You are on page 1of 203

‫موقع واحة اليمان‬

‫‪www.waleman.com‬‬

‫العرى الوثيقة‬
‫شرح كشف الحقيقة لمن جهل الطريقة‬

‫الشيخ سالم بن حمود السيابي رحمه ال تعالى‬

‫موقع واحة اليمان‬


‫‪www.waleman.com‬‬
‫‪info@waleman.com‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫[*]بيانات المخطوطة‬

‫[*]مقدمة‬

‫[*]مقدمة في التعريفِ بهذه القصيدة‬

‫[*]المقام الول‬

‫[*]المقام الثاني‬

‫[*]المقام الثالث‬

‫[*]المقام الرابع‬

‫[*]المقام الخامس‬

‫[*]المقام السادس‬

‫[*]المقام السابع‬

‫[*]بيانات المخطوطة‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫بيانات المخطوطة‬

‫هذا الكتاب المسمى العرى الوثيقة شرح كشف الحقيقة لمن جهل الطريقة‬

‫للمام السالمي عبدال بن حميد ‪ -‬رحمه ال و رضي عنه –‬

‫التي خدم بها المذهب ‪ ،‬و أعرب عنه بها في أصوله‬

‫و فروعه ‪ ،‬جزاه ال عن كل أعماله خيرا ‪.‬‬

‫سالم بن حمود بيده ‪ ،‬فالنظم‬

‫للمام المذكور ‪ ،‬و الشرح‬

‫لمحرره سالم بن حمود‬

‫بيده‪.‬‬

‫[ مقدمة]‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬


‫الحمدُ ل الذي حكم بالنجاة ل َمنْ تمسّك في الدّين بالعرى الوثيقة ‪ ،‬و أرشد مَن ارتضاه مِن عباده لنهج الحقّ ‪ ،‬و‬
‫أوضحَ له كشف الحقيقة ‪.‬‬

‫شرَحَ ال صدره ‪ ،‬و أَعلى مقامه و ذكره‪ ،‬و أبان له الطريقة ‪ ،‬سيدنا المصطفى مِن‬ ‫و الصلة و السلم على َمنْ َ‬
‫العناصر الطيبة ‪ ،‬ونبينا المجتبى من الرومات (‪)1‬العريقة ‪ ،‬محمد صفوة الولين و الخرين ‪ ،‬وعلى آله ال ُغرّ‬
‫الميامين ‪ ،‬و أصحابه المخلصين ‪ ،‬و أتباعهم إلى يوم الدّين ‪.‬‬
‫أما بعد ‪ -:‬فإنّ كشف الحقيقة التي نظمها المام العلمة نور الدين عبدال بن حميد السالمي ‪ ،‬خاتمة السلف‬
‫الصالحين التي َردّ بها على القادحِ في مذهبِ المسلمين ‪ ،‬و أوضح بها سبيل المؤمنين ‪ ،‬و َنصَبَ بها معالم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الدّين ‪ ،‬و جعلها الكفيلة بإلجام الخصوم الحجج التي ُت ْد ِهشُ البراهين ‪ ،‬و أوضحَ بها أصل المذهب ِل َمنْ كان به‬
‫شرَقَ في سمائها شموس الحقّ‪ ،‬فأزاحت غَيْ َهبَ‬ ‫جاهلً‪ ،‬و أَبَانَ بها السبيل الصادق لمن كان عنه غبياً غافلً ‪ ،‬و َأ ْ‬
‫الجهل فاضمحلّ و تمزّق ‪.‬‬

‫صرْحٍ على عرشها الرفيع ‪ ،‬مُ َوضّحاً به‬ ‫فقد دعتني اله ّمةُ لتعليق شرحٍ على نظمها البديع ‪ ،‬وساقتني الرغبة لبناء َ‬
‫معالم المذهب ‪ ،‬رغم أعدائه المعاندين‪ ،‬و كاشفاً به حُجَبَ الضللت والهواء عن الصراط المستقيم ‪ ،‬و الحق‬
‫صصَة ‪ ،‬كُلّ مقامٍ يجد فيه المطالع بُغْ َيةً طالما اشتاق إليها و تمناها ‪ ]1[،‬و‬
‫خ َ‬
‫المبين ‪ ،‬جاعلً ذلك في مقامات ُم َ‬
‫حمَيّاها (‪ ، )2‬مبنيةً على قواعد آيات الكتاب العزيز في أصول مَ ْبنَاها‬ ‫عضَال النفوس بارتشاف ُ‬ ‫رأى فيه ما ُيشْفِي ُ‬
‫‪ ،‬و مؤيدة بنصوص من الحديث ‪ ،‬أشبه بسلسل البريز (‪ )3‬في تسلسل معناها ‪.‬‬

‫==================================================‬

‫(‪ – )1‬الرومات جمع الرومة و هي الصل ( لسان العرب ‪ ) 92 / 1 ،‬مادة أرم ‪.‬‬
‫س ْو َرتِها ( مختار الصحاح ‪ ) 66 /‬مادة ( ح م ي) ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي أول َ‬
‫(‪ )3‬البريز ‪ :‬الذهب الخالص ( لسان العرب ‪ ) 61 / 2‬مادة (ب ر ز ) ‪.‬‬

‫مقدمة في التعريفِ بهذه القصيدة‬

‫اعلمْ َأنّ هذه القصيدة الرجزية جاءت دَعامةً كبيرةً للمذهب ‪ ،‬و مصباحاً منيراً في ُأفُقِ السلم ‪ ،‬و ِإنّ صدّ عنها‬
‫الجهول و تَنَكّب ‪ ،‬قلّ َأنْ يوجد مثلها في بابها ‪ ،‬و لم يكن في سالف اليام من أَ ْترَابِها ‪ ،‬فهي ‪ -‬و الحقيقة ‪ِ -‬منْ‬
‫غرّ جهول لم يدر‬ ‫ذلك العليم لم تُستغربْ‪ ،‬فقد أبانت أصول المذهب العتقادية ‪ ،‬و العلمية ‪ ،‬و الدبية ؛ رغم ُكلّ ِ‬
‫أين يذهب‪ ،‬و أوضحت مشاكل الخلف بين السلف ‪ ،‬و بَيّنَت مناهج المتمذهبين في السلم بقواعدَ ل تقبل‬
‫طرُقَ‬
‫العتساف ‪ ،‬و أعادت معالمَ الدّين في السلم معلومة الصّوَى (‪ ، )1‬و نصبت للسّارين في سبيل الحق ُ‬
‫الهدى ‪ ،‬فهي ‪ -‬و الحقُ الذي ل ِمرْيةَ فيه ‪ -‬دليلُ الحائرين ‪ ،‬و عمدةُ المسترشدين ‪ ،‬و معتمد الدعاة إلى سبيل‬
‫المؤمنين‪ ،‬أوضحت مسالك المذهب أيّما إيضاح ‪ ،‬و أفصحت عن مبادئه الكريمة غاية الفصاح ‪ ،‬و أقامت صروح‬
‫أهل الحق في أرجاء العدل شامخة الركان لمنْ ألقى إليها السمع و هو شهيدٌ ‪ ،‬كائناً َمنْ كان ‪.‬‬

‫جامعةٌ لصول الدين ‪ ،‬و لوازم العتقاد ‪ ،‬شاملةٌ لسياسة المسلمين في مصالح العباد ‪ ،‬معربةٌ عن ُأصُول السلم‬
‫عامة ‪ ،‬و الباضيين خاصة بمعالم الرشاد ‪ ،‬كادت َأنْ [‪ ]2‬تحتوي على مهام الفقه في الدين ‪ ،‬بعباراتها وإشاراتها‬
‫و ل ريب‪ ،‬فقد صدعَ فيها بالحقّ في سبيل السير إلى ال ‪ ،‬و قد أشار على أحوالِ الملوك الظلمة في السلم ‪ ،‬و‬
‫حقّ من المُبْطل ‪ ،‬و اهتدى إلى الرّشد كل َمنْ كان له يجهل‪ ،‬و‬ ‫أعربَ عنْ أهل الحقّ في هذا النام ‪ ،‬فبَانَ بذلك المُ ِ‬
‫جةُ لمن بعدهم ‪ ،‬و عليهم يدور ِمحْ َورُ َمنْ رامَ‬
‫ذَ َكرَ أحوالَ الصحابة ‪ ،‬و ما دَارَ بينهم من خلفٍ ‪ ،‬فإنّهم هم الحُ ّ‬
‫حسْبَ ظاهر ما أوجب ال فيهم و لهم‪ ،‬و ذَ َكرَ العصاة من‬ ‫ع ْدلً و إنصافاً ‪َ ،‬‬‫صرّحَ بالحكم فيهم َ‬‫سلوك طريقهم ‪ ،‬و َ‬
‫أهل المّلةِ السلمية و ضررهم ‪ ،‬و فساد أعمالهم ‪ ،‬و أوضح الحكم فيهم ‪ ،‬و ِإنْ كانوا من أهل السعادة عند ال ‪،‬‬
‫فللدّنيا أحكامٌ ل ُبدّ للمُ َكلّف من القول بها ‪ ،‬و العتماد على أصولها‪.‬‬

‫وأشاد بذكر الفتراق ‪ ،‬و ما ترتب عليه من حقٍ و باطلٍ من المؤمنين و غيرهم‪ ،‬و ذكر مكارم أهل المذهب‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫تصريحاً و تلويحاً ‪ ،‬و أَنّهم هم الفِرقة الناجية عندَ ال ‪ ،‬و استدل على ذلك بأدلةٍ عقليةٍ و نقليةٍ ‪ ،‬و منها النوار‬
‫شفَ‬‫ش ِرقُهَا ال عزّ و جلّ على قُبُورِ الصحاب ‪ ،‬يراها الناس َرأْيَ العين بل التباسٍ و ل ارتيابٍ‪ ،‬كما َك َ‬ ‫التي ُي ْ‬
‫جبُ في‬‫غَيْهَبَ (‪ )2‬الجهل المغطّي على المذاهب الخرى ‪ ،‬و ما لها من أصول‪ ،‬و ما عليها من فصول ‪ ،‬و ما يَ ِ‬
‫حق المتسمّين بالسلم على العموم ‪ ،‬و ما هنالك من خصوصٍ في منطوقٍ و مفهومٍ‪ ،‬و معاملة المسلمين في‬
‫عدَتِهم في حكم ربّ العالمين ‪ ،‬و ما يُكَّلفُ به‬‫الحقوق العامة المشتركة ‪ ،‬ومن تَجِبُ ُمرَاعَاتهم في الدّين ‪ ،‬أو ُمبَا َ‬
‫سهِ (‪ ، )3‬و ما يكتفي به المسلمون من أهل‬ ‫كُلّ واحدٍ في [‪ ]3‬خاصة نفسه‪ ،‬و يفترض عليه حتى يوافى حلول َر ْم ِ‬
‫القبلة على الجمال‪ ،‬و ما يتعلق بالتبشير الخطير ‪ ،‬و أصول العتقاد التي اتفقّ عليها أهل المذاهب‪ ،‬و ما اختلفوا‬
‫فيه منها ‪ ،‬ببيانٍ واضحٍ ‪ ،‬و برهانٍ َن ّيرٍ زكيّ ‪ ،‬غير مُتعصّب لغير الحقّ ‪ ،‬ول تابع لغير أهل الصدق ‪ ،‬شأن العلماء‬
‫العاملين ‪ ،‬الذين جعلهم ال حجته على عباده ‪ ،‬وعمدته في بلده ؛ فإنّ أهل الحقّ قليلون في كل زمان ‪ ،‬و‬
‫الثابتين على الصراط المستقيم ‪ ،‬والطريق السويّ ‪ ،‬أقلّ منهم بغير نكران ‪.‬‬

‫طرَاز (‪ )4‬الذي ذكرناه ‪ ،‬بعثه ال ليقوم بتأييد الدّين رغم أعدائه ‪ ،‬فكان سيفاً‬‫و كان هذا العالم الجليل من ال ّ‬
‫شرِقاً في غياهب الجهل ‪ ،‬رغم كل جاهلٍ معاندٍ ‪.‬‬‫صارماً بأعناق المفاسد ‪ ،‬و بدراً ُم ْ‬

‫===========================================‬
‫صوّى و منارا كمنار الطريق )) ( مختار الصحاح ‪ ) 157 /‬مادة ( ص‬
‫ص ّوةٌ ‪ ،‬و في الحديث (( إن للسلم ُ‬
‫صوَى ‪:‬العلم من الحجارة ‪ ،‬الواحدة ُ‬ ‫(‪ )1‬ال ّ‬
‫و ى ) ‪ ،‬و المقصود معلومة المعالم ‪.‬‬
‫(‪ )2‬ال َغ ْيهَب ‪ :‬الظلمة ‪ ،‬و الجمع غياهب ( مختار الصحاح ‪ )202/‬مادة ( غ هـ ب ) ‪.‬‬
‫(‪ )3‬الرّمْسُ ‪ :‬تراب القبر ‪ ،‬و هو في الصل مصدر رَ َمسَ ( مختار الصحاح ‪ ) 108/‬مادة (ر م س ) ‪ ،‬و المعنى موته ‪.‬‬
‫(‪ )4‬الطّراز ‪ :‬الهيئة ‪ ،‬قال حسان بن ثابت ‪:‬‬
‫بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم النوف من الطّراز الول‬
‫أي من النمط الول ( مختار الصحاح ‪ )164 /‬مادة ( ط ر ز ) ‪.‬‬

‫حرّكَ ُتهُ عزيمة‬


‫س ِمعَ طَ ْعنَ الغبياء ‪ ،‬و تبجّحَهُم بمذاهبهم المنهارة ‪ ،‬وتعاظمهم بين َمنْ هم ِمنْ أضرابهم ‪َ ،‬‬
‫و لمّا َ‬
‫سرَى أعين المتبجّحين ‪ ،‬و دعامةً‬ ‫ح ْ‬
‫جعُ به َ‬
‫اليمان القوي ؛ فقام سهماً نافذاً في أكباد الطاعنين ‪ ،‬و قبساً ساطعاً َترْ ِ‬
‫كبرى ل تزعزع بِهَ ْيشَات (‪ )1‬الفاسقين ‪.‬‬

‫فأرهف حدّ القلم القاطع لعناق ُأسْطُورَات المُتَ َفيْهِقِين ‪ ،‬كاشفاً عن سوءاتهم المستورة بأهواء الدّعاء ‪ ،‬و واضعاً‬
‫للمسلمين أركاناً يأوي إليها كل متحيز للحقّ في ميادين المهتدين ‪.‬‬

‫صدّ عنه إل كُلّ منافقٍ و مارقٍ ‪ ،‬و ل يقدح فيه‬


‫غرْوَ َأنّ كشف حقيقة هذا المذهب الصّالح الصّادق ‪ ،‬الذي ل َي ُ‬
‫فل َ‬
‫إل كل معاندٍ مشاققٍ ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫شرُها ‪.‬‬
‫فقام ينكرها ليقوم [‪ ]4‬لها من يَ ْن ُ‬

‫و إذا َأفَلَ نجم حقّ من هذا ا ُلفُقِ السلمي الصحيح أطلع ال أَنْجُماً تضيء عالم الكون بأجلى المصابيح ‪.‬‬
‫عمْدة الحقّ الصّادق أصلً و فرعاً ؛ لذلك‬
‫فالباضية زينة السلم ؛ لذلك يعاديهم فيه حاسدهم من النام ‪ ،‬و هم ُ‬
‫صرّحَ به في الكتاب العزيز المقدس‬
‫يناويهم عليه كائدوهم ‪ ،‬و قد قرن ال النبياء بشياطين الجن و النس كما َ‬
‫الصحيح (‪ )3‬لحكمة ل تخفى على ذي العقل الرجيح ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ع ْمدَة أصفيائه ‪ ،‬و لو شاء ال أن‬
‫خ ْي َرةِ أوليائه ‪ ،‬و ُ‬
‫و قد أوجب ال على أوليائه جهاد أعدائه ‪ ،‬و أصلح ال دينه بِ َ‬
‫ح ْكمَتَه تعالى تقتضي إخلص العمال في هذا الميدان تمحيصاً لهل الحقّ ‪،‬‬ ‫ينصلح الكون بغير ذلك لكان ‪ ،‬و لكن ِ‬
‫و تخصيصاً بأهل الصدق ‪ ،‬و ردّا على أهل الضلل ‪ ،‬و أعيان العتاة من بني النسان ‪ ،‬مما كان لهم من أعمال ‪،‬‬
‫حكمةٌ بالغةٌ من ذي العظموت و الجلل‪ ،‬سبحانه ما أعظم شأنه ‪ ،‬و ما أَ ْوفَى ميزانه ‪ ،‬و ما أجلّ سلطانه ‪ ،‬له‬
‫الملك حقاً‪ ،‬و له كل ما في الكون صدقاً ‪ ،‬و بيده مقاليد المور ‪ ،‬و هو على كُلّ شيءٍ قديرٌ ‪.‬‬

‫================================‬
‫(‪ )1‬ال َهيْشُ ‪ :‬الفساد و التحرك و الكثار من الكلم ( القاموس المحيط ‪ )788 /‬مادة ( هـ ي ش ) ‪.‬‬
‫(‪ )2‬البيت لبي تمام من قصيدة مطلعها ‪:‬‬
‫عنّت لنا بيــن اللّوى َفزَودِ‬ ‫خدُود َ‬ ‫سوَالف و ُ‬‫َأرْأَيتَ َأيّ َ‬
‫عقُودِ‬‫َأ ْترَابُ غَافلة اللّيالي أّلفّـت عقد الهَوى في يَارق و ُ‬
‫انظر شر ح ديوان أبي تمام للتبريزي ( ‪. )213 /1‬‬
‫غرُورًا َوَلوْ شَاء َر ّبكَ مَا فَ َعلُو ُه َف َذرْهُمْ‬
‫خرُفَ ا ْل َق ْولِ ُ‬
‫ضهُمْ ِإلَى بَ ْعضٍ ُز ْ‬
‫جنّ يُوحِي بَ ْع ُ‬
‫شيَاطِينَ الِنسِ وَا ْل ِ‬
‫ع ُدوّا َ‬
‫(‪ )3‬في قوله تعالى‪ (( :‬وَ َكذَ ِلكَ جَ َع ْلنَا لِ ُكلّ ِنبِيّ َ‬
‫وَمَا َي ْفتَرُونَ )) النعام‪.112:‬‬

‫المقام الول‬

‫[ حكم الطاعن في الدين ]‬


‫قال المام ‪ -‬رحمه ال و رضي عنه ‪-: -‬‬

‫‪ [ :‬الشرح ]‬
‫لقد استهل المام ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬هذه القصيدة الرّجزية بالمناقشة ‪ ،‬و الرّد على القادح في الدّين الطّاعن في‬
‫مذهب[‪ ]5‬المسلمين ‪ ،‬خلف عادته في استهلل سائر مؤلفاته ‪ ،‬و خلف عادة المؤلفين مطلقا ‪ ،‬كما استهل ال ‪-‬‬
‫عز و جل ‪ -‬سورة التّوبة بعدم البسملة ‪ -‬التي هي آية الرحمة ‪ -‬مُ ْعلِناً في أولها براءته ‪ -‬عز و جل ‪ -‬و براءة‬
‫شرِكِينَ‬
‫رسوله ‪ -‬عليه الصّلة والسّلم ‪ -‬من المشركين إذ قال‪َ " :‬برَاءةٌ ّمنَ الّ َو َرسُو ِلهِ إِلَى اّلذِينَ عَاهَدتّم ّمنَ ا ْل ُم ْ‬
‫" (‪ )1‬الية ‪.‬‬

‫غضَباً ل ‪ ،‬و جهاداً لعداء الدّين‪،‬الطّاعنين في مذهب المسلمين ‪ ،‬و هم‬ ‫و كذلك استهلل هذه القصيدة ‪ ،‬إذ كان َ‬
‫كثيرون ؛ لنّ أنصار الحقّ قليلون ‪ ،‬و ال ُمحِبُون لهم القلّون ‪ .‬فانظر إلى أنصار النّبيين ‪ -‬عليهم الصّلة والسّلم ‪-‬‬
‫صرَة الظالمين ‪،‬‬ ‫سرَة ‪ ،‬و التّبابعة ‪ ،‬و القَيَا ِ‬ ‫تجدهم القلّين ‪ ،‬و انظر إلى أنصار الجَبَا ِبرَة من الفراعنة ‪ ،‬و الكَا ِ‬
‫تجدهم ملء السّهل و الجبل ‪ ،‬و ل كذلك أنصار الحقّ ‪ .‬فلذلك قال المام ‪ -‬رحمه ال – ‪ " :‬يَا أَيّهَا القَادِحُ فِينَا‬
‫َأ ْقصِرِ‪" ...‬الخ لقد أغضبت أيها القادح إله الخلق تعالى ‪ ،‬إذ َقدَحْتَ في الحقّ ‪ ،‬فإنّ القدح في أهل الحقّ َقدْحٌ في‬
‫شقّ ا َلْ ْرضُ‬ ‫ط ْرنَ مِ ْنهُ وَتَن َ‬
‫سمَاوَاتُ يَتَ َف ّ‬
‫الحقّ ‪ ،‬والقدح في الحقّ كفراً إجماعاً ‪ ،‬لقد قلت ‪ " :‬شَيْئًا ِإدّا (‪ )89‬تَكَادُ ال ّ‬
‫خرّ الْجِبَالُ َهدّا" (‪ ، )2‬حيث طعنت في دين ال ‪ ،‬الذي ارتضاه لعباده ‪ ،‬و أوحاه إلى خاتمة أوليائه ‪ ،‬وصَفْوَة‬ ‫وَتَ ِ‬
‫أنبيائه ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و القادح هو الطّاعن في الدّين ‪ ،‬مأخوذ من َقدَحَ النار إذا أَ ْورَاهَا ‪ ،‬فإنّ القدح يوري نار الحقد و يوقدها ‪ ،‬و يُثِي ُر‬
‫العاطفة و ُيقْ ِع ُدهَا ‪.‬و قد نعى ال عز و جل على الطّاعنين في الدّين طعنهم ‪ ،‬و هددهم قائلً ‪ " :‬وَطَ َعنُواْ فِي دِينِ ُكمْ‬
‫فَقَا ِتلُواْ أَ ِئ ّمةَ الْكُ ْفرِ " (‪ ، )3‬فسمّاهم كافرين ‪ ،‬و ل شكّ أنّ الطّاعن في الدّين رادّ على ال ‪ ،‬أو على رسوله ‪ ،‬أو‬
‫عليهما معاً [‪ ،]6‬فهو كافرٌ ‪ ،‬مشركٌ ‪ ،‬ضالٌ ‪ ،‬مارقٌ من الدين ‪ ،‬كما َي ْمرِقُ السهم من الرمية ‪.‬‬

‫و لمّا خاطبه بقوله‪ " :‬يَا أَيّهَا القَادِحُ " في البيت الول ‪ ،‬و أراد به جنس القادحين ‪ ،‬قرّر عليه هنا أنك إذا كنت ل‬
‫حكَ ‪ ،‬أو لم تعلم في َمنْ قدحت ‪ ،‬فقد قدحت في مذهب أهل الحقّ ‪ ،‬و القدح في مذهب أهل الحقّ‬ ‫تدري ما َقدْرَ َقدْ ِ‬
‫كم قالنا في المقدمة ‪َ ،‬قدْحٌ في الحقّ ‪ ،‬و القدح في الحقّ كفر قطعاً ‪ ،‬و ل شكّ أنّ ال ‪ -‬عز وعلى ‪ -‬يغضب لهل‬
‫الحقّ ؛ فالقادح فيهم مُ َعرّض نفسه لعقاب ل ينتهي ‪ ،‬و عذاب ل ينقضي ‪ ،‬إن لم يَ ُتبْ ‪ ،‬و التوب يمحو ال به‬
‫الذنب ‪ ،‬و يُقِيلُ به العثرات‪.‬‬

‫و قد جاء الوعيد الشّديد من ال العزيز المجيد لمن طعن في الدّين ‪ ،‬أو قدح في مذهب المسلمين ‪ -‬نعوذ بال من‬
‫الشّقاوة والضّلل بعد الهدى ‪. -‬‬

‫و حكم الطّاعن في الدّين إن كان متأولً ‪ ،‬فهو كافرُ نعمة ‪ ،‬و فاسقٌ ‪ ،‬و ضالٌ‪ ،‬و منافقٌ ‪ ،‬و يطلق عليه الكفر بذلك‬
‫تبع للحديث عنه ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ -‬في أحوال متعددة ‪ ،‬وهو هالك عند المسلمين ‪ ،‬و هو في البراءة‬
‫عندهم لرتكابه الموبقات ‪.‬‬

‫ط ْعنٌ في دينهم كعكسه" ‪ ،‬قال ‪" :‬‬


‫قال القطب (‪ )4‬و صاحب النيل (‪ - )5‬رحمهما ال ‪ " -: -‬الطّعن في المسلمين َ‬
‫وهو ِإنْ طَ َعنَ في دينهم طَ َعنَ فيهم ‪ ،‬و ذلك كأن يقول الطّاعن ليسوا على شيء ‪ ،‬أو ليس دينكم صحيحاً ‪ ،‬أو نحو‬
‫ذلك ‪ .‬و سواء في ذلك َأنْ يطعن في الدّين هكذا دين ال ‪ ،‬أو في دين المسلمين ‪ ،‬أو في دين النبي – صلى ال‬
‫عليه و سلم ‪ -‬أو في دين عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أو في دين جابر بن زيد ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬أو في دين‬
‫أبي عبيدة ‪،‬أو دين [‪ ]7‬الشيخ عامر (‪ ، )6‬أو غيرهم من علماء الحقّ ‪ ،‬و المعنى في ذلك كله واحد" ‪.‬‬

‫و كذلك طعنه في دين عبدال بن أباض ‪ ،‬أو دين عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬أو دين طالب الحق ‪.‬‬
‫خصّ جماعة ‪ ،‬أو فرداً‬ ‫"و سواء استغرق كل َفرْدٍ من أفراد المسلمين في لفظه أو نيته ‪ ،‬أو أراد الحقيقة‪ ،‬أو َ‬
‫مأخوذاً عنه ‪،‬أو مُقْ َتدَى به ‪ ،‬و سواء استغرق كل فرد من أفراد المسائل الدينية في لفظه أو نيته ‪ ،‬أو أراد‬
‫خصّ جماعة ‪،‬أو فرداً ‪ ،‬أو جملة ‪.‬‬ ‫الحقيقة ‪ ،‬أو َ‬

‫=========================================‬
‫(‪ )1‬التوبة ‪. 1:‬‬
‫(‪ )2‬مريم ‪.90-89 :‬‬
‫(‪ )3‬التوبة ‪. 12:‬‬
‫(‪ )4‬القطب محمد بن يوسف أطفيش ( ‪1821‬م ـ ‪1914‬م ) شهر بالقطب ‪ ،‬أشهر عالم إباضي بالمغرب السلمي في العصور الحديثة ‪ ،‬من شيوخه‬
‫أخيه الكبر إبراهيم بن يوسف و سعيد بن يوسف ونتين ‪ ،‬و من أشهر تلميذه ‪ :‬أبو اليقظان و إبراهيم أطفيش ‪ ،‬له أكثر من ثلثة مائة مؤلف منها شرح‬
‫النيل و هميان الزاد و تيسير التفسير ‪ ( .‬معجم أعلم الباضية بالمغرب ‪. ) 837 /4 ،‬‬
‫(‪ )5‬صاحب النيل ‪ ،‬عبد العزيز بن إبراهيم الثميني ( ‪ 1130‬هـ ‪1223 -‬هـ ) الملقب بضياء الدين من أشهر مشائخه أبو زكريا و يحيى بن صالح‬
‫الفضلي ‪ ،‬و من أشهر تلميذه إبراهيم بن بيحمان ‪ ،‬و له عدة مؤلفات منها النيل و التاج على المنهاج و غيرها ‪ ( .‬معجم الباضية ‪., ) 533 / 3 ،‬‬
‫(‪ )6‬هو الشيخ عامر بن علي بن عامر الشماخي ( ت ‪ 792‬هـ ) أبو ساكن ‪ ،‬أحد أكبر مشائخ الباضية في جبل نفوسة بليبيا ‪ ،‬قال البدر في السيرة ‪" :‬‬
‫إذا أطلق الشيخ في عرف زماننا فهو المعني _ أي الشيخ عامر _ " ‪ ،‬أخذ العلم عن الشيخ أبي موسى عيسى الطرميسي و الشيخ أبي عزيز بن إبراهيم‬
‫بن أبي يحيى ‪ ،‬تخرج على يده نوابغ العلماء منهم ولده موسى ‪ ,‬و أبو زكريا يحيى بن زكريا و أبو الفضل أبو القاسم البرادي و غيرهم ‪ ،‬وله عدة‬
‫مؤلفات منها كتاب اليضاح في أربعة مجلدات مطبوع و شهير و غيرها من الكتب ‪ .‬معجم أعلم الباضية ( ‪. )502 /3‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫طعْناً ‪ ،‬و ل براء ةً إل إن تبرأ من فاعله ‪ ،‬أو قائله ‪ ،‬أو َمصَوّبه ‪،‬‬ ‫و أمّا تخطئة ما هو مذهب ل دِيَانة فل يكون َ‬
‫فإِنّه يبرأ منه " (‪ )1‬والمعنى ِإنّ ما كان من المور الدّينية ‪ ،‬و المراد بها ما ثَ َبتَ بالدّليل القطعي من الكتاب ‪ ،‬أو‬
‫السنة ‪ ،‬أو الجماع ‪ ،‬فل تقبل تخطئة مخطئه ؛ لنّ ذلك قام له دليل قاطع ‪ ،‬فل َيصِحّ فيه القول بالتخطئة‪ ،‬أو‬
‫الطعن فيه ‪ ،‬أو الطعن في القائل به ‪ ،‬و نحو ذلك ‪.‬‬

‫و ذلك كالقول بالرؤية ‪ ،‬و بوجوب خروج العصاة من النّار‪ ،‬و وجوب رعاية الصّلحية و الصلحيّة ‪ ،‬و كأخذ‬
‫الصفات بحسب ظاهرها ‪ ،‬من نحو العين ‪ ،‬و اليد ‪ ،‬و السّاق ‪ ،‬مما يدل بحكم العقل على القدح في الذات العلية ‪،‬‬
‫المستلزم نقص اللوهية ‪ ،‬و ضعفها ‪ ،‬و عجزها ‪.‬‬

‫و كالنـزول من السماء العليا إلى السماء الدنيا آخر الليل ‪ ،‬لما في هذا الحوال كُلّها من القصور ‪ ،‬و التّقصير ‪،‬‬
‫الذي يتعالى ال عنه علواً كبيراً ‪.‬‬

‫صحّ الخذ به مما عدا ذلك ‪ ،‬و هو كثير جداً ل يكاد يحصر من المور الخلفية‬ ‫بخلف ما كان مذهباً ‪ ،‬و هو ما َي ِ‬
‫التي يجوز فيها الخلف ‪ ،‬كزيادة التكبير على الربع في صلة الجنازة ‪ ،‬و كالتسليم بواحدة في [‪ ]8‬الخروج من‬
‫الصلة ‪ ،‬و كجواز الحرام في الصلة بسائر الذكار من غير " ال أكبر" ‪ ،‬و كالصّلة في الوقات التي صح‬
‫المنع من الصلة فيها بنص غير قطعي ‪ ،‬و المثال لهذا المقام كثيرة ‪.‬‬

‫فال ّردُ لهذه و نحوها ‪ ،‬و القول بعدم صحتها مُحْتمل ل ُي ْفضِي إلى القدح بها ‪ ،‬أو الطّعن على المسلمين فهذا الذي‬
‫يسمى مذهباً ل ديناً عند الفقهاء ‪.‬‬

‫قال القطب ‪ -‬رحمه ال و رضي عنه ‪ " : -‬و الطّعن في المسلمين عند ال أي َمنْ هو عند ال مسلم هكذا كلهم ‪،‬‬
‫أو بعضهم ‪ ،‬أو يُعَيّن جماعة مسلمين عند ال ‪ ،‬أو فرداً ُمسْلِماً عند ال تعالى ‪ ،‬مثل َأنْ يُعَ ّينَ أصحاب الكهف ‪ ،‬أو‬
‫ش ْركٌ ‪.‬‬
‫مؤمن آل فرعون‪ ،‬فهو طعنٌ و ِ‬

‫و كذا إن طعن في دين السلم " (‪ ، )2‬أي لن دين السلم ثبت بالدليل القطعي أَنّه هو الحقّ كما َنصّ عليه ‪" :‬‬
‫سلَمُ " (‪. )3‬‬
‫ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬

‫ج َمعَ "‪ .‬قال ‪ " :‬و يَحِلّ قتل طاعن في كل من الحالتين " (‬
‫قال ‪ " :‬و الطّ ْعنُ في أهل الدعوة نفاق ‪ ،‬سواء َأ ْف َردَ أم َ‬
‫‪ ، )4‬أي في حالة طعنه في َمنْ ثبت بالدليل القطعي إيمانه ‪ ،‬كأصحاب الكهف ‪ ،‬و مؤمن آل فرعون ‪ ،‬و أضرابهم ‪،‬‬
‫شكُ في‬
‫و حالة الطعن في أهل الدعوة ؛ لنّه طعن في الحقّ بغير شكٍ ؛ لنه لو كان فيه احتمال لكان شكاً ‪ ،‬و ال ّ‬
‫سعُ الشك في الحقّ أبداً‪.‬‬
‫دعوة المسلمين كفرٌ أيضاً‪ ،‬لنهم على الحقّ فل َي َ‬

‫ج َمعَ أو َأفْ َردَ ‪ ،‬و كذلك الطعن في المخالف فيما هو ُمحِقّ‬


‫فحالة الطّ ْعنِ في المسلمين عند ال ‪ ,‬أو في أهل الدّعوة َ‬
‫فيه ‪،‬كطعن في المسلمين ‪ ،‬أي من حيث هو حَقّ في نفسه ‪ ،‬فإن الحق ل يزال حقاً مهما كان ‪ ،‬و مع َمنْ كان ‪.‬‬

‫حقّ حيّ أم ميت من أهل الدعوة ممّن ُيقْ َتدَى به‪ ،‬أو يؤخذ عنه ‪ ،‬أو ُي ْنسَبُ إليه الدّين ‪ ،‬و‬‫و سواء كان الطعن في مُ ِ‬
‫سواء في هذا الجماعة أو الفرد‪.‬‬

‫حرُمُ الطّ ْعنُ [‪ ]9‬فيه إجماعاً ‪ ،‬ولو كان ُمقْلِداً غير مجتهدٍ‪ ،‬إذ كان مع ذلك مأخوذاً عنه مُقْ َتدَى‬
‫ف ِإنّ الحقّ واحدٌ َي ْ‬
‫به ‪ ،‬لحفظه العلم مع صيانة و ورع ‪ ،‬أي و لو لم يبلغ درجة الجتهاد ‪ ،‬فإنّ الحقّ في نفسه ل يتغير عن كونه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫جتَ ِهدٍ أو كان مع مقلدٍ ‪.‬‬
‫حقاً ‪ ،‬سواء كان مع مُ ْ‬

‫" مثل أن يقال لست يا فلن على شيء ‪ ،‬أو أنت ضال ‪ ،‬فهذا طعن في المسلم ‪ ،‬وهو طعن في الدّين ؛ لنّه طَ َعنَ‬
‫خصّ جماعة غير‬ ‫فيه من حيث دينه ‪ ،‬و إن قال ‪ :‬دينك باطل ‪ ،‬أو نحو هذا ‪ ،‬فهذا طعن في الدّين ‪ ،‬و أمّا إن َ‬
‫مقتدى بهم ‪ ،‬أو فرداً غير مقتدى به ‪ ،‬فليس طاعناً في الدّين بالطعن فيهم ‪ ،‬و لكن يبرأُ منه ِإنْ كانوا متولين ‪ ،‬إل‬
‫إن ذكر َأنّ دينهم بَاطِلٌ ‪ ،‬فذلك طعن في الدّين‪ ،‬إذا علمنا أنهم دانوا دِيَانة المسلمين و لو جهلوا بعضها ‪ ،‬و ينافق‬
‫بالطعن بالمقتدى به غير المنصوص عليه ‪ ،‬و يشرك بالمنصوص عليه أنه مسلم ‪".‬‬

‫قال ‪" :‬و يباح دم الطّاعن مطلقاً ‪ ،‬و ِإنْ كان طعنه بتخطئة للدّين ‪ ،‬أوأن تخطئته بلسانه ‪ ،‬أو تجوير للدّين _ أي‬
‫نسبته للجور _ أو تجوير أصحابه في قولهم به ‪ ،‬أو فعلهم به ‪ ،‬أو اعتقادهم إيّاه ‪ ،‬و َرمْيٍ بِكُ ْفرٍ لصحاب الدّين ‪،‬‬
‫أو للدّين ‪ ،‬أو براءة منهم ‪ ،‬أو من الدّين ‪ ،‬و ذَمّ ٍ ‪ ،‬و إن لفعالهم من حيث أنها موافقة للدّين ‪ ،‬أو صادرة ممّن‬
‫هو على الدّين ‪.‬‬

‫صدَرَت أو مكروهاً ‪ ،‬فل طعن في ذلك على الدّين‪ ،‬و كذلك يكون الطعن بفعلٍ يوجب تنقيصاً ‪،‬‬
‫و َأمّا إن ذمّ معصية َ‬
‫مثل أن يعيب بتحريك رأسه أو يده أو إخراج لسانه ‪.‬‬

‫أو يقصد المُقْ َتدَى به في الدّين بالقتل ‪ ،‬أو يَتَوّعد ‪ ،‬أو شُو ِهدَ منه ‪ ،‬أو أقرّ به ‪ ،‬أو ُبيّن عليه ‪ ،‬أو شُ ِهرَ عنه ‪ ،‬ما‬
‫لم يتب قبل أن يُ ْق َدرَ عليه ‪.‬‬

‫حصْرِ ليتوب ‪ ،‬فل ُيقْتَلَ ‪.‬‬


‫صرَ و تاب ‪ ،‬أو طََلبَ المان بعد ال َ‬
‫و إن تاب بعد أن قُ ِبضَ عليه قُتِلَ ‪ ،‬و إن حُو ِ‬
‫والتّوبة [‪ ]10‬بالمشاهدة ‪ ،‬أو بالبيان ‪ ،‬أو بالشّهرة ‪ ،‬و سواء في أحكام الطعن المشرك ‪ ،‬و المخالف ‪ ،‬و‬
‫الموافق ‪.‬‬

‫و قيل ل ُيعْجَلَ عليه _ أي الموافق بالقتل _ إن قال ذلك الذي يكون طعناً غضباً منه ل اعتقاداً راسخاً ‪ ،‬ل َعلّه‬
‫يزول عنه الغضب ‪ ،‬و يعتذر ‪ ،‬و يتوب ؛ لتقدمه في الدّين كما يستتاب المرتد ثلثاً ‪.‬‬

‫و ِإنْ طَ َعنَ بل غضب لم يُؤْخر " (‪ ، )5‬أي يكون ذلك منه إهانة للدّين ‪ ،‬و َهتْكاً لحرمته ‪ ،‬و احتملوا له في حالة‬
‫الغضب ‪ ،‬أن تكون نزعةً شيطانيةً حملته على ذلك ؛ لنّ النسان في حالة الغضب يتغير شعوره ‪ ،‬و تقع منه‬
‫سفُ لها ‪.‬‬
‫أشياءَ يَ ْندَمُ على وقوعها ‪ ،‬و يَأ َ‬

‫قال القطب ‪ " :‬و كذلك تصويب المخالف ما عليه ثابتاً من ديانةٍ ‪ ،‬و وليةِ قاد ِتهِ أي قادة ذلك المخالف ‪ ،‬و كذلك‬
‫إذا صَوّب ما نحن عليه ‪ ،‬و صَوّب ما عليه المخالف فذلك تخليط منه ‪.‬‬

‫و هل هو طعن منه في أهل الوفاق و في دينهم ؟ ‪ ،‬لنّ تصويب ديانته تخطئة لديانتنا ‪ ،‬و وليته لقادته تخطئة‬
‫صرَ التصويب _ أي جعله محصوراً في مخصوصين ؛ فذلك تخطئة لمن عداهم _ ‪ ،‬و َأمّا‬ ‫ح َ‬
‫لقادتنا ‪ ،‬ل سيما إن َ‬
‫إن صَوّبَ ذلك و صَوّبنا ‪ ،‬فإن كان بمرة ل يفيده تصويبنا شيئاً ‪ ،‬فهو طاعنٌ ‪ ،‬مثل َأنْ يقول ‪ :‬نحن و أنتم كلنا‬
‫على صواب ‪ ،‬أو قال ‪ :‬ديانتنا و ديانتكم كلتاهما صواب ؛ لنّ َمنْ جمع طاعة و معصية في فعلٍ واحدٍ ‪ ،‬يعاقب و‬
‫جسَ طا ِهرُه ‪.‬‬
‫ج َمعَ طاهراً و َنجِساً‪ ،‬ن ّ‬
‫ل يثاب ‪ ،‬ك َمنْ َ‬

‫طلَ الولَ بالثاني ‪ ،‬مثل َأنْ يقول ديانتكم صواب و‬


‫و إن َقدّمَ تصويبنا ثم عَقّ َبهُ بتصويب دينهِ و قادتهِ ‪ ،‬فقد أبْ َ‬
‫ديانتنا صواب ‪ ،‬فليس في[‪ ]11‬العكس طاعناً ‪ ،‬و لكن ل يتولى فيه " (‪. )6‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫===============================================‬
‫(‪ )1‬شرح النيل ( ‪. )604 _603 /17‬‬
‫(‪ )2‬شرح النيل (‪. )604 /17‬‬
‫(‪ )3‬آل عمران ‪.19 :‬‬
‫(‪ )4‬شرح النيل (‪. ) 604 /17‬‬
‫(‪ )5‬المصدر السابق ( ‪. ) 607 _605 /17‬‬
‫(‪ )6‬المصدر السابق ( ‪. ) 607 / 17‬‬

‫قلتُ ‪ :‬عدم الولية هنا ؛ لكونه صَوّبَ الباطل الذي هو عليه ‪ ،‬فإنّ َمنْ صَوّبَ الباطل كمن أ ْبطَل الصواب " أَل لِّ‬
‫الدّينُ ا ْلخَا ِلصُ " (‪. )1‬‬
‫و قيل ِإنّ قوله ذلك ل يُحْ َكمُ عليه فيه بأنّه طعن ‪ ،‬و لو تضمن الطعن ‪ ،‬أي لن الطعن فيه غير صريح بل محتمل ‪.‬‬

‫و في الحتمال ل يصح الحكم بالطعن ‪ ،‬وجهان عند المسلمين ‪ ،‬و اختاره صاحب النيل ‪ ،‬أي اختار عدمَ الحكم‬
‫بالطعن هنا ؛ لنّ ذلك اللفظ الذي نَطَقَ به تلفظاً بمَا عنده من اعتقادٍ ‪ ،‬و قد جرى ذلك بين علماء المسلمين ‪ ،‬و لم‬
‫يعدوه طعناً‪ ،‬و كَمْ رجلٍ صَوّبَ دينه من المخالفين ‪ ،‬أو أئمته بحضرة أئمتنا و علمائنا ‪ ،‬و لم يحكموا عليه بأن‬
‫ذلك طعن قولن ‪ ،‬ل سيما إذا لم يُو ِردْهُ مَ ْو ِردَ الطّ ْعنِ ‪ ،‬أما إذا أَ ْو َر َدهُ مَ ْو ِردَ الطّ ْعنِ ‪ ،‬فهو طعن عندي ‪.‬‬

‫قال القطب ‪ -‬رحمه ال ‪ " : -‬اختلفوا في لزم المذهب مذهب هو أم ل ؟ قولن " أي عليهما تفرّع القول بطعن و‬
‫عدمه " قال " لكن ما نحن فيه ديانة ل مذهب ‪ ،‬و ذلك َأنّ التصويب لدينِ الخِلفِ تخطئة لدين ال ِوفَاقِ" ‪ ،‬قال ‪" :‬‬
‫ط ْعنٌ ‪.‬‬
‫و أما تصويب الموافق لدين المخالف ف َ‬

‫صدَ لخصلة مما دان به أهل الدعوة ‪ ،‬و خالفوا فيه غيرهم ‪ ،‬كقدم السماءِ ‪ ،‬و الصفات ‪ ،‬أي‬ ‫قالوا ‪ :‬و من َق َ‬
‫أسماء ال عز و جل ‪ ،‬و صفاته تعالى ‪ ،‬و نفي زيادتهما على الذات ‪ ،‬و نفي الرؤية له ‪ -‬سبحانه و تعالى ‪ -‬في‬
‫الخرة ‪ ،‬و نفي حدوث الكلم ‪ ،‬أي كلم ال الذي هو بمعنى نفي الخرس ‪ ،‬أمّا كلمه بمعنى القرآن ‪ ،‬و سائر كتبه‬
‫فمخلوق حادث ‪ ،‬و[أمّا] (‪ )2‬إثبات الخلود في النار لصحاب الكبائر مِن الموحدين في هذه المة و غيرها‪ ،‬و‬
‫خلْقِ الفعال كغيرها ‪ ،‬و‬ ‫إثبات الكسب للعبد باختياره نفياً للجبر ‪ ،‬و نفياً َلنْ يكون خالقاً لفعله [‪ ، ]12‬و إثبات َ‬
‫إثبات المر ل ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬كالتشريع ‪ ،‬واليحاء ‪ ،‬والقضاء ‪،‬و القدر ل تعالى ‪ ،‬و خَطّ َأهَا ‪ ،‬أي قال أنها خطأ ‪،‬‬
‫خطّأَ ما أجمعت عليه المة ‪ ،‬كالصلة ‪ ،‬و الحج ‪ ،‬و الزكاة‪ ،‬حَلّ قتله‪.‬‬ ‫أو َ‬

‫و ل يعتبر في الجماع الروافض ‪ ،‬و َمنْ يُ ْن ِكرُ سورة يوسف أنّها من القرآن" (‪. )3‬‬

‫طرَدُ من المجالس ‪.‬‬


‫قالوا ‪ :‬و يجب قتل الطاعن في الدين في الظهور ‪ ،‬ل في الكتمان فَيُ َع ّزرُ ‪ ،‬و ُينَكّلُ‪ ،‬و ُي ْ‬

‫قال القطب ‪ " :‬و يجوز أن يقتل في حال الكتمان ‪ ،‬كما يجوز أن يقتل في حال الظهور ‪ ،‬و في النكال النظر إلى‬
‫الحاكم ‪ ،‬إن رأى عدد الضرب المقرر في الثار ‪ ،‬أو رأى أكثر من ذلك أو أقلّ ‪ ،‬و بالحبس أيضاً ‪ ،‬و النهي و‬
‫التغير واجبان في كل أحوال السلم ظهوراً و كتماناً ؛ لنّ فيهما إظهار الحق ‪ ،‬و هو واجب ‪.‬‬

‫و ربما تاب و لو بعد القدرة عليه ‪ ،‬و التّوْبُ ينفعه مع ال عز و جل ‪ ،‬و يقتل مع التوبة ‪ ،‬و لو تاب نصوحاً ؛‬
‫طُلهُ التّوبة ‪ ،‬و إن تاب قبل المقدرة عليه فل يقتل ‪ ،‬رعاية لقيد القدرة عليه في النص‬ ‫حدّ ل تُبْ ِ‬ ‫حدّا ‪ ،‬و ال َ‬
‫لنّه يُ ْقتَلُ َ‬
‫‪ ،‬حيث يقول " مِن قَبْلِ أَن تَ ْق ِدرُواْ عََليْهِمْ " (‪. )4‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ضرْبٍ أيضاً ‪،‬‬
‫قال القطب ‪ -‬رحمه ال ‪ " : -‬و إذا لم يقتل ‪ ،‬وتاب قبل القدرة في الظهور و الكتمان ‪ ،‬فإنّه يُؤدّبُ ِب َ‬
‫خذْ عني خاتمك ))‬ ‫ح ْبسٍ ‪ ،‬أو قَ ْيدٍ " (‪ ، )5‬قال المام عمروس (‪ - )6‬رحمه ال تعالى ‪ -‬لبي منصور (‪ُ " : )7‬‬ ‫أو َ‬
‫‪ ،‬و معناه التعذر عن العمل ‪ ،‬حيث قال له‪ (( :‬يا إلياس إن لم تـأذن لي في قتل ثلثة فخذ خاتمك عني )) ‪ -‬و كان‬
‫قاضياً لبي منصور المذكور ‪ -‬قال ‪ (( :‬إن لم تأذن لي في قتل الطاعن في الدين‪ ،‬و في قتل مانع الحق " أي‬
‫كالزكاة و نحوها من الحقوق الواجبة عليه " ‪ ،‬و في قتل الدال على عورات المسلمين )) (‪. )8‬‬

‫أي لنّ الطاعن في الدين محارب له ‪ ،‬و َمنْ حارب دين المسلمين [‪ ]13‬كان أولى بالقتل ِمنْ كُلّ أحد ‪ ،‬و أمّا مانع‬
‫ح ْر َمةُ الدّين ‪ ،‬و‬
‫الحق أياً كان ‪ ،‬مكابر للدين ‪ ،‬و مغالب له‪ ،‬عاتٍ عليه ‪ ،‬فهو حقيق بالقتل أيضاً ‪ ،‬و إلّ انتهكت ُ‬
‫حمَاهُ بين المسلمين ‪.‬‬
‫اسْتُبِيحَ ِ‬

‫ضرّ على المسلمين من عدوهم ‪ ،‬حيث يُظْ ِهرُ عوراتهم لينال عدوهم منهم ‪،‬‬
‫و الدّال على عورات المسلمين صار َأ َ‬
‫حرَمِ الحقّ ‪ ،‬و معارضة له ‪ ،‬والحقّ يجب تأييده و نصره ‪ ،‬و إرغام‬
‫و ذلك معاداة للدين ‪ ،‬و إعانة على استباحة ُ‬
‫الناس عليه رضوا أم كرهوا ‪.‬‬

‫و سواء كانت دللته باللسان ‪ ،‬أو بالكتابة ‪ ،‬أو بإرسال الرسل إلى العدو ليخبروهم عن عوراتهم ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬إنّ‬
‫عدَدهم ‪ ،‬أو‬
‫عدّتهم ‪ ،‬أو َ‬
‫الطريق إليه من كذا و كذا ‪ ،‬أو أنهم مضطرون إلى كذا و كذا ‪ ،‬أو قَلّ معاشهم ‪ ،‬أو َ‬
‫غفلتهم وقت كذا و نحو ذلك ؛ فهذا كله يبيح قتل الدّال عليهم ‪.‬‬

‫ضرّ على السلم من‬‫فهذا و أمثاله من جملة المحاربين ل و رسوله ‪ ،‬و من الساعين في الرض فساداً‪ ،‬و هم َأ َ‬
‫اليهود و النصارى ‪ ،‬فإن أعدى عدوك الذي يطلع على ما أنت عليه فيبدى ذلك لمن يعاديك ‪ ،‬كأنه يعطيه سلحاً‬
‫ليقتلك ‪.‬‬

‫و رجوع الطاعن في الدين إذا رجع إلى مذهب المسلمين ‪ ،‬و كان طع ُنهُ بما يبيح قتله ‪ ،‬ورجوعه بل قصد توبةٍ‬
‫من طعنه ‪ ،‬ففي قبول توبته و رجوعه وجهان ‪.‬‬

‫كما إذا ذهل عن التوبة ‪ ،‬أو أدخلها في عموم الرجوع إلينا ‪ ،‬و لم يسمها ‪ ،‬فقيل هو رجوع منه ‪ ،‬و توبة شرعية‬
‫في نظر المسلمين ‪ ،‬بل في رأي بعض المسلمين ‪ ،‬وقيل ل يعد بذلك تائباً ‪ ،‬و ل راجعاً ‪ ،‬و ل داخلً في دين‬
‫صرّحَ قائلً إنّي تبت من طعني في الدين [‪ ]14‬أو في دين المسلمين ‪ ،‬أو في دينكم كذلك؛ لن‬ ‫المسلمين حتى ُي َ‬
‫ديننا هو الحق ‪ ،‬ثم يعلن بأنّ دينكم هو الحق و الصواب ‪ ،‬و بذلك يكون راجعاً ‪ ،‬و تائباً مقبولً عند المسلمين ‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬و ِإنْ لم يتب من طعنه في ديننا ‪ ،‬فل َي ْمنَ ُعهُ الرجوع إلينا من القتل" (‪ )9‬؛ لنّه قادح بفادحٍ ‪ ،‬و كافر في‬
‫ححَ القطب الول فيُ َعدّ رجوعاً مقبولً ‪.‬‬ ‫صّ‬‫الدين ‪ ،‬و َ‬

‫قال ‪ " :‬و ل يكون بتخطئة دينه رجوعاً إلينا ‪ ،‬و ل إلى ديننا (‪ )10‬؛ لنّه خطّأَ ما هو خطأ في نفس المر ‪ ،‬و لم‬
‫يصَوّبْ ما هو في نفس المر صواب ‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬و مصوّبُ الطاعن حك ُمهُ ح ْك ُمهْ ‪ ،‬أي حكمهما واحد إذ اتحدا في تصوّيب الباطل كمصوّب الحق ‪ ،‬فهو‬
‫مُحِقّ في تصويبه فيتحد حكمهما بغير شك ‪ ،‬و كذلك أيضاً مُخطّئُ المخطّئ للمصوّبِ الطاعنَ ‪ ،‬و المرَ بالطعن ‪ ،‬و‬
‫خطّئ مصوّب المر بالطعنِ ‪ ،‬و المبيح أيضاً كذلك ‪ ،‬و كذلك من خطّأ المُخطّئ‬ ‫مصوّب المر به ‪ ،‬و مُخطّئ َمنْ َ‬
‫للمبيح ‪ ،‬كمصوّب المبيح كلهم طاعنون ‪ ،‬و دمهم حلل" (‪. )11‬‬

‫قال ‪ " :‬ول يعد طعناً ِمنْ مخالفٍ دعا لغيره لمذهبه " أي دعا الغيرَ إلى مذهبه " و كذلك تجويره لنا يباح لنا منه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫به ما يباح بالطعن " أي َلنّ التجوير طعنٌ ‪ ،‬حيث ينسبنا إلى الجور أو ينسب مذهبنا إليه ‪ ،‬فإذا نسبنا إلى‬
‫الجور ‪ ،‬أو أظهر تنقيصنا ‪ ،‬و ِإنْ كان بل كلم " أي أظهر تنقيصنا بأحوال تدل على التنقيص ‪ ،‬و إن لم تكن هي‬
‫في نفسها كلماً ‪ ،‬لكنها دالة على التنقيص ‪ ،‬أو على البراءة من أهل بلد ‪ ،‬أو قبيلة ظهرت فيها دعوتنا ‪ ،‬أو كان‬
‫منه لعنٌ لنا ‪ ،‬أو لجماعتنا ‪ ،‬فكذلك إذا ظهر ما يدل على ذلك منه ‪.‬‬

‫========================================‬
‫(‪ )1‬الزمر ‪.3 :‬‬
‫(‪ )2‬هكذا وردت في الصل ‪ ،‬و عند مراجعة النص من شرح النيل ‪ ،‬تبين أنها مقحمة ‪ ،‬و لعلها سبق قلم من المؤلف ‪.‬‬
‫(‪ )3‬شرح النيل (‪. )609_608 /17‬‬
‫(‪ )4‬المائدة ‪. 34 :‬‬
‫(‪ )5‬شرح النيل ( ‪. )614 / 17‬‬
‫(‪ )6‬عمروس بن فتح المساكني النفوسي ( ت ‪ 283‬هـ ) أبو حفص ‪ ،‬عاصر المام أبا اليقظان محمد بن أفلح ‪ ،‬تولى القضاء بجبل نفوسة في ولية أبي‬
‫منصور أواخر أيام الدولة الرستمية ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها الدينونة الصافية و رسالة في الرد على الناكثة و أحمد بن الحسين ‪ .‬معجم الباضية ( ‪/3‬‬
‫‪. )671‬‬
‫(‪ )7‬إلياس بن منصور النفوسي ( حي في ‪261‬هـ _ ‪ 281‬هـ ) أبو منصور ‪ ،‬من مشائخ جبل نفوسة ‪ ،‬عينه المام الرستمي أبو اليقظان على ولية‬
‫نفوسة ‪ ،‬و كان قائدا فذا ‪ ،‬لم يهزم له جيش طول حياته ‪ .‬معجم الباضية ( ‪. )124 / 1‬‬
‫(‪ )8‬انظر طبقات المشائخ ( ‪ ، )321 / 2‬و السير للشماخي ( ‪. )193 /1‬‬
‫(‪ )9‬شرح النيل ( ‪. ) 614 /17‬‬
‫(‪ )11( )10‬المصدر السابق ( ‪. ) 614 /17‬‬

‫و كذلك التعييب للمذهب ‪ ،‬كقول القائل للمرداس بن حدير (‪ - )1‬رضي ال عنه ‪ " : -‬فرسك حروري " فأجابه‬
‫على ذلك بقوله ‪" :‬وددت [‪]15‬و ال لو أوطأته بطنك في سبيل ال " (‪. )3()2‬‬

‫فإن قول القائل ‪ ":‬فرسك حروري " ‪ ،‬تعييب منه عليه بأنّه من أهل حروراء ‪ ،‬و لو كان ل عيب في أهل حروراء‬
‫‪ ،‬و لكنه ساق ذلك الكلم مساق التعيير لهل حروراء ‪ -‬رحمهم ال ‪ -‬فإنهم قتلوا على الحق ‪ ،‬و لذلك استحل‬
‫حمْلِ‬
‫السيد المرداس دمه ‪ِ ،‬إذْ َت َمنّى قتله في سبيل ال ‪ ،‬و سمى قتله جهاداً في سبيل ال ‪ ،‬و كنّى عن قتله بِ َ‬
‫فرسه على المشي على بطنه ‪ ،‬فإنّ مشي الفرس على بطن إنسان يَ ْقتُلُه ‪ ،‬و كان أبو بلل ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬على‬
‫ذروتي العلم و الزهد ‪ ،‬بحيث يضرب به المثل ‪ ،‬و كذلك أخوه عروة (‪ ، )4‬و آلهما ‪ ،‬و جيلهما ‪ -‬رحمهم ال و‬
‫رضي عنهم ‪. -‬‬

‫و كذلك مدحهم لئمتهم بما يعد تنقيصاً لئمتنا و مذهبنا ‪ ،‬إذا ساقه مساق ذلك ‪ ،‬أو يقول لستم على شيء ‪ ،‬أو لم‬
‫صرّح ‪ ،‬أو تبرأت م ّمنْ ل يبرأ من الوهبية ‪ ،‬أو تبرأ ممّن تبرأ من المخالفين ‪ ،‬أو ِمنْ فلن ‪ ،‬الذي هو قدوة في‬
‫ُي َ‬
‫دين المسلمين ‪ ،‬فكل هذه الحوال عن المسلمين ضللٌ ‪ ،‬و فسادٌ ‪ ،‬و إفسادٌ ‪.‬‬

‫خطّأَ قوله ‪ ،‬فهذا عند‬


‫َأمّا إذا قال إنّي لم أفعل ذلك ‪ ،‬أو ما فعلت ‪ ،‬أو ليس لي ذلك الفعل ‪ ،‬أو ليس لي ما قلت ‪ ،‬أو َ‬
‫المسلمين ل يُ َعدّ رجوعاً و توبة ‪ ،‬لكنه ل يحكم عليه بقتلٍ ‪ ،‬و طعنٍ " أي ل يُحْ َكمُ عليه بِحُ ْكمِ الطاعن بذالك " و‬
‫كذلك َإنْ ق ّبحَ فعله ‪ ،‬بل يُحْ َكمُ عليه بِحُ ْكمِ الطعن و القتل في قول بعض المسلمين ‪.‬‬

‫َأمّا إذا تكلم بطعن قاصداً به التقية لنفسه فل يقتل بذلك ‪ ،‬و كذا ِإنْ فعله تقية لِما ِلهِ حيث يَ ْتَلفُ ِبتَ َلفِ ماله ‪ ،‬أو ما‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫جرّ إلى التلف ‪ ،‬و كذلك كل ما يؤدي إلى تلف عضو من أعضاءه ‪ ،‬و قيل له يتقي حتى من ضربةٍ موجعةٍ ‪ ،‬و‬ ‫يَ ُ‬
‫ظنّت ‪ ،‬سواء قال أو لم يقل إنّي فعلت ‪ ،‬أو قلتُ بتقية ‪.‬‬
‫ُتسَوّغ له التقية بذلك الطعن ِإنْ عُلمت منه التقية أو ُ‬
‫قال القطب ‪ -‬رحمه ال ‪ " : -‬لكنّه على كل حال ِإنْ عُلمت منه التقية ‪ ،‬أو ظُنّت فل يعاقب ‪ ،‬و ل يضرب ‪ ،‬و ل‬
‫لَوْم [‪ ]16‬عليه ؛ لنّه يجوز له َأنْ يقول ‪ ،‬أو يفعل ما هو طعن تقيةً " (‪. )5‬‬

‫صحّ ذلك بالنص في القرآن الكريم قوله " إِلّ أَن َتتّقُواْ ِمنْهُمْ تُقَاةً " (‪ )6‬فيتقي النسان لكل ما يؤدي إلى‬ ‫قلتُ ‪َ :‬‬
‫تلف نفسه ‪ ،‬و لو بأخذ زاده ‪ ،‬و لباسه ‪،‬و مركوبه و نحو ذلك ‪ ،‬إذا كان يؤدي أخذ ذلك إلى تلف نفسه " و ليس‬
‫على نفسه بأمين من ل يتقي عنها ضرب سوطين " (‪ )7‬كما في الصحيح ‪ ،‬فيقول إنّي ألعن ‪ ،‬أو أقدح ‪ ،‬أو أطعن‬
‫ط َم ِئنّ بِالِيمَانِ‬
‫‪ ،‬أو طعنت في كذا و كذا ‪،‬لقصد التقية ‪ ،‬و هو في نفسه على منهج اليمان " إِلّ َمنْ أُ ْك ِرهَ َوقَ ْل ُبهُ مُ ْ‬
‫" (‪ )8‬فهذا من يسر الدين الذي منّ ال به على عباده المخلصين ‪.‬‬

‫ظنّت ‪ ،‬أو قال فعلته ‪ ،‬أي فعلت الطعن بها أي بالتقية _ و المعنى لجلها _‬ ‫" و تسوغ التقية إن عُلمت منه ‪ ،‬أو ُ‬
‫ولو حيث ل تجوز له ‪ ،‬كخوفٍ على ماله ‪ ،‬أو على غيره أي على نفس الغير من الناس ‪ ،‬و يُ ْب َرأُ منه بذلك؛ َلنّ‬
‫المسلمين ل َيرَ ْونَ التقية في الموال ؛ َلنّ المال يُتّقَى ِبهِ ل ُيتّقَى َلهُ" (‪. )9‬‬
‫صحّ عن المسلمين قولهم ‪ ":‬في المال ل في الحال ‪ ،‬و في الحال ل في الدين " ؛ َلنّ المال أهَ ْونُ من الحال ‪،‬‬ ‫فقد َ‬
‫و الحال َأهَ ْونُ من الدّين ‪ ،‬إل َمنْ كان مطمئناً باليمان ‪ ،‬ويشير إلى ذلك قول القائل‪-:‬‬

‫(‪)10‬‬

‫فإن إصابة النفس في نظر كرام الرجال أهون من نقص في أعراضهم ‪ ،‬أو عقولهم ‪.‬‬

‫و الطعن في الدين أمره كبير ‪ ،‬فإِنّه طعن في الحق ‪ ،‬و طعن في الحق طعن في رب السماوات والرض ؛ فإِنّه هو‬
‫الحق ‪ ،‬و طعن فيه يجمع الكفر كله ‪ ،‬و العياذ بال من ذلك ‪.‬‬

‫قال صاحب النيل ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ " : -‬و ِإنْ َكتَبَ بيده ما هو طعن بلسانه ففي كونه طعن قولن " (‪ )11‬؛ َلنّ‬
‫الكتابة دون النطق بالمكتوب ‪ ،‬و دون تحريك اللسان به ؛ ذلك َلنّ اللسان هو طريق الكفر و اليمان ‪ ،‬و لذلك‬
‫ساغ الختلف في الكتابة ‪ ]17[ ،‬ككاتب طلق زوجته ‪ ،‬و لم يقرأه ‪ ،‬ولم يجرِ به لسانه ‪ ،‬و لم تسمعه أذنه ‪.‬‬

‫" فإذا كتب ذلك " أي ما يكون طعناً أي فعل فعلً ‪ ،‬ثم تكلم به بلسانه ففي كونه طعناً قولن " (‪ ... )12‬إلى أن‬
‫قال ‪ " :‬و ِإنْ كتب الخرس الطعن قُ ِتلَ به ؛لنّ ذلك طَ ْعنٌ منه ‪ ،‬وكذا ِإنْ أَشار به ‪ ،‬أو صَوّبه ‪ ،‬و َكذَا ِإنْ أعطى‬
‫صدّقَ على‬ ‫أُجَرة لطاعن ‪ ،‬أو أعتق عبداً على طعن الطاعن ‪ ،‬أو أعتق عبده الطاعن لطعنه فرحاً به ‪ ،‬أو َت َ‬
‫المساكين فرحاً بطعن الطاعن ‪ ،‬أو عفا عن قاتل وليه على ذلك " (‪. )13‬‬

‫قال ‪ -‬رحمه ال ‪ " : -‬و كذا ِإنْ طَ َعنَ وليه فعفا عنه لَجْلِ طعنه ‪ ،‬أو طعن صاحب القاتل ‪ ،‬أو وليه ‪ ،‬أو ولده فعفا‬
‫عنه لَجْلِ الطعن ‪ ،‬و سواء في العفو عفا عن القتل و الدّيَة ‪ ،‬أو عفا عن القتل على َأنْ يأخذ الدّيَة " (‪. )14‬‬

‫قال ‪ " :‬و كذا إن فعل أمراً جميلً للطاعن على طعنه _ كمدحه _ و إعانته في أمر مهم ‪ ،‬أو فَعَلَ معروف له على‬
‫طكَ كذا و كذا ‪،‬أو أفعل لك كذا و كذا ‪ ،‬ففي ذلك قولن ‪ ،‬قيل يقتلن به ‪ ،‬و قيل يقتل‬ ‫عِ‬‫طعنه ‪ ،‬أو قال له اطعن ُأ ْ‬
‫عدَ به للطاعن ‪ ،‬أو لم يكن طعن ‪ ،‬و قيل ل إلّ ِإنْ وقع الطعن ‪،‬‬
‫الطاعن فقط ‪ ،‬فعلى الول يقتل ولو لم يفعل ما َو َ‬
‫قال ‪ :‬و يحكم على مطلق الطاعن بالطعن ‪ ،‬قال ويقتل أيضاً بترجمان واحد _ أي فيما ل يعرف إل بترجمان _ إن‬
‫شُو ِهدَ منه موجب الطعن كان قولً أو فعلً ‪ ،‬هو في نفس المر طعن ‪ ،‬لكن ل يعلمون أنّه طعن إل بترجمان ‪،‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫سواء إن حضر الترجمان معهم ‪ ،‬أو جاء بعد ذلك فحكوا له الواقع ‪ ،‬فترجمه طعناً ‪ ،‬فكل موجب طعن ‪ ،‬أو‬
‫يقتضيه الحال أنه طعن ‪ ،‬فالعقاب عليه ورد به النص إجمالً‪]18[.‬‬

‫و اعلم أنّه يقتل بأمينين ‪ ،‬أو أمين واحد و أمينتين ‪ ،‬ومُ ِنعَ الواحد مطلقاً ‪ ،‬و كذلك كل الحكام " (‪ )15‬؛ ل ّ‬
‫ن‬
‫الحجة ل تقوم بالواحد خصوصاً فيما يتعلق بالحقوق المالية ‪ ،‬والجنايات ؛ لنّ الحرج فيها أكبر ‪ ،‬و النفوس‬
‫عليها أشدّ ‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬و ل يكون الرجوع من ِوفَاقٍ لِخِلفٍ طعناً ‪ ،‬ولكن ينكل الراجع على رجوعه فقط ‪ ،‬إل ِإنْ كان مع الرجوع‬
‫تخطئة ديننا ‪ ،‬أو المسلمين ‪ ،‬أو الطعن بوجه ما ‪ ،‬و ِإنْ صَوّب دين المخالفين مع ذلك فقولن ‪ ،‬و كذا تعليم ديانة‬
‫المخالفين لطالبها ليعمل بها ‪ ،‬سواء كان الطالب مخالفاً أو موافقاً ‪ ،‬و كذلك الداعي إليها ل يحكم عليهما بالطعن‬
‫و القتل ‪ ،‬و لكن يُ ْب َرأُ منهما ‪ ،‬وينكلن ‪ ،‬سواء كان المُ َعلّمُ هو الراجع لدين المخالفين ‪،‬أو غيره ‪ ،‬و لو كان الكلم‬
‫في الراجع ‪.‬‬
‫===================================‬
‫(‪ )1‬المرداس بن حدير بن عامر الربعي الحنظلي التميمي (ت ‪ 61‬هـ ) ‪ ،‬أبو بلل من عظماء الشراة ‪ ،‬شهد صفين مع علي ‪ ،‬و أنكر التحكيم ‪ ،‬و شهد‬
‫النهروان ‪ ،‬قتل غيلة سنة ‪ 61‬هـ ‪ .‬العلم للزركلي ( ‪. ) 202 / 7‬‬
‫(‪ )2‬طبقات المشائخ ( ‪ ، ) 225 / 2‬السير للشماخي ( ‪. ) 65 / 1‬‬
‫(‪ )3‬شرح النيل ( ‪. ) 615 / 17‬‬
‫(‪ )4‬عروة بن حدير التميمي ( ت ‪ 58‬هـ ) من رجال النهروان ‪ ،‬و سيفه أول ما سل من سيوف أباة التحكيم ‪ ،‬قتله عبيد ال بن زياد في زمان معاوية بن‬
‫أبي سفيان ‪ .‬العلم ( ‪. ) 226 / 4‬‬
‫(‪ )5‬شرح النيل ( ‪. ) 636 / 17‬‬
‫(‪ )6‬آل عمران ‪. 28 :‬‬
‫(‪ )7‬انظر بمعناه الجامع الصحيح للمام الربيع الجزء الثالث منه ‪ ،‬ص ‪ ، 301‬رقم ‪. 765‬‬
‫(‪ )8‬النحل ‪. 106 :‬‬
‫(‪ )9‬شرح النيل ( ‪. ) 636 / 17‬‬
‫(‪ )10‬قائل البيت المتنبي من قصيدة مطلعها ‪:‬‬
‫ليالي بَ ْعدَ الظاعنين شكول طوال و ليل العاشقين طويلُ‬
‫ن لي البدر الذي ل أُري ُدهُ و ُيخْفين بدراً ما إليه سبيلُ‬
‫ُي ِب ّ‬
‫( شرح ديوان المتنبي لبعد الرحمن البرقوقي ( ‪. ) 230 /3‬‬
‫(‪ )12()11‬شرح النيل ( ‪. ) 637 / 17‬‬
‫(‪ )15( )14( )13‬المصدر السابق ( ‪. ) 638 _ 637 / 17‬‬

‫أمّا تعليم ما هو فرع ليعمل به ‪ ،‬و الدعاء إليه ‪ ،‬فل يوجب البراءة بل الهجران‪ ،‬بل يهاجر أيضاً على مطالعتها ‪،‬‬
‫و ليس كذلك إل إن خِيفَ منه تنقيص مذهبنا في الفروع أيضاً ‪ ،‬أو ن ّقصَ فروعنا فيهاجر " (‪. )1‬‬

‫و كُلّ هذه الشياء يراها العلماء صيانة للمذهب و للدين ‪ ،‬وهي من الجهاد المشروع على القادر ؛ فإنّ رسول ال‬
‫‪ -‬صلى ال عليه وآله و سلم ‪ -‬كان يعتنى في النضال عن الحقّ كل شيء بما يناسبه ‪ ،‬أل تراه يأمر شعراء‬
‫السلم يجيبون شعراء الجاهلية على ما يقولون ‪ ،‬و ل يتركهم و ما قالوا ؛ لئل يحيك قولهم في قلب الضعيف ‪،‬‬
‫مع أن الشعراء ل نسبة لهم في الحكام الشرعية ‪ ،‬و ل السياسية ‪ ،‬لكن ربما جاءوا في شعرهم بكلمٍ ظا ِهرُهُ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫يَ ْقرُبُ من الحقّ عند َمنْ ل يفهم ‪.‬‬

‫فكان حسان بن ثابت (‪ ، )2‬و عبدال بن رواحة (‪ ، )3‬و أمثالهم َي ُردّون على شعراء الجاهلية[‪ ]19‬أقوالهم بأمر‬
‫رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و آله وسلم ‪ -‬فكيف ب َمنْ يطعن في دين المسلمين ‪ ،‬و يمدح أهل الباطل ُم ْعرِضاً بذلك‬
‫سبّهم ‪ ،‬و شتمهم على المنابر ‪ ،‬ثم ب َمنْ ينشر‬ ‫للطعن في أهل الحق ‪ ،‬ثم كيف ب َمنْ يصرّح بلعن المسلمين ‪ ،‬و َ‬
‫عنهم في العالم غير الحق في المجلت و الجرائد ‪ ،‬ثم كيف بمن يصارحهم بالعداء قولً ‪ ،‬و فعلً ‪ ،‬و يسَفّه‬
‫أحلمهم ‪ ،‬و يقدح في أئمتهم ‪ ،‬و علمائهم ‪ ،‬كأبي بلل ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬و أضرابه ‪ ،‬و أبي الشعثاء و أمثاله ‪ ،‬و أبي‬
‫عبيدة و أتباعه ‪ ،‬و الربيع بن الحبيب و إخوانه ‪ ،‬و سائر علماء المسلمين ‪ ،‬و أئمتهم في الدين ‪ ،‬و يُلبّس على‬
‫المسلمين في منشوراته بين العوالم ‪.‬‬
‫أليس من الواجب القيام عليه ‪ ،‬و الوقوف في وجهه ‪ ،‬و الرّدّ عليه ‪ ،‬و َأنْ يُكَالَ له الصّاع بالصّاع ‪ ،‬و يهدم بناؤه‬
‫من أصله ؟؟ ‪.‬‬
‫و هل يسع السكوت عن هؤلء ؟؟ ‪ ،‬ل أظنّ أحداً يقول يسع السكوت ‪ ،‬إلّ أن تكون تقية فتلك أحوال لها أحكامها ‪،‬‬
‫و قد خُلِقَ المسلمون لفداء دين ال عز وجل بأموالهم ‪ ،‬و أرواحهم ‪ِ " :‬إنّ الّ اشْ َترَى ِمنَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَن ُفسَهُمْ‬
‫ج ّنةَ" (‪ )4‬الية في أمثالها ‪.‬‬
‫َوَأمْوَالَهُم بِ َأنّ لَ ُهمُ ال َ‬

‫و لو لم يكن إل الهانة لكفى ‪ ،‬فكيف به وفيه خزي الدنيا و الدّين ‪ ،‬أذل ال من أذلّ الدّين ‪ ،‬و أ ّيدَ ال الحق في كل‬
‫حين ‪ ،‬و إذا لم يقم المسلمون لحفظ دينهم العالي على كل دين ‪ ،‬داسته أقدام المتمردين ‪ ،‬و شوهته أقلم‬
‫العابثين ‪ ،‬و تلك على أهل الحق عند ال من أعظم الجرائم ‪ ،‬و َمنْ يا تُرى المسئول عن ذلك إل المسلمون !!!‬
‫فلذالك قام المام السالمي ‪ -‬رحمه ال ‪َ -‬ي ُردّ على كل متنطع على الدين ‪ ،‬مُغّتر صاحبه بما لديه من علم ‪ ،‬يحسبه‬
‫خلْوٌ عاطلٌ ‪ ،‬مرتكبٌ للباطل ‪ ،‬متمردٌ على أهل ال ‪ ،‬و بقية أهل الحق [‬ ‫الغاية التي ينتهي إليها أهل الحق ‪ ،‬و هو ِ‬
‫‪ ]20‬في هذا العهد العاجل ‪ ،‬نسأل ال ‪ -‬عز و جل ‪ -‬الذي عَ ّودَنا إجابته أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجه الكريم ‪،‬‬
‫ش ّرةِ (‪ )5‬أهل البغي والمعاندين ‪ ،‬قامعاً لعداء الحق في كل حين ‪ ،‬مقبولً عند أهل اليمان من‬ ‫كاسراً ل ِ‬
‫المسلمين ‪ ،‬و قد عَِلمَ ما قصدنا به ‪ ،‬و هو حسبنا ونعم الوكيل ‪ ،‬و كفى بعلمه تعالى ‪ ،‬و ال على لسان كل ناطق‬
‫‪.‬‬

‫و قد أخذنا هذه القوال في الطاعن كما ذكرها في النيل و شرحه ‪ ،‬في الجزء العاشر منه (‪َ ، )6‬منْ أرادها‬
‫فليراجعها يجد ُبغْيَته ‪ ،‬و قد أطال المامان صاحب النيل و شارحه ‪ ،‬بحيث لم يتركا من لوازم المقام شيء إل‬
‫ذكراه ‪ ،‬و حسبنا ما نقلناه عنهما ليضاح أحكام هؤلء العابثين ‪ ،‬الذين يقدحون في أعراض المسلمين بغير الحق‬
‫و ل يبالون ‪ ،‬و يطعنون في مناهج المؤمنين و ل يخافون ‪ ،‬كأنّهم لم يعلموا َأنّ عرض المسلم حمى ‪ -‬و ظنّي ل‬
‫يعلمون ‪. -‬‬

‫أمّا المسلم الذي يعلم َأنّ ما يلفظ من قول لديه رقيب عتيد ‪ ،‬و َأنّ ال يعلم ما يلج في السماوات و الرض ‪ ،‬ل‬
‫عرَضَ عنها ‪ ،‬و‬
‫عِلمَها أ ْ‬
‫يرضى أن يهجم بلسانه طعناً ‪ ،‬و قدحاً في دين قوم ‪ -‬على القل ‪ -‬ل يعلم حجتهم ‪ ،‬و ِإنْ َ‬
‫شتَمَ ‪ ،‬ل يخاف ال ‪ ،‬و ل يراعي المروة ‪ ،‬و ل يعتمد إل على‬ ‫ط َعنَ ‪ ،‬و َقدَحَ ‪ ،‬و َ‬
‫سبّ ‪ ،‬و َ‬
‫اعتمد ما يهوى ‪ ،‬و َ‬
‫هواه ‪.‬‬

‫ش َرعَ ال عقوبتهم ‪ ،‬و َأ َمرَ بقتالهم ‪ ،‬و أوجب على المسلمين القيام عليهم في كل ُأمّة من‬ ‫فأمثال هؤلء هم الذين َ‬
‫حسِنِينَ" (‬
‫سبُلَنَا َوِإنّ الَّ َل َمعَ ا ْل ُم ْ‬
‫أُمم العالم ‪،‬و في أي بلدٍ من بلد ال عز و عل‪ " :‬وَاّلذِينَ جَا َهدُوا فِينَا لَنَ ْهدِيَنّهُمْ ُ‬
‫‪ )7‬فتراه جعلهم محسنين ‪ ،‬و أخبر أنّه تعالى معهم حينما يقومون جهاداً في حق ال عز وعل ‪ ،‬ل يرجون له‬
‫س ّددُ خطاهم ما‬ ‫شكّ [‪ ]21‬أن ال ناصرهم ‪ ،‬ومؤيدهم ‪ ،‬و ُم َ‬ ‫ثمناً إل من ال ‪ ،‬و ل يقومون إل نصرة لدينه ‪ ،‬و ل َ‬
‫كانوا على الحق فإنه معهم ‪ ،‬خلف السفهاء العائثين في الرض فساداً ‪ ،‬و في الدين عناداً ‪ ،‬و لهل الحق‬
‫أضداداً ‪ ،‬يقدحون في أهل الحق بألسنتهم ال َبذِيّة ‪ ،‬و يطعنون في أهل الصدق بنواياهم الخبيثة‪َ " :‬نسُواْ الّ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فَ َنسِيَهُمْ " (‪ ، )8‬و أطاعوا الهوى فأضلهم ‪.‬‬

‫فكان هذا القيام جهاداً لهم ‪ ،‬و قياماً بحقوق الدين ‪ ،‬و فرضاً مشروعاً على عباده المؤمنين بقوله ‪-‬عزّ وعل ‪" :-‬‬
‫خصّ أحداً بعينه ‪،‬‬
‫علَيْ ُكمْ " (‪ )9‬مع َأنّا ل نعتدي على أحد ‪ ،‬و ل ن ُ‬
‫ع َتدُواْ عَلَ ْيهِ ِب ِمثْلِ مَا اعْ َتدَى َ‬
‫علَيْ ُكمْ فَا ْ‬
‫َف َمنِ اعْ َتدَى َ‬
‫ن أراد ال هدايته‬
‫بل نقول القيام على أهل الفساد واجب ‪ ،‬و الرد على أهل الباطل كذلك ‪ ،‬و فتح أبواب الحق ل َم ْ‬
‫جهاد ‪ ،‬وعلى القل رد قول أهل الباطل عليهم لم يكن جوراً ‪،‬و ل بغياً ‪ ،‬و ل تعرّضاً لما ل يعني ‪ ،‬بل تعرّض لما‬
‫يعني ‪ ،‬وجزاء سيئة سيئة مثلُها ‪ ،‬و إن كانت الثانية غير سيئة ‪.‬‬

‫و السكوت عن الطعن في الحق من أكبر الكبائر‪ ،‬ل يقال إذا لم يقبل فأولى السكوت ‪ ،‬بل نقول يجب القيام ‪ ،‬و لو‬
‫لم يقبل ‪ ،‬إذ من المعلوم َأنّ ال ُمبْطِلَ ل يقبل إل الباطل ‪ ،‬و الضّال ل يرضى إل الضلل ‪ ،‬و لهذا قال رسول ال ‪-‬‬
‫صلى ال عليه و آله و سلم ‪ِ " : -‬إذَا ظَ َهرَت ال ِب َدعُ فَعَلَى العَالمِ َأنْ يُظْ ِهرَ عِ ْل َمهُ ‪ ،‬و إنْ لم يَفْعَلْ فَعَلَيهِ لَعْ َنةُ الِ و‬
‫عدْلً " (‪ ، )10‬و أراد تعالى من المسلمين الجهاد في الدين‬ ‫صرْفاً و ل َ‬ ‫جمَعِينَ‪ ،‬ل يَ ْقبَل ُ ال منه َ‬
‫الملئكة والنّاس أَ ْ‬
‫‪ ،‬و أي جهاد أعظم من الذّبّ عن الدين ‪.‬‬

‫و أراد – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬بقوله " فليظهر علمه " أي يقول الحق في وجه أهل الباطل ‪ ،‬و ل يخفى أنّ‬
‫كلمة حق يقتل عليها صاحبها عند ال أفضل الجهاد بالجماع ‪ ،‬فالسكوت عن أهل الباطل يطغيهم ‪ ،‬و يجرئهم‬
‫طعَنُواْ فِي دِينِ ُكمْ‬
‫ع ْه ِدهِمْ وَ َ‬
‫على أهل الحق [‪ ، ]22‬قال ال في محكم كتابه العزيز " َوإِن نّكَثُواْ أَ ْيمَانَهُم مّن بَ ْعدِ َ‬
‫فَقَا ِتلُواْ أَ ِئ ّمةَ الْكُ ْفرِ ِإنّهُمْ لَ أَ ْيمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ " (‪ )11‬فلم يتركنا عز و جل نسمع [منهم] (‪ )12‬القدح‬
‫منهم ‪ ،‬و الطعن ‪ ،‬و نسكت عنهم ‪.‬‬
‫=======================================‬
‫(‪ )1‬المصدر السابق ( ‪. ) 639 _ 638 / 17‬‬
‫(‪ )2‬حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي النصاري ( ت ‪ 54‬هـ ) أبو الوليد ‪ ،‬صحابي ‪ ،‬شاعر النبي صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و أحد المخضرمين رحمه‬
‫ال ورضي عنه ‪ .‬العلم ( ‪. ) 175 / 2‬‬
‫(‪ )3‬عبدال بن رواحة بن ثعلبة النصاري ( ت ‪ 8‬هـ ) أبو محمد ‪ ،‬صحابي ‪ ،‬يعد من المراء و الشعراء الراجزين ‪ ،‬شهد بدرا و أحدا و الخندق و‬
‫الحديبية ‪ ،‬استشهد في وقعة مؤتة رحمه ال ورضي عنه ‪ .‬العلم ( ‪. ) 86 / 4‬‬
‫(‪ )4‬التوبة ‪. 111:‬‬
‫شرّة الشباب ‪ :‬حرصه و نشاطه ( مختار الصحاح ‪ )141 /‬مادة ( ش ر ر ) ‪.‬‬ ‫شرّة ‪ :‬الحرص و النشاط ‪ ،‬يقال ِ‬‫(‪ )5‬ال ِ‬
‫(‪ )6‬اعتمد المؤلف على الطبعة التي طبعها أبو إسحاق إبراهيم أطفيش ‪ ،‬و التي صدرت في عشرة مجلدات ‪.‬‬
‫(‪ )7‬العنكبوت ‪. 69 :‬‬
‫(‪ )8‬التوبة ‪. 67:‬‬
‫(‪ )9‬البقرة ‪. 194 :‬‬
‫(‪ )10‬ذكره بنحوه صاحب كنز العمال في ( ‪ / 1‬رقم ‪ ) 903‬بلفظ (( إذا ظهرت البدع و لعن آخر هذه المة أولها فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم‬
‫العلم يومئذ ككاتم ما أنزل ال على محمد )) و قال رواه ابن عساكر عن معاذ ‪ .‬و رواه جابر بن زيد مرسل في زيادات الجامع ‪ ،‬الجامع الصحيح ص‬
‫‪ ، 365‬رقم ‪. 943‬‬
‫(‪ )11‬التوبة ‪. 12 :‬‬
‫(‪ )12‬كذا في الصل ‪ ،‬و هي زائدة ل معنى لها ‪.‬‬

‫و لو رأى ال – عز و جل‪ -‬ذلك أولى بنا ‪ ،‬لرشدنا إليه ‪ ،‬بل َأ َمرَنا بقتالهم ‪ ،‬و القيام في وجوههم ‪ ،‬فإنّ السكوت‬
‫عنهم ‪ -‬و الحال هذا ‪ -‬فذلك رضى ِمنّا بما يقولون ‪ ،‬أو إهانة لدين ال ‪ -‬عز وعل ‪ -‬بما يزَ ّورُون ‪ ،‬ولكنّ ال َكلّفنا‬
‫قتالهم ‪ ،‬و ذلك أشدّ ما يخشاه المسلم ‪ ،‬و على القل إن سكوتنا عنهم يعد جبناً ِمنّا ‪ ،‬و ذلك ل يحل ‪ ،‬و لكنّ أمر‬
‫ال فوق كل أمر ‪ ،‬و أعل كل شيء ‪ ،‬و قد كلفنا ال المشاق ‪ ،‬و ابتلنا بكل شاق اختباراً منه لنا ‪ ،‬و هو بنا أخبر‬
‫‪.‬‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫ح ْرمَة الدين بالطعن فيه ‪ ،‬و القدح في‬ ‫و قولهم إنّ من السياسة السكوت عنهم ‪ ،‬نقول ل سياسة هنا ؛ فإنّ هَ ْتكَ ُ‬
‫جرَ بلده ‪ ،‬و وطنه ‪ ،‬و يعادي إخوانه ‪ ،‬و بني جلدته ‪ ،‬في‬ ‫أهله من أعظم الذنوب ‪ ،‬و قد أمر ال نبيه أن يُهَا ِ‬
‫رضى ربه عز و جل ‪ ،‬و ألزم التبليغ حلواً أو مراً ‪َ " :‬وإِن لّمْ تَ ْفعَلْ َفمَا َبلّغْتَ ِرسَالَ َتهُ " (‪ )1‬و العيش في الدنيا ‪،‬‬
‫و النظر في الخرى ؛ فإنها المرجع للمانة ‪ ،‬و المقام ال َبدِيّ الذي ل يتغير ‪ ،‬فبئس بعيشٍ ينقضى قريباً ‪ ،‬وتطول‬
‫أزمته مع ال ‪ ،‬نسأل ال غفرانه و توفيقه لمرضاته ‪.‬‬

‫ع ِهدَ إليهم أنّه لينصرنهم ما كانوا على نصر دينه ‪ ،‬و‬ ‫ولمّا استهان المسلمون بدينهم أصيبوا ‪ ،‬و كان ال قد َ‬
‫بخذلنهم له ‪ ،‬و عدم القيام بحقوقه ‪ ،‬استحال الحال ‪ ،‬و ت َبدّل الوضع ‪ ،‬و داس هامةَ الحقّ أهلُ الباطل ‪.‬‬
‫و كان المسلمون الواحد منهم ير (‪ )2‬هبه الجيل الكبير ‪ ،‬و َمنْ َي ْرضَى غير الحقّ َي ْرضَى بباطل ‪ ،‬و ذلك أمر‬
‫ترتضيه السافل ‪ ]23[ ،‬فقد كان السلف يتألمون لكلمة يسمعونها ‪ ،‬و لخطة يفهمونها ‪ ،‬يقومون لها ‪ ،‬و يقعدون‬
‫من أجلها ‪ ،‬مضى الناس إذ لم يبق إل النَسانِس‪ ،‬فكل َمنْ سمع القدح في الحق و أهله ‪َ ،‬تعَيّن عليه الكفاح عنه ‪ ،‬و‬
‫خ ْيفَ عليه عند ال سوء العاقبة ‪ -‬نعوذ بال من ذلك ‪. -‬‬ ‫ال ّردَ له ‪ ،‬و إل ِ‬

‫و قد ذكر القطب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬في " الهميان " تحقيق المقام ‪ ،‬و بَ ّينَ فيه كُلّ ِلزَامٍ ‪ ،‬و جاء في الحديث‬
‫النبوي المنصوص المتكرر في رد كل باطل يصادفه المسلمون جماعات و أفراداً ‪.‬‬

‫فإنّ السلم يعتبر كل فرد من أفراد رجاله جندياً يناضل عنه حد طاقته قبل أن يجتمع بجماعته ؛ فإنّ رجال‬
‫السلم جنود ال ‪ ،‬خلقهم لعزاز الدين ‪ ،‬و إكرام مثواه ‪ ،‬فإذا لم يفعلوا فالويل لهم ‪.‬‬

‫و ل يقال إنّ النّضال ل باللسان بل بالسنان ‪ ،‬لنّا نقول إن اللسان هي أول دائرة رَحَى الحرب ‪ ،‬و هي ُقطْبُ َمدَا ِر‬
‫الجهاد ‪ ،‬و إنّ الحرب أولها كلم ‪ ،‬و إنّ النار أولها الشرار ‪ ،‬و هي بالعودين تذكى ‪ ،‬ف َمنْ أفاد الكلم فيه ل يصح‬
‫حمَام ‪ ،‬على هذا عاش‬
‫أن يحمل عليه بالحسام ‪ ،‬و َمنْ لم يفد فيه الكلم ‪ ،‬فقد استدعى لنفسه ملقاة ال ِ‬
‫المسلمون ‪ ،‬و يعيشون إن شاءوا أن يعيشوا مسلمين ‪.‬‬

‫و قد علمت أنّ رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ -‬يأمر بمعارضة شاعر يقول بيتاً من الشعر‪ ،‬فيقوم له‬
‫بالمرصاد َمنْ يرد عليه ‪ ،‬و يعارضه عليه ‪ ،‬و يدافعه عمّا قال ‪ ،‬و لم يسكت عنه ‪ ،‬و ل أمر بالسكوت ؛ لنّ حجة‬
‫السكوت حجة العاجز ‪ ،‬و تلك حجة واهية ‪.‬‬

‫و كان عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬ل يرفع ِدرّ َتهُ عمّن أََلمّ بشيء من أيسر الشياء يرى أنّه ينافي الدين ‪،‬‬
‫حذَراً من‬
‫أو يباين مقاصد [‪ ]24‬المسلمين ‪ ،‬أو يعترض على سبيلهم ‪ ،‬بل كان يأمر بالوامر الصّا ِر َمةِ في المة َ‬
‫صرِ بن حَجّاج (‪ )3‬مثالً ‪ ،‬و كم لها من أخوات ‪.‬‬ ‫ح َمدُ عقباه ‪ ،‬و تكفي قضية َن ْ‬
‫َأنْ يقع أمرٌ ل تُ ْ‬

‫و كذلك سائر الئمّة بعده ‪ -‬رحمهم ال و رضي عنهم ‪ -‬يناضلون عن الدين‪ ،‬فالمام السالمي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬جاهد‬
‫جدّ في إحياء معالمه ‪ ،‬و اجتهد‬ ‫فيه بقلبه ‪ ،‬و لسانه ‪ ،‬و يده ‪ ،‬بل بكل شعوره ‪ ،‬و طاقته ‪ ،‬و ما َلدَيّه من قوة ‪ ،‬و َ‬
‫حسِنِينَ " (‪ ، )4‬و‬
‫سبُلَنَا َوِإنّ الَّ َل َمعَ ا ْل ُم ْ‬
‫في إيضاح مراسمه ‪ ،‬حتى وفقه ال ‪ " :‬وَاّلذِينَ جَا َهدُوا فِينَا لَنَ ْهدِيَنّهُمْ ُ‬
‫كذلك المام القطب ‪ -‬رحمه ال ‪. -‬‬

‫فهذان العالمان الرضيان المرضيان جددا من معالم الدين ما اندرس ‪ ،‬و شادا من قواعده ما تبعثر و انتكس ‪ ،‬و‬
‫على َمنْ يأتي بعدهما أن يسير في المة سَ ْيرَهما ‪ ،‬و قد أخذ ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬العهد على العلماء في القيام بواجب‬
‫صرِت درجاتهم عنده ‪ ،‬و إذا لم يفعلوا فعل ال بهم ما توعدهم به‪ ،‬و ال‬ ‫صرُوا قصّر ال بهم ‪ ،‬و ق َ‬
‫الدين ‪ ،‬فإذا َق ّ‬
‫جعُ و المئابُ ‪.‬‬
‫صادق الوعد ‪ ،‬صادق القول و الفعل ‪ ،‬نافذ المر يفعل ما يشاء ‪ ،‬و يحكم ما يريد ‪ ،‬و إليه ال َمرْ ِ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و قد مشى الئمّة في السلم على هذا النّظَام ‪ ،‬و هَ َلكَ عليه أولئك التقياء الكرام ‪ ،‬كأبي بلل ‪ ،‬و أبي حمزة (‪)5‬‬
‫‪ ،‬و عبدال بن يحيى الكندي (‪ ، )6‬و أبي الشعثاء جابر بن زيد ‪ ،‬و أضرابهم ‪ ،‬و ناهيك بالجلندى بن مسعود ‪ ،‬و‬
‫أعوانه ‪ ،‬لم يرتضوا في الدين المداهنة ‪ ،‬و ل في الحق ال ْنفُس الخائنة ‪ ،‬فهم [‪ ]25‬المسلمون الذين يحيا بهم‬
‫الدين ‪ ،‬و يتركز على عزومهم فوق رؤوس المجرمين ‪.‬‬

‫أمّا وقوع الطعن و انتشاره ‪ ،‬و رجال الدّين كل في مغارة قابع مُهِين ‪ ،‬أو راكن ُمسْتَهِين ‪ ،‬فذالك حرام في الدين ‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬المائدة ‪. 67 :‬‬
‫(‪ )2‬النسانس قيل هم يأجوج و مأجوج ‪ ،‬و قيل هم قوم من بني آدم ‪ ،‬أو خلق على صورة الناس و خالفوهم في أشياء و ليسوا منهم ( القاموس المحيط‬
‫‪ ، ) 744 /‬و المعنى المراد هو الخير حسب ما يظهر ‪.‬‬
‫حجّاج بن عِلط السلمي ثم البهزي ‪ ،‬شاعر من أهل المدينة ‪ ،‬كان جميل ‪ ،‬و قصته كما ترويها كتب الدب ‪ :‬قالت إحدى نساء المدينة ‪:‬‬‫(‪َ )3‬نصْر بن َ‬
‫يا ليت شعري عن نفسي ‪ ،‬أزاهقة مني ‪ ،‬و لم أقض ما فيها من الحاج‬
‫هل كم سبيل إلى خمر فأشربهـا أم من سبيل إلى نصر بن حجـاج‬
‫و سمع البيتين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب _ رضي ال عنه _ فقال ‪ :‬ل أرى رجل في المدينة تهتف به العواتق في خدورهن ! ‪ ،‬و طلبه ‪ ،‬فجاء ‪،‬‬
‫فأمر به فحلق شعر رأسه ‪ ،‬فزاد جمال على جماله ‪ ،‬فأمر به أمير المؤمنين فنفي إلى البصرة ‪ ،‬حوطة و حذرا ‪ .‬العلم ( ‪. ) 22 /8‬‬
‫(‪ )4‬العنكبوت ‪. 69 :‬‬
‫(‪ )5‬المختار بن عوف بن عبدال السليمي الزدي العماني الشاري ( ت ‪130‬هـ ) أبو حمزة من أعلم تابعي التابعين ‪ ،‬أخذ العلم عن أبي عبيدة مسلم بن‬
‫أبي كريمة ‪ ،‬كان من أكبر قواد طالب الحق عبدال بن يحيى الكندي عندما قام ضد المويين ‪ .‬له عدة خطب مشهورة ‪ .‬معجم الباضية ( ‪. )856 / 4‬‬
‫(‪ )6‬عبدال بن يحيى بن عمر الكندي ( ت ‪ 130‬هـ ) أبو يحيى ‪ ،‬الشهير بطالب الحق ‪ ،‬إمام الشراة ‪ ،‬أحد أقطاب المذهب الباضي في عهود تأسيسه قام‬
‫بثورة باليمن سنة ‪ 129‬هـ ضد المويين ‪ ،‬فاستولى على اليمن و مكة و المدينة و نشر فيها العدل لمدة و لكن الدولة الموية قضت على ثورته و عليه‬
‫سنة ‪ 130‬هـ ‪ .‬معجم الباضية ( ‪.) 588 / 3‬‬

‫[ مذهب الباضية هو الحق رغم الطاعنين فيه ]‬

‫شكّ ‪ ،‬و ل يخالجنا ريب في أن مذهبنا هو الحق ‪ ،‬و ِإنّ ديننا هو الصدق ‪ ،‬و ل في أيّ نقطة من‬ ‫و اعلم أنّنا ل َن ُ‬
‫نقاطه ‪ ،‬و ل نقول هذا تقليداً بل تقييداً ‪.‬‬

‫شكّ في َأنّ مذهب الباضية لم يتأسّس على القواعد الصحيحة ‪ ،‬أو َأنّ فيه من الباطل شيئاً لم يكن عن‬ ‫و َمنْ َ‬
‫ضلّلً بعيداً ‪ ،‬و زَاغَ عن الحقّ ‪ ،‬فلم يذهب َم ْذهَباً رشيداً ‪.‬‬
‫الشارع ‪ ،‬فقد ضَلّ َ‬

‫جرَة الصّحابة ‪ ،‬و على عواتقهم َي ْمشُون ‪ ،‬ف َمنْ ذهب مذهباً مُبَاين ًا‬
‫غصَان شَ َ‬
‫بل اعلم قَطْعاً َأنّ الباضية هم َأ ْ‬
‫لمذهبهم فقد وجبت منه البراءة قطعاً ؛ لنّه اختار الباطل على الحقّ ‪ ،‬و الفساد على الرّشاد ‪ ،‬فلم ير في حياته و‬
‫مماته السداد ‪.‬‬

‫فقول الطاعن إنّ دينكم غير حق ‪ ،‬أو أنّكم لستم على حق بلسانه ‪ ،‬و ِإنْ كان ذلك منه كذباً ‪ ،‬و افتراءً في‬
‫خ ِرهِم إلّ‬
‫علَى َمنَا ِ‬
‫الحقيقة ‪ ،‬إل َأنّ ال ل يؤاخذ العباد إل بما يقولون‪ ،‬كما في الحديث ‪ " :‬وَ هَْل ُيكَبّ النّاسُ َ‬
‫حصَا ِئدُ أَ ْلسِنَتِهم " (‪ " ، )1‬مَا َيلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلّ َلدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ " (‪ )2‬و أول الذّنُوب القوال ‪ ،‬و بعدها الفعال ‪.‬‬
‫َ‬
‫خ ْيرِية ‪ ،‬ف ِإنّ الناس ل يَ ْنجُون مع ال إل بالنّطق بكلمة الخلص ‪ ،‬و هي قول " ل إله إل‬ ‫و كذلك في المور ال َ‬
‫خرُجُ العبد من الكُ ْفرِ إلى اليمان ‪ ،‬و بضدها يهلك في‬ ‫ال ‪ ،‬محمد رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم – "و بذلك َي ْ‬
‫ضحَ النجدين ‪ ،‬و بَيّن السبيل لذي [‪ ]26‬عينين ‪ ،‬و‬ ‫نظر المسلمين ‪ ،‬أي يحكمون بهلكه يوم القيامة ؛ لنّ ال أَ ْو َ‬
‫أَوْجَد قُوّة الكسب ‪ ،‬و مكّن من الختيار في التصرفات في هذه الحياة الدنيا ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ضعَ للناس كل خير ‪ ،‬و نهاهم‬ ‫و إذا كان الكلم ال َبذِيّ يتأذى منه البشر ‪ ،‬فكيف بخالق الخلق ‪ ،‬و باسط الرزق ‪َ ،‬و َ‬
‫عن كل شر ‪ ،‬و رَبّاهم بنعمته ‪ ،‬و هو المالك لهم ‪ ،‬و الصانع الذين منه مبدأهم ‪ ،‬و إليه منتهاهم ‪ ،‬يحسن إليهم ‪،‬‬
‫و يسيئون إليه عز و جل ‪ ،‬أل يغضب ال على عبد خلقه ‪ ،‬و صَ ّورَه ‪ ،‬و رزقه ‪ ،‬و أعانه ‪ ،‬و رَبّاه على نعمه ‪ ،‬و‬
‫فَ ّوضَ إليه أمر نجاته ‪ ،‬فيعود على ربه بما ل يرضاه من الكفران إنّ ال ‪َ " :‬ل َي ْرضَى لِعِبَا ِدهِ الْكُ ْفرَ َوإِن َتشْ ُكرُوا‬
‫ضهُ " (‪ ، )3‬و غضب ال و رضاه على خلف رضا عباده و غضبهم ‪ ،‬و في الحديث ‪ " :‬ال ُمسِْلمُ َمنْ سَلِمَ‬ ‫َي ْر َ‬
‫النّاسُ ِمنَ َي ِدهِ و ِلسَا ِنهِ " (‪. )4‬‬

‫و الطّاعن في الدّين لم يسلم منه العباد المتدينون ‪ ،‬و ل الدين ‪ ،‬و ل مالك يوم الدين ‪ ،‬فإنّه بطعنه في الدين‬
‫طاعن في رب العالمين ‪ ،‬و أيّ ذنب يعادل ذنب هذا الغافل عن تحقيق الحقائق التي كان منها ‪ ،‬و التي ُك ّونَ لها ‪،‬‬
‫سبحان الذي بسط حلمه على علمه ‪ ،‬و وسّع رحمته على خلقه ‪.‬‬

‫عرَاضِ المسلمين ‪ ،‬فكيف بها في الدين ‪ ،‬قال ال عزّ و جلّ ‪َ " :‬ل‬ ‫و قد تواترت الدلة على تحريم الطعن في َأ ْ‬
‫حمَ أَخِيهِ مَ ْيتًا فَ َك ِرهْ ُتمُوهُ " (‪ ، )5‬هذا إذا كان الطّ ْعنُ في العراض ‪،‬‬
‫حدُكُمْ أَن َيأْكُلَ لَ ْ‬
‫يَ ْغتَب بّ ْعضُكُم بَ ْعضًا أَيُحِبّ أَ َ‬
‫سأَلُ‬
‫فكيف به إذا كان في الدين ‪ ،‬أي ُردّ الجاهل على ربه دينه ‪ ،‬و ينتقده في عمله التكليفي ‪ ،‬و هو يقول ‪ " :‬ل ُي ْ‬
‫عمّا يَفْ َعلُ َوهُمْ ُيسَْألُونَ " (‪ ، )6‬و قد كَّلفَ ال عباده ابتلءً و اختباراً ‪ ،‬و ليكون ثوابه و عقابه على عمل‬ ‫َ‬
‫يعملونه ‪ ،‬و أمر يفعلونه‪ ،‬ف ِإنّ ال ل يَعْ َبثُ في مخلوقاته ‪ ،‬و ل لَعِبَ في مصنوعاته ‪ ،‬سبحانه من قادر [‪ ، ]27‬ما‬
‫أعظم شأنه ‪ ،‬و أقوى سلطانه ‪.‬‬

‫===========================================‬
‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في ( ‪ -41‬كتاب الفتن ‪ -8‬باب ما جاء في حرمة الصلة ) ( ‪ ) 12 -11 /5‬رقم ‪ ، 2616‬و قال ‪ :‬هذا حديث حسن صحيح ‪ ،‬و‬
‫أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -36‬كتاب الفتن ‪ -12‬باب كف اللسان في الفتنة ) ص ‪ ، 572 -571‬و أخرجه أحمد بن حنبل رقم ‪ ، )167 / 16 ( 21915‬و‬
‫رقم ‪ ، ) 183 / 16 ( 21962‬و رقم ‪. ) 185 / 16 ( 21967‬‬
‫(‪ )2‬ق ‪. 18 :‬‬
‫(‪ )3‬الزمر ‪. 7 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه البخاري في ( ‪ -2‬كتاب اليمان ‪ -4‬باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده ) (‪ ) 23 /1‬رقم ‪ ، 10‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب‬
‫اليمان ‪ -14‬باب بيان تفاضل السلم ) ( ‪ )65 / 1‬رقم ‪ ، 65‬و أخرجه النسائي في ( ‪ - 47‬كتاب اليمان ‪ -80‬باب صفة المؤمن ) ( ‪ )105 /8‬رقم‬
‫‪ ، 4995‬و أخرجه أبو داود في ( ‪ -15‬كتاب الجهاد ‪ -2‬باب في الهجرة هل انقطعت ؟ )‬
‫=‬
‫ص ‪ 359‬رقم ‪ ، 2481‬و أخرجه الدارمي في ( ‪ -20‬كتاب الرقاق ‪ -4‬باب حفظ اللسان ) ( ‪ ) 238 /2‬رقم ‪ ، 2712‬و أخرجه أحمد بن حنبل رقم‬
‫‪ )6/42 ( 6487‬و رقم ‪.) 78 /6 ( 6515‬‬
‫(‪ )5‬الحجرات ‪. 12 :‬‬
‫(‪ )6‬النبياء ‪. 23 :‬‬

‫و قد ثبت في آثار المسلمين َأنّ الطعن في الكفر ‪ ،‬و الفسق ‪ ،‬و الضلل من الجهاد في الدين ‪ ،‬و أنّ حماية الدّين‬
‫من ألسن العابثين َفرْضٌ على المسلمين ‪ ،‬و أَ ْوجَبُ الواجبات ال ّردُ للطعن إنْ لم يكن بسهام فبالقلم ‪ ،‬و إيضاح‬
‫الحجج ‪ ،‬و تبيين المقاصد ‪ ،‬و كشف الغايات ‪ ،‬و القصد لرضى ال عز و جل ‪.‬‬

‫تعالى ال عن أقوال المتنطعين ‪ ،‬و عزّ في ملكوته عن معارضة المستكبرين‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و سبب الطعن التكبر ‪ ،‬و ل يتكبر على الحق إل جاهل خسيس ‪ ،‬و جاء ذلك في الثر الصحيح ‪.‬‬

‫و قد أطال القطب ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬القول في أحكام الطاعن في الدين ‪ ،‬و في دين المسلمين ‪ ،‬بعدما تكلّم على‬
‫الطاعن في الرّسل ؛ لنّهم الصل الثاني للدّين ‪ ،‬و في أصحابهم على العموم و الخصوص ‪ ،‬و في الطعن في‬
‫أتباعهم ‪ ،‬و في ما يلزم فيه القيام على الطاعن بالبراءة ‪ ،‬و القتل ‪ ،‬أو الضرب تعزيراً أو تأديباً ‪ ،‬و في ما يتعلق‬
‫بهذه الحوال من جميع النواحي الشرعية ‪،‬حتى يكون الدين كله ل ‪.‬‬

‫و الطعن في الدين يثير الضّ ْغنُ (‪ )1‬بين المتدينين ‪ ،‬كل على قدر اعتقاده قوة و ضعفاً " وَلَن َت ْرضَى عَنكَ الْيَهُودُ‬
‫سلَمُ " (‪، ]28[ )3‬‬ ‫وَلَ ال ّنصَارَى حَتّى تَتّ ِبعَ مِلّتَهُمْ قُلْ ِإنّ ُهدَى الّ هُوَ الْ ُهدَى " (‪ )2‬و " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬
‫فالطاعن في الدين الذي هو عند ال السلم ‪ ،‬أعظمُ جريمة ‪ ،‬و أكبرُ مصيبة‪ ،‬و أشدّ المعاصي عند ال ‪ -‬عزّ و‬
‫جلّ ‪ -‬و هل أَوْجَب ال الجهاد إلّ لعلء كلمة المسلمين ‪ ،‬و تأييد الحق و الدين ‪ ،‬رغم أعدائه الظالمين ‪ ،‬و‬
‫بالخص جهاد البغاة في السلم ‪ ،‬و أهل التوحيد من النام ‪ ،‬الذين ل يفقهون من أمر الدين إل ما يهواه الهوى‬
‫من ال ُمضِلّين ‪ ،‬و الناس أعداء ما جهلوا ‪ ،‬و الحقّ يَ ْع ِر ُفهُ أهله ‪.‬‬

‫و لهل المذهب في حقوق الدين أقوال يتناقلها الخلف عن السلف ‪ ،‬و يدرسها الجيل بعد الجيل ‪ ،‬ل يرضون‬
‫غيرها بديلً ‪ ،‬و ل يبغون سوى الحق سبيلً ‪ ،‬على ذلك نشأوا ‪ ،‬و عليه يَحْيَون ‪ ،‬و عليه يموتون ‪.‬‬

‫و للمام الحضرمي (‪ - )4‬رحمه ال ‪ -‬في شِ ْعرِيَا ِتهِ المتينة ‪ ،‬و آثاره الواضحة تحقيقات بديعة ‪ ،‬و أَنْظَارٌ رفيعة ‪،‬‬
‫جمَاحُ أهل الهوى المعاندين ‪ ،‬و َي َردّ َن ْعرَة المُتَهورين‬
‫و المام أبي سعيد الكدمي (‪ - )5‬رحمه ال تعالى ‪ -‬ما َيكْ َبحُ ِ‬
‫طغَتْ أنفسهم بما تهوى ‪ ،‬و الذين أعجبتهم‬ ‫ط َرسَة المُتَهوسِين (‪ ، )6‬الذين تحكّم عليهم الهوى ‪ ،‬و َ‬ ‫‪ ،‬و غَ ْ‬
‫كثرتهم ‪ ،‬فظنوا أنّها دليل على الحق ‪ ،‬و السواد العظم ل يهتدي للحق منه إل أفراد ‪ ،‬و أفذاذ ‪ ،‬أمّا غالبية الناس‬
‫غ َمرَات الجهل الساذج ‪ ،‬و‬ ‫فإلى الجهل تصير ‪ ،‬و ناهيك بأيام النبيين فإنها ُمظْ ِل َمةٌ بالسّوَادِ العظم ‪ ،‬الخائض في َ‬
‫أهل الحقّ فيها قليلون ‪ ،‬كما بيّنا ذلك في أمكنة متعددة ‪.‬‬

‫حبّهم له ‪،‬‬
‫و ل ريب فإن محمداً ‪ -‬صلى ال عليه و سلم و آله ‪ -‬عاش مدة مُهَاناً بين َأ ْقرَبِ النّاس إليه ‪ ،‬و أَ َ‬
‫مراغمة للدين الذي جاء به من عند ال ‪ -‬عز و جل ‪ -‬و إهانة للحق الذي يدعوهم [‪ ]29‬إليه ‪ ،‬فكان بعد ذلك َأنْ‬
‫طعَ العناق ‪ ،‬و َوطِئَ على هاماتهم وطئةً‬ ‫شدّة و العُ ْنفِ ‪ ،‬فسلّ عليهم الصّارم البتار ‪ ،‬و قَ َ‬
‫كلّفه ال مجابهتهم بال ّ‬
‫أحسّوا ثقلها ‪ ،‬فاتّقوه بالخضوع‪ ،‬و دفعوا سطوته بالنقياد ‪ ،‬فكان بعد ذالك السيد الفيصل ‪ ،‬يقولون له أخ كريم و‬
‫ابن أخ كريم ‪ ،‬مََلكْتَ فأسْجِح (‪ ، )7‬و بلغت فأصْلِح ‪ ،‬و سعدت فَأَربِْح ‪.‬‬

‫فالدين ل تحميه إل شدّة أهله عليه ‪ ،‬و ل تصونه إل عزائم المسلمين ‪ ،‬رغم كل خبيث لعين ‪.‬‬
‫فلهذا يرى أصحابنا قتل القادح في الدين ‪ ،‬و الطاعن في مذهب المسلمين ‪ ،‬و َمنْ ل يرعى حق ال في دينه ‪ ،‬و‬
‫ح ْرمَ ِتهِ ‪ ،‬فهو هالك مع ال ‪ ،‬خارج عن الحقّ ‪ ،‬بل‬
‫ح ْرمَة الشّرع ‪ ،‬فإنّه داع إلى هدمه ‪ ،‬و ُمسْتَهِين ِل ُ‬
‫ل يحفظ ُ‬
‫خارج عليه ‪ ،‬و ال ولي المتقين ‪.‬‬

‫(‪)8‬‬
‫========================================‬
‫(‪ )1‬الضّ ْغنُ ‪ :‬الحقد ( مختار الصحاح ‪. ) 160 /‬‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪. 120 :‬‬
‫(‪ )3‬آل عمران ‪. 19 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )4‬إبراهيم بن قيس الهمداني الحضرمي ‪ ،‬من أعلم القرن الخامس الهجري ‪ ،‬ولد في الربع الول منه و اختلف في وقت وفاته و الراجح أنها كانت ما‬
‫بين ( ‪475‬هـ ‪500 -‬هـ ) ‪ ،‬من أئمة الباضية بحضرموت ‪،‬و كان شاعرا فحل ‪ ،‬له عدة مصنفات منها ‪ ،‬مختصر الخصال ‪ ,‬السيف النقاد ديوان شعر ‪.‬‬
‫العلم ( ‪ )58 /1‬و مقدمة تحقيق ديوانه السيف النقاد ‪ ،‬و ديوانه السيف النقاد طبع مؤخرا بتحقيق علمي رزين قام به الخ الباحث بدر بن هلل‬
‫اليحمدي ‪.‬‬
‫(‪ )5‬محمد بن سعيد بن محمد الناعبي الكدمي ( ‪ 305‬هـ ‪356 -‬هـ ) ‪ ،‬أبو سعيد ‪ ،‬من كبار العلماء المحققين ‪ ،‬سمي بإمام المذهب لقيامه بالرد على‬
‫الفرقة الرستاقية ‪ ،‬من أشياخه محمد بن روح بن عربي الكندي ‪ ،‬و أبو الحسن محمد بن الحسن ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها الستقامة ‪ ,‬و المعتبر ‪ ( .‬إتحاف‬
‫العيان ‪ ، ) )215 /1 ،‬تحفة العيان ( ‪. )277 /1‬‬
‫(‪ )6‬المتهوسين جمع متهوس ‪ ،‬وهو الذي أصابه الهوس ‪ ،‬والهوس طرف من الجنون ( مختار الصحاح ‪ )292 /‬مادة (هـ و س )‪.‬‬
‫سنُ المُ ْعتَدلُ‪ (.‬القاموس المحيط ‪ ،‬ص ‪ )285‬مادة ( س ج ح ) ‪.‬‬
‫سجَحُ‪ :‬الحَ َ‬
‫سنُ ال َع ْفوِ و وا َلْ ْ‬
‫(‪ )7‬الِْسْجاحُ‪ :‬حُ ْ‬
‫(‪ )8‬لم أجد قائله ‪ ،‬رغم البحث الشديد في المصادر المتوفرة لدي ‪ ،‬و لعل ال أن يوفقني لجد قائله في المستقبل ‪.‬‬

‫فأهل العلم هم المسئولون عن الحقائق ‪ ،‬و هم القوّامون بها ‪ ،‬و الذين يَغَارُون عليها ‪ ،‬و يبذلون في تأييدها‬
‫سرِينَ‬
‫خ َرةِ ِمنَ ا ْلخَا ِ‬
‫سلَمِ دِينًا فَلَن يُ ْقبَلَ مِ ْنهُ َوهُوَ فِي ال ِ‬‫نَفِيسَ حياتهم ‪ ،‬و عَز ِيزَ رغباتهم ‪َ " :‬ومَن يَبْ َتغِ غَ ْيرَ ا ِل ْ‬
‫" (‪ ، )1‬و السلم شرع شرائع لصيانة الدين ‪ ،‬و أمر بأوامر تُؤيّد منهج المؤمنين ‪ ،‬و الدّين الخالص ل ل لغيره‬
‫سلَم" (‪ ، )3‬و هل الدّين إل الذي شرعه ال لرسوله ‪ ،‬و‬ ‫‪ " :‬أَل لِّ الدّينُ الْخَا ِلصُ " (‪ِ" ، )2‬إنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬
‫أوحاه إليه ‪ ،‬ليبلغ عباده أوامره و نَوَاهِيه ‪.‬‬

‫فالقادح في الدّين مناقضٌ لوامر رَبّ العالمين ‪ ،‬مُعَا ِرضٌ لواجبات اليمان ‪ ،‬ومُ َتعَلقٌ بأ ْمرَاسِ (‪ )4‬العصيان ‪ ،‬فل‬
‫يؤوى ‪ ،‬و ل يوالى ‪ ،‬و ل يُنَاصر حتى يتوب إلى ال من ذنبه ‪ ،‬و يؤب إليه من فحشه ‪.‬‬

‫حمَا ُة‬
‫و الباضية هم جمال السلم ‪ ،‬و إذا خل منهم فعليه العَفَاء (‪ ، )5‬و على الدنيا كذلك ؛ لنّ الباضية هم ُ‬
‫حمَاة الباطل بالفعال ‪ ،‬و الكلم غير الحقّ ؛ لنّ الباضية ل ينهجون‬ ‫حسَام ‪ ،‬و غيرهم [‪ُ ]30‬‬ ‫الحقّ بالقلم و ال ُ‬
‫منهج عثمان في إيثار القارب ‪ ،‬و ل يبدلون مناهج الحكام بغيرها ‪ ،‬و إن شَطّ بهم الدّهر ‪ ،‬و ل َيرَ ْونَ جعل‬
‫السيرة على غير سيرة النبي ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬و سيرة صاحبيه أبي بكر ‪ ،‬وعمر بن الخطّاب ‪ -‬رضي ال‬
‫عنهما ‪ ، -‬و ل يُخَا ِدعُون المسلمين ‪ ،‬و ل ُيمَا ِكرُون في الدّين ‪ ،‬و ل يغتالون ‪ ،‬و ل يغدرون ‪ ،‬و ل يرون بعد حكم‬
‫محمد ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ -‬حكماً ‪.‬‬

‫جرَة ‪ ،‬يرون الخروج على أهل الباطل َم ْ‬


‫ن‬ ‫فكانوا من أوّل المر أضداد الملوك الجَ َورَة ‪ ،‬و أعداء المراء الفَ َ‬
‫كانوا ‪ ،‬و أين كانوا ‪ ،‬و ل يقولون لغير وليّهم في الدين رحمه ال ‪ ،‬و رضي عنه ‪ ،‬و غفر له ‪ ،‬و نحو ذلك ‪ ،‬و‬
‫هو فاسقٌ ‪ ،‬ضالٌ ‪ ،‬مارقٌ من الدّين ؛ لنّ ذلك عندهم ثمرة الولية لهم ‪ ،‬و ال قد نهى نهياً جازماً عن موالة‬
‫البُغَاة من أي الناس كانوا ‪ ،‬وعن مولة المُ ْفسِدين في عدة آيات جاء بها القران الكريم ‪ ،‬قال ال ‪-‬عز و جل ‪" : -‬‬
‫خرِ يُوَادّونَ َمنْ حَادّ الَّ َو َرسُو َلهُ وََلوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَ ُهمْ أَوْ‬
‫جدُ قَ ْومًا يُ ْؤمِنُونَ بِالِّ وَالْيَ ْومِ الْ ِ‬
‫ل تَ ِ‬
‫عشِيرَتَهُمْ" (‪. )6‬‬ ‫َ‬

‫==================================‬
‫‪ )1‬آل عمران ‪. 85 :‬‬
‫(‪ )2‬الزمر ‪. 3 :‬‬
‫(‪ )3‬آل عمران ‪. 19 :‬‬
‫(‪ )4‬أمراس جمع َمرَس ‪ ،‬هو جمع َمرَسة و هو الحبل ( القاموس المحيط ‪ ) 741 ،‬مادة ( م ر س ) ‪.‬‬
‫(‪ )5‬ال َعفَا ُء بالفتح والمد التُراب قال صفوان بن مُحرز إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفا وشربت عليه ما ًء فعلى الدنيا ال َعفَاء ( مختار الصحاح ‪ )186 /‬مادة‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(عفا)‪.‬‬
‫(‪ )6‬المجادلة ‪. 22 :‬‬

‫سِلمُون فيما ذكرته عن الباضية ]‬


‫[ ال ّردّ على مجلة ال ُم ْ‬

‫ض ّدهُ ‪ ،‬مما ذكره عنه شكيب أرسلن (‪ ، )2‬و نقله عنه الكثير ممن يكتبون عن‬
‫و قد علمت ما وجّهه أعداء (‪ِ )1‬‬
‫الباضية ‪ ،‬كصاحب ضحى السلم ‪ ،‬و مؤلف معالم الجزيرة (‪ ، )3‬و غيرهم ‪ ،‬و قد مر عليك في مقالنا هنا ‪.‬‬

‫و جاء أيضاً من نوعه في مجلة " ال ُمسْ ِلمُونَ " التي يصدرها المركز السلمي برئاسة سعيد رمضان (‪ )4‬جاء‬
‫حرّمون على المرأة الخروج من البيت ُمطْلَقاً ‪ ،‬و‬
‫سرَاويل ‪ ،‬و إنّهم ُي َ‬
‫فيها ‪ِ " :‬إنّ الباضية يُوجبون الصّلة دون َ‬
‫أنّهم يمنعون غيرهم من بناء المساجد ‪ ،‬أو يشترطون عليهم أن تكون مساجدهم دون َمنَائر ‪ ،‬و أنّهم كانت بينهم‬
‫و بين أهل المذاهب الخرى عداوة " ‪.‬‬

‫شرْطاً لزماً‬‫و الحقّ َأنّ الباضية لم يصدر منهم ذلك كله ‪ ،‬و المنائر وِإنْ كانت ل حاجة عليها ‪ ،‬و لم [‪ ]32‬تكن َ‬
‫في بناء المساجد ‪ ،‬و ل دليل عليها من كتابٍ ‪ ،‬أو سنةٍ ‪ ،‬و إنما هو استحسان من بعض النّاس ‪ ،‬و قد أصبحت‬
‫سنَ ذلك ؛ لنّها ليست محل صلة ‪ ،‬و‬ ‫ح َ‬
‫ستَ ْ‬
‫الن وهي تستغرق مالً طائلً في بناءها بغير فائدة ما ‪ ،‬بل لم تكن ُت ْ‬
‫لها قيمة كبيرة َتضِيعُ في بناءها دراهمٌ طائلةٌ ‪ ،‬و أيّ فائدة فيها ‪ ،‬و أيّ دليل دلّ على بناءها ‪ ،‬و الحاديث النبوية‬
‫خرَفة‬
‫ش ُرفَات " (‪ )5‬فالمنائر من نوع الشرفات ‪ ،‬و الزّ ْ‬‫جمّا‪ ،‬و ل تَجْ َعلُوا لَهَا ُ‬
‫جدَ ُ‬
‫ناطقة بصراحة ‪" :‬ا ْبنُوا ال َمسَا ِ‬
‫المنهية عنها ‪.‬‬

‫و إن قيل تُبْنَى للذان ‪ ،‬قلنا لم يتوقف الذان على بناءها ‪ ،‬و ل قال بذلك أحدٌ من أهل العلم ُمطْلَقاً من أي المذاهب‬
‫كان ‪.‬‬

‫و لعل َمنْ أجاز بناءها كان ذلك عنده من باب الستحسان ‪ ،‬و ذلك غير َمخْفِيّ َأصُْلهُ ‪ ،‬ف ِإنّ مَا يستحسنه زيدٌ ل‬
‫يلزم منه استحسان عمرو له ‪ ،‬و ربما قيل بمنع المنائر نظراً إلى ضياع المال الذي يُنفَقُ عليها ‪.‬‬

‫و إذا كانت المساجد لها أوقاف خاصة لعمارتها ‪ ،‬فهل المنائر من عمارتها ؟ ‪ ،‬حتى قيل إذا كان للمساجد أوقاف ‪،‬‬
‫و زِيدَ في ِبنَاء المساجد ‪ ،‬ل تبنى تلك الزيادة من الوقاف المخصوصة بها قبل ذلك التوسيع ‪.‬‬
‫سرَاويل ‪ ،‬هذا مما ل يقول به عاقل ‪ ،‬بل لو قيل بجوازها لكان صحيحاً ؛ فإنها‬ ‫و َمنْ الذي أوجب الصلة بغير َ‬
‫جائز بدونها حتى لواجِدها ‪ ،‬لنّ الشارع أجاز الصلة بثوب واحد ‪ " :‬أَوَ ُكلُكُمْ َي ْمِلكُ ثَ ْوبَينِ " (‪ )6‬فإذا كان ل يملك‬
‫إل ثوباً واحداً ف َمنْ ذا الذي يقول ببطلن الصلة لهذا ‪.‬‬

‫و قولهم ‪ :‬أَنّهم يُحرّمون على المرأة الخروج من البيت مطلقاً ؛ فهذا إن كانوا قالوا به [‪ ]32‬فغير خارج عن‬
‫الحقّ ‪ ،‬بل هو عين الحقّ ‪ ،‬فإنّما ضرب ال الحجاب على النساء لصيانتهن‪ ،‬و قد وردت الحاديث الدالة على‬
‫صِيَانة النساء ‪ ،‬و تعليمهن المَ ْغزَل ‪ ،‬و أن ل يسكنّ ال ُغ َرفَ (‪ ، )7‬و ل يكثرن اللباس ‪،‬فإنّهن إن أكثرن أحببن‬
‫الخروج المنهي عنه ‪ ،‬و الخروج للنساء بغير ضرورة ل ينبغي ‪ ،‬و ل يبيحه الشرع ‪ ،‬و ل يرضى به ‪ ،‬فإن‬
‫خروجهنّ داعٍ إلى الفتنة ‪ ،‬و ضَعْف عُقُول النساء معروف ‪ ،‬و ال يقول في كتابه العزيز ‪َ " :‬و َق ْرنَ فِي ُبيُو ِت ُكنّ‬
‫جنَ تَ َبرّجَ الْجَاهِِل ّيةِ الُْولَى " (‪. )8‬‬
‫وَلَ تَ َبرّ ْ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫خ َتصُوا عن غيرهم بقولٍ في هذا المقام ‪ ،‬و إجماع المة شاهد بذالك ‪ ،‬و لو اخْتصّ به الباضية ل ُعدّ‬
‫فالباضية لم يَ ْ‬
‫سنِ أعمالهم ‪ ،‬حيث امتثلوا أوامر الشرع في الصل و الفرع ‪ ،‬و هم حقيقون بذلك حيث‬ ‫ح ْ‬
‫من محاسنهم ‪ ،‬و من ُ‬
‫لم تبق أوامره محفوظة عند غيرهم غالباً ‪.‬‬

‫حزْمِ بمكانٍ خصوصاً‬


‫و لو اختصّ به الباضية لم َي ُكنْ خارجاً عن الحقّ ِلمَا أشرنا إليه من الدلة ‪ ،‬و لكان من ال َ‬
‫في هذا الزمان ‪.‬‬

‫و قولهم ‪ " :‬كانت بينهم و بين غيرهم من المذاهب عداوة " ‪ ،‬ل رُوحَ لهذا الكلم‪ ،‬ف ِإنّ العداوة تكون بين الناس‬
‫لسباب منها‪ :‬ما ي ُبثّه العداء كهؤلء !! ‪ ،‬و منها ما يقوم عن مخالفة الحقّ و مكابرته ‪ ،‬و منها ما يكون من‬
‫تأييد الباطل ‪ ،‬كمناصرة الجبابرة ‪ ،‬و الظلمة على المسلمين ‪ ،‬و إعانتهم لل ُبغَاةِ على أهل العدل ‪ ،‬و أسباب أخرى‬
‫تثير ال َعدَاء ‪.‬‬

‫و لم تختص الباضية بذلك أيضاً دون غيرهم ‪ ،‬ف ِإنّ الختلف َقضَتْ به حكمة ذي الجلل و الكرام ‪ " :‬وَلَ َيزَالُونَ‬
‫خلَقَهُمْ" (‪ ، )9‬و لو كان ذلك للباضية خاصة من دون غيرهم من بقيّة‬ ‫مُخْ َتلِفِينَ {‪ِ}118‬إلّ مَن رّحِمَ رَ ّبكَ وَ ِلذَ ِلكَ َ‬
‫النّاس ‪ ،‬لكان أيضاً من مَحَامدهم ‪ ،‬حيث قاموا بما أوجب ال ‪ -‬عز و جل ‪ -‬من مفارقة أهل الباطل ‪ ،‬و مباعدة [‬
‫‪ ]33‬أهل الفساد في الرض ‪ ،‬و أول خلف و عداء وقع بين بني آدم ‪ ،‬هو الخلف الذي َو َقعَ بين قابيل و أخيه ‪،‬‬
‫و هم أبناء آدم على الصحيح وهكذا ‪.‬‬

‫و تلك المجلة الموسومة بـ"المسلمون " تقول ‪ " :‬الباضية كسائر فرق المسلمين‪ ،‬أو كسائر فرق الخوارج‬
‫يذهبون إلى التكفير كل من رضي بالتحكيم" ‪.‬‬

‫فيا سبحان ال من أين جاء إلى هؤلء الناس َأنّ الباضية من الخوارج؟؟!‬
‫صدُ التمثيل بهم ‪ ،‬فأي نسبة بين الباضية و الخوارج الضّالة؟؟ ‪ ،‬إنا ل و إنا إليه راجعون ‪.‬‬‫و إن كان ال َق ْ‬
‫و إذا كانوا يُكَ ّفرُون كُلّ من َرضِيَ بالتحكيم ‪ ،‬فما بال بعضهم يقول " هم الذين أصّروا على التحكيم " ‪.‬‬
‫انظروا معشر الناس هذا التناقض في الكلم عن الباضية !! ‪.‬‬
‫=====================================‬
‫(‪ )1‬كذا في الصل ‪ ،‬و الصحيح " أعدائه " ‪.‬‬
‫(‪ )2‬شكيب بن حمود بن حسن أرسلن ( ‪ 1286‬هـ ‪ 1366 -‬هـ = ‪1869‬م ‪1946 -‬م ) أديب ‪ ،‬كاتب ‪ ،‬شاعر ‪ ،‬مؤرخ ‪ ،‬سياسي ‪ ،‬ينعت بأمير البيان‬
‫من أعضاء المجمع العلمي العربي ‪ ،‬ولد في لبنان و توفي في بيروت له مؤلفات كثيرة منها الحلل السندسية في الرحلة الندلسية ‪،‬و حاضر العالم‬
‫السلمي ‪ .‬العلم ( ‪ ، ) 174 /3‬معجم المؤلفين ( ‪. ) 818 /1‬‬
‫(‪ )3‬سعيد بن عوض باوزير الحضرمي ‪ ،‬من حضرموت ‪ ،‬كاتب معاصر ‪ ،‬مؤرخ ‪ ،‬معظم كتاباته تدور حول حضرموت ‪ ،‬لم أجد له ترجمة في المعاجم‬
‫المخصصة لهذا الشأن ‪،‬و لذلك أكتفي بذكر بعض كتبه مع بيان مكان النشر ‪:‬‬
‫‪ -1‬الفكر و الثقافة في التأريخ الحضرمي ‪ ،‬دار الطباعة الحديثة ‪ 1381‬هـ ‪1961 -‬م ‪.‬‬
‫‪ -2‬صفحات من التأريخ الحضرمي ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬المطبعة السلفية ‪1378‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -3‬معالم تاريخ الجزيرة العربية ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار الكتاب العربي ‪.‬‬
‫‪ -4‬حضرموت ‪ :‬طواها التأريخ و نشرها مرة بعد مرة ‪ ،‬مجلة العربي ‪ ،‬العدد ‪1965 ، 76‬م ‪ (.‬بيليوجرافيا مختارة و تفسيرية عن اليمن ‪ ،‬ص ‪. ) 30‬‬
‫(‪ )4‬سعيد رمضان لم أجد له ترجمة حتى الن ‪.‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في ( ‪ -3‬كتاب الصلوات ‪ -85‬في زينة المساجد و ما جاء فيها ) (‪ ) 274 / 1‬رقم ‪ 3153‬و ‪ ، 3154‬و أخرجه أبو‬
‫نعيم في الحلية ( ‪ ) 12 /3‬و أخرجه البيهقي ( في كتاب الصلة ‪ -536‬باب في كيفية بناء المساجد ) ( ‪. )616 /2‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه الربيع بن حبيب في ( كتاب الصلة ‪ -45‬باب في الثياب و الصلة فيها) رقم ‪ 266‬ص ‪ ، 111‬و أخرجه البخاري في ( ‪ -8‬كتاب الصلة ‪-4‬‬
‫باب الصلة في الثوب الواحد ملتحفا به ) (‪ )103 /1‬رقم ‪ ، 358‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -4‬كتاب الصلة ‪ -52‬باب الصلة في ثوب واحد ) (‪) 367 /1‬‬
‫رقم ‪ 275‬و ‪ ، 276‬و أخرجه أبو داود في (‪ -2‬كتاب الصلة ‪ -77‬باب جماع أثواب ما يصلى فيه ) رقم ‪625‬و ‪ 629‬ص ‪ ، 101‬و أخرجه ابن ماجه‬
‫في ( ‪ -5‬كتاب إقامة الصلة ‪ _ 69‬باب الصلة في الثوب الواحد ) رقم ‪ 1047‬ص ‪ ، 146‬و أخرجه مالك في المؤطا في ( كتاب الجماعة ‪ ، 30‬و‬
‫أخرجه أحمد بن حنبل رقم ‪ ) 7 /7 ( 7149‬و رقم ‪. )87 /7 ( 7250‬‬
‫(‪ )7‬ورد في تعليم النساء المغزل و عدم إسكانهن الغرف عدة أحاديث منها ما أخرجه الحاكم في المستدرك ( ‪ -27‬كتاب التفسير ‪ -24‬تفسير سورة‬
‫النور ) ( ‪ ) 430 /2‬رقم ‪ ، 3494‬و ما أخرجه البيهقي في شعب اليمان في ( ‪ - 60‬باب حقوق الولد و الهلين ) (‪ )401 /6‬رقم ‪ ، 8664‬و ما‬
‫أخرجه الطبراني في المعجم الوسط ( ‪ )87 / 6‬رقم ‪. 5713‬‬
‫(‪ )8‬الحزاب ‪. 33 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )9‬هود ‪. 119 -118 :‬‬

‫فيستفاد من كلم هؤلء الغامزين للباضية ‪ ،‬أنّهم لم َي ْرضَوا بالتحكيم ‪ ،‬فما بال الذين يقولون " إنّ الباضية هم‬
‫الذين حملوا علي بن أبي طالب على التحكيم"؟؟!‪.‬‬

‫أما ترى الهواء ال ُمضِلّة تُعَادي المة ال ُمحِ ّقةِ قصداً لخماد الحقّ ‪ ،‬و إظهار الباطل بالهواء الفاسدة !! ‪.‬‬
‫و هل يكفي ذلك شهادة للباضية أنّهم لم يرضوا بالتحكيم ‪ ،‬و ِفرَارُهم عن المام علي‪ ،‬و انحيازهم عنه بالنّهروان‬
‫‪ ،‬و ذلك أشهر من نار على علم !! ‪.‬‬

‫و مع أنّه ل إباضية إذ ذاك ‪ ،‬بل الصحابة الكرمون أهل الحقّ ‪ ،‬الذين جعلهم ال حجة على عباده ‪ ،‬فأين هم و‬
‫أين الباضية ؟؟! كما سوف تقف على ذالك إن شاء ال ‪.‬‬

‫و ما بال هؤلء الناس يطبقون على ُأنَاسٍ لم يكونوا بَ ْعدُ في العالم ؟؟! ويفصلون جانباً من صحابة رسول ال ‪-‬‬
‫صلى ال عليه و سلم ‪ -‬و يجعلونهم غرضاً يرمونهم بسهام الطعن و القدح ‪،‬و ل يبالون !! ‪.‬‬

‫أما يتقون ال فيهم ؟! أما يراعون رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ -‬في خيرة أصحابه و صفوة أخصائه الذين‬
‫هربوا [‪ ]34‬من الباطل ‪ ،‬و أخذوا جانباً عنه ‪ ،‬فارين بدينهم ‪ ،‬غير مَاسّين بعرض أحد من عباد ال ؟؟! ‪ ،‬و ما‬
‫بال هؤلء الناس َيسْ ِترُون الشمس بأظفارهم !! ‪ ،‬أليس هذا من المُخْجِلِ ؟! ‪ ،‬و المفضح في الدين؟!! ‪.‬‬

‫و اعلم أن جعل الباضية من الخوارج خطأ ديني ‪ ،‬و تأريخي ‪:‬‬

‫فأمّا من ناحية الدّين فالباضية أَبْ َعدُ من الخوارج بمسافات ؛ لنّ الخوارج ‪-‬الذين يغمزون بهم الباضية ‪-‬‬
‫يُشرّكون أهل القِبْلَة من ُمخَالفيهم على العموم ‪ ،‬و الباضية ل يقولون بذالك ‪ ،‬فإنّه يتفرع عليه استحلل دماء‬
‫الناس و أموالهم ‪ ،‬و لم يعرف للباضية هذا في حال من الحال أبداً ‪ ،‬و كذلك أيضاً سبي الذراري ‪.‬‬

‫حاشا الباضية أن يقولوا باستحلل أموال من قال ‪ " :‬ل إله إل ال محمد رسول ال " ‪ ،‬أو باستحلل دماءهم ‪،‬‬
‫أو سبي ذراريهم ‪ ،‬اللهم إل في حال البغي منهم ‪ ،‬كما قال ال عز و جل ‪ " :‬فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ‬
‫الِّ " (‪ ، )1‬وأمّا الموال فهي حرام بإجماع أهل الحقّ ‪.‬‬

‫ويجري عمل الباضية في أهل القبلة على مُقْ َتضَى قول رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ُ " : -‬أ ِمرْتُ َأنَّ ُأقَاتِ َل‬
‫صمُوا ِمنّي ِدمَائَهُم‬ ‫ع َ‬
‫حمّداً َرسُولُ الِ ‪ -‬صَلّى عليه وسلم ‪ -‬ف ِإذَا قَالُوهَا فَ َقدْ َ‬
‫النّاسَ حَتّى يَقُولُوا ل إِلَه إلّ ال و َأنّ ُم َ‬
‫حسَابُهُم عَلَى الِ " (‪ )2‬فكل من نَطَقَ بالشهادتين فهو مسلم له ما للمسلمين و عليه ما‬ ‫حقّهَا و ِ‬‫و َأمْوَالَهُم إلّ بِ َ‬
‫ع ّدةَ دول‬ ‫عليهم ‪ ،‬إل إن ارتدوا ‪ -‬و العياذ بال ‪ -‬فللرّدة أحكام عند المسلمين ‪ ،‬و قد قامت للباضية في هذا الكون ِ‬
‫و حكومات ‪ ،‬و وقعت بينها و بين غيرها من الدول حروب وملحم ‪ ،‬فهل علمتم أن دولة من دول الباضية‬
‫استحلت َأمْوَالَ الناس من أهل القبلة ‪ ،‬أو دمائهم بغير حق ؟ ‪ ،‬بل وحتى الغدر و الخداع في الحرب ‪ ،‬مع َأنّ‬
‫عةٌ [‪ ]35‬بشهادة رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪. )3( -‬‬ ‫خ ْد َ‬
‫الحرب ُ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫َأمّا الباغي على المسلمين فواجب المسلمين قتاله ‪ ،‬حتى يفيء إلى أمر ال ‪ ،‬عملً بنص القرآن ‪ ،‬إذ قال ال عز‬
‫خرَى فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى َأمْرِ الِّ " (‪ )4‬الية ‪ ،‬و هكذا عمل‬
‫حدَا ُهمَا عَلَى الُْ ْ‬
‫وجل ‪ " :‬فَإِن بَغَتْ إِ ْ‬
‫المام الول بعمان الجلندى بن مسعود (‪ - )5‬رحمه ال ‪ -‬لما قضى على شيبان الخارجي (‪ )6‬فقبض على‬
‫سيفه ‪ ،‬و خاتمه ‪ ،‬و جعلهما أمانة لِ َورَثته ‪.‬‬

‫خزَ ْيمَة (‪ )7‬الذي خرج لقتاله ‪ ،‬و وجده مقتولً بسيوف العمانيين ‪ ،‬قال له المام‬ ‫و لما طلبهما منه خَازِمُ بن ُ‬
‫الجلندى ‪ " :‬لست أنت الوارث لشيبان ‪ ،‬و هذا مال يرجع للوارث " ‪ ،‬فقال خازم ‪ " :‬أنا كنت طالب قتله ‪ ،‬و أنت‬
‫كفيتنا إياه ‪ ،‬فسلّم لي الخاتم و السيف حتى أرجع إلى الخليفة و أخبره بذلك ‪ ،‬بل و أعلن له أنك َتمْتَثِلَ أمره " ‪،‬‬
‫فأجابه ‪ :‬بل يرضي له دينه ذلك ‪ ،‬أي أن يعترف له بطاعة سلطان بغداد ‪ ،‬و أفاده بأنّه إذا جاء الوارث يسلم إليه‬
‫ذلك ‪ ،‬لنّه ماله ‪ ،‬و أموال أهل القبلة لهم ل يحلها الحرب ‪.‬‬

‫غرّة فطمع‬ ‫ح َمتْ لهذا المام المرضي ‪ -‬رحمه ال ‪ ، -‬و لعل خَازِماً رأى بالمسلمين له ِ‬
‫و كأنّها فتنة أخرى زَ َ‬
‫فيهم ‪ ،‬و أظهر للمام غضباً على عدم تسليم السيف ‪ ،‬و الخاتم ‪ ،‬و الخطبة لسلطان العراق ‪.‬‬
‫شعْوَاء (‪ )8‬على المام ومن معه ‪ ،‬و كأنّهم في قِلّة إذ ذاك ‪ ،‬و لم يظنوا َأنّ الرجل يطلب منهم غير‬ ‫و إذ ذاك شَنّها َ‬
‫سرّه ذلك منهم ‪ ،‬فيرجع عنهم شاكراً لهم ‪ ،‬و إذا به يشُنّها شَ ْعوَاء‬
‫ذلك ‪ ،‬بل ظنوا أنه لمّا وجد خصمه مقتولً َ‬
‫حامية بغير موجب ‪ ،‬بل َبغْياً ‪ ،‬و عدواناً بغير حقّ ٍ‪ ،‬و ل أدنى شيء يعرف في دين المسلمين سوى ذلك ‪.‬‬

‫=========================‬
‫(‪ )1‬الحجرات ‪. 9 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الربيع بن حبيب في ( كتاب الجهاد ‪ -17‬باب جامع الغزو في سبيل ال ) ص ‪ 188‬رقم ‪ ، 464‬و أخرجه البخاري في ( ‪ -2‬كتاب اليمان‬
‫‪ -17‬باب فإن تابوا و أقاموا الصلة ) ( ‪ ) 1/26‬رقم ‪ ، 25‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب اليمان ‪ -8‬باب المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل ال‬
‫‪ ) 51 /1 ( ) ...‬رقم ‪ ، 32‬و أخرجه الترمذي في ( ‪ - 41‬كتاب اليمان ‪ -1‬باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ) ( ‪ )3 /5‬رقم‬
‫‪ ، 2606‬و أخرجه أبو داود في ( ‪ -15‬كتاب الجهاد ‪ -95‬باب على ما يقاتل المشركين) رقم ‪ 2640‬ص ‪ ، 381‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -36‬كتاب‬
‫الفتن ‪ -1‬باب الكف عمن قال ل إله إل ال ) رقم ‪ 3927‬ص ‪ ، 563‬و أخرجه الدارمي في ( ‪ -17‬كتاب السير ‪ -10‬باب في القتال على قول النبي صلى‬
‫ال عليه و سلم أمرت أن أقاتل ‪ ) 2/178()...‬رقم ‪ ، 2446‬و أخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة ( ‪ ) 75 / 2‬رقم ‪ ، 1866‬و أخرجه البيهقي في السنن‬
‫الكبرى ( ‪ ) 5 / 2‬رقم ‪، 2199‬و أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( ‪ ) 160 /11‬رقم ‪ 11487‬و في المعجم الوسط ( ‪ ) 384 /1‬رقم ‪ ، 945‬و‬
‫أخرجه ابن حبان في ( ‪ -5‬كتاب اليمان ‪ -4‬باب فرض اليمان ) (‪ ) 400 /1‬رقم ‪ ، 174‬و أخرجه الطحاوي في شرح معاني الثار ( ‪ ، ) 216 /3‬و‬
‫أخرجه الروياني في مسنده ( ‪ )432 /3‬و أخرجه أبي يعلى الموصلي (‪ ، ) 50 /1‬و أخرجه عبد الرزاق في المصنف ( ‪. )44 /4‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في ( ‪ -51‬كتاب الجهاد ‪ -157‬باب الحرب خدعة ) ( ‪ ) 257 /2‬رقم ‪ ، 3030‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -32‬كتاب الجهاد و السير ‪-5‬‬
‫باب جواز الخداع في الحرب ) ( ‪ )1361 /3‬رقم ‪ 1738‬و ‪ ، 1740‬و أخرجه الترمذي في سننه في ( ‪ -24‬كتاب الجهاد ‪ -5‬باب ما جاء في الرخصة‬
‫في الكذب و الخديعة في الحرب ) ( ‪ ) 193 / 4‬رقم ‪ ، 1675‬و أخرجه أبو داود في ( ‪ - 15‬كتاب الجهاد ‪ -92‬باب المكر في الحرب ) ص ‪ 380‬رقم‬
‫‪ 2636‬و ‪ ، 2637‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -24‬كتاب الجهاد ‪ -28‬باب الخدعة في الحرب ) ص ‪ 409‬رقم ‪ 2833‬و ‪ ، 2834‬و أخرجه أحمد بن‬
‫حنبل في ( ‪ ) 470 /1‬رقم ‪ 696‬و ‪. 697‬‬
‫(‪ )4‬الحجرات ‪. 9 :‬‬
‫(‪ )5‬الجلندى بن مسعود بن جيفر الزدي ( ت ‪134‬هـ ) أول إمام نصّب في عمان ‪ ،‬و هو إباضي قاتل شيبان الخارجي ‪ ،‬و قتله خازم بن خزيمة ‪.‬‬
‫العلم (‪. )133 / 2‬‬
‫(‪ )6‬شيبان بن عبد العزيز اليشكري ( ت ‪ 134‬هـ ) من أمراء الخوارج و قادتهم و شجعانهم ‪ ،‬ومن قادة الصفرية ‪ ،‬قام بثورة ضد مروان بن محمد و‬
‫قتل في عمان ‪ .‬العلم ( ‪. ) 180 / 3‬‬
‫(‪ )7‬خازم بن خزيمة بن عبدال بن حنظلة النهشلي ( مات في حدود ‪136‬هـ ‪ 158 -‬هـ) أبو هزيمة ‪ ،‬صاحب شرطة بني العباس ‪ ،‬و قتل العنـزية ‪ ،‬و‬
‫ولي عمان ‪ ،‬و مات ببغداد ‪ ،‬فعزّي عنه أبو جعفر ‪.‬المعارف ص ‪ ، 417‬و جمهرة أنساب العرب ص ‪. 230‬‬
‫(‪ )8‬غارة شعواءُ أي فاشية متفرقة ( مختار الصحاح ‪ ) 143 /‬مادة ( ش ع ا ) ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫خزَ ْيمَة ‪ ،‬حتى قتلهم جميعاً ‪ ،‬و بذلك [‪ ]36‬هلك المام و‬ ‫و لم يرضَ المام ومن معه المداهنة ‪ ،‬فقاتلهم خَازِمُ بن ُ‬
‫خبَثَ منه (‪. )1‬‬
‫من معه على ذلك الشيء اليسير ‪ ،‬و لم يرض الخضوع لباغٍ ظالمٍ ‪ ،‬كشيبان ‪ ،‬ف ِإنّ خازماً صار أَ ْ‬

‫جدُ له ما يفنده ‪ ،‬و ِإنْ‬


‫خ ْذهُ مثالً صادقاً ل تَ ِ‬
‫فهذا قانون الباضية مع أهل " ل إله إل ال محمد رسول ال "‪ ،‬فَ ُ‬
‫شئت استعرض به آثار الباضية تجد عنوانها هذا ‪ ،‬و قانونها المعروف ‪ ،‬ل كما يقول الغامزون في مذهب‬
‫الباضية ِل َغرَضٍ فاسدٍ ‪.‬‬

‫ع ْمدَة مذهبهم ‪ ،‬أبي الشّعَثاء جَابِر بن زيد ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬و قد َوثّ َقهُ الكُلّ‪ ،‬و‬
‫و انظر في فتاوى إمام الباضية ‪ ،‬و ُ‬
‫اعتمد عليه أهل العلم ‪ ،‬و قَلّ أن يخلو مُؤّلفٌ من مُؤلَفَات المسلمين على اختلف مذاهبهم ‪ ،‬و تباين منازعهم ‪،‬‬
‫إل و جابر بن زيد جمال ذلك المؤلف ‪ ،‬و لم يعرف في فتاوى المام المذكور ‪ ،‬و ل في منقولته شيء عن هذا‬
‫الذي يقال ‪ ،‬و هو تلميذ ابن عباس ‪ -‬رضى ال عنهما ‪ -‬و كان تابعياً كبيراً ‪ ،‬ولد سنة ‪ 22‬للهجرة ‪ ،‬و توفي سنة‬
‫‪ 96‬منها ‪ ،‬و قيل سنة ‪ ، 103‬و الشهير الول ‪.‬‬

‫وقد كان مُعَاصراً للخلف الذي وقع بين علي بن أبي طالب ‪ ،‬و أصحابه من الصحابة الذين تحيزوا عنه‬
‫بالنّهروان ‪ ،‬فحمله قومه الطغاة كالشْعَث بن قَيْس الكندي ‪ ،‬عميل معاوية ‪ ،‬و دسيسته على علي بن أبي طالب ‪،‬‬
‫و كان جابر بن زيد يرى بطلن التحكيم ‪ ،‬كما رآه علي بن أبي طالب ‪ ،‬لكن كان الرأي الفعّال ما يراه الجيش ل ما‬
‫يراه المام ‪ ،‬فإنه سار إلى النهروان ليتفق مع إخوانه ‪ ،‬و ترتبت القضية على ذلك بعد مراسلت ‪ ،‬و مخابرات‬
‫من صلحاء المسلمين ‪ ،‬كما ذكرناها في التاريخ ‪.‬‬

‫و كان الشعث و أعوانه يرون َأنّ الذين اجتمعوا بالنّ ْهرَوَان هم الخطر على معاوية إن كانوا مع على بن أبي‬
‫طالب ‪ ،‬أو [‪ ]37‬كانوا وحدهم فهم أعداء معاوية ‪ -‬الذي شَقّ عصا المسلمين ‪ ،‬ورام فتنتهم ليتسلط على المر ‪-‬‬
‫ستِراً بالعمل‬
‫فحمل علياً المسير إلى القوم ‪ ،‬بأي صفه تكون ‪ ،‬و هو يعمل الحِي َلةَ ‪ُ ،‬متَظَاهراً ب ُنصْرَة علي ‪ ،‬و مُ َت َ‬
‫لمعاوية ‪ ،‬لنّ أهل الدنيا يعرفون أصحابهم من غيرهم ‪ ،‬كما كان عمرو بن العاص ‪.‬‬

‫و لمّا وصلت بَوَا ِدرُ الجيش إلى النهروان َأشْعَلُوها ناراً حمراء ‪ ،‬فلم [يدرِ](‪ )2‬علي بن أبي طالب إل و الجيش في‬
‫ع ِملََت ‪ ،‬و لعله لما سئل عن السبب قيل له أن القوم‬
‫قتال ‪ ،‬و الرؤوس تتهاوى كا ُل َكرِ(‪ ، )3‬وهي المكيدة التي ُ‬
‫علّقُوا عليهم الغدر و ل يبالون ‪ ،‬كما نسبوا إليهم قتل الرجل و زوجته ‪ ،‬و أضافوا إليهم‬ ‫ابتدأوا بالحرب ‪ ،‬و ربما َ‬
‫شنائع لِ َي َت َذ ّرعُوا بها على قتلهم ‪.‬‬

