيسَّلمُواْ َتسْلِيمًا" ( )6فجعل التحكيم من اليمان ،و هو جدُواْ فِي أَن ُفسِ ِهمْ َ
جرَ َبيْنَهُمْ ُثمّ لَ َي ِ
شَ َ
غير التصديق بالقلب .
و أيضاً لو كان اليمان هو التصديق بالقلب لكان كثيراً من اليهود مؤمنين فقد قال ال إنّهم يعرفون النبي كما
سأَلْتَهُم ّمنْ خََلقَهُمْ
يعرفون أبناءهم ،و إنّهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة [ ]114و النجيل ،وقال " َولَئِن َ
لَ َيقُوُلنّ الُّ " ( ، )7مع أنّه ل خلف بين المسلمين عد هؤلء اليهود كفاراً " (. )8
قلت :لقد قدمت لك هذا المعنى ،وقد صح الجماع الصحيح الثابت المقطوع بصحته و صدقه أنّ اليهود مشركون
،بل القرآن نفسه ناطق بشركهم ،وهؤلء القائلون بهذا المبدأ المنهار الذي ل ينفعهم ول يبقى لهم مثقال ذرة
من اليمان ،ل يعقلون أوامر ال عز و جل ،بل قد ران على قلوبهم ما كان يكسبون ،فال المستعان .
قال " :و كان المرجئة الذين يقولون إنّ اليمان هو التصديق بالقلب يردون عليهم في هذا بأنّ اليهود والنصارى
لم يعرفوا أنّ محمدا – صلى ال عليه و سلم – رسول ال ،و معنى " يَ ْع ِرفُو َنهُ َكمَا َي ْعرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ" ( ، )9أي
يعرفون أنه محمد بن عبدال بن عبد المطلب إلى آخر ما دار بينهم و إياه من حوار " ،قال " وقد كان أشد
خصوم المرجئة في ذلك هم المعتزلة و الخوارج " ،قال " لنّ هاتين الفرقتين اشترطوا في اليمان التيان
بالطاعات ،و اجتناب المعاصي ،و جعلوا العمال جزءاً من اليمان ،و جعلت الخوارج من أتى الكبيرة كافراً ،
على أن المرجئة يقولون أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن ؛ لنّه مصدق بقلبه ،فاسق لرتكابه الكبيرة ،بل منهم من
يقول ل يصح أن يسمى فاسقاً بإطلق ،بل يقال فاسق بكذا ( ، )10مع أن المعتزلة جعلت مرتكب الكبيرة في
منزلة بين المنزلتين " ( ، )11أي ل مؤمناً و ل كافراً ،فكان ذلك نقضاً لنص الكتاب العزيز حيث يقول " ِإمّا
شَا ِكرًا َوِإمّا كَفُورًا " ( ، )12و ل نعلم أنّ في هذا الكون يوجد صنف ثالث بين اليمان و الكفر ،و ل قال لنا
رسول [ ]115ال – صلى ال عليه و آله و سلم -ذلك أبداً .
قال أحمد أمين " -:ولعل هذه المسألة -أي مسألة اليمان و تحديده -هي محور الرجاء ،و قد تفرع عنها جملة
مسائل :مثل هل اليمان يزيد و ينقص ،أو ل يزيد و ل ينقص ؟ فلما قال المرجئة بأن اليمان هو التصديق
بالقلب ،أو التصديق بالقلب ،و القرار باللسان ،قال أكثرهم إنّ اليمان ل يزيد و ل ينقص ؛ لنّ التصديق غير
مقول بالتشكيك ،و القرار باللسان إما أن يكون أو ل يكون ،فل محل للزيادة ،و ل النقصان ،ومن قال إنّ
العمال داخلة في مفهوم اليمان ،و العمال تكثر وتقل قالوا -:إنّ اليمان يزيد و ينقص ،وقد احتج الخيرون
بقوله تعالى " -:فَ َأمّا اّلذِينَ آ َمنُواْ َفزَادَتْ ُهمْ إِيمَانًا" ( )13فأثبتت الية زيادة اليمان بصريح العبارة ،و قوله عز و
خشَ ْوهُمْ َفزَا َدهُمْ إِيمَاناً " ( )14قال " وقد تأول المرجئة هذه
ج َمعُواْ َلكُمْ فَا ْ
جل " اّلذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ ِإنّ النّاسَ َقدْ َ
قال أحمد أمين " -:و مما فرعه المرجئة على تعريفهم لليمان أنّ المؤمن المرتكب الكبيرة ل يخلد في النار لنّه
-على كل حال -مؤمن " ،قال " -:و خالفوا في ذلك المعتزلة و الخوارج إذ يقولون إنّ مرتكب الكبيرة مخلد
حدُو َدهُ ُيدْخِ ْلهُ نَارًا
في النار و ل يخرج منها أبدا ،و استدلوا بقوله تعالى َ " -:ومَن يَ ْعصِ الّ َو َرسُو َلهُ وَ َيتَ َعدّ ُ
جزَآ ُؤهُ جَهَنّمُ خَا ِلدًا فِيهَا " (. )16 خَا ِلدًا فِيهَا " ( )15و قوله عز وعل َ " -:ومَن يَقْتُلْ مُ ْؤمِنًا مّ َت َع ّمدًا فَ َ
================================
( )1البقرة . 143 :
( )2آل عمران . 19 :
( )3البينة . 5 :
( )4البينة . 5 :
( )5الحجرات 17 :
( )6النساء . 65 :
( )7الزخرف . 87 :
( )8ضحى السلم ( )318-3/317بتصرف
( )9البقرة . 146 :
( )10مقالت السلميين للشعري ()1/222
( )11ضحى السلم ( )3/318بتصرف .
( )12النسان . 3 :
( )13التوبة . 124 :
( )14آ ل عمران . 173 :
( )15النساء . 14 :
( )16النساء . 93 :
و قد [ ]116تأول المرجئة هذه اليات فقالوا في الية الولى إن من يعص ال و رسوله و يكون مؤمن لم يتعد
حدوده ،بل تعدى بعض حدوده ،إنما يتعدى الحدود كلها الكافر ،و تأولوا الية الثانية بأن من قتل مؤمناً من
حيث إيمانه خاصة -أي لجل إيمانه ل شيء آخر -فل يكون القاتل بهذا الوضع إل كافراً ...إلخ .
فالمرجئة يرون أنّه ل يخلد في النار إل الكافر .و كان مما قالوه أيضاً أن وعد ال ل يتخلف ،و وعيده قد يتخلف
؛ لن الثواب فضل سيلقى ال به ،لنّ الخلف في الوعد نقص ،و العقاب عدل ،و له أن يتصرف فيه كما يشاء
،و ل يُعد الخلف في الوعيد نقصاً ،فخالفوا في ذلك ما قاله المعتزلة كما تقدم من قولهم " (. )1
قلت :هذا مبنياً على قياس الغائب بالشاهد ،و قياس الرب على الخلق ،و نسوا قوله -عز وعل " -مَا يُ َبدّ ُل
ظلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ " ( ، )2فما تتمدح به العرب من أن خلف الوعد كرم ل يمكن قياسه على ال ،
الْقَوْلُ َلدَيّ َومَا أَنَا ِب َ
فإنّه شارع ،و فارض ،و مكلف فصلً مقرراً ،وأمراً محتوماً ،ل يحال ،و ل يزال ،و ل يمكن تغيره بوجه ما.
قال " -:و قد كان من الجائز أن يقابل كلم المرجئة و شرحهم لرأيهم في اليمان بشيء من التسامح لول أنّ
كثيراً من المتكلمين شعروا بالخطر الذي ينطوي عليه كلمهم في اليمان ".
قلت :هو الذي قدمته لك من انتقاض قواعد الدين ،و الخروج به من حيز الحق إلى حضيض الباطل .
قال " فرأوا أن جعل اليمان هو التصديق بالقلب وحده [ ]117أو مع القرار باللسان يجعل أعمال الطاعات في
منزلة ثانية ،حتى أنّ بعضهم فسر تسميتهم بالمرجئة بأنّهم َأرْجأوا العمل -أي أخروا منزلته بعد منزلة اليمان -
و في هذا خطر و خاصة على العامة " (. )3
قلت :هو خطر على الخاصة قبل العامة إذا تبعته ،فإنّ أهل المعرفة أشد عقاباً من أهل الجهل ،و هم العامة .
قال " لنّهم إن فهموا أن العمال ليست ركناً من أركان اليمان ،قل التزامهم بها" .قلت :لقد صرحت لك بهذا
قبل هذا المقام في كلمي المتقدم.
قال " -:و تمسكهم بالتيان بها -أي و قَلّ تمسكهم -و على العكس من ذلك إذا فهموا أنّها جزء من اليمان ل
يكمل إل بها ،فحاربوا مذهبهم و عدوه من الفرق المنحرفة ،أمّا هي في نظر الخاصة فل ضرر منها ؛ لنّه إذا
كان مفهوم اليمان هو التصديق فقط ،لم يمنع من وجوب الطاعات " ،قلت :إذا قلدوهم في مقالهم ،واعتمدوا
على صدق تأصيلهم هلكوا به .
قال " -:كالصلة و الصوم وجوباً حتماً مشدداً ل يصح التساهل فيه بحال ،و الخلف ليس إل في مدلول اللفاظ ،
ومن أجل هذا ثارت مسألة كَثُر حولها الجدل ،فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه كان مُرجئاً ،و ممن نقل ذلك أبو
الحسن الشعري في كتابه " مقالت السلميين " فقال (( :الفرقة التاسعة المرجئة -أبو حنيفة و أصحابه -
يزعمون أن اليمان المعرفة بال ،و القرار بال ،و المعرفة بالرسول ،و القرار بما جاء به من عند ال في
الجملة دون التفسير )) ( ، )4و قد جاء في الفقه الكبر المنسوب إلى المام أبي حنيفة والذي أثبت العلماء صحة
نسبة جزء كبير منه إليه (( :اليمان هو القرار و التصديق )) ،و جاء فيه (( -:و يستوي المؤمنون في
المعرفة[ ، ]118و اليقين ،و التوكل ،و المحبة ،و الرّضا ،و الخوف ،والرجاء ،و يتفاوتون فيما دون
اليمان في ذلك كله )) ،و جاء فيه (( -:ال متفضل على عباده عادل قد يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه
العبد تفضلً منه ،و قد يعاقب على الذنب عدلً منه ،و قد يعفو فضلً منه تعالى )) ،و جاء فيه (( و ل نكفر
أحداً بذنب و ل ننفي أحداً عن اليمان)) (. )5
و هذه المسائل التي نقلناها عن الفقه الكبر هي أصول الرجاء ،و لكنّ كثيراً من الفقهاء ،و المتكلمين جدوا في
تكذيب هذا ،و استكبروا نسبة الرجاء إلى أبي حنيفة ،و قالوا إن اهتمام أبي حنيفة بالفروع ،و كونه إماماً من
أكبر الئمة فيها يدل على أنّه يُكْبِر اليمان ،و هذا عكس الرجاء.
و مما قاله في ذلك الشهرستاني " :و من العجب أن غسان ( )6كان يحكي عن أبي حنيفة مثل مذهبه ،ويعده
من المرجئة ،و لعله كذب ،و لعمري كان يقال لبي حنيفة و أصحابه مرجئة السنة ،و عده كثير من أصحاب
المقالت من جملة المرجئة ،و لعل السبب فيه أنّه لما كان يقول اليمان هو التصديق بالقلب ،وهو ل يزيد و ل
ينقص ظنوا بأنه يؤخر العمل عن اليمان ،و الرجل مع تحرجه في العمل كيف يفتى بترك العمل ؟ و له سبب
آخر ،و هو أنّه كان يخالف القدرية و المعتزلة الذين ظهروا في الصدر الول ،و المعتزلة كانوا يلقبون من
خالفهم في القدر مرجئاً ،و كذلك أيضاً الوعيدية من الخوارج ،فل يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريق المعتزلة و
الخوارج " (. )7
قال أحمد أمين " -:و أرى أنّ النقول كثيرة عن المام في تعريفه اليمان بأنّه التصديق و القرار ،و أنه ل يزيد
و ل ينقص [ ]119إلى غير ذلك من أصول الرجاء " ( )8قلت :و قد علمت أن مذهبنا معشر الباضية أنّ
اليمان يزيد و ل ينقص ،أمّا زيادته فباعتبار المور العملية ،و أما نقصانه فل يعقل بل نقول إذا انهدم بعضه
وإن قيل إذا كان اليمان العملي يزيد بالعمال فما باله ل ينقص بتركها ؟ قلنا -:إن ترك الواجبات العملية بعد
تحقق وجوبها ،و صحت استقرارها يخرج المؤمن من إيمانه بتركها ،كما أشار إلى ذلك قوله عز وعل " قَالَ ِ
ت
عرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُ ْؤمِنُوا وَلَكِن قُولُوا َأسْ َل ْمنَا وَ َلمّا َيدْخُلِ الِْيمَانُ فِي ُقلُوبِ ُكمْ " ( )10و المعنى لم تصدقوا حقيقة
ا َلْ ْ
التصديق و لكن قولوا أذعنا للمر ،و الذعان غير التصديق ،فقد يذعن المرء وهو غير مصدق .
و كان مقاتل بن سليمان المذكور يقول ":إنّ المؤمن العاصي يُعذب على قدر عصيانه يوم القيامة على الصراط ،
وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار ولهبها ،فيتألم بذلك على مقدار المعصية ،ثم يدخل الجنة" (. )18
وبشر المريسي ( )19كان يقول ":إن أدخل ال أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون منها بعد أن يعذبوا
بذنوبهم ،و أما التخليد فمحال و ليس بعدل" (. )20
قال " و حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ( ، )21و أبا حنيفة ،و صاحبيه أبا يوسف ( ، )22و محمد بن
الحسن ( )23يقولون بذلك " أي بالخروج من النار .
قال المعلق على أحمد أمين انظر قوله هنا مع قوله السابق في إنكار أن يكون أبو حنيفة مرجئاً )24( .
ثم ذهب أحمد أمين يذكر أحوال المرجئة ،و أصول الرجاء مع فروعها ،و ما لها من التعلق بالمور السياسة ،
فإن هذا يناسب مقاصد الملوك الذين ل همة لهم في الحقائق الدينية ،و ل ينظرون إل [ ]121إلى ما يلئم
سياسة الوقت .
=================================
( )1ضحى السلم ( )319-3/318بتصرف .
( )2ق . 29 :
( )3ضحى السلم (.)3/320
( )4مقالت السلميين (. )1/219
( )5انظر شرح الفقه الكبر ص . 145 -143 -128
( )6تنسب إليه فرقة من فرق المرجئة ،تضاربت كتب الملل في تقرير معتقداتها تضاربا عجيبا ،قال في الفرق بين الفرق " زعم أن اليمان هو القرار
أو المحبة ل تعالى و تعظيمه ،و ترك الستكبار عليه ،وقال إنه يزيد و ل ينقص " و قال في الملل و النحل " -:زعم أن اليمان هو المعرفة بال
تعالى و برسوله ،و القرار بما أنزل ال ،وبما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل ،و اليمان ل يزيد و ل ينقص " .انظر الفرق بين الفرق ص
، 203و الملل و النحل ص . 141
( )7الملل و النحل ص .141
لقد وضع الشارح هذه الترجمة هنا ليدل بها على أن الحقّ و إن كان ُمرّا هو المتبع على ما هو عليه من المرارة
شكّ أن مرارة الحقّ ستحلو بعد حين .في ذوق الذهن الصادق الصافي ،و ل َ
و ِإنّ الباطل خليع مرفوض ،و إن قام له ذِ ْكرٌ ،و ساعدته القدار ؛ لحكمة اقتضت ذلك ،فإن جللة الباطل ل بد
أن تغدو يوماً من اليام و هي رهينة الذل ،إل عند من ل يعرف الحق ،ول يهتدي لعناه ( ، )1و لهذه الترجمة
مناسبة تظهر في شرح البيات التالية له في هذا المقام :
[الشرح ]
َأفَ َردَ المام الناظم – رحمه ال – الصل ،و جمع الفروع ،و ماذا أراد بالصل ؟هل هو القرآن أو هو السلم ؟
و كلهما وجيه مرضي .
و كأنّه – رحمه ال -أراد أنّنَا معشر الباضية َنسِيرُ على نَ ْهجِ السّلف الصالح في أصله و فروعه ،ل نتبدّل ،و ل
نتغّير أبداً ،إنما التبدل و التغير وقع لغيرنا .
و المراد بالسّلف الرفيع أي الصدر الول من هذه المة السلمية ،و هو يقع على الصحابة رضوان ال عليهم ،
والتابعين لهم على الحق – رحمهم ال . -
فنأخذ الحق ممن جاءنا به بغيضاً كان لنا أو حبيباً ،بعيداً كان أو قريباً ،فل يمنعنا بغضه من قَبُولِ الحقّ الذي
عنده ،و ل يحول بيننا و إياه بعده إذا كان الحق معه ،و ل نرضى القريب لجل ُقرْ ِبهِ ،و هو مُبطل بل من
عادتنا قبول الحق ،أياً كان ،و رفض الباطل ممن كان ،و بذلك صرنا إباضية ؛ لنّ الباضية هذا منهجهم ،و
هو منهج رسول ال ، -ε -و منهج أصحابه الرضيين المرضيين ،فنحن على وَتِيرتهِمْ في ذلك ما لم يمنعنا عنه
مانع ل نقدر على رده ،و إنّا إنما نعرف الرجال بالحق ،ل الحق بالرجال ،و ل نقدم على ما صحّ عن رسول –
صلى ال عليه و سلم – شيئاً أبداً مهما كان ،فما رضي به ال رضينا به له عز و جل ،و ل نبالي بما عداه أياً
كان و ممن كان.
جعُ إليه سائرها كالسّنّة النبوية ،فإنّها وإن كانت تعتبر في الشرع الصل الثاني
فالقرآن هو الصل الذي يْر ِ
للحكام الشرعية ،فهي راجعة إلى القرآن و داخلة فيه ؛ لنّها تفسير له ,أو مطلق إيضاح له ،ولم تستقل عنه
من جميع الوجوه المعروفة ،و كذلك الجماع فإنه ,و إن كان مستنداً على الكتاب و السّنّة ،و ل ُبدّ في صحته من
ذلك,فإنه راجع إلى الكتاب,و داخل فيه ؛ لنّه متفرع عنه ،و قائم على أساسه ،و ما عدا ذلك فبالولى .
والمعنى نحن معشر الباضية أصلنا الذي نبني عليه أحكام مذهبنا هو الكتاب ،و السنة الثابتة عن رسول ال –
صلى ال عليه و سلم و آله ، -و الصل الجامع لنا السلم ،وهذه هي طريقة السلف الصالح الذي وصفه الناظم
بالرفيع ،فكل صالح رفيع عند ال ،بمعنى مرفوع أي مرفوع الرتبة عنده تعالى ،فهو سلف رفيع بإتباع قواعد
التشريع ،فنأخذ الحقّ متى نراه ،و نق َبُلهُ ممن جاءنا به بعيداً كان أو قريباً ،بغيضاً كان أو حبيباً ،فإن المطلوب
في الشريعة السلمية الزهراء هو الحقّ ،و الحقّ أحقّ أن يتبع ،و ما بعد الحق إل الضلل ،نعوذ بال منه .
و ل نترك الحقّ لكون الذي جاء به هو عدونا ؛ لنّ الحق لم يكن عدواً لحد أبداً ]124[ ،فإذا جاءنا به من
يبغضنا و نبغضه ،لكونه عدواً لنا يقاتلنا ونقاتله ،و رأينا الحقّ معه تبعنا الحقّ ،و أرغمنا أنفسنا عليه ؛ لنّ
الرجوع إلى الحقّ واجب كل مسلم ،و إذا رأينا الباطل عند أقرب الناس إلينا نسباً ،أو جيرةً ،أو صداقةً ،أو
و الحقّ هو المقصود بذات ،وغير الحقّ هو المردود رغم أنف صاحبه ،و ل نغتر بغير الحقّ ،وإن تَبَ ْهرَجَ
وأشرق ،فإنّه إلى ظلم يصير ،و ل نتبرم من إتباع الحق وإن رأينا جانبه ضعيفاً ،فإنّه في نفسه قوي .
و ل نصطفي من الناس أهل الهواء ،و ِإنْ جَلّ َق ْدرُهُم ،و ل تقتحم عينونا أهل اليمان ،وإن رقّ جانبهم ،و ل
نحترم أهل الباطل بالنظر إلى باطلهم ،و إن علت منازلهم ،كما ل نستهين بأهل الحقّ ,و إن هانت منازلهم ،
خلف ما عليه غيرنا من تعظيم الجبابرة ،و تكريم الظلمة ،و الخضوع العمى لهل الباطل .
لقد شهرت أمتنا بهذا سلفاً و خلفاً ،و عرفت دعوتنا عند أهل الحق و أعلم الوفاء ،و بهذا كلفنا ال – عز و
جل -و به أمرنا رسول ال – صلى ال عليه و سلم . -
=================================
( )1انظر كتابه ضحى السلم الجزء الثالث.
()2عناه أي معناه ( مختار الصحاح )192/مادة ع ن ا .
و أل نعيش حراثين أشقياء نأكل من كدّ أيدينا ( ، )1و لنا في سلفنا أسوة حسنة ،و تعلق مكين ،و لنا في
مذهب أهل اليمان معتمد ،فما يرضى به ال في عباده نرضاه رغم كل شيء ،و ما ل يرضاه فحرام علينا
الرضى [ ]125به مهما كانت صبغة صاحبه .
ويشير أيضا كلم المام الناظم – رحمه ال– إلى أنّ الصل الجامع لهل الدعوة السلم ،و هو لغة النقياد ،و
سلَمُ " (، )2
الخضوع ،والذعان ،و السلم هو المبدأ الول الثابت في الديانات كلها " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ
فهو الصل الصيل ،و المبدأ الجليل الذي عليه أهل التّأصيل .
و هو لغةً و شرعاً مغناطيس التدين ،و ناموس القاصد الخير ،وعُمدة زُعماء الديانة في المم ،فكم جرّ السلم
إلى النجاة من العذاب أمماً ،و كم ساق إلى الخير في هذا العالم زرافات و وحدانا ،و كم أصلح فنجح تابعوه ،و
كم أرشد إلى الخير فسعد في المم أهلوه ،ل نقول أنّ فلن ابن عم رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله –
فيكون ذلك حجة في قبول ما جاء عنه حقاً كان أو باطلً ،فإن القرابة مع الباطل بُعدٌ صحيح ،و قطيعة في
السلم بين القارب ،كما قال القائل و ل دره (: )3
و ل نرى بُعد النسب مع الحق بُعداً ،بل هو قرب حقيقي ل مرية فيه ،و ل محيد عنه ،فإن ال عز و جل يقول
في كتابه " ِإنّ َأ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ أَ ْتقَا ُكمْ " ( )4و هذا هو المبدأ القوي الثابت ثبات الجبال الرواسي ،و من كان
أكرمنا عند ال لزم أن يكون أكرمنا عند خلقه ،و إل لم نكن رضينا بما رضيه تعالى في عباده .
و لو كان بالنسب كافياً ،و مبرر المور الدّين لما قال ال عز وعل لرسوله – عليه الصلة والسلم -جهاراً "
عشِيرَ َتكَ ا َلْ ْقرَبِينَ " ( )5أي ل ل يغتر بكونهم أقاربكم [ ]126الدنيين ،و أعياصك ( )6القربين ،فلذلك َوأَن ِذرْ َ
شرَ ُقرَيش اشْ َترُوا ناداهم رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله – على رأس الصفا علنا قائل لهم " يَا َم ْع َ
ع ْبدِ
عنْكُمْ ِمنْ الِ شَيْئاً ،يا بَنِي عَ ْبدِ المُطِْلبْ لَ ْأُغِني عَنْ ُكمْ ِمنْ الِ شَيْئاً ،يَا عَبّاسُ ْبنَ َ أَنْ ُفسَ ُكمْ ِمنْ الِ لَ ُأغْنِي َ
ع ْنكَِ ِمنْ الِ ع ّمةَ َرسُولِ ال – صلى ال عليه و سلم – ل ُأغْنِي َ شيْئاً ،يَا صَ ِف ّيةَ َ
المُطِْلبِ ل ُأغْنِي َع ْنكَ ِمنْ الِ َ
شئْتِ ل ُأغْنِي عَ ْنكِ مِن الِ شَيْئاً " ()7 ح ّمدٍ – صلى ال عليه و سلم – َسِلينِي ِمنْ مَالِي مَا ِ ط َمةًُ بِ ْنتَ مُ َ
شَيْئاً ،يا فَا ِ
عدِيّ بِبِطُونِ ُقرَيْش ،فَقِيلَ َقدْ اجْ َتمَعُوا ،فَجعَلَ الذّي لَ و في رواية " صَ ِعدَ الصّفا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا َبنِى فَهَر يَا بَنِى َ
ظرَ ما هُنْا ِلكَ ،فَجَاء أَبُو لَهَبَ ,وهُوَ عَمّ النّبِي – صلى ال خرُجَ ُي ْرسَلَ َرسُولً َليْن َُيسْتَطيعَ الحضُورَ ،وَلَ يَ ْق ِدرَ َأنْ يَ ْ
علَ ْيهِ و سَلّمَ – " َأ َرأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْ َبرْتُكُم َأنّ خَ ْيلً
ضاً َ ،فقَالَ َلهُ َرسُولُ ال – صَلَى ال َ عليه و سلم – و ُقرَ ْيشَ أَي َ
علَ ْيكَ َكذِبَا -أي لم يكن ذلك من عادتك و لم نعرفه جرّ ْبنَا َ
ص ّدقِيّ ؟" ،قَالُوا مَا َ بِالوَادِي ُترِيدُ َأنْ تُغِيرَ عَلَ ُيكُمْ َأكُنْ ُتمْ ُم َ
شدِيد " ،فقال الخبيث أبو لهب و العتو يفيض من فيه :تَبّاً لك ألهذا عذَاب َ منك -قال" فإنّي َلكُمْ َنذِيرٌ َب ْينَ َيدَي َ
جمعتنا ؟ فنزلت فيه سورة مستقلة تتلى إلى أخر الدهر " تَبّتْ َيدَا َأبِي َلهَبٍ َوتَبّ )8( "...إلى آخرها ،قال
السيوطي -:هم بنو هشام و بنو المطلب وقد أنذرهم جهاراً (. )9
فهذا عمل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – في أقاربه حسب أمر ربه تعالى ،فلم يكن ُقرْ ُبهُ مفيداً شيئاً دون
طاعة ربهم لقد صارحهم بقوله " اشْ َترُوا أَ ْن ُفسَكُمْ " ,أي من ال ،فإنّه هو الذي بيده كل شيء ،أما أنا فليس لي
من المر شيء ،إنّما أنا عبدال و رسوله فل تقولوا إنا أقارب رسول ال – صلى ال عليه و سلم ، -فإن الدين
ليس بالقرابة ،ما في القرابة من فصل لقضايا الدين ،و ل للقرابة تأثير في الحق ،و ل يغني القرب بغير
الحق ،كما ل يضر البعد مع الطاعة .
فهذا رسول ال – عليه الصلة والسلم – يقول " سَ ْلمَانُ مِنّا َأهْلَ []127البَيْت " ( )10و أين سلمان من رسول
ال – صلى ال عليه و سلم ، -و في الحديث عنه صلى ال عليه و سلم " ل يلقيني الناس بأعمالهم و تأتوني
بأنسابكم " في عدة أحاديث[...قال] ( )11العلماء صحيحة السناد ،و كما ل تغني ل إله إل ال بغير عمل كذلك
عمََلكُمْ َو َرسُوُلهُ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ َوسَ ُت َردّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَ ْيبِ
عمَلُواْ َفسَ َيرَى الّ َ
ل تغني القرابة بغير عمل " َوقُلِ ا ْ
وَالشّهَا َدةِ فَ ُينَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ تَ ْعمَلُونَ " (. )12
ومعنى اشتروا أنفسكم أطيعوا ال فإنّ طاعته نجاة لكم عنده ،فإنّه المالك الحقيقي لهذه النفس يبيعها لصاحبها
بالطاعة ،فالطاعة هي الثمن المقبول عند ال ومن اشترى نفسه من ال بطاعته فقد ربح البيع كما جاء في قوله
عز و جل " ِإنّ الّ اشْ َترَى ِمنَ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ أَن ُفسَ ُهمْ َوَأمْوَالَهُم ِبَأنّ لَهُمُ الجَ ّنةَ " ( )13الية ،فلما باعوها له
[بـ]الطاعة لمره ،جعل ثمنها الذي يعوضهم إياه عنها الجنة ،فَنَعْمَ البيع ،و َنعْمَ المبيع ،و نَعْمَ الشاري ،و نَعْمَ
البائع .
و المراد من ذلك أن ال يريد من عبادة الطاعة ليرحمهم ،و ل يريد منهم المعصية ليعاقبهم ،و هو أرحم بهم,
إل أن حكمته اقتضت ذلك ،فل قرب لديه إل بالطاعة ،و ل بعد منه إل بالمعصية .
فلذلك ترى الباضية ل يحترمون إل الحقّ ]128[ ،و ل يتبعون إل العدل ،قريبهم فيه المحق و لو نأت به الديار
،و بعيدهم فيه المبطل ولو لصقت به الجوار ،وهذا هو الذي دعا إليه القرآن الكريم ،و الرسول العظيم ،و
الباضية ل يعرفون الحقّ بالرجال ،بل يعرفون الرجال بالحقّ ،و هذا مبدأهم من أَوّلِ أمرهم ،نسأل ال السلوك
على طريقهم ،و الموت على نهجهم .
واعلم أنّ الباضية ل يرون غير ما عليه السلف الصالح لَن لهم الدهر أو تخشن ،فإنّهم عند القدرة و سنوح
الفرصة فالحق أُنشودتهم ،و لن تضيع لديهم الفرص في ذلك .
و الصل الذي يعتمدون عليه هو كتاب ال عز و جل فحلله[حلل] عندهم أبداً ،و حرامه حرام كيف كان ،ثم
سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – هي المرجع بعد الكتاب ،و المعنى ما لم يكن ظاهراً في الكتاب
فالسنة تبينه ،و إل فالجماع لنّ المة ل تجتمع على ضلل ،فإذا اجتمعت على حكم ظهر أنّه حق بحسب
التكليف فوجب قبوله ؛ لنّ المة معصومة من الضّلل بشهادة الرسول -صلى ال عليه و سلم ،-و يلزم أتباعه
حلواً كان أو مراً ،و كذلك إذا اجتمعت المة على بُطل شيء فهو باطلً أبداً ؛ لنّ الرسول – صلى ال عليه و
طلً فَهُوَ بَاطِلٌ" ( ، )14ومن
سنٌ ،وَ مَا رَآهُ ال ُمسْ ِلمُونَ بَا ِ
ح َ
حسَناً فَهُوَ عَ ْندَ ال َ
سلم – يقول " مَا رَآهُ ال ُمسْ ِلمُونَ َ
غ ْيرَ سَبِيلِ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ نُوَّلهِ مَا تَوَلّى وَ ُنصْ ِلهِ جَ َهنّمَ َوسَاءتْ َمصِيرًا " (. )15
" َيَتّ ِبعْ َ
و اعلم أنّ إتباع أقوال صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله – و التزام ما صح عنهم من أحكامهم ،
و الخذ بسيرتهم أمر واجب ؛ لنّهم قدوة في الحق ،و عمدة في الدين ،ما لم يظهر بطله ،و الخذ عنهم تقييداً
ل تقليداً بغية ، ]129[ )16( ...و ل يلتفت إلى من يقول أنه اهتدى ِلمَا لم يهتدوا له ،أو أنّه أدرك ما لم يدركوا
،فهم أعلم بكتاب ال ،وسنة رسوله – عليه الصلة والسلم ، -و الخذ بالحق أمر يقتضيه الدين حلواً كان أو
مراً ،و ل إلتفات إلى من جاء به صغيراً كان أو كبيراً .
فل يعرض عن عبدال بن وهب الراسبي ( )17لشهرة علي بن أبي طالب ،فكلهم أصحاب رسول ال – صلى ال
عليه و آله وسلم – و إن اشتهر أحد بفضل ،أو شاع له ذكر ولم يظهر لغيره مثله ،فل يكون ذلك دليلً على
فضله على ذلك الغير لمجرد ما شاع أو لمجرد قرابة أو نسب كما قدمنا ذلك ،و ل يكون ما شاع رافعاً لغير
المحق ،و ل واضعاً لغير المبطل .
فعبد ال بن وهب كان له من الفضل العظيم في الدينّ ما ل يخفى ،كان من أزهد الصحابة ،و من أعبدهم بشهادة
خصومه حتى كان ل يرى إل مصلياً ،أو قارئاً ،أو صائماً ،و كان له من الشجاعة السهم الوفر ،و النصيب
الكبر ،فالباطل مردود ،ولو كان صاحبه علياً ،و الحقّ مقبولً ولو نَأى مَ ْنزِلً َقصِيّا .
و عبدال بن وهب الراسبي ل يقل منزلة عن أجلة الصحابة ،وناهيك به ،و قد أطلقوا عليه لقب ذي الثفنات ،إذ
كانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة الركوع والسجود ،و قد ذكره المؤرخون بذلك ،كالمبرد وغيره ،وصاحب
ط ْمرَ ْينِ لَ ُيعْبَأَ ِبهِ َ ،أشْعَثَ َأغْ َبرَ لَوْ َأ ْقسَمَ
المروج ،و إن كان لم يشتهر اشتهار غيره من الزعماء " ،فَكَمْ ِمنْ ذِي ِ
عَلَى الِ لَ َب ّرهُ " ( ، )18مع أنه عُوجِلَ بالقتل ،و لو طالت إمامته لتحدث التاريخ عنها ،كما تحدث عن غيره .
حمَلَ ذَ ْك ُرهُ من حيث أن علياً و أصحابه قتلوه هو من معه ،فإن علياً كذلك قتل بعدما رأى تقهقره ،و
و إن كان َ
و الحقيقة أنّ الحقّ أكبر من كل كبير ،كان من انهيار صروح إمامة علي بن أبي طالب جعله المر بيد الحكمين
يريان فيه رأيهما ،إن أرادا علياً أو معاوية ،و هو يعلم أنّ معاوية لم يكن إماماً في حال من الحال ،حتى يختار
المسلمون إحدى المامتين ،فما باله يعطي الدنية و المسلمون معه ،و منهم بالمس يقاتلون عدوه ،فأصبح
اليوم يرغمهم على قَبُول التحكيم في شيئا حكم ال فيه في الكتاب الكريم ،و هل هذا يجوز أن يرجع المسلمون
عن حكم القرآن إلى حكم فلن و فلن ؟!
ثمّ لما تضايق أصحابه بما صار منه من التحكيم ،و خرجوا عنه ،ولم يخرجوا عليه ،كيف يقتل الخارج عنه ،
لكن سيوف أهل الشام أصبحت مرهوبة في أعين أهل الدنيا ،و السياسة لها أثرها في الوساط ،و من أعطى
العهد و الميثاق على أمر كيف يرجع فيه مطالباً به ،إنها من دواهي الدهر العصيب ،وقد صدق المثل "- :
العورى ترمى الرمح " ( )1إنا ل و إنا إليه لراجعون .
فلما رأى أولئك منه هذا الحال علموا أنّ الفتنة واقفة على البواب ،فتسللوا زُرَافات و وحدانا ،و اجتمعوا
بنهروان لينظروا في أمرهم ،فبالمس ابتلى الناس بعثمان و أحداثه ،و اليوم تأتيهم بلية أكبر من الولى ،و
هي أنّ إمامهم يلقي إمامته من عنقه إلى الحكمين يحكمان فيها بما شاءا ،و أصبحت المامة تلك المدة و هي
عدم ،إذ أخذت عليها العهود و المواثيق .
و بهذا ونحوه قام النهروانيون بإمامة جديدة ،فرأى الشعث و سيده معاوية أن الخطر هنا وقف ،و أنّ عليا
انحلّ أمره ،و انتهى دوره ،فلم تعد له سلطة يقوم بها ،و إذ ذاك نسجوا المكيدة للقضاء على هؤلء ؛ لنّهم
أهل الغيرة على الحقّ ،و من غَ ْيرَتِ ِهمْ خروجهم إلى النهروان ،و انيحازهم هناك ل سيما عندما شاع أنهم بايعوا
عبدال بن وهب الراسبي ،و أنهم يزيدون كل يوم ،خافوا استفحال خطبهم ،فلم يزالوا يتآمرون عليهم ،
ويعملون المكائد التي يتوصلون بها إلى القضاء عليهم ،و عندما َتمّتْ لهم هجموا عليهم في صلتهم ،فقضوا
عليهم ،ولما انتهى أمر النهروان نجح معاوية في سياسته ،و تَمّ له ما أراد .
و تبين لعلي الغرض ,و لكن ماذا يفعل ,و المر قد انقضى ؟ ،فطلب منهم [ ]132النصرة على عدوه فلم يجدها ،
حقْداً من نواحي عديدة أهمها -:خلع المامة إلى الحكمين ،و ثانية قتله أهل النهروان
و امتلت القلوب عليه ِ
الذين َفرّوا إلى ال بدينهم ،غير مَاسّين بعرض علي ،و ل جارمين عليه بشيء ما ،إل أنّهم خرجوا عنه فبايعوا
إماماً غيره ،و هنا ظل صرح إمامة علي يتدهور و ينهار ،حتى قام له عبد الرحمن بن ملجم المرادي ( )2من
أهل مصر فقضى عليه ،فقامت قيامة اللعن ،و السب ،و الشتم على النهروانيين ،و ملئت الكتب بالقدح فيهم ،
و في من يقول فيهم كلمة خير ،أهكذا الحق ؟! ،أهذا من اليمان ؟! ،أهكذا يرضى ال في عباده ؟! .
و لم يزالوا تلفق فيهم الحاديث المكذوبة للحكم بضللهم ( ، )3و تبرئة قاتلهم ،و ليسوا في شيء من ذلك ،و
لكن الهواء المضلة لها حكمها المنصور من أهل الباطل ،و ل لَ ْومَ على من تلعب به الشيطان حتى تركه يعتقد
في علي اللوهية ،و التفوق على النبوة ،و لكن الذين علموا الحقائق فزاغت بهم الهواء إلى طريق غير صالح
للسلوك ،حتى كتبوا ما ل يحق لهم أن يكتبوا ،ولكن ال ل يخفى عليه شيء في الرض و ل في السماء و هو
العزيز الحكيم .
أُعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته كذاك من ل يسوس الملك يخلعه ()4
و كان علي بن أبي طالب من علماء الصحابة و عبادها ،إل أنّ حبه الخلفة أوقعه في ما وقع فيه من بلءها ،
فلم يهتدي لسياستها ،فإنّه لما مات النبي – صلى ال عليه و سلم و آله – ما كان يرى لها غيره ،و كان
المسلمون ل يرونه لها ،فلما تولها أبو بكر تبرم و دخل في نفسه ما دخل من التأثير ،حتى إذا استخلف أبو
ظنّ ،فزاد تبرمه ،و
بكر عمر بن الخطاب بقي في نفس علي أنها فلته و سترجع إليه ،فكان المر على خلف ما َ
َتشَكّيه ،ثم لما جعلها عمر شورى وكان علي أحد الستة .
لو كان المر كما يقول الذين يرونها لعلي ،و أنّه مظلوم فيها من أول المر و ثانيه ،ما باله لم يقم بالصحابة
محتجاً ،و فيهم النصار و المهاجرون و خيار المة ،فإن كان ذلك العمل باطلً ما باله يدخل فيه ! ،و ما باله لم
يستصرخ المسلمين ! ،و ما باله لم يعترض على زعيم الشورى عبد الرحمن بن عوف ( ،! )5و ما باله لم
يستدع [ ]134المسلمين من مشارق الرض ومغاربها ،ويقوم على َردّ الباطل ممن جاء به! ،و المسلمون إذ
ذاك متوافرون ،و السلم ما قرّ قراره بعلي و أبناء عمه ،و إنما قرّ قراره بسيوف النصار و المهاجرين ،فما
بال أناس ل يرون في الكون كله إل على بن أبي طالب ،و ل ينظرون إل ما ينسب إلى علي بن أبي طالب ،و
لكن هذا كله غير كثير ممن يزعم أن علي َوصِيّ النبوة ،و أنّ جبريل خان المانة إذ أرسل بالنبوة إلى علي
فألقها إلى محمد !!! ،سبحان ال من مثل هذه الحوال !!!.
و الذي أَرَاهُ َأنّ كل ما ُنسِبَ إلى علي بن أبي طالب مما يخالف قانون القرآن ،ويناقض المعقول هو منه بريء ،
علّق عليه ذلك من الغلة في حُبّه ،و الغلة في بغضه ،و الرجل بعيد من ذلك كل البعد ،إذ لم يكن رجلو إنما ُ
دنيا ،و ل رغبة له فيها ،و إن كان له رغبة في القيام بالعدل فهذا شيء آخر ،فقد قيل أنّه لم يزل يقول " يا
بيضاء و يا صفراء غري غيري ل تغريني " ( )6أي ل أغتر بك بعلمي بأنّك الداء الدفين .
ولما ابتلى بالمارة ،ابتلي فيها بأناس ظاهرهم معه ،و باطنهم عليه ،و ما قاتله معاوية إل لجل الدنيا ،لعلمه
أنّ السواد العظم ل يرغبون فيه ،وقد نجح معاوية في صدده ،و مضى علي على وجهه غير راضٍ بالخداع ،
و المكر ،و الدهاء ،و لعلم معاوية أن علياً غير تاركه على إمارته ،فلم يزل يلتمس له المداخل ،التي سيرمى
منها علياً بدهائه ،و هذا هو الواضح من حاله ،و ل خبرة له بحيل معاوية ،و ما يحاوله من أمر الدنيا [ ،
]135و الذي يظهر من قتله أهل النهروان أن معرّة الجيش كونت الحيلة لذلك ،إذ سار إليهم في حال أمن و
رضى ؛ لقصد التفاهم معهم ،فتقدم أهل السوء الذين اشتد حسدهم و بغضهم لولئك الذين يخافون استفحال
خطبهم ،و قيام أمرهم ،فيشنون عليهم الحرب .
و عندما وصل المام رأى المعركة تدور رحاها ،و ل يدري على أي أساس وقع ،و حينئذ ل يملك هو من المر
شيئاً ،حتى قضى على القوم ،فهذا الذي أظنه من حال علي بن أبي طالب ،و قد تعلق خصومه بظاهر الحال أنّه
هو المام ،و ما يفعله جيشه فهو الفاعل له إذ هو السائل و المسئول .
و كم وقع مثل هذا في جيوش المسلمين و في جيوش أهل العدل ،و انظر قوله – صلى ال عليه و سلم – " َهلّ
عنْ َقلْ ِبهِ " ( )7إذ قال يا رسول ال متعوذَ تَعّوذ بها ،و كم لها من أخوات تقع مقصودة ,و غير
شَقَقْتَ َ
مقصودة ،فتنبني عليها أشياء ،و يختلف الناس فيها ،فيتحج بها قوم ,و يرفضها آخرون ،أمّا لو كان علي
رجل دنيا ،صحّ حمل تلك الحوال على حاله ,و الغيب ل .
و على كل حال إنّ البطانة السيئة توقع صاحبها في المهاوي من حيث ل يدري ،فإن أعداء النهروانيين خلقوا
لهم أشياء نسبوها إليهم ؛ ليهيجوا حفيظة المام ،و يوعزوا قلبه عليهم ،فتناولوا امرأة حاملً فبقروا بطنها ،و
أخرجوا ولدها ،وقتلوا زوجها ،و جاءوا إلى إمامهم قائلين له هذه أفعال هؤلء ،و إنّا نخشى على أهلنا و
أولدنا منهم إذا خرجنا [ ]136و هؤلء خلفنا ،و الولى قتال هؤلء قبل كل شيء ،و لما رأوا أن المراسلت
بينهم و علي ل بدا أن يكون لها تأثير ما ،و أنّ علياً تقوده الديانة و ربما وافقهم ،و ربما أيّدهم فيستفحل
خطبهم ،و تقوى شوكتهم ،فيكون الخطر الكبر من قبلهم على معاوية ،و لكن قم على القوم حيث هم الن
طلبوا مفاهمتك ،فإن رأيت الحقّ معهم سَّل ْمتَ لهم ،و إن رأيت الحق معك أمكنك إرغامهم ،فانخدع لهذه
الزخارف البراقة ،و انجرّ بأرسانها ( )8فكان ما كان .
و القوم مسرورون بمجيء المام إليهم ،فأمنوا و اطمئنوا ،وراح الكثير منهم لزيارة أهلهم ,و تبشيرهم بالواقع
،و لما وصلوا لم ير علي إل صليل السيوف ،و تساقط الرؤوس ،و المر بلغ أشده حتى أفنوهم ،ولم يبقى
منهم أحد ل كما يقولون بقي منهم أربعة ،فرّ اثنان منهم إلى عمان ،و اثنان إلى المغرب ليرسلوا بذلك سهام
الطعن على هؤلء الناس البرياء من القضية ،الغافلين عنها ،النائين عن مكانها ،و لما قضوا عليهم في
الحقيقة ,قضوا على الشوكة الفعالة التي يخشاها معاوية ،و يحذر خطرها .
=============================
( )1كذا بالصل ولم أستطع تخريجه أو فهم معناه
( )2عبد الرحمن بن ملجم المرادي الحميري (ت 40هـ)فاتك ثائر ,من أشداء الفرسان ,أدرك الجاهلية ,وهاجر في خلفة عمر ,وقرأ على معاذ بن جبل
فكان من القراء وأهل الفقه والعبادة ,شهد مع علي صفين ,ثم خرج عليه ,وهو الذي قتل علي بن أبي طالب ،كمن له عند صلة الفجر فضربه ضربة
سيف مسموم فمات بعد فترة ،وقتل بعد موت علي بن أبي طالب .العلم ( )339 /3
( )3مثال ذلك ما حكاه المبرد عن المهلب بن أي صفة حيث أنه وضع أحاديث في الخوارج وذلك عندما كان القتال بينهم على أشده .أنظر الكامل ( /2
. )231
( )4لم أستطع تخريجه
( )5عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي ( 44ق هـ 32 -هـ ) أبو محمد ،صحابي ،من أكابرهم وهو أحد العشر المبشرين بالجنة ،
وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلفة فيهم ،وأحد السابقين إلى السلم ،شهد بدرا وأحدا و المشاهد كلها .العلم ( . )321 /3
( )6أخرجه الطبراني في الوسط ( )4/364رقم 3934أنظر في فضائل الصحابه ( 1/531و . ) 884
( )7أخرجه مسلم في ( – 1كتاب اليمان – 41باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال - :ل إله إل ال ) ( )96 /1رقم 158واخرجه ابن ماجه في ( 36
–كتاب الفتن -1باب الكف عمن قال :ل إله إل ال )ص 564رقم 3930وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند ()15/81رقم 19822وفي ()16/101رقم
21699وأخرجه الحاكم في المستدرك()3/125رقم 4599وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ()2/176رقم 1723وأخرجه البهيقي في السنن
الكبرى()8/36رقم 15847وأخرجه أبي يعلى ()3/91رقم 1522وأخرجه ابن أبي شيبه(.28923)5/55
( )8أرسان جمع رسن وهو الحبل {مختار الصحاح }102/مادة رسان.
و كان ذلك عين الواقع فإنّهم انسحبوا بعد ذلك إلى أماكنهم ،و وضعوا السلح ،فاستنهضهم علي لحرب
معاوية ،فلم ير منهم إل التثاقل و التراخي ،إذ في أنفسهم أن علياً ل تقوم له قائمة ،و خطر النهروانيين قد
زال ،فأقبلت أمور علي تمشي القهقرى ،و ظلت تتنازل كل يوم ،و تضعف حتى سقطت هيبته ،فعند []137
ذلك جاءه ابن ملجم المرادي فقتله ،و انتهت إمارته ،و زالت عن الحسن ،وقد قضى عليه أيضاً .
جاء في "المامة و السياسة" " :دعا علي رؤساءهم و وجوههم ,فسألهم عن رأيهم ,و ما الذي ثبطهم ؟ " قال
" فمنهم المعتل ,و منهم المتكره ,و أقلهم من نشط " ,و هذا صريح عن القوم "فقال لهم على بن أبي طالب عباد
ال ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل ال اثاقلتم إلى الرض ،أرضيتم بالحياة الدنيا من الخرة بدلً ،و
رضيتم بالذل و الهوان من العز خلفاً ،كلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ،كأنكم من الموت في سَ ْك َرةٍ ،و
كانت قلوبكم قاسية ...إلخ " .
قلت :لما ل تقسوا قلوبهم ،و تلك أفعالهم في إخوانهم المؤمنين ،و أما قلوب المؤمنين فلن تقسوا حتى يفارقها
اليمان ،كما شهد بذلك القرآن .
قال علي " -:فأنتم ل تعقلون ،و كأنّ أبصاركم كمه ( ، )2فأنتم ل تبصرون ،ل أنتم ,ما أنتم إل أساود روّاعة (
، )3و ثعالب روّاغة عند الناس ،تُكادون و ل تكيدون ،و تنتقص أطرافكم فل تحاشون ،و أنت في غفلة
ساهون ،إن أخا الحرب اليقظان .
أما بعد -:فإنّ لي عليكم حقاً ،و لكم عليّ حق " ,ثم أخذ يشرح لهم ذلك إلى أن قال " أيها الناس المجتمعة [
عزّتْ دعوة من دعاكم ،و ل استراح قلب من قاساكم ،كلمكم يوهي ]138أبدانهم ،المختلفة أهواؤهم ،ما َ
الصّم )4( ،و فعلكم يطمع فيكم عدوكم ،إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت و كيت " ,نعم أما مسيرهم إلى النهروان
لقتال المؤمنين أنصار علي وشوكته ,الثابتين على الحق ,المعادين للباطل ,الذين هم الخطر على معاوية ،كان
بغاية النشاط كما عرفت ،فلما قضى المر المطلوب ،و راودهم لحرب معاوية هذا صار حالهم .
كما يقول علي المام " -:أضاليل في أعاليل ،هيهات ,ل يدرك الحق إل بالجدّ و الصبر ،أي دار بعد داركم
تمنعون؟ ،و مع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ ،المغرور من غررتموه " ,و هذا نص منه صريح أنهم غروه بقتال
إخوانه ،حين تحقق المر ،و رأي بعد ذلك تقاعدهم عنه إلى أن قال " -:و من فاز بكم فاز بالنصيب الخيب ،
أصبحت ل أطمع في نصرتكم ،و ل أصدق قولكم ،فرق ال بيني و بينكم ،و أعقبني بكم من هو خير لي ،و
أعقبكم بعدي من هو شر لكم مني " (. )5
فانظر في هذا الكلم الذي يوجهه إليهم ،و اعتبرهم كذا بين ل يقدر أن يعتمد عليهم حتى دعا عليهم بتفريق
الكلمة بينه و بينهم ،و بما هو العاقبة بعد ذلك ،و هذا دأب أهل الدنيا ل يراعون إل مصالح دنياهم ،و للحقّ
أهل غير أهل الدنيا .
فمالك يا علي بن أبي طالب و المسلمون كثيرون ،فاطلب أهل الحقّ ،و اترك أهل الباطل ،ففي مدينة الرسول
رجال ،و في مكة أبطال ،و في بقية بلد السلم من يجيب دعوتك ،و يلبي نداءك في الحجاز ،و في مصر ،و
في بلد ال من أهل الحق من تشد به عضدك ،اترك أهل العراق و قد عرفت عنهم شيئاً [ ]139يكفي لتركهم .
و من كلمه لهم ،يقول في معرض التهديد " :أما أنكم ستلقون بعدي ذلً شاملً ،و سيفاً قاتلً ،و أثرة يتخذها
الظالمون بعدي عليكم " ,و هو يشير بهذا إلى معاوية و أعوانه من المويين ،و المعنى إنّي علمت أنكم ل
تراعون الحق ،و ل تختارون أهله ،و ل تقلون الصدق ,و ل ترضون به بدلً من الباطل ،إذ كنتم تحرضوني
على قتال النهروانيين ،و تقولون بعدما نقضي عليهم نتوجه لحرب معاوية ،فمالكم وقد بلغتم مرادكم في
و المعنى أنّ ما فعل عثمان كله فساد و ضلل ،و أمّا ما فعله من تغير سنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم
– فهو ضلل ،و أما ما فعله من كونه حصر و اقتحموا عليه سور بيته ،فإن كان مُحِقّ فقد ترك الدفاع عن
نفسه وحرمه ،و ليس له ذلك شرعاً ،و إن كان غير محق فالمر أشد .
و لما رأى أنّ القوم مائلون إلى أمرة معاوية و طاعته وتحقق ذلك قال لهم " -:ل تكرهوا إمرة معاوية ,فإن
إمرته سلم [ ]140وعافية " ,أي ل ينافسه أحد ،لنّكم منذ الن و أنتم مائلون إليه ،تاركون لمامكم قبل أن
يترككم .
و آخر ما انتهى إليه أمر علي في هذه الخطبة أن قال لهم حين سألوه عمن يكون بعده (فقال ") -:أمّا الحسن
صاحب خِوَان ( ، )7و فتى من الفتيان ،و لو قد التفت حلقتا البطان ( )8لم يغن عنكم في الحرب حثالة عصفور
( ، )9و أما ابن أخي عبدال بن جعفر فصاحب لهو ،و أما الحسين و محمد -أي ابن الحنيفية -ابناي فأنا منهما
و هما مني " )10( ,فهذا كلمه فيهم ،و هو أعرف بهم .
و لذلك فإنّ الحسن بايعه بالخلفة فريق من الناس ،فأحال البيعة لمعاوية ،و اشترط على معاوية ما اشترط ،
وكان من المحال الوفاء بشيء من شروطه ،و من أعان ظالماً سُلّطَ عليه ،فما رضي الحسن إل أن يكون في
أعمال معاوية ،فبدل أن يضع في يده ذا الفقار ،و ضع الشروط في الصحيفة الفارغة ،و سلم خلفته إلى
معاوية ،و يقال َدسّ عليه السم فقتله ،كما جاء ذلك في الخبار عند أهل العلم الصحيح النقل .
و باستقراء التاريخ ,و النظر فيه بتمحيص ,يجد الناظر أن إمامة علي بن أبي طالب كان لها أكبر مؤثر قتل أهل
النهروان ،فإنّه ما رجع علي إل مخذولً ،و لما قتل عبدال بن وهب ,و أصحابة في النهروان ,أدرك علي بن
أبي طالب سقوط المر من يده ،فلم يكن من أهل العراق إل رفض علي بن أبي طالب ،فإنّه كلما استنهضهم
قعدوا ،و كلما حركهم سكنوا ،ولم يزل بهم في المجامع و هو يخطبهم ،و كأنه يضرب في حديد بارد ،حتى
قابله قائده الكبر الذي ظاهره معه ،و باطنه عليه ،الشعث بن [ ]141قيس " -:هل فعلت مثل ما فعل عثمان
" ,أي تقعد في بيتك مثل ما قعد عثمان في بيته ،و قصده أن يكف علي عن حرب معاوية ،فإنّ المر قد تم بقتل
النهروانيين ،وسهلت المور التي كانوا يحاولونها لمعاوية .
و في" المامة و السياسة " من الفلتات المعربة عن الحقائق عند من يفهمه كثيرة ،و لعلهم يظنون أن الباضية
و نحوهم ل يفهمون معاني الكلم الذي يحررونه.
و لم يزل علي على هذا الحال يتمنى حرب معاوية و أهل الشام ،و لكنه لم يجد له أعواناً ،ولم ير له أقواماً ،
حتى هجم عليه عبد الرحمن بن ملجم المرادي فقتله ،و قبض عليه فأدخل عليه بعد ضربه إياه " فقال علي :
أطيبوا طعامه و شرابه ،و ألينوا فراشه فإن أعش فأنا ولي دمي ،إما عفوت و إما اقتصصت ،و إن مت
فألحقوه بي " ،وَلَ تَ ْع َتدُواْ ِإنّ الّ لَ ُيحِبّ ا ْلمُعْ َتدِينَ " ( ، )11قالوا وبكت أم كلثوم ,و قالت لبن ملجم (( :يا
عدو ال ,قتلت أمير المؤمنين )) ،فقال (( :ما قتلت أمير المؤمنين ,و لكني قتلت أباكِ )) ،أنكر أن يكون قتل
أمير المؤمنين أي أن علي إذ ذاك لم يكن أمير المؤمنين ،حيث خلع المامة من عنقه إلى الحكمين ،و لم يعد بعد
إماماً "،قالت أم كلثوم (( :و ال إني لرجو أل يكون عليه بأس )) ،فقال لها (( :و لم تبكين إذاً ؟ و ال قد
و أخذ ابن ملجم ,و قطعت يداه ،و رجله ،و أذناه ،و أنفه ،ثم لسانه ،فجزع عندما عالجوا لسانه بالقطع
فقالوا له في ذلك ،فقال جزعت لنقطاع الذكر بها )12( ،و مثلوا به خلفاً لما أوصى به علي " .
و ليتهم لم يفعلوا فإنّ التمثيل حرام ،نهى عنه رسول ال ( – )13صلى ال عليه و آله وسلم – ,و ماذا يجدي
التمثيل ،و الولى بمثل هؤلء و أضرابهم الوقار خصوصاً في مثل هذه الحوال ،و الحتشام ,و رعاية وصية
الوالد ،و الثبات في المور كلها ،فهم لم يراعوا وصية والدهم الحنون ،و ل راعوا واجب الشرع ،وهما
أمران كبيران ،فانظر لو كان المقتول أحد الولد و المقتص علي بن أبي طالب ،أكان يفعل هكذا ؟ ل و ال
حاشاه ،و المر ل ،و إنما تمتاز الرجال بالفعال]143[.
====================================
( )1أخرجه البهيقي في السنن الكبرى ()8/275رقم 16630وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (367)1/156و()20/53رقم 91و()22/223رقم
591وأخرجه أبو داؤد الطيالسي ()1/31رقم 228وأخرجه أبو يعلي الموصلي ()2/177رقم .87
( )2كمه -:جمع آكمه,وهو الذي ولد بدون عينين,ومن ذلك قوله تعالى "وتبريء الكمة والبرص بأذني "{القاموس المحيط {1616/مادة كمه.
( )3روّاعة -:خوافة جمع رواع ,وهو شديد ال ّروْع وهو الخوف {لسان العرب}6/264,مادة روع .
( )4الصم-:جمع أصم,والمراد الجبال الصم وهي الشديدة الصلبة,ويوهي يضعف {القاموس المحيط }1458/مادة ص م م
( )5المامة السياسية {.}130-1/129
( )6المامة والسياسة ()131-1/130
( )7صاحب خوان -:الخوان -:الذي يؤكل عليه أو المائدة,والمعنى رجل كرم وإطعام {.لسان العرب}5/184,مادة خ و ن .
( )8التقت حلقتا البطان -:البطان -:الحزام الذي يلي البطن أو المقصود من الجملة إذا اشتد المر لسان العرب {}2/106مادة(ب ط ن )
( )9حثالة عصفور -:كناية عن عدم الجدوى والنفع.لسان العرب ()4/35مادة ح ث ل
( )10المامة والسياسة ()1/132
( )11البقرة . 190 :
( )12المامة والسياسة (.)139-1/138
( )13أخرجه مسلم في (-32كتاب الجهاد والسير -2باب تأمير المام والمراء على البعوث)()3/1357رقم ,)3(1731وأخرجه الترمذي في (-22كتاب
السير -48باب ما جاء في وصيته صلى ال عليه في القتال)()4/162رقم 1617وأخرجه أبو داؤد في (-15كتاب الجهاد -82باب في دعاء المشركين )
ص 377رقم ,2613وأخرجه ابن ماجهفي (-24كتاب الجهاد -38باب وصيته المام)ص 412رقم ,2857وأخرجه الرمي في (-17كتاب الجهاد باب
النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو)ص 297رقم ,974وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند ()3/218رقم .2728
[ المقام الرابع ]
[الشرح ]
اعلم أنّ الظّالم عندنا كما هو عند ال عز و جل ،خليع ل حرمة له ،كما في سيرة الصحابة – رضوان ال عليهم
– ،و نحن سيرتنا فيه سيرتهم ،و قولنا فيه قولهم ،ل نرضى أن يكون لنا قدوة ،و قد أبعده ال من مقامات
أهل الفضل ،قال ال عز و جل لنبيه إبراهيم الخليل – عليه الصلة والسلم – " -:إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا " أي
قدوة ،قال – صلى ال عليه و سلم – َ " -:ومِن ُذرّيّتِي " ,أي اجعل لي من ذريتي لهم قدوة ،فأجابه تعالى" -:
عهُ ،و سماه كافراً و فاسقاً ،و أوجب خهُ َوقّر َ
لَ يَنَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " ( , )1فقد لعن ال الظالم و ندد به ،وَوبّ َ
حمِيمٍ وَلَ شَفِيعٍ
له النار ,و بئس المصير ،و لم يقربه من مقامات أهل الحق في جميع الحوال " مَا لِلظّا ِلمِينَ ِمنْ َ
يُطَاعُ " ( " ، )2وَالّ لَ يُحِبّ الظّا ِلمِينَ " (َ " ، )3ومَا لِلظّا ِلمِينَ ِمنْ أَنصَارٍ " ( )4في أمثالها.
فسيرتنا معشر الباضية سيرة أصحاب رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ،و سيرة الصحابة هي سيرة
الرسول – صلى ال عليه و سلم ، -و سيرته – صلى ال عليه و سلم – إبعاد الظالم ,و تباعد منه ،لنّه عدو
ال بظلمه ،و عدو المسلمين .
و سيرة الباضية إتباع الحق في المكره ,والمنشط ،و العسر ,واليسر ،و الكون معه في الضيق والسعة ،و هذا
أمر مشاهد يشرح التاريخ [ ]144ماضيه ،و يُ ْعرِبُ الحال عن حاضره و آتيه ،فهل سمعتم أو رأيتم أمة من أمم
السلم طيلة القرون الماضية من يؤيد السلم تأييد الباضية له ؟
فكم نصبوا الئمة في عمان لجراء الشريعة الغراء مجراها ،و إعادة قواعد الدين في أساسها و مبناها ،و كم
قام الباضيون بنواحي حضرموت طيلة ستة قرون عرفها التاريخ السلمي في رشدها و هداها ،و كم علت
خرّ لهم رؤوس المم رغم عِتْ َوهَا و طغواها ،فتراهم
رايات الحق بمغربنا العامر بالباضية الفطاحل ،الذين تَ ِ
ج ْمعَات ،و حدوداً في واجبات ،ل محابة لظالم في الدين ،و ل طاعة لمخلوق في معصية رب جمَاعات في َُ
العالمين .
إنّ كل ظالم في نظر الباضية خليع ل حقّ له على المؤمنين ،و ل إجابة لدعوة تبعد عن الحقّ المبين ،خلف ما
عليه غيرنا من سائر قومنا الذين يخضعون لطغاة الغشم وعُتَاة الظلم ،أما الباضية فكان ذلك منهم تبعا لقوله
عز و جل َ "-:ولَ َترْ َكنُواْ إِلَى اّلذِينَ ظَ َلمُواْ َف َت َمسّكُمُ النّارُ " (. )5
والمراد بالظالم في نظر الباضية هو كل من خالف الحقّ ،أو تسلّط على المر بغير مشورة المسلمين ،و من
تَوّلَى أمرهم بالقهر في الدين ،و الخليع من لم تثبت له بيعة من الهداة المتقين ،ول ارتضاه أعيان المؤمنين ،و
زعماء الملة والدين .