‫وماذا يقول علي إذ ذاك ؟ ‪ ،‬و رَحَى الحرب َتدُور ‪ ،‬فلم يملك من المر شيء؛ َلنّ أهل الغراض قالوا الن نشعلها‬
‫ناراً ل يقدر على إطفائها علي ول غيره ‪ ،‬فإذا احترق النهروانيون بلهبها ‪ ،‬استراح معاوية و صحبه من علي و‬
‫آل علي ‪،‬فكان المر كذلك ‪.‬‬

‫و ماذا يقول علي و المر حسب الظاهر في صالحه ‪ ،‬فلو قال إنّا لم نجءِ لهذا ‪ ،‬و إنّما جئنا للمفاوضة ‪ ،‬لقيل له‬
‫ِإنّ القوم غادرون بنا و بك ‪ ،‬و ابتدأونا بالقتال ‪ ،‬فلم نرَ إل مقابلتهم بذلك ‪ ،‬و كما أخبرناك أنهم قطعوا الطريق ‪،‬‬
‫و فعلوا تلك الفعال الشنيعة التي أبلغناك إياها ‪ ،‬و الغرض الحقيقي معروف ‪.‬‬

‫و بذالك انهارت إمامة على بن أبي طالب ‪ ،‬حيث لم يجد مناصراً على معاوية ‪ ،‬و ل وجد ذلك النشاط الذي وجده‬
‫في القيام على أهل النهروان ‪.‬‬

‫فانظر أيها العاقل لو فرضنا َأنّ الذي [‪ُ ]38‬نسِبَ إلى النهروانيين صحيح ‪ ،‬فأين ذلك من فعل معاوية في‬
‫جرّار ‪ ،‬و وقع ما وقع حتى إذا أحسّ بالغَلَ َبةِ ‪ ،‬لجأ إلى‬
‫المسلمين ؟؟! ‪ ،‬إذ جاء لقتالهم في صفين بذلك الجيش ال َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الحيلة لينجو مما وقع فيه ‪ ،‬فيرجع ليتقوى ‪ ،‬و لم يكن عليه حرج !‪ ،‬و ل لوم !‪ ،‬و ل عتب !‪ ،‬و ل جور! ‪ ،‬و ل‬
‫ظلم !!‪.‬‬

‫و إنما الجور و الظلم و البغي من النهروانيين !! ‪ ،‬إذ قتلوا امرأة و زوجها على فرض الصّحة ‪ ،‬و حاشا القوم‬
‫أن يكونوا فعلوا شيئاً من ذلك ‪ ،‬إذ ذلك من أفعال السّباع ‪ ،‬ل من أفعال الذين أَ َكلَتْ الرض جباههم ‪ ،‬و جنوبهم ‪،‬‬
‫عند الركوع ‪ ،‬و السجود ‪.‬‬

‫انظر أيها العاقل كيف يفعل أهل الدنيا بأهل الدين لجل دُنْيَاهم !!‪.‬‬
‫خ َدعُ بالكاذيب فيظنّ الصدق ‪ ،‬و عندما يقع في‬
‫أما علي بن أبي طالب في نفسي أُ ْك ِر ُمهُ عن ذلك ‪ ،‬و إنّما الرجل يُ ْ‬
‫المر يحتار ‪ ،‬و لعله يكله إلى المبتلى به‪،‬و يتذرع بذلك ‪.‬‬

‫فإنّه منذ بداء أمره على هذا السلوب ‪ ،‬يرى المر له ‪ ،‬و إذا به في غير شيء‪ ،‬و كان مُ ْغرَماً بالخلفة ‪ ،‬فابتلي‬
‫بها فلم تستقم له ‪ ،‬و عَاصَت(‪ )4‬عليه ‪ ،‬و لم يستقر قرار ‪ ،‬فل فتوح و ل قرار للمسلمين من أول يوم ‪.‬‬

‫صرّحَ الحسن البصري بما‬


‫و هذا التاريخ شاهد بما قلنا ‪ ،‬و َمنْ رَامَ التحقيق فهو واضح ل يخفى على أحد‪ ،‬وقد َ‬
‫صرح به بقية أهل العلم ‪ ،‬و قد سمعت ما قال المذكور في كامل المبرد ‪ ،‬حتى قال عنه أنه كلم جافٍ(‪poet: )5‬‬
‫]‬

‫ُ(‪)6‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬انظر للمزيد تحفة العيان ( ‪ ) 95 / 1‬و عمان عبر التاريخ ( ‪. ) 250 / 1‬‬
‫(‪ )2‬غير واضحة في الصل ‪ ،‬و لعلها هكذا ‪.‬‬
‫(‪ )3‬الُكر ‪ :‬جمع أُ ْك َرةٌ÷‪ ،‬و هي الكرة التي يلعب بها ‪ ،‬و هي لغة من لغات العرب ‪ .‬لسان العرب ( ‪ ) 125 / 1‬مادة ( أ ك ر ) ‪.‬‬

‫(‪ )4‬عَاصَت ‪ :‬أي اشتدت عليه ‪ ،‬يقال اعتصت النواة أي اشتدت ‪ ،‬و تعصّى المر إذا اشتد ( القاموس المحيط ‪،‬ص ‪ )1692‬مادة (ع ي ص ) ‪.‬‬
‫(‪ )5‬الكامل في اللغة و الدب ( ‪. ) 114 / 2‬‬
‫(‪ )6‬البيت للمتنبي من قصيدة مطلعها ‪:‬‬
‫عرَضا نظرتُ و خلتُ أني أسلمُ‬
‫لهوى النفوس سريرة ل تعلــم َ‬
‫يا أخت معتنق الفوارس في الوغى لخوك ثمّ أرقّ منك و أرحـمُ‬
‫( شرح ديوان المتنبي لبعد الرحمن البرقوني ( ‪) . )254 /4‬‬

‫[كُ ْفرُ النّعْمةْ و أصله من التّّشريع ]‬

‫ح َكمُوا بمقتضاها أو‬


‫و أمّا التكفير الذي يذكرونه عن الباضية ‪ ،‬فإنّهم لم يفهموا قواعد اللغة ‪ ،‬و لو فَ ِهمُوا لَ َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فهموا ‪ ،‬و لكن كانت لهم أغراض سياسية َمشَوا عليها ‪ ،‬و هو الواضح ‪.‬‬

‫ظةَ ال ُك ْفرِ على العاصي[‪ ]39‬كما أطلقها القرآن ؛ فإن المراد به‬
‫فقد أطلق رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لَفْ َ‬
‫كُ ْفرِ النعمة ‪ ،‬ككفر شارب الخمر ‪ ،‬و الزاني ‪ ،‬و السارق ‪ ،‬و نحو ذلك ‪.‬‬

‫فيقال له كافر ‪ ،‬و فاسق ‪ ،‬و ضال ‪ ،‬و عاصٍ ‪ ،‬و هالك ‪ ،‬و هكذا ‪ ،‬و ذلك أنّ المسلم المعترف بالسلم ‪ ،‬إذا‬
‫خرُجَ عن حكم السلم ‪ ،‬فيحل‬ ‫شرِكاً ‪ ،‬حتى يَ ْ‬
‫ارتكب مَنَاهي السلم ‪ ،‬لم يكن مسلماً بالمعنى الصحيح ‪،‬و لم يكن ُم ْ‬
‫ماله و دمه ‪ ،‬لما عرفت من معنى الحديث المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ‪ ...‬الحديث‪ ،‬فهو مسلم‬
‫لعترافه بالسلم ‪ ،‬فاسق لخروجه على أوامره المحرمة به ‪ ،‬و ثبت كفره بالقرآن ‪ ،‬قال ال ‪ -‬عز و جل ‪" : -‬‬
‫حجّ ا ْلبَيْتِ َمنِ‬
‫َومَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أَنزَلَ الّ فَأُ ْولَـ ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ " (‪ )1‬و قال ‪ -‬عزّ و عل ‪ " : -‬وَلِّ عَلَى النّاسِ ِ‬
‫سمّي صاحب الكبيرة كافراً ‪ ،‬فهل‬ ‫عنِ ا ْلعَا َلمِينَ " (‪ )2‬فترى القرآن ُي َ‬
‫اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلً َومَن كَ َفرَ فَ ِإنّ ال غَنِيّ َ‬
‫تراه مشركاً حلل الدم و المال ؟ ‪ ،‬فإنّما كانت جريمته عدم الحكم بما أنزل ال في الية الولى ‪ ،‬و في الثانية‬
‫تهاون بأ ْمرِ الحج ‪ ،‬و كلهما من كبائر الذنوب ‪.‬‬

‫ضرِبُ بَ ْعضُكُم ِرقَابَ بَ ْع ٍ‬


‫ض‬ ‫جعُوا َب ْعدِي كُفْاراً َي ْ‬
‫و في الحديث قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ‪ " :‬ل َترْ ِ‬
‫ص ّد َقهُ فِيمَا قَالَ‬
‫عرّافاً َف َ‬
‫" (‪ )3‬فسماهم بذلك كفاراً ‪ ،‬و كذلك قوله ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪َ " -:‬منْ أَتَى كَاهِناً أَو َ‬
‫حمَ ِتهِ فَهُوَ مُؤ ِمنٌ بِي كَا ِفرٌ‬
‫طرْنَا بِ َفضْلِ الِ و ِبرَ ْ‬‫فَ َقدْ َك َفرَ " (‪ ، )4‬و عنه – صلى ال عليه و سلم – ‪َ " :‬منْ قَالَ َم َ‬
‫ع ّدةِ أحاديث ل‬ ‫طرْنَا َبنَوءِ َكذَا فَهُوَ كَا ِفرٌ بِي مُؤ ِمنٌ بِالكَوَا ِكبَ " اليات_و_الحاديث (‪ )5‬في ِ‬
‫بالكواكب ‪ ،‬و َمنْ قَالَ مَ َ‬
‫يمكن إيرادها كلها ‪ ،‬و هي بمجموعها تدل على حصول الكفر بذلك الفعل ‪ ،‬فهل تراه مشركا حلل الدم و المال ؟؟‪.‬‬

‫ولما أعيى هذا الحال على قومنا معرفة المراد به ‪َ ،‬تكَلّفُوا فيه التأويلت التي ل تتناسب بالمقام ‪.‬‬

‫و المراد [‪ ]40‬بكفر النعمة عند الصحاب هو كونه نال الهدى من ال فصار مسلماً ‪ ،‬و المسلم ل يعصى المنعم‬
‫عليه بذلك الفضل العظيم الذي َمنّ ال به عليه ‪ " :‬لَ َيزْنِي الزّانِي حِينَ َيزْنِي و هُوَ مُؤ ِمنٌ " (‪ )6‬بل يسلب عنه‬
‫اليمان باقتراف الزّنا ‪ ،‬و المراد بالفاسق الخارج عن خُطّة الدّين ؛ فإن الفسق في اللغة الخروج (‪ ، )7‬و ل‬
‫يعنون بالكافر المشرك ‪ ،‬و لكنّ قومنا يخالفونا لمّا لم يفهموا معنى الكفر ‪ ،‬و سمعوا الباضية يقولون به ‪ ،‬قالوا‬
‫إنّ الباضية يجعلون أهل القبلة مشركين ‪ ،‬و يكون بذلك استحللهم الدماء و الموال ؛ لنّ المشرك ذلك الحكم‬
‫فيه وارد في الكتاب و السنة ‪.‬‬

‫و لذلك أيضا أطلقوا عليهم اسم الخوارج ‪ ،‬لنّ الخوارج مذهبهم حِلّية أموال أهل القبلة و دماءهم ‪ ،‬لنّهم‬
‫مشركون معهم تَ ْفرِيعاً على معنى الكفر الذي فهموه ‪ ،‬فنشروا عن الباضية ذلك و لم يقولوه ‪ ،‬و ل فعلوه ‪ ،‬بل‬
‫علقوه عليهم زوراً ‪ ،‬و بُهْتَاناً ‪.‬‬

‫===============================‬
‫(‪ )1‬المائدة ‪. 44 :‬‬
‫(‪ )2‬آل عمران ‪. 97 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في ( ‪ -3‬كتاب العلم ‪ - 43‬باب النصات للعلماء ) ( ‪ ) 50 /1‬رقم ‪، 121‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب اليمان ‪ -29‬باب بيان‬
‫معنى قول النبي ‪ :‬لترجعوا ‪ ) 82 - 81 /1 ( )...‬رقم ‪ 118‬و ‪ ، 120‬و أخرجه الترمذي في ( ‪ -34‬كتاب الفتن ‪ -28‬باب ما جاء ل ترجعوا بعدي كفارا‬
‫) ( ‪ )486 /5‬رقم ‪ ، 2193‬و أخرجه النسائي في ( ‪ -37‬كتاب تحريم الدم ‪ -29‬باب تحريم القتل ) ( ‪ ) 126 / 7‬رقم ‪ 4125‬و ‪ ، 4126‬و أخرجه أبو‬
‫داود في ( ‪ - 39‬كتاب السنة ‪ -15‬باب الدليل على زيادة اليمان و نقصانه ) ص ‪ 662‬رقم ‪ ، 4686‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -36‬كتاب الفتن ‪ -5‬باب‬
‫ل ترجعوا بعدي كفارا ) ص ‪ 566‬رقم ‪ 3942‬و ‪ ، 3943‬و أخرجه الدارمي في ( ‪ -5‬كتاب المناسك ‪ -76‬باب في حرمة المسلم ) (‪ )59 /2‬رقم ‪1921‬‬
‫‪ ،‬و أخرجه أحمد في مسنده رقم ‪ ) 495 /2 ( 2036‬و أخرجه ابن حبان رقم ‪. )314 /13 ( 5975‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه الترمذي في ( ‪ -1‬أبواب الطهارة ‪ -102‬ما جاء في كراهية إتيان الحائض ) ( ‪ ) 242 /1‬رقم ‪ ، 135‬و أخرجه أبو داود في ( ‪ -1‬كتاب‬
‫الطب ‪ -21‬باب في الكهانة ) ص ‪ 554‬رقم ‪ ، 3904‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -1‬كتاب الطهارة ‪ -122‬باب النهي عن إتيان الحائض ص ‪ 90‬رقم‬
‫‪ ، 639‬و أخرجه الدارمي في ( كتاب الطهارة ‪ -144‬باب من أتى امراته في دبرها ) ( ‪ ) 178 /1‬رقم ‪ ، 1136‬و أخرجه أحمد بن حنبل رقم ‪9502‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫( ‪. ) 2490 /‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه الربيع بن حبيب في باب ذكر الشرك و الكفر ص ‪ 44‬رقم ‪ ، 62‬و أخرجه البخاري في ( ‪ - 10‬كتاب الذان ‪ -156‬باب يستقبل المام الناس‬
‫إذا سلم ) (‪ ) 203 / 1‬رقم ‪ ، 846‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب اليمان ‪ -32‬باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء ) ( ‪ ) 83 / 1‬رقم ‪ ، 71‬و أخرجه‬
‫أبو داود في ( ‪ -27‬كتاب الطب ‪ -22‬باب في النجوم ) ص ‪ 555‬رقم ‪ ، 3905‬و أخرجه الدارمي في ( ‪ - 20‬كتاب الرقاق ‪ -49‬باب النهي أن يقول‬
‫مطرنا بنوء كذا ) ( ‪ )248 /2‬رقم ‪. 2762‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه البخاري في( ‪ -46‬كتاب المظالم ‪ -30‬باب النهي بغير إذن صاحبه ) (‪ )112 /2‬رقم ‪ ، 2475‬و أخرجه مسلم في (‪ -1‬كتاب اليمان ‪-24‬‬
‫باب نقصان اليمان ) (‪ ) 1/76‬رقم ‪، 57‬و أخرجه النسائي في ( ‪ -45‬كتاب القسامة ‪ -49‬باب تأويل قوله تعالى ‪ :‬و من يقتل مؤمنا متعمدا ‪/8( )...‬‬
‫‪ ) 64-63‬رقم ‪ ، 4869‬و أخرجه أبو داود في ( ‪ -39‬كتاب السنة ‪ -16‬باب الدليل على زيادة اليمان و نقصانه ) ص ‪ 662‬رقم ‪ ، 4689‬و أخرجه‬
‫الترمذي في ( ‪ -41‬كتاب اليمان ‪ -11‬باب ما جاء ل يزني الزاني و هو مؤمن ) (‪ ) 15 /5‬رقم ‪ ، 2625‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ 36‬كتاب الفتن ‪-3‬‬
‫باب النهي عن النهبة ) ص ‪ 565‬رقم ‪، 3936‬و أخرجه أحمد بن حنبل رقم ‪ ) 140 / 7 ( 7316‬و رقم ‪ ، ) 334 /8 ( 8182‬و أخرجه البيهقي في‬
‫شعب اليمان (‪ )4 /5‬رقم ‪ ، 5567‬و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( ‪ ) 169 /6‬رقم ‪ ، 30402‬و أخرجه الحاكم في المستدرك (‪ ) 72 /1‬رقم‬
‫‪. 56‬‬
‫(‪ )7‬مختار الصحاح ‪ ، 211 /‬القاموس المحيط ص ‪ ، 1185‬لسان العرب ( ‪ )11/181‬مادة (ف س ق ) ‪.‬‬

‫ف ِإنّ الباضية أبعد من ذلك ‪ ،‬فإن المام سعيد بن عبدال بن محمد بن محبوب (‪ – )1‬رحمه ال و رحم آباءه‬
‫سفَ بن وجية (‪ )3‬في نزوى لمّا اصطلمها (‪ )4‬المام‬‫الكرام – اهتمّ ب ّرزّة (‪ )2‬بابٍ فُ ِقدَت في معسكر السلطان يُو ِ‬
‫الرحيلي فتتبعها حتى جيء بها إليه فردها على صاحبها (‪.)5‬‬

‫و مصداق ذلك هذا القرآن ينطق صراحةً بقاعدة الباضية في معنى الكفر الذي يقول به الباضية ‪ ،‬أل تسمعه في‬
‫عنِ‬
‫حجّ الْبَ ْيتِ َمنِ اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلً َومَن كَ َفرَ فَ ِإنّ ال غَنِيّ َ‬
‫علَى النّاسِ ِ‬
‫الية التي مرت عليك يقول‪ " :‬وَلِّ َ‬
‫الْعَا َلمِينَ "(‪ )6‬فسمى تارك الحج تهاوناً كافراً ‪ ،‬و كذلك قوله عن من قائل ‪ " :‬لِيَ ْبلُوَنِي َأأَشْ ُكرُ أَمْ أَكْ ُفرُ َومَن شَ َكرَ‬
‫غنِيّ َكرِيمٌ " (‪َ " )7‬ومَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أَنزَلَ الّ‪" ....‬اليات (‪ ، )8‬أتراه يا‬ ‫سهِ َومَن كَ َفرَ فَ ِإنّ رَبّي َ‬
‫ش ُكرُ لِ َن ْف ِ‬
‫فَإِ ّنمَا َي ْ‬
‫سرّ في الفهم عند أهل‬ ‫أخي [‪ ]41‬يريد الشّرك و يحكم عليهم به ‪ -‬تعالى ال عن ذلك ‪ -‬فافهم عن ال ‪ ،‬فإنّ ال ّ‬
‫العلم ‪.‬‬

‫شرِكاً‬ ‫و في السنة من هذا القبيل كما قلنا شيء كثير و منه ‪َ " :‬منْ أَتَى ال ّنسَاءَ في َأدْبَا ِر َهنّ فَ َقدْ كَ َفرَ " (‪)9‬أتراه ُم ْ‬
‫خشْ َيةَ النّارِ َف َقدْ كَ َفرَ " (‪ )10‬فإن قلت كما نقول نحن‬ ‫مع قوله ‪-‬صلى ال علية وسلم – ‪َ " :‬منْ َت َركَ قَتْلَ الحَ ّيةِ َ‬
‫حرْ َثكُمْ أَنّى شِ ْئتُمْ‬
‫حرْثٌ لّ ُكمْ فَ ْأتُواْ َ‬
‫فقد عرفت أن الكفر هنا المراد به كفر النعمة ؛ لنّ ال قال في النساء " ِنسَآؤُكُمْ َ‬
‫جعُوا َب ْعدِي كُفُاراً‬ ‫"(‪ )11‬و ذلك كلم الرسول في إتيانهن في الدبار ‪ ،‬و كذلك قتل الحية ‪ ،‬و حديث ‪ " :‬لَ َترْ ِ‬
‫صحّ ‪ ،‬و لو صح لكان أهل الجمل ‪ ،‬و‬ ‫ضرِبُ بَ ْعضُكُم ِرقَابَ بَ ْعضٍ " (‪ )12‬أتراهم مشركين؟؟ ‪ ،‬ل و ربك هذا ل َي ِ‬ ‫َي ْ‬
‫صفين كفاراً مشركين ‪ ،‬و لم يقل بذلك عاقل فيما علمنا ‪.‬‬

‫و كذلك جاء أيضا ‪ " :‬ال ّرشْ َوةُ في الحُ ْكمِ ُك ْفرٌ " (‪ )13‬و عنه – صلى ال عليه و سلم – " ال ُم ّدعِي مَا لَ ْيسَ َلهُ و‬
‫المُنْ ِكرُ ِلمَا عَلَيهِ كَافِرَانِ " (‪ " ، )14‬و لَ ْيسَ بَ ْينَ العَ ْبدِ و الكُ ْفرِ إلّ َترْ ُكهُ الصّلةَ " (‪ )15‬هذا قليل من كثير و هو‬
‫س ْمعَ َوهُوَ شَهِيدٌ " (‪.)16‬‬
‫كافٍ لبيان الحجة و إيضاح المحجة ‪ِ " :‬لمَن كَانَ َلهُ قَ ْلبٌ أَوْ أَ ْلقَى ال ّ‬

‫فترى الرسول – صلى ال عليه و سلم – أطلق الكفر على مرتكبي هذه الجرائم ‪ ،‬و ل يعني به الشرك ‪ ،‬و قد قال‬
‫بقولنا هذا كثير من أهل العلم حين لم يجدوا مناصاً عن مقتضى الدلئل المشار إليها ‪ ،‬و لم يقدروا على الحكم‬
‫بتشريك لهل القبلة ‪ ،‬و لو قالوا به لنتقضت أصولهم الهامة ‪ ،‬و تلشت قواعدهم العامة ‪ ،‬و فسدت عقائدهم ‪ ،‬و‬
‫ضلوا ضللً بعيدا (‪. )17‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فهذا موقف الباضية في هذا المقام ‪ ،‬و قد تأسّس على القواعد الصحيحة من الكتاب و السنة كما عرفت ‪ ،‬فمن‬
‫أراد الحق فليكن معهم ‪ ،‬و من أراد غيره ‪ ،‬فأمره إليه ‪ ،‬و كلنا كما قيل‪:‬‬

‫(‪)18‬‬
‫=======================================‬

‫(‪ )1‬المام سعيد بن عبدال بن محمد بن محبوب الرحيلي (ت ‪ 328‬هـ ) أحد أئمة الباضية في عمان ‪ ،‬بويع على أثر فتن كثيرة في عمان ‪ ،‬و استقر له‬
‫المر حوالي سنة ‪320‬هـ ‪،‬و كان فقيها عالما بالدين ‪ ،‬حسنت سيرته و اطمأن الناس في أيامة و استشهد في أحدى الوقائع ‪ .‬تحفة العيان ( ‪) 275 /1‬‬
‫و الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان ص ‪. 61‬‬
‫(‪ )2‬ال ّرزّةُ ‪ :‬الحديدة التي يدخل فيها القفل ( مختار الصحاح ‪ )101 /‬مادة (ر ز ز ) ‪.‬‬
‫(‪ )3‬يوسف بن وجيه ( ت قبل ‪345‬هـ ) شهر بصاحب عمان ‪ ،‬توجه إلى عمان سنة ‪331‬هـ ‪ ،‬و ملك البّلة ‪ ،‬و قارب أن يملك البصرة مرتين ‪ ،‬و لكنه‬
‫انهزم في كليهما ‪ :‬الولى سنة ‪331‬هـ ‪ ،‬و الثانية ‪341‬هـ ‪ ،‬ثار عليه غلمه نافع ‪،‬و ملك البلد بعده ‪ .‬الكامل في التاريخ [ طبعة صادر و دار بيروت ] (‬
‫‪. )565 ، 496 ، 417 ، 400 ،399 / 8‬‬
‫(‪ )4‬اصطلم ‪ :‬اقتلع ‪ ،‬لسان العرب ( ‪ )275 /8‬مادة ( ص ل م ) ‪.‬‬
‫(‪ )5‬تحفة العيان ( ‪. ) 276 / 1‬‬
‫(‪ )6‬آل عمران ‪. 97 :‬‬
‫(‪ )7‬النمل ‪. 40 :‬‬
‫(‪ )8‬اليات هي ‪:‬‬
‫ل َفُأوْلَـ ِئكَ هُمُ الْكَا ِفرُونَ " المائدة ‪44 :‬‬
‫" وَمَن لّمْ َيحْكُم بِمَا أَن َزلَ ا ّ‬
‫ل َفُأوْلَـ ِئكَ هُمُ الظّالِمُونَ " المائدة ‪45 :‬‬ ‫" وَمَن لّمْ َيحْكُم بِمَا أن َزلَ ا ّ‬
‫سقُونَ " المائدة ‪47 :‬‬
‫ل َفُأوْلَـ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ‬
‫" وَمَن لّمْ َيحْكُم بِمَا أَن َزلَ ا ّ‬
‫(‪ )9‬انظر الجامع الصحيح الجزء الثالث ص ‪ 290‬رقم ‪ 748‬حيث روي مرسل ‪ ،‬و أخرجه بمعناه أصحاب السنن ‪ ،‬فانظر حديث (( من أتى حائضا أو‬
‫امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد )) ‪ ،‬و قد سبق تخريجه ‪.‬‬
‫(‪ )10‬أخرجه أبو يعقوب الوارجلني في زيادات الجامع الصحيح مرسل ص ‪ 289‬رقم ‪. 744‬‬
‫(‪ )11‬البقرة ‪. 223 :‬‬
‫(‪ )12‬سبق تخريجه ‪ ،‬ص ‪. 58‬‬
‫(‪ )13‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )226 /9‬رقم ‪ 9098‬و ‪ 9099‬و ‪ 9100‬و ‪. 9101‬‬
‫(‪ )14‬أخرجه الربيع بن حبيب ( كتاب الحكام – ‪ 35‬باب الحكام ) رقم الحديث ‪ ، 591‬ص ‪. 234‬‬
‫(‪ )15‬أخرجه الربيع بن حبيب في ( كتاب الصلة ‪ -48‬باب جامع الصلة ) رقم ‪ 303‬ص ‪، 125‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب اليمان ‪ -35‬باب بيان‬
‫إطلق اسم الكفر على من ترك الصلة ) ( ‪ ) 88 /1‬رقم ‪ ، 134‬و أخرجه الترمذي في ( ‪ -41‬كتاب الصلة ‪ -9‬باب ما جاء في ترك الصلة ) ( ‪/ 5‬‬
‫‪ ) 13‬رقم ‪ 2618‬و ‪ ، 2619‬و أخرجه النسائي في ( ‪ -5‬كتاب الصلة ‪ -8‬باب الحكم في تارك الصلة ) ( ‪ )231 /1‬رقم ‪ ، 463‬و أخرجه أبو داود في‬
‫( ‪ -39‬كتاب السنة ‪ -14‬باب في رد الرجاء) رقم ‪ 4678‬ص ‪ ، 661‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -5‬كتاب القامة ‪ -77‬باب ما جاء فيمن ترك الصلة رقم‬
‫‪ 1080‬ص ‪، 151‬و أخرجه الدارمي في ( ‪ -2‬كتاب الصلة ‪ -29‬باب في تارك الصلة ) ( ‪ )197 /1‬رقم ‪ ،1233‬أخرجه أحمد بن حنبل في المسند رقم‬
‫‪. )472 / 16 ( 22833‬‬
‫(‪ )16‬ق ‪. 37 :‬‬
‫(‪ )17‬انظر السيف الحاد ص ‪50‬‬
‫(‪ )18‬قائل البيت أبو العتاهية من قصيدة مطلعها‪:‬‬
‫أما وال إنّ الظّلم لومُ و لكنّ المسيئ هو الظلومُ‬
‫(ديوان أبي العتاهية ‪. ) 353 /‬‬

‫[‪ ]42‬فما معنى إيهام الناس في المجلت و الجرائد أنّ الباضية يحكمون بالكفر على الناس ‪ ،‬و ي َنوّهون بذلك‬
‫بالتشريك المبيح للدم ‪ ،‬و المال ‪ ،‬و السبي للمسلم ‪ ،‬و نحو ذلك ؟؟‍‍‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و ما الدّاعي إلى هذا الفتراء الفاحش الذي يفيد قطع العلقة بين الباضية و سائر المسلمين حتى في النكاح و‬
‫الميراث و غير ذلك ؟؟ ‪ ،‬و لم يَقُلْ به الباضية ‪ ،‬و ل حكموا به على أحد في السلم ‪ ،‬و من يقول عنهم ذلك‬
‫خارج عليهم ‪ ،‬جارم في مقاله ‪ ،‬آثم إثماً كبيراً ‪ ،‬يهلك به عند ال عز و جل ‪.‬‬

‫فإنّ الباضية يأملون لهل المعاصي الرجوع إلى ال بالتوبة ‪ ،‬و التّ َنصُل من الذنوب ‪ ،‬و بذلك يعفو ال عنهم و‬
‫يثيبهم ‪ ،‬فيكونون مع إخوانهم في الجنة بفضل ال تعالى و رحمته ‪ ،‬و قد علمت أنّ باب الجنة مفتوح للعصاة‬
‫بالتوبة ‪ ،‬ممنوح لمن طلبه من أهل الجرائم و الثام ‪.‬‬

‫و على كل حال فإنّ الباضية يقدمون الكتاب على السنة و غيرها ‪ ،‬إل إذا لم يجدوا ذلك فيه رجعوا إلى السنة‬
‫النبوية الصحيحة فحكموا بما تقتضيه ‪ ،‬فإذا لم يجدوا في السنة ذلك حكموا بما أجمع عليه المسلمون ‪ ،‬و إل‬
‫اجتهدوا حيث يتعذر وجود النص من الكل ‪ ،‬و ذلك غاية المستطاع ‪ ،‬و ال ولي التوفيق ‪.‬‬

‫في بيان معنى الباضية ‪.‬‬

‫[ قال الناظم ‪] :‬‬

‫[ الشرح ]‬

‫اعلم أنّ اسم الباضية أو الباضيين عند أهل المذهب ‪ ،‬علمٌ على هذا السواد العظم ‪ ،‬و الجيل الكرم المتشرع‬
‫بالشريعة السلمية ‪ ،‬الثابت على القواعد الدينية ‪ ،‬القائم بالواجبات اللهية ‪ ،‬الحافظ [‪ ]43‬للحقوق الشرعية ‪،‬‬
‫عدّة أفاق من دنيا المسلمين ‪ ،‬المنتشر في العراق العربي قديماً ‪ ،‬الراسخ القدام بعمان شعباً عظيماً ‪،‬‬
‫المالئ ِ‬
‫القاطن من المغرب صقعاً كريماً ‪ ،‬الناشر أعلمه بحضرموت حتى نهاية القرن السابع للهجرة إماماً ‪ ،‬و أميراً ‪ ،‬و‬
‫زعيماً ‪ ،‬الذي له بعمان خمسة و ثمانون َملِكاً و إماماً ‪ ،‬و له في المغرب ‪ ،‬و صنعاء اليمن ‪ ،‬و حضرموت قريباً‬
‫من ذلك ‪.‬‬

‫فاسم الباضية عََلمٌ على هذه المم في هذه الصقاع ‪ ،‬يعلمه كل أحد من المسلمين و غيرهم ‪ ،‬و هذه التسمية‬
‫جاءتنا من مخالفينا ‪ ،‬فَ َقبِلْناَها غير مُتَ َب ّرمِين منها‪.‬‬

‫سمّانا مُخَالِفُونا بهذا السم‬


‫و ِإنْ كنّا ل نتمذهب َم ْذهَباً غير الحقّ ‪ ،‬لكن لما قضى ال ُعرْفُ بتخصيص كل أمة باسم ‪َ ،‬‬
‫كما ‪ ،‬ذكرنا ذلك في كتابنا ‪ " :‬أصدق المناهج في تمييز الباضية من الخوارج " (‪. )1‬‬

‫و ذلك حين عَِلمَ ِمنّا مخالفونا تأييد عبدال بن إباض في أقواله للملوك المويين‪ ،‬وقد شُ ِهرَنا بذلك منذ أمير‬
‫المؤمنين عمر بن عبد العزيز ‪ -‬رحمه ال ‪ ، -‬و قضية وفدنا إليه معلومة ‪ ،‬و ما قالوه من القوال مفهومة لدى‬
‫سمّونهم أمير المؤمنين ‪ ،‬أضافونا إليه‬ ‫أهل التاريخ ‪ ،‬و لمّا رأوا منا موافقة عبدال بن إباض في إنكاره على َمنْ ُي َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫‪ ،‬و أطلقوا علينا اسم " الباضية " نسبة لبيه إباض ؛ لنّ عبدال كان على َوتِ ْيرَة أبيه ‪ ،‬و كان أبوه أشهر منه‬
‫فلذلك سموا هذه المة بذلك ‪.‬‬

‫فتراهم إذا ذكروا الحوادث المذهبية ‪ ،‬و جاء منها على منهج هذا الفريق قالوا ذلك للباضية ‪ ،‬أو هو قول‬
‫الباضية ‪ ،‬أو قال بذلك الباضية ‪ ،‬فشاعت تلك التسمية شيوع هذه المة ‪.‬‬

‫و هذا أمرٌ شائع عند العرب ‪َ ،‬منْ رأوه يؤيّد قوماً ‪ ،‬أو نهج منهج قومٍ ‪ ،‬أضافوه إليه [‪ ]44‬خيراً كان أو شراً ‪،‬‬
‫مدحاً كان أو قدحاً ‪ ،‬و هكذا فشاع ذلك في العالم السلمي ‪ ،‬فكانت الباضية جمال الدين في العالم ‪ ،‬و زينة‬
‫السلم بين العوالم ‪ ،‬إذ أقامت الباضية الئمة لنصرة الدين ‪ ،‬و حماية الشريعة ‪ ،‬و صيانة الملّة ‪ ،‬في هذه‬
‫ال ّرقْعَة الوسيعة ‪.‬‬

‫شمَاخِي (‪ – )2‬رحمه ال – " في القول‬‫و كان ابن إباض – رحمه ال – في جبهة الطليعة الحرة ‪ ،‬قال الشيخ ال ّ‬
‫المتين في الرد على المخالفين " ‪ " :‬و أمّا تسمية مذهبنا بالباضية فلكون عبدال بن إباض – رضي ال عنه –‬
‫كان المجاهد علناً ‪ ،‬المناضل في سبيل تحقيق الحقائق ‪ ،‬و تصحيح قضايا العقول في ما أحدثه أهل المقالت ‪،‬و‬
‫البدع من الزور ‪ ،‬و الفتراء في شريعة ربنا ‪ ،‬و كان شديداً في ال تعالى ‪ ،‬و له مناظرات مع أهل التّنطس (‪)3‬‬
‫و التفلسف ‪ ،‬كانت الحجة الدامغة التي يَخْ َنسُ (‪ )4‬أمامها كل َثرْثَار ‪ ".‬قال ‪ " :‬وله كلم مع عبد الملك بن مروان‬
‫يَ ْهضِمُ نفس كل جائر جَبّار ‪ ،‬فغلب على المسلمين أصحابهِ الذين يقولون بقوله الباضية " ‪ ،‬قال ‪ " :‬و تسمى‬
‫المذهب باسمه على هذا المعنى ‪)5( ".‬‬

‫و قوله ‪ " :‬لحلفاء الحق " بالحاء المهملة جمع حليف ‪ ،‬بمعنى مُحَالف للحقّ ‪ ،‬و المراد به الملزم له كملزمة‬
‫خلَفَاء الحق جمع خليفة ‪ ،‬و المراد به أئمّة المسلمين ‪،‬‬
‫الحليف الحليفة أي محالفة ‪ ،‬أو هو بالخاء المعجمة ‪ ،‬و ُ‬
‫فهم الذين يصدق عليهم اسم خلفاء الحق ‪ ،‬لثباتهم عليه ‪ ،‬فالخلفاء بمعنى الئمة ‪ ،‬سواء كانوا المسمّين بالمامة‬
‫العظمى ‪ ،‬أو هو أعم من ذلك ‪ ،‬و هو المراد به على الشاهر الصحيح ‪ ،‬ل كل من يشمله اسم الباضية ‪ ،‬فإنّ في‬
‫الباضية كغيرهم من المم ظلمة ‪ ،‬و جبابرة ‪ ،‬ونحوهم ‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬هذا الكتاب من مطبوعات وزارة التراث و الثقافة بسلطنة عمان ‪ ،‬بتحقيق سيدة إسماعيل كاشف سنة ‪ 1979‬م ‪.‬‬
‫(‪ )2‬قاسم بن سعيد بن قاسم الشماخي العامري ( ت ‪1334 :‬هـ ‪1916 /‬م ) كان من أبرز من أنجبتهم يفرن بجبل نفوسة ‪ ،‬نزل بمصر ‪ ،‬و أنشأ مجلة‬
‫النبراس ‪ ،‬و له عدة مؤلفات منها الحكمة في شرح رأس الحكمة ‪ ،‬و سرد الحجة على أهل الفصلة ‪،‬و غيرها ‪ .‬معجم أعلم الباضية ( ‪. ) 721 /4‬‬
‫(‪ )3‬التنطس ‪ :‬المبالغة في التطهر ‪ ،‬و كل من أدق النظر في المور و استقصى علمها فهو متنطس ‪ ( .‬مختار الصحاح ‪ ) 277 /‬مادة ( ن ط س ) ‪.‬‬
‫(‪ )4‬خنس تأخر ‪،‬و أخنسه غيره أي خلفه و مضى عنه ( مختار الصحاح ‪ ) 80 /‬مادة( خنس ) ‪.‬‬
‫(‪ )5‬القول المتين ص ‪. 103‬‬

‫قال في "ضحى السلم "(‪ )1‬في الجزء الثالث صفحة ‪ 336‬بعد أنْ ذكر الخوارج‪ ،‬وكان يعد الباضية منهم تبع ًا‬
‫لغيره [‪ ]45‬قال ‪ " :‬من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج َم ْذهَبٌ مفلسف ‪ ،‬و ل فقه واسع منظم ‪ ،‬و ل نحو ذلك ‪،‬‬
‫إل ما كان من الباضية أتباع عبدال بن إباض الخارجيّ الذي مات في عهد عبد الملك بن مروان " ‪ ،‬قلت ‪ :‬و‬
‫صفه بذلك تَنْفِيراً للناس من الحقّ‪ ،‬و لكنّه رغم أعدائه شاهر ظاهر ‪ ،‬قال ‪ " :‬فإنّ هذه الفرقة عاشت ‪ ،‬و انتشرت‬
‫في شمالي إفريقية ‪،‬و في عمان ‪ ،‬و حضرموت‪ ،‬و زنجبار ‪ ،‬و استمرت إلى يومنا هذا ‪ ،‬فكان من الطبيعي أن‬
‫يكون لهم أصول اعتقادية ‪ ،‬و تعاليم فقهية "(‪. )2‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و كذلك جاء في" الملل و النحل " للشهرستاني(‪ )3‬قال ‪ " :‬الباضية أتباع عبدال بن إباض ‪ ،‬الذي خرج أيام‬
‫مروان بن محمد ‪ ،‬ف َوجّه إليه عبدال بن عطية ‪ ،‬فقاتله بَ ِتبَالَه(‪ ، )4‬و قيل إنّ عبدال بن يحيى الباضي كان رفيقاً‬
‫له في جميع أحواله ‪ ،‬و أقواله‪ ،‬و قال إنّ المخالفين من أهل القبلة كُفّار غير مشركين ‪ ،‬و مناكحتهم جائزة ‪ ،‬و‬
‫موارثتهم حلل ‪ ،‬و غنيمة أموالهم من السلح و ال ُكرَاع عند الحرب حلل "(‪. )5‬‬

‫قلت ‪ :‬لم يقل بذلك فيما علمنا أحد من الباضية ‪ ،‬فهو تلفيق ‪ ،‬و خطأ ‪ ،‬يراد منه معنى سيئاً في الباضية قال ‪":‬‬
‫و ما سِوَاهُ حرام ‪ ،‬و حرام سبيهم ‪ ،‬و قتلهم في السر غيلة ‪ ،‬إل بعد نصب القتال ‪ ،‬و إقامة الحجة " قلت ‪ :‬و هذا‬
‫هو الحق الذي جاء به الكتاب العزيز ‪ ،‬و السنة النبوية على صاحبها أكمل الصلة ‪ ،‬و أوفى السلم ‪.‬‬

‫أمّا غنيمة أموال أهل القبلة فحرام في الحرب و السلم ‪ ،‬و إنما أجاز بعض المسلمين الستعانة بها في حربهم‬
‫نظراً منه فقط ‪ ،‬و بعد الحرب إذا خيف منهم التقوي بها إذا ُردّتْ إليهم ‪ ،‬أجازوا إتلفها حتى ل يتقووا بها ‪ ،‬كما‬
‫حرْقَ مزارعهم ؛ حتى ل تكون قوة لهم على بغيهم ‪،‬‬ ‫طعَ نخيلهم ‪ ،‬و َ‬‫سرَ قلعهم ‪ ،‬و قَ ْ‬
‫أجازوا َهدْمَ حصونهم ‪ ،‬و َك ْ‬
‫خفِيّ ‪ ،‬و أصوله من الكتاب واضحة (‪ ، )6‬و كيف يخص الباضية بالستحلل السلح ‪ ،‬و‬ ‫و ذلك أمر غير مَ ْ‬
‫الكراع – حاشا [‪ ]46‬الباضية ‪. -‬‬

‫قال صاحب "الملل و النحل " ‪" :‬و قالوا – أي الباضية – دار مخالفيهم من أهل السلم دار توحيد" ‪ ،‬قال ‪ ":‬و‬
‫أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم "(‪. )7‬‬

‫قلت ‪ :‬ذلك احترام للسلم على العموم ‪ ،‬ف ِإنّ رسول ال – صلى ال عليه و سلم – كان يقبل الشهادة ممن قال ل‬
‫إله إل ال ‪ ،‬محمد رسول ال ‪ ،‬و أقام الصلة‪ ،‬و آتى الزكاة ‪ ،‬و استقبل القبلة ‪ ،‬و أقام شعائر الحج ‪ ،‬قلت ‪ :‬و‬
‫هذا شأن الباضية مع أهل التوحيد ‪.‬‬

‫و قال ‪ " :‬أيضا قالوا – أي الباضية – في مرتكبي الكبائر موحدون ل مؤمنون"(‪ ، )8‬قلت ‪ :‬ذلك لنّ المؤمن ل‬
‫يرتكب الكبائر ‪ ،‬و ل يَقْ َت ِرفُ سيئات الذّنوب ‪ ،‬لحديث ‪ " :‬لَ َيزْنِي الزّانِي حِينَ َيزْنِي و هُوَ مُؤ ِمنٌ ‪ )9( "...‬الحديث‬
‫عرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُ ْؤ ِمنُوا وََلكِن قُولُوا َأسْ َلمْنَا وَ َلمّا‬
‫‪ ،‬فنفى عنه اليمان ‪ ،‬و يدل عليه قوله – عز و جل – " قَاَلتِ ا َلْ ْ‬
‫َيدْخُلِ الِْيمَانُ فِي ُقلُوبِ ُكمْ "(‪ )10‬فظهر الفرق بين المؤمن و المسلم ‪ ،‬كما عمل بذلك الباضية فكل مؤمن مسلم ‪،‬‬
‫و ما كل مسلم مؤمن‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬هو أحمد أمين بن الشيخ إبراهيم الطباخ ( ‪ 1295‬هـ ‪ 1373 -‬هـ ‪1878 /‬م – ‪1954‬م ) عالم بالدب ‪ ،‬غزير الطلع على التاريخ ‪ ،‬من كبار‬
‫الكتاب ‪ ،‬مولده و وفاته بالقاهرة ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها ضحى السلم و فجر السلم و ظهر السلم و النقد الدبي و غيرها ‪ .‬العلم ( ‪. ) 101 / 1‬‬
‫(‪ )2‬ضحى السلم ( ‪. ) 336 /3‬‬
‫(‪ )3‬محمد بن عبد الكريم بن أحمد ( ‪479‬هـ ‪548 -‬هـ ) أبو الفتح الشهرستاني ‪ ،‬من فلسفة السلم ‪،‬كان إماما في علم الكلم و أديان المم و مذاهب‬
‫الفلسفة ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها ‪ :‬الملل و النحل و نهاية القدام في علم الكلم و مصارعات الفلسفة و غيرها ‪ .‬العلم ( ‪. ) 336 / 3‬‬
‫(‪ )4‬تبالة ‪ :‬بلدة بأرض تهامة في الطريق إلى صنعاء ‪ .‬معجم البلدان ( ‪. ) 428 / 1‬‬
‫(‪ )5‬الملل و النحل ص ‪. 134‬‬
‫(‪ )6‬صاحب هذا الرأي هو الشيخ العلمة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي ‪ ،‬حيث أجاز إتلف أموال البغاة من أهل القبلة ‪ ،‬و لكن اعترض عليه الشيخ‬
‫جمعة بن خصيف ‪ ،‬قائل له ‪ " :‬من أين ينساغ إتلف أموال المحاربين من أهل القبلة ‪ ،‬و هدم حصونهم ‪،‬و في الجماع أن غنيمة أموالهم حرام ‪،‬و في‬
‫النظر أن تخريبها ‪ ،‬أو تملكها عليهم سيان في إخراجها من ملكهم‪ ،‬فينبغي تسوية الحكم فيها في الوجهين ‪ ،‬إن جاز هذا جاز ذاك‪ ،‬و= = إن منع ذا منع‬
‫ذاك ‪ ،‬و قد تساوى هذا الحكم في أموال المشركين ‪ ،‬فإن كان مستند الباحة في تخريب أموال أهل الحرب من بغاة أهل القبلة ‪ ،‬فعل النبي صلى ال عليه‬
‫و سلم بنخل يهود بني النضير ‪ ،‬فإن أولئك مشركين حلل غنيمة أموالهم ‪ ،‬فما بال أموال أهل القبلة ‪ ،‬لم تحل غنيمتها ‪ ،‬و قد حل تخريبها ‪ ،‬اكشف لنا‬
‫في ذلك من وجه افتراق الحكم لزلت كشافا للمعضلت ؟ ‪.‬‬
‫فأجاب الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي – رحمه ال – و هذا نص جوابه ‪ " :‬و أين فهمك يا إنسان ‪ ،‬و من أين يصح في النظر أن تخريبها و غنيمتها‬
‫سيان ‪ ،‬و هما أصلن مختلفان أبدا ل يجتمعان ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ " :‬فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال " ‪ ،‬و أجمعت المة المحقة من الصحابة و‬
‫من بعدهم على أن البغاة تعقر خيلهم و ركابهم ‪،‬و تقطع أسلحتهم ‪،‬و بكسّر ‪،‬و تؤخذ عنهم ‪ ،‬فهذا إتلف للمال ‪.‬‬
‫و ل تقل إن ال تعالى إنما أمر بقتالهم في أجسادهم خاصة ‪،‬و ما هذا – لو قيل به – إل نوع برسام ‪ ،‬و إذا عرفت ذلك فقد ظهر أن إتلف مال يستعين به‬
‫البغاة على الحرب جائز ‪،‬و ليس هو من باب الغنيمة ‪ ،‬و ل يشبهه ‪،‬و بذلك تعرف أن البغاة إذا التجأوا بالحصون و لم يفيئوا إلى أمر ال ‪ ،‬أن هدمها‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عليهم جائز ؛ لنه مثل خيلهم و ركابهم ‪ ،‬فيجوز حربهم بالمدافع و المجانيق ‪،‬و تخريبها عليهم ‪،‬و ل يجوز ترك حربهم قبل أن يفيئوا إلى أمر ال ‪.‬‬
‫و هذا ليس من باب الغنيمة ‪،‬و إنما هو من سطوات ال تعالى فيمن ينتقم منه ‪ ،‬من المحاربين ل و لرسوله و الدعاة إلى دينه ‪ ،‬و ليس هذا مشكل إن‬
‫أردت البحث ‪،‬و إنما المشكل حربهم و الهدم عليهم و قطع المواد عليهم ‪،‬و فيهم من يحتمل كونه من النساء و الصبيان و المجانين و المستضعفين في‬
‫الرض ‪ ،‬ل يستطيعون حيلة و ل يهتدون سبيل ‪،‬و لم يروا ذلك مانعا من جواز الحرب لهم ‪،‬و لول لطف ال و عنايته بالمؤمنين ‪ ،‬لوقع مثله بمكة من‬
‫النبي صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ " :‬و لول رجال مؤمنون و نساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير " و قال تعالى ‪:‬‬
‫" ليدخل ال في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " ‪.‬‬
‫فانظر كيف أخرهم لطفا منه ‪ ،‬و إشفاقا على عباده ‪ ،‬و لم يمنعهم من دخولها و حربها ‪ ،‬و في الظاهر عدم الجواز ‪ ،‬لكن علم ال المصلحة ‪ ،‬فدبر ذلك‬
‫كما يشاء ‪،‬و إن كره المؤمنون ذلك ‪،‬و أحبوا غيره ‪،‬من فتح مكة في الوقت ‪= .‬‬
‫= و إذا عرفت جواز هدم حصونهم ‪،‬و عقر خيلهم و ركابهم ‪،‬و إتلف شوكتهم ‪،‬و هي من أعز أموالهم و أشرفها ‪،‬و قد عرفت أن مادة هذه المور ‪،‬و‬
‫قوة هؤلء المقاتلة بأموال أخرى ‪ ،‬من عقارات و ضياع أو حيوان أو نقود فيها تقويم جيوشهم ‪،‬و شدة شوكتهم ‪،‬و اجتماع الناس إليهم و إعانتهم على‬
‫حرب ربهم ‪ ،‬فأي فرق بينهم و بين حصونهم و خيلهم و أسلحتهم ‪ ،‬أليس الجامع الكلي هو أن كل ما تقووا به على الحرب ‪،‬و كان لهم وسيلة إلى‬
‫العناد ‪،‬و سببا للخلف و الشقاق ‪ ،‬أن إتلفه عليهم جائز ‪ ،‬إذ الحكم فيه على السواء ‪.‬‬
‫و بالجملة ‪ ....‬فقد ورد الثر بجواز ذلك ‪،‬و كفينا مؤونته فل إشكال ‪ ،‬و إنما بسطناه كذلك لكثرة تحكمكم علينا ‪ ،‬و هذا باب واسع ‪،‬و لم نرد الستقصاء‬
‫فيه ‪،‬و إنما الغرض إيضاح المسألة بما يزيل الشكال عليك " راجع التمهيد ( ‪. ) 238 -237 / 13‬‬
‫و قد أوردت جواب الشيخ مع اعتراضه لكشف اللثام ‪،‬و تحقيق المقام ‪ ،‬وال يؤتي فضله من يشاء ‪ ،‬وال الموفق ‪.‬‬
‫(‪ )7‬الملل و النحل ص ‪. 134‬‬
‫(‪ )8‬المصدر السابق ص ‪. 134‬‬
‫(‪ )9‬سبق تخريجه ‪.‬‬
‫(‪ )10‬الحجرات ‪.14 :‬‬

‫عرَاض ‪ ،‬و هي قبل الفعل بها يحصل الفعل " ‪ ،‬قال‬ ‫عرَضٌ من ال ْ‬
‫قال ‪ ":‬و حكى الكّعْبِي(‪ )1‬عنهم أنّ الستطاعة َ‬
‫خلَقَكُمْ َومَا َت ْعمَلُونَ "(‪ )2‬أي و عملكم في‬ ‫‪ " :‬و أفعال العباد مخلوقة ل تعالى" ‪ ،‬قلت ‪ :‬نعم ؛ لنّ ال يقول ‪َ " :‬‬
‫آيات ‪ ،‬و أحاديث تدل على ذلك‪ ،‬فهي على كل حال مخلوقة ل عز و جل إحداثاً و إبداعاً ‪.‬‬
‫سبَة للعبد "(‪ ، )3‬قلت ‪ :‬نعم ؛ لنّ ال يقول في كتابه العزيز قال ‪ " :‬لَهَا مَا َكسَبَتْ َوعَلَيْهَا مَا ا ْك َتسَبَتْ"(‬
‫" و مُكْ َت َ‬
‫‪ .. )4‬الية في أمثالها ‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬و ل يسمون إمامهم أمير المؤمنين "(‪ ، )5‬قلت ‪ :‬هذا غلطٌ و غمزٌ ‪ ،‬بل يسمون إمامهم أمير المؤمنين ‪،‬‬
‫و إمام المسلمين ‪ ،‬و ل ُمشَاحّة في الصطلح على التسميات فإنها ألقاب ‪.‬‬

‫ولعلهم يحترمون بذلك َقدْرَ أمير المؤمنين ‪ ،‬فإنّه كان للخلفاء الرّاشدين‪ ،‬أو لعلهم تركوا ذلك لمّا سمعوا الناس‬
‫يقولون بأمير المؤمنين للفسقة ‪ ،‬و الظّلمة من الملوك العتاة ‪ ،‬و الجورة الطغاة [‪ ، ]47‬إلى ما حكى عنهم من‬
‫الخلل التي تدل على نزاهتهم ‪ ،‬و احترازهم من التسمي بما ل يليق بهم ‪ ،‬و لكل مقام مقال ‪.‬‬

‫قال القطب – رضي ال عنه – في َردّه على العقبي الجزائري ‪ " :‬الباضية أصحاب عبدال بن إباض المري " ‪،‬‬
‫قال ‪ " :‬نحن أهل الحق َتحْقِيقاً ل تَ ْقرِيباً فقط ‪ ،‬و لسنا نستكمل بغيرنا ‪ ،‬بل غيرنا يستكمل بنا ‪ ،‬و إنّ كلم الدرعي‬
‫‪ ،‬و ابن حازم ‪ ،‬و ابن خلدون ‪ ،‬و ابن حجر ‪ ،‬كلم خير فينا ‪ ،‬ل كلم سوء ‪ ،‬بل جرت عادة العلماء بأن يقولوا‬
‫فلن ‪ ،‬أو هذا الكلم ‪ ،‬أو هذا العتقاد ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪ ،‬أقرب إلى الحقّ ‪ ،‬أو أشبهه ‪ ،‬أو أمثل ‪ ،‬و يريدوا أنّه وافق‬
‫الحق "(‪.)6‬‬

‫و كان عبدال بن إباض بطلً باسلً صنديداً من صناديد العرب‪ ،‬مِ ْقدَاماً ل يهاب الجبابرة ‪ ،‬و ل يرهب الظّلمة ‪ ،‬و‬
‫شرّهم ‪ ،‬أو يعتقدون لهم من الطّاعة‬
‫ل يحابيهم خلف غيره من بقية العلماء الذين يحابون المفسدين ‪ ،‬و يتقون َ‬
‫ما ليس لهم ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫كان عبدال بن إباض ُمدَافِعاً عن الحقّ ‪ ،‬مناضلً لهل السوء ‪ ،‬مُعْ َترِضاً للباطل عن النتشار ‪ ،‬و الشاعة له في‬
‫صرُ في‬
‫بلد المسلمين ‪ ،‬محامياً عن أهل الحق ‪ ،‬مناصراً لهم ‪ ،‬سيفاً ماضياً ‪ ،‬ل ينثنى عن َردّ الباطل ‪ ،‬و ل يَ ْق ُ‬
‫مناصرة الحقّ حد استطاعته ‪.‬‬

‫كان مدافعاً عن المسلمين إذ كان جمهورهم في العراق إذ ذاك ‪ ،‬كجابر بن زيد‪ ،‬و الربيع بن حبيب ‪ ،‬و الخليل بن‬
‫أحمد ‪ ،‬و َمنْ هم من أضرابهم من أهل العلم ‪ ،‬كأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة(‪ ، )7‬و ضمام بن السائب(‪ ، )8‬و‬
‫كلهم أئمة علم‪ ،‬و حملة شريعة السلم ‪.‬‬

‫كان عبدال المذكور قامعاً لعداء الدين ‪ ،‬كان مؤمناً بال تقياً ‪ ،‬صَلْباً في الدّين ‪ ،‬براً نقياً ‪ ،‬صالحاً مصلحاً ‪ ،‬كان‬
‫علَيْنَا‬
‫جمْنَاكَ َومَا أَنتَ َ‬
‫طكَ َلرَ َ‬
‫ذا منعة في قومه ‪ ،‬و قوة من [‪ ]48‬عشيرته ‪ ،‬ذا بأس شديد في ال ‪ " :‬وَلَ ْولَ َرهْ ُ‬
‫جمُك خوفاً من رهطك ‪ ،‬و بذلك أنت لدينا عزيز ‪ ،‬و فينا قوي ‪.‬‬ ‫بِ َعزِيز " (‪ )9‬لكنّا ل َنرْ ُ‬

‫عزّ الحنف بن قيس (‪ ،)10‬و أكبره معاوية ‪ ،‬إذ كان إذا سلّ سيفه سَلّ‬ ‫و ل يخفى حال تميم في العراق ‪ ،‬و لذلك َ‬
‫معه مائة ألف سيف ‪ ،‬هذه حالة عبدال بن إباض القومية ‪ ،‬و تلك حالته الشخصية و القبلية ‪ ،‬و حالته الدينية‬
‫شهيرة بالستقامة بين رجال الملة ‪ ،‬و أعلم الدين ‪ ،‬بلغت به بحيث نال الزّعامة المذهبية ‪.‬‬

‫عهُم‪ ،‬و ركن إليهم أشياعهم ‪ ،‬وجعلوهم‬


‫هذا ولم يكن من العلماء الذين لهم مذاهب خاصة ‪ ،‬قَّلدَهم فيها أتبا ُ‬
‫مقدمين على غيرهم من علماء الصحابة و التابعين‪.‬‬

‫و قد شهد لعبدال بن إباض كثير من رجال العلم ‪ ،‬و زعماء السلم بالحق ‪ ،‬و كان في أيام عبدالملك بن مروان‬
‫‪.‬‬

‫قال في " فجر السلم " في الجزء الول صفحة ‪ ": 260‬الباضية نسبة إلى رئيسهم عبدال بن إباض‬
‫التميمي ‪ ،‬و ل َيزَال أتباعه في المغرب ‪ ،‬و غيره إلى اليوم " ‪ ،‬قال ‪ " :‬و هم لم ُيغَالُوا في الحكم " (‪ ، )11‬أي ل‬
‫غلو لديهم و ل في دينهم ‪ ،‬فإنّ ال ُمنْبَتّ ل أرضاً قطع و ل ظهراً أبقى ‪ ،‬إلى أن قال ‪ " :‬و قد ظهر عبدال ابن‬
‫إباض في النصف الثاني من القرن الول للهجرة " ‪ ،‬قال ‪ " :‬و عاش أتباعه في أكثر أحولهم مسالمين للخليفة‬
‫"(‪ ، )12‬أي لم يشقوا عصى الطّاعة ما لم يكن لهم سلطان قوي على أهل الباطل ‪ ،‬و ل تلعب لديهم بالهواء ‪،‬‬
‫صدٌ خَا ِلصٌ ل ‪ ،‬و ل يميلون نحو كلّ ناعق ‪.‬‬‫و ل ُيحَ َكّمُون العواطف المختصة ‪ ،‬ما لم يكن لهم َق ْ‬

‫طةٌ [‪ ]49‬عاليةً ‪ ،‬و دولةٌ‬ ‫و كان عبدالملك ظهر في أول النصف الثاني من القرن الول ‪ ،‬و كان مَلِكاً كبيراً ‪ ،‬له سُل َ‬
‫خشَ عبدال بن‬ ‫ع ْثرَةٍ لكثير من أغراض عبدالملك المذكور ‪ ،‬و لم َي ْ‬ ‫جرَ َ‬
‫قاهرةٌ ‪ ،‬فكان مع ذلك عبدال بن إباض حَ َ‬
‫إباض صولة عبدالملك بن مروان ‪ ،‬و هو السلطان ال ُمسَلّطُ‪ ،‬و الملك القاهر ‪ ،‬إذ كان كل مقاصد عبدال بن إباض‬
‫ل ‪ ،‬و في ال ‪ ،‬فكانت له بذلك شُ ْه َرةٌ ‪ ،‬أضفت عليه ِلبَاسَ زعامة دينية ‪َ ،‬تبِ َعهُ عليها أهل الحقّ فأضيفوا إليه ‪ ،‬و‬
‫ع ِرفُوا به ‪ ،‬فكان سورهم المنيع من جانب السلطان ‪ ،‬و ردءهم المكين ‪ ،‬و رئيس القوم لزعامته القبلية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫=====================================‬
‫(‪ )1‬عبدال بن أحمد بن محمود الكعبي ( ‪173‬هـ ‪319 -‬هـ ) من بني كعب ‪ ،‬أبو القاسم ‪ ،‬أحد أئمة المعتزلة ‪ ،‬كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية ‪ ،‬له‬
‫آراء و مقالت في الكلم انفرد بها ‪،‬و له عدة كتب منها تأييد مقالة أبي الهذيل ‪ ،‬و مقالت السلميين و غيرها ‪ .‬العلم ( ‪. )66 /4‬‬
‫(‪ )2‬الصافات ‪. 96 :‬‬
‫(‪ )3‬الملل و النحل ص ‪. 134‬‬
‫(‪ )4‬البقرة ‪. 286 :‬‬
‫(‪ )5‬المصدر السابق ص ‪. 134‬‬
‫(‪ )6‬إن لم تعرف الباضية يا عقبى يا جزائري ‪ ،‬ص ‪. 51‬‬
‫(‪ )7‬مسلم بن أبي كريمة التميمي ( ت ‪145‬هـ ) أبو عبيدة ‪ ،‬يعتبر المؤسس الثاني للباضية بعد جابر بن زيد ‪،‬و قد روى عن كثير من الصحابة ‪،‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عرفت الباضية في أثناء إمامته لول مرة في تاريخها نشأة دولها في المغرب و المشرق ‪ ،‬له عدة آثار علمية ‪ .‬معجم الباضية ( ‪. )4/873‬‬
‫(‪ )8‬ضمام بن السائب ( ‪100‬هـ ‪150 -‬هـ ) من أبرز أئمة الباضية الوائل ‪ ،‬من طبقة التابعين ‪ ،‬تتلمذ على إمام المذهب جابر بن زيد عاصر المام أبا‬
‫عبيدة مسلم بن أبي كريمة ‪ ،‬دونت رواياته عن جابر بن زيد في كتاب روايات ضمام بن السائب ‪ .‬معجم الباضية ( ‪. ) 492 /3‬‬
‫(‪ )9‬هود ‪. 91 :‬‬
‫(‪ )10‬الحنف بن قيس بن معاوية السعدي التميمي ( ‪ 3‬قبل الهجرة – ‪72‬هـ ) أبو بحر ‪ ،‬سيد تميم ‪ ،‬و أحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان‬
‫الفاتحين ‪ ،‬أدرك النبي و لم يره ‪ ،‬اعتزل يوم الجمل و شهد صفين مع علي ‪ ،‬و لما انتظم المر لمعاوية عاتبه فأغلظ له الحنف الجواب ‪ .‬العلم ( ‪/1‬‬
‫‪. ) 276‬‬
‫(‪ )11‬فجر السلم ص ‪. 260‬‬
‫(‪ )12‬المصدر السابق ص ‪. 261‬‬

‫ومن هنا تعلم أنّ هذه المة التي أصبحت مشمولة باسمه ‪ ،‬و معروفة بمذهبه ‪ ،‬لم تتلمذ له ‪ ،‬ولم تُ َقّل ْدهُ في شيء‬
‫في تعاليمه ؛ لنّ عندها الرجال تُعرف بالحقّ ‪ ،‬ل الحقّ بالرجال ‪.‬‬

‫ص ُدرُ عن أهل‬
‫فلم يكن عبدال بن إباض إمام مذهب خاص أخذ به أتباعه ‪ ،‬و قَّلدُوهُ فيه ‪ ،‬بل كان هو خاصة َي ْ‬
‫العلم منهم ‪ ،‬كجابر بن زيد ‪ ،‬و أبي عبيدة ‪ ،‬و إخوانهم ‪ ،‬فلم يكن هو من الشيوخ المؤسسين للمذاهب ‪.‬‬

‫و ل كانت هذه المة على كثرتها تُ َقِلدُ شيخاً خاصاً في أقواله و أفعاله‪ ،‬فتجعله المصدر لها ‪ ،‬و تعتمد عليه‬
‫كمرجعٍ خاصٍ لها ‪ ،‬و لو كانت كذلك لكان أبو الشعثاء العالم المجمع على علميته ‪ ،‬و ثقته ‪ ،‬و عدالته أحقّ بذلك‬
‫‪.‬‬

‫وقد شَ ِهدَ له كُلّ من عاصره من أهل الصّدر الول من هذه المة ‪ ،‬و ناهيك بشهادة ابن عباس – رضي ال عنهما‬
‫ح ّقهِ الكاذيب ؛ لترويج‬
‫– له كما تداول ذلك أهل العلم ‪ ،‬ما كان محتاجاً لن تُخَْلقُ له الحاديث ‪ ،‬أو تُخْ َتلَقُ في َ‬
‫علميته ‪ ،‬أو تقوم سلطة قهرية تجبر الناس على أقواله ‪ ،‬و على الخذ عنه ‪.‬‬

‫ضدّ إخوانه ‪ ،‬فكم عاش و إياهم في السّجُون الجائرة القائمة بالتنكيل بهم [‬
‫ضدّه ‪ ،‬و ِ‬
‫بل لم َتزَلْ السّلطة القاهرة ِ‬
‫‪ ، ]50‬حتى عاشوا في مَغَارات الرض ‪ ،‬يضعون سلسلة على باب الغار ‪ ،‬الذي يدرسون فيه الثار النبوية ‪ ،‬فإذا‬
‫جاءهم أحد من الشرط ‪ ،‬أو الجواسيس تتحرك تلك السلسلة ‪ ،‬فيتركون ما هم فيه ‪ ،‬و يأخذون في عمل ال ِقفَاف ‪،‬‬
‫و إذا قيل لهم ‪ِ :‬لمَا وجودكم هنا ؟ ‪ ،‬أجابوا ‪ :‬كافين أنفسنا حتى ل نسمع ‪ ،‬أو نرى شيئاً ل يليق ‪.‬‬

‫ص ْدرِ السلم ‪ ،‬و المر جديد ‪ ،‬و العهد به قريب ‪ ،‬فالحمد ل الذي َمنّ علينا‬ ‫و هكذا كانوا رحمهم ال ‪ ،‬وهم في َ‬
‫بالسلمة من كل ذلك ‪ ،‬و له المِنّة كما هدانا للحق بإذنه " َومَا ُكنّا لِنَهْ َتدِيَ لَوْل َأنْ َهدَانَا الّ " (‪. )1‬‬
‫فنحن على هذا من أول العهد نعرف بالباضية معرفة تمييز ‪ ،‬و نحن أهل الستقامة ‪ ،‬و أهل الحق في السلم‬
‫تحقيقاً على قواعد الكتاب العزيز ‪.‬‬

‫و أكبر علمائنا في الصدر الول المام أبو الشعثاء – رحمه ال – الذي لم َيخْلُ منه مؤلفٌ من مؤلفات أهل العلم‬
‫القدماء ‪ ،‬كالبخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬و أبي داود ‪ ،‬و الترمذي ‪ ،‬و النسائي ‪ ،‬و غيرهم (‪. )2‬‬

‫جصّاصِ (‬ ‫وما من مؤلف لهؤلء إل و اسم جابر بن زيد يلمع فيه ‪ ،‬و كذلك أهل التفسير لكتاب ال عز و جل ‪ ،‬كال َ‬
‫‪ ، )3‬و غيرهم من قدماء المفسرين ‪ ،‬إل أننّا كما قلنا ل نتحيز ِل َم ْذهَبٍ خاصٍ ‪ ،‬ونترك ما سواه ‪ ،‬بل َم ْذهَبُنَا مذهب‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫رسول ال – صلى ال عليه و آله و سلم – ومذهب ابن عباس ‪ ،‬و أبي هريرة ‪ ،‬و أبي سعيد الخدري ‪ ،‬و عائشة‬
‫أم المؤمنين ‪ ،‬و عبدال بن عمر ابن الخطاب ‪ ،‬و عبدال بن عمرو بن العاص ‪ ،‬و مذهب الخلفاء الراشدين ‪.‬‬

‫فإنّ كان لهؤلء مذهب خاص فهو مذهبنا ‪ ،‬و إل فمذهبنا القرآن و السنة ‪ ،‬حللهما حللنا ‪ ،‬و حرامهما حرامنا ‪،‬‬
‫ل نَ ْبغِي بهما بديلً ‪ ،‬و ل ننهج عنهما سبيلً‪ ،‬و ل نُقَّلدُ غيرهما إذا لزم التقليد ‪ ،‬هما اللذان أوصانا نبينا – عليه‬
‫الصلة والسلم – باتباعهما على كل حال ‪]51[.‬‬

‫قال شيخنا ابن جميّل – رحمه ال – (‪ )4‬في ميميته ‪ ،‬و هو يصف أهل المذهب – رحمهم ال –‬
‫مَا قَّلدُوا ا ْبنَ إِبَاض دِينَهُم أَبداً َكمَا َت َم ّذهَب بالتّقليدِ َأقْوَامُ (‪)5‬‬

‫قال العلمة البرادي (‪ )6‬في جواهره ‪ " :‬الباضية إمامهم عبدال بن إباض ‪ ،‬و ُنسِبُوا إلى أبيه ؛ لنّه أعرف من‬
‫عبدال ‪ ،‬و أشهر منه ‪)7( ".‬‬

‫قال المام – رحمه ال – (‪ )8‬في حاشيته على العقبي ‪ " :‬و تسميتنا بالباضية للتمييز ل للتشريع ‪ ،‬و هو اسم‬
‫للمحقين من أمة محمد – صلى ال عليه و سلم – " (‪ )9‬أي أنّ اسم الباضية عََلمٌ على أهل الحقّ ‪ ،‬و مذهب‬
‫الباضية ل يزال عليه ‪ ،‬و الحمد ل بأدلة عقلية و نقلية ‪.‬‬

‫علِيّ يَحْيَى مَ َعمّر (‪ [ )10‬في ] "نشأة المذهب الباضي " ‪ " :‬إذا َأ َردْنَا أن نؤرخ للمذاهب السلمية‬
‫قال العلمة َ‬
‫بنسبتها للمسلمين المعلمين الوائل ‪ ،‬الذين كان لهم التأثير الروحيّ ‪ ،‬و الثقافي الكبر على الناس ‪ ،‬فإنّ المذهب‬
‫الباضي يكون من أولها نشوءاً ‪.‬‬

‫فقد كان ُمعَّل ُمهُ الكبر جابر بن زيد ‪ ،‬من كبار التابعين الذين نشروا الثقافة السلمية في القرن الول الهجري ‪،‬‬
‫وقد عاش هذا المام العظيم ما بين سنتي واحد و عشرين إلى ست و تسعين " (‪ ، )11‬و المعنى أنّه اصطحب‬
‫ذلك القرن من أوله حتى منتهاه ‪ ،‬فأّلفَ ‪ ،‬و علّمَ ‪ ،‬و ث ّقفَ ‪ ،‬و تكلّمَ ‪ ،‬و ق ّررَ الدعائم ‪ ،‬و وطئ الصول ‪ ،‬و م ّهدَ‬
‫ع َرفَها الناس ‪،‬‬
‫القواعد ‪ ،‬و جمع العلوم الدينية ‪ ،‬و الثقافية السلمية ‪ ،‬حتى قرّ َقرَارَها ‪ ،‬و تمهّدت أصولها ‪ ،‬و َ‬
‫فأخذوا منها بقبس هداها ‪ ،‬و استناروا بنور ضياها ‪.‬‬
‫===================================‬
‫(‪ )1‬العراف ‪. 43 :‬‬
‫(‪ )2‬انظر رواية الحديث عند الباضية ‪ ،‬لصالح بن أحمد البوسعيدي ‪ ،‬رسالة ماجستير ‪ ،‬ص ‪. 192 -183‬‬
‫(‪ )3‬أحمد بن علي الرازي ( ‪305‬هـ ‪370 -‬هـ ) أبو بكر الجصاص ‪ ،‬من أهل الري ‪ ،‬سكن بغداد و مات فيها ‪ ،‬انتهت إليه رئاسة الحنفية ‪ ،‬له عدة كتب‬
‫منها أحكام القرآن ‪ ،‬و أصول الفقه ‪ .‬العلم ( ‪. ) 171 /1‬‬
‫(‪ )4‬خلفان بن جميّل السيابي ( ‪ 1308‬هـ ‪ 1889 -‬م ‪1392 /‬هـ ‪1972 -‬م ) أبو يحيى ‪ ،‬من شيوخه نور الدين السالمي ‪ ،‬و أبو عبيدة حمد بن عبيد‬
‫السليمي ‪ ،‬كان من العلماء الذين لعبوا دورا قياديا في التاريخ العماني الحديث ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها سلك الدرر الحاوي غرر الثر ‪ ،‬و جلء العمى مع‬
‫شرحها ‪ ،‬و فصول الصول ‪،‬و غيرها ‪ .‬مقدمة فصل الخطاب ص ‪ 5‬و مقدمة جلء العمى ص هـ ‪ -‬ل ‪.‬‬
‫(‪ )5‬لم استطع عزوه إلى مصدره ‪.‬‬
‫(‪ )6‬أبو الفضل أبو القاسم بن إبراهيم البرادي ( حي في ‪810‬هـ ) و لد بجبل دمر في الجنوب التنوسي ‪،‬من شيوخه يعيش بن موسى الجربي ‪،‬و الشيخ‬
‫أبي ساكن عامر بن علي الشماخي ‪ ،‬أصبح شيخا و عالما فقيها ‪،‬له عدة مؤلفات منها البحث الصادق و الستكشاف عن حقائق أسرار معاني كتاب العدل‬
‫و النصاف ‪ ،‬و الجواهر المنتقاة في إتمام ما أخل به كتاب الطبقات ‪ ،‬و غيرها ‪ .‬معجم أعلم الباضية ( ‪. ) 708 / 4‬‬
‫(‪ )7‬الجواهر المنتقاة ص ‪. 156‬‬
‫(‪ )8‬عندما يطلق المؤلف لفظة المام دون تقييد فإنه يقصد المام السالمي ‪.‬‬
‫(‪ )9‬الرد على العقبي ص ‪ ، 14‬حاشية رقم ‪. 1‬‬
‫(‪ )10‬علي يحيى معمر ( ‪1337‬هـ ‪1919 /‬م – ‪1400‬هـ ‪ 1980 /‬م ) ولد بمدينة نالوت بليبيا من أساتذته عيسى بن يحيى الباروني و رمضان بن‬
‫يحيى اللينى الجربي و إبراهيم بيوض ‪ ،‬و له عدة مؤلفات منها الباضية بين الفرق السلمية و الباضية في موكب التاريخ و غيرها ‪ .‬معجم أعلم‬
‫الباضية ( ‪. ) 619 / 3‬‬
‫(‪ )11‬الباضية في موكب التاريخ ‪ ،‬الحلقة الولى ( ‪. ) 59 / 1‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و اعلم أنّ أغلب المشاكل التي اختلفت فيها المة ‪ ،‬نشأت في الثلثين الخيرين من القرن الول ‪ ،‬قال ‪ " :‬و قد‬
‫صرَ الشّ ْه َرسْتانيّ هذه[‪ ]52‬في أربعة أصول كبار ‪ ،‬كما يقول (‪ : )1‬هي الصفات اللهية ‪ ،‬و ثم ال َق َدرُ ‪ ،‬ثم ال َعدْلُ‬
‫ح َ‬
‫َ‬
‫‪ ،‬ثم الوعد و الوعيد ‪ ،‬ثم السمع ‪ ،‬و العقل ‪ ،‬و الرسالة ‪ ،‬و المانة ‪.‬‬

‫شرَحَ المسائل التي تندرج تحت قسم كل منها ‪ ،‬و الذي يعنينا من ذلك في هذا الفصل أن نشير إلى ما‬
‫قال ‪ " :‬ثم َ‬
‫أثير منها في القرن الول ‪ ،‬و اتخذ الباضية فيه مذهبهم مستندين إلى البراهين القاطعة ‪ ،‬و اليات المحكمات من‬
‫كتاب ال عز و جل ‪....‬‬

‫مما أثير في ذلك القرن مشاكل القدر ‪ ،‬و الصفات ‪ ،‬و الوعد و الوعيد ‪ ،‬كما أنّ قضية الخلفة قد استنفذت جهداً‬
‫كبيراً من رجال العلم ‪ ،‬و الحكم في ذلك العصر ‪.‬‬

‫و قد َد َرسَ الباضية ‪ ،‬و في مقدمتهم المام الكبر جابر بن زيد – رحمه ال – الزدي العماني ‪ ،‬هذه المشاكل‬
‫‪-‬كما ذكرت ‪ -‬و دَ َرسَها غيرهم من علماء السلم ‪ ،‬و انتهوا فيها إلى الرأي العام ‪ ،‬و المذهب الذي اقتنعوا‬
‫بصحته و صوابه ‪ ،‬مما يوافق كتاب ال ‪ ،‬و سنة نبيه صلى ال عليه و سلم ‪.‬‬

‫اتخذ الباضية الصل الول لمذهبهم فيما يتعلق برؤية الباري ‪ -‬سبحانه و تعالى – لتنـزيهه عز و جل عن‬
‫مشابهة الخلق ‪ ،‬استناداً إلى اليات المحكمات من كتاب ال ‪ ،‬و ما َو َردَ من القرآن الكريم في ذلك أي مما يُوهِمُ‬
‫التشبيه ‪ ،‬فإنّه يجب اليمان به أنه من عند ال ‪ ،‬و تأول اليات الموهمة للتشبيه بما يقتضيه المعنى من السياق ‪،‬‬
‫كتأويل الستواء بالستيلء ‪ ،‬و اليد بالقدرة ‪ ،‬و ما إلى ذلك ‪...‬‬

‫قال ‪" :‬و في قضية القدر رأى الباضية منذ ذلك الحين أن اليمان ل يَ ِتمّ حتى يُؤ ِمنَ النسان بالقدر خيره وشره‬
‫أنه من ال ‪ " :‬وَالُّ خََلقَكُمْ َومَا تَ ْع َملُونَ " (‪ " ، )2‬أَلَ َلهُ الْخَ ْلقُ وَا َل ْمرُ " (‪ " ]53[ )3‬هَلْ ِمنْ خَالِقٍ غَ ْيرُ الِّ‬
‫" (‪ " )4‬ال خالق كل شيء " ‪ ،‬و للعبد حَقّ الكتساب و الختيار ‪.‬‬

‫و هكذا استقر رأي الباضية في أكثر مسائل الخلف على الصول المستمدة من الكتاب و السنة " (‪. )5‬‬
‫فإنّ القرآن الكريم و السنة النبوية هم الصل المَكِين للعتقاديات مُطْلَقاً ‪ ،‬إل أنّ الحديث النبوي الشريف ل يمكن‬
‫التعويل عليه لما اعتراه من التغير ‪ ،‬و ما طرأ عليه من الوضع ‪ ،‬و َدسّ النّقْلِ ؛ لترويج ال ُم ّدعَيات إل ما شاء ال‬
‫‪.‬‬

‫أما القرآن فهو باقٍ ‪ ،‬خالدٌ خلود الجبال ‪ ،‬صحيح ل يمكن إدخال شيء عليه مما يخالفه ‪ ،‬نعم ما ثبت من السنة‬
‫سرُ ُمشْ ِكُلهُ ‪ ،‬و مُبْ َه ُمهُ‬
‫الصحيح ‪ ،‬و قامت الحجة على صحته ‪ ،‬فهو على كُلّ حال نصير القرآن و ظهيره ‪ ،‬و به يُ َف ّ‬
‫جمَُلهُ ‪.‬‬
‫‪ ،‬و مُ ْ‬
‫و قد وضع رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لذلك قاعدة مكينة ل تزال معروفه عند أهل العلم ‪ ،‬و هي‬
‫العرض للمروي عنه ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪-‬على نصوص الكتاب الكريم ‪ ،‬فما وافقه فهو عنه – صلى ال عليه‬
‫و سلم – ‪ ،‬و ما خالفه فليس عنه (‪. )6‬‬

‫و ما زال الصحابة ‪ -‬و هم حملة الشريعة الغرّاء ‪َ -‬يرْجِعُون إلى بعضهم بعضاً في طلب الحجة إذا َأشْكَلَت عليهم‬
‫المشاكل ‪ ،‬وما زال ذلك الحال بينهم ‪ ،‬و بقية من صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – على ذلك و هم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أحياء ‪...‬‬

‫" وقد رجع المام الكبر جابر بن زيد إلى الصحابة في كثير من هذه المسائل‪ ،‬رجع بها إلى آراء الصحابة ‪،‬‬
‫كعبدال بن عباس ‪ ،‬و عائشة أم المؤمنين ‪.‬‬

‫حمّداً َرأَى‬
‫كما وقع في مسألة رؤية الباري ليلة السراء حتى قالت عائشة – رضي ال عنها ‪َ " : -‬منْ َزعَمَ َأنّ ُم َ‬
‫علَى الِ ال ِفرْيَة" (‪. )7‬‬
‫عظَمَ َ‬
‫رَ ّبهُ فَقَد َأ ْ‬

‫قال ‪ " :‬ومن هذا الفصل يتبين للقارئ الكريم [‪ ]54‬أنّ المذهب الباضي اقتبس ُأصُوله القويمة ‪ ،‬التي بنى عليها‬
‫عقائده ‪ ،‬و أعماله في خير القرون ‪ ،‬حينما كانت بقية من الصحابة ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬ينشرون الثقافة‬
‫بعلمهم ‪ )8( ،‬أي قبل أن يكون للمذاهب الخرى وجود على هذا الكون ‪ .‬و قد عُلِمَ ذلك من التاريخ الصحيح الذي‬
‫يعترف به الكُلّ بل ريب ‪.‬‬

‫صرُون دين ال بإرشادهم‬


‫" فكان الباضية يُوضِحُون للنّاس بعلمهم هدى محمد – صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬و يَ ْن ُ‬
‫‪ ،‬وتوجههم ‪ ،‬ونصيحتهم ‪ ،‬و أنه حينما كانت تحدث المشاكل ‪ ،‬و تنجم البدع ‪ ،‬فيفكر فيها العلماء العلم ‪،‬كان‬
‫جابر بن زيد – رضي ال عنه – يدرسها دراسة المؤمن المحقق "‪.‬‬
‫================================‬
‫(‪ )1‬الملل و النحل ص ‪ ، 12‬المقدمة الثانية ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الصافات ‪. 96 :‬‬
‫(‪ )3‬العراف ‪. 54 :‬‬
‫(‪ )4‬فاطر ‪. 3 :‬‬
‫(‪ )5‬الباضية في موكب التاريخ ( ‪ ) 60-1/59‬الحلقة الولى ‪.‬‬
‫(‪ )6‬أخرج الربيع بن حبيب في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى ال عليه و سلم قال ‪ " :‬إنكم ستختلفون من بعدي‬
‫فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب ال فما وافقه فعني و ما خالفه فليس عني " أخرجه الربيع في ‪ -6‬باب في أمة محمد صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬رقم‬
‫‪ ، 40‬ص ‪. 36‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه الربيع بن حبيب في ‪ -10‬باب ذكر الشرك و الكفر ‪ ،‬رقم ‪ ، 61‬ص ‪ ، 43‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب اليمان ‪ -77‬باب معنى قوله تعالى‬
‫" و لقد رآه نزلة أخرى " ) ( ‪ )159 /1‬رقم ‪، 287‬و أخرجه الترمذي في ( ‪ -48‬كتاب تفسير القرآن ‪ -54‬باب و من سورة و النجم ) ( ‪) 395 /5‬‬
‫رقم ‪، 3228‬و أخرجه البخاري بمعناه في ( ‪ -59‬كتاب بدء الخلق ‪ -7‬باب إذا قال أحدكم آمين ) ( ‪. )311 / 2‬‬
‫(‪ )8‬الباضية في موكب التاريخ ( ‪. ) 61 – 60 / 1‬‬

‫و كان جابر بن زيد عالماً عظيماً بين أجلة العلماء ‪ ،‬فكان شيخه ابن عباس – رضي ال عنهما – ُيجِّلهُ ‪ ،‬و‬
‫يعرف له أشياء طال ما أحال إليه أمثالها ‪ ،‬و لول فضيلة الصحبة لكان جابر بن زيد في الجبهة العلمية أول من‬
‫يحمل ال َعلَمَ الفقهي بين ُنبَغَاء المة ‪ ،‬و لذلك روى عنه أكثر أهل المذاهب ‪ ،‬و وثقه جميعهم ‪ ،‬و اعتمدوا في‬
‫نقلهم على ثقته و أمانته ‪.‬‬

‫" فكان جابر إذا َأشْكَلَ عليه شيء من أمر الدّين ‪ ،‬رجع إلى أساتذته الجلء ‪ ،‬و أخصهم العبادلة الثلثة ‪ ،‬فبينوا‬
‫عرَبُوا له عن‬
‫له المنفذ ‪ ،‬و أوضحوا له الحقّ ‪ ،‬لسيما البحر ‪ ،‬و من قصد البحر استقل السواقي طبعاً ‪ ،‬و َأ ْ‬
‫مهمته من مصدرها الصحيح فل يبقى لديه رَ ْيبٌ أو شكٌ ‪.‬‬

‫فإذا تلقى أبو الشعثاء شيئاً عن أولئك العلم مما يتعلق بالحكام الشريعة ‪ ،‬و لم يظهر له فهم أسراره ‪ ،‬و روح‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ضهُ على ترجمان القرآن ابن عباس‪ ،‬أو على الحميراء أم المؤمنين التي قال فيها رسول ال – صلى‬ ‫ع َر َ‬
‫معانيه ‪َ ،‬‬
‫صفَ دِينَكُم " (‪ ، )1‬و إلّ جاء إلى أنس بن مالك خادم رسول[‪ ]55‬ال –‬
‫خذُوا عَ ْنهَا ِن ْ‬
‫ال عليه و سلم و آله – " ُ‬
‫صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬و عبدال بن عمر أو غيرهم – – ممن أُوتي الحكمة ‪ ،‬و َفصْلَ الخطاب ‪ ،‬و أجازه ‪-‬‬
‫صلى ال عليه و سلم ‪ -‬لرشاد المة و تعليمها ‪ ،‬و لم يخرج به إل و هو صحيح واضح نير" (‪. )2‬‬

‫قال ‪ " :‬و بعد استقرار آراء الباضية بأزمنة مختلفة تطول أو تقصر ‪ ،‬بدأت تتكون المذاهب الخرى ‪ ،‬و تنتشر‬
‫في بعض جهات العالم السلمي ‪ ،‬فتكونت المعتزلة ‪ ،‬ثم تكوّن غيرها من المذاهب التي يَعْ َتنِقُهَا أكثر المسلمين‬
‫اليوم ‪ ،‬و بهذا العتبار يكون المذهب الباضية أول المذاهب المعتدلة الصحيحة [ نشوءاً] ‪ ،‬و أول مذهب ثَ َبتَ‬
‫على الصول الثابتة ناشئاً ‪ ،‬و أقربها إلى عصر النبوة ‪ ،‬إذ أئمته كما عرفتهم كبار التابعين ‪ ،‬و أكبر العلماء‬
‫المُ َتضَلّعين بقواعد الشريعة ‪ ،‬و أسبق المذاهب مأخذاً إلى عصر النبوة كما عرفت ‪ ،‬و أقربها من رجال الصحابة‬
‫– رضوان ال عليهم – و ألصقها بخير القرون تأريخاً ‪ ،‬كما قال – صلى ال عليه و سلم – " خَ ْيرُ ال ُقرُونِ َقرْنِي‬
‫‪ ...‬الحديث " (‪ ، )3‬و أفهمها لروح السلم ‪ ،‬و أسرار التشريع ‪ ،‬و هدي محمد – عليه الصلة والسلم – و‬
‫أصحابة – – معنى" (‪. )4‬‬

‫قال ‪ " :‬عندما كان كبار العلماء من التابعين َيعْ ِقدُون مجالس العلم ‪ ،‬يفسرون كتاب ال ‪ ،‬و يروون للناس ما‬
‫حَ ِفظُوا عن رسول ال – صلى ال عليه و سلم – من قولٍ وعملٍ ‪ ،‬و يُفْتُون للناس فيما يَ ْع ِرضُ لهم من مشاكل ‪،‬‬
‫كانت قضية الخلفة قد أخذت حَظّها من النقاش ‪ ،‬و استقر فيها الناس على آراء معنية حسب أدلتهم التي يقتنعون‬
‫بها ‪ ،‬و أصولهم التي يستندون إليها ‪ ،‬و كان جابر بن زيد – رحمه ال – أحد هؤلء العلماء اتخذ البصرة مقراً‬
‫له ينشر فيها العلم ‪ ،‬و يوالي التدريس ‪ ،‬و التأليف ‪ ،‬و الفتاء[‪ ، ]56‬و يهتم بشؤون المسلمين " (‪. )5‬‬

‫قلت ‪ :‬و كانت البصرة مقر العلماء العلم من أهل عمان ‪ ،‬حتى كادت أن تكون البصرة إذ ذاك عمانية محضة ‪،‬‬
‫إذ ظهر فيها هذا العالم الجليل الذي أجمعت المة عليه عدالة ‪ ،‬و ثقة ‪ ،‬و نزاهة ‪ ،‬و كذلك الربيع بن حبيب بن‬
‫عمرو الزدي الفراهيدي (‪ )6‬ذلك العليم الكامل راوي المسند‪ ،‬و كذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي الزدي (‪ )7‬من‬
‫أهل َودَام من الباطنة من عمان ‪ ،‬و المراد بالباطنة الساحل الشمالي من عمان ‪.‬‬

‫ثم المُهَلّب بن أبي صُ ْفرَة أمير البصرة (‪ ، )8‬و منقذها من مخالب السباع ‪ ،‬ومخرجها من بين النياب ‪ ،‬كما‬
‫عرف ذلك التاريخ ‪ ،‬و صحار بن عباس العبدي (‪ )9‬من عبد القيس من عمان ‪ ،‬وهو على الشهير صحابي ‪،‬‬
‫مرضي علّمة ‪ ،‬تقي بصري عماني ‪ ،‬روى عن رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ثلثة أحاديث ‪ ،‬وهو من‬
‫شيوخ أبي عبيدة – رحمهما ال ورضي عنهما ‪ ، -‬و هو أول من ألّف في الدب ‪.‬‬

‫===================================‬
‫(‪ )1‬قال صاحب كشف الخفا و مزيل اللتباس بما اشتهر من الحاديث على ألسنة الناس ( ‪: ) 449 /1‬‬
‫‪ " -1198‬خذوا شطر دينكم عن الحميراء " قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث ابن الحاجب من إملئه ‪ :‬ل أعرف له إسناد ‪،‬و ل رأيته في شيء‬
‫من كتب الحديث إل في النهاية لبن الثير ذكره في مادة ح م ر ‪ ،‬و لم يذكر من خرجه ‪ ،‬و رأيته في الفردوس بغير لفظه ‪،‬و ذكره عن أنس بغير إسناد‬
‫بلفظ " خذوا دينكم من بيت الحميراء " ‪ ،‬و ذكر ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي و الذهبي عنه ‪ ،‬فلم يعرفاه ‪ ،‬و قال السيوطي في الدرر لم أقف‬
‫عليه ‪ ،‬و قال الحافظ عماد الدين في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب ‪ :‬هو حديث غريب جدا بل هو منكر ‪،‬سألت عنه شيخنا المزي فلم يعرفه ‪،‬و قال‬
‫لم أقف له على سند إلى الن ‪،‬و قال شيخنا الذهبي هو من الحاديث الواهية التي ل يعرف لها إسناد " اهـ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الباضية في موكب التاريخ ( ‪. ) 61 /1‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه الربيع بن حبيب بمعناه في ‪ -9‬باب في المة أمة محمد صلى ال عليه و سلم رقم ‪ ، 38‬ص ‪، 53‬و أخرجه البخاري في ( ‪ -52‬كتاب‬
‫الشهادات ‪ -9‬باب ل يشهد على شهادة جور إذا شهد ) ( ‪ )155 /2‬رقم ‪ ، 2651‬و أخرجه مسلم في ( ‪ -44‬كتاب فضائل الصحابة ‪ -52‬باب فضل‬
‫الصحابة ) ( ‪ )1962 /4‬رقم ‪ ، 2533‬و أخرجه الترمذي في (‪ -34‬كتاب الفتن ‪ -45‬باب ما جاء في القرن الثالث ) ( ‪ )500 /4‬رقم ‪، 2221‬و أخرجه‬
‫أبو داود في ( ‪ -39‬كتاب السنة ‪ -27‬باب في فضل أصحاب النبي صلى ال عليه و سلم ) ص ‪ 658‬رقم ‪ ، 4657‬و أخرجه ابن ماجه في ( ‪ -13‬كتاب‬
‫الحكام ‪ -27‬باب كراهية الشهادة عمن لم يستشهد ) ص ‪ 338‬رقم ‪ ، 2362‬و أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ‪ ) 503 /3 ( 3594‬ورقم ‪4130‬‬
‫( ‪. ) 153 /4‬‬
‫(‪ )4‬الباضية في موكب التاريخ ( ‪. )61 / 1‬‬
‫(‪ )5‬المصدر السابق ( ‪. ) 63 /1‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )6‬الربيع بن حبيب بن عمرو الفراهيدي ( ‪ 80 -75‬هـ ‪ 180 – 175 /‬هـ ) عالم بالحديث ‪ ،‬من شيوخه جابر بن زيد و أبي عبيدة مسلم بن أبي‬
‫كريمة ‪ ،‬يعتبر القائد الثالث عند الباضية ‪ ،‬له كتاب المسند في الحديث ‪ ،‬و يعتبر أصح كتاب بعد القرآن ‪ ،‬انظر المام الربيع بن حبيب و مكانته و مسنده‬
‫للشيخ سعيد بن مبروك القنوبي ‪.‬‬
‫(‪ )7‬الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي الزدي اليحمدي ( ‪100‬هـ ‪ 170 -‬هـ ) أبو عبد الرحمن ‪ ،‬من أئمة اللغة و الدب ‪،‬واضع علم العروض ‪،‬‬
‫أستاذ سيبويه النحوي ‪ ،‬له عدة كتب منها العين و تفسير حروف اللغة و كتاب العروض و غيرها ‪ .‬العلم ( ‪. ) 314 /2‬‬
‫(‪ )8‬المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سارق الزدي العتكي ( ‪7‬هـ ‪83 -‬هـ ) أبو سعيد ‪ ،‬أمير ‪ ،‬بطاش ‪ ،‬جواد ‪،‬و لد في دبا بعمان ‪،‬و نشأ بالبصرة ‪ ،‬قاتل‬
‫الزارقة ‪ 19‬سنة ثم ظفر بهم ‪ .‬العلم ( ‪. ) 315 /7‬‬
‫(‪ )9‬صحار بن عباس العبدي ( ‪ 50‬هـ ‪100 -‬هـ ) أبو العباس من الطبقة الثانية ‪ ،‬تابعي جليل من أوائل الئمة الباضية ‪ ،‬أصله من عمان ‪ ،‬أخذ العلم‬
‫عن إمام المذهب جابر بن زيد و غيره ‪ ،‬له عدة كتب منها كتاب المثال ذكره ابن النديم و كتاب القدر يوجد له سمي من الصحابة ذكره ابن قتيبة و ابن‬
‫عبد البر و ل نعرف العلقة بينها معجم الباضية (‪. )489 /3‬‬

‫ص ْعةُ بن صَوْحَان (‪ )1‬الخطيب المشهور ‪ ،‬و أخوه أيضا ‪ ،‬و كلهما عماني ‪ ،‬و ُمرّة بن التّليد (‪ ، )2‬و‬
‫و صَ ْع َ‬
‫المهلب بن أبي صفرة هو الذي شاع اسمه في البصرة ‪ ،‬بل في العراق كله ‪ ،‬فيقال ‪ " :‬بصرة المهلب " ‪ ،‬و هذا‬
‫يعرفه كل أهل التاريخ ‪ ،‬و هو أزدي عماني من الباطنة ‪.‬‬

‫و لو لم تخرج الباطنة إل أبا حمزة الشاري المختار بن عوف ‪ ،‬قائد المام طالب الحق عبدال بن يحيى الكندي‬
‫في اليمن لكفى ‪.‬‬

‫غصّت البصرة بالعيان من أهل عمان ‪ ،‬و امتلت برجال العلم الجلء‪ ،‬الذين لهم الشرف الخالد على‬ ‫ولقد َ‬
‫صفحات التأريخ ‪ ،‬و حسبك ابن دريد (‪ )3‬من مثال للعلم ‪ ،‬و الدب ‪ ،‬و اللغة ‪ ،‬فهو إمامٌ متضّلعٌ بفنون العلم‪ ،‬و‬
‫لن ننسى المُ َبرّد (‪ )4‬صاحب [‪ ]57‬الكامل ‪ ،‬و هو عماني ‪ ،‬و لسنا الن بصدد ذكر أهل عمان و أعيانهم ‪ ،‬إنما‬
‫ذلك إلى التأريخ العماني ‪ ،‬و هو المسئول عن هذه القضايا ‪ ،‬و هو الكفيل بها ‪ ،‬و إنما نحن الن في ذكر الباضية‬
‫وعلمائهم ‪.‬‬

‫قال على يحيى معمر‪ " :‬وكانت قضية الخلفة من القضايا الهامّة التي يقدرها السلم قدرها ‪ ،‬وكانت شاغلة لهل‬
‫العلم ‪ ،‬وكان جابر بن زيد ممن َمرّت عليه ‪ ،‬و َد َرسَها َدرْساً ُمسْ َتفِيضاً عميقاً ‪ ،‬و انتهى فيها إلى رأي ثابت‬
‫صحيح ‪ ،‬مبني على روح العدالة في السلم ‪ ،‬و مستمد من القرآن الكريم ‪ ،‬و مستند على سيرة السلف الصالح‬
‫من أصحاب النبي – صلى ال عليه و آله وسلم – ‪.‬‬

‫كان يرى أنّ الخلفة أهم مرافق الدولة ‪ ،‬و أعظم مظهر للمة ‪ ،‬و أقوى سلطة تشرف على تنفيذ أوامر ال ‪ ،‬و‬
‫تطبيق أحكام الكتاب و السنة ‪ ،‬الذين هما المصدر الصحيح لحكام ال عز و جل ‪ ،‬و هي بهذا المظهر ‪ ،‬و على‬
‫هذا النحو ل يمكن أن تخضع لنظام و رأي أبداً ‪ ،‬و ل أن ترتبط بجنس ‪ ،‬أو قبيلة ‪ ،‬أو أسرة ما ‪ ،‬أو لون أيضاً‬
‫" (‪ ، )5‬لنّ الخلفة المقصود منها بالذات ‪ ،‬وضع الحقّ في مواضعه ‪ ،‬و إعادة أوامر الشريعة حيث أمر بها‬
‫الشرع ‪.‬‬

‫" و إنما يشترط فيها الكفاءة المطلقة " (‪ )6‬؛ لنّ ال عز و جل أشار إلى المقصود فيها بالذات بقوله ‪ِ " :‬إنّ‬
‫أَ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ َأتْقَا ُكمْ " (‪ )7‬و المطلوب هذان الشيئان ‪ ،‬بل هما دعامتاها‪ ،‬و هما ‪ :‬الكرم بجميع معانيه ‪ ،‬و‬
‫التقوى وهي الصل الذي ل تصح بدونه خلفة ما أبداً ‪ ،‬فإذا لم يكن هذان الصلن ثابتين فيها فعليها ال َعفَاء ‪ ،‬لم‬
‫تغن ال ُقرَ ْيشِية وحدها‪ ،‬و ربما أغنى عنها التقوى ‪.‬‬

‫و ل يخفى على كل ذي عقل أن التقوى رُوحُ [‪ ]58‬اليمان ‪ ،‬فإذا لم تكن تقوى فل إيمان إجماعاً ‪ ،‬و إذا حصلت‬
‫صحّتِهَا ‪ ،‬و‬
‫الكفاءة المطلقة ديناً و خلقاً ‪ ،‬و عملً ‪ ،‬و عقلً ‪ ،‬فقد حصلت الخصال المطلوبة فيها ‪ ،‬المشترطة ِل َ‬
‫قامت حجتها على المسئولين عنها ‪ ،‬الذين تلزمهم عند حصولها ‪ ،‬فإذا كانت في فريق من الناس فقد حصلت ؛‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫لن تحمل عبء المة ‪ ،‬و تقوم بما يجب في السلم القيام به ‪.‬‬

‫شمّية ‪ ،‬أو ال َعرَبِية إل من وسائل الترجيح ‪ ،‬و هي كمالية فقط عندنا ‪ ،‬فإنّ المفاضلة أو‬
‫و ما ال ُقرَ ْيشِية ‪ ،‬أو الهَا ِ‬
‫الولوية أشياء اختيارية عند حصول الكمال‪ ،‬أما ما سوى ذلك فل حساب له في نظر الشرع ‪ ،‬الذي جاء لدرء‬
‫المفاسد ‪ ،‬و جلب المصالح في المة ‪.‬‬

‫و من حيث أنّا بصدد بيان معنى الباضية ‪ ،‬و التعريف بهم بين فرق السلم ‪ ،‬و ذكر أصل تسميتهم إباضية ‪ ،‬و‬
‫ذكر ابن إباض الذي أضيف الباضية إليه ‪ ،‬و نسبوا عليه نسبة تمييزية ‪ ،‬و ما إلى ذلك مما هو من نوعه ‪ ،‬ثم‬
‫استطردنا في ذكر ما أشار به على يحيى معمر من أصول الباضية ‪ ،‬و ما قام به إمامهم الكبر أبو الشعثاء‪ ،‬و‬
‫ض َدهُ أولئك العلماء العلم الذين كانت لهم ال ّزمَالة المذهبية ‪.‬‬
‫ع ّ‬
‫َ‬

‫و القصد من ذلك تحقيق معنى الباضية ‪ ،‬و إيضاح المعنى الصحيح من هذه السمة الكريمة لهذه المة العظيمة‬
‫عند ال عز و جل ‪ ،‬فل يظن ظَانّ أنّا خرجنا عن قانون التأليف ‪ ،‬الذي وضعناه شرحاً كاشفاً للحقيقة المطلوبة‪.‬‬

‫و على هذا فالباضية ِف ْر َقةٌ من فرق السلم التي عرفت في حديث الفتراق‪ ،‬الذي رواه أئمة الحديث ‪ ،‬فالباضية‬
‫هم الفرقة المحقة ‪ ،‬و هي الصادقة في القوال و الفعال ؛ لنّها ما زَايَلَت حكم ال عز و جل قيد شعرة ‪ ،‬و ل‬
‫مالت بها الهواء إلى السّبل التي أشار إليها القرآن (‪ ، )8‬و بينها رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪]59[. -‬‬
‫======================‬
‫(‪ )1‬صعصعة بن صوحان بن حجر العبدي ( ت ‪56‬هـ ) من سادات عبد القيس ‪ ،‬كان خطيبا بليغا عاقل ‪ ،‬له شعر ‪ ،‬شهد صفين مع علي ‪ ،‬و له مع‬
‫معاوية مواقف ‪ .‬العلم ( ‪. ) 205 /3‬‬
‫(‪ )2‬مرة بن فهم التليد ‪،‬من خطباء عمان ‪،‬و هو الخطيب الذي أوفده المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي ‪ .‬التبيان و التبين ( ‪/ 1‬‬
‫‪. ) 358‬‬
‫(‪ )3‬محمد بن الحسن بن دريد الزدي ( ‪223‬هـ ‪321 -‬هـ ) أبو بكر ‪ ،‬من أئمة اللغة و الدب ‪،‬من أزد عمان ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها الجمهرة في اللغة و‬
‫المقصورة و غيرها ‪ .‬العلم ( ‪. ) 80/ 6‬‬
‫(‪ )4‬محمد بن يزيد بن عبد الكبر الزدي ( ‪210‬هـ ‪286 -‬هـ) أبو العباس ‪ ،‬المعروف بالمبرد ‪ ،‬إمام العربية ببغداد في زمنه ‪،‬و أحد أئمة الدب و‬
‫الخبار ‪ ،‬مولده البصرة و وفاته ببغداد ‪ ،‬من كتبه الكامل و المقتضب و إعراب القرآن ‪ .‬العلم ( ‪. )144 /7‬‬
‫(‪ )5‬الباضية في موكب التاريخ ( ‪ )63 /1‬الحلقة الولى ‪.‬‬
‫(‪ )6‬المصدر السابق ‪.‬‬
‫(‪ )7‬الحجرات ‪. 13 :‬‬
‫(‪ )8‬في قوله تعالى ‪ " :‬و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و ل تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " النعام ‪. 153 :‬‬

‫[ الشرح ]‬

‫أي َأنّ أصل المذهب عبدال بن إباض كما عرفته مما تقدم من مقالنا ‪ ،‬أو يعود الضمير على المام ابن إباض –‬
‫رحمه ال – ‪ ،‬أي أنّ أصل كون عبدال بن إباض أصلً للمذهب ؛ لنّه صار له ُمحَامياً من أعداءه الذين يرومون‬
‫ضدّ أهلـه‪.‬‬ ‫كيده ‪ ،‬و كان هذا البطل التميمي مدافعاً لعداء الحقّ ‪ ،‬الذين لهم نوايا سيئة ِ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فكم حَ َبسَ الحجاج الطاغية الكبير جابر بن زيد ‪ -‬رحمه ال – ‪ ،‬و كم ضَلّ َي ْرسِفُ (‪ )1‬في قيوده ‪ ،‬و كم عاش في‬
‫سجونه أسيراً مستهاناً على غير جرم منه ‪ ،‬و ل سيئة َت ِزنُ جناح بعوضة ‪ ،‬بل مجرد إهانة ‪ ،‬و إذلل لهل العلم‬
‫صرَة مظلوم ‪ ،‬أو إغاثة مَلْهُوف ‪.‬‬
‫حتى ل يرفعوا رؤوسهم بين أعلم الحقّ ‪ ،‬أو ُتمَنّيهم َأنْ ُفسُهم ُن ْ‬

‫فكان عبدال بن إباض أكبر مُنَاضل بالحجة الصحيحة ‪ ،‬لكنّها عند ذلك الطاغية غير مقبولة إل أنّه يستطيع إهانة‬
‫هؤلء العلم و الفطاحلة الكرام ‪ ،‬و أمّا عبدال بن إباض كان في أمة ل تضيعه ‪ ،‬و في عشيرة ل تسلمه ‪ ،‬و ما‬
‫زال عبدال بن إباض حجر عثرة للسلطان الموي ‪ ،‬خصوصاً في المور الدينية ‪.‬‬

‫و هنا قام دور التطور في المة ‪ ،‬و التمذهب في الملة ؛ ليبرز معنى حديث رسول ال – صلى ال عليه و سلم –‬
‫فكان المام أبو الشعثاء ‪ ،‬و أبو عبيدة ‪ ،‬و أبو عمرو ‪ ،‬و العلمة صحار بن العباس ‪ ،‬و ضمام بن السائب ‪ ،‬ومن‬
‫انضم إليهم من رجالت العلم و العمل ‪ ،‬و عبدال بن إباض الركن [‪ ]60‬الكبر لهؤلء ‪ ،‬و عليه أطلق عليهم اسم‬
‫الباضية ‪ ،‬لكون عبدال صار لهم بمنزلة الزعيم‪ ،‬ل أنه عالمهم الذي يرجعون إليه في مهماتهم ‪ ،‬و يصدرون‬
‫عن فتاويه فيما يغشيهم من أمر دينهم‪،‬كبقية رجال العلم الذين صاروا لتباعهم َمرْجِعاً ‪ ،‬و لخوانهم مصدراً‬
‫علمياً‪ ،‬قلدوهم عليه ‪ ،‬و اعتمدوا أقوالهم فيه ‪ ،‬كأبي حنيفة ‪ ،‬و الشافعي ‪ ،‬و مالك‪ ،‬و ابن حنبل ‪ ،‬و من في‬
‫معناهم من رجال العلم الذين اشتهروا في أيامهم ‪ ،‬و ارتسموا طرقاً لقوامهم ‪ ،‬و قرروا لهم قواعد دينهم ‪،‬‬
‫فأخذوا بها ‪ ،‬وتركوا ما سواها ‪ ،‬إذ اعتقدوا فيهم اعتقادات ‪ ،‬لو علمها أولئك ما رضوا بها ‪ ،‬و أصرّ كل فريق‬
‫منهم على قول عالمهم ‪ ،‬و رفضوا ما عداه ‪ ،‬و تنافسوا إلى ذلك إلى حدٍ بعيدٍ‪ ،‬حتى صاروا أضداداً لبعضهم بعضاً‬
‫في ذلك ‪.‬‬

‫فكان الخذ بقول أبي حنيفة ل يرى ما عداه ‪ ،‬و ل يرضى به بديلً مهما كان‪ ،‬و بذلك صار لهؤلء مذاهب خاصة‬
‫اختصها مقلدوهم فيها ‪ ،‬و أصبحوا يعرفون بها ‪ ،‬كما حكى التاريخ ذلك عنهم ‪ ،‬فكانوا بذلك أربعة مذاهب ‪ ،‬كل‬
‫مذهب منها له أهميته ‪ ،‬و قواعده ‪ ،‬و حججه ‪ ،‬و مؤسساته في المة ‪ ،‬و َت َعصّبَ كُلّ فريقٍ لشيخه و أستاذه ‪.‬‬

‫فكانوا إذا جاء القول عن أحد هؤلء الربعة ‪ ،‬قام له أتباعه مؤيدين و مقدسين ‪ ،‬حتى غَلَوا فيما بينهم ‪ ،‬و مضى‬
‫على ذلك عهد غير يسير ‪ ،‬حتى توسّطَ من جاء من بعد ذلك من رجال العلم ‪ ،‬الذين يحاولون القتراب من بعضهم‬
‫بعضاً ‪ ،‬فأخذوا ببعض أقوال أحد الشيوخ الذين يمكن التسامح معه في شيء ما و مضى‪]61[.‬‬

‫فقالوا هذا مذهب أبي حنيفة في الشيء الفلني ‪ ،‬و ذلك مذهب فلن و فلن‪ ،‬فكانت سنة ال في عباده نافذة ل‬
‫رَادّ لها ‪ ،‬تصديقاً له – صلى ال عليه و سلم – فيما أعرب عنه من الفتراق في المة ‪ ،‬وكان ذلك من أعلم‬
‫نبوته‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ ،-‬إذ أخبر عن هذا الحال ‪.‬‬

‫و ربما نشط مذهب على بقية المذاهب ‪ ،‬إذا قام له سلطان يحمل الناس عليه ‪ ،‬و ربما تأخر في بعض الحيان ‪ ،‬و‬
‫ربما اتفقت بعض المذاهب على قولٍ في شيءٍ خاصٍ فأخذ به أتباعهم معاً ‪ ،‬و بذلك يصير له شيوع محسوس في‬
‫العالم السلمي ‪ ،‬و قد أخبر التاريخ عما قلنا في أجيال عديدة ‪.‬‬

‫و بذلك صار لكل إمام مذهب ‪ ،‬ثم جاء من أغل فيهم ‪ ،‬فَ َقدّمَ ما قالوه على ما في كتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،-‬و رأوا أن ما جاء عن شيخهم فوق ما جاء في كتاب ال عز و جل ؛ لنّ ما جاء في كتاب ال‬
‫ربما كان فيه إشكالٌ ‪ ،‬كإجمالٍ ‪ ،‬و تخصيصٍ ‪ ،‬و متشابه أيضاً ‪ ،‬أمّا ما جاء عن الشيخ المام فليس فيه إشكالٌ ‪،‬‬
‫و ل إبهامٌ ‪.‬‬

‫و الجريمة في مثل هذا على التّابع ل على المتبوع ‪ ،‬فإنّ بعضهم أعلن تصريحاً أنّه إذا وافق ما أقول قواعد الحقّ‬
‫عرْضَ الحائط ‪ ،‬و سئل أحدهم فيقول هذا رأي ‪ ،‬و إذا جاء نهر ال بطل نهري ‪ ،‬و‬ ‫يؤخذ به ‪ ،‬و إل يضرب به َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫منهم َمنْ يسأل فيقول في الكثر ل أدري ‪ ،‬و منهم من يقدم القياس على الدليل الحادي يرى أنّ القياس ابتنى‬
‫على أصل قوي ‪ ،‬أما الحادي فل تطمئن به النفس ‪ ،‬و هكذا ‪.‬‬

‫و أشياء أخرى ألمّت في المقام يخالف أصول الحكام ‪ ،‬ل سيما فيما يتعلق بالحلل في العتقاد ‪ ،‬و بالحرام في‬
‫المعاملت ‪ ،‬و ربما [‪ ]62‬أخطأ المجتهد ‪ ،‬و أصرّ على ما رأى ‪ ،‬أو اعتقد متبعه أنّه الحقّ ‪ ،‬و ما سواه باطل و‬
‫إلى هذا كله يشير المام – رحمه ال ‪. -‬‬

‫أمّا الذين أطلق عليهم إباضية فإنهم لم يُقَّلدُوا شيخاً خاصاً فيتبعونه في أقوله ‪ ،‬و أعماله ‪ ،‬فإنّ عبدال بن إباض‬
‫كما تحدثنا عنه ‪ ،‬أنّه لم يكن من العلماء الذين أسسوا مذاهب ‪ ،‬و كانت لهم حملة أخذت بمذاهبهم ‪.‬‬
‫إنّ هذه العصابة التي تعرف بالباضية لم تتقيد ‪ ،‬و لن تتقيد بمذهبٍ خاصٍ أبداً‪ ،‬و إنما تأخذ الحقّ أينما تجده ‪،‬‬
‫سواءٌ وجدته في أقوال جابر بن زيد‪ ،‬أو أبي عبيدة ‪ ،‬أو الربيع ‪ ،‬إذا لم تجد النص القرآني ‪ ،‬أو النص النبوي‬
‫الصحيح ‪ ،‬من حيث تطمئن بالنقل ‪ ،‬و ل تشك في الناقل ‪ ،‬و إنْ وجدته في قول أبي حنيفة ‪ ،‬أو الشافعي ‪ ،‬أو‬
‫غيره من رجال العلم ‪ ،‬الذين أثبت الواقع لهم اسم العلم ‪ ،‬كما سوف تراه إن شاء ال محرراً في هذه الصحائف‬
‫الحرة الواضحة النيرة ‪ ،‬عند الكلم على هذا المقام‪.‬‬

‫والحقّ مقبولٌ ممن جاء به بغيضاً كان أو حبيباً ‪ ،‬و الباطل مردودٌ ممن جاء به كذلك ‪ ،‬فإنّ ال لم يأمرنا أن نأخذ‬
‫عن شيخ خاص و نترك ما سواه ‪ ،‬و لو كان كذلك لخذنا بأقوال صحابة رسول ال‪ -‬صلى ال عليه وآله وسلم –‬
‫كابن عباس ‪ ،‬و ابن عمر ‪ ،‬و أمثالهم ‪ ،‬أو بأقوال الخلفاء الربعة ‪ ،‬فإنهم أهل لن يأخذ بأقوالهم ‪.‬‬
‫لكنّا ل نقول بذلك ؛ لنّا ل نُقَلّد غير كتاب ال عز و جل ‪ ،‬أو ما صح من سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله‬
‫وسلم – بنقل العدول الذين ل نشك في عدالتهم ‪ ،‬و ل ننكر شيئاً من أقوالهم ‪.‬‬

‫فنأخذ العلم تقييداً ل تقليداً ؛ لنّ ال فترض ذلك علينا ‪ ،‬و انظر ‪ِ " :‬بمَاذَا َتحْكُمُ يَا مُعَاذ ؟ فقال ‪ِ :‬بمَا في كِتَا ِ‬
‫ب‬
‫ج ْدهُ ؟ ‪ ،‬فقال ‪ :‬أَجْتَ ِهدُ رَأَي " (‬
‫ج ْدهُ ؟ ‪ ،‬فقال ‪ِ :‬بمَا في سُ ّنةِ َرسُولِ الِ ‪ ،‬فقال ‪ِ ]63[ :‬إنْ لَمْ تَ ِ‬
‫الِ ‪ ،‬فقال ‪ِ :‬إنْ لَمْ تَ ِ‬
‫‪ ، )2‬و لم يأمره بالتقليد لدليل خاص ‪ ،‬أو قول خاص ‪.‬‬

‫و هكذا نقول فإن الكتاب و السنة ‪ ،‬هما اللذان تركهما لنا رسول ال – صلى ال عليه و سلم – بعده ‪ ،‬و لن نضل‬
‫ما أخذانا بهما ‪ ،‬فإن لم نجد ذلك فيهما ‪ ،‬نزلنا إلى الجتهاد‪ ،‬و ما خالف كتاب ال ل نقبله و ل نرضاه ‪.‬‬
‫=================================‬
‫(‪َ )1‬يرْسِفُ و يجوز َيرْسُفُ ‪ :‬مشى مَشْي المقيد ( القاموس المحيط ‪ ) 813 /‬مادة رسف ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في ( ‪ -13‬كتاب الحكام ‪ -3‬باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ) (‪ ) 616 / 3‬رقم ‪ ، 1227‬و أخرجه أبو داود في ( ‪ -23‬كتاب‬
‫القضية ‪ -11‬باب اجتهاد الرأي في القضاء ) رقم ‪ 3592‬ص ‪، 516‬و أخرجه الدارمي في ( المقدمة ‪ -20‬باب الفتيا و ما فيه من الشدة ) ( ‪)44 /1‬‬
‫رقم ‪، 168‬و أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ‪ ، ) 164 /16 ( 21906‬و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( ‪ )544 /4‬رقم ‪22978‬و ‪22979‬‬
‫‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫[ الشرح ]‬

‫مما يدلك على مقام عبدال بن إباض في المة ‪ ،‬و علو منزلته فيها ‪ ،‬ما شاع له من الذّكر بين رجالت العلم ‪ ،‬و‬
‫أعلم الهدى صيتاً ‪ ،‬أهّله لن يكون زعيم أمة ل َتمُتّ إليه بصلة نسبة (‪ ، )1‬ول بتلمذة علمية ‪ ،‬حتى صار إماماً‬
‫في المغاربة النّائيين ‪ ،‬و المشارقة المُتَ َف ّرقِين ‪ ،‬الذين انتشروا من خراسان ‪ ،‬إلى مصر ‪ ،‬إلى عمان ‪ ،‬و إلى‬
‫حضرموت و اليمن ‪.‬‬

‫ذلك لنّ الرّجل كان يقول الحقّ ‪ ،‬ويدعو إليه ‪ ،‬و َي ُردّ الباطل ‪ ،‬و يُنَ ّفرُ منه ‪ ،‬في عهد اشتد فيه جور المراء‬
‫سياسياً ‪ ،‬بحيث يريدون أن يتناسى العهد النبوي الصحيح ‪ ،‬عهد الحرية الدينية ‪ ،‬عهد العلم و العمل‪ ،‬عهد الدين‬
‫الصحيح ‪ ،‬الذي ل يرضى تفكك القوى السلمية ‪ ،‬و ل يرتضى العمال الموية ‪ ،‬التي بدلت الدين بالهوى ‪ ،‬و‬
‫أقصت بجورها أهل التقى ‪ ،‬فكانت شراً جاثماً على صدور الصدر الول ‪ ،‬و ما تغلغل من البغي يجعل الباطل ديناً ‪،‬‬
‫و منه لعن علي بن أبي طالب في الجمعات التي هي مجامع الدين ‪ ،‬و بغير حياء ‪ ،‬و َمنْ ل يفعل على أقل الشياء‬
‫ينتقص ‪ ،‬و يحتقر ‪ ،‬و يجعل ممن تقتحمه العقول ‪ ،‬و تنكص عنه العيون ‪ ،‬ويجعل في عداد [‪ ]64‬من ل قدر له و‬
‫ل احترام ‪.‬‬

‫و قد ضاق الحال بأهل الفضل في السلم ‪ ،‬مع أن العهد بالنبوة قريب‪ ،‬والعهد بالخلفة الراشدة أقرب ‪ ،‬فكان أهل‬
‫العلم ‪ ،‬و أهل الفضل تقطع ظهورهم‪ ،‬و يقضون اليام و الليالي في السجون ظلماً و عدواناً ‪.‬‬
‫طكَ‬
‫طرَازِ عبدال بن إباض عمل يقتضيه‪ " :‬لَوْلَ َرهْ ُ‬ ‫و لم يبق احترام لحد من هذا النوع ‪ ،‬إل لمن كان من ِ‬
‫جمْنَاكَ " (‪ ، )2‬فكان الرهط إذ ذاك سوراً منيعاً ‪ ،‬انظر في حبس أبي الشعثاء ‪ ،‬و إخوانه حتى بلغ به الحال إلى‬ ‫َلرَ َ‬
‫أنهم يقطعون الشعور التي تطول ‪ ،‬و أظفارهم ‪ ،‬بأضراسهم قهراً و أسراً لعدم الرهط المحذور ‪ ،‬و لم يكن من ذلك‬
‫شيء على عبدال بن إباض ‪ ،‬و أضرابه من أمثال الحنف الذي إذا سَلّ سيفه سَلّ معه مائة ألف سيف ‪ ،‬ل‬
‫يسألونه لماذا سل سيفه !‪.‬‬

‫أما أبو عبيدة الضرير ‪ ،‬و أبو الشعثاء العور ‪ ،‬و أضرابهم فذالك حالهم ‪ ،‬و الحمد ل حتى كان عبدال ردئاً‬
‫لهؤلء ‪ ،‬يصدقهم إذا قالوا ‪ ،‬ويؤيدهم إذا أفتوا ‪.‬‬

‫كان عبدال بن إباض ‪ -‬رحمه ال و رحم أباه وتولهم ال – كانوا أبطال علم ‪ ،‬و رجال عمل ‪ ،‬إل أنّ السلطة في‬
‫يد المويين إذ ذاك ثم انتقلت إلى الهاشميين ‪ ،‬و كلهم عتاة طغاة ‪ ،‬أعمدة ملك لم يعرف فيهم للدين أحد ‪ ،‬إل عمر‬
‫بن عبد العزيز – رحمه ال – في بني أمية ‪ ،‬و العباس بن عبد المطلب ‪ ،‬و ابنه البحر في بني هاشم ‪ ،‬ومن بقي‬
‫منهم أعماهم حب الرئاسة ‪ ،‬و اعتقدوها ميراثاً ‪ ،‬فكانوا في تكالب عليها طيلة أيامهم ‪.‬‬
‫أفبمثل هؤلء يقوم الدين ؟!! ‪ ،‬و بمثل هؤلء تنعم الدنيا ؟!! ‪ ،‬سبحان من عمّ حلمه خلقه ‪ ،‬و هو يرى أحوال‬
‫العباد ‪ ،‬و ما ترمي إليه نياتهم ‪.‬‬

‫كان من أمر عبدال بن إباض و صلبته في الحق ‪ ،‬أنّه لما أحدث المسرف [‪ ]65‬مسلم (‪ )3‬عامل يزيد بن‬
‫معاوية(‪ ، )4( )2‬ما أحدث بمدينة الرسول – صلى ال عليه و سلم – و قصد بعد ذلك مكة المكرمة ليعمل فيها‬
‫صدّهِ عن هواه ‪ ،‬و للحيلولة بينه و بين‬
‫ما عمله في أختها ‪ ،‬و شاع خبره خرج عبدال بن إباض – رحمه ال ‪ِ -‬ل َ‬
‫ما يهواه ‪.‬‬

‫ولم يجسر أحد أن يتظاهر بذلك غير عبدال بن إباض خوفاً من بطش هؤلء البغاة المتمردين على عباد ال و‬
‫على الدين ‪ ،‬و جمع عبدال بن إباض من أطاعه شاهراً أمره ‪ ،‬غير مبال بأحد ‪ ،‬متوجهاً لحماية مكة منه ‪ ،‬و لما‬
‫أمنت رجع إلى وطنه بالبصرة ‪ ،‬و القضية مشهورة ‪ ،‬إل أننا نحن ل أهمية للتأريخ لدينا ‪ ،‬فلذلك تضيع الحقائق‬
‫عندنا ‪ ،‬و يفوتنا علمها لذلك ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫وهذه البادرة تعبر عن شأنٍ رفيعٍ لعبدال بن إباض و أعوانه ‪ ،‬و ما زال علماء الباضية أنصار للحقّ ‪ ،‬أعداء‬
‫للباطل ‪ ،‬يخافهم أهل السفه ‪ ،‬و يكرههم أهل الفساد‪ ،‬فإنهم ما يزالوا على شدة في الدين ‪.‬‬

‫انظر وفادتهم على عمر بن عبد العزيز و نقاشهم معه ‪ ،‬و ما قابلوه به حتى وعدهم بإحياء كل يوم سنة ‪ ،‬و‬
‫إماتة كل يوم بدعة ‪ ،‬فلم يكفهم ذلك منه ؛ لكونه أمير عامة ‪ ،‬و هو يريد يعمل في المور بالسياسة ‪ ،‬فقالوا ل‬
‫يرضينا ذلك منك ‪ ،‬فإن المام العدل ل تسعه التقية ‪ ،‬و المعنى أنت هو الن ‪ ،‬فطلب منهم ليعلن ذلك غداً على‬
‫المنبر عند اجتماع الناس ‪ ،‬فقالوا له من لك أن تعيش إلى الغد ؟ ‪ ،‬و إذ ذاك عضدهم ابنه قائلً ‪ :‬صدق القوم ‪،‬‬
‫فقال عمر بن عبد العزيز ‪ :‬الحمد ال الذي أخرج مني مثل هذا أو نحو هذا ‪ ،‬ثم مات الولد المذكور فتوله‬
‫الباضية ‪ ،‬و القضية مشهورة أيضا إن لم يغطّ عليها الحسد ‪ ،‬و هو داء دفين ‪ ،‬نعوذ بال منه [‪.]66‬‬
‫==============================‬
‫(‪ )1‬أي ل تمت إليه بقرابة و ل نسب ‪.‬‬
‫(‪ )2‬هود ‪. 91 :‬‬
‫(‪ )3‬مسلم بن عقبة بن رباح المري ( ت ‪63‬هـ ) أبو عقبة ‪ ،‬قائد من الدهاة القساة في العصر الموي ‪ ،‬أدرك النبي صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و شهد‬
‫صفين مع معاوية ‪ ،‬و وله يزيد بن معاوية قيادة الجيش الذي أرسله للنتقام منن أهل المدينة فغزاها و أسرف فيها قتل و نهبا و استباحها ثلثة أيام ‪،‬‬
‫ثم توجه إلى مكة ليحارب ابن الزبير فمات في الطريق ‪ .‬العلم ( ‪. )222 /7‬‬
‫(‪ )4‬يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الموي ( ‪25‬هـ ‪64 -‬هـ) ثاني ملوك بالدولة الموية ‪ ،‬و ولي الخلفة بعد وفاة أبيه سنة ‪60‬هـ و في أيامه قتل‬
‫الحسين بن علي و وقعت وقعة الحرة الذي أمر قائده بأن يستبيح المدينة ثلثة أيام و أن يبايع أهلها على أنهم خول و عبيد ليزيد و كان نزوعا إلى اللهو‬
‫و الفسق ‪ .‬العلم ( ‪. ) 198 /8‬‬

‫اعلم أنّ المام ابن إباض – رحمه ال – كما قدمنا عنه ‪ ،‬أنّه كان سيفاً ماضياً لقطع العراقيل التي تحول بين‬
‫الحقّ و أهله ‪ ،‬و هماماً مِ ْقدَاماً لقطع شأفة الفساد الذي يواجهه ‪ ،‬و عزيمته شديدة في العتماد على ال وحده‬
‫قبل كل شيء ‪.‬‬

‫وفي المنعة من عشيرته بني تميم ‪ ،‬و هم حجر خشن ل تلين قسوته بيسير المور‪ ،‬و ل يهون على قومه ‪ ،‬و هم‬
‫حصنه الحصين ‪ ،‬و ردءه المكين ‪ ،‬و قوم الرجل جُنّ َتهُ ‪ ،‬و بهم يتقى الشر إذا أقبل عليه ‪ ،‬و ما زال هذا الحال‬
‫معروفاً في البشر ‪.‬‬

‫انظر إلى ما وقع بين النبي – صلى ال عليه و سلم – و النصار في بيعة العقبة ‪ " :‬و َأنّ َت ْمنَعُونِي ِممّا َت ْمنَعُون‬
‫حرِيمَكُمْ و أَوْلدَكُمْ " (‪ ، )1‬مع أنّه نبي ال عز و جل يقدر على منعه من كل أحد في الكون ‪ ،‬لكن سنة ال ‪-‬‬ ‫مِ ْنهُ َ‬
‫عزّ و عل ‪ -‬في الكون لها أسباب مقيدة ‪ ،‬فكذلك هذا هنا ‪.‬‬‫َ‬

‫ولول شرف أبي طالب و منزلته في قومه ‪ ،‬لهلك محمد – صلى ال عليه و سلم – بين أَنْيُب قومه العتاة ‪ ،‬لكن‬
‫لمّا وقف أبو طالب لهم وقفة السد الباسل ‪ ،‬لم يقدروا على أي عمل فيه مما حاولوه في شخصه ‪ ،‬أما الدّيانة فلم‬
‫يكن أبو طالب مسلم فيقوم لدفاع قومه عن إسلمه ‪ ،‬و قد قال ‪ " :‬أعلم أن دين محمد حق إل أني أفضل أن أموت‬
‫على دين الشياخ حتى ل يقولوا أنّ أبا طالب صبا إلى دين ابن أخيه آخر عمره " (‪. )2‬‬

‫و ل شك أنّ الحقّ يحتاج إلى أنصار ‪ ،‬و ليس كرهط الرجل له أنصار طبعاً ‪ ،‬و الحقّ إذا توله مؤمن قوي كعبدال‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫بن إباض ‪ ،‬و عبدال بن وهب ‪ ،‬و المرداس‪ ]67[،‬و أمثالهم تكون له هيبة فعالة ‪ ،‬و ناهيك بهيبة عمر بن‬
‫الخطاب – رضي ال عنه ‪. -‬‬

‫و بذلك الحال أظهر عبدال بن إباض الحق ‪ ،‬و قامت له هيبة ‪ ،‬حتى في قلب الملك عبد الملك بن مروان ‪ ،‬حتى‬
‫عاد يستعطفه ‪ ،‬و يلين له ‪ ،‬و يحاول ضمه إليه ‪ ،‬كما سوف تراه في محله إن شاء ال ‪.‬‬
‫و في " الملل و النحل" للشهرستاني قال ‪ " :‬عبدال بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد ‪ ،‬فوجه إليه‬
‫مروان بن محمد المذكور لقتاله عبدال بن عطية فقاتله بتباله ‪ ،‬وكان عبدال بن يحيى الكندي إمام اليمن من‬
‫أعضاد عبدال بن إباض في هذه الحر ب ‪ ،‬و في أقواله ‪ ،‬و أفعاله " (‪. )3‬‬

‫و إن عبدال بن إباض هو الرئيس عليه مع أنّ عبدال بن يحيى كان من بيت زعامة ‪ ،‬إل أنّ أمر الدّين أكبر من‬
‫أمر الدنيا ‪ ،‬و ال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‪.‬‬

‫شكّ فيه ‪ ،‬و كيف ل ‪ ،‬و الكتاب و السنة هما دعامتاه ‪،‬‬
‫لقد شهد لعبدال بن إباض أعداؤه أنه على الحقّ الذي ل َ‬
‫و ما كان كذلك فلن يضيع ‪ ،‬و إن تألب عليه أعداءه ‪.‬‬

‫و ل شك أنّ السلم و اليمان بمعناهما لم يبقيا في مذهب ما على أصولهما الصحيحة إل في مذهب الباضية ‪،‬‬
‫لنّ الباضية ل يزالون يصارعون الزّعامات التي تكون مخالفة للحق و مناوية للعدل ‪ ،‬فإن الملوك أتباع‬
‫شهواتهم غالباً ‪.‬‬

‫ض ّد أعداءهم الذين ل يقولون بقولهم ‪ ،‬و ل يميلون ميلهم ‪ ،‬و هل أفسد الدين إل الملوك ‪ ،‬و‬
‫بل و ربما كانوا ِ‬
‫أحبار السوء و رهبانها ؟!‪.‬‬

‫ذلك أنّ الذين يُ َق ّدسُون الملوك ‪ ،‬و ل يرون الخروج عليهم ‪ ،‬هم أفسدوا الدّين ‪ ،‬و مزقوا شمله ‪ ،‬بخلف علماء [‬
‫‪ ]68‬الباضية الذين يقومون لصراع الملوك بقصد حملهم على المنهج الشرعي ‪ ،‬الذي أوجب ال المسير عليه ‪،‬‬
‫فيرتكبون الخطار بنصب الئمة ‪ ،‬فيقاتلونهم حتى يردوهم إلى الحقّ ‪ ،‬و هذا تاريخهم شاهد بذلك بجميع بلد‬
‫الباضية ‪.‬‬

‫كان عبدال بن إباض قوياً في دين ال ‪ ،‬ذا عزيمة ثابتة ل تأخذه في الحق لومة لئم ‪ ،‬و ل يبالي بملك تُخاف‬
‫سطوته ‪ ،‬أو تهاب قوته ‪ ،‬و ل يرى غير الحق شيئاً ‪ ،‬و ل يتزعزع عنه قيد شعرة ‪ ،‬منتقداً لعمال الملوك ‪ ،‬مأنباً‬
‫راداً عليهم ‪.‬‬

‫و لما خرج مسلم عامل يزيد لذلل أهل مدينة الرسول – صلى ال عليه و سلم – و فعل فيها المنكرات القاسية‬
‫حيث استباحها ثلثة أيام ‪ ،‬وهي حرم رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و لم يبال بها ‪ ،‬ثم همّ بالمسير إلى‬
‫مكة ‪ ،‬ليفعل فيها مثل ذلك ‪ ،‬قال عبدال بن إباض ‪ " :‬ل يحل السكوت على هذا الحال " فخرج إلى لقياه بمن معه‬
‫من أصحابه و قومه ‪ ،‬ولكن قضى ال على ذلك الطاغية ‪ ،‬فمات في الطريق ‪ ،‬و لم يصل إلى مكة فسلمها ال ‪ ،‬و‬
‫بعد استقرار المن ‪ ،‬و زوال المحذور رجع عبدال بن إباض إلى البصرة (‪. )4‬‬

‫هذا فعل عبدال بن إباض و نواياه في حرم ال عز و جل ‪ ،‬وتلك أعمال أولئك الطغاة ‪ ،‬وقومنا يقولون ل يجوز‬
‫الخروج عليهم ‪ ،‬بل عليكم الصبر!! ‪ ،‬فعلى القل أين المر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟؟! ‪ ،‬و هو كما ثبت‬
‫إجماعاً بأنه باليد أولً ‪ ،‬و هل اليد إل العصا ثم السيف !!!‪.‬‬

‫سدُون في الدّين ‪ ،‬و يبدلون حكم ال بحكم القوانين ‪ ،‬و هذا هو الكفر‬
‫و كيف ل يجوز الخروج عليهم ‪ ،‬و هم يُ ْف ِ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الواضح ‪ ،‬حاشا ال أن يرضى بذلك ‪ ،‬وهذا كتابه بين أيدينا ينطق بالحق ‪ ،‬و يهدي إليه ‪ ]69[،‬و نحن إن شاء‬
‫ال ل نعتمد إلّ على الحقّ ‪ ،‬و ل نرتضى غيره بدلً منه ‪.‬‬

‫=============================‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ‪، ) 453 /11 ( 14393‬و أخرجه الحاكم في المستدرك في ( ‪ -28‬كتاب تواريخ المتقدمين من النبياء – من‬
‫كتاب الهجرة الولى إلى الحبشة ) رقم ‪ ) 681 /2 ( 4251‬و قال الحاكم ‪ :‬صحيح السناد ووافقه الذهبي ‪،‬و أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في‬
‫(كتاب قتال أهل البغي ‪ -3‬باب كيفية البيعة ) رقم ‪ ) 251 /8 ( 16556‬و أخرجه ابن حبان في ( ‪ -61‬كتاب إخباره صلى ال عليه و سلم عن مناقب‬
‫الصحابة ) رقم ‪ ، )473 /15 ( 7011‬و أخرجه الطبري في التاريخ (‪ ) 5/562‬و أخرجه ابن هشام في السيرة (‪. ) 442 /1‬‬
‫(‪ )2‬أورده بمعناه مسلم في ( ‪ -1‬كتاب اليمان ‪ -9‬باب الدليل على صحة إسلم من حضره الموت ) رقم ‪ )1/55( 25‬و الترمذي في ( ‪ -48‬كتاب تفسير‬
‫القرآن ‪ – 29‬باب من سورة القصص ) رقم ‪، )341 /5 ( 3188‬و ابن حبان ( ‪ ) 167 /14‬رقم ‪ 6270‬و أحمد في مسنده رقم ‪ ) 259 /9 ( 9576‬و‬
‫أبو عوانة ( ‪ ) 25 /1‬رقم ‪ 24‬و أبو يعلى (‪ ) 39 /11‬رقم ‪ 6178‬و البيهقي في شعب اليمان ( ‪ ) 106 / 1‬رقم ‪. 91‬‬
‫(‪ )3‬الملل و النحل ص ‪. 134‬‬
‫(‪ )4‬انظر نشأة الحركة الباضية ‪ ،‬ص ‪. 77‬‬

‫[ الشرح ]‬

‫شمْسِ بن عبد مَنَاف ‪ ،‬تولى الخلفة بعد موت أبيه‬ ‫حكَمِ بن أبي العَاص بن أُميّة بن عَ ْبدِ َ‬ ‫عبد الملك بن َمرْوَان بن ال َ‬
‫في سنة خمسة و ستين للهجرة ‪ ،‬و كان من ُنسّاك بني أمية ‪ ،‬و كان يلقب حمامة المسجد لملزمته ‪ ،‬و يلقب‬
‫جرِ لِ ُبخْ ِلهِ ؛ فإنّه كان بخيلً إلى آخر درجات‬
‫حَ‬‫شحِ ال َ‬‫أيضا بأبي الذّباب [ لنجره إذ كان أنجر] (‪ ، )1‬و يُلَقّب ِب َر ْ‬
‫البخل ‪.‬‬

‫و لما جاءته الخلفة كان قاعداً يتلو القرآن قال الدميري (‪ " : )2‬كان عبدالملك قبل الخلفة متعبداً ‪ ،‬ناسكاً ‪،‬‬
‫عالماً ‪ ،‬فقيهاً ‪ ،‬واسع العلم ‪ ،‬حازماً ل يكل أمره إلى غيره‪ ،‬محب للفخر ‪ ،‬مقداماً على سفك الدماء ‪ ،‬و كذلك كان‬
‫عماله " (‪. )3‬‬

‫قلت ‪ :‬لقد صحّ عن رسول ال – صلى ال عليه وسلم – " أنّ دِينّ ال ّرعِيةِ ِمنْ دِينِ مُلُوكِهَا " (‪ )4‬فإذا كان الملك‬
‫يحب شيئاً أحبه أهل طاعته إل من شاء ال و هم القليل ‪ ،‬أما السواد العظم فهم على دين الملوك ‪.‬‬

‫" كان عماله الحجاج بالعراق ‪ ،‬و المهلب بن أبي صفرة في خراسان ‪ ،‬و هاشم بن إسماعيل و ولده عبدال‬
‫بمصر ‪ ،‬و موسى بن نصير بالمغرب ‪ ،‬و محمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن ‪ ،‬و محمد بن مروان أخوه‬
‫بالجزيرة "‪ ،‬قال ‪ " :‬و كل من هؤلء ظلوم غشوم جبار قاله ابن خلكان ‪)5( ".‬‬

‫و كان عبدالملك كما قلنا جاءته الخلفة ‪ ،‬و هو يقرأ القرآن فرماه من يده ‪ ،‬وقال ‪ " :‬هذا ُفرَاقُ بيني و بينك " ‪،‬‬
‫سمِهَا ‪.‬‬
‫و كان [‪ ]70‬ظلوماً عاتياً ‪ ،‬عظيماً في ملوك العرب ‪ ،‬إذ تغلغلت هنا الملكية فيه بكل َمرَا ِ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ص ْرفِ المتداول في أيدي المسلمين فيه كتابة بلغة الروم في الدنانير ‪،‬‬
‫و كانت بينه و بين ملك الروم أحوال على ال ّ‬
‫و بلغة الفرس في الدراهم ‪ ،‬تتنافى مع النظمة السلمية ‪ ،‬إل أنّ العرب ل يعرفون ما تدل عليه حتى لمّا انكشف‬
‫لعبد الملك ذلك قام فيها وقعد ‪ ،‬و أراد ملك الروم بقائها على أصلها فلم يقبل عبد الملك ذلك ‪ ،‬بل أراد إبدالها ‪ ،‬أو‬
‫يقوم هو بوضعها ‪ ،‬فكان من ملك الروم لعبد الملك بن مروان ما أخذ من قلبه مأخذه ‪.‬‬

‫و لكن الرجل من أبطال العرب ‪ ،‬لم يشعر ملك الروم إل و المر انتهى في صالح عبد الملك بن مروان ‪ ،‬فشل ملك‬
‫الروم حين رأى في العالم السلمي كله انتشار النقود التي ضربها عبد الملك بن مروان ‪ ،‬و حمله قومه على‬
‫تنفيذ تهديداته لعبد الملك بن مروان فأجابهم بفوات المكان ‪.‬‬

‫و كان أول من سمي بعبد الملك في السلم ‪ ،‬و أول من ضرب الدنانير و الدراهم في السلم ‪ ،‬و نقش في أحد‬
‫جوانبها " ل إله إل ال " ‪ ،‬و بالجانب الخر " محمد رسول ال " ‪ ،‬و نشرها في بلد السلم ‪ ،‬و توعّد من يقبل‬
‫غيرها من سكك النصارى و اليهود أو غيرهم ‪ ،‬فلم يشعر الملك الرومي إل و هي ملء بلد السلم‪.‬‬
‫سرَوية‬
‫و كانت قبلها الدنانير ال َبغّلِية ؛ لنّ رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب – رضي ال عنه – ‪ ،‬و كانت ِك ْ‬
‫وضعت عليها صورة كرسي كسرى ‪ ،‬و تحت الكرسي نوش خور ‪ :‬أي كُلْ هنيئاً (‪. )6‬‬

‫و كانت له أخبار طويلة عريضة لسنا بصددها الن ‪ ،‬بل أخذنا ‪ ،‬أو نأخذ ما يدل على عظمة ملك عبدالملك ‪ ،‬الذي‬
‫ط َرسَ ِتهِ ‪ ،‬و لم يكن ابن إباض بالرجل الذي يهاب ذلك في حقّ الدّين ‪ ،‬الذي فرضه‬
‫غْ‬‫ما زال له السلطان القاهر مع َ‬
‫ال على عباده [‪ ]71‬بل كان ابن إباض راداً على عبدالملك ‪ ،‬معارضاً له في ما يخالف الحق‪ ،‬ناصحاً له بقلمه ‪،‬‬
‫الذي هو أشبه بالصارم المصقول ‪.‬‬

‫قال الدميري ‪ " :‬والذي لقب عبدالملك بحمامة المسجد عبدال بن عمر بن الخطاب ‪ ،‬و جاءته الخلفة و هو يقرأ‬
‫في المصحف فطبقه ‪ ،‬و قال سلم عليك هذا فراق بيني و بينك ‪ ،‬و كان يشير ابن عمر في الفقه إلى عبد الملك ‪،‬‬
‫و توفي في شوال سنة ستة و ثمانين ‪ ،‬و له من العمر ثلث وستون سنة ‪ ،‬و قيل ستون فقط فهي عمر رسول‬
‫ال – صلى ال عليه و سلم – على الخلف فيها أيضاً ‪ ،‬و كان قاتل عبدال بن الزبير فقضى عليه ‪.‬‬

‫صرُ‬
‫ح ْفرَتي َت ْع ُ‬
‫ضهِ ‪ " :‬يا وليد ل ألفينَّك إذا وضعتني في ُ‬
‫و كان من جبره و ظلمه قال لبنه الوليد ‪ ،‬لمّا َثقُلَ في َم َر ِ‬
‫شمّر ‪ ،‬و البس جلد النّمر ‪ ،‬وادع الناس إلى البيعة ‪ ،‬فمن قال برأسه كذا ‪ -‬أي ل‬ ‫عينك كالمة الوَلْهَا ‪ ،‬بل اتّزر‪ ،‬و َ‬
‫‪ -‬فَقُلْ بالسيف كذا ‪ -‬أي اضرب عنقه ‪ ، " -‬هذه وصية ذلك الطاغية التي تسجلها له الملئكة أول دخوله في‬
‫الخرة ‪ ،‬و آخر خروجه من الدنيا " (‪ ، )7‬و ال المستعان ‪.‬‬

‫إنّ المقصود من ذكر هذه النبذة الوجيزة من تاريخ عبدالملك بن مروان‪ِ ،‬لنُ َب ْرهِن بذلك على منزلة عبدال بن‬
‫إباض أيام هذا السلطان ‪ ،‬فيتبين كما قيل ‪" :‬وبضدها تتبين الشياء "‪ ،‬فمن عرف حالة عبدالملك بن مروان ‪،‬‬
‫علم منها مقام عبدال بن إباض ‪ ،‬إذ يناقش عبدالملك في أمور عديدة ‪ ،‬و َي ُردّ عليه أقواله ‪ ،‬و ينتقد عليه تلك‬
‫العمال كما سوف نذكر للقاري نبذة منها ‪.‬‬

‫========================================‬
‫(‪ )1‬هكذا وقعت في الصل و هو تصحيف ‪،‬و تصحيحه من كتاب حياة الحيوان الكبرى الذي ينقل منه الشيخ ‪ [ :‬لبخره إذ كان أبخر ] ‪.‬‬
‫(‪ )2‬محمد بن موسى بن عيسى الدميري ( ‪742‬هـ ‪808 -‬هـ ) أبو البقاء ‪ ،‬باحث ‪ ،‬أديب من فقهاء الشافعية من مصر من أهل دميرة ‪ ،‬له عدة مؤلفات‬
‫منها ‪ :‬حياة الحيوان الكبرى ‪ ،‬و الديباجة شرح كتاب ابن ماجه و غيرها ‪ .‬العلم ( ‪. )118 /7‬‬
‫(‪ )3‬حياة الحيوان الكبرى (‪، )1/92‬و اعلم أن الشيخ نقل ترجمة عبد الملك بن مروان من هذا الكتاب و لم يشر إلى ذلك ‪ ،‬و لكن بالمقارنة نجده ينقل‬
‫ببعض التصرف من صفحة (‪. ) 93 – 90 / 1‬‬
‫(‪ )4‬قال العجلوني في كشف الخفاء (‪ " -2790 : ) 413 / 2‬الناس على دين مليكهم أو ملوكهم " قال السخاوي في المقاصد ‪ :‬ل أعرفه حديثا ‪،‬و لكن‬
‫يتأيد بما رواه الطبراني في الكبير و الوسط عن أبي أمامة " ل تسبوا الئمة ‪ ،‬و ادعوا لهم بالصلح فإن صلحهم لكم صلح " و بما رواه البيهقي عن‬
‫كعب الحبار قال ‪ :‬إن لكل زمان ملكا يبعثه ال على نحو قلوب أهله ‪ ،‬فإذا أراد صلحهم بعث عليهم مصلحا ‪ ،‬و إذا أراد هلكتهم بعث فيهم مترفيهم "‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫بتصرف ‪.‬‬
‫(‪ )5‬حياة الحيوان الكبرى (‪. )92 / 1‬‬
‫(‪ )6‬انظر للتفصيل حياة الحيوان الكبرى ( ‪. ) 92 – 90 / 1‬‬
‫(‪ )7‬حياة الحيوان الكبرى (‪. )93 /1‬‬

‫كتب عبد الملك بن مروان كتاباً لعبدال بن إباض ‪ ،‬و أرسله إليه بيد سنان بن عاصم ‪ ،‬أحد رجاله ‪ ،‬طلب فيه من‬
‫عبدال بن إباض أن يكشف له حقيقة ما عنده‪ ،‬و كان ذكر له عثمان ‪ ،‬و ما هو عليه ‪ ،‬و عرّض له فيه [‪]72‬‬
‫لمر المة و ما هي فيه ‪ ،‬و إنّها بحيث يهتم بها و بشأنها الزعماء ‪ ,‬و إنّ لعثمان قدم سبق ‪ ،‬و يد فضل في‬
‫السلم ‪ ،‬و ذكر عثمان عهد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و خلته معه ‪ ،‬و ذكر معاوية و ما هو عليه‬
‫من السلطة و النتصار على خصومه ‪ ،‬و أنّ ال قام معه ‪ ،‬و عجّل نصره ‪ ،‬و بلج حجته ‪ ،‬و أظهره على عدوه‬
‫ع ِمهِ ‪ ،‬و القصد أن يستكين ابن إباض كما‬
‫حذّر ابن إباض من الغلو في الدّين ِب َز ْ‬
‫في الطلب بدم عثمان ‪ ،‬و كان ُي َ‬
‫استكان غيره ‪ ،‬و يقف عند المر الذي يراه عبدالملك ‪ ،‬و عرّض له بالخوارج و أنّهم يغلون في الدّين ‪ ،‬و مراده‬
‫أن ل يشتد عبدال بن إباض عليه ‪ ،‬و على أعماله و عماله ‪.‬‬

‫و كان عبد الملك يروم اختداع عبدال بن إباض حيث يتظاهر له بمظهر الطاعة ‪ ،‬و هي في الحقيقة من خدائع‬
‫الملوك للعلماء الذين يراعون فيهم الحياة الدينية ‪ ،‬و لذلك قام عبدالملك يلبس لعبدال بن إباض لباس الضراعة‬
‫لقصده السياسي فيما هو بصدده ‪ ،‬و يستعمل الدهاء في وجه ابن إباض ‪ ،‬لعله يَ ُغ ّرهُ بذلك حيث قال له في كتابه‬
‫المشار إليه كلما معناه " أرجو نصحك ‪ ،‬و أقبل كلمك ‪ ،‬و أعمل بنظرك ‪ ،‬و ل تألو جهداً في نصحي ‪ ،‬و ذكره‬
‫بال على ذلك "‪ ،‬وهو خداع و نفاق ‪ ،‬حيث أشار إليه بقوله عز و جل ‪ِ " :‬إنّ اّلذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزَلْنَا ِمنَ ا ْلبَيّنَاتِ‬
‫خذَ الّ مِيثَاقَ اّلذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُ َبيّنُ ّنهُ لِلنّاسِ َولَ‬
‫وَالْ ُهدَى " (‪ ... )1‬و الية الثانية ‪ ،‬و هي قوله ‪َ " :‬وِإذَ أَ َ‬
‫تَ ْك ُتمُو َنهُ " (‪ ، )2‬و طلب من عبدال بن إباض إعادة كتابه إليه حتى ل يبقى في يد عبدال بن إباض فيراه الناس‬
‫فيقولون فيه أشياء يفهمون (‪ ، )3‬و من دهائه كان عرض لعبدال بن إباض بما [‪ ]73‬لديه من دنياه ‪ ،‬ظناً منه‬
‫النقياد لها ‪ ،‬و الميل إليها ‪ ،‬و الغترار ِبرَيَاشِهَا و زينتها ‪ ،‬و كان – رحمه ال و رضي عنه – بعيداً من ذلك ‪.‬‬

‫و سرعان ما أجابه عبدال بن إباض على كتابه ذلك جواباً شافياً وافياً ‪ ،‬فقال كما قال العلمة البرادي حاكياً له (‬
‫‪: )4‬‬

‫" بسم ال الرحمن الرحيم من عبدال بن إباض إلى عبدالملك بن مروان‪ ،‬أما بعد ‪ :‬سلم عليك ‪ ،‬فإنّي أحمد ال‬
‫إليك ‪ ،‬الذي ل إله إلّ هو ‪ ،‬و أوصيك بتقوى ال ‪ ،‬فإنّ العاقبة للتقوى ‪ ،‬و ال َم َردّ إلى ال ‪ ،‬و اعلم أنّه إنّما يَ َتقَبّلُ‬
‫ال من المتقين ‪.‬‬

‫و قد جاءني كتابك مع رسولك سِنَان بن عَاصِم ‪ ،‬و أنّك كتبت إليّ أن أكتب لك‪ -‬أي تطلب مني أن أكتب لك بكتاب‬
‫‪ -‬فكتبته إليك فمنه ما تعرف ‪ ،‬و منه ما تُنْ ِكرُ ‪ ،‬و لكن الذي تنكره ليس عند ال بمنكر ‪.‬‬

‫و أمّا ما ذكرت من عثمان ‪ ،‬و ما عرّضت به من شأن المة ‪ ،‬فإنّ ال ليس ينكر عليه أحد شهادته في كتابه الذي‬
‫أنزله على نبيه محمد – صلى ال عليه و آله وسلم – أن " مَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أنزَلَ الّ فَأُ ْولَـ ِئكَ هُمُ الظّا ِلمُونَ " (‪)5‬‬
‫و "الفاسقون " (‪ )6‬و " الكافرون " (‪ - )7‬و كان أراد بذلك التعريض به ‪ ،‬أي أنّك أنت من هؤلء‪ -‬قال " ثمّ إنّي‬
‫حقّ ‪ ،‬و سأنزع لك على ذلك البينة من كتاب ال ‪ ،‬و‬ ‫لم أكن أذكر لك من شأن عثمان شيئاً إل ‪-‬و ال‪ -‬تعلم أنّه َ‬
‫سأخبرك خبر عثمان الذي طعنا عليه فيه ‪ ،‬و أُبيّن شأنه و أمره ‪.‬‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫لقد كان عثمان كما ذكرت من قدمه في السلم ‪ ،‬و لكنّ ال لم يجز العباد من الفتنة ‪ ،‬و ذلك أنّ ال بعث محمد –‬
‫صلى ال عليه و سلم – و أنزل عليه الكتاب و بيّن له فيه كل أمر ‪ ،‬و فصّل فيه كُلّ حكم ‪ ،‬ليحكم بين الناس فيما‬
‫[‪]74‬اختلفوا فيه‪ ،‬و جعله هدى و رحمة لقوم يؤمنون ‪ ،‬فأحلّ فيه حللً ‪ ،‬و حرم فيه حراماً ‪ ،‬و حكم أحكاماً ‪ ،‬و‬
‫حدُودَ الّ َفأُوْلَـ ِئكَ هُم الظّا ِلمُونَ " (‪ )8‬ثم‬ ‫حدُودُ الّ َفلَ تَعْ َتدُوهَا َومَن يَتَ َعدّ ُ‬
‫فرض فرائضاً و حدوداً ‪ ،‬و قال ‪ " :‬تِ ْلكَ ُ‬
‫أمر نبيه بإتباع كتابه ‪ ،‬و قال ‪ " :‬وَاتّ ِبعْ مَا يُوحَى إِلَ ْيكَ مِن رّ ّبكَ " (‪ )9‬و قال ‪ " :‬فَ ِإذَا َق َرأْنَاهُ فَاتّ ِبعْ قُرْآ َنهُ " (‪)10‬‬
‫فعمل محمد – صلى ال عليه و سلم – بأمر ربه ‪ ،‬و معه عثمان ‪ ،‬و من شاء ال من أصحابه ‪ ،‬ل يرونه يتعدى‬
‫حداً ‪ ،‬و ل ُي َبدّل حكماً ‪ ،‬و ل يستحلّ حراماً ‪ ،‬و يُحرّم حللً ‪ ،‬و ل يُبدّل فريضة ‪ ،‬و كان رسول ال – صلى ال‬
‫عظِيمٍ " (‪. )11‬‬ ‫عذَابَ يَ ْومٍ َ‬
‫عصَ ْيتُ رَبّي َ‬ ‫عليه و سلم – يقول ‪ " :‬قُلْ إِنّيَ أَخَافُ ِإنْ َ‬

‫فعمّر رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ما شاء ال أن ُي َعمّر ‪ ،‬تابعاً ِلمَا جاء به من عند ال ‪ ،‬و بلّغ لما‬
‫ائتمنه ال عليه ‪ ،‬معلماً للمؤمنين ‪ ،‬مبصراً لهم ‪ ،‬حتى توفاه ال – صلى ال عليه و سلم ‪. -‬ثم أورث ال عز و‬
‫جل المؤمنين الذي جاء به محمد – صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬و هو كتابه الذي يهتدى به من اهتدى بإتباعه ‪ ،‬و‬
‫ل يضل من ضلّ إل بتركه ‪.‬‬

‫س ّنةِ رسول ال – صلى ال‬


‫عمِلَ ب ُ‬
‫ثمّ قام من بعده أبو بكر – رضي ال عنه – على النّاس ‪ ،‬فأخذ كتاب ال ‪ ،‬و َ‬
‫عليه و سلم – ‪ ،‬و لم يفارقه أحد من المسلمين ‪ ،‬و لم َيعِيبُوا عليه في حكمٍ حكمه ‪ ،‬و ل قسم قسمه حتى فارق‬
‫الدنيا ‪ ،‬و أهل السلم عنه راضون و له مجامعون ‪.‬‬

‫ثمّ قام من بعده عمر فكان قوياً على المر ‪ ،‬شديداً على أهل النفاق ‪ ،‬يهتدى بمن كان قبله من المؤمنين ‪ ،‬و يعمل‬
‫بكتاب ال ‪ ،‬و ابتله ال بفتوحٍ من الدنيا ‪ ،‬بما لم يبتل به صاحبيه ‪ ،‬و فارق الدنيا و الدّين ظاهر ‪ ،‬و كلمة‬
‫السلم جامعة ‪ ،‬و شهادة المؤمنين له قائمة بالوفاء ‪ ،‬و المؤمنون شهداء ال في الرض ‪ ،‬قال ال عز و جل "‬
‫علَيْ ُكمْ شَهِيدًا" (‪. )12‬‬
‫علَى النّاسِ َويَكُونَ [‪ ]75‬ال ّرسُولُ َ‬
‫وَ َكذَ ِلكَ جَ َعلْنَاكُمْ ُأ ّمةً َوسَطًا لّتَكُونُواْ شُ َهدَاء َ‬

‫ثمّ استشار المسلمين فتركها فيهم ‪ ،‬فولّوا عثمان ‪ ،‬و فعل بما شاء ال بما يعرف السلم ‪ ،‬حتى بسطت له‬
‫الدنيا ‪ ،‬و فُ ِتحَ له من خزائن الرض ‪ ،‬و أحدث أموراً لم يعمل بها صاحباه قبله ‪ ،‬و عهد الناس يومئذ قريب‬
‫منهم ‪ ،‬فلمّا رأى المؤمنون ما أحدث أتوه ‪ ،‬و كَّلمُوه ‪ ،‬و ذكّروه بكتاب ال و سنة رسول ال ‪ ،‬و سنة من كان‬
‫قبله ‪ ،‬و شقّ عليه أن ذكّروه بآيات ال ‪ ،‬و أخذ بالجبرية ‪ ،‬و ضرب من شاء منهم ‪ ،‬و سجن ‪ ،‬و نفاهم في‬
‫أطراف الرض من أجل أن ذكّروه بكتاب ال و سنة نبيه – صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬و آثار من كان قبله من‬
‫ع َرضَ عَنْهَا َو َنسِيَ مَا َق ّدمَتْ َيدَاهُ " (‪َ " ، )13‬و َمنْ أَظَْلمُ ِممّن ذُ ّكرَ‬
‫ظلَمُ ِممّن ذُ ّكرَ بِآيَاتِ رَ ّبهِ فَ َأ ْ‬
‫المؤمنين " َو َمنْ أَ ْ‬
‫ج ِرمِينَ مُن َت ِقمُونَ " (‪. )14‬‬ ‫عنْهَا إِنّا ِمنَ ا ْلمُ ْ‬
‫عرَضَ َ‬ ‫بِآيَاتِ رَ ّبهِ ثُمّ َأ ْ‬

‫و أنا أُ َب ّينُ لك يا عبد الملك بن مروان ما أنكر المسلمون على عثمان و فارقوه عليه ‪ ،‬عسى أن تكون غاف ً‬
‫ل‬
‫فأذكّرك ‪ ،‬أو جاهلً فأُعرّفك ‪ ،‬فل يحملنك هوى عثمان يا عبد الملك أن تكذّب بآيات ال ‪ ،‬فإنّه ل يُغني عنك من‬
‫ال شيئاً ‪.‬‬

‫فال ال يا عبد الملك قبل التّنَاوش من مكان بعيد ‪ ،‬و قبل أن تكون ِلزَاماً ‪ ،‬و إنّه كان ِممّا طعن عليه المسلمون و‬
‫س ُمهُ َوسَعَى فِي‬
‫جدَ الّ أَن ُيذْ َكرَ فِيهَا ا ْ‬
‫فارقوه و فارقناه عليه ‪ ،‬قال ال عز و جل " َو َمنْ أَظَْلمُ ِممّن مّ َنعَ َمسَا ِ‬
‫عظِيمٌ " (‪ )15‬و‬ ‫عذَابٌ َ‬‫خ َرةِ َ‬ ‫خزْيٌ َولَهُمْ فِي ال ِ‬‫خرَابِهَا أُوْلَـ ِئكَ مَا كَانَ لَ ُهمْ أَن َيدْخُلُوهَا إِلّ خَآئِفِينَ ل ُهمْ فِي الدّنْيَا ِ‬
‫َ‬
‫كان عثمان أول من منع مساجد ال أن يُ َقصّ فيها كتاب ال ‪.‬‬

‫ط ُردِ اّلذِينَ َي ْدعُونَ [‪]76‬رَبّهُم بِالْ َغدَاةِ وَا ْل َعشِيّ ُيرِيدُونَ‬


‫و ممّا نقمنا عليه و فارقناه أن ال عز و جل قال ‪َ " :‬ولَ َت ْ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ط ُر َدهُمْ فَ َتكُونَ ِمنَ الظّا ِلمِينَ " (‪)16‬‬
‫يءٍ فَتَ ْ‬
‫علَيْهِم مّن شَ ْ‬
‫حسَا ِبكَ َ‬
‫يءٍ َومَا ِمنْ ِ‬
‫حسَابِهِم مّن شَ ْ‬ ‫وَجْ َههُ مَا عَلَ ْيكَ ِمنْ ِ‬
‫طرَ َدهُم و نفاهم ‪ ،‬فكان من نفي من أهل المدينة أبا َذرّ الغفاري (‪. " )17‬‬ ‫فكان خيار هذه المّة قد َ‬
‫قلت ‪ :‬و كان أبو َذرّ من زهاد الصحابة و عبادهم ‪ ،‬وفيه يقول رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬مَا َأقَلّتْ‬
‫جةٍ ِمنْ أَبي َذرّ " (‪ )18‬و هل يرضى أحد فيه ذرة من إيمانٍ يرضى‬ ‫صدَقُ ذِي لَهْ َ‬
‫خضْرَاءُ َأ ْ‬‫الغَ ْبرَاءُ ‪ ،‬و ل أَظَلّتْ ال َ‬
‫بأذية أبي ذر ؟! ‪ ،‬في عرضٍ ‪ ،‬أو حالٍ ‪ ،‬أو مالٍ ‪ ،‬مع ما أصاب المذكور من السوء الذي ل يفعله غير متوحش ‪،‬‬
‫إنا ل و إنا إليه راجعون ‪ ،‬و إذا لم يؤثر على القلوب المؤمنين مثل ذلك ‪ ،‬فماذا يؤثر عليها؟! ‪.‬‬
‫========================‬
‫(‪ )1‬البقرة ‪. 159 :‬‬
‫(‪ )2‬آل عمران ‪. 187 :‬‬
‫(‪ )3‬كذا بالصل ‪،‬و ال أعلم بالصواب ‪.‬‬
‫(‪ )4‬الجواهر المنتقاة ‪ ،‬ص ‪. 167 -156‬‬
‫(‪ )5‬المائدة ‪. 45 :‬‬
‫(‪ )6‬نص الية ‪ " :‬و من لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الفاسقون " المائدة ‪. 47 :‬‬
‫(‪ )7‬نص الية ‪ " :‬و من لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون " المائدة ‪. 44 :‬‬
‫(‪ )8‬البقرة ‪. 229 :‬‬
‫(‪ )9‬الحزاب ‪. 2 :‬‬
‫(‪ )10‬القيامة ‪. 18 :‬‬
‫(‪ )11‬النعام ‪. 15 :‬‬
‫(‪ )12‬البقرة ‪. 143 :‬‬
‫(‪ )13‬الكهف ‪. 57 :‬‬
‫(‪ )14‬السجدة ‪. 22 :‬‬
‫(‪ )15‬البقرة ‪. 114 :‬‬
‫(‪ )16‬النعام ‪. 52 :‬‬
‫(‪ )17‬اختلف في اسمه و الراجح جندب بن جنادة من بني غفار ( ت ‪32‬هـ ) أبو ذر ‪ ،‬صحابي ‪ ،‬من كبارهم ‪ ،‬قديم السلم ‪ ،‬مات بالربذة في خلفة‬
‫عثمان ‪ .‬العلم ( ‪. ) 140 /2‬‬
‫(‪ )18‬أخرجه الترمذي في ( ‪ – 50‬كتاب المناقب ‪ -36‬باب مناقب أبي ذر ) رقم ‪، ) 669 /5 ( 3801‬و أخرجه ابن ماجه في ( المقدمة ‪ -11‬باب في‬
‫فضائل الصحابة ) رقم ‪ 156‬ص ‪، 24‬و أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده رقم ‪ ) 82 / 6 ( 6519‬و رقم ‪، ) 76 / 16 ( 21621‬و أخرجه الحاكم في‬
‫المستدرك في ( ‪ -31‬كتاب معرفة الصحابة في ذكر مناقب أبي ذر الغفاري ) رقم ‪، ) 387 /3 ( 5462‬و أخرجه البراز في البحر الزخار ( ‪، ) 450 /6‬‬
‫و أخرجه ابن أبي عاصم في الحاد و المثاني ( ‪ ) 231 /2‬رقم ‪، 986‬و أخرجه الطبراني في المعجم الوسط (‪ ) 365 /5‬رقم ‪ 5148‬و أخرجه ابن أبي‬
‫شيبة ( ‪ ) 390 / 6‬رقم ‪. 32256‬‬

‫سلِمَ الجُهَنيّ‪ -‬و نافع بن الحطام (‪ ، )2‬و نفى من أهل‬


‫قال ‪ " :‬و ُمسِْلمَ الجُهَنيّ (‪ - )1‬أي و ممن نفاه عثمان ُم ْ‬
‫الكوفة كعب بن جندب (‪ ، )3‬و جندب بن زهير (‪ )4‬قاتل الساحر ‪ ،‬و نفى عُمر بن زُرارة (‪ ، )5‬و يزيد بن‬
‫صوحان (‪ ، )6‬و أسود بن دويج (‪ ، )7‬و يزيد بن قيس الهمداني (‪ ، )8‬و كردوس بن الحضرمي (‪ )9‬في أناس‬
‫كثيرين من أهل الكوفة ‪ ،‬و نفى من أهل البصرة عامر بن عبدال (‪ ، )10‬و مذعور العنبري (‪ ، )11‬و من ل‬
‫يستطاع عددهم ‪.‬‬

‫و ممّا نقمنا عليه أنّه أمّر أخاه الوليد بن عُ ْقبَة (‪ )12‬على الناس ‪ ،‬فكان يلعب بالسّحر‪ ،‬و يصلي بالناس سكران ‪،‬‬
‫فاسق في دين ال ‪ ،‬و إنمّا أمّره من أجل قرابته ‪.‬‬

‫و ممّا نقمنا عليه جعل المال دُو َلةً بين الغنياء ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪ " :‬كَيْ لَ َيكُونَ دُو َلةً َب ْينَ ا َلْغْ ِنيَاء مِنكُمْ‬
‫" (‪ )13‬فبدّل فيه كلم ال و اتبع هواه ‪.‬‬

‫و ممّا نقمنا عليه أنّه منع مواضع القطر ‪ ،‬و حماها لنفسه و لهله ‪ ،‬ومنع الرزق الذي أنزله ال لعباده متاعاً [‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫للً‬
‫حَ‬‫حرَامًا وَ َ‬
‫‪ ]77‬لهم و لنعامهم ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪ " :‬قُلْ أَ َرأَيْتُم مّا أَنزَلَ الّ لَكُم مّن رّزْقٍ فَجَعَ ْلتُم مّ ْنهُ َ‬
‫قُلْ آلّ َأ ِذنَ لَ ُكمْ أَمْ عَلَى الّ َتفْ َترُونَ" (‪. )14‬‬

‫ص َدقَاتُ لِ ْلفُ َقرَاء وَا ْل َمسَاكِينِ‬


‫و ممّا نقمنا عليه أنّه أول من تعدى في الصدقات ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪ " :‬إِ ّنمَا ال ّ‬
‫وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ‪ )15( "....‬الية ‪ ،‬و قال ‪َ " :‬ومَا كَانَ ِلمُ ْؤ ِمنٍ وَلَ مُ ْؤمِ َنةٍ ِإذَا َقضَى الُّ َو َرسُوُلهُ َأ ْمرًا أَن يَكُونَ‬
‫ضلَلً مّبِينًا " (‪. )16‬‬ ‫خ َي َرةُ ِمنْ َأ ْم ِرهِمْ َومَن يَ ْعصِ الَّ َو َرسُو َلهُ فَ َقدْ ضَلّ َ‬
‫لَهُمُ الْ ِ‬

‫و الذي أحدث عثمان منعه فرائض كان فرضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي ال عنه – و أنقص أهل‬
‫بدر أعطياتهم ألف ألف ‪ ،‬و كنـز الذهب و الفضة ‪ ،‬و لم ينفقهما في سبيل ال ‪ ،‬و قد قال ال عز وجل ‪ " :‬وَاّلذِينَ‬
‫حمَى عََليْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ‬
‫ش ْرهُم بِ َعذَابٍ َألِيمٍ (‪ )34‬يَوْمَ يُ ْ‬
‫ضةَ وَلَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الّ فَ َب ّ‬
‫يَ ْك ِنزُونَ ال ّذهَبَ وَا ْل ِف ّ‬
‫جبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُو ُرهُمْ هَـذَا مَا كَ َنزْتُمْ لَن ُفسِكُمْ " (‪ )17‬الية‪.‬‬ ‫فَتُكْوَى بِهَا ِ‬

‫و ممّا نقمنا عليه كان َيضُمّ كل ضالة إلى إبله ‪ ،‬و ل يردّها ‪ ،‬و ل يعرفه‪ ،‬و كان يأخذها من البل و الغنم إذا‬
‫وجدها عند أحد ‪ ،‬و إن كانوا قد أسلموا عليها‪ ،‬و كان لهم في حكم ال ما أسلموا عليه ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪:‬‬
‫طلِ‬
‫سدِينَ " (‪ ، )18‬و قال ‪ " :‬لَ تَ ْأكُلُواْ َأمْوَالَ ُكمْ بَيْ َنكُمْ بِا ْلبَا ِ‬
‫خسُوا النّاسَ َأشْيَاءهُمْ وَلَ تَ ْعثَوْا فِي ا َلْ ْرضِ مُ ْف ِ‬
‫" َولَ َتبْ َ‬
‫إِلّ أَن تَكُونَ تِجَا َرةً عَن َترَاضٍ مّنكُمْ " (‪. )19‬‬

‫و ممّا نقمنا عليه أنّه أخذ خمس ال لنفسه ‪ ،‬و أعطى منه أقاربه ‪ ،‬و كان ذلك تبديلً لحكم ال ‪ ،‬و فرض ال‬
‫سهُ وَلِل ّرسُولِ َوِلذِي الْ ُقرْبَى وَالْ َيتَامَى وَا ْل َمسَاكِينِ وَا ْبنِ السّبِيلِ " [‪ [ ]78‬إلى قوله ] " وَالّ‬
‫خ ُم َ‬
‫الخمس ‪ " :‬لِّ ُ‬
‫يءٍ َقدِيرٌ " (‪. )20‬‬ ‫عَلَى كُلّ شَ ْ‬

‫و ممّا نقمنا عليه منع أهل البحرين و أهل عمان أنْ يبيعوا شيئاً من طعامهم حتى يباع [طعام ]المارة ‪ ،‬و ذلك‬
‫حرّمَ الرّبَا " (‪)21‬‬
‫تحريم ِلمَا أَحلّ ال ‪َ " :‬وأَحَلّ الّ ا ْلبَ ْيعَ َو َ‬

‫===========================‬
‫جهَنيّ ( ت ‪36‬هـ ) أمره عليّ يوم الجمل بحمل مصحف ‪ ،‬فطاف به على القوم يدعوهم إلى الطاعة ‪ ،‬فقتل ‪ .‬تاريخ السلم و‬ ‫(‪ )1‬مسلم بن عبدال ال ُ‬
‫وفيات المشاهير و العلم ( عهد الخلفاء و الراشدين ) ‪ ،‬ص ‪ ، 535‬و المغازي للواقدي ص ‪. 750‬‬
‫(‪ )2‬لم أجد له ترجمة رغم البحث الشديد ‪.‬‬
‫ج ْندُب بن كعب‬
‫(‪ )3‬حدث تحريف و تصحيف في السم ‪ ،‬و عند مقارنة السماء بما ذكر ف تاريخ الطبري و الكامل لبن الثير ‪ ،‬نجد السم الصحيح هو ُ‬
‫بن عبدال بن جَزء بن عامر الزدي الغامدي ( ت ‪51‬هـ ) أبو عبد ال ‪ ،‬يلقب بجندب الخير ‪ ،‬صحابي جليل ‪ ،‬ذكره ابن حجر في الصابة من القسم الول‬
‫‪ ،‬و هو قاتل الساحر على الصحيح ‪،‬و سبب قتله الساحر أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما كان أميرا على الكوفة حضر عنده ساحر ‪ ،‬فكان بلعب بين‬
‫يدي الوليد ‪ ،‬يريه أنه يقتل رجل ثم يحييه ‪ ،‬فأخذ سيفا من صقيل و اشتمل عليه ‪،‬و جاء إلى الساحر فضربه ضربة فقتله ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬أحي نفسك ‪ ،‬ثم قرأ‬
‫‪ " :‬أفتأتون السحر و أنتم تبصرون " [ النبياء ‪ ]3 :‬فحبسه الوليد ‪ ،‬فلما رأى السجان صلته خلى سبيله ‪ ،‬فأخذ الوليد السجان فقتله ‪ ،‬ثم انطلق جندب‬
‫إلى أرض الروم فلم يزل يقاتل بها المشركين حتى مات ‪ .‬الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] (‪ ، )2/106‬و أسد الغابة ( ‪ ) 362-361 /1‬و تاريخ‬
‫الطبري [ طبعة دار المعارف ] ( ‪ ، ) 326 / 4‬و الكامل في التاريخ [ طبعة دار صادر ] ( ‪. )144 /3‬‬
‫جنْدُب بن زُهير بن الحارث بن كثير الزدي الغامدي ( ت ‪37‬هـ ) صحابي ‪ ،‬سكن الكوفة ‪ ،‬قيل هو قاتل الساحر ‪ ،‬و الصحيح غيره ‪ ،‬ذكره ابن حجر‬ ‫(‪ُ ) 4‬‬
‫في القسم الول من الصابة ‪ ،‬قتل بصفين و كان مع علي ‪،‬و هو ممن سيّره عثمان من الكوفة إلى الشام ‪ .‬الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪/7‬‬
‫‪ ) 103‬و أسد الغابة ( ‪ ) 359 /1‬و تاريخ السلم [ سيرة الخلفاء الراشدين ] ص ‪. 560‬‬
‫(‪ )5‬عمر بن زُرارة بن قيس بن عمرو النخعي ‪ ،‬قال ابن حجر في الصابة صحبته محتمله ‪ ،‬و هو ممن سيّره عثمان بن عفان من أهل الكوفة إلى الشام‬
‫‪،‬و هو أول من خلع عثمان ‪ .‬الصابة [طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪ ) 107 /7‬و أسد الغابة ( ‪. ) 720 /3‬‬
‫ججْر بن الحارث العبدي ( ت ‪63‬هـ ) أبو سليمان و يقال أبو عائشة ‪ ،‬أخو صعصعة و سحبان ن‬ ‫(‪ )6‬السم محرف و الصواب َزيْد بن صوحان بن ُ‬
‫اختلف في صحبته ‪،‬و ذكره ابن حجر في القسم الثالث من الصابة ‪ ،‬كان فاضل ديّنا خيّرا سيدا في قومه هو و إخوته ‪ ،‬شهد مع علي الجمل و قتل فيها ‪.‬‬
‫الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] (‪ )88 /4‬و أسد الغابة ( ‪ ) 193 / 2‬و تاريخ السلم قسم الخلفاء الراشدين ص ‪. 508‬‬
‫حرّف ‪ ،‬و السم الصحيح السود بن يزيد بن قيس النخعي ( ت ‪75‬هـ ) أبو عمرو ‪،‬و يقال ابو عبد‬ ‫(‪ )7‬لم أجد له ترجمة بهذا السم ‪،‬و ربما السم ُ‬
‫الرحمن ‪ ،‬تابعي كبير ‪ ،‬أدرك النبي و لم يره ‪ ،‬صاحب ابن مسعود ‪،‬و هو من فقهاء الكوفة و أعيانهم ‪ .‬الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪) 172 /1‬‬
‫و أسد الغابة ( ‪. ) 107 / 1‬‬
‫(‪ )8‬يزيد بن قيس بن تمام بم حاجب الهمداني الرحبي ‪ ،‬له إدراك ‪ ،‬و كان رئيسا كبيرا في قومه ‪ ،‬كان مع علي في حروبه ‪،‬و وله شركته ‪ ،‬ثم وله بعد‬
‫ذلك أصبهان و الري و همذان ‪ .‬الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪. ) 386 / 10‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )9‬لم أجد له ترجمة ‪ ،‬و في الصحابة و التابعين من اسمه كردوس و لم ينسب فلعله منهم ‪ ،‬انظر الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪ ) 279 /8‬و‬
‫أسد الغابة ( ‪. )166 – 165 /4‬‬
‫(‪ )10‬عامر بن عبد القيس بن قيس ‪ ،‬و يقال عامر بن عبد قيس بن ناش التميمي العنبري (ت ‪ 60 ~41‬هـ ) أبو عبدال ‪،‬و أبو عمرو البصري‬
‫الزاهد ‪ ،‬أدرك الجاهلية ‪ ،‬كان الحسن و ابن سيرين يكرهان أن بقول ‪ :‬عامر بن عبد قيس ‪،‬و يقول ‪ :‬عامر بن عبد ال ‪ ،‬شهد فتح المدائن ‪ ،‬تابعي ثقة‬
‫من كبار التابعين و عبادهم ذكره ابن حجر في الصابة في القسم الثالث ‪ .‬الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪ ) 237 /7‬و أسد ( ‪. ) 28 / 3‬‬
‫(‪ )11‬لم أجد له ترجمة ‪،‬و لكن وجدت ترجمة لشخص اسمه مذعور بن عدي العجلي ‪ ،‬فلعله هو ‪،‬و هذا له صحبة ‪ ،‬شهد مع خالد بن الوليد حصار‬
‫دمشق ‪ ،‬و وقعة اليرموك ‪،‬و له آثار في حرب الفرس ‪ ،‬من أهل العراق ‪ .‬الصابة [ طبعة الكليات الزهرية ] ( ‪ ) 157 / 9‬و أسد الغابة ( ‪. ) 357 /4‬‬
‫(‪ )12‬الوليد بن عقبة بن أبي معيط الموي القرشي ( ت ‪61‬هـ ) أبو وهب ‪ ،‬هو أخو عثمان بن عفان لمه ‪ ،‬وله عثمان على الكوفة بعد سعد بن أبي‬
‫وقاص سنة ‪25‬هـ ‪ ،‬فأقام بها أربع سنوات فشهد عليه جماعة عند عثمان بشرب الخمر فعزله و دعاه إلى المدينة و مات بالرقة ‪. )122 /8( .‬‬
‫(‪ )13‬الحشر ‪. 7 :‬‬
‫(‪ )14‬يونس ‪. 59 :‬‬
‫(‪ )15‬التوبة ‪. 60 :‬‬
‫(‪ )16‬الحزاب ‪. 36 :‬‬
‫(‪ )17‬التوبة ‪. 35-34 :‬‬
‫(‪ )18‬الشعراء ‪. 183 :‬‬
‫(‪ )19‬النساء ‪. 29 :‬‬
‫(‪ )20‬النفال ‪. 41 :‬‬
‫(‪ )21‬البقرة ‪. 275 :‬‬

‫و من عمل عثمان أنّه يحكم بغير ما أنزل ال ‪ ،‬و قد خالف سبيل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و سبيل‬
‫سبِيلِ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ نُ َوّلهِ مَا‬
‫صاحبيه ‪ ،‬و قال ال تعالى ‪َ " :‬ومَن ُيشَاقِقِ الرّسُولَ مِن َب ْعدِ مَا َتبَ ّينَ َلهُ الْ ُهدَى وَيَتّ ِبعْ غَ ْيرَ َ‬
‫تَوَلّى َو ُنصْ ِلهِ جَهَنّمَ َوسَاءتْ َمصِيرًا " (‪ ، )1‬و قال ‪َ " :‬ومَن لّمْ يَحْكُم ِبمَا أنزَلَ الّ فَأُ ْولَـ ِئكَ هُمُ الظّا ِلمُونَ " (‪، )2‬‬
‫و " الْكَا ِفرُونَ " ‪ ،‬و " ا ْلفَاسِقُونَ " ‪ ،‬و قال ‪ " :‬أَلَ لَ ْع َنةُ الّ عَلَى الظّا ِلمِينَ " (‪ ، )3‬وقال ‪َ " :‬ومَن يَ ْل َعنِ الّ فَلَن‬
‫ظَلمُواْ فَ َت َمسّ ُكمُ النّارُ " (‪ ، )5‬و قال ‪َ " :‬كذَ ِلكَ حَقّتْ َكِلمَتُ‬ ‫جدَ َلهُ َنصِيرًا " (‪ ، )4‬وقال‪ " :‬وَلَ َترْكَنُواْ إِلَى اّلذِينَ َ‬
‫تَ ِ‬
‫رَ ّبكَ عَلَى اّلذِينَ َفسَقُواْ أَنّ ُهمْ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ " (‪ ، )6‬و كلّ هذه اليات تشهد على عثمان ‪ ،‬و إنّما شهدنا عليه بما‬
‫شهدت به عليه هذه اليات ‪ " :‬لّـ ِكنِ الّ َيشْ َهدُ ِبمَا أَنزَلَ إِلَ ْيكَ أَنزَ َلهُ بِعِ ْل ِمهِ وَا ْلمَلئِ َكةُ َيشْ َهدُونَ َوكَفَى بِالّ شَهِيدًا "‬
‫(‪. )7‬‬

‫فلمّا رأى المسلمون الذي أتى به عثمان من معصية ال ‪ ،‬و المؤمنون شُ َهدَاء ال في أرضه ‪ ،‬ناظرون في أعمال‬
‫عمَلَ ُكمْ َو َرسُوُلهُ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ " (‪ )8‬وترك خصومة‬ ‫عمَلُواْ َفسَ َيرَى الّ َ‬ ‫الناس ‪ ،‬و قال ال عز و جل ‪َ " :‬وقُلِ ا ْ‬
‫سبَ النّاسُ‬ ‫ح ِ‬‫[الخصمين] في الحقّ و الباطل‪ ،‬و وقع ما وعد ال من الفتن ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪ " :‬الم (‪ )1‬أَ َ‬
‫ص َدقُوا وَلَ َيعْ َل َمنّ الْكَاذِبِينَ‬
‫أَن ُي ْترَكُوا أَن َيقُولُوا آ َمنّا َوهُمْ لَ ُيفْتَنُونَ (‪َ )2‬ولَ َقدْ فَ َتنّا اّلذِينَ مِن قَبْلِ ِهمْ فََليَعْ َل َمنّ الُّ اّلذِينَ َ‬
‫(‪. )9( ")3‬‬

‫علَمَ المسلمون أنّ طاعة عثمان على ذلك طاعة إبليس ‪ ،‬فساروا إلى عثمان في أطراف الرض ‪ ،‬و اجتمعوا‬ ‫و َ‬
‫إليه في ملءٍ من المهاجرين والنصار ‪ ،‬و عامة أزواج النبي – عليه الصلة والسلم ‪ ، -‬فأتوه فذكّروه بال ‪ ،‬و‬
‫أخبروه بالذي أتى من معاصى ال ‪ ،‬فزعم أنّه يعرف الذي يقولون ‪ ،‬و أنّه يتوب إلى ال عز و جل منه‪ ،‬و يراجع‬
‫الحقّ ‪ ،‬و قَبِلُوا منه الذي أتاهم به من العتراف بالذّ ْنبِ ‪ ]79[،‬و التّوبة إلى ال عزّ و جلّ ‪ ،‬و مراجعة الحقّ ‪ ،‬و‬
‫كان حقّاً على أهل السلم إذا التقوا بالحقّ أن يَقْ َبلُوه ‪ ،‬و يجامعوه ما استقام على الحقّ ‪ ،‬فلمّا تفرّقوا عنه ‪ ،‬نكث‬
‫الذي عاهدهم عليه ‪ ،‬و عاد إلى أعظم من الذي تاب منه ‪ ،‬فكتب إلى عماله في أدبارهم أن تقطع أيديهم و أرجلهم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫من خِلف ‪ ،‬فلمّا ظهر المؤمنون على كتابه و نكثه العهود رجعوا إليه و قتلوه بحكم ال ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل‬
‫طعَنُواْ فِي دِينِ ُكمْ فَقَاتِلُواْ أَ ِئ ّمةَ ا ْلكُ ْفرِ إِنّ ُهمْ لَ أَ ْيمَانَ لَ ُهمْ َلعَلّهُمْ يَنتَهُونَ " (‬
‫ع ْه ِدهِمْ وَ َ‬
‫‪َ " :‬وإِن نّكَثُواْ أَ ْيمَانَهُم مّن بَ ْعدِ َ‬
‫‪ )10‬و قد عمل بكتاب ال و جامع المسلمين زماناً ثم ارتد على عقبه ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪ِ " :‬إنّ اّلذِينَ‬
‫علَى َأدْبَارِهِم مّن بَ ْعدِ مَا َتبَ ّينَ لَهُمُ الْ ُهدَى الشّ ْيطَانُ سَوّلَ َلهُمْ َوَأ ْملَى لَهُمْ " (‪ )11‬فهذا و أمثاله من خبر‬ ‫ارْ َتدّوا َ‬
‫عثمان و الذي فارقه عليه المسلمون و المؤمنون و فارقناه عليه ‪ ،‬و طعنوا عليه فيه ‪ ،‬و طعنا نحن اليوم فيه ‪.‬‬

‫و ذكرت كونه مع رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬و خُلّته معه ‪ ،‬فقد كان علي ابن أبي طالب أقرب قرابة‬
‫إلى رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و أعظم خلة ‪ ،‬و أقدم هجرة ‪ ،‬و أسبق إسلماً ‪ ،‬و أنت تشهد له‬
‫بذالك ‪ ،‬و أنا بعد ذلك ‪.‬‬

‫خلّته ‪ ،‬هل كانت نجاة إذا ترك الحقّ أم هلكاً؟؟‪.‬‬


‫فكيف كانت قرابته و ُ‬

‫سنُ ِمنَ الّ‬


‫ح َ‬
‫و اعلم أنّ علمة كفر هذه المة إذا تركوا الحكم بما أنزل ال ‪ ،‬و حكموا بغير ما أنزل ال ‪َ " :‬و َمنْ أَ ْ‬
‫حدِيثٍ َب ْعدَ الِّ وَآيَا ِتهِ يُ ْؤمِنُونَ " (‪. )13‬‬
‫حُ ْكمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " (‪ ، )12‬و قال ‪ " :‬فَبِأَيّ َ‬

‫عزّ نفسك ‪ ،‬و ل تسند دينك إلى الرجال ‪ ،‬فإنّهم يستدرجون من حيث ل يعلمون‬ ‫فل يغرّنّك يا عبد الملك بن مروان ِ‬
‫‪ ،‬فإنّ أملك العمال خواتمها ‪ ،‬و كتاب ال جديد أبداً ل ينطق إل بالحقّ ‪ ،‬أجارنا ال بإتباعه أن نبغي أو نضلّ ‪،‬‬
‫فاعتصم بال يا عبد الملك بن مروان يهدك إلى صراط مستقيم ‪ ،‬قال ال عز و جل [‪َ " :]80‬ومَن يَعْ َتصِم بِالّ فَ َقدْ‬
‫ستَقِيمٍ " (‪ ، )14‬و كتاب ال هو حبل ال المتين الذي أمر المؤمنين أن يعتصموا به فقال‪" :‬‬ ‫صرَاطٍ ّم ْ‬
‫ُهدِيَ إِلَى ِ‬
‫جمِيعًا وَلَ تَ َف ّرقُواْ " (‪ ، )15‬فأنشدك ال أن َتدَبّر معاني القرآن فتكون مهتدياً به ‪ ،‬مخاصماً‬ ‫صمُواْ ِبحَبْلِ الّ َ‬
‫وَاعْ َت ِ‬
‫به ‪ ،‬قال ال عز و جل ‪َ " :‬أ َفلَ يَ َت َد ّبرُونَ الْ ُقرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ َأقْفَالُهَا " (‪. )16‬‬
‫================================‬
‫(‪ )1‬النساء ‪.115 :‬‬
‫(‪ )2‬المائدة ‪.45:‬‬
‫(‪ )3‬هود ‪.18 :‬‬
‫(‪ )4‬النساء ‪.52:‬‬
‫(‪ )5‬هود‪113 :‬‬
‫(‪ )6‬يونس ‪.33 :‬‬
‫(‪ )7‬النساء ‪.166 :‬‬
‫(‪ )8‬التوبة ‪.105 :‬‬
‫(‪ )9‬العنكبوت ‪.3-1 :‬‬
‫(‪ )10‬التوبة ‪.12 :‬‬
‫(‪ )11‬محمد ‪. 25:‬‬
‫(‪ )12‬المائدة ‪.50 :‬‬
‫(‪ )13‬الجاثية ‪. 6 :‬‬
‫(‪ )14‬آل عمران ‪.101 :‬‬
‫(‪ )15‬آل عمران‪. 103 :‬‬
‫(‪ )16‬محمد ‪. 24 :‬‬

‫و أما قولك في معاوية أنّ ال قام معه ‪ ،‬وعجّل نصره ‪ ،‬و بَ َلجَ حجته ‪ ،‬و أظهره على عدوه بطلب لدم عثمان ‪،‬‬
‫فإن كنت تعتبر الدّين من قبل الدولة و الغلبة في الدنيا ‪ ،‬فإنّا ل نعتبره من قبل ذلك ‪ ،‬فقد ظهر المسلمون على‬
‫الكافرين لينظر كيف يعملون ‪ ،‬و ظهر المشركون على المؤمنين ليبلي المؤمنين و يملي للكافرين و قال " َوتِ ْلكَ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫حصَ الّ‬ ‫خذَ مِن ُكمْ شُ َهدَاء وَالّ لَ ُيحِبّ الظّا ِلمِينَ (‪َ )140‬ولِ ُيمَ ّ‬
‫اليّامُ ُندَاوِلُهَا بَ ْينَ النّاسِ وَلِ َيعْلَمَ الّ اّلذِينَ آمَنُواْ َويَتّ ِ‬
‫اّلذِينَ آ َمنُواْ وَ َي ْمحَقَ الْكَا ِفرِينَ (‪ ، )1( ")141‬و انظر ما أصاب المؤمنين من المشركين يوم أحد ‪ ،‬و انظر كيف‬
‫ظهر قتلة عثمان بن عفان عليه و على شيعته يوم الدار ‪ ،‬و ظهر عليّ على أهل البصرة وهم شيعة عثمان (‪، )2‬‬
‫ختَار ‪ ،‬و ظهر أهل الشام‬ ‫ختَارُ (‪ )3‬على زيد (‪ )4‬و أصحابه و هم شيعتهم ‪ ،‬و ظهر ُمصْعَبُ على المُ ْ‬ ‫و ظهر المُ ْ‬
‫على أهل المدينة (‪ ، )5‬و ظهر الزبير على أهل الشام بمكة ‪.‬‬

‫فل تعتبر الدّين من قبل الدولة ‪ ،‬فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ‪ ،‬و قد أعطى ال فرعون مُلْكاً و ظهر في‬
‫الرض ‪ ،‬و أعطى الذي حاج إبراهيم في ربه ملكاً ‪.‬‬

‫ثمّ إنّ معاوية إنمّا اشترى المارة من الحسن بن علي ‪ ،‬ولم يفِ له بما اشترطه عليه ‪ ،‬و عاهد ال العظيم ليوفين‬
‫له ‪ ،‬و قد قال ال عز و جل ‪َ " :‬ولَ تَن ُقضُواْ ا َل ْيمَانَ بَ ْعدَ تَوْكِي ِدهَا " (‪. )6‬‬

‫فل تسأل عن معاوية و عن صناعته غيري ‪ -‬أي أنا أعرف به من [‪ ]81‬غيري ‪ -‬لنّي قد أدركته ‪ ،‬و رأيت عمله‬
‫و سيرته ‪ ،‬و ل أعلم أحداً من الناس أترك للقسمة التي قسمها ال ‪ ،‬و ل لحكم حكمه ال ‪ ،‬و ل أسفك لدم حرّمه‬
‫ال منه ‪ ،‬فلو لم ُيصِبْ من البليا إل دم ابن سمية لكان فيه ما يكفره ‪ ،‬ثمّ استخلف ابنه يزيد ‪ ،‬فاسقاً لعيناً كافراً‬
‫شارباً للخمر فيكفيه من الشر ‪ ،‬فل يخفى عمل معاوية و يزيد على كل عاقل ‪.‬‬

‫فاتّق ال يا عبدالملك ‪ ،‬و ل تخادع نفسك في معاوية ‪ ،‬فقد أدركنا أهل بيتكم يطعنون في معاوية ويزيد ‪ ،‬و يعيبون‬
‫عليهما كثيراً مما يصنعون ‪ ،‬فمن يتولى عثمان ومن معه فإنّي أشهد ال وملئكته أنّي بريء منهم ‪ ،‬أعداء لهم‬
‫بأيدينا و ألسنتنا و قلوبنا ‪ ،‬نعيش على ذلك ‪ ،‬و نموت عليه إذا متنا ‪ ،‬و نُبْ َعثُ عليه إذا بعثنا ‪ ،‬و نحاسب لذلك‬
‫عند ال ‪.‬‬

‫و كتبتَ إليّ تحذرني الغلو في الدين ‪ ،‬أعوذ بال من الغلو ‪ ،‬و سأبين لك ما الغلو في الدّين إذا جهلته ‪ ،‬فالغلو في‬
‫الدّين أن يقال على ال غير الحقّ ‪ ،‬و ُي ْعمَلُ بغير كتاب ال الذي بيّن ‪ ،‬و سنة نبيه التي سنّ ‪ ،‬وقال ال ‪ " :‬يَا َأهْلَ‬
‫حقّ " (‪ ، )7‬وقال ‪ " :‬يَا َأهْلَ الْ ِكتَابِ لَ تَ ْغلُواْ فِي دِينِ ُكمْ غَ ْيرَ‬
‫الْكِتَابِ لَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَ تَقُولُواْ عَلَى الّ إِلّ الْ َ‬
‫الْحَقّ " (‪. )8‬‬

‫كما غل عثمان و الئمة بعده ‪ ،‬و أنت بَ ْعدُ على سبيلهم و طاعتهم ‪ ،‬تجامعهم على معصية ال [ و تتبعهم ‪ ،‬و قد‬
‫اتبعوا أهواءهم و تبعتهم أنت عليها ‪ ،‬وقال ال عز و جل " َولَ َتتّبِعُواْ َأهْوَاء] (‪ )9‬قَوْمٍ َقدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ َوَأضَلّواْ‬
‫كَثِيرًا َوضَلّواْ عَن سَوَاء السّبِيلِ " (‪ )10‬فهؤلء هم أهل الغلو في الدين ‪ ،‬فليس من غضب ل حين عُصي ‪ ،‬و‬
‫رضي بحكم ال ‪ ،‬و دعي إلى كتاب ال ‪ ،‬و إلى سنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬و سنة المؤمنين‬
‫بعده بغالٍ في الدّين ‪.‬‬

‫و كتبت إليّ تُ َعرّض بالخوارج ‪ ،‬و تزعم أنّهم يغلون في الدّين ‪ ،‬و يتبعون غير سبيل المؤمنين ‪ ،‬و يُفَارِقُون [‪]82‬‬
‫أهل السلم ‪ -‬و أراد بذلك الغمز من المسلمين ‪ ،‬و الطّعن فيهم ‪ ،‬فألجمه ابن إباض – رحمه ال – بما أبداه له‬
‫قائل له في صراحة من القول ‪ -‬و أنا أُبيّن لك سبيلهم ‪ ،‬هم أصحاب عثمان الذين أنكروا عليه ما أحدث من‬
‫بدعة ‪ ،‬و فارقوه حين ترك حكم ال ‪ ،‬و هم أصحاب الزبير و طلحة حين نكثا‪ ،‬و أصحاب معاوية حين بغى‪ ،‬و‬
‫أصحاب علي حين بدّل حكم ال ‪ ،‬و حكّم عبدال بن قيس و عمرو بن العاص ‪ ،‬فهم فارقوا هؤلء كلهم ‪ ،‬و أبوا‬
‫أن يفرقوا بحكم البشر دون حكم ال ‪ ،‬فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة و أشدّ مفارقة ‪.‬‬

‫كانوا يتولون في دينهم و سنة نبيهم محمد – صلى ال عليه و سلم – و أبي بكر و عمر – رضي ال عنهما – و‬
‫يدعون إلى سبيلهم ‪ ،‬و يرضون على ذلك ‪ ،‬كانوا يخرجون ‪ ،‬و إليه يدعون ‪ ،‬و عليه يفارقون ‪ ،‬و قد علم من‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عرفهم ‪ ،‬و عرف حالهم ‪ ،‬أنّهم كانوا أحسن عملً ‪ ،‬و أشد قتالً في سبيل ال ‪.‬‬

‫هذا خبر الخوارج ‪ ،‬شهد ال و ملئكته أنّا لمن عاداهم أعداءنا ‪ ،‬و لمن والهم أولياؤنا بألسنتنا ‪ ،‬و أيدينا ‪ ،‬و‬
‫قلوبنا ‪ -‬أي نحن معهم لكونهم على الحقّ ‪ ،‬و لو أراد عبدال بن إباض ‪ )11( ....‬لكان و جدها عند عبد الملك‬
‫المذكور ‪ -‬و لكنا نعيش على ذلك ما عشنا ‪ ،‬و نموت عليه إذا متنا ‪ ،‬و نبعث عليه عند ربنا ‪.‬‬

‫==========================‬
‫(‪ )1‬آل عمران ‪. 141-140 :‬‬
‫(‪ )2‬يعنى معركة الجمل ‪ ،‬التي دارت بين علي بن أبي طالب و طلحة و الزبير ‪.‬‬
‫(‪ )3‬المختار بن أبي عبيدة بن مسعود الثقفي (ت ‪68‬هـ) أبو إسحاق ‪،‬من زعماء الثائرين على بني أمية ‪،‬و أحد الشجعان الفذاذ ‪ ،‬لما قتل الحسين سنة‬
‫‪61‬هـ ‪ ،‬انحرف المختار عن عبيد ال بن زياد ‪ ،‬فقبض عليه ابن زياد و جلده و حبسه ‪،‬و نفاه بشفاعة ابن عمر إلى الطائف ‪ ،‬و لما مات يزيد بن‬
‫معاوية سنة ‪64‬هـ ‪ ،‬قام عبدال بن الزبير في المدينة بطلب الخلفة ‪ ،‬ذهب إليه المختار ‪ ،‬و عاهده ‪،‬و شهد معه بداية حرب الحصين بن نمير ‪ ،‬استأذنه‬
‫في التوجه إلى الكوفة ليدعو الناس إلى طاعته ‪ ،‬فوثق به و أرسله ‪،‬و لكان كان أكبر همه منذ دخل الكوفة أن يقتل من قاتلوا الحسين و قتلوه ‪ ،‬فدعا إلى‬
‫إمامة محمد بن الحنفية ‪ ،‬فبايعه زهاء سبعة عشر ألف رجل سرا فخرج بهم ‪ ،‬و سيطر على الكوفة و الموصل و قتل من قتل الحسين ‪،‬و عمل مصعب‬
‫بن الزبير ‪،‬و هو أمير البصرة بالنيابة عن أخيه عبد اللهو قاتل المختار حتى قتله و قتل من كان معه ‪ .‬العلم ( ‪. )192 / 7‬‬
‫(‪ 4‬تحريف و أصله " ابن زياد " و هو عبيد ال بن زياد بن أبيه ( ‪28‬هـ ‪67 -‬هـ ) والٍ ‪ ،‬فاتح ‪ ،‬من الشجعان ‪ ،‬جبار ‪ ،‬خطيب ‪،‬ولد بالبصرة ‪ ،‬عينه‬
‫معاوية أميرا على البصرة سنة ‪55‬هـ ‪ ،‬و أقره يزيد عليها ‪ ،‬قتله ابن الشتر قائد المختار الثقفي ‪ .‬العلم ( ‪. ) 193 /4‬‬
‫(‪ 5‬في أثناء حكم يزيد بن معاوية و على يد قائده مسلم بن عقبة المري ‪.‬‬
‫(‪ 6‬النحل ‪.91 :‬‬
‫(‪ 7‬النساء ‪. 171 :‬‬
‫(‪ 8‬المائدة‪.77 :‬‬
‫(‪ 9‬سقط من الصل ‪ ،‬فأتممناها من الجواهر المنتقاة ‪.‬‬
‫(‪10‬المائدة ‪. 77 :‬‬
‫(‪ 11‬كذا بالصل ‪،‬و سياق الكلم يدل على سقط يوجد هنا ‪.‬‬

‫إنّا ُبرَاء إلى ال من نافع بن الزرق (‪ )1‬و صنيعه و أتباعه ‪ ،‬و لقد كان حين خرج على السلم فيما ظهر لنا ‪-‬‬
‫أي كانوا هو و أتباعه من جملة رجال المسلمين ‪ -‬و لكنّه أحدث ‪ ،‬و ارتدّ و كفر بعد إسلمه ‪ ،‬فنبرأ إلى ال منهم‬
‫‪.‬‬

‫و أنت كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك ‪ ،‬و أجتهد لك في النصيحة ‪ ،‬و ذكرتني بال و أفضل ما ذكّرتني به‬
‫خذَ‬
‫أن قلت " ِإنّ اّلذِينَ َيكْ ُتمُونَ مَا أَنزَلْنَا ِمنَ ا ْلبَيّنَاتِ وَالْ ُهدَى مِن بَ ْعدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ " (‪ )2‬الية " َوِإذَ أَ َ‬
‫الّ مِيثَاقَ اّلذِينَ أُوتُواْ [‪ ]83‬الْ ِكتَابَ لَ ُتبَيّ ُن ّنهُ لِلنّاسِ وَلَ تَ ْك ُتمُو َنهُ " (‪ )3‬فقد بينت لك و أخبرتك خبر الئمة ‪ ،‬و كان‬
‫حقاً علي أن أنصح لك ‪ ،‬فإنّ ال لم يتخذني عبداً لكفر به ‪ ،‬و ل مخادع الناس بشيء ليس في نفسي ‪ ،‬و أخالف‬
‫إلى ما أنها عنه ‪.‬‬

‫أدعوكم إلى كتاب ال و سنة نبيه – صلى ال عليه و سلم – لتحل الحلل و تحرم الحرام ‪ ،‬و ل تظلموا الناس‬
‫شيئاً ‪ ،‬و أن يكون كتب ال حكماً بيني و بينكم فيما اختلفنا فيه ‪ ،‬و أن نتولّى من تولى ال ‪ ،‬و أن نبرئ ممن تبرأ‬
‫ال منه ‪ ،‬و أن نطيع من أمر ال بطاعته ‪ ،‬و نعصى من أمر ال بعصيانه في كتابه ‪ .‬فهذا الذي أدركنا عليه نبينا‬
‫– صلى ال عليه و سلم و آله ‪ ، -‬و إنّ هذه المة لم تسفك دما إل حين ترك كتاب ال و سنة رسوله ونبيه ‪ ،‬و‬
‫علَ ْيهِ تَوَكّلْتُ َوِإلَ ْيهِ أُنِيبُ " (‪ )4‬و‬
‫ح ْك ُمهُ إِلَى الِّ ذَِلكُمُ الُّ رَبّي َ‬
‫يءٍ فَ ُ‬
‫قد قال ال عز و جل " َومَا اخْتََلفْتُمْ فِيهِ مِن شَ ْ‬
‫القرآن هو السبيل الواضح الذي هدى ال به من كان قبلنا محمداً و أصحابه الخليفتين الصّالحين ‪ ،‬و ل يضلّ من‬
‫سبِي ِلهِ‬
‫صرَاطِي ُمسْ َتقِيمًا فَاتّبِعُوهُ َولَ َتتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَ َفرّقَ بِكُمْ عَن َ‬
‫تبعه ‪ ،‬و ل يهتدي من تركه ‪ ،‬و قال " َوَأنّ هَـذَا ِ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫" (‪. )5‬‬

‫فاحذر أن تتفرق بك السبل و تتبع هواك ‪ ،‬فإنّ الناس إنما يتبعون في الدنيا و الخرة إمامين ‪ :‬إمام هدى و إمام‬
‫ضلل ‪ ،‬فإمام الهدى الذي يتبع كتاب ال و يقسم بقسمة ال ‪ ،‬و يحكم بحكم ال ‪ ،‬و هو الذي قال ال عز و جل‬
‫فيه " وَجَ َعلْنَا ُهمْ أَ ِئ ّمةً يَ ْهدُونَ بِ َأ ْمرِنَا " (‪ )6‬و هؤلء هم الئمة الذين أمر ال بطاعتهم و نهى عن معصيتهم ‪.‬‬
‫و أمّا أئمة الضلل فهم الذين يحكمون بغير ما أنزل ال ‪ ،‬و يقسمون بغير قسمة ال ‪ ،‬و يتبعون أهوائهم بغير‬
‫سنة من ال ‪ ،‬فهؤلء هم الذين قال ال عز و جل فيهم " وَجَ َعلْنَا ُهمْ أَ ِئ ّمةً َي ْدعُونَ إِلَى [‪ ]84‬النّارِ وَيَوْمَ الْ ِقيَا َمةِ لَ‬
‫طعْ َمنْ َأغْفَلْنَا قَ ْل َبهُ‬
‫جهَادًا َكبِيرً " (‪ )8‬وقال " َولَ ُت ِ‬ ‫طعِ الْكَا ِفرِينَ وَجَا ِه ْدهُم ِبهِ ِ‬ ‫صرُونَ " (‪ )7‬و فيهم قال " َفلَ تُ ِ‬ ‫يُن َ‬
‫ضلَلُ " (‪. )11‬‬ ‫حقّ " (‪َ " ، )10‬فمَاذَا بَ ْعدَ ا ْلحَقّ إِلّ ال ّ‬ ‫علَيْكُم بِالْ َ‬
‫طقُ َ‬
‫عَن ذِ ْكرِنَا وَاتّ َبعَ هَوَاهُ " (‪َ " )9‬هذَا ِكتَا ُبنَا يَن ِ‬

‫فل تضربن عنك الذكر صفحاً ‪ ،‬و ل تش ّكنّ في كتاب ال ‪.‬‬

‫و قد كتبت إليّ بمرجوع كتابك فأنشدك ال لما قرأته و أنت مشغول حتى تتفرّغ له ‪ ،‬و تتدبر معانيه ‪ ،‬و تنظر فيه‬
‫بعين البصيرة ‪ ،‬و اكتب إليّ جواب كتابي هذا إن استطعت ‪ ،‬و انزع إليّ الشواهد من كتاب ال و البينة منه ‪،‬‬
‫فاصدق بذلك قولك ‪ ،‬و ل تعرّض لي بالدنيا فإنّه ل رغبة لي في فيها ‪ ،‬و ليست من حاجتي ‪ ،‬و لكن لتكن‬
‫نصيحتك لي في الدّين و لما بعد الموت ‪ ،‬فإن ذلك أفضل النصيحة ‪.‬‬

‫و ال قدير أن يجمع بيننا و بينك على الطّاعة ‪ ،‬فإنّه ل خير فيمن لم يكن على طاعة ال ‪ ،‬و بال التوفيق و فيه‬
‫الرضا ‪ ،‬و السلم عليك "‬

‫إلى هنا انتهى كتاب عبدال بن إباض – رحمه ال و رضي عنه – لعبد الملك بن مروان ‪ ،‬و فيه من الرشد ‪ ،‬و‬
‫النصح ‪ ،‬و الهدى ‪ ،‬و النهي عن مجانبة الحق ‪ ،‬و البعد منه‪ ،‬و المقاربة للباطل‪ ،‬و المتابعة له ‪ ،‬فإن متابعة‬
‫الباطل توجب الباطل و الردى ‪ ،‬و ل يخفى ذلك على أحد ‪.‬‬
‫=====================================‬
‫(‪ )1‬نافع بن الزرق بن قيس الحنفي البكري الحروري ( ت ‪65‬هـ ) أبو راشد ‪ ،‬رأس الزارقة ‪،‬و إليه نسبتهم ‪ ،‬كان أمير قومه و فقيههم ‪ ،‬صحب أول‬
‫أمره عبد ال بن عباس ‪،‬و له أسئلة ‪ ،‬كان من أنصار الثورة على عثمان ‪،‬ن و اعتزل قضية التحكيم ‪ ،‬و خرج نافع يعترض الناس بعد رجوعه من‬
‫نصرة ابن الزبير ‪،‬و كان جبارا فتاكا ‪ ،‬قاتله المهلب بن أبي صفرة و لقي الهوال في حربه ‪ ،‬و قتل يوم " دولب " على مقربة من الهواز ‪ .‬العلم (‬
‫‪. )352 /7‬‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪.159 :‬‬
‫(‪ )3‬آل عمران ‪.187 :‬‬
‫(‪ )4‬الشورى‪.10 :‬‬
‫(‪ )5‬النعام ‪. 153 :‬‬
‫(‪ )6‬النبياء ‪. 73 :‬‬
‫(‪ )7‬القصص ‪. 41 :‬‬
‫(‪ )8‬الفرقان ‪. 52 :‬‬
‫(‪ )9‬الكهف ‪. 28 :‬‬
‫(‪ )10‬الجاثية ‪. 29 :‬‬
‫(‪ )11‬يونس ‪. 32 :‬‬

‫و هذا كان دأب العلماء الذين جعلهم ال حجة في الدين ‪ ،‬و عمدة في المسلمين ‪ ،‬ل ينظروا إلّ إلى رضى ال عز‬
‫و جل ‪ ،‬و إن أُهلكوا و مزقوا إرباً إرباً ‪ ،‬ل يبالون بذلك في سبيل ال عز وعل ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و إذا ألقى العاقل نظرة إلى كتاب عبد ال بن إباض – رحمه ال – علم منه مكانة الرجل من الحق ومنزلته‬
‫العلمية ‪ ،‬و ل رجال يُحيي بهم ما أماتته الجبابرة ‪ ،‬و يوضح بهم سبيل الخرة ‪ ،‬فهم ظنائن ال في خلقه ‪ ،‬يرشد‬
‫بهم الجاهل ‪ ،‬و يهدي بهم الحيران ‪ ،‬و يظهر بهم معالم الدين ‪ ،‬و يدعو بهم إلى سبيل المؤمنين ‪ ،‬نسأل ال‬
‫الرضى و التوفيق لنيل الهدى [‪ ]85‬إنه كريم رحيم ‪.‬‬

‫سلَمِ‬
‫و عن الشيخ الفقيه الفاضل سالم بن حمد بن سليمان (‪ )1‬قال ‪ " :‬قال ال عز و جل " َومَن يَ ْب َتغِ غَ ْيرَ ا ِل ْ‬
‫سلَمُ" (‪ ، )3‬و قال سبحانه و تعالى " َأ َفمَن كَانَ‬ ‫دِينًا فَلَن يُ ْقبَلَ مِ ْنهُ " (‪ )2‬و قال جل و عل " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬
‫مُ ْؤمِنًا َكمَن كَانَ فَاسِقًا لّ َيسْتَوُونَ " (‪ ، )4‬و السلم واليمان معناهما واحد ‪ ،‬و إن اختلفا لغة ‪ ،‬فالختلف‬
‫لفظي"‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬ل على الطلق بل يختلفان في مواضع جاء بها القرآن واضحةً نيرةً ‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬و هما اللذان بعث ال [ بهما ] الرسل ‪ ،‬وأنزل بهما الكتاب ‪ ،‬و أقام بهما السماوات و الرض ‪ ،‬و بهما‬
‫وَعدَ الجنة ‪ ،‬و بهما تَوعّد النّار ‪ ،‬و لجلهما خلق الخلق ‪ ،‬و خلق لهم الرض ‪ ،‬وخلق الجنّة و النّار ‪ ،‬وعليهما‬
‫مات رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله ‪ ، -‬و من استقام من أصحابه – رضوان ال عليهم ‪ ، )5( -‬و‬
‫عليهما سلك من صلح من الئمة و الصالحين من بعدهم إلى قيام الساعة ل تبديل لكلمات ال و ل إطفاء لنوره ‪،‬‬
‫طفِؤُوا نُورَ الِّ بِ َأفْوَاهِهِمْ وَالُّ ُمتِمّ نُو ِرهِ وَلَوْ َك ِرهَ الْكَافِرُونَ " (‪ )6‬تلك هي‬
‫و لو حاول من حاول " ُيرِيدُونَ لِيُ ْ‬
‫معارف ابن إباض في الفقه ‪ ،‬و في الهتداء إلى ال عز و جل ‪ ،‬و في الثبات في الزمات على الحق ‪ ،‬و في‬
‫إتباع ما شرع ال لعباده ‪ ،‬و ما افترض عليهم من الواجبات ‪ ،‬وفي نصح الملوك ‪ ،‬وتبيين الحق ‪ ،‬و إلزامهم‬
‫الحجة التي أوجب ال عز و جل إلزامها العباد ‪ ،‬غير مداهن ‪ ،‬و ل مُداجٍ ‪ ،‬و ل متزلف – حاشاه ‪ ، -‬و تلك أقواله‬
‫لعبد الملك بن مروان ‪ ،‬و تصريحاته له عما هو عليه ‪ ،‬دالة واضحة صريحة ‪ ،‬و كان نطاق الملوك إذ ذاك‬
‫ضيقاً ‪ ،‬و كان أمرهم على المة شديداً ‪ ،‬و بالخص على أهل العلم ؛ فإنّهم ل يزالون في السلسل و الغلل و‬
‫القيود ‪ ،‬و لم يرع ذلك عبدال بن إباض – رحمه ال – وما آل جُهداً في مناقشة عبد الملك بن [‪[ ]86‬مروان ]‪،‬‬
‫وإظهار سيرته و تأنيبه بما فيه و عليه ‪.‬‬

‫و ذلك هو الواجب على كل مسلم يرى نفسه مسئولً أمام ال عز و جل ‪ ،‬كما قال ال ‪ " -:‬لَتُ َبيّنُ ّنهُ لِلنّاسِ َولَ‬
‫تَ ْك ُتمُو َنهُ " (‪. )7‬‬

‫و لم يخف عبدال بن إباض عبدالملك وسلطانه و ل حاباه و ل توقاه ‪ ،‬و يدلك على صحة ذلك أنّه كان ل يخاطبه‬
‫إل باسمه ‪ ،‬و ل يزيده على عبدالملك ‪ ،‬و يقدم اسمه عليه في كتبه عملً بالسنة ‪ ،‬و إتباع نهج أهل الحقّ من‬
‫الصحابة و التابعين ‪ ،‬و تعززاً بالعلم ‪ ،‬و اعتماداً على الحق ‪....‬‬

‫ولما كان عبدال بن إباض بهذه الحال كانت له شُهرة بين رجال العلم ‪ ،‬و قام له صيت شاع في العالم السلمي‬
‫أيده عليه رجال العلم ‪ ،‬وصوّبوه إل الذين ل يرون إل طاعة الملوك جاروا أم عدلوا ‪ ،‬و هؤلء هم الذين قام (‪)8‬‬
‫الملوك على هامات الناس حيث أوجبوا طاعتهم ‪ ،‬و لم يروا خلفهم في شيء‪ ،‬وتأولوا فيهم الدلة ‪ ،‬و ليست لهم‬
‫‪ ،‬و رَضوا بهم حكاماً على عباد ال جاروا فيهم أم عدلوا ‪ ،‬و لم يرد القرآن و السنة النبوية إل برد كل باطل من‬
‫أي كان صغيراً أم كبيراً‪ ،‬ملكاً كان أو مملوكا ‪ ،‬ل فرق في ذلك ‪.‬‬

‫أما ‪ " :‬إن عدلوا فاحمدوا ال ‪ ،‬و إن جاروا فصبروا " (‪ )9‬و نحو هذه الحاديث ‪ ،‬فهذا عند العجز عن القيام‬
‫عليهم ‪ ،‬فيجب أولً النّصح لهم فإن رجعوا إلى الحق فبها و نعمت ‪ ،‬و إل وجب عزلهم عن المر و تولية‬
‫المحق ‪ ،‬و على هذا قاتل المسلمون عثمان بن عفان الخليفة الثالث الذي ثبتت إمامته بإجماع ‪ ،‬لما جار ناصحوه‬
‫أولً ‪ ،‬ثم قاموا عليه وقتلوه ‪ ،‬وكلهم قاتله إل حاشيته و خدمه و خاصته من أهل المطامع ‪ ،‬و كان هذا قانوناً‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫حمِيدٍ " (‪[ )10‬‬
‫سماوياً وضعه ال في كتابه الذي " لَ َيأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن َب ْينِ َيدَ ْيهِ َولَ ِمنْ خَلْ ِفهِ تَنزِيلٌ ّمنْ حَكِيمٍ َ‬
‫عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِن ُذرّيّتِي قَالَ لَ َينَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " (‪. )11‬‬ ‫‪ ]87‬قال ال عز و جل ‪ " :‬قَالَ إِنّي جَا ِ‬

‫ذلك لنّ الحق ضد الظالم ‪ ،‬فإذا كان متسلطاً على الحق فكيف يقوم الحق ؟ ‪ ،‬و الحال تكون المور متناقضة يرد‬
‫بعضها بعضاً ‪ ،‬فهذا من الفساد الذي تؤيده العقول ‪ ،‬و تشهد ببطله النقول ‪ ،‬فالمسلمون يؤيدون من بني أمية‬
‫عمر بن عبد العزيز لكونه كان على الحق ‪ ،‬و أمّا من عداه فل ‪ ،‬ذلك أصحّ دليل الباضية ‪ ،‬و يشهد بصحة‬
‫مذهبهم ‪ ،‬و يُعرب عن حسن أعملهم في الدين ‪. ...‬‬

‫و كان عبدال بن إباض من هذا النوع ‪ ،‬و لذلك صارت له شهرة في العالم ‪ ،‬فأيّده المسلمون عليها في أنحاء‬
‫العالم ‪ ،‬و بذلك أضيفوا إليه فقيل لهذا الجنس من المة إباضية ‪ ،‬و شاع فيهم ‪ ،‬و لم يتبرموا منه خلف‬
‫المتمذهبين تقليداً لشيخ ‪ ،‬أو لمام من أئمة العلم فيما قال ‪ ،‬و اعتماداً عليه ‪ ،‬وتقديماً له حتى على النصوص‬
‫الشرعية ‪ ،‬فيقولون مذهب إمامنا ل نرى أن تقتحمه إلى غيره ‪ ،‬و هذا فاسد باطل بل على كل مسلم أن يقدم‬
‫النص الشرعي على كل حال ‪ ،‬إل إن لم يجده وجب أن يجتهد ‪ ،‬و معنى يجتهد‪ :‬أي يبذل ما لديه من الجهد ‪ ،‬و‬
‫الوسع والطاقة في التماس ما يكون من جنس ما هو أمسُ بالشَبَه و الصفة ‪ ،‬ويأخذ ما يدل عليه بطريق‬
‫الستنباط ‪ ،‬ل يقلد عالماً مثله ‪ ،‬و يركن إلى قوله من غير أن يعرفه حقاً أم باطلً ‪ ،‬ويعتمد عليه ‪ ،‬أما إذا كان من‬
‫الذين ل يهتدون إلى هذا ‪ ،‬وأرد أن يعمل ‪ ،‬أو المراد أن يقول ‪ ،‬جاز له أن يأخذ قول أحد العلماء الذين يظنّ أنهم‬
‫أعلم بالحوال ‪ ،‬و أقرب منها مثالً ‪ ،‬و أولها وجهاً ‪ ،‬و أبينها صورة ‪ ،‬طلباً للحق و إتباعـاً له‪]88[.‬‬

‫===============================‬
‫(‪ )1‬سالم بن حمد بن سليمان بن حميد الحارثي المضيربي ‪ ،‬أبو عبدال ‪ ،‬عماني ‪ ،‬معاصر ولد سنة ( ‪1352‬هـ ‪1933 -‬م ) بالمضيرب من شرقية‬
‫عمان ‪ ،‬تتلمذ على الشيخ ناصر بن حميد الراشدي ‪ ،‬و الشيخ ناصر بن سعيد النعماني ‪ ،‬و الشيخ خلفان بن جميل السيابي ‪ ،‬أدرك المام محمد بن‬
‫عبدال الخليلي و الشيخ عيسى بن صالح الحارثي ‪ ،‬قام بطبع فتاوى المام الخليلي ‪ ،‬وفتاوى المير عيسى بن صالح الحارثي ‪ ،‬و فتاوى صالح بن علي‬
‫الحارثي ‪ ،‬و فتاوى العلمة عبدال بن حميد السالمي ‪ ،‬وقام بتحقيق كتاب منهج الطالبين و بلغ الراغبين في واحد عشرين جزء ‪ ،‬وغيره من كتب‬
‫التراث ‪ ،‬وله من الكتب العقود الفضية في أصول الباضية ‪ ،‬و المسالك النقية ‪ ،‬و النخلة ‪.‬‬
‫(مقدمة العقود الفضية ‪ )3/‬و لم استطع الحصول على المصدر الذي نقل منه المؤلف هذا الكلم ‪.‬‬
‫(‪ )2‬آل عمران ‪. 85 :‬‬
‫(‪ )3‬آل عمران ‪. 19 :‬‬
‫(‪ )4‬السجدة ‪. 18 :‬‬
‫(‪ )5‬كرر المؤلف هنا الترضية سهوا‬
‫(‪ )6‬الصف ‪. 8 :‬‬
‫(‪ )7‬آل عمران ‪. 187 :‬‬
‫(‪ )8‬كذا في الصل ‪ ،‬و هو غير واضح المعنى ‪ ،‬ولعل الصحيح " أقاموا " ‪.‬‬
‫(‪ )9‬لم أجده بهذا اللفظ ‪ ،‬و لكن صاحب كنز العمال ذكر طائفة كبيرة من الحاديث بهذا المعنى ‪ ،‬تحت عنوان " إطاعة المير و الترهيب عن البغي و‬
‫مخالفته " ‪ ،‬فمن أراد أن يطلع عليها فليرجع إليها في الجز السادس من ص ‪ 49‬إلى ص ‪ 67‬و هي معزوة إلى مخرجيها ‪.‬‬
‫(‪ )10‬فصلت ‪. 42 :‬‬
‫(‪ )11‬البقرة ‪. 124 :‬‬

‫المقام الثالث‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عرَفِ الرّجَالَ بِالحَقّ ل الحَقّ بالرّجَالِ]‬
‫[ا ْ‬

‫[ الشرح ]‬

‫كنّا وضعنا لهذا المقام عنواناً هو " اعرف الرجال بالحق ل الحق بالرجال" ذلك لنّ الباضية عرفت بالحق في‬
‫جميع أدوار حياتها الدينية ‪ ،‬و ل تعتمد على غيره ‪ ،‬و ل ترى غيره شيئاً أبداً مهما كان ‪ ،‬و أياً كان حلواً كان أو‬
‫مُراً ‪ ،‬و كما قلنا سابقاً أنّ المام عبد ال بن إباض لم يكن من العلماء الذي تحيزوا بمذاهبهم ‪ ،‬وتميزوا بطرقهم ‪،‬‬
‫و دعوا الناس لن يقلدوهم في أقوالهم ‪ ،‬و أفعالهم ‪ ،‬و اختياراتهم الخاصة ‪.‬‬

‫فإذا فتشت آثار المسلمين ‪ ،‬و قرأت كتبهم مطلقاً من مشارقة ‪ ،‬أو مغاربة ‪ ،‬أو أياً كانوا لم تجد فيها قولً واحداً‬
‫لعبدال بن إباض و ل لبيه أيضاً ‪ ،‬في أي شأن من شؤون الدين بل والدنيا أيضا ‪ ،‬و في أي نوع من أنواع الفقه‬
‫أو غيره ‪ ،‬إل ما كان منه من نقاشٍ أو ردٍ على سلطان وقته عبد الملك بن مروان ‪ ،‬فقد رد عليه أشياء ينكرها‬
‫الشرع ‪ ،‬و على كل حال كان عبد الملك ملكاً كبيراً إذ يتسمى باسم الخليفة ‪ ،‬و هي التسمية للخلفاء الراشدين ‪،‬‬
‫ولديه كل ما كان من السلطات السلمية ‪ ،‬و تحت يده إذ ذاك كل القوة والشدة [‪ ]89‬و البأس ؛ فكانت له‬
‫سطوات على الناس َفعّالة ل تنكر ‪ ،‬و كان إنكارُ المنكر واجباً ‪ ،‬و لكن من ذا الذي يقدر أن يقوم بذلك الواجب‬
‫فينكر على عبدالملك ؟؟‪ ،‬و أين هو الذي يستطيع أن يرفع عقيرته أمام ذلك السلطان ؟؟‪ ،‬و من أعوانه الحجاج‬
‫بن يوسف ذلك الطاغية الظالم العاتي و أمثاله ‪.‬‬

‫و كان عبد ال بن إباض لعزّته ‪ ،‬و بعزيمته الصارمة ‪ ،‬و بمنعته من قومه صار يجترأ على المذكور في نقاشه ‪،‬‬
‫و دار بينه و إياه مقال طويل و عريض ‪ ،‬أبان فيه عبدال بن إباض الحجج الصريحة التي يعرفها عبدالملك ؛‬
‫لنّه كان علمة فقيهاً كما جاء في ترجمته ‪ ،‬و يعلم حق العلم أنّ عبدال بن إباض ل يحابي و ل يداهن ‪ ،‬و هو‬
‫عزيز الجانب في دينه و دنياه ‪ ،‬فله في هذا المقام ما شهر به في العالم العربي في عهده‪ ،‬و لذلك لم يشع ذكره‬
‫بعدُ لنّه بموته مات ذكره ‪ ،‬إذ لم يكن له تلمذته ‪ ،‬يؤثرون أقوله و أفعاله ‪ ،‬بل هو نفسه يصدر عن آراء المام‬
‫أبي الشعثاء – رحمه ال ‪ ، -‬وعليه يعتمد ‪ ،‬و إنما شاع اسمه أيام عبدالملك لما قام به إذ ذاك من نضال ‪ ،‬و‬
‫حوار فنسب إليه من كان على طريقته من المسلمين ‪.‬‬

‫سمُها في الكتب بل كان عبدال‬‫لذلك يقول المام الناظم – رحمه ال ‪ : -‬من ذاك ل تلقى له في المذهب مسألة َن ْر ُ‬
‫بن إباض زعيماً دينياً وإماماً بمعنى الزعامة الصحيحة ‪ ،‬فإنّها هي التي يصح أن يقال فيها خلفة راشدة ‪ ،‬و إن‬
‫صغرت هيئتها ‪ ،‬فإنّ أهل الحق قليلون بالنسبة إلى أهل الباطل ‪ ،‬و عبدالملك من أشد ملوك بني أمية‪ ،‬فقام له هذا‬
‫البطل السلمي الذي ربته الشريعة السلمية السمحاء ‪ ،‬و غذته الطريقة الحقة في السلم ‪ ]90[،‬و كانت‬
‫العرب بطبيعة الحال ل تقر على الضيم‪ ،‬و ل ترضى بغير العدالة كما قال قائلهم (‪: )1‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ولم يبق في الرض يخشاه الملوك إل الباضية ؛ لنّ من عدا الباضية يخضعون للملوك خضوع الرّاكع السّاجد‬
‫للملك المعبود ‪ ،‬فما يفعله الملوك يقدسه المملوك ‪ ،‬فمن ذا الذي يحاذرونه و الحال هذا ‪.‬‬
‫أمّا الباضيون ل َي ْرضَوْن من أئمتهم أدنى زلّة تقع منهم حتى يعاتبوهم عليها ‪ ،‬و يقوموا عليهم من أجلها ‪ ،‬و ل‬
‫يتركونهم حتى يعلموا عذرهم فيها ‪ ،‬فكيف يرضون الملوك الظلمة ‪ ،‬و المراء الجورة في الدين ‪ ،‬يدوسون وجه‬
‫الحق و ل يبالون ‪.‬‬

‫و كأنّي بالباضية يتمذهبون في المقام بمذهب القائل (‪: )2‬‬

‫على هذا عاش الباضية ‪ ،‬و يعيشون حماة للحق ‪ ،‬رماة للباطل ‪ ،‬دعاة للعدل‪ ،‬هداة إلى الرشد ‪ ،‬ليس أتباع من‬
‫شرعوا لهم شرعة خصيصة فيتبعونهم عليها تبعة عمى ‪ ،‬و لو كان الباضيون يقلدون الرجال ‪ ،‬أو يتمذهبون‬
‫بمذاهب أفراد خصيصين ‪ ،‬لتمذهبوا بمذهب أبي بكر الصديق الخليفة الول ‪ ،‬و المام المجتمع على إمامته ‪ ،‬و إل‬
‫فبمذهب عمر بن الخطاب الفاروق الشديد في دين ال عز وعل ‪ ،‬و إل فبمذهب ابن عباس الحبر البحر الذي[‬
‫‪ ]91‬أمته الدعوة السلمية دعوة الرسول بالمدد الرباني ‪ ،‬و الفيض الروحاني ‪ ،‬و الوهب الروحاني ‪ ،‬و شملته‬
‫العناية اللهية ‪ ،‬أو بمذاهب أمثاله من إخوانه المؤمنين من الصحابة الهادين المهتدين الراشدين المرشدين ‪.‬‬

‫و إل فبمذهب المام العالم العلمة الوحيد أبي الشعثاء جابر بن زيد‪ ،‬الذي أجمعت المة على عدالته وثقته ‪ ،‬و‬
‫روت عنه العلماء على اختلف طبقاتهم كالبخاري ‪ ،‬ومسلم ‪ ،‬و غيرهما في الحديث ‪ ،‬و كأئمة التفسير أمثال‬
‫الجصاص ‪ ،‬و ابن العربي (‪ ، )3‬و غيرهم من سائر العلماء أهل المذاهب في كل عصر من لدن التابعين إلى اليوم‬
‫‪،‬و هو أقدم من حمل العلم عن الصحابة ‪ ،‬و أجلّ من نقل الفقه عن أمة الجابة ‪ ،‬و أول من دون الثار و حفظ‬
‫أحاديث النبي المختار ‪ ،‬و قلّ أن تجد مؤلفا مهماً في السلم إل وجدت أبا الشعثاء في قلب ذلك المؤلف ؛ لنّه‬
‫نزل من قلب كل مؤلف ‪ ،‬فترى المة تعول على نقله ‪ ،‬و تعتمد على صحة عقله ؛ فهو الخلف الصالح لذلك‬
‫السلف الطيب المصلح ‪ ،‬كما قلنا في رسالتنا " إزالة الوعثاء عن أتباع أبي الشعثاء " (‪. )4‬‬

‫فالباضية ل يحترمون الرجال مع الباطل ‪ ،‬و ل يهضمون أهل الحق مهما كانوا ومن كانوا ‪.‬‬

‫و علماء الباضية يعتمدون على كتاب ال عز و جل في دينهم ‪ ،‬و أحكامهم ‪ ،‬و معاملتهم ‪ ،‬و على سنة رسول‬
‫ال – صلى ال عليه وآله وسلم – فإنها شرح وبيان للكتاب ‪ ،‬و يُعولون على ال وحده ل على الناس ‪ ،‬و ل‬
‫يهضمون جانب أحد من الناس مع الحق ‪ ]92[،‬و الحق مُقدم معهم على غيره (‪. )5‬‬

‫و علماء الباضية يعتمدون على ال ل على الناس قلوا أم كثروا ‪ ،‬انظر بعقلك الصحيح في حياة مالك بن أنس‬
‫إمام المالكية ‪ ،‬هل ترى له انتقاداً على ملك‪ ،‬أو سلطان ‪ ،‬أو أمير مع كونهم بغاة عتاة يتبعون الهوى ‪ ،‬و يوالون‬
‫من ضلّ أو غوى؟؟!‪.‬‬

‫و كذلك حال الشافعي هل ترى له نقاشا لدى سلطة مهما كان ؟؟!‪ ،‬و كذلك أبي حنيفة ‪ ،‬و ابن حنبل ؟؟!‪ ،‬و إن قيل‬
‫‪ :‬احتمل حالهم التقية ‪ ،‬قلنا‪ :‬إنّ فتاويهم بطاعة الملوك جاروا أم عدلوا تمنع ذلك الحتمال ‪.‬‬

‫وانظر في أحوال الباضية ‪ ،‬و استقرأ تآليفهم تجدهم على أئمتهم الفضلء المجاد ‪ ،‬الذين تضيء وجوههم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫إضاءة القمار ‪ ،‬يناقشونهم في شعيرة تصدر منهم ‪ ،‬أو صغيرة تبدر من بعضهم ‪ ،‬انظر قولهم للمام الجلندى‬
‫الذي أجمعوا على فضله ‪ ،‬و قد قتل ابني عمه حين أوجب الحكم قتلهم ‪ ،‬و لما رأى جنائزهم تمر دمعت عينه‬
‫عليهم ‪ ،‬فقاموا له في غضب ‪ ،‬قائلين له‪ " :‬أحمية يا جلندى؟؟!" ‪ ،‬قال ‪ " :‬ل ‪ ،‬و لكنها الرحم " ‪ ،‬أي بكيت‬
‫عليهم لعل حمية أخذت منك ‪ ،‬فإن كانت هي فإنها كبيرة ‪ ،‬فقال معتذراً لهم ليس حمية لكن الرحم لها أثر طبيعي ‪،‬‬
‫و لعله أسف عليهم إذ كانوا بتلك الحال مؤسفة ‪ ،‬فقالوا له إذ ذاك اعتزل أمرنا اختباراً له فاعتزل – رحمه ال ‪، -‬‬
‫و صار كواحد منهم يروح ويغدو فيهم ‪ ،‬فلما رأوا ذلك منه ‪ ،‬رجعوا إليه طالبين عودته للمامة ‪ ،‬فأبى عليهم ‪ ،‬و‬
‫بعد علج دام ثلثة أيام ‪ ،‬و حكم الشرع عليه بوجوب عودته للمامة ‪ ]93[،‬عاد – رحمه ال و رضي عنه ‪( -‬‬
‫‪. )6‬‬

‫وهذا دأبهم منذ ذلك العهد حتى عهدنا ‪ ،‬فإن المام الرضي المرضي ذي الشخصية البارزة ‪ ،‬و النفس الفاضلة ‪،‬‬
‫صفْراً (‪)8‬‬
‫ذي الصفات الحميدة ‪ ،‬و الخصال الكاملة ‪ ،‬و العزيمة العاملة ‪ ،‬عزان بن قيس بن عزان (‪ ، )7‬أخذ ُ‬
‫من حصن المصنعة ‪ ،‬فحمله إلى الرستاق من مراجل و أواني يغرف فيها الطعام لضيوف حسب عرف وعادة ذاك‬
‫العهد ‪ ،‬و لم يذكر ذلك لخوانه المسلمين و ما مقصده بذلك ‪ ،‬و كانت الرستاق وطن آل عزان بن قيس ‪ ،‬فقال‬
‫المسلمون و عمدتهم العلمة الرضي سعيد بن خلفان الخليلي (‪ )9‬كيف يحمل عزان هذه الواني من حصن‬
‫المصنعة لحصن الرستاق و الكل حصون المسلمين ‪ ،‬و المسلمون معه و ل يشاورهم ‪ ،‬و يقضي بذلك بدون‬
‫إطلعهم ؟‪.‬‬

‫فساءت الظنون و تحرجت عليه النفوس ‪ ،‬وتحدثوا فيما بينهم بذلك حتى أفضى الحال بهم أن اجتمعوا على المام‬
‫في مسقط ‪ ،‬قائلين له ‪ :‬كيف فعلت كذا وكذا ‪ ،‬و لم تشعر إخوانك ؟ ‪ ،‬فأجاب بما أثلج به صدورهم ‪ ،‬و أزاح به‬
‫الحرج من قلوبهم ‪ ،‬و ملها طمأنينة و ولء ‪ ،‬وسكن من تأثيرها ‪ ،‬فرضوا عنه ‪ ،‬و عيناه تذرفان ‪ ،‬و كان معهم‬
‫معدوداً من أولى العزم في أئمة المسلمين ‪ ،‬و كان بطلً من أبطال العدالة ‪ ،‬و شخصية صالحة للدين ‪ ،‬اطمأنوا به‬
‫قبل إمامته – رحمه ال ‪. )10( -‬‬

‫فانظر في هاتين القضيتين مع هذين المامين الرضيين في الدين أحدهما في الولين و الثاني في الخرين ‪ ،‬و‬
‫مثّلهما في نفسك ‪ ،‬و اعتبر بهما حالة القوم مع أولئك الئمة الغرّ الميامين ‪ ،‬و حسبك بذلك ‪.‬‬
‫==========================================‬
‫(‪ )1‬البيت لبشار بن برد من قصيدة مطلعها ‪:‬‬
‫جفا وده فازور أمل صاحبه و أزرى به أن ل يزال يعاتـبه‬
‫خليلي ل تسنكير لوعة الهوى ول سلوة المحزون شطت حبائبه‬
‫ديوان بشار بن برد ص ‪109‬‬
‫(‪ )2‬البيت لعمرو بن كلثوم معلقته التي مطلعها ‪:‬‬
‫أل هبي بصحنك فاصبحينا و ل تبقي خمور الندرينا‬
‫مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا‬
‫شرح المعلقات السبع للزوزني ص ‪200‬‬
‫(‪ )3‬محمد بن عبدال بن محمد المعافري الشبيلي المالكي ( ‪468‬هـ ‪543 -‬هـ) أبو بكر ابن العربي ‪ ،‬قاض من حفاظ الحديث ‪ ،‬ولد في إشبيلة و رحل‬
‫إلى الشرق ‪ ،‬بلغ رتبة الجتهاد ‪ ،‬من كتبه العواصم من القواصم ‪ ،‬عارضة الحودي في شرح الترمذي ‪ ،‬أحكام القرآن و غيرها ‪ ،‬مات بقرب فاس و دفن‬
‫بها ‪ .‬العلم (‪.)6/230‬‬
‫(‪ )4‬من مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة ‪ ،‬سلطنة عمان ‪ ،‬تحقيق و شرح الدكتورة سيدة اسماعيل كاشف سنة ‪1979‬م ‪.‬‬
‫(‪ )5‬فائدة ‪ :‬قال العلمة المام الشيخ سعيد بن مبروك القنوبي – حفظه ال تعالى – في أحد كتبه ‪ " :‬إن تضعيف أصحابنا – عليهم رضوان ال تعالى –‬
‫لبعض أحاديث الشيخين أو غيرهما ‪ ،‬و كذلك عدم احتجاجهم بالحاديث الحادية في مسائل العتقاد ‪ ،‬ل يعني – بوجه و ل بآخر – أنهم يرون ضعف‬
‫جميع ما في هذه الكتب ‪ ،‬أو أنهم ل يرون الحتجاج بما فيها ‪ ،‬كما توهم الحشوية المجسمة ‪ ،‬حيث ادعوا زورا و بهتانا أن الباضية ل يحتجون بأحاديث‬
‫الشيخين أو بما في كتب السنة ‪ ....‬إلخ هرائهم ‪.‬‬
‫ومن نظر في شيء من كتب أصحابنا – رضوان ال تعالى عليهم – وجد ما فيها يكذب هذه الدعوى من أصلها ‪ ،‬و يجتثها من أساسها ‪ ،‬فإنهم –‬
‫رضوان ال تعالى عليهم – قد احتجوا منها بمئات بل آلف الحاديث ‪ ،‬كما ل يخفى ذلك على من له أدنى اطلع على شيء من هذه الكتب ‪ ،‬بل إنهم قد‬
‫نصوا على ذلك ‪ ،‬و إليك بعض ما قالوه في ذلك ‪:‬‬
‫‪ -‬حسبك أن تتبع المختارا و إن يقولوا خالف الثارا‬
‫‪ -‬نقدم الحديث مهما جاءا على قياسنا ول مـراءا‬
‫‪ -‬ول تناظر بكـتاب ال و ل كلم المصطفى الواه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫معناه ل تجعل له نظيرا ولو يكون عالما خــبيرا‬
‫‪ -‬و الصل للفقه كتاب الباري إجماع بعد سـنة المختـار‬
‫و الجتهاد عند هدي منــعا وهالك من كان فيها مبدعا‬
‫‪ -‬حد أصول الفقه علم يقتدر به على استنباط أحكام السور‬
‫وسنة الرسول و لجمــاع كــذلك القياس مع نزاع "‬
‫انظر السيف الحاد في الرد على من أخذ بحديث الحاد في مسائل العتقاد ص ‪176-175‬‬
‫(‪ )6‬انظر تحفة العيان (‪ ، )1/93‬عمان عبر التاريخ (‪. )1/243‬‬
‫(‪ )7‬عزان بن قيس بن عزان بن قيس بن أحمد بن سعيد البوسعيدي ( ت ‪1287‬هـ‪1870-‬م ) من أئمة عمان ‪ ،‬بويع بالمامة في مسقط بعد خلق‬
‫السلطان بن ثويني ( سنة ‪1285‬هـ ) و كان عزان موفقا في قمع الفتن ‪ ،‬شجاعا حازما ‪ ،‬اطمأن الناس في أيامه ‪،‬على قصرها ‪ ،‬خرج عليه تركي بن‬
‫سعيد بن سلطان ‪ ،‬في جموع حشدها ‪ ،‬فقاومه عزان ثم لجأ إلى حصن " مطرح " فأصابته رصاصة قتلته ‪ ،‬ومدة إمامته سنتان و أربعة أشهر و نصف‬
‫شهر ‪ .‬العلم (‪. )4/228‬‬
‫(‪ )8‬الصُفر ‪ :‬آنية من النحاس ( القاموس المحيط ‪ )546/‬مادة ص ف ر ‪.‬‬
‫(‪ )9‬سعيد بن خلفان بن أحمد الخليلي الخروصي ( ‪1236‬هـ ‪1287 -‬هـ ) أبو محمد ‪ ،‬لقب بالمحقق لشهرته بتحقيق المسائل و تأصيلها ‪ ،‬تتلمذ على‬
‫الشخ محمد بن سالم البسط ‪ ،‬و العلمة ناصر بن أبي النبهان الخروصي ‪ ،‬من أشهر تلمذته الشيخ صالح بن علي الحارثي و العلمة محمد بن خميس‬
‫السيفي ‪ ،‬من مؤلفاته تمهيد قواعد اليمان ‪ ،‬و إغاثة الملهوف بالسيف المذكر في المر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها ‪ ( .‬مقدمة تحقيق كتاب‬
‫لطائف الحكم في صدقات النعم ‪)37-23/‬‬
‫(‪ )10‬انظر تحفة العيان (‪)2/252‬‬

‫و اعلم أنّ أمّة هذا شأنها مع أهل الخير[‪ ]94‬في الدين ‪ ،‬و أهل العدل من المسلمين ‪ ،‬إنّها لمة عظيمة الشأن‬
‫عند ال عز وعل ‪ ،‬و إذا فتشت هذا بين الملوك الخرين والعلماء من بقية المذاهب لن تجد منهم ما يسخن القلب‬
‫‪ ،‬أو يجرح النفس في أي ناحية من نواحي الدين ‪ ،‬و الحمد ل ‪.‬‬

‫نسأل ال أل يخلي أرضه من هذه العصابة الطاهرة ‪ ،‬فإنّها هي الحجة التي يرتكز عليها السلم ‪ ،‬وتقوم عليها‬
‫دعائم الحكام ‪ ،‬و تثبت بها قواعد الحلل و الحرام ‪.‬‬

‫و الباضية هم الرجال الذين ل ينظرون إلى الرياش الفاخر و اللذات الشهوانية ‪ ،‬و إنّما لذتهم إعادة أمور السلم‬
‫في سبيلها الصالح ‪ ،‬و إقامة الحكام على نهج الدليل الراجح ‪ ،‬و نشر دعوة الحق في العوالم ‪ ،‬و نصب الدلئل‬
‫للمة ‪ ،‬و إيضاح المعالم ‪.‬‬

‫ل قرار للباضية ‪ ،‬و ل طيب ‪ ،‬ول لذة إل عند نشر راية العدل ‪ ،‬و إقامة علم الحق خفاقاً على الفاق ‪ ،‬و ل‬
‫سرور ‪ ،‬و ل راحة إل عند سل السيوف لقامة العدل و إنصاف المظلوم من الظالم ‪.‬‬

‫فادرس تاريخ الباضية من أوله إلى أخره ‪ ،‬و اقرأ تاريخ المم الخرى ‪ ،‬تجد الباضية المثال الصالح ‪ ،‬و إقامة‬
‫أئمة الحق أكبر دليل ‪ ،‬و أقوم قيل عنهم ‪ ،‬و إن قوماً ل يرضون أن يقودهم إل المؤمن التقي و الطاهر النقي ‪،‬‬
‫لقوم كرام على ال ‪ ،‬إذا سألوه أعطاهم ‪ ،‬و إذا دعوه أجابهم ‪ ،‬و إذا استنصروه نصرهم ‪ ،‬فل تغتر أيها العاقل‬
‫ضلّوكَ " (‪ )1‬و أهل الحق‬ ‫طعْ أَكْ َثرَ مَن فِي ا َل ْرضِ ُي ِ‬
‫بكثرة السواد العظم ‪ ،‬فإن أكثر أهل الدنيا مفسدون " َوإِن ُت ِ‬
‫قليلون في كل جيل ‪ ،‬و غير الباضية إذا صلحوا في ناحية [‪ ]95‬فسدوا في نواح عديدة ‪ ،‬و إذا استقاموا في‬
‫واحدة تعوجوا في كثير ‪ ،‬فإن أزمة الخرة عندهم منتهية بقول " ل إله إل ال محمد رسول ال – صلى ال عليه‬
‫و سلم – " ‪ ،‬و الحساب والعقاب زائلن عنهم بشفاعة سيد المرسلين محمد – عليه الصلة والسلم‪ ، -‬و أهل‬
‫الصرار من الفجار يخرجون من النار برحمة المليك الغفار ‪ ،‬فلذلك تراهم ل يهتمون بأمر آخرتهم ‪ ،‬ول يرهبون‬
‫عقاب ربهم ‪ ،‬فإن لديهم ثلث تفريجات ‪ ،‬و هي ما قدمنا فلم يبق لديهم ما يهم ‪ ،‬و إن زنى أحدهم ‪ ،‬و إن سرق‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فكل ذلك منحط عنهم ‪ ،‬و منحل في هذه المحال الثلث ‪.‬‬

‫أما الباضية ل يقولون بذلك ‪ ،‬و ل بواحدة منهن ‪ ،‬فلذلك تراهم يحترزون ‪ ،‬و يحتاطون ‪ ،‬و يحافظون على‬
‫شرائط اليمان ؛ لنّه ل شفاعة عندهم لهل الكبائر ‪ ،‬ول تنفعهم ل إله إل ال إل بحقوقها المشروعة ‪ ،‬و لوازمها‬
‫المرفوعة ‪ ،‬ول يتأملون الخروج من النار إذا دخلوها ‪ ،‬و ل يعتقدون في ال بصفة التي ل تليق بجلله القدس و‬
‫كماله النفس ‪.‬‬

‫فالدين عند الباضية عقيدة و أقوال وأفعال ‪ ،‬و ل بد من واحدة من هذه العمال ‪ ،‬و ل يغني عندهم بعضها عن‬
‫بعض بعد استقرار العمل ‪ ،‬و ثبوت المر بذلك ‪ ،‬فتجد التثبت عند الباضية في الصول و الفروع كما لزم ‪ ،‬و ل‬
‫يرون مفارقة نقطة من نقط الشريعة [‪ ]96‬حتى في حلق اللحية ‪ ،‬و قد شاع في العالم السلمي حتى صار من ل‬
‫يحلقها مزدرى ‪ ،‬و قد حلقها الكثير من علماء قومنا مع قولهم بتحريم حلقها ‪ ،‬فصاغ للجاهل الحلق ‪ ،‬و تجاسر‬
‫عليه عوام المة ‪ ،‬و لو لم يكن في إعفاء اللحى إل الئتساء برسول ال – صلى ال عليه و سلم – لكفى ‪ ،‬فإنّ‬
‫حسَ َنةٌ ّلمَن كَانَ َيرْجُو الَّ وَالْيَ ْومَ‬
‫ال عز و جل يقول لنا في صراحة و وضوح " لَ َقدْ كَانَ لَكُمْ فِي َرسُولِ الِّ ُأسْوَةٌ َ‬
‫خرَ " (‪ ، )2‬و مفهوم الية من ل يتأسى به‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪-‬ل يرجو ال و اليوم الخر ‪ ،‬و في المقام‬ ‫الْ ِ‬
‫مزلة كبيرة نسأل ال العفو منها إنه كريم ‪.‬‬

‫و بسبب حلق هؤلء المتسمين بالعلم راجت تجارة الحلق ‪ ،‬و شاعت في العالم السلمي ‪ ،‬حتى صار من ل‬
‫يحلقها ل احترام له عند الجمهور ؛ لنّه مخالف لما عليه الناس ‪ ،‬و لم يروا أنّ ال جعل اللحية فارقاً بين الرجال‬
‫و النساء ‪ ،‬وقد علموا أيضا أنّ حلقها ينافي صفة الرجولة ‪ ،‬و يدعو إلى التشبه بالغواني ‪ ،‬و من تشبه بقوم فهو‬
‫منهم ‪ ،‬و قد حرّم الشرع تشبه الرجال بالنساء ‪ ،‬و تشبه النساء بالرجال بوعيد شديد ‪ ،‬مع أنّ الناس قد علموا أنّ‬
‫رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لم يمس منها شيئاً ‪ ،‬و ل الخلفاء الراشدون ‪ ،‬و ل الصحابة الكرمون ‪،‬‬
‫فبمن اقتدى هؤلء المتشبهون بالفرنج الذين ل يراعون الحقوق الدينية ‪ ،‬و ل يقفون عند حدودها ‪.‬‬

‫و كذلك التدخين فإنّه من أخبث الخبائث ‪ ،‬و ل شك أنّه حرام [‪ ]97‬طبعاً و شرعاً ‪ ،‬فإنّ الطب يحكم بتحريمه ‪،‬‬
‫لنّه مخدرٌ مفترٌ ضارٌ مضرٌ مولد للمراض السامة في أشياء عديدة ‪ ،‬و قد أباحه كثير من أهل المراض القلبية‬
‫الفاسدة ‪ ،‬و جعلوه من التحف للضيف ‪ ،‬و من أعزّ ما يقدم له عند حضوره ‪ ،‬و قد شهدت النصوص الشرعية‬
‫بتحريمه قرآناً و سنة ‪ ،‬و أيّد العقل ذلك بما ظهر له في التدخين من مضار ‪.‬‬

‫و قد جاء الشرع لدرء المفاسد و جلب المصالح ‪ ،‬و " ل ضرر ول ضرار في السلم " ‪ ،‬فهذا النص يبطل القول‬
‫حرّمُ عََليْهِمُ الْخَبَآ ِئثَ " (‪ ، )3‬و هذا من‬
‫بحلية التدخين ؛ لنّه يمنع الضرر ‪ ،‬و ينفي الضرار ‪ ،‬و في الكتاب " وَيُ َ‬
‫أخبث الخبائث السامة للجسام ‪ ،‬الخبيثة الريح ‪ ،‬الكريهة ال َعرْف (‪ ، )4‬المثيرة للمراض المتعددة ‪.‬‬
‫و من هذا النوع جملة أشياء أصبحت شعاراً عاماً ل يرون غيره ‪ ،‬و منه تغني الذان في هذا الزمان الذي ضعف‬
‫فيه اليمان ‪ ،‬فإنه بدلً أن يكون أذاناً شرعياً بروعته السلمية يدوي في القلوب سامعيه ‪ ،‬أصبح أشبه بالغاني‬
‫الشعرية و الصوات الترنيمة ‪ ،‬و أصبح مؤذنوه يصرون عليه ‪ ،‬و ل يرون غيره ‪ ،‬و يجعلونه شعاراً لهم ‪ ،‬و ل‬
‫يرضى به عمر بن الخطاب – رحمه ال – ورائي الذان كعبدال بن زيد (‪ – )5‬رحمه ال – و لو سمعهم لوضع‬
‫الدرة على ظهورهم ‪.‬‬

‫و منها أيضا بناء المنارات على ظهور المساجد بحيث يصبح بناءها يستفرغ كمية كبيرة من الموال ‪ ،‬و ليس‬
‫هي من لوازم المساجد ‪ ،‬و ل من خصال الصلة‪ ،‬و ل من [‪ ]98‬شروط الذان في شيء ‪ ،‬بل هي إمّا أن تكون‬
‫من قبيل المباهاة ‪ ،‬و الزخرفة المنهي عنها ‪ ،‬أو من قبيل إضاعة المال ‪ ،‬و هم يرونها من لوازم المساجد‬
‫فيبنونها عالية في السماء ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ومن هذا النوع أشياء ينكرها الدين ‪ ،‬و ل يأمر بها شرع ال ‪ ،‬عدا ما يفعل في الصلة من الكفت ‪ ،‬فإن كان ذلك‬
‫في أصله من قبيل الجائز ‪ ،‬فقد أصبح فاعلوه يعتقدون أنّه من قبيل الواجب ‪ ،‬و بنفس هذا العتقاد يتطرق الفساد‬
‫‪ ،‬لنّ من اعتقد الجائز واجباً ‪ ،‬أو العكس فقد ضلّ عن سواء السبيل‪.‬‬

‫و كذالك أيضاً التأمين في الصلة فإن كان أصله جائزا و في غير الصلة ‪ ،‬ثم ورد المنع عن كلم الدميين في‬
‫الصلة ‪ ،‬فما وجه ملزمته في الصلة إل اعتقاد وجوبه في الدين ؟ ‪ ،‬و عدم القبول للوارد الديني في منعه! و‬
‫ذلك من الفساد بمكان‪ ،‬عدا ما ورد في المور العتقادية من المور التي يأبها الدين عقلً و نقلً ‪ ،‬و هي كثيرة‬
‫يطول بها الكلم ‪ ،‬نشير إليها ل على جهة الطعن في أصحابها ‪ ،‬و ل على قصد الحطّ من أهلها نعوذ بال ‪.‬‬
‫بل على قصد تبين الحق لطالبيه ‪ ،‬و إيضاح الصحيح من السقيم لراغبيه ‪ ،‬و إن ظنّ بنا ظان غير ذلك فال حسبنا‬
‫و نعم الوكيل ‪.‬‬

‫إنّ ال أخذ العهد و الميثاق على العلماء في تبين الحق و إيضاحه ‪ ،‬و نشره في الناس ‪ ،‬ولو شدت عليهم أمم‬
‫الجهل ‪ ،‬فإنّ الئتساء برسول ال – صلى ال عليه و سلم – حاكم علينا بالصبر و عدم التبرم ‪ ،‬و أن ل ننثني‬
‫عن القصد ‪ ،‬مهما كان فإنّ رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ -‬و هو ذو المنصب الرفيع ‪ ،‬و الشرف المنيع [‬
‫‪ ]99‬و من المة الموقرة ‪ ،‬و من الرجال المحترمين قبل النبوة ‪ ،‬قذفوه بسيئ القوال ‪ ،‬و رموه بباطل الفعال ‪،‬‬
‫و أضافوا إليه أسوء الخصال ‪ ،‬و شتموا به بين النساء و الرجال ‪ ،‬فمالنا نتبرم إن عُودينا في ال أو خُوصمنا‬
‫فيه ‪ ،‬و تلك سنن الكون ‪ ،‬ومن جاء مخالفاً لمألوف الناس صاحوا عليه و ضجوا منه ‪ ،‬و طلبوا له كل سيء "‬
‫حَتّىَ َي ُردّوكُمْ عَن دِينِ ُكمْ ِإنِ اسْ َتطَاعُواْ " (‪ )6‬نحن ل نقدح في أعراض الناس بغير ما أنزل ال لكننا نُبين الحق‬
‫لطالبه ‪ ،‬و ندل على الخير لراغبه ‪ ،‬وننهى عن الباطل ‪ ،‬و نسخر براكبه ؛ لنّ رسول ال – صلى ال عليه و‬
‫سلم – قال لنا " أترعون عن ذكر الفاسق " ‪ ،‬و في رواية " الفاجر أن تذكروه فذكروه يعرفه الناس " ‪ ،‬و قال‬
‫– عليه الصلة والسلم – " أترعون عن ذكر الفاجر متى يعرف الناس اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس " (‬
‫‪ )7‬كما في الجامع الصغير للسيوطي (‪ )8‬و غيره ‪ ،‬فهذه الدلة و أمثالها تحتم علينا تبين الحق ‪ ،‬و رد الباطل‬
‫بدليل الصحيح الواضح ‪.‬‬
‫=========================================‬
‫(‪ )1‬النعام ‪.114 :‬‬
‫(‪ )2‬الحزاب ‪. 21 :‬‬
‫(‪ )3‬العراف ‪. 157 :‬‬
‫(‪ )4‬العَرفُ ‪ -:‬الريح طيبة كانت أو منتنة ( مختار الصحاح ‪ )179/‬مادة عرف و المقصود هنا الريح ‪.‬‬
‫(‪ )5‬عبدال بن زيد بن عبدربه النصاري (ت ‪32‬هـ) أبو عبدال ‪ ،‬صحابي جليل ‪،‬شهد بيعة العقبة الثانية ‪ ،‬وبدر و أحدا و الخندقو المشاهد كلها مع‬
‫رسول ال – صلى ال عليه وسلم – و كانت معه راية بني الحارث بن الخزرج في غزوة الفتح ‪ ،‬رأى الذان في المنام فأتى رسول ال – صلى ال عليه‬
‫وسلم – و أخبره ‪ ( .‬الطبقات ابن سعد ‪، )3/536‬الصابة (‪. )3/132‬‬
‫(‪ )6‬البقرة ‪. 217 :‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )19/418‬و المعجم الصغير ( ‪ )215-214 /1‬و عزاه ضاحي مجمع االزوائد إلى المعجم الوسط ‪ ،‬و أخرجه‬
‫البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الشهادات ‪ ،‬باب الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث ( ‪ ، )10/354‬و أخرجه الخطيب البغدادي في‬
‫تاريخ بغداد (‪ )1/382‬و (‪ )3/188‬و (‪ ، )362-7/361‬و أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( ‪ ، )12/217‬و أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر‬
‫الصول ( ‪ ، )2/257‬و أخرجه ابن أبي الدنيا في كاتب الغيبة و النميمة ص ‪ ، 88‬و أخرجه المحامل في المالي (‪/5‬رقم ‪ ، )15‬و أبو بكر الكلباذي في‬
‫مفتاح المعاني (‪ ، )21/1‬و الهروي في ذم الكلم (‪ )4/81/1‬و السهمي في تاريخه ص ‪ ، 75‬و عزاه السيوطي إلى الحاكم في ا لكنى و الشيرازي في‬
‫اللقاب ‪ ،‬و أخرجه ابن عدي في الكامل ( ‪)2/173‬‬
‫(‪ )8‬عبدالرحمن بن أ[ي بكر بن محمد الخضيري السيوطي (‪849‬هـ ‪911 -‬هـ ) جلل الدين ‪ ،‬إمام حافظ مؤرخ أديب ‪ ،‬له نحو ‪ 600‬مصنف ما بين‬
‫كتاب كبير و رسالة صغيرة ‪ ،‬اعتزل الناس عندما بلغ أربعين سنة و عكف على التأليف ‪ .‬العلم (‪.)3/301‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و إذا تحققت الثار عن مختلف علماء الباضية لم تجد في المة من يقول أنّ الباضية يقلدون ابن إباض في‬
‫مسألة واحدة ‪ ،‬فضلً عن أمهات أمور الدين ‪ ،‬كما قلد قومنا علماءهم حقاً كان منهم أو باطلً ‪.‬‬

‫و لو كنا نرى التقليد في الدين ‪ ،‬أو التمذهب بمذهب خاص لكان جابر بن زيد أحق بذلك ‪ ،‬فإنّه بحر في العلم ‪ ،‬و‬
‫نجم ثاقب في الفهم ‪ ،‬وعمدة في الزهد و الورع ‪ ،‬و غاية في الفقه ‪ ،‬وجبل في الشريعة ‪ ،‬أرسى من ثبير (‪، )1‬‬
‫و قد أجمعت المة على علميته الجليلة ‪ ،‬وشهدت [‪ ]100‬له بالخصال الجميلة ‪ ،‬و عُرف سبقه في المة قبل كل‬
‫الئمة ‪ ،‬فقد صحّ مع الموافق و المخالف أنّه ولد في خلفة عمر بن الخطاب – رضي ال عنه – ‪ ،‬و توفي على‬
‫رأس ستة و تسعين من القرن الهجرة ‪ ،‬فتراه عاش في أيام عثمان شيخاً واعياً ‪ ،‬و في أيام علي بن أبي طالب‬
‫بدراً مضيئاً ‪ ،‬كان من أخص تلمذة الحبر ابن عباس – رضي ال عنهما – و أعظم من حمل عنه ‪ ،‬و رأى قضايا‬
‫الجمل ‪ ،‬و صفين ‪ ،‬و النهروان ‪ ،‬و ما وقع على المسلمين في هذه المواقف الرهيبة كلها ‪ ،‬و سمع ما قيل و ما‬
‫يقال من أبناء ذلك الجيل ‪.‬‬

‫و هذا العلمة عزّالدين التنوخي (‪ )2‬يقول فيه في مقدمة فتاوى المام الخليلي (‪ )3‬قال‪ " :‬و كونهم ‪-‬أي أهل‬
‫عمان‪ -‬من أصدق العرب في مذهبهم أنهم يقتدون بإمامهم جابر بن زيد تلميذ عبدال بن عباس – رحمه ال –‬
‫الذي كان يقول لمن يأتيه من أهل البصرة مستفتيا‪ " -:‬تسألوني و فيكم جابر بن زيد ‪ -‬أي استغرب ابن عباس –‬
‫رضي ال عنهما – استفتاء أهل البصرة لبن عباس مع كون جابر بن زيد فيها أي يكفيكم علمه و يسعكم فقه‬
‫قال ‪ -‬و روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس " لو أنّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد‬
‫لوسعهم علماً من كتاب ال " (‪ ، )4‬وهذه شهادة عظيمة لجابر بن زيد ‪ ،‬قال العلمة التنوخي ‪ " -:‬و في تاريخ‬
‫البخاري عن جابر بن زيد قال ‪ :‬لقيني ابن عمر فقال ‪:‬جابر بن زيد من فقهاء أهل البصرة (‪ ، )5‬و قال ابن حبان‬
‫في الثقات كان فيها جابر بن زيد و كان من أعلم الناس بكتاب ال (‪ ، )6‬قال وفي كتاب الزهد لحمد بن حنبل لما‬
‫مات جابر بن زيد قال قتادة اليوم مات أعلم أهل العراق " قال " ومذهب الباضية مبني على مسند الربيع بن‬
‫حبيب ‪ ،‬و أحاديثه مروية عن أبي عبيدة عن جابر [‪ ]101‬بن زيد عن الصحابة إما عن عمر بن الخطاب ‪ ،‬أو‬
‫علي بن أبي طالب ‪ ،‬أو عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬أو غيرهم من الثقات" ‪ ،‬قال ‪ " -:‬و في تاريخ أبي خيثمة (‪ )7‬كان‬
‫حسن البصري إذا غزى أفتى الناس جابر بن زيد " أي إذا خرج إلى الغزوة استندت الفتوى إلى أبي الشعثاء –‬
‫رضي ال عنه – " ‪ ،‬قال ‪ " -:‬و قال إياس بن معاوية (‪ : )8‬أدركت الناس و ما لهم مفت غير جابر بن زيد " ‪،‬‬
‫فانظر في هذا مع أن البصرة ذلك الوقت غاصة بالعلماء من الصحابة فضلً عن غيرهم و لكن تميز المام جابر‬
‫بالفتوى لما له من مقام في العلم يقدره الناس ‪ ،‬فإنّه ليس كل من له بعض المعلومات يصلح أن يكون مفتياً ؛ لنّ‬
‫حمَ ِتهِ مَن َيشَاء" (‪. )9‬‬
‫خ َتصّ ِبرَ ْ‬
‫منصب العلم ل يناسب كل إنسان وتلك من خصوصيات ال لعباده " يَ ْ‬

‫عزّ الدّين ‪ " :‬و كان العمانيون أحرى أن ينتسبوا في مذهبهم إلى جابر بن زيد من أن ينتسبوا إلى‬
‫قال العلمة ِ‬
‫عبدال بن إباض التميمي المري الذي عده الشماخي (‪ )10‬من التابعين " (‪)11‬‬

‫قلت ‪ :‬قد بيّنا أنّ الباضية عامة ل يرون النتساب إلى أي عالم ‪ ،‬و إنّ ذلك شيء ل يقتضيه الدين ‪ ،‬و ما ل‬
‫يقتضيه الدين فترى الباضية عنه بعيدين ‪ ،‬و ما انتسابهم إلى عبد ال بن إباض إل للتميز فقط ‪ ،‬و قد سماهم‬
‫بذلك مخالفوهم فرضوا به ‪ ،‬فالباضية ل يتقيدون بمذهب خاص أبداً ‪ ،‬و ل ينحازون إلى قول إمام خاص ‪ ،‬و‬
‫يتركون ما عداه ‪ ،‬و إن كان حقاً (‪ ، )12‬ويقاتلون عليه ‪ ،‬خلف ما عليه غيرهم من أهل المذاهب الخرى ‪.‬‬

‫عزّ الدّين حاكياً عن العلمة الشماخي في عبدال بن إباض ‪ " :‬كان كثيراً ما يبدي النصائح لعبد الملك بن‬
‫قال ِ‬
‫مروان ‪-‬أي لنّه كان معاصراً له ‪ ،‬وكان الحداث إذ ذاك في نشاط شوطها ‪ ،‬قال ‪-‬و في حفظي ‪ -‬أي حفظ عز‬
‫الدين (‪ - )13‬أنه ‪ -‬أي عبدال بن إباض‪ -‬يصدر في أمره عن جابر بن زيد – رحمه ال – " [‪ ]102‬قال ‪" -:‬‬
‫فإذا كان ابن إباض يعمل في مذهبه بقول جابر ‪ ،‬فالعمانيون هم الجوابرة أو الجابريون " (‪ ، )14‬أي أنّ جابر بن‬
‫زيد هو المام المعتمد لهؤلء الرجال الغرّ الميامين صناديد الحق ‪ ،‬و أركان الدين ‪ ،‬و هو أحرى بالنتساب إليه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫لكننا ل نتقيد بمذهب خاص ‪ ،‬بل نتبع الحق أين وجدناه ‪ ،‬فنحن معه ندور معه حيث دار ‪.‬‬

‫عزّ الدّين و هو من علماء المذاهب الربعة و في عصرنا هذا ‪ ،‬قال في مقدمة الجزء الثالث من شرح‬ ‫قال العلمة ِ‬
‫مسند الربيع بن الحبيب – رحمه ال – " جابر بن زيد الجَ ْوفِي الزدي و أصله من بلد َفرْق ‪ -‬أي بفتح الفاء و‬
‫سكون الراء المهملة بعدها قاف ‪ -‬من أعمال نزوى و كان من اليحمد رحل في طلب العلم ‪ ،‬و سكن البصرة‬
‫فنسب إليها ‪ ،‬و هو أبو الشعثاء توفي سنة ثلثة و تسعين للهجرة "‪ ،‬قلت‪:‬قد سبق الخلف في وفاته‪ ،‬قيل في‬
‫سنة ستة و تسعين ‪ ،‬وقيل في سنة و مائة كما في المروج (‪ )15‬للمسعودي " أصل المذهب الباضي في عمان‬
‫و المغرب " قال " و هو قريب من المذاهب أهل السنة لعتماده في عقائده و عباداته و معاملته على الكتاب و‬
‫السنة " ‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬و صاحب ابن عباس " أي جابر بن زيد صحب ابن عباس ‪ ،‬قلت نعم الصاحب و نعم المصحوب ‪ ،‬و‬
‫يعرف المرء بالصاحب ‪ ،‬وكفى بذلك ‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬فقد كان أشهر من صحبه و قرأ عليه " ‪ ،‬قال‪ " -:‬و ذكر أبو طالب مكي (‪ )16‬في كتابه قوت القلوب‬
‫عن ابن عباس ‪ ((:‬اسألوا جابر بن زيد فلو سأله أهل المشرق و المغرب لوسعهم علمه)) "‪ ،‬قلت هذه شهادة ابن‬
‫عباس لجابر بن زيد تلميذه ‪ ،‬و هذه معرفته به‪ ،‬و ل يدل ابن عباس على جابر بن زيد هذه الدللة ‪ ،‬وينوه به‬
‫هذا التنويه الضخم إل لعلمه بحقيقة جابر[‪ ، ]103‬فالحمد ل الذي يمنح عباده ما شاء من فضل ‪ ،‬و ل مذهب‬
‫أحد أئمته أبو الشعثاء ‪ ،‬و الربيع بن حبيب ‪ ،‬و أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة ‪ -‬رحمهم ال و رضي عنهم – و‬
‫أمثالهم الذين قاموا بواجب الدين قبل غيرهم من علماء المسلمين ‪ ،‬و لهم السبق على الئمة الربعة بسنين ‪ ،‬و‬
‫ل يتبجح الباضية بأئمتهم ‪ ،‬و ل يفتخرون بغير الحق ‪ ،‬و ل يرون إل الرشاد عروة لهم ‪ ،‬وليس في كثرة‬
‫المعلومات مع عدم التحقيق خير أبداً ‪ ،‬إنّما الخير كل الخير في الصدق ‪ ،‬و الثبات على الحق ‪ ،‬و العتماد على‬
‫الحق ‪ ،‬و القيام بالعدل ‪ ،‬واصطحاب الرشاد ‪.‬‬
‫===========================‬
‫(‪ )1‬ثبير ‪ -:‬جبل بمكة ( مختار الصحاح ‪. )35/‬‬
‫(‪ )2‬عز الدين بن أمين شيخ السروجية الدمشقي ( ‪1307‬هـ ‪1387 -‬هـ ‪1889 /‬م – ‪1966‬م ) عالم بالدب ‪ ،‬من أعضاء المجمع العلمي العربي ‪،‬‬
‫مولده و وفاته بدمشق ‪ ،‬و انتخب نائب لرئيس المجمع بدمشق سنة ‪1964‬م ‪ ،‬حقق من نفائس التراث منها امنتقى من أخبار الصمعي ‪،‬و بحر العوام‬
‫في ما أصاب به العوام ‪ ،‬وغيرها ‪ .‬العلم (‪. )4/229‬‬
‫(‪ )3‬محمد بن عبدال بن سعيد بن خلفان الخليلي الخروصي ( ‪1299‬هـ ‪1373 -‬هـ ‪1882 /‬م – ‪1954‬م ) أبو عبدال ‪ ،‬من أئمة الباضية ‪ ،‬انتخب‬
‫للمامة سنة ‪1338‬هـ ‪1920 -‬م واستمر إلى أن توفي في نزوى عاصمة عمان ‪ ،‬عن نيف وسبعين عاما ‪ ،‬كان عالما مجتهدا له آراء فقهية ‪ .‬العلم (‬
‫‪.)6/246‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ الكبير (‪)1/2/204‬‬
‫(‪ )5‬المصدر السابق ( ‪)12/204‬‬
‫(‪ )6‬الثقات لبن حبان ( ‪)4/102‬‬
‫(‪ )7‬أحمد بن زهير ( أبي خيثمة ) بن حرب النسائي البغدادي (‪185‬هـ ‪279 -‬هـ) أبو بكر مؤرخ ‪ ،‬من حفاظ الحديث ‪ ،‬كان ثقة ‪ ،‬راوية للدب ‪ ،‬بصيرا‬
‫بأيام الناس ‪ ،‬من تصنيفه التاريخ الكبير ‪ ،‬أخبار الشعراء ‪ ،‬كتاب العراب ‪ .‬العلم ( ‪ )1/128‬معجم المؤلفين (‪.)1/142‬‬
‫(‪ )8‬إياس بن معاوية بن خرة المزني ( ‪46‬هـ ‪122 -‬هـ ) أبو واثلة ‪ ،‬قاضي البصرة ‪ ،‬وأحد أعاجيب الدهر في الفطنة و الذكاء ‪ ،‬يضرب المثل بذكائه و‬
‫زكنه ‪ ،‬فيقال أذكى من إياس ‪ ،‬و أزكن من إياس ‪ ،‬و الزكن التفرس في الشيء بالظن الصائب ‪ .‬العلم (‪)2/33‬‬
‫(‪ )9‬آل عمران‪. 74 :‬‬
‫(‪ )10‬أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشماخي النفوسي ( ت ‪928‬هـ) أبو العباس ‪ ،‬يلقب بالبدر الشماخي ‪ ،‬عالم من بلدة يفرن بجبل نفوسة ‪ ،‬من‬
‫شيوخه أبوعفيف صالح بن نوح التندميري ‪ ،‬و أبو زكريا يحيى بن عامر ‪ ،‬اشتهر بالتأليف ‪ ،‬من مؤلفاته ‪ ،‬كتاب السير ‪ ،‬و إعراب القرآن الكريم ‪ ،‬شرح‬
‫عقيدة التوحيد ‪ ،‬و مختصر العدل و النصاف‪ ،‬وشرحه ‪ ،‬وغيرها ‪ .‬معجم أعلم الباضية ( ‪.)2/86‬‬
‫(‪ )11‬كتاب السير ( ‪)1/72‬‬
‫(‪ )12‬لعل المقصود هنا " و يتركون ما عداه إن كان حقاً " فأضيفت الواو سهوًا فلينظر ‪.‬‬
‫(‪ )13‬في كتاب السير " و في حفظي أنه يصدر في أمره عن رأي جابر بن زيد " فالظاهر أنه حفظ أحمد بن سعيد الشماخي وليس عز الدين فلينظر ‪.‬‬
‫(‪ )14‬مقدمة كتاب الفتح الجليل من أجوبة المام أبي خليل ص ( و) ‪0‬‬
‫(‪ )15‬مروج الذهب ( ‪.)3/214‬‬
‫(‪ )16‬محمد بن علي بن عطية الحارثي ( ت ‪386‬هـ ) أبو طالب المكي ‪ ،‬واعظ زاهد فقيه ‪،‬اتهم بالعتزال ‪ ،‬نشأ بمكة‪ ،‬وسكن ببغداد ‪ ،‬و توفي بها ‪ ،‬له‬
‫كتاب قوت القلوب ‪ ،‬و علم القلوب ‪ ،‬و أربعون حديثا‪ .‬العلم (‪)6/274‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫واعلم أنّ الباضية من جملة فرق السلم الثلث وسبعين فرقة ‪ ،‬التي ورد حديث الفتراق بها ‪ ،‬و لكنها فرقة‬
‫ثبتت على الحق ‪ ،‬و قرّت (‪ )1‬على جسر العدالة ‪ ،‬فعادتها المم الجائرة ‪ ،‬وحاربتها الطغاة الفاجرة ‪.‬‬

‫فإنّ بني أمية انحرفوا عن النهج الحق كل النحراف ‪ ،‬و من سيئاتهم التي ل مثيل لها جعل الحجاج بن يوسف‬
‫أمير العراق ‪ ،‬والعراق ذلك العهد أكبر محاط رجال العلم ‪ ،‬و ملجأ الفقه ‪ ،‬و مغرس الفضائل ‪ ،‬حتى أنّ أهل العلم‬
‫ضربوا للعلم مثلً شاع بينهم ‪ ،‬فقالوا نشأ العلم في المدينة ‪ ،‬و فرّخ في العراق ‪ ،‬وطار إلى عمان ‪.‬‬

‫كان جابر بن زيد و هو عماني نزيل البصرة ‪ ،‬وهي إحدى مدن العراق الكبرى‪ ،‬فضرب مخيمه بها طالباً للعلم ‪ ،‬و‬
‫مطلوباً منه ‪ ،‬و كان العمانيون الذين لهم في خدمة العلم والسلم القلم العالية ‪ ،‬و هم روح حياة العلم إذ ذاك‬
‫في البصرة‪ ،‬فكان جابر بن زيد إمام الفقه في جميع نواحيه ‪ ،‬و الربيع بن حبيب راوي المسند عمدة الحديث ‪ ،‬و‬
‫الخليل بن أحمد و ابن دريد أركان الدب بجميع معانيه‪]104[،‬و المهلب بن أبي صفرة حامل الزعامة في المة ‪،‬‬
‫فكانت إذ ذاك البصرة و هي الفيحاء مضرب المثل ‪ ،‬فهي بصرة المهلب إمارةً ‪ ،‬و هي بصرة أبي الشعثاء فقهاً ‪،‬‬
‫و هي بصرة الخليل بن أحمد و ابن دريد نبلً و أدباً ‪.‬‬

‫و كان أبو عبيدة الضرير آية ذلك العصر ‪ ،‬فكان هؤلء مصدر الخير و الفضل والشرف ‪ ،‬ومضرب المثل العلى ‪،‬‬
‫و كانوا يعرفون بالباضية اسماً تمييزاً فقط ‪ ،‬بل كان هؤلء البطال المذكورون مرجع عبدال بن إباض في‬
‫شؤونه كلها ‪ ،‬و كانت شهرته لمنعته إذ قاوم كثيراً من بدع الملوك المويين ‪ ،‬و ناضل عن أهل الحق من‬
‫المسلمين ‪ ،‬و أيّد كل محقّ في الدين ‪ ،‬و كان لرهطه المنيع ‪ ،‬وشرفه الرفيع ‪ ،‬استحق الشهرة والصيت ‪ ،‬فقيل‬
‫لمن كان هذا منهجه إباضياً ‪ ،‬أي يقول بقول ابن إباض ‪ ،‬و ابن إباض يرد بدع بني أمية و ل يستسيغها كغيره ‪.‬‬

‫فهذا هو الصل الصيل لهذه المة الباضية ‪ ،‬إذ ل مسألة واحده له في الدين يأخذ بها أحد من المسلمين إل ما‬
‫ذكروه من كتبه لعبد الملك بن مروان ‪ ،‬و هي مشحونة فقهاً ‪ ،‬و مبنية على دعائم النصح ‪ ،‬ومقررة لسس‬
‫العدالة ‪ ،‬و لم تكن حديثا يفترى‪.‬‬
‫و كان أصل هذه التسمية من قومنا ‪ ،‬إذ أضافونا إلى عبدال بن إباض حين اتحد المنزع و اتفق المقصد ‪ ،‬و ظهر‬
‫ابن إباض بمظهر الحق ‪ ،‬و وافقه أولئك العلماء المجاد ‪ ،‬فكان رأيه رأيهم ‪ ،‬و نظره نظرهم ‪ ،‬فقيل لهم بذلك‬
‫إباضية ‪ ،‬و شاع ذلك في القطر العراقي ‪ ،‬و ذلك في الصدر الول ‪ ،‬غرة العصور ‪ ،‬و صفوة العهد ‪ ،‬و دائرة العلم‬
‫السلمي ‪ ،‬و لم تزل تلك اليام جديدة زهراء ‪ ،‬لنّ جداول العلم تفيض عليها صافية النبع ضخمة الوقع‪]105[،‬‬
‫فكان علماء ذلك الوقت مرجع ما بعده من الوقات ‪.‬‬

‫عزّ الدّين التنوخي في مقدمة أجوبة الشيخ عيسى بن صالح (‪ – )2‬رحمه ال – ‪ " :‬ومن علم أنّ‬ ‫قال العلمة ِ‬
‫علماء الباضية يرجعون في الحديث إلى مسند المام الربيع بن الحبيب الفراهيدي ‪ ،‬التي يروي أحاديثها أبو‬
‫عبيدة عن جابر بن زيد عن الصحابة ‪ ،‬و أكثر أحاديثه في الصحيحين و أمهات كتب الحديث مروية ‪ ،‬وذلك مما‬
‫يدل على صحتها ‪ ،‬و يؤيد صدق راويها " ‪ ،‬قال " و قد كان المام جابر بن زيد يعدّ من أكبر تلمذة حبر المة‬
‫ابن عباس " قال " و أخذ عن أجلة الصحابة و منهم سبعون بدرياً " ‪ ،‬قال " وقد سأل أحد البصريين ابن عباس‬
‫عن شيء قال تسألوني وفيكم جابر بن زيد " ‪ ،‬قال " وفي حديث سفيان عن ابن دينار عن عطاء أن ابن عباس‬
‫قال‪ -:‬لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لوسعهم علماً عن كتاب ال عز و جل " (‪. )3‬‬

‫قال " و جاء في كتاب "الجرح والتعديل" لبن أبي حاتم الرازي عن ابن أبي خثيمة قال‪ -:‬سمعت يحيى بن معين‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫يقول ‪ -:‬أبو الشعثاء جابر بن زيد روى عن قتادة أنه بصري ثقة (‪ ، )4‬وقد أجمعوا على إمامة يحيى بن معين (‬
‫‪ )5‬و توثيقه و حفظه و هو الذي يقول عنه أحمد بن حنبل السماع من يحيى بن معين شفاء لما في الصدور ‪،‬‬
‫خلقه ال ليظهر كذب الكذابين ‪ ،‬و كل حديث ل يعرف يحيى فليس بحديث ‪ ،‬و قد أخذ عنه أحمد ‪ ،‬و البخاري ‪ ،‬و‬
‫مسلم ‪ ،‬و أبو داود ‪ ،‬و خلئق ل يحصون "‪.‬‬

‫قال " و الذي يُظهر كذب الكذابين يُظهر صدق الصادقين كأبي الشعثاء جابر بن زيد إمام الباضيين "‪ ،‬قال‪" -:‬و‬
‫مما قلته في مقدمة الجزء الثالث من شرح الجامع الصحيح مسند الربيع بن حبيب الفراهيدي و من أعلم أهل [‬
‫‪ ]106‬السنة بالباضية ‪ ،‬و أعظم من كتب من علماء السنة المام ال ُم َبرّد صاحب الكامل في كتابه هذا قال قول‬
‫ابن إباض أقرب القاويل إلى السنة (‪ ، " )6‬قال‪ " -:‬وقال المام ابن حزم أسوأ الخوارج حال الغلة‪ ،‬و أقربهم‬
‫إلى قول الحق الباضية "‪ ،‬قال‪ " -:‬و يقول النور السالمي شارح المسند في مقدمة تحفة العيان و هو من‬
‫علماء عمان " ليس من رأينا بحمد ال الغلو في ديننا ‪ ،‬و ل ال َغشْمَ في أمرنا ‪ ،‬و ل تعدي على من فارقنا ‪ ،‬ال‬
‫ربنا ‪ ،‬و محمد نبينا ‪ ،‬والقرآن إمامنا ‪ ،‬و السنة طريقتنا ‪ ،‬و بيت ال الحرام قبلتنا‪ ،‬و السلم ديننا " (‪. )7‬‬

‫عزّ الدّين ‪ " -:‬ل جرم إن كان َمنْ يقول هذا القول ‪ ،‬ويعترف هذا العتراف هو من المسلمين الناجين‬
‫قال العلمة ِ‬
‫‪ ،‬و كل من يتهم الباضية بالزيغ و الضلل فهو ممن فرقوا دينهم و كانوا شيعا ‪ ،‬و من الظالمين الجهال ‪ ،‬جمع‬
‫ال ما فرقوا ‪ ،‬و مزق شمل أعوان المستعمرين ‪ ،‬و ال محيط بالكافرين (‪. " )8‬‬

‫عزّ الدّين – رحمه ال و رضي عنه – النجاة للباضية بحسب ما علم من أمر دينهم ‪ ،‬و رد على من‬ ‫فقد أثبت ِ‬
‫يتهم الباضية بالزيغ و الضلل بأنّه من المفرقين دينهم ‪ ،‬و في ذلك من الرد ما ل يخفى ‪ ،‬و أنّه من الظالمين‬
‫الجهال إلى أن دعا على من فرق دين ال ‪ ،‬و في هذا من التصريح ما ل يخفى بأنّ مذهب الباضية هو المذهب‬
‫الحق ‪ ،‬و الحمد ل ‪.‬‬

‫فإنّ ال تعهد بإظهار الحق على رغم أعدائه اللداء لتتم حجته على الناس ‪ ،‬و تكون مؤاخذتهم غدا بما كسبوا "‬
‫حدًا " (‪. )9‬‬
‫ظلِمُ رَ ّبكَ أَ َ‬
‫وَلَ يَ ْ‬

‫عزّ الدّين ‪ ،‬و صارح أعداء الباضية بأقواله ‪ ،‬و صال عليهم بأقلمه الماضية ‪ ،‬و كافح أهل الزيغ‬ ‫و قد صرّح ِ‬
‫عن الحق في عدة مقامات ‪ ،‬و إننا لنرجو له من ال المقام العلى على جهاده العظيم في البيئة التي هو فيها في‬
‫حسِنِينَ " (‪ )10‬و من كان ال‬‫[‪ ]107‬هذا العهد العصيب " وَاّلذِينَ جَا َهدُوا فِينَا لَ َن ْهدِيَنّهُمْ سُبَُلنَا َوِإنّ الَّ َل َمعَ ا ْلمُ ْ‬
‫معه فحسبه عزاً و شرفاً ‪ ،‬و إن أطبقت عليه الجبال فإنها تمر عليه بسلم ‪.‬‬

‫عزّ الدّين عن المذهب الباضية بقلبه ولسانه – رحمه ال – ‪ ،‬فله اليد على رجاله و أهله ‪ ،‬و إن كان‬ ‫ولقد جاهد ِ‬
‫عزّ الدّين كشف الغطاء ‪ ،‬و برز بين رجال المة‬
‫الحق على كل مسلم أن يقوم به ‪ ،‬يناضل عن حقوقه ‪ ،‬و لكن ِ‬
‫رافعاً عقيرته ‪ ،‬مُزيحاً لثامه ‪ ،‬مرهفاً أقلمه ‪ ،‬ناشراً أعلمه ‪ ،‬ينادي بين المة بغير تلعثم ‪ ،‬و يقول بصراحة إن‬
‫الحق عند الباضية ‪ ،‬ومن كان على نهجهم فهو منهم و هم منه ‪ ،‬لصحة النصوص التي بنوا عليها مذهبهم‬
‫الصحيح ‪ ،‬و الحق أحقّ أن يتبع ‪ ،‬و ما بعد الحق إل الضلل ‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬قَرت ‪ -:‬استقرت ( مختار الصحاح ‪ )221/‬مادة ق ر ر ‪.‬‬
‫(‪ )2‬عيسى بن صالح بن علي الحارثي ( ‪1290‬هـ ‪1365 -‬هـ ‪1871 /‬م – ‪1946‬م) من أمراء الباضية في عمان ‪ ،‬أخذ العلم من أبيه المجاهد ‪ ،‬و من‬
‫العلمة نور الدين السالمي ‪ ،‬عرف بالشجاعة في أيام والده ‪ ،‬واستقر في إمارة الشرقية سنة ‪1314‬هـ بعد مقتل أبيه ‪ .‬العلم (‪)5/104‬‬
‫(‪ )3‬تقدم تخريجه ‪.‬‬
‫(‪ )4‬الجرح و التعديل (‪.)2/495‬‬
‫(‪ )5‬يحيى بن معين بن عون المري بالولء ( ‪158‬هـ ‪233 -‬هـ ) أبو زكريا ‪ ،‬من أئمة الحديث و مؤرخي رجاله ‪ ،‬قال عنه الذهبي سيد الحفاظ ‪ ،‬وقال‬
‫ابن حجر ‪ :‬إمام الجرح و التعديل ‪ ،‬و قال أحمد بن حنبل ‪ :‬أعلمنا بالرجال ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها ‪ :‬التاريخ و العلل ‪ ،‬ومعرفة الرجال ‪ ،‬و الكنى و‬
‫السماء ‪ .‬العلم ( ‪)8/172‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )6‬الكامل في الدب ( ‪. )2/214‬‬
‫(‪ )7‬تحفة العيان (‪)1/84‬‬
‫(‪ )8‬مقدمة خلصة الوسائل في ترتيب المسائل (‪ /1‬حـ )‬
‫(‪ )9‬الكهف ‪. 49 :‬‬
‫(‪ )10‬العنكبوت ‪. 69 :‬‬

‫و العجب كل العجب ممن يرى الحق ‪ ،‬و ينبذه عنه مكاناً قصياً ‪ ،‬و يقول أنّه مسلم ‪ ،‬و أنّه من علماء المسلمين ‪،‬‬
‫و السلم يحتم على المسلم إتباع الحق ‪ ،‬والقول به ‪ ،‬و الركون إليه ‪ ،‬اللهم إل أن يكون من علماء السوء و‬
‫العياذ بال ‪.‬‬

‫فإنّ علماء السوء كما يشير إليهم حديث رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله ‪ )1( -‬هم الذين ل يبالون ‪،‬‬
‫خشَى الَّ ِمنْ عِبَا ِدهِ‬
‫فالعلم في ألسنتهم و اليمان نأى عنهم ‪ ،‬و خشية ال عز و جل لم تنزل قلوبهم ‪ ،‬و " إِ ّنمَا يَ ْ‬
‫الْعُ َلمَاء " (‪ )2‬و يقوم بواجبات الدين التقياء ‪ ،‬و ل ريب فإنّ العلماء المخلصين ل ينظرون إلى الدنيا إل كنظر‬
‫المار المجد ‪ ،‬و كل اهتمامهم إلى ال ‪ ،‬فإن عناء الدنيا و إن جلّ منتهٍ عن قريب ‪ ،‬و كل نعيم فيها منقضٍ في‬
‫غفلة من العيش ‪ ،‬نسأل ال لنا و لهل الحق من كل أمة التوفيق لرضاه ‪ ،‬و العون على تقواه ‪ ،‬و الخروج من‬
‫هذه الشبكة بسلمة [‪ ]108‬من البلء ‪ ،‬و ال ولي كل شيء ‪.‬‬

‫و ل ريب أنّ رجال الباضية رجال حق ‪ ،‬و لذلك يغشم الجهول على قواعدهم ‪ ،‬و يطعن الغبي في ديانتهم ‪ ،‬و‬
‫ينسب إليهم السوء من ل ينال شأوهم حسداً من عند أنفسهم ‪ ،‬و الحسد داء دفين ‪.‬‬

‫فإن استقراء أحوال المم يعبر بلسان الحال عن منهاج الباضية بأنّه هو الحق ‪ ،‬و إذا خفت صوت الباضية ‪،‬‬
‫أقام لهم من يكون سبباً في نشر دعوتهم كما فعل العقبي الجزائري (‪ ، )3‬فأرسل ال عليه من أشعة الدين‬
‫الباضي قبس أشعله ذلك القطب العظيم فدمغ زواهقه ‪ ،‬و أسكت شَقَاشقه ‪ ،‬و نشر دعوة المسلمين في أفق‬
‫السلم ‪ ،‬فألجم الخصوم ‪ ،‬و أفحم أهل الهواء ‪ ،‬و أكبت دعاة الباطل كما علم ذلك كل أحد ‪.‬‬

‫واعلم أنّ مذهب الباضية يتفق مع المذاهب الخرى في بعض النقاط ‪ ،‬و يفارقها في عدة مواقع خصوصاً حيث‬
‫يزيغ بها النظر عن جادة الحق ‪ ،‬فإنّ الباضية يوجبون قول ل إله إل ال محمد رسول ال – صلى ال عليه و‬
‫سلم – ‪ ،‬و إقامة الصلة بشروطها و وظائفها كما يصليها رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ -‬ل كما‬
‫يصليها غيره ‪ ،‬و إيتاء الزكاة كما شرعها ال في نصابها ‪ ،‬و حولها ‪ ،‬فيما يلزم فيه الحول ‪ ،‬وفي َدرَاكِها ‪ ،‬و‬
‫عشرها ‪ ،‬و نصف عشرها‪ ،‬و ربع عشرها ‪ ،‬و حج بيت الحرام كما شرط رسول ال – صلى ال عليه و سلم –‬
‫من أول الحرام إلى آخر المناسك التي جاء بها الشرع ‪ ،‬فرضها ‪ ،‬أو ندبها ‪ ،‬أو رغب فيها ‪.‬‬

‫و في جهاد الكفار من أهل الكتاب حتى الدخول في السلم ‪ ،‬أو أداء الجزية على صغارٍ كما ورد القرآن (‪ ، )4‬و‬
‫جهاد المشركين الذين ل كتاب لهم [‪ ]109‬عبدة الوثان ‪ ،‬و ل مناص لهم من سيوف المسلمين إل بالقرار‬
‫بالشهادتين أولً والتزام حقوقهما ثانياً على الوتيرة المشروعة ‪.‬‬

‫و على تحريم أموال أهل القبلة من كانوا ‪ ،‬و كيف كانوا ‪ ،‬مع وجوب قتالهم إذا بغوا على المسلمين ‪ ،‬أو أفسدوا‬
‫في أرض ال بما ل يُحلّه ال ‪ ،‬أو قطعوا الطريق ‪ ،‬أو نهبوا الموال ‪ ،‬أو الخيرة للمام في قطاع الطرق قتلً ‪ ،‬و‬
‫صلباً ‪ ،‬و نفياً ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و على بناء المساجد في الدور والقرى ‪ ،‬و إعلن الذان ‪ ،‬و صلة الجماعة ‪ ،‬و الجمعة في المصر الممصر كما‬
‫قرر ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ‪ ،‬و وافقه عليه صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – فكان‬
‫إجماعاً ‪ ،‬إذ ليس لهم أن يوافقوه على ما يخالف فيه الشرع ‪.‬‬

‫و على وجوب المامة عند توفر الشروط ‪ ،‬و تعين الصلح على نظر العلماء‪ ،‬الذين جعلهم ال حجة في الدين و‬
‫عمدة في المسلمين‪.‬‬

‫و على تحريم غنم أموال أهل القبلة ما داموا مُقرين بالسلم ‪ ،‬دائنين بصدقه‪ ،‬غير منكرين لشيء مما جاء به‬
‫رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ‪ ،‬مع قطع حبل الوداد للطاعن في الدين ‪ ،‬الممالىء على المسلمين ‪،‬‬
‫الداس عليهم ‪ ،‬و المغري للعداء عليهم ‪ ،‬و المساعد لهم ‪ ،‬و المحرك لهم على قتال المسلمين ‪ ،‬أو على احتلل‬
‫بيضتهم (‪ ، )5‬و قتل إمامهم المجمع عليه من أهل الحق الذين هم الحجة ‪.‬‬

‫و على عدم سبّ المسلمين ‪ ،‬و على عدم قتال المسلمين ما لم يقترفوا ما يشق عصى المسلمين ‪ ،‬و على أن‬
‫يضع المام بيت المال في مواضعه المشروعة له ‪ ،‬و على أن يقسم الفيء على المسلمين ‪ ،‬على قدر مراتبهم في‬
‫الدين ‪ ،‬و أن يقسم غنائم المشركين على [‪ ]110‬مقتضى قسم القرآن الكريم ‪ ،‬و على أن يساوي بين الخصوم ‪،‬‬
‫و أن يقيم الولة و القضاة للعمال كما أقامهم رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم‪ ، -‬و أن يكون ناظراً إلى‬
‫المة نظر الوالد على الولد ‪ ،‬على أن يكون في بيت مال المسلمين كواحد منهم ‪ ،‬ل يستأثر عنهم بفيء ‪ ،‬و ل‬
‫يختص عنهم بالحقوق العامة ‪ ،‬بل يكون الحكم العدل بينهم ‪ ،‬راداً للزائغ عن زيغه ‪ ،‬قاهراً للمبطل على باطله ‪،‬‬
‫حامياً للحوزة ‪ ،‬حاكماً بكتاب ال ‪ ،‬وسنة رسوله عليه الصلة و السلم ‪ ،‬و اجتماع المسلمين ‪ ،‬آخذاً بالرأي في‬
‫محله ‪ ،‬جامعاً للمسلمين تحت رايته ‪ ،‬مؤلفاً لهم ‪ ،‬رحيماً بهم ‪ ،‬شفوقاً عليهم ‪ ،‬يتألم لهم تألم الوالد الحنون على‬
‫الولد الضعيف ‪ ،‬داعياً إلى ال ‪ ،‬ناظراً إليه ‪ ،‬مشغولً برضاه ‪ ،‬محبباً له في قلوب عباده ‪ ،‬تالياً للقرآن في‬
‫خلواته ‪ ،‬محاسباً نفسه على الفتيل و النقير ‪ ،‬و عاملً بأقوال المسلمين ‪ ،‬تابعاً لثار أهل الدعوة ‪ ،‬شجاعاً‬
‫مقداماً ‪ ،‬ل يرى الذعر ‪ ،‬ول يعرفه ‪ ،‬إذا ارتفع إليه الصريخ كان ملجأ الخائف ‪ ،‬و فئة المرتاع ‪ ،‬يقسم مواريث‬
‫المسلمين على نهج القرآن العظيم ‪ ،‬و على سنة النبي الكريم ‪ ،‬كل همته إعلء كلمة ال ‪ ،‬و نصرة أهل الحق ‪ ،‬و‬
‫إغاثة الملهوف ‪ ،‬و نصرة المظلوم ‪ ،‬والسعي في راحة المة و أمنها ‪ ،‬و حياطة البلد من مكائد العداء ‪ ،‬يحمل‬
‫الناس على التعليم لدين ال ‪ ،‬و على الفقه قبل كل شيء ‪ ،‬و على العلوم النافعة ‪ ،‬آمراً بالمعروف ‪ ،‬ناهياً عن‬
‫المنكر على سنن كتاب ال ‪ ،‬وعلى مقتضى أوامر رسول ال – صلى ال عليه و سلم – منظماً للجيوش ‪ ،‬ضابطاً‬
‫للجنود ‪ ،‬مؤدباً لهل البطر و الطيش و النزق ‪ ،‬مشاوراً لهل العلم ‪ ،‬معتمداً على أهل الصلح ‪ ،‬ل يعظم‬
‫الجبابرة ‪ ]111[ ،‬ول يحترم أعوانهم ‪ ،‬ول ينظر إلى أُبّهتهم ‪ ،‬و ل إلى مالهم من الرياش ‪،‬فإنه زهرة ستذبل عن‬
‫قريب ‪.‬‬

‫و اعلم أنّ مذهب الباضية ل يقبل ما يخالف الشرع كما قال بعض الشاعرة (‪ )6‬أو أهل الرجاء (‪ ، )7‬إ ّ‬
‫ن‬
‫اليمان هو التصديق بالقلب فقط ‪ ،‬و بعبارة أخرى إنّ اليمان هو معرفة ال بقلبه ‪ ،‬فإن آمن بقلبه فهو مؤمن‬
‫مسلم ‪ ،‬و إنْ أظهر اليهودية و النصرانية ‪ ،‬و إن لم ينطق بالشهادتين ‪ ،‬و ليس القرار باللسان و ل العمال من‬
‫صوم و صلة و زكاة و حج جزءاً من اليمان ‪.‬‬

‫و حجتهم أنّ القرآن نزل بلغة العرب ‪ ،‬و اليمان في اللغة التصديق فقط ‪ ،‬و أما العمل بالجوارح فل يسمى في‬
‫اللغة تصديقاً فليس إيماناً ‪ ،‬قال و قد جاء في القرآن حكاية عن إخوة يوسف قولهم " َومَا أَنتَ ِبمُ ْؤ ِمنٍ لّنَا وَلَوْ ُكنّا‬
‫صَا ِدقِينَ " (‪ ، )8‬أي لست بمصدق لنا ولو قلنا لك الصدق ‪.‬‬

‫وهذه القاعدة التي يضعها هؤلء تقضي على الدين من أساسه ‪ ،‬و ترد على العاملين عملهم ‪ ،‬وتأمر الناس بترك‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫العمال ‪ ،‬فإنّه إذا كان النسان مؤمناً و مسلماً بمجرد الطوية فلِمَ رسول ال – صلى ال عليه و سلم – يقول "‬
‫أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ‪ ،‬محمدا رسول ال ‪ )9( " ...‬الحديث ‪.‬‬

‫فلعلهم عرفوا ال بقلوبهم فل يحل له قتالهم ‪ ،‬و ل أي أحد من الناس ما دام القائل المذكور ‪ ،‬و إن أظهر‬
‫اليهودية و النصرانية و عليه فل يحل قتال أي أحد من الناس ‪ ،‬فإنّه من الممكن أن يكون الذي يقاتَل ‪ -‬بفتح التاء‬
‫المثناة‪ -‬من فوق مؤمناً فيكون مظلوما ‪ ،‬و يكون مقاتله ظالماً له ‪ ،‬فيلزم منه نسبة الظلم إلى النبيين ‪ ،‬و إلى أئمة‬
‫الدين ‪ ،‬و كيف ل و أبو بكر – رضي ال عنه – يقاتل [‪ ]112‬مانع الزكاة و رسول ال – صلى ال عليه و سلم‬
‫– يأمر بقتله إن منعها من إماماً يحل له أخذها ‪.‬‬
‫=====================================‬
‫(‪ )1‬يشير إلى الحديث الذي أخرجه ا لربيع بن حبيب عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك عن النبي – صلى ال عليه و سلم ‪ ": -‬و يل‬
‫لمن لم يعلم مرة ‪ ،‬و ويل لمن يعلم و لم يعمل مرتين " أخرجه الربيع في باب من طلب العلم لغير عز وجل و علماء السوء ‪ ،‬رقم ‪ 32‬ص ‪. 34 – 33‬‬
‫(‪ )2‬فاطر ‪. 28 :‬‬
‫(‪ )3‬لم أجد له ترجمة ‪.‬‬
‫(‪ )4‬يشير إلى قوله تعالى ‪ " :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال و ل باليوم الخر و ل يحرمون ما حرم ال و رسوله و ل يدينون دين الحق من الذين أوتوا‬
‫الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " التوبة ‪.29/‬‬
‫(‪ )5‬بيضة كل شيء حوزته ‪ ،‬و بيضة القوم ساحتهم ( مختار الصحاح ‪ )29/‬مادة ب ي ض ‪.‬‬
‫(‪ )6‬فرقة كلمية إسلمية ‪ ،‬تنسب لبي الحسن الشعري ‪ ،‬الذي خرج على المعتزلة ‪ ،‬وقد اتخذت الشاعرة البراهين و الدلئل العقلية و الكلمية وسيلة‬
‫في محاججة خصومها المعتزلة و الفلسفة و غيرهم لثبات حقائق الدين ‪ ،‬من أبرز أئمتها القاضي أبو بكر الباقلني ‪ ،‬و أبو إسحاق الشيرازي ‪ ،‬و إمام‬
‫الحرمين أبو المعالي الجويني ‪ ،‬و أبو حامد الغزالي ‪ .‬للتوسع و المزيد ارجع المسوعة الميسرة في الديان و المذاهب والحزاب المعاصرة (‪. )1/83‬‬
‫(‪ )7‬هي فرقة من الفرق السلمية المتقدمة في الزمن ‪ ،‬و من أهم أسسها أنه ل يضر مع اليمان معصية ‪ ،‬و أن طاعة المام الجائر واجبة فل ثورة و‬
‫ل خروج ‪ ،‬و يرجون النجاة لكل المؤمنين يوم ا لقيامة و إن ماتوا على المعصية‪ ،‬و لذلك سموا بأهل الوعد على عكس المعتزلة الذين سموا بأهل الوعيد‬
‫‪ .‬انظر البعد الحضاري للعقيدة الباضية ص ‪.102‬‬
‫(‪ )8‬يوسف ‪. 17 :‬‬
‫(‪ )9‬سبق تخريجه ‪.‬‬

‫إنّ هذا الصل الذي وضعه المرجئة هدام للدين ‪ ،‬داعٍ إلى الكفر ‪ ،‬حاكماً بالظلم على النبياء و المرسلين ‪ ،‬و‬
‫موجب للبراءة من أئمة الدين ‪ ،‬لنّهم ل يحل لهم قتال أي أحد من الناس على العموم ‪ ،‬فأين تكون منه أوامر ال‬
‫عز و جل بقتال الكفار و قطاع الطرق ‪ ،‬و إبطال الحدود التي توجب القتل لمقترفها مهما كان ‪ ،‬و هذا ل نعلم‬
‫مسلماً يفهم معنى السلم يقول به ‪.‬‬

‫وقد ينسب إلى جملة من أهل العلم من مخالفينا ‪ ،‬و سوف نسمعك من ذلك ما تستعرض على الذهن معناه ‪ ،‬على‬
‫ما جاء نصاً في مقالٍ من له به إطلع و اهتمام ‪ ،‬فانظره بالنظر الصحيح و العقل السليم ‪.‬‬