و من حكّم هواه ,و حَكَمَ بغير ما أنزل ال ،ومن اصطفى لنفسه ما منعه ال منه ,أو جرى على غير ما أنزل ال,
عدَادِ
أو سار في حكمه على منهج الغتصاب أو الستبداد ،و من ل ولية له عند المسلمين ،فهو داخل في ِ
عمِلَ فيه بعمل أهل السوء ،و من
الظّالمين ،و من [ ]145تولى المر بحق فذهب به مذهب أهل الزيغ ،أو َ
فارق منهج أهل الحق في أي نقطة من النقاط فهو ظالم خارج عن الدّين ،و من توّلى من أمر ال بالبراءة منه
فهو ظالم ،و من أعان ظالماً كذلك ،و من أيّد ظالماً في ظلمه ,و لو بكلمة فهو ظالم حتى يتوب ويرجع ،فإنّ ال
أمر بالتباعد من أهل الظلم ،و من الركون إليهم ،و الكون معهم ،في آيات القرآن ،وفي أحاديث سيد آل عدنان
– صلى ال عليه و سلم . -
و إننا نعجب من قومنا الذين يشهدون بأنّ معاوية قام على المام علي بن أبي طالب ،و هو إمام بالجماع ،فجر
شمْلَ الدّين ،و سَمّ الحسن
عليه الجيوش ،و جاهر بالبغي الصريح ،و قتل آلف الرجال من المسلمين ،و َمزّقَ َ
بن علي ،و كاتبه على أشياء فخانه فيها ،و فعل في السلم الشنائع ،و افترض على الناس لعن علي بن أبي
و من هنا يظهر أنّ [ ]146مذهب الباضية أَ ْنزَهَ المذاهب,و أَطْ َه َرهَا ،ل يقبل الجاهلين إقتداءً ,و ل يتبع الظالمين
اعتداءً ،و ل يرضى الرجال الذين هذا حالهم ،و رضيهم قومنا ؛ لنّ معتقدهم قاضٍ بأن من قال ل إله إل ال
محمد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – دخل الجنة ،و منه أن وزن الحسنات والسيئات بالميزان ثابت
عندهم ،و إن الحسنة بعشر أمثالها ،و السيئة واحدة فقط ،فكم بينهما من التفاوت .
و بأنّ الخروج من النار للعصاة صحيح لديهم ،و أنّ شفاعة رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله – ثابتة
لهم ،فإذا كان اعتقادهم هذا هان الخطب عندهم ،و سَهْلَ المر لديهم ،فإنّ من ل يدخل الجنة بل إله إل ال
شكّ ترجحمحمد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – وحدها ،دخلها بوزن العمال إذا رجحت أعماله ،و ل َ
فإن واحدة بعشر ،و واحدة وحدها فهي مرجوحة بالعشر ،و إل ولم يصح الرجحان ,فبالشفاعة من الرسول
العظم -عليه الصلة والسلم – له ،و إل و ل بد من دخول النار والعياذ بال ,فإنّه يعذب فيها بقدر عمله .
خطْبَ معهم ،و َفرَجَتْ الزمة لديهم ،و جرّأتهم على ركوب المعاصي ،و هَ ْت ِ
ك فهذه الحوال هي التي هَوَنّتْ ال َ
عزّ و عل ،و التساهل في حدود السلم ،و لذلك تراهم ل يتبرمون من أي الذنوب ،سبحان من كل محارم ال َ
شيء يصير إليه ،و إن الحقّ في طاعته .
إنّ داء الحسد و الهوى ل علج لهما من النسان ،بل هما ممتزجان بحياته عالقان به ،فل ينفك منهما ،و
الحسد داء دفين ،و احتجاب العقول عن فهم مدلول النقول من الخذلن الذي يُهلك به صاحبه .
و كذلك السنة النبوية جاء فيها النص الصريح و الحكم الصحيح الذي يقضي على كل ظالم بالهلك ،قال رسول
ال – صلى ال عليه و سلم و آله – " اتقوا الظلم ،فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،واتقوا الشح ،فإن الشح
أهلك من كان قبلكم ،و حملهم على أن [ ]148سفكوا دمائهم و استحلوا محارمهم " ،و قال أيضا – صلى ال
عليه و آله وسلم – " اتقوا دعوة المظلوم فإنها ليس لها عن ال حجاب " و ل يكون المظلوم مظلوماً إل إذا كان
له ظالم ،فإن دعوة المظلوم تحل على الظالم .
و إن الظلم سواء كان في الحال أو المال ،و سواء كان في عرض ،أو خلق ،أو أي حق من حقوق النسانية
فهو حرام ،ل يرضاه ال عز و جل مهما كان ،و قد بعث ال النبياء لرد الظلم عن مجاريه ،و كلّف ال العباد
التكليف ،و فرض قتال من زاغ عن الحق ،فإنه ظلم ،و إن الظلم هو البوار ،و هو داعية الدمار ،و به تهلك
الديار ،و تنقص العمار ،و ينقطع الغيث المدرار ،و يشتد به على العباد الضيق الشديد ،و ترفع به البركات
إجماعاً .
فأي خير يكون من الظالم ،و هل جهنم إل لهل الظلم ،و هل حارب الشارع إل المظالم ،و قال رسول ال –
صلى ال عليه و سلم – " اتقوا دعوة المظلوم ،فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة " " ،اتقوا دعوة المظلوم
و إن كان كافراً ،فإنها ليس لها دون ال حجاب " ،اليات_و_الحاديث" اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على
الغمام يقول ال :وعزتي و جللي لنصرنك و لو بعد حين " هذا حال الظلم ،و غضب ال عليه .
وعليه متى يكون الظالم مرضي عند ال عز و جل ،و هذا مقام نبيه صلى ال عليه و سلم فيه ،فهل تعقل شفاعة
الرسول – صلى ال عليه و سلم – لمن هذا حاله ،حاشا وكل ،ل يرضى ال أهل الظلم و ل ينالون رحمته ،
حتى يتوبوا ،فإذا تابوا فال يقبل توبة عبده ]149[.
و انظر قوله " إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِن ُذرّيّتِي قَالَ لَ يَنَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " ( )9أل تفهم منه غضب
ال عز و جل على الظالمين بحيث نفى عنهم قومهم ،سواء كانت إمامة أو نبوة ،و المراد به عهد خير ،فأين
شفاعة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – للظالم على هذا الحال ،و قد ورد في الظالم من النص القرآني
ما ل يحتمل أي تأويل و ل يقبل أي قيل .
فالباضية ضد كل ظالم ،و لذلك تراهم ينصبّون الئمة لقصد رد الظلم عن مجاريه ،التي ل يرضها ال عز و جل
،و يحكمون بتغريق أموال الظلمة في كل جيل منذ عهد الصحابة إلى عهدنا هذا ،و ليس لغير الباضية هذا
الحال ،و ل تحدث عنه التاريخ في أمة من أمم السلم بعد الصحابة الكرام كما في أيام عمر بن الخطاب –
رضي ال عنه ، -و سيأتي لهذا المقام مزيد بحث إن شاء ال .
و قد ثبت عند علماء الحديث قوله – عليه الصلة والسلم – " قتال المسلم أخاه كفر ،وسبابه فسوق " و في
الجامع الصغير من حديث سعد " قتال المسلم كفر ،وسبابه فسوق ،و ل يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلثة
أيام " ،فتراه أثبت الكفر في قتال المسلم ،و جعل سبابه فسوقاً أي خروجا من الدين ،و منع هجره فوق ثلثة
أيام ،و في حديث " ثلث ليال " ،ففيه رد على قومنا من ثلث جهات ،وقوله فوق ثلث فالصحيح ل مفهوم
للعدد فل يحل لحد أن يهجر أخاه يوماً واحداً ما لم يكن في طاعة ال عز و جل ]150[ ،فهذا في هجره ،فكيف
بقتله .
================================
( )1البقرة . 124 :
( )2غافر . 18 :
( )3آل عمران . 57 :
( )4آل عمران .192 :
( )5هود . 113 :
( )6القلم . 36-35 :
( )7غافر . 18 :
( )8رواه جابر بن زيد مرسلً,انظر مسند المام الربيع الجزء الرابع ,ص 379رقم .1004
( )9البقرة . 124 :
و قتال المسلمين من النصار و المهاجرين ل يعيره قومنا أذن واعية ،وقد علموا أنّ معاوية بن أبي سفيان
خرج على علي بن أبي طالب المام التي ثبتت إمامته بإجماع المسلمين ،وسفك دماء البرياء من المؤمنين ،و
إذا مرت هذه الحوال على علماء قومنا قالوا تلك أمور اجتهادية ،و لم يعيروها أدنى شيء كأنّها لم تكن شيئاً
مذكوراً ،و يذكرون أنه دس على الحس بن علي بن أبي طالب امرأته لتسقيه السم على أن يتزوجها ابنه يزيد ،
و يسوق إليها مالً يغنيها و عشيرتها ففعلت ولم يوف بشيء و هذا كله مغتفر عند قومنا ،و ل يتبرمون منه ،
بل يُسوّغونه بدعوى الجتهاد ،فيتولون القاتل و يرضون عنه .
وقتال معاوية يرتكز على طلب الملك ل لشيء آخر أبداً ،و قد قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لعمار
بن ياسر – رضي ال عنه – " تقتلك الفئة الباغية " ،فسماهم بغاة ،و لم يسمهم مجتهدين ،ألمثل هؤلء
يرتضي ال لهم و يرضى عنهم ،و هذه أفعالهم ؟؟! .
و لعله من حيث كونه صحابياً ،فمعني الصحابية ل يغني إل مع الستقامة في الدين ،أل تسمع لقول ال لنبيه –
يءٌ " ( )1فأين معنى الصحابية إل مع الطاعة وحسن المتثال ، عليه الصلة والسلم – " لَ ْيسَ َلكَ ِمنَ ا َل ْمرِ شَ ْ
وقد أمر ال عز وعل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – أن ينذر عشيرته القربين ،وهم صحابة ،وفوق
معنى الصحابية القرابة ،و خص بإنذارهم حتى ل يحيك بأذهانهم معنى القرابة ،فيعتقدون لها مزية خاصة ،قال
عشِيرَ َتكَ ا َلْ ْقرَبِينَ " ( )2أي خصهم بالنذار علناً بعد النذار العام لعموم
ال تعالى [ ]151له َ " :وأَن ِذرْ َ
المسلمين ،فهم ومن إليهم من أخصائه الحبين حتى ابنته فاطمة الزهراء يقول لها " :سليني عن مالي ما شئت
،ل أغني عنك من ال شيئاً " .
و انظر ما معنى النذار مع كون عشيرته القربين صحابة السيد المين فقد جمعوا السلم و الصحبة و القرابة ،
و لم يكف ذلك من إنذارهم خصيصاً لئل يظنوا أنهم أقرب من غيرهم عند ال ،فتبين أنه ل قرب إل بالحق ،و ل
بعد إل بالباطل .
وهل أصحابه – صلى ال عليه و سلم -إل الموفون بدينهم الثابتون على دعائم الستقامة ،و أعمدة العدالة ،و
اللتزام الحق ،أيكفي أن يكون النسان من الصحابة جار أو عدل ،ل سيما من ظهر منه ارتكاب ما حرم ال من
خداع المؤمنين و خيانتهم ،و الغدر بهم ،و أن يبدل أحكام ال كما يهوى ،و يفعل في عباد ال ما شاءت له
الهواء ،أيكفي أن يكون الرجل صحابيا آمن بالرسول – صلى ال عليه و سلم – خان أم عدل ؟؟!.
لو كان المر كذلك فلِمَ يقطع رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – اليادي ،و يضرب العناق ،و يرجم
الزناة المحصنين ،و يأخذ على أيدي المجرمين ،و أكثر هؤلء داخلون في عموم الصحاب ،وقد أسلموا على
يدي رسول ال – صلى ال عليه و سلم . -
و كذلك قاتل أبو بكر – رضي ال عنه -مانعي الزكاة و لم يكفهم إيمانهم و رؤيتهم لرسول ال – صلى ال عليه
و سلم – [ ، ]152إن كان معنى الصحابي من أسلم علي الرسول – صلى ال عليه و سلم -و رآه و جلس
معه ،و كذلك أفعال عمر ،و لم يقول إنّ المجرمين صحابة ل تبعة عليهم و ل مسئولية على ذلك ،و أفعال
هؤلء المحدثين في السلم أعظم من أفعال من ذكرنا ،فإن هؤلء قتلوا أخيار الصحابة و أتقياءهم كعمار بن
ياسر و أمثاله ،و عبدال بن وهب الراسبي و أضرابه ،و أمثال حرقوص بن زهير السعدي ،و زيد بن حصين
الطائي في أمثالهم من البررة المؤمنين .
ول ريب فإنّ قومنا يقلبون الحقائق ،و يرضون بالقشر دون اللب ،و إليك مثال من ذلك لتعتبر به (( ،جاء
امرأة إلى عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها -تسألها قائلة له :أتجزي أحدنا صلتها إذا طهرت ؟ ،و ذلك أنها
رأت الحائض و النفساء تترك الصلة في ذلك الحال ،فسئلت أتكون صلتها بعد طهرها كافية أم تجب عليها
إعادة الصلة أو تكفيرها كما يجب عليها قضاء رمضان في ذلك الحال ،فاستنكرت عائشة –رضي ال عنها –
هذا السؤال لما يرشح فيه من الهتمام بأمر الدين والعتناء به ،وقال لها عائشة – رضي ال عنها -أحرورية
أنتِ ؟ )) قال الشارح في معنى الحرورية :جماعة من الخوارج نزلوا قرية حروراء ،قال وقولها أحرورية
أنتِ ؟ تريد أنها خالفت السنة ،و خرجت عن الجماعة كخروج أولئك عن جماعة المسلمين [ . ]153اهــ
و عائشة – رضي ال عنها – حاشاها أن تقول أو تريد أن الحرورية خالفت السنة ،بل عرفت رسوخ قدم
الحرورية في الدين ،و فهمت من هذه المسألة تأسفها على ضياع دينها أيام نفاسها أو حيضها من حيث أن
الحائض تدع الصلة أيام حيضها ،فاستفهمت عن ذلك أيكون كافياً ،ول تبعة عليها ،فاستغربت أم المؤمنين –
رضي ال عنها – إل من الحرورية لشدتهم في دينهم ،إذ هم خيار الصحابة – رضوان ال عليهم – ،فكيف
يوصفون بمخالفة السنة ،وهل يصح أن يوصف خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم -بمخالفة
السنة ؟؟ أليس الواصف لهم بذلك مخالف للسنة ؟؟! بشهادة رسول ال – صلى ال عليه و سلم ، -و قد ذكر
القضية في الجزء الثالث من " تيسير الوصول الجامع للصول " تأليف عبد الرحمن بن علي المعروف بـ " ابن
الديبع " الشيباني الزبيدي الشافعي .
فانظروا معاشر المسلمين ،على القل أما كان الولى حمل القضية على الوجه اللئق بها ،من حملها على
مخالفة السنة ،و رمي خيار المة بمثل هذا اللمز الذي يتألم منه من كان في قلبه ذرة من إيمان ،و لكن قومنا
تجاسروا على مثل هذا الحال ،و ضللوا من شاءوا و لو كان محقاً ،و أيدوا من شاءوا ولو كان مبطلً ،وعلىذلك
تحقق أن الغاية من هذا الهوى المطاع ،وال على لسان كل ناطق ،و هو ولي التوفيق ]154[.
==================
[ المقام الخامس ]
هذا العنوان يدل على أنّ الشارح يرى أنّ طاعة الجبابرة ضلل ،والضلل ينافي الحق ،و أمراء الظلم بلء على
المة ،إن أطاعتهم أضرت بدينها ،و إن خالفتهم أضرت بدنياها ،وهما أمران أحلهما مر ،قال – رحمه ال–
:
[الشرح ]
اعلم أنّ أمراء الظلم ،و زعماء الضلل ،و ملوك الغطرسة ،و قادة الكفر الذين سيطروا على المة بعسفهم ،و
يتملكون المور بغشمهم ،و ل يراعون واجب الحق ،و ل يعرفوا ما يحل و ما يحرم ،ملئت الغطرسة قلوبهم ،
و شمخت بالكبر أنوفهم ،فهم الذين ل يبالون بأوامر ال مهما كانت ،كمثل الحجاج و أضرابه ،و معاوية
وأترابه ،و عبدالملك بن مروان ،و السفاح وأمثالهم ،و كسرى وقيصر ،و الجلندى الذي يأخذ كل سفينة
غصبا ،و التبابعة و قوادهم ممن يتسمون باسم الملوك ،و يصفون أنفسهم بالعدالة ،و هم بعيدون منها بعداً
محسوساً ومعقولً ،وإن ادعوا ،و الدعاوى ما لم [ ]155تقيموا عليها بينات ،أبناؤها أدعياء .
و عند هذا الحال قال علماء قومنا بوجوب طاعة هؤلء المراء الذين هذه صفتهم ،و ل يجوز الخروج عليهم ،
و ل العتراض ،متعلقين بحديث " إن أحسنوا فعليكم الشكر ،و إن أساءوا فعليكم الصبر " و لم يقل بهذا
صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – فيمن قام بواجب الدين ،وفتح الفتوح ،و أجل قدر السلم ،الذي
عنده على القل ديانة وشريعة ،ويبيت على محرابه متعبداً ،حين انحرف عن الخطة الشرعية في بعض
المواد ،تنادوا عليه من شرق البلد و غربها ،حتى حصروه في بيته ،وقتلوه بين ظهراني المة ،و لم يقولوا
كما يقول قومنا ،اللهم إل إذا كانوا ل يرون لهم ذلك ،و لكنهم كانوا هم الحجة في الدين ،و لذا لم يعارضهم في
ذلك معارض ،و ل قام ضدهم قائم من المسلمين ،و الحاديث التي جاءت من وراءهم ل يلتفت إليها .
و لما قالوا تلك المقالة نطيعهم حد الطاعة ،و ل نرى الخروج عليهم لحاديث يروونها فيهم ،تجاسر أولئك
العتاة الظلمة ،و حكموا أهواءهم ،و تحكموا فيما يشتهون حيث لم يروا لهم معارضاً ،و ل لعمالهم معترضاً ،
حرُم الدين مهتوكة ،و حقوق الدين غير منظور إليها ،و ل قيمة لهلها ،و ل
فتركوا حدود ال مضاعة ،و ُ
رعاية لواجباتها مطلقاً ]156[.
و اعلم أنّا قدمنا فيما سبق أنّ أمراء الظلم كل من تولى أمراً من أمر المسلمين ،ولم يسر فيه سيرة المؤمنين ،
و ل نهج به مناهج الخلفاء الراشدين ،و أول من سار في المسلمين بسيرة الجورة الظالمين بنوا أمية ،و أولهم
عثمان بن عفان حيث وله المسلمون على أمرهم ،و حكموه على أنفسهم ،و قاموا معه قيامهم مع صاحبيه ،
حتى غير ،و بدل ،و كان عليه من المسلمين ما علم .
ثم معاوية بن أبي سفيان حيث خرج على المام باغياً ،و كان علي بن أبي طالب إماماً ثبت إمامته بإجماع
المسلمين ،و ما عدّ عليه شيء يخالف الحق ،و لو عدوا عليه شيئاً لقاموا عليه بالنكار وناقشوه ،حتى وقع
فيما وقع فيه من التحكيم فخرجوا عنه ،و دار بينه و بينهم ما دار من النقاش و الحوار ،فخرج معاوية على
المام الحق علي بن أبي طالب الذي قام بأمر المسلمين المجتمع على بيعته ،المتفق على إمامته ،فشق معه
عصى الطاعة ،و قام عليه بخيله و رجله ،و خرج عليه خروج باغٍ على محق ،فكان من أمره ما كان يعرفه
كل أحد .
و هو الذي سنّ سنة الخروج على أئمة العدل ،كان أميراً على الشام بأمر المام ،و لما رأى علي بن أبي طالب
غير تاركه على وليته ،لما يلحظه من عدم استقامته ،و تحقق أنّه معزول ل محالة تحيز إلى الحيل و المكائد ،
التي يتركز بها في مقامه ،و كان طموحاً إلى الملك يحاوله بكل المستطاع ،حتى إذا ذاق حلوة المارة الصغرى
حاول ما فوقها ]157[،و عندما تحقق من علي المام أنّه مخلوع بباطله ،و إن الحق ل يقبله و ل يرتضيه ،
غالط من وجد من بسطاء المسلمين ،و خادع المؤمنين ،و تألب على المام ليركز إمارته ،و يتركز في المة
بقوة سلطانه ،و سطوة السنان ،فسفكت الدماء بذلك ،و انزهقت أرواح ،فعلى مَن إثم تلك الدماء التي سالت
أودية بقدرها ،و على من جزاء تلك الجرائم الهائلة ،التي مزقت الدين ،وفرقت أمر المسلمين ،و الحق فيها
واضح ،و المر بين .
فهم أول من أفسد الدين ،و عثمان كرسي زعامتهم ،فتبعوه يطيرون بتلك الجنحة ،و يبطشون بتلك اليدي
الثيمة ،ل أطال ال باعها .
ولو مشت على منهاج العدالة ،وأخذت بيد المساواة ،و لم تغلب عليها الشهوات لم يتسلط عليهم أحد من الناس
،فإن ال مع الحق أين كان َ " ،ولَـكِن لّ َي ْقضِيَ الّ َأمْراً كَانَ مَ ْفعُولً " ( ، )1وتتابعوا على ذلك خليفة إثر خليفة ،
و أميراً إثر أمير ،و الكل بغاة عتاة خلعوا سربال الحق ،و رفضوا دعوة الدين ،حتى انقضت أيامهم المظلمة
بجورهم .
ثمّ خلفهم بنو العباس بن عبد المطلب الهاشمي ،ذراري البحر ،حبر المة ،و ترجمان القرآن ،إمام العلماء ،و
سيد النجباء ،و عمدة أهل اليمان في الدين ،و ابن عم النبي – صلى ال عليه و سلم - -رضي ال []158
عنهما – .
تبعوا بني أمية ,ساروا بسيرتهم الجائرة ،وأخذوا مأخذهم ،ففضلوا أن يكونوا ملوك تستعبدهم شهواتهم ،و
تمتلكهم لذاتهم ،تمذهبوا بمذهب كسرى و قيصر ،ولم يتمذهبوا بمذهب أبي بكر الصديق ،و ل بمذهب عمر
الفاروق ،لنّ هذين و مَن ذهب مذهبهما بعيدون عن الرفاهة ،والترف ،و عن الخلعة و السفاهة ،فكان
كسرى وقيصر يخافانهما ،ويرهبان من ذكر اسميهما ،و من جاء بعدهما ،و تحكمت عليه الهواء ،و لعبت به
الشهوات أصبح يجذب من على كرسيه إلى الرض و هو يقول خليفة المسلمين ،حتى انتهى المر إلى غير
شيء يذكر .
فكم وقع في بني العباس من المخازي التي يسود منها وجه التاريخ ،اختاروا أن يكونوا ملوكاً يتفاخرون
بالشهوات ،و يتسارعون إلى معاقرة اللذات ،ل يبالون بما يلقون ،و ل يتحرجون مما يفعلون ،حتى اسود وجه
الحق بظلمهم ،و فر داعي الرشاد من أرضهم ،و جمح بهم شيطان الهوى عن سيرة المسلمين ،غير آخذين من
إيمان العباس بحبل متين ،و ل مهتدين بهدى عبدال الحبر المين ،الب الثاني – رضي ال عنهما . -
ففتحوا ما فتحوا متفاخرين ،و فعلوا ما فعلوا مبطلين ،و الحق يدعوهم إلى خلع كبرياءهم ،و العدل يناديهم إلى
إتباع نهج آبائهم ،لم يحترموا الرسول في أحكامه ،وهم يفتخرون برسالته ،و يحسبون أنهم في مقامه ،إن
الرسول – عليه[ ]159الصلة والسلم – ينعى عليهم حالهم هذا ،و هم تائهون في غمرات البطر ،و ل يدرون
أنهم من جملة من كفر ،يدعون السلم وهو منهم بريء ،و يتظاهرون بالنصاف في الحكام ،و هي على غير
القوي ،دبّ فيهم داء المم قبلهم ،كما قال عنهم الهمام الولي أبو حمزة الرضي " تقوم القينات على رؤوسهم،
و تدار الكؤوس على موائدهم ،و تشرب الخمور بحضراتهم ،وتداس حدود ال على فرشهم ،يقرأون القرآن و
هو يلعنهم ،و تقام الجمعات و هم لهون في شهواتهم " فهم مشابهون للملوك الكاسرة العتاة ،و مقلدون
للقياصرة الطغاة ،ل يهتمون بدين ،و ل يراعون أوامر رب العالمين .
أمثل هؤلء الذين يرجى منهم تأيد الحق ؟! أو يؤمل منهم نصرة الدين ؟! إنا ل و إنا إليه راجعون .
تسلطوا على أمور المسلمين فتولوها ،و تملكوا زمام السلطات رغم أهل التقوى ،و على ذلك قال أتباعهم
بوجوب طاعتهم ،و بذلك راجت بضاعتهم ،فترفعوا عن الخلق ،و تعاظموا على أهل الحق ،و نزلوا أنفسهم
بمنزلة اللوهية ،و جعلوا المة في حضيض الستعباد ،فأفسدوا الدين ،وداسوا حقوق المسلمين.
و الواقع أنّ العلماء هم الذين يخشون ال عز و عل ،ويراعون حقوقه بين المل ،كما هم كذلك عند الخلء "
خشَى الَّ ِمنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعُ َلمَاء " ( )2و إذا كانوا كذلك فتراهم يتألمون على هتك حرم ال عز وعل تألم السليم
إِ ّنمَا يَ ْ
،و يبكون على ذلك بكاء السقيم ،الذي ل يرى له نجاة من العذاب الليم .
ولما قال هؤلء العلماء بوجوب طاعة الزعماء جاروا أم عدلوا ،و ل يصح الخروج عليهم ،كانوا يفعلون ما
شاء لهم هواهم أينما كانوا ،و كيف كانوا ،آمنين من النتقاد لفعالهم ،فضلً عن الرد لعمالهم ،فتعطلت بذلك
أحكام الشريعة ،و ضاعت الحدود بين ظهراني المة ،فلم يبق من الدين إل اسمه ،و ل من العدل إل رسمه ،و
أعرضوا عن أوامر القرآن ،و تركوا واجب السنة الزهراء التي جاء بها سيد آل عدنان ،و لم يعد لقوله صلى
ال عليه و سلم جدوا ،حيث قال " تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا " أو كما قال – عليه الصلة و السلم –
في أحاديث يطول ذكرها ،و لم يبقى للمر بقتال الباغي في الدين أثر ،و ل لمنتهك الحرم في السلم حرج يعتبر
.
وقد جاء القرآن بالدلة النيرة الجلية ،قائل لنا " َولَ َترْ َكنُواْ إِلَى اّلذِينَ [ ]161ظَ َلمُواْ فَ َت َمسّكُمُ النّارُ " ( )3و أي
ركون أعظم من القول بوجوب طاعة الجبار الظالم ،و قال " فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " ( )4أي
ترجع إلى حكمه عز و جل طائعة خاضعة ،و لما قال ال عز و جل لنبيه " إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِن
ُذرّيّتِي " أجيب بقوله " لَ يَنَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " ( ، )5وقوله – عليه الصلة والسلم – " ل طاعة لمخلوق في
معصية الخالق " قال مخالفونا طاعتهم واجبه إل في نفس ذلك الشيء المحرم بعينه ،و أحسب أنّ بعضهم أطلق
الوجوب نظراً لوجوب طاعة أولياء المر ،و عندهم أولوا المر هم الذين تسلطوا على المر بالقهر ،كما ذكره
الكثير منهم .
و ل يقول عاقل بوجوب طاعة الظالم ،وقد أمر ال بقتال الظلمة ،و رد أعمالهم ،لحديث " كل شيء ليس عليه
أمرنا فهو رد " ،و ليس أمر محمد – صلى ال عليه و سلم و آله – على شيء من أمر الظلمة ،وقد أبطل ال
أحكامهم إل عند العجز عنهم ،و تعين التقية لهم ،و الدلة و العقلية و النقلية تنعى عليهم أقوالهم ،و ترد
عليهم أعمالهم ،و مع ذلك هم مصرون على مفهوم قوله – صلى ال عليه و سلم " -سلطان غشوم خير من
فتنة تدوم " ،و جعلوا هذا و أمثله معتمدهم ،و ما دروا أنّ معنى ذلك عند العجز عن القيام عليهم ،و ردّ
أعمالهم عليهم ،ل سيما إذا كانت فتنة تدوم ،و لو كان المر كذلك فعلى أي شيء قاتل المسلمون يوم الجمل ،و
يوم []162صفين ،ولم يقولوا بمقتضى ما يقول قومنا ،و علم قاتل أبو بكر – رضي ال عنه -من منع
الزكاة ،حتى عناقاً كان يؤديها لرسول ال – صلى ال عليه و سلم – فإنّ الزكاة شرعت لصناف غير المام
ومن المحتمل أن يؤدوها إلى أهلها .
========================
( )1النفال . 42 :
( )2فاطر. 28 :
( )3هود . 113 :
( )4الحجرات . 9 :
( )5البقرة . 124 :
وعلى أي شيء قاتل المسلمون عثمان بن عثمان ،مع أنّه لم يفعل كفعل من جاء بعده ،بل ضيع بعض الحقوق
وغيّر بعض الحوال ،و بدل بعض الحكام ،فما كان من المسلمين إل القيام عليه ليرجع عن تلك الحوال حتى
حصروا في مدينة الرسول – عليه و آله الصلة و السلم – فكان منهم القائم عليه جهاراً ،و منهم الراضي بذلك
،و منهم الساكت حتى قضوا عليه ،و هو خيار الصحابة الذين مدحهم القرآن الكريم ،و أثنى عليهم في آياته
الشاهرة الظاهرة ،و هم النصار و المهاجرون ،و لم يقولوا بوجوب طاعته ولو جار ،بل لما رأوه جار قاموا
عليه غضباً ل ،وقيام بحقوقه تعالى ،و رداً لعماله المخالفة لعمال أهل الحق قبله.
و لقد نعى العلماء على الزهري دخوله على الملوك فاعتذر بأعذار [ ]163ل يردها العقل ،هذا في نفس الدخول
عليهم فقط ،و لما تمكنت الملكية من قلوب المتسمين بالسلم القائلين بوجوب طاعة المام الجائر مهما كان ،و
تمكن التسخير من نفوس الضعفاء ،ومن القائلين بتلك المقالة الواهية ،وعلم الترفع للمراء على المأمورين ،
فكان البون البعيد بين الفريقين ،سهل ترك النكير على الظلمة ،و هان النفور و الغضب من أهل الباطل ،و
وهت الشريعة الزهراء في حضيض الظلم ،ميادين التسخير .
و العقيدة قاضية على العقول بأنّ ما يفعله الملوك ل يعارضون عليه مهما كان ،و ل يعترض عليهم حيث هم
أولياء المر ،فنهدت أركان السلم ،و انهارت قواعد الحكام ،و تبدل الحلل بالحرام ،و اختلط الحق بالباطل
فشاع بين النام.
لذلك لم يهدأ روع الباضية إل تحت ظلل السيوف ،فتجردوا ل مصارعين لجنود الباطل ،فنصبوا الئمة حيث
وجدوا لهم طريقاً ،و ما أخبر التاريخ عنهم بسوأة واحدة مهما كانت صغيرة أو كبيرة في حروبهم المشهورة ،
بل حدث التاريخ على اختلف مؤلفيه ،و تباين منازعهم و مذاهبهم ،بنزاهتهم في حروبهم ،و تلك من أزهر
مناقبهم التاريخية في عهود إمامتهم المرضية ،خلف أيام الجور و الغطرسة أهل البغي ،فإنّ أئمة الباضية
مثال للنزاهة و حسن المعاملة لسائر فرق السلم من كانوا ،و أين كانوا ،فإنّهم يقومون ل ل لدولة ،و ل
لغرض دنيوي ]164[،و معرة الجيوش و غطرستها معروفة مشهورة ،فإذا سلمت منها جيوش الباضية ،
وعرفت لها فيها النزاهة ،فذلك من أعل مكارمهم ،و أعز خصالهم ،فإنّ أوقات الحرب تكثر فيها المعرات من
النفوس المتغطرسة ،و شرار الحرب و ضغائنها ،و احتراق أكباد المصابين فيها أمر ل يجهله أحد ،و حتى في
ذلك يشهد التاريخ للباضية بنزاهة العمال ،وكرم النفوس ،و زمامها بزمام العدل ،و سوقها بعصا النصاف ،
فالحمد ل الذي منّ بحسن التوفيق ،وكمال الرعية في المكره و المنشط .
جاء في تاريخ الباضية من النزاهة ما يحق له التسجيل بماء الذهب على صفحات الشمس و القمر ،ثبت أنّ
الباضية لم يعرف لهم اقتراف أدنى الجرائم في حروبهم ،فاعتبر بما قال أهل العلم فيهم إذ دخلوا المدينة
المنورة بقيادة الهمام الشاري أبي حمزة كما دخلوا مكة المكرمة ،فهل سجل التاريخ حتى من أعداءهم شيئاً من
الحوال التي يتنافى معها اليمان في أموال أهل القبلة ،أو في أعراضهم ،و هكذا أحوالهم كلها في كل مكان ؛
لنّهم يقومون لرفع المظالم و قطع المفاسد .
واعتبر بما قاله المام السالمي – رحمه ال– عنهم في تحفته ،في إمامة المام سعيد بن عبدال بن محمد بن
محبوب الرحيلى – رحمه اللهو رضي عنه – " قيل هاجم حجرة بنزوى " أي بيوت حصينة ملتفة بعضها ببعض
مسورة تعرف عند أهل عمان عرفاً عاماً باسم حجرة ،ل على ما [ ]165يعرفه الخرون من معنى الحجرة " و
ذلك في حرب يوسف بن وجيه أحد القواد الذين غزوا عمان ،و سيطروا عليها في أيامهم ،و كان يوسف بن
و كان يوسف بن وجيه جائراً جباراً من غير أهل دعوة الحق ،و كان المام – رحمه ال– غالباً على رجل باغ
على المسلمين ظالم جبار ،و كانت الحلقة المذكورة من معسكره ،و لم يستحل المام أخذ مال يوسف المذكور
لنّه من أهل القبلة ،و أموال أهل القبلة ل تحل عند المسلمين ،تبعاً للوارد عنه – عليه الصلة والسلم – " من
قال ل إله إل ال محمد رسول ال فقد عصم دمه و ماله "...الحديث ،فأين هذا من أحول الناس الخرين ،فإن
حديدة ل تساوي شيئا من القيمة تقتلع من معسكر عدو جائر محتل للبيضة واطءٍ على أعناق المسلمين ،متجبر
على المؤمنين في عقر دارهم ،يعامله الباضية بمثل هذه المعاملة النزيهة]166[.
وإليك مثالً أخر أبهج من الول ،كان المام عزان بن قيس بن عزان بن قيس بن المام أحمد بن سعيد أصل
الشجرة البوسعيدية ،كان بقية الئمة المتأخرين بعد أولئك الجهابذة الهداة المخلصين الولين ،و بقية أول العزم
من أئمة المسلمين .
زحف هذا المام بجيشه على البريمي من طريق صحار ،و نزل بالعَ ْوهِي -بفتح العين المهملة و سكون الواو
بعدها هاء مكسوة ثم ياء كياء النسب ،-و ليست هي اسم لبلدة حسنة جميلة من أعمال صحار من الجهة الغربية
،ل تبعد عنها أكثر من نصف ساعة في السيارة قال المام السالمي – رحمه ال– " فركب بالجيش -أي المام
عزان إذ كان يقوده بنفسه -من هناك -أي بصحار -و بات بفلج القبائل ".
قلت :هي بلدة أنيقة من نوع العوهي ،و هي أقرب من العوهي لصحار ،يسكنها قوم من بني جابر تسمى فلج
القبائل ،و لعل أصل وجودها اشترك فيه قبائل من أهل ذلك الطرف ،أما هي الن لبني جابر من آل ذبيان .
" بات بها المام عزان بجيشه ثم قال بالعوهي " ذلك لنّ الجيش ذلك العهد ينقل على القدام غالباً ثم على الخيل
و البل و الحمير أيضاً ،من حيث أنّ الطرق غير معبدة ،و الوسائل العصرية غير موجودة ،و كان المام –
رحمه ال– يلحظ عنا الناس الذين معه و الوقت وقت حر ،فكان الجيش و هو يمشي على القدام يلقي تعباً ،و
في العوهي يكثر شجر المبا الذي يسمونه المانغا ،و كان جميلً من أفخر فواكه عمان ،و كان في العوهي
يضرب به المثل لحسنه ،فيقال [ ]167بملء الفم " أمبا العوهي " أي ل مثيل له .
قال " وكان ذلك وقت نضاجه " قال " فذكروا أن المبا كان يتساقط على فرش القوم -أي الجيش -و ل يتناول
أحد منه شيئاً ،و لما هموا بالرحيل نفضوا فرشهم و بقي المبا مكانه " قال " و ذكروا أن خادماً للمام و قيل بل
مزينه أخذ حبة أمبا من تلك الثمار الساقطة فأكلها ،فناله من المام الزجر والتوبيخ ،و لم يبلغ به حد العقوبة ؛
لنّ الثمرة كانت ساقطة بنفسها في غير حرز و كان الورع تركها كما ترك ذلك بقية الجيش ".
فانظر في مثل هذه الحوال هل ترى لها مثيل إل في صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم ، -فترى العفة
عن أموال الناس ،تعم حتى عوام الناس حيث كان القائد عفيفاً ،فل غروى أن تسعد الدنيا بمثل هؤلء البرار ،
و يعلو بهم في المة المنار ،و هي و أمثالها الدلة على نزاهة الباضية ،و حسن معاملتهم لهل القبلة ،و كم
مثل هذا في تاريخ الباضية ،مما يحق أن يكتب بماء الذهب على جبهة الدهر مثلً يتحدث عنه الجيل بعد الجيل ،
و ليكون قدوة لهل اليمان من المسلمين ،فل ريب فإن قوماً يقودهم قائدهم على نهج عمر بن الخطاب ،و
يذهب بهم مذهب الهداة أولى الحق و الصواب ،غير مستنكر ذلك منهم .
فإن إمامة الباضية تقوم مقام الرسالة النبوية ،ل تفارقها قيد شعرة ،إل أنّها ل يوحى إليها ،فتراها تتبع مناهج
النبي المصطفى ،و تسلك مسلك أهل الصدق [ ]168و الوفاء ،ل قائد لها إلى ال إل الشرع ،و ل سائق لها إل
تبذل المال في طاعة ذي الجلل ،ل تمن له عندها إل ذلك ،و ل تهتم إل بما يسد الرمق و يقيم الصلب ،تدعوا
إلى طاعة ال عز وعل في القريب والبعيد ،ل حكم معها إل ما يقتضيه القرآن ،و ل وجهة لها إل إلى ال عز و
جل ،ل تطيّبها الشهوات ،و ل تستحوذ عليها اللذات ،فالعبد السود عندها و السيد المجد لديها سواء ،ل يقدّم
أحداً عندها إل فعله الجميل ،و ل يؤخره إل سيئ فعله مهما كان ،تبع لقوله – صلى ال عليه و آله وسلم – "
ل فضل لعربي على عجمي إل بالتقوى " أو كما قال عليه الصلة والسلم .
و اعلم أنّ قيصر علم على كل من ملك الروم ،و كسرى علم على كل من ملك على الفرس ،كما أن اسم تبع علم
على كل من ملك على اليمن ،و الجلندى اسم لكل من ملك عمان ،و مضى بذلك عهد في الجاهلية على هذا
الحال .
و ل يخفى أنّ الملوك لهم مذاهب ،وعادات ،و أخلق خاصة بهم ،و ل ريب فإنّ الشهوات تتحكم عليهم ،و
رغبات النفوس [ ]169تستولى على قلوبهم ،و على كل حال ل يتقيدون بدين في سبيل رغباتهم ،فلذلك مثل
بهم شيخنا المام الناظم -رحمه ال– حيث قال :
كمثل قيصر و مثل كسرى ...إلخ
و فيه التنديد بهم ،أي هم ملوك يتفاخرون بالشهوات ،ويتباهون غالباً بالمستلذات و المشتهيات ،و تلك سنتهم
إل ما شاء ال جاهلية و إسلماً .
و بسبب طاعة الناس للملوك الذين هذه أحوالهم اندرست طاعة ال باندراس أهل الحق ،و اختفت معالم الحق و
مناهج العدل ،و انمحت رسوم اليمان ،و مال الناس في الشهوات ،و تنافسوا في المشتهيات إلى حد بعيد ،
فنشطت سوق الباطل و راجت بضاعة الفساد ،و خارت معالم اليمان ،و ظهر بذلك صدق قول رسول ال –
صلى ال عليه و سلم – " الناس على دين ملوكهم " .
وهذا أمر تشهد به العادة في كل المم ،و يعرفه الناس في كل زمان ،و ل ريب إذا عدل السلطان استقامت
العوان ،و إذا اشتد المر بلغت الشدة كل مأمور ،و إذا لنّ الزعيم تأثر بلينه من معه ،و هكذا .
و أشار المام صاحب هذا النظام إلى الملوك المويين و الملوك العباسيين الذين تولوا الخلفة بعد الخلفاء
الراشدين ،فإنّ الملك العضوض الذي أشار إليه رسول ال – صلى ال عليه و آله و سلم – نشأ بهم ،و تغلل
في الخلف بعدهم ،و سار بذلك التابعون لثرهم ،تاركين لسيرة رسول [ ]170ال – صلى ال عليه و آله وسلم
– أخذين بسيرة من سلفوا من آبائهم و أجدادهم .
وقد أمر رسول ال – صلى ال عليه و سلم – بالعض على سيرته و سيرة الخلفاء الراشدين من بعده بالنواجذ ،
و هو كناية عن شدة الملزمة لها ،و الثبات عليها ،و أن ل نتبدل بها.
و قد ثبت الباضية على سيرة رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله -و سيرة العمرين وزيريه و ضجيعيه ،
و سيرة أهل الحق من أمته ،لم ينحرفوا عنها قيد شعرة في حل و ل ترحال .
أمّا من عدا الباضية و قد تولت عليهم الجبابرة العتاة ،شرّابو الخمور ،و منتهكو المحارم ،و أهل الخلعات ،
فنشأوا على ذلك ولداً و مولوداً ،و خضعوا لهم سيداً و مسوداً ،و تبعوا رغبتهم ،فمنهم من سار سيرتهم ،و
منهم من مشى في رغبتهم و التزم غالباً مرضيهم ،و دان لهم لما أحبوا و ما كرهوا تقية لهم ،و منهم من ظل
أمّا الباضية فعلى خلف هؤلء فإنّهم يلتزمون المرضي لرسول ال – صلى ال عليه و سلم – حسب ما جاء في
سنته ،و إن شد الدهر عليهم ،فإن تسلط عليهم ملوك ل يقدرون دفعهم عن رغبتهم تركوهم و ما هم عليه حتى
يجدوا ما يزيح ذلك عنهم ،و يرفع نير العنت و الظلم عنهم ،و إذ ذاك أقاموا المامة العمرية الصادقة ،و
أعادوا الشريعة الغراء ،و الحنيفية الزهراء على مجراها الصحيح ،و مبناها الثابت ،و قد عرف الحق []171
فيهم أعداؤهم ،و رأى العدل معهم خصماؤهم .
و إذا تتبعت قواعد السلم الصحيحة ،و تحققت معالمه الراسية الرجيحة ،علمت أن الباضية على كل أصل
مكين قاعدون ،و إلى كل منهج واضح سائرون في الصول و الفروع ،كما قال المام – رحمه ال– :
فنحن في الصول و الفروع على طريق السلف الرفيع ،و المراد بالسلف الرفيع أبو بكر الصديق و عمر بن
الخطاب الفاروق الحقيق ،ل يراوغون المة مراوغة عثمان ،و ل يصرون على خلف الحق إصرار حسدة
النهروان .
كل ما على عواتق الباضية تأييد الحق ،و عون المحق ،و إرشاد الضال ،و رد المضل ،على هذا مضى
الباضية ،و سايروا الزمان ،و ما زالوا داعين إلى ذلك ،راغبين في العدل غير محبين للباطل ،و ل محابين
لهله جاروا أم عدلوا ل يقولون بذلك أبدا ]172[.
============================
[ المقام السادس ]
أراد أن يمهد به مبدأ أحداث عثمان بن عفان ،و هي الحداث التي قام عليه بها المسلمون من المهاجرين و
النصار في عقر دار الهجرة ،وهي المدينة المنورة التي أصبحت بمحمد– صلى ال عليه و سلم – مركز السلم
،و محط رحاله ،و مجمع البطال من رجاله .
[الشرح ]
اعلم أنّ أول حدث في السلم أحداث عثمان بن عفان الموي ،الخليفة الثالث ،الذي شهر مقامه أولً ،و عرف
قدمه في السلم ،و سبقه في الفضائل بحيث سجل له الحديث النبوي شرف أزهر من الشمس ،و وضع له في
الحضيرة الدينية علماً يطول العلم ،و نوه به الدين ،و أثنى عليه سيد النام و مصباح الظلم ،و إمام
المرسلين الكرام ،بما علم في المجتمع المؤمن ،و لنا ما ظهر و ل ما خفي و استتر ،و هل ذلك المدح الوارد
فيه إن صحّ دليل على سعادته ؟ و برهان على صحة أفعاله ؟ نعم ذلك المدح حسب ظاهر الحال ،فرع استقامته
في الدين ،و الستدراج و تبديل الحوال في آخر أعمار البشر غير منكور ،فإنّ العمال بخواتمها .
و ل زال المسلمون يستعيذون من سوء الخواتم ،و ما زالوا يحاذرونها ،و ما زال سبق الكتاب معروفاً عنه –
صلى ال عليه و سلم ، -و ليس كل من كان ظاهره صالحاً [ ]173يكون باطنه كذالك ،فإن أمور الخرة خفية ،
و ليس كل من كان إماماً كان من أهل الجنة ،إذ قد يحرم النسان الرحمة بكلمة ،أو بعقيدة تخطر على باله ،أو
تمر على بلباله ،فإن شرط الوفاء بالطاعة و الثبات عليها ل خالصة ل ليقال أو لينال .
و كم من أحد عاش على عمل الخير حتى إذا دنى أجله تبدل عمله ،و من ذلك الذي قال فيه رسول ال – صلى
ال عليه و سلم – " إن فلناً من أهل النار " و هو في ظاهر حاله من خيار صحابته صلة و صوماً و حجاً و
جهاداً ،حتى سبق عليه الكتاب فكان منه ما كان حين أثخنه الجراح ،و أخذ سهماً من كنانته فطعن به في صدره
فمات .
و من هذه الحوال و أمثالها كثير في البشر ل يحصى ،و ل يكاد يستقصى ،و الرجل إذا لم يعضده التوفيق من
حيّ عَن بَيّ َنةٍ " (. )1
ال للصالحات لم يزل مشهوراً في ضدها " لّيَهْ ِلكَ َمنْ هَ َلكَ عَن بَيّ َنةٍ وَ َيحْيَى َمنْ َ
و ليس مدح رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لناس يرى ظاهر أعمالهم صالحة فيثني عليهم لجل ذلك ،ل
يكون ذلك موجباً لن يكونوا ل يتغيرون عن ذلك ،و قد ورد عنه – صلى ال عليه و سلم " -و ليذادنّ رجال
عن حوضي كما يذاد البعير الضال ،فأقول أل هلم أل هلم ،فيقال إنك ل تدري ماذا أحدثوا بعدك ،فأقول فسحقاً
فسحقاً " فدلّ هذا أن رجالً كان يعرفهم رسول ال – صلى ال عليه و سلم – بصلح في عهده ثم غيروا ذلك
الحال بعده ،فقال لهم سحقاً سحقاً في أحاديث أخرى من نوعه ]174[.
و مدحه لهم فرع استقامتهم في طاعة ال ل مدحاً على الغير ،و ليس كل من قال ل إله إل ال يكون صالحاً
مصلحاً ،فإن الحديث نفسه يرد على المعترض ،فإن شرط الثبات على حق ل إله إل ال واجب ،و أن من
استقام ل في ظاهره أمره كان حقيق بالمدح ،و الثناء عليه لستقامته ،و ليس أيضا من المستحيل أن يتوب
المبطل و يخلص ل فيقبل ال منه توبته ،و يفيض عليه رحمته .
و كان عثمان من أفاضل صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – في أول أمره بل طول حياة رسول ال
عليه الصلة والسلم ،و حياة أبي بكر و عمر بن الخطاب ،و صدر من خلفته أيضا كما يعلم ذلك المسلمون ،
حتى إذا عرق في الخلفة واستقر على كرسيها السامي بدت له بدوات ،استنكرها منه أصحابه ،و توالت منه
فتوالى الستنكار ،و تكررت عنه فتكرر الستغراب ،و بلغ نهاية الحد ،و لذلك أثر على قلوب المسلمين ،و
حاج المر إلى القيام عليه ،و استفساره عن تلك الحوال ،و استعراض نواياه عنها ،و كشف مقاصده فيها ،
فإن منها ما يحتمل الحق ،و منها ما له من غيره ممن سبق ،لكن النيات و المقاصد برهان عن حقيقة نوايا
القاصد .
حتى إذا تأكد منه ضد الرأي العام ،و ظهر منه ما ل تقبله مناهج السلم ،و ل محتمل له في الحق بين النام ،
تكلفوا العتراض عليه فيه لنّه من الدين ،فكان منه وعوداً بالوفاء [ ،]175و لم يثبت وفاءه ،و في الخير
شاع عنه ما أثار حفائظ المؤمنين ،و استحرت من لهبه قلوب أهل التقوى ،و عمدة المسلمين ،و أصبح عثمان
أحدوثة سمر المسلمين في جميع أقطار الرض ،فأسف عليه إخوانه ،و قادهم إلى قتاله عدوانه ،فتنادوا من
عواصم السلم إذ ذاك ،و جاء جنود ال من مصر و العراق و غيرهما ،و إذا بأهل المدينة المنورة يرحبون
بثورتهم ،و يعتزون بصولتهم ،فحصروا عثمان حصار العداء :إما اعتزالً ،و إما امتثالً ،و إما اقتتالً .
و لعله تخيل في نفسه أن ما فعله هو له ،و ل حرج عليه فيه ،لنّه المام العام الذي إليه أمر السلم ،و المير
الجامع لمر المؤمنين ،و للنفوس أهواء و أغراض و نزوات تنزو إليه في أمانيها ،و بذلك يصبح المرء في
و عثمان كان محباً للمارة ،فابتلي فيها ،و كل من أحب المارة ل بد من أن يبتلى فيها ،كما جرت بذلك
العادة ،و قضت بهذا التجربة ،كيفما كانت المارة صغيرة أو كبيرة فعلى قدرها .
و قد عُلم أن حب النفوس أصل شقاها ،و لذلك قال رسول ال – صلى ال عليه وسلم – " ل نولي أمرنا من
سألنا إياه " أو كما قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم ،-و قال لسائل المارة " نفس تحيها خير لك من
شرّ لّ ُكمْ " ( )2و عسى أن تحبوا شيئا و تتعبون
حبّواْ شَيْئًا َوهُوَ َ
عسَى أَن تُ ِ
إمارة [ ]176ل تحصيها " َ " ،و َ
فيه ،و عسى أن تكرهوا شيئا فتجبرون عليه فيكن لكم فيه عون من ال عز و جل ،و كم ورد في التحذير من
هواء النفوس قرآنا و سنة ،و من النفير من حبها و متابعة هواها :
و في ستة الشورى معتبر للعاقل ،و هم خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -يخلو بهم عبد
الرحمن بن عوف ،و يحلفهم و واحداً واحداً ،و لئن وَلّيتكم إياها لتفعلن و تفعلن ،و ل تجد من نفر منها أو
تباعد عنها ،و لعلهم يردون معناها الخروي ،و ذلك الظن بهم لنّهم أبعد من حب الدنيا و شهواتها ،و أنزه
من الميل إليها مع علمهم بها .
و نحن يجب علينا أن لو أرادتنا أن نفر منها ،لعلمنا بأنا منها أبعد من الشمس من الرض ،و لعترفنا بقصورنا
الذي يؤخرنا منها مسافات ،و ينأى بنا عنها إلى أبعد الجهات ،فقل أن يقبلها إمام من أئمة الباضية إل مكلفاً
بها ،مرغماً عليها ،فإذا كان كذلك ،و علم ال منه صدق ذلك أعانه على ما ابتله به ،و وفقه لما ارتضاه له ،
و أحله في الخرة بأعماله أعلى الذرى ،لنّه قل أن يقوم إمام و يموت حتف أنفه بل يموت غالباً شهيداً ليكمل
شرفه في الدار الخرة عند ال عز و جل ،فينال الشهادة التي هي أعلى المنازل عند ال ]177[.
و كان أهل الشورى كل واحد منهم يرفع لها رأسه و يودها ،و لذلك قصروا فيها ،فقصرت بها الخطى عن
واجبها .
قال القطب – رضي ال عنه – في الهميان في شرح سورة النور " :إن أول من كفر النعمة و جحد حقها عثمان
بن عفان ، ...جعله المسلمون على أنفسهم و أموالهم و دينهم فخانهم في كل ذلك " أي في أموالهم و دينهم و
أنفسهم " إذ جعلوه خليفة لهم " أي إماماً حاكماً " له منزلة صاحبيه أبي بكر وعمر – رضي ال عنهما – فدس
على النفس بالقتل والسم ،و في الموال بصرفها إلى أقاربه الذين ل يستحقون شيئاً منها ،و في الدين غيّر و
بدل ،و عمل بما رأى في نفسه ،و إن خالف الصول التي تلقتها المة عن رسوله العظيم بالرضى و القبول " .
قال القطب – رحمه ال– زاد في مسجد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – " أي عثمان زاد بناءاً في مسجد
الرسول عليه الصلة والسلم " و ابتاع من قوم و أبى الخرون فغصبهم فصاحوا به فسيرهم للحبس ،و قال :
قد فعل بكم عمر هذا فلم تصيحوا به فنسب الظلم والبغي إلى عمر – رضي ال عنه – فكلمه فيهم عبدال بن خالد
بن أسيد فأطلقهم من السجن " أي من أبى أن يبايعه أرضه التي هي تقرب المسجد ،و جبره على البيع ،و
غصبه فصاحوا به استنكاراً لفعله لنّهم كانوا تحت ظل عدل النبوة ثم تحت الخلفة الصديقية ثم المارة العمرية .
قلت لم يف هنا []178خير عثمان بشره ،أراد خيراً بظاهر المر و ركب جوراً بظلمه ،فهو من الذين خلطوا
قال القطب " :وقد جمع في ذلك غصب المال وقذف عمر – رضي ال عنه – حيث نسب إليه ذلك ،وعزل سعد
بن أبي وقاص عن الكوفة بل حدث منه – رضي ال عنه – ،و استعمل أخاه لمه وهو الوليد بن عقبة ،و لما
صةً " ( )3بحضرة أبي بكر و عمر – رضي ال نزل قوله تعالى " وَاتّقُواْ فِتْ َنةً لّ ُتصِي َبنّ اّلذِينَ ظَ َلمُواْ مِن ُكمْ خَآ ّ
عنهما – و عثمان و علي أيضا ،فقال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لبي بكر – رحمه ال– إذ سأله أين
أنا ذلك اليوم يا رسول ال ؟ قال " :تحت التراب " ثم قام عمر و فقال مثل ذلك ،فقال – عليه الصلة والسلم -
" :تحت التراب " ثم قام عثمان فقال مثل ذلك فقال له " :بك تفتح و فيك تنشب " ثم قام علي بن أبي طالب
فقال مثل ذلك ،فقال له النبي – صلى ال عليه و سلم " : -أنت إمامها و زمامها تمشي فيها مشي البعير في
قيده " .
و في حديث قال – صلى ال عليه و سلم – يثور دخانها تحت قدمي رجل يقول أو قال يزعم أنه مني ،و ليس
مني أل إن أوليائي المتقون " ،قال القطب – رحمه ال– " و أول ما نقم المسلمون على عثمان أنه لم ينفذ ما
أوصى به عمر – رحمه ال– في ابنه عبيد ال ،و قد قتل جفينة و الهرمزان في السوق بخنجر ،وقد أسلما وقد
حسن إسلمهما ،و قيل كان جفينة نصراني ،و قتلهما لمرهما أبا لؤلؤة بقتل أبيه [ ]179فيما قيل ،فأوصى
عمر الستة الذين جعل المامة إليهم و هم ستة الشورى ،و من ولي منكم فليكلف ابني عبيد ال البينة أنّهما أمرا
أبا لؤلؤة بقتلي ،و كان قتله لهما و عمر حي – رحمه اللهو رضي عنه ، -و فإن لم يأت بها فليقد بهما ،فجعل
عثمان يقتل بعلل و عبيد ال يدعي بينة غائبة ،وقد ولد عبيد ال هذا في عهد رسول ال – صلى ال عليه و
سلم و آله – و لم يرو عنه ،و حده أبوه في الخمر .
وقعد في مقام رسول ال – صلى ال عليه و سلم -في المنبر " أي عثمان جلس حيث كان يجلس رسول ال –
صلى ال عليه و سلم – " و كان أبو بكر – رضي ال عنه -نزل درجة عن رسول ال – صلى ال عليه و سلم
– إجللً له ،و نزل عمر – رضي ال عنه – درجتين أيضا احتراماً أن يباريه و إجللً له – صلى ال عليه و
سلم – في موقفه الذي و قف " .
===========================
( )1النفال . 42 :
( )2البقرة . 216 :
( )3النفال . 25 :
قلت :و هذا ل يقدح في عثمان فإن له أن يعتذر قائلً كاد الناس ل يسمعون ولو نزل كصاحبيه ،و ذلك النزول
مستحب غير واجب ،و لو وجب ل ينتهي إلى منع الوقوف المشار إليه على منبره – عليه الصلة ، -و ما كان
من قبيل الستحسان ل يقدح في النسان ،و ل في الديان ،لكنهم ذكروا حيث من قبيل الستحسان ،و إن
عثمان اقتحم حدود الستحسان في مواد هذا من بعضها .
قال " و لما تولى عثمان أدخله المدينة ،و أعطاه مئة ألف درهم ،و هذه من أكبر الكبائر ،التي أثار ال به
الشر على عثمان ،و كان عبد الرحمن – رضي ال عنه – حلّفه اليمين العظيمة إن وله أن يسير بسيرة
صاحبيه ،و تلك سيرة صاحبيه " يا للسف على عثمان ،يعطي طريد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – مئة
...درهم من فيء المسلمين ،قال " وأعطى مروان بن الحكم خمس المال المجلوب من إفريقيا لما فتحت ،و
أعطى أخاه الحارث بن الحكم مئة ألف درهم من صدقة البحرين ،و أعطى عبدال بن خالد بن أسيد بن أبي ستة
مئة ألف درهم من صدقة البصرة ،و أرسل إليه أبو موسى الشعري بمال عظيم البصرة أيضا فقسمه بين أولده
و أهلة بالصحائف ،و حمى مواطن المطر من أرض البادية لهله و خاصته ،وعزل عمال عمر بل حدث ،و هم
فقهاء علماء من السابقين الولين ،و استعمل السفهاء من أهل بيته و قرابته ،استبدل الطالح بالصالح ،و
الجاهل بالعالم .
استعمل الوليد بن عبقة أخاه لمه على الكوفة و هو طالح ،و استعمل عبدال بن عامر على البصرة و هو ابن
خاله ،و عبدال بن سعد بن أبي السرح على مصر و هو أخوه من الرضاعة ]181[ ،و استعمل يعلى بن أمية
على اليمن و هو حليف لبني أمية ،و أسيد بن الخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة و هو ابن عمة
عثمان ،و لم يدع صالحاً إل عزله ،و استعمل مكانه من يرجوا نصرته و طاعته " قلت :كأنه يتوقع القيام على
عزله فأراد أن يركز إمارته بهؤلء .
قال القطب " عزل عمار بن ياسر عن الكوفة ،و كان أميراً عليها و على الصلة و على القضاء ،وعزل عنها
عبدال بن مسعود – رضي ال عنه – و كان على بيت المال فيها ،و عزل عنها عثمان بن حبيب و كان على
خارجها و أرضها .
و صلى بالناس في منى أربع ركعات ،و كان – صلى ال عليه و سلم و آله – و خليفتان بعده يصلون بها
ركعتين ،و حرق المصاحف ،و كان له مندوحة عن حرقها بالنار ،و حرم قراءة ابن مسعود – رضي ال عنه
– و أبي بن كعب أكبر زهاد الصحابة ،و أجل فضلئهم ،و أمر أن يقرأ الناس على حرف واحد و من خالف مثل
به ،و قد قال رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ،كلها شاف
كاف فاقرأوا ما تيسر منه " ...الحديث ،وقد قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – " من سره أن يقرأ
القرآن غضا كما أنزل فليقرأه قراءة ابن أم عبد " .
قال القطب " :و استلف عثمان من مال ال مالً عظيماً ،و أبى أن يرده ،و كان الوليد المذكور تلعب السحرة
بين يديه ،و يشرب الخمر ،و يصلى بالناس سكران ،و ما أقام عليه حداً ،و ل عزله ،وقتل دينارا و أجمع
المهاجرون و النصار أن يقيده عثمان فأبى ،و استخلف على الكوفة بعد الوليد سعيد بن أبي العاص بن أبيه ،
فعمل فيها مثل عمل الوليد لكن لم يظهر شرب الخمر ،لكن كلمه خيار أهل الكوفة فعزله " .
قال " :وجاءته من إبل الصدقة فوهبها لبعض بني الحكم ،فأخذها [ ]182عبد الرحمن بن عوف – رضي ال
عنه – و قسمها بين المسلمين ،و هو أول من اجترأ ،و اجتمعت الصحابة – رضوان ال عيهم ، -و فيهم عبد
و قال شيخ من أهل مكة لبي ذر – رضي ال عنه – ما منزلة عثمان عندكم فقال له :أما لكم حمار تستقون عليه
الماء ،فقال :أي وال لقد تركته في الدار ،فقال أبو ذر :و ال لعثمان شر من ذلك الحمار ،و كان عمار يقول
فيه الحق ويعيبه ،و كان عثمان يكذبه ،وينسبه إلى الكذب عن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم -و إلى
طعن في الدين .
و قال لعلي إن رسول ال -صلى ال عليه وآله وسلم – أخذك سارقاً ،و ما منعه من قطع إل قرابتك []183
منه " .
قلت :و هذا من أعظم الفتراء و القدح في رسول ال – صلى ال عليه – حيث نسبه إلى ترك حد من حدود ال
لجل قرابته ،و هو قدح في علي بن أبي طالب الذي عرف بالنزاهة و الشرف الرفيع بين رجال السلم
المعدودين في طليعة المؤمنين ،و هذا بهتان عظيم على رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – حاشاه و
أعز ال السيد المصطفى من أن يتهاون بتعطيل حد من حدود ال عز وعل ،و هو القائل " وال " و في رواية
" و الذي نفسي بيده " و رواية " و الذي نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها " و هذا
رد عليه و تكذيب له – صلى ال عليه و سلم ، -و تخوين لمحمد صلى ال عليه و سلم ،و نسبة له إلى الميل
في الحكم بل إلى ترك حكم ال في السارق ،و هذا من أعظم الفواحش في حق الرسول العظم ،إنا ل و إنا إليه
لراجعون ،من يهد ال فل مضل له و من يضلل فل هاد له .
و قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – " عثمان فرعون هذه المة " و كذلك قالت عائشة – رضي ال
عنها ، -و نفى عثمان أبا ذر بل وطاء على جمل ،و عن ابن مسعود – رضي ال عنه – ما يوزن لعثمان يوم
القيامة وزن ذباب ،وقال رجل وزن جناح بعوضة ،و ل جناح ذباب .
و عنه وددت أنا و عثمان برمل عالج يحثى علي و أحثى عليه حتى يموت العجل منا ،فقيل له إذا يغلبك ،فقال
:ل يعين ال كافراً على مؤمن ،و دخل – صلى ال عليه و سلم و آله – بيتاً فيه إثنا عشر رجل منهم ابن
مسعود – رضي ال عنه – و عثمان يذكرون الدجال ،فقال " والذي نفسي بيده إن في البيت مما [ ]184هو
أضر على أمتي من الدجال " قال ابن مسعود و مضوا كلهم و لم يبق واحد منهم ،و بقيت أنا وعثمان .