‫قال في " ضحى السلم " في الجزء الثالث منه صحيفة ‪ 317‬قال ‪ ":‬من المرجئة من كان يرى أن اليمان‬
‫ركنان ‪ :‬تصديق بالقلب و إقرار باللسان " و عليه إذا صدق بقلبه ‪ ،‬و أقرّ بلسانه ؛ فهو مسلم ل يلزمه أن يعمل‬
‫أي شيء من العمال المفترضة ‪ ،‬فيكون افتراضها شيء زائداً عن المطلوب ‪ ،‬و عليه إذا لم يعمل فهو مؤمن‬
‫مسلم سعيد عند ال تجب له الولية ‪ ،‬و تحرم البراءة منه ‪ ،‬و هو كالول في هدم قواعد السلم ‪ ،‬لنّ السلم‬
‫شرع تكاليف شاقة ‪ ،‬و أوجب أموراً ثقيلة ‪ ،‬و عليه ففاعلها في عباد ال ‪ ،‬جارم عليهم ‪ ،‬جائر في حكمه بها‬
‫عليهم ‪ ،‬فيكون المسلم جائراً و هكذا ‪ ،‬قال‪ " :‬فالتصديق بالقلب وحده ل يكفى ‪ ،‬و القرار باللسان وحده ل‬
‫يكفي ‪ ،‬بل ل بُد منهما معاً ليكون مؤمناً ‪ ،‬لنّ من صدق بقلبه ‪ ،‬و أعلن التكذيب بلسانه ل يسمى مؤمناً " ‪ ،‬قال "‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و على هذا التأصيل يكاد المرجئة مجمعون على أن العمل [‪ ]113‬ليس ركناً من أركان السلم بمعنى اليمان ‪ ،‬و‬
‫ل داخل في مفهومه " و قد أوضحنا لك تحقيق ما يتفرع عليه و هو صحيح ‪ ،‬و قد ورد به القرآن الكريم ‪ ،‬و‬
‫حققته السنة الصحيحة ‪ ،‬وثبت عليه علماء المسلمين ‪.‬‬

‫قال‪ " -:‬و كان خصومهم يرون أنّ لليمان أركاناً ثلثة ‪ :‬التصديق بالقلب ‪ ،‬و القرار باللسان ‪ ،‬وعمل الطاعات "‬
‫‪ ،‬قال " لنّ اليمان في اللغة و ِإنْ كان هو التصديق بالقلب إل أن الشارع كثيراً ما يغير المعاني اللغوية ‪ ،‬و يزيد‬
‫فيها و يقيدها‪،‬كالصلة كانت في اللغة الدعاء ‪ ،‬فستعملها الشارع في معناها الخاص بها ‪ ،‬و قد قال ال في القرآن‬
‫الكريم " َومَا كَانَ الّ لِ ُيضِيعَ إِيمَا َنكُمْ " (‪ ، )1‬و سياق الية يدل على أن المراد باليمان هنا الصلة إلى بيت‬
‫سلَمُ " (‪)2‬‬ ‫المقدس قبل أن تنسخ الصلة عليه و يوجبها إلى الكعبة ‪ ،‬وقال ال عز و جل " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬
‫لةَ َويُؤْتُوا الزّكَاةَ َوذَ ِلكَ دِينُ ا ْلقَ ّي َمةِ " (‪ ، )3‬و قال " َومَا ُأ ِمرُوا إِلّ لِيَ ْع ُبدُوا‬ ‫صَ‬ ‫‪ ،‬و قال في موضعاً آخر " وَيُقِيمُوا ال ّ‬
‫حنَفَاء" (‪ ، )4‬فنص على أن عبادة ال دين ‪ ،‬وعلى أن الدين عند ال السلم ‪ ،‬و على أن‬ ‫خِلصِينَ َلهُ الدّينَ ُ‬ ‫الَّ مُ ْ‬
‫لمَكُم بَلِ الُّ َي ُمنّ عَلَ ْيكُمْ َأنْ‬
‫سَ‬ ‫السلم هو اليمان لقوله عز و جل " َيمُنّونَ عََل ْيكَ َأنْ َأسْ َلمُوا قُل لّ َت ُمنّوا عَلَيّ ِإ ْ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا‬ ‫َهدَا ُكمْ ِللِْيمَانِ إِن كُنتُمْ صَا ِدقِينَ" (‪ ، )5‬و دليل آخر هو أن ال قال " َفلَ َورَ ّبكَ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ حَتّىَ يُ َ‬
‫حرَجًا ّممّا َقضَيْتَ وَ ُيسَّلمُواْ َتسْلِيمًا" (‪ )6‬فجعل التحكيم من اليمان ‪ ،‬و هو‬ ‫جدُواْ فِي أَن ُفسِ ِهمْ َ‬
‫جرَ َبيْنَهُمْ ُثمّ لَ َي ِ‬
‫شَ َ‬
‫غير التصديق بالقلب ‪.‬‬

‫و أيضاً لو كان اليمان هو التصديق بالقلب لكان كثيراً من اليهود مؤمنين فقد قال ال إنّهم يعرفون النبي كما‬
‫سأَلْتَهُم ّمنْ خََلقَهُمْ‬
‫يعرفون أبناءهم ‪ ،‬و إنّهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة [‪ ]114‬و النجيل ‪ ،‬وقال " َولَئِن َ‬
‫لَ َيقُوُلنّ الُّ " (‪ ، )7‬مع أنّه ل خلف بين المسلمين عد هؤلء اليهود كفاراً " (‪. )8‬‬

‫قلت ‪ :‬لقد قدمت لك هذا المعنى ‪ ،‬وقد صح الجماع الصحيح الثابت المقطوع بصحته و صدقه أنّ اليهود مشركون‬
‫‪ ،‬بل القرآن نفسه ناطق بشركهم ‪ ،‬وهؤلء القائلون بهذا المبدأ المنهار الذي ل ينفعهم ول يبقى لهم مثقال ذرة‬
‫من اليمان ‪ ،‬ل يعقلون أوامر ال عز و جل ‪ ،‬بل قد ران على قلوبهم ما كان يكسبون ‪ ،‬فال المستعان ‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬و كان المرجئة الذين يقولون إنّ اليمان هو التصديق بالقلب يردون عليهم في هذا بأنّ اليهود والنصارى‬
‫لم يعرفوا أنّ محمدا – صلى ال عليه و سلم – رسول ال ‪ ،‬و معنى " يَ ْع ِرفُو َنهُ َكمَا َي ْعرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ" (‪ ، )9‬أي‬
‫يعرفون أنه محمد بن عبدال بن عبد المطلب إلى آخر ما دار بينهم و إياه من حوار " ‪ ،‬قال " وقد كان أشد‬
‫خصوم المرجئة في ذلك هم المعتزلة و الخوارج " ‪ ،‬قال " لنّ هاتين الفرقتين اشترطوا في اليمان التيان‬
‫بالطاعات ‪ ،‬و اجتناب المعاصي ‪ ،‬و جعلوا العمال جزءاً من اليمان ‪ ،‬و جعلت الخوارج من أتى الكبيرة كافراً ‪،‬‬
‫على أن المرجئة يقولون أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن ؛ لنّه مصدق بقلبه ‪ ،‬فاسق لرتكابه الكبيرة ‪ ،‬بل منهم من‬
‫يقول ل يصح أن يسمى فاسقاً بإطلق ‪ ،‬بل يقال فاسق بكذا (‪ ، )10‬مع أن المعتزلة جعلت مرتكب الكبيرة في‬
‫منزلة بين المنزلتين " (‪ ، )11‬أي ل مؤمناً و ل كافراً ‪ ،‬فكان ذلك نقضاً لنص الكتاب العزيز حيث يقول " ِإمّا‬
‫شَا ِكرًا َوِإمّا كَفُورًا " (‪ ، )12‬و ل نعلم أنّ في هذا الكون يوجد صنف ثالث بين اليمان و الكفر ‪ ،‬و ل قال لنا‬
‫رسول [‪ ]115‬ال – صلى ال عليه و آله و سلم‪ -‬ذلك أبداً ‪.‬‬

‫قال أحمد أمين ‪ " -:‬ولعل هذه المسألة ‪ -‬أي مسألة اليمان و تحديده‪ -‬هي محور الرجاء ‪ ،‬و قد تفرع عنها جملة‬
‫مسائل ‪ :‬مثل هل اليمان يزيد و ينقص ‪ ،‬أو ل يزيد و ل ينقص ؟ فلما قال المرجئة بأن اليمان هو التصديق‬
‫بالقلب ‪ ،‬أو التصديق بالقلب ‪ ،‬و القرار باللسان ‪ ،‬قال أكثرهم إنّ اليمان ل يزيد و ل ينقص ؛ لنّ التصديق غير‬
‫مقول بالتشكيك ‪ ،‬و القرار باللسان إما أن يكون أو ل يكون ‪ ،‬فل محل للزيادة ‪ ،‬و ل النقصان ‪ ،‬ومن قال إنّ‬
‫العمال داخلة في مفهوم اليمان ‪ ،‬و العمال تكثر وتقل قالوا‪ -:‬إنّ اليمان يزيد و ينقص ‪ ،‬وقد احتج الخيرون‬
‫بقوله تعالى‪ " -:‬فَ َأمّا اّلذِينَ آ َمنُواْ َفزَادَتْ ُهمْ إِيمَانًا" (‪ )13‬فأثبتت الية زيادة اليمان بصريح العبارة ‪ ،‬و قوله عز و‬
‫خشَ ْوهُمْ َفزَا َدهُمْ إِيمَاناً " (‪ )14‬قال " وقد تأول المرجئة هذه‬
‫ج َمعُواْ َلكُمْ فَا ْ‬
‫جل " اّلذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ ِإنّ النّاسَ َقدْ َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الية و أمثالها بأن هذه الية لما نزلت زادتهم تصديقاً بشيء لم يكن عندهم من قبل ‪ ،‬فاليمان الذي زاد ليس هو‬
‫اليمان بمعنى التصديق بال بل اليمان فيها هو التصديق بمعنى الية و ما أخبرت به ‪ ...‬إلخ "‪.‬‬

‫قال أحمد أمين ‪ " -:‬و مما فرعه المرجئة على تعريفهم لليمان أنّ المؤمن المرتكب الكبيرة ل يخلد في النار لنّه‬
‫‪ -‬على كل حال ‪ -‬مؤمن " ‪ ،‬قال ‪ " -:‬و خالفوا في ذلك المعتزلة و الخوارج إذ يقولون إنّ مرتكب الكبيرة مخلد‬
‫حدُو َدهُ ُيدْخِ ْلهُ نَارًا‬
‫في النار و ل يخرج منها أبدا ‪ ،‬و استدلوا بقوله تعالى ‪َ " -:‬ومَن يَ ْعصِ الّ َو َرسُو َلهُ وَ َيتَ َعدّ ُ‬
‫جزَآ ُؤهُ جَهَنّمُ خَا ِلدًا فِيهَا " (‪. )16‬‬ ‫خَا ِلدًا فِيهَا " (‪ )15‬و قوله عز وعل ‪َ " -:‬ومَن يَقْتُلْ مُ ْؤمِنًا مّ َت َع ّمدًا فَ َ‬
‫================================‬
‫(‪ )1‬البقرة ‪. 143 :‬‬
‫(‪ )2‬آل عمران ‪. 19 :‬‬
‫(‪ )3‬البينة ‪. 5 :‬‬
‫(‪ )4‬البينة ‪. 5 :‬‬
‫(‪ )5‬الحجرات ‪17 :‬‬
‫(‪ )6‬النساء ‪. 65 :‬‬
‫(‪ )7‬الزخرف ‪. 87 :‬‬
‫(‪ )8‬ضحى السلم (‪ )318-3/317‬بتصرف‬
‫(‪ )9‬البقرة ‪. 146 :‬‬
‫(‪ )10‬مقالت السلميين للشعري (‪)1/222‬‬
‫(‪ )11‬ضحى السلم (‪ )3/318‬بتصرف ‪.‬‬
‫(‪ )12‬النسان ‪. 3 :‬‬
‫(‪ )13‬التوبة ‪. 124 :‬‬
‫(‪ )14‬آ ل عمران ‪. 173 :‬‬
‫(‪ )15‬النساء ‪. 14 :‬‬
‫(‪ )16‬النساء ‪. 93 :‬‬

‫و قد [‪ ]116‬تأول المرجئة هذه اليات فقالوا في الية الولى إن من يعص ال و رسوله و يكون مؤمن لم يتعد‬
‫حدوده ‪ ،‬بل تعدى بعض حدوده ‪ ،‬إنما يتعدى الحدود كلها الكافر ‪ ،‬و تأولوا الية الثانية بأن من قتل مؤمناً من‬
‫حيث إيمانه خاصة ‪ -‬أي لجل إيمانه ل شيء آخر ‪ -‬فل يكون القاتل بهذا الوضع إل كافراً ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬

‫فالمرجئة يرون أنّه ل يخلد في النار إل الكافر ‪ .‬و كان مما قالوه أيضاً أن وعد ال ل يتخلف ‪ ،‬و وعيده قد يتخلف‬
‫؛ لن الثواب فضل سيلقى ال به ‪ ،‬لنّ الخلف في الوعد نقص ‪ ،‬و العقاب عدل ‪ ،‬و له أن يتصرف فيه كما يشاء‬
‫‪ ،‬و ل يُعد الخلف في الوعيد نقصاً ‪ ،‬فخالفوا في ذلك ما قاله المعتزلة كما تقدم من قولهم " (‪. )1‬‬

‫قلت ‪ :‬هذا مبنياً على قياس الغائب بالشاهد ‪ ،‬و قياس الرب على الخلق ‪ ،‬و نسوا قوله ‪ -‬عز وعل ‪ " -‬مَا يُ َبدّ ُل‬
‫ظلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ " (‪ ، )2‬فما تتمدح به العرب من أن خلف الوعد كرم ل يمكن قياسه على ال ‪،‬‬
‫الْقَوْلُ َلدَيّ َومَا أَنَا ِب َ‬
‫فإنّه شارع ‪ ،‬و فارض ‪ ،‬و مكلف فصلً مقرراً ‪ ،‬وأمراً محتوماً ‪ ،‬ل يحال ‪ ،‬و ل يزال ‪ ،‬و ل يمكن تغيره بوجه ما‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬و قد كان من الجائز أن يقابل كلم المرجئة و شرحهم لرأيهم في اليمان بشيء من التسامح لول أنّ‬
‫كثيراً من المتكلمين شعروا بالخطر الذي ينطوي عليه كلمهم في اليمان ‪".‬‬

‫قلت ‪ :‬هو الذي قدمته لك من انتقاض قواعد الدين ‪ ،‬و الخروج به من حيز الحق إلى حضيض الباطل ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫قال ‪ " -:‬و هو التقليل من شأن العمال ‪ ،‬و التيان بالطاعات " ‪ ،‬قلت ‪ :‬متفرع على تأصيلهم ‪ ،‬و ل محال عنه‬
‫فيه هدم للدين ‪ ،‬و إبطال لعمال شرعها ال ‪ ،‬و ذلك مخرج لصاحبه من السلم ‪.‬‬

‫قال " فرأوا أن جعل اليمان هو التصديق بالقلب وحده [‪ ]117‬أو مع القرار باللسان يجعل أعمال الطاعات في‬
‫منزلة ثانية ‪ ،‬حتى أنّ بعضهم فسر تسميتهم بالمرجئة بأنّهم َأرْجأوا العمل ‪ -‬أي أخروا منزلته بعد منزلة اليمان ‪-‬‬
‫و في هذا خطر و خاصة على العامة " (‪. )3‬‬

‫قلت ‪ :‬هو خطر على الخاصة قبل العامة إذا تبعته ‪ ،‬فإنّ أهل المعرفة أشد عقاباً من أهل الجهل ‪ ،‬و هم العامة ‪.‬‬
‫قال " لنّهم إن فهموا أن العمال ليست ركناً من أركان اليمان ‪ ،‬قل التزامهم بها"‪ .‬قلت ‪ :‬لقد صرحت لك بهذا‬
‫قبل هذا المقام في كلمي المتقدم‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬و تمسكهم بالتيان بها ‪ -‬أي و قَلّ تمسكهم ‪ -‬و على العكس من ذلك إذا فهموا أنّها جزء من اليمان ل‬
‫يكمل إل بها ‪ ،‬فحاربوا مذهبهم و عدوه من الفرق المنحرفة ‪ ،‬أمّا هي في نظر الخاصة فل ضرر منها ؛ لنّه إذا‬
‫كان مفهوم اليمان هو التصديق فقط ‪ ،‬لم يمنع من وجوب الطاعات " ‪ ،‬قلت ‪ :‬إذا قلدوهم في مقالهم ‪ ،‬واعتمدوا‬
‫على صدق تأصيلهم هلكوا به ‪.‬‬

‫قال‪ " -:‬كالصلة و الصوم وجوباً حتماً مشدداً ل يصح التساهل فيه بحال ‪ ،‬و الخلف ليس إل في مدلول اللفاظ ‪،‬‬
‫ومن أجل هذا ثارت مسألة كَثُر حولها الجدل ‪ ،‬فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه كان مُرجئاً ‪ ،‬و ممن نقل ذلك أبو‬
‫الحسن الشعري في كتابه " مقالت السلميين " فقال ‪(( :‬الفرقة التاسعة المرجئة ‪ -‬أبو حنيفة و أصحابه ‪-‬‬
‫يزعمون أن اليمان المعرفة بال ‪ ،‬و القرار بال ‪ ،‬و المعرفة بالرسول ‪ ،‬و القرار بما جاء به من عند ال في‬
‫الجملة دون التفسير )) (‪ ، )4‬و قد جاء في الفقه الكبر المنسوب إلى المام أبي حنيفة والذي أثبت العلماء صحة‬
‫نسبة جزء كبير منه إليه ‪ (( :‬اليمان هو القرار و التصديق )) ‪ ،‬و جاء فيه‪ (( -:‬و يستوي المؤمنون في‬
‫المعرفة[‪ ، ]118‬و اليقين ‪ ،‬و التوكل ‪ ،‬و المحبة ‪ ،‬و الرّضا ‪ ،‬و الخوف ‪ ،‬والرجاء‪ ،‬و يتفاوتون فيما دون‬
‫اليمان في ذلك كله ))‪ ،‬و جاء فيه ‪ (( -:‬ال متفضل على عباده عادل قد يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه‬
‫العبد تفضلً منه ‪ ،‬و قد يعاقب على الذنب عدلً منه ‪ ،‬و قد يعفو فضلً منه تعالى )) ‪ ،‬و جاء فيه (( و ل نكفر‬
‫أحداً بذنب و ل ننفي أحداً عن اليمان)) (‪. )5‬‬

‫و هذه المسائل التي نقلناها عن الفقه الكبر هي أصول الرجاء ‪ ،‬و لكنّ كثيراً من الفقهاء ‪ ،‬و المتكلمين جدوا في‬
‫تكذيب هذا ‪ ،‬و استكبروا نسبة الرجاء إلى أبي حنيفة ‪ ،‬و قالوا إن اهتمام أبي حنيفة بالفروع ‪ ،‬و كونه إماماً من‬
‫أكبر الئمة فيها يدل على أنّه يُكْبِر اليمان ‪ ،‬و هذا عكس الرجاء‪.‬‬

‫و مما قاله في ذلك الشهرستاني ‪ " :‬و من العجب أن غسان (‪ )6‬كان يحكي عن أبي حنيفة مثل مذهبه ‪ ،‬ويعده‬
‫من المرجئة ‪ ،‬و لعله كذب ‪ ،‬و لعمري كان يقال لبي حنيفة و أصحابه مرجئة السنة ‪ ،‬و عده كثير من أصحاب‬
‫المقالت من جملة المرجئة‪ ،‬و لعل السبب فيه أنّه لما كان يقول اليمان هو التصديق بالقلب ‪ ،‬وهو ل يزيد و ل‬
‫ينقص ظنوا بأنه يؤخر العمل عن اليمان ‪ ،‬و الرجل مع تحرجه في العمل كيف يفتى بترك العمل ؟ و له سبب‬
‫آخر ‪ ،‬و هو أنّه كان يخالف القدرية و المعتزلة الذين ظهروا في الصدر الول ‪ ،‬و المعتزلة كانوا يلقبون من‬
‫خالفهم في القدر مرجئاً ‪ ،‬و كذلك أيضاً الوعيدية من الخوارج ‪ ،‬فل يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريق المعتزلة و‬
‫الخوارج " (‪. )7‬‬

‫قال أحمد أمين ‪ " -:‬و أرى أنّ النقول كثيرة عن المام في تعريفه اليمان بأنّه التصديق و القرار ‪ ،‬و أنه ل يزيد‬
‫و ل ينقص [‪ ]119‬إلى غير ذلك من أصول الرجاء " (‪ )8‬قلت ‪ :‬و قد علمت أن مذهبنا معشر الباضية أنّ‬
‫اليمان يزيد و ل ينقص ‪ ،‬أمّا زيادته فباعتبار المور العملية ‪ ،‬و أما نقصانه فل يعقل بل نقول إذا انهدم بعضه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫انهدم كله ؛ لنّ رسول ال – صلى ال عليه و سلم – يقول " ل يزني الزاني حين زني و هو مؤمن " (‪ )9‬بل ل‬
‫يكون المؤمن زانياً حاشا ال أن يرضى بذلك في عباده المؤمنين ‪ ،‬بل نقول إذا زنى المؤمن سلب اليمان ‪،‬‬
‫فاتصف بعد صفة اليمان بالفسق ؛ لنّ الزنا من صفات الفساق ل من صفات المؤمنين ‪ ،‬فيقال هو فاسق ‪،‬‬
‫ضال ‪ ،‬مارق مروق السهم من الرمية ‪ ،‬و ل عبرة بصومه ‪ ،‬وصلته و حجه و زكاته ‪ ،‬و هو مسلوب اليمان‬
‫بالزنا ‪ ،‬أو الخمر ‪ ،‬أو الظلم ‪ ،‬و نحو ذلك من الصفات التي أوجب الشارع عليها العقاب ‪.‬‬

‫وإن قيل إذا كان اليمان العملي يزيد بالعمال فما باله ل ينقص بتركها ؟ قلنا‪ -:‬إن ترك الواجبات العملية بعد‬
‫تحقق وجوبها ‪ ،‬و صحت استقرارها يخرج المؤمن من إيمانه بتركها ‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله عز وعل " قَالَ ِ‬
‫ت‬
‫عرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُ ْؤمِنُوا وَلَكِن قُولُوا َأسْ َل ْمنَا وَ َلمّا َيدْخُلِ الِْيمَانُ فِي ُقلُوبِ ُكمْ " (‪ )10‬و المعنى لم تصدقوا حقيقة‬
‫ا َلْ ْ‬
‫التصديق و لكن قولوا أذعنا للمر ‪ ،‬و الذعان غير التصديق ‪ ،‬فقد يذعن المرء وهو غير مصدق ‪.‬‬

‫س َرفُوا عَلَى أَن ُفسِهِمْ لَ تَ ْقنَطُوا مِن‬


‫قال أحمد أمين ‪ " -:‬و من أدلة المرجئة قوله تعالى " قُلْ يَا عِبَادِيَ اّلذِينَ َأ ْ‬
‫جمِيعًا إِ ّنهُ هُوَ الْ َغفُورُ الرّحِيمُ " (‪ )12( " )11‬إلى أن قال [‪ " -: ]120‬و لقد‬ ‫ح َمةِ الِّ ِإنّ الَّ َيغْ ِفرُ الذّنُوبَ َ‬
‫رّ ْ‬
‫تسرب كثير من عقائد المرجئة إلى أهل السنة ‪ ،‬كالقول بعدم التخليد عصاة المؤمنين في النار ‪ ،‬و القول بجواز‬
‫تخلف الوعيد دون الوعد و نحو ذلك " ‪ ،‬قال‪ " -:‬و إذا قال المتكلم التي ذكرنها عُد مرجئاً " ‪ ،‬قال‪ " -:‬و كثير‬
‫من المرجئة كان يقول بهذه الصول " ‪ ،‬قال‪ " -:‬و في الوقت عينه يقول ببعض أصول المعتزلة كالقول بأنّ‬
‫النسان يخلق أفعال نفسه ‪ ، " ...‬إلى أن قال " إن الرجاء في جوهره يخالف أصلً هاماً من أصول المعتزلة ‪ ،‬و‬
‫هو اعتبار العمل ركناً من اليمان " (‪ ، )13‬قال‪ " -:‬و قد عدّ الشهرستاني (‪ )14‬من رجال المرجئة الحسن بن‬
‫محمد بن علي بن أبي طالب (‪ ، )15‬وقيل هو أول من قال بالرجاء ‪ ،‬و كان يكتب فيه إلى المصار ‪ ،‬كما عد‬
‫منهم سعيد بن جبير (‪ ، )16‬و مقاتل بن سليمان (‪. )17‬‬

‫و كان مقاتل بن سليمان المذكور يقول ‪ ":‬إنّ المؤمن العاصي يُعذب على قدر عصيانه يوم القيامة على الصراط ‪،‬‬
‫وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار ولهبها ‪ ،‬فيتألم بذلك على مقدار المعصية ‪ ،‬ثم يدخل الجنة" (‪. )18‬‬

‫وبشر المريسي (‪ )19‬كان يقول ‪ ":‬إن أدخل ال أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون منها بعد أن يعذبوا‬
‫بذنوبهم ‪ ،‬و أما التخليد فمحال و ليس بعدل" (‪. )20‬‬

‫قال " و حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة (‪ ، )21‬و أبا حنيفة ‪ ،‬و صاحبيه أبا يوسف (‪ ، )22‬و محمد بن‬
‫الحسن (‪ )23‬يقولون بذلك " أي بالخروج من النار ‪.‬‬

‫قال المعلق على أحمد أمين انظر قوله هنا مع قوله السابق في إنكار أن يكون أبو حنيفة مرجئاً ‪)24( .‬‬
‫ثم ذهب أحمد أمين يذكر أحوال المرجئة ‪ ،‬و أصول الرجاء مع فروعها ‪ ،‬و ما لها من التعلق بالمور السياسة ‪،‬‬
‫فإن هذا يناسب مقاصد الملوك الذين ل همة لهم في الحقائق الدينية ‪ ،‬و ل ينظرون إل [‪ ]121‬إلى ما يلئم‬
‫سياسة الوقت ‪.‬‬
‫=================================‬
‫(‪ )1‬ضحى السلم (‪ )319-3/318‬بتصرف ‪.‬‬
‫(‪ )2‬ق ‪. 29 :‬‬
‫(‪ )3‬ضحى السلم (‪.)3/320‬‬
‫(‪ )4‬مقالت السلميين (‪. )1/219‬‬
‫(‪ )5‬انظر شرح الفقه الكبر ص ‪. 145 -143 -128‬‬
‫(‪ )6‬تنسب إليه فرقة من فرق المرجئة ‪ ،‬تضاربت كتب الملل في تقرير معتقداتها تضاربا عجيبا ‪ ،‬قال في الفرق بين الفرق " زعم أن اليمان هو القرار‬
‫أو المحبة ل تعالى و تعظيمه ‪ ،‬و ترك الستكبار عليه ‪ ،‬وقال إنه يزيد و ل ينقص " و قال في الملل و النحل ‪ " -:‬زعم أن اليمان هو المعرفة بال‬
‫تعالى و برسوله ‪ ،‬و القرار بما أنزل ال ‪ ،‬وبما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل ‪ ،‬و اليمان ل يزيد و ل ينقص " ‪ .‬انظر الفرق بين الفرق ص‬
‫‪ ، 203‬و الملل و النحل ص ‪. 141‬‬
‫(‪ )7‬الملل و النحل ص ‪.141‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )8‬ضحى السلم ( ‪. )321-3/320‬‬
‫(‪ )9‬سبق تخريجه‬
‫(‪ )10‬الحجرات ‪. 14 :‬‬
‫(‪ )11‬الزمر ‪. 53 :‬‬
‫(‪ )12‬ضحى السلم ( ‪. )3/322‬‬
‫(‪ )13‬المرجع السابق (‪.)3/322‬‬
‫(‪ )14‬الملل و النحل ص ‪.146‬‬
‫(‪ )15‬الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي (ت ‪100‬هـ ) تابعي ‪ ،‬كان من ظرفاء بني هشام و أفاضلهم ‪ ،‬وهو ابن محمد المعرفوف‬
‫بابن الحنفية ‪ ،‬أول من تكمل في إرجاء من دخل الفتنة من الصحابة ‪ ،‬توفي في المدينة ‪ .‬العلم ( ‪. )2/212‬‬
‫(‪ )16‬سعيد بن جبير السدي بالولء الكوفي ( ‪45‬هـ‪95 -‬هـ )أبو عبدال ‪ ،‬تابعي ‪ ،‬كان أعلمهم على الطلق ‪،‬حبشي الصل ‪ ،‬شارك في ثورة‬
‫عبدالرحمن من محمد بن الشعث فلما قتل ‪ ،‬أسر و أرسل إلى الحجاج فقتله ‪ .‬العلم (‪.)3/63‬‬
‫(‪ )17‬مقاتل بن سليمان بن بشير الزدي بالولء البلخي ( ت ‪150‬هـ ) أ[و الحسن ‪ ،‬من أعلم المفسرين ‪ ،‬أسله من بلخ انتقل إلى البصرة ‪ ،‬فدخل بغداد‬
‫فحدث بها ‪ ،‬كان متروك الحديث ‪ ،‬من كتبه التفسير الكبير ‪ ،‬نوادر التفسير و القرآن ‪ .‬العلم (‪.)7/281‬‬
‫(‪ )18‬الملل و النحلل ص ‪.143‬‬
‫(‪ )19‬بشر بن غياث بن أبي كريمة عبدالرحمن المريسي العدوي بالولء ( ت ‪218‬هـ ) أبو عبدالرحمن ‪ ،‬فقيه معتزلي عارف بالفسلفة ‪ ،‬و هو رأس‬
‫الطائفة المريسية القائلة بالرجاء ‪ ،‬عاش نحو سبعين عاما ‪ .‬العلم (‪.)2/212‬‬
‫(‪ )20‬الملل والنحل ص ‪.143‬‬
‫(‪ )21‬حماد بن أبي سليمان مسلم الكوفي ( ت ‪120‬هـ ) أبو إسماعيل ‪ ،‬أحد العلماء الذكياء ‪ ،‬روى عن أنس بن مالك ‪ ،‬و تفقه بإبراهيم النخعي ‪ ،‬أخذ‬
‫عنه أبو حنيفة و لزمه سنوات و غيره ‪ ،‬كان مرجئاً ‪ ،‬ثقة في الحديث ‪ .‬سير أعلم النبلء (‪ )5/231‬و ميزان العتدال (‪. )1/595‬‬
‫(‪ )22‬يعقوب بن إبراهيم بن حبيب النصاري الكوفي البغدادي ( ‪113‬هـ ‪182 -‬هـ ) أبو يوسف ‪ ،‬صاحب المام أبي حنيفة ‪ ،‬و تلميذه ‪ ،‬كان فقيها عالما‬
‫من حفاظ الحديث ‪ ،‬و لي القضاء ببغداد أيام المهدي و الهادي و الشيد ‪ ،‬من كتبه الخراج و الخار و النوادر والجوامع ‪ ...‬وغيرها ‪.‬العلم (‪.)8/193‬‬
‫(‪ )23‬محمد بن الحسن بن فرقد ‪ ،‬من موالي بني شيبان ( ‪131‬هـ ‪189 -‬هـ ) أبو عبدال ‪ ،‬إمام بالفقه و الصول ‪ ،‬وهو الذي نشر علم أبي حنيفة ‪،‬‬
‫وله الرشيد القضاء بالرقة ‪ ،‬ثم عزله ‪ ،‬له عدة مؤلفات منها ‪ :‬المبسوط ‪ ،‬و المالي ‪ ،‬و الجامع الكبير ‪ ،‬و الصغير ‪ ،‬وغيرها ‪ .‬العلم ( ‪. )6/80‬‬
‫(‪ )24‬ضحى السلم (‪.)3/323‬‬

‫حرَجَ على التارك ‪ ،‬و ل‬


‫و الرجاء كما تراه يفرع للمة التساهل في الدين ‪ ،‬وعدم الهتمام بالمور العملية ‪ ،‬فل َ‬
‫سرَ المرجئة على أتباعهم ‪ ،‬و‬
‫سرُوا ‪ ،‬و قد ي ّ‬
‫سرُوا و ل تُع ّ‬
‫سرٌ‪ ،‬في ّ‬
‫ميزة للفاعل في مقابلة الترك ‪ ،‬فإنّ الدين ُي ْ‬
‫سهّلوا لهم الطريق في التهاون بالمور العملية‪ ،‬فالحمد ل الذي صان الباضية من سائر الفرق المارقة من الدين‬
‫المتساهلة بين العاملين ‪ ،‬و هل أفسد الدين إل الملوك و أحبار السوء و رهبانها ‪ ،‬و ل يبالون في سبيل‬
‫أغراضهم الدنيوية ‪ ،‬و قد صَحّتْ أصول الباضية على قواعد الحقّ المبُين ‪ ،‬و من أراد تحقيق الرجاء و الخروج‬
‫والتشيع فليرجع إلى أحمد أمين‪)1( .‬‬

‫قال الشارح ‪:‬‬

‫لقد وضع الشارح هذه الترجمة هنا ليدل بها على أن الحقّ و إن كان ُمرّا هو المتبع على ما هو عليه من المرارة‬
‫شكّ أن مرارة الحقّ ستحلو بعد حين ‪.‬‬‫في ذوق الذهن الصادق الصافي ‪ ،‬و ل َ‬

‫و ِإنّ الباطل خليع مرفوض ‪ ،‬و إن قام له ذِ ْكرٌ ‪ ،‬و ساعدته القدار ؛ لحكمة اقتضت ذلك ‪ ،‬فإن جللة الباطل ل بد‬
‫أن تغدو يوماً من اليام و هي رهينة الذل‪ ،‬إل عند من ل يعرف الحق ‪ ،‬ول يهتدي لعناه (‪ ، )1‬و لهذه الترجمة‬
‫مناسبة تظهر في شرح البيات التالية له في هذا المقام ‪:‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫[الشرح ]‬

‫َأفَ َردَ المام الناظم – رحمه ال – الصل ‪ ،‬و جمع الفروع ‪ ،‬و ماذا أراد بالصل ؟هل هو القرآن أو هو السلم ؟‬
‫و كلهما وجيه مرضي ‪.‬‬

‫و كأنّه – رحمه ال‪ -‬أراد أنّنَا معشر الباضية َنسِيرُ على نَ ْهجِ السّلف الصالح في أصله و فروعه ‪ ،‬ل نتبدّل ‪ ،‬و ل‬
‫نتغّير أبداً ‪ ،‬إنما التبدل و التغير وقع لغيرنا ‪.‬‬

‫و المراد بالسّلف الرفيع أي الصدر الول من هذه المة السلمية ‪ ،‬و هو يقع على الصحابة رضوان ال عليهم ‪،‬‬
‫والتابعين لهم على الحق – رحمهم ال ‪. -‬‬

‫فنأخذ الحق ممن جاءنا به بغيضاً كان لنا أو حبيباً ‪ ،‬بعيداً كان أو قريباً ‪ ،‬فل يمنعنا بغضه من قَبُولِ الحقّ الذي‬
‫عنده ‪ ،‬و ل يحول بيننا و إياه بعده إذا كان الحق معه ‪ ،‬و ل نرضى القريب لجل ُقرْ ِبهِ ‪ ،‬و هو مُبطل بل من‬
‫عادتنا قبول الحق ‪ ،‬أياً كان ‪ ،‬و رفض الباطل ممن كان ‪ ،‬و بذلك صرنا إباضية ؛ لنّ الباضية هذا منهجهم ‪ ،‬و‬
‫هو منهج رسول ال ‪ ، -ε -‬و منهج أصحابه الرضيين المرضيين ‪ ،‬فنحن على وَتِيرتهِمْ في ذلك ما لم يمنعنا عنه‬
‫مانع ل نقدر على رده ‪ ،‬و إنّا إنما نعرف الرجال بالحق ‪ ،‬ل الحق بالرجال ‪ ،‬و ل نقدم على ما صحّ عن رسول –‬
‫صلى ال عليه و سلم – شيئاً أبداً مهما كان ‪ ،‬فما رضي به ال رضينا به له عز و جل ‪ ،‬و ل نبالي بما عداه أياً‬
‫كان و ممن كان‪.‬‬

‫سلَمُ " (‪َ " ، )1‬ومَن‬


‫و جمع المام الناظم الفروع نظراً إلى أن الصل واحد و هو السلم " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬
‫سرِينَ " (‪ ، )1‬و إنّ فروع السلم كثيرة عملية و‬ ‫خ َرةِ ِمنَ الْخَا ِ‬
‫لمِ دِينًا َفلَن ُيقْبَلَ مِ ْنهُ َوهُوَ فِي ال ِ‬
‫سَ‬‫يَ ْب َتغِ غَ ْيرَ ا ِل ْ‬
‫شكّ أنّ سائر الغصان راجعةٌ إلى‬ ‫اعتقادية ‪ ،‬فهو لها كالجذر للشجرة ‪ ،‬و الفروع [‪ ]123‬كالغصان ‪ ،‬و ل ِ‬
‫الجذر ‪ ،‬الذي هو الصل فكذلك الفروع في حكم الشريعة السلمية ‪ ،‬راجعة إلى أصلها ‪ ،‬و يشمل معنى الصل‬
‫كما قلنا آنفاً القرآن ‪ ،‬فإنّه أصلٌ للحكام الشرعية على اختلف أنواعها المفهومة من منطوقها ‪ ،‬أو مستنبطة من‬
‫مظانّها ‪.‬‬

‫جعُ إليه سائرها كالسّنّة النبوية ‪ ،‬فإنّها وإن كانت تعتبر في الشرع الصل الثاني‬
‫فالقرآن هو الصل الذي يْر ِ‬
‫للحكام الشرعية ‪ ،‬فهي راجعة إلى القرآن و داخلة فيه ؛ لنّها تفسير له‪ ,‬أو مطلق إيضاح له ‪ ،‬ولم تستقل عنه‬
‫من جميع الوجوه المعروفة‪ ،‬و كذلك الجماع فإنه‪ ,‬و إن كان مستنداً على الكتاب و السّنّة ‪ ،‬و ل ُبدّ في صحته من‬
‫ذلك‪,‬فإنه راجع إلى الكتاب‪,‬و داخل فيه ؛ لنّه متفرع عنه ‪ ،‬و قائم على أساسه‪ ،‬و ما عدا ذلك فبالولى ‪.‬‬

‫والمعنى نحن معشر الباضية أصلنا الذي نبني عليه أحكام مذهبنا هو الكتاب‪ ،‬و السنة الثابتة عن رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و سلم و آله ‪ ، -‬و الصل الجامع لنا السلم ‪ ،‬وهذه هي طريقة السلف الصالح الذي وصفه الناظم‬
‫بالرفيع ‪ ،‬فكل صالح رفيع عند ال ‪ ،‬بمعنى مرفوع أي مرفوع الرتبة عنده تعالى ‪ ،‬فهو سلف رفيع بإتباع قواعد‬
‫التشريع‪ ،‬فنأخذ الحقّ متى نراه ‪ ،‬و نق َبُلهُ ممن جاءنا به بعيداً كان أو قريباً ‪ ،‬بغيضاً كان أو حبيباً ‪ ،‬فإن المطلوب‬
‫في الشريعة السلمية الزهراء هو الحقّ ‪ ،‬و الحقّ أحقّ أن يتبع ‪ ،‬و ما بعد الحق إل الضلل‪ ،‬نعوذ بال منه ‪.‬‬

‫و ل نترك الحقّ لكون الذي جاء به هو عدونا ؛ لنّ الحق لم يكن عدواً لحد أبداً ‪ ]124[ ،‬فإذا جاءنا به من‬
‫يبغضنا و نبغضه‪ ،‬لكونه عدواً لنا يقاتلنا ونقاتله ‪ ،‬و رأينا الحقّ معه تبعنا الحقّ ‪ ،‬و أرغمنا أنفسنا عليه ؛ لنّ‬
‫الرجوع إلى الحقّ واجب كل مسلم ‪ ،‬و إذا رأينا الباطل عند أقرب الناس إلينا نسباً ‪ ،‬أو جيرةً‪ ،‬أو صداقةً ‪ ،‬أو‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وليةً‪ ،‬و هي أكبر تركناه ‪ ،‬و ما ارتضيناه من أحد أبداً ؛ لنّ ال كلفنا بإتباع الحق ‪ ،‬و اجتناب الباطل ‪ ،‬وإن رأينا‬
‫في إتباع الحقّ الهَلَكَة فإنّ فيه على الحقيقة النّجاة ‪ ،‬و إن رأينا النّجاة في الباطل ففي الحقيقة فيه الهََل َكةُ ‪ ،‬و كل‬
‫شيء ليس عليه أمر رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله – فهو رد ‪ ،‬أي مردود على صاحبه ‪.‬‬

‫و الحقّ هو المقصود بذات ‪ ،‬وغير الحقّ هو المردود رغم أنف صاحبه ‪ ،‬و ل نغتر بغير الحقّ ‪ ،‬وإن تَبَ ْهرَجَ‬
‫وأشرق ‪ ،‬فإنّه إلى ظلم يصير ‪ ،‬و ل نتبرم من إتباع الحق وإن رأينا جانبه ضعيفاً ‪ ،‬فإنّه في نفسه قوي ‪.‬‬

‫و ل نصطفي من الناس أهل الهواء ‪ ،‬و ِإنْ جَلّ َق ْدرُهُم ‪ ،‬و ل تقتحم عينونا أهل اليمان ‪ ،‬وإن رقّ جانبهم ‪ ،‬و ل‬
‫نحترم أهل الباطل بالنظر إلى باطلهم‪ ،‬و إن علت منازلهم ‪ ،‬كما ل نستهين بأهل الحقّ‪ ,‬و إن هانت منازلهم ‪،‬‬
‫خلف ما عليه غيرنا من تعظيم الجبابرة ‪ ،‬و تكريم الظلمة ‪ ،‬و الخضوع العمى لهل الباطل ‪.‬‬

‫لقد شهرت أمتنا بهذا سلفاً و خلفاً ‪ ،‬و عرفت دعوتنا عند أهل الحق و أعلم الوفاء ‪ ،‬و بهذا كلفنا ال – عز و‬
‫جل ‪ -‬و به أمرنا رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪. -‬‬
‫=================================‬
‫(‪ )1‬انظر كتابه ضحى السلم الجزء الثالث‪.‬‬
‫(‪)2‬عناه أي معناه ( مختار الصحاح ‪ )192/‬مادة ع ن ا ‪.‬‬

‫(‪ )3‬آل عمران ‪.19:‬‬


‫(‪ )4‬آل عمران ‪.85:‬‬

‫و أل نعيش حراثين أشقياء نأكل من كدّ أيدينا (‪ ، )1‬و لنا في سلفنا أسوة حسنة ‪ ،‬و تعلق مكين ‪ ،‬و لنا في‬
‫مذهب أهل اليمان معتمد ‪ ،‬فما يرضى به ال في عباده نرضاه رغم كل شيء ‪ ،‬و ما ل يرضاه فحرام علينا‬
‫الرضى [‪ ]125‬به مهما كانت صبغة صاحبه ‪.‬‬

‫ويشير أيضا كلم المام الناظم – رحمه ال– إلى أنّ الصل الجامع لهل الدعوة السلم ‪ ،‬و هو لغة النقياد‪ ،‬و‬
‫سلَمُ " (‪، )2‬‬
‫الخضوع ‪،‬والذعان ‪ ،‬و السلم هو المبدأ الول الثابت في الديانات كلها " ِإنّ الدّينَ عِندَ الّ ا ِل ْ‬
‫فهو الصل الصيل‪ ،‬و المبدأ الجليل الذي عليه أهل التّأصيل ‪.‬‬

‫و هو لغةً و شرعاً مغناطيس التدين ‪ ،‬و ناموس القاصد الخير ‪ ،‬وعُمدة زُعماء الديانة في المم ‪ ،‬فكم جرّ السلم‬
‫إلى النجاة من العذاب أمماً ‪ ،‬و كم ساق إلى الخير في هذا العالم زرافات و وحدانا ‪ ،‬و كم أصلح فنجح تابعوه ‪ ،‬و‬
‫كم أرشد إلى الخير فسعد في المم أهلوه ‪ ،‬ل نقول أنّ فلن ابن عم رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله –‬
‫فيكون ذلك حجة في قبول ما جاء عنه حقاً كان أو باطلً ‪ ،‬فإن القرابة مع الباطل بُعدٌ صحيح ‪ ،‬و قطيعة في‬
‫السلم بين القارب ‪ ،‬كما قال القائل و ل دره (‪: )3‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و ل نرى بُعد النسب مع الحق بُعداً ‪ ،‬بل هو قرب حقيقي ل مرية فيه ‪ ،‬و ل محيد عنه ‪ ،‬فإن ال عز و جل يقول‬
‫في كتابه " ِإنّ َأ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ أَ ْتقَا ُكمْ " (‪ )4‬و هذا هو المبدأ القوي الثابت ثبات الجبال الرواسي ‪ ،‬و من كان‬
‫أكرمنا عند ال لزم أن يكون أكرمنا عند خلقه ‪ ،‬و إل لم نكن رضينا بما رضيه تعالى في عباده ‪.‬‬

‫و لو كان بالنسب كافياً ‪ ،‬و مبرر المور الدّين لما قال ال عز وعل لرسوله – عليه الصلة والسلم ‪ -‬جهاراً "‬
‫عشِيرَ َتكَ ا َلْ ْقرَبِينَ " (‪ )5‬أي ل ل يغتر بكونهم أقاربكم [‪ ]126‬الدنيين ‪ ،‬و أعياصك (‪ )6‬القربين ‪ ،‬فلذلك‬ ‫َوأَن ِذرْ َ‬
‫شرَ ُقرَيش اشْ َترُوا‬ ‫ناداهم رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله – على رأس الصفا علنا قائل لهم " يَا َم ْع َ‬
‫ع ْبدِ‬
‫عنْكُمْ ِمنْ الِ شَيْئاً ‪ ،‬يا بَنِي عَ ْبدِ المُطِْلبْ لَ ْأُغِني عَنْ ُكمْ ِمنْ الِ شَيْئاً ‪ ،‬يَا عَبّاسُ ْبنَ َ‬ ‫أَنْ ُفسَ ُكمْ ِمنْ الِ لَ ُأغْنِي َ‬
‫ع ْنكَِ ِمنْ الِ‬ ‫ع ّمةَ َرسُولِ ال – صلى ال عليه و سلم – ل ُأغْنِي َ‬ ‫شيْئاً ‪ ،‬يَا صَ ِف ّيةَ َ‬
‫المُطِْلبِ ل ُأغْنِي َع ْنكَ ِمنْ الِ َ‬
‫شئْتِ ل ُأغْنِي عَ ْنكِ مِن الِ شَيْئاً " (‪)7‬‬ ‫ح ّمدٍ – صلى ال عليه و سلم – َسِلينِي ِمنْ مَالِي مَا ِ‬ ‫ط َمةًُ بِ ْنتَ مُ َ‬
‫شَيْئاً ‪ ،‬يا فَا ِ‬
‫عدِيّ بِبِطُونِ ُقرَيْش‪ ،‬فَقِيلَ َقدْ اجْ َتمَعُوا‪ ،‬فَجعَلَ الذّي لَ‬ ‫و في رواية " صَ ِعدَ الصّفا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا َبنِى فَهَر يَا بَنِى َ‬
‫ظرَ ما هُنْا ِلكَ ‪ ،‬فَجَاء أَبُو لَهَب‪َ ,‬وهُوَ عَمّ النّبِي – صلى ال‬ ‫خرُجَ ُي ْرسَلَ َرسُولً َليْن ُ‬‫َيسْتَطيعَ الحضُورَ ‪ ،‬وَلَ يَ ْق ِدرَ َأنْ يَ ْ‬
‫علَ ْيهِ و سَلّمَ – " َأ َرأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْ َبرْتُكُم َأنّ خَ ْيلً‬
‫ضاً ‪َ ،‬فقَالَ َلهُ َرسُولُ ال – صَلَى ال َ‬ ‫عليه و سلم – و ُقرَ ْيشَ أَي َ‬
‫علَ ْيكَ َكذِبَا ‪ -‬أي لم يكن ذلك من عادتك و لم نعرفه‬ ‫جرّ ْبنَا َ‬
‫ص ّدقِيّ ؟"‪ ،‬قَالُوا مَا َ‬ ‫بِالوَادِي ُترِيدُ َأنْ تُغِيرَ عَلَ ُيكُمْ َأكُنْ ُتمْ ُم َ‬
‫شدِيد "‪ ،‬فقال الخبيث أبو لهب و العتو يفيض من فيه ‪ :‬تَبّاً لك ألهذا‬ ‫عذَاب َ‬ ‫منك ‪ -‬قال" فإنّي َلكُمْ َنذِيرٌ َب ْينَ َيدَي َ‬
‫جمعتنا ؟ فنزلت فيه سورة مستقلة تتلى إلى أخر الدهر " تَبّتْ َيدَا َأبِي َلهَبٍ َوتَبّ‪ )8( "...‬إلى آخرها ‪ ،‬قال‬
‫السيوطي‪ -:‬هم بنو هشام و بنو المطلب وقد أنذرهم جهاراً (‪. )9‬‬

‫فهذا عمل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – في أقاربه حسب أمر ربه تعالى ‪ ،‬فلم يكن ُقرْ ُبهُ مفيداً شيئاً دون‬
‫طاعة ربهم لقد صارحهم بقوله " اشْ َترُوا أَ ْن ُفسَكُمْ "‪ ,‬أي من ال ‪ ،‬فإنّه هو الذي بيده كل شيء ‪ ،‬أما أنا فليس لي‬
‫من المر شيء ‪ ،‬إنّما أنا عبدال و رسوله فل تقولوا إنا أقارب رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬فإن الدين‬
‫ليس بالقرابة ‪ ،‬ما في القرابة من فصل لقضايا الدين ‪ ،‬و ل للقرابة تأثير في الحق ‪ ،‬و ل يغني القرب بغير‬
‫الحق ‪ ،‬كما ل يضر البعد مع الطاعة ‪.‬‬

‫فهذا رسول ال – عليه الصلة والسلم – يقول " سَ ْلمَانُ مِنّا َأهْلَ [‪]127‬البَيْت " (‪ )10‬و أين سلمان من رسول‬
‫ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و في الحديث عنه صلى ال عليه و سلم " ل يلقيني الناس بأعمالهم و تأتوني‬
‫بأنسابكم " في عدة أحاديث‪[...‬قال] (‪ )11‬العلماء صحيحة السناد ‪ ،‬و كما ل تغني ل إله إل ال بغير عمل كذلك‬
‫عمََلكُمْ َو َرسُوُلهُ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ َوسَ ُت َردّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَ ْيبِ‬
‫عمَلُواْ َفسَ َيرَى الّ َ‬
‫ل تغني القرابة بغير عمل " َوقُلِ ا ْ‬
‫وَالشّهَا َدةِ فَ ُينَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ تَ ْعمَلُونَ " (‪. )12‬‬

‫ومعنى اشتروا أنفسكم أطيعوا ال فإنّ طاعته نجاة لكم عنده ‪ ،‬فإنّه المالك الحقيقي لهذه النفس يبيعها لصاحبها‬
‫بالطاعة ‪ ،‬فالطاعة هي الثمن المقبول عند ال ومن اشترى نفسه من ال بطاعته فقد ربح البيع كما جاء في قوله‬
‫عز و جل " ِإنّ الّ اشْ َترَى ِمنَ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ أَن ُفسَ ُهمْ َوَأمْوَالَهُم ِبَأنّ لَهُمُ الجَ ّنةَ " (‪ )13‬الية‪ ،‬فلما باعوها له‬
‫[بـ]الطاعة لمره ‪ ،‬جعل ثمنها الذي يعوضهم إياه عنها الجنة ‪ ،‬فَنَعْمَ البيع ‪ ،‬و َنعْمَ المبيع ‪ ،‬و نَعْمَ الشاري ‪ ،‬و نَعْمَ‬
‫البائع ‪.‬‬

‫و المراد من ذلك أن ال يريد من عبادة الطاعة ليرحمهم ‪ ،‬و ل يريد منهم المعصية ليعاقبهم ‪ ،‬و هو أرحم بهم‪,‬‬
‫إل أن حكمته اقتضت ذلك ‪ ،‬فل قرب لديه إل بالطاعة ‪ ،‬و ل بعد منه إل بالمعصية ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وعليه فالواجب على المسلم المُوفّي بما أمر ال عز و جل أن يقوم بالحقّ ‪ ،‬و ل يُ ْقِلدَ فيه قريباً أو بعيداً إل إذا‬
‫كان ل يهتدي إليه بنفسه ‪ ،‬فعليه أن يتبع المرشد الصالح ‪ ،‬و عليه أن يقبل الحق ممن جاء به قريباً أو بعيداً ‪ ،‬و‬
‫يرد الباطل على من جاء به بغيضاً أو حبيباً كما نص عليه الحديث النبوي عنه‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ ،-‬فقرب‬
‫النسب وبعده ل تأثير له عند أهل الحق ‪.‬‬

‫فلذلك ترى الباضية ل يحترمون إل الحقّ ‪ ]128[ ،‬و ل يتبعون إل العدل ‪ ،‬قريبهم فيه المحق و لو نأت به الديار‬
‫‪ ،‬و بعيدهم فيه المبطل ولو لصقت به الجوار ‪ ،‬وهذا هو الذي دعا إليه القرآن الكريم ‪ ،‬و الرسول العظيم ‪ ،‬و‬
‫الباضية ل يعرفون الحقّ بالرجال ‪ ،‬بل يعرفون الرجال بالحقّ ‪ ،‬و هذا مبدأهم من أَوّلِ أمرهم ‪ ،‬نسأل ال السلوك‬
‫على طريقهم ‪ ،‬و الموت على نهجهم ‪.‬‬

‫واعلم أنّ الباضية ل يرون غير ما عليه السلف الصالح لَن لهم الدهر أو تخشن ‪ ،‬فإنّهم عند القدرة و سنوح‬
‫الفرصة فالحق أُنشودتهم ‪ ،‬و لن تضيع لديهم الفرص في ذلك ‪.‬‬

‫و الصل الذي يعتمدون عليه هو كتاب ال عز و جل فحلله[حلل] عندهم أبداً ‪ ،‬و حرامه حرام كيف كان ‪ ،‬ثم‬
‫سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – هي المرجع بعد الكتاب ‪ ،‬و المعنى ما لم يكن ظاهراً في الكتاب‬
‫فالسنة تبينه ‪ ،‬و إل فالجماع لنّ المة ل تجتمع على ضلل ‪ ،‬فإذا اجتمعت على حكم ظهر أنّه حق بحسب‬
‫التكليف فوجب قبوله ؛ لنّ المة معصومة من الضّلل بشهادة الرسول ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ ،-‬و يلزم أتباعه‬
‫حلواً كان أو مراً ‪ ،‬و كذلك إذا اجتمعت المة على بُطل شيء فهو باطلً أبداً ؛ لنّ الرسول – صلى ال عليه و‬
‫طلً فَهُوَ بَاطِلٌ" (‪ ، )14‬ومن‬
‫سنٌ ‪ ،‬وَ مَا رَآهُ ال ُمسْ ِلمُونَ بَا ِ‬
‫ح َ‬
‫حسَناً فَهُوَ عَ ْندَ ال َ‬
‫سلم – يقول " مَا رَآهُ ال ُمسْ ِلمُونَ َ‬
‫غ ْيرَ سَبِيلِ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ نُوَّلهِ مَا تَوَلّى وَ ُنصْ ِلهِ جَ َهنّمَ َوسَاءتْ َمصِيرًا " (‪. )15‬‬
‫" َيَتّ ِبعْ َ‬

‫و اعلم أنّ إتباع أقوال صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله – و التزام ما صح عنهم من أحكامهم ‪،‬‬
‫و الخذ بسيرتهم أمر واجب ؛ لنّهم قدوة في الحق ‪ ،‬و عمدة في الدين ‪ ،‬ما لم يظهر بطله ‪ ،‬و الخذ عنهم تقييداً‬
‫ل تقليداً بغية ‪ ، ]129[ )16( ...‬و ل يلتفت إلى من يقول أنه اهتدى ِلمَا لم يهتدوا له ‪ ،‬أو أنّه أدرك ما لم يدركوا‬
‫‪ ،‬فهم أعلم بكتاب ال ‪ ،‬وسنة رسوله – عليه الصلة والسلم ‪ ، -‬و الخذ بالحق أمر يقتضيه الدين حلواً كان أو‬
‫مراً ‪ ،‬و ل إلتفات إلى من جاء به صغيراً كان أو كبيراً ‪.‬‬

‫فل يعرض عن عبدال بن وهب الراسبي (‪ )17‬لشهرة علي بن أبي طالب ‪ ،‬فكلهم أصحاب رسول ال – صلى ال‬
‫عليه و آله وسلم – و إن اشتهر أحد بفضل ‪ ،‬أو شاع له ذكر ولم يظهر لغيره مثله ‪ ،‬فل يكون ذلك دليلً على‬
‫فضله على ذلك الغير لمجرد ما شاع أو لمجرد قرابة أو نسب كما قدمنا ذلك ‪ ،‬و ل يكون ما شاع رافعاً لغير‬
‫المحق ‪ ،‬و ل واضعاً لغير المبطل ‪.‬‬

‫فعبد ال بن وهب كان له من الفضل العظيم في الدينّ ما ل يخفى ‪ ،‬كان من أزهد الصحابة ‪ ،‬و من أعبدهم بشهادة‬
‫خصومه حتى كان ل يرى إل مصلياً ‪ ،‬أو قارئاً ‪ ،‬أو صائماً ‪ ،‬و كان له من الشجاعة السهم الوفر ‪ ،‬و النصيب‬
‫الكبر ‪ ،‬فالباطل مردود ‪ ،‬ولو كان صاحبه علياً ‪ ،‬و الحقّ مقبولً ولو نَأى مَ ْنزِلً َقصِيّا ‪.‬‬

‫و عبدال بن وهب الراسبي ل يقل منزلة عن أجلة الصحابة ‪ ،‬وناهيك به ‪ ،‬و قد أطلقوا عليه لقب ذي الثفنات ‪ ،‬إذ‬
‫كانت له ثفنات كثفنات البعير من كثرة الركوع والسجود ‪ ،‬و قد ذكره المؤرخون بذلك ‪ ،‬كالمبرد وغيره ‪ ،‬وصاحب‬
‫ط ْمرَ ْينِ لَ ُيعْبَأَ ِبهِ ‪َ ،‬أشْعَثَ َأغْ َبرَ لَوْ َأ ْقسَمَ‬
‫المروج ‪ ،‬و إن كان لم يشتهر اشتهار غيره من الزعماء ‪ " ،‬فَكَمْ ِمنْ ذِي ِ‬
‫عَلَى الِ لَ َب ّرهُ " (‪ ، )18‬مع أنه عُوجِلَ بالقتل ‪ ،‬و لو طالت إمامته لتحدث التاريخ عنها ‪ ،‬كما تحدث عن غيره ‪.‬‬

‫حمَلَ ذَ ْك ُرهُ من حيث أن علياً و أصحابه قتلوه هو من معه ‪ ،‬فإن علياً كذلك قتل بعدما رأى تقهقره ‪ ،‬و‬
‫و إن كان َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫انهيار صروح إمارته التي سيطر عليها الشعث بن [‪[ ]130‬قيس] (‪ )19‬فكان على السم ‪ ،‬و الشعث المعنى ‪.‬‬
‫===========================‬
‫(‪ )1‬جاء في الحديث ‪ " :‬استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ‪ ،‬فإن لم يستقيموا لكم فضعوا سيوفكم على عواتقكم ‪ ،‬ثم أبيدوا خضرائهم ‪ ،‬فإن لم تفعلوا‬
‫فكونوا حراثين أشقياء تأكلون من كد أيديكم " انظر فيض القدير (‪ )1/636‬رقم ‪، 996‬و عزاه الى الديلمي في مسنده ‪.‬‬
‫(‪ )2‬آل عمران ‪. 19 :‬‬
‫(‪ )3‬البيت لنهار بن توسعة بن أبي عتبان من بكر بن وائل ‪،‬وهو مطلع قصيدة يمدح فيها المهلب بن أبي صفرة مع اختلف في الفخر حيث قال ‪:‬‬
‫أبي السلم ل أب لي سواه إذا هتفوا ببكر أو تميم‬
‫ي القوم ينصر مدعية فيلحقه بذي النسب الصميم‬ ‫دع ّ‬
‫و ما كرم ولو شرفت جدود و لكن التّقيّ هو الكريمُ‬
‫الشعر والشعراء لبن قتيبة (‪)1/544‬والمؤتلف والمختلف ص ‪،193‬بيت وشاعر من اللف إلى الياء (أول بيت من الكتاب)‬
‫(‪ )4‬الحجرات ‪. 13 :‬‬
‫(‪ )5‬الشعراء ‪. 214 :‬‬
‫(‪ )6‬العيص ‪ :‬الصل ‪ ،‬ومعنى أعياصك ‪ :‬أصولك ‪ ،‬لسان العرب ( ‪ ) 353 / 10‬مادة ع ي ص ‪.‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه البخاري في ( ‪ 65‬ـ كتاب تفسير القرآن ‪ _ 26‬سورة الشعراء ) ( ‪ ) 254 / 3‬رقم ‪ ، 4771‬وأخرجه مسلم في ( ‪ – 1‬كتاب اليمان ‪ 89‬ـ‬
‫باب في قوله تعالى " وأنذر عشيرتك القربين " ( ‪ ) 194 /1‬رقم ‪ ، 208‬وأخرجه الترمذي في ( ‪ 48‬ـ كتاب تفسير القرآن ‪ 27‬ـ باب من سورة‬
‫الشعراء ) (‪ ) 338 / 5‬رقم ‪ ، 3184‬وأخرجه النسائي ( ‪ 30‬ـ كتاب الوصايا ‪-6‬باب إذا أوصى لعشيرته القرابين )(‪)6/249‬رقم ‪3646‬ورقم ‪3647‬‬
‫وأخرجه أحمد بن حنبل(‪)3/151‬رقم ‪2544‬ورقم ‪2802‬ورقم ‪2802‬في (‪)3/244‬ورقم ‪8383‬في(‪.)8/303‬‬
‫(‪ )8‬المسد ‪.1:‬‬
‫(‪ )9‬لم أستطع تخريجه من مصدره الصلي‪.‬‬
‫(‪ )10‬أخرجه الحاكم في (‪-31‬كتاب معرفة الصحابة في ذكر سلمان الفارسي رضي ال عنه )رقم ‪6539‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪)6/212‬‬
‫(‪ )11‬سقطت من الصل‪.‬‬
‫(‪ )12‬التوبة ‪. 105 :‬‬
‫(‪ )13‬التوبة ‪111 :‬‬
‫(‪ )14‬أخرجه أحمد في مسنده (‪)3/505‬رقم ‪3600‬وأخرجه الطبراني في الكبير (‪)113-9/112‬رقم ‪8583‬وأخرجه البزار في البحر الزخار (‪-5/212‬‬
‫‪)213‬رقم ‪1816‬وأخرجه النبوي في شرح السنة (‪)215-1/214‬رقم ‪105‬وأخرجه الطبالي ص ‪33‬رقم ‪246‬وأخرجه الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه‬
‫والمتفقه (‪)167-1/166‬وأخرجه ابن العرابي في معجمه (‪)2/84‬وذكر الدار قطني في العلل (‪)5/66‬وأخرجه أبو نعيم في الحلية (‪-1/375‬‬
‫‪)376‬وأخرجه أبو جعفر بن البحتري في حديثه (‪)79/1-78/2‬‬
‫(‪ )15‬النساء ‪. 115 :‬‬
‫(‪ )16‬كذا بالصل‪.‬‬
‫(‪ )17‬عبدال بن وهب بن راسب بن ميدعان الزدي العماني (ت ‪9‬صفر ‪38‬هـ )صحابي جليل ‪ ،‬توجه إلى المدينة في الوفد الذي أعلن إسلم أهل عمان‬
‫وقبائلها ‪،‬عرف بالعلم والرأي والصلح والعبادة ‪,‬شارك في فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص‪ ،‬شارك مع علي في حروبه ‪،‬ولما وقع التحكيم خرج‬
‫عنه وانحاز إلى حروراء ثم بايعه المسلمون بإمامة المسلمين قتل في النهروان ‪.‬معجم الباضية (‪)3/580‬‬
‫(‪ )18‬أخرجه الترمذي في ( ‪– 50‬كتاب المناقب ‪– 55‬مناقب البراء بن مالك ) (‪ )5/693‬رقم ‪ 385 ،‬وأخرجه ابن ماجه في ( ‪ – 37‬كتاب الزهد ‪-4‬‬
‫من ل يؤبه له ) ص ‪ 600‬رقم ‪ ، 4115‬واخرجه أحمد بن حنبل في المسند (‪ )470 /10‬رقم ‪ ، 12415‬وأخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف (‬
‫‪ ) 306 /11‬رقم ‪ ، ) 20612‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ ) 84/ 20‬رقم ‪ ، 159‬وأخرجه أبي يعلى الموصلي ( ‪ )66/ 7‬رقم ‪ 3987‬وأخرجه‬
‫الطبراني في مسند الشاميين ( ‪ ) 205 /2‬رقم ‪ ، 1192‬واخرجه الحاكم في المستدك ( ‪ )331 /3‬رقم ‪ 5274‬وفي ( ‪ ) 364 /4‬رقم ‪ 7932‬وقال‬
‫الحاكم حديث صحيح ووافقه الذهبي ‪ .‬وأخرجه عبد بن حميد ( ‪. ) 1/370‬‬
‫(‪ )19‬سقطت من الصل ‪.‬‬

‫و الحقيقة أنّ الحقّ أكبر من كل كبير ‪ ،‬كان من انهيار صروح إمامة علي بن أبي طالب جعله المر بيد الحكمين‬
‫يريان فيه رأيهما ‪ ،‬إن أرادا علياً أو معاوية ‪ ،‬و هو يعلم أنّ معاوية لم يكن إماماً في حال من الحال ‪ ،‬حتى يختار‬
‫المسلمون إحدى المامتين ‪ ،‬فما باله يعطي الدنية و المسلمون معه ‪ ،‬و منهم بالمس يقاتلون عدوه ‪ ،‬فأصبح‬
‫اليوم يرغمهم على قَبُول التحكيم في شيئا حكم ال فيه في الكتاب الكريم ‪ ،‬و هل هذا يجوز أن يرجع المسلمون‬
‫عن حكم القرآن إلى حكم فلن و فلن ؟!‬

‫ثمّ لما تضايق أصحابه بما صار منه من التحكيم ‪ ،‬و خرجوا عنه ‪ ،‬ولم يخرجوا عليه ‪ ،‬كيف يقتل الخارج عنه ‪،‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ويترك الخارج عليه ؟! ‪ ،‬و يقتل القل و يترك الكثر؟! ‪ ،‬و كيف يقتل المنكر للحكومة تبعاً للقرآن ؟!‪ ،‬و يترك‬
‫المتألب عليها و قد َتعَ ّينَ بغيه ‪ ،‬و ال أمر بقتل الباغي ‪ ،‬أو يرجع للحقّ ‪ ،‬ما بال الهواء تترك الحقّ تذروه‬
‫الرياح ‪ ،‬و تعرض عن الباطل ؟؟!!‪.‬‬

‫لكن سيوف أهل الشام أصبحت مرهوبة في أعين أهل الدنيا ‪ ،‬و السياسة لها أثرها في الوساط ‪ ،‬و من أعطى‬
‫العهد و الميثاق على أمر كيف يرجع فيه مطالباً به‪ ،‬إنها من دواهي الدهر العصيب ‪ ،‬وقد صدق المثل ‪"- :‬‬
‫العورى ترمى الرمح " (‪ )1‬إنا ل و إنا إليه لراجعون ‪.‬‬

‫جمُ عليهم ‪ ،‬في‬


‫صدَرَ منهم يُهْ َ‬
‫لقد قُتِلَ عبد ال بن وهب و أصحابه الغرّ الميامين في النهروان ‪ ،‬على أي جرم َ‬
‫صلتهم و هم بين راكع و ساجد ‪ ،‬ماذا فعلوا ؟!‪ ،‬ماذا اقترفوا ؟! ‪ ،‬إنما هم أبرياء مَ َوفّون ‪ ،‬كانوا بالمس دروع‬
‫علي بن أبي طالب و سيوفه الماضية في الجمل و صفين ‪ ،‬و لما وافق علي بن أبي طالب على التحكيم عاتبوه‬
‫فلم يقبل منهم ‪ ،‬و انخدع لمكيدة الشعث قائده في الظاهر ‪ ،‬و هو القائد عليه في الحقيقة ‪ ،‬فلما لم يجدوا بغيتهم‬
‫عنده ‪ ،‬و علموا أنّ إمامته زالت [‪ ]131‬عنه ‪ ،‬و كانوا رأوه حسب اجتهادهم قارف إثماً عظيماً حيث ترك إمامة‬
‫ثبتت بإجماع المسلمين ‪ ،‬و ألقها إلى الحكمين يتلعبان بها كيف شاءا ‪ ،‬يوليانه أو يعزلنه ‪.‬‬
‫امض قدماً ‪ ،‬و أنت أمير المؤمنين ‪ ،‬و ذو الفقار في يديك ‪ ،‬و المسلمون معك ‪ ،‬و ل تنخدع للشعث بن قيس و‬
‫بالمس َتسُ ّبهُ ‪ ،‬وتعلم منه ما تعلم من انحرافه عنك ‪.‬‬

‫فلما رأى أولئك منه هذا الحال علموا أنّ الفتنة واقفة على البواب ‪ ،‬فتسللوا زُرَافات و وحدانا ‪ ،‬و اجتمعوا‬
‫بنهروان لينظروا في أمرهم ‪ ،‬فبالمس ابتلى الناس بعثمان و أحداثه ‪ ،‬و اليوم تأتيهم بلية أكبر من الولى ‪ ،‬و‬
‫هي أنّ إمامهم يلقي إمامته من عنقه إلى الحكمين يحكمان فيها بما شاءا ‪ ،‬و أصبحت المامة تلك المدة و هي‬
‫عدم ‪ ،‬إذ أخذت عليها العهود و المواثيق ‪.‬‬

‫و بهذا ونحوه قام النهروانيون بإمامة جديدة ‪ ،‬فرأى الشعث و سيده معاوية أن الخطر هنا وقف ‪ ،‬و أنّ عليا‬
‫انحلّ أمره ‪ ،‬و انتهى دوره ‪ ،‬فلم تعد له سلطة يقوم بها ‪ ،‬و إذ ذاك نسجوا المكيدة للقضاء على هؤلء ؛ لنّهم‬
‫أهل الغيرة على الحقّ ‪ ،‬و من غَ ْيرَتِ ِهمْ خروجهم إلى النهروان ‪ ،‬و انيحازهم هناك ل سيما عندما شاع أنهم بايعوا‬
‫عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬و أنهم يزيدون كل يوم ‪ ،‬خافوا استفحال خطبهم ‪ ،‬فلم يزالوا يتآمرون عليهم ‪،‬‬
‫ويعملون المكائد التي يتوصلون بها إلى القضاء عليهم ‪ ،‬و عندما َتمّتْ لهم هجموا عليهم في صلتهم ‪ ،‬فقضوا‬
‫عليهم ‪ ،‬ولما انتهى أمر النهروان نجح معاوية في سياسته ‪ ،‬و تَمّ له ما أراد ‪.‬‬

‫و تبين لعلي الغرض ‪,‬و لكن ماذا يفعل‪ ,‬و المر قد انقضى ؟‪ ،‬فطلب منهم [‪ ]132‬النصرة على عدوه فلم يجدها ‪،‬‬
‫حقْداً من نواحي عديدة أهمها‪ -:‬خلع المامة إلى الحكمين ‪ ،‬و ثانية قتله أهل النهروان‬
‫و امتلت القلوب عليه ِ‬
‫الذين َفرّوا إلى ال بدينهم ‪ ،‬غير مَاسّين بعرض علي ‪ ،‬و ل جارمين عليه بشيء ما ‪ ،‬إل أنّهم خرجوا عنه فبايعوا‬
‫إماماً غيره ‪ ،‬و هنا ظل صرح إمامة علي يتدهور و ينهار ‪ ،‬حتى قام له عبد الرحمن بن ملجم المرادي (‪ )2‬من‬
‫أهل مصر فقضى عليه ‪ ،‬فقامت قيامة اللعن ‪ ،‬و السب ‪ ،‬و الشتم على النهروانيين ‪ ،‬و ملئت الكتب بالقدح فيهم ‪،‬‬
‫و في من يقول فيهم كلمة خير ‪ ،‬أهكذا الحق ؟!‪ ،‬أهذا من اليمان ؟! ‪ ،‬أهكذا يرضى ال في عباده ؟! ‪.‬‬

‫و لم يزالوا تلفق فيهم الحاديث المكذوبة للحكم بضللهم (‪ ، )3‬و تبرئة قاتلهم ‪ ،‬و ليسوا في شيء من ذلك ‪ ،‬و‬
‫لكن الهواء المضلة لها حكمها المنصور من أهل الباطل ‪ ،‬و ل لَ ْومَ على من تلعب به الشيطان حتى تركه يعتقد‬
‫في علي اللوهية ‪ ،‬و التفوق على النبوة ‪ ،‬و لكن الذين علموا الحقائق فزاغت بهم الهواء إلى طريق غير صالح‬
‫للسلوك ‪ ،‬حتى كتبوا ما ل يحق لهم أن يكتبوا ‪ ،‬ولكن ال ل يخفى عليه شيء في الرض و ل في السماء و هو‬
‫العزيز الحكيم ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫كان النهروانيون سهام علي النافذة في مواقفه‪ ،‬و حروبه ‪ ،‬و مشاهده كلها حتى خدع بالتحكيم ‪ ،‬فقالوا يا ال‬
‫العجب على ماذا نقاتلهم نحن إل على تركهم كتاب ال ‪ ،‬إذ بغوا بالخروج على المام العدل ‪ ،‬فما باله الن يرى‬
‫الباطل حقاً ‪ ،‬و الحقَ باطلً‪ ،‬فإنّ القوم في أزمة من سيوف المسلمين ‪ ،‬يرونها تأكلهم أكلً ‪ ،‬و قد ضاق خناقهم ‪،‬‬
‫و هموا بالهزيمة ‪ ،‬فعملوا هذه الحيلة التي رأوا أنّ الرجل ينخدع لها ؛ لنّه معتمد على قوة المسلمين و أمرهم [‬
‫‪ ]133‬جميعاً تحت رايته ‪ ،‬و هو المطاع فحاولوا التملص حتى يعملوا أخت هذه ‪ ،‬فوافقهم على ما أرادوا ‪،‬‬
‫فاحتار المسلمين من هذا المر الذي وقع فيه إمامهم المرتضى وأميرهم الولي فرأوى أن الحال الذي وافق عليه‬
‫ل يجوز ‪ ،‬و لما أجازه على نفسه انتهت إمامته ‪ ،‬و لم يعودوا يأملون وفاقه إذ نهوه عن ذلك ‪ ،‬ولم يقبل منهم ‪،‬‬
‫فكان الدائرة عليه بقطع أجنحته ‪ ،‬فلما قضى عليهم عوقب بانهيار صرحه ‪ ،‬و انكسار علمه ‪ ،‬ثم أتمها الحسن‬
‫فراحت الخلفة من علي و آل علي إلى يوم القيامة ‪.‬‬

‫أُعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته كذاك من ل يسوس الملك يخلعه (‪)4‬‬
‫و كان علي بن أبي طالب من علماء الصحابة و عبادها ‪ ،‬إل أنّ حبه الخلفة أوقعه في ما وقع فيه من بلءها ‪،‬‬
‫فلم يهتدي لسياستها ‪ ،‬فإنّه لما مات النبي – صلى ال عليه و سلم و آله – ما كان يرى لها غيره ‪ ،‬و كان‬
‫المسلمون ل يرونه لها ‪ ،‬فلما تولها أبو بكر تبرم و دخل في نفسه ما دخل من التأثير ‪ ،‬حتى إذا استخلف أبو‬
‫ظنّ‪ ،‬فزاد تبرمه ‪ ،‬و‬
‫بكر عمر بن الخطاب بقي في نفس علي أنها فلته و سترجع إليه ‪ ،‬فكان المر على خلف ما َ‬
‫َتشَكّيه ‪ ،‬ثم لما جعلها عمر شورى وكان علي أحد الستة ‪.‬‬

‫لو كان المر كما يقول الذين يرونها لعلي ‪ ،‬و أنّه مظلوم فيها من أول المر و ثانيه ‪ ،‬ما باله لم يقم بالصحابة‬
‫محتجاً ‪ ،‬و فيهم النصار و المهاجرون و خيار المة ‪ ،‬فإن كان ذلك العمل باطلً ما باله يدخل فيه ! ‪ ،‬و ما باله لم‬
‫يستصرخ المسلمين !‪ ،‬و ما باله لم يعترض على زعيم الشورى عبد الرحمن بن عوف (‪ ،! )5‬و ما باله لم‬
‫يستدع [‪ ]134‬المسلمين من مشارق الرض ومغاربها ‪ ،‬ويقوم على َردّ الباطل ممن جاء به!‪ ،‬و المسلمون إذ‬
‫ذاك متوافرون ‪ ،‬و السلم ما قرّ قراره بعلي و أبناء عمه ‪ ،‬و إنما قرّ قراره بسيوف النصار و المهاجرين ‪ ،‬فما‬
‫بال أناس ل يرون في الكون كله إل على بن أبي طالب ‪ ،‬و ل ينظرون إل ما ينسب إلى علي بن أبي طالب ‪ ،‬و‬
‫لكن هذا كله غير كثير ممن يزعم أن علي َوصِيّ النبوة ‪ ،‬و أنّ جبريل خان المانة إذ أرسل بالنبوة إلى علي‬
‫فألقها إلى محمد !!! ‪ ،‬سبحان ال من مثل هذه الحوال !!!‪.‬‬

‫و الذي أَرَاهُ َأنّ كل ما ُنسِبَ إلى علي بن أبي طالب مما يخالف قانون القرآن ‪ ،‬ويناقض المعقول هو منه بريء ‪،‬‬
‫علّق عليه ذلك من الغلة في حُبّه ‪ ،‬و الغلة في بغضه ‪ ،‬و الرجل بعيد من ذلك كل البعد ‪ ،‬إذ لم يكن رجل‬‫و إنما ُ‬
‫دنيا ‪ ،‬و ل رغبة له فيها ‪ ،‬و إن كان له رغبة في القيام بالعدل فهذا شيء آخر ‪ ،‬فقد قيل أنّه لم يزل يقول " يا‬
‫بيضاء و يا صفراء غري غيري ل تغريني " (‪ )6‬أي ل أغتر بك بعلمي بأنّك الداء الدفين ‪.‬‬

‫ولما ابتلى بالمارة ‪ ،‬ابتلي فيها بأناس ظاهرهم معه ‪ ،‬و باطنهم عليه ‪ ،‬و ما قاتله معاوية إل لجل الدنيا ‪ ،‬لعلمه‬
‫أنّ السواد العظم ل يرغبون فيه ‪ ،‬وقد نجح معاوية في صدده ‪ ،‬و مضى علي على وجهه غير راضٍ بالخداع ‪،‬‬
‫و المكر ‪ ،‬و الدهاء ‪ ،‬و لعلم معاوية أن علياً غير تاركه على إمارته ‪ ،‬فلم يزل يلتمس له المداخل ‪ ،‬التي سيرمى‬
‫منها علياً بدهائه ‪ ،‬و هذا هو الواضح من حاله ‪ ،‬و ل خبرة له بحيل معاوية ‪ ،‬و ما يحاوله من أمر الدنيا ‪[ ،‬‬
‫‪ ]135‬و الذي يظهر من قتله أهل النهروان أن معرّة الجيش كونت الحيلة لذلك ‪ ،‬إذ سار إليهم في حال أمن و‬
‫رضى ؛ لقصد التفاهم معهم ‪ ،‬فتقدم أهل السوء الذين اشتد حسدهم و بغضهم لولئك الذين يخافون استفحال‬
‫خطبهم ‪ ،‬و قيام أمرهم ‪ ،‬فيشنون عليهم الحرب ‪.‬‬

‫و عندما وصل المام رأى المعركة تدور رحاها ‪ ،‬و ل يدري على أي أساس وقع ‪ ،‬و حينئذ ل يملك هو من المر‬
‫شيئاً ‪ ،‬حتى قضى على القوم ‪ ،‬فهذا الذي أظنه من حال علي بن أبي طالب ‪ ،‬و قد تعلق خصومه بظاهر الحال أنّه‬
‫هو المام ‪ ،‬و ما يفعله جيشه فهو الفاعل له إذ هو السائل و المسئول ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و كم وقع مثل هذا في جيوش المسلمين و في جيوش أهل العدل ‪ ،‬و انظر قوله – صلى ال عليه و سلم – " َهلّ‬
‫عنْ َقلْ ِبهِ " (‪ )7‬إذ قال يا رسول ال متعوذَ تَعّوذ بها ‪ ،‬و كم لها من أخوات تقع مقصودة ‪,‬و غير‬
‫شَقَقْتَ َ‬
‫مقصودة ‪ ،‬فتنبني عليها أشياء ‪ ،‬و يختلف الناس فيها ‪ ،‬فيتحج بها قوم ‪,‬و يرفضها آخرون ‪ ،‬أمّا لو كان علي‬
‫رجل دنيا ‪ ،‬صحّ حمل تلك الحوال على حاله‪ ,‬و الغيب ل ‪.‬‬

‫و على كل حال إنّ البطانة السيئة توقع صاحبها في المهاوي من حيث ل يدري‪ ،‬فإن أعداء النهروانيين خلقوا‬
‫لهم أشياء نسبوها إليهم ؛ ليهيجوا حفيظة المام ‪ ،‬و يوعزوا قلبه عليهم ‪ ،‬فتناولوا امرأة حاملً فبقروا بطنها ‪ ،‬و‬
‫أخرجوا ولدها ‪ ،‬وقتلوا زوجها ‪ ،‬و جاءوا إلى إمامهم قائلين له هذه أفعال هؤلء ‪ ،‬و إنّا نخشى على أهلنا و‬
‫أولدنا منهم إذا خرجنا [‪ ]136‬و هؤلء خلفنا ‪ ،‬و الولى قتال هؤلء قبل كل شيء ‪ ،‬و لما رأوا أن المراسلت‬
‫بينهم و علي ل بدا أن يكون لها تأثير ما ‪ ،‬و أنّ علياً تقوده الديانة و ربما وافقهم ‪ ،‬و ربما أيّدهم فيستفحل‬
‫خطبهم ‪ ،‬و تقوى شوكتهم ‪ ،‬فيكون الخطر الكبر من قبلهم على معاوية ‪ ،‬و لكن قم على القوم حيث هم الن‬
‫طلبوا مفاهمتك ‪ ،‬فإن رأيت الحقّ معهم سَّل ْمتَ لهم ‪ ،‬و إن رأيت الحق معك أمكنك إرغامهم ‪ ،‬فانخدع لهذه‬
‫الزخارف البراقة ‪ ،‬و انجرّ بأرسانها (‪ )8‬فكان ما كان ‪.‬‬

‫و القوم مسرورون بمجيء المام إليهم ‪ ،‬فأمنوا و اطمئنوا ‪ ،‬وراح الكثير منهم لزيارة أهلهم‪ ,‬و تبشيرهم بالواقع‬
‫‪ ،‬و لما وصلوا لم ير علي إل صليل السيوف‪ ،‬و تساقط الرؤوس ‪ ،‬و المر بلغ أشده حتى أفنوهم ‪ ،‬ولم يبقى‬
‫منهم أحد ل كما يقولون بقي منهم أربعة ‪ ،‬فرّ اثنان منهم إلى عمان ‪ ،‬و اثنان إلى المغرب ليرسلوا بذلك سهام‬
‫الطعن على هؤلء الناس البرياء من القضية ‪ ،‬الغافلين عنها ‪ ،‬النائين عن مكانها ‪ ،‬و لما قضوا عليهم في‬
‫الحقيقة ‪ ,‬قضوا على الشوكة الفعالة التي يخشاها معاوية ‪ ،‬و يحذر خطرها ‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬كذا بالصل ولم أستطع تخريجه أو فهم معناه‬
‫(‪ )2‬عبد الرحمن بن ملجم المرادي الحميري (ت ‪40‬هـ)فاتك ثائر ‪ ,‬من أشداء الفرسان ‪ ,‬أدرك الجاهلية ‪ ,‬وهاجر في خلفة عمر ‪,‬وقرأ على معاذ بن جبل‬
‫فكان من القراء وأهل الفقه والعبادة ‪ ,‬شهد مع علي صفين ‪,‬ثم خرج عليه ‪,‬وهو الذي قتل علي بن أبي طالب ‪ ،‬كمن له عند صلة الفجر فضربه ضربة‬
‫سيف مسموم فمات بعد فترة ‪ ،‬وقتل بعد موت علي بن أبي طالب ‪ .‬العلم ( ‪)339 /3‬‬
‫(‪ )3‬مثال ذلك ما حكاه المبرد عن المهلب بن أي صفة حيث أنه وضع أحاديث في الخوارج وذلك عندما كان القتال بينهم على أشده ‪ .‬أنظر الكامل ( ‪/2‬‬
‫‪. )231‬‬
‫(‪ )4‬لم أستطع تخريجه‬
‫(‪ )5‬عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي ( ‪44‬ق هـ ‪ 32 -‬هـ ) أبو محمد ‪ ،‬صحابي ‪ ،‬من أكابرهم وهو أحد العشر المبشرين بالجنة ‪،‬‬
‫وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلفة فيهم ‪ ،‬وأحد السابقين إلى السلم ‪ ،‬شهد بدرا وأحدا و المشاهد كلها ‪ .‬العلم ( ‪. )321 /3‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه الطبراني في الوسط (‪ )4/364‬رقم ‪ 3934‬أنظر في فضائل الصحابه (‪ 1/531‬و ‪. ) 884‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه مسلم في (‪ – 1‬كتاب اليمان ‪ – 41‬باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال ‪ - :‬ل إله إل ال ) ( ‪ )96 /1‬رقم ‪ 158‬واخرجه ابن ماجه في ( ‪36‬‬
‫–كتاب الفتن ‪ -1‬باب الكف عمن قال ‪ :‬ل إله إل ال )ص ‪564‬رقم ‪3930‬وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند (‪)15/81‬رقم ‪19822‬وفي (‪)16/101‬رقم‬
‫‪21699‬وأخرجه الحاكم في المستدرك(‪)3/125‬رقم ‪4599‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪)2/176‬رقم ‪1723‬وأخرجه البهيقي في السنن‬
‫الكبرى(‪)8/36‬رقم ‪15847‬وأخرجه أبي يعلى (‪)3/91‬رقم ‪1522‬وأخرجه ابن أبي شيبه(‪.28923)5/55‬‬
‫(‪ )8‬أرسان جمع رسن وهو الحبل {مختار الصحاح ‪}102/‬مادة رسان‪.‬‬

‫و كان ذلك عين الواقع فإنّهم انسحبوا بعد ذلك إلى أماكنهم ‪ ،‬و وضعوا السلح ‪ ،‬فاستنهضهم علي لحرب‬
‫معاوية ‪ ،‬فلم ير منهم إل التثاقل و التراخي ‪ ،‬إذ في أنفسهم أن علياً ل تقوم له قائمة ‪ ،‬و خطر النهروانيين قد‬
‫زال ‪ ،‬فأقبلت أمور علي تمشي القهقرى ‪ ،‬و ظلت تتنازل كل يوم ‪ ،‬و تضعف حتى سقطت هيبته ‪ ،‬فعند [‪]137‬‬
‫ذلك جاءه ابن ملجم المرادي فقتله ‪ ،‬و انتهت إمارته ‪ ،‬و زالت عن الحسن ‪ ،‬وقد قضى عليه أيضاً ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وفي كل هذه الحوال تكون المور في صالح معاوية ليظهر صدق قول رسول ال – صلى ال عليه و سلم – في‬
‫الخلفة و الملك العضوض (‪ ، )1‬و ل أمر هو بالغه رغم كل أحد ‪ ،‬فاسمع ما يقوله علي لهل العراق بعد قضية‬
‫النهروان ‪ ،‬لما رأى أن ل غرض للقوم إل قتل أهل النهروان ‪ ،‬و لما قتلوهم انتهت مهمتهم كما أخبرتك ‪ ،‬فغمدوا‬
‫سيوفهم ‪ ،‬و تعللوا بالعلل ‪.‬‬

‫جاء في "المامة و السياسة" ‪ " :‬دعا علي رؤساءهم و وجوههم‪ ,‬فسألهم عن رأيهم‪ ,‬و ما الذي ثبطهم ؟ " قال‬
‫" فمنهم المعتل‪ ,‬و منهم المتكره ‪,‬و أقلهم من نشط "‪ ,‬و هذا صريح عن القوم "فقال لهم على بن أبي طالب عباد‬
‫ال ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل ال اثاقلتم إلى الرض ‪ ،‬أرضيتم بالحياة الدنيا من الخرة بدلً ‪ ،‬و‬
‫رضيتم بالذل و الهوان من العز خلفاً ‪ ،‬كلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم ‪ ،‬كأنكم من الموت في سَ ْك َرةٍ ‪ ،‬و‬
‫كانت قلوبكم قاسية ‪ ...‬إلخ " ‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬لما ل تقسوا قلوبهم ‪ ،‬و تلك أفعالهم في إخوانهم المؤمنين ‪ ،‬و أما قلوب المؤمنين فلن تقسوا حتى يفارقها‬
‫اليمان ‪ ،‬كما شهد بذلك القرآن ‪.‬‬

‫قال علي‪ " -:‬فأنتم ل تعقلون ‪ ،‬و كأنّ أبصاركم كمه (‪ ، )2‬فأنتم ل تبصرون ‪ ،‬ل أنتم ‪,‬ما أنتم إل أساود روّاعة (‬
‫‪ ، )3‬و ثعالب روّاغة عند الناس ‪ ،‬تُكادون و ل تكيدون‪ ،‬و تنتقص أطرافكم فل تحاشون ‪ ،‬و أنت في غفلة‬
‫ساهون ‪ ،‬إن أخا الحرب اليقظان ‪.‬‬

‫أما بعد‪ -:‬فإنّ لي عليكم حقاً ‪ ،‬و لكم عليّ حق " ‪,‬ثم أخذ يشرح لهم ذلك إلى أن قال " أيها الناس المجتمعة [‬
‫عزّتْ دعوة من دعاكم ‪ ،‬و ل استراح قلب من قاساكم ‪،‬كلمكم يوهي‬ ‫‪ ]138‬أبدانهم ‪ ،‬المختلفة أهواؤهم ‪ ،‬ما َ‬
‫الصّم ‪ )4( ،‬و فعلكم يطمع فيكم عدوكم ‪ ،‬إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت و كيت "‪ ,‬نعم أما مسيرهم إلى النهروان‬
‫لقتال المؤمنين أنصار علي وشوكته‪ ,‬الثابتين على الحق‪ ,‬المعادين للباطل ‪,‬الذين هم الخطر على معاوية ‪ ،‬كان‬
‫بغاية النشاط كما عرفت ‪ ،‬فلما قضى المر المطلوب ‪ ،‬و راودهم لحرب معاوية هذا صار حالهم ‪.‬‬

‫كما يقول علي المام‪ " -:‬أضاليل في أعاليل ‪ ،‬هيهات‪ ,‬ل يدرك الحق إل بالجدّ و الصبر ‪ ،‬أي دار بعد داركم‬
‫تمنعون؟ ‪ ،‬و مع أي إمام بعدي تقاتلون ؟‪ ،‬المغرور من غررتموه "‪ ,‬و هذا نص منه صريح أنهم غروه بقتال‬
‫إخوانه ‪ ،‬حين تحقق المر ‪ ،‬و رأي بعد ذلك تقاعدهم عنه إلى أن قال‪ " -:‬و من فاز بكم فاز بالنصيب الخيب ‪،‬‬
‫أصبحت ل أطمع في نصرتكم ‪ ،‬و ل أصدق قولكم ‪ ،‬فرق ال بيني و بينكم‪ ،‬و أعقبني بكم من هو خير لي ‪ ،‬و‬
‫أعقبكم بعدي من هو شر لكم مني " (‪. )5‬‬

‫فانظر في هذا الكلم الذي يوجهه إليهم ‪ ،‬و اعتبرهم كذا بين ل يقدر أن يعتمد عليهم حتى دعا عليهم بتفريق‬
‫الكلمة بينه و بينهم ‪ ،‬و بما هو العاقبة بعد ذلك ‪ ،‬و هذا دأب أهل الدنيا ل يراعون إل مصالح دنياهم ‪ ،‬و للحقّ‬
‫أهل غير أهل الدنيا ‪.‬‬

‫فمالك يا علي بن أبي طالب و المسلمون كثيرون ‪ ،‬فاطلب أهل الحقّ ‪ ،‬و اترك أهل الباطل ‪ ،‬ففي مدينة الرسول‬
‫رجال ‪ ،‬و في مكة أبطال ‪ ،‬و في بقية بلد السلم من يجيب دعوتك ‪ ،‬و يلبي نداءك في الحجاز ‪ ،‬و في مصر ‪،‬و‬
‫في بلد ال من أهل الحق من تشد به عضدك ‪ ،‬اترك أهل العراق و قد عرفت عنهم شيئاً [‪ ]139‬يكفي لتركهم ‪.‬‬

‫و من كلمه لهم ‪ ،‬يقول في معرض التهديد‪ " :‬أما أنكم ستلقون بعدي ذلً شاملً ‪ ،‬و سيفاً قاتلً ‪ ،‬و أثرة يتخذها‬
‫الظالمون بعدي عليكم "‪ ,‬و هو يشير بهذا إلى معاوية و أعوانه من المويين ‪ ،‬و المعنى إنّي علمت أنكم ل‬
‫تراعون الحق ‪ ،‬و ل تختارون أهله ‪ ،‬و ل تقلون الصدق‪ ,‬و ل ترضون به بدلً من الباطل ‪ ،‬إذ كنتم تحرضوني‬
‫على قتال النهروانيين ‪ ،‬و تقولون بعدما نقضي عليهم نتوجه لحرب معاوية‪ ،‬فمالكم وقد بلغتم مرادكم في‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫النهروانيين تتثاقلون عن معاوية و أهل الشام ‪ ،‬و هم الذين أشار إليهم بقوله‪ " -:‬الظالمين "‪ ,‬و أنهم سيفرقون‬
‫جماعتكم و تبكي عيونكم ‪ ،‬و يدخل الفقر بيوتكم ‪ ،‬فتتمنون و ال عندها لو رأيتموني " إلى أن انتهت الخطبة‬
‫على هذا الوضع مشحونة بالتأنيب و التوبيخ والتقبيح ‪ ،‬إلى أن اعترضه الشعث بن قيس قائلً ‪ " :‬فَ ْهلَّ فعلت‬
‫مثل ما فعل عثمان ؟ "‪ ,‬قال له علي‪ " -:‬و يلك أفكما فعل عثمان رأيتني أفعل عائذاً بال من شر ما تقول ‪ ،‬و ال‬
‫إن الذي فعل عثمان لمخزاة على من ل دين له ‪ ،‬و ل حجة معه إلى آخر ما أجابه به " (‪. )6‬‬

‫و المعنى أنّ ما فعل عثمان كله فساد و ضلل ‪ ،‬و أمّا ما فعله من تغير سنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم‬
‫– فهو ضلل ‪ ،‬و أما ما فعله من كونه حصر و اقتحموا عليه سور بيته ‪ ،‬فإن كان مُحِقّ فقد ترك الدفاع عن‬
‫نفسه وحرمه‪ ،‬و ليس له ذلك شرعاً ‪ ،‬و إن كان غير محق فالمر أشد ‪.‬‬

‫و لما رأى أنّ القوم مائلون إلى أمرة معاوية و طاعته وتحقق ذلك قال لهم‪ " -:‬ل تكرهوا إمرة معاوية‪ ,‬فإن‬
‫إمرته سلم [‪ ]140‬وعافية "‪ ,‬أي ل ينافسه أحد ‪ ،‬لنّكم منذ الن و أنتم مائلون إليه ‪ ،‬تاركون لمامكم قبل أن‬
‫يترككم ‪.‬‬

‫و آخر ما انتهى إليه أمر علي في هذه الخطبة أن قال لهم حين سألوه عمن يكون بعده (فقال‪ ") -:‬أمّا الحسن‬
‫صاحب خِوَان (‪ ، )7‬و فتى من الفتيان ‪ ،‬و لو قد التفت حلقتا البطان (‪ )8‬لم يغن عنكم في الحرب حثالة عصفور‬
‫(‪ ، )9‬و أما ابن أخي عبدال بن جعفر فصاحب لهو ‪ ،‬و أما الحسين و محمد ‪-‬أي ابن الحنيفية ‪ -‬ابناي فأنا منهما‬
‫و هما مني "‪ )10( ,‬فهذا كلمه فيهم ‪ ،‬و هو أعرف بهم ‪.‬‬

‫و لذلك فإنّ الحسن بايعه بالخلفة فريق من الناس ‪ ،‬فأحال البيعة لمعاوية ‪،‬و اشترط على معاوية ما اشترط ‪،‬‬
‫وكان من المحال الوفاء بشيء من شروطه ‪ ،‬و من أعان ظالماً سُلّطَ عليه ‪ ،‬فما رضي الحسن إل أن يكون في‬
‫أعمال معاوية ‪ ،‬فبدل أن يضع في يده ذا الفقار ‪ ،‬و ضع الشروط في الصحيفة الفارغة ‪ ،‬و سلم خلفته إلى‬
‫معاوية ‪ ،‬و يقال َدسّ عليه السم فقتله ‪ ،‬كما جاء ذلك في الخبار عند أهل العلم الصحيح النقل ‪.‬‬

‫و باستقراء التاريخ‪ ,‬و النظر فيه بتمحيص‪ ,‬يجد الناظر أن إمامة علي بن أبي طالب كان لها أكبر مؤثر قتل أهل‬
‫النهروان ‪ ،‬فإنّه ما رجع علي إل مخذولً ‪ ،‬و لما قتل عبدال بن وهب ‪,‬و أصحابة في النهروان‪ ,‬أدرك علي بن‬
‫أبي طالب سقوط المر من يده ‪ ،‬فلم يكن من أهل العراق إل رفض علي بن أبي طالب ‪ ،‬فإنّه كلما استنهضهم‬
‫قعدوا ‪ ،‬و كلما حركهم سكنوا ‪ ،‬ولم يزل بهم في المجامع و هو يخطبهم ‪ ،‬و كأنه يضرب في حديد بارد ‪ ،‬حتى‬
‫قابله قائده الكبر الذي ظاهره معه ‪ ،‬و باطنه عليه ‪ ،‬الشعث بن [‪ ]141‬قيس‪ " -:‬هل فعلت مثل ما فعل عثمان‬
‫"‪ ,‬أي تقعد في بيتك مثل ما قعد عثمان في بيته ‪ ،‬و قصده أن يكف علي عن حرب معاوية ‪ ،‬فإنّ المر قد تم بقتل‬
‫النهروانيين ‪ ،‬وسهلت المور التي كانوا يحاولونها لمعاوية ‪.‬‬

‫و في" المامة و السياسة " من الفلتات المعربة عن الحقائق عند من يفهمه كثيرة‪ ،‬و لعلهم يظنون أن الباضية‬
‫و نحوهم ل يفهمون معاني الكلم الذي يحررونه‪.‬‬

‫و لم يزل علي على هذا الحال يتمنى حرب معاوية و أهل الشام ‪ ،‬و لكنه لم يجد له أعواناً‪ ،‬ولم ير له أقواماً ‪،‬‬
‫حتى هجم عليه عبد الرحمن بن ملجم المرادي فقتله ‪ ،‬و قبض عليه فأدخل عليه بعد ضربه إياه " فقال علي ‪:‬‬
‫أطيبوا طعامه و شرابه ‪ ،‬و ألينوا فراشه فإن أعش فأنا ولي دمي ‪ ،‬إما عفوت و إما اقتصصت ‪ ،‬و إن مت‬
‫فألحقوه بي ‪ " ،‬وَلَ تَ ْع َتدُواْ ِإنّ الّ لَ ُيحِبّ ا ْلمُعْ َتدِينَ " (‪ ، )11‬قالوا وبكت أم كلثوم‪ ,‬و قالت لبن ملجم ‪ (( :‬يا‬
‫عدو ال‪ ,‬قتلت أمير المؤمنين ))‪ ،‬فقال ‪ (( :‬ما قتلت أمير المؤمنين‪ ,‬و لكني قتلت أباكِ ))‪ ،‬أنكر أن يكون قتل‬
‫أمير المؤمنين أي أن علي إذ ذاك لم يكن أمير المؤمنين ‪ ،‬حيث خلع المامة من عنقه إلى الحكمين ‪ ،‬و لم يعد بعد‬
‫إماماً ‪"،‬قالت أم كلثوم ‪ (( :‬و ال إني لرجو أل يكون عليه بأس )) ‪ ،‬فقال لها ‪(( :‬و لم تبكين إذاً ؟ و ال قد‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أرهفت السيف ‪ ،‬و نفيت الخوف ‪ ،‬و جبت الجل ‪ -‬أي قطعته ‪ ، -‬و قطعت المل ‪ -‬أي غير أمل حياة ‪ ، -‬و ضربت‬
‫ضربة لو كانت بأهل المشرق و المغرب لتت عليهم )) قال‪ " -:‬و مكث علي يوم الجمعة و السبت‪ ,‬و توفي ليلة‬
‫الحد ‪ ،‬و غسله الحسن‪ ,‬و الحسين‪ ,‬و محمد [‪ ]142‬بن الحنيفية ‪ ،‬و عبدال بن جعفر بن أبي طالب ‪ ،‬و كفن في‬
‫ثلثة أثواب ‪ ،‬و صلى عليه ابنه الحسن ‪ ،‬و دفن في قصر المارة بالكوفة ‪.‬‬

‫و أخذ ابن ملجم ‪,‬و قطعت يداه ‪ ،‬و رجله ‪ ،‬و أذناه ‪ ،‬و أنفه ‪ ،‬ثم لسانه ‪ ،‬فجزع عندما عالجوا لسانه بالقطع‬
‫فقالوا له في ذلك ‪ ،‬فقال جزعت لنقطاع الذكر بها ‪ )12( ،‬و مثلوا به خلفاً لما أوصى به علي " ‪.‬‬

‫و ليتهم لم يفعلوا فإنّ التمثيل حرام ‪ ،‬نهى عنه رسول ال (‪ – )13‬صلى ال عليه و آله وسلم –‪ ,‬و ماذا يجدي‬
‫التمثيل ‪ ،‬و الولى بمثل هؤلء و أضرابهم الوقار خصوصاً في مثل هذه الحوال ‪ ،‬و الحتشام‪ ,‬و رعاية وصية‬
‫الوالد ‪ ،‬و الثبات في المور كلها ‪ ،‬فهم لم يراعوا وصية والدهم الحنون ‪ ،‬و ل راعوا واجب الشرع ‪ ،‬وهما‬
‫أمران كبيران ‪ ،‬فانظر لو كان المقتول أحد الولد و المقتص علي بن أبي طالب ‪ ،‬أكان يفعل هكذا ؟ ل و ال‬
‫حاشاه ‪ ،‬و المر ل ‪ ،‬و إنما تمتاز الرجال بالفعال‪]143[.‬‬
‫====================================‬
‫(‪ )1‬أخرجه البهيقي في السنن الكبرى (‪)8/275‬رقم ‪16630‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪367)1/156‬و(‪)20/53‬رقم ‪91‬و(‪)22/223‬رقم‬
‫‪591‬وأخرجه أبو داؤد الطيالسي (‪)1/31‬رقم ‪ 228‬وأخرجه أبو يعلي الموصلي (‪)2/177‬رقم ‪.87‬‬
‫(‪ )2‬كمه ‪-:‬جمع آكمه‪,‬وهو الذي ولد بدون عينين‪,‬ومن ذلك قوله تعالى "وتبريء الكمة والبرص بأذني "{القاموس المحيط ‪ {1616/‬مادة كمه‪.‬‬
‫(‪ )3‬روّاعة ‪-:‬خوافة جمع رواع ‪ ,‬وهو شديد ال ّروْع وهو الخوف {لسان العرب‪}6/264,‬مادة روع ‪.‬‬
‫(‪ )4‬الصم‪-:‬جمع أصم‪,‬والمراد الجبال الصم وهي الشديدة الصلبة‪,‬ويوهي يضعف {القاموس المحيط‪ }1458/‬مادة ص م م‬
‫(‪ )5‬المامة السياسية {‪.}130-1/129‬‬
‫(‪ )6‬المامة والسياسة (‪)131-1/130‬‬
‫(‪ )7‬صاحب خوان‪ -:‬الخوان ‪ -:‬الذي يؤكل عليه أو المائدة‪,‬والمعنى رجل كرم وإطعام ‪{.‬لسان العرب‪}5/184,‬مادة خ و ن ‪.‬‬
‫(‪ )8‬التقت حلقتا البطان ‪-:‬البطان‪ -:‬الحزام الذي يلي البطن أو المقصود من الجملة إذا اشتد المر لسان العرب {‪}2/106‬مادة(ب ط ن )‬
‫(‪ )9‬حثالة عصفور ‪-:‬كناية عن عدم الجدوى والنفع‪.‬لسان العرب (‪)4/35‬مادة ح ث ل‬
‫(‪ )10‬المامة والسياسة (‪)1/132‬‬
‫(‪ )11‬البقرة ‪. 190 :‬‬
‫(‪ )12‬المامة والسياسة (‪.)139-1/138‬‬
‫(‪ )13‬أخرجه مسلم في (‪-32‬كتاب الجهاد والسير ‪-2‬باب تأمير المام والمراء على البعوث)(‪)3/1357‬رقم ‪,)3(1731‬وأخرجه الترمذي في (‪-22‬كتاب‬
‫السير ‪-48‬باب ما جاء في وصيته صلى ال عليه في القتال)(‪)4/162‬رقم ‪1617‬وأخرجه أبو داؤد في (‪-15‬كتاب الجهاد ‪-82‬باب في دعاء المشركين )‬
‫ص ‪377‬رقم ‪,2613‬وأخرجه ابن ماجهفي (‪-24‬كتاب الجهاد ‪-38‬باب وصيته المام)ص ‪ 412‬رقم ‪,2857‬وأخرجه الرمي في (‪-17‬كتاب الجهاد باب‬
‫النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو)ص ‪297‬رقم ‪,974‬وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند (‪)3/218‬رقم ‪.2728‬‬

‫[ المقام الرابع ]‬

‫حكم الظالم في نظر المسلمين‬

‫[الشرح ]‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫اعلم أنّ الظّالم عندنا كما هو عند ال عز و جل ‪ ،‬خليع ل حرمة له ‪ ،‬كما في سيرة الصحابة – رضوان ال عليهم‬
‫– ‪ ،‬و نحن سيرتنا فيه سيرتهم ‪ ،‬و قولنا فيه قولهم ‪ ،‬ل نرضى أن يكون لنا قدوة ‪ ،‬و قد أبعده ال من مقامات‬
‫أهل الفضل ‪ ،‬قال ال عز و جل لنبيه إبراهيم الخليل – عليه الصلة والسلم –‪ " -:‬إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا " أي‬
‫قدوة ‪ ،‬قال – صلى ال عليه و سلم – ‪َ " -:‬ومِن ُذرّيّتِي " ‪ ,‬أي اجعل لي من ذريتي لهم قدوة ‪ ،‬فأجابه تعالى‪" -:‬‬
‫عهُ ‪ ،‬و سماه كافراً و فاسقاً ‪ ،‬و أوجب‬ ‫خهُ َوقّر َ‬
‫لَ يَنَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " (‪ , )1‬فقد لعن ال الظالم و ندد به ‪ ،‬وَوبّ َ‬
‫حمِيمٍ وَلَ شَفِيعٍ‬
‫له النار‪ ,‬و بئس المصير ‪ ،‬و لم يقربه من مقامات أهل الحق في جميع الحوال " مَا لِلظّا ِلمِينَ ِمنْ َ‬
‫يُطَاعُ " (‪ " ، )2‬وَالّ لَ يُحِبّ الظّا ِلمِينَ " (‪َ " ، )3‬ومَا لِلظّا ِلمِينَ ِمنْ أَنصَارٍ " (‪ )4‬في أمثالها‪.‬‬

‫فسيرتنا معشر الباضية سيرة أصحاب رسول ال – صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬و سيرة الصحابة هي سيرة‬
‫الرسول – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و سيرته – صلى ال عليه و سلم – إبعاد الظالم ‪,‬و تباعد منه ‪ ،‬لنّه عدو‬
‫ال بظلمه ‪ ،‬و عدو المسلمين ‪.‬‬

‫و سيرة الباضية إتباع الحق في المكره‪ ,‬والمنشط ‪ ،‬و العسر‪ ,‬واليسر ‪ ،‬و الكون معه في الضيق والسعة ‪ ،‬و هذا‬
‫أمر مشاهد يشرح التاريخ [‪ ]144‬ماضيه ‪ ،‬و يُ ْعرِبُ الحال عن حاضره و آتيه ‪ ،‬فهل سمعتم أو رأيتم أمة من أمم‬
‫السلم طيلة القرون الماضية من يؤيد السلم تأييد الباضية له ؟‬

‫فكم نصبوا الئمة في عمان لجراء الشريعة الغراء مجراها ‪ ،‬و إعادة قواعد الدين في أساسها و مبناها ‪ ،‬و كم‬
‫قام الباضيون بنواحي حضرموت طيلة ستة قرون عرفها التاريخ السلمي في رشدها و هداها ‪ ،‬و كم علت‬
‫خرّ لهم رؤوس المم رغم عِتْ َوهَا و طغواها ‪ ،‬فتراهم‬
‫رايات الحق بمغربنا العامر بالباضية الفطاحل ‪ ،‬الذين تَ ِ‬
‫ج ْمعَات ‪ ،‬و حدوداً في واجبات ‪ ،‬ل محابة لظالم في الدين ‪ ،‬و ل طاعة لمخلوق في معصية رب‬ ‫جمَاعات في ُ‬‫َ‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫إنّ كل ظالم في نظر الباضية خليع ل حقّ له على المؤمنين ‪ ،‬و ل إجابة لدعوة تبعد عن الحقّ المبين ‪ ،‬خلف ما‬
‫عليه غيرنا من سائر قومنا الذين يخضعون لطغاة الغشم وعُتَاة الظلم ‪ ،‬أما الباضية فكان ذلك منهم تبعا لقوله‬
‫عز و جل ‪َ "-:‬ولَ َترْ َكنُواْ إِلَى اّلذِينَ ظَ َلمُواْ َف َت َمسّكُمُ النّارُ " (‪. )5‬‬

‫والمراد بالظالم في نظر الباضية هو كل من خالف الحقّ ‪ ،‬أو تسلّط على المر بغير مشورة المسلمين ‪ ،‬و من‬
‫تَوّلَى أمرهم بالقهر في الدين ‪ ،‬و الخليع من لم تثبت له بيعة من الهداة المتقين ‪ ،‬ول ارتضاه أعيان المؤمنين ‪ ،‬و‬
‫زعماء الملة والدين ‪.‬‬

‫و من حكّم هواه ‪,‬و حَكَمَ بغير ما أنزل ال ‪ ،‬ومن اصطفى لنفسه ما منعه ال منه ‪,‬أو جرى على غير ما أنزل ال‪,‬‬
‫عدَادِ‬
‫أو سار في حكمه على منهج الغتصاب أو الستبداد ‪ ،‬و من ل ولية له عند المسلمين ‪ ،‬فهو داخل في ِ‬
‫عمِلَ فيه بعمل أهل السوء ‪ ،‬و من‬
‫الظّالمين ‪ ،‬و من [‪ ]145‬تولى المر بحق فذهب به مذهب أهل الزيغ ‪ ،‬أو َ‬
‫فارق منهج أهل الحق في أي نقطة من النقاط فهو ظالم خارج عن الدّين ‪ ،‬و من توّلى من أمر ال بالبراءة منه‬
‫فهو ظالم ‪ ،‬و من أعان ظالماً كذلك ‪ ،‬و من أيّد ظالماً في ظلمه ‪,‬و لو بكلمة فهو ظالم حتى يتوب ويرجع ‪ ،‬فإنّ ال‬
‫أمر بالتباعد من أهل الظلم ‪ ،‬و من الركون إليهم ‪ ،‬و الكون معهم ‪ ،‬في آيات القرآن ‪ ،‬وفي أحاديث سيد آل عدنان‬
‫– صلى ال عليه و سلم ‪. -‬‬

‫و إننا نعجب من قومنا الذين يشهدون بأنّ معاوية قام على المام علي بن أبي طالب ‪ ،‬و هو إمام بالجماع ‪ ،‬فجر‬
‫شمْلَ الدّين ‪ ،‬و سَمّ الحسن‬
‫عليه الجيوش ‪ ،‬و جاهر بالبغي الصريح ‪ ،‬و قتل آلف الرجال من المسلمين ‪ ،‬و َمزّقَ َ‬
‫بن علي ‪ ،‬و كاتبه على أشياء فخانه فيها ‪ ،‬و فعل في السلم الشنائع ‪ ،‬و افترض على الناس لعن علي بن أبي‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫طالب في المجامع‪ ,‬و على المنابر ‪ ،‬و عاقب من لم يفعل ذلك ‪ ،‬و هم يترضون عنه ‪ ،‬و يتولونه ‪ ،‬كأنّ لم يكن‬
‫فَعَلَ شيء يُ ْن َكرُ ‪ ،‬و يعيرون جانبه إجللً ‪,‬و احتراماً ‪ ،‬و تلك الفعال التي يذكرونها ل قيمة لها عندهم ‪ ،‬و ل‬
‫ج ِرمِينَ (‪ )35‬ما لَ ُكمْ َك ْيفَ َتحْ ُكمُونَ " (‪)6‬‬
‫سِلمِينَ كَا ْل ُم ْ‬
‫جعَلُ ا ْل ُم ْ‬
‫يتبرمون منها ‪ ،‬و ال يقول في كتابه العزيز‪َ " -:‬أفَنَ ْ‬

‫طرَةِ ‪ ،‬و يفعل هذه الفاعيل‬


‫خِ‬‫شرّ‪ ,‬و يرتكب هذه المراكب ال َ‬
‫فَلِمَ ذا يا قوم ؟ و هل يمكن أن يفعل إنسان الخير‪ ,‬وال ّ‬
‫المنكرة ‪ ،‬و يتولى في الدين؟!! ‪ ،‬إنّ هذه أشياء متناقضة ل يقول به عاقل ‪ ،‬و ل يعتمد عليها إل جاهل !!! ‪.‬‬

‫و من هنا يظهر أنّ [‪ ]146‬مذهب الباضية أَ ْنزَهَ المذاهب‪,‬و أَطْ َه َرهَا ‪ ،‬ل يقبل الجاهلين إقتداءً‪ ,‬و ل يتبع الظالمين‬
‫اعتداءً ‪ ،‬و ل يرضى الرجال الذين هذا حالهم ‪ ،‬و رضيهم قومنا ؛ لنّ معتقدهم قاضٍ بأن من قال ل إله إل ال‬
‫محمد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – دخل الجنة ‪ ،‬و منه أن وزن الحسنات والسيئات بالميزان ثابت‬
‫عندهم ‪ ،‬و إن الحسنة بعشر أمثالها ‪ ،‬و السيئة واحدة فقط ‪ ،‬فكم بينهما من التفاوت ‪.‬‬

‫و بأنّ الخروج من النار للعصاة صحيح لديهم ‪ ،‬و أنّ شفاعة رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله – ثابتة‬
‫لهم ‪ ،‬فإذا كان اعتقادهم هذا هان الخطب عندهم ‪ ،‬و سَهْلَ المر لديهم ‪ ،‬فإنّ من ل يدخل الجنة بل إله إل ال‬
‫شكّ ترجح‬‫محمد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – وحدها ‪ ،‬دخلها بوزن العمال إذا رجحت أعماله ‪ ،‬و ل َ‬
‫فإن واحدة بعشر ‪ ،‬و واحدة وحدها فهي مرجوحة بالعشر ‪ ،‬و إل ولم يصح الرجحان ‪,‬فبالشفاعة من الرسول‬
‫العظم ‪ -‬عليه الصلة والسلم – له ‪ ،‬و إل و ل بد من دخول النار والعياذ بال‪ ,‬فإنّه يعذب فيها بقدر عمله ‪.‬‬

‫خطْبَ معهم ‪ ،‬و َفرَجَتْ الزمة لديهم ‪،‬و جرّأتهم على ركوب المعاصي ‪ ،‬و هَ ْت ِ‬
‫ك‬ ‫فهذه الحوال هي التي هَوَنّتْ ال َ‬
‫عزّ و عل ‪ ،‬و التساهل في حدود السلم ‪ ،‬و لذلك تراهم ل يتبرمون من أي الذنوب ‪ ،‬سبحان من كل‬ ‫محارم ال َ‬
‫شيء يصير إليه ‪ ،‬و إن الحقّ في طاعته ‪.‬‬

‫إنّ داء الحسد و الهوى ل علج لهما من النسان ‪ ،‬بل هما ممتزجان بحياته عالقان به ‪ ،‬فل ينفك منهما ‪ ،‬و‬
‫الحسد داء دفين ‪ ،‬و احتجاب العقول عن فهم مدلول النقول من الخذلن الذي يُهلك به صاحبه ‪.‬‬

‫عدَ ال به الظالمين ‪ ،‬و إنّ الوَبَالَ نازل عليهم ‪ ،‬واعلم أ ّ‬


‫ن‬ ‫انظر إلى معنى الظلم في [‪ ]147‬القرآن ‪ ،‬و إلى ما َو َ‬
‫شكّ َأنّ الهلك و دمار من صفات الظالمين ‪ ،‬و انظر في قوله عز و جل ‪ " -:‬مَا لِلظّا ِلمِينَ ِمنْ‬ ‫العقل المستنير ل َي ُ‬
‫حمِيمٍ َولَ شَفِيعٍ يُطَاعُ " (‪ , )7‬و أن الظالمين هم أصحاب النار ‪ ،‬فإذا كان القرآن ينفي أن يكون للظالمين حميم أو‬ ‫َ‬
‫شفيع‪ ،‬فبذلك تنقطع العلقة‪ ,‬و لو كانوا أبناء النبيين ‪ ،‬و إذا كان القرآن ينفي أن يكون لهم شفيع يطاع ‪ ،‬فأين‬
‫الشفاعة التي يدعيها المدعون من قومنا؟!! ‪ ،‬و أثبتها أولئك مراغمة بصريح القرآن في نفيه لها !!‪ ،‬و جاءوا‬
‫بتقول من عند أنفسهم ‪ ,‬ما أنزل ال به من سلطان ‪ ،‬و خلقوا لهم شفاعة تقولوها على الملك المنّان ‪ ،‬و مصادمة‬
‫عتِي َلهْلِ ال َكبَائِر ِمنْ ُأمْتِي " (‪ )8‬و ل نجاة لصاحب كبيرة إل بتوبة‬‫ستْ شَفَا َ‬
‫لسيد الكرم الذي يقول‪ " -:‬لَ ْي َ‬
‫الصادقة‪ ,‬و الطاعة ل عز و جل ‪ ،‬و ال أغنى الغنياء عن الشرك ‪ ،‬و ل شك أنه أي ما أشرك فيه غيره فهو‬
‫عدَ الظالمين بالعذاب الليم ‪ ،‬و حكم لهم بأقسى ما يعلن من‬ ‫غني عنه ‪ ،‬بل و عن كل شيء ‪ ،‬و ل شك أنه تَ ّو ّ‬
‫الحكام في هذه البرية و ال خير الحاكمين ‪ ،‬فكم هدد القرآن الظالمين مطلقاً ‪ ،‬و لم يخص ظالماً من ظالم ‪ ،‬فإن‬
‫الظلم كله متوعد عليه من إله السماء ولرض ‪.‬‬

‫و كذلك السنة النبوية جاء فيها النص الصريح و الحكم الصحيح الذي يقضي على كل ظالم بالهلك ‪ ،‬قال رسول‬
‫ال – صلى ال عليه و سلم و آله – " اتقوا الظلم ‪ ،‬فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ‪ ،‬واتقوا الشح ‪ ،‬فإن الشح‬
‫أهلك من كان قبلكم ‪ ،‬و حملهم على أن [‪ ]148‬سفكوا دمائهم و استحلوا محارمهم " ‪ ،‬و قال أيضا – صلى ال‬
‫عليه و آله وسلم – " اتقوا دعوة المظلوم فإنها ليس لها عن ال حجاب " و ل يكون المظلوم مظلوماً إل إذا كان‬
‫له ظالم ‪ ،‬فإن دعوة المظلوم تحل على الظالم ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و إن الظلم سواء كان في الحال أو المال ‪ ،‬و سواء كان في عرض ‪ ،‬أو خلق ‪ ،‬أو أي حق من حقوق النسانية‬
‫فهو حرام ‪ ،‬ل يرضاه ال عز و جل مهما كان ‪ ،‬و قد بعث ال النبياء لرد الظلم عن مجاريه ‪ ،‬و كلّف ال العباد‬
‫التكليف ‪ ،‬و فرض قتال من زاغ عن الحق ‪ ،‬فإنه ظلم ‪ ،‬و إن الظلم هو البوار ‪ ،‬و هو داعية الدمار ‪ ،‬و به تهلك‬
‫الديار ‪ ،‬و تنقص العمار ‪ ،‬و ينقطع الغيث المدرار ‪ ،‬و يشتد به على العباد الضيق الشديد ‪ ،‬و ترفع به البركات‬
‫إجماعاً ‪.‬‬

‫فأي خير يكون من الظالم ‪ ،‬و هل جهنم إل لهل الظلم ‪ ،‬و هل حارب الشارع إل المظالم ‪ ،‬و قال رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و سلم – " اتقوا دعوة المظلوم ‪ ،‬فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة " ‪ " ،‬اتقوا دعوة المظلوم‬
‫و إن كان كافراً ‪ ،‬فإنها ليس لها دون ال حجاب " ‪ ،‬اليات_و_الحاديث" اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على‬
‫الغمام يقول ال ‪ :‬وعزتي و جللي لنصرنك و لو بعد حين " هذا حال الظلم ‪ ،‬و غضب ال عليه ‪.‬‬

‫وعليه متى يكون الظالم مرضي عند ال عز و جل‪ ،‬و هذا مقام نبيه صلى ال عليه و سلم فيه ‪ ،‬فهل تعقل شفاعة‬
‫الرسول – صلى ال عليه و سلم – لمن هذا حاله ‪ ،‬حاشا وكل ‪ ،‬ل يرضى ال أهل الظلم و ل ينالون رحمته ‪،‬‬
‫حتى يتوبوا ‪ ،‬فإذا تابوا فال يقبل توبة عبده ‪]149[.‬‬

‫و انظر قوله " إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِن ُذرّيّتِي قَالَ لَ يَنَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " (‪ )9‬أل تفهم منه غضب‬
‫ال عز و جل على الظالمين بحيث نفى عنهم قومهم ‪ ،‬سواء كانت إمامة أو نبوة ‪ ،‬و المراد به عهد خير ‪ ،‬فأين‬
‫شفاعة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – للظالم على هذا الحال ‪ ،‬و قد ورد في الظالم من النص القرآني‬
‫ما ل يحتمل أي تأويل و ل يقبل أي قيل ‪.‬‬

‫فالباضية ضد كل ظالم ‪ ،‬و لذلك تراهم ينصبّون الئمة لقصد رد الظلم عن مجاريه ‪ ،‬التي ل يرضها ال عز و جل‬
‫‪ ،‬و يحكمون بتغريق أموال الظلمة في كل جيل منذ عهد الصحابة إلى عهدنا هذا ‪ ،‬و ليس لغير الباضية هذا‬
‫الحال ‪ ،‬و ل تحدث عنه التاريخ في أمة من أمم السلم بعد الصحابة الكرام كما في أيام عمر بن الخطاب –‬
‫رضي ال عنه ‪ ، -‬و سيأتي لهذا المقام مزيد بحث إن شاء ال ‪.‬‬

‫و قد ثبت عند علماء الحديث قوله – عليه الصلة والسلم – " قتال المسلم أخاه كفر ‪ ،‬وسبابه فسوق " و في‬
‫الجامع الصغير من حديث سعد " قتال المسلم كفر ‪ ،‬وسبابه فسوق ‪ ،‬و ل يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلثة‬
‫أيام " ‪ ،‬فتراه أثبت الكفر في قتال المسلم ‪ ،‬و جعل سبابه فسوقاً أي خروجا من الدين ‪ ،‬و منع هجره فوق ثلثة‬
‫أيام ‪ ،‬و في حديث " ثلث ليال " ‪ ،‬ففيه رد على قومنا من ثلث جهات ‪ ،‬وقوله فوق ثلث فالصحيح ل مفهوم‬
‫للعدد فل يحل لحد أن يهجر أخاه يوماً واحداً ما لم يكن في طاعة ال عز و جل ‪ ]150[ ،‬فهذا في هجره ‪ ،‬فكيف‬
‫بقتله ‪.‬‬
‫================================‬
‫(‪ )1‬البقرة ‪. 124 :‬‬
‫(‪ )2‬غافر ‪. 18 :‬‬
‫(‪ )3‬آل عمران ‪. 57 :‬‬
‫(‪ )4‬آل عمران ‪.192 :‬‬
‫(‪ )5‬هود ‪. 113 :‬‬
‫(‪ )6‬القلم ‪. 36-35 :‬‬
‫(‪ )7‬غافر ‪. 18 :‬‬
‫(‪ )8‬رواه جابر بن زيد مرسلً‪,‬انظر مسند المام الربيع الجزء الرابع ‪,‬ص ‪379‬رقم ‪.1004‬‬
‫(‪ )9‬البقرة ‪. 124 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و قتال المسلمين من النصار و المهاجرين ل يعيره قومنا أذن واعية ‪ ،‬وقد علموا أنّ معاوية بن أبي سفيان‬
‫خرج على علي بن أبي طالب المام التي ثبتت إمامته بإجماع المسلمين ‪ ،‬وسفك دماء البرياء من المؤمنين ‪ ،‬و‬
‫إذا مرت هذه الحوال على علماء قومنا قالوا تلك أمور اجتهادية ‪ ،‬و لم يعيروها أدنى شيء كأنّها لم تكن شيئاً‬
‫مذكوراً ‪ ،‬و يذكرون أنه دس على الحس بن علي بن أبي طالب امرأته لتسقيه السم على أن يتزوجها ابنه يزيد ‪،‬‬
‫و يسوق إليها مالً يغنيها و عشيرتها ففعلت ولم يوف بشيء و هذا كله مغتفر عند قومنا ‪ ،‬و ل يتبرمون منه ‪،‬‬
‫بل يُسوّغونه بدعوى الجتهاد ‪ ،‬فيتولون القاتل و يرضون عنه ‪.‬‬

‫وقتال معاوية يرتكز على طلب الملك ل لشيء آخر أبداً ‪ ،‬و قد قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لعمار‬
‫بن ياسر – رضي ال عنه – " تقتلك الفئة الباغية " ‪ ،‬فسماهم بغاة ‪ ،‬و لم يسمهم مجتهدين ‪ ،‬ألمثل هؤلء‬
‫يرتضي ال لهم و يرضى عنهم ‪ ،‬و هذه أفعالهم ؟؟! ‪.‬‬

‫و لعله من حيث كونه صحابياً ‪ ،‬فمعني الصحابية ل يغني إل مع الستقامة في الدين ‪ ،‬أل تسمع لقول ال لنبيه –‬
‫يءٌ " (‪ )1‬فأين معنى الصحابية إل مع الطاعة وحسن المتثال ‪،‬‬ ‫عليه الصلة والسلم – " لَ ْيسَ َلكَ ِمنَ ا َل ْمرِ شَ ْ‬
‫وقد أمر ال عز وعل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – أن ينذر عشيرته القربين ‪ ،‬وهم صحابة ‪ ،‬وفوق‬
‫معنى الصحابية القرابة ‪ ،‬و خص بإنذارهم حتى ل يحيك بأذهانهم معنى القرابة ‪ ،‬فيعتقدون لها مزية خاصة ‪ ،‬قال‬
‫عشِيرَ َتكَ ا َلْ ْقرَبِينَ " (‪ )2‬أي خصهم بالنذار علناً بعد النذار العام لعموم‬
‫ال تعالى [‪ ]151‬له ‪َ " :‬وأَن ِذرْ َ‬
‫المسلمين ‪ ،‬فهم ومن إليهم من أخصائه الحبين حتى ابنته فاطمة الزهراء يقول لها ‪ " :‬سليني عن مالي ما شئت‬
‫‪ ،‬ل أغني عنك من ال شيئاً " ‪.‬‬

‫و انظر ما معنى النذار مع كون عشيرته القربين صحابة السيد المين فقد جمعوا السلم و الصحبة و القرابة ‪،‬‬
‫و لم يكف ذلك من إنذارهم خصيصاً لئل يظنوا أنهم أقرب من غيرهم عند ال ‪ ،‬فتبين أنه ل قرب إل بالحق ‪ ،‬و ل‬
‫بعد إل بالباطل ‪.‬‬

‫وهل أصحابه – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬إل الموفون بدينهم الثابتون على دعائم الستقامة ‪ ،‬و أعمدة العدالة ‪ ،‬و‬
‫اللتزام الحق ‪ ،‬أيكفي أن يكون النسان من الصحابة جار أو عدل ‪ ،‬ل سيما من ظهر منه ارتكاب ما حرم ال من‬
‫خداع المؤمنين و خيانتهم ‪ ،‬و الغدر بهم ‪ ،‬و أن يبدل أحكام ال كما يهوى ‪ ،‬و يفعل في عباد ال ما شاءت له‬
‫الهواء ‪ ،‬أيكفي أن يكون الرجل صحابيا آمن بالرسول – صلى ال عليه و سلم – خان أم عدل ؟؟!‪.‬‬

‫لو كان المر كذلك فلِمَ يقطع رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – اليادي ‪ ،‬و يضرب العناق ‪ ،‬و يرجم‬
‫الزناة المحصنين ‪ ،‬و يأخذ على أيدي المجرمين‪ ،‬و أكثر هؤلء داخلون في عموم الصحاب ‪ ،‬وقد أسلموا على‬
‫يدي رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪. -‬‬

‫و كذلك قاتل أبو بكر – رضي ال عنه ‪ -‬مانعي الزكاة و لم يكفهم إيمانهم و رؤيتهم لرسول ال – صلى ال عليه‬
‫و سلم – [‪ ، ]152‬إن كان معنى الصحابي من أسلم علي الرسول – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬و رآه و جلس‬
‫معه ‪ ،‬و كذلك أفعال عمر ‪ ،‬و لم يقول إنّ المجرمين صحابة ل تبعة عليهم و ل مسئولية على ذلك ‪ ،‬و أفعال‬
‫هؤلء المحدثين في السلم أعظم من أفعال من ذكرنا ‪ ،‬فإن هؤلء قتلوا أخيار الصحابة و أتقياءهم كعمار بن‬
‫ياسر و أمثاله ‪ ،‬و عبدال بن وهب الراسبي و أضرابه ‪ ،‬و أمثال حرقوص بن زهير السعدي ‪ ،‬و زيد بن حصين‬
‫الطائي في أمثالهم من البررة المؤمنين ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫ول ريب فإنّ قومنا يقلبون الحقائق ‪ ،‬و يرضون بالقشر دون اللب ‪ ،‬و إليك مثال من ذلك لتعتبر به ‪ (( ،‬جاء‬
‫امرأة إلى عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها‪ -‬تسألها قائلة له ‪ :‬أتجزي أحدنا صلتها إذا طهرت ؟‪ ،‬و ذلك أنها‬
‫رأت الحائض و النفساء تترك الصلة في ذلك الحال ‪ ،‬فسئلت أتكون صلتها بعد طهرها كافية أم تجب عليها‬
‫إعادة الصلة أو تكفيرها كما يجب عليها قضاء رمضان في ذلك الحال ‪ ،‬فاستنكرت عائشة –رضي ال عنها –‬
‫هذا السؤال لما يرشح فيه من الهتمام بأمر الدين والعتناء به ‪ ،‬وقال لها عائشة – رضي ال عنها‪ -‬أحرورية‬
‫أنتِ ؟ )) قال الشارح في معنى الحرورية ‪ :‬جماعة من الخوارج نزلوا قرية حروراء ‪ ،‬قال وقولها أحرورية‬
‫أنتِ ؟ تريد أنها خالفت السنة ‪ ،‬و خرجت عن الجماعة كخروج أولئك عن جماعة المسلمين [‪ . ]153‬اهــ‬

‫و عائشة – رضي ال عنها – حاشاها أن تقول أو تريد أن الحرورية خالفت السنة ‪ ،‬بل عرفت رسوخ قدم‬
‫الحرورية في الدين ‪ ،‬و فهمت من هذه المسألة تأسفها على ضياع دينها أيام نفاسها أو حيضها من حيث أن‬
‫الحائض تدع الصلة أيام حيضها ‪ ،‬فاستفهمت عن ذلك أيكون كافياً ‪ ،‬ول تبعة عليها ‪ ،‬فاستغربت أم المؤمنين –‬
‫رضي ال عنها – إل من الحرورية لشدتهم في دينهم ‪ ،‬إذ هم خيار الصحابة – رضوان ال عليهم – ‪ ،‬فكيف‬
‫يوصفون بمخالفة السنة ‪ ،‬وهل يصح أن يوصف خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ -‬بمخالفة‬
‫السنة ؟؟ أليس الواصف لهم بذلك مخالف للسنة ؟؟! بشهادة رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و قد ذكر‬
‫القضية في الجزء الثالث من " تيسير الوصول الجامع للصول " تأليف عبد الرحمن بن علي المعروف بـ " ابن‬
‫الديبع " الشيباني الزبيدي الشافعي ‪.‬‬

‫فانظروا معاشر المسلمين ‪ ،‬على القل أما كان الولى حمل القضية على الوجه اللئق بها ‪ ،‬من حملها على‬
‫مخالفة السنة ‪ ،‬و رمي خيار المة بمثل هذا اللمز الذي يتألم منه من كان في قلبه ذرة من إيمان ‪ ،‬و لكن قومنا‬
‫تجاسروا على مثل هذا الحال‪ ،‬و ضللوا من شاءوا و لو كان محقاً ‪ ،‬و أيدوا من شاءوا ولو كان مبطلً ‪،‬وعلىذلك‬
‫تحقق أن الغاية من هذا الهوى المطاع ‪ ،‬وال على لسان كل ناطق ‪ ،‬و هو ولي التوفيق ‪]154[.‬‬
‫==================‬

‫(‪ )1‬آل عمران ‪. 128 :‬‬


‫(‪ )2‬الشعراء ‪. 214 :‬‬

‫[ المقام الخامس ]‬

‫طاعة الجبابرة تمنع من سلوك طريق الخرة‬

‫هذا العنوان يدل على أنّ الشارح يرى أنّ طاعة الجبابرة ضلل ‪ ،‬والضلل ينافي الحق ‪ ،‬و أمراء الظلم بلء على‬
‫المة ‪ ،‬إن أطاعتهم أضرت بدينها ‪ ،‬و إن خالفتهم أضرت بدنياها ‪ ،‬وهما أمران أحلهما مر ‪ ،‬قال – رحمه ال–‬
‫‪:‬‬

‫[الشرح ]‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫اعلم أنّ أمراء الظلم ‪ ،‬و زعماء الضلل ‪ ،‬و ملوك الغطرسة ‪ ،‬و قادة الكفر الذين سيطروا على المة بعسفهم ‪ ،‬و‬
‫يتملكون المور بغشمهم ‪ ،‬و ل يراعون واجب الحق ‪ ،‬و ل يعرفوا ما يحل و ما يحرم ‪ ،‬ملئت الغطرسة قلوبهم ‪،‬‬
‫و شمخت بالكبر أنوفهم ‪ ،‬فهم الذين ل يبالون بأوامر ال مهما كانت ‪ ،‬كمثل الحجاج و أضرابه ‪ ،‬و معاوية‬
‫وأترابه ‪ ،‬و عبدالملك بن مروان ‪ ،‬و السفاح وأمثالهم ‪ ،‬و كسرى وقيصر ‪ ،‬و الجلندى الذي يأخذ كل سفينة‬
‫غصبا ‪ ،‬و التبابعة و قوادهم ممن يتسمون باسم الملوك ‪ ،‬و يصفون أنفسهم بالعدالة ‪ ،‬و هم بعيدون منها بعداً‬
‫محسوساً ومعقولً ‪ ،‬وإن ادعوا ‪ ،‬و الدعاوى ما لم [‪ ]155‬تقيموا عليها بينات ‪ ،‬أبناؤها أدعياء ‪.‬‬

‫و عند هذا الحال قال علماء قومنا بوجوب طاعة هؤلء المراء الذين هذه صفتهم ‪ ،‬و ل يجوز الخروج عليهم ‪،‬‬
‫و ل العتراض ‪ ،‬متعلقين بحديث " إن أحسنوا فعليكم الشكر ‪ ،‬و إن أساءوا فعليكم الصبر " و لم يقل بهذا‬
‫صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – فيمن قام بواجب الدين ‪ ،‬وفتح الفتوح ‪ ،‬و أجل قدر السلم ‪ ،‬الذي‬
‫عنده على القل ديانة وشريعة ‪ ،‬ويبيت على محرابه متعبداً ‪ ،‬حين انحرف عن الخطة الشرعية في بعض‬
‫المواد ‪ ،‬تنادوا عليه من شرق البلد و غربها ‪ ،‬حتى حصروه في بيته ‪ ،‬وقتلوه بين ظهراني المة ‪ ،‬و لم يقولوا‬
‫كما يقول قومنا ‪ ،‬اللهم إل إذا كانوا ل يرون لهم ذلك ‪ ،‬و لكنهم كانوا هم الحجة في الدين ‪ ،‬و لذا لم يعارضهم في‬
‫ذلك معارض ‪ ،‬و ل قام ضدهم قائم من المسلمين ‪ ،‬و الحاديث التي جاءت من وراءهم ل يلتفت إليها ‪.‬‬

‫و لما قالوا تلك المقالة نطيعهم حد الطاعة ‪ ،‬و ل نرى الخروج عليهم لحاديث يروونها فيهم ‪ ،‬تجاسر أولئك‬
‫العتاة الظلمة ‪ ،‬و حكموا أهواءهم ‪ ،‬و تحكموا فيما يشتهون حيث لم يروا لهم معارضاً ‪ ،‬و ل لعمالهم معترضاً ‪،‬‬
‫حرُم الدين مهتوكة ‪ ،‬و حقوق الدين غير منظور إليها ‪ ،‬و ل قيمة لهلها ‪ ،‬و ل‬
‫فتركوا حدود ال مضاعة ‪ ،‬و ُ‬
‫رعاية لواجباتها مطلقاً ‪]156[.‬‬

‫و اعلم أنّا قدمنا فيما سبق أنّ أمراء الظلم كل من تولى أمراً من أمر المسلمين ‪ ،‬ولم يسر فيه سيرة المؤمنين ‪،‬‬
‫و ل نهج به مناهج الخلفاء الراشدين ‪ ،‬و أول من سار في المسلمين بسيرة الجورة الظالمين بنوا أمية ‪ ،‬و أولهم‬
‫عثمان بن عفان حيث وله المسلمون على أمرهم ‪ ،‬و حكموه على أنفسهم ‪ ،‬و قاموا معه قيامهم مع صاحبيه ‪،‬‬
‫حتى غير ‪ ،‬و بدل ‪ ،‬و كان عليه من المسلمين ما علم ‪.‬‬

‫ثم معاوية بن أبي سفيان حيث خرج على المام باغياً ‪ ،‬و كان علي بن أبي طالب إماماً ثبت إمامته بإجماع‬
‫المسلمين ‪ ،‬و ما عدّ عليه شيء يخالف الحق ‪ ،‬و لو عدوا عليه شيئاً لقاموا عليه بالنكار وناقشوه ‪ ،‬حتى وقع‬
‫فيما وقع فيه من التحكيم فخرجوا عنه ‪ ،‬و دار بينه و بينهم ما دار من النقاش و الحوار ‪ ،‬فخرج معاوية على‬
‫المام الحق علي بن أبي طالب الذي قام بأمر المسلمين المجتمع على بيعته ‪ ،‬المتفق على إمامته ‪ ،‬فشق معه‬
‫عصى الطاعة ‪ ،‬و قام عليه بخيله و رجله ‪ ،‬و خرج عليه خروج باغٍ على محق ‪ ،‬فكان من أمره ما كان يعرفه‬
‫كل أحد ‪.‬‬

‫و هو الذي سنّ سنة الخروج على أئمة العدل ‪ ،‬كان أميراً على الشام بأمر المام ‪ ،‬و لما رأى علي بن أبي طالب‬
‫غير تاركه على وليته ‪ ،‬لما يلحظه من عدم استقامته ‪ ،‬و تحقق أنّه معزول ل محالة تحيز إلى الحيل و المكائد ‪،‬‬
‫التي يتركز بها في مقامه ‪ ،‬و كان طموحاً إلى الملك يحاوله بكل المستطاع ‪ ،‬حتى إذا ذاق حلوة المارة الصغرى‬
‫حاول ما فوقها ‪ ]157[،‬و عندما تحقق من علي المام أنّه مخلوع بباطله ‪ ،‬و إن الحق ل يقبله و ل يرتضيه ‪،‬‬
‫غالط من وجد من بسطاء المسلمين ‪ ،‬و خادع المؤمنين ‪ ،‬و تألب على المام ليركز إمارته ‪ ،‬و يتركز في المة‬
‫بقوة سلطانه ‪ ،‬و سطوة السنان ‪ ،‬فسفكت الدماء بذلك ‪ ،‬و انزهقت أرواح ‪ ،‬فعلى مَن إثم تلك الدماء التي سالت‬
‫أودية بقدرها ‪ ،‬و على من جزاء تلك الجرائم الهائلة ‪ ،‬التي مزقت الدين ‪ ،‬وفرقت أمر المسلمين ‪ ،‬و الحق فيها‬
‫واضح ‪ ،‬و المر بين ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ثم تتابع خلفاء بني أمية كل واحد أضلّ عن الول الذي قبله ‪ ،‬إل ما كان من أمر عمر بن عبد العزيز – رحمه‬
‫ال‪. -‬‬

‫فهم أول من أفسد الدين ‪ ،‬و عثمان كرسي زعامتهم ‪ ،‬فتبعوه يطيرون بتلك الجنحة ‪ ،‬و يبطشون بتلك اليدي‬
‫الثيمة ‪ ،‬ل أطال ال باعها ‪.‬‬

‫ولو مشت على منهاج العدالة ‪ ،‬وأخذت بيد المساواة ‪ ،‬و لم تغلب عليها الشهوات لم يتسلط عليهم أحد من الناس‬
‫‪ ،‬فإن ال مع الحق أين كان ‪َ " ،‬ولَـكِن لّ َي ْقضِيَ الّ َأمْراً كَانَ مَ ْفعُولً " (‪ ، )1‬وتتابعوا على ذلك خليفة إثر خليفة ‪،‬‬
‫و أميراً إثر أمير ‪ ،‬و الكل بغاة عتاة خلعوا سربال الحق ‪ ،‬و رفضوا دعوة الدين ‪ ،‬حتى انقضت أيامهم المظلمة‬
‫بجورهم ‪.‬‬

‫ثمّ خلفهم بنو العباس بن عبد المطلب الهاشمي ‪ ،‬ذراري البحر ‪ ،‬حبر المة ‪ ،‬و ترجمان القرآن ‪ ،‬إمام العلماء ‪ ،‬و‬
‫سيد النجباء ‪ ،‬و عمدة أهل اليمان في الدين ‪ ،‬و ابن عم النبي – صلى ال عليه و سلم ‪- -‬رضي ال [‪]158‬‬
‫عنهما – ‪.‬‬

‫تبعوا بني أمية ‪ ,‬ساروا بسيرتهم الجائرة ‪ ،‬وأخذوا مأخذهم ‪ ،‬ففضلوا أن يكونوا ملوك تستعبدهم شهواتهم ‪ ،‬و‬
‫تمتلكهم لذاتهم ‪ ،‬تمذهبوا بمذهب كسرى و قيصر ‪ ،‬ولم يتمذهبوا بمذهب أبي بكر الصديق ‪ ،‬و ل بمذهب عمر‬
‫الفاروق ‪ ،‬لنّ هذين و مَن ذهب مذهبهما بعيدون عن الرفاهة ‪ ،‬والترف ‪ ،‬و عن الخلعة و السفاهة ‪ ،‬فكان‬
‫كسرى وقيصر يخافانهما ‪ ،‬ويرهبان من ذكر اسميهما ‪ ،‬و من جاء بعدهما ‪ ،‬و تحكمت عليه الهواء ‪ ،‬و لعبت به‬
‫الشهوات أصبح يجذب من على كرسيه إلى الرض و هو يقول خليفة المسلمين ‪ ،‬حتى انتهى المر إلى غير‬
‫شيء يذكر ‪.‬‬

‫فكم وقع في بني العباس من المخازي التي يسود منها وجه التاريخ ‪ ،‬اختاروا أن يكونوا ملوكاً يتفاخرون‬
‫بالشهوات ‪ ،‬و يتسارعون إلى معاقرة اللذات ‪،‬ل يبالون بما يلقون ‪ ،‬و ل يتحرجون مما يفعلون ‪ ،‬حتى اسود وجه‬
‫الحق بظلمهم ‪ ،‬و فر داعي الرشاد من أرضهم ‪ ،‬و جمح بهم شيطان الهوى عن سيرة المسلمين‪ ،‬غير آخذين من‬
‫إيمان العباس بحبل متين‪ ،‬و ل مهتدين بهدى عبدال الحبر المين ‪ ،‬الب الثاني – رضي ال عنهما ‪. -‬‬

‫ففتحوا ما فتحوا متفاخرين ‪ ،‬و فعلوا ما فعلوا مبطلين ‪ ،‬و الحق يدعوهم إلى خلع كبرياءهم ‪ ،‬و العدل يناديهم إلى‬
‫إتباع نهج آبائهم ‪ ،‬لم يحترموا الرسول في أحكامه ‪ ،‬وهم يفتخرون برسالته ‪ ،‬و يحسبون أنهم في مقامه ‪ ،‬إن‬
‫الرسول – عليه[‪ ]159‬الصلة والسلم – ينعى عليهم حالهم هذا ‪ ،‬و هم تائهون في غمرات البطر ‪ ،‬و ل يدرون‬
‫أنهم من جملة من كفر ‪ ،‬يدعون السلم وهو منهم بريء ‪،‬و يتظاهرون بالنصاف في الحكام ‪ ،‬و هي على غير‬
‫القوي ‪ ،‬دبّ فيهم داء المم قبلهم ‪ ،‬كما قال عنهم الهمام الولي أبو حمزة الرضي " تقوم القينات على رؤوسهم‪،‬‬
‫و تدار الكؤوس على موائدهم ‪ ،‬و تشرب الخمور بحضراتهم ‪ ،‬وتداس حدود ال على فرشهم ‪ ،‬يقرأون القرآن و‬
‫هو يلعنهم ‪ ،‬و تقام الجمعات و هم لهون في شهواتهم " فهم مشابهون للملوك الكاسرة العتاة ‪ ،‬و مقلدون‬
‫للقياصرة الطغاة ‪ ،‬ل يهتمون بدين ‪ ،‬و ل يراعون أوامر رب العالمين ‪.‬‬

‫أمثل هؤلء الذين يرجى منهم تأيد الحق ؟! أو يؤمل منهم نصرة الدين ؟! إنا ل و إنا إليه راجعون ‪.‬‬

‫تسلطوا على أمور المسلمين فتولوها ‪ ،‬و تملكوا زمام السلطات رغم أهل التقوى ‪ ،‬و على ذلك قال أتباعهم‬
‫بوجوب طاعتهم ‪ ،‬و بذلك راجت بضاعتهم ‪ ،‬فترفعوا عن الخلق ‪ ،‬و تعاظموا على أهل الحق ‪ ،‬و نزلوا أنفسهم‬
‫بمنزلة اللوهية ‪ ،‬و جعلوا المة في حضيض الستعباد ‪ ،‬فأفسدوا الدين ‪ ،‬وداسوا حقوق المسلمين‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و هل أفسد الدين إل الملوك الجورة ‪ ،‬و أحبار السوء ‪ ،‬و أهل الهواء المضلة ‪ ،‬و رهبان الضلل الذين ل‬
‫يراعون حقوق [‪ ]160‬الدين ‪ ،‬كما تعاون معهم على جورهم الذين يقولون أنّهم علماء ‪.‬‬

‫و الواقع أنّ العلماء هم الذين يخشون ال عز و عل ‪ ،‬ويراعون حقوقه بين المل ‪ ،‬كما هم كذلك عند الخلء "‬
‫خشَى الَّ ِمنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعُ َلمَاء " (‪ )2‬و إذا كانوا كذلك فتراهم يتألمون على هتك حرم ال عز وعل تألم السليم‬
‫إِ ّنمَا يَ ْ‬
‫‪ ،‬و يبكون على ذلك بكاء السقيم ‪ ،‬الذي ل يرى له نجاة من العذاب الليم ‪.‬‬

‫ولما قال هؤلء العلماء بوجوب طاعة الزعماء جاروا أم عدلوا ‪ ،‬و ل يصح الخروج عليهم ‪ ،‬كانوا يفعلون ما‬
‫شاء لهم هواهم أينما كانوا ‪ ،‬و كيف كانوا ‪ ،‬آمنين من النتقاد لفعالهم ‪ ،‬فضلً عن الرد لعمالهم ‪ ،‬فتعطلت بذلك‬
‫أحكام الشريعة ‪ ،‬و ضاعت الحدود بين ظهراني المة ‪ ،‬فلم يبق من الدين إل اسمه ‪ ،‬و ل من العدل إل رسمه ‪ ،‬و‬
‫أعرضوا عن أوامر القرآن ‪ ،‬و تركوا واجب السنة الزهراء التي جاء بها سيد آل عدنان ‪ ،‬و لم يعد لقوله صلى‬
‫ال عليه و سلم جدوا ‪ ،‬حيث قال " تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا " أو كما قال – عليه الصلة و السلم –‬
‫في أحاديث يطول ذكرها ‪ ،‬و لم يبقى للمر بقتال الباغي في الدين أثر ‪ ،‬و ل لمنتهك الحرم في السلم حرج يعتبر‬
‫‪.‬‬

‫وقد جاء القرآن بالدلة النيرة الجلية ‪ ،‬قائل لنا " َولَ َترْ َكنُواْ إِلَى اّلذِينَ [‪ ]161‬ظَ َلمُواْ فَ َت َمسّكُمُ النّارُ " (‪ )3‬و أي‬
‫ركون أعظم من القول بوجوب طاعة الجبار الظالم ‪ ،‬و قال " فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " (‪ )4‬أي‬
‫ترجع إلى حكمه عز و جل طائعة خاضعة ‪ ،‬و لما قال ال عز و جل لنبيه " إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِن‬
‫ُذرّيّتِي " أجيب بقوله " لَ يَنَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ " (‪ ، )5‬وقوله – عليه الصلة والسلم – " ل طاعة لمخلوق في‬
‫معصية الخالق " قال مخالفونا طاعتهم واجبه إل في نفس ذلك الشيء المحرم بعينه ‪ ،‬و أحسب أنّ بعضهم أطلق‬
‫الوجوب نظراً لوجوب طاعة أولياء المر ‪ ،‬و عندهم أولوا المر هم الذين تسلطوا على المر بالقهر ‪ ،‬كما ذكره‬
‫الكثير منهم ‪.‬‬

‫و ل يقول عاقل بوجوب طاعة الظالم ‪ ،‬وقد أمر ال بقتال الظلمة ‪ ،‬و رد أعمالهم ‪ ،‬لحديث " كل شيء ليس عليه‬
‫أمرنا فهو رد " ‪ ،‬و ليس أمر محمد – صلى ال عليه و سلم و آله – على شيء من أمر الظلمة ‪ ،‬وقد أبطل ال‬
‫أحكامهم إل عند العجز عنهم ‪ ،‬و تعين التقية لهم ‪ ،‬و الدلة و العقلية و النقلية تنعى عليهم أقوالهم ‪ ،‬و ترد‬
‫عليهم أعمالهم ‪ ،‬و مع ذلك هم مصرون على مفهوم قوله – صلى ال عليه و سلم ‪ " -‬سلطان غشوم خير من‬
‫فتنة تدوم " ‪ ،‬و جعلوا هذا و أمثله معتمدهم ‪ ،‬و ما دروا أنّ معنى ذلك عند العجز عن القيام عليهم ‪ ،‬و ردّ‬
‫أعمالهم عليهم ‪ ،‬ل سيما إذا كانت فتنة تدوم ‪ ،‬و لو كان المر كذلك فعلى أي شيء قاتل المسلمون يوم الجمل‪ ،‬و‬
‫يوم [‪]162‬صفين ‪ ،‬ولم يقولوا بمقتضى ما يقول قومنا ‪ ،‬و علم قاتل أبو بكر – رضي ال عنه ‪ -‬من منع‬
‫الزكاة ‪ ،‬حتى عناقاً كان يؤديها لرسول ال – صلى ال عليه و سلم – فإنّ الزكاة شرعت لصناف غير المام‬
‫ومن المحتمل أن يؤدوها إلى أهلها ‪.‬‬
‫========================‬
‫(‪ )1‬النفال ‪. 42 :‬‬
‫(‪ )2‬فاطر‪. 28 :‬‬
‫(‪ )3‬هود ‪. 113 :‬‬
‫(‪ )4‬الحجرات ‪. 9 :‬‬
‫(‪ )5‬البقرة ‪. 124 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و اعلم أنّه لما أفتى العلماء بوجوب طاعة الملوك جاروا أم عدلوا ‪ ،‬و لم يروا القيام عليهم ‪ ،‬و ل على تارك حكم‬
‫ال منهم ‪ ،‬انهدت الحكام من أسسها ‪ ،‬و تبعثرت من قواعدها ‪ ،‬و انهارت أركان السلم ‪ ،‬و تعطلت حدوده‬
‫الشرعية ‪ ،‬التي توعد ال عز وعل على عدم إقامتها في كتابه العزيز ‪.‬‬