و أمر عبداً له أسود غليظاً طويلً اسمه زمعه فأخذ ابن مسعود أخذاً عنيفاً ،وضرب به الرض ،و دق
أضلعه ،و ذلك في المسجد فزجرتهم عائشة -رضي ال عنها – فقال لها :اسكتي أو لملئنها عليك سوداناً ،و
كان ذلك سبب عبدال بن مسعود – رحمه اللهو رضي عنه . -
و قال له استغفر لي " أي عثمان قال لبن مسعود لعلمه بمنزلة ابن مسعود – رضي ال عنه – عند ال عز و
جل أو أن يريد أن ابن مسعود يتولى عثمان " فقال ابن مسعود :لن كنت كما أقول فما ينفعك " أي ل يجيبني
و قال عثمان لعمار بن ياسر ،إذ دفنتموه و ما تعلموني يا ابن السوداء ،فقال له عمار فأنت ابن الهاوية ،فنزل
إليه و جعل يضربه و يطأه ،و كتب لبعض بني معيص ليأخذوا من بيت المال ما شاءوا ،فدخل عليه أبي بن
كعب وقال له :أنت الذي تصك إلى بيت مال المسلمين يابن الهاوية يابن النار [ ]185الحامية ،هلكت و
أهلكت ،فقال له لول أنك شيخ و ليس فيك موضع للعقوبة لعاقبتك .
و مدح لديه رجل عثمان فحثى العفر أي التراب في فيه ،و رفعت عائشة – رضي ال عنها – نعل رسول ال –
صلى ال عليه و سلم و آله – و قميصه ،وقالت هاتان نعل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و قميصه لم
يبليا وقد بليت سنته ،إن فيكم فرعوناً أو مثله ،تعني عثمان ،و هو يقول إنما هذه امرأة و رأيها رأي امرأة و
عقلها عقل امرأة المصحف من وراء حجابها ،و عثمان يخطب على المنبر فقالت يا غادر اقرأ ما في كتاب ال
إن تصاحب تصاحب غادراً ،فقال لها :لتنتهين أو لدخلن عليك سود الرجال و حمرها ،يريد أن يهتك حرم
رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و إنه و ال لكبير في الدين ،إن لو كان .
و لكن أصحاب رسول ال – صلى ال عليه و سلم – غير تاركيه يفعل ذلك ،فأجابته عائشة -رضي ال عنها –
لقد لعنك رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و ما استغفر لك ،و رفعت قميصه على جريدة ،وقالت يا نعثل
هذا قميصه – صلى ال عليه و سلم و آله – لم يبل حتى غيرت سنته .
ومر عثمان بالمسجد فنادته يا فاجر يا غادر خنت أمانتك ،و ضيعت رعيتك ،وحل دمك ،ولول الغواة الذين
عبَادِنَا )2( " ...الية ،
يمنعوك لذبحتك كالشاة ،فقال عثمان ِ " :ا ْم َرَأةَ نُوحٍ َوِامْ َرَأةَ لُوطٍ كَا َنتَا تَحْتَ عَ ْبدَ ْينِ ِمنْ ِ
فقالت :كذبت يا عثمان ،فقال حذيفة :و ال ما يعدو عثمان أن يكون فاجراً في دينه ،أخرق في معيشته ،و قال
:وددت أن ما في كنانتي من سهم في بطنه .
و قذف رسول ال [ – ]186صلى ال عليه و سلم و آله – و الخليفتين بعده إذ قال :كان رسول ال – صلى ال
عليه وآله وسلم – يؤثر بني هاشم ،و أبو بكر يؤثر بني تميم ،و عمر يؤثر بني عدي ،فوال لخصن بني أمية
على رغم النوف " و لقد وقع في خطر عظيم بهذا الحال ،نعوذ بال من مثله ،ولما قال لخصن بني أمية على
رغم النوف ،قال عمار :فأنفي يزعم ،قال عثمان :أرغم ال أنفك ،و نزل إليه فوطئه ،و مشى عليه ،و فتق
بطنه .
و كان عبد الرحمن بن عوف هو الذي ولى عثمان الخلفة ،و هو الذي اجترأ عليه برد أفعاله عليه حين ضاق
صدره ،و كان عبد الرحمن بن حنبل أشد الناس على عثمان ،يذكر جوره و يبرئ منه ،فضربه عثمان مئة
سوط ،و حمله على بعير وطاف به المدينة ،و حبسه موثقاً بالحديد ،و ما زال علي يكلمه فيه حتى خل
سبيله ،و سيره إلى خيبر .
=====================
( )1النعام . 56 :
( )2التحريم . 10 :
صفد ونفى نفراً من الكوفة إلى الشام منهم الشتر ،و ثابت بن قيس الهمداني ،و حميد بن زياد ،و زيد ،و
حنظلة بن صوحان ،و أخاه صعصعة بن صوحان ،و جندب بن زهير العامري ،و حبيب بن كعب الزدي ،و
عروة بن الجعد ،و عمر بن الحمق الخزاعي ،و ابن الكواء " .
قال القطب " :ولما شاعت خيانته أرسل إليه المسلمون أن يتوب ،فأمر عماله بالتضيق عليهم في الرزق و
العطايا ،ليرجع الناس إليه ،و قد عطل الحدود ،و أرسل إليه المهاجرون و النصار تب أو اعتزل أو تقتل ،
فأنعم لهم بالستقامة بعهود و مواثيق ،فلم يف بها فأرسلوا إلي من بالثغور أن هلموا فقد ضيع دين محمد –
صلى ال عليه و سلم – هنا ]187[ ،فاجتمعوا فقتلوه ،و قد غدر بعد العهد و كتب إلى بعض عماله اقتل فلن
و فلن لناس خصصهم منهم محمد بن أبي بكر – رضي ال عنه ، -و عاقب فلن وفلن بكذا و كذا من
العذاب ،و ليس هذا من دين المسلمين ،إنما هذا غدر وخيانة ،كان عليه أن يطلب من وجب القتل بالمسلمين
فإذا امتنع قام عليه بإخوانه المسلمين ،و على القل أشهدهم على فعله لتبرأ ساحته معهم ،أما على هذه الصفة
التي مشى عليها عثمان ل مصاغ لها في دين المسلمين .
قال القطب " :و أمر بمعاقبة نفر من الصحابة ،وقوم من التابعين بإحسان ،و تطلع المسلمون على كتاب
عثمان الذي فيه ذلك على جمل مع غلم له ،فجاءوا بذلك كله إلى عثمان ،و في الكتاب طابع خاتمه ،و كتب
إلى معاوية بالشام و إلى أهل الشام أن ينصروه ،جعل يتأهب للقتال ،وقد بدأ باب الفتنة أن ينفتح ،و باب الخير
أن ينغلق و المر ل .
واتخذ جنداً عظيماً من الحبشة و السودان بشراء وغيره ،و كانت عائشة – رضي ال عنها -ترفع كل جمعة
سربال رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و تقول :هذا سربله لم يبل و بليت سنته ،أي أبلها عثمان إذ
استبدل بها غيرها ،بلي دينه – صلى ال عليه و سلم ،و قالت :ليته في غرارتي أقذفه في اليم .
قال محمد بن مسلمة النصاري :ما رأيت يوماً أقر للعين ،و ل أشبه ببدر قط من يوم قتل عثمان ،قال حذيفة :
قتل و هو كافر ،و كذا قال ابن مسعود ،و استغفر رجل لعثمان فحثاه عمار بتراب ،و قال له :استغفر له يا
كافر .
فأمّا علي بن أبي طالب فقد قتل من قتل من المسلمين كثيراً ،و قتل رجال مشهود لهم بالجنة على لسان رسول
ال – صلى ال عليه و سلم ، -منهم حرقوص بن زهير المشهود له بالجنة ،و لقاتله بالنار ،و علي أمر بقتل
هؤلء " و أنا أقول كما قلت أولً الذي أراه [ ]188أن علي مخدوع مغرور ،و كان سليم الصدر .
قال القطب " وعن الحسن ل يرى قاتل النهروان الجنة ،ومثل ذلك قالت عائشة – رضي ال عنها – ".
قال " وأما معاوية فمتهتك مظهر ل يحتاج أن يأول ما ظهر من فسقه ،و قد لعنه رسول ال -صلى ال عليه و
سلم . " -
قال القطب " هذا ثابت عندنا و عند من تكلم في هذا النوع من المخالفين كالنويري والقرطبي و البّي و غيرهم "
و يكفي عند أهل العقول حجة قتلهم عثمان ،بين ظهراني المهاجرين و النصار ،فهم القاتلون ،و هل يقتل في
بيضة السلم قوم إمامهم وهم جميع إل على أمر عظيم دعا إلى قتله ،ل سيما القتل على ملء و بين الناس و
المسألة دينية .
و هل ترون أن قاتل عثمان الذي طعنه فقط ؟ أما الذي قام عليه و حصره ،و ألّب ،و شدّد على قتله ،و دعا
إليه و استجاش و جد و اجتهد ،و هم خيار الصحابة من المهاجرين الولين و النصار ،حتى أنهم لم يتركوه أن
يدفن في مقابر المسلمين لشتداد البغضة ،و نزوله من قلوب الناس منزلة عدوهم ،فعائشة أم المؤمنين و
قدوتهم في دينهم ،و علي بن أبي طالب ،و عبد الرحمن بن عوف زعيم الشورى ،و رجال النصار ،و أهل
الحل و العقد منهم القائم و منهم المر و منهم راضي ،و منهم الساكت ،و كان ذلك شاهراً ظاهراً بحصار دام
عهداً حتى بلغ الخبر مشارق الرض و مغاربها ،و شاع وذاع ،و لم يقم أحد لدفاع عنه لنهم كلهم على تئآمر
في قتله .
و سوف ترى أن أهل العلم كلهم رأوا قتله ،و حسبك [ ]189نداء عائشة بقتله ،إذ تقول جهاراً اقتلوا نعثلً ،
فقد كفر ،و عنها أيضا ،أبلى سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ، -و سوف ترى أيضا عن أهل
العلم أنه لما طلب معاوية من علي بن أبي طالب قتلة عثمان إذ مبدأ المكيدة و عنصر الشقاق الذي يروم به
دخول باب شق العصا ،بزعمه ظالمون له قام لهم أكثر من عشرة آلف رجل قائلين كلنا قتله ،و هو أعيان
الصحابة ،و أعمدتهم ،و من هم الحجة فيهم.
قال في المامة و السياسة " ذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – فكتبوا كتابا
ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم -وسنة صاحبيه ،و ما كان من هبته
خمس أفريقية لمروان بن الحكم ،و فيه حق ال و حق رسوله – صلى ال عليه و سلم – و منهم ذو القربى ،و
اليتامى ،و المساكين ،و ما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا له سبعة دور في المدينة بناها بأموال
المسلمين ،منها دار لنائلة ،و دار لعائشة ،و غيرهما من أهله و بناته ،و بينان مراون القصور بذي خشب ،
وعمارة الموال بها من الخمس الواجب ل و لرسوله ،و ما كان من إفشاءه العمل والوليات في أهله و بني
عمه من بني أمية ،أحداث و غلمة ل صحبة لهم من الرسول ،و ل تجربة لهم بالمور ،و ما كان من الوليد بن
عقبة بالكوفة ،و هي أعظم بلد السلم إذ ذاك فكان يصلي بهم سكران من سكر الليل فصلى بهم ذات يوم
فريضة الفجر أربعة ركعات ،ثم قال لهم إن شئتم أن أزيدكم صلة زدتكم ،قبحه ال من رجل ،يصلى بعباد ال
فريضة الصبح و هو سكران ،و تعطيله الحقوق و إقامة الحد [ ]190على الوليد المذكور و تأخيره ذلك عنه ،و
تركه النصار و المهاجرين ل يستعملهم على شيء ،و ل يستشيرهم في شيء ،و استغنى برأيه عنهم .
و ما كان من الحمى الذي حماه حول المدينة ،و ما كان من إدراره القطائع ،و الرزاق ،و العطيات على أقوام
بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلة والسلم ،ثم ل يغزون و ل يذبون ،و ما كان من مجاوزته
الخيزران إلى السوط ،و أنه أول من ضرب بالسوط ظهور الناس ،ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب " أي هذا
الكتاب الذي كتبوه و جمعوا فيه هذه الشياء ،و ذكروا فيه هذه الحوال " أن يسلموه في يد عثمان "
قال ":و كان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر – رحمه ال– " قلت :وفضله أشهر من نار على علم و أكبر
من أن يذكر ،قال " و من جملتهم المقداد بن السود ،و كانوا عشرة ،فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى
عثمان ،و كان الكتاب في يد عمار بن ياسر – رضي ال عنه – جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده ،
فمضى حتى جاء دار عثمان ،فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات ،فدخل عليه ،و عنده مروان بن الحكم ،و
أهله من بني أمية ،فدفع الكتاب إليه فقرأه ،فقال له :أنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال :نعم و من كان معك ؟ قال :
قلت :أل تكفي هذه القضية دليل على جور عثمان ؟ و انظر بينها و بين ما يقول عمر بن الخطاب – رضي ال
عنه – ":رحم ال من أهدى إلينا عيوبنا " ،فإن عماراً من خيار الصحابة ،و زهادهم ،و أهل الوفاء فيهم ،و
الرسول – صلى ال عليه و سلم – فيه " رحم ال عمارا تقتله الفئة الباغية " و انظر إلى تنقص مروان بن
الحكم لعمار – رضي ال عنه – و مروان من شرار بني أمية ،و انظر في ضربهم له حتى فتقوا بطنه ،على أي
طشْتُم
جرم فعله ؟ ل و رب الكعبة لم يفعل شيء ينكر ،بل أحب عثمان أن يكون كما قال ال عز و جل " َوِإذَا َب َ
شتُمْ جَبّارِينَ " ( )1و أحب عمار – رحمه ال– أن يكون كما قال – صلى ال عليه و آله وسلم – " أفضل ط ْ
بَ َ
العمال كلمة حق يقتل عليها صاحبها عن سلطان جائر " ...الحديث .
قال ابن قتيبة " و غضب فيه " أي في عمار " بنو المغيرة و كان حليفهم ،فلما خرج عثمان لصلة الظهر ،
عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة ،فقال له :و ال لئن مات عمار من ضربه هذا لقتلن به رجل عظيماً من
بني أمية ،قال :فسمعه عثمان فقال :لست هناك ،قال :ثم خرج عثمان إلى المسجد ،فإذا هو بعلي بن أبي
طالب و هو شاك معصوب الرأس ،فقال له عثمان :و ال يا أبى الحسن ما أدري أشتهى موتك أم أشتهى
حياتك ؟ فوال لئن مت ما أحب البقاء بعدك أو قال ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك لني ل أجد منك خلفاً لي ،و ل
بقيت ل أعدم طاغياً يتخذك سلماً و عضداً ،و يعدك كهفاً و ملتجأ ل يمنعنى منه إل مكانه منك [ ، ]192و مكانك
منه ،فأنا منك كالبن العاق من أبيه ،إن مات فجعه ،و إن عاش عقه ،فأما سلم فنسالم ،و أما حرب
فنحارب ،فل تجعلني بين السماء والرض ،فإنك و ال إن قتلتني ل تجد مني خلفاً ،و لئن قتلتك ل أجد منك
خلفاً ،و لن يلي أمر هذه المة بادئ فتنة " .
قلت :و كأن في هذا الكلم من القدح و الطعن و التوبيخ لعلي ما فيه ،و فيه تهديد لعلي بالقتل من عثمان ،
مزجه بشكل العتاب ،فانظروا معاشر المسلمين في أعمال عثمان يعاتب علياً و يهدده ليستر بذلك جوره و بغيه
السافر ،و يخلق لعلي أوهاماً و خيالت ليوهمه بها أنه على طوايا و نوايا غير صافية ،و يخيل إليه أنه الماهر
الحكيم ،و القوي القدير على ما يروم في المر حتى مع ذلك البطل المقدام الهاشمي .
" فقال علي :إن لي فيما تكلمت به لجواباً ،و لكني عن جوابك مشغول بوجعي ؛ فأنا أقول كما قال العبد الصالح
علَى مَا َتصِفُونَ " ( )2قال مروان :إنا و ال لنكسرن رماحنا و لنقطعن سيوفنا ، جمِيلٌ وَالّ ا ْل ُمسْ َتعَانُ َ
" َفصَ ْبرٌ َ
و ل يكون في هذا المر خير لمن بعدنا ،و أراد بذلك بني أمية ،فقال له عثمان :اسكت ما أنت و هذا " أي
لست كفؤاً لعلي فل تتعاظم عليه فتثير حفيظته " قال " فقام إليه رجل من المهاجرين فقال له :يا عثمان أرأيت
ما حميت من الحمى " آلّ َأ ِذنَ لَ ُكمْ أَمْ عَلَى الّ َتفْ َترُونَ " ( ، )3فقال عثمان :إنه قد حمى الحمى قبلي عمر بن
الخطاب لبل الصدقة ،و إنما زادت و زدت ،فقام عمرو بن العاص فقال :يا عثمان إنك ركبت بالناس نهابر من
المر فتب إلى ال ،و كان ذلك دهي ابن العاص ،و يعني أنك إذا قلت [ ]193تبت إلى ال أقنع ذلك هؤلء
المتحمسين عليك ،و أنت على أمرك ،ففطن لها عثمان فرفع يده إلى السماء وقال توبوا إلى ال من كل ذنب ،
اللهم إني أول تائب إليك ،ثم قام رجل من النصار فقال :يا عثمان ما بال هؤلء النفر من المدينة يأخذون العطايا
و ل يغزون في سبيل ال ؟ و إنما هذا المال لمن غزا في سيبل ال ،انتقاداً لفعل عثمان ،و كان المال ل يبذل إل
لمن غزا في سبيل ال ،وقاتل عليه إل من كان هؤلء الشيوخ أصحاب محمد – صلى ال عليه و سلم – " .
==========================
( )1الشعراء . 130 :
( )2يوسف . 18 :
و الواضح أن قلوب صحابة رسول ال – صلى ال عليه و آله و سلم – كلها حانقة على عثمان ،و على ما
يصدر منه ،و كأنهم كلهم آيسون من رجوعه ،و إنما هي مغالطات يغالطهم بها ،و ذلك من سوء حظه الدنيوي
و الخروي ،فإن الخلق شهود ال في أرضه ،فمن أثنوا عليه خيراً كان أهل للخير ،و إن أثنوا على أحد بشر
كان أهل للشر ،و بذلك تكون أحوال عثمان على نمط سيء ،ثم يخلف بعده أسوأ منه من الحاديث ،و كان
الرسول – صلى ال عليه و سلم – يستعيذ من سوء الحدوثة .
قال " و لما اشتد الطعن على عثمان استأذنه على بن أبي طالب في بعض بواديه التي ينتحي إليها فأذن له ،و
اشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي ،و لعله أصبح حديث الناس و أقصوصة السمر ،و لعلمهم لما رأوا
عليا خرج آيساً من عثمان ،و رجا الزبير بن العوام و طلحة بن عبيدال أن يُميل إليهما قلوب الناس ويغلبا
عليهم قائلً له أما بعد ، ...و اغتنما غيبة علي ،فكتب عثمان إلى علي يستصرخه فقد بلغ السيل الزبى ،و
جاوز الحزام الطبيين ،و ارتفع أمر الناس [ ]194في شأني فوق قدره ،و زعموا أنهم ل يرضون دون دمي ،و
طمع فيمن ل يدافع عن نفسه بهذا و أمثاله.
يعلم العاقل منزلة عثمان من قلوب إخوانه المسلمين ،و يدرك أن عثمان وقع في ورطة تبعده عن منصبه ،كان
السبب في وجودها ،حيث جنى على منصبه جناية كبرى ،و لو سار بسيرة صاحبيه لنال منزلتهما ،و عل قدر
على أمته ،و لكن حرم التوفيق فوقع في المضيق .
و لما أفضى الحال بعثمان إلى هذا الحد من حنق المسلمين عليه ،و رفضهم إياه ،و ما ذلك إل لحداثه ،و سوء
الحدوثة من ورائه ،ألبسه لباس البغضاء ،و أشاع له في الناس كراهية ،فإن ال عز و جل إذا أحب عبداً
وضع له الحب في قلوب عباده ،كما صرح بذلك الحديث ،و بضده إذا أبغضه ال ،نسأل ال أن يمنحنا حبه لنا
و رضه عنا .
وفي حديث حويطب بن عبد العزى كما يقول ابن قتيتة في المامة و السياسة " إن عثمان قال :لقد بدا لي أن
أتهم نفسي بهؤلء ،فأتى علياً و طلحة والزبير فقال لهم :هذا أمركم تولوه و صنعوا فيه ما شئتم ،و ذلك حين
ضاق الخناق ،و نفسه تجاذبه على عدم الرضا بتخلي ،فإن لو تخلى عن المر ما كان لهم فيه غرض إل ذلك ،
و لكنه لم يحصل منه ،و أما العدل لم يقدر عليه لعدم التوفيق له ،و ل تسمح نفسه بالخروج من إمارة
المسلمين ،وحب الرئاسة هو الشهوة الخفية ،نعوذ بال منها .
فإنّه لما طاف عبد الرحمن [ ]195على زملئه لم يقل واحد منهم ل يريدها حتى حلفهم عبد الرحمن يميناً بال
العظيم أنه يعدل إذا تولها ،و لم يسأم منها أحد ،و لم يتبرم منها واحد ،و ل استعاذ بال منها ،و ل ترفع عن
الرغبة فيها مع العلم بها أنها من أصول الشر ،إل من ابتلي بها فإن ال يعينه عليها ،و يوفقه للقيام بأعبائها
فيستعيذ العاقل من حبها .
بقي حملهم على أنهم يحبونها لكي يقوموا بحقوقها ،و يمشوا بها على منهاج الخليفتين أبي بكر و عمر بن
و أكبر جريمة عدها المسلمون على عثمان بعد توليته محمد بن أبي بكر – رحمهما ال ، -مصر و أمر بقتله إذا
وصل هو و من معه ،وقامت الحجة عليه بخاتمه و طابعه و خادمه الحامل للكتاب ،و بعيره المركوب إلى ابن
أبي سرح ،يقول له (( :إذا وصل محمد بن أبي بكر و من معه فقتلهم ،و قر على علمك )) ،فهذه القضية هي
التي أحقدت عليه الخاص و العام ،فمنهم من رفض عثمان ،و منهم من ألب عليه و أجلب ،و منهم من سكت
حتى قتل .
و كانت عائشة – رضي ال عنها – تقول جهارا اقتلوا نعثلً فإنه قد كفر ،و نعثل لقب وضعوه لعثمان ،و هو
في الصل اسم شيطان [. ]196
و إليه يشير قول المام ابن النضر في لمية الولية والبراءة :
أمّا عثمان لحداثه تلك ،و أما أبو موسى فلسعيه في الرضى بالتحكيم و هو ضلل ،و قيامه هو بذلك الضلل ،
و سقوطه في هوته ،وتلعبه بأمر المسلمين بما ل يحل في الدين ،و أما علي فلخلعه المامة من عنقه و تركه
المر في يد الرجال الذين أمر ال أن يضع ذا الفقار على هاماتهم ،و ل يرفعه عنهم حتى يتحقق خصوعهم و
تركهم للباطل الذي دخلوا فيه على المسلمين ،و قاموا به على أهل الحق ،و لم يفعل من ذلك شيئا ،بل لما
خلعوه قام يطالب بالمامة قائلً :أنه اشترط على الحكمين أل يوليا غيره ،فإن وليا غيره فهو أحق بها من ذلك
الغير .
فأين ما أعطى ما أعطى من العهود و المواثيق على ذلك ؟؟! ،ثم ختمها بقتل إخوانه أهل النهروان ،الذين كانوا
دروعه الحصينة ،و سهامه المكينة ،فقتلهم في مأمنهم بغير حجة و ل اقتراف ذنب ،بل لخروجهم على الباطل
الذي وقع فيه هو ،فإنهم لما لم يرضوا ما كان من التحكيم ،و لم يجدوا من المام إل ارتباطه به بالعهود و
المواثيق ،أيقنوا أن الرجل وقع في باقعه ،ل يجد الخروج إل بالرجوع إلى ال بالتوبة العلنية ؛ فإنه إمام جامعة
،و زعيم أمة ،خلع إمامته بنفسه فحينئذ ل إمامة له ،و علموا أن الحكمين ل يريدانه بل حاول خدعته
فاختدع ،فالمر الن إلى المسلمين يختارون لدينهم الصلح و الولى ،و علي يرى أنه باق على إمامته ،أرادوه
أو أرادوا []197غيره ،و من هنا قام مبدأ الخطأ ،فأولئك يرونه خليعاً ل إمامة له ،و هو يرى أنه المام مهما
كان .
و أما عمرو بن العاص فَ ِل ُممَالئته و موالته معاوية بن أبي سفيان ،و مناصرته إياه على أهل الحق من أصحاب
رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -و فتقه في السلم فتقاً شق على المسلمين التئامه .
و أما عثمان فقد قتل مخذولً مدحوراً بأفعاله تلك .
و أما معاوية فقد فارق خطة المسلمين ،وبنى ملك بني أمية بحجر نحته له عمرو بن العاص.
و أما علي فلم تقم له قائمة بعدما قتل أصحابه في النهروان على غير جرم ،و ل أدنى مسئولية وقعت منه لهم ،
بل لما عبء جيشه ليتوجه إلى الشام جاءه أهل الكيد في السلم ليغرزوا سهام كيدهم في نحره ،قائلين له إن
هؤلء أي أهل النهروان قطعوا الطريق ،و سفكوا الدماء ،و أفسدوا و نحن هنا ،فإذا توجهنا إلى الشام جاء
و كان ذلك خوفاً من النهروانيين ،لنهم صفوة المة الباقية على الوتيرة الصحيحة ،و خلصة الصحابة
المؤمنين ،و زعيمهم عبدال بن وهب الراسبي أصلح رجل فيهم ،و أوفى و أشجع المسلمين الباقين ،في ال ل
تأخذه لوم لئم ،و ل يرى الدنيا بنسبة إلى الدين شيئاً ،و أزهد الصحابة ،و أعبدهم [ ]198و هو المعروف
بذي الثفنات ،إذ كانت ثفناته كثفنات البعير من كثرة السجود .
و كان هو و أصحابه ممن اتقدت في قلوبهم نار الغيرة على الدين ،و تألموا لمصابه تألم السليم ،حتى ألجأهم
الحال من القرية الظالم أهلها ،و أن يتجمعوا من قبائل شتى أفراداً ،كان الدين و اليمان غلب على ضمائرهم
ثائرة ،و ما زالوا على ذلك و هم أفراد قليلون ،فجيء إليهم بأن المام يروم التصال بكم ،و اللقاء بكم لتفاهم
معكم ،و هو يراعي حقوق إخوانه ليتفاهم معهم ،فهزهم ذلك اللقاء فرحاً ،و حرك من حفائظ مودتهم فرحبوا
به فرحين مسرورين بمقدمه ،آملين الخير في ذلك القدوم ،و أعلنوا له ترحيب محب لحبيب ،إذ لم يسبق لهم
سوء .
فلما وصل المام إليهم لم يشعروا إل و رحى الحرب تدور عليهم ،و السيوف تعمل على هامتهم ،أهذا جزاء من
تعلق بحبل اليمان ؟؟! ،وفر من قرار الشيطان ،وخرج مهاجر بدينه ؟؟! ،وقد كانوا لعلي كما قال عنهم أبو
مسلم – رحمه ال:-
أيفسدون في الرض أولئك الميامين ،و قد كانوا أنصار المسلمين يوم الدار ،و يوم الجمل و يوم صفين ،و
على أي شيء يقتلون؟! على أي جريمة يهاجموا في مأمنهم يوم جمعتهم ؟! على أي شيء ترضخ [ ]199تلك
الجباه الكريمة بالسيف؟! .
أعلى بيعتهم لعبدال بن وهب الراسبي ليوم بأمر ال في أمته بعدما ديست شريعته بالقدام ،و لعب بأحكام ال
غوغاء النام كالشعث بن قيس و أمثاله .
و على كل حال إن عثمان بن عفان اتفق المسلمون كلهم على ضلله ،و نعني بأهل الحق الذين تجردوا ل من
أمة الجابة الذين هم الباضية ،فل مقال فيه.
أما معاوية فمن أول أمره مفسد ضال باغ ،وضع نصب عينيه ابتزاز المر ممن يتوله أياً كان ،علياً أو غيره ،
فاستلبه من علي و آله بالمكائد والحيل و الخدائع ،أمثل هذا يكون عند ال وليا ؟! و هو أضل من الجبابرة الول
،لنه تسمى بالسلم و عاش تحت ظل النبوة ،و إذا به مماكر في الدين ،خداع للمسلمين ،يراوغهم مراوغة
الثعالب ،و يخادعهم مخادعة سافرة ،محتال للمر ،ضارب بالدين عرض الحائط .
و أما علي بن أبي طالب فل نقول فيه إل أنه صدوق مخدوع ،و أمير متبوع ،ل غائلة له في سياسة المور
و من هنا سقط عرش علي ،و هو معه ،ولم يقم حتى انتهى أمره إلى الحضيض ،و عاش آله عيش المريض ،
فما كان إل انقياد ولده الحسن لمعاوية ،ملقياً إليه المر كله غير ناوٍ إل ذلك ،و ل همت له إل كفاف معاوية ،و
وفاءه له بما شرطه عليه ليتمتع به ،فكان جزائه جزاء سنمار ،فإنه لم يف بشيء من ذلك كله ،بل قضى عليه
أيضاً ،فانتهى أمر علي و آله بمعاوية بن أبي سفيان ،ذلك البطل الداهية الذي رام الملك بكل وسيلة فأدركه ،و
إذا هو خيال أو أشبه بالحلم ،و عند ال الحكم بين العباد ،و إليه الحساب على مثقالي الذر في الخير و الشر ،
نسأل ال السلم في الدين و الدنيا .
فإنه لما قتل علي بن أبي طالب قال ابن قتيبة " ثار الناس إلى الحسن بن علي " أي لما يأملون فيه من الهلية
فإنه ابن المام علي ،و ابن فاطمة الزهراء بنت رسول ال – صلى ال عليه و سلم ، -و لكن ليس المارة
بالنساب ،و ل هي بنت أحد ،و ل الكفاءة بالصهار ،فقد كان رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله – يولي
أناس بعداء النساب و يترك [ ، ]201و كذلك أبو بكر – رضي ال عنه – ،و كذلك عمر – رحمه اللهورضي
عنه . -
===========================
قال ابن قتيبة " و لما بايعوه " يعني الحسن بن علي " قال لهم :تبايعوني على السمع و الطاعة ،و تحاربون
من حاربت ،و تسالمون من سالمت ،فلما سمعوا ذلك ارتابوا ،و أمسكوا أيديهم ،و قبض هو يده ،و أتوا
الحسين أخاه ،فقالوا له :ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك ،و على حرب المحلين الضالين أهل
الشام ،فقال الحسين :معاذ ال أن أبايعكم ما كان الحسن حياً " أي لن الحسن كان أكبر من الحسين ؛ فلذاك هو
يريد تقديم الحسن ،و هذا غلط لن المراتب الدينية ليس بالسن ،فإن ال عز و جل يقول لنا في كتابه " ِإنّ
أَ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ َأتْقَا ُكمْ" ( )1فلم يعتبر السن ،و كذلك المعقول و هذا أمر مسلم بديهة .
و لعل الحسين يرى أن أخاه الحسن صالح لهذا المر ،فهو على ما وقع في نفسه يعول ،و ليس المامة تراث
مملوكاً يتعاطونه ،و يتهادونه ،و يخص به قوماً دون آخرين ،فإن قال لنبيه الخليل جرثومة النبيين إبراهيم –
صلى ال عليه و سلم – لما قال له " ِإنّ َأ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ أَ ْتقَا ُكمْ" " ِإنّ أَ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ أَتْقَاكُمْ" ( )1فصرف ال
عز و عل عهده -سواء فسر بالنبوة أو المامة بمعنى القدوة – عن الظالمين أيا كانوا ،و اليةالولى التي
ذكرناها مصرحة بأن أكرم الناس عند ال المتقون ،و لم يقيدهم بقوم خاصين ،و كان الحسين يحب تقديم
الحسن .
قال ابن قتيبة في المامة و السياسة " :فانصرفوا إلى الحسن فلم يجدوا بداً أن يبايعوه " أي ل بدا لهم []202
من أمير يقوم بأمورهم ،و النظر إلى الحسنين ،ابني المام الراحل ،و ابني الزهراء ،و سيدي شباب أهل
الجنة ،و جدهما الرسول العظم خاتمة رسل ال عز و جل ،فمن هذه النواحي العنصرية هما كاملن .
قال " فلم يجدوا بداً من بيعته على ما شرط عليهم " قال " فلما تمت البيعة و أخذ عهودهم و مواثيقهم على
ذلك ،كاتب معاوية فأتاه فخل به ،فاصطلح معه على أن المامة لمعاوية ما كان حياً ،فإذا مات فالمر للحسن "
و كأنه بايعه إياها بيعا اقاليا ،ل تفوته بعد موت معاوية " قال فلما تم صلحهما صعد الحسن المنبر فحمد ال و
أثنى عليه ،ثم قال أيها الناس ،إن ال هدى أولكم بأولنا ،و حقن دمائكم بآخرنا ،و كانت لي في رقابكم بيعة
تحاربون من حاربت ،و تسالمون من سلمت ،و قد سالمت معاوية بن أبي سفيان و بايعته فبايعوه ...إلخ " .
هذا ما كان من أمر الحسن ،يلقي البيعة من عنقه إلى معاوية عدوه و عدو أبيه و عدو المسلمين ،فكان عون ًا
لمعاوية على ظلمه ،و عهد ال في عنقه ،فبأي طريق استحل الحسن خلع عهد ال و ميثاقه ،و وضع البيعة
إلى ذلك الطاغية ،أما كان أولى به أن لو رفض البيعة لما رأى أنها ل تمكن له و ل تتأتى .
و ل يكون عوناً لمعاوية فيكون شريكه في ظلمه ،و ليته صارح الذين جاءوه للبيعة بأنه يبايع معاوية ،فإن
وافقوه فقد جنوا على أنفسهم ،و ذلك أسلم له عند ال عز وعل ،فإن من أعان ظالماً على ظلمه كان شريكه
إجماعاً .
و إن كان الحسن أراد بذلك حقن [ ]203دماء المسلمين كما يشير إليه قوله " و حقن دمائكم بآخرنا " فسفك
الدماء المسلمين جهاداً في سبيل ال أمر مطلوب حضت عليه الرسل ،و نصت عليه الكتب ،و المسلمون خلقوا
لفتداء الدين ،و أنصارا لوامر رب العالمين ،و كأنه علم أن أخرهم هو ،و لقد تحققت فراسة أبيه علي بن أبي
طالب فيه إذ قال لقومه " أما الحسن فصاحب خوان ،و فتى من الفتيان ،و لو التقت حلقتا البطان لم يغن عنكم
في الحرب حثالة عصفور ".
فصدقت فراسته فيه ،و للوالد غالبا فراسة صحيحة في الولد كادت ل تخطأ ،فكان الحسن يضع الخلفة في فم
معاوية ،و يشترطها من بعده ،و قد عجز عنها ،و المسلمون معه يبايعون له على الحرب و السلم ،و كأن
الخلفة ميراث .
أهكذا يقول الشرع ؟! أهكذا يقول العقل ؟! أهكذا تقول الرجولة ؟! أهكذا يقول ذو الفقار ؟! ل و ال إنما الدين قام
بسيوف حمراء فظلوا أياماً ل تغسل منها الدماء ،يراها الباغي تلمع في أكف أبطالها الميامين ،الذين ل يعرفون
الذعر عند التقاء أبطال الرجال ،خصوصاً في نصرة ذي الجلل .
و لما كان من الحسن ما كان ،دخل عليه سليمان بن صرد بعدما تمت البيعة لمعاوية ،و انصرف راجعاً إلي
الشام ،و كان سليمان هذا غائب عن الكوفة ،و كان سيد أهل العراق و رأسهم ،فقال للحسن :السلم عليك يا
مذل المؤمنين ،فقال الحسن :و عليك السلم اجلس ل أبوك ،و كان سليمان منكر لصنيع الحسن ،فلذلك
خاطبه بذلك الكلم ،الذي تشف منه البراءة من أعماله .
وقال :إن تعجبنا ل ينقضي من بيعتك لمعاوية – أي لما علمت من [ ]204حال معاوية مع أبيك ،و أنت الن
تبايعه و المل فيك غير ذلك ، -قال :و كيف تبايعه و حولك مئة ألف مقاتل هم معك من أهل العراق ...إلى آخر
ما قاله و ما حركه به ،و وعده بانفعاله .
و كان سليمان سيداً مطاعاً ،و أيده أيضاً أصحابه بمثل هذا الكلم ،فتعلل بعلل واهية ،و برد حرارته بكلم لين
جعله معذرة له ،و حكى حكايات يرويها عن أبيه عن أبيه ل تسمن و ل تغني من جوع ،و ل يرضى بها أدنى
الناس ،و ينفر منها أهل الرجال .
هذا كلمه و هو من التراخي لمعاوية و التهاون بحقوق السلم بمكان ،فإن الباغي أمر ال بقتاله ،و أن يرد
عن بغيه ،و تقطع أجنحة ضلله ،و أمراس فساده ،أما تسليم المر إليه فأمر يحجره الشرع إل عن عجز ،و
ل عجز عنها إذ معه مئة ألف سيف ،و على القل أن يترك هو و شأنه ،و ل يكون له سبباً ،فيكون شريكا فيما
يفعله الباغي ،و كان الباغي من الذي أمر ال بقتالهم حتى يرجعوا عن بغيهم .
وقول الحسن [ " ]205فوال لن تذل و تعاف أحب إلي أن تعز و تقتل " كلم ل روح له ،و ليته ما خرج من
الحسن ابن البتول و أبوه من يعرف الناس ،و لكن قدمنا عن علي تلك الجملة المعبرة عن الحسن ،و هي
عنوان و ما جاء بعدها عن الحسن ما ل يقل ضَعة عنها ،و ليته عمل بما أمر ال في حرب البغاة .
قال في ضحى السلم عن هذه الحوال ،و ما عليه أهل الشام في الجزء الول منه صحيفة ثمان قال " :و أما
أهل الشام فليس يعرفون إل آل أبي سفيان ،و طاعة آل مروان ،كما أن أهل مكة و المدينة قد غلب عليهما أبو
بكر وعمر بن الخطاب " أي فهما معهم القدوة الصالحة ،و أما أهل الشام فل يرون أحدا إل آل مروان فلذلك
قادهم معاوية ابن أبي سفيان كما شاء ،و ضرب بهم المسلمين على عمي قلوبهم عن الحق ،و صمم آذانهم عن
سماع العدل ،و انقيادهم لمعاوية كما شاء و لما شاء ،فكان منهم ما كان من قتال المسلمين ،وشق عصى
اليمان ،و قد علموا بغي معاوية ،و انتهكه حرم السلم و المسلمين طلباً للملك ،و إليك بعض ما يدلك على ما
كان من أهل الشام مع معاوية .
قال في "المامة والسياسة" صحيفة واحدة وثمانيين لما قدم النعمان بن البشير على معاوية بكتاب زوجة عثمان
و بقميص عثمان ملطخاً بالدم ،و شعر لحيته في زر القميص ،قام معاوية فصعد المنبر ،و جمع الناس ،و
نشر قميص عثمان ،و ذكر لهم ما صنع بعثمان ،وبكى فأبكى القوم معه ،و شهقوا حتى كادت نفوسهم أن
تزهق ،وقد أشار العلمة أبو مسلم – رحمه ال– [ ]206إذ قال :
قال في السياسة " ثم دعاهم للطلب بدم عثمان ،وقام إليه أهل الشام فقالوا :هو ابن عمك ،و أنت وليه ،و
نحن الطالبون به معك " و لم يقولوا إن للمسلمين إماماً ،هو الذي يتولى الطلب ،و إليه أمر الدماء ،و هو أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب .
و على كل حال أنه ل يرضى أن يضيع دم أحقر الناس فضلً عن دم رجل كعثمان ،إن كان له حق ،إنما دمه
للمام إن كان قتل مظلوماً ،و لم يسألوا أيضا عن القاتل و ما حجته ؟ و لم يحسنوا الظن بخيار المسلمين من
النصار و المهاجرين ،و لم يقولوا إن هناك من المسلمين من هم أحق بالقيام فيه منا ،و هم عمدة المسلمين ،
وحجة في الدين ،فليس لك أنت يا معاوية و ل لنا هذا الذي تقوله ،أو يستصرخنا إخواننا على عدوهم ،فنجيب
دعوتهم ،و نقوم معهم ،و إذا كان القاتل هؤلء و هم حجة ال في أرضه ،و أمناءه على وحيه ،و قد ارتضاهم
رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و ارتضاهم أبو بمكر و عمر – رضي ال عنهما . -
و قام ينتقص المسلمين من النصار و المهاجرين ،و جعلهم غوغاء و طغاماً و أوباشاً و حمقى ،إذ قال في
كتابه الذي رواه في المامة والسياسة " أما بعد فإنا كنا نحن و إياكم يدا جامعة ،و ألفة أليفة ،حتى طمعت يا
ابن أبي طالب فتغيرت و أصبحت تعد نفسك قوياً على من عادك بطغام أهل الحجاز ،و أوباش أهل العراق ،و
حمقى الفسطاط ،و غوغاء السواد .
و أيم ال لينجلين عنك حمقاها ،و لينقشعن عنك غوغؤها انقشاع السحاب عن السماء .
قتلت عثمان بن عفان ،و رقيت سلماً أطلعك ال عليه مطالع سوء عليك ل لك ،و قتلت الزبير و طلحة و شردت
بأمك عائشة ،و نزلت بين مصرين ،فمنيت و تمنيت ،و خيل لك أن الدنيا قد سخرت لك بخيلها و رجلها .
و إنما تعرف أمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام ،بقية السلم فيحيطون بك من ورائك ،ثم يقضي
ال علمه فيك ،و السلم " .
فانظر في هذا الكتاب الذي أسند فيه قتل عثمان إلى علي بن أبي طالب ،و كان علي من المدافعين عن عثمان ،
و الذابين عنه بغية رجوعه إلى الحق ،و ندد في كتابه بعلي بن أبي طالب ،و من معه من المسلمين ،و غمزه
و هدده في تهديداً سافراً بقوله " إنما تعرف أمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام " و سماهم بقية
السلم ،تغريراً بهم ،إلى قوله " فيحيطون بك من وراءك ،و يقضي ال علمه فيك " على القل هذا كلم يحمل
الجفاء البالغ في طياته ،ويعرب عن سوء ضمير لمام المسلمين المجمع على إمامته ]208[.
فقد ندد فيه بعلي بن أبي طالب وغمزه ،و هدده بأهل الشام ،و نسب إليه قتل عثمان ،و جعل المسلمين طغاماً ،
و أوباشاً ،و حمقى ،و غوغاء ،و الرسول – عليه الصلة و السلم – يقول " سباب المسلم فسوق " .
و تره يقول لعلي إمام المسلمين " يمني نفسه الماني " و يعني بذلك إخراجه من الشام ،ونسب إليه قتل الزبير
بن العوام ،و هو يعلم من قتل الزبير و كذلك طلحة ،وقال له :شردت بأمك عائشة و تخيلت الخيالت ...أخر ما
جاء في ذلك الكتاب ،مما يفهمه أولى اللباب .
ونسي معاوية بل تناسى أفعاله الشنعاء ،و أعماله الكبرى ،و احتقاره المسلمين ،و تعاظمه عليهم ،و قتاله
إياهم ،و شق عصى المسلمين ،و خداعه للحسن بن علي بن أبي طالب ،و استيلءه المر منه مع مواعيد
خانه فيها ،و قد علم خلف الوعد ،و خيانة الوعد ،وجعله الخلفة الراشدة سلطنة فاسدة .
و من هم المهاجرون من أهل الشام ،بقية السلم ؟؟ الذي يحتج بهم معاوية ،و يعزز بهم حتى جعلهم بقية أهل
السلم ،وهو و أبوه لم يكونا من المهاجرين ،فضلً عن أهل الشام ،و قد علم معاوية أن علي بن أبي طالب
ليس ممن يقعقع له بشنان ،لقد عرفه خواض غمارات ،و كشاف معضلت ،و فكاك أزمات ،ربته الحرب في
أحضانها ،و مرنته الوغى على شجعانها ،و ألف قطع الرؤوس من أمطالها ،و مطاردة البطال في ميدانها .
و ما معاوية عند علي بن أبي طالب إل كثعلب عند أسد ،أو كنجم عن البدر ،فعلي إمام فعّال ،ومعاوية أمير
قوّال ،ل يماثل علي في حال من الحوال ]209[،و ل يدنو منه في شيء من صفات الرجال ،و إنما ذلك منه
تبجح يتعاظم به في أعين أهل الشام ،الذين ل يعرفون الحق ،و ل يهتدون للرشد ،بل يعرفون معاوية و آل
فآل أبي سفيان عندهم هم المسلمون جاروا أم عدلوا ،و تلك هي المصيبة الكبرى التي شقت عصى المسلمين ،
و مزقت شمل الدين ]210[.
=====================
( )1الحجرات . 13 :
( )2البقرة . 124 :
[ المقام السابع ]
[الشرح ]
اعلم َأنّ مَبْدأ الفتنة ومركزها الموطأ في السلم لها ،قيام معاوية بن أبي سفيان الذي خرج على المام العادل إذ
ذاك علي بن أبي طالب ُ ،متَذرعاً في ذلك بطلب دم عثمان ،إذ كان في َهمّ كبير من إمامة علي بن أبي طالب ،أن
يخرجه من العمال التي يتلعب فيها أيام عثمان ،و إن علياًَ سوف ُي ْقصِيهِ عن تلك الحوال.
إنهم و ال ليكفون و زيادة ،و لكنهم كلهم كانوا قاتلين فإن َمنْ كان راضياً كان قاتلً ،و َمنْ كان معيناً للقتل كان
ح ّرضَ ،كان أيضاً قاتلً ،و بذلك تعلم أن جميع المسلمين الذين هم أيضاً قاتلً ]211[،و من مالئ ،أو دَلّ ،أو َ
الحجة في الدّين قاتلون لعثمان.
و قوله " .:و لم يعبه أحد " ،أي لم يعب قتل عثمان ،ول القيام عليه ،و حصارهم إيّاه ،و قتلهم له أحد بعدما
قتلوه ،لن المسلمين كلهم انطبقوا على قتله ،فمنهم القائم عليه جهاراً شاهراً سيفه ،و رامياً سهمه ،و منهم
المُؤلّبُ عليه ،و الحَاضّ علي قتاله ،و منهم الراضي به ،الساكت عنه ،منتظراً فيه ذلك ،حتى قضى ال عليه .
و ل خلف في هذا ،و من قال بغيره فهو مخادع ،غَاشٍ للمسلمين ،قادح فيهم ،متهور بما قال ،لنه لم يُعْقَلْ أن
صرَ إمام المسلمين ،و ل يعقل أن يقاتل أمير المؤمنين في قلب المدينة المنورة بين ظهراني الصحابة
ح َ
يُ ْ
المسلمين ،و حول الحرم المقدس بعين الولياء المتقين ،و بجوار رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -إل
أنه جَارٍ عن اتفاق ،و ثابت بالستحقاق .
و على كل حال ،إذا فَ ّكرْتَ في المر ،رأيت أمراً باهراً ارتكبه المير الثالث حتى تغلغل الحنق من قلوب المسلمين
غيْ َلةً لقائل أن يقول أن
،و تحكم بعدما استحكم حتى أثار حفائظ أهل اليمان ،و ألهب ضمائرهم ،لنه لو قتل َ
عثمان لم يظهر أمره ،و لم تقم عليه حجة شاهرة ،و لم يُ ْع َرفْ لقاتله ُمصَ ّوغٌ ،و غير مستنكر قتل كهذا ،فإنه
طالما يقع الغتيال في المراء ،والملوك ،و الزعماء و نحوهم ،فبالمس قتل عمر بن الخطاب .
سرّ ،و
إلّ أن قتل عثمان كان بعد ثورة من المسلمين ،وبعد حصار دام مدة شاع فيها المر ]212[ ،و اتضح ال َ
َبرَحَ الخفاءُ ،حتى عرف بعدما عرف موجب القتل .
فهل يعقل أن يقع هذا بمرأى منهم و مسمع إل لسبب أوجب ذلك ،لم َيرَوْا عنه ُبدّا ،فإنهم راجعوه مرات ،و لم
تكن منه إل مواعيد فارغة ل ثمرة لها ،لذلك قاموا عليه من شتى الجهات ،و اجتمع عليه كل من هناك من
المسلمين ،و ل مخالف لهم ،و ل ناقم عليهم في ذلك أبداً .
حتى إذا تحرك من معاوية عرق الرئاسة ،و ثار به ثائر الملك و السلطان ،قام يَ َتذّرعُ لمقصده ،و غدا يخادع
المسلمين بذلك ،و يـتخذ لنفسه حجة يتوصل بها إلى الدخول في ذلك المضيق الخطر ،فبعث الفتنة و هي
نائمة ،و أَ ْو َقدَ نار الشر وهي خامدة ،حتى أشعلها بين المسلمين جحيماً تتلظى ،ليحرق بها ريف العدل ،و ل
يبالي في قضى غرضه .
و أي ظلم أعظم من ذلك ؟؟! ،و أي جرم أكبر من شق عصى المسلمين ؟! ،و الستيلء على أمرهم بالسيف و
عرَى المسلمين
العصا ،و العهد بالنبوة قريب ،و بمنهج أبي بكر و عمر – رضي ال عنهما – أقرب ،و تمزيق ُ
من أكبر الذنوب ،و سفك قطرة من دماء المسلمين يَهْ َتزّ لها عرش الحقّ ،و تظلم لها الدنيا بأسرها ]213[ .
و لكن طالب الدنيا ل يبالي بما يلقي ،و ل يتبرم من الدماء التي تراق ،لقد جعل هذا الفريق القدح في قاتلي
عثمان وسيلة لجلب قلوب الناس البسطاء ،و الضعفاء من المسلمين ،و الجهلء الذين هم أتباع كل ناعق ،و
من ل بصيرة لهم ،و هم السواد العظم في المة ،و خصوصاً أهل الشام ،الذين كانوا لمعاوية بن أبي سفيان ،
كون الشيعة لعلي بن أبي طالب .
و كل الفريقين تابع لهواه في أميره َ ،تبْ َعةَ العمى لقائده ،و العبد لمالكه ،فهيجوا الفتنة ،و اصطلوها أغماراً ،
خاضعين لزعماء الهوى ،المنادي للباطل في صورة الحقّ ،المناوين للمام العدل ،بصورة يعرفها أهل
البصائر ،فأشعلوا نيران العداء بين إخوانهم ،لجل رئاسة حقيرة تمضي في أيام يسيرة ،تكون عاقبتها سوء
الدار و العياذ بال .
و على كل حال فقد تحقق بغيهم بذلك ،و تَبَ ّينَ باطلهم هنالك ،و قد َدلّتْ على عملهم الخبار النبوية ،و شهدت
على فسادهم في سعيهم هذه الدلة العقلية .
عمّارٌ َتقْتُُلهُ ال ِف َئةُ البَاغِيةُ ،
فقد ورد فيهم عن رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – قوله الشهيرَ " .:و ّيحَ َ
َي ْدعُوهُمْ إِلى الجَ ّنةِ ،و َي ْدعُو َنهُ إِلى النّارِ " ( )1و هذا أكبر شاهد عليهم ،فثبت َبغْيّهمُ بذلك ،و اتضح جورهم
عدّ المسلمون على عثمان أحداث ذكر بعضها المام البرادي – رحمه ال– في جواهره ( ، )2و هنالك ،و قد َ
ذكرها المام عبدال بن إباض في كتابه لعبد الملك بن مروان (. )3
و نسبة الكُ ْفرِ لعثمان مع خيانة المسلمين من مثل هذا العالم الجليل لمر عظيم تََل ّبسَ به عثمان بن عفان ،فإن
المسلمين أحسنوا به الظن ،و تأملوا فيه الخير لدينهم و دنياهم ،حتى ظهر منه استدعاء أهل اليمان من
المسلمين على قتله .
قال القطب – رحمه ال– ".:زاد عثمان في مسجد رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – وَ َوسّ َعهُ ،و
ابتاع من قومٍ أراضيهم ،و أبى آخرون فَ َغصَبَ ُهمْ ،فصاحوا به ،فسيرهم إلى الحبس ،وقال قد فعل بكم عمر هذا
صبِ أموال النّاس ،فيكون كطاعمة اليتام الفعل فلم تصيحوا به " ( ، )5قلت :ليته لم يفعل إذا كان التوسيع بِ َغ ْ
من كسب فرجها الحرام ،فكان عثمان بذلك واقعٌ في كبائر متعددة منها .:غصب الناس أموالهم ،و هو من أكبر
الكبائر ،و الثانية حبسهم بغير حَقّ ،و هو هَ ْتكٌ لعراضهم ،و إهانة لهم ،فإن إنزال العقاب عليهم بغير موِجب
من أفحش المعاصي ،ليته لم يفعل شيئاً من ذلك ،و َوفّى بما عهده إليه المسلمون ،و َبرّ اليمين التي حلّفه إيّاها
عبد الرحمن بن عوف رئيس الشورى أنه إذا وَلُّه الخلفة أن يسير بها سيرة صاحبيه أبي بكر و عمر – رضي
ال عنهما . -
لكن خواتم العمال ،و منتهى المور دليل على ما يؤول إليه أمر النسان ،وَ سْبقُ الكتاب على النسان َو َردَ به
الحديث عن النبي – عليه الصلة والسلم ( ، - )6و الشياء كلها بيد ال عز و جل ،و قد ثبت أن العمال
بخواتمها ،و أجمع على ذلك المسلمون .
و الثالثة[َ : ]215ق ْذ ُفهُ عمر – رضي ال عنه – بذلك الفعل الذي أنكره عليه المسلمون ،و لم يكن ذلك و ل
مثله من عمر ،بل و ل قريب منه ،بل كان عمر رضياً عند النبي – عليه الصلة والسلم ، -و عند أبي بكر ،و
عند المسلمين أجمع ،و لو كان كما يقول عثمان لشتهر ذلك عند المسلمين ،و نقل إلى من بعدهم كما نقل عن
غيره .
و مقام عمر أنزه المقامات في السلم ،وَ أَعزّ العمال الدينية أعماله ،و أشرف أيام الخلفاء الراشدين في
السلم أيام عمر بن الخطاب – رضي ال عنه ، -إذ كان عمر يقيم الحدود على أولده ،و كان عثمان يسترها ،
و يناضل عنها حين تبدوا من أقاربه و أرحامه .
=================
()1سيق تخريجه
()2الجواهر المنتقاة ص 97-53
()3الجواهر المنتقاة ص 167- 156
()4هيمان الزاد ( )11/342
وقد أجمعت المة كلها على أن عمر سيد المراء بعد أبي بكر – رضي ال عنهما – إل أنه أي أبو بكر لم تطل
أيامه ،فتعجل به داعي المنون ليلحق بسيده المصطفى – صلى ال عليه و آله وسلم – فخلفه الفاروق ،و
الشديد في دين ال ،القوي في طاعة ال ،الذي لم َيزَلْ الصخرة الراسية في الحظيرة السلمية ،رحمه ال و
رضي عنه ،حتى لَقِيَ رَ ّبهُ شهيداً .
ثم قام هذا المير الثالث مأخوذ عليه عهد ال و رسوله أن يسير بسيرة صاحبيه ،و كان مرشحاً لمثل هذا
خيّبَ المل ،و غَ ّيرَ السيرة ،و لعله سَ َبقَ عليه
المنصب العالي ،حتى كان منه ما كان ،مما َك ّدرَ الصفو ،و َ
الكتاب ،و إن كان من المبشرين بالجنة ،فلعله تاب ،وَ قَبِلَ ال توبته ،و عفو ال عظيم ،و كرمه كذلك .
و إن صح أنه من أهل الجنة فل شك أنه يتوب ،و يتوفاه ال تائباً ،إذ لم يكن معصوماً من اقتراف المآثم ،و
التائب من الذنب كمن ل ذنب له ]216[.
و أما حكم المسلمين فيه ،فهو مبني على ما صدر منه في الظاهر مخالف لصول الدين ،و قواعد الحقّ عند
المسلمين ،و ذلك واجب على كل مسلم أن ينزل أهل الحقّ منازلهم ،و أهل الباطل كذلك بباطلهم ،و ليس ما
يبذله النسان من ماله أو من أعماله ضامن له النجاة مع ال ،إنما ذلك شيء آخر .
خلَقَ لَ ُهمْ ف ِ
ي أل تسمع رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – يقولِ " :إنّ الَ يُؤْ ّيدُ َهذََا الدّينَ ِبرِجَالٍ لَ َ
جرِ " ( )1فأمر الخرة غيب ل يعلمه إل ال ،و كذلك يدخل ال خ َرةِ ،و ِإنّ الَ يُؤْ ّيدُ َهذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الفَا َ
ال ِ
الجنة رجال ل أهمية لهم بين المسلمين ،و ل كبير أعمال لهم في الدين في نظر المسلمين ،فيقودهم التوفيق
إلى رحمة ال عز و جل ،فيخلص العمال و النيات في آخر أعمارهم .
و قد اتفق أهل العلم من المسلمين أن عثمان عدل عن الطريقة الصحيحة ،و السيرة الرجيحة ،فكان يبني دولة
بني أمية على كواهل المسلمين ،و يهدم دولة المسلمين بذلك ،مع علمه بأحوال بني أمية ،و سوء أعمالهم .
ولم يزل يستغل اليام في مصالحهم ،و يعمل على إعلء شأنهم ،فكان يئوى طريد رسول ال – صلى ال عليه
و آله وسلم – و هذا كبير في السلم ،فإنه َردّ لحكم الرسول – صلى ال عليه وسلم. -
ويمنح آل أمية المنح الطائلة ،و يبذل لهم الموال الجسيمة ،فاستنكر المسلمون ذلك ،واشمئزوا منه أَيّما
اشمئزاز ،و نفروا عنه حتى نزلت الوحشة بعد الطمأنينة ،و تَ َك ّدرَ الصَ ْفوُ ،و اندلع في المسلمين ما أوري بينهم
نيران الحقد ،و بدأ بذر الشقاق []217في أرض الدولة السلمية ينبت ،ليكون بأسهم بينهم ،و تلك سنة ال
شرَرٌ اتصل بأكبر عواصم السلم ،و تغلغل فيو أوعز الحقد الصدور حتى اتقدت نيران العداء ،و طار لها َ
مصر ،و العراق ،و الشام ،و محل اتقادها الحجاز بأسره ،حتى تدعى ذلك البناء الديني من أساسه ،و انصدع
صرح العدالة من أصله ،و بقي أمر المسلمين بين أمواج تحمل و أخرى تطويه فتغرقه .
و العهد برسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و معجزاته الباهرة ،و آياته الزاهرة قريب ،و َرسْمُ اليمان
في أفق السلم يلمع لمعان البرق ،فتهافت المسلمون من جميع العواصم السلمية متألمين لذلك الحادث
المؤسف ،و كانوا يضنون أن أمرهم سيحكم منتهى الخف و الحافر ،كما أخبرهم رسول ال – صلى ال عليه و
آله وسلم ، -فهم ينتظرون ذلك ،و قد تَجَلّى لهم مصدقه من عمل أبي بكر – رضي ال عنه – و أَ ّي َدهُ عمل
عمر ،و تله عثمان في ستة الول من خلفته ،و إذا به الن ينهار في عقر داره ،بدلً من أن يدوس عرش
كسرى وقيصر غير ممسوس جانبه بألم ،و ل مصاب عرضه بخطر .
و لكن إذا َق ّدرَ ال أمراً في أزله كان ،و في الكّلّ حكم ل يهتدي لها إل الخصاء ممن فتح ال لهم أبواب الهدى ،
جهِ ،و عناده مراغمة للحقّ ،لم يروا
فلم نزل المسلمون المدينة المنورة ،و َرأَوْا ما رأوا من أمر عثمان ،و َتعَوّ ِ
من الواسع إل أن يوقفوا عثمان في المحل الذي يرآه القرآن ،و يرضى به أهل اليمان ،ل حيث يحب[]218
عثمان ،فهاجموه في داره بعد حصار دام مدة غير مخفية حتى قضوا عليه في حال يرثى له فيها إخوانه ،
فتزعزع ذلك الحجر ،و انهار ذلك الصرح ،و ا ْن ّدكَ ذلك الطود الذي حاوله بني أمية ،فتأخر القوم في ظاهر
المر.
فقدم المسلمون علي بن أبي طالب إمام على الناس على النهج الذي مشى عليه إخوانه ،و رأى صنيعهم في من
انحرف عن الحقّ ،و مال عن طريق الصدق ،فكان ذلك درس في ذاكرة كل ذي نهى .
و كان علي راسخ القدم لهليته للمامة ،إذ كان عالماً ،واعياً ،جليلً ،هماماً ،مقداماً ل يعرف الذعر ،و ل يرهب
الخطار ،غير مشغوف بحب الدنيا ،و ل مؤثر له ،و ل راكن إليها ،و لم تُ ْع َرفْ له هفوة في شيء مما يعيب
مثله ،إل تلكئه عن بيعة أبي بكر ،ثم بايع و أبدى للمسلمين العذر ،الذي كان سبب تأخره عن البيعة ،فقبلوا
منه .
فَوَلّوه المر ،و ذلك غاية اجتهادهم ،فقام بالمر قيام ساء آل أمية ،خيب آمالهم ،و أيقنوا أنهم خارجون عن
دائرة المر و النهي ،و حب الرئاسة َي ْد ُرسُ لهم أعمال علي بن أبي طالب ،و إنه غير تاركهم لعدم استقامتهم
صحّ معه دين .
كما يرى الشرع ،بل لهم مآرب دنيا ،و هي البلء المهلك ،و الردى الذي ل َي ِ
و كان معاوية أدهى الناس ،و من دهائه علمه بعلي بن أبي طالب تمام العلم ،و خبرته الواسعة بأصحابه و
أتباعه ،و الذي يحبه ،و الذي يبغضه ،و ممن يؤثر عليه ،و من هذه الوجهة دخل عليه ،إذ دَسّ له ناساً
يحترمهم علي [ ]219لظواهر أحوالهم ،و ل يعتقد فيهم غير الحقّ ،و هم أعوان معاوية ،و أعمدة أمره ،و
قد ملء روعه بأمانيه ،و غمرهم بآماله ،و رأى النجاح له من هنا .
لقد جعل معاوية بن أبي سفيان الطلب بدم عثمان العصا التي يتوكأ عليها ،فاتحاً بذلك باب الفتنة ،ليقاسم علي
بن أبي طالب الملك ،و قد أدخل على أهل الشام جهيزة دم عثمان ،و أنه قتل مظلوماً ،و أن القاتلين باغون
عليه ،و أن لو كان معاوية المذكور موجوداً بالمدينة لما َقدَرَ أحدٌ أن يفعل في عثمان ،و أنه هو المسئول عن
دماء بني أمية ،و السائل فيها ،لكونه ابن السيد أبي سفيان الذي جعل الرسول – عليه الصلة والسلم –
المان لمن دخل داره يوم الفتح ،إذ كان رجلً فخوراً ،فأخبر رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – عن ذلك
و َأنّ معاوية يرى نفسه بتلك المنزلة ،و أدخل على قلوب الشاميين ما تملكها به بدهائه ،و ما كان ينفقه عليهم
من الموال ،و المال فَعّال قوي في قلوب السواد العظم الساذج ،فإن إدراك الحقّ ل يقدر عليه كل أحد ،و
بذلك خرج في مجامعهم يطوف عليهم بسربال عثمان ،ملطخاً بالدم ،ممزقاً بالضرب ،و هو يبكي عليه بكاء
الثكالى ،كما قال العلمة أبو مسلم -رحمه ال[]220تعالى :) 2 ( -
وكان كلً ل يهوى علياً ،و ل يرجو خيره ،فكان ذلك مؤثراً في قلوب أهل الشام ،و كان معاوية أهبهم لهذا
الصدد الذي ينويه .
=============================
( ) 1أخرجه البخاري في( 26كتاب الجهاد والسير -128باب إن ال يؤيد الدين بالرجل الفاجر( ) 2/266رقم
،3062وأخرجه مسلم في (-1كتاب اليمان -47باب غلظ تحريم قتل النسان نفسه) ( )1/105رقم ( 178
)111وأخرجه أحمد في المسند ( )163/ 8رقم 8076وأخرجه الدارمي في ( كتاب السير -74باب إن ال
يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) ( ) 194 /2رقم ،2517وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( ) 9/185رقم
8913وأخرجه الطبراني في المعجم الوسط( ) 4/56رقم 3393وأخرجه ابن حبان ( ) 378-10/377رقم
4518و 4519وأخرجه عبد الرزاق ( ) 5/269رقم 9573وأخرجه البيهقي في السنن ( ) 8/343رقم
16834وأخرجه ابن منده في كتاب اليمان ( ) 318 /1وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير ( ) 1/78رقم
126
( ) 2ديوان أبي مسلم ص 36وقد تقدم تخريجه
ح ْرفُ السّاق من ُقدُم ،ويقال قرع طنابيب الَمر .:ذلّ (.القاموس المحيط ص 111مادة ظ ن ب ( ) 3الظّنْبُوبَُ .:
عكّ عليه .:عطف (القاموس المحيط )949/مادة ع ك ك عكّ .:عطف ،يقال َ (َ ) 4
( )5العُجْبُ .:أصل الذنب (مختار الصحاح )174/مادة ع ج ب .