‫وعلى أي شيء قاتل المسلمون عثمان بن عثمان ‪ ،‬مع أنّه لم يفعل كفعل من جاء بعده ‪ ،‬بل ضيع بعض الحقوق‬
‫وغيّر بعض الحوال ‪ ،‬و بدل بعض الحكام ‪ ،‬فما كان من المسلمين إل القيام عليه ليرجع عن تلك الحوال حتى‬
‫حصروا في مدينة الرسول – عليه و آله الصلة و السلم – فكان منهم القائم عليه جهاراً ‪ ،‬و منهم الراضي بذلك‬
‫‪ ،‬و منهم الساكت حتى قضوا عليه ‪ ،‬و هو خيار الصحابة الذين مدحهم القرآن الكريم ‪ ،‬و أثنى عليهم في آياته‬
‫الشاهرة الظاهرة ‪ ،‬و هم النصار و المهاجرون ‪ ،‬و لم يقولوا بوجوب طاعته ولو جار ‪ ،‬بل لما رأوه جار قاموا‬
‫عليه غضباً ل ‪ ،‬وقيام بحقوقه تعالى ‪ ،‬و رداً لعماله المخالفة لعمال أهل الحق قبله‪.‬‬

‫و لقد نعى العلماء على الزهري دخوله على الملوك فاعتذر بأعذار [‪ ]163‬ل يردها العقل ‪ ،‬هذا في نفس الدخول‬
‫عليهم فقط ‪ ،‬و لما تمكنت الملكية من قلوب المتسمين بالسلم القائلين بوجوب طاعة المام الجائر مهما كان ‪ ،‬و‬
‫تمكن التسخير من نفوس الضعفاء ‪ ،‬ومن القائلين بتلك المقالة الواهية ‪ ،‬وعلم الترفع للمراء على المأمورين ‪،‬‬
‫فكان البون البعيد بين الفريقين ‪ ،‬سهل ترك النكير على الظلمة ‪ ،‬و هان النفور و الغضب من أهل الباطل ‪ ،‬و‬
‫وهت الشريعة الزهراء في حضيض الظلم ‪ ،‬ميادين التسخير ‪.‬‬

‫و العقيدة قاضية على العقول بأنّ ما يفعله الملوك ل يعارضون عليه مهما كان‪ ،‬و ل يعترض عليهم حيث هم‬
‫أولياء المر ‪ ،‬فنهدت أركان السلم ‪ ،‬و انهارت قواعد الحكام ‪ ،‬و تبدل الحلل بالحرام ‪ ،‬و اختلط الحق بالباطل‬
‫فشاع بين النام‪.‬‬

‫لذلك لم يهدأ روع الباضية إل تحت ظلل السيوف ‪ ،‬فتجردوا ل مصارعين لجنود الباطل ‪ ،‬فنصبوا الئمة حيث‬
‫وجدوا لهم طريقاً ‪ ،‬و ما أخبر التاريخ عنهم بسوأة واحدة مهما كانت صغيرة أو كبيرة في حروبهم المشهورة ‪،‬‬
‫بل حدث التاريخ على اختلف مؤلفيه ‪ ،‬و تباين منازعهم و مذاهبهم ‪ ،‬بنزاهتهم في حروبهم ‪ ،‬و تلك من أزهر‬
‫مناقبهم التاريخية في عهود إمامتهم المرضية ‪ ،‬خلف أيام الجور و الغطرسة أهل البغي ‪ ،‬فإنّ أئمة الباضية‬
‫مثال للنزاهة و حسن المعاملة لسائر فرق السلم من كانوا ‪ ،‬و أين كانوا ‪ ،‬فإنّهم يقومون ل ل لدولة ‪ ،‬و ل‬
‫لغرض دنيوي‪ ]164[،‬و معرة الجيوش و غطرستها معروفة مشهورة ‪ ،‬فإذا سلمت منها جيوش الباضية ‪،‬‬
‫وعرفت لها فيها النزاهة ‪ ،‬فذلك من أعل مكارمهم ‪ ،‬و أعز خصالهم ‪ ،‬فإنّ أوقات الحرب تكثر فيها المعرات من‬
‫النفوس المتغطرسة ‪ ،‬و شرار الحرب و ضغائنها ‪ ،‬و احتراق أكباد المصابين فيها أمر ل يجهله أحد ‪ ،‬و حتى في‬
‫ذلك يشهد التاريخ للباضية بنزاهة العمال ‪ ،‬وكرم النفوس ‪ ،‬و زمامها بزمام العدل ‪ ،‬و سوقها بعصا النصاف ‪،‬‬
‫فالحمد ل الذي منّ بحسن التوفيق ‪ ،‬وكمال الرعية في المكره و المنشط ‪.‬‬

‫جاء في تاريخ الباضية من النزاهة ما يحق له التسجيل بماء الذهب على صفحات الشمس و القمر ‪ ،‬ثبت أنّ‬
‫الباضية لم يعرف لهم اقتراف أدنى الجرائم في حروبهم ‪ ،‬فاعتبر بما قال أهل العلم فيهم إذ دخلوا المدينة‬
‫المنورة بقيادة الهمام الشاري أبي حمزة كما دخلوا مكة المكرمة ‪ ،‬فهل سجل التاريخ حتى من أعداءهم شيئاً من‬
‫الحوال التي يتنافى معها اليمان في أموال أهل القبلة ‪ ،‬أو في أعراضهم ‪ ،‬و هكذا أحوالهم كلها في كل مكان ؛‬
‫لنّهم يقومون لرفع المظالم و قطع المفاسد ‪.‬‬

‫واعتبر بما قاله المام السالمي – رحمه ال– عنهم في تحفته ‪ ،‬في إمامة المام سعيد بن عبدال بن محمد بن‬
‫محبوب الرحيلى – رحمه اللهو رضي عنه – " قيل هاجم حجرة بنزوى " أي بيوت حصينة ملتفة بعضها ببعض‬
‫مسورة تعرف عند أهل عمان عرفاً عاماً باسم حجرة ‪ ،‬ل على ما [‪ ]165‬يعرفه الخرون من معنى الحجرة " و‬
‫ذلك في حرب يوسف بن وجيه أحد القواد الذين غزوا عمان ‪،‬و سيطروا عليها في أيامهم ‪ ،‬و كان يوسف بن‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وجيه مسيطراً على نزوى إذ ذاك فهجمهم المام بجنوده ‪ ،‬و استفتح الحجرة ‪ ،‬و افتض يوسف بن وجيه فيها ‪ ،‬و‬
‫فر هو ومن ناصره فيها ‪ ،‬و بعد أن وضعت الحرب أوزارها فقد أهل الحجرة حديدة قلعت من رز باب فيها ‪ ،‬لم‬
‫يعرف قالعها بعد خروج الجيش منها ‪ ،‬و ل أهمية لتلك الحديدة بل هي أيسر شيء عادة ‪ ،‬فشكا أهلها إلى المام‬
‫فطلبها حتى ردها لمن أخذاها ‪ ،‬و حبس الخذ عقوبة على أخذه لها ‪.‬‬

‫و كان يوسف بن وجيه جائراً جباراً من غير أهل دعوة الحق ‪ ،‬و كان المام – رحمه ال– غالباً على رجل باغ‬
‫على المسلمين ظالم جبار ‪ ،‬و كانت الحلقة المذكورة من معسكره ‪ ،‬و لم يستحل المام أخذ مال يوسف المذكور‬
‫لنّه من أهل القبلة ‪ ،‬و أموال أهل القبلة ل تحل عند المسلمين ‪ ،‬تبعاً للوارد عنه – عليه الصلة والسلم – " من‬
‫قال ل إله إل ال محمد رسول ال فقد عصم دمه و ماله ‪ "...‬الحديث ‪ ،‬فأين هذا من أحول الناس الخرين ‪ ،‬فإن‬
‫حديدة ل تساوي شيئا من القيمة تقتلع من معسكر عدو جائر محتل للبيضة واطءٍ على أعناق المسلمين ‪ ،‬متجبر‬
‫على المؤمنين في عقر دارهم ‪ ،‬يعامله الباضية بمثل هذه المعاملة النزيهة‪]166[.‬‬
‫وإليك مثالً أخر أبهج من الول ‪ ،‬كان المام عزان بن قيس بن عزان بن قيس بن المام أحمد بن سعيد أصل‬
‫الشجرة البوسعيدية ‪ ،‬كان بقية الئمة المتأخرين بعد أولئك الجهابذة الهداة المخلصين الولين ‪ ،‬و بقية أول العزم‬
‫من أئمة المسلمين ‪.‬‬

‫زحف هذا المام بجيشه على البريمي من طريق صحار ‪ ،‬و نزل بالعَ ْوهِي ‪ -‬بفتح العين المهملة و سكون الواو‬
‫بعدها هاء مكسوة ثم ياء كياء النسب ‪ ،-‬و ليست هي اسم لبلدة حسنة جميلة من أعمال صحار من الجهة الغربية‬
‫‪ ،‬ل تبعد عنها أكثر من نصف ساعة في السيارة قال المام السالمي – رحمه ال– " فركب بالجيش ‪ -‬أي المام‬
‫عزان إذ كان يقوده بنفسه‪ -‬من هناك ‪ -‬أي بصحار ‪ -‬و بات بفلج القبائل "‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬هي بلدة أنيقة من نوع العوهي ‪ ،‬و هي أقرب من العوهي لصحار ‪ ،‬يسكنها قوم من بني جابر تسمى فلج‬
‫القبائل ‪ ،‬و لعل أصل وجودها اشترك فيه قبائل من أهل ذلك الطرف ‪ ،‬أما هي الن لبني جابر من آل ذبيان ‪.‬‬
‫" بات بها المام عزان بجيشه ثم قال بالعوهي " ذلك لنّ الجيش ذلك العهد ينقل على القدام غالباً ثم على الخيل‬
‫و البل و الحمير أيضاً ‪ ،‬من حيث أنّ الطرق غير معبدة ‪ ،‬و الوسائل العصرية غير موجودة ‪ ،‬و كان المام –‬
‫رحمه ال– يلحظ عنا الناس الذين معه و الوقت وقت حر ‪ ،‬فكان الجيش و هو يمشي على القدام يلقي تعباً ‪ ،‬و‬
‫في العوهي يكثر شجر المبا الذي يسمونه المانغا ‪ ،‬و كان جميلً من أفخر فواكه عمان ‪ ،‬و كان في العوهي‬
‫يضرب به المثل لحسنه ‪ ،‬فيقال [‪ ]167‬بملء الفم " أمبا العوهي " أي ل مثيل له ‪.‬‬

‫قال " وكان ذلك وقت نضاجه " قال " فذكروا أن المبا كان يتساقط على فرش القوم ‪ -‬أي الجيش ‪ -‬و ل يتناول‬
‫أحد منه شيئاً ‪ ،‬و لما هموا بالرحيل نفضوا فرشهم و بقي المبا مكانه " قال " و ذكروا أن خادماً للمام و قيل بل‬
‫مزينه أخذ حبة أمبا من تلك الثمار الساقطة فأكلها ‪ ،‬فناله من المام الزجر والتوبيخ ‪ ،‬و لم يبلغ به حد العقوبة ؛‬
‫لنّ الثمرة كانت ساقطة بنفسها في غير حرز و كان الورع تركها كما ترك ذلك بقية الجيش "‪.‬‬

‫فانظر في مثل هذه الحوال هل ترى لها مثيل إل في صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬فترى العفة‬
‫عن أموال الناس ‪ ،‬تعم حتى عوام الناس حيث كان القائد عفيفاً ‪ ،‬فل غروى أن تسعد الدنيا بمثل هؤلء البرار ‪،‬‬
‫و يعلو بهم في المة المنار ‪ ،‬و هي و أمثالها الدلة على نزاهة الباضية ‪ ،‬و حسن معاملتهم لهل القبلة ‪ ،‬و كم‬
‫مثل هذا في تاريخ الباضية ‪ ،‬مما يحق أن يكتب بماء الذهب على جبهة الدهر مثلً يتحدث عنه الجيل بعد الجيل ‪،‬‬
‫و ليكون قدوة لهل اليمان من المسلمين ‪ ،‬فل ريب فإن قوماً يقودهم قائدهم على نهج عمر بن الخطاب ‪ ،‬و‬
‫يذهب بهم مذهب الهداة أولى الحق و الصواب ‪ ،‬غير مستنكر ذلك منهم ‪.‬‬

‫فإن إمامة الباضية تقوم مقام الرسالة النبوية ‪ ،‬ل تفارقها قيد شعرة ‪ ،‬إل أنّها ل يوحى إليها ‪ ،‬فتراها تتبع مناهج‬
‫النبي المصطفى ‪ ،‬و تسلك مسلك أهل الصدق [‪ ]168‬و الوفاء ‪ ،‬ل قائد لها إلى ال إل الشرع ‪ ،‬و ل سائق لها إل‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الحق ‪ ،‬و ل مرافق لها إل العدل ‪ ،‬و ل همة له إل إجراء المور في مجاريها الصحيحة ‪ ،‬تعظم ما حقرته الجبابرة‬
‫‪ ،‬و تحقر ما عظمته ‪ ،‬تقف على حدود الشريعة من جميع جهاتها ‪ ،‬كل جهدها إنصاف مظلوم ‪ ،‬و إغاثة ملهوف ‪.‬‬

‫تبذل المال في طاعة ذي الجلل ‪ ،‬ل تمن له عندها إل ذلك ‪ ،‬و ل تهتم إل بما يسد الرمق و يقيم الصلب ‪ ،‬تدعوا‬
‫إلى طاعة ال عز وعل في القريب والبعيد ‪ ،‬ل حكم معها إل ما يقتضيه القرآن ‪ ،‬و ل وجهة لها إل إلى ال عز و‬
‫جل ‪ ،‬ل تطيّبها الشهوات ‪ ،‬و ل تستحوذ عليها اللذات ‪ ،‬فالعبد السود عندها و السيد المجد لديها سواء ‪ ،‬ل يقدّم‬
‫أحداً عندها إل فعله الجميل ‪ ،‬و ل يؤخره إل سيئ فعله مهما كان ‪ ،‬تبع لقوله – صلى ال عليه و آله وسلم – "‬
‫ل فضل لعربي على عجمي إل بالتقوى " أو كما قال عليه الصلة والسلم ‪.‬‬

‫و اعلم أنّ قيصر علم على كل من ملك الروم ‪ ،‬و كسرى علم على كل من ملك على الفرس ‪ ،‬كما أن اسم تبع علم‬
‫على كل من ملك على اليمن ‪ ،‬و الجلندى اسم لكل من ملك عمان ‪ ،‬و مضى بذلك عهد في الجاهلية على هذا‬
‫الحال ‪.‬‬

‫و ل يخفى أنّ الملوك لهم مذاهب ‪ ،‬وعادات ‪ ،‬و أخلق خاصة بهم ‪ ،‬و ل ريب فإنّ الشهوات تتحكم عليهم ‪ ،‬و‬
‫رغبات النفوس [‪ ]169‬تستولى على قلوبهم ‪ ،‬و على كل حال ل يتقيدون بدين في سبيل رغباتهم ‪ ،‬فلذلك مثل‬
‫بهم شيخنا المام الناظم ‪ -‬رحمه ال– حيث قال ‪:‬‬
‫كمثل قيصر و مثل كسرى ‪ ...‬إلخ‬
‫و فيه التنديد بهم ‪ ،‬أي هم ملوك يتفاخرون بالشهوات ‪ ،‬ويتباهون غالباً بالمستلذات و المشتهيات ‪ ،‬و تلك سنتهم‬
‫إل ما شاء ال جاهلية و إسلماً ‪.‬‬

‫و بسبب طاعة الناس للملوك الذين هذه أحوالهم اندرست طاعة ال باندراس أهل الحق ‪ ،‬و اختفت معالم الحق و‬
‫مناهج العدل ‪ ،‬و انمحت رسوم اليمان ‪ ،‬و مال الناس في الشهوات ‪ ،‬و تنافسوا في المشتهيات إلى حد بعيد ‪،‬‬
‫فنشطت سوق الباطل و راجت بضاعة الفساد ‪ ،‬و خارت معالم اليمان ‪ ،‬و ظهر بذلك صدق قول رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و سلم – " الناس على دين ملوكهم " ‪.‬‬

‫وهذا أمر تشهد به العادة في كل المم ‪ ،‬و يعرفه الناس في كل زمان ‪ ،‬و ل ريب إذا عدل السلطان استقامت‬
‫العوان ‪ ،‬و إذا اشتد المر بلغت الشدة كل مأمور ‪ ،‬و إذا لنّ الزعيم تأثر بلينه من معه ‪ ،‬و هكذا ‪.‬‬

‫و أشار المام صاحب هذا النظام إلى الملوك المويين و الملوك العباسيين الذين تولوا الخلفة بعد الخلفاء‬
‫الراشدين ‪ ،‬فإنّ الملك العضوض الذي أشار إليه رسول ال – صلى ال عليه و آله و سلم – نشأ بهم ‪ ،‬و تغلل‬
‫في الخلف بعدهم ‪ ،‬و سار بذلك التابعون لثرهم ‪ ،‬تاركين لسيرة رسول [‪ ]170‬ال – صلى ال عليه و آله وسلم‬
‫– أخذين بسيرة من سلفوا من آبائهم و أجدادهم ‪.‬‬

‫وقد أمر رسول ال – صلى ال عليه و سلم – بالعض على سيرته و سيرة الخلفاء الراشدين من بعده بالنواجذ ‪،‬‬
‫و هو كناية عن شدة الملزمة لها ‪ ،‬و الثبات عليها ‪ ،‬و أن ل نتبدل بها‪.‬‬

‫و قد ثبت الباضية على سيرة رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله ‪ -‬و سيرة العمرين وزيريه و ضجيعيه ‪،‬‬
‫و سيرة أهل الحق من أمته ‪ ،‬لم ينحرفوا عنها قيد شعرة في حل و ل ترحال ‪.‬‬

‫أمّا من عدا الباضية و قد تولت عليهم الجبابرة العتاة ‪ ،‬شرّابو الخمور ‪ ،‬و منتهكو المحارم ‪ ،‬و أهل الخلعات ‪،‬‬
‫فنشأوا على ذلك ولداً و مولوداً ‪ ،‬و خضعوا لهم سيداً و مسوداً ‪ ،‬و تبعوا رغبتهم ‪ ،‬فمنهم من سار سيرتهم ‪ ،‬و‬
‫منهم من مشى في رغبتهم و التزم غالباً مرضيهم ‪ ،‬و دان لهم لما أحبوا و ما كرهوا تقية لهم ‪،‬و منهم من ظل‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫يتأول لهم ‪ ،‬و يئول الدلة على مقتضى شهوتهم لينل المنزلة عندهم‪ ،‬و يرفع خسيسته بهم ‪.‬‬

‫أمّا الباضية فعلى خلف هؤلء فإنّهم يلتزمون المرضي لرسول ال – صلى ال عليه و سلم – حسب ما جاء في‬
‫سنته ‪ ،‬و إن شد الدهر عليهم ‪ ،‬فإن تسلط عليهم ملوك ل يقدرون دفعهم عن رغبتهم تركوهم و ما هم عليه حتى‬
‫يجدوا ما يزيح ذلك عنهم ‪ ،‬و يرفع نير العنت و الظلم عنهم ‪ ،‬و إذ ذاك أقاموا المامة العمرية الصادقة ‪ ،‬و‬
‫أعادوا الشريعة الغراء ‪ ،‬و الحنيفية الزهراء على مجراها الصحيح ‪ ،‬و مبناها الثابت ‪ ،‬و قد عرف الحق [‪]171‬‬
‫فيهم أعداؤهم ‪ ،‬و رأى العدل معهم خصماؤهم ‪.‬‬

‫و إذا تتبعت قواعد السلم الصحيحة ‪ ،‬و تحققت معالمه الراسية الرجيحة ‪ ،‬علمت أن الباضية على كل أصل‬
‫مكين قاعدون ‪ ،‬و إلى كل منهج واضح سائرون في الصول و الفروع ‪ ،‬كما قال المام – رحمه ال– ‪:‬‬
‫فنحن في الصول و الفروع على طريق السلف الرفيع ‪ ،‬و المراد بالسلف الرفيع أبو بكر الصديق و عمر بن‬
‫الخطاب الفاروق الحقيق ‪ ،‬ل يراوغون المة مراوغة عثمان ‪ ،‬و ل يصرون على خلف الحق إصرار حسدة‬
‫النهروان ‪.‬‬

‫كل ما على عواتق الباضية تأييد الحق ‪ ،‬و عون المحق ‪ ،‬و إرشاد الضال ‪ ،‬و رد المضل ‪ ،‬على هذا مضى‬
‫الباضية ‪ ،‬و سايروا الزمان ‪ ،‬و ما زالوا داعين إلى ذلك ‪ ،‬راغبين في العدل غير محبين للباطل ‪ ،‬و ل محابين‬
‫لهله جاروا أم عدلوا ل يقولون بذلك أبدا ‪]172[.‬‬
‫============================‬

‫[ المقام السادس ]‬

‫أول حدث في السلم‬

‫أراد أن يمهد به مبدأ أحداث عثمان بن عفان ‪ ،‬و هي الحداث التي قام عليه بها المسلمون من المهاجرين و‬
‫النصار في عقر دار الهجرة ‪ ،‬وهي المدينة المنورة التي أصبحت بمحمد– صلى ال عليه و سلم – مركز السلم‬
‫‪ ،‬و محط رحاله ‪ ،‬و مجمع البطال من رجاله ‪.‬‬

‫[الشرح ]‬

‫اعلم أنّ أول حدث في السلم أحداث عثمان بن عفان الموي ‪ ،‬الخليفة الثالث ‪ ،‬الذي شهر مقامه أولً ‪ ،‬و عرف‬
‫قدمه في السلم ‪ ،‬و سبقه في الفضائل بحيث سجل له الحديث النبوي شرف أزهر من الشمس ‪ ،‬و وضع له في‬
‫الحضيرة الدينية علماً يطول العلم ‪ ،‬و نوه به الدين ‪ ،‬و أثنى عليه سيد النام و مصباح الظلم ‪ ،‬و إمام‬
‫المرسلين الكرام ‪ ،‬بما علم في المجتمع المؤمن ‪ ،‬و لنا ما ظهر و ل ما خفي و استتر ‪ ،‬و هل ذلك المدح الوارد‬
‫فيه إن صحّ دليل على سعادته ؟ و برهان على صحة أفعاله ؟ نعم ذلك المدح حسب ظاهر الحال ‪ ،‬فرع استقامته‬
‫في الدين ‪ ،‬و الستدراج و تبديل الحوال في آخر أعمار البشر غير منكور ‪ ،‬فإنّ العمال بخواتمها ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و ل زال المسلمون يستعيذون من سوء الخواتم ‪ ،‬و ما زالوا يحاذرونها ‪ ،‬و ما زال سبق الكتاب معروفاً عنه –‬
‫صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و ليس كل من كان ظاهره صالحاً [‪ ]173‬يكون باطنه كذالك ‪ ،‬فإن أمور الخرة خفية ‪،‬‬
‫و ليس كل من كان إماماً كان من أهل الجنة ‪ ،‬إذ قد يحرم النسان الرحمة بكلمة ‪ ،‬أو بعقيدة تخطر على باله ‪ ،‬أو‬
‫تمر على بلباله ‪ ،‬فإن شرط الوفاء بالطاعة و الثبات عليها ل خالصة ل ليقال أو لينال ‪.‬‬

‫و كم من أحد عاش على عمل الخير حتى إذا دنى أجله تبدل عمله ‪ ،‬و من ذلك الذي قال فيه رسول ال – صلى‬
‫ال عليه و سلم – " إن فلناً من أهل النار " و هو في ظاهر حاله من خيار صحابته صلة و صوماً و حجاً و‬
‫جهاداً ‪ ،‬حتى سبق عليه الكتاب فكان منه ما كان حين أثخنه الجراح ‪ ،‬و أخذ سهماً من كنانته فطعن به في صدره‬
‫فمات ‪.‬‬

‫و من هذه الحوال و أمثالها كثير في البشر ل يحصى ‪ ،‬و ل يكاد يستقصى ‪ ،‬و الرجل إذا لم يعضده التوفيق من‬
‫حيّ عَن بَيّ َنةٍ " (‪. )1‬‬
‫ال للصالحات لم يزل مشهوراً في ضدها " لّيَهْ ِلكَ َمنْ هَ َلكَ عَن بَيّ َنةٍ وَ َيحْيَى َمنْ َ‬

‫و ليس مدح رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لناس يرى ظاهر أعمالهم صالحة فيثني عليهم لجل ذلك ‪ ،‬ل‬
‫يكون ذلك موجباً لن يكونوا ل يتغيرون عن ذلك ‪ ،‬و قد ورد عنه – صلى ال عليه و سلم ‪ " -‬و ليذادنّ رجال‬
‫عن حوضي كما يذاد البعير الضال ‪ ،‬فأقول أل هلم أل هلم ‪ ،‬فيقال إنك ل تدري ماذا أحدثوا بعدك ‪ ،‬فأقول فسحقاً‬
‫فسحقاً " فدلّ هذا أن رجالً كان يعرفهم رسول ال – صلى ال عليه و سلم – بصلح في عهده ثم غيروا ذلك‬
‫الحال بعده ‪ ،‬فقال لهم سحقاً سحقاً في أحاديث أخرى من نوعه ‪]174[.‬‬

‫و مدحه لهم فرع استقامتهم في طاعة ال ل مدحاً على الغير ‪ ،‬و ليس كل من قال ل إله إل ال يكون صالحاً‬
‫مصلحاً ‪ ،‬فإن الحديث نفسه يرد على المعترض ‪ ،‬فإن شرط الثبات على حق ل إله إل ال واجب ‪ ،‬و أن من‬
‫استقام ل في ظاهره أمره كان حقيق بالمدح ‪ ،‬و الثناء عليه لستقامته ‪ ،‬و ليس أيضا من المستحيل أن يتوب‬
‫المبطل و يخلص ل فيقبل ال منه توبته ‪ ،‬و يفيض عليه رحمته ‪.‬‬

‫و كان عثمان من أفاضل صحابة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – في أول أمره بل طول حياة رسول ال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ ،‬و حياة أبي بكر و عمر بن الخطاب ‪ ،‬و صدر من خلفته أيضا كما يعلم ذلك المسلمون ‪،‬‬
‫حتى إذا عرق في الخلفة واستقر على كرسيها السامي بدت له بدوات ‪ ،‬استنكرها منه أصحابه ‪ ،‬و توالت منه‬
‫فتوالى الستنكار ‪ ،‬و تكررت عنه فتكرر الستغراب ‪ ،‬و بلغ نهاية الحد ‪ ،‬و لذلك أثر على قلوب المسلمين ‪ ،‬و‬
‫حاج المر إلى القيام عليه ‪ ،‬و استفساره عن تلك الحوال ‪ ،‬و استعراض نواياه عنها ‪ ،‬و كشف مقاصده فيها ‪،‬‬
‫فإن منها ما يحتمل الحق ‪ ،‬و منها ما له من غيره ممن سبق ‪ ،‬لكن النيات و المقاصد برهان عن حقيقة نوايا‬
‫القاصد ‪.‬‬

‫حتى إذا تأكد منه ضد الرأي العام ‪ ،‬و ظهر منه ما ل تقبله مناهج السلم ‪ ،‬و ل محتمل له في الحق بين النام ‪،‬‬
‫تكلفوا العتراض عليه فيه لنّه من الدين ‪ ،‬فكان منه وعوداً بالوفاء [‪ ،]175‬و لم يثبت وفاءه ‪ ،‬و في الخير‬
‫شاع عنه ما أثار حفائظ المؤمنين ‪ ،‬و استحرت من لهبه قلوب أهل التقوى ‪ ،‬و عمدة المسلمين ‪ ،‬و أصبح عثمان‬
‫أحدوثة سمر المسلمين في جميع أقطار الرض ‪ ،‬فأسف عليه إخوانه ‪ ،‬و قادهم إلى قتاله عدوانه ‪ ،‬فتنادوا من‬
‫عواصم السلم إذ ذاك ‪ ،‬و جاء جنود ال من مصر و العراق و غيرهما ‪ ،‬و إذا بأهل المدينة المنورة يرحبون‬
‫بثورتهم ‪ ،‬و يعتزون بصولتهم ‪ ،‬فحصروا عثمان حصار العداء ‪ :‬إما اعتزالً ‪ ،‬و إما امتثالً ‪ ،‬و إما اقتتالً ‪.‬‬

‫و لعله تخيل في نفسه أن ما فعله هو له ‪ ،‬و ل حرج عليه فيه ‪ ،‬لنّه المام العام الذي إليه أمر السلم ‪ ،‬و المير‬
‫الجامع لمر المؤمنين ‪ ،‬و للنفوس أهواء و أغراض و نزوات تنزو إليه في أمانيها ‪ ،‬و بذلك يصبح المرء في‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫بحر من الغرور ‪ ،‬و هو ل يدري ‪ ،‬و يقع في هوة الضلل و هو ل يشعر ‪ ،‬كما أشار إلى هذا حديث الحوض عند‬
‫الربيع بن حبيب و غيره من رواة الحديث ‪.‬‬

‫و عثمان كان محباً للمارة ‪ ،‬فابتلي فيها ‪ ،‬و كل من أحب المارة ل بد من أن يبتلى فيها ‪ ،‬كما جرت بذلك‬
‫العادة ‪ ،‬و قضت بهذا التجربة ‪ ،‬كيفما كانت المارة صغيرة أو كبيرة فعلى قدرها ‪.‬‬

‫و قد عُلم أن حب النفوس أصل شقاها ‪ ،‬و لذلك قال رسول ال – صلى ال عليه وسلم – " ل نولي أمرنا من‬
‫سألنا إياه " أو كما قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ،-‬و قال لسائل المارة " نفس تحيها خير لك من‬
‫شرّ لّ ُكمْ " (‪ )2‬و عسى أن تحبوا شيئا و تتعبون‬
‫حبّواْ شَيْئًا َوهُوَ َ‬
‫عسَى أَن تُ ِ‬
‫إمارة [‪ ]176‬ل تحصيها " ‪َ " ،‬و َ‬
‫فيه ‪ ،‬و عسى أن تكرهوا شيئا فتجبرون عليه فيكن لكم فيه عون من ال عز و جل ‪ ،‬و كم ورد في التحذير من‬
‫هواء النفوس قرآنا و سنة ‪ ،‬و من النفير من حبها و متابعة هواها ‪:‬‬

‫و في ستة الشورى معتبر للعاقل ‪ ،‬و هم خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬يخلو بهم عبد‬
‫الرحمن بن عوف ‪ ،‬و يحلفهم و واحداً واحداً ‪ ،‬و لئن وَلّيتكم إياها لتفعلن و تفعلن ‪ ،‬و ل تجد من نفر منها أو‬
‫تباعد عنها ‪ ،‬و لعلهم يردون معناها الخروي ‪ ،‬و ذلك الظن بهم لنّهم أبعد من حب الدنيا و شهواتها ‪ ،‬و أنزه‬
‫من الميل إليها مع علمهم بها ‪.‬‬

‫و نحن يجب علينا أن لو أرادتنا أن نفر منها ‪ ،‬لعلمنا بأنا منها أبعد من الشمس من الرض ‪ ،‬و لعترفنا بقصورنا‬
‫الذي يؤخرنا منها مسافات ‪ ،‬و ينأى بنا عنها إلى أبعد الجهات ‪ ،‬فقل أن يقبلها إمام من أئمة الباضية إل مكلفاً‬
‫بها ‪ ،‬مرغماً عليها ‪ ،‬فإذا كان كذلك ‪ ،‬و علم ال منه صدق ذلك أعانه على ما ابتله به ‪ ،‬و وفقه لما ارتضاه له ‪،‬‬
‫و أحله في الخرة بأعماله أعلى الذرى ‪ ،‬لنّه قل أن يقوم إمام و يموت حتف أنفه بل يموت غالباً شهيداً ليكمل‬
‫شرفه في الدار الخرة عند ال عز و جل ‪ ،‬فينال الشهادة التي هي أعلى المنازل عند ال ‪]177[.‬‬

‫و كان أهل الشورى كل واحد منهم يرفع لها رأسه و يودها ‪ ،‬و لذلك قصروا فيها ‪ ،‬فقصرت بها الخطى عن‬
‫واجبها ‪.‬‬

‫قال القطب – رضي ال عنه – في الهميان في شرح سورة النور ‪ " :‬إن أول من كفر النعمة و جحد حقها عثمان‬
‫بن عفان ‪ ، ...‬جعله المسلمون على أنفسهم و أموالهم و دينهم فخانهم في كل ذلك " أي في أموالهم و دينهم و‬
‫أنفسهم " إذ جعلوه خليفة لهم " أي إماماً حاكماً " له منزلة صاحبيه أبي بكر وعمر – رضي ال عنهما – فدس‬
‫على النفس بالقتل والسم ‪ ،‬و في الموال بصرفها إلى أقاربه الذين ل يستحقون شيئاً منها ‪ ،‬و في الدين غيّر و‬
‫بدل ‪ ،‬و عمل بما رأى في نفسه ‪ ،‬و إن خالف الصول التي تلقتها المة عن رسوله العظيم بالرضى و القبول " ‪.‬‬

‫قال القطب – رحمه ال– زاد في مسجد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – " أي عثمان زاد بناءاً في مسجد‬
‫الرسول عليه الصلة والسلم " و ابتاع من قوم و أبى الخرون فغصبهم فصاحوا به فسيرهم للحبس ‪ ،‬و قال ‪:‬‬
‫قد فعل بكم عمر هذا فلم تصيحوا به فنسب الظلم والبغي إلى عمر – رضي ال عنه – فكلمه فيهم عبدال بن خالد‬
‫بن أسيد فأطلقهم من السجن " أي من أبى أن يبايعه أرضه التي هي تقرب المسجد ‪ ،‬و جبره على البيع ‪ ،‬و‬
‫غصبه فصاحوا به استنكاراً لفعله لنّهم كانوا تحت ظل عدل النبوة ثم تحت الخلفة الصديقية ثم المارة العمرية ‪.‬‬

‫قلت لم يف هنا [‪]178‬خير عثمان بشره ‪ ،‬أراد خيراً بظاهر المر و ركب جوراً بظلمه ‪ ،‬فهو من الذين خلطوا‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عملً صالحاً و أخر سيء ‪ ،‬فدع عنك يا عثمان هذه الزيادة فإنها نقص في دينك ‪ ،‬و جوراً على رعيتك و إخوانك‬
‫‪.‬‬

‫قال القطب ‪ " :‬وقد جمع في ذلك غصب المال وقذف عمر – رضي ال عنه – حيث نسب إليه ذلك ‪ ،‬وعزل سعد‬
‫بن أبي وقاص عن الكوفة بل حدث منه – رضي ال عنه – ‪ ،‬و استعمل أخاه لمه وهو الوليد بن عقبة ‪ ،‬و لما‬
‫صةً " (‪ )3‬بحضرة أبي بكر و عمر – رضي ال‬ ‫نزل قوله تعالى " وَاتّقُواْ فِتْ َنةً لّ ُتصِي َبنّ اّلذِينَ ظَ َلمُواْ مِن ُكمْ خَآ ّ‬
‫عنهما – و عثمان و علي أيضا ‪ ،‬فقال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – لبي بكر – رحمه ال– إذ سأله أين‬
‫أنا ذلك اليوم يا رسول ال ؟ قال ‪ " :‬تحت التراب " ثم قام عمر و فقال مثل ذلك ‪ ،‬فقال – عليه الصلة والسلم ‪-‬‬
‫‪ " :‬تحت التراب " ثم قام عثمان فقال مثل ذلك فقال له ‪ " :‬بك تفتح و فيك تنشب " ثم قام علي بن أبي طالب‬
‫فقال مثل ذلك ‪ ،‬فقال له النبي – صلى ال عليه و سلم ‪ " : -‬أنت إمامها و زمامها تمشي فيها مشي البعير في‬
‫قيده " ‪.‬‬

‫و في حديث قال – صلى ال عليه و سلم – يثور دخانها تحت قدمي رجل يقول أو قال يزعم أنه مني ‪ ،‬و ليس‬
‫مني أل إن أوليائي المتقون " ‪ ،‬قال القطب – رحمه ال– " و أول ما نقم المسلمون على عثمان أنه لم ينفذ ما‬
‫أوصى به عمر – رحمه ال– في ابنه عبيد ال ‪ ،‬و قد قتل جفينة و الهرمزان في السوق بخنجر ‪ ،‬وقد أسلما وقد‬
‫حسن إسلمهما ‪ ،‬و قيل كان جفينة نصراني ‪ ،‬و قتلهما لمرهما أبا لؤلؤة بقتل أبيه [‪ ]179‬فيما قيل ‪ ،‬فأوصى‬
‫عمر الستة الذين جعل المامة إليهم و هم ستة الشورى ‪ ،‬و من ولي منكم فليكلف ابني عبيد ال البينة أنّهما أمرا‬
‫أبا لؤلؤة بقتلي ‪ ،‬و كان قتله لهما و عمر حي – رحمه اللهو رضي عنه ‪ ، -‬و فإن لم يأت بها فليقد بهما‪ ،‬فجعل‬
‫عثمان يقتل بعلل و عبيد ال يدعي بينة غائبة ‪ ،‬وقد ولد عبيد ال هذا في عهد رسول ال – صلى ال عليه و‬
‫سلم و آله – و لم يرو عنه ‪ ،‬و حده أبوه في الخمر ‪.‬‬

‫وقعد في مقام رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬في المنبر " أي عثمان جلس حيث كان يجلس رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و سلم – " و كان أبو بكر – رضي ال عنه ‪ -‬نزل درجة عن رسول ال – صلى ال عليه و سلم‬
‫– إجللً له ‪ ،‬و نزل عمر – رضي ال عنه – درجتين أيضا احتراماً أن يباريه و إجللً له – صلى ال عليه و‬
‫سلم – في موقفه الذي و قف " ‪.‬‬
‫===========================‬
‫(‪ )1‬النفال ‪. 42 :‬‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪. 216 :‬‬
‫(‪ )3‬النفال ‪. 25 :‬‬

‫قلت ‪ :‬و هذا ل يقدح في عثمان فإن له أن يعتذر قائلً كاد الناس ل يسمعون ولو نزل كصاحبيه ‪ ،‬و ذلك النزول‬
‫مستحب غير واجب ‪ ،‬و لو وجب ل ينتهي إلى منع الوقوف المشار إليه على منبره – عليه الصلة ‪ ، -‬و ما كان‬
‫من قبيل الستحسان ل يقدح في النسان ‪ ،‬و ل في الديان ‪ ،‬لكنهم ذكروا حيث من قبيل الستحسان ‪ ،‬و إن‬
‫عثمان اقتحم حدود الستحسان في مواد هذا من بعضها ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫قال – رحمه ال– ‪ " :‬و أدخل الحكم بن أبي العاص طريد رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله – و لعينه‬
‫المدينة " أي أدخله عثمان بعدما طرده الرسول – صلى ال عليه و سلم –إلى جزيرة تسمى دهَلَك بالدال المهملة‬
‫مفتوحة ‪ ،‬بعدها هاء فلم مفتوحة أيضا فكاف ؛ لنّه هجاه [‪ ]180‬عدو ال بسبعين بيتاً من الشعر ‪ ،‬فقال " اللهم‬
‫ل أحسن الشعر فلعنه بكل بيت لعنة " و قد كلم فيه عثمان الخليفة الول أبا بكر – رحمة ال ‪ ، -‬و معه لفيف من‬
‫بني أمية في إدخاله المدينة ‪ ،‬فأجابه أبو بكر – رضي ال عنه – بقوله " َقدْ ضََللْتُ ِإذًا َومَا أَ َناْ ِمنَ ا ْلمُهْ َتدِينَ " (‬
‫‪ )1‬أي إن فعلت " وقد رآه عظيم فلم يرده ‪ ،‬و لما تولى عمر – رحمه اللهو رضي عنه – كلموه فيه و أغلظ لهم‬
‫فيه " قلت ‪ :‬إذا لم يفعل أبو بكر فهيهات أن يفعل عمر ‪ ،‬و هو أشد الناس على أهل الفساد أياً كانوا ‪.‬‬

‫قال " و لما تولى عثمان أدخله المدينة ‪ ،‬و أعطاه مئة ألف درهم ‪ ،‬و هذه من أكبر الكبائر ‪ ،‬التي أثار ال به‬
‫الشر على عثمان ‪ ،‬و كان عبد الرحمن – رضي ال عنه – حلّفه اليمين العظيمة إن وله أن يسير بسيرة‬
‫صاحبيه ‪ ،‬و تلك سيرة صاحبيه " يا للسف على عثمان ‪ ،‬يعطي طريد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – مئة‬
‫‪ ...‬درهم من فيء المسلمين ‪ ،‬قال " وأعطى مروان بن الحكم خمس المال المجلوب من إفريقيا لما فتحت‪ ،‬و‬
‫أعطى أخاه الحارث بن الحكم مئة ألف درهم من صدقة البحرين ‪ ،‬و أعطى عبدال بن خالد بن أسيد بن أبي ستة‬
‫مئة ألف درهم من صدقة البصرة ‪ ،‬و أرسل إليه أبو موسى الشعري بمال عظيم البصرة أيضا فقسمه بين أولده‬
‫و أهلة بالصحائف ‪ ،‬و حمى مواطن المطر من أرض البادية لهله و خاصته ‪ ،‬وعزل عمال عمر بل حدث ‪ ،‬و هم‬
‫فقهاء علماء من السابقين الولين ‪ ،‬و استعمل السفهاء من أهل بيته و قرابته ‪ ،‬استبدل الطالح بالصالح ‪ ،‬و‬
‫الجاهل بالعالم ‪.‬‬

‫استعمل الوليد بن عبقة أخاه لمه على الكوفة و هو طالح ‪ ،‬و استعمل عبدال بن عامر على البصرة و هو ابن‬
‫خاله ‪ ،‬و عبدال بن سعد بن أبي السرح على مصر و هو أخوه من الرضاعة ‪ ]181[ ،‬و استعمل يعلى بن أمية‬
‫على اليمن و هو حليف لبني أمية ‪ ،‬و أسيد بن الخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة و هو ابن عمة‬
‫عثمان‪ ،‬و لم يدع صالحاً إل عزله ‪ ،‬و استعمل مكانه من يرجوا نصرته و طاعته " قلت ‪ :‬كأنه يتوقع القيام على‬
‫عزله فأراد أن يركز إمارته بهؤلء ‪.‬‬

‫قال القطب " عزل عمار بن ياسر عن الكوفة ‪ ،‬و كان أميراً عليها و على الصلة و على القضاء ‪ ،‬وعزل عنها‬
‫عبدال بن مسعود – رضي ال عنه – و كان على بيت المال فيها ‪ ،‬و عزل عنها عثمان بن حبيب و كان على‬
‫خارجها و أرضها ‪.‬‬

‫و صلى بالناس في منى أربع ركعات ‪ ،‬و كان – صلى ال عليه و سلم و آله – و خليفتان بعده يصلون بها‬
‫ركعتين ‪ ،‬و حرق المصاحف ‪ ،‬و كان له مندوحة عن حرقها بالنار ‪ ،‬و حرم قراءة ابن مسعود – رضي ال عنه‬
‫– و أبي بن كعب أكبر زهاد الصحابة ‪ ،‬و أجل فضلئهم ‪ ،‬و أمر أن يقرأ الناس على حرف واحد و من خالف مثل‬
‫به ‪ ،‬و قد قال رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ‪ ،‬كلها شاف‬
‫كاف فاقرأوا ما تيسر منه ‪ " ...‬الحديث ‪ ،‬وقد قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – " من سره أن يقرأ‬
‫القرآن غضا كما أنزل فليقرأه قراءة ابن أم عبد " ‪.‬‬

‫قال القطب ‪ " :‬و استلف عثمان من مال ال مالً عظيماً ‪ ،‬و أبى أن يرده ‪ ،‬و كان الوليد المذكور تلعب السحرة‬
‫بين يديه ‪ ،‬و يشرب الخمر ‪ ،‬و يصلى بالناس سكران ‪ ،‬و ما أقام عليه حداً ‪ ،‬و ل عزله ‪ ،‬وقتل دينارا و أجمع‬
‫المهاجرون و النصار أن يقيده عثمان فأبى ‪ ،‬و استخلف على الكوفة بعد الوليد سعيد بن أبي العاص بن أبيه ‪،‬‬
‫فعمل فيها مثل عمل الوليد لكن لم يظهر شرب الخمر ‪ ،‬لكن كلمه خيار أهل الكوفة فعزله " ‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬وجاءته من إبل الصدقة فوهبها لبعض بني الحكم ‪ ،‬فأخذها [‪ ]182‬عبد الرحمن بن عوف – رضي ال‬
‫عنه – و قسمها بين المسلمين ‪ ،‬و هو أول من اجترأ ‪ ،‬و اجتمعت الصحابة – رضوان ال عيهم ‪ ، -‬و فيهم عبد‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الرحمن بن عوف ‪ ،‬و قدموه و خلعوه و كتبوا إليه كتابا " أي في الذي ينكرونه عليه " فجاءه به عمار بن ياسر‬
‫– رضي ال عنه – الذي ورد فيه عن رسول ال – عليه الصلة والسلم – ما ورد مما شاع نقله عند‬
‫الصحابة ‪ ،‬فوصفهم عثمان بأنهم أعداء ال " أي وصف هؤلء المجتمعين وهم خيار الصحابة و وجهاؤهم " و‬
‫بذلك أمر غلماً يطأ عمار برجليه ففعل " أي صرعه " فداسه بقدميه حتى فتق بطنه " أي أمعاءه " حين دخل‬
‫عليه بكتاب إخوانه منكرين عليه ‪ ،‬وليته لم يفعل ‪ ،‬وليته قال لبيك ‪ ،‬فإنها خلفة عالية أخلفت أعظم النبوات ‪ ،‬و‬
‫حلت محلها ‪ ،‬وقد عاينت ما كان من عمل ‪ ،‬و دعا عثمان علي ليعينه على أن له عير أوله بالمدينة و أخرها‬
‫باليمن ‪ ،‬فقال علي بن أبي طالب لقد أكثرت لو كان من مالك " أي هو شيء كثير و الحقيقة فإن اليمن تبعد عن‬
‫المدينة بآلف الميال ‪ ،‬قال " ولكنه من ‪ ...‬أي من مال المسلمين فل عليك أن تبذله لغراضك الخاصة ‪ ،‬فقال‬
‫عثمان من مال من ؟ فقال له علي من مال قوم جالدوا عليه بأسيافهم ‪.‬‬

‫و قال شيخ من أهل مكة لبي ذر – رضي ال عنه – ما منزلة عثمان عندكم فقال له ‪:‬أما لكم حمار تستقون عليه‬
‫الماء ‪ ،‬فقال ‪ :‬أي وال لقد تركته في الدار ‪ ،‬فقال أبو ذر ‪ :‬و ال لعثمان شر من ذلك الحمار ‪ ،‬و كان عمار يقول‬
‫فيه الحق ويعيبه ‪ ،‬و كان عثمان يكذبه ‪ ،‬وينسبه إلى الكذب عن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ -‬و إلى‬
‫طعن في الدين ‪.‬‬

‫و قال لعلي إن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وآله وسلم – أخذك سارقاً ‪ ،‬و ما منعه من قطع إل قرابتك [‪]183‬‬
‫منه " ‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬و هذا من أعظم الفتراء و القدح في رسول ال – صلى ال عليه – حيث نسبه إلى ترك حد من حدود ال‬
‫لجل قرابته ‪ ،‬و هو قدح في علي بن أبي طالب الذي عرف بالنزاهة و الشرف الرفيع بين رجال السلم‬
‫المعدودين في طليعة المؤمنين ‪ ،‬و هذا بهتان عظيم على رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – حاشاه و‬
‫أعز ال السيد المصطفى من أن يتهاون بتعطيل حد من حدود ال عز وعل ‪ ،‬و هو القائل " وال " و في رواية‬
‫" و الذي نفسي بيده " و رواية " و الذي نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها " و هذا‬
‫رد عليه و تكذيب له – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و تخوين لمحمد صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و نسبة له إلى الميل‬
‫في الحكم بل إلى ترك حكم ال في السارق ‪ ،‬و هذا من أعظم الفواحش في حق الرسول العظم ‪ ،‬إنا ل و إنا إليه‬
‫لراجعون ‪ ،‬من يهد ال فل مضل له و من يضلل فل هاد له ‪.‬‬

‫و قال رسول ال – صلى ال عليه و سلم – " عثمان فرعون هذه المة " و كذلك قالت عائشة – رضي ال‬
‫عنها ‪ ، -‬و نفى عثمان أبا ذر بل وطاء على جمل ‪ ،‬و عن ابن مسعود – رضي ال عنه – ما يوزن لعثمان يوم‬
‫القيامة وزن ذباب ‪ ،‬وقال رجل وزن جناح بعوضة ‪ ،‬و ل جناح ذباب ‪.‬‬

‫و عنه وددت أنا و عثمان برمل عالج يحثى علي و أحثى عليه حتى يموت العجل منا ‪ ،‬فقيل له إذا يغلبك ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬ل يعين ال كافراً على مؤمن ‪ ،‬و دخل – صلى ال عليه و سلم و آله – بيتاً فيه إثنا عشر رجل منهم ابن‬
‫مسعود – رضي ال عنه – و عثمان يذكرون الدجال ‪ ،‬فقال " والذي نفسي بيده إن في البيت مما [‪ ]184‬هو‬
‫أضر على أمتي من الدجال " قال ابن مسعود و مضوا كلهم و لم يبق واحد منهم ‪ ،‬و بقيت أنا وعثمان ‪.‬‬

‫و أمر عبداً له أسود غليظاً طويلً اسمه زمعه فأخذ ابن مسعود أخذاً عنيفاً ‪ ،‬وضرب به الرض ‪ ،‬و دق‬
‫أضلعه ‪ ،‬و ذلك في المسجد فزجرتهم عائشة‪ -‬رضي ال عنها – فقال لها‪ :‬اسكتي أو لملئنها عليك سوداناً ‪ ،‬و‬
‫كان ذلك سبب عبدال بن مسعود – رحمه اللهو رضي عنه ‪. -‬‬

‫و قال له استغفر لي " أي عثمان قال لبن مسعود لعلمه بمنزلة ابن مسعود – رضي ال عنه – عند ال عز و‬
‫جل أو أن يريد أن ابن مسعود يتولى عثمان " فقال ابن مسعود ‪ :‬لن كنت كما أقول فما ينفعك " أي ل يجيبني‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ال فيك و أنت على هذا الحال " و حبس عطاءه في كل سنة خمس آلف درهم ‪ ،‬و روي أنه حمله فقال أنشدك‬
‫ال أن تخرجه من المسجد ‪ ،‬فلما وصل به الباب جعل يضرب الجدار بعجزه ‪ ،‬حتى كسر عصعصه ‪ ،‬و فلق انثييه‬
‫و دق أضلعه ‪ ،‬وقال ابن مسعود في مرضه بحضرة عثمان و أصحابه أنشدكم ال أتعلمون أن رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و آله وسلم – قال في مواضع ثلثة " اللهم إني رضيت لمتي ما رضي لها ابن أم عبد ‪ ،‬و سخط‬
‫لها ما سخط لها ابن أم عبد " فقالوا ‪ :‬اللهم نعم ‪ ،‬فقال ‪ :‬اللهم ل أرضى لها خليلً عثمان بن عفان ‪ ،‬قال ذلك‬
‫مراراً ‪.‬‬

‫و قال عثمان لعمار بن ياسر ‪ ،‬إذ دفنتموه و ما تعلموني يا ابن السوداء ‪ ،‬فقال له عمار فأنت ابن الهاوية ‪ ،‬فنزل‬
‫إليه و جعل يضربه و يطأه ‪ ،‬و كتب لبعض بني معيص ليأخذوا من بيت المال ما شاءوا ‪ ،‬فدخل عليه أبي بن‬
‫كعب وقال له ‪ :‬أنت الذي تصك إلى بيت مال المسلمين يابن الهاوية يابن النار [‪ ]185‬الحامية ‪ ،‬هلكت و‬
‫أهلكت ‪ ،‬فقال له لول أنك شيخ و ليس فيك موضع للعقوبة لعاقبتك ‪.‬‬

‫و مدح لديه رجل عثمان فحثى العفر أي التراب في فيه ‪ ،‬و رفعت عائشة – رضي ال عنها – نعل رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و سلم و آله – و قميصه ‪ ،‬وقالت هاتان نعل رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و قميصه لم‬
‫يبليا وقد بليت سنته ‪ ،‬إن فيكم فرعوناً أو مثله ‪ ،‬تعني عثمان ‪ ،‬و هو يقول إنما هذه امرأة و رأيها رأي امرأة و‬
‫عقلها عقل امرأة المصحف من وراء حجابها ‪ ،‬و عثمان يخطب على المنبر فقالت يا غادر اقرأ ما في كتاب ال‬
‫إن تصاحب تصاحب غادراً ‪ ،‬فقال لها ‪ :‬لتنتهين أو لدخلن عليك سود الرجال و حمرها ‪ ،‬يريد أن يهتك حرم‬
‫رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و إنه و ال لكبير في الدين ‪ ،‬إن لو كان ‪.‬‬

‫و لكن أصحاب رسول ال – صلى ال عليه و سلم – غير تاركيه يفعل ذلك ‪ ،‬فأجابته عائشة ‪ -‬رضي ال عنها –‬
‫لقد لعنك رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و ما استغفر لك ‪ ،‬و رفعت قميصه على جريدة ‪ ،‬وقالت يا نعثل‬
‫هذا قميصه – صلى ال عليه و سلم و آله – لم يبل حتى غيرت سنته ‪.‬‬

‫ومر عثمان بالمسجد فنادته يا فاجر يا غادر خنت أمانتك ‪ ،‬و ضيعت رعيتك ‪ ،‬وحل دمك ‪ ،‬ولول الغواة الذين‬
‫عبَادِنَا ‪ )2( " ...‬الية ‪،‬‬
‫يمنعوك لذبحتك كالشاة ‪ ،‬فقال عثمان ‪ِ " :‬ا ْم َرَأةَ نُوحٍ َوِامْ َرَأةَ لُوطٍ كَا َنتَا تَحْتَ عَ ْبدَ ْينِ ِمنْ ِ‬
‫فقالت ‪ :‬كذبت يا عثمان‪ ،‬فقال حذيفة ‪ :‬و ال ما يعدو عثمان أن يكون فاجراً في دينه ‪ ،‬أخرق في معيشته ‪ ،‬و قال‬
‫‪ :‬وددت أن ما في كنانتي من سهم في بطنه ‪.‬‬

‫و قذف رسول ال [‪ – ]186‬صلى ال عليه و سلم و آله – و الخليفتين بعده إذ قال ‪ :‬كان رسول ال – صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم – يؤثر بني هاشم ‪ ،‬و أبو بكر يؤثر بني تميم ‪ ،‬و عمر يؤثر بني عدي ‪ ،‬فوال لخصن بني أمية‬
‫على رغم النوف " و لقد وقع في خطر عظيم بهذا الحال ‪ ،‬نعوذ بال من مثله ‪ ،‬ولما قال لخصن بني أمية على‬
‫رغم النوف ‪ ،‬قال عمار ‪ :‬فأنفي يزعم ‪ ،‬قال عثمان ‪ :‬أرغم ال أنفك ‪ ،‬و نزل إليه فوطئه ‪ ،‬و مشى عليه ‪ ،‬و فتق‬
‫بطنه ‪.‬‬

‫و كان عبد الرحمن بن عوف هو الذي ولى عثمان الخلفة ‪ ،‬و هو الذي اجترأ عليه برد أفعاله عليه حين ضاق‬
‫صدره ‪ ،‬و كان عبد الرحمن بن حنبل أشد الناس على عثمان ‪ ،‬يذكر جوره و يبرئ منه ‪ ،‬فضربه عثمان مئة‬
‫سوط ‪ ،‬و حمله على بعير وطاف به المدينة ‪ ،‬و حبسه موثقاً بالحديد ‪ ،‬و ما زال علي يكلمه فيه حتى خل‬
‫سبيله ‪ ،‬و سيره إلى خيبر ‪.‬‬
‫=====================‬
‫(‪ )1‬النعام ‪. 56 :‬‬
‫(‪ )2‬التحريم ‪. 10 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و في علي يقول شعره المشهور ‪:‬‬

‫صفد ونفى نفراً من الكوفة إلى الشام منهم الشتر ‪ ،‬و ثابت بن قيس الهمداني‪ ،‬و حميد بن زياد ‪ ،‬و زيد ‪ ،‬و‬
‫حنظلة بن صوحان ‪ ،‬و أخاه صعصعة بن صوحان ‪ ،‬و جندب بن زهير العامري ‪ ،‬و حبيب بن كعب الزدي ‪ ،‬و‬
‫عروة بن الجعد ‪ ،‬و عمر بن الحمق الخزاعي ‪ ،‬و ابن الكواء " ‪.‬‬

‫قال القطب ‪ " :‬ولما شاعت خيانته أرسل إليه المسلمون أن يتوب ‪ ،‬فأمر عماله بالتضيق عليهم في الرزق و‬
‫العطايا ‪ ،‬ليرجع الناس إليه ‪ ،‬و قد عطل الحدود ‪ ،‬و أرسل إليه المهاجرون و النصار تب أو اعتزل أو تقتل ‪،‬‬
‫فأنعم لهم بالستقامة بعهود و مواثيق ‪ ،‬فلم يف بها فأرسلوا إلي من بالثغور أن هلموا فقد ضيع دين محمد –‬
‫صلى ال عليه و سلم – هنا ‪ ]187[ ،‬فاجتمعوا فقتلوه ‪ ،‬و قد غدر بعد العهد و كتب إلى بعض عماله اقتل فلن‬
‫و فلن لناس خصصهم منهم محمد بن أبي بكر – رضي ال عنه ‪ ، -‬و عاقب فلن وفلن بكذا و كذا من‬
‫العذاب ‪ ،‬و ليس هذا من دين المسلمين ‪ ،‬إنما هذا غدر وخيانة ‪ ،‬كان عليه أن يطلب من وجب القتل بالمسلمين‬
‫فإذا امتنع قام عليه بإخوانه المسلمين ‪ ،‬و على القل أشهدهم على فعله لتبرأ ساحته معهم ‪ ،‬أما على هذه الصفة‬
‫التي مشى عليها عثمان ل مصاغ لها في دين المسلمين ‪.‬‬

‫قال القطب ‪ " :‬و أمر بمعاقبة نفر من الصحابة ‪ ،‬وقوم من التابعين بإحسان ‪ ،‬و تطلع المسلمون على كتاب‬
‫عثمان الذي فيه ذلك على جمل مع غلم له ‪ ،‬فجاءوا بذلك كله إلى عثمان ‪ ،‬و في الكتاب طابع خاتمه ‪ ،‬و كتب‬
‫إلى معاوية بالشام و إلى أهل الشام أن ينصروه ‪ ،‬جعل يتأهب للقتال ‪ ،‬وقد بدأ باب الفتنة أن ينفتح ‪ ،‬و باب الخير‬
‫أن ينغلق و المر ل ‪.‬‬

‫واتخذ جنداً عظيماً من الحبشة و السودان بشراء وغيره ‪ ،‬و كانت عائشة – رضي ال عنها ‪ -‬ترفع كل جمعة‬
‫سربال رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و تقول ‪ :‬هذا سربله لم يبل و بليت سنته ‪ ،‬أي أبلها عثمان إذ‬
‫استبدل بها غيرها ‪ ،‬بلي دينه – صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و قالت ‪ :‬ليته في غرارتي أقذفه في اليم ‪.‬‬

‫قال محمد بن مسلمة النصاري ‪ :‬ما رأيت يوماً أقر للعين ‪ ،‬و ل أشبه ببدر قط من يوم قتل عثمان ‪ ،‬قال حذيفة ‪:‬‬
‫قتل و هو كافر ‪ ،‬و كذا قال ابن مسعود ‪ ،‬و استغفر رجل لعثمان فحثاه عمار بتراب ‪ ،‬و قال له ‪ :‬استغفر له يا‬
‫كافر ‪.‬‬

‫فأمّا علي بن أبي طالب فقد قتل من قتل من المسلمين كثيراً ‪ ،‬و قتل رجال مشهود لهم بالجنة على لسان رسول‬
‫ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬منهم حرقوص بن زهير المشهود له بالجنة ‪ ،‬و لقاتله بالنار ‪ ،‬و علي أمر بقتل‬
‫هؤلء " و أنا أقول كما قلت أولً الذي أراه [‪ ]188‬أن علي مخدوع مغرور ‪ ،‬و كان سليم الصدر ‪.‬‬

‫قال القطب " وعن الحسن ل يرى قاتل النهروان الجنة ‪ ،‬ومثل ذلك قالت عائشة – رضي ال عنها – "‪.‬‬

‫قال " وأما معاوية فمتهتك مظهر ل يحتاج أن يأول ما ظهر من فسقه ‪ ،‬و قد لعنه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و‬
‫سلم ‪. " -‬‬

‫قال القطب " هذا ثابت عندنا و عند من تكلم في هذا النوع من المخالفين كالنويري والقرطبي و البّي و غيرهم "‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و ساقه رداً على من قال أول من كفر قتلة عثمان ‪ ،‬قالوا أول من كفر النعمة و فسق قتلة عثمان ‪ ،‬لن ذلك‬
‫افتراء على الحق ‪ ،‬و مراغمة له ‪.‬‬

‫و يكفي عند أهل العقول حجة قتلهم عثمان ‪ ،‬بين ظهراني المهاجرين و النصار ‪ ،‬فهم القاتلون ‪ ،‬و هل يقتل في‬
‫بيضة السلم قوم إمامهم وهم جميع إل على أمر عظيم دعا إلى قتله ‪ ،‬ل سيما القتل على ملء و بين الناس و‬
‫المسألة دينية ‪.‬‬

‫و هل ترون أن قاتل عثمان الذي طعنه فقط ؟ أما الذي قام عليه و حصره ‪ ،‬و ألّب ‪ ،‬و شدّد على قتله ‪ ،‬و دعا‬
‫إليه و استجاش و جد و اجتهد ‪ ،‬و هم خيار الصحابة من المهاجرين الولين و النصار ‪ ،‬حتى أنهم لم يتركوه أن‬
‫يدفن في مقابر المسلمين لشتداد البغضة ‪ ،‬و نزوله من قلوب الناس منزلة عدوهم ‪ ،‬فعائشة أم المؤمنين و‬
‫قدوتهم في دينهم ‪ ،‬و علي بن أبي طالب ‪ ،‬و عبد الرحمن بن عوف زعيم الشورى ‪ ،‬و رجال النصار ‪ ،‬و أهل‬
‫الحل و العقد منهم القائم و منهم المر و منهم راضي ‪ ،‬و منهم الساكت ‪ ،‬و كان ذلك شاهراً ظاهراً بحصار دام‬
‫عهداً حتى بلغ الخبر مشارق الرض و مغاربها ‪ ،‬و شاع وذاع ‪ ،‬و لم يقم أحد لدفاع عنه لنهم كلهم على تئآمر‬
‫في قتله ‪.‬‬

‫و سوف ترى أن أهل العلم كلهم رأوا قتله ‪ ،‬و حسبك [‪ ]189‬نداء عائشة بقتله ‪ ،‬إذ تقول جهاراً اقتلوا نعثلً ‪،‬‬
‫فقد كفر ‪ ،‬و عنها أيضا ‪ ،‬أبلى سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ ، -‬و سوف ترى أيضا عن أهل‬
‫العلم أنه لما طلب معاوية من علي بن أبي طالب قتلة عثمان إذ مبدأ المكيدة و عنصر الشقاق الذي يروم به‬
‫دخول باب شق العصا ‪ ،‬بزعمه ظالمون له قام لهم أكثر من عشرة آلف رجل قائلين كلنا قتله ‪ ،‬و هو أعيان‬
‫الصحابة ‪ ،‬و أعمدتهم ‪ ،‬و من هم الحجة فيهم‪.‬‬

‫قال في المامة و السياسة " ذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – فكتبوا كتابا‬
‫ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬وسنة صاحبيه ‪ ،‬و ما كان من هبته‬
‫خمس أفريقية لمروان بن الحكم ‪ ،‬و فيه حق ال و حق رسوله – صلى ال عليه و سلم – و منهم ذو القربى ‪ ،‬و‬
‫اليتامى ‪ ،‬و المساكين ‪ ،‬و ما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا له سبعة دور في المدينة بناها بأموال‬
‫المسلمين ‪ ،‬منها دار لنائلة ‪ ،‬و دار لعائشة ‪ ،‬و غيرهما من أهله و بناته ‪ ،‬و بينان مراون القصور بذي خشب ‪،‬‬
‫وعمارة الموال بها من الخمس الواجب ل و لرسوله ‪ ،‬و ما كان من إفشاءه العمل والوليات في أهله و بني‬
‫عمه من بني أمية ‪ ،‬أحداث و غلمة ل صحبة لهم من الرسول ‪ ،‬و ل تجربة لهم بالمور ‪ ،‬و ما كان من الوليد بن‬
‫عقبة بالكوفة ‪ ،‬و هي أعظم بلد السلم إذ ذاك فكان يصلي بهم سكران من سكر الليل فصلى بهم ذات يوم‬
‫فريضة الفجر أربعة ركعات ‪ ،‬ثم قال لهم إن شئتم أن أزيدكم صلة زدتكم ‪ ،‬قبحه ال من رجل ‪ ،‬يصلى بعباد ال‬
‫فريضة الصبح و هو سكران ‪ ،‬و تعطيله الحقوق و إقامة الحد [‪ ]190‬على الوليد المذكور و تأخيره ذلك عنه ‪ ،‬و‬
‫تركه النصار و المهاجرين ل يستعملهم على شيء ‪ ،‬و ل يستشيرهم في شيء ‪ ،‬و استغنى برأيه عنهم ‪.‬‬

‫و ما كان من الحمى الذي حماه حول المدينة ‪ ،‬و ما كان من إدراره القطائع ‪ ،‬و الرزاق ‪ ،‬و العطيات على أقوام‬
‫بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ثم ل يغزون و ل يذبون ‪ ،‬و ما كان من مجاوزته‬
‫الخيزران إلى السوط ‪ ،‬و أنه أول من ضرب بالسوط ظهور الناس ‪ ،‬ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب " أي هذا‬
‫الكتاب الذي كتبوه و جمعوا فيه هذه الشياء ‪ ،‬و ذكروا فيه هذه الحوال " أن يسلموه في يد عثمان "‬
‫قال ‪ ":‬و كان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر – رحمه ال– " قلت ‪ :‬وفضله أشهر من نار على علم و أكبر‬
‫من أن يذكر ‪ ،‬قال " و من جملتهم المقداد بن السود ‪ ،‬و كانوا عشرة ‪ ،‬فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى‬
‫عثمان ‪ ،‬و كان الكتاب في يد عمار بن ياسر – رضي ال عنه – جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده ‪،‬‬
‫فمضى حتى جاء دار عثمان ‪ ،‬فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات ‪ ،‬فدخل عليه ‪ ،‬و عنده مروان بن الحكم ‪ ،‬و‬
‫أهله من بني أمية ‪ ،‬فدفع الكتاب إليه فقرأه ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال ‪ :‬نعم و من كان معك ؟ قال ‪:‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫كان معي نفر من الصحابة تفرقوا فرقا منك ‪ ،‬قال ‪ :‬من هم؟ قال ‪ :‬ل أخبرك بهم ‪ ،‬قال له عثمان ‪ :‬علي من بينهم‬
‫؟ فقال مروان ‪ :‬يا أمير إن هذا العبد السود ‪ ،‬و كان عمار أسود ‪ ،‬قد جرأ عليك الناس ‪ ،‬و إنك إن قتلته ‪ ،‬نكلت‬
‫به من وراءه ‪ ،‬قال عثمان ‪ :‬اضربوه ‪ ،‬فضربوه ‪ ،‬و ضربه عثمان حتى فتقوا بطنه ‪ ،‬فغشي عليه ‪]191[ ،‬‬
‫فجروه حتى طرحوه على باب الدار ‪ ،‬فأمرت به أم سلمة زوج النبي – صلى ال عليه و آله وسلم – فأدخل‬
‫منزلها " ‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬أل تكفي هذه القضية دليل على جور عثمان ؟ و انظر بينها و بين ما يقول عمر بن الخطاب – رضي ال‬
‫عنه – ‪ ":‬رحم ال من أهدى إلينا عيوبنا " ‪ ،‬فإن عماراً من خيار الصحابة ‪ ،‬و زهادهم ‪ ،‬و أهل الوفاء فيهم ‪ ،‬و‬
‫الرسول – صلى ال عليه و سلم – فيه " رحم ال عمارا تقتله الفئة الباغية " و انظر إلى تنقص مروان بن‬
‫الحكم لعمار – رضي ال عنه – و مروان من شرار بني أمية ‪ ،‬و انظر في ضربهم له حتى فتقوا بطنه ‪ ،‬على أي‬
‫طشْتُم‬
‫جرم فعله ؟ ل و رب الكعبة لم يفعل شيء ينكر ‪ ،‬بل أحب عثمان أن يكون كما قال ال عز و جل " َوِإذَا َب َ‬
‫شتُمْ جَبّارِينَ " (‪ )1‬و أحب عمار – رحمه ال– أن يكون كما قال – صلى ال عليه و آله وسلم – " أفضل‬ ‫ط ْ‬
‫بَ َ‬
‫العمال كلمة حق يقتل عليها صاحبها عن سلطان جائر ‪ " ...‬الحديث ‪.‬‬

‫قال ابن قتيبة " و غضب فيه " أي في عمار " بنو المغيرة و كان حليفهم ‪ ،‬فلما خرج عثمان لصلة الظهر ‪،‬‬
‫عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة ‪ ،‬فقال له ‪ :‬و ال لئن مات عمار من ضربه هذا لقتلن به رجل عظيماً من‬
‫بني أمية ‪ ،‬قال ‪ :‬فسمعه عثمان فقال ‪ :‬لست هناك ‪ ،‬قال ‪ :‬ثم خرج عثمان إلى المسجد ‪ ،‬فإذا هو بعلي بن أبي‬
‫طالب و هو شاك معصوب الرأس ‪ ،‬فقال له عثمان ‪ :‬و ال يا أبى الحسن ما أدري أشتهى موتك أم أشتهى‬
‫حياتك ؟ فوال لئن مت ما أحب البقاء بعدك أو قال ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك لني ل أجد منك خلفاً لي ‪ ،‬و ل‬
‫بقيت ل أعدم طاغياً يتخذك سلماً و عضداً ‪ ،‬و يعدك كهفاً و ملتجأ ل يمنعنى منه إل مكانه منك [‪ ، ]192‬و مكانك‬
‫منه ‪ ،‬فأنا منك كالبن العاق من أبيه ‪ ،‬إن مات فجعه ‪ ،‬و إن عاش عقه ‪ ،‬فأما سلم فنسالم ‪ ،‬و أما حرب‬
‫فنحارب ‪ ،‬فل تجعلني بين السماء والرض ‪ ،‬فإنك و ال إن قتلتني ل تجد مني خلفاً ‪ ،‬و لئن قتلتك ل أجد منك‬
‫خلفاً‪ ،‬و لن يلي أمر هذه المة بادئ فتنة " ‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬و كأن في هذا الكلم من القدح و الطعن و التوبيخ لعلي ما فيه ‪ ،‬و فيه تهديد لعلي بالقتل من عثمان ‪،‬‬
‫مزجه بشكل العتاب ‪ ،‬فانظروا معاشر المسلمين في أعمال عثمان يعاتب علياً و يهدده ليستر بذلك جوره و بغيه‬
‫السافر ‪ ،‬و يخلق لعلي أوهاماً و خيالت ليوهمه بها أنه على طوايا و نوايا غير صافية ‪ ،‬و يخيل إليه أنه الماهر‬
‫الحكيم ‪ ،‬و القوي القدير على ما يروم في المر حتى مع ذلك البطل المقدام الهاشمي ‪.‬‬

‫" فقال علي ‪ :‬إن لي فيما تكلمت به لجواباً ‪ ،‬و لكني عن جوابك مشغول بوجعي ؛ فأنا أقول كما قال العبد الصالح‬
‫علَى مَا َتصِفُونَ " (‪ )2‬قال مروان ‪ :‬إنا و ال لنكسرن رماحنا و لنقطعن سيوفنا ‪،‬‬ ‫جمِيلٌ وَالّ ا ْل ُمسْ َتعَانُ َ‬
‫" َفصَ ْبرٌ َ‬
‫و ل يكون في هذا المر خير لمن بعدنا ‪ ،‬و أراد بذلك بني أمية ‪ ،‬فقال له عثمان ‪ :‬اسكت ما أنت و هذا " أي‬
‫لست كفؤاً لعلي فل تتعاظم عليه فتثير حفيظته " قال " فقام إليه رجل من المهاجرين فقال له ‪ :‬يا عثمان أرأيت‬
‫ما حميت من الحمى " آلّ َأ ِذنَ لَ ُكمْ أَمْ عَلَى الّ َتفْ َترُونَ " (‪ ، )3‬فقال عثمان ‪ :‬إنه قد حمى الحمى قبلي عمر بن‬
‫الخطاب لبل الصدقة ‪ ،‬و إنما زادت و زدت ‪ ،‬فقام عمرو بن العاص فقال ‪ :‬يا عثمان إنك ركبت بالناس نهابر من‬
‫المر فتب إلى ال ‪ ،‬و كان ذلك دهي ابن العاص ‪ ،‬و يعني أنك إذا قلت [‪ ]193‬تبت إلى ال أقنع ذلك هؤلء‬
‫المتحمسين عليك ‪ ،‬و أنت على أمرك ‪ ،‬ففطن لها عثمان فرفع يده إلى السماء وقال توبوا إلى ال من كل ذنب ‪،‬‬
‫اللهم إني أول تائب إليك ‪ ،‬ثم قام رجل من النصار فقال‪ :‬يا عثمان ما بال هؤلء النفر من المدينة يأخذون العطايا‬
‫و ل يغزون في سبيل ال ؟ و إنما هذا المال لمن غزا في سيبل ال ‪ ،‬انتقاداً لفعل عثمان ‪ ،‬و كان المال ل يبذل إل‬
‫لمن غزا في سبيل ال ‪ ،‬وقاتل عليه إل من كان هؤلء الشيوخ أصحاب محمد – صلى ال عليه و سلم – " ‪.‬‬
‫==========================‬
‫(‪ )1‬الشعراء ‪. 130 :‬‬
‫(‪ )2‬يوسف ‪. 18 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )3‬يونس ‪. 59 :‬‬

‫و الواضح أن قلوب صحابة رسول ال – صلى ال عليه و آله و سلم – كلها حانقة على عثمان ‪ ،‬و على ما‬
‫يصدر منه ‪ ،‬و كأنهم كلهم آيسون من رجوعه ‪ ،‬و إنما هي مغالطات يغالطهم بها ‪ ،‬و ذلك من سوء حظه الدنيوي‬
‫و الخروي ‪ ،‬فإن الخلق شهود ال في أرضه ‪ ،‬فمن أثنوا عليه خيراً كان أهل للخير ‪ ،‬و إن أثنوا على أحد بشر‬
‫كان أهل للشر ‪ ،‬و بذلك تكون أحوال عثمان على نمط سيء ‪ ،‬ثم يخلف بعده أسوأ منه من الحاديث ‪ ،‬و كان‬
‫الرسول – صلى ال عليه و سلم – يستعيذ من سوء الحدوثة ‪.‬‬

‫قال " و لما اشتد الطعن على عثمان استأذنه على بن أبي طالب في بعض بواديه التي ينتحي إليها فأذن له ‪ ،‬و‬
‫اشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي ‪ ،‬و لعله أصبح حديث الناس و أقصوصة السمر ‪ ،‬و لعلمهم لما رأوا‬
‫عليا خرج آيساً من عثمان ‪ ،‬و رجا الزبير بن العوام و طلحة بن عبيدال أن يُميل إليهما قلوب الناس ويغلبا‬
‫عليهم قائلً له أما بعد ‪ ، ...‬و اغتنما غيبة علي ‪ ،‬فكتب عثمان إلى علي يستصرخه فقد بلغ السيل الزبى ‪ ،‬و‬
‫جاوز الحزام الطبيين ‪،‬و ارتفع أمر الناس [‪ ]194‬في شأني فوق قدره ‪ ،‬و زعموا أنهم ل يرضون دون دمي ‪ ،‬و‬
‫طمع فيمن ل يدافع عن نفسه بهذا و أمثاله‪.‬‬

‫يعلم العاقل منزلة عثمان من قلوب إخوانه المسلمين ‪ ،‬و يدرك أن عثمان وقع في ورطة تبعده عن منصبه ‪ ،‬كان‬
‫السبب في وجودها ‪ ،‬حيث جنى على منصبه جناية كبرى ‪ ،‬و لو سار بسيرة صاحبيه لنال منزلتهما ‪ ،‬و عل قدر‬
‫على أمته ‪ ،‬و لكن حرم التوفيق فوقع في المضيق ‪.‬‬

‫و لما أفضى الحال بعثمان إلى هذا الحد من حنق المسلمين عليه ‪ ،‬و رفضهم إياه ‪ ،‬و ما ذلك إل لحداثه ‪ ،‬و سوء‬
‫الحدوثة من ورائه ‪ ،‬ألبسه لباس البغضاء ‪ ،‬و أشاع له في الناس كراهية ‪ ،‬فإن ال عز و جل إذا أحب عبداً‬
‫وضع له الحب في قلوب عباده ‪ ،‬كما صرح بذلك الحديث ‪ ،‬و بضده إذا أبغضه ال ‪ ،‬نسأل ال أن يمنحنا حبه لنا‬
‫و رضه عنا ‪.‬‬

‫وفي حديث حويطب بن عبد العزى كما يقول ابن قتيتة في المامة و السياسة " إن عثمان قال ‪ :‬لقد بدا لي أن‬
‫أتهم نفسي بهؤلء ‪ ،‬فأتى علياً و طلحة والزبير فقال لهم ‪ :‬هذا أمركم تولوه و صنعوا فيه ما شئتم ‪ ،‬و ذلك حين‬
‫ضاق الخناق ‪ ،‬و نفسه تجاذبه على عدم الرضا بتخلي ‪ ،‬فإن لو تخلى عن المر ما كان لهم فيه غرض إل ذلك ‪،‬‬
‫و لكنه لم يحصل منه ‪ ،‬و أما العدل لم يقدر عليه لعدم التوفيق له ‪ ،‬و ل تسمح نفسه بالخروج من إمارة‬
‫المسلمين ‪ ،‬وحب الرئاسة هو الشهوة الخفية ‪ ،‬نعوذ بال منها ‪.‬‬

‫فإنّه لما طاف عبد الرحمن [‪ ]195‬على زملئه لم يقل واحد منهم ل يريدها حتى حلفهم عبد الرحمن يميناً بال‬
‫العظيم أنه يعدل إذا تولها ‪ ،‬و لم يسأم منها أحد ‪ ،‬و لم يتبرم منها واحد ‪ ،‬و ل استعاذ بال منها ‪ ،‬و ل ترفع عن‬
‫الرغبة فيها مع العلم بها أنها من أصول الشر ‪ ،‬إل من ابتلي بها فإن ال يعينه عليها ‪ ،‬و يوفقه للقيام بأعبائها‬
‫فيستعيذ العاقل من حبها ‪.‬‬

‫بقي حملهم على أنهم يحبونها لكي يقوموا بحقوقها ‪ ،‬و يمشوا بها على منهاج الخليفتين أبي بكر و عمر بن‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الخطاب – رضي ال عنهما – ‪ ،‬و كل واحد منهم يعد نفسه أنه القادر على ذلك ‪ ،‬أو القدر عليه ‪ ،‬فمن خلصت‬
‫نيته وفقه ال ‪ ،‬و من كان في نفسه غير ذلك ابتلي فيها ‪ ،‬و عجز عنها ‪ ،‬و لم يقدر على القيام بها ‪ ،‬فاضطرب‬
‫حبلها عليه ‪ ،‬و سقط في يده رغم ادعاءه ‪ ،‬و النفس أغلبها أمارة بالسوء‪.‬‬

‫و أكبر جريمة عدها المسلمون على عثمان بعد توليته محمد بن أبي بكر – رحمهما ال ‪ ، -‬مصر و أمر بقتله إذا‬
‫وصل هو و من معه ‪ ،‬وقامت الحجة عليه بخاتمه و طابعه و خادمه الحامل للكتاب ‪ ،‬و بعيره المركوب إلى ابن‬
‫أبي سرح ‪ ،‬يقول له ‪ (( :‬إذا وصل محمد بن أبي بكر و من معه فقتلهم ‪ ،‬و قر على علمك ))‪ ،‬فهذه القضية هي‬
‫التي أحقدت عليه الخاص و العام ‪ ،‬فمنهم من رفض عثمان ‪ ،‬و منهم من ألب عليه و أجلب ‪ ،‬و منهم من سكت‬
‫حتى قتل ‪.‬‬

‫و كانت عائشة – رضي ال عنها – تقول جهارا اقتلوا نعثلً فإنه قد كفر ‪ ،‬و نعثل لقب وضعوه لعثمان ‪ ،‬و هو‬
‫في الصل اسم شيطان [‪. ]196‬‬

‫و إليه يشير قول المام ابن النضر في لمية الولية والبراءة ‪:‬‬

‫أمّا عثمان لحداثه تلك ‪ ،‬و أما أبو موسى فلسعيه في الرضى بالتحكيم و هو ضلل ‪ ،‬و قيامه هو بذلك الضلل ‪،‬‬
‫و سقوطه في هوته ‪ ،‬وتلعبه بأمر المسلمين بما ل يحل في الدين ‪ ،‬و أما علي فلخلعه المامة من عنقه و تركه‬
‫المر في يد الرجال الذين أمر ال أن يضع ذا الفقار على هاماتهم ‪ ،‬و ل يرفعه عنهم حتى يتحقق خصوعهم و‬
‫تركهم للباطل الذي دخلوا فيه على المسلمين ‪ ،‬و قاموا به على أهل الحق ‪ ،‬و لم يفعل من ذلك شيئا ‪ ،‬بل لما‬
‫خلعوه قام يطالب بالمامة قائلً ‪ :‬أنه اشترط على الحكمين أل يوليا غيره ‪ ،‬فإن وليا غيره فهو أحق بها من ذلك‬
‫الغير ‪.‬‬

‫فأين ما أعطى ما أعطى من العهود و المواثيق على ذلك ؟؟!‪ ،‬ثم ختمها بقتل إخوانه أهل النهروان ‪ ،‬الذين كانوا‬
‫دروعه الحصينة ‪ ،‬و سهامه المكينة ‪ ،‬فقتلهم في مأمنهم بغير حجة و ل اقتراف ذنب ‪ ،‬بل لخروجهم على الباطل‬
‫الذي وقع فيه هو‪ ،‬فإنهم لما لم يرضوا ما كان من التحكيم ‪ ،‬و لم يجدوا من المام إل ارتباطه به بالعهود و‬
‫المواثيق ‪ ،‬أيقنوا أن الرجل وقع في باقعه ‪ ،‬ل يجد الخروج إل بالرجوع إلى ال بالتوبة العلنية ؛ فإنه إمام جامعة‬
‫‪ ،‬و زعيم أمة ‪ ،‬خلع إمامته بنفسه فحينئذ ل إمامة له ‪ ،‬و علموا أن الحكمين ل يريدانه بل حاول خدعته‬
‫فاختدع ‪ ،‬فالمر الن إلى المسلمين يختارون لدينهم الصلح و الولى ‪ ،‬و علي يرى أنه باق على إمامته ‪ ،‬أرادوه‬
‫أو أرادوا [‪]197‬غيره ‪ ،‬و من هنا قام مبدأ الخطأ ‪ ،‬فأولئك يرونه خليعاً ل إمامة له ‪ ،‬و هو يرى أنه المام مهما‬
‫كان ‪.‬‬

‫و أما عمرو بن العاص فَ ِل ُممَالئته و موالته معاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬و مناصرته إياه على أهل الحق من أصحاب‬
‫رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬و فتقه في السلم فتقاً شق على المسلمين التئامه ‪.‬‬
‫و أما عثمان فقد قتل مخذولً مدحوراً بأفعاله تلك ‪.‬‬

‫و أما معاوية فقد فارق خطة المسلمين ‪ ،‬وبنى ملك بني أمية بحجر نحته له عمرو بن العاص‪.‬‬
‫و أما علي فلم تقم له قائمة بعدما قتل أصحابه في النهروان على غير جرم ‪ ،‬و ل أدنى مسئولية وقعت منه لهم ‪،‬‬
‫بل لما عبء جيشه ليتوجه إلى الشام جاءه أهل الكيد في السلم ليغرزوا سهام كيدهم في نحره ‪ ،‬قائلين له إن‬
‫هؤلء أي أهل النهروان قطعوا الطريق ‪ ،‬و سفكوا الدماء ‪ ،‬و أفسدوا و نحن هنا ‪ ،‬فإذا توجهنا إلى الشام جاء‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫هؤلء بما عندهم و أفسدوا علينا المر ‪ ،‬فل نرى لك أن تتوجه إلى الشام قبل أن تقضي على هؤلء ‪.‬‬

‫و كان ذلك خوفاً من النهروانيين ‪ ،‬لنهم صفوة المة الباقية على الوتيرة الصحيحة ‪ ،‬و خلصة الصحابة‬
‫المؤمنين ‪ ،‬و زعيمهم عبدال بن وهب الراسبي أصلح رجل فيهم ‪ ،‬و أوفى و أشجع المسلمين الباقين ‪ ،‬في ال ل‬
‫تأخذه لوم لئم ‪ ،‬و ل يرى الدنيا بنسبة إلى الدين شيئاً ‪ ،‬و أزهد الصحابة ‪ ،‬و أعبدهم [‪ ]198‬و هو المعروف‬
‫بذي الثفنات ‪ ،‬إذ كانت ثفناته كثفنات البعير من كثرة السجود ‪.‬‬

‫و كان هو و أصحابه ممن اتقدت في قلوبهم نار الغيرة على الدين ‪ ،‬و تألموا لمصابه تألم السليم ‪ ،‬حتى ألجأهم‬
‫الحال من القرية الظالم أهلها ‪ ،‬و أن يتجمعوا من قبائل شتى أفراداً ‪ ،‬كان الدين و اليمان غلب على ضمائرهم‬
‫ثائرة ‪ ،‬و ما زالوا على ذلك و هم أفراد قليلون ‪ ،‬فجيء إليهم بأن المام يروم التصال بكم ‪ ،‬و اللقاء بكم لتفاهم‬
‫معكم ‪ ،‬و هو يراعي حقوق إخوانه ليتفاهم معهم ‪ ،‬فهزهم ذلك اللقاء فرحاً ‪ ،‬و حرك من حفائظ مودتهم فرحبوا‬
‫به فرحين مسرورين بمقدمه ‪ ،‬آملين الخير في ذلك القدوم ‪ ،‬و أعلنوا له ترحيب محب لحبيب ‪ ،‬إذ لم يسبق لهم‬
‫سوء ‪.‬‬

‫فلما وصل المام إليهم لم يشعروا إل و رحى الحرب تدور عليهم ‪ ،‬و السيوف تعمل على هامتهم ‪ ،‬أهذا جزاء من‬
‫تعلق بحبل اليمان ؟؟! ‪ ،‬وفر من قرار الشيطان ‪ ،‬وخرج مهاجر بدينه ؟؟!‪ ،‬وقد كانوا لعلي كما قال عنهم أبو‬
‫مسلم – رحمه ال‪:-‬‬

‫أيفسدون في الرض أولئك الميامين ‪ ،‬و قد كانوا أنصار المسلمين يوم الدار ‪ ،‬و يوم الجمل و يوم صفين ‪ ،‬و‬
‫على أي شيء يقتلون؟! على أي جريمة يهاجموا في مأمنهم يوم جمعتهم ؟! على أي شيء ترضخ [‪ ]199‬تلك‬
‫الجباه الكريمة بالسيف؟! ‪.‬‬

‫أعلى بيعتهم لعبدال بن وهب الراسبي ليوم بأمر ال في أمته بعدما ديست شريعته بالقدام ‪ ،‬و لعب بأحكام ال‬
‫غوغاء النام كالشعث بن قيس و أمثاله ‪‍.‬‬

‫و على كل حال إن عثمان بن عفان اتفق المسلمون كلهم على ضلله ‪ ،‬و نعني بأهل الحق الذين تجردوا ل من‬
‫أمة الجابة الذين هم الباضية ‪ ،‬فل مقال فيه‪.‬‬

‫أما معاوية فمن أول أمره مفسد ضال باغ ‪ ،‬وضع نصب عينيه ابتزاز المر ممن يتوله أياً كان ‪ ،‬علياً أو غيره ‪،‬‬
‫فاستلبه من علي و آله بالمكائد والحيل و الخدائع ‪ ،‬أمثل هذا يكون عند ال وليا ؟! و هو أضل من الجبابرة الول‬
‫‪ ،‬لنه تسمى بالسلم و عاش تحت ظل النبوة ‪ ،‬و إذا به مماكر في الدين ‪ ،‬خداع للمسلمين ‪ ،‬يراوغهم مراوغة‬
‫الثعالب ‪ ،‬و يخادعهم مخادعة سافرة ‪ ،‬محتال للمر ‪ ،‬ضارب بالدين عرض الحائط ‪.‬‬

‫و أما علي بن أبي طالب فل نقول فيه إل أنه صدوق مخدوع ‪ ،‬و أمير متبوع ‪ ،‬ل غائلة له في سياسة المور‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الدنيوية ‪ ،‬و يعتقد صدق قومه وهم يكذبون عليه ‪ ،‬هو معهم باطناً وظاهراً ‪ ،‬و هم معه ظاهراً ‪ ،‬و في الباطن عند‬
‫غيره ‪ ،‬و ل يظن أن الناس يكيدونه ‪ ،‬بل يعتقد [‪ ]200‬أنه الوجيه المحبوب ؛ لنه العالم الوحيد ‪ ،‬و أنه الهاشمي‬
‫المجيد ‪ ،‬و أنه ابن عم الرسول – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و هكذا كان حال علي بن أبي طالب ‪ ،‬بل يعتقد أن‬
‫الناس يكيدون له ‪ ،‬و أنه الكامل في نفسه و دينه و عقيدة وعنصره ‪ ،‬فهو هو و الناس أعوانه في الحلو و‬
‫المر ‪ ،‬و بهذا اغتر ‪ ،‬و هذا من خدع النفس للنسان ‪ ،‬و لم يكن معصوماً كما يقول الشيعة ‪ ،‬و ل عصمة لغير‬
‫نبي ‪.‬‬

‫و من هنا سقط عرش علي ‪ ،‬و هو معه ‪ ،‬ولم يقم حتى انتهى أمره إلى الحضيض‪ ،‬و عاش آله عيش المريض ‪،‬‬
‫فما كان إل انقياد ولده الحسن لمعاوية ‪ ،‬ملقياً إليه المر كله غير ناوٍ إل ذلك ‪ ،‬و ل همت له إل كفاف معاوية ‪ ،‬و‬
‫وفاءه له بما شرطه عليه ليتمتع به ‪ ،‬فكان جزائه جزاء سنمار ‪ ،‬فإنه لم يف بشيء من ذلك كله ‪ ،‬بل قضى عليه‬
‫أيضاً ‪ ،‬فانتهى أمر علي و آله بمعاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬ذلك البطل الداهية الذي رام الملك بكل وسيلة فأدركه ‪ ،‬و‬
‫إذا هو خيال أو أشبه بالحلم ‪ ،‬و عند ال الحكم بين العباد ‪ ،‬و إليه الحساب على مثقالي الذر في الخير و الشر ‪،‬‬
‫نسأل ال السلم في الدين و الدنيا ‪.‬‬

‫فإنه لما قتل علي بن أبي طالب قال ابن قتيبة " ثار الناس إلى الحسن بن علي " أي لما يأملون فيه من الهلية‬
‫فإنه ابن المام علي ‪ ،‬و ابن فاطمة الزهراء بنت رسول ال – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و لكن ليس المارة‬
‫بالنساب ‪ ،‬و ل هي بنت أحد ‪ ،‬و ل الكفاءة بالصهار ‪ ،‬فقد كان رسول ال – صلى ال عليه و سلم وآله – يولي‬
‫أناس بعداء النساب و يترك [‪ ، ]201‬و كذلك أبو بكر – رضي ال عنه – ‪ ،‬و كذلك عمر – رحمه اللهورضي‬
‫عنه ‪. -‬‬
‫===========================‬

‫قال ابن قتيبة " و لما بايعوه " يعني الحسن بن علي " قال لهم ‪ :‬تبايعوني على السمع و الطاعة ‪ ،‬و تحاربون‬
‫من حاربت ‪ ،‬و تسالمون من سالمت ‪ ،‬فلما سمعوا ذلك ارتابوا ‪ ،‬و أمسكوا أيديهم ‪ ،‬و قبض هو يده ‪ ،‬و أتوا‬
‫الحسين أخاه ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك ‪ ،‬و على حرب المحلين الضالين أهل‬
‫الشام ‪ ،‬فقال الحسين ‪ :‬معاذ ال أن أبايعكم ما كان الحسن حياً " أي لن الحسن كان أكبر من الحسين ؛ فلذاك هو‬
‫يريد تقديم الحسن ‪ ،‬و هذا غلط لن المراتب الدينية ليس بالسن ‪ ،‬فإن ال عز و جل يقول لنا في كتابه " ِإنّ‬
‫أَ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ َأتْقَا ُكمْ" (‪ )1‬فلم يعتبر السن ‪ ،‬و كذلك المعقول و هذا أمر مسلم بديهة ‪.‬‬

‫و لعل الحسين يرى أن أخاه الحسن صالح لهذا المر ‪ ،‬فهو على ما وقع في نفسه يعول ‪ ،‬و ليس المامة تراث‬
‫مملوكاً يتعاطونه ‪ ،‬و يتهادونه ‪ ،‬و يخص به قوماً دون آخرين ‪ ،‬فإن قال لنبيه الخليل جرثومة النبيين إبراهيم –‬
‫صلى ال عليه و سلم – لما قال له " ِإنّ َأ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ أَ ْتقَا ُكمْ" " ِإنّ أَ ْك َرمَكُمْ عِندَ الِّ أَتْقَاكُمْ" (‪ )1‬فصرف ال‬
‫عز و عل عهده ‪-‬سواء فسر بالنبوة أو المامة بمعنى القدوة – عن الظالمين أيا كانوا ‪ ،‬و اليةالولى التي‬
‫ذكرناها مصرحة بأن أكرم الناس عند ال المتقون ‪ ،‬و لم يقيدهم بقوم خاصين ‪ ،‬و كان الحسين يحب تقديم‬
‫الحسن ‪.‬‬

‫قال ابن قتيبة في المامة و السياسة ‪ " :‬فانصرفوا إلى الحسن فلم يجدوا بداً أن يبايعوه " أي ل بدا لهم [‪]202‬‬
‫من أمير يقوم بأمورهم ‪ ،‬و النظر إلى الحسنين ‪ ،‬ابني المام الراحل ‪ ،‬و ابني الزهراء ‪ ،‬و سيدي شباب أهل‬
‫الجنة ‪ ،‬و جدهما الرسول العظم خاتمة رسل ال عز و جل ‪ ،‬فمن هذه النواحي العنصرية هما كاملن ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫قال " فلم يجدوا بداً من بيعته على ما شرط عليهم " قال " فلما تمت البيعة و أخذ عهودهم و مواثيقهم على‬
‫ذلك ‪ ،‬كاتب معاوية فأتاه فخل به ‪ ،‬فاصطلح معه على أن المامة لمعاوية ما كان حياً ‪ ،‬فإذا مات فالمر للحسن "‬
‫و كأنه بايعه إياها بيعا اقاليا ‪ ،‬ل تفوته بعد موت معاوية " قال فلما تم صلحهما صعد الحسن المنبر فحمد ال و‬
‫أثنى عليه ‪ ،‬ثم قال أيها الناس ‪ ،‬إن ال هدى أولكم بأولنا ‪ ،‬و حقن دمائكم بآخرنا ‪ ،‬و كانت لي في رقابكم بيعة‬
‫تحاربون من حاربت ‪ ،‬و تسالمون من سلمت ‪ ،‬و قد سالمت معاوية بن أبي سفيان و بايعته فبايعوه ‪ ...‬إلخ " ‪.‬‬

‫هذا ما كان من أمر الحسن ‪ ،‬يلقي البيعة من عنقه إلى معاوية عدوه و عدو أبيه و عدو المسلمين ‪ ،‬فكان عون ًا‬
‫لمعاوية على ظلمه ‪ ،‬و عهد ال في عنقه ‪ ،‬فبأي طريق استحل الحسن خلع عهد ال و ميثاقه ‪ ،‬و وضع البيعة‬
‫إلى ذلك الطاغية ‪ ،‬أما كان أولى به أن لو رفض البيعة لما رأى أنها ل تمكن له و ل تتأتى ‪.‬‬

‫و ل يكون عوناً لمعاوية فيكون شريكه في ظلمه ‪ ،‬و ليته صارح الذين جاءوه للبيعة بأنه يبايع معاوية ‪ ،‬فإن‬
‫وافقوه فقد جنوا على أنفسهم ‪ ،‬و ذلك أسلم له عند ال عز وعل ‪ ،‬فإن من أعان ظالماً على ظلمه كان شريكه‬
‫إجماعاً ‪.‬‬

‫و إن كان الحسن أراد بذلك حقن [‪ ]203‬دماء المسلمين كما يشير إليه قوله " و حقن دمائكم بآخرنا " فسفك‬
‫الدماء المسلمين جهاداً في سبيل ال أمر مطلوب حضت عليه الرسل ‪ ،‬و نصت عليه الكتب ‪ ،‬و المسلمون خلقوا‬
‫لفتداء الدين ‪ ،‬و أنصارا لوامر رب العالمين ‪ ،‬و كأنه علم أن أخرهم هو ‪ ،‬و لقد تحققت فراسة أبيه علي بن أبي‬
‫طالب فيه إذ قال لقومه " أما الحسن فصاحب خوان ‪ ،‬و فتى من الفتيان ‪ ،‬و لو التقت حلقتا البطان لم يغن عنكم‬
‫في الحرب حثالة عصفور "‪.‬‬

‫فصدقت فراسته فيه ‪ ،‬و للوالد غالبا فراسة صحيحة في الولد كادت ل تخطأ ‪ ،‬فكان الحسن يضع الخلفة في فم‬
‫معاوية ‪ ،‬و يشترطها من بعده ‪ ،‬و قد عجز عنها ‪ ،‬و المسلمون معه يبايعون له على الحرب و السلم ‪ ،‬و كأن‬
‫الخلفة ميراث ‪.‬‬

‫أهكذا يقول الشرع ؟! أهكذا يقول العقل ؟! أهكذا تقول الرجولة ؟! أهكذا يقول ذو الفقار ؟! ل و ال إنما الدين قام‬
‫بسيوف حمراء فظلوا أياماً ل تغسل منها الدماء ‪ ،‬يراها الباغي تلمع في أكف أبطالها الميامين ‪ ،‬الذين ل يعرفون‬
‫الذعر عند التقاء أبطال الرجال ‪ ،‬خصوصاً في نصرة ذي الجلل ‪.‬‬

‫و لما كان من الحسن ما كان ‪ ،‬دخل عليه سليمان بن صرد بعدما تمت البيعة لمعاوية ‪ ،‬و انصرف راجعاً إلي‬
‫الشام ‪ ،‬و كان سليمان هذا غائب عن الكوفة ‪ ،‬و كان سيد أهل العراق و رأسهم ‪ ،‬فقال للحسن ‪ :‬السلم عليك يا‬
‫مذل المؤمنين ‪ ،‬فقال الحسن ‪ :‬و عليك السلم اجلس ل أبوك ‪ ،‬و كان سليمان منكر لصنيع الحسن ‪ ،‬فلذلك‬
‫خاطبه بذلك الكلم ‪ ،‬الذي تشف منه البراءة من أعماله ‪.‬‬

‫وقال ‪ :‬إن تعجبنا ل ينقضي من بيعتك لمعاوية – أي لما علمت من [‪ ]204‬حال معاوية مع أبيك ‪ ،‬و أنت الن‬
‫تبايعه و المل فيك غير ذلك ‪ ، -‬قال ‪ :‬و كيف تبايعه و حولك مئة ألف مقاتل هم معك من أهل العراق ‪ ...‬إلى آخر‬
‫ما قاله و ما حركه به ‪ ،‬و وعده بانفعاله ‪.‬‬

‫و كان سليمان سيداً مطاعاً ‪ ،‬و أيده أيضاً أصحابه بمثل هذا الكلم ‪ ،‬فتعلل بعلل واهية ‪ ،‬و برد حرارته بكلم لين‬
‫جعله معذرة له ‪ ،‬و حكى حكايات يرويها عن أبيه عن أبيه ل تسمن و ل تغني من جوع ‪ ،‬و ل يرضى بها أدنى‬
‫الناس ‪ ،‬و ينفر منها أهل الرجال ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫كان منها " و أما قولك يا مذل المؤمنين ‪ ،‬فوال لن تذل و تعاف أحب إلي من أن تعز و تقتل ‪ ،‬فإن رد ال علينا‬
‫حقنا في عافية قبلنا و سألنا ال العون على أمره ‪ ،‬و إن صرفه عنها رضينا و سألنا ال أن يبارك في صرفه عنا‬
‫‪ ،‬فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلس بيته ‪ ،‬ما دام معاوية حياً ‪ ،‬فإن يهلك و نحن و أنتم أحياء سألنا ال‬
‫العزيمة على رشدنا ‪ ،‬و المعونة على أمرنا ‪ ،‬و أن ل يكلنا إلى أنفسنا " ‪.‬‬

‫هذا كلمه و هو من التراخي لمعاوية و التهاون بحقوق السلم بمكان ‪ ،‬فإن الباغي أمر ال بقتاله ‪ ،‬و أن يرد‬
‫عن بغيه ‪ ،‬و تقطع أجنحة ضلله ‪ ،‬و أمراس فساده ‪ ،‬أما تسليم المر إليه فأمر يحجره الشرع إل عن عجز ‪ ،‬و‬
‫ل عجز عنها إذ معه مئة ألف سيف ‪ ،‬و على القل أن يترك هو و شأنه ‪ ،‬و ل يكون له سبباً ‪ ،‬فيكون شريكا فيما‬
‫يفعله الباغي ‪ ،‬و كان الباغي من الذي أمر ال بقتالهم حتى يرجعوا عن بغيهم ‪.‬‬

‫وقول الحسن [‪ " ]205‬فوال لن تذل و تعاف أحب إلي أن تعز و تقتل " كلم ل روح له ‪ ،‬و ليته ما خرج من‬
‫الحسن ابن البتول و أبوه من يعرف الناس ‪ ،‬و لكن قدمنا عن علي تلك الجملة المعبرة عن الحسن ‪ ،‬و هي‬
‫عنوان و ما جاء بعدها عن الحسن ما ل يقل ضَعة عنها ‪ ،‬و ليته عمل بما أمر ال في حرب البغاة ‪.‬‬

‫قال في ضحى السلم عن هذه الحوال ‪ ،‬و ما عليه أهل الشام في الجزء الول منه صحيفة ثمان قال ‪ " :‬و أما‬
‫أهل الشام فليس يعرفون إل آل أبي سفيان ‪ ،‬و طاعة آل مروان ‪ ،‬كما أن أهل مكة و المدينة قد غلب عليهما أبو‬
‫بكر وعمر بن الخطاب " أي فهما معهم القدوة الصالحة ‪ ،‬و أما أهل الشام فل يرون أحدا إل آل مروان فلذلك‬
‫قادهم معاوية ابن أبي سفيان كما شاء ‪ ،‬و ضرب بهم المسلمين على عمي قلوبهم عن الحق ‪ ،‬و صمم آذانهم عن‬
‫سماع العدل ‪ ،‬و انقيادهم لمعاوية كما شاء و لما شاء ‪ ،‬فكان منهم ما كان من قتال المسلمين ‪ ،‬وشق عصى‬
‫اليمان ‪ ،‬و قد علموا بغي معاوية ‪ ،‬و انتهكه حرم السلم و المسلمين طلباً للملك ‪ ،‬و إليك بعض ما يدلك على ما‬
‫كان من أهل الشام مع معاوية ‪.‬‬

‫قال في "المامة والسياسة" صحيفة واحدة وثمانيين لما قدم النعمان بن البشير على معاوية بكتاب زوجة عثمان‬
‫و بقميص عثمان ملطخاً بالدم ‪ ،‬و شعر لحيته في زر القميص ‪ ،‬قام معاوية فصعد المنبر ‪ ،‬و جمع الناس ‪ ،‬و‬
‫نشر قميص عثمان ‪ ،‬و ذكر لهم ما صنع بعثمان ‪ ،‬وبكى فأبكى القوم معه ‪ ،‬و شهقوا حتى كادت نفوسهم أن‬
‫تزهق ‪ ،‬وقد أشار العلمة أبو مسلم – رحمه ال– [‪ ]206‬إذ قال ‪:‬‬

‫قال في السياسة " ثم دعاهم للطلب بدم عثمان ‪ ،‬وقام إليه أهل الشام فقالوا ‪ :‬هو ابن عمك ‪ ،‬و أنت وليه ‪ ،‬و‬
‫نحن الطالبون به معك " و لم يقولوا إن للمسلمين إماماً ‪ ،‬هو الذي يتولى الطلب ‪ ،‬و إليه أمر الدماء ‪ ،‬و هو أمير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب ‪.‬‬

‫و على كل حال أنه ل يرضى أن يضيع دم أحقر الناس فضلً عن دم رجل كعثمان ‪ ،‬إن كان له حق ‪ ،‬إنما دمه‬
‫للمام إن كان قتل مظلوماً ‪ ،‬و لم يسألوا أيضا عن القاتل و ما حجته ؟ و لم يحسنوا الظن بخيار المسلمين من‬
‫النصار و المهاجرين ‪ ،‬و لم يقولوا إن هناك من المسلمين من هم أحق بالقيام فيه منا ‪ ،‬و هم عمدة المسلمين ‪،‬‬
‫وحجة في الدين ‪ ،‬فليس لك أنت يا معاوية و ل لنا هذا الذي تقوله ‪ ،‬أو يستصرخنا إخواننا على عدوهم ‪ ،‬فنجيب‬
‫دعوتهم ‪ ،‬و نقوم معهم ‪ ،‬و إذا كان القاتل هؤلء و هم حجة ال في أرضه ‪ ،‬و أمناءه على وحيه ‪ ،‬و قد ارتضاهم‬
‫رسول ال – صلى ال عليه و سلم – و ارتضاهم أبو بمكر و عمر – رضي ال عنهما ‪. -‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫لم يبق وجه للطلب بدم عثمان ‪ ،‬بل لما قال معاوية أنه قتل مظلوماً قال هم أيضا كذلك ‪ ،‬و لما قال أنا أطلب بدم‬
‫عثمان ‪ ،‬قالوا نحن معك ‪ ،‬و ل يفهمون ما يرمي إليه معاوية ‪ ،‬فخرج بهم معاوية في جحفل جرار ‪ ،‬فقاتل بهم‬
‫معاوية المسلمين ‪ ،‬و لما رأى طاعة أهل الشام له ‪ ،‬و انقيادهم لمره كتب لعلي بن أبي طالب ‪ ،‬يتهدده و ينتقص‬
‫المسلمين لقصد فتح [‪ ]207‬باب الفتنة ‪.‬‬

‫و قام ينتقص المسلمين من النصار و المهاجرين ‪ ،‬و جعلهم غوغاء و طغاماً و أوباشاً و حمقى ‪ ،‬إذ قال في‬
‫كتابه الذي رواه في المامة والسياسة " أما بعد فإنا كنا نحن و إياكم يدا جامعة ‪ ،‬و ألفة أليفة ‪ ،‬حتى طمعت يا‬
‫ابن أبي طالب فتغيرت و أصبحت تعد نفسك قوياً على من عادك بطغام أهل الحجاز ‪ ،‬و أوباش أهل العراق ‪ ،‬و‬
‫حمقى الفسطاط ‪ ،‬و غوغاء السواد ‪.‬‬

‫و أيم ال لينجلين عنك حمقاها ‪ ،‬و لينقشعن عنك غوغؤها انقشاع السحاب عن السماء ‪.‬‬

‫قتلت عثمان بن عفان ‪ ،‬و رقيت سلماً أطلعك ال عليه مطالع سوء عليك ل لك ‪ ،‬و قتلت الزبير و طلحة و شردت‬
‫بأمك عائشة ‪ ،‬و نزلت بين مصرين ‪ ،‬فمنيت و تمنيت ‪ ،‬و خيل لك أن الدنيا قد سخرت لك بخيلها و رجلها ‪.‬‬

‫و إنما تعرف أمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام ‪ ،‬بقية السلم فيحيطون بك من ورائك ‪ ،‬ثم يقضي‬
‫ال علمه فيك ‪ ،‬و السلم ‪" .‬‬

‫فانظر في هذا الكتاب الذي أسند فيه قتل عثمان إلى علي بن أبي طالب ‪ ،‬و كان علي من المدافعين عن عثمان ‪،‬‬
‫و الذابين عنه بغية رجوعه إلى الحق ‪ ،‬و ندد في كتابه بعلي بن أبي طالب ‪ ،‬و من معه من المسلمين ‪ ،‬و غمزه‬
‫و هدده في تهديداً سافراً بقوله " إنما تعرف أمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام " و سماهم بقية‬
‫السلم ‪ ،‬تغريراً بهم ‪ ،‬إلى قوله " فيحيطون بك من وراءك ‪ ،‬و يقضي ال علمه فيك " على القل هذا كلم يحمل‬
‫الجفاء البالغ في طياته ‪ ،‬ويعرب عن سوء ضمير لمام المسلمين المجمع على إمامته ‪]208[.‬‬
‫فقد ندد فيه بعلي بن أبي طالب وغمزه ‪ ،‬و هدده بأهل الشام ‪ ،‬و نسب إليه قتل عثمان ‪ ،‬و جعل المسلمين طغاماً ‪،‬‬
‫و أوباشاً ‪ ،‬و حمقى ‪ ،‬و غوغاء ‪ ،‬و الرسول – عليه الصلة و السلم – يقول " سباب المسلم فسوق " ‪.‬‬

‫و تره يقول لعلي إمام المسلمين " يمني نفسه الماني " و يعني بذلك إخراجه من الشام ‪ ،‬ونسب إليه قتل الزبير‬
‫بن العوام ‪ ،‬و هو يعلم من قتل الزبير و كذلك طلحة ‪ ،‬وقال له ‪ :‬شردت بأمك عائشة و تخيلت الخيالت ‪ ...‬أخر ما‬
‫جاء في ذلك الكتاب ‪ ،‬مما يفهمه أولى اللباب ‪.‬‬

‫ونسي معاوية بل تناسى أفعاله الشنعاء ‪ ،‬و أعماله الكبرى ‪ ،‬و احتقاره المسلمين ‪ ،‬و تعاظمه عليهم ‪ ،‬و قتاله‬
‫إياهم ‪ ،‬و شق عصى المسلمين ‪ ،‬و خداعه للحسن بن علي بن أبي طالب ‪ ،‬و استيلءه المر منه مع مواعيد‬
‫خانه فيها ‪ ،‬و قد علم خلف الوعد ‪ ،‬و خيانة الوعد ‪ ،‬وجعله الخلفة الراشدة سلطنة فاسدة ‪.‬‬

‫و من هم المهاجرون من أهل الشام ‪ ،‬بقية السلم ؟؟ الذي يحتج بهم معاوية ‪ ،‬و يعزز بهم حتى جعلهم بقية أهل‬
‫السلم ‪ ،‬وهو و أبوه لم يكونا من المهاجرين ‪ ،‬فضلً عن أهل الشام ‪ ،‬و قد علم معاوية أن علي بن أبي طالب‬
‫ليس ممن يقعقع له بشنان ‪ ،‬لقد عرفه خواض غمارات ‪ ،‬و كشاف معضلت ‪ ،‬و فكاك أزمات ‪ ،‬ربته الحرب في‬
‫أحضانها ‪ ،‬و مرنته الوغى على شجعانها ‪ ،‬و ألف قطع الرؤوس من أمطالها ‪ ،‬و مطاردة البطال في ميدانها ‪.‬‬

‫و ما معاوية عند علي بن أبي طالب إل كثعلب عند أسد ‪ ،‬أو كنجم عن البدر ‪ ،‬فعلي إمام فعّال ‪ ،‬ومعاوية أمير‬
‫قوّال ‪ ،‬ل يماثل علي في حال من الحوال ‪ ]209[،‬و ل يدنو منه في شيء من صفات الرجال ‪ ،‬و إنما ذلك منه‬
‫تبجح يتعاظم به في أعين أهل الشام ‪ ،‬الذين ل يعرفون الحق ‪ ،‬و ل يهتدون للرشد ‪ ،‬بل يعرفون معاوية و آل‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫معاوية ‪ ،‬كأنهم أرباب ‪ ،‬إذا قالوا فهم الصادقون ‪ ،‬و إذا فعلوا فهم المحقون ‪ ،‬أتباع كل ناعق ‪.‬‬

‫فآل أبي سفيان عندهم هم المسلمون جاروا أم عدلوا ‪ ،‬و تلك هي المصيبة الكبرى التي شقت عصى المسلمين ‪،‬‬
‫و مزقت شمل الدين ‪]210[.‬‬
‫=====================‬
‫(‪ )1‬الحجرات ‪. 13 :‬‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪. 124 :‬‬

‫[ المقام السابع ]‬

‫بيان مبدأ الفتنة و مركز ثورتها في السلم‬

‫قال المام – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫اعلم َأنّ مَبْدأ الفتنة ومركزها الموطأ في السلم لها ‪ ،‬قيام معاوية بن أبي سفيان الذي خرج على المام العادل إذ‬
‫ذاك علي بن أبي طالب ‪ُ ،‬متَذرعاً في ذلك بطلب دم عثمان ‪ ،‬إذ كان في َهمّ كبير من إمامة علي بن أبي طالب ‪ ،‬أن‬
‫يخرجه من العمال التي يتلعب فيها أيام عثمان ‪ ،‬و إن علياًَ سوف ُي ْقصِيهِ عن تلك الحوال‪.‬‬

‫علِمَ بها معاوية ‪ ،‬و لم يتحرك معاوية‬


‫صرَ في داره تلك المدة التي َ‬
‫و ليس من همه قتل عثمان ‪ ،‬فإن عثمان حُو ِ‬
‫لمناصرة عثمان ‪ ،‬و لم يقم أحد من المسلمين مناصراً لعثمان إذ كان الطالبون لقتله الصحابة كلهم ‪ ،‬و فيهم‬
‫المهاجرون و النصار ‪ ،‬و بقية المسلمين من سائر القطار ‪ ،‬فإنهم كانوا بالمدينة المنورة أكثر من مئة ألف رجل‬
‫يحملون السلح ‪ ،‬أل يكفون للدفاع عن عثمان ؟؟‪.‬‬

‫إنهم و ال ليكفون و زيادة ‪ ،‬و لكنهم كلهم كانوا قاتلين فإن َمنْ كان راضياً كان قاتلً ‪ ،‬و َمنْ كان معيناً للقتل كان‬
‫ح ّرضَ‪ ،‬كان أيضاً قاتلً ‪ ،‬و بذلك تعلم أن جميع المسلمين الذين هم‬ ‫أيضاً قاتلً ‪ ]211[،‬و من مالئ‪ ،‬أو دَلّ‪ ،‬أو َ‬
‫الحجة في الدّين قاتلون لعثمان‪.‬‬

‫و قوله‪ " .:‬و لم يعبه أحد "‪ ،‬أي لم يعب قتل عثمان‪ ،‬ول القيام عليه‪ ،‬و حصارهم إيّاه ‪ ،‬و قتلهم له أحد بعدما‬
‫قتلوه ‪ ،‬لن المسلمين كلهم انطبقوا على قتله ‪ ،‬فمنهم القائم عليه جهاراً شاهراً سيفه‪ ،‬و رامياً سهمه ‪ ،‬و منهم‬
‫المُؤلّبُ عليه ‪ ،‬و الحَاضّ علي قتاله ‪ ،‬و منهم الراضي به‪ ،‬الساكت عنه‪ ،‬منتظراً فيه ذلك‪ ،‬حتى قضى ال عليه ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و ل خلف في هذا ‪ ،‬و من قال بغيره فهو مخادع‪ ،‬غَاشٍ للمسلمين‪ ،‬قادح فيهم ‪ ،‬متهور بما قال ‪ ،‬لنه لم يُعْقَلْ أن‬
‫صرَ إمام المسلمين ‪ ،‬و ل يعقل أن يقاتل أمير المؤمنين في قلب المدينة المنورة بين ظهراني الصحابة‬
‫ح َ‬
‫يُ ْ‬
‫المسلمين‪ ،‬و حول الحرم المقدس بعين الولياء المتقين ‪ ،‬و بجوار رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬إل‬
‫أنه جَارٍ عن اتفاق ‪ ،‬و ثابت بالستحقاق ‪.‬‬

‫و على كل حال ‪ ،‬إذا فَ ّكرْتَ في المر‪ ،‬رأيت أمراً باهراً ارتكبه المير الثالث حتى تغلغل الحنق من قلوب المسلمين‬
‫غيْ َلةً لقائل أن يقول أن‬
‫‪ ،‬و تحكم بعدما استحكم حتى أثار حفائظ أهل اليمان ‪ ،‬و ألهب ضمائرهم ‪ ،‬لنه لو قتل َ‬
‫عثمان لم يظهر أمره ‪ ،‬و لم تقم عليه حجة شاهرة ‪ ،‬و لم يُ ْع َرفْ لقاتله ُمصَ ّوغٌ ‪ ،‬و غير مستنكر قتل كهذا ‪ ،‬فإنه‬
‫طالما يقع الغتيال في المراء‪ ،‬والملوك‪ ،‬و الزعماء و نحوهم ‪ ،‬فبالمس قتل عمر بن الخطاب ‪.‬‬

‫سرّ ‪ ،‬و‬
‫إلّ أن قتل عثمان كان بعد ثورة من المسلمين ‪ ،‬وبعد حصار دام مدة شاع فيها المر ‪ ]212[ ،‬و اتضح ال َ‬
‫َبرَحَ الخفاءُ ‪ ،‬حتى عرف بعدما عرف موجب القتل ‪.‬‬

‫عمّا كان عليه ‪ ،‬و يلتزم‬


‫و قد سمعت ما يَ ُعدّ على عثمان من الحداث ‪ ،‬و علمت مراجعة المسلمين له؛ ليرجع َ‬
‫سيرة صاحبيه أبي بكر و عمر بن الخطاب – رحمه ال‪ ، -‬و أنت خبير أن المسلمين القاتلين لعثمان هم حجة ال‬
‫ح ُر ِمهِ ‪ ،‬و هم سور اليمان ‪ ،‬و هم أعمدة السلم ‪ ،‬رهبان الليل‪ ،‬أسود النهار ‪،‬‬
‫في أرضه ‪ ،‬و أهل الغيرة على ُ‬
‫مات عنهم رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و هو عنهم راضٍ ‪.‬‬

‫فهل يعقل أن يقع هذا بمرأى منهم و مسمع إل لسبب أوجب ذلك ‪ ،‬لم َيرَوْا عنه ُبدّا ‪ ،‬فإنهم راجعوه مرات ‪ ،‬و لم‬
‫تكن منه إل مواعيد فارغة ل ثمرة لها ‪ ،‬لذلك قاموا عليه من شتى الجهات ‪ ،‬و اجتمع عليه كل من هناك من‬
‫المسلمين ‪ ،‬و ل مخالف لهم ‪ ،‬و ل ناقم عليهم في ذلك أبداً ‪.‬‬

‫حتى إذا تحرك من معاوية عرق الرئاسة ‪ ،‬و ثار به ثائر الملك و السلطان ‪ ،‬قام يَ َتذّرعُ لمقصده ‪ ،‬و غدا يخادع‬
‫المسلمين بذلك ‪ ،‬و يـتخذ لنفسه حجة يتوصل بها إلى الدخول في ذلك المضيق الخطر ‪ ،‬فبعث الفتنة و هي‬
‫نائمة ‪ ،‬و أَ ْو َقدَ نار الشر وهي خامدة ‪ ،‬حتى أشعلها بين المسلمين جحيماً تتلظى ‪ ،‬ليحرق بها ريف العدل ‪ ،‬و ل‬
‫يبالي في قضى غرضه ‪.‬‬

‫و أي ظلم أعظم من ذلك ؟؟!‪ ،‬و أي جرم أكبر من شق عصى المسلمين ؟!‪ ،‬و الستيلء على أمرهم بالسيف و‬
‫عرَى المسلمين‬
‫العصا ‪ ،‬و العهد بالنبوة قريب ‪ ،‬و بمنهج أبي بكر و عمر – رضي ال عنهما – أقرب ‪ ،‬و تمزيق ُ‬
‫من أكبر الذنوب ‪ ،‬و سفك قطرة من دماء المسلمين يَهْ َتزّ لها عرش الحقّ ‪ ،‬و تظلم لها الدنيا بأسرها ‪]213[ .‬‬

‫و لكن طالب الدنيا ل يبالي بما يلقي ‪ ،‬و ل يتبرم من الدماء التي تراق ‪ ،‬لقد جعل هذا الفريق القدح في قاتلي‬
‫عثمان وسيلة لجلب قلوب الناس البسطاء ‪ ،‬و الضعفاء من المسلمين ‪ ،‬و الجهلء الذين هم أتباع كل ناعق ‪ ،‬و‬
‫من ل بصيرة لهم ‪ ،‬و هم السواد العظم في المة ‪ ،‬و خصوصاً أهل الشام ‪ ،‬الذين كانوا لمعاوية بن أبي سفيان ‪،‬‬
‫كون الشيعة لعلي بن أبي طالب ‪.‬‬

‫و كل الفريقين تابع لهواه في أميره ‪َ ،‬تبْ َعةَ العمى لقائده ‪ ،‬و العبد لمالكه ‪ ،‬فهيجوا الفتنة ‪ ،‬و اصطلوها أغماراً ‪،‬‬
‫خاضعين لزعماء الهوى ‪ ،‬المنادي للباطل في صورة الحقّ ‪ ،‬المناوين للمام العدل ‪ ،‬بصورة يعرفها أهل‬
‫البصائر ‪ ،‬فأشعلوا نيران العداء بين إخوانهم ‪ ،‬لجل رئاسة حقيرة تمضي في أيام يسيرة ‪ ،‬تكون عاقبتها سوء‬
‫الدار و العياذ بال ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ما كان لهم غرض ديني في قَ ْومَتِ ِهمْ تلك إل ذلك ‪ ،‬و إِنّما كان كل أمرهم ‪ ،‬ومنتهى مرامهم الملك فقط ‪ ،‬ل ما‬
‫أقصر ذلك النظر ‪ ،‬و ما أخطأ تلك الراء ‪.‬‬

‫و على كل حال فقد تحقق بغيهم بذلك ‪ ،‬و تَبَ ّينَ باطلهم هنالك ‪ ،‬و قد َدلّتْ على عملهم الخبار النبوية ‪ ،‬و شهدت‬
‫على فسادهم في سعيهم هذه الدلة العقلية ‪.‬‬
‫عمّارٌ َتقْتُُلهُ ال ِف َئةُ البَاغِيةُ ‪،‬‬
‫فقد ورد فيهم عن رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – قوله الشهير‪َ " .:‬و ّيحَ َ‬
‫َي ْدعُوهُمْ إِلى الجَ ّنةِ‪ ،‬و َي ْدعُو َنهُ إِلى النّارِ " (‪ )1‬و هذا أكبر شاهد عليهم ‪ ،‬فثبت َبغْيّهمُ بذلك ‪ ،‬و اتضح جورهم‬
‫عدّ المسلمون على عثمان أحداث ذكر بعضها المام البرادي – رحمه ال– في جواهره (‪ ، )2‬و‬ ‫هنالك ‪ ،‬و قد َ‬
‫ذكرها المام عبدال بن إباض في كتابه لعبد الملك بن مروان (‪. )3‬‬

‫حدَ النعمة‪ ،‬و كَ َف َرهَا عثمان ‪ ،‬جعله المسلمون‬


‫قال القطب – رحمه ال و رضي عنه – ‪ " .:‬أول [‪ ]214‬من جَ َ‬
‫إماماً لهم ‪ ،‬و حكموه على أنفسهم ‪ ،‬و دينهم فخانهم في كل ذلك " (‪. )4‬‬

‫و نسبة الكُ ْفرِ لعثمان مع خيانة المسلمين من مثل هذا العالم الجليل لمر عظيم تََل ّبسَ به عثمان بن عفان ‪ ،‬فإن‬
‫المسلمين أحسنوا به الظن ‪ ،‬و تأملوا فيه الخير لدينهم و دنياهم ‪ ،‬حتى ظهر منه استدعاء أهل اليمان من‬
‫المسلمين على قتله ‪.‬‬

‫قال القطب – رحمه ال– ‪ ".:‬زاد عثمان في مسجد رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – وَ َوسّ َعهُ ‪ ،‬و‬
‫ابتاع من قومٍ أراضيهم‪ ،‬و أبى آخرون فَ َغصَبَ ُهمْ ‪ ،‬فصاحوا به ‪ ،‬فسيرهم إلى الحبس ‪ ،‬وقال قد فعل بكم عمر هذا‬
‫صبِ أموال النّاس ‪ ،‬فيكون كطاعمة اليتام‬ ‫الفعل فلم تصيحوا به " (‪ ، )5‬قلت ‪ :‬ليته لم يفعل إذا كان التوسيع بِ َغ ْ‬
‫من كسب فرجها الحرام ‪ ،‬فكان عثمان بذلك واقعٌ في كبائر متعددة منها‪ .:‬غصب الناس أموالهم ‪ ،‬و هو من أكبر‬
‫الكبائر ‪ ،‬و الثانية حبسهم بغير حَقّ ‪ ،‬و هو هَ ْتكٌ لعراضهم ‪ ،‬و إهانة لهم ‪ ،‬فإن إنزال العقاب عليهم بغير موِجب‬
‫من أفحش المعاصي ‪ ،‬ليته لم يفعل شيئاً من ذلك ‪ ،‬و َوفّى بما عهده إليه المسلمون ‪ ،‬و َبرّ اليمين التي حلّفه إيّاها‬
‫عبد الرحمن بن عوف رئيس الشورى أنه إذا وَلُّه الخلفة أن يسير بها سيرة صاحبيه أبي بكر و عمر – رضي‬
‫ال عنهما ‪. -‬‬

‫لكن خواتم العمال‪ ،‬و منتهى المور دليل على ما يؤول إليه أمر النسان ‪ ،‬وَ سْبقُ الكتاب على النسان َو َردَ به‬
‫الحديث عن النبي – عليه الصلة والسلم (‪ ، - )6‬و الشياء كلها بيد ال عز و جل ‪ ،‬و قد ثبت أن العمال‬
‫بخواتمها ‪ ،‬و أجمع على ذلك المسلمون ‪.‬‬

‫و الثالثة[‪َ : ]215‬ق ْذ ُفهُ عمر – رضي ال عنه – بذلك الفعل الذي أنكره عليه المسلمون ‪ ،‬و لم يكن ذلك و ل‬
‫مثله من عمر ‪ ،‬بل و ل قريب منه ‪ ،‬بل كان عمر رضياً عند النبي – عليه الصلة والسلم ‪ ، -‬و عند أبي بكر ‪ ،‬و‬
‫عند المسلمين أجمع ‪ ،‬و لو كان كما يقول عثمان لشتهر ذلك عند المسلمين ‪ ،‬و نقل إلى من بعدهم كما نقل عن‬
‫غيره ‪.‬‬

‫و مقام عمر أنزه المقامات في السلم ‪ ،‬وَ أَعزّ العمال الدينية أعماله ‪ ،‬و أشرف أيام الخلفاء الراشدين في‬
‫السلم أيام عمر بن الخطاب – رضي ال عنه ‪ ، -‬إذ كان عمر يقيم الحدود على أولده ‪ ،‬و كان عثمان يسترها ‪،‬‬
‫و يناضل عنها حين تبدوا من أقاربه و أرحامه ‪.‬‬
‫=================‬
‫(‪)1‬سيق تخريجه‬
‫(‪)2‬الجواهر المنتقاة ص ‪97-53‬‬
‫(‪)3‬الجواهر المنتقاة ص ‪167- 156‬‬
‫(‪)4‬هيمان الزاد ( ‪)11/342‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪)5‬هيمان الزاد ( ‪)342 /11‬‬
‫(‪ ) 6‬أخرجه البخاري في (‪-82‬كتاب القدر ‪ - 1‬باب القدر) (‪ )4/218‬رقم ‪ ،6594‬وأخرجه مسلم في(‪ -46‬كتاب القدر ‪ -1‬باب كيفية الخلق الدمي) (‬
‫‪ )4/2036‬رقم ‪ ،)643(1‬وأخرجه الترميذي في(‪ -33‬كتاب القدر ‪ -4‬باب ما جاء أن العمال بالخواتيم) (‪ )4/446‬رقم ‪ ،2137‬وأخرجه ابن ماجه في‬
‫(المقدمة ‪ -10‬باب في القدر)‪،‬ص ‪ 12‬رقم ‪ ، 76‬وأخرجه أحمد في (‪ )3/517‬رقم ‪ 3624‬وفي(‪ )4/90‬رقم ‪ ،3934‬وأخرجه عبد الرزاق عبناه في‬
‫المصنف(‪ )9/81‬رقم ‪ ،16455‬وأخرجه ابن حبان(‪ )14/47‬رقم ‪،6174‬وأخرجه الحميدي(‪ )1/69‬رقم ‪ ، 126‬وأخرجه البزار(‪ )4/351‬رقم ‪،1551‬‬
‫وأخرجه الشاشي في مسنده(‪ )2/140‬رقم ‪ ،680‬وأخرجه أبو بعلي(‪ )8/128‬رقم ‪ ،4668‬وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى(‪ )7/691‬رقم ‪،15421‬‬
‫وأخرجه البيهقي في شعب اليمان(‪ )1/207‬رقم ‪، 187‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبي(‪ )1/296‬رقم ‪، 872‬وأخرجه الطبراني أيضاً في المعجم‬
‫الوسيط(‪ )3/113‬رقم ‪ ،2469‬وأخرجه أيضاً في المعجم الصغير(‪ )1/204‬رقم ‪ 503‬وأخرجه أيضاً في مسند الشامين(‪ )1/40‬رقم ‪29‬‬

‫وقد أجمعت المة كلها على أن عمر سيد المراء بعد أبي بكر – رضي ال عنهما – إل أنه أي أبو بكر لم تطل‬
‫أيامه ‪ ،‬فتعجل به داعي المنون ليلحق بسيده المصطفى – صلى ال عليه و آله وسلم – فخلفه الفاروق ‪ ،‬و‬
‫الشديد في دين ال ‪ ،‬القوي في طاعة ال ‪ ،‬الذي لم َيزَلْ الصخرة الراسية في الحظيرة السلمية ‪ ،‬رحمه ال و‬
‫رضي عنه ‪ ،‬حتى لَقِيَ رَ ّبهُ شهيداً ‪.‬‬

‫ثم قام هذا المير الثالث مأخوذ عليه عهد ال و رسوله أن يسير بسيرة صاحبيه ‪ ،‬و كان مرشحاً لمثل هذا‬
‫خيّبَ المل ‪ ،‬و غَ ّيرَ السيرة ‪ ،‬و لعله سَ َبقَ عليه‬
‫المنصب العالي ‪ ،‬حتى كان منه ما كان ‪ ،‬مما َك ّدرَ الصفو‪ ،‬و َ‬
‫الكتاب ‪ ،‬و إن كان من المبشرين بالجنة‪ ،‬فلعله تاب‪ ،‬وَ قَبِلَ ال توبته ‪ ،‬و عفو ال عظيم ‪ ،‬و كرمه كذلك ‪.‬‬
‫و إن صح أنه من أهل الجنة فل شك أنه يتوب ‪ ،‬و يتوفاه ال تائباً ‪ ،‬إذ لم يكن معصوماً من اقتراف المآثم ‪ ،‬و‬
‫التائب من الذنب كمن ل ذنب له ‪]216[.‬‬

‫و أما حكم المسلمين فيه ‪ ،‬فهو مبني على ما صدر منه في الظاهر مخالف لصول الدين ‪ ،‬و قواعد الحقّ عند‬
‫المسلمين ‪ ،‬و ذلك واجب على كل مسلم أن ينزل أهل الحقّ منازلهم ‪ ،‬و أهل الباطل كذلك بباطلهم ‪ ،‬و ليس ما‬
‫يبذله النسان من ماله أو من أعماله ضامن له النجاة مع ال ‪ ،‬إنما ذلك شيء آخر ‪.‬‬

‫خلَقَ لَ ُهمْ ف ِ‬
‫ي‬ ‫أل تسمع رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – يقول‪ِ " :‬إنّ الَ يُؤْ ّيدُ َهذََا الدّينَ ِبرِجَالٍ لَ َ‬
‫جرِ " (‪ )1‬فأمر الخرة غيب ل يعلمه إل ال ‪ ،‬و كذلك يدخل ال‬ ‫خ َرةِ ‪ ،‬و ِإنّ الَ يُؤْ ّيدُ َهذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الفَا َ‬
‫ال ِ‬
‫الجنة رجال ل أهمية لهم بين المسلمين ‪ ،‬و ل كبير أعمال لهم في الدين في نظر المسلمين ‪ ،‬فيقودهم التوفيق‬
‫إلى رحمة ال عز و جل ‪ ،‬فيخلص العمال و النيات في آخر أعمارهم ‪.‬‬

‫و قد اتفق أهل العلم من المسلمين أن عثمان عدل عن الطريقة الصحيحة ‪ ،‬و السيرة الرجيحة ‪ ،‬فكان يبني دولة‬
‫بني أمية على كواهل المسلمين ‪ ،‬و يهدم دولة المسلمين بذلك ‪ ،‬مع علمه بأحوال بني أمية ‪ ،‬و سوء أعمالهم ‪.‬‬

‫ولم يزل يستغل اليام في مصالحهم ‪ ،‬و يعمل على إعلء شأنهم ‪ ،‬فكان يئوى طريد رسول ال – صلى ال عليه‬
‫و آله وسلم – و هذا كبير في السلم ‪ ،‬فإنه َردّ لحكم الرسول – صلى ال عليه وسلم‪. -‬‬

‫ويمنح آل أمية المنح الطائلة ‪ ،‬و يبذل لهم الموال الجسيمة ‪ ،‬فاستنكر المسلمون ذلك ‪ ،‬واشمئزوا منه أَيّما‬
‫اشمئزاز ‪ ،‬و نفروا عنه حتى نزلت الوحشة بعد الطمأنينة ‪ ،‬و تَ َك ّدرَ الصَ ْفوُ ‪ ،‬و اندلع في المسلمين ما أوري بينهم‬
‫نيران الحقد ‪ ،‬و بدأ بذر الشقاق [‪]217‬في أرض الدولة السلمية ينبت ‪ ،‬ليكون بأسهم بينهم ‪ ،‬و تلك سنة ال‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عز و جل في عباده ‪ ،‬و بتداول اليام تارة لنا‪ ،‬و تارة علينا ‪.‬‬

‫شرَرٌ اتصل بأكبر عواصم السلم ‪ ،‬و تغلغل في‬‫و أوعز الحقد الصدور حتى اتقدت نيران العداء ‪ ،‬و طار لها َ‬
‫مصر‪ ،‬و العراق‪ ،‬و الشام ‪ ،‬و محل اتقادها الحجاز بأسره ‪ ،‬حتى تدعى ذلك البناء الديني من أساسه ‪ ،‬و انصدع‬
‫صرح العدالة من أصله ‪ ،‬و بقي أمر المسلمين بين أمواج تحمل و أخرى تطويه فتغرقه ‪.‬‬

‫و العهد برسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و معجزاته الباهرة ‪ ،‬و آياته الزاهرة قريب ‪ ،‬و َرسْمُ اليمان‬
‫في أفق السلم يلمع لمعان البرق ‪ ،‬فتهافت المسلمون من جميع العواصم السلمية متألمين لذلك الحادث‬
‫المؤسف ‪ ،‬و كانوا يضنون أن أمرهم سيحكم منتهى الخف و الحافر ‪ ،‬كما أخبرهم رسول ال – صلى ال عليه و‬
‫آله وسلم ‪ ، -‬فهم ينتظرون ذلك ‪ ،‬و قد تَجَلّى لهم مصدقه من عمل أبي بكر – رضي ال عنه – و أَ ّي َدهُ عمل‬
‫عمر ‪ ،‬و تله عثمان في ستة الول من خلفته ‪ ،‬و إذا به الن ينهار في عقر داره ‪ ،‬بدلً من أن يدوس عرش‬
‫كسرى وقيصر غير ممسوس جانبه بألم ‪ ،‬و ل مصاب عرضه بخطر ‪.‬‬

‫و لكن إذا َق ّدرَ ال أمراً في أزله كان ‪ ،‬و في الكّلّ حكم ل يهتدي لها إل الخصاء ممن فتح ال لهم أبواب الهدى ‪،‬‬
‫جهِ‪ ،‬و عناده مراغمة للحقّ ‪ ،‬لم يروا‬
‫فلم نزل المسلمون المدينة المنورة‪ ،‬و َرأَوْا ما رأوا من أمر عثمان ‪ ،‬و َتعَوّ ِ‬
‫من الواسع إل أن يوقفوا عثمان في المحل الذي يرآه القرآن‪ ،‬و يرضى به أهل اليمان ‪ ،‬ل حيث يحب[‪]218‬‬
‫عثمان ‪ ،‬فهاجموه في داره بعد حصار دام مدة غير مخفية حتى قضوا عليه في حال يرثى له فيها إخوانه ‪،‬‬
‫فتزعزع ذلك الحجر ‪ ،‬و انهار ذلك الصرح ‪ ،‬و ا ْن ّدكَ ذلك الطود الذي حاوله بني أمية ‪ ،‬فتأخر القوم في ظاهر‬
‫المر‪.‬‬

‫فقدم المسلمون علي بن أبي طالب إمام على الناس على النهج الذي مشى عليه إخوانه ‪ ،‬و رأى صنيعهم في من‬
‫انحرف عن الحقّ‪ ،‬و مال عن طريق الصدق ‪ ،‬فكان ذلك درس في ذاكرة كل ذي نهى ‪.‬‬

‫و كان علي راسخ القدم لهليته للمامة ‪ ،‬إذ كان عالماً‪ ،‬واعياً‪ ،‬جليلً‪ ،‬هماماً‪ ،‬مقداماً ل يعرف الذعر ‪ ،‬و ل يرهب‬
‫الخطار ‪ ،‬غير مشغوف بحب الدنيا ‪ ،‬و ل مؤثر له ‪ ،‬و ل راكن إليها ‪ ،‬و لم تُ ْع َرفْ له هفوة في شيء مما يعيب‬
‫مثله ‪ ،‬إل تلكئه عن بيعة أبي بكر ‪ ،‬ثم بايع و أبدى للمسلمين العذر ‪ ،‬الذي كان سبب تأخره عن البيعة ‪ ،‬فقبلوا‬
‫منه ‪.‬‬

‫فَوَلّوه المر ‪ ،‬و ذلك غاية اجتهادهم ‪ ،‬فقام بالمر قيام ساء آل أمية ‪ ،‬خيب آمالهم ‪ ،‬و أيقنوا أنهم خارجون عن‬
‫دائرة المر و النهي ‪ ،‬و حب الرئاسة َي ْد ُرسُ لهم أعمال علي بن أبي طالب ‪ ،‬و إنه غير تاركهم لعدم استقامتهم‬
‫صحّ معه دين ‪.‬‬
‫كما يرى الشرع ‪ ،‬بل لهم مآرب دنيا‪ ،‬و هي البلء المهلك‪ ،‬و الردى الذي ل َي ِ‬

‫و كان معاوية أدهى الناس ‪ ،‬و من دهائه علمه بعلي بن أبي طالب تمام العلم ‪ ،‬و خبرته الواسعة بأصحابه و‬
‫أتباعه ‪ ،‬و الذي يحبه ‪ ،‬و الذي يبغضه ‪ ،‬و ممن يؤثر عليه ‪ ،‬و من هذه الوجهة دخل عليه ‪ ،‬إذ دَسّ له ناساً‬
‫يحترمهم علي [‪ ]219‬لظواهر أحوالهم ‪ ،‬و ل يعتقد فيهم غير الحقّ ‪ ،‬و هم أعوان معاوية ‪ ،‬و أعمدة أمره ‪ ،‬و‬
‫قد ملء روعه بأمانيه ‪ ،‬و غمرهم بآماله ‪ ،‬و رأى النجاح له من هنا ‪.‬‬

‫لقد جعل معاوية بن أبي سفيان الطلب بدم عثمان العصا التي يتوكأ عليها ‪ ،‬فاتحاً بذلك باب الفتنة ‪ ،‬ليقاسم علي‬
‫بن أبي طالب الملك ‪ ،‬و قد أدخل على أهل الشام جهيزة دم عثمان ‪ ،‬و أنه قتل مظلوماً ‪ ،‬و أن القاتلين باغون‬
‫عليه ‪ ،‬و أن لو كان معاوية المذكور موجوداً بالمدينة لما َقدَرَ أحدٌ أن يفعل في عثمان ‪ ،‬و أنه هو المسئول عن‬
‫دماء بني أمية ‪ ،‬و السائل فيها ‪ ،‬لكونه ابن السيد أبي سفيان الذي جعل الرسول – عليه الصلة والسلم –‬
‫المان لمن دخل داره يوم الفتح ‪ ،‬إذ كان رجلً فخوراً ‪ ،‬فأخبر رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – عن ذلك‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فجعلها مزية له ‪ ،‬و إلى ذلك يشير القائل ‪:‬‬

‫و َأنّ معاوية يرى نفسه بتلك المنزلة ‪ ،‬و أدخل على قلوب الشاميين ما تملكها به بدهائه ‪ ،‬و ما كان ينفقه عليهم‬
‫من الموال ‪ ،‬و المال فَعّال قوي في قلوب السواد العظم الساذج ‪ ،‬فإن إدراك الحقّ ل يقدر عليه كل أحد ‪ ،‬و‬
‫بذلك خرج في مجامعهم يطوف عليهم بسربال عثمان ‪ ،‬ملطخاً بالدم ‪ ،‬ممزقاً بالضرب ‪ ،‬و هو يبكي عليه بكاء‬
‫الثكالى ‪ ،‬كما قال العلمة أبو مسلم ‪ -‬رحمه ال[‪]220‬تعالى ‪:) 2 ( -‬‬

‫وكان كلً ل يهوى علياً ‪ ،‬و ل يرجو خيره ‪ ،‬فكان ذلك مؤثراً في قلوب أهل الشام ‪ ،‬و كان معاوية أهبهم لهذا‬
‫الصدد الذي ينويه ‪.‬‬
‫=============================‬
‫( ‪ ) 1‬أخرجه البخاري في(‪ 26‬كتاب الجهاد والسير ‪ -128‬باب إن ال يؤيد الدين بالرجل الفاجر(‪ ) 2/266‬رقم‬
‫‪،3062‬وأخرجه مسلم في (‪-1‬كتاب اليمان ‪ -47‬باب غلظ تحريم قتل النسان نفسه) (‪ )1/105‬رقم ‪( 178‬‬
‫‪ )111‬وأخرجه أحمد في المسند (‪ )163/ 8‬رقم ‪ 8076‬وأخرجه الدارمي في ( كتاب السير ‪ -74‬باب إن ال‬
‫يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) (‪ ) 194 /2‬رقم ‪ ،2517‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ ) 9/185‬رقم‬
‫‪ 8913‬وأخرجه الطبراني في المعجم الوسط(‪ ) 4/56‬رقم ‪ 3393‬وأخرجه ابن حبان (‪ ) 378-10/377‬رقم‬
‫‪4518‬و ‪4519‬وأخرجه عبد الرزاق (‪ ) 5/269‬رقم ‪ 9573‬وأخرجه البيهقي في السنن (‪ ) 8/343‬رقم‬
‫‪ 16834‬وأخرجه ابن منده في كتاب اليمان (‪ ) 318 /1‬وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (‪ ) 1/78‬رقم‬
‫‪126‬‬
‫( ‪ ) 2‬ديوان أبي مسلم ص ‪ 36‬وقد تقدم تخريجه‬
‫ح ْرفُ السّاق من ُقدُم‪ ،‬ويقال قرع طنابيب الَمر‪ .:‬ذلّ‪ (.‬القاموس المحيط ص ‪ 111‬مادة ظ ن ب‬ ‫( ‪ ) 3‬الظّنْبُوبُ‪َ .:‬‬

‫عكّ عليه ‪ .:‬عطف (القاموس المحيط ‪ )949/‬مادة ع ك ك‬ ‫عكّ ‪ .:‬عطف‪ ،‬يقال َ‬ ‫(‪َ ) 4‬‬
‫(‪ )5‬العُجْبُ‪ .:‬أصل الذنب (مختار الصحاح‪ )174/‬مادة ع ج ب ‪.‬‬
‫ضرُ‪ .:‬ما تشمه من ريح تجدها من طعام فاسد أو وسخ الدسم واللبن (القاموس المحيط‪ )492 /‬مادة و‬
‫(‪ )6‬ال َو َ‬
‫ضر‪.‬‬

‫و ليعلم أولو المر أن أمثال هؤلء ينبغي أل توضع أياديهم في شيء من أمور المسلمين ‪ ،‬فإنهم أعمدة بلء ‪ ،‬و‬
‫أركان شر ‪ ،‬لنهم يطلبون المارة ‪ ،‬و يحاولون الملك ‪ ،‬فأي ولي أمر استعمل على أمر المسلمين كهؤلء إل َندِمَ‬
‫شدّ الندم ‪ ،‬بل ينبغي أن يعطوا ثم يطردون عن المور طرداً ‪ ،‬فإن الشر يأتي من قبلهم ‪.‬‬
‫َأ َ‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و لذلك لما رأى معاوية مُكْ َن َتهُ من أهل الشام ‪ ،‬و وعدهم المواعيد الكبيرة ‪ ،‬و أفاض عليهم الدرهم و الدينار ‪ ،‬و‬
‫كانوا له نواة فعالة في سبيل صدده ‪.‬‬

‫شفَ حقيقة الباضية َونَوايَاهُمْ و أعمالهم جملة من أجلة العلماء الذين فتح ال عليهم أبواب التوفيق‬ ‫وقد َك َ‬
‫للصالحات ‪ ،‬فناضلوا عن الباضية في كل ميادين الموضوعة أمام العقبات الخطرة ‪ ،‬وحققوا عنهم كل صحيح‬
‫صدَقُ ال َمنَا ِهجِ فِي َتمْيِيزِ البَاضِ ّيةِ ِمنِ الخَوَارِجِ‬
‫ثابت ‪ ،‬بما ل يرتاب فيه عاقل ‪ ،‬وقد ذكرنا جملة منهم في كتابنا " َأ ْ‬
‫" (‪ )1‬و غيره من كتبنا في هذا الصدد ‪ ]221[،‬فعسى ال أن يقدر نشرها على عناية صالح في الدين من‬
‫أخصاء المسلمين ‪.‬‬

‫كما قام بكشف المرام و تحقيق المقام ‪ ،‬العالم الحر الغيور الصادق في قوله و فعله ‪ ،‬الهمام محمد علي دبوز (‪)2‬‬
‫صاحب " تاريخ المغرب الكبير " في غضون كتابه الجليل ‪ ،‬أبدى فيه عن الباضية الدرر المصون‪ ،‬و الجوهر‬
‫المكنون ‪ ،‬و الحقّ الذي ل يمترى فيه أهل النهى ‪ ،‬و قد حَلّلَ المشاكل الموجهة ضد الباضية تحليلً ل مزيد‬
‫عليه ‪ ،‬و بيّن أعمالهم الدينية والدنيوية بياناً يلجم أهل العناد بلجام القهر ‪ ،‬و ينشر عليهم علم الحقّ ‪ ،‬الذي‬
‫نشأت عليه نشأة الباضية ‪ ،‬و بَ َلجَ ُت ّرهَاتَ الغالين فيهم ‪ ،‬و المتمردين عليهم من الجهلء ‪ ،‬والعتاة على الحقّ ‪،‬‬
‫و يفتح آذاناً أغلقها التقليد ‪ ،‬و عيوناً أعمها التضليل ‪ ،‬و السنةً عرقلها العدوان ‪.‬‬

‫و المقصود من هذا أن الباضية هم الذين يثبتون على الحقّ حين يحتار غيرهم و يتحير ‪ ،‬و تلين قناته للباطل ‪،‬‬
‫و على الهوى المروي يعتمد ‪ ،‬و عن النهج الحقّ يتغير ‪ ،‬أما الباضية فينزلون كل أحد منزلته من الدّين ‪ ،‬و‬
‫يتبرأون ِم ّمنْ يخالف نَ ْهجَ المسلمين ‪ ،‬فهم ل يحابون لجل دنيا ‪ ،‬و ل يخضعون لهل الضلل ‪ ،‬إل ريثما يرون‬
‫لوائح النصر فسرعان ما يترامون على أبوابها ‪ ،‬و ليس لهم في عثمان ضغن أو في غيره من الناس ما وجدوا‬
‫الدّين جاري في مجاريه ‪ ،‬و أحكام المسلمين على الصغير و الكبير ل تداريه و ل تجاريه ‪ ،‬و للحقّ أهل كما‬
‫للباطل كذلك ‪ ،‬فلذلك ترى الباضية يتحاملون على من حَادَ عن الحقّ مهما كان ‪]222[.‬‬

‫واعلم أن معاوية بن أبي سفيان جعل الطلب بدم عثمان السَّلمَ الذي يعرج عليه إلى إثارة الفتنة ‪ ،‬و شَقّ العصا‬
‫بين المسلمين ‪ ،‬ذلك لن معاوية يعلم أن المسلمين اشتركوا في قتل عثمان ‪ ،‬وعليه فهيهات الثأر لعثمان و قاتله‬
‫المسلمون معاً ‪ ،‬و علي بن أبي طالب من جملتهم ‪ ،‬و هو إمامهم ‪ ،‬و بهذا ل يحصل انقياد القاتلين لعثمان ‪،‬‬
‫فيكون سبباً لفتح باب الفتنة ‪ ،‬ذلك لن معاوية يطلب بدم عثمان ‪ ،‬و علي ل يعترف له بدم ؛ لن عثمان قتله‬
‫المسلمون حين رأوه استوجب القتل ‪ ،‬فأين الطلب بدمه ؟!‪.‬‬

‫و لو كان مثلً قتل مظلوماً لكان دمه للمام ‪ ،‬و هو الذي يقوم بطلب القاتل شكا معاوية أو سكت ‪ ،‬فمال لمعاوية‬
‫يقوم طالباً حقا ليس له !!‪ ،‬و يعلم أنه ل يجده ‪ ،‬لكنه قام ليفتح باباً يدخل منه للخلف ‪ ،‬و هو الدّاهية الكبرى ‪.‬‬

‫و بذلك كانت بين المسلمين الموقعة العظمى التي ل يكاد التاريخ يحفظ لنا مثلها ‪ ،‬و هي في صفين سنة سبع و‬
‫ثلثين للهجرة ‪ ،‬و فيها قتل عمار بن ياسر – رضي ال عنه – الذي قال فيه رسول ال – صلى ال عليه و سلم‬
‫غ َيةُ " (‪ ، )3‬فقتل في جيش علي بن أبي طالب بصفين ‪ ،‬و قاتله معاوية و جنوده ‪.‬‬
‫–‪ " :‬تَ ْقتُ َلكَ الفِ ْئةُ البَا ِ‬

‫و كان قتله دليلً واضحاً على بغي قاتله بشهادة رسول ال – صلى ال عليه و سلم و آله – حيث قال فيه‪" :‬‬
‫تَ ْقتُ َلكَ الفِ ْئةُ البَاغِيةُ " (‪ ، )4‬و هو من أفاضل الصحابة و أعيانهم ‪ ،‬و من أعينهم الباصرة لما فيه عن النبي –‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ ، -‬و أجمع المسلمون [‪ ]223‬على أن عمار من أفضل الصحابة ‪ ،‬فإنه عذب في إسلمه ‪،‬‬
‫ج ّنةُ‬
‫عدَ ُكمْ ال َ‬
‫سرِ َفِإنّ مَ ْو ِ‬
‫و كان النبي – عليه الصلة والسلم – يمر عليه و هو يعذب و يقول له‪ " .:‬صَبْراً يا آلَ يَا ِ‬
‫" (‪. )5‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫عمّارٍ " (‪)6‬‬


‫ع َمرٍ ‪ ،‬و اهْ َتدُوا بِ َهدْيِ َ‬
‫و كان – صلى ال عليه وسلم – يقول‪ " .:‬اقْ َتدُوا بِالذِ َينِ منْ بَ ْعدِي أَبِي َب ْكرٍ و ُ‬
‫‪ ،‬و هو دليل واضح على أن الذي يتولى الخلفة بعده – صلى ال عليه و آله وسلم – أبو بكر ثم عمر ‪ ،‬و إلّ لما‬
‫كان لقوله – عليه الصلة والسلم – معنى ‪ ،‬حيث قال‪ " .:‬بالذي من بعدي أبي بكر وعمر " ‪ ،‬فإن البعدية‬
‫المشار إليها ل يختص بها أبو بكر و عمر ‪ ،‬فظهر المراد من ذلك واضحاً جليلً ‪.‬‬

‫و كان عمار سابع سبعة أظهروا إسلمهم ‪ ،‬و لما استأذن على النبي – صلى ال عليه و آله و سلم – قال فيه‬
‫الرسول – عليه الصلة والسلم – " ائذَنُوا َلهُ َمرْحَبَاً بِالطّ ْيبِ ال ُمطّيبِ " (‪ ، )7‬و فيه ورد أيضا‪َ " .:‬منْ عَادَى‬
‫ضهُ الُ " (‪ ، )8‬و حسبه منقبة في المة ‪ ،‬روى ذلك ابن حجر في‬ ‫عمّار أَبْ َع َ‬
‫عمّار عَادَاهُ ال ‪ ،‬و َمنْ أَبْ َغضَ َ‬
‫َ‬
‫الصابة ‪ ،‬و فيه أيضا يقول " و تواترت الحاديث عن النبي – صلى ال عليه و آله و سلم – أن عمار تقتله‬
‫الفئة الباغية ‪ ،‬و أجمعوا أنه قتل مع علي بصفين " (‪ )9‬اهـ ‪.‬‬

‫و في التاريخ أن أناساً ممن كانوا حفظوا عن النبي – عليه الصلة والسلم – ما قاله في قتل عمار فلما قتل‬
‫هموا بالفرار من جيش معاوية ‪ ،‬و هم من أهل الشام ‪ ،‬جاءهم الداهية معاوية قائلً لهم‪ :‬لسنا نحن قتلناه ‪ ،‬و إنما‬
‫قتله من أخرجه لقتالنا ‪ ،‬فقنعوا بذلك ‪ ،‬و سكتوا بتلك الشبهة التي ل يصغي لها من له مسكة من عقل ‪.‬‬

‫قال في الستيعاب (‪ )10‬في ترجمة عمار – رضي ال عنه – الحافلة بفضائله السامية ‪ ،‬التي لو كتبت بماء‬
‫سرِ‬
‫عمّارَ ْبنَ يَا ِ‬
‫الذهب لكان قليلً في حقه ‪ ،‬يقول فيه رسول [‪ ]224‬ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ‪ِ " :‬إنّ َ‬
‫ضهُ الُ " في أحاديث عديدة‬ ‫عمّارَ أَبْ َغ َ‬
‫ح َمةِ ُأذُ ِنهِ إِيَماناً " (‪َ " ، )11‬منْ أَبْ َغضَ َ‬
‫خ َمصَ َقدَم ّيهِ إِلى شَ ْ‬
‫حشِىَ مَا بَ ْينَ أَ ْ‬
‫ُ‬
‫تعبر عن فضائل عمار‪.‬‬

‫و عن أحواله في صفين روى العمش (‪ )12‬عن أبي عبد الرحمن السلمي (‪ )13‬قال ‪ :‬شهدنا مع علي صفين ‪،‬‬
‫فرأيت عمار بن ياسر ل يأخذ في ناحية ‪ ،‬و ل وادٍ من أودية صفين إلّ رأيت أصحاب محمد – صلى ال عليه‬
‫وآله و سلم ‪ -‬يتبعونه كأَنَه علم لهم ‪ ،‬و حكى ما قاله عمار في ذلك الموقف الرهيب من الكلم ‪ ،‬و ما اطمئن إليه‬
‫عمار بن ياسر وهو يرى الموت نشرة أعلمه ‪ ،‬و حام على روح عمار حمامه ‪ ،‬فنادى عمار رجال اليمان و‬
‫حضهم على لقاء ال قائل ‪:‬‬

‫و ال لو هزمونا حتى بلغنا أو قال حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق ‪ ،‬و هم على الباطل (‪. )14‬‬

‫حتّى َيمُوتَ " ‪ ،‬و في رواية‪" .:‬‬


‫حقّ َ‬
‫سمّ ْيةَ ‪ ،‬فَإِ ّنهُ َلنْ يُفَارِقَ ال َ‬
‫علَيْ ُكمْ بِا ْبنِ ُ‬
‫و عنه – عليه الصلة والسلم ‪َ " : -‬‬
‫حقّ و ضلل الباغي ‪ ،‬و ل دافع لهذا إل إذا‬ ‫فَإِ ّنهُ َيدُورُ َمعَ الحَقّ حَيْثُ دَارَ " (‪ ، )15‬و في هذا كفاية لتحقيق المُ ِ‬
‫كان الدافع ل يعتمد إل على هواه ‪ ،‬أو على قوتِه ‪.‬‬

‫حيّر معاوية ‪ ،‬و اندهش مما رأى ‪ ،‬و هم بالهرب ‪ ،‬و لكن وزيره ابن‬ ‫و لما دارت رحى الحرب في صفين ‪ ،‬تَ َ‬
‫العاص سَ ّكنَ دهشه ‪ ،‬فإن علي بن أبي طالب دعا معاوية بن أبي سفيان إلى مبارزته ‪ ،‬ليصدق ما قاله في كتابه‪.:‬‬
‫" لو زرتك في المهاجرين من أهلِ الشام "‪ ،‬و أخيراً اتقى معاوية بعمرو بن العاص حين لم يقدر على لقاء البطل‬
‫الهاشمي ابن أبي طالب ‪ ،‬و فيها كشف عمرو عن عورته في وجه علي بن أبي [‪ ]225‬طالب لعلمه أن علي ل‬
‫يرى عمرو شيئاً يهوله ‪ ،‬و ل ينثني عنه ‪ ،‬و لكنه يعلم أن الحياء يرد علياً ‪ ،‬فإن الكريم يترفع عندما يرى مثل‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ذلك ‪ ،‬فكان كشف عمرو لسوئته مضرب المثل للعرب إلى أخر الدهر حتى قال في ذلك قائلهم (‪: )16‬‬

‫و ذكر التاريخ ما كان عليه عمرو بن العاص من الدهاء الفاحش ‪ ،‬و ذكر خوف معاوية‪ ،‬و حيرته‪ ،‬و ال ّد َهشَ (‬
‫‪ )17‬الذي استولى عليه ‪ ،‬و اجتمع الشعث بن قيس الكندي أحد الدعاة لمعاوية‪ ،‬و أحد الدهاة في جيش علي بن‬
‫أبي طالب ‪ ،‬و أحد الغواة في المسلمين ‪ ،‬و َنصَبَ المكيدة الكبرى لعلي بن أبي طالب في جيشه الكثيف الباسل‬
‫صةُ علي بن أبي طالب ‪ ،‬و امتناع‬‫غ ّ‬‫بالتحكيم ‪ ،‬واختيار أبي موسى الشعري الجائر الذي هو عصا عمرو‪ ،‬و ُ‬
‫الخاصة من قبوله نائباً عن المام ‪ ،‬و قائماً عن رجال السلم ‪ ،‬و عن الجهابذة العلم ‪.‬‬

‫و قيام الشعث بتمديد مدة الجل لكي يتقوى جيشهم الخاسر الذي يرى لمعان ذي الفقار على العناق ‪ ،‬رجوع‬
‫علي بن أبي طالب بجيشه إلى الكوفة مصدع الصفوف ‪ ،‬ل همة له إل التأوه و التأفف من الواقع ‪.‬‬

‫ح ْزنَ علي بن أبي طالب‬


‫و قيام ابْنَيّ ُأدّية (‪ )18‬في وجه‪ ،‬و هما جمرة حامية إيماناً‪ ،‬و إخلصاً ل‪ ،‬و في ال ‪ ،‬و ُ‬
‫على ما أُجْ ِبرَ عليه من التحكيم من الشعث‪ ،‬الذي َفكّ هو و عمرو أزمة معاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬و تركاه في‬
‫الرحب الوسيع حتى يجمع قوته فيضرب بها المام ‪ ،‬و ُي َمزّقَ بها السلم حتى يجتني ثمرة دهائه و مكره ‪ ،‬و‬
‫هما معه ‪ ،‬و لهما حظهما من ذلك ‪.‬‬

‫فكانت[‪ ]226‬تلك الحالة ضربة قاسية لعلي بن أبي طالب المام ‪ ،‬الذي يروم معاوية ابتزاز المر منه ‪ ،‬و‬
‫الستيلء عليه ‪ ،‬و علي بمعزل عن مقاصد معاوية ‪ ،‬و لكنه مغلوب عليه‪ ،‬مممكور به في الباطن ‪ ،‬قد ا ْنحَلّ‬
‫أساس أمره ‪ ،‬و انهار صرح إمارته ‪ ،‬أولً من جهة اختلف أمته و أهل طاعته ‪ ،‬و خروج رجال اليمان عن‬
‫زعامته ‪ ،‬وهذه أكبر خسارة على علي المام ‪ ،‬و الثانية فسح المجال لمعاوية لعادة قوة متوفرة يضرب بها‬
‫صرَ حليفه ‪،‬‬ ‫خصمه ‪ ،‬و كلهما من أكبر مصالح الداهية الموي ‪ ،‬و علي مصمم على أن المر في يده ‪ ،‬و َأنّ ال ّن ْ‬
‫و كَأنّه لم يكن شيءٌ يخشاه ‪ ،‬يرى شجاعته الهاشمية ‪ ،‬و قوته اليمانية ‪ ،‬و عزيمته المعروفة ينمحي بهن كل ما‬
‫يبنيه معاوية و أحزابه ‪ ،‬و ل يرى أن للسياسة فِ ْعلً فوق القياس ‪.‬‬

‫و كان الشعث الخبيث متحكم على حركة علي وقوته الحربية ‪ ،‬المبتلي به علي بن أبي طالب و جيشه ‪ ،‬فكانت‬
‫المور بيده ‪ ،‬و الحركات رهن إشارته ‪ ،‬و هو ضالٌ فاسقٌ مارقٌ من الدّين‪ ،‬ل همة له إل إرضاء معاوية و آل‬
‫معاوية ‪ ،‬و نبذ رأي المخلصين في التحكيم الذين يؤلمهم المر ‪ ،‬و يهمهم وقوعه مهما كان ‪ ،‬و بكاء الثواكل في‬
‫الكوفة على القتلى في كل بيت عويل ‪ ،‬و في كل مقام ضجيج ‪ ،‬و في كل بقعة عجيج ‪.‬‬

‫كل هذه الشياء مما يؤثر على علي بن أبي طالب و يؤلمه ‪ ،‬و أضف إلى ذلك شماتة المويين في الكوفة ‪ ،‬إذ َمرّ‬
‫عليٌ عليهم‪ ،‬و هم يقولون‪ " .:‬ما فعل علي بن أبي طالب شيئاً ذهب ثم انصرف " (‪. )19‬‬
‫===================================‬
‫(‪ )1‬من مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة ‪ ،‬بتحقيق سيدة إسماعيل كاشف سنة ‪1979‬م‬

‫(‪ )2‬محمد بن علي دبوز (‪1337‬هـ ‪1919/1402-‬هـ ‪1981-‬م) ولد بمدينة بريان من وادي ميزاب في الجزائر‪ ،‬تلقى تعليمه الثانوي بمعهد الحياة ‪،‬‬
‫ومن أستاذته الشيخ بيوض والشيخ شريفي سعيد‪ ،‬تخصص في دراسة التاريخ‪ ،‬والداب وعلم النفس‪ ،‬ومن كتبه المعمة‪ ،‬تاريخ المغرب الكبير‪ ،‬ونهضة‬
‫الجزائر الحديثة‪،‬وأعلم الصلح في الجزائر‪ .‬معجم أعلم الباضية (‪)4/812‬‬
‫(‪ )3‬تقدم تخريجه‬
‫(‪ )4‬تقدم تخريجه‬

‫(‪ )5‬أخرجه الحاكم في المستدرك(‪ )3/432‬رقم ‪ 5646‬وأخرجه البيهقي في شعب اليمان (‪ )2/239‬رقم ‪ ،1631‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير(‬
‫‪ )303 /24‬رقم ‪.769‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه الترميذي في ( ‪-50‬كتاب المناقب ‪ -38‬مناقب عبدال بن مسعود) (‪ )5/672‬رقم ‪ , 3805‬وأخرجه الحاكم في المستدرك(‪ )80-3/79‬رقم (‬
‫‪ ، )4456-4451‬وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )8/264‬رقم ‪ 16590‬وأخرجه الحميدي في مسنده (‪ )214 /1‬رقم ‪449‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه الترميذي في (‪50‬كتاب المناقب ‪ -35‬باب مناقب عمار بن ياسر ) (‪ )5/668‬رقم ‪ 3798‬وأخرجه ابن ماجه في ( المقدمة ‪ -3‬باب فضل‬
‫عمار بن ياسر) ص ‪ 22‬رقم ‪ 146‬وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند (‪ )1/503‬رقم ‪ 779‬وأخرجه الطيالسي (‪ )1/18‬رقم ‪ 117‬وأخرجه أبو يعلى(‬
‫‪ )1/324‬رقم ‪ 403‬وأخرجه أبو نعيم في الحلية( ‪ )1/140‬و(‪ )7/135‬وأخرجه الحاكم في المستدرك (‪ )3/437‬رقم ‪ 5662‬وأخرجه البزار في مسنده(‬
‫‪ )2/313‬وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد(‪ )1/151‬وأخرجه ابن أبي شيبه (‪ )6/388‬رقم ‪32233‬‬
‫(‪ )8‬أخرجه أحمد بن حنبل في المسند( ‪ )166 /13‬رقم ‪ 16758‬وأخرجه الحاكم في المستدرك (‪ )3/441‬رقم ‪ 5674‬وأخرجه ابن أبي شيبة في‬
‫المصنف (‪ )6/389‬رقم ‪ 32242‬وأخرجه ابن حبان(‪ )556 /15‬رقم ‪ 7081‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( ‪ )112 /4‬رقم ‪ 3830‬و ‪ 3831‬و‬
‫‪3832‬‬
‫(‪ )9‬الصابة في تمييز الصحابة ( ‪)506 /2‬‬
‫(‪ )10‬الستيعاب في معرفة الصحاب (‪)3/1135‬‬
‫(‪ )11‬أخرجه ابن ماجه في (مقدمة ‪ -13‬باب فضل عمار بن ياسر) ص ‪ 22‬رقم ‪ 147‬وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( ‪ )6/389‬رقم ‪32245‬‬
‫وأخرجه الحاكم في المستدرك( ‪ )443 /3‬رقم ‪ 5680‬وأخرجه ابن عبد البر في الستيعاب (‪)3/1137‬‬
‫(‪ )12‬سليمان بن مهران السدي الكوفي (‪61‬هـ ‪148-‬هـ) أبو محمد‪ ،‬شهر بالعمش ثقة حافظ عارف بالقراءات ورع‪ ،‬ولكنه يدلس‪ ،‬من صغار التابعين‬
‫‪ .‬تقريب التهذيب(‪ )1/229‬وتهذيب التهذيب( ‪ )3/506‬وميزان العتدال(‪)3/315‬‬
‫(‪ )13‬عبدال بن حَبيب بن ُربَيََعة السلمي( ت بعد ‪70‬هـ) أبو عبد الرحمن‪ ،‬كوفي‪ ،‬مشهور بكنيته‪،‬لبيهِ صحبة‪ ،‬ثقة ثبت‪ ،‬من التابعين‪ ،‬محّرئ‪ .‬تهذيب‬
‫التهذيب (‪ )4/268‬وتقريب التهذيب(‪.)1/284‬‬
‫(‪ )14‬الستيعاب في معرفة الصحاب( ‪)1139-1138 /3‬‬
‫(‪ )15‬أخرجه مرفوعاً الطبراني في المعجم الكبير (‪ )10/95‬رقم ‪ 10071‬وأخرجه موقوفًا الحاكم في المستدرك (‪ )3/442‬عن حذيفة بن اليمان‬
‫(‪ )16‬لم أتمكن من تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )17‬الدّهَشُ‪ .:‬الحيرة مختار الصحاح‪ ، 89 /‬مادة د هـ شَ‬
‫(‪ )18‬هما ‪ .:‬أبو بلل مرداس بن ُأ ّديّة وعروة بن ُأ ّديّة‬
‫(‪ )19‬تاريخ الطبري (‪)3/108‬‬

‫و ذكر التاريخ إباء ال ُقرّاءِ و خاصة المام علي بن أبي طالب للتحكيم ‪ ،‬و احتجاجهم عليه ‪ ]227[،‬و َوصَفَهُمْ بما‬
‫طرُ أفاق التاريخ‪ ،‬و يبيّض صفحات الشرف ‪ ،‬و ما هم عليه من العلم و اليمان ‪ ،‬و حسن الصبر على البليا‬ ‫يُ َع ّ‬
‫المحدقة بهم ‪ ،‬و استماتهم في سبيل ال عز و جل ‪ ،‬و ما لهم من المزايا الحميدة‪ ،‬و العمال الرشيدة ‪ ،‬و في‬
‫مقدمتهم ذلك الهمام الكامل ‪ ،‬و السيد الحلحل ‪ ،‬البطل الذي عرفه التاريخ ‪ ،‬و لم تنكره الوغى عبدال بن وهب‬
‫الراسبي ‪ ،‬الذي ما زال ثابتاً على الحقّ في تلك المآزق ‪ ،‬قائماً بالواجب تحت السيوف ‪ ،‬و مازال قلب المعركة‪ ،‬و‬
‫قطب رحاها ‪َ ،‬يتَأَ ّوهُ على التحكيم‪ ،‬و على الرجوع عن حرب معاوية الباغي عن المام و المسلمين ‪ ،‬و قد سُ ِفكَتْ‬
‫ال ّدمَاءُ و هُتِكَتْ الحرم ‪ ،‬وهلكت البطال في غير صالح علي و جيشه ‪.‬‬

‫وقد قامت الخاصة تطالب علي بن أبي طالب بالرجوع عن التحكيم‪ ،‬لما يعلمون من حال معاوية و ما يقصده ‪ ،‬و‬
‫ِإنّ التحكيم في هذا مناقضٌ لحكم ال عز و جل في َمنْ بغى على المة ‪ ،‬و ما كان على خلف أمر ال عز و جل‬
‫فهو فساد ‪ ،‬و قد قاتل أبو بكر – رضي ال عنه – من منع الزكاة و لم يؤدها ‪ ،‬مع أن الزكاة ليس للمام بل هي‬
‫لناس مخصوصين ذكرهم ال في كتابه الكريم ‪ ،‬و لكن لما كان المام قطب المن‪ ،‬و دائرة المجتمع ‪ ،‬و إليه‬
‫تؤدى الزكاة ليخرجها المام في مصالح المسلمين ‪ ،‬إذا كان غير مستغنٍ عنها فإنه أحد مخارجها ‪ ،‬و إن استغنى‬
‫عنها دفعها إلى أهلها ‪ ،‬و أجاز العلماء قتل مانعها ‪ ،‬و هو مسلم يدين [‪]228‬بوجوبها ‪.‬‬

‫فما بال من بغى على المسلمين ‪ ،‬و شمخ بأنفه تعاظماً عليهم ‪ ،‬و ترفعاً بالبغي على عباد ال ‪ ،‬و قد َنصّ ال عز‬
‫جزَاء اّلذِينَ يُحَارِبُونَ الّ‬ ‫و جل على وجوب قتاله‪ " .:‬فَقَاتِلُوا الّتِي تَ ْبغِي حَتّى تَفِيءَ ِإلَى َأ ْمرِ الِّ " (‪ " ، )1‬إِ ّنمَا َ‬
‫ع َتدُواْ عَلَ ْيهِ " (‬
‫علَيْ ُكمْ فَا ْ‬
‫َو َرسُو َلهُ َو َيسْعَ ْونَ فِي ا َلرْضِ َفسَادًا أَن يُ َقتّلُواْ أَوْ ُيصَلّبُواْ ‪ )2( " ...‬الية‪َ " ،‬ف َمنِ اعْ َتدَى َ‬
‫‪ )3‬الية‪ ،‬و ما زال المسلمون يقاتلون البغاة على بغيهم ‪ ،‬فما لمعاوية يكون قرين المام فتقع المناظرة في أي‬
‫المامين يكون أصلح للمسلمين ‪ ،‬و ليس معاوية بإمام‪ ،‬و ل ترشحه المة بذلك ‪ ،‬و ل ترضاه المامة الحالية‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫والياً على الشام ‪ ،‬فكيف ترضاه إماماً لها ‪ ،‬فما له يكون قريناً للمام الذي صحت إمامته بإجماع المة المرشح له‬
‫تحقيقاً لعلمه‪ ،‬و أمانته‪ ،‬و صدقه‪ ،‬و إخلصه ‪.‬‬

‫و ما لهذا المام يوافق على التحكيم‪ ،‬و يجعل للباغي جانب يتلعب فيه ؟!‪ ،‬و يعطي على ذلك العهد و الميثاق؟ ‪،‬‬
‫ثم يعود بعد خلعه لنفسه يطلب المامة؟ ‪ ,‬و قد تلعب بها الحكمان! ‪ ،‬و ما كان يجهل أمر عدوه! ‪ ،‬فماله يلوم‬
‫من خرج عنه آسفاً على ما صار منه؟ ‪ ،‬فاراً بدينه أن يتلعب به الوغاد؟ ‪ ،‬طالبا رضى ال عز و جل ؟‪.‬‬

‫وعلى أي جريمة يقتل الخوان المؤمنون البرياء ؟؟‪ ،‬و تضاف إلى جانبهم الشبهات التافهة ‪ ،‬و ينسب إليهم‬
‫أقبح العمال ‪ ،‬فيقتلون بغير ذنب سوى أنهم لم [‪ ]229‬يرضوا التحكيم ‪ ،‬وفروا بدينهم عن الوقوع في مثلها ‪ ،‬و‬
‫حقِهِمْ ‪ ،‬فيصفو الجوّ لعدو المسلمين ‪ ،‬و تقطع أجنحة‬
‫تعمل لهم المكائد ِلسَحْقِ ِهمْ ‪ ،‬و تنصب لهم شباك الردى ِلمَ ْ‬
‫إمامهم بذلك ‪ ،‬إنها فادحةٌ ‪.‬‬

‫ضلّلٌ ُفسّاقٌ ‪ ،‬ليتستر قاتلهم بذلك ‪ ،‬و عند ال ينكشف المستور ‪ ،‬و تتضح‬
‫و بعد ذلك أشيع عليهم أنهم خوارجٌ ُ‬
‫الجناية على جانيها ‪ ،‬و تظهر حقائق المور ‪ ،‬و ما خَ ِفيَ على الخلق ل يخفى على ال الذي يعلم ما في الصدور ‪.‬‬

‫فَ َبدَلَ أن يقام على الباغي الذي يشهد النص ببغيه يقام على أولياء ال الذين فارقوا أولدهم و أهلهم فَارّين بدينهم‬
‫س ِمعَ بذكر‬
‫‪ ،‬يبيتون على المحاريب يرتلون القرآن ‪ ،‬إذا سمع أحدهم بذكر الجنة كاد أن يطير شوقاً إليها ‪ ،‬و ِإذَا َ‬
‫النار كاد أن يذوب لذكرها ‪ ،‬و تتقطع أنفاسه خوفاً منها ‪ ،‬أَكَلَتْ الرضُ جباههم من طول السجود ‪ ،‬و تقرحت‬
‫ركبهم من كثرة الركوع و السجود ‪ ،‬كأن الجنة لم تخلق إل لهم فتجردوا لها ‪ ،‬و كأن النار موعدهم و ليس لها إل‬
‫من يكون كذلك أبداً ‪ ،‬و إذا بإخوانهم الذين تلقوا هم و إِيّاهم على حرب عدوهم ‪ ،‬و هم تحت راية إمامهم‬
‫يحملون عليهم السيوف في مواعيد لقاء بينهم ‪ ،‬تكتب عليها سطور الود و الصفا ‪ ،‬و هو على الحقيقة عنوان‬
‫البغي و الجفاء ‪.‬‬

‫إنها و أيم ال لمما يأسف له ‪ ،‬و لكن المقدر بحكمة الحكيم ل ُبدّ من انفعاله ‪ ،‬ولما قضي المر انتشر الخذلن ‪ ،‬و‬
‫عمِيَ طريقه ‪ ،‬و انْ َهدّ رُ ْكنُ السلم ‪ ،‬و اشْ َتدّ على أهله ضيقه ‪ ،‬حتى قام من يقتل‬
‫أظلم وجه الحقّ ‪ ]230[،‬و َ‬
‫ج ّردَ له َمنْ حمله الغضب و رآه لزاماً لتتم المكيدة ‪ ،‬و ينتصر البغي ‪ ،‬فيدوس وجه الحقّ‪ ،‬و‬ ‫المام انتقاماً ‪ ،‬و تَ َ‬
‫يصفوا الجو لمعاوية و أتباعه ‪ ،‬و يقوم الملك العضوض على جثث هداة الدّين و قادة المؤمنين ‪.‬‬

‫صحّ ‪ ،‬و‬ ‫و قد قام المسلمون على إمامهم على بن أبي طالب يناشدونه الرجوع عن التحكيم ‪ ،‬و أنه باطل ل َي ِ‬
‫خلّ بشيء من أمر الدّين على القول بصحته ‪ ،‬و نبذ العهد وردت به الدلة ‪ ،‬و الرجوع إلى الحقّ‬ ‫الرجوع فيه ل يُ ِ‬
‫خيرٌ من التمادي في الباطل ‪ ،‬و الولى تدارك المر قبل استفحال الخطب‪ ،‬و تعاظم الخطر ‪ ،‬و هؤلء القائمون هم‬
‫خيار الصحابة‪ ،‬و أعيان التابعين لهم بإحسان ‪ ،‬فلم يكن من ذلك شيء حتى اغتنم الملكيون الفرصة ‪ ,‬و زَ ّوقُوا‬
‫أكاذيب لهم‪ ،‬رَوّجُوا بها لهم سوق رغبتهم في إذلل الحقّ ‪ ،‬و تأييد الباطل ‪.‬‬

‫حتى جاء المؤرخون الذين هم صنيعة الملوك ‪ ،‬و أتباع الشهوات يكتبون الكاذيب ‪ ،‬و الغراض الفاسدة ‪ ،‬و‬
‫يزخرفون لهم زخارف تمشي بهم في بقاع الباطل ‪ ،‬و قد ضربوا بدينهم عرض الحائط ‪.‬‬

‫حتى انحاز المؤمنون كلهم من جيش علي بن أبي طالب وضربوا معسكرهم إذ ذاك بالنهروان ‪ ،‬معلنين استياءهم‬
‫من تلك العمال التي وقعت لهم في بيئة إمامهم البطل المغوار ‪ ،‬و سيدهم صاحب ذي الفقار ‪ ،‬الذي ما زال طيلة‬
‫تلك المدة‪ ،‬وهو مفتاح مغالق تلك الدماء ‪ ]231[،‬و مصباح مظاهر الرواح ‪ ،‬و بانحيازهم عنه قام النشاط البارز‬
‫لمعاوية وأصحابه ‪ ،‬و رأوا أن المكيدة تم انفعالها ‪ ،‬و أمور علي آن انحللها ‪ ،‬و سرجه عصفت بها الرياح‬
‫الزعازع ‪ ،‬و ل بد أن تطفئها ‪ ،‬وفعلً كان ذلك كما قصه التاريخ العام ‪ ،‬و ذكره أيضا ذلك البطل الجليل المؤرخ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫المغربي الذي يعطي الحقائق حقها ‪ ،‬و يمنح الواقع نصيبه من الصدق و الوفاء‪.‬‬

‫فساق ما دار في القضية من احتجاج ‪ ،‬و ما َلزَقَ بها من لجاج ‪ ،‬و ما اختص برجالها من اعوجاج ‪ ،‬و ما عليه‬
‫حقّ بالتباع ‪ ،‬و الباطل أولى بالتضاع ‪ ،‬فذكر الحق أشبه بنجوم السماء ‪ ،‬و‬
‫المنحازون من ابتهاج ‪ ،‬و الحقّ أَ َ‬
‫وضع الحائق في سلكها جواهر متللئة تللئ الجواهر في حسنها ‪.‬‬

‫قال ‪ " .:‬و إمامة عبدال بن وهب الراسبي وقعت في سنة سبع و ثلثين للهجرة ‪ ،‬و هنا تكاثف كيد معاوية بن‬
‫أبي سفيان بإسراع ‪ ،‬ليعاجل هذه القوة المخوفة حين رأى جمرة هؤلء تتقد عليه ‪ ،‬و إنها سوف تقضي عليه و‬
‫على آماله ‪ ،‬فأسرع في إخمادها " (‪ )4‬كما قال العالم الهمام محمد على دبوز في تحقيق الواقع إلى أن قال‪ " .:‬و‬
‫كان عبدال بن وهب الراسبي من الصحابة الزاهدين ‪ ،‬و من العلماء في الدّين ‪ ،‬و كان ذكي الفؤاد ‪ ،‬حاز ما في‬
‫المور ‪ ،‬قوي الشخصية ‪ ،‬شجاعاً صارماً في مواطن الصرامة ‪ ،‬صلباً في الماكن التي تجب فيها الصلبة ‪،‬‬
‫داهية‪ ،‬حكيماً ‪ ،‬يتوج هذه الصفات العقلية والخلقية كلها ‪ ،‬ورعه و تقواه وإخلصه ‪ ،‬و نزهاته [‪ ]232‬و تمسكه‬
‫كل التمسك بالدّين ‪ ،‬و عمله لخرته ل لدنياه ‪ ،‬وتفانيه لمصلحة المسلمين ‪ ،‬و اجتهاده في خدمتهم ‪ ،‬وكان يلقب‬
‫بذي الثفنات لكثرة عبادته‪ ،‬و اجتهاده في صلته ‪ ،‬حتى أَ ّثرَ ذلك في جبهته لكثرة سجوده ل ‪)5( " .‬‬

‫قال ‪ " :‬و كان عبدال زاهداً في المامة كارهاً لها ‪،‬كارهاً للرئاسة ‪ ،‬يراها فروضاً و واجبات ثقيلة ‪ ،‬و حساباً‬
‫عسيراً بين يدي ال ‪ ،‬فنفرت نفسه عنها ‪ ،‬و أبى على أصحابه قَبُول المامة ‪ ،‬حتى وجد أصحابه من ذوي‬
‫الكفاءة تدافعوها و زهدوا فيها ‪ ،‬و خاف أن يتطلع إليها من ليس بكفوءٍ لها ‪ ،‬فيقعون في شر كبير ‪ ،‬و يحاسبه‬
‫ال و أصحابه على ما يحدث فيها لتولي الضعيف الذي أفسحوا له المجال ‪ ،‬و تقدم بـتأخرهم إلى رئاسة‬
‫المسلمين ‪ ،‬فوجد نفسه مضطراً لِ َقبُولِهَا‪ ،‬فقبل المامة ‪ ،‬فبايعه أصحابه من الخاصة و هم من الصحابة و كبار‬
‫التابعين ‪ ،‬ثم تَوَالَتْ العامة التي أَ َبتْ التحكيم فبايعته فعزز بهم جمعه ‪ ،‬و تكاثر عدده ‪ ،‬و صار نفوذه ينتشر في‬
‫العراق ‪ ،‬و القلوب تتجه إليه من أنحاءه ‪ ،‬و كان ذلك في الكوفة ‪.‬‬

‫ثم خرج المام عبدال بن وهب الراسبي‪ ،‬و صحبه‪ ،‬و أنصاره‪ ،‬إلى مكان بعيد عن الكوفة بين بغداد و حلوان‬
‫يسمى النهروان في غرب نهر طبرستان من أرض خراسان ‪ ،‬و قد آثر عبدال بن وهب البتعاد عن الكوفة لكي‬
‫ل يقع بينهم و بين علي بن أبي طالب صدام ‪ ]233[،‬فإن العامة تسيطر عليه ‪ ،‬و الشعث و حزبه ل بد أن‬
‫يوقعوا بينهما ‪ ،‬فيجبرون علياً أن يقف منهم موقفاً معادياً ‪ ،‬و هم ل يريدون بينهم و بين المام علي أي سوء "‬
‫(‪. )6‬‬

‫قال نقلً عن ابن الثير المؤرخ الشهير قال ‪ ":‬ثم ِإنّ أصحاب عبدال بن وهب لقي بعضهم بعضاً‪ ،‬و اجتمعوا في‬
‫منزل عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬فخطبهم‪ ،‬و زهدهم في الدنيا ‪ ،‬و أمرهم بالمر بالمعروف و النهي عن المنكر ‪،‬‬
‫ثم أمرهم بالخروج من الكوفة فقال حمزة بن سنان الزدي ‪ :‬يا قوم إن الرأي ما رأيتم فَوَلّوا أمركم رجل منكم‪،‬‬
‫فَإِنّكُمْ ل ُبدّ لكم من عمادٍ و سنادٍ و رايةٍ تحفون بها ‪ ،‬و ترجعون إليها ‪ ،‬و هو يشير إلى المامة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى"‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬و زيد بن حصين هذا هو الذي قالت فيه عائشة أم المؤمنين راوية عن الرسول ال – صلى ال عليه و آله‬
‫شرِقِ وَ ال َم ْغرِبِ َلكَبّهُمْ الُ كُلّهُمْ فِي‬
‫حصَ ْينِ لَوْ اشْ َت َركَ فِيهِ َأهْلُ ال َم ْ‬
‫و سلم ‪ِ " : -‬إنّ ال ّرمْحَ الذِي طُ ِعنَ ِبهِ زَ ْيدَ َبنْ ُ‬
‫النّارِ " (‪. )7‬‬

‫قال ‪ ":‬و عرضوها على حرقوص بن زهير السعدي فأبى " قلت ‪ :‬و حرقوص بن زهير هذا هو الذي قالت فيه‬
‫علَ ْيهِ وَ آَلهِ وسَلّمَ – َلمّا جاءها خبر‬ ‫عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها –‪َ " .:‬أشْ َهدُ َأنّ َرسُولَ الِ – صَلّى الُ َ‬
‫جنّة‬
‫قتله ‪ ،‬قالت ‪ :‬قال رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ‪ " .:‬أَوّلُ َمنْ َيدْخُلُ ِمنْ َهذَا البَابِ ِمنْ َأهْلِ ال َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ح ْرقُوصُ ثُمّ قَالَهَا أَيْضاً فِي اليَوْمِ‬
‫حرْقُوصُ ْبنُ ُزهَ ْيرِ ‪ُ ،‬ثمّ قَالَ فِي اليَوْمِ الثّانِي‪ -‬أي تلك المقالة‪َ ، -‬فدَخَلَ ُ‬ ‫َفدَخَلَ ُ‬
‫ح ْرقُوصُ ‪)8( ".‬‬ ‫الثّالثِ َفدَخَلَ ُ‬

‫و قال‪ " .:‬و عرضوها علـى حمزة بن سنان السدي و شريح بن أوفى العبسي فأبيا ‪ ،‬و عرضوها على‬
‫عبد ال بن وهب الراسبي ‪ ،‬فقال ‪ :‬هاتوها أما وال ل أخذها رغبة في الدنيا و ل أدعها فرق من الموت "‪ ،‬قال‪.:‬‬
‫" فبايعوه لعشر خلون من شوال [‪ ]234‬سنة سبع و ثلثين‪ " ،‬قال‪ " .:‬و كان يقال له ذو الثفنات " (‪ )9‬أي لن‬
‫ركبه كثفنات البعير من كثرة الركوع و السجود – رحمه ال و رحم أصحابه الميامين ‪.‬‬

‫قال ‪ " .:‬و كان الغرض الول الذي يَ ُهمّ به المام عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه ‪ ،‬و يشغل أفكارهم ‪ ،‬و‬
‫يستعدون له ‪ ،‬هو الهجوم على معاوية‪ ،‬و إعادة ال َك ّرةِ عليه ‪ ،‬و القضاء على الملكية المستبدة ‪ ،‬و المحافظة على‬
‫المامة العادلة ‪ ،‬فخرج فعسكر بالنهروان ‪ ،‬و أرسل إلى أصحابه بالبصرة و أنحاء العراق ليلحقوا به ‪ ،‬و تكمل‬
‫عدته فيسير إلى الشام ‪ ،‬فسمع العامة كالخاصة الذين أَبَوْا التحكيم باختيار عبدال بن وهب الراسبي إماماً ‪ ،‬و‬
‫بخروجه إلى معسكره بالنهروان ‪ ،‬ليتجهز للقضاء على الملكية ‪ ،‬فابتهجوا‪ ،‬و استبشروا ‪ ،‬و أسرعوا إلى اللحاق‬
‫به في النهروان ‪ ،‬فبايعوه بالمامة ‪ ،‬و انضووا تحت لواءه ‪ ،‬فاجتمع لعبدال بن وهب من أتباعه الذين لحقوا به‬
‫أربعة اللف ‪ ،‬فأقام بالنهروان ليتكاثر الوافدون عليه ‪ ،‬و الذين يسرعون إليه من كل ناحية ‪ ،‬فيتكون الجيش‬
‫الكبير الذي يستطيع به منازلة معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬و القضاء عليه ‪ ،‬و كان جمعه يتكاثر ‪ ،‬و جنده في تزايد ‪،‬‬
‫فأصبح قوة تهدد الشام ‪ ،‬و يرى فيها معاوية الموت الحمر ‪ ،‬و الفناء الماحق ‪ ،‬و القضاء على أطماعه و أمانيه‬
‫‪ ،‬فجعلها داهية العرب َنصْبَ عينيه ‪ ،‬و َم ْرمَى سهامه ‪ ،‬و أرسل إلى الشعث بن قيس و حزبه في العراق يحثهم‬
‫على أن يضربوا [‪ ]235‬العدو بالعدو ‪ ،‬و يجروا المام لحرب أهل النهروان ‪ ،‬فيتخلص منهما جميعا ‪.‬‬
‫==============================‬
‫(‪ )1‬الحجرات ‪. 9 :‬‬
‫(‪ )2‬المائدة ‪. 33 :‬‬
‫(‪ )3‬البقرة ‪. 194 :‬‬
‫(‪ )4‬تاريخ المغرب الكبير (‪)2/352‬‬
‫(‪ )5‬نفس المرجع (‪)2/352‬‬
‫(‪ )6‬تاريخ المغرب الكبير(‪)353-2/352‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه البرادي موقوفاً عن أبي موسى الشعري عندما سأل عن حرقوص بن زهير‪،‬جواهر المنتقاة ص ‪ 142‬وظاهر صنيع المصنف أنه حدث خلطاً‬
‫عنده وال أعلم‬
‫(‪ )8‬الجواهر المنتقاة ص ‪142‬‬
‫(‪ )9‬الكامل في التاريخ ( ‪)213 /3‬‬

‫عزَمَ الكرة على معاوية بعد اجتماع الحكمين ‪ ،‬و تجديد أصحابه البيعة له ‪ ،‬و‬
‫و كان المام علي بن أبي طالب قد َ‬
‫إن كانت أجنحته قد ُقصّتْ ‪ ،‬و قواه قد ضَعُ َفتْ ‪ ،‬و نفوذه في العراق لم يعد كما كانت في حرب صفين الولى ‪،‬‬
‫جنْداً فسار بهم إلى الشام ؛ لكن لم يكن هذا المسير من النوع المسير الول ‪ ،‬حيث قد أثر‬
‫فبذل كل جهده فجمع ُ‬
‫في النفوس ذلك التحكيم السيئ الذي قام به أولئك الذين هم صنيعة معاوية ‪ ،‬وكان علي أراد أن يضرب الضربة‬
‫الثانية تقوى الشام التي ما زالت تؤيد معاوية جار أم عدل ‪"،‬و كان ذلك في سنة ‪ 37‬للهجرة ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و كان الشعث بن قيس ورؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية وأتباعهم يخذلون الناس عن علي ‪ ،‬و كان ما‬
‫وقع له من جرأة العامة عليه و قَبُوله التحكيم ‪ ،‬و استلب معاوية النصر من َي ّدهِ في معركة صفين ‪ ،‬و مفارقة‬
‫خاصته له ممن بايع عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬و ما يعلمونه من عدم استطاعة المام أن يقف في وجه معاوية‬
‫لكثرة أنصاره‪ ،‬و حُنكة دهائه‪ ،‬و قوته‪ ،‬و صرامته" (‪. )1‬‬

‫و كان المقصود من طلب التحكيم َفكّ تلك الزمة التي كادت أن تَحِيقَ بمعاوية و جيشه ‪ ،‬و كاد أن يضع معاوية‬
‫رجله في الركاب ‪ ،‬و على كل حال إنه يتوقع من علي بن أبي طالب مثلها أو أشد ‪.‬‬

‫ومن البديهي أن يعتد لها معاوية عدته الكافية من المال ‪ ،‬و الرجال ‪ ،‬و السلح‪ ،‬و الدهاء ‪ ،‬و المكر ‪ ،‬و اختداع‬
‫الغمار من [‪ ]236‬الناس ‪ ،‬فإنه قد رأى‪ ،‬و سمع ‪ ،‬و أعطته أيام صفين دروساً كافية ‪ ،‬ل سيما و هو يحاول‬
‫الملك ‪.‬‬

‫"و كان هذا كله قد أضعف نفوذ المام في العراق ‪ ،‬فتثاقل الناس عن السير معه لحرب معاوية ‪ ،‬فوجد صعوبة‬
‫في الحصول على العدد الكافي للحرب التي سيخوضها ‪ ،‬فالتجأ إلى تجنيد العبيد و العامة التي ل تناصره عن‬
‫حماس و دين و محبة ‪.‬‬

‫قال ابن الثير‪ " .:‬فكتب علي إلى ابن عباس – رضي ال عنهما – إذ كان عامله على البصرة ‪ :‬أما بعد فإنا‬
‫خصْ إل ّ‬
‫ي‬ ‫خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة في ظاهر الكوفة و قد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل الشام ‪ ،‬فأشْ ِ‬
‫النّاسَ " ‪.‬‬

‫فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس ‪ ،‬و ندبهم مع الحنف بن قيس فشخص معه ألف و خمسمائة ‪ ،‬فاستقلهم‬
‫عبدال بن عباس ‪ ،‬فخطبهم ثانية و قال ‪ :‬يا أهل البصرة أتاني كتاب أمير المؤمنين فأمرتكم بالنفير إليه ‪ ،‬فلم‬
‫يشخص إليه منكم إل ألف و خمسمائة " (‪)2‬‬
‫قلت ‪ :‬هذا من أدلة تغير القلوب على علي المام بسبب التحكيم الذي أوقعه مراغمة للمسلمين ‪ ،‬الذين كانوا‬
‫تجردوا للدفاع عن الدّين ‪ ،‬و َفضّلَ عليٌ التحكيم على تحكيم السيوف في ذلك الموقف الرهيب ‪.‬‬

‫" قال ابن عباس لهل البصرة " أنتم ستون ألفا ‪،‬و يشخص إلى أمير المؤمنين منكم ألف و خمسمائة ‪ ،‬و عدد‬
‫أبنائكم و عبيدكم فوق ذلك ‪....‬‬
‫أل انفروا إليه مع جارية بن قدامة السعدي ‪ ،‬و ل يجعلن رجل على نفسه سبيلً ‪ ،‬فإني مُوقعٌ بكل من وجدته‬
‫متخلفا عن دعوته عاصياً لمامه فل يلومن رجل إل نفسه "[‪]237‬‬
‫" و لما هددهم ابن عباس بذلك اجتمع له منهم ألف و سبعمائة" أي لم يكن ذلك التهديد مثيراً لكثريتهم ولم يزد‬
‫إل مائتا رجل ‪.‬‬

‫خرَجَ بهم جارية بن قدامة المذكور وزاد بعض العدد فكانوا ثلثة آلف و مائتان من المجموع ‪ ،‬فوافى بهم علياً‬ ‫" فَ َ‬
‫فلم يرى علي ذلك شيئاً بالنسبة للعدو المتألب عليه ‪ ،‬فجمع إليه رؤوس القبائل ‪ ،‬و أهل الكوفة ‪ ،‬و أتباع‬
‫الرؤوس ‪ ،‬و وجوه الناس فحمد ال و أثنى عليه ثم قال ‪ (( :‬يا أهل الكوفة أنتم إخواني‪ ،‬و أنصاري‪ ،‬و أعواني‬
‫على الحقّ ‪ ،‬و أصحابي إلى جهاد المحلين ‪ ،‬بكم أضرب المدبر ‪ ،‬و أرجو تمام طاعة المُقْبِلِ ‪ ،‬و قد استصرخت‬
‫أهل البصرة ‪ ،‬فأتاني منهم ثلثة آلف رجل و مائتا رجل ‪ ،‬فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة‪،‬‬
‫و أبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال ‪ ،‬و عبدان عشيرته‪ ،‬و مواليهم ‪ ،‬و يرفع ذلك إلينا )) (‪ )3‬فكتبوا إليه ما‬
‫طلب‪ ،‬و أمروا أبناءهم و عبيدهم أن يخرجوا معه و ل يتخلف منهم متخلف ‪ ،‬فرفعوا إليه أربعين ألفاً‪ ،‬و سبعة‬
‫عشر ألف مقاتل من البناء ممن أدرك القتال ‪ ،‬و ثمانية آلف من مواليهم و عبيدهم ‪ ،‬و كان جميع أهل الكوفة‬
‫خمسة و ستين ألفاً سوى أهل البصرة و هم ثلثة آلف و مائتان ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و كتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من القبائل المقاتلة ‪ ،‬فكان عدد الجيش كامل سبعين‬
‫ألف مقاتل أو يزيد (‪. )4‬‬

‫و لكن كان أكثره من العامة إذ حشروا بالرهبة ‪ ،‬و من الفتيان الذين [‪ ]238‬لم يتعودوا الحرب و ل خبرة لهم ‪،‬‬
‫و من العبيد الذين حشروا حشراً دفاعاً للخوف الذي توقعوه من المام ‪ ،‬فجمعوا جمعاً ‪ ،‬و ليسوا بذوي البصائر‬
‫الذين يثبتون معه ‪ ،‬و يمتثلون أمره ‪ ،‬و يملكون من أنفسهم ِمرَاساً حراً ‪ ،‬و صرامة من حماسهم للمامة ‪ ،‬و‬
‫ضجِ تَحصّنِهِم و تَعَقّلِهِم ‪ ،‬فإن عقلية المرء معتمده النفسي ‪ ،‬و من احتفاظهم لسموم‬
‫كراهتم للملكية ‪ ،‬و ِمنْ ُن ْ‬
‫أنصار معاوية بن أبي سفيان أحد دهاة العرب ‪ ،‬و مشاهيرهم ‪ ،‬فإن أبا سفيان أحد أكابر قريش ‪ ،‬و جاء معاوية‬
‫أكبر من أبي سفيان ‪ ،‬و َقدْ بَثّ معاوية في جيش علي سموماً فتاكةً ‪ ،‬و كان في جيشه الشعث بن قيس‪ ،‬و‬
‫شرْنَا إليهم سابقاً ‪ ،‬و هم صنيعة معاوية ‪.‬‬ ‫رؤساء القبائل‪ ،‬الذين َأ َ‬

‫جمهور غفير من العامة ومن سوادهم الذين ل يهتدون قبيلً من دبير ‪ ،‬و ليس هؤلء ممن يلقى بهم العدو ‪ ،‬و‬
‫لكن أرسلهم المسئولون فيهم دفاعاً عنهم ‪ ،‬فإن القلوب الن هي مع معاوية ‪ ،‬تسري وتقيل في صالحه ‪ ،‬تمتثل‬
‫أوامر الزعماء الذين هم في جيش علي ظاهرهم ‪ ،‬و في جيش معاوية باطنهم ‪ ،‬و مثل هؤلء خطر على‬
‫زعيمهم ‪ ،‬يسيرون وراءهم و يمتثلون أوامرهم ‪ ،‬و ينفذون أوامرهم ‪ ،‬و إذا كان القادة للجيش مثل هؤلء و‬
‫السواد العظم َمنْ وصفنا فأين يكون النصر ‍؟!‍‍‪ ،‬إنه شبيه بالمحالِ!! ‪.‬‬

‫و كان ابن عباس – رضي ال عنهما – في حروب صفين القائد الكبر ‪ ،‬و لّما كان القائد للجيش ابن عباس و‬
‫أمثاله فهم أكبر من كل جيش ‪ ،‬و سمعتهم هي وحدها جيش‪ ،‬كان ابن عباس أحد ضباط [‪ ]239‬المام إذ ذاك‬
‫الكبار ‪ ،‬و من قواده ‪ ،‬و أركان حربه ‪ ،‬و من البطال العظام في يوم الهرير ‪ ،‬فلذلك كان جيش علي مرهوباً و‬
‫مخوفاً تمام الخوف ‪.‬‬

‫و في هذه المرة لم يقم ابن عباس مع ابن عمه ‪ ،‬و قعد هو و كثير من أضرابه حين رأوا زعزعة علي عن‬
‫إمامته ‪.‬‬

‫و على كل حال إن ابن عباس ألقى ما عنده لعلي في القضية ‪ ،‬و رأى وسمع ‪ ،‬و للرجل أفكار تدرك الحواس في‬
‫المل العلى ‪ ،‬فتأخر عن الخروج مع المام ‪ ،‬و ترك المام ليعمل عمليته بنفسه ‪ ،‬و سيرى ما يكون من المر ‪،‬‬
‫صغْ إليهم ‪ ،‬و كان يعتقد أنّ النّاس كلهم ُيحِبُو َنهُ ‪ ،‬و أنه‬
‫و سيعلم علي عاقبة المر الذي حذره إِيّاه إخوانه ‪ ،‬و لم ُي ْ‬
‫ناجحٌ ل محالة ‪ ،‬و رأى ابن عباس الشؤم في جيش المام ‪ ،‬و عدم ثقته باستطاعة المام أن يصل إلى معاوية ‪،‬‬
‫ويحاربه ‪ ،‬و ينجح‪ .‬معه في حربه إذا وصل إليه ‪ ،‬لما يعرف من الخفايا في جيش المام ‪ ،‬و من سوء طوايا أكثر‬
‫رؤساء القبائل الذين ساروا معه ‪.‬‬

‫و ل يمكن أن يكون هو الذي استبقاه لنه لو تركه في الكوفة عاصمته لقيل أنه آثره لحفظها ‪ ،‬و تركه وراءه‬
‫كفئة وردء له و لقومه في حالة غيبته عنها ‪ ،‬و خلفته عنه فيها لتسيير المور من وراءه ‪ ،‬و حفظ العاصمة‬
‫من كَيْد عدوه ‪ ،‬و لكنه بقى في البصرة و ل أهمية لها بالنسبة للكوفة ‪ ،‬و لم يغادر ابن عباس إلى الكوفة ‪ ،‬فرأى‬
‫الناس لوائح الخلل ‪ ،‬و لم ينتقل إلى الماكن التي يكثر فيها سواد أنصار معاوية الذين يمكن أن يثوروا على‬
‫المام فيضربوه من خلفه (‪. )5‬‬

‫" فخرج المام علي في هذا الجيش الذي كان معظم [‪ ]240‬رجاله المقاتلة الذين أدركوا القتال و عبدان عشيرته‬
‫‪ ،‬و هو مُعْت َمِدٌ عليهم‪ ،‬و مواليهم ‪ ،‬و هم ذوو النفوذ في جنده ‪ ،‬و هم صنائع معاوية ‪ ،‬الذين عزموا على الكيد‬
‫للمام‪ ،‬في صَ ْر ِفهِ بكل وسيلة عن السير إلى الشام ‪ ،‬و تسليطه على عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬فتكونوا له في‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫العراق دولة ‪ ،‬و في المسلمين صولة ‪ ،‬و يكون أحد العداء لمعاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬فإنه يستعد ليسير إليه بكل‬
‫ما أوتيه من قوة يستطيع أن يقضي بها على الملكية ‪ ،‬و يهيض بها جناح المام بالقضاء على خاصته ‪.‬‬

‫و كلهم يتآمرون على هذه العصابة ليمزقوها ‪ ،‬ويهجموا تحت راية علي على هذا القوة الجديدة التي يؤلفها‬
‫اليمان ‪ ،‬و يجمع شملها الخلص ل عز و جل ‪ ،‬موقنين بأنها ستكون أمضى من كل قوة تهجم على معاوية ‪ ،‬و‬
‫أكبر خطر يهدد المَلكية بالمحق‪.‬‬

‫ثم يلزموا المام علي بن أبي طالب قتلهم‪ ،‬و القضاء عليهم متسترين به ‪ ،‬وهم ذوو النفوذ في العراق ‪ ،‬و ذوو‬
‫حبّ و إكبار المخلصين الذين مع المام علي كالحنف بن قيس سيد تميم الذي أبى‬ ‫المكانة الثانية ‪ ،‬و محل ُ‬
‫التحكيم ‪ ،‬و لم يرضه فصار بذلك أحد أركانهم ‪ ،‬و جارية بن قادمة السعدي‪ ،‬فيفسدون في الرض بقتل هؤلء ‪ ،‬و‬
‫يستميلون قلوب الناس عن المام ‪ ،‬و يفرقون عنه أبناء قبائلهم من أتباعه ‪ ،‬و هم كثيرون في جيش المام ‪.‬‬
‫سمَهَا معاوية الداهية لتباعه ‪ ،‬و رسمها معه أعوانه كعمرو بن العاص‪ .‬و عزم‬
‫طةُ البارعة التي َر َ‬
‫خّ‬‫هذه هي ال ُ‬
‫الشعث و حزبه من رؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية ‪.‬‬

‫عزموا على تنفيذها فاندسوا هُمْ و جماهيرهم [‪ ]241‬الكثيرة في جيش المام ‪ ،‬فصاروا يرقبون الفرصة و‬
‫يَ َتحَيّنُون لها الوقت المناسب لتنفيذها ‪ ،‬و وضعوا تلك الخطة الكائدة التي تهدف لصرف المام على قتال أهل‬
‫النهروان ‪ ،‬إذ يضربون العدو بالعدو ‪ ،‬فيتخلصون منهما جميعا ‪.‬‬

‫حتى وصل المام النبار ‪ ،‬و كل ما في نفسه السير لقتال معاوية ‪ ،‬و كل ما في قلوب الخرين القضاء على‬
‫عصابة النهروان ليقوم صالح معاوية‪ ،‬و يهوي صالح علي في الحضيض ‪ ،‬و لما أراد أن يدخل في طريق‬
‫الشام ‪ ،‬و يبتعد عن أهل النهروان ‪ ،‬ول يمكنهم ِإذْ ذلك صرفه إليهم‪ ،‬أرغموه بإثارة العامة عليه‪ ،‬و بأتباعهم‬
‫الكثيرين من جنده ‪ ،‬على السير إلى النهروان و مقاتلة عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه ‪.‬‬

‫وقد أَبَى المام عليهم ذلك ‪ ،‬و َك ِرهَ السير إليهم ‪ ،‬و قال ‪ " :‬اتركوهم " رجاء أن يتغير رأيهم فيه فيرجعوا إليه‬
‫سيما بعد أن ينتصر على معاوية و يقضي عليه ‪ ،‬وتبرد حرارة قلوب هؤلء فَ َيسْ َت ُردّ بذلك المام ما فقده في‬
‫جولته الماضية ‪ ،‬و رأى المام أن عدوه هو معاوية و حزبه أنصار المَلكية المستبدة ‪ ،‬و أن عبدال بن وهب‬
‫الراسبي و صحبه ل يضرونه بشيء إذ كل أنشودتهم تأييد الدين ‪ ،‬و رد الباغي عن بغيه ‪ ،‬إذ هم على مذهب‬
‫المام في سيرهم و سراهم ‪ ،‬محافظين على الواجب الشرعي ‪ ،‬و على التمسك بحبل الدين ‪.‬‬

‫إما أن ينتصر على معاوية فتظهر كفاءته ‪ ،‬و يسترد صَيْ َتهُ فيرجعوا إليه ‪ ،‬أو يكونوا هم أكثر كفاءة و أغزر جمعا‬
‫ليمل الجمهور إليهم فيرجع هو إليهم‪ ،‬فيكونوا َي ّداً واحدة ‪ ،‬هذا هو رأي المام علي في أصحاب النهروان ‪ ،‬فما‬
‫كان ليعاديهم [‪ ]242‬و يقاتلهم على اعتزالهم له ؛ لنّ بيعته قد زَالَتْ عن أعناقهم ‪ ،‬و هو أعلم القوم بالحكم فيها‬
‫‪ ،‬ل يرضى أن يؤاخذ إخوانه الذين نصحوه بالمس عنها ‪ ،‬و خرجوا اليوم عنه غير ماسين بشيء من حقوقه (‬
‫‪. )6‬‬

‫و إن الذين نسبوا إليه قتلهم ما أراهم أدركوا فصل القضية إل من حيث الجمال لما كان هو المام ‪ ،‬وكان‬
‫القاتلون أركان حربه ‪ ،‬ومن لهم أنه أمر بقتلهم ‪ ،‬و أقرب الحوال منه في تحقيق هذا القضية أن المام خرج‬
‫مخدوعاً لقتال القوم بالشبهة متوصلً به إلى الغرض المنويّ ‪ ،‬و على كل حال ِإنّ بوادر الجيش هي التي بدأت‬
‫بالقتال متظاهرة له بأن القوم بدأوهم بالقتال ‪ ،‬و هم على كل حال إنما أخرجهم إلى النهروان التباعد عن‬
‫ضوضاء أعدائهم الذين حملوا المام على قبول التحكيم ليفكوا معاوية من الزمة التي وقع فيها حين رأوا طلئع‬
‫الهزيمة تقرب منهم ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫كان خروج عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه إلى النهروان استعداداً لحرب معاوية حين رأوا من قواد جيش‬
‫علي النحراف عن طريق الجادة ‪ ،‬و لم يخرجوا لحرب علي بل يتركوه على رأيه ‪ ،‬فَلَعَلّ اليام تكشف له عن‬
‫صدْقَ الصّادقين ‪ ،‬و ِكذْبَ المنافقين الذين عزروا به ‪ ،‬و حاولوا إرضاء عدوه فيه ‪ ،‬و‬
‫الحوال فيعرف ِ‬
‫النهروانيون مطمئنون من جانب علي بل يرون الحجة لهم عليه ‪ ،‬فل يخافون جانبه ‪ ،‬و لم يحدثوا شيئاً يخالف‬
‫الديّن ‪ ،‬فيستوجب المام قتالهم ‪.‬‬

‫==========================‬
‫(‪ )1‬تاريخ المغرب الكبير (‪)355-353 /2‬‬
‫(‪ )2‬الكامل في التاريخ (‪)217 /3‬‬
‫(‪ )3‬الكامل في التاريخ (‪)3/217‬‬
‫(‪ )4‬تاريخ المغرب الكبير(‪)356-355 /2‬‬
‫(‪ )5‬انظر تاريخ المغرب الكبير ( ‪)356 /2‬‬
‫(‪ )6‬تاريخ المغرب الكبير (‪ )358 _357 /2‬نقله المؤلف بشيء من التصرف‪.‬‬

‫ضدّ النهروانيين‬
‫الدسيسة السيئة ِ‬

‫عزْمُ القوم على التصميم على حرب معاوية غير تاركين له ‪ ،‬و ل متأخرين عنه ‪ ،‬و قد علموا‬ ‫[‪ ]243‬لما تحقق َ‬
‫من المام عدم الحرج عليهم غير مناوٍ لهم بشيء من العداء ‪ ،‬و هم يزيدون كل يوم ‪ ،‬و يتعاهدون على حرب‬
‫عدوهم ‪ ،‬الذي فعل تلك الفعلة الشنعاء في المسلمين ‪ ،‬وتظاهر ِبشَقّ العصا بينهم غير مبالي بما كان و ل بما‬
‫يكون ‪.‬‬

‫نسجوا الحيلة للخذ على قلب المام و صرفه إلى حربهم ‪ ،‬و القهر عليهم ‪ ،‬و عَ ِلمُوا َأنّ ذلك ل يمكنهم إل بالمام‬
‫‪ ،‬الذي هو المتبوع في المة ‪ ،‬فكان كيداً أشبه بكيد أخوة يوسف ‪.‬‬

‫و َمضَى الملكِيون يقولون في دعايتهم الكاذبة أن أهل النهروان قتلوا عبدال بن خباب ‪ ،‬و قطعوا الطريق ‪،‬‬
‫وبقروا بطن امرأة ‪ ،‬و أخرجوا منها ولدها ‪ ،‬و أظهروهم بمظهر السباع الضارية ‪ ،‬و اللصوص الذين يقطعون‬
‫الطرق ‪ ،‬قصداً لن يثيروا حفيظة المام عليهم ‪ ،‬و يستنهضوه بالحال البشع الذي ل ترضاه شرار النّاس ‪.‬‬

‫فانظروا في هذه المكائد التي ينصبها المسلم نحو أخيه لغرض غير كبير الشأن ‪ ،‬إن تسنى له لم يلبث طويلً ‪ ،‬بل‬
‫صرّحَ بها بين يدي ربه عز و جل ‪ ،‬و هذه منها ‪.‬‬
‫سرعان ما يضمحل ‪ ،‬و للشيطان مكائد في الناس َ‬

‫خرج النهروانيون عن إمامهم فارين بدينهم ‪ ،‬و إذا بإخوانهم يكيدونهم على ذلك ‪ ،‬لجل حُطَام من الدّنيا يتمتعون‬
‫به قليلً ثم إلى ال المصير ‪.‬‬

‫من كذب تلك الدعاية الفاجرة ‪ ،‬لو كان لها أصل لكان المام هو الذي يطلب من النهروانيين النصاف ‪ ،‬و هو‬
‫ع ِرفَ عنهم‬
‫الذي يدعو إلى النتصاف ‪ ]244[،‬و كان أحرص على السير إليهم ‪ ،‬و لرآهم خطراً يهدده ‪ ،‬و قد َ‬
‫قبل ذلك أحوالهم ‪ ،‬و على زهدهم ‪ ،‬و إخلصهم ل ‪ ،‬و اجتهادهم إذ كانوا عمدة أمره ‪ ،‬و محل ثقته فيهم ‪ ،‬لم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫يكونوا أجانب فيجهل أمرهم ‪ ،‬و كيف يكون ذلك منهم و هم أنضاء عبادة ‪ ،‬و فطاحل زهادة ‪ ،‬و جهابذ علم ‪،‬‬
‫أفنوا المخ و العظم ‪ ،‬و أنهكوا الجلد و اللحم في طاعة ال عز و جل ‪.‬‬

‫أيصيرون بعد ذلك لصوصاً وحشية ‪ ،‬و نهابة قُطّاع طرق كما يقول أعدائهم ‪ ،‬إن لم يكونوا تقاة عدولً فمن هم‬
‫التقاة و العدول في السلم ؟؟‍‬
‫ِإنّ أهل الضلل ل يبالون بما يقولون في إخوانهم ‪ ،‬و ل بما يفعلون ‪ ،‬فإنا ل و إنا إليه راجعون ‪.‬‬

‫فارقوا إمامهم حين تابع المنحرفين عن الحقّ ‪ ،‬متأثراً بأقوال قوم مجرمين ‪ ،‬يظهرون له الحقّ ‪ ،‬و يكتمون‬
‫ظنّ صدقهم ‪ ،‬و يعتقد نصحهم و صلحهم و اجتهادهم ل ‪ِ ،‬إنّ هذا من أفحش الفحش في السلم ‪،‬‬ ‫الباطل ‪ ،‬يَ ُ‬
‫ومن أسوء السوء الذي يلصقه المجرم بأخيه المسلم لينال منه ‪ ،‬و لن يرضى ال في عباده مثل هذا ‪ ،‬و لن تقوم‬
‫قناة قوم هذا حالهم ‪ ،‬و لم تقم كما عرفت ‪.‬‬

‫و ل يرضى ال في عبادة خلفاً لما شرعه لهم ‪ ،‬فإن ال وضع الشرع الكريم قانونه العظيم ‪ ،‬و له يعتمد العقل‬
‫السليم ‪ ،‬و قد قلنا عنهم في غير موضع مما كتبناه عن أولئك السادة الكرام ‪ ،‬و القادة الغر الميامين ‪ ،‬و هم حجة‬
‫ال في أرضه ‪ ،‬و هم مرجع عباده علماً و زهداً و طاعة و نزاهة ‪ ،‬و ناهيك بإمامهم المعروف بذي الثفنات ‪ ،‬و‬
‫يزيد بن حصين الطائي ‪ ،‬و حرقوص بن زهير السعدي و المرداس بن حيدر [‪ ]245‬و من على شاكلتهم من‬
‫خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬و هم كالنجوم وصفهم بذلك رسول ال – صلى ال عليه‬
‫و آله وسلم (‪ ، - )1‬و إن كان أكثر الناس يجهلون حقائقهم ‪ ،‬فكم من ذي طمرين ل يعبأ به لو أقسم على ال‬
‫لبره ‪.‬‬

‫و لم تقم دولتهم ‪ ،‬ولو قامت لسجدت لهم الجباه ‪ ،‬و أعطوا ما لهم و ما ليس لهم ‪ ،‬و لكنهم صرفوا عن الحظوظ‬
‫الدنيوية ‪ ،‬فلذلك أصبح أعداؤهم يلصقوا بهم كل سيئة ‪ ،‬و قديما قيل ‪:‬‬

‫خدَمَ النّاسُ معاويةَ ‪ ،‬و جللوه و أعزوه ‪ ،‬و قدروه خصوصا الذين ل يرون‬‫وهذا شأنهم في كل زمان ‪ ،‬و لقد َ‬
‫الخروج على المير و إن جار ‪ ،‬فإنهم يتهافتون على خدمته ‪ ،‬ويعتقدونها طاعة ل ‪ ،‬و ال بريء من الظلمة و‬
‫أعوانهم ‪ ،‬و لكن أهل الدنيا و السطحيون ل يرون إل ظواهر المور ‪ ،‬و يكتفون بقشورها ‪ ،‬و ل يبالون بما وراء‬
‫ذلك ل سيما الذين يرون َأنّ السلم قولٌ ‪ ،‬أو قولٌ واعتقادٌ ‪ ،‬و هم السواد العظم في السلم ‪ ،‬متعلقين بأدلة‬
‫واهية ‪ ،‬ل تفيدهم في الدّين زنة جناح بعوضة ‪.‬‬

‫و لم يَنْ ُبهْ ذِ ْكرُ النهروانيين في العالم السلمي حيث إن المغرضين أتباع الدرهم و الدينار ‪ ،‬و أسارى الهوى‬
‫الظالم ‪ ،‬و عبدة الدنيا قضوا عليهم بين عشية وضحاها بطراً و طغياناً ‪ ،‬وقضوا على ذكرهم أيضا حيث استعملوا‬
‫المأجورين أتباع المَلكية ‪ ،‬و أنصار الزعامة المتمردة ‪ ،‬بأن يلصقوا بهم كل سيئة ويضيفوا إليهم كل سوءة ‪ ،‬و‬
‫ما زالوا يسلخونهم من كل حسن ‪ ،‬و ل يذكونهم إل بسيئ العمال ‪ ،‬و أن يصفوهم[‪ ]246‬بأنهم خوارج ‪ ،‬و ل‬
‫يُفْ ِهمُونَ السّوَاد معنى الخوارج ‪ ،‬و إنما يسوقون ذلك مساق السّبّ‪ ،‬و الطّ ْعنِ‪ ،‬والشّتْمِ ‪ ،‬و يطنطنون عنهم أنهم‬
‫خرجوا عن المام علي ‪ ،‬ويضيفون إليهم أنهم حاربوا المسلمين ‪ ،‬و كل ذلك دعايات فارغة مغرضة تبعثها‬
‫السياسة الموية لتبرر لها موقفاً صالحاً في السلم باللسان ‪ ،‬كما َقرّرَتْ لَ ْعنَ علي بن أبي طالب في المجامع ‪ ،‬و‬
‫محاضر الناس ِل َتشْ ّوهَ ِمنْ سمعته ‪ ،‬و تأخذ المعنى الصالح لها قولً ل فعلً ‪ ،‬و نسبوا إلى النهروانيين الفحش في‬
‫الدين ‪ ،‬دفعاً لعواطف النّاس ‪ ،‬و قطعاً لكل ما عن شأنه الرحمة لهم ‪ ،‬ل سيما أن المغلوب تنسى حسناته ‪ ،‬و‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫تضاف إليه كل سوءة و سيئة طبعاً ‪ ،‬ل سيما المأجورين لهل الغراض ‪ ،‬و الغالون في حب علي بن أبي طالب ‪،‬‬
‫على غير الطريق الصحيح الذي أمروا بسلوكه‪.‬‬

‫فنشأت الناشئة و مضت المة والحال هذا ‪ ،‬و ل يعرف عن عبدال بن وهب الراسبي و أصحابه إل ما ينقله‬
‫المبرد‪ ،‬و ابن الثير‪ ،‬و ابن خلدون ‪ ،‬وهؤلء عندهم أعمدة العلم ‪ ،‬و رؤساء التاريخ ‪ ،‬و جهابذة السير ‪ ،‬و الحال‬
‫طهُ متكلمٌ‪ ،‬أو قارئٌ‪ ،‬أو خطيبٌ ‪ ،‬فكيف بما‬
‫قد عرفت أنهم تحت طاعة الملوك العتاة الذين يعاقبون على الحرف يَ ْغلُ ُ‬
‫يكتب ؟؟‪‍،‬و القصد من ذلك الخذ على أيدي العلماء حتى ل يندفعوا في ذكر الحوال التي هم عليها ‪ ،‬أو يتجاسروا‬
‫على نشر الحقائق كما هي ‪ ،‬فجعلوا النهروانيين ل يعرف عنهم إل ما يدونه أهل الهوى و أتباع أعدائهم ‪.‬‬

‫ِإنّ النهروانيين هم صفوة المة في وقتهم ذلك ‪ ،‬قاتلوا في حرب الجمل من رام نقض البناء لعلي بن أبي طالب ‪،‬‬
‫وقاتلوا معه في صفين حتى إذا قرب [‪ ]247‬خضوع المبطل للحق قامت عوامل الدهاء تفكهم من أزمتهم‬
‫الثقيلة ‪ ،‬و اختلف الناس ‪ ،‬و ذلك كان هو القصد ‪ ،‬و عند التباس المور ل يدرك الحقائق إل أفراداً من الناس‬
‫يختصهم ال عز و جل ‪ ،‬فقام القوم في وجه ذلك المكر ‪ ،‬و حملوا إمامهم على وضع السيف في أعناق هؤلء‬
‫الذين ينادون بالتحكيم لكتاب ال ‪.‬‬

‫و هل كان القتال إل على تركهم أحكام كتاب ال عز و جل ؟؟‪ ،‬و لم يقبل أنصار المام الذين هم في الحقيقة أنصار‬
‫معاوية ‪ ،‬فلم َيرَ المام ُب ّداً من قَبُول اقتراحهم ‪ ،‬إذ هم حجته على عدوه‪.‬‬

‫وهنا انكسرت خواطر أهل اليمان حيث رأوا أن دعايات الوغاد والسفهاء مقبولة ‪ ،‬و آراء أهل الحقّ مرفوضة ‪،‬‬
‫و زاد الطين بلة حين رأوا إمامهم يعطي العهد والميثاق للحكمين يحكمان ما شاء لهما هواهما في إثبات علي‬
‫ونفيه ‪ ،‬و كان من الغدر الفاحش أن خلع أحد الحكمين علي ثم صحح ذلك الخلع الحكم الثاني ‪ ،‬و عليه فقد اتفقا‬
‫على خلعه ‪ ،‬ثم أثبت الول معاوية‪ ،‬و هو كما يعلم القارئ لم يكن إماماً حتى ينظر الحكمين أي المامين أصلح‬
‫للمة ‪ ،‬و تراها خدائع مكشوفة فاضحة ‪ ،‬يمليها الهوى ‪ ،‬و يبعثها الظلم و الفساد ‪.‬‬

‫فإنهم لم يستطيعوا أن يقولوا في علي بشيء يكون سبباً للقيام عليه بخلعه ‪ ،‬لنه ل توجد له أمور توجب خلعه ‪،‬‬
‫و إذا خلع علي مثلً أيكون الختيار للمامة معاوية ويترك علماء الصحابة ؟‪ ،‬و هداة المة ؟‪ ،‬على فرض أنها في‬
‫القريشيين كما يقولون ‪.‬‬
‫===================================‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله(‪ ،)2/91‬وأخرجه ابن حزم في الحكام(‪ )6/82‬وأخرجه الخطيب في" الكفاية في علم الرواية" ص‬
‫‪ 48‬وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب من المسند(‪ ،)1/86‬وأخرجه ابن بطة في البانة(‪ ،)4/11/2‬وأخرجه القضاعي( ‪ .)2/109‬وهو موضوع قاله‬
‫اللباني انظر سلسلة الحاديث الضعيفة والموضوعة (‪ )1/84‬رقم ‪62‬‬
‫(‪ )2‬البيت لعُمير بن شيم القطامي‪ ،‬ديوان القطامي ص ‪25‬‬

‫أليس في قريش من هو أصلح للمسلمين من معاوية بن أبي سفيان ؟؟‪ ،‬و المامة خلفة ل تبارح الشريعة في‬
‫سيرها و سراها ‪ ،‬و ل ترضى غير المؤمن الصادق اليمان ‪ ،‬المخلص ل البين إخلصه و إيمانه ‪ ،‬المعروف‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫دينه ‪ ،‬الذي تطمئن النفس [‪ ]248‬به على أنه الوحيد الذي ل مقال فيه لقائل مما ينتقد ‪ ،‬و كيف وعند المسلمين‬
‫من أهل الحقّ لم تكن القريشية من شروط المامة‪ ،‬ففي النصار من هو أعلى منزلة من معاوية في جميع أحوال‬
‫الدّين و اليمان ‪.‬‬

‫اللهم إل عند من يقول بصحة إمامة المغتصب ‪ ،‬وهم فريقٌ من الناس‪ ،‬و لسنا نقول بذلك بل المغتصب عندنا ظالمٌ‬
‫جائرٌ على المسلمين ‪َ ،‬ه ّد َدهُ رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬و ال يقول‪ " .:‬لَ َينَالُ عَ ْهدِي الظّا ِلمِينَ‬
‫جزْنَا أن يكون كل ظالم تجب طاعته لم يبق في‬ ‫" (‪ ، )1‬و إن قيل ذلك في النّبُوة قلنا‪ .:‬الخلفة فَ ْرعٌ عليها ‪ ،‬و لو أَ َ‬
‫الكون من ل تجب طاعته ‪.‬‬

‫و لمّا َق ّررَ الحكمان خلع علي‪َ ،‬أ َقرّ أحدهما إمامة معاوية ‪َ ،‬فسَ ّبهُ صاحبه‪ ،‬و أجابه أيضاً بمثل سَبّه ‪ ،‬و تشاترا‬
‫وتلعنا ‪.‬‬

‫و أنت ل يخفى عليك المقصود من وضع الحكمين إلّ َفكّ معاوية وحزبه مما وقعا فيه ‪ ،‬فيتفرغا لتأييد‬
‫أغراضهما ‪ ،‬و استمالة الناس بدهائهما ‪ ،‬و نشر السوء فيمن هم أتباع المام و أنصاره ‪ ،‬فعملت الدسائس‬
‫عملها‪.‬‬

‫و عمل العاملون رغبة الزعماء ‪َ ،‬فدَوّنُوا لهم ما شاءوا أَن َيدَوّنُوا فبذلك انتشرت الدعايات الكاذبة ‪ ،‬و نشأة‬
‫الناشئة عليها ‪ ،‬و رأت سيء القوال فيها ‪ ،‬وخبيث العمال لديها ‪ ،‬فرفضت حديث القوم ‪ ،‬و نودي في المجامع‬
‫صدّتْ بوجوهها عنهم ‪ ،‬و ُل ِمزَتْ جانبهم في صدقهم و صفائهم ‪ ،‬و‬ ‫بضلل النهروانيين في أقوالهم و أفعالهم ‪ ،‬و َ‬
‫ظلمتهم حقوقهم إل ما شاء ال من النّاس الذين تسمح لهم اليام بتأييد الحقّ ‪ ،‬و تساعدهم الظروف بنشر العدل‬
‫الصحيح‪ ،‬والصدق الصريح في البغيض والحبيب ‪ ،‬و هم قليلون بالنسبة إلى أولئك المشوهين الذين ل يبالون بما‬
‫يقولون ‪ ،‬أو يأخذون الخبار عن أهل الكاذيب [‪ ]249‬المغرضة ‪ ،‬فينشرونها في العالم ‪.‬‬
‫ولكن ل ُبدّ للحقّ من ظهور ‪ ،‬و ل ُبدّ للكذب من افتضاح ‪ ،‬و ل بد من تهور الجور وانهياره ‪ ،‬و الثابت على الحقّ‬
‫كالقابض على الجمر ‪.‬‬

‫و القائل بالحقّ في تلك اليام تكاد منزلته أن تعادل المنازل العالية ‪ ،‬لن منهم من قتل ‪ ،‬و منهم من جلد على‬
‫ح ِبسَ عليها وعوقب شر عقاب ‪.‬‬ ‫الكلمة الواحدة ‪ ،‬و منهم من ُ‬

‫ع ّز‬
‫و ل يخفى َأنّ الحقّ عند أكثر الناس صعب قَبُوله ‪ُ ،‬مرّ ذوقه ‪ ،‬و إن أهله قليلون في كل زمان ‪ ،‬لن ال‪َ -‬‬
‫وعل‪ -‬لم يبعث الحقّ في الناس ‪ ،‬و لم يقم أهله إل حجة على الناس ‪ ،‬و لقامة الحق عند ال عهد مؤقت ل يزيد‬
‫عن وقته ‪ ،‬فانظر في أيام الرسول – عليه الصلة والسلم ‪ ، -‬بل و أيام المرسلين قبله ‪ ،‬تجد أهل الحق فيها هم‬
‫القلون ‪ ،‬و أهل الباطل هم الكثرون ‪.‬‬

‫غرْوَى إن درست مكارم المخلصين ل كعبدال بن وهب الراسبي و أصحابه ‪ ،‬و هم أصحاب رسول‬ ‫و هكذا فل ِ‬
‫ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ ، -‬و خيرة رجاله ‪ ،‬و فيهم من شهد له – الرسول صلى ال عليه وسلم –‬
‫بالجنة ‪ ،‬فإنهم لم يرضوا إل الحقّ ‪ ،‬و لم يخضعوا إل له ‪ ،‬و لم يطلبوا غيره ‪ ،‬و لو أرادوا غير الحق لكان لهم‬
‫ميسوراً ‪ ،‬ولم يحوجهم الحال إلى الخروج عن دائرة الباطل ‪ ،‬و لم ينفصلوا عن السواد العظم الذي عليه معاوية‬
‫و أتباعه ‪ ،‬و لم يتركوا إمامهم علي وهم المعتمدون عنده و المقربون لديه ‪.‬‬

‫وإنما فروا من ذلك كله غضباً ل و اعتماداً عليه ‪ ،‬و طلباً لما عنده من الحسنيين ‪ ،‬فإذا ذهبت الحياة في ذلك‬
‫فنعم ما ذهبت فيه ‪ ،‬و نعم ما بلغوا ول ما صنعوا ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أرادوا ال فأرادهم ال ‪ ،‬و لجأوا إليه فآواهم إلى رحمته ‪ ،‬و احتمل وزرهم من هاجمهم في مأمنهم ‪ ،‬و هم آمنون‬
‫مطمئنون في صلتهم ينادون ربهم ‪ :‬ربنا [‪ ]250‬اغفر لنا وارحمنا ‪ ،‬و بلغنا رضاك غير مَاسّين ِب ِعرْضِ أحد من‬
‫المسلمين ‪ ،‬و ل كان منهم في خروجهم هذا إل فرار إلى ال عز و جل ‪ ،‬فاستجاب ال لهم في ما دعوه ‪ ،‬و‬
‫عزّ وعل ‪ ،‬و ال الموفق للخير و‬ ‫أنالهم ما رجوه ‪ ،‬و ذلك مما يتأسى به الصالح في الدّين ‪ ،‬و يتبعه المخلص ل َ‬
‫حده تعالى ‪.‬‬

‫قال محمد على دبوز و هو ممن يعطي التاريخ حقه قال ‪ " :‬فلو ارتكبوا ما ُنسِبَ إليهم لكان المام أحرص على‬
‫السير إليهم‪ ،‬و لرآهم خطراً يهدده في الكوفة أي و جوراً على العباد ‪ ،‬وفساد في الرض تجب المبادرة إلى‬
‫حسمه ‪ ،‬فيسرع إليهم ليأمن ظهره ‪ ،‬و إنهم إذا كان أمرهم كما قيل عنهم فهم أحق بالجهاد من معاوية حيث هم‬
‫قريبون منه ‪ ،‬و العدو القريب أضر من العدو البعيد ‪ ،‬و لم ينقل عن علي شيء من ذلك عند أهل الحقّ ‪ ،‬بل و ل‬
‫عند خصومهم أيضاً ‪ ،‬و إل فكيف يسير علي لحرب الشام قبل أن يتخلص من هؤلء الذين سيهاجمون ذراريه و‬
‫رعاياه إذا تركهم وراءه ‪ ،‬لنهم أصبحوا قطاع طرق يظلمون و ينهبون ‪ ،‬ويتحرج أحدهم من أكل تمرة ساقطة‬
‫في الطريق خوف أن يكون لها رب يسأل عنها أو يطلبها ‪ ،‬و إذا بهم يفعلون تلك الفاعيل الشنعاء الخارجة عن‬
‫سعِ المعقول ‪ ،‬و هم صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و فيهم كبار التابعين ‪ ،‬و ل ينسب إليهم‬ ‫ِو ْ‬
‫شيء من السوء إل ما ألصقته بهم الملكية الجائرة من بهتان ‪.‬‬

‫و ِإنّ من الناس من يزري بسلفه ‪ ،‬و يزري بنفسه و أصحابه و إخوانه الصالحين ‪ ،‬و أصحاب الرسول عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،‬الذين هم زبدة المة ‪ ،‬و ذروتها الشماء في العفاف‪ ،‬و التقوى‪ ،‬و في الورع " (‪]251[. )2‬‬

‫وعند ابن دَبّوز المذكور نقلً عن ابن الثير‪ " .:‬و بلغ علياً َأنّ النّاس يقولون لو سار بنا إلى قتال هذه الحرورية‪،‬‬
‫فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المحِلّين ‪ ،‬فقال لهم ‪ (( :‬بلغني أنكم قلتم كَ ْيتَ و كَ ْيتَ ‪ ،‬و ِإنّ غيرَ هؤلء أهم إلينا‬
‫فدعوا ذكرهم ‪ ،‬و سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكاً ‪ -‬أي معاوية ومن معه‪ ، -‬و يتخذوا عباد‬
‫ال خَ َولً )) ‪ ،‬فناداه الناس أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت هذا هو رأي الجند المخلص للمام )) (‪ )3‬و‬
‫هذا كلم علي ينقله ابن الثير ‪ ،‬فلو كان القوم كما قيل فيهم‪ ،‬و ُنسِبَ إليهم ‪ ،‬لقال‪ .:‬نعم‪ ،‬سيروا إليهم فهم أحق‬
‫بالقتال ‪ ،‬و قول علي ‪ " :‬أن غير هؤلء أهم إلينا فدعوا ذكرهم "‪ ،‬كان آمناً جانبهم عالماً أنهم يطلبون الحقّ ‪ ،‬و‬
‫س َكنَ إليه و اطمئن به طبعاً ‪ ،‬و ربما تابعهم‬ ‫ج َدهُ َ‬
‫أنهم على أمل التراجع بينهم و المام ‪ ،‬فإن طالب الحقّ إذا وَ َ‬
‫المام و ما يرى المسلمون بينه و إياهم فهو أطوع الناس إلى الحقّ ‪ ،‬مع أن القوم لم يكونوا كثيرين بالنسبة إلى‬
‫جيش المام ‪ ،‬إذ هم على شهير القوال أربعة آلف رجل ‪ ،‬و جيش المام سبعون ألفاً ‪.‬‬

‫س ِمعَ القائد الكبر الشعث بن قيس و أتباعه كلم المام علي ‪ ،‬و أنه يُ ْع ِرضُ عن تلك العصابة ‪ ،‬و يأمر‬ ‫و لما َ‬
‫بالمسير إلى قتال الذين يريدون أن يكونوا جبارين ‪ ،‬أثاروا العامة على المام ‪ ،‬فما زالوا به يطالبونه بالسير إلى‬
‫غمُوه على السير‬‫حمّرة عليه بالتهديد ‪ ،‬و يُلِوْحُون له بالثورة عليه ‪ ،‬حتى َأ ّر َ‬
‫أهل النهروان ‪ ،‬و تشعره عيونهم ال ُم َ‬
‫إلى النهروان ‪ ،‬فقصد عبدال بن وهب و أصحابه ل على نية القتال كما أراد القوم ‪ ،‬بل على نية [‪]252‬‬
‫استمالتهم إليه ‪ ،‬و اجتذابهم إلى صفوفه ‪ ،‬ل على نية مقاتلتهم ‪ ،‬و القضاء عليهم ‪ ،‬فإنهم لم يقترفوا ما‬
‫يستحقون به القتال ‪ ،‬و لكن علي أهمه خروجهم عنه ‪ ،‬وقد بايعوا لهم إماماً ‪ ،‬و ل شك أنهم إذا لم يقفوا معه‬
‫بوجه مرضي سيقاتلونه ‪ ،‬لنه ل إمامتين في حوزة واحدة ‪ ،‬و هناك الهم الكبر و هو حرب معاوية ‪.‬‬

‫و َأمّا جنود علي المغرضون يريدون فقط نفس القصد إلى النهروان ‪ ،‬فإنهم إذا وصلوا ملكوا و بلغوا مرادهم ‪،‬‬
‫فكان هذا غاية القصد ‪ ،‬فإنهم لما وصلوا وقع القتال ‪ ،‬و اشتبك الناس فيه ‪ ،‬ولعله ل يعرف عليٌ المعتدي فيه و‬
‫شكّ أن الجيوش معروفه ‪ ،‬فإذا قالوا لمامهم بدأونا بالقتال ‪ ،‬أو ما شعرنا إل و‬
‫المبتدي به ‪ ،‬فماذا يقول ‪ ،‬و ل َ‬
‫الناس يقتتلون ‪ ،‬فماذا يقول المام ‪ ،‬وفي ذلك له عذر ‪ ،‬و ماذا يكون من أمر أربعة آلف رجل آمنين مطمئنين‬
‫يفيض عليهم بحر من رجال يبلغون سبعين ألفاً و زيادة ‪ ،‬فما كان إل القضاء عليهم في لحظة ‪ ،‬فرحمهم ال و‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫رضي عنهم ‪.‬‬
‫================================‬
‫(‪ )1‬البقرة ‪. 124 :‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ المغرب الكبير ( ‪)358 /2‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق( ‪ )2/358‬وانظر الكامل لبن الثير (‪)3/217‬‬

‫علي و أهل النهروان يتفاوضون‬

‫رأى علي بن أبي طالب تبعاً لمطالب رؤساء جيشه ‪ ،‬أن يتفاوض مع القوم ‪ ،‬فأرسل إليهم ولده الحسن في خيل‬
‫من خيله ‪ ،‬فساءهم مجيئه على تلك الحال التي ل يأملون أن تكون من علي و آل علي ‪ ،‬و كان ا لحسن ل يرى‬
‫القوم أهل ضللة‪ ،‬و ل خطأ فيما فعلوا ‪ ،‬فلما وصلهم جرت المفاوضة بينه و إياهم ‪ ،‬حتى أقنعوه قائلين له ‪ ":‬لما‬
‫جئتنا على هذه الحال‪ ،‬هل أجرمنا ؟‪ ،‬هل فعلنا منكراً ؟‪ ،‬هل علمت عَنّا خيانة أو ظلماً ؟ ِلمَ يا حسن ُنذَ ّكرَك ال في‬
‫دمائنا ؟‪ ،‬على ما تقاتلنا إل أنا [‪ ]253‬سمينا أباك أمير المؤمنين فخلع نفسه و أبينا نحن ذلك ‪ ،‬و دعوناه أن‬
‫يمضي قدماً إلى قتال عدو ال و عدونا فأبى ‪ ،‬و ثبتنا نحن على ذلك " (‪. )1‬‬

‫" فنصرف الحسن عنهم مقتنعاً فلم يقاتلهم ‪ ،‬و كان أرسل لذلك ‪ ،‬و لعل أركان جيشه أرادوه مقدمة لهم فإذا وقع‬
‫بينهم أدنى شيء يَ ِكرّونَ عليهم ‪.‬‬

‫و رجع حتى انتهى إلى أبيه ‪ ،‬فقال له الشعث ‪ :‬يا علي ناجز القوم ‪ ،‬فإنهم إن كلموا الناس أفسدوهم" ‪ ،‬وهنا‬
‫يتجلى باطل القائد الخبيث ‪ ،‬عَِلمَ َأنّ القوم يتعلقون بالحقّ ‪ ،‬و التعلق به له تأثير في نفوس أهل اليمان ‪ ،‬فلم يَ ْبقَ‬
‫الن إلّ استعمال القوة ‪ ,‬و إل أفسدوهم عليك ‪ ،‬يضع دهاءه في ضمن النصح ليختدع به المام ‪.‬‬

‫" فما زال الشعث بن قيس و رؤساء القبائل يَِلحّون على المام ‪ ،‬و ل يخفى حال الرؤساء في كل أمة ‪ ،‬و ما‬
‫زالوا به على أن يسير إلى أهل النهروان ليقاتلهم ‪ ،‬و يقضي عليهم ‪ ،‬و المام يأبى ذلك ويرفضه ‪ ،‬و يرى أنهم‬
‫لم يأتوا شيئا يستوجبون به قتالهم ‪ ،‬و أنهم خاصته في صفين ‪ ،‬و هم عدو معاوية والمَلكية المستبدة ‪ ،‬فهم من‬
‫حزبه يعملون لما يعمل له هو ‪ ،‬و يجتهدون لما يعمل هو لتحقيقه ‪.‬‬

‫و لكن الشعث بن قيس و صحبه كان في يدهم العامة ‪ ،‬فهي السلح الذي يجبرون به علياً على الخضوع ‪ ،‬و‬
‫سعْ عليٌ المام إل الرضوخ لهم ‪ ،‬فسار إلى النهروان ل على نية‬ ‫يرغمونه على المتثال ‪ ،‬فأشهروه عليه ‪ ،‬فلم َي َ‬
‫القتال كما قدمنا ‪ ،‬و لكن على نية مصالحة عبدال بن وهب وصحبه ‪ ،‬فيكونوا جميعه ‪ ،‬فيتقوى بهم علي في‬
‫جيشه ‪ ،‬وترجح بهم كفته في جنده ‪ ،‬و تكون القوة في جانبه ‪ ،‬فل يستطيع الشعث أن يملي عليه ما يريد ‪ ،‬و‬
‫يخضعه [‪ ]254‬لما يشاء ‪ ،‬فيتقوى بهم على معاوية ‪ ،‬فينازله بالشداء عليه ‪ ،‬و يدحضه بهم ‪ ،‬و يهاجم المَلكية‬
‫الغاشمة في أَوْكَا ِرهَا ‪ ،‬فيقضي عليها ‪.‬‬

‫لذلك لما وصل علي النهروان لم يسارع لحرب عبدال بن وهب ‪ ،‬بل بعث إليه سفراءه يدعوه للمفاوضة ‪ ،‬و‬
‫المصالحة‪ ،‬والمسامحة ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫أرسل علي إليهم صعصعة بن صَ ْوحَان ‪ ،‬ثم أرسل إليهم قيس بن سعد بن عبادة النصاري ‪ ،‬و هو أدهى رجل في‬
‫النصار ‪ ،‬بل وفي أنصار علي بن أبي طالب ‪ ،‬و كان معاوية يراه لدهائه أكبر خطر يهدده لما كان على مصر‬
‫طبّ للجروح فتندمل ‪ ،‬و يقنع بدهائه أصحاب عبدال‬‫للمام والياً ‪ ،‬فهو أحسن من يليق لصلح ذات البين ‪ ،‬و يُ ِ‬
‫بن وهب ‪ ،‬فيضمهم إلى علي ‪.‬‬

‫فذهب إليهم و فاوضهم فيما هم بصدده ‪ ،‬و طال بينهم و إيّاه الحديث ‪ ،‬فأقنعوه لكون حجتهم واضحة ‪ ،‬و قضيتهم‬
‫مسلمة ‪ ،‬فرجع إلى المام و أخبره عما جرى بينهم من حديث فيما هو بصدده ‪ ،‬فرده المام إليهم ثانية‪ ،‬فتداولوا‬
‫الحديث ‪ ،‬و إذا بهم و هم مصرون على الحقّ ‪ ،‬ل يتزعزعون عن الحال الذي هم عليه ‪ ،‬فإن الرجوع عن الحقّ‬
‫حرام إجماعاً ‪ ،‬و في الثالثة استطاع قيس أن يقارب بينهم والمام ‪ ،‬فيتفاوضون مباشرة ‪ ،‬و واعدهم أن يأتيهم‬
‫المام بنفسه ‪ ،‬ليعتذر إليهم عما مضى ‪ ،‬و يعاهدهم العهود المؤكدة أن ل يلين في مواطن الصرامة ‪ ،‬و أن ل‬
‫يأتي ما يأباه الحزم والدهاء ‪ ،‬فرضى عبدال بن وهب و أصحابه بذلك ‪ ،‬إذ كان الحق أنشودتهم والعدل بغيتهم‪ ،‬و‬
‫استبشروا بذلك‪ ،‬و سروا بذلك سروراً كبيراً ‪ ]255[ ،‬و صاروا مستعدين للقاء المام‪ ،‬و نسيان ما مضى مما‬
‫مَ ّكنَ لمعاوية‪ ،‬و أورثه قوة جمعها‪ ،‬و دسائس صنعها ‪ ،‬و أحوال وضعها مما يخوله رد المعارض أو على القل‬
‫مقابلته مثلً بمثل ‪ ،‬و الحرب سِجَال ‪ ،‬و قد استعد معاوية لمواجهة هذا الخطر المهم ‪ ،‬الذي يقدره معاوية‬
‫الحساب الطويل العريض ‪ ،‬فتقوى كما ينبغي ‪ ،‬و رسخت جذور سياسته على أصولها ‪ ،‬لنه يعلم َأنّ علياً غير‬
‫تاركه على شِ ْبرٍ من الرض إل على أساس شرعي ‪ ،‬و عليٌ يستعد لقهر الملكية التي تزاحم الجمهورية‬
‫السلمية لتقضي عليها" (‪. )2‬‬

‫ولما استقر الحال بين علي و عبدال بن وهب على الحال الذي ذكره التاريخ ‪ ،‬و فشا ذلك في الجانب النهرواني ‪،‬‬
‫حزْمَ انحيازهم ‪ ،‬و زالت‬
‫سرّحُوا خيولهم ‪ ،‬و َفكّوا َ‬
‫خرج الكثرية إلى لقاء إخوانهم ‪ ،‬و زيارة أهلهم و أخصائهم ‪ ،‬و َ‬
‫من وجوههم َد ْه َمةَ الستعداد للوغاء ‪ ،‬و أشرقت بنور القبال و الستعداد للمصالحة للمام الهاشمي أبي‬
‫الحسنين ‪ ،‬و عاد الخاء يلمع في أفق النهروانيين ‪ ،‬و وضعوا سلحهم ‪ ،‬و تفرق جندهم ‪ ،‬فاختلطوا بأقاربهم و‬
‫إخوانهم ‪ ،‬راجين جمع الشمل تحت راية عادلة ‪ ،‬سواء كان المام علي أو عبدال بن وهب ‪.‬‬

‫و زالت الهواجس إذ كل واحد ممن عند عبدال بن وهب فأخوه و ابن عمه و قريبه عند المام علي ‪ ،‬و أمنت‬
‫النفوس المتخوفة ‪ ،‬التي كانت تحت النباء المتقدة ‪ ،‬ل ترجو إل السيف ‪ ،‬و ل تنتظر إل الجيش ‪ ،‬و المؤمن‬
‫بطبيعة الحال ينحني على أخيه ‪ ،‬و ينعطف عليه ‪ ،‬و يحبه و يخضع له مع الحقّ ‪ ،‬و يأويه و يفرح بإقباله عليه‬
‫راضياً ‪ ]256[ ،‬ل سيما إذ كان بينهم سابق اتحاد ‪ ،‬فأزاله الجفاء ‪ ،‬فإذا عاد الصفاء فقد أسرع بالقوم اللتفاف‬
‫نحو بعضهم بعضاً ‪ ،‬كهذا الحال الذي جاء به المام الن ‪.‬‬

‫فذهب الحذر الذي يمنع من اختلط الجيوش ‪ ،‬فهؤلء النهروانيون مسرورون برجوع المام إليهم ‪ ،‬للمفاهمة‬
‫فيما بينهم ‪ ،‬و لم يكن بينهم سابق شر فيخشون غدراً‪ ،‬أو خداعاً‪ ،‬أو شيئاً مما ينبغي الحذر من أجله ‪ ،‬بل‬
‫يعهدون أنهم و علياً أعداء معاوية ‪ ،‬و ما خرجوا عن علي إل عندما َكفّ عن الحرب ‪ ،‬و علق المر بيد الحكمين‬
‫‪ ،‬بعدما كان هو الحكم العدل ‪ ،‬و المير المجمع على إمارته ‪ ،‬و لم يظنوا أن جيش المام حنق عليهم ‪ ،‬يضمر لهم‬
‫سوءاً ‪ ،‬أيُهم بغدرهم ‪.‬‬

‫و إذا بالجيش جامع عزمه على قتل هذه العصابة في سبيل نيل الرئاسة التابعة لمعاوية ‪ ،‬المجاهدة من أجله ل‬
‫ط َرةٍ ‪ ،‬قد ل يرى النجاة منها ‪ ،‬ف ِإمّا أن يقتل فيستريح‬
‫من أجل علي ‪ ،‬بل هي هَا ّمةٌ ليقاع علي المام في هِ ْوةٍ خَ ِ‬
‫منه معاوية ‪ ،‬و يكون المر كله إليه كما قرر الحكمان ‪ ،‬و ِإمّا أن تقتل هذه العصابة ‪ ،‬و على القل أن يكون قتلها‬
‫ضعف لعلي و تأخر في أموره ‪ ،‬و كل المرين مراد ‪ ،‬و قد يغدر أخ بأخيه إذا لم يكن مانع ديني كما قلنا عنه في‬
‫" نفحات الظهر" ‪ ،‬و المرء قد يغره مختدع له أخوه ‪ ،‬و به قد يبتلى ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و كان علي بن أبي طالب قلنا عنه مرات أنه كان سليم القلب ‪ ،‬ل خبرة له بالدهاء الظالم ‪ ،‬و ل يعرف عنه شيئاً ‪،‬‬
‫و ل يدرك ما ُيحَاك لمستقبله الدولي من الدواهي ‪ ،‬و يعتقد َأنّ النّاسَ كلهم ‪ ،‬أو على القل أكثرهم معه ‪ ،‬و ل‬
‫يَ َودّونَ غيره ‪ ،‬و ل َيسْعَ ْونَ في فساد أموره ‪ ،‬فهو المام المجتهد ‪ ،‬و المخلص للمة ‪ ]257[ ،‬و الزعيم الكبر‬
‫في تأييد السلم ‪.‬‬

‫و بذلك الطمئنان الذي رسخ في قلوب عبدال بن وهب و أصحابه لم يبق إل أن يتحرك موكب المام علي ‪ ،‬و‬
‫يتقدم الركب المبشرون عنه ذاهباً إلى معسكر عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬فيجتمع بأصدقائه القدماء ‪ ،‬و يعطف‬
‫ضمّ خاصته المخلصة إلى جانبه ‪ ،‬و قد تفاءل الحنف بن قيس و خاصة المام‬ ‫بالعتذار قلوبهم إليه ‪ ،‬و َي ُ‬
‫المخلصة بهذا العمل ‪ ،‬و استبشر الصفياء من جند علي بهذا الفتح المبين الذي كانوا تأثروا به ‪.‬‬

‫أمّا الشعث بن قيس وهو كما قال العلمة أبو مسلم ‪ " :‬و أشعث شيطان ألد كفور "‪ ،‬فهو و أهل طاعته في‬
‫جيش المام علي ‪ ،‬و هم الكثرون ومعهم رؤساء القبائل الذين لم يرسخ اليمان في قلوبهم ‪ ،‬و لم يعبدوا إل‬
‫الدّنيا ‪ ،‬و جماهير الجند معهم تتبعهم ‪ ،‬قد ارتاعوا من مفاوضات الصلح ‪ ،‬و ما توصل إليه المام من نتيجة‬
‫حسنةً مع عبدال بن وهب ‪ ،‬و رأت تلك الجمهورية عبدال و علياً يوشك أن يكونا يداً واحدة على معاوية وحزبه‬
‫‪.‬‬

‫فألى الشعث و أصحابه أن يحولوا بين الجهتين ‪ ،‬لذا حاكا هنا الدسيس الفاسد دون وقوع ذلك الصلح ‪ ،‬حيث‬
‫يرونه شؤماً على معاوية ومقاصده ‪ ،‬فهم في المقام حسدوا علياً بالتفاق مع القوم ‪ ،‬و حسدوا النهروانيين أن‬
‫يكون لهم صوت عالٍ عند علي بن أبي طالب ‪ ،‬و حسدوا السلم أن يكونوا له نصراً و استقامة ‪.‬‬
‫===================‬
‫(‪ )1‬كتاب السير للشماخي(‪ )1/51‬وتاريخ المغرب الكبير(‪)2/359‬‬
‫(‪ )2‬انظر تاريخ المغرب الكبير (‪)360-359 /2‬‬

‫و لعل هؤلء على القل أن يحوزوا كلمة المام ‪ ،‬و يكونوا محل رضاه في أموره التي هم يسيطرون عليها ‪ ،‬و‬
‫تقدموا أن يوقعوا المام في حرب مع أهل [‪ ]258‬النهروان ‪ ،‬فكان ما أرادت تلك البطانة الخاطئة بطانة معاوية ‪.‬‬

‫شمّاخي (‪ – )2‬رحمهما ال ‪ -‬مفاوضات الصلح التي أجراها سفراء علي مع‬ ‫و لقد أورد ال َبرّادِي (‪ )1‬و ال ّ‬
‫عبدال ‪ ،‬و تردد قيس بن سعد بن عبادة بين الطرفيين ‪ ،‬و إرسال علي له ثلث مرات لما يرجوه و يرغب فيه‬
‫من إصلح ذات البَ ْينِ ‪.‬‬

‫وهذا دليل على أن علياً لم يقصد الحرب لما ذهب إلى النهروان ‪ ،‬و إنما قصد الصلح والتراجع ‪ ،‬و ضم عبدال‬
‫بن وهب وقوته الحربية الكبرى الشديدة على معاوية و أعوانه ‪ ،‬لن عداء علي كان يتجه إلى معاوية ‪ ،‬و إذا‬
‫تعب علي في شيء ففي كف الشعث بن قيس وحزبه من دعاة الفتنة ‪ ،‬الذين يدعونه إلى حرب عبدال بن وهب‬
‫ج ّردَ لقتال المسلمين ‪،‬‬
‫الراسبي و عصابته الطاهرة ‪ ،‬التي تتألم على هوان الحقّ ‪ ،‬و ذِّلهِ في صالح عدوه ‪ ،‬الذي تَ َ‬
‫و لم يبال بسفك دماء المؤمنين ‪ ،‬في سبيل أن يكون أمير المؤمنين" (‪. )3‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و كان الشعث بن قيس وحزبه دعاة فتنة ‪ ،‬وهم الذي حملوا على كواهلهم ظلم المسلمين ؛ بإثارة الشر بينهم ‪ ،‬و‬
‫إيقاد نيران الفتنة في السلم ‪ ،‬و علي يدافعهم و يداريهم لنهم قوته الفَعّالة التي ل يمكنه إبعادها في هذه‬
‫الظروف الحرجة التي تضطره للخضوع لرائهم ‪ ،‬ل سيما أنهم يتكتمون عنه ‪ ،‬و يكتمون ما يرومون ‪ ،‬و أضر‬
‫الناس على المير بطانته في كل جيل و كل عهد من عهود التاريخ ‪ِ ،‬إنْ َبسَطَ لهم َت َمرّدُوا عليه ‪ ،‬و رأوا أنهم هم‬
‫أولو المر حلً وعقداً ‪ ،‬و إن قَ َبضَ عليهم حاولوا قهره و إبعاده ‪ ،‬وعلى هذا سنن التاريخ تأكد ‪ ،‬و الشواهد‬
‫معروفة ل تحتاج إلى إبراز ‪.‬‬

‫و ما زال علي يحاول[‪ ]259‬أن ل تقع فتنة بينه و بين إخوانه ‪ ،‬و لكن أعدائه بخلف ذلك إِلّ ما شاء ال ‪ ،‬إذ هم‬
‫دعاة و عباد الطماع يدعونه لحرب أهل النهروان ‪ ،‬لما يعتقدونه فيه يعتقدون مثله أو أشد منه فيهم ‪ ،‬وما‬
‫يرجونه من معاوية ل يرجونه من علي‪ ،‬و من أهل النهروان من باب أولى ؛ َلنّ أولئك ل يرون الحقّ الناصع ‪،‬‬
‫و العدل الكامل في المة أين كانت ‪ ،‬ويراوغون علياً على حرب هؤلء ‪ ،‬و يخلقون له فيهم أحوالً هم بريئون‬
‫منها ‪ ،‬ويريدون منه أن يوقع بهم شراً ‪ ،‬و يضمرون لهم غدراً تبعاً للشيطان الذي ُيسَوّلُ لهم ‪.‬‬

‫ع ّمنْ إرتضاه‬ ‫صحّ و ثَ َبتَ أَنّهم لم يرتكبوا أمراً يوجب إل أنهم رفضوا التحكيم ‪ ،‬و فروا عن مقتضاه ‪ ،‬وتباعدوا َ‬
‫و َ‬
‫‪ ،‬و بايعوا إماماً لهم يرومون به إحياء القضايا الدينية التي قاموا من أجلها على عثمان بالمس حتى قتل ‪ ،‬و‬
‫بعده بايعوا علياً إماماً لهم بيعة علنية شاهرة أجمعوا عليها على مقتضى أوامر الكتاب و السنة ‪ ،‬و لما رأوا َب ْذرَ‬
‫الشّقَاقِ وقع في الميدان الذي هم فيه توقعوا فساد الدّين منه فل جرم إذا فروا بدينهم ‪ ،‬و أرادوا إماماً لهم‬
‫يحملهم على أوامر الكتاب و السنة ‪ ،‬فيميت البدعة ‪ ،‬و يقيم الحق على أعمدة اليمان ‪ ،‬ويسير بالناس سيرة‬
‫الخليفتين السابقين ‪ ،‬فهل هذا جرم أو ذنب ؟؟‪ ،‬بعدما خلع إمامهم نفسه ‪ ،‬و ترك إمامته في يد الحكمين ‪ ،‬و بقي‬
‫ينتظرها هل تعود إليه أم ل؟ ‪ ،‬فلم تعد بل عادت على معاوية تؤيد جريمته في المة‪ ]260[،‬و تجمع له ما تَ َفرّقَ‬
‫بها ‪.‬‬

‫و هناك فريق غَطّ الجهل على عينيه فأعماها ‪ ،‬و غلب الهوى على قلبه فستهواه ‪َ ،‬فضّلَ الطريق ‪ ،‬ولم يكفه أن‬
‫سلك الجادة السوية راضياً بها سيراً إلى الغاية الرّوحية ‪ ،‬بل ضَلّ ينسب إلى الحقّ كل رذيلة‪ ،‬و يسلب عنهم كل‬
‫فضيلة ‪ ،‬ليكون مقبولً عند القوم الذين عاثوا في أرض ال فساداً ‪.‬‬

‫حطّ من‬ ‫فكان بعض المؤرخين الذين يظلمون التاريخ في سبيل رضى الغير ‪ ،‬ينقلون المفتعلت التي من شأنها ال َ‬
‫شرف القوم ‪ ،‬غير مراقبين أن للكون مكوّنا قادراً عالماً سميعاً بصيراً ‪ ،‬و للرعية راعياً صالحاً مالكاً عادلً ‪،‬‬
‫س َنةً ُيضَاعِفْهَا وَيُ ْؤتِ مِن ّلدُ ْنهُ‬
‫ح َ‬
‫عتيداً من كل أحد ‪ ،‬عالماً بكل ما كان ‪ ،‬و ما يكون ‪ " ،‬لَ َيظْلِمُ مِثْقَالَ َذ ّرةٍ َوإِن َتكُ َ‬
‫جرًا عَظِيمًا " (‪. )4‬‬
‫أَ ْ‬

‫فظل هؤلء الكاتبون الذين أخذت عواطف العصبية و الظلم منهم مأخذها ‪ ،‬يكتبون حتى ما تتقول به العامة التي‬
‫هي أتباع كل ناعق ‪،‬الذين يملون مع كل ريح ‪ ،‬لم يستضيئوا بنور اليمان ‪ ،‬و جهلوا أن الناقد بصير ‪.‬‬

‫فكان فيهم من يستولي عليه الحمق‪ ،‬والغضب‪ ،‬و قصر النظر ‪ ،‬و يتقد حماساً على أهل الحقّ ‪ ،‬و ليس هو الحجة‬
‫في شيء ما ِمنْ أمور الدّين ‪ ،‬فيسترسل فيما يكتب ‪ ،‬فيعلل حوادث النهروان بما يأباه المنطق الصحيح ‪ ،‬و ما‬
‫ينكره العقل السليم من الهوى ‪ ،‬و يعكس النصوص الصريحة الصحيحة فيضع فيما يكتب من الفك والبهتان ما ل‬
‫يرضاه ال و ل رسوله ‪ ،‬و ل الدّين ‪ ،‬و ل المروءة ‪ ،‬فيضع رجال الحقّ في غير موضعهم اللئق بهم ‪ ،‬و ينسب‬
‫إليهم غير الواجب فيهم ‪ ،‬و ل يحترس من التورط في أهل ا ل و خاصته ‪ ،‬ويتبع غير سبيل المؤمنين ‪]261[.‬‬

‫فتارة َي ْرمُونَ النهروانيين بما ل يقبله العقل ‪ ،‬و تارة ينسبون إلى علي بن أبي طالب الغدر والخيانة ‪ ،‬فيقولون‬
‫أنه‪ " .:‬واعد القوم عبدال بن وهب و أصحابه بإتيانه إليهم ليعتذر إليهم و يصالحهم ليأمنوا فيفرقوا جيشهم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فيهجم عليهم ‪ ،‬و إنه كادهم بذلك " ‪ ،‬ونسوا أن علياً َأجَلّ ‪ ،‬و َأ ْر َفعَ نفساً من ذلك أن يرتكب هذا الحال و هو عَلَمٌ‬
‫في الدّين ‪ ،‬و َرأْسٌ في الشجاعة ‪ ،‬ل يحارب من يحاربه إل وهو على أتم أحوال الزعامة الصحيحة ‪ ،‬و على‬
‫أعلى أحوال الستعداد ‪.‬‬

‫ولو كان علي بن أبي طالب ممن يرضى بالغدر والخيانة ‪ ،‬و استعمال المكائد لخصومه لكان منع معاوية و جيشه‬
‫الذي خرج لقتاله في صفين ‪ ،‬و كان علي سبق على الماء ‪ ،‬و كان قادراً على منعهم إذ استولى هو على النهر ‪،‬‬
‫وقد ألحّ عليه أصحابه أن يمنعهم الماء ‪ ،‬و يهجم عليهم و قد قيدهم العطش ‪ ،‬فيأخذهم قبضاً باليادي فل يحتاج‬
‫إلى حرب معهم ‪ ،‬فقال لهم ‪ " :‬ل وال ‪ ،‬ل أكافئهم بمثل فعلهم ‪ -‬و كانوا فعلوا ذلك معه ‪ ،‬فكشفهم السيف ‪،‬‬
‫فأفسحوا لهم عن بعض الشريعة ‪ -‬ففي حد السيف ما يغنى " (‪. )5‬‬

‫هذه هي نفس علي في حروبه ‪ ،‬فانظروا في هذه العزيمة الكبيرة و النفس القوية ‪ ،‬التي ل ترى للرجال قيمة في‬
‫الحرب ‪ ،‬و ل تعد الحياة إل عند سقي السيف من دماء البطال ‪ ،‬إن علياً تعرف شجاعته من حروبه ‪ ،‬و مواقفه‬
‫في الجهاد ‪ ،‬و في غزواته المتعددة ‪ ،‬فلله دره ‪.‬‬

‫ل نظلم الناس بالهواء حقهم ‪ ،‬و ل نبال بقدح الخائر الشر ‪.‬‬

‫فعليٌ من صناديد الرّجال الذين دَوّخُوا الكفر ‪ ،‬و دَكّوا صروح الباطل ‪ ،‬إل [‪ ]262‬أنّا ل نقول فيه ما قالت‬
‫الشيعة ‪ ،‬فإنّ الدّين وراءه دَيّانٌ بصيرٌ بحقوق المصير ‪.‬‬

‫و ل يكيد علي بن أبي طالب كيد الضعفاء ‪ ،‬لكنه إذا حارب كان على أسلوب الشجعان ‪ ،‬ومن هذا تعلم أن بعض‬
‫الكاتبين ل يتقيدون بحقوق الدّين ‪ ،‬و ل يبالون بالقوال أين يضعونها من النّاس !!‪.‬‬

‫صحّ َأنّ علياً لم يكن راغباً‪ ،‬و ل عازماً‪ ،‬على حرب عبدال بن وهب ‪ ،‬و من ينسب إليه عزمه على ذلك يظلمه ‪،‬‬ ‫َ‬
‫ِإنّ علياً كان عالماً كبيراً ‪ ،‬و ديناً شهيراً ‪ ،‬و يعلم أن عبدال بن وهب و أصحابه قاموا بواجب ديني ‪ ،‬فعلى أي‬
‫شيء يقاتلهم ؟‪ ،‬ألكونهم بايعوا إماماً بحق؟! ‪ ،‬ل يرضى علي بذلك ‪.‬‬

‫شكّ َأنّ المرء في المحنة عَيّ ‪ ،‬فعلي بقي نادماً فيما فعل ‪ ،‬حائراً في المصير ‪ ،‬أهمه أمر المة ‪ ،‬و أهمه أمر‬
‫ول َ‬
‫مصيره ‪ ،‬و أهمه ظلم معاوية ‪ ،‬و كان صادقاً فيما أبلغه سفيره قيس بن سعد عن عبدال بن وهب من إتيانه‬
‫إليهم للمصالحة و العتذار ‪ ،‬و ما كان لعلي و هو عََلمٌ في الدّين ‪ ،‬وَ م ّمنْ يضرب به المثل في الورع و التقوى‬
‫أن َيخِيسَ (‪ )6‬بوعده ‪ ،‬و يكذب في قوله ‪ ،‬و يهجم على المن في مأمنه ‪ ،‬وقد وثق بعهده ‪ ،‬و اطمئن إليه ‪،‬‬
‫فألقى سلحه ‪ ،‬و َفرّقَ جنده ‪ ،‬و اختلط جيشه بجيش عدوه ‪.‬‬

‫" إنّ الذين يصفون علياً بالكيد لعبدال فَ َفرّقَ جيشه ‪ ،‬يصفون عبدال بأنه مغرورٌ في سذاجة الغفلة ‪ ،‬و هو من‬
‫ال ّدهَاةِ الذين لهم ضياء العقول الحية الواعية ‪ ،‬فهو وأصحابه دهاة أذكياء يتبينون الخفايا الخفية من وراء‬
‫ستارها ‪ ،‬و ينتبهون لدقائق التي ل تبين لغيرهم ‪ ،‬و ما كان لقيس بن سعد و الدهى منه أن يداجي عبدال بن‬
‫وهب وصحبه فيلبس غير لباسه ‪ ،‬ويظهر بوجه غير وجهه ‪ ،‬و يبرز [‪ ]263‬و يظهر في غير حقيقته ‪ ،‬و ما‬
‫كان لقيس و هو من سادات النصار ‪ ،‬و من له المكانة فيهم ‪ ،‬و في صلحه‪ ،‬و اعتداده بنفسه ‪ ،‬وفي غيرته‬
‫على مكانته العالية بين أقرانه في عصره أن يفعل هذا ‪ ،‬فيخادع أناس يشهد هو بفضلهم ‪ ،‬و ينطوي على إجللهم‬
‫ج ّرهَا إلى المام ‪ ،‬و إلى أجنحته التي يقدر أن يُحَلّقَ بها على رؤوس‬
‫و إكبارهم ‪ ،‬و يراهم قوة كبرى يجب َ‬
‫المعادين له ‪ ،‬فل ينبغي أن تخرج هذه القوة الحامية عن المام ‪ ،‬بل يجب أن ترجع عليه ‪ ،‬فتشد عضده وتؤيده ‪.‬‬

‫ِإنّ العوام و الذين ل يحكّمون المنطق في هذه الحوادث قد أراهم الغضب‪ ،‬و الحمق‪ ،‬و تحكيم العاطفة في هذه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫الحوادث غير الحقيقة ‪ ،‬فتفوهوا وعللوا الحوادث تعليلً خاطئاً ‪ ،‬فنقل بعض المؤرخين تلك القوال التي يناقضها‬
‫س ِرهِ‪ ،‬وَتَأسّ ِفهِ‪ ،‬و بُكَا ِئهِ على عبدال بن وهب و صحبه ‪ ،‬و الذين‬
‫حّ‬‫ما أثبتوه بعد ذلك ‪ ،‬و نسبوه إلى المام ِمنْ تَ َ‬
‫استشهدوا في النهروان ‪ ،‬و ما وصفوه به من تحسره حين كانت المعركة دائرة ‪ ،‬و الهجوم يقع على عبدال بن‬
‫وهب وصحبه (‪. )7‬‬

‫فلو كان هو المر بالهجوم المشعر بالحرب لَ َفرِحَ بالنصر على العدو الذي رأى قتله واجباً ‪ ،‬و إعداماً فرضاً ‪ ،‬و‬
‫لو كان من أقرب القرباء له ‪ ،‬فقد قتل من أقاربه في سبيل نصرة الحقّ من ل يخفى بين أهل العلم ‪ ،‬فكان هنا‬
‫كذلك ينبغي على فرض ما قرره المؤرخون الذين ل يهتدون للحق كما ينبغي أن يفرح بالنصر على عدوه عبدال‬
‫و صحبه" ‪.‬‬

‫" و كان الشعث بن قيس [‪ ]264‬وصحبه من رؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية الداهية ‪ ،‬يتحسرون و‬
‫يتألمون لما وصل علي إليه من نتيجة حسنة مع عبدال بن وهب و يقولون في أنفسهم ‪ :‬إن تم له ذلك فلن يبقى‬
‫معاوية على كرسيه في الشام ‪.‬‬

‫و عزم علي على المسير إلى عبدال للمصالحة ‪ ،‬فيكونوا يداً واحدة ‪ ،‬فعزم الشعث بن قيس أن يفسد خطة المام‬
‫‪ ،‬ويمنع وقوع الصلح المطلوب إن استطاع بكل ما لديه من حيلة ‪ ،‬فيهجم على عبدال بن وهب و يشعل عليهم‬
‫حرب ضروساً ‪ ،‬ويجعل المام في المر الواقع الذي ل يستطيع له َمرَداً ‪.‬‬

‫إن أتباع الشعث في جند علي لكثيرون ‪ ،‬و إن السيطرة للشعث في الجند أكثر من سيطرة علي بن أبي طالب ‪.‬‬
‫وإذا رأوا المام أراد أمراً يخالف مقتضى نظرهم زَيّفُوه ‪ ،‬و ا ْنطَوّوْا على خلفه ‪ ،‬و ذلك من ابتلء علي بن أبي‬
‫طالب ‪ ،‬ف ِإنّ جنداً هذه صفته ل بد أن يكون نقمة على رئيسه" ‪.‬‬

‫و إن كثيراً من رؤساء القبائل الذين اصطنعهم معاوية ‪ ،‬و أملهم المال ‪ ،‬و َبسَطَ لهم من الدّنيا ‪ ،‬و هم رجال‬
‫الدنيا ‪ ،‬ل ثمن للدين لديهم ‪ ،‬و معاوية هو كرسي القوم ‪ ،‬و مقتداهم في هذا ‪ ،‬و هم ضباط جيش علي ‪ ،‬و هو‬
‫غافل عن أحوالهم ‪ ،‬و قد أحسن بهم الظن ‪ ،‬و جعلهم ظهره و قوته التي يعتمد عليها ‪ ،‬و لم َيدْرِ أن الشعث‬
‫يستطيع أن يعلن الحرب بدون إذن المام ؛ لن المر بيده ‪ ،‬و طاعة الجيش إليه ‪ ،‬ويبعث الجند للقتال بغير‬
‫طدَ للجند المقام ‪ ،‬ونظر المام إليهم نظرة احترام ‪ ،‬فهو ل يزال‬‫مشيئة المام ‪ ،‬وكان [‪ ]265‬النصر السابق وَ ّ‬
‫يعتقد فيهم ذلك ‪.‬‬
‫======================‬
‫(‪ )1‬جواهر المنتقاة ص ‪122-119‬‬
‫(‪ )2‬كتاب السير (‪)49-48/ 1‬‬
‫(‪ )3‬تاريخ المغرب الكبير (‪)361 /2‬‬
‫(‪ )4‬النساء ‪.40 :‬‬
‫(‪ )5‬انظر تاريخ المغرب الكبير (‪)2/361‬‬
‫س خسيساً وخسياناً‪ .:‬غدر ونكث‪ ( ،‬القاموس المحيط‪ )543/‬مادة خ ي س‬
‫(‪ )6‬يقال خاس بالعهد يخي ُ‬
‫(‪ )7‬تاريخ المغرب الكبير(‪)2/362‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫" و كان عبدال بن وهب الراسبي في أربعة آلف من جنده ‪ ،‬فلما واعده قيس بن سعد بمسير علي إليه ‪ ،‬شرع‬
‫يستعد للقاء المام للمصالحة ‪ ،‬و أمن و اطمأن ‪ ،‬لعلمه أن علياً لم يكن من أهل البغي و الفساد ‪ ،‬و ل من أهل‬
‫المكر والعناد ‪ ،‬بل كل ما عنده إرادة الخير لمته ‪ ،‬و لذلك أذن لجيشه أن يَ َت َفرّقَ ‪ ،‬فذهب أكثره لزيارة أقاربهم و‬
‫إخوانهم في جيش المام ‪ ،‬و ليأكدوا ما عزم عليه الطرفان من المصالحة فيما هم بصدده ‪ ،‬و يبينوا برفع الحذر‬
‫حسن نية عبدال بن وهب ‪ ،‬فلم يبق في معسكر عبدال إل ألف و ثمانمائة جندي ‪.‬‬

‫فاغتنم الشعث بن قيس الفرصة هو وصحبهَ الذين هم على رأيه خاصةَ َأ ْمنَ عبدال ‪ ،‬و تَ َفرّقَ جيشه ‪ ،‬فهجموا‬
‫عليه و أحاطوا به ‪ ،‬و تبين له خلف ما كان يظن ‪ ،‬ركب هو و أصحابه الذين كانوا خاصته باقين معه في‬
‫المعسكر ينتظرون وصول المام فما شعروا إل وقد دارت الحرب ‪ ،‬وقامت المعركة الرهيبة بين الشعث بن قيس‬
‫و الذين اندفعوا بجيش المام ‪ ،‬و عبدال و صحبه المنون المطمئنون بنيل الصلح عند مجيء المام ‪ ،‬و إذا‬
‫بالقتلى تتساقط و السيوف تعمل في الرقاب ‪ ،‬و جيش المام كما عرفت فوق سبعين ألفاً فماذا تكون هذه العصابة‬
‫القليلة في جيش كالبحر ‪ ،‬فلم تزل القتلى تتساقط من الجانبين ‪ ،‬وتخر على الرض ‪ ،‬و لم يزل المؤمنون يقتلون‬
‫و أهل الهواء يلعبون ‪ ،‬و دامت الحرب [‪ ]266‬من الغداة إلى الصيل بين إخوان مسلمين ‪ ،‬أخذت يوماً كاملً ‪،‬‬
‫و لم يملك المام شيئاً " (‪. )1‬‬

‫و مما يدل على عدم إرادة علي قتل أولئك الرجال لم يدخل الحرب كعادته ‪ ،‬و ل شُ ِهرَ عنه أَنّه قَتَلَ أحداً بيده ‪ ،‬و‬
‫لعله قيل له إن القوم بدأوا بالحرب فيظن صدق القائل ‪ ،‬و العهدة عليه ‪ ،‬و لم يعلم هو من أثارها ‪ ،‬فلم يشعر إل‬
‫و السيوف على الرؤوس ‪ ،‬و القتلى تهوي على الرض ‪.‬‬

‫جهَ خصمه الجريمة عليه ‪ ،‬فقامت المحاورات و‬ ‫ومن حيث أنه المام القائد و المسئول عما يجنيه جيشه ‪ ،‬وَ ّ‬
‫اشتدت المنازعات ‪ ،‬و كل يعد على خصمه البغي عليه ‪ ،‬و لكن لما كان حسب الظاهر أن المنتصر علي عَلّقَ أهل‬
‫الهواء على النهروانيين جريمة تلك الحرب ‪ ،‬و أخذوا يضيفون إليهم كل سوداء مظلمة ‪ ،‬ومن طَ ْبعِ النّاسِ هذا‬
‫يؤيدون المنتصر ولو لم يكن محقاً ‪ ،‬فيجعلونه المحق المخلص ‪ ،‬و لو انتصر النهروانيون لسمعت القيل والقال‬
‫في علي و جيشه ‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫و هذا الحال فيهم عريق ‪ ،‬و ال يبتلي عباده بما شاء ‪ ،‬و قد ابتلى ال المسلمين بهذه الحوال ‪ " ،‬لّيَ ْهِلكَ َمنْ هَ َلكَ‬
‫حيَى َمنْ حَيّ عَن بَيّ َنةٍ " (‪. )3‬‬
‫عَن بَيّ َنةٍ وَيَ ْ‬

‫جبْ أيها العاقل كيف يلعب أهل الهواء ‪ ،‬و يرتكبون الشنائع ‪ ،‬و يفعلون الفاعيل المنكرة و ل يبالون؟!! ‪.‬‬ ‫فاعْ َ‬
‫و لذلك بقي المام حائراً ل يدري من أثار هذه الحرب ‪ ،‬و لم يجئ هو حارباً ‪ ،‬ورسله حجة عليه ‪ ،‬و لم يعلم من‬
‫كان السبب فيها ‪ ،‬و لعلها ِمنْ َم َع ّرةِ الجيش ‪.‬‬

‫و عبدال بن وهب و أصحابه كانوا يرتقبون الخير [‪ ]267‬بمجيء المام ‪ ،‬و المن‪ ،‬و الطمئنان‪ ،‬و اجتماع‬
‫الشمل و لَمّ الشعث ‪ ،‬و أن يكون الرأي مداراً بين الجميع ‪ ،‬و الوجهة واحدة وهي الهتمام بأمر معاوية المفرق‬
‫لشمل المسلمين ‪ ،‬المستبد بحكم هواه ‪ ،‬القائم على المام علي ليكون سلطاناً على المسلمين ‪ ،‬و لعلمه أن إعطاء‬
‫الناس رغبتهم هو الذي يؤيد مقاصده ‪ ،‬كما أشار إلى ذلك بعض أهل الردة ‪ ،‬إذ قال لعمرو بن العاص " إن العرب‬
‫ل تطيع لكم على هذا ‪ ،‬فتركوا لهم أموالهم "‪ ،‬و كان يشير إلى الزكاة ‪.‬‬

‫فمعاوية ل يراعي أحكام الشريعة إل في مصالحه الخاصة أو في ما ل يُخِلّ بسياسته ‪ ،‬فل يزال يراوغ الشريعة‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫من كل وجهاتها ‪ ،‬كما في قضية قتل عمار بن ياسر – رضي ال عنه ‪ ، -‬و قد شاع َأنّ عماراً تقتله الفئة الباغية‬
‫‪ ،‬و لمّا قتلته شيعة معاوية أقلق بعض الصحابة ذلك ‪ ،‬فأخبر معاوية ‪ ،‬فرأى معاوية أن ل بد لهذا الخبر من أثر‬
‫في قلوب كثير من أصحابه ‪ ،‬و رأى إذا تأثر البعض سرى ذلك في الباقين فيقع الخلل في السياسة التي ينسجها‬
‫هو ‪ ،‬فلذلك قال لهم ‪ " :‬لم نقتله نحن و إنما قتله من أخرجه إلينا " (‪ )4‬فأرضى ذلك أهل الشام ‪ ،‬و أقنعهم ‪،‬‬
‫فإنهم كما قال في المامة و السياسة ‪ ":‬إن أهل العراق اختلفوا على علي ‪ ،‬و لم يختلف عليك ‪ -‬أي معاوية ‪ -‬أحد‬
‫" قال " والخلف أشد من القتل " (‪ )5‬اهـ ‪ ،‬و هو واضح ‪ ،‬فإن المكيدة المشار إليها وضعت لذلك ‪ ،‬فأهل الشام‬
‫كما يقول معاوية ل خلف لديهم ‪ ،‬و أهل العراق أهل علم و عمل و استقامة في الدين ‪ ،‬و فيهم عمي ل يبصرون‬
‫الحق ‪ ،‬و لذلك كان الفتراق من أول [‪ ]268‬ساعة وقع فيها النداء بتلك المقالة الفاسدة ‪ ،‬وعندما وقع الصغاء‬
‫إليها أنكر المسلمون ذلك ‪ ،‬وقالوا قولتهم المشهورة وهي ‪ " :‬ل حكم إل ل " ‪.‬‬

‫و المعنى أنّا قاتلناهم في الجمل على البغي ‪ ،‬و في صفين أيضا ‪ ،‬و في الدار حتى قُتِلَ عثمان ‪ ،‬فما بالنا الن‬
‫نترك الحكم لعمرو بن العاصِ و أبي موسى الشعري ‪ ،‬ونرفض حكم ال عز و جل ‪ ،‬إنها لمصيبة عظيمة ‪،‬‬
‫ومكيدة فاجرة ‪ ،‬رضي بها المام و قَ ِبلَهَا ‪ ،‬وعاهد القوم عليها ‪ ،‬وخلع إمامته من عنقه ‪ ،‬و رضي أن يحكم له‬
‫بها عمرو بن العاص و أبو موسى الشعري ‪ ،‬و هو يعرف الرجلين تمام المعرفة ‪ ،‬ولما خلعاه ‪ ،‬و أثبت عمرو‬
‫بن العاص معاوية بن أبي سفيان إماما سَ ّبهُ أبو موسى ‪ ،‬و رَدّ عمرو بن العاص السّبّ عليه ‪ ،‬و رجع علي بن‬
‫أبي طالب يطالب بإمامته ‪ ،‬و بالمس رضي بخلعه ظآن أنهما ل يريان غيره ‪ ،‬و ما دري أنها الداهية الدهياء‬
‫التي جاءته ‪ ،‬فقال له عبدال بن وهب و أصحابه ل إمامة لك لنك خلعت نفسك ‪ ،‬و ليس لك أن تفعل ذلك ‪ ،‬ثم لم‬
‫يردك المسلمون لها ‪ ،‬و إذا أرادوك لها مرة أخرى ‪ ،‬و اتفقوا عليك بعد أن تُ ْعِلنَ توبتك إلى الناس مما وقعت‬
‫فيه ‪ ،‬و بقي المام بين هذين الفريقين ‪ ،‬فريق يرى له إمامته و هم الجهلء الذين ل يهتدون لسبيل الحقّ ‪ ،‬و‬
‫ج ْرمَاً عظيماً ل يغتفر له إل بالتوبة منه ‪ ،‬و هكذا يكون المبتلى بأمور الناس ‪.‬‬
‫فريق يرونه جارم ُ‬

‫و كانت سياسة معاوية بن أبي سفيان جلب ظغام الناس و غوغائهم ليحدثوا الضّجّة [‪]269‬على المام و من معه‬
‫من المسلمين ‪ ،‬و هو السواد العظم الذي ل يعي و ل يعقل إل طاعة رئيسه محقاً كان أو مبطلً ‪.‬‬

‫فترى المام علي جاء إلى إخوانه ليتفق معهم على المصالح ‪ ،‬ويجتمع بهم لعادة اللفة بينهم ‪ ،‬ويلتزم هو و‬
‫إياهم كل صالح ‪ ،‬فلم يشعر إل و المسلمون يقتتلون و رحى الحرب تدور بينهم ‪ ،‬و هم بعضهم يقتل بعضاً ‪ ،‬و لم‬
‫يملك من المر شيئاً ‪ ،‬و ل تعي الحيلة الشعث بن قيس أن يقول كيت و كيت في سبيل تبرير دعواه ‪ ،‬فلذلك لم‬
‫يدخل علي الحرب بنفسه ‪ ،‬و بقي يتأسف على الواقع ‪ ،‬و لعل حاله تقول ما جئنا لهذا ‪ ،‬أو ليت المر على غير‬
‫هذا الحال ‪ ،‬ولم يزل يتأسف ويتأفف و يبكي على الواقع ‪ ،‬و يندب إخوانه الميامين الذين أكلت الرض جباههم و‬
‫جنوبهم من كثرة الركوع و السجود ‪.‬‬

‫ومما يدلك على خيانة الشعث لمامه و انخداعه لمعاوية ‪ ،‬ما رواه الهمام دبوز في الجزء الثاني من تاريخ‬
‫المغرب الكبير (‪ )6‬إذ يترجم له بهجوم الشعث بن قيس على عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬و وقوع مأساة‬
‫النهروان ‪ ،‬و ما أوقعه الشعث على أولئك المؤمنين المخلصين التقياء البرياء فقضى عليهم في مأمنهم ‪ ،‬و في‬
‫حال اطمئنانهم ‪ ،‬و ظهر أن علياً لم يشارك في قتالهم ‪ ،‬إل أنه المام المسئول عما يفعله جنده ‪ ،‬و لكن الظاهر أن‬
‫علياً لم يملك المر ‪ ،‬ولم يعرف كيف ثارت هذه الحرب مع أنه جاء للصطلح ‪ ،‬فهل أثارها النهروانيون عليه ؟‪،‬‬
‫أم أثيرت عليهم ؟‪ ،‬وبقي حائراً ‪ ،‬و المرء في المحنة عي ‪ ،‬و كم وقع مثل هذا [‪ ]270‬في جيوش أئمة العدل ‪.‬‬

‫فإن علي بن أبي طالب ندم على قتلهم ‪ ،‬و بكى عليهم ‪ ،‬و ل يعقل أن يبكي على قتل عدوه ‪ ،‬وقد شُ ِهرَ عنه ذلك‬
‫عضّ أصابع الندم ‪ ،‬و رآها بلية أحاطت به ‪ ،‬و إنها لمن الدواهي ‪ ،‬و‬
‫أي بكاؤه عليهم ‪ ،‬و تأففه على الواقع ‪ ،‬و َ‬
‫هنا تحقق أنه ل يستطيع رد جماح معاوية ‪ ،‬إذ هذه الوقعة زادت الطين بله ‪ ،‬و أثقلت كاهل علي ‪ ،‬وعاد إلى‬
‫س ِمعَ النوادب للبرار البرياء ‪ ،‬قتلوا على غير شيء في ضحوة من نهار ‪،‬‬ ‫الكوفة ‪ ،‬و الفق ُمغْ َبرّ في وجهه ‪ِ ،‬إذْ َ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و أيقن أن أموره ستنهار ‪ ،‬و إمامته ستضمحل ‪.‬‬
‫===================================‬
‫(‪ )1‬تاريخ المغرب الكبير(‪)364-2/363‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه‬
‫(‪ )3‬النفال‪42:‬‬
‫(‪ )4‬المامة والسياسة (‪)1/110‬‬
‫(‪ )5‬المامة والسياسة (‪ )1/112‬والقول لبي العور‬
‫(‪ )6‬تاريخ المغرب الكبير (‪)2/363‬‬

‫و كذلك ترجم دبوز بكيد الشعث لعلي (‪ ، )1‬و أثر ذلك في أنصاره بوقعة النهروان ‪ ،‬و افتراق جيشه عليه بعد‬
‫الرجوع من النهروان إلى الكوفة ‪ ،‬و ما كان عليه المسلمون مما خرجوا له من نية قتال معاوية و أهل الشام ‪ ،‬و‬
‫بعضهم خرج بنية الصلح و المراجعة بين علي و عبدال حتى أشعلها الشعث المتغطرس على المسلمين ‪ ،‬و‬
‫أثارها شعواء بين إخوان مؤمنين ‪ ،‬ليستغل رضى معاوية و أهل الشام ‪ ،‬و يكبر في أعينهم ‪ ،‬فيسيطر على‬
‫المقاصد ‪ ،‬و يريهم أنه الرجل الوحيد ‪ ,‬و البطل الصنديد ‪ ،‬و الشجاع الفذ الذي إذا قال فعل ‪ ،‬فينال بذلك المكانة‬
‫السامية ‪.‬‬

‫و كان المر كما أراد فإن علي بن أبي طالب أدرك الحقيقة ‪ ،‬و علم الغاية ‪ ،‬فلذلك لم يتحرك بعدها إلى معاوية ‪ ،‬و‬
‫بقي يوبخ الجند ‪ ،‬و يذمهم و يعلن مغشتهم ‪ ،‬و إن معاوية مطاع في أهل الشام و علي على خلف ذلك في أهل‬
‫العراق ‪.‬‬

‫و إذا تحققت َأنّ علياً لم َي ْرضَ بقتل أهل النهروان‪ ،‬أو لم يأمر به لم تلزمه مهمتهم ‪ ،‬و لم تَعَْلقْ به تلك الجريمة ‪،‬‬
‫و قد يكون المرء في نيته قاصداً خير [‪]271‬فل ُيرَى في قصده إل شراً ‪.‬‬

‫وهكذا عليٌ فيما أحسب ‪ ،‬و أما النقل عن المؤرخين فمتباين و متناقض ‪ ،‬و عند كل قوم ما يوافق غرضهم ‪ ،‬و‬
‫يلئم دعوتهم ‪ ،‬و ل تلتفت إلى ما ذكره صاحب فتح الباري (‪ )2‬و أمثاله ‪ ،‬فإنه مختلطٌ‪ ،‬مضطربٌ‪ ،‬يجمع الغَثّ و‬
‫السمين ‪ ،‬و إذا تتبعه النسان رآه متناقضاً من جميع نواحيه ‪.‬‬

‫و العجب من مثل هؤلء العلماء الذين ل يستعملون عقولهم ‪ ،‬و ل يشغلون أفكارهم بالنظر إلى ما جاء في‬
‫أخبارهم ‪ ،‬فتراهم كمن يحتطب بالليل و يجمع كل ما يلقي ‪.‬‬

‫وقد حاولت تمحيص ما ذكر و مقابلة ما نقل ‪ ،‬فرأيته ضياع وقت ل غير ‪ ،‬و على كل حال إنا نعتبر الرجال بالحقّ‬
‫و تأييد كل محق ‪ ،‬و إذا كان صاحب الفتح يكتفي بتلك القوال في العقيدة ويعتمد في الرؤية ذلك الضلل ‪ ،‬فماذا‬
‫نقول في حق غيره ؟؟ ‪.‬‬

‫أعني إذا كان مثل هذا العالم في الحديث ل يمحص ما جاء فساداً في العقيدة إذ كان قدحاً في الصفات اللهية ‪،‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فمن باب أولى ل يبالى بما عدا ذلك ‪.‬‬

‫و لو أخذوا بمذهب زيد بن عمرو بن نفيل في طلبه الدين لهداهم ال للحقّ المبين ‪ ،‬و لكنهم يأخذون ما وجدوه‬
‫لغيرهم تقليداً ‪ ،‬و ل يزنون ذلك بميزان العقل ‪ ،‬و ل يرون نقض ما وجدوه جائزاً‪ ،‬وإن كان خلف الحق ‪.‬‬

‫و كم في الناس من متنطع يدعي العلم ‪ ،‬و هو منه بعيد ‪ ،‬و يندد بالمسلمين كل تنديد ظاناً أنه العالم الذي يجب أن‬
‫تطيعه العوالم ‪ ،‬كمحشي السعاف (‪ )3‬الذي ترك الحقّ وراءه ‪ ،‬و جمح إلى ما لم يكن من شؤونه ‪ ،‬فقام يندد [‬
‫‪ ]272‬بالباضية ‪ ،‬حتى في همزة وقعت في غير محلها غلطاً ‪ ،‬فندد بأمة مسلمة عظيمة علمته و أشياخه وضع‬
‫الهمزة وغيره ‪ ،‬بخليلها بن أحمد الفراهيدي ‪ ،‬كما علمته عروض الشعر به أي الخليل ‪ ،‬و وضعت له سنن الدب‬
‫الصحيح بابن دريدها العلمة الفصيح ‪ ،‬فهذا و أمثاله ل يعبأ بهم ‪ ،‬و ل يُعَوّلُ عليهم ‪ ،‬و إن كثروا إل إذا رجعوا‬
‫إلى الحقّ و سلكوا سبل الرّشاد ‪ ،‬فلكل درجات مما عملوا‪ ،‬و ال يتولى من عباده الصالحين ‪.‬‬

‫غرّها ‪ ،‬و لعدم القيام عليهم بالرد لما قالوا‬


‫نعم كم رأينا من الطعن في الباضية تنشره المجلت و الجرائد وقد َ‬
‫غرّتْ قبلهم أناس أنفسهم ‪ ،‬و كم وقعوا في مهاوى الضلل ‪ ،‬نسأل ال‬ ‫فظن أنه الحق مغترين بذلك ‪ ،‬و كم َ‬
‫السلمة في الدين والدنيا ‪.‬‬
‫============================‬
‫(‪ )1‬تاريخ المغرب الكبير(‪)2/366‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري شرح صحيح البخاري لبن حجر العسقلني (‪)384-12/351‬‬
‫(‪ )3‬طبع كتاب السعاف في المكتب السلمي لصاحبه زهير الشاويش‪ ،‬وعلق على الكتاب سعيد الطنطاوي وغيره‪.‬‬

‫تحقيق قضية التحكيم‬

‫اعلم أَنّه لمّا رأى معاوية و أحزابه أن الدائرة تدور عليهم ‪ ،‬و رأوا تحقق الغلبة للمام عليهم ‪ ،‬و أنهم إذا وقعوا‬
‫في يده أن يحكم فيهم بحكم ال عز و جل ‪ ،‬و تَيقّنُوا إذ ذاك أن ل شام لمعاوية‪ ،‬و ل مصر لعمرو بن العاص ‪،‬‬
‫لجأوا إلى المكيدة ‪ ،‬و حقيقتها حيلة إن نفعت ‪ ،‬رأوا أن أهل العراق سريعوا الختلف والفتراق ‪ ،‬وكان عمرو بن‬
‫العاص من أدهى العرب ‪ ،‬اخترع رفع المصاحف على الرّماح ‪ ،‬منادياً بها إنّا نحاكمكم على كتاب ال عز و جل ‪،‬‬
‫فلمّا رأى أهل العراق رفع المصاحف على الرؤوس ‪ ،‬و النداء بالمحاكمة إليها [‪ ]273‬اختلفوا عليها بين قائل‬
‫ارفعوا السيف فإنهم يناشدونكم حكم كتاب ال ‪ ،‬و ليس لكم الن قتالهم و الحال هذا ‪ ،‬و بين قائل ضعوا السيف‬
‫على أعناقهم ‪ ،‬أو يخضعوا للحقّ ‪ ،‬و هل نحن قاتلناهم إل على تركهم حكم ال عز و جل ؟!‪ ،‬و قد حكم ال تعالى‬
‫شأنه فيهم نصاً!! ‪ ،‬و هو قتال الباغي أو يفيء إلى أمر ال تعالى عز و جل ‪.‬‬

‫بهذا وقع الضطراب في جيش المام علي ‪ ،‬و على كل حال ِإنّ المامَ بالجند ‪ ،‬و إذا لم يكن جندٌ فل إمارةً‪ ،‬و ل‬
‫إمامة‪ ً،‬و ل سلطنةً ‪ ،‬و حينئذ بقي المام بين أمواج هذه الداهية الدهياء ‪ ،‬التي أصيب بها في جيشه ‪ ،‬الذي دَوّخَ‬
‫العدو سابقاً ‪.‬‬

‫صرّة على عدم الرضى بذلك ‪ ،‬و لكن الحكم‬


‫و كانت الكثرية التي ترى ترك الحرب للمحاكمة ‪ ،‬و بقيت القلية َم ِ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫للكثر ‪ ،‬و إذا اشتبهت المور لم يدرك الحقّ فيها إلّ القلون ‪ ،‬و هذا أمر بديهي جربته المم على اختلف‬
‫أوضاعها ‪ ،‬و في سالف تاريخها ‪.‬‬

‫و إليك بيان ذلك عن علماء التاريخ ‪:‬‬

‫قال في المامة و السياسة " هزيمة أهل الشام " قال‪ " .:‬ثم أقبل الشتر جريحاً ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أمير المؤمنين –‬
‫يخاطب عليا – خيل كخيل‪ ،‬و رجال كرجال ‪ ،‬و لنا الفضل إلى ساعتنا "‪ ،‬هذا يعني أن إلى الن نحن الغالبون ‪،‬‬
‫فعد مكانك الذي كنت فيه ‪ ،‬فإنما الناس يطلبونك حيث تركوك ‪ ،...‬إلى أن قال‪ " .:‬فلم يقم لهل الشام صف إل‬
‫أهمد حتى أفضى المر إلى معاوية و علي يضرب بسيفه ‪ ،‬و ل يستقبل أحداً إل ولّى عنه ‪ ،‬فدعا معاوية [‪]274‬‬
‫بفرسه لينجوا عليه – أي يهرب – متوقعاً للهزيمة ‪ ،‬و يومئذ استبان ذُلّ أهل الشام ‪ ،‬و رفعوا المصاحف ‪ ،‬ثم‬
‫ارتحلوا فاعتصموا بجبل منيف ‪ ،‬و صاحوا ل ترد كتاب ال يا أبا الحسن ‪ ،‬فإنك أولى به منا و أحق من أخذ به ‪،‬‬
‫فأقبل الشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن ‪ ،‬فقالوا لعلي ‪ :‬ل َت ُردّ ما دعاك القوم إليه ‪ ،‬قد أنصفك‬
‫القوم ‪ ،‬و ال لئن لم تقبل هذا منهم ل وفاء معك‪ ،‬و ل نرمي معك بسهم ‪ ،‬و ل حجر ‪ ،‬و ل نقف معك موقفا " (‬
‫‪ )1‬اهــ ‪.‬‬

‫بنص حروفه ترى فيه التصريح بذل أهل الشام ‪ ،‬و ترى ميلولة ابن الشعث إلى القبول واضحةً سافرةً ‪ ،‬وقد‬
‫صرّحَ له بأنه النصاف ‪ ،‬و ليس لك عن النصاف ملجأ ‪ ،‬ثم أكد ذلك باليمين التي صارح بها إمامه ‪ ،‬إذ قال ‪" :‬‬
‫َ‬
‫و ال لئن لم تقبل هذا منهم ل وفاء معك ‪ ،‬وزاده و ل نرمي معك بسهم و ل حجر " و ل يخفى عليك أخر قوله ‪:‬‬
‫" و ل نقف معك موقفاً " فهل بعد هذا ِمرْيَة أو شك في غدر الشعث بالمام ؟‬

‫س ِمعَ عليٌ قولَ الشعث بن قيس ‪ ،‬ورأى حال الناس قَبِلَ القضية ُم ْرغَماً عليها" ‪ ،‬كما عرفت ‪ ،‬و لم‬
‫قال ‪ " :‬فلما َ‬
‫يرى ُب ّداً من الخضوع لقوله ‪ ،‬إذ كان مسيطراً على الحركة ‪ ،‬قال‪ " .:‬وأجاب للصلح "‪ ،‬قال‪ " .:‬و قام إلى علي‬
‫اناس وهم القراء منهم عبدال بن وهب الراسبي في أناس كثير ‪ ،‬قد اخترطوا سيوفهم ‪ ،‬و وضعوها على‬
‫عواتقهم ‪ ،‬فقالوا لعلي ‪ :‬اتْقِ ال فإنك قد أعطيت العهد ‪ ،‬و أخذته منا ‪ ،‬لنفنين أنفسنا أو لنفنين عدّونا ‪ ،‬أو يفئ‬
‫إلى أمر ال ‪ ،‬و إنا نراكَ قد ركنت إلى أمر فيه الفرقة و المعصية ل ‪ ،‬و الذلّ في الدنيا ‪ ،‬فانهض بنا إلى عدونا‬
‫فلنحاكمه إلى ال بسيوفنا ‪ ]275[ ،‬حتى يحكم ال بيننا و بينهم و هو خير الحاكمين ‪ ،‬ل حكومة الناس " (‪)2‬‬
‫انتهى ‪.‬‬

‫َفدَلّ هذا أن عبدال بن وهب‪ ،‬و َمنْ يرى رأيه من أول المر لم يرضوا بالتحكيم ‪ ،‬و رأوه ضللً ‪ ،‬و ناصحوا علياً‬
‫المام كما عرفت ‪ ،‬و خَ ّوفُوه ال ‪ ،‬و إنهم عاهدوه على الموت‪ ،‬أو يفنى العدو‪ ،‬أو يفتح ال على المسلمين ‪ ،‬ل‬
‫طعَناً في‬
‫كما قال أعداء الحقّ ‪ ،‬و أعمدة الباطل من أن هؤلء حملوا علياً على قبول التحكيم ‪ ،‬ليجدوا بذلك مَ ْ‬
‫هؤلء البطال المؤمنين ‪ ،‬الذين تجردوا لنصرة الحقّ ‪ ،‬و باعوا أنفسهم ل ل يخافون لومة لئم ‪ ،‬فقد أتوا علياً‬
‫مخترطي سيوفهم ‪ ،‬يناشدون المام القيام على العدو ‪ ،‬و يذكرونه العهد الذي سبق بينهم على ذلك ‪ ،‬و صارحوه‬
‫صحّ ‪ ،‬و ل َي ِقرّ عليه الدّين واليمان ‪ ،‬و استنهضوه للحرب ‪ ،‬و أن هذه المحاكمة فساد ‪،‬‬ ‫بأن هذا العمل باطل ل َي ِ‬
‫فلم يبق للعقل مجال ‪ ،‬و ل للقول مقام ‪.‬‬

‫ِإنّ هؤلء الغرّ الميامين الذين كانوا يدعون بالقراء أي الزهاد المتجردين ‪ ،‬و العباد المخلصين ‪ ،‬و لذلك لما لم‬
‫يجدوا من إمامهم الموافقة على مرادهم ‪ ،‬متأثراً بما سمع من قائده الكبر الذي بيده حركة الجيش الشعث بن‬
‫قيس ‪ ،‬لذلك خرج هؤلء الكرام محاولين القيام على عدوهم ‪ ،‬آملين نصرة أهل الحقّ لهم ‪ ،‬متأثرين بما لقوا في‬
‫سبيل السير إلى ال ‪ ،‬لم يجدوا الموافقة من إمامهم حتى آيسوا منه ‪ ،‬و هو أولً متقيد بالعهد الذي أعطاه ‪ ،‬ناظراً‬
‫إصرار جيشه على عدم القيام معه ‪ ،‬آملً أن يحكم بإثبات إمامته ‪ ،‬فيكون بذلك أرضى جيشه و قائده ‪ ،‬و ما دري‬
‫أنها [‪ ]276‬المكيدة التي تقضي على دولته ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و إليكم ما قاله عُثْمان بن حُ َنيْف (‪ )3‬في القضية‪ " .:‬أيها الناس اتهموا رأيكم فإِنّا وال قد كنّا مع رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و آله وسلم – يوم الحديبية ‪ ،‬و لو رأينا قتالً قاتلنا ‪ ،‬و ذلك في الصلح الذي كان بين رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و آله وسلم – و بين أهل مكة ‪ ،‬فامض على القضية ‪ ،‬و اتهم الصلح " (‪ ، )4‬و المعنى أن الحكم‬
‫فيه واضح ‪ ،‬و الصلح فيها على القل مستراب ‪ ،‬فامضي على حكم ال فيها ‪ ،‬ثم جاء الشتر و قيس بن سعد‬
‫فأنكرا الحكومة ‪ ،‬و هما ممن عرفت مقامهما ‪ ،‬قال‪ " .:‬و كان أشد الناس على علي فيها قولً " أي كان قولهما‬
‫شديد النكار لفعل علي ‪ ،‬قال‪ " .:‬فكان الذين عملوا في الصلح الشعث بن قيس ‪ ،‬و عدي بن حاتم ‪ ،‬و شريح بن‬
‫هاني ‪ ،‬و عمرو بن الحمق ‪ ،‬و زحر بن قيس ‪ ،‬ومن أهل الشام زيد بن أسد ‪ ،‬و مخارق بن الحارث ‪ ،‬و حمزة بن‬
‫مالك " ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬فلمّا رأى ذلك أبو العور قام إلى معاوية فقال ‪ :‬يا أمير المؤمنين ِإنّ القوم لم يجيبوا إلى ما دعوناهم إليه‬
‫حتى لم يجدوا من ذلك ُب ّداً‪ ،‬و إنهم إن ينصرفوا العام يعودوا في قابل في سنة يبرأ فيها الجريح‪ ،‬و ينسى القتيل ‪،‬‬
‫وقد أخذت الحرب منا و منهم غير أنهم اختلفوا على علي " (‪. )5‬‬