ضرُ .:ما تشمه من ريح تجدها من طعام فاسد أو وسخ الدسم واللبن (القاموس المحيط )492 /مادة و
( )6ال َو َ
ضر.
و ليعلم أولو المر أن أمثال هؤلء ينبغي أل توضع أياديهم في شيء من أمور المسلمين ،فإنهم أعمدة بلء ،و
أركان شر ،لنهم يطلبون المارة ،و يحاولون الملك ،فأي ولي أمر استعمل على أمر المسلمين كهؤلء إل َندِمَ
شدّ الندم ،بل ينبغي أن يعطوا ثم يطردون عن المور طرداً ،فإن الشر يأتي من قبلهم .
َأ َ
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
و لذلك لما رأى معاوية مُكْ َن َتهُ من أهل الشام ،و وعدهم المواعيد الكبيرة ،و أفاض عليهم الدرهم و الدينار ،و
كانوا له نواة فعالة في سبيل صدده .
شفَ حقيقة الباضية َونَوايَاهُمْ و أعمالهم جملة من أجلة العلماء الذين فتح ال عليهم أبواب التوفيق وقد َك َ
للصالحات ،فناضلوا عن الباضية في كل ميادين الموضوعة أمام العقبات الخطرة ،وحققوا عنهم كل صحيح
صدَقُ ال َمنَا ِهجِ فِي َتمْيِيزِ البَاضِ ّيةِ ِمنِ الخَوَارِجِ
ثابت ،بما ل يرتاب فيه عاقل ،وقد ذكرنا جملة منهم في كتابنا " َأ ْ
" ( )1و غيره من كتبنا في هذا الصدد ]221[،فعسى ال أن يقدر نشرها على عناية صالح في الدين من
أخصاء المسلمين .
كما قام بكشف المرام و تحقيق المقام ،العالم الحر الغيور الصادق في قوله و فعله ،الهمام محمد علي دبوز ()2
صاحب " تاريخ المغرب الكبير " في غضون كتابه الجليل ،أبدى فيه عن الباضية الدرر المصون ،و الجوهر
المكنون ،و الحقّ الذي ل يمترى فيه أهل النهى ،و قد حَلّلَ المشاكل الموجهة ضد الباضية تحليلً ل مزيد
عليه ،و بيّن أعمالهم الدينية والدنيوية بياناً يلجم أهل العناد بلجام القهر ،و ينشر عليهم علم الحقّ ،الذي
نشأت عليه نشأة الباضية ،و بَ َلجَ ُت ّرهَاتَ الغالين فيهم ،و المتمردين عليهم من الجهلء ،والعتاة على الحقّ ،
و يفتح آذاناً أغلقها التقليد ،و عيوناً أعمها التضليل ،و السنةً عرقلها العدوان .
و المقصود من هذا أن الباضية هم الذين يثبتون على الحقّ حين يحتار غيرهم و يتحير ،و تلين قناته للباطل ،
و على الهوى المروي يعتمد ،و عن النهج الحقّ يتغير ،أما الباضية فينزلون كل أحد منزلته من الدّين ،و
يتبرأون ِم ّمنْ يخالف نَ ْهجَ المسلمين ،فهم ل يحابون لجل دنيا ،و ل يخضعون لهل الضلل ،إل ريثما يرون
لوائح النصر فسرعان ما يترامون على أبوابها ،و ليس لهم في عثمان ضغن أو في غيره من الناس ما وجدوا
الدّين جاري في مجاريه ،و أحكام المسلمين على الصغير و الكبير ل تداريه و ل تجاريه ،و للحقّ أهل كما
للباطل كذلك ،فلذلك ترى الباضية يتحاملون على من حَادَ عن الحقّ مهما كان ]222[.
واعلم أن معاوية بن أبي سفيان جعل الطلب بدم عثمان السَّلمَ الذي يعرج عليه إلى إثارة الفتنة ،و شَقّ العصا
بين المسلمين ،ذلك لن معاوية يعلم أن المسلمين اشتركوا في قتل عثمان ،وعليه فهيهات الثأر لعثمان و قاتله
المسلمون معاً ،و علي بن أبي طالب من جملتهم ،و هو إمامهم ،و بهذا ل يحصل انقياد القاتلين لعثمان ،
فيكون سبباً لفتح باب الفتنة ،ذلك لن معاوية يطلب بدم عثمان ،و علي ل يعترف له بدم ؛ لن عثمان قتله
المسلمون حين رأوه استوجب القتل ،فأين الطلب بدمه ؟!.
و لو كان مثلً قتل مظلوماً لكان دمه للمام ،و هو الذي يقوم بطلب القاتل شكا معاوية أو سكت ،فمال لمعاوية
يقوم طالباً حقا ليس له !! ،و يعلم أنه ل يجده ،لكنه قام ليفتح باباً يدخل منه للخلف ،و هو الدّاهية الكبرى .
و بذلك كانت بين المسلمين الموقعة العظمى التي ل يكاد التاريخ يحفظ لنا مثلها ،و هي في صفين سنة سبع و
ثلثين للهجرة ،و فيها قتل عمار بن ياسر – رضي ال عنه – الذي قال فيه رسول ال – صلى ال عليه و سلم
غ َيةُ " ( ، )3فقتل في جيش علي بن أبي طالب بصفين ،و قاتله معاوية و جنوده .
– " :تَ ْقتُ َلكَ الفِ ْئةُ البَا ِ
و كان قتله دليلً واضحاً على بغي قاتله بشهادة رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله – حيث قال فيه" :
تَ ْقتُ َلكَ الفِ ْئةُ البَاغِيةُ " ( ، )4و هو من أفاضل الصحابة و أعيانهم ،و من أعينهم الباصرة لما فيه عن النبي –
عليه الصلة والسلم ، -و أجمع المسلمون [ ]223على أن عمار من أفضل الصحابة ،فإنه عذب في إسلمه ،
ج ّنةُ
عدَ ُكمْ ال َ
سرِ َفِإنّ مَ ْو ِ
و كان النبي – عليه الصلة والسلم – يمر عليه و هو يعذب و يقول له " .:صَبْراً يا آلَ يَا ِ
" (. )5
و كان عمار سابع سبعة أظهروا إسلمهم ،و لما استأذن على النبي – صلى ال عليه و آله و سلم – قال فيه
الرسول – عليه الصلة والسلم – " ائذَنُوا َلهُ َمرْحَبَاً بِالطّ ْيبِ ال ُمطّيبِ " ( ، )7و فيه ورد أيضاَ " .:منْ عَادَى
ضهُ الُ " ( ، )8و حسبه منقبة في المة ،روى ذلك ابن حجر في عمّار أَبْ َع َ
عمّار عَادَاهُ ال ،و َمنْ أَبْ َغضَ َ
َ
الصابة ،و فيه أيضا يقول " و تواترت الحاديث عن النبي – صلى ال عليه و آله و سلم – أن عمار تقتله
الفئة الباغية ،و أجمعوا أنه قتل مع علي بصفين " ( )9اهـ .
و في التاريخ أن أناساً ممن كانوا حفظوا عن النبي – عليه الصلة والسلم – ما قاله في قتل عمار فلما قتل
هموا بالفرار من جيش معاوية ،و هم من أهل الشام ،جاءهم الداهية معاوية قائلً لهم :لسنا نحن قتلناه ،و إنما
قتله من أخرجه لقتالنا ،فقنعوا بذلك ،و سكتوا بتلك الشبهة التي ل يصغي لها من له مسكة من عقل .
قال في الستيعاب ( )10في ترجمة عمار – رضي ال عنه – الحافلة بفضائله السامية ،التي لو كتبت بماء
سرِ
عمّارَ ْبنَ يَا ِ
الذهب لكان قليلً في حقه ،يقول فيه رسول [ ]224ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ِ " :إنّ َ
ضهُ الُ " في أحاديث عديدة عمّارَ أَبْ َغ َ
ح َمةِ ُأذُ ِنهِ إِيَماناً " (َ " ، )11منْ أَبْ َغضَ َ
خ َمصَ َقدَم ّيهِ إِلى شَ ْ
حشِىَ مَا بَ ْينَ أَ ْ
ُ
تعبر عن فضائل عمار.
و عن أحواله في صفين روى العمش ( )12عن أبي عبد الرحمن السلمي ( )13قال :شهدنا مع علي صفين ،
فرأيت عمار بن ياسر ل يأخذ في ناحية ،و ل وادٍ من أودية صفين إلّ رأيت أصحاب محمد – صلى ال عليه
وآله و سلم -يتبعونه كأَنَه علم لهم ،و حكى ما قاله عمار في ذلك الموقف الرهيب من الكلم ،و ما اطمئن إليه
عمار بن ياسر وهو يرى الموت نشرة أعلمه ،و حام على روح عمار حمامه ،فنادى عمار رجال اليمان و
حضهم على لقاء ال قائل :
و ال لو هزمونا حتى بلغنا أو قال حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ،و هم على الباطل (. )14
حيّر معاوية ،و اندهش مما رأى ،و هم بالهرب ،و لكن وزيره ابن و لما دارت رحى الحرب في صفين ،تَ َ
العاص سَ ّكنَ دهشه ،فإن علي بن أبي طالب دعا معاوية بن أبي سفيان إلى مبارزته ،ليصدق ما قاله في كتابه.:
" لو زرتك في المهاجرين من أهلِ الشام " ،و أخيراً اتقى معاوية بعمرو بن العاص حين لم يقدر على لقاء البطل
الهاشمي ابن أبي طالب ،و فيها كشف عمرو عن عورته في وجه علي بن أبي [ ]225طالب لعلمه أن علي ل
يرى عمرو شيئاً يهوله ،و ل ينثني عنه ،و لكنه يعلم أن الحياء يرد علياً ،فإن الكريم يترفع عندما يرى مثل
و ذكر التاريخ ما كان عليه عمرو بن العاص من الدهاء الفاحش ،و ذكر خوف معاوية ،و حيرته ،و ال ّد َهشَ (
)17الذي استولى عليه ،و اجتمع الشعث بن قيس الكندي أحد الدعاة لمعاوية ،و أحد الدهاة في جيش علي بن
أبي طالب ،و أحد الغواة في المسلمين ،و َنصَبَ المكيدة الكبرى لعلي بن أبي طالب في جيشه الكثيف الباسل
صةُ علي بن أبي طالب ،و امتناعغ ّبالتحكيم ،واختيار أبي موسى الشعري الجائر الذي هو عصا عمرو ،و ُ
الخاصة من قبوله نائباً عن المام ،و قائماً عن رجال السلم ،و عن الجهابذة العلم .
و قيام الشعث بتمديد مدة الجل لكي يتقوى جيشهم الخاسر الذي يرى لمعان ذي الفقار على العناق ،رجوع
علي بن أبي طالب بجيشه إلى الكوفة مصدع الصفوف ،ل همة له إل التأوه و التأفف من الواقع .
فكانت[ ]226تلك الحالة ضربة قاسية لعلي بن أبي طالب المام ،الذي يروم معاوية ابتزاز المر منه ،و
الستيلء عليه ،و علي بمعزل عن مقاصد معاوية ،و لكنه مغلوب عليه ،مممكور به في الباطن ،قد ا ْنحَلّ
أساس أمره ،و انهار صرح إمارته ،أولً من جهة اختلف أمته و أهل طاعته ،و خروج رجال اليمان عن
زعامته ،وهذه أكبر خسارة على علي المام ،و الثانية فسح المجال لمعاوية لعادة قوة متوفرة يضرب بها
صرَ حليفه ، خصمه ،و كلهما من أكبر مصالح الداهية الموي ،و علي مصمم على أن المر في يده ،و َأنّ ال ّن ْ
و كَأنّه لم يكن شيءٌ يخشاه ،يرى شجاعته الهاشمية ،و قوته اليمانية ،و عزيمته المعروفة ينمحي بهن كل ما
يبنيه معاوية و أحزابه ،و ل يرى أن للسياسة فِ ْعلً فوق القياس .
و كان الشعث الخبيث متحكم على حركة علي وقوته الحربية ،المبتلي به علي بن أبي طالب و جيشه ،فكانت
المور بيده ،و الحركات رهن إشارته ،و هو ضالٌ فاسقٌ مارقٌ من الدّين ،ل همة له إل إرضاء معاوية و آل
معاوية ،و نبذ رأي المخلصين في التحكيم الذين يؤلمهم المر ،و يهمهم وقوعه مهما كان ،و بكاء الثواكل في
الكوفة على القتلى في كل بيت عويل ،و في كل مقام ضجيج ،و في كل بقعة عجيج .
كل هذه الشياء مما يؤثر على علي بن أبي طالب و يؤلمه ،و أضف إلى ذلك شماتة المويين في الكوفة ،إذ َمرّ
عليٌ عليهم ،و هم يقولون " .:ما فعل علي بن أبي طالب شيئاً ذهب ثم انصرف " (. )19
===================================
( )1من مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة ،بتحقيق سيدة إسماعيل كاشف سنة 1979م
( )2محمد بن علي دبوز (1337هـ 1919/1402-هـ 1981-م) ولد بمدينة بريان من وادي ميزاب في الجزائر ،تلقى تعليمه الثانوي بمعهد الحياة ،
ومن أستاذته الشيخ بيوض والشيخ شريفي سعيد ،تخصص في دراسة التاريخ ،والداب وعلم النفس ،ومن كتبه المعمة ،تاريخ المغرب الكبير ،ونهضة
الجزائر الحديثة،وأعلم الصلح في الجزائر .معجم أعلم الباضية ()4/812
( )3تقدم تخريجه
( )4تقدم تخريجه
( )5أخرجه الحاكم في المستدرك( )3/432رقم 5646وأخرجه البيهقي في شعب اليمان ( )2/239رقم ،1631وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير(
)303 /24رقم .769
و ذكر التاريخ إباء ال ُقرّاءِ و خاصة المام علي بن أبي طالب للتحكيم ،و احتجاجهم عليه ]227[،و َوصَفَهُمْ بما
طرُ أفاق التاريخ ،و يبيّض صفحات الشرف ،و ما هم عليه من العلم و اليمان ،و حسن الصبر على البليا يُ َع ّ
المحدقة بهم ،و استماتهم في سبيل ال عز و جل ،و ما لهم من المزايا الحميدة ،و العمال الرشيدة ،و في
مقدمتهم ذلك الهمام الكامل ،و السيد الحلحل ،البطل الذي عرفه التاريخ ،و لم تنكره الوغى عبدال بن وهب
الراسبي ،الذي ما زال ثابتاً على الحقّ في تلك المآزق ،قائماً بالواجب تحت السيوف ،و مازال قلب المعركة ،و
قطب رحاها َ ،يتَأَ ّوهُ على التحكيم ،و على الرجوع عن حرب معاوية الباغي عن المام و المسلمين ،و قد سُ ِفكَتْ
ال ّدمَاءُ و هُتِكَتْ الحرم ،وهلكت البطال في غير صالح علي و جيشه .
وقد قامت الخاصة تطالب علي بن أبي طالب بالرجوع عن التحكيم ،لما يعلمون من حال معاوية و ما يقصده ،و
ِإنّ التحكيم في هذا مناقضٌ لحكم ال عز و جل في َمنْ بغى على المة ،و ما كان على خلف أمر ال عز و جل
فهو فساد ،و قد قاتل أبو بكر – رضي ال عنه – من منع الزكاة و لم يؤدها ،مع أن الزكاة ليس للمام بل هي
لناس مخصوصين ذكرهم ال في كتابه الكريم ،و لكن لما كان المام قطب المن ،و دائرة المجتمع ،و إليه
تؤدى الزكاة ليخرجها المام في مصالح المسلمين ،إذا كان غير مستغنٍ عنها فإنه أحد مخارجها ،و إن استغنى
عنها دفعها إلى أهلها ،و أجاز العلماء قتل مانعها ،و هو مسلم يدين []228بوجوبها .
فما بال من بغى على المسلمين ،و شمخ بأنفه تعاظماً عليهم ،و ترفعاً بالبغي على عباد ال ،و قد َنصّ ال عز
جزَاء اّلذِينَ يُحَارِبُونَ الّ و جل على وجوب قتاله " .:فَقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى تَفِيءَ ِإلَى َأ ْمرِ الِّ " ( " ، )1إِ ّنمَا َ
ع َتدُواْ عَلَ ْيهِ " (
علَيْ ُكمْ فَا ْ
َو َرسُو َلهُ َو َيسْعَ ْونَ فِي ا َلرْضِ َفسَادًا أَن يُ َقتّلُواْ أَوْ ُيصَلّبُواْ )2( " ...اليةَ " ،ف َمنِ اعْ َتدَى َ
)3الية ،و ما زال المسلمون يقاتلون البغاة على بغيهم ،فما لمعاوية يكون قرين المام فتقع المناظرة في أي
المامين يكون أصلح للمسلمين ،و ليس معاوية بإمام ،و ل ترشحه المة بذلك ،و ل ترضاه المامة الحالية
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
والياً على الشام ،فكيف ترضاه إماماً لها ،فما له يكون قريناً للمام الذي صحت إمامته بإجماع المة المرشح له
تحقيقاً لعلمه ،و أمانته ،و صدقه ،و إخلصه .
و ما لهذا المام يوافق على التحكيم ،و يجعل للباغي جانب يتلعب فيه ؟! ،و يعطي على ذلك العهد و الميثاق؟ ،
ثم يعود بعد خلعه لنفسه يطلب المامة؟ ,و قد تلعب بها الحكمان! ،و ما كان يجهل أمر عدوه! ،فماله يلوم
من خرج عنه آسفاً على ما صار منه؟ ،فاراً بدينه أن يتلعب به الوغاد؟ ،طالبا رضى ال عز و جل ؟.
وعلى أي جريمة يقتل الخوان المؤمنون البرياء ؟؟ ،و تضاف إلى جانبهم الشبهات التافهة ،و ينسب إليهم
أقبح العمال ،فيقتلون بغير ذنب سوى أنهم لم [ ]229يرضوا التحكيم ،وفروا بدينهم عن الوقوع في مثلها ،و
حقِهِمْ ،فيصفو الجوّ لعدو المسلمين ،و تقطع أجنحة
تعمل لهم المكائد ِلسَحْقِ ِهمْ ،و تنصب لهم شباك الردى ِلمَ ْ
إمامهم بذلك ،إنها فادحةٌ .
ضلّلٌ ُفسّاقٌ ،ليتستر قاتلهم بذلك ،و عند ال ينكشف المستور ،و تتضح
و بعد ذلك أشيع عليهم أنهم خوارجٌ ُ
الجناية على جانيها ،و تظهر حقائق المور ،و ما خَ ِفيَ على الخلق ل يخفى على ال الذي يعلم ما في الصدور .
فَ َبدَلَ أن يقام على الباغي الذي يشهد النص ببغيه يقام على أولياء ال الذين فارقوا أولدهم و أهلهم فَارّين بدينهم
س ِمعَ بذكر
،يبيتون على المحاريب يرتلون القرآن ،إذا سمع أحدهم بذكر الجنة كاد أن يطير شوقاً إليها ،و ِإذَا َ
النار كاد أن يذوب لذكرها ،و تتقطع أنفاسه خوفاً منها ،أَكَلَتْ الرضُ جباههم من طول السجود ،و تقرحت
ركبهم من كثرة الركوع و السجود ،كأن الجنة لم تخلق إل لهم فتجردوا لها ،و كأن النار موعدهم و ليس لها إل
من يكون كذلك أبداً ،و إذا بإخوانهم الذين تلقوا هم و إِيّاهم على حرب عدوهم ،و هم تحت راية إمامهم
يحملون عليهم السيوف في مواعيد لقاء بينهم ،تكتب عليها سطور الود و الصفا ،و هو على الحقيقة عنوان
البغي و الجفاء .
إنها و أيم ال لمما يأسف له ،و لكن المقدر بحكمة الحكيم ل ُبدّ من انفعاله ،ولما قضي المر انتشر الخذلن ،و
عمِيَ طريقه ،و انْ َهدّ رُ ْكنُ السلم ،و اشْ َتدّ على أهله ضيقه ،حتى قام من يقتل
أظلم وجه الحقّ ]230[،و َ
ج ّردَ له َمنْ حمله الغضب و رآه لزاماً لتتم المكيدة ،و ينتصر البغي ،فيدوس وجه الحقّ ،و المام انتقاماً ،و تَ َ
يصفوا الجو لمعاوية و أتباعه ،و يقوم الملك العضوض على جثث هداة الدّين و قادة المؤمنين .
صحّ ،و و قد قام المسلمون على إمامهم على بن أبي طالب يناشدونه الرجوع عن التحكيم ،و أنه باطل ل َي ِ
خلّ بشيء من أمر الدّين على القول بصحته ،و نبذ العهد وردت به الدلة ،و الرجوع إلى الحقّ الرجوع فيه ل يُ ِ
خيرٌ من التمادي في الباطل ،و الولى تدارك المر قبل استفحال الخطب ،و تعاظم الخطر ،و هؤلء القائمون هم
خيار الصحابة ،و أعيان التابعين لهم بإحسان ،فلم يكن من ذلك شيء حتى اغتنم الملكيون الفرصة ,و زَ ّوقُوا
أكاذيب لهم ،رَوّجُوا بها لهم سوق رغبتهم في إذلل الحقّ ،و تأييد الباطل .
حتى جاء المؤرخون الذين هم صنيعة الملوك ،و أتباع الشهوات يكتبون الكاذيب ،و الغراض الفاسدة ،و
يزخرفون لهم زخارف تمشي بهم في بقاع الباطل ،و قد ضربوا بدينهم عرض الحائط .
حتى انحاز المؤمنون كلهم من جيش علي بن أبي طالب وضربوا معسكرهم إذ ذاك بالنهروان ،معلنين استياءهم
من تلك العمال التي وقعت لهم في بيئة إمامهم البطل المغوار ،و سيدهم صاحب ذي الفقار ،الذي ما زال طيلة
تلك المدة ،وهو مفتاح مغالق تلك الدماء ]231[،و مصباح مظاهر الرواح ،و بانحيازهم عنه قام النشاط البارز
لمعاوية وأصحابه ،و رأوا أن المكيدة تم انفعالها ،و أمور علي آن انحللها ،و سرجه عصفت بها الرياح
الزعازع ،و ل بد أن تطفئها ،وفعلً كان ذلك كما قصه التاريخ العام ،و ذكره أيضا ذلك البطل الجليل المؤرخ
فساق ما دار في القضية من احتجاج ،و ما َلزَقَ بها من لجاج ،و ما اختص برجالها من اعوجاج ،و ما عليه
حقّ بالتباع ،و الباطل أولى بالتضاع ،فذكر الحق أشبه بنجوم السماء ،و
المنحازون من ابتهاج ،و الحقّ أَ َ
وضع الحائق في سلكها جواهر متللئة تللئ الجواهر في حسنها .
قال " .:و إمامة عبدال بن وهب الراسبي وقعت في سنة سبع و ثلثين للهجرة ،و هنا تكاثف كيد معاوية بن
أبي سفيان بإسراع ،ليعاجل هذه القوة المخوفة حين رأى جمرة هؤلء تتقد عليه ،و إنها سوف تقضي عليه و
على آماله ،فأسرع في إخمادها " ( )4كما قال العالم الهمام محمد على دبوز في تحقيق الواقع إلى أن قال " .:و
كان عبدال بن وهب الراسبي من الصحابة الزاهدين ،و من العلماء في الدّين ،و كان ذكي الفؤاد ،حاز ما في
المور ،قوي الشخصية ،شجاعاً صارماً في مواطن الصرامة ،صلباً في الماكن التي تجب فيها الصلبة ،
داهية ،حكيماً ،يتوج هذه الصفات العقلية والخلقية كلها ،ورعه و تقواه وإخلصه ،و نزهاته [ ]232و تمسكه
كل التمسك بالدّين ،و عمله لخرته ل لدنياه ،وتفانيه لمصلحة المسلمين ،و اجتهاده في خدمتهم ،وكان يلقب
بذي الثفنات لكثرة عبادته ،و اجتهاده في صلته ،حتى أَ ّثرَ ذلك في جبهته لكثرة سجوده ل )5( " .
قال " :و كان عبدال زاهداً في المامة كارهاً لها ،كارهاً للرئاسة ،يراها فروضاً و واجبات ثقيلة ،و حساباً
عسيراً بين يدي ال ،فنفرت نفسه عنها ،و أبى على أصحابه قَبُول المامة ،حتى وجد أصحابه من ذوي
الكفاءة تدافعوها و زهدوا فيها ،و خاف أن يتطلع إليها من ليس بكفوءٍ لها ،فيقعون في شر كبير ،و يحاسبه
ال و أصحابه على ما يحدث فيها لتولي الضعيف الذي أفسحوا له المجال ،و تقدم بـتأخرهم إلى رئاسة
المسلمين ،فوجد نفسه مضطراً لِ َقبُولِهَا ،فقبل المامة ،فبايعه أصحابه من الخاصة و هم من الصحابة و كبار
التابعين ،ثم تَوَالَتْ العامة التي أَ َبتْ التحكيم فبايعته فعزز بهم جمعه ،و تكاثر عدده ،و صار نفوذه ينتشر في
العراق ،و القلوب تتجه إليه من أنحاءه ،و كان ذلك في الكوفة .
ثم خرج المام عبدال بن وهب الراسبي ،و صحبه ،و أنصاره ،إلى مكان بعيد عن الكوفة بين بغداد و حلوان
يسمى النهروان في غرب نهر طبرستان من أرض خراسان ،و قد آثر عبدال بن وهب البتعاد عن الكوفة لكي
ل يقع بينهم و بين علي بن أبي طالب صدام ]233[،فإن العامة تسيطر عليه ،و الشعث و حزبه ل بد أن
يوقعوا بينهما ،فيجبرون علياً أن يقف منهم موقفاً معادياً ،و هم ل يريدون بينهم و بين المام علي أي سوء "
(. )6
قال نقلً عن ابن الثير المؤرخ الشهير قال ":ثم ِإنّ أصحاب عبدال بن وهب لقي بعضهم بعضاً ،و اجتمعوا في
منزل عبدال بن وهب الراسبي ،فخطبهم ،و زهدهم في الدنيا ،و أمرهم بالمر بالمعروف و النهي عن المنكر ،
ثم أمرهم بالخروج من الكوفة فقال حمزة بن سنان الزدي :يا قوم إن الرأي ما رأيتم فَوَلّوا أمركم رجل منكم،
فَإِنّكُمْ ل ُبدّ لكم من عمادٍ و سنادٍ و رايةٍ تحفون بها ،و ترجعون إليها ،و هو يشير إلى المامة ،فقال :
فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى".
قلت :و زيد بن حصين هذا هو الذي قالت فيه عائشة أم المؤمنين راوية عن الرسول ال – صلى ال عليه و آله
شرِقِ وَ ال َم ْغرِبِ َلكَبّهُمْ الُ كُلّهُمْ فِي
حصَ ْينِ لَوْ اشْ َت َركَ فِيهِ َأهْلُ ال َم ْ
و سلم ِ " : -إنّ ال ّرمْحَ الذِي طُ ِعنَ ِبهِ زَ ْيدَ َبنْ ُ
النّارِ " (. )7
قال ":و عرضوها على حرقوص بن زهير السعدي فأبى " قلت :و حرقوص بن زهير هذا هو الذي قالت فيه
علَ ْيهِ وَ آَلهِ وسَلّمَ – َلمّا جاءها خبر عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها –َ " .:أشْ َهدُ َأنّ َرسُولَ الِ – صَلّى الُ َ
جنّة
قتله ،قالت :قال رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – " .:أَوّلُ َمنْ َيدْخُلُ ِمنْ َهذَا البَابِ ِمنْ َأهْلِ ال َ
و قال " .:و عرضوها علـى حمزة بن سنان السدي و شريح بن أوفى العبسي فأبيا ،و عرضوها على
عبد ال بن وهب الراسبي ،فقال :هاتوها أما وال ل أخذها رغبة في الدنيا و ل أدعها فرق من الموت " ،قال.:
" فبايعوه لعشر خلون من شوال [ ]234سنة سبع و ثلثين " ،قال " .:و كان يقال له ذو الثفنات " ( )9أي لن
ركبه كثفنات البعير من كثرة الركوع و السجود – رحمه ال و رحم أصحابه الميامين .
قال " .:و كان الغرض الول الذي يَ ُهمّ به المام عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه ،و يشغل أفكارهم ،و
يستعدون له ،هو الهجوم على معاوية ،و إعادة ال َك ّرةِ عليه ،و القضاء على الملكية المستبدة ،و المحافظة على
المامة العادلة ،فخرج فعسكر بالنهروان ،و أرسل إلى أصحابه بالبصرة و أنحاء العراق ليلحقوا به ،و تكمل
عدته فيسير إلى الشام ،فسمع العامة كالخاصة الذين أَبَوْا التحكيم باختيار عبدال بن وهب الراسبي إماماً ،و
بخروجه إلى معسكره بالنهروان ،ليتجهز للقضاء على الملكية ،فابتهجوا ،و استبشروا ،و أسرعوا إلى اللحاق
به في النهروان ،فبايعوه بالمامة ،و انضووا تحت لواءه ،فاجتمع لعبدال بن وهب من أتباعه الذين لحقوا به
أربعة اللف ،فأقام بالنهروان ليتكاثر الوافدون عليه ،و الذين يسرعون إليه من كل ناحية ،فيتكون الجيش
الكبير الذي يستطيع به منازلة معاوية بن أبي سفيان ،و القضاء عليه ،و كان جمعه يتكاثر ،و جنده في تزايد ،
فأصبح قوة تهدد الشام ،و يرى فيها معاوية الموت الحمر ،و الفناء الماحق ،و القضاء على أطماعه و أمانيه
،فجعلها داهية العرب َنصْبَ عينيه ،و َم ْرمَى سهامه ،و أرسل إلى الشعث بن قيس و حزبه في العراق يحثهم
على أن يضربوا [ ]235العدو بالعدو ،و يجروا المام لحرب أهل النهروان ،فيتخلص منهما جميعا .
==============================
( )1الحجرات . 9 :
( )2المائدة . 33 :
( )3البقرة . 194 :
( )4تاريخ المغرب الكبير ()2/352
( )5نفس المرجع ()2/352
( )6تاريخ المغرب الكبير()353-2/352
( )7أخرجه البرادي موقوفاً عن أبي موسى الشعري عندما سأل عن حرقوص بن زهير،جواهر المنتقاة ص 142وظاهر صنيع المصنف أنه حدث خلطاً
عنده وال أعلم
( )8الجواهر المنتقاة ص 142
( )9الكامل في التاريخ ( )213 /3
عزَمَ الكرة على معاوية بعد اجتماع الحكمين ،و تجديد أصحابه البيعة له ،و
و كان المام علي بن أبي طالب قد َ
إن كانت أجنحته قد ُقصّتْ ،و قواه قد ضَعُ َفتْ ،و نفوذه في العراق لم يعد كما كانت في حرب صفين الولى ،
جنْداً فسار بهم إلى الشام ؛ لكن لم يكن هذا المسير من النوع المسير الول ،حيث قد أثر
فبذل كل جهده فجمع ُ
في النفوس ذلك التحكيم السيئ الذي قام به أولئك الذين هم صنيعة معاوية ،وكان علي أراد أن يضرب الضربة
الثانية تقوى الشام التي ما زالت تؤيد معاوية جار أم عدل "،و كان ذلك في سنة 37للهجرة .
و كان المقصود من طلب التحكيم َفكّ تلك الزمة التي كادت أن تَحِيقَ بمعاوية و جيشه ،و كاد أن يضع معاوية
رجله في الركاب ،و على كل حال إنه يتوقع من علي بن أبي طالب مثلها أو أشد .
ومن البديهي أن يعتد لها معاوية عدته الكافية من المال ،و الرجال ،و السلح ،و الدهاء ،و المكر ،و اختداع
الغمار من [ ]236الناس ،فإنه قد رأى ،و سمع ،و أعطته أيام صفين دروساً كافية ،ل سيما و هو يحاول
الملك .
"و كان هذا كله قد أضعف نفوذ المام في العراق ،فتثاقل الناس عن السير معه لحرب معاوية ،فوجد صعوبة
في الحصول على العدد الكافي للحرب التي سيخوضها ،فالتجأ إلى تجنيد العبيد و العامة التي ل تناصره عن
حماس و دين و محبة .
قال ابن الثير " .:فكتب علي إلى ابن عباس – رضي ال عنهما – إذ كان عامله على البصرة :أما بعد فإنا
خصْ إل ّ
ي خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة في ظاهر الكوفة و قد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل الشام ،فأشْ ِ
النّاسَ " .
فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس ،و ندبهم مع الحنف بن قيس فشخص معه ألف و خمسمائة ،فاستقلهم
عبدال بن عباس ،فخطبهم ثانية و قال :يا أهل البصرة أتاني كتاب أمير المؤمنين فأمرتكم بالنفير إليه ،فلم
يشخص إليه منكم إل ألف و خمسمائة " ()2
قلت :هذا من أدلة تغير القلوب على علي المام بسبب التحكيم الذي أوقعه مراغمة للمسلمين ،الذين كانوا
تجردوا للدفاع عن الدّين ،و َفضّلَ عليٌ التحكيم على تحكيم السيوف في ذلك الموقف الرهيب .
" قال ابن عباس لهل البصرة " أنتم ستون ألفا ،و يشخص إلى أمير المؤمنين منكم ألف و خمسمائة ،و عدد
أبنائكم و عبيدكم فوق ذلك ....
أل انفروا إليه مع جارية بن قدامة السعدي ،و ل يجعلن رجل على نفسه سبيلً ،فإني مُوقعٌ بكل من وجدته
متخلفا عن دعوته عاصياً لمامه فل يلومن رجل إل نفسه "[]237
" و لما هددهم ابن عباس بذلك اجتمع له منهم ألف و سبعمائة" أي لم يكن ذلك التهديد مثيراً لكثريتهم ولم يزد
إل مائتا رجل .
خرَجَ بهم جارية بن قدامة المذكور وزاد بعض العدد فكانوا ثلثة آلف و مائتان من المجموع ،فوافى بهم علياً " فَ َ
فلم يرى علي ذلك شيئاً بالنسبة للعدو المتألب عليه ،فجمع إليه رؤوس القبائل ،و أهل الكوفة ،و أتباع
الرؤوس ،و وجوه الناس فحمد ال و أثنى عليه ثم قال (( :يا أهل الكوفة أنتم إخواني ،و أنصاري ،و أعواني
على الحقّ ،و أصحابي إلى جهاد المحلين ،بكم أضرب المدبر ،و أرجو تمام طاعة المُقْبِلِ ،و قد استصرخت
أهل البصرة ،فأتاني منهم ثلثة آلف رجل و مائتا رجل ،فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة،
و أبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال ،و عبدان عشيرته ،و مواليهم ،و يرفع ذلك إلينا )) ( )3فكتبوا إليه ما
طلب ،و أمروا أبناءهم و عبيدهم أن يخرجوا معه و ل يتخلف منهم متخلف ،فرفعوا إليه أربعين ألفاً ،و سبعة
عشر ألف مقاتل من البناء ممن أدرك القتال ،و ثمانية آلف من مواليهم و عبيدهم ،و كان جميع أهل الكوفة
خمسة و ستين ألفاً سوى أهل البصرة و هم ثلثة آلف و مائتان .
و كتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من القبائل المقاتلة ،فكان عدد الجيش كامل سبعين
ألف مقاتل أو يزيد (. )4
و لكن كان أكثره من العامة إذ حشروا بالرهبة ،و من الفتيان الذين [ ]238لم يتعودوا الحرب و ل خبرة لهم ،
و من العبيد الذين حشروا حشراً دفاعاً للخوف الذي توقعوه من المام ،فجمعوا جمعاً ،و ليسوا بذوي البصائر
الذين يثبتون معه ،و يمتثلون أمره ،و يملكون من أنفسهم ِمرَاساً حراً ،و صرامة من حماسهم للمامة ،و
ضجِ تَحصّنِهِم و تَعَقّلِهِم ،فإن عقلية المرء معتمده النفسي ،و من احتفاظهم لسموم
كراهتم للملكية ،و ِمنْ ُن ْ
أنصار معاوية بن أبي سفيان أحد دهاة العرب ،و مشاهيرهم ،فإن أبا سفيان أحد أكابر قريش ،و جاء معاوية
أكبر من أبي سفيان ،و َقدْ بَثّ معاوية في جيش علي سموماً فتاكةً ،و كان في جيشه الشعث بن قيس ،و
شرْنَا إليهم سابقاً ،و هم صنيعة معاوية . رؤساء القبائل ،الذين َأ َ
جمهور غفير من العامة ومن سوادهم الذين ل يهتدون قبيلً من دبير ،و ليس هؤلء ممن يلقى بهم العدو ،و
لكن أرسلهم المسئولون فيهم دفاعاً عنهم ،فإن القلوب الن هي مع معاوية ،تسري وتقيل في صالحه ،تمتثل
أوامر الزعماء الذين هم في جيش علي ظاهرهم ،و في جيش معاوية باطنهم ،و مثل هؤلء خطر على
زعيمهم ،يسيرون وراءهم و يمتثلون أوامرهم ،و ينفذون أوامرهم ،و إذا كان القادة للجيش مثل هؤلء و
السواد العظم َمنْ وصفنا فأين يكون النصر ؟! ،إنه شبيه بالمحالِ!! .
و كان ابن عباس – رضي ال عنهما – في حروب صفين القائد الكبر ،و لّما كان القائد للجيش ابن عباس و
أمثاله فهم أكبر من كل جيش ،و سمعتهم هي وحدها جيش ،كان ابن عباس أحد ضباط [ ]239المام إذ ذاك
الكبار ،و من قواده ،و أركان حربه ،و من البطال العظام في يوم الهرير ،فلذلك كان جيش علي مرهوباً و
مخوفاً تمام الخوف .
و في هذه المرة لم يقم ابن عباس مع ابن عمه ،و قعد هو و كثير من أضرابه حين رأوا زعزعة علي عن
إمامته .
و على كل حال إن ابن عباس ألقى ما عنده لعلي في القضية ،و رأى وسمع ،و للرجل أفكار تدرك الحواس في
المل العلى ،فتأخر عن الخروج مع المام ،و ترك المام ليعمل عمليته بنفسه ،و سيرى ما يكون من المر ،
صغْ إليهم ،و كان يعتقد أنّ النّاس كلهم ُيحِبُو َنهُ ،و أنه
و سيعلم علي عاقبة المر الذي حذره إِيّاه إخوانه ،و لم ُي ْ
ناجحٌ ل محالة ،و رأى ابن عباس الشؤم في جيش المام ،و عدم ثقته باستطاعة المام أن يصل إلى معاوية ،
ويحاربه ،و ينجح .معه في حربه إذا وصل إليه ،لما يعرف من الخفايا في جيش المام ،و من سوء طوايا أكثر
رؤساء القبائل الذين ساروا معه .
و ل يمكن أن يكون هو الذي استبقاه لنه لو تركه في الكوفة عاصمته لقيل أنه آثره لحفظها ،و تركه وراءه
كفئة وردء له و لقومه في حالة غيبته عنها ،و خلفته عنه فيها لتسيير المور من وراءه ،و حفظ العاصمة
من كَيْد عدوه ،و لكنه بقى في البصرة و ل أهمية لها بالنسبة للكوفة ،و لم يغادر ابن عباس إلى الكوفة ،فرأى
الناس لوائح الخلل ،و لم ينتقل إلى الماكن التي يكثر فيها سواد أنصار معاوية الذين يمكن أن يثوروا على
المام فيضربوه من خلفه (. )5
" فخرج المام علي في هذا الجيش الذي كان معظم [ ]240رجاله المقاتلة الذين أدركوا القتال و عبدان عشيرته
،و هو مُعْت َمِدٌ عليهم ،و مواليهم ،و هم ذوو النفوذ في جنده ،و هم صنائع معاوية ،الذين عزموا على الكيد
للمام ،في صَ ْر ِفهِ بكل وسيلة عن السير إلى الشام ،و تسليطه على عبدال بن وهب الراسبي ،فتكونوا له في
و كلهم يتآمرون على هذه العصابة ليمزقوها ،ويهجموا تحت راية علي على هذا القوة الجديدة التي يؤلفها
اليمان ،و يجمع شملها الخلص ل عز و جل ،موقنين بأنها ستكون أمضى من كل قوة تهجم على معاوية ،و
أكبر خطر يهدد المَلكية بالمحق.
ثم يلزموا المام علي بن أبي طالب قتلهم ،و القضاء عليهم متسترين به ،وهم ذوو النفوذ في العراق ،و ذوو
حبّ و إكبار المخلصين الذين مع المام علي كالحنف بن قيس سيد تميم الذي أبى المكانة الثانية ،و محل ُ
التحكيم ،و لم يرضه فصار بذلك أحد أركانهم ،و جارية بن قادمة السعدي ،فيفسدون في الرض بقتل هؤلء ،و
يستميلون قلوب الناس عن المام ،و يفرقون عنه أبناء قبائلهم من أتباعه ،و هم كثيرون في جيش المام .
سمَهَا معاوية الداهية لتباعه ،و رسمها معه أعوانه كعمرو بن العاص .و عزم
طةُ البارعة التي َر َ
خّهذه هي ال ُ
الشعث و حزبه من رؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية .
عزموا على تنفيذها فاندسوا هُمْ و جماهيرهم [ ]241الكثيرة في جيش المام ،فصاروا يرقبون الفرصة و
يَ َتحَيّنُون لها الوقت المناسب لتنفيذها ،و وضعوا تلك الخطة الكائدة التي تهدف لصرف المام على قتال أهل
النهروان ،إذ يضربون العدو بالعدو ،فيتخلصون منهما جميعا .
حتى وصل المام النبار ،و كل ما في نفسه السير لقتال معاوية ،و كل ما في قلوب الخرين القضاء على
عصابة النهروان ليقوم صالح معاوية ،و يهوي صالح علي في الحضيض ،و لما أراد أن يدخل في طريق
الشام ،و يبتعد عن أهل النهروان ،ول يمكنهم ِإذْ ذلك صرفه إليهم ،أرغموه بإثارة العامة عليه ،و بأتباعهم
الكثيرين من جنده ،على السير إلى النهروان و مقاتلة عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه .
وقد أَبَى المام عليهم ذلك ،و َك ِرهَ السير إليهم ،و قال " :اتركوهم " رجاء أن يتغير رأيهم فيه فيرجعوا إليه
سيما بعد أن ينتصر على معاوية و يقضي عليه ،وتبرد حرارة قلوب هؤلء فَ َيسْ َت ُردّ بذلك المام ما فقده في
جولته الماضية ،و رأى المام أن عدوه هو معاوية و حزبه أنصار المَلكية المستبدة ،و أن عبدال بن وهب
الراسبي و صحبه ل يضرونه بشيء إذ كل أنشودتهم تأييد الدين ،و رد الباغي عن بغيه ،إذ هم على مذهب
المام في سيرهم و سراهم ،محافظين على الواجب الشرعي ،و على التمسك بحبل الدين .
إما أن ينتصر على معاوية فتظهر كفاءته ،و يسترد صَيْ َتهُ فيرجعوا إليه ،أو يكونوا هم أكثر كفاءة و أغزر جمعا
ليمل الجمهور إليهم فيرجع هو إليهم ،فيكونوا َي ّداً واحدة ،هذا هو رأي المام علي في أصحاب النهروان ،فما
كان ليعاديهم [ ]242و يقاتلهم على اعتزالهم له ؛ لنّ بيعته قد زَالَتْ عن أعناقهم ،و هو أعلم القوم بالحكم فيها
،ل يرضى أن يؤاخذ إخوانه الذين نصحوه بالمس عنها ،و خرجوا اليوم عنه غير ماسين بشيء من حقوقه (
. )6
و إن الذين نسبوا إليه قتلهم ما أراهم أدركوا فصل القضية إل من حيث الجمال لما كان هو المام ،وكان
القاتلون أركان حربه ،ومن لهم أنه أمر بقتلهم ،و أقرب الحوال منه في تحقيق هذا القضية أن المام خرج
مخدوعاً لقتال القوم بالشبهة متوصلً به إلى الغرض المنويّ ،و على كل حال ِإنّ بوادر الجيش هي التي بدأت
بالقتال متظاهرة له بأن القوم بدأوهم بالقتال ،و هم على كل حال إنما أخرجهم إلى النهروان التباعد عن
ضوضاء أعدائهم الذين حملوا المام على قبول التحكيم ليفكوا معاوية من الزمة التي وقع فيها حين رأوا طلئع
الهزيمة تقرب منهم .
==========================
( )1تاريخ المغرب الكبير ()355-353 /2
( )2الكامل في التاريخ ()217 /3
( )3الكامل في التاريخ ()3/217
( )4تاريخ المغرب الكبير()356-355 /2
( )5انظر تاريخ المغرب الكبير ( )356 /2
( )6تاريخ المغرب الكبير ( )358 _357 /2نقله المؤلف بشيء من التصرف.
ضدّ النهروانيين
الدسيسة السيئة ِ
عزْمُ القوم على التصميم على حرب معاوية غير تاركين له ،و ل متأخرين عنه ،و قد علموا [ ]243لما تحقق َ
من المام عدم الحرج عليهم غير مناوٍ لهم بشيء من العداء ،و هم يزيدون كل يوم ،و يتعاهدون على حرب
عدوهم ،الذي فعل تلك الفعلة الشنعاء في المسلمين ،وتظاهر ِبشَقّ العصا بينهم غير مبالي بما كان و ل بما
يكون .
نسجوا الحيلة للخذ على قلب المام و صرفه إلى حربهم ،و القهر عليهم ،و عَ ِلمُوا َأنّ ذلك ل يمكنهم إل بالمام
،الذي هو المتبوع في المة ،فكان كيداً أشبه بكيد أخوة يوسف .
و َمضَى الملكِيون يقولون في دعايتهم الكاذبة أن أهل النهروان قتلوا عبدال بن خباب ،و قطعوا الطريق ،
وبقروا بطن امرأة ،و أخرجوا منها ولدها ،و أظهروهم بمظهر السباع الضارية ،و اللصوص الذين يقطعون
الطرق ،قصداً لن يثيروا حفيظة المام عليهم ،و يستنهضوه بالحال البشع الذي ل ترضاه شرار النّاس .
فانظروا في هذه المكائد التي ينصبها المسلم نحو أخيه لغرض غير كبير الشأن ،إن تسنى له لم يلبث طويلً ،بل
صرّحَ بها بين يدي ربه عز و جل ،و هذه منها .
سرعان ما يضمحل ،و للشيطان مكائد في الناس َ
خرج النهروانيون عن إمامهم فارين بدينهم ،و إذا بإخوانهم يكيدونهم على ذلك ،لجل حُطَام من الدّنيا يتمتعون
به قليلً ثم إلى ال المصير .
من كذب تلك الدعاية الفاجرة ،لو كان لها أصل لكان المام هو الذي يطلب من النهروانيين النصاف ،و هو
ع ِرفَ عنهم
الذي يدعو إلى النتصاف ]244[،و كان أحرص على السير إليهم ،و لرآهم خطراً يهدده ،و قد َ
قبل ذلك أحوالهم ،و على زهدهم ،و إخلصهم ل ،و اجتهادهم إذ كانوا عمدة أمره ،و محل ثقته فيهم ،لم
أيصيرون بعد ذلك لصوصاً وحشية ،و نهابة قُطّاع طرق كما يقول أعدائهم ،إن لم يكونوا تقاة عدولً فمن هم
التقاة و العدول في السلم ؟؟
ِإنّ أهل الضلل ل يبالون بما يقولون في إخوانهم ،و ل بما يفعلون ،فإنا ل و إنا إليه راجعون .
فارقوا إمامهم حين تابع المنحرفين عن الحقّ ،متأثراً بأقوال قوم مجرمين ،يظهرون له الحقّ ،و يكتمون
ظنّ صدقهم ،و يعتقد نصحهم و صلحهم و اجتهادهم ل ِ ،إنّ هذا من أفحش الفحش في السلم ، الباطل ،يَ ُ
ومن أسوء السوء الذي يلصقه المجرم بأخيه المسلم لينال منه ،و لن يرضى ال في عباده مثل هذا ،و لن تقوم
قناة قوم هذا حالهم ،و لم تقم كما عرفت .
و ل يرضى ال في عبادة خلفاً لما شرعه لهم ،فإن ال وضع الشرع الكريم قانونه العظيم ،و له يعتمد العقل
السليم ،و قد قلنا عنهم في غير موضع مما كتبناه عن أولئك السادة الكرام ،و القادة الغر الميامين ،و هم حجة
ال في أرضه ،و هم مرجع عباده علماً و زهداً و طاعة و نزاهة ،و ناهيك بإمامهم المعروف بذي الثفنات ،و
يزيد بن حصين الطائي ،و حرقوص بن زهير السعدي و المرداس بن حيدر [ ]245و من على شاكلتهم من
خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -و هم كالنجوم وصفهم بذلك رسول ال – صلى ال عليه
و آله وسلم ( ، - )1و إن كان أكثر الناس يجهلون حقائقهم ،فكم من ذي طمرين ل يعبأ به لو أقسم على ال
لبره .
و لم تقم دولتهم ،ولو قامت لسجدت لهم الجباه ،و أعطوا ما لهم و ما ليس لهم ،و لكنهم صرفوا عن الحظوظ
الدنيوية ،فلذلك أصبح أعداؤهم يلصقوا بهم كل سيئة ،و قديما قيل :
خدَمَ النّاسُ معاويةَ ،و جللوه و أعزوه ،و قدروه خصوصا الذين ل يرونوهذا شأنهم في كل زمان ،و لقد َ
الخروج على المير و إن جار ،فإنهم يتهافتون على خدمته ،ويعتقدونها طاعة ل ،و ال بريء من الظلمة و
أعوانهم ،و لكن أهل الدنيا و السطحيون ل يرون إل ظواهر المور ،و يكتفون بقشورها ،و ل يبالون بما وراء
ذلك ل سيما الذين يرون َأنّ السلم قولٌ ،أو قولٌ واعتقادٌ ،و هم السواد العظم في السلم ،متعلقين بأدلة
واهية ،ل تفيدهم في الدّين زنة جناح بعوضة .
و لم يَنْ ُبهْ ذِ ْكرُ النهروانيين في العالم السلمي حيث إن المغرضين أتباع الدرهم و الدينار ،و أسارى الهوى
الظالم ،و عبدة الدنيا قضوا عليهم بين عشية وضحاها بطراً و طغياناً ،وقضوا على ذكرهم أيضا حيث استعملوا
المأجورين أتباع المَلكية ،و أنصار الزعامة المتمردة ،بأن يلصقوا بهم كل سيئة ويضيفوا إليهم كل سوءة ،و
ما زالوا يسلخونهم من كل حسن ،و ل يذكونهم إل بسيئ العمال ،و أن يصفوهم[ ]246بأنهم خوارج ،و ل
يُفْ ِهمُونَ السّوَاد معنى الخوارج ،و إنما يسوقون ذلك مساق السّبّ ،و الطّ ْعنِ ،والشّتْمِ ،و يطنطنون عنهم أنهم
خرجوا عن المام علي ،ويضيفون إليهم أنهم حاربوا المسلمين ،و كل ذلك دعايات فارغة مغرضة تبعثها
السياسة الموية لتبرر لها موقفاً صالحاً في السلم باللسان ،كما َقرّرَتْ لَ ْعنَ علي بن أبي طالب في المجامع ،و
محاضر الناس ِل َتشْ ّوهَ ِمنْ سمعته ،و تأخذ المعنى الصالح لها قولً ل فعلً ،و نسبوا إلى النهروانيين الفحش في
الدين ،دفعاً لعواطف النّاس ،و قطعاً لكل ما عن شأنه الرحمة لهم ،ل سيما أن المغلوب تنسى حسناته ،و
فنشأت الناشئة و مضت المة والحال هذا ،و ل يعرف عن عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه إل ما ينقله
المبرد ،و ابن الثير ،و ابن خلدون ،وهؤلء عندهم أعمدة العلم ،و رؤساء التاريخ ،و جهابذة السير ،و الحال
طهُ متكلمٌ ،أو قارئٌ ،أو خطيبٌ ،فكيف بما
قد عرفت أنهم تحت طاعة الملوك العتاة الذين يعاقبون على الحرف يَ ْغلُ ُ
يكتب ؟؟،و القصد من ذلك الخذ على أيدي العلماء حتى ل يندفعوا في ذكر الحوال التي هم عليها ،أو يتجاسروا
على نشر الحقائق كما هي ،فجعلوا النهروانيين ل يعرف عنهم إل ما يدونه أهل الهوى و أتباع أعدائهم .
ِإنّ النهروانيين هم صفوة المة في وقتهم ذلك ،قاتلوا في حرب الجمل من رام نقض البناء لعلي بن أبي طالب ،
وقاتلوا معه في صفين حتى إذا قرب [ ]247خضوع المبطل للحق قامت عوامل الدهاء تفكهم من أزمتهم
الثقيلة ،و اختلف الناس ،و ذلك كان هو القصد ،و عند التباس المور ل يدرك الحقائق إل أفراداً من الناس
يختصهم ال عز و جل ،فقام القوم في وجه ذلك المكر ،و حملوا إمامهم على وضع السيف في أعناق هؤلء
الذين ينادون بالتحكيم لكتاب ال .
و هل كان القتال إل على تركهم أحكام كتاب ال عز و جل ؟؟ ،و لم يقبل أنصار المام الذين هم في الحقيقة أنصار
معاوية ،فلم َيرَ المام ُب ّداً من قَبُول اقتراحهم ،إذ هم حجته على عدوه.
وهنا انكسرت خواطر أهل اليمان حيث رأوا أن دعايات الوغاد والسفهاء مقبولة ،و آراء أهل الحقّ مرفوضة ،
و زاد الطين بلة حين رأوا إمامهم يعطي العهد والميثاق للحكمين يحكمان ما شاء لهما هواهما في إثبات علي
ونفيه ،و كان من الغدر الفاحش أن خلع أحد الحكمين علي ثم صحح ذلك الخلع الحكم الثاني ،و عليه فقد اتفقا
على خلعه ،ثم أثبت الول معاوية ،و هو كما يعلم القارئ لم يكن إماماً حتى ينظر الحكمين أي المامين أصلح
للمة ،و تراها خدائع مكشوفة فاضحة ،يمليها الهوى ،و يبعثها الظلم و الفساد .
فإنهم لم يستطيعوا أن يقولوا في علي بشيء يكون سبباً للقيام عليه بخلعه ،لنه ل توجد له أمور توجب خلعه ،
و إذا خلع علي مثلً أيكون الختيار للمامة معاوية ويترك علماء الصحابة ؟ ،و هداة المة ؟ ،على فرض أنها في
القريشيين كما يقولون .
===================================
( )1أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله( ،)2/91وأخرجه ابن حزم في الحكام( )6/82وأخرجه الخطيب في" الكفاية في علم الرواية" ص
48وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب من المسند( ،)1/86وأخرجه ابن بطة في البانة( ،)4/11/2وأخرجه القضاعي( .)2/109وهو موضوع قاله
اللباني انظر سلسلة الحاديث الضعيفة والموضوعة ( )1/84رقم 62
( )2البيت لعُمير بن شيم القطامي ،ديوان القطامي ص 25
أليس في قريش من هو أصلح للمسلمين من معاوية بن أبي سفيان ؟؟ ،و المامة خلفة ل تبارح الشريعة في
سيرها و سراها ،و ل ترضى غير المؤمن الصادق اليمان ،المخلص ل البين إخلصه و إيمانه ،المعروف
اللهم إل عند من يقول بصحة إمامة المغتصب ،وهم فريقٌ من الناس ،و لسنا نقول بذلك بل المغتصب عندنا ظالمٌ
جائرٌ على المسلمين َ ،ه ّد َدهُ رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -و ال يقول " .:لَ َينَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ
جزْنَا أن يكون كل ظالم تجب طاعته لم يبق في " ( ، )1و إن قيل ذلك في النّبُوة قلنا .:الخلفة فَ ْرعٌ عليها ،و لو أَ َ
الكون من ل تجب طاعته .
و لمّا َق ّررَ الحكمان خلع عليَ ،أ َقرّ أحدهما إمامة معاوية َ ،فسَ ّبهُ صاحبه ،و أجابه أيضاً بمثل سَبّه ،و تشاترا
وتلعنا .
و أنت ل يخفى عليك المقصود من وضع الحكمين إلّ َفكّ معاوية وحزبه مما وقعا فيه ،فيتفرغا لتأييد
أغراضهما ،و استمالة الناس بدهائهما ،و نشر السوء فيمن هم أتباع المام و أنصاره ،فعملت الدسائس
عملها.
و عمل العاملون رغبة الزعماء َ ،فدَوّنُوا لهم ما شاءوا أَن َيدَوّنُوا فبذلك انتشرت الدعايات الكاذبة ،و نشأة
الناشئة عليها ،و رأت سيء القوال فيها ،وخبيث العمال لديها ،فرفضت حديث القوم ،و نودي في المجامع
صدّتْ بوجوهها عنهم ،و ُل ِمزَتْ جانبهم في صدقهم و صفائهم ،و بضلل النهروانيين في أقوالهم و أفعالهم ،و َ
ظلمتهم حقوقهم إل ما شاء ال من النّاس الذين تسمح لهم اليام بتأييد الحقّ ،و تساعدهم الظروف بنشر العدل
الصحيح ،والصدق الصريح في البغيض والحبيب ،و هم قليلون بالنسبة إلى أولئك المشوهين الذين ل يبالون بما
يقولون ،أو يأخذون الخبار عن أهل الكاذيب [ ]249المغرضة ،فينشرونها في العالم .
ولكن ل ُبدّ للحقّ من ظهور ،و ل ُبدّ للكذب من افتضاح ،و ل بد من تهور الجور وانهياره ،و الثابت على الحقّ
كالقابض على الجمر .
و القائل بالحقّ في تلك اليام تكاد منزلته أن تعادل المنازل العالية ،لن منهم من قتل ،و منهم من جلد على
ح ِبسَ عليها وعوقب شر عقاب . الكلمة الواحدة ،و منهم من ُ
ع ّز
و ل يخفى َأنّ الحقّ عند أكثر الناس صعب قَبُوله ُ ،مرّ ذوقه ،و إن أهله قليلون في كل زمان ،لن الَ -
وعل -لم يبعث الحقّ في الناس ،و لم يقم أهله إل حجة على الناس ،و لقامة الحق عند ال عهد مؤقت ل يزيد
عن وقته ،فانظر في أيام الرسول – عليه الصلة والسلم ، -بل و أيام المرسلين قبله ،تجد أهل الحق فيها هم
القلون ،و أهل الباطل هم الكثرون .
غرْوَى إن درست مكارم المخلصين ل كعبدال بن وهب الراسبي و أصحابه ،و هم أصحاب رسول و هكذا فل ِ
ال – صلى ال عليه و آله وسلم ، -و خيرة رجاله ،و فيهم من شهد له – الرسول صلى ال عليه وسلم –
بالجنة ،فإنهم لم يرضوا إل الحقّ ،و لم يخضعوا إل له ،و لم يطلبوا غيره ،و لو أرادوا غير الحق لكان لهم
ميسوراً ،ولم يحوجهم الحال إلى الخروج عن دائرة الباطل ،و لم ينفصلوا عن السواد العظم الذي عليه معاوية
و أتباعه ،و لم يتركوا إمامهم علي وهم المعتمدون عنده و المقربون لديه .
وإنما فروا من ذلك كله غضباً ل و اعتماداً عليه ،و طلباً لما عنده من الحسنيين ،فإذا ذهبت الحياة في ذلك
فنعم ما ذهبت فيه ،و نعم ما بلغوا ول ما صنعوا .
قال محمد على دبوز و هو ممن يعطي التاريخ حقه قال " :فلو ارتكبوا ما ُنسِبَ إليهم لكان المام أحرص على
السير إليهم ،و لرآهم خطراً يهدده في الكوفة أي و جوراً على العباد ،وفساد في الرض تجب المبادرة إلى
حسمه ،فيسرع إليهم ليأمن ظهره ،و إنهم إذا كان أمرهم كما قيل عنهم فهم أحق بالجهاد من معاوية حيث هم
قريبون منه ،و العدو القريب أضر من العدو البعيد ،و لم ينقل عن علي شيء من ذلك عند أهل الحقّ ،بل و ل
عند خصومهم أيضاً ،و إل فكيف يسير علي لحرب الشام قبل أن يتخلص من هؤلء الذين سيهاجمون ذراريه و
رعاياه إذا تركهم وراءه ،لنهم أصبحوا قطاع طرق يظلمون و ينهبون ،ويتحرج أحدهم من أكل تمرة ساقطة
في الطريق خوف أن يكون لها رب يسأل عنها أو يطلبها ،و إذا بهم يفعلون تلك الفاعيل الشنعاء الخارجة عن
سعِ المعقول ،و هم صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و فيهم كبار التابعين ،و ل ينسب إليهم ِو ْ
شيء من السوء إل ما ألصقته بهم الملكية الجائرة من بهتان .
و ِإنّ من الناس من يزري بسلفه ،و يزري بنفسه و أصحابه و إخوانه الصالحين ،و أصحاب الرسول عليه
الصلة والسلم ،الذين هم زبدة المة ،و ذروتها الشماء في العفاف ،و التقوى ،و في الورع " (]251[. )2
وعند ابن دَبّوز المذكور نقلً عن ابن الثير " .:و بلغ علياً َأنّ النّاس يقولون لو سار بنا إلى قتال هذه الحرورية،
فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المحِلّين ،فقال لهم (( :بلغني أنكم قلتم كَ ْيتَ و كَ ْيتَ ،و ِإنّ غيرَ هؤلء أهم إلينا
فدعوا ذكرهم ،و سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكاً -أي معاوية ومن معه ، -و يتخذوا عباد
ال خَ َولً )) ،فناداه الناس أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت هذا هو رأي الجند المخلص للمام )) ( )3و
هذا كلم علي ينقله ابن الثير ،فلو كان القوم كما قيل فيهم ،و ُنسِبَ إليهم ،لقال .:نعم ،سيروا إليهم فهم أحق
بالقتال ،و قول علي " :أن غير هؤلء أهم إلينا فدعوا ذكرهم " ،كان آمناً جانبهم عالماً أنهم يطلبون الحقّ ،و
س َكنَ إليه و اطمئن به طبعاً ،و ربما تابعهم ج َدهُ َ
أنهم على أمل التراجع بينهم و المام ،فإن طالب الحقّ إذا وَ َ
المام و ما يرى المسلمون بينه و إياهم فهو أطوع الناس إلى الحقّ ،مع أن القوم لم يكونوا كثيرين بالنسبة إلى
جيش المام ،إذ هم على شهير القوال أربعة آلف رجل ،و جيش المام سبعون ألفاً .
س ِمعَ القائد الكبر الشعث بن قيس و أتباعه كلم المام علي ،و أنه يُ ْع ِرضُ عن تلك العصابة ،و يأمر و لما َ
بالمسير إلى قتال الذين يريدون أن يكونوا جبارين ،أثاروا العامة على المام ،فما زالوا به يطالبونه بالسير إلى
غمُوه على السيرحمّرة عليه بالتهديد ،و يُلِوْحُون له بالثورة عليه ،حتى َأ ّر َ
أهل النهروان ،و تشعره عيونهم ال ُم َ
إلى النهروان ،فقصد عبدال بن وهب و أصحابه ل على نية القتال كما أراد القوم ،بل على نية []252
استمالتهم إليه ،و اجتذابهم إلى صفوفه ،ل على نية مقاتلتهم ،و القضاء عليهم ،فإنهم لم يقترفوا ما
يستحقون به القتال ،و لكن علي أهمه خروجهم عنه ،وقد بايعوا لهم إماماً ،و ل شك أنهم إذا لم يقفوا معه
بوجه مرضي سيقاتلونه ،لنه ل إمامتين في حوزة واحدة ،و هناك الهم الكبر و هو حرب معاوية .