‫و لما وافق المام على الحكمين‪ ،‬و أعطى العهد و الميثاق علي ‪ ،‬و تقرر موعد المحاكمة و مكانها ‪ ،‬و بَ ِقيَ‬
‫النظر فيمن يكون حكم المام ‪ ،‬و كذلك معاوية ‪ ،‬وعلى كل حال أنه ل يعدو عمرو بن العاص ‪ ،‬أما علي فقد بقي‬
‫النظر بينه و بين الحاملين له ‪ ،‬كما جاء الحديث في التاريخ [‪ ]277‬السلمي و غيره ‪.‬‬
‫======================================‬
‫(‪ )1‬المامة والسياسة (‪)1/111‬‬
‫(‪ )2‬انظر المرجع السابق‬
‫حنَيْف بن وهب النصاري الوسي ( ت بعد ‪41‬هـ) أبو عمرو‪،‬وال من الصحابة‪ ،‬شهد أحداً‪ ،‬وما بعدها‪ ،‬ووله عمر السواد‪ ،‬ثم وله علي‬
‫(‪ )3‬عثمان بن ُ‬
‫البصرة‪ ،‬شهد مع علي صفين‪ ،‬ثم سكن الكوفة وتوفي خلفة معاوية‪ ،‬العلم ( ‪)3/205‬‬
‫(‪ )4‬المامة والسياسة (‪)1/112‬‬
‫(‪ )5‬انظر المرجع السابق‬

‫قال في المامة و السياسة ‪ ":‬ذكروا أن معاوية قال لصحابه حين استقامت المدة – أي تقررت – و لكن لم يسمِ‬
‫الحكمان ‪ ،‬حيث كل فريق أصبح مختاراً لحكمه ‪ ،‬قال معاوية ‪َ :‬منْ ترون علي يختار للمحاكمة "‪ ،‬قال هذا الكلم‬
‫على جهة التخمين‪ ،‬إذ يعلم أن عند المام رجالً تفوق الرجال‪ " ،‬قال ‪ :‬فأما نحن – أي معاوية و رهطه –‬
‫فصاحبنا عمرو – أي يعرفه أنه لها – قال عتبة بن أبي سفيان ‪ :‬أنت أعلم بعلي منا ‪ ،‬فقال معاوية ‪ :‬إن لعلي‬
‫خمسة رجال من ثقاته‪ ،‬منهم عدي بن حاتم ‪ ،‬و عبدال بن عباس ‪ ،‬و سعد بن قيس ‪،‬و شريح بن هاني ‪ ،‬و‬
‫الحنف بن قيس‪ ،‬و أنا أصفهم لك ‪ :‬أما ابن عباس فإنه ل ُيقْوَى عليه ‪ ،‬و أما عدي بن حاتم فيرد عمراً سائلً ‪،‬‬
‫ويسأله مجيباً ‪ ،‬و أما شريح بن هاني فل يدع لعمرو حياضاً ‪ ،‬وأما الحنف بن قيس فبديهته كرويته ‪ ،‬و أما سعد‬
‫بن قيس فلو كان من قريش بايعته العرب ‪ ،‬و مع هذا إن الناس قد َملّوا هذه الحرب ‪ ،‬و لم يرضوا إل رجلً له‬
‫تقيّة ‪ ،‬و كل هؤلء ل تقيّة لهم ‪ ،‬و لكن انظروا أين أنتم من رجل من أصحاب النبي – صلى ال عليه و آله وسلم‬
‫– تأمنه أهل الشام ‪ ،‬و ترضى به أهل العراق ‪ ،‬فقال عتبة بن أبي سفيان ‪ :‬ذلك أبو موسى الشعري (‪ " )1‬هذا‬
‫كلم معاوية البطل الداهية ‪ ،‬و لكلمه هذا معان يطول شرحها ‪ ،‬و إنه لخبير بأحوال الرجال ‪ ،‬خبير بسياسة دنياه‬
‫خلِقَ َلهُ ‪.‬‬
‫سرٌ ِلمَا ُ‬
‫‪ ،‬يرى المور في غيبتها كما هي في ظهورها ‪ ،‬و كُلّ مُ َي ّ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫قال‪ " .:‬و ذكروا أن علياً لما استقام رأيه على أن يرسل [‪ ]278‬عبدال بن العباس مع عمرو بن العاص ‪ ،‬قام‬
‫إليه الشعث بن قيس ‪ ،‬و شريح بن هاني ‪ ،‬و عدي بن حاتم‪ ،‬و سعد بن قيس‪ ،‬و معهم أبو موسى الشعري‬
‫(( فقالوا‪ .:‬يا أمير المؤمنين هذا أبو موسى الشعري)) (‪ )2‬وافد أهل اليمن إلى رسول ال – صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم ‪ ، -‬و صاحب مغانم أبي بكر ‪ ،‬وعامل عمر بن الخطاب ‪ ،‬وقد عرضنا على القوم ابن عباس ‪ ،‬فزعموا‬
‫أنه قريب القرابة منك‪ ،‬ضَنِينٌ في َأمْ ِركَ ‪ ،‬و أيم ال لو لقيت به عمراً لخذ بصره و غم صدره ‪ ،‬و لكن الناس قد‬
‫رضوا برجل يثق به أهل العراق – أي الذين ميلهم ميل معاوية‪، -‬فإن جد تهور ‪ ،‬و إن هزل تبعثر ‪ ،‬و يرضى به‬
‫أهل الشام لعلمهم أن ميله ميل معاوية ‪ ،‬و على القل ل يسعى فيما يضره ‪ ،‬و كان ذا تقية – أي يتقي القريشيين‬
‫و يرعى مقاماتهم – وهو رجل يماني ‪ ،‬و أهل اليمن أرق أفئدة بشهادة الرسول صلى ال عليه و آله وسلم (‪، )3‬‬
‫فتكلم شبيب بن ربعي فقال ‪ :‬إنا و ال و إن خفنا على أبي موسى من عمرو ما ل يخافه أهل الشام على عمرو‬
‫من أبي موسى ‪ ،‬فلعل ما خفناه ل يضرّنا ‪ ،‬و لعل ما رجوا ل ينفعهم ‪ ،‬فإن قلت في أبي موسى ضعف ‪ ،‬فضعفه و‬
‫تقاه خير من قوة عمرو و فجوره ‪ -‬وفيه التصريح بفجور عمر ‪ -‬قال ‪ :‬فأغلق به البلء و افتح به العافية " (‪)4‬‬
‫قلت ‪ :‬هذا خلف قول رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – " المؤمن القوي خير وأحب إلى ال من المؤمن‬
‫طعْتُم مّن قُ ّوةٍ ‪. )6( " ..‬‬
‫عدّواْ َلهُم مّا اسْتَ َ‬
‫الضعيف ‪ )5( "...‬الحديث ‪ ،‬و خلف ما يقول القرآن‪َ " .:‬وَأ ِ‬

‫قال‪ " .:‬ثم تكلم ابن الكواء فقال ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬إنك أجبت ال و أجبناك ‪ ،‬و لكنا نقول‪ .:‬ال بيننا و بينك ‪،‬‬
‫إن كنت تخشى من أبي موسى عجزاً [‪ ]279‬فشرّ من أرسلت الخائن العاجز ‪ ،‬و لست تحتاج من عقله إل إلى‬
‫حرفٍ واحدٍ‪ ،‬أن ل يجعل حقك لغيرك ‪ ،‬فيدرك حاجته منك "‪ ،‬و في هذا الكلم من ابن الكواء لعلي ما فيه ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬و ِإنّ معاوية طليقُ السلم ‪ ،‬و ِإنّ أباه رأسُ الحزاب ‪ ،‬و أنه ادعى الخلفة من غير مشورة ‪ ،‬فإن‬
‫حرِمَ عليك كلمه ‪ ،‬و إن ا ّدعَى أن عمر و عثمان استعمله فلقد صدق‬ ‫صدقك فقد حَلّ خلعه ‪ ،‬و إن كذبك فقد ُ‬
‫ج َرهُ (‪ )7‬ما يَ ْك َرهُ " قلت‬
‫استعمله عمر ‪ ،‬و هو الولي عليه بمنزلة الطبيب من المريض‪ ،‬يحميه ما يشتهي ‪ ،‬و يُوْ ّ‬
‫‪ :‬و هذا شأن ابن الخطاب ‪ ،‬و إن استعمل غير الصالحين ‪ ،‬ل يقدرون أن يكونوا غير صالحين ‪ ،‬و ذلك توفيق من‬
‫ال عز و جل لبن الخطاب في أعماله و في عماله ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬ثم استعمله عثمان برأي عمر ‪ ،‬و ما أكثر من استعمل ممن ل يدعي الخلفة ‪ ،‬و اعلم أن لعمرو مع كل‬
‫شيء يسرك خبراً يسؤوك ‪ ،‬و مهما نسيت فل تنسى أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر أولً‪ ،‬و عمر‪ ،‬و عثمان ‪,‬‬
‫و إنها بيعة هدى ‪ ،‬و أنه لم يقاتل إل عاضياً (‪ )8‬أو ناكثاً (‪ " )9‬ففي هذا الكلم من ابن الكواء تحقيق المقام ‪ ،‬و‬
‫تبيين للحوال التي عليها المسلمين ‪ ،‬و تنبيه لعلي بن أبي طالب ‪ ،‬و تأنيب في الحقيقة على ما وقع فيه ‪ ،‬و‬
‫عمِيَ السمع والبصر ‪.‬‬ ‫إيضاح لمقاصد معاوية و أعوانه ‪ ،‬و لكن إذا وقع القدر َ‬
‫===============================‬
‫(‪)1‬انظر المرجع السابق‬
‫(‪ )2‬سقط من الصل وأتممناها من المامة والسياسة‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في (‪ -64‬كتاب المخازي ‪ -75‬باب قدوم الشعريين وأهل اليمن ) (‪ )3/108‬رقم ‪4388‬و ‪ ، 4390‬وأخرجه مسلم في (‪-1‬كتاب‬
‫اليمان‪ -2 ،‬باب تفاضل أهل اليمان فيه‪ ،‬ورجحان أهل اليمن فيه) (‪71 /1‬و ‪ )73‬رقم ‪ )52(82‬و ‪ ،89‬وأخرجه أحمد في المسند( ‪ )50-7/49‬رقم‬
‫‪ ،7201‬وأخرجه الدارمي في (المقدمة ‪-14‬باب في وفاة النبي صلى ال عليه وسلم) (‪ )1/29‬رقم ‪، 79‬وأخرجه البيهقي (‪ )1/567‬رقم ‪1809‬‬
‫وأخرجه أبو عوانة (‪ )1/63‬رقم ‪ ،170‬وأخرجه ابن أبي عاصم في الحاد والمثاني (‪ )4/257‬رقم ‪ 2259‬و ‪ ،2260‬وأخرجه أبو يعلي(‪ )6/454‬رقم‬
‫‪ 3845‬وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير ص ‪ 212‬رقم ‪ ،525‬وأخرجه أيضاً في مسند الشاميين (‪ )1/435‬رقم ‪ ،766‬وأخرجه ابن منده في كتاب‬
‫اليمان (‪ )1/526‬رقم ‪433‬‬
‫(‪ )4‬المامة والسياسة ( ‪)1/113‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه مسلم في (‪-46‬كتاب القدر ‪ -8‬باب في المر بالقوة وترك العجز) (‪ )4/2052‬رقم ‪ )2664( 34‬وأخرجه ابن ماجه في( المقدمة ‪ -10‬باب‬
‫في القدر)ص ‪ 13‬رقم ‪،79‬وأخرجه أحمد في المسند( ‪ )8/420‬رقم ‪ ، 8777‬وأخرجه البيهقي(‪ )10/152‬رقم ‪ ،20173‬وأخرجه الحميدي(‪)2/474‬‬
‫رقم ‪ ،1114‬وأخرجه أبو يعلى الموصلي(‪ )11/124‬رقم ‪ ،6251‬وأخرجه ابن حبان (‪ )29-13/28‬رقم ‪5721‬و ‪ ،5722‬وأخرجه أبو نعيم في الحلية (‬
‫‪ ، )10/296‬وأخرجه الخطيب في تاريخه(‪)12/113‬‬
‫(‪ )6‬النفال ‪60 :‬‬
‫(‪ )7‬يقال َت َوجّر الماء ‪ .:‬شربه كارهاً ( القاموس المحيط‪ )491/‬مادة و ج ر‪ ،‬والمعنى يعامله بما يكره‬
‫(‪ )8‬عاضياً‪ .:‬مغرقاً ( مختار الصحاح‪ )184/‬مادة ع ض ا‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )9‬المامة والسياسة(‪)1/113‬‬

‫وإذ ذاك قرروا الجتماع بدومة الجندل ليكون المحل ‪ ،‬بعيد عن الكّلّ ‪ ،‬و قال الحنف بن قيس لعلي بن أبي‬
‫طالب‪ " .:‬يا أمير المؤمنين إن أبا موسى رجل يماني ‪ ،‬و قومه مع معاوية ‪ ،‬فابعثني معه ‪ ،‬فوال ل يَحِلّ لك‬
‫عقدة إل عقدت [‪ ]280‬لك أخرى أشد منها ‪ ،‬فإن قلت‪ .:‬إني لست من أصحاب رسول ال – صلى ال عليه وآله‬
‫و سلم – فابعث ابن عباس و ابعثني معه " (‪ )1‬و هذا كلمٌ دالٌ على أنهم متوقعون الغدر من عمرو بن العاص ‪،‬‬
‫و هم متطلعون على النوايا ‪ ،‬و يحاذرونها ‪ ،‬و قد بذلوا نصحهم لعلي بن أبي طالب في صددهم ‪ ،‬و لكن الرجل‬
‫كان مُ ْغتَراً بما يظنه أنه ل يقبل المسلمون غيره ‪ ،‬و كان هذا الغرور ملزم له منذ وفاة النبي – صلى ال عليه و‬
‫آله وسلم – كما ذكرناه ‪ ،‬و لم ينتبه أن للناس سوءاً ضده ‪ ،‬و اعتذر علي في المقام لهؤلء الرجال البطال قائل‬
‫‪ِ " :‬إنّ النصار و القرّاء أتوني بأبي موسى ‪ ،‬فقالوا ابعث هذا فقد رضيناه و ل نريد سواه " و ِإنّ عذره واهٍ‬
‫أوهن من بيت العنكبوت ‪ ،‬هنا تتجلى حيرة علي‪ ،‬و اضطراب سياسته ‪.‬‬

‫و لما تَ َق ّررَ هذا المر و جئ بالكاتب قال له علي ‪ " :‬اكتب ‪ ..‬بسم ال الرحمن الرحيم ‪ ،‬هذا ما تقاضى عليه علي‬
‫بن أبي طالب أمير المؤمنين ‪ ،‬و معاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬فقال معاوية ‪ :‬علم قاتلناك إذا كنت أمير المؤمنين؟ ‪،‬‬
‫حكَ عليٌ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬دعاني رسول‬ ‫ضرّك ‪َ ،‬فضَ َ‬
‫اكتب‪ .:‬علي بن أبي طالب ‪ ،‬فقال الشعث ‪ :‬اطرح هذا السم فإنه ل َي ّ‬
‫ال – صلى ال عليه و سلم – يوم الحديبية حين صده المشركون عن مكة ‪ ،‬فقال‪ .:‬يا علي اكتب هذا ما تقاضى‬
‫عليه محمد رسول ال و مشركو قريش ‪ ،‬فقال سهيل بن عمرو ‪ :‬لقد ظلمناك إذا يا محمد إن قاتلناك و أنت رسول‬
‫ال ‪ ،‬و لكن [‪ ]281‬اكتب اسمك و اسم أبيك ‪ ،‬فقال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ : -‬اكتب محمد بن عبدال ‪ ،‬و‬
‫إني رسول ال ‪ .‬و كنت إذا أمرني رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – بشيء أسرعت ‪ ،‬و إذا قال مشركو‬
‫حهَا " أي تلك الكتابة ‪ ،‬فتعاظمني ذلك – أي رأيت ذلك‬ ‫قريش أبطأت به ‪ ،‬و إذا كتبت شيئاً قال نبي ال ‪ " :‬امْ ُ‬
‫عظيما – و شق ذلك علي ‪ ،‬فدعا بمقراض فقرضه ‪.‬‬

‫و كتب‪ " .:‬بسم ال الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان " فكان‬
‫المقراض فالً لنقراض المر من يده ‪ ،‬وقد َرضِيَ بانسلخه من إمامته بين الجمهور ‪.‬‬

‫"فقال أبو العور ‪ :‬أو معاوية وعلي ‪ ،‬وقال الشعث ل لعمر ال‪ ،‬لكن نبدأ بأولهما هجرةً و إيماناً ‪ ،‬و أدنهما من‬
‫الغلبة " فكان نسج المكر في المقام ظاهراً ‪ ،‬و علي يتابع وينقاد مقلداً لظنه أنهم ل يريدون غيري ‪ ،‬و يرى المكر‬
‫و الخدائع تمشي أمامه ‪ ،‬و ما يقوله الشعث يتبعه المام ‪.‬‬

‫عَل َمهُ فوق العلم‪ " .:‬قدموا أو أخروا " أي افعلوا ‪ ،‬فإن هذا‬ ‫هنا قال معاوية حين رأى صوته يعلو الصوات و َ‬
‫هو مقصدي ‪ ،‬حينئذ تقاضوا على أن علياً و من معه من أهل العراق ‪ ،‬و معاوية و من معه من أهل الشام‪ ،‬أننا‬
‫ننزل عند حكم ال وكتابه‪ ،‬من فاتحته إلى خاتمته ‪ ،‬ما أحيا القرآن أحييناه‪ ،‬و ما أمات القرآن أمتناه ‪ ،‬و ما لم‬
‫يجد عبدال بن قيس‪ ،‬وعمرو بن عاص في القرآن حكما بما يجدان في السنة العادلة‪ ،‬غير المغرقة ‪ ،‬وعلى عليّ‬
‫و معاوية‪ ،‬و تبيعتهما وضع السلح [‪ ]282‬إلى انقضاء هذه المدة ‪ ،‬و هي من رمضان‪ -‬إلى رمضان أي سنة‬
‫كاملة هذا تحديدها‪ ، -‬و على أن عبدال بن قيس و عمرو بن العاص آمنان على دمائهما‪ ،‬و أموالهما‪ ،‬و حريمها‪،‬‬
‫و المة على ذلك أنصار ‪ ،‬و عليهما مثل الذي أخذا أن يقضيا بما في كتاب ال تعالى " (‪. )2‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فانظروا معاشر المسلمين الهوة التي وقع فيها المام ‪ ،‬أولً ‪َ :‬رضِيَ أن يحاكم الباغي عليه و على المسلمين ‪ ،‬و‬
‫هو المام بإجماع المسلمين ل بالميراث‪ ،‬و ل بالقهر و الجبروت ‪ ،‬فعلى أي شيء تحاكمه؟! ‪ ،‬و إذا كان غير باغٍ‬
‫في نظر المسلمين فعلى أي شيء تقاتله ؟! ‪.‬‬

‫وإذا كان باغياً عليك و على المسلمين فعلى أي شيء تحاكمه ؟‪ ،‬و قد حَ َكمَ ال عز و جل في الباغي أن يقاتل‬
‫عزّ وعل ‪ ،‬فأي حكم تريد بعد حكم ال عز شأنه ؟‪ ،‬و أي حكم يراه عمرو و أبو موسى‬ ‫حتى يفيء إلى أمر ال َ‬
‫بعد حكم ال تعالى ؟‪ ،‬وهل قاتلتهم أنت في الجمل وصفين إل على البغي ؟‪ ،‬فمالك اليوم ترجع على العقب ؟‪ ،‬و‬
‫تترك إمامتك التي قلدك ال إياها يتلعب بها الحكمان يوليانك أو يعزلنك؟! ‪ ،‬و قد عزلك فمالك تغضب على‬
‫العزل ‪ ،‬و قد رضيت به أمس ‪ ،‬و أعطيت عليه عهد ال و ميثاقه ‪ ،‬ما هذه المور التي تتناقض من أصلها ‪ ،‬و‬
‫مالك تجعل معاوية في المامة نظيرك ؟‪ ،‬و لم تسبق أبداً له إمامه ‪ ،‬كيف هذا ؟‪ ،‬وترى قائدك الشعث يهددك و‬
‫أنت كأنك أصم عما يقول؟ ‪ ،‬أين غاب عنك ذو الفقار الذي كنت تقطع به الهامات ؟! إنها أمور غريبة أوقعك أهل‬
‫السوء فيها! ‪ ،‬و لم [‪ ]283‬تنتبه! ‪.‬‬

‫صحّ َأنّ المرء في المحنة عَيّ ‪ ،‬و إل فما بال علي ذلك المام‬
‫وكانت تلك الشروط التي قرروها ل وجه لها ‪ ،‬وقد َ‬
‫العََلمُ الهاشمي المحنك يتلعب به مثل هؤلء ‪ ،‬الذين هم دونه بمسافات في كل شيء ‪ ،‬و قد بلغ معاوية من علي‬
‫مراده ‪ ،‬و تدهور بناء علي من أساسه ‪ ،‬و أصبح ألعوبة في يد أناس يتصرفون فيه ‪ ،‬و في إمامته كما شاءوا ‪،‬‬
‫إلى أن قطعوا أجنحته تماماً بقتل النهروانيين ‪ ،‬الذين أنكروا الحكومة ‪ ،‬و لم يرضوا بها ‪ ،‬و رأوها ضللً ‪ ،‬و‬
‫راجعوا إمامهم فيها ‪،‬و لم يجدوا منه إل إعراضاً عن كلمهم ‪،‬و رفضاً لمقالهم ‪ ،‬و المأخوذ غافل ‪ ،‬و ال‬
‫المستعان ‪.‬‬

‫و إليك ما حكاه ابن قتيبة في المامة و السياسة قال بعد أن ذكر الشروط التي هي‪ " .:‬الحكم بما في كتاب ال‪ ،‬و‬
‫إلّ فَ ِبمَا في سنة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – "‪ ،‬كأنّ حكم هذه القضية لم ينزل في القرآن ‪ ،‬و قد‬
‫نزل‪ ،‬و عملوا به في الجمل و صفين ‪ ،‬و ها هو اليوم يُلتمس ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬و عليهما أن ل يؤخرا أمرهما إلى ما يتجاوز هذه المدة ‪ ،‬فإن أحبا أن يقول قبل انقضاءها فلهما أن يقول‬
‫عن تراضٍ منها ‪ ،‬على أن يرجع أهل العراق‪ ،‬إلى العراق و أهل الشام إلى الشام‪ ،‬فيكون الجتماع إلى دومة‬
‫الجندل ‪ ،‬فإن رضيا أن يجتمعا بغيرها فلهما ذلك ‪ ،‬و لهما أن ل يحضرهما إل من أحبّا ‪ ،‬و ل يشهدا إل من أرادا ‪،‬‬
‫و هؤلء النفر من أهل العراق و أهل الشام ضامنون بالوفاء إلى هذه المدة ‪ ،‬فكتب أهل العراق بهذا كتاباً لهل‬
‫الشام ‪ ،‬و كتب أهل الشام بهذا كتاباً لهل العراق [‪ ]284‬بخط عمرو بن عبادة كاتب معاوية ‪ ،‬و شهد شهود أهل‬
‫الشام على أهل العراق ‪ ،‬كما شهد شهود أهل العراق على أهل الشام " قلت ‪ :‬ذلك لتوثيق الرباط ‪ ،‬و إحكام‬
‫الحيلة المنسوجة ‪ ،‬ويتم النجاح من جميع جهاته في صالح معاوية ‪.‬‬
‫==================================‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪)1/114‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق (‪)115-144 /1‬‬

‫قال‪ " .:‬فلما كتب الكتابان أقبل رجل من بني يشكر على فرس له أبلق ‪ ،‬حتى وقف على مكان بين الصفين فقال ‪:‬‬
‫يا عليّ أكفر بعد إسلم ؟‪ ،‬و نقض بعد توكيد ؟‪ ،‬و ردة بعد معرفة ؟ أنا بريء من صحيفتيكما ‪ ،‬و ممن َأ َقرّ بها‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫بريء ‪ ،‬ثم حمل على أصحاب معاوية فطعن فيهم ‪ ،‬حتى إذا عطش أتى عسكر علي فاستسقى فسقي‪ ،‬ثم حمل‬
‫على عسكر علي فطعن فيهم ‪ ،‬حتى إذا عطش أتى عسكر معاوية فاستسقى فسقي" (‪ )1‬و ذلك أَنّه رأى أن كل‬
‫الجانبين على غير هدى من ال ‪ ،‬و لذلك أعلن البراءة من أصحاب الصحيفتين و ممن أقر بهما ‪ ،‬و كان بدأ بعلي‬
‫إذ قال له ‪ :‬يا علي أكفر بعد إيمان ؟‪ ،‬أي أتكفرون بعدما آمنتم ‪ ،‬و نقض لليمان بعد توكيده كل هذه المدة ‪ ،‬و‬
‫ردة بعد معرفة ؟ أي عرفتم ما وجب لكم و عليكم فما لكم تفعلون خلف الحق ؟ وقد أدى هذا الشكري واجبه ل‬
‫غير محاب ول مداهن و هو حجة على علي فيما فعل ‪.‬‬

‫ح ّذرُهُ ‪ ":‬إِنّك قد ُنصّبْتَ لمر عظيم ل يُجبر صدعه ‪ ،‬و ل تستقال فلتته ‪ ،‬و‬
‫وقال شريح بن هاني لبي موسى ُي ً‬
‫مهما تقل من شيء لك أو عليك يثبت حقه و يزيل باطله "‪ ،‬و في نهج البلغة " يثبت حقه و يرى صحته و إن‬
‫كان باطل" ‪" ،‬إنه ل بقاء لهل العراق إن ملكها معاوية ‪ ،‬و ل بأس بأهل الشام إن ملكها علي ‪ ،‬فانظر في [‬
‫‪ ]285‬ذلك نظر من يعرف هذا المر حقاً " (‪ )2‬اهـ ‪.‬‬

‫خطْبَ هذا المر ‪ ،‬و اعلم َأنّ له ما‬


‫صرّحَ بعدما لَوّحَ ‪ ،‬ثم قال له الحنف بن قيس ‪ " :‬يا أبا موسى اعرف َ‬‫و لقد َ‬
‫عرَاقَ لك ‪ ،‬فاتق ال "‪ ،‬قلت ‪ :‬لقد ضيعها َمنْ وافق على التحكيم‪ ،‬حيث جعل‬ ‫بعده ‪ ،‬و أنك إن ضَيّعْتَ العراق‪ ،‬فل ِ‬
‫لمعاوية هذه المدة التي يستطيع أن يتقوى فيها مادياً و معنوياً ‪ ،‬فيستميل قلوب الذين يتشوفون إلى الدنيا و هم‬
‫الكثر ‪ ،‬و الذين ل يفقهون الحقائق ‪ ،‬و ل يدركون الغوائل ‪.‬‬

‫ثم قال له‪ " .:‬إنك تجمع بذلك دنيا و أخرى "‪ ،‬قلت ‪ :‬و أين أبو موسى من ذلك الداهية العظيم ‪ ،‬يحمله تحت إبطه‬
‫و ل يدري!! ‍ ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬و إذا لقيت عمرو غداً فل تبادره بالسلم ‪ ،‬فليس من أهله "‪ ،‬أي ل تبتدئه تجليلً فليس هو بأهل لن‬
‫يجلل ‪ ،‬لكن أين عقل أبي موسى بالنسبة إلى عمرو بن العاص! ‪ ،‬و هو يماني! ‪ ،‬و قد شُ ِهرَ أهل اليمن بخفة‬
‫العقول و رقتها!! ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬ول تعطه يدك‪ ،‬فإنها أمانة ‪ ،‬و إياك أن يقعدك على صدر الفراش‪ ،‬فإنها خدعة " قال‪ " .:‬و ل تلقه إل‬
‫وحده " أي لن من معه يشهد على ما يقع بينكما من حوار فيثبت عليك حجة ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬و إيّاك أن يُكَّل َمكَ في بيتٍ فيه مخدع يخبأ لك فيه رجالً ‪ ،‬و إن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي ‪،‬‬
‫فخيره أن يختار أهل العراق من قريش أهل الشام من شاءوا ‪ ،‬فإنهم إن يولوا الخيار يختاروا من يريدون ‪ ،‬فإن‬
‫أبى فليختر أهل الشام من قريش أهل العراق من شاءوا ‪ ،‬فإن فعلوا كان المر بينناً " (‪ )3‬هذه سياسة سيد‬
‫تميم ‪ ،‬وإنها لبالغة لو صادفت َقبُولً‪]286[.‬‬

‫وقال معاوية لعمرو بن العاص‪ " .:‬إن أهل العراق أكرهوا علياً على أبي موسى "‪ ،‬فيه أن علياً ما كان راضي ًا‬
‫بأبي موسى و لكن أُ ْك ِرهَ عليه ‪ ،‬أي أكرهه عليه الذين لهم أغراض سيئة في علي بن أبي طالب و قد عرفتهم ‪.‬‬
‫قال معاوية‪ " .:‬أما أنا وأهل الشام فقد رضينا بك "‪ ،‬قلت ‪ :‬نعم لقد رضوا بعمرو إذ كانت العملية على المور‬
‫الدنيوية‪.‬‬

‫و العجب كل العجب ِإنّ أصل الخلف الذي دخل به معاوية على المسلمين هو الطلب بدم عثمان ‪ ،‬ثم انقلب هنا‬
‫بشأن الخلفة ‪ ،‬و أصبح الميزان يزن قدر علي و معاوية ‪ ،‬و لم تكن بينهما نسبة في الصل ‪ ،‬فأصبح معاوية‬
‫يقسم المسلمين شطرين ‪ ،‬فيرجح شطره ‪ ،‬ويقضي على المام بما له من دهاء ومكر ‪.‬‬
‫قال معاوية لعمرو ‪ " :‬و أرجوا في دفع هذه الحرب خصالً ‪ :‬قوة لهل الشام ‪ ،‬وفرقة لهل العراق "‪ ،‬و هذا من‬
‫أعظم الفجور ‪ ،‬حيث يرجوا معاوية فرقت المسلمين لصالح دنياه ‪ ،‬والقاعدة أن المؤمن يحب لخيه ما يحبه‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫لنفسه ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬و إمداداً لهل اليمن " أي حيث منهم أبو موسى يريد أن يخدعهم بمعسول الكلم ‪.‬‬
‫قال‪ " .:‬وقد ضُمّ إليك رجل طويل اللسان ‪ ،‬قصير الرأي "‪ ،‬أي عنده كلم طويل لكن ل فائدة فيه ‪ ،‬و ل ثمرة له ‪،‬‬
‫فكان كما قال معاوية ‪.‬‬

‫‪ ".:‬فدعه يقل فإذا هو قال فاصمت " أي قدمه في الكلم ‪ ،‬فتخدعه بذلك أي حيث يراك تجلله يسلس قيادة لك ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬و اعلم أن حسن الرأي زيادة في العقل ‪ ،‬إن خَ ّو َفكَ العراق فَخ ّو ْفهُ بالشام ‪ ،‬و إن خَ ّو َفكَ مصر َفخَ ّو ْفهُ‬
‫باليمن ‪ ،‬و إن خَ ّو ْفكَ علياً فَخَ ّو ْفهُ بمعاوية " (‪. )4‬‬

‫قال عمرو‪ " .:‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أقلل الهتمام [‪ ]287‬بما قبلي ‪ ،‬و أرج ال فيما وجهتني له "‪ ،‬أي ل تهتم من‬
‫قبلي فإني أدرى منك بهذه الحوال ‪ ،‬و هل مكيدة رفع المصاحف إل منه ‪ ،‬فكان السبب الوحيد لفشل علي و تأييد‬
‫معاوية ‪ ،‬و كما تراه يخاطبه بأمير المؤمنين في هذا الحال‪.‬‬

‫قال عمرو لمعاوية ‪ " :‬إنك من أمرك على مثل حد السيف " فكان يخوفه و يُ ْقلِ ُقهُ لتعظم مِنّ َتهُ عليه ‪ ،‬ثم قال له‪.:‬‬
‫" لم تنل في حربك ما رجوت ‪ ،‬ولن تأمن ما خفت "‪ ،‬ففي هذا تأنيب لمعاوية ‪ ،‬وغرس لشجر المتنان الذي‬
‫يغرسه عمرو الن لمعاوية‪ " ،‬ثم قال له‪ " .:‬ونحن نرجوا أن يصنع ال لك خيراً " ثم َد ّقهُ أيضا دَقاً آخر ليلين‬
‫من صفاته‪ ،‬و يهز من كيانه‪ ،‬فقال‪ " .:‬وقد ذكرت لبي موسى ديناً ‪ ،‬و ِإنّ الدّين منصور ‪ ،‬أرأيت إن ذكر علياً‪ ،‬و‬
‫جاءنا بالسلم‪ ،‬و الهجر و اجتماع الناس عليه ما أقول ؟ " و فيه العتراف بأن إمامة علي أجمع المسلمون‬
‫ع ّيرَهُ بالسلم والهجرة ‪ ،‬فعند هذا لم يجد معاوية جواباً لعمرو يقوله في مقابلة تلك الخصال ‪ ،‬فقال‬ ‫عليها ‪ ،‬و َ‬
‫له‪ " .:‬قل ما تريد وترى " ‪.‬‬

‫قال " فانصرف عمرو إلى منزله ‪ ،‬فقال لصحابه ‪ :‬هل ترون ما أراد معاوية من تصغير أبي موسى؟ ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬قال ‪ :‬عرف أني خادعه غداً ‪".‬‬

‫ح ّرضَ صاحبه لتكون له الغلبة على الدّنْيَا ‪ ،‬ومنهم شرحبيل بن الصمت يحرض عمرو بن‬
‫وقام كل فريق يُ َ‬
‫العاص ‪ ،‬و تهافت الناس على هذا حين تحققوا المر أنه ل بد منه ‪ ،‬و أيقنوا أن المر زائل عن علي ‪ ،‬و قرائن‬
‫الحوال تعبر عن ذلك ‪ ،‬فكان [‪ ]288‬المر كم توقعه الناس ‪ ،‬وسوف ترى تحقيق ذلك ‪.‬‬
‫==============================‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪)1/115‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق (‪)1/115‬‬
‫(‪ )3‬المامة والسياسة (‪)1/116‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق (‪)1/116‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫اجتماع الحكمين لنهاء قضيتهما‬

‫جهَ أبو موسى إلى دومة الجندل و معه أفراد من الناس ‪ ،‬وسار عمرو بن العاص معه جند من قومه يكفي‬ ‫تَوَ ّ‬
‫لتنفيذ الخطة التي يسعى إليها ‪ ،‬وهذه أول الحوال المخالفة للموضوع ‪ ،‬لو كان أبو موسى ممن له الدراية في‬
‫مثل هذه المور ‪ ،‬و لكنه لمر ما أريد‪ ،‬و َرضِيَ عليٌ أن يسمع ما يقول الحكمان يعزلنه أو يوليانه ‪ ،‬و رضخ‬
‫على ذلك ليحييا ما أحيا القرآن!! ‪ ،‬و يميتا ما أمات القرآن!! ‪ ،‬و هل القرآن إل سواد على ورق؟! ‪ ،‬إنما تحي‬
‫ذلك و تميته سيوف المسلمين! ‪ ،‬و قد أخبرك القرآن عما تفعل! ‪ ،‬فهل فعلت ؟‪ ،‬أم تنتظر أن يفعل لك المسلمون‬
‫الذين توغّرت قلوبهم و تألمت أذهانهم مما وافقت عليه؟! ‪ ،‬و ذو الفقار في يدك! ‪ ،‬ما تنتظر إل انتصار عدوك و‬
‫رفضك!! ‍‍‪.‬‬

‫ولما حضر الحكماي بدومة الجندل ‪ ،‬وهو مكان منعزل عن بيئة الطرفين ‪ ،‬وحضر من حضر من العرب يستمعون‬
‫قول الحكمين ‪ ،‬وماذا يفعلن في شيء حكم فيه القرآن ‪ ،‬و نفذ حكمه على العيان من بني النسان ‪ ،‬و َنصّ‬
‫عليه سيد آل عدنان ‪" ،‬و لما التقيا استقبل عمرو أبا موسى‪ ،‬فأعطاه يده‪ ،‬و ضم عمرو أبا موسى إلى صدره‬
‫خداعاً و مكراً ‪ ،‬يصطاد به الرجل اليماني ‪.‬‬

‫ثم قال ‪ " .:‬يا أخي قَ ّبحَ الُ َأمْراً َفرّقَ بيننا "‪ ،‬ثم أقعد أبا موسى على صدر الفراش ‪ ،‬و أقبل عليه بوجهه" ‪ ،‬و‬
‫كانت هذه الحوال هي التي نبّهه [‪ ]289‬عليها الحنف بن قيس ‪ ،‬فلم ينتبه ‪ ،‬و كأن الحنف يقرأها من صحيفة‬
‫وجه عمرو ‪ ،‬و الحنف من دهاة العرب ‪.‬‬

‫وما زال عمرو يفعل بأبي موسى هكذا ‪ "،‬و ما زال يلتقيان على هذا الحال ‪ ،‬و بقي الناس منتظرين أمر الرجلين‬
‫حتى ملوا ‪ ،‬و حتى اطمئن أبو موسى إلى عمرو‪ ،‬و سكنت إليه نفسه ‪ ،‬و كان أبو موسى عند عمرو آلة يقلّبها‬
‫كيف شاء ‪ ،‬حتى إذا رأى التمكن منه‪ ،‬و الطمئنان إليه ‪ ،‬و أقبل الشعث بن قيس‪ ،‬و كان ِمنْ أحرص الناس على‬
‫إتمام الصلح‪ ،‬و الراحة من الحرب ‪ ،‬فقال ‪ " :‬يا هذان‪ ،‬إنّا قد َك ِرهْنَا الحرب فل َت ّر َدهَا إلينا ‪ ،‬فإنها ُمرّة الرضاع و‬
‫الفطام ‪ ،‬فَكُفّاهَا بما شئتما " ‪ ،‬و كل فريقين في همة استقبال شر ‪ ،‬و أقبل سعيد بن قيس ‪ ،‬و كان من أصحاب‬
‫علي بن أبي طالب فقال ‪ " :‬أيها الرجلن‪ ،‬إني أراكما أبطأتما بهذا المر ‪ ،‬حتى أيس القوم منكما ‪ ،‬فإن كنتما‬
‫اجتمعتما على خير فأظهراه للناس‪ ،‬نسمعه و نشهد عليه ‪ ،‬و إن كنتما لم تجتمعا رجعنا إلى الحرب " ‪.‬‬

‫ع ِرفَتَ حال معاوية في‬


‫ولما رأى عمرو الفرصة متواتية غدا إلى أبي موسى فقال له ‪ " :‬يا أبى موسى قد َ‬
‫قريش ‪ ،‬و شرفه في بني عبد مناف ‪ ،‬و إنه ابن هند ‪ ،‬و ابن أبي سفيان ‪ ،‬فما ترى ؟ " و كان هذا أَوّلُ شيء فتح‬
‫به باب الضّالة المنشودة ‪.‬‬

‫فقال أبو موسى ‪ " :‬أما معاوية فليس بأشرف في قريش من علي! ‪ ،‬و لو كان هذا المر على شرف الجاهلية‬
‫كان أخوال ذي أصبح " (‪ ]290[ )1‬و في رواية " لو كان الشرف حجة في هذا المر لكان أحق الناس بهذا‬
‫المر أَ ْب َرهَة بن الصباح ‪ ،‬و لكني أرى وترى "‪ ،‬و كان هذا كلماً حازماً تل ّقهُ عمرو من أبي موسى ‪ ،‬و باعده به‬
‫أبو موسى ‪.‬‬

‫ثم غدا عليه بعد ذلك فقال ‪ " :‬يا أبى موسى إن قال قائل إن معاوية من الطلقاء‪ ،‬و إن أباه رأس الحزاب ‪ ،‬لم‬
‫صدَقَ ‪ ،‬و إذا قال إن علياً آوى قتلة عثمان‪ ،‬و قتل أنصاره يوم الجمل ‪ ،‬و برز‬
‫يبايعه المهاجرون والنصار فقد َ‬
‫على أهل الشام بصفين فقد صدق ‪ ،‬وفينا وفيكم بقية ‪.‬‬

‫و إن عادت الحرب ذهب ما بقي ‪ ،‬فهل لك أن تخلعهما جميعاً ‪ ،‬و تجعل المر لعبد ال بن عمر بن الخطاب ‪ ،‬فقد‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫صَحَبَ رسول ال – صلى ال عليه وآله و سلم – و لم يبسط في هذه الحرب لساناً و ل يداً ‪ ،‬و قد علمت من هو‬
‫في فضله ‪ ،‬و زهده و ورعه و علمه"‪.‬‬

‫فقال أبو موسى ‪ " :‬جزاك ال بنصيحتك خيراً "‪ ،‬و كان أبو موسى ل يعدل بعبدال بن عمر أحداً " (‪. )2‬‬

‫فجاءه من حيث يحب ليلين عريكته لمكان عبدال بن عمر من رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و‬
‫مكانه من أبيه ‪ ،‬لفضل عبدال في نفسه ‪ ،‬ثم افترقا على ذلك ‪.‬‬

‫وهنا أقام خديعته ممهداً لها تمهيداً تاماً ‪ ،‬حيث وافق أبو موسى على استخلف عبدال بن عمر ‪ ،‬و ما بَ ِقيَ إل‬
‫النداء بخلع الرجلين معاوية وعلي ‪ ،‬و اجتمع رأي الحكمين على ذلك ‪.‬‬

‫" ثم ِإنّ عمراً غدا على أبي موسى بالغد ‪ ،‬و معه جماعة كشهود بينهما ‪ ،‬يَطِّلعُونَ على ما يقال وما يكتب ‪ ،‬و لما‬
‫اجتمعا قال عمرو لبي موسى ‪ " :‬ناشدتك ال من أحق بهذا المر ‪ ،‬من أوفى‪ ،‬أو من غدر ؟ " قال أبو موسى ‪:‬‬
‫" من أوفى‪ ، ]291[ " ،‬قال عمرو ‪ " :‬يا أبا موسى نشدتك ال تعالى‪ .:‬ما تقول في عثمان ؟ "‪ ،‬قال أبو موسى‬
‫‪ " :‬قتل مظلوماً " ‪ ،‬قال عمرو ‪ " :‬فما الحكم فيمن قتل ؟ " قال أبو موسى ‪ " :‬يقتل بكتاب ال تعالى " قال ‪" :‬‬
‫جعَلْنَا‬
‫ظلُومًا فَ َقدْ َ‬
‫فمن يقتله؟‪ " ،‬قال ‪ " :‬أولياء عثمان "‪ ،‬قال ‪ " :‬ف ِإنّ ال يقول في كتابه العزيز ‪َ " :‬ومَن قُ ِتلَ مَ ْ‬
‫لِوَِل ّيهِ سُ ْلطَانًا " (‪ ، )3‬قال ‪ " :‬فهل تعلم أن معاوية من أولياء عثمان ؟ "‪ ،‬قال ‪ " :‬نعم "‪ ،‬قال عمرو للقوم‬
‫الحاضرين معهما ‪ " :‬اشهدوا "‪ ،‬قال أبو موسى للقوم ‪ " :‬اشهدوا " َفشَ ِهدَ القوم على مقالهما ‪.‬‬

‫فانظر في دهاء عمرو بن العاص و غباوة أبي موسى ‪ ،‬حيث أخرجه عمرو عن الموضوع الذي هما بصدده ‪ ،‬و‬
‫ألزمه ما لم يلزمه ‪ ،‬فإنه ألزمه دم عثمان ‪ ،‬فاعترف أبو موسى به ظلماً ‪ ،‬فقد ظلم أبو موسى الصحابة كلهم ‪ ،‬و‬
‫فيهم علي بن أبي طالب و آل علي ‪ ،‬حيث ِإنّ الصحابة اشتركوا في قتل عثمان ‪ ،‬أكثر من مئة ألف رجل ‪ ،‬إذ‬
‫منهم القاتل‪ ،‬و منهم المر‪ ،‬ومنهم الراضي ‪ ،‬وبهذا أصح أبو موسى عمرو بن العاص في القضية ‪.‬‬

‫ثم قال أبو موسى لعمرو ‪ " :‬قم يا عمرو وصرح بما اجتمع عليه رأينا ‪ ،‬و ما اتفقنا عليه "‪ ،‬فقال عمرو‪ -‬و هو‬
‫الداهية الدهياء‪ " : -‬سبحان ال أقوم قبلك وقد َق ّد َمكَ ال تعالى قبلي في اليمان و الهجرة ‪ ،‬و أنت وافد أهل‬
‫اليمن إلى رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ‪ ،‬و وافد رسول ال – صلى ال عليه و سلم – إليهم ‪ ،‬و‬
‫بك هداهم ال و عرفهم شرائع دينه ‪ ،‬و سنة نبيه – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ ، -‬و صاحب مغانم أبي بكر‬
‫وعمر – رضي ال عنهما ‪ ، -‬و لكن قم أنت [‪ ]292‬فقل ثم أقوم فأقول " (‪. )3‬‬

‫ح َرهُ بها عمرو ‪ ،‬وقد خَبّأ تحتها دسيسته المقصودة بالذات ‪.‬‬
‫فقام أبو موسى مسروراً بتلك الشادة التي سَ َ‬

‫فقام أبو موسى بيمانيته !! فحمد ال و أثنى عليه ثم قال ‪ " :‬أيها الناس إن خير الناس للناس خيرهم لنفسه ‪ ،‬و‬
‫إني ل أملك ديني بصلح غيري ‪ ،‬إن هذه الفتنة قد أكلت العرب ‪ ،‬و إني رأيت و عمراً أن نخلع علياً و معاوية ‪،‬‬
‫و نجعلها – أي المارة – لعبدال بن عمرو فإنه لم يبسط في هذه الحرب يداً و ل لساناً " ‪.‬‬
‫====================================‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪)1/117‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق (‪)1/118‬‬
‫(‪ )3‬السراء ‪33:‬‬
‫(‪ )4‬المامة والسياسة (‪)1/118‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫ثم قام عمرو و كان قد هيأ قنبلته الكبرى! فقال ‪ ":‬أيها الناس هذا أبو موسى‪ ،‬و هو شيخ المسلمين َقدَماً ‪ ،‬و هو‬
‫حَ َكمُ أهل العراق ‪ ،‬و من ل يبيع الدين بالدنيا ‪ ،‬و قد خلع عليا و أنا أثبت معاوية " و في رواية " وقد خلعته كما‬
‫خلعه و أثبت معاوية " (‪. )1‬‬

‫فاعجب أيها العاقل من هذا الحال الذي يقع بين صفوة المسلمين ‪ ،‬وهم من يعلم كل أحد مقامهم ‪ ،‬إن معاوية لم‬
‫يكن في حال إماماً مقارناً لعلي بن أبي طالب في إمامته ‪ ،‬و كيف تثبت إمامة رجل لم يجتمع أهل الحل والعقد‬
‫عليه ‪ ،‬و تبطل إمامة من اجتمعت على إمامته المة الراشدة !!!!‬

‫فأين العقول ذهبت ؟!‪ ،‬و علي في بيته تحت نظر هذين الرجلين يوليانه أو يوليان غيره ‪ ،‬و لو وافق عمرو بن‬
‫العاص لبي موسى لكانا وليا عبدال بن عمر ‪ ،‬فماذا يقول علي وقد رضي بحكمها ‪ ،‬و هل له بعد هذا الحال أن‬
‫يقول إنه باقٍ على إمامته ‪.‬‬

‫إِنّها و أيم ال لمزلت عظيمة ‪ ،‬ثم كانت الطامة الكبرى في قتال البرياء الذين َفرّوا بدينهم‪.‬‬

‫عند هذا الحال قال أبو موسى لعمرو بن العاص ‪ " :‬ما لك؟ عليك [‪ ]293‬لعنة ال! ما أنت إل كمثل الكلب تلهث‪.‬‬
‫" فقال عمرو بن العاص ‪ ":‬لكنك مثل الحمار يحمل أسفاراً " و َتسَابّا بهذا الكلم الجافي الذي ل يرضى أن يقوله‬
‫شرَارُ النّاسِ ‪.‬‬
‫ِ‬

‫قال الناقل للقضية ِمنْ قَ ْومِنَا ‪ " :‬و اختلط الناس‪ ،‬فقال بعضهم وهو سعد بن نصر الهمداني ‪ " :‬و ال لو اجتمعنا‬
‫على الهدى ما زدتمانا على ما نحن عليه الن ‪ ،‬و ما ضللكما بلزمٍ لنا ‪ ،‬و ما رجعتما إل بما بدأتما به‪ " ،‬و‬
‫لبعضهم‪ " .:‬و ال لو اجتمعنا على هذا ما حوّلتمانا عما نحن عليه قبل أن يقع ‪ ،‬و ما أمات قولكما حقاً و ل أحيا‬
‫باطلً ‪ ،‬و إنا اليوم علما كنا عليه أمس ‪ ،‬و لقد كنا ننظر إلى هذا قبل أن يقع" (‪ ، )2‬أي نحن متوقعون لهذا‬
‫منكما ‪ ،‬فهو يتهمهما معاً على تواط لهذا ‪ ،‬كما اتهمهما الهمداني سعد بن نصر حيث قال ‪ ":‬و ما رجعتما إل بما‬
‫بدأتما به "‪ ،‬و قول الخر‪ " .:‬و ما صلحكما بلزمنا "‪ ،‬يشير إلى ما عليه الفريق الخر الذي لم يرض هذا‬
‫الصلح ول يراه صلحاً ‪ ،‬بل يراه فساداً ‪ ،‬و هم الذين تجمعوا بالنهروان – رحمهم ال و رضي عنهم ‪. -‬‬

‫و بعدما تشاتم أبو موسى و عمرو بن العاص تَ َفرّقَ المجتمع على أسوء الحوال ‪ ،‬و انصرف عمرو بن العاص‬
‫إلى معاوية ‪ ،‬و َهرَبَ أبو موسى إلى مكة لجئاً إليها ‪ ،‬ل يرى مقابلة علي بن أبي طالب ‪ ،‬فزادت تهمة الناس‬
‫لبي موسى بذلك ‪ ،‬حيث لم يرجع إلى إمامه فيخبره بما صار ‪ ،‬و إنه وقع ما وقع َمكْراً و خداعاً ‪ ،‬فيكون في‬
‫جيش المام ‪ ،‬و لم يخاطب علي بن أبي طالب رجال الحقّ من قومه ويعرف رأيهم في القضية ‪ ،‬ويعتمد على ما‬
‫يرون ‪ ،‬و هل إمامته باقية أو مُ ْنحَّلةٌ َلنّ المامة [‪ ]294‬ليست شيئا موروثاً بل هي من حقوق خيار المة ‪ ،‬وهم‬
‫الناظرون في مصالح العامة لنه الحجة في الدّين ‪.‬‬

‫وفي كلم الحسن بن علي بن أبي طالب عند من يفهم معاني الكلم (‪ ، )3‬إذ تَ َكلّم في الحكمين ‪ ،‬و ذكر أن أبا‬
‫موسى أراد أن يولي عبدال بن عمر ‪ ،‬و لو كانت إمامة علي باقية لحتج أبو موسى على عمرو بن العاص‬
‫صحّ َأنّ ل إمامة لعلي باقية ‪ ،‬فيجوز أن يولي المامة من‬ ‫ببقائها ‪ ،‬و لم يسعه أن يولي عبدال بن عمر ‪ ،‬ولكن َ‬
‫هو أهل لها من رجال السلم ‪ ،‬و لو فرضنا أنها ل تكون إل في قريش لكان في قريش كثيرون ‪ ،‬إذا اتفق عليهم‬
‫المسلمون‪.‬‬

‫ثم لو كان لعلي بن أبي طالب إمامة باقية لقام الحاضرون معهم على أبي موسى‪ ،‬و عمرو بن العاص‪ ،‬و احتجوا‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عليهما ببقائها ‪ ،‬ثم لو كانت إمامته باقية لقام المسلمون معه من أنحاء بلد السلم محتجين له بذلك ‪ ،‬و ل‬
‫يسعهم إل القيام ‪ ،‬وترك الحقّ ضللٌ ‪ ،‬و حاشا المة السلمية أن تجتمع على ضلل أبداً بشهادة نبيها – عليه‬
‫الصلة والسلم ‪. -‬‬

‫وكان الحسن يعترف بأن المامة حجتها المسلمون فيمن يرضون إذ قال يذكر عبدال بن عمر بقوله ‪ ":‬ولم‬
‫يجتمع عليه المهاجرون و النصار " (‪ )4‬فاعترف بأن اجتماع المسلمين شرط في صحة المامة ‪.‬‬

‫و َيدُّلكَ عليه أيضاً قضية الشورى ف ِإنّ عمر بن الخطاب – رحمه ال– جعلها إلى من هم الحجة في المسلمين ‪،‬‬
‫وكانوا ستة نفر ‪ ،‬و لم يقل إن علي بن أبي طالب أحق بها من غيره ‪ ،‬كما يقول المتنطعون ‪ ،‬و ل احتج علي‬
‫بذلك فيما علمنا ‪ ،‬و لو كانت له لم َي ْرضَ المسلمون إخراجها عنه ‪ ،‬و لو رضوا لكانوا اجتمعوا على ضلل و هو‬
‫محال ‪ ،‬و لكن ل يستغرب [‪ ]295‬اختلق المور ممن يدعي أن علي بن أبي طالب رب أو شريك في النبوة باسم‬
‫الوصاية ‪ ،‬أو أنه المرسول إليه بالنبوة فخان الرسول فألقها إلى محمد – صلى ال عليه وآله وسلم ‪. !!!-‬‬

‫و لما بلغ المر الداهية الموي ‪ ،‬كتب إلى أبي موسى وهو إذ ذاك بمكة يقول له ‪ " :‬أما بعد ‪ ،‬فَا ْكرَهْ من أهل‬
‫العراق ما َك ِرهُوا مِ ْنكَ ‪ ،‬و َأقْبِلْ إلى الشام فإني خيرٌ لك من علي‪ ،‬والسلم " (‪. )5‬‬

‫فأجابه أبو موسى‪َ " .:‬أمّا بعدُ‪ :‬فإِنّه لم يكن مني في عليّ إلّ ما كان من عمرو فيك ‪ ،‬غير أني أردت بما صنعت‬
‫وجه ال ‪ ،‬و أراد عمرو بما صنع ما عندك ‪ ،‬و قد كان بيني و بينه شروط عن تراضٍ فلمّا رجع عمرو رجعت ‪،‬‬
‫و أما قولك‪ :‬إن الحكمين إذا حكما على أمر فليس للمحكوم عليه أن يكون بالخيار "‪.‬‬
‫و قوله لم يكن مني في علي إل ما كان من عمرو فيك ليس كذلك ‪ ،‬إنما كان من أبي موسى في علي خلعه من‬
‫المامة‪ ،‬ولم يكن معاوية إذ ذاك إماماً ‪ ،‬و إنما كان من عمرو في معاوية إثباته إماماً ‪ ،‬فشتان بين المرين ‪ ،‬و‬
‫قول أبي موسى " إن الخيار في الشاة و البعير ل في أمر هذه المة‪ ،‬فليست تساق إلى ما تكره ‪ ،‬و لن تذهب بين‬
‫عجز عاجزٍ و ل كيد كائدٍ " و كأَنه يشير بالعاجز إلى نفسه و بالكائد إلى عمرو ‪ ،‬و كذلك قوله‪ " .:‬و ل خديعة‬
‫فاجر " فهو يثبت العجز لنفسه‪ ،‬و الكيد‪ ،‬و الفجور‪ ،‬و الخداع لعمرو ‪ ،‬و كان هو المبتدئ بلعن عمرو و تمثيله‬
‫إيّاه بالكلب يلهث ‪.‬‬

‫و كتب علي بن أبي طالب إلى أبي موسى ‪َ " :‬أمّا بَ ْعدُ ‪ :‬إنك امرؤ ضللك الهوى ‪ ،‬و استدرجك الغرور ‪ ،‬فاستقل‬
‫ال يقلك عثرتك ‪ ،‬فإنه [‪ ]296‬من استقال ال أقاله ‪ ،‬إن ال يغفر و ل يغير ‪ ،‬و أحب عباده إليه المتقون ‪ ،‬و‬
‫السلم " (‪. )6‬‬

‫فكان في كتاب علي الحكم على أبي موسى بالتضليل و الهوى‪ ،‬أي فيك هوى أضلك عن الهدى ‪ ،‬و فيك غرورًا‬
‫استدرجك‪ ،‬فهذا من علي حكم على أبي موسى ‪ ،‬فإن كان كذلك تلزم أبا موسى منه التوبة ‪ ،‬و إلّ كان قذفاً من‬
‫علي فيلزمه ما لزم أبا موسى ‪.‬‬

‫فأجاب أبو موسى علياً ‪َ " :‬أمّا َب ْعدُ ‪ :‬فلول أني خشيت أن يئول مَ ْنعُ الجوابِ إلى أعظم مما في نفسك لم أجبك ‪،‬‬
‫لنه ليس عذراً ينفعني ‪ ،‬و ل عذراً يمنعني منك ‪ ،‬و أما التزامي َمكّة‪ ،‬فإني استفسرت إلى أهل الشام ‪ ،‬و انقطعت‬
‫ظمْ ُتمْ – أي قالوا له ليس ذنبك أعظم من ذنوب من ولوك‬ ‫ص ّغرُوا من ذنبي ما عَ ّ‬
‫من أهل العراق ‪ ،‬وأصبت أقواماً َ‬
‫ظمُوا من حَقّي ما صَ ّغرْتُمْ ‪ ،‬فأقمت بين أظهرهم ‪ ،‬إذ لم يكن لي منكم ولي و ل نصير ‪،‬‬ ‫أمرهم – قال ‪ ":‬وعَ ّ‬
‫صدَقَ َمنْ قال إذا أقبلت الفتن قَلّ‬
‫والسلم " (‪ )7‬فكأنه ينفي وليته لهم ‪ ،‬أو وليتهم له‪ ،‬و كل الجانبين كبير ‪ ،‬وقد َ‬
‫َمنْ يهتدي للحقّ فيها ‪.‬‬
‫=================================‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪)1/118‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق (‪)1/118‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق (‪)1/119‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق (‪)1/119‬‬
‫(‪ )5‬المرجع السابق (‪)1/120‬‬
‫(‪ )6‬المامة والسياسة (‪)1/120‬‬
‫(‪ )7‬المرجع السابق (‪)1/121‬‬

‫اليقاع بأهل النهروان – رحمهم ال –‬

‫لما تَ َفرّقَ المجتمع من دَ ْو َمةِ الجندل ‪ ،‬و ذهب عمرو بن العاص إلى أميره ظافراً ‪ ،‬و هرب أبو موسى إلى مكة‬
‫خائفاً من علي بن أبي طالب على ما صدر منه ‪ُ ،‬متَهَمٌ بأنه مواطئ لعمرو بن العاص في الباطن كما يشير إلى‬
‫ذلك كلم علي إذ قال في كتابه إلى أبي موسى ‪ " :‬إنك امرء ضللك الهوى‪ ،‬و استدرجك الغرور "‪ ،‬و قوله أيضا‬
‫في صفحة ‪ " .:144‬و إنما سار أبو موسى بهدي إلى ضلل ‪ ،‬وسار عمرو بضلل إلى هدى ‪ ،‬فلما [‪ ]297‬التقيا‬
‫رجع أبو موسى عن هداه "‪ ،‬و كذلك قوله لعمرو بن العاص لما سئل عن عثمان فقال ‪ " :‬قتل مظلوماً " ‪ ،‬و‬
‫وجه التهمة أن عثمان لما قُتِلَ كان علي بن أبي طالب موجوداً بالمدينة ‪ ،‬ولم يدافع عنه ‪ ،‬و لو دافع علي عنه‬
‫لقام المسلمون كلهم معه ‪.‬‬

‫و أقول أيها المام إذا كنت تعلم أن أبا موسى سار بهدى‪ ،‬و كان أراد بذلك إثبات المامة له إلى ضلل و أنت تعلم‬
‫ذلك الضلل ‪ ،‬فما بالك ترضى لبي موسى بذلك ؟!‪ ،‬و أنت المام الذي نصب لدفع الضلل؟! ‪ ،‬ورفع الفساد؟! ‪ ،‬و‬
‫إن زعمت أنك أجبرت على ذلك ‪ ،‬و جيشك سبعون ألفا تخرج بهم إلى قتل النهروان بقيادة الشعث فمن ذا الذي‬
‫يستطيع أن يعترض عليك و حالك هذا ‪ ،‬ولكنّ القضاء المحتوم ل بد من وقوعه ‪.‬‬

‫خرج أولئك الرجال الذين تقدم ذكرهم وهم عبدال بن وهب الراسبي ‪ ،‬و زيد بن حصن الطائي ‪ ،‬و حرقوص بن‬
‫زهير السعدي ‪ ،‬ومن معهم من المؤمنين ‪ ،‬و توافوا بالنهروان كما سبق ذلك ‪.‬‬

‫قام علي يَُأنّبُ أصحابه بقوله ‪ ":‬قد كنت أمرتكم في هذين الرجلين ‪،‬و في هذه الحكومة بأمري ‪ ،‬و لكن أبيتم إل‬
‫ما أردتم فاحييا ما أمات القرآن ‪ ،‬و أماتا ما أحيا القرآن ‪ ،‬و اتبع كل واحد منهما هواه ‪ ،‬يحكم بغير حجة و ل‬
‫سنة ظاهرة " ‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬الحجة ظاهرة في قتال الباغي على المام ‪ ،‬و السنة قائمة عمل بها المسلمون قبل هذا المام ‪ ،‬فقد قاتل‬
‫عنَاقاً أو عِقَالً ‪ ،‬و أَ ّي َدهُ الصحابة – رضوان ال‬
‫الصديق – رضوان ال عليه – من منع شيء من الزكاة حتى َ‬
‫عليهم – في ذلك ‪.‬‬

‫قال ‪ ]298[ ":‬و اختلفا في أمرهما و حكمهما ‪ ،‬فكلهما لم يرشدا ل فبرئ ال منهما و رسوله و صالحوا‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فاستعدوا للجهاد ‪ ....‬إلى أخر ما جاء عنه" (‪. )1‬‬

‫وفي صفحة ‪ ": 150‬أجمع رأي علي على المسير و الناس معه إلى معاوية بصفين ‪ ،‬فتجهز معاوية ‪ ،‬و ل شك‬
‫ع ّدةً كافيةً ‪ ،‬واستمال قلوب الناس‪ ،‬و عمل كل ما استطاع ‪ ،‬وبالخصوص في التدخل في جيش علي ‪،‬‬ ‫أنه قد َأهّبَ ُ‬
‫و بسط المان للناس ‪ ،‬و خرج فنزل بصفين ‪ ،‬و تَجَ ّهزَ عليٌ في عسكره ‪ ،‬و كأني بظاهر الناس معه و باطنهم‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عليه ‪ ،‬هنا قيل له يا أمير المؤمنين ‪ ":‬إنه قد افترقت منا فرقه فذهبت " ‪.‬‬

‫قال " فكتب إليهم علي ‪َ " :‬أمّا بَ ْعدُ ‪ .:‬ف ِإنّ هذين الرجلين الخاطئين الحاكمين اللذين ارتضيتم حكمين قد خالفا‬
‫كتاب ال ‪ ،‬و اتبعا هواهما بغير هدى من ال ‪ ،‬فلم يعمل بالسنة ‪ ،‬و لم ينفذا للقرآن حكماً ‪ ،‬فبرئ ال منهما و‬
‫رسوله و صالحوا المؤمنين ‪ ،‬إذا بلغكم كتابنا هذا فأقبلوا إلينا‪ ،‬فِإنّا سائرون إلى عدونا وعدوكم ‪ ،‬ونحن على‬
‫المر الذي كنا عليه ‪ ،‬و السلم" (‪. )2‬‬

‫و معناه هو باقٍ على إمامته ‪ ،‬و هم يرونه غير إمام ‪ ،‬وقد بايعوا عبدال بن وهب كما ذكرنا سابقاً ‪ ،‬و هو هنا‬
‫يرى أنه باقٍ على إمامته ‪ ،‬و َنسِيَ العهد الذي سبق منه متقيداً به على أن المر للحكمين يوليان و يعزلن ‪،‬‬
‫وهما قد عزل‪ ،‬و وليا‪ ،‬وتم أمرهما ‪.‬‬

‫و أجابه النهروانيون في هذا الصدد ‪ " :‬إ ّنكَ لم تغضب ل ‪ ،‬إِنّما غضبت لنفسك ‪،‬و ال ل يهدي كيد الخائنين " و‬
‫المعنى بعدما خلعت نفسك من إمامتك‪ ،‬و عاهدت ال [‪ ]299‬على ذلك‪ ،‬ليس لك أن َت ّدعِيَ المامة بعد ذلك ‪ ،‬و‬
‫نحن قد بايعنا غيرك فل يلزمنا أمرك ‪.‬‬

‫قال " و لما رأى علي كتابهم أيس منهم " (‪ )3‬أي رأى لهم حجة قائمة يحجونه بها ‪ ،‬و هو من أجلة علماء‬
‫الشريعة ‪ ،‬و لكن السياسة لها أقوام غير رجال الفقه ‪.‬‬

‫قال " ورأى أن َي َدعَ ُهمْ و يمضي بالناس إلى معاوية وأهل الشام فيناجزهم ‪ ،‬فقام خطيباً فحمد ال و أثنى عليه ‪،‬‬
‫ثم اندفع يذكر أحوال معاوية و من معه ‪ ،‬و ذكر إلى أن قال ‪ ":‬و ال لو وَلَوْا عليكم لعملوا فيكم بعمل كسرى و‬
‫قيصر ‪ ....‬إلخ " (‪. )4‬‬

‫" ثم خرج علي بجيشه فعبر الجسر ثم مضى حتى نزل دير أبي موسى ‪ ،‬على شاطئ الفرات ثم أخذ إلى النبار "‬
‫و هنا رأى أنصار معاوية في جيش علي أن هذا الرجل ل ُبدّ له من معاوية نصبوا له مكيدة ل تتركه ينصرف‬
‫عنها ‪.‬‬

‫وذلك أنهم قضوا على عبدال بن خباب بن الرت ‪ ،‬و بقروا بطن امرأته هي حبلى ‪ ،‬و قتلوا ثلث نسوة فيهن أم‬
‫سنان ‪ ،‬و جاءوا علياً يقولون هذه أفعال النهروانيين يا أمير المؤمنين ‪ ،‬تدع هؤلء القوم وراءنا يخلفوننا في‬
‫سرْ بنا إليهم ‪ ،‬فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام ‪ ،‬هذه هي المكيدة الفاجرة التي‬
‫عيالنا ‪ ،‬و أموالنا ِ‬
‫اختلقت على أولئك البررة الكرام ‪ ،‬الذين أفنوا ال ُمخّ والعظم في رضا ال ‪ ،‬و سهروا الليل في عبادة ال عز و جل‬
‫‪ ،‬و بايعوا لهم إماماً يستخلفون به بدل إمامهم الذي خلع إمامته ‪ ،‬و عاهد على ما يرى الحكمان ‪ ،‬ثم قام بزعم‬
‫المامة ‪ ،‬ثم خلقوا لهؤلء الرجال النهروانيين أكاذيب‪ ،‬و افتعلوا فيهم الفاعيل المنكرة ‪ ،‬التي ل [‪ ]300‬يحب‬
‫عهَا ‪.‬‬
‫سمَا َ‬
‫أجهل الناس َ‬

‫و إليك ما تقضي به العجب مما يختلقه النسان لخيه النسان المسلم ‪ ،‬قال في صحيفة ‪ 153‬من المامة و‬
‫السياسة قال ‪ ":‬مضى عليٌ إلى النبار ‪ -‬و كأنها محل افتراق الطرق ‪ -‬و ِإنّ الخارجة التي خرجت على علي " ‪:‬‬
‫يعني أهل النهروان ‪ ،‬فقبل كل شيء ‪ ،‬متى خرجت على علي هذه الخارجة ؟‪ ،‬و إنما هي خارجة عنه‪ ،‬فارةٌ بدينها‬
‫‪ ،‬و إنما الخارجة عليه جنود معاوية ‪ ،‬خرجت على علي بن أبي طالب ‪ ،‬فما لهؤلء القوم ل يفرقون بين الخارج‬
‫عليه و الخارج عنه ؟!‪ ،‬كأنما عناهم من قال ‪ " :‬فكن فارق بين دعوى أردت و دعوى فعلت بشأو بعيد " ‪.‬‬

‫ِإنّ هؤلء القوم يغالطون الحقائق عند من ل يفقه و هم السواد العظم ‪ ،‬وعلى هذا أشاعوا عليهم خوارج ‪ ,‬و‬
‫عجزوا أن يقولوا بذلك لصحاب معاوية ‪ ،‬حيث يرون السنان أحمر ‪ ،‬و الدولة إليه ‪ ،‬و إنما قالوا بذلك لهؤلء‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫البرار الذين قضوا عليهم في ضحوة من النهار انتصارا لمعاوية الذين يحاولون أن ينالوا معه مآربهم ‪.‬‬

‫قال‪ " :‬بينما هم يسيرون – أي أصحاب علي – وِإذَا هُمْ برجل يسوق امرأته على حمارٍ له ‪ ،‬فعبروا إليه الفرات ‪،‬‬
‫فقالوا له ‪ :‬من أنت ؟ قال ‪ :‬أنا رجل مؤمن ‪ ،‬قالوا ما تقول في علي بن أبي طالب ‪ ،‬قال ‪ :‬أقول أنه أمير المؤمنين‬
‫‪ ،‬و أول المسلمين إيماناً بال و رسوله ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فما اسمك ؟ قال ‪ :‬أنا عبدال بن خباب بن الرت صاحب رسول‬
‫ال – صلى ال عليه وآله وسلم – فقالوا ‪ :‬أفزعناك ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ل تخف أو ل روع عليك ‪ ،‬حدثنا [‬
‫‪ ]301‬عن أبيك بحديث سمعه من رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – لعل ال أن ينفعنا به ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫حدثني عن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – َأنّه قال ‪ " :‬ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل ‪،‬‬
‫كما يموت بدنه ‪ ،‬يمسى مؤمناً و يصبح كافراً"‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لهذا الحديث سألنك ؟ وال لنقتلنّك قتلة ما قتلناها‬
‫أحداً !! ‪ ،‬فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به و بامرأتة و هي حبلى مُتِمّ‪ ،‬حتى نزلوا تحت نخل ‪ ،‬فسقطت رطبة منها‬
‫فأخذها بعضهم فقذفها في فيه ‪ ،‬فقال له أحدهم ‪ :‬بغير حل أو بغير ثمن أكلتها!! ‪ ،‬فألقاها ِمنْ فِيهِ ‪ ،‬ثم اخترط‬
‫بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لهل الذمة فقتله ‪ ،‬قال له بعض أصحابه ‪ :‬إن هذا من الفساد في الرض!!! ‪،‬‬
‫فلقي الرجل صاحب الخنزير فأرضاه عن خنزيره ‪ ،‬فلما رأى عبدال بن الخباب ذلك قال ‪ :‬لئن كنتم صادقين فيما‬
‫أرى ‪ ،‬ما علي منكم بأس ‪ ،‬و وال ما أحدثت في السلم حدثاً ‪ ،‬و إني لمؤمن ‪ ،‬وقد أمنتموني وقلتم ل روع عليك‬
‫"‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬فجاءوا به و بامرأته فأضجعوه على شفير النهر على ذلك الخنزير فذبحوه فسال دمه في الماء ‪ ،‬ثم‬
‫أقبلوا على امرأته فقالت ‪ :‬إنما أنا امرأة ‪ ،‬أما تتقون ال؟! ‪ ،‬قال ‪ :‬فبقروا بطنها‪ ،‬وقتلوا ثلث نسوة فيهن أم‬
‫سنان ‪ ،‬قد صحبت النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – "‬

‫هذه الفاعيل المزورة على هؤلء الكرام البرار الطهار ‪ ،‬رهبان الليل‪ ،‬أسود النهار ‪ ،‬فانظروا أيها الناس ما‬
‫يقوله أهل السوء في أهل الحقّ ‪ ،‬بحيث يجعلونهم من السباع الضارية ‪ ،‬أو من قطاع [‪ ]302‬الطرق ‪ ،‬الذين ل‬
‫دِينَ لهم‪ ،‬و ل إيمان ‪ ،‬يصفونهم بالزهادة‪ ،‬وينعتونهم بالعبادة ‪ ،‬خرجوا من باطل وقع فيه غيرهم خشية أن يقعوا‬
‫فيه ‪ ،‬وقد بايعوا لهم إماماً من خيار صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ‪ ،‬و همتهم إحياء دين‬
‫ج ّردُوا ل أنصارا لدينه ‪ ،‬يتناولون رجلً و‬
‫ال ‪ ،‬و اقتفاء سنة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ ، -‬و َت َ‬
‫يذبحونه حيث ذبحوا الخنزير‪ ،‬ثم يتناولون امرأته الحامل فيبقرون بطنها ‪ ،‬ثم يذبحون ثلث نسوة فيهن أم‬
‫سنان!! ‪.‬‬
‫===============================‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪)1/123‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق (‪)124-123 /1‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق (‪)1/126‬‬
‫(‪ )4‬المامة والسياسة (‪)127-1/126‬‬

‫قل لي بال هل وجدت مثل هذه الفعولة المنصوصة لبعض لصوص العرب في جاهليتهم ؟؟!‪ ،‬حتى تنسب هذه‬
‫القضية إلى هؤلء السادة؟؟ ‪ ،‬الجلء الذين لهم دَوّيٌ بالليل كدوي النحل بذكر ال بشهادة المام علي نفسه ‪ ،‬ثم‬
‫صوروا هجوم علي عليهم تبريراً للدعوى ‪ ،‬وترويجاًَ لها في أذهان الغبياء و أهل البطالة ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و ما دروا أنهم ألصقوا أحدوثة شوهاء بإمامهم رابع الخلفاء و صفوة بني هاشم بعد محمد – صلى ال عليه و‬
‫سلم ‪. -‬‬

‫حاشا أولئك الكرام عن أقوال اللئام ‪ ،‬و حاشا علي أن يكون ذلك صدر منه ‪ ،‬و إنما هو من أعداء المسلمين أهل‬
‫الهواء الفاسدة ‪ ،‬أضافوها مصوغة الفتراء ‪ ،‬مبنية الباطل لتروج ‪ ،‬أما علي فأنا أحاشيه و أجله من ذلك ‪ ،‬و‬
‫عندي الذي يؤيده الحق هو ما سبق ‪.‬‬

‫وقرروا لتصويغ القضية أن علياً لما بلغه ذلك ‪ ،‬أرسل إليهم الحارث بن مرة لينظر فيما بلغه من قتل عبدال بن‬
‫خباب والنسوة و يكتب إليه [‪ ]303‬بالمر ‪.‬‬

‫فلما انتهى إليهم ليسائلهم خرجوا إليه فقتلوه ‪ ،‬فقال الناس ‪ :‬يا أمير المؤمنين تدع هؤلء القوم وراءنا يخلفوننا‬
‫في عيالنا و أموالنا ‪ ،‬سر بنا إليهم ‪ ،‬فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام ‪.‬‬

‫صحّ الواقع من قتل عبدال بن خباب ‪ ،‬وقتل النسوة ‪ ،‬و قتل الحارث بن مرة رسول‬ ‫وهذه أخت الولى ‪ ،‬اللهم ِإنْ َ‬
‫المام فهذا هو نفس المكيدة التي ألهبوا بها قلب المام ليحمي‪ ،‬ويقوم لقتل هذه العصابة المنظور إليها بأعين‬
‫الكبار ‪ ،‬التي يخشون ثورتها على معاوية و شامه ‪.‬‬

‫شكّ َأنّ مثل هذه الفعال متى تقع يستنكرها العقل ‪ ،‬ويشمئز منها الذوق ‪ ،‬فلما أوقعوا هذه المكيدة يمكن أن‬
‫ول َ‬
‫صحّ ‪ ،‬و كل غاية القوم توجه المام وجهتهم ‪ ،‬وقد‬ ‫المام تحرك لخطاب هؤلء عما يقال و للحتجاج عليهم ِإنْ َ‬
‫وقع من أهل السوء أعظم من هذا و هم رسل النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ول تنس قضية رسوله – عليه‬
‫الصلة والسلم – إلى ثقيف و ما افتراه ‪ ،‬و مثل هذه المور وقعت في عهدنا تحت راية إمامنا الخليلي – رحمه‬
‫ال– فكانت مثل ما ذكرنا عن هؤلء ‪.‬‬

‫و لكن المستغرب في الذهان ‪ ،‬إلصاق السوء بهؤلء الكرام ‪ ،‬و تعزيز من كان يلعن علياً على المنابر جهاراً‬
‫على رؤوس المل ‪ ،‬و يقال فيه " رضي ال عنه " ‪.‬‬

‫إنها لمن المور التي تنفطر لها الكباد!! ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬ثم سار عليٌ إلى المدائن ِب َمنْ مَ َعهُ حتى نزلوا المدائن ثم خرج حتى أتى النهروان ‪ ،‬فبعث إليهم أن أدفعوا‬
‫إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم ‪ ،‬ثم أكف عنكم و أفارقكم [‪ ]304‬حتى ألقى أهل الشام " ‪.‬‬

‫قال " فبعثوا إليه أن كلنا قتلناهم ‪ " ....‬إلى آخر الكاذيب المفتعلة ‪.‬‬

‫ثم عاد علي على قومه بتأنيب ‪ ،‬و آخر الكلم ينقض أوله ‪ ،‬إذ جاء في أوله أن ‪ " .:‬أكرهتموني على التحكيم " (‬
‫‪ )1‬و في آخره يقول ‪ ".:‬ثم استحللتم قتالنا و الخروج من جماعتنا ‪ ،‬أن اختار الناس رجلين " (‪ )2‬ففي أوله‬
‫يقول أكرهتموني أي على التحكيم ‪ ،‬و هنا َيعْتُبُ عليهم في خروجهم عنه ‪ ،‬وعن جماعته بسبب أن الناس‬
‫اختاروا رجلين ‪ ،‬أي هما أبو موسى و عمرو بن العاص ‪ ،‬فاعلم أنه لو كانوا هم الذين أكرهوه لقال لهم كيف‬
‫تخرجون عنا و أنتم الذين حملتمونا على هذا ‪.‬‬

‫قال‪ " .:‬فعند هذا رجع علي وعبأ جيشه "‪ ،‬قال‪ " .:‬و أقبلت الخوارج حتى إذا دنو من الناس نادوا ل حكم إل‬
‫ل ‪ ،‬ثم نادوا الرواح الرواح إلى الجنة " ‪ ....‬إلى أن قال " فل و ال ما لبثوا فِوَاقاً حتى صرعهم ال كأنما قيل‬
‫لهم موتوا فماتوا " (‪. )3‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫قلت ‪ :‬ل غروى بموتهم في جيش عدده سبعون ألفاً يحيط بأربعة آلف آمنين مطمئنين ينتظرون المام ليتفاهموا‬
‫معه في مهمتهم ‪ ،‬فلم يروا إل السيوف على رؤوسهم ‪ ،‬فلمّا قتل المسلمون بالنهروان انحطت شوكة المام ‪ ،‬و‬
‫تبعثر بناء السلم ‪.‬‬

‫ورأى علي بن أبي طالب نفسه كمن تاه بمضيعة ل يدري أين يذهب ‪ ،‬وعاد إلى الكوفة مخذولً ‪ ،‬منهار القوى ‪،‬‬
‫مبدد الفكار ‪ ،‬فلم يقدر على حركة إلى الشام ‪ ،‬بل و ل إلى غيره ‪ ،‬و قام يؤنبهم بالخطب في المجامع ‪ ،‬و‬
‫يحركهم و ل يتحركون ‪ ،‬و يستثيرهم و ل يثورون ‪.‬‬

‫و تلك خطبه المشهورة المأثورة فيهم ‪ ،‬فلم يقدر [‪ ]305‬على استنهاضهم ‪ ،‬ولول أن المقام يطول بنا لوردنا‬
‫تلك الخطب كما هي ‪.‬‬

‫جعَ عليٌ القهقري بعد النهروان ‪ ،‬فتبين واضحاً أن كل المقصود القضاء على أهل النهروان ‪ ،‬و ذلك‬
‫و بالجملة رَ َ‬
‫لصالح معاوية ‪ ،‬و طالح علي ‪ ،‬و بذلك أصبح علي يتعاطاه بالقتل أقل الناس ‪ ،‬و ماذا ذلك إل للخذلن الذي لقاه‬
‫المام بسبب قضية النهروان ‪ ،‬وهو الواضح الجلي في نظر الذين لهم أفكار تدرك الغايات ‪.‬‬

‫و مضى عبدال بن وهب إلى ال قتيلً في إمامته ‪ ،‬و مضى علي بن أبي طالب إلى ال قتيلً في خلعه ‪ ،‬وال‬
‫المستعان ‪.‬‬

‫وكانت خلفة علي أربع سنيين وتسعة أشهر و المر ل ‪.‬‬

‫===========================‬
‫(‪ )1‬أفخر في هذا المقام إلى أن أشير إلى دراستين رائعتين وهما‪" .:‬الخوارج والحقيقة الغائبة للشيخ ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي ‪ -‬حفظه ال‪-‬‬
‫وهي في الصل رسالة ماجستير من جامعة آل البيت الردنية والثانية‪" .:‬الباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالت" للباحث علي بن‬
‫محمد بن عامر الحجري ‪-‬أكرمه ال‪ -‬والدراسة الولى اعتمدت في إثبات الحوادث التاريخية على القرائن ل على دراسة أسانيدها‪،‬كأن تتفق كل المصادر‬
‫على حادثة ما‪ .‬وأما الدراسة الثانية فقد اعتمدت في إثبات الحوادث التاريخية على دراسة السانيد‪ ،‬وقد ناقشت الدراستان معركة النهروان‪ ،‬وتتبعتا‬
‫قضية مقتل عبدال بن خباب وامرأته ومقتل النسوة‪ ،‬واليك خلصة الدراسة الولى "الخوارج والحقيقة الغائبة" ص ‪411-409‬‬
‫‪ -1‬الصواب في قضية التحكيم مع معارضي المام علي ‪-‬كرم ال وجهه‪ -‬وما ينسب إلى ابن عباس انه خصمهم في حروراء غير ثابت‪.‬‬
‫‪-2‬لم يكن أهل النهروان راضيين بمقتل عبدال بن خباب‪ ،‬بل قتله أحد الذين انظم إليهم فيما بعد وهو مِسْعَر بن فَدَكِيِ التميمي‪ ،‬وقد طرده أهل النهروان‪.‬‬
‫‪ -3‬نسبة التكفير إلى أهل النهروان غير ثابتة‪ ،‬وإن ثبتت فيحمل على الكفر بمعنى المعصية كما وردت بذلك نصوص القرآن والسنة النبوية‪.‬‬
‫‪ -4‬هذا وقد تجلى للقارئ الكريم أن أهل النهروان ومعارضي التحكيم الذين قيل عنهم ما قيل طوال القرون الغابرة‪ ،‬والذين طالما شوهت حقيقتهم ونالهم‬
‫من ظلم الفرق الخرى ومن حيف كثير من المؤرخين والكتّاب الشيء الكثير‪،‬كانوا‪ -‬في الحقيقة‪ -‬طلب حق أصابوه‪ ،‬وإن قيل عنهم غير ذلك‪ ،‬بل كانوا‬
‫هم أصحاب الرأي الحازم والنظرة النافذة في أعماق الحداث‪ ،‬وقد جرت المور على ما توقعوه‪ ،‬والمتأمل في المجريات التاريخية يتبين له صدق هذه‬
‫النتيجة‪ .‬ول غرابة في ذلك‪ ،‬فقد كانوا من أهل الفضل والعلم‪ ،‬وكان فيهم جملة من أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم ‪."...‬‬
‫وخلصة الدراسة الثانية‪" :‬الباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالت" ص ‪295‬‬
‫"والمنهج السلمي عرض أحداث التاريخ ودراسة عقائد المم منهج سهل واضح المعالم َب ّينَ المبادئ ل يحيد عنه إل جاهل متعالم أو عالم متجاهل‪.‬‬
‫والعجب كل العجب من أناس يعتبرون أنفسهم أساتذة للتاريخ السلمي وهم يجعلون أخبار النصارى والكذابين والضعفاء عنوانا على الدقة والتثبيت التي‬
‫اطمأن إليها قلوبهم في وقت يعتبرون فيه أقوال المسلمين المعبرة عن حقيقة فكرهم هراء وزعما وادعاء‪.‬‬
‫والحقيقة التي ل يماري فيها عاقل هي أن الدقة في البحث تكون اصدق ما تكون عند الكتّاب حين يعبرون عن حقيقة فكرهم وما تكنه قلوبهم من عقائد‬
‫فحسب‪ ،‬وأن القوال والحكام الصادرة من الكتّاب على غيرهم من الناس فليست من الدقة في شيء حتى يتبين صدقها من كذبها‪.‬‬
‫وبعض الذين كتبوا عن أهل النهروان والباضية سلكوا مسلكاً صعباً بعيداً عن المنهج السلمي وجعلوا من روايات الكذابيين والضعفاء دليلً ومرشداً‬
‫للوصول إلى الحكام الجائرة التي قذفوا بها البرياء البررة‪. ...‬‬
‫وقد اتخذ بعض الكتّاب من الروايات المكذوبة والضعيفة أسلحة ظناً منهم أنها ل تقاومها حجج وبراهين الباضية على براءة أهل النهروان من كل ما‬
‫نسب إليهم من أعمال يحارب بها السلم‪.‬‬
‫وبعد عرضنا لتلك الروايات التي احتج بها الكتّاب على أهل النهروان وجدنا أن ما نسب إليهم من مخالفات هي في حقيقة أمرها أباطيل قصد من ترويجها‬
‫تنفير الناس عن أتباعهم الذين تمسكوا بمبادئهم وساروا على نهجهم‪."...‬‬
‫(‪ )2‬المامة والسياسة (‪)1/127‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق (‪)128-1/127‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫بيان عن الخوارج من هم في السلم ؟‬

‫اعلم أن كلمة الخوارج في السلم تتناول أنواعاً من الناس حسب مصطلح أهل السلم ‪ ،‬فهي في العتبار‬
‫الشرعي ينبغي أن تطلق على الذين خرجوا على المام المجمع على إمامته ‪ ،‬الصحيح المامة الثابت على مذهب‬
‫أهل الستقامة ‪ ،‬وينطبق هذا في الوائل على أهل الشام الذين خرجوا على المام علي بن أبي طالب ‪ ،‬إذ كان‬
‫إماماً صحيح المامة بإجماع من هم الحجة في الدّين ‪ ،‬فقاتلوا المسلمين في صفين ‪ ،‬بل لو قيل هم الذين قاتلوه‬
‫يوم الجمل لكان صحيحاً ‪.‬‬

‫و الذين قتلوا المسلمين يوم النهروان بغياً وعدواناً هم الحقيقون بهذا السم ؛ لخروجهم على أئمة الحقّ بغير‬
‫موجب ‪.‬‬

‫وأصل الخروج من اللغة معروف ‪ ،‬و اشتقاقه واضح على أصل اللغة ‪.‬‬

‫و هو أنواع خروج على الحقّ ‪ ،‬و خروج على الباطل ‪ ،‬و خروج عنه ‪]306[.‬‬

‫و أما الذي شاع في التاريخ فهو واقع على أناس مخصوصين عرفوا به ‪ ،‬و أطلق عليهم ‪ ،‬و هم نافع بن الزرق‬
‫‪ ،‬و نجدة بن عامر (‪ ، )1‬و عبدال بن الصفار (‪ )2‬و أشياعهم ‪ ،‬و كانوا من رجال السلم الشداء في الدّين ‪ ،‬و‬
‫لهم أرهاط تؤيدهم ‪ ،‬و كانت لهم شوكةٌ قويةٌ سيطروا بها على قسمٍ كبيرٍ من العراق ‪ ،‬و تولوا أمر البصرة حتى‬
‫كادوا يرومون الشام ‪ ،‬ويحاولون الجزيرة العربية ‪.‬‬

‫صحّ في الدّين ‪ ،‬و لجلها قلهم‬


‫و اشتهروا باسم الخوارج حيث خرجوا عن أمر المسلمين ‪ ،‬و جاءوا بدعوة ل َت ِ‬
‫المسلمون وطردوهم من مجالسهم وكانوا بلءً كبيراً على المسلمين ‪ ،‬حيث استحلوا دماء المسلمين وأموالهم‬
‫بشبهة التأويل ‪ ،‬و ليس لهم ذلك إذ لم يكن ذلك من دين المسلمين ‪ ،‬و حكموا على مرتكب الكبيرة أنه مشرك ‪ ،‬و‬
‫شكّ َأنّ المشرك حللُ الدمِ و المالِ ‪.‬‬
‫ل َ‬

‫و بذلك استحلوا أموال أهل القبلة ‪ ،‬و تجرأوا على المة بذلك ‪ ،‬و تجاسروا على أهل القبلة بالقتل ‪ ،‬وغنم الموال‬
‫‪.‬‬

‫شرِكُونَ " (‪ ، )3‬زعموا َأنّ معنى الية و إن‬


‫وشبهة تأويلهم في قوله عز و جل ‪َ " :‬وِإنْ أَطَ ْع ُتمُوهُمْ ِإنّكُمْ َل ُم ْ‬
‫أطعتموهم في أكل الميتة فأخطئوا في تأويلهم ‪ ،‬و الحقّ َأنّ معنى الية عند المسلمين ‪ ،‬وإن أطعتموهم في‬
‫استحلل الميتة ‪ ،‬و الستحلل لما حرم ال شرك بالجماع ‪ ،‬ولما أخطأوا في التأويل لم يقتصروا على مجرد‬
‫القول أو على مجرد العقيدة ‪ ،‬بل تجاوزوا ذلك إلى الفعل ‪ ،‬فحكموا على مرتكب المعصية بالشرك ‪ ]307[ ،‬و‬
‫اعترضوا أهل القبلة بالسيف ‪ ،‬قتلً و نهباً ‪ ،‬و غنموا الطفال و النساء!! ‪ ،‬و عظمت بليتهم على المسلمين ‪.‬‬

‫و كان استفحال خطبهم أيام المام الربيع بن حبيب صاحب المسند الصحيح ‪ ،‬و لما بلغه أمرهم قال للمسلمين ‪" :‬‬
‫َدعُوهُمْ حتى يتجاوزوا قولهم هذا إلى الفعل ‪ ،‬فإن لم يفعلوا بمقتضى قولهم هذا فالمسلمون في سلمة منهم ‪ ،‬و‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫جريمتهم إذا لم تتعد عقيدتهم ل تضر المسلمين ‪ ،‬و إذا تجاوزوا ذلك فهم بغاة يجب قتالهم حتى يرجعوا عن بغيهم‬
‫‪ ،‬و يقلعوا عن دعوتهم ‪ ،‬و ل نقول بشركهم ‪ ،‬ما داموا يدنون بال و بالرسالة ‪ ،‬و يصلون ويصومون و يزكون‬
‫و يحجون البيت الحرام ‪ ،‬فإذا أنكروا شيئاً مما ثبت من الدين بدليل قطعي فهم مشركون " (‪. )4‬‬

‫هذا مذهب المسلمين فيهم و في أمثالهم ممن يذهب مذهبهم ‪ ،‬و يدين دينهم ‪.‬‬

‫حدُوثَة المتحدثين ‪.‬‬


‫و لهذا شاع ذكرهم ‪ ،‬و بَقِيَ أُ ْ‬

‫وقد أرسل ال عليهم المهلب بن أبي صفرة الزدي العماني أكبر قائد في دولة بني أمية ‪ ،‬فعاركهم معارك شهد‬
‫بها التاريخ ‪ ،‬و ارتفع لها صوت داوٍ في العالم ‪ ،‬حتى ارتكب في حربهم اختلق الروايات ‪ ،‬و له في حربهم نوادر‬
‫من الدهاء دونها المؤرخون ‪ ،‬و طردهم من البصرة ‪ ،‬ورفعها عنهم بين الثريا و الثرى ‪ ،‬حتى أطلق عليها بصرة‬
‫المهلب ‪.‬‬

‫و لما كان هؤلء الخوراج من جملة المنكرين للتحكيم ‪ ،‬و كان الباضية ينكرون التحكيم خلفاً عن سلفاً أدمج‬
‫الباضية في [‪ ]308‬هؤلء بجامع إنكار التحكيم ‪ ،‬و أشيع فيهم ظلماً وعدواناً ‪ ،‬أذاعته السياسة الظالمة على‬
‫خيار أمة الجابة ؛ لقصد تشويه منهج القوم ‪ ،‬أخزى ال من أراد بأهل الحق سوءاً ‪.‬‬

‫و لقد صحت بين الباضية و هؤلء الخوارج فوارق عديدة معروفة ‪ ،‬ذكرها المؤرخون في كتبهم ‪ ،‬يطول بنا‬
‫ذكرها من أرادها فليرجع إليها ‪.‬‬

‫و فيما نقله العلمة إبراهيم محمد عبد الباقي من علماء الزهر عن أبي إسحاق أطفيش (‪ )5‬في تحقيق المقام‬
‫غنية لمن أراد في ‪ 252‬من كتابه الموسوم بعلم الحديث ‪.‬‬
‫==========================‬
‫(‪ )1‬نجدة بن عامر الحنفي (‪36‬هـ ‪69 -‬هـ) من بني حنيفة‪ ،‬رأس الفرقة النجدية‪ ،‬نسبة إليه‪ ،‬من الحرورية‪ ،‬من كبار أصحاب الثورات في صدر‬
‫السلم ‪ ،‬انفرد عن سائر الخوارج بآراء‪ ،‬كان أول أمره مع نافع بن الزرق‪ ،‬وفارقه لحداثه في مذهبه‪ ،‬ثم خرج مستقلً باليمامة ‪ .‬العلم (‪)8/10‬‬
‫(‪ )2‬عبدال بن صفار الصريمي التميمي (ت نحو ‪60‬هـ) رئيس الصفرية‪ ،‬من الخوارج‪ ،‬وفي صحة رياسته لعمر خلف طويل‪ .‬العلم (‪)4/93‬‬
‫(‪)3‬النعام ‪121 :‬‬
‫(‪)4‬لم أستطع إرجاعه إلى مصدره الصلي‪.‬‬
‫(‪ )5‬إبراهيم بن محمد بن أطفيش (‪ 1305‬هـ ‪ 1886‬م‪ 1395 /‬هـ ‪ 1965 -‬م) أبو إسحاق‪ ،‬عالم من بني يسجن‪ ،‬وأديب‪ ،‬ولد في قرية بني يسجن‬
‫بوادي ميزاب‪ ،‬وقرأ الفقه والنحو والتفسير على القطب‪ ،‬ثم انتقل إلى تونس وحضر دروس في جامع الزيتونة‪ ،‬شارك في الحركة الوطنية فأبعده‬
‫الفرنسيون‪ ،‬له عدة مؤلفات منها‪ :‬الدعاية إلى سبيل المؤمنين‪ ،‬عصمة النبياء‪.‬‬
‫معجم العلم الباضية(‪ ، )2/44‬العلم(‪)1/73‬‬

‫قال المام ‪ -‬رحمه ال‪: -‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫[الشرح ]‬

‫حجِيلِ ‪ ،‬و هو‬ ‫قوله و في حديث الحوض أراد به ما يسميه بعضهم حديث البقيع ‪ ،‬و عند آخرين حديث ال ُغ ّرةِ و التَ َ‬
‫ما رواه المام الربيع بن حبيب – رحمه ال– في المسند الصحيح ‪ ،‬و هو قوله – صلى ال عليه و آله وسلم –‬
‫سلَمُ عَلَ ْيكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنِينَ ‪ِ ،‬إنّا ِإنْ شَاءَ الُ بِكُمْ لَحِقُونَ ‪َ ،‬و َددْتُ أَنّي‬
‫[‪ ]309‬إذ خرج إلى البقيع ‪ ،‬فقال ‪ " :‬ال ّ‬
‫خوَانِي ا َلذِينَ َيأَتُونُ ِمنُ‬ ‫َرأَيْتُ إِخْوُانِي" قالوا ‪ :‬يا رسول ال ألسنا بإخوانك ؟‪ ،‬قال ‪َ " :‬بلْ أَنْ ُتمْ َأصْحَابِي ‪ ،‬وَ ِإنّما إِ ْ‬
‫علَى الحَ ْوضِ " قالوا ‪ :‬يا رسول ال كيف تعرف من يأتي بعدك من إخوانك ؟ قال ‪َ :‬أرَأَيْ ُتمْ لَوْ‬ ‫بَ ْعدِي ‪ ،‬وَ أَنَا فَرَطُ ُهمْ َ‬
‫خيْلٍ ُدهْم بُهْمٍ أَل يَ ْع ِرفُ خَ ْيَلهُ ؟" قالوا ‪ :‬بلى يا رسول ال ‪ ،‬قال ‪ ":‬فإِنّهُمْ يَأَتُونَ‬ ‫حجّ َلةٌ في َ‬ ‫غرّ مُ َ‬‫كَانَ ِلرَجُلٍ خَيْلٌ ُ‬
‫عنْ حَ ْوضِي َكمَا ُيذَادُ‬ ‫غرّا ُمحَجّلِينَ ِمنْ أَ َثرِ ال ُوضُوءِ ‪ ،‬و أَنَا َفرَطُهُمْ عَلَى الحَ ْوضِ ‪ ،‬و لَ ُيذَا َدنّ رِجَالٌ َ‬
‫يَوْمَ ال ِقيَا َمةِ ُ‬
‫البَعِيرُ الضّالّ ‪ ،‬فَُأنَادِيهِمْ أَلَ هَلُمّ ‪ ،‬فَيُقَالُ ‪ :‬إِنّهُمْ َقدْ َبدّلُوا بَ ْع َدكَ ‪ ،‬فَ َأقُولُ ‪َ :‬فسُحْقاً َفسُحْقاً " (‪ )1‬رواه الربيع عن أبي‬
‫عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة عن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪. -‬‬

‫ضحٌ في أن الناس ليسوا كلهم على الحق المبين ‪ ،‬لن هؤلء الذين يذادون عن الحوض كما يذاد‬ ‫فهذا َنصٌ وَا ِ‬
‫البعير الضال ظاهرهم من جملة إخوانه صلى ال عليه و آله وسلم؛ لنهم مسلمون فيناديهم رسول ال – صلى‬
‫ال عليه و آله وسلم ‪ -‬للورود فيحصل لهم من يطردهم عنه ؛ لنهم أحدثوا أحداثاً استوجبوا بها الطرد ‪ ،‬فلذلك‬
‫يقول لهم– صلى ال عليه و آله وسلم – " َفسُحْقاً َفسُحْقاً "‪ ،‬و المراد به الطرد و البعد ‪ ،‬وإن رسول ال – صلى‬
‫ا ل عليه وسلم – يتبرأ بين يدي ال عز و جل من كل محدث في الدين ‪ ،‬فإن الناس شهود على بعضهم البعض ‪،‬‬
‫لفَاقِ َوفِي أَن ُفسِهِمْ‬
‫وال شهيد على الكل ل تخفى عليه خافية ‪ ،‬و الخلق دليل على الحقّ‪ " .:‬سَ ُنرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ا ْ‬
‫حَتّى َيتَبَ ّينَ لَ ُهمْ أَ ّنهُ الْحَقّ " (‪. )2‬‬

‫و لما رأى رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – [‪ ]310‬الغرة و التحجيل في هؤلء الواردين عليه‬
‫الحوض ‪ ،‬و هم يذادون ناداهم مستدلٌ على أنهم من إخوانه بذلك ‪ ،‬إذ تلك صفة للمؤمنين رآها فيهم ‪ ،‬فظنهم‬
‫منهم ‪ ،‬و إذا هم من أهل الحداث الذين زاغوا عن طريق الحقّ ‪ ،‬و سلكوا طُرقاً أخرى تَ َف ّرقَتْ بهم ‪.‬‬

‫فالحداث التي عرضت هنا عارضتهم عن الجابة لرسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم‪ -‬لذلك لمّا أخبر عنهم‬
‫غرْتِهِمْ و تحجيلهم ‪ ،‬قال له رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم‬ ‫أنهم أحدثوا بعده أحداثاً خالفت مقتضى مفاد ُ‬
‫‪ ": -‬سُحْقاً " أي ُبعْداً لهم ؛ لنّ الحداث خصوصاً الباطلة التي ل يقتضيها الدّين ‪ ،‬و ل يقبلها اليمان ؛ فإنها ِب َدعٌ‬
‫‪ ،‬و كُلّ بدعةٍ ضلله ‪ ،‬وكل ضللةٍ في النّارِ ‪.‬‬

‫و لم يقل لهم رسول ال – صلى عليه و آله وسلم – أل هلم ‪ ،‬بعدما علم أحداثهم ‪ ،‬و ل قال لهم ‪ :‬أنا لكم شفيع ‪،‬‬
‫و هم من أهل ل إله إل ال ‪ ،‬و ل توجه إلى ال عز و جل فيهم بشيء ‪.‬‬

‫فافهم فإن المقام مقام خطر ‪ ،‬يهلك فيه كثير من النّاس ‪ ،‬فإن هؤلء ممن يقول ل إله إل ال ‪ ،‬و ظهرت لهم الغرّة‬
‫و التحجيل التي استدعاهم رسول ال – صلى ال عليه و سلم – من أجلها ظان من الحال الذي رآهم عليه أنهم‬
‫من أهل الورود للحوض ‪ ،‬و إذا هم من الذين ل مقام لهم مع أهل الحق ‪ ،‬لذلك قال فيهم ‪ " :‬بُعْداً َلهُمْ " ‪ ،‬و ل‬
‫يقول رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – لمسلم هو من أهل الحق ذلك المقال ‪ ،‬و لقد تباعد رسول ال –‬
‫صلى ال عليه وآله و سلم – منهم ولم يرجع إليهم ‪ ،‬و ل ارتضاهم ‪ ،‬و ل تشفع لهم ‪ ،‬كما تراه واضحاً ‪.‬‬

‫و هكذا تكون أحوال أهل الباطل عند ال ‪ ،‬و ل يخفى عليك ذلك بعد اتضاحه جلياً ‪ ،‬يدلك أن الرسول العظم و‬
‫النبي الكرم ل ينظر لهل الباطل ‪]311[.‬‬

‫ل يقال َأنّ هؤلء كفار ؛ لذلك دعا عليهم الرسول‪ -‬صلى ال عليه و آله وسلم‪ ، -‬فإن الكفار ل يحومون حول‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫حمى الحقّ ‪ ،‬ول يقربون من المؤمنين ‪ ،‬و ل سيما أن للكفار سيما سوء يعرفون بها ‪.‬‬

‫و هؤلء بخلف أولئك ‪ ،‬فلما علم منهم ما علم ابتعد عنهم بقوله ‪َ " :‬فسُحْقاً َفسُحْقاً "‪ ،‬أي أبعدهم ال من ورود‬
‫الحوض ‪.‬‬
‫و كذلك أيضا تنص آية المبايعة من سورة الفتح ‪ ،‬و هي قوله عز و جل ‪ِ " :‬إنّ اّلذِينَ ُيبَا ِيعُو َنكَ إِ ّنمَا يُبَايِعُونَ الَّ‬
‫عظِيمًا" (‪، )3‬‬ ‫جرًا َ‬ ‫سهِ َو َمنْ أَ ْوفَى ِبمَا عَا َهدَ عَلَ ْيهُ الَّ َفسَيُ ْؤتِيهِ أَ ْ‬
‫علَى نَ ْف ِ‬
‫َيدُ الِّ فَوْقَ أَ ْيدِيهِمْ َفمَن نّ َكثَ فَِإ ّنمَا يَنكُثُ َ‬
‫فقد ذكر ال البيعة ‪ ،‬و من يبايع فيوفي ‪ ،‬ومن ينكث بعد ذلك فإن نكثه عليه ‪ ،‬و من عاهد فنكث فإنما ينكث على‬
‫نفسه ‪ ،‬أي ل يعود نكثه إل عليه ‪ ،‬و ضرر نكثه من عمله يعود وباله على الناكث إجماعاً ‪.‬‬

‫و الية دليل على وجود من ينكث ‪ ،‬و ال يعاقب كل عامل بعمله ‪ ،‬و يجزي كل فاعل بفعله ‪.‬‬

‫قال جابر بن عبدال – رضي ال عنه – ‪ :‬بايعنا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – تحت الشجرة على‬
‫الموت ‪ ،‬و على أن ل نفر ‪ ،‬فما نكث منا أحد البيعة إل جد بن قيس و كان منافقاً ‪ ،‬اختبأ تحت إبط بعيره ولم يسر‬
‫مع القوم (‪. )4‬‬

‫و قرئ " إنما يبايعون ل " (‪ )5‬أي لجل ال ‪ ،‬و لوجهه تعالى ‪ ،‬و قرئ بضم الكاف و كسرها (‪. )6‬‬

‫و ل يخفى أن عقوبة النكث ذكرها ال ‪َ ،‬فدّلَتْ َأنّ بعض أهل الطاعة ل هم الذين ثبتوا على الحقّ ‪ ،‬وصبروا عليه‬
‫‪ ،‬و التزموا أمر ال [‪ ]312‬عز و جل ‪.‬‬

‫و الية دليل على أن ل عصمة لهم من الوقوع في مهاوى الضللة ‪ ،‬و هي أيضاً شاهدة بذلك ‪ ،‬و إذا كانت‬
‫العصمة انتفت عنهم فل جرم أن ال بالغ أمره ‪ ،‬و الية أيضا دليلٌ على جواز صدور الثام من العباد ‪ ،‬ومن تاب‬
‫من ذنبه فإن ال يغفره له جميعا ‪ ،‬و آيات القرآن شاهدة بذلك منطوقاً ومفهوماً ‪.‬‬
‫==================================‬
‫(‪ )1‬أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده‪ ،‬ص ‪ ، 37‬رقم ‪ ،43‬وأخرجه مسلم في ( ‪ -2‬كتاب الطهارة ‪ -12‬باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في‬
‫الوضوء) (‪ )1/218‬رقم ‪ )249( 39‬وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (‪ ،)6/449‬وأخرجه ابن ماجه في ( ‪ -37‬كتاب الزهد ‪ -36‬باب ذكر الحوض)‬
‫ص ‪ 628‬رقم ‪ ،4306‬وأخرجه مالك في الموطأ (‪ -2‬كتاب الطهارة –‪-6‬باب جامع الوضوء) ص ‪ 28‬رقم ‪ ،28‬وأخرجه أحمد في المسند (‪ )8/111‬رقم‬
‫‪ ،7980‬وأخرجه ابن خزيمة (‪ )1/6‬رقم ‪ ، 6‬وأخرجه أبو عوانة ( ‪ )1/122‬رقم ‪ ، 360‬وأخرجه أبو يعلي (‪ )11/387‬رقم ‪ ،6502‬وأخرجه البغوي‬
‫في شرح السنة (‪ )1/322‬رقم ‪ ،151‬وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير(‪ )23/297‬رقم ‪،661‬وأخرجه الروياني (‪ )2/192‬رقم ‪ ،1022‬وأخرجه ابن‬
‫أبي شيبة (‪ )7/455‬رقم ‪ ،37166‬وأخرجه البيهقي ( ‪ )4/131‬رقم ‪.7209‬‬
‫(‪ )2‬فصلت ‪. 53 :‬‬
‫(‪ )3‬الفتح‪10 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه مسلم في (‪-33‬كتاب المارة ‪ -18‬باب استحباب مبايعة المام الجيشي عند إرادة القتال) (‪ )3/1483‬رقم ‪ ،69‬وأخرجه الحميدي في مسنده‬
‫(‪ )2/537‬رقم ‪ ،1277‬وأخرجه أبو يعلي ( ‪ )3/420‬رقم ‪.1908‬‬
‫(‪ )5‬قراءة تمام بن العباس بن عبد المطلب‪ ،‬انظر معجم القراءات القرآنية (‪ )6/203‬ومعجم القراءات (‪.)9/47‬‬
‫(‪ )6‬قراءة زيد بن علي‪ ،‬انظر معجم القراءات القرآنية ( ‪ )6/203‬ومعجم القراءات (‪.)9/47‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و ل ريب ف ِإنّ العصمة للنبيين – عليهم الصلة و السلم – فقط ‪ ،‬و إن صدرت منهم المعاصي على غير اختيار‬
‫فللدليل على عجز البشر ‪ ،‬و ل يقرون عليها إجماعاً ‪ ،‬و إنما صدروها لحكمة هي ما أشرنا إليه ‪.‬‬

‫و لئل يظن ظَانّ أنهم معصومون عصمة مطلقة ‪ ،‬فيصفونهم بصفات اللوهية ‪ ،‬و إنما تقع منهم المعاصي على‬
‫ع ْزمًا " (‪. )1‬‬
‫جدْ َلهُ َ‬
‫جهة الغفلة ‪ ،‬و النسيان كما في آدم – عليه السلم – الي" َف َنسِيَ وََلمْ نَ ِ‬

‫و قد دَلّتْ آية المبايعة أيضا على أنه ليس كل المبايعين على الحقّ ‪ ،‬فإن فيهم من ظهر نكثه البيعة ‪ ،‬فظهر بذلك‬
‫نفاقه ‪ ،‬ولم يقل رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – أنه يشفع لهم ‪ ،‬و إنهم كإخوانه في الجنة ‪ ،‬بل هددهم‬
‫القرآن‪ ،‬و نعى إليهم فعلهم ذلك ‪.‬‬

‫حقّ ‪ ،‬و هم الذين ل يثبتون على أوامر ال ‪ ،‬و لول‬ ‫فالية و الحديث شاهدان على أن بعض المسلمين على غير َ‬
‫ذلك لما حَاجَ المرُ إلى ذكر النكث في البيعة ‪ ،‬وإعلن تهديده في القرآن و السنة ‪ ،‬و لكن لما عَِلمَ الُ من عباده‬
‫وقوع ذلك ‪ ،‬أشار إليه عز و جل وعلم منهم أنهم ل يستقيمون على شروط التكليف ‪.‬‬

‫فإن بعض الفرق السلمية بل أكثرها على الباطل ‪ ،‬لذلك حكم عليها رسول ال [‪ – ]313‬صلى ال عليه وآله و‬
‫ح َدةٌ نَاجِيةٌ " (‪. )2‬‬
‫سلم – بالهلك ‪ ،‬فقال ‪ " :‬كُلّهَا هَاِل َكةٌ إِلّ وَا ِ‬

‫و لم يقل كل من قال ‪ " :‬ل إله إل ال " مطلقا دخل كما رووا ‪ ،‬بل قال ‪ " :‬كلها هالكة " وفي رواية " كلها إلى‬
‫النار " ‪.‬‬

‫و قال تعالى ‪َ " :‬ولَ َترْ َكنُواْ إِلَى اّلذِينَ ظَ َلمُواْ َف َت َمسّكُمُ النّارُ " (‪ ، )3‬أي فتكونوا مثلهم من أهل النّار ‪ ،‬فَ ِإ ّ‬
‫ن‬
‫الظالمين في النّارِ بشهادة القرآن ‪ ،‬و كل من خالف نهج محمد – صلى ال عليه و آله وسلم – فهو إلى النّار ‪.‬‬

‫ص ْد ِقهِ ‪ ،‬و ُت ْعرِبُ عن مقتضاه ‪َ ،‬فدَلّ الحديث و القرآن‬


‫و حديث الفتراق واضح بآيات الكتاب العزيز ‪ ،‬التي َتحْكُمُ ِب ِ‬
‫َأنّ الثابتين على الحقّ هم الناجون عند ال عز و جل ‪ ،‬و أن غيرهم هم الذين تحت حكم المشيئة ‪ ،‬إِما أن يتوبوا‬
‫فيغفر ال لهم ‪ ،‬و ِإمّا َأنْ يصروا ويبقوا على عصيانهم فيموتوا به ‪.‬‬

‫صرّ على ذنبه مات عاصياً ‪ ،‬و َمنْ مات‬‫و هم الذين وقع النزاع فيهم بيننا و بين قومنا ‪ ،‬فنحن نقول َمنْ مَاتَ َم ِ‬
‫عاصياً مات هالكاً عند ربه ‪ ،‬و َمنْ مات تائباً فال يقبل التوبة عن عباده ‪ ،‬و يعفو عن السيئات ‪.‬‬

‫وقد صَحّتْ الدلة الصحيحة الصريحة بصدق ما نقول ‪ ،‬فكان معنى الية قول ل إله إل ال و الدخول به الجنة‬
‫مُقَيّداً بالوفاء بجميع الواجبات ‪ ،‬و أنت تدري أن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ل يتبرأ من المسلم‬
‫صحّ‬
‫بل يدعوه إلى الطاعة ل و يرغبه فيها ‪ ،‬و يحرص كل الحرص لن يكون مسلماً ‪ ،‬و إنما يتبرأ ال ممن َي ِ‬
‫معه باطله ‪ ،‬أل تراه يقول للواردين عليه الحوض من أهل الحداث " َفسُحْقاً َفسُحْقاً " ‪ ،‬وهؤلء كانوا مسلمين ‪،‬‬
‫عصَوْا ال بأحداثهم التي قارفوها ‪ ،‬و آثامهم التي ارتكبوها ‪ ،‬و عند ذلك يتبرأ [‪ ]314‬منهم رسول ال‬ ‫و لكنهم َ‬
‫شفّ عن غضبه – صلى ال عليه وآله وصحبه‬ ‫– صلى ال عليه و آله وسلم – بقوله ‪ " :‬سُحْقاً َلهُمْ " ‪ ،‬وهو َي ِ‬
‫صرَاطِ السّويّ الذي كانوا عليه ‪.‬‬ ‫وسلم‪ -‬عليهم ‪ ،‬حين عَِلمَ أنهم زاغوا عن ال ّ‬

‫شفّ من خللها لمن لم يثبت على بيعته ‪ ،‬إذ قال ال تعالى فيها‪َ " .:‬فمَن نّ َكثَ‬
‫و اعتبر آية المبايعة ‪ ،‬تَجد التهديد َي ِ‬
‫سهِ " (‪َ ، )4‬فدَلّ َأنّ منهم من يَنْ ُكثُ فلذلك وضع لهم ذلك التهديد في صورة الخبر على منهج‬ ‫فَإِ ّنمَا يَنكُثُ عَلَى نَ ْف ِ‬
‫حدّ ذاته ‪ ،‬و هل جزاء النّاكِثِ لبيعته إل العقاب على النكث كما علمت ‪ ،‬و فيها دليل على أن ليس‬ ‫الوعظ البليغ في َ‬
‫كل من قال ل إله إل ال محمد رسول ال على حق ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و البيعة عَ ْهدٌ من ال بينه و بين خلقه ‪ ،‬و نَ ْكثُ العهد من أكبر الكبائر عند ال عز و جل ‪ ،‬فمن نكث عهد ال فقد‬
‫هدم دينه ‪ ،‬ولن تنفعه ل إله إل ال وحدها مع تضيع العمل ‪ ،‬و هل القول دون العمل يفيد ؟‪ ،‬ل بل هو مقت لزم‪،‬‬
‫" كَ ُبرَ مَ ْقتًا عِندَ الِّ أَن تَقُولُوا مَا لَ تَفْ َعلُونَ " (‪. )5‬‬

‫صرّحَ ال فيها ِبَأنّ في المبايعين التقي و الوفي‬


‫و اعلم أن بيعة الرضوان ‪ ،‬أعظم بيعة بين أهل اليمان ‪ ،‬وقد َ‬
‫الذي بايع من صميم قلبه خالصاً مخلصاً ل عز و جل ‪ ،‬و إن فيهم الشقي الذي ينكث ول يفي بما عاهد عليه‬
‫ال ‪ ،‬فل غروى أن عصى ال سائر الناس ‪ ،‬و قد علم ال من الناس يوم خلقهم‪ ،‬بل و قبل خلقهم‪ ،‬أن منهم َمنْ‬
‫يعصيه ‪ ،‬و يكفره و ل يشكره ‪ ،‬و لعل باحثاً يقول ‪ :‬لما خلق ال خلقا يعصونه و يكفرونه ؟ و يكونون له أعداء‬
‫و أضداداً ‪ ،‬و خصوماً و أنداداً ‪.‬‬

‫و الجواب عن هذا واضح إِلّ َأنّ َلهُ مقام غير هذا ‪ ،‬و أن ال حكيم يضع الشياء [‪ ]315‬مواضعها ‪ ،‬و يرتب‬
‫خلَلَ‪ ،‬و ل بُطْلَ‪ ،‬و ل َفسَادَ‬ ‫السباب على المسببات ‪ ،‬و يحكم ال ما يريد في قضايا الكون بحكمته الباهرة ‪ ،‬فل َ‬
‫عمّا يَفْعَلُ َوهُمْ ُيسْأَلُونَ " (‪ ، )6‬و ل في خلقه الخلق حكمة بل حكم باهرة ‪ ،‬و‬ ‫في صنعه عز و جل ‪ " :‬لَ ُيسْأَلُ َ‬
‫أسرار ظاهرة " و لو لم تعصوا ال فتستغفروه فيغفر لكم لتى ال بقوم يعصونه فيستغفرونه فيغفر لهم " ‪ " ،‬لَ‬
‫خرِ يُوَادّونَ َمنْ حَادّ الَّ َو َرسُو َلهُ َولَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَ ُهمْ أَوْ‬‫جدُ قَ ْومًا يُ ْؤمِنُونَ بِالِّ وَالْ َيوْمِ الْ ِ‬
‫تَ ِ‬
‫عشِيرَتَهُمْ ‪ )7( " ...‬الية‪.‬‬ ‫َ‬

‫حدّ الحدود ‪ ،‬و‬


‫واعلم أن ال بنى مملكة الحياة ‪ ،‬و أعطى حرية العقل ِلكُلّ َن ْفسٍ ‪ ،‬و أمر و نهى عند ذلك ‪ ،‬و َ‬
‫ضعَ القيود ‪ ،‬و أوضح حقوق المعبود تعالى ‪ ،‬في حرية صحيحة حتى ل يقع على أي نفس إجباراً فتكون‬ ‫َو َ‬
‫مظلومة ‪.‬‬

‫و رَتّبَ الثواب و العقاب على المتثال و عكسه ‪ ،‬و قضى بين الكل بالعدل على الصل الذي خلق عليه الخلق بادئ‬
‫بدء ‪ ،‬و هكذا تجري العمال ‪.‬‬

‫و إذا اعتبرت تلك الية التي تَ ُنصّ على َأنّ المؤمنين ل يُوَادّون من حَادّ ال و رسوله كيف كانوا و أيا كانوا في‬
‫هذا الكون المترامي الطراف ‪ ،‬تهتدي به إلى المنهج الحقّ الذي أراده ال من عبادة ‪ ،‬و ترى فاصلً سماوياً بين‬
‫أهل الرّشد في الدّين و أهل الغواية من المسلمين ‪ ،‬فإن من وَادّ المشركين لم ينفعه إيمانه ‪ ،‬و الظاهر لم يترك من‬
‫العمال المطلوبة إل واحدة و هي معاداة المشركين فقط مع التزامه كل ما شرع ال عز و جل من العمال ‪.‬‬

‫فانظروا معاشر المسلمين في قواعد الدين ف ِإنّ فيها الحقّ المبينُ ‪ ،‬و الدليلُ المستبينُ ‪ ،‬ف ِإنّ مَوَا ّدةَ المشركين‬
‫واحدة من منهياته عز و جل ‪ ،‬و تراه [‪ ]316‬يعلق بها هدم اليمان ‪ ،‬فإن النفي في أول الية أو النهي على أحد‬
‫الوجهين أي ليس من صفات المؤمنين ‪ ،‬أي من كان مؤمناً ل تجده يُوَادّ المشركين أصلً ‪ ،‬و إن من وَا ّدهُمْ فقد‬
‫ألقى بإيمانه ‪ ،‬و نأى عن الحقّ مكاناً قصياً ‪ ،‬و زاغ عن الصراط المستقيم ‪.‬‬

‫و قوله فيها لو كانوا آبائهم فإن المذكورين أقارب النسان ‪ ،‬و طبعاً تكون مودتهم ثابتة ‪ ،‬و موالتهم راسخة ‪،‬‬
‫وإذا خرجوا عن دائرة الحقّ وجبت مقاطعتهم ‪ ،‬و خرجت موالتهم ‪ ،‬و إذا كان هذا في القارب فما ظنك بغيره‬
‫من الباعد ‪.‬‬

‫و ل در إبراهيم الكريم – صلى ال عليه و على سيدنا محمد و آله وسلم – إذ تبرأ من أبيه ‪ -‬الذي أمر ال عباده‬
‫باحترام الباء ‪ ، -‬وإذا بإبراهيم يعلن البراءة منه كما علمت ذلك في النص الكريم عن الرب العظيم ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و لقد نهج هذا المنهج كثير من الناس في المسلمين ‪ ،‬و عليه فل قرابة إِلّ مع الحقّ ‪ ،‬كما ل بعد إل مع الباطل ‪.‬‬

‫وقول المام – رحمه ال– جاز أن يُؤ ّثمُوا بتشديد الثاء المثلثة ‪ ،‬أي جاز أن ينسب إليهم الثم ‪ ،‬لنه ل عصمة إل‬
‫للنبياء و المرسلين ‪ ،‬فغير مستغرب أن يضاف الثم إلى غير الموفين ببيعتهم من المسلمين ‪ ،‬فليس كل أهل بيعة‬
‫ع ِملُواْ " (‪ ، )8‬و لو‬
‫الرضوان ثبتوا على بيعتهم بشهادة تلك الية الناصة على حكم الناكث " َولِكُلّ دَرَجَاتٌ ّممّا َ‬
‫علم [ ال أنهم] كلهم سيثبتون على بيعتهم لما ذكر النكث في سياق القضية ‪.‬‬

‫[ و ليس المقام ] مقام مدح فإن الية تعرب عن رضى ال عنهم ‪ ،‬و ل شرف [ أشرف من ذلك ] قطعاً لن‬
‫الرضوان من ال موجب للجنة ‪ ،‬و ليس بعدها شرف للنسان‪.‬‬

‫و الحمد ال ‪ ،‬نسأل ال أن يبلغنا إياها ‪ ،‬و يرضى عنا فيها ‪ ،‬و ال ولي كل شيء ‪]317[ .‬‬
‫==================================‬
‫اله(‪ )1‬طه‪115:‬‬
‫(‪ )2‬سيأتي تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )3‬هود ‪.113 :‬‬
‫(‪ )4‬الفتح‪.3 :‬‬
‫(‪ )5‬الصف ‪.3 :‬‬
‫(‪ )6‬النبياء ‪. 23 :‬‬
‫(‪ )7‬المجادلة ‪. 22 :‬‬
‫(‪ )8‬النعام ‪. 132 :‬‬

‫الحكم بالظاهر على أهل الحداث من قضايا التكليف‬

‫قال المام – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫قوله ‪ :‬و حكمنا ‪ ...‬إلخ معطوف على قوله ومن يتب منهم فذاك تغفر ‪.‬‬

‫و المعنى أن حكمنا بالعصيان على أهل الثام ما داموا على جرائمهم فهم عصاة تَجِبُ البراءة منهم ‪ ،‬و جعلهم في‬
‫عداد أهل العقوبات واجب حسب الظاهر ‪ ،‬كما أن أهل الطاعات في الظاهر محكوم له بأحكام أهل الصلح ‪،‬‬
‫فيتولون و يمنحون حقوق أهل اليمان ‪ ،‬و لو كانوا في الباطن من أهل السوء عند ال ؛ َلنّ ال كَلّفَنَا بإتباع‬
‫الظاهر ‪ ،‬و العمل بمقتضاه ‪.‬‬

‫فلهذا ترانا نحكم على مرتكب المعاصي بأحكام أهل الجرائم عملً بأوامر ال عز و جل في كتابه ‪ ،‬و ل يخفى‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫حكْمَ بالظاهر هو واجب المسلمين ‪َ ،‬لنّ ال َكلّف عباده بظاهر ما ب َانَ لَهُمْ ‪ ،‬ل بما غَابَ عنهم ‪.‬‬
‫عليك [‪َ ]318‬أنّ ال ُ‬

‫صرّا على باطل مات هالكاً بِ َنصّ القرآن‪ ،‬و من تاب تاب ال عليه‪ ،‬و ِإنّ جَلّ ذَ ْن ُبهُ؛ فَ ِإنّ ال ل يتعاظمه‬‫فمن مات ُم ِ‬
‫ذنب عبده و ِإنّ جَلّ‪.‬‬

‫و الحكم بالظاهر هو واجب العبد المكلف‪ ،‬و لو كان المذنب عند ال من أهل السعادة‪ ،‬فالحكم بالظاهر واجب في‬
‫حقه‪ ،‬و إل عُطّلَتْ شريعة ال عز و جل ‪ ،‬و تركت أوامر السلم ‪ ،‬و ل يستبعد الحكم بالعصيان فيمن تظاهر‬
‫بالجرائم و الثام ‪ ،‬مع العلم بأنه ل يموت إل تائباً منها ‪ ،‬فيكون لكل مقام حكمه ‪ ،‬و لكل حاكم علمه ‪.‬‬

‫سرَقَ أمر ال بقطع يده تنفيذاً لحكمه تعالى فيه في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬و من الجائز أن يموت طائعاً‬
‫أل ترى أن َمنْ َ‬
‫مسلماً مخلصاً‪ ،‬فينزله ال عز وعل في عليين لعمال صالحة خُتِمَ له بها‪ ،‬و كذلك جلد الزاني و رجمه‪ ،‬فإن‬
‫المعصية ل تمنع من الطاعة‪.‬‬

‫ألست تعلم أن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – قال في الزانية التي أقام عليه الحد‪ ،‬لما عيبت عنده‬
‫سمَتْ عَلَى َأهْلِ ال َمدِي َنةِ لَ َوسِ َعتُهُمْ " (‪ ، )1‬و في رواية " لَوْ تَابَهَا‬ ‫بفعلها القبيح‪ ،‬قال‪ " :‬لَ َقدْ تَابَتْ تَ ْو َبةً َلوْ ُق ِ‬
‫حبُ مَ ْكسٍ لَ َوسِعَ َتهُ " (‪ )2‬أو كما قال رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬فإقامة الحدود ل تنافي الفوز‬ ‫صَا ِ‬
‫للمحدود ‪ ،‬فإن أحكام ال عز و جل ل تتبدل ‪ ،‬و حكمته ل تتغير ‪ ،‬لن الذنوب ل تكون إل من المكلفين ‪ ،‬و إن‬
‫المغفرة ل تكون إل للعاصين ‪ ،‬فلو لم توجد العصاة لم توجد المغفرة ‪َ " :‬وإِنّي لَغَفّارٌ [‪ّ ]319‬لمَن تَابَ " (‪" ، )3‬‬
‫ح َمةِ الِّ ِإنّ الَّ يَغْ ِفرُ‬
‫علَى أَن ُفسِهِمْ لَ َتقْنَطُوا مِن رّ ْ‬
‫سرَفُوا َ‬
‫عبَادِيَ اّلذِينَ َأ ْ‬
‫َوأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ " (‪ " ، )4‬قُلْ يَا ِ‬
‫جمِيعًا " (‪ ، )5‬في أمثالهما من اليات في الكتاب العزيز ‪.‬‬ ‫الذّنُوبَ َ‬

‫عزّ و جَلّ ‪ -‬في هذه الحياة الدنيا على عباد ال ؛ إن قارفوا‬


‫و على كل حال إنّا مكلفون بإقامة حدود الِ _ َ‬
‫مقتضها ‪ ،‬و إل ضللنا إذا و ما كُنّا من المهتدين ‪ ،‬ل يقال إن أولياء ا ل ل يعصون فيحدون ‪ ،‬بل نقول كل ما يقع‬
‫عزّ وعل ‪ ،‬و‬‫في الكون لحكمة ‪ ،‬و ليس في شيء من ذلك عبث ‪ ،‬و كل أفعاله تعالى تقع على مقتضى حكمته َ‬
‫للدنيا أحكام تخالف أحكام الخرة ‪.‬‬

‫انظر َمنْ هم المستغفرون‪ ،‬و من هم المغفور لهم‪ ،‬و أين مصيرهم‪ ،‬و الدنيا دار عمل‪ ،‬و الخرة دار جزاء‪ ،‬فهما‬
‫ضرّتَانِ مختلفتا الحكام‪.‬‬
‫َ‬

‫وإن التوب يغسل العبد من الذنب‪ ،‬و إن التائب من ذنبه كمن ل ذنب له‪ ،‬و ال أسرع لقبول توبة العبد من السيل‬
‫في إنحداره من أعلى إلى أسفل‪.‬‬

‫ح ّمدٌ َي ّدهَا " (‪)6‬‬


‫طعَ مُ َ‬
‫ح ّمدٍ لَقَ َ‬
‫ط َمةُ بنتُ مُ َ‬
‫ولقد قال رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ " :-‬وَ الِ لَوْ سَ َرقَتْ فَا ِ‬
‫عزّهَا‪ -‬حاشاها عن السرقة‪ ،‬و لكن َمثّلَ بها رسـول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – من‬ ‫و هي ‪ -‬صانها ال و َ‬
‫حيـث أنها عزيزة عنده – رضي ال عنها ‪. -‬‬

‫و إذا كانت الحال كذلك فمن باب أولى من كان أبعد‪ ،‬و المراد أن أحكام الدنيا جارية على ظاهرها في كُلّ أحدٍ ِمنِ‬
‫النّاسِ‪ ،‬و كان ذلك على الفرض و التقدير أن لو أمكن أن تسرق ابنته [‪ – ]320‬عليه الصلة والسلم – و هي‬
‫– رضي ال عنها‪ -‬عزيزةٌ عنده‪ ،‬و هو يعلم أنها ل تسرق – أجارها ال ‪ ،-‬و لو سرقت لوجب تنفيذ الحد فيها‬
‫كغيرها‪ ،‬ل يحميها منه كونها ابنة رسول ال – صلى ال عليه و سلم – عملً بظاهر التكليف‪.‬‬

‫و لقد رمى المسلمون عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها – يوم الجمل‪ ،‬إذ خرجت على المام العدل إذ ذاك‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫علي بن أبي طالب‪ ،‬حتى صار هودجها كشعر القنفذ من السهام و الرماح‪ ،‬و هم يعلمون أنها زوجة رسول ال –‬
‫صلى ال عليه وآله وسلم – في الجنة‪ ،‬فهي من أهل الولية عندهم بالجماع‪ ،‬و لكن لم تمنعهم وليتها من تنفيذ‬
‫حكم ال فيها‪ ،‬حسب الظاهر‪.‬‬

‫و حال وليتها ل ينافي ظاهر ما وقعت فيه‪ ،‬ويبتلى المرء في هذه الحياة الدنيا ثم يتراجع عندما ينتبه لما وقد‬
‫فيه‪ ،‬فيرى أنه المخطئ‪ ،‬و حكم الظاهر جار على طريقه فيمن ابتلي به مهما كان و من كان‪.‬‬

‫و لقد رماها عمار بن ياسر – رضي ال عنه – و هو يقول‪ " :‬إني لعلم أنك زوجة رسول ال – صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم – في الخرة‪ ،‬كما أنك زوجته في الدنيا‪ ،‬ولكن أمرنا بأحكام ل بد منها‪ ،‬و من القيام بها “ (‪. )7‬‬

‫صرِيحة تبلغ حد التواتر من طرق مختلفة‪ ،‬ذكرها العلماء في كتبهم‪ ،‬و لكن من‬ ‫و لقد وردت فيها أحاديث صحيحة َ‬
‫خ َدعُهَا ِب َدعْوَى أنك أم المؤمنين‪،‬‬
‫حيث هي تمشي أيضا على ظاهر ما بان لها من أحوال دنيها‪ ،‬و جاءها َمنْ َي ْ‬
‫وكلهم يحترمونك بسبب كونك زوجة النبي – صلى ال عليه و سلم ‪ ، -‬و كون المسلمين بمنزلة البناء لك ‪ ،‬و‬
‫غ َرضُ المختدع لها أن يتظاهر [‬ ‫عمّا هُمْ فيه الن ‪ ،‬و كان َ‬ ‫هم يقتتلون أما يجب عليك أن تقومي بينهم فيرجعوا َ‬
‫‪ ]321‬بكونها معه ‪ ،‬فتعلوا حجته ‪ ،‬و ينضم إليه من الناس َمنْ يرى أم المؤمنين معه ‪.‬‬

‫و كان خدعتها لتصلح الحال بين المسلمين‪ ،‬فِإنّها أمهم بِ َنصّ الكتاب والسنة‪ ،‬و إن المسلمين ل يخالفونها في‬
‫حرّكُوهَا فتحركت‪ ،‬و كانت‬
‫أمر‪ ،‬فتحقن الدماء‪ ،‬و ترفع العداء‪ ،‬و تقطع شأفة الخلف بين المسلمين‪ ،‬و بمثل هذا َ‬
‫حركتها ل ل غير‪ ،‬و هم في باطن المر يرومون التوصل بها إلى أغراضهم الشخصية‪ ،‬و أعمالهم الخصوصية‪،‬‬
‫فإنه إذا كانت في جانب قويت شوكة ذلك الجانب كما قلنا‪.‬‬

‫خيّلُ إلى الفريق الثاني أنه ُمبْطِلٌ‪ ،‬و أنه محجوجٌ بها‪ ،‬و مغلوبٌ لديها ؛ لنه ل يقاتل أمه‪ ،‬و ل يخالفها‪ ،‬ومنزلة‬
‫فَيُ ْ‬
‫رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – قد ألبستها تاج الجلل‪ ،‬و ألقت عليها رداء العز والشرف ‪ ،‬فهي بذلك‬
‫تحمل علم التوقير من المسلمين ؛ فيتوصل بها الطالب – و الحال هذا – إلى غرضه ‪ ،‬وهذا أمر بديهي في البشر‬
‫سائر الجيال ‪ ،‬أن الناس يتقوون بذي شرف يكون في جانبهم ‪ ،‬و بذلك يتحصل الطالب على أوفى المطالب ‪.‬‬

‫عةٌ ‪ ،‬و هذه من أدهى خدائع الحرب في ذلك الوقت ‪ ،‬و لكل وقت سياسة بحسب المناسبات ‪ ،‬و لكن‬ ‫خ ْد َ‬
‫و الحرب ُ‬
‫قابلها المسلمون الذين هم أعمدة الدّين ‪ ،‬و أركان الحقّ ‪ ،‬الذين يدرون المقاصد من نفس الوسائل ‪ ،‬و يفهمون‬
‫المرامي قبل وجود الرامي ‪ ،‬و فعلوا معها ما وجب عليهم بحكم الظاهر ‪ ،‬وعارضوها بالدليل الشاهر ‪ ،‬و لم يقفوا‬
‫بين يديها حائرين ‪ ،‬و ناشدوها الحّق و الدّين حتى اقتنعت ‪ ،‬و الحقّ إذا قام به انهار بين يديه كل عظيم ‪ ،‬و‬
‫عندما عرفت أنها على خطأ من أمرها ‪ ،‬رجعت عما كانت عليه حال خروجها ‪ ]322[ ،‬و هي سيدةٌ عظيمةٌ في‬
‫ص َدرَ منها‬
‫السلم ‪ ،‬وقد تابت عَلَناً حين علمت أنها مخطئة ‪ ،‬و رجعت تائبة آيبة نادمة متلومة متأسفة على ما َ‬
‫غ ّرهَا ‪ ،‬و أهل الحقّ إذا عرفوه سرعان ما انقادوا له ‪ ،‬و تمسكوا به ‪ ،‬و هي إذ ذاك‬‫من الخروج ‪ ،‬عاتبة على َمنْ َ‬
‫باكية حزينة على فعلها ‪ ،‬متأوهة من فعل المختدعين لها ‪.‬‬
‫==================‬
‫(‪ - )1‬أخرجه مسلم في(‪- 29‬كتاب الحدود ‪ -5‬باب رجم الثيب في الزنى ) (‪ )1324/3‬رقم ‪ )1696( 24‬وأخرجه الترمذي في (‪ – 15‬كتاب الحدود ‪9‬‬
‫– باب تربص الرجم بالحبلى متى تضع ) (‪ )42/4‬رقم ‪ ،1435‬وأخرجه النسائي في (‪– 21‬كتاب الجنائز ‪ – 64‬باب الصلة على المرجوم ) (‪)63/4‬‬
‫رقم ‪ ،957‬وأخرجه أب داود في (‪– 37‬كتاب الحدود ‪ – 24‬باب في المرأة التي أمر النبي برجمها من جهينة ) ص ‪ 625‬رقم ‪ ،4440‬وأخرجه‬
‫الدارمي في ( ‪ – 13‬كتاب الحدود ‪ – 17‬باب الحامل إذا اعترفت بالزنى ) (‪ )148/2‬رقم ‪ ،2325‬وأخرجه الدار قطني (‪ )81/3‬رقم ‪ ،3135‬وأخرجه‬
‫أحمد في المسند (‪ )85/15‬رقم ‪ ،19747‬وأخرجه أبو عوانه رقم ‪ 1287‬و ‪ 6288‬وأخرجه ابن حبان (‪ )201/10‬رقم ‪ ،4403‬وأخرجه البيهقي في‬
‫السنن الكبرى ( ‪ )379/8‬رقم ‪ ،16951‬وأخرجه الطيالسي في مسنده (‪ )114/1‬رقم ‪ 848‬وأخرجه الروياني (‪ )117/1‬رقم ‪104‬‬
‫(‪ ) 2‬ـ أخرجه مسلم في ( ‪ 29‬ـ كتاب التوحيد ‪ 5‬ـ باب رجم الثيب في الزنى ) ( ‪ ) 1323 / 3‬رقم ‪ ،23‬وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( ‪) 379/ 8‬‬
‫رقم ‪.16953‬‬
‫(‪ )3‬ـ طه‪.82 :‬‬
‫(‪ - )4‬البقرة‪.160 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ - )5‬الزمر‪.53 :‬‬
‫(‪ - )6‬سبق تخريجه ‪.‬‬
‫(‪ - )7‬أخرجه البخاري بمعناه في (‪– 92‬كتاب الفتن ‪ – 18‬باب ) (‪ )344/ 4‬رقم ‪ 7100‬و ‪7101‬‬

‫وقضية الحَ ْوأَب (‪ )1‬حجة واضحة عضت معها على أصابع الندم حتى قامت في وجهها تلك الحجة الفاجرة ‪ ،‬و‬
‫الصفقة الخاسرة ‪ ،‬فحلفت لها أنها الجوأب بالجيم بدل الحاء المهملة ‪ ،‬و المغرور من غررتموه ‪.‬‬

‫والعجب أن مثل هذا المر يقع من رجال شاهدوا الوحي ‪ ،‬وعاصروا النبوة ‪ ،‬و استضاءوا بنورها ‪ ،‬و عرفوا في‬
‫العالم بشرفها ‪ ،‬و ينسون ذلك كله ‪ ،‬حتى تدعوهم النفوس المغرورة إلى خلق أكاذيب تأخذ بهم الهواء إلى أن‬
‫يجنحوا إليها ‪.‬‬

‫فيا للسف على مثل هؤلء الرجال ‪ ،‬الذين عاشوا تحت ظل النبوة ‪ ،‬و رأوا و سمعوا ‪ ،‬و إن ذلك لعظيم في الدّين‬
‫يقدم عليه رجال مؤمنون ‪ ،‬فإنا ل و إنا إليه راجعون ‪ ،‬فل بد من الباطل من تأثير ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬

‫ِإنّ أمة شاهدت رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و مشت تحت رايته ‪ ،‬وَ تَنَ ّورَتْ بأنوار شريعته ‪,‬‬
‫تقترف هذه الجرائم الكبرى في سبيل رئاسة دنيوية ‪ ،‬و أغراض ما هي إل خيالت تترآئ كالسراب في القِي َعةِ (‬
‫‪ ، )3‬والظل الزائل بسرعة ‪ ،‬إن النفوس المغترة ترتكب عظائم المور و ل تبالي ‪.‬‬

‫و ل ريب ف ِإنّ أحوال الصحابة [‪ ]323‬تعطي الناس دروساً ‪ ،‬و تكون أساساً يحتذيه التي بعدهم ‪ ،‬و يحتج به من‬
‫تعلق بالحقّ ‪ ،‬و من نزلت عليه النوازل البشرية ‪ ،‬فليستعرض أحوال الصحابة يجد معهم كل ما يقابله في عهده ‪،‬‬
‫و ليعتبر العاقل بالجاهل ‪ ،‬و ليكن مع الحقّ ِإنْ رأى الباطل ‪ ،‬فإنه ليس من المستحيل انتحال المصلح أحوال َمنْ‬
‫طَ َلحَ ‪ ،‬و كذا العكس ‪.‬‬

‫ح ّرةِ ‪ ،‬لما تخاصم هو و الزبير بن العوام ‪ ،‬لما رأى‬‫شرَاجِ ال َ‬


‫سيْلِ ِ‬
‫و أعجب من ذلك ما قاله أنصاري في قضية َ‬
‫رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – بخلقه العظيم المطبوع عليه ‪ ،‬الرفق بين الخصمين ‪ ،‬فقال ‪ ":‬اسْقِ يَا‬
‫زُبَ ْيرُ ‪ ،‬ثُمّ أَ ْرسِلْ الم َاءَ إِلى جَا ِركَ " ‪ ،‬فقال النصاري ‪ :‬حكم له لن كان ابن عمته ‪ ،‬و كان الزبير أمه بنت‬
‫حبّ تقاربها و توادها و‬ ‫عبدالمطلب وهي صفية يعرفها كل أحد ‪ ،‬فحكم له لكونه ابن عمته ‪ ،‬ل لكونه رفيقاً بأمته يُ ِ‬
‫تراحمها ‪.‬‬

‫و لم ينظر هذا القائل إلى مقام رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و أن الطعن فيه يوجب قتل الطاعن ‪،‬‬
‫لن الطعن فيه صلى ال عليه و سلم كفر يحل قتل صاحبه إجماعاً ‪ ،‬و من طعن في أحكامه فقد طعن في أحكام‬
‫ال عز و جل ‪ ،‬فهذا أعظم معتبر لولياء المور ‪ ،‬الذين يلقون من الناس ما يسؤهم في سبيل الحقّ ‪ ،‬و‬
‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬
‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫يسمعون منهم ما ُي َكدّرُ عليهم صفو اليمان ‪ ،‬و ُينَ ْغصّ عليهم عيش الحياة بين الخوان و العوان ‪ ،‬و بذلك أيضا‬
‫عصَفَتْ‬
‫تعظم منزلة القائم بذلك عند ال ‪ ،‬و يبلغ في أهل الزَ ْيغِ مُنَاهُ ‪ ،‬و الخلق الجميل ل يتغير في أهله ‪ ،‬و إن َ‬
‫بهم زعازع الهواء ‪ ،‬و اليمان نور يهدي به ال من اتبع رضوانه سُبُلَ السّلم ‪ ،‬و يكفيهم عن النزعات‬
‫الشيطانية [‪ ]324‬التي ل تزال داء عضال في بعض الرجال ‪.‬‬

‫والمسلم أخو المسلم ل يظلمه ول يخذله ‪ ،‬و ل يترفع عليه و ل ينتقصه ‪ ،‬و إذا صادف مثل هذه الحوال التي‬
‫تهز أركان حياته ‪ ،‬و تزلزل دعائم إيمانه ‪ ،‬يتلقها بجأش ساكن مطمئن ‪ ،‬و يقبلها بصدر رحب ‪ ،‬إذا حَلّتْ به‬
‫وجدته ل غاية له ‪.‬‬

‫و الحكم بالظاهر َأ ْمرٌ تكليفي ل خِ َيرَة لحدٍ فيه ‪ ،‬فعمر بن الخطاب – رحمه ال– يقيم الحدود على بنيه ‪ ،‬و يقيمها‬
‫على أقاربه و ذويه ‪ ،‬و ل يتعلل عندها بأي عِّلةٍ ‪ ،‬و كذلك عمل الصحابة – رضوان ال عليهم – و قد قتلوا‬
‫عثمان بن عفان إمام المسلمين ‪ ،‬و من أخيار الصحابة و أعيانهم ‪ ،‬و القاتلون له كذلك حين رأوه زاغ عن منهج‬
‫الحقّ ‪ ،‬و سلك سبلً ل َيحِقّ له سلوكها الشرع ‪ ،‬و قد تركوا علياً حين ترك إمامته في أيدي الرجال يتلعبون بها‬
‫‪ ،‬و َرضِيَ أن يكون أنظار الحكمين ‪ ،‬و المسلمون معه يؤيدونه ‪ ،‬و قد حَ َكمَ القرآنُ في عدوه ‪ ،‬فترك حُ ْكمَ القرآن‬
‫حقّ الطاعة بحسب الحكم بالظاهر الذي كَلّفَ ُهمْ ال به ‪ ،‬و خرجوا‬ ‫و رضي بحكم فلن و فلن ‪ ،‬وإذ ذاك لم يروا له َ‬
‫عنه رافضين لعمله ‪ ،‬إتباعاً للدليل المقتضي لذلك الوارد عن صاحب الشرع ‪ ،‬و تبعاً للواجب في الدّين ‪ ،‬و هو‬
‫من الجائز أن يكون مع ال في أعلى عليين و مع الشهداء المؤمنين ‪.‬‬

‫وعلى هذا كان منهج المؤمنين في قضايا الدّين ‪ ،‬في الكبير والصغير ‪ ،‬واليسر والخطير ‪ ،‬و المير والوزير ‪ ،‬ل‬
‫تأخذهم في ال لومة لئم ‪.‬‬

‫س ْ‬
‫ت‬ ‫ثم ظهرت بعد ذلك أناس أشار إليهم – رحمه ال– بقوله ‪ " :‬وَظَ َهرَتْ ِمنْ بَ ْعدِ ذَا أُنَاس ‪ " ....‬البيت ‪ ،‬اْلتَ َب َ‬
‫عليهم المور ‪ ،‬وجَ ِهلُوا [‪ ]325‬الصول ‪ ،‬و لم َتصِلْ إلى إدراك الحقائق منهم العقول ‪ ،‬و رأوا أن هؤلء كلهم‬
‫صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪ ، -‬و كلهم أهل فضل وعلم ‪ ،‬و الرسول – عليه الصلة والسلم‬
‫– يقول فيهم " َأصْحَابِي َأصْحَابِي " ‪ " ،‬و إِنّ ُهمْ كالنّجُوم ِبأَيِهّمْ اْق َتدَيْتُمْ اْه َتدَيْ ُتمْ " (‪ )4‬في أمثالها من الحاديث‬
‫الدالة على فضلهم ‪ ،‬و علو مقامهم ‪ ،‬وكيف تصدر منهم هذه الفعال المخالفة لمقتضى مقامهم ‪ ،‬و كيف تضاف‬
‫عمّهُمْ َمدْحُ الكتاب و السنة ‪ ،‬فعظمت عليهم بذلك المحنة ‪ ،‬و اختلط عليهم الحال ‪ ،‬حتى‬ ‫إليهم تلك العمال ‪ ،‬وقد َ‬
‫أن بعضهم يعتقد لهم العصمة ‪ ،‬و يرى مقامهم أجل من أن يتكلم فيه أحدٌ مهما كان ‪.‬‬

‫فلم يُ َف ّرقُوا بين الصحيح و السقيم ‪ ،‬و المُعْوَجّ والمستقيم ‪ ،‬و لم يقدروا على فصل الخطاب في تلك القضايا ‪ ،‬و لم‬
‫يزالوا في لجة تلك البلية ‪ ،‬حتى اعتمدوا على أنهم كلهم أولياء محقون ‪ ،‬و أتقياء مجتهدون ‪ ،‬و ل سلف لهم‬
‫على هذا حتى يقلدوهم فيه ‪ ،‬ويعتمدون على ما جاء عنهم فيه ‪.‬‬

‫فعلى كل حال إنْ َمنْ َوفّى ببيعته ‪ ،‬وقام بمقتضى واجب دينه و شريعته كان ولياً لم تتغير حاله ‪ ،‬و لم ُت ْر َفضْ‬
‫جرَ عليه َوجَبَ أن يُ ْنزَلَ منزلته التي أنزل نفسه فيها ‪ ،‬و يعامل معاملة المقترف حتى‬
‫أعماله ‪ ،‬و أما َمنْ فَعَلَ ما حُ ِ‬
‫يتوب ‪ ،‬ف ِإنّ الحقّ أكبر من كل كبير ‪ ،‬و أوجب أن يتبع ‪ ،‬و ل عصمة إل للنبياء – عليهم الصلة و السلم ‪. -‬‬

‫وعلى كل من اقترف مأثماً أن يرجع و يتوب إلى ال مما أتاه ‪ ،‬و إلّ فهو كغيره ‪ ،‬و ل فرق من جهة الحقّ ‪ ،‬و‬
‫الصحابي إذا أجرم فهو كغيره بحكم جرمه ل يخصص بشيء دون سواه‪.‬‬

‫ولول ذلك لما قطع رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و سلم ‪ ]326[ -‬و جَ َلدَ و رَجَمَ الزناة ‪ ،‬و هم من الصحابة ‪ ،‬و‬
‫حكم السلم شامل لهم ‪ ،‬و العدل بين المم أمر أوجبه العقل ‪ ،‬فكيف بالنقل ‪ ،‬و ال يهدد عباده و يزجرهم في‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫محكم ‪ ،‬و يَ َنصّ على عقوبتهم ‪ ،‬و تنفيذ حكم ال عز و جل في عباده مفروغ ‪ ،‬و ذلك كما قلنا سابقا ل ينافي‬
‫طهُ له قلمُ الغيب ‪ ،‬و السعادة عند ال‬‫السعادة عند ال ‪ ،‬فإن من تاب رجع كيوم ولدته أمه ‪ ،‬و بذلك ينال ما خَ ّ‬
‫للسعيد ل تتغير ‪ ،‬و إن اقترف المعاصي فإنه ل ُبدّ أن يتوب إلى ال التوبة التي تحُِّلهُ في محله عند ال تعالى ‪،‬‬
‫فإن السعيد من ُوعِظَ بغيره ‪ ،‬و شقي من شقي في بطن أمه ‪.‬‬

‫عمَلَ ُكمْ َو َرسُوُلهُ وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ َوسَ ُت َردّونَ إِلَى عَاِلمِ الْ َغيْبِ وَالشّهَا َدةِ فَ ُينَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ‬
‫عمَلُواْ َفسَ َيرَى الّ َ‬
‫" َوقُلِ ا ْ‬
‫سرٌ ِلمَا خُلِقَ َلهُ " (‪. )6‬‬ ‫عمَلُوا فَكُلّ مُ َي َ‬
‫تَ ْع َملُونَ " (‪ ، )5‬وقال – صلى ال عليه و سلم ‪ " : -‬ا ْ‬

‫و ل يخفى َأنّ الناس ِإمّا ُمحِقّ و ِإمّا مُبْطِلٌ ‪ ،‬و ل يجوز أن يكون المختلفان كلهما ُمحِقَ ْينِ ‪ ،‬بل من لزم المر‬
‫المعقول أن المتقاتلين يلزم أن يكون أحدهما ظالماً ‪ ،‬و إن اختفى حاله و تستر بالشبهة التي يخلقها لغراضه ‪،‬‬
‫فيصورها للعقول في استنهاضه ‪ ،‬و يمشي عليها متظاهرا بالحقّ ‪ ،‬و متعلقاً بالعدالة ‪ ،‬و لكل ثائرة حجاج ‪ ،‬و‬
‫صحّ ‪.‬‬
‫لكل قائلة منهاج ‪ ،‬و ما كل ما يقوله الخصوم على أضدادهم َي ِ‬

‫إن حكم المقترف للذنب أن يتبرأ منه ؛ لجل ذلك الفعل الصادر منه ‪ ،‬فإن هذا هو الواجب علينا في حقه ‪ ،‬ما كان‬
‫في دار التكليف ‪ ،‬و لسنا مكلفين بما غاب عَنّا ‪ ،‬فإن الغيب ل عز و جل ‪ ،‬فلو فرضنا أنا تولينا أحداً بما ظَ َهرَ لَنَا‬
‫منه ‪ ،‬وهو في الغيب عدو الحقّ تجب البراءة منه [‪ ]327‬فلسنا ملومين على وليتنا له ‪ ،‬لعدم علمنا بما هو‬
‫عليه ‪ ،‬فإن ذلك التكليف بما ل يطاق ‪ ،‬و حاشا ل أن يكلف أحداً بما ل يطيق ‪.‬‬