و َأمّا جنود علي المغرضون يريدون فقط نفس القصد إلى النهروان ،فإنهم إذا وصلوا ملكوا و بلغوا مرادهم ،
فكان هذا غاية القصد ،فإنهم لما وصلوا وقع القتال ،و اشتبك الناس فيه ،ولعله ل يعرف عليٌ المعتدي فيه و
شكّ أن الجيوش معروفه ،فإذا قالوا لمامهم بدأونا بالقتال ،أو ما شعرنا إل و
المبتدي به ،فماذا يقول ،و ل َ
الناس يقتتلون ،فماذا يقول المام ،وفي ذلك له عذر ،و ماذا يكون من أمر أربعة آلف رجل آمنين مطمئنين
يفيض عليهم بحر من رجال يبلغون سبعين ألفاً و زيادة ،فما كان إل القضاء عليهم في لحظة ،فرحمهم ال و
رأى علي بن أبي طالب تبعاً لمطالب رؤساء جيشه ،أن يتفاوض مع القوم ،فأرسل إليهم ولده الحسن في خيل
من خيله ،فساءهم مجيئه على تلك الحال التي ل يأملون أن تكون من علي و آل علي ،و كان ا لحسن ل يرى
القوم أهل ضللة ،و ل خطأ فيما فعلوا ،فلما وصلهم جرت المفاوضة بينه و إياهم ،حتى أقنعوه قائلين له ":لما
جئتنا على هذه الحال ،هل أجرمنا ؟ ،هل فعلنا منكراً ؟ ،هل علمت عَنّا خيانة أو ظلماً ؟ ِلمَ يا حسن ُنذَ ّكرَك ال في
دمائنا ؟ ،على ما تقاتلنا إل أنا [ ]253سمينا أباك أمير المؤمنين فخلع نفسه و أبينا نحن ذلك ،و دعوناه أن
يمضي قدماً إلى قتال عدو ال و عدونا فأبى ،و ثبتنا نحن على ذلك " (. )1
" فنصرف الحسن عنهم مقتنعاً فلم يقاتلهم ،و كان أرسل لذلك ،و لعل أركان جيشه أرادوه مقدمة لهم فإذا وقع
بينهم أدنى شيء يَ ِكرّونَ عليهم .
و رجع حتى انتهى إلى أبيه ،فقال له الشعث :يا علي ناجز القوم ،فإنهم إن كلموا الناس أفسدوهم" ،وهنا
يتجلى باطل القائد الخبيث ،عَِلمَ َأنّ القوم يتعلقون بالحقّ ،و التعلق به له تأثير في نفوس أهل اليمان ،فلم يَ ْبقَ
الن إلّ استعمال القوة ,و إل أفسدوهم عليك ،يضع دهاءه في ضمن النصح ليختدع به المام .
" فما زال الشعث بن قيس و رؤساء القبائل يَِلحّون على المام ،و ل يخفى حال الرؤساء في كل أمة ،و ما
زالوا به على أن يسير إلى أهل النهروان ليقاتلهم ،و يقضي عليهم ،و المام يأبى ذلك ويرفضه ،و يرى أنهم
لم يأتوا شيئا يستوجبون به قتالهم ،و أنهم خاصته في صفين ،و هم عدو معاوية والمَلكية المستبدة ،فهم من
حزبه يعملون لما يعمل له هو ،و يجتهدون لما يعمل هو لتحقيقه .
و لكن الشعث بن قيس و صحبه كان في يدهم العامة ،فهي السلح الذي يجبرون به علياً على الخضوع ،و
سعْ عليٌ المام إل الرضوخ لهم ،فسار إلى النهروان ل على نية يرغمونه على المتثال ،فأشهروه عليه ،فلم َي َ
القتال كما قدمنا ،و لكن على نية مصالحة عبدال بن وهب وصحبه ،فيكونوا جميعه ،فيتقوى بهم علي في
جيشه ،وترجح بهم كفته في جنده ،و تكون القوة في جانبه ،فل يستطيع الشعث أن يملي عليه ما يريد ،و
يخضعه [ ]254لما يشاء ،فيتقوى بهم على معاوية ،فينازله بالشداء عليه ،و يدحضه بهم ،و يهاجم المَلكية
الغاشمة في أَوْكَا ِرهَا ،فيقضي عليها .
لذلك لما وصل علي النهروان لم يسارع لحرب عبدال بن وهب ،بل بعث إليه سفراءه يدعوه للمفاوضة ،و
المصالحة ،والمسامحة .
فذهب إليهم و فاوضهم فيما هم بصدده ،و طال بينهم و إيّاه الحديث ،فأقنعوه لكون حجتهم واضحة ،و قضيتهم
مسلمة ،فرجع إلى المام و أخبره عما جرى بينهم من حديث فيما هو بصدده ،فرده المام إليهم ثانية ،فتداولوا
الحديث ،و إذا بهم و هم مصرون على الحقّ ،ل يتزعزعون عن الحال الذي هم عليه ،فإن الرجوع عن الحقّ
حرام إجماعاً ،و في الثالثة استطاع قيس أن يقارب بينهم والمام ،فيتفاوضون مباشرة ،و واعدهم أن يأتيهم
المام بنفسه ،ليعتذر إليهم عما مضى ،و يعاهدهم العهود المؤكدة أن ل يلين في مواطن الصرامة ،و أن ل
يأتي ما يأباه الحزم والدهاء ،فرضى عبدال بن وهب و أصحابه بذلك ،إذ كان الحق أنشودتهم والعدل بغيتهم ،و
استبشروا بذلك ،و سروا بذلك سروراً كبيراً ]255[ ،و صاروا مستعدين للقاء المام ،و نسيان ما مضى مما
مَ ّكنَ لمعاوية ،و أورثه قوة جمعها ،و دسائس صنعها ،و أحوال وضعها مما يخوله رد المعارض أو على القل
مقابلته مثلً بمثل ،و الحرب سِجَال ،و قد استعد معاوية لمواجهة هذا الخطر المهم ،الذي يقدره معاوية
الحساب الطويل العريض ،فتقوى كما ينبغي ،و رسخت جذور سياسته على أصولها ،لنه يعلم َأنّ علياً غير
تاركه على شِ ْبرٍ من الرض إل على أساس شرعي ،و عليٌ يستعد لقهر الملكية التي تزاحم الجمهورية
السلمية لتقضي عليها" (. )2
ولما استقر الحال بين علي و عبدال بن وهب على الحال الذي ذكره التاريخ ،و فشا ذلك في الجانب النهرواني ،
حزْمَ انحيازهم ،و زالت
سرّحُوا خيولهم ،و َفكّوا َ
خرج الكثرية إلى لقاء إخوانهم ،و زيارة أهلهم و أخصائهم ،و َ
من وجوههم َد ْه َمةَ الستعداد للوغاء ،و أشرقت بنور القبال و الستعداد للمصالحة للمام الهاشمي أبي
الحسنين ،و عاد الخاء يلمع في أفق النهروانيين ،و وضعوا سلحهم ،و تفرق جندهم ،فاختلطوا بأقاربهم و
إخوانهم ،راجين جمع الشمل تحت راية عادلة ،سواء كان المام علي أو عبدال بن وهب .
و زالت الهواجس إذ كل واحد ممن عند عبدال بن وهب فأخوه و ابن عمه و قريبه عند المام علي ،و أمنت
النفوس المتخوفة ،التي كانت تحت النباء المتقدة ،ل ترجو إل السيف ،و ل تنتظر إل الجيش ،و المؤمن
بطبيعة الحال ينحني على أخيه ،و ينعطف عليه ،و يحبه و يخضع له مع الحقّ ،و يأويه و يفرح بإقباله عليه
راضياً ]256[ ،ل سيما إذ كان بينهم سابق اتحاد ،فأزاله الجفاء ،فإذا عاد الصفاء فقد أسرع بالقوم اللتفاف
نحو بعضهم بعضاً ،كهذا الحال الذي جاء به المام الن .
فذهب الحذر الذي يمنع من اختلط الجيوش ،فهؤلء النهروانيون مسرورون برجوع المام إليهم ،للمفاهمة
فيما بينهم ،و لم يكن بينهم سابق شر فيخشون غدراً ،أو خداعاً ،أو شيئاً مما ينبغي الحذر من أجله ،بل
يعهدون أنهم و علياً أعداء معاوية ،و ما خرجوا عن علي إل عندما َكفّ عن الحرب ،و علق المر بيد الحكمين
،بعدما كان هو الحكم العدل ،و المير المجمع على إمارته ،و لم يظنوا أن جيش المام حنق عليهم ،يضمر لهم
سوءاً ،أيُهم بغدرهم .
و إذا بالجيش جامع عزمه على قتل هذه العصابة في سبيل نيل الرئاسة التابعة لمعاوية ،المجاهدة من أجله ل
ط َرةٍ ،قد ل يرى النجاة منها ،ف ِإمّا أن يقتل فيستريح
من أجل علي ،بل هي هَا ّمةٌ ليقاع علي المام في هِ ْوةٍ خَ ِ
منه معاوية ،و يكون المر كله إليه كما قرر الحكمان ،و ِإمّا أن تقتل هذه العصابة ،و على القل أن يكون قتلها
ضعف لعلي و تأخر في أموره ،و كل المرين مراد ،و قد يغدر أخ بأخيه إذا لم يكن مانع ديني كما قلنا عنه في
" نفحات الظهر" ،و المرء قد يغره مختدع له أخوه ،و به قد يبتلى .
و بذلك الطمئنان الذي رسخ في قلوب عبدال بن وهب و أصحابه لم يبق إل أن يتحرك موكب المام علي ،و
يتقدم الركب المبشرون عنه ذاهباً إلى معسكر عبدال بن وهب الراسبي ،فيجتمع بأصدقائه القدماء ،و يعطف
ضمّ خاصته المخلصة إلى جانبه ،و قد تفاءل الحنف بن قيس و خاصة المام بالعتذار قلوبهم إليه ،و َي ُ
المخلصة بهذا العمل ،و استبشر الصفياء من جند علي بهذا الفتح المبين الذي كانوا تأثروا به .
أمّا الشعث بن قيس وهو كما قال العلمة أبو مسلم " :و أشعث شيطان ألد كفور " ،فهو و أهل طاعته في
جيش المام علي ،و هم الكثرون ومعهم رؤساء القبائل الذين لم يرسخ اليمان في قلوبهم ،و لم يعبدوا إل
الدّنيا ،و جماهير الجند معهم تتبعهم ،قد ارتاعوا من مفاوضات الصلح ،و ما توصل إليه المام من نتيجة
حسنةً مع عبدال بن وهب ،و رأت تلك الجمهورية عبدال و علياً يوشك أن يكونا يداً واحدة على معاوية وحزبه
.
فألى الشعث و أصحابه أن يحولوا بين الجهتين ،لذا حاكا هنا الدسيس الفاسد دون وقوع ذلك الصلح ،حيث
يرونه شؤماً على معاوية ومقاصده ،فهم في المقام حسدوا علياً بالتفاق مع القوم ،و حسدوا النهروانيين أن
يكون لهم صوت عالٍ عند علي بن أبي طالب ،و حسدوا السلم أن يكونوا له نصراً و استقامة .
===================
( )1كتاب السير للشماخي( )1/51وتاريخ المغرب الكبير()2/359
( )2انظر تاريخ المغرب الكبير ()360-359 /2
و لعل هؤلء على القل أن يحوزوا كلمة المام ،و يكونوا محل رضاه في أموره التي هم يسيطرون عليها ،و
تقدموا أن يوقعوا المام في حرب مع أهل [ ]258النهروان ،فكان ما أرادت تلك البطانة الخاطئة بطانة معاوية .
شمّاخي ( – )2رحمهما ال -مفاوضات الصلح التي أجراها سفراء علي مع و لقد أورد ال َبرّادِي ( )1و ال ّ
عبدال ،و تردد قيس بن سعد بن عبادة بين الطرفيين ،و إرسال علي له ثلث مرات لما يرجوه و يرغب فيه
من إصلح ذات البَ ْينِ .
وهذا دليل على أن علياً لم يقصد الحرب لما ذهب إلى النهروان ،و إنما قصد الصلح والتراجع ،و ضم عبدال
بن وهب وقوته الحربية الكبرى الشديدة على معاوية و أعوانه ،لن عداء علي كان يتجه إلى معاوية ،و إذا
تعب علي في شيء ففي كف الشعث بن قيس وحزبه من دعاة الفتنة ،الذين يدعونه إلى حرب عبدال بن وهب
ج ّردَ لقتال المسلمين ،
الراسبي و عصابته الطاهرة ،التي تتألم على هوان الحقّ ،و ذِّلهِ في صالح عدوه ،الذي تَ َ
و لم يبال بسفك دماء المؤمنين ،في سبيل أن يكون أمير المؤمنين" (. )3
و ما زال علي يحاول[ ]259أن ل تقع فتنة بينه و بين إخوانه ،و لكن أعدائه بخلف ذلك إِلّ ما شاء ال ،إذ هم
دعاة و عباد الطماع يدعونه لحرب أهل النهروان ،لما يعتقدونه فيه يعتقدون مثله أو أشد منه فيهم ،وما
يرجونه من معاوية ل يرجونه من علي ،و من أهل النهروان من باب أولى ؛ َلنّ أولئك ل يرون الحقّ الناصع ،
و العدل الكامل في المة أين كانت ،ويراوغون علياً على حرب هؤلء ،و يخلقون له فيهم أحوالً هم بريئون
منها ،ويريدون منه أن يوقع بهم شراً ،و يضمرون لهم غدراً تبعاً للشيطان الذي ُيسَوّلُ لهم .
ع ّمنْ إرتضاه صحّ و ثَ َبتَ أَنّهم لم يرتكبوا أمراً يوجب إل أنهم رفضوا التحكيم ،و فروا عن مقتضاه ،وتباعدوا َ
و َ
،و بايعوا إماماً لهم يرومون به إحياء القضايا الدينية التي قاموا من أجلها على عثمان بالمس حتى قتل ،و
بعده بايعوا علياً إماماً لهم بيعة علنية شاهرة أجمعوا عليها على مقتضى أوامر الكتاب و السنة ،و لما رأوا َب ْذرَ
الشّقَاقِ وقع في الميدان الذي هم فيه توقعوا فساد الدّين منه فل جرم إذا فروا بدينهم ،و أرادوا إماماً لهم
يحملهم على أوامر الكتاب و السنة ،فيميت البدعة ،و يقيم الحق على أعمدة اليمان ،ويسير بالناس سيرة
الخليفتين السابقين ،فهل هذا جرم أو ذنب ؟؟ ،بعدما خلع إمامهم نفسه ،و ترك إمامته في يد الحكمين ،و بقي
ينتظرها هل تعود إليه أم ل؟ ،فلم تعد بل عادت على معاوية تؤيد جريمته في المة ]260[،و تجمع له ما تَ َفرّقَ
بها .
و هناك فريق غَطّ الجهل على عينيه فأعماها ،و غلب الهوى على قلبه فستهواه َ ،فضّلَ الطريق ،ولم يكفه أن
سلك الجادة السوية راضياً بها سيراً إلى الغاية الرّوحية ،بل ضَلّ ينسب إلى الحقّ كل رذيلة ،و يسلب عنهم كل
فضيلة ،ليكون مقبولً عند القوم الذين عاثوا في أرض ال فساداً .
حطّ من فكان بعض المؤرخين الذين يظلمون التاريخ في سبيل رضى الغير ،ينقلون المفتعلت التي من شأنها ال َ
شرف القوم ،غير مراقبين أن للكون مكوّنا قادراً عالماً سميعاً بصيراً ،و للرعية راعياً صالحاً مالكاً عادلً ،
س َنةً ُيضَاعِفْهَا وَيُ ْؤتِ مِن ّلدُ ْنهُ
ح َ
عتيداً من كل أحد ،عالماً بكل ما كان ،و ما يكون " ،لَ َيظْلِمُ مِثْقَالَ َذ ّرةٍ َوإِن َتكُ َ
جرًا عَظِيمًا " (. )4
أَ ْ
فظل هؤلء الكاتبون الذين أخذت عواطف العصبية و الظلم منهم مأخذها ،يكتبون حتى ما تتقول به العامة التي
هي أتباع كل ناعق ،الذين يملون مع كل ريح ،لم يستضيئوا بنور اليمان ،و جهلوا أن الناقد بصير .
فكان فيهم من يستولي عليه الحمق ،والغضب ،و قصر النظر ،و يتقد حماساً على أهل الحقّ ،و ليس هو الحجة
في شيء ما ِمنْ أمور الدّين ،فيسترسل فيما يكتب ،فيعلل حوادث النهروان بما يأباه المنطق الصحيح ،و ما
ينكره العقل السليم من الهوى ،و يعكس النصوص الصريحة الصحيحة فيضع فيما يكتب من الفك والبهتان ما ل
يرضاه ال و ل رسوله ،و ل الدّين ،و ل المروءة ،فيضع رجال الحقّ في غير موضعهم اللئق بهم ،و ينسب
إليهم غير الواجب فيهم ،و ل يحترس من التورط في أهل ا ل و خاصته ،ويتبع غير سبيل المؤمنين ]261[.
فتارة َي ْرمُونَ النهروانيين بما ل يقبله العقل ،و تارة ينسبون إلى علي بن أبي طالب الغدر والخيانة ،فيقولون
أنه " .:واعد القوم عبدال بن وهب و أصحابه بإتيانه إليهم ليعتذر إليهم و يصالحهم ليأمنوا فيفرقوا جيشهم
ولو كان علي بن أبي طالب ممن يرضى بالغدر والخيانة ،و استعمال المكائد لخصومه لكان منع معاوية و جيشه
الذي خرج لقتاله في صفين ،و كان علي سبق على الماء ،و كان قادراً على منعهم إذ استولى هو على النهر ،
وقد ألحّ عليه أصحابه أن يمنعهم الماء ،و يهجم عليهم و قد قيدهم العطش ،فيأخذهم قبضاً باليادي فل يحتاج
إلى حرب معهم ،فقال لهم " :ل وال ،ل أكافئهم بمثل فعلهم -و كانوا فعلوا ذلك معه ،فكشفهم السيف ،
فأفسحوا لهم عن بعض الشريعة -ففي حد السيف ما يغنى " (. )5
هذه هي نفس علي في حروبه ،فانظروا في هذه العزيمة الكبيرة و النفس القوية ،التي ل ترى للرجال قيمة في
الحرب ،و ل تعد الحياة إل عند سقي السيف من دماء البطال ،إن علياً تعرف شجاعته من حروبه ،و مواقفه
في الجهاد ،و في غزواته المتعددة ،فلله دره .
ل نظلم الناس بالهواء حقهم ،و ل نبال بقدح الخائر الشر .
فعليٌ من صناديد الرّجال الذين دَوّخُوا الكفر ،و دَكّوا صروح الباطل ،إل [ ]262أنّا ل نقول فيه ما قالت
الشيعة ،فإنّ الدّين وراءه دَيّانٌ بصيرٌ بحقوق المصير .
و ل يكيد علي بن أبي طالب كيد الضعفاء ،لكنه إذا حارب كان على أسلوب الشجعان ،ومن هذا تعلم أن بعض
الكاتبين ل يتقيدون بحقوق الدّين ،و ل يبالون بالقوال أين يضعونها من النّاس !!.
صحّ َأنّ علياً لم يكن راغباً ،و ل عازماً ،على حرب عبدال بن وهب ،و من ينسب إليه عزمه على ذلك يظلمه ، َ
ِإنّ علياً كان عالماً كبيراً ،و ديناً شهيراً ،و يعلم أن عبدال بن وهب و أصحابه قاموا بواجب ديني ،فعلى أي
شيء يقاتلهم ؟ ،ألكونهم بايعوا إماماً بحق؟! ،ل يرضى علي بذلك .
شكّ َأنّ المرء في المحنة عَيّ ،فعلي بقي نادماً فيما فعل ،حائراً في المصير ،أهمه أمر المة ،و أهمه أمر
ول َ
مصيره ،و أهمه ظلم معاوية ،و كان صادقاً فيما أبلغه سفيره قيس بن سعد عن عبدال بن وهب من إتيانه
إليهم للمصالحة و العتذار ،و ما كان لعلي و هو عََلمٌ في الدّين ،وَ م ّمنْ يضرب به المثل في الورع و التقوى
أن َيخِيسَ ( )6بوعده ،و يكذب في قوله ،و يهجم على المن في مأمنه ،وقد وثق بعهده ،و اطمئن إليه ،
فألقى سلحه ،و َفرّقَ جنده ،و اختلط جيشه بجيش عدوه .
" إنّ الذين يصفون علياً بالكيد لعبدال فَ َفرّقَ جيشه ،يصفون عبدال بأنه مغرورٌ في سذاجة الغفلة ،و هو من
ال ّدهَاةِ الذين لهم ضياء العقول الحية الواعية ،فهو وأصحابه دهاة أذكياء يتبينون الخفايا الخفية من وراء
ستارها ،و ينتبهون لدقائق التي ل تبين لغيرهم ،و ما كان لقيس بن سعد و الدهى منه أن يداجي عبدال بن
وهب وصحبه فيلبس غير لباسه ،ويظهر بوجه غير وجهه ،و يبرز [ ]263و يظهر في غير حقيقته ،و ما
كان لقيس و هو من سادات النصار ،و من له المكانة فيهم ،و في صلحه ،و اعتداده بنفسه ،وفي غيرته
على مكانته العالية بين أقرانه في عصره أن يفعل هذا ،فيخادع أناس يشهد هو بفضلهم ،و ينطوي على إجللهم
ج ّرهَا إلى المام ،و إلى أجنحته التي يقدر أن يُحَلّقَ بها على رؤوس
و إكبارهم ،و يراهم قوة كبرى يجب َ
المعادين له ،فل ينبغي أن تخرج هذه القوة الحامية عن المام ،بل يجب أن ترجع عليه ،فتشد عضده وتؤيده .
ِإنّ العوام و الذين ل يحكّمون المنطق في هذه الحوادث قد أراهم الغضب ،و الحمق ،و تحكيم العاطفة في هذه
فلو كان هو المر بالهجوم المشعر بالحرب لَ َفرِحَ بالنصر على العدو الذي رأى قتله واجباً ،و إعداماً فرضاً ،و
لو كان من أقرب القرباء له ،فقد قتل من أقاربه في سبيل نصرة الحقّ من ل يخفى بين أهل العلم ،فكان هنا
كذلك ينبغي على فرض ما قرره المؤرخون الذين ل يهتدون للحق كما ينبغي أن يفرح بالنصر على عدوه عبدال
و صحبه" .
" و كان الشعث بن قيس [ ]264وصحبه من رؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية الداهية ،يتحسرون و
يتألمون لما وصل علي إليه من نتيجة حسنة مع عبدال بن وهب و يقولون في أنفسهم :إن تم له ذلك فلن يبقى
معاوية على كرسيه في الشام .
و عزم علي على المسير إلى عبدال للمصالحة ،فيكونوا يداً واحدة ،فعزم الشعث بن قيس أن يفسد خطة المام
،ويمنع وقوع الصلح المطلوب إن استطاع بكل ما لديه من حيلة ،فيهجم على عبدال بن وهب و يشعل عليهم
حرب ضروساً ،ويجعل المام في المر الواقع الذي ل يستطيع له َمرَداً .
إن أتباع الشعث في جند علي لكثيرون ،و إن السيطرة للشعث في الجند أكثر من سيطرة علي بن أبي طالب .
وإذا رأوا المام أراد أمراً يخالف مقتضى نظرهم زَيّفُوه ،و ا ْنطَوّوْا على خلفه ،و ذلك من ابتلء علي بن أبي
طالب ،ف ِإنّ جنداً هذه صفته ل بد أن يكون نقمة على رئيسه" .
و إن كثيراً من رؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية ،و أملهم المال ،و َبسَطَ لهم من الدّنيا ،و هم رجال
الدنيا ،ل ثمن للدين لديهم ،و معاوية هو كرسي القوم ،و مقتداهم في هذا ،و هم ضباط جيش علي ،و هو
غافل عن أحوالهم ،و قد أحسن بهم الظن ،و جعلهم ظهره و قوته التي يعتمد عليها ،و لم َيدْرِ أن الشعث
يستطيع أن يعلن الحرب بدون إذن المام ؛ لن المر بيده ،و طاعة الجيش إليه ،ويبعث الجند للقتال بغير
طدَ للجند المقام ،ونظر المام إليهم نظرة احترام ،فهو ل يزالمشيئة المام ،وكان [ ]265النصر السابق وَ ّ
يعتقد فيهم ذلك .
======================
( )1جواهر المنتقاة ص 122-119
( )2كتاب السير ()49-48/ 1
( )3تاريخ المغرب الكبير ()361 /2
( )4النساء .40 :
( )5انظر تاريخ المغرب الكبير ()2/361
س خسيساً وخسياناً .:غدر ونكث ( ،القاموس المحيط )543/مادة خ ي س
( )6يقال خاس بالعهد يخي ُ
( )7تاريخ المغرب الكبير()2/362
فاغتنم الشعث بن قيس الفرصة هو وصحبهَ الذين هم على رأيه خاصةَ َأ ْمنَ عبدال ،و تَ َفرّقَ جيشه ،فهجموا
عليه و أحاطوا به ،و تبين له خلف ما كان يظن ،ركب هو و أصحابه الذين كانوا خاصته باقين معه في
المعسكر ينتظرون وصول المام فما شعروا إل وقد دارت الحرب ،وقامت المعركة الرهيبة بين الشعث بن قيس
و الذين اندفعوا بجيش المام ،و عبدال و صحبه المنون المطمئنون بنيل الصلح عند مجيء المام ،و إذا
بالقتلى تتساقط و السيوف تعمل في الرقاب ،و جيش المام كما عرفت فوق سبعين ألفاً فماذا تكون هذه العصابة
القليلة في جيش كالبحر ،فلم تزل القتلى تتساقط من الجانبين ،وتخر على الرض ،و لم يزل المؤمنون يقتلون
و أهل الهواء يلعبون ،و دامت الحرب [ ]266من الغداة إلى الصيل بين إخوان مسلمين ،أخذت يوماً كاملً ،
و لم يملك المام شيئاً " (. )1
و مما يدل على عدم إرادة علي قتل أولئك الرجال لم يدخل الحرب كعادته ،و ل شُ ِهرَ عنه أَنّه قَتَلَ أحداً بيده ،و
لعله قيل له إن القوم بدأوا بالحرب فيظن صدق القائل ،و العهدة عليه ،و لم يعلم هو من أثارها ،فلم يشعر إل
و السيوف على الرؤوس ،و القتلى تهوي على الرض .
جهَ خصمه الجريمة عليه ،فقامت المحاورات و ومن حيث أنه المام القائد و المسئول عما يجنيه جيشه ،وَ ّ
اشتدت المنازعات ،و كل يعد على خصمه البغي عليه ،و لكن لما كان حسب الظاهر أن المنتصر علي عَلّقَ أهل
الهواء على النهروانيين جريمة تلك الحرب ،و أخذوا يضيفون إليهم كل سوداء مظلمة ،ومن طَ ْبعِ النّاسِ هذا
يؤيدون المنتصر ولو لم يكن محقاً ،فيجعلونه المحق المخلص ،و لو انتصر النهروانيون لسمعت القيل والقال
في علي و جيشه .
()2
و هذا الحال فيهم عريق ،و ال يبتلي عباده بما شاء ،و قد ابتلى ال المسلمين بهذه الحوال " ،لّيَ ْهِلكَ َمنْ هَ َلكَ
حيَى َمنْ حَيّ عَن بَيّ َنةٍ " (. )3
عَن بَيّ َنةٍ وَيَ ْ
جبْ أيها العاقل كيف يلعب أهل الهواء ،و يرتكبون الشنائع ،و يفعلون الفاعيل المنكرة و ل يبالون؟!! . فاعْ َ
و لذلك بقي المام حائراً ل يدري من أثار هذه الحرب ،و لم يجئ هو حارباً ،ورسله حجة عليه ،و لم يعلم من
كان السبب فيها ،و لعلها ِمنْ َم َع ّرةِ الجيش .
و عبدال بن وهب و أصحابه كانوا يرتقبون الخير [ ]267بمجيء المام ،و المن ،و الطمئنان ،و اجتماع
الشمل و لَمّ الشعث ،و أن يكون الرأي مداراً بين الجميع ،و الوجهة واحدة وهي الهتمام بأمر معاوية المفرق
لشمل المسلمين ،المستبد بحكم هواه ،القائم على المام علي ليكون سلطاناً على المسلمين ،و لعلمه أن إعطاء
الناس رغبتهم هو الذي يؤيد مقاصده ،كما أشار إلى ذلك بعض أهل الردة ،إذ قال لعمرو بن العاص " إن العرب
ل تطيع لكم على هذا ،فتركوا لهم أموالهم " ،و كان يشير إلى الزكاة .
فمعاوية ل يراعي أحكام الشريعة إل في مصالحه الخاصة أو في ما ل يُخِلّ بسياسته ،فل يزال يراوغ الشريعة
و المعنى أنّا قاتلناهم في الجمل على البغي ،و في صفين أيضا ،و في الدار حتى قُتِلَ عثمان ،فما بالنا الن
نترك الحكم لعمرو بن العاصِ و أبي موسى الشعري ،ونرفض حكم ال عز و جل ،إنها لمصيبة عظيمة ،
ومكيدة فاجرة ،رضي بها المام و قَ ِبلَهَا ،وعاهد القوم عليها ،وخلع إمامته من عنقه ،و رضي أن يحكم له
بها عمرو بن العاص و أبو موسى الشعري ،و هو يعرف الرجلين تمام المعرفة ،ولما خلعاه ،و أثبت عمرو
بن العاص معاوية بن أبي سفيان إماما سَ ّبهُ أبو موسى ،و رَدّ عمرو بن العاص السّبّ عليه ،و رجع علي بن
أبي طالب يطالب بإمامته ،و بالمس رضي بخلعه ظآن أنهما ل يريان غيره ،و ما دري أنها الداهية الدهياء
التي جاءته ،فقال له عبدال بن وهب و أصحابه ل إمامة لك لنك خلعت نفسك ،و ليس لك أن تفعل ذلك ،ثم لم
يردك المسلمون لها ،و إذا أرادوك لها مرة أخرى ،و اتفقوا عليك بعد أن تُ ْعِلنَ توبتك إلى الناس مما وقعت
فيه ،و بقي المام بين هذين الفريقين ،فريق يرى له إمامته و هم الجهلء الذين ل يهتدون لسبيل الحقّ ،و
ج ْرمَاً عظيماً ل يغتفر له إل بالتوبة منه ،و هكذا يكون المبتلى بأمور الناس .
فريق يرونه جارم ُ
و كانت سياسة معاوية بن أبي سفيان جلب ظغام الناس و غوغائهم ليحدثوا الضّجّة []269على المام و من معه
من المسلمين ،و هو السواد العظم الذي ل يعي و ل يعقل إل طاعة رئيسه محقاً كان أو مبطلً .
فترى المام علي جاء إلى إخوانه ليتفق معهم على المصالح ،ويجتمع بهم لعادة اللفة بينهم ،ويلتزم هو و
إياهم كل صالح ،فلم يشعر إل و المسلمون يقتتلون و رحى الحرب تدور بينهم ،و هم بعضهم يقتل بعضاً ،و لم
يملك من المر شيئاً ،و ل تعي الحيلة الشعث بن قيس أن يقول كيت و كيت في سبيل تبرير دعواه ،فلذلك لم
يدخل علي الحرب بنفسه ،و بقي يتأسف على الواقع ،و لعل حاله تقول ما جئنا لهذا ،أو ليت المر على غير
هذا الحال ،ولم يزل يتأسف ويتأفف و يبكي على الواقع ،و يندب إخوانه الميامين الذين أكلت الرض جباههم و
جنوبهم من كثرة الركوع و السجود .
ومما يدلك على خيانة الشعث لمامه و انخداعه لمعاوية ،ما رواه الهمام دبوز في الجزء الثاني من تاريخ
المغرب الكبير ( )6إذ يترجم له بهجوم الشعث بن قيس على عبدال بن وهب الراسبي ،و وقوع مأساة
النهروان ،و ما أوقعه الشعث على أولئك المؤمنين المخلصين التقياء البرياء فقضى عليهم في مأمنهم ،و في
حال اطمئنانهم ،و ظهر أن علياً لم يشارك في قتالهم ،إل أنه المام المسئول عما يفعله جنده ،و لكن الظاهر أن
علياً لم يملك المر ،ولم يعرف كيف ثارت هذه الحرب مع أنه جاء للصطلح ،فهل أثارها النهروانيون عليه ؟،
أم أثيرت عليهم ؟ ،وبقي حائراً ،و المرء في المحنة عي ،و كم وقع مثل هذا [ ]270في جيوش أئمة العدل .
فإن علي بن أبي طالب ندم على قتلهم ،و بكى عليهم ،و ل يعقل أن يبكي على قتل عدوه ،وقد شُ ِهرَ عنه ذلك
عضّ أصابع الندم ،و رآها بلية أحاطت به ،و إنها لمن الدواهي ،و
أي بكاؤه عليهم ،و تأففه على الواقع ،و َ
هنا تحقق أنه ل يستطيع رد جماح معاوية ،إذ هذه الوقعة زادت الطين بله ،و أثقلت كاهل علي ،وعاد إلى
س ِمعَ النوادب للبرار البرياء ،قتلوا على غير شيء في ضحوة من نهار ، الكوفة ،و الفق ُمغْ َبرّ في وجهه ِ ،إذْ َ
و كذلك ترجم دبوز بكيد الشعث لعلي ( ، )1و أثر ذلك في أنصاره بوقعة النهروان ،و افتراق جيشه عليه بعد
الرجوع من النهروان إلى الكوفة ،و ما كان عليه المسلمون مما خرجوا له من نية قتال معاوية و أهل الشام ،و
بعضهم خرج بنية الصلح و المراجعة بين علي و عبدال حتى أشعلها الشعث المتغطرس على المسلمين ،و
أثارها شعواء بين إخوان مؤمنين ،ليستغل رضى معاوية و أهل الشام ،و يكبر في أعينهم ،فيسيطر على
المقاصد ،و يريهم أنه الرجل الوحيد ,و البطل الصنديد ،و الشجاع الفذ الذي إذا قال فعل ،فينال بذلك المكانة
السامية .
و كان المر كما أراد فإن علي بن أبي طالب أدرك الحقيقة ،و علم الغاية ،فلذلك لم يتحرك بعدها إلى معاوية ،و
بقي يوبخ الجند ،و يذمهم و يعلن مغشتهم ،و إن معاوية مطاع في أهل الشام و علي على خلف ذلك في أهل
العراق .
و إذا تحققت َأنّ علياً لم َي ْرضَ بقتل أهل النهروان ،أو لم يأمر به لم تلزمه مهمتهم ،و لم تَعَْلقْ به تلك الجريمة ،
و قد يكون المرء في نيته قاصداً خير []271فل ُيرَى في قصده إل شراً .
وهكذا عليٌ فيما أحسب ،و أما النقل عن المؤرخين فمتباين و متناقض ،و عند كل قوم ما يوافق غرضهم ،و
يلئم دعوتهم ،و ل تلتفت إلى ما ذكره صاحب فتح الباري ( )2و أمثاله ،فإنه مختلطٌ ،مضطربٌ ،يجمع الغَثّ و
السمين ،و إذا تتبعه النسان رآه متناقضاً من جميع نواحيه .
و العجب من مثل هؤلء العلماء الذين ل يستعملون عقولهم ،و ل يشغلون أفكارهم بالنظر إلى ما جاء في
أخبارهم ،فتراهم كمن يحتطب بالليل و يجمع كل ما يلقي .
وقد حاولت تمحيص ما ذكر و مقابلة ما نقل ،فرأيته ضياع وقت ل غير ،و على كل حال إنا نعتبر الرجال بالحقّ
و تأييد كل محق ،و إذا كان صاحب الفتح يكتفي بتلك القوال في العقيدة ويعتمد في الرؤية ذلك الضلل ،فماذا
نقول في حق غيره ؟؟ .
أعني إذا كان مثل هذا العالم في الحديث ل يمحص ما جاء فساداً في العقيدة إذ كان قدحاً في الصفات اللهية ،
و لو أخذوا بمذهب زيد بن عمرو بن نفيل في طلبه الدين لهداهم ال للحقّ المبين ،و لكنهم يأخذون ما وجدوه
لغيرهم تقليداً ،و ل يزنون ذلك بميزان العقل ،و ل يرون نقض ما وجدوه جائزاً ،وإن كان خلف الحق .
و كم في الناس من متنطع يدعي العلم ،و هو منه بعيد ،و يندد بالمسلمين كل تنديد ظاناً أنه العالم الذي يجب أن
تطيعه العوالم ،كمحشي السعاف ( )3الذي ترك الحقّ وراءه ،و جمح إلى ما لم يكن من شؤونه ،فقام يندد [
]272بالباضية ،حتى في همزة وقعت في غير محلها غلطاً ،فندد بأمة مسلمة عظيمة علمته و أشياخه وضع
الهمزة وغيره ،بخليلها بن أحمد الفراهيدي ،كما علمته عروض الشعر به أي الخليل ،و وضعت له سنن الدب
الصحيح بابن دريدها العلمة الفصيح ،فهذا و أمثاله ل يعبأ بهم ،و ل يُعَوّلُ عليهم ،و إن كثروا إل إذا رجعوا
إلى الحقّ و سلكوا سبل الرّشاد ،فلكل درجات مما عملوا ،و ال يتولى من عباده الصالحين .
اعلم أَنّه لمّا رأى معاوية و أحزابه أن الدائرة تدور عليهم ،و رأوا تحقق الغلبة للمام عليهم ،و أنهم إذا وقعوا
في يده أن يحكم فيهم بحكم ال عز و جل ،و تَيقّنُوا إذ ذاك أن ل شام لمعاوية ،و ل مصر لعمرو بن العاص ،
لجأوا إلى المكيدة ،و حقيقتها حيلة إن نفعت ،رأوا أن أهل العراق سريعوا الختلف والفتراق ،وكان عمرو بن
العاص من أدهى العرب ،اخترع رفع المصاحف على الرّماح ،منادياً بها إنّا نحاكمكم على كتاب ال عز و جل ،
فلمّا رأى أهل العراق رفع المصاحف على الرؤوس ،و النداء بالمحاكمة إليها [ ]273اختلفوا عليها بين قائل
ارفعوا السيف فإنهم يناشدونكم حكم كتاب ال ،و ليس لكم الن قتالهم و الحال هذا ،و بين قائل ضعوا السيف
على أعناقهم ،أو يخضعوا للحقّ ،و هل نحن قاتلناهم إل على تركهم حكم ال عز و جل ؟! ،و قد حكم ال تعالى
شأنه فيهم نصاً!! ،و هو قتال الباغي أو يفيء إلى أمر ال تعالى عز و جل .
بهذا وقع الضطراب في جيش المام علي ،و على كل حال ِإنّ المامَ بالجند ،و إذا لم يكن جندٌ فل إمارةً ،و ل
إمامة ً،و ل سلطنةً ،و حينئذ بقي المام بين أمواج هذه الداهية الدهياء ،التي أصيب بها في جيشه ،الذي دَوّخَ
العدو سابقاً .
قال في المامة و السياسة " هزيمة أهل الشام " قال " .:ثم أقبل الشتر جريحاً ،فقال :يا أمير المؤمنين –
يخاطب عليا – خيل كخيل ،و رجال كرجال ،و لنا الفضل إلى ساعتنا " ،هذا يعني أن إلى الن نحن الغالبون ،
فعد مكانك الذي كنت فيه ،فإنما الناس يطلبونك حيث تركوك ،...إلى أن قال " .:فلم يقم لهل الشام صف إل
أهمد حتى أفضى المر إلى معاوية و علي يضرب بسيفه ،و ل يستقبل أحداً إل ولّى عنه ،فدعا معاوية []274
بفرسه لينجوا عليه – أي يهرب – متوقعاً للهزيمة ،و يومئذ استبان ذُلّ أهل الشام ،و رفعوا المصاحف ،ثم
ارتحلوا فاعتصموا بجبل منيف ،و صاحوا ل ترد كتاب ال يا أبا الحسن ،فإنك أولى به منا و أحق من أخذ به ،
فأقبل الشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن ،فقالوا لعلي :ل َت ُردّ ما دعاك القوم إليه ،قد أنصفك
القوم ،و ال لئن لم تقبل هذا منهم ل وفاء معك ،و ل نرمي معك بسهم ،و ل حجر ،و ل نقف معك موقفا " (
)1اهــ .
بنص حروفه ترى فيه التصريح بذل أهل الشام ،و ترى ميلولة ابن الشعث إلى القبول واضحةً سافرةً ،وقد
صرّحَ له بأنه النصاف ،و ليس لك عن النصاف ملجأ ،ثم أكد ذلك باليمين التي صارح بها إمامه ،إذ قال " :
َ
و ال لئن لم تقبل هذا منهم ل وفاء معك ،وزاده و ل نرمي معك بسهم و ل حجر " و ل يخفى عليك أخر قوله :
" و ل نقف معك موقفاً " فهل بعد هذا ِمرْيَة أو شك في غدر الشعث بالمام ؟
س ِمعَ عليٌ قولَ الشعث بن قيس ،ورأى حال الناس قَبِلَ القضية ُم ْرغَماً عليها" ،كما عرفت ،و لم
قال " :فلما َ
يرى ُب ّداً من الخضوع لقوله ،إذ كان مسيطراً على الحركة ،قال " .:وأجاب للصلح " ،قال " .:و قام إلى علي
اناس وهم القراء منهم عبدال بن وهب الراسبي في أناس كثير ،قد اخترطوا سيوفهم ،و وضعوها على
عواتقهم ،فقالوا لعلي :اتْقِ ال فإنك قد أعطيت العهد ،و أخذته منا ،لنفنين أنفسنا أو لنفنين عدّونا ،أو يفئ
إلى أمر ال ،و إنا نراكَ قد ركنت إلى أمر فيه الفرقة و المعصية ل ،و الذلّ في الدنيا ،فانهض بنا إلى عدونا
فلنحاكمه إلى ال بسيوفنا ]275[ ،حتى يحكم ال بيننا و بينهم و هو خير الحاكمين ،ل حكومة الناس " ()2
انتهى .
َفدَلّ هذا أن عبدال بن وهب ،و َمنْ يرى رأيه من أول المر لم يرضوا بالتحكيم ،و رأوه ضللً ،و ناصحوا علياً
المام كما عرفت ،و خَ ّوفُوه ال ،و إنهم عاهدوه على الموت ،أو يفنى العدو ،أو يفتح ال على المسلمين ،ل
طعَناً في
كما قال أعداء الحقّ ،و أعمدة الباطل من أن هؤلء حملوا علياً على قبول التحكيم ،ليجدوا بذلك مَ ْ
هؤلء البطال المؤمنين ،الذين تجردوا لنصرة الحقّ ،و باعوا أنفسهم ل ل يخافون لومة لئم ،فقد أتوا علياً
مخترطي سيوفهم ،يناشدون المام القيام على العدو ،و يذكرونه العهد الذي سبق بينهم على ذلك ،و صارحوه
صحّ ،و ل َي ِقرّ عليه الدّين واليمان ،و استنهضوه للحرب ،و أن هذه المحاكمة فساد ، بأن هذا العمل باطل ل َي ِ
فلم يبق للعقل مجال ،و ل للقول مقام .
ِإنّ هؤلء الغرّ الميامين الذين كانوا يدعون بالقراء أي الزهاد المتجردين ،و العباد المخلصين ،و لذلك لما لم
يجدوا من إمامهم الموافقة على مرادهم ،متأثراً بما سمع من قائده الكبر الذي بيده حركة الجيش الشعث بن
قيس ،لذلك خرج هؤلء الكرام محاولين القيام على عدوهم ،آملين نصرة أهل الحقّ لهم ،متأثرين بما لقوا في
سبيل السير إلى ال ،لم يجدوا الموافقة من إمامهم حتى آيسوا منه ،و هو أولً متقيد بالعهد الذي أعطاه ،ناظراً
إصرار جيشه على عدم القيام معه ،آملً أن يحكم بإثبات إمامته ،فيكون بذلك أرضى جيشه و قائده ،و ما دري
أنها [ ]276المكيدة التي تقضي على دولته .
و إليكم ما قاله عُثْمان بن حُ َنيْف ( )3في القضية " .:أيها الناس اتهموا رأيكم فإِنّا وال قد كنّا مع رسول ال –
صلى ال عليه و آله وسلم – يوم الحديبية ،و لو رأينا قتالً قاتلنا ،و ذلك في الصلح الذي كان بين رسول ال –
صلى ال عليه و آله وسلم – و بين أهل مكة ،فامض على القضية ،و اتهم الصلح " ( ، )4و المعنى أن الحكم
فيه واضح ،و الصلح فيها على القل مستراب ،فامضي على حكم ال فيها ،ثم جاء الشتر و قيس بن سعد
فأنكرا الحكومة ،و هما ممن عرفت مقامهما ،قال " .:و كان أشد الناس على علي فيها قولً " أي كان قولهما
شديد النكار لفعل علي ،قال " .:فكان الذين عملوا في الصلح الشعث بن قيس ،و عدي بن حاتم ،و شريح بن
هاني ،و عمرو بن الحمق ،و زحر بن قيس ،ومن أهل الشام زيد بن أسد ،و مخارق بن الحارث ،و حمزة بن
مالك " .
قال " .:فلمّا رأى ذلك أبو العور قام إلى معاوية فقال :يا أمير المؤمنين ِإنّ القوم لم يجيبوا إلى ما دعوناهم إليه
حتى لم يجدوا من ذلك ُب ّداً ،و إنهم إن ينصرفوا العام يعودوا في قابل في سنة يبرأ فيها الجريح ،و ينسى القتيل ،
وقد أخذت الحرب منا و منهم غير أنهم اختلفوا على علي " (. )5
و لما وافق المام على الحكمين ،و أعطى العهد و الميثاق علي ،و تقرر موعد المحاكمة و مكانها ،و بَ ِقيَ
النظر فيمن يكون حكم المام ،و كذلك معاوية ،وعلى كل حال أنه ل يعدو عمرو بن العاص ،أما علي فقد بقي
النظر بينه و بين الحاملين له ،كما جاء الحديث في التاريخ [ ]277السلمي و غيره .
======================================
( )1المامة والسياسة ()1/111
( )2انظر المرجع السابق
حنَيْف بن وهب النصاري الوسي ( ت بعد 41هـ) أبو عمرو،وال من الصحابة ،شهد أحداً ،وما بعدها ،ووله عمر السواد ،ثم وله علي
( )3عثمان بن ُ
البصرة ،شهد مع علي صفين ،ثم سكن الكوفة وتوفي خلفة معاوية ،العلم ( )3/205
( )4المامة والسياسة ()1/112
( )5انظر المرجع السابق
قال في المامة و السياسة ":ذكروا أن معاوية قال لصحابه حين استقامت المدة – أي تقررت – و لكن لم يسمِ
الحكمان ،حيث كل فريق أصبح مختاراً لحكمه ،قال معاوية َ :منْ ترون علي يختار للمحاكمة " ،قال هذا الكلم
على جهة التخمين ،إذ يعلم أن عند المام رجالً تفوق الرجال " ،قال :فأما نحن – أي معاوية و رهطه –
فصاحبنا عمرو – أي يعرفه أنه لها – قال عتبة بن أبي سفيان :أنت أعلم بعلي منا ،فقال معاوية :إن لعلي
خمسة رجال من ثقاته ،منهم عدي بن حاتم ،و عبدال بن عباس ،و سعد بن قيس ،و شريح بن هاني ،و
الحنف بن قيس ،و أنا أصفهم لك :أما ابن عباس فإنه ل ُيقْوَى عليه ،و أما عدي بن حاتم فيرد عمراً سائلً ،
ويسأله مجيباً ،و أما شريح بن هاني فل يدع لعمرو حياضاً ،وأما الحنف بن قيس فبديهته كرويته ،و أما سعد
بن قيس فلو كان من قريش بايعته العرب ،و مع هذا إن الناس قد َملّوا هذه الحرب ،و لم يرضوا إل رجلً له
تقيّة ،و كل هؤلء ل تقيّة لهم ،و لكن انظروا أين أنتم من رجل من أصحاب النبي – صلى ال عليه و آله وسلم
– تأمنه أهل الشام ،و ترضى به أهل العراق ،فقال عتبة بن أبي سفيان :ذلك أبو موسى الشعري ( " )1هذا
كلم معاوية البطل الداهية ،و لكلمه هذا معان يطول شرحها ،و إنه لخبير بأحوال الرجال ،خبير بسياسة دنياه
خلِقَ َلهُ .
سرٌ ِلمَا ُ
،يرى المور في غيبتها كما هي في ظهورها ،و كُلّ مُ َي ّ
قال " .:ثم تكلم ابن الكواء فقال :يا أمير المؤمنين ،إنك أجبت ال و أجبناك ،و لكنا نقول .:ال بيننا و بينك ،
إن كنت تخشى من أبي موسى عجزاً [ ]279فشرّ من أرسلت الخائن العاجز ،و لست تحتاج من عقله إل إلى
حرفٍ واحدٍ ،أن ل يجعل حقك لغيرك ،فيدرك حاجته منك " ،و في هذا الكلم من ابن الكواء لعلي ما فيه .
قال " .:و ِإنّ معاوية طليقُ السلم ،و ِإنّ أباه رأسُ الحزاب ،و أنه ادعى الخلفة من غير مشورة ،فإن
حرِمَ عليك كلمه ،و إن ا ّدعَى أن عمر و عثمان استعمله فلقد صدق صدقك فقد حَلّ خلعه ،و إن كذبك فقد ُ
ج َرهُ ( )7ما يَ ْك َرهُ " قلت
استعمله عمر ،و هو الولي عليه بمنزلة الطبيب من المريض ،يحميه ما يشتهي ،و يُوْ ّ
:و هذا شأن ابن الخطاب ،و إن استعمل غير الصالحين ،ل يقدرون أن يكونوا غير صالحين ،و ذلك توفيق من
ال عز و جل لبن الخطاب في أعماله و في عماله .
قال " .:ثم استعمله عثمان برأي عمر ،و ما أكثر من استعمل ممن ل يدعي الخلفة ،و اعلم أن لعمرو مع كل
شيء يسرك خبراً يسؤوك ،و مهما نسيت فل تنسى أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر أولً ،و عمر ،و عثمان ,
و إنها بيعة هدى ،و أنه لم يقاتل إل عاضياً ( )8أو ناكثاً ( " )9ففي هذا الكلم من ابن الكواء تحقيق المقام ،و
تبيين للحوال التي عليها المسلمين ،و تنبيه لعلي بن أبي طالب ،و تأنيب في الحقيقة على ما وقع فيه ،و
عمِيَ السمع والبصر . إيضاح لمقاصد معاوية و أعوانه ،و لكن إذا وقع القدر َ
===============================
()1انظر المرجع السابق
( )2سقط من الصل وأتممناها من المامة والسياسة
( )3أخرجه البخاري في ( -64كتاب المخازي -75باب قدوم الشعريين وأهل اليمن ) ( )3/108رقم 4388و ، 4390وأخرجه مسلم في (-1كتاب
اليمان -2 ،باب تفاضل أهل اليمان فيه ،ورجحان أهل اليمن فيه) (71 /1و )73رقم )52(82و ،89وأخرجه أحمد في المسند( )50-7/49رقم
،7201وأخرجه الدارمي في (المقدمة -14باب في وفاة النبي صلى ال عليه وسلم) ( )1/29رقم ، 79وأخرجه البيهقي ( )1/567رقم 1809
وأخرجه أبو عوانة ( )1/63رقم ،170وأخرجه ابن أبي عاصم في الحاد والمثاني ( )4/257رقم 2259و ،2260وأخرجه أبو يعلي( )6/454رقم
3845وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير ص 212رقم ،525وأخرجه أيضاً في مسند الشاميين ( )1/435رقم ،766وأخرجه ابن منده في كتاب
اليمان ( )1/526رقم 433
( )4المامة والسياسة ( )1/113
( )5أخرجه مسلم في (-46كتاب القدر -8باب في المر بالقوة وترك العجز) ( )4/2052رقم )2664( 34وأخرجه ابن ماجه في( المقدمة -10باب
في القدر)ص 13رقم ،79وأخرجه أحمد في المسند( )8/420رقم ، 8777وأخرجه البيهقي( )10/152رقم ،20173وأخرجه الحميدي()2/474
رقم ،1114وأخرجه أبو يعلى الموصلي( )11/124رقم ،6251وأخرجه ابن حبان ( )29-13/28رقم 5721و ،5722وأخرجه أبو نعيم في الحلية (
، )10/296وأخرجه الخطيب في تاريخه()12/113
( )6النفال 60 :
( )7يقال َت َوجّر الماء .:شربه كارهاً ( القاموس المحيط )491/مادة و ج ر ،والمعنى يعامله بما يكره
( )8عاضياً .:مغرقاً ( مختار الصحاح )184/مادة ع ض ا
وإذ ذاك قرروا الجتماع بدومة الجندل ليكون المحل ،بعيد عن الكّلّ ،و قال الحنف بن قيس لعلي بن أبي
طالب " .:يا أمير المؤمنين إن أبا موسى رجل يماني ،و قومه مع معاوية ،فابعثني معه ،فوال ل يَحِلّ لك
عقدة إل عقدت [ ]280لك أخرى أشد منها ،فإن قلت .:إني لست من أصحاب رسول ال – صلى ال عليه وآله
و سلم – فابعث ابن عباس و ابعثني معه " ( )1و هذا كلمٌ دالٌ على أنهم متوقعون الغدر من عمرو بن العاص ،
و هم متطلعون على النوايا ،و يحاذرونها ،و قد بذلوا نصحهم لعلي بن أبي طالب في صددهم ،و لكن الرجل
كان مُ ْغتَراً بما يظنه أنه ل يقبل المسلمون غيره ،و كان هذا الغرور ملزم له منذ وفاة النبي – صلى ال عليه و
آله وسلم – كما ذكرناه ،و لم ينتبه أن للناس سوءاً ضده ،و اعتذر علي في المقام لهؤلء الرجال البطال قائل
ِ " :إنّ النصار و القرّاء أتوني بأبي موسى ،فقالوا ابعث هذا فقد رضيناه و ل نريد سواه " و ِإنّ عذره واهٍ
أوهن من بيت العنكبوت ،هنا تتجلى حيرة علي ،و اضطراب سياسته .
و لما تَ َق ّررَ هذا المر و جئ بالكاتب قال له علي " :اكتب ..بسم ال الرحمن الرحيم ،هذا ما تقاضى عليه علي
بن أبي طالب أمير المؤمنين ،و معاوية بن أبي سفيان ،فقال معاوية :علم قاتلناك إذا كنت أمير المؤمنين؟ ،
حكَ عليٌ ،ثم قال :دعاني رسول ضرّك َ ،فضَ َ
اكتب .:علي بن أبي طالب ،فقال الشعث :اطرح هذا السم فإنه ل َي ّ
ال – صلى ال عليه و سلم – يوم الحديبية حين صده المشركون عن مكة ،فقال .:يا علي اكتب هذا ما تقاضى
عليه محمد رسول ال و مشركو قريش ،فقال سهيل بن عمرو :لقد ظلمناك إذا يا محمد إن قاتلناك و أنت رسول
ال ،و لكن [ ]281اكتب اسمك و اسم أبيك ،فقال – صلى ال عليه و آله وسلم : -اكتب محمد بن عبدال ،و
إني رسول ال .و كنت إذا أمرني رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – بشيء أسرعت ،و إذا قال مشركو
حهَا " أي تلك الكتابة ،فتعاظمني ذلك – أي رأيت ذلك قريش أبطأت به ،و إذا كتبت شيئاً قال نبي ال " :امْ ُ
عظيما – و شق ذلك علي ،فدعا بمقراض فقرضه .
و كتب " .:بسم ال الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان " فكان
المقراض فالً لنقراض المر من يده ،وقد َرضِيَ بانسلخه من إمامته بين الجمهور .
"فقال أبو العور :أو معاوية وعلي ،وقال الشعث ل لعمر ال ،لكن نبدأ بأولهما هجرةً و إيماناً ،و أدنهما من
الغلبة " فكان نسج المكر في المقام ظاهراً ،و علي يتابع وينقاد مقلداً لظنه أنهم ل يريدون غيري ،و يرى المكر
و الخدائع تمشي أمامه ،و ما يقوله الشعث يتبعه المام .
عَل َمهُ فوق العلم " .:قدموا أو أخروا " أي افعلوا ،فإن هذا هنا قال معاوية حين رأى صوته يعلو الصوات و َ
هو مقصدي ،حينئذ تقاضوا على أن علياً و من معه من أهل العراق ،و معاوية و من معه من أهل الشام ،أننا
ننزل عند حكم ال وكتابه ،من فاتحته إلى خاتمته ،ما أحيا القرآن أحييناه ،و ما أمات القرآن أمتناه ،و ما لم
يجد عبدال بن قيس ،وعمرو بن عاص في القرآن حكما بما يجدان في السنة العادلة ،غير المغرقة ،وعلى عليّ
و معاوية ،و تبيعتهما وضع السلح [ ]282إلى انقضاء هذه المدة ،و هي من رمضان -إلى رمضان أي سنة
كاملة هذا تحديدها ، -و على أن عبدال بن قيس و عمرو بن العاص آمنان على دمائهما ،و أموالهما ،و حريمها،
و المة على ذلك أنصار ،و عليهما مثل الذي أخذا أن يقضيا بما في كتاب ال تعالى " (. )2
وإذا كان باغياً عليك و على المسلمين فعلى أي شيء تحاكمه ؟ ،و قد حَ َكمَ ال عز و جل في الباغي أن يقاتل
عزّ وعل ،فأي حكم تريد بعد حكم ال عز شأنه ؟ ،و أي حكم يراه عمرو و أبو موسى حتى يفيء إلى أمر ال َ
بعد حكم ال تعالى ؟ ،وهل قاتلتهم أنت في الجمل وصفين إل على البغي ؟ ،فمالك اليوم ترجع على العقب ؟ ،و
تترك إمامتك التي قلدك ال إياها يتلعب بها الحكمان يوليانك أو يعزلنك؟! ،و قد عزلك فمالك تغضب على
العزل ،و قد رضيت به أمس ،و أعطيت عليه عهد ال و ميثاقه ،ما هذه المور التي تتناقض من أصلها ،و
مالك تجعل معاوية في المامة نظيرك ؟ ،و لم تسبق أبداً له إمامه ،كيف هذا ؟ ،وترى قائدك الشعث يهددك و
أنت كأنك أصم عما يقول؟ ،أين غاب عنك ذو الفقار الذي كنت تقطع به الهامات ؟! إنها أمور غريبة أوقعك أهل
السوء فيها! ،و لم [ ]283تنتبه! .
صحّ َأنّ المرء في المحنة عَيّ ،و إل فما بال علي ذلك المام
وكانت تلك الشروط التي قرروها ل وجه لها ،وقد َ
العََلمُ الهاشمي المحنك يتلعب به مثل هؤلء ،الذين هم دونه بمسافات في كل شيء ،و قد بلغ معاوية من علي
مراده ،و تدهور بناء علي من أساسه ،و أصبح ألعوبة في يد أناس يتصرفون فيه ،و في إمامته كما شاءوا ،
إلى أن قطعوا أجنحته تماماً بقتل النهروانيين ،الذين أنكروا الحكومة ،و لم يرضوا بها ،و رأوها ضللً ،و
راجعوا إمامهم فيها ،و لم يجدوا منه إل إعراضاً عن كلمهم ،و رفضاً لمقالهم ،و المأخوذ غافل ،و ال
المستعان .
و إليك ما حكاه ابن قتيبة في المامة و السياسة قال بعد أن ذكر الشروط التي هي " .:الحكم بما في كتاب ال ،و
إلّ فَ ِبمَا في سنة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – " ،كأنّ حكم هذه القضية لم ينزل في القرآن ،و قد
نزل ،و عملوا به في الجمل و صفين ،و ها هو اليوم يُلتمس .
قال " .:و عليهما أن ل يؤخرا أمرهما إلى ما يتجاوز هذه المدة ،فإن أحبا أن يقول قبل انقضاءها فلهما أن يقول
عن تراضٍ منها ،على أن يرجع أهل العراق ،إلى العراق و أهل الشام إلى الشام ،فيكون الجتماع إلى دومة
الجندل ،فإن رضيا أن يجتمعا بغيرها فلهما ذلك ،و لهما أن ل يحضرهما إل من أحبّا ،و ل يشهدا إل من أرادا ،
و هؤلء النفر من أهل العراق و أهل الشام ضامنون بالوفاء إلى هذه المدة ،فكتب أهل العراق بهذا كتاباً لهل
الشام ،و كتب أهل الشام بهذا كتاباً لهل العراق [ ]284بخط عمرو بن عبادة كاتب معاوية ،و شهد شهود أهل
الشام على أهل العراق ،كما شهد شهود أهل العراق على أهل الشام " قلت :ذلك لتوثيق الرباط ،و إحكام
الحيلة المنسوجة ،ويتم النجاح من جميع جهاته في صالح معاوية .
==================================
( )1المرجع السابق ()1/114
( )2المرجع السابق ()115-144 /1
قال " .:فلما كتب الكتابان أقبل رجل من بني يشكر على فرس له أبلق ،حتى وقف على مكان بين الصفين فقال :
يا عليّ أكفر بعد إسلم ؟ ،و نقض بعد توكيد ؟ ،و ردة بعد معرفة ؟ أنا بريء من صحيفتيكما ،و ممن َأ َقرّ بها
ح ّذرُهُ ":إِنّك قد ُنصّبْتَ لمر عظيم ل يُجبر صدعه ،و ل تستقال فلتته ،و
وقال شريح بن هاني لبي موسى ُي ً
مهما تقل من شيء لك أو عليك يثبت حقه و يزيل باطله " ،و في نهج البلغة " يثبت حقه و يرى صحته و إن
كان باطل" " ،إنه ل بقاء لهل العراق إن ملكها معاوية ،و ل بأس بأهل الشام إن ملكها علي ،فانظر في [
]285ذلك نظر من يعرف هذا المر حقاً " ( )2اهـ .
ثم قال له " .:إنك تجمع بذلك دنيا و أخرى " ،قلت :و أين أبو موسى من ذلك الداهية العظيم ،يحمله تحت إبطه
و ل يدري!! .
قال " .:و إذا لقيت عمرو غداً فل تبادره بالسلم ،فليس من أهله " ،أي ل تبتدئه تجليلً فليس هو بأهل لن
يجلل ،لكن أين عقل أبي موسى بالنسبة إلى عمرو بن العاص! ،و هو يماني! ،و قد شُ ِهرَ أهل اليمن بخفة
العقول و رقتها!! .
قال " .:ول تعطه يدك ،فإنها أمانة ،و إياك أن يقعدك على صدر الفراش ،فإنها خدعة " قال " .:و ل تلقه إل
وحده " أي لن من معه يشهد على ما يقع بينكما من حوار فيثبت عليك حجة .
قال " .:و إيّاك أن يُكَّل َمكَ في بيتٍ فيه مخدع يخبأ لك فيه رجالً ،و إن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي ،
فخيره أن يختار أهل العراق من قريش أهل الشام من شاءوا ،فإنهم إن يولوا الخيار يختاروا من يريدون ،فإن
أبى فليختر أهل الشام من قريش أهل العراق من شاءوا ،فإن فعلوا كان المر بينناً " ( )3هذه سياسة سيد
تميم ،وإنها لبالغة لو صادفت َقبُولً]286[.
وقال معاوية لعمرو بن العاص " .:إن أهل العراق أكرهوا علياً على أبي موسى " ،فيه أن علياً ما كان راضي ًا
بأبي موسى و لكن أُ ْك ِرهَ عليه ،أي أكرهه عليه الذين لهم أغراض سيئة في علي بن أبي طالب و قد عرفتهم .
قال معاوية " .:أما أنا وأهل الشام فقد رضينا بك " ،قلت :نعم لقد رضوا بعمرو إذ كانت العملية على المور
الدنيوية.
و العجب كل العجب ِإنّ أصل الخلف الذي دخل به معاوية على المسلمين هو الطلب بدم عثمان ،ثم انقلب هنا
بشأن الخلفة ،و أصبح الميزان يزن قدر علي و معاوية ،و لم تكن بينهما نسبة في الصل ،فأصبح معاوية
يقسم المسلمين شطرين ،فيرجح شطره ،ويقضي على المام بما له من دهاء ومكر .
قال معاوية لعمرو " :و أرجوا في دفع هذه الحرب خصالً :قوة لهل الشام ،وفرقة لهل العراق " ،و هذا من
أعظم الفجور ،حيث يرجوا معاوية فرقت المسلمين لصالح دنياه ،والقاعدة أن المؤمن يحب لخيه ما يحبه
قال " .:و إمداداً لهل اليمن " أي حيث منهم أبو موسى يريد أن يخدعهم بمعسول الكلم .
قال " .:وقد ضُمّ إليك رجل طويل اللسان ،قصير الرأي " ،أي عنده كلم طويل لكن ل فائدة فيه ،و ل ثمرة له ،
فكان كما قال معاوية .
".:فدعه يقل فإذا هو قال فاصمت " أي قدمه في الكلم ،فتخدعه بذلك أي حيث يراك تجلله يسلس قيادة لك .
قال " .:و اعلم أن حسن الرأي زيادة في العقل ،إن خَ ّو َفكَ العراق فَخ ّو ْفهُ بالشام ،و إن خَ ّو َفكَ مصر َفخَ ّو ْفهُ
باليمن ،و إن خَ ّو ْفكَ علياً فَخَ ّو ْفهُ بمعاوية " (. )4
قال عمرو " .:يا أمير المؤمنين ،أقلل الهتمام [ ]287بما قبلي ،و أرج ال فيما وجهتني له " ،أي ل تهتم من
قبلي فإني أدرى منك بهذه الحوال ،و هل مكيدة رفع المصاحف إل منه ،فكان السبب الوحيد لفشل علي و تأييد
معاوية ،و كما تراه يخاطبه بأمير المؤمنين في هذا الحال.
قال عمرو لمعاوية " :إنك من أمرك على مثل حد السيف " فكان يخوفه و يُ ْقلِ ُقهُ لتعظم مِنّ َتهُ عليه ،ثم قال له.:
" لم تنل في حربك ما رجوت ،ولن تأمن ما خفت " ،ففي هذا تأنيب لمعاوية ،وغرس لشجر المتنان الذي
يغرسه عمرو الن لمعاوية " ،ثم قال له " .:ونحن نرجوا أن يصنع ال لك خيراً " ثم َد ّقهُ أيضا دَقاً آخر ليلين
من صفاته ،و يهز من كيانه ،فقال " .:وقد ذكرت لبي موسى ديناً ،و ِإنّ الدّين منصور ،أرأيت إن ذكر علياً ،و
جاءنا بالسلم ،و الهجر و اجتماع الناس عليه ما أقول ؟ " و فيه العتراف بأن إمامة علي أجمع المسلمون
ع ّيرَهُ بالسلم والهجرة ،فعند هذا لم يجد معاوية جواباً لعمرو يقوله في مقابلة تلك الخصال ،فقال عليها ،و َ
له " .:قل ما تريد وترى " .
قال " فانصرف عمرو إلى منزله ،فقال لصحابه :هل ترون ما أراد معاوية من تصغير أبي موسى؟ ،قالوا :
ل ،قال :عرف أني خادعه غداً ".
ح ّرضَ صاحبه لتكون له الغلبة على الدّنْيَا ،ومنهم شرحبيل بن الصمت يحرض عمرو بن
وقام كل فريق يُ َ
العاص ،و تهافت الناس على هذا حين تحققوا المر أنه ل بد منه ،و أيقنوا أن المر زائل عن علي ،و قرائن
الحوال تعبر عن ذلك ،فكان [ ]288المر كم توقعه الناس ،وسوف ترى تحقيق ذلك .
==============================
( )1المرجع السابق ()1/115
( )2المرجع السابق ()1/115
( )3المامة والسياسة ()1/116
( )4المرجع السابق ()1/116
جهَ أبو موسى إلى دومة الجندل و معه أفراد من الناس ،وسار عمرو بن العاص معه جند من قومه يكفي تَوَ ّ
لتنفيذ الخطة التي يسعى إليها ،وهذه أول الحوال المخالفة للموضوع ،لو كان أبو موسى ممن له الدراية في
مثل هذه المور ،و لكنه لمر ما أريد ،و َرضِيَ عليٌ أن يسمع ما يقول الحكمان يعزلنه أو يوليانه ،و رضخ
على ذلك ليحييا ما أحيا القرآن!! ،و يميتا ما أمات القرآن!! ،و هل القرآن إل سواد على ورق؟! ،إنما تحي
ذلك و تميته سيوف المسلمين! ،و قد أخبرك القرآن عما تفعل! ،فهل فعلت ؟ ،أم تنتظر أن يفعل لك المسلمون
الذين توغّرت قلوبهم و تألمت أذهانهم مما وافقت عليه؟! ،و ذو الفقار في يدك! ،ما تنتظر إل انتصار عدوك و
رفضك!! .
ولما حضر الحكماي بدومة الجندل ،وهو مكان منعزل عن بيئة الطرفين ،وحضر من حضر من العرب يستمعون
قول الحكمين ،وماذا يفعلن في شيء حكم فيه القرآن ،و نفذ حكمه على العيان من بني النسان ،و َنصّ
عليه سيد آل عدنان " ،و لما التقيا استقبل عمرو أبا موسى ،فأعطاه يده ،و ضم عمرو أبا موسى إلى صدره
خداعاً و مكراً ،يصطاد به الرجل اليماني .
ثم قال " .:يا أخي قَ ّبحَ الُ َأمْراً َفرّقَ بيننا " ،ثم أقعد أبا موسى على صدر الفراش ،و أقبل عليه بوجهه" ،و
كانت هذه الحوال هي التي نبّهه [ ]289عليها الحنف بن قيس ،فلم ينتبه ،و كأن الحنف يقرأها من صحيفة
وجه عمرو ،و الحنف من دهاة العرب .
وما زال عمرو يفعل بأبي موسى هكذا "،و ما زال يلتقيان على هذا الحال ،و بقي الناس منتظرين أمر الرجلين
حتى ملوا ،و حتى اطمئن أبو موسى إلى عمرو ،و سكنت إليه نفسه ،و كان أبو موسى عند عمرو آلة يقلّبها
كيف شاء ،حتى إذا رأى التمكن منه ،و الطمئنان إليه ،و أقبل الشعث بن قيس ،و كان ِمنْ أحرص الناس على
إتمام الصلح ،و الراحة من الحرب ،فقال " :يا هذان ،إنّا قد َك ِرهْنَا الحرب فل َت ّر َدهَا إلينا ،فإنها ُمرّة الرضاع و
الفطام ،فَكُفّاهَا بما شئتما " ،و كل فريقين في همة استقبال شر ،و أقبل سعيد بن قيس ،و كان من أصحاب
علي بن أبي طالب فقال " :أيها الرجلن ،إني أراكما أبطأتما بهذا المر ،حتى أيس القوم منكما ،فإن كنتما
اجتمعتما على خير فأظهراه للناس ،نسمعه و نشهد عليه ،و إن كنتما لم تجتمعا رجعنا إلى الحرب " .
فقال أبو موسى " :أما معاوية فليس بأشرف في قريش من علي! ،و لو كان هذا المر على شرف الجاهلية
كان أخوال ذي أصبح " ( ]290[ )1و في رواية " لو كان الشرف حجة في هذا المر لكان أحق الناس بهذا
المر أَ ْب َرهَة بن الصباح ،و لكني أرى وترى " ،و كان هذا كلماً حازماً تل ّقهُ عمرو من أبي موسى ،و باعده به
أبو موسى .
ثم غدا عليه بعد ذلك فقال " :يا أبى موسى إن قال قائل إن معاوية من الطلقاء ،و إن أباه رأس الحزاب ،لم
صدَقَ ،و إذا قال إن علياً آوى قتلة عثمان ،و قتل أنصاره يوم الجمل ،و برز
يبايعه المهاجرون والنصار فقد َ
على أهل الشام بصفين فقد صدق ،وفينا وفيكم بقية .
و إن عادت الحرب ذهب ما بقي ،فهل لك أن تخلعهما جميعاً ،و تجعل المر لعبد ال بن عمر بن الخطاب ،فقد
فقال أبو موسى " :جزاك ال بنصيحتك خيراً " ،و كان أبو موسى ل يعدل بعبدال بن عمر أحداً " (. )2
فجاءه من حيث يحب ليلين عريكته لمكان عبدال بن عمر من رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و
مكانه من أبيه ،لفضل عبدال في نفسه ،ثم افترقا على ذلك .
وهنا أقام خديعته ممهداً لها تمهيداً تاماً ،حيث وافق أبو موسى على استخلف عبدال بن عمر ،و ما بَ ِقيَ إل
النداء بخلع الرجلين معاوية وعلي ،و اجتمع رأي الحكمين على ذلك .
" ثم ِإنّ عمراً غدا على أبي موسى بالغد ،و معه جماعة كشهود بينهما ،يَطِّلعُونَ على ما يقال وما يكتب ،و لما
اجتمعا قال عمرو لبي موسى " :ناشدتك ال من أحق بهذا المر ،من أوفى ،أو من غدر ؟ " قال أبو موسى :
" من أوفى ، ]291[ " ،قال عمرو " :يا أبا موسى نشدتك ال تعالى .:ما تقول في عثمان ؟ " ،قال أبو موسى
" :قتل مظلوماً " ،قال عمرو " :فما الحكم فيمن قتل ؟ " قال أبو موسى " :يقتل بكتاب ال تعالى " قال " :
جعَلْنَا
ظلُومًا فَ َقدْ َ
فمن يقتله؟ " ،قال " :أولياء عثمان " ،قال " :ف ِإنّ ال يقول في كتابه العزيز َ " :ومَن قُ ِتلَ مَ ْ
لِوَِل ّيهِ سُ ْلطَانًا " ( ، )3قال " :فهل تعلم أن معاوية من أولياء عثمان ؟ " ،قال " :نعم " ،قال عمرو للقوم
الحاضرين معهما " :اشهدوا " ،قال أبو موسى للقوم " :اشهدوا " َفشَ ِهدَ القوم على مقالهما .
فانظر في دهاء عمرو بن العاص و غباوة أبي موسى ،حيث أخرجه عمرو عن الموضوع الذي هما بصدده ،و
ألزمه ما لم يلزمه ،فإنه ألزمه دم عثمان ،فاعترف أبو موسى به ظلماً ،فقد ظلم أبو موسى الصحابة كلهم ،و
فيهم علي بن أبي طالب و آل علي ،حيث ِإنّ الصحابة اشتركوا في قتل عثمان ،أكثر من مئة ألف رجل ،إذ
منهم القاتل ،و منهم المر ،ومنهم الراضي ،وبهذا أصح أبو موسى عمرو بن العاص في القضية .
ثم قال أبو موسى لعمرو " :قم يا عمرو وصرح بما اجتمع عليه رأينا ،و ما اتفقنا عليه " ،فقال عمرو -و هو
الداهية الدهياء " : -سبحان ال أقوم قبلك وقد َق ّد َمكَ ال تعالى قبلي في اليمان و الهجرة ،و أنت وافد أهل
اليمن إلى رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ،و وافد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – إليهم ،و
بك هداهم ال و عرفهم شرائع دينه ،و سنة نبيه – صلى ال عليه و آله وسلم ، -و صاحب مغانم أبي بكر
وعمر – رضي ال عنهما ، -و لكن قم أنت [ ]292فقل ثم أقوم فأقول " (. )3
ح َرهُ بها عمرو ،وقد خَبّأ تحتها دسيسته المقصودة بالذات .
فقام أبو موسى مسروراً بتلك الشادة التي سَ َ
فقام أبو موسى بيمانيته !! فحمد ال و أثنى عليه ثم قال " :أيها الناس إن خير الناس للناس خيرهم لنفسه ،و
إني ل أملك ديني بصلح غيري ،إن هذه الفتنة قد أكلت العرب ،و إني رأيت و عمراً أن نخلع علياً و معاوية ،
و نجعلها – أي المارة – لعبدال بن عمرو فإنه لم يبسط في هذه الحرب يداً و ل لساناً " .
====================================
( )1المرجع السابق ()1/117
( )2المرجع السابق ()1/118
( )3السراء 33:
( )4المامة والسياسة ()1/118
ثم قام عمرو و كان قد هيأ قنبلته الكبرى! فقال ":أيها الناس هذا أبو موسى ،و هو شيخ المسلمين َقدَماً ،و هو
حَ َكمُ أهل العراق ،و من ل يبيع الدين بالدنيا ،و قد خلع عليا و أنا أثبت معاوية " و في رواية " وقد خلعته كما
خلعه و أثبت معاوية " (. )1
فاعجب أيها العاقل من هذا الحال الذي يقع بين صفوة المسلمين ،وهم من يعلم كل أحد مقامهم ،إن معاوية لم
يكن في حال إماماً مقارناً لعلي بن أبي طالب في إمامته ،و كيف تثبت إمامة رجل لم يجتمع أهل الحل والعقد
عليه ،و تبطل إمامة من اجتمعت على إمامته المة الراشدة !!!!
فأين العقول ذهبت ؟! ،و علي في بيته تحت نظر هذين الرجلين يوليانه أو يوليان غيره ،و لو وافق عمرو بن
العاص لبي موسى لكانا وليا عبدال بن عمر ،فماذا يقول علي وقد رضي بحكمها ،و هل له بعد هذا الحال أن
يقول إنه باقٍ على إمامته .
إِنّها و أيم ال لمزلت عظيمة ،ثم كانت الطامة الكبرى في قتال البرياء الذين َفرّوا بدينهم.
عند هذا الحال قال أبو موسى لعمرو بن العاص " :ما لك؟ عليك [ ]293لعنة ال! ما أنت إل كمثل الكلب تلهث.
" فقال عمرو بن العاص ":لكنك مثل الحمار يحمل أسفاراً " و َتسَابّا بهذا الكلم الجافي الذي ل يرضى أن يقوله
شرَارُ النّاسِ .
ِ
قال الناقل للقضية ِمنْ قَ ْومِنَا " :و اختلط الناس ،فقال بعضهم وهو سعد بن نصر الهمداني " :و ال لو اجتمعنا
على الهدى ما زدتمانا على ما نحن عليه الن ،و ما ضللكما بلزمٍ لنا ،و ما رجعتما إل بما بدأتما به " ،و
لبعضهم " .:و ال لو اجتمعنا على هذا ما حوّلتمانا عما نحن عليه قبل أن يقع ،و ما أمات قولكما حقاً و ل أحيا
باطلً ،و إنا اليوم علما كنا عليه أمس ،و لقد كنا ننظر إلى هذا قبل أن يقع" ( ، )2أي نحن متوقعون لهذا
منكما ،فهو يتهمهما معاً على تواط لهذا ،كما اتهمهما الهمداني سعد بن نصر حيث قال ":و ما رجعتما إل بما
بدأتما به " ،و قول الخر " .:و ما صلحكما بلزمنا " ،يشير إلى ما عليه الفريق الخر الذي لم يرض هذا
الصلح ول يراه صلحاً ،بل يراه فساداً ،و هم الذين تجمعوا بالنهروان – رحمهم ال و رضي عنهم . -
و بعدما تشاتم أبو موسى و عمرو بن العاص تَ َفرّقَ المجتمع على أسوء الحوال ،و انصرف عمرو بن العاص
إلى معاوية ،و َهرَبَ أبو موسى إلى مكة لجئاً إليها ،ل يرى مقابلة علي بن أبي طالب ،فزادت تهمة الناس
لبي موسى بذلك ،حيث لم يرجع إلى إمامه فيخبره بما صار ،و إنه وقع ما وقع َمكْراً و خداعاً ،فيكون في
جيش المام ،و لم يخاطب علي بن أبي طالب رجال الحقّ من قومه ويعرف رأيهم في القضية ،ويعتمد على ما
يرون ،و هل إمامته باقية أو مُ ْنحَّلةٌ َلنّ المامة [ ]294ليست شيئا موروثاً بل هي من حقوق خيار المة ،وهم
الناظرون في مصالح العامة لنه الحجة في الدّين .
وفي كلم الحسن بن علي بن أبي طالب عند من يفهم معاني الكلم ( ، )3إذ تَ َكلّم في الحكمين ،و ذكر أن أبا
موسى أراد أن يولي عبدال بن عمر ،و لو كانت إمامة علي باقية لحتج أبو موسى على عمرو بن العاص
صحّ َأنّ ل إمامة لعلي باقية ،فيجوز أن يولي المامة من ببقائها ،و لم يسعه أن يولي عبدال بن عمر ،ولكن َ
هو أهل لها من رجال السلم ،و لو فرضنا أنها ل تكون إل في قريش لكان في قريش كثيرون ،إذا اتفق عليهم
المسلمون.
ثم لو كان لعلي بن أبي طالب إمامة باقية لقام الحاضرون معهم على أبي موسى ،و عمرو بن العاص ،و احتجوا
وكان الحسن يعترف بأن المامة حجتها المسلمون فيمن يرضون إذ قال يذكر عبدال بن عمر بقوله ":ولم
يجتمع عليه المهاجرون و النصار " ( )4فاعترف بأن اجتماع المسلمين شرط في صحة المامة .
و َيدُّلكَ عليه أيضاً قضية الشورى ف ِإنّ عمر بن الخطاب – رحمه ال– جعلها إلى من هم الحجة في المسلمين ،
وكانوا ستة نفر ،و لم يقل إن علي بن أبي طالب أحق بها من غيره ،كما يقول المتنطعون ،و ل احتج علي
بذلك فيما علمنا ،و لو كانت له لم َي ْرضَ المسلمون إخراجها عنه ،و لو رضوا لكانوا اجتمعوا على ضلل و هو
محال ،و لكن ل يستغرب [ ]295اختلق المور ممن يدعي أن علي بن أبي طالب رب أو شريك في النبوة باسم
الوصاية ،أو أنه المرسول إليه بالنبوة فخان الرسول فألقها إلى محمد – صلى ال عليه وآله وسلم . !!!-
و لما بلغ المر الداهية الموي ،كتب إلى أبي موسى وهو إذ ذاك بمكة يقول له " :أما بعد ،فَا ْكرَهْ من أهل
العراق ما َك ِرهُوا مِ ْنكَ ،و َأقْبِلْ إلى الشام فإني خيرٌ لك من علي ،والسلم " (. )5
فأجابه أبو موسىَ " .:أمّا بعدُ :فإِنّه لم يكن مني في عليّ إلّ ما كان من عمرو فيك ،غير أني أردت بما صنعت
وجه ال ،و أراد عمرو بما صنع ما عندك ،و قد كان بيني و بينه شروط عن تراضٍ فلمّا رجع عمرو رجعت ،
و أما قولك :إن الحكمين إذا حكما على أمر فليس للمحكوم عليه أن يكون بالخيار ".
و قوله لم يكن مني في علي إل ما كان من عمرو فيك ليس كذلك ،إنما كان من أبي موسى في علي خلعه من
المامة ،ولم يكن معاوية إذ ذاك إماماً ،و إنما كان من عمرو في معاوية إثباته إماماً ،فشتان بين المرين ،و
قول أبي موسى " إن الخيار في الشاة و البعير ل في أمر هذه المة ،فليست تساق إلى ما تكره ،و لن تذهب بين
عجز عاجزٍ و ل كيد كائدٍ " و كأَنه يشير بالعاجز إلى نفسه و بالكائد إلى عمرو ،و كذلك قوله " .:و ل خديعة
فاجر " فهو يثبت العجز لنفسه ،و الكيد ،و الفجور ،و الخداع لعمرو ،و كان هو المبتدئ بلعن عمرو و تمثيله
إيّاه بالكلب يلهث .
و كتب علي بن أبي طالب إلى أبي موسى َ " :أمّا بَ ْعدُ :إنك امرؤ ضللك الهوى ،و استدرجك الغرور ،فاستقل
ال يقلك عثرتك ،فإنه [ ]296من استقال ال أقاله ،إن ال يغفر و ل يغير ،و أحب عباده إليه المتقون ،و
السلم " (. )6
فكان في كتاب علي الحكم على أبي موسى بالتضليل و الهوى ،أي فيك هوى أضلك عن الهدى ،و فيك غرورًا
استدرجك ،فهذا من علي حكم على أبي موسى ،فإن كان كذلك تلزم أبا موسى منه التوبة ،و إلّ كان قذفاً من
علي فيلزمه ما لزم أبا موسى .
فأجاب أبو موسى علياً َ " :أمّا َب ْعدُ :فلول أني خشيت أن يئول مَ ْنعُ الجوابِ إلى أعظم مما في نفسك لم أجبك ،
لنه ليس عذراً ينفعني ،و ل عذراً يمنعني منك ،و أما التزامي َمكّة ،فإني استفسرت إلى أهل الشام ،و انقطعت
ظمْ ُتمْ – أي قالوا له ليس ذنبك أعظم من ذنوب من ولوك ص ّغرُوا من ذنبي ما عَ ّ
من أهل العراق ،وأصبت أقواماً َ
ظمُوا من حَقّي ما صَ ّغرْتُمْ ،فأقمت بين أظهرهم ،إذ لم يكن لي منكم ولي و ل نصير ، أمرهم – قال ":وعَ ّ
صدَقَ َمنْ قال إذا أقبلت الفتن قَلّ
والسلم " ( )7فكأنه ينفي وليته لهم ،أو وليتهم له ،و كل الجانبين كبير ،وقد َ
َمنْ يهتدي للحقّ فيها .
=================================
( )1المرجع السابق ()1/118
( )2المرجع السابق ()1/118
لما تَ َفرّقَ المجتمع من دَ ْو َمةِ الجندل ،و ذهب عمرو بن العاص إلى أميره ظافراً ،و هرب أبو موسى إلى مكة
خائفاً من علي بن أبي طالب على ما صدر منه ُ ،متَهَمٌ بأنه مواطئ لعمرو بن العاص في الباطن كما يشير إلى
ذلك كلم علي إذ قال في كتابه إلى أبي موسى " :إنك امرء ضللك الهوى ،و استدرجك الغرور " ،و قوله أيضا
في صفحة " .:144و إنما سار أبو موسى بهدي إلى ضلل ،وسار عمرو بضلل إلى هدى ،فلما [ ]297التقيا
رجع أبو موسى عن هداه " ،و كذلك قوله لعمرو بن العاص لما سئل عن عثمان فقال " :قتل مظلوماً " ،و
وجه التهمة أن عثمان لما قُتِلَ كان علي بن أبي طالب موجوداً بالمدينة ،ولم يدافع عنه ،و لو دافع علي عنه
لقام المسلمون كلهم معه .
و أقول أيها المام إذا كنت تعلم أن أبا موسى سار بهدى ،و كان أراد بذلك إثبات المامة له إلى ضلل و أنت تعلم
ذلك الضلل ،فما بالك ترضى لبي موسى بذلك ؟! ،و أنت المام الذي نصب لدفع الضلل؟! ،ورفع الفساد؟! ،و
إن زعمت أنك أجبرت على ذلك ،و جيشك سبعون ألفا تخرج بهم إلى قتل النهروان بقيادة الشعث فمن ذا الذي
يستطيع أن يعترض عليك و حالك هذا ،ولكنّ القضاء المحتوم ل بد من وقوعه .
خرج أولئك الرجال الذين تقدم ذكرهم وهم عبدال بن وهب الراسبي ،و زيد بن حصن الطائي ،و حرقوص بن
زهير السعدي ،ومن معهم من المؤمنين ،و توافوا بالنهروان كما سبق ذلك .
قام علي يَُأنّبُ أصحابه بقوله ":قد كنت أمرتكم في هذين الرجلين ،و في هذه الحكومة بأمري ،و لكن أبيتم إل
ما أردتم فاحييا ما أمات القرآن ،و أماتا ما أحيا القرآن ،و اتبع كل واحد منهما هواه ،يحكم بغير حجة و ل
سنة ظاهرة " .
قلت :الحجة ظاهرة في قتال الباغي على المام ،و السنة قائمة عمل بها المسلمون قبل هذا المام ،فقد قاتل
عنَاقاً أو عِقَالً ،و أَ ّي َدهُ الصحابة – رضوان ال
الصديق – رضوان ال عليه – من منع شيء من الزكاة حتى َ
عليهم – في ذلك .
قال ]298[ ":و اختلفا في أمرهما و حكمهما ،فكلهما لم يرشدا ل فبرئ ال منهما و رسوله و صالحوا
المؤمنين ،فاستعدوا للجهاد ....إلى أخر ما جاء عنه" (. )1
وفي صفحة ": 150أجمع رأي علي على المسير و الناس معه إلى معاوية بصفين ،فتجهز معاوية ،و ل شك
ع ّدةً كافيةً ،واستمال قلوب الناس ،و عمل كل ما استطاع ،وبالخصوص في التدخل في جيش علي ، أنه قد َأهّبَ ُ
و بسط المان للناس ،و خرج فنزل بصفين ،و تَجَ ّهزَ عليٌ في عسكره ،و كأني بظاهر الناس معه و باطنهم
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
عليه ،هنا قيل له يا أمير المؤمنين ":إنه قد افترقت منا فرقه فذهبت " .
قال " فكتب إليهم علي َ " :أمّا بَ ْعدُ .:ف ِإنّ هذين الرجلين الخاطئين الحاكمين اللذين ارتضيتم حكمين قد خالفا
كتاب ال ،و اتبعا هواهما بغير هدى من ال ،فلم يعمل بالسنة ،و لم ينفذا للقرآن حكماً ،فبرئ ال منهما و
رسوله و صالحوا المؤمنين ،إذا بلغكم كتابنا هذا فأقبلوا إلينا ،فِإنّا سائرون إلى عدونا وعدوكم ،ونحن على
المر الذي كنا عليه ،و السلم" (. )2
و معناه هو باقٍ على إمامته ،و هم يرونه غير إمام ،وقد بايعوا عبدال بن وهب كما ذكرنا سابقاً ،و هو هنا
يرى أنه باقٍ على إمامته ،و َنسِيَ العهد الذي سبق منه متقيداً به على أن المر للحكمين يوليان و يعزلن ،
وهما قد عزل ،و وليا ،وتم أمرهما .
و أجابه النهروانيون في هذا الصدد " :إ ّنكَ لم تغضب ل ،إِنّما غضبت لنفسك ،و ال ل يهدي كيد الخائنين " و
المعنى بعدما خلعت نفسك من إمامتك ،و عاهدت ال [ ]299على ذلك ،ليس لك أن َت ّدعِيَ المامة بعد ذلك ،و
نحن قد بايعنا غيرك فل يلزمنا أمرك .
قال " و لما رأى علي كتابهم أيس منهم " ( )3أي رأى لهم حجة قائمة يحجونه بها ،و هو من أجلة علماء
الشريعة ،و لكن السياسة لها أقوام غير رجال الفقه .
قال " ورأى أن َي َدعَ ُهمْ و يمضي بالناس إلى معاوية وأهل الشام فيناجزهم ،فقام خطيباً فحمد ال و أثنى عليه ،
ثم اندفع يذكر أحوال معاوية و من معه ،و ذكر إلى أن قال ":و ال لو وَلَوْا عليكم لعملوا فيكم بعمل كسرى و
قيصر ....إلخ " (. )4
" ثم خرج علي بجيشه فعبر الجسر ثم مضى حتى نزل دير أبي موسى ،على شاطئ الفرات ثم أخذ إلى النبار "
و هنا رأى أنصار معاوية في جيش علي أن هذا الرجل ل ُبدّ له من معاوية نصبوا له مكيدة ل تتركه ينصرف
عنها .
وذلك أنهم قضوا على عبدال بن خباب بن الرت ،و بقروا بطن امرأته هي حبلى ،و قتلوا ثلث نسوة فيهن أم
سنان ،و جاءوا علياً يقولون هذه أفعال النهروانيين يا أمير المؤمنين ،تدع هؤلء القوم وراءنا يخلفوننا في
سرْ بنا إليهم ،فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام ،هذه هي المكيدة الفاجرة التي
عيالنا ،و أموالنا ِ
اختلقت على أولئك البررة الكرام ،الذين أفنوا ال ُمخّ والعظم في رضا ال ،و سهروا الليل في عبادة ال عز و جل
،و بايعوا لهم إماماً يستخلفون به بدل إمامهم الذي خلع إمامته ،و عاهد على ما يرى الحكمان ،ثم قام بزعم
المامة ،ثم خلقوا لهؤلء الرجال النهروانيين أكاذيب ،و افتعلوا فيهم الفاعيل المنكرة ،التي ل [ ]300يحب
عهَا .
سمَا َ
أجهل الناس َ
و إليك ما تقضي به العجب مما يختلقه النسان لخيه النسان المسلم ،قال في صحيفة 153من المامة و
السياسة قال ":مضى عليٌ إلى النبار -و كأنها محل افتراق الطرق -و ِإنّ الخارجة التي خرجت على علي " :
يعني أهل النهروان ،فقبل كل شيء ،متى خرجت على علي هذه الخارجة ؟ ،و إنما هي خارجة عنه ،فارةٌ بدينها
،و إنما الخارجة عليه جنود معاوية ،خرجت على علي بن أبي طالب ،فما لهؤلء القوم ل يفرقون بين الخارج
عليه و الخارج عنه ؟! ،كأنما عناهم من قال " :فكن فارق بين دعوى أردت و دعوى فعلت بشأو بعيد " .
ِإنّ هؤلء القوم يغالطون الحقائق عند من ل يفقه و هم السواد العظم ،وعلى هذا أشاعوا عليهم خوارج ,و
عجزوا أن يقولوا بذلك لصحاب معاوية ،حيث يرون السنان أحمر ،و الدولة إليه ،و إنما قالوا بذلك لهؤلء
قال " :بينما هم يسيرون – أي أصحاب علي – وِإذَا هُمْ برجل يسوق امرأته على حمارٍ له ،فعبروا إليه الفرات ،
فقالوا له :من أنت ؟ قال :أنا رجل مؤمن ،قالوا ما تقول في علي بن أبي طالب ،قال :أقول أنه أمير المؤمنين
،و أول المسلمين إيماناً بال و رسوله ،قالوا :فما اسمك ؟ قال :أنا عبدال بن خباب بن الرت صاحب رسول
ال – صلى ال عليه وآله وسلم – فقالوا :أفزعناك ؟ قال :نعم ،قالوا :ل تخف أو ل روع عليك ،حدثنا [
]301عن أبيك بحديث سمعه من رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – لعل ال أن ينفعنا به ،قال :نعم ،
حدثني عن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – َأنّه قال " :ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل ،
كما يموت بدنه ،يمسى مؤمناً و يصبح كافراً" ،فقالوا :لهذا الحديث سألنك ؟ وال لنقتلنّك قتلة ما قتلناها
أحداً !! ،فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به و بامرأتة و هي حبلى مُتِمّ ،حتى نزلوا تحت نخل ،فسقطت رطبة منها
فأخذها بعضهم فقذفها في فيه ،فقال له أحدهم :بغير حل أو بغير ثمن أكلتها!! ،فألقاها ِمنْ فِيهِ ،ثم اخترط
بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لهل الذمة فقتله ،قال له بعض أصحابه :إن هذا من الفساد في الرض!!! ،
فلقي الرجل صاحب الخنزير فأرضاه عن خنزيره ،فلما رأى عبدال بن الخباب ذلك قال :لئن كنتم صادقين فيما
أرى ،ما علي منكم بأس ،و وال ما أحدثت في السلم حدثاً ،و إني لمؤمن ،وقد أمنتموني وقلتم ل روع عليك
".
قال " .:فجاءوا به و بامرأته فأضجعوه على شفير النهر على ذلك الخنزير فذبحوه فسال دمه في الماء ،ثم
أقبلوا على امرأته فقالت :إنما أنا امرأة ،أما تتقون ال؟! ،قال :فبقروا بطنها ،وقتلوا ثلث نسوة فيهن أم
سنان ،قد صحبت النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – "
هذه الفاعيل المزورة على هؤلء الكرام البرار الطهار ،رهبان الليل ،أسود النهار ،فانظروا أيها الناس ما
يقوله أهل السوء في أهل الحقّ ،بحيث يجعلونهم من السباع الضارية ،أو من قطاع [ ]302الطرق ،الذين ل
دِينَ لهم ،و ل إيمان ،يصفونهم بالزهادة ،وينعتونهم بالعبادة ،خرجوا من باطل وقع فيه غيرهم خشية أن يقعوا
فيه ،وقد بايعوا لهم إماماً من خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ،و همتهم إحياء دين
ج ّردُوا ل أنصارا لدينه ،يتناولون رجلً و
ال ،و اقتفاء سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ، -و َت َ
يذبحونه حيث ذبحوا الخنزير ،ثم يتناولون امرأته الحامل فيبقرون بطنها ،ثم يذبحون ثلث نسوة فيهن أم
سنان!! .
===============================
( )1المرجع السابق ()1/123
( )2المرجع السابق ()124-123 /1
( )3المرجع السابق ()1/126
( )4المامة والسياسة ()127-1/126
قل لي بال هل وجدت مثل هذه الفعولة المنصوصة لبعض لصوص العرب في جاهليتهم ؟؟! ،حتى تنسب هذه
القضية إلى هؤلء السادة؟؟ ،الجلء الذين لهم دَوّيٌ بالليل كدوي النحل بذكر ال بشهادة المام علي نفسه ،ثم
صوروا هجوم علي عليهم تبريراً للدعوى ،وترويجاًَ لها في أذهان الغبياء و أهل البطالة .
حاشا أولئك الكرام عن أقوال اللئام ،و حاشا علي أن يكون ذلك صدر منه ،و إنما هو من أعداء المسلمين أهل
الهواء الفاسدة ،أضافوها مصوغة الفتراء ،مبنية الباطل لتروج ،أما علي فأنا أحاشيه و أجله من ذلك ،و
عندي الذي يؤيده الحق هو ما سبق .
وقرروا لتصويغ القضية أن علياً لما بلغه ذلك ،أرسل إليهم الحارث بن مرة لينظر فيما بلغه من قتل عبدال بن
خباب والنسوة و يكتب إليه [ ]303بالمر .
فلما انتهى إليهم ليسائلهم خرجوا إليه فقتلوه ،فقال الناس :يا أمير المؤمنين تدع هؤلء القوم وراءنا يخلفوننا
في عيالنا و أموالنا ،سر بنا إليهم ،فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام .
صحّ الواقع من قتل عبدال بن خباب ،وقتل النسوة ،و قتل الحارث بن مرة رسول وهذه أخت الولى ،اللهم ِإنْ َ
المام فهذا هو نفس المكيدة التي ألهبوا بها قلب المام ليحمي ،ويقوم لقتل هذه العصابة المنظور إليها بأعين
الكبار ،التي يخشون ثورتها على معاوية و شامه .
شكّ َأنّ مثل هذه الفعال متى تقع يستنكرها العقل ،ويشمئز منها الذوق ،فلما أوقعوا هذه المكيدة يمكن أن
ول َ
صحّ ،و كل غاية القوم توجه المام وجهتهم ،وقد المام تحرك لخطاب هؤلء عما يقال و للحتجاج عليهم ِإنْ َ
وقع من أهل السوء أعظم من هذا و هم رسل النبي عليه الصلة والسلم ،ول تنس قضية رسوله – عليه
الصلة والسلم – إلى ثقيف و ما افتراه ،و مثل هذه المور وقعت في عهدنا تحت راية إمامنا الخليلي – رحمه
ال– فكانت مثل ما ذكرنا عن هؤلء .
و لكن المستغرب في الذهان ،إلصاق السوء بهؤلء الكرام ،و تعزيز من كان يلعن علياً على المنابر جهاراً
على رؤوس المل ،و يقال فيه " رضي ال عنه " .
قال " .:ثم سار عليٌ إلى المدائن ِب َمنْ مَ َعهُ حتى نزلوا المدائن ثم خرج حتى أتى النهروان ،فبعث إليهم أن أدفعوا
إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ،ثم أكف عنكم و أفارقكم [ ]304حتى ألقى أهل الشام " .
قال " فبعثوا إليه أن كلنا قتلناهم " ....إلى آخر الكاذيب المفتعلة .
ثم عاد علي على قومه بتأنيب ،و آخر الكلم ينقض أوله ،إذ جاء في أوله أن " .:أكرهتموني على التحكيم " (
)1و في آخره يقول ".:ثم استحللتم قتالنا و الخروج من جماعتنا ،أن اختار الناس رجلين " ( )2ففي أوله
يقول أكرهتموني أي على التحكيم ،و هنا َيعْتُبُ عليهم في خروجهم عنه ،وعن جماعته بسبب أن الناس
اختاروا رجلين ،أي هما أبو موسى و عمرو بن العاص ،فاعلم أنه لو كانوا هم الذين أكرهوه لقال لهم كيف
تخرجون عنا و أنتم الذين حملتمونا على هذا .
قال " .:فعند هذا رجع علي وعبأ جيشه " ،قال " .:و أقبلت الخوارج حتى إذا دنو من الناس نادوا ل حكم إل
ل ،ثم نادوا الرواح الرواح إلى الجنة " ....إلى أن قال " فل و ال ما لبثوا فِوَاقاً حتى صرعهم ال كأنما قيل
لهم موتوا فماتوا " (. )3
قلت :ل غروى بموتهم في جيش عدده سبعون ألفاً يحيط بأربعة آلف آمنين مطمئنين ينتظرون المام ليتفاهموا
معه في مهمتهم ،فلم يروا إل السيوف على رؤوسهم ،فلمّا قتل المسلمون بالنهروان انحطت شوكة المام ،و
تبعثر بناء السلم .
ورأى علي بن أبي طالب نفسه كمن تاه بمضيعة ل يدري أين يذهب ،وعاد إلى الكوفة مخذولً ،منهار القوى ،
مبدد الفكار ،فلم يقدر على حركة إلى الشام ،بل و ل إلى غيره ،و قام يؤنبهم بالخطب في المجامع ،و
يحركهم و ل يتحركون ،و يستثيرهم و ل يثورون .
و تلك خطبه المشهورة المأثورة فيهم ،فلم يقدر [ ]305على استنهاضهم ،ولول أن المقام يطول بنا لوردنا
تلك الخطب كما هي .
جعَ عليٌ القهقري بعد النهروان ،فتبين واضحاً أن كل المقصود القضاء على أهل النهروان ،و ذلك
و بالجملة رَ َ
لصالح معاوية ،و طالح علي ،و بذلك أصبح علي يتعاطاه بالقتل أقل الناس ،و ماذا ذلك إل للخذلن الذي لقاه
المام بسبب قضية النهروان ،وهو الواضح الجلي في نظر الذين لهم أفكار تدرك الغايات .
و مضى عبدال بن وهب إلى ال قتيلً في إمامته ،و مضى علي بن أبي طالب إلى ال قتيلً في خلعه ،وال
المستعان .
===========================
( )1أفخر في هذا المقام إلى أن أشير إلى دراستين رائعتين وهما" .:الخوارج والحقيقة الغائبة للشيخ ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي -حفظه ال-
وهي في الصل رسالة ماجستير من جامعة آل البيت الردنية والثانية" .:الباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالت" للباحث علي بن
محمد بن عامر الحجري -أكرمه ال -والدراسة الولى اعتمدت في إثبات الحوادث التاريخية على القرائن ل على دراسة أسانيدها،كأن تتفق كل المصادر
على حادثة ما .وأما الدراسة الثانية فقد اعتمدت في إثبات الحوادث التاريخية على دراسة السانيد ،وقد ناقشت الدراستان معركة النهروان ،وتتبعتا
قضية مقتل عبدال بن خباب وامرأته ومقتل النسوة ،واليك خلصة الدراسة الولى "الخوارج والحقيقة الغائبة" ص 411-409
-1الصواب في قضية التحكيم مع معارضي المام علي -كرم ال وجهه -وما ينسب إلى ابن عباس انه خصمهم في حروراء غير ثابت.
-2لم يكن أهل النهروان راضيين بمقتل عبدال بن خباب ،بل قتله أحد الذين انظم إليهم فيما بعد وهو مِسْعَر بن فَدَكِيِ التميمي ،وقد طرده أهل النهروان.
-3نسبة التكفير إلى أهل النهروان غير ثابتة ،وإن ثبتت فيحمل على الكفر بمعنى المعصية كما وردت بذلك نصوص القرآن والسنة النبوية.
-4هذا وقد تجلى للقارئ الكريم أن أهل النهروان ومعارضي التحكيم الذين قيل عنهم ما قيل طوال القرون الغابرة ،والذين طالما شوهت حقيقتهم ونالهم
من ظلم الفرق الخرى ومن حيف كثير من المؤرخين والكتّاب الشيء الكثير،كانوا -في الحقيقة -طلب حق أصابوه ،وإن قيل عنهم غير ذلك ،بل كانوا
هم أصحاب الرأي الحازم والنظرة النافذة في أعماق الحداث ،وقد جرت المور على ما توقعوه ،والمتأمل في المجريات التاريخية يتبين له صدق هذه
النتيجة .ول غرابة في ذلك ،فقد كانوا من أهل الفضل والعلم ،وكان فيهم جملة من أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم ."...
وخلصة الدراسة الثانية" :الباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالت" ص 295
"والمنهج السلمي عرض أحداث التاريخ ودراسة عقائد المم منهج سهل واضح المعالم َب ّينَ المبادئ ل يحيد عنه إل جاهل متعالم أو عالم متجاهل.
والعجب كل العجب من أناس يعتبرون أنفسهم أساتذة للتاريخ السلمي وهم يجعلون أخبار النصارى والكذابين والضعفاء عنوانا على الدقة والتثبيت التي
اطمأن إليها قلوبهم في وقت يعتبرون فيه أقوال المسلمين المعبرة عن حقيقة فكرهم هراء وزعما وادعاء.
والحقيقة التي ل يماري فيها عاقل هي أن الدقة في البحث تكون اصدق ما تكون عند الكتّاب حين يعبرون عن حقيقة فكرهم وما تكنه قلوبهم من عقائد
فحسب ،وأن القوال والحكام الصادرة من الكتّاب على غيرهم من الناس فليست من الدقة في شيء حتى يتبين صدقها من كذبها.
وبعض الذين كتبوا عن أهل النهروان والباضية سلكوا مسلكاً صعباً بعيداً عن المنهج السلمي وجعلوا من روايات الكذابيين والضعفاء دليلً ومرشداً
للوصول إلى الحكام الجائرة التي قذفوا بها البرياء البررة. ...
وقد اتخذ بعض الكتّاب من الروايات المكذوبة والضعيفة أسلحة ظناً منهم أنها ل تقاومها حجج وبراهين الباضية على براءة أهل النهروان من كل ما
نسب إليهم من أعمال يحارب بها السلم.
وبعد عرضنا لتلك الروايات التي احتج بها الكتّاب على أهل النهروان وجدنا أن ما نسب إليهم من مخالفات هي في حقيقة أمرها أباطيل قصد من ترويجها
تنفير الناس عن أتباعهم الذين تمسكوا بمبادئهم وساروا على نهجهم."...
( )2المامة والسياسة ()1/127
( )3المرجع السابق ()128-1/127
اعلم أن كلمة الخوارج في السلم تتناول أنواعاً من الناس حسب مصطلح أهل السلم ،فهي في العتبار
الشرعي ينبغي أن تطلق على الذين خرجوا على المام المجمع على إمامته ،الصحيح المامة الثابت على مذهب
أهل الستقامة ،وينطبق هذا في الوائل على أهل الشام الذين خرجوا على المام علي بن أبي طالب ،إذ كان
إماماً صحيح المامة بإجماع من هم الحجة في الدّين ،فقاتلوا المسلمين في صفين ،بل لو قيل هم الذين قاتلوه
يوم الجمل لكان صحيحاً .
و الذين قتلوا المسلمين يوم النهروان بغياً وعدواناً هم الحقيقون بهذا السم ؛ لخروجهم على أئمة الحقّ بغير
موجب .
وأصل الخروج من اللغة معروف ،و اشتقاقه واضح على أصل اللغة .
و هو أنواع خروج على الحقّ ،و خروج على الباطل ،و خروج عنه ]306[.
و أما الذي شاع في التاريخ فهو واقع على أناس مخصوصين عرفوا به ،و أطلق عليهم ،و هم نافع بن الزرق
،و نجدة بن عامر ( ، )1و عبدال بن الصفار ( )2و أشياعهم ،و كانوا من رجال السلم الشداء في الدّين ،و
لهم أرهاط تؤيدهم ،و كانت لهم شوكةٌ قويةٌ سيطروا بها على قسمٍ كبيرٍ من العراق ،و تولوا أمر البصرة حتى
كادوا يرومون الشام ،ويحاولون الجزيرة العربية .
و بذلك استحلوا أموال أهل القبلة ،و تجرأوا على المة بذلك ،و تجاسروا على أهل القبلة بالقتل ،وغنم الموال
.
و كان استفحال خطبهم أيام المام الربيع بن حبيب صاحب المسند الصحيح ،و لما بلغه أمرهم قال للمسلمين " :
َدعُوهُمْ حتى يتجاوزوا قولهم هذا إلى الفعل ،فإن لم يفعلوا بمقتضى قولهم هذا فالمسلمون في سلمة منهم ،و
هذا مذهب المسلمين فيهم و في أمثالهم ممن يذهب مذهبهم ،و يدين دينهم .
وقد أرسل ال عليهم المهلب بن أبي صفرة الزدي العماني أكبر قائد في دولة بني أمية ،فعاركهم معارك شهد
بها التاريخ ،و ارتفع لها صوت داوٍ في العالم ،حتى ارتكب في حربهم اختلق الروايات ،و له في حربهم نوادر
من الدهاء دونها المؤرخون ،و طردهم من البصرة ،ورفعها عنهم بين الثريا و الثرى ،حتى أطلق عليها بصرة
المهلب .
و لما كان هؤلء الخوراج من جملة المنكرين للتحكيم ،و كان الباضية ينكرون التحكيم خلفاً عن سلفاً أدمج
الباضية في [ ]308هؤلء بجامع إنكار التحكيم ،و أشيع فيهم ظلماً وعدواناً ،أذاعته السياسة الظالمة على
خيار أمة الجابة ؛ لقصد تشويه منهج القوم ،أخزى ال من أراد بأهل الحق سوءاً .
و لقد صحت بين الباضية و هؤلء الخوارج فوارق عديدة معروفة ،ذكرها المؤرخون في كتبهم ،يطول بنا
ذكرها من أرادها فليرجع إليها .
و فيما نقله العلمة إبراهيم محمد عبد الباقي من علماء الزهر عن أبي إسحاق أطفيش ( )5في تحقيق المقام
غنية لمن أراد في 252من كتابه الموسوم بعلم الحديث .
==========================
( )1نجدة بن عامر الحنفي (36هـ 69 -هـ) من بني حنيفة ،رأس الفرقة النجدية ،نسبة إليه ،من الحرورية ،من كبار أصحاب الثورات في صدر
السلم ،انفرد عن سائر الخوارج بآراء ،كان أول أمره مع نافع بن الزرق ،وفارقه لحداثه في مذهبه ،ثم خرج مستقلً باليمامة .العلم ()8/10
( )2عبدال بن صفار الصريمي التميمي (ت نحو 60هـ) رئيس الصفرية ،من الخوارج ،وفي صحة رياسته لعمر خلف طويل .العلم ()4/93
()3النعام 121 :
()4لم أستطع إرجاعه إلى مصدره الصلي.
( )5إبراهيم بن محمد بن أطفيش ( 1305هـ 1886م 1395 /هـ 1965 -م) أبو إسحاق ،عالم من بني يسجن ،وأديب ،ولد في قرية بني يسجن
بوادي ميزاب ،وقرأ الفقه والنحو والتفسير على القطب ،ثم انتقل إلى تونس وحضر دروس في جامع الزيتونة ،شارك في الحركة الوطنية فأبعده
الفرنسيون ،له عدة مؤلفات منها :الدعاية إلى سبيل المؤمنين ،عصمة النبياء.
معجم العلم الباضية( ، )2/44العلم()1/73
حجِيلِ ،و هو قوله و في حديث الحوض أراد به ما يسميه بعضهم حديث البقيع ،و عند آخرين حديث ال ُغ ّرةِ و التَ َ
ما رواه المام الربيع بن حبيب – رحمه ال– في المسند الصحيح ،و هو قوله – صلى ال عليه و آله وسلم –
سلَمُ عَلَ ْيكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنِينَ ِ ،إنّا ِإنْ شَاءَ الُ بِكُمْ لَحِقُونَ َ ،و َددْتُ أَنّي
[ ]309إذ خرج إلى البقيع ،فقال " :ال ّ
خوَانِي ا َلذِينَ َيأَتُونُ ِمنُ َرأَيْتُ إِخْوُانِي" قالوا :يا رسول ال ألسنا بإخوانك ؟ ،قال َ " :بلْ أَنْ ُتمْ َأصْحَابِي ،وَ ِإنّما إِ ْ
علَى الحَ ْوضِ " قالوا :يا رسول ال كيف تعرف من يأتي بعدك من إخوانك ؟ قال َ :أرَأَيْ ُتمْ لَوْ بَ ْعدِي ،وَ أَنَا فَرَطُ ُهمْ َ
خيْلٍ ُدهْم بُهْمٍ أَل يَ ْع ِرفُ خَ ْيَلهُ ؟" قالوا :بلى يا رسول ال ،قال ":فإِنّهُمْ يَأَتُونَ حجّ َلةٌ في َ غرّ مُ َكَانَ ِلرَجُلٍ خَيْلٌ ُ
عنْ حَ ْوضِي َكمَا ُيذَادُ غرّا ُمحَجّلِينَ ِمنْ أَ َثرِ ال ُوضُوءِ ،و أَنَا َفرَطُهُمْ عَلَى الحَ ْوضِ ،و لَ ُيذَا َدنّ رِجَالٌ َ
يَوْمَ ال ِقيَا َمةِ ُ
البَعِيرُ الضّالّ ،فَُأنَادِيهِمْ أَلَ هَلُمّ ،فَيُقَالُ :إِنّهُمْ َقدْ َبدّلُوا بَ ْع َدكَ ،فَ َأقُولُ َ :فسُحْقاً َفسُحْقاً " ( )1رواه الربيع عن أبي
عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة عن رسول ال -صلى ال عليه و سلم . -
ضحٌ في أن الناس ليسوا كلهم على الحق المبين ،لن هؤلء الذين يذادون عن الحوض كما يذاد فهذا َنصٌ وَا ِ
البعير الضال ظاهرهم من جملة إخوانه صلى ال عليه و آله وسلم؛ لنهم مسلمون فيناديهم رسول ال – صلى
ال عليه و آله وسلم -للورود فيحصل لهم من يطردهم عنه ؛ لنهم أحدثوا أحداثاً استوجبوا بها الطرد ،فلذلك
يقول لهم– صلى ال عليه و آله وسلم – " َفسُحْقاً َفسُحْقاً " ،و المراد به الطرد و البعد ،وإن رسول ال – صلى
ا ل عليه وسلم – يتبرأ بين يدي ال عز و جل من كل محدث في الدين ،فإن الناس شهود على بعضهم البعض ،
لفَاقِ َوفِي أَن ُفسِهِمْ
وال شهيد على الكل ل تخفى عليه خافية ،و الخلق دليل على الحقّ " .:سَ ُنرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ا ْ
حَتّى َيتَبَ ّينَ لَ ُهمْ أَ ّنهُ الْحَقّ " (. )2
و لما رأى رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – [ ]310الغرة و التحجيل في هؤلء الواردين عليه
الحوض ،و هم يذادون ناداهم مستدلٌ على أنهم من إخوانه بذلك ،إذ تلك صفة للمؤمنين رآها فيهم ،فظنهم
منهم ،و إذا هم من أهل الحداث الذين زاغوا عن طريق الحقّ ،و سلكوا طُرقاً أخرى تَ َف ّرقَتْ بهم .
فالحداث التي عرضت هنا عارضتهم عن الجابة لرسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم -لذلك لمّا أخبر عنهم
غرْتِهِمْ و تحجيلهم ،قال له رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم أنهم أحدثوا بعده أحداثاً خالفت مقتضى مفاد ُ
": -سُحْقاً " أي ُبعْداً لهم ؛ لنّ الحداث خصوصاً الباطلة التي ل يقتضيها الدّين ،و ل يقبلها اليمان ؛ فإنها ِب َدعٌ
،و كُلّ بدعةٍ ضلله ،وكل ضللةٍ في النّارِ .
و لم يقل لهم رسول ال – صلى عليه و آله وسلم – أل هلم ،بعدما علم أحداثهم ،و ل قال لهم :أنا لكم شفيع ،
و هم من أهل ل إله إل ال ،و ل توجه إلى ال عز و جل فيهم بشيء .
فافهم فإن المقام مقام خطر ،يهلك فيه كثير من النّاس ،فإن هؤلء ممن يقول ل إله إل ال ،و ظهرت لهم الغرّة
و التحجيل التي استدعاهم رسول ال – صلى ال عليه و سلم – من أجلها ظان من الحال الذي رآهم عليه أنهم
من أهل الورود للحوض ،و إذا هم من الذين ل مقام لهم مع أهل الحق ،لذلك قال فيهم " :بُعْداً َلهُمْ " ،و ل
يقول رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – لمسلم هو من أهل الحق ذلك المقال ،و لقد تباعد رسول ال –
صلى ال عليه وآله و سلم – منهم ولم يرجع إليهم ،و ل ارتضاهم ،و ل تشفع لهم ،كما تراه واضحاً .
و هكذا تكون أحوال أهل الباطل عند ال ،و ل يخفى عليك ذلك بعد اتضاحه جلياً ،يدلك أن الرسول العظم و
النبي الكرم ل ينظر لهل الباطل ]311[.
ل يقال َأنّ هؤلء كفار ؛ لذلك دعا عليهم الرسول -صلى ال عليه و آله وسلم ، -فإن الكفار ل يحومون حول
و هؤلء بخلف أولئك ،فلما علم منهم ما علم ابتعد عنهم بقوله َ " :فسُحْقاً َفسُحْقاً " ،أي أبعدهم ال من ورود
الحوض .
و كذلك أيضا تنص آية المبايعة من سورة الفتح ،و هي قوله عز و جل ِ " :إنّ اّلذِينَ ُيبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَايِعُونَ الَّ
عظِيمًا" (، )3 جرًا َ سهِ َو َمنْ أَ ْوفَى ِبمَا عَا َهدَ عَلَ ْيهُ الَّ َفسَيُ ْؤتِيهِ أَ ْ
علَى نَ ْف ِ
َيدُ الِّ فَوْقَ أَ ْيدِيهِمْ َفمَن نّ َكثَ فَِإ ّنمَا يَنكُثُ َ
فقد ذكر ال البيعة ،و من يبايع فيوفي ،ومن ينكث بعد ذلك فإن نكثه عليه ،و من عاهد فنكث فإنما ينكث على
نفسه ،أي ل يعود نكثه إل عليه ،و ضرر نكثه من عمله يعود وباله على الناكث إجماعاً .
و الية دليل على وجود من ينكث ،و ال يعاقب كل عامل بعمله ،و يجزي كل فاعل بفعله .
قال جابر بن عبدال – رضي ال عنه – :بايعنا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – تحت الشجرة على
الموت ،و على أن ل نفر ،فما نكث منا أحد البيعة إل جد بن قيس و كان منافقاً ،اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر
مع القوم (. )4
و قرئ " إنما يبايعون ل " ( )5أي لجل ال ،و لوجهه تعالى ،و قرئ بضم الكاف و كسرها (. )6
و ل يخفى أن عقوبة النكث ذكرها ال َ ،فدّلَتْ َأنّ بعض أهل الطاعة ل هم الذين ثبتوا على الحقّ ،وصبروا عليه
،و التزموا أمر ال [ ]312عز و جل .
و الية دليل على أن ل عصمة لهم من الوقوع في مهاوى الضللة ،و هي أيضاً شاهدة بذلك ،و إذا كانت
العصمة انتفت عنهم فل جرم أن ال بالغ أمره ،و الية أيضا دليلٌ على جواز صدور الثام من العباد ،ومن تاب
من ذنبه فإن ال يغفره له جميعا ،و آيات القرآن شاهدة بذلك منطوقاً ومفهوماً .
==================================
( )1أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده ،ص ، 37رقم ،43وأخرجه مسلم في ( -2كتاب الطهارة -12باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في
الوضوء) ( )1/218رقم )249( 39وأخرجه النسائي في السنن الكبرى ( ،)6/449وأخرجه ابن ماجه في ( -37كتاب الزهد -36باب ذكر الحوض)
ص 628رقم ،4306وأخرجه مالك في الموطأ ( -2كتاب الطهارة –-6باب جامع الوضوء) ص 28رقم ،28وأخرجه أحمد في المسند ( )8/111رقم
،7980وأخرجه ابن خزيمة ( )1/6رقم ، 6وأخرجه أبو عوانة ( )1/122رقم ، 360وأخرجه أبو يعلي ( )11/387رقم ،6502وأخرجه البغوي
في شرح السنة ( )1/322رقم ،151وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير( )23/297رقم ،661وأخرجه الروياني ( )2/192رقم ،1022وأخرجه ابن
أبي شيبة ( )7/455رقم ،37166وأخرجه البيهقي ( )4/131رقم .7209
( )2فصلت . 53 :
( )3الفتح10 :
( )4أخرجه مسلم في (-33كتاب المارة -18باب استحباب مبايعة المام الجيشي عند إرادة القتال) ( )3/1483رقم ،69وأخرجه الحميدي في مسنده
( )2/537رقم ،1277وأخرجه أبو يعلي ( )3/420رقم .1908
( )5قراءة تمام بن العباس بن عبد المطلب ،انظر معجم القراءات القرآنية ( )6/203ومعجم القراءات (.)9/47
( )6قراءة زيد بن علي ،انظر معجم القراءات القرآنية ( )6/203ومعجم القراءات (.)9/47
و لئل يظن ظَانّ أنهم معصومون عصمة مطلقة ،فيصفونهم بصفات اللوهية ،و إنما تقع منهم المعاصي على
ع ْزمًا " (. )1
جدْ َلهُ َ
جهة الغفلة ،و النسيان كما في آدم – عليه السلم – الي" َف َنسِيَ وََلمْ نَ ِ
و قد دَلّتْ آية المبايعة أيضا على أنه ليس كل المبايعين على الحقّ ،فإن فيهم من ظهر نكثه البيعة ،فظهر بذلك
نفاقه ،ولم يقل رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – أنه يشفع لهم ،و إنهم كإخوانه في الجنة ،بل هددهم
القرآن ،و نعى إليهم فعلهم ذلك .
حقّ ،و هم الذين ل يثبتون على أوامر ال ،و لول فالية و الحديث شاهدان على أن بعض المسلمين على غير َ
ذلك لما حَاجَ المرُ إلى ذكر النكث في البيعة ،وإعلن تهديده في القرآن و السنة ،و لكن لما عَِلمَ الُ من عباده
وقوع ذلك ،أشار إليه عز و جل وعلم منهم أنهم ل يستقيمون على شروط التكليف .
فإن بعض الفرق السلمية بل أكثرها على الباطل ،لذلك حكم عليها رسول ال [ – ]313صلى ال عليه وآله و
ح َدةٌ نَاجِيةٌ " (. )2
سلم – بالهلك ،فقال " :كُلّهَا هَاِل َكةٌ إِلّ وَا ِ
و لم يقل كل من قال " :ل إله إل ال " مطلقا دخل كما رووا ،بل قال " :كلها هالكة " وفي رواية " كلها إلى
النار " .
و قال تعالى َ " :ولَ َترْ َكنُواْ إِلَى اّلذِينَ ظَ َلمُواْ َف َت َمسّكُمُ النّارُ " ( ، )3أي فتكونوا مثلهم من أهل النّار ،فَ ِإ ّ
ن
الظالمين في النّارِ بشهادة القرآن ،و كل من خالف نهج محمد – صلى ال عليه و آله وسلم – فهو إلى النّار .
صرّ على ذنبه مات عاصياً ،و َمنْ ماتو هم الذين وقع النزاع فيهم بيننا و بين قومنا ،فنحن نقول َمنْ مَاتَ َم ِ
عاصياً مات هالكاً عند ربه ،و َمنْ مات تائباً فال يقبل التوبة عن عباده ،و يعفو عن السيئات .
وقد صَحّتْ الدلة الصحيحة الصريحة بصدق ما نقول ،فكان معنى الية قول ل إله إل ال و الدخول به الجنة
مُقَيّداً بالوفاء بجميع الواجبات ،و أنت تدري أن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ل يتبرأ من المسلم
صحّ
بل يدعوه إلى الطاعة ل و يرغبه فيها ،و يحرص كل الحرص لن يكون مسلماً ،و إنما يتبرأ ال ممن َي ِ
معه باطله ،أل تراه يقول للواردين عليه الحوض من أهل الحداث " َفسُحْقاً َفسُحْقاً " ،وهؤلء كانوا مسلمين ،
عصَوْا ال بأحداثهم التي قارفوها ،و آثامهم التي ارتكبوها ،و عند ذلك يتبرأ [ ]314منهم رسول ال و لكنهم َ
شفّ عن غضبه – صلى ال عليه وآله وصحبه – صلى ال عليه و آله وسلم – بقوله " :سُحْقاً َلهُمْ " ،وهو َي ِ
صرَاطِ السّويّ الذي كانوا عليه . وسلم -عليهم ،حين عَِلمَ أنهم زاغوا عن ال ّ
شفّ من خللها لمن لم يثبت على بيعته ،إذ قال ال تعالى فيهاَ " .:فمَن نّ َكثَ
و اعتبر آية المبايعة ،تَجد التهديد َي ِ
سهِ " (َ ، )4فدَلّ َأنّ منهم من يَنْ ُكثُ فلذلك وضع لهم ذلك التهديد في صورة الخبر على منهج فَإِ ّنمَا يَنكُثُ عَلَى نَ ْف ِ
حدّ ذاته ،و هل جزاء النّاكِثِ لبيعته إل العقاب على النكث كما علمت ،و فيها دليل على أن ليس الوعظ البليغ في َ
كل من قال ل إله إل ال محمد رسول ال على حق .
و البيعة عَ ْهدٌ من ال بينه و بين خلقه ،و نَ ْكثُ العهد من أكبر الكبائر عند ال عز و جل ،فمن نكث عهد ال فقد
هدم دينه ،ولن تنفعه ل إله إل ال وحدها مع تضيع العمل ،و هل القول دون العمل يفيد ؟ ،ل بل هو مقت لزم،
" كَ ُبرَ مَ ْقتًا عِندَ الِّ أَن تَقُولُوا مَا لَ تَفْ َعلُونَ " (. )5
و الجواب عن هذا واضح إِلّ َأنّ َلهُ مقام غير هذا ،و أن ال حكيم يضع الشياء [ ]315مواضعها ،و يرتب
خلَلَ ،و ل بُطْلَ ،و ل َفسَادَ السباب على المسببات ،و يحكم ال ما يريد في قضايا الكون بحكمته الباهرة ،فل َ
عمّا يَفْعَلُ َوهُمْ ُيسْأَلُونَ " ( ، )6و ل في خلقه الخلق حكمة بل حكم باهرة ،و في صنعه عز و جل " :لَ ُيسْأَلُ َ
أسرار ظاهرة " و لو لم تعصوا ال فتستغفروه فيغفر لكم لتى ال بقوم يعصونه فيستغفرونه فيغفر لهم " " ،لَ
خرِ يُوَادّونَ َمنْ حَادّ الَّ َو َرسُو َلهُ َولَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَ ُهمْ أَوْجدُ قَ ْومًا يُ ْؤمِنُونَ بِالِّ وَالْ َيوْمِ الْ ِ
تَ ِ
عشِيرَتَهُمْ )7( " ...الية. َ
و رَتّبَ الثواب و العقاب على المتثال و عكسه ،و قضى بين الكل بالعدل على الصل الذي خلق عليه الخلق بادئ
بدء ،و هكذا تجري العمال .
و إذا اعتبرت تلك الية التي تَ ُنصّ على َأنّ المؤمنين ل يُوَادّون من حَادّ ال و رسوله كيف كانوا و أيا كانوا في
هذا الكون المترامي الطراف ،تهتدي به إلى المنهج الحقّ الذي أراده ال من عبادة ،و ترى فاصلً سماوياً بين
أهل الرّشد في الدّين و أهل الغواية من المسلمين ،فإن من وَادّ المشركين لم ينفعه إيمانه ،و الظاهر لم يترك من
العمال المطلوبة إل واحدة و هي معاداة المشركين فقط مع التزامه كل ما شرع ال عز و جل من العمال .