‫و لنه يعلم مقاصد الناس ‪ ،‬و ما انطوت عليه نياتهم ‪ ،‬ولو فعل لكان ذلك عدلً منه ‪ ،‬لنه السلطان الحقيقي الذي‬
‫عدَاهُ ‪ ،‬و إن رغم أنفه ‪ ،‬فإن‬ ‫منه المبدأ و إليه الرجعى ‪ ،‬له ما ليس لغيره عز و جل ‪ ،‬و العبودية المطلقة ِل َمنْ َ‬
‫سعَهَا " (‪ " ، )7‬رَبّنَا وَلَ‬
‫ال تعالى َت َفضّلَ على عباده أن ل يكلفهم بما ل يطيقون ‪ " -:‬لَ ُيكَّلفُ الّ نَ ْفسًا إِلّ ُو ْ‬
‫صرِحُ بِ َأنّ ال ل ُيكَّلفُ نفساً ما ل تطيق ‪ ،‬و واجب الحياة يجب‬ ‫حمّلْنَا مَا لَ طَا َقةَ لَنَا ِبهِ " (‪ ، )8‬فهذه و أمثالها ُت َ‬
‫تُ َ‬
‫ل ُبدّ منه ‪ ،‬وإن ثَقُلَ على النفس ‪ ،‬فإن التكليف أصله إلزام ما فيه كُلْ َفةٌ ومشقة على العبد ‪.‬‬

‫وإن أعمال الخرة تتفرع على العمال الدنيوية ‪ ،‬فمن َوفّّى بواجبه في هذه الحياة الدنيا وجد ثمرة ذلك الوفاء‬
‫يانعة مشتهاة حلوة ‪ ،‬و إل وجدها مرة تَ ُغصّ بصاحبها و العياذ بال ‪ ،‬و ما جعل ال في خلقه باطلً ‪ ،‬و ل في‬
‫حكمه عَبَثاً ‪ ،‬بل كلها لحكمة يعقلها أناس و يجهلها آخرون ‪.‬‬

‫و جعل ال للناس في أنفسهم براهين ‪ ،‬و دلئل على حكمته ‪ ،‬و معالم و صور دالة على بديع صنعته ‪ ،‬و ربما‬
‫صَحّتْ الجسام بالعلل ‪ ،‬و ربما اهتدى العاقل بتلك الحوادث ‪ ،‬فبعدما كان ضالً فاسقاً ظالماً جائراً إنكشف له بنور‬
‫غ ّيهِ ‪ ،‬و يرتدع عن قصده ‪.‬‬‫ال برهان يعلم منه صدق القصد فيما أمر ال و نهى ‪ ،‬فينزجر عن َ‬

‫و كم من عبد انصلح بكلمة سمعها من واعظ ‪ ،‬أو تلقاها من حاكم يتوعد [‪ ]328‬بها من شاء ال‪ ،‬فأصبح هذا‬
‫رهين إشارتها ‪ ،‬و أسير مفهومها و عبارتها ‪ ،‬و كم من مجلود على خمرٍ ‪ ،‬أو محدودٍ على عُ ْهرٍ ‪ ،‬أو مقطوع‬
‫على انتهاب ‪ ،‬و نحو ذلك أصبح يُفَ ّكرُ في قدرة مخلوق على مخلوق مثله ‪ ،‬فكيف بقدرة مالك المر الذي ل مناص‬
‫عن أمره ‪ ،‬ول خلص عن قهره ‪ ،‬فتنصلح بذلك أحواله ‪ ،‬و يرجع إليه رشده ‪ ،‬فيرعوي عن جهله ‪ ،‬و يدين ل‬
‫بطاعته ‪ ،‬فيدرك بذلك مناهج الصالحين ‪ ،‬و يرقى عند [ ال ] إلى أعلى عليين ‪.‬‬

‫و حيث أن الولية و البراءة فرضان افترضهما ل على عباده ‪ ،‬وعَ ّينَ محلهما ‪ ،‬فجعل المتقاتلين معاً في الولية‬
‫صحّ ؛ لنّ " قِتَالُ ال ُمسْلِمَ كُ ْفرٌ ‪ ،‬وسَبَا ُبهْ ُفسُوقٌ " (‪ )9‬و معاداته حرام شرعاً ؛ لنه ل بد من أين يكون أحد‬ ‫ل َي ِ‬
‫المتقاتلين باغياً على الخر ‪ ،‬و إذا كان كذلك فليس من الحق في شيء جعل الباغي في منزلة المحق ‪" -:‬‬
‫ج ِرمِينَ " (‪)10‬‬ ‫َأفَنَجْعَلُ ا ْل ُمسْ ِلمِينَ كَا ْلمُ ْ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و إن قومنا على هذا طيلة تلك القرون التي مضت ‪ ،‬فَيَ َت َرضّونَ عن الباغي و عن المَ ْبغِيّ عليه ‪ ،‬و إنها مشكلة‬
‫دينية تهتز لها أركان اليمان ‪.‬‬

‫وقوله ‪ " :‬إن حروب الصحابة كلها عن اجتهاد ‪ ،‬ومن اجتهد فأصاب فله أجران ‪ ،‬ومن اجتهد فأخطأ فله أجر‬
‫ع ِرضْ عن كذا وكذا ‪ ،‬فليس مع الدليل‬
‫اجتهاده " ‪ ،‬ليس هذا بشيء لن الدليل ينادي المحق قُمْ بكذا و كذا ‪ ،‬و َأ ْ‬
‫اجتهاد إجماعاً ‪ ،‬و اختلف المفاهيم ليس بحجة ‪ ،‬و محل الجتهاد الفروع التي لم يرد فيها نص ‪ ،‬أما عند النص‬
‫فل ‪.‬‬

‫(‪)11‬‬

‫و الكتاب واضح ل غيم عليه ‪ ،‬و مقال الرسول ‪ -‬صلى ال عليه و سلم – [‪ ]329‬شارح و موضّح للحكام ‪ ،‬فإن‬
‫كان من نقتله نقول فيه رضي ال عنه ‪ ،‬ضللنا إذا و ما كنا من المهتدين‪ ،‬حيث نقتل من رضي ال عنه ‪ ،‬إن هذا‬
‫لتناقض ينكره العقل ‪ ،‬و َي ُردّهُ النقل ‪.‬‬
‫=============================‬
‫حوْأَب – بفتح الحاء المهملة ‪ ،‬وسكون الواو ‪،‬وفتح الهمزة ‪ ،‬في آخره باء موحدة ‪ -‬قال أبو منصور ‪ :‬الحوأب موضع بئر نبحت كلبه على‬ ‫(‪ - )1‬ال َ‬
‫عائشة أم المؤمنين عند مقبلها على البصرة ثم أنشد ‪:‬‬
‫ما هي إل شربة بالحوأب فص ّعدِي من بعدها أو صوّبي‬
‫أنظر معجم البلدان ( ‪)191 – 3/190‬‬
‫وقضية الحوأب أن عائشة – رضي ال عنها – عندما خرجت مع طلحة و عبدال بن الزبير إلى البصرة ‪ ،‬سمعت في طريقها نباح كلب ‪ ،‬فقالت‪ :‬ما يقال‬
‫حوْأَب ‪ .‬فقالت ‪ :‬أنا ل وإنا إليه راجعون ردوني ردوني ‪ ،‬فإني سمعت رسول ال يقول وعنده نساؤه ‪ :‬أيكن‬ ‫لهذا الماء الذي نحن فيه ؟ قالوا ‪ :‬ال َ‬
‫حوْأَب ( أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلي )‬
‫حوْأَب ردوني ردوني ‪ ،‬فإني سمعت رسول ال يقول وعنده نساؤه ‪ :‬أيكن ينبحها كلب ال َ‬ ‫ينبحها كلب ال َ‬
‫وعزمت على الرجوع فأتاها عبدال بن الزبير فقال كذب من زعم أن هذا الماء الحوأب ‪،‬وجاء بخمسين من بني عامر فشهدوا وحلفوا على صدق عبدال‬
‫‪.‬‬
‫أنظر البداية والنهاية (‪ ،) 7/242‬والكامل في التاريخ (‪، ) 103 /3‬ومروج الذهب‬
‫( ‪، )2/367‬والمامة والسياسة (‪ ، )1/60‬وجمل من أنساب الشراف ( ‪ )24 /3‬واللفظ له ‪.‬‬
‫(‪- )2‬لم أستطع تخريجه‬
‫(‪ - )3‬القيعة ‪ :‬جمع قاع وهي أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والكام (القاموس المحيط ‪ ) 757 /‬مادة قاع‬
‫(‪ - ) 4‬تقدم تخريجه‬
‫(‪ )5‬التوبة ‪. 105 :‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه البخاري في (‪– 65‬كتاب تفسير القرآن ‪ – 12‬سورة والليل إذا يغشى ) ( ‪ )3/307‬رقم ‪ ، 4945‬وأخرجه مسلم في ( ‪– 46‬كتاب القدر ‪-1‬‬
‫كيفية الخلق الدمي ) ‪7‬و ‪ ، 8‬وأخرجه الترمذي في ( ‪ – 33‬كتاب القدر ‪ – 3‬باب في الشقاء والسعادة ) (‪ )4/445‬رقم ‪ 2136‬وأخرجه أبو داود في (‬
‫‪ – 39‬كتاب السنة ‪ -16‬باب في القدر ) ص ‪ 663‬رقم ‪ ، 4694‬وأخرجه أحمد في المسند ( ‪ )1/433‬رقم ‪. 621‬‬
‫(‪ )7‬البقرة ‪. 286 :‬‬
‫(‪ )8‬البقرة ‪. 286 :‬‬
‫(‪ )9‬تقدم تخريجه‬
‫(‪ )10‬القلم ‪35 :‬‬
‫(‪ )11‬طلعة الشمس‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫صحّ بغير دليل‬
‫دعوى المتقاتلين على بعضهم بعضا ل َت ِ‬

‫قال المام ‪:‬‬

‫[الشرح ]‬

‫صغْ القتال ‪ ،‬و لم يَ ُكنْ‬


‫ل يخفى على العاقل َأنّ المتقاتلين بالتأويل كلٌ ُيصَوّبُ نفسه ‪ ،‬و ُيخَطّئ خصمه ‪ ،‬و إل لم ُي َ‬
‫الخلف ‪.‬‬

‫شكّ َأنّ فصل القضية ل بد و أن يكون الحكم على إحدى الطائفتين بالبغي ‪ ،‬و ِإنّ الخرى مَ ْبغِيّ عليها ‪ ،‬فإذا‬
‫ول َ‬
‫ظهر ذلك علم أن الباغية تستحق البراءة حتى تتوب و ترجع عن بغيها ‪ ،‬و إن المبغي عليها هي في الولية‬
‫صحّ مع ما إذا كان حكم البغي ظاهراً ‪ ،‬و بيانه‬ ‫للصل الذي كانت عليه ‪ ،‬و إن جعل الطرفين في منزلة واحدة ل َي ِ‬
‫شاهراً ‪ ،‬فجعلهم في منزلةٍ واحدةٍ خِلفُ حكم ال عز و جل ‪ ،‬و حاشا ال يرضى بذلك ‪.‬‬

‫حقّ مهما كان ‪ ،‬و إهانة الُم ْبطِلِ أياً كان ‪َ ،‬لنّ ولية المُحِقّ غير البراءة من‬
‫و ما أنزل ال الشريعة إل لكرام المُ ِ‬
‫عزّ وعل ‪ -‬بالبراءة [‪ ]330‬من أهل الفسق ‪ ،‬و أوجب‬ ‫أهل الفسق ‪ ،‬بل هما حكمان مختلفان ‪ ،‬فقد أمر ال ‪َ -‬‬
‫ولية أهل الحقّ ‪ ،‬فليس لحد أن يُغَ ّيرَ حكم ال في خلقه ‪ ،‬فهو الحاكم الحقيقي ‪ ،‬و الشارع للدّين على رغم الخلق‬
‫المتدينين ‪.‬‬

‫و قد قال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه و آله وسلم ‪ " : -‬أَ ْنزِلُوا النّاسَ مَنَازِلَهُمْ " (‪ ، )1‬فمن اقترف موجب البراءة‬
‫وجب التبرئ منه ‪ ،‬و كذلك العكس ‪.‬‬

‫صحّ أن يوضع أحد الحكمين في موضع الخر ‪ ،‬و ل أن يجعل في محلٍ واحدٍ ‪َ ،‬لنّ الحكام تجري على‬ ‫و ل َي ِ‬
‫مقتضى العمال ‪ ،‬و ل شك أن الحقّ غير الباطل ‪ ،‬فالقتال مع التأويل ذريعة لرتكاب ما يحاوله المتقاتلون ‪.‬‬
‫فمعاوية َي َت َذ ّرعُ إلى الناس ب َأنّ عثمان قُتِلَ مظلوماً ‪ ،‬و أنا أحق من يقوم على قاتله ‪ ،‬و هو يعلم أن قاتله‬
‫المهاجرون و النصار ‪ ،‬و كان قتله عن تآمر و تشاور ‪ ،‬إذ المسلمون ذلك الوقت متوافرون متظاهرون عن يد‬
‫قوية ‪ ،‬و كلمة موحدة ‪ ،‬و تحت راية الحقّ ‪ ،‬و سبب القتل واضح غير مخفي ‪ ،‬وشهرة حصاره بلغت حد ل مجال‬
‫لل عثمان في القول بشأنها أبداً ‪ ،‬بل عليهم التسليم لمر المسلمين ‪،‬و الرضى بأحكام أهل الحقّ ‪ ،‬ف ِإنّ معاوية‬
‫نفسه علم ما يعدّ المسلمون على عثمان ‪ ،‬و كان واجبه أن يكون للحقّ ‪ ،‬فإنه يعلو به في المسلمين مقاماً ‪ ،‬و هو‬
‫ع ّزاً على عزه ‪ ،‬و شرفاً على‬ ‫ابن الزعيم أبي سفيان أحد سادات قريش في الجاهلية ‪ ،‬و ما زاده السلم إل ِ‬
‫شرفه ‪.‬‬

‫و لكن حظوظ الخرة شيء غير حظوظ الدنيوية ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و قول معاوية [‪ ]331‬أن علي بن أبي طالب لم يقم بالنتصاف من القاتلين كما يلزم ‪ ،‬و الغرض من ذلك الدخول‬
‫في حيطة المر ‪ ،‬و شَقّ عصى المسلمين ‪ ،‬لعلمه أن علياً ل يتركه على الشام ‪ ،‬و ل يَ ِق ّرهُ على عمله الحالي ‪ ،‬و‬
‫ربما ل يَ ِق ّرهُ على عمل من العمال ‪ ،‬وإن تعلل بأن عمر استعمله فإن استعمال عمر له ينصهر به دماغه في أم‬
‫رأسه ‪ ،‬ل يقدر أن َي ّدعِي ما ليس له ‪ ،‬أو يتعاطى أمراً لم يكن له في حال من الحوال ‪ ،‬فإنه إذا وصلت دعوته‬
‫إلى عامل من عماله مهما كانت منزلته‪ ،‬و مهما كان مقامه ‪ ،‬فإنه يكاد أن يذوب َوعْ ُيهُ إن كان يعهد من نفسه‬
‫حدثاً ‪ ،‬و لو لم يعلمه عمر ‪ ،‬فيظل يسأل و يبحث حتى عن الهيئة التي يحب عمر أن يرى عليها عامله ‪.‬‬

‫و ل تنسى مؤاخذته أبا سفيان عند رجوعه من زيارة ولده معاوية عما جاء به من عنده ‪ ،‬على ملئ من الناس‬
‫حتى َفكّ خاتمه من إصبعه ‪ ،‬و أرسل به إلى زوجة أبي سفيان باسم أبي سفيان أن أرسلي إلينا الخرجين بما‬
‫فيهما ‪ ،‬و كانت فيهما عطايا معاوية لبيه ‪ ،‬فأخذها لبيت المال هذا حال عمر مع عماله ‪ ،‬فأنّى لحد منهم الحراك‬
‫في أي شيء يخالف مقتضى الشرع ‪.‬‬

‫و يعلم معاوية دين علي و نزاهته ‪ ،‬و قد رأى أعمال عمر ‪ ،‬و أنه من الواجب السير على ذلك الدستور ‪ ،‬و حاشا‬
‫خذّ معاوية طريقاً يَبسَاً ‪ ،‬يروم منه أخذ نصيبه من المارة ‪.‬‬
‫أن يرضى علي بن أبي طالب غير الحقّ ‪ ،‬فلهذا اتْ َ‬

‫فستولى أولً على قلوب البسطاء الذين ل يعرفون دين ال بل دين معاوية ‪ ،‬و ل حق السلم إل حق معاوية ‪،‬‬
‫فلما رأى تمكنه منهم ‪ ،‬و انخراطهم تحت قدمه خضوعاً مطلقاً ‪ ،‬قام على المام بتلك الدعاية الواهية ‪]332[،‬‬
‫التي يعلم أَنّها ليس حجة مقبولة ‪ ،‬و من ذا يقبلها من المسلمين ‪ ،‬وقد أخرجوا عثمان من الدّين ‪ ،‬و لم يرضوا أن‬
‫حشّ كَوْكَب " ‪ ،‬و لم يشيعه أحدٌ من‬
‫يدفن في مقابر المسلمين ‪ ،‬بل ُد ِفنَ خارجاً عن البقيع ‪ ،‬في مكان يقال له " ِ‬
‫المسلمين إل خدامه و خاصته ‪ ،‬إلى هذا بَ َلغَ الحال بعثمان ‪.‬‬

‫و كان علي بن أبي طالب يعلم من معاوية ما يعلمه من أبي سفيان ‪ ،‬فأراد معاوية مشاغلة المام متستراً بدم‬
‫عثمان في أهل الشام الذين أصبحوا تحت راية معاوية ‪ ،‬ل يسألون عما يأتي و عما َيذَر ‪ ،‬و هو ينادي أن أمير‬
‫المؤمنين قُتِلَ مظلوماً ‪ ،‬فإذا سمعوه اندفعوا يبكون بكاء الثواكل ‪ ،‬ويشهقون شهيق يقطع منهم الحناجر ‪.‬‬

‫صةَ (‪ )2‬حمر الوحش ‪ ،‬وهو ل يزال يردد بينهم مظلوم ‪ ،‬وهو ولي‬ ‫فإذا قال معاوية قولة في عثمان حاصوا له حَ ْي َ‬
‫عثمان أي الذي يقدر على أخذ الثأر من القاتل ‪ ،‬وهم يُلَبّونَ ما يقول ‪.‬‬

‫وعلي بن أبي طالب يرى أنه المام المجمع على إمامته ‪ ،‬و أن عثمان واحد من المسلمين ‪ ،‬انتقده المسلمون‬
‫فقاموا عليه ‪ ،‬و قضوا فيه بما كَلّفَ ُهمْ ال به و بأمثاله ‪ ،‬بعدما طالبوه الرجوع عما هو عليه ‪ ،‬فوعدهم ولم يف‬
‫لهم بشيء ‪ ،‬وفي الخير استحلوا دمه بحكم ال ‪ ،‬و هاجموه في عقر داره ‪ ،‬و هو محصور علناً ‪ ،‬شاهراً‬
‫ظاهراً ‪ ،‬حتى إذا جاءه أحد بقربة ماء تسابقوا إلى قطعها ‪ ،‬حتى قتل بين ظهراني النصار و المهاجرين ‪ ،‬بجوار‬
‫قبر رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم ‪. -‬‬

‫حدّ‬
‫فماذا لل عثمان من الحقّ ؟ ‪ ،‬و المسلمون كلهم قاتلوه ‪ ،‬فإن الراضي و الساكت ‪ ،‬و القائم ‪ ،‬كُلّ ُهمْ في َ‬
‫سواء ‪ ،‬إذ ل وجه لعثمان فيما فعل من أحوال خالفت الوامر [‪ ]334‬السلمية ‪.‬‬

‫ل سيما أن لعثمان أولداً لم يكن معاوية أحدهم ‪ ،‬و إذا طلب أولد عثمان مالهم على قتلتة عثمان ‪ ،‬ففي إمكان‬
‫المام علي بن أبي طالب أن يعطيهم مالهم بحكم ال بين ظهراني المسلمين ‪ ،‬و حاشا المسلمين أن يرضوا بقتل‬
‫إمامهم بين أظهرهم ‪ ،‬إذا كان غير مستحق القتل ‪ ،‬و بل ل يرضون قتل كَلْبَ راعٍ بغير حَقّ ‪ ،‬فكيف يرضون بقتل‬
‫المام عثمان ‪ ،‬و هو على الحقّ ‪ ،‬فهل هذا من الحقّ ؟ ‪ ،‬ل وربك ‪ ،‬بل من نسب ذلك إليهم أي قتل المام المحق‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فقد نسب إليهم أكبر الذنوب ‪ ،‬حاشا للمسلمين ذلك ‪ ،‬و على القائل بذلك التوبة حيث طعن في أئمة الدّين ‪ ،‬وأعلم‬
‫المسلمين ‪.‬‬

‫و إنما كان قتل عثمان عن اجتماع من أهل الحق حين قامت الحجة عليه ‪ ،‬و لم يروا ُب ّداً من ذلك ‪ ،‬و كانوا أشداء‬
‫في الدين ‪ ،‬لم يرضوا المداهنة ‪ ،‬و ل تقية إذ ذاك إذ هم متوافرون و متضافرون كلهم يد واحدة عليه ‪ ،‬فل يحل‬
‫أن يقال قتل مظلوماً لنه يترتب عليه أن قاتله ظالم ‪ ،‬و قاتله الصحابة و حتى أزواج النبي – صلى ال عليه و‬
‫ضنْ على قتله ‪ ،‬و قالت عائشة أم المؤمنين – رضي ال عنها ‪ ": -‬اقتلوا نعثلً فإنه قد كفر "‬ ‫ح ّر ْ‬
‫آله وسلم – قد َ‬
‫‪.‬‬

‫وما كان غرض معاوية طلب الثأر لعثمان ‪ ،‬وهو يعلم أنه ل ثأر له ‪ ،‬بل غرضه حسد علي و آله ‪ ،‬و أخذ نصيب‬
‫من الملك إن لم يكن كله ‪ ،‬حتى على القل أن يكون له الشام يكفيه بدل من أن يكون والياً فقط يبقى ما أبقاه‬
‫المام ‪ ،‬ويزول إذا رأى زواله ‪ ،‬وكانت له آمال طواها في ضميره ‪ ،‬و َر َمزَ إليها بدم عثمان ‪.‬‬

‫و حب الرئاسة متغلغل في نفسه ‪ ،‬و له خبرة [‪ ]335‬تامة بحقيقة علي بن أبي طالب ‪ ،‬وببني هاشم أيضاً ‪،‬‬
‫كخبرته بأنصار علي وهم العراقيون ‪ ،‬و بأنصاره أيضا ‪ ،‬و هم أهل الشام ‪ ،‬فكان المر بحيث طار إلى عنان‬
‫السماء ‪ ،‬و بلغ الذروة العالية ‪ ،‬فا ْنشَقّ النّاس كما أراد ‪ ،‬وبلغ بانشقاقهم المراد ‪ ،‬و ما كان مبالياً بما يلقي في‬
‫سبيله هذا ‪ ،‬هان الخطب أم عظم ‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في ( ‪– 40‬كتاب الداب ‪ – 20‬باب في تنزيل الناس منازلهم ) ص ‪ 684‬رقم ‪. 4842‬‬
‫حيْصَةَ ‪ -:‬أي نفروا له نفرة ( القاموس المحيط ‪ )616 /‬مادة حاص ‪.‬‬
‫(‪ )2‬حاصوا له َ‬

‫فهذا حال معاوية ‪ ،‬و ذلك غرضه ‪ ،‬فهل بقية له عند المسلمين ولية – و الحال هذا – فما للقوم يترضون عنه ‪،‬‬
‫ويستغفرون له ‪ ،‬و الترضي ‪ ،‬و الترحم ‪ ،‬و الستغفار ‪ ،‬هي ثمرة الولية بنص الكتاب العزيز ‪ ،‬إلّ عند َمنْ ل‬
‫يَفْ َهمُ ‪.‬‬

‫وعلي بن أبي طالب إذ ذاك المام المطاع ‪ ،‬إذ كان صحيح المامة قبل أن يتركها يتلعب بها الحكمان وَلَيّاهُ أو‬
‫عزَ َلهُ ‪ ،‬وقد خدعوه بذلك خدعة ما لها مثيل في حديثهم ‪ ،‬و ل شبيه لها في دهاء الناس ‪ ،‬حيث جعل معاوية‬ ‫َ‬
‫وهو أحد ولة المام صفاً مقابل للمام ‪ ،‬يباريه في إمامته ‪ ،‬ف ِإنّ معاوية ما كان في الصل إمام حتى يكون الخيار‬
‫للمسلمين في أحد المامين المتخالفين ‪ ،‬حتى جعلوه بهذه المثابة ‪.‬‬

‫و هنا وقع السكوت عن دعوى دم عثمان ‪ ،‬إذ لم يكن مقصوداً بالذات ‪ ،‬وقد رضي علي بخلعه ‪ ،‬فخلع بذلك‬
‫نفسه ‪ ،‬و رمي بإمامته من عنقه إلى أبي موسى الشعري و عمرو بن العاص يقضيان فيها ‪ ،‬و كان الواجب أن‬
‫يقضي في القضية ذو الفقار فتركه في غمده يبكي على إمامته المصونة ‪ ،‬و يندب أوامر الكتاب والسنة ‪ ،‬وبقي‬
‫علي يَ َترَجّى إمامته تعود إليه من مسرحها النائي أو يعيدها إليه [‪ ]336‬الحكمان ‪ ،‬أو يعيدها إليه المسلمون‬
‫الذين ولوّه إيّاها أولً ‪ ،‬معتقد أن المسلمين ل يرضون غيره ‪ ،‬و أن المر رهن إشارته ‪.‬‬

‫هيهات لقد حنق المسلمون من ذلك الحال الذي أنت وافقت عليه مُتَبِعاً للشعث الذي يحاول أن يقضى عليك ‪ ،‬ثم‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫حملوك على قتلهم فقتلتهم في ضحوة من النهار ‪ ،‬إن كان القتل وقع من غيرك بدسيسة من الجند فأنت القاتل ‪ ،‬و‬
‫على كاهلك تلك الجريمة النكراء ‪ ،‬و ال سائلك عما وقع ‪ ،‬و لن يضيع دم امرئ مسلم في بقعة من الرض إل أنا‬
‫نعتقد فيك أنك ل ترضى غير الحقّ ‪ ،‬أل تتبصر في أمورك ف ِإنّ الدسائس َتدُبّ وراءك ‪ ،‬أل ترى أنه لما قتل‬
‫النهروانيون رفضك الجند و لم يعود يقومون معك على عدوك ‪ ،‬و تخاذلوا عنك ‪.‬‬

‫و أنت تعتقد أن المسلمين ل يريدون غيرك ‪ ،‬لقد خرجوا عنك مما رضيت به ‪ ،‬فعهد ال الذي وقع في القضية قد‬
‫حال بينك و بين ما ُأمّلْتَ ‪ ،‬و ها ذاك أبو موسى الذي أرسلته حكماً قد َهرَبَ إلى مكة ‪ ،‬و لم يعد إليك بعدما قضى‬
‫المر بينه و زميله عمرو بن العاص‪.‬‬

‫فمتى كان معاوية إماماً فيثبته عمرو بن العاص على ما كان ‪ ،‬أليس السيف يثبته أميراً ‪ ،‬و أنت ترى و تسمع ‪،‬‬
‫و إذا ناقشت نفسك هل ترى بقيت لك في عنق أحد من المسلمين ‪ ،‬فالذين حملوك على التحكيم لم يبق عليهم‬
‫شيء بعد رضاك ‪ ،‬و من نهاك عن التحكيم فمن باب أولى ل شيء عليه إذ نهاك ‪]337[.‬‬

‫كان علي ل يرى اجتماع المسلمين على غيره ‪ ،‬و على كل حال اجتمعوا أو َت َف ّرقُوا فهو مرجعهم ‪ ،‬لكن بقي هنا‬
‫أنه لم يرى أن الملك العضوض قد بدأت طلئعه ‪ ،‬و قد أخبر عنه رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ -‬فمتى‬
‫يعود عليه المسلمون الذين يعتقد فيهم ذلك العتقاد ‪ ،‬و هو قد أعطى العهد والميثاق على التحكيم ‪ ،‬و المسلمون‬
‫يرونه ضللً ‪ ،‬و على أنه أجبر عليه كان واجبه رفض المامة ‪ ،‬و ل يكون سبباً في عمل الباطل ‪ ،‬كان عليه أن‬
‫يقول إن كنتم ل ترون إل ذلك فاعذروني و إليكم أمركم ‪ ،‬اصنعوا ما شئتم ‪ ،‬فيكون له عذر صحيح ل يلومه عليه‬
‫أحدٌ أبداً ‪.‬‬

‫خ ِدعَ بالقوال الفاسدة ‪ ،‬و انقاد تبعاً لها ‪ ،‬وليس له ذلك شرعاً ‪ ،‬فمن هنا فارقه المسلمون ‪ ،‬و عالجوا‬
‫و لكنه ُ‬
‫المر بمن هو صالح غير مطعون فيه بشيء ما ‪ ،‬و هنا أيضا حملوه على قتلهم ‪ ،‬فكانت الطّا ّمةُ بقتله المؤمنين ‪.‬‬

‫وكان علي بن أبي طالب سليم الصدر من الغوائل التي عليها معاوية و أحزابه ‪ ،‬لطلب المارة لمعاويتهم ‪ ،‬بكونه‬
‫ابن أبي سفيان ‪ ،‬و أنه ذو الخلق الواسع ‪ ،‬و الصدر الرحب ‪ ،‬ل يناقش عن الجليل ‪ ،‬و ل يسأل عن الكثير ‪ ،‬و ل‬
‫يبخل عليهم بخلف علي العابد ‪ ،‬الزاهد ‪ ،‬الراكع ‪ ،‬الساجد ‪.‬‬

‫و كذلك عمرو بن العاص ل يرى له نصيباً في المارة مع علي بن أبي طالب ‪ ،‬لذلك يهوى زوال المر عنه إلى‬
‫معاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬الذي يأمل أن ينال معه كل مرامه ‪ ،‬و ل سيما و قد شارطه على ذلك ‪ ،‬و الدنيا لها‬
‫رجال ‪ ،‬و للخرة رجال آخرون ‪ ]338[ ،‬و حب العاجلة غالب على قلوب الكثيرين كما هو معروف ‪.‬‬

‫و كان عمرو داهية كبرى في رجال السلم ‪ ،‬و هو يعلم حقيقة العلم َأنّ علياً غير تاركه على عمله مهما كان ؛‬
‫َلنّ علياً يراعي العدالة ‪ ،‬و يكون مع الحقّ ‪ ،‬و ل حق عند عمرو يرضاه علي ‪.‬‬

‫و معاوية داهية أكبر من عمرو بن العاص ‪ ،‬و هما يعملن على التغلب على علي بن أبي طالب الذي ل يرضيانه‬
‫أميراً عليهما ‪ ،‬لذلك شغبا عليه ‪ ،‬و ظل يكيدانه ‪ ،‬فدسا في أذهان السواد الذين هم في معزل من هذه الحوال ‪.‬‬

‫و السياسة للمير من لوازم المارة مهما كانت ‪ ،‬فللدّين سياسة كما للدّ ْنيَا كذلك ‪ ،‬و ال ُم َوفّقُ مِن الِ قد يحتوى‬
‫عليهما معاً ‪ ،‬و أي أمير ل سياسة له تلئم موقفه ‪ ،‬و تساير وقته ‪ ،‬فل تقوم قناته مهما كانت ‪ ،‬و ل أشهر أموره‬
‫كما يرجو ‪ ،‬و ل يبلغ في عدوه ما يأمل ‪ ،‬و السياسة هي القوة الفعالة قبل كل شيء ‪ ،‬و هي على الحقيقة‬
‫الجيوش القتالة ‪ ،‬و ل يكفي المير َأنّ يكون فقط على خطة الشريعة الظاهرة السطحية ‪ ،‬فإن العيون والجواسيس‬
‫عدِ النبي سليمان بن داود –‬ ‫و نحوهم قوة تعضد المير طبعاً ‪ ،‬فالسياسة حتى في لحظ العين ‪ ،‬فانظر في تَ َو ّ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ع َدهُ ذلك التوعد الشديد ‪ ،‬و َه َد ّدهُ أبلغ التهديد ‪،‬‬
‫عليهما السلم – للهدهد لمّا غاب عنه بعض الوقت بغير علم ‪ ،‬تَ َو ّ‬
‫و لو لم يخرج بحجة وافق عليها نبي ال لكان الهدهد في الخطر الكبير بسبب غير كبير ‪ ،‬لم يفعل فيه من الجرائم‬
‫شيئاً في حق أحد من الخلق ‪ ،‬مع أنه لم [‪ ]339‬يكلف فل حساب عليه و ل عقاب ‪.‬‬

‫و إِنّما كان ذلك من نبي ال سليمان بن داود من باب السياسة في مملكته الكبيرة ‪ ،‬التي خَوّ َلهُ ال إِيّاها ‪ ،‬و علي‬
‫ظنّ َأنّ َلهُ حظاً في‬
‫بن أبي طالب لم تكن له سياسة ‪ ،‬و إنما كان يعتمد على قوة إيمانه ‪ ،‬و على نفسه ‪ ،‬و ِإنّ َ‬
‫السياسة فقد خانه ظنه ‪ ،‬و للسياسة أناس شُ ِهرُوا بها جاهليةً و إسلماً ‪ ،‬و كان علي يعتمد على ما انطوى عليه‬
‫ضميره ‪ ،‬و يفعل ما جرى به تعبيره ‪ ،‬و ل يمد نظره إلى شيء آخر ‪ ،‬فهو إمام العلماء في المشكلت الشرعية ‪،‬‬
‫ف زهده في الدنيا ‪،‬‬ ‫ع ِر َ‬
‫و إمام الفقهاء في الحضيرة الفقهية ‪ ،‬و إمام أهل اليمان في الدوحة السلمية ‪ ،‬قد ُ‬
‫وخلوه من سائر الهواء ‪ ،‬وبذلك اصطاده أنصاره ‪ ،‬فقادوه لغراضهم ‪ ،‬و توصلوا به إلى ما تهوى أنفسهم ‪.‬‬

‫و من ذلك ثورته على أهل النهروان ‪ ،‬و إن كان هو لم يقصد قتلهم لنه العلمة الوحيد يعلم حجتهم عليه ‪ ،‬و‬
‫لكنهم قتلوا تحت رايته ‪ ،‬و هو بمرأى منهم و مسمع ‪ ،‬بل كان قتلهم بين يديه ‪ ،‬فلذلك قال المسلمون هو قاتلهم ‪،‬‬
‫لن فعل جيشه معدود عليه طبعاً ‪ ،‬و مسئول عنه شرعاً ‪.‬‬

‫ع ّبرُوا له عن حقيقة أهل النهروان ‪ ،‬تعبيراً رآه أمراً ضرورياً َتمَ ّكنَ من ضميره ‪،‬‬
‫ف ِإنّ أصحابه الدهاة المغرضين َ‬
‫فتقد في ذهنه اتقاداً ‪ ،‬أشعل نيران حماسه عليهم ‪ ،‬فهاجمهم جيشه مباغتة حتى قضى عليهم ‪ ،‬و هم في مأمنهم ‪،‬‬
‫لم تبد منهم بعد بادية ‪ ،‬و ل ظهرت منهم حركة إل ما شاع من تجمعهم و بيعتهم لعبدال بن [‪ ]340‬وهب‬
‫الراسبي ‪ ،‬وعلى ذلك ثارت عليهم عداوة خصومهم ‪ ،‬فقضت عليهم بدل أن تشد عضدهم ‪ ،‬و تناصرهم ‪ ،‬إذ ترى‬
‫الحقّ معهم ‪.‬‬

‫وبذلك وقع علي في بلية أخرى أحاطت بمحيطه من كل جهة ‪ ،‬فلم تزل تهوي به في الحضيض السفل ‪ ،‬و كيف‬
‫جرْمِ ما ‪ ،‬بل كانوا فروا من‬
‫ل و دماء أربعة آلف أَوّاب على أقل الروايات في عددهم سفكت تحت رايته بغير ُ‬
‫الباطل ‪ ،‬و من أهل الضلل المتلعبين بالمر على حساب المام كما أشرنا إلى ذلك في " نفحات الظهر " ‪:‬‬

‫وشأن الصدوق الغترار بكل ما يسمع أو يرى ‪ ،‬لَنّه يرى النّاس كما يرى نفسه ‪ ،‬و كم لهذا من شواهد بين‬
‫أيدينا ‪ ،‬و منه قول المام السالمي – رحمه ال‪ " : -‬إني لنزه البخاري عن الكذب ‪ ،‬لك ّنهُ يأخذ عن أهل الهواء‬
‫ثقة بهم " (‪ )1‬أي فلذالك روى في صحيحه ما ليس بصحيح ‪ ،‬كما ثبت عن أهل العلم ‪)2( .‬‬
‫===============================‬
‫(‪ )1‬شرح الجامع الصحيح (‪)1/57‬‬
‫(‪ )2‬راجع الطوفان الجارف الجزء الثالث للشيخ العلمة سعيد بن مبروك القنوبي‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫قال شارح سُبُلِ السّلمِ ‪ ":‬و المعروف من علوم الحديث و غيرها ‪َ ،‬أنّ ما في الصحيحين أو في أحدهما مقدم‬
‫على غيره ‪ ،‬و الجواب َأنّ ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ " (‪)3‬اهـ ‪.‬‬

‫فترى في كلمه ما يدل أن في حديث الصحيحين ما هو منتقد عند الحفاظ ‪ ،‬فكان ذلك مصداقاً لكلم المام السالمي‬
‫– رحمه ال‪ ، -‬ف ِإنّ البخاري ل يرضى أن يروي عن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – [‪ ]341‬غير‬
‫الصحيح إِلّ أَنّه يعتقد أنه ل يوجد مسلم يكذب على رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – أو على ال فهذا‬
‫أعظم ‪.‬‬

‫صحّ الكذب عليه – صلى ال عليه و سلم – في حياته كصاحب ثقيف و أمثاله ‪ ،‬و قد أشار إليه – صلى ال‬ ‫و قد َ‬
‫عليه و سلم – بقوله ‪َ " :‬منْ َكذَبَ عََليّ مُ َت َعمِداً فَلْ َيتَبَوأ مَ ْق َع َدهُ مِن النّارِ " (‪ ، )1‬ثم وضع رسول ال – صلى ال‬
‫عليه و آله وسلم – قاعدة قد يتبين بها الكذب عليه – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ -‬و هي قوله – صلى ال عليه‬
‫علَى كِتَابِ الِ ‪َ ،‬فمَا وَافَ َقهُ فَ َعنّي وَ مَا خَالَ َفهُ َفلَ ْيسَ مِنّي " (‪ )2‬و في رواية‬
‫ع ِرضُوهُ َ‬
‫و سلم ‪ " : -‬مَا أَتَاكُمْ عَنّي فا َ‬
‫"فَكَ ْيفَ أُخَالِفُه وَ ِبهِ َهدَانِي رَبّي " ‪.‬‬

‫َفدَلّ هذا أَنّه سيأتي المكذوب عليه – صلى ال عليه وآله وسلم – ‪ ،‬وقد تجاسر بعضهم فكذب عليه في حياته مع‬
‫علمه أنه يأتيه الخبر من السماء ‪ ،‬فكيف به بعد موته ؟! ‪ ،‬ولذلك قام علماء السلم بانتقاد الحاديث التي تروى‬
‫حرّرُوا له قواعد لقصد حفظها من الدخيل ‪.‬‬ ‫عنه صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و وضعوا لها ألقاباً و شروطاً ‪ ،‬و َ‬
‫خمِينَ ‪ ،‬فربما انتقدوا غير المنتقد ‪ ،‬و ربما رووا الموضوع نظراً إلى كثرت‬ ‫ظنّ ‪ ،‬و التّ ْ‬
‫و لكن غاية ما عملوا ال ّ‬
‫رواته ‪ ،‬و ربما أسنده الكاذب إلى أجلة العلماء ‪ ،‬و حكاه من طرق عديدة ل ُي ّردُ بها ‪ ،‬لقصد رواجه ‪ ،‬وتبرير‬
‫غرضه ‪ ،‬و ل وحي بعد موت النبي – صلى ال عليه و آله وسلم ‪. -‬‬

‫و من هذا القبيل جملة أحاديث جاءت عند الرواة يعتقدون صحتها و ليست بصحيحة ‪ ،‬و للناس غوائل ‪ ،‬ف ِإ ّ‬
‫ن‬
‫بعض العلماء الجانب أيضاً وضعوا أحاديث نسبوها إلى علماء السلم ‪ ]342[،‬و رفعوها إلى النبي – صلى ال‬
‫عليه و سلم – ‪ ،‬و القاعدة المشار إليها أكبر دليل في المقام عند علماء السلم ِل َردّ المفترى عليه ‪ -‬صلى ال‬
‫عليه وآله وسلم ‪. -‬‬

‫فعلي بن أبي طالب يعتقد أَنّه أحق بالمر من كل أحد ؛ لذلك لما بويع أبو بكر – رضي ال عنه – َت َبرّمَ ِم ْ‬
‫ن‬
‫بيعته ‪ ،‬و تََلكّأَ عليه ‪ ،‬ولما بُو َيعَ عمر بن الخطاب زادت حيرته في المر ‪ ،‬وطال استغرابه للواقع لهذا الحال ‪ ،‬و‬
‫بقي في نفسه بعض التحرج لكنه زال بإيمانه ‪ ،‬و لما بُو َيعَ عثمان أيقن َأنّ النّاس على غير ما هو عليه ‪ ،‬و َأنّ‬
‫ظَنّهث لَمْ َيرَ عليه أحداً ‪ ،‬و سبب ذلك الظن الذي تغلغل في ذهنه رأى نفسه في مقدمة الصحابة ديناً ‪ ،‬و إيماناً ‪،‬‬
‫ع َملً ‪ ،‬و شجاعة ‪ ،‬و إقداماً ‪ ،‬و أَنّه ابن عم الرسول – عليه الصلة و السلم‪، -‬‬ ‫علْماً ‪ ،‬و َ‬
‫ع ّفةً ‪ ،‬و تقوى ‪ ،‬و ِ‬
‫و ِ‬
‫و زوج البتول ‪ ،‬فهذه الخصال كلها تناجي علي بن أبي طالب باختصاص المامة عن غيره من بقية الصحابة‬
‫الذين لم تكن لهم هذه الحوال التي ذكرناها ‪.‬‬

‫و ذلك بديهي في المم كلها ‪َ ،‬أنّ ولد المير ‪ ،‬أو أخاه ‪ ،‬أو قريبه ‪ ،‬يرى نفسه الحق بخلفة الرّاحل ‪ ،‬و ل يعتقد‬
‫غالباً أن الرأي للمة التي سيكون المير عليها ‪.‬‬

‫ظنّ لَ يُغْنِي ِمنَ ا ْلحَقّ شَيْئًا " (‪ ، )3‬لذلك‬


‫و هكذا علي كان يعتقد ‪ ،‬و لكن شاءت القدار غير ما كان يظن " َإنّ ال ّ‬
‫لمَاّ بويع على المذكور صَ ُعبَ عليه إجراء المور في مجاريها ‪ ،‬فإنه لما بويع انتقض عليه طلحة و الزبير ‪ ،‬فعجز‬
‫جأَ إلى القوة ‪ ،‬فكانت وقعة الجمل أعظم ما عرف‬ ‫شدّ ما يكون ‪ ،‬إلى َأنّ لَ َ‬
‫عظُمَ الخطب َأ َ‬
‫عن قهرهما بالسياسة حتى َ‬
‫من وقائع السلم ‪ ،‬و أدهى ما عرفه التاريخ ‪ ،‬ثم أردفتها [‪ ]343‬الثانية مثلها أو أعظم منها بصفين ‪ ،‬ولم يلبث‬
‫أن رجعت أموره القهقري ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫فكان الشعث بن قيس يتلعب بالجيش كيف يشاء ‪ ،‬حتى َتمّتْ عمليته بقتل أهل النهروان ‪ ،‬و بذلك انحل نظام‬
‫المر من يد علي بن أبي طالب ‪ ،‬فعاد إلى الكوفة ‪ ،‬وهم بالقيام لحرب الشام ‪ ،‬فلم يستطع علي تحريك ساكن من‬
‫جيشه ‪ ،‬و لم يقدر على فعل مما كان في نفسه ‪ ،‬حتى لح نجم الخلل في أموره ‪ ،‬و بدرت بوادر سقوط هيبته ‪،‬‬
‫تجاسر عبد الرحمن بن ملجم المرادي عليه ‪ ،‬و تجرد لقتله ‪ ،‬فكان قاضياً عليه ‪ ،‬و انتهت إمارته في ظرف أربع‬
‫سنين و تسعة أشهر كانت كلها فتناً داخلية ‪ ،‬فوقف بذلك شوط الفتوح السلمية الذي كان امتد حبله منذ حياة‬
‫النبي – صلى ال عليه و آله وسلم – إلى أبي بكر الصديق ‪ ،‬و عمر الفاروق ‪ ،‬وعثمان بن عفان أيضاً ‪.‬‬

‫َأمّا أيام علي بن أبي طالب فكلها كانت داءً دفيناً بين المسلمين ‪ ،‬تَ َغلّبَ فيها معاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬و تَ َولّى المر‬
‫عن علي و آل علي ‪ ،‬و أصبح معاوية خليفة المسلمين رغم َمنْ يكرهه و يلعنه ‪ ،‬إذ كانت له سياسة و مهارة‬
‫تدبير ‪ ،‬و اهتمام كبير ‪ ،‬أما علي بن أبي طالب فمهارته الضرب بذي الفقار ‪ ،‬و قطع العناق في الزمات الحرجة‬
‫‪.‬‬

‫صحّ عند‬‫صحّ هذا عند أهل العلم ‪ ،‬و ل في خلقه أسرار و حكمة ‪ ،‬هي مصباح العتبار لذوي البصار ‪ ،‬وقد َ‬ ‫وقد َ‬
‫أهل العلم ‪ ،‬و ثبت في تاريخ الصحابة – رضوان ال عليهم – ما قلناه عن علي المام ‪ ،‬و هو ما دَوّ َنهُ أهل‬
‫السير ‪ ،‬و ل شك أن كلً ميسر [‪ ]344‬لما خلق له ‪ ،‬و أهل العلم بالسير كذلك يرون في تحقيق هذه القضايا‬
‫الهامة ‪.‬‬

‫ع ّمنْ‬
‫و استقراء أحوال هؤلء يظهر عنهم حقائق العمال ‪ ،‬و عجيب الخصال ‪ ،‬لهذا كان التاريخ لسان تعبير َ‬
‫مضى من الرجال ‪ ،‬لمن يأتي من البطال و أرباب العمال ‪ ،‬و التوفيق كرامة من ال عز و جل ‪.‬‬

‫و أغلب الناس أهل أهواء ‪ ،‬و الماضي أكبر شاهد ‪ ،‬و الدهر عنوان على الرجال ‪ ،‬يدل على ما تنطوي عليه‬
‫ضمائرهم ‪ ،‬أل ترى الناس يذكرون عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬وهو أموي بما ل يذكرون به أحد من سائر بني أمية ‪،‬‬
‫و قد كان معاوية صحابياً و هل كان عمر بن عبد العزيز صحابياً ؟ لَ ِكنّ التاريخ يحدثنا عن كل واحد بأعماله و‬
‫أفعاله ‪ ،‬و دينه و نواياه ‪ ،‬و هذه هي ميزة التاريخ بين سائر العلوم ‪.‬‬

‫و على كل حال َأنّه عِ ْلمُ المراء ‪ ،‬و سمير الزعماء ‪ ،‬ومحدث الكبراء أحديث الملوك والوزراء ‪ ،‬و لن يرغب عنه‬
‫إل خُلِيّ البال ‪ ،‬أو سافل العمال ‪ ،‬أو خائر الهمم و العزائم ‪.‬‬

‫و لقتفاء آثار السلف ل يكون إل به ‪ ،‬و السير في المة ل يمكن إل على وحيه و وعيه ‪.‬‬

‫و َمنْ يراعي في المامة ميزان العدالة ل ُبدّ و أن يعطي كل إمام حقه من حياته ‪ ،‬و يبرهن على صحة أعماله ‪،‬‬
‫بما حفظ من آثاره ‪ ،‬و لول ذلك لكنا نجهل كيف مشى رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – في المة حال‬
‫نبوته ‪ ،‬وكيف عمل أصحابه و خلفائه من بعده ‪ ،‬و التباع للمسلم خير من البتداع ‪ ،‬و القدوة الصالحة هم‬
‫السلف الصالح من صحابة رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – ‪ ،‬فنحن معشر الباضية هذا منهجنا سلفاً و‬
‫خلفاً ‪ ،‬و الحمد ل ‪]345[ .‬‬
‫==================‬
‫(‪ )1‬أخرجه الربيع بن حبيب في ‪ – 56‬باب إثم من كذب على رسول ال ص ‪ 283‬رقم ‪ ، 738‬وأخرجه البخاري في ( ‪– 3‬كتاب العلم ‪ -38‬باب إثم‬
‫من كذب على النبي ‪ ) ( ) 1/47‬رقم ‪ 106‬و ‪ 107‬و ‪ 108‬و ‪ 109‬و ‪ ، 110‬وأخرجه مسلم في (‪ – 53‬كتاب الزهد والرقائق ‪ -16‬باب التثبت في‬
‫الحديث ) ( ‪ )2298 /4‬رقم ‪ ، )3004 ( 72‬وأخرجه الترمذي في ( ‪– 24‬كتاب الفتن ‪ – 70‬باب ) (‪ )224 /4‬رقم ‪ ، 2257‬وأخرجه أبو داود في (‬
‫‪– 24‬كتاب العلم ‪– 4‬باب التشدد في الكذب على رسول ال ) ص ‪ 524‬رقم ‪ 3651‬وأخرجه ابن ماجة في ( المقدمة ‪ -4‬باب التغليظ في تعمد الكذب‬
‫على ) ص ‪ 5‬رقم ‪ 30‬و ‪ 31‬و ‪ 32‬و ‪33‬و ‪34‬و ‪35‬و ‪36‬و ‪ 37‬وأخرجه الداري في ( المقدمة ‪– 25‬باب إتقاء الحديث عن والتثبت في) (‪)1/54‬‬
‫رقم ‪ 231‬وهو حديث متواتر لفظي فل داعي إلى تخريجه أثر من هذا ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫ص ‪ 36‬رقم ‪.40‬‬ ‫(‪ ) )2‬أخرجه الربيع في ‪ -6‬باب في المة أمة محمد‬
‫(‪ )3‬يونس ‪. 36 :‬‬

‫الخطأ في الدين خطر‬

‫قال المام الناظم – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫اعلم أَنّه َلمّا كان المتقاتلون كل فريق منهم ُيصَوّبُ نفسه ‪ ،‬التزم كُلّ فريقٍ أيضاً أن يحكم على خصمه بالبطل ‪ ،‬و‬
‫َيسْ َتحِلّ قتاله بذلك ‪ ،‬و ينسب إلى غيره الخطأ و الغلط ‪ ،‬و ظَلّ يلعن بعضهم بعضاً ‪ ،‬و ُيضَلّل بعضهم بعضاً كذلك ‪،‬‬
‫و على كل حال لَ ُبدّ لبعضهم من أن يكون محقاً و بعضهم مبطلً ‪ ،‬و من الواجب أن يراعى جانب المحق لما معه‬
‫من الحقّ ‪ ،‬فَيُ َنزّلَ منزلة أهل الحقّ ‪ ،‬فما كان له عند المسلمين من ولية فهو باقٍ عليها ‪ ،‬و يبرأ من المبطل‬
‫عدْلً إِلّ ما يَهْوَاهُ هواه ‪.‬‬
‫صرْفاً ‪ ،‬و ل َ‬
‫طلَ ِنهِ ‪ ،‬المتهالك عليه ل يقبل فيه َ‬
‫المصر على بُ ْ‬

‫و هذا هو الواجب الذي افترضه ال على عباده بنص القرآن ‪ ،‬و بحكم السنة عند سيد آل عدنان – صلى ال‬
‫سِلمِينَ‬
‫جعَلُ ا ْل ُم ْ‬
‫عليه و آله وسلم ‪ ، -‬لنه ليس من الحق في شيء أن يجعل المحق و المبطل في مقام واحد " َأفَنَ ْ‬
‫ج ِرمِينَ (‪ )35‬ما َلكُمْ كَ ْيفَ تَحْ ُكمُونَ " (‪ )1‬في أمثالها ‪.‬‬
‫كَا ْلمُ ْ‬

‫طأَ فَ َل ُه‬
‫جرَانِ ‪ ،‬وَ َمنْ اجْتَ َهدَ َفأَخْ َ‬
‫و ل حجة لهم في قولهم ِإنّ الكل مجتهدون ‪ ،‬و الحديث " َمنْ اجْتَ َهدَ َفَأصَابَ فَ َلهُ أَ ْ‬
‫جرُ اجْتَهَا ِدهِ " (‪ ، )2‬فإن ذلك فيمن اجتهد في قضية لم َي ِردْ فيها َنصٌ من كتاب أو سنة ‪ ،‬و القضية [‪ ]346‬من‬ ‫أَ ْ‬
‫صرّحُوا فيه بتحقيق لم يُبْقِ لحدٍ‬ ‫قضايا الفروع التي هي محل الجتهاد ‪ ،‬فإن الجتهاد له مقام حققه العلماء ‪ ،‬و َ‬
‫مجالً أو مقالً يأتي به في غير ذلك المقام ‪.‬‬

‫َأمّا الصول الدينية فليس للجتهاد فيها محل إجماعاً ممن يعتد بإجماعه من المسلمين ‪ ،‬و من اجتهد فيها فهو‬
‫خارجٌ عن الحقّ ‪ ،‬و عادلٌ عن النهج السوي ‪ ،‬مائل إلى الهوى ‪ ،‬كما قال المام –رحمه ال– في أنوار العقول (‬
‫‪: )3‬‬

‫إلى أن قال ‪:‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫و معنى أن الجتهاد في الصول التي أوجب ال عز و جل الدينونة بها موجب للهلك فيها ‪ ،‬تارك للحقّ ‪ ،‬مائل‬
‫إلى الهوى ‪ ،‬فلذلك يهلك عندهم ؛ َلنّ ال لم يأذن للجتهاد فيها بعدما حكم بها ‪ ،‬و كَّلفَ العباد العمل بمقتضاها ‪،‬‬
‫و إل كان الشرع مُ ْبنِيّا على آراء الناس ‪ ،‬فيجتهدون في كل شيء ‪ ،‬و ل يقول بهذا عاقل ‪ ،‬هذا هو التحقيق لحكم‬
‫هذه القضية عند المسلمين ‪.‬‬

‫و أين الجتهاد في قضايا الصحابة ؟ ‪ ،‬و الحقّ واضحٌ بَ ّينٌ مفروضٌ بالنص الصحيح ‪ ،‬و اللفظ الصريح ‪ ،‬و‬
‫صرّحُ بحكم الباغي و المبغي عليه ‪ ،‬و قد قال ال عز وعل في كتابه ‪ " :‬فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى‬ ‫البراهين التي ُت َ‬
‫تَفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " (‪ )4‬فَبَ ّينَ َأنّ الناس في حال اختلفهم باغٍ ومبغي عليه ‪ ،‬ل ثالث لهما ‪ ،‬و بَ ّينَ َأنّ حكم‬
‫صحّ الجتهاد‬ ‫صحّ لحدٍ تبديل هذا الحكم أو الجتهاد فيه ؟ ‪ ،‬ولو صح ل َ‬ ‫الباغي يقاتل حتى يرجع عن بغيه ‪ ،‬فهل َي ِ‬
‫في كل شيء كما قلنا ‪.‬‬

‫و من أين لمعاوية بن أبي سفيان أن يقاتل علياً و هو إمامٌ بالجماع ‪ ،‬و لم يقترف إثماً يوجب القيام عليه ‪.‬‬

‫و كيف يكون الكل [‪ ]347‬مجتهدين و الصل الذي عليه المام جلي نير ‪ ،‬كالشمس في رابعة النهار ‪ ،‬فما لهؤلء‬
‫القوم ل يكادون يفقهون حديثاً ‪ ،‬بل المجتهد في المور الدينية متهور يجب عليه ترك الجتهاد ‪ ،‬و التوب إلى ال‬
‫مما اقترف و إِلّ كان هالكاً ‪.‬‬

‫وتجب البراءة منه لجل ما ارتكب من الثم الذي ل محتمل له فيه أبداً ‪ ،‬و ل يقبل المسلمون منه صرفاً و ل عدلً‬
‫‪ ،‬إل إذا تاب إلى ال من ذنبه ‪ ،‬و رجع إلى ربه متنصلً ممتثلً أمره ‪ ،‬فمن تاب إلى ال فإن ال يقبل التوبة و‬
‫يعفو عن السيئات ‪.‬‬

‫حقّ ‪ ،‬و ينادي بباطله حتى يشتهر ذلك عنه عند المسلمين ‪ ،‬الذين علموا منه ذلك‬
‫و عليه أن يقوم بتصويب المُ ِ‬
‫الذنب الكبير و الجرم الخطير ‪.‬‬

‫قال المام – رحمه ال– في المشارق ‪ ":‬و َأمّا المج َت َهدُ فيه فهو الحادثة التي لم يوجد حكمها في كتاب و ل سنة‬
‫و ل إجماع " (‪ )5‬أي أن محل الجتهاد الحادثة التي ل يوجد لها حكم في كتب ال ‪ ،‬و ل في سنة رسول ال –‬
‫صلى ال عليه و سلم – و ل في ما أجمع عليه المسلمون ‪.‬‬

‫قال " ف ِإذَا خَالفَ اجتهاده الحقّ المجمع عليه فهو هالكٌ و العياذ بال " (‪ )6‬و أنت تدري أن إمامة علي بن أبي‬
‫شكٌ في أن الخارج على المام المجمع على إمامته غير مبطل ؟ ‪ ،‬ل و ال ‪،‬‬ ‫طالب كانت مجمعاً عليها فهل َبقِيَ َ‬
‫إن علياً كان هو المام الحق الذي اجتمعت المة على إمامته ‪ ،‬و لزمتهم طاعته ما لم ينقضها بشيء ‪،‬‬
‫فالخارجون عليه في تلك الونة مبطلون ول محل للجتهاد هنا ‪ ،‬و المر واضح ‪ ،‬و الحقّ بين ‪.‬‬

‫و المام العدل بين أظهرهم أيقال هنا ‪ :‬ألكل مجتهدون ‪ ،‬و محل الجتهاد قد عرفته ‪ ،‬إنما هنا الواجب تضليل [‬
‫‪ ]348‬الخارجين على المام الحق ‪ ،‬و وجوب قتلهم عليه لنهم بُغَاةٌ على المام ‪ ،‬و ال أمرنا بقتال الباغي بقوله‬
‫‪ " -:‬فَقَا ِتلُوا الّتِي َتبْغِي حَتّى َتفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " (‪. )7‬‬

‫و قد أجمع المسلمون على أن الجتهاد محله فروع الدلة ‪ ،‬لنها هي التي تقبل التأويل ‪ ،‬و بها يقع التنظير ‪ ،‬و‬
‫ذلك مناط الجتهاد ‪ ،‬أما الصول فهي قاطعة لمعنى الجتهاد و النظر إجماعاً ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فافهم فقد اختلط على القوم الحابل بالنابل ‪ ،‬والحالي بالعاطل ‪ ،‬و ظلوا هائمين في دياجى الجهل‪ ،‬يتأولون‬
‫سمِعُوا ثناء رسول ال – صلى ال عليه وآله و سلم – فضاق عليهم الوسيع ‪ ،‬و‬ ‫للصحابة التأويلت الخاطئة ِإذْ َ‬
‫لم يدروا قبيلً من دبير‪ ،‬والحق واضح جلي ‪ ،‬يمكن لمن يفهم عن ال و رسول ال – عليه الصلة والسلم ‪. -‬‬

‫صحّ أن يقال أن الصحابة كلهم مجتهدون ‪ُ ،‬وفّق َمنْ ُوفّق ‪ ،‬و من لم يوفق فهو أيضاً مأجور باجتهاده ‪ ،‬و‬
‫و ل َي ِ‬
‫ل تَ ِب َعةَ عليه فيما فعل ‪ ،‬و ل إثم عليه فيما اجترح ‪ ،‬فإن قضايا الصحابة كلها محكوم فيها من لدن العزيز الحكيم ‪،‬‬
‫و ليس لحد منهم فيها مجال نظر ‪ ،‬بل الواجب إتباع أحكامه عز و جل فيها ‪ ،‬و قد َبيّنَا محل الجتهاد ‪.‬‬

‫ومراعاة أحوال المة واجبة ‪ ،‬فإن الناس يخلقون أشياء ‪ ،‬و يختلقون أحوالً يستترون بها ‪ ،‬ويضعون الباطل في‬
‫صورة الحقّ ‪ ،‬ليتوصلوا به إلى أغراضهم الخاصة ‪ ،‬ويعكسون القضايا حسب الهواء ‪ ،‬و ل يبالون ‪ ،‬و لكن على‬
‫الحاكم على قضاياهم النظر الصحيح و العقل الرجيح ‪ ،‬و أن ل تأخذ به الهواء فيميل إلى ما تهوى ‪ ،‬فإن الحق‬
‫بذلك ل يدري ‪ ،‬و الصحيح من السقيم [‪ ]349‬ل يعرف ‪ ،‬و للناس أهواء سيئة تحملهم إلى ركوب الباطل ‪،‬‬
‫والعتماد على المنهج العاطل ‪ ،‬إذا لم يزعهم وازع ديني ‪]350[.‬‬
‫==================‬
‫(‪ )1‬القلم ‪. 36-35 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في ( ‪ – 76‬كتاب العتصام ‪ – 21‬باب أجر الحاكم إذا اجنهد فأصاب او أخطأ ) (‪ )401/ 4‬رقم ‪ ، 7352‬وأخرجه مسلم في( ‪30‬‬
‫– كتاب القضية ‪– 6‬باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فاصاب أو أخطأ ) ( ‪ )1342 /3‬رقم ‪ ،)1716( 15‬وأخرجه النسائي في (‪ – 49‬كتاب آداب‬
‫القضاء ‪ -3‬باب في الصابة في الحكم ) ( ‪ )223/ 8‬رقم ‪ ، 5381‬وأخرجه أبو داود في ( ‪ – 23‬كتاب القضاء ‪ -3‬باب في القاضي يخطيء) ص ‪513‬‬
‫رقم ‪، 3574‬وأخرجه ابن ماجه في ( ‪ -13‬كتاب أبواب الحكام ‪ -3‬باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق ) ص ‪ 331‬رقم ‪ ، 2314‬وأخرجه أحمد في المسند‬
‫( ‪ ) 490/ 13‬رقم ‪. 17702‬‬
‫(‪ )3‬بهجة النوار شرح أنوار العقول ص ‪4‬‬
‫(‪ )4‬الحجرات ‪. 9 :‬‬
‫(‪ )5‬مشارق أنوار العقول ( ‪)1/178‬‬
‫(‪ )6‬مشارق أنوار العقول ( ‪)1/179‬‬
‫(‪ )7‬الحجرات ‪. 9 :‬‬

‫الخطأ في الدين‬

‫قال المام – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫اعلم َأنّ الخطأ على أنواع منه خطأ بعلم أي يعلم أَنّما فِ ْعُلهُ خطأٌ ‪ ،‬و الخطأ بغير علم أي ل يعلم أنه وقع في خطأ ‪،‬‬
‫خطَأُ و ال ِنسْيَانُ " (‪ )1‬أي رفع إثمهما أما وجودهما فل ‪ ،‬إذ هما موجودان في البشر‬ ‫عنْ ُأمْتِي ال َ‬
‫و الحديث " ُر ِفعَ َ‬
‫‪ ،‬و ل َيسْلَمُ منهما أحد فيما علمنا ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫سرّهَا ‪ ،‬و َردّ إليه أمرها ‪.‬‬
‫فقد أخطأ النبياء والمرسلون عليهم الصلة و السلم و َنسَوْا ‪ ،‬و ذلك لحكمة علم ال ِ‬

‫و منه الخطأ في الدّين إما حكماً ‪ ،‬و إما فتوى أي بأن يخطئ في حكمه أو في فتواه في شيء من الدّين ‪ ،‬أي في‬
‫شيء مما يدين بتحليله فيحرمه أو يدين بتحريمه فيحلله ‪ ،‬فإذا أخطأ المفتي في فتواه عُفِيَ عن إثم خطأه ‪ ،‬أي ل‬
‫إثم عليه في الخطأ المشار إليه ‪.‬‬

‫قال المام – رحمه ال– في المشارق ‪ " :‬اعلم َأنّ الخطأ ِإمّا أن يكون من عالم فيما علمه ‪ ،‬أو من جاهل فيما‬
‫جهله ‪ ،‬وعلى كل حال ِإمّا أَن يكون خطأ في الدين ‪ ،‬أي فيما ل يجوز الخطأ فيه ‪ ،‬أو في غير الدين ‪ ،‬والمراد به‬
‫ما يسع الخلف فيه ‪ ،‬و على كل أيضاً فل يخلو ذلك المخطأ فيه إما أن يتعلق به اتلف مال الغير أو ل ‪ ،‬فإن وقع‬
‫الخطأ من العالم [‪ ]351‬في الدّين ‪ ،‬وهُوَ الذي َو َردَ فيه دليل قطعي كتوريث الم السدس عند وجود الولد أو‬
‫الخوة فقصد إلى ذلك َفزَلّتْ لسانه فقال لها الثلث فل إثم عليه و ل ضمان ‪ ،‬و إنما الثم والضمان على الذي قَبِلَ‬
‫ع ِملَ به ‪َ ،‬لنّ خطأ العالم مرفوع عنه ‪ ،‬و إصابته مثاب عليها إجماعاً" َلنّ قوله ذلك‬
‫منه ذلك الخطأ الباطل و َ‬
‫صرّحَ الكتاب والسنة بعفوه من ذلك إجماعا ‪ " ،‬و أما إن كان خطأه في غير الدين‬ ‫خرج عن غير قصد منه ‪ ،‬وقد َ‬
‫" أي في غير ما ورد النص فيه " فهو أولى بالعذر فيه ‪ ،‬و ل ضمان عليه‪ ،‬و ل إثم عليه ‪ ،‬و ل على من قبل‬
‫صحّ له أن يقول به على‬ ‫فتواه وعمل بها ‪ ،‬لن المقام مقام خلف ‪ ،‬أل ترى لو أن ال أظهر له ذلك بالدليل أنه َي ِ‬
‫قصد منه إليه ‪ ،‬وإن خالفه من خالفه" ‪)2( .‬‬

‫سمّي المستحل مستحلً لعتقاده َأنّ ما فعله هو حلل له فعله ‪ ،‬أو قاله إن كان ذلك قولياً ‪ ،‬أو َأ َقرّهُ إن كان‬ ‫وُ‬
‫تقريراً ‪ ،‬فهو يدين ِبحِّلهِ ‪ ،‬ويفعله على ذلك القصد ‪.‬‬

‫و هو في الحقيقة ضالٌ بما ارتكب ‪ ،‬فَاسقٌ بما فعل ‪ ،‬تجب البراءة منه بعد تتويبه و تبيين الحقّ له ‪ ،‬و كشف‬
‫ضلله الذي ارتكبه ‪ ،‬و إيضاح الحقّ في قضاياه التي استحلها ‪.‬‬

‫و منه القول بالرؤية ‪ ،‬و اعتقاد خروج العصاة من النار ‪ ،‬فإن القول بهذا حرام ‪ ،‬لنه مصادم للنص ‪ ،‬ومعارض‬
‫للحقّ ‪ ،‬فإذا َب ّينَ له الحقّ وتاب ِممّا دان به من الضلل قُبِلَ منه ‪ ،‬و إل وجبت البراءة منه بعد التتويب إذ قامت‬
‫صرّ على باطله ‪ ،‬فل مقال فيه إل البراءة منه ‪.‬‬ ‫عليه الحجة ‪ ،‬و َأ َ‬

‫قال في المشارق ‪ " -:‬و المستحل هو الذي يأتي الشياء المحرمة في دين ال تعالى اعتقاداً منه أنها حلل ‪،‬‬
‫متمسكاً على ذلك بشبهة [‪ ]352‬من كتاب ‪ ،‬أو سنة ‪ ،‬أو إجماع ‪ ،‬فهو جازم بتلك الشبهة و معتقد أنها الدليل‬
‫القاطع ‪ ،‬و يلتزم بها تخطئة من خالفه في ذلك ديناً (‪ " )3‬أي دائناً بذلك ل حسب نظره ‪.‬‬

‫قال ‪َ " -:‬أمّا إذا كان بغير تلك المثابة فليس هو بالمستحل ‪ ،‬و إن اعتقد حِلّ ذلك المحرم ‪ ،‬أو تحريم ذلك المحلل ‪،‬‬
‫فإنما هذا جاهل بقواعد الدّين الذي هو عليه ‪ ،‬و حكم التائب المحرم هو الذي يأتي الذنب المحرم " أي يرتكب‬
‫المر الذي حرم ال ارتكابه على وجه يعتقد أن ذلك الذنب المحرم جائز الفعل ‪ ،‬فإن توبته منه إجمالً كافية‬
‫مجزية ‪ " ،‬فل يطالب بتفصيل ذنباً ذنباً" أي كل ذنب على حدة " بل إذا قال أنا تائب إلى ال من جميع ذنوبي قبل‬
‫منه ‪.‬‬

‫أما المستحل لركوب ما ارتكب فعليه أن يتوب منه تفصيلً " أي إذا كانت له عدة ارتكابات في ذنوبه ‪ ،‬و كان‬
‫يدين باستحللها فِإنّه ل يجزيه التوب منها إجمالً بل عليه أن يتوب منها تفصيلً ذنباً ذنباً ‪ ،‬كل ذنب على حدة‬
‫لنه كان يعتقدها ديناً ‪ ،‬فإن قال أنا تائب من جميع ذنوبي لم يدخل فيه الذنب الذي استحله إذ ليس ذلك ذنباً عنده‬
‫"‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫قال المام – رحمه ال‪ " : -‬و هذا فيما بينه و بين الناس ‪َ ،‬أمّا بينه وبين ربه فإذا اعترف بخطأه وبضللته فيه‬
‫عزَمَ أن ل يعود إلى شيء منه ‪ ،‬وطلب الغفران من ربه لمجمل ذنبه‬ ‫فَ َندِمَ على استحلله بذلك ‪ ،‬وارتكابه له و َ‬
‫فإنه يجزيه ذلك ‪ ،‬و قيل تجزيه التوبة أيضا إجمالً حتى عند الناس ‪ ،‬ويقبل منه إن علم أنه راجع عن ذلك الذنب‬
‫الذي استحله " ‪ ،‬قال ‪ " -:‬وهو قول محمد بن محبوب (‪ – ]353[ )4‬رحمهم ال – أفتى به في حق محمد بن‬
‫عباد (‪ ، )5‬وقد اسْتَحَلّ أشياء فتاب منها عند المسلمين إجمالً ‪ ،‬فطلبوا منه التفصيل فبقي كالجمل المحرنجم إن‬
‫ع ِقرَ ‪ ،‬فأفتى ذلك المام الرحيلي حين إذ بذلك القول و قبلوا منه إجماله " (‪. )6‬‬
‫حرَ ‪ ،‬وإن تأخر ُ‬
‫تقدم ُن ِ‬

‫قال المام – رحمه ال‪ " : -‬و في الثر ما [ نصه] وسألته عمن يتوب فقال ‪ :‬استغفر ال ِمنْ كُلّ ما دِ ْنتُ به من‬
‫الباطل ‪ ،‬و من جميع ما خالفت فيه الحقّ ‪ ،‬أيجزيه ذلك إذا كان قد دان بشيء من الباطل أو تولى عدواً أو عادى‬
‫ولياً ؟ قال ‪ :‬يجزيه ذلك إذا كان َتدَيّ ُنهُ من جهة خطأ أو قذف ‪ ،‬وقال َمنْ قال ‪ :‬ل يجزيه في هذا ‪ ،‬وإن كان تدينه‬
‫بشيء من البدع والضلل ‪ ،‬فذلك ل يجزيه حتى يتوب من ضللته تلك بعينها إل أن يكون نسيه وقد تاب من‬
‫جميع ذلك ‪ ،‬فإن ذلك يجزيه فيما بينه و بين ال " ‪.‬‬

‫قال المام ‪ " :‬ففي هذا الثر تفصيل َب ْينَ ما إذا كان المستحل من أحد الفرق الضالة المعتقدة لستحلل ما حرم ال‬
‫كالزارقة ‪ ،‬و بين ما إذا كان أصله من أهل الستقامة فاستحل شيئاً في دين ال هو حرام بدليل في زعمه‬
‫حكِ فيه إل عدم‬
‫فاجتزى بالجمال في حق هذا الخير بعض ‪ ،‬ولم يجتز البعض الخر ‪ ،‬و أما المستحل الول فلم َي ْ‬
‫الجتزاء بالجمال قولً واحداً ‪.‬‬

‫و َمنْ أتى شيئاً فيه حقوق العباد كأخذ المال الغير ‪ ،‬أو ارتكاب فرج محرم غصبا ‪ ،‬أو كان تأثير في نفس بما ل‬
‫يَحِلّ و نحو ذلك ‪ ،‬ف ِإمّا أن يأتيه ذلك الفاعل وهو معتقد حرمته فعليه مع التوبة غرمه لصاحبه ‪ ،‬و ل تجزيه‬
‫التوبة وحدها إن كان قادراً على [‪ ]354‬الغرم ‪ ،‬أما إذا كان غير قادر كما إذا تَ َع ّذرَ عليه وجود صاحبه ‪ ،‬أو َت َعذّرَ‬
‫عليه وجود ما يتخلص به ‪ ،‬فإنه يجب عليه حينئذ أن يعتقد الخلص منه عند القدرة عليه ‪ ،‬فإن حضره الموت‬
‫جدْ إلى التخلص سبيلً ‪ ،‬و جبت عليه الوصية به ‪ ،‬و ل شيء عليه فوق ذلك " ‪ ،‬أي أن ذلك هو نهاية ما‬ ‫ولم َي ِ‬
‫عليه ‪ ،‬و ذلك المستطاع في حقه ‪َ " ،‬أمّا إذا كان أتاه وهو يعتقد حِّلهُ ‪ ،‬فحكمه بعكس من أتاه و هو يعتقد‬
‫حرمته ‪ ،‬أي فتجزيه التوبة من ذلك الشيء دون غرمه ‪ ،‬سواء كان قائماً في يده أو كان قد أتلفه " (‪ )7‬اهـ‬
‫بتصرف يسير ‪.‬‬

‫ول يخفى عليك هذا الحكم َو َردَ في الكتاب العزيز في حق المشركين قال ال عز و جل ‪ " :‬قُل لِّلذِينَ كَ َفرُواْ إِن‬
‫عمّا سَ َلفَ مما أجترحُوه من أموال وغيرها ‪ ،‬و‬ ‫يَنتَهُواْ ُيغَ َفرْ َلهُم مّا َقدْ سَ َلفَ " (‪ )8‬فأثبت لهم المغفرة و العفو َ‬
‫ع ْلمِهَا ‪َ ،‬ف َمنْ َأسَْلمَ‬
‫عليه أيضاً قوله – عليه الصلة والسلم ‪ " : -‬إِ ّنمَا قِيلَ لِلجَاهِلِيةِ جَاهِلِيةٌ لِجَهَا َلةِ َأهْلِهَا وضَ ْعفِ ِ‬
‫يءٍ وَ هُوَ فِي َي ّدهِ فَهُوَ َلهُ " (‪ )9‬فتراه – صلى ال عليه و آله و سلم – ملّك المشرك ما أخذه مستحلً في‬ ‫عَلَى شَ ْ‬
‫دينه ‪ ،‬و لم يقل بنزعه منه ‪ ،‬و جاء في حديث سلمان – رضي ال عنه – حين أمره رسول ال – صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم – أن يستكتب و هو على دين ‪ ،‬فباعه المشركون لليهود ‪ ،‬فأمره – صلى ال عليه و سلم – أن‬
‫يستكتب فستكتب ‪ ،‬و كذلك حكم رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – في دور مكة ورباعها ‪ ،‬و قد دخلها‬
‫غصْبٍ ‪ ،‬و كان للمسلمين‬ ‫عنْوَة فهي لهم ‪َ ]355[ ،‬فسَ ّوغَ لهم جميع ما في أيديهم من َكسْبٍ أو َ‬ ‫على أهلها َ‬
‫المهاجرين فيها دور خرجوا عنها للهجرة و هي ملكهم ‪ ،‬فخالف عليها المشركون من بعدهم و اغتصبوها فهنأها‬
‫رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و لم يردها لهلها ‪ ،‬و ل انتزع من أيدي المشركين شيئاً مما كان ملكاً‬
‫للمهاجرين ‪ ،‬ولم يُنْقَلْ عنه أَ ّنهُ َردّ على أحدٍ من المهاجرين داره ‪ ،‬أو شيئاً من ملكه مما وضع عليه المشركون‬
‫أيديهم ‪.‬‬

‫وقد اغتصب عقيل بن أبي طالب دور رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – ودور بني عبد المطلب ‪،‬‬
‫وصارت دار خديجة زوج النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – إلى أبي سفيان بن حرب غصباً ‪ ،‬وهي التي كان‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فيها مولد ابنته عليه السلم ‪ ،‬وهي فاطمة الزهراء ‪ ،‬و كذلك اغتصب أبو سفيان أيضا دار أبي أحمد بن جحش‬
‫فاستعدى عليها رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – فلم يعده أي شكاه إلى رسول ال – صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم – فلم يشكه أي لم يسمع شكايته و لم يلتفت إليها ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال دار أبي اغتصبها أبو‬
‫سفيان ‪ ،‬فعرض عنه رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – فأتاه من على يمينه ‪ ،‬فأعرض عنه ‪ ،‬ثم أتاه من‬
‫على شماله فأعرض عنه ‪ ،‬ثم مضى و تركه ‪ ،‬و قال أحمد بن جحش يُ َع ّرضُ بأبي سفيان في ذلك ‪:‬‬

‫و ابتاعت تلك الدار في غلء دور مكة بمائة ألف دينار ‪ ،‬فشتراها أبان بن عثمان (‪ )10‬في دور كثيرة على هذا‬
‫الحال ‪.‬‬
‫================================‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن ماجة في ( ‪-10‬كتاب الطلق ‪ – 16‬باب طلق المكره والناسي ) ص ‪ 293- 292‬رقم ‪، 2043‬‬
‫وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( ‪ ) 7/584‬رقم ‪ ، 15094‬وأخرجه أيضا في معرفة السنن والثار ( ‪/ 14‬‬
‫‪ )186‬رقم ‪ ، 19590‬وأخرجه الحاكم في المستدرك ( ‪ ) 216 / 2‬رقم ‪ ، 2801‬وأخرجه الدار قطني في سننه‬
‫( ‪ )99 / 4‬رقم ‪ ، 4306‬وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الثار ( ‪ ، )3/95‬وأخرجه الطبراني في المعجم‬
‫الكبير (‪ ) 134- 133 /11‬رقم ‪ ، 11274‬وأخرجه أبو نعيم في الحلية ( ‪. ) 352 /6‬‬
‫(‪ )2‬مشارق أنوار العقول ( ‪)201- 1/200‬‬
‫(‪ )3‬مشارق أنوار العقول (‪)386 /2‬‬
‫(‪ )4‬محمد بن نحبوب بن الرحيل القرشي المخزومي ( ‪ 160‬هـ ‪ 260-‬هـ ) أبو عبدال أحد أئمة الباضية في‬
‫المشرق ‪ ،‬محث ‪ ،‬فقيه ‪ ،‬مؤرخ ‪ ،‬بلغ الجتهاد المطلق ‪ ،‬ورئاسة العلماء في عصره ‪ ،‬له موسوعة فقهية في‬
‫سبعين جزءاً ‪ ،‬له عدة سير ‪ ،‬منها سيرته إلى أهل المغرب ‪ ،‬وسيرته إلى أهل حضرموت ‪.‬‬
‫أنظر المام محمد بن محبوب حياته وآثاره بحث يخرج بمعهد العلوم الشرعية بأكمله ‪.‬‬
‫(‪ )5‬محمد بن عباد المدني ( ق ‪ 201‬هـ ) من متكلمي الباضية الوائل‪ ،‬له كتاب ضخم في المسائل الكلمية ‪،‬‬
‫يعف ب " كناب ابن عباد " ‪.‬‬
‫معجم أعلم الباضية ( ‪. )807 /4‬‬
‫(‪ )6‬مشارق أنوار العقول ( ‪)387 / 2‬‬
‫(‪ )7‬مشارق أنوار العقول ( ‪) 390- 2/388‬‬
‫(‪ )8‬النفال ‪. 38 :‬‬
‫(‪ )9‬لم أتمكن من تخريجه ‪.‬‬
‫(‪ )10‬أبان بن عثمان بن عفان الموي القرشي ( ت ‪ 105‬هـ ) أول من كتب في السيرة النبوية ‪ ،‬مولده ووفاته‬
‫في المدينة ‪ ،‬شارك في وقعة الجمل مع عائشة ‪ ،‬وتقدم عند خلف بني أمية ‪ ،‬فولي إمارة المدينة ‪ ،‬وكان من رواة‬
‫الحديث الثقات ‪ .‬العلم ( ‪. ) 27 / 1‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و قال أسامة بن زيد في يوم الفتح لرسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – و كانت رجل رسول ال – صلى‬
‫ال عليه و آله وسلم – بيده أي يريد أن يركب راحلته أين [‪ ]356‬تنزل غداً يا رسول ال ؟ فقال – صلى ال‬
‫طحِ " و المعنى أن منازلنا كلها استولى عليها‬ ‫عليه و سلم ‪ " : -‬وَ هَلْ َت َركَ لَنَا عَقِيلٌ َم ْنزِلً أَ ْنزِلُ فِيهِ ؟ أَ ْنزِلُ بِالَبْ َ‬
‫عقيل فهي له إذ أسلم عليها ‪ ،‬وقال عمر بن الخطاب – رضي ال عنه ‪ " : -‬و لسنا بنازعين شيئاً في يد أحد إذا‬
‫أسلم عليه " و المعنى يتملكه بنفس إسلمه عليه ‪ ،‬إذ السلم جب لما قبله ‪.‬‬

‫قال المام – رحمه ال‪ " : -‬و على هذا اجتمعت المة المحمدية " (‪ )1‬قال ‪ " -:‬و أما المرتد إذا أخذ شيئاً من‬
‫أموال المسلمين بعد ارتداده ‪ ،‬فإذا أسلم عليه قال أبو حنيفة ‪ :‬عليه رده ‪ ،‬و المذهب ل َردّ عليه إذ ل َفرْقَ بينه‬
‫وبين سائر المشركين " ‪ ،‬قال ‪ " - :‬و كذلك ال ّذمِي ِإذَا أخذ شيئاً من أموال المسلمين ثم أسلم عليه رأى‬
‫الزمخشري (‪ )2‬رده ‪ ،‬و صححه القطب – رحمه ال– " ‪ ،‬قال ‪ " - :‬وعندنا ل َردّ عليه إذ ل َفرْقَ بينه وبين‬
‫غيره من سائر المشركين " ‪ ،‬قال ‪ " -:‬و إخراج المرتد و الذمي من عموم الدليل محتاجٌ إلى دليلٍ " ‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬و كذلك ما اغتصبه المشركون من أموال المسلمين هل يكون لهم و تجوز معاملتهم فيه أم ل و الظاهر‬
‫َأنّ ذلك داخلٌ في حكم الَوَّل ْينِ " قال المام ابن بركة (‪ " -: )3‬ليس لهم ذلك ‪ ،‬و ل تجوز معاملتهم فيه " ‪ ،‬قال‬
‫المام ‪ " -:‬و عليه صاحب السؤالت (‪ )4‬و المام أفلح بن عبد الوهاب (‪ )5‬و المحقق الخليلي – رحمهم ال و‬
‫رضي عنهم – " ‪ ،‬قال ‪ " -:‬ولعلهم يستدلون على ذلك بقوله عز و جل ‪َ " -:‬ولَن َيجْعَلَ الّ ِللْكَا ِفرِينَ عَلَى‬
‫ا ْلمُ ْؤمِنِينَ سَبِيلً " (‪ " ، )6‬قال‪ " -:‬وذلك غير ظاهر ‪ ،‬و جعلهم منزلة المشرك إذا أسلم على شيء في يده كذلك‪،‬‬
‫لن هؤلء مغتصبون ونفس الغتصاب ل يُحِلّ لهم أموال المسلمين ‪ ،‬و لو كانت أموال المسلمين َتحِلّ للمشركين‬
‫بنفس اغتصابهم [‪ ]357‬له كان داعياً لهم إلى الغتصاب على هذه الحوال يلحظ هؤلء الئمة العلم " (‪. )7‬‬

‫قلت ‪ :‬الواضح عدم الفرق ‪ ،‬قال المام الربيع (‪ )8‬و أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم (‪ )9‬و أهل التحقيق من‬
‫علمائنا أهل المغرب – رحمهم ال و رضي عنهم – و صححه القطب ابن يوسف ليس لصاحبه أن يأخذه منهم ‪،‬‬
‫و تجوز معاملتهم فيه ‪ ،‬وهذا القول سَهّلَ من أمر أهل زنجبار في هذه الونة التي نحن فيها إذ هجم الكفار على‬
‫أموال المسلمين و اغتصبوها قهراً و قسراً ‪ ،‬بل وقتلوا غالب أهلها ‪ ،‬واضطر المسلمون الباقون بها إلى‬
‫معاملتهم فيها ‪ ،‬و يدل لهذا ما دل على ما قبله ‪ ،‬و هو أن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – أبقى‬
‫المشركين على ما أخذوه من أموال المسلمين ‪ ،‬و تركه يوم الفتح في أيديهم ولم ينزعه منهم ‪َ ،‬فدَلّ ذلك أنه‬
‫لهم ‪ ،‬و هذا هو بعينه الدليل بذلك ‪ ،‬و أمره سلمان – رضي ال عنه – أن يستكتب من اليهودي ‪ ،‬و سلمان ذو‬
‫دين و كان باعه المشركون على اليهودي ‪.‬‬

‫سلِ ٍم‬
‫قال ‪":‬و دليل المانعين قوله – صلى ال عليه وآله وسلم – ‪ ":‬لَ حَقّ لِ ِعرْقِ ظَالَمٍ ولَ ثُوَاءَ عَلى مَالِ ا ْمرِءٍ ُم ْ‬
‫" (‪ ، )10‬و ما رواه نافع عن ابن عمر أنه قال ‪ " :‬ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرده عليه‬
‫في زمن النبي – صلى ال عليه وآله و سلم – ‪ ،‬وأبق عبداً له فلحق بالروم فظهر عليه المسلمون فرده عليه‬
‫خالد بن الوليد – رضي ال عنه – بعد النبي – صلى ال عليه وآله وسلم – و ذلك في زمان أبي بكر – رضي‬
‫ال عنه – و الصحابة يومئذ متوافرون من غير نكير منهم على ذلك " (‪. )11‬‬

‫قال " و تكلموا على استدلل من استدل باغتصاب أبي سفيان بأن أباسفيان كان أسلم قبل المطالبة ‪ ،‬و كذلك‬
‫قضية سلمان – رضي ال عنه – إنما أخذه المشركون قبل أن يظهر السلم و هو يوم إذ نصراني ‪ ،‬و ل يخفى‬
‫ش ْركٍ ‪ ،‬و أيضاً‬
‫ما في النصرانية من جعل عيسى – عليه السلم – ولداً [‪ ]358‬و جعل الله ثلثة ‪ ،‬و كُلّ ِ‬
‫فاليهودي الذي استكتب منه سلمان لم يغتصب سلمان بنفسه ‪ ،‬و إنما اشتراه من غيره فما لم تقم بينه أنه‬
‫مغتصب فهو ملك لليهودي ‪ ،‬و عند وجود هذه الحتمالت ل يتم ذلك الستدلل ‪ ،‬فظهر أن الصحيح ما عليه‬
‫الولون " ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫قال ‪ -:‬وأما الموحد المقر برسالة محمد – صلى ال عليه وآله وسلم – الدائن بان ما جاء به محمد – عليه‬
‫حقّ ‪ ،‬إذا استحل بتأويل الخطأ ما كان حراماً في دين ال عز و جل كالزارقة و من في معناهم‬ ‫الصلة والسلم – َ‬
‫من الصفرية في حكمهم على أهل القبلة بحكم المشركين في استحال سفك دمائهم ‪ ،‬حِلّ غنيمة أموالهم ‪ ،‬متأولين‬
‫تأويلً خاطئاً من َأنّ َمنْ خَالَف مذهبهم فهو مشركٌ حللُ الدّمِ و المالِ ‪ ،‬وهم يتأولون آية المَ ْي َتةِ كما هو شهير‬
‫مذهبهم فهل يكون حكمهم في ما استحلوا كحكم المشركين ‪ ،‬ليس عليهم إل التوبة منه أما ل ؟ ‪.‬‬

‫ذهب بعضهم إلى أن حكمهم حكم المشركين قياساً عليهم بجامع الستحلل ‪ ،‬وجعلوا منه أيضا خروج عائشة أم‬
‫المؤمنين – رضي ال عنها – على المسلمين فسفكت بسبب خروجها الدماء فلما تابت قبل المسلمون منها و لم‬
‫يلزموها شيئا من الحقوق ‪ ،‬وجعلوا أيضاً منه خروج علي بن أبي طالب على أهل النهروان وقتله لهم حتى قالوا‬
‫لو تاب علي ما كان عليه إل ذلك ‪ ،‬لنه متأول فأخطأ ‪.‬‬

‫قال المام محمد بن محبوب – رضي ال عنهما ‪ : -‬و زعمت البهشمية (‪ )12‬أن علياً قد تاب من ذلك ‪".‬‬

‫قال ‪ " -:‬واختلفوا أيضاً في هذا المستحل حسب اختلفهم فيما [‪ [ ]359‬اغتصبه ] المشركون من أموال‬
‫المسلمين هل يكون لهم قبل أن يسلموا عليه أم ل ؟ ‪ ،‬فمنهم َمنْ َذهَبَ إلى َأنّ ما أخذه المغتصب على وجه‬
‫الستحلل كان له و ليس لربه أن يأخذه منه ‪ ،‬و تجوز معاملته فيه و لو لم يتب من استحلله ‪ ،‬و منهم من ذهب‬
‫إلى أن ذلك ليس للمستحل إل إذا تاب عليه ‪ ،‬و ل تَحِلّ معاملته فيه قبل التوبة ‪ ،‬و لصاحبه أن يأخذه ِإنْ َقدَرَ عليه‬
‫‪ ،‬و قيل َأنّ الحكم المذكور مخصوص بالمشركين ‪ ،‬و أن الموحد المستحل ل يشابههم في ذلك الحكم ‪ ،‬فعليه أن‬
‫يرد جميع ما اغتصبه أو ضمانه إن كان قد أتلفه قبل التوبة وبعدها ‪ ،‬و لعلهم رأوا أن علة الحكم هنا الشرك ل‬
‫الستحلل ‪ ،‬فلم توجد العلة في الموحد عندهم فلم يثبت ‪ ...‬و َفصّلَ بعضهم قائلً إن تاب هذا المستحل وفي يده‬
‫غرْمَ عليه‬ ‫شيء من المغتصبات قائم العين لزمه رده إلى أربابه ‪ ،‬و إن تاب وليس في يده شيء قائم العين فل ُ‬
‫" (‪. )13‬‬

‫سرَ " (‪)14‬‬


‫سرَ َولَ ُيرِيدُ بِ ُكمُ ا ْل ُع ْ‬
‫قال المام – رحمه ال– " ‪ -:‬و كأنهم نظروا إلى قوله تعالى ‪ُ " :‬يرِيدُ الّ بِ ُكمُ الْ ُي ْ‬
‫حرَجٍ " (‪. )15‬‬
‫علَيْ ُكمْ فِي الدّينِ ِمنْ َ‬
‫جعَلَ َ‬
‫و قوله عز و جل " مَا َ‬

‫قال " و وجه الستدلل بهاتين اليتين َأنّ َمنْ كان مستحلً لشيء ل يكاد يتوقف عند القدرة عليه فهو منهمك فيه‬
‫و متهور ‪ ،‬فإن ظهر له خطأه و أراد التوبة منه ل يكاد يتيسر له الخلص منه لعظم ما أتلفه ‪ ،‬فحصلت له‬
‫المشقة و الحرج ‪ ،‬و ل مشقة ول حرج عليه في رد ما كان في يده ؛ فظهر الفرق عند هؤلء " ‪ ،‬قال ‪ " -:‬وعلى‬
‫هذا المذهب " (‪. )16‬‬

‫كان قد عَوّلَ على هذا المام السالمي ثم ظهر له بعد [‪ ]360‬ذلك ضعف هذا القول ‪.‬‬

‫قال ‪ " -:‬و وجه ضعفه َأنّ علته هذه غير مطردة ‪َ ،‬لنّ َمنْ تَهَ ّورَ في شيء وهو منتهك لزمه غرمه اتفاقاً ‪ ،‬سواء‬
‫شَقّ عليه ذلك أم ل ‪ ،‬فلو كان شدة عسر و وجود المشقة رافعين للضمان لرفعا عن هذا المنتهك المتهور أيضا ‪،‬‬
‫فظهر أن العلة الرافعة للضمان إنما هي الستحلل مطلقاً أو مقيداً بالتوبة كما هو عند أهل القول الول ‪ ،‬أو‬
‫الشرك مطلقاً أو مقيداً بالسلم كما هو عند أرباب القول الثاني ‪ ،‬و إذا دار المر بين ترجيح المذهب الول أو‬
‫الثاني قلنا أن الراجح أن العلة الرافعة للضمان هي الشرك بقيد السلم فل يكون ما اغتصبه المشرك ملكاً له‬
‫حتى يسلم عليه لما َمرّ ‪ ،‬و ل يشترط في المشرك أن يكون مستحلً لما اغتصبه لما صَحّ أن رسول ال – صلى‬
‫حطّ ضمان ذلك عن جميع المشركين من أهل الكتاب أو غيرهم ‪.‬‬ ‫ال عليه و آله وسلم – قد َ‬

‫ول شك أن أهل الكتاب يعرفون حقية ما جاء به محمد – صلى ال عليه وآله وسلم – لقوله تعالى ‪ " -:‬اّلذِينَ‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫آتَ ْينَاهُمُ الْكِتَابَ يَ ْع ِرفُو َنهُ َكمَا يَ ْع ِرفُونَ أَ ْبنَاءهُمْ " (‪ ، )17‬و من عرف الحقّ ل يعتقد حِلّ معاندته ‪ ،‬و ل قتال أهله ‪،‬‬
‫و ل يستحل أموالهم ‪ ،‬فظهر بحمد ال أن العلة في ذلك الشرك " (‪ )18‬أي بقيد السلم عليه ‪ ،‬و العلم عند ال ‪.‬‬

‫هذا تحقيق المقام كما تراه واضحاً جلياً ‪ ،‬فاشدد به يدك فإنك ربما ل تجده كما هنا مفصلً ومؤصلً ‪ ،‬و الحمد ال‬
‫‪]361[.‬‬

‫لقد عرفت حقيقة المستحل مما تقدم ‪ ،‬و بيان الستحلل في الدّين و حكمه عند المسلمين من أَنّه ضالٌ ‪ ،‬فاسقٌ ‪،‬‬
‫حرّمَ ال ‪ ،‬و ل عذر له في‬ ‫منافقٌ ‪ ،‬ل نتوله ‪ ،‬و ل ُنصَوّ َبهُ في فعله ‪ ،‬بل نتبرأ منه إن بَقِيَ على استحلله لما َ‬
‫ضلّل‬ ‫استحلله ‪ ،‬و لو ادعى الجهل بمعرفته لذلك ‪ ،‬فهو باق على فسقه ‪ ،‬ولو كان معذوراً لذلك لحكم بالنجاة لل ُ‬
‫الذين بغوا في الدّين ‪ ،‬و خالفوا المسلمين ‪ ،‬و انتحلوا لهم مذاهب اعتمدوا عليها ‪ ،‬و أقوالً ركنوا إليها ‪ ،‬و ل‬
‫يرضى ال عز و جل غير الحقّ ممن كان وفي أي زمان ‪ ،‬فإن المتقاتلين في كل زمان كل فريق ُيصَوّبُ نفسه ‪،‬‬
‫جرَ بَيْنَ ُهمْ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ‬
‫و َي ّدعِي الحقّ له ‪ ،‬والصدق معه ‪ ،‬و بذلك يكون معذوراً ‪ " -:‬لَ َورَ ّبكَ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ حَتّىَ يُ َ‬
‫حرَجًا ّممّا َقضَيْتَ وَ ُيسَّلمُواْ َتسْلِيمًا " (‪. )19‬‬
‫جدُواْ فِي أَن ُفسِهِمْ َ‬
‫ثُمّ لَ يَ ِ‬

‫فعلى من استحل شيئاً يجب عليه القلع عن استحلله ‪ ،‬و الرجوع فيه إلى الحقّ ‪ ،‬و َردّ ذلك الشيء المستحل إلى‬
‫أهله ‪ ،‬و العتراف عند المسلمين اعترافاً صحيحاً شاهراً ظاهراً أنه راجع عما كان عليه ‪ ،‬تائب إلى ال عز و‬
‫جل منادياً بذلك عند كل من علم استحلله ‪ ،‬حتى يرجع إلى الولية عند المسلمين ‪ ،‬و يدخل في حضيرة المؤمنين‬
‫‪ ،‬فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له ‪ ،‬و ذلك من فضل ال علينا و على الناس ‪ ،‬ومن عظيم رحمته ‪.‬‬

‫فمن كان اعتقد استحلل دماء المسلمين أو استحلل أمولهم بدين فعليه أن يشهر رجوعه ‪ ،‬ويشيعه راجعا‬
‫حرّمَ ال ‪ ،‬و محللً لما أَحَّلهُ ال ‪ ،‬ف ِإنّ الخطأ في الدّين ل‬
‫حرِماً لما َ‬
‫متنصلً إلى ال دائناً بخطأ ما كان عليه ‪ُ ،‬م َ‬
‫صحّ ‪ ،‬و ل يعذر الذي يأتيه حتى [‪ ]362‬يرجع و يتوب إلى ال‪.‬‬ ‫َي ِ‬

‫=======================‬
‫(‪ )1‬مشارق أنوار العقول ( ‪. ) 392 /2‬‬
‫(‪ )2‬محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري ( ‪ 467‬هـ ‪ ) 538 -‬أبو القاسم ‪ ،‬جار ال ‪ ،‬من أئمة العلم بالدين والتفسير ‪ ،‬واللغة والداب ‪ ،‬من‬
‫اشهر كتبه الكشاف ‪ ،‬وأسس البلغة والمفصل وغيرها ‪ .‬العلم ( ‪) 178 / 7‬‬
‫(‪ )3‬عبدال بن محمد بن بركة السليمي الزدي البهلوي ( ت ‪ 362 :‬هـ ) أبو محمد ‪ ، ،‬أحد أقطاب المذهب الباضي ‪ ،‬وأحد المجددين في الفقه‬
‫الباضي ‪ ،‬كان عالماُ مجنهداً محقق ‪ ،‬أصولي ‪ ،‬له عدة كتب أشهرها الجامع والتقييد والتعارف وغيرها ‪ .‬أنظر مقدمةكتاب المام ابن بركة السليمي‬
‫ودوره الفقهي في المدرسة الباضية ‪.‬‬
‫(‪ )4‬عثمان بن خليفة السوفي المارتي ( ق ‪ 60 :‬هـ ) أبو عمرو ‪ ،‬أحد أعلم الباضية البارزين ‪ ،‬أحي المذهب الباضي بتآليفه الهامة ‪ ،‬امتاز بمقدرته‬
‫الجدالية في الدفاع عن المذهب ‪ ،‬من أشهر كتبه السؤالت ‪ ،‬وهو من أهم مصادر الباضية في العقيدة ‪ ،‬له كتاب رسالة في الغرق ‪ .‬معجم أعلم‬
‫الباضية ( ‪) 601 /3‬‬
‫(‪ )5‬أفلح بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم ( ت ‪ 258‬هـ ) أبو اليقظان ‪ ،‬ثالث الئمة الرستميين حكم بين ( ‪ 208‬هـ ‪ 258 -‬هـ ) ‪ ،‬كان عالماً‬
‫من أكبر علماء زمانه فقيهاً وشاعراً ‪ ،‬وقد تصدر صغيراً للتدريس ‪ ،‬إ نفرد بآراء في علم الكلم و أعتبر لذلك إماماً ‪ ،‬من مؤلفاته رسالة في خلق القرآن‬
‫‪ .‬معجم أعلم الباضية ( ‪) 120 /2‬‬
‫(‪ )6‬النساء ‪. 141 :‬‬
‫(‪ )7‬لم أجد في المطبوع سواء طبعة دار الجيل بتحقيق د ‪ .‬عبد الرحمن عمبرة أو طبعة دار الحكمة بتحقيق عبد المنعم العافي ‪ ،‬وربما هذه المناقشة من‬
‫كلم المؤلف وال أعلم ‪.‬‬
‫(‪ )8‬الربيع بن حبيب بن عمرو الفراهيدي ( ت ‪ 175 :‬هـ ‪ 180 -‬هـ ) أبو عمرو ‪ ،‬محدث ‪ ،‬حافظ ‪ ،‬متقن ‪ ،‬من أهل البصرة ‪،‬ومن أهم آثاره الجامع‬
‫الصحيح الذي رتبه أبو يعقوب الوارجلني ‪ ،‬ووله إجابات وفتاوى في العبادات والمعاملت ‪ ،‬وكتاب آثار الربيع ‪ .‬العلم ( ‪ ) 14 /3‬وانظر المام الربيع‬
‫بن حبيب مكانته ومسنده للشيخ العلمة سعيد بن مبروك القنوبي‬
‫(‪ )9‬يوسف بن إبراهيم بن مناد السدراتي الوارجلني ( و ‪ 500 :‬هـ ‪ 570 -‬هـ ) أبو يعقوب ‪ ،‬علم من أشهر علماء الباضية بالمغرب ‪ ،‬ترك بصمات‬
‫بارزة في التراث الباضي خصوصاً ‪ ،‬والمكتبة السلمية عموماً ‪ ،‬رحل إلى الندلس لطلب العلم ‪ ،‬ثم رجع إلى موطنه ورجلن ‪ ،‬له عدة كتب إلى أشهرها‬
‫‪ ،‬تفسير القرآن الكريم ‪ ،‬والدليل والبرهان لهل العقول والعدل ‪،‬والنصاف في أصول الفقه والختلف ‪ ،‬ورتب مسند الربيع بن حبيب وغيرها ‪ .‬معجم‬
‫أعلم الباضية ( ‪. )1010 / 4‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫(‪ )10‬أخرجه الترمذي في (‪ – 13‬كتاب الحكام ‪ – 38‬باب ما ذكر في إحياء أرض الموات ) ( ‪ ) 3/662‬رقم ‪ ، 1778‬وأخرجه أبو داود في ( ‪– 19‬‬
‫كتاب الخرج والغمارة والفتن ‪– 37‬باب في إحياء الموات ) ص ‪ 450‬رقم ‪ ، 3073‬وأخرجه مالك في الموطأ في ( ‪ – 36‬كتاب القضية ‪ -24‬باب‬
‫القضاء في عمارة الموات ) ص ‪. 26‬‬
‫(‪ )11‬مشارق أنوار العقول ( ‪) 393 – 392 /2‬‬
‫(‪ )12‬هؤلء أتباع أبي هاشم بن الجباني ‪ ،‬وأكثر معتزلة القرن الخامس الهجري على مذهبه لدعوة ابن عباد وزير آل بويه ‪ ،‬وينال لهم الذمية ‪ ،‬لقولهم‬
‫بالتحاق الذم ل على فعل ‪ ،‬وقد شاركوا المعتزلة في أكثر ضللتها ‪ ،‬وانفردوا عنهم بغضاً ثم لم يسبقوا إليها ‪ .‬وأنظر في شأن هذه الفرقة التبصير ص‬
‫‪ 53‬وقد أدمجها الشهرستاني في الملل والنحل مع الجبانية ‪78 /1‬‬
‫(‪ )13‬مشارق أنوار العقول (‪)394- 393 /2‬‬
‫(‪ )14‬البقرة ‪. 185 :‬‬
‫(‪ )15‬الحج ‪. 78 :‬‬
‫(‪ )16‬مشارق أنوار العقول ( ‪)395 /2‬‬
‫(‪ )17‬البقرة ‪. 146 :‬‬
‫(‪ )18‬مشارق أنوار العقول ( ‪) 396 /2‬‬
‫(‪ )19‬النساء ‪. 65 :‬‬

‫بيان حديث الفتراق عند أهل الحق يرفع الشقاق‬

‫قال المام الناظم – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫صحّ عند العلماء أصله‬ ‫اعلم َأنّ حديث الفتراق الذي َثبَتَ عن رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – نقله ‪ ،‬و َ‬
‫‪ ،‬أَبَانَ الحقّ ‪ ،‬و َر َفعَ الشقاق ‪ ،‬و أوضح تحقيق الدعاءات التي طالما ركن إليها المغترون ‪ ،‬و يتبجح بها‬
‫المخالفون ‪ ،‬لقد خصص الحديث المشار إليه العمومات التي وردت في سعادة المة كقوله عز و جل ‪ " :‬كُن ُتمْ‬
‫خرِجَتْ لِلنّاسِ " (‪ ، )1‬فهذا النص عام كما تراه ‪ ،‬و كذلك قوله عز و عل ‪ " :‬وَ َكذَ ِلكَ جَ َعلْنَاكُمْ ُأ ّمةً‬
‫خَ ْيرَ ُأ ّمةٍ أُ ْ‬
‫علَى النّاسِ‪ ، )2( " ..‬اليةو نحوها من اليات الدالة على سعادة عموم المة كما ترى ‪.‬‬ ‫َوسَطًا لّ َتكُونُواْ شُ َهدَاء َ‬

‫واعلم َأنّ حديث الفتراق ورد من طرق متعددة ‪ ،‬و بألفاظ مؤداها واحد ‪ ،‬منها قوله – صلى ال عليه و آله وسلم‬
‫سبَعِينَ [ ِف ْرقَة] كُلّهَا هَاِل َكةٌ إِلّ‬ ‫حدَى َو َ‬ ‫جدْتُهُمْ َقدْ َكذَبُوا عَلَى أَخِي مُوسَى فَافْ َت َرقُوا عَلَى إِ ْ‬ ‫– ‪ " :‬بَلَوْتُ اليَهُودَ فَوَ َ‬
‫ح َدةً نَاجِيةً َوهِيَ الِتي فِي قَوْ ِلهِ " َومِن قَ ْومِ مُوسَى ُأ ّمةٌ يَ ْهدُونَ بِالْحَقّ وَ ِبهِ يَ ْع ِدلُونَ " (‪ ]363[، )3‬و َبلَوْتُ‬ ‫وَا ِ‬
‫ح َدةً نَاجِيةً ‪ ،‬وَ‬ ‫جدْتُهُمْ َقدْ َكذَبُوا عَلى َأخِي عِيسَى فَافْ َت َرقُوا عَلَى اثْ َنتَ ْينِ َوسْبعِينَ ِف ْرقَة كُلّهَا هَالِ َكةٌ إِلّ وَا ِ‬ ‫ال ّنصَارَى فَ َو َ‬
‫هِيَ الِتي فِي قَ ْوِلهِ تَعَالى ‪ " :‬ذَ ِلكَ ِبَأنّ مِ ْنهُمْ ِقسّيسِينَ َو ُرهْبَانًا َوأَنّهُمْ لَ َيسْتَكْ ِبرُونَ " (‪ )4‬وسَتَ ْف َترِقُ ُأمْتِي عَلَى ثَلث‬
‫ح َدةً نَاجِيةً " فقيل له ‪ :‬يا رسول ال صفها لنا ‪ ،‬فقال ‪ " :‬هِيَ مَا أَنَا عََل ْيهِ وَ‬ ‫وسَبْعِينَ ِف ْر َقةِ ُكلّهَا هَالِ َكةٌ إِلّ وَا ِ‬
‫َأصْحَابِي " ‪.‬‬

‫وفي الربيع بن حبيب – رحمه اللهو رضي عنه – أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس – رضي ال‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫عنهما – عن النبي – صلى ال عليه و آله وسلم – قال ‪ " :‬إنكم ستختلفون من بعدي فما جاءكم عند فاعرضوه‬
‫على كتاب ال فما وفقه فعني ‪ ،‬و ما خالفه فليس عني " فأفاد هذا الحديث صحت الفتراق ‪ ،‬و هو من أعلم‬
‫نبوته – صلى ال عليه وآله وسلم – حيث يقول ‪ " :‬إنكم ستختلفون من بعدي " و كأنه يرى خلفهم بين يديه ‪،‬‬
‫حيث وقع كما ذكر صلى ال عليه و سلم ‪.‬‬

‫و هاك الحديث الثاني عند الربيع بسنده الرفيع ‪ ،‬و هو العمدة عند أهل الحديث ‪ ،‬قال الربيع ‪ :‬أبو عبيدة عن جابر‬
‫بن زيد عن ابن عباس – رضي ال عنهما – عن النبي –صلى ال عليه و آله وسلم – قال ‪ " :‬ستفترق أمتي‬
‫على ثلث و سبعين فرقة ‪ ،‬كلهن إلى النار ما خل واحدة ناجية ‪ ،‬وكلهم يدعي تلك الواحدة " (‪ )5‬فافترقت المة‬
‫بعده – صلى ال عليه وآله وسلم – كما قال – صلى ال عليه و سلم – و هذا من دلئل نبوته – صلى ال عليه‬
‫وآله وسلم ‪. -‬‬

‫قال المام في بيان هذه الفرق في شرحه للحديث ‪ " :‬عشرون في المرجئة و أربع وعشرون في الشيعة ‪ ،‬و اثنتا‬
‫عشر في المعتزلة ‪ ،‬وسبعة عشر في المحكمة " قال " فتلك ثلث وسبعون فرقه " قال " وقيل في تفصيلهم غير‬
‫ذلك " قال[‪ " ]364‬و حديث ستفرق المة أخرجه أبو داود و الترمذي و قال فيه حسن صحيح ‪ ،‬و ابن ماجه عن‬
‫أبي هريرة رفعه افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقه أو اثنتين وسبعين فرقة و النصارى كذلك و ستفترق‬
‫أمتي على ثلث وسبعين فرقة كلهم في النار إل واحدة " قالوا من هي يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬ما أنا عليه و‬
‫أصحابي ‪ ،‬وهو عند ابن حبان و الحاكم في صحيحهما بنحوه ‪ ،‬وقال الحاكم أنه حديث كبير في الصول ‪ ،‬وقد‬
‫روى عن سعد بن أبي وقاص ‪ ،‬وعبد ال بن عمرو ‪ ،‬و عوف بن مالك ‪.‬‬

‫قال السخاوي ‪ :‬و عن أنس ‪ ،‬و جابر ‪ ،‬و أبي أمامة ‪ ،‬و ابن مسعود ‪ ،‬و علي بن أبي طالب ‪ ،‬وعمر بن‬
‫الخطاب ‪ ،‬و عبد الرحمن بن عوف ‪ ،‬و أبي الدرداء ‪ ،‬و معاوية ‪ ،‬و واثلة بن الصقع و بهذا ترى له عن النبي –‬
‫عليه الصلة والسلم – أربعة عشر طريقا ‪ ،‬وترى أئمة الحديث كلهم يرويه ‪ ،‬وعليه فتصير تلك الفرق كلها إلى‬
‫النار لنها خالفت الحق ‪ ،‬فهو دليل على أنها ضالة مضلة ‪ ،‬خارجة عن السلم ‪ ،‬ل حظ لها فيه لنها خالفت‬
‫الحق ‪ ،‬و ركنت إلى الباطل ‪ ،‬و إن وافقت في شيء و استقامت لشيء من الحق فل يغني عما بقى ‪ ،‬و ترك بعض‬
‫الحق ترك لكله ‪ ،‬فل يكفي شيء عن شيء مهما كان ‪ ،‬وترك بعض الواجب يقضي على ما بقي منه‪.‬‬

‫و الناجية هي التي ثبت على كتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و سنة الخلفاء الراشدين المهدين ‪،‬‬
‫عمل لوصية رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪. -‬‬

‫فعن العرباض بن سارية قال ‪ :‬وعظنا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – موعظة وجلة منها القلوب ‪،‬‬
‫وذرفت منها العيون ‪ ،‬فقلنا ‪:‬يا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – كأنها موعظة مودع [‪ ]365‬فأوصنا ‪،‬‬
‫قال ‪ " :‬أوصيكم بتقوى ال عز و جل و السمع والطاعة و إن تأمر عليكم عبد ‪ ،‬فإن من يعش منكم فسيرى‬
‫اختلفاً كثيراً ‪ ،‬فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليه بنواجذ ‪ ،‬وإياكم و محدثات المور‬
‫فإن كل محدثة بدعة ‪ ،‬و كل بدعة ضللة " رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ‪.‬‬

‫و ل يخفى أن السيرة التي كان عليه رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – و أبو بكر و عمر – رضي ال‬
‫عنهما – اختلفت آخر أيام خلفة عثمان ‪ ،‬وإن المنكرين عليه إنما طالبوه بتلك السيرة ‪ ،‬فما زال يماطلهم و‬
‫الحكام مضيعة ‪ ،‬ثم طلبوا منه أن يعتزل أو يعدل فأبى عليهم ‪ ،‬و كلهم يداً واحدة عليه إل ما كان من خاصته و‬
‫خدامه ‪ ،‬وكان أكثرهم من الخدام ‪ ،‬فحاصره طويلً و ل منكر له لما قدمنا من أنهم كانوا عليه يدا واحدة ‪ ،‬وهم‬
‫بين راض و بين آمر و بين فاعل ‪ ،‬ثم قدموا علي إماماً على السيرة الغراء ‪ ،‬فخرج معاوية عليه بعدما خرج عن‬
‫طاعته خوفا على وليته التي رسخت أقدمه فيها ‪ ،‬وخشي عليها أن تسلب ‪ ،‬و وازره عمرو على ذلك بعد أن‬
‫اشترط عليه ما اشترط ‪ ،‬ولبسوا على الناس أنهم يطالبون بدم عثمان ‪ ،‬ثم نكث طلحة و الزبير بيعة علي بن أبي‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫طالب ‪ ،‬وبسبب ذلك كانت بين المسلمين وقعة الجمل أعظم وقعة عرفها السلم ‪ ،‬ثم سار إلى معاوية و‬
‫المسلمون له موازرون ومناصرون ‪ ،‬فكانت وقعة صفين أخت الجمل ‪ ،‬وفي أثنائها خدعوه بطلب التحكيم حين‬
‫رأوا الدائرة تدور عليهم ‪ ،‬وسيوف المسلمين تعمل فيهم ‪ ،‬و زينوا له ذلك ليفتكوا من الصر الذي وقعوا فيه ‪،‬‬
‫فتنازل [‪ ]366‬لطلبهم ‪ ،‬وخضع لرغبتهم ‪ ،‬فأعطى على ذلك العهود والمواثيق ‪ ،‬وإمامته واضحة و سيرته‬
‫نيرة ‪ ،‬و طريقه صالحة ‪ ،‬و حجته راجحة فأنكر عليه أصحابه ذلك ‪ ،‬ورأوا أنها المكيدة الفعالة ‪ ،‬و البالية‬
‫المهلكة دينا و دنيا ‪.‬‬

‫فطلبوا منه الثبات على تلك السيرة الواضحة ‪ ،‬و الطريقة الصالحة ‪ ،‬و أمروه بالتمسك بقوله تعالى ‪ " :‬فَقَا ِتلُوا‬
‫الّتِي تَ ْبغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى َأ ْمرِ الِّ " (‪ )6‬فأبى عليهم ظان أنه باق على إمامته ‪ ،‬و إن المسلمين ل يرضون غيره‬
‫بحال الذي هم عليه معه من سالف أيامهم ‪ ،‬و الرجل مخدوع ‪ ،‬ومغتر بمنزلته من المسلمين ‪.‬‬

‫و لم يدري أن في المسلمين من يتبع هواه ‪ ،‬و الصادق ل يظن أن الناس يكذبون ‪ ،‬و لما أبى عليهم أن يقبل منهم‬
‫رأوا أنها داهية أحاطت بهم ‪ ،‬ومصيبة نزلت عليهم ‪ ،‬و خاصموه في القضية فخصموه ‪ ،‬فأعارهم أذنا صما ‪ ،‬و‬
‫لم يرجع إلى رأيهم ‪ ،‬و لم يكن من الدهاء بمكان يعرف بل كان على وجهه يمضي قدماً ‪ ،‬في كل مواقفه و‬
‫مشاهده ‪ ،‬و حينئذ تركوه آسفين عليه ‪ ،‬رأوا دينهم يقضي عليهم بتركه ‪ ،‬إذ رضيَ أن يخلع نفسه من إمامة ‪،‬‬
‫فيضعها بيد الحكمين يفعلن فيها ما شاءا ‪ ،‬وبذلك خرجوا إلى النهروان ‪ ،‬فقدموا عبدال بن وهب الراسبي إماما‬
‫لهم ‪ ،‬إذ ل إمامة لعلي الن عندهم ‪ ،‬فهو كواحد من المسلمين فكان من أمر الحكمين ما كان مما يعرفه كل[‬
‫‪ [ ]367‬سقط صفحتين ] بذلك و إن كان لحظ أحوالً تأمل أن يكف بها الشر عن المسلمين ‪ ،‬قلنا إن هذا المر‬
‫تحمله بأمر المسلمين ‪ ،‬و هم مجمعون عليه فلم تحمله ‪ ،‬ما كان له أن يضعه من عنقه إل بعد تحقق عجزه‬
‫عنه ‪ ،‬و ل عجز هنا فإن المسلمين معه ‪.‬‬

‫و إن قيل أن هؤلء الذين خرجوا عنه هم الذين حملوه على قبول التحكيم كما يقول المدلسون عليهم ‪ ،‬قلنا إن‬
‫المر بيده ‪ ،‬والمسلمون معه ‪ ،‬وفي إمكانه إجراء المياه في مجاريها ‪ ،‬مع أنه لم يقل عنهم ذلك ‪ ،‬ولو كان ذلك‬
‫منهم لحتج به عليهم ‪ ،‬ولم يرو أحد من أهل السير الصحيحة التي يمكن العتماد عليها في الحكم ‪ ،‬أما أقوال‬
‫أهل الهواء فليس حجة في مثل هذا الحال ‪ ،‬ثم أنه ليس من المعقول أن يحملوه عليه ‪ ،‬ثم يخرجوا عنه من أجله‬
‫‪ ،‬وهم أنصاره في مشاهده ‪ ،‬و إخوانه في سرائه و ضرائه ‪ ،‬و رضوا به إماماً لهم وقاتلوا معه عدوه ‪ ،‬ولو كان‬
‫المر كذلك لكان له أن يقول لهم أنتم حملتموني عليه بالمس فلم تلومني عليه اليوم ‪ ،‬و لم يكن ذلك فيما علمنا ‪،‬‬
‫ثم أنه لو كان ذلك منهم و هو يراه باطل لما كان له أن يوافقهم عليه ‪ ،‬وليس من واجبه فعل الباطل و هو المام‬
‫القدوة ‪ ،‬و يلزمهم أن يقاتلهم ذلك الحين الذي رأى بطلهم فيه ‪ ،‬و لكنه لم يفعل شيئا من ذلك ‪.‬‬

‫فإن مدة الجل أربعة أشهر تتسع لهذه العمال كلها ‪ ،‬و لكان في إمكانه استصراخ المسلمين من نواحي البلد ‪،‬‬
‫و لكنه كما عرفت عنه قوله من زعم أن التحكيم ضلل فهو أضل ‪ ،‬فهذه الجملة عنه ترد كل المزاعم والحتمالت‬
‫‪ ،‬بل هو عند النهروانيين لم يكن إماما و للمسلمين أن ينظروا لنفسهم الصلح في دينهم [‪ ]370‬و في دنياهم ‪.‬‬
‫==========================‬
‫(‪ )1‬آل عمران ‪. 110 :‬‬
‫(‪ )2‬البقرة ‪. 143 :‬‬
‫(‪ )3‬العراف ‪. 159 :‬‬
‫(‪ )4‬المائدة ‪. 82 :‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه الربيع بن حبيب في الجامع الصحيح ص ‪ 36‬رقم ‪ ، 41‬و أخرجه أبو داود في (‪ -39‬كتاب السنة ‪ -1‬باب شرح السنة ) ص ‪ ،650‬رقم‬
‫‪ 4596‬و ‪ ، 4597‬و أخرجه الترمذي في (‪ -41‬كتاب اليمان ‪-18‬‬
‫باب ما جاء في افتراق هذه المة ) ( ‪ ) 25 /5‬رقم ‪ 2640‬و ‪ ، 2641‬و أخرجه ابن ماجه في (‪ – 38‬كتاب الفتن ‪ -17‬باب افتراق المم ) ص ‪574‬‬
‫رقم ‪ 3991‬و ‪ 3992‬و ‪ ، 3993‬و أخرجه أحمد بن حنبل في المسند (‪ ) 10/471‬رقم ‪ ، 212418‬و أخرجه ابن حبان (‪ )140 /14‬رقم ‪ ، 6247‬و‬
‫أخرجه أبو يعلى (‪ ، )6/342‬و (‪ )10/317‬رقم ‪ ، 5910‬و أخرجه الحاكم في المستدرك (‪ )4/477‬رقم ‪ ، 8325‬و أخرجه البيهقي (‪ )10/351‬رقم‬
‫‪. 20901‬‬
‫(‪ )6‬الحجرات ‪. 9 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬

‫فلذلك خرجوا لينظروا في المر ‪ ،‬فرأوا أن المام أمر ضروري في الدين ‪ ،‬لن أمورا عظيمة ل يستقيم أمرها‬
‫بغير المام ‪ ،‬كالحدود ‪ ،‬و حماية الحوزة ‪ ،‬و جباية الزكاة و نحوها ‪ ،‬و رأوا أن علياً في ذلك الحين غير إمام ‪ ،‬ثم‬
‫خافوا أن يجتمع فريق من المسلمين على رجل ل يرضون إمامته فيقعون في مشكل آخر أشكل من الول ‪.‬‬

‫و إن المامة أصبحت في يد الحكمين ‪ ،‬فهو إنما قاتلهم بعدما تحقق أمر الحكمين أنهما أخرجاه من المامة ‪ ،‬فأبو‬
‫موسى فر منه خائفاًَ و خجلً مما وقع ‪ ،‬وقد صار المر خارج من يده ‪ ،‬فكيف يكون أنه إمام ا لمسلمين ‪ ،‬و‬
‫الواقع أنه خلع إمامته إل أن يعيدها المسلمون إليه مرة أخرى ‪.‬‬

‫و ما لعلي بن أبي طالب و إخوانه الذين رأوه مخطئاً فينبهوه على خطائه ‪ ،‬وذكروه ما وقع فيه فلم يلتفت إليهم ‪،‬‬
‫فبذلك رأوه قد ترك إمامته ‪ ،‬وبقي يرتقبها هل تعود إليه أم ل ؟ وهم مجمعون على أنه ل إمامة له ‪ ،‬و كان واجبه‬
‫هنا أن يطلب إخوانه المسلمين ويخبرهم بالمر الذي وقع فيه ‪ ،‬ويتبرأ إليهم من المر ‪ ،‬ويترك المر إليهم ‪ ،‬وهم‬
‫الناظرون للمسلمين ‪ ،‬إن أرادوه جددوا له البيعة ‪ ،‬و إن أرادوا غيره عليه أن يكون واحدا منهم ‪.‬‬

‫وقد رأى المسلمين كيف علموا في الشورى ‪ ،‬وكيف يشترطون للمسلمين وهو لم يكن إماماً قهرياً ‪ ،‬و إنما كان‬
‫إماماً اختيارياً من المسلمين ‪ ،‬وعليه رد أمرهم إليهم ‪ ،‬فتكون له السلمة معهم ‪ ،‬وقد يخطأ المرء و ل عصمة إل‬
‫لنبي ‪ ،‬و لكن قضاء ال وقدره إذا نزل بالنسان [‪ ]371‬يعمى معهما سمعه و بصره ‪.‬‬

‫و إذا كان معاوية وحزبه ل يدينون للحق ‪ ،‬و ل يتبعون ما يقتضيه الدين ما بال علي يتابع من ل يناقد للحق ‪ ،‬و‬
‫ذو الفقار في يده ‪ ،‬و جنود ال محدقون به ‪ ،‬و الرسول عليه – الصلة والسلم – يقول ‪ " :‬ل طاعة لمن ل يطع‬
‫ال عز و جل " رواه أحمد و الترمذي ‪.‬‬

‫و عن حذيفة ‪ -‬رضي ال عنه – قال ‪ :‬كنا جلوساً عند رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – فقال ‪ " :‬إني‬
‫ل أدري ما قدر مقامي فيكم ‪ ،‬فاقتدوا بالذين من بعدي ‪ ،‬و أشار إلى أبي بكر وعمر ‪ -‬رضي ال عنهما‪، -‬‬
‫وتمسكوا بهدي عمار ‪ ،‬و ما حدثكم ابن مسعود فصدقوه " وفي رواية الي" فتمسكوا بهدي ابن أم عبد ‪ ،‬و‬
‫اهتدوا بهدي عمار فهم عاضون على وصية نبيهم – عليه الصلة والسلم – " فهذا دليل على أن الصواب ما‬
‫عليه الصحاب ‪.‬‬

‫و اعلم أن اثنتين و سبعين فرقة في السلم كلها هالكة ‪ ،‬بشهادة رسول ال – صلى ا ل عليه و آله وسلم – إل‬
‫واحدة ناجية ‪ ،‬فحينئذ علم أن أغلب المة على باطل ‪ ،‬لن من كان على الحق ل يهلك ‪ ،‬و إنما يهلك الضال‬
‫الفاسق المهين ‪ ،‬الذي ل حظ له عند ال عز و جل ‪ ،‬فأين يكون قولهم من قال ‪ :‬ل إله إل ال دخل الجنة ‪ ،‬و إن‬
‫زنى ‪ ...‬إلخ ؟‬

‫و أين من له شفعة رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – من أهل الكبائر ؟‬


‫و أين من قال اليمان قول و ل عمل و ل اعتقاد أو قول واعتقاد فقط ؟‬
‫فليضعوا حكم هذا الحديث على المحل الذي يدل عليه حتى نعلم ‪]372[.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫وقد كان لي في حديث الفتراق رسالة تبين صحته و رواته وبيان الفرق التي يشير إليها الحديث ‪ ،‬حتى يتبين‬
‫الغث من السمين ‪ ،‬و يتضح الحق من الباطل ‪ ،‬سميتها " رفع الشقاق بمعاني حديث الفتراق " أوضحت فيها‬
‫المحق من المبطل ‪ ،‬و بينت كل فرقة بأصولها ‪ ،‬و ما تدعوا إليه ‪ ،‬ثم حالت القدار دون النجاح ‪ ،‬و ألفت نظري‬
‫أن كثير من الناس ل يرغبون في نشرها ‪ ،‬ومنهم من يقوم بشق العصا تعصبا للهوى و مراغمة للحق ‪،‬و هؤلء‬
‫هم الكثرية في العالم ‪ ،‬بشهادة الحديث ‪.‬‬

‫وقد أوضح الحديث ما عليه قومنا ‪ ،‬و أن الحق ل يكون الحق إل في واحدة ‪ ،‬و أما سائر الفرق فكل فرقة تفسق‬
‫الخرى كما ذكرنا عنهم في " الرشاد " ‪.‬‬

‫حيّ‬
‫واختلف المة أمر قضى ال به في الزل لحكمة كما قال عز و جل ‪ " :‬لّيَهْ ِلكَ َمنْ هَ َلكَ عَن بَيّ َنةٍ وَ َيحْيَى َمنْ َ‬
‫عَن بَيّ َنةٍ " (‪ ، )1‬والتمسك بمقتضى الكتاب والسنة هو النجاة عند ال‪.‬‬

‫قال المام – رحمه ال‪ " : -‬و إن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – قد حكم بأن ما خالف الكتاب و‬
‫السنة الصحيحة المتفق عليها ‪ ،‬فإن رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – توفي والدين كامل و النعمة‬
‫بالسلم تامة ‪ ،‬و قد علم الناسخ من المنسوخ ‪ ،‬والعام و الخاص ‪ ،‬و استقرت الشريعة على قرارها المكين ‪ ،‬و‬
‫استبان الحق بعد أن كاد ل يبين ‪ ،‬فما جاء بعد ذلك فهو مردود إلى ما صح و ثبت عنه عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫و في جامع الصول و مختصره ‪ " :‬عن معاوية قام فينا رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – خطيباً فقال ‪:‬‬
‫" أل أن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة أو ملة ‪ ،‬وأن هذه المة ستفترق على‬
‫ثلث [‪ ]373‬وسبعين فرقة اثنتين وسبعون في النار و واحدة في الجنة " أخرجه أبو داود ‪ ،‬و زاد و هي‬
‫الجماعة ‪ ،‬و زاد في رواية " سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الهواء كما يتجارى الكلَب بصاحبه ‪ ،‬و ل‬
‫يبقى منه عرق و ل مفصل إل دخله ‪.‬‬

‫و تجاري تفاعل من الجري أي يتغلغل فيهم و يتمكن منهم كما يتمكن داء الكلَب من صاحبه ‪ ،‬أو المراد به‬
‫الوقوع في الهواء الفاسدة ‪ ،‬و تداعي فيها تشبيها بجري الفرس ‪ ،‬و الكلَب بتحريك اللم مفتوحة داء معروف‬
‫يعرض للكلب إذا عض إنساناً عرضت له أعرض رديئة فاسد قاتلة يتسمم منها المحل ‪ ،‬ثم يسري ذلك في‬
‫جسده ‪ ،‬و ل يكاد يبرء فإذا تجرى بالنسان و تمادى به أهلكه ‪.‬‬

‫و في حديث عبدال بن عمرو بن العاص قال ‪ :‬قال رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم ‪ " : -‬ليأتين على‬
‫أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علنية ‪ ،‬و ليكونن في أمتي من‬
‫يصنع ذلك ‪ ،‬وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين و سبعين فرقة أو ملة ‪ ،‬و ستفترق أمتي على ثلث وسبعين‬
‫ملة كلها هالكة إل ملة واحدة ناجية " قالوا ‪ :‬من هي ؟ قال ‪ " :‬من كان على ما أنا عليه و أصحابي " أخرجه‬
‫الترمذي ‪.‬‬

‫فانظر أيها العاقل فإن المر جلل حيث حكم رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم – فيه بهلك هذه الملل‬
‫الخرى كلها إلى النار ‪ ،‬و أن السعادة لملة واحدة فقط ‪ ،‬فمن ادعى النجاة من أهل هذه الملل الخرى فقد عارض‬
‫رسول ال – صلى ال عليه وآله وسلم – في حكمه الصريح الصحيح ‪.‬‬

‫و قال أحمد الصاوي المالكي [‪ ]374‬في حاشيته على الجللين في شرح قوله تعالى ‪ " :‬وَلَ َيزَالُونَ ُمخْتَلِفِينَ‪" ..‬‬
‫(‪ )2‬اليةأي على أديان شتى " قال " و استفيد من هذا أن الختلف كما كان حاصلً في المم الماضية ل يزال‬
‫مستمر في هذه المة ‪ " ....‬إلى أن قال " و لذلك ورد في الحديث افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ‪ ،‬و‬
‫ستفترقون على ثلث و سبعين فرقة اثنتان و سبعون في النار و واحدة في الجنة " قال " و المراد بالفرقة‬
‫الواحدة أهل السنة و الجماعة " قلت ‪ :‬أهل السنة و الجماعة أربع فرق ل فرقة واحدة و إل لم يتم عد الفرق‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فيبطل معنى الحديث ‪.‬‬

‫فافهم ل سيما أن بين هذه الفرق اختلفات كثيرة مما يدل على أنها فرق ل فرقة ‪ ،‬و الختلف المشار إليه في‬
‫الصول والفروع أيضا ‪ ،‬كما هو معروف ‪ ،‬و لول أنه يطول بنا في هذا المقام لوردناه لك حتى تطمأن فالحديث‬
‫ينص على أن الناجية واحدة فقط ‪ ،‬و هي ما عليه هو و أصحابه – صلى ال عليه و سلم – ‪ ،‬وهل ما عليه هو‬
‫و أصحابه عليه كل هذه الفرق ؟ ذلك ما ل يعقل ‪ ،‬و فيه رد على الحديث الذي أوجب النجاة لفرقة واحدة ‪،‬‬
‫فلتعرض كل واحدة ما هي عليه ‪ ،‬و تستعرض ما عليه الرسول صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬ثم تنظر هل تتحد معه ؟‬
‫ل وربك هذا ل يتأتى حتى في الفروع ‪ ،‬والخلق و المعاملت اليسيرة ‪ ،‬و لو شئت لبينت ذلك موزوناً بميزان‬
‫الشريعة الغراء ‪ ،‬و لوضحت ذلك جليا ‪ ،‬و لكن هيهات القبول و الرضى ‪ ،‬و عليه فل [‪ ]375‬ينبغي أن نشتغل‬
‫بما ل فائدة فيه ‪ ،‬و إن كان واضحاً إل أن القلوب المستوئبة ل علج لها ‪ ،‬و المر ل عز و جل ‪ ،‬وإذا رأى‬
‫المخالف الحق أصر و استكبر و أعرض ‪.‬‬
‫=============================‬
‫(‪ )1‬النفال ‪. 42 :‬‬
‫(‪ )2‬هود ‪. 118 :‬‬

‫الصول المتناقضة ل يمكن البناء عليها‬

‫قال المام الناظم – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫اعلم أن التحليل و التحريم هما من ال عز و جل ليس للعقل فيهما دخل ‪ ،‬و لم يجعل ال عز وعل لبشر و ل‬
‫لملك أن يحلل أو يحرم ؛ فإن التحليل و التحريم أمران تعبديان ‪ ،‬ل يكونان إل من الملك العلى عز و جل " َولَ‬
‫حرَامٌ " (‪ )1‬فسماه كذباً و نهى عنه ‪.‬‬
‫حلَلٌ َوهَـذَا َ‬
‫صفُ أَ ْلسِنَتُ ُكمُ ا ْل َكذِبَ هَـذَا َ‬
‫تَقُولُواْ ِلمَا َت ِ‬

‫فظهر أن قولهم كل فاعل لشيء مستحلً له هو سالم عند ال فإنه لو صح هذا لكان كل من أراد أن يفعل شيئا‬
‫يتعلق باستحلله فيكون سالماً ل تبعة عليه في شيء ما ليس هنا بشيء ‪ ،‬و لقد علمت من حديث الفتراق أن‬
‫أكثر المة هالك ‪ ،‬و كيف يصح الحكم بهلكهم إل من حيث انتهاكهم لحرم ال عز و جل ‪ ،‬و ل يخفى أن العقل ل‬
‫يقبل ما يقول هؤلء المتقولون كما صح في حديث الفتراق ‪.‬‬

‫أيحرم ال الشيء و يثيب عليه ؟ إن هذا [‪ ]376‬لهو الخطأ الفاحش ‪ ،‬و الضلل الصريح ‪ ،‬و لو كان ال يثيب‬
‫المستحل لما حرمه عليه بدعوى الجتهاد ‪ ،‬فما الداعي إلى الوامر و النواهي ؟ و ما فائدتها في التحريم و‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫التحليل ؟ و الحال هذا ‪.‬‬

‫إن هذا ل يقول به عاقل له مسكة يسيرة من العقل الذي يثبت به التكليف ‪ ،‬و لو كان كذلك لتهدمت القواعد‬
‫الشرعية ‪ ،‬و كان عدمها خيراً من وجودها ‪.‬‬

‫اعلم يقيناً أن ال إذا حرم شيئا أوجب على فعله عقاباً ‪ ،‬و قد ثبت أن المفترقين كلهم هالكون إل تلك الواحدة‬
‫الناجية ‪ ،‬و هي التي تمسكت بالكتاب و السنة ‪ ،‬و ثبتت على ذلك ‪ ،‬فإن رسول ال – صلى ال عليه و آله وسلم‬
‫– كما عرفته قد حكم بالسلمة لها دون باقي الفرق المخالفة لها ‪ ،‬و المقصود من ذلك التمسك بأوامر الكتاب و‬
‫السنة ‪ ،‬و عدم الحياد عنهما ‪.‬‬

‫و اعلم لو أن كل مستحل شيئاً يكون مأجوراً فيه و مثاباً عليه لنجت تلك الفرق على اختلف مقاصدها ‪.‬‬

‫و كذلك الجماع أيد الحديث و ورد على مقتضى فحواه أحاديث أخرى ‪ ،‬إن تلك الفرق كلها تدعي السلمة لها و‬
‫الهلك لغيرها ‪ ،‬و بذلك ثبت الجماع فما بال هذه الفرق إلى النار و هي تقر بالشهادتين و تصلي و تصوم و‬
‫تزكي و تحج البيت ‪ ،‬و لم يغن ذلك كله عن هلكها ؛ حيث خالفت أوامر ال عز و جل ‪ ،‬و استحلت ما حرم ال‬
‫عليها ‪ ،‬فكان عاقبة أمرها خسراً ‪.‬‬

‫و اعلم أن العتقاد لحل ما حرم ال أو العكس ل يزيده ذلك العتقاد تحليلً و ل تحريماً ‪ ،‬بل ل يزال ما حرم ال‬
‫حراماً أبداً و كذا العكس [‪ ]377‬فل يزال الحرام على حرمته أبداً ‪ ،‬و ل يزال الحلل حللً ‪ ،‬و إن حرمته المة‬
‫كلها فحكم ال ل يتغير أبداً ‪ ،‬و ل يزيده المعتقد لحله شيئا ‪ ،‬بل يزداد هو به ضللً ؛ لنه لم يتغير حكم ال فيه‬
‫عن أصله فهو حرام دائما ‪ ،‬و كذلك ما كان حلل فاعتقده حراما بغير حجة تحرمه فهو ضللً ‪ ،‬و فاعل ذلك‬
‫ضهُ " (‪. )2‬‬
‫شارع من عند نفسه غير ممتثل لوامر ربه تعالى " وَلَ َي ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْلكُ ْفرَ َوإِن َتشْ ُكرُوا َي ْر َ‬

‫حرّمُ مَا أَحَ ّل‬ ‫و التحليل و التحريم أمران سماويان ل مجال للعقل فيهما ‪ ،‬و بهما جاءت الرسل " يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ ُت َ‬
‫طنَ وَا ِلثْمَ وَالْبَغْيَ بِ َغ ْيرِ‬‫حشَ مَا ظَ َهرَ مِنْهَا َومَا َب َ‬ ‫حرّمَ رَبّيَ الْفَوَا ِ‬
‫جكَ " (‪ " ، )3‬قُلْ إِ ّنمَا َ‬ ‫الُّ َلكَ َتبْتَغِي َم ْرضَاتَ َأزْوَا ِ‬
‫حرّمُ عََليْهِمُ الْخَبَآ ِئثَ‬ ‫علَى الّ مَا لَ تَعْ َلمُونَ " (‪ " ، )4‬وَيُ َ‬ ‫شرِكُواْ بِالّ مَا لَمْ ُي َنزّلْ ِبهِ سُلْطَانًا َوأَن َتقُولُواْ َ‬ ‫الْحَقّ َوأَن ُت ْ‬
‫خرَجَ لِعِبَا ِدهِ وَالْطّيّبَاتِ ِمنَ‬ ‫حرّمَ زِي َنةَ الّ الّتِيَ أَ ْ‬
‫غلَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَ ْيهِمْ " (‪ " ، )5‬قُلْ َمنْ َ‬ ‫ص َرهُمْ وَا َل ْ‬
‫عنْهُمْ ِإ ْ‬
‫ضعُ َ‬‫وَ َي َ‬
‫الرّزْقِ " (‪ )6‬هذا ما يقوله القرآن فمالنا و ما يقوله فلن و فلن ‪ ،‬إنه لزورا و بهتان ‪ ،‬و تقول على الواحد‬
‫المنان ‪ ،‬تعالى ال عن أقوال ما جاء بها من سلطان ‪ ،‬و ل أقيم عليها أي برهان ‪.‬‬

‫و اعلم أن ال هو الذي حرم و حلل ‪ ،‬و هو الذي يكلف عباده ‪ ،‬و لو أن ال يثيب على فعل الحرام لكان ذلك‬
‫إغراء عليه ‪ ،‬و إذا كان كذلك فل شرع و ل دين ‪ ،‬و إنما تكون الشياء رهن الرادة النسانية ‪ ،‬و تبعا للهواء‬
‫النفسانية ‪ ،‬إن ال إذا حرم شيئاً لم يحله أحداً من خلقه ‪ ،‬و إل كان شارع من عنده ل من عند ربه ‪ ،‬و ال لم‬
‫يفوض ذلك إلى نبي مرسل و ل إلى ملك مقرب ‪]378[.‬‬

‫ضهُ " (‪ )7‬ويثيبهم‬


‫وقد سمعت عتابه لسيد خلقه محمد عبده و رسوله " وَلَ َي ْرضَى ِلعِبَا ِدهِ ا ْلكُ ْفرَ َوإِن َتشْ ُكرُوا َي ْر َ‬
‫عليه ‪ ،‬و ل شك أن العقل يرد ما يقول هؤلء القائلون أن كل مستحل معذور ‪ ،‬و لو صح هذا لكان نجاة لكل‬
‫ضال ‪ ،‬فإن كل ذي ضللة يعتقد أنها الحق ‪ ،‬و أن ضدها الباطل ‪ ،‬و لو صح ما يقولون لتداعى البناء الشرعي‬
‫من أصله ‪ ،‬و انهار الصرح الثابت بالدليل القوي ‪ ،‬فإن كل فرقة من فرق السلم تعتقد أنها على صواب فل هلك‬
‫إذاً لواحدة خلف ما يقول الحديث ‪ ،‬و بذلك ينحل حكم الحديث الثابت ‪ ،‬فإن حكم بالسلمة لواحدة فقط ‪ ،‬فيكون‬
‫المر وهذا حاله في غاية من التعارض ‪ ،‬و الحق ل تعارض فيه ‪.‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و إذا حرم ال شيئا ففعله المعتقد لحله يكون في حقه حللً ‪ ،‬فحينئذ كل شيء حلل خلف ما يقول القرآن ‪ ،‬بل و‬
‫على فعله الثواب ‪ ،‬فينقلب المر رأساً على عقب تعالى ال و عز أمره ‪.‬‬

‫و هل يقبل عاقل أن ال يرضى بهذا ؟ فيكون رضاه في مخالفته ! فإنه من الفساد بمكان ‪ ،‬و الواقع أن ال عز‬
‫وعل إذا حرم شيئاً أوجب عليه عقاباً كل بحسبه ‪ ،‬و حكم على مرتكبه بعذاب أليم ‪ ،‬و المعتقد لمحرمات ال تعالى‬
‫حللً يضل بذلك ضللً بعيداً ؛ لنه عارض ربه في حكمه ‪ ،‬و ارتكب الثم بفعله ‪ ،‬فهو واقع في أمرين عظيمين ‪.‬‬

‫و ل شك أن من بنى دينه على أصول متناقضة ل يزال في لجة الباطل غارقاً ‪ ،‬و للصراط السوي مفارقاً ‪ ،‬و‬
‫لوامر الرسول مشاققاً ‪ ،‬فمتى يرى النجاة و الحال هذا ‪ ،‬نسأل ال السلمة في الدين والدنيا ‪.‬‬

‫اعلم علماً جازماً أن من اعتقد الحلل [‪ ]379‬حراماً ‪ ،‬و الحرام حللً ؛ فهو هالك باعتقاده هذا ‪ ،‬لن اعتقاده‬
‫خالف أوامر ربه ‪ ،‬وعارض مقتضى إرادته ‪ ،‬بل الواجب على النسان امتثال أوامر ال عز و جل كما هي ‪ ،‬و‬
‫اعتقاد أن ما حرم ال ل يزال حراماً أبداً ‪ ،‬و كذلك العكس ‪ ،‬فإن القول ل يبدل لديه ‪ ،‬و الحق ل يصير باطلً‬
‫عنده ‪ ،‬تعالى ال عن أقوال المبطلين علوا كبيرا " يَا قَ ْو َمنَا َأجِيبُوا دَاعِيَ الِّ وَآمِنُوا ِبهِ" (‪ " ، )8‬فَاسْتَ ِقمْ َكمَا‬
‫سدِينَ " (‪. )10‬‬
‫سبِيلَ ا ْلمُ ْف ِ‬
‫ُأ ِمرْتَ " (‪َ " )9‬ولَ َتتّ ِبعْ َ‬
‫============================================‬
‫(‪ )1‬النحل ‪. 116 :‬‬
‫(‪ )2‬الزمر ‪. 7 :‬‬
‫(‪ )3‬التحريم ‪. 1 :‬‬
‫(‪ )4‬العراف ‪. 33 :‬‬
‫(‪ )5‬العراف ‪. 157 :‬‬
‫(‪ )6‬العراف ‪. 32 :‬‬
‫(‪ )7‬الزمر ‪. 7 :‬‬
‫(‪ )8‬الحقاف ‪. 31 :‬‬
‫(‪ )9‬هود ‪. 112 :‬‬
‫(‪ )10‬العراف ‪. 142 :‬‬

‫الحق إذا قام قضى على الباطل بالعدام‬

‫قال المام – رحمه ال‪: -‬‬

‫[الشرح ]‬

‫اعلم أن استحلل ما حرم ال عز و جل ‪ ،‬و تحريم ما أحله ال رد عليه تعالى ‪ ،‬و اعتراض على أحكامه ‪ ،‬و ذلك‬
‫من أكبر كبائر الذنوب ‪ ،‬لنه إن كان عن تأويل فهو فسق وضلل ‪ ،‬و إن كان عن غير تأويل فهو شرك محض ‪،‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫و فساد كبير في الدين ‪.‬‬

‫فالمستحل لما حرم ال كالعكس غارق في بحر آثام ‪ ،‬ساكع في هوة الظلم ‪ ،‬مخاطر بنفسه ‪ ،‬مستهدف [‪]380‬‬
‫للباطل ‪ ،‬فإن جرمه أعظم ممن يفعل المور وهو يدين بأنها من ال عز و جل ‪ ،‬و هذا راد على ربه أمره و‬
‫نهيه ‪ ،‬و معترض عليه فهذا أكبر جرماً ‪ ،‬و أعظم إثماً ‪ ،‬حيث تقرب إلى ربه بما ل يرضاه منه ‪ ،‬بل أجرم على‬
‫ال من جهتين ‪ ،‬المستخف أو كالمتمرد على ال عز وعل ‪ ،‬غير مبال بالمر ‪.‬‬

‫و قومنا يعذرونه بهذا الحال ‪ ،‬حيث هو مستحل أي دائن بحل ذلك المر ‪ ،‬و ل شيء على من استحل إذا كان‬
‫قصد صالحاً عندهم غير متعد للحدود ‪ ،‬و ل منتهك للدين ‪ ،‬و ل يخفى على العاقل فساد هذا الزعم من أصله ‪،‬‬
‫وأنه ضلل في ضلل ‪ ،‬لم يخرج عن حكم الفساد مهما كان ‪ ،‬و لو كان كل مستحل معذوراً لم يبق حرج على أحد‬
‫أبداً ‪.‬‬

‫و ل يقول بذلك أحد فيما علمنا ‪ ،‬و إذا كان الرسول – عليه الصلة والسلم – ل يرى الحق للمة المتدينة إل‬
‫لفرقة واحدة منها فقط ‪ ،‬فمن هو الولى به في النظر الصحيح ؟‬

‫فنقول في المعقول و المنقول أن الحق أولى به من استقام في الدين ‪ ،‬و ذهب مذهب المتقين ‪ ،‬ولم يكن ممن‬
‫استحل ما نهى عنه رب العالمين ‪ ،‬فإن من استقام على الطريق الصحيح ‪ ،‬و جاء بالحق الصريح " فَاسْتَ ِقمْ َكمَا‬
‫سدِينَ " (‪ )2‬المتهورين في الدين ‪ ،‬الهاجمين على أوامر برب العالمين ‪.‬‬
‫سبِيلَ ا ْلمُ ْف ِ‬
‫ُأ ِمرْتَ " (‪َ " )1‬ولَ َتتّ ِبعْ َ‬

‫فالملزم لسيرة سيد المرسلين ‪ ،‬ثابت على نهج الخلفاء الراشدين ‪ ،‬الذي لم يبدل شيئاً من أمر الدين ‪ ،‬و لم يغير‬
‫شيئا من أحكام رب العالمين ‪ ،‬و ل استحل شيئا مما حرم ال ‪ ،‬و ل حرم شيئا مما أحله ال ‪ ،‬و ل خان ال في‬
‫سر ول علنية ‪ ،‬فهذا هو الذي أشار إليه رسول ال [‪ – ]381‬صلى ال عليه و آله وسلم ‪. -‬‬

‫و حيث علمت أن العقل ل يقبل ما يقوله هؤلء المبدلون المتهوكون الذين ل يثبتون ل على مقتضى الوامر‬
‫اللهية ‪ ،‬و ل يهتدون الطريقة المحمدية ‪ ،‬و قد علمت مقتضى حديث الفتراق ‪ ،‬و أنه حكم بالنجاة لفرقة واحدة‬
‫و هي التي ثبتت على كتاب ال و سنة رسوله صلى ال عليه و سلم ‪ ،‬و جعل باقي الفرق كلها هالكة لمخالفتها‬
‫الكتاب و السنة ‪ ،‬و على ذلك ثبت الجماع الصحيح الذي أيد الرسول – صلى ال عليه و سلم ‪ -‬فيما قال ‪.‬‬

‫و إن العقل ل يقبل غيره ‪ ،‬و ل يصح أن يحرم ال شيئاً و يثيب على فعله ‪ ،‬و إل كان ذلك نقضاً لقواعد الشريعة‬
‫من أصلها ‪ ،‬و تبديلً لها عن فصلها ‪.‬‬

‫ثبت أن العتقاد لحل ذلك المر ل يزيده إل تحريماً ‪ ،‬و ل لفاعله إل تضليلً ‪ ،‬لن المستحل خالف الشرع من‬
‫جهتين ‪ :‬أولى استحلله لما حرم ال عز و جل ‪ ،‬و الثانية فعله لذلك الذي استحله ‪ ،‬و قد حرمه ال عليه فهو‬
‫مخالف له عز و جل من الجانبين ‪ ،‬فجرمه أعظم ‪ ،‬وفعله أكبر ‪ ،‬و ل مناص و ل خلص مما وقع فيه إل برجوع‬
‫عنه ‪ ،‬و التخلي منه ‪ ،‬و التوب إلى ال عز وعل من جرمه ‪.‬‬

‫و على كل حال أن الفاعل لما استحل مما حرمه ال متقرب إلى ال بما يبعده منه ‪ ،‬و يزيد في ضلله به ‪ ،‬ومن‬
‫تقرب إلى ال عز و جل بمثل ذلك فل يزداد من ال إل بعدى ‪ ،‬و ل يستحق منه إل النقمة ‪ ،‬و العياذ بال من‬
‫عقابه ‪ ،‬فكيف يكون له عذر بذلك ‪ ،‬وقد سقط في تلك المهالك ‪ ،‬و كيف يكون له بذلك حسن قصد عند ال و هو‬
‫مرتكب للضلل [‪ [ ]382‬سقط مقدار ثلث صفحات ] فهو يعتقده كذلك ‪ ،‬و كذا سائر المحرمات من الزنا و نهب‬
‫الموال و معاملة الربا و نحوها ‪ ،‬مما حرمه ال على لسان أحد أنبيائه – عليهم الصلة والسلم ‪. -‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬


‫موقع واحة اليمان‬
‫‪www.waleman.com‬‬
‫فهذا على الحقيقة من الوهام الواهية ‪ ،‬والتخيلت الباطلة ل يعتمد عليه إل فاقد الشعور ‪ ،‬و ل يرضى به إل كل‬
‫ختار كفور ‪.‬‬

‫فالحق ل يكون إل مع السالك لسبيل العدل ‪ ،‬الثابت على المنهج الصحيح ‪ ،‬و هو الذي لم يرض أن يتبدل بالحلل‬
‫حراماً بدعوى الستحلل ‪ ،‬فكان آثماً ‪ ،‬و لم يسع إلى تغير سنن ال في عباده ‪ ،‬و ل استحل ما حرم ال في سر‬
‫ول علنية ‪ ،‬و ل غير من أمر الدين ‪ ،‬بل جاء بأموره كلها وافية ‪ ،‬و ثبت على ما شرع ال عز و جل هان‬
‫الخطب أم عظم ‪.‬‬

‫و خلصة المقام أن مستحل الحرام أعظم إثماً ‪ ،‬و أكبر جرماً ممن يفعله و هو يعتقد تحريمه ‪ ،‬لن الفاعل للحرام‬
‫مستحلً له ‪ ،‬واقع في داهيتين الولى اعتقاده تحليل المحرمات أو تحريم المحللت ‪ ،‬و الثانية فعله لذلك و العياذ‬
‫بال ‪.‬‬

‫اهـ ‪ 29‬رمضان المعظم ‪ 1395‬سالم بيده ‪]386[.‬‬


‫====================================‬
‫(‪ )1‬هود ‪. 112 :‬‬
‫(‪ )2‬العراف ‪. 142 :‬‬

‫مكتبة الكتب‬ ‫موقع واحة اليمان‬

You might also like