فانظروا معاشر المسلمين في قواعد الدين ف ِإنّ فيها الحقّ المبينُ ،و الدليلُ المستبينُ ،ف ِإنّ مَوَا ّدةَ المشركين
واحدة من منهياته عز و جل ،و تراه [ ]316يعلق بها هدم اليمان ،فإن النفي في أول الية أو النهي على أحد
الوجهين أي ليس من صفات المؤمنين ،أي من كان مؤمناً ل تجده يُوَادّ المشركين أصلً ،و إن من وَا ّدهُمْ فقد
ألقى بإيمانه ،و نأى عن الحقّ مكاناً قصياً ،و زاغ عن الصراط المستقيم .
و قوله فيها لو كانوا آبائهم فإن المذكورين أقارب النسان ،و طبعاً تكون مودتهم ثابتة ،و موالتهم راسخة ،
وإذا خرجوا عن دائرة الحقّ وجبت مقاطعتهم ،و خرجت موالتهم ،و إذا كان هذا في القارب فما ظنك بغيره
من الباعد .
و ل در إبراهيم الكريم – صلى ال عليه و على سيدنا محمد و آله وسلم – إذ تبرأ من أبيه -الذي أمر ال عباده
باحترام الباء ، -وإذا بإبراهيم يعلن البراءة منه كما علمت ذلك في النص الكريم عن الرب العظيم .
وقول المام – رحمه ال– جاز أن يُؤ ّثمُوا بتشديد الثاء المثلثة ،أي جاز أن ينسب إليهم الثم ،لنه ل عصمة إل
للنبياء و المرسلين ،فغير مستغرب أن يضاف الثم إلى غير الموفين ببيعتهم من المسلمين ،فليس كل أهل بيعة
ع ِملُواْ " ( ، )8و لو
الرضوان ثبتوا على بيعتهم بشهادة تلك الية الناصة على حكم الناكث " َولِكُلّ دَرَجَاتٌ ّممّا َ
علم [ ال أنهم] كلهم سيثبتون على بيعتهم لما ذكر النكث في سياق القضية .
[ و ليس المقام ] مقام مدح فإن الية تعرب عن رضى ال عنهم ،و ل شرف [ أشرف من ذلك ] قطعاً لن
الرضوان من ال موجب للجنة ،و ليس بعدها شرف للنسان.
و الحمد ال ،نسأل ال أن يبلغنا إياها ،و يرضى عنا فيها ،و ال ولي كل شيء ]317[ .
==================================
اله( )1طه115:
( )2سيأتي تخريجه.
( )3هود .113 :
( )4الفتح.3 :
( )5الصف .3 :
( )6النبياء . 23 :
( )7المجادلة . 22 :
( )8النعام . 132 :
[الشرح ]
قوله :و حكمنا ...إلخ معطوف على قوله ومن يتب منهم فذاك تغفر .
و المعنى أن حكمنا بالعصيان على أهل الثام ما داموا على جرائمهم فهم عصاة تَجِبُ البراءة منهم ،و جعلهم في
عداد أهل العقوبات واجب حسب الظاهر ،كما أن أهل الطاعات في الظاهر محكوم له بأحكام أهل الصلح ،
فيتولون و يمنحون حقوق أهل اليمان ،و لو كانوا في الباطن من أهل السوء عند ال ؛ َلنّ ال كَلّفَنَا بإتباع
الظاهر ،و العمل بمقتضاه .
فلهذا ترانا نحكم على مرتكب المعاصي بأحكام أهل الجرائم عملً بأوامر ال عز و جل في كتابه ،و ل يخفى
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
حكْمَ بالظاهر هو واجب المسلمين َ ،لنّ ال َكلّف عباده بظاهر ما ب َانَ لَهُمْ ،ل بما غَابَ عنهم .
عليك [َ ]318أنّ ال ُ
صرّا على باطل مات هالكاً بِ َنصّ القرآن ،و من تاب تاب ال عليه ،و ِإنّ جَلّ ذَ ْن ُبهُ؛ فَ ِإنّ ال ل يتعاظمهفمن مات ُم ِ
ذنب عبده و ِإنّ جَلّ.
و الحكم بالظاهر هو واجب العبد المكلف ،و لو كان المذنب عند ال من أهل السعادة ،فالحكم بالظاهر واجب في
حقه ،و إل عُطّلَتْ شريعة ال عز و جل ،و تركت أوامر السلم ،و ل يستبعد الحكم بالعصيان فيمن تظاهر
بالجرائم و الثام ،مع العلم بأنه ل يموت إل تائباً منها ،فيكون لكل مقام حكمه ،و لكل حاكم علمه .
سرَقَ أمر ال بقطع يده تنفيذاً لحكمه تعالى فيه في هذه الحياة الدنيا ،و من الجائز أن يموت طائعاً
أل ترى أن َمنْ َ
مسلماً مخلصاً ،فينزله ال عز وعل في عليين لعمال صالحة خُتِمَ له بها ،و كذلك جلد الزاني و رجمه ،فإن
المعصية ل تمنع من الطاعة.
ألست تعلم أن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – قال في الزانية التي أقام عليه الحد ،لما عيبت عنده
سمَتْ عَلَى َأهْلِ ال َمدِي َنةِ لَ َوسِ َعتُهُمْ " ( ، )1و في رواية " لَوْ تَابَهَا بفعلها القبيح ،قال " :لَ َقدْ تَابَتْ تَ ْو َبةً َلوْ ُق ِ
حبُ مَ ْكسٍ لَ َوسِعَ َتهُ " ( )2أو كما قال رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -فإقامة الحدود ل تنافي الفوز صَا ِ
للمحدود ،فإن أحكام ال عز و جل ل تتبدل ،و حكمته ل تتغير ،لن الذنوب ل تكون إل من المكلفين ،و إن
المغفرة ل تكون إل للعاصين ،فلو لم توجد العصاة لم توجد المغفرة َ " :وإِنّي لَغَفّارٌ [ّ ]319لمَن تَابَ " (" ، )3
ح َمةِ الِّ ِإنّ الَّ يَغْ ِفرُ
علَى أَن ُفسِهِمْ لَ َتقْنَطُوا مِن رّ ْ
سرَفُوا َ
عبَادِيَ اّلذِينَ َأ ْ
َوأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ " ( " ، )4قُلْ يَا ِ
جمِيعًا " ( ، )5في أمثالهما من اليات في الكتاب العزيز . الذّنُوبَ َ
انظر َمنْ هم المستغفرون ،و من هم المغفور لهم ،و أين مصيرهم ،و الدنيا دار عمل ،و الخرة دار جزاء ،فهما
ضرّتَانِ مختلفتا الحكام.
َ
وإن التوب يغسل العبد من الذنب ،و إن التائب من ذنبه كمن ل ذنب له ،و ال أسرع لقبول توبة العبد من السيل
في إنحداره من أعلى إلى أسفل.
و إذا كانت الحال كذلك فمن باب أولى من كان أبعد ،و المراد أن أحكام الدنيا جارية على ظاهرها في كُلّ أحدٍ ِمنِ
النّاسِ ،و كان ذلك على الفرض و التقدير أن لو أمكن أن تسرق ابنته [ – ]320عليه الصلة والسلم – و هي
– رضي ال عنها -عزيزةٌ عنده ،و هو يعلم أنها ل تسرق – أجارها ال ،-و لو سرقت لوجب تنفيذ الحد فيها
كغيرها ،ل يحميها منه كونها ابنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – عملً بظاهر التكليف.
و لقد رمى المسلمون عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها – يوم الجمل ،إذ خرجت على المام العدل إذ ذاك
و حال وليتها ل ينافي ظاهر ما وقعت فيه ،ويبتلى المرء في هذه الحياة الدنيا ثم يتراجع عندما ينتبه لما وقد
فيه ،فيرى أنه المخطئ ،و حكم الظاهر جار على طريقه فيمن ابتلي به مهما كان و من كان.
و لقد رماها عمار بن ياسر – رضي ال عنه – و هو يقول " :إني لعلم أنك زوجة رسول ال – صلى ال عليه
وآله وسلم – في الخرة ،كما أنك زوجته في الدنيا ،ولكن أمرنا بأحكام ل بد منها ،و من القيام بها “ (. )7
صرِيحة تبلغ حد التواتر من طرق مختلفة ،ذكرها العلماء في كتبهم ،و لكن من و لقد وردت فيها أحاديث صحيحة َ
خ َدعُهَا ِب َدعْوَى أنك أم المؤمنين،
حيث هي تمشي أيضا على ظاهر ما بان لها من أحوال دنيها ،و جاءها َمنْ َي ْ
وكلهم يحترمونك بسبب كونك زوجة النبي – صلى ال عليه و سلم ، -و كون المسلمين بمنزلة البناء لك ،و
غ َرضُ المختدع لها أن يتظاهر [ عمّا هُمْ فيه الن ،و كان َ هم يقتتلون أما يجب عليك أن تقومي بينهم فيرجعوا َ
]321بكونها معه ،فتعلوا حجته ،و ينضم إليه من الناس َمنْ يرى أم المؤمنين معه .
و كان خدعتها لتصلح الحال بين المسلمين ،فِإنّها أمهم بِ َنصّ الكتاب والسنة ،و إن المسلمين ل يخالفونها في
حرّكُوهَا فتحركت ،و كانت
أمر ،فتحقن الدماء ،و ترفع العداء ،و تقطع شأفة الخلف بين المسلمين ،و بمثل هذا َ
حركتها ل ل غير ،و هم في باطن المر يرومون التوصل بها إلى أغراضهم الشخصية ،و أعمالهم الخصوصية،
فإنه إذا كانت في جانب قويت شوكة ذلك الجانب كما قلنا.
خيّلُ إلى الفريق الثاني أنه ُمبْطِلٌ ،و أنه محجوجٌ بها ،و مغلوبٌ لديها ؛ لنه ل يقاتل أمه ،و ل يخالفها ،ومنزلة
فَيُ ْ
رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – قد ألبستها تاج الجلل ،و ألقت عليها رداء العز والشرف ،فهي بذلك
تحمل علم التوقير من المسلمين ؛ فيتوصل بها الطالب – و الحال هذا – إلى غرضه ،وهذا أمر بديهي في البشر
سائر الجيال ،أن الناس يتقوون بذي شرف يكون في جانبهم ،و بذلك يتحصل الطالب على أوفى المطالب .
عةٌ ،و هذه من أدهى خدائع الحرب في ذلك الوقت ،و لكل وقت سياسة بحسب المناسبات ،و لكن خ ْد َ
و الحرب ُ
قابلها المسلمون الذين هم أعمدة الدّين ،و أركان الحقّ ،الذين يدرون المقاصد من نفس الوسائل ،و يفهمون
المرامي قبل وجود الرامي ،و فعلوا معها ما وجب عليهم بحكم الظاهر ،وعارضوها بالدليل الشاهر ،و لم يقفوا
بين يديها حائرين ،و ناشدوها الحّق و الدّين حتى اقتنعت ،و الحقّ إذا قام به انهار بين يديه كل عظيم ،و
عندما عرفت أنها على خطأ من أمرها ،رجعت عما كانت عليه حال خروجها ]322[ ،و هي سيدةٌ عظيمةٌ في
ص َدرَ منها
السلم ،وقد تابت عَلَناً حين علمت أنها مخطئة ،و رجعت تائبة آيبة نادمة متلومة متأسفة على ما َ
غ ّرهَا ،و أهل الحقّ إذا عرفوه سرعان ما انقادوا له ،و تمسكوا به ،و هي إذ ذاكمن الخروج ،عاتبة على َمنْ َ
باكية حزينة على فعلها ،متأوهة من فعل المختدعين لها .
==================
( - )1أخرجه مسلم في(- 29كتاب الحدود -5باب رجم الثيب في الزنى ) ( )1324/3رقم )1696( 24وأخرجه الترمذي في ( – 15كتاب الحدود 9
– باب تربص الرجم بالحبلى متى تضع ) ( )42/4رقم ،1435وأخرجه النسائي في (– 21كتاب الجنائز – 64باب الصلة على المرجوم ) ()63/4
رقم ،957وأخرجه أب داود في (– 37كتاب الحدود – 24باب في المرأة التي أمر النبي برجمها من جهينة ) ص 625رقم ،4440وأخرجه
الدارمي في ( – 13كتاب الحدود – 17باب الحامل إذا اعترفت بالزنى ) ( )148/2رقم ،2325وأخرجه الدار قطني ( )81/3رقم ،3135وأخرجه
أحمد في المسند ( )85/15رقم ،19747وأخرجه أبو عوانه رقم 1287و 6288وأخرجه ابن حبان ( )201/10رقم ،4403وأخرجه البيهقي في
السنن الكبرى ( )379/8رقم ،16951وأخرجه الطيالسي في مسنده ( )114/1رقم 848وأخرجه الروياني ( )117/1رقم 104
( ) 2ـ أخرجه مسلم في ( 29ـ كتاب التوحيد 5ـ باب رجم الثيب في الزنى ) ( ) 1323 / 3رقم ،23وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( ) 379/ 8
رقم .16953
( )3ـ طه.82 :
( - )4البقرة.160 :
وقضية الحَ ْوأَب ( )1حجة واضحة عضت معها على أصابع الندم حتى قامت في وجهها تلك الحجة الفاجرة ،و
الصفقة الخاسرة ،فحلفت لها أنها الجوأب بالجيم بدل الحاء المهملة ،و المغرور من غررتموه .
والعجب أن مثل هذا المر يقع من رجال شاهدوا الوحي ،وعاصروا النبوة ،و استضاءوا بنورها ،و عرفوا في
العالم بشرفها ،و ينسون ذلك كله ،حتى تدعوهم النفوس المغرورة إلى خلق أكاذيب تأخذ بهم الهواء إلى أن
يجنحوا إليها .
فيا للسف على مثل هؤلء الرجال ،الذين عاشوا تحت ظل النبوة ،و رأوا و سمعوا ،و إن ذلك لعظيم في الدّين
يقدم عليه رجال مؤمنون ،فإنا ل و إنا إليه راجعون ،فل بد من الباطل من تأثير :
()2
ِإنّ أمة شاهدت رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و مشت تحت رايته ،وَ تَنَ ّورَتْ بأنوار شريعته ,
تقترف هذه الجرائم الكبرى في سبيل رئاسة دنيوية ،و أغراض ما هي إل خيالت تترآئ كالسراب في القِي َعةِ (
، )3والظل الزائل بسرعة ،إن النفوس المغترة ترتكب عظائم المور و ل تبالي .
و ل ريب ف ِإنّ أحوال الصحابة [ ]323تعطي الناس دروساً ،و تكون أساساً يحتذيه التي بعدهم ،و يحتج به من
تعلق بالحقّ ،و من نزلت عليه النوازل البشرية ،فليستعرض أحوال الصحابة يجد معهم كل ما يقابله في عهده ،
و ليعتبر العاقل بالجاهل ،و ليكن مع الحقّ ِإنْ رأى الباطل ،فإنه ليس من المستحيل انتحال المصلح أحوال َمنْ
طَ َلحَ ،و كذا العكس .
و لم ينظر هذا القائل إلى مقام رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و أن الطعن فيه يوجب قتل الطاعن ،
لن الطعن فيه صلى ال عليه و سلم كفر يحل قتل صاحبه إجماعاً ،و من طعن في أحكامه فقد طعن في أحكام
ال عز و جل ،فهذا أعظم معتبر لولياء المور ،الذين يلقون من الناس ما يسؤهم في سبيل الحقّ ،و
مكتبة الكتب موقع واحة اليمان
موقع واحة اليمان
www.waleman.com
يسمعون منهم ما ُي َكدّرُ عليهم صفو اليمان ،و ُينَ ْغصّ عليهم عيش الحياة بين الخوان و العوان ،و بذلك أيضا
عصَفَتْ
تعظم منزلة القائم بذلك عند ال ،و يبلغ في أهل الزَ ْيغِ مُنَاهُ ،و الخلق الجميل ل يتغير في أهله ،و إن َ
بهم زعازع الهواء ،و اليمان نور يهدي به ال من اتبع رضوانه سُبُلَ السّلم ،و يكفيهم عن النزعات
الشيطانية [ ]324التي ل تزال داء عضال في بعض الرجال .
والمسلم أخو المسلم ل يظلمه ول يخذله ،و ل يترفع عليه و ل ينتقصه ،و إذا صادف مثل هذه الحوال التي
تهز أركان حياته ،و تزلزل دعائم إيمانه ،يتلقها بجأش ساكن مطمئن ،و يقبلها بصدر رحب ،إذا حَلّتْ به
وجدته ل غاية له .
و الحكم بالظاهر َأ ْمرٌ تكليفي ل خِ َيرَة لحدٍ فيه ،فعمر بن الخطاب – رحمه ال– يقيم الحدود على بنيه ،و يقيمها
على أقاربه و ذويه ،و ل يتعلل عندها بأي عِّلةٍ ،و كذلك عمل الصحابة – رضوان ال عليهم – و قد قتلوا
عثمان بن عفان إمام المسلمين ،و من أخيار الصحابة و أعيانهم ،و القاتلون له كذلك حين رأوه زاغ عن منهج
الحقّ ،و سلك سبلً ل َيحِقّ له سلوكها الشرع ،و قد تركوا علياً حين ترك إمامته في أيدي الرجال يتلعبون بها
،و َرضِيَ أن يكون أنظار الحكمين ،و المسلمون معه يؤيدونه ،و قد حَ َكمَ القرآنُ في عدوه ،فترك حُ ْكمَ القرآن
حقّ الطاعة بحسب الحكم بالظاهر الذي كَلّفَ ُهمْ ال به ،و خرجوا و رضي بحكم فلن و فلن ،وإذ ذاك لم يروا له َ
عنه رافضين لعمله ،إتباعاً للدليل المقتضي لذلك الوارد عن صاحب الشرع ،و تبعاً للواجب في الدّين ،و هو
من الجائز أن يكون مع ال في أعلى عليين و مع الشهداء المؤمنين .
وعلى هذا كان منهج المؤمنين في قضايا الدّين ،في الكبير والصغير ،واليسر والخطير ،و المير والوزير ،ل
تأخذهم في ال لومة لئم .
س ْ
ت ثم ظهرت بعد ذلك أناس أشار إليهم – رحمه ال– بقوله " :وَظَ َهرَتْ ِمنْ بَ ْعدِ ذَا أُنَاس " ....البيت ،اْلتَ َب َ
عليهم المور ،وجَ ِهلُوا [ ]325الصول ،و لم َتصِلْ إلى إدراك الحقائق منهم العقول ،و رأوا أن هؤلء كلهم
صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ، -و كلهم أهل فضل وعلم ،و الرسول – عليه الصلة والسلم
– يقول فيهم " َأصْحَابِي َأصْحَابِي " " ،و إِنّ ُهمْ كالنّجُوم ِبأَيِهّمْ اْق َتدَيْتُمْ اْه َتدَيْ ُتمْ " ( )4في أمثالها من الحاديث
الدالة على فضلهم ،و علو مقامهم ،وكيف تصدر منهم هذه الفعال المخالفة لمقتضى مقامهم ،و كيف تضاف
عمّهُمْ َمدْحُ الكتاب و السنة ،فعظمت عليهم بذلك المحنة ،و اختلط عليهم الحال ،حتى إليهم تلك العمال ،وقد َ
أن بعضهم يعتقد لهم العصمة ،و يرى مقامهم أجل من أن يتكلم فيه أحدٌ مهما كان .
فلم يُ َف ّرقُوا بين الصحيح و السقيم ،و المُعْوَجّ والمستقيم ،و لم يقدروا على فصل الخطاب في تلك القضايا ،و لم
يزالوا في لجة تلك البلية ،حتى اعتمدوا على أنهم كلهم أولياء محقون ،و أتقياء مجتهدون ،و ل سلف لهم
على هذا حتى يقلدوهم فيه ،ويعتمدون على ما جاء عنهم فيه .
فعلى كل حال إنْ َمنْ َوفّى ببيعته ،وقام بمقتضى واجب دينه و شريعته كان ولياً لم تتغير حاله ،و لم ُت ْر َفضْ
جرَ عليه َوجَبَ أن يُ ْنزَلَ منزلته التي أنزل نفسه فيها ،و يعامل معاملة المقترف حتى
أعماله ،و أما َمنْ فَعَلَ ما حُ ِ
يتوب ،ف ِإنّ الحقّ أكبر من كل كبير ،و أوجب أن يتبع ،و ل عصمة إل للنبياء – عليهم الصلة و السلم . -
وعلى كل من اقترف مأثماً أن يرجع و يتوب إلى ال مما أتاه ،و إلّ فهو كغيره ،و ل فرق من جهة الحقّ ،و
الصحابي إذا أجرم فهو كغيره بحكم جرمه ل يخصص بشيء دون سواه.
ولول ذلك لما قطع رسول ال -صلى ال عليه و سلم ]326[ -و جَ َلدَ و رَجَمَ الزناة ،و هم من الصحابة ،و
حكم السلم شامل لهم ،و العدل بين المم أمر أوجبه العقل ،فكيف بالنقل ،و ال يهدد عباده و يزجرهم في
عمَلَ ُكمْ َو َرسُوُلهُ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ َوسَ ُت َردّونَ إِلَى عَاِلمِ الْ َغيْبِ وَالشّهَا َدةِ فَ ُينَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ
عمَلُواْ َفسَ َيرَى الّ َ
" َوقُلِ ا ْ
سرٌ ِلمَا خُلِقَ َلهُ " (. )6 عمَلُوا فَكُلّ مُ َي َ
تَ ْع َملُونَ " ( ، )5وقال – صلى ال عليه و سلم " : -ا ْ
و ل يخفى َأنّ الناس ِإمّا ُمحِقّ و ِإمّا مُبْطِلٌ ،و ل يجوز أن يكون المختلفان كلهما ُمحِقَ ْينِ ،بل من لزم المر
المعقول أن المتقاتلين يلزم أن يكون أحدهما ظالماً ،و إن اختفى حاله و تستر بالشبهة التي يخلقها لغراضه ،
فيصورها للعقول في استنهاضه ،و يمشي عليها متظاهرا بالحقّ ،و متعلقاً بالعدالة ،و لكل ثائرة حجاج ،و
صحّ .
لكل قائلة منهاج ،و ما كل ما يقوله الخصوم على أضدادهم َي ِ
إن حكم المقترف للذنب أن يتبرأ منه ؛ لجل ذلك الفعل الصادر منه ،فإن هذا هو الواجب علينا في حقه ،ما كان
في دار التكليف ،و لسنا مكلفين بما غاب عَنّا ،فإن الغيب ل عز و جل ،فلو فرضنا أنا تولينا أحداً بما ظَ َهرَ لَنَا
منه ،وهو في الغيب عدو الحقّ تجب البراءة منه [ ]327فلسنا ملومين على وليتنا له ،لعدم علمنا بما هو
عليه ،فإن ذلك التكليف بما ل يطاق ،و حاشا ل أن يكلف أحداً بما ل يطيق .
و لنه يعلم مقاصد الناس ،و ما انطوت عليه نياتهم ،ولو فعل لكان ذلك عدلً منه ،لنه السلطان الحقيقي الذي
عدَاهُ ،و إن رغم أنفه ،فإن منه المبدأ و إليه الرجعى ،له ما ليس لغيره عز و جل ،و العبودية المطلقة ِل َمنْ َ
سعَهَا " ( " ، )7رَبّنَا وَلَ
ال تعالى َت َفضّلَ على عباده أن ل يكلفهم بما ل يطيقون " -:لَ ُيكَّلفُ الّ نَ ْفسًا إِلّ ُو ْ
صرِحُ بِ َأنّ ال ل ُيكَّلفُ نفساً ما ل تطيق ،و واجب الحياة يجب حمّلْنَا مَا لَ طَا َقةَ لَنَا ِبهِ " ( ، )8فهذه و أمثالها ُت َ
تُ َ
ل ُبدّ منه ،وإن ثَقُلَ على النفس ،فإن التكليف أصله إلزام ما فيه كُلْ َفةٌ ومشقة على العبد .
وإن أعمال الخرة تتفرع على العمال الدنيوية ،فمن َوفّّى بواجبه في هذه الحياة الدنيا وجد ثمرة ذلك الوفاء
يانعة مشتهاة حلوة ،و إل وجدها مرة تَ ُغصّ بصاحبها و العياذ بال ،و ما جعل ال في خلقه باطلً ،و ل في
حكمه عَبَثاً ،بل كلها لحكمة يعقلها أناس و يجهلها آخرون .
و جعل ال للناس في أنفسهم براهين ،و دلئل على حكمته ،و معالم و صور دالة على بديع صنعته ،و ربما
صَحّتْ الجسام بالعلل ،و ربما اهتدى العاقل بتلك الحوادث ،فبعدما كان ضالً فاسقاً ظالماً جائراً إنكشف له بنور
غ ّيهِ ،و يرتدع عن قصده .ال برهان يعلم منه صدق القصد فيما أمر ال و نهى ،فينزجر عن َ
و كم من عبد انصلح بكلمة سمعها من واعظ ،أو تلقاها من حاكم يتوعد [ ]328بها من شاء ال ،فأصبح هذا
رهين إشارتها ،و أسير مفهومها و عبارتها ،و كم من مجلود على خمرٍ ،أو محدودٍ على عُ ْهرٍ ،أو مقطوع
على انتهاب ،و نحو ذلك أصبح يُفَ ّكرُ في قدرة مخلوق على مخلوق مثله ،فكيف بقدرة مالك المر الذي ل مناص
عن أمره ،ول خلص عن قهره ،فتنصلح بذلك أحواله ،و يرجع إليه رشده ،فيرعوي عن جهله ،و يدين ل
بطاعته ،فيدرك بذلك مناهج الصالحين ،و يرقى عند [ ال ] إلى أعلى عليين .
و حيث أن الولية و البراءة فرضان افترضهما ل على عباده ،وعَ ّينَ محلهما ،فجعل المتقاتلين معاً في الولية
صحّ ؛ لنّ " قِتَالُ ال ُمسْلِمَ كُ ْفرٌ ،وسَبَا ُبهْ ُفسُوقٌ " ( )9و معاداته حرام شرعاً ؛ لنه ل بد من أين يكون أحد ل َي ِ
المتقاتلين باغياً على الخر ،و إذا كان كذلك فليس من الحق في شيء جعل الباغي في منزلة المحق " -:
ج ِرمِينَ " ()10 َأفَنَجْعَلُ ا ْل ُمسْ ِلمِينَ كَا ْلمُ ْ
و إن قومنا على هذا طيلة تلك القرون التي مضت ،فَيَ َت َرضّونَ عن الباغي و عن المَ ْبغِيّ عليه ،و إنها مشكلة
دينية تهتز لها أركان اليمان .
وقوله " :إن حروب الصحابة كلها عن اجتهاد ،ومن اجتهد فأصاب فله أجران ،ومن اجتهد فأخطأ فله أجر
ع ِرضْ عن كذا وكذا ،فليس مع الدليل
اجتهاده " ،ليس هذا بشيء لن الدليل ينادي المحق قُمْ بكذا و كذا ،و َأ ْ
اجتهاد إجماعاً ،و اختلف المفاهيم ليس بحجة ،و محل الجتهاد الفروع التي لم يرد فيها نص ،أما عند النص
فل .
()11
و الكتاب واضح ل غيم عليه ،و مقال الرسول -صلى ال عليه و سلم – [ ]329شارح و موضّح للحكام ،فإن
كان من نقتله نقول فيه رضي ال عنه ،ضللنا إذا و ما كنا من المهتدين ،حيث نقتل من رضي ال عنه ،إن هذا
لتناقض ينكره العقل ،و َي ُردّهُ النقل .
=============================
حوْأَب – بفتح الحاء المهملة ،وسكون الواو ،وفتح الهمزة ،في آخره باء موحدة -قال أبو منصور :الحوأب موضع بئر نبحت كلبه على ( - )1ال َ
عائشة أم المؤمنين عند مقبلها على البصرة ثم أنشد :
ما هي إل شربة بالحوأب فص ّعدِي من بعدها أو صوّبي
أنظر معجم البلدان ( )191 – 3/190
وقضية الحوأب أن عائشة – رضي ال عنها – عندما خرجت مع طلحة و عبدال بن الزبير إلى البصرة ،سمعت في طريقها نباح كلب ،فقالت :ما يقال
حوْأَب .فقالت :أنا ل وإنا إليه راجعون ردوني ردوني ،فإني سمعت رسول ال يقول وعنده نساؤه :أيكن لهذا الماء الذي نحن فيه ؟ قالوا :ال َ
حوْأَب ( أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلي )
حوْأَب ردوني ردوني ،فإني سمعت رسول ال يقول وعنده نساؤه :أيكن ينبحها كلب ال َ ينبحها كلب ال َ
وعزمت على الرجوع فأتاها عبدال بن الزبير فقال كذب من زعم أن هذا الماء الحوأب ،وجاء بخمسين من بني عامر فشهدوا وحلفوا على صدق عبدال
.
أنظر البداية والنهاية ( ،) 7/242والكامل في التاريخ (، ) 103 /3ومروج الذهب
( ، )2/367والمامة والسياسة ( ، )1/60وجمل من أنساب الشراف ( )24 /3واللفظ له .
(- )2لم أستطع تخريجه
( - )3القيعة :جمع قاع وهي أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والكام (القاموس المحيط ) 757 /مادة قاع
( - ) 4تقدم تخريجه
( )5التوبة . 105 :
( )6أخرجه البخاري في (– 65كتاب تفسير القرآن – 12سورة والليل إذا يغشى ) ( )3/307رقم ، 4945وأخرجه مسلم في ( – 46كتاب القدر -1
كيفية الخلق الدمي ) 7و ، 8وأخرجه الترمذي في ( – 33كتاب القدر – 3باب في الشقاء والسعادة ) ( )4/445رقم 2136وأخرجه أبو داود في (
– 39كتاب السنة -16باب في القدر ) ص 663رقم ، 4694وأخرجه أحمد في المسند ( )1/433رقم . 621
( )7البقرة . 286 :
( )8البقرة . 286 :
( )9تقدم تخريجه
( )10القلم 35 :
( )11طلعة الشمس
[الشرح ]
شكّ َأنّ فصل القضية ل بد و أن يكون الحكم على إحدى الطائفتين بالبغي ،و ِإنّ الخرى مَ ْبغِيّ عليها ،فإذا
ول َ
ظهر ذلك علم أن الباغية تستحق البراءة حتى تتوب و ترجع عن بغيها ،و إن المبغي عليها هي في الولية
صحّ مع ما إذا كان حكم البغي ظاهراً ،و بيانه للصل الذي كانت عليه ،و إن جعل الطرفين في منزلة واحدة ل َي ِ
شاهراً ،فجعلهم في منزلةٍ واحدةٍ خِلفُ حكم ال عز و جل ،و حاشا ال يرضى بذلك .
حقّ مهما كان ،و إهانة الُم ْبطِلِ أياً كان َ ،لنّ ولية المُحِقّ غير البراءة من
و ما أنزل ال الشريعة إل لكرام المُ ِ
عزّ وعل -بالبراءة [ ]330من أهل الفسق ،و أوجب أهل الفسق ،بل هما حكمان مختلفان ،فقد أمر ال َ -
ولية أهل الحقّ ،فليس لحد أن يُغَ ّيرَ حكم ال في خلقه ،فهو الحاكم الحقيقي ،و الشارع للدّين على رغم الخلق
المتدينين .
و قد قال رسول ال -صلى ال عليه و آله وسلم " : -أَ ْنزِلُوا النّاسَ مَنَازِلَهُمْ " ( ، )1فمن اقترف موجب البراءة
وجب التبرئ منه ،و كذلك العكس .
صحّ أن يوضع أحد الحكمين في موضع الخر ،و ل أن يجعل في محلٍ واحدٍ َ ،لنّ الحكام تجري على و ل َي ِ
مقتضى العمال ،و ل شك أن الحقّ غير الباطل ،فالقتال مع التأويل ذريعة لرتكاب ما يحاوله المتقاتلون .
فمعاوية َي َت َذ ّرعُ إلى الناس ب َأنّ عثمان قُتِلَ مظلوماً ،و أنا أحق من يقوم على قاتله ،و هو يعلم أن قاتله
المهاجرون و النصار ،و كان قتله عن تآمر و تشاور ،إذ المسلمون ذلك الوقت متوافرون متظاهرون عن يد
قوية ،و كلمة موحدة ،و تحت راية الحقّ ،و سبب القتل واضح غير مخفي ،وشهرة حصاره بلغت حد ل مجال
لل عثمان في القول بشأنها أبداً ،بل عليهم التسليم لمر المسلمين ،و الرضى بأحكام أهل الحقّ ،ف ِإنّ معاوية
نفسه علم ما يعدّ المسلمون على عثمان ،و كان واجبه أن يكون للحقّ ،فإنه يعلو به في المسلمين مقاماً ،و هو
ع ّزاً على عزه ،و شرفاً على ابن الزعيم أبي سفيان أحد سادات قريش في الجاهلية ،و ما زاده السلم إل ِ
شرفه .
و قول معاوية [ ]331أن علي بن أبي طالب لم يقم بالنتصاف من القاتلين كما يلزم ،و الغرض من ذلك الدخول
في حيطة المر ،و شَقّ عصى المسلمين ،لعلمه أن علياً ل يتركه على الشام ،و ل يَ ِق ّرهُ على عمله الحالي ،و
ربما ل يَ ِق ّرهُ على عمل من العمال ،وإن تعلل بأن عمر استعمله فإن استعمال عمر له ينصهر به دماغه في أم
رأسه ،ل يقدر أن َي ّدعِي ما ليس له ،أو يتعاطى أمراً لم يكن له في حال من الحوال ،فإنه إذا وصلت دعوته
إلى عامل من عماله مهما كانت منزلته ،و مهما كان مقامه ،فإنه يكاد أن يذوب َوعْ ُيهُ إن كان يعهد من نفسه
حدثاً ،و لو لم يعلمه عمر ،فيظل يسأل و يبحث حتى عن الهيئة التي يحب عمر أن يرى عليها عامله .
و ل تنسى مؤاخذته أبا سفيان عند رجوعه من زيارة ولده معاوية عما جاء به من عنده ،على ملئ من الناس
حتى َفكّ خاتمه من إصبعه ،و أرسل به إلى زوجة أبي سفيان باسم أبي سفيان أن أرسلي إلينا الخرجين بما
فيهما ،و كانت فيهما عطايا معاوية لبيه ،فأخذها لبيت المال هذا حال عمر مع عماله ،فأنّى لحد منهم الحراك
في أي شيء يخالف مقتضى الشرع .
و يعلم معاوية دين علي و نزاهته ،و قد رأى أعمال عمر ،و أنه من الواجب السير على ذلك الدستور ،و حاشا
خذّ معاوية طريقاً يَبسَاً ،يروم منه أخذ نصيبه من المارة .
أن يرضى علي بن أبي طالب غير الحقّ ،فلهذا اتْ َ
فستولى أولً على قلوب البسطاء الذين ل يعرفون دين ال بل دين معاوية ،و ل حق السلم إل حق معاوية ،
فلما رأى تمكنه منهم ،و انخراطهم تحت قدمه خضوعاً مطلقاً ،قام على المام بتلك الدعاية الواهية ]332[،
التي يعلم أَنّها ليس حجة مقبولة ،و من ذا يقبلها من المسلمين ،وقد أخرجوا عثمان من الدّين ،و لم يرضوا أن
حشّ كَوْكَب " ،و لم يشيعه أحدٌ من
يدفن في مقابر المسلمين ،بل ُد ِفنَ خارجاً عن البقيع ،في مكان يقال له " ِ
المسلمين إل خدامه و خاصته ،إلى هذا بَ َلغَ الحال بعثمان .
و كان علي بن أبي طالب يعلم من معاوية ما يعلمه من أبي سفيان ،فأراد معاوية مشاغلة المام متستراً بدم
عثمان في أهل الشام الذين أصبحوا تحت راية معاوية ،ل يسألون عما يأتي و عما َيذَر ،و هو ينادي أن أمير
المؤمنين قُتِلَ مظلوماً ،فإذا سمعوه اندفعوا يبكون بكاء الثواكل ،ويشهقون شهيق يقطع منهم الحناجر .
صةَ ( )2حمر الوحش ،وهو ل يزال يردد بينهم مظلوم ،وهو ولي فإذا قال معاوية قولة في عثمان حاصوا له حَ ْي َ
عثمان أي الذي يقدر على أخذ الثأر من القاتل ،وهم يُلَبّونَ ما يقول .
وعلي بن أبي طالب يرى أنه المام المجمع على إمامته ،و أن عثمان واحد من المسلمين ،انتقده المسلمون
فقاموا عليه ،و قضوا فيه بما كَلّفَ ُهمْ ال به و بأمثاله ،بعدما طالبوه الرجوع عما هو عليه ،فوعدهم ولم يف
لهم بشيء ،وفي الخير استحلوا دمه بحكم ال ،و هاجموه في عقر داره ،و هو محصور علناً ،شاهراً
ظاهراً ،حتى إذا جاءه أحد بقربة ماء تسابقوا إلى قطعها ،حتى قتل بين ظهراني النصار و المهاجرين ،بجوار
قبر رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم . -
حدّ
فماذا لل عثمان من الحقّ ؟ ،و المسلمون كلهم قاتلوه ،فإن الراضي و الساكت ،و القائم ،كُلّ ُهمْ في َ
سواء ،إذ ل وجه لعثمان فيما فعل من أحوال خالفت الوامر [ ]334السلمية .
ل سيما أن لعثمان أولداً لم يكن معاوية أحدهم ،و إذا طلب أولد عثمان مالهم على قتلتة عثمان ،ففي إمكان
المام علي بن أبي طالب أن يعطيهم مالهم بحكم ال بين ظهراني المسلمين ،و حاشا المسلمين أن يرضوا بقتل
إمامهم بين أظهرهم ،إذا كان غير مستحق القتل ،و بل ل يرضون قتل كَلْبَ راعٍ بغير حَقّ ،فكيف يرضون بقتل
المام عثمان ،و هو على الحقّ ،فهل هذا من الحقّ ؟ ،ل وربك ،بل من نسب ذلك إليهم أي قتل المام المحق
و إنما كان قتل عثمان عن اجتماع من أهل الحق حين قامت الحجة عليه ،و لم يروا ُب ّداً من ذلك ،و كانوا أشداء
في الدين ،لم يرضوا المداهنة ،و ل تقية إذ ذاك إذ هم متوافرون و متضافرون كلهم يد واحدة عليه ،فل يحل
أن يقال قتل مظلوماً لنه يترتب عليه أن قاتله ظالم ،و قاتله الصحابة و حتى أزواج النبي – صلى ال عليه و
ضنْ على قتله ،و قالت عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها ": -اقتلوا نعثلً فإنه قد كفر " ح ّر ْ
آله وسلم – قد َ
.
وما كان غرض معاوية طلب الثأر لعثمان ،وهو يعلم أنه ل ثأر له ،بل غرضه حسد علي و آله ،و أخذ نصيب
من الملك إن لم يكن كله ،حتى على القل أن يكون له الشام يكفيه بدل من أن يكون والياً فقط يبقى ما أبقاه
المام ،ويزول إذا رأى زواله ،وكانت له آمال طواها في ضميره ،و َر َمزَ إليها بدم عثمان .
و حب الرئاسة متغلغل في نفسه ،و له خبرة [ ]335تامة بحقيقة علي بن أبي طالب ،وببني هاشم أيضاً ،
كخبرته بأنصار علي وهم العراقيون ،و بأنصاره أيضا ،و هم أهل الشام ،فكان المر بحيث طار إلى عنان
السماء ،و بلغ الذروة العالية ،فا ْنشَقّ النّاس كما أراد ،وبلغ بانشقاقهم المراد ،و ما كان مبالياً بما يلقي في
سبيله هذا ،هان الخطب أم عظم .
=============================
( )1أخرجه أبو داود في ( – 40كتاب الداب – 20باب في تنزيل الناس منازلهم ) ص 684رقم . 4842
حيْصَةَ -:أي نفروا له نفرة ( القاموس المحيط )616 /مادة حاص .
( )2حاصوا له َ
فهذا حال معاوية ،و ذلك غرضه ،فهل بقية له عند المسلمين ولية – و الحال هذا – فما للقوم يترضون عنه ،
ويستغفرون له ،و الترضي ،و الترحم ،و الستغفار ،هي ثمرة الولية بنص الكتاب العزيز ،إلّ عند َمنْ ل
يَفْ َهمُ .
وعلي بن أبي طالب إذ ذاك المام المطاع ،إذ كان صحيح المامة قبل أن يتركها يتلعب بها الحكمان وَلَيّاهُ أو
عزَ َلهُ ،وقد خدعوه بذلك خدعة ما لها مثيل في حديثهم ،و ل شبيه لها في دهاء الناس ،حيث جعل معاوية َ
وهو أحد ولة المام صفاً مقابل للمام ،يباريه في إمامته ،ف ِإنّ معاوية ما كان في الصل إمام حتى يكون الخيار
للمسلمين في أحد المامين المتخالفين ،حتى جعلوه بهذه المثابة .
و هنا وقع السكوت عن دعوى دم عثمان ،إذ لم يكن مقصوداً بالذات ،وقد رضي علي بخلعه ،فخلع بذلك
نفسه ،و رمي بإمامته من عنقه إلى أبي موسى الشعري و عمرو بن العاص يقضيان فيها ،و كان الواجب أن
يقضي في القضية ذو الفقار فتركه في غمده يبكي على إمامته المصونة ،و يندب أوامر الكتاب والسنة ،وبقي
علي يَ َترَجّى إمامته تعود إليه من مسرحها النائي أو يعيدها إليه [ ]336الحكمان ،أو يعيدها إليه المسلمون
الذين ولوّه إيّاها أولً ،معتقد أن المسلمين ل يرضون غيره ،و أن المر رهن إشارته .
هيهات لقد حنق المسلمون من ذلك الحال الذي أنت وافقت عليه مُتَبِعاً للشعث الذي يحاول أن يقضى عليك ،ثم
و أنت تعتقد أن المسلمين ل يريدون غيرك ،لقد خرجوا عنك مما رضيت به ،فعهد ال الذي وقع في القضية قد
حال بينك و بين ما ُأمّلْتَ ،و ها ذاك أبو موسى الذي أرسلته حكماً قد َهرَبَ إلى مكة ،و لم يعد إليك بعدما قضى
المر بينه و زميله عمرو بن العاص.
فمتى كان معاوية إماماً فيثبته عمرو بن العاص على ما كان ،أليس السيف يثبته أميراً ،و أنت ترى و تسمع ،
و إذا ناقشت نفسك هل ترى بقيت لك في عنق أحد من المسلمين ،فالذين حملوك على التحكيم لم يبق عليهم
شيء بعد رضاك ،و من نهاك عن التحكيم فمن باب أولى ل شيء عليه إذ نهاك ]337[.
كان علي ل يرى اجتماع المسلمين على غيره ،و على كل حال اجتمعوا أو َت َف ّرقُوا فهو مرجعهم ،لكن بقي هنا
أنه لم يرى أن الملك العضوض قد بدأت طلئعه ،و قد أخبر عنه رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم -فمتى
يعود عليه المسلمون الذين يعتقد فيهم ذلك العتقاد ،و هو قد أعطى العهد والميثاق على التحكيم ،و المسلمون
يرونه ضللً ،و على أنه أجبر عليه كان واجبه رفض المامة ،و ل يكون سبباً في عمل الباطل ،كان عليه أن
يقول إن كنتم ل ترون إل ذلك فاعذروني و إليكم أمركم ،اصنعوا ما شئتم ،فيكون له عذر صحيح ل يلومه عليه
أحدٌ أبداً .
خ ِدعَ بالقوال الفاسدة ،و انقاد تبعاً لها ،وليس له ذلك شرعاً ،فمن هنا فارقه المسلمون ،و عالجوا
و لكنه ُ
المر بمن هو صالح غير مطعون فيه بشيء ما ،و هنا أيضا حملوه على قتلهم ،فكانت الطّا ّمةُ بقتله المؤمنين .
وكان علي بن أبي طالب سليم الصدر من الغوائل التي عليها معاوية و أحزابه ،لطلب المارة لمعاويتهم ،بكونه
ابن أبي سفيان ،و أنه ذو الخلق الواسع ،و الصدر الرحب ،ل يناقش عن الجليل ،و ل يسأل عن الكثير ،و ل
يبخل عليهم بخلف علي العابد ،الزاهد ،الراكع ،الساجد .
و كذلك عمرو بن العاص ل يرى له نصيباً في المارة مع علي بن أبي طالب ،لذلك يهوى زوال المر عنه إلى
معاوية بن أبي سفيان ،الذي يأمل أن ينال معه كل مرامه ،و ل سيما و قد شارطه على ذلك ،و الدنيا لها
رجال ،و للخرة رجال آخرون ]338[ ،و حب العاجلة غالب على قلوب الكثيرين كما هو معروف .
و كان عمرو داهية كبرى في رجال السلم ،و هو يعلم حقيقة العلم َأنّ علياً غير تاركه على عمله مهما كان ؛
َلنّ علياً يراعي العدالة ،و يكون مع الحقّ ،و ل حق عند عمرو يرضاه علي .
و معاوية داهية أكبر من عمرو بن العاص ،و هما يعملن على التغلب على علي بن أبي طالب الذي ل يرضيانه
أميراً عليهما ،لذلك شغبا عليه ،و ظل يكيدانه ،فدسا في أذهان السواد الذين هم في معزل من هذه الحوال .
و السياسة للمير من لوازم المارة مهما كانت ،فللدّين سياسة كما للدّ ْنيَا كذلك ،و ال ُم َوفّقُ مِن الِ قد يحتوى
عليهما معاً ،و أي أمير ل سياسة له تلئم موقفه ،و تساير وقته ،فل تقوم قناته مهما كانت ،و ل أشهر أموره
كما يرجو ،و ل يبلغ في عدوه ما يأمل ،و السياسة هي القوة الفعالة قبل كل شيء ،و هي على الحقيقة
الجيوش القتالة ،و ل يكفي المير َأنّ يكون فقط على خطة الشريعة الظاهرة السطحية ،فإن العيون والجواسيس
عدِ النبي سليمان بن داود – و نحوهم قوة تعضد المير طبعاً ،فالسياسة حتى في لحظ العين ،فانظر في تَ َو ّ
و إِنّما كان ذلك من نبي ال سليمان بن داود من باب السياسة في مملكته الكبيرة ،التي خَوّ َلهُ ال إِيّاها ،و علي
ظنّ َأنّ َلهُ حظاً في
بن أبي طالب لم تكن له سياسة ،و إنما كان يعتمد على قوة إيمانه ،و على نفسه ،و ِإنّ َ
السياسة فقد خانه ظنه ،و للسياسة أناس شُ ِهرُوا بها جاهليةً و إسلماً ،و كان علي يعتمد على ما انطوى عليه
ضميره ،و يفعل ما جرى به تعبيره ،و ل يمد نظره إلى شيء آخر ،فهو إمام العلماء في المشكلت الشرعية ،
ف زهده في الدنيا ، ع ِر َ
و إمام الفقهاء في الحضيرة الفقهية ،و إمام أهل اليمان في الدوحة السلمية ،قد ُ
وخلوه من سائر الهواء ،وبذلك اصطاده أنصاره ،فقادوه لغراضهم ،و توصلوا به إلى ما تهوى أنفسهم .
و من ذلك ثورته على أهل النهروان ،و إن كان هو لم يقصد قتلهم لنه العلمة الوحيد يعلم حجتهم عليه ،و
لكنهم قتلوا تحت رايته ،و هو بمرأى منهم و مسمع ،بل كان قتلهم بين يديه ،فلذلك قال المسلمون هو قاتلهم ،
لن فعل جيشه معدود عليه طبعاً ،و مسئول عنه شرعاً .
ع ّبرُوا له عن حقيقة أهل النهروان ،تعبيراً رآه أمراً ضرورياً َتمَ ّكنَ من ضميره ،
ف ِإنّ أصحابه الدهاة المغرضين َ
فتقد في ذهنه اتقاداً ،أشعل نيران حماسه عليهم ،فهاجمهم جيشه مباغتة حتى قضى عليهم ،و هم في مأمنهم ،
لم تبد منهم بعد بادية ،و ل ظهرت منهم حركة إل ما شاع من تجمعهم و بيعتهم لعبدال بن [ ]340وهب
الراسبي ،وعلى ذلك ثارت عليهم عداوة خصومهم ،فقضت عليهم بدل أن تشد عضدهم ،و تناصرهم ،إذ ترى
الحقّ معهم .
وبذلك وقع علي في بلية أخرى أحاطت بمحيطه من كل جهة ،فلم تزل تهوي به في الحضيض السفل ،و كيف
جرْمِ ما ،بل كانوا فروا من
ل و دماء أربعة آلف أَوّاب على أقل الروايات في عددهم سفكت تحت رايته بغير ُ
الباطل ،و من أهل الضلل المتلعبين بالمر على حساب المام كما أشرنا إلى ذلك في " نفحات الظهر " :
وشأن الصدوق الغترار بكل ما يسمع أو يرى ،لَنّه يرى النّاس كما يرى نفسه ،و كم لهذا من شواهد بين
أيدينا ،و منه قول المام السالمي – رحمه ال " : -إني لنزه البخاري عن الكذب ،لك ّنهُ يأخذ عن أهل الهواء
ثقة بهم " ( )1أي فلذالك روى في صحيحه ما ليس بصحيح ،كما ثبت عن أهل العلم )2( .
===============================
( )1شرح الجامع الصحيح ()1/57
( )2راجع الطوفان الجارف الجزء الثالث للشيخ العلمة سعيد بن مبروك القنوبي
فترى في كلمه ما يدل أن في حديث الصحيحين ما هو منتقد عند الحفاظ ،فكان ذلك مصداقاً لكلم المام السالمي
– رحمه ال ، -ف ِإنّ البخاري ل يرضى أن يروي عن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – [ ]341غير
الصحيح إِلّ أَنّه يعتقد أنه ل يوجد مسلم يكذب على رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – أو على ال فهذا
أعظم .
صحّ الكذب عليه – صلى ال عليه و سلم – في حياته كصاحب ثقيف و أمثاله ،و قد أشار إليه – صلى ال و قد َ
عليه و سلم – بقوله َ " :منْ َكذَبَ عََليّ مُ َت َعمِداً فَلْ َيتَبَوأ مَ ْق َع َدهُ مِن النّارِ " ( ، )1ثم وضع رسول ال – صلى ال
عليه و آله وسلم – قاعدة قد يتبين بها الكذب عليه – صلى ال عليه و آله وسلم -و هي قوله – صلى ال عليه
علَى كِتَابِ الِ َ ،فمَا وَافَ َقهُ فَ َعنّي وَ مَا خَالَ َفهُ َفلَ ْيسَ مِنّي " ( )2و في رواية
ع ِرضُوهُ َ
و سلم " : -مَا أَتَاكُمْ عَنّي فا َ
"فَكَ ْيفَ أُخَالِفُه وَ ِبهِ َهدَانِي رَبّي " .
َفدَلّ هذا أَنّه سيأتي المكذوب عليه – صلى ال عليه وآله وسلم – ،وقد تجاسر بعضهم فكذب عليه في حياته مع
علمه أنه يأتيه الخبر من السماء ،فكيف به بعد موته ؟! ،ولذلك قام علماء السلم بانتقاد الحاديث التي تروى
حرّرُوا له قواعد لقصد حفظها من الدخيل . عنه صلى ال عليه و سلم ،و وضعوا لها ألقاباً و شروطاً ،و َ
خمِينَ ،فربما انتقدوا غير المنتقد ،و ربما رووا الموضوع نظراً إلى كثرت ظنّ ،و التّ ْ
و لكن غاية ما عملوا ال ّ
رواته ،و ربما أسنده الكاذب إلى أجلة العلماء ،و حكاه من طرق عديدة ل ُي ّردُ بها ،لقصد رواجه ،وتبرير
غرضه ،و ل وحي بعد موت النبي – صلى ال عليه و آله وسلم . -
و من هذا القبيل جملة أحاديث جاءت عند الرواة يعتقدون صحتها و ليست بصحيحة ،و للناس غوائل ،ف ِإ ّ
ن
بعض العلماء الجانب أيضاً وضعوا أحاديث نسبوها إلى علماء السلم ]342[،و رفعوها إلى النبي – صلى ال
عليه و سلم – ،و القاعدة المشار إليها أكبر دليل في المقام عند علماء السلم ِل َردّ المفترى عليه -صلى ال
عليه وآله وسلم . -
فعلي بن أبي طالب يعتقد أَنّه أحق بالمر من كل أحد ؛ لذلك لما بويع أبو بكر – رضي ال عنه – َت َبرّمَ ِم ْ
ن
بيعته ،و تََلكّأَ عليه ،ولما بُو َيعَ عمر بن الخطاب زادت حيرته في المر ،وطال استغرابه للواقع لهذا الحال ،و
بقي في نفسه بعض التحرج لكنه زال بإيمانه ،و لما بُو َيعَ عثمان أيقن َأنّ النّاس على غير ما هو عليه ،و َأنّ
ظَنّهث لَمْ َيرَ عليه أحداً ،و سبب ذلك الظن الذي تغلغل في ذهنه رأى نفسه في مقدمة الصحابة ديناً ،و إيماناً ،
ع َملً ،و شجاعة ،و إقداماً ،و أَنّه ابن عم الرسول – عليه الصلة و السلم، - علْماً ،و َ
ع ّفةً ،و تقوى ،و ِ
و ِ
و زوج البتول ،فهذه الخصال كلها تناجي علي بن أبي طالب باختصاص المامة عن غيره من بقية الصحابة
الذين لم تكن لهم هذه الحوال التي ذكرناها .
و ذلك بديهي في المم كلها َ ،أنّ ولد المير ،أو أخاه ،أو قريبه ،يرى نفسه الحق بخلفة الرّاحل ،و ل يعتقد
غالباً أن الرأي للمة التي سيكون المير عليها .
فكان الشعث بن قيس يتلعب بالجيش كيف يشاء ،حتى َتمّتْ عمليته بقتل أهل النهروان ،و بذلك انحل نظام
المر من يد علي بن أبي طالب ،فعاد إلى الكوفة ،وهم بالقيام لحرب الشام ،فلم يستطع علي تحريك ساكن من
جيشه ،و لم يقدر على فعل مما كان في نفسه ،حتى لح نجم الخلل في أموره ،و بدرت بوادر سقوط هيبته ،
تجاسر عبد الرحمن بن ملجم المرادي عليه ،و تجرد لقتله ،فكان قاضياً عليه ،و انتهت إمارته في ظرف أربع
سنين و تسعة أشهر كانت كلها فتناً داخلية ،فوقف بذلك شوط الفتوح السلمية الذي كان امتد حبله منذ حياة
النبي – صلى ال عليه و آله وسلم – إلى أبي بكر الصديق ،و عمر الفاروق ،وعثمان بن عفان أيضاً .
َأمّا أيام علي بن أبي طالب فكلها كانت داءً دفيناً بين المسلمين ،تَ َغلّبَ فيها معاوية بن أبي سفيان ،و تَ َولّى المر
عن علي و آل علي ،و أصبح معاوية خليفة المسلمين رغم َمنْ يكرهه و يلعنه ،إذ كانت له سياسة و مهارة
تدبير ،و اهتمام كبير ،أما علي بن أبي طالب فمهارته الضرب بذي الفقار ،و قطع العناق في الزمات الحرجة
.
صحّ عندصحّ هذا عند أهل العلم ،و ل في خلقه أسرار و حكمة ،هي مصباح العتبار لذوي البصار ،وقد َ وقد َ
أهل العلم ،و ثبت في تاريخ الصحابة – رضوان ال عليهم – ما قلناه عن علي المام ،و هو ما دَوّ َنهُ أهل
السير ،و ل شك أن كلً ميسر [ ]344لما خلق له ،و أهل العلم بالسير كذلك يرون في تحقيق هذه القضايا
الهامة .
ع ّمنْ
و استقراء أحوال هؤلء يظهر عنهم حقائق العمال ،و عجيب الخصال ،لهذا كان التاريخ لسان تعبير َ
مضى من الرجال ،لمن يأتي من البطال و أرباب العمال ،و التوفيق كرامة من ال عز و جل .
و أغلب الناس أهل أهواء ،و الماضي أكبر شاهد ،و الدهر عنوان على الرجال ،يدل على ما تنطوي عليه
ضمائرهم ،أل ترى الناس يذكرون عمر بن عبد العزيز ،وهو أموي بما ل يذكرون به أحد من سائر بني أمية ،
و قد كان معاوية صحابياً و هل كان عمر بن عبد العزيز صحابياً ؟ لَ ِكنّ التاريخ يحدثنا عن كل واحد بأعماله و
أفعاله ،و دينه و نواياه ،و هذه هي ميزة التاريخ بين سائر العلوم .
و على كل حال َأنّه عِ ْلمُ المراء ،و سمير الزعماء ،ومحدث الكبراء أحديث الملوك والوزراء ،و لن يرغب عنه
إل خُلِيّ البال ،أو سافل العمال ،أو خائر الهمم و العزائم .
و لقتفاء آثار السلف ل يكون إل به ،و السير في المة ل يمكن إل على وحيه و وعيه .
و َمنْ يراعي في المامة ميزان العدالة ل ُبدّ و أن يعطي كل إمام حقه من حياته ،و يبرهن على صحة أعماله ،
بما حفظ من آثاره ،و لول ذلك لكنا نجهل كيف مشى رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – في المة حال
نبوته ،وكيف عمل أصحابه و خلفائه من بعده ،و التباع للمسلم خير من البتداع ،و القدوة الصالحة هم
السلف الصالح من صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ،فنحن معشر الباضية هذا منهجنا سلفاً و
خلفاً ،و الحمد ل ]345[ .
==================
( )1أخرجه الربيع بن حبيب في – 56باب إثم من كذب على رسول ال ص 283رقم ، 738وأخرجه البخاري في ( – 3كتاب العلم -38باب إثم
من كذب على النبي ) ( ) 1/47رقم 106و 107و 108و 109و ، 110وأخرجه مسلم في ( – 53كتاب الزهد والرقائق -16باب التثبت في
الحديث ) ( )2298 /4رقم ، )3004 ( 72وأخرجه الترمذي في ( – 24كتاب الفتن – 70باب ) ( )224 /4رقم ، 2257وأخرجه أبو داود في (
– 24كتاب العلم – 4باب التشدد في الكذب على رسول ال ) ص 524رقم 3651وأخرجه ابن ماجة في ( المقدمة -4باب التغليظ في تعمد الكذب
على ) ص 5رقم 30و 31و 32و 33و 34و 35و 36و 37وأخرجه الداري في ( المقدمة – 25باب إتقاء الحديث عن والتثبت في) ()1/54
رقم 231وهو حديث متواتر لفظي فل داعي إلى تخريجه أثر من هذا .
[الشرح ]
اعلم أَنّه َلمّا كان المتقاتلون كل فريق منهم ُيصَوّبُ نفسه ،التزم كُلّ فريقٍ أيضاً أن يحكم على خصمه بالبطل ،و
َيسْ َتحِلّ قتاله بذلك ،و ينسب إلى غيره الخطأ و الغلط ،و ظَلّ يلعن بعضهم بعضاً ،و ُيضَلّل بعضهم بعضاً كذلك ،
و على كل حال لَ ُبدّ لبعضهم من أن يكون محقاً و بعضهم مبطلً ،و من الواجب أن يراعى جانب المحق لما معه
من الحقّ ،فَيُ َنزّلَ منزلة أهل الحقّ ،فما كان له عند المسلمين من ولية فهو باقٍ عليها ،و يبرأ من المبطل
عدْلً إِلّ ما يَهْوَاهُ هواه .
صرْفاً ،و ل َ
طلَ ِنهِ ،المتهالك عليه ل يقبل فيه َ
المصر على بُ ْ
و هذا هو الواجب الذي افترضه ال على عباده بنص القرآن ،و بحكم السنة عند سيد آل عدنان – صلى ال
سِلمِينَ
جعَلُ ا ْل ُم ْ
عليه و آله وسلم ، -لنه ليس من الحق في شيء أن يجعل المحق و المبطل في مقام واحد " َأفَنَ ْ
ج ِرمِينَ ( )35ما َلكُمْ كَ ْيفَ تَحْ ُكمُونَ " ( )1في أمثالها .
كَا ْلمُ ْ
طأَ فَ َل ُه
جرَانِ ،وَ َمنْ اجْتَ َهدَ َفأَخْ َ
و ل حجة لهم في قولهم ِإنّ الكل مجتهدون ،و الحديث " َمنْ اجْتَ َهدَ َفَأصَابَ فَ َلهُ أَ ْ
جرُ اجْتَهَا ِدهِ " ( ، )2فإن ذلك فيمن اجتهد في قضية لم َي ِردْ فيها َنصٌ من كتاب أو سنة ،و القضية [ ]346من أَ ْ
صرّحُوا فيه بتحقيق لم يُبْقِ لحدٍ قضايا الفروع التي هي محل الجتهاد ،فإن الجتهاد له مقام حققه العلماء ،و َ
مجالً أو مقالً يأتي به في غير ذلك المقام .
َأمّا الصول الدينية فليس للجتهاد فيها محل إجماعاً ممن يعتد بإجماعه من المسلمين ،و من اجتهد فيها فهو
خارجٌ عن الحقّ ،و عادلٌ عن النهج السوي ،مائل إلى الهوى ،كما قال المام –رحمه ال– في أنوار العقول (
: )3
و معنى أن الجتهاد في الصول التي أوجب ال عز و جل الدينونة بها موجب للهلك فيها ،تارك للحقّ ،مائل
إلى الهوى ،فلذلك يهلك عندهم ؛ َلنّ ال لم يأذن للجتهاد فيها بعدما حكم بها ،و كَّلفَ العباد العمل بمقتضاها ،
و إل كان الشرع مُ ْبنِيّا على آراء الناس ،فيجتهدون في كل شيء ،و ل يقول بهذا عاقل ،هذا هو التحقيق لحكم
هذه القضية عند المسلمين .
و أين الجتهاد في قضايا الصحابة ؟ ،و الحقّ واضحٌ بَ ّينٌ مفروضٌ بالنص الصحيح ،و اللفظ الصريح ،و
صرّحُ بحكم الباغي و المبغي عليه ،و قد قال ال عز وعل في كتابه " :فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى البراهين التي ُت َ
تَفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " ( )4فَبَ ّينَ َأنّ الناس في حال اختلفهم باغٍ ومبغي عليه ،ل ثالث لهما ،و بَ ّينَ َأنّ حكم
صحّ الجتهاد صحّ لحدٍ تبديل هذا الحكم أو الجتهاد فيه ؟ ،ولو صح ل َ الباغي يقاتل حتى يرجع عن بغيه ،فهل َي ِ
في كل شيء كما قلنا .
و من أين لمعاوية بن أبي سفيان أن يقاتل علياً و هو إمامٌ بالجماع ،و لم يقترف إثماً يوجب القيام عليه .
و كيف يكون الكل [ ]347مجتهدين و الصل الذي عليه المام جلي نير ،كالشمس في رابعة النهار ،فما لهؤلء
القوم ل يكادون يفقهون حديثاً ،بل المجتهد في المور الدينية متهور يجب عليه ترك الجتهاد ،و التوب إلى ال
مما اقترف و إِلّ كان هالكاً .
وتجب البراءة منه لجل ما ارتكب من الثم الذي ل محتمل له فيه أبداً ،و ل يقبل المسلمون منه صرفاً و ل عدلً
،إل إذا تاب إلى ال من ذنبه ،و رجع إلى ربه متنصلً ممتثلً أمره ،فمن تاب إلى ال فإن ال يقبل التوبة و
يعفو عن السيئات .
حقّ ،و ينادي بباطله حتى يشتهر ذلك عنه عند المسلمين ،الذين علموا منه ذلك
و عليه أن يقوم بتصويب المُ ِ
الذنب الكبير و الجرم الخطير .
قال المام – رحمه ال– في المشارق ":و َأمّا المج َت َهدُ فيه فهو الحادثة التي لم يوجد حكمها في كتاب و ل سنة
و ل إجماع " ( )5أي أن محل الجتهاد الحادثة التي ل يوجد لها حكم في كتب ال ،و ل في سنة رسول ال –
صلى ال عليه و سلم – و ل في ما أجمع عليه المسلمون .
قال " ف ِإذَا خَالفَ اجتهاده الحقّ المجمع عليه فهو هالكٌ و العياذ بال " ( )6و أنت تدري أن إمامة علي بن أبي
شكٌ في أن الخارج على المام المجمع على إمامته غير مبطل ؟ ،ل و ال ، طالب كانت مجمعاً عليها فهل َبقِيَ َ
إن علياً كان هو المام الحق الذي اجتمعت المة على إمامته ،و لزمتهم طاعته ما لم ينقضها بشيء ،
فالخارجون عليه في تلك الونة مبطلون ول محل للجتهاد هنا ،و المر واضح ،و الحقّ بين .
و المام العدل بين أظهرهم أيقال هنا :ألكل مجتهدون ،و محل الجتهاد قد عرفته ،إنما هنا الواجب تضليل [
]348الخارجين على المام الحق ،و وجوب قتلهم عليه لنهم بُغَاةٌ على المام ،و ال أمرنا بقتال الباغي بقوله
" -:فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " (. )7
و قد أجمع المسلمون على أن الجتهاد محله فروع الدلة ،لنها هي التي تقبل التأويل ،و بها يقع التنظير ،و
ذلك مناط الجتهاد ،أما الصول فهي قاطعة لمعنى الجتهاد و النظر إجماعاً .
صحّ أن يقال أن الصحابة كلهم مجتهدون ُ ،وفّق َمنْ ُوفّق ،و من لم يوفق فهو أيضاً مأجور باجتهاده ،و
و ل َي ِ
ل تَ ِب َعةَ عليه فيما فعل ،و ل إثم عليه فيما اجترح ،فإن قضايا الصحابة كلها محكوم فيها من لدن العزيز الحكيم ،
و ليس لحد منهم فيها مجال نظر ،بل الواجب إتباع أحكامه عز و جل فيها ،و قد َبيّنَا محل الجتهاد .
ومراعاة أحوال المة واجبة ،فإن الناس يخلقون أشياء ،و يختلقون أحوالً يستترون بها ،ويضعون الباطل في
صورة الحقّ ،ليتوصلوا به إلى أغراضهم الخاصة ،ويعكسون القضايا حسب الهواء ،و ل يبالون ،و لكن على
الحاكم على قضاياهم النظر الصحيح و العقل الرجيح ،و أن ل تأخذ به الهواء فيميل إلى ما تهوى ،فإن الحق
بذلك ل يدري ،و الصحيح من السقيم [ ]349ل يعرف ،و للناس أهواء سيئة تحملهم إلى ركوب الباطل ،
والعتماد على المنهج العاطل ،إذا لم يزعهم وازع ديني ]350[.
==================
( )1القلم . 36-35 :
( )2أخرجه البخاري في ( – 76كتاب العتصام – 21باب أجر الحاكم إذا اجنهد فأصاب او أخطأ ) ( )401/ 4رقم ، 7352وأخرجه مسلم في( 30
– كتاب القضية – 6باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فاصاب أو أخطأ ) ( )1342 /3رقم ،)1716( 15وأخرجه النسائي في ( – 49كتاب آداب
القضاء -3باب في الصابة في الحكم ) ( )223/ 8رقم ، 5381وأخرجه أبو داود في ( – 23كتاب القضاء -3باب في القاضي يخطيء) ص 513
رقم ، 3574وأخرجه ابن ماجه في ( -13كتاب أبواب الحكام -3باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق ) ص 331رقم ، 2314وأخرجه أحمد في المسند
( ) 490/ 13رقم . 17702
( )3بهجة النوار شرح أنوار العقول ص 4
( )4الحجرات . 9 :
( )5مشارق أنوار العقول ( )1/178
( )6مشارق أنوار العقول ( )1/179
( )7الحجرات . 9 :
الخطأ في الدين
[الشرح ]
اعلم َأنّ الخطأ على أنواع منه خطأ بعلم أي يعلم أَنّما فِ ْعُلهُ خطأٌ ،و الخطأ بغير علم أي ل يعلم أنه وقع في خطأ ،
خطَأُ و ال ِنسْيَانُ " ( )1أي رفع إثمهما أما وجودهما فل ،إذ هما موجودان في البشر عنْ ُأمْتِي ال َ
و الحديث " ُر ِفعَ َ
،و ل َيسْلَمُ منهما أحد فيما علمنا .
و منه الخطأ في الدّين إما حكماً ،و إما فتوى أي بأن يخطئ في حكمه أو في فتواه في شيء من الدّين ،أي في
شيء مما يدين بتحليله فيحرمه أو يدين بتحريمه فيحلله ،فإذا أخطأ المفتي في فتواه عُفِيَ عن إثم خطأه ،أي ل
إثم عليه في الخطأ المشار إليه .
قال المام – رحمه ال– في المشارق " :اعلم َأنّ الخطأ ِإمّا أن يكون من عالم فيما علمه ،أو من جاهل فيما
جهله ،وعلى كل حال ِإمّا أَن يكون خطأ في الدين ،أي فيما ل يجوز الخطأ فيه ،أو في غير الدين ،والمراد به
ما يسع الخلف فيه ،و على كل أيضاً فل يخلو ذلك المخطأ فيه إما أن يتعلق به اتلف مال الغير أو ل ،فإن وقع
الخطأ من العالم [ ]351في الدّين ،وهُوَ الذي َو َردَ فيه دليل قطعي كتوريث الم السدس عند وجود الولد أو
الخوة فقصد إلى ذلك َفزَلّتْ لسانه فقال لها الثلث فل إثم عليه و ل ضمان ،و إنما الثم والضمان على الذي قَبِلَ
ع ِملَ به َ ،لنّ خطأ العالم مرفوع عنه ،و إصابته مثاب عليها إجماعاً" َلنّ قوله ذلك
منه ذلك الخطأ الباطل و َ
صرّحَ الكتاب والسنة بعفوه من ذلك إجماعا " ،و أما إن كان خطأه في غير الدين خرج عن غير قصد منه ،وقد َ
" أي في غير ما ورد النص فيه " فهو أولى بالعذر فيه ،و ل ضمان عليه ،و ل إثم عليه ،و ل على من قبل
صحّ له أن يقول به على فتواه وعمل بها ،لن المقام مقام خلف ،أل ترى لو أن ال أظهر له ذلك بالدليل أنه َي ِ
قصد منه إليه ،وإن خالفه من خالفه" )2( .
سمّي المستحل مستحلً لعتقاده َأنّ ما فعله هو حلل له فعله ،أو قاله إن كان ذلك قولياً ،أو َأ َقرّهُ إن كان وُ
تقريراً ،فهو يدين ِبحِّلهِ ،ويفعله على ذلك القصد .
و هو في الحقيقة ضالٌ بما ارتكب ،فَاسقٌ بما فعل ،تجب البراءة منه بعد تتويبه و تبيين الحقّ له ،و كشف
ضلله الذي ارتكبه ،و إيضاح الحقّ في قضاياه التي استحلها .
و منه القول بالرؤية ،و اعتقاد خروج العصاة من النار ،فإن القول بهذا حرام ،لنه مصادم للنص ،ومعارض
للحقّ ،فإذا َب ّينَ له الحقّ وتاب ِممّا دان به من الضلل قُبِلَ منه ،و إل وجبت البراءة منه بعد التتويب إذ قامت
صرّ على باطله ،فل مقال فيه إل البراءة منه . عليه الحجة ،و َأ َ
قال في المشارق " -:و المستحل هو الذي يأتي الشياء المحرمة في دين ال تعالى اعتقاداً منه أنها حلل ،
متمسكاً على ذلك بشبهة [ ]352من كتاب ،أو سنة ،أو إجماع ،فهو جازم بتلك الشبهة و معتقد أنها الدليل
القاطع ،و يلتزم بها تخطئة من خالفه في ذلك ديناً ( " )3أي دائناً بذلك ل حسب نظره .
قال َ " -:أمّا إذا كان بغير تلك المثابة فليس هو بالمستحل ،و إن اعتقد حِلّ ذلك المحرم ،أو تحريم ذلك المحلل ،
فإنما هذا جاهل بقواعد الدّين الذي هو عليه ،و حكم التائب المحرم هو الذي يأتي الذنب المحرم " أي يرتكب
المر الذي حرم ال ارتكابه على وجه يعتقد أن ذلك الذنب المحرم جائز الفعل ،فإن توبته منه إجمالً كافية
مجزية " ،فل يطالب بتفصيل ذنباً ذنباً" أي كل ذنب على حدة " بل إذا قال أنا تائب إلى ال من جميع ذنوبي قبل
منه .
أما المستحل لركوب ما ارتكب فعليه أن يتوب منه تفصيلً " أي إذا كانت له عدة ارتكابات في ذنوبه ،و كان
يدين باستحللها فِإنّه ل يجزيه التوب منها إجمالً بل عليه أن يتوب منها تفصيلً ذنباً ذنباً ،كل ذنب على حدة
لنه كان يعتقدها ديناً ،فإن قال أنا تائب من جميع ذنوبي لم يدخل فيه الذنب الذي استحله إذ ليس ذلك ذنباً عنده
".
قال المام – رحمه ال " : -و في الثر ما [ نصه] وسألته عمن يتوب فقال :استغفر ال ِمنْ كُلّ ما دِ ْنتُ به من
الباطل ،و من جميع ما خالفت فيه الحقّ ،أيجزيه ذلك إذا كان قد دان بشيء من الباطل أو تولى عدواً أو عادى
ولياً ؟ قال :يجزيه ذلك إذا كان َتدَيّ ُنهُ من جهة خطأ أو قذف ،وقال َمنْ قال :ل يجزيه في هذا ،وإن كان تدينه
بشيء من البدع والضلل ،فذلك ل يجزيه حتى يتوب من ضللته تلك بعينها إل أن يكون نسيه وقد تاب من
جميع ذلك ،فإن ذلك يجزيه فيما بينه و بين ال " .
قال المام " :ففي هذا الثر تفصيل َب ْينَ ما إذا كان المستحل من أحد الفرق الضالة المعتقدة لستحلل ما حرم ال
كالزارقة ،و بين ما إذا كان أصله من أهل الستقامة فاستحل شيئاً في دين ال هو حرام بدليل في زعمه
حكِ فيه إل عدم
فاجتزى بالجمال في حق هذا الخير بعض ،ولم يجتز البعض الخر ،و أما المستحل الول فلم َي ْ
الجتزاء بالجمال قولً واحداً .
و َمنْ أتى شيئاً فيه حقوق العباد كأخذ المال الغير ،أو ارتكاب فرج محرم غصبا ،أو كان تأثير في نفس بما ل
يَحِلّ و نحو ذلك ،ف ِإمّا أن يأتيه ذلك الفاعل وهو معتقد حرمته فعليه مع التوبة غرمه لصاحبه ،و ل تجزيه
التوبة وحدها إن كان قادراً على [ ]354الغرم ،أما إذا كان غير قادر كما إذا تَ َع ّذرَ عليه وجود صاحبه ،أو َت َعذّرَ
عليه وجود ما يتخلص به ،فإنه يجب عليه حينئذ أن يعتقد الخلص منه عند القدرة عليه ،فإن حضره الموت
جدْ إلى التخلص سبيلً ،و جبت عليه الوصية به ،و ل شيء عليه فوق ذلك " ،أي أن ذلك هو نهاية ما ولم َي ِ
عليه ،و ذلك المستطاع في حقه َ " ،أمّا إذا كان أتاه وهو يعتقد حِّلهُ ،فحكمه بعكس من أتاه و هو يعتقد
حرمته ،أي فتجزيه التوبة من ذلك الشيء دون غرمه ،سواء كان قائماً في يده أو كان قد أتلفه " ( )7اهـ
بتصرف يسير .
ول يخفى عليك هذا الحكم َو َردَ في الكتاب العزيز في حق المشركين قال ال عز و جل " :قُل لِّلذِينَ كَ َفرُواْ إِن
عمّا سَ َلفَ مما أجترحُوه من أموال وغيرها ،و يَنتَهُواْ ُيغَ َفرْ َلهُم مّا َقدْ سَ َلفَ " ( )8فأثبت لهم المغفرة و العفو َ
ع ْلمِهَا َ ،ف َمنْ َأسَْلمَ
عليه أيضاً قوله – عليه الصلة والسلم " : -إِ ّنمَا قِيلَ لِلجَاهِلِيةِ جَاهِلِيةٌ لِجَهَا َلةِ َأهْلِهَا وضَ ْعفِ ِ
يءٍ وَ هُوَ فِي َي ّدهِ فَهُوَ َلهُ " ( )9فتراه – صلى ال عليه و آله و سلم – ملّك المشرك ما أخذه مستحلً في عَلَى شَ ْ
دينه ،و لم يقل بنزعه منه ،و جاء في حديث سلمان – رضي ال عنه – حين أمره رسول ال – صلى ال عليه
وآله وسلم – أن يستكتب و هو على دين ،فباعه المشركون لليهود ،فأمره – صلى ال عليه و سلم – أن
يستكتب فستكتب ،و كذلك حكم رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – في دور مكة ورباعها ،و قد دخلها
غصْبٍ ،و كان للمسلمين عنْوَة فهي لهم َ ]355[ ،فسَ ّوغَ لهم جميع ما في أيديهم من َكسْبٍ أو َ على أهلها َ
المهاجرين فيها دور خرجوا عنها للهجرة و هي ملكهم ،فخالف عليها المشركون من بعدهم و اغتصبوها فهنأها
رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و لم يردها لهلها ،و ل انتزع من أيدي المشركين شيئاً مما كان ملكاً
للمهاجرين ،ولم يُنْقَلْ عنه أَ ّنهُ َردّ على أحدٍ من المهاجرين داره ،أو شيئاً من ملكه مما وضع عليه المشركون
أيديهم .
وقد اغتصب عقيل بن أبي طالب دور رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ودور بني عبد المطلب ،
وصارت دار خديجة زوج النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – إلى أبي سفيان بن حرب غصباً ،وهي التي كان
و ابتاعت تلك الدار في غلء دور مكة بمائة ألف دينار ،فشتراها أبان بن عثمان ( )10في دور كثيرة على هذا
الحال .
================================
( )1أخرجه ابن ماجة في ( -10كتاب الطلق – 16باب طلق المكره والناسي ) ص 293- 292رقم ، 2043
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( ) 7/584رقم ، 15094وأخرجه أيضا في معرفة السنن والثار ( / 14
)186رقم ، 19590وأخرجه الحاكم في المستدرك ( ) 216 / 2رقم ، 2801وأخرجه الدار قطني في سننه
( )99 / 4رقم ، 4306وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الثار ( ، )3/95وأخرجه الطبراني في المعجم
الكبير ( ) 134- 133 /11رقم ، 11274وأخرجه أبو نعيم في الحلية ( . ) 352 /6
( )2مشارق أنوار العقول ( )201- 1/200
( )3مشارق أنوار العقول ()386 /2
( )4محمد بن نحبوب بن الرحيل القرشي المخزومي ( 160هـ 260-هـ ) أبو عبدال أحد أئمة الباضية في
المشرق ،محث ،فقيه ،مؤرخ ،بلغ الجتهاد المطلق ،ورئاسة العلماء في عصره ،له موسوعة فقهية في
سبعين جزءاً ،له عدة سير ،منها سيرته إلى أهل المغرب ،وسيرته إلى أهل حضرموت .
أنظر المام محمد بن محبوب حياته وآثاره بحث يخرج بمعهد العلوم الشرعية بأكمله .
( )5محمد بن عباد المدني ( ق 201هـ ) من متكلمي الباضية الوائل ،له كتاب ضخم في المسائل الكلمية ،
يعف ب " كناب ابن عباد " .
معجم أعلم الباضية ( . )807 /4
( )6مشارق أنوار العقول ( )387 / 2
( )7مشارق أنوار العقول ( ) 390- 2/388
( )8النفال . 38 :
( )9لم أتمكن من تخريجه .
( )10أبان بن عثمان بن عفان الموي القرشي ( ت 105هـ ) أول من كتب في السيرة النبوية ،مولده ووفاته
في المدينة ،شارك في وقعة الجمل مع عائشة ،وتقدم عند خلف بني أمية ،فولي إمارة المدينة ،وكان من رواة
الحديث الثقات .العلم ( . ) 27 / 1
قال المام – رحمه ال " : -و على هذا اجتمعت المة المحمدية " ( )1قال " -:و أما المرتد إذا أخذ شيئاً من
أموال المسلمين بعد ارتداده ،فإذا أسلم عليه قال أبو حنيفة :عليه رده ،و المذهب ل َردّ عليه إذ ل َفرْقَ بينه
وبين سائر المشركين " ،قال " - :و كذلك ال ّذمِي ِإذَا أخذ شيئاً من أموال المسلمين ثم أسلم عليه رأى
الزمخشري ( )2رده ،و صححه القطب – رحمه ال– " ،قال " - :وعندنا ل َردّ عليه إذ ل َفرْقَ بينه وبين
غيره من سائر المشركين " ،قال " -:و إخراج المرتد و الذمي من عموم الدليل محتاجٌ إلى دليلٍ " .
قال " -:و كذلك ما اغتصبه المشركون من أموال المسلمين هل يكون لهم و تجوز معاملتهم فيه أم ل و الظاهر
َأنّ ذلك داخلٌ في حكم الَوَّل ْينِ " قال المام ابن بركة ( " -: )3ليس لهم ذلك ،و ل تجوز معاملتهم فيه " ،قال
المام " -:و عليه صاحب السؤالت ( )4و المام أفلح بن عبد الوهاب ( )5و المحقق الخليلي – رحمهم ال و
رضي عنهم – " ،قال " -:ولعلهم يستدلون على ذلك بقوله عز و جل َ " -:ولَن َيجْعَلَ الّ ِللْكَا ِفرِينَ عَلَى
ا ْلمُ ْؤمِنِينَ سَبِيلً " ( " ، )6قال " -:وذلك غير ظاهر ،و جعلهم منزلة المشرك إذا أسلم على شيء في يده كذلك،
لن هؤلء مغتصبون ونفس الغتصاب ل يُحِلّ لهم أموال المسلمين ،و لو كانت أموال المسلمين َتحِلّ للمشركين
بنفس اغتصابهم [ ]357له كان داعياً لهم إلى الغتصاب على هذه الحوال يلحظ هؤلء الئمة العلم " (. )7
قلت :الواضح عدم الفرق ،قال المام الربيع ( )8و أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم ( )9و أهل التحقيق من
علمائنا أهل المغرب – رحمهم ال و رضي عنهم – و صححه القطب ابن يوسف ليس لصاحبه أن يأخذه منهم ،
و تجوز معاملتهم فيه ،وهذا القول سَهّلَ من أمر أهل زنجبار في هذه الونة التي نحن فيها إذ هجم الكفار على
أموال المسلمين و اغتصبوها قهراً و قسراً ،بل وقتلوا غالب أهلها ،واضطر المسلمون الباقون بها إلى
معاملتهم فيها ،و يدل لهذا ما دل على ما قبله ،و هو أن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – أبقى
المشركين على ما أخذوه من أموال المسلمين ،و تركه يوم الفتح في أيديهم ولم ينزعه منهم َ ،فدَلّ ذلك أنه
لهم ،و هذا هو بعينه الدليل بذلك ،و أمره سلمان – رضي ال عنه – أن يستكتب من اليهودي ،و سلمان ذو
دين و كان باعه المشركون على اليهودي .
سلِ ٍم
قال ":و دليل المانعين قوله – صلى ال عليه وآله وسلم – ":لَ حَقّ لِ ِعرْقِ ظَالَمٍ ولَ ثُوَاءَ عَلى مَالِ ا ْمرِءٍ ُم ْ
" ( ، )10و ما رواه نافع عن ابن عمر أنه قال " :ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرده عليه
في زمن النبي – صلى ال عليه وآله و سلم – ،وأبق عبداً له فلحق بالروم فظهر عليه المسلمون فرده عليه
خالد بن الوليد – رضي ال عنه – بعد النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – و ذلك في زمان أبي بكر – رضي
ال عنه – و الصحابة يومئذ متوافرون من غير نكير منهم على ذلك " (. )11
قال " و تكلموا على استدلل من استدل باغتصاب أبي سفيان بأن أباسفيان كان أسلم قبل المطالبة ،و كذلك
قضية سلمان – رضي ال عنه – إنما أخذه المشركون قبل أن يظهر السلم و هو يوم إذ نصراني ،و ل يخفى
ش ْركٍ ،و أيضاً
ما في النصرانية من جعل عيسى – عليه السلم – ولداً [ ]358و جعل الله ثلثة ،و كُلّ ِ
فاليهودي الذي استكتب منه سلمان لم يغتصب سلمان بنفسه ،و إنما اشتراه من غيره فما لم تقم بينه أنه
مغتصب فهو ملك لليهودي ،و عند وجود هذه الحتمالت ل يتم ذلك الستدلل ،فظهر أن الصحيح ما عليه
الولون " .
ذهب بعضهم إلى أن حكمهم حكم المشركين قياساً عليهم بجامع الستحلل ،وجعلوا منه أيضا خروج عائشة أم
المؤمنين – رضي ال عنها – على المسلمين فسفكت بسبب خروجها الدماء فلما تابت قبل المسلمون منها و لم
يلزموها شيئا من الحقوق ،وجعلوا أيضاً منه خروج علي بن أبي طالب على أهل النهروان وقتله لهم حتى قالوا
لو تاب علي ما كان عليه إل ذلك ،لنه متأول فأخطأ .
قال المام محمد بن محبوب – رضي ال عنهما : -و زعمت البهشمية ( )12أن علياً قد تاب من ذلك ".
قال " -:واختلفوا أيضاً في هذا المستحل حسب اختلفهم فيما [ [ ]359اغتصبه ] المشركون من أموال
المسلمين هل يكون لهم قبل أن يسلموا عليه أم ل ؟ ،فمنهم َمنْ َذهَبَ إلى َأنّ ما أخذه المغتصب على وجه
الستحلل كان له و ليس لربه أن يأخذه منه ،و تجوز معاملته فيه و لو لم يتب من استحلله ،و منهم من ذهب
إلى أن ذلك ليس للمستحل إل إذا تاب عليه ،و ل تَحِلّ معاملته فيه قبل التوبة ،و لصاحبه أن يأخذه ِإنْ َقدَرَ عليه
،و قيل َأنّ الحكم المذكور مخصوص بالمشركين ،و أن الموحد المستحل ل يشابههم في ذلك الحكم ،فعليه أن
يرد جميع ما اغتصبه أو ضمانه إن كان قد أتلفه قبل التوبة وبعدها ،و لعلهم رأوا أن علة الحكم هنا الشرك ل
الستحلل ،فلم توجد العلة في الموحد عندهم فلم يثبت ...و َفصّلَ بعضهم قائلً إن تاب هذا المستحل وفي يده
غرْمَ عليه شيء من المغتصبات قائم العين لزمه رده إلى أربابه ،و إن تاب وليس في يده شيء قائم العين فل ُ
" (. )13
قال " و وجه الستدلل بهاتين اليتين َأنّ َمنْ كان مستحلً لشيء ل يكاد يتوقف عند القدرة عليه فهو منهمك فيه
و متهور ،فإن ظهر له خطأه و أراد التوبة منه ل يكاد يتيسر له الخلص منه لعظم ما أتلفه ،فحصلت له
المشقة و الحرج ،و ل مشقة ول حرج عليه في رد ما كان في يده ؛ فظهر الفرق عند هؤلء " ،قال " -:وعلى
هذا المذهب " (. )16
كان قد عَوّلَ على هذا المام السالمي ثم ظهر له بعد [ ]360ذلك ضعف هذا القول .
قال " -:و وجه ضعفه َأنّ علته هذه غير مطردة َ ،لنّ َمنْ تَهَ ّورَ في شيء وهو منتهك لزمه غرمه اتفاقاً ،سواء
شَقّ عليه ذلك أم ل ،فلو كان شدة عسر و وجود المشقة رافعين للضمان لرفعا عن هذا المنتهك المتهور أيضا ،
فظهر أن العلة الرافعة للضمان إنما هي الستحلل مطلقاً أو مقيداً بالتوبة كما هو عند أهل القول الول ،أو
الشرك مطلقاً أو مقيداً بالسلم كما هو عند أرباب القول الثاني ،و إذا دار المر بين ترجيح المذهب الول أو
الثاني قلنا أن الراجح أن العلة الرافعة للضمان هي الشرك بقيد السلم فل يكون ما اغتصبه المشرك ملكاً له
حتى يسلم عليه لما َمرّ ،و ل يشترط في المشرك أن يكون مستحلً لما اغتصبه لما صَحّ أن رسول ال – صلى
حطّ ضمان ذلك عن جميع المشركين من أهل الكتاب أو غيرهم . ال عليه و آله وسلم – قد َ
ول شك أن أهل الكتاب يعرفون حقية ما جاء به محمد – صلى ال عليه وآله وسلم – لقوله تعالى " -:اّلذِينَ
هذا تحقيق المقام كما تراه واضحاً جلياً ،فاشدد به يدك فإنك ربما ل تجده كما هنا مفصلً ومؤصلً ،و الحمد ال
]361[.
لقد عرفت حقيقة المستحل مما تقدم ،و بيان الستحلل في الدّين و حكمه عند المسلمين من أَنّه ضالٌ ،فاسقٌ ،
حرّمَ ال ،و ل عذر له في منافقٌ ،ل نتوله ،و ل ُنصَوّ َبهُ في فعله ،بل نتبرأ منه إن بَقِيَ على استحلله لما َ
ضلّل استحلله ،و لو ادعى الجهل بمعرفته لذلك ،فهو باق على فسقه ،ولو كان معذوراً لذلك لحكم بالنجاة لل ُ
الذين بغوا في الدّين ،و خالفوا المسلمين ،و انتحلوا لهم مذاهب اعتمدوا عليها ،و أقوالً ركنوا إليها ،و ل
يرضى ال عز و جل غير الحقّ ممن كان وفي أي زمان ،فإن المتقاتلين في كل زمان كل فريق ُيصَوّبُ نفسه ،
جرَ بَيْنَ ُهمْ
ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ
و َي ّدعِي الحقّ له ،والصدق معه ،و بذلك يكون معذوراً " -:لَ َورَ ّبكَ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ حَتّىَ يُ َ
حرَجًا ّممّا َقضَيْتَ وَ ُيسَّلمُواْ َتسْلِيمًا " (. )19
جدُواْ فِي أَن ُفسِهِمْ َ
ثُمّ لَ يَ ِ
فعلى من استحل شيئاً يجب عليه القلع عن استحلله ،و الرجوع فيه إلى الحقّ ،و َردّ ذلك الشيء المستحل إلى
أهله ،و العتراف عند المسلمين اعترافاً صحيحاً شاهراً ظاهراً أنه راجع عما كان عليه ،تائب إلى ال عز و
جل منادياً بذلك عند كل من علم استحلله ،حتى يرجع إلى الولية عند المسلمين ،و يدخل في حضيرة المؤمنين
،فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له ،و ذلك من فضل ال علينا و على الناس ،ومن عظيم رحمته .
فمن كان اعتقد استحلل دماء المسلمين أو استحلل أمولهم بدين فعليه أن يشهر رجوعه ،ويشيعه راجعا
حرّمَ ال ،و محللً لما أَحَّلهُ ال ،ف ِإنّ الخطأ في الدّين ل
حرِماً لما َ
متنصلً إلى ال دائناً بخطأ ما كان عليه ُ ،م َ
صحّ ،و ل يعذر الذي يأتيه حتى [ ]362يرجع و يتوب إلى ال. َي ِ
=======================
( )1مشارق أنوار العقول ( . ) 392 /2
( )2محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري ( 467هـ ) 538 -أبو القاسم ،جار ال ،من أئمة العلم بالدين والتفسير ،واللغة والداب ،من
اشهر كتبه الكشاف ،وأسس البلغة والمفصل وغيرها .العلم ( ) 178 / 7
( )3عبدال بن محمد بن بركة السليمي الزدي البهلوي ( ت 362 :هـ ) أبو محمد ، ،أحد أقطاب المذهب الباضي ،وأحد المجددين في الفقه
الباضي ،كان عالماُ مجنهداً محقق ،أصولي ،له عدة كتب أشهرها الجامع والتقييد والتعارف وغيرها .أنظر مقدمةكتاب المام ابن بركة السليمي
ودوره الفقهي في المدرسة الباضية .
( )4عثمان بن خليفة السوفي المارتي ( ق 60 :هـ ) أبو عمرو ،أحد أعلم الباضية البارزين ،أحي المذهب الباضي بتآليفه الهامة ،امتاز بمقدرته
الجدالية في الدفاع عن المذهب ،من أشهر كتبه السؤالت ،وهو من أهم مصادر الباضية في العقيدة ،له كتاب رسالة في الغرق .معجم أعلم
الباضية ( ) 601 /3
( )5أفلح بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم ( ت 258هـ ) أبو اليقظان ،ثالث الئمة الرستميين حكم بين ( 208هـ 258 -هـ ) ،كان عالماً
من أكبر علماء زمانه فقيهاً وشاعراً ،وقد تصدر صغيراً للتدريس ،إ نفرد بآراء في علم الكلم و أعتبر لذلك إماماً ،من مؤلفاته رسالة في خلق القرآن
.معجم أعلم الباضية ( ) 120 /2
( )6النساء . 141 :
( )7لم أجد في المطبوع سواء طبعة دار الجيل بتحقيق د .عبد الرحمن عمبرة أو طبعة دار الحكمة بتحقيق عبد المنعم العافي ،وربما هذه المناقشة من
كلم المؤلف وال أعلم .
( )8الربيع بن حبيب بن عمرو الفراهيدي ( ت 175 :هـ 180 -هـ ) أبو عمرو ،محدث ،حافظ ،متقن ،من أهل البصرة ،ومن أهم آثاره الجامع
الصحيح الذي رتبه أبو يعقوب الوارجلني ،ووله إجابات وفتاوى في العبادات والمعاملت ،وكتاب آثار الربيع .العلم ( ) 14 /3وانظر المام الربيع
بن حبيب مكانته ومسنده للشيخ العلمة سعيد بن مبروك القنوبي
( )9يوسف بن إبراهيم بن مناد السدراتي الوارجلني ( و 500 :هـ 570 -هـ ) أبو يعقوب ،علم من أشهر علماء الباضية بالمغرب ،ترك بصمات
بارزة في التراث الباضي خصوصاً ،والمكتبة السلمية عموماً ،رحل إلى الندلس لطلب العلم ،ثم رجع إلى موطنه ورجلن ،له عدة كتب إلى أشهرها
،تفسير القرآن الكريم ،والدليل والبرهان لهل العقول والعدل ،والنصاف في أصول الفقه والختلف ،ورتب مسند الربيع بن حبيب وغيرها .معجم
أعلم الباضية ( . )1010 / 4
[الشرح ]
صحّ عند العلماء أصله اعلم َأنّ حديث الفتراق الذي َثبَتَ عن رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – نقله ،و َ
،أَبَانَ الحقّ ،و َر َفعَ الشقاق ،و أوضح تحقيق الدعاءات التي طالما ركن إليها المغترون ،و يتبجح بها
المخالفون ،لقد خصص الحديث المشار إليه العمومات التي وردت في سعادة المة كقوله عز و جل " :كُن ُتمْ
خرِجَتْ لِلنّاسِ " ( ، )1فهذا النص عام كما تراه ،و كذلك قوله عز و عل " :وَ َكذَ ِلكَ جَ َعلْنَاكُمْ ُأ ّمةً
خَ ْيرَ ُأ ّمةٍ أُ ْ
علَى النّاسِ ، )2( " ..اليةو نحوها من اليات الدالة على سعادة عموم المة كما ترى . َوسَطًا لّ َتكُونُواْ شُ َهدَاء َ
واعلم َأنّ حديث الفتراق ورد من طرق متعددة ،و بألفاظ مؤداها واحد ،منها قوله – صلى ال عليه و آله وسلم
سبَعِينَ [ ِف ْرقَة] كُلّهَا هَاِل َكةٌ إِلّ حدَى َو َ جدْتُهُمْ َقدْ َكذَبُوا عَلَى أَخِي مُوسَى فَافْ َت َرقُوا عَلَى إِ ْ – " :بَلَوْتُ اليَهُودَ فَوَ َ
ح َدةً نَاجِيةً َوهِيَ الِتي فِي قَوْ ِلهِ " َومِن قَ ْومِ مُوسَى ُأ ّمةٌ يَ ْهدُونَ بِالْحَقّ وَ ِبهِ يَ ْع ِدلُونَ " ( ]363[، )3و َبلَوْتُ وَا ِ
ح َدةً نَاجِيةً ،وَ جدْتُهُمْ َقدْ َكذَبُوا عَلى َأخِي عِيسَى فَافْ َت َرقُوا عَلَى اثْ َنتَ ْينِ َوسْبعِينَ ِف ْرقَة كُلّهَا هَالِ َكةٌ إِلّ وَا ِ ال ّنصَارَى فَ َو َ
هِيَ الِتي فِي قَ ْوِلهِ تَعَالى " :ذَ ِلكَ ِبَأنّ مِ ْنهُمْ ِقسّيسِينَ َو ُرهْبَانًا َوأَنّهُمْ لَ َيسْتَكْ ِبرُونَ " ( )4وسَتَ ْف َترِقُ ُأمْتِي عَلَى ثَلث
ح َدةً نَاجِيةً " فقيل له :يا رسول ال صفها لنا ،فقال " :هِيَ مَا أَنَا عََل ْيهِ وَ وسَبْعِينَ ِف ْر َقةِ ُكلّهَا هَالِ َكةٌ إِلّ وَا ِ
َأصْحَابِي " .
وفي الربيع بن حبيب – رحمه اللهو رضي عنه – أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس – رضي ال
و هاك الحديث الثاني عند الربيع بسنده الرفيع ،و هو العمدة عند أهل الحديث ،قال الربيع :أبو عبيدة عن جابر
بن زيد عن ابن عباس – رضي ال عنهما – عن النبي –صلى ال عليه و آله وسلم – قال " :ستفترق أمتي
على ثلث و سبعين فرقة ،كلهن إلى النار ما خل واحدة ناجية ،وكلهم يدعي تلك الواحدة " ( )5فافترقت المة
بعده – صلى ال عليه وآله وسلم – كما قال – صلى ال عليه و سلم – و هذا من دلئل نبوته – صلى ال عليه
وآله وسلم . -
قال المام في بيان هذه الفرق في شرحه للحديث " :عشرون في المرجئة و أربع وعشرون في الشيعة ،و اثنتا
عشر في المعتزلة ،وسبعة عشر في المحكمة " قال " فتلك ثلث وسبعون فرقه " قال " وقيل في تفصيلهم غير
ذلك " قال[ " ]364و حديث ستفرق المة أخرجه أبو داود و الترمذي و قال فيه حسن صحيح ،و ابن ماجه عن
أبي هريرة رفعه افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقه أو اثنتين وسبعين فرقة و النصارى كذلك و ستفترق
أمتي على ثلث وسبعين فرقة كلهم في النار إل واحدة " قالوا من هي يا رسول ال ؟ قال :ما أنا عليه و
أصحابي ،وهو عند ابن حبان و الحاكم في صحيحهما بنحوه ،وقال الحاكم أنه حديث كبير في الصول ،وقد
روى عن سعد بن أبي وقاص ،وعبد ال بن عمرو ،و عوف بن مالك .
قال السخاوي :و عن أنس ،و جابر ،و أبي أمامة ،و ابن مسعود ،و علي بن أبي طالب ،وعمر بن
الخطاب ،و عبد الرحمن بن عوف ،و أبي الدرداء ،و معاوية ،و واثلة بن الصقع و بهذا ترى له عن النبي –
عليه الصلة والسلم – أربعة عشر طريقا ،وترى أئمة الحديث كلهم يرويه ،وعليه فتصير تلك الفرق كلها إلى
النار لنها خالفت الحق ،فهو دليل على أنها ضالة مضلة ،خارجة عن السلم ،ل حظ لها فيه لنها خالفت
الحق ،و ركنت إلى الباطل ،و إن وافقت في شيء و استقامت لشيء من الحق فل يغني عما بقى ،و ترك بعض
الحق ترك لكله ،فل يكفي شيء عن شيء مهما كان ،وترك بعض الواجب يقضي على ما بقي منه.
و الناجية هي التي ثبت على كتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه و سلم ،و سنة الخلفاء الراشدين المهدين ،
عمل لوصية رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم . -
فعن العرباض بن سارية قال :وعظنا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – موعظة وجلة منها القلوب ،
وذرفت منها العيون ،فقلنا :يا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – كأنها موعظة مودع [ ]365فأوصنا ،
قال " :أوصيكم بتقوى ال عز و جل و السمع والطاعة و إن تأمر عليكم عبد ،فإن من يعش منكم فسيرى
اختلفاً كثيراً ،فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليه بنواجذ ،وإياكم و محدثات المور
فإن كل محدثة بدعة ،و كل بدعة ضللة " رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح .
و ل يخفى أن السيرة التي كان عليه رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و أبو بكر و عمر – رضي ال
عنهما – اختلفت آخر أيام خلفة عثمان ،وإن المنكرين عليه إنما طالبوه بتلك السيرة ،فما زال يماطلهم و
الحكام مضيعة ،ثم طلبوا منه أن يعتزل أو يعدل فأبى عليهم ،و كلهم يداً واحدة عليه إل ما كان من خاصته و
خدامه ،وكان أكثرهم من الخدام ،فحاصره طويلً و ل منكر له لما قدمنا من أنهم كانوا عليه يدا واحدة ،وهم
بين راض و بين آمر و بين فاعل ،ثم قدموا علي إماماً على السيرة الغراء ،فخرج معاوية عليه بعدما خرج عن
طاعته خوفا على وليته التي رسخت أقدمه فيها ،وخشي عليها أن تسلب ،و وازره عمرو على ذلك بعد أن
اشترط عليه ما اشترط ،ولبسوا على الناس أنهم يطالبون بدم عثمان ،ثم نكث طلحة و الزبير بيعة علي بن أبي
فطلبوا منه الثبات على تلك السيرة الواضحة ،و الطريقة الصالحة ،و أمروه بالتمسك بقوله تعالى " :فَقَا ِتلُوا
الّتِي تَ ْبغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " ( )6فأبى عليهم ظان أنه باق على إمامته ،و إن المسلمين ل يرضون غيره
بحال الذي هم عليه معه من سالف أيامهم ،و الرجل مخدوع ،ومغتر بمنزلته من المسلمين .
و لم يدري أن في المسلمين من يتبع هواه ،و الصادق ل يظن أن الناس يكذبون ،و لما أبى عليهم أن يقبل منهم
رأوا أنها داهية أحاطت بهم ،ومصيبة نزلت عليهم ،و خاصموه في القضية فخصموه ،فأعارهم أذنا صما ،و
لم يرجع إلى رأيهم ،و لم يكن من الدهاء بمكان يعرف بل كان على وجهه يمضي قدماً ،في كل مواقفه و
مشاهده ،و حينئذ تركوه آسفين عليه ،رأوا دينهم يقضي عليهم بتركه ،إذ رضيَ أن يخلع نفسه من إمامة ،
فيضعها بيد الحكمين يفعلن فيها ما شاءا ،وبذلك خرجوا إلى النهروان ،فقدموا عبدال بن وهب الراسبي إماما
لهم ،إذ ل إمامة لعلي الن عندهم ،فهو كواحد من المسلمين فكان من أمر الحكمين ما كان مما يعرفه كل[
[ ]367سقط صفحتين ] بذلك و إن كان لحظ أحوالً تأمل أن يكف بها الشر عن المسلمين ،قلنا إن هذا المر
تحمله بأمر المسلمين ،و هم مجمعون عليه فلم تحمله ،ما كان له أن يضعه من عنقه إل بعد تحقق عجزه
عنه ،و ل عجز هنا فإن المسلمين معه .
و إن قيل أن هؤلء الذين خرجوا عنه هم الذين حملوه على قبول التحكيم كما يقول المدلسون عليهم ،قلنا إن
المر بيده ،والمسلمون معه ،وفي إمكانه إجراء المياه في مجاريها ،مع أنه لم يقل عنهم ذلك ،ولو كان ذلك
منهم لحتج به عليهم ،ولم يرو أحد من أهل السير الصحيحة التي يمكن العتماد عليها في الحكم ،أما أقوال
أهل الهواء فليس حجة في مثل هذا الحال ،ثم أنه ليس من المعقول أن يحملوه عليه ،ثم يخرجوا عنه من أجله
،وهم أنصاره في مشاهده ،و إخوانه في سرائه و ضرائه ،و رضوا به إماماً لهم وقاتلوا معه عدوه ،ولو كان
المر كذلك لكان له أن يقول لهم أنتم حملتموني عليه بالمس فلم تلومني عليه اليوم ،و لم يكن ذلك فيما علمنا ،
ثم أنه لو كان ذلك منهم و هو يراه باطل لما كان له أن يوافقهم عليه ،وليس من واجبه فعل الباطل و هو المام
القدوة ،و يلزمهم أن يقاتلهم ذلك الحين الذي رأى بطلهم فيه ،و لكنه لم يفعل شيئا من ذلك .
فإن مدة الجل أربعة أشهر تتسع لهذه العمال كلها ،و لكان في إمكانه استصراخ المسلمين من نواحي البلد ،
و لكنه كما عرفت عنه قوله من زعم أن التحكيم ضلل فهو أضل ،فهذه الجملة عنه ترد كل المزاعم والحتمالت
،بل هو عند النهروانيين لم يكن إماما و للمسلمين أن ينظروا لنفسهم الصلح في دينهم [ ]370و في دنياهم .
==========================
( )1آل عمران . 110 :
( )2البقرة . 143 :
( )3العراف . 159 :
( )4المائدة . 82 :
( )5أخرجه الربيع بن حبيب في الجامع الصحيح ص 36رقم ، 41و أخرجه أبو داود في ( -39كتاب السنة -1باب شرح السنة ) ص ،650رقم
4596و ، 4597و أخرجه الترمذي في ( -41كتاب اليمان -18
باب ما جاء في افتراق هذه المة ) ( ) 25 /5رقم 2640و ، 2641و أخرجه ابن ماجه في ( – 38كتاب الفتن -17باب افتراق المم ) ص 574
رقم 3991و 3992و ، 3993و أخرجه أحمد بن حنبل في المسند ( ) 10/471رقم ، 212418و أخرجه ابن حبان ( )140 /14رقم ، 6247و
أخرجه أبو يعلى ( ، )6/342و ( )10/317رقم ، 5910و أخرجه الحاكم في المستدرك ( )4/477رقم ، 8325و أخرجه البيهقي ( )10/351رقم
. 20901
( )6الحجرات . 9 :
فلذلك خرجوا لينظروا في المر ،فرأوا أن المام أمر ضروري في الدين ،لن أمورا عظيمة ل يستقيم أمرها
بغير المام ،كالحدود ،و حماية الحوزة ،و جباية الزكاة و نحوها ،و رأوا أن علياً في ذلك الحين غير إمام ،ثم
خافوا أن يجتمع فريق من المسلمين على رجل ل يرضون إمامته فيقعون في مشكل آخر أشكل من الول .
و إن المامة أصبحت في يد الحكمين ،فهو إنما قاتلهم بعدما تحقق أمر الحكمين أنهما أخرجاه من المامة ،فأبو
موسى فر منه خائفاًَ و خجلً مما وقع ،وقد صار المر خارج من يده ،فكيف يكون أنه إمام ا لمسلمين ،و
الواقع أنه خلع إمامته إل أن يعيدها المسلمون إليه مرة أخرى .
و ما لعلي بن أبي طالب و إخوانه الذين رأوه مخطئاً فينبهوه على خطائه ،وذكروه ما وقع فيه فلم يلتفت إليهم ،
فبذلك رأوه قد ترك إمامته ،وبقي يرتقبها هل تعود إليه أم ل ؟ وهم مجمعون على أنه ل إمامة له ،و كان واجبه
هنا أن يطلب إخوانه المسلمين ويخبرهم بالمر الذي وقع فيه ،ويتبرأ إليهم من المر ،ويترك المر إليهم ،وهم
الناظرون للمسلمين ،إن أرادوه جددوا له البيعة ،و إن أرادوا غيره عليه أن يكون واحدا منهم .
وقد رأى المسلمين كيف علموا في الشورى ،وكيف يشترطون للمسلمين وهو لم يكن إماماً قهرياً ،و إنما كان
إماماً اختيارياً من المسلمين ،وعليه رد أمرهم إليهم ،فتكون له السلمة معهم ،وقد يخطأ المرء و ل عصمة إل
لنبي ،و لكن قضاء ال وقدره إذا نزل بالنسان [ ]371يعمى معهما سمعه و بصره .
و إذا كان معاوية وحزبه ل يدينون للحق ،و ل يتبعون ما يقتضيه الدين ما بال علي يتابع من ل يناقد للحق ،و
ذو الفقار في يده ،و جنود ال محدقون به ،و الرسول عليه – الصلة والسلم – يقول " :ل طاعة لمن ل يطع
ال عز و جل " رواه أحمد و الترمذي .
و عن حذيفة -رضي ال عنه – قال :كنا جلوساً عند رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – فقال " :إني
ل أدري ما قدر مقامي فيكم ،فاقتدوا بالذين من بعدي ،و أشار إلى أبي بكر وعمر -رضي ال عنهما، -
وتمسكوا بهدي عمار ،و ما حدثكم ابن مسعود فصدقوه " وفي رواية الي" فتمسكوا بهدي ابن أم عبد ،و
اهتدوا بهدي عمار فهم عاضون على وصية نبيهم – عليه الصلة والسلم – " فهذا دليل على أن الصواب ما
عليه الصحاب .
و اعلم أن اثنتين و سبعين فرقة في السلم كلها هالكة ،بشهادة رسول ال – صلى ا ل عليه و آله وسلم – إل
واحدة ناجية ،فحينئذ علم أن أغلب المة على باطل ،لن من كان على الحق ل يهلك ،و إنما يهلك الضال
الفاسق المهين ،الذي ل حظ له عند ال عز و جل ،فأين يكون قولهم من قال :ل إله إل ال دخل الجنة ،و إن
زنى ...إلخ ؟
وقد أوضح الحديث ما عليه قومنا ،و أن الحق ل يكون الحق إل في واحدة ،و أما سائر الفرق فكل فرقة تفسق
الخرى كما ذكرنا عنهم في " الرشاد " .
حيّ
واختلف المة أمر قضى ال به في الزل لحكمة كما قال عز و جل " :لّيَهْ ِلكَ َمنْ هَ َلكَ عَن بَيّ َنةٍ وَ َيحْيَى َمنْ َ
عَن بَيّ َنةٍ " ( ، )1والتمسك بمقتضى الكتاب والسنة هو النجاة عند ال.
قال المام – رحمه ال " : -و إن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – قد حكم بأن ما خالف الكتاب و
السنة الصحيحة المتفق عليها ،فإن رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – توفي والدين كامل و النعمة
بالسلم تامة ،و قد علم الناسخ من المنسوخ ،والعام و الخاص ،و استقرت الشريعة على قرارها المكين ،و
استبان الحق بعد أن كاد ل يبين ،فما جاء بعد ذلك فهو مردود إلى ما صح و ثبت عنه عليه الصلة والسلم .
و في جامع الصول و مختصره " :عن معاوية قام فينا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – خطيباً فقال :
" أل أن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة أو ملة ،وأن هذه المة ستفترق على
ثلث [ ]373وسبعين فرقة اثنتين وسبعون في النار و واحدة في الجنة " أخرجه أبو داود ،و زاد و هي
الجماعة ،و زاد في رواية " سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الهواء كما يتجارى الكلَب بصاحبه ،و ل
يبقى منه عرق و ل مفصل إل دخله .
و تجاري تفاعل من الجري أي يتغلغل فيهم و يتمكن منهم كما يتمكن داء الكلَب من صاحبه ،أو المراد به
الوقوع في الهواء الفاسدة ،و تداعي فيها تشبيها بجري الفرس ،و الكلَب بتحريك اللم مفتوحة داء معروف
يعرض للكلب إذا عض إنساناً عرضت له أعرض رديئة فاسد قاتلة يتسمم منها المحل ،ثم يسري ذلك في
جسده ،و ل يكاد يبرء فإذا تجرى بالنسان و تمادى به أهلكه .
و في حديث عبدال بن عمرو بن العاص قال :قال رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم " : -ليأتين على
أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علنية ،و ليكونن في أمتي من
يصنع ذلك ،وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين و سبعين فرقة أو ملة ،و ستفترق أمتي على ثلث وسبعين
ملة كلها هالكة إل ملة واحدة ناجية " قالوا :من هي ؟ قال " :من كان على ما أنا عليه و أصحابي " أخرجه
الترمذي .
فانظر أيها العاقل فإن المر جلل حيث حكم رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – فيه بهلك هذه الملل
الخرى كلها إلى النار ،و أن السعادة لملة واحدة فقط ،فمن ادعى النجاة من أهل هذه الملل الخرى فقد عارض
رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – في حكمه الصريح الصحيح .
و قال أحمد الصاوي المالكي [ ]374في حاشيته على الجللين في شرح قوله تعالى " :وَلَ َيزَالُونَ ُمخْتَلِفِينَ" ..
( )2اليةأي على أديان شتى " قال " و استفيد من هذا أن الختلف كما كان حاصلً في المم الماضية ل يزال
مستمر في هذه المة " ....إلى أن قال " و لذلك ورد في الحديث افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ،و
ستفترقون على ثلث و سبعين فرقة اثنتان و سبعون في النار و واحدة في الجنة " قال " و المراد بالفرقة
الواحدة أهل السنة و الجماعة " قلت :أهل السنة و الجماعة أربع فرق ل فرقة واحدة و إل لم يتم عد الفرق
فافهم ل سيما أن بين هذه الفرق اختلفات كثيرة مما يدل على أنها فرق ل فرقة ،و الختلف المشار إليه في
الصول والفروع أيضا ،كما هو معروف ،و لول أنه يطول بنا في هذا المقام لوردناه لك حتى تطمأن فالحديث
ينص على أن الناجية واحدة فقط ،و هي ما عليه هو و أصحابه – صلى ال عليه و سلم – ،وهل ما عليه هو
و أصحابه عليه كل هذه الفرق ؟ ذلك ما ل يعقل ،و فيه رد على الحديث الذي أوجب النجاة لفرقة واحدة ،
فلتعرض كل واحدة ما هي عليه ،و تستعرض ما عليه الرسول صلى ال عليه و سلم ،ثم تنظر هل تتحد معه ؟
ل وربك هذا ل يتأتى حتى في الفروع ،والخلق و المعاملت اليسيرة ،و لو شئت لبينت ذلك موزوناً بميزان
الشريعة الغراء ،و لوضحت ذلك جليا ،و لكن هيهات القبول و الرضى ،و عليه فل [ ]375ينبغي أن نشتغل
بما ل فائدة فيه ،و إن كان واضحاً إل أن القلوب المستوئبة ل علج لها ،و المر ل عز و جل ،وإذا رأى
المخالف الحق أصر و استكبر و أعرض .
=============================
( )1النفال . 42 :
( )2هود . 118 :
[الشرح ]
اعلم أن التحليل و التحريم هما من ال عز و جل ليس للعقل فيهما دخل ،و لم يجعل ال عز وعل لبشر و ل
لملك أن يحلل أو يحرم ؛ فإن التحليل و التحريم أمران تعبديان ،ل يكونان إل من الملك العلى عز و جل " َولَ
حرَامٌ " ( )1فسماه كذباً و نهى عنه .
حلَلٌ َوهَـذَا َ
صفُ أَ ْلسِنَتُ ُكمُ ا ْل َكذِبَ هَـذَا َ
تَقُولُواْ ِلمَا َت ِ
فظهر أن قولهم كل فاعل لشيء مستحلً له هو سالم عند ال فإنه لو صح هذا لكان كل من أراد أن يفعل شيئا
يتعلق باستحلله فيكون سالماً ل تبعة عليه في شيء ما ليس هنا بشيء ،و لقد علمت من حديث الفتراق أن
أكثر المة هالك ،و كيف يصح الحكم بهلكهم إل من حيث انتهاكهم لحرم ال عز و جل ،و ل يخفى أن العقل ل
يقبل ما يقول هؤلء المتقولون كما صح في حديث الفتراق .
أيحرم ال الشيء و يثيب عليه ؟ إن هذا [ ]376لهو الخطأ الفاحش ،و الضلل الصريح ،و لو كان ال يثيب
المستحل لما حرمه عليه بدعوى الجتهاد ،فما الداعي إلى الوامر و النواهي ؟ و ما فائدتها في التحريم و
إن هذا ل يقول به عاقل له مسكة يسيرة من العقل الذي يثبت به التكليف ،و لو كان كذلك لتهدمت القواعد
الشرعية ،و كان عدمها خيراً من وجودها .
اعلم يقيناً أن ال إذا حرم شيئا أوجب على فعله عقاباً ،و قد ثبت أن المفترقين كلهم هالكون إل تلك الواحدة
الناجية ،و هي التي تمسكت بالكتاب و السنة ،و ثبتت على ذلك ،فإن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم
– كما عرفته قد حكم بالسلمة لها دون باقي الفرق المخالفة لها ،و المقصود من ذلك التمسك بأوامر الكتاب و
السنة ،و عدم الحياد عنهما .
و اعلم لو أن كل مستحل شيئاً يكون مأجوراً فيه و مثاباً عليه لنجت تلك الفرق على اختلف مقاصدها .
و كذلك الجماع أيد الحديث و ورد على مقتضى فحواه أحاديث أخرى ،إن تلك الفرق كلها تدعي السلمة لها و
الهلك لغيرها ،و بذلك ثبت الجماع فما بال هذه الفرق إلى النار و هي تقر بالشهادتين و تصلي و تصوم و
تزكي و تحج البيت ،و لم يغن ذلك كله عن هلكها ؛ حيث خالفت أوامر ال عز و جل ،و استحلت ما حرم ال
عليها ،فكان عاقبة أمرها خسراً .
و اعلم أن العتقاد لحل ما حرم ال أو العكس ل يزيده ذلك العتقاد تحليلً و ل تحريماً ،بل ل يزال ما حرم ال
حراماً أبداً و كذا العكس [ ]377فل يزال الحرام على حرمته أبداً ،و ل يزال الحلل حللً ،و إن حرمته المة
كلها فحكم ال ل يتغير أبداً ،و ل يزيده المعتقد لحله شيئا ،بل يزداد هو به ضللً ؛ لنه لم يتغير حكم ال فيه
عن أصله فهو حرام دائما ،و كذلك ما كان حلل فاعتقده حراما بغير حجة تحرمه فهو ضللً ،و فاعل ذلك
ضهُ " (. )2
شارع من عند نفسه غير ممتثل لوامر ربه تعالى " وَلَ َي ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْلكُ ْفرَ َوإِن َتشْ ُكرُوا َي ْر َ
حرّمُ مَا أَحَ ّل و التحليل و التحريم أمران سماويان ل مجال للعقل فيهما ،و بهما جاءت الرسل " يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ ُت َ
طنَ وَا ِلثْمَ وَالْبَغْيَ بِ َغ ْيرِحشَ مَا ظَ َهرَ مِنْهَا َومَا َب َ حرّمَ رَبّيَ الْفَوَا ِ
جكَ " ( " ، )3قُلْ إِ ّنمَا َ الُّ َلكَ َتبْتَغِي َم ْرضَاتَ َأزْوَا ِ
حرّمُ عََليْهِمُ الْخَبَآ ِئثَ علَى الّ مَا لَ تَعْ َلمُونَ " ( " ، )4وَيُ َ شرِكُواْ بِالّ مَا لَمْ ُي َنزّلْ ِبهِ سُلْطَانًا َوأَن َتقُولُواْ َ الْحَقّ َوأَن ُت ْ
خرَجَ لِعِبَا ِدهِ وَالْطّيّبَاتِ ِمنَ حرّمَ زِي َنةَ الّ الّتِيَ أَ ْ
غلَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَ ْيهِمْ " ( " ، )5قُلْ َمنْ َ ص َرهُمْ وَا َل ْ
عنْهُمْ ِإ ْ
ضعُ َوَ َي َ
الرّزْقِ " ( )6هذا ما يقوله القرآن فمالنا و ما يقوله فلن و فلن ،إنه لزورا و بهتان ،و تقول على الواحد
المنان ،تعالى ال عن أقوال ما جاء بها من سلطان ،و ل أقيم عليها أي برهان .
و اعلم أن ال هو الذي حرم و حلل ،و هو الذي يكلف عباده ،و لو أن ال يثيب على فعل الحرام لكان ذلك
إغراء عليه ،و إذا كان كذلك فل شرع و ل دين ،و إنما تكون الشياء رهن الرادة النسانية ،و تبعا للهواء
النفسانية ،إن ال إذا حرم شيئاً لم يحله أحداً من خلقه ،و إل كان شارع من عنده ل من عند ربه ،و ال لم
يفوض ذلك إلى نبي مرسل و ل إلى ملك مقرب ]378[.
و هل يقبل عاقل أن ال يرضى بهذا ؟ فيكون رضاه في مخالفته ! فإنه من الفساد بمكان ،و الواقع أن ال عز
وعل إذا حرم شيئاً أوجب عليه عقاباً كل بحسبه ،و حكم على مرتكبه بعذاب أليم ،و المعتقد لمحرمات ال تعالى
حللً يضل بذلك ضللً بعيداً ؛ لنه عارض ربه في حكمه ،و ارتكب الثم بفعله ،فهو واقع في أمرين عظيمين .
و ل شك أن من بنى دينه على أصول متناقضة ل يزال في لجة الباطل غارقاً ،و للصراط السوي مفارقاً ،و
لوامر الرسول مشاققاً ،فمتى يرى النجاة و الحال هذا ،نسأل ال السلمة في الدين والدنيا .
اعلم علماً جازماً أن من اعتقد الحلل [ ]379حراماً ،و الحرام حللً ؛ فهو هالك باعتقاده هذا ،لن اعتقاده
خالف أوامر ربه ،وعارض مقتضى إرادته ،بل الواجب على النسان امتثال أوامر ال عز و جل كما هي ،و
اعتقاد أن ما حرم ال ل يزال حراماً أبداً ،و كذلك العكس ،فإن القول ل يبدل لديه ،و الحق ل يصير باطلً
عنده ،تعالى ال عن أقوال المبطلين علوا كبيرا " يَا قَ ْو َمنَا َأجِيبُوا دَاعِيَ الِّ وَآمِنُوا ِبهِ" ( " ، )8فَاسْتَ ِقمْ َكمَا
سدِينَ " (. )10
سبِيلَ ا ْلمُ ْف ِ
ُأ ِمرْتَ " (َ " )9ولَ َتتّ ِبعْ َ
============================================
( )1النحل . 116 :
( )2الزمر . 7 :
( )3التحريم . 1 :
( )4العراف . 33 :
( )5العراف . 157 :
( )6العراف . 32 :
( )7الزمر . 7 :
( )8الحقاف . 31 :
( )9هود . 112 :
( )10العراف . 142 :
[الشرح ]
اعلم أن استحلل ما حرم ال عز و جل ،و تحريم ما أحله ال رد عليه تعالى ،و اعتراض على أحكامه ،و ذلك
من أكبر كبائر الذنوب ،لنه إن كان عن تأويل فهو فسق وضلل ،و إن كان عن غير تأويل فهو شرك محض ،
فالمستحل لما حرم ال كالعكس غارق في بحر آثام ،ساكع في هوة الظلم ،مخاطر بنفسه ،مستهدف []380
للباطل ،فإن جرمه أعظم ممن يفعل المور وهو يدين بأنها من ال عز و جل ،و هذا راد على ربه أمره و
نهيه ،و معترض عليه فهذا أكبر جرماً ،و أعظم إثماً ،حيث تقرب إلى ربه بما ل يرضاه منه ،بل أجرم على
ال من جهتين ،المستخف أو كالمتمرد على ال عز وعل ،غير مبال بالمر .
و قومنا يعذرونه بهذا الحال ،حيث هو مستحل أي دائن بحل ذلك المر ،و ل شيء على من استحل إذا كان
قصد صالحاً عندهم غير متعد للحدود ،و ل منتهك للدين ،و ل يخفى على العاقل فساد هذا الزعم من أصله ،
وأنه ضلل في ضلل ،لم يخرج عن حكم الفساد مهما كان ،و لو كان كل مستحل معذوراً لم يبق حرج على أحد
أبداً .
و ل يقول بذلك أحد فيما علمنا ،و إذا كان الرسول – عليه الصلة والسلم – ل يرى الحق للمة المتدينة إل
لفرقة واحدة منها فقط ،فمن هو الولى به في النظر الصحيح ؟
فنقول في المعقول و المنقول أن الحق أولى به من استقام في الدين ،و ذهب مذهب المتقين ،ولم يكن ممن
استحل ما نهى عنه رب العالمين ،فإن من استقام على الطريق الصحيح ،و جاء بالحق الصريح " فَاسْتَ ِقمْ َكمَا
سدِينَ " ( )2المتهورين في الدين ،الهاجمين على أوامر برب العالمين .
سبِيلَ ا ْلمُ ْف ِ
ُأ ِمرْتَ " (َ " )1ولَ َتتّ ِبعْ َ
فالملزم لسيرة سيد المرسلين ،ثابت على نهج الخلفاء الراشدين ،الذي لم يبدل شيئاً من أمر الدين ،و لم يغير
شيئا من أحكام رب العالمين ،و ل استحل شيئا مما حرم ال ،و ل حرم شيئا مما أحله ال ،و ل خان ال في
سر ول علنية ،فهذا هو الذي أشار إليه رسول ال [ – ]381صلى ال عليه و آله وسلم . -
و حيث علمت أن العقل ل يقبل ما يقوله هؤلء المبدلون المتهوكون الذين ل يثبتون ل على مقتضى الوامر
اللهية ،و ل يهتدون الطريقة المحمدية ،و قد علمت مقتضى حديث الفتراق ،و أنه حكم بالنجاة لفرقة واحدة
و هي التي ثبتت على كتاب ال و سنة رسوله صلى ال عليه و سلم ،و جعل باقي الفرق كلها هالكة لمخالفتها
الكتاب و السنة ،و على ذلك ثبت الجماع الصحيح الذي أيد الرسول – صلى ال عليه و سلم -فيما قال .
و إن العقل ل يقبل غيره ،و ل يصح أن يحرم ال شيئاً و يثيب على فعله ،و إل كان ذلك نقضاً لقواعد الشريعة
من أصلها ،و تبديلً لها عن فصلها .
ثبت أن العتقاد لحل ذلك المر ل يزيده إل تحريماً ،و ل لفاعله إل تضليلً ،لن المستحل خالف الشرع من
جهتين :أولى استحلله لما حرم ال عز و جل ،و الثانية فعله لذلك الذي استحله ،و قد حرمه ال عليه فهو
مخالف له عز و جل من الجانبين ،فجرمه أعظم ،وفعله أكبر ،و ل مناص و ل خلص مما وقع فيه إل برجوع
عنه ،و التخلي منه ،و التوب إلى ال عز وعل من جرمه .
و على كل حال أن الفاعل لما استحل مما حرمه ال متقرب إلى ال بما يبعده منه ،و يزيد في ضلله به ،ومن
تقرب إلى ال عز و جل بمثل ذلك فل يزداد من ال إل بعدى ،و ل يستحق منه إل النقمة ،و العياذ بال من
عقابه ،فكيف يكون له عذر بذلك ،وقد سقط في تلك المهالك ،و كيف يكون له بذلك حسن قصد عند ال و هو
مرتكب للضلل [ [ ]382سقط مقدار ثلث صفحات ] فهو يعتقده كذلك ،و كذا سائر المحرمات من الزنا و نهب
الموال و معاملة الربا و نحوها ،مما حرمه ال على لسان أحد أنبيائه – عليهم الصلة والسلم . -
فالحق ل يكون إل مع السالك لسبيل العدل ،الثابت على المنهج الصحيح ،و هو الذي لم يرض أن يتبدل بالحلل
حراماً بدعوى الستحلل ،فكان آثماً ،و لم يسع إلى تغير سنن ال في عباده ،و ل استحل ما حرم ال في سر
ول علنية ،و ل غير من أمر الدين ،بل جاء بأموره كلها وافية ،و ثبت على ما شرع ال عز و جل هان
الخطب أم عظم .
و خلصة المقام أن مستحل الحرام أعظم إثماً ،و أكبر جرماً ممن يفعله و هو يعتقد تحريمه ،لن الفاعل للحرام
مستحلً له ،واقع في داهيتين الولى اعتقاده تحليل المحرمات أو تحريم المحللت ،و الثانية فعله لذلك و العياذ
بال .